الإِمَام العالي الهمة فاختطوا بهَا عَن إِذْنه مَنَازِلهمْ وبنوا بفنائها كنيستهم وصيروها متعبدهم فاتفق والْحَدِيث شجون أَن جرى بِبَعْض أندية علمائها ومحضر جمع من نبهاء الْبَلدة وفقهائها كَلَام أفْضى بهم إِلَى ذكر الْكَنِيسَة الْمَذْكُورَة والمجادلة فِي مُحَصل الحكم الشَّرْعِيّ فِيهَا فِي الدَّوَاوِين المسطورة فَأفْتى بَعضهم بِوُجُوب هدمها لِأَنَّهَا محدثة بِبِلَاد الْإِسْلَام وَلما فِي تَركهَا من الْمَفَاسِد الْعِظَام وَأَنَّهَا لَا تتْرك لَهُم متعبدا وَجزم الْكَلَام وَقَالَ هَذَا مُحَصل مَا ذكره فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة الْأَعْلَام وَأفْتى فريق بِجَوَاز إبقائها وَأَنه لَا يَنْبَغِي تقويض بنائها وَلَا التَّعَرُّض لَهُم فِي إحداثها إِذْ على مثل هَذَا من دينهم الْفَاسِد أقرُّوا وأعطوا الذِّمَّة فأعطوا الْجِزْيَة صاغرين وَلم يرد منع اجْتِمَاع دينين إِلَّا فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَكم من بلد إسلامي مُحدث مشحون بالعلماء أحدثت فِيهِ وَلم يَقُولُوا بِمَنْعه وتواطؤهم على تَركهَا كالنص وَالدَّلِيل على جَوَاز إحداثها وإبقائها بعده وَاسْتمرّ الْحجَّاج وَكثر اللجاج وَلم يقنع كل فريق بِمَا أبداه الآخر من الِاحْتِجَاج فعطلت لذَلِك إِلَى أَن تفَرقُوا فِيهَا بعلمكم النافع بَين العذب والأجاج بفتوى تبين صَحِيح الْأَقْوَال من سقيمها وتفصل بَين ليلى وغريمها وَلَوْلَا مَحل النَّازِلَة من الدّين مَا رفعت إِلَيْكُم فَلذَلِك وَجب الْجَواب عَنْهَا عَلَيْكُم مَعَ مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أَنهم طلبُوا أَن تتْرك لَهُم بقْعَة يوارون فِيهَا جيف موتاهم لِأَن مَسَافَة مَا بَينهم وَبَين أفران الَّتِي هِيَ مَقْبرَة قديمَة لَهُم بعيدَة هَل يساعفون أم لَا وَالله يبقيكم ومجدكم محروس وظل من استزلكم مكنوس وَالسَّلَام عَلَيْكُم
الْجَواب
الْحَمد لله وعَلى فُقَهَاء بِلَادنَا السوسية حرسها الله وَأكْرمهمْ بِاتِّبَاع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فقد وقف كَاتبه عَفا الله عَنهُ على نازلة أهل الذِّمَّة النازلين بإيليغ مختط أَوْلَاد السَّيِّد الْبركَة قطب بِلَادنَا سَيِّدي أَحْمد بن مُوسَى نفعنا الله ببركاته وَبَارك فِي ذُريَّته وسددهم لما فِيهِ رِضَاهُ آمين وَلما وقفت عَلَيْهَا وتأملتها فَرَأَيْت أَن الصَّوَاب فِيهَا الْفَتْوَى بِمَنْع(6/80)
إِحْدَاث أهل الذِّمَّة الْكَنَائِس فِيهَا وبهدم مَا بنى فِيهَا بعد إحداثه لِأَن إيليغ من بِلَاد الْإِسْلَام وَلَا فِيهِ شُبْهَة لأهل الذِّمَّة الطارين عَلَيْهِ لَا بِاعْتِبَار الْفَتْح العنوي وَلَا بِاعْتِبَار الصلحي على الْخلاف فِي الْمغرب بِاعْتِبَار فَتحه وَحَاصِل أمرهَا خَفَاء الْحَال فِيهَا وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا فَالْحكم أَنَّهَا ملك لمدعيها الْحَائِز لَهَا والأراضي أَقسَام أَرض إِسْلَام لَا يجوز إِحْدَاث الْكَنَائِس بهَا بِاتِّفَاق ثمَّ إِن وَقع شَيْء من ذَلِك هدم وَأَرْض إيليغ من هَذَا الْقسم فَإِن ملكوا الأَرْض الَّتِي بنوا فِيهَا الْكَنِيسَة بِوَجْه من وُجُوه التَّمَلُّك كالعطية وَجب هدمها ونقضها وَيكون لَهُم مَا يسوغ من الْمَنَافِع وَإِن كَانَ بِنَاء الْكَنِيسَة شرطا ردَّتْ الْعَطِيَّة وَفسخ البيع إِن كَانَ بِهِ لِأَنَّهُ فِي معنى التحبيس على الْكَنِيسَة وَالْحَاصِل أَن وَجه دُخُول الْيَهُود إيليغ مَعْلُوم وَأَن بَلَده ملك لِلْإِسْلَامِ فبناء الْيَهُود فِيهَا الْكَنَائِس مَعْصِيّة وتمكينهم مِنْهُ إِعَانَة عَلَيْهَا وَهَذَا لَا يخفى وَأما الْجَوَاز والإفتاء بِهِ فِي النَّازِلَة فبمعزل عَن الصَّوَاب وَالِاسْتِدْلَال على الْجَوَاز بحواضر الْمغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لَا يتم لِأَن أصل تمكينهم من الْكَنَائِس مَجْهُول إِذْ يحْتَمل أمورا مِنْهَا أَنه يحْتَمل أَن يكون بِعَهْد كَانَ لَهُم فِي غير تِلْكَ الْبِلَاد من إقرارهم على بلد يسكنونه مَعَ بقائهم على متعبداتهم ثمَّ نقلوا لمصْلحَة اقْتَضَت ذَلِك أَو أرجح وَلِأَن الْبِلَاد تقدم فِيهَا الْيَهُود وَغَيرهم من أهل الصُّلْح وَالْحَاصِل أَن وَجه دُخُولهمْ مَجْهُول فِي هَذِه الْبِلَاد بِخِلَاف إيليغ ونازلة إيليغ مَعْلُومَة الدُّخُول فبينهما بون فَقِيَاس إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى لَا يَصح وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَكتب عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن وَفقه الله آمين
وَلما علم المرابط بالحكم أَمر بهدمها وَمنع الْيَهُود مِمَّا أرادوه(6/81)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْوَلِيد ابْن زَيْدَانَ ووفاته رَحمَه الله
قَالَ فِي شرح الزهرة كَانَ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ متظاهرا بالديانة لين الْجَانِب حَتَّى رضيته الْخَاصَّة والعامة وَكَانَ مُولَعا بِالسَّمَاعِ لَا يَنْفَكّ عَنهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا إِلَّا أَنه كَانَ يقتل الْأَشْرَاف من إخْوَته وَبني عَمه حَتَّى أفنى أَكْثَرهم وَكَانَ مَعَ ذَلِك محبا فِي الْعلمَاء مائلا إِلَيْهِم بكليته متواضعا لَهُم وَله ألف الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن الطّيب منظومته الْمَشْهُورَة فِي الْفَوَاكِه الصيفية والخريفية وَألف القَاضِي أَبُو مهْدي السكتاني شرح صغرى الصُّغْرَى للسنوسي برسمه والقصبة الْمَعْرُوفَة بالوليدية على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فِيمَا بَين آسفي وتيط هِيَ منسوبة إِلَيْهِ وأظنها من بنائِهِ وَالله أعلم
وَأما وَفَاته فسببها أَن جنده من العلوج طالبوه بمرتبهم وأعطياتهم على الْعَادة وَقَالُوا لَهُ أعطنا مَا نَأْكُل فَقَالَ لَهُم على طَرِيق التهكم كلوا قشر النارنج بالمسرة فغضبوا لذَلِك وَكَمن لَهُ أَرْبَعَة مِنْهُم فَقَتَلُوهُ غدرا يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من رَمَضَان الْمُعظم سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف
وَقَالَ منويل لما ولي الْوَلِيد قتل أَخَاهُ إِسْمَاعِيل واثنين من أَوْلَاد أَخِيه عبد الْملك وَسَبْعَة من بني عَمه وَلم يتْرك إِلَّا أَخَاهُ الشَّيْخ بن زَيْدَانَ استصغارا لَهُ إِذْ كَانَ سنه يَوْمئِذٍ إِحْدَى عشرَة سنة وَكَانَت أمه تخَاف عَلَيْهِ من الْوَلِيد فَكَانَت تحرسه مِنْهُ حراسة شَدِيدَة وَألقى الله محبته فِي قلب سَائِر نسَاء الْقصر لما رأين من هَلَاك الأعياص وَعرضه الْملك للزوال وَكن حازمات يقمن مقَام الرِّجَال حَتَّى إِن بَعضهنَّ كَانَت لَهَا طبنجات فِي حزامها دَائِما تحرس الشَّيْخ من أَخِيه الْوَلِيد
ثمَّ إِن رُؤَسَاء الدولة سئموا ملكته فاتفقوا مَعَ نسَاء الْقصر على قَتله(6/82)
وَكَانَ الْوَلِيد عَازِمًا على قتل أَخِيه الشَّيْخ أَيْضا فاحتال بِأَن صنع ذَات لَيْلَة صنيعا عَظِيما وَطَعَامًا كثيرا دَعَا إِلَيْهِ وُجُوه الدولة وأعيان مراكش وَكَانَ أَخُوهُ الشَّيْخ عِنْده فِي الدَّار لَا يتْركهُ يخرج بِحَال وعزم أَنه إِذا اشْتغل نسَاء الْقصر بِأَمْر الطَّعَام وَنَحْوه خَالف إِلَيْهِ وَقَتله فَكَانَ من قدر الله أَن العلوج قد عزموا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على اغتيال الْوَلِيد فكمنوا لَهُ فِي الْحُجْرَة الَّتِي كَانَ الشَّيْخ مَحْبُوسًا فِيهَا ثمَّ لما جَاءَ الْوَقْت وَاجْتمعَ النَّاس فِي الْقبَّة الَّتِي أعدهَا لَهُم الْوَلِيد قَامَ وَدخل إِلَى الْحُجْرَة الَّتِي فِيهَا الشَّيْخ للفتك بِهِ فَوجدَ الأعلاج كامنين لَهُ هُنَاكَ فَلَمَّا رَآهُمْ فزع وَقَالَ مَا لكم فَرَمَوْهُ بالرصاص ثمَّ تناولوه بالخناجر حَتَّى فاظ انْتهى
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله
لما قتل السُّلْطَان الْوَلِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اخْتلف النَّاس فِيمَن يقدمونه للولاية عَلَيْهِم ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على مبايعة أَخِيه مُحَمَّد الشَّيْخ وإلقاء القيادة إِلَيْهِ فأخرجوه من السجْن وَكَانَ أَخُوهُ الْوَلِيد قد سجنه إِذْ كَانَ يتخوف مِنْهُ الْخُرُوج عَلَيْهِ فبويع بمراكش يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَلما بُويِعَ سَار فِي النَّاس سيرة حميدة وألان الْجَانِب للكافة وَكَانَ متواضع فِي نَفسه صفوحا عَن الهفوات متوقفا عَن سفك الدِّمَاء مائلا إِلَى الرَّاحَة وَالدُّعَاء متظاهرا بِالْخَيرِ ومحبة الصَّالِحين وَهُوَ الَّذِي بِنَا على قبر الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي بزاويته قبَّة حافلة الْبناء رائقة الصَّنْعَة إِلَّا أَنه كَانَ مكنوس الرَّايَة مهزوم الْجَيْش وبسبب ذَلِك لم يصف لَهُ مِمَّا كَانَ بيد أَبِيه وَإِخْوَته إِلَّا مراكش وَبَعض أَعمالهَا(6/83)
وَقد ثار عَلَيْهِ رجل من هشتوكة خَارج بَاب الْخَمِيس من مراكش وقاسى فِي محاربته تعبا شَدِيدا وَلم يزل يناوشه الْقِتَال إِلَى أَن كَانَت لَهُ عَلَيْهِ الكرة فَفرق جمعه ثمَّ خرجت عَلَيْهِ أَيْضا قَبيلَة الشياظمة فقصدهم وَكَانَت الملاقاة بَينه وَبينهمْ عِنْد جبل الْحَدِيد فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء ثمَّ حدث بَينه وَبَين أهل زَاوِيَة الدلائي مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
وَمِمَّا ذكره منويل من أخباره أَنه كَانَ محسنا لسَائِر رَعيته وَكَانَ حَاله على الضِّدّ من جور أَخِيه الْوَلِيد وعسفه قَالَ وسرح الفرايلية الَّذين كَانُوا فِي سجن مراكش وَأَعْطَاهُمْ الْكَنِيسَة الَّتِي بالسجينة مِنْهَا وخالفت عَلَيْهِ سلا وأعمالها انْتهى
بَقِيَّة أَخْبَار أبي عبد الله العياشي بسلا والثغور وَمَا يتبع ذَلِك
كَانَ أَمر أبي عبد الله العياشي بسلا وَسَائِر بِلَاد الْمغرب على مَا وصفناه قبل من جِهَاد الْعَدو والتضييق عَلَيْهِ والمصابرة لَهُ والإبلاغ فِي نكايته فانتعش بِهِ الْإِسْلَام وازدهرت الْأَيَّام وَدخلت فِي طَاعَته الْقَبَائِل والأمصار من تامسنا إِلَى تازا كَمَا قُلْنَا لَا سِيمَا فاس وأعلامها فَإِنَّهُم قد شايعوه وتابعوه على مَا كَانَ بصدده من الْجِهَاد والرباط وَحصل لَهُم بِصُحْبَتِهِ وولايته أتم اغتباط وَلم يزل فِي نحر الْعَدو إِلَى أَن أَمن سرب الْمُسلمين وَحقّ القَوْل على الْكَافرين(6/84)
وفادة أَعْلَام فاس وأشرافها على أبي عبد الله العياشي بسلا
هَذِه الْوِفَادَة قد ذكرهَا الإِمَام الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ميارة الفاسي فِي فَاتِحَة شَرحه الصَّغِير على المرشد الْمعِين
قَالَ فِي نشر المثاني وسببها مَا وَقع من الْحَرْب بَين أهل فاس وَبَين الحياينة وشراقة على قنطرة وَادي سبو وَقتل فِيهَا من أهل فاس خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ رجلا فَخرج شرفاء فاس وفقهاؤها إِلَى سلا مستغيثين بِأبي عبد الله العياشي قَالَ وَكَانَ الَّذِي أغرى الحياينة بفاس هُوَ أَحْمد بن زَيْدَانَ التفوا عَلَيْهِ وَقَامُوا بدعوته ووصلوا أَيْديهم بشراقة وفعلوا بفاس وَأَهْلهَا الأفاعيل حَتَّى اختطفوا فِي بعض الْأَيَّام نِسَاءَهُمْ من الجنات وباعوهن فِي الْقَبَائِل وفعلوا بِهن مَا لَا يجوز قَالَ الشَّيْخ ميارة قد من عَليّ ذُو العظمة والجلال الْكَرِيم المتفضل المتعال بزيارة الْوَلِيّ الصَّالح الْعَالم الْعَامِل السائح قطب الزَّمَان وكهف الْأمان الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين المرابط فِي الثغور مُدَّة عمره لحياطة الْمُسلمين ذِي الكرامات الشهيرة العديدة والفتوحات الْعَظِيمَة الحميدة من لَا شَبيه لَهُ فِي عصره وَمَا قرب مِنْهُ وَلَا نَظِير وَلَا معِين لَهُ على نصْرَة الْإِسْلَام وَلَا نصير إِلَّا الله الَّذِي تفضل بِهِ علينا وَأقرهُ بمنه وجوده بَين أظهرنَا فَهُوَ كَمَا قيل
(حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر)
الْبركَة الْقدْوَة المجاب الدعْوَة أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي أبقى الله بركته وَعظم حرمته وبلغه من خير الدَّاريْنِ أمْنِيته وَأطَال للْمُسلمين عمره وَقواهُ وَجعل الْجنَّة نزله ومأواه مَعَ جمَاعَة من أَعْيَان السَّادة من الشرفاء وَالْفُقَهَاء القادة وَذَلِكَ أواسط ذِي الْحجَّة الْحَرَام متم سَبْعَة وَأَرْبَعين وَألف عَام وَهُوَ رزقنا الله رِضَاهُ بثغر سلا أمنها الله من كل مَكْرُوه وَبلا فاجتمعت إِذْ ذَاك بنجله السعيد الْمُوفق الرشيد الْعَالم الْهمام(6/85)
حجَّة الله فِي الْإِسْلَام ذِي الْعقل الرَّاجِح وَالْهَدْي الْوَاضِح عهود من الْآبَاء توارثتها الْأَبْنَاء المتواضع الخاشع صَاحب الْقَلَم البارع سَيِّدي وسندي أبي مُحَمَّد عبد الله سلمه الله من كل مَكْرُوه ووقاه فحضني حفظه الله على اخْتِصَار الشَّرْح الْمَذْكُور يَعْنِي شَرحه الْكَبِير على المرشد الْمعِين بعد أَن طالع جله وسر بِهِ كل السرُور وحث عَليّ فِي تَقْدِيم ذَلِك على جَمِيع الْأُمُور فَلَمَّا قفلت من وجهتي شرعت فِي ذَلِك تَارِكًا للتسويف طَالبا من الْمولى سُبْحَانَهُ السَّلامَة من الْخَطَأ والتحريف انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
قَالَ فِي نشر المثاني إِن أَبَا عبد الله العياشي قدم فاسا وَنظر فِي أمرهَا وغزا عرب الحياينة مرَارًا وأثخن فيهم حَتَّى خضعوا للطاعة
إِيقَاع أبي عبد الله العياشي بنصارى الجديدة
سَبَب هَذِه الْغَزْوَة كَمَا ذكره الْفَقِيه الْعَلامَة قَاضِي تامسنا أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الغنامي الشاوي الْمَعْرُوف بسيدي رحو الغنامي أَن نَصَارَى الجديدة عقدوا المهادنة مَعَ أهل آزمور مُدَّة فَكَانَ من عزة النَّصَارَى وذلة الْمُسلمين فِي تِلْكَ الْمدَّة مَا تنفطر مِنْهُ الأكباد وتخر لَهُ الأطواد فَمن ذَلِك أَن زَوْجَة قبطانهم خرجت ذَات يَوْم فِي محفتها وَمَعَهَا صواحباتها إِلَى أَن وصلت حلَّة الْعَرَب فتلقاها أهل الْحلَّة بالزغاريت والفرح وصنعوا لَهَا من الْأَطْعِمَة وحملوا لَهَا من هَدَايَا الدَّجَاج والحليب وَالْبيض شَيْئا كثيرا فظلت عِنْدهم فِي فَرح عَظِيم وَلما كَانَ اللَّيْل رجعت وَوَقع لَهَا أَيْضا أَنَّهَا أمرت القبطان زَوجهَا أَن يخرج بجيشه وَيبْعَث إِلَى قَائِد آزمور أَن يخرج بِجَيْش الْمُسلمين فيلعبوا فِيمَا بَينهم وَهِي تنظر إِلَيْهِم بِقصد الفرجة والنزهة فَكَانَ كَذَلِك فَجعلُوا يَلْعَبُونَ وَهِي تتفرج فيهم فَمَا كَانَ بأسرع من أَن حمل نَصْرَانِيّ على مُسلم فَقتله فَكلم قَائِد الْمُسلمين القبطان وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فَقَالَ لَهُ القبطان فَمَا يضركم إِن مَاتَ شَهِيدا يهزأ بِالْمُسْلِمين ويسخر مِنْهُم قَالَ(6/86)
وَكَانَ الْوَلِيّ الصَّالح العابد الناسك الزَّاهِد الْمُجَاهِد رَافع لِوَاء الْإِسْلَام ومحيي منهاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي كلما سمع شَيْئا من ذَلِك تغير وَبَات لَا يلتذ بِطَعَام وَلَا مَنَام وَهُوَ يفكر كَيفَ تكون الْحِيلَة فِي زَوَال المعرة عَن الْمُسلمين بِتِلْكَ الْجِهَة وَغسل أعراضهم من وسخ الإهانة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخَاف من الْعُيُون الَّذين يَرْصُدُونَهُ من صَاحب مراكش وقائد آزمور وَمن قبطان الجديدة إِذْ كَانَ مَا خلف وَادي أم الرّبيع إِلَى مراكش بَاقِيا فِي دَعْوَة السُّلْطَان لم يدْخل فِي دَعْوَة أبي عبد الله الْمَذْكُور فَمَكثَ كَذَلِك ثَلَاث سِنِين وَلما رأى أَن الْأَمر لَا يزِيد إِلَّا شدَّة أوعز إِلَى بعض أَوْلَاد ذُؤَيْب من أَوْلَاد أبي عَزِيز أَن يجلبوا إِلَى النَّصَارَى شَيْئا من الْقَمْح خُفْيَة وَأَن يكون ذَلِك شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى تطمئِن نُفُوسهم ويذوقوا حلاوته ويوهمهم النصح والمحبة فَلَمَّا حصل ذَلِك جَاءَهُ جمَاعَة مِنْهُم وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر وأطلعوه على غرَّة النَّصَارَى خذلهم الله فعزم على قصد الجديدة ثمَّ بدا لَهُ فِي تَقْدِيم غَزْو العرائش ثمَّ يَأْتِي الجديدة بَغْتَة فَفعل رَحمَه الله وَكَانَ ذَلِك أَوَائِل صفر سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف
ثمَّ عزم على قصد الجديدة فَذكرُوا لَهُ أَن وَادي أم الرّبيع فِي نِهَايَة الْمَدّ والامتلاء فَلم ينْتَه عَن ذَلِك وَسَار حَتَّى بلغ الْوَادي الْمَذْكُور على مشرع أبي الأعوان فَوَجَدَهُ ممتلئا جدا لَا يكَاد يدْخلهُ أحد إِلَّا غرق فَقَالَ لأَصْحَابه وَسَائِر من مَعَه توكلوا على الله واجتهدوا فِي الدُّعَاء ثمَّ اقتحم الْوَادي بفرسه وَتَبعهُ النَّاس فعبروا جَمِيعًا وَلم يتأذ مِنْهُم أحد وَكَانَ المَاء يصل إِلَى قريب من ركب خيلهم مَعَ أَن مد ذَلِك الْوَادي حِين امتلائه لَا يدْرك لَهُ قَعْر عِنْد النَّاس كَمَا هُوَ شهير وَهَذِه كَرَامَة عَظِيمَة وَقعت لَهُ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ القَاضِي أَبُو زيد الغنامي حَاضرا لَهَا وشاهدها وَلم يَقع مثل هَذَا فِيمَا علمناه إِلَّا للصحابة رَضِي الله عَنْهُم مثل مَا وَقع لسعد بن أبي وَقاص فِي عبوره دجلة لفتح الْمَدَائِن وَمثل مَا وَقع للعلاء بن الْحَضْرَمِيّ فِي فتح بعض بِلَاد فَارس وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء(6/87)
وَلما وصل أَبُو عبد الله إِلَى الجديدة وجد طَائِفَة من أَوْلَاد أبي عَزِيز قد نذروا بِهِ ولجؤوا إِلَى القبطان خوفًا مِنْهُ أَن يُوقع بهم لأجل مهادنتهم للْكفَّار واتصالهم بهم فَخرج القبطان فِي خيله وَكَانَ سَيِّدي مُحَمَّد كامنا بِإِزَاءِ الجديدة بِالْغَابَةِ الَّتِي كَانَت هُنَاكَ وَقد زَالَت الْيَوْم فَلَمَّا انْفَصل القبطان بجيشه عَن الجديدة حمل عَلَيْهِم أَبُو عبد الله فقطعهم عَنْهَا فَفرُّوا إِلَى جِهَة الْبَحْر فأوقع بهم فهلكوا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا سَبْعَة وَعِشْرُونَ رجلا فَتغير صَاحب مراكش من ذَلِك وَأنكر مَا صنع أَبُو عبد الله وَكَذَا أنكرهُ قاضيه الْفَقِيه أَبُو مهْدي السكتاني
وَقد ذكر لويز مَارِيَة خبر هَذِه الْوَقْعَة فَقَالَ إِن طَائِفَة من الْمُسلمين قدمُوا على قَائِد البرتغال بالجديدة وَقَالُوا لَهُ إِنَّا قد جئْنَاك من عِنْد الْمولى مُحَمَّد بن الشريف يطْلب مِنْك تعينه بِجَمَاعَة من عسكرك على بعض عدوه فأسعفهم بذلك وَكَانَ شَابًّا غرا لم يجرب الْأُمُور فَنَهَاهُ بعض كبار عسكره وحذره عَاقِبَة الْغدر فَأبى وعزم على الْخُرُوج مَعَ أُولَئِكَ الْمُسلمين وتقاعد عَنهُ عسكره فَقَالَ لَهُم إِنِّي أخرج وحدي وَذهب ليخرج وَحده فتبعوه حِينَئِذٍ وَكَانُوا مائَة وَأَرْبَعين فَارِسًا فَلَمَّا انفصلوا عَن الجديدة بمسافة وجدوا خيلا كَثِيرَة كامنة لَهُم فَلم يشعروا حَتَّى أحاطت بهم نصف دَائِرَة مِنْهُم فَمَا كلموهم حَتَّى كملت الدائرة عَلَيْهِم وصاروا مركزها فَحِينَئِذٍ الْتفت قَائِد الْعَسْكَر إِلَى ذَلِك الرجل الَّذِي نَهَاهُ عَن الْخُرُوج وَقَالَ لَهُ مَا الْحِيلَة فَأَجَابَهُ بِأَن الْحِيلَة الْقِتَال حَتَّى نموت ثمَّ أنْشد لَهُ شعرًا مضمنه إِنِّي أَشرت عَلَيْك وَأَنت أعظم جاها مني فَلم تسمع والآن نقْتل مَعًا وتختلط دماؤنا حَتَّى لَا يتميزان وَلَا يعرف دم الشريف من الوضيع وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين أوقعوا بهم حَتَّى لم يرجع مِنْهُم إِلَى الجديدة إِلَّا ثَلَاثَة وَأسر مِنْهُم خَمْسَة عشر أَحيَاء وَالْبَاقِي أَتَى عَلَيْهِ الْقَتْل وَقَامَت بالجديدة مناحة عَظِيمَة لم يتَقَدَّم مثلهَا وسجن الْأُسَارَى بسلا سِنِين فِي بعض دهاليزها حَتَّى افتداهم سلطانهم خوان الَّذِي جمع مملكتهم من يَد الإصبنيول انْتهى(6/88)
وَلما قدم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي من هَذِه الْغَزْوَة سَار إِلَى فاس للنَّظَر فِي أمرهَا لما هاج من الْحَرْب بَين أَهلهَا وَذَلِكَ أَن رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ ابْن الزين عدا على رجل آخر يُقَال لَهُ أَحْمد عميرَة فَرَمَاهُ برصاصة من علية مَسْجِد فَوق سويقة ابْن صافي فَقتله وهاجت الْحَرْب بفاس بَين أهل عدوة الأندلس وَكَانَ الْمَقْتُول رئيسهم وَبَين اللمطيين فَقدم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فاسا فِي آخر جُمَادَى سنة خمسين وَألف فَأصْلح بَينهم وأقاد من قَاتل عميرَة كَبِير الأندلسيين وَبِالْجُمْلَةِ فغزوات سَيِّدي مُحَمَّد العياشي رَحمَه الله كَثِيرَة وذبه عَن الْإِسْلَام وحمايته للدّين مِمَّا هُوَ شهير عِنْد الْخَاص وَالْعَام
وَفِي هَذِه الْغَزْوَة يَقُول الْكَاتِب الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الكلاني مادحا لسيدي مُحَمَّد العياشي ومشيرا إِلَى الْكَرَامَة الَّتِي وَقعت لَهُ فِي عبور النَّهر
(حَدِيث الْعلَا عَنْكُم يسير بِهِ الركب ... وينقله فِي صحفه الشرق والغرب)
(وحبكم فرض على كل مُسلم ... تنَال بِهِ الزلفى من الله والقرب)
(فَأَنت رفيع من أصُول رفيعة ... نُجُوم الدياجي فِي الْأَنَام لَهَا سرب)
(سمي رَسُول الله نَاصِر دينه ... تجلى بكم عَن أفقه الشَّك والريب)
(وَلم أر بحرا جَاوز الْبَحْر قبلكُمْ ... تجود لمستجد أنامله السحب)
(وَمَا يَسْتَوِي البحران عِنْدِي فَإِن ذَا ... أجاج لعمري فِي المذاق وَذَا عذب)
وَكَانَ رَحمَه الله عَازِمًا على أَخذ العرائش فحال بَينه وَبَينهَا انصرام الْأَجَل وَكَذَلِكَ كَانَ ملحا على أَخذ طنجة فَلم تساعده الأقدار(6/89)
مقتل أبي عبد الله العياشي رَحمَه الله وَالسَّبَب فِيهِ
قدمنَا أَن أهل الأندلس بسلا تحزبوا على أبي عبد الله العياشي ورموه عَن قَوس وَاحِدَة وَأَنه كَانَ قد اطلع على خبثهمْ ونصحهم للكفر وَأَهله وَأَنه استفتى الْعلمَاء فيهم فأفتوه بِإِبَاحَة قتال من هَذِه صفته فَأطلق فيهم السَّبِيل أَيَّامًا فَقتل من وجد مِنْهُم وهرب أَكْثَرهم فهربت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى مراكش وهربت طَائِفَة إِلَى الجزائر وَأُخْرَى إِلَى النَّصَارَى وَفرْقَة إِلَى زَاوِيَة الدلاء فجَاء أهل الدلاء يشفعون فِي أهل الأندلس فَأبى أَبُو عبد الله أَن يقبل فيهم الشَّفَاعَة وَقَالَ إِن الرَّأْي فِي استئصال شأفتهم فَلَمَّا رأى أهل الدلاء امْتِنَاعه ورد شفاعتهم غضبوا لذَلِك وَأَجْمعُوا على حربه وَمن قبل مَا كَانَت القوارص تسري مِنْهُم إِلَيْهِ يدل على ذَلِك الرسَالَة الَّتِي كتب بهَا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي إِلَى أبي عبد الله العياشي وَنَصهَا الْحَمد لله الْحَلِيم الْعَفو الرؤوف المنزه عَن صِفَات من وصف بهَا مؤف وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَدِينَة الْعلم المسورة بسور السماحة والحلم وعَلى سَادَاتنَا آله وَصَحبه وكل من انتظم فِي سلك أتباعهم من أهل حزبه هَذَا وَإِن المجلى بِنور طلعته ظلم الظُّلم وَالْفساد الْمحلي خَزَائِن الْمَعَالِي بموجبات النِّفَاق على حِين الكساد المستوطن حبه بسويداء الْفُؤَاد من أَلْقَت إِلَيْهِ المكارم أزمة الانقياد وصلحت بِهِ بِحَمْد الله الْعباد والبلاد حوطة الْإِسْلَام وحمايته وخديم الدّين المحمدي وكفايته سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي الْمَحْمُود الْأَوْصَاف بِشَهَادَة من يعد من أهل الْإِنْصَاف زَاده الله من المكارم أَعْلَاهَا وَمن نفائس دُرَر الْمجد أغلاها وَتوجه بتاج الْكَرَامَة والرضى وأمده بدائم مدده السرمدي حَتَّى يرضى وَسلم جنابه الْقُدسِي العلمي العملي المرابطي المجاهدي من جَمِيع البلايا وأتحفه من تحفه الفاضلة الوهبية بِأَعْلَى المزايا وَأهْدى إِلَيْهِ من طيب بركاته ورحماته مَا يرضاه دينه العلمي لحماته قد شَهِدنَا على أَنْفُسنَا بِالْإِقْرَارِ بفضله علينا وَأَن مَا يسره يسرنَا وَمَا(6/90)
يضرّهُ يضرنا علم ذَلِك منا يَقِينا من لَهُ مَعنا أدنى مُخَالطَة بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ أَن يدْفع ذَلِك بِنَوْع من المغالطة وَإِن الضار بِالْعينِ ضار بإنسانها لَكِن النُّفُوس الإنسانية مَحل لخطاها ونسيانها وَمن أقمناه لديكم مقَام الْخَادِم وَالْولد قد ساءنا مِنْهُ مَا ساءكم مِمَّا عَنهُ ورد وطلبنا من جميل أوصافكم مُعَامَلَته بالصفح والجميل فَلَنْ يزَال الْإِنْسَان إِلَّا من عصمه الله يستمال أَو يمِيل وَلَوْلَا الْحَرَارَة مَا عرف الظل وَلَوْلَا الوابل لقيل النِّهَايَة فِي الطل وَمَا عرف الْعَفو لَوْلَا الْإِسَاءَة وَلَا يُقَال صَبر الْمَرْء إِلَّا فِيمَا سَاءَهُ وَمَا عرفنَا صَاحبه إِلَّا محبا لجَانب كل من للدّين ينتسب فَإِن خرج عَن نظركم فقد أَتَاهُ الْغَلَط من لَا يحْتَسب انْتهى
وَكَانَ الشَّيْخ ابْن أبي بكر رَحمَه الله يُطِيل الثَّنَاء على أبي عبد الله العياشي ويذيع محاسنه وَكَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أجز عَنَّا سَيِّدي مُحَمَّد العياشي أفضل المجازاة وكافه أحسن الْمُكَافَأَة وَاجعَل مكافأتك لَهُ كشف الْحجب عَن قلبه حَتَّى تكون أقرب إِلَيْهِ مِنْهُ اللَّهُمَّ لَا تحرمه توجهه إِلَيْك وانقطاعه لخدمتك اللَّهُمَّ نفس كربته وكمل رغبته وأجب دَعوته وسدد رميته واردد لَهُ الكرة على من عداهُ فِي الْحق إِنَّك على كل شَيْء قدير انْتهى
فَهَذَا حَال الشَّيْخ ابْن أبي بكر رَحمَه الله مَعَ أبي عبد الله العياشي ثمَّ قدر الله أَن حدث بَين أَوْلَاده وَبَين العياشي من النفرة مَا أفْضى إِلَى الْمُقَاتلَة وَذَلِكَ بِسَبَب رده شفاعتهم فِي أهل الأندلس وَأُمُور أخر فَأَجْمعُوا على حربه كَمَا قُلْنَا فَخرج إِلَيْهِم أَبُو عبد الله العياشي فأوقع بهم وَهزمَ جموعهم وفتك بالعرب الَّذين كَانُوا مَعَ التاغي فتفرقت الجموع وتبرأ التَّابِع من الْمَتْبُوع
ثمَّ ذهب أَبُو عبد الله العياشي إِلَى طنجة بِقصد الْجِهَاد فَلَمَّا قفل من غَزوه وجد البربر من أهل الدلاء قد وصلوا إِلَى أَطْرَاف أزغار وَمَعَهُمْ التاغي والدخيسي وَأهل حزبهم من الكدادرة وَغَيرهم وعزموا على مصادمة أبي عبد الله فَأَرَادَ أَن يغض الطّرف عَنْهُم وَيصرف عنانه عَن جهتهم فَلم يزل أَصْحَابه(6/91)
بِهِ إِلَى أَن برز لمقاتلتهم فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على أبي عبد الله العياشي وَقتل فرسه تَحْتَهُ فَرجع إِلَى بِلَاد الْخَلْط وَكَانَ رُؤَسَاء الْخَلْط أَكْثَرهم فِي حزب التاغي وعَلى رَأْي الكدادرة فَرَجَعت البربر إِلَى أوطانهم وَبَقِي أَبُو عبد الله العياشي عِنْد الْخَلْط أَيَّامًا ثمَّ غدروا بِهِ فَقَتَلُوهُ بِموضع يُسمى عين الْقصب واحتزوا رَأسه وَحمله بَعضهم إِلَى سلا وَكَأَنَّهُ حمله إِلَى أهل الأندلس إِذْ هم أعداؤه بهَا قَالَ فِي شرح المثاني ودفنت جثته بِإِزَاءِ رَوْضَة أبي الشتَاء رَضِي الله عَنهُ
وَمن كراماته المتواترة أَنهم لما حملُوا الرَّأْس سَمِعُوهُ لَيْلًا وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن جهارا حَتَّى علمه جَمِيع من حضر فَردُّوهُ إِلَى مَكَانَهُ وَتَابَ بِسَبَبِهِ جمَاعَة من النَّاس وَأما الْقبَّة المنسوبة إِلَيْهِ بقبيلة أَوْلَاد أبي عَزِيز من بِلَاد دكالة فَالظَّاهِر أَنَّهَا متخذة على بعض معاهده الَّتِي كَانَ يأوي إِلَيْهَا أَيَّام كَونه بالقبيلة الْمَذْكُورَة فِي ابْتِدَاء أمره كَمَا مر وَلَيْسَ هُنَاكَ قبر لَهُ على الصَّحِيح
وَلما قتل أَبُو عبد الله العياشي فَرح النَّصَارَى بمقتله غَايَة الْفَرح وأعطوا الْبشَارَة على ذَلِك وَعمِلُوا المفرحات ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ مَقْتَله رَحمَه الله تَاسِع عشر الْمحرم سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَقد رمزوا لتاريخ وَفَاته بقَوْلهمْ مَاتَ زرب الْإِسْلَام بِإِسْقَاط ألف الْوَصْل وَحدث رجل أَنه كَانَ بالإسكندرية فَرَأى النَّصَارَى يَوْمئِذٍ يفرحون وَيخرجُونَ أنفاضهم فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَهُ قتل سانطو بالمغرب وَفِي الرحلة لأبي سَالم العياشي قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ مُحَمَّد الْفَزارِيّ بِمَكَّة قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ المشرفة رجل مغربي من أهل الْقصر فِي السّنة الَّتِي قتل فِيهَا الْوَلِيّ الصَّالح الْمُجَاهِد سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي قَالَ فَجَاءَنِي ذَات يَوْم وَقَالَ لي إِنِّي رَأَيْت فِي النّوم أُخْتِي وَرَأَيْت رجلا جَالِسا مَقْطُوع الْيَد تسيل دَمًا فَقلت لَهُ من أَنْت قَالَ الْإِسْلَام قطعت يَدي بسلا قَالَ فَلَمَّا أَخْبرنِي قلت لَهُ الَّذِي يظْهر لي من رُؤْيَاك أَن الرجل الصَّالح الْمُجَاهِد الَّذِي كَانَ بسلا قد قتل قَالَ وَبعد ذَلِك فِي آخر السّنة قدم حجاج الْمغرب فأخبرونا بِمَوْتِهِ(6/92)
وَقد رثي رَحمَه الله بقصائد كَثِيرَة مِنْهَا قصيدة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الدغوغي الَّتِي ذكرهَا فِي النزهة ويحكى أَنه وجد مُقَيّدا بِخَط أبي عبد الله العياشي الْمَذْكُور أَن جملَة مَا قَتله من الْكفَّار فِي غَزَوَاته سَبْعَة آلَاف وسِتمِائَة وَسَبْعُونَ ونيف وَمِمَّا مدحه بِهِ الْعَلامَة الإِمَام الشهير أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر قَوْله
(يَا حادي الأظعان فِي الرياشي ... أبلغ سلامي فخرنا العياشي)
(من نوره بدا وفضله غَدا ... تحدو بِهِ الركْبَان والمواشي)
(طود الْهدى عين الندى فَرد الورى ... فريد وقته الإِمَام الخاشي)
(لله سيف صارم وقاصم ... ظهر العدا كَبِيرهمْ والناشي)
(يتركهم عِنْد اللقا رهن الشقا ... صرعى على الأَرْض كَمَا الكباشي)
(يَا مُسلمين تهنيكم حَيَاتكُم ... مَا عَاشَ فِيكُم سَيِّدي العياشي)
(أَنَام لَا شكّ الْأَنَام الْكل فِي ... ظلّ الْأمان لين الْفراش)
(يَا عاذلي فِي حبه عذلك دع ... وَلَا تُحَدِّثنِي حَدِيث الواشي)
(إِنِّي امرء بالْحسنِ مفتون وَعَن ... جَمِيع لوم لائمي عاشي)
(هديتي إِلَى الْكِرَام أبرزت ... سلامها للسامعين فاشي)
وثناء النَّاس عَلَيْهِ كثير فقد أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ ميارة كَمَا مر وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي وَابْن أبي بكر الدلائي وَغَيرهم
وَكَانَ رَحمَه الله مجاب الدعْوَة مَا دَعَا الله فِي شَيْء إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ شوهد ذَلِك مِنْهُ مرَارًا وَمن أدعيته المحفوظة عَنهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِاسْمِك السَّرِيع الْمُجيب الَّذِي خزنت فِيهِ فواتح رحمتك وخواتم إرادتك وَسُرْعَة إجابتك يَا سريع لمن قَصده يَا قريب مِمَّن سَأَلَهُ يَا مُجيب من دَعَاهُ أسْرع لي بِقَضَاء حَاجَتي وبلوغ إرادتي يَا سميع يَا مُجيب يَا سريع يَا قريب آمين آمين آمين يَا رب الْعَالمين
وَكَانَ فَقِيها مشاركا فِي الْفُنُون وَله أَتبَاع ظَهرت عَلَيْهِم بركاته ولاح عَلَيْهِم سره وَمن أَتْبَاعه الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء إِسْمَاعِيل بن سعيد الدكالي(6/93)
القاسمي صَاحب الزاوية الْمَشْهُورَة بِبِلَاد دكالة وَمن أَتْبَاعه أَيْضا الْمُقدم الْمُجَاهِد أَبُو الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي وَقد ذكر ذَلِك الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي فِي رِسَالَة كتب بهَا إِلَى الْمُجَاهِد الْمَذْكُور يَقُول فِيهَا مَا نَصه من عبيد الله تَعَالَى مُحَمَّد بن نَاصِر كَانَ الله لَهُ إِلَى الْفَارِس الْقَائِم بنصر دين الله البَائِع نَفسه فِي إعلاء كلمة الله الْخضر غيلَان سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أما بعد فَإِنِّي احبك فِي الله وَإِن لساني لهج بالتضرع إِلَى الله تَعَالَى فِي نصرك على الْكَافرين مُنْذُ خرج النجليز والباعث على إعلامك بِهَذَا أَمْرَانِ أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أحب أحدكُم أَخَاهُ فليعلمه) وَالثَّانِي استنهاض همتك للْجدّ فِيمَا أَنْت بصدده من الْجِهَاد وَعدم الِالْتِفَات إِلَى مَا تورط فِيهِ غَيْرك من الاغترار بالفاني فَأَنت مَا دمت فِي هَذَا على طَرِيق صَالِحَة وَعباد الله الصالحون كلهم مَعَك ورحم الله صَاحبك الَّذِي أسس لَك هَذِه الطَّرِيق الصَّالِحَة ورباك عَلَيْهَا أَعنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ نور الْبِلَاد المغربية سَيِّدي مُحَمَّد العياشي جزاه الله عَنَّا وَإِيَّاك عَن الْمُسلمين خيرا فَهُوَ سيدنَا وَسيد غَيرنَا الَّذِي ندين الله بمحبته وَيجب علينا وعَلى الْمُسلمين تَعْظِيمه وتعظيم من هُوَ مِنْهُ بسبيل ثمَّ قَالَ الشَّيْخ ابْن نَاصِر رَحمَه الله بعد كَلَام مَا نَصه وتستوصي بآل سيدنَا وَسيد الْمُسلمين فِي زَمَانه كَافَّة خيرا سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَهُوَ عزك وبتعظيمهم قوام أَمرك وَهَذَا من نصيحتي إِلَيْك الَّتِي هِيَ من نتيجة محبتنا لَك فعاملهم بِالْوَفَاءِ وَلَا تؤاخذهم بالجفاء انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
ولولد سَيِّدي مُحَمَّد العياشي وَهُوَ الْفَقِيه الْعَلامَة سَيِّدي عبد الله أرجوزة نظم فِيهَا أهل بدر وتوسل بهم إِلَى الله تَعَالَى فِي هَلَاك الَّذين تمالؤوا على قتل أَبِيه فَلم تمض إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى دارت عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَلم ينج مِنْهُم أحد
وَفِي الْبُسْتَان إِن أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي دخل بِلَاد الغرب وَذَلِكَ بعد مقتل أبي عبد الله العياشي فَلَقِيَهُ وَلَده سَيِّدي عبد الله(6/94)
الْمَذْكُور بجموع الغرب بوادي الطين فَوَقَعت الْحَرْب فِي قبائل وانتهبت حللهم ومواشيهم انْتهى وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف
ولسيدي عبد الله ابْن سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فِي بعض زياراته لِأَبِيهِ قَوْله
(أَتَيْنَا إِلَيْك وأنفسنا ... تكَاد من الْخَوْف مِنْك تذوب)
(وَلم ندر أَيْن هَوَاك الَّذِي ... تحب فتنحو إِلَيْهِ الْقُلُوب)
(أَقَمْنَا فخفنا وَجِئْنَا فخفنا ... فَمن خوفنا قد دهتنا خطوب)
(فها نَحن من خوفنا مِنْك حيرى ... وَهَا نَحن من خوفنا مِنْك شيب)
قَالَ اليرفني فِي الصفوة وَأَخْبرنِي حافده الْعَلامَة قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد العياشي أَن جده سَيِّدي عبد الله الْمَذْكُور كَانَ قد أَصَابَهُ مرض أعيى الْأَطِبَّاء علاجه فَلَمَّا طَال عَلَيْهِ أمره رغب مِنْهُم أَن يحملوه إِلَى ضريح الشَّيْخ سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر بسلا فَلَمَّا وقف على الضريح أنْشد ارتجالا
(أَقُول لدائي إِذْ تفاقم أمره ... وَعز الدوا من كل من هُوَ ناصري)
(إِلَّا فَانْصَرف بِاللَّه عني إِنَّنِي ... أَنا الْيَوْم جَار للْوَلِيّ ابْن عَاشر)
قَالَ فَكَأَنَّمَا نشط من عقال وانقشع عَنهُ سَحَاب ذَلِك الضَّرَر فِي الْحَال وَكَانَت وَفَاة سَيِّدي عبد الله الْمَذْكُور لَيْلَة عَرَفَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بجوار الْوَلِيّ الْأَشْهر الشَّيْخ أبي سلهام من بِلَاد الغرب وبنيت عَلَيْهِ قبَّة صَغِيرَة وأخبار العياشيين ومحاسنهم كَثِيرَة وبيتهم بَيت خير وَصَلَاح رَحِمهم الله ونفعنا بهم آمين(6/95)
ظُهُور أهل زَاوِيَة الدلاء وأوليتهم بجبال تادلا وَمَا يتبع ذَلِك
أما نسبتهم فهم من برابرة مجاط بطن من صنهاجة حَسْبَمَا ذكره ابْن خلدون وَغَيره وَكَانَ مبدأ أَمر أهل زَاوِيَة الدلاء أَن جدهم الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي أَبَا بكر بن مُحَمَّد وهوا لمعروف بحمي بن سعيد بن أَحْمد بن عمر بن يسري المجاطي كَانَ مِمَّن أَخذ عَن الشَّيْخ الصَّالح أبي عَمْرو القسطلي دَفِين مراكش وَسكن الدلاء وَاتخذ هُنَالك زَاوِيَة فجَاء وَلَده الْوَلِيّ الْأَظْهر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر فكمل من الْفَضَائِل مَا بَقِي وَأبْدى من الْأَسْرَار مَا خَفِي فتناقل الركْبَان حَدِيث هَذِه الزاوية وقصدها النَّاس من كل نَاحيَة إِلَى أَن كَانَ من أَوْلَاد الرجلَيْن مَا نذكرهُ
وَأخذ الشَّيْخ مُحَمَّد فتحا بن أبي بكر عَن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي فَحصل لَهُ من الحظوة والوجاهة فَوق مَا كَانَ لسَائِر من عاصره وَكَانَ أَعْلَام الْوَقْت كالحافظ أبي الْعَبَّاس الْمقري والحافظ أبي الْعَبَّاس بن يُوسُف الفاسي وَالْإِمَام أبي مُحَمَّد بن عَاشر والفقيه الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد ميارة وَغَيرهم يقصدون زيارته والتبرك بِهِ ويراجعونه فِي عويص الْمسَائِل العلمية وَكَانَ رَحمَه الله عَالما حَافِظًا دراكا متوسعا فِي علمي التَّفْسِير والْحَدِيث وَعلم الْكَلَام حسن الْمُشَاركَة فِيهَا وَفِي غَيرهَا وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف
قَالَ اليفرني وحَدثني غير وَاحِد من أشياخنا أَنه لما دنت وَفَاته جمع أَوْلَاده وعشيرته وَقَالَ لَهُم {إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} الْبَقَرَة 249 وَأَنا أَقُول لكم وَلَا وَمن اغترف غرفَة بِيَدِهِ يُشِير بذلك إِلَى مَا تجاذبوه من أَمر الرياسة بعده وَذَلِكَ من مكاشفاته رَضِي الله عَنهُ وَقد اعْترض عَلَيْهِ بعض الطّلبَة فِي قَوْله وَأَنا أَقُول بِأَنَّهُ سوء أدب لمقابلة كَلَام الله بِكَلَامِهِ وَأجَاب عَنهُ(6/96)
حافده وَهُوَ الْفَقِيه الْعَلامَة الشهير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن المسناوي بن مُحَمَّد بن أبي بكر برسالة مُسْتَقلَّة
وَلما توفّي خلف من الْأَوْلَاد عدَّة فَكَانَ أكبرهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الملقب بالحاج لِأَنَّهُ حج مَعَ أَبِيه وَوَحدهُ مرَارًا وَيُقَال إِنَّه خطب النَّاس يَوْم عَرَفَة على ظهر الْجَبَل لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال وَلم يكن ذَلِك لأحد من أهل الْمغرب قبله وَفِي أَيَّامه تَكَامل أَمر أهل الدلاء وشاع ذكرهم
وَكَانَ للزاوية فِي أَيَّامه وَأَيَّام أَبِيه صيت عَظِيم وَكَانَ بهَا من معاطاة الْعُلُوم والدؤوب على درسها وإقرائها وقراءتها لَيْلًا وَنَهَارًا مَا تخرج بِهِ جمَاعَة من صُدُور الْعلمَاء وأعيانهم كالشيخ اليوسي وَأَضْرَابه حَتَّى كَانَت إِلَيْهَا الرحلة فِي الْمغرب لَا يعدوها الطَّالِب وَلَا يأمل سواهَا الرَّاغِب
وتمهد الْأَمر بهَا لأبي عبد الله مُحَمَّد الْحَاج وَأَوْلَاده وإخوانه وَبني عَمه إِلَى أَن تملك مَدِينَة فاس ومدينة مكناسة وأحوازهما وكافة الْقطر التادلي
قَالَ فِي نشر المثاني وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف كَانَ قيام مُحَمَّد الْحَاج الدلائي على الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ قلت وَلَعَلَّ الْمُكَاتبَة الْآتِي بَيَانهَا بعد إِنَّمَا كَانَت فِي هَذَا التَّارِيخ
وَقَالَ فِي الْبُسْتَان وَفِي سنة خمسين وَألف زحف مُحَمَّد الْحَاج الدلائي بعساكر البربر إِلَى مكناسة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ زَاد إِلَى فاس فاعترضه أَبُو عبد الله العياشي بجموع أهل الغرب وَوَقعت الْحَرْب بَينهمَا فَانْهَزَمَ العياشي وَسَار مُحَمَّد الْحَاج لحصار فاس فَرجع العياشي وَأعَاد حَربًا ثَانِيَة فَانْهَزَمَ مُحَمَّد الْحَاج وَعَاد إِلَى بِلَاده وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف بعد موت العياشي نزل مُحَمَّد الْحَاج على فاس وحاصرها سِتَّة أشهر وَقطع عَنْهَا الْموَاد وَجَمِيع الْمرَافِق إِلَى أَن لحقهم الْجهد وَارْتَفَعت الأسعار فَدَخَلُوا تَحت(6/97)
حكمه وَلما قَامَ اجْتمعت عَلَيْهِ برابرة ملوية وأذعنوا لَهُ واعصوصبوا عَلَيْهِ وَقد كَانَت بَينه وَبَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ وقْعَة أبي عقبَة فَانْهَزَمَ فِيهَا السُّلْطَان الْمَذْكُور وانتشر جمعه وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَمن ثمَّ قطع النّظر عَمَّا وَرَاء وَادي العبيد
ذكر مَا وَقع بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ وَبَين أهل زَاوِيَة الدلاء من المراسلات والمعاتبات
قَالَ فِي النزهة وَفِي أَيَّام السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ قويت شَوْكَة أهل الدلاء وانتشرت كلمتهم فِي بِلَاد الغرب وَضعف الشَّيْخ عَن مقاومتهم وَعجز عَن مقارعتهم وَبعث إِلَيْهِم قاضيه الْعَلامَة الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد المزوار المراكشي يطْلب مِنْهُم ترك الشنآن وَالرُّجُوع إِلَى اجْتِمَاع الْكَلِمَة ويحتج عَلَيْهِم بِأَن أباهم الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي مُحَمَّد بن أبي بكر كَانَ قد بَايع أَخَاهُ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ وَالْتزم طَاعَته وَأَنَّهُمْ أولى النَّاس باقتفاء طَرِيقَته وَاتِّبَاع منهاجه فَلَمَّا بَلغهُمْ القَاضِي الْمَذْكُور وَأدّى الرسَالَة ونثل مَا فِي العيبة وَبَين قَصده اعتذروا إِلَيْهِ بمسائل وتعللوا بِوُجُوه
قَالَ اليفرني وَقد وقفت على رِسَالَة كتب بهَا السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَيْهِم بعد رُجُوع القَاضِي من السفارة وَهَذَا نَص الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا بعد الْخطْبَة ولنصرف عنان الْغَرَض لمن عَيناهُ لمسنون العتاب(6/98)
والمفترض من هم لدقائق الْمجَاز ضابطون وَفِي حقائق الْجَوَاز خابطون أهل وَطن الدلاء لمن هُوَ لوُرُود الشَّرَاب مُحْتَاج السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم وَالسَّيِّد أَبُو عَمْرو وَالسَّيِّد مُحَمَّد الْحَاج وَمن لنشر صحف الْإِنْصَاف مِنْهُم مُطَابق كالسيد المسناوي وَالسَّيِّد عبد الْخَالِق وَلَا زَائِد إِلَّا قصد إيقاظكم من الغفوة الَّتِي طَال كطلوع الشَّمْس من الْمغرب لَيْلهَا وامتد كأرض الْمَحْشَر فرسخها وميلها هَل هَذَا مِنْكُم استخفاف بِحَضْرَة الخلائف أَو تعام وتصام عَمَّا يجب على الرعايا من لَازم الْوَظَائِف هَذَا من الْعَار الماحي لصحف المناقب وَلَا يلوي بِمن توخاه إِلَّا للمهيع الَّذِي لَا تحمد لمنتجعه العواقب وخصوصا مثلكُمْ الَّذِي شقّ عَصا الشقاق وَشرع يمد أَيدي الأطماع فِي استخلاص قبائل الْآفَاق وكنتم لَا تَدْرُونَ لِبَاس القمصان وَلَا الشواشي إِلَى أَن جسركم على وَطْء الغرب فأخذكم مَعَه المعتر مُحَمَّد العياشي فنبذتم مَوَائِد الضيوف وتقلدتم بِلَا حَيَاء السيوف وأعانكم اضْطِرَاب الْقَبَائِل مَعَ وُقُوع الْجُوع وَمن مضى إِلَى أَي قطر تعذر عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى أَن أمكنتم من أزمتها الرعايا وكل عنيد من رِبَاط تازا إِلَى وَادي العبيد فاستحليتم سكر الجبايات من الأبريز وَالْفِضَّة إِلَى أَن جمعتم مِنْهُ مَا لَا ينْحَصر فِي عد بِوَاسِطَة الْقَرَافِيّ والمنتصر من غير أَن تنفقوه على إِقَامَة جند وَلَا انْتفع بِهِ إِلَّا أشياع المومسات وشياطين الْفساد وَالشَّر وَلم ترقبوا مكر من رفعكم من غمار عُمُوم البرابر وأقعدكم فِي القباب على الأسرة وَفِي بيُوت الله على الكراسي والمنابر عويتم علينا معشر الثوار كالذئاب من كل عراء وَشعْبَة لتَكون عَزِيمَة نهوضنا إِلَيْكُم معطلة صعبة وَأَن لَا نَدْرِي أَيْن تميل النُّفُوس ألتلك الصحارى أم إِلَى إيليغ السوس وَهَذَا الْمغرب لَا يَخْلُو ملآن من نواميس كل كَاهِن ومدع قرقار تمسي فِيهِ البومة خاملة وتصبح بالمخلب والمنقار ومعادين الْهَمْز واللمز والمجون هم أهل الزوايا والديارات والفنادق والأسواق والسجون لَكِن من صفعته يَمِينه لَا يبكي وَمن ألْقى(6/99)
بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَة لَا يشكي أهملناكم وأمهلناكم لعوائدكم من الْعِبَادَة وَالطَّعَام فطلعتم لنا فِي الحلوق عظاما ورعام لم تعلم الْفُقَرَاء إِلَّا بِحرْمَة جاه الدخيل على صلح أَو زواج أَو لسماح الْبَخِيل وَحَتَّى الْآن دعوناكم لعقد الْبيعَة الْوَاجِبَة لنا على كل من أطَاع أَو عصى من وَجدّة إِلَى حُدُود السوس الْأَقْصَى فنزهد لكم فِيمَا يقوم بِحَق تِلْكَ الزاوية وَأَهْلهَا بِشَرْط أَن تفيقوا من سنة الْغَفْلَة وجهلها وَإِن أَمْسَكْتُم أَقْدَام الانقياد عَن سلوك سَبِيل السداد وَقبُول سوله فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله فقد شيعنا لكم فقيهنا وقاضينا أَبَا عبد الله مُحَمَّد المزوار فصددتموه أرهب صد وانقلب من المحاورة مردودا أقبح رد لَو لم نبال بكم بالفكر وَالذكر مَا صرفنَا فِيمَا سلف وصيفنا الْأمين مُبَارَكًا السُّوسِي فشيد ضريح السَّيِّد مُحَمَّد بن أبي بكر فدنستم خَالص عرضه فَإِنَّهُ كَانَ لكم علينا بريدا وبصيرة بِمَا انطوت عَلَيْهِ مِنْكُم غرَّة السريرة فَقص علينا دون أَن نفحصه إِن عين الجحش فراره وَلَا يسعنا أَن تدعكم مَعَ أَشْرَاف سجلماسة وَبني مُوسَى تلعبون بِنَا كهر الغالية فِي القفص لَا يُعْطي غناء غَلَّته إِلَّا بوخز المسال الَّتِي تكلفه الرقص وَحَاصِل الْغَرَض تأدية الْبيعَة كَمَا عقدهَا أبوكم الأبر الْجواد المرحوم الْفَاضِل الْمجِيد لأخينا الأرضى مولَايَ الْوَلِيد لتنتظم كلمة الْإِسْلَام فِي الأقطار إِذْ لَو فَعلْتُمْ لاقتفى أثركم جموع المنتجعين والأمصار وَإِن عظمت عَلَيْكُم مُفَارقَة تَقْبِيل الرَّأْس وَالْيَد وَالركبَة فانتظروا صَبِيحَة طلوعي عَلَيْكُم طُلُوع الْفجْر على غسق اللَّيْل بخضرم خضرم من الرُّمَاة وَالْخَيْل ونؤم بعدكم دولة الْأَشْرَاف الصحراوية ونلوي على زَاوِيَة السَّاحِل إِلَى أَن تعود الإيالة الشيخية علوِيَّة عالية بالصيت وَالذكر أَو تهوي إِلَى حضيض بني سعد بن بكر انْتهى
وَكَانَ جَوَاب أهل زَاوِيَة الدلاء عَن هَذِه الرسَالَة مَا حَاصله بِاخْتِصَار وَلَا زَائِد بعد حمد الله إِلَّا أَن مسطوركم الأحرش لما ورد ساحتنا سلب الأذهان والعقول فَلَا جارحة إِلَّا وَلها حِصَّة من الطين فَكَادَتْ الحبالى(6/100)
تسْقط المشايم فضلا عَن الْجَنِين فياله من صَوت زجر لَا ينسى علينا طول السنين أسمعتنا غرائب لم تمر مرارتها على أهل الدَّهْر الْآتِي والغابر لَو صدح بهَا على جبانة لنهض أهل الْمَقَابِر حَتَّى سمتنا بالخسف فِي أسواق المذلة والهوان وَمَا نَحن الْأَعَز وركن لكل من طرقته وصمة أَو عَمه وَأَنت تعْمل بتدبير وَإِشَارَة الأعلاج المجبولين على طبائع الخداع والغش وتبني على قَوَاعِد مَا لكم بهَا من عرين وَلَا عش وَمن الدَّلِيل الشَّاهِد والبرهان فتكهم بأخيك مَعَ مُشَاورَة النسوان على غيب من الْجند والديوان فَلَا تَدعهُمْ يخدعونك وهم سلبوا روح جدك السمي من غمد الْجَسَد وحملوا هامته فِي مخلاة من مسد وَايْم الله لَئِن داموا لَك فِي الغرب بطانة لطلقوا عَلَيْك ثَلَاثًا أوطانه وَأما نَحن فبيعة والدنا رَحمَه الله لم تزل لنا فِي الْأَعْنَاق وَلَا يَنْبَغِي أَن تُعَاد فتكرر كالظهير لمن تحرر وَأَيْضًا منعنَا من تجديدها انسلال البربر عَن ساحتنا فَتكون أقوى سَبَب لفضيحتنا وأجلها هَذَا الأجدل الَّذِي لَا تؤده سموم اللَّيَالِي وَلَا حرارة قيظ المصيف مَوْلَانَا مُحَمَّد بن مَوْلَانَا الشريف عِقَاب أَشهب على قنة كل عقبَة لم يقنعه عد المَال دون حسم الرَّقَبَة وَرُبمَا غرتنا غَفلَة فيشن الْغَارة على شعوب شعاب ملوية أَو ينشر جيوشه على رِبَاط تازا بالرايات والألوية سِيمَا وجناحاه ذَوُو النُّفُوس النفيسة وبربر صنهاجة وعرب دخيسة بزاة النزوات بالحلة والمحال والغزوات والعياشي كَمَا تعلمُونَ كَانَت همه هجرته أَولا لملة أهل الشّرك ثمَّ مد خطا الْعَزْم إِلَى دَرَجَة الْملك وَأما وصيفكم الْأمين مبارك السُّوسِي فَحَيْثُ أَنَاخَ علينا ككل الْإِقَامَة لاختطاط ضريح الْوَالِدين رحمهمَا الله قمنا بوظيف حَقه الظَّاهِر وَالْبَاطِن حَيْثُ اختبر بِعَين الْحَقِيقَة أرجاء أغوار المواطن وَلَا شكّ أَن حَال مطالعته هِيَ الَّتِي أرخصت لنا فِي سوق خواطركم الأسعار إِلَى أَن نصبتم لنا بعد الرِّضَا حبائل الأذعار الجالية للعار وجد قبائلنا متبددة على ضم حبوب الصَّيف وأعيانهم مغتدين على الْخُيُول بِدُونِ رمح وَلَا مدفع وَلَا سيف فخالهم على غرَّة غنيمَة بَارِدَة وَمَا علم أَنهم أغوال الغيل صادرة وواردة فَإِن كَانَت معاينته(6/101)
هِيَ الَّتِي أطمعتك أَن يعودوا بعد الْعِزّ نَوَائِب فَمَا درى أَن مِنْهُ كَانَ الخاوي الخائب من ركب الْخَيل لنَفسِهِ دون راتب المخزن لَا ترْضى همته أَن يهان فيحزن وقاضيك السَّيِّد مُحَمَّد المزوار حَيْثُ عاين وُفُود الأقاليم منتشرة كالجراد على الْأَزِقَّة والأدراب دون من لَازم خدمَة الْأَبْوَاب تحقق عيَانًا أَن انتظام شَمل الْمَالِك والمملوك لَا يكون إِلَّا على عُظَمَاء الْمُلُوك فَقص عَلَيْكُم وعَلى من حضر مَا اعْتقد وَسمع وَنظر وَحَتَّى الْآن إِن قصدتم الغرب أَو حصن فاس لَا تنالكم من جانبنا مساءة وَلَا بَأْس فَبعد أَن يكون لكم فِي الْمَدِينَة الْبَيْضَاء الجديدة والقديمة قَرَار يكون لنا بعد ذَلِك حكم الِاخْتِيَار بَين أَن نؤمن لَك أَو نَتْرُك لَك الديار أَو نستصرخ بِمن هُوَ مثلك شرِيف حَقِيقِيّ وسلطان لَهُ شغف أَكثر مِنْك فِي ضبط الأوطان فنقابل إِذْ ذَاك القصورة بالساط ونلقي بطانة من شاط لأسنان الأمشاط أَيهمَا للغرب غلب نُؤَدِّي لَهُ على الرغم مَا طلب وَإِن قنعت بحوز الْحَمْرَاء من مراش ورفضت عَنْك معاناة الهراش والتناوش فَدَعْنَا ومراعاة من تِجَارَته الرِّئَاسَة وهمته اشْتِرَاء نَفِيس السياسة ضرغام غَابَ سجلماسة وَأما صَاحب إيليغ السوس فَمَا مُرَاده وَمُرَاد ذويه إِلَّا غنيمَة سَلامَة الْأَعْرَاض وتجارة سلب النُّفُوس وَفِيمَا تلوناه عَلَيْك من الْقَصَص كِفَايَة فلئن غادرتنا مستترين فِي حُرْمَة الاحترام وَالْوَقار فَنعم وَإِن زاحمتنا بمنكب الهوان يدافعك عَنَّا من ادّعى أَنه زعم وَإِن طرقنا مناخ عزمك على عبور وَادي العبيد أَو أم الرّبيع فهناك يجمع الله بَين من يَشْتَرِي وَيبِيع وَالسَّلَام وَكتب عَن إِذن جُمْهُور إخْوَته عبد الله المسناوي بن مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي فِي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب انْتهى
وَلما رأى السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ تعاصي أهل زَاوِيَة الدلاء عَلَيْهِ واستحكام أَمر الغرب لَهُم وتقويهم بِالْعدَدِ وَالْعدَد صرف عنانه عَن مقارعتهم وَمَال إِلَى مسالمتهم وَقطع النّظر عَمَّا فِي أَيْديهم وَالْأَمر كُله لله(6/102)
ذكر مَا دَار بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ وَبَين الْأَمِير الْمولى مُحَمَّد بن الشريف رحمهمَا الله تَعَالَى
كَانَت المكاتبات والمرسلات تقع بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ السَّعْدِيّ وَبَين الْأَمِير الْمولى مُحَمَّد بن الشريف السلجماسي فَمن ذَلِك رِسَالَة بعث بهَا السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى الْأَمِير الْمَذْكُور فَكَانَ من فصولها أَن قَالَ لَهُ وَبَلغنِي أَنَّك تعلن فِي النوادي من الحواضر والبوادي إِن جرثومة انتمائنا لبني سعد بن بكر بن هوَازن مَعَ أَنَّهَا فِي بني نزار بن معد وافية المكاييل ثَقيلَة الموازن وأننا من تيدسي أحد الْقُصُور بوادي درعة وَمِنْهَا أنبت الله أصلنَا فأزهر غصنه وأثمر فَرعه فلئن كَانَ غرضك حط منْطقَة قَدرنَا من اللبب فَهَذَا من العلى عَلَيْك عَار وَأَن تحاول محونا من صحيفَة النّسَب فَتلك دَعْوَى لَا تغلي أَو ترخص أسواق الأسعار وَقد صرفنَا إِلَيْك نُسْخَة من مناهج الصفاء فِي أَخْبَار الشرفاء ليطلع عَلَيْهَا أنظارك من الْمُلُوك فيزول مَا بالخاطر من إشراك الشكوك
فَأَجَابَهُ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف عَن هَذَا الْفَصْل بِأَن قَالَ لَهُ وعتابكم أننا عزوناكم لبني سعد بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور وناشرون لذَلِك فِي الْحلَل والمدن والقصور تالله مَا فَهُنَا بذلك عَن معايرة لكم وَلَا جهل وَلَا بِأَن نضيفكم لمن لَا عشيرة لَهُ وَلَا أهل بل اعتمدنا فِي ذَلِك بِحَمْد الله على مَا نَقله الثِّقَات المؤرخون لأخبار النَّاس من عُلَمَاء مراكش وتلمسان وفاس وَلَقَد أمعن الْكل التَّأَمُّل بِالذكر والفكر فَمَا وجدكم إِلَّا من بني سعد بن بكر وَلَا معول على كتاب الْمَنْصُور من الفشاتلة وَلَا ابْن القَاضِي المكناسي وَلَا ابْن عَسْكَر الشريف الشفشاوني وسواهم إِذْ الْكل أهل بساطكم وَمحل مزاحكم وانبساطكم وَلَقَد بلغتنا نُسْخَة مناهل الصَّفَا فَلم نجد فِيهَا موردا عذب وَصفا وَكفى دَلِيلا بالباطن وَالظَّاهِر قَول الثِّقَة مَوْلَانَا عبد الله بن(6/103)
طَاهِر وَمَعَ هَذَا فَلم نعتمد دفعكم عَن شرف النّسَب وَلَا رفعكم على مَا وسمكم الله بِهِ من زِينَة الْحسب انْتهى الْغَرَض من هَذِه الرسَالَة وَأَشَارَ بقوله قَول الثِّقَة مَوْلَانَا عبد الله بن طَاهِر إِلَى مَا اتّفق لَهُ مَعَ الْمَنْصُور حِين جالسه على الْمَائِدَة وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور أَيْن اجْتَمَعنَا فَقَالَ لَهُ ابْن طَاهِر على هَذَا الخوان والحكاية قد مرت فِي صدر هَذِه الدولة السعدية
وَمِمَّا كتب بِهِ السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ للأمير الْمَذْكُور أَيْضا وَذَلِكَ حِين غلب الْمولى مُحَمَّد على فاس وملكها فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور يحذرهُ من عائلة أهل الغرب وغدرهم برسالة من إنْشَاء وزيره الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى آجانا وَفِي آخرهَا قصيدة من إنْشَاء الْقَائِد الْمَذْكُور وَهِي
(يَا شبْل مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّدًا ... شمس السَّعَادَة والهلال الْأَكْمَل)
(مَلَأت مهابتك الْكَبِيرَة مغربا ... فزهت بمشرقة أَصْبَهَان وموصل)
(صقر الصَّيَاصِي على الأعادي صائل ... طورا يُغير وَفِي الْمَلَاحِم سيتل)
(أنيابه الْبيض الْحداد صوارم ... وَبِكُل ظفر مِنْهُ أَبتر مقصل)
(فجناحك الجرد الْعتاق وَإِن نظرت ... إِلَى تلمسان يطيش الشمَال)
(هابتك ثوار الأقالم عنْوَة ... والوحش فَهِيَ يغص مِنْهَا المنهل)
(قد طبت إِن عرقت عروقك فِي الوغا ... خلت العنابر ديف فِيهَا المندل)
(يَا مَالِكًا سعدت بِهِ أوطانه ... فِيمَا مضى وزها بِهِ الْمُسْتَقْبل)
(نَادَى بك النَّصْر الْعَزِيز لمغرب ... وَلكم على فاس الْجَدِيد الكلكل)
(فاحذر كَمَا حذر الْغُرَاب وَلَا تكن ... كالبط يطفو عَن مطاه القوقل)
(واعدل تفوز وَلَا تواخي طامعا ... ترد العداة وتعم عَنْك العذل)
(لَا تصد من جبل البرابر واصطبر ... حَتَّى يهون على الجواسيس مدْخل)
(لَا تأمن الْأَعْرَاب فِي أقوالها ... واقمع فضاضة من يجور ويختل)
(وَعَلَيْك بالغارات فِي أوطانها ... بكتائب تسبي الأناث وَتقتل)
(واغضض وَلَا تردي تجار مَدَائِن ... يبْقى عَلَيْك السّتْر دأبا يسبل)(6/104)
(لَا تتَّخذ من حصن فاس صاحبا ... أَو حَاكما يصل الْأُمُور ويفصل)
(كالبغل عَادَته الْفِرَار وَإِن غَدا ... فِي مربط فَمَتَى استغرك يركل)
(لَا تنقلن إِلَى الصحارى ذخائرا ... فَيَقُول أهل الغرب حتما يرحل)
(وَاضْرِبْ لبيت الْملك أوتاد الدها ... تزداد صيتًا فِي الْقُلُوب وَتقبل)
(ألف وُفُود الغرب واعرف قدرهَا ... وقروم كل قَبيلَة لَا تجْهَل)
(وابسط يَديك على الْعِيَال هنيئة ... وَإِذا غرست عروق عدل تنقل)
(هذي وَصَايَا قد أضعنا حُقُوقهَا ... فِي آخر مِمَّا نحاه الأول)
(فَمَتَى نَشد إِلَى الْمَعَالِي رحالنا ... يأباه نصر والمقادير تخذل)
(فرضينا متبعين أَحْكَام القضا ... وَالله يحكم مَا يُرِيد ويعدل)
فَأَجَابَهُ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فِي سنة تسع وَخمسين وَألف بقصيدة ختم بهَا جَوَابه من إنْشَاء الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَوْدَة الفاسي وَنَصهَا
(أمحمد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ الرِّضَا ... فَخر الخلائف والهمام الْأَكْمَل)
(فَلَقَد أَجَبْتُك عَمَّا قد كاتبتني ... نظما ونثرا كي ترى مَا يمثل)
(إِنِّي أبث لكم وَصَايَا جمة ... إِن أَنْت للنصح الْمُصَرّح تقبل)
(فَإلَى مَتى طول الرقاد أما ترى ... أضعان ملكك كل يَوْم ترحل)
(والدهر ينتف فِي رياش جناحكم ... ويدنسن من الصَّفَا مَا تغسل)
(مَا من مليك ذاق لَذَّة رَاحَة ... إِلَّا تجلى لَهُ الهوان فيسفل)
(أَحْرَى الَّذِي كثرت شقا ثواره ... يعوي عَلَيْهِ لكل عَاد معقل)
(تحتال تخدعه بِكُل حباله ... حَتَّى يصاد كَمَا يصاد النعثل)
(فاستيقظن من الْخمار وَمن رعى ... فِي أَرض آساد الشرى لَا يغْفل)
(وانفض غُبَار الذل واخلع ثَوْبه ... يزْدَاد وَجهك بهجة ويهلل)
(ضيعت ملكك فِي الرخا وَتركته ... للخزي فِي دَار الهوان يذلل)
(وركنت للظل الوريف وغادة ... يزهو البديع بهَا إِذا مَا ترفل)
(وَإِذا أردْت دوَام هَيْبَة همة ... وتدوم فِي ستر عَلَيْكُم يسبل)
(دع عَنْك فِي الحمرا مروق سفرجل ... ومدربلا بالزعفران يفلفل)
(واركب مطايا الصافنات إِلَى الوغا ... أما تحوز مزية أَو تقتل)(6/105)
(واقرع طبولا للرعاة وَفِي الوغا ... يجبي إِلَى الْحَرْب الْعوَان الجحفل)
(وخض القفار وهز رمحا وادرع ... واثن الْعَنَان وَفِي يَمِينك منصل)
(خاطر بِنَفْسِك فِي الفيافي جائلا ... تردي الْعَدو وكل ليل منزل)
(واصطد نهارك بالسلاق وَبعدهَا ... عقبانها وكذاك صقر اجدل)
(وَقد الجيوش كَمَا الوحوش وَلَا تدع ... من يعْص أَمرك وازجرنه فيفعل)
(جنب آجانا الْجُبْن فِي تَدْبيره ... واصحب شجاعا للذخائر يبْذل)
(لَا تجمعن من العلوج بطانة ... فطباعها الْغدر البليغ الأعجل)
(أما الشبانة فاحذرن من غيها ... لَا بُد تغدر بالأخير وتخذل)
(ترجو عواقب دولة لنفوسها ... وتود من وافى جنابك يجفل)
(يعْطف عَلَيْك الدَّهْر بعد نفوره ... فتعود أَيَّام السُّعُود وَتقبل)
(مَا ذاق زَيْدَانَ أَبوك حلاوة ... من ملكه حَتَّى غذاه الحنظل)
(فَإِذا امتثلت صَوَاب صدق وصيتي ... يصغي الزَّمَان لكم ويصفو المنهل)
وَاعْلَم أَن هَذِه الرسائل والأشعار الَّتِي أثبتناها هُنَا نازلة كَمَا ترى عَن دَرَجَة البلاغة وعادمة لما تستحقه من فن الْوَزْن وَنقد الصِّنَاعَة وَلَكِن لما كَانَ الْكتاب كتاب تَارِيخ وأخبار لَا كتاب أدب وأشعار لم نبال بذلك إِذْ كَانَ الْمَقْصُود مِنْهَا مَا تضمنته من بَيَان الْأَحْوَال والإفصاح عَنْهَا على أصح منوال فَإِن هَذِه الرسائل هِيَ عماد التَّارِيخ وملاكه ونازلة مِنْهُ بِالْمحل الَّذِي نزلت من الدَّار أسلاكه فَلِذَا أكثرنا مِنْهَا فِي هَذَا الْكتاب وَالله تَعَالَى الملهم للصَّوَاب(6/106)
وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله
كَانَت وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَفِي نشر المثاني أَنه توفّي قَتِيلا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بقبور الْأَشْرَاف من قَصَبَة مراكش فِي رَوْضَة أَبِيه وعشيرته وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره قَول الْقَائِل
(لبدر سموات الْمَعَالِي أفول ... وَفِي ذَا الضريح كَانَ مِنْهُ نزُول)
(مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ غاله ... حمام فَحزن الْعَالمين طَوِيل)
(إِمَام الْأَنَام ذُو المآثر فعله ... لَهُ غرَّة فِي الصَّالِحَات جميل)
(حباه إِلَه الْعَرْش رحمى تخصه ... بِمَا هُوَ فِي الفردوس مِنْهُ كَفِيل)
وزراؤه يحيى آجانا وَولده مُحَمَّد وَغَيرهمَا وقضاته أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد المزوار رحم الله الْجَمِيع
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله
لما توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد والعامة يَقُولُونَ مولَايَ الْعَبَّاس بِدُونِ لفظ الكنية وَقَامَ مقَام أَبِيه فِي جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ إِلَّا أَن حَيّ الشبانات وهم أَخْوَاله قويت شوكتهم فِي أَيَّامه وَغلظ أَمرهم عَلَيْهِ ووثبوا على الْملك وراموا الاستبداد بِهِ فضايقوه وحاصروه بمراكش أشهرا
وَلما رَأَتْ أمه أَن الْأَمر لَا يزِيد إِلَّا شدَّة كَلمته فِي أَن يذهب إِلَى أَخْوَاله وَيَأْخُذ بقلوبهم ويزيل مَا فِي نُفُوسهم عَلَيْهِ فَذهب إِلَيْهِم فَلَمَّا تمكنوا مِنْهُ قَتَلُوهُ غيلَة وَأَقْبلُوا إِلَى مراكش مُسْرِعين وَبَايَعُوا فِيهَا لأميرهم عبد الْكَرِيم بن(6/107)
أبي بكر الشباني ثمَّ الحريزي كَمَا سَيَأْتِي
وَكَانَ مقتل السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف كَذَا فِي النزهة وَالَّذِي فِي نشر المثاني أَنه قتل سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَالله أعلم بغيبه
قَالَ اليفرني رَحمَه الله وَقد أذكرتني هَذِه الفعلة قَول الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فِي قصيدته السَّابِقَة
(أما الشبانة فاحذرن من غيها ... لَا بُد تغدر بالأخير وتخذل)
فَإِن الْأَمر وَقع كَمَا قَالَ مَعَ أَن الْمولى مُحَمَّد بن الشريف كتب بالقصيدة الْمَذْكُورَة للسُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ فِي سنة تسع وَخمسين وَألف وغدر الشبانات للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس كَانَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَلَعَلَّ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف تلقى ذَلِك من بعض أهل الْكَشْف أَو نحوهم فَإِن كَلَامه كثيرا مَا يَقع فِيهِ مثل هَذَا وبمهلك السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله انقرضت دولة السعديين من آل زَيْدَانَ وانهار جرفها وانطوى بساطها وَسُبْحَان من لَا يبيد ملكه وَلَا يَزُول سُلْطَانه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم
الْخَبَر عَن دولة الشبانات بمراكش وأعمالها وَمَا آل إِلَيْهِ أمرهَا من دثورها واضمحلالها
لما قتل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ثار كَبِير حَيّ الشبانات بمراكش من عرب معقل وَهُوَ الرئيس عبد الْكَرِيم بن الْقَائِد أبي بكر الشباني ثمَّ الحريزي وحريز فَخذ مِنْهَا هِيَ النبعة والصميم فِيهَا وَعبد الْكَرِيم هَذَا يعرف عِنْد الْعَامَّة بكروم الْحَاج فَدخل مراكش ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ بهَا سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وانتظمت لَهُ مملكة مراكش ونواحيها وَسَار فِي النَّاس سيرة حميدة وَكَانَ(6/108)
فِي أَيَّامه الغلاء المؤرخ بعام سبعين وَألف وَهُوَ غلاء مفرط بلغ النَّاس فِيهِ غَايَة الضَّرَر حَتَّى أكلُوا الْجِيَف وَلم يزل مُسْتَقِيم الرَّأْي بمراكش إِلَى أَن توفّي بهَا سنة تسع وَسبعين وَألف قبل أَن يدخلهَا الْمولى الرشيد بن الشريف بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَقَالَ منويل لما بَايع أهل مراكش عبد الْكَرِيم الشباني خَالَفت عَلَيْهِ آسفي وأعمالها فغزاهم ثمَّ رَجَعَ مفلولا إِلَى مراكش وَكَانَت المجاعة الْمَشْهُورَة عقب ذَلِك ثمَّ قَتله بعض أجناده دخل عَلَيْهِ فطعنه بِرُمْح فأتلفه ثمَّ قبض على الْقَاتِل وَقتل أَيْضا فِي الْحِين وَلما توفّي بَايع النَّاس وَلَده أَبَا بكر ابْن عبد الْكَرِيم فَبَقيَ إِلَى أَن قدم الْمولى الرشيد وتقبض عَلَيْهِ وعَلى عشيرته فَقَتلهُمْ ثمَّ تتبع الشبانات فأفناهم قتلا وَأخرج عبد الْكَرِيم من قَبره فأحرقه بالنَّار وانقرضت دولة الشبانات والبقاء لله وَحده
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول
فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَألف فِي ثَانِي عشر محرم مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الْكَبِير أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن الْحسن الخالدي السلاسي الْمَعْرُوف بِابْن حسون نِسْبَة إِلَى جده الْحسن الْمَذْكُور وَهَذَا الشَّيْخ هُوَ دَفِين سلا الشهير بهَا أَصله من سلاس مدشر على مرحلة من فاس ثمَّ انْتقل إِلَى سلا وَسبب انْتِقَاله إِلَيْهَا أَنه كَانَ بَين أهل سلاس حروب ومقاتلات فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله إِذا غلب أهل مدشره فَرح وَإِذا انْهَزمُوا حزن ففكر فِي نَفسه وَقَالَ محبَّة الْغَلَبَة تستدعي محبَّة الشَّرّ للْمُسلمين وَعلي عهد الله لَا جَلَست فِي مَوضِع أفرق فِيهِ بَين الْمُسلمين وأبغي الشَّرّ لَهُم فارتحل إِلَى سلا وَلما اسْتَقر بهَا أَتَاهُ جمَاعَة من عشيرته يراودونه على الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ وحثوا عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَأخذ قدحا وملأه من مَاء الْبَحْر وَوَضعه ثمَّ قَالَ لَهُم مَا بَال مَاء الْبَحْر يضْرب بعضه بَعْضًا وتتلاطم أمواجه وَمَا لهَذَا المَاء الَّذِي مِنْهُ فِي الْقدح سَاكن فَقَالُوا لَهُ لِأَنَّهُ لم يبْق فِي الْبَحْر فَقَالَ لَهُم الغربة تصفي(6/109)
وتسكن فَعَلمُوا مُرَاده وَانْصَرفُوا آيسين قلت وَفِي انْتِقَاله من سلاس إِلَى سلا إِشَارَة لَطِيفَة وَهِي أَن لفظ سلاس بِاعْتِبَار تفكيكه سلو مَوْصُول بِحرف السِّين وَهُوَ حرف ذُو قُرُون ثَلَاثَة متشعبة فَيُؤْخَذ مِنْهُ بطرِيق الْإِشَارَة أَنه سلو مَوْصُول بكدر بِخِلَاف لفظ سلا فَإِنَّهُ سلو مَحْض وَقد قدمنَا فِي أَخْبَار ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله أَن مَدِينَة سلا كَانَت مقصدا لِلْعِبَادَةِ وَأهل الْخلْوَة والانفراد من لدن قديم أَخذ الشَّيْخ ابْن حسون عَن أبي مُحَمَّد الهبطي عَن أبي مُحَمَّد الغزواني عَن التباع عَن الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ صَاحب أَحْوَال تهدى إِلَيْهِ الثِّيَاب الرفيعة فيأمر بهَا فَتلقى فِي بَيت مسدود فَتبقى فبه حَتَّى يأكلها السوس وتضيع وَكَانَ كل يَوْم يصبح على بَابه أَرْبَاب الْآلَات بالطبول والأبواق يضْربُونَ عَلَيْهِ النّوبَة وَغير ذَلِك وَقد تكلم عَلَيْهِ الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات وَحمله محملًا جميلا وكرامات ابْن حسون كَثِيرَة شهيرة نفعنا الله بِهِ وبأمثاله
وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فِي ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى العلام الرباني أَبُو المحاسن يُوسُف بن مُحَمَّد الفاسي جد السَّادة الفاسيين وأخباره ومناقبه شهيرة قد تكفل ببسطها كتاب مرْآة المحاسن لِابْنِهِ الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي الْمَوْضُوع لهَذَا الْقَصْد بالخصوص
وَفِي سنة أَربع عشرَة وَألف كَانَ الغلاء الْعَظِيم بفاس قَالَ صَاحب الممتع فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن حَكِيم بالأندلسي أَنه اعتراه ذَات يَوْم حَال فجَاء إِلَى بعض أفران فاس وَجعل يَقُول لصَاحب الفرن أغلق فرنك أغلق فرنك ويصيح بِهِ فَإِذا بالغلاء الْعَظِيم حدث عقب ذَلِك وَهُوَ غلاء سنة أَربع عشرَة وَألف فتعطل ذَلِك الفرن وَغَيره من أفران الْمَدِينَة وَكَانَ يمر بالطرقات فَيَقُول النَّاس يَأْكُلُون عَن أَوْلَادهم ويكرر ذَلِك على جِهَة الْإِنْكَار فجَاء الغلاء الْمَذْكُور فَكَانَ النَّاس يَأْكُلُون فِي الْأَسْوَاق عَن أَوْلَادهم وَلم يكن يعْهَد الْأكل بالأسواق قبل ذَلِك(6/110)
وَفِي سنة خمس عشرَة وَألف فِي ثَانِي جُمَادَى مِنْهَا جَاءَ بفاس سيل عَظِيم حَتَّى غمر دور عمل الفخارين وَذهب بِبَعْض أنادر الزَّرْع وَحمل أمة من بَاب الْفتُوح فَمَاتَتْ
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف حدث الشَّرّ بفاس وَوَقع الغلاء حَتَّى بيع الْقَمْح بأوقيتين وَربع للمد وَكَثُرت الْمَوْتَى حَتَّى أَن صَاحب المارستان أحصى من الْمَوْتَى من عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف إِلَى ربيع النَّبَوِيّ من السّنة بعْدهَا أَرْبَعَة آلَاف وسِتمِائَة وَخَربَتْ أَطْرَاف فاس وخلت المداشر وَلم يبْق بلمطة سوى الوحوش
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَذَلِكَ عِنْد فجر يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا حدثت زَلْزَلَة عَظِيمَة بفاس ذكر صَاحب الممتع فِي تَرْجَمَة أبي عبد الله بن حَكِيم الْمَذْكُور آنِفا أَنه كَانَ قبل الزلزلة الْمَذْكُورَة يَصِيح المردومات المردومات فَإِذا بالزلزلة حدثت قَالَ فَمَا بقيت دَار من دور فاس غَالِبا إِلَّا دَخَلتهَا الفؤس
وَفِي خَامِس شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة نزل برد عَظِيم قدر بيض الدَّجَاج وأكبر وأصغر ورئي حجر عَظِيم مِنْهَا نزل على خيمة فخرقها وفر أَهلهَا عَنْهَا وَبَقِي لم يذب نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام
وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف توفّي الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الفاسي الْمَعْرُوف بالعارف بِاللَّه وَهُوَ أَخُو أبي المحاسن الْمَذْكُور آنِفا ومناقبه شهيرة أَيْضا
وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ الغلاء بفاس وَالْمغْرب
وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْهمام أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عَليّ بن عَاشر الْأنْصَارِيّ نسبا الأندلسي أصلا الفاسي منشأ ودارا الْفَقِيه الْمَشْهُور كَانَ رَحمَه الله لَهُ الباع الطَّوِيل فِي الْمُشَاركَة فِي الْعُلُوم مَعَ غَايَة التَّحْرِير وَالتَّحْقِيق وَله التَّأْلِيف الحسان الَّتِي أغْنى فِيهَا عَن الْخَبَر والعيان وَكَانَ ورعا سنيا وَكَانَ لَا(6/111)
يتَّخذ الْقُرَّاء على جنائز أَقَاربه وَيَقُول يَمْنعنِي من ذَلِك أَنهم يفسدون قِرَاءَة الْقُرْآن وقراءتهم تِلْكَ عذر فِي التَّخَلُّف عَن الْجَنَائِز
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أبي المحاسن يُوسُف الفاسي وَكَانَ رَحمَه الله متفننا عَالما لَهُ عناية كَبِيرَة بتحصيل الْمسَائِل وتفييدها والاطلاع على غريبها وشريدها وَهُوَ صَاحب مرْآة المحاسن وَكَانَ جوالا فِي بوادي الْمغرب وحواضره حَتَّى أدته خَاتِمَة المطاف إِلَى مَدِينَة تطاوين فَألْقى بهَا عَصا التسيار إِلَى أَن توفّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ نقل إِلَى فاس بعد سنتَيْن فَوجدَ طريا رَحمَه الله
وَفِي سنة سِتِّينَ وَألف كَانَ بالمغرب رخاء مفرط وَبلغ صَاع الْبر بِمَدِينَة سلا مِثْقَالا وَكَاد يَنْعَدِم بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غلاء لم يعْهَد مثله وانتشر الْفساد فِي الْبِلَاد وَحل بالمغرب وباء كَبِير حَتَّى كَانَ النَّاس يموتون فِي كل طَرِيق رجَالًا وَنسَاء نسْأَل الله الْعَافِيَة
وَفِي سنة سبعين وَألف كَانَ الغلاء المفرط بالمغرب لَا سِيمَا بمراكش وَهَذِه السّنة هِيَ الْمَعْرُوفَة عِنْد الْعَامَّة بِسنة كروم الْحَاج لَا زَالُوا يضْربُونَ الْمثل بغلائها إِلَى الْيَوْم وَالله تَعَالَى يحفظ الْمُسلمين ويحلهم من كنفه فِي حصن حُصَيْن آمين
تمّ الْجُزْء السَّادِس ويليه الْجُزْء السَّابِع
وأوله
الْخَبَر عَن دولة الإشراف السجلماسيين من آل عَليّ الشريف وَذكر نسبهم وأوليتهم(6/112)
كتاب الاستقصا ج 3 // إِدْخَال مكتبة الزهراء(7/1)
3 -(7/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة العلوية
الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السجلماسيين من ال عَليّ الشريف وَذكر نسبهم وأوليتهم
اعْلَم أَن نسب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة العلوية من أصرح الْأَنْسَاب وسببها الْمُتَّصِل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أمتن الْأَسْبَاب وَأول مُلُوكهَا كَمَا سَيَأْتِي هُوَ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف بن عَليّ الشريف المراكشي بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف بن عَليّ الشريف السجلماسي ابْن الْحسن بن مُحَمَّد بن حسن الدَّاخِل ابْن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أبي مُحَمَّد بن عَرَفَة بن الْحسن بن أبي بكر بن عَليّ بن الْحسن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن قَاسم بن مُحَمَّد النَّفس الزكية ابْن عبد الله الْكَامِل ابْن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن عَليّ وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا ذكر هَذَا النّسَب الَّذِي هُوَ حقيق بِأَن يُسمى سلسلة الذَّهَب جمَاعَة من الْعلمَاء كالشيخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصومعي وَالشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن يُوسُف الفاسي والعلامة الشريف أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام القادري فِي كِتَابه الدّرّ السّني فِيمَا بفاس من النّسَب الحسني وَغَيرهم
وَقد تقدم فِي أَخْبَار السعديين أَن الصَّوَاب أَن يُزَاد فِي عَمُود هَذَا النّسَب الشريف بعد قَاسم الآخر مَا نَصه ابْن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية إِلَى اخر مَا مر
قَالَ أَبُو عبد الله الفاسي فِي المراة إِن الشرفاء الَّذين لَا يشك فِي(7/3)
شرفهم بالمغرب كَثِيرُونَ كالجوطيين من الحسينيين الإدريسيين وكشرفاء تافيلالت من الحسينيين أَيْضا المحمديين وكالصقليين والعراقيين وَكِلَاهُمَا من الحسينيين بِالْيَاءِ الساكنة بَين السِّين وَالنُّون فَإِن شرف جَمِيعهم لَا يخْتَلف فِيهِ اثْنَان من أهل بِلَادهمْ وَمن يعرفهُمْ من غَيرهم اهـ
وَعَن شيخ الْجَمَاعَة الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي رَحمَه الله أَنه قسم شرفاء الْمغرب بِحَسب الْقُوَّة والضعف إِلَى خَمْسَة أَقسَام وَمثل للقسم الأول الْمُتَّفق على صِحَّته بأصناف مِنْهُم هَؤُلَاءِ السَّادة السجلماسيون وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي رَحمَه الله شرف السَّادة السجلماسيين مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ كَالشَّمْسِ الضاحية فِي رَابِعَة النَّهَار وَعَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن معن الأندلسي أَنه كَانَ يَقُول مَا ولي الْمغرب بعد الأدارسة أصح نسبا من شرفاء تافيلالت
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن شرف هَؤُلَاءِ السَّادة السجلماسيين مِمَّا لَا نزاع فِي صراحته وَلَا خلاف فِي صِحَّته عِنْد أهل الْمغرب قاطبة بِحَيْثُ جَاوز حد التَّوَاتُر بمرات رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم وبأسلافهم امين
دُخُول الْمولى حسن بن قَاسم إِلَى الْمغرب واستيطانه بسجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قَالُوا إِن أصل سلف هَؤُلَاءِ السَّادة رَضِي الله عَنْهُم من يَنْبع النّخل من أَرض الْحجاز قَالُوا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أقطع جدهم عَليّ بن أبي طَالب أَرض يَنْبع فاستقرت ذُريَّته بِهِ وتناسلت إِلَى هَذَا الْعَهْد وَكَانَ أول من دخل مِنْهُم الْمغرب الْمولى حسن بن قَاسم فحكي عَن الْفَقِيه الْعَالم أبي عبد الله مُحَمَّد بن سعيد المرغيثي صَاحب الرجز الْمُسَمّى بالمقنع قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ الإِمَام الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني أَن جده الدَّاخِل إِلَى الْمغرب هُوَ الْمولى حسن بن قَاسم قَالَ وَكَانَ دُخُوله(7/4)
إِلَيْهِ فِي أَوَاخِر الْمِائَة السَّابِعَة وَكَانَ يَوْمئِذٍ من أَبنَاء السِّتين وَنَحْو ذَلِك وَتُوفِّي رَحمَه الله قبل انْقِضَاء الْمِائَة الْمَذْكُورَة اهـ
وَخبر ابْن طَاهِر هَذَا هُوَ أصح مَا ينْقل فِي كَيْفيَّة الدُّخُول وَوَقته وَذكر بَعضهم عَنهُ أَن دُخُوله كَانَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن هِلَال أَن دُخُوله كَانَ فِي أَوَائِل الدولة المرينية ذكر ذَلِك فِي منسكه فعلى هَذَا يكون دُخُوله فِي دولة السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني وَقد أَشَرنَا إِلَى ذَلِك فِي مَحَله فِيمَا سلف وَقَالَ الْعَلامَة أَبُو سَالم العياشي فِي رحلته إِن الْمولى حسن بن قَاسم دخل الْمغرب فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَكَانَ سكناهُ من يَنْبع النّخل بمدشر يعرف بمدشر بني إِبْرَاهِيم فَهَؤُلَاءِ كلهم اتَّفقُوا على أَن الدُّخُول كَانَ فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَهُوَ الصَّحِيح الصَّوَاب إِن شَاءَ الله وَزعم بَعضهم أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمِائَة السَّادِسَة وَهُوَ بعيد
وَاخْتلفُوا فِي السَّبَب الدَّاعِي إِلَى دُخُول هَذَا السَّيِّد إِلَى الْمغرب فَذكر صَاحب كتاب الْأَنْوَار السّنيَّة فِيمَا بسجلماسة من النِّسْبَة الحسنية أَن سَبَب دُخُوله أَن ركب الْحَاج المغربي كَانَ يتوارد على الْأَشْرَاف هُنَالك وَكَانَ شيخ الركب فِي بعض القدمات رجلا من أهل سجلماسة يظنّ أَنه السَّيِّد أَبُو إِبْرَاهِيم فَلَمَّا حج اجْتمع بِالْمَوْسِمِ بالسيد حسن الْمَذْكُور وَكَانَت سجلماسة وأعمالها يَوْمئِذٍ شاغرة من سُكْنى الْأَشْرَاف فَلم يزل أَبُو إِبْرَاهِيم يحسن للْمولى حسن موطن الْمغرب وَالسُّكْنَى بسجلماسة حَتَّى استماله فأجمع السّير مَعَ الركب وَقدم بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيم فاستوطن ببلدهم سجلماسة وَقَالَ حافده الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر فِيمَا قيد عَنهُ وَكَانَ الَّذين أَتَوا بِهِ من أهل سجلماسة أَوْلَاد البشير وَأَوْلَاد المنزاري وَأَوْلَاد المعتصم وَأَوْلَاد ابْن عَاقِلَة وصاهره مِنْهُم أَوْلَاد المنزاري اهـ
وَذكر صَاحب الأرجوزة أَن الشَّيْخ أَبَا إِبْرَاهِيم الَّذِي جَاءَ بِهِ من ذُرِّيَّة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بَعضهم إِن أهل سجلماسة لم تكن(7/5)
تصلح الثِّمَار ببلدهم فَذَهَبُوا إِلَى الْحجاز بِقصد أَن يَأْتُوا بِرَجُل من أهل الْبَيْت تبركا بِهِ فَأتوا بالمولى حسن الْمَذْكُور فحقق الله رجاءهم وَأصْلح ثمارهم حَتَّى عَادَتْ بِلَادهمْ هِيَ هجر الْمغرب وَقَالَ غَيره إِن سَبَب إتيانهم بِهِ أَن الْأَشْرَاف من آل إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ كَانُوا قد تفَرقُوا بِبِلَاد الْمغرب وانتشر نظامهم وَاسْتولى عَلَيْهِم الْقَتْل وَالصغَار من أُمَرَاء مكناسة وَغَيرهم فَقل الشّرف بالمغرب وَأنْكرهُ كثير من أَهله حَقنا لدمائهم فَلَمَّا طلع نجم الدولة المرينية بالمغرب أكبروا الْأَشْرَاف وَرفعُوا أقدارهم واحترموهم وَلم يكن بِبَلَد سجلماسة أحد من آل الْبَيْت الْكَرِيم فأجمع رَأْي كبرائهم وأعيانهم أَن يَأْتُوا بِمن يتبركون بِهِ من أهل ذَلِك النّسَب الشريف فَقيل إِن الذَّهَب يطْلب من معدنه والياقوت يجلب من موطنه إِن بِلَاد الْحجاز هِيَ مقرّ الْأَشْرَاف وَلذَلِك الْجَوْهَر النفيس من أجل الأصداف فَذَهَبُوا إِلَى الْحجاز وجاؤوا بالمولى حسن على مَا ذكرنَا فأشرقت شمس الْبَيْت النَّبَوِيّ على سجلماسة وأضاءت أرجاؤها وظللتها من الشَّجَرَة الطّيبَة ظلالها وأفياؤها حَتَّى قيل إِن مَقْبرَة أهل سجلماسة هِيَ بَقِيع الْمغرب وكفاها هَذَا شرفا وفخرا ومزية وذخرا وَذكر بَعضهم أَن أهل سجلماسة لما طلبُوا من الْمولى قَاسم بن مُحَمَّد أَن يبْعَث مَعَهم أحد أَوْلَاده وَكَانَ يَوْمئِذٍ أكبر شرفاء الْحجاز ديانَة ووجاهة اختبر من أَوْلَاده من يصلح لذَلِك وَكَانَ لَهُ على مَا قيل ثَمَانِيَة من الْوَلَد فَكَانَ يسْأَل الْوَاحِد مِنْهُم بعد الْوَاحِد وَيَقُول لَهُ من فعل مَعَك الْخَيْر فَمَا تفعل مَعَه أَنْت فَيَقُول الْخَيْر وَمن فعل مَعَك الشَّرّ فَيَقُول الشَّرّ فَيَقُول اجْلِسْ إِلَى أَن انْتهى إِلَى الْمولى حسن الدَّاخِل فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لإخوته فَقَالَ من فعل معي الشَّرّ أفعل مَعَه الْخَيْر قَالَ فَيَعُود ذَلِك بِالشَّرِّ قَالَ فأعود لَهُ بِالْخَيرِ إِلَى أَن يغلب خيري على شَره فَاسْتَنَارَ وَجه الْمولى قَاسم وداخلته أريحية هاشمية ودعا لَهُ بِالْبركَةِ فِيهِ وَفِي عقبه فَأجَاب الله دَعوته
وَكَانَ الْمولى حسن الدَّاخِل رجلا صَالحا ناسكا لَهُ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم خُصُوصا علم الْبَيَان فَإِنَّهُ كَانَت لَهُ فِيهِ الْيَد الطُّولى وَلما اسْتَقر بسجلماسة(7/6)
واطمأنت بِهِ الدَّار زوجه الشَّيْخ أَبُو إِبْرَاهِيم ابْنَته وَسكن على مَا قيل بِموضع يُقَال لَهُ المصلح وَلما توفّي تنَازع أهل سجلماسة فِي مَوضِع دَفنه حَتَّى كَادَت نَار الْحَرْب تشب بَينهم فأجمع رَأْيهمْ أَن يدفنوه بِمحل وسط هم فِيهِ سَوَاء فمسحوا أَرض سجلماسة بالحبال وقسموها أَربَاعًا ودفنوه بمَكَان سوي يتوسط جَمِيع النواحي وَلم يحفظ تَارِيخ وَفَاته وَمَا استنبطه اليفرني فِي ذَلِك فمبني على غير أساس وَالله تَعَالَى أعلم
ذكر ذُرِّيَّة الْمولى حسن بن قَاسم وتناسلها بالمغرب والإلمام بِشَيْء من مَنَاقِب الْمولى عَليّ الشريف
لما توفّي الْمولى حسن بن قَاسم رَحمَه الله لم يخلف إِلَّا ولدا وَاحِدًا وَهُوَ الْمولى مُحَمَّد ثمَّ خلف الْمولى مُحَمَّد هَذَا ولدا وَاحِدًا ايضا وَهُوَ الْمولى الْحسن يُسمى باسم جده وَهُوَ المدفون حول الْمَدِينَة الْكُبْرَى بِإِزَاءِ الشَّيْخ أبي عبد الله الخراز من أَرض سجلماسة وَخلف الْمولى الْحسن الْمَذْكُور وَلدين أَحدهمَا الْمولى عبد الرَّحْمَن المكنى بِأبي البركات وَهُوَ أكبرهما وَمن ذُريَّته أَوْلَاد أبي حميد بِالتَّصْغِيرِ القاطنون بوادي الرتب بِالْقصرِ الْجَدِيد على مرحلة من سجلماسة وَمِنْهُم أَيْضا الشرفاء النازلون ببني زروال وَثَانِيهمَا الْمولى عَليّ الْمَعْرُوف بالشريف وَمِنْه تفرعت فروع المحمديين وتكاثرت وَكَانَ رَحمَه الله رجلا صَالحا مجاب الدعْوَة كثير الْأَوْقَاف وَالصَّدقَات حَاجا مُجَاهدًا ذَا همة سنية وأحوال مرضية
رَحل فِي بعض الْأَوْقَات إِلَى فاس واستوطنها مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ سكناهُ مِنْهَا بالحومة الْمَعْرُوفَة بجزاء ابْن عَامر من عدوة الْقرَوِيين وَترك هُنَالك دَارا ثمَّ أَقَامَ مُدَّة بقرية صفر وَخلف بهَا عقارا وآثارا هِيَ بهَا إِلَى الْآن وَأقَام مُدَّة أُخْرَى بِبَلَد جرس الَّتِي على مرحلَتَيْنِ وَنصف من سجلماسة وَترك بهَا مثل ذَلِك وَدخل عدوة الأندلس برسم الْجِهَاد مرَارًا وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ عَاد إِلَى سجلماسة فكاتبه أهل الأندلس يطْلبُونَ مِنْهُ الْعود إِلَيْهِم ويحضونه على(7/7)
الاعتناء بِأُمُور الْجِهَاد ويشكون إِلَيْهِ ضعف أهل الأندلس عَن مقاومة الْعَدو وَأَنَّهَا شاغرة مِمَّن تَجْتَمِع عَلَيْهِ الْقُلُوب وَقد كَانُوا راودوه وَهُوَ مُقيم عِنْدهم على أَن يبايعوه ويملكوه عَلَيْهِم والتزموا لَهُ الطَّاعَة والنصرة فَرغب عَن ذَلِك ورعا وزهدا وعزوفا عَن الدُّنْيَا وزهراتها قَالَ اليفرني رَحمَه الله وَقد وقفت على رسائل عديدة بعث بهَا إِلَيْهِ عُلَمَاء غرناطة يحضونه على الْجَوَاز إِلَيْهِم واستنفار الْمُجَاهدين إِلَى حماية بيضتهم ويذكرون لَهُ أَن كَافَّة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خَالص أَمْوَالهم دون توظيف سُلْطَان عَلَيْهِم أَمْوَالًا كَثِيرَة برسم الْغُزَاة الَّذين يردون مَعَه من الْمغرب وحلوه فِي بعض تِلْكَ الرسائل بِمَا نَصه إِلَى الْهمام الضرغام قطب دَائِرَة فرسَان الْإِسْلَام الشجاع الْمِقْدَام الهصور الفاتك الوقور الناسك طَلِيعَة جَيش الْجِهَاد وَعين أَعْيَان الأنجاد الْمُؤَيد بِالْفَتْح فِي هَذِه الْبِلَاد المسارع إِلَى مرضاة رب الْعباد مَوْلَانَا أبي الْحسن عَليّ الشريف اه نَص التحلية وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى عُلَمَاء فاس يَلْتَمِسُونَ مِنْهُم أَن يحضوا الْمولى عليا على العبور إِلَى العدوة فَكتب إِلَيْهِ أَعْلَام فاس بِمثل ذَلِك وحثوه على المسارعة إِلَى إغاثتهم وَذكروا لَهُ فضل الْجِهَاد وَأَنه من أفضل أَعمال الْبر وَكَانَ من مُوجبَات تخلفه عَن إغاثة أهل غرناطة أَنه كَانَ قد عزم على الذّهاب إِلَى الْحَج فَقَالُوا لَهُ فِي بعض تِلْكَ الرسائل وعوضوا هَذِه الوجهة الحجية الَّتِي أجمع رَأْيكُمْ عَلَيْهَا وتوفر عزمكم لَدَيْهَا بالعبور إِلَى الْجِهَاد فَإِن الْجِهَاد أصلحكم الله فِي حق أهل الْمغرب أفضل من الْحَج كَمَا أفتى بِهِ الإِمَام ابْن رشد رَحمَه الله حِين سُئِلَ عَن ذَلِك وَقد بسط الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أجوبته وَوجه مَا ذهب إِلَيْهِ من ذَلِك اه وَكَانَ مِمَّن كتب إِلَيْهِ من عُلَمَاء غرناطة جمَاعَة مِنْهُم الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سراج شيخ الْمواق وقاضي الْجَمَاعَة بهَا وَمن شُيُوخ فاس الَّذين كتبُوا إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو عبد الله العكرمي شيخ شُيُوخ الإِمَام ابْن غَازِي وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن ماواس وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الرقعي صَاحب الرجز الْمَشْهُور وَغَيرهم(7/8)
وَمِمَّا ضمنه أهل الأندلس فِي رسائلهم القصيدة الْآتِيَة فِي مدح الْمولى عَليّ وَصَاحبه الْفَاضِل أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعمريّ وحثهما على إجابتهم وَهِي من إنْشَاء الْفَقِيه أبي فَارس بن الرّبيع الغرناطي يَقُول فِيهَا
(أيا رَاكِبًا يطوي المفاوز والقفرا ... رشدت وَلَقِيت السَّلامَة والخيرا)
(ترحل وجد السّير يَوْمًا وَلَيْلَة ... وسافر تجدها فِي مطالعها زهرا)
(تحمل رعاك الله مني إِلَى الحما ... تَحِيَّة مشتاق تهيجه الذكرا)
(وَأم ديار الْحَيّ من سجلماسة ... فَتلك ديار تجمع الْعِزّ والفخرا)
(وَسلم على تِلْكَ الديار وَأَهْلهَا ... سَلام محب لم يطق عَنْهُم صبرا)
(فعندي لَهُم حب جرى فِي مفاصلي ... ومازج مني الْعظم وَالدَّم والشعرا)
(فَتلك بقاع الدّين وَالْخَيْر وَالْهدى ... فكم من تَقِيّ فِي سَمَّاهَا سما بَدْرًا)
(هم الْقَوْم لَا يشقى بهم جلساؤهم ... يضوع عبير الزهر من بَينهم نشرا)
(وَقل يَا أهيل الْقبْلَة السَّادة الأولى ... إِذا مَا دعوا فِي حَادث أَسْرعُوا النفرا)
(وَخص سليل الْهَاشِمِي ابْن صهره ... عَليّ الَّذِي يَعْلُو على زحل قدرا)
(أَبَا الْحسن الْمولى الشريف الَّذِي بِهِ ... على الغرب شمس النَّصْر طبقت الصحرا)
(ولاحت بآفاق الْقُلُوب عجائب ... بهَا سلب الْأَلْبَاب تحسبها سحرًا)
(هُوَ الصَّقْر مهما اهتز كل مجلجل ... هزبر إِذا مَا انشب الناب والظفرا)
(هُوَ الْغَوْث إِن دارت رحى الْحَرْب للقا ... وغيث إِذْ مَا المزن مَا أرْسلت قطرا)
(أغار على الأعلاج فاجتاح جمعهم ... وجد لَهُم قتلا وشددهم أسرا)
(بطنجة قد طَابَ الْمَمَات لزمرة ... بنصرتها ترجو من الْملك الأجرا)
(دَعَاهَا بأقصى السوس قوم فأسرجوا ... من الصافنات الجرد لم يَأْخُذُوا الحذرا)
(فَهبت ركاب الْقَوْم وَالشَّمْس أشرقت ... وأرهق جَيش الله أعداءه خسرا)
(وَلَا عجب أَن الألى هُوَ مِنْهُم ... لُيُوث الشرى قد أوسعوا مرْحَبًا شرا)
(أجر جَارك اللهفان من غمراته ... أَبَا حسن وانصر جزيرتك الخضرا)
(وناد أَبَا عبد الْإِلَه خليلكم ... بِهِ تجلب السَّرَّاء فِي حَادث الضرا)
(سليل أبي إِسْحَاق أكْرم بِهِ أَبَا ... لقد خلف الْفَرْع الزكي الرضي البرا)
(أَلَيْسَ الَّذِي لبّى نِدَاء أهل طنجة ... وَجمع أهل الغرب من حِينه طرا)(7/9)
(وأوقع بالكفار أَي وقيعة ... فَمن لم يمت بِالسَّيْفِ مَا لَهُ ذعرا)
(وَأصْبح ثغر الدّين أشنب باسما ... وأرهق وَجه الْكفْر من حزن قترا)
(ونال من الله السَّعَادَة والرضى ... وجنات عدن فِي الْمعَاد لَهُ ذخْرا)
(وَقل أَيهَا الْعدْل الَّذِي اتخذ التقى ... شعارا وسامى فِي منازلها الشعرا)
(أرى كل مَا فِي الغرب أصبح قانطا ... لأندلس يَرْجُو بطلعتكم نصرا)
(وغرناطة الغراء نادتكما أَقبلَا ... وبالراية الْبَيْضَاء كي تنصر الحمرا)
(فساكنها وقف عَلَيْكُم رجاؤه ... كَبِيرهمْ والطفل والكاعب العذرا)
(فَجِئْنَا بِمن فِي أَرْضكُم حاميا لَهُم ... رجَالًا وفرسانا غطارفة غرا)
(حماة أباة الضيم من كل ماجد ... كريم يباري الْغَيْث والسيل والبحرا)
(فدونكما الْكفَّار تَعْنِي طغاتها ... وتشبع من قتلاهم الْوَحْش والطيرا)
(لقد طمع الْكفَّار ملك رقابنا ... وإهلاكهم فِي أَرْضنَا الْحَرْث والثمرا)
(مَنَازلنَا من كل حصن وقرية ... تناديكما غوثا لخطب أَتَى أمرا)
(فكم من ضَعِيف لَا حراك بجسمه ... وَشَيخ بهَا أربى على مائَة عشرا)
(وبيض وَسمر من أوانس كالدمى ... وصبية مهد لَا تع النَّفْع والضرا)
(ومنبر جمع للخطابة والدعا ... وَمَسْجِد دين للصَّلَاة وللإقرا)
(وكرسي علم مقْعد لمهذب ... تصدر يملي مَا يضيء لنا الصدرا)
(وأجداث أَبنَاء الصَّحَابَة فَوْقهَا ... وكل ولي أَشْعَث لابس طمرا)
(تناديكما غوثا من الله سرعَة ... فقد كَاد أَن يستأصل الْكفْر ذَا البرا)
(فحثوا لنا بالسير بعدا وقربة ... أجيراننا من كيد من أضمر الجؤرا)
(وعزما بِأُخْرَى مثل تِلْكَ الَّتِي مَضَت ... ليبصر هَذَا الفنش مثلكُمْ كبرا)
(وَأَنْتُم بِحَمْد الله تَدْرُونَ مَا أَتَى ... عَن الْمُصْطَفى فِي الْغَزْو من خبر خَبرا)
(فَللَّه مَا أَسْنَى وددت لَو أننى ... قتلت فأحيى ثمَّ أقتل مذ مرا)
(وَمَا فِي كتاب الله من آيَة أَتَت ... كشمس الضُّحَى فِي الصحو سافرة غرا)
(خذاها بِحَمْد الله عذرا جبينها ... يضوع شذى تهدي لمغناكما عطرا)
(وتبلغ عني للكرام تَحِيَّة ... من أندلس للغرب قد عبروا البحرا)
(فعونا رجال الله عونا لعدوة ... أحاطت بهَا البأساء واشتدت الضرا)(7/10)
(فَأنْتم لنا الْجند الْقوي ونحوكم ... تشوفنا فاستجلوا نحونا السيرا)
(ونثني على خير الْبَريَّة ذِي الْهدى ... مُحَمَّد الْمَبْعُوث بالملة اليسرا)
(وَآل وَصَحب ثمَّ تال لنهجهم ... وَمن لِذَوي الْإِسْلَام قد قصد النصرا)
وبهذه الرسائل العذبة الْأَلْفَاظ المستوقفة الألحاظ يعلم أَن الْمولى عليا الشريف رَحمَه الله كَانَ مَشْهُورا فِي عصره مُتَقَدما على كَافَّة أهل مصره وَأَنه كَانَ ملحوظا بالإجلال عِنْدهم والإكبار وَأَن هَذِه الدَّار الْعَالِيَة الْبناء والأسوار معظمة من لدن قديم مشهود لَهَا بِالْخَيرِ والتقديم وأظن أَن وقْعَة طنجة الْمشَار إِلَيْهَا فِي هَذِه القصيدة هِيَ وقْعَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهَا فِي محلهَا
وَقد كَانَ للْمولى عَليّ الْمَذْكُور جِهَاد فِي نَاحيَة أكدج من بِلَاد السودَان ورزق الظفر وَالْفَتْح كَمَا ذكره مَبْسُوطا فِي النزهة فَلْينْظر هُنَاكَ
وَذكر صَاحب كتاب الْأَنْوَار السّنيَّة أَن الْمولى عليا مكث أَربع عشرَة سنة لَا يُولد لَهُ ثمَّ ولد لَهُ بعد ذَلِك ولدان أَحدهمَا الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم وَالثَّانِي أَبُو المحاسن يُوسُف وَهُوَ أصغرهما أما الْمولى مُحَمَّد فخلف أَرْبَعَة أَوْلَاد وهم السَّيِّد الْحسن وَالسَّيِّد عبد الله وَالسَّيِّد عَليّ وَالسَّيِّد قَاسم وهم على هَذَا التَّرْتِيب فِي السن وَيُقَال لسائرهم أَوْلَاد مُحَمَّد نِسْبَة إِلَى هَذَا الْجد وفروعهم كَثِيرَة يطول تتبعها وَأما الْمولى يُوسُف فَإِنَّهُ ولي زَاوِيَة أَبِيه واجمع النَّاس على أَنه المتأهل لَهَا دون غَيره لرزانته ووفور عقله فتولاها بعد نزاع ورسم تَوليته لَهَا لم يزل مَوْجُودا عِنْد بعض حفدته وَكَانَ ذَلِك كُله فِي دولة بني مرين
وَقَالَ صَاحب كتاب الْأَنْوَار وَقد قيل إِنَّه لم يكن لَهُ ولد حَتَّى بلغ ثَمَانِينَ سنة فولد لَهُ تِسْعَة من الْوَلَد خَمْسَة مِنْهُم أشقاء وأمهم حليمة من ذُرِّيَّة بعض المرابطين بسجلماسة وهم السَّيِّد عَليّ وَهُوَ جد الْمُلُوك أبقى الله فَضلهمْ وَالسَّيِّد أَحْمد وَالسَّيِّد عبد الْوَاحِد وَالسَّيِّد الطّيب وَالسَّيِّد عبد(7/11)
الْوَاحِد المكنى بِأبي الْغَيْث جد الْأَشْرَاف البلغيثيين وَإِنَّمَا كني بذلك لِكَثْرَة مَا نزل من الْغَيْث عِنْد وِلَادَته وَكَانَ النَّاس قبله فِي جَدب شَدِيد وهم على هَذَا التَّرْتِيب فِي السن وَأَرْبَعَة أشقاء أمّهم طَاهِرَة من ذُرِّيَّة بعض المرابطين أَيْضا وهم السَّيِّد الْحسن بِالتَّكْبِيرِ وَالسَّيِّد الْحُسَيْن بِالتَّصْغِيرِ وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن وَالسَّيِّد مُحَمَّد وَمن منَازِل هَؤُلَاءِ الأشقاء الْيَوْم الْموضع الْمَعْرُوف بأخنوس
وتفصيل أَنْسَاب هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد الثَّمَانِية يطول فلنقتصر على ذكر الْمولى عَليّ الْمثنى لِأَنَّهُ الْغَرَض الْمَقْصُود فَنَقُول ولد للْمولى عَليّ الْمَذْكُور ثَلَاثَة من الْوَلَد وهم السَّيِّد مُحَمَّد وَالسَّيِّد مُحرز وَالسَّيِّد هَاشم جد الْأَشْرَاف المرانيين أهل زَاوِيَة اللمراني وَكلهمْ قد عقبوا فَأَما الْمولى مُحَمَّد فولد لَهُ الْمولى عَليّ الشريف المراكشي وَهُوَ المثلث مَعَ عدَّة أَوْلَاد سواهُ وَالْمولى عَليّ هُوَ جد الْمُلُوك أَيْضا وَتُوفِّي بمراكش وَبنى عَلَيْهِ حافده أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد قبَّة بديعة تِلْقَاء ضريح القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله وَولد للْمولى عَليّ الشريف الْمَذْكُور تِسْعَة من الْوَلَد الْمولى الشريف اسْما وَكَانَت وِلَادَته سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ جد الْمُلُوك وَالْمولى الْحَفِيد وَالْمولى حجاج وَالْمولى مُحرز وَالْمولى حرون وَالْمولى فُضَيْل وَالْمولى أَبُو زَكَرِيَّاء وَالْمولى مبارك وَالْمولى سعيد فَهَؤُلَاءِ هُوَ أَوْلَاد الْمولى عَليّ الشريف وَكَانَ الْمولى الشريف أفضلهم وأشرفهم وَله رَحمَه الله عدَّة أَوْلَاد كلهم نُجُوم زاهرة ذَوُو همم باهرة مِنْهُم الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ أكبرهم وَالْمولى الرشيد وَالْمولى إِسْمَاعِيل وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة ولوا الْأَمر بالمغرب على هَذَا التَّرْتِيب وَمِنْهُم الْمولى الحران وَسَيَأْتِي وَالْمولى مُحرز وَالْمولى يُوسُف وَالْمولى أَحْمد وَالْمولى الْكَبِير وَالْمولى حمادة وَالْمولى عَبَّاس وَالْمولى سعيد وَالْمولى هَاشم وَالْمولى عَليّ وَالْمولى مهْدي وَهُوَ شَقِيق إِسْمَاعِيل من بَينهم هَذَا مَا تيَسّر ذكره من نسب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة ذَات الظلال الوريفة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق(7/12)
الْخَبَر عَن رياسة الْمولى الشريف بن عَليّ وَمَا دَار بَينه وَبَين أبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة
قد قدمنَا أَن ظُهُور أبي حسون السملالي كَانَ فِي أَيَّام السُّلْطَان زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وَأَنه استولى على الْقطر السُّوسِي أَولا ثمَّ تنَاول درعة وسجلماسة ثَانِيًا قَالُوا وَكَانَ استيلاؤه على سجلماسة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف باستدعاء الْمولى الشريف بن عَليّ لَهُ واستصراخه إِيَّاه على بني الزبير أهل حصن تابوعصامت أعدائه كَذَا فِي الْبُسْتَان فَقَدمهَا أَبُو حسون وَاسْتولى عَلَيْهَا وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله وَرجع إِلَى مقره من أَرض السوس
وَقَالَ اليفرني فِي النزهة كَانَ أَبُو الْأَمْلَاك الْمولى الشريف بن عَليّ وجيها عِنْد أهل سجلماسة وَسَائِر الْمغرب يقصدونه فِي الْمُهِمَّات ويستشفعون بِهِ فِي الأزمات ويهرعون إِلَيْهِ فِيمَا جلّ وَقل قَالَ وَكَانَ قد مر ذَات يَوْم وَهُوَ صبي على الإِمَام الْمولى أبي مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني فَسَأَلَ عَنهُ إِذْ لم يكن يعرفهُ قبل ذَلِك فَقيل لَهُ هُوَ ابْن الْمولى عَليّ الشريف ففرح بِهِ أَبُو مُحَمَّد وَمسح على ظَهره وَقَالَ مَاذَا يخرج من هَذَا الظّهْر من الْمُلُوك والسلاطين فَعلم النَّاس أَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لما يعلمُونَ من صِحَة كشف أبي مُحَمَّد وَصدق فراسته فَكَانَ الْمولى الشريف بعد أَن كبر وَولد لَهُ الْأَوْلَاد يشيع أَن هَذَا الْأَمر لَا بُد أَن يصير إِلَى بَيته وَيكون لَهُم شَأْن عَظِيم اعْتِمَادًا على فراسة أبي مُحَمَّد بن طَاهِر رَحمَه الله
ثمَّ كَانَ بَين الْمولى الشريف الْمَذْكُور وَبَين أهل تابوعصامت وَهِي حصن منيع من حصون سجلماسة عَدَاوَة تَامَّة فاستصرخ عَلَيْهِم أَبَا حسون السملالي صَاحب السوس لصداقة كَانَت بَينهمَا واستصرخ أهل تابوعصامت أهل زَاوِيَة الدلاء فأغاث كل مِنْهُمَا من استصرخه والتقى العسكران مَعًا بسجلماسة لكنهما انفصلا على غير قتال حَقنا لدماء الْمُسلمين وَكَانَ ذَلِك سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَلما رأى أهل تابوعصامت مَا بَين الْمولى(7/13)
الشريف وَأبي حسون من الصداقة والوصلة مالوا بكليتهم إِلَى أبي حسون وخدموه بِأَنْفسِهِم وَأَوْلَادهمْ وأظهروا لَهُ النصح وَصدق الْمحبَّة طَمَعا فِي استفساده على الْمولى الشريف إِذْ كَانَ ظَاهرا عَلَيْهِم بِهِ فَلم يزَالُوا يسعون فِي ذَلِك إِلَى أَن أظلم الجو بَينهمَا واستحكمت الْعَدَاوَة وتوفرت دواعيها وَلما رأى ابْنه الْمولى مُحَمَّد بن الشريف ذَلِك اهتبل الْغرَّة فِي أهل تابوعصامت وَخرج لَيْلًا فِي نَحْو مِائَتَيْنِ من الْخَيل مظْهرا أَنه قَاصد لبَعض النواحي ثمَّ كبسهم على حِين غَفلَة وتسور عَلَيْهِم حصنهمْ فَمَا رَاع أهل تابوعصامت إِلَّا الْمولى مُحَمَّد فِي جمَاعَة قد وضعُوا السَّيْف فيهم وحكموه فِي رقابهم فَلم يكن عِنْدهم دفاع واستمكن مِنْهُم وَاسْتولى على ذخائرهم وشفى صدر أَبِيه مِمَّا كَانَ يجده عَلَيْهِم وَلما انْتهى الْخَبَر بذلك إِلَى أبي حسون حمى أَنفه وَاشْتَدَّ غَضَبه وَكتب إِلَى عَامله بسجلماسة واسْمه أَبُو بكر يَأْمُرهُ أَن يحتال على الْمولى الشريف حَتَّى يقبض عَلَيْهِ وَيبْعَث إِلَيْهِ بِهِ حَبِيسًا فامتثل أمره وتقبض على الْمولى الشريف غدرا بِأَن تمارض ثمَّ استدعاه لعيادته والتبرك بِهِ ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى السوس فاعتقله أَبُو حسون فِي قلعة هُنَالك مُدَّة إِلَى أَن افتكه وَلَده الْمولى مُحَمَّد بِمَال جزيل وَعَاد الْمولى الشريف إِلَى سجلماسة فِي خبر طَوِيل وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف
قَالَ فِي الْبُسْتَان وَأعْطى أَبُو حسون الْمولى الشريف وَهُوَ معتقل عِنْده جَارِيَة مولدة من سبي المغافرة كَانَت تخدمه قَالَ وَهِي أم الْمولى إِسْمَاعِيل وأخيه الْمولى مهْدي اه
وَلست أَدْرِي مَا مُرَاده بِهَذَا فَإِن كَانَت الْجَارِيَة نسيبة فِي المغافرة فَهِيَ حرَّة فَيكون الْمولى الشريف قد وَطئهَا بِعقد النِّكَاح وَهَذَا هُوَ الَّذِي يغلب على الظَّن بِدَلِيل أَن السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما عزم على جمع جَيش الودايا قَالَ لَهُم أَنْتُم أخوالي إِشَارَة إِلَى هَذَا الصهر كَمَا سَيَأْتِي وَإِن كَانَت مَمْلُوكَة لَهُم ثمَّ صَارَت إِلَى أبي حسون فالوطء حِينَئِذٍ كَانَ(7/14)
بِملك الْيَمين وَالله تَعَالَى أعلم وَصَاحب الْبُسْتَان كثيرا مَا يجازف فِي النَّقْل ويتساهل فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد على مَا ينْفَرد بِهِ من ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْخَبَر عَن إِمَارَة الْمولى مُحَمَّد بن الشريف وبيعته بسجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما قبض أَبُو حسون على الْمولى الشريف وسجنه عِنْده كَانَ وَلَده الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم مجمعا على إهلاك من بَقِي من أهل تابوعصامت واستئصال شأفتهم وَكَانَ قد تقوى عضده بعض الشَّيْء بِمَا أَخذ من أَمْوَالهم فِي الْوَقْعَة السالفة فَاتخذ بعد تغريب أَبِيه إِلَى السوس جَيْشًا لَا بَأْس بِهِ وانضم إِلَيْهِ جمع من أهل سجلماسة وأعمالها وَذَلِكَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ أَصْحَاب أبي حسون قد أساؤوا السِّيرَة بسجلماسة ونصبوا حبالة الطمع فِي النَّاس حَتَّى ملتهم الْقُلُوب وزرعوا بغض الملكة السوسية فِي قُلُوب الْخَاصَّة والعامة وَمن عسفهم أَنهم كَانُوا قد ضربوا الْخراج بسجلماسة وأعمالها على كل شَيْء حَتَّى على من يجدونه فِي الشَّمْس زمن الشتَاء وَفِي الظل زمن الصَّيف وضيقوا على النَّاس حَتَّى ازدرتهم الْعُيُون وملتهم النُّفُوس فَلَمَّا قَامَ الْمولى مُحَمَّد وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من ذَكرْنَاهُ آنِفا دعاهم إِلَى الْإِيقَاع بِأَهْل السوس فَأَجَابُوهُ وَوجد فيهم دَاعِيَة لذَلِك فاعصوصبوا عَلَيْهِ وصرفوا عزمهم إِلَى محو دَعْوَة أبي حسون من بِلَادهمْ فثاروا بعماله للحين وأخرجوهم عَنْهَا صاغرين بعد قتال شَدِيد ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على بيعَة الْمولى مُحَمَّد فَبَايعُوهُ سنة خمسين وَألف فِي حَيَاة أَبِيه وَوَافَقَ على بيعَته أهل الْحل وَالْعقد بسجلماسة فاستتب أمره واستحكمت بيعَته وَوَافَقَهُ الْمُقدر وساعده السعد وافتتح من ملك الْمغرب بَابه وَإِذا أَرَادَ الله أمرا هيأ أَسبَابه(7/15)
اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على درعه وطرده أَبَا حسون السملالي عَنْهَا
لما تمت الْبيعَة للْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَجمع الله سُبْحَانَهُ شَمله بِأَبِيهِ كَمَا مر شمر لمضايقة أبي حسون السملالي وَأهل السوس بِبِلَاد درعه إِذْ كَانَت تَحت ولَايَته كَمَا قُلْنَا فَنَهَضَ إِلَيْهِ فِي جمع كثيف وَوَقعت بَينهمَا حروب فظيعة يشيب لَهَا الْوَلِيد ثمَّ انقشع سَحَاب تِلْكَ الْفِتْنَة عَن انتصار الْمولى مُحَمَّد وانهزام أبي حسون وفراره إِلَى مسْقط رَأسه من أَرض السوس فاستولى الْمولى مُحَمَّد على درعه وأعمالها واتسعت إيالته وتوفرت جموعه وعظمت جبايته وطار فِي بِلَاد الْمغرب صيته وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ
وقْعَة القاعة بَين الْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَأهل زَاوِيَة الدلاء وَمَا نَشأ عَنْهَا
لما صفا للْمولى مُحَمَّد بن الشريف قطر سجلماسة وَدِرْعه حدثته نَفسه بِالِاسْتِيلَاءِ على الغرب إِذْ هُوَ يَوْمئِذٍ مقرّ الرياسة ومتبوأ الْخلَافَة فَمَا دَامَ لم يحصل عَلَيْهِ اسْتِيلَاء فالملك عرضة للزوال وَصَاحبه ناسج على غير منوال وَكَانَ الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي يَوْمئِذٍ مستوليا على فاس ومكناسة وأعمالهما وامتدت ولَايَته بعد مهلك أبي عبد الله العياشي إِلَى سلا وأعمالها فَلَمَّا ظهر الْمولى مُحَمَّد بالصحراء واستفحل أمره وقويت شوكته خَافَ مُحَمَّد الْحَاج مِنْهُ الْوُثُوب على فاس فعاجله بِالْحَرْبِ وَعبر إلية نهر ملوية وَكَانَ الدلائي أَشد قُوَّة من الشريف وَأكْثر جمعا فضايقه بإقليم الصَّحرَاء وَقصد سجلماسة مرَارًا وَكَانَت بَينهمَا أثْنَاء ذَلِك وقْعَة القاعة ضحى يَوْم السبت الثَّانِي عشر من ربيع النَّبَوِيّ سنة سِتّ وَخمسين وَألف فَكَانَت الْهَزِيمَة فِيهَا على الشريف وَتقدم الدلائي إِلَى سجلماسة فافتتحها وَاسْتولى عَلَيْهَا وَفعلت البربر فِيهَا الأفاعيل الْعَظِيمَة(7/16)
ثمَّ انبرم الصُّلْح بَينهمَا على أَن مَا حازت الصَّحرَاء إِلَى جبل بني عَيَّاش فَهُوَ للْمولى مُحَمَّد وَمَا دون ذَلِك إِلَى نَاحيَة الغرب فَهُوَ لأهل الدلاء ثمَّ اسْتثْنى أهل الدلاء خَمْسَة مَوَاضِع أخر كَانَت فِي إيالة الْمولى مُحَمَّد فجعلوها لَهُم وَهِي الشَّيْخ مغفر فِي أَوْلَاد عِيسَى وَالسَّيِّد الطّيب فِي قصر السُّوق وَأحمد بن عَليّ فِي قصر بني عُثْمَان وَقصر حليمة فِي وَطن غريس وآسرير فِي فركلة فَهَذِهِ الْأَمَاكِن الْخَمْسَة شرطُوا على الْمولى مُحَمَّد أَن لَا يُحَرك لَهُم مِنْهَا سَاكِنا
وانبرم الصُّلْح على ذَلِك وَرجع أهل الدلاء فِي جموعهم فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أطلع الْمولى مُحَمَّد على مَا أوجب الفتك بالشيخ مغفر وَبَعض من شرطُوا عَلَيْهِ بَقَاءَهُ ففتك بهم وَاصْطلمَ نعمتهم فَبلغ ذَلِك أهل الدلاء فَجمعُوا جموعهم ونهضوا إِلَى سجلماسة عازمين على استئصال الْمولى مُحَمَّد وشيعته وَأَن لَا يدعوا لَهُ قَلِيلا وَلَا كثيرا وَكَتَبُوا إِلَيْهِ كتابا يتهددونه فِيهِ ورموه بالغدر وَأَنه ناكث ومقسم حانث وأغلظوا لَهُ فِي الْكَلَام وأفحشوا عَلَيْهِ فِي الملام
فأجابهم الْمولى مُحَمَّد برسالة يَقُول فِيهَا إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد الملقب بالحاج ابْن السَّيِّد مُحَمَّد بن أبي بكر بن سيري الوجاري الزموري وَمن شَمله رِدَاء الدِّيوَان من الْأَبْنَاء والإخوان سَلام على جلهم سَلام اسْتِحْبَاب وَسنة فقد كتبناه إِلَيْكُم من سجلماسة كتب الله لَهَا من شركم أَنْفَع التمائم وألبسها من الظفر بكم أرفع العمائم وَبعد السَّلَام فَإِن نيران هَذِه الْفِتَن الَّتِي أضرمتموها بعد خمودها لَسْتُم لَهَا بِأَهْل إِذْ لم يعرفكم أهل الْمغرب إِلَّا بإطعام قصاع العصائد وهجو بَعْضكُم لبَعض بِمَا لَا يسمع من بشيع القصائد أما الْعُلُوم فقد أقررنا لكم فِيهَا إنصافا بِالتَّسْلِيمِ لَو قصدتم بهَا الْعَمَل وَأجر التَّعْلِيم وَايْم الله لَئِن نظم فِينَا الديَّان يَوْمًا من الدَّهْر شَمل الدِّيوَان لتعاينن أَنْت أَو بنوك مَا يُحِبهُ لنا البنون والإخوان وَلَقَد حدث(7/17)
السَّادة أهل البصيرة أَن ستدور عَلَيْكُم منا الدائرة المبيرة أتطمعون فِي النجَاة بعد ترويعكم الشرفاء والشريفات والعابدين والعابدات فشمروا إِن شِئْتُم عَن ساعد الْجد للصلح واغتنموا السّلم مَا دَامَ يساعدكم وَقت النجح فَإِن الْحَرْب نَار والتخلف عَنْهَا بعد إيقادها شنار وَالله يعلم أَن هَذِه المراودة لَيست بجزع وَلَا وَجل مِنْكُم وَمَا نشبهكم عِنْد الهراش إِلَّا بِمَا يطيش حول المصابيح من الْفراش بل المُرَاد الأكيد نشر رِدَاء التبري لَيْلًا تجأرون مَتى أنشبنا فِيكُم مخالب التجري وَمَا قذفتم بِهِ أعراضنا من خسة الْقدر وأننا قساة لَا نصغي لقبُول الْعذر فَأنْتم تنهون عَن الْفَحْشَاء وَقد ملأتم مِنْهَا الأجشاء وَإِن زجرتم عَنْهَا قُلْتُمْ كلا وحاشا لَكِن من نتج نَسْلًا نسب إِلَيْهِ وَمن خَافَ من شَيْء يُسَلط عَلَيْهِ وَأما مَا احتوى عَلَيْهِ بِسَاط الغرب مَا بَين بربر وعرب فقد طمعنا من الله كَونه فِي القبضة عِنْدَمَا تمكن إِلَيْهِ النهضة إِن لم أكنه بِالذَّاتِ والديوان فبالأبناء والإخوان كعوائد الدول يشيد الْأَخير مِنْهَا مَا أسسه الأول وَانْظُر مَا يكون لخاطركم بِهِ اطمئنان فنساعدكم عَلَيْهِ الْآن فَللَّه دره من دغوغي أشاع عارك بِأَبْيَات أنشدناها مولَايَ مُحَمَّد بن مبارك
(وَاعْلَم بأنك من دجاجل مغرب ... فبعيسى صولة نَصره سَتَمُوتُ)
(أَنْتُم عكاكز خلفتكم عاهر ... وَأَبُو يسير جدكم جالوت)
(شبانكم مرد وكل كهولكم ... قرنان صَنْعَة شيخكم ديوث)
(ضجرت لدولتكم سموات العلى ... واستثقلتها الأَرْض والبهموت)
وَمَا أَنْت فِي الْحَقِيقَة إِلَّا قرد من القرود والقراد اللاصق فِي كل كلب مجرود وَمَا حرصتم بِهِ من الصُّلْح بَين الْمُلُوك مكيدة فقد سبقكم بهَا السُّلْطَان أَبُو حمو رَحمَه الله وَحَتَّى الْآن رغبتم فِي الْخَيْر فَهُوَ مطلبي ومغناطيس طبي وَإِن عشقتم الْغَيْر فجوابي لكم قَول المتنبي
(وَلَا كتب إِلَّا المشرفية والقنا ... وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم)(7/18)
اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على فاس ثمَّ رُجُوعه عَنْهَا
كَانَ مُحَمَّد الْحَاج الدلائي مستوليا على فاس بعد سَيِّدي مُحَمَّد العياشي كَمَا قُلْنَا وَكَانَ أهل فاس يمرضون فِي طَاعَته تَارَة ويستقيمون أُخْرَى فولى عَلَيْهِم قائده أَبَا بكر الثاملي وأنزله بدار الْإِمَارَة من فاس الْجَدِيد فاتفق أَن وَقعت بَينه وَبَين أهل فاس الْقَدِيم حَرْب فَحَاصَرَهُمْ وَقطع عَنْهُم المَاء فَكتب أهل فاس إِلَى الْمولى مُحَمَّد بن الشريف يستصرخونه ويضمنون لَهُ الطَّاعَة والنصرة بِمَا شَاءَ من عدد وعدة مَتى قدم عَلَيْهِم واحتل بَين أظهرهم وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك عرب الغرب من الْخَلْط وَغَيرهم فاغتنمها الْمولى مُحَمَّد مِنْهُم وَأَقْبل مسرعا حَتَّى اقتحم دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد منسلخ جمادي الثَّانِيَة سنة سِتِّينَ وَألف وَقبض على أبي بكر الثاملي فسجنه وَبَايَعَهُ أهل البلدين فاس الْقَدِيم وفاس الْجَدِيد مَعًا وَاتَّفَقُوا على نصرته وَالْقِيَام بأَمْره وكتبت لَهُ الْبيعَة بفاس سَابِع رَجَب فَأَقَامَ عِنْدهم نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا
واتصل الْخَبَر بِمُحَمد الْحَاج فَجهز إِلَيْهِ جَيْشًا كثيفا فبرز إِلَيْهِم الْمولى مُحَمَّد ودافعهم يَوْمًا أَو بعض يَوْم فضعف عَنْهُم وَانْهَزَمَ بظهرالرمكة خَارج فاس يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر شعْبَان سنة تسع وَخمسين وَألف فَأسلم فاسا وانكفأ رَاجعا إِلَى سجلماسة وَدخل أهل فاس الَّذين كَانُوا مَعَه مدينتهم فأغلقوها عَلَيْهِم
وحاصرهم الثاملي وَأَصْحَابه وَقطع عَنْهُم المَاء وَجَرت خطوب هلك فِيهَا جمَاعَة من أَعْيَان فاس مِنْهُم عبد الْكَرِيم اللايريني الأندلسي وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان وَغَيرهمَا وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف ثمَّ راجعوا طَاعَة أهل الدلاء فولى عَلَيْهِم الْحَاج وَلَده أَحْمد وَلما اسْتَقر بفاس طَالب أَهلهَا بِإِخْرَاج الجناة ورؤوس الْفِتْنَة من ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فتعصب لَهُم الشريف أَبُو الْحسن عَليّ بن إِدْرِيس الجوطي وَقَامَ دونهم ثمَّ عجز واختفى حَتَّى أخرج بالأمان إِلَى زَاوِيَة أهل المخفية(7/19)
وَمِنْهَا خرج عَن فاس بِالْكُلِّيَّةِ وسكنت الْفِتْنَة وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف
وَاسْتمرّ أَحْمد الدلائي أَمِيرا على فاس إِلَى أَن توفّي فِي عشْرين من ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَخَلفه أَخُوهُ مُحَمَّد وَمَات سنة سبعين وَألف رحم الله الْجَمِيع ثمَّ وثب على فاس الْجَدِيد أَبُو عبد الله الدريدي فاستولى عَلَيْهِ
اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد الشريف على وَجدّة وشنه الغارات على تلمسان وأعمالها وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما أيس الْمولى مُحَمَّد بن الشريف من فاس وَالْمغْرب صرف عزمه لتمهيد عمائر الصَّحرَاء وبلاد الشرق فَسَار يتقرى الْحلَل والمداشر والقرى إِلَى أَن بلغ بسيط آنكاد فَبَايَعته الأحلاف وَهُوَ العمارنة والمنبات من عرب معقل وبايعته سقونة مِنْهُم أَيْضا فَسَار بهم إِلَى بني يزناسن وَكَانُوا يَوْمئِذٍ فِي ولَايَة التّرْك فَأَغَارَ عَلَيْهِم وانتهب أَمْوَالهم وامتلأت أيد الْعَرَب من مَوَاشِيهمْ ثمَّ انثنى إِلَى وَجدّة وَكَانَ أَهلهَا يَوْمئِذٍ حزبين بَعضهم قَائِم بدعوة التّرْك وَبَعْضهمْ خَارج عَنْهَا فانحاز الخارجون إِلَى الْمولى مُحَمَّد فأغزاهم بشيعة التّرْك فانتهبوهم وشردوهم عَن الْبَلَد وصفت وَجدّة لَهُ فاستولى عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك أَعْوَام السِّتين وَألف ثمَّ دلته الْعَرَب على أَوْلَاد زكرى وَأَوْلَاد عَليّ وَبني سنوس المجاورين لَهُم فشن عَلَيْهِم الغارات وانتهبهم فَدَخَلُوا فِي طَاعَته ثمَّ سَار إِلَى نَاحيَة ندرومة فشن الْغَارة على مضغرة وقديمة وطرارة وولهاصة وَرجع إِلَى وَجدّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى تلمسان فَأَغَارَ على سرحها وسرح الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا واكتسح بسائطها فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا وَمَعَهُمْ عَسْكَر التّرْك الَّذِي كَانَ بالقصبة فأوقع بهم وَقتل مِنْهُم عددا كثيرا وَرجع عوده على بدئه إِلَى وَجدّة فشتى بهَا(7/20)
وَلما انصرم فصل الشتَاء خرج على طَرِيق الصَّحرَاء فَأَغَارَ على الجعافرة وانتهب أَمْوَالهم وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك مَحْمُود شيخ حميان من بني يزِيد بن زغبة وهم الْيَوْم فِي عداد بني عَامر بن زغبة فَقدم عَلَيْهِ مَحْمُود الْمَذْكُور فِي قبيلته مبايعا لَهُ ومتمسكا بِطَاعَتِهِ وقدمت عَلَيْهِ أَيْضا دخيسة ففرح بهم وَأكْرمهمْ ودلوه على الأغواط وَعين ماضي والغاسول فنهب تِلْكَ الْقرى وأستولى على أموالها وفرت أَمَامه عرب الْحَارِث وسُويد وحصين من بني مَالك بن زغبة فنزلوا بجبل رَاشد متحصنين بِهِ فَرجع عَنْهُم
واضطربت أَحْوَال الْمغرب الْأَوْسَط واشرأبت رعاياه إِلَى الانتفاض على التّرْك وَأخذ باي معسكر يخندق على نَفسه وَبعث إِلَى صَاحب الجزائر الْمُسَمّى عِنْدهم بالدولة يُخبرهُ بِمَا لحق الرعايا من عيث صَاحب سجلماسة فَأخْرج صَاحب الجزائر عساكره وهيأ مدافعه واستعد لِحَرْب الْمولى مُحَمَّد وَقدم نَائِبه بالعساكر إِلَى تلمسان فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى مُحَمَّد اسْتمرّ رَاجعا إِلَى وَجدّة وَفرق الْعَرَب الَّذين كَانُوا مُجْتَمعين عَلَيْهِ وَوَعدهمْ لفصل الرّبيع الْقَابِل
ثمَّ قفل إِلَى سجلماسة بعد مَا شب نيران الْحَرْب فِي الإيالة التركية ونسفها نسفا وَضرب أَولهَا بأخرها
وَلما وصل عَسْكَر التّرْك إِلَى تلمسان وأخبروا بِرُجُوع الْمولى مُحَمَّد إِلَى تافيلالت سقط فِي أَيْديهم ووجدوا الْبِلَاد خَالِيَة وكل الرعايا قد أجفلت عَن أوطانها وتحصنوا بالجبال وَلم يَأْتهمْ أحد بمؤنة وَلَا خراج وانحرف عَنْهُم أهل تلمسان أَيْضا وَكَانُوا قد ركنوا إِلَى الْمولى مُحَمَّد وخاطبوه فَرَأى التّرْك أَنهم قد شوركوا فِي بِلَادهمْ وزوحموا فِي سلطانهم فَرَجَعُوا إِلَى الجزائر
وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ الْآن(7/21)
مراسلة عُثْمَان باشا صَاحب الجزائر للْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَمَا دَار بَينهمَا فِي ذَلِك
لما رَجَعَ عَسْكَر التّرْك إِلَى الجزائر وأخبروا صَاحبهَا عُثْمَان باشا الدولة بِحَال الرعايا وَمَا نالها من صَاحب سجلماسة جمع أهل ديوانه وأرباب مشورته وتفاوضوا فِي أَمر الْمولى مُحَمَّد وَكَيف التَّخَلُّص من سطوته فَلم يرَوا أجدى لَهُم من أَن يبعثوا إِلَيْهِ برسالة مَعَ اثْنَيْنِ من أَعْيَان الجزائر وعلمائها واثنين من كبار التّرْك ورؤسائها لأَنهم كَانُوا لَا يتمكنون من حربه لَو أَرَادوا ذَلِك لِأَنَّهُ يُغير ويظفر وينتهب ثمَّ يصحر فَلَا يُمكنهُم التَّعَلُّق بأذياله وَلَا قطع فراسخه وأمياله فبعثوا إِلَيْهِ برسالة من إملاء الْكَاتِب أبي الصون المحجوب الحضري مَعَ الْوَفْد الْمشَار إِلَيْهِ يَقُول فِيهَا
الْحَمد لله الَّذِي وصّى وَلَا رخص فِي مدافعه اللص والصائل شريفا أَو مشروفا وَنَصّ وَهُوَ الصَّادِق سُبْحَانَهُ على فَصم عرى أَصله المتأصل مَجْهُولا أَو مَعْرُوفا وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم وعَلى آله تيجان الْعِزّ وبراقع الجباه والخياشم وصحابته صوارم الصولة الحاسمة من الْكفْر الطلي والغلاصم بِالرِّمَاحِ العاملة وَالسُّيُوف القواصم وَلَا زَائِد بعد حمد الله إِلَّا مقصد خطاب الشريف الْجَلِيل الْقدر الصَّادِق اللهجة والصدر من رتق الله بِهِ فتوق وَطنه وَحمى بِهِ من أحزاب الأباطيل أنجاد أرضه وأغوار عطنه حافد مَوْلَانَا عَليّ وسيدتنا البتول وَولد مَوْلَانَا الشريف بن مَوْلَانَا عَليّ السيتل الصؤل سَلام عَلَيْكُم مَا رصعت الجفان سموت البحور ولمعت الْجَوَاهِر الحسان على بَيَاض النحور وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته مَا أساغت مَحْض الْحَلَال ذَكَاته وَبعد فقد كاتبناكم من مُغنِي غنيمَة الْمُقِيم والظاعن والزائر رِبَاط الجريد مَدِينَة ثغر الجزائر صان الله من الْبر وَالْبَحْر عرضهَا وَأمن من زعازع العواصف والقواصف أرْضهَا إلماعا لكم معادن الرياسة وفرسان القيافة والعيافة(7/22)
والفراسة فضلا عَن سَمَاء صَحا من الْغَيْم والقتام جوه وضحى نشرت عَلَيْهِ الوديقة وشيا فَفَشَا ضوءه بِأَن شؤون المملكة لم يتوان عَن مَكْنُون علمكُم أمرهَا وَلَا أعوز عزائمكم زيدها وعمرها وَذَلِكَ أَن الْوَهَّاب سُبْحَانَهُ منحكم هَيْبَة وهمة فِي الْجُود والحلم والحماسة وَاخْتَارَ لكم عنوان عنايتها فِي غَابَ الصون سجلماسة لَكِن فاتكم سر رَأْي التَّدْبِير وأركبتم حزمكم جموع الْجَهْل والتبذير مَعَ أَن ذَلِك فِي الْحَقِيقَة دأب كل مؤسس لدولة لَا يجمعها إِلَّا بجنايات الجولة والصولة فخرقت على الإيالة العثمانية جِلْبَاب صونها الْجَدِيد من وَجدّة الأبلق إِلَى حُدُود الجريد فشوشت علينا أَخْلَاق أخلاط الْأَعْرَاب إِلَى أَن تعوقوا علينا فِي أرْفق الْآرَاب وشننت الْغَارة الشعواء على بني يَعْقُوب فحسمت رسمهم على العقيب والعرقوب وغادرت جماهرهم تسْعَى على عِيَالهمْ الزياني والموزونة فِي أسواق مستغانم وديار مازونه وجررت ذيل المذلة على أَطْرَاف الغاسول والأغواط فالتقطتهم بطانتك الْتِقَاط سِبَاع الطير الوطواط وقادك الْجَاهِل الجهم مَحْمُود حيمان لعين ماضي والصوانع وَبني يطفيان فراحت ريَاح وسُويد ينفض كل بَطل مِنْهُم غباره وطينه على طود رَاشد وبليد قسطينة وَلَا كادنا إِلَّا مَا هتكتم من ستر السِّرّ على مرسى أبي الرّبيع السَّيِّد سُلَيْمَان مَعَ أَنكُمْ أولى من يُرَاعِي حرمته وتوقيره ويدافع عَنهُ وَعَمن سواهُ ويرفد فقيره وتنسبون الْعَجم للْجَهْل وَأَنَّهُمْ جُفَاة وأجلاف ثمَّ صرتم بَدَلا وأخلاف خرج جَيش قصبتنا بتلمسان بِمَا لديهم من الرُّمَاة والفرسان فهزمتموهم بقرار وَقَتَلْتُمُوهُمْ قتل مذلة واحتقار فَقُلْنَا هَذَا أقل جَزَاء كل كلب حقير عقور يعرض عرضه لصولة الْأسد الهصور وَلَا وافت الآفته فِي الْغَالِب إِلَّا الْحَضَر مَعَ شيع فِي الأجنة تجني الجنى وَالْخضر كَانَ أَوْلَاد طَلْحَة وهداج وخراج يؤدون لهَذِهِ المثابة مَا ثقل وخف من الْخراج وَلَا يفوتنا من ملازمها وبر وَلَا شعر وَلَا صوف وَلَا سقب وَلَا جدي وَلَا خروف إِلَى أَن طلعت علينا غرَّة شمسك السعيدة(7/23)
فَعَادَت كل شيعَة قريبَة عَنَّا بعيدَة وأعانك افْتِرَاق الجفاة من أهل وَجدّة وَأَن نصيبك الأوفر مِنْهُم أهل جدة ونجدة ولولاك مَا ثار علينا أهل تلمسان وأنكروا مَا لنا عَلَيْهِم من قديم الحنانة وَالْإِحْسَان وردوا عَلَيْك الساحة والبساط ومرغوبهم أَن تزفر علينا بسطوة الثعبان والساط مَعَ علمنَا اليقيني أَن شجرتنا لَا تضعضع بزعازع حَيَّان وَلَا تندرس وَلَو انهارت عَلَيْهَا جبال جيان وَأَن الْحجر لَا يدق بالطوب والخاطف لَا يطَأ أوطية الخطوب كَذَلِك فِي الْمثل جندك خلال الصَّدْر والورود لَا يصبرون لصواعق البارود وَلَا تنجح حجَّة الدروع والذوابل إِلَّا فِي سوق شن الغارات على حلل الْقَبَائِل وَأما أسوار الجحافل وأدوار الْكَتَائِب فَلَا يصدمها فيهدمها إِلَّا سيول الْخُيُول وَالرُّمَاة الرَّوَاتِب وزنت صولتك لبني عَامر لذاذة النفار لكنف الْكَافِر وداخل الوسواس والسوس جبال طرارة ومضغرة وَبني سنوس والرعايا تود أَن يحتفل لَبنهَا فِي ضروعها لتختزن فِي تبن الخداع سنبل زروعها وَإِن قبلت مِنْهُم الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال تعل طباعها على الدولة فَتَصِير كالأغوال وَإِيَّاك إياك وَالْغرر لما عثرت عَلَيْهِ فِي كتاب الْبونِي وأوراق السُّيُوطِيّ وعَلى بَادِي وَابْن الْحَاج ورسالة أهل سبتة لعبد الْحق بن أبي سعيد المريني بأنك الْمَخْصُوص بصعود تِلْكَ الأدراج ذَلِك مِنْك بعيد الْوُصُول لَا تُدْرِكهُ بالمسرة وَلَا بقبائع النصول وَإِن أوتاد الرّوم وَالتّرْك تتقوض من أَرض الغرب وَلَا يبْقى من ينازعكم فِيهَا بِحَرب وَلَا ضرب لَيْسَ لَك فِي غنيمَة إِدْرَاكه طمع وَلَا سَبِيل لتبديد مَا نظمه حازمنا وَجمع وَقد غرتك أضغاث الأحلام وأغواك ضباب الْغَيْب فَأصْبح ظَنك مِنْهُ فِي غياهب الأظلام فَإِن حرمت بِهِ فَأَنت لَا شكّ حانث وَإِن كَانَ مِنْكُم يَقِينا فرابع أَو ثَالِث أولكم ثَائِر وَالثَّانِي مقتف لَهُ سَائِر وَالثَّالِث لَكمَا أَمِير نائر إِمَّا عَادل أَو جَائِر وَلَا تَمُدَّن بَاعَ المخاطرة إِلَى أوطاننا فتخشى مخالب سطوة سلطاننا أما الشجَاعَة الغريزة فقد علمنَا أَن لَك مِنْهَا بالمهيمن أوفر نصيب وَمِمَّنْ ضرب فِيهَا فَأصَاب(7/24)
الْغَرَض بِسَهْم مُصِيب لَكِن غَايَة كِفَايَة الشجاع إِذا حمي الْوَطِيس الدفاع سِيمَا فِي هَذَا الْحِين الَّتِي أبخستها عِنْد الْخَلَاص صناعَة البارود والرصاص وجسرك علينا كونك عقَابا على فرع شجر أَو يعسوب نحل احتل صدع حجر لَو رَأَيْت مُلُوك آحَاد أَمْصَار الْبر وَالْبَحْر لعَلِمت أَنَّك مَحْجُوب ومحجور فِي حق ذَلِك الْحجر وتحققت أَن بَين الْأُمَرَاء مداراة ومراعاة وَأَن أَحْوَال الدول أَيَّام وساعات كل أحد يخَاف على صدع فخاره وَيُطلق بخوره تَحت نَتن بخاره وَمَا مرادنا إِلَّا أَمَان الْعَرَب فِي الْمَوَاضِع ليطيب لَهَا جولان الِانْتِقَال فِي المشتاة والمرابع ويجلب إِلَيْهِم الْغَنِيّ والعديم مَا يحصل لَهُ فِيهِ ربح من الكساء والحناء والأديم فَإِن تعلّقت همتك بالإمارة فَعَلَيْك بالمدن الَّتِي حجرها عَلَيْك همج البرابر فَصَارَ يدعى لَهَا بهَا على المنابر فَشد لَهَا حيازيمك لتذوق حلاوة الْملك المعجونة بمرهم النجَاة أَو الهلك دع عَنْك وَطن الرمال والعجاج ومخاطرة النَّفس فِي الفدافد والفجاج فناشدناك جدك من الْأَب وَالأُم وَمَا لَك فِيهِ من أَخ وخال وَعم إِلَّا مَا تجنبت ساحات تلمسان وَلَا زاحمتها بجموع رُمَاة وَلَا فرسَان وَإِن اشتهت الْأَعْرَاب غارات بَعْضهَا على بعض فموعدها مَا نأى عَنَّا من مُطلق الأَرْض وخمسنا أبدا على الْغَالِب لِتَعْلَمُوا أَن رَأْيهمْ عَن مَعَاني الصَّوَاب غَائِب إِذْ كلهم ذَوُو جفَاء ونفار ويعمهم عِنْد الدول مَا يعم الْكفَّار ليبقى بَيْننَا وَبَيْنكُم السّتْر المديد على الدَّوَام ونلغي كَلَام الوشاة من الأقوام وَقد شيعنا نحوكم أَرْبَعَة صِحَاب تسر بمجالستهم الخواطر والرحاب الْفَقِيه الْوَجِيه السَّيِّد عبد الله النفزي والفقيه الأبر السَّيِّد الْحَاج مُحَمَّد بن عَليّ الحضري المزغنائي واثنين من أَرْكَان ديواننا وقواعد إيواننا أتراك سيوط وَغَايَة غرضنا جميل الْجَواب بِمَا هُوَ أصفى وأصدق خطاب وَالله تَعَالَى يوفقنا لِأَحْمَد طَرِيق ويحشرنا مَعَ جدك فِي خير فريق آمين وَالسَّلَام وَكتب فِي منتصف رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام أَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَألف اه(7/25)
وَلما وصلت الرُّسُل إِلَى الْمولى مُحَمَّد وَقَرَأَ الْكتاب اغتاظ مِمَّا تضمنه من العتاب فأحضر الرُّسُل وعاتبهم على قَول مرسلهم وتحامله عَلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ نَحن أَتَيْنَاك سفراء برسالة باشا الجزائر فَاكْتُبْ لنا الْجَواب وَلَا تقابلنا بعتاب فَقَالَ صَدقْتُمْ فَكتب إِلَيْهِم بِكِتَاب يَقُول فِي أَوله وَبعد فقد كتبناه إِلَيْكُم من غرَّة جبين الصحارى وصرة أَمْصَار المغارب والبراري مُغنِي سجلماسة الَّتِي هِيَ قَاعِدَة الْعَرَب والبربر الْمُسَمَّاة فِي الْقَدِيم كنز الْبركَة حالتي السّكُون وَالْحَرَكَة وَمضى فِي كِتَابه إِلَى أَن خَتمه وَلم يجبهم إِلَى مَا أَرَادوا
وَلما رجعُوا برسالته إِلَى صَاحب الجزائر قَرَأَهَا بِمحضر أَرْبَاب الدِّيوَان ثمَّ ردهم فِي الْحِين دون كتاب وَلما قدمُوا على الْمولى مُحَمَّد ثَانِيَة قَالُوا لَهُ إِنَّه لم يكن لنا علم بِمَا فِي الْكتاب وَلَو اكتفينا بِهِ مَا رَجعْنَا إِلَيْك نَحن جئْنَاك لتعمل مَعنا شَرِيعَة جدك وتقف عِنْد حدك فَمَا كَانَ جدك يحارب الْمُسلمين وَلَا يَأْمر بِنَهْب الْمُسْتَضْعَفِينَ فَإِن كَانَ غرضك فِي الْجِهَاد فرابط على الْكفَّار الَّذين هم مَعَك فِي وسط الْبِلَاد وَإِن كَانَ غرضك فِي الِاسْتِيلَاء على دولة آل عُثْمَان فابرز إِلَيْهَا واستعن بالرحيم الرَّحْمَن فَلَا يكن عَلَيْك فِي ذَلِك ملام فَهَذَا مَا جِئْنَا لَهُ وَالسَّلَام وَأما إيقاد نَار الْفِتْنَة بَين الْعباد فَلَيْسَ من شيم أهل الْبَيْت الأمجاد وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مَا تَفْعَلهُ حرَام لَا يجوز فِي مَذْهَب من مَذَاهِب الْمُسلمين وَلَا قانون من قوانين الأعجام وَهَذَانِ فقيهان من عُلَمَاء الجزائر قد جَاءَا إِلَيْك حَتَّى يسمعا مِنْك مَا تَقوله وَيحكم الله بَيْننَا وَبَيْنك وَرَسُوله فقد تعطلت تِجَارَتِنَا وأجفلت عَن وطننا رعيتنا فَمَا جوابك عِنْد الله فِي هَذَا الَّذِي تَفْعَلهُ فِي بِلَادنَا وَأَنت ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَنه لم يعجزنا أَن نفعله نَحن فِي بِلَادكُمْ ورعيتكم على أننا محمولون على الظُّلم والجور عنْدكُمْ لَكِن تأبى ذَلِك همة سلطاننا
فَلَمَّا سمع الْمولى مُحَمَّد كَلَامهم أثر فِيهِ وعظهم وداخلته القشعريرة(7/26)
وعلاه سُلْطَان الْحق فأذعن لَهُ وَقَالَ وَالله مَا أوقعنا فِي هَذَا الْمَحْذُور إِلَّا شياطين الْعَرَب انتصروا بِنَا على أعدائهم وأوقعونا فِي مَعْصِيّة الله وأبلغناهم غرضهم فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَإِنِّي أعَاهد الله تَعَالَى لَا أعرض بعد هَذَا الْيَوْم لبلادكم وَلَا لرعيتكم بِسوء وَإِنِّي أُعْطِيكُم ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله لَا قطعت وَادي تافنا إِلَى ناحيتكم إِلَّا فِيمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَكتب لَهُم بذلك عهدا إِلَى صَاحب الجزائر وقنع بِمَا فتح الله عَلَيْهِ من سجلماسة ودرعة وأعمالهما وَلم يعد يَغْزُو الشرق وَلَا توجه إِلَيْهِ بعد ذَلِك إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى الرشيد فَكَانَ من أمره مَعَه مَا نذْكر بعد إِن شَاءَ الله
ثورة الْمُقدم أبي الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي بِبِلَاد الهبط
كَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي من أَصْحَاب أبي عبد الله العياشي وَكَانَ مقدما على الْغُزَاة بِبِلَاد الهبط وَلما قتل العياشي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اسْتَقل هُوَ برياسة تِلْكَ الْجِهَة واستمرت حَاله إِلَى ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف فثار بالفحص وزحف إِلَى قصر كتامة فبرز إِلَيْهِ أَهله فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزمُوا واتبعهم الْخضر فاقتحم الْقصر عنْوَة وَقتل جمَاعَة وافرة من أعيانه وفر الْكثير مِنْهُم إِلَى فاس مِنْهُم أَوْلَاد الْفَقِيه عبد الله الْقَنْطَرِي من أَعْيَان الْقصر وَبَقِي الْخضر متغلبا على تِلْكَ النَّاحِيَة
وَفِي ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف خرج من فاس المرابط الرئيس أَبُو سلهام بن كدار واتصل بالخضر غيلَان وَصَارَ فِي جملَته وَكَانَ أَبُو سلهام الْمَذْكُور مِمَّن ظَاهر الدلائيين على سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَبَقيَ ذَلِك فِي قلب الْخضر غيلَان حَتَّى قبض على أبي سلهام الْمَذْكُور واعتقله بآصيلا ثمَّ سرحه بعد حِين قَالَه فِي نشر المثاني(7/27)
وَفَاة الْمولى الشريف بن عَليّ رَحمَه الله
كَانَ الْمولى الشريف بن عَليّ بسجلماسة وأعمالها على مَا وصفناه قبل من الوجاهة والرئاسة والسيادة ممتثل الْأَمر متبوع الْعقب مُنْذُ نَشأ ثمَّ بَايعه أهل سجلماسة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف ونازعه بَنو الزبير أَصْحَاب تابوعصامت وَبِذَلِك استصرخ عَلَيْهِم أَبَا حسون السملالي حَتَّى ملك سجلماسة كَمَا مر وَلما تخلص من نكبة السوس وَعَاد إِلَى سجلماسة وجد ابْنه الْمولى مُحَمَّدًا قد قَامَ بِالْأَمر بعده فتخلى لَهُ عَنهُ وَقطع بَقِيَّة عمره فِيمَا يُرْضِي الله تَعَالَى إِلَى أَن أَتَاهُ الْيَقِين ثَالِث عشر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف بسجلماسة مسْقط رَأسه ومقر عزه ومنبت أشباله ومدرج ملوكه وأقياله وجددت الْبيعَة للْمولى مُحَمَّد ففارقه أَخُوهُ الْمولى الرشيد فَخرج إِلَى الْجبَال فَبَقيَ متنقلا فِي أحيائها إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
إغارة الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على عرب الحياينة من أَعمال فاس وَمَا يتبع ذَلِك
لما كَانَ آخر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف أغار الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على زرع الحياينة بأحواز فاس فانتسفه وأفسده وَوَقعت عقب ذَلِك مجاعَة عَظِيمَة أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد وَخرج أهل فاس يستغيثون بِأَهْل الدلاء وَكَانَ الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني قد قدم فاسا بِقصد أَن يبايعه أَهلهَا فَلم يُجِيبُوهُ وَقيل بل نَصره بَعضهم وَخرج إِلَى عرب الحياينة فَذهب بهم إِلَى قتال الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فَلم يلقه
وَفِي أَوَائِل سنة أَربع وَسبعين وَألف حَاز طاغية النجليز طنجة من يَد البرتغال قَالَ فِي الْبُسْتَان لضعفهم عَن مقاومة الْمُسلمين يَوْمئِذٍ بِسَبَب أَن(7/28)
الْمُسلمين غزوهم فِي هَذِه الْأَيَّام فَقتلُوا مِنْهُم سِتّمائَة مقَاتل ثمَّ غزوهم فَقتلُوا مِنْهُم أَرْبَعمِائَة أُخْرَى وَقَالَ منويل القشتيلي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى سَبَب ذَلِك أَن طاغية البرتغال وَهُوَ إخْوَان السَّادِس يُقَال بِالْخَاءِ وَالْجِيم أَرَادَ تَأْكِيد الْمحبَّة بَينه وَبَين طاغية النجليز وَهُوَ كارلوس الثَّانِي فَزَوجهُ أُخْته وجهزها إِلَيْهِ بمفاتيح طنجة فَبَقيت بِيَدِهِ اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنْهَا للْمُسلمين اهـ
قيام الْمولى الرشيد بن الشريف على أَخِيه الْمولى مُحَمَّد ومقتل الْأَخ الْمَذْكُور رَحمَه الله
قد قدمنَا مَا كَانَ من فرار الْمولى الرشيد عَن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد يَوْم وَفَاة أَبِيهِمَا رَحمَه الله فَذهب الْمولى الرشيد يَوْمئِذٍ إِلَى تدغة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ سَار إِلَى دمنات فَأَقَامَ بهَا مُدَّة أَيْضا ثمَّ أَتَى زَاوِيَة أهل الدلاء فَأَقَامَ عِنْدهم مَا شَاءَ الله فَيُقَال إِن بعض أهل الزاوية أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخرُوجِ مِنْهَا خوفًا عَلَيْهِ من الفتك بِهِ لِأَن الدلائيين كَانُوا يَزْعمُونَ فِيمَا عِنْدهم من الْعلم أَن خلاء زاويتهم يكون على يَده فَقبل الْمولى الرشيد إِشَارَته ثمَّ خرج إِلَى جبل آصرو فَأَقَامَ بِهِ بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ توجه إِلَى فاس وَمَعَهُ نفر قَلِيل فَبَاتَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد فَأكْرم رئيسها أَبُو عبد الله الدريدي ضيافته وَمن الْغَد ارتحل عَنْهَا إِلَى تازا ثمَّ إِلَى عرب الأحلاف
قَالَ فِي النزهة إِلَى أَن أدته خَاتِمَة المطاف إِلَى قَصَبَة الْيَهُودِيّ ابْن مشعل وَكَانَ لهَذَا الْيَهُودِيّ أَمْوَال طائلة وذخائر نفسية ولع على الْمُسلمين صولة وَكَانَ لهَذَا الْيَهُودِيّ أَمْوَال طائلة وذخائر نفيسة وَله على الْمُسلمين صولة واستهانة بِالدّينِ وَأَهله فَلم يزل الْمولى الرشيد يفكر فِي كَيْفيَّة اغتيال الْيَهُودِيّ الْمَذْكُور إِلَى أَن أمكنه الله مِنْهُ فِي خبر طَوِيل فَقتله وَاسْتولى على أَمْوَاله وذخائره وفرقها فِيمَن تبعه وانضاف إِلَيْهِ من عرب آنكاد وَغَيرهم فقوي عضده وَكثر جمعه اهـ(7/29)
وَقَالَ صَاحب نشر المثاني إِن الْمولى الرشيد لما رَحل عَن فاس قدم على الشَّيْخ أبي عبد الله اللواتي بأحواز تازا وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور ينتحل طَريقَة الْفقر ويعظم أهل الْبَيْت فَبَالغ فِي إكرامه فَبَيْنَمَا هُوَ مُقيم عِنْده إِذْ رأى ذَات يَوْم رجلا ذَا هَيْئَة من مماليك وَأَتْبَاع وخيل وَهُوَ يصطاد كَهَيئَةِ الْمُلُوك فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل لَهُ هَذَا ابْن مشعل من يهود تازا فَانْصَرف الْمولى الرشيد وَجعل مدية فِي فَمه وَجَاء إِلَى الشَّيْخ اللواتي فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ على تِلْكَ الْحَال أعظم ذَلِك وَقَالَ لَهُ المَال والرقبة لَك يَا سَيِّدي فَمَا الَّذِي دهاك قَالَ تَأمر جمَاعَة من عشيرتك يَسِيرُونَ معي حَتَّى أفتك بِهَذَا الْيَهُودِيّ غيرَة على الدّين فَقَالَ قد فعلت لَا يتَخَلَّف عَنْك مِنْهُم أحد فَاخْتَارَ الْمولى الرشيد مِنْهُم جمَاعَة وواعدهم على تبييت الْيَهُودِيّ واقتحام دَاره عَلَيْهِ وَكَانَ الْيَهُودِيّ قد اتخذ دَارا بِالْبَيْدَاءِ على نَحْو مرحلة من تازا فِي جِهَة الشرق فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْموعد تقدم الْمولى الرشيد إِلَى دَار ابْن مشعل فِي صُورَة ضيف فأضافه ابْن مشعل وَلما انتصف اللَّيْل أحَاط أَصْحَابه بِالدَّار وكبس الْمولى الرشيد الْيَهُودِيّ فِي بعض خلواته فَقتله وَأدْخل الرِّجَال فاستولى على دَار ابْن مشعل بعد الفتك بِأَصْحَابِهِ وحراسه وعثر فِيهَا على أَمْوَال كَثِيرَة وذخائر نفيسة وَقيل وَهُوَ الشَّائِع عِنْد بني يزناسن أَن ابْن مشعل الْمَذْكُور كَانَ مُقيما بَين أظهرهم قد اتخذ حصنا بِبَعْض جبالهم وهم محدقون بِهِ فَجَاءَهُمْ الْمولى الرشيد وَلم يزل يلاطفهم فِي شَأْن الْيَهُودِيّ حَتَّى أثر كَلَامه فيهم ونما إِلَى الْيَهُودِيّ بعض ذَلِك وَأَنَّهُمْ مسلموه فَنزل إِلَى الْمولى الرشيد بهدية نفيسة يسترضيه بهَا فَلم يكن بأسرع من أَن قبض عَلَيْهِ وَقَتله وَتقدم إِلَى الدَّار فاستولى عَلَيْهَا واستخرج مَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ
ثمَّ إِن الْمولى الرشيد دَعَا لنَفسِهِ أَعْرَاب الشرق وَجمع كلمتهم وَنزل وَجدّة واتصل ذَلِك كُله بأَخيه الْمولى مُحَمَّد صَاحب سجلماسة فتخوف مِنْهُ(7/30)
لما يعلم من صرامته وشهامته فَنَهَضَ لقتاله وَالْقَبْض عَلَيْهِ فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ ببسيط آنكاد كَانَت أول رصاصة فِي نحر الْمولى مُحَمَّد فَكَانَ فِيهَا حتفه وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع من الْمحرم سنة خمس وَسبعين وَألف وَدفن بدار ابْن مشعل فأسف الْمولى الرشيد لقَتله وَأظْهر الْحزن عَلَيْهِ وَتَوَلَّى تَجْهِيزه بِنَفسِهِ فَحَمله إِلَى بني يزناسن ووراه هُنَالك فِي رمسه رَحمَه الله وَغفر لَهُ
وَكَانَ الْمولى مُحَمَّد شجاعا مقداما لَا يُبَالِي بالعظائم وَلَا يخْطر بِبَالِهِ خوف الرِّجَال وَلَا يدْرِي مَا هِيَ النكبات والأوجال وَتقدم وصف أهل الدلاء لَهُ بقَوْلهمْ الأجدل الَّذِي لَا تؤده هموم اللَّيَالِي وَلَا حرارة قيظ المصيف عِقَاب أَشهب على قنة كل عقبَة لَا يقنعه المَال دون حسم الرَّقَبَة وشجاعته شهيرة وَكَانَ مَعَ ذَلِك قَوِيا فِي بدنه أيدا فِي أَعْضَائِهِ وجسمه لَا يُقَاوم فِي الصراع وَلَا يزاول فِي الدفاع
حُكيَ أَنه فِي بعض أَيَّام حصاره لتابوعصامت جعل يَده فِي بعض ثقب الْحصن وَصعد عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصى من النَّاس حَتَّى كَأَنَّهَا خَشَبَة مَنْصُوبَة ولبنة مَضْرُوبَة وَكَانَ سخيا جدا حَتَّى أَنه أعْطى الأديب الشهير الْمُتَقَدّم فِي صناعَة الشّعْر المعرب والملحون أَبَا عُثْمَان سعيدا التلمساني صَاحب القصيدة العقيقية وَغَيرهَا نَحوا من خَمْسَة وَعشْرين رطلا من خَالص الذَّهَب جَائِزَة لَهُ على بعض أمداحه فِيهِ وحكاياته فِي هَذَا الْمَعْنى شهيرة
وَلما قتل رَحمَه الله قَامَ بسجلماسة وَلَده الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير مقَامه لَكِن لم يتم لَهُ أَمر وَسَيَأْتِي بعض خَبره إِن شَاءَ الله(7/31)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد بن الشريف رَحمَه الله
لما قتل الْمولى مُحَمَّد بن الشريف رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وانحشرت جموعه كلهَا إِلَى أَخِيه الْمولى الرشيد فَبَايعُوهُ الْبيعَة الْعَامَّة وَدخل فِي طَاعَته الأحلاف وَبَنُو يزناسن وَغَيرهم وَبعث إِلَى أهل تِلْكَ النواحي كلهَا من الْعَرَب والبربر يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة واجتماع الْكَلِمَة فَقدمت عَلَيْهِ وفودهم بالهدايا وَكتب من كَانَ مَعَ اخيه فِي ديوَان جَيْشه وكساهم وَأَعْطَاهُمْ الْخَيل وَالسِّلَاح وَعظم أمره وَعلا كَعبه ثمَّ احْتَاجَ إِلَى المَال وَكَانَ قد أَخذ ولد الْيَهُودِيّ ابْن مشعل يَوْم قتل أَبَاهُ فَجَاءَت أمه تطلب فداءه فتفرس فِيهَا وماطلها بِهِ ثمَّ قَالَ لَا أسرحه حَتَّى تدليني على مَال زَوجك أَو أَقتلهُ فأنعمت لَهُ بذلك وَركب مَعهَا إِلَى القصبة فدلته على خزانَة فِي بَيت فَنقبَ عَنْهَا فلقي فِيهَا خوابي مَمْلُوءَة ذَهَبا وَفِضة فاستخرجها وارتاش بِتِلْكَ الْأَمْوَال وَفرق مِنْهَا على من مَعَه من الْعَرَب والبربر وَسَائِر الأجناد فحسنت حَاله وحالهم وعد ذَلِك من سعادته وَلما قضى إربه ورتب جنده بعث رسله إِلَى الْآفَاق بالأعذار والإنذار والوعود والوعيد لأهل الطَّاعَة والعصيان ثمَّ سَار على أَثَرهم قَاصِدا فتح الْمغرب الَّذِي كَانَ قد تعذر على أَخِيه من قبله فَنزل على وَادي ملوية وَأقَام بِهِ أَيَّامًا للاستراحة وانتظار من يَأْتِيهِ من أهل تِلْكَ النواحي مثل جاوت والريف وَغَيرهمَا فَلم يَأْته أحد وَالله غَالب على أمره(7/32)
فتح مَدِينَة تازا ثمَّ سجلماسة وَمَا تخَلّل ذَلِك
لما أَقَامَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله على ملوية وَلم يَأْته من أهل الْمغرب أحد تقدم إِلَى تازا فاقتحمها بعد محاربة طَوِيلَة وَبَايَعَهُ أَهلهَا والقبائل الَّتِي حولهَا وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بِأَهْل فاس اجْتَمعُوا مَعَ جيرانهم من عرب الحياينة والبهاليل وَأهل صفر وَغَيرهم وتحالفوا على حَرْب الْمولى الرشيد وَعدم بيعَته بِحَال ظنا مِنْهُم أَنه يفعل بهم مَا فعله أَخُوهُ الْمولى مُحَمَّد بالحياينة من النهب وَالْقَتْل وَأمر رُؤَسَاء فاس عامتها بشرَاء الْخَيل وَالْعدة والإكثار مِنْهَا ووظفوا على كل دَار مكحلة وَمن لم تُوجد عِنْده مكحلة مِنْهُم يُعَاقب فاشتروا من ذَلِك فَوق الْكِفَايَة وَخَرجُوا إِلَى بَاب الْفتُوح لعرض الْخَيل وَالسِّلَاح وَعمِلُوا اللّعب الْمُسَمّى بالميز واجتمعوا أَيْضا مَعَ الحياينة وأكدوا الْحلف على حَرْب الْمولى الرشيد وَلما بلغه خبرهم وَمَا هم عَلَيْهِ أعرض عَنْهُم وَعدل إِلَى سجلماسة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ صَوَابا فِي الرَّأْي إِذْ قدم الأسهل فالأسهل وَتَنَاول الأخف فالأخف
وَلما أَنَاخَ على سجلماسة حاصرها نَحْو تِسْعَة أشهر إِلَى أَن فر عَنْهَا ابْن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير المنتزى بعد أَبِيه كَمَا مر فَخرج مِنْهَا لَيْلًا ودخلها الْمولى الرشيد وَاسْتولى عَلَيْهَا وسد فرجهَا ورتب حاميتها ومهد أطرافها وَرجع إِلَى تازا فاحتل بهَا وَلكُل أجل كتاب(7/33)
حِصَار مَدِينَة فاس ثمَّ فتحهَا والإيقاع بثوارها
لما قفل الْمولى الرشيد رَحمَه الله من سجلماسة إِلَى تازا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا فاتفق أهل فاس مَعَ أحلافهم من الحياينة أَن يُغيرُوا عَلَيْهِ بمستقره مِنْهَا ويبدأوه بِالْحَرْبِ قبل أَن يبدأهم ليَكُون ذَلِك كاسرا من شوكته وفاتا فِي عضده فتأهبوا للحرب وَخَرجُوا فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين وَألف وَلما قابلوا محلته افْتَرَقت كلمتهم وَرَجَعُوا منهزمين من غير قتال فَتَبِعهُمْ الْمولى الرشيد إِلَى قنطرة نهر سبو خَارج فاس ثمَّ رَجَعَ عَنْهُم فبعثوا إِلَيْهِ فِي الصُّلْح فَلم يتم بَينه وَبينهمْ صلح إِلَى أَن ملك أَطْرَاف الْمغرب كُله وَكَانَ ذَلِك من حسن تَدْبيره وترتيبه الْأُمُور
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَألف فَفِي صفر مِنْهَا زحف إِلَى فاس وحاصرها وقاتلها ثَلَاثَة أَيَّام فأصابته رصاصة فِي طرف أُذُنه وَرجع سالما ثمَّ عَاد إِلَى حصارها مرّة أُخْرَى فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَقتل وَنهب وَرجع إِلَى تازا لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِقصد فتحهَا ثمَّ توجه إِلَى الرِّيف بِقصد الرئيس أبي مُحَمَّد عبد الله آعراس الثائر بِهِ فَكَانَت بَينهمَا وقعات وحاصره فِي بعض حصونه إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ فِي رَمَضَان من السّنة فَعَفَا عَنهُ واستبقاه وكر رَاجعا إِلَى فاس فَنزل عَلَيْهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة وقاتلها قتالا شَدِيدا إِلَى ثَالِث ذِي الْحجَّة فاقتحم فاسا الْجَدِيد من أَعلَى السُّور من نَاحيَة الملاح وفر أميرها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله الدريدي وَهَذَا الدريدي كَانَ فِي جملَة من إخوانه بني دُرَيْد بن أثبج الهلاليين وَكَانُوا فِي ديوَان السعديين وَلما بَايع أهل فاس الرئيس أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي كَانَ الدريدي هَذَا فِي عسكره فَلَمَّا فشلت ريح أهل الدلاء بالمغرب نزع عَنْهُم واستبد بفاس الْجَدِيد وحالف أهل فاس الْقَدِيم على حَرْب الدلائيين ثَالِث جُمَادَى الثَّانِيَة سنة أَربع وَسبعين وَألف وَقد كَانَ أَحْمد بن صَالح الليريني رَئِيس أهل عدوة الأندلس قد خطب ابْنة الدريدي لوَلَده صَالح بن أَحْمد فَزَوجهُ إِيَّاهَا والتحم(7/34)
مَا بَينهمَا فَكَانَ الدريدي يَشن الغارات على قبائل البربر الَّذين بأحواز مكناسة وَغَيرهَا وَيَأْتِي بالنهب والطبل يقرع عَلَيْهِ إِلَى أَن يدْخل دَار الْإِمَارَة وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن اقتحم عَلَيْهِ الْمولى الرشيد فاسا كَمَا قُلْنَا ففر إِلَى منجاته وَقَالَ فِي النزهة بل قَتله الْمولى الرشيد وَسكن هيعة فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد زحف إِلَى فاس الْقَدِيمَة فحاصرها وقاتلها فضعفوا عَن مقاومته وفر رَئِيس اللمطيين ابْن الصَّغِير وَولده لَيْلًا إِلَى بستيون بَاب الجيسة وَلما طلع الْفجْر فر أَيْضا رَئِيس عدوة الأندلس أَحْمد بن صَالح فَرَأى أهل فاس أَن أَمرهم قد ضعف وكلمتهم قد افْتَرَقت فَخَرجُوا إِلَى الْمولى الرشيد وَبَايَعُوهُ وَاجْتمعت كلمتهم عَلَيْهِ فَبعث فِي طلب ابْن صَالح فَوجدَ بحوز الْمَدِينَة فجيء بِهِ وسجن بِبَاب دَار ابْن شقراء لفاس الْجَدِيد ثمَّ قتل وَقتل مَعَه عدَّة من أَصْحَابه ثمَّ قبض على ابْن الصَّغِير وَولده وَبعد سَبْعَة أَيَّام أَمر السُّلْطَان بِقَتْلِهِمَا فقتلا واستقام أَمر فاس وصلحت أحوالها قَالَ فِي النزهة افْتتح أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد فاسا الْقَدِيمَة فَحكم السَّيْف فِي رؤسائها وأفناهم قتلا فتمهدت الْبِلَاد وَاجْتمعت الْكَلِمَة وَكَانَ دُخُوله حَضْرَة فاس الْقَدِيمَة صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وَألف وبويع بهَا يَوْمه ذَلِك وَلما تمت لَهُ الْبيعَة أَفَاضَ المَال على علمائها وغمرهم بجزيل الْعَطاء وَبسط على أَهلهَا جنَاح الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة وَأظْهر إحْيَاء السّنة وَنصر الشَّرِيعَة فَحل من قُلُوبهم بِالْمَكَانِ الأرفع وتمكنت محبته من قُلُوب الْخَاصَّة والعامة اهـ
وَولي قَضَاء فاس السَّيِّد حمدون المزوار ثمَّ خرج إِلَى بِلَاد الغرب فقصد الْخضر غيلَان الثائر بِبِلَاد الهبط وَكَانَ بقصر كتامة فزحف إِلَيْهِ الْمولى الرشيد فَانْهَزَمَ الْخضر إِلَى آصيلا وَرجع الْمولى الرشيد عَنهُ إِلَى فاس أَوَائِل ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَألف فَكتبت لَهُ الْبيعَة بفاس وقرئت بَين يَدَيْهِ قبل زَوَال يَوْم السبت الثَّامِن عشر من ربيع الأول الْمَذْكُور ثمَّ فِي شهر ربيع(7/35)
الثَّانِي من السّنة غزا الْمولى الرشيد أحواز مكناسة وَقصد آيت واللال من البربر شيعَة مُحَمَّد الْحَاج الدلائي فأوقع بهم وَرجع عوده على بدئه وَبعد رُجُوعه نزل مُحَمَّد الْحَاج بجموع البربر قرب وَادي فاس بِأبي مزورة من أحواز فاس فقاتله الْمولى الرشيد ثَلَاثًا وَرجع كل إِلَى وَطنه ثمَّ خرج الْمولى الرشيد إِلَى تازا وأعمالها حادي عشر رَجَب ففقدها وَرجع إِلَى فاس فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ عزل العقيد قَائِد مكناسة ثمَّ خرج ثَانِي يَوْم النَّحْر من السّنة إِلَى بني زروال فأوقع بالشريف النابغ فيهم وَبعث بِهِ مَحْبُوسًا إِلَى فاس فَدَخلَهَا ثَانِي محرم سنة ثَمَان وَسبعين وَألف ثمَّ مَال الْمولى الرشيد إِلَى تطاوين فَقبض على رئيسها أبي الْعَبَّاس النقسيس فِي جمَاعَة من حزبه وَقدم بهم إِلَى فاس فسحبهم بهَا أَوَائِل ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَألف إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
فتح زَاوِيَة الدلائي وتغريب أَهلهَا إِلَى فاس وتلمسان وَمَا يتبع ذَلِك
لما كَانَت ضحوة يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي عشر من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَألف خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله غازيا زَاوِيَة أهل الدلاء وَكَانَ قد أسْند الْفَتْوَى إِلَى الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الفاسي فلقي جموع الدلائيين وَعَلَيْهِمَا ولد مُحَمَّد الْحَاج بِبَطن الرُّمَّان من فازاز فانتشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ مَلِيًّا ثمَّ انهزم الدلائيون وَرَجَعُوا يقفون أَثَرهم إِلَى الزاوية قَالَ الشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله فِي محاضراته كَانَ الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي قد ملك الغرب بسنين عديدة واتسع هُوَ وَأَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَنُو عَمه فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا قَامَ السُّلْطَان الْمولى الرشيد بن الشريف وَلَقي جموعهم بِبَطن الرُّمَّان ففضها دَخَلنَا على الرئيس أبي عبد الله الْمَذْكُور وَكَانَ لم يحضر المعركة لعَجزه وَكبر سنه يَوْمئِذٍ فَدخل عَلَيْهِ أَوْلَاده وَإِخْوَته وأظهروا لَهُ عَجزا شَدِيدا وضيقا عَظِيما فَلَمَّا رأى مِنْهُم ذَلِك(7/36)
قَالَ لَهُم مَا هَذَا إِن قَالَ لكم حسبكم فحسبكم يُرِيد الله تَعَالَى قَالَ اليوسي وَهَذَا كَلَام عَجِيب وَإِلَيْهِ يساق الحَدِيث وَالْمعْنَى إِن قَالَ الله تَعَالَى لكم حسبكم من الدُّنْيَا فكفوا راضين مُسلمين اه وَكَانَ اسْتِيلَاء الْمولى الرشيد على الزاوية فِي ثامن الْمحرم سنة تسع وَسبعين وَألف وَلما خرج إِلَيْهِ أَهلهَا عَفا عَنْهُم وَلم يرق مِنْهُم دَمًا وَلَا كشف لَهُم سترا حلما وكرما مِنْهُ رَحمَه الله قَالَ فِي النزهة لما وَقعت الْهَزِيمَة على أهل الدلاء دخل الْمولى الرشيد الزاوية وَأمر بِمُحَمد الْحَاج وَأَوْلَاده وأقاربه أَن يحملوا إِلَى فاس ويسكنوا بهَا فحملوا إِلَيْهَا واستوطنوها مُدَّة ثمَّ أَمر أَن يذهب بهم إِلَى تلمسان فغربوا إِلَيْهَا وسكنوها مُدَّة
وَحَدثُوا أَن مُحَمَّدًا الْحَاج رَحمَه الله لما دخل تلمسان قَالَ كنت وجدت فِي بعض كتب الْحدثَان أَنِّي أَدخل تلمسان فَظَنَنْت أَنِّي أدخلها دُخُول الْمُلُوك فدخلتها كَمَا ترَوْنَ وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن عِنْد ضريح الإِمَام السنوسي رَضِي الله عَنهُ وَلما توفّي الْمولى الرشيد رَجَعَ أَوْلَاده وأقاربه إِلَى فاس فاستوطنوها بِإِذن من السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل وَلما دخل الْمولى الرشيد الزاوية غير محاسنها وَفرق جموعها وطمس معالمها وَصَارَت حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس بعد أَن كَانَت مشرقة إشراق الشَّمْس فمحت الْحَوَادِث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بِأبي بكر وبنيه وابتهجت وفاحت من شذاهم وتأرجت ارتحل عَنْهَا فرسَان الأقلام الَّذين ينجاب بِوُجُوهِهِمْ الظلام وَبَانَتْ عَنْهَا ربات الْخُدُور وأقامت بهَا أتافي الْقُدُور وَلَقَد كَانَ أَهلهَا يعفون آثَار الرِّيَاح فعفت آثَارهم وَذَهَبت اللَّيَالِي بأشخاصهم وأبقت أخبارهم فثل ذَلِك الْعَرْش وَعدا الدَّهْر حِين أَمن من الْأَرْش وَلم يدْفع الرمْح وَلَا الحسام وَلم تَنْفَع تِلْكَ المنن الجسام فسحقا لدُنْيَا مَا رعت لَهُم حقوقا وَلَا أبقت لَهُم شروقا وَهِي الْأَيَّام لَا تَقِيّ من تجنيها وَلَا تبقي على مواليها ومدانيها(7/37)
أذهبت آثَار جلق وأخمدت نَار المحلق وذللت عزة ابْن شَدَّاد وهدت الْقصر ذِي الشرفات من سنداد وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الْكتاب يَوْمًا أَجله وَلَقَد أحسن رَبِّي نعمتهم الْمقر بإحسانهم ومنتهم شيخ مَشَايِخ الْمغرب على الْإِطْلَاق الإِمَام الَّذِي وَقع على علمه وَعَمله الِاتِّفَاق أَبُو عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي رَحمَه الله فِي رائيته الَّتِي رثى بهَا الزاوية الْمَذْكُورَة وَبكى أَيَّامهَا يَقُول فِي مطْلعهَا
(أكلف جفن الْعين أَن ينثر الدرا ... فيأبى ويعتاض العقيق بهَا خمرًا)
وَهِي طَوِيلَة شهيرة قلت وَلم يُصَرح فِيهَا بِأَسْمَائِهِمْ مُرَاعَاة لجَانب السُّلْطَان وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِب وَالْمُنَاسِب فرحم الله الشَّيْخ اليوسي مَا كَانَ أعرفهُ بمقتضيات الْأَحْوَال
فتح مراكش ومقتل الْأَمِير أبي بكر الشباني وشيعته
لما فرغ الْمولى الرشيد رَحمَه الله من أَمر الزاوية توجه إِلَى مراكش فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر من السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَألف فاستولى عَلَيْهَا وَقتل رئيسها أَبَا بكر بن عبد الْكَرِيم الشباني وَجَمَاعَة من أهل بَيته
وَقَالَ فِي النزهة لما بلغ أَبَا بكر الشباني وَقَومه مسير الْمولى الرشيد إِلَيْهِم خَرجُوا فارين بِأَنْفسِهِم من مراكش إِلَى شَوَاهِق الْجبَال لما خامر قُلُوبهم من رعبه فَدخل الْمولى الرشيد مراكش وأفنى من وجد بهَا من الشبانات وَقبض على أبي بكر وَبني عَمه فعرضهم على السَّيْف واستنزل تِلْكَ الفئة الشريدة من الصَّيَاصِي وَأخذ مِنْهُم بالأقدام والنواصي وَأخرج عبد الْكَرِيم من قَبره فأحرقه بالنَّار
وَلما فتح مراكش قَامَ بهَا نَحْو شهر ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي هَذِه السّنة خرج الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير من تافيلالت فِي شيعته وخلى سَبِيل الْبَلَد وفيهَا(7/38)
أَيْضا ركب الْخضر غيلَان الْبَحْر إِلَى الجزائر وخلى سَبِيل آصيلا وَلما رَجَعَ الْمولى الرشيد إِلَى فاس عزل أَبَا عبد الله الفاسي عَن الْفَتْوَى وعزل الْفَقِيه المزوار عَن قَضَائهَا منسلخ جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وَولى الْقَضَاء الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن المجاصي والخطابة بِجَامِع الْقرَوِيين الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّدًا البوعناني وَفِي منتصف رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة غزا الْمولى الرشيد بِلَاد الشاوية وَرجع إِلَى فاس فِي سَابِع رَمَضَان الْعَام فَعَفَا عَن بعض أهل الدلاء وَبَقِي الْآخرُونَ بضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم إِلَى تَمام السّنة فَعَفَا عَن الْجَمِيع وردهم إِلَى بِلَادهمْ إِلَّا مَا كَانَ من مُحَمَّد الْحَاج وبنيه فَإِنَّهُم غربوا إِلَى تلمسان وَمَات هُوَ هُنَالك وَلما ولي الْأَمر الْمولى إِسْمَاعِيل وَقعت الشَّفَاعَة فِي الْأَوْلَاد فَرَجَعُوا إِلَى فاس كَمَا مر
وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشر ذِي الْحجَّة من السّنة غزا الْمولى الرشيد آيت عَيَّاش من برابر صنهاجة وفيهَا أَمر بِضَرْب السِّكَّة الرشيدية وأقرض تجار فاس وَغَيرهَا اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مِثْقَال بِقصد التِّجَارَة إِلَى أَن ردوهَا بعد سنة
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا حَاز طاغية الإصبنيول مَدِينَة سبته من يَد البرتغال فِي سَبِيل مشارطة وَقعت بَينهم فِي مَدِينَة أشبونة واستمرت فِي يَد الإصبنيول إِلَى الْآن
بِنَاء قنطرة وَادي سبو خَارج فاس
وَفِي يَوْم السبت الرَّابِع عشر من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَسبعين وَألف أَمر الْمولى الرشيد بِبِنَاء قنطرة نهر سبو الأقواس الْأَرْبَعَة خَارج فاس فَأخذُوا فِي تهيئة الْأَسْبَاب وحفر الأساس وَفِي منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَمَانِينَ وَألف شرعوا فِي الْبناء بالآجر والجير فكملت على أحسن حَال
وَلما تكلم الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات على الحَدِيث الصَّحِيح إِن(7/39)
أخنع الْأَسْمَاء عِنْد الله رجل تسمى بِملك الْأَمْلَاك قَالَ مَا نَصه وَمن البشيع الْوَاقِع فِي زَمَاننَا فِي الْأَوْصَاف أَنه لما بنى السُّلْطَان الْمولى الرشيد بن الشريف جسر نهر سبو صنع بَعضهم يَعْنِي القَاضِي أَبَا عبد الله المجاصي أبياتا كتبت فِيهِ برسم الْأَعْلَام أَولهَا
(صاغ الْخَلِيفَة ذَا الْمجَاز ... ملك الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز)
قَالَ فَحَمله اقتناص هَذِه السجعة والتغالي فِي الْمَدْح والاهتبال بالاسترضاء على أَن جعل ممدوحه ملكا حَقِيقِيًّا لَا مجازيا وَإِنَّمَا ذَلِك هُوَ الله وَحده وكل ملك دونه مجَاز الممدوح وَغَيره اه
وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب خرج الْمولى الرشيد غازيا الْأَبْيَض فَقبض على أَوْلَاد أخي الْأَبْيَض وَلما وصل إِلَى تازا أَمر بِقَتْلِهِم فَقتلُوا ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت فَأمر بتسريح المساجين وَإِخْرَاج الصَّدقَات فعافاه الله
وَفِي منتصف ذِي الْقعدَة من السّنة أَمر بإعمال وَلِيمَة الْعرس لِأَخِيهِ الْمولى إِسْمَاعِيل بدار ابْن شقراء من حَضْرَة فاس الْجَدِيد قَالَ اليفرني احتفل الْمولى الرشيد فِي ذَلِك الْعرس بِمَا لم يعْهَد مثله اه وَكَانَت الْعَرُوس من بَنَات الْمُلُوك السعديين وَفِي شَوَّال من السّنة جدد قنطرة الرصيف بفاس وَالله أعلم
فتح تارودانت وإيليغ وَسَائِر السوس
قد قدمنَا أَن أَبَا حسون السملالي كَانَ مستوليا على بِلَاد السوس فاستمر حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي سنة سبعين وَألف وَكَانَ رَحمَه الله لين الْجَانِب مَحْمُود السِّيرَة مَوْصُوفا بالعفة متوقفا فِي الدِّمَاء وَلما هلك خَلفه وَلَده أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي حسون فَلَمَّا كَانَت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف غزا الْمولى الرشيد رَحمَه الله بِلَاد السوس فاستولى على(7/40)
تارودانت رَابِع صفر من السّنة وأوقع بهستوكة فَقتل مِنْهُم أَكثر من ألف وَخَمْسمِائة وأوقع بِأَهْل السَّاحِل فَقتل مِنْهُم أَكثر من أَرْبَعَة آلَاف وأوقع بِأَهْل قلعة إيليغ دَار ملك أبي حسون فاستولى عَلَيْهَا فِي مهل ربيع الأول من السّنة وَقتل مِنْهُم بسفح الْجَبَل أَكثر من أَلفَيْنِ وَصفا أَمر السوس للْمولى الرشيد
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا فِي سَابِع ربيع الأول مِنْهَا قتل الْمولى إِسْمَاعِيل وَكَانَ نَائِبا عَن أَخِيه بفاس سِتِّينَ رجلا من أَوْلَاد جَامع وَكَانُوا يقطعون الطَّرِيق فَقَتلهُمْ وصلبهم على سور البرج الْجَدِيد وفيهَا فِي جُمَادَى الْأَخِيرَة مِنْهَا أَمر الْمولى الرشيد بِضَرْب فلوس النّحاس المستديرة وَكَانَت قبل مربعة وَهِي الأشقوبية وَجعل أَرْبَعَة وَعشْرين فِي الموزونة وَكَانَت قبل ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَرجع إِلَى فاس فِي ثَالِث رَجَب من السّنة وَفِي أول شعْبَان مِنْهَا شرع فِي بِنَاء مدرسة الشراطين بدار الباشا عزوز من فاس وَكَانَ قد أَمر بِبِنَاء مدرسة عَظِيمَة بِإِزَاءِ مَسْجِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن صَالح من حَضْرَة مراكش وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا
تأليف جَيش شراقة وأوليتهم وَشرح لقبهم
قد قدمنَا فِي أَخْبَار السعديين أَن لفظ شراقة فِي الأَصْل لقب لعرب بادية تلمسان وَمن انضاف إِلَيْهِم وَسموا بذلك لأَنهم فِي جِهَة الشرق عَن الْمغرب الْأَقْصَى فَأهل تلمسان مثلا يسمون أهل الْمغرب الْأَقْصَى مغاربة وَأهل الْمغرب الْأَقْصَى يسمون أهل تلمسان مشارقة إِلَّا أَن الْعَامَّة يلحنون فِي هَذِه النِّسْبَة فَيَقُولُونَ شراقة بتَخْفِيف الرَّاء وإيقاف المعقودة وَقد كَانَ للسعديين جند من هَؤُلَاءِ الْعَرَب كَمَا مر
وَلما جَاءَ الله بدولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من عرب آنكاد وَغَيرهم مَا قدمنَا ذكره نزع إِلَيْهِ من أهل تِلْكَ الْبِلَاد عدَّة قبائل(7/41)
بَعْضهَا من الْعَرَب وَبَعضهَا من البربر أنفًا من ولَايَة التّرْك فقبلهم فَمن الْعَرَب أَشْجَع وَبَنُو عَامر وَمن البربر مديونة وهوارة وَبَنُو سنوس فَأمر رَحمَه الله بِبِنَاء القصبة الجديدة بفاس بديار لمتون وعرصة ابْن صَالح وبذل لأَصْحَابه وقواده ألف مِثْقَال لبِنَاء سورها وَأمرهمْ بِبِنَاء الدّور فِيهَا وَأعْطى شراقة هَؤُلَاءِ ألف دِينَار لبِنَاء قَصَبَة الْخَمِيس بعد أَن كَانَ أنزلهم أَولا بأحواز فاس فَحصل مِنْهُم الضَّرَر لأهل الْمَدِينَة وشكوهم فَأَمرهمْ بالانتقال بحلتهم إِلَى بِلَاد صدينة وفشتالة بَين النهرين سبو وورغه وأقطعهم تِلْكَ الأَرْض وعزل عزابهم وَأمرهمْ بِبِنَاء بُيُوتهم على حِدة ثمَّ أَعْطَاهُم ألف دِينَار لبِنَاء سور القصبة كَمَا قُلْنَا وجعلهم قَبيلَة وَاحِدَة فَلم تتَمَيَّز الْآن عربهم من بربرهم ثمَّ خرج الْمولى الرشيد رَابِع رَمَضَان من السّنة لزيارة الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ وَمِنْه ذهب إِلَى سلا فزار صلحاءها وَعَاد إِلَى فاس فَدَخلَهَا منسلخ رَمَضَان الْمَذْكُور
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فِي صفر مِنْهَا بعث خيلا للْجِهَاد على طنجة وَفِي منتصف جُمَادَى الأولى بعث خيلا أُخْرَى إِلَى السوس وَعَلَيْهِم أَبُو مُحَمَّد عبد الله آعراس ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد بتافرطاست فَبَلغهُ هُنَالك خبر ثورة ابْن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بمراكش فَرجع إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم السبت حادي عشر رَمَضَان ثمَّ خرج مِنْهَا عصر يَوْمه ذَلِك فَلَقِيَهُ ابْن أَخِيه بفزارة مَقْبُوضا عَلَيْهِ بيد أَصْحَابه فَبعث بِهِ إِلَى تافيلالت وَسَار هُوَ إِلَى مراكش وَبعث قائده زَيْدَانَ العامري إِلَى فاس فِي ذِي الْقعدَة ليَأْتِيه بالجيش لغزو السوس فَأَتَاهُ أهل السوس طائعين وَلم يبْق للحركة مَحل بعد أَن كَانَت الأخبية قد أخرجت إِلَى وَادي فاس وَضربت بِهِ فاستقرت قَوَاعِد الْملك للْمولى الرشيد وتمهدت أُمُور الدولة وَالله غَالب على أمره(7/42)
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله
كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش كَمَا قُلْنَا إِلَى أَن كَانَ عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فَلَمَّا كَانَ ثَانِي يَوْم النَّحْر وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس ركب فرسا لَهُ وأجراه فجمح بِهِ فِي بُسْتَان المسرة وَلم يملك عنانه فَأَصَابَهُ فرع شَجَرَة نارنج فهشم رَأسه وَقيل دخل فِي أُذُنه وَكَانَت فِيهِ منيته رَحمَه الله وَدفن بمراكش بالقصبة مِنْهَا ثمَّ نقل إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم بفاس لوَصِيَّة مِنْهُ بذلك وَمَات رَحمَه الله وسنه اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة لِأَنَّهُ ولد سنة أَرْبَعِينَ وَألف ورثاه بَعضهم بقوله
(وَمَا شج ذَات الْغُصْن رَأس إمامنا ... لسوء لَهُ خدن الْمحبَّة جَاحد)
(وَلكنه قد غَار من لين قده ... وَإِن من الْأَشْجَار مَا هُوَ حَاسِد)
قلت لَا يخفى أَن مثل هَذَا الشّعْر لَا يحسن أَن تمدح بِهِ الْمُلُوك فَإِنَّهُ بالغزل أشبه مِنْهُ بالرثاء وَكَانَ قد وَقع بَين الْمولى الرشيد رَحمَه الله وَبَين شيخ الْوَقْت الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي رَضِي الله عَنهُ مكاتبات توعده أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي بَعْضهَا فَمَاتَ عقب ذَلِك وَكفى الشَّيْخ الْمَذْكُور أمره
وَمن مآثره رَحمَه الله أَنه لما مر فِي بعض حركاته بالموضع الْمَعْرُوف بالشط من بِلَاد الظهراء أَمر بِحَفر آبار شَتَّى فَهِيَ الْآن تدعى بآبار السُّلْطَان إِضَافَة لَهُ يَسْتَقِي مِنْهَا ركب الحجيج فِي ذَهَابه وإيابه فَهِيَ إِن شَاءَ الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَكَانَ رَحمَه الله محبا فِي جَانب الْعلمَاء مؤثرا لأغراضهم مُولَعا بمجالستهم محسنا إِلَيْهِم حَيْثُ مَا كَانُوا
وَمن نوادره مَعَهم مَا حُكيَ أَن الْعَلامَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد المرابط بن مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي حضر يَوْمًا بِمَجْلِس السُّلْطَان الْمَذْكُور وَذَلِكَ بعد(7/43)
الْإِيقَاع بزاويتهم وتغريبهم إِلَى فاس فَأَنْشد السُّلْطَان معرضًا بالفقيه الْمَذْكُور قَول أبي الطّيب المتنبي
(وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى ... عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد)
ففهم أَبُو عبد الله المرابط إِشَارَته فَقَالَ أيد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن من سَعَادَة الْمَرْء أَن يكون خَصمه عَاقِلا فَاسْتحْسن الْحَاضِرُونَ حسن بديهته ولطف منزعه
وَمن تواضع الْمولى الرشيد رَحمَه الله مَعَ أهل الْعلم مَا حَكَاهُ صَاحب الْجَيْش من أَنه بعث إِلَى بعض عُلَمَاء عصره ليقْرَأ مَعَه بعض الْكتب فَامْتنعَ ذَلِك الْعَالم وَقَالَ كَمَا قَالَ الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ الْعلم يُؤْتى وَلَا يَأْتِي قَالَ فَكَانَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله يتَرَدَّد لمنزل ذَلِك الْعَالم للْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَنه كَانَ يحضر مجْلِس الشَّيْخ اليوسي بالقرويين اهـ وَهَذِه لعمري منقبة فخيمة ومأثره جسيمة فرحم الله تِلْكَ الهمم الَّتِي كَانَت تعرف للْعلم حَقه وتقدر قدره قَالُوا وَكَانَ رَحمَه الله جوادا سخيا رَحل النَّاس إِلَيْهِ من الْمشرق فَمَا دونه وقصده بعض طلبة ثغر الجزائر فامتدحه ببيتين وهما
(فاض بَحر الْفُرَات فِي كل قطر ... من ندى راحتيك عذبا فراتا)
(غرق النَّاس فِيهِ وَالْتمس الْفقر ... خلاصا فَلم يجده فماتا)
فوصله بِأَلفَيْنِ وَخمسين دِينَارا
قَالَ اليفرني وشأوه رَحمَه الله فِي السخاء لَا يلْحق والحكايات عَنهُ بذلك شهيرة وَفِي أَيَّامه كثر الْعلم واعتز أَهله وَظَهَرت عَلَيْهِم أبهته وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام سُكُون ودعة ورخاء عَظِيم حَتَّى قيل إِنَّه فِي الْيَوْم الَّذِي بُويِعَ فِيهِ بفاس كَانَ الْقَمْح فِي أول النَّهَار بِخمْس أَوَاقٍ للمد وَصَارَ فِي آخِره بِنصْف أُوقِيَّة فتيمن النَّاس بولايته وأغتبطوا بهَا وَالله تَعَالَى أعلم(7/44)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ المظفر بِاللَّه أبي النَّصْر الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله
لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُقدم وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى إِسْمَاعِيل بمكناسة الزَّيْتُون خَليفَة على بِلَاد الغرب فَبَلغهُ خبر مَوته فَاجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ واتفقت كلمتهم عَلَيْهِ ثمَّ قدم عَلَيْهِ أَعْيَان فاس وأعلامها وأشرافها ببيعتهم وَقدم عَلَيْهِ أهل بِلَاد الغرب من الحواضر والبوادي كَذَلِك بهداياهم وبيعاتهم إِلَّا مراكش وأعمالها فَإِنَّهُ لم يَأْتِ مِنْهَا أحد فَجَلَسَ رَحمَه الله للوفود إِلَى أَن فرغ من شَأْنهمْ ورتب أُمُوره بمكناسة وعزم على السُّكْنَى بهَا إِذْ كَانَ لَا يَبْغِي بهَا بَدَلا حَيْثُ أعجبه مَاؤُهَا وهواؤها هَكَذَا فِي الْبُسْتَان
وَقَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي النزهة وَنَحْوه فِي نشر المثاني لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله اتَّصل خبر وَفَاته بالمولى إِسْمَاعِيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَلِيفَته بفاس الْجَدِيد لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فبويع رَحمَه الله وَحضر بيعَته أَعْيَان الْمغرب وصلحاؤه بِحَيْثُ لم يُنَازع فِي أَنه أَحَق بهَا وَأَهْلهَا أحد مِمَّن يشار إِلَيْهِ زَاد فِي الظل الظليل وَوَافَقَ على بيعَته أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء والأشراف كالشيخ أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عَليّ الفاسي وَالشَّيْخ أبي عَليّ اليوسي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفيلالي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن سعيد المكيلدي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الفاسي وأخيه أبي زيد صَاحب نظم الْعَمَل وَالْقَاضِي أبي مَدين وَغَيرهم من بَقِيَّة الْأَعْيَان وَكَانَت بيعَته فِي السّنة الثَّانِيَة من يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة الْمَذْكُور آنِفا وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم الثَّالِث من شهر إبريل العجمي
وَكَانَ سنه يَوْم بُويِعَ سِتا وَعشْرين سنة لِأَن وِلَادَته كَانَت عَام وقْعَة(7/45)
القاعة وَهِي مؤرخة بِخَط من يوثق بِهِ سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَلما تمت بيعَته نَهَضَ بأعباء الْخلَافَة وَضبط الْأُمُور وَأحسن السِّيرَة
ثورة الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحرز بن الشريف وَمَا كَانَ من أمره
لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله واتصل خبر وَفَاته بِأَهْل سجلماسة وَغَيرهَا أقبل ابْن أَخِيه الْمولى أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بِمن مُحرز مبادرا إِلَى مراكش طَالبا لِلْأَمْرِ وداعيا إِلَى نَفسه والتفت عَلَيْهِ طوائف من عرب السوس وَغَيرهم وَغلب على تِلْكَ النواحي ونشبت أهل مراكش بلامع برقه وَبِذَلِك تقاعدوا عَن الْوِفَادَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
وَلما صَحَّ عِنْده خبر ابْن مُحرز وَذَلِكَ فِي آخر ذِي الْحجَّة من السّنة نَهَضَ إِلَى مراكش فوصل إِلَيْهَا وبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِم من قبائل أحوازها وقاتلوه فانتصر عَلَيْهِم وَهَزَمَهُمْ وَدخل مراكش عنْوَة يَوْم الْجُمُعَة سَابِع صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف فَعَفَا عَن أَهلهَا وأجفل ابْن مُحرز وشيعته الى حَيْثُ نَجوا
وَلما احتل الْمولى إِسْمَاعِيل بمراكش أَمر بِنَقْل شلو أَخِيه الْمولى الرشيد فِي تابوته إِلَى فاس ليدفن بضريح الشَّيْخ ابْن حرزهم كَمَا مر ثمَّ قفل السُّلْطَان إِلَى مكناسة منسلخ ربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف(7/46)
انْتِقَاض أهل فاس وقتلهم الْقَائِد زَيْدَانَ وإعلانهم بدعوة ابْن مُحرز وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من محاصرة السُّلْطَان لَهُم
لما قفل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل إِلَى مكناسة أَخذ فِي تَرْتِيب أُمُور دولته وَفرق الرَّاتِب على الْجند وَكَانَ عَازِمًا على غَزْو بِلَاد الصَّحرَاء فَلم يرعه إِلَّا الْخَبَر بِأَن أهل فاس قد انتقضوا وَقتلُوا قَائِد الْجَيْش زَيْدَانَ بن عبيد العامري وَكَانَ مَقْتَله لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الأولى من السّنة فزحف السُّلْطَان إِلَيْهِم وحاصرهم وَاسْتمرّ الْقِتَال بَينه وَبينهمْ أَيَّامًا ثمَّ بعثوا إِلَى الْمولى أَحْمد بن مُحرز ليأتيهم فيجتمعوا عَلَيْهِ فَقدم دبدو وَأنزل على ملوية وَبعث إِلَيْهِم رَسُوله يعلمهُمْ بمجيئه فأعلنوا بنصره وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وَفِي منسلخ الشَّهْر الْمَذْكُور بعثوا عشرَة من الْخَيل للقائه بتازا ثمَّ أصبح عَلَيْهِم رَسُول الْخضر غيلَان يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد قدم من ثغر الجزائر فِي الْبَحْر وَأَنه نزل بتطاوين مَعَ رؤسائها أَوْلَاد النقسيس فتشعبت الآراء وتعددت أَسبَاب الهراش وتكاثرت الظباء على خِدَاش وهاجت فتْنَة بفاس قتل فِيهَا نفر من أَوْلَاد الثائر الْمُتَقَدّم أبي الرّبيع سُلَيْمَان الزرهوني على يَد مولَايَ أَحْمد بن إِدْرِيس من شرفاء دَار القيطون ثمَّ قتل بعض شيعَة الزرهوني مولَايَ حفيد بن إِدْرِيس أَخا الشريف الْمَذْكُور وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ
وَلما اتَّصل خبر ابْن مُحرز بالمولى إِسْمَاعِيل نَهَضَ إِلَيْهِ فِي جُنُوده قَاصِدا تازا فَحَاصَرَهُمْ بهَا أشهرا ففر عَنْهَا ابْن مُحرز وَدخل الصَّحرَاء وَلما علم السُّلْطَان بفراره عدل إِلَى نَاحيَة الهبط بِقصد الْخضر غيلَان فحاربه إِلَى أَن ظفر بِهِ وَقَتله يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف وَعَاد إِلَى فاس الْجَدِيد أواسط جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وحاصر أهل فاس وطاولهم وَلم يحدث مَعَهم حَربًا إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وراجعوا بصائرهم ففتحوا الْبَلَد وَخَرجُوا إِلَى السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر(7/47)
رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف فَكَانَت مُدَّة انتقاضهم أَرْبَعَة عشر شهرا وَثَمَانِية عشر يَوْمًا ذاقوا فِيهَا وبال أَمرهم ثمَّ ولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد التلمساني وعَلى فاس الْجَدِيد الْوَزير أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن المنزاري وَسَار إِلَى مكناسة ثمَّ عَاد بِالْقربِ إِلَّا أَن هذَيْن الواليين قد جارا فِي الْحُكُومَة وعاثا فِي البلدين بِضَرْب الأبشار وَنهب الْأَمْوَال وَغير ذَلِك وَالله لايظلم مِثْقَال ذرة وعزل أَيْضا عَن خطابة الْقرَوِيين الْفَقِيه أَبَا عبد الله البوعناني وولاها القَاضِي أَبَا عبد الله المجاصي وَذَلِكَ فِي أخر رَجَب من السّنة وَالله أعلم
تَجْدِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل بِنَاء مكناسة الزَّيْتُون واتخاذه إِيَّاهَا دَار ملكه
كَانَت مَدِينَة مكناسة الزَّيْتُون من الْأَمْصَار الْقَدِيمَة بِأَرْض الْمغرب بناها البربر قبل الْإِسْلَام وَلما جَاءَت دولة الْمُوَحِّدين حاصروا مكناسة سبع سِنِين ثمَّ افتتحوها عنْوَة أواسط المائه السَّادِسَة وخربوها ثمَّ بنوا مكناسة الجديدة الْمُسَمَّاة بتاكرارت وَمَعْنَاهَا الْمحلة واعتنى بهَا بَنو مرين من بعدهمْ فبنوا قصبتها وشيدوا بهَا الْمَسَاجِد والمدارس والزوايا والربط وَكَانَت يَوْمئِذٍ هِيَ كرْسِي الوزارة كَمَا أَن حَضْرَة فاس الْجَدِيد هِيَ كرْسِي الْإِمَارَة واختصت مكناسة بِطيب التربة وعذوبة المَاء وَصِحَّة الْهَوَاء وسلامة المختزن من التعفين وَغير ذَلِك وَقد وصفهَا ابْن الْخَطِيب فِي مَوَاضِع من كتبه مثل النفاضة والمقامات وَغَيرهمَا واثنى عَلَيْهَا نظما ونثرا وَأنْشد قَول ابْن عبدون من أَهلهَا فِيهَا
(إِن تفتخر فاس بِمَا فِي طيها ... وبأنها فِي زيها حسناء)
(يَكْفِيك من مكناسة أرجاؤها ... والأطيبان هواؤها وَالْمَاء)
فَلَمَّا كَانَت بِهَذِهِ المثابة كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لَا(7/48)
يَبْغِي بهَا بَدَلا فَلَمَّا فرغ من أَمر فاس رَجَعَ إِلَيْهَا وَشرع فِي بِنَاء قُصُور بهَا بعد أَن هدم مَا يَلِي القصبة من الدّور وَأمر أَرْبَابهَا بِحمْل أنقاضها وَبنى لَهُم سورا على الْجَانِب الغربي وَأمر بِبِنَاء دُورهمْ بِهِ وَهدم الْجَانِب الشَّرْقِي كُله من الْمَدِينَة وزاده فِي القصبة الْقَدِيمَة وَلم يبْق أَمَامه إِلَّا الفضاء فَجعل ذَلِك كُله قَصَبَة وَبنى سور الْمَدِينَة وأفردها عَن القصبة وَأطلق أَيدي الصناع فِي الْبناء ومداومة الْعَمَل وجلبهم من جَمِيع حواضر الْمغرب وَلما لم يقنعه ذَلِك فرض العملة على الْقَبَائِل مناوبة فَصَارَت كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب تبْعَث عددا مَعْلُوما من الرِّجَال والبهائم فِي كل شهر وَفرض الصناع وَأهل الْحَرْف على الحواضر فَصَارَ أهل كل مصر يبعثون من البنائين والنجارين وَغَيرهم عددا مَعْلُوما كَذَلِك وَأسسَ الْمَسْجِد الْأَعْظَم بداخل القصبة مجاورا لقصر النَّصْر الَّذِي كَانَ أسسه فِي دولة أَخِيه الْمولى الرشيد رَحمَه الله ثمَّ أسس الدَّار الْكُبْرَى الَّتِي بجوار الشَّيْخ المجذوب وَاسْتمرّ الْبناء وَالْغَرْس بمكناسة سِنِين كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيه على ذَلِك فِي مَجْلِسه إِن شَاءَ الله
مَجِيء الْمولى أَحْمد بن مُحرز إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا ونهوض السُّلْطَان إِلَى محاصرته بهَا
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا ورد الْخَبَر على السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَهُوَ بمكناسة بِدُخُول ابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز مراكش واستيلائه عَلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مُتَوَجها إِلَى آنكاد لما بلغه من عيث الْعَرَب الَّذين بِهِ وقطعهم الطَّرِيق فَلم يثنه ذَلِك عَنْهُم بل سَار إِلَيْهِم وأوقع بسقونة مِنْهُم وَقتل خلقا كثيرا وَنهب وَرجع مؤيدا منصورا ثمَّ استعد لِحَرْب ابْن مُحرز وَخرج فِي العساكر على طَرِيق تادلا فَكَانَ اللِّقَاء بَينهمَا على أبي عقبَة من وَادي العبيد فَاقْتَتلُوا وَانْهَزَمَ ابْن مُحرز وَقتل كَبِير جَيْشه(7/49)
حيدة الطويري وَرجع أدراجه إِلَى مراكش فَتَبِعَهُ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَألقى بكلكله على مراكش أَوَائِل سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف ونما إِلَيْهِ أَن بعض أهل محلته قد أضمروا الْغدر مِنْهُم الشَّيْخ عمر البطوئي وَولده وَعبد الله آعراس وَإِخْوَته هَؤُلَاءِ كَانُوا أُمَرَاء عسكره فحنقهم وأتلف نُفُوسهم وَبعث إِلَى من بَقِي مِنْهُم بفاس فَقبض عَلَيْهِم وَقتلُوا وحيزت دُورهمْ وَأَمْوَالهمْ
وَاسْتمرّ السُّلْطَان محاصرا لمراكش إِلَى ربيع الثَّانِي من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف فَشدد فِي الْحصار وازدلف إِلَيْهَا فِي جُنُوده فَوَقع قتال عَظِيم مَاتَ فِيهِ من الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصى وانحجر ابْن مُحرز دَاخل الْبَلَد وَبَقِي يُقَاتل من أَعلَى الأسوار ثمَّ تَمَادى الْحصار إِلَى ثَانِي ربيع الثَّانِي من سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف فَاشْتَدَّ الْأَمر على ابْن مُحرز وضاق ذرعا فَخرج فَارًّا عَن مراكش ناجيا فِيمَا أبقته الْحَرْب من جموعه وَدخل السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل الْمَدِينَة عنْوَة فاستباحها وَقتل سَبْعَة من رؤسائها وكحل ثَلَاثِينَ مِنْهُم وهدأت الْفِتْنَة وَذَهَبت أَيَّام المحنة وَالله غَالب على أمره
تأليف جَيش الودايا وَبَيَان فرقهم وأوليتهم
هَذَا الْجَيْش من أمثل جيوش هَذِه الدولة الشَّرِيفَة أبقى الله فَضلهَا وَبسط على الْبِلَاد والعباد يمنها وعدلها وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أرحاء رحى أهل السنوس ورحى المغافرة ورحى الودايا وَيُطلق على الْجَمِيع ودايا تَغْلِيبًا فَأَما أهل السوس فَمنهمْ أَوْلَاد جرار وَأَوْلَاد مُطَاع وزرارة والشبانات وَكلهمْ من عرب معقل وَكَانُوا فِي الْقَدِيم جندا للدولة السعدية وَكَانَ مُلُوكهَا يستنفرونهم للغزو بحللهم لاعتيادهم ذَلِك أَيَّام كَونهم بالصحراء ثمَّ أنزلوهم ببسيط ازغار مراغمة لعرب جشم من الْخَلْط وسُفْيَان وَغَيرهم إِذْ كَانَت(7/50)
الْخَلْط شيعَة بني مرين وأصهارهم كَمَا مر فَلَمَّا جَاءَت الدولة السعدية بقوا منحرفين عَنْهَا وَكلما طرقها خلل ثَارُوا عَلَيْهَا وَخَرجُوا عَن طاعتها فقيض لَهُم السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل من معقل وزاحمهم بهم فِي بِلَادهمْ وشغلهم بهم فَكَانَت تكون بَينهم الحروب فَتَارَة تنتصف معقل من جشم وَتارَة الْعَكْس حَتَّى أوقع الْمَنْصُور السَّعْدِيّ بالخلط وقيعته الشهيرة وأسقطهم من الجندية فَنقل أَوْلَاد مُطَاع إِلَى زبيدة قرب تادلا
وَلما أشرفت الدولة السعدية على الْهَرم استطالت الشبانات عَلَيْهَا بِمَا كَانَ لَهُم من الخؤلة على أَوْلَاد السُّلْطَان زَيْدَانَ فاستبدت فرقة مِنْهُم بمراكش كَمَا مر وثارت أُخْرَى بفاس الْجَدِيد مَعَ أبي عبد الله الدريدي المتغلب بهَا حَسْبَمَا سلف إِلَى أَن نقل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله جَمِيعهم إِلَى وَجدّة كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ خلطهم بعد بإخوانهم من المغافرة والودايا وصير الْجَمِيع جَيْشًا وَاحِدًا فَهَذِهِ أولية أهل السوس
وَأما المغافرة فَسَيَأْتِي بَيَان كَيْفيَّة اتصالهم بالمولى إِسْمَاعِيل ومصاهرتهم لَهُ
وَأما الودايا فَكَانَ السَّبَب فِي جمعهم واستعمالهم فِي الجندية أَنه لما فتح الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مَدِينَة مراكش الْفَتْح الثَّانِي وأجفل ابْن مُحرز عَنْهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد بالبسيط الْمَعْرُوف بالبحيرة من أحواز مراكش فَرَأى أَعْرَابِيًا يرْعَى غنما لَهُ وَبِيَدِهِ شفرة يقطع بهَا السدر ويضعه لغنمه لتأكل ورقة فَقَالَ للوزعة عَليّ بِأبي الشَّفْرَة فَأَسْرعُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى أَن أوقفوه بَين يَدَيْهِ فَسَأَلَهُ فانتسب لَهُ إِلَى ودي كغني قَبيلَة من عرب معقل بالصحراء وَأخْبرهُ بِأَنَّهُم دخلُوا من بِلَاد الْقبْلَة بِسَبَب جَدب أَصَابَهُم قَالَ دَخَلنَا السوس بنجع كَبِير فافترقنا وَذَهَبت كل طَائِفَة منا إِلَى قَبيلَة فَنزلت عَلَيْهَا وَنحن نزُول مَعَ الشبانات فَقَالَ لَهُ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَنْتُم أخوالي وسمعتم بخبري وَلم تَأْتُونِي والآن أَنْت صَاحِبي وَإِذا رجعت بغنمك(7/51)
إِلَى خيمتك فاقدم عَليّ إِلَى مراكش وَأوصى بِهِ من يوصله إِلَيْهِ ثمَّ بعد أَيَّام قدم أَبُو الشَّفْرَة على السُّلْطَان فَكَسَاهُ وَحمله وَبعث مَعَه خيلا يجمع بهَا إخوانه من قبائل الْحَوْز فَجمع من وجد مِنْهُم وَجَاء بهم إِلَى السُّلْطَان فأثبتهم فِي الدِّيوَان وكساهم وَحَملهمْ ثمَّ نقلهم بحلتهم إِلَى مكناسة الزَّيْتُون دَار الْملك ومقر الْخلَافَة
ثمَّ دخل نجع آخر بعدهمْ فأثبتهم فِي الدِّيوَان أَيْضا وَبَالغ فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَعين لسكناهم من مكناسة الْمحل الْمَعْرُوف بالرياض بجوار قصبتها وَأمرهمْ بِبِنَاء الدّور وَأعْطى أعيانهم ورؤساءهم النوائب وَهِي الزوايا الَّتِي لَا تغرم مَعَ الْقَبَائِل ثمَّ قدم نجع ثَالِث جاؤوا من جِهَة الْقبْلَة فأثبتهم كإخوانهم الَّذين قدمُوا قبلهم وسلك بهم مسلكهم
وَلما نقل رَحمَه الله زُرَارَة والشبانات الَّذين كَانُوا بفاس الْجَدِيد مَعَ الدريدي بعث بهم إِلَيْهَا أَيْضا ليجتمعوا مَعَ إخْوَانهمْ ثمَّ قسم الودايا الَّذين بالرياض قسمَيْنِ فَبعث نصفهم إِلَى فاس الْجَدِيد وعمره بهم وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَطِيَّة مِنْهُم وَأبقى النّصْف الآخر بالرياض من مكناسة وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْحسن عليا الْمَدْعُو بِأبي الشَّفْرَة فَكَانَا يتداولان الْقسمَيْنِ مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا ثمَّ اسْتَقر الْأَمر على أَن صَار أَبُو الشَّفْرَة بفاس وَابْن عَطِيَّة بالرياض
وَأما خبر الْخَلْط فَإِنَّهُ لما أوقع بهم الْمَنْصُور السَّعْدِيّ تفَرقُوا فِي الْقَبَائِل شذر مذر وصاروا عيالا على غَيرهم وَلما أشرفت الدولة السعدية على الْهَرم اجْتَمعُوا وَرَجَعُوا إِلَى أزغاز فغلبوا عَلَيْهِ وعفوا وكثروا وتمولوا وَأَكْثرُوا من الْخَيل وَالسِّلَاح إِلَى أَن جَاءَ الله بالمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فَانْتزع مِنْهُم خيلهم وسلاحهم كغيرهم من قبائل الْمغرب وَضرب عَلَيْهِم المغارم واستمروا على ذَلِك إِلَى أَيَّام السُّلْطَان المرحوم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله فظهروا فِي دولته وَكَانُوا يعكسون مَعَه فِي حروب ويغرمون مَا وَجب عَلَيْهِم(7/52)
من الزكوات والأعشار وَكَذَلِكَ مَعَ ابْنه الْمولى سُلَيْمَان وَابْن ابْنه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رحم الله الْجَمِيع بمنه وهم الْيَوْم فِي عداد الْقَبَائِل الغارمة وَكَذَا قبائل الْحَوْز الَّذين هم من عرب معقل كلهم غارمة وَالله تَعَالَى الْمُتَوَلِي لأمور الْعباد لَا معقب لحكمه وَلَا راد لقضائه
انْتِقَاض البربر شيعَة الدلائيين والتفافهم على أَحْمد بن عبد الله مِنْهُم وإيقاع السُّلْطَان بهم
لما كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مُقيما بمراكش بعد فرار الْمولى أَحْمد بن مُحرز عَنْهَا بلغه اجْتِمَاع البربر الصنهاجيين على أَحْمد بن عبد الله الدلائي وعيثهم فِيمَن جاورهم من قبائل الْعَرَب من تادلا إِلَى سايس فَبعث رَحمَه الله عسكرا إِلَى تادلا إِعَانَة لأَهْلهَا على البربر فهزمتهم البربر وَقتلُوا يخلف وانتهبوا واستولوا على تادلا ثمَّ بعث إِلَيْهِم عسكرا آخر فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف من الْخَيل وَعقد عَلَيْهِ ليخلف فَهَزَمَهُمْ البربر وَقتلُوا يخلف وانتهبوا مُعَسْكَره ثمَّ أعقبهما بعسكر ثَالِث فَوَقع بِهِ مَا وَقع بالأولين هَذَا كُله وَالسُّلْطَان مُقيم بمراكش يرصد ابْن مُحرز الَّذِي بالسوس ثمَّ بلغه قيام أَخِيه الْمولى حمادة بالصحراء وحربه لِأَخِيهِ الْمولى مُحرز الثائر بهَا أَيْضا وَهُوَ وَالِد الْمولى أَحْمد صَاحب السوس فَقدم السُّلْطَان رَحمَه الله الأهم وَرجع إِلَى حَرْب البربر بتادلا خوفًا من اتساع خرقهم على الدولة وَهُنَاكَ لقِيه أَخُوهُ الْمولى الحران جَاءَ مستصرخا لَهُ على أَخِيه الْمولى حمادة ثمَّ تقدم السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى البربر فأوقع بهم وقْعَة شنعاء واستلحمهم وَقطع مِنْهُم سَبْعمِائة رَأس بعث بهَا إِلَى فاس مَعَ عبد الله بن حمدون الروسي وَفِي نشر المثاني أَنه قتل من البربر يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة آلَاف فزينت الْمَدِينَة وأخرجت المدافع وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَلما انْقَضتْ الْوَقْعَة فر الْمولى الحران من(7/53)
الْمحلة إِلَى الصَّحرَاء وَرجع السُّلْطَان إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي أواسط شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف
وَفِي هَذِه الْأَيَّام ولي قَضَاء فاس الْفَقِيه الْوَرع أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة بعد عزل القَاضِي أبي عبد الله المجاصي وَولي مظالمها وجبايتها عبد الله الروسي وَولي مواريثها أَبَاهُ حمدون وَأمر بقتل أهل تطاوين الَّذين كَانُوا بسجن فاس وهم عشرُون فَضربت أَعْنَاقهم وَرفعت على الأسوار ثمَّ جِيءَ بالمولى الحران من الصَّحرَاء مُقَيّدا مغلولا فَلَمَّا قابله من عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وَأَعْطَاهُ خيلا وأقطعه مداشر بالصحراء يتعيش بهَا وسرحه إِلَى حَال سَبيله
عود الْكَلَام إِلَى بِنَاء حَضْرَة مكناسة الزَّيْتُون
وَاسْتمرّ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بمكناسة قَائِما على بِنَاء حضرتها بِنَفسِهِ وَكلما أكمل قصرا أسس غَيره وَلما ضَاقَ مَسْجِد القصبة بِالنَّاسِ أسس الْجَامِع الْأَخْضَر أعظم مِنْهُ وَجعل لَهُ بَابَيْنِ بَابا إِلَى القصبة وبابا إِلَى الْمَدِينَة وَجعل رَحمَه الله لهَذِهِ القصبة عشْرين بَابا عَادِية فِي غَايَة السعَة والارتفاع مقبوة من أَعْلَاهَا وَفَوق كل بَاب مِنْهَا برج عَظِيم عَلَيْهِ من المدافع النحاسية الْعَظِيمَة الأجرام والمهاريس الحربية الهائلة الأشكال مَا يقْضِي مِنْهُ الْعجب وَجعل فِي هَذِه القصبة بركَة عَظِيمَة تسير فِيهَا الْفلك والزوارق المتخذة للنزهة والأنبساط وَجعل بهَا هريا عَظِيما لاختزان الطَّعَام من قَمح وَغَيره مقبو القنانيط يسع زرع أهل الْمغرب وَجعل بجواره سواقي للْمَاء فِي غَايَة المعمق مقبوا عَلَيْهَا وَجعل فِي أَعْلَاهَا برجا عَظِيما مستدير الشكل لوضع المدافع الموجهة إِلَى كل جِهَة وَجعل بهَا إصطبلا عَظِيما لربط خيله وبغاله مسيرَة فَرسَخ فِي مثله مسقف الجوانب بالبرشلة على أساطين وأقواس عَظِيمَة فِي كل قَوس مربط فرس وَبَين الْفرس وَالْفرس عشرُون شبْرًا يُقَال إِنَّه كَانَ مربوطا بِهَذَا الإصطبل اثْنَي عشر ألف فرس مَعَ كل فرس سائس من(7/54)
الْمُسلمين وخادم من أسرى النَّصَارَى يتَوَلَّى خدمته وَفِي هَذَا الإصطبل سانية من المَاء دَائِرَة عَلَيْهِ مقبوة الظّهْر وأمام كل فرس مِنْهَا ثقب كالمعدة لشربه وَفِي وسط هَذَا الإصطبل قباب معدة لوضع سروج الْخَيل على أشكال مُخْتَلفَة وَفِيه أَيْضا هري عَظِيم مربع الشكل مقبو الْأَعْلَى على أساطين عَظِيمَة وأقواس هائلة لوضع سلَاح الفرسان أَصْحَاب الْخَيل وَينفذ إِلَيْهِ الضَّوْء من شبابيك فِي جوانبه الْأَرْبَعَة كل شباك ينيف وَزنه على قِنْطَار من حَدِيد وَفَوق هَذَا الهري من أَعْلَاهُ قصر يُقَال لَهُ الْمَنْصُور وَلَا يقصر ارتفاعه من مائَة ذِرَاع خَمْسُونَ فِي الْأَسْفَل وَخَمْسُونَ فِي الْأَعْلَى وَفِيه عشرُون قبَّة فِي كل قبَّة طاق عَلَيْهِ شباك من حَدِيد يشرف مِنْهُ أهل الْقبَّة على بسيط مكناسة من الْجَبَل إِلَى الْجَبَل وكل قبَّة مسقفة بالبرشلة والقرمود وَغير ذَلِك ثمَّ أَربع قباب مِنْهَا متقابلة سَعَة كل وَاحِدَة مِنْهَا سَبْعُونَ شبْرًا فِي مثلهَا وَبَاقِي الْعشْرين أَرْبَعُونَ ويجاور هَذَا الإصطبل بُسْتَان على قدر طوله فِيهِ من شجر الزَّيْتُون وأنواع الْفَوَاكِه كل غَرِيب طوله فَرسَخ وَعرضه ميلان ويتخلل هَذِه الْقُصُور الَّتِي فِي دَاخل القلعة بشوارع مستطيلة متسعة وأبواب عَظِيمَة فاصلة بَين كل نَاحيَة وَبَين الْأُخْرَى ورحاب عَظِيمَة مربعة معدة لعمارة المشور فِي كل جَانب إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحِيط بِهِ الْوَصْف
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَقد شاهدنا آثَار الأقدمين بالمشرق وَالْمغْرب وبلاد التّرْك وَالروم فَمَا رَأينَا مثل ذَلِك فِي دولهم وَلَا شَاهَدْنَاهُ فِي آثَارهم بل لَو اجْتمعت آثَار دوَل مُلُوك الْإِسْلَام لرجح بهَا مَا بناه السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي قلعة مكناسة دَار ملكه وَلم تزل تِلْكَ البناءات على طول الدَّهْر قَائِمَة كالجبال لم تخلفها عواصف الرِّيَاح وَلَا كَثْرَة الأمطار والثلوج وَلَا آفَات الزلازل الَّتِي تخرب المباني الْعِظَام والهياكل الجسام قَالَ وَمن يَوْم مَاتَ الْمولى إِسْمَاعِيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون تِلْكَ الْقُصُور على قدر وسعهم وبحسب طاقتهم ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج(7/55)
ورخام وَلبن وقرمود ومعدن وَغير ذَلِك إِلَى وقتنا هَذَا وبنيت من أنقاضها مَسَاجِد ومدارس ورباطات بِكُل بلد من بلدان الْمغرب وَمَا أَتَوا على نصفهَا هَذِه مُدَّة من مائَة سنة وَأما الجدرات فَلَا زَالَت ماثلة كالجبال الشوامخ وكل من شَاهد تِلْكَ الْآثَار من سفراء التّرْك وَالروم يعجب من عَظمته وَيَقُول لَيْسَ هَذَا من عمل بني آدم وَلَا يقوم بِهِ مَال اهـ
تأليف جَيش عبيد البُخَارِيّ وَذكر أوليتهم وَشرح تسميتهم
هَذَا الْجَيْش من أعظم جيوش هَذِه الدولة السعيدة كَمَا تقف عَلَيْهِ وَكَانَ السَّبَب فِي جمعه مَا وجد مفصلا فِي كناش كَاتب الدولة الإسماعيلية ووزيرها الْأَعْظَم الْفَقِيه الأديب أبي الْعَبَّاس أَحْمد اليحمدي رَحمَه الله قَالَ لما استولى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف على مراكش ودخلها أول مرّة كَانَ يكْتب عسكره من الْقَبَائِل الْأَحْرَار حَسْبَمَا مر حَتَّى أَتَاهُ الْكَاتِب أَبُو حَفْص عمر بن قَاسم المراكشي الْمَدْعُو عليليش وبيتهم بَيت رياسة من قديم وَكَانَ وَالِده كَاتبا مَعَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وَمَعَ أَوْلَاده من بعده فَتعلق أَبُو حَفْص هَذَا بِخِدْمَة السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وأطلعه على دفتر فِيهِ أَسمَاء العبيد الَّذين كَانُوا فِي عَسْكَر الْمَنْصُور فَسَأَلَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله هَل بَقِي مِنْهُم أحد قَالَ نعم كثير مِنْهُم وَمن أَوْلَادهم وهم متفرقون بمراكش وأحوازها وبقبائل الدَّيْر وَلَو أَمرنِي مَوْلَانَا بِجَمْعِهِمْ لجمعتهم فولاه أَمرهم وَكتب لَهُ إِلَى قواد الْقَبَائِل يَأْمُرهُم بشد عضده وإعانته على مَا هُوَ بصدده فَأخذ عليليش يبْحَث عَنْهُم بمراكش وينقر عَن أنسابهم إِلَى أَن جمع من بهَا مِنْهُم ثمَّ خرج إِلَى الدَّيْر فَجمع من وجد بِهِ ثمَّ سَار إِلَى قبائل الْحَوْز فاستقصى من فِيهَا حَتَّى لم يتْرك بِتِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا أسود سَوَاء كَانَ مَمْلُوكا أَو حرطانيا أَو حرا أسود واتسع الْخرق وعسر الرتق فَجمع فِي سنة وَاحِدَة ثَلَاثَة آلَاف(7/56)
رَأس مِنْهُم المتزوج والعزب ثمَّ كتبهمْ فِي دفتر وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان بمكناسة فتصفحه السُّلْطَان وَأَعْجَبهُ ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بشرَاء الْإِمَاء للأعزاب مِنْهُم وَيدْفَع أَثمَان المماليك مِنْهُم إِلَى ملاكهم ويكسوهم من أعشار مراكش ويأتيه بهم إِلَى مكناسة فاجتهد عليليش فِي ذَلِك وَاشْترى من الْإِمَاء ماقدر عَلَيْهِ وَجمع من الحرطانيات عددا إِلَى أَن استوفى الْغَرَض وكساهم وألزم الْقَبَائِل بحملهم إِلَى الحضرة فحملوا من قَبيلَة إِلَى أُخْرَى إِلَى أَن وصلوا مكناسة فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان السِّلَاح وَولى عَلَيْهِم قوادهم وَبعث إِلَيْهِم إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالمحلة من مشرع الرملة من أَعمال سلا
ثمَّ بعث السُّلْطَان كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن العياشي المكناسي إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن وَأمره بِجمع العبيد الَّذين بهَا فَمن لَا ملك لأحد عَلَيْهِ يَأْخُذهُ مجَّانا وَمن كَانَ مَمْلُوكا لأحد فليعط صَاحبه ثمنه ويحوزه مِنْهُ فَخرج ابْن العياشي وَطَاف فِي تِلْكَ الْقَبَائِل واستقصى كل أسود بهَا وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب أَيْضا إِلَى عماله بالأمصار بِأَن يشتروا لَهُ العبيد وَالْإِمَاء من فاس ومكناسة وَغَيرهمَا من حواضر الْمغرب عشرَة مَثَاقِيل للْعَبد وَعشرَة مَثَاقِيل للْأمة فاستوعبوا مَا وجدوا حَتَّى لم يبْق عِنْد أحد عبد وَلَا أمة فَاجْتمع مِمَّا اشْتَرَاهُ الْعمَّال ثَلَاثَة آلَاف أُخْرَى فكساهم السُّلْطَان وسلحهم وَبعث بهم إِلَى الْمحلة بعد أَن عين لَهُم قوادهم ثمَّ أَن ابْن العياشي قدم بدفتر فِيهِ أَلفَانِ من العبيد فيهم المتزوج والعزب فَكتب السُّلْطَان إِلَى الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي صَاحب بِلَاد الهبط أَن يَشْتَرِي للأعزاب مِنْهُم الْإِمَاء ويكسوهم ويعطيهم السِّلَاح من تطاوين ويعين لَهُم قوادهم وَيبْعَث بهم إِلَى الْمحلة فَصَارَ الْمَجْمُوع ثَمَانِيَة آلَاف وَهَذَا الْعدَد هُوَ الَّذِي نزل أَولا بهَا
ثمَّ ألزم السُّلْطَان قبائل تامسنا ودكالة أَن يَأْتُوا بعبيد المخزن الَّذين عِنْدهم فَلم يسعهم إِلَّا الِامْتِثَال فَجمعُوا كل عبد فِي بِلَادهمْ وَزَادُوا بِالشِّرَاءِ من عِنْدهم وأعطوهم الْخَيل وَالسِّلَاح وكسوهم وبعثوا بهم إِلَيْهِ فَمن تامسنا(7/57)
أَلفَانِ وَمن دكالة أَلفَانِ فأنزلهم السُّلْطَان بِوَجْه عروس من أحواز مكناسة إِلَى أَن بنى قَصَبَة آدخسان فَأنْزل عبيد دكالة بهَا وَأنزل عبيد تامسنا بزاوية أهل الدلاء
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل صحراء السوس فَبلغ آقاوطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودَان فَقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب هُنَالك من أهل السَّاحِل والقبلة وَمن دليم وبربوش والمغافرة وودي ومطاع وجرار وَغَيرهم من قبائل معقل وأدوا طاعتهم وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَفْد الشَّيْخ بكار المغفري وَالِد الْحرَّة خناثى أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل فأهدى الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَى السُّلْطَان ابْنَته خناثى الْمَذْكُورَة وَكَانَت ذَات جمال وَفقه وأدب فَتَزَوجهَا السُّلْطَان رَحمَه الله وَبنى بهَا وجلب فِي هَذِه الْغَزْوَة من تِلْكَ الأقاليم أَلفَيْنِ من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم وَولى عَلَيْهِم وَبعث بهم إِلَى الْمحلة وقفل هُوَ إِلَى حَضرته من مكناسة فَكَانَ عدد مَا جمع من الْعَسْكَر البُخَارِيّ أَرْبَعَة عشر ألفا عشرَة آلَاف مِنْهَا بمشرع الرملة وَأَرْبَعَة آلَاف بآدخسان وَمَا والاها من بِلَاد البربر ثمَّ عفوا وتناسلوا وكثروا حَتَّى مَا مَاتَ الْمولى إِسْمَاعِيل إِلَّا وَقد بلغ عَددهمْ مائَة وَخمسين ألفا كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَاعْلَم أَنه قد وَقع فِي هَذِه الْأَخْبَار لفظ الحرطاني وَمَعْنَاهُ فِي عرف أهل الْمغرب الْعَتِيق وَأَصله الْحر الثَّانِي كَأَن الْحر الْأَصْلِيّ حر أول وَهَذَا الْعَتِيق حر ثَان ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله على الْأَلْسِنَة فَقيل الحرطاني على ضرب من التَّخْفِيف
وَأما سَبَب تَسْمِيَة هَذَا الْجَيْش بعبيد البُخَارِيّ فَإِن الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما جمعهم وظفر بمراده بعصبيتهم وَاسْتغْنى بهم عَن الِانْتِصَار بالقبائل بَعضهم على بعض حمد الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ وَجمع أعيانهم وأحضر نُسْخَة من صَحِيح البُخَارِيّ وَقَالَ لَهُم أَنا وانتم عبيد لسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرعه الْمَجْمُوع فِي هَذَا الْكتاب فَكل مَا أَمر بِهِ نفعله وكل(7/58)
مَا نهى عَنهُ نتركه وَعَلِيهِ نُقَاتِل فعاهدوه على ذَلِك وَأمر بالاحتفاظ بِتِلْكَ النُّسْخَة وَأمرهمْ أَن يحملوها حَال ركوبهم ويقدموها أَمَام حروبهم كتابوت بني إِسْرَائِيل وَمَا زَالَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَهْد فَلهَذَا قيل لَهُم عبيد البُخَارِيّ
قَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ مآل هَذَا الْعَسْكَر البُخَارِيّ مَعَ أَوْلَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مثل مآل التّرْك مَعَ أَوْلَاد المعتصم بن الرشيد العباسي فِي كَونهم استبدوا عَلَيْهِم وصاروا يولون ويعزلون وَيقْتلُونَ ويستحيون إِلَى ان تمّ أَمر الله فيهم وتلاشى جمعهم وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد شذر مذر وَمَا أحياهم إِلَّا السُّلْطَان المرحوم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله وَلما عفوا وكثروا خَرجُوا عَلَيْهِ بِابْنِهِ الْمولى يزِيد وفعلوا فعلتهم الَّتِي فَعَلُوهَا من قبل حَسْبَمَا تسمعه بعد إِن شَاءَ الله
غَزْو أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل بِلَاد الشرق وانعقاد الصُّلْح بَينه وَبَين دولة التّرْك أهل الجزائر
ثمَّ غزا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بِلَاد الشرق فَترك تلمسان عَن يسَاره وأصحر فِي نَاحيَة الْقبْلَة فَقدمت عَلَيْهِ هُنَالك وُفُود الْعَرَب من ذَوي منيع ودخيسه وحميان والمهاية والعمور وَأَوْلَاد جرير وسقونه وَبني عَامر والحشم فَسَار بهم إِلَى أَن نزل القويعة على رَأس وَادي شلف الْمُسَمّى الْيَوْم بوادي صا وَكَانَ رائده إِلَيْهَا وَالدَّال لَهُ عَلَيْهَا هم بَنو عَامر بن زغبة فَخرج جَيش التّرْك مَعَ ثغر الجزائر بقضهم وقضيضهم ومدافعهم ومهاريسهم ونزلوا على وَادي شلف قبالة السُّلْطَان رَحمَه الله وَلما كَانَ وَقت الْعشَاء أرعدوا مدافعهم ليدهشوا الْعَرَب الَّذين مَعَ السُّلْطَان فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ لما انتصف الَّيْلِ انْسَلَّ بَنو عَامر من محلّة السُّلْطَان وأصبحت الأَرْض مِنْهُم بَلَاقِع وَلما أصبح بَقِيَّة الْعَرَب وَعَلمُوا بفرار بني عَامر انْهَزمُوا دون قتال وَلم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا عسكره الَّذِي جَاءَ بِهِ من الْمغرب فَكَانَ ذَلِك سَبَب تَأَخره عَن حَرْب التّرْك وقفو لَهُ إِلَى حَضرته وكاتبه التّرْك فِي أَن يتخلى لَهُم(7/59)
عَن بِلَادهمْ وَيقف عِنْد حد أسلافه وَمن كَانَ قبلهم من مُلُوك الدولة السعدية فَإِنَّهُم مَا زاحموهم قطّ فِي بِلَادهمْ وبعثوا إِلَيْهِ بِكِتَاب أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن الشريف الَّذِي كَانَ بعث بِهِ إِلَيْهِم مَعَ رسلهم حَسْبَمَا تقدم وبكتاب أَخِيه الْمولى الرشيد الَّذِي فِيهِ الْحَد بَينه وَبينهمْ فَوَقع الصُّلْح على ذَلِك الْحَد الَّذِي هُوَ وَادي تافنا
وَلما قفل السُّلْطَان رَحمَه الله وَمن فِي طَرِيقه بِمَدِينَة وَجدّة أَمر ببنائها وتجديد مَا تثلم مِنْهَا ثمَّ قفل إِلَى فاس ثمَّ مِنْهَا إِلَى الحضرة بمكناسة الزَّيْتُون وَكَانَ ذَلِك كُله سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف
خُرُوج الْإِخْوَة الثَّلَاثَة من أَوْلَاد الْمولى الشريف ابْن عَليّ بالصحراء وَمَا كَانَ من أَمرهم
وَفِي أَوَاخِر رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف بلغ السُّلْطَان رَحمَه الله وَهُوَ بمكناسة خُرُوج إخْوَته الثَّلَاثَة الْمولى الحران وَالْمولى هَاشم وَالْمولى أَحْمد بني الشريف بن عَليّ مَعَ ثَلَاثَة آخَرين من بني عمهم وَأَنَّهُمْ تدرجوا إِلَى آيت عَطاء من قبائل البربر فَنَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان رَحمَه الله بالعساكر وسلك طَرِيق سجلماسة فَكَانَ اللِّقَاء بجبل ساغرو فِي عشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة فَالتقى جَيش السُّلْطَان وجيش الخارجين وجلهم آيت عَطاء فَاقْتَتلُوا وَكَانَ الظفر للسُّلْطَان بعد أَن هلك من جَيْشه ثمَّ من رَمَاه فاس بالخصوص نَحْو أَرْبَعمِائَة دون من عداهم وَهلك قَائِد الْعَسْكَر مُوسَى بن يُوسُف وَانْهَزَمَ الْإِخْوَة وأبعدوا المفر إِلَى الصَّحرَاء
وَكَانَ فِي تِلْكَ السّنة وباء عَظِيم قد انْتَشَر فِي بِلَاد الْمغرب فَرجع السُّلْطَان على طَرِيق الفايجة فَأَصَابَهُ ثلج عَظِيم بثنية الكلاوي من جبل درن أهلك النَّاس وأتلف مَتَاعهمْ وأخبيتهم وَمَا تخلصوا مِنْهُ إِلَّا بِمَشَقَّة فادحة
وَلما نزلت العساكر بزاوية الشَّيْخ أبي الْعَزْم سَيِّدي رحال الكوش مدوا(7/60)
أَيْديهم إِلَى أَمْوَال النَّاس وزروعهم بالنهب لما مسهم من ضَرَر الْجُوع فَشَكا النَّاس ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَأمر بقتل كل من وجد خَارج الْمحلة فَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم من الْجَيْش نَحْو الثلاثمائة ثمَّ أَمر بجر الْوَزير أبي زيد عبد الرَّحْمَن المنزري لأمر نقمه عَلَيْهِ وَقتل أَصْحَابه بالرصاص فجر الْوَزير الْمَذْكُور إِلَى فاس ومكناسة وَلم يصل إِلَيْهِمَا إِلَّا بعض شلوه فَطرح على المزبلة وَوصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة فاحتل بدار ملكه واقتعد أريكة عزه
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا وَقع الوباء بفاس وأعمالها فَأمر السُّلْطَان العبيد أَن يردوا النَّاس عَن مكناسة فَكَانُوا يتعرضون لَهُم فِي الطرقات بِنَاحِيَة سبو وسايس يردونهم عَن مكناسة وكل من يَأْتِي من نَاحيَة الْقصر وفاس يقتلونه فَانْقَطَعت السبل وتعذرت الْمرَافِق
وَفِي أَوَاخِر الْمحرم من هَذِه السّنة أوقع جَيش الْمُسلمين بنصارى طنجة فَقتلُوا مِنْهُم نَحْو ثَلَاثمِائَة وَخمسين وانتزعوا مِنْهُم قَصَبَة بأَرْبعَة أبراج وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو الْخمسين رَحِمهم الله
نقل زُرَارَة والشبانات إِلَى وَجدّة وَبِنَاء القلاع بالتخوم وَمَا تخَلّل ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة تسعين وَألف أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بِنَقْل عرب زُرَارَة والشبانات قوم كروم الْحَاج من الْحَوْز إِلَى وَجدّة لما كَانُوا عَلَيْهِ من الظُّلم وَالْفساد فِي تِلْكَ الْبِلَاد فأنزلهم بوجدة ثغر الْمغرب وكتبهم فِي الدِّيوَان وَولى عَلَيْهِم أَبَا الْبَقَاء العياشي بن الزويعر الزراري وَتقدم إِلَيْهِ فِي التَّضْيِيق على بني يزناسن إِذْ كَانُوا يَوْمئِذٍ منحرفين عَن الدولة ومتمسكين بدعوة التّرْك فَكَانَ زُرَارَة والشبانات يغيرون عَلَيْهِم ويمنعونهم من الْحَرْث ببسيط آنكاد وَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله أَن تبنى عَلَيْهِم قلعة من نَاحيَة السَّاحِل قرينَة وَجدّة بالموضع الْمَعْرُوف برفادة وَأمر الْقَائِد(7/61)
العياشي أَن ينزل بهَا خَمْسمِائَة فَارس من إخوانه يمنعونهم النُّزُول ببسيط تريفة والارتفاق بِهِ من حرث وَغَيره ثمَّ أَمر رَحمَه الله أَن تبنى قلعة أُخْرَى بِطرف بِلَادهمْ بالعيون وَينزل بهَا الْقَائِد الْمَذْكُور خَمْسمِائَة أُخْرَى من إخوانه أَيْضا وَأمر أَن تبنى قلعة ثَالِثَة بِطرف بِلَادهمْ على ملوية وَينزل بهَا خَمْسمِائَة فَارس كَذَلِك وَجعل للقائد العياشي الْمَذْكُور النّظر فِي القلاع الثَّلَاث وَهُوَ بوجدة فِي ألف فَارس فَكَانُوا فِي الدفتر أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف فَفِي جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا خرج السُّلْطَان من الحضرة فِي الْجنُود قَاصِدا بني يزناسن الَّذين تَمَادَوْا على الْعِصْيَان فاقتحم عَلَيْهِم جبلهم واعتسف بروعهم وانتسف زُرُوعهمْ وضروعهم وَحرق قراهم وَقتل رِجَالهمْ وسبى ذَرَارِيهمْ فطلبوا الْأمان فأمن بَقِيَّتهمْ على أَن يدفعوا الْخَيل وَالسِّلَاح الَّتِي عِنْدهم فدفعوها من غير توقف وَقَامُوا بدعوته جبرا عَلَيْهِم ثمَّ نزل بسيط آنكاد وَحضر عِنْده قبائل الأحلاف وسقونه فأرجلهم من خيولهم وجردهم من سِلَاحهمْ وانتزعها مِنْهُم وألزم أَشْيَاخهم أَن يجمعوا لَهُ مَا بَقِي بحلتهم مِنْهَا فَفَعَلُوا ثمَّ فعل بالمهاية وحميان كَذَلِك وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب
وَلما نزل وَادي صا أَمر بِبِنَاء قلعة تاوريرت الَّتِي بناها السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فجددها وَأنزل فِيهَا مائَة فَارس من عبيده بعيالهم وَأَوْلَادهمْ وَلما نزل بوادي مسون أَمر أَن تبنى بِهِ قلعة أُخْرَى بجوار الْقَدِيمَة وَأنزل فِيهَا مائَة فَارس من العبيد كَذَلِك ثمَّ أنزل بتازا أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة من خيل العبيد بعيالهم وَولى عَلَيْهِم مَنْصُور بن الرَّامِي وَجعل نظر القلاع الَّتِي بتازا ووادي صا للقائد مَنْصُور الْمَذْكُور وَعين لكل قَبيلَة من قبائل تِلْكَ الْبِلَاد قلعتها الَّتِي تدفع بهَا زكواتها وأعشارها لمؤنة العبيد وعلف خيولهم وهم حراس الطَّرِيق فَمن وَقع فِي أرضه شَيْء عُوقِبَ عَلَيْهِ قَائِد تِلْكَ القلعة وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى الكور أَمر أَن تبنى بِهِ قلعة أَيْضا وَأنزل بهَا(7/62)
مائَة فَارس من عبيده بعيالهم
وَلما انْتهى إِلَى فاس أنزل بقصبة الْخَمِيس الَّتِي بنى سورها الْمولى الرشيد خَمْسمِائَة من الْخَيل بعيالهم من شراقة الْعَرَب والبربر الَّذين قدمُوا مَعَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِبِنَاء قلعة بالمهدومة وَأُخْرَى بالجديدة من أَعمال مكناسة وَأنزل بِكُل وَاحِدَة مائَة من خيل العبيد بعيالهم لحراسة الطرقات وَبِكُل قلعة فندق لمبيت القوافل وَأَبْنَاء السَّبِيل ثمَّ دخل السُّلْطَان رَحمَه الله حَضرته مؤيدا منصورا وَذَلِكَ فِي خَامِس شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
فتح المهدية ومحاربة ابْن مُحرز بالسوس وَمَا تخَلّل ذَلِك
قد تقدم لنا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء جنس الإصبنيول على المعمورة الْمُسَمَّاة بالمهدية فِي حُدُود الْعشْرين بعد الْألف وَمَا كَانَ بَينهم وَبَين أبي عبد الله العياشي وَأهل سلا من الحروب واستمروا بهَا إِلَى أَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف فافتتحها جَيش السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
قَالَ فِي النزهة وَمن محَاسِن الدولة الإسماعيلية تنقية الْمغرب من نَجَاسَة الْكفْر ورد كيد الْعَدو عَنهُ قَالَ وَقد فتح السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل عدَّة مدن من يَد النَّصَارَى كَانَت من مفاسد الْمغرب وَلم يهنأ للْمُسلمين مَعَهم قَرَار من ذَلِك المعمورة فَإِنَّهُ رَحمَه الله قد افتتحها عنْوَة بعد أَن حاصرها مُدَّة وَكَانَ فتحهَا يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَأسر بهَا نَحْو الثلاثمائة من الْكفَّار اهـ وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ فتح المهدية عنْوَة عِنْد صَلَاة الْجُمُعَة خَامِس عشر ربيع الثَّانِي من السّنة قيل بِقِتَال وَقيل بِدُونِ قتال وَإِنَّمَا أخذت بِقطع المَاء عَنْهَا وَجِيء بالنصارى الَّذين كَانُوا بهَا أُسَارَى وَلم يصب أحد من الْمُسلمين
وَقَالَ فِي الْبُسْتَان وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف ورد الْخَبَر على(7/63)
السُّلْطَان إِسْمَاعِيل بِأَن ابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز الَّذِي بالسوس قد استولى على بِلَاد آيت زَيْنَب وقويت شوكته فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بتفريق الرَّاتِب وتجهيز العساكر إِلَيْهِ من فاس وتوجهت فِي ثامن ربيع الأول من السّنة ثمَّ بلغه أَن الْعَسْكَر المحاصر للمهدية قد أشرف على فتحهَا وتوقفوا على حُضُوره فَنَهَضَ رَحمَه الله إِلَيْهِم حَتَّى حضر الْفَتْح وَأخرج رَئِيس النَّصَارَى فَأَمنهُ وَأمن أَصْحَابه وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة أنفس وَأما الْغَنِيمَة فقد أحرزها المجاهدون من أهل الفحص والريف الَّذين كَانُوا مرابطين عَلَيْهَا مَعَ الْقَائِد عمر بن حدو البطوئي وَرجع السُّلْطَان إِلَى مكناسة بعد أَن أنزل بالمهدية طَائِفَة من عبيد السوس لعمارتها وسد فرجتها وَحضر هَذَا الْفَتْح جمَاعَة من متطوعة أهل سلا مِنْهُم الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد حجي من صلحائها الْمَشْهُورين بهَا وَاعْلَم أَن السُّور العادي الَّذِي الْيَوْم بالمهدية هُوَ من بِنَاء البرتغال أَيَّام استيلائهم عَلَيْهَا فِي دولة الوطاسيين كَمَا مر
وَلما فرغ المجاهدون من أَمر المهدية ارتحلوا مَعَ أَمِيرهمْ عمر بن حدو فَأَصَابَهُ الوباء فَمَاتَ فِي الطَّرِيق وَتَوَلَّى رئاسة الْمُجَاهدين أَخُوهُ الْقَائِد أَحْمد بن حدو تقسمها هُوَ والقائد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي وَكَانَ أَوْلَاد الريفي هَؤُلَاءِ من الشُّهْرَة فِي الْجِهَاد والمكانة فِي الشجَاعَة ومكائد الْحَرْب بِمَنْزِلَة أَوْلَاد النقسيس وَأَوْلَاد أبي الليف وأضرابهم رحم الله الْجَمِيع
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الشرق فنهب بني عَامر وَرجع إِلَى مكناسة وَأمر بِإِخْرَاج أهل الذِّمَّة من الْمَدِينَة وَبنى لَهُم حارة خَارِجهَا بالموضع الْمَعْرُوف ببريمة وكلف أهل تافيلالت الَّذين بفاس بالرحيل إِلَى مكناسة وَالسُّكْنَى بحارة الْيَهُود الْقَدِيمَة الَّتِي أخليت فَلم يزل أهل تافيلالت يذهبون أَرْسَالًا ويسكنونها بالكراء حَتَّى ضَاقَتْ بهم
ثمَّ بلغه أَن التّرْك قد خَرجُوا بعسكرهم واستولوا على بني يزناسن وعَلى(7/64)
دَار ابْن مشعل وَأَنَّهُمْ قد مدوا يَد الْوِفَاق إِلَى ابْن مُحرز وراسلوه وراسلهم وانبرم كَلَامهم مَعَه على حَرْب السُّلْطَان وبلغه مثل ذَلِك من نَائِبه بمراكش فَكتب إِلَيْهِ أَن يحْتَاط فِي حراسة مراكش وَيَأْخُذ بالحزم فِي ذَلِك وَيُقِيم فِي نحر ابْن مُحرز إِلَى أَن يرجع السُّلْطَان من غَزْو تلمسان ثمَّ خرج رَحمَه الله بالعساكر لمصادمة التّرْك فَوَجَدَهُمْ قد رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ لما بَلغهُمْ من خُرُوج النَّصَارَى بشرشال فَسَارُوا إِلَيْهِم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وردوهم على أَعْقَابهم صاغرين وَرجع السُّلْطَان رَحمَه الله من وجهته وَقد دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَألف فَسَار على تفئته إِلَى مراكش فأراح بهَا ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى السوس فَالتقى بِابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز فِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي من السّنة وَقَامَت الْحَرْب بَينهمَا على سَاق وَاسْتمرّ الْقِتَال نَحوا من خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا هلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصى وَدخل ابْن مُحرز تارودانت فتحصن بهَا وَكَانَ الْوَقْت وَقت غلاء فَضَاقَ الْأَمر على أهل الْحَرَكَة فَجعلُوا يهربون وَكثر فيهم السجْن وَالضَّرْب وَالرَّدّ إِلَيْهَا فِي الْحِين ثمَّ كَانَ بَينهمَا حَرْب أُخْرَى هلك فِيهَا خلق كثير نَحْو أَلفَيْنِ وجرح السُّلْطَان وجرح ابْن مُحرز أَيْضا وَذَلِكَ فِي أواسط جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى رَمَضَان من السّنة
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس حَدثنِي بعض الثِّقَات أَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما أعياه أَمر ابْن أَخِيه الْمَذْكُور أصبح ذَات يَوْم دهشا كئيبا فَقَالَ لوزيره الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس اليحمدي إِنِّي رَأَيْت فِي هَذِه اللَّيْلَة رُؤْيا أحزنتني إِلَى الْغَايَة فَقَالَ وَمَا هِيَ يَا مَوْلَانَا وَعَسَى أَن تكون خيرا قَالَ رَأَيْت كَأَن هَذِه الْجنُود الَّتِي مَعنا مَا بَقِي مِنْهَا أحد وَلم يبْق إِلَّا أَنا وَأَنت مختفيين فِي غَار مظلم فَسجدَ الْوَزير اليحمدي شكرا لله تَعَالَى وَأطَال السُّجُود ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أبشر يَا مَوْلَانَا فقد نصرنَا الله على هَذَا الرجل فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان وَمن أَيْن لَك ذَلِك فَقَالَ لَهُ من قَوْله تَعَالَى {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} التَّوْبَة 40(7/65)
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما فسر السُّلْطَان بذلك غَايَة السرُور وانسرى عَنهُ مَا كَانَ يجده من الْغم وَعلم أَن رُؤْيَاهُ بِشَارَة من الله تَعَالَى لَهُ وعَلى أثر ذَلِك وَقع الصُّلْح بَينهمَا فِي رَمَضَان وَرجع السُّلْطَان إِلَى حَضرته فَدَخلَهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة
امتحان الْقُضَاة وَالسَّبَب فِيهِ
قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف أَمر السُّلْطَان بِالْقَبْضِ على جَمِيع الْقُضَاة وامتحنوا ووصفوا بِالْجَهْلِ وسجنوا فِي مشور فاس الْجَدِيد حَتَّى يتعلموا مَا لابد مِنْهُ من أَحْكَام مَا هم مدفوعون إِلَيْهِ ثمَّ أخرجُوا أَيَّام المولد الْكَرِيم إِلَى مكناسة فهددوا بهَا أَيْضا حَتَّى أَمر بِحَبْس بَعضهم أَو قبله ثمَّ أطْلقُوا معزولين اه قَالَ أكنسوس وَلَعَلَّ المُرَاد بهم قُضَاة الْبَوَادِي وَمن فِي معناهم قلت وَلم أر فِي الأزهار شَيْئا من هَذَا وَلَعَلَّه فِي نُسْخَة الأَصْل لأَنهم ذكرُوا أَنَّهُمَا نسختان إِحْدَاهمَا مختصرة من الْأُخْرَى وَالله أعلم
غَزْو البربر وَبِنَاء القلاع بِإِزَاءِ معاقلهم
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان فِي العساكر إِلَى جبال فزاز لِحَرْب صنهاجة من البربر الَّذين هُنَالك فَلَمَّا سمعُوا بِخُرُوج السُّلْطَان انْهَزمُوا إِلَى ملوية فَدخل السُّلْطَان بِلَادهمْ واختط قلعة بِعَين اللَّوْح بسفح جبلهم ثمَّ نزل بِعَين آصرو فَأمر بِبِنَاء قلعة هُنَالك بسفح الْجَبَل أَيْضا ثمَّ تبع آثَارهم إِلَى أَن دخلُوا جبل العياشي وتربص رَحمَه الله بملوية إِلَى أَن دخل فصل الشتَاء وَكَانَ قَصده بذلك التَّرَبُّص إتْمَام سور القلعتين وَلما عزم على الرُّجُوع أنزل بقلعة آصرو ألف فَارس وبقلعة عين اللَّوْح خَمْسمِائَة فَارس فَأخذُوا بمخنقهم واستراح النَّاس من عيثهم ببسيط سائس وَلما منعُوا(7/66)
من السهل وانقطعت عَنْهُم الْميرَة وَقلت الأقوات خشعوا وَنزل وفدهم فقدموا مكناسة على السُّلْطَان تَائِبين فَأَمنَهُمْ على شَرط دفع الْخَيل وَالسِّلَاح والاشتغال بالحرث والنتاج فدفعوها عَن يَد وهم صاغرون وَهَؤُلَاء هم آيت ادراسن فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله عشْرين ألفا من الْغنم ألزمهم برعايتها وحفظها وَأسْقط عَنْهُم الْوَظَائِف فصلحت أَحْوَالهم وصاروا فِي كل عَام يدْفَعُونَ صوفها وسمنها ويزيدهم الْغنم إِلَى أَن بلغ عَددهَا سِتِّينَ ألفا وَقلت شوكتهم وَذهب بأسهم
فتح طنجة
قد تقدم لنا أَن طنجة صَارَت إِلَى جنس النجليز من يَد البرتغال واستمرت بِيَدِهِ إِلَى سنة خمس وَتِسْعين وَألف فعقد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله للقائد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي على جَيش الْمُجَاهدين وَوَجهه لحصار طنجة فضيقوا على من بهَا من النَّصَارَى وطاولوهم إِلَى أَن ركبُوا سفنهم وهربوا فِي الْبَحْر وتركوها خاوية على عروشها وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَألف قَالَه فِي النزهة وَقَالَ فِي الْبُسْتَان لما ضَاقَ الْأَمر على النَّصَارَى الَّذين بطنجة وَطَالَ عَلَيْهِم الْحصار خربوها وهدموا أسوارها وأبراجها وركبوا سفنهم وتركوها فَدَخلَهَا الْمُسلمُونَ من غير طعن وَلَا ضرب وَشرع قَائِد الْمُجَاهدين عَليّ بن عبد الله الريفي فِي بِنَاء مَا تهدم من أسوارها ومساجدها فِي فاتح جُمَادَى الأولى من السّنة قلت وأعقاب هَذَا الْقَائِد لَا زَالُوا الْيَوْم بطنجة وَكَثِيرًا مَا تكون فيهم الرياسة هُنَالك
ثمَّ اتّفق أَن نشب بِقرب ساحلها مركب قرصاني جَاءَ مدَدا لأهل سبتة فِيهِ أَمْوَال وبضائع فحارب الْمُسلمُونَ أَهله عَلَيْهِ واحتووا على مَا فِيهِ وألزم السُّلْطَان قَبيلَة غمارة بجر مدافعه النحاسية إِلَى مكناسة وَأرْسل الرُّمَاة من أهل فاس لجرها أَيْضا فَأتوا بهَا لأربعين يَوْمًا وَالله غَالب على أمره(7/67)
غَزْو البربر ثَانِيًا وَبِنَاء القلاع فِي نحورهم
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان غازيا بِلَاد ملوية وَجعل طَرِيقه على مَدِينَة صفرو ففرت قبائل البربر إِلَى رُؤُوس الْجبَال وهم آيت يوسي وشغروسن وَأَيوب وعلاهم وقادم وحيون ومديونة فَأمر السُّلْطَان بِبِنَاء قلعة بآعليل وَأُخْرَى على وَادي كيكو من أَسْفَله وَأُخْرَى على وَادي سكورة وَأُخْرَى على وَادي تاشواكت ثمَّ خرج السُّلْطَان بملوية ففرت الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة إِلَى جبل العياشي وَتَفَرَّقُوا فِي شعابه فَأمر بِبِنَاء قلعة بدار الطمع وقلعة بتاببوست وقلعة بقصر بني مطير وقلعة بوطواط وقلعة بالقصابي وَأقَام على نهر ملوية يبث السَّرَايَا ويشن الغارات على البربر قَرِيبا من سنة وَالْعَمَل مُسْتَمر فِي بِنَاء القلاع إِلَى أَن أكملت أسوارها وَأنزل رَحمَه الله بِكُل قلعة أَرْبَعمِائَة من خيل العبيد بعيالهم وجاءته وُفُود البربر تَائِبين طائعين فَأَمنَهُمْ على شَرط دفع الْخَيل وَالسِّلَاح فدفعوها وَصفا لَهُ رَحمَه الله هَذَا الرّبع الشَّرْقِي من جبل درن وَالله ولي التَّوْفِيق بمنه
مقتل الْمولى أَحْمد بن مُحرز وَفتح تارودانت وَمَا يتَّصل بذلك
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَهُوَ بمكناسة أَن أَخَاهُ الْمولى الحران وَابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز قد دخلا قَصَبَة تارودانت واستحوذا على تِلْكَ الْجِهَات فَنَهَضَ إِلَيْهِمَا ووالى السيرحتى أَنَاخَ بكلكله على تارودانت وحاصرهما بهَا أَيَّامًا فاتفق أَن ابْن مُحرز خرج ذَات يَوْم فِي جمَاعَة من عبيده لزيارة بعض الْأَوْلِيَاء فَلَقِيَهُ جمَاعَة من زُرَارَة أَصْحَاب السُّلْطَان فَلم يعرفوه وظنوا أَنه بعض قواد ابْن مُحرز فشدوا عَلَيْهِ فماصعهم هنيئة ثمَّ قَتَلُوهُ فَإِذا هُوَ ابْن مُحرز(7/68)
وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان خرج حَتَّى وقف عَلَيْهِ فَعرفهُ وَأمر بتجهيزه وَدَفنه فَدفن مَعَ الغرناطي أحد قواد الْجَيْش وَكَانَ قد قتل ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ مقتل الْمولى أَحْمد رَحمَه الله فِي أواسط ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بعد تشغيبه على السُّلْطَان أَربع عشرَة سنة ثمَّ بعد أَيَّام خرج أهل تارودانت لَيْلًا إِلَى قبر الْمولى أَحْمد فنبشوه ونبشوا قبر الغرناطي لِأَنَّهُ كَانَ قد الْتبس عَلَيْهِم بِهِ فاستخرجوهما مَعًا حَتَّى عرفُوا الْمولى أَحْمد فَحَمَلُوهُ فِي تابوته وَتركُوا الغرناطي على شَفير قَبره وَاسْتمرّ الْمولى الحران محصورا بتارودانت وَالْحَرب قَائِمَة على سَاق إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَألف فَكَانَت حَرْب هلك فِيهَا نَحْو الستمائة نفس من الْجند مِنْهُم الْقَائِد زيتون والباشا حمدَان وَغَيرهمَا ثمَّ كَانَت حَرْب أُخْرَى أعظم من الأولى ثمَّ ثَالِثَة كَذَلِك هلك فِيهَا الْقَائِد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الروسي وَتَوَلَّى مَكَانَهُ ابْن الغرناطي وَاسْتمرّ الْحَال بهَا إِلَى جُمَادَى الأولى من سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف فاقتحم السُّلْطَان تارودانت عنْوَة بِالسَّيْفِ واستباحها وَاسْتولى عَلَيْهَا وفر الْمولى الحران إِلَى حَيْثُ أَمن على نَفسه
وَلما اتَّصل خبر الْفَتْح بِأَهْل فاس عينوا وَفْدًا من كبرائهم وأشرافهم وغلمائهم فقدموا على السُّلْطَان بِقصد التهنئة يقدمهم وَلَده الْمولى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَأكْرم وفادتهم وَخرج أَوْلَاد النقسيس من سبتة وَكَانُوا قد لجؤوا إِلَيْهَا بعد مقتل الْخضر غيلَان فقدموا على السُّلْطَان بعسكره من تارودانت فَأمر بردهمْ إِلَى تطاوين وقتلهم بهَا وَأمر بقتل من كَانَ مِنْهُم مسجونا بفاس فَقتلُوا أَجْمَعُونَ رَحِمهم الله ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَألف فِيهَا قفل السُّلْطَان من السوس فَدخل دَار ملكه مكناسة وَاسْتقر بهَا وَبعث إِلَى عَامل فاس أَن يخرج من بهَا من أهل الرِّيف إِلَى تارودانت بِقصد عمارتها وَالسُّكْنَى بهَا وَفِي خَامِس جُمَادَى الأولى من السّنة استدعى السُّلْطَان فُقَهَاء فاس لحضور ختم التَّفْسِير عِنْد قاضيه أبي عبد الله المجاصي فَحَضَرُوا وَأكْرمهمْ ووصلهم(7/69)
غَزْو برابرة فازاز وَبِنَاء قلعة آدخسان
لما تهَيَّأ السُّلْطَان رَحمَه الله لغزو أهل جبل فازاز نَهَضَ إِلَيْهِم وَصعد الْجَبَل من النَّاحِيَة الغربية فَأول من قدم عَلَيْهِ من برابرته بِالطَّاعَةِ زمور وَبَنُو حكم فولى عَلَيْهِم رئيسهم بايشي القبلي فاستصفى مِنْهُم الْخَيل وَالسِّلَاح ثمَّ تجاوزهما إِلَى المَال فاستصفاه أَيْضا وَجمع ذَلِك كُله وَقدم بِهِ على السُّلْطَان وَهُوَ ببسيط آدخسان فقدمه إِلَيْهِ فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ لَهُ مَا حملك على مَا فعلت وَلم آمُرك بِهِ فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن كَانَ غرضك فِي صَلَاحهمْ وفلاحهم فَهُوَ الَّذِي فعلت لَك وَلَهُم وَإِن سرت مَعَهم بِغَيْر هَذَا أتعبوك وأتعبوا أنفسهم وَإِنَّمَا طهرتهم من الْحَرَام ليشتغلوا باكتساب الْحَلَال فَإِنَّهُ يَنْمُو ويزكو فَاسْتحْسن السُّلْطَان قَوْله وأمضى فعله وَأقَام رَحمَه الله بآدخسان يحارب آيت ومالو سنة كَامِلَة حَتَّى بنى قلعة آدخسان الجديدة بِمحل الْقَدِيمَة الَّتِي كَانَ بناها أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله وَخَربَتْ وَلما دخل فصل الشتَاء أنزل بالقصبة ألفا وَخَمْسمِائة فَارس من عبيد أهل دكالة الَّذين كَانُوا بِوَجْه عروس نقلهم إِلَيْهَا بأولادهم وَأنزل بزاوية أهل الدلاء ألفا وَخَمْسمِائة فَارس من عبيد الشاوية الَّذين كَانُوا بِوَجْه عروس أَيْضا نقلهم بعيالهم وَأمرهمْ بحصار البربر ومنعهم من النُّزُول للمرعى والحرث وَنَحْوهمَا ثمَّ قفل إِلَى مكناسة قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الصياني وَفِي هَذِه الْمرة نقل مَعَه جدنا الْفَقِيه الْأُسْتَاذ ابا الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بأولاده إِلَى مكناسة وَسبب ذَلِك أَنه لما نزل بآدخسان وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْأَشْرَاف الَّذين باركوا قَالَ لَهُم دلوني على رجل صَاحب فقه وَدين يؤمني فِي الصَّلَوَات فَقَالُوا لَهُ لَيْسَ بِهَذَا الْجَبَل أتقى من سَيِّدي عَليّ بن إِبْرَاهِيم فَأتوا بِهِ فَكَانَ إِمَامه فِي الْمحلة وَلما قفل أَخذه مَعَه قَالَ فَهَذَا سَبَب انْتِقَال جدنا من آركو إِلَى الْحَضَر اه(7/70)
بَيَان تربية أَوْلَاد عبيد الدِّيوَان وَكَيْفِيَّة تأديبهم
قد قدمنَا أَن جُمْهُور عبيد البُخَارِيّ كَانُوا بالمحلة من مشرع الرملة وَأَنَّهُمْ تَنَاسَلُوا بهَا وكثروا إِلَى الْغَايَة فَلَمَّا كَانَت سنة مائَة وَألف أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله أُولَئِكَ العبيد أَن يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سِنِين فَمَا فَوق فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ فرق الْبَنَات على عريفات دَاره كل طَائِفَة فِي قصر للتربية والتأديب وَفرق الْأَوْلَاد على البنائين والنجارين وَسَائِر أهل الْحَرْف للْعَمَل والخدمة وسوق الْحمير والتدرب على ركُوبهَا حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى سوق البغال الحاملة للآجر والزليج والقرمود والخشب وَنَحْو ذَلِك حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى خدمَة المركز وَضرب أَلْوَاح الطابية حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى الْمرتبَة الأولى فِي الجندية فكساهم وَدفع إِلَيْهِم السِّلَاح يتدربون بِهِ على الجندية وطرقها حَتَّى إِذا أكملوا سنة دفع إِلَيْهِم الْخَيل يركبونها أعراء بِلَا سروج ويجرونها فِي الميدان للتمرس بهَا والتدرب على ركُوبهَا حَتَّى إِذا أكملوا سنة وملكوا رؤوسها دفع إِلَيْهِم السُّرُوج فيركبونها بهَا ويتعلمون الْكر والفر والثقافة فِي المطاعنة والمراماة على صهواتها حَتَّى إِذا أكملوا سنة بعد ذَلِك صَارُوا فِي عداد الْجند الْمُقَاتلَة فَيخرج لَهُم السُّلْطَان الْبَنَات اللَّاتِي قدمن مَعَهم ويزوج كل وَاحِد من الْأَوْلَاد وَاحِدَة من الْبَنَات وَيُعْطِي الرجل عشرَة مَثَاقِيل مهر زَوجته وَيُعْطِي الْمَرْأَة خَمْسَة مَثَاقِيل شورتها ويولي عَلَيْهِم وَاحِدًا من آبَائِهِم الْكِبَار وَيُعْطِي ذَلِك الْقَائِد مَا يَبْنِي بِهِ دَاره وَمَا يَبْنِي بِهِ أخصاص أَصْحَابه وَهِي الْمَعْرُوفَة عندنَا بالنواويل وَيبْعَث بهم إِلَى الْمحلة بعد أَن يكتبوا فِي ديوَان الْعَسْكَر وَاسْتمرّ الْحَال هَكَذَا فَفِي كل سنة يَأْتِي من الْمحلة عدد صَغِير وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهَا من عِنْد السُّلْطَان عدد كَبِير من سنة مائَة وَألف إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْآتِي فَبلغ عدد هَذَا الْعَسْكَر البُخَارِيّ مائَة ألف وَخمسين ألفا مِنْهَا ثَمَانُون ألفا مفرقة فِي قلاع الْمغرب لعمارتها وحراسة طرقها وَسَبْعُونَ ألفا بالمحلة وَعدد القلاع الَّتِي بناها الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بالمغرب سِتّ وَسَبْعُونَ قلعة لَا زَالَت(7/71)
قَائِمَة الْعين والأثر بآفاق الْمغرب يعرفهَا الْخَاص وَالْعَام إِلَى الْآن هَكَذَا وجد فِي كناش كَاتب الدولتين الرشيدية والإسماعيلية الْفَقِيه أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن عبد الْقَادِر الزرهوني الْمُتَوفَّى بتارودانت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف وَكَانَ عِنْده دفتر الْعَسْكَر كُله سَوَاء السوَاد الْأَعْظَم والمتفرق فِي قلاع الْمغرب
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَقله المؤرخون على وَجه الغرابة من أَن الْخَلِيفَة المعتصم بن رشيد رحمهمَا الله بلغ عدد مماليكه الَّذين اشتراهم وَالَّذين جلبهم من بِلَاد التّرْك ثَمَانِيَة عشر ألفا قَالَ وَهَذَا الْعدَد الَّذِي جمعه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله من العبيد لَو خَاضَ بِهِ الْبَحْر إِلَى الأندلس وَكَانَت تِلْكَ القلاع سفنا ومراكب جهادية لاستولى عَلَيْهَا والتوفيق من الله اه قلت وَهُوَ لعمري كَلَام مَقْبُول لَكِن الْإِنْسَان مجبور فِي قالب مُخْتَار وتصاريف الْأُمُور جَارِيَة بيد الله لَا بيد غَيره وَمَا ترك من الْجَهْل شَيْئا من أَرَادَ أَن يظْهر فِي الْوَقْت غير مَا أظهره الله فِيهِ
وَقَالَ الشَّاعِر
(لَا يعرف الشوق إِلَّا من يكابده ... وَلَا الصبابة إِلَّا من يعانيها)
وَقَالَ الآخر
(لَا تعذل المشتاق فِي أشواقه ... حَتَّى يكون حشاك فِي أحشائه)
وَقَالَ
(واذا مَا خلا الجبان بِأَرْض ... طلب الطعْن وَحده والنزالا)
وَمن أَمْثَال الْعَامَّة الْقَاعِد على الجرف محسن للسباحة هَذَا كُله بِالنّظرِ إِلَى الْحَقِيقَة فَأَما الشَّرِيعَة فقد قَالَ تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْأَنْفَال 60 الْآيَة وعَلى كل حَال فَلَا يسوغ للْإنْسَان أَن يهمل الاستعداد الْمَأْمُور بِهِ شرعا ويكل الْأَمر إِلَى الْقدر وَإِلَّا فَيكون مخطئا مُخَالفا للشَّرْع والطبع قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي الَّذِي ترك نَاقَته مُرْسلَة أعقلها وتوكل وَقَالَ الشَّاعِر(7/72)
(على الْمَرْء أَن يسْعَى لما فِيهِ نَفعه ... وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يساعده الدَّهْر)
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك الْعَفو والعافية والتوفيق واللطف فِيمَا جرت بِهِ الْمَقَادِير يانعم الْمولى وَنعم النصير
فتح العرائش
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة مائَة وَألف فِي آخر شَوَّال مِنْهَا سَار الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن حدو البطوئي فِي جمَاعَة من الْمُجَاهدين لحصار العرائش وَكَانَ الإصبنيول خذله الله قد استولى عَلَيْهَا على يَد الشَّيْخ بن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ كَمَا مر فَنزل الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور عَلَيْهَا وضيق على الْكفَّار الَّذين بهَا وحاصرهم نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَنصف كَذَا فِي النزهة وَقَالَ المؤرخ منويل إِن مُدَّة الْحصار كَانَت خَمْسَة أشهر قَالَ وَكَانَ طاغية الفرنسيس وَهُوَ لويز الرَّابِع عشر قد أعَان الْمولى إِسْمَاعِيل على فتح العرائش وحاصرها بحرا بِخمْس فراقط وَقطع عَنْهَا الْمَادَّة مُدَّة ثمَّ أقلع عَنْهَا ثمَّ بعد ذَلِك كَانَ الْفَتْح قَالَ فِي النزهة فتحهَا الْمُسلمُونَ بعد معاناة شَدِيدَة وَذَلِكَ أَنهم حفروا المينات تَحت خَنْدَق سورها الموَالِي للمرسى وملؤوها بارودا ثمَّ أوقدوها بالنَّار فنفطت وَسقط جَانب من السُّور فاقتحم الْمُسلمُونَ مِنْهُ وتسلقوا إِلَى مَا كَانَ من النَّصَارَى على الأسوار فَوَقَعت ملحمة عَظِيمَة وفر باقيهم إِلَى حصن القبيبات الَّذِي بناه الْمَنْصُور السَّعْدِيّ واعتصموا بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة فخامر قُلُوبهم الْجزع وطلبوا الْأمان فَأَمنَهُمْ الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور على حكم السُّلْطَان فنزلوا عَلَيْهِ فَأخذُوا أُسَارَى بأجمعهم وَلم يعْتق مِنْهُم إِلَّا أَمِيرهمْ وَحده وَتمّ الْفَتْح وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن عشر من الْمحرم سنة إِحْدَى وَمِائَة وَألف وَمَا فِي الْبُسْتَان وقلده صَاحب الْجَيْش أَن نَصَارَى العرائش اعتصموا بحصن القبيبات سنة كَامِلَة خطأ لَا يعول عَلَيْهِ
وَكَانَ عدد نَصَارَى العرائش قبل الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِم ثَلَاثَة آلَاف وَمِائَتَيْنِ(7/73)
وَلما ظفر بهم الْمُسلمُونَ أَسرُّوا مِنْهُم نَحْو أَلفَيْنِ وَقتلُوا مِنْهُم اثْنَتَيْ عشرَة مائَة وَوجد بهَا من البارود وَالْعدة مَا لَا يُحْصى كَثْرَة فَمن المدافع نَحْو مائَة وَثَمَانِينَ مِنْهَا اثْنَان وَعِشْرُونَ من النّحاس وَالْبَاقِي من الْحَدِيد وَمِنْهَا مدفع يُسمى الغصاب طوله خَمْسَة وَثَلَاثُونَ قدما بِالْحِسَابِ وَوزن كرته خَمْسَة وَثَلَاثُونَ رطلا بِحَيْثُ حلق عَلَيْهِ بِقرب خزانته أَرْبَعَة رجال كَذَا سمع من المشاهدين لذَلِك بعد السُّؤَال كَذَا فِي النزهة قَالَ منويل فِي كِتَابه إِن النَّصَارَى مَا أَسْلمُوا أنفسهم حَتَّى شرطُوا شُرُوطًا مُعْتَبرَة لَكِن السُّلْطَان نكث اه قلت حكى أَبُو الْقَاسِم العميري فِي فهرسته مَا حَاصله أَن نَصَارَى العرائش ادعوا أَن الْفَتْح الْمَذْكُور إِنَّمَا كَانَ صلحا وتأمينا لَا عنْوَة ثمَّ لما طَال النزاع فِي ذَلِك أَمر السُّلْطَان قَاضِي حَضرته المكناسية أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي مَدين بِبَيَان الحكم فِي ذَلِك فَأجَاب جَوَابا طَويلا حرر فِيهِ حكم الشَّرِيعَة المحمدية بِمَا لاغاية فَوْقه وَحكم على أُولَئِكَ النَّصَارَى بالأسر وَقد ذكر ذَلِك بِتَمَامِهِ فِي الفهرسة الْمَذْكُورَة فَلْينْظر هُنَالك وَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بإشخاص أُولَئِكَ النَّصَارَى إِلَى مكناسة الزَّيْتُون وَكَانُوا ألفا وَثَمَانمِائَة على مَا فِي الْبُسْتَان فَكَانَ يستخدمهم مَعَ غَيرهم من المساجين والأسرى فِي بِنَاء قصوره بِالنَّهَارِ ويبيتون لَيْلًا فِي الدهليز وَهُوَ فِي عرف المغاربة هري تَحت الأَرْض وأسكن السُّلْطَان رَحمَه الله أهل الرِّيف العرائش وَأمر قائدهم أَن يَبْنِي بهَا مسجدين وحماما وَيَبْنِي دَاره بقلعتها وَفِي فتح العرائش أنْشد الْخَطِيب البليغ أديب فاس ومفتيها أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الشريف البوعناني فَقَالَ
(أَلا أبشر فَهَذَا الْفَتْح نور ... قد انتظمت بعزكم الْأُمُور)
(وطير السعد نَادَى حَيْثُ غنى ... قد انشرحت بفتحكم الصُّدُور)
(وضوء النَّصْر ساعده التهاني ... وَنور الْفَخر نحوكم يَدُور)
(وَقد وافتكم الْخيرَات طرا ... وطاب الْعَيْش واتصل السرُور)
(حميتم بَيْضَة الْإِسْلَام لما ... بِعَين الْحق قد حرس الثغور)(7/74)
(وجاهدتم وقاتلتم فَأنْتم ... لدين الله أقمار تنير)
(وأطلعتم صوارمكم نجوما ... لَدَى هيجاء صَاحبهَا كفور)
(فَأَنت الْبَدْر يَوْم السّلم حسنا ... فِي يَوْم الوغا الْأسد الهصور)
(وَفِي ثغر العرائش قد تبدى ... لقد ركم على الشعرى الظُّهُور)
(لقد كَانَ الْمُلُوك فساوموها ... وراموها وَبَان لَهَا نفور)
(فَلَمَّا جاءها انقادت وَقَالَت ... إِلَيْك بِحَق مَوْلَانَا الْمصير)
(ملكت قياد عزتها بذل ... فَمَا أغْنى الْحصار وَلَا العبور)
(قهرتم بأبطال ضخام ... على الهيجاء كلهم جسور)
(فكم رَأس من الْكفَّار أَمْسَى ... قطيع الرَّأْس مجرورا يخور)
(وَكم نحر قلادته رماح ... وَسن الرمْح مركزه النحور)
(وَكم أسرى وَكم قَتْلَى بِأَرْض ... وَكم جرحى دِمَاؤُهُمْ تَفُور)
(تمر بهَا الطُّيُور فتنتقيها ... وَبَات الذِّئْب وَهُوَ لَهَا شكور)
(وأضحى النَّاس كلهم نشاوى ... على طرب وَمَا شربت خمور)
(فبشراكم بِهَذَا الْفَتْح نور ... وبشراكم بِمَا من الغفور)
(بِهِ زَادَت مآثركم علوا ... وَقد عظمت بِهِ لكم الأجور)
(أَلا يَا معشر الْكفَّار هَذَا ... يبددكم وَلَيْسَ لَهُ فتور)
(أَلا يَا أهل سبتة قد أَتَاكُم ... بِسيف الله سُلْطَان وقور)
(إِذا مَا جَاءَ سبتة فِي عشي ... تناديه إِذا كَانَ البكور)
(ووهران تنادي كل يَوْم ... مَتى يَأْتِي الإِمَام مَتى يزور)
(مَتى يَأْتِي ويفتحها سَرِيعا ... وَيلْحق أَهلهَا مِنْهُ ثبور)
(فيهزمهم ويقتلهم وَيَسْبِي ... وَسيف الْحق فِي يَده ينور)
(أيا مولَايَ قُم وانهض وشمر ... لأندلس فَأَنت لَهَا الْأَمِير)
(وجاهدهم وحاربهم وَفرق ... جموعهم فربكم النصير)
(وَلَا يمْنَع بِفضل الله مِنْهَا ... كَمَا قد قيل بر أَو بحور)
(لِسَان الْحَال ينشد كل يَوْم ... وَمعنى الْحَال تفهمه الصُّدُور)
(بقرطبة تنَال الْمجد طرا ... وَيَأْتِي الْعِزّ وَالْملك الْكَبِير)(7/75)
(وذلكم بعون الله سهل ... وَمن بركاتكم أَمر يسير)
(أيا مولَايَ إِسْمَاعِيل هَذَا ... عبيدكم الضَّعِيف المستجير)
(يناديكم بناديكم وَيَدْعُو ... دُعَاء لَا تعييه الدهور)
(فيارب الْبَريَّة ياإلهي ... وَيَا رَحْمَن يَا نعم المجير)
(أثب هَذَا الْأَمِير بِكُل خير ... وَلَا تجْعَل تِجَارَته تبور)
(وأبق الْملك فِيهِ وَفِي بنيه ... وَلَو كرهت زيود أَو عمور)
(وَنحن رعية نرجو هناء ... وبالسلطان تنتظم الْأُمُور)
(عَلَيْكُم من عبيدكم سَلام ... مدى الدُّنْيَا يضمخه العبير)
(يعم جنابكم مَا قَالَ صب ... أَلا أبشر فَهَذَا الْفَتْح نور)
وَقَالَ فِي ذَلِك الْفَقِيه الْعَالم الْوَرع الشيهر أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن حمدون جسوس رَحمَه الله
(رفعت منَازِل سبتة أقوالها ... تَشْكُو إِلَيْكُم بِالَّذِي قد هالها)
(مَعَ بادس وبريجة فتعطفوا ... وتنبهوا كي تسمعوا تساءلها)
(يَابْنَ النَّبِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد ... قل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا لَهَا)
(فَلَقَد قضيتم للعرائش حَاجَة ... مَعَ طنجة فاقضوا لذِي آمالها)
(عَار عَلَيْكُم أَن تكون أسيرة ... بجواركم وجنودكم تغزى لَهَا)
(إِن لم تَكُونُوا آخذين بثأرها ... من ذَا يفك من الوثاق حبالها)
(لَا تسمعن من جَاهِل ومثبط ... وَمصْعَب من جَهله أحوالها)
(إِن الَّذين تقدمُوا قد جاهدوا ... بنفوسهم وبمالهم أَمْثَالهَا)
(فتملكوا أملاكها وديارها ... وتقسموا أموالها ورجالها)
(فَابْعَثْ لَهَا أهل الشجَاعَة عَاجلا ... حَتَّى تراهم نازلين جبالها)
(وأمدهم بمؤونة ومعونة ... كَيْفَمَا تقطع بالعدا أوصالها)
(وارفع لهَذَا الغرب رَأْسا إِنَّه ... فِي الضعْف مَا دَامَ العدا أنزالها)
(أبقاك رَبِّي للخلافة عدَّة ... تقفو الشَّرِيعَة مؤثرا أفعالها)
(وَاقْبَلْ هَدِيَّة من أَتَى بنصيحة ... يَبْغِي الثَّوَاب وَلَا تقل من قَالَهَا)
وَقَالَ فِي ذَلِك الشريف الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن الطّيب القادري(7/76)
(علا عرش دين الله من كل العرائش ... وهد بنصر الله قصر العرائش)
وَهِي طَوِيلَة انظرها فِي نشر المثاني إِن شِئْت ثمَّ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول من هَذِه السّنة نهى السُّلْطَان عَن لبس النِّعَال السود ونادى فِي سَائِر أَمْصَار الْمغرب وَأمر بِلبْس النِّعَال الصفر مَكَانهَا لما قيل من أَن النَّاس اتَّخذُوا النِّعَال السود مُنْذُ استولى النَّصَارَى على العرائش على يَد الْمَأْمُون السَّعْدِيّ كَمَا تقدم وَفِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة قتل السُّلْطَان ثَلَاثَة وَسِتِّينَ رجلا من الطَّائِفَة المسمون بالعكاكزة
فتح آصيلا
وَلما فرغ المجاهدون من أَمر العرائش عَمدُوا إِلَى مَدِينَة آصيلا فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروا النَّصَارَى الَّذين بهَا سنة كَامِلَة وأظنهم الإصبنيول إِلَى أَن بلغ بهم الْحصار كل مبلغ فطلبوا الْأمان فأمنوهم على حكم السُّلْطَان وَلما لم يطمئنوا لذَلِك ركبُوا من اللَّيْل سفنهم ونجوا إِلَى بِلَادهمْ وَدخل الْمُسلمُونَ الْمَدِينَة فملكوها وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف وعمرها أهل الرِّيف أَيْضا وَبنى بهَا قائدهم مسجدين ومدرسة وحماما وَبنى دَاره بقلعتها وَالله أعلم
حِصَار سبتة
ثمَّ سَار المجاهدون بعد الْفَرَاغ من آصيلا إِلَى سبتة فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروها واستأنفوا الْجد فِي مقاتلتها وامدهم السُّلْطَان بعسكر من عبيده وَأمر قبائل الْجَبَل أَن تعين كل قَبيلَة حصَّتهَا للمرابطة على سبتة وَكَذَلِكَ أَمر أهل فاس أَن يبعثوا بحصتهم إِلَيْهَا فَكَانَ عدد المرابطين عَلَيْهَا خَمْسَة وَعشْرين ألفا وَتقدم السُّلْطَان إِلَيْهِم فِي الْجد وَالِاجْتِهَاد فَكَانَ الْقِتَال لَا يَنْقَطِع عَنْهَا صباحا وَمَسَاء وَطَالَ الأمد حَتَّى أَن السُّلْطَان رَحمَه الله اتهمَ القواد(7/77)
الَّذين كَانُوا على حصارها بِعَدَمِ النصح فِي افتتاحها لِئَلَّا يبْعَث بهم بعْدهَا إِلَى حِصَار البريجة فيبعدوا عَن بِلَادهمْ مَعَ أَنهم قد سئموا كَثْرَة الْأَسْفَار ومشقات الحروب وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن مَاتَ الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي وَولى بعده ابْنه الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ والقتال لَا زَالَ وَالْحَال مَا حَال وَفِي كل سنة يتعاقب الْغُزَاة عَلَيْهَا وَالسُّلْطَان مشتغل بتمهيد الْمغرب ومقاتلة برابرة جبل فازاز وَغَيرهم وَلم يهيىء الله فتحهَا على يَدَيْهِ وَدَار الْقَائِد أَحْمد بن عَليّ ومسجده اللَّذَان بناهما بِإِزَاءِ سبتة أَيَّام الْحصار لَا زَالا قائمي الْعين والأثر إِلَى الْيَوْم وَحكى الغزال فِي رحلته أَنه رأى بِأحد أَبْوَاب سبتة خرقا قَدِيما لم يصلح فَسَأَلَ أَهلهَا عَنهُ فَقَالُوا إِنَّه من أثر الرَّمْي الَّذِي كَانَ يرميه الْجَيْش الْإِسْمَاعِيلِيّ وَهُوَ أثر كرة خرقت الْبَاب ونفذت إِلَى دَاخل الْبَلَد وَتَرَكْنَاهُ على حَاله ليعتبر بِهِ من يَأْتِي بَعدنَا ويزداد احْتِيَاطًا وحزما أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالله تَعَالَى أعلم
غَزْو السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل برابرة فازاز وإيقاعه بهم
كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مشتغلا بتمهيد الْمغرب واستنزال أممه من معاقلهم إِلَى أَن فتح أقطاره كلهَا وَبنى قلاعها ورتب حاميتها وَلم يبْق لَهُ بالمغرب كُله إِلَّا قنة جبل فازاز الَّذِي فِيهِ آيت ومالو وآيت يَفِ المَال وآيت يسرى فعزم على النهوض إِلَيْهِ وافتضاض عذرته
وَلما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَيْهِم اسْتخْلف على فاس الْجَدِيد كَبِير أَوْلَاده الْمولى أَبَا الْعَلَاء محرزا وَبعث إِلَى مراكش ابْنه الْمولى أَبَا الْيمن الْمَأْمُون وَترك بمكناسة ابْنه الْمولى مُحَمَّد الْمَدْعُو زَيْدَانَ وَكَانَ فَارس أَوْلَاده الْمَوْجُودين يَوْمئِذٍ
وَلما ولي الْمَأْمُون على مراكش أَمر برئيس الحضرة وَإِمَام الْكتاب الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليحمدي أَن يُعْطِيهِ التَّقْلِيد ويوصيه بِمَا تنبغي الْوِصَايَة بِهِ(7/78)
وَكَانَ الْمولى الْمَأْمُون منحرفا عَن الْوَزير الْمَذْكُور فَمشى إِلَيْهِ على كره مِنْهُ وَحَازَ مِنْهُ التَّقْلِيد واستمع لوصيته امتثالا لأمر وَالِده ثمَّ عَاد إِلَيْهِ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا إِن اليحمدي ينْقصك وَيَزْعُم أَنه الَّذِي علمك دينك فِي كَلَام آخر فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله وَالله إِن كَانَ قد قَالَ ذَلِك إِنَّه لصَادِق فَإِنَّهُ الَّذِي عَلمنِي ديني وعرفني بربي نقل هَذِه الْحِكَايَة صَاحب الْبُسْتَان وَصَاحب الْجَيْش وَكِلَاهُمَا قَالَ إِنَّه سَمعهَا من السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله وَهِي منقبة فخيمة للْمولى إِسْمَاعِيل فِي الخضوع للحق وَالِاعْتِرَاف بِهِ رحم الله الْجَمِيع
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف وَالسُّلْطَان عازم على النهوض إِلَى فازاز وَبعث مَعَ ذَلِك بالراتب وَالْعدة إِلَى أهل فاس وَأمرهمْ بالنهوض إِلَى التّرْك مَعَ وَلَده الْمولى زَيْدَانَ فَخَرجُوا فِي رَمَضَان من السّنة وَبعد الْعِيد أَخذ السُّلْطَان فِي الاستعداد للنهوض إِلَى فازاز ثمَّ بدا لَهُ فَخرج فِي أثر الْمولى زَيْدَانَ فلحق بأطراف الْمغرب الْأَوْسَط وأبرم الصُّلْح مَعَ التّرْك وَرجع إِلَى الحضرة هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَالَّذِي رَأَيْته فِي نشر المثاني هُوَ مَا نَصه قد اخْتَار السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الطّيب الفاسي لعقد المهادنة مَعَ التّرْك فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف بعد وقْعَة المشارع مَعَهم لعلمه وفصاحته وبيته فَذهب نَحْو الجزائر صُحْبَة ولد السُّلْطَان وَهُوَ مولَايَ عبد الْملك وَمَعَهُمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله الْمَدْعُو الْوَزير وَغَيرهم من وُجُوه الدولة الإسماعيلية فَلَمَّا قاربوا الجزائر خرج صَاحبهَا فِي جنده وَقتل وَنهب حَتَّى انْتهى الْخَبَر إِلَى فاس بِأَنَّهُم قتلوا أجمع وصادف ذَلِك يَوْم عَاشُورَاء فَحزن النَّاس لذَلِك وأمسكوا عَن الْإِنْفَاق حَتَّى بَقِي مَا عهد أَن يَشْتَرِي فِي ذَلِك الْيَوْم ملقى لما عرا النَّاس من الْغم ثمَّ جَاءَ الْخَبَر بِأَنَّهُم قادمون بعافية وَأَنَّهُمْ وصلوا إِلَى تازا ففرح النَّاس واستأنفوا الْإِنْفَاق كَيَوْم عَاشُورَاء وَمَات بايشي القبلي فولى السُّلْطَان عَليّ زمور وَبني حكم وَلَده أَبَا الْحسن عَليّ بن يشي
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَمِائَة وَألف وفيهَا تهَيَّأ السُّلْطَان للنهوض إِلَى البربر(7/79)
أهل فازاز فاستنفر الْقَبَائِل وحشد الجيوش واستعد الاستعداد التَّام بالمدافع والمهاريس والمجانيق وَسَائِر آلَات الْحصار فَنزل رَحمَه الله فِي جند العبيد ببسيط آدخسان ورتب على البرابر العساكر من كل جِهَة فَبعث الباشا مساهلا فِي خَمْسَة وَعشْرين ألفا من الرُّمَاة طلع بهَا من تادلا على وَادي العبيد حَتَّى نزل خلف آيت يسري وَبعث عَليّ بن بَرَكَات مَعَ آيت يمو وآيت أدراسن فنزلوا بتغالين وَبعث عَليّ بن يشي مَعَ زمور وَبني حكم وَأمره أَن ينزل بِعَين شوعة وَبعث إِلَى أهل تدغة وفركلة وغريس والصباح أَن يقدموا بجموعهم على عَليّ بن يشي وَبعث إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك بعسكر الطبجية بالمدافع والمهاريس وَسَائِر آلَات الْحَرْب وَبعث نَصَارَى العرائش يجرونها على طَرِيق آعليل ثمَّ على قصر بني مطير إِلَى أَن اجْتَمعُوا بعلي بن يشي على عين شوعة
وَضرب السُّلْطَان لأمراء الْجنُود لإنشاب الْحَرْب موعدا مَعْلُوما وَقَالَ لَهُم إِذا كَانَ وَقت الْعشَاء من لَيْلَة كَذَا فليأخذ الطبجية فِي إِخْرَاج المدافع والمهاريس بالكور والبنب طول ليلتهم ليحصل للبربر الدهش فَإِذا أَصْبَحْتُم فليقدم كل قَائِد من ناحيته ولينشب الْحَرْب ليَكُون الْقِتَال فِي سَاعَة وَاحِدَة من جَمِيع الْجِهَات فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم
وَلما كَانَت اللَّيْلَة الْمعينَة لم يرع البربر إِلَّا رعود المدافع والمهاريس تصعق فِي الجو ونيرانها تنقدح فِي ظلمات اللَّيْل وأصداء الْجبَال تتجاوب من كل نَاحيَة فَقَامَتْ عَلَيْهِم الْقِيَامَة وظنوا أَن الأَرْض قد زَالَت بهم فقوضوا أبنيتهم وحملوا عيالاتهم للفرار وصاروا لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَلما أَصْبحُوا زحف إِلَيْهِم السُّلْطَان من ناحيته وزحفت إِلَيْهِم العساكر من بَاقِي الْجِهَات وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الشعاب والأودية شذر مدر وَصَارَ كل من قصد مِنْهُم ثنية أَو منفذا وجد العساكر مقبلة مِنْهَا والمدافع مصوبة نَحْوهَا فَحل بهم الْقَضَاء وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ فقتلت رِجَالهمْ وسبيت نِسَاؤُهُم وَأَوْلَادهمْ وَنهب أثاثهم وحيزت مَوَاشِيهمْ وأنعامهم واستلبت خيلهم وسلاحهم واستحر الْقَتْل والنهب فيهم(7/80)
ثَلَاثَة أَيَّام والعساكر تلتقطهم من الأودية والشعاب وتستخرجهم من الكهوف والغيران وَأمر السُّلْطَان قواده مساهلا وَعلي بن يشي وَعلي بن بَرَكَات بِجمع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجمع الْخَيل وَالسِّلَاح ويوافوه بِهِ لآدخسان فَجمعُوا مَا عثروا عَلَيْهِ من ذَلِك فَكَانَ عدد الرؤوس ينيف على اثْنَي عشر ألفا وَعدد الْخَيل الفحول ينيف على عشرَة آلَاف وَعدد المكاحل ينيف على ثَلَاثِينَ ألفا وبالاستيلاء على هَؤُلَاءِ البربر كمل للسُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فتح الْمغرب وَاسْتولى عَلَيْهِ كُله وَلم يبْق بِهِ عرق ينبض وَكتب فِي الدِّيوَان من آيت يمور ألف فَارس أنزلهم مَعَ عَليّ بن بَرَكَات بقلعة تغالين وَأنزل محلتهم على رَأس منزل آيت ومالو وَلم يتْرك لقبيلة من قبائل الْمغرب خيلا وَلَا سِلَاحا وَإِنَّمَا كَانَت الْخَيل وَالسِّلَاح عِنْد العبيد والودايا وآيت يمور وَأهل الرِّيف الْمُجَاهدين بسبتة
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس رَحمَه الله وَكَانَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله ارْتكب أخف الضررين وَأدنى المفسدتين فِي إضعاف قبائل الْمُسلمين بسلب الْخَيل وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْمَطْلُوب هُوَ تقويتهم بذلك لمقابلة الْعَدو الْكَافِر قَالَ تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الانفال 60 الْآيَة وَرَأى الْمولى إِسْمَاعِيل أَنه لما أعد ذَلِك الْعَسْكَر الْقوي الشَّديد قَامَ عَن الْمُسلمين بِوَاجِب وكفاهم كل مُؤنَة وأراحهم من كلفة الْقيام بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْفساد الَّذِي يظْهر مِنْهُم عِنْد ملك الْخَيل وَالسِّلَاح أعظم وَذَلِكَ بِقطع الطرقات وَنهب الْأَمْوَال وخلع الْيَد من الطَّاعَة قَالَ وَهَذَا الْقدر الَّذِي اعتذرنا بِهِ عَن السُّلْطَان ظَاهر غَايَة الظُّهُور وَلَعَلَّه خَفِي على الشَّيْخ اليوسي حَتَّى كتب إِلَيْهِ برسالته الْمَشْهُورَة اهـ
قلت مَا فعله السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله من ذَلِك ظَاهر الْمصلحَة لَا يخفى على أحد وجد استحسانه وَلَا يتَوَهَّم عَاقل أَن أهل فازاز وَمن فِي معناهم يتخذون الْخَيل وَالسِّلَاح للْجِهَاد يَوْمًا مَا فَلَا يحْتَاج السُّلْطَان رَحمَه الله فِي مثل ذَلِك إِلَى الِاعْتِذَار وَقَوله أَن ذَلِك الِاعْتِذَار خَفِي على اليوسي لَيْسَ على مَا يَنْبَغِي لِأَن الشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله مَا تكلم مَعَ(7/81)
السُّلْطَان فِي أَمر أُولَئِكَ الْقَبَائِل وَمن فِي معناهم وَإِنَّمَا كَلَامه مَعَه فِي أُمُور ثَلَاثَة الأول فِي جباية المَال من وَجهه وَصَرفه فِي وَجهه الثَّانِي فِي إِقَامَة رسم الْجِهَاد وشحن الثغور كلهَا بالمقاتلة وَالسِّلَاح الثَّالِث فِي الأنتصاف من الظَّالِم للمظلوم وكف الْيَد العادية عَن الرّعية
وَنَصّ هَذِه الرسَالَة الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ قطب الْمجد ومركزه ومحاز الْفَخر ومأرزه وأساس الشّرف الباذخ ومنبعه ومناط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الْأَجَل الآفخم مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف لَا زَالَت أَعْلَامه منصورة وأيامه على الْعِزّ واليمن مَقْصُورَة سَلام على سيدنَا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته هَذَا وَلَا زَائِد عندنَا سوى الْمحبَّة لسيدنا وَغَايَة التَّعْظِيم والإجلال وَالدُّعَاء لسيدنا بِصَالح الْأَحْوَال وَذَلِكَ بعض مَا أوجبته يَده المبسوطة علينا بِالْبرِّ وَالْإِحْسَان وَالْفضل والامتنان والتوقير والاحترام والإنعام وَالْإِكْرَام مَعَ مَا لَهُ علينا وعَلى غَيرنَا من الْحُقُوق الَّتِي أوجبتها مَنْزِلَته السُّلْطَانِيَّة ومثابته الطوقية الفاطمية فكتبنا هَذِه البطاقة وَهِي فِي الْوَقْت مُنْتَهى الطَّاقَة وَكُنَّا كثيرا مَا نرى من سيدنَا التشوق إِلَى الموعظة والنصح وَالرَّغْبَة فِي استفتاح أَبْوَاب الرِّبْح والنجح فأردنا أَن نرسل إِلَى سيدنَا مَا أَن وفْق إِلَى النهوض إِلَيْهِ رجونا لَهُ ربح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والارتقاء إِلَى الدَّرَجَات الفاخرة ورجونا وَإِن لم نَكُنْ أَهلا لِأَن نعظ أَن يكون سيدنَا أَهلا لِأَن يتعظ وَأَن يحتمي من جَمِيع المذام ويحتفظ فَليعلم سيدنَا أَن الأَرْض وَمَا فِيهَا ملك لله تَعَالَى لَا شريك لَهُ وَالنَّاس عبيد الله سُبْحَانَهُ وإماء لَهُ وَسَيِّدنَا وَاحِد من العبيد وَقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ عَلَيْهِم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف والإصلاح فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة الْعَالِيَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد فَهُوَ متجاسر على مَوْلَاهُ فِي ملكته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة مَوْلَاهُ الشَّدِيدَة وَسخطه وَلَا يخفى على سيدنَا حَال من تسلط على رَعيته يروم تملكهم بِغَيْر إِذْنه كَيفَ يفعل بِهِ يَوْم يتَمَكَّن مِنْهُ ثمَّ(7/82)
نقُول إِن على السُّلْطَان حقوقا كَثِيرَة لَا تفي بهَا البطاقة ولنقتصر مِنْهَا على ثَلَاثَة هِيَ أمهاتها الأول جمع المَال من حق وتفريقه فِي حق الثَّانِي إِقَامَة الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَفِي مَعْنَاهُ تعمير الثغور بِمَا تحْتَاج إِلَيْهِ من عدد وعدة الثَّالِث الانتصاف من الظَّالِم للمظلوم وَفِي مَعْنَاهُ كف الْيَد العادية عَلَيْهِم مِنْهُم وَمن غَيرهم وَهَذِه الثَّلَاثَة كلهَا قد اختلت فِي دولة سيدنَا فَوَجَبَ علينا تنبيهه لِئَلَّا يعْتَذر بِعَدَمِ الِاطِّلَاع والغفلة فَإِن تنبه وَفعل فقد فَازَ وَذَلِكَ صَلَاح الْوَقْت وَصَلَاح أَهله وسبوغ النِّعْمَة وشمول الرَّحْمَة وَإِلَّا فقد أدينا الَّذِي علينا أما الْأَمر الأول فَليعلم سيدنَا أَن المَال الَّذِي يجبى من الرّعية قد أعد للْمصَالح الَّتِي يَنْتَظِم بهَا الدّين وَتصْلح الدُّنْيَا من أهل الْبَيْت وَالْعُلَمَاء والقضاة وَالْأَئِمَّة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وَغير ذَلِك من الْمصَالح وَمِثَال هَؤُلَاءِ كأيتام لَهُم دُيُون قد عجزوا عَن قبضهَا إِلَّا بوكيل وَمِثَال الرّعية مثل الْمديَان وَالسُّلْطَان هُوَ الْوَكِيل فَإِن استوفى الْوَكِيل الدّين بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَأَدَّاهُ إِلَى الْيَتَامَى يحْسب مَا يجب لكل فقد برىء من اللوم وَلم تبْق عَلَيْهِ تباعة للمديان وَلَا للْيَتِيم وَحصل لَهُ أَجْرَانِ أجر الْقَبْض وَأجر الدّفع وَإِن هُوَ زَاد على الدّين الْوَاجِب بِغَيْر رضى الْمديَان فَهُوَ ظَالِم لَهُ أَو نقص الْيَتِيم من حَقه الْوَاجِب لَهُ فَهُوَ ظَالِم لَهُ وَكَذَا إِن استوفى الدُّيُون وأمسكها وَلم يَدْفَعهَا لأربابها فَهُوَ ظَالِم فَلْينْظر سيدنَا فَإِن جباة مَمْلَكَته قد جروا ذيول الظُّلم على الرّعية فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا أما الدُّنْيَا فقد أخذوها وَأما الدّين فقد فتنوهم عَنهُ وَهَذَا شَيْء شهدناه لاشيء ظنناه ثمَّ إِن أَرْبَاب الْحُقُوق قد ضَاعُوا وَلم تصل إِلَيْهِم حُقُوقهم فعلى السُّلْطَان أَن يتفقد الجباة ويكف أَيْديهم عَن الظُّلم وَلَا يغتر بِكُل من يزين لَهُ الْوَقْت فَإِن كثيرا من الدائرين بِهِ طلاب الدُّنْيَا لَا يَتَّقُونَ الله تَعَالَى وَلَا يتحفظون من المداهنة والنفاق وَالْكذب وَفِي أفضل مِنْهُم قَالَ جده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه الْمَغْرُور من غررتموه اه وَأَن يتفقد الْمصَالح ويبسط يَد الْفضل على خَواص النَّاس من أهل الْفضل وَالدّين وَالْخَيْر ليكتسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كَمَا قيل(7/83)
(أفاتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا)
وَقد جبلت الْقُلُوب على حب من أحسن إِلَيْهَا وَلَا يهملهم فيتمنوا غَيره ويتطلبوا دولة أُخْرَى كَمَا قيل
(إِذا لم يكن للمرء فِي دولة امرىء ... نصيب وَلَا حَظّ تمنى زَوَالهَا)
(وَمَا ذَاك من بغض لَهَا غير أَنه ... يُرِيد سواهَا فَهُوَ يهوى انتقالها)
وليعلم سيدنَا أَن السُّلْطَان إِذا أَخذ أَمْوَال الْعَامَّة ونثرها فِي الْخَاصَّة وشيد بهَا الْمصَالح فالعامة يذعنون ويعلمون أَنه سُلْطَان وتطيب قُلُوبهم بِمَا يرَوْنَ من إِنْفَاق أَمْوَالهم فِي مصالحهم وَإِلَّا فالعكس وَأَيْضًا السُّلْطَان متعرض للسهام الراشقة من دَعْوَة المظلومين من الرّعية فَإِذا أحسن إِلَى الْخَاصَّة دعوا لَهُ بِالْخَيرِ والسلامة والبقاء فيقابل دُعَاء بِدُعَاء وَالله الْمُوفق وَأما الْأَمر الثَّانِي فقد ضَاعَ أَيْضا وَذَلِكَ أَنه لم يتأت فِي الْوَقْت إِلَّا عمَارَة الثغور وَسَيِّدنَا قد غفل عَنْهَا فقد ضعفت الْيَوْم غَايَة وَقد حضرت بِمَدِينَة تطاوين أَيَّام مَوْلَانَا الرشيد رَحمَه الله فَكَانُوا إِذا سمعُوا الصَّرِيخ تهتز الأَرْض خيلا ورماة وَقد بَلغنِي الْيَوْم أَنهم سمعُوا صريخا من جَانب الْبَحْر ذَات يَوْم فَخَرجُوا يسعون على أَرجُلهم بِأَيْدِيهِم العصي والمقاليع وَهَذَا وَهن فِي الدّين وغرر على الْمُسلمين وَإِنَّمَا جَاءَهُم الضعْف من المغارم الثَّقِيلَة وتكليفهم الحركات وَإِعْطَاء الْعدة كَسَائِر النَّاس فعلى سيدنَا أَن يتفقد السواحل كلهَا من قلعية إِلَى ماسة ويحرضهم على الْجِهَاد والحراسة بعد أَن يحسن إِلَيْهِم ويعفيهم مِمَّا يُكَلف بِهِ غَيرهم وَيتْرك لَهُم خيلهم وعدتهم ويزيدهم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فهم حماة بَيْضَة الْإِسْلَام ويتحرى فِيمَن يوليه تِلْكَ النواحي أَن يكون أَشد النَّاس رَغْبَة فِي الْجِهَاد ونجدة فِي المضايق وغيرة على الْإِسْلَام وَلَا يولي فِيهَا من همته ملْء بَطْنه والاتكاء على أريكته وَالله الْمُوفق
وَأما الْأَمر الثَّالِث فقد اخْتَلَّ أَيْضا لِأَن المشعبين للانتصاف بَين النَّاس فِي الْبلدَانِ وهم الْعمَّال وخدامهم هم المشتغلون بظُلْم النَّاس فَكيف يزِيل(7/84)
الظُّلم من يَفْعَله وَمن ذهب يشتكي سَبَقُوهُ إِلَى الْبَاب فزادوا عَلَيْهِ فَلَا يقدر أحد أَن يشتكي فليتق الله سيدنَا وليتق دَعْوَة الْمَظْلُوم فَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الله حجاب وليجهد فِي الْعدْل فَإِنَّهُ قوام الْملك وَصَلَاح الدّين وَالدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز} الْحَج 40 ثمَّ ذكر تَعَالَى المنصورين وشروط النَّصْر فَقَالَ {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} الْحَج 41 فضمن تَعَالَى للملوك النَّصْر وَشرط عَلَيْهِم هَذِه الْأُمُور الْأَرْبَعَة فَمَتَى اخْتَلَّ عَلَيْهِم أَمر الرّعية وتسلط عَلَيْهِم من يفْسد عَلَيْهِم الدولة فليعلموا أَن ذَلِك من إخلالهم بِهَذِهِ الْأُمُور فَكَانَ عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى وتفقد مَا أَمرهم بِهِ ورعاية مَا استرعاهم إِيَّاه وَقد اتّفقت حكماء الْعَرَب والعجم على أَن الْجور لَا يثبت مَعَه الْملك وَلَا يَسْتَقِيم وَأَن الْعدْل يَسْتَقِيم مَعَه الْملك وَلَو مَعَ الْكفْر وَقد عَاشَ الْمُلُوك من الْكَفَرَة المئين من السنين فِي الْملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص لما كَانُوا عَلَيْهِ من الْعدْل فِي الرّعية استصلاحا لدنياهم فَكيف بِمن يَرْجُو صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك بِنَاء والجند أساسه وَإِذا ضعف الأساس سقط الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بجند وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا بجباية وَلَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِالْعَدْلِ فالعدل أساس الْجَمِيع وَقد صنع أرسطوطاليس الْحَكِيم للْملك الْإِسْكَنْدَر الشكل الْمُسْتَند عَنهُ وَكتب عَلَيْهِ الْعَالم بُسْتَان سياجه الدولة الدولة سُلْطَان تعضده السّنة السّنة سياسة يسوسها الْملك رَاع يعضده الْجَيْش الْجَيْش أعوان يكفلهم المَال المَال رزق يجمعه الرّعية الرّعية عبيد يقودهم الْعدْل الْعدْل مألوف وَبِه صَلَاح الْعَالم الْعَالم بُسْتَان إِلَى آخِره وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَقَالَ(7/85)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن رجَالًا يَخُوضُونَ فِي مَال الله بِغَيْر حق لَهُم النَّار يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من وَال يَلِي ولَايَة إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ويداه مغلولتان فَأَما عدل يفكه وَأما جور يوبقه وَعَن مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت عمر على قتب يعدو بِهِ بعيره بِالْأَبْطح فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَيْن تسير فَقَالَ بعيره من إبل الصَّدَقَة شرد أطلبه فَقلت أذللت الْخُلَفَاء من بعْدك فَقَالَ لَا تلمني فوالذي بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَقِّ لَو أَن عنَاقًا ضلت بشاطىء الْفُرَات لأخذ بهَا عمر يَوْم الْقِيَامَة إِنَّه لَا حُرْمَة لوال ضيع الْمُسلمين وَلَا لفَاسِق روع الْمُؤمنِينَ وَقد رأى رَضِي الله عَنهُ شَيخا يَهُودِيّا يسْأَل على الْأَبْوَاب فَقَالَ مَا أنصفناك أَخذنَا مِنْك الْجِزْيَة مَا دمت شَابًّا ثمَّ ضيعناك الْيَوْم وَأمر أَن يجْرِي عَلَيْهِ قوته من بَيت المَال وليعلم سيدنَا أَن أول الْعدْل أَن يعدل فِي نَفسه فَلَا يَأْخُذ لنَفسِهِ من المَال إِلَّا بِحَق وليسأل الْعلمَاء عَمَّا يَأْخُذ وَمَا يُعْطي وَمَا يَأْتِي وَمَا يذر وَقد كَانَ بَنو إِسْرَائِيل يكون فيهم الْأَمِير على يَد نَبِي فالنبي يَأْمر والأمير ينفذ لَا غير وَلما كَانَت هَذِه الْأمة المرحومة انْقَطَعت مِنْهَا النُّبُوَّة بنبيها خَاتم النَّبِيين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يبْق إِلَّا الْعلمَاء يقْتَدى بهم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُلَمَاء أمتِي كأنبياء بني إِسْرَائِيل فَكَانَ حَقًا على هَذِه الْأمة أَن يتبعوا الْعلمَاء ويتصرفوا على أَيْديهم أخذا وَعَطَاء وَقد توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلف أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ قبل ذَلِك يَبِيع وَيَشْتَرِي فِي السُّوق على عِيَاله فَلَمَّا بُويِعَ أَخذ مَاله الَّذِي للتِّجَارَة وَذهب للسوق على عَادَته حَتَّى رده عُلَمَاء الصَّحَابَة وَقَالُوا إِنَّك فِي شغل بِأَمْر الْخلَافَة عَن السُّوق وفرضوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ مَعَ عِيَاله وَجعلُوا المَال على يَد أَمِين فَكَانَ هُوَ وَغَيره فِيهِ سَوَاء يَأْخُذ مِنْهُ بِمَا اقتضته الشَّرِيعَة لنَفسِهِ وَلغيره وَهَكَذَا سيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعده فعلى سيدنَا أَن يَقْتَدِي بهؤلاء الْفُضَلَاء وَلَا يَقْتَدِي بِأَهْل الْأَهْوَاء وليسأل من مَعَه من الْفُقَهَاء الثِّقَات كسيدي مُحَمَّد بن الْحسن وسيدي أَحْمد ابْن سعيد وَغَيرهمَا من الْعلمَاء العاملين الَّذين يَتَّقُونَ الله وَلَا يخَافُونَ فِي الله(7/86)
لومة لائم فَمَا أَمرُوهُ بِهِ مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَمِمَّا لم نذكرهُ فعله وَمَا نهوه عَنهُ انْتهى هَذِه طَريقَة النجَاة إِن شَاءَ الله تَعَالَى نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرْزق سيدنَا تَوْفِيقًا وتسديدا وإرشادا وتأييدا وَأَن يصلح بِوُجُودِهِ الْبِلَاد والعباد وَأَن يحسم بِسَيْفِهِ أهل الزيغ والعناد آمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
وَلما فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من وقْعَة فازاز وآيت ومالو دَعَا عَليّ بن يشي وَعقد لَهُ على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَقَالَ لَهُ لَا أرى وَجهك إِلَّا إِذا أغرت على كروان وأتيتني مِنْهُم بِعَدَد هَذِه الرؤوس الَّتِي هُنَا لأَنهم كَانُوا بوادي زيز يعيثون فِي طَرِيق سجلماسة وينهبون الرفاق فَسَار عَليّ بن يشي حَتَّى صبحهمْ وهم عارون فنهب حللهم ومواشيهم وَقتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير ثمَّ نَادَى فِي تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا من أَتَى بِرَأْس كرواني فَلهُ عشرَة مَثَاقِيل فَصَارَ كل من انحاز إِلَيْهِ أحد مِنْهُم يقطع رَأسه وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ وَاسْتمرّ الْبَحْث عَنْهُم فِي الْمدر والوبر إِلَى أَن قضى من جماجمهم الوطر وَلما اجْتمعت عِنْده أعْطى كل من أَتَى بِرَأْس مِثْقَالا وَاحِدًا وَجَاء إِلَى السُّلْطَان بِاثْنَيْ عشر ألف رَأس كَمَا اقترح عَلَيْهِ وفْق مَا اجْتمع مِنْهَا بآدخسان فَشكر لَهُ فعله وولاه على قبائل الْعَرَب والبربر
وَدخلت سنة خمس وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَة وَألف فَفِي ربيع مِنْهُ خرج الْمولى زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان بالعساكر قَاصِدا نَاحيَة تلمسان بعد أَن قتل النَّائِب بفاس أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد السلاوي فقاتل التّرْك وَنهب وَرجع
ثمَّ دخل سنة سبع وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَمِائَة وَألف فَفِي يَوْم عَرَفَة مِنْهَا قدم عشرَة رجال من إصطنبول وَمَعَهُمْ كتاب من السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد العثماني صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل يندبه إِلَى الصُّلْح مَعَ أهل الجزائر فَانْتدبَ رَحمَه الله وامتثل(7/87)
أَمر السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل عُلَمَاء فاس بِالْكِتَابَةِ على ديوَان العبيد وامتناعهم مِنْهَا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
وَفِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَان وَمِائَة وَألف ورد كتاب من حَضْرَة السُّلْطَان على القَاضِي وَالْعُلَمَاء بفاس يعاتبهم ويوبخهم على عدم موافقتهم على تمْلِيك العبيد المثبتين فِي الدِّيوَان ثمَّ ورد كتاب آخر من السُّلْطَان يمدح الْعَامَّة ويذم الْعلمَاء وَيَأْمُر بعزل القَاضِي وَالشُّهُود كَذَا فِي الْبُسْتَان
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقله صَاحب الْبُسْتَان عَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِيهِ نظر فَإِنَّهُ كَلَام مُجمل وَقَضِيَّة جمع العبيد مَذْكُورَة مفصلة فِي الكناش الْكَبِير الْإِسْمَاعِيلِيّ وَفِيه تَمْيِيز المماليك الأرقاء الَّذين اشْتَروا بِالثّمن على الْوَجْه الشَّرْعِيّ بخطوط الْعُدُول وَهَؤُلَاء لَا كَلَام فيهم وَأما غَيرهم من أهل الدِّيوَان المجلوبون من الْقَبَائِل العديدة فَإِن السُّلْطَان لم يدع فيهم الملكية وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي جبرهم على الجندية وَوجه السُّلْطَان إِلَى عُلَمَاء الْمشرق وَالْمغْرب السؤالات عَن ذَلِك فَكَتَبُوا إِلَيْهِ الْأَجْوِبَة المتضمنة للْجُوَاز بخطوطهم وكل ذَلِك فِي الكناش الْمَذْكُور مَبْسُوطا وَهُوَ شَيْء كثير وحاشى الله مقَام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَن يدعى تملك الْأَحْرَار وَقد تقدم كَلَام الشَّيْخ اليوسي وَبَيَان مَا أنكر على السُّلْطَان وَلَو كَانَ مَا ذكر الصياني متصفا بِهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور لَكَانَ ذَلِك أول مَا يُنكره اليوسي وَلَا يَسعهُ السُّكُوت عَلَيْهِ مَعَ أَنه أنكر مَا هُوَ أقل من ذَلِك وأخف بمراتب نعم فِي الكناش طوائف مَعْرُوفَة متميزة ثَبت عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور أَنهم كَانُوا أرقاء للمنصور السَّعْدِيّ فَلَمَّا انقرضت الدولة السعدية تفَرقُوا فِي الأقطار وهم الَّذين تقدم الْكَلَام عَلَيْهِم فِي دفتر عليليش وَقد وَقع الْبَحْث عَن رقيتهم وَسُئِلَ أهل الْأَسْنَان من كل قَبيلَة فعينوا الرَّقِيق من غَيره فَثَبت ذَلِك كُله عِنْد السُّلْطَان وَمَعَ ذَلِك لم يدخلهم فِي الأرقاء الخلص الَّذين اشْتَروا بِالثّمن بل ميزهم على حِدة فَكَانَ ذَلِك الْجند عِنْده على(7/88)
ثَلَاث مَرَاتِب الْمرتبَة الأولى خَالص الرّقية الْمرتبَة الثَّانِيَة خَالص الْحُرِّيَّة الْمرتبَة الثَّالِثَة وَاسِطَة بَينهمَا اه وَالله تَعَالَى أعلم
تَفْرِيق الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَعمال الْمغرب على أَوْلَاده وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما كَانَت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَة وَألف فرق السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَعمال الْمغرب على أَوْلَاده فعقد لِابْنِهِ الْمولى أَحْمد على تادلا وأنزله بقصبتها ورتب مَعَه ثَلَاثَة آلَاف من العبيد حامية بهَا وَأمره أَن يزِيد فِي تِلْكَ القصبة فَبنى قَصَبَة جَدِيدَة وَبنى بهَا قصره وَبنى مَسْجِدا أعظم من مَسْجِد أَبِيه بالقصبة الأولى وَاسْتقر بهَا
وَعقد لِابْنِهِ الْمولى عبد الْملك على درعة وأعمالها وانزله بقصبتها ورتب مَعَه ثَلَاثَة آلَاف من الْخَيل
وَعقد لِابْنِهِ الْمولى مُحَمَّد الْمَدْعُو بالعالم على إقليم السوس ورتب مَعَه ألف فَارس
وَعقد لِابْنِهِ الْمَأْمُون الْكَبِير الَّذِي كَانَ بمراكش على سجلماسة وأعمالها نَقله من مراكش إِلَيْهَا وأنزله بقصبته الَّتِي بناها لَهُ بتيزيمي ورتب مَعَه خَمْسمِائَة من الْخَيل وَبعد سنتَيْن توفّي الْملك الْمَأْمُون فولى السُّلْطَان مَكَانَهُ ابْنه الْمولى يُوسُف
وَعقد لِابْنِهِ الْمولى زَيْدَانَ على بِلَاد الشرق فَكَانَ يُغير على رعايا التّرْك إِلَى أَن شردهم عَن نواحي تلمسان وانْتهى فِي بعض أَيَّام غاراته إِلَى مَدِينَة معسكر فاقتحمها وانتهب دَار أميرها عُثْمَان باي وَأخذ مَا فِيهَا من الْفرش والخرثى والأدام وَغير ذَلِك لمغيب عُثْمَان عَنْهَا فِي بعض غَزَوَاته فانتهز الْمولى زَيْدَانَ فِيهَا الفرصة فَكَانَ ذَلِك سَبَب عَزله عَن الشرى وتوليه أَخِيه الْمولى حفيد مَكَانَهُ لِأَن السُّلْطَان رَحمَه الله لم يرض فعله ونهبه لدار الباي(7/89)
للصلح الَّذِي كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين السُّلْطَان مصطفى العثماني كَمَا مر
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الشرق وَحَارب التّرْك بهَا لانتقاض الصُّلْح الَّذِي كَانَ بَينه وَبينهمْ بِسَبَب غارات الْمولى زَيْدَانَ الْمُتَقَدّمَة وَلما قفل السُّلْطَان من وَجهه هَذِه هلك من جنده أثْنَاء الطَّرِيق عدد كَبِير من الْعَطش فَمن أهل فاس بالخصوص أَرْبَعُونَ نفسا سوى من هلك من غَيرهم وَفِي هَذِه السّنة قتل الْقَائِد عبد الْخَالِق بن عبد الله الروسي صَاحب فاس عبدا من عبيد دَار السُّلْطَان دخل عَلَيْهِ بِغَيْر إِذْنه فَقتله فَبعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى حفيدا من مكناسة إِلَى فاس ليَأْتِيه بِهِ فاستشفع إِلَيْهِ عبد الْخَالِق بالعلماء والأشراف فَلم يُقَيِّدهُ الْمولى حفيد وَذهب بِهِ مسرحا فَلَمَّا دخل على السُّلْطَان بمكناسة عَفا عَنهُ وَرجع إِلَى فاس سالما
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة وَألف فِيهَا استدعى السُّلْطَان عبد الْخَالِق الروسي من فاس فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ قَتله وَبعث ابْنه الْمولى زَيْدَانَ إِلَى فاس وَبعث مَعَه حمدون بن عبد الله الروسي واليا عَلَيْهَا بَدَلا من أَخِيه الْمَقْتُول وَالله أعلم
تنَازع أَوْلَاد السُّلْطَان وثورة الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مِنْهُم بالسوس ومقتله
لما دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَة وَألف وصل الْمولى عبد الْملك بن السُّلْطَان صَاحب درعة إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر بزرهون مهزوما لاستيلاء أَخِيه الْمولى أبي النَّصْر على درعة وتغلبه على تِلْكَ النواحي فَبعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى الشريف إِلَى درعة واليا عَلَيْهَا فثار الْمولى مُحَمَّد الْعَالم بِبِلَاد السوس ودعا لنَفسِهِ وزحف إِلَى مراكش فحاصرها فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي الْعشْرين من شَوَّال اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل(7/90)
وَنهب وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان بعث وَلَده الْمولى زَيْدَانَ فِي العساكر لقتاله فَقدم مراكش فصادف الْمولى مُحَمَّدًا قد خرج عَنْهَا وَعَاد إِلَى تارودانت وَلما احتل الْمولى زَيْدَانَ بمراكش عاثت عساكره فِيهَا ثمَّ تبع أَخَاهُ الْمولى مُحَمَّدًا الْعَالم إِلَى السوس فَنزل على تارودانت واتصلت الْحَرْب بَينهمَا إِلَى أَن دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَة وَألف وفيهَا قدم الْمولى حفيد حَضْرَة فاس الْجَدِيد ووظف على أهل فاس مغرما ثقيلا وَجَاء الزعيم واليا عَلَيْهَا ثمَّ عزل وَولى مَكَانَهُ أَبُو عَليّ الروسي فَقتل أُنَاسًا وصلبهم وَفِي متم شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة مَاتَ الْمولى حفيد بفاس الْجَدِيد هَذَا كُله وَالْحَرب قَائِمَة بَين الْمولى زَيْدَانَ وَالْمولى مُحَمَّد الْعَالم
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة وَألف فَفِي ثَالِث صفر مِنْهَا ورد أَمر السُّلْطَان على فاس بِأَن تُعْطى كل عتبَة عظم سرج وَلَا يحرر من ذَلِك أحد كَائِنا من كَانَ
وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر الْمَذْكُور ورد الْخَبَر باستيلاء الْمولى زَيْدَانَ على تارودانت وَقَبضه على أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم بعد محاربته لَهُ ثَلَاث سِنِين هلك فِيهَا أُمَم وقواد ورؤساء وأعيان يطول ذكرهم وَلما دَخلهَا الْمولى زَيْدَانَ عنْوَة قتل جَمِيع من بهَا حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَفِي رَابِع ربيع الأول من السّنة وصل الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مَقْبُوضا عَلَيْهِ إِلَى وَادي بهت فَبعث السُّلْطَان من قطع يَده وَرجله من خلاف بعقبة بهت وَلما وصل إِلَى مكناسة خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور هلك رَحمَه الله
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما توفّي الْمولى مُحَمَّد الْعَالم صلى عَلَيْهِ القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة فنقم عَلَيْهِ ذَلِك بعض الحسدة وأوغر قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِنَّه يبغضك وَلَوْلَا شدَّة بغضه لَك مَا نَازع إِلَى الصَّلَاة على عَدوك الَّذِي ثار عَلَيْك ورام نزع الْملك من يدك فَكتب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي بردلة يتهدده ويوبخه فَأَجَابَهُ القَاضِي بِأَن صلَاته نظيرة صَلَاة الْحسن الْبَصْرِيّ على الْحجَّاج بن يُوسُف فَلَمَّا ليم على ذَلِك قَالَ استحييت من الله تَعَالَى أَن أستعظم ذَنْب الْحجَّاج فِي جنب كرم الله الغفور الرَّحِيم(7/91)
على أنني مَا صليت عَلَيْهِ بِغَيْر إِذن بل خرج الْإِذْن من الدَّار المولوية وَبلغ ذَلِك مبلغ الشُّهْرَة الَّتِي لم يبْق مَعهَا شكّ وَذَلِكَ على لِسَان مترجم ينْسب الْأَمر إِلَى الْجَانِب المولوي فَلَا افتيات بعد ذَلِك بل الْوَاجِب هُوَ الْقيام بذلك وَلَو بِغَيْر إِذن إجلالا وتعظيما لجَانب مَوْلَانَا نَصره الله وَلما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي قَضِيَّة الحديبيه امح لَفْظَة رَسُول الله قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَالله لَا أمحوه أبدا فتعارض وجوب امْتِثَال أَمر الرَّسُول بالمحو وَوُجُوب الإجلال لمقامه الأرفع فرجح رَضِي الله عَنهُ وجوب الإجلال ثمَّ الصَّحِيح أَن الْحُدُود كَفَّارَات فَفِي الصَّحِيح عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ اه بِاخْتِصَار
قَالَ أكنسوس وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة من الْفِتَن الْعَظِيمَة بالمغرب عَمت أهل الْقطر السُّوسِي وخصت أَعْيَان غَيرهم من الْعلمَاء الَّذين كَانُوا يخالطون الْمولى مُحَمَّد الْعَالم لَوْلَا لطف الله تَعَالَى فَإِن الشَّيْخ أَبَا عبد الله المسناوي الدلائي كَانَ من أخص النَّاس بالمولى مُحَمَّد فوشى بِهِ إِلَى السُّلْطَان وَقيل لَهُ إِنَّه من شدَّة اتِّصَاله بِهِ لَا يغيب عَنهُ عزمه على الْقيام عَلَيْك فَهُوَ إِذا مُوَافق لَهُ على ذَلِك فبادر بعض أَصْحَاب السُّلْطَان مِمَّن كَانَ يجنح للمسناوي بالاعتذار عَنهُ بِأَنَّهُ كَانَ ينهاه عَن الْقيام وَأنْشد للمسناوي فِي ذَلِك
(مهلا فَإِن لكل شَيْء غَايَة ... والدهر يعكس حِيلَة الْمُحْتَال)
(فالبدر لَيْسَ يلوح سَاطِع نوره ... وَالشَّمْس فاهرة السنا فِي الْحَال)
(فَإِذا تَوَارَتْ بالحجاب فَعِنْدَ ذَا ... يَبْدُو بَدو تعزز وجمال)
فَوَقع ذَلِك من السُّلْطَان وَتحقّق بَرَاءَة الشَّيْخ رحم الله الْجَمِيع قَالَ أكنسوس وَقَوْلنَا عَمت أهل الْقطر السُّوسِي لِأَن ظُهُوره التَّام إِنَّمَا كَانَ هُنَالك وَلِأَن جلّ من ينتسب إِلَى الْعلم وَالصَّلَاح مِنْهُم كَانُوا مَعَه موافقين لَهُ ومؤيدين فعله اه قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ الْمولى مُحَمَّد الْعَالم ماهرا فِي فنون شَتَّى كالنحو وَالْبَيَان والمنطق وَالْكَلَام وَالْأُصُول وَكَانَ ينفعل للشعر وتأخذه(7/92)
أريحية الْأَدَب وَكتب لَهُ أَخُوهُ مولَايَ الشريف فِي صدر كتاب بعث بِهِ إِلَيْهِ مَا خَاطب بِهِ سيف الدولة بن حمدَان أَخَاهُ نَاصِر الدولة
(رضيت لَك الْعليا وَإِن كنت أَهلهَا ... وَقلت لَهُم بيني وَبَين أخي فرق)
(أما كنت ترْضى أَن أكون مُصَليا ... إِذا كنت أرْضى أَن يكون لَك السَّبق)
فاقترح الْمولى مُحَمَّد على الشَّيْخ أبي عبد الله المسناوي أَن يَنُوب عَنهُ فِي الْجَواب لِأَنَّهُ كَانَ فِي جملَة الوافدين عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَقَالَ رَحمَه الله
(بلَى قد رضيت أَن تكون مجليا ... وَيَتْلُو نداكم فِي الْعلَا من لَهُ السَّبق)
(وَمَالِي لَا أرْضى لَك الْمجد كُله ... وَأَنت شَقِيق النَّفس إِن عرف الْحق)
(وَلَكِن ذَوُو الضغن انتحوا ذَات بَيْننَا ... فغادرنا إفسادهم وَبهَا رفق)
وَفِي هَذَا التَّارِيخ أَعنِي سنة سبع عشرَة وَمِائَة وَألف انتزع النجليز جبل طَارق من يَد الإصبنيول حاصره ثَلَاثَة أَيَّام برا وبحرا فِي جند يسير فملكه لاشتغال الإصبنيول يَوْمئِذٍ عَنهُ بِأَمْر الْفِتْنَة الَّتِي حدثت فِي ملكه وَلما ملكه النجليز عظم ذَلِك على أَجنَاس الفرنج خُصُوصا الإصبنيول والفرنسيس وَرَأَوا أَن النجليز قد ملك عَلَيْهِم بَاب أوروبا وَلذَا حاصروه مرَارًا فَلم يحصلوا مِنْهُ على طائل وَاسْتمرّ فِي يَده إِلَى الْآن
وَلما دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف ورد الْخَبَر بِمَوْت الْمولى زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان بتارودانت وَحمل فِي تَابُوت إِلَى مكناسة فَدفن لَيْلًا إِلَى جَانب أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم
وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان بهدم قصر البديع الَّذِي بناه الْمَنْصُور السَّعْدِيّ بقصبة مراكش وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قَالَ اليفرني فِي النزهة وَمن الْعَجَائِب أَنه لم يبْق بلد من بِلَاد الْمغرب إِلَّا ودخله شَيْء من أنقاض البديع اه
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَة وَألف فِيهَا افْتتح التّرْك مَدِينَة وهران وَكَانَت بيد الإصبنيول مُدَّة فَردهَا الله على الْمُسلمين يَوْمئِذٍ وفيهَا أَمر السُّلْطَان بِقِرَاءَة حَدِيث الْإِنْصَات يَوْم الْجُمُعَة عِنْد خُرُوج الْخَطِيب وجلوسه على الْمِنْبَر(7/93)
محنة الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام ابْن حمدون بسوس رَحمَه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من أَمر السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لعلماء عصره بِالْكِتَابَةِ على ديوَان العبيد وامتناعهم من ذَلِك وَلما كَانَت سنة عشْرين وَمِائَة وَألف تَجَدَّدَتْ المحنة وألزم الرئيس أَبُو مُحَمَّد عبد الله الروسي فُقَهَاء فاس أَن يكتبوا على الدِّيوَان الْمَذْكُور فَمن كتب نجا وَمن أَبى قبض عَلَيْهِ ثمَّ قبض على أَوْلَاد جسوس واستلب أَمْوَالهم وأجلس فقيههم الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد السَّلَام بن حمدون جسوس بِالسوقِ مُقَيّدا يتطلب الْفِدَاء ثمَّ حمل مسجونا إِلَى مكناسة
وَدخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَألف فَعَفَا السُّلْطَان عَن الْفَقِيه الْمَذْكُور وسرحه وَبعث بِهِ إِلَى فاس ليزعج الحراطين الَّذين بهَا إِلَى مكناسة فَقدم وأزعجهم فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الْفَقِيه الْمَذْكُور أَن قَتله الْقَائِد أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الْخَالِق الروسي فَمن النَّاس من يَقُول إِن ذَلِك كَانَ بِأَمْر السُّلْطَان وَمِنْهُم من يَقُول بِغَيْر أمره اه وَقد وقفت على تَقْيِيد بِخَط شَيخنَا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز محبوبة السلاوي رَحمَه الله وَكَانَ وَاعِيَة يَقُول فِيهِ إِن امتحان الْفَقِيه أبي مُحَمَّد جسوس كَانَ من أجل امْتِنَاعه من الْمُوَافقَة على ديوَان الحراطين الَّذِي اخترعه عليليش المراكشي للسُّلْطَان الْجَلِيل الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور فهجاه بعض السُّفَهَاء وهجا فاسا من أَجله وحقد عَلَيْهِ السُّلْطَان فاستصفى عَامَّة أَمْوَاله وأجرى عَلَيْهِ أَنْوَاع الْعَذَاب وبيعت دوره وأصوله وَكتبه وَجَمِيع مَا يملك هُوَ وَأَوْلَاده ونساؤه ثمَّ صَار يُطَاف بِهِ فِي الْأَسْوَاق وينادى عَلَيْهِ من يفْدي هَذَا الْأَسير وَالنَّاس ترمي عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ والحلى وَغير ذَلِك من النفائس أَيَّامًا كَثِيرَة فَيذْهب الموكلون بِهِ بِمَا يرْمى عَلَيْهِ حَيْثُ ذَهَبُوا بأمواله وَبَقِي على ذَلِك قَرِيبا من سنة فَكَانَ فِي ذَلِك محنة عَظِيمَة لَهُ ولعامة الْمُسلمين وخاصتهم وَلما دنا وَقت شَهَادَته رَحمَه الله وَقد أيس من(7/94)
نَفسه كتب بِخَطِّهِ رقْعَة وأذاعها فِي النَّاس يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله يشْهد الْوَاضِع اسْمه عقبه على نَفسه وَيشْهد الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته وَجَمِيع خلقه أَنِّي مَا امْتنعت من الْمُوَافقَة على تمْلِيك من ملك من العبيد إِلَّا لِأَنِّي لم أجد لَهُ وَجها وَلَا مسلكا وَلَا رخصَة فِي الشَّرْع وَأَنِّي إِن وَافَقت عَلَيْهِ طَوْعًا أَو كرها فقد خُنْت الله وَرَسُوله وَالشَّرْع وَخفت من الخلود فِي النَّار بِسَبَبِهِ وَأَيْضًا فَإِنِّي نظرت فِي أَخْبَار الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين حِين أكْرهُوا على مَا لم يظْهر لَهُم وَجهه فِي الشَّرْع فرأيتهم مَا آثروا أَمْوَالهم وَلَا أبدانهم على دينهم خوفًا مِنْهُم على تَغْيِير الشَّرْع واغترار الْخلق بهم وَمن ظن بِي غير ذَلِك وافترى على مَا لم أَقَله وَمَا لم أَفعلهُ فَالله الْموعد بيني وَبَينه وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام وَكتب عبد السَّلَام بن حمدون جسوس غفر الله ذَنبه وَستر فِي الدَّاريْنِ عَيبه صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَألف اه
ثمَّ بعد ذَلِك بيومين أَمر أَبُو عَليّ الروسي بقتْله فَقتل رَحمَه الله خنقا بعد أَن تَوَضَّأ وَصلى مَا شَاءَ الله ودعا قرب السحر من لَيْلَة الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن لَيْلًا على يَد الْقَائِد أبي عَليّ الروسي انْتهى مَا وَجَدْنَاهُ مُقَيّدا
وَاعْلَم أَن قَضِيَّة الْفَقِيه أبي مُحَمَّد رَحمَه الله من القضايا الفظيعة فِي الْإِسْلَام والأسباب الَّتِي أثارتها أَولا وأكدتها ثَانِيًا حَتَّى نفذ أَمر الله فِيمَا قَضَاهُ وَقدره فِي أزله بَعْضهَا ظَاهر وَبَعضهَا خَفِي الله أعلم بحقيقته غير أَن الْمَعْرُوف من حَال الْفَقِيه الْمَذْكُور هُوَ الصلابة فِي الدّين والورع التَّام وناهيك بِشَهَادَتِهِ هَذِه دَلِيلا على ذَلِك وَقَضيته قد تَعَارَضَت فِيهَا الأنقال ودخلها التعصب فَلَا يُوقف مِنْهَا على تَحْقِيق وغفران الله وَرَاء الْجَمِيع فَإِنَّهُ تَعَالَى أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وَقد جرى ذكر قَضِيَّة الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام هَذَا بِمَجْلِس السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان ابْن مُحَمَّد فَقَالَ مَا قَتله مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل وَإِنَّمَا قَتله أهل فاس قَالَ وَلم يمكنا أَن نَسْأَلهُ عَن حَقِيقَة ذَلِك اه وَفِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة عزل(7/95)
السُّلْطَان أَبَا عَليّ الروسي عَن فاس وَولي مَكَانَهُ حمدون الروسي ثمَّ بعد مُدَّة يسيرَة أخر حمدون وأعيد أَبُو عَليّ وفيهَا قدم عبد الله الروسي وَمَعَهُ أَمر السُّلْطَان بِبيع أصُول المجاورين بالمشرق يَعْنِي بالحرمين الشريفين
ثورة الْمولى أبي النَّصْر ابْن السُّلْطَان بالسوس ومقتله رَحمَه الله
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِيهَا ثار أَبُو النَّصْر ابْن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بِبِلَاد السوس وخب فِي الْفِتْنَة وَوضع
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة وَألف سرح السُّلْطَان كَاتبه الْخياط بن مَنْصُور من السجْن وولاه درعة
وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا قتل السُّلْطَان الْخياط الْمَذْكُور وأخاه عبد الرَّحْمَن وفيهَا ورد الْخَبَر على السُّلْطَان بِأَن أَوْلَاد دليم من عرب السوس قد قتلوا وَلَده الْمولى أَبَا النَّصْر الثائر بهَا
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَألف قتل السُّلْطَان الْقَائِد أَبَا الدشيش وَثَلَاثَة من القواد مَعَه وَسَبْعَة عشر من العبيد بمشرع الرملة وَفِي جُمَادَى الأولى من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف توفيت الْحرَّة عَائِشَة مباركة زوج السُّلْطَان وَهِي أم وَلَده الْمولى أبي الْحسن عَليّ الْآتِي ذكره
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف سَافر ولد السُّلْطَان وَهُوَ الْمولى أَبُو مَرْوَان بن إِسْمَاعِيل إِلَى الْحجاز بِقصد الْحَج وَفِي رَمَضَان مِنْهَا بعث وَالِي وَجدّة إِلَى الحضرة مائَة رَأس من رُؤُوس بني يزناسن
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف ورد كتاب من السُّلْطَان إِلَى فاس يتَضَمَّن تَحْرِير أهل فاس من الكلف كلهَا ثمَّ ورد عقبه كتاب آخر يوبخهم فِيهِ ويخيرهم بَين أَن يَكُونُوا جَيْشًا أَو نَائِبه فَقَالَ رجل مِنْهُم يدعى ولد الصحراوي إِنَّمَا يكون الْكَلَام أَمَام السُّلْطَان فَقتل وَأصْبح مصلوبا فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَقبض على أبي عَليّ الروسي وَأَصْحَابه وَولي على فاس(7/96)
حمدون الروسي ثمَّ بعد ذَلِك عمد حمدون الروسي إِلَى عبد الْخَالِق بن يُوسُف فَقتله فَقبض السُّلْطَان عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه مَسْعُود وَولي على فاس حمو قصارة ثمَّ بعد أَيَّام قدم أَبُو عَليّ الروسي واليا على فاس وَفِي هَذِه السّنة ورد الْخَبَر بِمَوْت الْمولى أبي مَرْوَان بالمشرق وفيهَا عزل السُّلْطَان أَوْلَاده عَن الْأَعْمَال كلهَا وَلم يتْرك إِلَّا ولي الْعَهْد الْمولى أَحْمد بتادلا ثمَّ بعث وَلَده الْمولى عبد الْملك إِلَى مراكش وولاه قطر السوس واستقامت الْأُمُور وسكنت الرّعية وهدأت الْبِلَاد واشتغل السُّلْطَان بِبِنَاء قصوره وغرس بساتينه والبلاد فِي أَمن وعافية تخرج الْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ من وَجدّة إِلَى وَادي نول فَلَا يجدان من يسألهما من أَيْن وَلَا إِلَى أَيْن مَعَ الرَّجَاء المفرط فَلَا قيمَة للقمح وَلَا للماشية والعمال تجبي الْأَمْوَال والرعايا تدفع بِلَا كلفة وَصَارَ أهل الْمغرب كفلاحي مصر يعْملُونَ ويدفعون فِي كل جُمُعَة أَو شهر أَو سنة وَمن نتج فرسا رباه حَتَّى إِذا بلغ أَن يركب دَفعه إِلَى الْعَامِل وَعشرَة مَثَاقِيل مَعَه ثمن سَرْجه هَذَا إِذا كَانَ المنتوج ذكرا فَإِذا كَانَ أُنْثَى ترك لَهُ وَيدْفَع لِلْعَامِلِ مِثْقَالا وَاحِدًا وَلم يبْق فِي هَذِه الْمدَّة بِأَرْض الْمغرب سَارِق وَلَا قَاطع طَرِيق وَمن ظهر عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك وفر فِي الْقَبَائِل قبض عَلَيْهِ بِكُل قَبيلَة مر عَلَيْهَا أَو قَرْيَة ظهر بهَا فَلَا تقله أَرض حَتَّى يُؤْتى بِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَكلما بَات مَجْهُول حَال بحلة أَو قَرْيَة ثقف بهَا إِلَى أَن يعرف حَاله وَمن تَركه وَلم يحتط فِي أمره أَخذ بِمَا اجترحه وَأدّى مَا سَرقه أَو اقترفه من قتل أَو غَيره
وَكَانَت أَيَّامه رَحمَه الله غزيرة الأمطار كَثِيرَة الْبركَة فِي الحراثة وَالتِّجَارَة وَغَيرهمَا من أَنْوَاع المعاش مَعَ الْأَمْن وَالْخصب والرخاء المحتد بِحَيْثُ لم يَقع غلاء طول أَيَّامه إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَبلغ الْقَمْح فِي أَيَّامه سِتّ أَوَاقٍ للمد وَالشعِير ثَلَاث أَوَاقٍ للمد وَرَأس الضَّأْن ثَلَاث أَوَاقٍ وَرَأس الْبَقر من المثقال إِلَى المثقالين سَائِر أَيَّام الرخَاء وَالسمن وَالْعَسَل رطلان بالموزونة وَالزَّيْت أَرْبَعَة أَرْطَال بالموزونة هَكَذَا نَقله صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ مُخَالف لما سَيَأْتِي فِي الْحَوَادِث من أَن الجدب والغلاء قد بلغا مبلغهما أَعْوَام التسعين وَألف وَلَعَلَّ مَا ذكره صَاحب الْبُسْتَان كَانَ فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمَذْكُور(7/97)
حَسْبَمَا هِيَ عَادَة الله تَعَالَى فِي مثل ذَلِك غَالِبا وَالله تَعَالَى أعلم
بِنَاء ضريحي الْإِمَامَيْنِ إِدْرِيس الْأَكْبَر والأصغر رَضِي الله عَنْهُمَا
لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بهدم قبَّة ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ بزاوية زرهون وَشِرَاء الْأُصُول الْمُجَاورَة لَهُ من جهاته الْأَرْبَع وهدمها وزيادتها فِيهِ فهدمت الْقبَّة وَجَمِيع مَا حولهَا وأعيدت على هَيْئَة بديعة وَاسْتمرّ الْبناء وَالْعَمَل فِي المشهد الشريف إِلَى أَن تمّ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَغَيره وَقَالَ فِي نشر المثاني وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل بتجديد بِنَاء مقَام مَوْلَانَا إِدْرِيس الْأَصْغَر باني فاس حَيْثُ ضريحه بهَا وَأمر بِبِنَاء قُبَّته الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ الْآن بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من المحاسن الَّتِي يعز وجودهَا وَأمر بتوسعة صحن الْمَسْجِد على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم من الْهَيْئَة الَّتِي لَا نَظِير لَهَا بفاس وَتمّ تسقيف الْقبَّة فِي آخر ذِي الْحجَّة من الْعَام الْمَذْكُور ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِإِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ فَهِيَ تُقَام فِيهِ من يَوْمئِذٍ جعل الله ذَلِك فِي ميزَان الْآمِر بِهِ وَالْمُتوَلِّيّ لَهُ آمين
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف مَاتَ الْقَائِد عبد الله الروسي بمكناسة وفيهَا غضب السُّلْطَان على أهل فاس وَبعث إِلَيْهِم حمدون الروسي وأخاه أَبَا عَليّ وَأمرهمْ بمصادرتهم وَقبض المَال مِنْهُم فبعثوا علماءهم وأشرافهم للشفاعة فَلم يقبل وشرعوا فِي دفع المَال حَتَّى لم يعرف لَهُ عدد وَلم يسلم من الغرامة أحد وتغيب النَّاس فِي تِلْكَ الْمدَّة وخلت الْمَدِينَة من ذَوي الْيَسَار
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا فِي الْمحرم مِنْهَا خرج عَسْكَر الإصبنيول من سبتة على حِين غَفلَة من الْمُسلمين فَضربُوا فِي محلتهم واستولوا عَلَيْهَا وعَلى خباء الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي ونهبوا وَقتلُوا وسلبوا(7/98)
وحازوا شبارات الْمُسلمين وعساتهم وحازوا قَصَبَة آفراك وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو ألف وَرَجَعُوا عودهم على بدئهم إِلَى سبته وَمِنْهَا ركبُوا الْبَحْر إِلَى جزيرتهم وَلم يبْق بسبتة إِلَّا سكانها ثمَّ كَانَت الكرة للْمُسلمين عَلَيْهِم بعْدهَا فَبَقيَ بأيدي الْمُسلمين مِنْهُم نَحْو ثَلَاثَة آلَاف
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا مَاتَ الباشا غَازِي بن شقراء صَاحب مراكش بوجدة وَفِي صفر مِنْهَا مَاتَ باعزيز بن صدوف صَاحب تارودانت وفيهَا انْتقل الْمولى عبد الْملك بن السُّلْطَان إِلَى تارودانت فاستقر بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ عِنْد التَّعَرُّض لدولته إِن شَاءَ الله
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
كَانَت أَيَّام أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله على مَا ذكرنَا من الْأَمْن والعافية وَتَمام الضَّبْط حَتَّى لم يبْق لأهل الذعارة وَالْفساد مَحل يأوون إِلَيْهِ ويعتصمون بِهِ وَلم تقلهم أَرض وَلَا أظلتهم سَمَاء سَائِر أَيَّامه فقد كَانَ خَليفَة ونائبا عَن أَخِيه الْمولى الرشيد سبع سِنِين وسلطانا وملكا مُسْتقِلّا سبعا وَخمسين سنة حَتَّى كَانَ جهلة الْأَعْرَاب يَعْتَقِدُونَ أَنه لَا يَمُوت وَيُقَال إِن الْبَعْض من أَوْلَاده كَانُوا يستبطئون مَوته ويعبرون عَنهُ بالحي الدَّائِم وَهَذِه الْمدَّة الَّتِي استوفاها الْمولى إِسْمَاعِيل فِي الْملك وَالسُّلْطَان لم يستوفها أحد من خلفاء الْإِسْلَام وملوكه سوى الْمُسْتَنْصر العبيدي صَاحب مصر فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي الْخلَافَة سِتِّينَ سنة لَكِن لَا سَوَاء فَإِن الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله استوفى مُدَّة الْخلَافَة بثمرتها وتملاها بِكَمَال لذتها لِأَنَّهُ وَليهَا فِي إبان اقتداره عَلَيْهَا واضطلاعه بهَا بعد سنّ الْعشْرين كَمَا مر لَا فِي مُدَّة النِّيَابَة وَلَا فِي مُدَّة الِاسْتِقْلَال وَلم يكن عَلَيْهِ استبداد لأحد وَلَا نغص عَلَيْهِ دولته منغص سوى مَا كَانَ من ثورة ابْن مُحرز وَابْنه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم وَمن سلك سُنَنهمْ من الْقَرَابَة وَكلهمْ كَانَ يشغب فِي الْأَطْرَاف لم يحصل مِنْهُم(7/99)
كَبِير ضَرَر للدولة بِخِلَاف الْمُسْتَنْصر العبيدي فَإِنَّهُ ولي وَهُوَ ابْن سبع سِنِين فَكَانَ فِي صدر دولته تَحت الاستبداد وَحدث فِي أَيَّامه الغلاء الْعَظِيم
قَالَ ابْن خلكان وَهُوَ غلاء لم يعْهَد مثله بِمصْر مُنْذُ زمَان يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاسْتمرّ سبع سِنِين أكل النَّاس فِيهَا بَعضهم بَعْضًا وَبيع رغيف وَاحِد بِخَمْسِينَ دِينَارا وَكَانَ الْمُسْتَنْصر فِي هَذِه الشدَّة يركب وَحده وكل من مَعَه من الْخَواص مترجلون لَيْسَ لَهُم دَوَاب يركبونها وَكَانُوا إِذا مَشوا يتساقطون فِي الطرقات من الْجُوع إِلَى غير ذَلِك فَلِذَا قُلْنَا لَا يَسْتَوِي حَال ملك الْمولى إِسْمَاعِيل وَملك الْمُسْتَنْصر رحمهمَا الله
وَلما كَانَت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف مرض أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل مرض مَوته قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ ابْتِدَاء مَرضه فِي ثَانِي يَوْم من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما أحس بالضعف بعث إِلَى وَلَده الْمولى أَحْمد صَاحب تادلا يستقدمه فَقدم عَلَيْهِ وَأقَام ثَلَاثًا ثمَّ اخترمته الْمنية رَحمَه الله يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف وَتَوَلَّى غسله الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم العميري وَصلى عَلَيْهِ الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عَليّ الْحسن بن رحال المعداني وَدفن بضريح الشَّيْخ المجذوب رَضِي الله عَنهُ من حَضْرَة مكناسة
قَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل قد عهد بِالْأَمر إِلَى وَلَده الْمولى أَحْمد الْمَذْكُور وَكَانَ يعبر عَنهُ بولِي الْعَهْد وَأنكر أكنسوس أَن يكون السُّلْطَان الْمَذْكُور قد عهد لأحد من أَوْلَاده قَالَ كَمَا أخبرنَا بذلك السُّلْطَان الْعَالم الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله مرَارًا وَكَانَ يحْكى فِي ذَلِك خَبرا وَهُوَ أَن الْمولى إِسْمَاعِيل لما أَيقَن بِالْمَوْتِ دَعَا وزيره وعالم حَضرته الْكَاتِب أَبَا الْعَبَّاس اليحمدي وَقَالَ لَهُ إِنِّي فِي آخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا فَأَحْبَبْت أَن تُشِير عَليّ بِمن أقلده هَذَا الْأَمر من وَلَدي لِأَنَّك أعرف بأحوالهم مني فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا لقد كلفتني أمرا عَظِيما وَأَنا أَقُول الْحق أَنه لَا ولد لَك تقلده أَمر الْمُسلمين كَانَ لَك ثَلَاثَة الْمولى مُحرز وَالْمولى الْمَأْمُون وَالْمولى مُحَمَّد فقبضهم الله إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان جَزَاك الله خيرا وودعه(7/100)
وَانْصَرف وَلم يعْهَد لأحد وَإِنَّمَا العبيد كَانُوا يقدمُونَ من شاؤوا ويؤخرون من شاؤوا وَكَانَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله يَحْكِي ذَلِك عِنْدَمَا يعرض لَهُ ذكر أَوْلَاده هُوَ وَالله أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته
قَالَ اليفرني فِي النزهة لم يزل أَمِير الْمُؤمنِينَ إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي مقارعة أعدائه إِلَى أَن دوخ بِلَاد الْمغرب كلهَا وَاسْتولى على سهلها ووعرها وَاسْتولى على تخوم السودَان وانْتهى مِنْهَا إِلَى مَا وَرَاء النّيل وانتشرت دولته فِي عمائرها وَبلغ من ذَلِك مَا لم يبلغهُ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وامتدت مَمْلَكَته فِي جِهَة الشرق إِلَى بسكرة من بِلَاد الجريد ونواحي تلمسان وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته اه وَقَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ للْمولى إِسْمَاعِيل من الْوَلَد على مَا تَوَاتر بِهِ الْخَبَر خَمْسمِائَة ولد ذكر وَمن الْبَنَات مثل ذَلِك أَو قريب مِنْهُ قَالَ وَالَّذِي عقب من أَوْلَاده على مَا رَأَيْنَاهُ عيَانًا فِي دفتر السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله إِذْ كَانَ يصلهم فِي كل سنة وَكَانَ يَبْعَثنِي لتفرقة الصِّلَة عَلَيْهِم بسجلماسة مائَة دَار وَخمْس دور كلهَا لأولاده لصلبه وَأما الَّذين لم يعقبوا أَو عقبوا وأنقطع نسلهم فليسوا فِي الدفتر وَأما الحفدة والأسباط فَكَانَ عَددهمْ فِي أَيَّام السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله ألفا وَخَمْسمِائة وَسِتِّينَ وَقد زادوا الْيَوْم فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد وَلم يزل يصلهم إِلَى الْآن على مَا فِي دفتر وَالِده وَمن زَاد يُزَاد لَهُ قَالَ وَأما مَا أدركناه من أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل لصلبه فِي دولة السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد فثمانية وَعِشْرُونَ رجلا نعرفهم بِالِاسْمِ وَالْعين وَمن بَنَاته لصلبه مثل ذَلِك قد أنزلهن السُّلْطَان بقصر حمو بن بكة ورتب لَهُنَّ الْمُؤْنَة وَالْكِسْوَة والصلة فِي كل سنة وَأنزل مَعَهُنَّ الحوافد اللَّاتِي لَا أَزوَاج لَهُنَّ وكل وَاحِدَة من هَذِه الدّور الْمِائَة(7/101)
وَالْخمس الَّتِي بسجلماسة لوَاحِد من أَوْلَاد صلبه لِأَنَّهُ كَانَ رَحمَه الله إِذا رأى أحدا من أَوْلَاده الَّذين لم يرد إقامتهم مَعَه بالمغرب قد بلغ أرْسلهُ إِلَى سجلماسة وَبني لَهُ بهَا قصرا أَو دَارا وَأَعْطَاهُ نخلا وأرضا للحراسة والفلاحة ومماليك يقومُونَ لَهُ بِخِدْمَة أَصله وحراثة أرضه فِي الشتَاء والصيف وَيُعْطِي كل وَاحِد من ذَلِك على قدر مرتبته عِنْده ومنزلة أمه مِنْهُ فتناسلت أَوْلَادهم ونمت فروعهم ووفر الله جمعهم وَحفظ نظامهم وَكَانَ رَحمَه الله سديد النّظر فِي نقل أَوْلَاده بأمهاتهم من مكناسة إِلَى تافيلالت مَعَ بني عمهم من الْأَشْرَاف ليتدربوا على معيشتها الَّتِي تدوم لَهُم فَكَانَ ذَلِك صونا لَهُم من نكبات الدَّهْر وفضيحة الْخَصَاصَة بعد مَوته وَزَوَال النِّعْمَة وانزواء رِدَاء الْملك السَّاتِر لَهُم بَين الْعَامَّة فنجحوا وأفلحوا بِخِلَاف إخْوَانهمْ الَّذين ربوا بمكناسة واستمروا بهَا إِلَى أَن توفّي والدهم وألفوا عوائدهم ومرنوا على شهواتهم فَإِنَّهُم لم ينم لَهُم نسل كإخوانهم الَّذين بالصحراء هَذَا مَا يتَعَلَّق بِنَسْل السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل
وَأما مبانيه بقلعة مكناسة وقصوره ومساجده ومدارسه وبساتينه فشيء فَوق الْمَعْهُود بِحَيْثُ تعجز عَنهُ الدول الْقَدِيمَة والحادثة من الْفرس واليونان وَالروم وَالْعرب وَالتّرْك فَلَا يلْحق ضخامة مصانعه مَا شيده الأكاسرة بِالْمَدَائِنِ وَلَا الفراعنة بِمصْر وَلَا مُلُوك الرّوم برومة والقسطنطينية وَلَا اليونان بأنطاكية والإسكندرية وَلَا مُلُوك الْإِسْلَام ودولة الْعِظَام كبني أُميَّة بِدِمَشْق وَبني الْعَبَّاس بِبَغْدَاد والعبيديين بإفريقيا ومصر والمرابطين والموحدين وَبني مرين والسعديين بالمغرب وَمَا بديع الْمَنْصُور بقصر من قصوره وَلَا بُسْتَان المسرة بِأحد بساتينه فقد كَانَ عِنْده بجنان حمرية مائَة ألف قعدة من شجر الزَّيْتُون وحبسه كُله على الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَمَرَّتْ عَلَيْهِ بعد وَفَاته العصور وَأَيَّام الفترة والفتن وَالنَّاس يحتطبونه فَلم يظْهر فِيهِ أثر من ذَلِك وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله أَحْيَاهُ وأجرى المَاء إِلَيْهِ وَأمر بإحصاء مَا بَقِي من شَجَرَة فوجدوه سِتِّينَ ألفا فَكَانَ رَحمَه الله يبْعَث بِثمن غَلَّته إِلَى الْحَرَمَيْنِ تنفيذا لمراد جده وَكَذَا ابْنه الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله(7/102)
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَقَد شاهدت الْكثير من آثَار الدول فَمَا رَأَيْت أثرا أعظم من آثاره وَلَا بِنَاء أضخم من بنائِهِ وَلَا أَكثر عددا من قصوره لِأَن هَؤُلَاءِ الدول كَانَ من اعتنى مِنْهُم بِأَمْر الْبناء غَايَة أمره أَن يَبْنِي قصرا ويتأنق فِي تشييده وتنجيده وَهَذَا السُّلْطَان لم يقْتَصر على قصر وَلَا على عشرَة وَلَا عشْرين بل جعل مباني الْعَالم كلهَا فِي بطن تِلْكَ القلعة المكناسية كَمَا قيل كل الصَّيْد فِي جَوف الفرأ هَذَا كَلَام صَاحب الْبُسْتَان رَحمَه الله ثمَّ قَالَ
وَكَانَ فِي سجونه من الْأُسَارَى خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا ونيفا كَانُوا يعْملُونَ فِي بِنَاء قصوره مِنْهُم الرخامون والنقاشون والنجارون والحدادون والمنجمون والمهندسون والأطباء وَلم تسمح نَفسه قطّ بِفِدَاء أَسِير
وَكَانَ فِي سجونه من أهل الجرائم كالقاتل والمحارب وَالسَّارِق نَحْو الثَّلَاثِينَ ألفا تظل فِي الْعَمَل مَعَ أسرى الْكفَّار ويبيتون فِي السجون والأهراء تَحت الأَرْض وَمن مَاتَ مِنْهُم دفن فِي الْبناء حَتَّى لم يبْق بالمغرب من أهل الْفساد عرق ينبض وَمِمَّا مدح بِهِ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله قَول الْفَقِيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْجُزُولِيّ من قصيدة لَهُ
(مولَايَ إِسْمَاعِيل يَا شمس الورى ... يَا من جَمِيع الكائنات فدى لَهُ)
(مَا أَنْت إِلَّا سيف حق منتضى ... الله من دون الْبَريَّة سَله)
(من لَا يرى لَك طَاعَة فَالله قد ... أعماه عَن طرق الْهدى وأضله)
ولنذكر مَا سلف فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث
فَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْمفضل بن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد المرسي ابْن الشَّيْخ الْأَكْبَر أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي كَانَ رَحمَه الله صَالحا خيرا من فضلاء عصره حَافِظًا لِلْقُرْآنِ بالسبع قد اشْتهر قدره فِي النَّاس كثيرا وَكَانَ يفر من ذَلِك وَإِذا سَأَلَهُ أحد أَن يَتَّخِذهُ شَيخا يَقُول نَحن إخْوَة فِي الله وَالدِّرْهَم الْكَامِل ينْفق مِنْهُ أَخذ الْقرَاءَات عَن الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي عبد الرَّحْمَن بن القَاضِي وَكتب لَهُ الْإِجَازَة بذلك وَكَانَ لَهُ نصيب من الْعُلُوم سوى الْقرَاءَات وانتسب فِي(7/103)
الطَّرِيق للْوَلِيّ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد الحفيان الرتبي السجلماسي من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي عبيد الشَّرْقِي وَتخرج عَلَيْهِ نجباء من طلبة الْقرَاءَات وَكَانَ رَحمَه الله كثير الطَّعَام بزاوية جده أبي عبيد الشَّرْقِي ثمَّ انْتقل الى نَاحيَة سلا فسكن بأحوازها وَبَقِي هُنَالك إِلَى أَن مَاتَ فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَحمل إِلَى الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَدفن بطالعتها قرب الْمَسْجِد الْأَعْظَم وقبره الْيَوْم مزارة عَظِيمَة وَكَانَ لَهُ كَلَام كثير على طَرِيق العروبي الملحون خَاطب بِهِ الرئيس مُحَمَّد الْحَاج الدلائي حِين مشت الوشاة بَينهمَا فَوَقَعت من أجل ذَلِك بَينهمَا مكاتبات ومعاتبات رحمهمَا الله
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف توفّي الشَّيْخ الرباني أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن احْمَد بن عبد الله بن حُسَيْن المصلوحي دَفِين تامصلوحت من أَعمال مراكش وَقد تقدم التَّنْبِيه على وَفَاة جده أبي مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن الْمَذْكُور وَكَانَت لَهُ شهرة عَظِيمَة وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه تلمذ لَهُ طَائِفَة من الْفُقَرَاء بمراكش وَاجْتمعَ عَلَيْهِ نَاس فَأنْكر ذَلِك السُّلْطَان زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَخرج إِلَى قَبيلَة سكتانة حَيْثُ ضريحه الْيَوْم فاستقر بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَ يَقُول لَا يأتينا إِلَّا من أَمنه الله لِأَن مقامنا هَذَا مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا وَكَانَ يَقُول دَارنَا دَار سر لَا دَار علم وَكَانَ إِذا دخل شهر الْمحرم ترك حلق الشّعْر والزينة فَإِذا ليم على ذَلِك قَالَ مَا فعلنَا هَذَا الا امتعاضا لقتل الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ وأسفا على مَا وَقع بِهِ وَكَانَ يعْمل السماع ويجتمع أَصْحَابه على الحضرة على الْكَيْفِيَّة الْمَعْهُودَة وَرُبمَا تواجد فَدخل مَعَهم وَكَانَت لَهُ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم أَخذ عَن الشَّيْخ المنجور وَأبي مُحَمَّد بن طَاهِر الحسني وَأبي مهْدي السكتاني وَغَيرهم وَتُوفِّي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم عَن سنّ عالية يُقَال أناف على الْمِائَة وبنيت عَلَيْهِ قبَّة حافلة وقبره الْيَوْم مزارة عَظِيمَة
وَفِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف مَعَ السّنة الَّتِي بعْدهَا حدثت مجاعَة عَظِيمَة بالمغرب لَا سِيمَا فاس وأعمالها أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد ثمَّ تدارك الله عباده بِلُطْفِهِ(7/104)
وَفِي سنة خمس وَسبعين وَألف فِي عَاشر رَمَضَان مِنْهَا وَقعت زَلْزَلَة عَظِيمَة بفاس وَغَيرهَا من بِلَاد الْمغرب قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْهَادِي الشريف السجلماسي وَقعت الزلزلة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَنحن بِمَجْلِس البُخَارِيّ عِنْد شيخ الْجَمَاعَة الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي رَحمَه الله فَقَامَ كل من بِالْمَجْلِسِ حَتَّى الشَّيْخ ظنا منا أَن السّقف يسْقط علينا لِأَن خشبه صوتت وَخرج سرعَان النَّاس يَلْتَمِسُونَ الْخَبَر فَأخْبر بهَا كل من كَانَ رَاقِدًا أَو جَالِسا حَتَّى النَّائِم انتبه وَمن كَانَ مَاشِيا لم يشْعر بهَا فَسئلَ الشَّيْخ عَن ذَلِك وَهل هُوَ كَمَا تزْعم الْعَامَّة من أَن الثور الَّذِي عَلَيْهِ الدُّنْيَا أَو الْحُوت يَتَحَرَّك فَأجَاب بِأَن ذَلِك بَاطِل لَا أصل لَهُ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} الاسراء 59 وَقَالَ أَيْضا ذكر بعض الْحُكَمَاء أَن ذَلِك يَقع فِي اختناق الرّيح فِي جَوف الأَرْض
وَفِي يَوْم الأثنين الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب سنة سبع وَسبعين وَألف توفّي البهلول المتبرك بِهِ سَيِّدي قَاسم بن أَحْمد بوعسرية الْمَعْرُوف بِابْن اللوشة دَفِين ضفة وَادي أرضم من بِلَاد آزغار وَلم يتَزَوَّج قطّ فَلم يكن لَهُ عقب هَكَذَا فِي نشر المثاني وَلَعَلَّه تَصْحِيف وَالصَّوَاب مَا يَأْتِي من أَنه توفّي سنة سبع وَتِسْعين بمثناة بمهملتين وَالله أعلم
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف توفّي شيخ السّنة وَإِمَام الطَّرِيقَة أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن نَاصِر بن عَمْرو الدرعي ثمَّ الأغلاني الشهير بِابْن نَاصِر نِسْبَة إِلَى جده الْمَذْكُور فِي النّسَب قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي فِي فهرسته كَانَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ مشاركا فِي فنون من الْعلم كالفقه والعربية وَالْكَلَام وَالتَّفْسِير والْحَدِيث والتصوف عابدا ناسكا ورعا زاهدا عَارِفًا قَائِما بالطريقة شاربا من عين الْحَقِيقَة وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مَعَ إكبابه على عُلُوم الْقَوْم وانتهاجه مَنْهَج الطَّرِيقَة لَا يخل بِعلم الظَّاهِر تدريسا وتأليفا وتقييدا وضبطا فنفع الله بِهِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَحبه النَّاس شرقا وغربا فَانْتَفع بِهِ الْخلق قَائِما بالتعليم والتربية للمريدين بقوله وَفعله والترقية بهمته عَن همة عالية وَحَالَة مرضية وَعلم(7/105)
صَحِيح وبصيرة ونورانية مَعَ التَّمَكُّن والرسوخ فَكَانَ إِذا تكلم انتقش كَلَامه فِي الْقلب وَإِذا وعظ وضع الهناء مَوَاضِع النقب ثمَّ أَطَالَ الشَّيْخ اليوسي فِي تَرْجَمته وَذكر لَهُ كرامات عديدة وَقد أفْصح عَن حَاله وَوَصفه فِي قصيدته الدالية الْمَشْهُورَة الْمَوْضُوعَة فِي مدحه وأتى فِيهَا من الإجلال لهَذَا الشَّيْخ والتعظيم بِمَا كَانَ سَبَب ربحه وَلِهَذَا الشَّيْخ شُيُوخ وَأَتْبَاع معروفون فِي كتب الْأَئِمَّة الَّذين تعرضوا لبَيَان ذَلِك وطريقته الْمُتَّصِلَة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْرُوفَة أَيْضا وَكَانَ وَالِده سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد من أكَابِر الْأَوْلِيَاء كثير الأوراد لَا يفتر لِسَانه عَن الْأَذْكَار حَسْبَمَا نَقله غير وَاحِد وَالله تَعَالَى أعلم
قَالَ مُؤَلفه عفى الله عَنهُ وَهَذَا الشَّيْخ هُوَ جدنا وَإِلَيْهِ ننتسب فَأَنا أَحْمد بن خَالِد بن حَمَّاد بن مُحَمَّد الْكَبِير بن أَحْمد بن مُحَمَّد الصَّغِير بِفَتْح الْمِيم ابْن مُحَمَّد بن نَاصِر الشَّيْخ الْمَذْكُور نفعنا الله بِهِ وأفاض علينا من مدده ومدد أَمْثَاله وأسلافنا ينتسبون بعد الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَى سيدنَا جَعْفَر ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَلست الْآن من ذَلِك على تَحْقِيق ولعلنا نحققه فِي مَوضِع آخر إِن شَاءَ الله
وَفِي حُدُود التسعين وَألف كَانَ انحباس الْمَطَر والغلاء قَالَ الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب القادري فِي الأزهار الندية أَن الْقَمْح قد بلغ فِي هَذِه الْمدَّة إِلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة للمد بِسَبَب تَأَخّر الْمَطَر وَالْمدّ صَاع وَنصف وَصلى النَّاس صَلَاة الاسْتِسْقَاء فَأول إِمَام خطب فِيهَا القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة وكررها ثَلَاث مَرَّات فَنزل مطر يسير لم يكف ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة رَابِعَة فَكَانَ الْخَطِيب فِيهَا الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد البوعناني ثمَّ أُعِيدَت خَامِسَة والخطيب القَاضِي بردلة ثمَّ أُعِيدَت سادسة والخطيب أَبُو عبد الله مُحَمَّد المرابط الدلائي وفيهَا بلغ الْقَمْح سِتِّينَ أُوقِيَّة وَهُوَ غلاء لم يسمع بِمثلِهِ ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة سابعة والخطيب أَبُو عبد الله البوعناني ثمَّ أُعِيدَت ثامنة والخطيب الشَّيْخ الْوَلِيّ الزَّاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفشتالي وَفِي عَشِيَّة غده نزل الْمَطَر مَعَ رعد وبرق ففرح الْمُسلمُونَ وَأَكْثرُوا من حمد الله(7/106)
تَعَالَى ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة تاسعة والخطيب القَاضِي بردلة وَخرج يَوْمئِذٍ فِي جملَة النَّاس شيخ الْإِسْلَام وبركة الْأمة الإِمَام أَبُو مُحَمَّد سَيِّدي عبد الْقَادِر الفاسي رَاكِبًا على حمَار جاعلا الْأَشْرَاف من أهل الْبَيْت الطَّاهِر أَمَامه مستشفعا بهم إِلَى الله تَعَالَى فَنزل عِنْد الرُّجُوع مطر قَلِيل وَمن الْغَد نزل الْمَطَر الغزير الْكَافِي النافع فانحطت الأسعار وَنزل الْقَمْح إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ أُوقِيَّة بَعْدَمَا كررت الصَّلَاة تسع مَرَّات وَكَانَت الصَّلَاة التَّاسِعَة يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس الْمحرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف فِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله الشريف الوزاني الشهير وَكَانَ عمره يَوْم توفّي خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَتُوفِّي وَلَده الشَّيْخ الْمولى أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَقت الْعشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة عشْرين وَمِائَة وَألف وعمره يَوْمئِذٍ ثَمَانُون سنة وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ القطب الْمولى التهامي ابْن مُحَمَّد طُلُوع شمس يَوْم الِاثْنَيْنِ فاتح الْمحرم من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف وعمره سِتّ وَسِتُّونَ سنة وَتُوفِّي الشَّيْخ مولَايَ الطّيب ابْن مُحَمَّد يَوْم الْأَحَد وَقت طُلُوع الْفجْر ثامن عشر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وعمره نَيف وَثَمَانُونَ سنة وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ مولَايَ أَحْمد ضحوة يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ مولَايَ عَليّ بن أَحْمد يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم من ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ يَوْم الْأَرْبَعَاء فاتح سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد أَتَيْنَا بوفاة هَؤُلَاءِ السَّادة الوازانيين مَجْمُوعَة هُنَا لما فِي ذَلِك من الْمُنَاسبَة والتقريب ويتصل نسبهم بالمولى يملح بن مشيش أخي الْمولى عبد السَّلَام بن مشيش ثمَّ بالمولى إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَضِي الله عَنْهُم وأماتنا على محبتهم وحشرنا فِي زمرتهم
وَفِي سنة تسعين وَألف وَقع الوباء الْعَظِيم بالمغرب فَكَانَ عبيد السُّلْطَان يردون الواردين من الْآفَاق على مكناسة الزَّيْتُون كَمَا مر(7/107)
وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف بعد ظهر الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من رَمَضَان مِنْهَا توفّي شيخ الْجَمَاعَة بفاس وَالْمغْرب الإِمَام الْكَبِير الْعَالم الشهير الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عَليّ بن يُوسُف الفاسي وَلَا يحْتَاج مثله رَضِي الله عَنهُ إِلَى تَعْرِيف فَإِن مآثره أشهر من قفا نبك قَالُوا وَمَعَ غزارة علمه وانتفاع أهل المغارب الثَّلَاثَة بِهِ لم ينضد لجمع كتاب مَخْصُوص وَلَا شرح متن من الْمُتُون وَإِنَّمَا كَانَت تصدر عَنهُ أجوبة يسْأَل عَنْهَا فيجيب ويجيد وَجَمعهَا بعض أَصْحَابه فَجَاءَت فِي مُجَلد
وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَألف توفّي الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو مُحَمَّد عبد الله العوني دَفِين سلا من أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي مُحَمَّد الْمفضل
وَفِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة المشارك أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَادِر الفاسي صَاحب نظم عمل فاس والأفنوم فِي مبادىء الْعُلُوم وَغَيرهمَا من التآليف الحسان
وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ذُو الْأَحْوَال الربانية والمواهب العرفانية أَبُو الْقَاسِم بن أَحْمد الوشة السفياني الْمَعْرُوف بِأبي عسرية لِأَنَّهُ كَانَ يعْمل بِشمَالِهِ أَكثر من يَمِينه كَانَ من المولهين فِي ذَات الله تَعَالَى وَمن أهل الْأَحْوَال والشطحات يُقَال إِنَّه حمل وَهُوَ صبي إِلَى الشَّيْخ أبي عبيد الشَّرْقِي فبرك عَلَيْهِ ودعا بِقرب من مَاء فصبت عَلَيْهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنا بردنا هَذَا الصَّبِي لأحرقته الْأَنْوَار وَلذَا كَانَ يَهْتِف بِأبي عبيد كثيرا وينادي باسمه وينسب جَمِيع مَا يظْهر على يَده لَهُ
وَفِي سنة إِحْدَى مائَة وَألف أَمر السُّلْطَان النَّاس بِأَن لَا يلبسوا النِّعَال السود وَلَا يلبسهَا إِلَّا الْيَهُود وَتقدم التَّنْبِيه على ذَلِك عقب فتح العرائش
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام على الْأَعْلَام أخر عُلَمَاء الْمغرب على الْإِطْلَاق الَّذِي وَقع على علمه وصلاحه الِاتِّفَاق أَبُو عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي نِسْبَة إِلَى آيت يوسي قَبيلَة من برابر ملوية وَأَصله اليوسي كَانَ رَضِي الله عَنهُ غزالي وقته علما وتحقيقا وزهدا وورعا قَالَ فِي(7/108)
فهرسته كَانَت قراءتي كلهَا أَو جلها فتحا ربانيا وَرزقت وَللَّه الْحَمد قريحة وقادة فَكنت بِأَدْنَى سَماع يَنْفَعنِي الله فقد أسمع بعض الْكتاب فَيفتح الله عَليّ فِي جَمِيعه فتحا ظَاهرا وأبلغ فِيهِ مَا لم يبلغهُ من سمعته مِنْهُ وَرب كتاب لم أسمعهُ أصلا غير أَن سَماع الْبَعْض فِي كل فن صَار مبدأ لِلْفَتْحِ وتتميما لحكمة الله فِي سنة الْأَخْذ عَن الْمَشَايِخ وَلَا تستوحش مِمَّا ذَكرْنَاهُ ظنا مِنْك أَن الرِّبْح أبدا يكون على قدر رَأس المَال كلا فقد يبلغ الدِّرْهَم الْوَاحِد ألف مِثْقَال وَمَا ذَلِك على الله بعزيز
وَكَانَ مُعظم قِرَاءَته بالزاوية الدلائية لم يزل مُقيما بهَا عاكفا على بَث الْعلم ونشره إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا الْمولى الرشيد بن الشريف فنقله إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ خرج إِلَى الْبَادِيَة فاستوطن بقبيلته إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ متضلعا من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية حَتَّى قَالَ فِي تأليفه الْمُسَمّى بالْقَوْل الْفَصْل فِي الْفرق بَين الْخَاصَّة والفصل أَنه بلغ دَرَجَة الشَّيْخ سعد الدّين التَّفْتَازَانِيّ وَالسَّيِّد الْجِرْجَانِيّ وأضرابهما وَسَأَلَهُ يَوْمًا سَائل بِمَجْلِس درسه فَقَالَ لَهُ اسْمَع مَا لَا تسمعه من إِنْسَان وَلَا تَجدهُ محررا فِي ديوَان وَلَا ترَاهُ مسطرا ببنان وَإِنَّمَا هُوَ من مواهب الرَّحْمَن وَلما دخل مراكش تصدر بهَا لإقراء علم التَّفْسِير بِجَامِع الْأَشْرَاف فَمَكثَ فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة قَرِيبا من ثَلَاثَة أشهر وَهُوَ يُبْدِي كل يَوْم أسلوبا غَرِيبا وتحقيقا عجيبا فَعجب النَّاس من غزارة مادته مَعَ أَنه رُبمَا بَات فِي ضريح بعض الْأَوْلِيَاء وَالنَّاس مَعَه فَلَا يطالع كتابا وَلَا يُرَاجع مؤلفا فَإِذا أصبح وَجلسَ على الْكُرْسِيّ أطلق لِسَانه بِمَا يبهر الْعُقُول وَكَانَ الشّعْر عِنْده أسهل من النَّفس وشعره كُله حكم وأمثال كشعر الْعَرَب القدماء وقصيدته الدالية فِي شَيْخه ابْن نَاصِر دَالَّة على امتداد بَاعه ورسوخ قدمه فِي المعارف الْفُنُون وَللَّه در الإِمَام أبي سَالم العياشي إِذْ قَالَ
(من فَاتَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ يَصْحَبهُ ... فليصحب الْحسن اليوسي يَكْفِيهِ)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ آخر الْعلمَاء الراسخين بل خَاتِمَة الفحول من الرِّجَال الْمُحَقِّقين حَتَّى كَانَ بعض الشُّيُوخ يَقُول هُوَ المجدد على رَأس هَذِه الْمِائَة(7/109)
لما اجْتمع فِيهِ من الْعلم وَالْعَمَل بِحَيْثُ صَار إِمَام وقته وعابد زَمَانه رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَفِي سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع من شهر ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد حجي قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي فِي حَقه مَا نَصه رجل خير صَالح وَلَقَد اجْتمعت بِهِ بمكناسة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف فَمَا رَأَيْت مِنْهُ إِلَّا خيرا اه وَلما توفّي خَلفه وَلَده ووارث سره وضجيعه فِي قَبره الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي أَبُو مُحَمَّد عبد الله حجي الْمَعْرُوف بالجزار وضريحهما مزارة شهيرة بسلا
وَفِي سنة تسع أَو عشر وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعدْل النوازلي الفارض الحاسب أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي شَعْرَة السلاوي وَدفن قريب ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة خمس عشرَة وَمِائَة وَألف توفّي الإِمَام الْفَقِيه الأديب النَّاظِم الناثر أَبُو الْقَاسِم بن الْحُسَيْن الغريسي ثمَّ السلاوي الْمَعْرُوف بِأبي زَائِدَة وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة وَدفن قرب ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة وَألف فِي ضحى يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم مِنْهَا كسفت الشَّمْس كسوفا كليا وَسمي ذَلِك الْعَام عَام الظليماء
وَفِي سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْهمام ذُو التصانيف المفيدة فِي كل فن الْحجَّة المتبرك بِهِ حَيا وَمَيتًا أَبُو سرحان سَيِّدي مَسْعُود جموع الفاسي ثمَّ السلاوي وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع جُمَادَى الأولى من السّنة وَدفن بزاوية الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد حجي دَاخل مَدِينَة سلا
وَفِي سنة عشْرين وَمِائَة وَألف توفّي الْوَلِيّ الصَّالح العابد الناصح أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله معن الأندلسي نزيل المخفية من فاس حرسها الله(7/110)
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ إِحْدَاث قِرَاءَة المسمع الحَدِيث المتضمن لأمر النَّاس بالإنصاف وَقَوله أَنْصتُوا رحمكم الله ثَلَاثًا عِنْد خُرُوج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة من الْمَقْصُورَة وجلوسه على الْمِنْبَر
وَفِي سنة أثنتين وَعشْرين وَمِائَة وَألف وَذَلِكَ وَقت عصر الثُّلَاثَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سَيِّدي أَحْمد حجي الْمَعْرُوف بالجزار وَدفن بِإِزَاءِ قبر أَبِيه كَمَا مر
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الصبيحي السلاوي ورثاه الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي بقوله
(جزعنا وَإِن كُنَّا على الْعلم أَنه ... إِذا مَا أَرَادَ الله أمرا تعجلا)
(لفقد الإِمَام الْمُجْتَبى الْعَالم الرضي ... الصبيح وَمن فِي وقته قد تنبلا)
(وَإِلَّا فمختار الْإِلَه اختيارنا ... وَنَرْجُو لَهُ خيرا عميما مكملا)
ورثاه أَيْضا صديقه الملاطف الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر الحافي السلاوي رحم الله الْجَمِيع
وَفِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فاتح رَجَب مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الْعَالم الْعَامِل الْعَارِف الشهير الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي من كبار أَصْحَاب الشَّيْخ ابْن نَاصِر وَمن حفدة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الزعري الْمُتَقَدّم الذّكر ومآثر هَذَا الشَّيْخ أشهر من أَن تذكر وزواياه عميمة النَّفْع وَالْبركَة بالمغرب وَكَانَت وَفَاته بمكناسة الزَّيْتُون وضريحه بهَا شهير عِنْد رَوْضَة الشَّيْخ سَيِّدي عبد الله بن حَامِد رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِي الثَّامِن عشر من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة الإِمَام السّني أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي وَهُوَ ولد الشَّيْخ ابْن نَاصِر الْمُتَقَدّم وخليفته ووارث سره وفضله رَضِي الله عَنهُ أشهر من أَن يُنَبه عَلَيْهِ وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ الْحسن بن(7/111)
مُحَمَّد المعداني فِي كِتَابه الرَّوْض اليانع الفائح فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي عبد الله الصَّالح قَالَ حدث بعض الْعلمَاء الأجلة أَنه لما دخل الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن نَاصِر الدرعي الْمَدِينَة المشرفة فِي حجَّته الْأَخِيرَة جلس تجاه الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَالنَّاس يزدحمون عَلَيْهِ لأخذ الْعَهْد وتلقين الأوراد وَهُوَ منبسط لذَلِك فَقلت فِي نَفسِي إِن هَذَا الرجل مغرور رَاض عَن نَفسه كَيفَ يتَصَدَّى فِي هَذَا الْمَكَان الَّذِي تخضع فِيهِ الْمُلُوك وَجَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَإِذا طلعت الشَّمْس اختفى السراج قَالَ فكاشفني بِمَا فِي نَفسِي والتفت إِلَيّ وَقَالَ وَالله مَا جَلَست لما ترَوْنَ حَتَّى أَمرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أذعنت لَهُ حَتَّى هددت بالسلب قَالَ فَسَقَطت على يَدَيْهِ أقبلها وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَنا تائب إِلَى الله تَعَالَى فَدَعَا لي وانصرفت وَمِمَّا حَكَاهُ صَاحب الْكتاب الْمَذْكُور قَالَ حدث الرجل الصَّالح الْبركَة الْفَقِيه الناصح سَيِّدي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المجاصي قَالَ كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله قد استدعى الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر وَكَانَ بِهِ حنق عَظِيم عَلَيْهِ وعزم إِذا وصل إِلَيْهِ أَن يفعل بِهِ مَكْرُوها لَا تدرى حَقِيقَته غير أَن الْأَمر شَدِيد فجَاء إِلَى الشَّيْخ جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام واصحابه الملازمين لَهُ وَقد تخوفوا عَلَيْهِ وعَلى أنفسهم غَايَة فَكَلَّمُوا الشَّيْخ فِي ذَلِك واستفهموه ليعلموا مَا عِنْده من عَادَة الله تَعَالَى مَعَ أوليائه من النُّصْرَة لَهُم والذب عَنْهُم فَلم يسمعوا مِنْهُ كلمة ثمَّ راجعوه فِي ذَلِك حَتَّى هابوه وسكتوا عَنهُ وَقدم الشَّيْخ الْمَذْكُور على السُّلْطَان فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَصَبَة آكراي قرب مكناسة الزَّيْتُون إِذا بِرَجُل مجاطي يُقَال لَهُ الْحَاج عَمْرو لقِيه هُنَالك فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ نزل عَن فرسه ليسلم عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ مَا الْخَبَر يَا وَلَدي فَقَالَ الرجل مَا الْخَبَر يَا سَيِّدي وَالله لَوَدِدْت أَن سَيِّدي لم يصل إِلَى هُنَا وَلم يخرج من دَاره يَعْنِي أَن الْأَمر عَظِيم فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ بِلِسَان الْعِنَايَة الربانية وَلَا مَا يشوش إِذا كَانَ فِي رقبتك شبر وَأَشَارَ بِيَدِهِ فاعمل فِيهَا ذِرَاعا وَمد ذراعه ففرح الْعلمَاء الَّذين مَعَه وكل من حضر بِتِلْكَ الْمقَالة وتيقنوا الْأَمْن على الشَّيْخ وعَلى أنفسهم لما يعلمُونَ من عَادَة الله الْكَرِيمَة مَعَه فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ فَإِن السُّلْطَان جَاءَ إِلَيْهِ(7/112)
بِنَفسِهِ وَهُوَ فِي رَوْضَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر وتلقاه بِالْقبُولِ والتعظيم والتبجيل والتكريم وَصَافحهُ بِيَدِهِ وَجلسَ مَعَه فِي دَاخل الْقبَّة سَاعَة وَلما خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من عِنْده جعل يُنَادي بِلِسَانِهِ فِي أَصْحَابه وَيَقُول زوروا سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر يَا النَّاس زوروا سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر يَا النَّاس ويكررها من صميم قلبه قَالَ سَيِّدي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فَلَمَّا انْصَرف السُّلْطَان من عِنْد الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ جِئْت إِلَيْهِ وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي إِنَّا نَخَاف أَن ينزلنا السُّلْطَان بضريح الشَّيْخ سَيِّدي عبد الرَّحْمَن المجذوب وَيطول بِنَا الْمقَام فَقَالَ لي لَا نبقى إِلَّا هُنَا وَبعد غَد ننصرف إِلَى بِلَادنَا إِن شَاءَ الله فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ بعد أَن جَاءَ الْأُمُور من السُّلْطَان يَأْمُرهُ بالنزول بضريح الشَّيْخ المجذوب فَقَالَ لَا أنزل إِلَّا هُنَا فَبَقيَ فِي مَوْضِعه ثمَّ بعث إِلَيْهِ السُّلْطَان يَأْمُرهُ بالتوجه إِلَى بِلَاده مُعظما مكرما اه
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة عيد الْفطر مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَالم القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الْعَلامَة أبي الْحسن عَليّ المراكشي وَصلي عَلَيْهِ من الْغَد وَدفن بالموضع الْمُسَمّى بالعلو من رِبَاط الْفَتْح
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشر الْمحرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الله العايدي السجيري وَدفن بزاوية من حومة السويقة من سلا وَفرغ من بِنَاء قُبَّته فِي رَجَب من السّنة بعْدهَا
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر رَجَب مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة خَاتِمَة الْمُحَقِّقين وَآخر قُضَاة الْعدْل بفاس الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بردلة الفاسي وَفِي التَّارِيخ الْمَذْكُور توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة المتبرك بِهِ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن سُلَيْمَان ذُو التآليف العديدة فِي الْحساب وَغَيره بِحَضْرَة مراكش رَحمَه الله
وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف كَانَت جَائِحَة الْجَرَاد بالعدوتين سلا ورباط الْفَتْح وأعمالهما وَخَلفه قمله السمي فِي لِسَان المغاربة بآمرد فَكَانَ(7/113)
كالسيل الْعَام لم يتْرك ورقة خضراء إِلَّا أكلهَا وَكَانَ ذَلِك فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة ألف يَوْم الاربعاء ثَانِي عشر صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي مُحَمَّد الصَّالح ابْن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي مُحَمَّد الْمُعْطِي ابْن سَيِّدي عبد الْخَالِق ابْن سَيِّدي عبد الْقَادِر ابْن الشَّيْخ الْأَكْبَر سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي ومناقبه قد تكفل بهَا كتاب الرَّوْض الفائح فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي عبد الله الصَّالح لأبي عَليّ المعداني وَفِي هَذِه السّنة ضحى يَوْم السبت ثامن ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق سَيِّدي أَبُو بكر ابْن عَليّ الْفَرَجِيِّ المراكشي ثمَّ السلاوي واحتفل النَّاس لجنازته وازدحموا على نعشه حَتَّى كَادُوا يقتتلون عَلَيْهِ وَدفن قرب دَاره بزاوية سَيِّدي مغيث من طالعة سلا حرسها الله
الْخَبَر عَن الدولة الأولى لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي رَحمَه الله
لما توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع قواد الْعَسْكَر البُخَارِيّ وقواد الودايا وأعيان الدولة وكتابها وقضاتها وَبَايَعُوا الْمولى أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي لبسط يَده بالعطاء قَالَ أكنسوس بَايعُوهُ بِإِشَارَة العبيد الشبيهة بالجبر وَلم يكن ذَلِك عَن عهد من أَبِيه وَكَتَبُوا بيعَته إِلَى الْآفَاق وَلما اتَّصل بِأَهْل فاس خبر موت السُّلْطَان كَانَ أول من بدؤوا بِهِ أَن قتلوا قائدهم أَبَا عَليّ الروسي ثمَّ بَايعُوا السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وَكَتَبُوا بيعتهم وَتوجه بهَا أعيانهم إِلَى مكناسة فَدَخَلُوا على السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وأدوا الْبيعَة وَالطَّاعَة فقبلهم وَلم يظْهر لَهُم سوء بِمَا ارتكبوه من قتل قائدهم بل أعْطى الْعلمَاء والأشراف جَائِزَة الْبيعَة وَولى الْقَائِد المحجوب العلج وردهم مكرمين
ثمَّ قدم عَلَيْهِ قواد الْقَبَائِل والأمصار وأعيانها من أهل الحواضر والبوادي(7/114)
مبايعين ومؤدين الطَّاعَة فَجَلَسَ للوفود وَأَجَازَ كلا على قدر مرتبته وردهم إِلَى بِلَادهمْ وتفرغ لشأنه فأفتح عمله بقتل عُمَّال أَبِيه وأركان دولته فَقتل عَليّ بن يشي القبلي أَمِير البربر وثنى بِأَحْمَد بن عَليّ أَمِير الْأَعْمَال الفاسية وَمَا أتصل بهَا من بِلَاد الهبط وَالصَّحِيح أَن أَحْمد بن عَليّ الْمَذْكُور كَانَ عِنْد بيعَة الْمولى أَحْمد فِي السجْن فَدس إِلَيْهِ عَليّ بن يشي من ذبحه فِيهِ فَسلط الله عَلَيْهِ السُّلْطَان فَقتله وَكَانَ جَزَاؤُهُ من جنس عمله وَقتل السُّلْطَان أَيْضا الباشا ابْن الْأَشْقَر ومرجان الْكَبِير قَائِد عبيد الدَّار وَصَاحب بيُوت الْأَمْوَال وَكَانَ لنظره أَلفَانِ ومائتان من المفاتي كلهَا موزعة على أَبْوَاب الْقُصُور وكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الخصيان لَهُ عَبْدَانِ وَثَلَاثَة وَأكْثر يخدمونه
وَاعْلَم أَن الْمولى أَحْمد رَحمَه الله كَانَ مستبدا عَلَيْهِ فِي كثير من الْأَحْوَال يُشِير العبيد عَلَيْهِ فيفعل وَمَا قتل من قتل من رُؤَسَاء الدولة إِلَّا بإشارتهم وَقتل جمَاعَة من القواد وَالْكتاب سوى من تقدم وَطَاف على بيُوت الْأَمْوَال ومخازن السِّلَاح والكسى فَأمر بِإِخْرَاج ذَلِك وتفرقته على العبيد وقواد الْجَيْش وَأعْطى من ذَلِك فَوق الْكِفَايَة وَعم الْعلمَاء والأشراف والطلبة بالنوال وَخص أفرادا من الْعَسْكَر بألوف فاغتبط النَّاس بِهِ وحمدوه رَحمَه الله
إغارة الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي على تطاوين وَمَا دَار بَينه وَبَين الْفَقِيه أبي حَفْص عمر الوقاش
كَانَ الْقَائِد الْمُجَاهِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي يَلِي رئاسة الْمُجَاهدين هم وَأَبوهُ من قبله بالثغور الهبطية أَيَّام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَكَانَت لَهُ ولأبيه الْيَد الْبَيْضَاء فِي فتح طنجة والعرائش وَغَيرهمَا حَسْبَمَا سلف بعضه فَكَانَت لَهُ بذلك وجاهة كَبِيرَة فِي الدولة خُصُوصا بِبِلَاد الهبط وَكَانَ بتطاوين يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الأديب أَبُو حَفْص عمر الوقاش من بيوتاتها وَأهل الرياسة بهَا كَانَ أَولا كَاتبا مَعَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَكَانَت لَهُ الْمنزلَة الْعَالِيَة عِنْده ثمَّ لما ضعف عَن الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بكبر سنه(7/115)
ولاه على تطاوين وأعمالها فَحدثت بَينه وَبَين الْقَائِد أبي الْعَبَّاس الريفي مُنَافَسَة أوجبتها الْمُجَاورَة والمعاصرة فَكَانَ يبلغ كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه مَا يحفظه وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وأفضى الْأَمر إِلَى ابْنه الْمولى أَحْمد فضيع الحزم وأهمل أَمر الْجند حَتَّى سَقَطت هَيْبَة السُّلْطَان من قُلُوب الْوُلَاة فِي النواحي فانتهز أَبُو الْعَبَّاس الريفي الفرصة فِي أهل تطاوين وزحف إِلَيْهَا فِي جَيش كثيف ودخلها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وحاول الفتك فيهم فبرز إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو حَفْص الوقاش فِي أهل تطاوين وحاربه فانتصر عَلَيْهِ وأوقع بِهِ وقْعَة أعظم مِمَّا كَانَ أضمر لَهُ وَقتل من إخوانه عددا كثيرا وَنَجَا الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس بجريعة الذقن
وَلما اتّفق للفقيه أبي حَفْص هَذَا الْفَتْح الَّذِي لم يكن لَهُ فِي حِسَاب استخفه النشاط وغلبت عَلَيْهِ حلاوة الظفر حَتَّى طمع فِي الْملك وفاه من ذَلِك بِمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ وَلكُل عَاقل كِتْمَانه فَقَالَ قصيدته الْمَشْهُورَة ينعي فِيهَا على أهل الرِّيف فعلتهم وينتقص دولتهم ويفتخر على أهل فاس فَمن دونهم ويخبر عَن نَفسه بِمَا يؤول إِلَيْهِ أمره فأزرى بأدبه على كبر سنه مَعَ أَنه كَانَ من أهل الْأَدَب البارع وَالْعلم والرياسة وَالْقَصِيدَة الْمشَار إِلَيْهَا هِيَ قَوْله
(بلغت من الْعليا مَا كنت أرتجي ... وأيامنا طابت وغنى بهَا الطير)
(ونادى البشير مفصحا ومصرحا ... هَلُمَّ أباحفص فَأَنت لَهَا الصَّدْر)
(نهضت مجيبا للندا راقصا بِهِ ... وَمَا راعني إِذْ ذَاك زيد وَلَا عَمْرو)
(شرعت بِحَمْد الله للْملك طَالبا ... وَقلت وللمولى المحامد وَالشُّكْر)
(أَنا عمر الْمَعْرُوف إِن كنت جاهلي ... فسل تَجِد التَّقْدِيم عِنْدِي وَلَا فَخر)
(أَنا عمر الْمَوْصُوف بالبأس والندى ... أَنا عمر الْمَذْكُور فِي ورد الجفر)
(ظَهرت لأحيي الدّين بعد اندراسه ... فطوبى لمن أَمْسَى يساق لَهُ الْأَمر)
(وَلم يبْق ملك يستتب بغربنا ... فعندي انْتهى الْعلم المبرح والسر)
(أَنا عمر الْمَشْهُور فِي كل غَارة ... أَنا البطل الْمِقْدَام والعالم الحبر)
(ضبطت بلادي وانتدبت لغَيْرهَا ... وَعَما قَلِيل يعظم الجاه وَالْقدر)
(وَجئْت بِعدْل للإمامين تَابعا ... أَنا الثَّالِث الْمَذْكُور بعدهمَا وتر)(7/116)
يَعْنِي أَنه ثَالِث العمرين وَقد كَانَ يُصَرح بذلك ثمَّ قَالَ
(ففرطوط والرحمون والكوط عصبتي ... وراغون كنزي وَالصَّغِير بِهِ الْقَهْر)
(أُولَئِكَ أَنْصَارِي وأرباب دَوْلَتِي ... وَأَهلي وأصهاري هم الأنجم الزهر)
(وَقد دَامَ بالديمان مجدي وسؤددي ... وفخري فِي الأقطار باد كَمَا الْفجْر)
(هلالي بدا لما هلالي أجابني ... وغيلان إِذْ لبّى بِهِ عظم الوفر)
(ودولة أهل الرِّيف حتما تمزقت ... فَلم يبْق بالتحقيق عِنْدِي لَهَا جبر)
(أذقناهم لما أَتَوا شَرّ بأسنا ... فَأَبَوا سرَاعًا والصوارم والسمر)
(تطير الأكف والسواعد مِنْهُم ... هَنِيئًا فَحق للأنام بِنَا الْبشر)
(بخفي حنين آب عَنَّا كَبِيرهمْ ... وَمَا فَاتَهُ منا نكال وَلَا خسر)
(فَمن ذَا يضاهيني وَمَالِي وافر ... وذكري مغمور بِهِ الْبر وَالْبَحْر)
إِلَى غير هَذَا مِمَّا لَا غَرَض لنا فِي جلبه وَقد أَجَابَهُ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن بجة الريفي ثمَّ العرائشي بقصيدة يَقُول فِيهَا
(فِي صفحة الدَّهْر قد خطت لنا عبر ... مِنْهَا ادِّعَاء الْحمار أَنه بشر)
(من مر عَنهُ الصِّبَا وَمَا رأى عجبا ... خَبره بعجاب دهره الْكبر)
وَهِي طَوِيلَة إِلَّا أَن قَائِلهَا لم يحكم صناعَة الشّعْر فَلِذَا تركناها
وَلما اتَّصل خبر هَذِه الْوَقْعَة بأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أَحْمد رَحمَه الله أغضى عَن الْفَرِيقَيْنِ وَدخل دَاره وَعَكَفَ على ملذاته وَترك النَّاس وشأنهم وثار بِبِلَاد الغرب وَالْقصر وأعماله فَسَاد كَبِير بَين الْقَبَائِل وَأَصْحَاب المخزن وَهلك فِي ذَلِك بشر كثير وَسَقَطت هَيْبَة الْخلَافَة وانحل نظام الدولة بالمرة لَا سِيمَا مَعَ مَا دهاها من قتل رجالها القائمين بأمورها وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى مُرَاد العبيد فقد كَانَ عَليّ بن يشي أَمِير الْأُمَرَاء وَرَئِيس البربر وَغَيرهم وَكَانَ أَحْمد بن عَليّ أَمِير جبال مرموشة وَبني وراين وعرب الحياينة وبرابرة غياثة وَالْجِبَال فَكَانَ رَدِيف عَليّ بن يشي ومباريه فِي نصح الدولة وجباية الْأَمْوَال وَكَانَ ابْن الْأَشْقَر أَمِير الزراهنة وعَلى يَدَيْهِ أعشار الْقَبَائِل كلهَا من أهل الغرب وَبني حسن وَغَيرهم رديفا للأولين وَكَانَ الْقَائِد مرجان صَاحب بيُوت(7/117)
الْأَمْوَال وَبِيَدِهِ دفتر الدخل والخرج عَارِفًا بِقدر مِمَّا يَدْفَعهُ الْعمَّال كل سنة فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِم الْقَتْل رَحِمهم الله خف على الرّعية مَا كَانُوا يحملونه من ثقل وطأتهم واستراحوا مِمَّن كَانَ يحول بَينهم وَبَين الْفساد وبزجرهم عَن الْقَبِيح خُصُوصا البربر فَإِنَّهُم كَانُوا فِي أقماع النّحاس فَخَرجُوا مِنْهَا بمهلك عَليّ بن يشي وَأخذُوا فِي اشْتِرَاء الْخَيل واقتناء السِّلَاح وعادت هيف إِلَى أديانها وتبعهم على ذَلِك غَيرهم من قبائل الْعَرَب فَكَأَنَّمَا كَانُوا على ميعاد وامتدت أَيدي النهب فِي الطرقات وَكَثُرت الشكايات بِبَاب السُّلْطَان فَمَا وجدت النَّاس من يشكيهم هَذَا حَال مكناسة وأعمالها فَأَما فاس فقد كفى الودايا أمرهَا ونابوا عَن البربر فِي العيث بأطرافها وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الْأَمر
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا أغار الودايا على سوق الْخَمِيس من فاس فنهبوا وَقتلُوا وقبضوا على طَائِفَة من أهل فاس فأودعوهم السجْن بفاس الْجَدِيد فَبعث أهل فاس جمَاعَة من أَشْرَافهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة يَشكونَ إِلَيْهِ مَا نالهم من جور الودايا فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهَا وثب عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي قبل أَن يجتمعوا بالسلطان فسجنهم أَيْضا فَلَمَّا اتَّصل بِأَهْل فاس مَا جرى على إخْوَانهمْ بمكناسة أَخذهم مَا قدم وَمَا حدث فأغلقوا عَلَيْهِم أَبْوَاب مدينتهم وشمروا لِحَرْب الودايا فَكتب الودايا إِلَى السُّلْطَان يعلمونه بِأَن أهل فاس قد شَقوا الْعَصَا وَخَرجُوا عَن الطَّاعَة فسرب السُّلْطَان إِلَيْهِم العساكر بِكُل صارم وذابل وتفاقم الْأَمر وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَركبت المدافع والمهاريس والمجانيق لحصار فاس وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى أَن بعث السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى المستضيء فِي جمَاعَة من أَشْرَاف مكناسة وَمَعَهُمْ أَشْرَاف فاس الَّذين سجنهم مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي لتلافي الْأَمر وَعقد الصُّلْح بَين الودايا وَأهل فاس فانعقد الصُّلْح ونهض عَسْكَر السُّلْطَان إِلَى مكناسة فَمَا سَارُوا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ حَتَّى انْتقض ذَلِك الصُّلْح وَغدا الودايا على حِصَار فاس ورميها بالكور والبنب وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن قدم من(7/118)
جَانب السُّلْطَان الْقَائِد أَبُو عمرَان مُوسَى الجراري ساعيا فِي الصُّلْح فَاجْتمع أهل فاس وفاوضهم فِي ذَلِك فأذعنوا وبعثوا مَعَه جمَاعَة من الْأَعْيَان وَالْعُلَمَاء والأشراف يفدون على السُّلْطَان ليتم لَهُم ذَلِك بعد أَن أخذُوا جمَاعَة من أَصْحَاب أبي عمرَان توثقا بإخوانهم وَلما قدم أُولَئِكَ الْوَفْد مكناسة منعُوا من الدُّخُول على السُّلْطَان وَرَجَعُوا إِلَى فاس مخفقين وَاسْتمرّ الْأَمر على حَاله إِلَى أَن كاتبهم عبيد الدِّيوَان يطْلبُونَ مِنْهُم موافقتهم على عزل السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وتولية أَخِيه الْمولى عبد الْملك صَاحب السوس فأجابوهم إِلَى ذَلِك وطاروا بِهِ كل مطير وأكرموا وفدهم وحالفوهم على الْوَفَاء وَرجع العبيد إِلَى مكناسة شاكرين ففاوضوا من بهَا من قواد الْجند وتذاكروا فِيمَا وَقع فِيهِ النَّاس من الْفساد وَانْقِطَاع السبل وَتعذر الْأَسْبَاب وتحققوا بِمَا أَتَوْهُ من سوء التَّدْبِير فِي تَقْدِيم الْمولى أَحْمد لكَونه كَانَ ضَعِيف الْمِنَّة غير مطلع بأعباء الْخلَافَة فَأَجْمعُوا على عَزله واستبدال غَيره بِهِ وَلما تمّ أَمرهم على ذَلِك بعثوا إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك جَرِيدَة من الْخَيل وَكَتَبُوا إِلَيْهِ كتابا يستحثونه للقدوم وأعلموه بِمَا أجمع عَلَيْهِ رَأْيهمْ فَأجَاب وَأَقْبل مسرعا نَحْو مكناسة وَلما انْتهى إِلَى وَادي بهت واتصل خَبره بالعبيد دخلُوا على السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وقبضوا عَلَيْهِ وأخرجوه من دَار الْملك مخلوعا وسجنوه بداره الَّتِي كَانَ يسكن بهَا قبل الْبيعَة خَارج القصبة وَكَانَ ذَلِك فِي شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي مَرْوَان عبد الْملك بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
لما خلع السُّلْطَان الْمولى أَحْمد رَحمَه الله وسجن خَارج القصبة كَمَا مر اجْتمع من الْغَد الْجَيْش كُله وركبوا لملاقاة الْمولى أبي مَرْوَان عبد الْملك بن إِسْمَاعِيل فأجتمعوا بِهِ خَارج مكناسة وأدوا وَاجِب الطَّاعَة والتفوا عَلَيْهِ ودخلوا بِهِ الحصرة فِي زِيّ الْملك وأهبة السُّلْطَان ثمَّ حضر أَعْيَان الدولة وأمراؤها(7/119)
وقضاتها وعلماؤها وأشرافها فَبَايعُوهُ وَكتب بيعَته إِلَى الْآفَاق وَمن الْغَد قدم عَلَيْهِ أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم ببيعتهم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ ثمَّ قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود للتهنئة من حواضر الْمغرب وبواديه فَجَلَسَ لملاقاتهم وقابلهم بِمَا يجب من الْبشر إِلَى أَن قرع من شَأْنهمْ وتفقد أَخَاهُ الْمولى أَحْمد المخلوع فَأمر بِهِ إِلَى فاس كي يسجن بهَا ثمَّ بدا لَهُ فَأمر بتوجيهه إِلَى سجلماسة
قَالَ فِي الأزهار الندية لما بعث السُّلْطَان الْمولى أَبُو مَرْوَان بأَخيه الْمولى أَحْمد المخلوع إِلَى تافيلالت كتب إِلَى عَامله بهَا أَن يسمل عَيْنَيْهِ بفور بُلُوغه فنما ذَلِك إِلَى الْمولى أَحْمد ففر إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سَيِّدي سعيد آحنصال وَكَانَ مقدم الزاوية يَوْمئِذٍ السَّيِّد يُوسُف ابْن الشَّيْخ سعيد الْمَذْكُور وَكَانَ يتَكَلَّم فِي الْحدثَان فَقَالَ للْمولى أَحْمد إِنَّك سترجع إِلَى الْملك فَكَانَ كَمَا قَالَ وَرَجا النَّاس أَن يكون السُّلْطَان الْمولى أَبُو مَرْوَان كأبيه وَأَن يسير فيهم بسيرته ويسد مسده فخاب الظَّن وأخفق الْمَسْعَى
(وَابْن اللَّبُون إِذا مَا لز فِي قرن ... لم يسْتَطع صولة البزل القناعيس)
وَأمْسك الله يَده عَن الْعَطاء فَلم يسمح للعسكر وَلَا للوفود بدرهم فَكَانَ ذَلِك من أكبر الْأَسْبَاب فِي اخْتِلَاف أمره وتفسخ دولته فَطلب الْعَسْكَر البُخَارِيّ مِنْهُ جَائِزَة الْبيعَة على الْعَادة فَبعث اليهم بأَرْبعَة آلَاف مِثْقَال وَكَانَ راتبهم على عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مائَة ألف مِثْقَال وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى أَحْمد زادهم فِي الرَّاتِب خمسين ألفا فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِم جَائِزَة الْمولى أبي مَرْوَان سقط فِي أَيْديهم وَعَلمُوا أَنهم لم يصنعوا شَيْئا فِي بيعَته وتناجوا بعزله وأضمروا ذَلِك وتحينوا وَقت الفرصة فِيهِ فنما إِلَيْهِ ذَلِك عَنْهُم فَأخذ حذره وَصَارَ يُكَاتب قبائل الْعَرَب ويعدهم ويمنيهم ويحضهم على اجْتِمَاع كلمتهم كي ينفعوه يَوْمًا مَا ظنا مِنْهُ أَنهم يقاومون(7/120)
العبيد ثمَّ كتب إِلَى البربر أَيْضا يغريهم بالعبيد وأغرى العبيد بالبربر وَقَالَ لَهُم فِي جملَة من ذَلِك إِنَّه لَا يَسْتَقِيم لنا أَمر إِلَّا بعد الْإِيقَاع بهؤلاء البربر وشغلهم بالاستعداد لغزوهم وَكتب إِلَى أهل فاس يَأْمُرهُم أَن يبعثوا رماتهم إِلَى حَضرته لغزو البربر وَأخذ فِي التضريب بَين الْعَسْكَر والبربر واطلع العبيد على خسئته فحاصوا عَنهُ حَيْصَة حمر الْوَحْش وأصفقوا على عَزله ورد أَخِيه الْمولى أَحْمد لملكه لسخائه وَبسط يَده وكذبوا فَإِن الْمولى أَبَا مَرْوَان رَحمَه الله كَانَ أنسب حَالا بالخلافة من أَخِيه الْمولى أَحْمد لنجدته وحزمه وَكَانَ قد عزم على تَطْهِير الحضرة وبساط الدولة من افتيات العبيد وتحكمهم على أعياصها إِلَّا أَنه لم يحكم التَّدْبِير فِي ذَلِك فعاجلوه قبل أَن يعاجلهم
وَلما تحقق الْمولى أَبُو مَرْوَان بِمَا عزم عَلَيْهِ العبيد من خلعه بعث إِلَيْهِم الشَّيْخ الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني واعظا ومذكرا فَأَتَاهُم ووعظهم وَوَعدهمْ الْخَيْر إِن أقلعوا ونهاهم عَن الْخُرُوج على السُّلْطَان وَاتِّبَاع سَبِيل السُّلْطَان وخوفهم فِي ذَلِك من سخط الله فَمَا زادهم إِلَّا نفورا ثمَّ بعثوا بجريدة من الْخَيل إِلَى سجلماسة ليأتوا بالمولى أَحْمد وَفِي أثْنَاء ذَلِك ركب العبيد من الدِّيوَان وأغاروا على مكناسة فاكتسحوا سرحها ثمَّ اقتحموا الْمَدِينَة فنهبوها واستباحوا حرماتها وَقتلُوا من ظفروا بِهِ من أعيانها ثمَّ دخلُوا دَار الْملك للقبض على السُّلْطَان الْمولى أبي مَرْوَان فَلم يجدوه لِأَنَّهُ لما سمع بِمَا فعله العبيد بمكناسة ركب فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وفر إِلَى فاس فَدخل حرم الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ واستجار بِهِ وَبعث إِلَى أهل فاس فَاسْتَجَارَ بهم فوعدوه الدفاع عَنهُ وَالْقِيَام بأَمْره
وَلما علم العبيد بِموضع الْمولى أبي مَرْوَان من فاس وَمَا وعده بِهِ أَهلهَا حبسوا رماتهم الَّذين كَانُوا قد قدمُوا مكناسة بِقصد غَزْو البربر كَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وثقفوهم حَتَّى يقدم السُّلْطَان الْمولى أَحْمد من سجلماسة وَيرى فيهم وَفِي أَخِيه رَأْيه وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف(7/121)
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد الذَّهَبِيّ رَحمَه الله
لما راسل العبيد الْمولى أَحْمد بِنَا إِسْمَاعِيل بسجلماسة وأعلموه بِمَا عزموا عَلَيْهِ من عزل أَخِيه ورد الْملك إِلَيْهِ بَادر بالقدوم إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَحضر أَعْيَان الدولة من القواد والقضاة وَالْكتاب وَبَايَعُوهُ الْبيعَة الثَّانِيَة وَكَتَبُوا بذلك إِلَى الْآفَاق ثمَّ دخل دَار الْملك وَفرق الْأَمْوَال والكسى فِي الْعَسْكَر وَالْعُلَمَاء الْأَشْرَاف وَبَالغ فِي ذَلِك تفصيا مِمَّا نقمه العبيد على أَخِيه وَكَانَ فعل أَخِيه أقرب إِلَى الصَّوَاب لَو سلك الْوسط وَأحكم أمره ورتبه تَرْتِيب ذُو الحزم وَلَكِن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن
حِصَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أَحْمد لفاس وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما بُويِعَ الْمولى أَحْمد الْبيعَة الثَّانِيَة قدم عَلَيْهِ الْوُفُود من الْقَبَائِل والأمصار فَأكْرم وفادتهم وتخلف عَنهُ أهل فاس فَلم يقدم عَلَيْهِ أحد مِنْهُم لِأَنَّهُ لما قدم من سجلماسة وَأعلم بمَكَان أَخِيه مِنْهُم وبمكان رماتهم المثقفين بمكناسة أَمر بسجنهم والتضييق عَلَيْهِم فأوجسوا مِنْهُ شرا وَحَذرُوهُ وَلِأَنَّهُم كَانُوا قد ارتكبوا الْعَظِيمَة أَولا فِي قتل أبي عَليّ الروسي وَنهب دَاره وَمَاله وَمَال المخزن الَّذِي كَانَ تَحت يَده فَكَانُوا يتوقعون سطوة السُّلْطَان الْمولى أَحْمد بهم أول مَا بُويِعَ ثمَّ لم يلْتَفت إِلَيْهِم لشغله بِنَفسِهِ فَلَمَّا عَادَتْ الدولة إِلَيْهِ ارْتَابُوا بِهِ وحادوا عَن طَاعَته وتقدموا إِلَى الْمولى عبد الْملك وجددوا لَهُ الْبيعَة وأعلنوا بنصره وَالْقِيَام بأَمْره ثمَّ ورد عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان الْمولى أَحْمد يَأْمُرهُم أَن يسلمُوا إِلَيْهِ أَخَاهُ ويدخلوا فِيمَا دخل فِيهِ النَّاس أَو يأذنوا بحربه فجهروا بِالْخِلَافِ وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب ووطنوا أنفسهم على الْحصار ثمَّ بعث إِلَيْهِم(7/122)
السُّلْطَان الْقَائِد اليديني قَائِد الرُّمَاة المسجونين بمكناسة وَأمره أَن يعرض عَلَيْهِم الدُّخُول فِي الطَّاعَة ويسرح لَهُم إخْوَانهمْ المسجونين وَحمله كتابا إِلَيْهِم يتَضَمَّن ذَلِك وَغَيره فَلَمَّا فرغ الْقَائِد الْمَذْكُور من قِرَاءَة كتاب السُّلْطَان عَلَيْهِم وَثبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ جروه بِرجلِهِ وصلبوه على التوته الَّتِي بحومة الصفارين ثمَّ وَثبُوا على الْحَاج الْخياط عديل فَقَتَلُوهُ على بَاب دَاره وَخرج الشريف أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن إِدْرِيس الإدريسي فِي كَتِيبَة من الْخَيل وَالرُّمَاة إِلَى زواغة فَأَغَارَ على سرح الودايا وَاسْتَاقَ من الْبَقر وَالْغنم شَيْئا كثيرا فَدخل بِهِ فاسا وَبيع بأبخس ثمن وتوزعته الْأَيْدِي فبيعت الْبَقَرَة بست موزونات وَالشَّاة بموزونة على مَا قيل وهاجت الْحَرْب بَين أهل فاس والودايا ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان الْمولى أَحْمد فاتح محرم من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فِي عَسْكَر العبيد وودايا مكناسة فزحف إِلَى فاس وَنزل عَلَيْهَا ثَانِي يَوْمه وَنصب عَلَيْهَا المدافع والمهاريس وآلات الْحصار وانشلى الْعَسْكَر على بساتينها وبحائرها فانتسفوا ثمارها واجتاحوا غللها وَأمر الطبجية بموالاة الكور والبنب وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَفَعَلُوا ودام ذَلِك إِلَى أَن عَمها الخراب وتهدم الْكثير من دورها وَهلك عدد وافر من رجالها بَعضهم فِي الْقِتَال وَبَعْضهمْ بالهدم وَالْحِجَارَة وَاسْتمرّ الْحصار نَحْو خَمْسَة أشهر فَضَاقَ بهم الْحَال وضعفوا عَن الْقِتَال وَقلت الأقوات وَارْتَفَعت الأسعار فأذعنوا للطاعة وصالحوا الْمولى أَحْمد على إِسْلَام أَخِيه الْمولى عبد الْملك إِلَيْهِ وتمكينه مِنْهُ على الْأمان فَبعث السُّلْطَان الْمولى أَحْمد إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك يخيره بَين التَّغْرِيب إِلَى سجلماسة وَالْمقَام بِالْحرم الإدريسي فَاخْتَارَ الْمقَام بِالْحرم
ثمَّ إِن السُّلْطَان تقدم إِلَى أهل فاس فِي أَن لَا يجْتَمع أحد مِنْهُم بأَخيه وَلَا يجالسه وَلَا يكلمهُ وَلَا يَبِيع من أحد من أَصْحَابه شَيْئا وَلَا يَشْتَرِي مِنْهُ وَمن فعل شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّهُ يُعَاقب فَلَمَّا رأى الْمولى عبد الْملك مَا عَامله بِهِ أَخُوهُ من التَّضْيِيق بعث وَلَده إِلَى العبيد يطْلب مِنْهُم أَن يؤمنوه وَيخرج مَعَهم إِلَى(7/123)
حَيْثُ شاؤوا فَقدم عَلَيْهِ الباشا سَالم الدكالي فِي خمسين من القواد وَعَاهَدُوهُ بِالْحرم الإدريسي أَن لَا يُصِيبهُ مَكْرُوه فَخَرجُوا بِهِ حَتَّى قدمُوا بِهِ على أَخِيه فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ أَمر بِهِ أَن يحمل إِلَى مكناسة مَقْبُوضا عَلَيْهِ فوصل إِلَى مكناسة وسجن بدار الباشا مساهل ثمَّ رَحل السُّلْطَان الْمولى أَحْمد عَن فاس قَافِلًا إِلَى مكناسة وَعند حُلُوله بهَا مرض مرض مَوته وَلما أحس من نَفسه بِالْمَوْتِ أَمر بخنق أَخِيه الْمولى عبد الْملك فخنق لَيْلَة الثُّلَاثَاء أول يَوْم من شعْبَان ثمَّ توفّي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد يَوْم السبت رَابِع شعْبَان الْمَذْكُور سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فَكَانَ بَين وفاتهما ثَلَاثَة أَيَّام رحمهمَا الله
وَاعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ من هَذِه الْأَخْبَار هُوَ الَّذِي عِنْد صَاحب الْبُسْتَان وقلده أَبُو عبد الله أكنسوس حَذْو النَّعْل بالنعل وَرَأَيْت بِخَط جدنا من قبل الْأُم وَهُوَ الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الإدريسي اليحيوي الجباري عرف بِابْن زَرُّوق وَكَانَ حَيا فِي هَذِه الْمدَّة مَا نَصه
بُويِعَ الْمولى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي يَوْم وَفَاة وَالِده رَحمَه الله بعد أَن ثار بالمغرب وَالْقصر وحوزه فَسَاد كَبِير بَين الْقَبَائِل وَأَصْحَاب المخزن وَهلك فِي ذَلِك بشر كثير وَبعد مكثه فِي الْملك سنة وَاحِدَة وَثَمَانِية أشهر خلع وبويع أَخُوهُ الْمولى عبد الْملك فِي الآخر من رَجَب سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وَهُوَ بالسوس الْأَقْصَى بِمَدِينَة تارودانت ثمَّ ورد على دَار المملكة بالحضرة المكناسية لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ثار عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى أَحْمد المخلوع فِي عَاشر الْمحرم فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف واقتحم عَلَيْهِ دَار الْملك من مكناسة عنْوَة وَوَقع فَسَاد كَبِير بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وَهلك بشر كثير فِي الْحَرْب وَمِنْهُم من قتل صبرا وفر الْمولى عبد الْملك ناجيا بِنَفسِهِ إِلَى فاس ثمَّ حاصره بهَا الْمولى أَحْمد نَحوا من أَرْبَعَة أشهر حَتَّى خرج إِلَيْهِ على الْأمان فَأمر بسجنه بمكناسة ثمَّ قتل الْمولى عبد الْملك صبرا مخنوقا فِي أَوَاخِر رَجَب الْمَذْكُور أَيْضا اه كَلَامه وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر(7/124)
قَالُوا وَكَانَ الْمولى أَحْمد رَحمَه الله أشبه النَّاس بالأمين بن الرشيد العباسي فِي زيه ولهوه وإكبابه على شهواته وتضييع الحزم وَالْجد حَتَّى فَسدتْ الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وَذكر معاصروه أَنه لم يكن شهد حَربًا قطّ قبل خِلَافَته وَكَانَ مَعَ ذَلِك جوادا متلافا فآلت بِهِ الْأُمُور إِلَى مَا ذكرنَا وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
كَانَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ وَلَده الْحرَّة خناثي بنت بكر المغفري أَيَّام خلَافَة أَخِيه الْمولى أَحْمد منحاشا إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك وَمُقِيمًا مَعَه بِبِلَاد السوس فَلَمَّا خلع الْمولى أَحْمد وبويع الْمولى عبد الْملك وَقدم مكناسة قدم الْمولى عبد الله فِي ركابه وَاسْتمرّ مُقيما بهَا إِلَى أَن ثار العبيد بالمولى عبد الْملك وفر إِلَى الْحرم الإدريسي فَخرج الْمولى عبد الله من مكناسة إِلَى سجلماسة وَأقَام بداره بهَا إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَاجْتمع أَعْيَان الدولة من العبيد والودايا وَسَائِر القواد والرؤساء وَاتَّفَقُوا على بيعَة الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ بسجلماسة فَنَادوا باسمه وأعلنوا بنصره فِي الْمحلة ومكناسة وبعثوا جَرِيدَة من الْخَيل لتأتي بِهِ وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى أهل فاس يعزونهم عَمَّن هلك من إخْوَانهمْ أَيَّام الْحصار ويحضونهم على الْمُوَافقَة على بيعَة الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل
وَلما وصل الْكتاب إِلَى فاس قرىء على مِنْبَر جَامع الْقرَوِيين فَأَجَابُوا بالموافقة إِن حضر وَلما وصلت الْخَيل إِلَى الْمولى عبد الله وأعلموه بِمَا اتّفق عَلَيْهِ النَّاس فِي شَأْنه أقبل مسرعا حَتَّى نزل بِظَاهِر فاس بالموضع الْمُسَمّى بالمهراس فَخرج أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم لملاقاته فَسَلمُوا عَلَيْهِ وَاسْتَبْشَرُوا بقدومه فسر بهم والآن لَهُم القَوْل وَوَعدهمْ بالجميل(7/125)
وأعلمهم بِأَنَّهُ من الْغَد دخل لحضرتهم لزيارة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فَرَجَعُوا مسرورين مغتبطين وَمن الْغَد أخذُوا زينتهم ولبسوا أسلحتهم ونشروا أَلْوِيَتهم وَخَرجُوا لميعاده فَركب السُّلْطَان فرسه وَركب مَعَه خاصته وَأهل موكبه وَفِي جُمْلَتهمْ حمدون الروسي عَدو أهل فاس وَتقدم السُّلْطَان فَدخل على بَاب الْفتُوح وتوسط الْمَدِينَة فَرَأى بعض سماسرة الْفِتَن من أَوْلَاد ابْن يُوسُف حمدون الروسي وَكَانَ قد قتل أباهم حَسْبَمَا مر فصمدوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُمْ تنحى عَنْهُم قَلِيلا فتبعوه فَعلم أَنهم عزموا على اغتياله فركض فرسه إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ على قنطرة الرصيف وَأخْبرهُ خبر أَوْلَاد ابْن يُوسُف وَخص وَعم بالإرجاف فِي حق أهل فاس فَعدل السُّلْطَان عَن قَصده وَرجع على طَرِيق جَامع الْحُوت ثمَّ على جَزَاء ابْن عَامر وَخرج على بَاب الْحَدِيد إِلَى فاس الْجَدِيد وَلم يزر وَلم يعلم النَّاس مُوجب الرُّجُوع عَن الزِّيَارَة إِلَى أَن شاع الْخَبَر بذلك فَمشى عُلَمَاء فاس وأشرافها إِلَى السُّلْطَان وَرفعُوا إِلَيْهِ بيعتهم وَاعْتذر إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء بِأَن مَا وَقع فِي جَانب حمدون إِنَّمَا هُوَ من بعض السُّفَهَاء فَأَعْرض السُّلْطَان عَن ذَلِك وصم عَن سَمَاعه
وَكَانَت الْبيعَة الَّتِي رَفعهَا أهل فاس من إنْشَاء الْفَقِيه الْعَالم الْوَجِيه أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن الْمهْدي المشاط الْمنَافِي نِسْبَة إِلَى عبد منَاف بن قصي وَهَذَا الْفَقِيه هُوَ الَّذِي كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بَعثه قَاضِيا على تادلا مَعَ ابْنه الْمولى أَحْمد الذَّهَبِيّ حِين ولاه عَلَيْهَا كَمَا مر وَنَصهَا
الْحَمد لله الَّذِي جعل الْعدْل صلاحا للْملك والرعية والعباد كَمَا جعل الْجور هَلَاكًا للحرث والماشية والبلاد وسدد الْعَادِل بعنايته وَأعد للجائر مَا هُوَ مَعْلُوم لَهُ يَوْم الْمعَاد وَجعل المقسطين على مَنَابِر من نور يَوْم الْقِيَامَة كَمَا جعل القاسطين فِي الْعَذَاب والحسرات والأنكاد فأسعد الْمُلُوك يَوْم الْقِيَامَة من سلك مَعَ الرّعية سَبِيل السداد وَأصْلح مَا أظهره الجائر فِي الأَرْض من الْفساد نحمده أَن تفضل علينا بِإِمَام عَادل ونشكره إِن حكم فِينَا من لَا يصغي فِي الْحق لقَوْل عاذل فولى علينا الْخَلِيفَة من نسل الشَّفِيع يَوْم التناد(7/126)
ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل يُؤْتى الْملك من يَشَاء وَينْزع الْملك مِمَّن يَشَاء فِي أَي وَقت شَاءَ وَأَرَادَ ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الشَّفِيع فِي أمته يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم وَلَا يقبل من القاسطين فدَاء بطريف وَلَا تلاد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أظهرُوا الشَّرِيعَة ومحوا الظُّلم محمو المداد أما بعد حمد الله الَّذِي أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر ووعد من نصر دينه بالظفر والنصر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَمن مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أَرَادَ أَن يفرق أَمر هَذِه الْأمة وَهُوَ جَمِيع فاضربوا عُنُقه بِالسَّيْفِ كَائِنا من كَانَ وَفِي صَحِيح مُسلم أَيْضا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أَتَاكُم وأمركم جَمِيع على رجل وَاحِد وَأَرَادَ أَن يفرق جماعتكم فَاقْتُلُوهُ وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كره من أميره شَيْئا فليصبر فَإِن من خرج عَن السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَفِيه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي وَمن عصى أَمِيري فقد عَصَانِي وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لِابْنِ عقبَة لَعَلَّك لَا تَلقانِي بعد الْيَوْم فَعَلَيْك بتقوى الله تَعَالَى والسمع وَالطَّاعَة للأمير وَإِن عبدا حَبَشِيًّا
وَاتفقَ أَئِمَّة الدّين على أَن نصب الإِمَام وَاجِب على الْمُسلمين وَإِن كَانَ من فروض الْكِفَايَة كَمَا أَن الْقيام بذلك من الْوَاجِبَات كَمَا دلّت عَلَيْهِ نُصُوص الْأَحَادِيث والآيات وَقَالَ الشَّاعِر
(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا)
وَلما كَانَ من أَمر الله سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَهُ وَقدره فَقبض إِلَيْهِ خَلِيفَته وأقبره دهش الْمُسلمُونَ وخافوا من توالي الشرور والفتن فتوجهوا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي أَن يغمد عَنْهُم السيوف وطلبوا من فَضله الْمَعْهُود أَن يصرف عَنْهُم ضروب المحن والحتوف فَأجَاب الْكَرِيم الدَّعْوَات وَنَفس الهموم والكربات وَنشر(7/127)
رَحمته وأزاح نقمته فَصَارَت الْقُلُوب ناعمة بعد بؤسها وَالْوُجُوه ضاحكة بعد عبوسها والشرور والفتن قد أَدْبَرت وأعلام الْأَمْن والعافية قد أَقبلت فوفق الله جيوش الْمُسلمين للأعمال المرضية والهمم لما فِيهِ صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين والراعي والرعية فَاقْتضى نظرهم السديد ورأيهم الْمُوفق الرشيد بيعَة من فِي أفق السَّعَادَة قد طلع وَظهر فِي سَمَاء الْمَعَالِي بدره وارتفع الإِمَام الْهمام الْعلوِي الْهَاشِمِي الْعدْل فِي الْأَحْكَام الْمَوْصُوف بِالْكَرمِ والشجاعة والشهامة والحزم والنجدة والزعامة المتواضع لله المتَوَكل فِي جَمِيع أُمُوره على الله أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الله بن الشريف الْجَلِيل الْمَاجِد الْأَصِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف فَبَايعُوهُ أعزه الله على كتاب الله وَسنة الرَّسُول وَإِقَامَة الْعدْل الَّذِي هُوَ غَايَة المأمول بيعَة التزمتها الْقُلُوب والألسنة وسعت إِلَيْهَا الْأَقْدَام والرؤوس خاضعة مذعنة لَا يخرجُون لَهُ من طَاعَة ولاينحرفون عَن مهيع الْجَمَاعَة أشهدوا على أنفسهم عَالم الطويات المطلع على جَمِيع الخفيات قائلين إننا بايعناك وقلدناك لتسير فِينَا بِالْعَدْلِ والرفق وَالْوَفَاء والصدق وتحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه فِي مُحكم وحيه {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} ص 26 وَقَالَ تَعَالَى وَقَوله الْحق {وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما} الْفَتْح 10 وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تكن للخائنين خصيما} النِّسَاء 105 وَهَذِه الرّعية تطلب من رَبهَا أَن يعين مَالِكهَا ويساعده ويقذف الرعب فِي قلب من يُرِيد أَن يعانده وَأَن يفتح عَلَيْهِ مَا عسر على غَيره ويمده بعزيز نَصره إِنَّه على مَا يَشَاء قدير وبالإجابة جدير وَبِيَدِهِ الْقُوَّة والحول نعم الْمولى وَنعم النصير شهد بذلك على نَفسه وَمن مَعَه العَبْد الْفَقِير المذنب الحقير ممليها وكاتبها إِدْرِيس بن الْمهْدي المشاط بِمحضر فلَان وَفُلَان وَجُمْهُور الْفُقَهَاء والأعيان فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع رَمَضَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف
ثمَّ سَافر السُّلْطَان فِي الْحِين إِلَى مكناسة كَمَا نذكرهُ(7/128)
حُدُوث النفرة بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله وَأهل فاس وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا مَا كَانَ من وَسْوَسَة حمدون الروسي للسُّلْطَان الْمولى عبد الله فِي جَانب أهل فاس واعتذار بعض الْفُقَهَاء لَدَى السُّلْطَان عَن ذَلِك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَمر أهل فاس ببعث طَائِفَة مِنْهُم تكون مَعَه على الْعَادة فعينوا الْخَمْسمِائَةِ الَّتِي كَانَت تغزو مَعَ الْمُلُوك قبله فَذَهَبت مَعَه إِلَى مكناسة
وَلما اسْتَقر بالحضرة قدم عَلَيْهِ أَعْيَان الدِّيوَان وعمال الْقَبَائِل ووفود الحواضر والبوادي فَفرق المَال وَلم يحرم أحدا سوى أهل فاس فَإِنَّهُ لم يعطهم شَيْئا ثمَّ حضر عيد الْفطر فَقدمت وُفُود الْأَمْصَار ليشهدوا الْعِيد مَعَ السُّلْطَان على الْعَادة وَقدم وَفد فاس لهَذَا الْغَرَض وحضروا صَلَاة الْعِيد مَعَ السُّلْطَان بالمصلى وَلما قدم النَّاس هداياهم بعد رُجُوع السُّلْطَان إِلَى منزله قدم أهل فاس هديتهم على الْعَادة فَأعْطى النَّاس وحرمهم ثَانِيًا
قلت وَلست أَشك فِي أَن شَيْطَانا من شياطين الْإِنْس كَانَ موكلا بِهَذَا السُّلْطَان يغريه بِأَهْل فاس ويوغر صَدره عَلَيْهِم وَيفْسد مَا بَينه وَبينهمْ وَإِلَّا فَكيف تَقْتَضِي السياسة أَن يعمد ملك كَبِير إِلَى أخص رَعيته ولبها وصميمها فَيفْسد ضمائرها عَلَيْهِ ويزرع بغضه فِي قلوبها وهب أَنهم أساؤوا الْأَدَب أَلَيْسَ التغافل مَطْلُوبا فِي مثل هَذَا مَا أمكن لَا سِيمَا فِي حق السُّلْطَان وَقد كَانَ المُنَافِقُونَ يُؤْذونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فيحلم عَنْهُم وَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه أَلا نقتلهم فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه وَمن الحكم المأثورة قَوْلهم التعامي يدْفع شرا كثيرا وَقَالَ الشَّاعِر
(لَيْسَ الْغَنِيّ بِسَيِّد فِي قومه ... لَكِن سيد قومه المتغابي)(7/129)
وَمن الْغَد أَمر السُّلْطَان بإحضار أهل فاس بالمشور ثمَّ خرج عَلَيْهِم فَقَامُوا إِلَيْهِ وأدوا وَاجِب التَّحِيَّة فَقَالَ لَهُم يَا أهل فاس كاتبوا إخْوَانكُمْ يسلمُوا إِلَيْنَا الْبَسَاتِين والقصبات فَإِنَّهَا للمخزن وَمن وظائفه فَإِن أَبَوا فَإِنِّي آتيهم وأهدم عَلَيْهِم تِلْكَ الْقرْيَة فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وعادوا إِلَى رحالهم
وَلما كَانَ الْمسَاء اتَّخذُوا اللَّيْل جملا وأسروا ليلتهم كلهَا وَلم يصبحوا إِلَّا بِبَاب فاس فَاجْتمعُوا بإخوانهم وقرروا لَهُم مقَالَة السُّلْطَان وَمَا عزم عَلَيْهِ فِي حَقهم فَاجْتمع أعيانهم وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ وشأن السُّلْطَان وأحضروا نُسْخَة الْبيعَة وتصفحوا شُرُوطهَا وَقَالُوا إِنَّا لم نُبَايِعهُ على هَذَا الَّذِي يعاملنا بِهِ ثمَّ أعْلنُوا بخلعه وَالْأَمر لله وَحده
حِصَار الْمولى عبد الله مَدِينَة فاس
لما أعلن أهل فاس بخلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله عزموا على الْحَرْب ووطنوا أنفسهم على الْحصار وَنَادَوْا فِي الْمَدِينَة من أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى بَلَده ومأمنه من غير أهل الْبَلَد فليتهيأ فِي ثَلَاث ثمَّ أغلقوا أَبْوَاب الْمَدِينَة واستعدوا لِلْقِتَالِ
وَلما سمع السُّلْطَان بخبرهم تهَيَّأ لغزوهم فَأخذ أهبته وَخرج من مكناسة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فَنزل على فاس ووزع الْجنُود عَلَيْهَا من كل نَاحيَة وَأطلق يَد الْجَيْش بالعيث فِي أطرافها من تخريب المصانع وَقطع الْأَشْجَار وإفساد الْمزَارِع وَأمر بطم الْوَادي فانحبس عَنْهُم مَاؤُهُ وزحفت العساكر فَكَانَ الْقِتَال على كل بَاب سَائِر النَّهَار فَإِذا كَانَ الْمسَاء أَمر الطبجية والأعلاج بإرسال الكور والبنب وحجارة المنجنيق فَكَانَ النَّاس لَا يستريحون بِالنَّهَارِ وَلَا ينامون بِاللَّيْلِ وَاشْتَدَّ الكرب وريع السرب وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن دخلت سنة اثْنَتَيْنِ(7/130)
واربعين وَمِائَة وَألف فازداد الْأَمر شدَّة وَارْتَفَعت الأسعار وانعدمت الأقوات وَكثر الْهَرج فبعثوا إِلَى السُّلْطَان فِي الصُّلْح فَقَالَ على تَسْلِيم الْبَسَاتِين والقصاب فَأَبَوا وتجلدوا ثمَّ بعد ذَلِك وَقع الصُّلْح على يَد الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي بضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ واستصحب مَعَه جمَاعَة من أَشْرَاف فاس وعلمائها إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بفاس الْجَدِيد فَأكْرم مقدمهم ووصلهم بِأَلف دِينَار وكساهم وَولى عَلَيْهِم الْحَاج أَبَا الْحسن عليا السلاوي فَدخل الْوَالِي الْمَذْكُور القصبة ثَانِي ربيع النَّبَوِيّ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وشحن الْبَسَاتِين والقصاب بالمقاتلة من أَصْحَابه وافتتح عمله بقتل الشَّيْخ دحمان المنجاد من رُؤَسَاء فاس وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان عَزله وَولى على فاس أحد أَوْلَاد حمدون الروسي الْمَعْرُوف بالبادسي ثمَّ بعد مُدَّة يسيرَة عَزله وَولى عبد النَّبِي بن عبد الله الروسي ثمَّ لما عزم على النهوض إِلَى مكناسة عَزله أَيْضا وَولى عَلَيْهِم عدوهم حمدون الروسي وارتحل فِي الْعشْرين من ربيع الأول من السّنة
وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى مُحَمَّدًا مَعَ أمه السيدة خناثى إِلَى الْحجاز بِقصد حج الْبَيْت وَالْمولى مُحَمَّد يَوْمئِذٍ دون بُلُوغ وَفِي نشر المثاني إِن هَذِه الْحجَّة كَانَت سنة ثَلَاث بعْدهَا قَالَ إِن أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهِي السيدة خناثى بنت بكار المغفرية التمست من وَلَدهَا الْمَذْكُور السّفر إِلَى الْمشرق بِقصد حج بَيت الله الْحَرَام فأجابها إِلَى ذَلِك وهيأ لَهَا جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَوجه مَعهَا وَلَده الَّذِي أيد الله بِهِ الدُّنْيَا وَالدّين بعده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فحج مَعهَا فِي هَذِه السّنة يَعْنِي سنة ثَلَاث واربعين وَمِائَة وَألف(7/131)
نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى قتال البربر وإيقاعه بهم
لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بمكناسة وتفقد حَال البربر وجدهَا قد عَادَتْ إِلَى حَالهَا الأول من ركُوب الْخَيل واقتناء السِّلَاح والعيث فِي الطرقات فَأمر العبيد بالاستعداد لغزوهم وتمهيد الْبِلَاد وَالتَّقْصِير من بأوهم فَخرج إِلَى تادلا وصمد إِلَى آيت يمور الَّذين كَانُوا قد نزلُوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا حِين نفتهم آيت ومالو عَن رَأس ملوية وغلبوهم عَلَيْهِ فنزلوا تادلا وأوقدوها نَارا فَكثر شاكيهم بِبَاب السُّلْطَان فَنَهَضَ إِلَيْهِم على مَا سبق وَلما أحسوا بدنوه مِنْهُم فروا أَمَامه ودخلوا بِلَاد آيت يسري فَتَبِعهُمْ إِلَى أَن أوقع بهم على وَادي العبيد وَقتل مِنْهُم آلافا وانتهبهم وَعَاد إِلَى تادلا ظافرا وَالله غَالب على أمره
ذكر مَا صدر من السُّلْطَان الْمولى عبد الله من العسف المخل بالسياسة والتناقض المغير فِي وَجه الرياسة
لما عَاد السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى تادلا قتل عشْرين رجلا من أَعْيَان رُمَاة أهل فاس وَكتب إِلَى إخْوَانهمْ يعْتَذر عَن قتل من قتل مِنْهُم وَيَأْمُرهُمْ بتجديد بعث آخر وتوجيهه إِلَيْهِ فعينو طَائِفَة من رماتهم وجهوها بعد أَن عرضهَا الْقَائِد حمدون الروسي بِرَأْس المَاء ثمَّ من الْغَد قتل الْقَائِد حمدون الْمَذْكُور عبد الْوَاحِد تيبر وَمُحَمّد بن الْأَشْهب من أهل فاس بِبَاب السجْن وَأمر بجرهما فِي سِكَك الْمَدِينَة ثمَّ أصبح غاديا على أَبْوَاب فاس فتتبعها بالهدم فهدم بَاب المحروق وَبَاب الْفتُوح وَبَاب الجيسة وَبَاب بني مُسَافر وَبَاب الْحَدِيد وَحمل مصاريعها كلهَا إِلَى فاس الْجَدِيد وَفِي أول يَوْم من الْمحرم من سنة ثَلَاث واربعين وَمِائَة وَألف شرع حمدون الروسي فِي هدم سور مَدِينَة فاس وجر الأنقاض الَّتِي بهَا إِلَى فاس الْجَدِيد وَفِي أثْنَاء ذَلِك(7/132)
ورد كتاب من السُّلْطَان يتَضَمَّن الْعَفو عَن أهل فاس وَالرِّضَا عَنْهُم فارتاب حمدون الروسي وفر إِلَى زرهون ثمَّ قفل السُّلْطَان من تادلا فَأَقَامَ بمكناسة مُدَّة يسيرَة وَخرج غازيا بِلَاد السوس فَقَدمهَا ومهدها وَعَاد مؤيدا منصورا وَفِي هَذِه السّنة أَمر بِبِنَاء بَاب مَنْصُور العلج بمكناسة فجَاء فِي غَايَة الضخامة والفراهة وأكمل سوق القصبة فجَاء على مَا يَنْبَغِي وَالله أعلم
هدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَدِينَة الرياض من حَضْرَة مكناسة وَمَا اتَّصل بذلك
كَانَت مَدِينَة الرياض زِينَة مكناسة وبهجتها إِذْ كَانَ بهَا آثَار أكَابِر دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَبهَا دور الْعمَّال والقواد وَالْكتاب وَسَائِر أَعْيَان الحضرة الإسماعيلية بل كل من كَانَ لَهُ وظيف فِي خدمتها السُّلْطَانِيَّة بنى دَاره بهَا وتنافس الأكابر والرؤساء فِي تشييد الدّور وتنجيد الْقُصُور وَتَنَاهوا فِي ذَلِك حَتَّى كَانَ بدار عَليّ بن يشي القبلي أَربع وَعِشْرُونَ حَلقَة يجمعها بَاب وَاحِد وَكَانَت دَار الْقَائِد عبد الله الروسي وَأَوْلَاده على ذَلِك المنوال بل أعظم ضخامة وأكمل حضارة حَتَّى كَأَنَّهَا حومة مُسْتَقلَّة وَكَانَ لأمثالهما من القواد مثل ذَلِك أَو قريب مِنْهُ فخلدوا بهَا الْآثَار الْعَظِيمَة والمعالم الفخيمة وَبنى كل عَامل مَسْجِدا فِي حومته وَكَانَ بوسطها الْمَسْجِد الْأَعْظَم الْإِسْمَاعِيلِيّ ومدرسته وحمامه وفنادقه وأسواقه الموقوفه عَلَيْهِ وَكَانَت تنْفق بهَا البضائع الَّتِي لَا تنْفق فِي غَيرهَا فَأتى عَلَيْهَا من أَيَّام النحوس يَوْم ركب السُّلْطَان الْمولى عبد الله عِنْد فجره ووقف على تل عَال يشرف مِنْهُ عَلَيْهَا وَأمر النَّصَارَى والشعابنية بهدمها فتسارعوا إِلَيْهَا وشرعوا فِي هدمها من كل نَاحيَة وَالنَّاس نيام فَلم يرعهم إِلَّا بُيُوتهم تتساقط عَلَيْهِم فَمن أسْرع وخف بِحمْل مَتَاعه وآثاثه نجا وَمن لَا معِين لَهُ أَو ترَاخى فِي حمل مَتَاعه ضَاعَ تَحت التُّرَاب وَكَانَ بهَا طَائِفَة كَبِيرَة من أَخْوَاله الودايا وَغَيرهم فارتحل(7/133)
الودايا إِلَى فاس الْجَدِيد وانضموا إِلَى إخْوَانهمْ الَّذين بهَا وتفرق غَيرهم بِمَدِينَة مكناسة وَلم تمض عشرَة أَيَّام حَتَّى صَارَت مَدِينَة الرياض كدية من التُّرَاب وَلم يبْق بهَا إِلَّا الأسوار قَائِمَة الإشخاص والجدران مائلة للعيان وَالْأَمر لله وَحده
قَالُوا وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله بعثا مَعَ الْقَائِد أبي عمرَان مُوسَى الجراري إِلَى بعض الْجِهَات وَكَانُوا نَحْو ثَلَاثمِائَة فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ قَتله وَقتل أَصْحَابه مَعَه وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا وَفد من عِنْد الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي فِي مثل هَذَا الْعدَد من طنجة وَمَعَهُمْ هَدِيَّة الباشا الْمَذْكُور فَقَتلهُمْ فَكَانَ قَتلهمْ سَبَب نفرة أَحْمد بن عَليّ عَنهُ وسعيه فِي إِفْسَاد دولته وَقتل أَيْضا من قَبيلَة حجاوة مِائَتي رجل على دَعْوَى قطع الطَّرِيق ببلادهم وَلما أَمر بِقَتْلِهِم وأخرجوا إِلَى الْمحل الْمعد لذَلِك خرج النظارة والبطالون من أهل الْبَلَد للفرجة عَلَيْهِم بِبَاب البطيوي فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذا بالسلطان قد برز من الْبَاب وَلما رأى اجْتِمَاع النَّاس قصد نحوهم فَلَمَّا رَأَوْهُ فروا إِلَى كَهْف هُنَاكَ قريب فاختفوا فِيهِ فَأتى السُّلْطَان حَتَّى وقف على بَاب الْكَهْف وَكَانَ من قربه أكوام من حجر أعدت للْبِنَاء بهَا فَأمر الأعوان من المسخرين بِوَضْع أسلحتهم وردم بَاب الْكَهْف بذلك الْحجر مَعَ التُّرَاب فَفَعَلُوا وَهلك ذَلِك الْجمع الْكثير غما وَلم يُوقف لَهُم بعد على خبر وَلَا عرف لَهُم عدد وَلما صدرت مِنْهُ هَذِه الْأَفْعَال الشنيعة عَفا الله عَنهُ كتب إِلَيْهِ أهل الدِّيوَان من مَشْرُوع الرملة يُنكرُونَ عَلَيْهِ قَتله للْمُسلمين دون مُوجب فَبعث إِلَيْهِم بالراتب وَأمرهمْ بالتهيؤ لغزو أهل فازاز فشغلهم بذلك
وَفِي هَذِه السّنة بعث مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي الزموري القبلي واليا على فاس وَقَالَ لَهُ خُذ مِنْهُم المَال واطرحه فِي وَادي أبي الخراريب وَلَا تتركه لَهُم فَمَا أطغاهم إِلَّا المَال حَتَّى استخفوا بِأَمْر الْملك فَقدم مُحَمَّد بن عَليّ الْمَذْكُور فاسا وَنزل بدار أبي عَليّ الروسي بالمعادي وَعين من كل حومة نَقِيبًا(7/134)
عَارِفًا بِأَهْل الْيَسَار فجمعوه لَهُم حَتَّى كَانُوا بَين يَدَيْهِ فَأمر بسجنهم ثمَّ وظف عَلَيْهِم أَولا خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال وزعها على التُّجَّار وَأهل الْيَسَار دون غَيرهم من الْعشْرَة آلَاف إِلَى الْألف ثمَّ شرع فِي قبض المَال الموزع وَمن ترَاخى مِنْهُم فِي الدّفع ضرب وسجن وَمن تغيب من أهل الْيَسَار حبس وَلَده أَو أَخُوهُ أَو زَوجته إِلَى أَن استوفى الْعدَد الْمَذْكُور ثمَّ عطف على أهل الصَّنَائِع والحرف وأرباب الْأُصُول من الفلاحين وَغَيرهم فوزع عَلَيْهِم قدرا وافرا من الْألف إِلَى الْمِائَة وَمَا دون ذَلِك حَتَّى لم يبْق فِي الْمَدِينَة أحد إِلَّا وَقد غرم ففر النَّاس إِلَى الْبَوَادِي والقرى وَالْجِبَال وَمِنْهُم من وصل إِلَى السودَان وتونس ومصر وَالشَّام حَتَّى لم يبْق بفاس إِلَّا النِّسَاء والذرية وَمن لَا عِبْرَة بِهِ من الرِّجَال حَتَّى أَن الَّذين كَانُوا بالسجن فينفس خُرُوجهمْ مِنْهُ فروا بِأَنْفسِهِم وَلم يعرجوا على أهل وَلَا ولد وَأقَام مُحَمَّد بن عَليّ على هَذَا الْعَمَل بفاس ثَلَاثَة عشر شهرا وَكلما اجتنى مَالا بعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَكَانَت هَذِه الخطوب كلهَا فِيمَا بَين سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف
بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله جَيش العبيد إِلَى فازاز وإيقاع أَهله بهم
وَفِي سنة سِتّ واربعين وَمِائَة وَألف جهز السُّلْطَان الْمولى عبد الله جَيْشًا من العبيد يشْتَمل على خَمْسَة عشر ألفا من الْخَيل وَعقد عَلَيْهِم للباشا قَاسم ابْن ويسون وأضاف إِلَيْهِم ثَلَاثَة آلَاف من جَيش الودايا وَعقد عَلَيْهِم للقائد عبد الْملك بن أبي شفرة ووجههم إِلَى جبال آيت ومالو فَلَمَّا عبر الْجَيْش وَادي أم الرّبيع على قنطرة البروج ونزلوا بسيط آدخسان كادهم البربر بِأَن أظهرُوا الْفِرَار أمامهم وتوغلوا فِي الْجبَال فَتَبِعهُمْ العبيد إِلَى أَن توغلوا فِي تِلْكَ الْجبَال ونشبوا فِي أوعارها والبربر تَفِر مِنْهُم فِي كل وَجه وهم يتبعونهم إِلَى(7/135)
أَن حَان وَقت الْمسَاء فَبعث البربر لَيْلًا طَائِفَة مِنْهُم لسد الثنايا والأنقاب الَّتِي دخل مِنْهَا جَيش السُّلْطَان فأحكموا سدها بشجر الْأرز وَالْحِجَارَة وَلما أَصْبحُوا هجموا على الْجَيْش من كل نَاحيَة وصدقوهم الْقِتَال إِلَى أَن ردوهم على أَعْقَابهم فَلَمَّا انْتهى العبيد إِلَى الثنايا الَّتِي دخلُوا مِنْهَا وألفوها مسدودة دهشوا وخشعت نُفُوسهم وازدحموا عَلَيْهَا بعد أَن ترجلوا وَتركُوا الْخَيل وَالسِّلَاح والأبنية فِيهَا من الأثاث فنهب البربر جَمِيع ذَلِك ثمَّ جردوا بَاقِي الْعَسْكَر من الثِّيَاب وَلم يقتلُوا أحدا وَرجع العبيد إِلَى مكناسة راجلين متجردين من الْمخيط وَالْمُحِيط فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب الَّتِي بغضت السُّلْطَان الْمولى عبد الله للعبيد لِأَن ذَلِك كَانَ بإشارته بزعمهم مَعَ إسرافه فِي قتل رُؤَسَائِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي وَمَعَ ذَلِك فقد أنعم عَلَيْهِم بِالْمَالِ والكسى وَوَعدهمْ بإخلاف جَمِيع مَا ضَاعَ لَهُم وَرَجَعُوا إِلَى مشرع الرملة ممتعضين لتِلْك الفعلة
ثورة العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره إِلَى وَادي نول وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما كَانَت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فسد مَا بَين السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله وَبَين العبيد لإسرافه فِي قَتلهمْ حَتَّى كَاد يَأْتِي على عظمائهم وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ جَزَاء لَهُم على قَتلهمْ لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْملك حَسْبَمَا سبق إِذْ كَانَ مَا بَينه وَبَينه صَالحا كَمَا مر فَقتل مِنْهُم كل من سعى فِي قَتله أَو شَارك فِيهِ أَو وَافق عَلَيْهِ حَتَّى بلغ عدد من قتل مِنْهُم أَزِيد من عشرَة آلَاف فَأَجْمعُوا على خلعه وَقَتله ودس إِلَيْهِ بَعضهم بِمَا عزموا عَلَيْهِ فِي شَأْنه ففر لَيْلًا من مكناسة وَلم يصبح إِلَّا بحلة آيت أدراسن فأجلوا مقدمه وتباروا فِي إكرامه
وَلما عزم على النهوض عَنْهُم ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى تادلا ثمَّ وَدعوهُ(7/136)
وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَمضى هُوَ إِلَى مراكش وَمِنْهَا ذهب إِلَى السوس فَنزل بوادي نول على أَخْوَاله المغافرة وَكَانَ مَعَه يَوْمئِذٍ ولداه الْمولى أَحْمد فِي سنّ الْبلُوغ وَالْمولى مُحَمَّد السُّلْطَان بعده صَغِيرا وَأقَام عِنْد المغافرة نَحْو ثَلَاث سِنِين وَأما وَالِي فاس مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي فَإِنَّهُ لما اتَّصل بِهِ فرار السُّلْطَان من مكناسة فر هُوَ أَيْضا عَن فاس لَيْلًا وَلم يصبح إِلَّا بزرهون فاطمأن بهَا جنبه وَكَانَ مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالأعرج رَحمَه الله
لما فر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل من مكناسة إِلَى وَادي نول اجْتمع عبيد الدِّيوَان وَاتَّفَقُوا على بيعَة الْمولى أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالأعرج وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسجلماسة فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بذلك وبعثوا بِالْكتاب مَعَ جَرِيدَة من الْخَيل لتأتي بِهِ فَأقبل مسرعا وَلما وصل إِلَى مَدِينَة صفرو لقِيه بهَا أَعْيَان فاس وأشرافها وعلماؤها فَبَايعُوهُ ففرح بهم وَأكْرمهمْ وعادوا فِي صحبته إِلَى فاس الْجَدِيد فولى عَلَيْهِم مسعودا الروسي وَذَلِكَ فِي ربيع الثَّانِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وَأمره أَن لايقبض مِنْهُم إِلَّا الزكوات والأعشار الشَّرْعِيَّة وَمَا جرت بِهِ الْعَادة من الْهَدَايَا الْخَفِيفَة
وَكَانَ رَحمَه الله مَوْصُوفا بالحلم وَالْعقل متوقفا فِي الدِّمَاء فستره الله فِي آخر أمره وأجمل خلاصه ثمَّ نَهَضَ إِلَى مكناسة وَلما قدمهَا بَايعه الْجَيْش بهَا الْبيعَة الْعَامَّة هَكَذَا فِي الْبُسْتَان
وَرَأَيْت بِخَط جدنا الإِمَام الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم بن زَرُّوق الحسني الإدريسي مَا نَصه وَفِي الْيَوْم الأول من جُمَادَى الأولى من(7/137)
سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف ثار عبيد الرملة على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَنَقَضُوا بيعَته وأعلنوا بنصر أَخِيه الْمولى عَليّ ولد عَائِشَة مباركة وَخرج لَهُم الْمولى عبد الله عَن دَار الْملك بمكناسة بعد أَن أَخذ مَا كَانَ بهَا مِمَّا أعجبه من خيل وعدة وَمَال من غير قتال وَلَا محاربة وَدخل أَخُوهُ الْمولى عَليّ دَار الْملك بمكناسة يَوْم الْجُمُعَة فاتح جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتبه فِي الثَّانِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور مُحَمَّد بن زَرُّوق كَانَ الله لَهُ بمنه اه كَلَامه بِحُرُوفِهِ
وَلما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن بمكناسة قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود ببيعاتهم وهداياهم من جَمِيع الْبلدَانِ فأجازهم وَفرق المَال على الْجَيْش إِلَى أَن نفذ مَا عِنْده وَاحْتَاجَ فَقبض على الْحرَّة خناثى بنت بكار أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله فاستصفى مَا عِنْدهَا ثمَّ امتحنها لتقر بِمَا عَسى أَن تكون قد أخفته فَلم يحصل على طائل وَكَانَت هَذِه الفعلة مَعْدُودَة من هناته عَفا الله عَنهُ
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وخناثى هَذِه هِيَ أم السلاطين أعزهم الله وَكَانَت صَالِحَة عابدة عَالِمَة حصلت الْعُلُوم فِي كَفَالَة والدها الشَّيْخ بكار وَقَالَ رَأَيْت خطها على هَامِش نُسْخَة من الْإِصَابَة لِابْنِ حجر وَعرف بِهِ بَعضهم فَقَالَ هَذَا خطّ السيدة خناثى أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِلَا شكّ اه
ثورة أهل فاس بعاملهم مَسْعُود الروسي وانتقاضهم على السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله
ثمَّ إِن مسعودا الروسي عَامل فاس عدا على الْحَاج أَحْمد بودي رَئِيس اللمطيين فَقتله وَأمر بجره إِلَى بَاب الْفتُوح إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي سعى فِي قتل أَخِيه أبي عَليّ الروسي عقب وَفَاة السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل كَمَا مر(7/138)
فَلَمَّا ارْتكب مَسْعُود هَذِه الفعلة اجْتمع أهل فاس وَأخذُوا أسلحتهم وتقدموا إِلَى الْقَائِد مَسْعُود ليقتلوه بِصَاحِبِهِمْ ففر مَسْعُود وَلم يدركوه فَعَطَفُوا على السجْن فكسروه وَقتلُوا الحرس والأعوان الَّذين بِهِ وسرحوا المساجين إِلَى حَال سبيلهم وَلما اتَّصل خبرهم بالسلطان الْمولى أبي الْحسن غض الطّرف عَنْهُم وَبعث إِلَيْهِم أَخَاهُ الْمولى الْمُهْتَدي وَمَعَهُ الْقَائِد غَانِم الحاجي وَكتب إِلَيْهِم يَقُول إِنِّي قد عزلت عَنْكُم مسعودا الروسي وَوليت عَلَيْكُم غانما الحاجي فَلم يقبلوه وَرجع من الْغَد إِلَى مكناسة ثمَّ رجعُوا بصائرهم بِإِشَارَة أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم وبعثوا جمَاعَة من الْعلمَاء والأشراف بهدية كَبِيرَة مَعَ الْمولى الْمُهْتَدي إِلَى السُّلْطَان تلافيا لما فرط مِنْهُم وَلما دخلُوا على السُّلْطَان قبض هديتهم وَعدد عَلَيْهِم ذنوبهم ثمَّ أَمر بهم إِلَى السجْن وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى أهل فاس قَامَت قيامتهم وَأَغْلقُوا أَبْوَاب الْمَدِينَة وأعلنوا بِالْخِلَافِ ثمَّ عطفوا على أَصْحَاب مَسْعُود الروسي وكل من كَانَ لَهُ بِهِ اتِّصَال فَقَتَلُوهُمْ فِي كل وَجه وأنشبوا الْحَرْب مَعَ الودايا فِي كل نَاحيَة
وَفِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قدم من عِنْد السُّلْطَان الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد عبد الله الحمري من قواد العبيد فَاجْتمع بِأَهْل فاس وَاعْتذر إِلَيْهِم عَن السُّلْطَان وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا مَعَه جمَاعَة مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان لرتق هَذَا الفتق فأسعفوه وبعثوا طَائِفَة من عُلَمَائهمْ وأشرافهم وأصحبوهم هَدِيَّة نفيسة إِلَى السُّلْطَان وَكتب عبد الله الحمري إِلَى السُّلْطَان يعْتَذر إِلَيْهِ عَنْهُم ويشفع لَهُم عِنْده فَدَخَلُوا على السُّلْطَان وعاتبهم ثمَّ عَفا عَنْهُم وسرح لَهُم إخْوَانهمْ الَّذين كَانُوا فِي السجْن وَولى عَلَيْهِم عبد الله الحمري ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان واربعين وَمِائَة وَألف عَزله وَولى عَلَيْهِم عبد الله بن الْأَشْقَر وسكنت الهيعة واستقام الْأَمر بعض الشَّيْء(7/139)
غَزْو السُّلْطَان أبي الْحسن أهل جبل فازاز فِي جَيش العبيد وهزيمتهم إِيَّاه
لما كَانَت أَوَاخِر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف أَخذ السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي الاستعداد وتجهيز العساكر لآيت ومالو وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ إسعافا للعبيد ليأخذوا بثأرهم من البربر فِي الْوَقْعَة السَّابِقَة أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَخرج إِلَيْهِم فِي الْمحرم فاتح سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فِي جَيش كثيف من العبيد فَلَمَّا نذروا بإقباله إِلَيْهِم ودنوه مِنْهُم أظهرُوا الْفِرَار أمامهم مثل الفعلة الأولى فصاروا يتأخرون وَيتبع آثَارهم فَينزل مَنَازِلهمْ إِلَى أَن عبروا وَادي أم الرّبيع ودخلوا فِي الْجبَال فَعبر السُّلْطَان خَلفهم وَتقدم العبيد إِلَى الْجبَال والأوعار فاقتحموها عَلَيْهِم فَلَمَّا توسطوها كرت البربر عَلَيْهِم وانقضوا عَلَيْهِم من الثنايا انقضاض العقبان وَأَحَاطُوا بهم من كل وَجه فَوَلوا منهزمين وازدحموا على الثنايا وسلكوا سبيلهم فِي الْمرة الأولى من ترك الْخَيل وَالسِّلَاح والأبنية والأثاث والنجاة بِمُجَرَّد أَعْنَاقهم وسلبهم البربر حَتَّى من الثِّيَاب وَلم يتَعَرَّضُوا للسُّلْطَان فِي موكبه وخاصته إِلَى أَن عبر وَادي أم الرّبيع فَرَجَعُوا عَنهُ وَلما دخل مكناسة طَالبه العبيد بالكسوة وَالسِّلَاح والراتب فَلم يكن عِنْده مَا يعطيهم فشغبوا عَلَيْهِ ومرضوا فِي طَاعَته
وَقد أجمل صَاحب نشر المثاني هَذِه الْأَخْبَار فَقَالَ وَفِي هَذِه السّنة يَعْنِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف أهلك الله كل من خرج على السُّلْطَان مولَايَ عبد الله وقويت الْفِتَن وَارْتَفَعت الأسعار وانحبست الأمطار وقاسى النَّاس الشدائد من الغلاء وَقل الإدام وَانْقطع اللَّحْم وَهَلَكت رِقَاب كَثِيرَة وَلم يزل الْأَمر فِي شدَّة وفر النَّاس كل فرار(7/140)
تحرّك السُّلْطَان الْمولى عبد الله من السوس وفرار السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى الأحلاف وَمَا كَانَ من أمره إِلَى وَفَاته
لما كَانَ شهر ذِي الْحجَّة من سنة تسع واربعين وَمِائَة وَألف ورد الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله قد أقبل من وَادي نول وَوصل إِلَى تادلا فاهتز العبيد لَهُ وتحدثت فرقة مِنْهُم برده إِلَى الْملك وَخَالفهُم سَالم الدكالي فِي جمَاعَة من شيعته وَقَالُوا لَا نخلع طَاعَة مَوْلَانَا عَليّ إِذْ كَانَ سَالم هَذَا وَأَصْحَابه هم الَّذين تسببوا فِي خلع الْمولى عبد الله وتولية أَخِيه الْمولى عَليّ
ثمَّ إِن شيعَة الْمولى عبد الله قويت وكثروا أَصْحَاب سَالم وأعلنوا بيعَته ففر سَالم فِيمَن مَعَه من القواد إِلَى زَاوِيَة زرهون مستجيرا بهَا
وَلما سمع بذلك السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن فر من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد فصده الودايا عَن الدُّخُول إِلَيْهَا فَعدل إِلَى قنطرة وَادي سبو فَنزل هُنَالك يَوْمًا أَو بعض يَوْم إِلَى أَن قضى بعض إربه ثمَّ أصبح غاديا إِلَى تازا فاحتلها ثمَّ انْتقل عَنْهَا إِلَى عرب الأحلاف فَأَنَاخَ بديارهم فَفَرِحُوا بِهِ وأكرموه وصاهروه وَأقَام بَين أظهرهم عدَّة سِنِين معرضًا عَن الْملك وأسبابه إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى مكناسة فاستوطنها بِإِشَارَة أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله حِين وَفد عَلَيْهِ بدار الدبيبغ من فاس سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَأعْطَاهُ مَالا وجنات ومزارع مِمَّا كَانَ لجَانب المخزن بمكناسة وَبَعثه إِلَى دَاره بهَا فَأَقَامَ يَسِيرا ثمَّ وثب عَلَيْهِ العبيد فقبضوا عَلَيْهِ وبعثوا بِهِ إِلَى أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَقَالُوا إِن هَذَا قد أفسد علينا بِلَادنَا فَأَخذه وسرحه إِلَى تافيلالت فاستقر بهَا إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله كَمَا سَيَأْتِي(7/141)
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
لما فر السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن من مكناسة إِلَى الأحلاف اجْتمعت كلمة العبيد والودايا على بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَبَايعُوهُ وَهُوَ بتادلا وتبعهم على ذَلِك أهل فاس وَسَائِر الْقَبَائِل ثمَّ إِن سالما الدكالي الَّذِي بزرهون كتب إِلَى أهل فاس يَقُول لَهُم إِن الدِّيوَان قد اتّفق على خلع الْمولى عبد الله وبيعة سَيِّدي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بِابْن عريبة والمشورة لعلمائكم فَأَجَابُوهُ بِأَن قَالُوا نَحن تبع لكم فَلَمَّا سمع أهل الدِّيوَان بِمَا فعله سَالم الدكالي وَمَا تَقوله عَلَيْهِم خَرجُوا من الْمحلة إِلَى زرهون وقبضوا على سَالم الدكالي وَمن مَعَه من القواد وبعثوا بهم إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بتادلا فاستفتى فيهم القَاضِي أَبَا عنان وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَعَه فأفتاه بِقَتْلِهِم فَقَتلهُمْ ثمَّ نميت مقَالَة سَالم الدكالي إِلَى الْمولى مُحَمَّد ابْن عريبة وَهُوَ بتافيلالت فَظن أَن الْأَمر صَحِيح فَأقبل مسرعا إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة صفرو فَوجدَ النَّاس قد بَايعُوا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وراجعوا طَاعَته فَسقط فِي يَده ثمَّ دخل فاسا مستخفيا وَأقَام بدار الشَّيْخ أبي زيد عبد الرَّحْمَن الشَّامي وَكَانَ صديقه مُعْتَقدًا لَهُ وَكَانَ أَبُو زيد يعده بِالْملكِ
وَلما أقبل السُّلْطَان الْمولى عبد الله من تادلا خرج للقائه أهل فاس وَفِيهِمْ الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء وَكَذَلِكَ أهل مكناسة فوافوه بقصبة أبي فكران وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ عَاتَبَهُمْ وَعدد مَا سلف مِنْهُم ثمَّ أَمر بأعيانهم فَقتلُوا وَفعل مثل ذَلِك بأعيان مكناسة واستباحهم وعزل قاضيهم أَبَا الْقَاسِم العميري وَرجع أَشْرَاف فاس وعلماؤها مذعورين مِمَّا نابهم بعد أَن ولى السُّلْطَان عَلَيْهِم مُحَمَّدًا بن عَليّ بن يشي وَاسْتمرّ هُوَ مُقيما بقصبة أبي فكران وَلم يتَقَدَّم إِلَى فاس لعدم ثقته بهم(7/142)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بِابْن عريبة وَالسَّبَب فِيهَا
لما فعل الْمولى عبد الله بأعيان فاس ومكناسة مَا فعل من الْقَتْل والاستباحة وَأقَام منكمشا بقصبة أبي فكران نبغت رُؤُوس الْفِتْنَة من الودايا بفاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي نهب الطرقات ثمَّ أَغَارُوا فِي يَوْم خَمِيس على سرح فاس وأجلاب سوقها فاستاقوها حَتَّى لم يتْركُوا لَهُم بقرة وَلَا شَاة وَلَا بَهِيمَة غَيرهمَا
وَلما رأى أهل فاس مَا نزل بهم اجْتَمعُوا وتحالفوا على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن عريبة فَمَشَوْا إِلَيْهِ وَهُوَ بدار الشَّيْخ أبي زيد الشَّامي فأخرجوه وَأخذُوا عَلَيْهِ العهود ثمَّ بَايعُوهُ فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة خمسين وَمِائَة وَألف وهيؤوا لَهُ كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من خيل وَسلَاح وَآلَة حَرْب وتباروا فِي طَاعَته وخدمته وكتبت بيعَته فِي خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَكتب عَلَيْهَا الْفُقَهَاء خطوطهم وَامْتنع بَعضهم من ذَلِك وَقَالُوا بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فِي أعناقنا فَلَا نخلعها فعزلوا عَن الخطط وامتحنوا ثمَّ كتب أهل فاس إِلَى عبيد الدِّيوَان يعرفونهم مَا صَنَعُوا وَيطْلبُونَ مِنْهُم موافقتهم فأجابوهم إِلَى ذَلِك وَبَايَعُوا السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَتمّ أمره
وَلما رأى السُّلْطَان الْمولى عبد الله أَن أَمر أَخِيه قد تمّ فر إِلَى جبال البربر وَأقَام هُنَالك ثمَّ فتحت أَبْوَاب فاس وانتقل السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد نَهَضَ إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَبَايَعَهُ العبيد الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من سَائِر الأقطار بهداياهم فأجازهم وَفرق مَا كَانَ عِنْده من المَال على العبيد وَكَانَ مَا نذكرهُ(7/143)
بَدْء اختلال أَمر السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَمَا تسبب عَن ذَلِك
لما فرق السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة على العبيد مَا عِنْده من المَال لم يقنعهم ذَلِك واستزادوه فَأطلق عَفا الله عَنهُ أَيدي النهب فِي أَمْوَال الْمُسلمين وَأخذ هُوَ فِي اسْتِخْرَاج الْحُبُوب والأقوات من دور أهل مكناسة غصبا وَبحث عَنْهَا فِي الأهراء والمطامير وكل من ذكر لَهُ أَن عِنْده قمحا أَو شَعِيرًا قبض عَلَيْهِ وصادره إِلَى أَن يظْهر مَا عِنْده وكل من جلب من أهل الْبَادِيَة حبا اخذ مِنْهُ كرها فَكثر الْهَرج وعمت الْفِتْنَة وفر النَّاس من مدينتهم وَعم النهب خَارِجهَا وانقطعت السبل وَوَقع النَّاس فِي حيص بيص وَالْأَمر لله وَحده
إغارة السُّلْطَان الْمولى عبد الله على الإصطبل من مكناسة وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله الَّذِي كَانَ مُقيما عِنْد البربر قدم ذَات لَيْلَة فِي جمَاعَة من أَصْحَابه حَتَّى دخل الإصطبل وَقتل من وجد بِهِ من العبيد وَحرق أخصاصهم وَرجع عوده على بدئه وَلما نذر بِهِ السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة نَادَى فِي النَّاس بالنفير وَركب فِي خيله وَرجله وَقصد السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهُوَ بالموضع الْمَعْرُوف بالحاجب وَلما رأى العساكر مقبلة إِلَيْهِ وَالْخَيْل تَتَعَادَى خَلفه فر بِنَفسِهِ وَترك ابنيته بِمَا فِيهَا فانتهبها العبيد وتبعوه إِلَى أَن بلغُوا وَادي ملوية فتوغل فِي الْجبَال وَلم يقفوا لَهُ على أثر وَلما قَفَلُوا رَاجِعين اعْتَرَضَهُمْ البربر وتسايلوا عَلَيْهِم من المخارم والشعاب فصدقوهم الْقِتَال وهزموهم واستلبوا مَا مَعَهم من الأثقال وَرَجَعُوا بخفي حنين
قَالَ فِي الْبُسْتَان وَلما انْتَهوا إِلَى أحواز صفرو بعث الْمولى مُحَمَّد ابْن(7/144)
عريبة جمَاعَة من جَيْشه إِلَى من هُنَالك من الْمُسْتَضْعَفِينَ من أهل المزادغ وَغَيرهَا من الْقرى وَأمر بِقطع رؤوسهم وبعثها إِلَى فاس موهما أَنَّهَا رُؤُوس البربر اه وَالله أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَمَا تخللها من الْهَرج والشدة
لما قفل السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة من خرجته فِي أثر أَخِيه الْمولى عبد الله وَكَانَ حَيْثُ ذكرنَا بعث أَخَاهُ الْمولى الْوَلِيد بن إِسْمَاعِيل إِلَى فاس وَأمره بِضَرْب الْبَعْث عَلَيْهِم توصلا إِلَى مَا فِي أَيْديهم من المَال بِحَيْثُ أَن من أعْطى المَال مِنْهُم يُقيم بداره وَمن أَبى يخرج فِي الْبَعْث فتحير النَّاس وَقدم الْمولى الْوَلِيد حَضْرَة فاس وَقبض على الْحَاج أبي جَيِّدَة برادة وَكَانَ مثريا فَقتله وَأخذ أَمْوَاله وَبَاعَ أُصُوله وَقبض على الْحَاج عبد الْخَالِق عديل فَأخذ أَمْوَاله ثمَّ تسلط على أهل الزوايا وكل من ذكر لَهُ أَنه من أهل الْيَسَار إِلَى أَن استوفى غَرَضه ثمَّ سَار إِلَى مكناسة فَفعل بِأَهْلِهَا مثل ذَلِك حَتَّى لم يسلم مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل هَذَا وَالنَّاس فِي محنة عَظِيمَة من المجاعة والفتنة وَنهب الدّور بِاللَّيْلِ بِحَيْثُ كَانَ أهل الْيَسَار لَا ينامون وَصَارَ جلّ النَّاس لصوصا والودايا يعيشون فِي الجنات خَارج الْمَدِينَة ويغيرون على القصارين بوادي فاس وَبعد أَن صَار النَّاس يقصرون كتانهم بمصمودة انتهبوه مِنْهُم بهَا بل تناولوا القفل من الفنادق وَالسُّلْطَان معرض عَن جَمِيع ذَلِك لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَقَد هلك فِي هَذِه الْمدَّة من الْجُوع جم غفير أخبر صَاحب المارستان أَنه كفن فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ثَمَانِينَ ألفا وَزِيَادَة سوى الَّذين كفنهم أهلهم وعشيرتهم وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت أَيَّام الْمولى مُحَمَّد بن عريبة هَذَا أَيَّام نحس ووبال على الْمُسلمين وَكَذَا أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء الَّذِي إِلَيْهِ يساق الحَدِيث وكل ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم من اسْتِيلَاء العبيد على الدولة وشؤم افتياتهم عَلَيْهَا وتحكمهم فِي أعياصها طوع أهوائهم وَحسب أغراضهم إِذْ(7/145)
مَعْلُوم أَنه لَا ينشأ عَن كَثْرَة الْخلْع وَالتَّوْلِيَة إِلَّا هَذَا وَشبهه نسْأَل الله تَعَالَى اللطف وَالْحِفْظ فِي الْأَهْل وَالدّين وَالْمَال فِي الْحَال والمآل
وَقد تكلم صَاحب نشر المثاني على هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمسين وَمِائَة وَألف فَقَالَ وَفِي هَذِه السّنة هزم جَيش الثائرين على مولَايَ عبد الله يَعْنِي العبيد هزيمَة عَظِيمَة بعد أَن صدر مِنْهُم فَسَاد كَبِير وَذَلِكَ على يَد البربر وَارْتَفَعت الأسعار جدا وَجعل اللُّصُوص يهجمون على النَّاس فِي دُورهمْ لَيْلًا ويقتلونهم وهم يستغيثون فَلَا يغاثون وَبلغ الْخَوْف إِلَى أَبْوَاب الدّور المتطرفة بفاس نَهَارا فَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يخرج عَن بَاب مصمودة فِي العدوة وَلَا عَن بَاب القصبة الْقَدِيمَة فِي الطالعة وَلَا عَن حومة الحفارين بَاب عجيسة وَكثر الْهدم فِي الدّور لأخذ خشبها وَكثر الخراب وخلت الحارات فتجد الدَّرْب مُشْتَمِلًا على عشْرين دَارا وَأكْثر وَكلهَا خَالِيَة وَفِي هَذِه الْمدَّة قتل الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْبَقَاء يعِيش الشاوي بداره بالدوح وَقَتله كَانَ سَبَب خلاء الدوح وَافْتَضَحَ أهل الْمُرُوءَة من النَّاس وَمن يظنّ بِهِ الدّين وكل من قدر على الْفِرَار فر من فاس وَقل من سلم مِنْهُم بعد خُرُوجه عَن الْبَلَد وَخرج جمَاعَة وافرة من أهل فاس إِلَى تطاوين وَمَا والاها لجلب الْميرَة إِذْ كَانَ الله تَعَالَى قد سخر الْعَدو الْكَافِر بِحمْل الطَّعَام إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فَاشْترى أهل فاس مِنْهُ شَيْئا كثيرا لَكِن امْتنع الجمالون من حمله لَهُم وماطلوهم فشكوهم لوالي تِلْكَ الْبِلَاد ورئيسها حِينَئِذٍ أَحْمد بن عَليّ الريفي فأظهر لَهُم النصح وأبطن الْغِشّ لانحرافه عَن السُّلْطَان وَمن يتَعَلَّق بِهِ فثبط الجمالين وهم قَبيلَة بداوة فازدادوا امتناعا وتعاصيا حَتَّى بَقِي أهل فاس معطلين بميرتهم نَحْو سِتَّة أشهر فَهَلَك بِسَبَب ذَلِك خلائق لَا يُحصونَ جوعا وَكلهمْ فِي عُهْدَة أَحْمد بن عَليّ الريفي وَمَا أغْنى مَال وَلَا مَتَاع فِي طلب الْقُوت وَلَوْلَا أَن الله سخر الْعَدو الْكَافِر بجلب الْميرَة للمغرب لهلك أَهله جَمِيعًا فِيمَا أَظن وَذَلِكَ كُله من شُؤْم الْفِتَن وَالْخُرُوج على الْمُلُوك(7/146)
وَأما الْأُصُول والسلع فَلم يكن شَيْء مِنْهَا يبلغ عشر ثمنه الْمُعْتَاد وَلم يقيض الله لهَذَا الْمغرب رَاحَة حَتَّى من بِرُجُوع السُّلْطَان مولَايَ عبد الله هَذَا كَلَام صَاحب نشر المثاني وَهُوَ الْفَقِيه المؤرخ سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بن عبد السَّلَام القادري وَقد حكى هَذِه الْأَخْبَار عَن مُعَاينَة لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ حاضرها وشاهدها
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة وَألف وَالنَّاس فِي شدَّة وَفِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر مِنْهَا ثار العبيد على السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة فقبضوا عَلَيْهِ وعَلى قائده على فاس الشريف أبي مُحَمَّد عبد الْمجِيد المشامري وَوَضَعُوا فِي رجْلي كل وَاحِد مِنْهُمَا قيدا وأخرجوا ابْن عريبة وَعِيَاله من دَار الْملك إِلَى دَاره الَّتِي على وَادي ويسلن بجنان حمرية ووكلوا بِهِ جمَاعَة من العبيد يحرسونه وَكَتَبُوا إِلَى أَخِيه الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل بتافيلالت يستدعونه للقدوم عَلَيْهِم ليملكوه
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
لما قبض العبيد على السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة أعْلنُوا بيعَة أَخِيه الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل وَكَتَبُوا بذلك إِلَى الْآفَاق فساعدهم النَّاس عَلَيْهِ وبعثوا جَرِيدَة من الْخَيل على عَادَتهم لتأتي بِهِ فَأقبل مسرعا وَلما انْتهى إِلَى مَدِينَة صفرو لقِيه أهل فاس بهَا فِي أَشْرَافهم وعلمائهم وأدوا بيعتهم وَرَجَعُوا مَعَه إِلَى فاس الْجَدِيد فأراح بِهِ وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي فاستناب الكعيدي عَلَيْهِم من قبله شعشوع اليازغي وَالْحَال مَا حَال وَالظُّلم مَا زَالَ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان الْمولى المستضيء إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَبَايَعَهُ العبيد الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود والقبائل والأمصار بهداياهم فقابلهم بِمَا يجب واستتب أمره(7/147)
ذكر مَا صدر من السُّلْطَان الْمولى المستضيء من العسف وَالِاضْطِرَاب
لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى المستضيء بمكناسة كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَن بعث بأَخيه الْمولى مُحَمَّد بن عريبة مُقَيّدا إِلَى فاس وَمِنْهَا إِلَى سجلماسة فسجن بهَا وَبعث بقائده السَّيِّد عبد الْمجِيد المشامري وَالشَّيْخ أبي زيد عبد الرَّحْمَن الشَّامي يسجنان بفاس الْجَدِيد ونهبت دَار المشامري وصودر إِلَى أَن مَاتَ تَحت الْعَذَاب وَمثل بِهِ ثمَّ بعث السُّلْطَان كِتَابه إِلَى أهل فاس وَلَكِن رسم أَن يقْرَأ بفاس الْجَدِيد ويحضر أَعْيَان أهل فاس لاستماعه فارتابوا وتغيبوا وَلم يحضر مِنْهُم الا نَحْو الْعشْرين فَقبض عَلَيْهِم وسجنوا هُنَالك ثمَّ وظف عَلَيْهِم مَال ثقيل لم يقومُوا بِهِ
وافتقرت الدولة فِي أَيَّام هَذَا السُّلْطَان وَاحْتَاجَ إِلَى المَال ليقطع عَنهُ لِسَان العبيد فَأخذ فِي الْبَحْث عَمَّا فِي المخازن الإسماعيلية الَّتِي لم يلْتَفت إِلَيْهَا الْمُلُوك قبله فَوَقع على خزين من الْحَدِيد فاستخرجه وَبَاعه وَوَقع على الخزين الْكَبِير وَفِيه آلَاف من قناطير الكبريت فَبَاعَهَا أَيْضا وَوجد شَيْئا كثيرا من ملح البارود والشب والبقام وَغير ذَلِك مِمَّا كَانَ يجلب إِلَى الحضرة من غَنَائِم أَجنَاس الفرنج فَبَاعَ ذَلِك كُله ثمَّ اقتلع شراجب الْقبَّة الشطرنجية وَكَانَت من نُحَاس مَذْهَب واقتلع الدرابيز الَّتِي عَن يَمِينهَا وشمالها من الْحَدِيد الْمُنْتَخب من بَاب الرخام إِلَى قصر الْمولى يُوسُف وَدفعهَا لأهل الذِّمَّة وألزمهم أَدَاء ثمنهَا فأجحف بهم ثمَّ أنزل المدافع النحاسية الَّتِي كَانَت بأبراج الحضرة فَكَسرهَا وضربها فُلُوسًا فَمَا أغْنى ذَلِك شَيْئا وَقتل فِي هَذِه الْمدَّة نيفا وَثَمَانِينَ رجلا من عرب بني حسن وسلط الْعَذَاب على مساجين أهل فاس ليغرموا المَال فغرموا مَا قدرُوا عَلَيْهِ ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على تجار أهل فاس ليشتروا أصُول مساجينهم فعذبوا إِلَى أَن أَدّوا بعض المَال وعجزوا وَأفْتى الْعلمَاء أَن هَذَا البيع الْوَاقِع فِي هَذِه الْأُصُول صَحِيح تَقْدِيمًا لخلاص الْأَنْفس على الْأَمْوَال(7/148)
ثمَّ قبض هَذَا السُّلْطَان على شرِيف من الْأَشْرَاف الْعِرَاقِيّين من أهل حومة كرنيز اتهمه بِأَن الْحرَّة خناثى بنت بكار استودعته مَالا فَضرب وامتحن ثمَّ ولى على فاس الْمولى أَبَا حَفْص عمر الْمدنِي وَكَانَ رَفِيقه وجليسه فاستناب الْمولى أَبُو حَفْص على فاس رجلا يُقَال لَهُ ابْن زيان الْأَعْوَر وَتقدم إِلَيْهِ فِي مصادرة أَشْرَاف فاس واستصفاء أَمْوَالهم فامتثل ابْن زيان أمره وَمَا قصر وَكَانَ الْحَامِل لأبي حَفْص على هَذَا أَن دَاره بفاس كَانَت قد نهبت أَيَّام الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَلم يُنكر ذَلِك أحد من أهل فاس فحقدها أَبُو حَفْص عَلَيْهِم إِلَى أَن أدالته الْأَيَّام مِنْهُم فِي هَذِه الْمرة فَفعل ابْن زيان مَا فعل فَأمر السُّلْطَان الْمولى المستضيء بِالْقَبْضِ على ابْن زيان وَأَن يُطَاف بِهِ على حمَار والسياط فِي ظَهره وَهُوَ يَقُول هَذَا جَزَاء من يُؤْذِي الْأَشْرَاف فطيف بِهِ ثمَّ أزيل رَأسه وعلق على بَاب المحروق هَذَا والأشراف لَا زَالُوا فِي الْعَذَاب ثمَّ أَمر بمساجين أهل فاس فحملوا إِلَيْهِ فِي السلَاسِل والأغلال ثمَّ قتلوا بِبَاب القصبة عَن آخِرهم وَأمر بِإِخْرَاج ولد مامي من الْحرم الإدريسي فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَتله وأسرف الْمولى المستضيء فِي الْقَتْل والعسف وَأَرَادَ أَن يتشبه بأَخيه الْمولى عبد الله الَّذِي جرد السَّيْف وَبسط الْكَفّ فَغطّى سخاؤه عَيبه وهيهات فقد كَانَ الْمولى المستضيء مسيكا مهزوم الرَّايَة على مَا قيل تغمدنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين بِالرَّحْمَةِ وَالْعَفو والغفران ثمَّ قتل الْقَائِد غانما الحاجي ووالي مكناسة الْقَائِد سعدون وَسِتَّة من أَوْلَاد الزياتي أَصْحَاب السجْن
ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله أغرى البربر الَّذين كَانَ مُقيما فيهم بشن الغارات على الودايا والعيث فِي طرقاتهم فَفَعَلُوا وانقطعت السبل وَتعذر المعاش وَكَانَ الْمولى زين العابدين بن إِسْمَاعِيل مَحْبُوسًا عِنْد أَخِيه السُّلْطَان الْمولى المستضيء فَأمر بِإِخْرَاجِهِ وإحضاره بَين يَدَيْهِ فأحضر وَضرب ضرب التّلف وَبعث بِهِ مُقَيّدا إِلَى تافيلالت ليسجن مَعَ بعض أَشْرَافهَا فَبعث العبيد جمَاعَة مِنْهُم فانتزعوه من يَد حامليه وبعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وتقدموا إِلَيْهِ فِي الاحتفاظ بِهِ والاعتناء بِشَأْنِهِ(7/149)
إِيقَاع الباشا أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي بِأَهْل تطاوين
قد قدمنَا مَا كَانَ من إغارة الباشا أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي صَاحب طنجة على أهل تطاوين وهزيمة أبي حَفْص الوقاش لَهُ وفتكه بِأَصْحَابِهِ فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الريفي والوقاش من يَوْمئِذٍ وَبَقِي الريفي يتربص بِهِ الدَّوَائِر ويترصد لَهُ الغوائل إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى المستضيء فِي هَذِه الْمدَّة فَلم يقدم عَلَيْهِ أحد من أهل تطاوين وَلَا دخلُوا فِي بيعَته فَوجدَ أَبُو الْعَبَّاس الريفي السَّبِيل بذلك إِلَيْهِم وأغرى بهم السُّلْطَان الْمَذْكُور ودس إِلَيْهِم أَنهم شَقوا الْعَصَا وخالفوا الْأَمر مَعَ مَا كَانَ قد نقل عَن الْفَقِيه أبي حَفْص فِي تِلْكَ القصيدة من التَّصْرِيح بِطَلَب الْملك فنجع ذَلِك فِي الْمولى المستضيء وَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ يالإيقاع بِأَهْل تطاوين فاغتنمها أَبُو الْعَبَّاس الريفي واقتحم تطاوين فِي جموعه على حِين غَفلَة من أَهلهَا وانتهبها وَقتل من أعيانها نَحْو الثَّمَانمِائَة ووظف على من بَقِي مِنْهُم مَالا ثقيلا وَهدم أسوارها ونظمها فِي سلك مَا كَانَ مستوليا عَلَيْهِ وَبنى بهَا دَار الْإِمَارَة الْمَوْجُودَة الْآن
شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى المستضيء وفراره إِلَى مراكش
لما كَانَ منتصف ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد بمكناسة على السُّلْطَان الْمولى المستضيء وَتَآمَرُوا فِي عَزله ومراجعة طَاعَة أَخِيه الْمولى عبد الله وَلما أحس الْمولى المستضيء بِمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ خرج من مكناسة فِي شيعته وأنصاره قَاصِدا ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ فَتَبِعَهُ الْمولى عبد الله فِي جمع من العبيد فأدركوه بِبَعْض الطَّرِيق فكر عَلَيْهِم وَقَاتلهمْ حَتَّى رجعُوا عَنهُ وَمضى لوجهه إِلَى أَن وصل إِلَى طنجة فَأَقَامَ بهَا نَحْو الشَّهْرَيْنِ عِنْد أَحْمد بن عَليّ الريفي(7/150)
وَمِنْهَا توجه إِلَى مراكش فَإِنَّهُم كَانُوا قد بَايعُوهُ وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر نَائِبا عَنهُ بهَا وَلما اسْتَقر بمراكش كَاتب قبائل الْحَوْز يستصرخهم على أَخِيه الْمولى عبد الله ويستنفرهم لِلْخُرُوجِ مَعَه إِلَيْهِ فتقاعدوا عَنهُ لِأَن عَبدة والرحامنة وَأهل السوس كَانُوا شيعَة للْمولى عبد الله وَلم يبْق فِي حزب الْمولى المستضيء إِلَّا أهل دكالة أَخْوَاله وَبَنُو حسن عرب الغرب وَلما رأى الْمولى المستضيء تقاعد قبائل الْحَوْز عَنهُ أَقَامَ بمراكش يزجي الْأَيَّام إِلَى سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف والباشا أَبُو الْعَبَّاس الريفي صَاحب طنجة يفتل للعبيد فِي الذرْوَة وَالْغَارِب إِلَى أَن بَايعُوهُ ثَانِيَة بعد أَخِيه الْمولى زين العابدين وَبعد خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
مُرَاجعَة العبيد طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله ودخولهم فِي دَعوته
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله كَانَ مُقيما فِي هَذِه الْمدَّة عِنْد البربر وَأَنه تبع الْمولى المستضيء عِنْد خُرُوجه من مكناسة ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَلما بلغه خبر مسيره إِلَى مراكش سَار فِي اعتراضه إِلَى أَن بلغ قَصَبَة وَادي آلزم فَلم يقف لَهُ على خبر فَأَقَامَ يتجسس أخباره إِلَى أَن اتّفق العبيد على بيعَته وَهُوَ بآلزم فَبَايعُوهُ أَوَائِل سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة وَألف وَكَتَبُوا بيعتهم وبعثوا بهَا إِلَيْهِ مَعَ بعض خاصتهم وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى أهل فاس والودايا فِي الْمُوَافقَة فوافقوهم وَبَايَعُوا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وخطبوا بِهِ على منابرهم وزينت فاس وَلما انْتهى الْحَال إِلَى هَذَا الْحَد فر الْوَزير أَبُو الْحسن عَليّ العميري من مكناسة إِذْ كَانَ وَزِير الْمولى المستضيء واحترم أَخُوهُ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم العميري بضريح بعض صلحاء مكناسة وَبعث أهل فاس جمَاعَة من أَشْرَافهم وعلمائهم ببيعتهم إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَمَعَهُمْ جمَاعَة من التُّجَّار وحجاج الركب الْحِجَازِي بهداياهم هَذَا كُله وَالسُّلْطَان لَا زَالَ(7/151)
مُقيما بقصبة آلزم وَتَوَلَّى العبيد بمكناسة النَّقْض والإبرام لتأخر مَجِيء السُّلْطَان وَظهر مِنْهُم الإدلال والاستبداد على الدولة وبعثوا من قبلهم الْقَائِد أَبَا مُحَمَّد عبد الله الحمري واليا على فاس وَقَالُوا عَن أَمر الدِّيوَان وَكثر القطاع بالطرقات واللصوص بِالْمَدِينَةِ وعادت هيف إِلَى أديانها
مَجِيء السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى مكناسة وَمَا ارْتَكَبهُ من أَهلهَا
وَفِي خَامِس عشر رَجَب سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة وَألف تحرّك السُّلْطَان الْمولى عبد الله من آلزم وَقدم مكناسة فَقبض على قاضيها الْفَقِيه أبي الْقَاسِم العميري وَالسَّيِّد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الشدادي وَالْعَبَّاس بن رحال والفقيه المليتي وأزال عمائمهم وَفَضَحَهُمْ وَقَالَ لَهُم كَيفَ تزوجون حرمي من أخي وَأَنا حَيّ وَنكل بهم النكال الشَّديد ثمَّ أَمر بسحبهم إِلَى السجْن وَأعْطى دَار القَاضِي العميري أحد العبيد وَقَالَ لَهُم من أَرَادَ مِنْكُم دَارا بمكناسة فليأخذها فامتدت أَيدي العبيد فِي النَّاس حَتَّى صَارُوا يقفون بالأبواب وَيَقُول العَبْد لصَاحب الدَّار إِن سَيِّدي قد أَعْطَانِي دَارك أَو أَعْطَانِي ابْنَتك فيفتدي مِنْهُ بِالْمَالِ ولحقهم من العبيد فَوق مَا يُوصف وَمن شكى مِنْهُم عُوقِبَ وسجن وَالسُّلْطَان مُقيم بِبَاب الرّيح لم يدْخل القصبة الَّتِي كَانَ بهَا الْمولى المستضيء
وَولى فِي هَذِه الْمدَّة على فاس شيخ الركب الْحَاج عبد الْخَالِق عديل وَولى على قَضَائهَا الْفَقِيه أَبَا يَعْقُوب يُوسُف بن أبي عنان وَتقدم إِلَيْهِ فِي أَن يعْزل الْقُضَاة والخطباء الَّذين خطبوا بالمولى المستضيء فِي سَائِر الْبلدَانِ
وَأما الودايا فَإِنَّهُ لم يقدم على الْمولى عبد الله مِنْهُم أحد وَلَا بَايعُوهُ وَكَذَا الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي وَأهل الرِّيف والفحص وقبائل الْجَبَل فَاغْتَمَّ الْمولى عبد الله لذَلِك ثمَّ شفعت الْحرَّة خناثى أم السُّلْطَان فِي قَومهَا الودايا وَبعثت إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم فقبلهم وَعَفا عَنْهُم(7/152)
مَجِيء السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مراكش إِلَى الْقصر ثمَّ مسيره إِلَى فاس وحصاره إِيَّاهَا
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش وَكَانَ العبيد قد ندموا على مَا فرط مِنْهُم برباط الْفَتْح من التَّخَلُّف عَن السُّلْطَان وَنهب أثاثه حَسْبَمَا مر فَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ من مكناسة مثنى وفرادى حَتَّى اجْتمع عِنْده جلهم لَا سِيمَا من كَانَ مِنْهُم مَعْرُوفا بِعَيْنِه مثل القواد وأرباب الْوَظَائِف وَلما بلغه مَا كَانَ من بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد تربص قَلِيلا حَتَّى إِذا بلغه خُرُوجه إِلَى المراسي قلق وَخرج من مراكش فِي جَيش العبيد وَبَعض قبائل الْحَوْز يبادره إِلَيْهَا وَلما وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح عبر إِلَى سلا وَنزل بِرَأْس المَاء وَلما حضرت الْجُمُعَة دخل الْمَدِينَة فصلى بالجامع الْأَعْظَم مِنْهَا وَدخل دَار الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الله معنينو من أَعْيَان أهل سلا واستصحب مَعَه الْفَقِيه الْمُؤَقت أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي من أهل سلا أَيْضا بِقصد الْقيام بوظيفة التَّوْقِيت وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى قصر كتامة أَتَاهُ الْخَبَر بِدُخُول الْمولى إِبْرَاهِيم إِلَى تطاوين فَأَقَامَ هُنَالك وَكتب إِلَى الودايا وَإِلَى من بَقِي بمكناسة يحضهم على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَكتب إِلَى وَلَده الْمولى الطّيب بفاس الْجَدِيد يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالفقيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد أكنسوس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش
قَالَ أكنسوس فقدمنا على السُّلْطَان بريصانة على مرحلَتَيْنِ من الْقصر قَاصِدا تطاوين ومحاصرة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد بهَا قَالَ فورد عَلَيْهِ كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي عبد الله الْعَرَبِيّ السعيدي صَاحب طنجة بوفاة الْمولى إِبْرَاهِيم وبيعة أَخِيه الْمولى السعيد وَأَنَّهُمْ قد عَادوا بِهِ إِلَى فاس وَلما تحقق بذلك رَجَعَ على طَرِيق الْقصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إِلَيْهَا فوافياها فِي يَوْم وَاحِد فَنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو وَدخل السُّلْطَان دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد مَعَ الودايا وَلما كَانَ فجر الْغَد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أغارت خيل الودايا(7/153)
شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره ثَانِيَة إِلَى البربر
لما كَانَ شهر ربيع الأول من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع بِهِ فنذرت بذلك أمه الْحرَّة خناثى بنت بكار ففرت من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد تبعها ابْنهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَنزل بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ الودايا وَأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا لَهُ فاستعطفهم السُّلْطَان وَقَالَ لَهُم أَنْتُم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وَأُرِيد مِنْكُم أَن تَكُونُوا معي على كلمة وَاحِدَة وعاهدهم وَعَاهَدُوهُ وَرَجَعُوا وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه أَن أَحْمد بن عَليّ الريفي قد كَاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه وَاتفقَ مَعَهم على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى زين العابدين وَكَانَ يَوْمئِذٍ عِنْده بطنجة وَأَنَّهُمْ وافقوه فَوَجَمَ لَهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ استعجل أَمر الْمولى زين العابدين ففر الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد البربر كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ زين العابدين بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
كَانَ ابْتِدَاء أَمر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين أَنه قدم مكناسة فِي أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء فَلَمَّا سمع بِهِ أَمر بسجنه قبل أَن يجْتَمع بِهِ فسجن مُدَّة ثمَّ أَمر يَوْمًا بِإِخْرَاجِهِ وضربه فَضرب وَهُوَ فِي قَيده ضربا وجيعا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت كَمَا مر وَمَعَ ذَلِك فَلم ينْطق بِكَلِمَة ثمَّ رده إِلَى السجْن ثمَّ أَمر ببعثه مُقَيّدا إِلَى سجلماسة كي يسجن بهَا مَعَ بعض الْأَشْرَاف المسجونين هُنَالك فَلَمَّا سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من صفرو إِلَى فاس وَمن هُنَالك بعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وأمروه أَن يحْتَفظ بِهِ مكرما مبجلا(7/154)
ثمَّ لما فر الْمولى المستضيء عَن مكناسة وراجع العبيد طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله دخل الْمولى زين العابدين مَدِينَة فاس فاطمأن بهَا وسر بِولَايَة الْمولى عبد الله وخلع الْمولى المستضيء ثمَّ ذهب إِلَى مكناسة وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَقدم على صَاحبهَا الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي فَأكْرم وفادته وَأحسن مثواه وَاسْتمرّ مُقيما عِنْده إِلَى أَن كَاتب عبيد الدِّيوَان فِي شَأْنه ووافقوه فِي بيعَته فَبَايعهُ الباشا أَحْمد وَبَايَعَهُ أهل طنجة وتطاوين والفحص وَالْجِبَال وخطبوا بِهِ على منابرهم ثمَّ هيأ لَهُ الباشا أَحْمد كَتِيبَة من الْخَيل من عبيد الدِّيوَان وَغَيرهم وبعثهم مَعَه إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي ربيع سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف وبويع بهَا الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل والأمصار فقابلهم بِمَا يجب وَتمّ أمره
وفر السُّلْطَان الْمولى عبد الله من رَأس المَاء وَدخل بِلَاد البربر وَلم يقدم على الْمولى زين العابدين أحد من الودايا وَلَا من أهل فاس وَكَانَ فِيهِ أَنَاة وحلم لم يظْهر مِنْهُ عسف وَلَا امتدت يَده إِلَى مَال أحد إِلَّا أَنه لقلَّة ذَات يَده نقص العبيد من راتبهم فَكَانَ ذَلِك سَبَب انحرافهم عَنهُ كَمَا سَيَأْتِي
بَقِيَّة أَخْبَار الْمولى زين العابدين وانقراض أمره
لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين بِحَضْرَة مكناسة وَتمّ أمره أَقَامَ بهَا نَحْو الشَّهْرَيْنِ ثمَّ تهَيَّأ لغزو الودايا وَأهل فاس الَّذين تخلفوا عَن بيعَته فَنَهَضَ إِلَيْهِم فِي جَيش العبيد منتصف جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما بَات جيشهم بسيدي عميرَة بِقصد حِصَار فاس اخْتلفت كلمة العبيد وَمن الْغَد قوضوا أبنيتهم وَارْتَحَلُوا إِلَى مكناسة وَكفى الله الودايا وَأهل فاس شرهم إِلَّا أَنهم حرقوا بيادر الزَّرْع الَّتِي كَانَت للودايا بالخميس وَلما وصلوا إِلَى مكناسة نهبوا ثمار جناتها وأفسدوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ مِنْهَا(7/155)
وَانْصَرف جمهورهم إِلَى مشرع الرملة وَالَّذين دخلُوا مكناسة مَعَ السُّلْطَان طالبوه فِي الرَّاتِب وشددوا فِي اقتضائه فَلم يكن عِنْده مَا يرضيهم بِهِ فشغبوا عَلَيْهِ ومرضوا فِي طَاعَته
هَذَا وَالسُّلْطَان الْمولى عبد الله مُقيم بجبال البربر مطل على الحضرة ومتحفز للوثبة فَلَمَّا علم بِمَا الْمولى زين العابدين فِيهِ من الِاضْطِرَاب نزل من الْجَبَل وَتقدم حَتَّى دخل فاسا الْجَدِيد وَذَلِكَ فِي سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة فَلَقِيَهُ الودايا وَأهل فاس واهتزوا لمقدمه وطاروا بِهِ سُرُورًا ثمَّ خرج من يَوْمه إِلَى دَار الدبيبغ فاحتل بهَا
وَلما اتَّصل خَبره بأَخيه الْمولى زين العابدين ضَاقَ ذرعه وخشعت نَفسه وَأصْبح غاديا من مكناسة إِلَى حَيْثُ يَأْمَن على نَفسه معرضًا عَن الْملك وأسبابه فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله رَحمَه الله
لما فر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين عَن مكناسة اجْتمع العبيد وَاتَّفَقُوا على أَن يراجعوا طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فبعثوا طَائِفَة من قوادهم ووجهوها إِلَيْهِ فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ بدار الدبيبغ فحيوه وَأَخْبرُوهُ بِأَن إخْوَانهمْ قد خلعوا الْمولى زين العابدين وَبَايَعُوهُ فسر الْمولى عبد الله بقدومهم وَخرج الودايا إِلَى العبيد فاختلطوا بهم وسروا بمقدمهم وأجروا الْخَيل فِي ميدان الْمُسَابقَة واللعب بالبارود وزينت مَدِينَة فاس وجددت الْبيعَة الْعَامَّة من الودايا وَأهل فاس وقبائل الْعَرَب والبربر وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من السّنة فَكَانَ مَا نذكرهُ(7/156)
مَجِيء الْمولى المستضيء من مراكش ومحاربته لِأَخِيهِ الْمولى عبد الله وَمَا يتبع ذَلِك
لما اجْتمعت كلمة العبيد والودايا وَسَائِر أهل بِلَاد الغرب على طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله أَقَامَ رَحمَه الله بدار الدبيبغ وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف فارتاب العبيد بمقامه هُنَالك ورفضه الْمقَام بَين أظهرهم بمكناسة الَّتِي هِيَ دَار الْملك يَوْمئِذٍ فقلبوا لَهُ ظهر الْمِجَن على عَادَتهم واستدعوا الْمولى المستضيء من مراكش ليبايعوه
واتصل خبرهم بالمولى عبد الله وَأَنَّهُمْ قد بعثوا الْخَيل إِلَى الْمولى المستضيء لتأتي بِهِ فَأخذ السُّلْطَان من ذَلِك المقعد الْمُقِيم وشمر عَن ساعد الْجد وَأخذ فِي تأليف قبائل الْعَرَب والبربر وَوصل يَد بَعضهم بِبَعْض ثمَّ ألف بَينهم وَبَين الودايا وَأهل فاس وآخى بَين الْجَمِيع فَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم بِأَنَّهُم يموتون دونه فتم لَهُ مِنْهُم مَا أَرَادَهُ وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم الْحَاج أَحْمد السُّوسِي من مراكش وَدخل فاسا فَتحدث عَنهُ بِأَنَّهُ قد دس إِلَى أهل فاس فِي مُرَاجعَة طَاعَة الْمولى المستضيء والتمسك بدعوته ونمى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَأمر بقتْله فَقتل
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا زحف الْمولى المستضيء من مراكش إِلَى بِلَاد الغرب وَدخل مكناسة فِي جَيش العبيد وَبني حسن وَغَيرهم وَقدم فِي ركابه الْوَزير أَبُو الْحسن العميري وَأَخُوهُ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم وَفِي آخر الْمحرم الْمَذْكُور ورد كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الريفي إِلَى أهل فاس يَدعُوهُم إِلَى بيعَة مخدومه الْمولى المستضيء وَالدُّخُول فِي طَاعَته فصموا عَن ذَلِك ونبذوه(7/157)
وَفِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة زحف الْمولى المستضيء فِي جَيش العبيد إِلَى فاس وعسكر بِظهْر الزاوية خَارِجهَا ففر السُّلْطَان الْمولى عبد الله من دَار الدبيبغ إِلَى آيت دارسن وَمن الْغَد هَاجَتْ الْحَرْب بَين العبيد وَبَين الودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَهلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ عدد كثير وَفِي رَابِع ربيع الثَّانِي قدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله يجر أُمَم البربر خَلفه من زمور وَبني حكم وجروان وآيت آدراسن وآيت ومالو فِي عدد لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم وَفِي شارة من اللبَاس وشكة من السِّلَاح تسر الصّديق وتسوء الْعَدو
وَلما عاين الْمولى المستضيء وعبيده تِلْكَ الجموع وَعَلمُوا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم بِحَرْبِهِمْ اتَّخذُوا اللَّيْل جملا وأسروا إِلَى مأمنهم ونجوا بِأَنْفسِهِم واصبحت الديار مِنْهُم بَلَاقِع فسر النَّاس بذلك وشكروا الله على انفضاض تِلْكَ الجموع بِلَا قتال
وَفِي سادس جُمَادَى الأولى من السّنة توفيت أم السُّلْطَان الْحرَّة خناثى بنت بكار المغفرية رَحمهَا الله وَكَانَت فقيهة أديبة ودفنت بقبور الْأَشْرَاف من فاس الْجَدِيد
وَفِي جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا حدثت فتْنَة بفاس بَين الْحَاج عبد الْخَالِق عديل والشريف الْمولى أبي عبد الله مُحَمَّد الغالي الإدريسي فَشَكَاهُ عديل إِلَى السُّلْطَان فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فعاذ الشريف بضريح جده رَضِي الله عَنهُ فألزم السُّلْطَان أهل فاس إِخْرَاجه فضيقوا عَلَيْهِ إِلَى أَن طلب الْأمان فأمنوه وساقوه إِلَى السُّلْطَان فوبخه ثمَّ ضربه وسجنه ثمَّ أَمر أهل فاس بقتل أَصْحَابه فَقَتَلُوهُمْ(7/158)
هَدِيَّة السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله إِلَى الْحرم النَّبَوِيّ على مشرفه أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف سَافر الركب المغربي إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين فَبعث مَعَه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله رَحمَه الله هَدِيَّة نفيسة فِيهَا ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ مُصحفا بَين كَبِير وصغير محلاة بِالذَّهَب مرصعة بالدر والياقوت وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف الْكَبِير العقباني الَّذِي كَانَ الْمُلُوك يتوارثونه بعد الْمُصحف العثماني الَّذِي كَانَ عِنْد بني أُميَّة بالأندلس وانتقل إِلَى هَذِه العدوة المغربية على يَد عبد الْمُؤمن بن عَليّ حَسْبَمَا مر الْكَلَام عَلَيْهِ مُسْتَوفى وَأما هَذَا الْمُصحف العقباني فَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور فاتح الْمغرب كَانَ نسخه بالقيروان من الْمُصحف العثماني على مَا قيل وَبَقِي متداولا بَين أهل الْمغرب إِلَى أَن وَقع بيد الْأَشْرَاف السعديين وَأخذ فِيهِ الْمَنْصُور مِنْهُم الْعَهْد لوَلَده الشَّيْخ على إخْوَته كَمَا مر
وَلما وصل إِلَى هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله غربه من الْمغرب إِلَى الْحرم الشريف فَعَاد بِهِ الدّرّ إِلَى وَطنه والإبريز إِلَى معدنه قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله المسناوي رَحمَه الله قد وقفت على هَذَا الْمُصحف حِين أَمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله بِإِخْرَاجِهِ وَبَعثه إِلَى الْحُجْرَة الشَّرِيفَة فَظهر لي أَن تَارِيخ كتبه بالقيروان فِيهِ نظر لبعد مَا بَينهمَا اه وَبعث السُّلْطَان رَحمَه الله مَعَه أَلفَيْنِ وَسَبْعمائة حَصَاة من الْيَاقُوت الْمُخْتَلف الألوان للحجرة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى التَّحِيَّة وَتقبل الله من السُّلْطَان عمله وأجزل ثَوَابه آمين(7/159)
مشايعة الباشا أبي الْعَبَّاس الريفي للْمولى المستضيء على الْمولى عبد الله وزحفه إِلَى فاس وَمَا يتَّصل بذلك
لما دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف أقبل الباشا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن عَليّ الريفي فِي جموع الفحص والجبل والريف قَاصِدا فاسا وأعمالها حَتَّى نزل بالعسال من مزارع فاس وَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم مِنْهَا وراود أهل فاس على الانحراف عَن طَاعَة مولَايَ عبد الله فَأَبَوا
وَأَقْبل الْمولى المستضيء فِي جموع العبيد وَعَلَيْهِم الْقَائِد فاتح بن النويني حَتَّى نزل قَرِيبا مِنْهُ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر وَلما زحف هَذَانِ الجيشان إِلَى فاس اضْطَرَبَتْ نَوَاحِيهَا ودهش النَّاس من هول هَذَا الريفي لِأَنَّهُ جَاءَ فِي استعداد لم يعْهَد مثله وأرز الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع إِلَى أسوار فاس وَنزلت حللهم داخلها وخارجها وبعثروا مزارعها وجناتها وانتهبوا مواشيها وَهلك الْكثير مِنْهَا جوعا وهزالا وَمَاجَتْ الْفِتْنَة موج الْبَحْر وَارْتَفَعت الأسعار وَلَقي النَّاس كل شدَّة وَفِي كل صباح وَمَسَاء ترْعد المدافع وتقرع الطبول بمحلتي الْمولى المستضيء والريفي فاستعد النَّاس للحرب وَركب السُّلْطَان الْمولى عبد الله من دَار الدبيبغ فِي نَحْو عشرَة من الْخَيل وأسرع إِلَى آيت أدراسن وهم بسهب عشار فَدخل حلَّة عبد الله بن يشي مِنْهُم وقلب سَرْجه وسط جموعهم فالتف عَلَيْهِ من حضر مِنْهُم وَقَالُوا مَا الَّذِي نَاب مَوْلَانَا فَقَالَ جِئتُكُمْ لتنصروني على هَذَا الْجبلي الَّذِي كَانَ خديمنا وعبدنا وأطغاه مَا جمع من المَال فِي خدمتنا ثمَّ أَرَادَ أَن يفضحنا وجرأه علينا أخوانا المستضيء وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء على بِلَادنَا وَهِي فِي الْحَقِيقَة بِلَادكُمْ وَمَا قصد إِلَّا إهانتكم وَأَنْتُم أَحَق من ينصر أهل الْبَيْت وَلَا يتَحَمَّل الْعَار وَعَلَيْكُم السَّلَام ثمَّ ركب فرسه وَرجع عوده على بدئه فَلم يبت إِلَّا بدار الدبيبغ وَمن الْغَد زحف أَحْمد الريفي إِلَّا بِلَاد الحياينة ظنا مِنْهُ أَنهم لَا زَالُوا مقيمين بهَا فَلَمَّا لم يجد بهَا أحدا رَجَعَ إِلَى مَحَله الَّذِي كَانَ بِهِ وَمن الْغَد(7/160)
كَانَت حَرْب خَفِيفَة بَينه وَبَين الودايا وَمن لافهم من الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع ثمَّ من الْغَد ركب أَحْمد الريفي فِي رماته وَتقدم حَتَّى وقف على كُدَيْنَة تامزيزت فَوق القنطرة وعبرت جموعه لارورات ثمَّ عبر الْمولى المستضيء فِي جموع العبيد وخلفوا رماتهم ومدافعهم وأثقالهم بالمحلة وَكتب الْمولى المستضيء كتائبه وصف جُنُوده بذلك الْبَسِيط وزحف الودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَجَاءَت البربر بجموعها فأشرفوا عَلَيْهِم بِالْعينِ المقبوة إِلَى دَار ابْن عَمْرو وَلما وَقعت عينهم على جموع الْمولى المستضيء ووزيره الريفي بذلك الْبَسِيط صاحوا بهم وشدوا عَلَيْهِم شدَّة رجل وَاحِد فَكَانَت الْهَزِيمَة واستحر فيهم الْقَتْل وَالسَّلب وازدحموا فِي القنطرة وتساقطوا فِي الْوَادي فَهَلَك الْكثير مِنْهُم والبربر فِي أَثَرهم يقتلُون ويسلبون وَأما الريفي فَإِنَّهُ لما رأى الْهَزِيمَة عَلَيْهِ لم يزدْ على أَن ركب فرسه وَنَجَا بِرَأْس طمرة ولجام على الْحَالة الَّتِي وصفهَا أَبُو الطّيب إِذْ قَالَ
(لَا يَأْمَن النَّفس الْأَقْصَى فيدركه ... فيسرق النَّفس الْأَدْنَى ويغتنم)
وَلم يعرج هَؤُلَاءِ وَلَا أحد من المنهزمة على الْمحلة حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا البربر فتركوا اتِّبَاع المنهزمة وَاشْتَغلُوا بنهبها فَأتوا على مَا فِيهَا من الأخبية والكراع والأثاث الفاخر وَلم يتْركُوا بهَا إِلَّا المدافع والمهاريس وآلتها من كور وبنب وبارود فَإِن الْقَائِد أَبَا عزة صَاحب الشربيل وقف على ذَلِك حَتَّى حازه وَعَاد النَّاس وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم فَلَقِيَهُمْ طوائف من البربر لم يَكُونُوا قد شهدُوا الْوَقْعَة فاستلبوا مَا بِأَيْدِيهِم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان حَدثنِي السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله عَن هَذِه الْوَقْعَة وَكَانَ قد شَهِدَهَا وَهُوَ فِي سنّ الْبلُوغ قَالَ بَعَثَنِي وَالِدي مَعَ أخوالنا الودايا فَلَمَّا هبت ريَاح النَّصْر وَانْهَزَمَ الْعَدو فِي سَاعَة وَاحِدَة وَكنت يَوْمئِذٍ فِي خمسين فَارِسًا بَين ودايا وَأَصْحَاب تقدمنا إِلَى الْمحلة فوقفنا على قبَّة الباشا أَحْمد وأحرزناها ثمَّ أمرت الحمارة فحملوا لنا من صناديق(7/161)
الريال على عشْرين بغلة وَمن الملف والكتان على ثَلَاثِينَ جملا لعرب بداوة أَصْحَاب الْإِبِل وحملوا لنا قبتين إِحْدَاهمَا لِأَحْمَد الريفي وَالْأُخْرَى أظنها للْمولى المستضيء وَأما الْعَرَب والبربر والودايا وَأهل فاس فقد أخذت كل طَائِفَة بِنَاحِيَة تحمل مَا قدرت عَلَيْهِ ثمَّ لما انفصلنا عَن الْمحلة قافلين لقيتنا كتائب من البربر الَّذين لم يحضروا الْوَقْعَة وبنفس مَا خالطونا طاروا بِمَا فِي أَيْدِينَا حَتَّى لم ندر أَيْن البغال وَلَا الْإِبِل وَانْفَرَدَ بِكُل بغلة وجمل جمَاعَة من الْخَيل خَمْسُونَ أوستون أَو أَكثر وَلم يجْتَمع منا اثْنَان وعدنا كَمَا جِئْنَا وَهَكَذَا وَقع لكل من انتهب شَيْئا من حزبنا إِلَّا من دخل مَعَ البربر فِي حصتهم وَلما فرغ النَّاس من النهب اشْتغل عبيد السُّلْطَان بِجمع الرؤوس فَكَانَ عَددهَا مَا بَين أَبيض وأسود نَحْو التسْعمائَة فِيهَا رَأس الباشا فاتح بن النويني ثمَّ بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله البغال لجر تِلْكَ المدافع والمهاريس وَحمل الكور والبنب فسيق ذَلِك كُله إِلَى دَار الدبيبغ ثمَّ بعث بغالا أُخْرَى لحمل البارود وَكَانَ ثَلَاثمِائَة برميل فِي كل وَاحِد قِنْطَار من البارود الْجيد فَأدْخل ذَلِك كُله لخزين فاس قَالَ السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حَدِيثه وَكَانَ هَذَا أول بعث بَعَثَنِي فِيهِ وَالِدي وَأول حَرْب شهدتها وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي سنّ الْبلُوغ وَكَانَ لي ولوع باللعب بِالرُّمْحِ والمطاعنة بِهِ إِلَى أَن مهرت فِيهِ اه كَلَامه
وَلما اجتاز المنهزمة بجبل الزَّبِيب اعْتَرَضَهُمْ أَهله وقاتلوهم فَقتلُوا فِي جُمْلَتهمْ سَيِّدي مُحَمَّد بن المستضيء يَظُنُّونَهُ من أهل الرِّيف ثمَّ خلص الريفي وَأَصْحَابه إِلَى طنجة بعد غصب الرِّيق وَكَانَ أَمر هَذِه الْوَقْعَة فتحا عَظِيما على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله وشيعته
قَالَ فِي نشر المثاني فراجع طَائِفَة من العبيد طَاعَة مولَايَ عبد الله وجاءته قبائل الْمغرب بالهدايا من كل نَاحيَة فتألفهم وألان لَهُم القَوْل وَأمر العبيد بِالْمَسِيرِ إِلَى طنجة لِحَرْب الريفي فَسَارُوا ثمَّ رجعُوا وَلم يلْقوا كيدا(7/162)
معاودة أَحْمد الريفي غَزْو فاس وَمَا كَانَ من أمره مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى حِين مَقْتَله
لما وصل أَحْمد الريفي إِلَى طنجة أَخذ فِي إخلاف مَا ضَاعَ لَهُ ولقومه من خيل وَسلَاح وأخبية وَنَحْوهَا وجدد لجيش العبيد من ذَلِك مَا جدده لأهل الرِّيف وَأخذ فِي الاستعداد لمعاودة غَزْو فاس وَأقسم أَن لَا يَأْكُل لَحْمًا وَلَا يشرب لَبَنًا حَتَّى يدْخل فاسا وينهبها كَمَا انتهبوا محلته
وَبعث إِلَى سُلْطَانه الْمولى المستضيء بِمِائَتي فرس ومائتي خباء وَألف مكحلة وَخمسين ألف مِثْقَال يفرقها على العبيد يتقوون بهَا وَضرب لَهُ موعدا يَجْتَمعُونَ فِيهِ على حَرْب السُّلْطَان الْمولى عبد الله وشيعته من الودايا وَأهل فاس فَكَانَ أَمر الريفي فِيمَا أنفقهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ} الْأَنْفَال 36
وَلما كَانَ شهر جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف خرج أَحْمد الريفي من طنجة قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي أكمل شكة وَأحسن استعداد وَلما انْتهى خَبره إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله لم يَسعهُ التَّخَلُّف عَن لِقَائِه فَكتب إِلَى عرب الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَكتب إِلَى عرب الغرب من سُفْيَان وَبني مَالك وَسَائِر شيعته يستنفرهم ويحضهم على نصرته وَفرق الرَّاتِب على العبيد والودايا وزرارة وَأخرج أهل فاس بَعثهمْ الَّذِي عينوه على الْعَادة وَكتب السُّلْطَان إِلَى آيت أدراسن وجروان يُخْبِرهُمْ بعزمه على مصادمة الريفي وَجمعه وَيَقُول لَهُم إِن أردتم المَال وَالْغنيمَة فتأهبوا للنهوض إِلَى طنجة فخف نَاس مِنْهُم وَقدم عَلَيْهِم مِنْهُم أَلفَانِ من الْخَيل وَأكْثر مِنْهَا رُمَاة
ثمَّ خرج السُّلْطَان من فاس أَوَاخِر جُمَادَى الأولى وَنزل على وَادي سبو وَأقَام بِهِ إِلَى أَن عرض عساكره ورتبها فَجعل رُمَاة عبيده ورماة أهل فاس رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم للقائد أبي عزة صَاحب الشربيل وَجعل الودايا(7/163)
وزرارة وَأهل السوس خيلهم ورماتهم رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم لحاجبه الْقَائِد عبد الْوَهَّاب اليموري وَسَار على هَذِه التعبية فَلَقِيَهُ شراقة وَأَوْلَاد جَامع وَأَوْلَاد عِيسَى فجعلهم رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم للشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الشَّرْقِي وَلما عبر وَادي ورغة لقِيه أهل الغرب فِي جموعهم ينتظرونه هُنَالك فَبَاتُوا مَعَه تِلْكَ اللَّيْلَة بِعَين قرواش وَمن الْغَد جعل بني مَالك فِي رحى وعقدهم عَلَيْهِم لقائدهم أبي سلهام الجمادي وَجعل سُفْيَان فِي رحى وَعقد عَلَيْهِم لقائدهم عبد الله السفياني وَسَار على هَذِه التعبية فِي ظلّ النَّصْر والسعادة
وَأما الْمولى المستضيء فِي العبيد وَبني حسن فَإِنَّهُ لما بلغه نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله من فاس خَالفه إِلَى مكناسة دَار الْملك فَدَخلَهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا وعاث وانتهب وَفعل فِيهَا بَنو حسن الأفاعيل من سبي النِّسَاء والذرية وَغير ذَلِك ثمَّ تدارك أهل مكناسة أَمرهم وتجمعوا لِحَرْب عدوهم فَقَاتلُوا بني حسن فِي وسط الْمَدِينَة وردوهم على أَعْقَابهم وَقتلُوا مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وَرَجَعُوا منهزمين وَأما أَحْمد الريفي فَإِنَّهُ زحف إِلَى الْقصر فِي جموع لَا تحصى من أهل الرِّيف والفحص والجبل وَأهل العرائش وَالْقصر والخلط وطليق وبداوة وَغَيرهم وَأقَام ينْتَظر سُلْطَانه الْمولى المستضيء وَجمعه
وَلما أَبْطَأَ عَلَيْهِ واتصل بِهِ خبر زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَيْهِ ارتحل من الْقصر عَامِدًا نَحوه فَالتقى الْجَمْعَانِ عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم بدار الْعَبَّاس على وَادي لكس وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ اللِّقَاء بالموضع الْمُسَمّى بالمنزه من أحواز الْقصر فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف
وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ هم جَيش السُّلْطَان الْمولى عبد الله بالنزول فَقَالَ السُّلْطَان رَحمَه الله لَا نزُول إِلَّا على الْغَنِيمَة أَو الْهَزِيمَة ثمَّ عبر إِلَيْهِم فِي جُنُوده وأعجلهم على النُّزُول وصمد إِلَيْهِم فِي كَتِيبَة من أَخْوَاله وعبيده فخالط(7/164)
مقدمتهم ففضها وَكَانَ فِيهَا أهل الفحص وبداوة وطليق والخلط ثمَّ ظَهرت كَتِيبَة أهل الرِّيف الَّتِي فِيهَا قلب الْعَسْكَر وَحده وفيهَا الباشا أَحْمد بن عَليّ فَحمل عَلَيْهَا السُّلْطَان حَملَة ثَانِيَة ألحقها بالمقدمة وتقوضت جموع الريفي من كل جَانب وانهزموا للحين ومروا على وُجُوههم لَا يلوي حميم على حميم وَمضى جَيش السُّلْطَان فِي أَثَرهم يقتلُون ويسلبون إِلَى أَن جنهم اللَّيْل وَقتل الريفي فِي المعركة وَبقيت الْأَبْنِيَة والأثقال بيد السُّلْطَان كَمَا هِيَ فَنزل بهَا بدار الْعَبَّاس وعادت العساكر مسَاء بالغنائم وبرأس الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي عرفه بَعضهم بَين الْقَتْلَى فأزال رَأسه وأتى بِهِ السُّلْطَان فسر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى فاس فعلق بِبَاب المحروق وانقضى أمل أَحْمد الريفي وَذَهَبت أَيَّامه و {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} الرَّحْمَن 26 وَقد خلف هَذَا الريفي آثارا كَثِيرَة بطنجة وتطاوين وأعمالها من أبنية وَغَيرهَا تشهد بعلو همته رَحمَه الله
زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى طنجة واستيلاؤه عَلَيْهَا
لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله من أَمر الريفي أصبح غاديا يؤم طنجة وَلما شارفها خرج إِلَيْهِ رجالها يحملون الْمَصَاحِف على رؤوسهم وَالصبيان يحملون الألواح بَين أَيْديهم مستشفعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم إِلَّا من كَانَ من بطانة أَحْمد الريفي وَدخل السُّلْطَان طنجة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَأمر بِالِاحْتِيَاطِ على دَار الريفي ومتاعه ثمَّ أَمر الخواجا عديلا فِي جمَاعَة من تجار فاس بإحصاء مَا بدار الريفي فَدَخَلُوهَا وتطوفوا خزائنها وَاسْتَخْرَجُوا مَا فِيهَا من مَال وَسلَاح وسروج وكسى وملف وكتان وفرش وخرثي وأثاث يفوق الْحصْر فأحصى ذَلِك كُله وأحصى العبيد وَالْإِمَاء وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَجَمِيع الْمَاشِيَة من إبل وبقر وغنم فجيء من ذَلِك بِشَيْء كثير فَأعْطى الْمَاشِيَة كلهَا للبربر ثمَّ(7/165)
أطلق يَد الْجَيْش على الأمراس فانتشلوا مَا فِيهَا من قَمح وشعير فَأتوا عَلَيْهِ ثمَّ تتبع حَاشِيَة الريفي من عُمَّال وَكتاب وَغَيرهم مِمَّن كَانَ لَهُ بِهِ اتِّصَال فاستصفى مَا عِنْدهم من المَال والذخيرة إِلَى أَن استوفى غَرَضه
وَكَانَ هَذَا الريفي قد رسخ مجده بطنجة وأعمالها وعظمت ثروته لامتداد الدولة لَهُ ولأبيه بهَا مُنْذُ الْفَتْح فَكَانَ ظفر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بخزائنه من بَاب الظفر بالكنوز القارونية وقدمت عَلَيْهِ فِي أثْنَاء ذَلِك وُفُود الْقَبَائِل الَّتِي هُنَالك فَعَفَا عَنْهُم وأمنهم وَأقَام رَحمَه الله بطنجة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وانقلب رَاجعا إِلَى فاس مؤيدا منصورا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
اعْتِرَاض الْمولى المستضيء للسُّلْطَان الْمولى عبد الله وعود الكرة عَلَيْهِ ومقتل بني حسن
لما انهزم الْمولى المستضيء من مكناسة بعد إِيقَاعه بِأَهْلِهَا خرج إِلَى حلَّة بني حسن وَأقَام بَين أظهرهم فاتصل بِهِ خبر مقتل ناصره ووزيره على أمره أَحْمد الريفي ففت ذَلِك فِي عضده وهد أَرْكَانه ثمَّ لما بلغه فتح طنجة واستيلاء السُّلْطَان عَلَيْهَا اسْتَأْنف جده وأرهف حَده وَأخذ فِي تحريض العبيد وَبني حسن على تَجْدِيد الْبَعْث والنهوض لاعتراض أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله مرجعه من طنجة فَخرج كَبِير بني حسن يَوْمئِذٍ وَهُوَ قَاسم أَبُو عريف يطوف فِي أحيائها ويستنفر جموعها وَخرج الْمولى المستضيء فِي لمة من وُجُوه العبيد إِلَى مشرع الرملة فَجهز بهَا عشرَة آلَاف فَارس من عبيده ووافاه قَاسم أَبُو عريف بِمِثْلِهَا من بني حسن فَكَانَ مَجْمُوع الجيشين عشْرين ألفا سوى من انضاف إِلَيْهِم ثمَّ سَارُوا لاعتراض السُّلْطَان وَلَا علم لَهُ بهم
وَقدم الْمولى المستضيء أَمَامه الطَّلَائِع والعيون فعادوا إِلَيْهِ بِخَبَر السُّلْطَان وَأَنه بائت تِلْكَ اللَّيْلَة بدار الْعَبَّاس فصبحه الْمولى المستضيء فِي جموعه على حِين غَفلَة مِنْهُ فَلم يرع السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَّا نواصي الْخَيل مقبلة(7/166)
إِلَيْهِ فعبأ جَيْشه على عجل وَأقَام الرُّمَاة حوالي الْمحلة ثمَّ صَمد إِلَيْهِم فِي الْخَيل وأنشب الْقِتَال فَلم تكن إِلَّا سَاعَة حَتَّى انهزم بَنو حسن وولوا الأدبار وَكَانُوا ميمنة الْجَيْش وَثَبت الْمولى المستضيء وَالْعَبِيد فِي الميسرة فصمد إِلَيْهِ السُّلْطَان وَصدقه الْقِتَال فَهبت ريح النَّصْر وتمت الْهَزِيمَة على الْمولى المستضيء وعبيده ومروا على وُجُوههم لَا يلوون على شَيْء فَجرد السُّلْطَان مَعَ الْقَائِد أبي عزة صَاحب الشربيل كَتِيبَة من الْخَيل فِي أَثَرهم وَتقدم إِلَيْهِم أَن لَا يقتلُوا أحدا من العبيد وَإِنَّمَا يجردونهم لَا غير فَلم يقتل أحدا من العبيد فِي هَذِه الْوَقْعَة واستحر الْقَتْل فِي بني حسن فَهَلَك مِنْهُم مَا ينيف على الْألف وانتهب مِنْهُم أَكثر من خَمْسَة آلَاف فرس وَمن السِّلَاح مثل ذَلِك وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي خضدت شَوْكَة بني حسن وفلت من غربهم ونجى الْمولى المستضيء فِي فَلهم وَأقَام بحلتهم ينْتَظر أَن تدول لَهُ دولة لأَنهم كَانُوا شيعته كَأَهل دكالة وَأهل مراكش وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر خَلِيفَته على مراكش كَمَا مر
وقفل السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى فاس الْجَدِيد فاحتل بهَا وَفرق المَال على أَخْوَاله وعبيده وأسهم لأهل فاس وَأقَام بدار الدبيبغ إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف فَقدم عَلَيْهِ فِي شهر ربيع الثَّانِي مِنْهَا جمَاعَة من قواد العبيد تَائِبين خاضعين متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فعاتبهم وَقَالَ لَهُم لَا كَلَام الْيَوْم بيني وَبَيْنكُم حَتَّى أقطع دابر بني حسن وَمن مَعَهم من شيعَة المستضيء ثمَّ عَفا عَنْهُم وَأَعْطَاهُمْ الرَّاتِب وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ إِلَى مكناسة بِقصد غَزْو بني حسن فعادوا إِلَى مشرع الرملة عازمين على ذَلِك وَأخذ هُوَ فِي الاستعداد أَيْضا ونهض من فاس فِي جَيش العبيد والودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وعرب الغرب وَلما انْتهى إِلَى مكناسة وافاه بهَا عبيد مشرع الرملة فِي وُجُوههم وَأهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم فجددوا التَّوْبَة واستأنفوا الْبيعَة بِمحضر الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء وأعطوا صَفْقَة الطَّاعَة من عِنْد آخِرهم وَالله غَالب على أمره(7/167)
نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتدويخه إِيَّاهَا وإجفال الْمولى المستضيء عَنْهَا
كَانَ الْمولى المستضيء فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما عِنْد بني حسن كَمَا قُلْنَا وَلما بَايع العبيد السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَاجْتمعت كلمتهم عَلَيْهِ خرج فِي طلبه وَطلب شيعته من بني حسن فسلك طَرِيق الْفَج ليحول بَين بني حسن والشعاب فصبحهم بسيط زبيدة وهم غَارونَ وَالْمولى المستضيء بَين أظهرهم فَلم يرعهم إِلَّا الْخَيل تجوس خلال بُيُوتهم وتسوق أنعامهم وشاءهم وتنتهب أثاثهم ومتاعهم فَانْفَضُّوا فِي كل وَجه وَتَفَرَّقُوا شذر مذر وأفلت الْمولى المستضيء رَحمَه الله بجريعة الذقن وتوزعت العساكر السَّبي
وَجَاء بَنو حسن يهرعون إِلَى السُّلْطَان طَالِبين عَفوه فَأمر بالكف عَنْهُم ورد عَلَيْهِم سَبْيهمْ وَترك لَهُم خيلهم وَمضى إِلَى قبائل دكالة إِذْ اتَّصل بِهِ أَن الْمولى المستضيء قد فر إِلَيْهَا فَلَمَّا نزل قَصَبَة أبي الأعوان وَنزلت عساكره أَمَامه بذلك الْبَسِيط من دكالة فر أَهلهَا مَعَ الْمولى المستضيء إِلَى التلول ونزلوا قرب دمنات وشرعت عَسَاكِر السُّلْطَان فِي انتشال الْحُبُوب من الأمراس واستخراج الدفائن من الهميل وتخريب الْقرى وتقطيع الْأَشْجَار وَكلما فرغت من نَاحيَة انْتَقَلت إِلَى غَيرهَا متقلبة فِي ذَلِك الْبَسِيط نَحْو السّنة وَالسُّلْطَان مُقيم بالقصبة إِلَى أَن اكتسح أَرض دكالة وَتركهَا أنقى من الرَّاحَة لَيْسَ بهَا مَا يَأْكُلهُ الطَّائِر أَو يتظلل الحائر ثمَّ انْتقل إِلَى بِلَاد السراغنة وَلما توسطها قدمت عَلَيْهِ وفودها ووفود سَائِر قبائل تِلْكَ الْجبَال بمؤناتهم وهداياهم فقبلهم وَعَفا عَنْهُم ثمَّ انْتقل إِلَى نَاحيَة دمنات ففر أهل دكالة وَالْمولى المستضيء أَمَامه إِلَى جبال مسفيوة فَتَحَصَّنُوا بهَا وَكَانَت مسفيوة قد(7/168)
بايعته وَدخلت فِي دَعوته فَتقدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله حَتَّى نزل بوادي الزات فَقدمت عَلَيْهِ هُنَالك عرب الرحامنة وزمران وَسَائِر أهل الْحَوْز وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِطَاعَتِهِ فنزلوا مَعَه بالوادي الْمَذْكُور وعاثت العساكر فِي بِلَاد مسفيوة وأوسعوها نهبا وتخريبا وَالْحَرب فِي ذَلِك كُله قَائِمَة مَعَ الْمولى المستضيء على سَاق إِلَى أَن صَار وَادي الزات أخرب من جَوف حمَار ثمَّ انْتقل السُّلْطَان إِلَى وَادي كجي فعاثت فِيهِ العساكر على عَادَتهَا وَعجز أهل الدفاع فهدمت حصونهم وَحرقت قراهم وَقطعت أَشْجَارهم وَصَارَ وَادي كجي أوحش من وَادي الزات فطلبوا الْأمان وأعلنوا بِالطَّاعَةِ وجاؤوا مستشفعين بصبيانهم فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان على شَرط أَن تَأْتُوا بالمستضيء فَقَالُوا إِنَّه قد فر بالْأَمْس وَلَو كَانَ عندنَا لأتيناك بِهِ فقبلهم وَعَفا عَنْهُم ثمَّ جَاءَ أهل دكالة بنسائهم وذراريهم وَقَالُوا هَذِه نساؤنا وَأَوْلَادنَا لَك وَأما المَال فقد ذهب وَمَا عندنَا مَا نقتاته فافعل بِنَا مَا بدا لَك فَعَفَا عَنْهُم وَأذن لَهُم فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف
وَلما دخلت سنة ثَمَان وَخمسين بعْدهَا ارتحل عَن بِلَاد مسفيوة وَنزل بقصبة آلصم بإشمام الصَّاد زايا وَبهَا قدم عَلَيْهِ وَفد من مراكش كَمَا يَأْتِي
وَأما الْمولى المستضيء فَإِنَّهُ لما فر من مسفيوة قدم مراكش وحاول الدُّخُول إِلَيْهَا فصده أَهلهَا عَنْهَا ورفضوا دَعوته وأعلنوا بنصر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بمرأى مِنْهُ ومسمع فَلم يبْق لَهُ حِينَئِذٍ بمراكش مطمع وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر قد مَاتَ يَوْمئِذٍ فأخرجوا إِلَيْهِ أثاثه فتسلمه مِنْهُم وكر رَاجعا إِلَى بِلَاد الفحص فَلم يزل تلفظه أَرض إِلَى أَرض إِلَى أَن احتل بطنجة قانعا من الْغَيْبَة بسلامة المهجة وَسَيَأْتِي تَمام خَبره بعد إِن شَاءَ الله(7/169)
وفادة أهل مراكش على السُّلْطَان الْمولى عبد الله بآلصم واستخلافه وَلَده سَيِّدي مُحَمَّدًا عَلَيْهِم
لما طرد أهل مراكش الْمولى المستضيء عَن بِلَادهمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَينهم وَأَجْمعُوا الدُّخُول فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وعينوا جمَاعَة من وُجُوههم وأوفدوها عَلَيْهِ وَهُوَ بقصبة آلصم فَانْتَهوا إِلَيْهِ وَقدمُوا بيعتهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا كَانَ من الْمولى المستضيء وَمَا عاملوه بِهِ من الصد والإبعاد فقبلهم وَعَفا عَنْهُم بعد العتاب ثمَّ طلبُوا مِنْهُ هم وقبائل الْحَوْز أجمع أَن يطَأ بِلَادهمْ وَيدخل مصرهم فَوَعَدَهُمْ بذلك وَلم يبرح من مَكَانَهُ إِلَى أَن وفدت عَلَيْهِ قبائل الدَّيْر كُله فَلَمَّا تفقد الْجَيْش الَّذِي خرج بِهِ من مكناسة وجد أَكْثَره قد فر وَلم يبْق مَعَه من الْعَسْكَر المخزني إِلَّا النّصْف وَأما الْقَبَائِل فَلم يبْق مَعَهم مِنْهُ إِلَّا أعيانهم فِي الأخبية لطول الْغَيْبَة وَكَثْرَة الحروب وَقلة الزَّاد فَلم يُمكنهُ التَّقَدُّم إِلَى مراكش على تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا تألفهم بِأَن دفع لَهُم وَلَده الْمولى مُحَمَّدًا رَحمَه الله وَقَالَ لَهُم إِنِّي استخلفته عَلَيْكُم فرضوا بِهِ وقرت أَعينهم فَكَانَ ذَلِك أول مَا انغرست شَجَرَة الدولة العلوية بمراكش حَتَّى صَارَت حضرتها وَدَار ملكهَا بعد أَن كَانُوا لَا يَبْغُونَ بمكناسة بَدَلا
ثمَّ بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى أَحْمد وَكَانَ أسن من الْمولى مُحَمَّد خَليفَة عَنهُ برباط الْفَتْح وأضاف إِلَيْهِ قبائل الشاوية وَبني حسن ثمَّ أذن السُّلْطَان لعامل فاس عبد الْخَالِق عديل فِي الرُّجُوع إِلَى فاس فَمَرض بِالطَّرِيقِ وَمَات بعد أَن دخل فاسا وَدفن بزاوية سَيِّدي عبد الْقَادِر الفاسي
ثمَّ رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة على طَرِيق تادلا بعد أَن أَقَامَ بِبِلَاد الْحَوْز سنة كَامِلَة فَقَدمهَا فِي شهر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما شَارف مكناسة لم يدخلهَا وَنزل بقصبة أبي فكران فَقدم عَلَيْهِ بهَا جمَاعَة من الْمُجَاهدين أهل الرِّيف من طنجة فَوق الْمِائَة وَمَعَهُمْ زَوْجَة الباشا أَحْمد الريفي وولداها مِنْهُ فَقدمت هَدِيَّة عَظِيمَة فَقبض السُّلْطَان الْهَدِيَّة وَقتل الْوَلَدَيْنِ وَمن(7/170)
مَعهَا من أهل الرِّيف ثمَّ قتل مَعَهم ثَلَاثمِائَة من بني حسن كَانُوا قدمُوا عَلَيْهِ للتهنئة فَكَانَ ذَلِك سَبَب نفرة النَّاس عَنهُ فَسَاءَتْ عَنهُ الأحدوثة وَكَثُرت القالة من الْجَيْش والرعايا حَتَّى فِي الْأَسْوَاق وانقبض النَّاس عَنهُ حَتَّى أهل فاس فضلا عَن غَيرهم
مكر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بأعيان البربر وإخفار ذمَّة مُحَمَّد واعزيز فيهم ثمَّ إِطْلَاقهم بعد ذَلِك
لما صدر من السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا صدر من قتل أهل الرِّيف وَبني حسن وانقباض النَّاس عَنهُ انقبض فِي جُمْلَتهمْ البربر فَلم يَأْته مِنْهُم أحد وَكَانُوا قد حرثوا بأحواز مكناسة فَلَمَّا أدْرك زرعهم أَمر السُّلْطَان العبيد بانتهابه فعمدوا إِلَيْهِ وحصدوه ودرسوه وأكلوه فازدادت نِيَّة البربر فِيهِ فَسَادًا
وَلما رأى انقباضهم عَنهُ كَاتب كَبِيرهمْ مُحَمَّدًا واعزيز وَكَانَت بَينهمَا خلة ومصافاة حَتَّى كَانَ يَقُول لَهُ أَنْت أبي إِذْ كَانَ مُحَمَّد واعزيز هَذَا هُوَ الَّذِي حشد لَهُ جموع البربر وشايعه على عدوه أَحْمد الريفي حَتَّى قَتله فَكتب إِلَيْهِ يلومه على انقباضه عَنهُ وتخلف قبيله عَن الْحُضُور بِبَابِهِ مَعَ أَنهم شيعته ومواليه فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ كتاب السُّلْطَان لم يَسعهُ التَّخَلُّف عَن إجَابَته وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِك قومه فَلم يوافقوه فراجعهم فَقَالُوا أَلا ترى إِلَى مَا وَقع بِمن وَفد عَلَيْهِ من غَيرنَا فَقَالَ لَا ترَوْنَ إِلَّا الْخَيْر وَلم يزل بهم حَتَّى غلبهم على رَأْيهمْ وَتَفَرَّقُوا عَنهُ لجمع الْهَدِيَّة وَتَعْيِين الْوَفْد فَجمعُوا من ذَلِك مَا قدرُوا عَلَيْهِ ثمَّ أَتَوْهُ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ القَوْل وَحَذرُوهُ الْغدر فَقَالَ هَذَا لَا يكون ولستم مثل أُولَئِكَ فَمَا وسعهم إِلَّا إجَابَته وَأَقْبلُوا مَعَه حَتَّى انْتَهوا إِلَى قَصَبَة أبي فكران حَيْثُ هُوَ السُّلْطَان فَاجْتمعُوا بالحاجب أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب اليموري فَلَمَّا رَآهُمْ بهت وتحركت مِنْهُ الرَّحِم البربرية لكنه لم(7/171)
يُمكنهُ ردهم بعد بلوغهم إِلَى ذَلِك الْمحل وَكَانُوا نَحْو الْمِائَة كلهم أَعْيَان فترجلوا عَن خيولهم وَوَضَعُوا أسلحتهم ثمَّ دخلُوا على السُّلْطَان الْمولى عبد الله فوجدوه جَالِسا على كرسيه بوسط القلعة فأدوا وَاجِب التَّحِيَّة فأجابهم وَأمرهمْ بِالْجُلُوسِ فجلسوا بَين يَدَيْهِ ثمَّ دخل الحرس والزبانية فوقفوا على رؤوسهم وَأَحَاطُوا بهم وَأخذ السُّلْطَان فِي معاتبتهم على مَا يرتكبونه فِي الطرقات والغارات على الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْأَعْرَاب وَغَيرهم وانتهاب بضائع التُّجَّار وَمَا كَانُوا يعاملون بِهِ عَسَاكِر الْمُلُوك من النهب وَالسَّلب وَعدد عَلَيْهِم الحسائف الْقَدِيمَة وَالْأَفْعَال الذميمة ثمَّ أَمر الحرس بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم فانقضوا عَلَيْهِم انقضاض العقبان وَلم يكن بأسرع من أَن ألقوا بَين يَدَيْهِ مُقرنين فِي الحبال وَلم يقبض على مُحَمَّد واعزيز من بَينهم فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا أغدرا بعد أَمَان وَلست من أَهله فَقَالَ لَهُ إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد حادوا عَن الدّين وَحل مَالهم ودمهم لخروجهم عَن الطَّاعَة وشقهم عَصا الْجَمَاعَة وَقد أعياني أَمرهم وَمَا عدت إِلَى هَذَا الْأَمر بعد خروجي مِنْهُ إِلَّا من أَجلهم أردْت أَن أقابل هَذَا التيس الْأسود يَعْنِي العبيد بِهَذَا الْكَبْش الْأَبْيَض يَعْنِي البربر وأستريح من غُصَّة من هلك مِنْهَا وأتمسك بِالْآخرِ وَلَوْلَا أَنَّك بِمَنْزِلَة وَالِدي مَا أطلعتك على مَا فِي ضميري فَقُمْ فِي حفظ الله وَلَا بَأْس عَلَيْك فَقَالَ مُحَمَّد واعزيز وَالله لَا أقوم وَلَا أكون إِلَّا مَعَ إخْوَانِي حَيْثُمَا كَانُوا فَإِن هَلَكُوا هَلَكت مَعَهم وَيكون لَك غدرك وَإِن سلمُوا سلمت مَعَهم وَلَا يتحدث النَّاس أَنِّي سقتهم إِلَى الذّبْح وَرجعت أَنا سالما فَبِأَي وَجه أَسِير إِلَى أَوْلَادهم وَأي أَرض تحميني من عشيرتهم وَإِلَى أَيْن أقصد فَإِن كَانَ لَا بُد من الْقَتْل فقتلك لي مَعَهم أجمل بِي وَلَا إِثْم عَلَيْك فِي ذَلِك وَلَا عَار لِأَنِّي أَنا الَّذِي سقتهم إِلَيْك وأرحتهم عَلَيْك بعد أَن عرضوا عَليّ هَذَا كُله فَلم أقبل مِنْهُم فَلَمَّا سمع السُّلْطَان هَذَا الْكَلَام العالي وتمكنت مِنْهُ صولته الحقة جعل يتدبره ثمَّ الْتفت إِلَى الْحَاجِب عبد(7/172)
الْوَهَّاب وَقَالَ يَا عبد الْوَهَّاب لَا خير فِي الرجل يَقُول للرجل أَبَة ثمَّ لَا يشفعه فِي جمَاعَة من قَبيلَة خلوا عَنْهُم فسرحوهم وَخَرجُوا كَأَنَّمَا نشرُوا من الْقُبُور فَرَكبُوا خيلهم وَسَارُوا إِلَى حلتهم ولسان حَالهم ينشد مَا قَالَه الْأَعرَابِي الَّذِي بَال بواسط فَضَربهُ الْحجَّاج وسجنه ثمَّ أطلقهُ
(إِذا نَحن جاوزنا مَدِينَة وَاسِط ... خرئنا وبلنا لَا نَخَاف عقَابا)
زحف البربر إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِأبي فكران وفراره إِلَى مكناسة
لما خلص جمَاعَة البربر إِلَى حلتهم أَقبلُوا على مُحَمَّد واعزيز وعاتبوه على مَا حملهمْ عَلَيْهِ من الْوِفَادَة على السُّلْطَان والقرب مِنْهُ حَتَّى جرى عَلَيْهِم مَا جرى مَعَ أَنهم كَانُوا فِي غنى عَن ذَلِك كُله وَقَالُوا لَهُ نَحن متْنا وبعثنا وَلَا بُد لنا من الْأَخْذ بالثأر فَقَالَ شَأْنكُمْ وَمَا تُرِيدُونَ فخلصوا نجيا وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ إِلَى أَن أجمع رَأْيهمْ على غَزْو السُّلْطَان لمضي ثَلَاث وَمن تخلف عَنْهَا أحرقت خيمته فَقَالَ لَهُم مُحَمَّد واعزيز إيَّاكُمْ والطرقات ثمَّ افعلوا مَا بدا لكم فَتَفَرَّقُوا لحللهم واستعدوا للحرب وَأَقْبلُوا فِي الْيَوْم الرَّابِع يجرونَ الشوك والمدر فَلم يرع السُّلْطَان وَهُوَ بِأبي فكران إِلَّا الرَّايَات قد أطلت عَلَيْهِ من الْحَاجِب وَالْخَيْل تسيل بهَا الأودية والشعاب فَلم يَسعهُ إِلَّا أَن حمل أثقاله وأركب عِيَاله وجعلهم أَمَامه مَعَ رحى من رُمَاة المسخرين وأردفهم رحى أُخْرَى من الْخَيل ثمَّ تلاهم هُوَ فِي موكبه وردفته رحى ثَالِثَة من خيل العبيد جَاءَت من خَلفه وَانْحَدَرَ فِي بطن الْوَادي وتفرق الْجند عَن يَمِين الْوَادي ويساره وَسَار السُّلْطَان على هَذِه التعبية وَكلما دفعت خيل البربر على المسخرين من الْجند أطْلقُوا عَلَيْهِم شؤبوبا من الرصاص فَيسْقط مِنْهُم الْأَرْبَعُونَ وَالْخَمْسُونَ وَإِذا دفعت خيلهم على رحى الْخَيل فَكَذَلِك وعَلى موكب السُّلْطَان فَكَذَلِك وَهَكَذَا إِلَى أَن دخل بَاب القزدير فاحتل بمكناسة(7/173)
وَهلك من العبيد فِي هَذِه الْوَقْعَة نَحْو الثلاثمائة وَمن البربر على مَا قيل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وجمعوا قتلاهم فكفنوهم فِي أخبية العبيد إِذْ كَانَت بِأَيْدِيهِم وَلم يرجِعوا بسوى ذَلِك وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة أواسط سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف
وَاعْلَم أَنه قد وَقع هُنَا لفظ الرَّحَى وَلَفظ المسخرين وَغير ذَلِك وَهِي ألقاب لطوائف من جَيش هَذِه الدولة السعيدة فَلَا بُد من بَيَان الِاصْطِلَاح فِي ذَلِك تتميما للفائدة فَنَقُول إِن الْجَيْش السلطاني الْيَوْم بِهَذِهِ الدولة الشَّرِيفَة يَنْقَسِم أَولا إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام أَصْحَاب ومسخرين وجيش فَأَما الْأَصْحَاب فهم طَائِفَة من الْجند تلازم السُّلْطَان حضرا وسفرا لَا يفارقونه بِحَال وهم أَرْبَاب الْوَظَائِف المخزنية مِنْهُم الْكتاب الَّذين هم إِلَى نظر الْوَزير الْأَعْظَم وَمِنْهُم أَرْبَاب الْفراش وَمِنْهُم القهارمة القائمون على طَعَام السُّلْطَان وَشَرَابه وَمِنْهُم أَرْبَاب الْوضُوء وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن يطول ذكرهم وكل طَائِفَة برئيسها وَأما المسخرون فهم ملازمون للسُّلْطَان حضرا وسفرا أَيْضا وشأنهم أَن يَكُونُوا فُرْسَانًا فِي الْغَالِب وَقد يكون فيهم الرُّمَاة وهم أهل الشَّوْكَة والغناء وهم الموجهون فِي الْمُهِمَّات لِأَن عَلَيْهِم الْمدَار فِي الْأُمُور المخزنية كَمَا يَقْتَضِيهِ تسميتهم بالمسخرين وَإِذا ركب السُّلْطَان فِي سفر أَو نَحوه انقسموا قسمَيْنِ فالعبيد مِنْهُم يكونُونَ خَلفه لأَنهم الموَالِي والودايا وشراقة يكونُونَ أَمَامه وَأما الْجَيْش فَهُوَ أصل الْجَمِيع كَمَا يَقْتَضِيهِ لَفظه وَمِنْه تنتخب الطوائف السَّابِقَة وَهُوَ عَسْكَر السُّلْطَان الَّذِي يحويه ديوانه إِلَّا أَن معظمه يكون مُتَفَرقًا فِي حلله وبلاده إِلَّا إِذا أَرَادَ السُّلْطَان غزوا فيوجه على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهُ أما الْجَمِيع أَو الْبَعْض وَيكون ذَلِك مناوبة على مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْدهم وَأما الرَّحَى فَهِيَ عبارَة عَن ألف من الْجَيْش خيلا أَو رُمَاة وَرُبمَا زَادَت أَو نقصت بِحَسب مَا يتَّفق وَالله أعلم(7/174)
شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانتقاله إِلَى فاس وانتقال عبيد الدِّيوَان من مَشْرُوع الرملة إِلَى مكناسة
لما وصل العبيد الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِأبي فكران إِلَى مكناسة واجتمعوا بإخوانهم الَّذين كَانُوا هُنَالك تكلمُوا بِمَا فِي أنفسهم على السُّلْطَان من الغيظ ونفثوا بِمَا فِي صُدُورهمْ عَلَيْهِ من الإحنة وَقَالُوا إِنَّه قد قَالَ لمُحَمد واعزيز أردْت أَن أصدم هَذَا التيس الْأسود بِهَذَا الْكَبْش الْأَبْيَض ودارت بَينهم هَذِه الْكَلِمَة وَأخذت مِنْهُم كل مَأْخَذ وَقَالُوا لم يبْق لنا شكّ فِي أَن هَذَا الرجل لَا غَرَض لَهُ إِلَّا فِي هلاكنا فانظروا لأنفسكم أَو دعوا ثمَّ كتبُوا إِلَى عبيد الدِّيوَان يخبرونهم بِمَا صدر من السُّلْطَان فِي جانبهم ويستشيرونهم فِي أمره فجَاء بعض عُيُون السُّلْطَان من عبيد مكناسة إِلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِمَا دَار بَين العبيد وَبِمَا كتبُوا بِهِ إِلَى أهل الدِّيوَان فطير السُّلْطَان بِالْكِتَابَةِ إِلَى ودايا فاس الْجَدِيد يَقُول لَهُم إِن كَانَت لكم حَاجَة بِابْن أختكم عبد الله فاقدموا عَلَيْهِ السَّاعَة ثمَّ أَخذ فِي جمع أثاثه وتنضيده وَحمل مَاله وشده وإسراج خيله وإنهاض رجله وَقَالَ لخاصته غَدا إِن شَاءَ الله نرْجِع إِلَى أبي فكران فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء وصل إِلَى بَاب القزدير من جَيش الودايا أَرْبَعمِائَة فَارس فَأخْرج إِلَيْهِم السُّلْطَان أثاثه وَمَاله وَعِيَاله ثمَّ ركب فِي خاصته وأسروا ليلتهم وَلم يصبحوا إِلَّا بفاس الْجَدِيد فَدخل السُّلْطَان دَاره وَأمن على نَفسه وَأما عبيد الدِّيوَان فَإِنَّهُ لما بَلغهُمْ كتاب إخْوَانهمْ الَّذين بمكناسة وقرؤوه قَالُوا إِنَّه لَا يجمل بِنَا الْمقَام فِي وسط بني حسن لَا ننفع إِخْوَاننَا وَلَا ينفعوننا فَأَجْمعُوا الرحيل والانتقال إِلَى مكناسة وَبعد ثَلَاث انتقلوا إِلَيْهَا وأعروا مَشْرُوع الرملة واستراحت تِلْكَ الْبِلَاد من عيثهم لَا سِيمَا سلا وأحوازها فَإِنَّهُم كَانُوا قد أشجوا أَهلهَا ولاقوا مِنْهُم عرق الْقرْبَة(7/175)
وَلما وصلوا إِلَى مكناسة نزلُوا بِالْمَدِينَةِ وبالقصبة وبالإصطبل وبريمة وبهدراش وبالرحاب التِّسْعَة فملؤوها واجتمعوا بإخوانهم وَاطْمَأَنَّ جنبهم
وَلما كَانَ عيد الْفطر من سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف قدم على السُّلْطَان بفاس جمَاعَة من قوادهم مَعَ القَاضِي وَالْفُقَهَاء والأشراف من أهل مكناسة فَحَضَرُوا مَعَه الْعِيد على الْعَادة وطلبوا مِنْهُ أَن يرجع إِلَى مكناسة وتنصلوا مِمَّا بلغه عَنْهُم وَاعْتَذَرُوا اليه فَوَعَدَهُمْ الرُّجُوع وَأَعْطَاهُمْ مَالا وَانْصَرفُوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَلما كَانُوا بالجديدة قرب مكناسة اعْتَرَضَهُمْ البربر وجردوهم وَأخذُوا مَا مَعَهم وَلم يتْركُوا إِلَّا القَاضِي أَبَا الْقَاسِم العميري على بغلته وَأصْبح الْوَفْد على بَاب مكناسة عُرَاة ينظر بَعضهم إِلَى بعض
إجلاب مُحَمَّد واعزيز على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانتقاض أهل فاس والقبائل عَلَيْهِ
لما رَجَعَ البربر إِلَى بِلَادهمْ من وقْعَة أبي فكران كتب كَبِيرهمْ مُحَمَّد واعزيز إِلَى أهل فاس يتظلم من السُّلْطَان الْمولى عبد الله ويخبرهم بِمَا اتّفق لَهُ مَعَه من إخفار ذمَّته وعزمه على الفتك يإخوانه ويدعوهم مَعَ ذَلِك إِلَى أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك ودخلوا فِي حزب البربر ثمَّ كتب واعزيز بِمثل ذَلِك إِلَى عرب الغرب من سُفْيَان وَبني مَالك وَكَبِيرهمْ يَوْمئِذٍ حبيب الْمَالِكِي فَقَالُوا نَحن لكم تبع وحربنا حربكم وَسلمنَا سلمكم وانتقضت الفتوق على السُّلْطَان من كل جِهَة وهاجت الْحَرْب بَين الودايا وَأهل فاس وَبعد أَيَّام ورد الْخَبَر بِأَن ركب الْحَاج قد وصل إِلَى تازا وَهُوَ مَحْصُور بهَا فاستغاث أهل فاس بالبربر ليأتوهم بإخوانهم فجردوا مِنْهُم خَمْسمِائَة من الْخَيل إِلَى تازا فَمروا فِي طريقهم بغرب الحياينة فانضموا إِلَيْهِم ودخلوا فِي حزبهم وصاروا بأجمعهم إِلَى تازا فخلصوا الركب الَّذِي بهَا وَقدمُوا بهم إِلَى فاس فَدَخَلُوا على بَاب الْفتُوح وَنزل البربر والحياينة بالزيتون وَدخل(7/176)
جمَاعَة مِنْهُم الْمَدِينَة لقَضَاء أغراضهم
وَفِي أثْنَاء ذَلِك أغار عَلَيْهِم الودايا ففضوهم وَقتلُوا مِنْهُم كثيرا فَأَمرهمْ السُّلْطَان أَن يعلقوا رؤوسهم على سور قَصَبَة شرافة فَفَعَلُوا ثمَّ بدا لأهل فاس فِي مُرَاجعَة طَاعَة السُّلْطَان فبعثوا إِلَيْهِ فِي ذَلِك فأجابهم بِأَن يقدموا عَلَيْهِ فَخرج إِلَيْهِ الْعلمَاء والأشراف والأعيان فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدَيْهِ عدد عَلَيْهِم أفعالهم ووبخهم وَشرط عَلَيْهِم شُرُوطًا مِنْهَا أَن يعطوه زرع أهل الغرب المخزون عِنْدهم وَأَن يهدموا دُورهمْ ويبنوا بأنقاضها دَار الدبيبغ ويختاروا إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ إِمَّا أَن يَكُونُوا جَيْشًا وَإِمَّا أَن يَكُونُوا نائبة فَقَالُوا نَجْتَمِع على هَذَا الْأَمر مَعَ إِخْوَاننَا وَيكون الْجَواب وَلما رجعُوا من عِنْده أغلقوا أَبْوَاب مدينتهم وَقَالُوا لَا نقبل شَيْئا من ذَلِك كُله وعادت الْحَرْب جَذَعَة وَارْتَفَعت الأسعار وعظمت الأخطار وَفِي سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف نهب عَامَّة فاس قفاطين المخزن الَّتِي كَانَت بفندق النجارين على يَد الْأمين الْحَاج الْخياط عديل وَأَرَادُوا مصادرته على مَال المخزن الَّذِي عِنْده فَافْتدى مِنْهُم بِثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال فأطلقوه بعد الْقَبْض عَلَيْهِ وَكَانَت القفاطين ثَلَاثَة آلَاف قفطان فرقوها على رماتهم يُعِيدُوا بهَا عيد الْأَضْحَى واستمرت الْحَرْب بَينهم وَبَين الودايا وَسَائِر شيعَة السُّلْطَان إِلَى أَن دخلت سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَألف
وَفِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى مِنْهَا قدمت قبائل البربر وقبائل الغرب لمشايعة أهل فاس على حَرْب السُّلْطَان فَنزل مُحَمَّد واعزيز فِي بربره بجبل أطغات وَنزل حبيب الْمَالِكِي فِي أهل الغرب وطليق والخلط بدار الأضياف وانجحر الودايا بفاس الْجَدِيد وَالْعَبِيد بقصبة شراقة وَالسُّلْطَان بدار الدبيبغ وضاق الخناق على السُّلْطَان وشيعته وَمن الْغَد ركب حبيب فى عربه وزحف إِلَى السُّلْطَان بدار الدبيبغ والبربر على أَثَره وَلما وصل إِلَى حزيمها بلغه أَن البربر قد نهبوا محلته فَرجع مُنْهَزِمًا وَعبر الْوَادي وَتوجه إِلَى بِلَاده وَأما البربر فَإِنَّهُم(7/177)
لما فرغوا من محلّة أهل الغرب أجلوا إِلَى سايس وَيُقَال إِن السُّلْطَان دس بِاللَّيْلِ إِلَى مُحَمَّد واعزيز بِمَال على أَن يخذل عَنهُ هَذِه الجموع ويفرقها ففرقها بِنَهْب محلّة أهل الغرب وبجبهة العير يفْدي حافر الْفرس وَلما انْقَضتْ هَذِه الجموع إِلَى بلادها بَقِي أهل فاس فِي الْقِتَال والحصار سنتَيْن وَزِيَادَة كَمَا سَيَأْتِي وبعثوا أثْنَاء ذَلِك إِلَى الْمولى المستضيء الْمُقِيم بأحواز طنجة ليقدم عَلَيْهِم فيبايعوه وتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَرد رسلهم بمخ العرقوب ووعد عرقوب
ذكر السَّبَب الَّذِي هاج بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله الجيوش إِلَى أهل الغرب ومراجعتهم طَاعَته
وَفِي سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَألف أثْنَاء حَرْب الودايا لأهل فاس قدم جمَاعَة من عرب بني حسن على السُّلْطَان الْمولى عبد الله شاكين إِلَيْهِ عرب الغرب وَأَنَّهُمْ لما انقلبوا رَاجِعين بجموعهم إِلَى بِلَادهمْ مروا بحلة بني حسن فَأَغَارُوا عَلَيْهَا وانتهبوها فحركوا من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِم وَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا من العبيد والودايا وَأمرهمْ بِالْفَتْكِ بِأَهْل الغرب وَنهب أَمْوَالهم وَأَن لايبقوا لم على سيد وَلَا لبد فَخرج الْجَيْش يؤم بِلَاد الغرب فنذروا بِهِ وانجفلوا أَمَامه عَن بِلَادهمْ وتبعهم طليق والخلط فأرزوا إِلَى مَدِينَة العرائش وتحصنوا بسورها فتبع الْجَيْش آثَارهم حَتَّى نزل عَلَيْهِم بهَا وحاصرهم ثَلَاثَة أشهر هَلَكت فِيهَا ماشيتهم جوعا وبعقب ذَلِك وَردت عَلَيْهِم جمَاعَة من الودايا بِأَمَان السُّلْطَان ومصحفه وسبحته فعاهدوهم على ذَلِك وَأَفْرج الْجَيْش عَنْهُم وَخَرجُوا مَعَ الودايا فقدموا على السُّلْطَان بهديتهم فَعَفَا عَنْهُم وَولى عَلَيْهِم كَبِيرهمْ حبيبا الْمَالِكِي وأضاف إِلَيْهِ قبائل الْجَبَل كلهَا وَأما الْجَيْش الَّذِي كَانَ على العرائش فَإِنَّهُم لما قَفَلُوا باتوا بقصر كتامة فضيفهم أَهله بِمَا قدرُوا عَلَيْهِ من الطَّعَام والعلف وَمن الْغَد دخلُوا الْقصر فاستباحوه ونهبوا وَسبوا وَقتلُوا وفعلوا الأفاعيل الْعَظِيمَة واستمروا على ذَلِك(7/178)
سِتَّة أَيَّام وَكَانَ الْحَادِث عَظِيما وَعز ذَلِك على النَّاس كلهم وتأسفوا لَهُ وَكَانَ ذَلِك فِي محرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف
زحف البربر إِلَى الودايا ومظاهرة أهل فاس لَهُم عَلَيْهِم
لما كَانَ جُمَادَى الثَّانِيَة من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف عزم السُّلْطَان الْمولى عبد الله على غَزْو البربر فَخرج من فاس الْجَدِيد حَتَّى أَتَى أَبَا فكران فَعَسْكَرَ بِهِ ظنا مِنْهُ أَن العساكر ستقدم عَلَيْهِ هُنَالك كَمَا هِيَ الْعَادة فَلم يَأْته أحد فَبعث إِلَى العبيد يستنفرهم لغزو البربر فَقَالُوا حَتَّى يَأْتِي الودايا والقبائل ونأتي نَحن أَيْضا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَنهُ عَاد إِلَى منزله وَأعْرض عَمَّا كَانَ هم بِهِ وَلما سمع البربر بِرُجُوعِهِ عَنْهُم طمعوا فِيهِ وَأَجْمعُوا غزوهم فَقَالَ لَهُم مُحَمَّد واعزيز الرَّأْي أَن ننزل بسايس ونحول بَينه وَبَين العبيد حَتَّى لَا يصل إِلَيْهِم وَلَا يصلوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلُوا حَتَّى نزلُوا ببسيط سايس ثمَّ تقدّمت جموعهم حَتَّى شارفوا مزارع فاس الْجَدِيد فَأَغَارُوا على الودايا ونهبوا ماشيتهم وزروعهم وضيقوا عَلَيْهِم ثمَّ وصلوا أَيْديهم بِأَهْل فاس فَدَخَلُوا مدينتهم وتسوقوا بهَا فباعوا واشتروا عشرَة أَيَّام وانقلبوا إِلَى أهلهم فاكهين
وَفِي أول رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ورد الْخَبَر بِأَن أهل الرِّيف قبضوا على الْمولى المستضيء الْمُقِيم ببلادهم ونهبوا خيله وأثاثه وَمَاله وثقفوه حَتَّى يَدْفَعُوهُ لِأَخِيهِ الْمولى عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْتغل بظُلْم النَّاس بالفحص وطنجة وَقبض على الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن عَليّ الريفي وَهُوَ أَخُو أَحْمد بن عَليّ الْمُتَقَدّم الذّكر فَأخذ مَاله وسمل عَيْنَيْهِ وَأما أهل تطاوين فَلم يبايعوه وَلَا عرجوا عَلَيْهِ وَفِي شعْبَان أحرق الودايا بَاب المحروق لَيْلًا فَفطن لَهُم الحرس ودافعوهم عَن الْبَاب وَمن الْغَد ركبُوا بِهِ أبوابا جددا(7/179)
مُرَاجعَة أهل فاس طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانعقاد الصُّلْح بَينهم وَبَين الودايا
لما طَال الْحصار على أهل فاس وأضرت بهم معاداة جيرانهم من الودايا وسئموا الْحَرْب راجعوا بصائرهم وجنحوا للسلم وَطَاعَة السُّلْطَان فاتفق أَن كَانَ عِنْدهم رجل من أَشْرَاف تافيلالت فَأَرْسلُوهُ إِلَى السُّلْطَان وَاسِطَة بَينهم وَبَينه وبعثوا مَعَه كتابا بالاعتذار وَالتَّوْبَة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وسر بِهِ وَوَقع مِنْهُ الْموقع وَكتب إِلَيْهِم يَنْفِي ظنونهم ويسل سخائمهم وَيقسم لَهُم أَنه لم يَأْمر بِحَرْبِهِمْ وَلَا إضرارهم قطّ وَإِنَّمَا فعل ذَلِك الودايا من قبل أنفسهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طابت نُفُوسهم وفرحوا وعينوا جمَاعَة من فقهائهم وأشرافهم وَأهل الْخَيْر مِنْهُم فأوفدوها على السُّلْطَان بمكناسة فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ففرح بهم وَأكْرمهمْ وَصرح لَهُم بِالْعَفو وَالرِّضَا عَنْهُم فاغتبطوا بذلك وانقلبوا إِلَى أهلهم فرحين مستبشرين ثمَّ كَانَ الصُّلْح بَينهم وَبَين الودايا بضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَفتحت أَبْوَاب الْمَدِينَة بعد الْحصار سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَلما حضر الْعِيد قدمُوا على السُّلْطَان وَهُوَ بمكناسة بالْخبر وعادوا بِهِ خوفًا من البربر(7/180)
خُرُوج العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعتهم لوَلَده سَيِّدي مُحَمَّد وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما رَاجع أهل فاس طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله واصطلحوا مَعَ الودايا وهدأت الْفِتْنَة سَاءَ البربر ذَلِك وكرهوه وبلغهم مَعَ ذَلِك أَن السُّلْطَان قد اسْتنْفرَ العبيد لغزوهم فاحتالوا فِي تَفْرِيق الْكَلِمَة على السُّلْطَان بِأَن أخذُوا فِي شن الغارات على العبيد بمكناسة والتضييق عَلَيْهِم واختطاف أَوْلَادهم من البحائر والجنات فراسل العبيد البربر فِي الْمَسْأَلَة وَالصُّلْح فَقَالُوا لَهُم إِن السُّلْطَان أمرنَا بِهَذَا فَلَمَّا سمع العبيد ذَلِك مِنْهُم لم يشكوا فِي صدقهم بِسَبَب مَا كَانُوا أسلفوه من التقاعد عَن السُّلْطَان والتثاقل عَن النهوض مَعَه لغزو البربر حَتَّى عَاد إِلَى منزله بعد المعسكرة بِأبي فكران كَمَا مر ثمَّ اتّفق رَأْي العبيد على الفتك بالسلطان واغتياله ونما إِلَيْهِ ذَلِك مِنْهُم فَخرج فَارًّا من مكناسة إِلَى دَار الدبيبغ فاستقر بهَا وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف
وَلما ضَاقَ العبيد ذرعا بِفعل البربر كاتبوهم فِي الصُّلْح فأجابوهم إِلَيْهِ على شَرط أَن يبايعوا سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فَبَايعُوهُ بمكناسة وبعثوا إِلَيْهِ ببيعتهم وَهُوَ بمراكش مَعَ جمَاعَة من أعيانهم وخطبوا بِهِ بمكناسة وزرهون وَالسُّلْطَان بدار الدبيبغ لَا يملك من أمره شَيْئا وَلما قدم وَفد العبيد على سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رد بيعتهم وعاتبهم على مَا ارتكبوه فِي حق وَالِده وتألفهم بِشَيْء من المَال وَأعْرض عَن الْخَوْض فِي أَمر الْبيعَة إِذْ كَانَ رَحمَه الله بارا بوالده ساعيا فِي مرضاته وَبعث إِلَيْهِ فِي صفر من هَذِه السّنة بهدية قدرهَا على ماقيل ثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال فَرجع وَفد العبيد من عِنْد سَيِّدي مُحَمَّد وَقد أيسوا من إجَابَته إيَّاهُم وَمَعَ ذَلِك استمروا على الْخطْبَة بمكناسة وزرهون(7/181)
ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله لما رأى أَن الْقُلُوب قد نفرت عَنهُ وَأَن العبيد والبربر قد امتدت عيونهم إِلَى وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد وتعلقت آمالهم بِهِ بتلافى أمره وَأخذ فِي استصلاح الرّعية وتألفها فَأمر فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة بِأَن يُنَادى بأسواق فاس على العبيد الَّذين بهَا من لم يحضر إِلَى دَار الدبيبغ لوقت كَذَا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه فَحَضَرَ العبيد الَّذين بفاس كلهم فَأَعْطَاهُمْ خَمْسَة دَنَانِير لكل وَاحِد وَقَالَ لَهُم ابْعَثُوا إِلَى إخْوَانكُمْ الَّذين بمكناسة فَمن أَتَى مِنْهُم إِلَيّ قبض مثل مَا قبضتم فَكَتَبُوا إِلَيْهِم فَلم يزدهم ذَلِك إِلَّا نفورا وبعثوا إِلَى البربر الَّذين بسايس يَقُولُونَ لَهُم كل من صادفتموه منا مُتَوَجها إِلَى فاس فَاقْتُلُوهُ وأعلنوا بخلع السُّلْطَان
ثمَّ استدعى السُّلْطَان بعد ذَلِك مُحَمَّد واعزيز كَبِير البربر ووعده ومناه فَقدم عَلَيْهِ فِي إخوانه فِي رَمَضَان فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف دِينَار وَحضر الْعِيد فقدموا عَلَيْهِ أَيْضا فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف أُخْرَى وَأعْطى الودايا عشر آلَاف أَيْضا وَأعْطى أهل فاس مثل ذَلِك ولج العبيد فِي نفورهم وركبوا رَأْسهمْ فِي جماحهم عَن السُّلْطَان والقرب مِنْهُ
مَجِيء سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى مكناسة وتوسطه للعبيد فِي الصُّلْح مَعَ وَالِده رحمهمَا الله
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَفِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى مِنْهَا قدم الْمولى مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْمولى عبد الله من مراكش إِلَى مكناسة فَوجدَ العبيد لَا زَالُوا يخطبون بِهِ فعاتبهم على ذَلِك وَقَالَ لَهُم إِنِّي بَرِيء مِنْكُم وَمن فعلكم هَذَا وَإِنَّمَا أَنا خديم وَالِدي فتركوا الْخطْبَة وراجعوا بصائرهم وجددوا الْبيعَة للسُّلْطَان وتلافوا أَمرهم فِي طَاعَته وَكَانَت هَذِه هِيَ الْبيعَة السَّابِعَة للعبيد مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله لأَنهم خلعوه قبلهَا سِتّ مَرَّات(7/182)
حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى
وَلما تمّ لسيدي مُحَمَّد مَعَ العبيد مَا أَرَادَ من مراجعتهم طَاعَة وَالِده ارتحل من مكناسة فِي جَيْشه الَّذِي قدم بِهِ من الْحَوْز وَكَانَ نَحْو أَرْبَعَة آلَاف واستصحب مَعَه جمَاعَة من أَعْيَان العبيد وَقدم على وَالِده بدار الدبيبغ فَخرج الودايا وَأهل فاس لملاقاته وفرحوا بمقدمه وَلما دخل على وَالِده أدّى التَّحِيَّة وَأهْدى إِلَيْهِ هَدِيَّة نفيسة وشفع للعبيد عِنْده فشفعه فيهم وَقَالَ لَهُ لَا تبت هُنَا فَقَالَ نعم يَا سَيِّدي وَلم يبت إِلَّا بِرَأْس المَاء وَأصْبح غاديا إِلَى مراكش ثمَّ حضر العبيد فَقدم على السُّلْطَان جمَاعَة من جروان وَبني مطير فَأَعْطَاهُمْ عشْرين ألف مِثْقَال وَقدم عَلَيْهِ قواد العبيد من مكناسة فَلم يعطهم شَيْئا
وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْمولى أَحْمد ابْن السُّلْطَان الْمولى عبد الله بفاس وَدفن بقبور الْأَشْرَاف رَحمَه الله
انحراف العبيد ثَانِيَة عَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله والتجاؤهم إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما أعْطى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بني مطير وجروان عشْرين ألف مِثْقَال وَحرم العبيد قَامَت قيامتهم وقلبوا للسُّلْطَان ظهر الْمِجَن وَاتَّفَقُوا على الذّهاب إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فقدموا عَلَيْهِ فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَقَالُوا لَهُ إِمَّا أَن تكون سلطاننا وَإِمَّا أَن نُبَايِع عمك الْمولى المستضيء وَشَكوا إِلَيْهِ إهمال وَالِده جانبهم وَقَالُوا لَهُ إِنَّه أعْطى البربر أَعدَاء الدولة وحرمنا فرضخ لَهُم بِشَيْء من المَال طيب بِهِ نُفُوسهم وَكتب لَهُم كتابا إِلَى وَالِده يستعطفه لَهُم وانقلبوا من عِنْده مسرورين(7/183)
وَأما السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَإِنَّهُ لما سمع بذهاب عبيد مكناسة إِلَى مراكش أعْطى الودايا عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى العبيد الَّذين مَعَه ثَلَاثَة آلَاف ريال وَلما قدم عبيد مكناسة على السُّلْطَان بِكِتَاب ابْنه سامحهم وَأَعْطَاهُمْ عشْرين ألف ريال وَتمّ الصُّلْح بَينهم وَبَينه وعادوا إِلَى مكناسة مغتبطين
وَفِي هَذِه السّنة بعث سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش بهدية إِلَى وَالِده مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه فَأثْنى عَلَيْهِ خيرا ودعا لَهُ بِهِ وفيهَا ورد الْخَبَر بِأَن أهل تطاوين قتلوا عاملهم أَبَا عبد الله الْحَاج مُحَمَّدًا تَمِيم ثمَّ قدم جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان معتذرين من قَتله فَقَالَ لَهُم أَنْتُم وليتموه عَلَيْكُم وَأَنْتُم قَتَلْتُمُوهُ فَاخْتَارُوا لأنفسكم فَوَقع اختيارهم على أبي عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن عمر الوقاش فولاه عَلَيْهِم وَانْصَرفُوا إِلَى بلدهم
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم أهل تطاوين على السُّلْطَان الْمولى عبد الله لحضور عيد المولد الْكَرِيم وبيدهم هَدِيَّة مقدارها ثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَقدم بصحبتهم باشدور الإصبنيول وَمَعَهُ مائَة ألف ريال وَمَا يُنَاسِبهَا من الْحَرِير والملف والكتان وَغير ذَلِك بِقصد فكاك أسرى جنسه فَقبض السُّلْطَان المَال وَقَالَ للباشدور حَتَّى تَأْتُوا بأسرى الْمُسلمين وَأعْطى العبيد من ذَلِك المَال ريالين لكل وَاحِد وَأعْطى نِسَاءَهُمْ مثل ذَلِك وَكَانُوا أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم عبيد مكناسة على السُّلْطَان لحضور الْعِيد فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف ريال وفيهَا نَهَضَ أهل فاس لشراء الْخَيل وَالْعدة والإكثار مِنْهَا
وفيهَا انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين جنس الإصطادوس وهم سبع قبائل من الفلامنك وَهِي اثْنَان وَعِشْرُونَ شرطا مرجعها إِلَى عقد الْأمان وَالصُّلْح بَين الإيالتين وَأَن يَجْعَل جنس الإصطادوس قنصلا أَو أَكثر بِالْبَلَدِ الَّذِي يختاره من بِلَادنَا وَيكون يُعْطي خطّ يَده الْمُسَمّى بالباصبورط لمن(7/184)
يُسَافر من مراكبنا إِلَى جِهَة بِلَادهمْ وَكَذَلِكَ هم أَيْضا إِلَى غير ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة أَو مَا يقرب مِنْهَا أغار نَصَارَى الجديدة على آزمور واقتحموا ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب لَيْلًا وَقتلُوا بِهِ عددا كثيرا من أهل آزمور نَحْو الْخمسين وَكَانَت اللَّيْلَة لَيْلَة جُمُعَة وَعَادَة أهل آزمور أَن يبيتوا لَيْلَة الْجُمُعَة بضريح الشَّيْخ الْمَذْكُور فنما ذَلِك إِلَى النَّصَارَى الَّذين بالجديدة فجاؤوا مستعدين حَتَّى اقتحموا عَلَيْهِم على حِين غَفلَة وأطفؤوا المصابيح وَوَقع الْقَتْل حَتَّى كَانَ الْمُسلمُونَ يقتل بَعضهم بَعْضًا وَرجع النَّصَارَى عودهم على بدئهم
وَذكره لويز مَارِيَة مؤرخ الجديدة فَقَالَ مَا ملخصه وَفِي لَيْلَة الثَّانِي عشر من نوفمبر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسبع عشرَة مائَة مسيحية خرج عشرَة من برتغال الجديدة وقصدوا آزمور حَتَّى دخلُوا ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب لَيْلًا وَقتلُوا هُنَالك أَرْبَعِينَ من الْمُسلمين وَقَامَت الهيعة بِالْبَلَدِ وتسابقوا إِلَيْهِم على الصعب والذلول فَرجع النَّصَارَى من حينهم وأدركهم الْمُسلمُونَ بِالطَّرِيقِ فجرحوا بَعضهم ونجوا بعد مشقة فادحة هَكَذَا زعم لويز وَأَن النَّصَارَى كَانُوا عشرَة فَقَط وَأهل آزمور يَزْعمُونَ أَنهم كَانُوا أَكثر من ذَلِك بِكَثِير وَالله أعلم
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا حدث فِي الدولة
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ بعْدهَا فِيهَا توفّي مُحَمَّد واعزيز كَبِير آيت أدراسن ووازعها الَّذِي كَانَت تقف عِنْد إِشَارَته وتجري أمورها على مُقْتَضى إدارته(7/185)
فتْنَة آيت أدراسن وكروان مَعَ الودايا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما مَاتَ مُحَمَّد واعزيز لم يبْق بآيت أدراسن من يقوم فِيهَا مقَامه فهاجت الْفِتْنَة بَينهم وَبَين جروان فزحفوا إِلَى كروان وأوقعوا بهم فانهزمت كروان أمامهم ولجؤوا إِلَى دَار الدبيبغ معتصمين بهَا ومستجيرين بالسلطان الَّذِي بهَا وضاق بهم رحب الفضاء وعدموا المرعى فشرعوا فِي بيع مَوَاشِيهمْ فبلغت الْبَقَرَة بسوق فاس خمس أَوَاقٍ وَالشَّاة أُوقِيَّة فَأمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله الودايا بنصرتهم وآخى بَينهم وَبينهمْ وَعقد لَهُم حلفا مؤكدا مَعَهم فَقَامُوا لحمايتهم والدفاع عَنْهُم وأنشبوا الْقِتَال فَكَانَت الْهَزِيمَة على آيت آدراسن ففرت خيلهم ومقاتلتهم وانكسرت حلتهم وَقتلُوا فِي كل وَجه وَمن سلم مِنْهُم لَجأ إِلَى بِلَاد شراقة فَاسْتَجَارَ بهَا فَكَانَ عدد من قتل مِنْهُم بِتِلْكَ الْوَقْعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَهَذَا سَبَب حلف الودايا مَعَ جروان
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم على السُّلْطَان الْمولى عبد الله عبيد مكناسة وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الذّهاب مَعَهم إِلَيْهَا إِذْ هِيَ دَار ملكه وَملك أَبِيه من قبله فَقَالَ لَهُم كَيفَ أذهب مَعكُمْ وَفِي وسطكم فلَان وَفُلَان لجَماعَة سماهم مِنْهُم كَانُوا منحرفين عَنهُ فَرجع العبيد إِلَى منزلهم وَلما جن اللَّيْل طرقوا أُولَئِكَ الْمُسلمين وأمثالهم فِي رحالهم فَقَتَلُوهُمْ إرضاء للسُّلْطَان وتطييبا لنَفسِهِ وَكَانَ مِنْهُم الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي والقائد سُلَيْمَان بن العسري والقائد زعبول وَغَيرهم
وَلما بلغ السُّلْطَان ذَلِك بعث إِلَيْهِم بِأَرْبَعِينَ ألف مِثْقَال راتبا وصرفهم إِلَى مكناسة وَقَالَ لَهُم إِذا فرغت من عَمَلي أتيتكم
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا قدم عَلَيْهِ الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الوقاش فِي أهل تطاوين بهدية فِيهَا ألف ريال وبأسارى وسلع من سلع النَّصَارَى غنمتها قراصينهم فَأكْرمه السُّلْطَان وَأَعْطَاهُ جاريتين وانقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا
وفيهَا قدم على السُّلْطَان أَخُوهُ الْمولى أَبُو الْحسن المخلوع بدار الدبيبغ(7/186)
فَأعْطَاهُ مَالا وأثاثا قِيمَته عشرَة آلَاف مِثْقَال وخيره بَين تافيلالت ومكناسة فأختار مكناسة فَأعْطَاهُ مُسْتَفَاد مكسها وجنات المخزن الَّتِي بهَا وأرضا للحراثة فَقدم الْمولى أَبُو الْحسن مكناسة واستوطن واغتبط بهَا وَلما جَاءَ وَقت إبان الْحَرْث وحرث وثب عَلَيْهِ العبيد فقبضوا عَلَيْهِ وقيدوه وبعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان مُقَيّدا وَقَالُوا لَهُ إِن هَذَا قد أفسد علينا بِلَادنَا فَحل بَيْننَا وَبَينه فسرحه وَبعث بِهِ إِلَى سجلماسة
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا نهب البربر جَمِيع مَاشِيَة الودايا وأفسدوا زُرُوعهمْ وبحائرهم
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت بَين آيت أدراسن وكروان حَرْب فظيعة أعَان فِيهَا الودايا كروان فهزموا آيت أدراسن ببسيط النخيلة من سايس وَالله أعلم
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بدار الدبيبغ يَوْم الْخَمِيس فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْخَيْر سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف وَدفن بقبور الْأَشْرَاف من فاس الْجَدِيد حَيْثُ دفن وَلَده الْمولى أَحْمد رحمهمَا الله
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله فِيهِ شدَّة وبطش وبسببهما نفرت قُلُوب الْجند والرعية عَنهُ وَبَقِي مهملا بدار الدبيبغ سِنِين لَا يَأْتِيهِ أحد وبيعته فِي أَعْنَاق النَّاس وهم فارون مِنْهُ لِكَثْرَة مَا سفك من الدِّمَاء بِغَيْر سَبَب ظَاهر واستمرت حَالَته على ذَلِك مُدَّة اثْنَتَيْ عشرَة سنة من سنة تسع وَخمسين إِلَى سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف رَحمَه الله وَغفر لنا وَله ولسائر الْمُسلمين وَمِمَّا مدح بِهِ هَذَا السُّلْطَان قَول بَعضهم(7/187)
(عَلَيْك سَلام يَا ضِيَاء العوالم ... وَيَا بهجة الْأَشْرَاف من آل هَاشم)
(وَيَا من سما غَضبا على كل جَاهِل ... وَأصْبح مَسْرُورا بِهِ كل عَالم)
(وَأصْبح ظلّ الله فِي الأَرْض نَاظرا ... إِلَى كل مِسْكين بمقلة رَاحِم)
(وَيَا من كَسَاه الله مِنْهُ مهابة ... تذل لَهَا رغما أنوف الْأَعَاجِم)
(وَيَا من لَهُ حزم وعزم وسطوة ... تفتت إرهابا قُلُوب الضراغم)
(كَفاك افتخارا أَن عزك ظَاهر ... وجودك منسي بِهِ جود حَاتِم)
(وَكَون سجاياك الَّتِي فاح عرفهَا ... سجايا الْمُلُوك الشم أهل المكارم)
(لعمري لقد أَلْقَت إِلَيْك زمامها ... ضروب الْعلَا إِذْ كنت أحزم حَازِم)
(فَقُمْت على الْملك المشيد رُكْنه ... تذود لَدَيْهِ بالقنا والصوارم)
(وأغناك رب النَّاس عَن جمع عَسْكَر ... بِرَأْي مُصِيب للعساكر هازم)
(وَنَفس علت فَوق السماكين همة ... وعقل غَنِي عَن هِدَايَة عَالم)
(فَجئْت وسيل الغرب قد بلغ الزبى ... وأسواقه معمورة بالجرائم)
(ونار الشرور فِي الفجاج تأججت ... فطاب لأهل الْبَغي هتك الْمَحَارِم)
(فدوخته من بَعْدَمَا استنسرت بِهِ ... بغاث وَقد طَالَتْ رُعَاة الْبَهَائِم)
(فأمنتنا من كل طَار وطارق ... وحصنتنا من كل داه وداهم)
انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن آخر أَمر الْمولى المستضيء رَحمَه الله
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله خرج سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف فِي طلب أَخِيه الْمولى المستضيء وَأَنه دوخ بِلَاد الْحَوْز لأَجله وشرده عَن جبال مسفيوة ولجأ إِلَى مراكش فطرده أَهلهَا وَلما لم يجد بالحوز مُسْتَقرًّا رَجَعَ أدراجه يقتري الْبِلَاد والقرى ويصل حرارة التهجير ببرك السرى فاجتاز بِبِلَاد دكالة ثمَّ بتامسنا ثمَّ ببني حسن فزهدوا فِيهِ فَتقدم إِلَى طنجة وأعمالها فاستقر بالفحص مِنْهَا وطاب لَهُ الْمقَام بِهِ وعسف أُنَاسًا فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى أَن عدا على الْقَائِد عبد الْكَرِيم الريفي فسجنه وَسلمهُ وَأخذ مَاله كَمَا(7/188)
مر فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الرِّيف وقبضوا عَلَيْهِ ونهبوا خيله ومضاربه وأثاثه وسلبوا أَصْحَابه وامتحنوه وأوثقوه حَتَّى يبعثوا بِهِ إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الله ثمَّ بدا لَهُم فسرحوه وَلما خلص من المحنة كتب إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الله وَهُوَ بفاس يعْتَذر إِلَيْهِ عَمَّا سلف مِنْهُ وَيطْلب مِنْهُ محلا يسْتَقرّ بِهِ فَأَجَابَهُ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بأنك لم تأت إِلَيّ ذَنبا وَلم ترتكب فِي حَقي عَيْبا إِنَّمَا كنت تطلب ملك أَبِيك كَمَا كنت أطلب ملك أبي والآن فَإِن أردْت الخمول مثلي فأقم بآصيلا واسكن بهَا فَهِيَ أحسن من دَار الدبيبغ الَّتِي أَنا بهَا وأرح نَفسك كَمَا أرحتها وَإِن كنت إِنَّمَا تطلب الْملك فشأنك وإياه فَإِنِّي لَا أنازعك فِيهِ وَالسَّلَام فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ كتاب السُّلْطَان انْتقل إِلَى آصيلا واستوطنها واعتنى بهَا وَأصْلح مَا يحْتَاج إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا وَأصْلح دَار الْخضر غيلَان الَّتِي بقصبتها وسكنها سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَاجْتمعَ عَلَيْهِ بعض أهل الطمع والشره مِمَّن كَانَ هُنَالك فدلوه على وسق الزَّرْع للْكفَّار وتوسطوا لَهُ فِي الْكَلَام مَعَ بعض تجار النَّصَارَى الَّذين بطنجة وتعاقدوا مَعَه على وسقه فانتقل ذَلِك التَّاجِر إِلَى آصيلا وَلما قدم عَلَيْهِ مركبه وسق الزَّرْع وَأدّى صاكته أَي واجبه فَظهر للْمولى المستضيء الرِّبْح فِي ذَلِك فشرهت نَفسه وَرغب فِي شِرَاء الزَّرْع وَبيعه مِمَّن يَأْتِيهِ من التُّجَّار وتسامع النَّصَارَى بِأَن الزَّرْع يوسق من مرسى آصيلا فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى قدمت مراكبهم من كل وَجه وعمرت المرسى وَقصد الْأَعْرَاب الْبَلَد بالقمح وَالشعِير من كل فج وَالْمولى المستضيء يَشْتَرِي مِنْهُم وَيبِيع لِلنَّصَارَى والمراكب تسق مَا قدرت عَلَيْهِ فَكَانَ يحصل لَهُ الرِّبْح فِي ذَلِك مضاعفا ربح الثّمن وَربح الصاكة فحسنت حَاله وأثرى وَكثر تابعوه وَأخذ فِي شِرَاء الْعدة من تطاوين وتسليح أَصْحَابه وتقويمهم واتصل خَبره بالسلطان الْمولى عبد الله فندم على إِذْنه لَهُ فِي الْمقَام هُنَالك وَكتب إِلَى الْقَائِد أبي مُحَمَّد عبد الله السفياني يَأْمُرهُ بالزحف إِلَى(7/189)
الْمولى المستضيء وحصاره بآصيلا حَتَّى يَنْفِيه عَنْهَا وَكتب إِلَى وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ من يُخرجهُ مِنْهَا وَيكون مَعَه الْقَائِد عبد الله السفياني فِي خَمْسمِائَة من الْخَيل فَبعث إِلَيْهِ سَيِّدي مُحَمَّد رَفِيقه وَابْن عَمه الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر فِي مائَة فَارس وَأمره أَن يستصحب مَعَه فِي طَرِيقه عبد الله السفياني فِي خَمْسمِائَة من الْخَيل كَمَا رسم لَهُ وَالِده ويضيقوا على الْمولى المستضيء بآصيلا حَتَّى يخرجوه مِنْهَا فَمضى الْمولى إِدْرِيس والسفياني حَتَّى نزلا عَلَيْهِ وحاصراه فَخرج إِلَيْهِمَا وراود ابْن أَخِيه الْمولى إِدْرِيس على الإفراج عَنهُ وَتَركه وشأنه وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَن السُّلْطَان أذن لَهُ فِي سُكْنى آصيلا وَأَعْطَاهُ مُسْتَفَاد مرْسَاها ينْتَفع بِهِ فَلم يقبل الْمولى إِدْرِيس مِنْهُ وَلم يزل بِهِ حَتَّى أخرجه وَاسْتولى على مَا وجد بداره من مَال وأثاث وَسلَاح وبارود وَغير ذَلِك فساقه إِلَى عَمه السُّلْطَان الْمولى عبد الله
وَأما الْمولى المستضيء فَإِنَّهُ لما خرج من آصيلا سَار إِلَى فاس فَنزل بضريح الشَّيْخ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ رَضِي الله عَنهُ وَقدم وَلَده إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله يشكو لَهُ مَا فعل بِهِ وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد من تجهيز العساكر إِلَيْهِ ونفيه عَن آصيلا فَكَانَ من جَوَاب السُّلْطَان أَن قَالَ لَهُ قل لأَبِيك ذَاك لَا سَبِيل لي عَلَيْهِ هُوَ أعظم شَوْكَة مني ومنك فسر إِلَى بِلَاد أَبِيك وَجدك وأرح نَفسك من التَّعَب وَالْمَوْت قريب مني ومنك فَلَمَّا بلغه كَلَام السُّلْطَان لم يَسعهُ إِلَّا التَّوَجُّه إِلَى مَدِينَة صفرو بعد أَن ترك عِيَاله بدار الشريف الْمولى التهامي بالجوطيين من فاس وَنزل هُوَ بدار الْإِمَارَة من صفرو وَلما قدم الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر على السُّلْطَان بِمَال الْمولى المستضيء وأثاثه قبض السُّلْطَان البارود وَالسِّلَاح ورد الْبَاقِي وَأرْسل إِلَى عَامل فاس يَأْمُرهُ أَن يكْتب إِلَى الْمولى المستضيء ليَبْعَث وَكيلا يحوز إِلَيْهِ مَتَاعه فَكتب إِلَيْهِ فَبعث من حَاز مَاله وأثاثه وَدفعه إِلَى عِيَاله بدار الْمولى التهامي وَكَانَ الْمولى المستضيء لما اطمأنت بِهِ الدَّار بصفرو بعث إِلَى أَعْيَان آيت يوسي على مَا(7/190)
قيل فقدموا عَلَيْهِ فندبهم إِلَى نصرته وَالْقِيَام بدعوته فتخاذلوا عَنهُ وَقَالُوا لَهُ سر إِلَى آيت أدراسن وكروان فَإِن أجابوك فَنحْن مَعَهم وَلما لم يتم لَهُ أَمر بصفرو بعث من حمل إِلَيْهِ عِيَاله وأثاثه من فاس وَذهب إِلَى سجلماسة فاستوطنها وَذَلِكَ سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَأعْرض عَن الْملك وأسبابه وَاسْتمرّ مُقيما بهَا إِلَى أَن توفّي سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف رَحمَه الله وغفرله
انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن هَؤُلَاءِ العبيد الَّذين جمعهم السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل من لدن وَفَاته إِلَى دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل كَانَ قد اعتنى بِجمع العبيد وترتيبهم وتهذيبهم إِلَى أَن بلغ عَددهمْ مائَة وَخمسين ألفا وبلغوا فِي أَيَّامه من الْعِزّ والرفاهية وتشييد الدّور والقصور وارتباط الْجِيَاد وانتخاب السِّلَاح واقتناء الْأَمْوَال وَحسن الشارة والزي مَا لم يبلغهُ غَيرهم وَكَانَ بالمحلة من مشرع الرملة مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا مَا بَين خيل ورماة وَكَانَ عدد اليكشارية مِنْهُم وهم أَصْحَاب الباشا مساهل خَمْسَة وَعشْرين ألفا كلهم رُمَاة إِلَّا القواد مِنْهُم فَإِنَّهُم كَانُوا أَصْحَاب خيل وَكَانَ بتانوت وَوجه عروس مِنْهُم خَمْسَة آلَاف يدعونَ قواد رؤوسهم كلهم أَصْحَاب خيل وَبَاقِي الْعدَد وَهُوَ خَمْسُونَ ألفا كَانُوا مُتَفَرّقين فِي قلاع الْمغرب لعمارتها وحراسة الطَّرِيق وحماية الثغور وَكَانُوا فِي غَايَة من الْكِفَايَة وَالسعَة لِأَن كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب كَانَت تدفع أعشارها فِي قلعتها المبنية بهَا لمؤنة جيشها وعلف خيلها وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فَانْقَطع بوفاته عَن جَيش القلاع المدد الَّذِي كَانَ بِهِ قوامهم
وَلما ولي بنوه من بعده واتصلت الْفِتَن بَينهم أهملوا أَمر هَؤُلَاءِ العبيد وَلم يلتفتوا إِلَيْهِم فضعفت مادتهم وتلاشى أَمرهم وانتشروا فِي الْقَبَائِل الَّتِي كَانُوا(7/191)
مجاورين لَهَا للتكسب على أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلما أعروا تِلْكَ القلاع الَّتِي كَانُوا مقيمين بهَا امتدت إِلَيْهَا أَيدي الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بالنهب والتخريب واقتلعوا أَبْوَابهَا وخشبها وماراق مِنْهَا وتركوها خاوية على عروشها لم يبْق بهَا إِلَّا الجدرات قَائِمَة وَهَكَذَا كَانَ مآل محلّة مشرع الرملة فَإِنَّهُ لما ارتحل العبيد عَنْهَا إِلَى مكناسة أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله خَلفهم بَنو حسن فِيهَا بالنهب والتخريب وكل من عثروا عَلَيْهِ مُتَأَخِّرًا بهَا نهبوه واستلبوا مَا مَعَه وَأخذُوا كل مَا تَرَكُوهُ مِمَّا ثقل عَلَيْهِم حَتَّى يرجِعوا إِلَيْهِ إِذْ كَانَ العبيد يظنون أَنهم سيرجعون إِلَى مشرع الرملة ثمَّ تجاوزت بَنو حسن ذَلِك إِلَى تخريب الدّور والقصور وَحمل أَبْوَابهَا وخشبها إِلَى سلا فَكَانَت تبَاع بهَا بالبخس فقد كَانَ بِهَذِهِ الْمحلة دور وقصور لَيست بالحواضر وَكَانَ كل قَائِد مِنْهُم يفتخر على نَظِيره بِبِنَاء أعظم من بنائِهِ وتشييد فَوق تشييده وتنميق أحسن من تنميقه وتزويق أبدع من تزويقه فَأتى بَنو حسن على ذَلِك كُله وانتسفوه وطمسوا أَعْلَامه فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وَلم يتْركُوا إِلَّا الجدرات قَائِمَة إِلَّا أَن خربوها بعد ذَلِك شَيْئا فَشَيْئًا بل صَارُوا يبعثرون الأَرْض على الدفائن الَّتِي بهَا فعثروا من ذَلِك على شَيْء كثير
ثمَّ إِن العبيد الَّذين رحلوا إِلَى مكناسة لم يصل مِنْهُم إِلَيْهَا إِلَّا دون النّصْف إِذْ تفَرقُوا فِي الْقَبَائِل وَقت رحيلهم فَكل من كَانَ أَصله من قَبيلَة قَصدهَا وكل من كَانَ لَهُ مدشر عَاد إِلَيْهِ ثمَّ الَّذين وصلوا إِلَى مكناسة لم يسْتَقرّ بهم قَرَار لقلَّة ذَات الْيَد وَغَلَاء الأسعار وَكَانَ الْوَقْت وَقت مجاعات وَفتن فَلم يبْق بهَا إِلَّا القواد أهل الْيَسَار وَأهل الْحَرْف الَّذِي يتعيشون بحرفهم وَمَعَ ذَلِك فقد ضَاقَتْ بهم السُّكْنَى بهَا من أجل غَلَبَة البربر الَّذين كَانُوا يغيرون عَلَيْهِم ويتخطفون أَوْلَادهم من البحائر والجنات الْمرة بعد الْمرة فتسلل جلهم للمعاش بالقرى والقبائل ونسوا أَمر الجندية والتمرس بالقنا والقنابل وتفرق مِنْهُم ذَلِك الْجُمْهُور وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور
وَلما وَقعت الزلزلة بمكناسة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف حَسْبَمَا نذكرهُ فِي الْأَحْدَاث هلك من العبيد فَحسب نَحْو خَمْسَة آلَاف وَهَكَذَا لم يزَالُوا فِي(7/192)
تلاش واضمحلال وتناثر واختلال إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله فَأدْرك مِنْهُم صبَابَة يسيرَة وعصابة حقيرة فاعتنى بهم وجمعهم من الْقَبَائِل بعد الانتشار وَأَحْيَا رسمهم بعد الاندثار وأظهرهم بعد الخمول وأركبهم المسومة من الْخُيُول وَرفع لَهُم الْأَعْلَام والبنود وصيرهم من أعز الْجنُود وَهُوَ الَّذِي جدد هَذِه الدولة الإسماعيلية بعد تلاشيها وأحياها بعد خمود جمرتها وتمزيق حواشيها بِحسن سيرته ويمن نقيبته رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ
وَهنا انْتهى بِنَا الْكَلَام على السَّادة الْأَشْرَاف أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل رحم الله الْجَمِيع بمنه قَالَ أكنسوس وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن كل من قَامَ مِنْهُم بعد بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَإِنَّمَا هُوَ ثَائِر عَلَيْهِ لَا إِمَامه لَهُ وَإِنَّمَا يكون خَبره مسوقا من جملَة أَخْبَار دولة الْمولى عبد الله
قلت وَمثله يُقَال فِي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل فَهُوَ الإِمَام الْمُعْتَبر وَالْمولى عبد الْملك خَارج عَلَيْهِ وَقد علم من مَذْهَب الأشعرية أَن طرُو الْفسق لَا يعْزل الإِمَام وَالله تَعَالَى أعلم وَأحكم
انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن خلَافَة سَيِّدي مُحَمَّد ابْن عبد الله بمراكش من مبتدئها إِلَى مُنْتَهَاهَا
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله كَانَ قد خرج سنة سبع وَخمسين وَألف فِي طلب أَخِيه الْمولى المستضيء إِلَى أَن شرده عَن بِلَاد مسفيوة وَأَنه قدم عَلَيْهِ هُنَالك أهل مراكش وَرَغبُوا إِلَيْهِ أَن يدْخل حَضرتهمْ وَلم يساعده الْوَقْت فَلَمَّا عزم على القفول إِلَى بِلَاد الغرب بعث وَلَده الْأَكْبَر الْمولى أَحْمد إِلَى رِبَاط الْفَتْح نَائِبا عَنهُ بهَا وأضاف إِلَيْهِ قبائل الشاوية وَبني حسن وَمَا بَينهمَا وَبعث وَلَده الْأَصْغَر سَيِّدي مُحَمَّدًا مَعَ أهل مراكش نَائِبا عَنهُ فِيهَا فَكَانَ ذَلِك أول انغراس شَجَرَة الْملك الْعلوِي بمراكش واتخاذها كرسيا لَهُم وَلما وصل سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله إِلَى مراكش نزل بقصبتها وَهِي يَوْمئِذٍ خراب(7/193)
لَيْسَ بهَا إِلَّا آثَار السعديين والموحدين قبلهم قد أخنى عَلَيْهَا الدَّهْر وعشش بهَا الصدا والبوم فَضرب بهَا مضاربه ثمَّ شرع رَحمَه الله فِي حفر أساس دَاره بالفضاء الْبعيد عَن الْقُصُور الخربة بهَا من دَاخل السُّور وَلما رأى عرب الرحامنة ذَلِك اتَّفقُوا على مَنعه لأَنهم كَانُوا قد ألفوا العيث فِي أَطْرَاف مراكش فأحبوا أَن لَا تكون بهَا دولة تكبحهم عَن ذَلِك فَاجْتمع طَائِفَة من غوغائهم وتقدموا إِلَى الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد وجبهوه بِالْمَنْعِ وأخرجوه عَن القصبة بعد أَن شرع فِي الْعَمَل فانتقل سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله عَن مراكش إِلَى آسفي
وَأما الْمولى أَحْمد صَاحب العدوتين فَإِنَّهُ قدم رِبَاط الْفَتْح وَنزل بالقصبة مِنْهَا وانضاف إِلَيْهِ عبيد القصبة وَاسْتمرّ خَليفَة بهَا إِلَى أَن سمع أهل العدوتين مَا عَامل بِهِ الرحامنة خَليفَة مراكش فَجرى هَؤُلَاءِ على سُنَنهمْ وَاتَّفَقُوا على طرد الْمولى أَحْمد بن عبد الله عَن بِلَادهمْ فتقدموا إِلَيْهِ بِالْحَرْبِ وحاصروه بالقصبة وَمَعَهُ عبيد فلَان الَّذين كَانُوا فِيهَا إدالة من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَقَطعُوا الْميرَة وَالْمَاء إِلَى أَن مسهم الْجهد وعضهم الْحصار فطلبوا الْأمان أَن يخرجُوا بِأَنْفسِهِم فأمنوهم وَخرج الْمولى أَحْمد فَسَار إِلَى أَخِيه سَيِّدي مُحَمَّد بآسفي فَنزل عَلَيْهِ ثمَّ كَانَ آخر أمره أَن توفّي بفاس كَمَا مر سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف
وَلما خرج الْمولى أَحْمد إِلَى آسفي عمد أهل رِبَاط الْفَتْح إِلَى عبيد القصبة فأنزلوهم مِنْهَا وفرقوهم بِالْمَدِينَةِ حَتَّى لَا تبقى لَهُم شَوْكَة وَلَا عصبية هَذَا مَا كَانَ من خلَافَة الْمولى أَحْمد
وَأما خلَافَة سَيِّدي مُحَمَّد فَإِنَّهُ لما خرج من مراكش قَاصِدا إِلَى آسفي اعترضته قبائل عَبدة وأحمر وضيفوه ببلادهم وأهدوا إِلَيْهِ وتسابقوا على الْخَيل ولعبوا بالبارود سُرُورًا بمقدمه وتنويها بِشَأْنِهِ وصحبوه إِلَى آسفي فَدَخلَهَا وَنزل بقصبتها ففرح أهل آسفي بمقدمه واغتبطوا بِهِ وَكَانَ مبارك الناصية أَيْنَمَا توجه وَلما اطمأنت بِهِ الدَّار رفع إِلَيْهِ أهل آسفي هداياهم وتبعهم على ذَلِك تجار النَّصَارَى وَالْيَهُود وتباروا فِي ذَلِك وتنافسوا فِيهِ وَعمر سوقه عرب عَبده برجالاتهم وأعيانهم وبذلوا لَهُ أَوْلَادهم لخدمته وأوصلوه(7/194)
بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ وسرح للتجار وسق السّلع بالمرسى فأهرعت إِلَيْهِ المراكب من بر النَّصَارَى بأنواع سلعها وقصدها التُّجَّار بالبضائع من كل جِهَة يبيعون بهَا ويشترون وَكَثُرت الْخيرَات ونمت البركات فاستركب واستلحق وَعلا أمره وطار صيته فِي الْبِلَاد الحوزية وَدخل الشياظمة وحاحة فِي طَاعَته وتباروا فِي خدمته فَلم تمض عَلَيْهِ سِتَّة أشهر حَتَّى كَانَ يركب فِي نَحْو الْألف فَلَمَّا سمع الرحامنة مَا صَار إِلَيْهِ أَمر عَبدة وأحمر اقتالهم من تشرفهم بولائه وتقدمهم فِي خدمته نفسوا ذَلِك عَلَيْهِم وراجعوا بصائرهم فَاجْتمع طَائِفَة من أعيانهم وَقدمُوا عَلَيْهِ آسفي وَقدمُوا بَين يديهم هَدِيَّة استرضوه بهَا وَلما دخلُوا عَلَيْهِ اعتذروا إِلَيْهِ مِمَّا فرط مِنْهُم ونسبوا ذَلِك إِلَى السُّفَهَاء وَأَنَّهُمْ لم يأمروا بِشَيْء من ذَلِك وَلَا رضوه وأقسموا لَهُ أَن لَا يبرحوا من بَابه حَتَّى يسير مَعَهم إِلَى مراكش وَلَو أَقَامُوا هُنَالك سنة وأسعفهم وَسَار مَعَهم وَصَحبه من أَعْيَان عَبدة نَحْو ألف فَارس وَكَانَ فِي موكبه من أَصْحَابه وحاشيته نَحْو الْخَمْسمِائَةِ كلهم بالخيول المسومة والشارة الْحَسَنَة والشكة التَّامَّة
وَلما انْتهى إِلَى مراكش نزل بالقصبة وجاءه أهل مراكش بهداياهم وَكَذَا قبائل الْحَوْز ثمَّ تلاهم قبائل الدَّيْر كُله بهداياهم أَيْضا وَجَاء الرحامنة بأولادهم للْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مُنَافَسَة لعبدة وأحمر فِي ذَلِك وقفاهم فِي ذَلِك سَائِر أهل الْحَوْز وَقدم عَلَيْهِ عبيد دكالة الَّذين كَانُوا بسلا فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَحسنت مَنْزِلَتهمْ عِنْده وَلما سمع بذلك عبيد مكناسة تسللوا إِلَيْهِ فُرَادَى وأزواجا فاستعملهم فِي خدمَة الْبناء فبنوا بُيُوتهم وَأَصْلحُوا شؤونهم واجتهد هَذَا الْخَلِيفَة فِي بِنَاء دَاره الْكُبْرَى بقصبة مراكش إِلَى أَن أكملها وسكنها ثمَّ شرع فِي بِنَاء ماتلاشى من أسوار القصبة وَركب أَبْوَابهَا وأفردها عَن الْمَدِينَة ثمَّ غرس بستانا عَظِيما مُتَّصِلا بداره الْكُبْرَى على جِهَة الغرب سَمَّاهُ النّيل وَأسسَ قصرا آخرا مُتَّصِلا بغربي هَذَا الْبُسْتَان سَمَّاهُ الْقصر الْأَخْضَر وَيُسمى أَيْضا الْمَنْصُور وَجعل لهَذَا الْبُسْتَان أَرْبَعَة أَبْوَاب فِي زواياه الْأَرْبَع كَذَا قيل وَالْمَوْجُود الْيَوْم ثَلَاثَة أَبْوَاب فَقَط وَجعل لَهُ بَابَيْنِ آخَرين أَحدهمَا للدَّار الْكُبْرَى شرقا وَالْآخر للقصر الْأَخْضَر غربا وَجعل فِي وسط هَذَا الْبُسْتَان قبَّة منتخبة(7/195)
يتَّصل بهَا من جهاتها الْأَرْبَع مماشي تمْضِي إِلَى قباب أخر منتخبة أَيْضا وَطول هَذَا الْبُسْتَان ينيف على مِائَتي خطْوَة تَقْرِيبًا وَعرضه قريب من ذَلِك وَهَذَا الْقدر هُوَ مساحة مَا بَين القصرين أَعنِي الدَّار الْكُبْرَى وَالْقصر الْأَخْضَر ثمَّ أصلح هَذَا الْخَلِيفَة جَامع الْمَنْصُور الَّذِي بالقصبة إِذْ كَانَ متهدما يَوْمئِذٍ ثمَّ أسس مَسْجِدا آخر للخطبة بجوار قصره وَهُوَ الْمَعْرُوف الْيَوْم بِمَسْجِد بريمة وَهُوَ مَسْجِد حافل بديع وَبنى مدرستين لطلبة الْعلم بالقصبة الْمَذْكُورَة وَبنى حَماما ببريمة وَعمر مَسَاجِد غير ذَلِك للأحرار وَالْعَبِيد وَفرق الْأَمْوَال على من انحاش إِلَيْهِ مِنْهُم لعمارة مساكنهم وَبِنَاء دُورهمْ بعد أَن كَانَت من الطين والقصب وَكتب الْكَتَائِب وجند الأجناد فَاجْتمع لَدَيْهِ من العبيد ألف وَخَمْسمِائة كلهم فَارس شاكي السِّلَاح وَمن عَبدة وأحمر مثل ذَلِك وَمن الرحامنة وَأهل الْحَوْز ألف فَارس كَذَلِك
وَلما خرج العبيد بمكناسة على وَالِده وَقدمُوا عَلَيْهِ بمراكش مبايعين لَهُ عَاتَبَهُمْ وَقدم مكناسة وَأصْلح بَينهم وَبَين وَالِده كَمَا مر
وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف غزا بِلَاد السوس ودوخها ومهد أقطارها وجبى أموالها وَقرر الحامية بتارودانت مِنْهَا ثمَّ سَار إِلَى آكادير فَقبض على الطَّالِب صَالح الثائر بِهِ والمستبد بِمَال مرساه فسجنه واستصفى أَمْوَاله الَّتِي استفادها من المرسى ورتب الحامية فِي آكادير أَيْضا ثمَّ إِن الطَّالِب صَالحا الْمَذْكُور ذبح نَفسه فِي السجْن وأفضى إِلَى مَا قدم بعد أَن ترك فِي الْقطر السُّوسِي صيتًا وذكرا وَهُوَ الَّذِي يُوجد طابعه على السِّلَاح السُّوسِي من مكحلة وسكين وخنجر إِلَى الْآن وَهُوَ سلَاح منتخب عِنْدهم
وقفل الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله إِلَى مراكش مؤيدا منصورا فَمَكثَ فِيهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ خرج غازيا بِلَاد الشاوية فِي السّنة نَفسهَا لما ظهر مِنْهُم من الْفساد وَقطع الطرقات وَنهب الْمَارَّة فَقتل من أعيانهم عددا وَبعث الْبَاقِي فِي السلَاسِل إِلَى مراكش
ثمَّ تقدم إِلَى أَرض سلا فَبَاتَ برباط الْفَتْح وَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا بالمؤن(7/196)
والهدايا وَاسْتَبْشَرُوا بمقدمه وَأما أهل سلا فَلم يخرج إِلَيْهِ مِنْهُم أحد بل أغلق صَاحبهَا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش أَبْوَابهَا فِي وَجهه فَأَعْرض عَنهُ سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وتنكب الْمُرُور بسلا وَعبر مشرع الْمجَاز أَسْفَل من العدوتين وَسَار إِلَى قصر كتامة من بِلَاد الهبط فَقدم عَلَيْهِ بِهِ عبيد مكناسة مَعَ كَبِيرهمْ الباشا الزياني وَفِي ذَلِك الْيَوْم قتل العبيد باشاهم الْمَذْكُور وَقتلُوا مَعَه الْقَائِد يُوسُف السِّلَاح لِأَنَّهُمَا كَانَا يمنعانهم من الْقدوم عَلَيْهِ إِلَى مراكش فولى عَلَيْهِم الْقَائِد سعيد بن العياشي وَمن الْغَد ارتحل إِلَى تطاوين فَتَلقاهُ أَهلهَا مَعَ قائدهم مُحَمَّد بن عمر الوقاش فَقبض عَلَيْهِ وتهدده ثمَّ أطلقهُ ثمَّ مضى إِلَى جِهَة سبتة حَتَّى أشرف عَلَيْهَا ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى طنجة ثمَّ كرّ رَاجعا فَمر بالعرائش ثمَّ بسلا فَلم يحفل بِهِ عبد الْحق أَيْضا فطوى لَهُ سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله على الْبَتّ ثمَّ سَار إِلَى مراكش فاستقر بهَا مؤيدا منصورا إِلَى أَن وافته الْخلَافَة الْكُبْرَى بهَا بعد وَفَاة وَالِده رَحمَه الله
تمّ الْجُزْء السَّابِع ويليه الْجُزْء الثَّامِن وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله(7/197)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة العلوية
الْقسم الثَّانِي
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله
لما توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم أَعنِي السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْخَيْر سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف كَانَ النَّاس قد سئموا الْهَرج والفتن وأعياهم التفاقم وَالِاضْطِرَاب وملوا الْحَرْب وملتهم إِذْ كَانَت أَيَّامه لَا سِيمَا أخرياتها كأيام الفترة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُلْطَان وَكَانَت حَال الرّعية مَعَه مثل الفوضى الَّذين لَا وازع لَهُم فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب الَّتِي صرفت وُجُوه أهل الْمغرب كُله إِلَى بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وجمعت كلمتهم عَلَيْهِ لَا سِيمَا مَعَ مَا كَانَ قد ظهر مِنْهُ أَيَّام خِلَافَته من حسن السياسة وَكَمَال النجدة وجودة الرَّأْي وَتَمام الْمعرفَة بإدارة الْأُمُور على وَجههَا وإجرائها على مُقْتَضى صوابها حَتَّى أحبته الْقُلُوب وعلقت بِهِ الآمال وَعرفت لَهُ من بَين بني أبيَّة تِلْكَ الشنشنة وتضافرت على ولائه وَنَصره الْقُلُوب والألسنة فَلَمَّا قضى الله بوفاة وَالِده بَادر أهل فاس إِلَى عقد الْبيعَة لَهُ من غير توقف وَلَا تريث
قَالَ وَلَده الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد الْمولى عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن عبد الله فِي كِتَابه الْمُسَمّى بدرة السلوك بُويِعَ لمولانا الْوَالِد السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله الْبيعَة الْعَامَّة الصَّحِيحَة التَّامَّة وحضرها جمَاعَة من أَعْيَان(7/3)
الْعلمَاء مثل قَاضِي الْجَمَاعَة بمكناسة السَّيِّد سعيد العميري وقاضي الْجَمَاعَة بفاس السَّيِّد عبد الْقَادِر أبي خريص وَشَيخ الْجَمَاعَة بهَا السَّيِّد مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام الْمُحَقق حَامِل لِوَاء الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول الشَّيْخ أبي حَفْص عمر الفاسي وَابْن عَمه السَّيِّد أبي مَدين الفاسي وَهُوَ الَّذِي تولى كِتَابَة الْبيعَة بِيَدِهِ وَإِمَام جَامع الشرفاء بفاس الْأُسْتَاذ الْمولى عبد الرَّحْمَن المنجرة وَالشَّيْخ الْعَلامَة السَّيِّد التاودي ابْن سَوْدَة المري وَإِمَام الْمَسْجِد الْكَبِير بفاس الْجَدِيد السَّيِّد عبد الله السُّوسِي وَالْإِمَام الْحَافِظ السَّيِّد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس الْعِرَاقِيّ وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة
وَقَوله فِي قَاضِي مكناسة السَّيِّد سعيد العميري صَوَابه ابْنه أَبُو الْقَاسِم العميري
وَوصل الْخَبَر بِمَوْت السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَهُوَ بمراكش فَأَقَامَ مأتمه وازدحم على بيعَته أهل مراكش وقبائل الْحَوْز والدير وقدمت عَلَيْهِ وُفُود السوس وحاحة بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ العبيد والودايا وَأهل فاس من الْعلمَاء والأشراف وَسَائِر الْأَعْيَان وقبائل الْعَرَب والبربر وَالْجِبَال وَأهل الثغور كل ببيعته وهديته لم يتَخَلَّف عَنهُ أحد من أهل الْمغرب فَجَلَسَ للوفود إِلَى أَن فرغ من شَأْنهمْ وَأَجَازَهُمْ وَزَاد العبيد بِأَن أَعْطَاهُم خيلا كَثِيرَة وسلاحا كثيرا عرفُوا بهَا محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين مغتبطين
مَجِيء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله عقب الْبيعَة من مراكش إِلَى فاس وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
لما فرغ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد رَحمَه الله من أَمر الْوُفُود أَخذ فِي الاستعداد للنهوض إِلَى الغرب فَخرج من مراكش فِي عَسْكَر الْحَوْز ووجوهة حَتَّى انْتهى إِلَى مكناسة فَدخل دَار الْملك بهَا وَفرق على العبيد الْخَيل وَالسِّلَاح وَالْمَال وَكَانُوا على غَايَة من سوء الْحَال والاستكانة لغَلَبَة البربر إِذْ كَانُوا يتخطفون أَوْلَادهم من البحائر والجنات ويبيعونهم فِي(7/4)
قبائلهم كَمَا قُلْنَا فجبر الله صدعهم بِولَايَة هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل
ثمَّ لما قضى إربه من مكناسة ارتحل إِلَى فاس وَلما نزل فِي عساكره بالصفصافة خرج لملاقاته الودايا وَأهل فاس فهش للنَّاس وألان جَانِبه لَهُم وَاخْتَلَطَ بهم فَكَانُوا يطوفون بِهِ ويقبلون أَطْرَافه وَلَا يمنعهُم أحد وَفرق المَال وَالْكِسْوَة وَالسِّلَاح فِي الودايا وَعبيد السلوقية وَأعْطى الْفُقَهَاء والأشراف وطلبة الْعلم وَأهل الْمدَارِس والمكتبيين وَالْأَئِمَّة والمؤذنين والفقراء وَالْمَسَاكِين وأزاح علل الْجَمِيع وَلم يحرم أحدا وَلما حضرت الْجُمُعَة جَاءَ من الْمحلة فِي تَرْتِيب حسن وزي عَجِيب فَخرج أهل البلدين لرُؤْيَته وامتلأت الأَرْض من العساكر والنظارة وَدخل فاسا الْجَدِيد فصلى بِهِ الْجُمُعَة ثمَّ جلس لفقهاء الْوَقْت وَسَأَلَ عَنْهُم وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى عرفهم ثمَّ خرج إِلَى تربة وَالِده فزارها وَأمر بتفريق الصَّدقَات عِنْدهَا وترتيب الْقُرَّاء بهَا ثمَّ دخل إِلَى دَار الْحرم فَوقف على من بهَا من أخواته وعزاهن فِي مصاب والدهن وَطيب نفوسهن ثمَّ رَجَعَ عَشِيَّة النَّهَار إِلَى الْمحلة فَبَاتَ بهَا وَمن الْغَد جَاءَ إِلَى دَار الدبيبغ فَدَخلَهَا ووقف على متخلف وَالِده من مَال وأثاث وَسلَاح وخيل إِلَى أَن عاينه وأحصاه وَأبقى ذَلِك بيد من كَانَ بِيَدِهِ من أَصْحَاب وَالِده وأوصاهم بالاحتفاظ بِهِ بعد أَن جعل الْجَمِيع إِلَى نظر الْحَاجِب أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب اليموري وعامل أَصْحَاب أَبِيه بالجميل وخفض لَهُم الْجنَاح وألان لَهُم القَوْل ووصلهم بِمَال اقتسموه فِيمَا بَينهم ثمَّ بعد ذَلِك حَاز مِنْهُم مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم من مَال وَالِده فَكَانَ أَكْثَره ذَهَبا من ذَلِك ألف خرج وَتَسْمِيَة المغاربة السماط من الْجلد الفيلالي بأقفالها فِي كل وَاحِد ألفا دِينَار بالتثنية من ضربه وَكَانَت تكون على سروج خيله فِي السّفر فَإِذا نزل الْجَيْش وَضربت الأخبية رَفعهَا الموكلون بهَا كل وَاحِد اسْمه وعينه إِلَى الْقبَّة السُّلْطَانِيَّة وَعند الرحيل كَذَلِك تدفع لَهُم بالإحصاء وَالتَّقْيِيد وَمن ذَلِك مائَة رحى من الذَّهَب الْخَالِص كقرص الشمع فِي كل رحى وزن أَرْبَعَة آلَاف ريال وَكَانَت تكون مَحْمُولَة على البغال فِي أعدالها مغطاة بالقطائف الْمُسَمَّاة عِنْد المغاربة بالحنابل مشدودا عَلَيْهَا بالحبال أَربع أرحاء فِي كل(7/5)
عَدْلَيْنِ فالمجموع خمس وَعِشْرُونَ بغلة تسير أَمَامه فَإِذا نزل الْجَيْش رفعت إِلَى الْقبَّة السُّلْطَانِيَّة كَالَّذي قبلهَا
وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله يرى ذَلِك من الحزم حَيْثُ يحمل مَاله مَعَه أَيْنَمَا سَار لَا يُفَارِقهُ وَمِمَّا وجده سَيِّدي مُحَمَّد من مَال وَالِده أَيْضا ثَلَاثمِائَة ألف ريال إِلَّا خَمْسَة عشر ألفا وَوجد نَحْو الْعشْرين ألفا من الموزونات الدقيقة من ضرب سكته هَذَا مَا خَلفه رَحمَه الله من المَال الصَّامِت وَكَانَ يكون على يَد الْقَائِد علال بن مَسْعُود من وصفانه فحاز ذَلِك كُله أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد وَنَقله إِلَى محلته ووكل بِهِ وزعته وَتقدم إِلَى أَصْحَابه بِأَن يعاملوا أَصْحَاب أَبِيه بالتوقير والاحترام ونظمهم فِي سلك خدمته فَمن ظَهرت نجابته أدناه وَمن لَا عِبْرَة بِهِ أقصاه
ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بفاس عَامَّة قبائل الغرب وازدلفوا اليه بالهدايا والتحف فَأكْرم كلا بِمَا يُنَاسِبه وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره سهل الْحجاب رَفِيقًا لم يعْزل أحدا من قواد الْقَبَائِل وعمال الحواضر الَّذين كَانُوا فِي دولة أَبِيه فِي حكم الاستبداد بل أبقى مَا كَانَ وَلم ينكب أحدا إِلَّا بعد الِاسْتِبْرَاء والاختبار غير أَن أهل تطاوين كَانَ قائدهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الوقاش منحرفا عَنهُ أَيَّام خِلَافَته بمراكش فَكَانَ إِذا كتب اليه بِأَمْر نبذه وَرَاء ظَهره وَرُبمَا قَالَ للرسول الْمَرْأَة لَا تتَزَوَّج برجلَيْن أَو كلَاما يشبه هَذَا يَعْنِي أَنه مجبور لطاعة السُّلْطَان الْمولى عبد الله
فَلَمَّا بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم حَضْرَة فاس انقبض عَنهُ الوقاش الْمَذْكُور وعاذ بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش بِمَالِه وَولده خوفًا على نَفسه من السُّلْطَان لسوء مَا قدم ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل تطاوين طائعين متنصلين من فعل عاملهم الْمَذْكُور ومخبرين بِشَأْنِهِ فولى السُّلْطَان عَلَيْهِم الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن زاكور أحد كِتَابه كَانَ بَعثه من مراكش إِلَى العرائش واليا عَلَيْهَا فَلَمَّا وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين ولاه عَلَيْهِم لكَونه حضريا مثلهم وَأقَام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله بفاس شَهْرَيْن وَعَاد إِلَى مكناسة وَالله أعلم(7/6)
إِحْدَاث المكس بفاس وبسائر أَمْصَار الْمغرب وَمَا قيل فِي ذَلِك
لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله وَقدم حَضْرَة فاس رفع إِلَيْهِ أَهلهَا مَا كَانُوا يؤدونه إِلَى وَالِده الْمولى عبد الله مِمَّا كَانَ موظفا على الموازين كميزان سَيِّدي فرج وميزان قاعة السّمن وميزان قاعة الزَّيْت وَغير ذَلِك وَقدره ثَلَاثمِائَة مِثْقَال فِي كل شهر يجب فِيهَا لكل سنة ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وسِتمِائَة مِثْقَال
فَلَمَّا حضر فُقَهَاء فاس عِنْد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد كَلمهمْ فِي شَأْنهَا حَتَّى يكون الْأَمر فِيهَا مُسْندًا إِلَى فَتْوَى الْفُقَهَاء فَقَالُوا إِذا لم يكن للسُّلْطَان مَال جَازَ لَهُ أَن يقبض من الرّعية مَا يستخدم بِهِ الْجند فَأَمرهمْ أَن يكتبوا لَهُ فِي ذَلِك فَكَتَبُوا لَهُ تأليفا اعْتَمدهُ السُّلْطَان ووظف على الْأَبْوَاب والغلات والسلع وَكَانَ مِمَّن كتب لَهُ فِي ذَلِك الْعَلامَة الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة والعلامة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام أَبُو حَفْص عمر الفاسي والفقيه الشريف أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المنجرة والفقيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق الطرابلسي والفقيه القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر أَبُو خريص وَغَيرهم فاعتمد السُّلْطَان على فتواهم ووظف مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا
وَاعْلَم أَن أَمر المكس مِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الأقطار والدول مُنْذُ الْأَعْصَار المتطاولة والسنين الأول فَلَا بَأْس أَن نذْكر مَا حَرَّره الْعلمَاء فِي ذَلِك فَنَقُول قد تكلم على ذَلِك الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كِتَابه شِفَاء الغليل بِمَا نَصه فَإِن قَالَ قَائِل توظيف الْخراج على الأَرْض وَوُجُوب الارتفاقات مصلحَة ظَاهِرَة لَا تنتظم أُمُور الْوُلَاة فِي رِعَايَة الْجند والاستظهار بكثرتهم وَتَحْصِيل شَوْكَة الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ وَلذَلِك لم يلف عصر خَالِيا عَنهُ والملوك على تفَاوت سيرهم وَاخْتِلَاف أَخْلَاقهم تطابقوا عَلَيْهِ وَلم يستغنوا عَنهُ فَلَا تنتظم مصلحَة الدّين وَالدُّنْيَا إِلَّا بِإِمَام مُطَاع ووال(3/7)
مُتبع يجمع شتات الْإِيمَان ويحمي حوزة الدّين وبيضة الْإِسْلَام ويرعى مصلحَة الْمُسلمين وغبطة الْأَنَام وَلَا يستتب ذَلِك إِلَّا بنجدته وشوكته وَجُنُوده وعدته فيهم مجاهدة الْكفَّار وحماية الثغور وكف أَيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَال وَالْحرم والأزواج فهم الحراس للدّين عَن أَن تنْحَل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الْكفَّار فِي بِلَاد الْمُسلمين وهم الحماة للدنيا عَن أَن يخْتل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام النَّاس بِفضل العرامة والباس وَلَا يخفى عَلَيْكُم كَثْرَة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم فِي نُفُوسهم وعيالهم والمرصد لَهُم خمس الْخمس من الْغَنَائِم والفيء وَذَلِكَ مِمَّا يضيق فِي غَالب الْأَمر عَن الْوَفَاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وَلَيْسَ يعم ذَلِك الا بتوظيف الْخراج على الْأَغْنِيَاء فَإِن كُنْتُم تتبعون الْمصَالح فَلَا بُد من الترخيص فِي ذَلِك مَعَ ظُهُور الْمصلحَة
قُلْنَا الَّذِي نرَاهُ جَوَاز ذَلِك عِنْد ظُهُور الْمصلحَة وَإِنَّمَا النّظر فِي بَيَان وَجه الْمصلحَة فَنَقُول أَولا التوظيف فِي عصرنا هَذَا مزاجه ومنهاجه ظلم مَحْض لَا رخصَة فِيهِ فَإِن آحَاد الْجند لَو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقدرا صَالحا من الْوَقْت وَقد شمخوا بتنعمهم وترفههم فِي الْعَيْش وإسرافهم فِي إفَاضَة الْأَمْوَال على العيارة ووجوه التجمل على سَائِر الأكاسرة فَكيف يقدر احتياجهم إِلَى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم وكافة أَغْنِيَاء الدَّهْر فُقَرَاء بِالْإِضَافَة إِلَيْهِم فَأَما لَو قَدرنَا إِمَامًا مُطَاعًا مفتقرا إِلَى تَكْثِير الْجند لسد الثغور وحماية الْملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وَقد خلا بَيت المَال عَن المَال وأرهقت حَاجَة الْجند إِلَى مَا يكفيهم وخلت عَن مِقْدَار كفايتهم أَيْديهم فللإمام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مَا يرَاهُ كَافِيا لَهُم فِي الْحَال إِلَى أَن يظْهر مَال فِي بَيت المَال ثمَّ إِلَيْهِ النّظر فِي توظيف ذَلِك على وُجُوه الغلات والارتفاقات بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي تَخْصِيص بعض النَّاس بِهِ إِلَى إيغار الصُّدُور وإيحاش الْقُلُوب وَيَقَع ذَلِك(3/8)
قَلِيلا من كثير وَلَا يجحف بهم وَيحصل بِهِ الْغَرَض ثمَّ اسْتدلَّ الشَّيْخ أَبُو حَامِد رَضِي الله عَنهُ لذَلِك من النَّقْل وَالْعقل بِمَا يطول جلبه
وَقَالَ فِي كِتَابه الْمُسْتَصْفى مَا نَصه إِن قيل توظيف الْخراج من الْمصَالح فَهَل إِلَيْهِ من سَبِيل قُلْنَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ مَعَ كَثْرَة الْأَمْوَال فِي أَيدي الأجناد أما إِذا خلت الْأَيْدِي وَلم يكن فِي بَيت المَال مَا يَفِي بخراجات الْعَسْكَر وَلَو تفَرقُوا وَاشْتَغلُوا بِالْكَسْبِ لخيف دُخُول الْكفَّار بِلَاد الْإِسْلَام فَيجوز للْإِمَام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مِقْدَار كِفَايَة الْجند ثمَّ إِن رأى فِي طَرِيق التَّوْزِيع التَّخْصِيص بالأراضي فَلَا حرج لأَنا نعلم أَنه إِذا تعَارض شران وضرران وَجب دفع أَشد الضررين وَأعظم الشرين وَمَا يُؤَدِّيه كل وَاحِد مِنْهُم قَلِيل بِالْإِضَافَة إِلَى مَا يخاطر بِهِ من نَفسه وَمَاله وَلَو خلت خطة الْإِسْلَام عَن ذِي شَوْكَة يحفظ نظام الْأُمُور وَيقطع مَادَّة الشرور لفسدت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَقَوله على الْأَغْنِيَاء يُرِيد من لَهُ قدرَة وطاقة على دفع شَيْء لَا يجحف بِهِ وَوَقع فِي جَوَاب للْقَاضِي أبي عمر بن مَنْظُور رَحمَه الله إِن لضرب الْخراج وتوظيفه على الْمرَافِق شُرُوطًا الأول مِنْهَا أَن يعجز بَيت المَال وتتعين حَاجَة الْجند فَلَو كَانَ فِي بَيت المَال مَا يقوم بِهِ لم يجز أَن يفْرض على الرّعية شَيْء قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة صَاحب مكس وَهُوَ إغرام المَال ظلما ثَانِيهمَا إِن الإِمَام يتَصَرَّف فِيهِ بِالْعَدْلِ فَلَا يجوز لَهُ أَن يستأثر بِهِ دون الْمُسلمين وَلَا أَن يُنْفِقهُ فِي سرف وَلَا أَن يُعْطي من لَا يسْتَحق وَلَا أَن يُعْطي أحدا أَكثر مِمَّا يسْتَحق ثَالِثهَا أَن يصرفهُ فِي مصروفه بِحَسب الْمصلحَة وَالْحَاجة لَا بِحَسب الشَّهْوَة وَالْغَرَض وَهَذَا يرجع إِلَى الثَّانِي رَابِعهَا أَن يكون الْغرم على من يكون قَادِرًا عَلَيْهِ من غير ضَرَر وَلَا إجحاف وَمن لَا شَيْء لَهُ أَو لَهُ شَيْء قَلِيل فَلَا يغرم شَيْئا خَامِسهَا أَن الإِمَام يتفقد هَذَا فِي كل وَقت فَرُبمَا جَاءَ وَقت لَا يفْتَقر فِيهِ إِلَى زِيَادَة على مَا فِي بَيت المَال وَكَذَلِكَ إِذا تعيّنت الْمصلحَة فِي(3/9)
المعونة بالأبدان وَلم يكف المَال فَإِن النَّاس يجبرون على التعاون بأبدانهم على الْأَمر الدَّاعِي للمعونة بِشَرْط الْقُدْرَة وَتعين الْمصلحَة والافتقار إِلَى ذَلِك انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ وَالله تَعَالَى أعلم
مقتل أبي الصخور الخمسي وَمَا كَانَ من أمره
لما رَجَعَ السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله من فاس إِلَى مكناسة أَقَامَ بهَا يَسِيرا ثمَّ خرج إِلَى جبال غمارة بِسَبَب مَا بلغه عَن المرابط أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الخمسي الْمَعْرُوف بِأبي الصخور وَكَانَ لَهُ صيت وشهرة بقبائل الْجَبَل وَكَانَ يظْهر التنسك وَالْعِبَادَة وَيَزْعُم أَنه يستخدم الْجِنّ فَكَانَ للعامة فِيهَا اعْتِقَاد كَبِير ثمَّ صَار يَقُول للنَّاس هَذَا السُّلْطَان لَا تطول مدَّته فَأَخذه السُّلْطَان وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى فاس وَولى على قبائل غمارة والأخماس وَتلك النواحي الباشا العياشي وأنزله بِمَدِينَة شفشاون وقفل إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا مَرِيضا فاتح محرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة وَألف فَقَالَ المرجفون مَا أَصَابَهُ الْمَرَض إِلَّا من قَتله لأبي الصخور وَقَالُوا إِنَّه قد صدق فِي قَوْله لَا تطول مدَّته فعافى الله السُّلْطَان وأكذب ظن الشَّيْطَان وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة إِلَى أَن انْسَلَخَ الْمحرم وَدخل صفر فَعَاد إِلَى مراكش بعد أَن أَمر بِنَقْل عبيد السلوقية إِلَى مكناسة وضمهم إِلَى إخْوَانهمْ واستصحب مَعَه إِلَى مراكش من رجالتهم ألفا فَلَمَّا دَخلهَا أَعْطَاهُم الْخَيل وَالسِّلَاح والكسي وعادوا إِلَى مكناسة ثمَّ قدم عَلَيْهِ مِنْهُم ألف آخر فأركبهم وكساهم وَاسْتمرّ حَاله مَعَهم على هَذَا إِلَى أَن استوفوا خيلهم وسلاحهم وكساهم وَلم يسألهم عَمَّا كَانَ فِي أَيْديهم أَيَّام الفترة(3/10)
خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الثغور وتفقده أحوالها
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش فَقدم مكناسة وَفرق الرَّاتِب على العبيد بهَا وَبعث إِلَى الودايا راتبهم وَأمرهمْ بالنهوض مَعَه للتطواف على الثغور البحرية من بِلَاد الْمغرب
فَخرج من مكناسة حَتَّى أَتَى مَدِينَة تطاوين فَنزل بهَا وَأمر بِبِنَاء برج مرتيل الَّذِي بهَا وَفرق المَال على العبيد المقيمين بِهِ مُنْذُ أَيَّام السُّلْطَان إِسْمَاعِيل وهم بَقِيَّة عبيد سبتة أَعنِي الَّذين كَانُوا يرابطون عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لما انحل نظام الْملك بِمَوْت الْمولى إِسْمَاعِيل وتفرق العبيد المرابطون على سبتة فلحقت كل طَائِفَة مِنْهُم بقبيلتها الَّتِي جلبت مِنْهَا بَقِي هَذَا الْألف الَّذِي لَا قَبيلَة لَهُ هُنَالك فنقلهم أَبُو حَفْص الوقاش إِلَى مرتيل وَأحسن إِلَيْهِم وَصَارَ يدْفع بهم فِي نحر من يُريدهُ بمكورة من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ
ثمَّ رَحل السُّلْطَان من تطاوين إِلَى طنجة وَجعل طَرِيقه على سبتة فَمر بهَا ووقف عَلَيْهَا وَنظر إِلَى حصانتها ومناعتها وَتحقّق أَن لَا مطمع فِيهَا إِلَّا بالجد وَأمر الْعَسْكَر الَّذين حوله بِإِخْرَاج دفْعَة من البارود وتسميها الْعَامَّة حاضرونا فَفَعَلُوا وأجابهم النَّصَارَى بِمثل ذَلِك بالمدافع والكور حَتَّى تزلزلت الْجبَال فَعجب السُّلْطَان من ذَلِك وَمَا كَانَ قَصده بِهَذِهِ السفرة إِلَّا الْوُقُوف على سبتة واختبار حَالهَا لِأَنَّهُ لم ينظر إِلَيْهَا بِعَين التَّأَمُّل والاختبار فِي الْمرة الأولى فَلَمَّا تبين لَهُ حَالهَا أرجأ أمرهَا إِلَى يَوْم مَا وَأوصى أهل آنجرة بِتَعْيِين حِصَّته من الرُّمَاة لحراسة نَوَاحِيهَا وَالْوُقُوف على حُدُودهَا وبذل لَهُم مَالا يستعينون بِهِ على ذَلِك ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَنزل قَرِيبا مِنْهَا وَخرج إِلَيْهِ أعيانها ورؤساؤها من أهل الرِّيف بقضهم وقضيضهم يتقدمهم باشاهم عبد الصَّادِق بن أَحْمد بن عَليّ الريفي كَانَ قد قدم عَلَيْهِ بمراكش أَيَّام خِلَافَته(3/11)
بهَا فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدي السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة أكْرمهم وَفرق المَال والكسي فيهم وَأمر الباشا عبد الصَّادِق أَن يبْعَث أَخَاهُ عبد الْهَادِي للوقوف على إنْشَاء الغلائط بتطاوين
ثمَّ سَار السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى العرائش فألفاها خَالِيَة لَيْسَ بهَا إِلَّا نَحْو الْمِائَتَيْنِ من أهل الرِّيف تَحت كنف أهل الغرب فولى عَلَيْهَا عبد السَّلَام بن عَليّ وعدي ثمَّ أنزل بهَا مائَة من عبيد مكناسة
ثمَّ سَار إِلَى سلا فَعبر الْوَادي وَنزل برباط الْفَتْح وَأقَام بِهِ أَيَّامًا وَأمر قائده أَبَا الْحسن عليا مارسيل أَن يَبْنِي صقالة أَي برجا كَبِيرا على الْبَحْر وَأمر قَائِد سلا عبد الْحق فنيش أَن يَبْنِي مثلهَا بسلا على الْبَحْر مقابلتها ثمَّ أَمر بإنشاء سفينتين إِحْدَاهمَا لأهل سلا وَالْأُخْرَى لأهل رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت عِنْدهم سفينة وَاحِدَة مُشْتَركَة بَينهم أنشؤوها أَيَّام الفترة وفيهَا كَانُوا قد خَرجُوا إِلَى حصن آكادير وَمِنْه بعثوا وفدهم إِلَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَليفَة بمراكش فَأكْرم الرُّسُل وَبعث مَعَهم مَالا كثيرا إِلَى الْمُجَاهدين بالعدوتين وَفِي مُدَّة مقَامه برباط الْفَتْح هَذِه الْمرة صرف جَيش العبيد والودايا إِلَى بِلَادهمْ وَسَار هُوَ إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا كتب إِلَى تجار النَّصَارَى بآسفي يَأْمُرهُم أَن يشتروا لَهُ إِقَامَة المراكب القرصانية من صواري ونطاقات وقمن ومخاطيف وحبال وقلوع وبتاتي وَغير ذَلِك فتنافسوا فِي شِرَاء ذَلِك وازدلفوا إِلَى السُّلْطَان بجلبه وانتخابه ثمَّ استقدم جراطين الصَّحرَاء الَّذين بالرتب وتافيلالت وهم الْجَبَابِرَة والمعاركة وَأَوْلَاد أبي أَحْمد لما بلغه عَنْهُم من أَنهم يعينون عَمه الْمولى الْحسن على محاربة الْأَشْرَاف الَّذين هُنَالك فنقلهم إِلَى مكناسة وَأَعْطَاهُمْ الْكسْوَة وَالسِّلَاح وكتبهم فِي ديوَان الْجَيْش
وَفِي هَذِه السّنة وصل الْخَبَر بِمَوْت الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل بتافيلالت كَمَا مر(3/12)
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بالودايا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ هَؤُلَاءِ الودايا أحد أَرْكَان الْعَسْكَر الْإِسْمَاعِيلِيّ حَسْبَمَا تقدم وَكَانَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله قد اعتنى بشأنهم وَأخذ بضبعهم وجمعهم بعد الْفرْقَة وأغناهم بعد الْعيلَة وأسكنهم فاسا الجديدة وأعماله فاستوطنوه وألفوه وصاروا هم أَهله بَين سَائِر الْجند فَكَانَ لَهُم فِي الدولة الْغناء الْكَبِير وَاتَّخذُوا الدّور والقصور وتوالت عَلَيْهِم بالعز وإباية الضيم السنون والشهور
وَلما توفّي رَحمَه الله كَانُوا بفاس الْجَدِيد على غَايَة من تَمام الشَّوْكَة وَكَمَال العصبية وَقد ملكوا أَمر أنفسهم على الدولة وغلظت قناتهم على من يُرِيد غمزها من أَهلهَا فَكَانَت أَحْكَام الْمُلُوك من أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل لَا تمْضِي عَلَيْهِم سِيمَا مَعَ مَا حازوه من شرف الخؤلة للسُّلْطَان الْمولى عبد الله الَّذِي هُوَ أكبرهم قدرا وأعظمهم صيتًا وَكَانَ شَأْنه مَعَهم أَن يستكثر بهم تَارَة وَعَلَيْهِم أُخْرَى والفتن فِيمَا بَين ذَلِك قَائِمَة حَسْبَمَا مر شرح ذَلِك مُسْتَوفى
فَلَمَّا كَانَت أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهلك مُحَمَّد واعزيز كَبِير البربر افْتَرَقت آيت أدراسن وجروان وَوَقعت الْحَرْب بَينهم مرَّتَيْنِ أعَان فِيهَا الودايا جروان وألحوا على آيت أدراسن بالنهب وَالْقَتْل حَتَّى أجلوهم من تِلْكَ الْبِلَاد
ثمَّ لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد انحاز إِلَيْهِ آيت أدراسن إِذْ هم شيعَة أَبِيه أَيَّام مُحَمَّد واعزيز فولى عَلَيْهِم ولد مُحَمَّد واعزيز وأنزلهم بأحواز مكناسة إِذْ كَانَ عَالما بِمَا ناله من جروان والودايا وتظاهرهم عَلَيْهِم واشتغالهم مَعَ ذَلِك بإفساد السابلة وَقبض الخفارات عَلَيْهَا وَكَانَ رئيسهم لذَلِك الْعَهْد رجلا يُقَال لَهُ جبور لصا مبيرا فآخى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بَين آيت أدراسن وآيت يمور وحالف بَينهم وَأوصى عَامله على مكناسة(3/13)
بهم وَتقدم إِلَى جروان بالكف عَن إذابتهم فَلم يرجِعوا وَلم يقلعوا بل تَمَادَوْا على حَرْب آيت أدراسن وظاهرهم الودايا على عَادَتهم وَأَرَادُوا أَن يَسِيرُوا فيهم بالسيرة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك يتم لَهُم مَعَ ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وهيهات
(إِذا رَأَيْت نيوب اللَّيْث بارزة ... فَلَا تَظنن أَن اللَّيْث مبتسم)
وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان أَمر قَائِد العبيد وقائد آيت يمور أَن يشدوا عضد آيت أدراسن وينهضوا لنصرتهم على أعدائهم جروان حَيْثُ انتصرت لَهُم الودايا فهاجت الْحَرْب وكشرت عَن أنيابها وشمرت عَن سَاقهَا فبرز الودايا بجموعهم ونزلوا بوادي فاس فِي أول يَوْم من رَمَضَان وَأَقَامُوا هُنَالك مفطرين منتهكين لحُرْمَة الصّيام بسفرهم الْحَرَام ثمَّ اجْتَمعُوا هم وجروان وَسَارُوا إِلَى جِهَة مكناسة وَأَقْبل آيت أدراسن نحوهم بِمن لافهم من العبيد وآيت يمور فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي ويسلن فَوَقَعت الْحَرْب فانتصر آيت أدراسن عَلَيْهِم وهزموهم وانتهبوا محلّة جروان ومحلة الودايا وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وحزوا رُؤُوس أعيانهم فعلقوها على الْبَاب الْجَدِيد من مكناسة وَرجع الودايا إِلَى فاس مفلولين لم يتَقَدَّم لَهُم مثلهَا
وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بالسلطان اغتاظ على الودايا بِسَبَب افتياتهم عَلَيْهِ وانتهاكهم حُرْمَة جواره فعزم على الْمَكْر بهم وأسرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَاسْتمرّ مُقيما بمراكش إِلَى أَن دخلت سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَألف
فَخرج من مراكش قَاصِدا مكناسة ومضمرا الْإِيقَاع بالودايا وأحس الودايا بذلك مِنْهُ فَلَمَّا وصل إِلَى مكناسة بعثوا إِلَيْهِ عجائزهم متشفعات ومعتذرات عَمَّا فرط مِنْهُم فاجتمعن بِهِ أثْنَاء الطَّرِيق وتوسلن إِلَيْهِ بالرحم والقرابة فرق لَهُنَّ وأعطاهن كسى ودراهم وعدن صحبته إِلَى فاس فَنزل بالصفصافة وخيمت بهَا عساكره وَخرج أهل فاس والودايا لملاقاته فألان لَهُم القَوْل وَأظْهر الْبشر وَمن الْغَد أَمر بعمارة المشور بدار الدبيبغ وَقدم(3/14)
أهل فاس طَعَام الضِّيَافَة على الْعَادة فَأمر السُّلْطَان بإدخاله إِلَى دَار الدبيبغ وَلما صلى الْعَصْر خرج على النَّاس بالمشور فَوقف لَهُم وَقدم الْوُفُود هداياهم على الْعَادة وَلما فرغ من ذَلِك كُله أَمر العبيد والودايا بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الدبيبغ لأكل طَعَام الضِّيَافَة وَكَانَ قد أعد بهَا ألفا من المسخرين للقبض على أَعْيَان الودايا أفردهم فِي نَاحيَة فَلَمَّا دخلُوا وغلقت الْأَبْوَاب وَثبُوا عَلَيْهِم وجردوهم من السِّلَاح وكتفوهم وألقوهم على الأَرْض
وَلما طعم الْجَيْش وَسَائِر النَّاس أَمر السُّلْطَان الْخَيل بالركوب وَشن الغارات على حلَّة الودايا والمغافرة بلمطة فركبت الْخُيُول وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم وَسَار السُّلْطَان فِي موكبه خَلفهم وَلما شَرق شارق فاسا الْجَدِيد رَمَاه الودايا من أبراجه بالكور فَلم تغن شَيْئا وَتقدم السُّلْطَان حَتَّى وقف بالموضع الْمَعْرُوف بدار الرخَاء فَلم يكن إِلَّا هنيئة حَتَّى أَقبلت العساكر بِالسَّبْيِ والأثاث والخيام وانتسفوا الْحلَّة نسفا وَلما جن اللَّيْل خرج من كَانَ بَقِي من أعيانهم بفاس الْجَدِيد وَتَفَرَّقُوا شذر مذر فَذهب بَعضهم إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الشاوي وَبَعْضهمْ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ اليوسي وَبَعْضهمْ إِلَى ضريح سَيِّدي أبي سرغين بصفرو وَغير ذَلِك وَبَقِي الضُّعَفَاء على الأسوار يطْلبُونَ الْأمان فعطفته عَلَيْهِم الرَّحِم ورق لَهُم فَأَمنَهُمْ وأخرجهم إِلَى فاس الْقَدِيم وأدال مِنْهُم بفاس الْجَدِيد بِأَلف كانون من العبيد فنزلوه وعمروه واقفر من الودايا بعد أَن كَانُوا أَهله مُدَّة طَوِيلَة كَمَا علمت
ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بأَرْبعَة من مساجين الودايا فسرحوا أحدهم الْقَائِد قدور بن الْخضر الشهير الذّكر وَأمرهمْ أَن يقفوا على إخْوَانهمْ المسجونين حَتَّى يعينوا أهل الْفساد من غَيرهم ويأتوه بزمامهم ويتحروا الصدْق فِي ذَلِك فعينوا لَهُ خمسين من عتاتهم أهل زيغ وَفَسَاد فَأمر بِأَن تضرب على أَرجُلهم الكبول ويقرن كل اثْنَيْنِ مِنْهُم فِي سلسلة ثمَّ بعث مِنْهُم إِلَى مراكش اثْنَان على الْجمل فسجنوا بهَا وطهرت الأَرْض من شيطنتهم ثمَّ(3/15)
أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله الْقَائِد قدور بن الْخضر أَن يسرح البَاقِينَ من إخوانه وَيضم إِلَيْهِم من الودايا والمغافرة تَكْمِلَة ألف ويشرد من عداهم إِلَى قبائلهم وحللهم ثمَّ عين السُّلْطَان رَحمَه الله لأولئك الْألف إصطبل مكناسة ينزلون بِهِ وَيكون قَصَبَة لَهُم فحملوا أَوْلَادهم إِلَى مكناسة واستوطنوها مَعَ العبيد غير أَنهم قد انفردوا بالإصطبل كَمَا قُلْنَا وَولى عَلَيْهِم السُّلْطَان الْقَائِد قدور بن الْخضر وَكَانَ أَصْغَرهم سنا وأكملهم عقلا وأصدقهم خدمَة وَأمره بتأديبهم وإجراء الْأَحْكَام عَلَيْهِم حَتَّى رئموا ملكة الدولة وَسَكنُوا تَحت تصريفها وخضعوا لأمرها ونهبها وَأخذ السُّلْطَان فِي دفع الْخَيل وَالسِّلَاح والكسى لَهُم شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن أركبهم كلهم فصلحت أَحْوَالهم ونمت فروعهم واستمروا بمكناسة إِلَى أَن ردهم إِلَى فاس الْجَدِيد الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد لأوّل ولَايَته كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَألف بَاعَ السُّلْطَان أمكاس فاس لعاملها الْحَاج مُحَمَّد الصفار بِاثْنَيْ عشر ألف مِثْقَال فِي السّنة ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش فاحتل بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
مَجِيء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الغرب مرّة أُخْرَى وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من مراكش يُرِيد بِلَاد الغرب وعرج فِي طَرِيقه على جملَة من الْقَبَائِل الَّذين كَانُوا مشتغلين بِالْفَسَادِ فأوقع بهم وشرد بهم من خَلفهم وَذَلِكَ أَنه وصل إِلَى بِلَاد الشاوية فنهبهم وانتسف أَمْوَالهم وقتلهم وَقبض على عدد كثير مِنْهُم بَعثهمْ فِي السلَاسِل إِلَى مراكش ثمَّ عدل إِلَى جِهَة تادلا فَمر على برابرة شقيرين من آيت ومالو فنهب أَمْوَالهم وَقتل من ظفر بِهِ مِنْهُم ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد الغرب عَازِمًا على الْإِيقَاع بعرب الحياينة لإفسادهم(3/16)
وتمردهم فابتدأ أَولا بِنَهْب آيت سكاتو وثنى ببني سادان وَثلث بالحياينة فَفرُّوا إِلَى جبال غياثة وتحصنوا بهَا فَترك الجيوش ببلادهم تَأْكُل زُرُوعهمْ وَتقدم هُوَ إِلَى تازا ثمَّ اقتحم على الحياينة جبال غياثة فأبادهم قتلا وتشريدا والعساكر ببلادهم تنتسف الزروع وَتحرق العمائر وتستخرج الدفائن إِلَى أَن تركتهَا أنقى من الرَّاحَة وَعَاد إِلَى مكناسة
وَفِي مقَامه بهَا قبض على الشَّيْخ مَحْمُود الشنكيطي المتصوف النابغ بفاس كَانَ قد قدم من بِلَاده وَنزل بمستودع الْقرَوِيين وَأظْهر التنسك فَصَارَ يجْتَمع عَلَيْهِ الْأَعْيَان والتجار من أهل فاس ويعتقدونه قَالَ فِي الْبُسْتَان فَلم يقْتَصر على مَا هُوَ شَأْنه من إقبال الْخلق عَلَيْهِ بل صَار يتَكَلَّم فِي الدولة ويكاتب البربر وَيَزْعُم أَن سُلْطَان الْوَقْت جَائِر وَلم يُوَافق عَلَيْهِ من الْأَوْلِيَاء أحد فنما ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى مراكش فسجن بهَا ثمَّ امتحن إِلَى أَن مَاتَ وَلم تبكه أَرض وَلَا سَمَاء
وَقَالَ أكنسوس إِنَّه كَانَ يَقُول إِن السُّلْطَان يَمُوت إِلَى شهر فَفَشَا ذَلِك فِي الْعَامَّة وتسابقوا إِلَى شِرَاء الفحم والحطب وادخار الأقوات وحصلت فتْنَة بفاس فأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَكتب إِلَى عَامل فاس بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وتوجيهه إِلَى مراكش ثمَّ أَمر السُّلْطَان أَيْضا وَهُوَ بمكناسة بِالْقَبْضِ على الْأمين الْحَاج الْخياط عديل وَإِخْوَته فسجنوا فِي مَال كَانَ عَلَيْهِم بعضه لَهُ وَبَعضه لوالده من قبله وَفِي تَمام السّنة أَمر بتسريحهم وَبعث الْحَاج الْخياط مِنْهُم وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي سفيرين عَنهُ إِلَى السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد العثماني صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وفيهَا أَيْضا اسْتخْلف السُّلْطَان رَحمَه الله ابْن عَمه الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر بفاس وولاه على قبائل الْجَبَل كلهَا وفيهَا أَمر بتحبيس الْكتب الإسماعيلية الَّتِي كَانَت بدويرة الْكتب بمكناسة وعددها اثْنَا عشر ألف مُجَلد وَزِيَادَة فحبسها على مَسَاجِد الْمغرب كُله وَلَا زَالَت خزائنها مشحونة بهَا إِلَى الْآن مَكْتُوبًا عَلَيْهَا رسم التحبيس باسم السُّلْطَان(3/17)
الْمَذْكُور ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش وفيهَا أَيْضا تولى الْحَاج مُحَمَّد الصفار مكس فاس بِاثْنَيْنِ وَعشْرين ألف مِثْقَال فِي السّنة
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بقبيلة مسفيوة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ هَؤُلَاءِ مسفيوة شيعَة للْمولى المستضيء حَسْبَمَا تقدم وَلما زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد الْحَوْز وشرد أَخَاهُ الْمولى المستضيء عَن مسفيوة وأوقع بهم الْوَقْعَة الَّتِي تقدم الْخَبَر عَنْهَا أذعنوا إِلَى طَاعَته فِي الظَّاهِر وَبقيت الحسائف كامنة فِي صُدُورهمْ فَكَانَت تِلْكَ الطَّاعَة الَّتِي أظهروها لَهُ هدنة على دخن وَاسْتمرّ حَالهم على ذَلِك إِلَى أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فشرى فسادهم وَقَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ هَؤُلَاءِ مسفيوة من الطغيان وَالِاسْتِخْفَاف من الدولة على غَايَة لم تكن لأحد من يَوْم اسْتخْلف سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش وَهُوَ يعالج داءهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق إِلَى أَن قدم مراكش قَدمته هَذِه فوفد عَلَيْهِ بهَا مائَة وَخَمْسُونَ من أعيانهم فانتهز فيهم الفرصة وقتلهم كلهم سوى القَاضِي ثمَّ سرب الْخُيُول للغارة على حلتهم فانتسفوها وأبلغوا فِي النكاية فانخضدت بذلك شوكتهم واستقامت طاعتهم وصلحت أَحْوَالهم فِيمَا بعد ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا جَاءَ السُّلْطَان من مراكش إِلَى الغرب وَنهب فِي طَرِيقه آيت سيبر من زمور الثَّلج وبددهم وَلما وصل إِلَى مكناسة أَمر الْقَبَائِل بِدفع الزكوات والأعشار فَكَانَت الحياينة وشراقة وَسَائِر الحوزية يدْفَعُونَ واجبهم بهري فاس وَكَانَ أهل الغرب وَبَنُو حسن والبربر يدْفَعُونَ بهري مكناسة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى غَزْو مرموشة فَهَزَمَهُمْ وَنهب أَمْوَالهم وَاسْتولى على معاقلهم وَقتل مِنْهُم عددا وافرا وَذَلِكَ بعد أَن انتصروا على عَسْكَر السُّلْطَان أَولا وظهروا عَلَيْهِ فَتقدم إِلَيْهِم رَحمَه الله بِنَفسِهِ وعبيده(3/18)
المسخرين فأوقع بهم وشرهم ثمَّ صَار إِلَى تازا فَأصْلح شؤونها وثقف أطرافها وَعَاد سالما مظفرا
وَفِي هَذِه السّنة توفّي قَائِد القواد الَّذِي كَانَ من السُّلْطَان بِمَنْزِلَة الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حدو الدكالي الَّذِي كَانَ ولاه على دكالة لأوّل ولَايَته ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ تامسنا وتادلا مَكَان اليوزراري الجابري عَمُود الدولة المحمدية رَحمَه الله وَلما توفّي ولى السُّلْطَان مَكَانَهُ ابْن عَمه الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا أَمر السُّلْطَان بِبِنَاء قبَّة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم بفاس وفيهَا ثار رجل اسْمه أَحْمد الْخضر بصحراء فجيج فَكَانَ يزْعم أَنه الْمولى عبد الْملك ثمَّ صَار يزْعم أَنه داعيته وَفتن النَّاس بِتِلْكَ الْجِهَات وَجَرت على يَدَيْهِ حروب وخطوب فَبعث السُّلْطَان إِلَى عرب تِلْكَ الْبِلَاد فَقَتَلُوهُ وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ بمكناسة وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مَرِيضا فعافاه الله وسافر إِلَى مراكش
وَلما اجتاز برباط الْفَتْح بعث مِنْهُ الرئيس الْحَاج التهامي مدور الرباطي باشدورا إِلَى بِلَاد السويد ليَأْتِيه بِإِقَامَة المراكب والبارود وَبعث أَيْضا الرئيس أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ المستيري الرباطي باشدورا إِلَى بِلَاد النجليز ليصلح بهَا قرصانه وَيجْعَل لَهُ إِقَامَة جَدِيدَة فَقَدمهَا وجدد قرصانه واستصحب مَعَه إِقَامَة مركبين ومدافع نحاسية وَغير ذَلِك وَعَاد لتَمام السّنة
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت وَلِيمَة عرس ولد السُّلْطَان الْمولى على بن مُحَمَّد بمراكش على ابْنة عَمه الْمولى أَحْمد بن عبد الله وعرس ابْن أَخِيه سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد على ابْنة السُّلْطَان وَكَانَت وَلِيمَة عَظِيمَة حضرها عَامَّة أهل الْمغرب بهداياهم وأبهاتم وشاراتهم واستقامت الْأُمُور للسُّلْطَان رَحمَه الله(3/19)
بِنَاء مَدِينَة الصويرة حرسها الله
لما فرغ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من وَلِيمَة عرس أَوْلَاده سَار إِلَى نَاحيَة الصويرة بِقصد بنائها وعمارتها فَوقف على اختطاطها وتأسيسها وَترك البنائين والعملة بهَا وَأمر عماله وقواده بِبِنَاء دُورهمْ بهَا وَعَاد إِلَى مراكش
وَقَالَ الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمهْدي الغزال فِي رحلته مَا ملخصه إِن السَّبَب فِي بِنَاء مَدِينَة الصويرة هُوَ أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ لَهُ ولوع بِالْجِهَادِ فِي الْبَحْر وَاتخذ لذَلِك قراصين حربية تكون فِي غَالب الْأَوْقَات بمرسى العدوتين ومرسى العرائش وَكَانَ سفرها فِي الْبَحْر مَقْصُورا على شَهْرَيْن فِي السّنة زمَان الشتَاء لِأَن المراسي مُتَّصِلَة بالأودية وَفِي غير إبان الشتَاء يقل المَاء ويعلو الرمل بأفواه المراسي فَيمْنَع من اجتياز القراصين بهَا ويتعذر السّفر ففكر السُّلْطَان رَحمَه الله فِي حِيلَة يَتَأَتَّى بهَا سفر قراصينه فِي سَائِر أَيَّام السّنة فَبنى ثغر الصويرة واعتنى بِهِ لِسَلَامَةِ مرساه من الآفة الْمَذْكُور ة
وَذكر غير الغزال أَن الْبَاعِث للسُّلْطَان الْمَذْكُور على بِنَاء الصويرة هُوَ أَن حصن آكادير كَانَت تتداولة الثوار من أهل السوس مثل الطَّالِب صَالح وَغَيره ويسرحون وسق السّلع مِنْهُ افتياتا ويستبدون بأرباحها فَرَأى أَن حسم تِلْكَ الْمَادَّة لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بإحداث مرسى آخر أقرب إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وَأدْخل فِي وسط المملكة من آكادير حَتَّى تتعطل على أُولَئِكَ الثوار منفعَته فَلَا يتشوف أحد إِلَيْهِ فاختط مَدِينَة الصويرة وأتقن وَضعهَا وتأنق فِي بنائها وشحن الجزيرتين الدائرتين بمرساها كبرى وصغرى بالمدافع وشيد برجا على صَخْرَة دَاخل الْبَحْر وشحنه كَذَلِك فَصَارَ القاصد للمرسى لَا يدخلهَا إِلَّا تَحت رمي المدافع من البرج والجزيرة مَعًا
وَلما تمّ أمرهَا جلب إِلَيْهَا تجار النَّصَارَى بِقصد التِّجَارَة بهَا وَأسْقط عَنْهُم(3/20)
وظيف الأعشار ترغيبا لَهُم فِيهَا فأهرعوا إِلَيْهَا من كل أَوب وانحدروا إِلَى مرْسَاها من كل صوب فعمرت فِي الْحِين وَاسْتمرّ الترخيص لَهُم فِيهَا مُدَّة من السنين ثمَّ رد أمرهَا إِلَى مَا عَلَيْهِ حَال المراسي من أَدَاء الصاكة وَغَيرهَا من اللوازم وَهِي الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى أعلم
هجوم الفرنسيس على ثغر سلا والعرائش ورجوعه عَنْهُمَا بالخيبة
قد قدمنَا مَا كَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الولوع بِأَمْر الْبَحْر وَالْجهَاد فِيهِ فَلم تزل قراصينه تَتَرَدَّد فِي أكناف الْبَحْر وتجوس خلال ثغور الْكفْر فَتقْتل وتأسر وتغنم وَتَسْبِي إِلَى أَن ضَاقَ بهم رحب الفضاء وَكَاد يستأصل جمهورهم حكم الْقَضَاء فَمنهمْ من فزع إِلَى طلب المهادنة وَحسن الْجوَار وَمِنْهُم من كَذبته نَفسه فتطاول إِلَى الْأَخْذ بالثأر
وَمن هَذَا الْقسم الثَّانِي جنس الفرنسيس فَإِن قراصين السُّلْطَان رَحمَه الله كَانَت قد غنمت مِنْهُ مركبا ساقته إِلَى مرسى العرائش وغنمت مِنْهُ غير ذَلِك فِي مَرَّات مُتعَدِّدَة فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى أَن هجم على ثغر سلا أَوَاخِر سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف قَالَ الغزال فِي رحلته رمى الفرنسيس بمرسى سلا من الأنفاض والبنب مَا ظن أَنه يحصل بِهِ على طائل فَأُجِيب مِنْهَا بِضعْف ذَلِك فَلم يلبث إلاوأجفانه هاربة تقفو أواخرها الْأَوَائِل وفر هَارِبا مهزوما سَاقِط الألوية مذموما اه وَرَأَيْت بِخَط الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي رَحمَه الله مَا صورته هجم الفرنسيس على مَدِينَة سلا يَوْم الْجُمُعَة الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة متم سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف فأقاموا يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم السبت بِظَاهِر الْبَحْر لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَفِي يَوْم الْأَحَد تقدّمت سفنهم فرموا من البنب مائَة وَسبعا وَسبعين وهدمت الدّور وفر النِّسَاء وَالصبيان خَارج الْبَلَد وَلم يبْق بهَا إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَفِي(3/21)
صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ أرسل الله عَلَيْهِم الرّيح ففرقت مراكبهم وَنَفس الله عَن الْمُسلمين وَفِي يَوْم السبت الْآتِي بعده رجعُوا فرموا مائَة وَعشْرين وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور رموا مائَة ونيفا وَثَلَاثِينَ وَلم يستشهد من الْمُسلمين فِي تِلْكَ الْمدَّة سوى رجل وَاحِد اه قَالَ الغزال ثمَّ إِن الفرنسيس عالج مَا انصدع من أجفانه فِي حَرْب سَار ثمَّ هجم على ثغر العرائش قَالَ السدراتي فَرمى عَلَيْهَا فِيمَا ذكرُوا أَرْبَعَة آلَاف نفض ونيفا وَثَلَاثِينَ نفضا وخربوها وهدموا دورها ومسجدها قَالَ وَذَلِكَ مفتتح سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف وَفِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي من الْمحرم وَقيل التَّاسِع مِنْهُ لَيْلَة عَاشُورَاء اقتحموا المرسى فِي خَمْسَة عشر قاربا مشحونة من الْعَسْكَر بِنَحْوِ الْألف وفيهَا من الشلظاظ والفسيان عدد كثير وتصاعدوا مَعَ مجْرى الْوَادي إِلَى مراكب السُّلْطَان الَّتِي كَانَت هُنَالك فحرقوا سفينة مِنْهَا وَهِي الَّتِي غنمها الْمُسلمُونَ مِنْهُم وعمدوا إِلَى أُخْرَى فكسروها بالمعاول والفؤوس ثمَّ تكاثر عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ وَقَاتلهمْ بَنو جرفط وَأهل السَّاحِل حَتَّى ردوهم عل أَعْقَابهم
وَلما انقلبوا رَاجِعين إِلَى مراكبهم وجدوا عرب الغرب مَعَ قائدهم حبيب الْمَالِكِي قد أخذُوا بمخنقهم على فَم المرسى وانبثوا لَهُم على الْحجر الَّذِي هُنَالك وَبعث الله ريحًا من جِهَة الْبَحْر عظمت بهَا أمواجه ومنعتهم من الْخُرُوج فَكَانُوا إِذا توسطوا الْوَادي لِيخْرجُوا ردتهم الرّيح وَإِذا انحازوا إِلَى أحد الشطين رماهم الْمُسلمُونَ بالرصاص حَتَّى استأصلوا جمهورهم ثمَّ سبحوا إِلَيْهِم حَتَّى خالطوهم فِي قواربهم فَاسْتَاقُوا أحد عشر قاربا وَنَجَا أَرْبَعَة وتقسمهم الْمُسلمُونَ بَين قَتِيل وأسير وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَعْرَاب والبادية أَيدي سبا ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِجَمْعِهِمْ وَأعْطى كل من أَتَى بأسير مِنْهُم مَالا وَكِسْوَة فَاجْتمع مِنْهُم نَحْو الْخمسين فبقوا فِي الْأسر إِلَى أَن توَسط فِي فدائهم طاغية الإصبنيول ففدوا بِمَال لَهُ بَال(3/22)
وَأما رُؤُوس الْقَتْلَى فقد أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بتوجيه نَحْو الثَّمَانِينَ مِنْهَا إِلَى سلا فعلقت بالصقالة الْقَرِيبَة من ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَبعد هَذَا وَقع الصُّلْح مَعَ جنس الفرنسيس وانعقدت الشُّرُوط مَعَه كَمَا سَيَأْتِي
ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله قدم العرائش عقب الْوَقْعَة وَأقَام بهَا شهرا واعتنى بشأنها فَبنى بهَا الصقائل والأبراج حَتَّى صَارَت من أعمر الثغور وبيد الله تصاريف الْأُمُور
مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لطاغية الإصبنيول وَمَا اتّفق فِي ذَلِك
كَانَ السَّبَب الَّذِي أوجب مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لطاغية الإصبنيول أَن جمَاعَة من أسرى الْمُسلمين الَّذين كَانُوا بأصبانيا كتبُوا مكاتيب عديدة إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله يعلمونه بِمَا هم فِيهِ من ضيق الْأسر وَثقل الإصر وَمَا نالهم من الْكفَّار من الامتهان وَالصغَار وَكَانَ فيهم من ينتمي للْعلم وَمن يقْرَأ الْقُرْآن وَغير ذَلِك فَلَمَّا وصلت كتبهمْ إِلَى السُّلْطَان وقرئت عَلَيْهِ تأثر لذَلِك وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا وَأمر فِي الْحسن بالكتب إِلَى طاغية الإصبنيول يَقُول لَهُ إِنَّه لَا يسعنا فِي ديننَا إهمال الْأُسَارَى وتركهم فِي قيد الْأسر وَلَا حجَّة فِي التغافل عَنْهُم لمن ولاه الله الْأَمر وَفِيمَا نظن أَنه لَا يَسَعكُمْ ذَلِك فِي دينكُمْ أَيْضا وأوصاه أَن يعتني بخواص الْمُسلمين الَّذين هُنَالك من أهل الْعلم وَحَملَة الْقُرْآن وَأَن لَا يسْلك بهم مَسْلَك غَيرهم من عَامَّة الْأُسَارَى قَالَ مثل مَا نَفْعل نَحن بأساركم من الفرايلية فَإنَّا لَا نكلفهم بِخِدْمَة وَلَا نخفر لَهُم ذمَّة
فَلَمَّا وصل هَذَا الْكتاب إِلَى الطاغية أعظمه وَكَاد يطير سُرُورًا بِهِ وللحين أَمر بِإِطْلَاق الْأُسَارَى الَّذين بِحَضْرَتِهِ وَبعث بهم إِلَى السُّلْطَان ووعده أَن يلْحق بهم غَيرهم من الَّذين بقوا بِسَائِر إيالته فَوَقع ذَلِك من السُّلْطَان رَحمَه(3/23)
الله الْموقع وَعظم فِي عَيْنَيْهِ وَكَانَ كريم الطَّبْع يحب الْفَخر ويعنى بِهِ فَأطلق لطاغية الإصبنيول جَمِيع من كَانَ تَحت يَده من أُسَارَى جنسه وعززهم بأسرى غير جنسه أَيْضا لتَكون للطاغية بذلك مزية على سَائِر الْأَجْنَاس وَبعث مَعَهم بهدية فِيهَا عدد من الْأسود على يَد قَائِد سبتة فاتصل ذَلِك كُله بالطاغية فطارت نَفسه شعاعا من شدَّة الْفَرح وشمر عَن ساعد الْجد وهيأ هَدِيَّة استوفى فِيهَا غَايَة مقدوره وبعثها مَعَ كبراء القسيسين والفسيان وأصحبهم كتابا أفْصح بِهِ عَمَّا بَين جَنْبَيْهِ للسُّلْطَان من الْمحبَّة وَالِاعْتِرَاف بِالْفَضْلِ والْمنَّة وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتفضل عَلَيْهِ ببعث أحد أَرْبَاب دولته وكبرائها لتتشرف أرضه بمقدمه وتشتهر هَذِه المواصلة والملاحظة عِنْد أَجنَاس الفرنج فيعظم بذلك قدره ويكمل فخره فأسعفه السُّلْطَان رَحمَه الله بذلك وَبعث إِلَيْهِ خاليه الرئيسين أَبَا يعلى عمَارَة بن مُوسَى وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر وَكِلَاهُمَا من الودايا ومعهما كَاتبه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الغزال بَعثه كَاتبا لَهما لَا غير فَلَمَّا وصلوا إِلَى جبل طَارق كتب الغزال إِلَى بعض وزراء السُّلْطَان يَقُول لَهُ إِنِّي أُرِيد مِنْك أَن تعرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن هذَيْن الرجلَيْن لَا معرفَة لَهما بقوانين النَّصَارَى وَإِنِّي قد خفت عَاقِبَة الْأَمر فِيمَا ينشأ عَن رأيهما فَلَا يؤاخذني أَمِير الْمُؤمنِينَ بِشَيْء من ذَلِك إِن كَانَ فَأخْبر الْوَزير السُّلْطَان فَقَالَ صدق وَقد نَدِمت على تقديمهما عَلَيْهِ وَمَا راعيت إِلَّا منزلتهما والآن فَاكْتُبْ إِلَى الطاغية وَقل لَهُ إِنِّي قد بعثت إِلَيْك بكاتبي أَحْمد الْغَزالِيّ باشدورا وَابعث بِالْكتاب إِلَى الغزال فَإِذا بلغه فليستمسك بِهِ وليحز الْكتاب الأول الَّذِي عِنْدهمَا ويلي الْأَمر دونهمَا فَلَمَّا بلغه كتاب السُّلْطَان امتثل وَقضى الْغَرَض على الْوَجْه الْمَطْلُوب وَأبقى ذكرا جميلا رَحمَه الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف ألزم السُّلْطَان أهل فاس ببعث الإدالة مِنْهُم إِلَى الصويرة وَهِي خَمْسُونَ راميا بقائدها وفقيه مدرس ومؤقت ومؤذن وشاهدان وَأسْقط عَنْهُم الْبَعْث الَّذِي كَانُوا يفرضونه للمملوك(3/24)
قبله وَهِي خَمْسمِائَة رام فعينوا الإدالة الْمَذْكُورَة بعد الَّتِي واللتيا وبعثوهم إِلَيْهِ بمراكش فبعثهم السُّلْطَان إِلَى الصويرة ورتب لَهُم الْمُؤَن والمرافق فَكَانُوا يقومُونَ على المرسى وينتفعون بمستفادها فحسنت حَالهم واغتبطوا بهَا وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة بعث أَيْضا السُّلْطَان الرئيس أَبَا الْحسن عليا مارسيل الرباطي إِلَى بِلَاد الفرنسيس لتقرير الصُّلْح مَعَهم وَقبض مَال أُسَارَى العرائش وَشِرَاء الْإِقَامَة مِنْهُ فبذلوا المَال وَالْإِقَامَة مَعًا طائعين وفيهَا بعث السُّلْطَان الفقيهين السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي باشدورين إِلَى صَاحب الاسطنبول السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبهما هَدِيَّة نفيسة فِيهَا خيل عتاق بسروج مثقلة بِالذَّهَب مرصعة بالجوهر والياقوت ونفيس الْأَحْجَار وفيهَا أسياف محلاة بِالذَّهَب ومرصعة بالياقوت الْمُخْتَلف الألوان وفيهَا حلى من عمل الْمغرب فَقبل ذَلِك السُّلْطَان العثماني وابتهج بِهِ ثمَّ كافأ عَلَيْهِ بمركب موسوق من آلَة الْحَرْب مدافع ومهاريس وبارود وَإِقَامَة كَثِيرَة للمراكب القرصانية من كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ
وَفِي هَذِه السّنة خرج السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الرِّيف فَجعل طَرِيقه على تطاوين ثمَّ على بِلَاد غمارة وانْتهى إِلَى جارت وبلاد الرِّيف فمهد تِلْكَ النواحي كلهَا وَرجع على طَرِيق تازا وفيهَا قدم الْمولى عَليّ ابْن السُّلْطَان خَليفَة عَن أَبِيه فَنزل فاسا الْجَدِيد وأضاف إِلَيْهِ قبائل الْجَبَل والريف وفيهَا قدمت ربة الدَّار الْعَالِيَة المولاة فَاطِمَة بنت سُلَيْمَان من مراكش إِلَى فاس بِقصد الزِّيَارَة فركبت ذَات لَيْلَة إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم وضريح الشَّيْخ أبي عبد الله التاودي فطافت عَلَيْهِم وتبركت بتربهم وذبحت أَكثر من مائَة ثَوْر وأخرجت صدقَات كَثِيرَة ثمَّ خرجت بعد ذَلِك إِلَى مَدِينَة صفرو فزارت ضريح سَيِّدي أبي سرغين وضريح سَيِّدي أبي عَليّ وذبحت وتصدقت(3/25)
وعادت إِلَى فاس ثمَّ ذهبت إِلَى زِيَارَة الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ فصحبها فِي ركابهَا أَعْيَان فاس وأشرافها وعلماؤها وَلما كَانَت بأثناء الطَّرِيق اعترضها قواد الغرب بهداياهم وبشاراتهم وزيهم ووافاها قواد الثغور بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام فِي مواكبهم وخيلهم ورجلهم وَذَلِكَ عَن أَمر من السُّلْطَان رَحمَه الله
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا على العرائش فَحَضَرت فِي جُمْلَتهمْ وَلما قَضَت أرب الزِّيَارَة فرقت الْأَمْوَال على الْأَشْرَاف من أهل جبل الْعلم وغمرت النَّاس بالعطايا ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْقصر وَمِنْه سَارَتْ إِلَى العرائش فأقامت بهَا ثَلَاثَة أَيَّام وانفض قواد الثغور كل إِلَى مَحَله وسافرت المولاة الْمَذْكُورَة إِلَى مراكش فِي ألف فَارس من العبيد كَانُوا قد قدمُوا مَعهَا من مراكش عَلَيْهِم الْقَائِد مِصْبَاح وَكَانَ فعلهَا هَذَا من الْآثَار الْعَظِيمَة والمناقب الفخيمة رَحمهَا الله
اعتناء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بثغر العرائش وشحنه بِآلَة الْجِهَاد
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله قدم العرائش عقب وقْعَة الفرنسيس فَوقف عَلَيْهَا واعتنى بأمرها وَبنى بهَا الصقائل والأبراج وصونها ثمَّ كَانَ قدوم ابْنه الْمولى يزِيد فِي هَذَا التَّارِيخ إِلَى فاس وَفِي ركابه جمَاعَة من رُؤَسَاء الْبَحْر والطبجية أهل الإجادة فِي الرَّمْي وَكَانَ قدومه بِأَمْر السُّلْطَان لجر المدافع والمهاريس النحاسية الَّتِي كَانَت بفاس الْجَدِيد ومكناسة ونقلها إِلَى ثغر العرائش فَفَعَلُوا وألزم السُّلْطَان الْقَبَائِل الَّذين بِالطَّرِيقِ أَن يتولوا جرها فَكَانَت كل قَبيلَة تجرها إِلَى الَّتِي تَلِيهَا إِلَى أَن وصلوا إِلَى مشرع مسيعيدة من نهر سبو
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فورد علينا أَمر السُّلْطَان بالعرائش أَن نخرج إِلَى لقائهم فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يَعْنِي حوز العرائش قَالَ فوافيناهم على(3/26)
وَادي سبو فَتَوَلّى أهل الغرب جر تِلْكَ المدافع والمهاريس إِلَى أَن أوصلوها إِلَى وَادي الدردار قرب تاجناوت ثمَّ جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا مهرجانا عَظِيما أخرجت فِيهِ المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت الْقَبَائِل على الْخُيُول ولعبوا بالبارود إِلَى الْمسَاء ثمَّ رَجَعَ الْمولى يزِيد وَمن مَعَه من الرؤساء والبحرية والطبجية إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بمكناسة وَقد تمّ الْغَرَض الْمَقْصُود
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت يمور أهل تادلا ونقلهم إِلَى سلفات وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما انْقَضى أَمر العرائش تفرغ السُّلْطَان لقَضَاء مَا كَانَ قد بَقِي عَلَيْهِ من أَمر الرّعية فَخرج من مكناسة إِلَى تادلا مضمرا الْإِيقَاع بآيت يمور لما كَانَ يبلغهُ عَنْهُم من الْفساد فِي الأَرْض فَلم بلغَهَا مكر بهم بِأَن أرسل إِلَيْهِم يستنفرهم خيلا ورجلا وأراهم أَنه يُرِيد أَن يذهب بهم فِي سَرِيَّة هيأها لآيت ومالو فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أَمر بِعرْض العساكر كلهَا ووقف رَحمَه الله بِإِزَاءِ القصبة ثمَّ عرضت عَلَيْهِ عَسَاكِر الْجند ثمَّ الْقَبَائِل بَعْضهَا إِثْر بعض وَكلما مرت عَلَيْهِ قَبيلَة أوقفها فِي نَاحيَة عينهَا لَهَا وَكلما مر بِهِ جَيش أوقفهُ كَذَلِك حَتَّى غصت الأَرْض بِالْخَيْلِ وَالرجل واستدارت من كل الْجِهَات وَلم يبْق إِلَّا آيت يمور فجاؤوا فِي آخر الْعرض وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ أَمر أهل رحاه أَن يرموهم بالرصاص على زناد وَاحِد فأطلقوا عَلَيْهِم شؤبوبا مِنْهُ تساقط لَهُ عدد كثير وَكَانَ قد تقدم إِلَى العساكر المستديرة بهم أَن ينفحوهم بالرصاص كلما قصدُوا جِهَة من جهاتهم فَكَانُوا كلما قصدُوا نَاحيَة طَالِبين الْخَلَاص مِنْهَا رماهم أَهلهَا فتتساقط مِنْهُم الْعصبَة الْكَبِيرَة إِلَى أَن خلصوا من نَاحيَة أهل دكالة بعد أَن هلك مِنْهُم مَا ينيف على الثَّمَانمِائَة فَأمر السُّلْطَان برؤوسهم فجزت وَبعث بهَا إِلَى فاس فعلقت على الأسوار وَأمر العساكر بِنَهْب حللهم فانتسفوها وسيقت مَوَاشِيهمْ وخيامهم وأثاثهم وفر من أفلت مِنْهُم إِلَى جبل(3/27)
آيت يسري ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مراكش فوفدوا عَلَيْهِ بعد أَيَّام خاضعين تَائِبين فعفى عَنْهُم ونقلهم إِلَى جبل سلفات من أحواز فاس فأوطنوه حينا من الدَّهْر
إغراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت أدراسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَ من السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لآيت أدراسن من الْإِحْسَان مَا كَانَ حَتَّى أوقع بالودايا لأجلهم مَعَ أَنهم صميم الْجند وركن الدولة وَأطَال لَهُم الرسن فِي ذَلِك بِمَا أطغاهم وَحَملهمْ على الدَّالَّة عَلَيْهِ صدرت مِنْهُم هَنَات اعتدها السُّلْطَان عَلَيْهِم فَانْتدبَ لتأديبهم بِأَن كتب وَهُوَ بمراكش إِلَى الودايا لقتالهم وَإِلَى العبيد وجروان يَأْمُرهُم أَن يجتمعوا على حربهم والإيقاع بهم فَكَانَ ذَلِك عِنْد الودايا من أكبر متمناهم فَاجْتمعُوا مَعَ من ذكر ونهدوا إِلَيْهِم فكبسوهم فِي دِيَارهمْ وَجَرت بَينهم حَرْب فظيعة انهزم فِي آخرهَا آيت أدراسن ونهبت حللهم وَقتل مِنْهُم عدد كثير وَأسر مثل ذَلِك ووجهوا فِي السلَاسِل إِلَى السُّلْطَان بمراكش
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان بِجمع جند اليكشارية من قبائل الْحَوْز ووكل بِجَمْعِهِمْ الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي وَأَن يثبتهم فِي ديوَان الْعَسْكَر وَأَن كل من كَانَ عزبا وَأَرَادَ الدُّخُول فِي الجندية فليكتبه فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان الكسي وَالسِّلَاح واستخدمهم مُدَّة ثمَّ كَانَ مآلهم أَن رجعُوا إِلَى إخْوَانهمْ وقبائلهم وَضرب عَلَيْهِم المغرم فِي جُمْلَتهمْ وفيهَا مَاتَ عَامل فاس الْحَاج مُحَمَّد الصفار فولى السُّلْطَان على فاس ابْنه الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الصفار
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة وَقبض على الْقَائِد عبد الصَّادِق بن أَحْمد الريفي صَاحب طنجة وعَلى مائَة من(3/28)
قرَابَته وَأهل بَيته فأودعهم السجْن ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَدَخلَهَا وَنهب دَار عبد الصَّادِق الْمَذْكُور وَنقل إخوانه بأولادهم إِلَى المهدية وَولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الْملك من بَيتهمْ وَلم يتْرك بطنجة من أهل الرِّيف إِلَّا أهل الْمُرُوءَة وَالصَّلَاح وَأنزل مَعَهم ألفا وَخَمْسمِائة من عبيد المهدية بعددهم بِحَيْثُ لَا يطمعون فِي قيام وَلَا يحدثُونَ أنفسهم بثورة وَوَقع بِخَط الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن انْتِقَال أهل الرِّيف إِلَى المهدية كَانَ بعد هَذَا بِنَحْوِ أَربع سِنِين وَالله أعلم
مقتل عبد الْحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بَيته وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا كَانَ بحواضر الْمغرب وبواديه من الِاضْطِرَاب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إِلَى مرتبه الِاسْتِقْلَال وطرحوا طَاعَة السُّلْطَان فِي زَاوِيَة الإهمال فَمنهمْ صَاحب سلا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش كَانَ قد استحوذ على مَدِينَة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بِمَا كَانَ لَهُ من الْعَشِيرَة والعصبية بهَا وَلما اجتاز سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الْقصر أَيَّام وَالِده أغلق عبد الْحق هَذَا أَبْوَاب سلا فِي وَجهه وَلم يحفل بِهِ ذَهَابًا وايابا حَسْبَمَا مر
ثمَّ لما ولى الله السُّلْطَان أَمر الْمُسلمين أعرض عَمَّا أسلفه عبد الْحق من جريرته وأبقاه فِي مدينته على رياسته فاستمر على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ فظا غليظا فَقتل رجل من أَعْيَان سلا قيل كَانَ هَذَا الرجل من قرَابَته وَقيل كَانَ من أَوْلَاد زنيبير فَرفع أولياؤه أَمرهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَحضر عبد الْحق مَعَهم وَثَبت أَن قَتله للرجل كَانَ على وَجه الظُّلم فحرك ذَلِك من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول ليتولوا قَتله بِأَيْدِيهِم فجبنوا عَنهُ لما كَانَ لَهُ فِي قُلُوبهم من الهيبة فَأمر(3/29)
السُّلْطَان الوزعة بقتْله بمرأى مِنْهُم فَقَتَلُوهُ فِيمَا قيل بأيدي الفؤوس ثمَّ بعث السُّلْطَان من احتاط على أَمْوَال عبد الْحق والفنانشة أجمع وَأمر بِبيع أصولهم بعد إِعْمَال الموجبات بِأَن الفنانشة مستغرقوا الذِّمَّة وَأَن جَمِيع مَا بِأَيْدِيهِم اكتسبوه من الغصوبات وَغَيرهَا من وُجُوه الظُّلم وَضرب الأتاوات على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين حَتَّى عِنْد نكاحهم فبيعت أصُول عبد الْحق وعشيرته لبني حسن وَكَانَت تنيف على مائَة أصل من بَين ربع وعقار وَكَانَ ذَلِك سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ثمَّ غربهم السُّلْطَان إِلَى العرائش فسجنوا بهَا مُدَّة وَغرب بَعضهم إِلَى الصويرة ثمَّ عَفا عَنْهُم وقربهم وولاهم رياسة الرماية بالمهراس والمدفع الْمَعْرُوفَة برياسة الطبجية وفرقهم على الثغور فَكَانَ بَعضهم بالعرائش وَبَعْضهمْ بطنجة وَبَعْضهمْ برباط الْفَتْح وَبَعْضهمْ بالصويرة وَأَعْطَاهُمْ الدّور الْمُعْتَبرَة والرباع المغلة ورتب لَهُم الجرايات الْعَظِيمَة حَتَّى بلغُوا من الثروة والعز والجاه مَا لم يبلغهُ أحد فِي دولته رَحمَه الله كَذَا فِي الْبُسْتَان
وَمن القواد الَّذين كَانُوا فِي حكم الاستبداد أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ نكبهم ابْنه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بعد حِين الْقَائِد أَبُو الْحسن الْحَاج عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري كَانَ قَائِد الْمولى المستضيء بعد أَيَّام ولَايَته وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد قبض عَلَيْهِ وأودعه المطبق عدَّة أَعْوَام ثمَّ سرحه وولاه مَدِينَة شفشاون وتوارث الرياسة بنوه من بعده وَلَهُم آثَار بثغر الجديدة مِنْهَا مَسْجِدهَا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ اسْم بانيه إِلَى الْآن وَمن القواد المستبدين قَائِد تامسنا الْمَدْعُو ولد المجاطية وقائد تادلا الرضي الورديغي فعزلهم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَولى على تامسنا وتادلا الْقَائِد مُحَمَّد بن حدو الدكالي الْمُتَقَدّم الذّكر وَمِنْهُم أَبُو عريف قَائِد بني حسن فَعَزله السُّلْطَان وَولى مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد القسطالي وَمِنْهُم الباشا حبيب الْمَالِكِي قَائِد الغرب كَانَ رَأس الْأُمَرَاء أَيَّام أَبِيه فَقبض عَلَيْهِ وأودعه(3/30)
المطبق وَأمر بهدم قصره وَحمل أنقاضه إِلَى العرائش وَنهب مَاله وماشيته وَلما طرح الباشا حبيب بالمطبق منع نَفسه من الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى أَن مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة عياذا بِاللَّه فَهَؤُلَاءِ أَنْيَاب الْقَبَائِل وَأهل العصبية مِنْهُم تتبعهم السُّلْطَان وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن أراح الدولة من ضررهم وَالله أعلم
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين جنس الفرنسيس وَهِي عشرُون شرطا مضمنها ومرجعها إِلَى المهادنة وَالصُّلْح والمخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء مَعَ التوقير والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَإِذا سَافَرت مراكبهم من مراسيهم إِلَى إيالتنا فتصحب مَعهَا الورقة الْمُسَمَّاة بالباصبورط من عِنْد أَمِير الْبَحْر الْمُرَتّب بِكُل مرسى من مراسيهم فِيهَا اسْم الْمركب ورئيسه وَبَيَان مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الوسق وَمن أَيْن جَاءَ وَإِلَى أَيْن يذهب وَعَلِيهِ طَابع أَمِير الْبَحْر وَهُوَ طَابع الْجِنْس وَإِذا سَافَرت مراكبنا من مراسينا إِلَى إيالتهم فتصحب كَذَلِك خطّ يَد القنصل الْمُرَتّب بمرسانا من ذَلِك الْجِنْس باسم الْمركب ورئيسه وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مَخْتُومًا عَلَيْهِ بِطَابع الْجِنْس أَيْضا وَكَانَ الْقيَاس أَن مراكبهم تحمل طابعنا وخطنا ليحصل لَهَا التوقير كَمَا نحمل نَحن طابعهم وخطهم ليحصل لنا التوقير مِنْهُم وَلَكِن لما لم تجر الْعَادة بترتب متأصلنا بمراسيهم اكْتفي بطابعهم من الْجَانِبَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود حَاصِل بذلك وَلَا يلتبس على رُؤَسَاء الْبَحْر طَابع جنس بآخر فَإِذا التقى مركب بمركب وَأخرج كل ورقته عرف من أَي جنس هُوَ وعومل على مُقْتَضى ذَلِك
وُرُود هَدِيَّة السُّلْطَان مصطفى العثماني على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمهمَا الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله خديمه الرئيس عبد الْكَرِيم راغون التطاوني(3/31)
باشدورا إِلَى السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبه هَدِيَّة نفيسة مُكَافَأَة لَهُ على هديته الَّتِي كَانَ أرسلها مَعَ السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي حَسْبَمَا مر
ثمَّ لما دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قدم الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور من عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور وَمَعَهُ هَدِيَّة عَظِيمَة أعظم من الأولى وَهِي مركب موسوق بالمدافع والمهاريس النحاسية وإقامتها وَإِقَامَة المراكب القرصانية من صوار ومخاطيف وقلوع وقمن وحبال وبراميل وَغير ذَلِك من آلَات الْبَحْر وفيهَا ثَلَاثُونَ من مهرَة المعلمين الَّذين لَهُم الْمعرفَة بأفراع المدافع والمهاريس والكور والبنب وبصناعة المراكب القرصاينة وَفِيهِمْ معلم مجيد فِي الرَّمْي بالمهراس إِلَى الْغَايَة فنزلوا بمرسى العرائش
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا بهَا فورد أَمر السُّلْطَان بتوجيه المعلمين إِلَى فاس يُقِيمُونَ بهَا حَتَّى يقدم السُّلْطَان من مراكش إِلَى مكناسة فيجتمعون بِهِ هُنَالك وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة وحضروا عِنْده فاوضهم فِي الْخدمَة وَأَرَادَ أَن يحيي آثَار دَار الصَّنْعَة الَّتِي كَانَت بسلا تصنع بهَا المراكب الجهادية على عهد الْمُوَحِّدين وَبني مرين فَقَالُوا نحتاج أَن تبني لنا دَارا على هَيْئَة كَذَا وَمن نعتها كَذَا وَكَذَا ورسموا لَهُ شكلها فِي قرطاس فَرَأى أَن أمرهَا لَا يتم فِي عشر سِنِين وَلَا أَكثر وَلَا يَكْفِي فِي بنائها مَال فَأَعْرض عَن ذَلِك وَبعث معلمي البنب إِلَى تطاوين فَكَانَ أحدهم يفرغ البنبة من قنطارين وَبعث معلمي المراكب إِلَى سلا فأنشؤوا فِيهَا ثَلَاث شكظريات وَبعث معلم الرَّمْي إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَكَانَ يعلم بهَا الطبجية من أهل سلا والرباط وَتخرج على يَدَيْهِ نجباء وَمن ثمَّ توارث أهل العدوتين هَذِه الصِّنَاعَة مُدَّة إِلَى أَن لم يبْق بهَا الْيَوْم إِلَّا الِاسْم ورد أَصْحَاب المدافع والمهاريس إِلَى فاس فأقاموا بهَا إِلَى أَن توفوا هُنَالك رَحِمهم الله(3/32)
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين جنس الدينمرك وَهِي عشرُون شرطا ترجع إِلَى تَمام الصُّلْح والأمن من الْجَانِبَيْنِ أَيْضا وَالْأول مِنْهَا مضمنة خُرُوج أَمر المراسي المغربية من يَد تجار الدينمرك فَلَا يتصرفون فِيهَا بِشَيْء لكَون الكمبانية الَّتِي كَانَت تدفع من المراسي قد تَفَرَّقت بعد الْتِزَام قنصلهم بأَدَاء اثْنَي عشر ألف ريال وَخَمْسمِائة ريال الَّتِي بقيت بِذِمَّة تجارهم من ذَلِك وَلَا تعود المراسي لأيديهم بِحَال وَالْآخر مِنْهَا مضمنة أَن يدْفع طاغية الدينمرك للسُّلْطَان كل سنة خَمْسَة وَعشْرين مدفعا من مدافع الْمَعْدن وزر كورتها من ثَمَانِيَة عشر رطلا إِلَى أَرْبَعَة وَعشْرين وَيدْفَع مَعهَا ثَلَاثِينَ قمنة وَمن اللَّوْح الروبلي ألفي لوحة مختلطة وَمن الريال سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة وَالْكل وَاصل إِلَى الْمحل الَّذِي يُريدهُ السُّلْطَان وَإِن أَرَادَ الطاغية أَن يدْفع بَدَلا عَن جَمِيع ذَلِك خَمْسَة وَعشْرين ألف ريال فَلهُ ذَلِك وَمثل هَذَا انْعَقَد مَعَ جنس السويد أَيْضا إِلَّا أَن قدر الْمَدْفُوع من جَانِبه عشرُون ألف ريال فَقَط فِي كل سنة وَمَعَ أَجنَاس أخر وظائف أخر واستمرت هَذِه السّنة إِلَى أَن انْقَطَعت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله حَسْبَمَا نذْكر ذَلِك فِي مَحَله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف كَانَت فتْنَة الدعي كلخ بمراكش وَهُوَ رجل صعلوك اسْمه عمر كَانَ ينتسب إِلَى الشَّيْخ أبي الْعَزْم سَيِّدي رحال وَكَانَ يظْهر للعامة الكرامات الكاذبة وَتَبعهُ السوَاد الْأَعْظَم من جهلة الْبَادِيَة لِأَنَّهُ وعدهم أَن يفتح لَهُم بَيت المَال ويهيلون مِنْهُ الذَّهَب وَالْفِضَّة هيلا من غير ممانع فأهرع النَّاس إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي عَالم من الأوباش شعارهم هَاتَانِ الكلمتان كلخ شلخ رافعين بهَا أَصْوَاتهم وهم كالسيل المنحدر من عل فَوَقع الْهَرج بِالْمَدِينَةِ وغلقت الْأَسْوَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان وَهُوَ بداره فَأمر الوزعة وَالْعَبِيد(3/33)
فاعترضوهم دون القصبة وقبضوا عَلَيْهِ وَلما صَار فِي أَيْديهم فر من كَانَ مَعَه من الطغام وساقوه إِلَى السُّلْطَان فَقتله وسكنت جعجعته للحين
انْعِقَاد الصهر بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين سُلْطَان مَكَّة الشريف سرُور رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَله رَغْبَة فِي الْخَيْر وَأَهله وَلما كَانَ سُلْطَان مَكَّة الشريف سرُور رَحمَه الله بِالْمحل الَّذِي أكْرمه الله بِهِ بَلَدا ومحتدا رغب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي مصاهرته وسمحت نَفسه الشَّرِيفَة ببذل كريمته
فَمَا دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وعزم ركب الْحَاج المغربي على السّفر إِلَى الْحجاز بعث مَعَهم السُّلْطَان الْمَذْكُور ابْنَته وزفها على بَعْلهَا الْمَذْكُور وَبعث وَلَده الْأَكْبَر وخليفته الْأَشْهر الْمولى عَليّ بن مُحَمَّد لإِقَامَة فَرِيضَة الْحَج وَمَعَهُ شقيقه الْمولى عبد السَّلَام صَغِيرا دون بُلُوغ ليَكُون مَعَ أُخْته وَكِلَاهُمَا فِي صُحْبَة الركب المغربي كَمَا قُلْنَا وأصحبهما هَدِيَّة لأمير طرابلس وهدية لأمير مصر وَالشَّام وهدية عَظِيمَة لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين ومالا كثيرا يفرق على أَشْرَاف الْحجاز واليمن وجوائز سنية للْعُلَمَاء والنقباء وأرباب الْوَظَائِف بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَبعث مَعَهُمَا من وُجُوه أهل الْمغرب وَأَوْلَاد أُمَرَاء الْقَبَائِل وأشياخهم وَمن أكَابِر خُدَّامه وَأَصْحَاب أشغاله بالخيول المسومة وَالسِّلَاح الشاكي والشارة الْحَسَنَة وَمَا تحدث بِهِ أهل الْمشرق دهرا وَكَانَ فِي جهاز ابْنة السُّلْطَان مَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار من الحلى والياقوت والجوهر وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا إِلَى مَكَّة يَوْمًا مشهودا حَضَره عَامَّة أهل الْمَوْسِم الْأَعْظَم من الْآفَاق وتناقلت حَدِيثه الركْبَان والرفاق(3/34)
اعتناء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بعبيد السوس والقبلة وجلبهم إِلَى أجدال رِبَاط الْفَتْح
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عَمه الْمولى عَليّ بن الفضيل وكاتبه أَبَا عُثْمَان سعيد الشليح الْجُزُولِيّ إِلَى بِلَاد السوس لجمع عبيد المخزن الَّذين بهَا وَبعث وصيفه المحجوب ابْن قَائِد رَأسه لإقليم طاطا وآقاوتيشيت من بِلَاد الْقبْلَة لجمع العبيد الَّذين هُنَالك فجاؤوا بِأَلفَيْنِ من عبيد السوس بأولادهم وألفين من عبيد الْقبْلَة بأولادهم كَذَلِك فأنزلهم السُّلْطَان بِظَاهِر مراكش إِلَى أَن أَعْطَاهُم السِّلَاح والكسي وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد المحجوب الْمَذْكُور
ثمَّ لما سَار إِلَى رِبَاط الْفَتْح أَمر بِقطع جنَّات أجدال الَّذِي بِظَاهِر الْبَلَد وَأنزل العبيد بِهِ وَبنى لَهُم الدّور وَالْمَسْجِد والمدرسة وَالْحمام والسوق وَزَاد عَلَيْهِم أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة من الودايا جلبها من الْقَبَائِل وَكتب الْجَمِيع فِي الدِّيوَان وجعلهم فِي مُقَابلَة عبيد مكناسة والودايا الَّذين بهَا وأفاض فيهم الْعَطاء الْكثير لسكناهم بثغر من ثغور الْإِسْلَام
فتح الجديدة
قد ذكر لويز مَارِيَة خبر هَذَا الْفَتْح وَنحن نلخص مَا ذكره من ذَلِك قَالَ لما ولي السُّلْطَان سيد مُحَمَّد بن عبد الله سلطنة الْمغرب كَانَ لَا يقر لَهُ قَرَار من أجل مُشَاركَة البرتغال لَهُ فِي قِطْعَة من أرضه وَكَانَ شهما ذَا أَنَفَة وإباية فَاسْتَشَارَ أهل الرَّأْي من دولته فِي غَزْو الجديدة وَفتحهَا فَقَالُوا لَهُ لَا يظنّ سيدنَا أَن أَخذهَا يكون بِأَن تحمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يقتحموها مثلا فَإِن ذَلِك لَا يجدي شَيْئا وَلَا يحصلون إِلَّا على الْقَتْل كَمَا وَقع فِي أَيَّام السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه السَّعْدِيّ وَإِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى فتحهَا بالحصار(3/35)
والمطاولة برا وبحرا فَعمل على ذَلِك بعد أَن كرهه أَولا وَلما عزم على النهوض إِلَيْهَا جمع جَيْشًا كثيفا من قبائل مراكش والحوز والسوس وَغير ذَلِك
زعم لويز أَنه اجْتمع لَهُ من الْمُقَاتلَة نَحْو سبعين ألفا ويظن أَن هَذَا من مبالغته على عَادَته فِي ذَلِك وَكَانَ نُزُوله على الجديدة فِي رَابِع مارس العجمي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَألف مسيحية وَفِي تواريخ الْإِسْلَام أَن نُزُوله عَلَيْهَا كَانَ فِي فاتح رَمَضَان من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف عَرَبِيَّة وَلما نزل عَلَيْهَا أَمر بِحَفر الأساس لاتخاذ أشبار من جَمِيع جهاتها وَنصب عَلَيْهَا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ مدفعا بَين كَبِير وصغير وَرمى عَلَيْهَا كورا وبنبا كثيرا فِي أَيَّام مُتعَدِّدَة سقط مِنْهُ داخلها أَكثر من أَلفَيْنِ وهدمت كثيرا من أبنيتها وَقتلت عددا وافرا من أَهلهَا وَكَانَ من جملَة أَهلهَا رجل عسكري قد أناف على السّبْعين سنة وَعجز عَن حُضُور الْقِتَال وَله زَوْجَة وَأَوْلَاد فَلَمَّا رأى تساقط البنب مثل الْمَطَر طلب النجَاة لنَفسِهِ وَعِيَاله ففر إِلَى هري هُنَالك كَانَ فَوْقه خَزَائِن قَمح فاختفى تَحْتَهُ واختفى مَعَه أنَاس آخَرُونَ وظنوا أَن البنبة لَا تنفذ فِي خزين الْقَمْح وتخرق السّقف الَّذِي تَحْتَهُ وَتصل إِلَى الهري الَّذِي هم بِهِ فَقضى الله تَعَالَى بِأَن سَقَطت بِهِ بنبة تجاوزت الْقَمْح والسقف وَسَقَطت على الشَّيْخ فَقتلته وَمن مَعَه وَكَانُوا تِسْعَة أنفس وانجرح آخَرُونَ
وَلما طَال الْحصار على أهل الجديدة كتبُوا إِلَى طاغيتهم فَأَشَارَ عَلَيْهِم بِالْخرُوجِ إِن عجزوا عَن المدافعة وَكَانَت هَذِه الْمُكَاتبَة من غير علم من الْعَامَّة وبينما هم كَذَلِك إِذْ ورد عَلَيْهِم مركب من أشبونة ظنوه مدَدا لَهُم فَإِذا بِهِ قد أَتَى بِكِتَاب الطاغية يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ ويتحملوا بأولادهم وعيالهم فِي مراكبه ويدفعوا الْبَلَد للْمُسلمين وَلما علم الْعَامَّة بذلك امْتَنعُوا وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَسبوا الْكتاب وَمن أرْسلهُ وَقَالُوا لَا نخرج مِنْهَا حَتَّى نهلك عَن أخرنا إِذْ هِيَ مأثرة أجدادنا عجنت طينتها بدمائهم وفنيت عَلَيْهَا(3/36)
نفوس أكابرهم وأشرافهم ثمَّ توَسط بَين عامتهم وَكَبِيرهمْ القسيسون وسهلوا عَلَيْهِم الْأَمر حَتَّى انقادوا وَبعث كَبِيرهمْ إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يطْلب مِنْهُ أَن يكف عَن الْقِتَال ويؤجله ثَلَاثَة أَيَّام ليدفع لَهُ الْبَلَد فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَاشْترط عَلَيْهِ أَن لَا يخرجُوا إِلَّا فِي ثِيَابهمْ الَّتِي على ظُهُورهمْ وَلَا يحملوا مَعَهم شَيْئا غَيرهَا فامتثلوا
قَالَ لويز حَتَّى أَن عسكريا مِنْهُم حمل مَعَه كسْوَة أُخْرَى لم تسمح بهَا نَفسه فرآها كَبِيرهمْ وَهُوَ يُرِيد أَن يصعد إِلَى الْمركب فانتزعها مِنْهُ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْر وَلما أيسوا من حمل شَيْء مَعَهم أحرقوا الأثاث والفراش وعرقبوا الْخَيل وَقتلُوا الْمَاشِيَة وكسروا الْأَوَانِي وَالْعدة وفلسوا أَكثر من مائَة مدفع وَآخر الْأَمر أَنهم دفنُوا مينات البارود فِي حوماتها كل مينا فِيهَا أَكثر من أَرْبَعِينَ برميلا وَتركُوا رجلا حدادا اسْمه بطروس فَيُقَال إِنَّه الَّذِي أوقد المينا عِنْد دُخُول الْمُسلمين إِلَيْهَا فَهَلَك فِيهَا نَحْو خَمْسَة آلَاف وتهدم السُّور الجنوبي مِنْهَا
وَلما وصلوا إِلَى أشبونة أسكنهم طاغيتهم ببلدة يُقَال لَهَا بلين فَأَصَابَهُمْ الوخم وَهلك مِنْهُم أَكثر من ثَلَاثمِائَة نفس ثمَّ انتقلوا إِلَى بِلَاد البرازيل فبنوا هُنَالك مَدِينَة سَموهَا مازكان الثَّانِيَة باسم الجديدة هَذَا ملخص مَا ذكره لويز وَمن خطّ الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن فتح الجديدة كَانَ صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من فبراير العجمي وَهُوَ ثَالِث أَيَّام الحسوم اه وَكَانَ مِمَّن شهد هَذَا الْفَتْح الْمعلم الْحَاج سُلَيْمَان التركي الْمجِيد فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس فأبدأ وَأعَاد وحضرها أَيْضا جمَاعَة من فنانشة سلا فأبلوا بلَاء حسنا وعمرها السُّلْطَان بِأَهْل دكالة إِذْ هِيَ فِي وسط أَرضهم وأضاف إِلَيْهِم حِصَّة من عَسْكَر اليكشارية وَأَعْقَابهمْ بهَا لهَذَا الْعَهْد وَالله أعلم(3/37)
سعي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي فكاك أسرى الْمُسلمين وَمَا يسر الله على يَدَيْهِ من ذَلِك
قد تقدم أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ قد بعث خاليه عمَارَة بن مُوسَى وَمُحَمّد بن نَاصِر الوديين وكاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال إِلَى طاغية الإصبنيول وَأَن الغزال قد أحكم الصُّلْح وَقضى الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وَفِي تِلْكَ السفرة وَقع التفادي بَين السُّلْطَان والطاغية فِي الأسرى الَّتِي كَانَت بَينهمَا حَسْبَمَا مر
فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف كتب طاغية الإصبنيول إِلَى السُّلْطَان يَقُول إِنَّه لم يبْق ببلادي أحد من أسرى إيالتكم وَلم يبْق عِنْدِي إِلَّا أسرى أهل الجزائر الَّذين عِنْدهم أسرانا وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتوسط لَهُ عِنْد صَاحب الجزائر فِي المفاداة بَينه وَبَينه وَكَانَت أسرى الإصبنيول تزيد على أسرى الجزائر بِكَثِير وَطلب أَن تكون هَذِه المفاداة على يَدَيْهِ أَعنِي على يَد السُّلْطَان رَحمَه الله الرئيس بالرئيس والبلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري والجندي بالجندي وَمن فضلت عِنْده فضلَة فالبحيري بِخَمْسِمِائَة ريال والرئيس بِأَلف فأسعفه السُّلْطَان فِي طلبه وانتدب للسعي فِي إنقاذ الْمُسلمين من أَيدي الْكفَّار ابْتِغَاء مرضاة الله ورجاء ثَوَابه وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب إِلَيْهِ مَعَ الغزال وصاحبيه فِيمَن تَحت أَيْديهم من سَائِر أسرى الْمُسلمين فبعثوا إِلَيْهِ بِأَهْل الْمغرب فَقَط وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم حبسوا أسرى الجزائر ليفكوا بهم أَسْرَاهُم
وَلما كَاتب السُّلْطَان أهل الجزائر وَعرض عَلَيْهِم مَا طلبه طاغية الإصبنيول امْتَنعُوا من الْفِدَاء فَكتب السُّلْطَان إِلَى باي الجزائر ثَانِيًا فَامْتنعَ ثمَّ(3/38)
أعَاد إِلَيْهِم الْكِتَابَة ثَالِثا وحضهم على فكاك أسرى الْمُسلمين ووعظهم وخوفهم عِقَاب الله ورغبهم فِي ثَوَابه فأذعنوا وامتثلوا وطلبوا مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم رجلا من خاصته يقف على المفاداة بِنَفسِهِ ويدفعون إِلَيْهِ أَسْرَاهُم فِي يَده ويتسلم مثل عَددهمْ من إخْوَانهمْ فَلَمَّا ورد على السُّلْطَان كتاب أهل الجزائر بالامتثال كتب إِلَى الطاغية يَأْمُرهُ أَن يبْعَث بِمَا عِنْده من أسرى الْمُسلمين فِي مركب إِلَى الجزائر وينتظر هُنَالك الباشدور الَّذِي يوجهه من قبله حَتَّى تكون المفاداة على يَده وَبعث السُّلْطَان لهَذَا الْغَرَض كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال وصاحبيه وَعند وصولهم إِلَى الجزائر أرسى مركب الإصبنيول بِظَاهِر مرْسَاها وَأنزل من أسرى الْمُسلمين ألفا وسِتمِائَة ونيفا فَأخْرج أهل الجزائر من أسرى النَّصَارَى مثلهم ألفا وسِتمِائَة ونيفا أَيْضا وَبقيت عِنْدهم من أسرى النَّصَارَى فَضله ففداها الإصبنيول بِالْمَالِ وانفصلوا وَرجع الباشدور وَمن مَعَه إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صَحِيفَته
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قبائل تادلا لإفسادهم ومحاربة بَعضهم بَعْضًا فنهب أَمْوَالهم وشردهم فِي كل وَجه وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد صَالح بن الرضي الورديغي فاستصفى أَمْوَالهم وأفقرهم حَتَّى لم يقدروا على الِانْتِقَال من مَحل إِلَى آخر من قلَّة الظّهْر
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة جروان لما ظهر مِنْهُم من الْفساد وإغرائهم ابْنه الْمولى يزِيد بالانتزاء على الْملك واجتماعهم على مُحَمَّد وناصر الْمَعْرُوف بمهاوش رَأس الْفِتْنَة وتباريهم فِي خدمته فَقدم من مراكش وطرقهم وَادي كريكرة فأوقع بهم وَنهب أَمْوَالهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وتركهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس بمكناسة وفاس ثمَّ نقلهم إِلَى بسيط آزغار وأنزلهم وسط الْعَرَب فانحسمت مَادَّة فسادهم(3/39)
حِصَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية من ثغور الإصبنيول
لما كَانَت أَوَاخِر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية وفيهَا نَصَارَى الإصبنيول فأحاطت عساكره بهَا وَنصب عَلَيْهَا المدافع والمهاريس وَشرع فِي رميها أول يَوْم من الْمحرم سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَاسْتمرّ على ذَلِك أَيَّامًا فَكتب إِلَيْهِ طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره المهادنة وَالصُّلْح الَّذِي انْعَقَد بَينه وَبَينه وَيَقُول لَهُ هَذَا خطّ كاتبك الغزال الَّذِي كَانَ وَاسِطَة بيني وَبَيْنك فِي عقد الصُّلْح لَا زَالَ تَحت يَدي فَأَجَابَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن قَالَ إِنَّمَا عقدت مَعَك المهادنة فِي الْبَحْر فَأَما المدن الَّتِي فِي إيالتنا فَلَا مهادنة فِيهَا وَلَو كَانَت فِيهَا مهادنة لخرجتم إِلَيْنَا ودخلنا إِلَيْكُم فَكيف ادِّعَاء المهادنة مَعَ هَذِه المداهنة فَبعث إِلَيْهِ الطاغية عقد الصُّلْح بِعَيْنِه فَإِذا هُوَ عَام فِي الْبر وَالْبَحْر فَكف عَن حربها وَأَفْرج عَنْهَا وَترك هُنَالك جَمِيع آلَات الْحَرْب من مدافع ومهاريس وكراريص وبنب وكور وبارود وَشرط على الطاغية حملهَا فِي الْبَحْر وردهَا إِلَى الثغور الَّتِي جلبت مِنْهَا لما فِي جرها فِي الْبر من الْمَشَقَّة على الْمُسلمين فأنعم بذلك وَبعث مراكبه فَحملت بَعْضهَا إِلَى تطاوين وَبَعضهَا إِلَى الصويرة وَذَلِكَ محلهَا الَّذِي سيقت مِنْهُ وَكَانَ ذَلِك سَبَب تَأْخِيره الغزال عَن كِتَابَته وَبَقِي عاطلا إِلَى أَن كف بَصَره وَمَات رَحمَه الله
وَسمعت من بعض فُقَهَاء الْعَصْر وَقد جرت المذاكرة فِي كَيْفيَّة هَذَا الصُّلْح فَقَالَ إِن الغزال رَحمَه الله لما أعْطى خطّ يَده بِالصُّلْحِ والمهادنة كتب فِي الصَّك مَا صورته وَإِن المهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم بحرا لَا برا فَلَمَّا حَاز النَّصَارَى خطّ يَده كشطوا لَام الْألف وَجعلُوا مكنانها واوا فَصَارَ الْكَلَام هَكَذَا بحرا وَبرا وَأَن السُّلْطَان رَحمَه الله إِنَّمَا أَخّرهُ لاختصاره الْكَلَام وإجحافه بِهِ حَتَّى سهل على النَّصَارَى تحريفه وَكَانَ من حَقه أَن يَأْتِي بِعِبَارَة مُطَوَّلَة مفصلة(3/40)
حَتَّى لَا يُمكن تحريفها فَيَقُول مثلا والمهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَحْر وَأما الْبر فَلَا مهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم فِيهِ أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام فيصعب تحريفه وَقد نَص أهل علم التوثيق على هَذَا وَأَن الموثق يجب عَلَيْهِ أَن يبسط الْكَلَام مَا اسْتَطَاعَ ويجتنب الِاخْتِصَار المجحف وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَالله أعلم
نهوض السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى برابرة آيت ومالو وَالسَّبَب فِي ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله إِلَى جبال آيت ومالو وَكَانَ ذَلِك فِي غَرَض قائده بلقاسم الزموري فَإِنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم فَلم يقبلوه فَطلب من السُّلْطَان الْإِعَانَة عَلَيْهِم فأمده بِثَلَاثَة آلَاف فَارس مُضَافَة إِلَى من مَعَه من إخوانه زمور وَبني حكم وَسَار اليهم فَلَمَّا نزل على وَادي أم الرّبيع من نَاحيَة تادلا زحفوا إِلَيْهِ فولى عَنْهُم مُدبرا وَلم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على آيت ومالوا وَأخذ فِي الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بِظَاهِر مكناسة وَبعث السُّلْطَان إِلَى أُمَرَاء الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول وَلما تكاملت الْجنُود نَهَضَ إِلَيْهِم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالصَّاد المشممة زايا كَلَفْظِ صِرَاط فِي قِرَاءَة حَمْزَة وَكنت مَعَه فِي هَذِه السفرة وسَاق الحَدِيث عَنْهَا بِأَن قَالَ كنت مَعَ السُّلْطَان وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي حيّز الإهمال أتوقع الْمَوْت فِي كل وَقت بِسَبَب مَا كتب إِلَيْهِ فِي شأني الْقَائِد بلقاسم الزموري الْمَذْكُور آنِفا وَأَنِّي أَنا الَّذِي أفسدت عَلَيْهِ قومه وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى محلّة بلقاسم وَنزلت عساكرة فِي بسيط كريكرة أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَن يقسم تِلْكَ الجيوش على ثَلَاثَة أَقسَام ثلث مِنْهَا ينزل بتاسماكت من وَرَاء الْعَدو وَثلث(3/41)
ينزل بزاوية أهل الدلاء على طَرِيق بِلَادهمْ وَثلث يذهب مَعَه على طَرِيق تيقيط ويتقدم السُّلْطَان فِي عساكره حَتَّى ينزل بآدخسان وتقصدهم العساكر من كل وَجه وَقرب على السُّلْطَان الأمد الْبعيد بِاللِّسَانِ والرأي الَّذِي لَا يُفِيد وَكَانَ هُوَ لَا يعرف الْبِلَاد وَمن الْغَد افْتَرَقت العساكر فَتوجه كل إِلَى ناحيته الَّتِي عينت لَهُ وَتقدم السُّلْطَان إِلَى آدخسان وَلما عبر وَادي أم الرّبيع قدم كروان أَمَامه للغارة عَلَيْهِم فَسَارُوا إِلَى أَن بلغُوا قَصَبَة آدخسان فَلم يَجدوا بهَا نافخ نَار فأقاموا هُنَالك إِلَى أَن لحق بهم السُّلْطَان فَقَالَ أَيْن هَؤُلَاءِ قَالُوا مَا رَأينَا أحدا وَهَذِه قَصَبَة آدخسان فَأمر بِنزل الجيوش وَبَقِي هُوَ على فرسه متحيرا فاستدعى أَبَا الْقَاسِم الصياني قَالَ فأسرعت نَحوه فَقَالَ لي أتعرف هَذِه الْبِلَاد قلت نعم أتم الْمعرفَة قَالَ وَأَيْنَ أَهلهَا قلت فِي جبلهم قَالَ أوليس هَذَا جبلهم وَهَذَا آدخسان قلت لَا هَذِه قَصَبَة المخزن والجبل من تِلْكَ الثنايا السود فَمَا خلفهَا وأريته الثنايا فَقَالَ وَأَيْنَ الزاوية الَّتِي سَار إِلَيْهَا الْجَيْش مَعَ قدور بن الْخضر ومسرور قلت هِيَ عَن يَمِين الثنايا فِي الْبَسِيط قَالَ وَأَيْنَ تاسماكت الَّتِي سَارَتْ إِلَيْهَا أُمَم البربر مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز قلت بَيْننَا وَبَينهَا مرحلتان من وَرَاء الثنايا قَالَ وَمن أَيْن يَأْتِي الْقَائِد بلقاسم فأريته الثَّنية الَّتِي يطلع مِنْهَا وَقلت لَهُ إِنَّه لَا يصل إِلَيْنَا إِلَّا غَدا إِن سلم وَمَا صنعنَا نَحن قلت ضربنا فِي حَدِيد بَارِد فَإِن الَّذِي بالزاوية لَا يجدي وَالَّذِي بتاسماكت لَا يجدي وآيت ومالو متحصنون بِالْجَبَلِ وبلقاسم رجل مشؤوم عافى الله مَوْلَانَا من شؤمه قَالَ فَظهر للسُّلْطَان خلاف مَا سمع من بلقاسم وَتحقّق فَسَاد رَأْيه وَعلم أَنه قد أَخطَأ فِيمَا ارْتَكَبهُ من التَّغْرِير بِالْمُسْلِمين قَالَ ثمَّ بيّنت لَهُ السَّبَب الَّذِي نفر بِهِ آيت ومالو عَن بلقاسم حَتَّى عرفه قَالَ اكْتُبْ إِلَى قَوْمك صيان يقدموا علينا فَإِنِّي قد سامحتهم فَكتب إِلَيْهِم وَبعث بِالْكتاب من آدخسان مَعَ بعض الْأَشْرَاف واثنين من أَصْحَاب السُّلْطَان فخاضوا إِلَيْهِم اللَّيْل واجتمعوا بهم(3/42)
وَمن الْغَد أصبح عندنَا أَرْبَعَة مِنْهُم بهديتهم فَدخلت بهم على السُّلْطَان فأكرمهم وَقبل هديتهم وَقَالَ إِنِّي سامحتكم لوجه كاتبي فلَان وردهم مبشرين إِلَى إخْوَانهمْ وباتت العساكر تِلْكَ اللَّيْلَة بِلَا علف وَلَا تبن وَمن الْغَد ظَهرت محلّة بلقاسم وَمَعَهُ مُخْتَار وَالْعَبِيد وَكَانُوا قد باتوا على الْقِتَال طول ليلتهم وَلما وصلوا إِلَى السُّلْطَان أَمر أَن ينزل العبيد بجواره وَينزل بلقاسم مَعَ قومه زمور وَبني حكم وَأعْرض عَنهُ ثمَّ أمره بتسريح إخوانه إِلَى بِلَادهمْ وسرح الْقَبَائِل كلهَا إِلَى بلادها وَفرق ذَلِك الْجمع وأرتحل رَاجعا إِلَى تادلا
وَأما الَّذين نزلُوا بتاسماكت مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز فبيتهم آيت ومالو بغارة شعواء شردوهم بهَا فِي كل وَجه ونهبوا محلتهم وَقتلُوا مِنْهُم عددا كثيرا وَرَجَعُوا إِلَى مكناسة مفلولين وَلما بَات السُّلْطَان بالزرهونية ورد عَلَيْهِ أَصْحَاب قدور بن الْخضر بكتابه يَقُول فِيهِ إِن البربر قد تألبوا علينا من كل أَوب فَإِن لم يدركنا سيدنَا هلكنا قَالَ الصياني فَأمرنِي السُّلْطَان بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِم والاحتيال فِي خلاصهم بِكُل مَا يُمكن وَبعث معي مائَة فَارس فوافيت الزاوية الدلائية فَوجدت قبائل البربر مُحِيطَة بهم فاجتمعت بآيت يسري ووعدتهم من السُّلْطَان بالعطاء الجزيل إِن هم فسحوا لجيشة حَتَّى يسْلك فِي بِلَادهمْ فأنعموا بذلك ورحل الْجَيْش مَعَ الْفجْر وعدلنا بِهِ من آيت ومالو وعبرنا الْوَادي إِلَى بِلَاد آيت يسري وَسَار مَعنا نَحْو الْمِائَة من أعيانهم إِلَى أَن أخرجونا إِلَى وَادي تاقبالت من تادلا وَرَجَعُوا قَالَ وَتَقَدَّمت إِلَى السُّلْطَان فَأَخْبَرته بخلاص الْجَيْش ووصوله إِلَى وَادي تاقبالت فسره ذَلِك ودعا لي بِخَير وَقَالَ لَا بُد أَن ترجع إِلَيْهِم السَّاعَة وَأَعْطَانِي مَالا أفرقه عَلَيْهِم وأرسم لَهُم الْمنَازل الَّتِي ينزلونها فِي مَسِيرهمْ إِلَى مكناسة وَبهَا ينتظرون السُّلْطَان فَرَجَعت إِلَيْهِم فِي الْحِين وَأَخْبَرتهمْ بِرَأْي السُّلْطَان فِي الْمسير إِلَى مكناسة ورسمت لَهُم الْمنَازل على نَحْو مَا أَمر وَلما أَصْبَحْنَا فرقت عَلَيْهِم المَال(3/43)
وَارْتَحَلُوا إِلَى مكناسة وانقلبت إِلَى السُّلْطَان فَوَجَدته قد أَصَابَته حمى أَقَامَ لَهَا بقصبة تادلا وَكَانَ الطَّبِيب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد آدراق يعالجه وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا أَنا وَهُوَ وَصَاحب طَعَامه الْحَاج عبد الله إِلَى أَن عوفي فوصل الطَّبِيب بِأَلف دِينَار ثمَّ سَافر إِلَى مكناسة وبوصوله إِلَيْهَا قبض على بلقاسم الزموري ونكبه واستصفى أَمْوَاله وَولي على زمور وَبني حكم ولد مُحَمَّد واعزيز قَالَ الصياني وَمن ذَلِك الْوَقْت رفع السُّلْطَان منزلتي على أقراني وَصَارَ يقدمني فِي الْمُهِمَّات
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين البرتغال وَهِي اثْنَان وَعِشْرُونَ شرطا مضمنها الصُّلْح والأمان كالشروط الْمُتَقَدّمَة
ذكر مَا آل إِلَيْهِ أَمر اليكشارية الَّذين استخدمهم السُّلْطَان من قبائل الْحَوْز
لما جمع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله هَذَا الصِّنْف من رُمَاة الْجند وَسَمَّاهُمْ اليكشارية كَالَّذِين من قبلهم وَكَانَ جمعهم على يَد الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي حَسْبَمَا سبق حصل مِنْهُم ضَرَر كَبِير للرعية فِي المَال والحريم وصاروا يعيثون فِي غلل جناتهم مِمَّا يَمرونَ بِهِ أَيَّام أسفارهم حَتَّى صَار ذَلِك الْفساد عِنْدهم عَادَة وَمَا من منزل يبيتُونَ بِهِ إِلَّا ويكلفون أَهله مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِذا كَلمهمْ أَعْيَان الرّعية فِي الرِّفْق بِالنَّاسِ قَالُوا هَذِه عَادَة لَا نتركها وَهِي من قوانين الدولة وَلما علم السُّلْطَان بِمَا يرتكبونه من العسف أسقطهم من الجندية وَنزع مِنْهُم السِّلَاح وردهم إِلَى المغرم مَعَ إخْوَانهمْ وأراح النَّاس من شرهم
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد مُحَمَّد بن أَحْمد البوزراري عَن قبائل تامسنا وتادلا وَمَا اتَّصل بهما وَلم يتْرك(3/44)
لَهُ إِلَّا إخوانه من أهل دكالة وَولى على السراغنة أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالصغير وعَلى أهل تادلا صَالح بن الرضي الورديغي وعَلى أَوْلَاد أبي رزك المزابي الْقَائِد صَاحب الطابع وعَلى أَوْلَاد أبي عَطِيَّة عمر بن أبي سلهام المزابي وَأمر مُحَمَّد بن أَحْمد أَن يقبض من إخوانه الَّذين كَانُوا عمالا على هَذِه الْقَبَائِل مَا احتجبوه من الْأَمْوَال أَيَّام ولايتهم واستصفى مِنْهُم مائَة وَخمسين ألفا
خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ومبايعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت الْفِتْنَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وبيعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن السُّلْطَان كتب إِلَيْهِم وَهُوَ بمراكش يَأْمُرهُم أَن يعينوا مِنْهُم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَبعث إِلَيْهِم بِالْكتاب مَعَ الْقَائِد الشَّاهِد رَأس الْفِتْنَة وولاه على ذَلِك الْألف فَلَمَّا أَتَاهُم بِكِتَاب السُّلْطَان قَالَ لَهُم لَا يذهب معي إِلَّا الْأَعْيَان وَمن لَهُ دَار وَأَرْض وضيعة وَلَا يذهب معي إِلَّا أمثالي فَلَمَّا سمع اقتراحه أُولَئِكَ الأجلاف ركبُوا رَأْسهمْ فِي سَبِيل الْخلاف واستفزهم الشَّيْطَان حَتَّى صَرَّحُوا بخلع السُّلْطَان جَريا فِي ذَلِك على مَذْهَبهم الْقَدِيم والتفاتا إِلَى فعل سلفهم الذميم فَلَمَّا أنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان بعث إِلَيْهِم ابْنه الْمولى يزِيد وَكَانَ عِنْده بمراكش كي يستصلحهم بِهِ فازداد فسادهم وَعظم عنادهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فَلَمَّا ذهبت إِلَى مراكش لقِيت الْمولى يزِيد بالسانية مَوضِع على نَحْو نصف يَوْم مِنْهَا قَالَ فَسَأَلَنِي عَن خبر العبيد فقصصته عَلَيْهِ فسره ذَلِك وجد فِي السّير ففهمت قَصده وَعرفت مَا يؤول إِلَيْهِ أمره فيهم وَزعم أَنه لما قدم على السُّلْطَان لامه فِي(3/45)
بَعثه الْمولى يزِيد فاعترف بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى مكناسة وَاجْتمعَ بالعبيد لم يقدموا شَيْئا على بيعَته وَالْخطْبَة بِهِ فَفتح بيُوت الْأَمْوَال وَأَعْطَاهُمْ حَتَّى رَضوا ثمَّ فتح مخازن السِّلَاح والبارود ففرقه فيهم ثمَّ دخل فِي بيعَته من كَانَ قَرِيبا من قبائل الْعَرَب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان فَإِنَّهُم تعصبوا لَهُ
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَبعد ثَلَاث بَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فَقدمت عَلَيْهِم بهَا وأقمت عِنْدهم إِلَى أَن زحف إِلَيْهِم الْمولى يزِيد فِي جَيش العبيد وهم بالأروى وَكَانَت آيت أدراسن وجروان قد دخلُوا مَعَ الودايا وظاهروهم على العبيد فَوَقَعت الْحَرْب بالمشتهى دَاخل القصبة فَانْهَزَمَ العبيد وسلطانهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَأما الْجَرْحى فبلا عدد وانقلبوا مفلولين
واتصل الْخَبَر بالسلطان فَخرج من مراكش فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يُرِيد مكناسة وَلما وصل إِلَّا سلا وَسمع الْمولى يزِيد بقدومه فر إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حمدوش ثمَّ إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ بزرهون فَتقدم السُّلْطَان إِلَى زرهون وَلما دخل الضريح الشريف أَتَاهُ أَشْرَاف زرهون بِابْنِهِ الْمولى يزِيد فَعَفَا عَنهُ وسامحه واستصحبه مَعَه إِلَى مكناسة وَلما وَجه إِلَيْهَا خرج إِلَيْهِ نَحْو الْمِائَة من العبيد من ذَوي أسنانهم وَمَعَهُمْ الْأَشْرَاف والمرابطون وَالنِّسَاء وَالصبيان فَعَفَا عَنْهُم وسامحهم على شَرط الْخُرُوج من مكناسة فأذعنوا وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة يدبر أَمرهم إِلَى أَن فرقهم على الثغور فَبعث مِنْهُم رحيين إِلَى طنجة ورحيين إِلَى العرائش ورحى إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم وتوهين عصبيتهم ثمَّ عمد إِلَى الَّذين كَانُوا برباط الْفَتْح ففرقهم أَيْضا فَبعث أَلفَيْنِ مِنْهُم إِلَى السوس وألفا إِلَى مراكش وَأبقى أَلفَيْنِ برباط الْفَتْح مَعَ عبيد مكناسة المغربين إِلَيْهَا واستراحت الدولة من شرهم استراحة مَا(3/46)
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بطنجة وَثبُوا على قائدهم الْقَائِد الشَّيْخ وعَلى قَائِد أهل الرِّيف مُحَمَّد بن عبد الْملك وَأَرَادُوا قَتلهمَا فهربا لآصيلا وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ لَا زَالَ بمكناسة وَلما أنهى إِلَيْهِ خبرهم كتب إِلَى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أَصْحَاب الفعلة وبعثوا بهم إِلَيْهِ وتبرؤوا مِنْهُم فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشَّيْء وَرجع القائدان إِلَى طنجة ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان إِلَى مراكش أَخذ مَعَه عبيد مكناسة فَأنْزل أهل القصبة مِنْهُم بالمنصورية قرب وَادي النفيفيخ لأَنهم كَانُوا رَأس العصاة واستصحب البَاقِينَ إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم الَّذين حَضَرُوا فعلة الْمولى يزِيد وأبقاهم عاطلين مهملين وَولى عَلَيْهِم أُنَاسًا من غَيرهم
ذكر مَا سلكه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حق العبيد من التَّأْدِيب الْغَرِيب
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بالثغور عاثوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا فِي جناتهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم فأنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان أَيْضا وَلما أعياه أَمرهم وَرَأى أَن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انْتقل رَحمَه الله مَعَهم إِلَى مرتبَة أُخْرَى من التَّأْدِيب لم يسْبق إِلَيْهَا كَانَت ترياقا لقطع دائهم وَنَارًا لحسم عرق بلائهم وَذَلِكَ أَنه لما بلغه مَا هم عَلَيْهِ من الْجور والطغيان نَهَضَ من مراكش عَازِمًا على الْإِيقَاع بهم فَلَمَّا وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح كتب إِلَى أهل طنجة والعرائش مِنْهُم يَقُول إِنِّي قد رضيت عَنْكُم وبررت قسمي فِي نقلكم من مكناسة إِلَى الثغور والآن إِذا وصلتكم الْإِبِل وَالْبِغَال الَّتِي أبعثها إِلَيْكُم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إِلَى دَار عَرَبِيّ من بِلَاد سُفْيَان فلينزلوا بهَا ثمَّ يبعثوا الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إِلَى دَار عَرَبِيّ كَذَلِك فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وهم بهَا فَإِنِّي أبْعث إِلَيْكُم بغالي تتحملون عَلَيْهَا إِلَى مكناسة كلكُمْ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طاروا فَرحا وأحبوا الرُّجُوع إِلَى مكناسة
وَلما وَردت عَلَيْهِم الْإِبِل وَالْبِغَال ارتحلوا من طنجة وَفِي أثْنَاء ذَلِك(3/47)
بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان
ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر
وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رَحمَه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا(3/48)
كَانُوا حَالا ثمَّ بدا لَهُ فيهم فَبعث عبيد السوس إِلَى تارودانت وَعبيد حاحة والشبانات إِلَى الصويرة وَعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إِلَى تيط الْفطر وَعبيد دكالة إِلَى آزمور وَعبيد الشاوية إِلَى آنفي وَعبيد زعير والدغماء إِلَى المنصورية وَعبيد بني حسن إِلَى المهدية وَأبقى مَعَه بمراكش عبيد سُفْيَان وَبني مَالك والخلط وطليق والمسخرين من أَصْحَاب الْعَبَّاس
وَكَانَ قيام هَؤُلَاءِ العبيد سَببا لافتراق الْكَلِمَة وانحلال نظام الْملك بالمغرب وسرى فسادهم فِي الْقَبَائِل كلهَا عربا وبربرا وَكثر الْهَرج وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وعظمت المجاعة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك نَحوا من سبع سِنِين من سنة تسعين إِلَى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فَكَانَت هَذِه الْمدَّة كلهَا مجاعَة أكل النَّاس فِيهَا الْميتَة وَالْخِنْزِير والآدمي وفنى أَكْثَرهم جوعا وَالسُّلْطَان فِي ذَلِك كُله يكابد المشاق الْعِظَام وَيصير على الْجنُود الْأَمْوَال الثقال راتبا بعد راتب وَعَطَاء بعد عَطاء إِلَى أَن خلصوا من المجاعة وصلحت أَحْوَال الْجَمَاعَة وَكَانَ رَحمَه الله قد رتب الْخبز فِي كل مصر يفرق على ضُعَفَائِهِ فِي كل حومة وأسلف الْقَبَائِل الْأَمْوَال الطائلة يقتسمونها على ضعفائهم إِلَى أَن يؤدوها زمَان الخصب والرخاء
وَلما عَاشَ النَّاس وهموا بأدائها سامحهم بهَا وَقَالَ مَا أعطيتهَا بنية الاسترجاع وَإِنَّمَا ذكرت السّلف لِئَلَّا يستبد بهَا الْأَشْيَاخ والأعيان إِذا سمعُوا أَنَّهَا هبة فرحم الله تِلْكَ الهمة الشَّرِيفَة مَا كَانَ أَعْلَاهَا وَأَعْظَمهَا وأرأفها وأرحمها وَأسْقط رَحمَه الله فِي تِلْكَ الْمدَّة جَمِيع الْوَظَائِف والمغارم عَن قبائل الْمغرب إِلَى أَن عاشوا وتمولوا وَكَانَ يُعْطي التُّجَّار الْأَمْوَال ليجلبوا بهَا الأقوات من بر النَّصَارَى فَإِذا وصلت أَمرهم أَن يبيعوها بِثمنِهَا الَّذِي اشْتريت بِهِ رفقا بِالْمُسْلِمين وشفقة على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين
وَلما دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف مطر الغرب وعاش النَّاس وحرثوا وَأدْركَ الزَّرْع ورخصت الأسعار وازدهت الدُّنْيَا وَدرت الجبايات وَأخذ أَمِير الْمُؤمنِينَ رَحمَه الله فِي تمهيد الْمغرب ثَانِيَة واستئناف الْعَمَل وَالْجد وَالله غَالب على أمره(3/49)
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بأولاد أبي السبَاع وتشريدهم إِلَى الصَّحرَاء وَمَا يتبع ذَلِك
لما كَانَ بالمغرب مَا تقدم من الْفِتْنَة وشغل السُّلْطَان بإنعاش الضُّعَفَاء عَن ضبط الْأَطْرَاف وقمع الْبُغَاة بهَا نبغت نوابغ الْفِتَن بِبَعْض الْقَبَائِل مِنْهَا وعادت هيف إِلَى أديانها فَمن ذَلِك قَبيلَة أَوْلَاد أبي السبَاع بأحواز مراكش فلطالما ارتكبوا العظائم واجترحوا وغدوا فِي الْفِتْنَة وراحوا واستطالوا على من بجوارهم وغزوهم فِي أَرضهم وديارهم
فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف جهز إِلَيْهِم السُّلْطَان العساكر فقاتلوهم وقتلوهم وانتهبوا أَمْوَالهم وشردوهم إِلَى السوس وَقبض السُّلْطَان على كثير من أعيانهم فأودعهم سجن مكناسة إِلَى أَن هَلَكُوا بِهِ وأوعز إِلَى قبائل السوس أَن يطردوا بَقِيَّتهمْ وينفوهم إِلَى بِلَاد الْقبْلَة مسْقط رَأْسهمْ ومنبت شوكتهم وبأسهم فَفَعَلُوا ثمَّ نقل قَبيلَة زمران بعد الْإِيقَاع بهم إِلَى بِلَاد أَوْلَاد أبي السبَاع فعمروها ثمَّ نقل تكنة ومجاط وَذَوي بِلَال من شوشاوة الْحَوْز إِلَى الغرب فنزلوا بفاس الْجَدِيد وأعماله ثمَّ أعَاد آيت يمور من جبل سلفات إِلَى تادلا ثمَّ نقل كطاية وسمكت ومجاط من تادلا إِلَى الغرب ثمَّ أعَاد جروان من آزغار إِلَى الْجَبَل
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَت فتْنَة الدعي مُحَمَّد والحاج اليموري كَانَ يزْعم أَنه من الْأَوْلِيَاء وَيتَكَلَّم فِي المغيبات ويشيع أَنه ينْتَظر صَاحب الْوَقْت فسرى فَسَاده فِي قبيلته وتجاوزها إِلَى غَيرهَا فقصده جهلة البربر من كل قبيل وأغرى آيت يمور بِمن جاورهم من قبائل الْعَرَب وَكَانُوا يَوْمئِذٍ لَا زَالُوا بسلفات فتصدى لَهُم قَائِد سُفْيَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي السفياني وَجمع لَهُ الجموع من قبائل الغرب وصمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبيلَة آيت يمور فَعبر نهر سبو وأنشب الْحَرْب مَعَهم فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وانهزمت جموع الغرب وَقتل الْقَائِد(3/50)
الْهَاشِمِي الْمَذْكُور وَعدد كَبِير من وُجُوه قومه وَتركُوا محلتهم بِمَا فِيهَا للبربر وَعظم أَمر هَذَا الدعي وشمخت أنوف قبيلته بِهِ وشرى ضلالهم وَلما قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة بعث من قبض عَلَيْهِ وَسَاقه إِلَيْهِ فَقتله وأراح النَّاس من وساوسه وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى عبد السَّلَام لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج لِأَنَّهُ لم يكن أدْرك الْحلم عَام حج مَعَ أَخِيه الْمولى عَليّ
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة زمور وَبني حكم فَلَمَّا أظلهم قدومه انشمروا إِلَى شعاب تافودايت وتحصنوا بهَا فاحتال عَلَيْهِم بِأَن قَامَ عَنْهُم وأوعز إِلَى آيت أدراسن وكروان أَن يرصدوهم مَتى برزوا إِلَى الفضاء فلينهبوهم فَلَمَّا توجه السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش خرجت زمور من شعابها فَلم يرعهم إِلَّا آيت أدراسن وكروان قد أحاطوا بهم فانتهبوا حللهم وتوزعوا أَمْوَالهم وتركوهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس
ذهَاب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى تافيلالت وتمهيده إِيَّاهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ الشريف الْمولى حسن بن إِسْمَاعِيل عَم السُّلْطَان مُقيما بتافيلالت وَكَانَ آيت عطة وآيت يفلمان من برابرة الصَّحرَاء شيعَة لَهُ فَكَانَ إِذا حدث بَينه وَبَين أَشْرَاف سجلماسة حَادث استكثر بهم عَلَيْهِم وحاربهم وَرُبمَا قتل مِنْهُم وَكَانَ السُّلْطَان يبلغهُ بعض ذَلِك عَنهُ فيسوءه إِلَّا أَنه كَانَ يثقل عَلَيْهِ أَن ينَال عَمه مِنْهُ مَكْرُوه وَلِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أهم فاستمر الْحَال إِلَى أَن ترددت أَشْرَاف سجلماسة بالشكاية مِنْهُ فَلم يسع السُّلْطَان إِلَّا زَجره وَقطع عَادِية بربره عَن الْأَشْرَاف فعزم على الْمسير بِنَفسِهِ إِلَى سجلماسة وَكَانَ ابْنه الْمولى يزِيد يَوْمئِذٍ بالمغرب فَلم يرد السُّلْطَان أَن يتْركهُ خَلفه لِئَلَّا ينشأ عَنهُ ناشيء فتْنَة فاحتال فِي إبعاده بِأَن وَجهه إِلَى الْحجاز لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج(3/51)
فِي غير ركب بل أفرده عَنهُ وأصحبه أَمينا يصير عَلَيْهِ وأناسا قليلين يكونُونَ فِي خدمته دفعا لغائلته ثمَّ سَافر السُّلْطَان إِلَى سجلماسة برسم زِيَارَة تربة جده الْمولى عَليّ الشريف رَضِي الله عَنهُ وحسم دَاء عَمه الْمولى حسن وشيعته وَلما شَارف السُّلْطَان تافيلالت قدم أَمَامه أَبَا الْقَاسِم الصياني لإِخْرَاج البربر من قصورهم فِي الْأمان وَإِن كَانَ عِنْدهم مَا يثقلهم من زرع أَو تمر يعطيهم ثمنه لينقطع بذلك عذرهمْ وَإِن أَقَامُوا حَتَّى أدركهم السُّلْطَان بهَا فَإِنَّمَا إثمهم على أنفسهم فامتثل البربر الْأَمر وَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء وَلم يَأْتِ السُّلْطَان حَتَّى لم يبْق مِنْهُم أحد بِتِلْكَ الْقُصُور وأفرد الْمولى حسن وانكسرت شوكته ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَبَا الْقَاسِم الصياني أَيْضا يعرض عَلَيْهِ السُّكْنَى بمكناسة وَينفذ لَهُ مَا يَكْفِيهِ من الظّهْر لحمل عِيَاله وأثقاله قَالَ الصياني فَذَهَبت إِلَيْهِ وباشرت أمره إِلَى أَن أجَاب وَمن الْغَد سرت بِهِ إِلَى مكناسة وَأَمرَنِي السُّلْطَان أَن أعْطِيه دَارا يسكنهَا ورتب لَهُ ثَلَاثمِائَة مِثْقَال لكل شهر ينفقها على نَفسه وَعِيَاله وَأَمرَنِي مَعَ ذَلِك إِذا فرغت من شَأْن عَمه الْمَذْكُور أَن أصحب معي أَوْلَاده الثَّلَاثَة الْمولى سُلَيْمَان وَالْمولى حسن وَالْمولى حُسَيْن وَأَن أصحب مَعَهم قدرا من المَال وعددا من المدافع والمهاريس والبنب وَطَائِفَة من الطبجية من علوج اللمان وألفا من عَسْكَر الثغور رِجَاله لجر تِلْكَ المدافع والمهاريس قَالَ فَقضيت الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وعدت إِلَيْهِ وَهُوَ بسجلماسة بِجَمِيعِ مَا أَمرنِي بِهِ فَبَلغنَا وَنحن أثْنَاء الطَّرِيق وَفَاة ولد السُّلْطَان وخليفته بفاس الْمولى عَليّ بن مُحَمَّد وَكَانَ من سادة العلويين ونجبائهم وَمن أهل الْمُرُوءَة والأوصاف المحمودة عقلا وعلما وأدبا وكرما وعلو همة
زَاد فِي الْبُسْتَان وَكَانَ مَجْلِسه مجمع الْفُضَلَاء والأدباء والنبلاء يتشبه بأخلاق الْمولى مُحَمَّد الْعَالم ابْن الْمولى إِسْمَاعِيل فِي كرمه وأدبه وَكَانَ لَهُ اعتناء كَبِير بنسخ كتب الْعلم الغريبة وَكتب الْأَدَب وَكَانَ كثيرا مَا يبْعَث بأشعاره(3/52)
ومخاطباته لأهل عصره وأدباء وقته من الفاسيين والبكريين والقادريين كَمَا كَانَ الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مشغوفا بأشعار أَوْلَاد السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن أَيُّوب الْكرْدِي رحم الله الْجَمِيع
وَلما بلغ أَوْلَاد السُّلْطَان إِلَى أَطْرَاف سجلماسة قدمُوا الْأَعْلَام إِلَى السُّلْطَان وَاسْتَأْذَنُوا فِي التَّقَدُّم فَخرج رَحمَه الله لملاقاتهم وَأمر الْأَشْرَاف وَسَائِر أهل الْبَلَد أَن يخرجُوا للسلام عَلَيْهِم ويشاهدوا آلَة الْحَرْب الَّتِي لَيست ببلادهم فَخَرجُوا وَخرج السُّلْطَان فِي موكبه وَركبت العساكر خَلفه فِي أحسن زِيّ وأكمل تَرْتِيب فَكَانَ ذَلِك الْيَوْم من أَيَّام الزِّينَة وَلما قضى غَرَضه من سجلماسة وثقف أطرافها ورتب عربها وبربرها وحسم دَاء آيت عطة وآيت يفلمان ولى عَلَيْهِم الْقَائِد عَليّ بن حميدة الزراري من كبار قواده وأعيان دولته ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى مراكش بعد أَن أَقَامَ بسجلماسة شهرا وَكَانَ سلوكه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكَانَ قد ردني إِلَى الغرب لآتيه بِجَيْش من أَوْلَاد عبيد الثغور أَلْقَاهُ بهم بمراكش ليزيدهم فِي جَيْشه ويقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا وَلما انْتهى السُّلْطَان فِي طَرِيقه إِلَى ثنية الكلاوي نزل عَلَيْهِ الثَّلج الْكَبِير فسد المسالك وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي كل وَجه وَحَال الثَّلج بَينهم وَبَين أخبيتهم ورحالهم وَبَات السُّلْطَان منتبذا نَاحيَة عَن مضاربه وقبابه معزولا عَن طَعَامه وَشَرَابه وَلم تلتق طَائِفَة من الْعَسْكَر مَعَ صاحبتها إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَرفع الله عَنْهُم الثَّلج وَأصْبح ذَلِك الْيَوْم عيد الْأَضْحَى فَخَطب السُّلْطَان النَّاس بِنَفسِهِ ودعا للسُّلْطَان عبد الحميد بن أَحْمد العثماني وَدخل مراكش سالما معافى وَسلم الله الْعَسْكَر من ذَلِك الثَّلج فَلم يهْلك مِنْهُ أحد وَالْحَمْد لله(3/53)
خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الصويرة بِقصد النزهة واغتنام الرَّاحَة وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
لما قدم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من سجلماسة إِلَى مراكش أَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخل فصل الرّبيع فاعتزم على الْخُرُوج إِلَى الصويرة وَالْوُقُوف عَلَيْهَا ومعاينة مبانيها ومعالمها إِذْ كَانَ لَهُ ولوع بِهَذِهِ الْمَدِينَة الَّتِي أَنْشَأَهَا واغتبط بهَا وَقصد أَيْضا زِيَارَة رجال رجراجة بالسَّاحل والتبرك بآثارهم وَكَانَت سفرته هَذِه سفرة فُرْجَة وجمام نفس واغتنام لَذَّة فأشخص مَعَه جمَاعَة من عُلَمَاء الْعَصْر وأئمته فَكَانَ يملي عَلَيْهِم الحَدِيث النَّبَوِيّ ويؤلفونه على مُقْتَضى إِشَارَته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيع الْعَلامَة أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن أَبُو خريص هَؤُلَاءِ أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يؤلفون لَهُ ويسردون ويخوضون فِيمَا يجمعه ويستخرجه من كتب الحَدِيث الَّتِي جلبها من الْمشرق كمسند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من الْكتاب المعتبرين فِي الْإِنْشَاء والترسيل كالسيد الْمهْدي الحكاك المراكشي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل المراكشي وَالسَّيِّد أَحْمد بن عُثْمَان المكناسي وَالسَّيِّد أَحْمد الغزال الفاسي وَالسَّيِّد مُحَمَّد سكيرج الفاسي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد سعيد الشليح الْجُزُولِيّ وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم إقبيل السُّوسِي وَصَاحب الْبُسْتَان أبي الْقَاسِم الصياني وَغَيرهم
وَكَانَ خُرُوجه لهَذِهِ الفرجة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِي فصل الرّبيع فَضربت قبابة بِظَاهِر مراكش ثمَّ ضرب عَلَيْهَا السياج الْمُحِيط بهَا(3/54)
الْمُسَمّى بأفراك وَفِي وسط تِلْكَ القباب الْقبَّة الْعُظْمَى الَّتِي أهداها إِلَيْهِ طاغية الفرنج وَكَانَت مبطنة بالديباج ومحاريبها من الموبر الْحر الْمُخْتَلف الألوان وسفائفها من الكالون والإبريز وأطنابها من الْحَرِير الصافي زَعَمُوا أَن مبلغ مَا صير عَلَيْهَا الطاغية نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار ومصداق ذَلِك أَن تفاحتها الَّتِي تكون فِي أَعلَى العامود وتسميها الْعَامَّة بالجمور كَانَت من الذَّهَب الْخَالِص وَزنهَا أَرْبَعَة أُلَّاف مِثْقَال ذَهَبا وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد أخرجهَا فِي هَذِه النّوبَة ابتهاجا بهَا وَخرج مَعَه الْخَاصَّة من القواد وَالْكتاب وَغَيرهم بفازاتهم الرفيعة ومضاربهم البديعة
ثمَّ توجه فِي ذَلِك الموكب العجيب يرتاد الْبِلَاد النزهة والأماكن الْبَهْجَة الَّتِي تروق الطّرف وتستغرق الْوَصْف وتبسط النَّفس وتجلب الْأنس فَأَقَامَ شَهْرَيْن كَامِلين يتقلب فِي تِلْكَ البسائط ويستوفي اللَّذَّات ويتقرى الْمعَاهد ويقتنص الطَّائِر والشارد إِلَى أَن وصل إِلَى ثغر الصويرة فَوقف عَلَيْهِ وَقضى غَرَضه مِنْهُ على الْوَجْه الْأَكْمَل وانقلب رَاجعا إِلَى حَضرته فاجتاز فِي طَرِيقه برباط شَاكر وَهُوَ من مزارات الْمغرب الْمَشْهُورَة وَكَانَ مجمعا للصالحين من قديم الزَّمَان وَوَقع فِي التشوف أَن شاكرا الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ هَذَا الرِّبَاط من أَصْحَاب عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَأَنه هُنَالك فَلَمَّا مر بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله فِي سفرته هَذِه أَمر بتجديد مَسْجده وحفر أساسه وتشييده وَفِي قفوله طلع مَعَ وَادي نَفِيس إِلَى أَن بلغ مَدِينَة أغمات فزار ضريخ الشَّيْخ أبي عبد الله الهزميري وَغَيره من صلحائها وَنزل بمحلته تَحت الْقرْيَة وَلما اسْتَقر بِهِ الْمنزل جَاءَهُ جمَاعَة من أَهلهَا مَعَ قاضيهم بكبش جيد وآنية فِيهَا شَيْء من الشهد فَدخل القَاضِي على السُّلْطَان وَلما مثل أَمَامه أنسه السُّلْطَان بالْكلَام وَسَأَلَهُ عَن أشياخه فَأجَاب بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ فَقَالَ السُّلْطَان للحاجب ابْعَثْ بِالْقَاضِي إِلَى خباء القَاضِي أبي زيد(3/55)
عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل وَهُوَ الَّذِي يتَوَجَّه قَاضِيا مَعَ الْمحلة إِلَى السوس إِن شَاءَ الله فأنزله عَلَيْهِ وادفع لَهُ هَذَا الْكَبْش وَهَذَا الْعَسَل فَسَار الْحَاجِب بِالْقَاضِي وبالكبش وَالْعَسَل إِلَى خباء قَاضِي الْعَسْكَر أبي زيد بن الْكَامِل وَأمره أَن يكرم القَاضِي ليلته وَمن الْغَد ارتحل السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَار نزل على وَادي نَفِيس وَضرب لَهُ هُنَالك صيوان الراضة على شاطىء النَّهر ثمَّ استدعى القَاضِي أَبَا زيد وَسَائِر الْكتاب وَلما جَلَسُوا بَين يَدَيْهِ سَأَلَ القَاضِي على وَجه المداعبة وَقَالَ لَهُ بِمَ أجزت ضيفك على كبشه وعسله فتلعثم فِي الْجَواب وَعلم أَن السُّلْطَان قصد اختباره بذلك وَأَنه لم يصنع شَيْئا حَيْثُ أهمل أمره وَلما رأى رَحمَه الله خجلته قَالَ فلعلك لم تجزه فَلَو مدحته على كبشه وعسله لصادفت الْمَقْصُود وَخرجت من الْعهْدَة وَمَا بعثت إِلَيْكُم إِلَّا بِسَبَب هَذَا الْكَبْش وَالْعَسَل فَإِنِّي سهرت لَيْلَتي وَلم أنم وَذكرت مَا اتّفق للمنصور السَّعْدِيّ مَعَ كِتَابه فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة وَعلمت أَنه لم يبْق فِي وقتنا هَذَا كتاب وَلَا أدباء وَلَا أُمَرَاء وسأسمعكم مَا اتّفق للمنصور فِي زيارته هَذِه الْقرْيَة الأغماتية ثمَّ أَمر كَاتبه ابْن الْمُبَارك أَن يقْرَأ عَلَيْهِم مَا حَكَاهُ الفشتالي فِي مناهل الصَّفَا عَن خُرُوج الْمَنْصُور السَّعْدِيّ إِلَى أغمات بِقصد الزِّيَارَة والنزهة وَمَا اتّفق للْقَاضِي أبي مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي مَعَ من أهْدى لَهُ الْكَبْش وَالْعَسَل من الشّعْر وَالَّذِي شايعه عَلَيْهِ جمَاعَة من كتاب الدولة وَقد ألممنا بِخَبَر هَذِه الخرجة للمنصور عِنْد ذكر أخباره حَسْبَمَا مر وَقد ذكر صَاحب النزهة أَبْيَات الْحميدِي وَمن قفا نهجه من الْكتاب فَلْتنْظرْ هُنَالك فَقَرَأَ الْكَاتِب الْمَذْكُور التَّرْجَمَة كلهَا على الْكتاب حَتَّى سمعوها وَعَابَ السُّلْطَان عَلَيْهِم تقصيرهم فِي قضيتهم الْمُوَافقَة لَهَا وَفِي ظَنِّي أَن السُّلْطَان رَحمَه الله أَمرهم بنسخ ذَلِك ومراجعته تحريكا لهمتهم وَالله أعلم(3/56)
ذكر السَّبَب الَّذِي هاج غضب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله على ابْنه الْمولى يزِيد رَحمَه الله
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم ولد السُّلْطَان الْمولى عبد السَّلَام من الْحجاز فولاه السُّلْطَان رَحمَه الله تارودانت والسوس وَمَا إِلَيْهَا ثمَّ لما حضر زمَان خُرُوج الركب الْحِجَازِي أحضر السُّلْطَان صهره وَابْن عَمه الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس وكاتبيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان المكناسي وَأَبا حَفْص عمر الوزريق وَشَيخ الركب أَبَا مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن يحيى وَحَملهمْ على وَجه الْأَمَانَة مَالا لأشراف مَكَّة وَالْمَدينَة وَسَائِر الْحجاز واليمن وَقدره ثَلَاثمِائَة ألف ريال وَخَمْسُونَ ألف ريال وَبعث مَعَهم صلات أخر لِأُنَاس مُعينين فِي حقاق مختوم عَلَيْهَا مَكْتُوب على كل وَاحِد مِنْهَا اسْم صَاحبه وَأمرهمْ أَن يذهبوا أَولا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَتَّى يكون مَسِيرهمْ إِلَى الْحجاز مَعَ أَمِين الصرة الَّذِي يوجهه السُّلْطَان العثماني إِلَى الْحَرَمَيْنِ كل عَام وَإِنَّمَا ارْتكب السُّلْطَان هَذِه الْمَشَقَّة حذرا من ابْنه الْمولى يزِيد أَن يعترضهم فِي الطَّرِيق وينتزع مِنْهُم المَال فبعثهم السُّلْطَان فِي الْبَحْر فِي بعض قراصين السُّلْطَان عبد الحميد وَكتب إِلَيْهِ أَن يَبْعَثهُم مَعَ أَمِين صرته فَلَمَّا وصلوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وجدوا أَمِين الصرة قد سَافر بالركب إِلَى الْحجاز فأقاموا بهَا إِلَى الْعَام الْقَابِل وَحِينَئِذٍ سافروا صُحْبَة الركب وَلما وصلوا إِلَى الْمَدِينَة المنورة فرقوا على أَهلهَا وعَلى سَائِر شرفاء الْحجاز حظهم من المَال
وَلما وصلوا إِلَى مَكَّة وجدوا الْمولى يزِيد بهَا يترصدهم ففرقوا على أهل مَكَّة حظهم وَبَقِي عِنْدهم حَظّ الْيمن والحقاق الَّتِي فِيهَا صلات الذَّهَب فتغفلهم الْمولى يزِيد وَقت القيلولة وهجم عَلَيْهِم فِي جمع من أَصْحَابه وهم بدار شيخ الركب عبد الْكَرِيم بن يحيى فَانْتزع مِنْهُم مَا قدر عَلَيْهِ وَأخذ الحقاق وَذهب فَذهب شيخ الركب وَالْمولى عبد الْملك والكاتبان إِلَى أَمِير(3/57)
مَكَّة الشريف سرُور وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر فَبعث أعوانه إِلَى الْمولى يزِيد فَحَضَرَ عِنْده وألزمه رد المَال وتهدده فَرد الْبَعْض وَجحد الْبَعْض فبسبب هَذَا فِيمَا قيل غضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وتبرأ مِنْهُ وَكتب بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ مناشير بعث بهَا إِلَى الْآفَاق فعلق أَحدهَا بِالْكَعْبَةِ وَالْآخر بالحجرة النَّبَوِيَّة وَالثَّالِث بِبَيْت الْمُقَدّس وَالرَّابِع بضريح الْحُسَيْن بِمصْر وَالْخَامِس بضريح الْمولى عَليّ الشريف بتافيلالت وَالسَّادِس بضريح الْمولى إِدْرِيس بزرهون وَالسَّابِع بضريح الْمولى إِدْرِيس بفاس وَكتب إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد بِأَن لَا يقبله إِذا أَوَى إِلَيْهِ وَاسْتمرّ الْمولى يزِيد مُقيما بالمشرق وَلم يقدر أَن يواجه أَبَاهُ لسوء صَنِيعه إِلَى سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف أسر أهل الجزائر نَصْرَانِيَّة من قرَابَة طاغية الإصبنيول كَانَت متوجهة فِي مركبها من أصبانيا إِلَى نابل لزيارة ابْن عَمها الَّذِي هُوَ صَاحب نابل فَلَمَّا عرف أهل الجزائر محلهَا من قَومهَا امْتَنعُوا من فدائها بِكُل وَجه فَكتب طاغية الإصبنيول إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله يسْأَله أَن يشفع لَهُ فِي فدائها بِكُل مَا يطْلبُونَ فأسعفه وَكتب لصَاحب الجزائر فِي شَأْنهَا فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَن النَّصْرَانِيَّة فِي سهم الْعَسْكَر وَلَا يُمكنهُ إكراههم على فدائها فَلَمَّا رد صَاحب الجزائر شَفَاعَة السُّلْطَان كتب إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد بذلك فَكتب عبد الحميد رَحمَه الله إِلَى أهل الجزائر يوبخهم على رد شَفَاعَة السُّلْطَان وَيَقُول لَهُم إِن الْوَاجِب أَن تسرحوها لَهُ بِدُونِ مَال وَمَا عَسى أَن يبلغ ثمن هَذِه النَّصْرَانِيَّة وَلَو طلب مني سُلْطَان الْمغرب ألف نَصْرَانِيَّة لبعثتها إِلَيْهِ وَحَتَّى الْآن نأمركم أَن تبعثوا إِلَيْهِ بِهَذِهِ النَّصْرَانِيَّة وَلَو كَانَت هِيَ الملكة وَلَا تقبضوا فِيهَا فدَاء أَو مَا رَأَيْتُمْ مَا افتكه ملك الْمغرب من أسرى التّرْك من كل جنس حَتَّى لم يبْق فِي أسر الْكفَّار مُسلم وَأَنْتُم تردون شَفَاعَته فِي نَصْرَانِيَّة لَا بَال لَهَا فَلَا تعودوا لمثل هَذَا فَيكون سَببا لتغير باطننا عَلَيْكُم وَالسَّلَام(3/58)
وَلما ورد عَلَيْهِم فرمان السُّلْطَان عبد الحميد لم يسعهم إِلَّا إرْسَال النَّصْرَانِيَّة إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بالاعتذار وَقَالُوا إِنَّمَا امتنعنا من فدائها خوف بُلُوغ خَبَرهَا إِلَى ملكنا فَلم نر أَن نفتأت عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِب علينا من طَرِيق الْخدمَة وَالطَّاعَة فَنحب من سيدنَا أَن يقبل عذرنا وَلَا يظنّ بِنَا خلاف هَذَا وَالسَّلَام
ذكر مَا كَانَ من السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى أهل زَاوِيَة أبي الْجَعْد حماها الله
هَذِه الزاوية من أشهر زَوَايَا الْمغرب وَلها الْفضل الَّذِي يفصح عَنهُ لِسَان الْكَوْن ويعرب تداولها مُنْذُ أزمان فحول أكَابِر ورثوا مقَام الْولَايَة والرياسة بهَا كَابِرًا عَن كَابر قد عرف لَهُم ذَلِك السوقة والملوك والغني والصعلوك وَلم تزل الْمُلُوك من هَذِه الدولة وَغَيرهَا تعاملهم بالإجلال والإعظام والتوقير والاحترام
وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْجَلِيل الْمَاجِد الْأَصِيل نقم على كبيرها لوقته المرابط الْبركَة أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الشَّيْخ الْأَكْبَر سَيِّدي الْمُعْطِي بن الصَّالح بعض مَا ينقمه الْأَمِير على الْمَأْمُور وَالْإِنْسَان غير مَعْصُوم والمخلوق نَاقص إِلَّا من أكمله الله فاتفق أَن كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قَافِلًا فِي هَذِه السّنة من رِبَاط الْفَتْح إِلَى مراكش فَجعل طَرِيقه على تادلا وَنزل على زَاوِيَة أبي الْجَعْد فَأمر على مَا قيل بهدمها وطرد الغرباء الملتفين على آل الشَّيْخ بهَا ثمَّ نقل سَيِّدي الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور وعشيرته إِلَى مراكش فأسكنهم بهَا واستمروا على ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وبويع ابْنه الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد بمراكش فَأذن لَهُم فِي الذّهاب إِلَى بِلَادهمْ فعادوا إِلَى زاويتهم واطمأنوا(3/59)
بهَا بُرْهَة من الدَّهْر
وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد نقم أَيْضا على سَيِّدي الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور أمورا نقلهَا إِلَيْهِ الوشاة عَنهُ فَأمر بنقله إِلَى فاس بعد مكاتبات ومعاتبات يطول جلبها فانتقل إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سرحه إِلَى بِلَاده
ثمَّ دخلت سنة مِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله كَاتبه أَبَا الْقَاسِم الصياني باشدورا إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد العثماني بهدية عَظِيمَة من جُمْلَتهَا أحمال من سبائك الذَّهَب الْخَالِص مثل بارات الْحَدِيد وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يقْصد بِمثل ذَلِك الْفَخر على الْمُلُوك وَإِظْهَار الْغنى وَكَمَال الثروة وَذَلِكَ من غَرِيب السياسة لمن أقدره الله عَلَيْهَا فَقدم أَبُو الْقَاسِم الْقُسْطَنْطِينِيَّة وألفى بهَا عبد الْملك بن إِدْرِيس وَشَيخ الركب والكاتبين لَا زَالُوا مقيمين بهَا ينتظرون الْمَوْسِم من الْعَام الْقَابِل قَالَ فأقمت بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام وقضيت الْغَرَض وانقلبت إِلَى السُّلْطَان وَبعث معي السُّلْطَان عبد الحميد أحد خُدَّامه بهدية إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله قَالَ وَلما قدمنَا على السُّلْطَان نوه بقدري وَقَالَ لَا أوجه الْهَدَايَا للعثماني إِلَّا مَعَك وَكَانَ الرئيس الطَّاهِر بن عبد الْحق فنيش السلاوي حَاضرا وَقَالَ لَا أوجه القراصين الحربية إِلَّا مَعَ الطَّاهِر يسليه بذلك قَالَ وسألني عَن مِقْدَار راتب عَسْكَر التّرْك الَّذِي يقبضونه فِي كل ثَلَاثَة أشهر فَقلت لَهُ سِتُّونَ أُوقِيَّة لكل وَاحِد فاستقل ذَلِك فَقلت لَهُ إِنَّه لَا يكلفهم فِي أَيَّام الْغَزْو بمؤنة وَلَا علف خيل كل أُمُور السّفر عَلَيْهِ
ثمَّ ذكر الصياني هُنَا كلَاما طَويلا فِي وصف الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَحَال أَهلهَا خَارِجا عَن مَوْضُوع كتَابنَا هَذَا وَالله الْمُوفق(3/60)
ذكر عدد عَسْكَر الثغور فِي دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا كَانَ يقبضهُ من الرَّاتِب
كَانَ بثغر الصويرة أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية أَلفَانِ وَخَمْسمِائة وبآسفي مِائَتَان من الطبجية ومائتان من البحرية وبتيط خَمْسمِائَة من العبيد وبآزمور خَمْسمِائَة مِنْهُم كَذَلِك وبآنفي أَلفَانِ من العبيد وبالعدوتين أَلفَانِ من الطبجية والبحرية وبالمهدية أَلفَانِ وَخَمْسمِائة من العبيد وبالعرائش ألف وَخَمْسمِائة مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية وبآصيلا والساحل مِائَتَان مَا بَين طبجية وبحرية وبطنجة ثَلَاثَة آلَاف وسِتمِائَة من أهل الرِّيف وبتطاوين ثَمَانمِائَة مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية فَكَانَت جملَة عَسَاكِر الثغور سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وراتبهم ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة لكل وَاحِد فِي كل ثَلَاثَة أشهر من حِسَاب مِثْقَال للرأس فِي كل شهر وَكَانُوا فِي ابْتِدَاء الْأَمر يقبضون راتب كل شهر عِنْد انتهائه
فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة أَعنِي سنة مِائَتَيْنِ وَألف أنعم السُّلْطَان رَحمَه الله على عَسَاكِر الثغور بتعجيل راتب خمس عشرَة سنة بِحِسَاب مِثْقَال للرأس فِي كل شهر وَهَذَا مَال لَهُ بَال فَإِنَّهُ يُقَارب ثَلَاثَة ملايين فعل ذَلِك رَحمَه الله إِعَانَة لَهُم وتوسعة عَلَيْهِم ثمَّ أَمر أَن يَجْعَل فِي كل مرسى من مراسي الْمغرب بَيت مَال وَعند تَمام كل ثَلَاثَة أشهر يفتح بَيت المَال وَيُعْطِي لعسكر ذَلِك الثغر ثَلَاثُونَ أُوقِيَّة للرأس حَضَرُوا أم غَابُوا إِعَانَة لَهُم على عِيَالهمْ وَأما عَطاء الْغَزْو وَعَطَاء عَاشُورَاء والصلات وَالصَّدقَات فَكَانَ يبْعَث بذلك كُله من عِنْده لَا من بيُوت الْأَمْوَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله فَوَثَبَ عبيد الثغور على بيُوت أموالها وفتحوها واكتسحوها ثمَّ سَارُوا إِلَى مكناسة مسْقط رَأْسهمْ وَكَانَ ذَلِك بِإِشَارَة الْمولى يزِيد رَحمَه الله(3/61)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قَبيلَة شراقة بأحواز فاس فنهبهم وشردهم فلجؤوا إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الشتَاء بفشتالة فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ سَار إِلَى الحياينة فَأطلق الْجَيْش فِي زُرُوعهمْ فحصدوها ودرسوها واستصفوها عَن آخرهَا ثمَّ جرد الْخَيل فِي طَلَبهمْ فاكتسحوا حللهم وأثاثهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ قد تَوَجَّهت بِجَيْش إِلَى عَامل وَجدّة أبلغه إِيَّاه فَلَمَّا رجعت أدْركْت السُّلْطَان بِبِلَاد الحياينة فقلدني ولَايَة تازا وأعمالها فسرت إِلَيْهَا وأقمت بهَا سنة كَامِلَة وَفِي هَذِه السّنة قدم ولد السُّلْطَان الْمولى مسلمه بن مُحَمَّد من الْمشرق مفارقا لِأَخِيهِ الْمولى يزِيد
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى آيت عطة يَأْمُرهُم أَن يبعثوا بستمائة رجل مِنْهُم وبأربعمائة من عبيد تافيلالت فالمجموع ألف ليكسوهم ويسلحهم ويستعملهم فِي خدمَة الْبَحْر وجنديته فبعثوا بهم إِلَيْهِ
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما قدمُوا عَلَيْهِ بمكناسة استدعاني من تازا فَقدمت عَلَيْهِ فَأمرنِي أَن أتوجه بهم إِلَى تطاوين كي يقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا ثمَّ أَسِير بهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَأَمرَنِي أَن أكون أتعاهدهم بركوب الغلائظ الْعشْرين الَّتِي بمرساها وَالْخُرُوج بهَا إِلَى البوغاز وسواحل أسبانبا والتردد فِيهَا بَينهمَا ليتدربوا على الْبَحْر ويتمرنوا بِهِ قَالَ فَذَهَبت بهم إِلَى تطاوين على مَا رسم السُّلْطَان رَحمَه الله فَأخذُوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة ونفذنا إِلَى طنجة فَأَقَمْنَا بهَا شَهْرَيْن وكل يَوْم يركبون السفن ويتطاردون بهَا فِيمَا بَينهم فَتَارَة يخرجُون إِلَى البوغاز وَتارَة يطرقون سواحل أصبانيا وَتارَة يرجعُونَ إِلَى أَن زَالَت عَنْهُم دهشة الْبَحْر وفارقهم ميده وألفوه وَلما أقبل فصل الشتَاء كتب إِلَى السُّلْطَان بالقدوم بهم فَلَمَّا حللنا مكناسة أَمر رَحمَه الله بعمارة(3/62)
المشور لدخولنا عَلَيْهِ فَلَمَّا مثلنَا بَين يَدَيْهِ دنا منا إِلَى أَن كَانَ فِي وَسطنَا وكلم البربر بلسانهم وسألهم عَن حَالهم فِي سفرهم فَذكرُوا خيرا فسره ذَلِك مِنْهُم ونشط ثمَّ قَالَ لَهُم هَذَا كاتبي وصاحبي قد وليته عَلَيْكُم وعَلى أَوْلَادِي وَبني عمي وَسَائِر أهل الصَّحرَاء فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا قَالَ فَفَزِعت وخرس لساني وَفهم السُّلْطَان عني الْكَرَاهِيَة لذَلِك ثمَّ دخل بستانه وَبعث إِلَى فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي طب نفسا وَلَوْلَا أَنِّي أحبك مَا وليتك على أَوْلَادِي وَأهل بَيْتِي وَإِنِّي لَا أستغني عَنْك وَهَذَا ابْن حميدة الَّذِي وليناه بسجلماسة لم تظهر لَهُ ثَمَرَة وكل يَوْم يأتيني بشكوى بولدي الْحُسَيْن وتطاوله على النَّاس وَلَا يمنعهُ من ذَلِك وَمَا وليتك عَلَيْهِم إِلَّا لهَذَا الْغَرَض فَإِنَّهُم يهابونك لمحلك مني ثمَّ كتب إِلَى جَمِيع أَوْلَاده وأعيان سجلماسة وَأمر لي بِمَال الصائر وَالْبناء وعينه ثمَّ ودعته وانفصلت فَخرجت من مكناسة إِلَى فاس ثمَّ مِنْهَا إِلَى سجلماسة فدخلتها واستوطنتها وَجَاء الْعَامِل الَّذِي كَانَ بهَا قبلي حَتَّى قدم على السُّلْطَان فَقبض عَلَيْهِ ونكبه
قدوم الْمولى يزِيد من الْمشرق واحترامه بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام ابْن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم ولد السُّلْطَان الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد من الْمشرق فِي ركب الْحَاج الفيلالي وَقصد سجلماسة فَلَمَّا كَانَ بقرية أبي صمغون لقِيه رفْقَة من أهل سجلماسة فَسَأَلَهُمْ عَن الْبِلَاد وَأَهْلهَا وَمن الْمُتَوَلِي عَلَيْهَا قَالُوا أَبُو الْقَاسِم الصياني فَلَمَّا سمع الْمولى يزِيد ذَلِك سقط فِي يَده ووجم ثمَّ الْتفت إِلَى شيخ الركب الشريف الْمولى عبد الله بن عَليّ وَالِي الْأَشْرَاف الَّذين مَعَه فَقَالَ لَهُم إِنِّي كنت عَازِمًا على الْوُصُول مَعكُمْ إِلَى بلدكم والاستيجار بضريح جدي الْمولي عَليّ الشريف وأبعث مَعَ أَعْيَان بني(3/63)
عمي وَذَوي أسنانهم من يشفع لي عِنْد أبي والآن حَيْثُ كَانَ الْوَالِي بِهَذِهِ الْبَلدة هُوَ الصياني فَلَا يَسْتَقِيم لي مَعَه أَمر وَلَا يخيط بيني وَبَين وَالِدي بخيط أَبيض وَهَؤُلَاء عيالي فخذوهم بَارك الله فِيكُم واذهبوا بهم مَعَ أَصْحَابِي ينزلون بدار أخي الْمولى سُلَيْمَان وَيَكُونُونَ بهَا وَأما أَنا فسأسير إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش أكون بِهِ حَتَّى يقْضِي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ثمَّ قدم عِيَاله مَعَ أَصْحَابه فِي جملَة الركب وَكتب إِلَى أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان يوصيه بعياله خيرا وَكتب أَيْضا إِلَى شقيقته المولاة حَبِيبَة بالرتب وَإِلَى بني عَمه الَّذين هُنَالك وَبعث بالمكاتيب مَعَ أَصْحَابه وَلما وصل الركب إِلَى بِلَاد القنادسة تقدم أحد أَصْحَابه بالمكاتيب إِلَى الْمولى سُلَيْمَان وَلما قَرَأَهَا توقف وَلم يدر مَا يصنع ثمَّ جَاءَ بهَا إِلَى أبي الْقَاسِم الصياني وَأخْبرهُ الْخَبَر وَقَالَ إِن وَالِدي غاضب عَلَيْهِ وَإِن أَنا قابلت عِيَاله فَرُبمَا ألحقني بِهِ فَمَا الْعَمَل فَكتب أَبُو الْقَاسِم إِلَى شيخ الركب ينهاه عَن اسْتِصْحَاب عِيَال الْمولى يزِيد مَعَه وحذره غضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن أردْت السَّلامَة لنَفسك فَابْعَثْ بالعيال إِلَى المولاة حَبِيبَة بالرتب وَالسَّلَام وَلما وصل كِتَابه إِلَى شيخ الركب وَكَانَت فِيهِ غَفلَة نجع فِيهِ كَلَامه فحبس الركب إِلَى أَن وصل أَصْحَاب الْمولى يزِيد بعياله فَبعث مَعَهم من يدلهم على طَرِيق الرتب فسلكوا على وَادي كثير ونزلوا عِنْد المولاة حَبِيبَة وَكتب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالْخبر إِلَى السُّلْطَان فَزعم أَنه اسْتحْسنَ فعله ثمَّ أمره أَن يهيىء الظّهْر والزاد وَيبْعَث بهما إِلَى عِيَال الْمولى يزِيد مَعَ ثَلَاثِينَ من العبيد ليأتوا بهم إِلَى دَار الدبيبغ يكونُونَ بهَا مَعَ أمه وَكَانَ السُّلْطَان قد أخرجهَا من الدَّار وأسكنها بدار الدبيبغ فَفعل الزياني ذَلِك كُله وبهذه الْقَضِيَّة كَانَ الْمولى يزِيد يعْتد على الصياني حَتَّى أَنه لما أفْضى إِلَيْهِ الْأَمر قبض عَلَيْهِ وضربه وامتحنه
وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام رَضِي الله عَنهُ بعث جمَاعَة من أَشْرَاف الْعلم للشفاعة فِيهِ فَأَمرهمْ السُّلْطَان أَن يَأْتُوا بِهِ(3/64)
فراودوه على الْإِتْيَان فَامْتنعَ ثمَّ بعث إِلَيْهِ ثَانِيًا فَأبى ثمَّ ثَالِثا فَأبى فَكتب إِلَيْهِ بِالْعَفو مرَارًا فَلم يقبل وتصدى للْخلاف وكشف وَجه الْعِصْيَان وَصَارَ يكْتب لوالده بِمَا يحفظه هَكَذَا زعم الصياني وَلَا يخفى أَن الرجل كَانَ مناوئا لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَن نسْمع مِنْهُ جَمِيع مَا ينْسبهُ إِلَيْهِ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
ثمَّ إِن السُّلْطَان بعث إِلَيْهِ شقيقه الْمولى مسلمة فِي عَسْكَر وَأمره أَن ينزل بِقُرْبِهِ ويضيق عَلَيْهِ ويمنعه النُّزُول من الْحرم ثمَّ بعث إِلَيْهِ عسكرا آخر مَعَ الْقَائِد الْعَبَّاس البُخَارِيّ فنزلوا بِقرب الْحرم من النَّاحِيَة الْأُخْرَى وضيقوا عَلَيْهِ حَتَّى منعُوهُ التصوف بِكُل حَال وَفِي مُدَّة مقَامه هُنَالك أَخذ فِي تأسيس دَاره وَبِنَاء مَسْجده وَلَا زَالَت جدرانها قَائِمَة أَسْفَل الْجَبَل إِلَى الْآن وَاسْتمرّ الْمولى يزِيد محصورا هُنَالك إِلَى أَن بلغه خبر وَفَاة أَبِيه رَحمَه الله فَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله
لما اعْتصمَ الْمولى يزِيد بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وراوده السُّلْطَان على النُّزُول مرَارًا فَأبى نَهَضَ إِلَيْهِ من مراكش وَأَرَادَ أَن يحضر عِنْده بِنَفسِهِ لَعَلَّه تسكن نَفسه وَيذْهب مَا بصدره من الْجزع والنفرة وَكَانَ عِنْد خُرُوجه من مراكش بِهِ مرض خَفِيف فَتحمل الْمَشَقَّة وجد السّير فتزايد بِهِ الْمَرَض فِي الطَّرِيق فوصل إِلَى أَعمال رِبَاط الْفَتْح فِي سِتَّة أَيَّام فَأَدْرَكته منيته رَحمَه الله وَهُوَ فِي محفته على نَحْو نصف يَوْم أَو أقل من رِبَاط الْفَتْح فَأَسْرعُوا بِهِ إِلَى دَاره من يَوْمه ذَلِك وَهُوَ يَوْم الْأَحَد الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَألف وَمن الْغَد اجْتمع النَّاس لجنازته وانحشروا من كل وَجه فَجهز وَدفن بقبة من قباب دَاره وتأسف النَّاس لفقده خَاصَّة وَعَامة رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ(3/65)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد ابْن عبد الله ومآثره وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله محبا للْعُلَمَاء وَأهل الْخَيْر مقربا لَهُم لَا يغيبون عَن مَجْلِسه فِي أَكثر الْأَوْقَات وَكَانَ يحضر عِنْده جمَاعَة من أَعْلَام الْوَقْت وأئمته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيه السَّيِّد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الْمَدْعُو بِأبي خريص هَؤُلَاءِ هم أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يسردون لَهُ كتب الحَدِيث ويخوضون فِي مَعَانِيهَا ويؤلفون لَهُ مَا يَسْتَخْرِجهُ مِنْهَا على مُقْتَضى إِشَارَته وَكَانَت لَهُ عناية كَبِيرَة بذلك وجلب من بِلَاد الْمشرق كتبا نفيسة من كتب الحَدِيث لم تكن بالمغرب مثل مُسْند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَألف رَحمَه الله فِي الحَدِيث تآليف بإعانة الْفُقَهَاء الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا مِنْهَا كتاب مساند الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَهُوَ كتاب نَفِيس فِي مُجَلد ضخم الْتزم فِيهِ أَن يخرج من الْأَحَادِيث مَا اتّفق على رِوَايَته الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَو ثَلَاثَة مِنْهُم أَو اثْنَان فَإِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ إِمَام وَاحِد أَو رَوَاهُ غَيرهم لم يُخرجهُ وَهَذَا المنوال لم يسْبق إِلَيْهِ رَحمَه الله وَكَانَ كثيرا مَا يجلس بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي مَقْصُورَة الْجَامِع بمراكش مَعَ فقهائها وَمن يحضرهُ من عُلَمَاء فاس وَغَيرهمَا للمذاكرة فِي الحَدِيث الشريف وتفهمه وَيحصل لَهُ بذلك النشاط التَّام وَكَانَ كثيرا مَا يتأسف أثْنَاء ذَلِك وَيَقُول وَالله لقد ضيعنا عمرنا فِي البطالة ويتحسر على مَا فَاتَهُ من قِرَاءَة الْعلم أَيَّام الشَّبَاب وَلما فَاتَهُ الِاشْتِغَال بفنون الْعلم فِي حَال الصغر اعْتكف أَولا على سرد كتب التَّارِيخ وأخبار النَّاس وَأَيَّام الْعَرَب ووقائعها إِلَى أَن تملى من ذَلِك وَبلغ فِيهِ الْغَايَة القصوى وَكَاد يحفظ مَا فِي كتاب الأغاني لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ من كَلَام الْعَرَب وشعراء الْجَاهِلِيَّة(3/66)
وَالْإِسْلَام وَلما ولاه الله أَمر الْمُسلمين بعد وَفَاة وَالِده زهد فِي التَّارِيخ وَالْأَدب بعد التضلع مِنْهُمَا وَأَقْبل على سرد كتب الحَدِيث والبحث عَن غريبها وجلبها من أماكنها ومجالسة الْعلمَاء والمذاكرة مَعَهم فِيهَا ورتب رَحمَه الله لذَلِك أوقاتا مضبوطة لَا تنخرم حذا بهَا حَذْو الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فِي أوقاته المرسومة عِنْد الفشتالي فِي مناهل الصَّفَا حَتَّى أَنه كَانَ إِذا خرج لزيارة أَو صيد أَو نزهة أَيَّام الرّبيع وَأقَام الْأُسْبُوع وَنَحْوه فَإِذا حانت الْجُمُعَة وَدخل تحرى النُّزُول بمنازل الْمَنْصُور الَّتِي كَانَ ينزل بهَا وَقت خُرُوجه لزيارة أغمات وَنَحْوهَا ورجوعه وَيَقُول هَذِه منَازِل الْمَنْصُور رَحمَه الله وَهُوَ أستاذنا فِي مثل هَذِه الْأُمُور وَمن عَجِيب سيرته رَحمَه الله أَنه كَانَ يرى اشْتِغَال طلبة الْعلم بِقِرَاءَة المختصرات فِي فن الْفِقْه وَغَيره وإعراضهم عَن الْأُمَّهَات المبسوطة الْوَاضِحَة تَضْييع للأعمار فِي غير طائل وَكَانَ ينْهَى عَن ذَلِك غَايَة وَلَا يتْرك من يقْرَأ مُخْتَصر خَلِيل ومختصر ابْن عَرَفَة وأمثالهما ويبالغ فِي التشنيع على من اشْتغل بِشَيْء من ذَلِك حَتَّى كَاد النَّاس يتركون قِرَاءَة مُخْتَصر خَلِيل وَإِنَّمَا كَانَ يحض على كتاب الرسَالَة والتهذيب وأمثالهما حَتَّى وضع فِي ذَلِك كتابا مَبْسُوطا أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَبُو عبد الله الغربي وَأَبُو عبد الله المير وَغَيرهمَا من أهل مَجْلِسه
وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان الْعَادِل الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله صَار يحض النَّاس على التَّمَسُّك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الْأَمْوَال الطائلة وَالْكل مأجور على نِيَّته وقصده غير أَنا نقُول الرَّأْي مَا رأى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وَقد نَص جمَاعَة من أكَابِر الْأَعْلَام النقاد مثل الإِمَام الْحَافِظ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ وَالشَّيْخ النظار أبي إِسْحَاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون وَغَيرهم أَن سَبَب نضوب مَاء الْعلم فِي الْإِسْلَام ونقصان ملكة أَهله فِيهِ إكباب النَّاس على تعَاطِي المختصرات الصعبة الْفَهم وإعراضهم عَن كتب الأقدمين المبسوطة الْمعَانِي الْوَاضِحَة الْأَدِلَّة الَّتِي تحصل لمطالعها الملكة فِي أقرب مُدَّة ولعمري لَا يعلم هَذَا يَقِينا(3/67)
إِلَّا من جربه وذاقه وَقد تقدم لنا فِي صدر هَذَا الْكتاب أَن مُلُوك بني عبد الْمُؤمن كَانُوا يحملون النَّاس على الرُّجُوع فِي الْأَحْكَام إِلَى الْكتاب وَالسّنة كل ذَلِك اعتناء بِالْعلمِ الْقَدِيم ومحافظة على أُصُوله وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله ينْهَى عَن قِرَاءَة كتب التَّوْحِيد المؤسسة على الْقَوَاعِد الكلامية المحررة على مَذْهَب الأشعرية رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ يحض النَّاس على مَذْهَب السّلف من الِاكْتِفَاء بالاعتقاد الْمَأْخُوذ من ظَاهر الْكتاب وَالسّنة بِلَا تَأْوِيل وَكَانَ يَقُول عَن نَفسه حَسْبَمَا صرح بِهِ فِي آخر كِتَابه الْمَوْضُوع فِي الْأَحَادِيث المخرجة من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يَعْنِي أَنه لَا يرى الْخَوْض فِي علم الْكَلَام على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَله فِي ذَلِك أَخْبَار ومجريات
قلت وَهُوَ مُصِيب أَيْضا فِي هَذَا فقد ذكر الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب الْإِحْيَاء إِن علم الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الدَّوَاء لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْمَرَض فَكَذَلِك علم الْكَلَام لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْبِدْعَة فِي قطر وَقد حرر النَّاس الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي حق الْعَامَّة وَغَيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بِمَا لَيْسَ هَذَا مَحل بَسطه وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله عالي الهمة يحب الْفَخر ويركب سنامه ويخاطب مُلُوك التّرْك مُخَاطبَة الْأَكفاء ويخاطبونه مُخَاطبَة السَّادة ويمدهم بالأموال والهدايا حَتَّى علا صيته عِنْدهم وحسبوه أَكثر مِنْهُم مَالا ورجالا وَكَانَ يُعْطي عَطاء من لَا يخَاف الْفقر وَيَضَع الْأَشْيَاء موَاضعهَا وَيعرف مقادير الرِّجَال وَيُؤَدِّي حُقُوقهم ويتجاوز عَن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أَحْوَال خُدَّامه فِي الصِّحَّة وَالْمَرَض وَلَا يغْفل عَمَّن كَانَ يعرفهُ قبل الْملك وَكَانَ من الشجعان الْمَذْكُورين فِي وقته يُبَاشر الحروب بِنَفسِهِ ويهزم الجيوش بهيبته وَكَانَ يقتني الرِّجَال(3/68)
ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل وَاحِد باسمه وَقت اللِّقَاء والحضور عِنْده وَيُوجه كل بَطل مِنْهُم مَعَ قَبيلَة أَو كَتِيبَة من كتائب الْجند وَيعْمل بقواعد السياسة فِي الحروب وَكَانَ إِذا وَجه أحدا مِمَّن يعرف نجدته وكفايته ينشد قَول ابْن دُرَيْد
(وَالنَّاس ألف مِنْهُم كواحد ... وَوَاحِد كالألف إِن أَمر عَنَّا)
وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ رَحمَه الله من عُظَمَاء الْمُلُوك وخلد آثارا كَثِيرَة بالمغرب فَمن ذَلِك بمراكش تَجْدِيد ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي ومسجده ومدرسته وضريح الشَّيْخ التباع ومسجده وضريح الشَّيْخ الْجُزُولِيّ ومسجده وضريح الشَّيْخ الغزواني ومسجده وضريح الشَّيْخ ابْن صَالح ومسجده وضريح الْمولى عَليّ الشريف ومسجده الْأَعْظَم وضريح الشَّيْخ مَيْمُون الصحراوي وَمَسْجِد الْمُلُوك ببريمة ومدرستاه وتجديد جَامع الْمَنْصُور وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بِبَاب دكالة وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بِبَاب هيلانة وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرحبة ومساجد القصبة ومدارسها السِّت وَمَسْجِد زَاوِيَة الشرادي وَمَسْجِد رِبَاط شَاكر ومدينة الصويرة بمساجدها ومدارسها وصقائلها وأبراجها وكل مَا فِيهَا وَمَسْجِد آسفي ومدرسته وَمَسْجِد مَدِينَة تيط ومدينة آنِفا ومسجدها ومدرستها وحمامها وصقائلها وأبراجها ومدينة فضَالة ومسجدها ومدرستها والمصورية ومسجدها وجامع السّنة برباط الْفَتْح ومساجد أجدال السِّتَّة وأبراجه والصقالتين الكبيرتين بسلا ورباط الْفَتْح وَمَسْجِد العرائش ومدرسته وصقائلها وأبراجها وسوقها وصقائل طنجة وأبراجها وَالْمَسْجِد الْأَزْهَر ومدرسته بإصطبل مكناسة وَمَسْجِد البردعيين بهَا وضريح الشَّيْخ ابْن عِيسَى وضريح الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد ومسجده ومدرسة الصهريج ومدرسة الدَّار الْبَيْضَاء وَمَسْجِد بريمة ومدرسته وَمَسْجِد هدراش وَمَسْجِد بَاب مراح وَثَلَاثَة أقواس بقنطرة وَادي سبو خَارج فاس وضريح الشَّيْخ عَليّ بن حرزهم وضريح الشَّيْخ دراس بن إِسْمَاعِيل(3/69)
وضريح أبي عبد الله التاودي ومدرسة بَاب الجيسة وَمَسْجِد تازا ومدرسته وضريح الْمولى عَليّ الشريف بسجلماسة وقصبة الدَّار الْبَيْضَاء بهَا ومسجدها ومدرستها وَمَسْجِد الريصاني ومدرسته وأوقافه على المارستان بفاس ومراكش
فَهَذِهِ الْآثَار كلهَا مِمَّا سمت إِلَى تخليد همته الشَّرِيفَة بَعْضهَا أَنْشَأَهَا وَبَعضهَا أصلحه وجدده ورتب للأشراف بتافيلالت فِي كل سنة مائَة ألف مِثْقَال سوى مَا ينعم بِهِ عَلَيْهِم فِي أَيَّام السّنة مُتَفَرقًا ورتب لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين وشرفاء الْحجاز واليمن مائَة ألف مِثْقَال أَيْضا فِي السّنة ولشرفاء الْمغرب مائَة ألف مِثْقَال كَذَلِك وَأما الطّلبَة والمؤذنون والقراء وأئمة الْمَسَاجِد كَانَت تأتيهم صلَاتهم فِي كل عيد وَأما مَا كَانَ يُنْفِقهُ فِي الْجِهَاد على رُؤَسَاء الْبَحْر وطبجيته وَمَا يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية الَّتِي مَلأ بهَا بِلَاد الْمغرب فشيء لَا يُحْصِيه الْحصْر وَأما مَا أنفقهُ من الْأَمْوَال فِي فكاك أسرى الْمُسلمين فَأكْثر من ذَلِك كُله حَتَّى لم يبْق بِبِلَاد الْكفْر أَسِير لَا من الْمغرب وَلَا من الْمشرق وَلَقَد بلغ عَددهمْ فِي سنة مِائَتَيْنِ وَألف ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ألف أَسِير وَزِيَادَة وأوقافه بالحرمين الشريفين وَكتبه العلمية المحبسة بهما لَا زَالَت قَائِمَة الْعين والأثر إِلَى الْآن وَأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عَددهَا فِي دولته عشْرين كبارًا من المربع وَثَلَاثِينَ من الفراكط والغلائط وَبلغ رُؤَسَاء الْبَحْر عِنْده سِتِّينَ رَئِيسا كلهَا بمراكبها وبحريتها وَبلغ عَسْكَر البحرية ألفا من المشارقة وَثَلَاثَة آلَاف من المغاربة وَمن الطبجية أَلفَيْنِ وَبلغ عسكره من العبيد خَمْسَة عشر ألفا وَمن الْأَحْرَار سَبْعَة آلَاف وَأما عَسْكَر الْقَبَائِل الَّذِي كَانَ يَغْزُو من الْجند فَمن الْحَوْز ثَمَانِيَة آلَاف وَمن الغرب سَبْعَة آلَاف
وَكَانَت لَهُ هَيْبَة عَظِيمَة فِي مشوره وموكبه يتحدث النَّاس بهَا وهابته مُلُوك الفرنج وطواغيتهم ووفدت عَلَيْهِ رسلهم بالهدايا والتحف يطْلبُونَ مسالمته فِي الْبَحْر بلغ ذَلِك رَحمَه الله بسياسته وعلو همته حَتَّى عَمت(3/70)
مسالمته أَجنَاس النَّصَارَى كلهم إِلَّا المسكوب فَإِنَّهُ لم يسالمه لمحاربته للسُّلْطَان العثماني وَلَقَد وَجه رسله وهديته إِلَى طنجة فَردهَا السُّلْطَان رَحمَه الله وأبى من مسالمته ووظف على الْأَجْنَاس الْوَظَائِف فالتزموها وَكَانُوا يؤدونها كل سنة وَاسْتمرّ ذَلِك من بعده إِلَى أَن انْقَطع فِي هَذِه السنين الْمُتَأَخِّرَة وَكَانُوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَمهما كتب إِلَى طاغية فِي أَمر سارع إِلَيْهِ وَلَو كَانَ محرما فِي دينه ويحتال فِي قَضَاء الْأَغْرَاض مِنْهُم بِكُل وَجه أَحبُّوا أم كَرهُوا وَكَانَ أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فَكَانَا يأنفون من أَدَاء الضريبة عَلَانيَة مثل غَيرهم من الْأَجْنَاس فَكَانَ رَحمَه الله يستخرجها مِنْهُم وَأكْثر مِنْهَا بِوَجْه لطيف وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو الْحسن عَليّ والمأمون وَهِشَام وَعبد السَّلَام هَؤُلَاءِ لربة الدَّار المولاة فَاطِمَة بنت عَمه سُلَيْمَان بن إِسْمَاعِيل ثمَّ عبد الرَّحْمَن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثمَّ يزِيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثمَّ الْحسن وَعمر أمهما حرَّة من الأحلاف ثمَّ عبد الْوَاحِد أمه حرَّة من أهل رِبَاط الْفَتْح ثمَّ سُلَيْمَان وَالطّيب ومُوسَى لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ الْحسن وَعبد الْقَادِر لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثمَّ إِبْرَاهِيم لعلجة رُومِية
وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الشّعْر أرجوزة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الونان الْمَعْرُوفَة بالشمقمقبية الَّتِي يَقُول فِي مطْلعهَا
(مهلا على رسلك حادي الأينق ... وَلَا تكلفها بِمَا لم تطق)
وَهَذِه الأرجوزة مَشْهُورَة بَين النَّاس وَهِي من الشّعْر الْفَائِق وَالنّظم البديع الرَّائِق أبان منشئها عَن بَاعَ كَبِير وإطلاع غزير على أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَحكمهَا وأمثالها بِحَيْثُ أَن من حفظهَا وَعرف مقاصدها أغنته عَن غَيرهَا من كتب الْأَدَب وَقد كنت فِي أَيَّام التعاطي اعتنيت بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عَن تلميحاتها وتلويحاتها حَتَّى فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثمَّ شرعت فِي كِتَابَة شرح عَلَيْهَا يُحِيط بمعانيها(3/71)
ويستوعب دقائق مبانيها فَكتبت مِنْهُ نَحْو أَرْبَعَة كراريس ثمَّ عاقت الأقدار عَن إِتْمَامه نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يصرف عَنَّا الْعَوَائِق فِيمَا ينفعنا فِي ديننَا ودنيانا ويحفنا بالسعادة الدُّنْيَوِيَّة والأخروية فِي متقلبنا ومثوانا إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ
وَمن وزراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله الْوَزير الشهير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الْمَدْعُو أفاندي كَانَ من موَالِي السُّلْطَان وغرس نعْمَته وربي دولته وَأَصله من أعلاج الإصبنيول وَكَانَ شعلة من الذكاء والفطنة وركنا شَدِيدا من أَرْكَان الدولة المحمدية فِي حسن التَّدْبِير والحزم الَّذِي لَا يعزب عَنهُ من أُمُور الحضرة قَلِيل وَلَا كثير وَقد أدْرك من فخامة الجاه وضخامة الرياسة غَايَة تفرد بهَا فِي وقته بِحَيْثُ كَانَت الأعاظم من وُجُوه الدولة تقف بِبَابِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَلَا يَتَيَسَّر لَهُم لقاؤه
وَلما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله امتحن الْمولى يزِيد هماما الْوَزير فِي جملَة من امتحنه من أهل مراكش كَمَا سَيَأْتِي
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد وأوليته ونشأته رَحمَه الله
كَانَ الْمولى يزِيد هَذَا عِنْد وَالِده رَحمَه الله بِعَين الْعِنَايَة ملحوظا وَمن النقائص محروسا ومحفوظا وَكَانَ عَامَّة أهل الْمغرب وخاصتهم من الْجند والرعية متشوفين لَهُ ومغتبطين بِهِ يهتفون باسمه ويلهجون بِذكرِهِ لما كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والتمسك بمذاهب الفتوة وَالدّين والاعتناء بجوائز أهل الْبَيْت ومحبة أهل الْخَيْر وإكرامهم وَإِقَامَة الصَّلَوَات لأوقاتها حضرا وسفرا لَا يشْغلهُ عَن ذَلِك شاغل فأصابته عين الْكَمَال وَصَارَ ينْتَقل من حَال إِلَى حَال حَتَّى خالطته جمَاعَة من الأغمار كَانُوا فِي خدمته فلزموه وحسنوا لَهُ الاستبداد على وَالِده وَالْخُرُوج عَلَيْهِ وأتوه من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه حَتَّى وقر ذَلِك فِي صَدره وارتسم فِيهِ وَكَانَ ذَلِك على حِين أَوَان الشبيبة وَأَخذهَا(3/72)
مِنْهُ مأخذها وَكَانَت همته طماحة لَا تقف بِهِ عِنْد غَايَة فاستعجل الْأَمر قبل أَوَانه وَخرج على وَالِده بجبش العبيد حَسْبَمَا مر ولسان حَاله ينشد
(فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا ... فَإِن مَظَنَّة الْجَهْل الشَّبَاب)
فَسَقَطت مَنْزِلَته عِنْد أَبِيه بعد أَن بلغ من الحظوة لَدَيْهِ مَا بلغ وَكَانَ يرشحه للخلافة ويقمه على كبار إخْوَته لما ظهر لَهُ من نجدته واقتداره وجوده فِي مَحل الْجُود ورغبته فِي الْجِهَاد وولوعه بصناعة الرَّمْي بالمهراس فأسند إِلَيْهِ أَمر الطبجية والبحرية وَصَارَ يوجهه مَعَ الرؤساء والطبجية إِلَى الثغور كل سنة ليقف على الملازمين لصقائلها وأبراجها وَيُعلمهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تعلمه وَلما رَآهُ وَالِده مغتبطا بذلك وتوسم فِيهِ النجابة أقبل عَلَيْهِ بالعطاء ثمَّ ولاه الْكَلَام مَعَ قناصل الْأَجْنَاس الَّذين بالمراسي واستنابة فِي ذَلِك
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ولاه السُّلْطَان على قَبيلَة كروان وهم يَوْمئِذٍ أعظم قبائل البربر خيلا ورجالا فأسند إِلَيْهِ أَمرهم وَتقدم إِلَيْهِ فِي أَن يَكفهمْ عَن الْحَرْب مَعَ آيت أدراسن فَسَار إِلَيْهِم واغتبطوا بِهِ واغتبط بهم وَصَارَ أحداثهم وَأَبْنَاء أعيانهم يركبون مَعَه للصَّيْد فغمرهم بالعطاء وأنعم عَلَيْهِم بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح والكسي ولزموا مَجْلِسه حَتَّى أفسدوا قلبه وحسنوا لَهُ الانتزاء على الْملك وَقَالُوا هَذَا بَيت المَال الَّذِي بقبة الخياطين هُوَ فِي يدك وَلَيْسَ دونه مَانع وَبِه يقوم ملكك وَمَتى استدعيت إِخْوَاننَا آيت ومالو لم يتوقفوا عَنْك طرفَة عين وَلَا يقوم لَهُم شَيْء من الْجند وَغَيره وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى شرهت نَفسه وَصَارَ لَا حَدِيث لَهُ إِلَّا فِي ذَلِك واطلع على ذَلِك قَائِد الودايا أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الْخضر وَكَانَ محبا فِي جَانب السُّلْطَان صَادِق الْخدمَة وَالطَّاعَة لَهُ فَكتب إِلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ وَلَده مَعَ جروان وَأَنَّهُمْ يأْتونَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ والمائتين ويبيتون عِنْده بالقصبة وَنحن خفنا أَن يبرز من ولدك أَمر فتعاقبنا عَلَيْهِ فأخبرناك بالواقع(3/73)
وَلما وصل كِتَابه إِلَى السُّلْطَان بعث للحين قائده الْعَبَّاس البُخَارِيّ فِي مائَة من الْخَيل للقبض على الْمولى يزِيد وَأَصْحَابه وَقد قُلْنَا لَك أَن الْجند والرعية مَعًا كَانُوا مغتبطين بالمولى يزِيد فَلَمَّا وصل الْقَائِد الْعَبَّاس إِلَى سلا دس إِلَى الْمولى يزِيد أَنه مَقْبُوض فلينج بِنَفسِهِ فَخرج الْمولى يزِيد من مكناسة لَيْلًا فِي خاصته وَأَصْحَابه من جروان وقصدوا آيت ومالو وَلما وصل الْقَائِل الْعَبَّاس إِلَى مكناسة ألفاها مقفرة من الْمولى يزِيد وشيعته فَأَقَامَ بهَا وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بالْخبر فَبعث السُّلْطَان إِلَى الْمولى يزِيد كَاتبه أَبَا عُثْمَان سعيد الشليخ فَقدم عَلَيْهِ بزاوية آيت إِسْحَاق لِأَنَّهُ لم يجد من قبائل آيت ومالو إِلَّا مهاوش وشقيرين فتجاوزهم إِلَى الزاوية الْمَذْكُورَة وَلما أَتَاهُ أَبُو عُثْمَان الْمَذْكُور بِكِتَاب وَالِده وأمانه سَار مَعَه إِلَى مراكش وَلما وصل إِلَيْهَا دخل ضريح أبي الْعَبَّاس السبتي فاحترم بِهِ ثمَّ عَفا عَنهُ السُّلْطَان وَاجْتمعَ بِهِ فتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَنسب ذَلِك إِلَى سُفَهَاء جروان وَأَنه لم يوافقهم على ذَلِك فأضمر السُّلْطَان الْإِيقَاع بهم وَلما قدم من مراكش سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قصدهم بالكريكرة وأوقع بهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ حَسْبَمَا مر وَأنزل الْمولى يزِيد مَعَ أَخَوَيْهِ الْمولى عَليّ وَالْمولى عبد الرَّحْمَن بفاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ حدثت حَرْب بَينه وَبَين أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بوسط فاس الْعليا وَهلك فِيمَا بَينهمَا عدد وَبلغ خبر ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَقدم مكناسة وَبعث من يقبض عَلَيْهِمَا فَقبض على الْمولى عبد الرَّحْمَن وَأَصْحَابه وفر الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر بزرهون فَأتى بِهِ الْأَشْرَاف إِلَى وَالِده فسامحه ثمَّ سرح الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسَأَلَ عَن أَحْوَال أَصْحَاب الْأَخَوَيْنِ مَعًا ثمَّ عرف صَالحهمْ من طالحهم فَأخْرجهُمْ من السجْن وَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف وَكَانُوا ثَلَاثِينَ رجلا وسرح البَاقِينَ وَنقل الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَترك الْمولى يزِيد بفاس ثمَّ إِن الْمولى عبد الرَّحْمَن كَانَ يسابق يَوْمًا فِي الميدان ويلعب بالبارود فَقتل رجلا من بني مطير فجَاء إخْوَته إِلَى(3/74)
قائدهم مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز فَأدى دِيَته من عِنْده وعفوا وَكتب عَلَيْهِم سجلا بذلك وسكنت الهيعة فاتفق أَن وَجه السُّلْطَان قائده الْعَبَّاس إِلَى مكناسة لقتل أنَاس كَانُوا بسجن مكناسة فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى عبد الرَّحْمَن ظن أَنه قدم فِي شَأْن المطيري الْمَقْتُول وَأَن خَبره قد بلغ السُّلْطَان ففر من مكناسة لَيْلًا إِلَى وَجدّة ثمَّ إِلَى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فَسَأَلَ عَن السَّبَب فَأخْبرهُ الْقَائِد الْعَبَّاس بالواقع فَبعث إِلَيْهِ الْأمان فَلم يَثِق ثمَّ سَار إِلَى تلمسان إِلَى سجلماسة فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من يُؤمنهُ وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ فَلم يَثِق وفر إِلَى السوس فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان أَمَانًا إِلَى السوس ففر إِلَى الْقبْلَة وَأقَام يتَرَدَّد فِي قبائلها إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله فجَاء إِلَى تارودانت فَأَقَامَ بهَا وَطلب الْأَمر فَلم يتم لَهُ أَمر وَمَات رَحمَه الله وَأما الْمولى يزِيد فَإِنَّهُ أَقَامَ بفاس إِلَى أَن استدعاه وَالِده للقدوم عَلَيْهِ بمراكش فَقدم عَلَيْهِ
ثمَّ اتّفق قيام العبيد على السُّلْطَان بِسَبَب الإدالة الَّتِي أَمرهم بتوجيهها إِلَى طنجة حَسْبَمَا مر فَبعث الْمولى يزِيد لإصلاحهم وردهم عَن غيهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم استفزوه بقَوْلهمْ وحركوا مِنْهُ مَا كَانَ سَاكِنا وَاسْتَخْرَجُوا مَا كَانَ كامنا فَبَايعُوهُ وخطبوا بِهِ حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وانحرف قدور بن الْخضر بالودايا عَنهُ وَلما فتح الْمولى يزِيد بَيت المَال وَأعْطى العبيد بعث إِلَى الودايا بعطائهم يستهويهم بِهِ وَكَانَ شَيْئا كثيرا فَردُّوهُ عَلَيْهِ وانضم مُحَمَّد واعزيز فِي بربره إِلَى الودايا فقصدهم الْمولى يزِيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة فهزموه وَقتل من العبيد مَا ينيف على الْخَمْسمِائَةِ ثمَّ قدم السُّلْطَان فِي العساكر وجموع الْقَبَائِل ففر الْمولى يزِيد إِلَى زرهون فَتَبِعَهُ السُّلْطَان وزار الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فشفع لَهُ الْأَشْرَاف الأدارسة فِيهِ فَقبل شفاعتهم وَعَفا عَنهُ حَسْبَمَا مر ثمَّ بعد هَذَا بَعثه إِلَى الْمشرق وَصدر مِنْهُ بِمَكَّة فِي حق شيخ الركب مَا صدر فَكَانَت تِلْكَ الفعلة هِيَ الْمُخَالفَة وَبهَا تَبرأ السُّلْطَان مِنْهُ ثمَّ قفل من الْمشرق سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف والتجأ إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش إِلَى أَن توفّي وَالِده حَسْبَمَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق(3/75)
بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد رَحمَه الله
لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَبلغ خبر مَوته الْمولى يزِيد وَهُوَ بِالْحرم المشيشي بَايعه الْأَشْرَاف هُنَالك وَسَائِر أهل الْجَبَل وَتقدم إِلَيْهِ السَّابِقُونَ من الْجند الَّذين كَانُوا محاصرين لَهُ فَبَايعُوهُ واستتب أمره فَتوجه إِلَى تطاوين إِذْ هِيَ أقرب الثغور إِلَيْهِ فَبَايعهُ أَهلهَا والقبائل الْمُجَاورَة لَهَا وَأطلق الْجند على يهود تطاوين فاستباحهم وَاصْطلمَ نعمتهم ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أهل طنجة والعرائش وآصيلا فقابلهم بِمَا يجب ثمَّ توجه إِلَى طنجة فَخرج عسكرها للقائه ففرح بهم وَأحسن إِلَيْهِم وَبهَا قدم عَلَيْهِ وَفد أهل فاس من أَشْرَافهَا وعلمائها وأعيانها فأكرمهم وَولى عَلَيْهِم أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الذيب ثمَّ انْتقل إِلَى العرائش فوفاه بهَا حَاشِيَة أَبِيه وخدمه ووجوه دولته بمتخلف وَالِده وقبابه وخيله وبغاله وَسَائِر أثاثه فَأحْسن إِلَيْهِم وصاروا مَعَه فِي ركابه إِلَى زرهون وَلما وصل إِلَيْهَا قدم عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى سُلَيْمَان من تافيلالت بقبائل الصَّحرَاء عربها وبربرها وَمَعَهُ بِيعَتْ أهل سجلماسة وَكَانَ قد استجار بِهِ مُحَمَّد واعزيز فَإِنَّهُ كَانَ خَائفًا على نَفسه من الْمولى يزِيد لانحرافه عَنهُ أَيَّام أَبِيه فَسَار فِي صحبته بقبائله وَلما اجْتمع بالسلطان سامحه وأبقاه على قومه وَلما دخل مكناسة قدمت عَلَيْهِ قبائل الغرب كلهَا عربها وبربرها حَتَّى عصاة آيت ومالو ودجالهم مهاوش فَأعْطى مهاوش وَحده عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى الَّذين قدمُوا مَعَه مائَة ألف ريال ثمَّ قدمت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز كُله من عرب وبربر لم يتَخَلَّف عَن بيعَته أحد وَقدم عَلَيْهِ أهل مراكش وأعمالها ببيعتهم وَنَصهَا
الْحَمد لله الْمُنْفَرد بِالْملكِ والخلق وَالتَّدْبِير الَّذِي أبدع الْأَشْيَاء بِحِكْمَتِهِ واخترع الْجَلِيل مِنْهَا والحقير الْغَنِيّ عَن الْمعِين والمرشد والوزير أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير يُؤْتِي الْملك من يَشَاء ويعز من يَشَاء وَهُوَ(3/76)
الْمُدبر الْقَدِير جَاعل الْمُلُوك كفا للأكف العادية وولايتهم مرتعا للعباد فِي ظلّ الْأَمْن والعافية وبيعتهم أمنا من الْهَرج وَالْفساد وقمعا لأهل الشَّرّ والعناد فهم ظلّ الله على الْأَنَام وحصن حُصَيْن للخاص وَالْعَام حَسْبَمَا أفْصح بذلك سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام فَتَبَارَكَ الله رَبنَا الَّذِي شرف هَذَا الْوُجُود وزين هَذَا الْعَالم الْمَوْجُود بِهَذِهِ الْخلَافَة الْمُبَارَكَة والإمامة الحسنية الهاشمية العلوية والطلعة القرشية المحمدية الَّتِي انصرفت الْوُجُوه إِلَى قبلتها الْمَشْرُوعَة واستبان الْحق عِنْد مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة نحمده تَعَالَى على مَا من بِهِ علينا من هَؤُلَاءِ الْإِمَامَة السعيدة ونشكره جلّ جَلَاله شكرا نستوجب بِهِ من الهنا أفضاله ومزيده ونشهد أَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ لَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا فعله أجْرى الأقدار على حسب مَا افتضاه حكمه وعدله ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ومصطفاه من خلقه وخليله سيد الْمَخْلُوقَات كلهَا من إنس وجان الْمُصَفّى من ذؤابة معد بن عدنان صَاحب الشَّرِيعَة المطهرة الَّتِي لَا يخْتَلف فِي فَضلهَا اثْنَان وَالدّين القويم الَّذِي هُوَ أفضل الْأَدْيَان الَّذِي اختصه الله مَا بَين الْأَنْبِيَاء بمزية التَّفْضِيل والتقديم وافترض على أمته الغراء فَرِيضَة الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَأثْنى عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْحَكِيم فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست صِفَاته وأسماؤه {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} الْقَلَم 4 صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة مُتَّصِلَة الدَّوَام متعاقبة بتعاقب اللَّيَالِي وَالْأَيَّام وعَلى آله الْكِرَام الْأَطْهَار وصحابته النجباء البررة الأخيار الَّذين أوضحُوا لنا الْحق تبيانا وأسسوا لهَذِهِ الْملَّة السمحة قَوَاعِد وأركانا وعَلى من اقتفى أَثَرهم القويم واهتدى بهديهم الْمُسْتَقيم إِلَى يَوْم الدّين أما بعد فَإِن الله تَعَالَى جعل صَلَاح هَذَا الْعَالم وأقطاره المعمورة ببني آدم مَنُوطًا بالأئمة الْأَعْلَام محوطا بالملوك الَّذين هم ظلّ الله على الْأَنَام فطاعتهم مَا داموا على الْحق وَاتَّقوا الله سَعَادَة والاعتصام بحبلهم إِذْ ذَاك وَاجِب وَعبادَة قَالَ عز من قَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ل}(3/77)
أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن) النِّسَاء 59 وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن أَمر عَلَيْكُم عبد مجدع أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب وَكره إِلَّا أَن يُؤمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من خرج عَن الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن قَاتل تَحت راية عمية يغْضب لعصبية أَو يَدْعُو إِلَى عصبية أَو ينصر عصبية فَقتل فَقتلته جَاهِلِيَّة وَمن خرج على أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها وَلَا يتحاشى مؤمنها وَلَا يَفِي لذِي عهدها فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ أخرجهَا مُسلم كلهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ الضَّعِيف وَبِه ينتصر الْمَظْلُوم وَمن أكْرم سُلْطَان الله فِي الدُّنْيَا أكْرمه الله يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام السُّلْطَان الْعدْل المتواضع ظلّ الله وَرمحه فِي الأَرْض يرفع الله لَهُ عمل سبعين صديقا وَلما كَانَ أهل بَيت سيد الْمُرْسلين أعظم قُرَيْش فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَأكْرمهمْ منزلَة عِنْد رب الْعَالمين أنالهم الله تَعَالَى فِي خلقه فضلا كَبِيرا ومنحهم إجلالا ورفعة وتعظيما وتكبيرا قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} الْأَحْزَاب 33 وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء وَأهل بَيْتِي أَمَان لأمتي وَإِن مِمَّن امتن الله بِهِ علينا من أهل هَذَا الْبَيْت الشريف الَّذِي أولاه الله أشرف التَّعْظِيم وَأعظم التشريف وَقدمه تَعَالَى لسلطانه الْعَزِيز وَرَفعه جلّ وَعلا على منصة التبريز عميد الْمجد الَّذِي لَا يتناهى فخره ووحيد الْحسب جلّ منصبه وَقدره الإِمَام الَّذِي أَلْقَت لَهُ الْإِمَامَة زمامها وقدمته الأفاضل لفضله إمامها من جَاءَت لَهُ الْخلَافَة تجر أذيالها وَأَخذهَا دون بني أَبِيه وَلم تَكُ تصلح إِلَّا لَهُ وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا وَمن جبلت قُلُوب الْخَلَائق على محبته وَألقى لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض لمجده ولعلو همته السُّلْطَان السعيد الواثق بربه الْمعِين الرشيد أَبَا المكارم والمفاخر سيدنَا ومولانا يزِيد ابْن مَوْلَانَا الإِمَام السُّلْطَان(3/78)
الْهمام المرحوم بِاللَّه سَيِّدي مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ سيدنَا ومولانا عبد الله ابْن السُّلْطَان الْجَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن موالينا السَّادة الْأَشْرَاف ذَوي الْفضل وَالْكَرم والإنصاف قدس الله أَرْوَاحهم فِي أَعلَى الْجنان ومنحهم بفضله الرِّضَا والرضوان أيد الله بِبَقَائِهِ الدّين وطوق بِسَيْفِهِ الْمُلْحِدِينَ وَكتب تَحت لوائه الْمُعْتَدِينَ وَكتب لَهُ النَّصْر إِلَى يَوْم الدّين وأعاذ بِهِ الأَرْض من لايدين بدين وَأعَاد بعدله أَيَّام آبَائِهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأسكن فِي الْقُلُوب سكينته ووقاره وَمكن لَهُ فِي الْوُجُود وَجمع لَهُ أقطاره هُوَ وَالله مِمَّن فِيهِ اسْتِحْقَاق مِيرَاث آبَائِهِ الْأَعْلَام وتراث أجداده الْكِرَام الْمجمع عَلَيْهِ أَنه فِي هَذِه الْأَيَّام فَرد هُوَ الأنان وَوَاحِد وَهَكَذَا فِي الْوُجُود الإِمَام الراقي فِي صبح سَمَاء هَذِه الذرْوَة المنيفة الْبَاقِي بعد الْأَئِمَّة الماضين نعم الإِمَام وَنعم الْخَلِيفَة سلالة الأخيار وخلاصة أَبنَاء النَّبِي الْمُخْتَار أسمى الله إيالته الشَّرِيفَة وأنار البسيطة بأنوار مَمْلَكَته الشامخة المنيفة انْعَقَد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة المراكشية حاطها الله وَمَا حولهَا من أهل السوس وكافة الرحامنة وَغَيرهم من قبائل عديدة حَسْبَمَا تضمنته أَسمَاء من يكْتب اسْمه مِنْهُم عقبه بِخَط من يكْتب مِنْهُم أَو خطوط الْعُدُول الثِّقَات عَمَّن لم يكن يحسن الْكِتَابَة وأذنوا لمن يكْتب عَنْهُم بيعَة تمّ بِمَشِيئَة الله تَمامهَا وَعم بالصوب المغدق غمامها سعيدة مَيْمُونَة شريفة لَهَا السَّلامَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَضْمُونَة صَحِيحَة شَرْعِيَّة ملحوظة مرعية دائبة دائمة لَازِمَة جازمة صَحِيحَة صَرِيحَة متعبة مريحة على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وعَلى مَا بُويِعَ بِهِ مَوْلَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الراشدون من بعده وَالْأَئِمَّة المهتدون الموفون بعهده وعَلى السّمع وَالطَّاعَة وملازمة السّنة وَالْجَمَاعَة قرت بهَا نواظرهم وَشهِدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وأمضوها إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر والمنشط وَالْمكْره واليسر والعسكر أجمع عَلَيْهَا أَرْبَاب العقد(3/79)
والحل وَأَصْحَاب الْكَلَام فِيمَا قل وَجل وَمن يُوصف بِعلم وَقَضَاء وَمن يرجع إِلَيْهِ فِي رد وإمضاء لم يُخَالف فِيهَا إِمَام مَسْجِد وَلَا خطيب وَلَا ذُو فَتْوَى يسْأَل فيجيب وَلَا من يجْتَهد فِي رَأْي فيخطىء أَو يُصِيب وَلَا مَعْرُوف بدين وَصَلَاح وَلَا فرسَان حَرْب وكفاح وَلَا طَاعن بِرُمْح وَلَا ضَارب بصفاح وَلَا وُلَاة الْأَمر وَالْأَحْكَام وَلَا حَملَة الْعلم الْأَعْلَام وَلَا حماة السيوف والأقلام وَلَا أَعْيَان السَّادة الْأَشْرَاف وَلَا أكَابِر الْفُقَهَاء وَمن انخفض قدره وَمن أناف بيعَة تمت بهَا نعْمَة من وحد الله قائلين {الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} الْأَعْرَاف 43 {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} الْفَتْح 10 الْآيَة فَمن حضر خَواص من ذكر وعوامهم قيد شَهَادَته بمضمن العقد الْمَنْصُوص مُلْتَزما لجَمِيع مَا اقْتَضَاهُ من الْعُمُوم وَالْخُصُوص باسطا كَفه بِالدُّعَاءِ والابتهال والتضرع لذِي الْعِزَّة والجلال قَائِلا اللَّهُمَّ كَمَا خصصت مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بمزيد الْكَرَامَة وارتضيته لمقام الْإِمَامَة وانتخبته من أَشْرَاف النَّاس وصنت بِهِ وُجُوههم عَن الباس فانصره اللَّهُمَّ نصرا مؤزرا وَاجعَل نصِيبه من عنايتك وكفايتك جزيلا موفرا وَأَن لَهُ فِي كل مرام فتحا مُبينًا وظفرا ميسرًا معينا وأسعدنا اللَّهُمَّ بأيامه واكلأه بكلاءتك فِي ظعنه ومقامه وَاجعَل بيعَته الْمُبَارَكَة بيعَة تخلد بهَا مآثره تخليدا وتؤيد علوه وتأييده وَنَصره تأييدا وأبقه على الْأَنَام شفيقا وبجميعهم بارا رَفِيقًا وأعنه اللَّهُمَّ على مَا وليته من أُمُور عِبَادك ومهد لَهُ أتم التَّمْهِيد فِي أقطار بلادك وَكن لَهُ فِيمَا يرضيك مؤيدا وظهيرا وَاجعَل لَهُ من لَدُنْك وليا وسلطانا نَصِيرًا أجب دعاءنا إِنَّك با مَوْلَانَا ولي ذَلِك وَبِه قدير وَأَنت نعم الْمولى وَنعم النصير وبالإجابة جدير وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْكَبِير وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين فِي ثامن عشر شعْبَان عَام أَرْبَعَة وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتَهَت(3/80)
انْتِقَال الودايا من مكناسة إِلَى فاس وَعبيد الثغور مِنْهَا إِلَى مكناسة
لما كَانَ السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله بمكناسة أَمر الودايا أَن يَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى فاس الْجَدِيد مسْقط رؤوسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم وبذل لَهُم خمسين ريالا للرأس إِعَانَة لَهُم على نقلتهم فعادوا إِلَى فاس الْجَدِيد واستوطنوه بعد تغريبهم عَنهُ بمكناسة ثَلَاثِينَ سنة كَمَا سبق ثمَّ أَمر عبيد الثغور أَن يَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى مكناسة لتجتمع كلمتهم بهَا وأنعم على أهل كل ثغر مِنْهُم بِبَيْت مَاله الَّذِي بِهِ فَاقْتَسمُوهُ وانقلبوا إِلَى مكناسة مغتبطين
نقض الصُّلْح مَعَ جَيش الإصبنيول وحصاره سبتة
قَالَ منويل القشتيلي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب لما ولي الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد رَحمَه الله أظهره معاداة الإصبنيول وصمم على حربهم فتفادى طاغيتهم من حربه بِكُل وَجه وَبعث باشدوره إِلَيْهِ بطنجة يهنئه بِالْملكِ ويتملق لَهُ فَأَعْرض عَن ذَلِك وَلم يحفل بِهِ وَلَا بهديته بل عمد إِلَى من كَانَ بمراسيه من نَصَارَى الإصبنيول تجارًا وفرايلية وَغَيرهم وَقبض عَلَيْهِم وسلكهم فِي السلَاسِل وساقهم إِلَى طنجة فحبسهم بهَا قَالَ وَكَانَت قراصين الْمُسلمين الحربية يَوْمئِذٍ سِتَّة عشر قرصانا وفيهَا من المدافع ثَلَاثمِائَة مدفع وَسِتَّة مدافع
قلت قد تقدم أَن القراصين أَكثر من ذَلِك بِكَثِير وَاسْتمرّ النَّصَارَى محبوسين بطنجة إِلَى أَن اتّفق أَن كَانَ قرصان للإصبنيول يطوف بساحل العرائش فظفر بمركب هُنَالك وَأسر بَعضهم وَكَانَ الْمولى يزِيد يَوْمئِذٍ بالعرائش فَنظر إِلَيْهِم بِمِرْآة الْهِنْد وَهُوَ على سطح دَاره إِذْ أسروهم وَبعث الصَّرِيخ فِي أَثَرهم ففاتوه ثمَّ وَقع التفادي بَينه وَبَين الطاغية فِي أُولَئِكَ الأسرى بأسرى طنجة اه كَلَام منويل(3/81)
ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله زحف إِلَى سبتة واستنفر النَّاس لجهادها والمرابطة عَلَيْهَا واستصحب مَعَه آلَة الْحَرْب من المدافع والمهاريس وَنصب عَلَيْهَا سَبْعَة أشبارات كَانَ جلها لفنانشة سلا وأهرعت إِلَيْهِ المتطوعة من حَاضر وباد ونسلوا إِلَيْهِ من كل حدب وواد وَأقَام على حصارها مُدَّة ثمَّ أفرج عَنْهَا وَسَار إِلَى نَاحيَة مراكش لأمر اقْتضى ذَلِك فَلَمَّا وصل إِلَى مَدِينَة آنِفا بدا لَهُ من الرُّجُوع فَرجع وَنزل عَلَيْهَا واستأنف الْجد وأرهف الْحَد وَأرْسل إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم للْجِهَاد والمرابطة فتقاعدوا عَنهُ بعد أَن أشرف على فتحهَا وَكَانَ مَا نذكرهُ
انْتِقَاض أهل الْحَوْز على السُّلْطَان الْمولى يزِيد ابْن مُحَمَّد وبيعتهم لِأَخِيهِ الْمولى هِشَام رحمهمَا الله
لما قدمت قبائل الْحَوْز على السُّلْطَان الْمولى يزِيد بمكناسة ظهر لَهُم مِنْهُ بعض التَّجَافِي عَنْهُم وأنزلهم فِي الْعَطاء دون البربر والودايا وَغَيرهم فَسَاءَتْ ظنونهم بِهِ وانفسدت قُلُوبهم عَلَيْهِ وَلما رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ تمشت رجالاتهم بَعْضهَا إِلَى بعض وخب الرحامنة فِي ذَلِك وَوَضَعُوا واتفقت كلمتهم مَعَ أهل مراكش وَعَبدَة وَسَائِر قبائل الْحَوْز فقدموا الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد للْقِيَام بأمرهم وآتوه بيعتهم وطاعتهم وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بالمولى يزِيد وَهُوَ محاصر لسبتة أقلع عَنْهَا وَسَار إِلَى الْحَوْز فشرد قبائله وَوصل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا عنْوَة يُقَال إِن دُخُوله إِلَيْهَا كَانَ من الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب يغلى فاستباحها وَقتل وسمل وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما ثمَّ استجاش عَلَيْهِ الْمولى هِشَام قبائل دكالة وَعَبدَة وقصده بمراكش فبرز إِلَيْهِ الْمولى يزِيد وَلما التقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ تازكورت انهزم جمع الْمولى هِشَام وتبعهم الْمولى يزِيد فأصيب برصاصة فِي خَدّه فَرجع إِلَى مراكش يعالج جرحه فَكَانَ فِي ذَلِك حتفه رَحمَه الله وَذَلِكَ أَوَاخِر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف(3/82)
وَدفن بقبور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَلَقَد كَانَ رَحمَه الله من فتيَان آل عَليّ وسمحائهم وأبطالهم لَهُ فِي النجدة والكفاية الْمحل الَّذِي لَا يجهل والسبق الَّذِي لَا يلْحق وَالْغُبَار الَّذِي لَا يشق وَلَا يضرّهُ تنقيص من نَقصه من الحسدة عَفا الله عَنَّا وعنهم فَإِن مَكَان الرجل غير مكانهم وهمته الْعَالِيَة فَوق تزويراتهم تغمد الله الْجَمِيع بعفوه وغفرانه آمين ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث
فَفِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي بسلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد السُّوسِي المنصوري وَدفن قرب الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي مغيث من طالعة سلا وَله شرح على مُخْتَصر السنوسي فِي الْمنطق وَآخر على كبراه وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه المرابط الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الغزواني ابْن الْبَغْدَادِيّ من حفدة الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي رَضِي الله عَنهُ وَدفن بداره بجوار سَيِّدي مغيث أَيْضا
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من صفر سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الإِمَام صَاحب التصانيف المفيدة والأجوبة العتيدة أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن زكري الفاسي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع من رَجَب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف كمل بِنَاء قبَّة ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ على يَد الْقَائِد أبي عبد الله الحوات وَفِي الشَّهْر نَفسه توفّي الْفَقِيه القَاضِي النوازلي أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد الشدادي بزاوية زرهون
وَفِي سنة خمسين وَمِائَة وَألف ولد الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني شيخ الطَّائِفَة التجانية وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله وفيهَا كَانَت المجاعة الْعَظِيمَة بالغرب والفتن وَنهب الدّور بِاللَّيْلِ بفاس وَغَيرهَا وَصَارَ جلّ النَّاس لصوصا(3/83)
فَكَانَ أهل الْيَسَار لَا ينامون لحراستهم دُورهمْ وأمتعتهم وَهلك من الْجُوع عددا لَا حصر لَهُ حَتَّى لقد أخبر صَاحب المارستان أَنه كفن فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ثَمَانِينَ ألفا وَزِيَادَة سوى من كَفنه أَهله هَذَا بفاس وليقس عَلَيْهَا غَيرهَا
وَفِي زَوَال يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة وَألف توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَبُو عَمْرو عُثْمَان التواتي وَدفن دَاخل رَوْضَة سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَ الوباء بالمغرب وانحباس الْمَطَر فلحق النَّاس من ذَلِك شدَّة ثمَّ تداركهم الله بِلُطْفِهِ
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة بالمغرب الَّتِي هدمت جلّ مكناسة وزرهون وَمَات فِيهَا خلق كثير بِحَيْثُ أحصي من العبيد وحدهم نَحْو خَمْسَة آلَاف وَتكلم لويز مَارِيَة على هَذِه الزلزلة فَقَالَ إِنَّهَا مكثت ربع سَاعَة وتشققت الأَرْض مِنْهَا واضطراب الْبَحْر وفاض حَتَّى ارْتَفع مَاؤُهُ على سور الجديدة وَفرغ فِيهَا وَلما رَجَعَ الْبَحْر إِلَى مقره ترك عددا كثيرا من السّمك بِالْبَلَدِ وفاض على مسارحهم ومزارعهم وأشباراتهم فنسف ذَلِك كُله نسفا واضطربت المراكب والفلك بالمرسى فتكسرت كلهَا وفر نَصَارَى الْبَلَد إِلَى الْكَنِيسَة وَتركُوا دِيَارهمْ منفتحة وَمَعَ ذَلِك لم يفقد مِنْهَا شَيْء لاشتغال النَّاس بِأَنْفسِهِم وَتكلم صَاحب نشر المثاني على هَذِه الزلزلة فَقَالَ وَفِي ضحوة يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا ومادت شرقا وغربا واستمرت كَذَلِك نَحْو درج زماني وفاض مَاء البرك والصهاريج على الْبيُوت وتكدرت الْعُيُون ووقف مَاء الأودية عَن الجري وَسَقَطت الدّور وتصدعت الْحِيطَان وَأخذ النَّاس فِي هدم مَا تصدع خوف سُقُوطه وفزع النَّاس وَتركُوا حوانيتهم وأمتعتهم وَوَقع بِمَدِينَة سلا أَن مَاء الْبَحْر انحصر عَنهُ إِلَى أقصاه فجَاء النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَرجع المَاء إِلَى جِهَة الْبر وَتجَاوز حَده الْمُعْتَاد بمسافة كَبِيرَة(3/84)
فأغرق جَمِيع من كَانَ خَارج الْمَدِينَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وصادف قافلة ذَاهِبَة إِلَى مراكش فِيهَا من الدَّوَابّ وَالنَّاس عدد كثير فأتلف الْجَمِيع وَرمى بالقوارب والزوارق الَّتِي فِي الْوَادي إِلَى مَسَافَة بعيدَة جدا ثمَّ بعد هَذِه بِنَحْوِ سِتَّة وَعشْرين يَوْمًا عَادَتْ زَلْزَلَة أُخْرَى أَشد من الأولى بعد صَلَاة الْعشَاء هِيَ الَّتِي أثرت فِي مكناسة غَايَة وَهلك تَحت الْهدم بهَا نَحْو عشرَة آلَاف نفس وَفعلت بفاس أَيْضا فعلا شنيعا انْظُر تَمام كَلَامه فقد أَطَالَ فِي وصفهَا
وَفِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَبَقِي مِنْهَا مثل الْهلَال ثمَّ انجلت بعد حِين
وَفِي فجر يَوْم الْأَحَد الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني وعمره ينيف على الثَّمَانِينَ سنة وَبعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَظَهَرت النُّجُوم لِكَثْرَة الظلام ثمَّ انجلت وَرجعت لحالها بعد نصف سَاعَة وَنَحْوهَا
وَفِي أَعْوَام تسعين وَمِائَة وَألف كَانَت المجاعة الْكَبِيرَة بالمغرب وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وَكثر الْهَرج ودام ذَلِك قَرِيبا من سبع سِنِين
وَفِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام الْمُحَقق البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بناني الفاسي الْفَقِيه الْمَشْهُور صَاحب التآليف الحسان مثل حَاشِيَته البديعة على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على مُخْتَصر خَلِيل حكى الْعَلامَة الرهوني فِي حَاشِيَته قَالَ لما أخبر الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة بوفاته جَاءَ فَزعًا وَهُوَ يبكي فَلَقِيَهُ بعض النَّاس فَقَالَ لَهُ الله يَجْعَل الْبركَة فِيكُم فَقَالَ لم تبْق بركَة بعد هَذَا الرجل وَذَلِكَ لمعرفته بمكانته
وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة الْمولى أَحْمد بن الطّيب الوزاني رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه آمين(3/85)
حُدُوث الْفِتْنَة بالمغرب وَظُهُور الْمُلُوك الثَّلَاثَة من أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما قتل الْمولى يزِيد رَحمَه الله بمراكش افْتَرَقت الْكَلِمَة بالمغرب فَأَقَامَ أهل الْحَوْز وَأهل مراكش على التَّمَسُّك بدعوة الْمولى هِشَام وشايعه على أمره الْقَائِد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي صَاحب آسفي وأعمالها والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري وَكَانَ الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد شَقِيق الْمولى يزِيد خَليفَة عَنهُ بِبِلَاد الهبط والجبل يدبر الْأَمر بثغورها وَينظر فِي أمورها فَلَمَّا اتَّصل بِهِ خبر وَفَاة أَخِيه دَعَا إِلَى نَفسه أهل تِلْكَ الْبِلَاد فَبَايعُوهُ واتفقت كلمتهم عَلَيْهِ وَوصل خبر موت الْمولى يُزْبِد إِلَى فاس وأعمالها فَبَايعُوا الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الرّبيع الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله
كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله أعلق بقلب أَبِيه من سَائِر إخْوَته على مَا قيل لسعيه فِيمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله ويرضي وَالِده واشتغاله بِالْعلمِ والعكوف عَلَيْهِ بسجلماسة وَغَيرهَا وَلم يلْتَفت قطّ إِلَى شَيْء مِمَّا كَانَ يتعاطاه إخْوَته الْكِبَار وَالصغَار من أُمُور اللَّهْو كالصيد وَالسَّمَاع ومعاقرة الندمان وَمَا يزري بالمروءة وَلم يَأْتِ فَاحِشَة قطّ من صغره إِلَى كبره وَكَانَ رَحمَه الله يرى لَهُ ذَلِك ويثيبه عَلَيْهِ بالعطايا الْعَظِيمَة والذخائر النفيسة وَالْأُصُول الْمُعْتَبرَة الَّتِي تغل الْألف وَأكْثر وينوه بِذكرِهِ فِي المحافل وَيبْعَث إِلَيْهِ بأعيان الْفُقَهَاء والأدباء إِلَى سجلماسة ليقْرَأ عَلَيْهِم وَيَأْخُذ عَنْهُم وَيَدْعُو لَهُ فِي كل موقف على رُؤُوس الأشهاد وَيَقُول إِن وَلَدي سُلَيْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يبلغنِي عَنهُ قطّ مَا يكدر باطني عَلَيْهِ فأشهدكم أَنِّي عَنهُ رَاض وَنَشَأ رَحمَه الله نشأة حَسَنَة(3/86)
طيبَة وَكَانَت شمائل الْملك لائحة عَلَيْهِ إِلَى أَن أظفره الله بِهِ وَكُنَّا قدمنَا أَنه قدم على أَخِيه الْمولى يزِيد بقبائل الصَّحرَاء فأجل مقدمه وَأكْرم وفادته فَأَقَامَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله بفاس إِلَى أَن كَانَت وَفَاة الْمولى يزِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فاتصل خبر مَوته بِأَهْل فاس ومكناسة فَقَامُوا على سَاق وَاتفقَ العبيد والودايا والبربر وَأهل فاس على بيعَته لما كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالدّين وَالْفضل وَسَائِر الْأَوْصَاف الحميدة الَّتِي تفرد بهَا عَن غَيره وَلما قدم العبيد والبربر من مكناسة إِلَى فاس اجْتَمعُوا بأعيان الودايا وَأهل فاس ودخلوا ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَبَايَعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يَوْم الأثنين سَابِع عشر رَجَب سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما تمت بيعَته انْتقل إِلَى فاس الْجَدِيد فاستقر بدار الْملك مِنْهَا وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ بعدهمْ قبائل بني حسن وَأهل الغرب ثمَّ أهل العدوتين سلا ورباط الْفَتْح وانحرف بعض أهل رِبَاط الْفَتْح عَن بيعَته كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل الثغور الهبطية بعد أَن توقفوا عَن بيعَته مُدَّة يسيرَة لأَنهم كَانُوا قد بَايعُوا الْمولى مسلمة كَمَا مر
وَنَصّ بيعَة أهل فاس الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الْحَمد لله الَّذِي نظم بالخلافة شَمل الدّين وَالدُّنْيَا وَأَعْلَى قدرهَا على كل قدر فَكَانَت لَهَا الدرجَة الْعليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وَأصْلح بهَا أَمر المعاش والمعاد وَألف بهَا بَين قُلُوب الْعباد من الْحَاضِر والباد وَجعلهَا صونا للدماء وَالْأَمْوَال والأعراض وغل بهَا أَيدي الْجَبَابِرَة فَلم تصل إِلَى مفاسد الْأَغْرَاض وَقَامَ بهَا أَمر الْخلق واستقام وأقيمت الشَّرَائِع وَالْحُدُود وَالْأَحْكَام وَنصب منارها علما هاديا وأقامه إِلَى الْحق دَاعيا فأوى لظلها الوريف الْقوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى وَلم يتْرك الْإِنْسَان سدى بل أمره وَنَهَاهُ وحذره اتِّبَاع هَوَاهُ وطوقه الْقيام بالنفل وَالْفَرْض وَهُوَ أحكم(3/87)
الْحَاكِمين {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين} الْبَقَرَة 25 فَمن رَحمته نصب الْمُلُوك ومهد الطَّرِيق للسير والسلوك وَلَو ترك النَّاس فوضى لأكل بَعضهم بَعْضًا وَآل الْأَمر إِلَى الخراب وأفضى لَوْلَا الْخلَافَة لم تؤمن لنا سبل وَكَانَ أضعفنا نهبا لقوانا وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الْمَبْعُوث رَحْمَة للأنام أصل الْوُجُود ومبدأه وَغَايَة الْكَمَال ومنتهاه سيد الْأَوْلِيَاء وَإِمَام الْأَنْبِيَاء وقائد الأصفياء وعَلى آله أولي الْمجد العميم وَالْقدر الْعَظِيم وَأَصْحَابه الْخُلَفَاء الرَّاشِدين والهداة المهتدين الَّذين شيدوا أَرْكَان الدّين ومهدوا قَوَاعِده للمشيدين وأخبروا عَنهُ وأسندوا إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله اخْتصَّ بِهَذَا الْأَمر قُريْشًا وَأنزل عَلَيْهِ {وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء} الْبَقَرَة 247 هَذَا وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ وَله الْبَقَاء والدوام بنزول مَا لَا بُد مِنْهُ من فَجْأَة الْحمام لمن كَانَ قَائِما بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم وانتقاله إِلَى دَار عَفوه ورضوانه العميم أسْكنهُ الله فسيح الْجنان وَسَقَى ثراه سحائب الرَّحْمَة والغفران وَجب على النَّاس نصب إِمَام لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من مَاتَ وَلَيْسَت فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة فجالت أفكارهم وخاصت عُقُولهمْ وأنظارهم فِيمَن يقدمُونَ لهَذَا المنصب الْأَعْظَم ويسلك بهم السَّبِيل الأقوم فهداهم التَّوْفِيق والتسديد والرأي الصَّالح السديد إِلَى من نَشأ فِي عفة وصيانة ومروءة وديانة وعكوف على تَحْصِيل الْعلم الشريف ودؤب على التحلي بحلى الْعَمَل المنيف مَعَ نجدة ونباهة وذكاء وفطانة ونزاهة وعلو همة وَقُوَّة عَزمَة وتدبير وسياسة وَخَبره بالأمور وفراسة فَتى جمع الله لَهُ بَين الصرامة والحلم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَألبسهُ الهيبة وَالْوَقار ورقاه أَعلَى رتب الْعِزّ والفخار وَهُوَ السّري الْمُقدم الشهم الأبر الْهمام ذُو الْأَخْلَاق الطاهرة الزكية والمآثر الظَّاهِرَة السّنيَّة عالي الْقدر والشأن فريد الْعَصْر ووحيد الأوان أَبُو الرّبيع مَوْلَانَا سُلَيْمَان ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد ابْن(3/88)
مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الله ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف فانعقد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة الإدريسية وَمَا حولهَا من الْبِقَاع على تقدمه وإمامته وَاسْتَبْشَرُوا بإمرته وخلافته وَبَادرُوا إِلَى تَعْيِينه وَبَايَعُوهُ بيعَة انْعَقَد على ألوية النَّصْر عقدهَا وطلع فِي أفق الهناء سعدها حضرها الصُّدُور والأعيان وَأهل الوجاهة فِي هَذَا الزَّمَان وذوو الْحل وَالْعقد وَمن إِلَيْهِم الْقبُول وَالرَّدّ من عُلَمَاء وأعلام وَأَصْحَاب الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام وَعُظَمَاء أَشْرَاف كرام ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمتقدمين فِي كل نَاد من عرب البدو والحضر وجيوش العبيد والبربر فانعقدت بِحَمْد الله مؤسسة على التَّقْوَى وَاشْتَدَّ بهَا عضد الْإِسْلَام وتقوى بيعَة تَامَّة محكمَة الشُّرُوط وفية العهود وَثِيقَة الربوط جَارِيَة على سنَن السّنة وَالْجَمَاعَة سَالِمَة من كل كلفة ومشقة وتباعة رَضِي الْكل بهَا وارتضاها وألزم حكمهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وأمضاها شهد بذلك الْحَاضِرُونَ على أنفسهم طَوْعًا وأدوا إِلَيْهِ تَعَالَى مَا وَجب عَلَيْهِم شرعا جعلهَا الله رَحْمَة على الْخلق وَأقَام بهَا فِي البسيطة الْعدْل وَالْحق وأيد بعونه وتأييده وتوفيقه وتسديده من تلقاها بِالْقبُولِ وَأَحْيَا بِهِ سنة سيدنَا ومولانا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم فهنيئا لأرضنا إِذْ أَلْقَت مقاليدها إِلَى من يحمي حماها ويحقن دماها ويكبت عَداهَا وَيدْفَع رداها وينصر الشَّرِيعَة ويشيد مبناها ويعلن بِحَقِيقَة الْحق ويوضح مَعْنَاهَا نَصره الله وَنصر بِهِ وأمات الْبدع والظلالة بِسَبَبِهِ وَدَمرَ بِهِ شيعَة الْجور وَالْفساد وَأبقى الْخلَافَة فِي بَيته إِلَى يَوْم التناد وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النبيئين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ والراوين عَنْهُم والمتلقين مِنْهُم آمين وَفِي ثامن عشر رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سِتَّة وَمِائَتَيْنِ وَألف من هِجْرَة الْمُصْطَفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام أفقر العبيد إِلَى الله سُبْحَانَهُ عبد الله تَعَالَى مُحَمَّد التاودي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة المري كَانَ الله لَهُ وليا وَبِه حفيا أَحْمد بن التاودي الْمَذْكُور أَخذ(3/89)
الله بِيَدِهِ وَكَانَ لَهُ فِي جَمِيع الْأُمُور وأناله الثَّوَاب والأجور وَعبد الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الفاسي لطف الله بِهِ آمين وَعبد الْقَادِر بن أَحْمد بن الْعَرَبِيّ بن شقرون أَمنه الله بمنه آمين وَمُحَمّد بن أَحْمد بنيس كَانَ الله لَهُ وليا ونصيرا آمين وَعبد ربه وأفقر عبيده إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الْمجِيد الفاسي لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ يحيى بن الْمهْدي الشفشاوني الحسني لطف الله بِهِ وَعبد ربه عَليّ بن إِدْرِيس كَانَ الله لَهُ ولطف بِهِ آمين وَعبد ربه تَعَالَى مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد بن مَسْعُود الطرنباطي وَفقه الله بمنه آمين وَعبد ربه سُبْحَانَهُ سُلَيْمَان بن أَحْمد الشهير بالفشتالي كَانَ الله لَهُ وَأصْلح حَاله وَعبد ربه مُحَمَّد الْهَادِي بن زين العابدين الْعِرَاقِيّ الْحُسَيْنِي وَفقه الله وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد التهامي طَاهِر الحسني وَفقه الله آمين وَعبد الْملك بن الْحسن الفضيلي الحسني لطف الله بِهِ آمين وَعبد ربه إِدْرِيس بن هَاشم الحسني الجوطي لطف الله بِهِ آمين انْتهى
حَرْب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لِأَخِيهِ الْمولى مسلمة وطرده إِلَى بِلَاد الْمشرق
لما تمت بيعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله بفاس بِاتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد من الْجند وَالْعُلَمَاء والأشراف وَسَائِر الْأَعْيَان تداعى أَمر الْمولى مسلمة إِلَى الاختلال وَكَانَ أول مَا ابْتَدَأَ بِهِ عمله بعد تِلْكَ الْبيعَة المستعجلة أَن بعث جَرِيدَة من الْخَيل إِلَى نظر الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَذَلِكَ باستدعاء محتسبها أبي الْفضل الْعَبَّاس مرينو وَأبي عبد الله مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن الْعَرَبِيّ فرج من أَهلهَا المنحرفين عَن الْمولى سُلَيْمَان إِلَى التَّمَسُّك بدعوة الْمولى مسلمة وَكَانَ أهل رِبَاط الْفَتْح يَوْمئِذٍ على فرْقَتَيْن فرقة دخلت فِي طَاعَة الْمولى سُلَيْمَان وَفرْقَة أَقَامَت بالتمسك ببيعة الْمولى مسلمة(3/90)
وَلما اتَّصل بالمولى سُلَيْمَان خبر مسير الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح عقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب على بني حسن وَبَعثه فِي اعتراضه فتوافى الجيشان مَعًا برباط الْفَتْح وَوَقعت الْحَرْب فَانْهَزَمَ الزعري وشيعته وَقتل الْعَبَّاس مرينو وفر الْمَكِّيّ فرج إِلَى الزاوية التهامية فَاسْتَجَارَ بهَا وَقبض الْمولى الطّيب على الزعري وَجَمَاعَة من أَصْحَابه ثمَّ سرحه بِأَمْر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَاجْتمعت كلمة أهل العدوتين على طَاعَته هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَآل فرج يثبتونه وَيَقُولُونَ إِن أصل هَذِه الْفِتْنَة أَن آل مرينو كَانَت لَهُم الوجاهة مَعَ الْمولى يزِيد رَحمَه الله فسعوا عِنْده بآل فرج وَقَالُوا لَهُ إِنَّهُم تقاعدوا على مَال الْوَزير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الَّذِي أَمنه عِنْدهم فبطش بهم الْمولى يزِيد وصادرهم واستحكمت الْعَدَاوَة يَوْمئِذٍ بَينهم وَبَين آل مرينو فَلَمَّا توفّي الْمولى يزِيد بَادر آل مرينو وَمن لافهم إِلَى بيعَة الْمولى مسلمة وانحرف عَنْهُم إِلَى بيعَة الْمولى سُلَيْمَان من لم يكن من حزبهم وَلما قتل الْعَبَّاس مرينو عمد أوباش رِبَاط الْفَتْح إِلَى شلوه وربطوا فِي رجله حبلا وجروه فِي أسواق الْمَدِينَة وعرضوه على حوانيتها حانوتا حانوتا إِذْ كَانَ فِي حَيَاته محتسبا رَحمَه الله وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بفاس لم يَتَحَرَّك مِنْهُ ثمَّ أَن الْمولى مسلمة صَاحب بِلَاد الهبط بعث وَلَده إِلَى آيت يمور وَأمرهمْ أَن يشنوا الْغَارة على أهل زرهون الَّذين هم فِي طَاعَة السُّلْطَان فَفَعَلُوا وَكثر عيثهم فِي الرعايا فَسَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة واستنفر جَيش العبيد وقبائل البربر ثمَّ وافاه الودايا وَأهل فاس وشراقة فَاجْتمع عَلَيْهِ الجم الْغَفِير وصمد بهم إِلَى آيت يمور فألفاهم على نهر سبو بالموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف فصمدت إِلَيْهِم العساكر وأوقعت بهم وقْعَة شنعاء وفر ولد الْمولى مسلمة فلحق بِأَبِيهِ ولجأ آيت يمور بقضهم وقضيضهم إِلَى جبل سلفات وَبقيت حلتهم بماشيتها وأثاثها بيد السُّلْطَان فانتهبتها جيوشه من العبيد والودايا والبربر وَبَات السُّلْطَان هُنَالك وَلما أصبح بعث إِلَيْهِ آيت يمور نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ للشفاعة وَطلب الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم وثابوا إِلَيْهِ وَبَايَعُوهُ فأنعم عَلَيْهِم بماشيتهم وزرعهم وَعَاد إِلَى فاس ثمَّ(3/91)
بلغه أَن الْمولى مسلمة معسكر بِبِلَاد الحياينة فَنَهَضَ إِلَيْهِ من فاس فأوقع بِهِ فَانْهَزَمَ الْمولى مسلمة وجيشه وَنهب جَيش السُّلْطَان حلَّة الحياينة وجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ونظمهم فِي سلك الْجَمَاعَة وتفرق عَن الْمولى مسلمة كل من كَانَ مَعَه من عرب الْخَلْط وَأهل الْجَبَل وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَأَوْلَاده وَابْن أَخِيه الْمولى حسن بن يزِيد فَسَار إِلَى جبل الزَّبِيب فَلم يقبلوه ثمَّ انْتقل إِلَى الرِّيف فأهملوه ثمَّ صعد إِلَى جبل بني يزناسن فطردوه ثمَّ توجه إِلَى ندرومة فَمَنعه صَاحبهَا من الْوُصُول إِلَى الباي صَاحب الجزائر وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر مِنْهُ فَتوجه إِلَى تلمسان وَأقَام بهَا
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُنَاكَ اجْتمعت بِهِ فِي ضريح الشَّيْخ أبي مَدين بالعباد يَعْنِي حِين قدم تلمسان مفارقا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَزعم أَن الْمولى مسلمة لما اجْتمع بِهِ لامه على تخذيل النَّاس عَن بيعَته وحضه إيَّاهُم على بيعَة أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان قَالَ فبينت لَهُ حَال الْمولى سُلَيْمَان وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اتِّبَاع سيرة وَالِده فِي الْعدْل والرفق بالرعية وَبِذَلِك أحبه النَّاس فَلَمَّا سمع كَلَامي بَكَى واعترف بِالْحَقِّ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر} الْأَعْرَاف 188 ثمَّ طلب من صَاحب الجزائر أَن يَأْذَن لَهُ فِي الذّهاب إِلَى الْمشرق والمرور بإيالته فَأبى وَبعث من أزعجه من تلمسان إِلَى سجلماسة
وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان الْمولى سُلَيْمَان وَأَنه عَاد إِلَى سجلماسة أرسل إِلَيْهِ مَالا وكسى وَعين لَهُ قَصَبَة ينزلها ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ فِي كل شهر كَسَائِر إخْوَته فَلم يطب لَهُ مقَام بهَا وَسَار إِلَى الْمشرق فاجتاز فِي طَرِيقه بِصَاحِب تونس الْأَمِير حمودة باشا ابْن عَليّ باي
قَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية قدم الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد على الْأَمِير حمودة باشا شَرِيدًا أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أَسْنَى منزلَة وأجرى عَلَيْهِ جراية سلطانية وَبَالغ فِي بره اه ثمَّ أَن الْمولى مسلمة سَافر إِلَى الْمشرق فَأَقَامَ بِمصْر مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة فَنزل على سلطانها صهره على أُخْته فَأكْرمه ورتب لَهُ جراية ثمَّ عَاد من مَكَّة إِلَى مصر وَسَاءَتْ حَاله فِي هَذِه الْمدَّة وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَرجع إِلَى تونس وَنزل على حمودة(3/92)
باشا الْمَذْكُور فعاود إكرامه ثمَّ طلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان فَكتب لَهُ بذلك فَأخذ كِتَابه وَانْحَدَرَ إِلَى وهران وَطلب من أميرها الشَّفَاعَة أَيْضا فَكتب لَهُ وَبعث بمكاتيب الأميرين إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فَقبله وَأمره أَن يذهب إِلَى سجلماسة ينزل بهَا بدار وَالِده ويرتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ من مُؤنَة وَكِسْوَة ويقاسمه نعْمَته وَيبقى بَعيدا عَن سماسرة الْفِتَن حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة فَلَمَّا بلغه جَوَاب أَخِيه لم يرض ذَلِك وَعَاد إِلَى الْمشرق فَبَقيَ يتَرَدَّد بِهِ إِلَى أَن وافته منيته واستراح من تَعب الدُّنْيَا رَحمَه الله
نهب عرب آنقاد لركب حَاج الْمغرب وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله أَن جمَاعَة من التُّجَّار وَالْحجاج الَّذين قدمُوا من الْمشرق خَرجُوا من وَجدّة متوجهين إِلَى فاس فَلَمَّا توسطوا أَرض آنقاد عدت عَلَيْهِم عربها فنهبتهم فاستدعى السُّلْطَان رَحمَه الله الْكَاتِب أَبَا الْقَاسِم الصياني وَأمره بِالْمَسِيرِ إِلَى وَجدّة يكون واليا بهَا وَيصْلح مَا فسد من أَعمالهَا فكره الصياني ذَلِك واستقال فَلم يقلهُ السُّلْطَان وعزم عَلَيْهِ فِي الْمسير إِلَيْهَا وَعين لَهُ مائَة فَارس تذْهب مَعَه فامتثل راغما وأضمر أَنه إِن فَارق السُّلْطَان يذهب إِلَى أحد الْحَرَمَيْنِ الشريفين فيقيم بِهِ بَقِيَّة عمره وَجمع موجوده وَخرج فَخرج مَعَه قفل التُّجَّار الَّذِي كَانَ محصورا بفاس وَلما توسطوا أَرض آنكاد وجدوا الْعَرَب فِي انتظارهم فثأروا بهم وقاتلوهم فتماسكت خيل السُّلْطَان هنيئة ثمَّ كثرهم الْعَرَب فهزموهم وَلم يبْق من تِلْكَ الْخَيل إِلَّا قائدها فِي عشرَة من إخوانه وانتهبت الْعَرَب مَا كَانَ فِي ذَلِك القفل من أَمْتعَة التُّجَّار وسلعها وَلم ينج من نجا مِنْهُ إِلَّا بِنَفسِهِ قَالَ الصياني فلجأنا إِلَى قَصَبَة الْعُيُون وتفرق جَمعنَا وَقتل منا سَبْعَة نفر وجرح آخَرُونَ فَبعثت من أَتَانَا بالقتلى فدفناهم ثمَّ سرحت قَائِد الْخَيل إِلَى وَجدّة مَعَ بعض الْعَرَب الَّذين هُنَالك وطلعت أَنا مَعَ برابرة بني يزناسن وَلَيْسَ معي إِلَّا مركوبي(3/93)
وَفرس آخر كَانَ عَلَيْهِ مَمْلُوك لي قتل فِي المعركة قَالَ ثمَّ خلصت إِلَى وهران فَنزلت عِنْد الباي مُحَمَّد باشا فأظهر التأسف والتوجع وراودني على الْمقَام فأبيت ثمَّ ذكر الصياني أَنه بعد هَذَا ذهب إِلَى تلمسان وَاجْتمعَ هُنَالك بالمولى مسلمة بن مُحَمَّد وتلاوما وتعاتبا حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف
بعث السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان الجيوش إِلَى الْحَوْز ونهوضه على أَثَرهَا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَعوده إِلَى فاس
قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدعوة الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد من لدن دولة الْمولى يزِيد رَحمَه الله وَلما صفت بِلَاد الغرب للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله تاقت نَفسه إِلَى تمهيد بِلَاد الْحَوْز والاستيلاء عَلَيْهَا فعقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَعين مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وبعثهم إِلَى قبائل الشاوية وَذَلِكَ أَوَاخِر سنة سبع وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ زحف السُّلْطَان على أَثَرهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح فمحا بَقِيَّة آثَار الْفِتْنَة الَّتِي نشأت بهَا وَأقَام ينْتَظر مَا يكون من أَمر أَخِيه
وَفِي سادس شَوَّال من السّنة صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة بِمَسْجِد القصبة مِنْهَا وَكَانَ هُوَ الإِمَام وخطب خطْبَة بليغة تشْتَمل على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتحذير من الْحَرَام وَاجْتنَاب الآثام ووعد وأوعد وَقَالَ فِي آخر خطبَته وانصر اللَّهُمَّ جيوش الْمُسلمين وعساكرهم ودعا لكافة الْأمة وَصلى فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة الْجُمُعَة وَفِي الثَّانِيَة بِسُورَة الغاشية الخ وَلما قدم الْمولى الطّيب بِلَاد الشاوية تنافس قواد الْجَيْش الَّذين مَعَه وَتَنَازَعُوا الرياسة وَصَارَ كل وَاحِد مِنْهُم يرى أَنه صَاحب الْأَمر وَكَانَ من أعظمهم تهورا الْقَائِد الغنيمي كَانَ من قواد الْمولى يزِيد رَحمَه الله فأبقاه الْمولى سُلَيْمَان على رياسته تألفا لَهُ فاستبد على سَائِر القواد فِي الرَّأْي إِذْ كَانَ رَدِيف(3/94)
الْخَلِيفَة الْمولى الطّيب وَصَاحب مشورته فَلَمَّا كَانَ وَقت اللِّقَاء تخاذلوا عَنهُ وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَتركُوا أخبيتهم وأثاثهم بيد الْعَدو وَرَجَعُوا مفلولين إِلَى السُّلْطَان برباط الْفَتْح وهم عشرَة آلَاف فَارس كَمَا مر فَمَا وسع السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَّا الرُّجُوع بهم إِلَى فاس لتجديد آلَة السّفر والغزو ثَانِيًا وإخلاف مَا ضَاعَ من الأخبية وَالسِّلَاح والأثاث حَسْبَمَا يذكر بعد إِن شَاءَ الله
ثورة مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الخمسي الْمَعْرُوف بزيطان بِالْجَبَلِ
لما كَانَت سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَألف ثار بقبيلة الْأَخْمَاس من جبال عمَارَة رجل من طلبتها يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن عبد السَّلَام ويدعى زيطان فاجتمعت عَلَيْهِ سماسرة الْفِتَن من كل قَبيلَة وَكثر تابعوه وَكَانَ السَّبَب فِي ثورته أَن الْقَائِد قاسما الصريدي كَانَ واليا بِتِلْكَ النَّاحِيَة أَيَّام الْمولى يزِيد رَحمَه الله فَلَمَّا بُويِعَ الْمولى سُلَيْمَان ولى على تِلْكَ النَّاحِيَة الْقَائِد الغنيمي الْمُتَقَدّم الذّكر وَكَانَ عسوفا فِيمَا قيل فَقبض على الْقَائِد قَاسم واستصفى أَمْوَاله وَبث عَلَيْهِ الْعَذَاب كي يظْهر مَا بَقِي عِنْده حَتَّى هلك فِي الْعَذَاب فثار زيطان وَاجْتمعت عَلَيْهِ الغوغاء من أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَلما شرى داؤه بعث السُّلْطَان بِجَيْش إِلَى الْقَائِد الغنيمي وَأمره أَن يقْصد زيطان وَجمعه فزحف إِلَيْهِ بِبِلَاد غصاوة قرب وازان وأوغل فِي طلبه فَنَهَاهُ من مَعَه من رُؤَسَاء الْجَيْش عَن التورط بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ الْجبَال والشعاب فلج واقتحمها بخيله وراميته وَلما توسطها سَالَتْ عَلَيْهِ الشعاب بالرماة من كل جَانب وهاجت الْحَرْب وأحاط الْعَدو بالجيش فَقتلُوا مِنْهُم وسلبوا كَيفَ شاؤوا وردوهم على أَعْقَابهم منهزمين وَلما اتَّصل خبر الْهَزِيمَة بالسلطان اغتاظ وَقبض على الغنيمي وَمكن مِنْهُ أَوْلَاد قَاسم الصريدي فباشروا قَتله بِأَيْدِيهِم وَاقْتَصُّوا مِنْهُ بأبيهم وَولى على قبائل الْجَبَل أَخَاهُ الْمولى الطّيب وفوض إِلَيْهِ أَمر الثغوروأنزله طنجة وَبَقِي الْمولى(3/95)
الطّيب يدبر أَمر الْقَبَائِل الجبلية وثغورها من تطاوين إِلَى طنجة إِلَى العرائش وَكلما بَدَت لَهُ فُرْجَة سدها أَو فرْصَة انتهزها وَحَارب قبائل الفحص إِلَى أَن اسْتَكَانُوا وانقادوا إِلَى الطَّاعَة ثمَّ حَارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يُدِير والأخماس من أَصْحَاب زيطان فَكَانَت الْحَرْب بَينهم سجالا
ثمَّ لما دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف أمد السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى الطّيب بِجَيْش وافاه بطنجة فَخرج مِنْهَا وَمَعَهُ عسكرها وعسكر العرائش وصمد إِلَى بني جرفط عش الْفساد وَنزل على بِلَادهمْ وَقَاتلهمْ فِي عقر دِيَارهمْ فَقتل مُقَاتلَتهمْ وأحرق مداشرهم وانتهب أَمْوَالهم ومزقهم كل ممزق فجاؤوه خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ تقدم إِلَى بني حرشن من بني يُدِير على تفيئة ذَلِك ففر الثائر زيطان إِلَى قبيلته بالأخماس وتسللت عَنهُ الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت ملتفة عَلَيْهِ واستنزله الْمولى الطّيب بالأمان فظفر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأمْضى لَهُ أَمَانَة وولاه على قبيلته وَصَارَ من جملَة خدام الدولة ونصحائها إِلَى أَن ملك زمامها وَتعين غَيره للْقِيَام بأمرها فَأخر وَنَقله السُّلْطَان إِلَى تطاوين فسكنها ورتب لَهُ بهَا مَا يَكْفِيهِ وَبَقِي إِلَى أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَلما خرج عَلَيْهِ الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَدخل تطاوين كَانَت لزيطان هَذَا فِي التَّمَسُّك بدعوة السُّلْطَان الْيَد الْبَيْضَاء وأغنى غناء جميلا فِي تثبيت تِلْكَ الْقَبَائِل وتسكينها ثمَّ وَفد على السُّلْطَان بطنجة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد طعن فِي السن فَأحْسن إِلَيْهِ غَايَة الْإِحْسَان وَإِلَى الْآن لَا زَالَ أهل الْأَخْمَاس يستنصرون بحفدته ويعتقدون فيهم مَا تعتقده آيت ومالو فِي آل مهاوش وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَفِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْعَلامَة الإِمَام السَّيِّد التاودي بن سَوْدَة المري الفاسي صَاحب الْحَاشِيَة على البُخَارِيّ والحاشية على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على الْمُخْتَصر وَشرح العاصمية والزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف المفيدة وَكَانَ رَحمَه الله خَاتِمَة الشُّيُوخ بفاس ومناقبه شهيرة(3/96)
أَخْبَار الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد بمراكش والحوز وَمَا يتَّصل بذلك
قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا قد خَرجُوا على السُّلْطَان الْمولى يزِيد وَبَايَعُوا أَخَاهُ الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد وَلما قتل الْمولى يزِيد بمراكش اسْتَقَرَّتْ قدم الْمولى هِشَام بهَا وأطاعته قبائل الْحَوْز كلهَا وَكَانَ وزيراه القائمان بأَمْره صَاحب آسفي الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي وَكَانَ غَايَة فِي الْجُود وَبسط الْكَفّ وَصَاحب دكالة والحوز الْقَائِد مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن العروسي وَكَانَ ذَا شَوْكَة بعصبيته وَقَومه فَكَانَ هَذَانِ القائدان إِلَيْهِمَا النَّقْض والإبرام فِي دولة الْمولى هِشَام هَذَا بِكَثْرَة مَاله وعطائه وَهَذَا بعصبيته وَشدَّة شوكته فدانت للْمولى هِشَام قبائل دكالة وَعَبدَة وأحمر والشياظمة وحاحة وَغير ذَلِك وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن افْتَرَقت عَلَيْهِ كلمة الرحامنة وتجنوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قتل عاملهم الْقَائِد أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الرحماني غيلَة على أَنه كَانَ مُدبر دولته والقائم بأَمْره
قَالَ أكنسوس هَكَذَا شاع أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي أَمر بقتل عبد الله الرحماني وَابْن الدَّاودِيّ قَالَ وَالَّذِي تحدث بِهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مَعَ بعض النَّاس هُوَ أَن الْفرْقَة المنحرفة من الرحامنة قَتَلُوهُ وأظهروا أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي دس إِلَيْهِم بذلك وَكَذَلِكَ أَمر ابْن الدَّاودِيّ وَالله أعلم وَلما قتل الْقَائِد عبد الله خلعت الرحامنة طَاعَة الْمولى هِشَام وبايعت أَخَاهُ الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وزحفوا بِهِ إِلَى مراكش فَلم يرع الْمولى هشاما إِلَّا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عَن ركُوب فرسه فَخرج يسْعَى على قَدَمَيْهِ إِلَى أَن أَتَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي فعاذ بِهِ وثابت إِلَيْهِ نَفسه وَبعد أَيَّام تسلل وَسَار فِي جمَاعَة من حَاشِيَته إِلَى آسفي وَنزل على وزيره الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر فَأكْرم مثواه وَأحسن نزله وَغدا وَرَاح فِي طَاعَته ومرضاته وَدخل الْمولى حُسَيْن قصر الْخلَافَة(3/97)
بمراكش فاستولى على مَا فِيهِ من الذَّخِيرَة والأثاث من مَتَاع الْمولى هِشَام ومتخلف الْمولى يزِيد فاضطر أهل مراكش حِينَئِذٍ إِلَى مبايعة الْمولى حُسَيْن وَالْخطْبَة بِهِ وَكَانَ ذَلِك سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف وافترقت الْكَلِمَة بالحوز فَكَانَ بعضه كعبدة وأحمر ودكالة مَعَ الْمولى هِشَام وَبَعضه مثل الرحامنة وَسَائِر قبائل حوز مراكش مَعَ الْمولى حُسَيْن واتقدت نَار الْفِتْنَة بَين هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل وتفانوا فِي الحروب إِلَى أَن بلغ عدد الْقَتْلَى بَينهم أَكثر من عشْرين ألفا هَذَا كُله وَالسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مُقيم بفاس معرض عَن الْحَوْز ومتربصين بأَهْله الدَّوَائِر إِلَى أَن ملوا الْحَرْب وملتهم وَكَانَ ذَلِك من سعادته فصاروا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ أَرْسَالًا ويسألونه الذّهاب إِلَى بِلَادهمْ ليعطوه صَفْقَة بيعتهم فَكَانَ يعدهم بذلك وَيَقُول إِذا فرغت من أَمر الشاوية قدمت عَلَيْكُم إِن شَاءَ الله
ثورة الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بآنفا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَت قبائل الشاوية مُنْذُ هزموا جَيش الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد وهم حذرون من سطوة السُّلْطَان عالمون بِأَنَّهُ غير تاركهم فعزموا على تلافي أَمرهم عِنْده وأوفدوا عَلَيْهِ جماعات من أعيانهم الْمرة بعد الْمرة يسألونه أَن يولي عَلَيْهِم رجلا يكونُونَ عِنْد نظره ويقفون عِنْد أمره وَنَهْيه فولى عَلَيْهِم ابْن عَمه وصهره على أُخْته الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر وَوَجهه مَعَهم فَقدم الْمولى عبد الْملك أَرض تامسنا وَنزل بِمَدِينَة آنِفا وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بِالدَّار الْبَيْضَاء وَتَوَلَّى الْقيام على مُسْتَفَاد مرْسَاها وَصَارَ يُسهم فِيهِ لأعيان الشاوية الَّذين مَعَه وَكَانَ قَصده بذلك أَن يتألفهم على الطَّاعَة والخدمة فَلَمَّا حصل لَهُم ذَلِك السهْم من المَال تطاولوا إِلَى الزِّيَادَة عَلَيْهِ وَقد قيل فِي الْمثل قَدِيما لَا تطعم العَبْد الكراع فيطمع فِي الذِّرَاع فَصَارَ الْمولى عبد الْملك يقاسمهم الْمُسْتَفَاد شقّ الأبلمة فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك كتب إِلَيْهِ يعاتبه على(3/98)
فعله ثمَّ نَهَضَ على تفئة ذَلِك من فاس يُرِيد تامسنا إِذْ لم يشف الْمولى عبد الْملك الغليل فِي ضَبطهَا فَلَمَّا بلغ كتاب السُّلْطَان الْمولى عبد الْملك أنف من ذَلِك العتاب وَكَانَت لَهُ وجاهة عِنْد السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَكَانَ من كبار بني عَمه وخواص قرَابَته ثمَّ اتَّصل بِهِ الْخَبَر بِخُرُوج السُّلْطَان من فاس فطارت نَفسه شعاعا وَاسْتَشَارَ بطانته من الشاوية فَقَالَ لَهُم إِن هَذَا الرجل قادم علينا لَا محَالة وَلَيْسَ لَهُ قصد إِلَّا أَنا وَأَنْتُم فَمَا الرَّأْي قَالُوا الرَّأْي أَن نُبَايِعك ونحاربه قَالَ ذَلِك الَّذِي أُرِيد فَبَايعُوهُ وَلما انْفَصل السُّلْطَان عَن رِبَاط الْفَتْح بعث فِي مقدمته أَخَاهُ وخليفته الْمولى الطّيب وَعقد لَهُ على كَتِيبَة من الْخَيل وَتَبعهُ السُّلْطَان على أَثَره وَلما بَات بقنطرة الحلاج جَاءَهُ الْخَبَر بِأَن قبائل الشاوية قد بَايعُوا الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس واتصل بالمولى عبد الْملك وَهُوَ بآنفا أَن السُّلْطَان بائت بالقنطرة فتضاعف خَوفه وفر فِيمَن بَايعُوهُ من أهل الشاوية وأخلى مَدِينَة آنِفا من خيله وَرجله ففرح أَهلهَا بِخُرُوجِهِ من بَين أظهرهم لِئَلَّا يعديهم جربه وَبَادرُوا بِإِخْرَاج المدافع لَيْلًا إعلاما للسُّلْطَان بفراره ثمَّ أنفذوا إِلَيْهِ رسلهم بجلية الْخَبَر فهش لَهُم السُّلْطَان وَبعث مَعَهم كَتِيبَة من الْخَيل تقيم بآنفا وَتقدم هُوَ بالعساكر إِلَى قَصَبَة عَليّ بن الْحسن فَأَغَارَ على حلَّة مديونة وزناته فنهبها وامتلأت أَيدي الْجَيْش وأوغل الْمولى عبد الْملك فِي الْفِرَار إِلَى جِهَة أم الرّبيع وَعَاد السُّلْطَان بِالنعَم والماشية إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَدَخلَهَا مؤيدا منصورا وَنقل تجار النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بآنفا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وأبطل مرْسَاها واستمرت معطلة إِلَى دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فأحياها كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ثمَّ ارتحل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَقَالَ فِي ذَلِك الْعَلامَة الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن شقرون
(مولَايَ أَنْت الَّذِي صفت مشاربه ... إِن تغز نَاحيَة أوليتها جِلْدك)
(هذي البشائر وافت وَهِي قائلة ... أعوذ بِاللَّه من شَرّ الَّذِي حسدك)(3/99)
(فاصعد على مِنْبَر الإقبال معتليا ... فالسعد أنْجز مَا كَانَ بِهِ وَعدك)
(وانهض إِلَى غَايَة الآمال تدركها ... فَالْآن قَالَت لَك العلياء هَات يدك)
(وَلَا تخف أبدا من سوء عَاقِبَة ... فَلَيْسَ يفلح من بالسوء قد قصدك)
(ألبسك الْملك العميم نائله ... من الرضى حللا قوى بهَا مددك)
(فضلا من الحكم الترضي حكومته ... جعلهَا كالشجا فِي حلق من جحدك)
(فاشكر صَنِيع الَّذِي أولاك مكرمَة ... تنَلْ رِضَاهُ وتبلغ بالرضى رشدك)
قدوم عرب الرحامنة على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ومسيره إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا
قد قدمنَا أَن أهل الْحَوْز افْتَرَقت كلمتهم على قسمَيْنِ فبعضهم بَايع الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وَبَعْضهمْ أَقَامَ على بيعَة أَخِيه الْمولى هِشَام وَأَنه نَشأ عَن ذَلِك حروب تفانى فِيهَا الْخلق
فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم على السُّلْطَان بمكناسة جمَاعَة من أَعْيَان الرحامنة مبايعين لَهُ وسائلين لَهُ الْمسير مَعَهم إِلَى بِلَادهمْ لتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ إِذْ فرغ من أَمر الشاوية ومهد طَرِيقه بهَا إِلَى الْحَوْز سَار إِلَيْهِم ثمَّ قوى عزمه رَحمَه الله فَخرج فِي العساكر من مكناسة وَقصد تامسنا فَلَمَّا احتل بهَا قدم عَلَيْهِ أَوْلَاد أبي رزق وفر أَوْلَاد أبي عَطِيَّة وَأَوْلَاد حريز الَّذين عِنْدهم الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس ولجؤوا إِلَى وَادي أم الرّبيع فقصدهم السُّلْطَان هُنَالك وأوقع بهم وفر الْمولى عبد الْملك إِلَى أَخْوَاله بالسوس فَأَقَامَ عِنْدهم إِلَى أَن شفع فِيهِ أَخُو السُّلْطَان الْمولى عبد السَّلَام بن مُحَمَّد وَأُخْته الملاة صَفِيَّة وَكَانَت زَوْجَة الْمولى عبد الْملك فَقبل السُّلْطَان شفاعتهما فَعَفَا عَنهُ وَعَاد إِلَى فاس وَاطْمَأَنَّ جنبه وَأما الشاوية فَإِنَّهُم قدمُوا على السُّلْطَان تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم وَولى عَلَيْهِم الْأُسْتَاذ الْغَازِي بن الْمدنِي المزمري فصلحت الْأَحْوَال على يَده(3/100)
وَرجع السُّلْطَان إِلَى فاس مظفرا منصورا فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فتهيأ للغزو وَخرج إِلَى بِلَاد دكالة فاستولى عَلَيْهَا وعَلى مَدِينَة آزمور وتيط وَبَايَعَهُ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَقدم عَلَيْهِ أَعْيَان دكالة تَائِبين وَخَرجُوا من زمرة عَبدة وسلطانهم الْمولى هِشَام وانتظموا فِي سلك الْجَمَاعَة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أَعْيَان الرحامنة ثَانِيَة ببيعتهم فَأكْرم مقدمهم وزحف إِلَى مراكش وهم فِي ركَانَة فَلَمَّا شارفها فر عَنْهَا سلطانها الْمولى حُسَيْن إِلَى زَاوِيَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأمغاري بِالْجَبَلِ فَدخل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا وَقدم عَلَيْهَا بهَا قبائل الْحَوْز والدير وقبائل حاحة والسوس بهداياهم مغتبطين فسر بهم وَأكْرمهمْ وَأصْلح بَين قبائل الْحَوْز وَجمع كلمتهم وأهدر دِمَاءَهُمْ ومهد بِلَادهمْ ورتب حاميتها وَأنزل بقصبة مراكش أهل الْحَوْز الَّذين كَانُوا بهَا أَيَّام وَالِده ورتب لَهُم الجرايات وَأمر بِأَلف من عبيد السوس يأْتونَ لسكنى القصبة واستقامت الْأُمُور
دُخُول آسفي وصاحبها الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله
كَانَ عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر هَذَا على مَا وصفناه قبل من الوجاهة ونفوذ الْكَلِمَة بآسفي وأعمالها وَكَانَ مستوليا على جباية مرْسَاها وخلد بهَا آثارا مثل الدَّار الْكُبْرَى الَّتِي على شاطىء الْبَحْر وَمَسْجِد الزاوية وَغير ذَلِك وَكَانَ جوادا بالعطاء وَلما استولى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله على مراكش بعث إِلَيْهِ كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان المكناسي ليَأْتِيه بِهِ أَو يَأْذَن بحربه وَلما وصل الْكَاتِب الْمَذْكُور إِلَيْهِ بآسفي ألفاه مَرِيضا فَاعْتَذر عَن الْقدوم على السُّلْطَان بِالْمرضِ وَكتب بيعَته وَأدّى طَاعَته وانتقل الْمولى هِشَام عَنهُ إِلَى زَاوِيَة الشرابي فَأَقَامَ بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من أَمنه وَجَاء بِهِ إِلَيْهِ فلقاه مبرة وتكرمة وَقدم إِلَيْهِ المراكب والكسي وأنزله بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون(3/101)
ريثما استراح ثمَّ بَعثه إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستوطنها ورتب لَهُ من الجراية مَا يَكْفِيهِ وَلما قدم الْكَاتِب ابْن عُثْمَان على السُّلْطَان ببيعة عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَاعْتذر لَهُ عَنهُ بِالْمرضِ قبل ظَاهر عذره وأرجأ أمره إِلَى يَوْم مَا
وَحكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى هشاما لما قدم على السُّلْطَان بمراكش وَنزل بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون أَتَاهُ السُّلْطَان بعد ثَلَاث إِلَى منزله رَاجِلا لقرب الْمسَافَة وَلما التقيا تعانقا وتراحما ثمَّ جَاءَ مَعَه الْمولى هِشَام حَتَّى دخلا بُسْتَان النّيل من بَاب الرئيس وَنصب لَهُ السُّلْطَان كرسيا جلس عَلَيْهِ وَجلسَ هُوَ أَمَامه إعظاما لَهُ لكَونه أسن مِنْهُ ثمَّ صَار يستدعيه صباحا وَمَسَاء فيجلسان ويتحدثان ثمَّ يفترقان وَكَانَ لَا يتغدى وَلَا يتعشى إِلَّا وَهُوَ مَعَه وَكلما دخل عَلَيْهِ رفع مَجْلِسه وأجله وَإِذا ذكره لَا يذكرهُ إِلَّا بِلَفْظ الْأُخوة بِأَن يَقُول أخي الْمولى هِشَام دون سَائِر بني أَبِيه وَلما طلب الْمولى هِشَام مِنْهُ السُّكْنَى برباط الْفَتْح أَجَابَهُ إِلَيْهَا وَقضى مآربه وأزاح علله ثمَّ عَاد إِلَى مراكش فَكَانَت منيته بهَا كَمَا نذكرهُ
دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله
كَانَ من خبر دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله أَن الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق المسجيني وَهُوَ من عبيد الصويرة كَانَ قد قدم من الْحَج عامئذ فَمر على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَهُوَ بالغرب فَدخل عَلَيْهِ فولاه على الصويرة وَكتب لَهُ الْعَهْد بذلك وَأمره بإخفائه حَتَّى يختبر حَال أَهلهَا وَيعلم أَيْن هواهم إِذْ كَانَ ذَلِك قبل أَن يطَأ السُّلْطَان بِلَاد الْحَوْز ويستولي عَلَيْهَا وَكَانَت الصويرة حِينَئِذٍ من جملَة النواحي الَّتِي إِلَى نظر عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَمن فِي حزبه وَتَحْت غَلَبَة حاحة وعصبيتها وَكَانَ الْوَالِي بهَا يَوْمئِذٍ الْقَائِد أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَت(3/102)
لَهُ نباهة وَذكر فِي قبائل حاحة وَمَا اتَّصل بهَا فَقدم ابْن عبد الصَّادِق الصويرة على أَنه قدم من حجه لَا غير فأراح بمنزله ثَلَاثًا ثمَّ جَاءَ إِلَى بَاب الْقَائِد وَأظْهر عبد الْملك بن بيهي وَأقَام من جملَة الأعوان فِي الْخدمَة المخزنية إِذْ تِلْكَ هِيَ وظيفته وخف فِي خدمَة الْقَائِد الْمَذْكُور واعتمل فِي مرضاته وَأظْهر من النصح مَا قدر عَلَيْهِ ولازم الْبَاب لَيْلًا وَنَهَارًا فَكَانَ عبد الْملك لَا يخرج إِلَّا ويجده قَائِما محتزما على الْبَاب كَمَا قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد فِي فَتى بني شَيبَان يزِيد بن مُزْبِد بن زَائِدَة
(ترَاهُ فِي الْأَمْن فِي درع مضاعفة ... لَا يَأْمَن الدَّهْر أَن يدعى على عجل)
فَلم يلبث أَن حلى بِعَيْنيهِ وعظمت مَنْزِلَته لَدَيْهِ فقدمه على الأعوان وعَلى الْحَاشِيَة حَتَّى اتَّخذهُ صَاحب رَأْيه وَجعله عَيْبَة سره وَابْن عبد الصَّادِق فِي أثْنَاء ذَلِك يحكم أمره مَعَ إخوانه مسكينة وَأهل آكادير سرا وَأذنه صاغية لخَبر السُّلْطَان مَتى يطَأ بِلَاد الْحَوْز فَلَمَّا سمع بوصوله إِلَى دكالة واستيلائه على آزمور وتيط أفْضى بِأَمْر ولَايَته إِلَى خاصته وشيعته وواعدهم لمظاهرتهم إِيَّاه على أمره لَيْلَة مَعْلُومَة وَعبد الْملك لَا علم لَهُ بِمَا يُرَاد بِهِ وَكَانَ ابْن عبد الصَّادِق فِيمَا قيل قد أَخذ عَلَيْهِ أَنه إِذا حدث أَمر وَلَو لَيْلًا يخرج إِلَيْهِ حَتَّى يفاوضه فِيمَا يكون عَلَيْهِ الْعَمَل فَجَاءَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد هيأ جمَاعَة من عبيد الصويرة الَّذين أعدهم للْقِيَام مَعَه وتركهم بِحَيْثُ يسمعُونَ كَلَامه إِذا تكلم وَقَالَ لَهُم إِذا سمعتموني ُأكَلِّمهُ وأراجعه فِي القَوْل فبادروه واقبضوا عَلَيْهِ ثمَّ تقدم وَاسْتَأْذَنَ على عبد الْملك فَخرج إِلَيْهِ وبينما هُوَ يكلمهُ أحَاط بِهِ العبيد وقبضوا عَلَيْهِ وعَلى جمَاعَة من أَصْحَابه من حاحة الَّذين كَانُوا يخدمونه وَلم يملكوهم من أنفسهم شَيْئا حَتَّى أخرجوهم عَن الْبَلَد فِي تِلْكَ السَّاعَة ودفعوا لعبد الْملك فرسه وَأَغْلقُوا الْبَاب خَلفه وَصفا لَهُم أَمر الْبَلَد وَمن الْغَد جمع ابْن عبد الصَّادِق أهل الصويرة وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بولايته عَلَيْهِم فأذعنوا وَأَجَابُوا وَلم يرق فِيهَا محجمة دم ثمَّ ورد الْخَبَر عقب ذَلِك بِدُخُول السُّلْطَان إِلَى مراكش واستيلائه عَلَيْهَا وَبهَا تمّ لَهُ أَمر الْمغرب وَصفا لَهُ ملكه وَلم يبْق لَهُ فِيهَا مُنَازع وَذَلِكَ بعد مُضِيّ خمس(3/103)
سِنِين من ولَايَته رَحمَه الله ثمَّ إِنَّه اسْتخْلف أَخَاهُ الْمولى الطّيب نَائِبا عَنهُ بمراكش وقفل إِلَى فاس من عَامه فَمر على طَرِيق تادلا وَأمر عاملها الْقَائِد عبد الْملك أَن يُغير على بني زمور وينهب أَمْوَالهم وَيقبض على مُقَاتلَتهمْ ويلقاه بهم إِلَى الصَّخْرَة فكرب الْقَائِد عبد الْملك فِي الْجَيْش الَّذِي كَانَ مَعَه واحتال عَلَيْهِم بِأَن أرسل إِلَيْهِم بالقدوم عَلَيْهِ فُرْسَانًا فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أَمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم وشدهم وثاقا وَحَازَ خليهم وسلاحهم ثمَّ أغار على حلتهم فنهبها وَقدم على السُّلْطَان بمالهم ورقابهم وَكَانُوا مِائَتي رجل بالتثنية فَبعث بهم السُّلْطَان إِلَى مكناسة فسجنوا بهَا حَتَّى صلحت أَحْوَالهم بعد ذَلِك وسرحهم
استرجاع السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مَدِينَة وَجدّة وأعمالها من يَد التّرْك
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر من فاس إِلَى وَجدّة فعقد على الودايا للقائد أبي السرُور عياد بن أبي شفرة وعَلى شراقة للقائد مُحَمَّد بن خدة وعَلى الأحلاف للقائد عبد الله بن الْخضر وَأمرهمْ أَن يَأْتُوا أَرض وَجدّة ويدوخوها ويقاتلوا التّرْك الَّذين استحوذوا عَلَيْهَا ومانعوا دونهَا وَكتب مَعَ ذَلِك إِلَى الباي مُحَمَّد باشا فِي أَن يتخلى عَنْهَا وَعَن قبائلها الَّتِي كَانَ يتَصَرَّف فِيهَا أَيَّام الفترة أَو يَأْذَن بِالْحَرْبِ فامتثل الباي مُحَمَّد ذَلِك وَلم يمانع بل كتب إِلَى نَائِبه بهَا أَن يَتْرُكهَا لأربابها ويتخلى عَن قبائل بني يزناسن وسقونة والمهاية وَأَوْلَاد زكرى وَأَوْلَاد عَليّ وَرَأس الْعين فامتثل وَدخل جَيش السُّلْطَان لوجدة وجبى عَامله زكواتها وأعشارها واستخلف نَائِبه بهَا وقفل بالعساكر على السُّلْطَان وَهُوَ بفاس وَقد تمهد الْملك ووشجت عروقه وَألقى السعد بجرانه وَالْحَمْد لله
وَفِي هَذِه السّنة قدم الشَّيْخ الْفَقِيه المتصوف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني إِلَى(3/104)
فاس فاستوطنها وَكَانَ الباي مُحَمَّد بن عُثْمَان صَاحب وهران قد أزعجه من تلمسان إِلَى قَرْيَة أبي صمغون فَأَقَامَ بهَا وَأَقْبل أَهلهَا عَلَيْهِ ثمَّ لما مَاتَ الباي الْمَذْكُور وَولي بعده ابْنه عُثْمَان بن مُحَمَّد سعى عِنْده بالشيخ التجاني فَبعث إِلَى أهل أبي صمغون وتهددهم ليخرجوه وَلما سمع بذلك الشَّيْخ الْمَذْكُور خرج مَعَ بعض تلامذته وَأَوْلَاده وسلك طَرِيق الصَّحرَاء حَتَّى احتل بفاس وَلما دَخلهَا بعث رَسُوله بكتابه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يُعلمهُ بِأَنَّهُ هَاجر إِلَيْهِ من جور التّرْك وظلمهم واستجار مِنْهُم بِأَهْل الْبَيْت الْكَرِيم فَقبله السُّلْطَان وَأذن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ والحضور بمجلسه وَلما اجْتمع بِهِ وَرَأى سمته ومشاركته فِي الْعُلُوم أقبل عَلَيْهِ واعتقده وَأَعْطَاهُ دَارا مُعْتَبرَة من دوره كَانَ أنْفق فِي عمارتها نَحوا من عشْرين ألف مِثْقَال ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَأَقْبل عَلَيْهِ الْخلق واشتهر أمره بفاس وَالْمغْرب وَهُوَ شيخ الطَّائِفَة التجانية رَحمَه الله ونفعنا بِهِ
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان فِي العساكر من مكناسة يُرِيد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر بآسفي وعزم على حربه إِلَّا أَن يُؤَدِّي الطَّاعَة هُوَ وقبيلته مُبَاشرَة طَوْعًا أَو كرها وَلما عبر وَادي أم الرّبيع قدم إِلَيْهِ الْقَائِد أَبُو السرُور عياد بن أبي شفرة فِي جَيش الودايا وَقَالَ لَهُ إِذا قدمت عَلَيْهِ فأزعجه للمجيء فَإِن قدم فأقم أَنْت بآسفي وَإِن امْتنع من الْمَجِيء فَاكْتُبْ إِلَيّ وأقم هُنَالك حَتَّى أقدم عَلَيْك فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْقَائِد عياد لم يَسعهُ إِلَّا الْمَجِيء لملاقاة السُّلْطَان فجَاء وَهُوَ مَرِيض فِي محفته وَمَعَهُ جموعه وقبائله حَتَّى اجْتمع بالسلطان بالموضع الْمَعْرُوف بِمِائَة بير وبير بَين عَبدة ودكالة فَبَايعهُ مُبَاشرَة وَأدّى الطَّاعَة هُوَ وإخوانه مُبَاشرَة كَمَا اقترح السُّلْطَان وَتحقّق بِأَن تَأَخره إِنَّمَا كَانَ للمرض الَّذِي بِهِ فوفى لَهُ السُّلْطَان بعهده وَزَاد فِي كرامته بوصوله مَعَه إِلَى آسفي ودخوله إِلَى دَاره بعد تثبيط رُؤَسَاء الْجَيْش لَهُ عَن الدُّخُول مَعَه ثمَّ عقد لَهُ على قبائله وَأمره بِقَبض الْوَاجِب مِنْهُم زَاد صَاحب الْجَيْش وشكره على إيوائه لِأَخِيهِ الْمولى هِشَام ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى مراكش فَدَخلَهَا مظفرا منصورا(3/105)
وَفِي هَذِه السّنة حدث الوباء بِبِلَاد الْمغرب وَعم حاضره وبواديه وَلما فَشَا بمراكش وأعمالها رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة وَترك أَخَاهُ الْمولى الطّيب نَائِبا عَنهُ بهَا فَبَلغهُ أثْنَاء الطَّرِيق وَفَاة كَاتبه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان تَركه بمراكش مصابا بالوباء
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة استقدمني من فاس فَقدمت عَلَيْهِ وقلدني كِتَابَته بعد أَن أخرني عَنْهَا سنة وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه وَفَاة إخْوَته الْأَرْبَعَة خَلِيفَته الْمولى الطّيب وَالْمولى هِشَام وَالْمولى حُسَيْن وَالْمولى عبد الرَّحْمَن بالوباء الثَّلَاثَة الأول بمراكش وَالرَّابِع بالسوس وَدفن الْمولى هِشَام وَالْمولى حُسَيْن بقبة إِلَى جنب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ وقبرهما مَشْهُور بمراكش
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فَبَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى مراكش لآتيه بمتخلف إخْوَته الَّذين هَلَكُوا بهَا ومتخلف الْكَاتِب ابْن عُثْمَان وَبعث معي خيلا وبغالا لأحمل المتخلف الْمَذْكُور والوباء لَا زَالَ لم يَنْقَطِع قَالَ فوصلت إِلَى مراكش وجمعت المتخلف وَرجعت بِهِ إِلَى فاس وَقد ارْتَفع الوباء وازدهرت الدُّنْيَا وَدرت ألبان الجباية للسُّلْطَان وَفِي هَذِه الْمدَّة قدم على حَضْرَة السُّلْطَان باشدور الإصبنيول فعقد مَعَه شُرُوط المهادنة وَكَانَ الَّذِي تولى عقدهَا مَعَه الْكَاتِب ابْن عُثْمَان المكناسي قبل وَفَاته بِيَسِير وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا مرجعها إِلَى الصُّلْح والأمان من الْجَانِبَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا أَشد بِيَسِير من الشُّرُوط الَّتِي انْعَقَدت مَعَ السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله من ذَلِك أَن شُرُوط سَيِّدي مُحَمَّد كَانَت تَتَضَمَّن أَنه إِذا تشاجر مُسلم وَنَصْرَانِي فَالَّذِي يفصل بَينهمَا هُوَ الْحَاكِم إِلَّا أَن القنصل يحضر وَقت الْفَصْل عَسى أَن يدْفع عَن ابْن جنسه بِحجَّة إِن كَانَت وَصَارَت شُرُوط السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان تَتَضَمَّن أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يتَوَلَّى أَخذ الْحق مِنْهُ حاكمه ويدفعه لخصمه وَإِذا فر نَصْرَانِيّ من سبتة أَو مليلية أَو نكور أَو بادس وَأَرَادَ إسلاما فَلَا بُد من حُضُور القنصل إِن كَانَ وَإِلَّا فالعدول يسمعُونَ مِنْهُ ثمَّ شَأْنه وَمَا يُرِيد(3/106)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا وَجه السُّلْطَان كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الرهوني لجمع أَمْوَال المنقطعين فَجمع مِنْهَا مَا قدر عَلَيْهِ وَعَاد سالما معافى
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان كَاتبه الْمَذْكُور عَاملا على السوس وَمَعَهُ طَائِفَة من الْجند فجبى قبائله وَرجع وأحبه أهل السوس لحسن سيرته ولين جَانِبه وَفِي هَذِه السّنة فِي الْيَوْم الثَّامِن من ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الماهر أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي وَكَانَ من أهل الْمُشَاركَة وَالتَّحْقِيق والخط الْحسن رَحمَه الله
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر لبرابرة آيت ومالو وَعقد عَلَيْهَا لِلْكَاتِبِ أبي عبد الله الحكماوي وَبعث مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وقواد الْقَبَائِل فَلم يرْضوا إمارته عَلَيْهِم إِذْ كلهم كَانُوا أسن مِنْهُ وَفِيهِمْ من هُوَ أعرف بأحوال البربر ومكايدهم فخذلوه وَقت اللِّقَاء وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وأستولى البربر على أثاثهم ومدافعهم وجردوا الْكثير مِنْهُم وقبضوا على الْكَاتِب حَتَّى أجاره بعض البربر فأبقوا عَلَيْهِ إِلَى أَن بعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان الْجَيْش إِلَى بِلَاد درعة مَعَ كَاتبه أبي الْعَبَّاس أَحْمد آشقراس فَدَخلَهَا وَاسْتولى على قُصُورهَا الْمَغْصُوبَة وَأخرج مِنْهَا الْعَرَب والبربر وجبى أموالها ومهد نَوَاحِيهَا وَأمن سبلها حَتَّى صَار مَا بَين السوس ودرعة والفائجة مجالا للتِّجَارَة وممرا لأبناء السَّبِيل يَغْدُونَ بِهِ وَيَرُوحُونَ آمِنين على أَمْوَالهم وأنفسهم
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر إِلَى بِلَاد الرِّيف مَعَ أَخِيه الْمولى عبد الْقَادِر والقائد مُحَمَّد بن خدة الشَّرْقِي وقائد الْعَسْكَر أَحْمد بن الْعَرَبِيّ فجبى قبائل الرِّيف من قلعية وكبدانة وَغَيرهمَا عَن ثَلَاث سِنِين سلفت وَلما رجعت العساكر أغارت على المطالسة وَبني أبي(3/107)
يحيى بِكَسْر الْيَاء الْأَخِيرَة فَاسْتَاقُوا ماشيتهم وَسَبْيهمْ وَقدمُوا بهما على السُّلْطَان فسرح السُّلْطَان السَّبي
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا أغار آيت أدراسن على رفاق تافيلالت بطرِيق ملوية ونهبوا بعض القفل وَذَلِكَ بِسَبَب أَن السُّلْطَان كَانَ قد قبض على مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز وسجنه بالجزيرة وَولى عَلَيْهِم أَخَاهُ أَبَا عزة بن مُحَمَّد واعزيز فَلم يقبلوه وجمعوا كلمتهم على ابْن عَمه أبي عزة بن نَاصِر وَكَانَ منحرفا عَن السُّلْطَان ومفارقا لَهُ فولوه أَمرهم وَلما رأى السُّلْطَان اعوجاجهم سرح لَهُم مُحَمَّدًا واعزيز وولاه عَلَيْهِم وَأمره بِالْقَبْضِ على أبي عزة بن نَاصِر فَأبى فَغَضب السُّلْطَان عَلَيْهِ ثَانِيَة وهم بِهِ ففر مُحَمَّد واعزيز وكشف وَجه الْعِصْيَان فَنَهَضَ حِينَئِذٍ إِلَى آيت أدراسن فِي العساكر وَأرْسل إِلَى قبائل آيت ومالو أَن يأتوهم من خَلفهم وَتقدم هُوَ حَتَّى نزل بِقرب آعليل وَوَقعت الْحَرْب فنصر الله السُّلْطَان وَانْهَزَمَ آيت أدراسن ونهبت مَوَاشِيهمْ واحتوى البربر على حللهم وفر أَوْلَاد واعزيز الثَّلَاثَة برؤوسهم لآيت ومالو وشرعت العساكر فِي إِخْرَاج زُرُوعهمْ إِلَى أَن استصفوها وَأمر السُّلْطَان بهدم قصورهم فهدمت وَأعْطى كروان بِلَادهمْ وَرجع إِلَى فاس مظفرا منصورا ثمَّ لم يقم بهَا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى خرج إِلَى تازا وَترك عَامل فاس أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليموري بِبِلَاد الحياينة لقبض خراجهم وَلما احتل بتازا جهز العساكر إِلَى وَجدّة مَعَ الشَّيْخ عبد الله بن الْخضر لجباية قبائلها وجهز جَيْشًا آخر مَعَ عَامل سجلماسة أبي عبد الله مُحَمَّد الصريدي فَنزل ملوية وجبى قبائلها وطلع إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء مَعَ أَوديتهَا إِلَى نَاحيَة فجيج فجبى أَمْوَال تِلْكَ النواحي ثمَّ توجه إِلَى سجلماسة فَفرق الْجَيْش على أقاليم صحرائها درعة والفائجة وتدغة وفركلة وغريس وزيز وَالْخَنْدَق ومدغرة والرتب فجبى أَمْوَال تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا وَقرر عماله ونوابه بِكُل إقليم مِنْهَا ومهد طَرِيق الصَّحرَاء وَرجعت عساكره منصورة(3/108)
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليموري عَن فاس وَولى عَلَيْهَا صهره الْمولى حبيب بن عبد الْهَادِي فَقَامَ بهَا أحسن قيام وَكَانَ ذَا عقل ومروءة وسمت ودهاء وفيهَا توجه السُّلْطَان فِي العساكر إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا بعث جَيْشًا إِلَى السوس لنظر الْكَاتِب أبي عبد الله الرهوني وَبعث جَيْشًا آخر إِلَى عَامل حاحة لنظر أبي الْعَبَّاس أَحْمد اليموري ثمَّ خرج السُّلْطَان فِي جَيش ثَالِث إِلَى ثغر الصويرة لمشاهدتها وَالْوُقُوف على آثَار وَالِده بهَا فَانْتهى إِلَيْهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا وَفرق المَال على جندها أحرارا وعبيدا وَنظر فِي أُمُور مرْسَاها وَأمر بإصلاح مَا لَا بُد مِنْهُ فِيهَا وَعَاد إِلَى الغرب مؤيدا منصورا
فتْنَة الْفَقِير أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر ابْن الشريف الفليتي واستحواذه على تلمسان وبيعته للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف هَاجَتْ الْفِتْنَة بَين عرب تلمسان وَالتّرْك وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن باي وهران كَانَ لَهُ انحراف عَن الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسُوء اعْتِقَاد فيهم فَقتل بعض الطَّائِفَة الدرقاوية وَأمر بِالْقَبْضِ على مقدمهم أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الشريف الفليتي تلميذ الشَّيْخ الْأَكْبَر أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي شيخ الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة ففر أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر الْمَذْكُور إِلَى الصَّحرَاء وَنزل بحلة الْأَحْرَار فَاجْتمع عَلَيْهِ أهل طائفته وامتعضوا لمن قتل مِنْهُم ولنفي مقدمهم عَن وَطنه وعشيرته وامتعضت لَهُم عَشَائِرهمْ من قبائل الْعَرَب الَّذِي هُنَالك وزحفوا لِحَرْب التّرْك على حِين غَفلَة مِنْهُم فَقَتَلُوهُمْ فِي كل وَجه
وَلما دخل فصل الرّبيع من السّنة الْمَذْكُورَة بعث صَاحب الجزائر عسكرا إِلَى باي وهران وَأمره بغزو الْعَرَب فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَوَقعت الْحَرْب بَينه(3/109)
وَبينهمْ فَانْهَزَمَ التّرْك ثَانِيَة وَنهب الْعَرَب محلتهم وتبعوهم إِلَى وهران فحاصروهم وَلما مني الباي مِنْهُم بالداء العضال كتب إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان يعرفهُ بِمَا دهاه مِنْهُم وَيطْلب مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم شيخهم أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ليكفهم عَنهُ ويراجعوا طَاعَة المخزن فَبعث السُّلْطَان رَحمَه الله الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّاهِر بادو المكناسي فَانْتهى الشَّيْخ إِلَى ابْن الشريف وَهُوَ فِي جموعه بِظَاهِر وهران فَشَكا إِلَى الشَّيْخ مَا نَالَ الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسَائِر الرعيه من عسف التّرْك وجورهم وانتهائهم فِي ذَلِك إِلَى الْقَتْل والطرد عَن الوطن فتوقف الشَّيْخ وَرُبمَا صدر مِنْهُ بعض تقبيح لفعل التّرْك وَمَا هم عَلَيْهِ فازدادت الْعَرَب بذلك تظاهرا على التّرْك وتكالبا عَلَيْهِم فاتهم الباي السُّلْطَان بِأَنَّهُ الَّذِي يغريهم لِأَنَّهُ كَانَ ينْتَظر الْفرج على يَده ويرجو رقع الْخرق من جِهَته فأخفق سَعْيه وَحِينَئِذٍ نصب مدافعه فِي وَجه جموع الْعَرَب وفرقهم بالكور والضوبلي فَانْهَزَمُوا عَن وهران وأبعدوا المفر ثمَّ تذامروا وتحالفوا وزحفوا إِلَى تلمسان فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروها وَكَانَ أهل تلمسان خُصُوصا وقبائلها عُمُوما لَهُم الْتِفَات كَبِير إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما أكْرمه الله بِهِ من شرف النّسَب وَطيب المنبت وَلما اشْتهر عَنهُ من الْعدْل والرفق بالرعية والشفقة عَلَيْهَا فَكَانُوا يحبونَ الدُّخُول فِي طَاعَته والانخراط فِي سلك رَعيته فَلَمَّا نزلت الْعَرَب على تلمسان تمشت الرُّسُل بَينهم وَبَين الْحَضَر من أَهلهَا وَاتَّفَقُوا على خلع طَاعَة التّرْك ومبايعة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ففتحوا بَاب الْمَدِينَة وَدخل ابْن الشريف وطائفته وَأخذ الْبيعَة بهَا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وخطب بِهِ على منابرها وَوجه وفده وهديته إِلَى السُّلْطَان مَعَ شَيْخه أبي عبد الله الْمَذْكُور ثمَّ نهد فِي عربه وحضره من أهل تلمسان لِحَرْب الكرغلية الَّذين بالقصبة فأجحرهم بهَا وضيق عَلَيْهِم فَلم يبْق للترك حِينَئِذٍ شكّ فِي أَن ذَلِك كُله بِأَمْر السُّلْطَان فَكَتَبُوا إِلَى الدولاتي وَهُوَ باشاهم الْأَعْظَم صَاحب الجزائر يعلمونه بالواقع واستمرت الْحَرْب بَينهم(3/110)
وَبَين ابْن الشريف فِي وسط الْمَدِينَة وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَقدم الشَّيْخ على السُّلْطَان بوفد أهل تلمسان وَالْعرب وهدية ابْن الشريف وبيعته وَأخْبرهُ بِأَن النَّاس فِي شدَّة من أَمر التّرْك وَأَنَّهُمْ قد تطارحوا على بَابه وعلقت آمالهم بِهِ وراموا الاستظلال بِظِل عدله فَرَأى السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يسْلك فِي حَقهم وَحقّ التّرْك مسلكا هُوَ أرْفق بِالْجَمِيعِ فَبعث الْقَائِد أَبَا السرُور عياد بن أبي شفرة الوديي وَأمره أَن يحجز بَين الْحَضَر وَالتّرْك حَتَّى يقدم الباي إِلَى تلمسان ورد مَعَه الْوَفْد الَّذين قدمُوا مَعَ الشَّيْخ وَتقدم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض على ابْن الشريف إِن هُوَ لم يرجع عَن الْحَرْب إِلَى السّلم ثمَّ كتب السُّلْطَان إِلَى الباي بِمَا أَزَال شكه وأبطل وهمه وَلما شَارف الْقَائِد عياد تلمسان فر الشريف إِلَى منجاته وَدخل الْقَائِد عياد الْمَدِينَة فحجز بَين الْفَرِيقَيْنِ وَقدم الباي إِلَى تلمسان فَأصْلح بَينه وَبَين رَعيته ومكنه من بَلَده وانقلب إِلَى حَال سَبيله وَمَعَ ذَلِك لم يتم للترك مَا أَرَادوا من أجل الْقَحْط الَّذِي كَانَ قد عَم حَتَّى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْمغرب وَكَذَا عربها وَأهل جبالها كلهم جلوا عَن أوطانهم حَتَّى لم يبْق لباشا التّرْك مَعَ من يتَكَلَّم فضلا عَن أَن يتأمر فَجعل يكْتب إِلَى السُّلْطَان ويرغب إِلَيْهِ أَن يرد عَلَيْهِ أهل تلمسان وعربها فَكَلَّمَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الرُّجُوع فَأَبَوا وَقَالُوا نَذْهَب إِلَى بِلَاد النَّصَارَى وَلَا نجاور التّرْك فنجمع علينا الْجُوع وَالْقَتْل فرق لَهُم السُّلْطَان وتركهم بل جبرهم بِأَن صَار يعينهم بالعطاء ويتخولهم بالصدقات الْمرة بعد الْمرة حَتَّى كَانَ عطاؤه إيَّاهُم كالراتب الْمَفْرُوض وعالج داءهم مَعَ التّرْك إِلَى أَن أخصبت بِلَادهمْ ورخصت أسعارهم فتراجعوا حِينَئِذٍ إِلَى أوطانهم وَكتب السُّلْطَان إِلَى الباي فِي شَأْنهمْ بِالْعَدْلِ وَحسن السِّيرَة فامتثل وكف أَيدي الكرغلية عَنْهُم وَلم يبْق مِنْهُم بالمغرب إِلَّا من كَانَ عَلَيْهِ دين للترك فَلم يقدر على الرُّجُوع لِأَن أَرْبَاب الدُّيُون لَا يُقِيمُونَ لَهُم وزنا وَلَا يعْملُونَ مَعَهم شرعا وَالله أعلم(3/111)
ذكر مَا اتّفق للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي وسط دولته من الخصب والأمن والسعادة واليمن
كَانَ هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله مَوْصُوفا بِالْعَدْلِ مَعْرُوفا بِالْخَيرِ مَرْفُوع الذّكر عِنْد الْخَاصَّة والعامة قد ألْقى الله عَلَيْهِ مِنْهُ الْمحبَّة فأحبته الْقُلُوب ولهجت بِهِ الْأَلْسِنَة لحسن سيرته وَطيب سَرِيرَته وَاتفقَ لَهُ فِي أواسط دولته من السَّعَادَة والأمن والعافية ورخاء الأسعار وابتهاج الزَّمَان وتبلج أنوار السعد والإقبال مَا جعله النَّاس تَارِيخا وتحدثوا بِهِ دهرا طَويلا حَتَّى صَارَت أَيَّام السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مثلا فِي أَلْسِنَة الْعَامَّة وَلَقَد أدركنا الجم الْغَفِير مِمَّن أدْرك أواسط دولته فكلهم يثني عَلَيْهَا بملء فِيهِ وَيذْهب فِي إطرائها كل مَذْهَب لَوْلَا مَا كدر آخرهَا من فتْنَة البربر الَّتِي جرت مَعهَا فتنا أخر كَمَا نذْكر بعد إِن شَاءَ الله
فمما هيأ الله لَهُ من أَسبَاب الْخَيْر والسعادة أَنه بُويِعَ مَطْلُوبا لَا طَالبا ومرغوبا لَا رَاغِبًا ثمَّ لما بُويِعَ كَانَ ثَلَاثَة من إخْوَته كلهم يزاحمه فِي المنصب ثمَّ لم يزل أَمرهم يضعف وَأمره يقوى إِلَى أَن كفى الْجَمِيع من غير ضرب ولاطعن وَلَا بارز أحدا مِنْهُم قطّ وَلَا واجهه بِسوء وَمن ذَلِك أَنه لما دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان عَامله إِلَى صحراء فجيج وجبى أموالها واسترجع قصر المخزن الَّذِي أغتصبه أَهلهَا من يَد العبيد الَّذين كَانُوا بِهِ أَيَّام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَوجه فِي السّنة الْمَذْكُورَة جَيْشًا مَعَ عَامل فاس باعقيل السُّوسِي وَمَعَهُ جمَاعَة من قواد الْقَبَائِل إِلَى نَاحيَة الشرق فَنزل الْعَامِل مَدِينَة وَجدّة وجبى تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا ثمَّ بدا لَهُ فَنَهَضَ إِلَى عرب الأعشاش وَكَانَ ذَلِك خطأ مِنْهُ فِي الرَّأْي إِذْ كَانَت لَهُم شَوْكَة وَكَانَ فِي غنى عَن التَّعَرُّض لَهُم بِمَا در عَلَيْهِ من الجبايات الوافرة من تِلْكَ الْقَبَائِل لَكِن الْحِرْص لَا يزَال بِصَاحِبِهِ حَتَّى يقطع عُنُقه فَلَمَّا علمُوا بِقَصْدِهِ إيَّاهُم عدلوا عَن لِقَائِه إِلَى الْمحلة فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوها فَرجع أَهلهَا منهزمين(3/112)
من غير قتال وَتركُوا أثقالهم بيد الْعَدو وَلم يجتمعوا إِلَّا على وَادي ملوية وَمن هُنَاكَ انفض الأحلاف إِلَى بِلَادهمْ ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عَن الْقدوم خوفًا من السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وَأَتَاهُ بِهِ فنكبه وعزله عَن فاس وَولى عَلَيْهَا وصيفه ابْن عبد الصَّادِق ثمَّ عَزله وَولى عَلَيْهَا مُحَمَّد واعزيز
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر إِلَى تادلا يُرِيد بني مُوسَى وآيت أعتاب ورفالة وَبني عياط الذّبْح آووا بني مُوسَى فَبَثَّ السُّلْطَان عَلَيْهِم العساكر فنهبوا بني مُوسَى وَمن آواهم من رفالة وَبني عياط وأحرقوا مداشرهم وَقَطعُوا أَشْجَارهم وأبلغوا فِي النكاية إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فتح على السُّلْطَان إقليم تيكرارين وتوات من أقْصَى الصَّحرَاء وجبى عَامله خراجهم وَعَاد سالما معافى وفيهَا حدثت الْحَرْب بَين السُّلْطَان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وَبَين الموسكوب فَكتب العثماني إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يشد عضده بِأَن يُقيم قراصينه بِبَاب البوغاز من مرسى طنجة لِئَلَّا تدخل قراصين الموسكوب مِنْهُ وتعيث فِي الجزر الَّتِي هِيَ فِي ملكة العثماني كَمَا فعلت فِي دولة عَمه السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله رُؤَسَاء قراصينه بالتهيىء وَالْمقَام هُنَالك فَفَعَلُوا وَلم يظْهر شَيْء حكى هَذَا الخبرصاحب الْبُسْتَان
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عقد السُّلْطَان لوصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الطابع على جَيش كثيف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من قواد الْجند والقبائل وَسَار حَتَّى نزل على حُدُود بِلَاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السُّلْطَانِيَّة بهم من كل جِهَة وَكَانَ ذَلِك فِي فصل الشتَاء فمنعوهم من النُّزُول إِلَى الْبَسِيط للمرعى وجلب الْميرَة إِلَى أَن ضَاعَت مَوَاشِيهمْ وأذعنوا(3/113)
لدفع مَا وظف عَلَيْهِم فدفعوا الْمَاشِيَة والكراع وخلى سبيلهم وفيهَا خرج السُّلْطَان من مكناسة لتفقد أَحْوَال الثغور البحرية وَكَانَ الْمُتَوَلِي على جمعهَا الْقَائِد الشهير أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش التطواني فَعَزله السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة وَولى عَلَيْهَا الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي البُخَارِيّ ثمَّ ولاه على قبائل الغرب وَالْجِبَال كلهَا وتتبع السُّلْطَان رَحمَه الله الثغور كلهَا وَأحسن إِلَى أَهلهَا
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى تادلا يُرِيد عرب ورديغة وقبائل البربر الَّذين هُنَالك فأغارت عَسَاكِر السُّلْطَان عَلَيْهِم وَوَقعت بَينهم حَرْب فظيعة هلك فِيهَا عدد من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انتصرت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فهزموهم ونهبوا أَمْوَالهم وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ أنفذ جَيْشًا كثيفا لآيت يسري بعد أَن قبض مِنْهُم على عدد مُعْتَبر فَشُنُّوا الْغَارة عَلَيْهِم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المَال وَلما بذلوه سرح لَهُم إخْوَانهمْ الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَعَاد السُّلْطَان مظفرا منصورا
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الرِّيف فَنزل عين زورة وسرح الْكَتَائِب فِي قبائل الرِّيف فحاربوها وهزموها وَقتلُوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فقدموا على السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم على أَن يدفعوا مَا ترَتّب عَلَيْهِم ثمَّ عين السُّلْطَان الْأُمَنَاء الَّذين استوفوه مِنْهُم على التَّمام وَعَاد مظفرا منصورا وَفِي هَذِه السنين كلهَا كَانَت الرّعية فِي غَايَة الطُّمَأْنِينَة والعافية والأمن وَالْخصب والرخاء وَكَمَال السرُور والهناء حَتَّى كَانَت هَذِه الْمدَّة غرَّة فِي جبهة ذَلِك الْعَصْر ودمية فِي محراب ذَلِك الْقصر ثمَّ انعكست الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وعظمت الأوجال واتسع فِي الْفِتْنَة المجال وَتمّ على هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل الْعَالم النَّبِيل فِي آخر عمره مَا لم يتم على أحد من مُلُوك بني أَبِيه وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد(3/114)
بَدْء هيجان فتْنَة البربر وَمَا نَشأ عَنْهَا من التفاقم الْأَكْبَر
لما دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَامَت الْفِتْنَة بَين قبائل البربر وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا أَولا بَين آيت أدراسن وكروان وَبَين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثمَّ لما انتشبوا الْحَرْب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إِلَى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن وَوضع آيت ومالو فيهم السَّيْف ونهبوا حلتهم بِمَا فِيهَا وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا الذل مهطعين وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا أَصْحَاب الْخَيل الَّذين نَجوا بنواصيها وَقدمُوا على السُّلْطَان شاكين بَاكِينَ فَقَامَ وَقعد لذَلِك لما أوجب الله عَلَيْهِ من النّظر لَهُم إِذْ هم رَعيته وشيعته وشيعة وَالِده من قبله فَجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إِلَى حَرْب كروان فظاهرهم آيت ومالو عَلَيْهِم وهزموهم مرّة أُخْرَى ثمَّ بعد هَذَا اتّفقت البربر على حَرْب آيت أدراسن مناوأة للسُّلْطَان وبغضا فِي قائدهم مُحَمَّد واعزيز الَّذِي كَانَ يوليه عَلَيْهِم وبعثوا إِلَى دجالهم مهاوش الْمعد عِنْدهم لأمثالها وتحالفوا عِنْده على مَعْصِيّة السُّلْطَان وَطَاعَة الشَّيْطَان وعاثوا فِي الطرقات والرعايا واتسع الْخرق وَعظم الفتق فسارت إِلَيْهِم العساكر من بَاب السُّلْطَان حَتَّى نزلت بأحواز صفرو وَكَانَت لنظر الْقَائِد مُحَمَّد الصريدي الَّذِي يبغضه البربر كبغض مُحَمَّد واعزيز أَو أَكثر فكشفوا القناع فِي الْعِصْيَان وزحفوا إِلَى الْجَيْش وَهُوَ نَازل حول صفرو فأحاطوا بِهِ وانتهبوه ففر من أفلت مِنْهُ وتحصن الْبَاقِي بِمَدِينَة صفرو ونهبت الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا وعاثوا فِي طرقات الصَّحرَاء فنهبوا من وجدوا بهَا مُقبلا أَو مُدبرا وأعضل الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَالسُّلْطَان مُقيم بمكناسة يعالج دائهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق وشمخت أنوف البربر وَكلما بعث إِلَيْهِم جَيْشًا هزموه أَو سَرِيَّة انتهبوها قيل إِن منشأ ذَلِك كَانَ من أجل تمسك السُّلْطَان رَحمَه الله بِمُحَمد واعزيز وجبرهم على طَاعَته وَكَانُوا قد نفروا عَنهُ لسوء سيرته فيهم(3/115)
وَالْمَعْرُوف من حَال السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله خلاف هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ قَلما تَشْكُو رعية إِلَيْهِ بعاملها إِلَّا ويعزله عَنْهَا تحريا للعدل واتهاما للعمال حَتَّى لقد عيب عَلَيْهِ ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال من جِهَة السياسة وَلما أعيا السُّلْطَان أَمرهم تَركهم فوضى ووكل الْقَائِد عياد بن أبي شفرة بتدبير أمرهَا وَتوجه إِلَى مراكش فَكَانَ عياد على أَمرهم أعجز وبسياستهم أَجْهَل وَصَارَ يتألفهم بالعطاء وَيجْرِي الْمُؤَن على كل من يقدم عَلَيْهِ مِنْهُم من طَعَام وعلف وَنَحْو ذَلِك فَكَانَ ذَلِك مِمَّا زَاد فِي طغيانهم حَتَّى كَانُوا ينهبون أَمْوَال النَّاس ومتاعهم بِبَاب فاس ويدخلون لقبض الخفارة وَأخذ الْميرَة وَإِذا تكلم أحد من أهل الْبَلَد قَالَ الْقَائِد الْمَذْكُور إِن السُّلْطَان أَمرنِي بذلك وَرُبمَا عاقب من يعْتَرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أمره السُّلْطَان أَن يسوسهم على الْوَجْه الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ على الدولة وَلَا على الرّعية وَالله أعلم
إجلاب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان على برابرة كروان ورجوعه عَنْهُم من آصرو وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش اسْتنْفرَ قبائل الْحَوْز كلهَا وَقدم بهم إِلَى مكناسة واستنفر قبائل الغرب من الأحلاف والحياينة وَأهل الفحص وَأهل الغرب وَبني حسن وَأهل الثغور وَضرب الْبَعْث على جَيش العبيد والودايا وشراقة وَأَوْلَاد جَامع واستصحب مَعَه البربر الَّذين هم فِي طَاعَته حَتَّى لم يبْق أحد بالمغرب وَخرج فِي هَذَا الْجمع الْعَظِيم قَاصِدا كروان وهم يَوْمئِذٍ بتاسماكت وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بآصرو وَبَقِي بَينهم وَبَينه نصف مرحلة بِحَيْثُ صَار يرى محلتهم ويرون محلته بدا لَهُ فَرجع يُرِيد آيت يوسي فَكَانَ ذَلِك الرُّجُوع سَبَب الخذلان وَلما رَأَتْهُ عُيُون كروان رَاجعا ظنُّوا بِهِ جبنا فجرؤوا على الْجَيْش وتبعوه من خَلفه إِلَى أَن خالطوا أخريات(3/116)
النَّاس فأوقعوا بهم وَقتلُوا ونهبوا وَأَيْنَ أَوله بَينهمَا مرحلة وَلَا علم للسابق بِمَا جرى على اللَّاحِق ثمَّ نزل السُّلْطَان على آيت يوسي بِقرب آعليل وصاروا بَنو مكيلد أَمَامه وكروان من خَلفه وَلم يكن علم بِمَا وَقع فِي الْعَسْكَر من النهب وَالْقَتْل إِلَى أَن ورد عَلَيْهِ منهزمة العبيد لَيْلًا فأخبروه بِمَا وَقع وَأَن قَائِد عسكره أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الشَّاهِد قد قتل فِي جمَاعَة من القواد وَغَيرهم ففت ذَلِك فِي عضده وتجلد رَحمَه الله ليلته تِلْكَ وَلما أصبح ركبت العساكر وقصدت آيت ومالو الَّذين كَانُوا مَعَ آيت يوسي وَلما وَقعت الْحَرْب انهزم عَسْكَر السُّلْطَان وألجأهم البربر إِلَى شعب لَا منفذ لَهُ فترجلوا وَتركُوا الْخَيل ونجوا بأعناقهم وحمتهم آيت يمور وآيت أدراسن حَتَّى خلصوهم وَكَانَت حلتهم قَرِيبا من الْعَسْكَر فَلَو تبعوهم لوقعوا عَلَيْهَا وَلما حصلت هَذِه المزية لهَؤُلَاء البربر الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان وَلم تظهر للْعَرَب مزية حقدوا ذَلِك عَلَيْهِم وصاروا كل من دنا من الْمحلة مِنْهُم قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وَقَالُوا إِن البربر كلهم سَوَاء فَلَمَّا وَقع ذَلِك بشيعة السُّلْطَان امتعضوا وَرفعُوا أَمرهم إِلَيْهِ فَأمر كَاتبه وعامله مُحَمَّدًا السلاوي أَن ينظر فِي أَمرهم فبحث الْقَائِد الْمَذْكُور حَتَّى اطلع على حَقِيقَة الْأَمر وَعلم فَسَاد نِيَّة البربر لما وَقع بهم من الْقَتْل وسط الْمحلة وَرَأى أَن الْقصاص فِي ذَلِك الْوَقْت مُتَعَذر وَأَن عاقبته غير مَأْمُونَة فَأَشَارَ على السُّلْطَان بِالرُّجُوعِ قبل أَن يَتَّسِع الْخرق على الراقع فَرجع وَكَانَ رُجُوعه أكبر غنيمَة وَكَثْرَة هَذِه الجموع بِلَا تَرْتِيب سَبَب تِلْكَ الْهَزِيمَة وَالْأَمر كُله لله وَهَذِه الْوَقْعَة تعرف عِنْد النَّاس بوقعة آصرو إِضَافَة إِلَى الْموضع الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ السُّلْطَان من بِلَاد البربر ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَقد جعلهَا الْعَامَّة تَارِيخا يَقُولُونَ كَانَ ذَلِك عَام وقْعَة آصرو وَالله تَعَالَى أعلم(3/117)
مراسلة صَاحب تونس حمودة باشا ابْن عَليّ باي للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَمَا اتّفق فِي ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة أَو مَا يقرب مِنْهَا بعث صَاحب تونس وَهُوَ الرئيس حمودة باشا ابْن عَليّ باي الْعَالم الأديب الطَّائِر الصيت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فَقدم عَلَيْهِ حَضْرَة فاس وَمَعَهُ هَدِيَّة وَكتاب يتَضَمَّن طلب الْإِمْدَاد بالميرة لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية فأعظم السُّلْطَان رَحمَه الله مقدم هَذَا الشَّيْخ واهتزت لَهُ فاس وامتدح السُّلْطَان بقصيدة من جيد شعره يَقُول فِي أَولهَا
(إِن عز من خير الْأَنَام مَزَار ... فلنا بزورة نجله استبشار)
وَمن جُمْلَتهَا قَوْله
(هَذَا الْخَلِيفَة وَابْن أكْرم مُرْسل ... وسليل من تمطى لَهُ الأكوار)
(وخلاصة الْأَشْرَاف وَالْخُلَفَاء من ... بَيت البتول وحبذا الأظهار)
(وَأجل وَارِث ملك إِسْمَاعِيل من ... بَطل شذا أخباره معطار)
(وأعز سُلْطَان وأشرف مَالك ... شَرقَتْ بِملك يَمِينه الْأَحْرَار)
(وأحق من تَحت السَّمَاء بِأَن يرى ... ملك البسيطة والورى أنصار)
(لَكِن إِذا كل الْقُلُوب تحبه ... فلغيره الْأَجْسَام وَهِي نفار)
(هَذَا سُلَيْمَان الرضي ابْن مُحَمَّد ... من أشرقت لجبينه الْأَنْوَار)
(هَذَا الَّذِي رد الْخلَافَة غضه ... وسما بِهِ للْمُسلمين منار)
(وأعز دين الله فَهُوَ بشكره ... فِي أيكها تترنم الأطيار)
فأعجب السُّلْطَان وَمن حضر بهَا وأمده بمطلبه من الْميرَة وبهدية جليلة وآب الشَّيْخ من سفارته بِخَير مآب(3/118)
وُصُول كتاب صَاحب الْحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إِلَى فاس وَمَا قَالَه الْعلمَاء فِي ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة أَيْضا وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع بِجَزِيرَة الْعَرَب المتغلب على الْحَرَمَيْنِ الشريفين الْمظهر لمَذْهَب بهما إِلَى فاس المحروسة وأصل هَذِه الطَّائِفَة الوهابية كَمَا عِنْد صَاحب التعريبات الشافية وَغَيره أَن فَقِيرا من عرب نجد يُقَال لَهُ سُلَيْمَان رأى فِي الْمَنَام كَأَن شعلة من نَار خرجت من بدنه وانتشرت وَصَارَت تَأْكُل مَا قابلها فَقص رُؤْيَاهُ على بعض المعبرين فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَن أحد أَوْلَاده يجدد دولة قَوِيَّة فتحققت الرُّؤْيَا فِي ابْن ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن سُلَيْمَان فالمؤسس للْمَذْهَب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وَلَكِن نسب إِلَى عبد الْوَهَّاب فَلَمَّا كبر مُحَمَّد احترمه أهل بِلَاده ثمَّ أخبر بِأَنَّهُ قرشي وَمن أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَألف لَهُم قَوَاعِد وعقائد وَهِي عبَادَة الله وَاحِد قديم قَادر حق رحمان يثيب الْمُطِيع ويعاقب العَاصِي وَأَن الْقُرْآن قديم يجب اتِّبَاعه دون الْفُرُوع المستنبطة وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وحبيبه وَلَكِن لَا يَنْبَغِي وَصفه بأوصاف الْمَدْح والتعظيم إِذْ لَا يَلِيق ذَلِك إِلَّا بالقديم وَأَن الله تَعَالَى حَيْثُ لم يرض بِهَذَا الْإِشْرَاك سَخَّرَهُ ليهدي النَّاس إِلَى سَوَاء الطَّرِيق فَمن امتثل فبها ونعمت وَمن أَبى فَهُوَ جدير بِالْقَتْلِ فَهَذِهِ أصُول مذْهبه وَكَانَ قد بثه أَولا سرا فقلده أنَاس ثمَّ سَافر إِلَى الشَّام لهَذَا الْأَمر فَلَمَّا لم يجد بِهِ مُرَاده رَجَعَ إِلَى بِلَاد الْعَرَب بعد غيبته عَنْهَا ثَلَاث سِنِين فاتصل بشيخ من أَشْيَاخ عرب نجد يُقَال لَهُ عبد الله بن سعود وَكَانَ شهما كريم النَّفس فقلده وَقَامَ بنصرة مذْهبه وَقَاتل عَلَيْهِ حَتَّى أظهره واقتسم الرياسة هُوَ وَمُحَمّد بن عبد الْوَهَّاب فَابْن عبد الْوَهَّاب صَاحب الِاجْتِهَاد فِي مسَائِل الدّين وَابْن سعود أَمِير الوهابية وَصَاحب حربهم وَلَا زَالَ أَمر هَؤُلَاءِ الوهابية يظْهر شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن تغلبُوا على الْحجاز والحرمين الشريفين وَسَائِر بِلَاد الْعَرَب ثمَّ(3/119)
قَالَ صَاحب التعريبات الشافية إِن مَسَاجِد الوهابية خَالِيَة عَن المنارات والقباب وَغَيرهَا من الْبدع المستحسنة لَا يعظمون الْأَئِمَّة وَلَا الْأَوْلِيَاء ويدفنون موتاهم من غير مشْهد واحتفال يَأْكُلُون خبز الشّعير وَالتَّمْر وَالْجَرَاد والسمك وَلَا يَأْكُلُون اللَّحْم والأرز إِلَّا نَادرا وَلَا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه
وَلما استولى ابْن سعود على الْحَرَمَيْنِ الشريفين بعث كتبه إِلَى الْآفَاق كالعراق وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاع مذْهبه والتمسك بدعوته وَلما وصل كِتَابه إِلَى تونس بعث مفتيها نُسْخَة مِنْهُ إِلَى عُلَمَاء فاس فتصدى للجواب عَنهُ الشَّيْخ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ تصدي الشَّيْخ أبي الْفَيْض لذَلِك الْجَواب بِأَمْر السُّلْطَان وعَلى لِسَانه وَذهب بجوابه وَلَده الْمولى إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان حِين سَافر لِلْحَجِّ قلت وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كتاب ابْن سعود ورد عِلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِالْقَصْدِ الأول لَا أَن نُسْخَة مِنْهُ وَردت بِوَاسِطَة عُلَمَاء تونس وَالله تَعَالَى أعلم
حج الْمولى أبي اسحاق إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَلَده الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل الْمولى أَبَا اسحاق إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج مَعَ الركب النَّبَوِيّ الَّذِي جرت الْعَادة بِخُرُوجِهِ من فاس على هَيْئَة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظَاهِر الْبَلَد وقرع الطبول وَإِظْهَار الزِّينَة وَكَانَت الْمُلُوك تعنى بذلك وتختار لَهُ أَصْنَاف النَّاس من الْعلمَاء والأعيان والتجار وَالْقَاضِي وَشَيخ الركب وَغير ذَلِك مِمَّا يضاهي ركب مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا فَوجه السُّلْطَان وَلَده الْمَذْكُور فِي جمَاعَة(3/120)
من عُلَمَاء الْمغرب وأعيانه مثل الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أبي الْفضل الْعَبَّاس بن كيران والفقيه الشريف الْبركَة الْمولى الْأمين بن جَعْفَر الحسني الرتبي والفقيه الْعَلامَة الشهير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الساحلي وَغَيرهم من عُلَمَاء الْمغرب وشيوخه فوصلوا إِلَى الْحجاز وقضوا الْمَنَاسِك وزاروا الرَّوْضَة المشرفة على حِين تعذر ذَلِك وَعدم اسْتِيفَائه على مَا يَنْبَغِي لاشتداد شَوْكَة الوهابيين بالحجاز يَوْمئِذٍ ومضايقتهم لحجاج الْآفَاق فِي أُمُور حجهم وزياراتهم إِلَّا على مُقْتَضى مَذْهَبهم
حكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى إِبْرَاهِيم ذهب إِلَى الْحَج واستصحب مَعَه جَوَاب السُّلْطَان فَكَانَ سَببا لتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم وعَلى كل من تعلق بهم من الْحجَّاج شرقا وغربا حَتَّى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الْأَمْن والأمان وَالْبر وَالْإِحْسَان قَالَ حَدثنَا جماع وافرة مِمَّن حج مَعَ الْمولى إِبْرَاهِيم فِي تِلْكَ السّنة أَنهم مَا رَأَوْا من ذَلِك السُّلْطَان يَعْنِي ابْن سعود مَا يُخَالف مَا عرفوه من ظَاهر الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا شاهدوا مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه غَايَة الاسْتقَامَة وَالْقِيَام بشعائر الْإِسْلَام من صَلَاة وطهارة وَصِيَام وَنهي عَن الْمُنكر الْحَرَام وتنقية الْحَرَمَيْنِ الشريفين من القاذورات والآثام الَّتِي كَانَت تفعل بهما جهارا من غير نَكِير وَذكروا أَن حَاله كَحال آحَاد النَّاس لَا يتَمَيَّز عَن غَيره بزِي وَلَا مركوب ولالباس وَأَنه لما اجْتمع بالشريف الْمولى إِبْرَاهِيم أظهر لَهُ التَّعْظِيم الْوَاجِب لأهل الْبَيْت الْكَرِيم وَجلسَ مَعَه كجلوس أحد أَصْحَابه وحاشيته وَكَانَ الَّذِي تولى الْكَلَام مَعَه هُوَ الْفَقِيه القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الزداغي فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ ابْن سعود لَهُم إِن النَّاس يَزْعمُونَ أننا مخالفون للسّنة المحمدية فَأَي شَيْء رَأَيْتُمُونَا خَالَفنَا من السّنة وَأي شَيْء سمعتموه عَنَّا قبل اجتماعكم بِنَا فَقَالَ لَهُ القَاضِي بلغنَا أَنكُمْ تَقولُونَ بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فَقَالَ لَهُم معَاذ الله إِنَّمَا نقُول كَمَا قَالَ مَالك الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة فَهَل فِي هَذَا من مُخَالفَة فالوا(3/121)
لَا وبمثل هَذَا نقُول نَحن أَيْضا ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا عَنْكُم أَنكُمْ تَقولُونَ بِعَدَمِ حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياة إخوانه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قُبُورهم فَلَمَّا سمع ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارتعد وَرفع صَوته بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ معَاذ الله إِنَّمَا نقُول إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ فِي قَبره وَكَذَا غَيره من الآنبياء حَيَاة فَوق حَيَاة الشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا أَنكُمْ تمْنَعُونَ من زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة سَائِر الْأَمْوَات مَعَ ثُبُوتهَا فِي الصِّحَاح الَّتِي لَا يُمكن إنكارها فَقَالَ معَاذ الله أَن ننكر مَا ثَبت فِي شرعنا وَهل منعناكم أَنْتُم لما عرفنَا أَنكُمْ تعرفُون كيفيتها وآدابها وَإِنَّمَا نمْنَع مِنْهَا الْعَامَّة الَّذين يشركُونَ الْعُبُودِيَّة بالألوهية وَيطْلبُونَ من الْأَمْوَات أَن تقضى لَهُم أغراضهم الَّتِي لَا تقضيها إِلَّا الربوبية وَإِنَّمَا سَبِيل الزِّيَارَة الِاعْتِبَار بِحَال الْمَوْتَى وتذكر مصير الزائر إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ المزور ثمَّ يَدْعُو لَهُ بالمغفرة ويستشفع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَيسْأل الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بالإعطاء وَالْمَنْع بجاه ذَلِك الْمَيِّت إِن كَانَ مِمَّن يَلِيق أَن يتشفع بِهِ هَذَا قَول إمامنا أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وَلما كَانَ الْعَوام فِي غَايَة الْبعد عَن إِدْرَاك هَذَا الْمَعْنى منعناهم سدا للذريعة فَأَي مُخَالفَة للسّنة فِي هَذَا الْقدر أه
ثمَّ قَالَ صَاحب الْجَيْش هَذَا مَا حدث بِهِ أُولَئِكَ المذكورون سمعنَا ذَلِك من بَعضهم جمَاعَة ثمَّ سَأَلنَا الْبَاقِي أفرادا فاتفق خبرهم على ذَلِك اه
قلت مَسْأَلَة زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة وَهِي من الْقرب المرغوب فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية مِنْهُم فِيهَا محتجا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ عِنْد الْجُمْهُور مؤول بِأَن الْمَعْنى لَا تشد الرّحال لصَلَاة فِي مَسْجِد إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد اه وَقد بسط القَوْل فِي هَذَا صَاحب الْمَوَاهِب اللدنية وَالْقَوْل الْفَصْل أَن التَّبَرُّك بآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والأولياء رَضِي الله عَنْهُم وزيارة مشاهدهم من الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْد أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمجمع عَلَيْهِ(3/122)
خلفا وسلفا لَا يسع إِنْكَاره غير أَن للزيارة آدابا تجب الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وشروطا لَا بُد من مراعاتها وَالْوُقُوف لَدَيْهَا ثمَّ القَوْل بمنعها مُطلقًا سدا للذريعة فِي حق الْعَامَّة إِذْ هم أَكثر النَّاس وغولا فِي ذَلِك فِيهِ نظر أما الْأَنْبِيَاء فَلَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يحرم نَفسه من الْوُقُوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم وَلَا أَن يَقُول بذلك لمزيد ارْتِفَاع درجتهم عِنْد الله تَعَالَى ولندور اتِّفَاق زيارتهم لأكْثر الغرباء وَأما الْأَوْلِيَاء فَالْقَوْل بِمَنْع زيارتهم سدا للذريعة مَعَ بَيَان الْعلَّة وإشهارها بَين النَّاس حَتَّى لَا يلتبس عَلَيْهِم الْمَقْصُود قَول وجيه لَا تأباه قَوَاعِد الشَّرِيعَة بل تَقْتَضِيه وَالله أعلم وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي رَآهُ الشَّيْخ الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني رَحمَه الله حَتَّى نهى أَصْحَابه عَن زِيَارَة الْأَوْلِيَاء
وَأَقُول إِن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله كَانَ يرى شَيْئا من ذَلِك ولأجله كتب رسَالَته الْمَشْهُورَة الَّتِي تكلم فِيهَا على حَال متفقرة الْوَقْت وحذر فِيهَا رَضِي الله عَنهُ من الْخُرُوج عَن السّنة والتغالي فِي الْبِدْعَة وَبَين فِيهَا بعض آدَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وحذر من تغالي الْعَوام فِي ذَلِك وَأَغْلظ فِيهَا مُبَالغَة فِي النصح للْمُسلمين جزاه الله خيرا وَمن كَلَامه فِيهَا مَا نَصه تَنْبِيه من الغلو الْبعيد ابتهال أهل مراكش بِهَذِهِ الْكَلِمَة سَبْعَة رجال فَهَل كَانَ لسبعة رجال شيعَة يطوفون عَلَيْهِم إِلَى أَن قَالَ فعلينا أَن نقتدي بسبعة رجال وَلَا نتخذهم آلِهَة لِئَلَّا يؤول الْحَال فيهم إِلَى مَا آل إِلَيْهِ فِي يَغُوث ويعوق ونسرا إِلَى آخر كَلَامه وَصدق رَحمَه الله فكم من ضَلَالَة وَكفر أَصْلهَا الغلو فِي التَّعْظِيم وَمَا ضلت النَّصَارَى إِلَّا من غلوهم فِي عِيسَى وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 17 الْآيَة وَمن ذَلِك قصَّة يَغُوث ويعوق ونسرا الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي مَذْكُورَة فِي الصَّحِيح وَفِي كتب التَّفْسِير
وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَن أصل حُدُوث عبَادَة الْحجر فِي بِلَاد الْعَرَب أَن آل إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما كَثُرُوا حول الْحرم وَضَاقَتْ بهم(3/123)
فجاج مَكَّة تفَرقُوا فِي النواحي وَأخذُوا مَعَهم أحجارا من الْحرم تبركا بهَا فَكَانَ أحدهم يضع الْحجر فِي بَيته فيطوف ويتمسح بِهِ ويعظمه ثمَّ توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تِلْكَ الْأَحْجَار ثمَّ عبدُوا غَيرهَا وَذَهَبت مِنْهُم ديانَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام إِلَّا يَسِيرا جدا بَقِي فيهم إِلَى أَن صبحهمْ الْإِسْلَام هَذَا معنى مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَقد تكلم الشاطبي وَغَيره من الْعلمَاء فِيمَا يقرب من هَذَا وَذكروا أَن الغلو فِي التَّعْظِيم أصل من أصُول الضلال وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا قَضِيَّة الشِّيعَة لَكَانَ كَافِيا فَالْحَاصِل أَن خير الْأُمُور الْوسط وَمن هُنَا أَيْضا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله قد أبطل بِدعَة المواسم بالمغرب وَهِي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وَجعل فِي عليين مثواه
وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْحجاز وَنزل بطنجة وَكَانَ قدومه فِي قرصان الإنجليز لِأَن وَالِده رَحمَه الله كَانَ قد وَجهه إِلَيْهِ مَعَ بضع قراصينه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فصادفوه قد انحدر إِلَى جَزِيرَة مالطة فَركب الْمولى الْمَذْكُور فِيمَا خف من حَاشِيَته فِي قرصان النجليز وَسبق إِلَى طنجة فاحتل بهَا ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة وَالِده بمكناسة فَأَقَامَ عِنْده ثَلَاثًا ريثما استراح ثمَّ انْفَصل عَنهُ إِلَى دَاره بفاس فَخرج لملاقاته جَيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وَسَائِر عامتها بفرح وسرور وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وَلما وصل الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَه نشرُوا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وَمَا فعله من الْبر فِي طَرِيق الْحَج خُصُوصا فِي مفاوز الْحجاز فقد أنْفق فِيهَا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا لايحصى وشاع ذكره فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وتجاوزهما إِلَى مصر وَالشَّام والعراقين وَلما نفذ مَا عِنْده استسلف من التُّجَّار الَّذين كَانُوا مَعَه أَمْوَالًا طائلة أنفقها فِي سَبِيل الله وَلما قدم أَرْبَابهَا على السُّلْطَان عرفوه بِمَا استسلفه مِنْهُم وَلَده وأطلعوه على حساباتهم فَعرف أَن مَا فعله وَلَده صَوَاب فَأمر رَحمَه الله لأولئك التُّجَّار بِقَضَاء مَا أسلفوه وَأَن يُزَاد لَهُم مِقْدَار ربحه(3/124)
تطييبا لنفوسهم وَقَالَ إِنَّمَا تتعاطون التِّجَارَة لتنموا أَمْوَالكُم وتربحوا فَلَا يَنْبَغِي أَن ننقصكم من ربحكم شَيْئا فَأَما نَحن فربحنا هُوَ مَا أنفقهُ ولدنَا قي سَبِيل الله
وَقد مدح هَذَا النجل الأرضي جمَاعَة من أدباء مصر وَغَيرهَا بقصائد نفيسة وَمن جملَة من مدحه الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم عبد الْقَادِر الريَاحي التّونسِيّ فَإِنَّهُ بعث بقصيدة رائقة إِلَى وَالِده السُّلْطَان المرحوم يمدح النجل الْمَذْكُور ويهنئه بالقدوم وألم فِيهَا بِذكر السُّلْطَان فَأَعْجَبتهُ وهزت من عطفه وَأمر كتاب دولته أَن يَأْخُذُوا مِنْهَا نسخا وَشَرحهَا بَعضهم وَنَصهَا
(هذي المنى فأنعم بِطيب وصال ... فلطالما أضناك طول مطال)
(مَاذَا وَكم أوليتني يَا مخبري ... بقدومه من منَّة ونوالي)
(بشرتني بحياتي الْعُظْمَى الَّتِي ... قد كنت أحسبها حَدِيث خيال)
(بشرتني بِابْن الرَّسُول لَو إِنَّمَا ... روحي ملكت بذلتها فِي الْحَال)
(بشرتني بسلالة الْخُلَفَاء من ... أمداحهم تثنى بِكُل مقَال)
(من حبهم فرض الْكتاب أما ترى ... إِلَّا الْمَوَدَّة حِين يَتْلُو التَّالِي)
(من ضمهم شَمل العباء وأذهبوا ... رجسا فيالك من مقَام عالي)
(من قومُوا أود المكارم بعد مَا ... شادوا الْهدى بمعارف ونصال)
(لولاهم كَانَ الورى فِي ظلمَة ... مدت غياهبها بِكُل ضلال)
(آباءك الْأَطْهَار فاقصد يَا أَبَا ... إِسْحَاق يَا نجل المليك العالي)
(يَا حبه وَصفيه من قومه ... وخياره من سَائِر الأنجال)
(لَو لم تكن أَهلا لصفو وداده ... لم يستنبك لجدك المفضال)
(لَكِن توسم فِيك كل فَضِيلَة ... فحبى يَمِينك راية الإقبال)
(وَأقَام جودك بل وجودك زَاد من ... يَبْغِي بِبَيْت الله حط رحال)
(أَنْت استطاعتهم فَمَا عذر الَّذِي ... ترك الزِّيَارَة خيفة الإقلال)
(وَبِك المشاعر أطربت طرب الَّتِي ... وجدت على وَله فقيد فصَال)
(ووصلتها رحما هُنَاكَ قطيعة ... دهرا وَلم تبلل بِهِ ببلال)(3/125)
(وتأنس الحرمان مِنْك بطلعة ... أغنتهما عَن وابل هطال)
(كرم لكم أدريه يَوْم أفاضه ... عني سُلَيْمَان باي سِجَال)
(وهب الألوف وَكَانَ أكْرم منزل ... يسلى الْغَرِيب ببره المتوال)
(يَوْم التشرف لي بلثم يَمِينه ... وتمتعي من وَجهه بِجَمَال)
(وتلذذي بخطابه المعسول إِذْ ... حفت بِهِ للدرس أَي رجال)
(لم أنسه يَوْمًا حسبت نعيمه ... بلذائذ الجنات ضرب مِثَال)
(عجبا لَهُ يحيي الْقُلُوب بِعِلْمِهِ ... وَيُمِيت جند الْفقر مِنْهُ بِمَال)
(وَإِذا تقلد للوغي فحسامه ... تعنو الرّقاب لَهُ بِدُونِ قتال)
(تتلوه بِالْفَتْح الْمُبين عَسَاكِر ... قد أرهفت بالنصر حد نصال)
(تخشى الْمُلُوك مقَامه ولذكره ... رعْبًا تطير فرائص الْأَبْطَال)
(وينال آمله بخفض جنَاحه ... ماليس يخْطر قطّ مِنْهُ ببال)
(حَتَّى سعى لصفي منهله الَّذِي ... يسْعَى لمروته ذَوُو الأثقال)
(وَأَتَتْ لمغربه الشريف مَشَارِق ... وَالشَّمْس تغرب لاقْتِضَاء كَمَال)
(لما تكدر صفوها بضلاله ... جَاءَتْهُ كَيْمَا ترتوي بزلال)
(وَمَتى تخلف عَاجز فبقلبه ... يسْعَى لفعل شَعَائِر الإجلال)
(أُمْنِية وَقعت أَشرت لذكرها ... فِي مدحه قدما بِصدق مقَال)
(تهوى الْمَشَارِق أَن تكون مغاربا ... لتنال من جدواه كل منال)
(يَا فَخر دين الله مِنْهُ بناصر ... وسعادة الدُّنْيَا بِهِ من وَال)
(لَا تفتخر فاس وَلَا مراكش ... بولائه كل الْأَنَام موَالٍ)
(أَو لَيْسَ فِي كل الْبِقَاع ثَنَاؤُهُ ... ورد البكور وسحة الآصال)
(أَو لم يشد للدّين وَالْعُلَمَاء ... والأشراف والصلحاء أَي جلال)
(أَو لم يعم بجوده أقطارها ... لَا فرق بَين جنوبها وشمال)
(أَو لم يسر ركبانها بمحاسن ... ضاءت لَهَا سرج بجنح لَيَال)
(أَو لَيْسَ أَحْيَا سنة العمرين فِي ... زمن إِلَى بدع الْهوى ميال)
(شيم يهز الراسيات سماعهَا ... ويعجن فِي أنف الزَّمَان غوال)
(أَوْصَاف والدك الإِمَام المرتضى ... للدّين وَالدُّنْيَا بِحسن خلال)(3/126)
(ذَاك الرّبيع أَبُو الرّبيع وَمن بِهِ ... حيى الْهدى وَشَرَائِع الأفضال)
(كل الْكَمَال لَهُ وَأَنت مقره ... وَالْفرع عين الأَصْل عِنْد مَال)
(يَا ابْن المليك ابْن المليك ابْن المليك ... ابْن المليك سلالة الْأَقْيَال)
(أنسيتم ذكر العباسية الأولى ... زَالُوا وَمَا زَالُوا بِعَين جلال)
(لكم الفخار بِذَاتِهِ وسواكم ... مستمسك من فخركم بظلال)
(ولي الفخار بِأَن نسجت مديحكم ... حللا تَجِد وكل شَيْء بَال)
(أملي مَعَانِيهَا على ودادكم ... فَجرى بِهِ طبع كَمَا السلسال)
(وَلَو أنني حاولت مدح سواكم ... عقل القريحة عَنهُ أَي عقال)
(فَكَأَنَّمَا طبعي شرِيف حَيْثُمَا ... لَا يَهْتَدِي لسوى مديح الْآل)
(أَو قد درى أَن المديح تعرض ... وسواكم لَا يرتضي لسؤال)
(أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم ... مختاركم لإنالة الآمال))
(وأدام لِلْإِسْلَامِ والدك الَّذِي ... هُوَ رَحْمَة وسعت بِغَيْر جِدَال)
(وَعَلَيْكُم وعَلى الَّذِي يهواكم ... أزكى الرضى من حَضْرَة المتعال)
(مَا دَامَ ذكركُمْ بِكُل صحيفَة ... تبعا لِأَحْمَد سيد الْإِرْسَال)
(صلى عَلَيْهِ مُسلما رب الورى ... وعَلى مقدم حزبه والتالي)
وعزز هَذِه القصيدة بِمِثْلِهَا بحرا وقافية ورويا الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج الفاسي يَقُول فِي مطْلعهَا
(بِشِرَاك إِبْرَاهِيم بالإقبال ... إقبال عز لم يكن بالبال)
وَهِي طَوِيلَة تركناها اختصارا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْمولى عَليّ ابْن الْمولى أَحْمد الوزاني وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِلَاد الرِّيف وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان أَن قبائل الرِّيف من قلعية وَغَيرهم صَارُوا يبيعون الزَّرْع لِلنَّصَارَى ويسوقونه من بِلَادهمْ فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي على جَيش كثيف وأنفذه إِلَيْهِم(3/127)
فَسَار الْعَامِل الْمَذْكُور وَقصد قلعية عش الْفساد وَلما شارفها سرب إِلَيْهِم العساكر فنهبوا أَمْوَالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أَرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابْن المدلق ثمَّ بَث عماله فِي تِلْكَ الْقَبَائِل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وَعَاد ظافرا وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ صباح يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام خَاتِمَة الْمُحَقِّقين بالمغرب سَيِّدي مُحَمَّد الطّيب بن عبد الْمجِيد بن عبد السَّلَام ابْن كيران الفاسي صَاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وَشرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَغير ذَلِك من التآليف الْمَعْرُوفَة والموجودة بأيدي النَّاس
ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان ثَانِيًا أَن أهل الرِّيف لَا زَالُوا مقيمين على بيع الزَّرْع لِلنَّصَارَى وَأَنَّهُمْ أضافوا إِلَى بيع الزَّرْع بيع الْمَاشِيَة وَقد كَانَ السُّلْطَان منع النَّصَارَى من وسق ذَلِك بالمراسي فافتات هَؤُلَاءِ الْقَوْم على السُّلْطَان وأعطوهم من ذَلِك مَا أَرَادوا طَمَعا فِي الرِّبْح وَكَانَ السُّلْطَان قد تقدم إِلَى الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي فِي كفهم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم وأضافهم إِلَى من كَانَ إِلَى نظره من أهل الْجَبَل والثغور فَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِم وَرُبمَا قبض أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم على سفلتهم مِمَّن يتعاطى ذَلِك ويبعثون بهم إِلَيْهِ فيسرحهم على طمع فاتسع الْخرق وَصَارَ كلهم يفعل ذَلِك وَلما تحقق السُّلْطَان بفعلهم أَمر رُؤَسَاء قراصينه أَن يذهبوا إِلَى جِهَة الرِّيف ومراسيها وكل من عثروا عَلَيْهِ بهَا من مراكب النَّصَارَى فليأخذوه فَسَارُوا وقبضوا على بعض النَّصَارَى فأسروهم وَلم يقنعه ذَلِك حَتَّى أَمر بغزو الرِّيف وعزم على النهوض إِلَيْهِم بِنَفسِهِ وَأذن فِي النَّاس بذلك وجهز العساكر مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي وَوجه مَعَه وَلَده الْمولى إلراهيم بعساكر الثغور وعرب سُفْيَان وَبني مَالك فَسَارُوا على طَرِيق الْجَبَل وَخرج السُّلْطَان من فاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ السوَاد الْأَعْظَم فسلك الجادة إِلَى تازا وكارت حَتَّى نفذ إِلَى بِلَاد الرِّيف فَلم يرعهم إِلَّا العساكر مُحِيطَة بهم من كل وَجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم وَاسْتَخْرَجُوا(3/128)
أمراسهم ودفائنهم وَولى السُّلْطَان عَلَيْهِم أَحْمد بن عبد الصَّادِق الريفي وَتَركه فِي بِلَادهمْ فِي حِصَّة من الْعَسْكَر يستخلص مِنْهُم الْأَمْوَال وَعَاد السُّلْطَان إِلَى دَار ملكه مؤيدا منصورا
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتمهيدها ثمَّ دُخُوله مراكش
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله قد ولى على قبائل تامسنا الْقَائِد كريران الحريزي فَيُقَال إِنَّه أَسَاءَ السِّيرَة فيهم فنبذوا طَاعَته وَخَرجُوا عَلَيْهِ فَقدم على السُّلْطَان مستصرخا عَلَيْهِم فَخرج إِلَيْهِم فِي العساكر سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتقدم إِلَى جيرانهم من الْقَبَائِل بِأَن يزحفوا إِلَيْهِم من خَلفهم فَفَعَلُوا وهجم هُوَ عَلَيْهِم من أمامهم وأوقع بهم وقْعَة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وفر مِنْهُم طَائِفَة فعبروا وَادي أم الرّبيع زمَان مُدَّة فَهَلَك جلهم ثمَّ ترك فيهم عَامله فِي حِصَّة من الْجند وَأمره باستخلاص الْأَمْوَال مِنْهُم وَتقدم هُوَ إِلَى نَاحيَة مراكش لقمع أهل الْفساد من قبائل الْحَوْز مثل دكالة وَعَبدَة والشياظمة الَّذين خَرجُوا أَيْضا على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق صَاحب الصويرة فَأصْلح من شَأْنهمْ وعزله عَنْهُم لما علمه من سوء سيرته فيهم وَنَقله من الصويرة إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى فاس فولى أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد على عَسْكَر القلعة بمراكش وَعَاد رَحمَه الله إِلَى الغرب
وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْحَاج الرهوني صَاحب الْحَاشِيَة الْكَبِيرَة على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل وَغَيرهَا من التآليف النافعة والخطب البارعة وَبَاعه فِي الْعُلُوم خُصُوصا الْفِقْه مُقَرر مَعْلُوم رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْعَالم الْعَارِف الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني(3/129)
شيخ الطَّائِفَة التجانية وَكَانَت وَفَاته بفاس المحروسة وضريحه بهَا شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل رَحمَه الله ونفعنا بِهِ
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان قبائل الصَّحرَاء وإيقاعة بآيت عطة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان أَن بعض قبائل الصَّحرَاء كعرب الصَّباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بِالْفَسَادِ وَعظم ضررهم واستولوا على قُصُور المخزن الَّتِي هُنَالك من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل فعقد لِابْنِهِ الْمولى إِبْرَاهِيم على جَيش كثيف وَوَجهه إِلَيْهِم فَسَار وَنزل أَولا على قُصُور الْعَرَب وَنصب عَلَيْهِم آلَة الْحَرْب فبددهم ثمَّ زَاد إِلَى قُصُور آيت عطه فنصب عَلَيْهِم الْآلَة كَذَلِك وضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ فطلبوا أَن يفرج بالجيش عَنْهُم قَلِيلا حَتَّى يخرجُوا بعيالهم خوفًا من معرة الْجَيْش فأشفق لَهُم وَأَفْرج عَنْهُم وَكَانَ ذَلِك مكيدة مِنْهُم فَلَمَّا نفس عَن مخنقهم أدخلُوا مَعَهم مَا شاؤوا من رجال وَسلَاح وقوت وتمادوا على الْحَرْب فَسقط فِي يَد الْمولى إِبْرَاهِيم وَحمى أَنفه وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من أعيانهم رهنا عِنْده فَقتل طَائِفَة مِنْهُم وسَاق نَحْو الْمِائَة إِلَى فاس فَقَتلهُمْ بِبَاب المحروق وَلما أنهى خبر فعلة البربر إِلَى السُّلْطَان عَابَ على ابْنه إفراجه عَنْهُم أَولا وَقتل الرهائن ثَانِيًا ثمَّ أَنهم أوفدوا جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان راغبين إلية أَن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وَقَالَ لَهُم لَا بُد لي من الْوُصُول إِلَى تِلْكَ الْقُصُور إِن شَاءَ الله حَتَّى تكون لي أولكم وَلما انْسَلَخَ رَمَضَان من السّنة وَأقَام سنة عيد الْفطر شرع فِي تجهيز العساكر إِلَى الصَّحرَاء وقمع ظلمَة آيت عطه ثمَّ بعث فِي مقدمته السوَاد الاعظم من جَيش العبيد وَعقد عَلَيْهِم لوصيفه الأنجب الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الحاتم وَبعث مَعَه الطبجية بالمدافع والمهاريس وَآلَة الْحصار وَالْهدم فَخَرجُوا من فاس فِي(3/130)
زِيّ فاخر وشوكة تَامَّة وَبعد انفصالهم عَنْهَا طَرَأَ على السُّلْطَان من بعض الثغور البحرية خبر بِأَن عمَارَة الْعَدو تروج بالبحر وتجتمع عِنْد جبل طَارق وَلم ندر إِلَى أَيْن تُرِيدُ فَتَأَخر السُّلْطَان عَن الْخُرُوج حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ أَمر هَذِه الْعِمَارَة ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بِأَنَّهَا قد قصدت ثغر الجزائر وَأصَاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدّور والمساجد وَحرق الْأَشْجَار شَيْئا كثيرا لَكِن لما رجعُوا مفلولين مقتولين هان الْأَمر وصغرت الْمُصِيبَة وَلما جَاءَ البشير بانهزام الفرنج عَن الجزائر قوي عزم السُّلْطَان على مُتَابعَة من وَجه من عسكره إِلَى الصَّحرَاء فَخرج فِي غرَّة ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فِيمَن تخلف مَعَه من الْعَسْكَر وقبائل الْعَرَب والبربر وجد السيرإلى أَن عمر وَادي ملوية فَلَقِيَهُ البشير هُنَالك بِخَبَر الْفَتْح والاستيلاء على الْقُصُور وَقتل أَهلهَا وَسَبْيهمْ وَنهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السّير إِلَى أَن خيم بأغريس وَمِنْهَا كتب إِلَى الْقَائِد أَحْمد أَن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على الْقُصُور الخربات الَّتِي بهَا آيت عطة فَاجْتمعُوا مَعَ السُّلْطَان بهَا ونصبوا عَلَيْهَا المدافع والمهاريس ودام الرَّمْي عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى كثر الْهدم وَالْقَتْل وعاينوا الْمَوْت الْأَحْمَر فأرسلوا إِلَى السُّلْطَان النِّسَاء وَالصبيان للشفاعة فِي الْخُرُوج بؤوسهم فَأَمنَهُمْ وَلما جن اللَّيْل خَرجُوا حاملين أَوْلَادهم على ظُهُورهمْ خوفًا من معرة الْجَيْش وَلما أصبح السُّلْطَان أَمر بِنَهْب مَا فِي الْقُصُور من الْقُوت وَالْمَتَاع والكراع وكمل فتح هَذِه الْأَمَاكِن الَّتِي كَانَت نقمة لأهل ذَلِك الْقطر الصحراوي وَلما من الله على السُّلْطَان بِهَذَا الْفَتْح شكر صنع الله لَهُ بِأَن فرق على الْعَسْكَر وقبائل تِلْكَ الأقطار مَا وسعهم من الْخيرَات
قَالَ صَاحب الْجَيْش أعْطى الشرفاء مائَة ألف مِثْقَال غير مَا كَانَ يعطيهم فِي كل سنة وَقسم رَحمَه الله ذَلِك بِخَط يَده فَكتب لدار مولَايَ عبد الله كَذَا ولشريفات حموبكة كَذَا ولشرفاء تافيلالت كَذَا ولشرفاء تيزيمي وَأَوْلَاد الزهراء كَذَا ولشرفاء الرتب كَذَا ولشرفاء مدغرة كَذَا ولشرفاء زيز(3/131)
والخنق والقصابي كَذَا وَأعْطى الطّلبَة والعميان والمقعدين والزمنى وزوايا تافيلالت مائَة ألف مِثْقَال قسم ذَلِك بِخَط يَده أَيْضا وَجعل للفقيه الْمدرس أَرْبَعَة أسْهم وَلغيره سَهْمَيْنِ والسهم من كَذَا وللطالب الَّذِي يحفظ الْقُرْآن برسمه حَتَّى صفا لوحه سَهْمَان وَلغيره سهم والسهم من كَذَا وَلَا فرق بَين الْأَحْرَار والحراطين وَلكُل وَاحِد من الضُّعَفَاء والعمى والمقعدين كَذَا الْأَحْرَار والحراطين سَوَاء وللزوايا كَذَا فلزاوية الشَّيْخ سَيِّدي الْغَازِي كَذَا ولزاوية سَيِّدي أبي بكر بن عمر كَذَا ولزاوية سَيِّدي أَحْمد الحبيب كَذَا ولزاوية سَيِّدي عَليّ بن عبد الله كَذَا ولزاوية ضريح مَوْلَانَا عَليّ الشريف كَذَا ولمقبرة أخنسوس كَذَا وَوجه المَال مَعَ الْأمين السَّيِّد الْمُعْطِي مرينو الرباطي وَأمر الشرفاء أَن يعينوا أَرْبَعِينَ من ثقاتهم وأمنائهم حَتَّى لَا تقع زِيَادَة فِيمَا كتبه بِيَدِهِ وَلَا نُقْصَان وَأمر القَاضِي أَن يعين عشرَة من الطّلبَة وَعشرَة من الْعَوام للْقِيَام على تَفْرِقَة ذَلِك ثمَّ أعْطى المدرسين زِيَادَة على مَا تقدم وَكَذَا الْأَئِمَّة والمؤذنين وَلم ينس أحدا كل ذَلِك بِخَط يَده رَحمَه الله
قَالَ صَاحب الْجَيْش وَلَا زَالَ هَذَا الزِّمَام عِنْدِي ثمَّ بعد قَضَاء وطره من الزِّيَارَة والصلة توجه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة لتفقد أَحْوَال جَيش الْحَوْز الَّذِي كَانَ وَجهه من مراكش لإقليم درعة فَبَلغهُ أثْنَاء الطَّرِيق أَن آيت عطه الَّذين بدرعة لما سمعُوا بِقُرْبِهِ مِنْهُم خَرجُوا من الْقُصُور هاربين وتركوها يبابا وتحصنوا بجبل صاغرو وَلما دخل السُّلْطَان مراكش سرح العساكر إِلَى السوس لتفقد أَحْوَاله وجباية أَمْوَاله وتمهيد أَطْرَافه وَأخذ هُوَ رَحمَه الله فِي استصلاح قبائل الْحَوْز من دكالة وَعَبدَة والشياظمة فَقتل وَعزا وسجن وَولى من ولى وطهر تِلْكَ الْأَعْمَال من وُلَاة السوء الَّذين كَانُوا بهَا وَعَاد إِلَى حَضرته بفاس وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دَخلهَا أَخذ فِي تجهيز ولديه الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج إِلَى أَن استوفى الْغَرَض فِي ذَلِك وَعين من يتَوَجَّه مَعَهُمَا من الخدم والتجار(3/132)
وَسَائِر الْحَاشِيَة وخرجا مَعَ الركب النَّبَوِيّ على الْهَيْئَة الْمَعْهُودَة فِي حفظ الله وَفِي هَذِه السّنة عزل السُّلْطَان وصيفه ابْن عبد الصَّادِق عَن فاس وَولى عَلَيْهَا كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الرِّفَاعِي الرباطي الْمَدْعُو القسطالي كَانَ يعلم أَوْلَاده فنقله عَن ذَلِك إِلَى مرتبَة الْولَايَة وأوصاه أَن يسير بِالْعَدْلِ فِي الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين ويشتد على الفجرة والمتمردين وَفِي هَذِه السّنة عَشِيَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْمُحَقق الأديب البليغ أَبُو الْفَيْض حمدون بن عبد الرَّحْمَن بن حمدون بن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ المرداسي الشهير بِابْن الْحَاج صَاحب التآليف الْحَسَنَة والفوائد المستحسنة والخطب النافعة وَالْحكم الجامعة رَحمَه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف عزل السُّلْطَان الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس عَن فاس لعَجزه عَن الْقيام بالخطة وَولى على فاس خديمه الْحَاج أَبَا عبد الله مُحَمَّد الصفار من بَيت رياسة وَفِي هَذِه السّنة أبطل السُّلْطَان الْجِهَاد فِي الْبَحْر وَمنع رؤساءه من القرصنة بِهِ على الْأَجْنَاس وَفرق بعض قراصينه على الإيالات الْمُجَاورَة مثل الجزائر وطرابلس وَمَا بَقِي مِنْهَا أنزل مِنْهَا المدافع وَغَيرهَا من آلَة الْحَرْب وَأعْرض عَن أَمر الْبَحْر رَأْسا بعد أَن كَانَت قراصين الْمغرب أَكثر وَأحسن من قراصين صَاحب الجزائر وتونس قَالَه منويل وَفِي هَذِه السّنة قدم ولدا السُّلْطَان الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر من الْمشرق مَعَ الركب ونزلوا بثغر طنجة وَكَانَ السُّلْطَان قد بعث إِلَيْهِمَا بمركب من مراكب النجليز فَانْتهى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وحملهما وَمن مَعَهُمَا من الخدم والتجار وَسَائِر الْحَاج وَلما نزلُوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب فَقَالَ النَّاس إِن ذَلِك بسببهم فانتشر أَولا بِتِلْكَ السواحل وَمِنْهَا شاع فِي الحواضر والبوادي إِلَى أَن بلغ فاسا ومكناسة فِي بَقِيَّة الْعَام
وَلما دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف شاع الوباء وَكثر فِي بِلَاد الغرب فَتوجه السُّلْطَان إِلَى مراكش وَكَانَ الْأَمر لَا زَالَ مُحْتملا ثمَّ زَاد(3/133)
وتفاحش حَتَّى أصَاب النَّاس مِنْهُ أَمر عَظِيم وَفِي هَذَا الوباء توفّي الشَّيْخ المرابط الْبركَة سَيِّدي الْعَرَبِيّ ابْن الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي الْمُعْطى بن الصَّالح الشرقاوي وضريحه شهير بِأبي الْجَعْد رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وأسلافه آمين
وقْعَة ظيان وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله
لما وصل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب مِنْهَا ثمَّ أَخذ فِي الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة وَعرفت الْوَقْعَة بوقعة ظيان فَخذ مِنْهُم فحشد السُّلْطَان رَحمَه الله عرب الْحَوْز كلهم وَكتب إِلَى العبيد بمكناسة يَأْمُرهُم أَن يوافوه بتادلا وَكتب إِلَى وَلَده وخليفته بفاس الْمولى إِبْرَاهِيم أَن يوافيه بهَا بِجَيْش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وَكَانَ النَّاس يَوْمئِذٍ فِي شدَّة من هَذَا الوباء الَّذِي عَم الحواضر والبوادي وَكَانَ السُّلْطَان لما أَخذ فِي استنفار هَذِه الْقَبَائِل لَا علم لَهُ بتفاحش الوباء بالمغرب وَكَانَ الْوَاجِب على ابْن السُّلْطَان أَن يعلم أَبَاهُ بِمَا النَّاس فِيهِ من فتْنَة الوباء فيعفيهم من الْغَزْو أَو يُؤَخِّرهُ إِلَى يَوْم مَا فَجمع ولد السُّلْطَان الجموع وجلهم كَارِه وَسَار لميعاد أَبِيه فوافاه بتادلا فَاجْتمع للسُّلْطَان فِيمَا يُقَال من الجيوش نَحْو سِتِّينَ ألفا وزحف إِلَى البربر فَانْتهى إِلَى بسيط آدخسان وَبهَا مزارع البربر وفدنها فَأرْسل السُّلْطَان الجيوش فِي تِلْكَ الزروع وَكَانَت شَيْئا كثيرا فَأتوا عَلَيْهَا وَبعث البربر إِلَيْهِ بنسائهم وولدانهم للشفاعة وَأَن يدفعوا للسُّلْطَان كل مَا يَأْمُرهُم بِهِ من المَال وينصرف عَنْهُم فَأبى وزحف إِلَيْهِم فَقَاتلهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل وَلَقَد أَخْبرنِي من حضر الْوَقْعَة أَن الْمُقَاتلَة كَانَت فِي هَذَا الْيَوْم من عرب الغرب وَمن برابرة زمور وجروان وآيت أدراسن إِلَّا أَن الْقَتْل استحر فِي الْعَرَب دون البربر وَذَلِكَ أَن كَبِير زمور الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي دس إِلَى(3/134)
ظيان بأنما نَحن وَأَنْتُم وَاحِد فَإِذا كَانَ اللِّقَاء فَلَا ترمونا وَلَا نرميكم إِلَّا بالبارود وَحده وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما قدمهم لِلْقِتَالِ فِي أول يَوْم مِنْهُ وَأخر عرب الْحَوْز استرابوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يصدم بَعضهم بِبَعْض وتسلم لَهُ الْعَرَب فَفعل ابْن الْغَازِي مَا فعل وَلما رَاح مقاتلة الْعَرَب مَعَ الْعشي أخبروا السُّلْطَان بِأَن هَؤُلَاءِ البربر الَّذين مَعَه لَا أَمَان فيهم وَإِنَّمَا ظلوا يترامون بالبارود لَا غير وَلأَجل ذَلِك قد هلك من إِخْوَاننَا كثير وَلم يهْلك مِنْهُم أحد فأسرها السُّلْطَان فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَلما كَانَ الْغَد وَركب النَّاس لِلْقِتَالِ أرسل إِلَى البربر أَن لَا يركب مِنْهُم أحد وَقَالَ لَهُم إِنِّي أردْت أَن أجرب الْعَرَب الْيَوْم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطَّاعَة وَتقدم الْعَرَب إِلَى الْقِتَال وَأقَام البربر فِي أخبيتهم إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ ركبُوا خيولهم وتسابقوا إِلَيْهَا عَن آخِرهم قَالَ الْمخبر بِهَذَا الْخَبَر شاهدتهم سَاعَة ركبُوا فَكنت لَا ألتفت إِلَى جِهَة إِلَّا رَأَيْتهَا حَمْرَاء من كَثْرَة سروجهم الَّتِي كَانَت على ظُهُور الْخَيل إِذْ ذَاك ثمَّ تصايحت البربر فِيمَا بَينهَا وَتَقَدَّمت براياتها إِلَى الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْقِتَال وَأتوا من خلف الْعَرَب الَّذين كانو فِي نحر الْعَدو وهم يتصايحون فَلم يردهم إِلَّا صياح البربر من خَلفهم وراياتهم قد أطلت عَلَيْهِم من كل جِهَة وَكَانَت شَيْئا كثيرا فظنوا أَن ظيان قد التحفتهم من خَلفهم فخشعت نُفُوسهم وفشلوا وَرَجَعُوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فَأَخَذتهم البربر من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم يقتلُون ويسلبون وَحصل انزعاج كَبِير فِي الْمحلة وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهَا وَلم يبْق بهَا إِلَّا جَيش الودايا وَالْعَبِيد هَكَذَا أَخْبرنِي من شَاهد هَذِه الْوَقْعَة مِمَّن يوثق بِهِ
وسَاق صَاحب الْجَيْش الْخَبَر عَنْهَا بِأَن قَالَ كَانَ انخذال برابرة زمور بِرَأْي كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي وَكَانَت لَهُ وجاهة فِي الدولة وَكَانَ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن يساميه فِي الْمنزلَة وَلما خرج الْمولى إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزْوَة كَانَ ابْن واعزيز قد حظي لَدَيْهِ حَتَّى صَار من أخص ندمائه فَنَفْس ابْن الْغَازِي عَلَيْهِ ذَلِك ودبر بِأَن جر(3/135)
الْهَزِيمَة على الْجَيْش أجمع فَإِنَّهُ أظهر الْفِرَار وَقت اللِّقَاء حَتَّى سرى الفشل فِي النَّاس وانهزموا ثمَّ عطفت البرابر مَعَ الْعشي على محلّة السُّلْطَان فشرعوا فِي نهبها وأحاط عَسْكَر العبيد بهَا من كل جِهَة وصاروا يُقَاتلُون البربر على أَطْرَاف الأخبية وَلما أقبل الْمسَاء ترك العبيد الأخبية وأرزوا إِلَى أفراك السُّلْطَان وَصَارَ الْقِتَال على أفراك إِلَى وَقت الْعشَاء فَهَلَك من العبيد خلق كثير وَصَارَ الْقِتَال بِالسُّيُوفِ والرماح وَمَا زَالَ أَصْحَاب السُّلْطَان يترسون عَلَيْهِ بِأَنْفسِهِم حَتَّى عجزوا عَن الدفاع وخلص البربر إِلَى السُّلْطَان وَأَرَادَ رجل مِنْهُم يُقَال إِنَّه من بني مكيلد أَن يجرده فَأعلمهُ بِأَنَّهُ السُّلْطَان فاستحلفه الْبَرْبَرِي فَحلف لَهُ فَنزل عَن فرسه وأركبه وطار بِهِ إِلَى خيمته وَكَانَ البربر يلقونه وَهُوَ ذَاهِب بِهِ فَيَقُولُونَ من هَذَا الَّذِي مَعَك فَيَقُول أخي أَصَابَته جِرَاحَة وَلما وصل بِهِ إِلَى خيمته أعلن بِأَنَّهُ السُّلْطَان فَأَقْبَلت نسَاء الْحَيّ من كل جِهَة يفرحن ويضربن بِالدُّفُوفِ ثمَّ جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا بِهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ إعجابا بِهِ حَتَّى أضجرنه وَلما جَاءَ رجال الْحَيّ أعظموا حُلُوله بَين أظهرهم وأجلوه وَسعوا فِيمَا يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ فَلم يقر لَهُ قَرَار مَعَهم وَيُقَال إِنَّه بَقِي عِنْدهم ثَلَاثًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب أسفا على مَا أَصَابَهُ إِلَّا أَنه كَانَ يسد رمقه بِشَيْء من الحليب وَالتَّمْر وتنصل البربر لَهُ مِمَّا شجر بَينهم وَبَينه وأظهروا لَهُ غَايَة الخضوع والاستكانة حَتَّى أَنهم كتفوا نِسَاءَهُمْ وقدموهن إِلَيْهِ مستشفعين بِهن على عَادَتهم فِي ذَلِك وَبعد ثَلَاث أركبوه وَقدمُوا بِهِ فِي جمَاعَة من الْخَيل إِلَى قَصَبَة آكراي فنزلوا بِهِ قَرِيبا مِنْهَا وَبعث رَحمَه الله إِلَى مكناسة يعلم الْجَيْش بمكانه فجاؤوه مُسْرِعين وَدخل مكناسة بعد أَن أحسن إِلَى ذَلِك الْفَتى الْبَرْبَرِي وَإِلَى جَمِيع أهل حيه غَايَة الْإِحْسَان وَأمر رَحمَه الله أَن يعْطى لكل من أَتَى سليبا من المنهزمين حائك وَثَلَاثُونَ أُوقِيَّة فَفرق من ذَلِك شَيْئا كثيرا بِبَاب مَنْصُور العلج من مكناسة وَأُصِيب الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان فِي هَذِه(3/136)
الْوَقْعَة بجراحات معظمها فِي رَأسه فَحمل جريحا إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا وَكَانَت مصيبته على السُّلْطَان أعظم مِمَّا أَصَابَهُ فِي نَفسه وَالْأَمر لله وَحده
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ السُّلْطَان الحازم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لَا يرد الشَّفَاعَة فِي مثل هَذَا الْمقَام وَرُبمَا دس إِلَى من يظْهر ذَلِك صُورَة حَتَّى يكون نهوضه عَن عز وَذَلِكَ من حسن سياسته وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة الفادحة سَبَب سُقُوط هَيْبَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من قُلُوب الرّعية فَلم يمتثل لَهُ بعْدهَا أَمر فِي عصاتها حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى
وَلما دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله حبالة الطمع وكادهم بهَا بِأَن صَار كلما وَفد عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم كساها وَأحسن إِلَيْهَا فتسامعوا بذلك فقادهم الطمع إِلَى أَن وَفد عَلَيْهِ مِنْهُم فِي مرّة وَاحِدَة سَبْعمِائة فَارس من أعيانهم فَقبض عَلَيْهِم وجردهم من الْخَيل وَالسِّلَاح وأودعهم السجْن ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على كل من وجد مِنْهُم بسوق مكناسة وصفرو فَقبض بصفرو على نَحْو الثلاثمائة من آيت يوسي وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك فتْنَة البربر على سَاق فَإِنَّهُم امتعضوا لمن قبض عَلَيْهِ من إخْوَانهمْ وزحفوا إِلَى مكناسة وحاصروها وجاؤوا مَعَهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا وَاحِدَة على كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب وَكَانَ مهاوش فِي هَذِه الْأَيَّام قد أَمر أمره لِأَنَّهُ لما عزم السُّلْطَان على غزوهم كَانَ يعدهم بِأَن الظُّهُور يكون لَهُم فَلَمَّا صدق عَلَيْهِم ظَنّه اعتقدوه وافتتنوا بِهِ وزحفوا إِلَى مكناسة فضيقوا على السُّلْطَان بهَا فَجعل رَحمَه الله يعالج أَمرهم بِالْحَرْبِ تَارَة وَالسّلم أُخْرَى إِلَى أَن طلبُوا مِنْهُ أَن يسرح لَهُم إخْوَانهمْ ويرجعوا إِلَى الطَّاعَة وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فسرحهم لَهُم على يَد المرابط أبي مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَلَمَّا ظفروا بإخوانهم نقضوا الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم المرابط الْمَذْكُور وعادوا إِلَى العيث وإفساد السابلة ثمَّ تَبِعَهُمْ على(3/137)
ذَلِك قبائل الْعَرَب وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَاشْتَدَّ الْأَمر وَبلغ الحزام الطبيين وَللَّه در الْعَلامَة أبي مَرْوَان عبد الْملك التاجموعتي إِذْ يَقُول
(هم البرابر لَا ترجو نوالهم ... وسل من الله تَعْجِيل النَّوَى لَهُم)
(لَا بلغ الله قلبا مِنْهُم أملا ... وَبلغ الله قلبِي مَا نوي لَهُم)
ثمَّ لما سَقَطت هَيْبَة السُّلْطَان وَزَالَ وقعه من الْقُلُوب سرى فَسَاد الْقَبَائِل إِلَى الْجند فَإِن العبيد عَادوا على كَبِيرهمْ الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الْخَاتم فَقَتَلُوهُ افتياتا على السُّلْطَان مَعَ أَنه كَانَ من أخص دولته لنجابته وكفايته وديانته واعتماد السُّلْطَان عَلَيْهِ فِي سَائِر مهماته وَلما قَتَلُوهُ اعتذروا للسُّلْطَان بأعذار كَاذِبَة فَقبل ظَاهر عذرهمْ وطوى لَهُم على الْبَتّ
قَالَ أكنسوس كَانَ الْقَائِد أَحْمد وَأَبَوَاهُ وَإِخْوَته قد أَعْطَاهُم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لِابْنِهِ الْمولى سُلَيْمَان فَنَشَأَ الْقَائِد أَحْمد فِي كفَالَته وتخلق بأخلاقه من زمن الصِّبَا إِلَى مماته وَكَانَت حَيَاته مقرونة بسعادة السُّلْطَان الْعَادِل الْمولى سُلَيْمَان فَإِنَّهُ من يَوْم قتل رَحمَه الله سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف لم يلتئم شَمل المملكة حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور
ذكر آل مهاوش وأوليتهم وَمَا آل إِلَيْهِ أَمرهم
أما الَّذِي كَانَ مِنْهُم فِي دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فاسمه مُحَمَّد وناصر وَالْوَاو فِي لُغَة البربر بِمَعْنى ابْن وَكَانَ وَالِده مرابطا من آيت مهاوش فرقة من آيت سخمان مِنْهُم وَكَانَ جده أَبُو بكر من أَتبَاع الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي رَحمَه الله وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور قد جرى فِي مَجْلِسه يَوْمًا ذكر الدَّجَّال فَقَالَ الشَّيْخ لَا يخرج الدَّجَّال حَتَّى تخرج دجاجيل من جُمْلَتهمْ مهاوش وَمَعْنَاهُ من جُمْلَتهمْ ولد هَذَا الرجل فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ لما شب مُحَمَّد وناصر قَرَأَ الْقُرْآن والعربية وَالْفِقْه وَحصل على طرف من علم الشَّرِيعَة ثمَّ تنسك وتزهد وَلبس الخشن فَيُقَال إِنَّه حصل(3/138)
لَهُ نوع من الْكَشْف شاع بِهِ خَبره عِنْد البربر وأكبوا عَلَيْهِ واشتهر أمره أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَلما انْتهى أمره نَهَضَ إِلَى قَبيلَة جروان الَّذين كَانُوا يخدمونه فنهبهم بِسَبَبِهِ وفر مهاوش إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَبَقِي مختفيا إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله وَكَانَ قد اتَّصل بمهاوش قبل ولَايَته وَذَلِكَ حِين فر من وَالِده ولجأ إِلَيْهِ حَسْبَمَا مر فآواه مهاوش وَأحسن إِلَيْهِ
وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمَذْكُور وَفد عَلَيْهِ مهاوش فِي جمَاعَة من قومه ففرح بهم الْمولى يزِيد وَأعْطى مهاوش عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى الَّذين قدمُوا مَعَه مائَة ألف ريال وَلما هلك مُحَمَّد وناصر هَذَا ترك عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو بكر وَمُحَمّد وَالْحسن إِلَّا أَنهم تبعوا سيرة أَبِيهِم فِي مُجَرّد التدجيل والتمويه على جهلة البربر وتثبيطهم على طَاعَة السُّلْطَان وَلم يكن مَعَهم مَا كَانَ مَعَ والدهم من التظاهر بِالْخَيرِ وَالدّين فَأمر أَمرهم عِنْد أهل جبل فازاز واعتقدوهم ووقفوا عِنْد إشارتهم ثمَّ لما جَاءَت دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله واتفقت لَهُ الْهَزِيمَة الَّتِي مر ذكرهَا وأمتلأت أَيدي البربر من خيل المخزن وسلاحه وأثاث الْجند وفرشه بطروا وَظهر لَهُم إِن ذَلِك إِنَّمَا نالوه ببركة مهاوش لِأَنَّهُ كَانَ يعدهم بِشَيْء من ذَلِك فَتمكن ناموسه من قُلُوبهم واستحكمت طاعتهم لَهُ وتمردوا على السُّلْطَان بِسَبَب مَا كَانُوا يسمعُونَ مِنْهُ إِلَّا أَن كَيده كَانَ قاصرا على أهل لِسَانه ووطنه لَا يتعداهم إِلَى غَيرهم ثمَّ بعد ذَلِك بِزَمَان انطفأ ذباله وَلم يزل فِي انتقاص إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره
حُدُوث الْفِتْنَة بفاس وقيامهم على عاملهم الصفار
لما توالت هَذِه الْفِتَن على السُّلْطَان رَحمَه الله وانفتقت عَلَيْهِ الفتوق وَصَارَ النَّاس كَأَنَّهُمْ فوضى لَا سُلْطَان لَهُم قَامَ عَامَّة أهل فاس على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد الصفار فأرادوا عَزله وتعصبت لَهُ طَائِفَة من أهل عدوته وافترقت(3/139)
الْكَلِمَة بفاس حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء وَنهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من أَعلَى منار مَسْجِد الرصيف وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمكناسة يعالج دَاء البربر فزاده ذَلِك وَهنا على وَهن فَكتب إِلَى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وَأمر ابْنه الْمولى عليا أَن يقرأه عَلَيْهِم فَجَمعهُمْ وقرأه عَلَيْهِم حَتَّى سَمِعُوهُ وفهموه وَنَصّ الْكتاب الْمَذْكُور بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم إِلَى أهل فاس السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِن العثماني بإصطنبول وَأمره ممتثل بتلمسان والهند واليمن وَمَا رَأَوْهُ قطّ وَلَكِن أَمر الله يمتثلون {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن} النِّسَاء 59 وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح وَاعْلَمُوا أَن الْعمَّال ثَلَاثَة عَامل أكل السُّحت وأطعمه الغوغاء والسفلة وعامل لم يَأْكُل وَلم يطعم غَيره انتصف من الظَّالِم وعامل أكل وَحده وَلم يطعم غَيره فَالْأول تحبه الْعَامَّة والسفلة ويبغضه الله وَالسُّلْطَان والصالحون وَالثَّانِي يُحِبهُ الله ويكفيه مَا أهمه من أَمر السُّلْطَان وَالثَّالِث كعمال الْيَوْم يَأْكُل وَحده وَيمْنَع رفده وَلَا ينصر الْمَظْلُوم فَهَذَا يبغضه الله وَرَسُوله وَالسُّلْطَان وَالنَّاس أَجْمَعُونَ وَهَذَا معنى حَدِيث أزهد فِيمَا فِي أَيدي النَّاس يحبك النَّاس الخ
وَحَدِيث الْعمَّال ثَلَاثَة الخ فَلَو كَانَ للصفار مائدة خمر وَطَعَام يَأْخُذهُ من الْأَسْوَاق ويتغذى عِنْده ويتعشى السفلة والفساق وَيَدْعُو الْيَوْم ابْن كيران وَغدا ابْن شقرون وَبعده بنيس وَابْن جلون وَيفرق عَلَيْهِم من الذعائر لأحبوه وَمَا قَامُوا عَلَيْهِ وَلَو أردتم النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولأميره لقدم علينا ثَلَاثَة مِنْكُم أَو ذكرْتُمْ ذَلِك لولدنا مولَايَ عَليّ أصلحه الله فَأخْبرنَا بذلك وَقل للصفار الْكلاب لَا تتهارش إِلَى على الطَّعَام والجيف فَإِذا رَأَتْ كَلْبا بِبَاب دَار سَيّده وَلَا شَيْء أَمَامه لم تعرج عَلَيْهِ وَإِن رَأَتْهُ يَأْكُل فَإِن هُوَ تعامى وأشركهم فِيمَا يَأْكُل أكلُوا مَعَه وسكتوا وَإِن هُوَ قطب وَجهه وكشر عَن أنيابه تراموا عَلَيْهِ وغلبوه على مَا فِي يَده وَهَذَا الصفار لم يتق الله ويزهد الزّهْد الَّذِي ينصره الله بِهِ وَلم يلاق النَّاس بِوَجْه طلق ويطرف مِمَّا يَأْكُلهُ فسلطهم(3/140)
الله عَلَيْهِ وَلما رأى يُوسُف بن تاشفين النِّعْمَة الَّتِي فِيهَا ابْن عباد قَالَ أكل أَصْحَابه وأعوانه مثله فَقَالُوا لَا فَقَالَ إِنَّهُم يبغضونه ويسلمونه للمكاره لاستبداده دونهم ولتغيير الْمُنكر شُرُوط وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَكم من مرّة قُلْنَا لكم الْعلمَاء هُوَ يُنكرُونَ مَا يُنكر ويعلموننا بِمَا كَانَ وَلَكِن الْجُلُوس بِلَا شغل والفراغ وَعدم الْحَمد حملكم على مَا يحرم عَلَيْكُم الْكَلَام فِيهِ
(إِن الشَّبَاب والفراغ والجده ... مفسده للمرء أَي مفْسدَة)
وَأما بَيت مَال الله والأحباس فَالله حسيب من بدل وَقد كُنْتُم تتكلمون على المكس وَالْحَرِير والقشينية وَغير ذَلِك فَأرى حكم الله من ذَلِك وانظروا لمن تعرفونه من الْعمَّال وَأما الْفسق فَهُوَ عَادَة وديدن كل من قَامَ فِي الْفِتْنَة وَكم مرّة رمت قِطْعَة فَلم أجد إِلَيْهِ سَبِيلا لِأَن جلّ كبرائكم بالمصاري والعرصات وَإِنَّمَا أولي عَلَيْكُم البراني لأنكم لَا تحسدونه وَإِن أكل وَحده والحاسد يُرِيد زَوَال النِّعْمَة عَن محسوده والتجار لِأَن التَّاجِر لَا يطْمع فِي مَال أحد ويكفيه الرّفْعَة والجاه لنماء مَاله وانظروا مَا أجبتكم بِهِ وَمَا كتبتم لنا بِهِ واعرضوه على فقهائكم فَمن قَالَ الْحق منا وَمن قَالَ الْبَاطِل أَخَذْتُم بحظكم من الْفِتَن اهـ
وَهَذِه الرسَالَة قد شرحها الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عبد الْكَرِيم اليازغي وَكَانَ أهل فاس قد كتبُوا إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله فِي شَأْن عاملهم الصفار الْمَذْكُور وَاعْتَذَرُوا عَن خُرُوجهمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ اشْتغل بِمَا لَا يُرْضِي الله من الْفسق وَمد الْيَد إِلَى الْحَرِيم فأنكروا عَلَيْهِ فَأجَاب السُّلْطَان رَحمَه الله بالرسالة الْمَذْكُورَة
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مكناسة إِلَى فاس وَمَا لَقِي من سُفَهَاء البربر فِي طَرِيقه إِلَيْهَا
قد تقدم لنا أَن البربر طلبُوا من السُّلْطَان تَسْرِيح إخْوَانهمْ وَأَنه بذلك(3/141)
تصلح أَحْوَالهم ويراجعون الطَّاعَة وَلما سرحهم نكثوا الْعَهْد وازدادوا تمردا فَلَمَّا أعيا السُّلْطَان أَمرهم وكل أَمرهم إِلَى الله وعزم على الْخُرُوج من مكناسة إِلَى فاس لما حدث بهَا من الشغب أَيْضا فولى على مكناسة وجند العبيد وَلَده الْمولى الْحسن وَكَانَ لَهُ علم وحزم ثمَّ خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من مكناسة لَيْلًا على خطر عَظِيم وَأسرى ليلته وَلم يعلم البربر بِخُرُوجِهِ حَتَّى أصبح وَقد جَاوز المهدومة وشارف وَادي النجَاة فتبعوه على الصعب والذلول ونهبوا كل من تخلف من الْجَيْش واستولوا على كثير من روام السُّلْطَان وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المرابط الْبركَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَجعل يكف البربر عَن الْجَيْش فَلم يغن شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ كلما كفهم من نَاحيَة أَغَارُوا من نَاحيَة أُخْرَى وخلص السُّلْطَان إِلَى فاس وَقد ازْدَادَ حنقة على البربر فَلَمَّا دَخلهَا أَمر بِنَهْب دور البربر القاطنين بفاس فنهبوا كل من فِيهِ رَائِحَة البربرية وَلَو قَدِيما فَكَانَ ذَلِك فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَادًا كَبِيرا وَأقَام السُّلْطَان بفاس إِلَى رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ خرج لإِصْلَاح نواحي بِلَاد الهبط فوصل فِي خرجته هَذِه إِلَى قصر كتامة فمهد تِلْكَ الْبِلَاد وَأمن سبلها وَرجع إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَقدم عَلَيْهِ بهَا قبائل الْحَوْز على بكرَة أَبِيهِم من حاحا والشياظمة وَعَبدَة والرحامنة وَأهل السوس والسراغنة وزمران وَأهل دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا قبائل بني حسن وَعبيد الدِّيوَان وَقبض فِي هَذِه الْمرة على نَحْو الْمِائَة من زعير وأودعهم السجْن وَدخل شهر رَمَضَان فَفرق عُمَّال الْقَبَائِل كلا إِلَى عمله وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ لعيد الْفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وَكَانَ قد عزم على الْمقَام برباط الْفَتْح إِلَى أَن يُقيم سنة الْعِيد بِهِ وتجتمع عَلَيْهِ العساكر فَيتَوَجَّه بهَا لغزو البربر ثمَّ بدا لَهُ رَحمَه الله فسافر مَعَ قبائل الْحَوْز إِلَى مراكش فِي عَاشر رَمَضَان الْمَذْكُور(3/142)
ذكر مَا حدث من الْفِتَن بفاس وأعمالها بعد سفر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش
لما عزم السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله على السّفر إِلَى مراكش ندب جند العبيد إِلَى السّفر مَعَه فتثاقلوا عَلَيْهِ وَظهر مِنْهُم قلَّة المبالاة بِهِ وأحس مِنْهُم بذلك فَأَعْرض عَنْهُم وَبعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ انْسَلَّ من بَين أظهرهم وَقصد محلّة أهل الْحَوْز فَدخل قبَّة الْقَائِد مُحَمَّد بن الجيلاني ولد مُحَمَّد الصَّغِير السرغيني وَكَانَ السُّلْطَان يطمئن إِلَيْهِ مُنْذُ كَانَ رَفِيقه فِي نكبته عِنْد ظيان إِذا كَانَ ابْن الجيلاني الْمَذْكُور مأسورا عِنْدهم وسرحوه للسُّلْطَان فرافقه إِلَى مكناسة حَسْبَمَا مر وَلما احتل السُّلْطَان بمحلة أهل الْحَوْز ازْدَادَ فَسَاد نِيَّة العبيد وسافر السُّلْطَان إِلَى مراكش وَترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إِلَى مكناسة وَسمع النَّاس بِمَا ارْتَكَبهُ هَؤُلَاءِ العبيد فِي حق السُّلْطَان فَعَاد شباب الْفِتْنَة إِلَى عنفوانه وسرى فِي الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخْوَانهمْ عَلَيْهِم فِي الْفِتْنَة وَوَضَعُوا وَامْتنع عُمَّال الغرب وَبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة السُّلْطَان وَعمد الودايا بفاس إِلَى حارة الْيَهُود الَّتِي بَين أظهرهم بفاس الْجَدِيد فانتهبوها واستصفوا موجودها وَأخذُوا مَا كَانَ تَحت أَيدي الْيَهُود من كتَّان وحرير وَفِضة وَذهب لتجار أهل فاس إِذْ كَانُوا يخيطون لَهُم ويصنعون مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَى خياطته وصنعته فَضَاعَت فِي ذَلِك أَمْوَال لَا يحصيها قلم حاسب ثمَّ جردوهم رجَالًا وَنسَاء وَسبوا نِسَاءَهُمْ وافتضوا أبكارهم وسفكوا دِمَاءَهُمْ وَشَرِبُوا الْخُمُور فِي نَهَار رَمَضَان وَقتلُوا الْأَطْفَال ازدحاما على النهب ثمَّ تجاوزوا هَذَا كُله إِلَى حفر الْبيُوت على الدفائن فوقعوا بِسَبَب ذَلِك على أَمْوَال طائلة وَلما رَأَوْا ذَلِك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بِالضَّرْبِ والنكال ليدلوهم على مَا دفنوه من المَال وَمن عِنْده يَهُودِيَّة حسناء حالوا بَينه وَبَينهَا حَتَّى يفتديها بِالْمَالِ وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان سنة(3/143)
خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما فرغوا من الْيَهُود التفتوا إِلَى أهل فاس فَاسْتَاقُوا السَّرْح وبهائم الْحَرْث والجنات وَمنعُوا الدَّاخِل وَالْخَارِج فَقَامَ بفاس هرج عَظِيم وغلقوا الْأَبْوَاب ومالوا على من وجدوه من الودايا دَاخل الْبَلَد فأوقعوا بهم ونهبوهم وَحمل النَّاس السِّلَاح ونقلت البضائع والسلع من الْأَسْوَاق إِلَى الدّور خوفًا عَلَيْهَا وَاجْتمعَ أهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم فعينوا من يقوم بأمرهم فَقدم اللمطيون رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْحَاج أَحْمد الْحَارِثِيّ وَقدم أهل العدوة رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ قدور المقرف وَقدم أهل الأندلس رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن فَارس فضبطوا الْبَلَد وبينما هم كَذَلِك قدم عَلَيْهِم جمَاعَة من أَعْيَان الودايا وتلافوا أَمرهم مَعَهم والتزموا رد مَا نهبوه لَهُم من السَّرْح وَمَا نهب فِي جملَة أَمْوَال الْيَهُود مِمَّا كَانَ يصنع عِنْدهم فخمدت بذلك نَار الْفِتْنَة بعض الشَّيْء وَقد قَالَ أدباء الْوَقْت فِي هَذَا الْخطب الَّذِي اتّفق فِي هَذِه الْمدَّة جملَة من الْأَشْعَار من ذَلِك قَول الْكَاتِب البارع أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي
(أعين الْعين للمحبين دَاء ... والدوا فِي شفاهها والشفاء)
(فَإِذا مَا رمين سَهْما لصب ... فالهوى قد هوى بِهِ والهواء)
(كَيفَ يعدل نَحْو رَأْيِي عذول ... من رمته ظَبْي اللحاظ الظباء)
(سعد ساعد أَخا الغرام بِقرب ... من سعاد فقد عناه العناء)
(زارني ضيف طيفها فشجاني ... وسرى الطيف للمحب حباء)
(هَب شوقي أذهب نشر كباها ... وعرتني من ذكرهَا العرواء)
(فسقى عهدها العهاد وَحيا ... الْملك الْعَادِل الْحيَاء الْحيَاء)
(لَيْسَ إِلَّا أَبَا الرّبيع ربيع ... خلقه الْجُود والجدي وَالْوَفَاء)
(بِسُلَيْمَان قد سلمنَا وسدنا ... فالعلي منزل لَهُ والْعَلَاء)
(ملك ملك الْعلَا والمعالي ... وسما فَلهُ الفخار سَمَاء)
(غرَّة الْمجد درة العقد من قد ... راق من فَضله السنا والسناء)
(نجل خير الورى وَأفضل من فذ ... نبأت بظهوره الْأَنْبِيَاء)(3/144)
(من إِذا رجاه راج لنول ... قبل حل الحبى أَتَاهُ الحباء)
(خلق دمث وَخلق بهي ... من ذكي نوره تغار ذكاء)
(كَفه كفت الْفساد وكفت ... كل عَاد فَمَا لَهُ أكفاء)
(رَاحَة رَاحَة لكل فَقير ... بحياء تحيا بِهِ الْأَحْيَاء)
(رَوْضَة راضت الْعُلُوم وَلَكِن ... عرفهَا الْعرف والثراء الثَّنَاء)
(قد روى فَضله الأفاضل طرا ... فعلى الْفضل والرواة رواء)
(لأبي الْقَاسِم الظياني لديهم ... فضل سبق لَهُ علا وعلاء)
(جمع الْوَصْف أحكم الْوَصْف صدقا ... وَأَتَاهُ الْإِنْشَاء كَيفَ يَشَاء)
(صَالح نَاصح أَمِين رصين ... قد ثناه إِلَى علاك السناء)
(كَيفَ لَا يحسن السناء ويسمو ... فِي إِمَام لَهُ الْمَعَالِي رِدَاء)
(إِنَّمَا هُوَ معجز مُسْتَقل ... يَقْتَدِي بفعاله الْعُقَلَاء)
(بسط الْعدْل فِي البسيطة فالدين ... لَهُ بسطة بِهِ وارتقاء)
(وَغدا بِإِقَامَة الدّين فالغرب ... غَرِيبا أنصاره الغرباء)
(لم يجد فِي البرابر الغلف برا ... شَأْنه الْبر فِي البدا والبراء)
(نقضوا الْعَهْد خالفوا الْأَمر وَالنَّهْي ... إِلَّا إِنَّهُم هُوَ السُّفَهَاء)
خالفوا منتقى الْخَلَائق جهلا ... بعماهم فَلَا عداهم عماء)
(عَادَة فِي جدودهم جددوها ... لَهُم الدَّهْر الارتداد رِدَاء)
(قد دعاهم مهاوش لضلال ... فَعَلَيْهِم وبالهم والوباء)
(شقّ جهلا عَصا الإِمَام شقاقا ... وَعصى الله لَا هَناه الهناء)
(واقتفى أَثَرهم الغواة ضلالا ... فغاباهم مَا أَن عَلَيْهِ غباء)
(وَإِذا خبثت أصُول فروع ... لَاحَ من فعلهم عَلَيْهِ لِوَاء)
(وَكَذَا الْعَرَب أعربوا عَن مساوفهم ... فِي سوى الْخُرُوج سَوَاء)
(نافقوا رافقوا الخبيثين كفرا ... همزوا لمزوا فَلَيْسَ برَاء)
(والودايا جاؤوا بادوء عيب ... داؤهم مَاله الزَّمَان دَوَاء)
(قتلوا سلبوا أخافوا وحافوا ... مَا ثناهم عَن الْقَبِيح ثَنَاء)
(مَا رعوا ذمَّة وَلَا فعل ذمّ ... بل عراهم من الْحيَاء عراء)(3/145)
(وَإِمَام الْأَنَام يُحِلهُمْ عَنْهُم ... ويوالي وَمَا يُفِيد الْوَلَاء)
(نهبوا حارة الْيَهُود وهدوا ... دُورهمْ وعرى النِّسَاء سباء)
(لَو تراهم بَين الرعايا عُرَاة ... يحتذيهم رِجَالهمْ وَالنِّسَاء)
(خفروا ذمَّة النَّبِي فذموا ... لعماء فَلَا سقاهم عماء)
(يَا إِمَام الْهدى عَلَيْك بِقوم ... مَلأ الغرب بغيهم والبغاء)
(قد طم ظلمهم وَعم أذاهم ... وانجلى عَنْهُم فَحق الْجلاء)
(كم سدلت عَلَيْهِم أَي ستر ... ووهبت فَمَا أَفَادَ الْعَطاء)
(وحدوت إِلَى الرشاد فحادوا ... ودعوت فَمَا أَفَادَ الدُّعَاء)
(نلْت رشدا برشدهم وجهادا ... فَأبى مِنْهُم الرشاد إباء))
(وَإِذا خذل الْإِلَه أُنَاسًا ... من محياهم يَزُول الْحيَاء)
(فعبيد الْإِلَه خير عبيد ... قد كفى مِنْهُم الإِمَام كفاء)
(حَاربُوا ضاربوا على الْحق راعوا ... ذمَّة الله لَا عداهم عَلَاء)
(فاتخذهم مواليا وجنودا ... واصطفيهم فَإِنَّهُم أصفياء)
(قد أصَاب الأعادي مِنْهُم عَذَاب ... ودهى مِنْهُم الدهاة دهاء)
(وَإِذا سخر الْإِلَه أُنَاسًا ... لسَعِيد فَإِنَّهُم سعداء)
(يَا إِلَه الْأَنَام خُذ بيدَيْهِ ... وأعنه فقد عناه العناء)
(فينام الْأَنَام فِي ظلّ أَمن ... ورداه للماردين رِدَاء)
(وَعَلِيهِ السَّلَام مَا سَار سَار ... وشدت فَوق وَرقهَا الورقاء)
ثمَّ حدث على تفئة ذَلِك فتْنَة أُخْرَى بفاس بِسَبَب نزاع جرى بَين قاضيها الْفَقِيه أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي وَبَين مفتيها الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي فِي قَضِيَّة الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وَهِي مَعْلُومَة فأنهى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان فَأخر الْفَقِيه أَبَا عبد الله عَن الْفَتْوَى فَغَضب للمفتي جمَاعَة من المدرسين وطلبة الْعلم وتعصبوا لَهُ وتحزبوا على القَاضِي فَكَتَبُوا رسما يتَضَمَّن الشَّهَادَة بجوره وجهله وَوَضَعُوا خطوطهم وناطوا بِهِ قصيدة تَتَضَمَّن الشكوى بِهِ وَشرح حَاله للسُّلْطَان ووجهوا بهما إِلَيْهِ وَنَصّ القصيدة(3/146)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي عَدَالَته ... أحيت مآثرها الصّديق أَو عمرا)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي مناقبه ... فِي غرَّة الدَّهْر قد لاحت لنا قمرا)
(أَنْت الَّذِي وضع الْأَشْيَاء موضعهَا ... وَفِي الْعُلُوم الَّذِي أَحْيَا الَّذِي اندثرا)
(أَنْت الَّذِي صير الدّين القويم كَمَا ... أوصى بِهِ من سما الْأَمْلَاك والبشرا)
(وَلم يزل بك فِي عز وَفِي حرم ... يجني ذَوُو الْعلم من رياضة ثمرا)
(تذب عَنهُ بأسياف وآونة ... بفكرة تحكم الْأَحْكَام والصورا)
(وَمن يرم هَدمه تَأْخُذهُ صَاعِقَة ... من راحتيك فَلَا تبقى لَهُ أثرا)
(وَقد شكا الدّين من هضم وَمن كمد ... أَصَابَهُ فَهُوَ يبكي الدمع منهمرا)
(سطت عَلَيْهِ يَد القَاضِي الَّذِي غمرت ... أقضية الْجور مِنْهُ البدو والحضرا)
(أعفى مراسمه جورا وأبدله ... جهلا بِمَا يذهب الْأَلْبَاب والفكرا)
(جَاءَ الْولَايَة وَهُوَ من شبيبته ... يرى القضا حِرْفَة يجني بهَا وطرا)
(فَلم يكن همه فِيهِ سوى قنص ... أَو نخوة تتْرك الضَّعِيف منكسرا)
(أما حُقُوق الورى فَإِنَّهَا عدم ... مَجْهُولَة جعلت منبوذة بعرا)
(فاستنقذت مِلَّة الْمُخْتَار جدك من ... هَذَا الَّذِي مَا درى وردا وَلَا صَدرا)
(يَأْتِي الْحُكُومَة عباسا ومنقبضا ... مِمَّا بِهِ من سقام يجلب الكدرا)
(فَلَا يرى أرسم الْخَصْمَيْنِ من ملل ... لَكِن يحكم أوهاما بهَا جَهرا)
(ويستبد بِرَأْيهِ وَحَيْثُ بَدَت ... فَتْوَى تبصره ألْقى بهَا حجرا)
(وَلَا يُمكن خصما قد دَعَاهُ إِلَى ... تسجيله مَا رأى فِي الحكم مُعْتَبرا)
(ملت قُلُوب الورى مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُم ... إلاك يَا من بِهِ الْإِسْلَام قد نصرا)
(ضجوا لعزتكم يَشكونَ سيرته ... بعبرة تتْرك الْفُؤَاد منفطرا)
(فأدركن يَا عماد الدّين صارمه ... رعية ترتجي من حلمكم مَطَرا)
(فأنزلنه لقد طَغى بعزته ... وَلم يخف فِي غَد لظى وَلَا سقرا)
(واصرفه عَنْهُم كصرفه ضعيفهم ... واعزله عزلا فَإِن الْأَمر قد أمرا)
(فَأَنت غيثهم إِن أزمة أزمت ... وَأَنت كهفهم إِن حَادث ظهرا)
وَلما وصل الرَّسْم وَالْقَصِيدَة إِلَى السُّلْطَان رأى أَن ذَلِك من التعصب الَّذِي يحدث بَين الأقران فرفضه لكَمَال أناته وعقله وَلم يقبل شَهَادَة عَالم(3/147)
على مثله فَلَمَّا رَأَوْا أَن السُّلْطَان لم يساعدهم هجموا على القَاضِي وَهُوَ بِمَجْلِس حكمه وَأَرَادُوا قَتله وسدد نَحوه الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطَّاهِر الكتاني كابوسا أخرجه فِيهِ فأخطأه فانزعج القَاضِي وَلزِمَ بَيته وَقدمُوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الدلائي ثمَّ عزلوه وولوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الزرهوني فَكَانَت عَاقِبَة أمره أَنه لما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله نَفَاهُ إِلَى الصويرة وَالله تَعَالَى أعلم
خُرُوج أهل فاس على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبيعتهم للولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما اسْتمرّ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله مُقيما بمراكش والفتن بفاس وَسَائِر بِلَاد الغرب قد تجاوزت مداها وَعم أذاها وَرفعت الشكايات إِلَيْهِ من فاس وَغَيرهَا بِمَا النَّاس فِيهِ من الكرب الْعَظِيم والخطب الجسيم كتب رَحمَه الله بِخَط يَده كتابا إِلَى أهل فاس يرشدهم إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحهمْ من حلف البربر والاعتماد عَلَيْهِم فِي حراسة بِلَادهمْ وَسَائِر مرافقهم كَمَا كَانُوا قَدِيما أَيَّام الفترة فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى أَن يفرغ من شَأْن الْحَوْز وَيقدم عَلَيْهِم هَكَذَا زعم صَاحب الْبُسْتَان
قَالَ أكنسوس كَانَ مُرَاد السُّلْطَان بذلك الْكتاب تهييج أهل فاس على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ وترغيبهم فِي محبته ونصرته وَقد فعل مثل ذَلِك بمراكش فَإِنَّهُ جمع أعيانها وأعيان الرحامنة عقب صَلَاة الْجُمُعَة وَقَالَ لَهُم قد رَأَيْتُمْ مَا جرت بِهِ الأقدار من فَسَاد قُلُوب الرّعية وتمادي الْقَبَائِل على الغي وَالْفساد وَمن يَوْم رَجعْنَا من وقْعَة ظيان وَنحن نعالج أَمر النَّاس فَلم يزدادوا إِلَّا فَسَادًا وَقد جرى على الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين أَكثر من هَذَا فَلم ينقصهم ذَلِك عِنْد رعيتهم بل قَامُوا مَعَهم وأعانوهم على أهل الْفساد حَتَّى أصلحوهم وَإِنِّي قد عجزت(3/148)
بِشَهَادَة الله لِأَنِّي مَا وجدت معينا على الْحق وَكم مرّة تُحَدِّثنِي نَفسِي أَن أترك هَذَا الْأَمر وأتجرد لعبادة رَبِّي حَتَّى أَمُوت فَقَالَ من حضر من أَعْيَان الرحامنة وَغَيرهم يَا مَوْلَانَا بَارك الله لنا فِي عمرك وَجَعَلنَا فداءك وَنحن أمامك ووراءك فمرنا بِمَا تشَاء فقولك مُطَاع وأمرك ممتثل وَمَا رَأينَا مِنْك إِلَّا الْخَيْر فسر السُّلْطَان بمقالتهم ودعا لَهُم بِخَير وَلما فعل مَعَ أهل مراكش هَذَا الْأَمر أَرَادَ أَن يسْلك مثله مَعَ أهل فاس فَوَقع مَا وَقع وَلما بعث السُّلْطَان بِالْكتاب الْمَذْكُور إِلَى ابْنه الْمولى عَليّ بفاس أمره أَن يقرأه على أَهلهَا بِمحضر الْفَقِيه الْمُفْتِي السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي والفقيه الشريف السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الفيلالي والفقيه الْكَاتِب السَّيِّد أبي الْقَاسِم الظياني والأمين السَّيِّد الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَجَمعهُمْ الْمولى عَليّ فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِبَاب دَاره بزقاق الْحجر وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب الْمَذْكُور وَكَانَ الْمَسْجِد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عَلَيْهِ ليروا الْكتاب بأعينهم وَأَكْثرُوا عَلَيْهِ فضجر وَقَامَ وَدخل دَاره وأغلقها عَلَيْهِ فَقَالَ بعض النَّاس إِن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَقَالَ لكم قدمُوا من ترضونه وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه لم يخلع نَفسه وَجعل آخَرُونَ يقرعون بَاب الْمولى عَليّ وَيَقُولُونَ أخرج إِلَيْنَا كتاب السُّلْطَان حَتَّى نقرأه ونعلم مَا فِيهِ فَقَالَ لَهُم إِنِّي أحرقته فازدادوا رِيبَة وَصَدقُوا أَن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَاجْتمعَ رُؤَسَاء أهل فاس مِنْهُم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الرزيق وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وعلال الْعَافِيَة وقدور بن عَامر الجامعي وَلم يكن من أهل فاس وَإِنَّمَا كَانَ قاطنا بالطالعة وَهَؤُلَاء من أهل عدوة الأندلس وَكَذَلِكَ عيرهم من أهل عدوة الْقرَوِيين واللمطيين ثمَّ جمعُوا الطّلبَة الَّذين حَضَرُوا قِرَاءَة الْكتاب وألزموهم أَن يكْتب كل وَاحِد مِنْهُم مَا سمع فَكتب لَك وَاحِد مَا ظهر لَهُ ثمَّ حازوا خطوطهم وخلصوا مِنْهَا مَا هُوَ مُرَادهم وَهُوَ أَن السُّلْطَان عجز وعزل نَفسه وَأمر النَّاس أَن ينْظرُوا لأَنْفُسِهِمْ هَذَا وَالْحَرب قَائِمَة بَين أهل فاس والودايا(3/149)
فَكتب أهل فاس إِلَى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنَّظَر والخوض مَعَهم فِيمَن يتَوَلَّى أَمر النَّاس فَقدم الْحسن بن حمو واعزيز المطيري كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَقدم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي كَبِير زمور وَبني حكم فِي وُجُوه قومه فَاجْتمعُوا بِأَهْل فاس وتفاوضوا فِي أَمر الْبيعَة فَوَقع اختيارهم على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَكَانَ ذَا سمت وانقباض وصهر السُّلْطَان على ابْنَته وَكَانَ يسكن بدرب ابْن زيان قرب الْمدرسَة العنانية فَكَانَ لَا يخرج إِلَّا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يُصَلِّي بِالْمَدْرَسَةِ ثمَّ يعود إِلَى دَاره فاختاروه لذَلِك من غير اختبار وَلَا تمحيص ثمَّ قَالُوا إِن السُّلْطَان لَا بُد لَهُ من مَال وَرِجَال فتكفل ابْن واعزيز بِالرِّجَالِ وَقَالَ عندنَا من الْخَيل وَالرِّجَال مَا لن يغلب من قلَّة وتكفل الْحَاج الطَّالِب بن جلون بِالْمَالِ وأحال على جمَاعَة من التُّجَّار وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَن السُّلْطَان لما عزم على السّفر إِلَى مراكش ودع عِنْدهم بواسطته مَالا لَهُ بَال وَلما تمّ لَهُم مَا أَرَادوا غدوا على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد فأحضروه وشرطوا عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا إِخْرَاج الودايا من فاس الْجَدِيد وَكَانُوا كلما شرطُوا عَلَيْهِ شرطا حرك لَهُم رَأسه أَي نعم ثمَّ بَايعُوهُ صَبِيحَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من محرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَيُقَال إِنَّهُم لما خاطبوه أَولا امْتنع فَقَالُوا لَهُ إِن لم نُبَايِعك بَايعنَا رجلا من آل الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فخاف خُرُوج الْأَمر من بَيتهمْ وَأجَاب وَالله أعلم وَحضر هَذِه الْبيعَة الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ ابْن عَليّ الوزاني وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري من أخص أَتْبَاعه وَهُوَ رَئِيس البربر فِي ذَلِك الْوَقْت وَعَلِيهِ وعَلى ابْن واعزيز كَانَت تَدور هَذِه الْأُمُور وحضرها أَيْضا أَبُو بكر مهاوش كَبِير آيت ومالو وَلما أحكموا أَمرهم كتبُوا إِلَى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إِلَّا أَن من كَانَ يبغض السُّلْطَان مِنْهُم وعدهم سرا ثمَّ كتبُوا إِلَى الودايا بِمثل مَا كتبُوا بِهِ إِلَى العبيد فَكَانُوا عَنْهَا أبعد فَبعث أهل فاس الشَّيْخ(3/150)
أَبَا عبد الله الدرقاوي إِلَى الودايا ليَأْتِي بيعتهم وَكَانَ لَهُ فيهم أَتبَاع فقبضوا عَلَيْهِ وأودعوه السجْن وَكَتَبُوا بذلك إِلَى السُّلْطَان فَمَا سخط وَلَا رَضِي وَاسْتمرّ الْمولى إِبْرَاهِيم والبربر مقيمين بفاس إِلَى أَن نفذ مَا عِنْدهم من المَال الَّذِي أظهره لَهُم الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فاتفق رَأْيهمْ على الْخُرُوج من فاس وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
مسير الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد إِلَى تطاوين ووفاته بهَا
لما نفذ مَا كَانَ عِنْد الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وشيعته من المَال واستهلكوه فِي غير فَائِدَة تفاوضوا فِيمَا يصنعون فأجمع رَأْيهمْ على أَن يَسِيرُوا إِلَى المراسي بِقصد فتحهَا والاستيلاء على مَالهَا فَخَرجُوا بالمولى إِبْرَاهِيم مستبدين عَلَيْهِ ضاربين على يَده وَإِنَّمَا الْمُتَصَرف والآمر والناهي هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَأما ابْن عبد الرزيق وَجَمَاعَة من أَصْحَابه الَّذين أسسوا هَذَا الْأَمر فَإِنَّهُم هَلَكُوا فِي حَرْب الودايا فِي عَشِيَّة وَاحِدَة فِي وقْعَة ظهر المهراس وحزت رؤوسهم وَبعث بهَا إِلَى السُّلْطَان بمراكش وَلما برزوا من فاس مروا بآيت يمور ونزلوا بالولجة الطَّوِيلَة وراودوا من هُنَالك من عرب بني حسن وَأهل الغرب ودخيسة وَأَوْلَاد نصير على الانخراط فِي سلكهم فَأَبَوا عَلَيْهِم وعزم الْقَائِد مُحَمَّد بن يشو على أَن يبيتهم بغارة شعواء تفرق جمعهم فَدس إِلَيْهِم مُحَمَّد بن قَاسم السفياني اللوشي وَكَانَ منحرفا عَن السُّلْطَان بِمَا عزم عَلَيْهِ ابْن يشو وَأَشَارَ عَلَيْهِم أَن يعبروا النَّهر إِلَى ناحيته ليحميهم مِمَّن أَرَادَهُم فعبروا إِلَيْهِ وانضم إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه وَسَارُوا إِلَى قصر كتامة فنزلوا بالكدية الإسماعيلية وَمِنْهَا كتبُوا إِلَى أهل الثغور والعرائش وطنجة وتطاوين يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم وَالدُّخُول فِي حزبهم فَأَما أهل العرائش وطنجة فَأَجَابُوا بِالْمَنْعِ وَقيل أَن أهل العرائش بَايعُوا ووفد عَلَيْهِ بَعضهم وَلَعَلَّ ذَلِك(3/151)
كَانَ فِي ثَانِي حَال وَأما أهل تطاوين فامتثلوا وَكَانَ قَاضِي طنجة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْفُلُوس قد عزم على بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم فَنَذر بِهِ عاملها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ السعيدي فنفاه وَقدم للْقَضَاء مَكَانَهُ الْفَقِيه الأديب أَبَا الْبَقَاء خَالِد الطنجي وَلما ورد على الْمولى إِبْرَاهِيم وَحزبه جَوَاب أهل تطاوين بِالْقبُولِ سَارُوا إِلَيْهَا فَدَخَلُوهَا واستولوا على مَال المرسى وعَلى مخازن السُّلْطَان وَمَا فِيهَا من سلَاح وكتان وملف وَغير ذَلِك فتوزعته البربر ثمَّ انتهبوا ملاح الْيَهُود واكتسحوه فعثروا فِيهِ على أَمْوَال طائلة يُقَال إِنَّهُم وجدوا بِهِ عددا كثيرا من فنائق الضبلون والبندقي فَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري وَغَيره من رُؤَسَاء ذَلِك الْجمع لَا يُعْطون أَصْحَابهم إِلَّا البندقي فَكثر جمعهم لذَلِك وَلما مَضَت لَهُم من قدومهم تطاوين سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم رَحمَه الله وَكَانَ قد دَخلهَا مَرِيضا يُقَاد بِهِ فِي المحفة فأخفوا مَوته ودفنوه بداره وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
بيعَة الْمولى السعيد بن يزِيد بتطاوين ورجوعه إِلَى فاس
لما توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد اخفى رُؤَسَاء دولته مَوته لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ثمَّ دعوا أهل تطاوين إِلَى بيعَة أَخِيه الْمولى السعيد بن يزِيد فافترقت كلمتهم فَمنهمْ من أَبى وَمِنْهُم من أجَاب فأحضر ابْن سُلَيْمَان وَابْن الْغَازِي وأشياعهما من أَبى من أهل تطاوين وألزموهم الْبيعَة فالتزموها وكتبوها وأحكموا عقدهَا وَكَانَ الْمُتَوَلِي يَوْمئِذٍ بتطاوين الْحَاج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش فأخروه وولوا مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ داهية شهما وبينما هم فِي ذَلِك ورد عَلَيْهِم الْخَبَر بمجيء السُّلْطَان من مراكش وَأَنه قد وصل إِلَى قصر كتامة ففت ذَلِك فِي عضدهم وَخَرجُوا مبادرين إِلَى فاس على طَرِيق الْجَبَل وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ(3/152)
مَجِيء السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مراكش إِلَى الْقصر ثمَّ مسيره إِلَى فاس وحصاره إِيَّاهَا
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش وَكَانَ العبيد قد ندموا على مَا فرط مِنْهُم برباط الْفَتْح من التَّخَلُّف عَن السُّلْطَان وَنهب أثاثه حَسْبَمَا مر فَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ من مكناسة مثنى وفرادى حَتَّى اجْتمع عِنْده جلهم لَا سِيمَا من كَانَ مِنْهُم مَعْرُوفا بِعَيْنِه مثل القواد وأرباب الْوَظَائِف وَلما بلغه مَا كَانَ من بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد تربص قَلِيلا حَتَّى إِذا بلغه خُرُوجه إِلَى المراسي قلق وَخرج من مراكش فِي جَيش العبيد وَبَعض قبائل الْحَوْز يبادره إِلَيْهَا وَلما وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح عبر إِلَى سلا وَنزل بِرَأْس المَاء وَلما حضرت الْجُمُعَة دخل الْمَدِينَة فصلى بالجامع الْأَعْظَم مِنْهَا وَدخل دَار الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الله معنينو من أَعْيَان أهل سلا واستصحب مَعَه الْفَقِيه الْمُؤَقت أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي من أهل سلا أَيْضا بِقصد الْقيام بوظيفة التَّوْقِيت وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى قصر كتامة أَتَاهُ الْخَبَر بِدُخُول الْمولى إِبْرَاهِيم إِلَى تطاوين فَأَقَامَ هُنَالك وَكتب إِلَى الودايا وَإِلَى من بَقِي بمكناسة يحضهم على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَكتب إِلَى وَلَده الْمولى الطّيب بفاس الْجَدِيد يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالفقيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد أكنسوس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش
قَالَ أكنسوس فقدمنا على السُّلْطَان بريصانة على مرحلَتَيْنِ من الْقصر قَاصِدا تطاوين ومحاصرة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد بهَا قَالَ فورد عَلَيْهِ كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي عبد الله الْعَرَبِيّ السعيدي صَاحب طنجة بوفاة الْمولى إِبْرَاهِيم وبيعة أَخِيه الْمولى السعيد وَأَنَّهُمْ قد عَادوا بِهِ إِلَى فاس وَلما تحقق بذلك رَجَعَ على طَرِيق الْقصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إِلَيْهَا فوافياها فِي يَوْم وَاحِد فَنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو وَدخل السُّلْطَان دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد مَعَ الودايا وَلما كَانَ فجر الْغَد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أغارت خيل الودايا(3/153)
على محلّة الْمولى السعيد بالقنطرة فانتسفوها بِمَا فِيهَا وَقتلُوا من البربر وَأهل فاس وَغَيرهم خلقا كثيرا واحتووا على أَمْوَال طائلة مِمَّا كَانَت البربر قد نهبته من ملاح تطاوين وأفلت الْمولى السعيد وبطانته بجريعة الذقن ودخلوا فاسا فأغلقوها عَلَيْهِم وثابت إِلَيْهِم نُفُوسهم وَفِي هَذِه الْأَيَّام قتل الْمعلم الْأَكْبَر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد عنيقيد التطاوني وَكَانَ عجبا فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس وَكَانَ الْمولى السعيد قد أَتَى بِهِ من تطاوين ليحاصر بِهِ على فاس الْجَدِيد فَدس إِلَيْهِ السُّلْطَان من قَتله ناداه رجل وَهُوَ فِي محلّة أَصْحَابه لَيْلًا يَا فلَان أجب مَوْلَانَا السُّلْطَان فَظن أَنه دعِي إِلَى الْمولى السعيد فَقَالَ هَا أَنا ذَا وبرز من خبائه فَرَمَاهُ الْمُنَادِي برصاصة كَانَ فِيهَا حتفه ثمَّ عزم السُّلْطَان على محاصرة فاس حَتَّى يفيئوا إِلَى أَمر الله وَلَكِن اكْتفى من الْحصار بمنعهم من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَكَانَ الودايا قد ألحوا عَلَيْهِ فِي أَن يرميهم بالبنب فَأبى رَحمَه الله وَقَالَ لَو كَانَت البنبة الَّتِي نرميها تذْهب حَتَّى تقع بدار ابْن سُلَيْمَان أَو بدار الطّيب البياز أَو غَيرهمَا من رُؤُوس الْفِتْنَة لفعلنَا وَلَكِن إِنَّمَا تقع فِي دَار أرملة أَو يَتِيم أَو ضَعِيف حَبسه الْعَجز مَعَهم ثمَّ إِن أهل فاس بدؤوا بِالرَّمْي وَكَانَ مَعَهم سعيد الْعجل عَارِفًا بِالرَّمْي فَجعلُوا يقصدون دَار السُّلْطَان فَوَقَعت بنبة بالموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ للْقِرَاءَة وَوَقعت أُخْرَى بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِبَاب دَاره وَكَانَ بهَا جمَاعَة من طبجية سلا ورباط الْفَتْح فقتلت مِنْهُم أَربع نفر مِنْهُم الباشا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن فنيش السلاوي فَعِنْدَ ذَلِك حنق السُّلْطَان وَأمر أَن يُؤْتى بالمهاريس الْكِبَار من طنجة من فرمة ثَمَانِينَ إِلَى فرمة مائَة فجيء بهَا ونصبها عَلَيْهِم فَكَانَ الْقِتَال لَا يفتر لَيْلًا وَنَهَارًا والكور والبنب تخْتَلف بَين أهل البلدين فِي كل وَقت وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك قَرِيبا من عشرَة أشهر وَلَا يدْخل أحد إِلَى فاس وَلَا يخرج مِنْهَا إِلَّا على خطر وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى طنجة للنَّظَر فِي أَمر تطاوين الْخَارِجَة عَلَيْهِ بعد أَن تقدم إِلَى الودايا فِي الْحصار والتضييق على فاس إِلَى(3/154)
أَن يعود إِلَيْهِم وَلما اسْتَقر بطنجة بعث إِلَى أهل تطاوين وراودهم على الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فَأَبَوا ولجوا فِي عصيانهم فَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا مَعَ الْقَائِد حمان الصريدي البُخَارِيّ فَنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مُدَّة فَكَانَت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ سجالا مرّة لَهُ وَمرَّة عَلَيْهِ وَهَلَكت نفوس من أَعْيَان تطاوين وَغَيرهم
مَجِيء الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام من الصويرة إِلَى الغرب واستخلافه بفاس وَمَا تخَلّل ذَلِك
كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فِي ابْتِدَاء أمره بتافيلالت وَلما توسم فِيهِ عَمه الْمولى سُلَيْمَان مخايل الْخَيْر والنجابة استقدمه مِنْهَا وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرهَا وَقَامَ بشأنها ثمَّ لما كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بطنجة فِي هَذِه الْمرة واستعصى عَلَيْهِ أَمر فاس وتطاوين وانصرم فصل الشتَاء وَأَقْبل فصل الرّبيع كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ فِي قبائل الْحَوْز ويلقاه بهم برباط الْفَتْح وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان أَن يزحف بهم إِلَى فاس إِلَّا أَن السياسة اقْتَضَت أَن يكون الْأَمر هَكَذَا فَجمع الْمولى عبد الرَّحْمَن قبائل الْحَوْز وقواده وَقدم بهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما لم يَجدوا السُّلْطَان بِهِ تثاقلوا عَن العبور مَعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى بِلَاد الغرب لِأَن السُّلْطَان إِنَّمَا وعدهم أَن يلقوه برباط الْفَتْح فَكتب الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى عَمه يُعلمهُ بِصُورَة الْحَال وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه قد استوزر فِي هَذِه الْمدَّة الْفَقِيه أَبَا عبد الله أكنسوس فَبَعثه إِلَى الْمولى عبد الرَّحْمَن وأصحبه مَالا يفرقه على جَيْشه لينشطوا للقدوم وَكَانَ قدر المَال خمسين أُوقِيَّة لكل فَارس وَأمره إِذا قدم أَرض سلا أَن ينزل عِنْد عاملها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عزة الْمَعْرُوف بِأبي جميعة وَبعث للْمولى عبد الرحمن ليعبر إِلَيْهِ فِي وُجُوه الْجَيْش لقبض الصِّلَة وَلَا يذكر لَهُم سفرا فَإِذا قبضوها فليقرأ عَلَيْهِم كِتَابه وَكَانَ مضمنه أَنه يَأْمُرهُم بالقدوم عَلَيْهِ لقصر كتامة لقبض الْكسْوَة(3/155)
الَّتِي أَتَى بهامن طنجة وَحِينَئِذٍ يذهب مَعَهم السُّلْطَان إِلَى الْحَوْز فَفعل الْوَزير ذَلِك كُله وَتقدم الْمولى عبد الرَّحْمَن فِي جَيْشه إِلَى قصركتامة
قَالَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلَمَّا جِئْنَا الْقصر وجدنَا السُّلْطَان لَا زَالَ مُقيما بطنجة فتقدمت إِلَيْهِ وأعلمته بوصول الْمولى عبد الرَّحْمَن وجيشه إِلَى الْقصر فَخرج السُّلْطَان من طنجة وَجعل طَرِيقه على آصيلا وَلما بَات بسوق الْأَحَد بالغربية بعث إِلَيْهِ الْمولى المجذوب سَيِّدي مُحَمَّد بن مَرْزُوق يَدعُوهُ للقدوم عَلَيْهِ والبيات عِنْده فَأجَاب دَعوته وَدخل عَلَيْهِ وتبرك بِهِ وَمن هُنَاكَ كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن أَن يتَقَدَّم بالجيش إِلَى العرائش ويلقاه بِهِ هُنَالك فَفعل الْمولى عبد الرَّحْمَن وَهُنَاكَ اجْتمع بِعَمِّهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فسر بمقدمه ودعا لَهُ بِخَير وَأثْنى عَلَيْهِ بِمحضر أُولَئِكَ الْمَلأ من النَّاس ثمَّ دَعَا السُّلْطَان قواد الْحَوْز فيهم الْقَائِد عبد الْملك بن بيهي والقائد عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الغنيمي نَائِبا عَن الْحَاج حمان الْعَبْدي وَكَانَ فِي ركابه ابْنه فضول بن حمان صَغِيرا والقائد بلعباس بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج الْعَرَبِيّ بن رقية البوزراري والقائد مُحَمَّد بن حَدِيدَة البوعزيزي والقائد الْمُعْطى الحمري والقائد الصّديق ابْن الْفَقِيه العمراني وَلم يكن فيهم من الرحامنة إِلَّا الْحَاج الْمُعْطى بن مُحَمَّد الْحَاج وَلم يكن فيهم من السراغنة وَلَا من الشاوية أحد وَلما اجْتَمعُوا خرج عَلَيْهِم السُّلْطَان وَجلسَ على طنفسة ثمَّ دَعَا بالقائد عبد الْملك بن بيهي فأجلسه إِلَى جنبه ودعا لَهُ بِخَير ثمَّ قَالَ إِنَّكُم تعبتم فِي سَبِيل الله وَنحن أتعب مِنْكُم ونسأل الله أَن لَا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أَنكُمْ فِي طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله وَلكم المزية التَّامَّة وَقد وَجب علينا الْإِحْسَان إِلَيْكُم وَقد ظهر لي أَنكُمْ حِين وصلتم إِلَى هَذَا الْمحل لَا يَنْبَغِي لكم أَن ترجعوا بِدُونِ زِيَارَة مَوْلَانَا إِدْرِيس وَكنت أردْت أَن أوجهكم إِلَى بِلَادكُمْ من هُنَا وَلَكِن أَنا لايمكنني أَن أرجع إِلَّا بعد أَن يحكم الله بيني وَبَين هَؤُلَاءِ الخارجين عَن الْحق وَأَنْتُم لَا يجمل بكم أَن ترجعوا بِغَيْر سُلْطَان فَاصْبِرُوا قَلِيلا وتمموا عَمَلكُمْ حَتَّى تذْهبُوا إِن شَاءَ الله بسلطانكم فرحين مستبشرين(3/156)
فَقَالُوا كلهم سمعا وَطَاعَة لَا نُفَارِقك حَتَّى نرْجِع بك وَلَو مكثنا عشر سِنِين وعَلى أثر هَذَا عقد السُّلْطَان لقائد خيل الْجَيْش البُخَارِيّ الْحَاج إِبْرَاهِيم بن رزوق على مِائَتَيْنِ من الْخَيل مَفْرُوضَة من الحوزية وَالْعَبِيد وَأمره أَن يسير إِلَى تطاوين وَيُقِيم بمرتيل وَيمْنَع أَهلهَا من الْوُصُول إِلَى المرسى فَفعل وارتحل السُّلْطَان من العرائش يُرِيد فاسا فِي قبائل الْحَوْز فَمر بِبِلَاد سُفْيَان وَنزل بسوق الْأَرْبَعَاء مِنْهَا قرب ضريح سَيِّدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي فَأَصَابَهُ مرض هُنَالك وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بِأَن إِبْرَاهِيم بن رزوق قد كاده صَاحب تطاوين الْعَرَبِيّ بن يُوسُف حَتَّى قبض عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وسلبهم وسجنهم فآلم هَذَا الْخَبَر السُّلْطَان وزاده إِلَى مَا بِهِ من الْمَرَض ثمَّ أبل مِنْهُ بعد أَيَّام فَنَهَضَ إِلَى فاس وعرج على طَرِيق تازا وَلما بَات بسوق الْخَمِيس بالكور من بِلَاد الحياينة أغارت عَلَيْهِ غياثة وَمن شايعهم من أهل تِلْكَ النواحي وَكَانُوا قد دخلُوا فِي بيعَة أبي يزِيد فَدَارُوا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فَقَامَ السُّلْطَان وَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ونهاهم عَن الرّكُوب وَالِاضْطِرَاب فحفظ الله الْمحلة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يصب أحد من النَّاس وَلَا من الدَّوَابّ وأصبحت قَتْلَى الْعَدو مصرعة حول الْمحلة ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة تازا فوفد عَلَيْهِ بهَا أهل الرِّيف وعرب آنقاد والصحراء وَجعلُوا يزدحمون عَلَيْهِ ليروا وَجهه وَيَقُولُونَ إِنَّه وَالله للسُّلْطَان لِأَن أهل فاس كَانُوا يشيعون مَوته ويكتبون بذلك إِلَى الْقَبَائِل ثمَّ تقدم السُّلْطَان إِلَى فاس فَنزل بقنطرة وَادي سبو وَذَلِكَ أَوَاخِر رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ أهل فاس قد سئموا الْحَرْب وعضهم الْحصار وملوا دولة أبي يزِيد فاختلفت كلمتهم عِنْد مَا قدم السُّلْطَان وهاجت الْحَرْب دَاخل الْبَلَد بَين شيعَة السُّلْطَان وشيعة السعيد فكثرهم شيعَة السُّلْطَان وفتحوا الْبَاب وَخَرجُوا إِلَيْهِ بالأشراف وَالصبيان والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تَائِبين خاضعين وَجَاء السعيد فِي جوَار الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فَكَانَ جَوَاب السُّلْطَان لَهُم أَن قَالَ {قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} يُوسُف 92 وَكَانَ رَحمَه الله قد رأى(3/157)
وَهُوَ سَائِر إِلَى فاس رُؤْيا وَهِي أَنه دخل فاسا وزار تربة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وقلده سَيْفا وَصعد الْمنَار وَأذن فَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَن فتح عَلَيْهِ فاسا ودخلها وزار الْمولى إِدْرِيس وَأذن بمنارة على الْهَيْئَة الَّتِي رأى وَجَاء رجل من أَوْلَاد الْبَقَّال فقلده سَيْفا تَصْدِيقًا للرؤيا وَلما دخل ضريح الْمولى إِدْرِيس وجد الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني هُنَالك فَعَاتَبَهُ السُّلْطَان عتابا خَفِيفا وَزَالَ مَا بصدره عَلَيْهِ وانقطعت أَسبَاب الْفِتَن وَالْحَمْد لله
وَاعْلَم أَن مَا صدر من أهل فاس وَمن وافقهم على هَذِه الْبيعَة لَا لوم عَلَيْهِم فِيهِ وماكان من حق السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم بذلك الْكتاب الَّذِي أوقعهم فِي حيص بيص وَكَانَ سَببا لهَذِهِ الْفِتَن وَقَول أكنسوس إِن السُّلْطَان أَرَادَ تهييجهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ كَمَا فعل مَعَ أهل مراكش لَيْسَ بِشَيْء أَو مَا علم السُّلْطَان رَحمَه الله كَلَام الكبراء خُصُوصا الْمُلُوك مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَأَن الْعَامَّة إِذا نقلته وَضعته غَالِبا فِي غير مَحَله وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رَضِي الله عَنهُ بلغه وَهُوَ بمنى أَن رجلا قَالَ وَالله لَو قد مَاتَ عمر لبايعنا فلَانا يُرِيد رجلا من غير قُرَيْش فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لأقومن العشية فأحذر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ أَن يغصبوهم فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع النَّاس يغلبُونَ على مجلسك فَأَخَاف أَن يسمعوا مِنْك كلمة فَلَا ينزلوها على وَجههَا ويطيروا بهَا عَنْك كل مطير فامهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السّنة فتخلص بأصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فيحفظوا مَقَالَتك وينزلوها على وَجههَا فَقَالَ عمر وَالله لأقومن بِهِ فِي أول مقَام أقومه بِالْمَدِينَةِ الحَدِيث فَانْظُر كَيفَ منع عبد الرَّحْمَن عمر رَضِي الله عَنهُ من الْكَلَام بِالْمَوْسِمِ وبمحضر الْعَامَّة خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وانقاد لَهُ عمر حَيْثُ علم أَن ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق هَذَا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان وَفِي خير الْقُرُون فَكيف فِي زمَان قل علمه وَكثر(3/158)
جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب
وَلما افْتتح السُّلْطَان رَحمَه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة(3/159)
وقْعَة زَاوِيَة الشرادي وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله
هَؤُلَاءِ الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصَّحرَاء وهم طوائف زُرَارَة والشبانات وهم الخلص مِنْهُم ويضاف لَهُم بعض أَوْلَاد دليم وتكنة وذوو بِلَال وَغَيرهم وَكَانَت مَنَازِلهمْ فِي دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يَوْم مِنْهَا فَنَشَأَ فيهم الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشرادي من أهل الصّلاح زمن أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي فاعتقدوه وَرُبمَا ناله بعض الْإِحْسَان من السُّلْطَان الْمَذْكُور ثمَّ نَشأ ابْنه السَّيِّد أبي مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس فَجرى مجْرى أَبِيه وَبنى الزاوية المنسوبة إِلَيْهِم واعتقده قومه أَيْضا بل وَغَيرهم
فقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَن السَّيِّد مُحَمَّدًا هَذَا لما قدم من الْحَج سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف اجتاز بِمَدِينَة فاس فَاجْتمع عَلَيْهِ نَاس مِنْهَا وتلمذوا لَهُ وبنوا لَهُ زَاوِيَة بدرب الدرج من عدوة الأندلس وَأثْنى عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه فَانْظُرْهُ ثمَّ جَاءَ ابْنه الْمهْدي بن مُحَمَّد فسلك ذَلِك المسلك أَيْضا وَنَشَأ فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَاتخذ شَيْئا من كتب الْعلم من غير أَن يكون لَهُ فِيهِ يَد تعْتَبر ثمَّ تظاهر بِمَعْرِِفَة السيميا والحدثان فازداد ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَرُبمَا نمى شَيْء من أمره إِلَى السُّلْطَان فتغافل عَنهُ ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رَحمَه الله مراكش هَذِه الْمرة وجد أمره قد زَاد واستفحل وَكَانَ الشراردة يَوْمئِذٍ قد حسنت حَالهم فأثروا وكثروا وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم اسْمه قَاسم الشرادي فَحدث بَينه وَبَين الْمهْدي مَا يحدث بَين المرابطين وأرباب الْولَايَة وَكَانَ رُبمَا التجأ جَان إِلَى زَاوِيَة الْمهْدي فَيقبض عَلَيْهِ الْقَائِد ويخرجه مِنْهَا فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الْقَائِد وَبَين الْمهْدي ثمَّ جرى شنآن بَين الْمهْدي وَبَين بعض قرَابَته ففر ذَلِك الْقَرِيب إِلَى مراكش وَكَانَ الْقَائِد قَاسم بهَا فَشَكا إِلَيْهِ عَمه الْمهْدي فاغتنمها(3/160)
الْقَائِد وَدخل على السُّلْطَان فشرح لَهُ حَال الْمهْدي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من التهور والسمو بِنَفسِهِ إِلَى الْمحل الَّذِي لَا يبلغهُ وَأَنه لَا يَسْتَقِيم أَمر المخزن بِتِلْكَ الْقَبِيلَة مَعَه وَلم يزل بِهِ حَتَّى أعطَاهُ السُّلْطَان مِائَتَيْنِ من الْخَيل أغار بهَا على الزاوية فانتهبوها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وجلهم غَائِب فِي أَعماله فتسامعوا بِأَن الْخَيل قد عاثت فِي دِيَارهمْ وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إِلَى مراكش راجلين فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان واغتاظ وَاتفقَ أَن كَانَ مَعَ السُّلْطَان عَامل مراكش أَبُو حَفْص عمر بن أبي سِتَّة وعامل الرحامنة الْقَائِد قَاسم الرحماني وَكِلَاهُمَا عَدو للشراردة لَا سِيمَا الرحماني فشنعوا فِي ذَلِك بِمحضر السُّلْطَان وأسدوا وألحموا فِي غَزْو الشراردة وتأديبهم حَتَّى لَا يعودوا لمثلهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك نَدم الشراردة على مَا كَانَ مِنْهُم وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بالشفاعات وذبحوا عَلَيْهِ وعَلى صلحاء مراكش فَلم يقبل مِنْهُم وَيُقَال إِن ذَلِك لم يكن يبلغ السُّلْطَان لِأَن النَّقْض والإبرام إِنَّمَا كَانَ لعمر بن أبي سِتَّة وقاسم الرحماني وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله كالمغلوب على أمره مَعَهُمَا فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بعث إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم لغزو الشراردة فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه جَيش الودايا وكبارهم مثل الطَّاهِر بن مَسْعُود الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَغَيرهمَا وَمَعَهُ الْقَائِد مُحَمَّد بن العامري فِي بني حسن وَغَيرهم من قبائل الغرب
وَلما أجمع السُّلْطَان الْخُرُوج إِلَيْهِم قدم أَمَامه قاسما الرحماني إِذْ كَانَ قد تكفل لَهُ بِأَن يَكْفِيهِ أَمر الشراردة وَحده فَكَانَ متسرعا إِلَيْهِم قبل كل أحد فرابط بِعَين دادة ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا والوسائط تَتَرَدَّد بَين السُّلْطَان وَبَين الشراردة وكادت كلمتهم تخْتَلف إِذْ قَامَ فيهم رجل مرابط اسْمه الحبيب من أَوْلَاد سَيِّدي أَحْمد الزاوية وَبعث نَحْو الْأَرْبَعين من الشراردة إِلَى السُّلْطَان سعيا فِي الصُّلْح فَأَشَارَ الرحماني وَابْن أبي سِتَّة فِيمَا قيل على السُّلْطَان بِالْقَبْضِ(3/161)
عَلَيْهِم فَقبض عَلَيْهِم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء ثمَّ زحف السُّلْطَان وانتشبت الْحَرْب أول النَّهَار وَلما اشْتَدَّ الْحر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف تحاجزوا ثمَّ عَاد قَاسم الرحماني فأنشب الْحَرْب مَعَ الْعشي فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وَقتل وَحمل رَأسه على رمح وَانْهَزَمَ جَيش المخزن وَوَقع الفشل فِي الْمحلة فتفرقت الْقَبَائِل وَبَاتُوا لَا يلوون على شَيْء وَلما طلع النَّهَار لم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا جَيش المخزن فزحف الشراردة إِلَى الْمحلة وَرَأَوا السُّلْطَان قد بَقِي فِي قلَّة فطمعوا فِيهِ وأنشبوا الْحَرْب فَانْهَزَمَ الْجَيْش الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَتركُوا الْمحلة بِمَا فِيهَا فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السُّلْطَان فِي حَاشِيَته وَقصد مراكش فلقيتهم فِي طريقهم ساقية مَاء حبستهم عَن الْمُرُور وخالط الشراردة الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَجعلُوا يستلبون من ظفروا بِهِ مِنْهُم وتراكم المنهزمة على السُّلْطَان ولجؤوا إِلَيْهِ وَقتل الشراردة عمر بن أبي سِتَّة خلف ظَهره
وَلما رأى السُّلْطَان رَحمَه الله ذَلِك نَادَى فِي النَّاس أَن لَا يقتل أحد نَفسه على وَلَا على هَذِه الأسلاب أعطوهم مِنْهَا مَا شاؤوا وَاجْتمعَ نَحْو الْعشْرين من كبار الشراردة وتقدموا إِلَى السُّلْطَان فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا تحيز إِلَيْنَا لِئَلَّا تصيبك الْعَامَّة فانحاز إِلَيْهِم وَكَانَ رَاكِبًا على بغلته فالتفوا عَلَيْهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى زاويتهم وأنزلوه بِالدَّار الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بدار الْمَوْسِم واحترموه وغدوا وراحوا فِي خدمته وَكَانَ مَعَ وصيفه فرجى صَبيا صَغِيرا وَهُوَ الَّذِي ولي إِمَارَة فاس الْجَدِيد فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَكَانَ مَعَه أَيْضا عبد الْخَالِق بن كريران الحريزي شَابًّا كَمَا بقل عذاره وَبَقِي عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام وَحَضَرت الْجُمُعَة فَصلاهَا عِنْدهم وخطبوا بِهِ وَمن الْغَد ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى مراكش إِلَى أَن وصلوا إِلَى عين أبي عكاز فودعوه وَرَجَعُوا وَمِمَّا قَالَ لَهُم عِنْد الْوَدَاع إِن الَّذين أَرَادوا أَن يفتحوا بَاب الْفِتْنَة على النَّاس قد سد الله أَبْوَابهَا برؤوسهم يَعْنِي الرحامنة وَبعد وُصُول السُّلْطَان إِلَى مراكش(3/162)
بِيَوْم أَو نَحوه عدا الرحامنة على مُحَمَّد بن أبي سِتَّة فَقَتَلُوهُ بِسَبَب أَن الشراردة كَانُوا قد أسروه ثمَّ استحيوه وَاتَّخذُوا عِنْده عهدا ويدا بِأَنَّهُ إِذا أفضت إِلَيْهِ ولَايَة مراكش بعد أَخِيه عمر الْمَقْتُول يحسن فِي إدارة أَمرهم عِنْد السُّلْطَان فَسمع الرحامنة بذلك فَقَتَلُوهُ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزم السُّلْطَان على الْخُرُوج إِلَى زَاوِيَة الشرادي بَعَثَنِي قبل ذَلِك بِثَلَاث إِلَى السوس فِي شَأْن ابْن أَخِيه الْمولى بناصر بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَاملا عَلَيْهَا فكثرت الشكايات بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَبَعَثَنِي فِي شَأْنه فَلَمَّا جِئْت تارودانت تربصت قَلِيلا فَلم يفجأنا إِلَّا خبر الْهَزِيمَة على السُّلْطَان بالروايات الْمُخْتَلفَة فَقَائِل يَقُول إِنَّه قد قتل وَآخر يَقُول إِنَّه قد مَاتَ حتف أَنفه وَآخر يَقُول لَا بَأْس عَلَيْهِ ثمَّ ورد علينا كِتَابَانِ من عِنْد السُّلْطَان أَحدهمَا بِخَط الْكَاتِب مطبوعا وَالْآخر بِخَط يَده تَحْقِيقا لسلامته يَقُول فِيهِ إِن هَذِه الْحَرَكَة مَا وَقعت إِلَّا لهلاك الظلمَة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم فِي الْبَاطِن أعدى الأعادي مثل قَاسم الرحماني وَفُلَان وَفُلَان وَأما أَوْلَاد أبي سِتَّة فقد قتل زُرَارَة عمر على رَائِحَة الرحامنة وَقتل الرحامنة مُحَمَّدًا على رَائِحَة أهل السوس والشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل الوزاني أَصَابَته رصاصة رِعَايَة رَحمَه الله عَلَيْهِ وَالْحَاصِل هان علينا كسر الخابية بِمَوْت الفار وَقد أَحْسَنت فِي التَّرَبُّص فاترك الْأَمر على طيته واصحب مَعَك أَشْيَاخ السوس وعدهم منا بِالْإِحْسَانِ ومساعدتهم على مَا يطلبونه منا وَالسَّلَام اه
وَلما دخل السُّلْطَان مراكش رَاجع الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا عَنهُ بصائرهم وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ خاضعين تَائِبين وعَلى أبوابه فِي الْعَفو راغبين فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِعْرَاض عَن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ أَمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ ليأتوا بحصصهم إِلَى عيد المولد الْكَرِيم فانقضى أَجله رَحمَه الله(3/163)
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله
كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة قد سئم الْحَيَاة ومل الْعَيْش وَأَرَادَ أَن يتْرك أَمر النَّاس لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ويتخلى هُوَ لعبادة ربه إِلَى أَن يَأْتِيهِ الْيَقِين قَالَ ذَلِك غير مرّة وتعددت فِيهِ رسائله ومكاتيبه فمما كتبه فِي ذَلِك هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي يَقُول فِيهَا الْحَمد لله لما رَأَيْت مَا وَقع من الْإِلْحَاد فِي الدّين واستيلاء الفسقة والجهلة على أَمر الْمُسلمين وَقد قَالَ عمر إِن تابعناهم تابعناهم على مَا لَا نرضى وَإِلَّا وَقع الْخلاف وَأُولَئِكَ عدُول وَهَؤُلَاء كلهم فساق وَقَالَ عمر فَبَايعْنَا أَبَا بكر فَكَانَ وَالله خير وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق أبي بكر يَأْبَى الله وَيدْفَع الْمُسلمُونَ ورشحه بتقديمه للصَّلَاة إِذْ هِيَ عماد الدّين وَقَالَ أَبُو بكر للْمُسلمين بَايعُوا عمر وَأخذ لَهُ الْبيعَة فِي حَيَاته فلزمت وَصحت بعد مَوته وَقَالَ عمر هَؤُلَاءِ السِّتَّة أفضل الْمُسلمين وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم العَبْد صُهَيْب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَمِين هَذِه الْأمة وَقَالَ مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر وَقَالَ فِي أبي بكر وَعمر أَكثر من هَذَا فَصَارَ الْمَدْح للتعريف وَاجِبا ولإظهار حَال الرجل لينْتَفع بِهِ فَأَقُول جعله الله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم مَا أَظن فِي أَوْلَاد مَوْلَانَا الْجد عبد الله وَلَا فِي أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد وَالِدي رَحمَه الله وَلَا أَوْلَاد أَوْلَاده أفضل من مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَلَا أصلح لهَذَا الْأَمر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن شَاءَ الله حفظه الله لَا يشرب الْخمر ويزني ولايكذب وَلَا يخون وَلَا يقدم على الدِّمَاء وَالْأَمْوَال بِلَا مُوجب وَلَو ملك ملك المشرقين لِأَنَّهَا عبَادَة صهيبية ويصوم الْفَرْض وَالنَّفْل وَيُصلي الْفَرْض وَالنَّفْل وَإِنَّمَا أتيت بِهِ من الصويرة ليراه النَّاس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لَهُم لِأَن الدّين النَّصِيحَة فَإِن اتبعهُ أهل الْحق صلح أَمرهم كَمَا صلح سَيِّدي مُحَمَّد جده وَأَبوهُ حَيّ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيّ أبدا ويغبطه أهل الْمغرب ويتبعونه إِن شَاءَ الله(3/164)
وَكَانَ من اتبعهُ اتبع الْهدى والنور وَمن اتبع غَيره اتبع الْفِتْنَة والضلال وَاحْذَرْ النَّاس أَوْلَاد يزِيد كَمَا حذر وَالِدي وَقد رأى من اتبعهُ أَو اتبع أَوْلَاده كَيفَ خَاضَ الظلمَة ونالته دَعْوَة وَالِده وَخرج على الْأمة وَأما أَنا فقد خفت قواي ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا حفظني الله فِي أَوْلَادِي وَالْمُسْلِمين آمين نصيحة وَصِيَّة سُلَيْمَان بن مُحَمَّد لطف الله بِهِ اه
وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَقعت غدرة ذَوي بِلَال فِي انتهابهم الصاكة الْوَارِدَة من مرسى الصويرة وَكَانَ انتهابهم إِيَّاهَا بِاتِّفَاق من الشياظمة الَّذين جاؤوا مَعهَا وَقَائِدهمْ عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي هُوَ الَّذِي انتهب أَكْثَرهَا وَكَانَ فِيهَا من الذَّخَائِر النفيسة وَالْأَمْوَال الثَّقِيلَة شَيْء كثير وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي هدت أَرْكَان السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فاعتراه مَرضه الَّذِي كَانَ سَبَب وَفَاته وَلما أثقله الْمَرَض أعَاد الْعَهْد للْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس إِذْ كَانَ خَليفَة بهَا كَمَا مر فَدَعَا رَحمَه الله بِصَحِيفَة بَيْضَاء ودعا بالطابع الْكَبِير فجيء بِهِ وَلم يحضرهُ إِلَّا أَهله من النِّسَاء فطبع الصَّحِيفَة بِيَدِهِ وَكتب بعض الْكتاب وأكملته بعض حظاياه مِمَّن كَانَت تحسن الْكِتَابَة ثمَّ طواه وَختم عَلَيْهِ ودعا الْقَائِد الجيلاني الرحماني الحويوي وَكَانَ قَائِد المشور وَقَالَ لَهُ ادْع لي فارسين يذهبان بِهَذَا الْكتاب إِلَى فاس وَقد عينت لَهما سخرة كَبِيرَة يقبضانها هُنَاكَ إِذا أَسْرعَا السّير فَكَانَ ذَلِك الْكتاب هُوَ الْعَهْد الَّذِي قرىء بفاس وَنَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى ابْن عمنَا الْفَقِيه القَاضِي مولَايَ أَحْمد والفقيهين ابْن إِبْرَاهِيم والآزمي وَبعد فقد وجدت من نَفسِي مَا لَيْسَ بتارك أحدا فِي الدُّنْيَا وَهَذِه وَصِيَّة أقدمها بَين يَدي أَجلي وَالله مَا بَقِي فِي قلبِي مِثْقَال ذرة على أحد من خلق الله لِأَن ذَلِك أَمر قد قدره الله وَسبق علمه بِهِ وَلست فِيهِ بأوحد وَمَا وَقع لمن قبلي أشنع وأقطع وَإِنِّي قد عقدت(3/165)
بَين أخوالي وَأهل فاس أخوة بحول الله لَا تنفصم يَرِثهَا الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء وأوصي الْجَمِيع بِمَا أوصى الله بِهِ الْأَوَّلين {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا} النِّسَاء 131 {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله} الْحَشْر 7 وبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة بِخَير مَا أخذُوا بِكِتَاب الله وَقد عهِدت لِابْنِ أخي مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ورجوت الله أَن يكون لي فِي هَذَا الْأَمر مثل مَا لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي عَهده لعمر بن عبد الْعَزِيز {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} يس 12 من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على عقد الْبيعَة بالعهد وَالْقَاضِي والفقيهان يبينون لكم هَذَا {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} النِّسَاء 59 وَإِنِّي أشهد الله أَنِّي مقرّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعبد الله عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وببيعته أَلْقَاهُ وَقد أدّيت لأمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عَليّ من النَّصِيحَة وأرجوا الله أَن يثيبني بِهَذِهِ النِّيَّة الصَّحِيحَة وَهُوَ المطلع على مَا فِي الضمائر والعالم بالسرائر وَالسَّلَام وَفِي رَابِع ربيع النَّبَوِيّ عَام ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه
ثمَّ تَمَادى بالسلطان رَحمَه الله مَرضه إِلَى أَن توفّي ثَالِث عشر ربيع الأول وَهُوَ الثَّانِي من عيد المولد الْكَرِيم من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَات رَحمَه الله ثَابت الذِّهْن صَحِيح الميز على غَايَة من الْيَقِين والفرح بلقاء ربه وَدفن بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف بِبَاب آيلان من مراكش وَقد رثاه جمَاعَة من أدباء الْعَصْر من ذَلِك قَول الْفَقِيه الأديب الْكَاتِب البليغ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي
(نبأ عرى أَوْهَى عرى الْإِيمَان ... وَأَبَان حسن الصَّبْر عَن إِمْكَان)
(شقَّتْ لموقعه الْقُلُوب وزلزلت ... أَرض النُّفُوس ورج كل مَكَان)(3/166)
(فقد الإِمَام أبي الرّبيع المرتضى ... جزعت لعظم مصابه الثَّقَلَان)
(وبكت عُيُون الدّين مَاء جفونها ... وجدا عَلَيْهِ وكل ذِي إِيمَان)
(لم نعى الناعون خير خَليفَة ... وعرا الْفُؤَاد طوارق الأحزان)
(مزقت ثوب تجلدي من فَقده ... وَنَثَرت در الدمع من أجفاني)
(عجبا لمَوْت غاله إِذْ لم يخف ... فتك الْمُلُوك وسطوة السُّلْطَان)
(وسما لمنصبه المنيف وَلم يهب ... غضب الْجنُود وغيرة الأعوان)
(لَو كَانَ ينفع خَاضَ فرسَان الوغا ... حرصا عَلَيْهِ مواقد النيرَان)
(وحموه بِالنَّفسِ النفيسة إِنَّمَا ... يحْمُونَ روح الْعدْل وَالْإِحْسَان)
(لَكِن قَضَاء الله حم فَلَا يرى ... للمرء فِي دفع الْقَضَاء يدان)
(وَالْمَوْت مورد كل حَيّ كأسه ... وَسوى الْمُهَيْمِن فِي الْحَقِيقَة فان)
(إِن غَابَ عَنَّا شخصه فَلَقَد ثوى ... فِينَا الثَّنَاء لَهُ بِكُل لِسَان)
(ومناقب ومفاخر ومآثر ... شاعت لَهُ فِي سَائِر الأوطان)
(ومعارف وعوارف ووسائل ... ومسائل قد أوضحت ومعاني)
(وبدور أَوْلَاد وَآل قد قفوا ... آثاره فِي الْعلم والعرفان)
(تخذوا الدّيانَة والصيانة شرعة ... وتقلدوا بصوارم الإيقان)
(أَخْلَاقهم ووجوههم وأكفهم ... كالزهر والأزهار والأمزان)
(إِن حَاربُوا أبدوا شجاعة جدهم ... أَو خاطبوا أزروا على سحبان)
(من كل من جعل الْقُرْآن سميره ... وسما بِوَصْف الْعلم والتبيان))
(كم آيَة ظَهرت لَهُ وكرامة ... دَامَت دلائلها مدى الْأَزْمَان)
(قد كَانَ أوحد دهره ولذاته ... فِي الْعدْل والتمكين وَالْإِحْسَان)
(قد كَانَ عَالم عصره وفريده ... فِي الْفَهم وَالتَّحْقِيق والإتقان)
(قد كَانَ فَردا فِي البلاغة إِن جرت ... أقلامه بهرت بِسحر بَيَان)
(من للعلى من بعده من للنَّهْي ... من للتقى وتلاوة الْقُرْآن)
(يَا رمسه مَاذَا حويت من العلى ... وطويت من علم وَمن عرفان)(3/167)
(يَا رمس كم واريت من كرم وَمن ... جود وَمن فضل وَمن إِحْسَان)
(يَا رمس كم حجبت عَنَّا شمسه ... وضياؤها فِي سَائِر الْبلدَانِ)
(ووسعت بَحر علومه وسخائه ... فطمى بِضيق بَطْنك البحران)
(فَلَو اسْتَطَعْت جعلت قلبِي قَبره ... حبا وأحشائي من الأكفان)
(وَلَو أَن عمري فِي يَدي لوهبته ... وفديته بالأهل والإخوان)
(لَكِن يُخَفف بعض أثقال الأسى ... علمي بِهِ فِي جنَّة الرضْوَان)
(فسقى ثراه من الْمَوَاهِب دِيمَة ... وهمت عَلَيْهِ سحائب الغفران)
(ورد الرَّسُول بِمَوْت خير خَليفَة ... وَولَايَة الْعَهْد الرفيع الشَّأْن)
(فَجَزِعت من حزن لما قد نابني ... وطربت من فَرح بِمَا أولاني)
(مَا مَاتَ من ترك الْخَلِيفَة بعده ... مثل الْمُؤَيد عَابِد الرَّحْمَن)
(ملك تسربل بالتقى حَتَّى ارْتقى ... من نهجه الأتقى على كيوان)
(يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مشارك ... أَقْسَمت مَا لَك فِي الْبَريَّة ثَان)
(لله بيعتك الَّتِي قد أشبهت ... فِيمَا تَوَاتر بيعَة الرضْوَان)
(قد أحكمتها يَد الشَّرِيعَة والتقى ... بعرى النُّصُوص وواضح الْبُرْهَان)
(سعد الَّذِي أضحى بهَا متمسكا ... وَهوى العنيد بهوة الخسران)
(وَجرى على التَّيْسِير أَمرك فَاسْتَوَى ... ملك الورى لَك فِي أقل زمَان)
(وَأَتَتْ لنصرتك المغارب كلهَا ... فبعيدها لَك فِي الْحَقِيقَة داني)
(عقدوا على النصح الْقُلُوب وَإِنَّمَا ... عقدوا بنصرك رايه الْإِيمَان)
(لَو شِئْت من أهل الْمَشَارِق طَاعَة ... لأتوك من يمن وَمن بغدان)
(هابتك أَصْنَاف الطغاة بزعمهم ... لما وثقت بنصرة الرَّحْمَن)
(وَبسطت عدلك فِي الورى فَكَأَنَّمَا ... قد عَاشَ فِي أيامك الْعمرَان)
(يَا أهل بَيت الْمُصْطَفى أوصافكم ... جلت عَن الإحصاء والحسبان)
(طَابَ المديح مَعَ الرثاء بذكركم ... فنظمته كقلائد العقيان)(3/168)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته
لما بُويِعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله رد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا وأجرى الْخلَافَة على قوانينها بِإِقَامَة الْعدْل والرفق بالرعية والضعفاء وَالْمَسَاكِين وَمن وفور عقله وعدله إِسْقَاط المكوس الَّتِي كَانَت موظفة على حواضر الْمغرب فِي الْأَبْوَاب والأسواق وعَلى السّلع والغلل وعَلى الْجلد وعشبة الدُّخان فقد كَانَ يقبض فِي ذَلِك أَيَّام وَالِده رَحمَه الله خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال مَعْلُومَة مثبتة فِي الدفاتر مبيعة فِي ذمم عُمَّال الْبلدَانِ وقواد الْقَبَائِل كل مَدِينَة وَمَا عَلَيْهَا وَمن ذَلِك المكس كَانَ صائر الْعَسْكَر فِي الْكسْوَة والسروج وَالسِّلَاح وَالْعدة وَالْإِقَامَة والخياطة والتنافيذ لوفود الْقَبَائِل والعفاة والمؤنة للعسكر ولدور السُّلْطَان وَسَائِر تعلقاته فَكَانَ ذَلِك المكس كَافِيا لصوائر الدولة كلهَا وَلَا يدْخل بَيت المَال إِلَّا مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل وزكواتهم وَكَانَ مُسْتَفَاد هَذَا المكس يعادل مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل فزهد فِيهِ هَذَا السُّلْطَان الْعَادِل فَعوضهُ الله أَكثر مِنْهُ من الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي هُوَ الزكوات والأعشار من الْقَبَائِل وزكوات أَمْوَال التُّجَّار وَالْعشر الْمَأْخُوذ من تجار النَّصَارَى وَأهل الذِّمَّة بالمراسي وَأما الْمُسلمُونَ فقد مَنعهم من التِّجَارَة بِأَرْض الْعَدو لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تعشير مَا بِأَيْدِيهِم أَو المشاجرة مَعَ الْأَجْنَاس هَكَذَا بلغنَا وَالله أعلم
وَكَانَت الْقَبَائِل فِي دولته قد تمولت ونمت مواشيها وَكَثُرت الْخيرَات لَدَيْهَا من عدله وَحسن سيرته فَصَارَت الْقَبِيلَة الَّتِي كَانَت تُعْطِي عشرَة آلَاف مِثْقَال مُضَارَبَة أَيَّام وَالِده يسْتَخْرج مِنْهَا على النّصاب الشَّرْعِيّ عشرُون وَثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَذَلِكَ من توفيق الله لَهُ وتمسكه بِالْعَدْلِ والحلم والجود وَالْحيَاء وَجَمِيل الصَّبْر وَحسن السياسة والتأني فِي الْأُمُور واجتنابه لما هُوَ بضد ذَلِك
فَأَما الْحلم فَهُوَ دأبه وطبعه وَقد اتّفق أهل عصره على أَنه كَانَ أحلم النَّاس فِي زَمَانه وأملك لنَفسِهِ عِنْد الْغَضَب من أَن يَقع فِي الْخَطَأ ومذهبه(3/169)
دَرْء الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ والتماس التَّأْوِيل وَقبُول الْعذر حَتَّى لقد حكى عَنهُ أَنه مَا اعْتمد الْبَطْش بِأحد وتصدى لنكبته لغَرَض نفساني أَو لحظ دُنْيَوِيّ وحسبك من حلمه مَا قَابل بِهِ الخارجين عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزمت على الْخُرُوج من فاس أَيَّام الْفِتْنَة لملاقاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بقصر كتامة جِئْت إِلَى القَاضِي أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي لأودعه فَكَانَ من جملَة مَا أَوْصَانِي بِهِ قَالَ قل لمولانا السُّلْطَان يَقُول لَك عَبَّاس إِنَّا نَخَاف إِذا ظَفرت بهؤلاء الظلمَة أَن تصفح عَنْهُم فَلَمَّا اجْتمعت بالسلطان أبلغته مقَالَة القَاضِي فَقَالَ كَيفَ أصفح عَنْهُم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي عَزِيز لَا أتركك تمسح سبلتك بِمَكَّة وَتقول خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ فاسا كَانَ جَوَابه أَن قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ بل تعجل بِالْخرُوجِ مِنْهَا مَخَافَة أَن يغريه بعض بطانته بِأحد مِنْهُم فلعمري لقد صدق من قَالَ إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق
وَأما الدّين وَالتَّقوى فَذَلِك شعاره الَّذِي يمتاز بِهِ ومذهبه الَّذِي يدين الله بِهِ من أَدَاء الْفَرِيضَة لوَقْتهَا الْمُخْتَار حضرا وسفرا وَقيام رَمَضَان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذَلِك الأساتيذ ومشايخ الْقُرَّاء وَيجمع أَعْيَان الْعلمَاء لسرد الحَدِيث الشريف وتفهمه والمذاكرة فِيهِ على مر اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ويتأكد ذَلِك عِنْده فِي رَمَضَان ويشاركهم بغزارة علمه وَحسن ملكته ويتناول راية السَّبق فِي فهم الْمسَائِل الَّتِي يعجز عَنْهَا غَيره فَيُصِيب الْمفصل ويواظب على صِيَام الْأَيَّام المستحبة من كل شهر ويعظم الْعلمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَيرْفَع مناصبهم على سَائِر رجال دولته وَيجْرِي عَلَيْهِم الأرزاق ويعطيهم الدّور الْمُعْتَبرَة والضياع المغلة وَيحسن مَعَ ذَلِك إِلَى من دونهم فِي الْمرتبَة من المدرسين وطلبة الْعلم ويؤثر المعتنين مِنْهُم وَذَوي الْفَهم بمزيد البروتضعيف الجراية حَتَّى لقد تنافس النَّاس فِي أَيَّامه فِي اقتناء الْعُلُوم وانتحال صناعتها لاعتزاز الْعلم وَأَهله فِي دولته وسعة أَرْزَاقهم(3/170)
وَأما صبره عِنْد الشدائد وَاحْتِمَال العظائم وتجلده عِنْد حُلُول الْخطب ونزول الْمَقْدُور فَحدث عَن الْبَحْر وَلَا حرج وَعَن الْجَبَل سكونا ورسوخ قدم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَو حَدثنَا بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْهُ لَكَانَ عجبا وَأما الْعدْل فَإِنَّهُ مَا رئي فِي مُلُوك عصره أعدل مِنْهُ وَمن عَجِيب سيرته أَنه كَانَ يلْزم الْعمَّال رد مَا يقبضونه من الرعايا على وَجه الظُّلم من غير إِقَامَة بَيِّنَة عَلَيْهِم على مَا جرى بِهِ عمل الْفُقَهَاء من قلب الحكم فِي الدَّعْوَى على الظلمَة وَأهل الْجور حَسْبَمَا ذكره الوانشريسي وَغَيره وَمن عدله واقتصاده مَا حَكَاهُ لنا الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي الْمُؤَقت بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا قَالَ مر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بسلا سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنزل بِرَأْس المَاء واستدعاني للْقِيَام بوظيفة التَّوْقِيت عِنْده قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ رجل طَوِيل أَبيض جميل الصُّورَة ففاوضني فِي مسَائِل من التَّوْقِيت وَكَانَ يُحسنهُ فأجبته عَنْهَا فأعجبه ذَلِك ثمَّ وصلني بضبلونين وَأخرج مجانته من جيبه ليحققها فَرَأَيْت مجدولها من صوف ثمَّ حضرت صَلَاة الْعَصْر فَتقدم وَصلى بِنَا فَرَأَيْت سراويله مرقعة وَكَانَ إِمَام صلَاته الرَّاتِب هُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الْحَاج الْعَرَبِيّ الساحلي لكنه صلى بِنَا تِلْكَ الصَّلَاة وَلما فَرغْنَا من الصَّلَاة وانقلبنا إِلَى مَنَازلنَا جِيءَ بِالطَّعَامِ وَهُوَ قصيعة من الكسكس عَلَيْهَا شَيْء من اللَّحْم والخضرة وَلَيْسَ مَعهَا غَيرهَا قَالَ وَكَانَت عَادَة الْمولى سُلَيْمَان فِي السّفر أَن لَا يتَّخذ كشينة أَي مطبخا إِنَّمَا هُوَ طَعَام يسير يصنع لَهُ ولبعض الْخَواص مِمَّا يَكْفِي من غير إِسْرَاف حَتَّى أَن الْكتاب كَانُوا يقبضون سِتّ موزونات ويعولون أنفسهم وَكَانَت أقواتهم وأزوادهم خَفِيفَة اه
وَأما سياسته الْخَاصَّة فِي جبر الْقُلُوب واستئلاف الشارد وتسكين المرتاب وإرضاء الْوَلِيّ ومجاداة الْعَدو والدفاع بِالَّتِي هِيَ أحسن عِنْد اشْتِبَاه الْأُمُور ومعاناة الرِّجَال بِوُجُودِهِ المكائد والحيل فِي الْأُمُور الَّتِي لَا ينفع فِيهَا حَرْب وَلَا قُوَّة فشيء لَا يبلغ فِيهِ شأوه وَلَا يشق غباره
وَأما عَادَته فِي الْحَرْب فقد أَخذ فِيهَا بسيرة الْعَجم بِحَيْثُ لَا يُبَاشر(3/171)
الحروب بِنَفسِهِ وَيعْمل بِعَمَل أهل الصَّدْر الأول فيقف فِي قلب الْجَيْش كالجبل الراسي وأمراؤه يباشرون الْحُرُوف بِأَنْفسِهِم فِي الميمنة والميسرة وَهُوَ ردء لَهُم كلما رأى فُرْجَة سدها أَو خللا أصلحه وَهُوَ كالصقر مطل على حومة الوغا فَإِذا أمكنته فرْصَة أنتهزها وَمن شدَّة ثباته وَعدم تزحزحه أَنه كَانَ لَا يركب وَقت الْحَرْب إِلَّا البغلة وَبِذَلِك جرى عَلَيْهِ فِي وقْعَة ظيان والشراردة مَا جرى فَكَانَ حماته يفرون عَنهُ بِلَا حَيَاء وَيبقى هُوَ ثَابتا رَحمَه الله
وَأما جمعه لأشتات الْعُلُوم فَلَقَد كَانَ وَارِثا من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء حَامِلا للواء الشَّرِيعَة جَامعا مَانِعا إِذا بوحث فِي الْأَخْبَار كَانَ كجامع سُفْيَان أَو فِي الْأَشْعَار فكنابغة ذبيان أَو فِي الفطنة والفراسة فكإياس أَو فِي النجدة والرأي فكالمهلب وَإِذا خَاضَ فِي السّنة وَالْكتاب أبدى ملكة مَالك وَابْن شهَاب وَلَو تصدى فِي الْفِقْه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه أَنه ابْن الْقَاسِم أَو ابْن إِدْرِيس وَإِذا تكلم فِي عُلُوم الْقُرْآن أنهل بِمَا يغمر مورد الظمآن
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَا يعرف مِقْدَار هَذَا السُّلْطَان إِلَّا من تغرب عَن الأوطان وَحمل عَصا التسيار ورمت بِهِ فِي الأقطار الْأَسْفَار وَشَاهد سيرة الْمُلُوك فِي الْعباد وَمَا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الْبِلَاد وَلَا يتَحَقَّق أهل الْمغرب بعدله إِلَّا بعد مغيبه وفقده
(الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ ... ويعظم الرزء فِي حِين يفتقد)
وَمن آثاره الْبَاقِيَة وبناءاته العادية فبفاس الْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرصيف الَّذِي لَا نَظِير لَهُ كَانَ حفر أساسه الْمولى يزِيد واشتغل عَنهُ وَتَركه فَافْتتحَ هُوَ عمله ببنائه وتشييده وأبقاه دينا على الْمُلُوك وَبنى مَسْجِد الدِّيوَان كَانَ صَغِيرا فهدمه وَزَاد فِيهِ أملاكا وَجعله مَسْجِدا جَامعا تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَبنى مَسْجِد الشرابليين زَاد فِيهِ ووسعه وَجعله مَسْجِدا جَامعا كَذَلِك وَبنى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن بن غَالب وضريحه وَبنى ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب التازي وَهدم مدرسة الْوَادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد الْمدرسَة العنانية وَأصْلح مَسْجِد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وَبنى بَاب الْفتُوح على هَيْئَة ضخمة وَبَاب بني مُسَافر وَالْبَاب الْجَدِيد(3/172)
على براح أبي الْجُلُود وَبنى القنطرة على الْوَادي بَينهمَا وجدد قنطرة الرصيف مرَّتَيْنِ وَأصْلح قنطرة وَادي سبو وَأصْلح طرقات فاس الْجَدِيد كلهَا من دَاخل وخارج ورصفها بِالْحِجَارَةِ وَأصْلح أَبْوَاب فاس الْجَدِيد كلهَا ورمم مَا تلثم مِنْهَا وجدد قُصُور الْملك الخربة بهَا وَزَاد غَيرهَا وَأمر بتبييض مَسَاجِد الْخطب وتبليط أرْضهَا وَبنى مَسْجِد صفرو وجدد أسواره وَبنى لأَهله حَماما بِهِ وَبنى مَسْجِد الْمنزل ببني يازغة وَبنى مَسْجِد وَجدّة وحماما بهَا وَأصْلح قلعتها وَدَار إمارتها وَبنى مَسْجِد وازان وَمَسْجِد تطاوين وَأخرج أهل الذِّمَّة من جواره وَبنى لَهُم حارة بطرِيق الْمَدِينَة وَبنى الصقائل والأبراج بطنجة وجدد مَسْجِد آصيلا وأسوارها وجدد قُصُور الْملك بمكناسة بعد تلاشيها وَأصْلح القناطر الَّتِي بَين فاس ومكناسة وَبنى قنطرة على وَادي سَيِّدي حرازم بخولان وَبنى مَسْجِد الجزارين بسلا ووقف عَلَيْهِ أوقافا تقوم بمصلحته وَأخرج يهودها من وسط الْبَلَد من حومة بَاب حُسَيْن وَبنى لَهُم حارة على حدتها غربي الْبَلَد وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم بحومة السويقة من رِبَاط الْفَتْح وَبنى دَار الْبَحْر لنزوله وَبنى قنطرة وَادي حِصَار بتامسنا وَبنى مَسْجِد أبي الْجَعْد بتادلا وَبنى قنطرة وَادي أم الرّبيع وقنطرة تانسيفت بمراكش بعد سُقُوطهَا وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم الَّذِي كَانَ أسسه على بن يُوسُف اللمتوني بمراكش وبناه بِنَاء ضخما وأزال منارته الَّتِي كَانَت بِهِ قَدِيما وشيد مَنَارَة أُخْرَى بديعة الْحسن رائقة الصَّنْعَة وأكمل مَسْجِد الرحبة الَّذِي كَانَ أسسه وَالِده رَحمَه الله وَمَات قبل تَمَامه وجدد قُصُور وَالِده بمراكش وَأَصْلَحهَا وصان القصبة وعمرها ثمَّ ختم رَحمَه الله ديوانه بِالْحَسَنَة الْعَظِيمَة والمنقبة الفخيمة وَهِي عَهده بالخلافة لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام على كَثْرَة أَوْلَاده وَوُجُود بعض إخْوَته ولعمري أَن هَذَا الْعَهْد لمنقبة جليلة للعاهد والمعهود إِلَيْهِ أما العاهد فَإنَّا لم نسْمع بعد أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِأحد من خلفاء الأسلام وملوكه عدل بِولَايَة الْعَهْد عَن وَلَده الْمُسْتَحق لَهَا إِلَى غَيره حَتَّى كَانَ هَذَا الإِمَام الْجَلِيل الَّذِي أَحْيَا سيرة العمرين نعم قد عهد سُلَيْمَان بن عبد الْملك لِابْنِ عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز(3/173)
رحمهمَا الله لَكِن حكى ابْن الْأَثِير أَن سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة عزم أَن يعْهَد لِابْنِ لَهُ صَغِير فوعظه رَجَاء بن حَيْوَة فَرجع عَن ذَلِك وشاوره فِي ابْنه دَاوُد وَكَانَ غازيا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَجَاء لَا تَدْرِي أَحَي هُوَ أم ميت فَحِينَئِذٍ رَجَعَ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَأما الْمَعْهُود إِلَيْهِ فَإِن فِي الْعَهْد إِلَيْهِ دون الْأَبْنَاء وَالإِخْوَة شَاهدا عدلا على كَمَال فَضله وإحرازه لخلال الْخَيْر وتبريزه فِيهَا على من عداهُ من بني أَبِيه وعشيرته ولعمري أَن ذَلِك لكذلك فَإِن الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عِنْد القاصي والدان حَتَّى صَار لَا يخْتَلف فِي عَدَالَته اثْنَان
تمّ الْجُزْء الثَّامِن ويليه الْجُزْء التَّاسِع وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام(3/174)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة العلوية
الْقسم الثَّالِث
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وأوليته ونشأته
كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله مُنْذُ نَشأ وَهُوَ متمسك بالتقوى والعفاف متصف بالصيانة وَجَمِيل الْأَوْصَاف من الانقباض عَن الْخلق وملازمة الْعِبَادَة وَالصَّوْم وَقيام اللَّيْل وَترك مَا لَا يَعْنِي وَالْجد فِي الْأُمُور كلهَا حَتَّى عرفت لَهُ هَذِه الشنشنة وتطابقت على حبه ومدحه الْقُلُوب والألسنة وَلما نَشأ هَذِه النشأة الطّيبَة أقبل عَلَيْهِ عَمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وضمه إِلَيْهِ واعتنى بِشَأْنِهِ وَرفع مَنْزِلَته حَتَّى علا أَوْلَاده وَلما بعث أَوْلَاده إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج بَعثه فِي جُمْلَتهمْ فَظهر لَهُ فِي تِلْكَ السفرة من الْوَرع وَالدّين والتمسك بِأَسْبَاب الْيَقِين مَا رفع قدره وأشاع بالصلاح ذكره وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد أعطَاهُ بضَاعَة ينفقها فِي سفرته تِلْكَ ويستعين بهَا على حجه فَلَمَّا آب من سَفَره أَتَى بالبضاعة إِلَى عَمه وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي هَذِه البضاعة الَّتِي أَعْطَيْتنِي إِنَّمَا أَخَذتهَا لأنفق مِنْهَا إِذا نفذ مَا عِنْدِي وَكَانَت معي بضَاعَة جمعتها بِقصد إنفاقها فِي هَذِه الوجهة وَلم أرد أَن أخلطها بغَيْرهَا وَقد حصلت الْكِفَايَة بهَا وَالْحَمْد لله فَعجب عَمه من شَأْنه وازداد محبَّة وغبطة فِيهِ ورد لَهُ البضاعة وطيبها لَهُ ودعا لَهُ بِخَير وَكَانَ فِي أول أمره مُقيما بتافيلالت ثمَّ استقدمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي آخر عمره وولاه بثغر الصويرة وأعمالها(3/3)
فَقَامَ بذلك أحسن قيام ثمَّ استقدمه مِنْهَا فِي فتْنَة ابْني يزِيد كَمَا مر واستخلفه على حَاضِرَة الْمغرب وَأم أمصاره مَدِينَة فاس فقرت بولايته الْعُيُون وَطَابَتْ الأنفاس كل ذَلِك فعله بِهِ ترشيحا لِلْأَمْرِ وتقديما لَهُ فِيهِ على زيد وَعَمْرو
بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة جدد الْعَهْد لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس ثمَّ كَانَت وَفَاة السُّلْطَان عقب ذَلِك فوصل خبر وَفَاته إِلَى فاس فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَحَضَرَ القَاضِي الشريف الْمولى أَحْمد بن عبد الْملك والعلامة الْمُفْتِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم والتاجر الْأَمِير الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون وَسَائِر أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم وَحضر أَعْيَان الودايا وقوادهم وَلما قرىء الْعَهْد ترحموا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَبَايَعُوا للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة وَتمّ أمره وسر النَّاس بذلك خَاصَّة وَعَامة ثمَّ ترادفت على حَضرته بيعَة أهل الدِّيوَان وَسَائِر الْجنُود وَحل من الْملك الْعَزِيز فِي فلك السُّعُود وكتبت البشائر بذلك إِلَى الْبلدَانِ فوفدت بيعات أهل الْأَمْصَار وهداياهم وَلم يتَوَقَّف عَن هَذِه الْبيعَة الشَّرْعِيَّة أحد مِنْهُم واستبشر أهل الْمغرب بولايته وَبَان لَهُم مصداق يمنه وسعادته بتوالي الأمطار وَرخّص الأسعار والعافية آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلما تمت هَذِه الْبيعَة الْمُبَارَكَة وَحصل مَا ذكرنَا من الْأَمْن والعافية وَحسن الْحَال والرفاهية استوزر السُّلْطَان رَحمَه الله الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي فَقَالَ
(مولَايَ بِشِرَاك بالتأييد بشراكا ... قد أكمل الله بالتوفيق سراكا)
(الْفَتْح والنصر قد وافاك جيشهما ... والسعد واليمن قد حَيا محياكا)
(الله ألبسك الإقبال تكرمة ... وبالتقى والنهى وَالْعلم حلاكا)
(فراسة الْملك المرحوم قد صدقت ... لما تفرس فِيك حِين ولاكا)(3/4)
(أعدت للدّين وَالدُّنْيَا جمالهما ... فأصبحا فِي حلى من حسن مغناكا)
(وزادك الْغَيْث غوثا فِي سحائبه ... فجاد بالقطر قطرا فِيهِ مأواكا)
ثمَّ وَردت على السُّلْطَان تهنئة عَالم إفريقية ومفتيها وأديبها الشَّيْخ أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي بقصيدة يَقُول فِيهَا
(نصر من الرَّحْمَن جلّ لعَبْدِهِ ... أيروم خلق نقض مبرم عقده)
(وعدت بِهِ الأقدار وَهِي نوافذ ... لَا تحسبن الله مخلف وعده)
(وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل نَصره ... فِي الشَّاكِرِينَ لَهُ سوابغ رفده)
(فلتبسم ثغر الهنا مُسْتَبْشِرًا ... فالوقت ينْطق عَن سَعَادَة جده)
(أَن يمض مَوْلَانَا سُلَيْمَان الرِّضَا ... وَعَلِيهِ تبْكي الباكيات لفقده)
(الْعلم وَالتَّقوى وكل فَضِيلَة ... منشورة طويت بِهِ فِي لحده)
(فَلَقَد أَقَامَ لنا أَبَا زيد هدى ... نورا مُبينًا يستضاء برشده)
(لَو لم يكن كفئا لما أوصى بِهِ ... وَبَنوهُ ترفل فِي ملابس مجده)
(سعدت بِهِ الْأَيَّام ثمَّ أَرَادَ أَن ... تبقى السَّعَادَة للورى من بعده)
(أعظم بِهِ نصرا يَدُوم سروره ... للخافقين سرى تضوع رنده)
(أهْدى إِلَى الْأَعْدَاء أقتل غُصَّة ... والأوليا متنعمون بشهده)
(فاستبشروا بِالْيمن من مرضاته ... واستمطروا نيل المنى من وده)
(مَا هُوَ إِلَّا ابْن الرَّسُول وَهل فَتى ... فِي النَّاس يعدل عَن مَكَارِم جده)
(وتناسقت أسلافه كرما كَمَا ... راق النواظر لُؤْلُؤ فِي عقده)
(لَا غرو أَن جمع المحاسن كلهَا ... مِنْهُم فإرث الْجمع حق لفرده)
(لَا يأفك الخراص حَيْثُ يَقُول قد ... ذهب الزَّمَان بعمره وبزيده)
(فبسيف مَا ننسخ يقد أديمه ... حَتَّى وَلَو وفى العيان برده)
(فلكم وَكم من آخر زَمنا لَهُ ... فضل عَظِيم لَا يحاط بسرده)
(يَا أهل فاس والمغارب كلهَا ... والشرق من مصر لغاية حَده)
(يهنيكم هَذَا الزَّمَان فَإِن فِي ... أَيَّامه للدّين مطلع سعده)
(وَالْعلم وَالتَّقوى وكل مُعظم ... عِنْد الشَّرِيعَة فَهُوَ بَالغ قَصده)
(النُّور أوقد مِنْهُم أَترَاهُم ... يرضون إِلَّا باستدامة وقده)(3/5)
(الله يبقي نوره متوقدا ... يفنى الزَّمَان وَلَا فنَاء لخلده)
(ويخص مَوْلَانَا الْأَمِير بِنِعْمَة ... لَا تَنْقَضِي وعناية من عِنْده)
(ويديمه ظلا وريفا كلما ... حمى الورى هرعوا لجنة برده)
(وحسام فتح كلما نهضت بِهِ ... عزماته فالنصر شاحذ حَده)
(وَتَمام بدر كلما اقتعد السرى ... لم يسر إِلَّا فِي منَازِل سعده)
(وَعَلِيهِ تَسْلِيم تأرج نده ... لكنه فِي الْفضل عادم نده)
(ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... وَالْحَمْد فِي بَدْء الْكَلَام وَعوده)
اجْتِمَاع البربر على بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا أَن البربر بعد وقْعَة ظيان اتَّفقُوا على مناوأة السُّلْطَان ومنابذته وَأَنَّهُمْ صَارُوا يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ وعَلى كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن زَاد البربر ذَلِك الْحلف توكيدا وَشدَّة وَأَعدُّوا لعصيانهم واعوجاجهم أكمل عدَّة لَا سِيمَا رئيسهم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي الزموري فَإِنَّهُ لما فعل فعلته فِي وقْعَة ظيان من جرة الْهَزِيمَة على الْمولى سُلَيْمَان ثمَّ عززها بأختها من بيعَته للْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد والإجلاب فِيهَا بالقريب والبعيد خَافَ أَن يَأْخُذهُ بذلك من يَأْتِي بعده من بني أَبِيه وعشيرته فجد فِي صرف وُجُوه البربر عَن السُّلْطَان واستعان فِي ذَلِك بِأبي بكر مهاوش فروض لَهُ رُؤَسَاء البربر حَتَّى اجْتمعت كلمتهم على أَن لَا يتْركُوا بِأَرْض الْمغرب ذكرا للسُّلْطَان وَحزبه وَرُبمَا شايعهم على ذَلِك بعض غواة الْعَرَب مثل الصفافعة والتوازيط من بني حسن وزعير وَجل عرب تادلا فَلَمَّا أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ نقض مَا أبرموا ونثر مَا جمعُوا من ذَلِك ونظموا جعل لذَلِك سَببا وَهُوَ أَن الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي كَانَ مسجونا عِنْد الودايا كَمَا تقدم فِي أَخْبَار فتْنَة ابْني يزِيد وَاسْتمرّ فِي السجْن(3/6)
إِلَى أَن بُويِعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَكَانَ ابْن الْغَازِي من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمِمَّنْ لَهُ فِيهِ اعْتِقَاد كَبِير فوفد عَلَيْهِ أَوْلَاد الشَّيْخ ونزلوا عَلَيْهِ لكَي يسْعَى فِي تَسْرِيح والدهم وألحوا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من إِظْهَار الطَّاعَة للسُّلْطَان وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فوفد على السُّلْطَان فِي جمع من وُجُوه قومه بهديتهم وبيعتهم فَلَمَّا رأى بَاقِي البربر الَّذين حالفوه من آيت أدراسن وجروان أَنه قدم على السُّلْطَان ظهر لَهُم خيانته فنبذوا ذَلِك الْعَهْد وسارعوا إِلَى بيعَة السُّلْطَان وخدمته بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فَقدم عَلَيْهِ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَأدّى الطَّاعَة وَدخل فِي حزب الْجَمَاعَة وَعَلِيهِ وعَلى ابْن الْغَازِي كَانَ يَدُور أَمر البربر فِي ذَلِك الْوَقْت فخذل الله فِيمَا بَينهم وَجمع كلمتهم على السُّلْطَان من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا إيجَاف بخيل وَلَا رجل فقابلهم السُّلْطَان بغاية الْإِحْسَان لَا سِيمَا ابْن الْغَازِي فَإِنَّهُ إستخلصه وَجعله عُمْدَة رَأْيه وعيبة سيره حَتَّى كَانَ لَا يقطع أمرا دونه بعد أَن سرح لَهُ الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي رَحمَه الله
ثمَّ إِن السُّلْطَان زوج ابْن الْغَازِي بِإِحْدَى حظايا عَمه السُّلْطَان المرحوم وَهِي ابْنة الْقَائِد عمر بن أبي سِتَّة فعلا قدر ابْن الْغَازِي فِي الدولة بذلك وَاطْمَأَنَّ إِلَى السُّلْطَان بعد أَن كَانَ يسايره على أوفاز وَذهب مَعَه إِلَى مراكش مرَّتَيْنِ حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لتفقد أَحْوَال الرّعية ووصوله إِلَى رِبَاط الْفَتْح
لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله من أَمر الْوُفُود والتهاني بِحَضْرَة فاس الْتفت إِلَى النّظر فِي أَحْوَال الرّعية وتثقيف أَطْرَاف المملكة فولى على فاس وصيفه أَبَا جُمُعَة بن سَالم الَّذِي كَانَ بوابا على الدَّار الْكُبْرَى بفاس الْجَدِيد ثمَّ لما عزم على السّفر عَزله وَولى مَكَانَهُ ابْن عَمه سَيِّدي(3/7)
مُحَمَّد بن الطّيب ثمَّ نَهَضَ من فاس الْجَدِيد بِقصد تفقد الممالك فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَسَار حَتَّى وصل إِلَى قصر كتامة وعسكر هُنَالك بالكدية الإسماعيلية وَبهَا وَفد عَلَيْهِ الْمولى عبد السَّلَام ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْكتاب فيهم أَبُو عبد الله أكنسوس وَكَانَ الْمولى عبد السَّلَام الْمَذْكُور قد قدم من تافيلالت إِلَى مراكش عقب وَفَاة وَالِده بِقصد أَخذ الْبيعَة على أهل مراكش لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان وَكَانَ قد بُويِعَ بتافيلالت وَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم فَلَمَّا صَادف الْمولى عبد السَّلَام الْأَمر قد تمّ للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ سقط فِي يَده فَأَعْرض عَمَّا جَاءَ لأَجله وتدارك أمره عِنْد السُّلْطَان بالوفادة عَلَيْهِ وَالدُّخُول فِي بيعَته
قَالَ أكنسوس لما قدمنَا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن من مراكش إِلَى قصر كتامة أَمر بإدخالي عَلَيْهِ لشدَّة تشوفه إِلَى أَخْبَار السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان فَدخلت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ نَحْو ساعتين وسألني عَن كل شَاذَّة وفاذة قَالَ ثمَّ دخلت عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْمغرب وسألني عَن بَقِيَّة الْأَخْبَار ثمَّ ذكر أَوْلَاد عَمه السُّلْطَان المرحوم وَقَالَ وَالله لَا يرَوْنَ مني إِلَّا الْخَيْر ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستقر بهَا ثمَّ وفدت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز ورؤساؤها فعيد هُنَالك عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس وَمَعَهُ أَعْيَان قبائل الْحَوْز الَّذين وفدوا عَلَيْهِ وَلما احتل بفاس قدم عَلَيْهِ عَمه الْمولى مُوسَى بن مُحَمَّد مَعَ جمَاعَة من أهل مراكش وَفِيهِمْ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم وَلم يلم أحدا من شيعَة الْمولى عبد الْوَاحِد وَلَكِن عَفا وصفح وقابل بِالْإِحْسَانِ ثمَّ ولى على مراكش ابْن عَمه الْمولى مبارك بن عَليّ بن مُحَمَّد وَبَعثه فِي صحبتهم فَقَدمهَا وَتصرف فِي أمرهَا إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بشرَاء دَار أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام شقشاق الفاسي وَكَانَت مجاورة لقبة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ بَينهَا وَبَين القيسارية ثمَّ(3/8)
أَمر بهدمها وزيادتها فِي مَسْجِد الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَجمع الصناع والعملة على ذَلِك فتأنقوا فِيهِ مَا شاؤوا حَتَّى جَاءَ أحسن من الْمَسْجِد الْقَدِيم وَكَانَ الَّذِي تولى الْقيام على ذَلِك الشريف الْمولى الْهَاشِمِي بن مُلُوك البلغيني فكمل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة على غَايَة من الإبداع والإتقان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صحيفَة السُّلْطَان وَفِي هَذِه الْمدَّة توفّي الشَّيْخ الْأَكْبَر الْعَارِف الْأَشْهر أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء بِأبي برِيح من بِلَاد غمارة وقبره شهير وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ عَجِيب الْحَال كَبِير الشَّأْن ورسائله مَوْجُودَة فِي أَيدي النَّاس وَله فِيهَا نفس مبارك نفعنا الله بِهِ وبأمثاله
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَنَقله آيت يمور إِلَى الْحَوْز ومسيره إِلَى مراكش
لما سَافر السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن السفرة الأولى إِلَى رِبَاط الْفَتْح كَانَ قَصده أَن ينظر فِي أَحْوَال الرعايا وَمَا هِيَ عَلَيْهِ حَتَّى يكون على بَصِيرَة فِيمَا يَأْتِي ويذر من أمرهَا ثمَّ لما عَاد إِلَى فاس استعد الاستعداد التَّام بِقصد تدويخ الْمغرب وتمهيد أقطاره وَلم شعثه وتدارك رمقه إِذْ كَانَت الْفِتْنَة أَيَّام الفترة قد أحالت حَاله وكسفت باله وَكَانَ الْمولى مبارك بن عَليّ صَاحب مراكش قد استولت عَلَيْهِ بطانة السوء وَكَثُرت بِهِ الشكايات إِلَى السُّلْطَان فعزم السُّلْطَان رَحمَه الله على إِعْمَال السّفر إِلَى مراكش فَخرج من فاس وَقصد أَولا مكناسة فَلَمَّا دنا مِنْهَا خرج العبيد إِلَى لِقَائِه بالأعلام مَرْفُوعَة على العصي وَكَانُوا جمَاعَة يسيرَة فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله أَيْن جند عبيد البُخَارِيّ فَقَالُوا هَذِه الْبركَة الَّتِي أشأرتها الْفِتْنَة وعَلى الله ثمَّ عَلَيْك الْخلف فَدخل السُّلْطَان رَحمَه الله مكناسة وتفقد بَيت مَالهَا فَأَلْقَاهُ أنقى من الرَّاحَة وَوجد العبيد على غَايَة من الْقلَّة والخصاصة حَتَّى لقد باعوا الْخَيل وَالسِّلَاح وأكلوا(3/9)
أثمانها فأنعشهم وجدد رسمهم وقواهم بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح والجرايات حَتَّى صلح أَمرهم وَذهب فَقرهمْ
قَالَ صَاحب الْجَيْش وَحَاصِل الْأَمر أَن هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله وجد الدولة قد ترادفت عَلَيْهَا الهزاهز وَصَارَت بعد حسن الشبيبة إِلَى قبح الْعَجَائِز قد تفانت رجالها وضاق مجالها وَذَلِكَ من وقْعَة ظيان إِلَى موت السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فَلَمَّا جَاءَ الله بِهَذَا السُّلْطَان الْمُؤَيد لم يجد بهَا إِلَّا رمقا قَلِيلا وخيالا عليلا قد وهت دعائمها وأشرفت على الانهدام المفضي إِلَى حَالَة الانعدام فأمده الله بضروب السَّعَادَة الخارقة للْعَادَة فَقَامَ بأعبائها بِلَا مَال وَلَا رجال والعناية من الله تساعده والفشل يباعده حَتَّى أَقَامَ بِنَاء الْملك الْإِسْمَاعِيلِيّ على أساسه ورد روحه إِلَى الْجَسَد بعد خمود أنفاسه وَلما قضى رَحمَه الله أربه من مكناسة صرف عزمه إِلَى آيت يمور وَكَانُوا نازلين بجبل سلفات وبالولجة الطَّوِيلَة من عهد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فعفوا وكثروا وأطغاهم نزولهم بِتِلْكَ الأَرْض العجيبة ذَات الْمزَارِع الخصيبة فأضروا بجيرانهم من أهل زرهون وَأهل الغرب وَغَيرهم فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن يشو الْمَالِكِي العروي أَن يحتال فِي كيادهم والإيقاع بهم فَفعل وَقبض على نَحْو الأربعمائة مِنْهُم وَبعث بهم إِلَى السُّلْطَان ثمَّ نقلهم السُّلْطَان إِلَى حوز مراكش وَسَار إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاحتل بِهِ وَعقد لِأَخِيهِ الْمولى الْمَأْمُون بن هِشَام على مراكش وولاه عَلَيْهَا مَكَان الْمولى مبارك بن عَليّ
ثمَّ خرج السُّلْطَان من رِبَاط الْفَتْح قَاصِدا مراكش فَمر بقبائل الشاوية وساس أَمرهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَقتل الْهَاشِمِي بن الْعَبَّاس الزياني وَكَانَ هَذَا قد قتل قَائِد الشاوية أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الوراوي احتال عَلَيْهِ بِأَن دَعَاهُ للاصطياد فَلَمَّا خلا بِهِ رَمَاه برصاصة فَقتله بالموضع الْمَعْرُوف بتادارت قرب مديونة فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بالهاشمي أَن تضرب عُنُقه بذلك الْموضع وَذَلِكَ بعد أَن ولاه على قبيلته مُدَّة ثمَّ مر بقبائل دكالة فأوقع بالعونات وَتقدم إِلَى مراكش فَلَمَّا دَخلهَا بعث من جَاءَ بِمُحَمد بن سُلَيْمَان الفاسي موقد نَار(3/10)
فتْنَة إِبْرَاهِيم بن يزِيد فَأتى بِهِ من سجن الجزيرة فَضربت عُنُقه وَنصب رَأسه على بَاب الْخَمِيس من مراكش وَكَانَ مسجونا مَعَه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب البياز الفاسي فَأخْرجهُ السُّلْطَان من السجْن وَمن عَلَيْهِ إِذْ لم يكن على مَذْهَب ابْن سُلَيْمَان بل كَانَ صَاحب مُرُوءَة وجد فِي الْأُمُور وَلذَلِك استخدمه السُّلْطَان رَحمَه الله فَجعله أَمينا على مرسى طنجة أَولا ثمَّ ولاه على فاس ثَانِيًا وَالله تَعَالَى أعلم
نكبة ابْن الْغَازِي الزموري وَمَا آل إِلَيْهِ أمره
قد قدمنَا أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي الزموري كَانَ قد بَايع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وسعى فِي سراح الشَّيْخ أبي عبد الله الدرقاوي رَضِي الله عَنهُ وَأَن السُّلْطَان استخلصه وصاهره بِإِحْدَى حظايا عَمه الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما وصل مَعَه إِلَى مراكش ثمَّ اضْطربَ كَلَام أكنسوس فِي أَن السُّلْطَان قبض على ابْن الْغَازِي فِي أول قدمة قدمهَا مَعَه إِلَى مراكش أَو بعْدهَا وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن ابْن الْغَازِي الْمَذْكُور كَانَت لَهُ دَالَّة على السُّلْطَان قد جَاوَزت الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن تسير بِهِ الرّعية مَعَ الْمُلُوك وَكَانَت عَادَته أَن يحضر بِالْغَدَاةِ والعشي إِلَى بَاب السُّلْطَان كَغَيْرِهِ من كبار الدولة ووجوهها على الْعَادة فِي ذَلِك فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي وَهُوَ رَاجع إِلَى منزله رصده بعض العبيد بِالطَّرِيقِ فَرَمَاهُ برصاصة فأخطأه فوصل إِلَى منزله وَقد ارتاب بالسلطان فَمن دونه من أهل الدولة وَحَمَلته دالته على أَن أطلق لِسَانه وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فأغضى لَهُ عَنْهَا ثمَّ أفْضى بِهِ التهور إِلَى أَن انْقَطع عَن الْحُضُور بِبَاب السُّلْطَان غَضبا على الدولة فَأطَال لَهُ السُّلْطَان الرسن كي يرجع فَلم يرجع وَبلغ السُّلْطَان أَنه يحتال فِي الْفِرَار فعاجله بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى جَزِيرَة الصويرة الَّتِي هِيَ سجن أهل الجرائم الْعِظَام فسجن بهَا مُدَّة ثمَّ أصبح ذَات يَوْم مَيتا وَذَلِكَ فِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف على مَا قيل(3/11)
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان رَحمَه الله وَبني جنس الصاردو وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ شرطا كلهَا ترجع إِلَى تَمام الصُّلْح ودوام الْأَمْن والمجاملة فِي التِّجَارَات وَسَائِر أَنْوَاع المخالطات وَالثَّالِث عشر مِنْهَا يتَضَمَّن لُزُوم مراكب الْمُسلمين أَن تعْمل الكرنتينة إِن تعين مُوجبهَا عِنْد دُخُول مرسى من مراسي الصاردو وَكَذَلِكَ هم أَيْضا
ولَايَة الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على تامسنا ودكالة وأعمالها
كَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد ولى ابْن عَمه الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بن مُحَمَّد بن عبد الله على فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ ولاه على قبائل تامسنا ودكالة بأسرها وفوض إِلَيْهِ النّظر فِي أمرهَا وَكَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا ذَا شدَّة وشكيمة على العصاة دوسري الْبَطْش حجاجي السَّيْف وَكَانَ قد اتخذ كلابا ضخاما تسميها الْعَامَّة القناجر يُوهم النَّاس أَنه إِذا غضب على أحد أَلْقَاهُ إِلَيْهَا فتفترسه وَكَانَ رُبمَا جِيءَ إِلَيْهِ بالجاني فَيقوم إِلَيْهِ ويباشر ذبحه بِيَدِهِ حَتَّى لقد حز أُصْبُعه فِي ذبحه لبَعض الجناة فَقدم سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا تامسنا وأوقع بأولاد حريز وقْعَة شنعاء فَقبض على جمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم وَضرب مِنْهُم نَحْو مِائَتي رَقَبَة وَهدم قَصَبَة كريران الحريزي الْمُسَمَّاة بمرجانة فَتَسَامَعَتْ الْقَبَائِل بسطوته فذعروا واقشعرت جُلُودهمْ لهيبته ثمَّ زحف إِلَى دكالة وَمَعَهُ بعض مساجين أهل تامسنا فَلَمَّا وصل إِلَى شاطىء وَادي آزمور أحضر أُولَئِكَ المساجين فَقطع الْبَعْض وَقتل الْبَعْض ثمَّ عبر الْوَادي وَنزل بآزمور فازداد النَّاس رعْبًا مِنْهُ وخشعت لَهُ قبائل دكالة بأسرها ثمَّ تقدم إِلَى الجديدة فاحتل بهَا وَكَانَت يَوْمئِذٍ خربة لَا زَالَت على الْهَيْئَة الَّتِي فتحت عَلَيْهَا أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وَكَانَت تسمى قبل الْفَتْح بالبريجة فَلَمَّا فتحت وتهدم صورها بالمينى صَار النَّاس يسمونها بالمهدومة فَأمر سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بِبِنَاء سورها وترميم مَا تلثم مِنْهَا وسماها(3/12)
الجديدة وتهدد من يسميها بِغَيْر ذَلِك فسميت الجديدة من يَوْمئِذٍ وَهُوَ الَّذِي بنى القبيبة الصُّغْرَى الْمُقَابلَة لباب الْمَسْجِد الْجَامِع بهَا
ثمَّ لما صفا للسُّلْطَان أَمر هَذِه الْبِلَاد بِسَبَب ابْن الطّيب وبسبب مَا حدث فِي الْمغرب من الْجُوع الَّذِي أهلك النَّاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهِم بَعثه إِلَى الصَّحرَاء لتدويخ أَهلهَا وجباية زكواتها وأعشارها فَذهب إِلَيْهَا وَعَاد مخففا فولاه السُّلْطَان على وَجدّة فَأَقَامَ بهَا يَسِيرا وَرجع بِلَا طائل
شُرُوع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي غرس أجدال بِحَضْرَة مراكش
لما صفا للسُّلْطَان رَحمَه الله أَمر الْمغرب شرع فِي غرس آجدال غربي مراكش وَهُوَ بُسْتَان عَظِيم جدا يشْتَمل على جنَّات كَثِيرَة مَعْرُوفَة بحدودها وأسمائها وأكرتها وتشتمل كل وَاحِدَة مِنْهَا على نوع أَو أَنْوَاع من الْأَشْجَار المثمرة النفاعة من زيتون ورمان وتفاح وليمون وعنب وتين وَجوز ولوز وَغير ذَلِك وكل نوع مِنْهَا يغل ألوفا فِي السّنة بِحَيْثُ أَن غلَّة الليمون وَحده تبَاع بِخَمْسِينَ ألفا وَأكْثر إِذا كَانَت صَالِحَة وَفِي خلال هَذِه الجنات من قطع الأزهار والرياحين والبقول الْمُخْتَلفَة اللَّوْن والطعم والرائحة والخاصية مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر حَتَّى أَن مِنْهَا مَا لَا يعرفهُ جلّ أهل الْمغرب وَلَا رَأَوْهُ قطّ لكَونه جلب من أقطار أُخْرَى وَفِي وَسطه برك عِظَام تسير فِيهَا القوارب والفلك وتصب فِيهِ الْعُيُون كأمثال الْأَنْهَار لسقي تِلْكَ الجنات وَعَلِيهِ من الأرحاء شَيْء كثير وَتلك البرك مِنْهَا مَا ضلعها الْوَاحِد يكون مِائَتَيْنِ خطْوَة وَأَقل وَأكْثر وَفِي دَاخله أَيْضا من المنتزهات الكسروية والقباب القيصرية والمقاعد المروانية مَا يستوقف الطّرف ويستغرق الْوَصْف مثل دَار الهناء وَالدَّار الْبَيْضَاء والصالحة والزاهرة وَغير ذَلِك ويتصل بِهِ جنان رضوَان الْفَائِق بحسنه وقبابه ومقاعده البهية على ذَلِك كُله وَالْحَاصِل أَن هَذَا الْبُسْتَان(3/13)
جنَّة من جنان الدُّنْيَا يزري بشعب بوان وينسى ذكر غمدان إِلَى جنَّة المنارة والعافية وَغير ذَلِك من منتزهات مراكش العجيبة الَّتِي أنشأتها هَذِه الدولة فِي إبان الإقبال والشبيبة
وَلما شرع السُّلْطَان رَحمَه الله فِي غرس هَذَا الْبُسْتَان جلب لَهُ الْعين الْآتِيَة من بِلَاد مسفيوة الْمُسَمَّاة بتاسلطانت وَهِي من أعذب الْعُيُون مَاء وأخفها وأنفعها للبدن وَكَانَت مسفيوة متغلبة على هَذِه الْعين من لدن دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يَعْمِدُونَ إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فيفرقونها سواقي على جناتهم ومزارعهم فَكَانَ ذَلِك دأبهم إِلَى أَن جَاءَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فأعياه أَمرهم فِيهَا فأقطعهم إِيَّاهَا على ألف مِثْقَال يؤدونه كل سنة فَلَمَّا جَاءَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن انتزعها مِنْهُم رغما عَلَيْهِم وَجَاء بهَا تشق الوهاد والربى حَتَّى أَلْقَت جِرَانهَا بأجدال السعيد وَعم نَفعهَا وريها الْقَرِيب مِنْهُ والبعيد وَفِي ذَلِك يَقُول الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله
(وَردت وَكَانَ لَهَا السُّعُود مواجها ... وَالْحسن مَقْصُورا على مواجها)
(وبدت طلائع بشرها من قبلهَا ... كَالشَّمْسِ طالعة لَدَى أبراجها)
(وتسير مَا بَين الأباطح والربى ... ترمي فريد الدّرّ من أمواجها)
(وتصوغ من صافي النضار سبائكا ... حلت بهَا الأعطاف من أثباجها)
(هَبَطت إِلَيْك من الْجبَال وطالما ... تعبت مُلُوك الأَرْض فِي إخْرَاجهَا)
(وأتتك راغبة تجر ذيولها ... وَتفِيض غمر النّيل من أفواجها)
(تنساب مثل الأفعوان وتنثني ... كالغصن بَين وهادها وفجاجها)
(خطب الْمُلُوك نِكَاحهَا فتمنعت ... وأتتك واهبة حَلَال زواجها)
(فلتهنك الخود الرفيع فخارها ... وليهنها أَن صرت من أزواجها)
(حراء عباسية بدوية ... نشرت ذوائبها على ديباجها)
(وافتك وافدة وَقد صبغ الحيا ... وجناتها وَجرى على أدراجها)
(فَكَأَنَّهَا بلقيس جَاءَت صرحها ... لكنه صرح بِغَيْر زجاجها)
(عرفت أناملك الشَّرِيفَة أبحرا ... غرقت بحار الأَرْض فِي عجاجها)(3/14)
(فأتتك طالبة الْأمان لنَفسهَا ... لتنال بعض الطّيب من ثجاحها)
(لبتك إِذْ سَمِعت نداك وَأَقْبَلت ... مرهوبة تستن من إزعاجها)
(ونزعتها بالقهر من غصابها ... وَالسَّابِقُونَ رَضوا بِبَعْض خراجها)
وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي سردناها من أول هَذِه الدولة السعيدة إِلَى هُنَا تبعنا فِي جلها أَبَا عبد الله أكنسوس وَقد سَاقهَا رَحمَه الله مُجَرّدَة عَن التَّارِيخ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من الْفَنّ وَنحن لما لم نعثر فِي الْوَقْت على مَا يُحَقّق لنا تواريخها رتبناها بِحَسب مَا أدّى إِلَيْهِ الْفِكر والروية وأثبتناها لِئَلَّا تذْهب فائدتها بِالْكُلِّيَّةِ وعَلى كل حَال فَهِيَ فِي حُدُود الْأَرْبَعين من مائَة التَّارِيخ وَالله أعلم
ولَايَة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الجراري على وَجدّة وأعمالها
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَ قد ولى ابْن عَمه سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على وَجدّة وَرجع عَنْهَا بِلَا طائل وَكَانَت ولَايَة هَذَا الثغر عِنْد السُّلْطَان من أهم الولايات وأخصها بمزيد الاعتناء لبعدها عَن دَار الْملك ومتاخمتها لمملكة التّرْك فَكَانَت ثغرا من الثغور ولكثرة قبائلها وَاخْتِلَاف آراء أَهلهَا وتعدد عصبياتهم فِي الْعَرَب والبربر ففكر السُّلْطَان رَحمَه الله فِيمَن يَكْفِيهِ هَذَا المهم ويسد لَهُ هَذَا المسد فَوَقع اخْتِيَاره على الْقَائِد الأنجد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان بن الْعَرَبِيّ الوديي الجراري فَرَمَاهَا بِهِ وَجعل أمرهَا إِلَيْهِ وعول فِي شَأْنهَا عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الرجل نَسِيج وَحده وقريع دهره فِي جودة الرَّأْي وإدارة الْأُمُور على وَجههَا وإجرائها على مُقْتَضى صوابها ومحبة السُّلْطَان ونصحه فولاه عَلَيْهَا فِي أَوَائِل سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَقَامَ بأمرها أحسن قيام وَاسْتوْفى جباية أهل المداشر مِنْهَا والخيام ثمَّ حمله نصحه وَصدق خدمته على أَن يسْتَأْذن السُّلْطَان فِي أَن يكون يكاتبه بِجَمِيعِ مَا يحدث فِي تِلْكَ الْبِلَاد من الْأُمُور الدَّاخِلَة فِي الدولة(3/15)
والخارجة عَنْهَا ليَكُون السُّلْطَان على بَال من ذَلِك الثغر فَاسْتَأْذن فِي ذَلِك بِوَاسِطَة الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس فَكَانَ من جَوَاب الْوَزير لَهُ أَن قَالَ حَسْبَمَا وقفت عَلَيْهِ بِخَطِّهِ إِنِّي أخْبرت سيدنَا الْمَنْصُور بِاللَّه بِمَا كتبت فِي شَأْنه فأعجبه ذَلِك وَقَالَ لَا بَأْس بِهِ وَليكن خفِيا من غير شُعُور أحد ليطلع سيدنَا على الْأُمُور وَيكون على بَصِيرَة فِيهَا فَلَا تقصر فِي ذَلِك واجتهد فِي إصْلَاح مَا ولاك وَأعظم ذَلِك وأهمه أَمَان الطَّرِيق وخمود الْفِتْنَة حَتَّى لَا يصل من تِلْكَ النَّاحِيَة إِلَّا الْخَيْر فَأَنت من فضل الله ذُو رَأْي وبصيرة بالأمور وخصوصا تِلْكَ النواحي وَالله يوفقك ويسددك وَهَذِه النواحي بِخَير وعافية وَفِي نعم من الله وافية قد نزل فِيهَا الْمَطَر الغزير وَكثر الخصب وحرث النَّاس الْحَرْث الْكثير وَسَيِّدنَا بمكناسة الزَّيْتُون وَلَا مَا يشوش البال غير أَن والدته المقدسة صَارَت إِلَى عَفْو الله وَرَحمته وَذَلِكَ قبل تَارِيخه بِشَهْر وَنحن على الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف مُحَمَّد بن إِدْرِيس لطف الله بِهِ انْتهى لفظ الْكتاب الْمَذْكُور
وَفِي هَذِه الْمدَّة كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد اسْتعْمل الشَّيْخ أَبَا زيان بن الشاوي الأحلافي على تازا وأعمالها وأوصاه بالتعاون على أَمر الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالقائد إِدْرِيس فَكَانَا فِي إدارة الْأُمُور بِتِلْكَ النواحي كفرسي رهان وَلَكِن التبريز إِنَّمَا هُوَ للقائد إِدْرِيس وَلما دخل رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على الْمسير إِلَى بِلَاد الشرق وَجدّة وأعمالها للوقوف على تِلْكَ التخوم بِنَفسِهِ وَالنَّظَر فِي أمورها بِرَأْيهِ إِذْ لم يكن وَطأهَا قبل ذَلِك فاستنفر الْقَبَائِل لحضور عيد الْفطر والنهوض إِلَيْهَا وَلما حضر الْعِيد وَفد على السُّلْطَان جمَاعَة من بني يزناسن وعرب آنقاد فباحثهم رَحمَه الله عَن حَال بِلَادهمْ فشكوا قلَّة الخصب فصده ذَلِك عَن الْمسير إِلَيْهِم وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ سيطأ أَرضهم من الْعَام الْقَابِل فِي أول يناير ثمَّ صرف رَحمَه الله وجهته تِلْكَ إِلَى التطواف على مراسي الْمغرب وَالنَّظَر فِي أمورها وإحياء مراسم الْجِهَاد بهَا فَخرج من مكناسة منتصف شَوَّال من السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَمر بأرضات من أَعمال وازان وَصَارَ إِلَى تطاوين ثمَّ إِلَى طنجة ثمَّ(3/16)
أصيلا وزار وَليهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مَرْزُوق وتبرك بِهِ ثمَّ مر بالعرائش وَهَكَذَا تتبع الثغور ثغرا ثغرا إِلَى آسفي وَفِي أثْنَاء ذَلِك ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بانتقاض الشراردة على الْمولى الْمَأْمُون صَاحب مراكش وخروجهم عَن الطَّاعَة وإفسادهم السابلة ونهبهم الرفاق وأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا حَتَّى كَانُوا يصلونَ إِلَى جنَّات مراكش فسدد السُّلْطَان رَحمَه الله قَصده نحوهم وَكَانَ من أمره مَعَهم مَا نذكرهُ
فتح زَاوِيَة الشرادى وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى غزوها
قد قدمنَا مَا كَانَ من أَمر الْمهْدي بن الشرادي الزراري مَعَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله بِمَا فِيهِ كِفَايَة ثمَّ لما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بَايعه الْمهْدي فِي جملَة النَّاس وَلما قدم السُّلْطَان مراكش قَدمته الأولى لقِيه الشراردة فِي خَمْسمِائَة فَارس بمشرع ابْن حمى مؤدين الطَّاعَة ففرح السُّلْطَان بهم وَأكْرم وفادتهم وَلما عزموا على الرُّجُوع كَانَ فِي جملَة مَا قَالَ لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله إِن مَا فَاتَ قد مَاتَ وَمَا نهب فِي أَيَّام الْفِتْنَة فَهُوَ هدر وَمن الْآن من فعل شَيْئا يخَاف على نَفسه فَرجع الشراردة إِلَى بِلَادهمْ وَعِيد السُّلْطَان بمراكش عيد المولد فَحَضَرت الْوُفُود وَحضر الشراردة فِي جُمْلَتهمْ وَسَاقُوا للسُّلْطَان خَمْسَة عشر جملا من الْكَتَّان وَخَمْسَة أحمال من الملف وَأَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال عينا مِمَّا كَانُوا نهبوه من صاكة الصويرة قبيل وَفَاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله حَسْبَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ قبل فَكَانَ من تَمام إِحْسَان السُّلْطَان إِلَيْهِم وتألفه إيَّاهُم أَن قَالَ لَهُم افرضوا لي مِائَتي فَارس مِنْكُم تذْهب إِلَى درعة وَهَذَا الْكَتَّان والملف هُوَ كسوتهم وَالْمَال صائرهم فَفَعَلُوا وكساهم السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِم ثمَّ لما ولى أَخَاهُ الْمولى الْمَأْمُون على مراكش مرضوا فِي طَاعَته ودعا الْمهْدي تهوره إِلَى أَن شكاه إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بمكناسة يَوْمئِذٍ ويعتد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَأْخُذ مِنْهُم الزكوات والأعشار على غير وَجههَا الشَّرْعِيّ وَأَنه ولي عَلَيْهِم أَرْبَعَة عُمَّال أَو خَمْسَة عوض عَامل وَاحِد(3/17)
كَانَ يتَوَلَّى عَلَيْهِم فأغضى السُّلْطَان عَن ذَلِك وَبَالغ فِي الأنة القَوْل لَهُ فِي كِتَابه ووعده بِأَنَّهُ إِذا وصل إِلَى مراكش يشكيه من أَخِيه وَفِي أثْنَاء ذَلِك وَقبل وُصُول كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ أغرى إخوانه بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة السُّلْطَان والاشتغال بِمَا يسْخط الله ويرضي الشَّيْطَان فانبثت خيولهم فِي الطرقات ومخروها مخرا وانتسفوها نسفا وعمدوا إِلَى قوادهم الَّذين ولاهم الْمولى الْمَأْمُون عَلَيْهِم فقبضوا عَلَيْهِم وأودعوهم السجْن وانتهبوا دُورهمْ وَوصل المسافرون والتجارإلى بَاب السُّلْطَان مجردين عُرَاة يَشكونَ مَا دهمهم من أَمر الشراردة وتكاثر عَلَيْهِ شذاذهم فَحِينَئِذٍ اسْتَأْنف السُّلْطَان جده وأرهف حَده وَكتب إِلَى أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون باستنفار قبائل الْحَوْز وَجَمعهَا عَلَيْهِ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ وَسَار السُّلْطَان فِي جَيش العبيد والودايا وآيت أدراسن وزمور وعرب بني حسن وَبني مَالك وسُفْيَان وَكتب إِلَى الشاوية ودكالة أَن تكون خيلهم معدة حِين يمر بهم وَكَانَ الْمهْدي قد عظم ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَكَاد يتجاوزهم إِلَى غَيرهم حَتَّى صَار يعرض أَو يُصَرح بِأَنَّهُ الْمهْدي المنتظر وَكَانَ السَّبَب الْأَقْوَى فِي طغيانه وطغيان قومه مَا اتّفق لَهُ فِي هزيمَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فَظن الْمهْدي وشراردته أَن لَا غَالب لَهُم من الله وَلما برز السُّلْطَان رَحمَه الله من رِبَاط الْفَتْح لقِيه ركب الْحجَّاج الَّذين انتهبهم هشتوكة والشياظمة الَّذين بأحواز آزمور وَكَانَت الْعَادة يَوْمئِذٍ بالمغرب أَن ركاب الْحَاج تَأتي من آفَاق الْمغرب فتجتمع بفاس وَمِنْهَا يخرج الركب على الْهَيْئَة الْمَعْهُودَة فِي ذَلِك الزَّمَان فَلَمَّا وصل هَؤُلَاءِ الْحجَّاج من أهل السوس وَغَيرهم إِلَى الشياظمة وهشتوكة انتهبوهم وجردوهم من الْمخيط وَالْمُحِيط فَسمع السُّلْطَان رَحمَه الله شكواهم وامتعض لانتهاك حرمتهم وزحف إِلَى هَؤُلَاءِ المفسدين فأوقع بهم وقْعَة شنعاء بالموضع الْمَعْرُوف بفرقالة من أَعمال آزمور حَتَّى كَانُوا يلقون أنفسهم فِي الْبَحْر طلبا للنجاة بعد أَن أثروا فِي الْمحلة أول النَّهَار ثمَّ كَانَت الكرة عَلَيْهِم وَحكم السُّلْطَان السَّيْف فِي رقابهم وامتلأت أَيدي الْعَسْكَر من أثاثهم وماشيتهم وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة طَلِيعَة الْفَتْح ومقدمة الظفر ثمَّ عبر إِلَى آزمور وَمِنْهَا إِلَى الجديدة ثمَّ سَار مَعَ السَّاحِل(3/18)
حَتَّى وصل إِلَى آسفي فزار الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد صَالح رَضِي الله عَنهُ وَعطف إِلَى الزاوية الشرادية فبغتها وطلعت عَلَيْهَا راياته المنصورة بِاللَّه مَعَ الصَّباح وَلم يعرج على مراكش وَقبل نزُول الْجَيْش وَضرب الأخبية أنشبت الْحَرْب مَعَهم فتقاتلوا وتحاجزوا مَعَ الظّهْر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف ودامت الْحَرْب سَبْعَة أَيَّام وَنصب عَلَيْهِم السُّلْطَان المدافع والمهاريس الْعِظَام وَفِي الْيَوْم الْخَامِس من تِلْكَ الْأَيَّام كَانَ عيد المولد الْكَرِيم يَوْم الْأَرْبَعَاء من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَأَرَادَ السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يعفي النَّاس من الْحَرْب ذَلِك الْيَوْم فَحمل الشراردة طغيانهم وبغيهم على أَن تقدمُوا للجيش وأنشبوا الْحَرْب فَأمر السُّلْطَان بالزحف إِلَيْهِم والنكاية فيهم وَكَانَ الْمعلم الْأَكْبَر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله ملاح السلاوي حَاضرا فِي هَذِه الْوَقْعَة فَتقدم إِلَيْهِ السُّلْطَان بالوصاة بالجد وَالِاجْتِهَاد فِي الرَّمْي فَرمى عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْيَوْم مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بنبة كلهَا فِي وسط الزاوية تتفرقع عِنْد نُزُولهَا فتأتي على مَا جاورها من جِدَار وَغَيره حَتَّى شاهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم الْمَوْت الْأَحْمَر وَكَانُوا هم أَيْضا يرْمونَ بالكور والبنب من المدافع والمهاريس الَّتِي استولوا عَلَيْهَا فِي محلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ثمَّ لما كَانَ عشي الْجُمُعَة السَّابِع من أَيَّام الْحَرْب افْتَرَقت كلمتهم وعزم الْمهْدي على الْفِرَار فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه كَيفَ تَفِر وتتركنا وَأَيْنَ مَا كنت تعدنا فَقَالَ لَهُم أما أَنْتُم فَالَّذِي أورثكم أسلافكم هُوَ الْخدمَة مَعَ السُّلْطَان فَلَا تستنكفوا مِنْهَا وَأما أَنا فَالَّذِي عِنْدِي وسمعته من آبَائِي أَن الْحَرْب تدوم على هَذِه الْقرْيَة سَبْعَة أَيَّام ثمَّ يستولي عَلَيْهَا السُّلْطَان الَّذِي يَجِيء من نَاحيَة الْبَحْر وَهُوَ هَذَا فِي كَلَام آخر تكهن لَهُم فِيهِ واعتقد الجهلة صدقه بعد أَن أتلفوا عَلَيْهِ نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد وَلما جن اللَّيْل ركب فِيمَا قيل على حمَار وَركب مَعَه شرذمة من أَصْحَابه نَحْو الْعشْرين فَارِسًا فشيعوه إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بتيزكي فودعهم وَذهب إِلَى السوس بعد أَن سفك الدَّم الْحَرَام وانتهب المَال الْحَرَام وملأ صَحِيفَته من الآثام نسْأَل الله الْعَفو والعافية وَلما فر الْمهْدي عَنْهُم تفَرقُوا شذر مذر وَبَاتُوا يتحملون بنسائهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى منجاتهم وَالَّذين صَعب عَلَيْهِم الْخُرُوج(3/19)
اجْتَمعُوا وَسَارُوا إِلَى القواد الْأَرْبَعَة فسرحوهم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الوساطة عِنْد السُّلْطَان فَأَصْبحُوا على أَطْرَاف الْمحلة يستأذنون على الْمولى الْمَأْمُون فَأذن لَهُم ودخلوا عَلَيْهِ وشفعوا فِيمَن بَقِي مِنْهُم وطلبوا الْأمان فَأَمنَهُمْ ثمَّ تقدمُوا إِلَى السُّلْطَان فَاسْتَأْذنُوا فَأذن لَهُم ودخلوا وأخبروا بِمَا عقد لَهُم الْمولى الْمَأْمُون من الْأمان فأمضاه لَهُم ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِجمع الشراردة الَّذين بقوا بالقصبة فَجمع لَهُ مِنْهُم نَحْو الْأَلفَيْنِ وعاثت الجيوش فِي بُيُوتهم وأمتعتهم
وَقيل إِن السُّلْطَان رَحمَه الله لم يؤمنهم وَلما قبض عَلَيْهِم عزم على تحكيم السَّيْف فِي رقابهم فاستفتى الْعلمَاء فيهم فتحاموا الْإِفْتَاء بإراقة الدَّم حَتَّى أَن مِنْهُم من أفتى وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المرابط المراكشي بِأَنَّهُم تَابُوا قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِم فتوقف السُّلْطَان رَحمَه الله عَن قَتلهمْ وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق دائرا مَعَ الشَّرْع حَيْثُ دَار ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِالِاحْتِيَاطِ على عِيَال الْمهْدي وَأَوْلَاده فاحتيط عَلَيْهِم فجيء بهم إِلَيْهِ وبعثهم إِلَى مكناسة فأنزلوا بدار الْقَائِد مُحَمَّد بن الشَّاهِد البُخَارِيّ الَّذِي هلك فِي وقْعَة آعليل مَعَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَأمر السُّلْطَان بسور القصبة فهدم إبرارا لقسمه وحيزت المدافع والمهاريس الَّتِي كَانَت مَنْصُوبَة عَلَيْهِ وَلما انْقَضى أَمر الْحَرْب وَتمّ الْفَتْح هلك الْمعلم مُحَمَّد ملاح نفطت فِيهِ بنبة فَقتلته وَقتلت جمَاعَة مَعَه فَوقف السُّلْطَان عَلَيْهِ بِنَفسِهِ حَتَّى أقبر وَأحسن إِلَى أَوْلَاده بعد ذَلِك وَرَأَيْت بِخَط الْوَزير ابْن إِدْرِيس فِي بعض مكاتيبه مَا نَصه وَاعْلَم أَن الله سُبْحَانَهُ قد فتح علينا الزاوية الشرادية وَأهْلك أَهلهَا الظَّالِمين وَلم تبْق لَهُم بَاقِيَة وَلَا زَالَت العساكر مُقِيمَة على هدمها وتخريبها وَقد قبض مِنْهُم على أَكثر من سِتّمائَة رجل وربحت النَّاس بِمَا وجدت فِيهَا من الأثاث والذخائر والأنعام اه
ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله فرق مساجين الشراردة فسجن بَعضهم برباط الْفَتْح وَبَعْضهمْ بمكناسة وَبَعْضهمْ بفاس ثمَّ بعد مُضِيّ نَحْو السّنة سرحهم ونقلهم إِلَى بسيط آزغار وَجمع إخْوَانهمْ من الْقَبَائِل فضمهم إِلَيْهِم وَلَا زَالُوا(3/20)
موطنين بِهِ إِلَى الْآن وَأما الْمهْدي فَإِنَّهُ ذهب إِلَى السوس وانْتهى إِلَى آيت باعمران من ولتيتة فَنزل على مرابطها أبي عبد الله مُحَمَّد آعجلي الباعمراني وَاسْتمرّ عِنْده ثَلَاث سِنِين وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ بعث من شفع لَهُ عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقبل السُّلْطَان شَفَاعَته وَجَاء الْمهْدي فِي قَيده إِلَى أَن دخل على السُّلْطَان بمراكش وَبكى أَمَامه وتضرع فسامحه السُّلْطَان ثمَّ بَعثه إِلَى مكناسة فَاجْتمع بأولاده وَبعد مُدَّة يسيرَة ولاه السُّلْطَان على إخوانه
قَالَ أكنسوس عاملهم بالإساءة فَعَادَت محبتهم لَهُ عَدَاوَة وضجوا إِلَى السُّلْطَان مِنْهُ فَعَزله ثمَّ حج الْمهْدي بِإِذن السُّلْطَان وَرجع فولاه أَيْضا فَلم يقبلوه ثمَّ سجن ثمَّ سرح وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال وتأخرت وَفَاته إِلَى أَوَائِل شَوَّال من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِي أول دولة سُلْطَان الْعَصْر وَإِمَام النَّصْر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الْحسن بن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلما تمّ فتح الزاوية الْمَذْكُورَة قَالَ شعراء الْعَصْر فِي ذَلِك فَمنهمْ الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله أكنسوس قَالَ
(بشائر لَا تحيط بهَا الشُّرُوح ... كَأَن سميعها فنن مروح)
(سقى ربع البشير بهَا غمام ... يباكرها هتون أَو يروح)
(تفديه المحافل وَهُوَ يشدو ... فتوح فِي مضمنها فتوح)
(وَتَأمل أَن تقبله الغواني ... تذيل لَهُ المباسم أَو تبيح)
(بشائر كَاد يسْمعهَا دَفِين ... ويسري فِي الجماد بِهن روح)
(شفى الْمولى الْمُؤَيد كل صدر ... بِهِ من قبل وقعتها جروح)
(وَأدْركَ ثار عصبته وأضحى ... لعزة قدره شرف صَرِيح)
(لقد حسم الْفساد بِكُل أَرض ... فَسَاد بِهِ لنا الدّين السميح)
(وزر على زُرَارَة كل خزي ... تشق لَهُ المجاسد إِذْ تنوح)
(وَقد كَانَت تصر على ازورار ... وَكَانَت لَا ينهنهها قَبِيح)
(وَمن كَانَت مراكبه جماحا ... فسحقا حِين تصرعه الجموح)
(أتيح لَهُم لحينهم جهول ... غوى للضلال لَهُ جنوح)(3/21)
(يقودهم إِلَى الْعِصْيَان سرا ... وَيظْهر أَنه الْبر النصوح)
(يُحَدِّثهُمْ إِذا مَا حم خطب ... حَدِيثا كَانَ مصدره سطيح)
(هُوَ الدَّجَّال فِي سمت وَفعل ... فَمن يَدعُوهُ مهديا وقوح)
(فَأَهْلَكَهُ الإِمَام فَكَانَ عِيسَى ... كَذَا الدَّجَّال يهلكه الْمَسِيح)
(فصير دَار منعته فلاتا ... على أطلالها البوم السنيح)
(وفر عَن الذمار على حمَار ... عليل الْعرض جؤجؤه صَحِيح)
(فيالؤم الذَّلِيل فَلَا وهين ... فيعذر بالفرار وَلَا جريح)
(وَخير من جباة فِي هوان ... يبوء بِهِ الْفَتى موت مريح)
(أيطمع فِي النجَاة فَلَا نجاة ... سيدركه الهزيز المستبيح)
(إِذا كَانَ الشَّرَاب لَهُ بحارا ... تخوض إِلَيْهِ سلهبة سبوح)
(ستدركه العزائم من إِمَام ... تدك لَهُ المعاقل والصروح)
(إِمَام قد أعَاد لنا سُرُورًا وجاد لنا بِهِ الزَّمن الشحيح)
(أعز الله ملك بني عَليّ ... بصولته وَتمّ لَهُ الوضوح)
(وجرد من جلالته حساما ... يزِيل بِهِ الضَّلَالَة أَو يزيح)
(وَقد كَانَ الْخَلَائق فِي ظلام ... فلاح على الْخَلَائق مِنْهُ بوح)
(وأصبحت الأباطح باسمات ... وَكَانَ على مناظرها كلوح)
(أعز معود للنصر ساع ... إِلَى العلياء مسعاه نجيح)
(يخاطر فِي منال الْعِزّ دأبا ... بِرَأْي كل مدركه رجيح)
(فرايات السُّعُود عَلَيْهِ نشر ... وساحات الفخار لَدَيْهِ جوح)
(أَبَا زيد فَأَنت لنا ملاذ ... وجاهك فِي المهم لنا فسيح)
(فقد زانت مآثرك اللَّيَالِي ... ولاح لعدلك الْوَجْه الْمليح)
(وَهَذَا الدَّهْر كالطوفان موجا ... وطاعتك السفين وَأَنت نوح)
(وَأَنت خَليفَة الرَّحْمَن من لَا ... تؤمنه فمشربه نشوح)
(كَمَا أَن الشبانة حِين زاغت ... وهب لَهَا من الطغيان ريح)
(عصفت عَلَيْهِم باليأس تزجي ... كتائب كالسحاب إِذا تلوح)
(فألقيت الجران على ذراهم ... بِجَيْش كلهم بَطل مشيح)(3/22)
(فجَاء الْعَفو مِنْك وهم ثَلَاث ... أَسِير أَو كسير أَو ذبيح)
(وَقد قسمت بِلَادهمْ بِعدْل ... ودورهم كَمَا قسم الوطيح)
(وَقد نظمت مكايدهم قَدِيما ... بني سعد وزيدان نطيح)
(فظنوا آل إِسْمَاعِيل يرنو ... لغير الحزم طرفهم الطموح)
(وَمَا علمُوا بأنكم سيوف ... لحدكم نجيعهم سفوح)
(أَبَا زيد إِذا تبقى عَلَيْهِم ... بصفح رُبمَا نَدم الصفوح)
(فَلَا تحلم فَإِن الْجرْح يكوي ... طريا بالمحاور أَو يقيح)
(فَلَا زَالَت بك الدُّنْيَا عروسا ... ومجدك من مفارقها يفوح)
وَمن ذَلِك قَول بَعضهم وَلَعَلَّه الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله الديماني قَالَ
(بشرى تقر بأعين الْإِيمَان ... كالوصل ينْسَخ دولة الهجران)
(جاد الزَّمَان بهَا على مقداركم ... فتقاصرت عَنْهَا خطا الأذهان)
(أَيْن المفر لمن عَنَّا عَن أَمركُم ... أَتَرَى البغاث تفوت مَا لعقبان)
(الْأَمر أَمر الله غير مُنَازع ... لَاحَ الصَّباح لمن لَهُ عينان)
(يَا من يُطَالب أَمرهم بدلائل ... أتطالب الْبُرْهَان بالبرهان)
(إِن كنت تجْهَل فالحسام معلم ... يشفي البريء بِهِ ويشقي الْجَانِي)
(كم من غوي قد عتا عَن أَمرهم ... كزرارة فَمضى إِلَى الخسران)
(أَيْن المفر لمن عتا عَن أَمركُم ... يَوْم الكفاح إِذا التقى الْجَمْعَانِ)
(لم يمْنَع الْأَعْدَاء مِنْهُم معقل ... لَو أَنهم صعدوا إِلَى كيوان)
(لكِنهمْ باؤوا بأخسر صَفْقَة ... فكأنهم غصبوا أَبَا غبشان)
(جَيش تسد وفوده مسرى الصِّبَا ... وتهد وطأته ذرى ثهلان)
(يَا مَالِكًا مَلأ الْوُجُود محاسنا ... لَا تختفي عَن أعين العميان)
(أجريت بَين المعتقين مكارما ... يسلوا الْغَرِيب بهَا عَن الأوطان)
(لوقيل للغيث اعْترف لم يعْتَرف ... إِلَّا بِفضل نداكم الهتان)
(إِنْسَان عين الدَّهْر أَنْت وَإِنَّمَا ... تَكْمِيل شكل الْعين بالإنسان)
(ذكراك بالأفواه تعذب كاللما ... وتخف كالبشرى على الآذان)
(أيقظت جفن الْحق من إغفائه ... وأقمت مَيْلَة عطفه الكسلان)(3/23)
(ألْقى لَك الزَّمن العصى زمامه ... وعنا لطاعة أَمرك الثَّقَلَان)
(فالدهر دُونك دَافع ومدافع ... وصروفه لكم من العبدان)
(فَإِذا أشرتم فِي الزَّمَان لمقصد ... كَانَ الْقَضَاء لكم من الأعوان)
(أخلصت للرحمن فِي طاعاته ... فَلِذَا دعيت بعابد الرَّحْمَن)
(ألقيت رحلي فِي ذراك مخيما ... فجريت فِي الآمال طوع عنان)
(وَتركت أوطاني وَجئْت وَإِنَّمَا ... من فرط حبك غبت عَن أوطاني)
(يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بأنني ... من جودكم أرد الْفُرَات الثَّانِي)
(لَا زلتم فِي أسعد مبسوطة ... مَقْبُوضَة عَنْهَا يَد الْحدثَان)
وَاسْتمرّ السُّلْطَان مُقيما بمراكش مُدَّة طَوِيلَة وَبعث أَخَاهُ الْمولى الْمَأْمُون بن هِشَام لقطر السوس فجباه
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي شعْبَان مِنْهَا عقد السُّلْطَان الصُّلْح مَعَ جنس النابريال وَيُقَال لَهُ استرياك وَهِي اثْنَا عشر شرطا مضمنها المخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَغير ذَلِك مَعَ الْأمان والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَالْآخر مِنْهَا مضمنه الصُّلْح الدَّائِم على هَذِه الشُّرُوط لَا يُفْسِدهُ أَمر يحدث بعده وَلَا يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان ثمَّ حدثت الْفِتْنَة عقب هَذَا بِيَسِير على مَا نذكرهُ
هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد طَاف فِي آخر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف على ثغور الْمغرب ومراسيه وَأَنه أَرَادَ إحْيَاء سنة الْجِهَاد فِي الْبَحْر الَّتِي كَانَ أغفلها السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَأمر أَعنِي الْمولى عبد الرَّحْمَن بإنشاء أساطيل تضم إِلَى مَا كَانَ قد بَقِي من آثَار جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَأذن لرؤساء الْبحار من أهل العدوتين(3/24)
سلا ورباط الْفَتْح أَن يخرجُوا فِي القراصين الجهادية للتطواف بسواحل الْمغرب وَمَا جاورها فَخرج الرئيسان الْحَاج عبد الرَّحْمَن باركاش والحاج عبد الرَّحْمَن بريطل فصادفوا بعض مراكب النابريال فاستاقوها غنيمَة إِذْ لم يَجدوا مَعهَا ورقة الباصبورط الْمَعْهُودَة عِنْدهم وعثروا فِيهَا على شَيْء كثير من الزَّيْت وَغَيرهَا وَكَانَ بَعْضهَا قد جِيءَ بِهِ إِلَى مرسى العدوتين وَبَعضهَا إِلَى مرسى العرائش فهجم النابريال على مرسى العرائش بِسِتَّة قراصين يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَرمى عَلَيْهَا من الكور شَيْئا كثيرا من الضُّحَى إِلَى الاصفرار وَعمد فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى سَبْعَة قوارب فشحنها بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْعَسْكَر ونزلوا إِلَى الْبر من جِهَة الْموضع الْمَعْرُوف بالمقصرة وتقدموا صُفُوفا قد انتشب بَعضهم فِي بعض بمخاطيف من حَدِيد لِئَلَّا يَفروا وَمَشوا إِلَى مراكب السُّلْطَان الَّتِي كَانَت مرساة بداخل الْوَادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم الَّتِي فِي الْبَحْر ترمي بالضوبلي مَعَ امتداد الْوَادي لتمنع من يُرِيد العبور إِلَيْهِم فَانْتَهوا إِلَى المراكب وأوقدوا فِيهَا النَّار وقصدوا بذلك أَخذ ثأرهم فِيمَا انتزع مِنْهُم فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى انثال عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ من كل جِهَة من أهل السَّاحِل وَغَيرهم وَعبر إِلَيْهِم أهل العرائش وأحوازها سبحا فِي الْوَادي وعَلى ظهر الْفلك إِلَى أَن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وَكَانَ هُنَالك جملَة من الحصادة يحصدون الزروع فِي الفدن فَشَهِدُوا الْوَقْعَة وأبلوا بلَاء حسنا حَتَّى كَانُوا يحتزون رُؤُوس النابريال بمناجلهم وَقد ذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة وبسطها وَقَالَ إِن النابريال قتل مِنْهُم ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ سوى الأسرى وَتركُوا مدفعا وَاحِدًا وشيئا كثيرا من الْعدة وأفلت الْبَاقِي مِنْهُم إِلَى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وَرَاءَهُمْ
وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي كَانَت سَببا فِي إِعْرَاض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن عَن الْغَزْو فِي الْبَحْر والاعتناء بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ رَحمَه الله لما أَرَادَ إحْيَاء هَذِه السّنة صَادف إبان قيام شَوْكَة الفرنج ووفور عَددهمْ وأدواتهم(3/25)
البحرية وَصَارَ الْغَزْو فِي الْبَحْر يثير الْخُصُومَة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن بَين الدولة الْعلية ودول الْأَجْنَاس الموالية لَهَا حَتَّى كَاد عقد المهادنة ينفصم وأكد ذَلِك اتِّفَاق اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَهُوَ مَا هُوَ فَوَجَمَ السُّلْطَان رَحمَه الله وأعمل فكره ورويته فَظهر لَهُ التَّوَقُّف عَن أَمر الْبَحْر رعيا للْمصْلحَة الوقتية ولقلة الْمَنْفَعَة العائدة من غَزْو المراكب الإسلامية وانضم إِلَى ذَلِك إعلان الدول الْكِبَار من الفرنج مثل النجليز والفرنسيس بِأَن لَا تكون المراكب إِلَّا لمن يقوم بضبط قوانين الْبَحْر الَّتِي يَسْتَقِيم بهَا أمره وتحمد مَعهَا الْعَاقِبَة وتدوم بحفظها الْمَوَدَّة على مُقْتَضى الشُّرُوط وَمن مهمات ذَلِك تَرْتِيب القناصل بالمراسي الَّتِي تُرِيدُ الدولة دُخُول مراكبها إِلَيْهَا وتجارتها فِيهَا أَي دولة كَانَت وَمن هَذِه الْمُهِمَّات مَا قد لَا يساعد عَلَيْهِ الشَّرْع أَو الطَّبْع مثل الكرنتينات وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ هوس كَبِير فَاشْتَدَّ عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على ترك مَا يُفْضِي إِلَى ذَلِك وتأكد لَدَيْهِ إهماله لتوفر هَذِه الْأَسْبَاب ولعمري أَن تَركه لمصْلحَة كَبِيرَة لمن أمعن النّظر فِيهَا وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَأما فتْنَة النابريال هَذِه فَإِنَّهَا تفاصلت بِوَاسِطَة النجليز حَيْثُ وَجه باشدوره مَعَ باشدور النابريال فَقدما على السُّلْطَان رَحمَه الله مكناسة فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَمَا ترَتّب على ذَلِك من دُخُول أهل تلمسان فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله
كَانَ اسْتِيلَاء طاغية الفرنسيس على ثغر الجزائر فِي آخر الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن أتراك الجزائر كَانُوا يَوْمئِذٍ مَعَ الفرنسيس على طرفِي نقيض قد تعدّدت بَينهم الوقعات برا وبحرا وَكَثُرت بَينهم الذحول والترات وَكَانَ التّرْك يؤذونهم أَشد الإذاية وأمير(3/26)
الجزائر يَوْمئِذٍ واسْمه أَحْمد باشا قد أَمر أمره وَأَرَادَ الاستبداد على الدولة العثمانية وَرُبمَا شكا طاغية الفرنسيس إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود العثماني فَقَالَ لَهُ شَأْنك وإياه فهجم الفرنسيس فِي الْعدَد وَالْعدَد على ثغر الجزائر فاستولى عَلَيْهِ بعد مقاتلات ومجاولات فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ بمراكش فاتصل بِهِ خبر الجزائر فِي أَوَائِل صفر فَنَهَضَ إِلَى مكناسة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلما وَقع بِأَهْل الجزائر مَا وَقع اجْتمع أهل تلمسان وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ وَاتَّفَقُوا على أَن يدخلُوا فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فجاؤوا إِلَى عَامله بوجدة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الْجَوَارِي وعرضوا عَلَيْهِ أَن يتوسط لَهُم عِنْد السُّلْطَان فِي قبُول بيعتهم وَالنَّظَر لَهُم بِمَا يصلح شَأْنهمْ ويحفظ من الْعَدو جانبهم ثمَّ عينوا جمَاعَة مِنْهُم للوفادة على السُّلْطَان تَأْكِيدًا للطلب واستعجالا لحُصُول هَذَا الأرب فقدموا على السُّلْطَان بمكناسة غرَّة ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَأكْرم السُّلْطَان وفادتهم وَأجل مقدمهم وَلما صَرَّحُوا لَهُ عَن مُرَادهم توقف فِي ذَلِك رَحمَه الله وَكَانَ هَوَاهُ إِلَى قبولهم أميل إِلَّا أَنه أَرَادَ أَن يَبْنِي ذَلِك على صَرِيح الشَّرْع كَمَا هِيَ عَادَته فاستفتى عُلَمَاء فاس فَأفْتى جلهم بنقيض الْمَقْصُود وَرخّص لَهُ بَعضهم فِي ذَلِك فَأخذ السُّلْطَان رَحمَه الله بقول المرخص مَعَ أَن أهل تلمسان لما بَلغهُمْ فَتْوَى أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان فِي الرَّد عَلَيْهِم مَا نَصه
ليعلم سيدنَا قطب الْمجد ومركزه وَمحل الْفَخر ومحرزه أساس الشّرف الباذخ ومنبعه وبساط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الأمجد الأفخم نجل الْمُلُوك الْعِظَام سيدنَا ومولانا عبد الرَّحْمَن بن هِشَام أبقى الله سيدنَا للْمُسلمين ذخْرا ومنحه مَوَدَّة وَأَجرا أَن فَتْوَى سَادَاتنَا عُلَمَاء فاس مَبْنِيَّة على غير أساس لأَنهم اعتقدوا أَن فِي عنقنا للْإِمَام العثماني بيعَة وَهَذَا لَو صَحَّ لَكَانَ علينا حجَّة وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا لَهُ مُجَرّد الِاسْم هُنَالك وعامل الجزائر إِنَّمَا كَانَ متغلبا وبالدين متلاعبا فَأَهْلَكَهُ الله بظلمه وتطاوله على عباد الله وجوره وفسقه إِن الله يُمْهل على الظَّالِم حَتَّى يَأْخُذهُ(3/27)
فَإِذا أَخذه لم يفلته وَيدل على تغلبه واستقلاله عدم وُقُوفه عِنْد أَمر العثماني وامتثاله بل لَا يكترث بِهِ أصلا وَلَا يتبع لَهُ قولا وَلَا فعلا كَيفَ وَقد أمره أَن يعْقد مَعَ النَّصَارَى صلحا فَلم يقبل لَهُ قولا وَلَا نصحا وَطلب مِنْهُ بعض الْأَمْوَال ليستعين بهَا على مَا حل بِهِ مَعَ النَّصَارَى من الْأَهْوَال فَامْتنعَ غَايَة الِامْتِنَاع وَلم يُمكنهُ من شبر مِنْهَا فضلا عَن الباع حَتَّى أَخذهَا الْعَدو الْكَافِر وَهَذَا جَزَاء كل فَاسق فَاجر مَال جمع من حرَام سلط الله عَلَيْهِ الْأَعْدَاء اللئام وَهَذَا كُله من هَذَا المتغلب متواتر مشَاهد بالعيان مستغن عَن إِقَامَة الدَّلِيل والبرهان النَّاس كلهم عبيد الله وإماؤه وَالسُّلْطَان وَاحِد مِنْهُم ملكه الله أَمرهم ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ فيهم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف وَالصَّلَاح مثل سيدنَا نَصره الله فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ فيهم بالجور والعسف والطغيان وَالْفساد مثل هَذَا المتغلب فَهُوَ متجاسر على الله فِي مَمْلَكَته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة الله الشَّدِيدَة وَسخطه هَذَا وعَلى فرض تَسْلِيم أَن للعثماني فِي عنقنا بيعَة فَلَا تكون علينا حجَّة لِأَنَّهُ تبَاعد علينا قطره فَلم يغن عَنَّا شَيْئا ملكه لما بَيْننَا وَبَينه من المفاوز والقفار والبحار والقرى والمدن والأمصار وَرُبمَا قرب مَحَله من جِهَة الْبَحْر لَكِن مَنعه الْآن من ركُوبه الْكفَّار على أَنه ثَبت بتواتر الْأَخْبَار الْبَالِغَة حد الْكَثْرَة والانتشار أَنه مشتغل لنَفسِهِ ومقره عَاجز عَن الدّفع عَن إيالته الْقَرِيبَة من مَحَله حَتَّى أَنه هادن النَّصَارَى خمس سِنِين على عدد كثير من المئين وَأعْطى فِيهِ مِنْهُم ضَامِنا ليَكُون فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة على نَفسه وحشمه آمنا فَكيف يُمكنهُ مَعَ هَذَا الدفاع عَن قطرنا وناحيتنا وَبَلَدنَا وأدل دَلِيل على بعده عَن هَذَا المرام خبر مصر ونواحي الشَّام فقد استولى عَلَيْهَا أَعدَاء الدّين مُدَّة تزيد على الْخمس سِنِين فَلم يجد لَهُم نفعا وَلَا ملك عَنْهُم دفعا حَتَّى اسْتَعَانَ بالعدو الْكَافِر وَالله تَعَالَى قد يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر هَذَا وَنَصّ الأبي فِي شرح مُسلم مفصح عَن مثل قَضِيَّتنَا ومعلم على أَن الإِمَام إِذا لم ينفذ فِي نَاحيَة أمره جَازَ إِقَامَة غَيره فِيهَا وَنَصره فانتظار نصرته يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك كَيفَ وَقد تطاولت(3/28)
إِلَيْهَا الْأَعْنَاق وتشوفت إِلَيْهَا من كل جَانب الْعُيُون والأحداق فأعرضنا عَن الْكل صفحا وطوينا عَنهُ الجوانب كشحا مُقْبِلين إِلَى عتبَة بَاب سيدنَا نَصره الله وسدته داخلين تَحت طَاعَته ملتزمين لخدمته متوافقين مَعَ الْقَبَائِل والأمصار وَأهل الرَّأْي والاستبصار لعلمنا أَن سيدنَا نَصره الله المتأهل فِي هَذَا الْأَمر العريق الجدير بِالْإِمَامَةِ الْحقيق كَيفَ وَقد ورثهَا كَابِرًا عَن كَابر وإليهم انْتَهَت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنَا نَصره الله أَن يلْتَزم لنا بفضله من هَذِه الْبيعَة الْقبُول مستشفعين بجاه جده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين اه
وَلما وقف السُّلْطَان رَحمَه الله على هَذَا الْكَلَام قبل بيعتهم والتزمها وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الْمولى عَليّ بن سُلَيْمَان وأضاف إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند من أَعْيَان الودايا وَالْعَبِيد وَوجه الْجَمِيع مَعَ أهل تلمسان بعد إكرامهم وَتَمام الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَكتب إِلَى عَامله الْقَائِد إِدْرِيس يستوصيه بِالْجَمِيعِ خيرا وَيكون بَصِيرَة عَلَيْهِم وأشركه فِي النّظر والرأي مَعَ الْمولى عَليّ بل الِاعْتِمَاد فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ وَقد وقفت على كتاب الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس بِخَط يَده للقائد الْمَذْكُور فِي هَذِه الْقَضِيَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله محبنا وخال سيدنَا الأرضى السَّيِّد إِدْرِيس بن حمان الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته عَن خير سيدنَا أيده الله وَبعد فقد وصلنا كتابك صُحْبَة أَعْيَان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا مَعَهم كل الْوُقُوف وبذلنا المجهود فَوق الطَّاقَة وقبلهم مَوْلَانَا وقابلهم بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَام كَمَا هُوَ شَأْنه ذَهَابًا وإيابا وهاهم وجههم مَوْلَانَا مكرمين وَرشح ابْن عَمه مولَايَ عليا للخلافة عَلَيْهِم لما يعلم من عقله ودرايته وسياسته وَأَنه ذُو نفس أبيَّة لكَون تِلْكَ النواحي لَا يصلح لَهَا إِلَّا من اتّصف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف ليميزوا حَالَة السَّاعَة مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ وكما رشح مَوْلَانَا ابْن عَمه الْمَذْكُور رشحك لتَكون وَاسِطَة بَينهم وَبَينه لكَون الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة مَوْجُودَة فِيك فَكُن عِنْد الظَّن بك وَإِيَّاك والطمع وازهدوا فِيمَا فِي أَيدي(3/29)
النَّاس وكل مَا تحتاجون إِلَيْهِ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ أخبرونا بِهِ يصلكم وَلَا تكتموا عَنَّا شَاذَّة وَلَا فاذة وَاعْلَم أَن مَوْلَانَا انتخبك من وسط أَبنَاء جنسك وقربك مِنْهُ وَلَا زلت لَدَيْهِ فِي الترقي فَالله الله فَكُن عِنْد الظَّن بك بَارك الله فِيك آمين وَقد أكْرم سيدنَا كل وَاحِد بِمَا يُنَاسِبه من الْكسْوَة وصنع لَهُم فِي كل بلد دَخَلُوهُ مهرجانا وأدخلهم سيدنَا لوسط دَاره وَجَمِيع جناته وأماكن المملكة الَّتِي لَا يدخلهَا إِلَّا الْخَاصَّة غَايَته أَنهم نالوا من الْعِنَايَة فَوق الظَّن ووقفنا مَعَهم فَوق مَا تحب وَفِيهِمْ الْكِفَايَة وَلم يبْق إِلَّا مَا عنْدك فَكُن عِنْد الظَّن بك فَإِن سيدنَا نَصره الله جرب غَيْرك وَطَرحه وَهَذَا معيارك نسْأَل الله أَن يكون معيار التبر الْخَالِص وَمَا وَعدك بِهِ سيدنَا سيرد عَلَيْك حِين تَسْتَقِر بِالْبَلَدِ وَيحسن تصرفك على عين الْحَاضِر والبادي وَفِي وَصِيَّة سيدنَا فِي كِتَابه الشريف مقنع وعَلى الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي ثَالِث عشر ربيع الثَّانِي عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف مُحَمَّد بن إِدْرِيس لطف الله بِهِ اه نَص الْكتاب بِحُرُوفِهِ
وَلما وصل الْمولى عَليّ إِلَى تلمسان وَجه السُّلْطَان فِي أَثَره خَمْسمِائَة فَارس وَمِائَة رام وَجَمَاعَة وافرة من حذاق الطبجية من أهل سلا ورباط الْفَتْح فيهم ولد عَامل سلا مُحَمَّد ابْن الْحَاج مُحَمَّد أبي جميعة وَكَانَ من النجباء ثمَّ لما دخل الْمولى عَليّ تلمسان وَاسْتقر بهَا فَرح بِهِ الْحَضَر من أهل تلمسان واغتبطوا بِهِ وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة للسُّلْطَان هُوَ والقائد إِدْرِيس وانحرف عَنهُ الكرغلية من التّرْك الَّذين كَانُوا إدالة بقصبة تلمسان من لدن قديم وحاصرهم الْمولى عَليّ وَقَاتلهمْ مُدَّة إِلَى أَن ظفر بهم وَاسْتولى على مَا فِي أَيْديهم وانحرف عَنهُ أَيْضا قبيلتا الدَّوَائِر والزمالة من عرب تِلْكَ النَّاحِيَة وَيُقَال إِن أصلهم من جند كَانَ للْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بَعثه إدالة بِتِلْكَ النَّاحِيَة واستمروا هُنَالك وتناسلوا إِلَى هَذَا التَّارِيخ فأظفر الله الْمولى عليا بهم وانتهب الْجَيْش مَتَاعهمْ ومتاع الكرغلية من قبلهم وَنَشَأ عَن ذَلِك من الْفساد مَا نذكرهُ بعد هَذَا إِن شَاءَ الله(3/30)
وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة خرج الْقَائِد إِدْرِيس من تلمسان فِي جمَاعَة من الْجَيْش الَّذين مَعَه بِقصد تدويخ الْقَبَائِل الَّذين هُنَالك وَأخذ الْبيعَة على من لم يكن بَايع مِنْهُم وَكَانَ الَّذين بَايعُوا هم أهل معسكر والحشم والمشاشيل مِنْهُم وَبَنُو شقران والمرابطون أهل غريس وورغية وتحليت وحميان وَغير هَؤُلَاءِ وَنَصّ بيعتهم الْحَمد لله الَّذِي أنار الْخلَافَة وَجه الزَّمَان وأطلع فِي صحيفَة غرته طوالع السعد واليمن والأمان وَهدى من ارْتَضَاهُ من الْأَنَام للدخول تَحت ظلّ راية مَوْلَانَا الإِمَام وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث رَحْمَة للْعَالمين وعَلى آله وَصَحبه الطيبين وَبعد فَلَمَّا وَفد على حَضْرَة مَوْلَانَا الْخَلِيفَة أبي الْحسن عَليّ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا سُلَيْمَان أَعلَى الله ثراه فِي عليين جَمِيع الْقَبَائِل المسطرة يمنته وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب مَوْلَانَا الْمَنْصُور ذِي اللِّوَاء المنشور وَالسيف الْمَشْهُور أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن ابْن مَوْلَانَا هِشَام أدام الله رعيه وَجعل فِيمَا يرضيه سَعْيه بِمحضر خَلِيفَته الطَّالِب الأرشد الْمَاجِد الأسعد الْقَائِد السَّيِّد إِدْرِيس الْجَوَارِي وتلقوه بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتكريم أشهدوا على أنفسهم أَنهم عقدوا الْبيعَة لمولانا الإِمَام أيده الله وأدام عزه وعلاه والتزموها بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَفِي جيدهم انتظموها بيعَة تَامَّة مستوفية الشُّرُوط وافية العهود وَثِيقَة الربوط قبلهَا الْكل وارتضاها وَأوجب الْعَمَل بمقتضاها فَمن سمع مَا ذكر مِمَّن ذكر قَيده فِي مهل جُمَادَى الثَّانِيَة عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَبعده عَلامَة العدلين المتلقيين من رُؤَسَاء الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة فهولاء الَّذين بَايعُوا وَمن لم يكن بَايع بعد فهم الَّذين خرج الْقَائِد إِدْرِيس الْمَذْكُور لأخذ الْبيعَة عَلَيْهِم كَمَا قُلْنَا
وَالْحَاصِل أَن السُّلْطَان رَحمَه الله كَانَ قد اعتنى بِأَمْر هَذِه النَّاحِيَة غَايَة الاعتناء وبذل المجهود فِي إمدادها بِالْعدَدِ وَالْعدَد وَالْمَال مرّة بعد أُخْرَى وَبعث الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني إِلَى أهل تِلْكَ الْبِلَاد يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة ويحضهم على الدُّخُول فِي أَمر الْجَمَاعَة لكَوْنهم كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي سلفه اعْتِقَاد كَبِير وَبعث الشريف الْأَخير أَبَا مُحَمَّد عبد(3/31)
السَّلَام البوعناني فولاه خطة الْحِسْبَة بتلمسان وَبعث من الكسي والرايات والأعلام والمدافع والمهاريس والبارود والرصاص شَيْئا كثيرا لَكِن لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى فافترقت كلمة الْعَرَب الَّذين هُنَالك لضعف إِيمَانهم وَقلة همتهم فجلهم مَال إِلَى الدُّخُول فِي حزب النَّصَارَى عِنْدَمَا استولوا على مَدِينَة وهران فِي هَذِه الْأَيَّام ثمَّ سرى ذَلِك الِاخْتِلَاف فِي قواد جَيش السُّلْطَان فتنافسوا وتحاسدوا وَكثر القيل والقال مِنْهُم على السُّلْطَان ثمَّ ختموا عَمَلهم بانتهاب أثاث الكرغلية وتقاعدهم عَلَيْهِ ثمَّ بانتهاب مَال الزمالة والدوائر وماشيتهم فِي جوَار الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَفَسَد الْعَمَل وخاب الأمل فَحِينَئِذٍ رأى السُّلْطَان رَحمَه الله استرجاع تِلْكَ الجيوش الَّتِي لم يبْق طمع فِي صَلَاحهَا بعد أَن أَمر بِالْقَبْضِ على الْقَائِد إِدْرِيس لكَونه سعى بِهِ عِنْده وَأَنه شَارك فِي نهب الكرغلية والزمالة والدوائر وتقاعد على النفيس من أثاثهم فَرَجَعت الْحلَّة وَكَانَ رُجُوعهَا فِي آخر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي هَذِه السّنة منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا حدثت زَلْزَلَة بقرية من قرى تلمسان تسمى البليدة فَجعلت عاليها سافلها وَهلك أَهلهَا وَالْأَمر لله كَيفَ شَاءَ فعل
خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي الْمحرم فاتح سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الطَّاهِر بن مَسْعُود المغفري الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر الغفري الْعقيلِيّ والحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري كَانُوا من كبار قواد هَذَا الْجَيْش وأعيانه وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يَبْعَثهُم فِي الْمُهِمَّات ويستكفي بهم فِي الأقطار النائية والجهات وَكَانُوا هم يظهرون للسُّلْطَان الطَّاعَة وهم فِي الْبَاطِن منحرفون عَنهُ بِسَبَب أَن الدَّالَّة الَّتِي كَانُوا يدلون بهَا على السُّلْطَان الْمولى(3/32)
سُلَيْمَان رَحمَه الله انْقَطَعت عَنْهُم مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وزالت من أَيْديهم فَكَانُوا يمرضون فِي الطَّاعَة بعض الأحيان وَالسُّلْطَان يطويهم على غرهم ويلبسهم على عرهم إِلَى أَن كَانَ الْبَعْث إِلَى تلمسان فوجههم إِلَيْهِ فِيمَن وَجه من أَعْيَان الْجَيْش ورؤسائه فَكَانَت قوارصهم لَا تَنْقَطِع عَن الدولة وشغبهم لَا يفتر من التطاول والصولة ثمَّ كَانَ نهب الزمالة والدوائر فأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا وشايعهم على فعلهم الْقَائِد أَحْمد بن المحجوب البُخَارِيّ وأظهروا عدم المبالاة بالسلطان وخليفته وعامله وَكَانَت بَينهم وَبَين الْقَائِد إِدْرِيس الجراري مُنَافَسَة باطنية فخاف من الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم فِيمَا ارتكبوه من النهب أَن يسدوا بِرَأْسِهِ هَذَا الْخرق فأسعفهم وانتهب مَعَهم وَكَانَ مَا قدمْنَاهُ من استرجاع السُّلْطَان لذَلِك الْجَيْش وَبعث من قبض على الْقَائِد إِدْرِيس بوجدة وَجِيء بِهِ إِلَى تازا فسجن بهَا وَلما وصل جَيش تلمسان إِلَى عنق الْجمل قرب فاس خرج إِلَيْهِم الْقَائِد الطّيب الوديني البُخَارِيّ وَكَانَ واليا على فاس فَقيل أَرَادَ أَن يقبض عَلَيْهِم بِإِذن من السُّلْطَان وَقيل أَرَادَ أَن يحوز مِنْهُم أرحلهم وحقائبهم الَّتِي ملؤوها من النهب وَكَانَ الودايا وَالْعَبِيد لما فعلوا فعلتهم تحالفوا وتعاهدوا على أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدًا على من أَرَادَهُم بِسوء كَائِنا من كَانَ فَلَمَّا خرج إِلَيْهِم الطّيب الوديني تجهموه وهموا بِهِ فَرجع أدراجه وأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فأغضى عَنْهُم ثمَّ بعد أَيَّام عزم السُّلْطَان على الْقَبْض على الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْعقيلِيّ فأحس هُوَ بذلك فَذهب إِلَى الطَّاهِر بن مَسْعُود وتطارح عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِنِّي مَقْبُوض لَا محَالة فَإِن ولاك السُّلْطَان من أَمْرِي شَيْئا فَأحْسن وَلَا تؤاخذني بِمَا كَانَ مني إِلَيْك وَقد كَانَ الطَّاهِر بن مَسْعُود قبل هَذِه الْمدَّة عَاملا بتارودانت فَعَزله السُّلْطَان بِابْن الطَّاهِر فأساء إِلَيْهِ فَلهَذَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ الطَّاهِر بن مَسْعُود وَأَنت مَقْبُوض قَالَ نعم قَالَ عَليّ وَعلي لَا جرى عَلَيْك أَمر تكرههُ مَا دمت حَيا ثمَّ إِن السُّلْطَان أحضر الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَأحمد بن المحجوب فقرعهما وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا فَقبض أعوان الودايا على أخيهم وَقبض أعوان العبيد على أخيهم وَخَرجُوا بهما إِلَى السجْن مَعَ الْعشي وَكَانَ الطَّاهِر بن مَسْعُود قد(3/33)
ترصد بِبَاب دَار السُّلْطَان للْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر ليفتكه وَصَاحبه فَلَمَّا خرجا قَامَ الطَّاهِر بن مَسْعُود إِلَى الأعوان فراودهم على إِطْلَاق المسجونين فَأَبَوا وَقَالُوا إنَّهُمَا مسجونان عَن أَمر السُّلْطَان فتصامم عَن ذَلِك واستل خنجره وَضرب إِدْرِيس البواب الوديي على ترقوته فخدشه وانتزع مِنْهُ المسجون وَتقدم لافتكاك أَحْمد بن المحجوب فَأبى وانتهره وَقَالَ لَا أُخَالِف أَمر السُّلْطَان وَكَانَ الودايا يظنون قيام العبيد مَعَهم لحلفهم السَّابِق فخذل الله فِيمَا بَينهم ثمَّ أسْرع الطَّاهِر وَابْن الطَّاهِر إِلَى فرسيهما فركباهما ونجوا إِلَى نَاحيَة دَار الدبيبغ وثارت المغافرة بِبَاب دَار السُّلْطَان وحملوا السِّلَاح وأخرجوا البارود والرصاص وَقَامَت شيعَة السُّلْطَان لمدافعتهم فكثرهم الودايا وهزموهم حَتَّى أغلقوا عَلَيْهِم بَاب المشور وَسَأَلَ السُّلْطَان عَن الهيعة فَأعْلم بالْخبر وَكَانَ مَعَه الْحسن بن حمو واعزيز فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن هَؤُلَاءِ مَا جسروا على هَذَا الْفِعْل ببابك حَتَّى عزموا على مَا هُوَ أَكثر فَدَعَا السُّلْطَان بفرسه وَركبهُ مَعَ الْغُرُوب وَخرج من بَاب البجاة وَمَعَهُ ابْن واعزيز وَبَعض أَصْحَابه خيلا ورجلا وَلما علم الودايا بِخُرُوج السُّلْطَان ركبُوا بقضهم وقضيضهم من فاس الْجَدِيد وَمن قَصَبَة شراقة فأدركوا السُّلْطَان عِنْد قنطرة عياد فنزلوا إِلَى الأَرْض يقبلُونَ حوافر فرسه ويتشفعون لَهُ ويتبرؤون من فعل أُولَئِكَ السُّفَهَاء وَكَانَ الْحَال إِذْ ذَاك حَال مطر خَفِيف وَالشَّمْس قد غربت أَو كَادَت تغرب فساعدهم رَحمَه الله على الرُّجُوع وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْحَاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ بِأَن يذهب مَعَه إِلَى قَصَبَة شراقة وَكَانَت يَوْمئِذٍ لأهل السوس فَذهب مَعَه إِلَى دَاره من غير أَن يطمئن إِلَيْهِ وَلَكِن ذَلِك الَّذِي اقْتَضَاهُ الْحَال فِي تِلْكَ السَّاعَة وَلما اسْتَقر بدار ابْن فَرِحُونَ اجْتمع عَلَيْهِ المغافرة والودايا وَأهل السوس وأساء عَلَيْهِ المغافرة الْأَدَب بل عزموا على الفتك بِهِ وَلَكِن الله تَعَالَى وَقَاه شرهم فاختلفت كلمتهم وتذامر أهل السوس فِيمَا بَينهم وَقَالُوا لَا يبيتن السُّلْطَان اللَّيْلَة إِلَّا بداره واستنهضوه فَنَهَضَ رَحمَه الله وَركب فرسه وصحبوه إِلَى دَاره فِي ذَلِك اللَّيْل فاستقر بهَا وَبعد ذَلِك بأيام انْتقل السُّلْطَان إِلَى بُسْتَان أبي الْجُلُود خَارج فاس الْجَدِيد على حِين غَفلَة من الودايا وانحاز(3/34)
شيعَة السُّلْطَان إِلَيْهِ من العبيد وَغَيرهم وَنزل جلهم بفاس الْقَدِيم وَبَقِي الودايا وحدهم بفاس الْجَدِيد ثمَّ استدعى السُّلْطَان عبيد مكناسة فقدموا عَلَيْهِ وَلما علم الودايا بعزم السُّلْطَان على الْخُرُوج من بَين أظهرهم ساءهم ذَلِك وَعَلمُوا أَنه إِن خرج من بَين أظهرهم لَا يتركهم حَتَّى يُوقع بهم فراودوه على الْمقَام وتنصلوا وأظهروا التَّوْبَة وَتقدم سفهاؤهم إِلَى العبيد فأنشبوا مَعَهم الْحَرْب وَهلك من الْفَرِيقَيْنِ عدد ثمَّ تدارك السُّلْطَان أَمرهم وتلطف وَطيب أنفسهم وَأجْمع على الْخُرُوج إِلَى مكناسة فَخرج بثقله وأثاثه وأمواله وسلك طَرِيق قبقب وَعقبَة المساجين كَأَنَّهُ يُرِيد بِلَاد الغرب وَخرج لتشييعه جمَاعَة وافرة من أَعْيَان الودايا ثمَّ أَنهم ندموا ونكسوا على رؤوسهم وَرُبمَا سمعُوا من العبيد بعض كَلَام فحميت أنوفهم وتحزبوا وأوقعوا بالعبيد فَانْهَزَمُوا عَن السُّلْطَان وانتهب الودايا خيرته وأثاثه وَقَامَ عقالهم دون الْعِيَال حَتَّى ردُّوهُ إِلَى الدَّار مَحْفُوظًا مصونا وَلم يَفْعَلُوا أحسن مِنْهَا وَأما المَال والأثاث فقد أَتَى عَلَيْهِ النهب وَكَانَ شَيْئا كثيرا وَتقدم السُّلْطَان رَحمَه الله لطيته وَتَبعهُ سَفِيه من سُفَهَاء الودايا كَانَ أَرَادَ الفتك فِيهِ فحماه الله مِنْهُ وَوصل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مكناسة فاستقر بهَا واتصل خبر هَذِه الْفِتْنَة بالقائد إِدْرِيس بن حمان الجراري وَهُوَ مسجون بتازا فاحتال على سراح نَفسه بِأَن افتعل كتابا على لِسَان السُّلْطَان وَبعث بِهِ إِلَى عَامل تازا فسرحه وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد بعث إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس الْمَذْكُور وَهُوَ بتلمسان أَربع وَرَقَات مَخْتُومًا عَلَيْهَا بالخاتم السلطاني الْكَبِير وَأمره السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يحْتَفظ بِتِلْكَ الورقات وَلَا يسْتَعْمل وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَّا فِي أهم الْمُهِمَّات مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ غَرَض السُّلْطَان والدولة وَلَا تمكن مشاورته فِيهِ لبعد الْمسَافَة بَين فاس وتلمسان فَعمد الْقَائِد إِدْرِيس إِلَى وَاحِدَة من تِلْكَ الورقات فَكتب فِيهَا بتسريحه فسرح وَجَاء يجد السّير إِلَى فاس وبنفس وُصُوله كتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بِمَا صنع وَأَنه لَا زَالَ على مَا يعْهَد مَوْلَانَا من بذل النصح وَالسَّعْي فِي صَلَاح السُّلْطَان والجيش فَأَجَابَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله بِمَا نَصه
وَبعد فقد وصلنا كتابك وعرفنا مَا فِيهِ وَالْحَمْد لله على سلامتك وَمَا(3/35)
وجهنا لَك إِلَّا بِقصد أَن نسرحك لأننا تحققنا أَنَّك كنت مَغْلُوبًا عَلَيْك فَلَا عُهْدَة عَلَيْك بل من تَمام عقلك مساعدتك لمن نهب وَلَو منعتهم من ذَلِك لتفاقم الْأَمر هُنَالك وَأَنت عَلَيْك الْأمان ظَاهرا وَبَاطنا فِي الْحَال والاستقبال فَلَا تخش من شَيْء أبدا فَإنَّك مِمَّن نتهمه بِالدّينِ وَالْعقل والصدق وَقد عَايَنت وَسمعت مَا صدر من إِخْوَاننَا من النزعة الشيطانية وَلَا يَنْبَغِي أَن نقابلهم بِمثل مَا قابلنا بِهِ من لاعقل لَهُ مِنْهُم وَإِن قابلناهم بِهِ لَا نَلْتَقِي أبدا وَأَنت اسع فِي الْخَيْر وَالصَّلَاح مَا أمكنك وَتحمل لَهُم عَنَّا بالأمن من كل مَا يخافونه من جانبنا فجسارتهم أولى من صَلَاح الْقَبَائِل فقف على سَاق الْجد لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَالسَّلَام فِي السَّابِع عشر من الْمحرم فاتح عَام سَبْعَة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى لفظ الْكتاب الشريف
ثمَّ إِن الْقَائِد إِدْرِيس أحسن الْقيام على عِيَال السُّلْطَان الَّذين بقوا بفاس الْجَدِيد وَكَانَ فيهم حظيته المولاة فَاطِمَة بنت الْمولى سُلَيْمَان وَتقدم الْقَائِد إِدْرِيس إِلَى أَمِين الصائر من قبل وَقَالَ لَهُ مَا كنت تدفع إِلَى دَار السُّلْطَان كل يَوْم من دَقِيق وَلحم وإدام وَغير ذَلِك فَاكْتُبْ لي بِقَدرِهِ وَابعث إِلَى بِهِ فأحصاه الْأمين الْمَذْكُور وَبعث إِلَيْهِ بِهِ فَصَارَ يبْعَث بذلك الْقدر إِلَى دَار السُّلْطَان كل يَوْم وَانْقطع المَاء ذَات يَوْم عَن دَار السُّلْطَان فَكَانَ الْقَائِد إِدْرِيس يحمل قرب المَاء إِلَيْهَا كل يَوْم وَأصْلح القنوات وجد فِي ذَلِك حَتَّى رَجَعَ المَاء إِلَى مجْرَاه ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله اسْتنْفرَ قبائل الغرب كلهَا حوزا وغربا وثغورا فقدموا مكناسة على بكرَة أَبِيهِم وَسمع الودايا بذلك فاستدعوا الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب من بعض الْأَعْمَال والتفوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ فَحِينَئِذٍ تبرأت مِنْهُم الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت تعدهم بِالْقيامِ مَعَهم من مجاوريهم لِأَن سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب كَانَت قبائل الْمغرب قد تناذرته مُنْذُ أَيَّام ولَايَته على تامسنا ودكالة وَفعله بِأَهْلِهَا الأفاعيل فَكَانَ مبغضا عِنْد الْعَامَّة وزحف السُّلْطَان إِلَى فاس الْجَدِيد فَحَاصَرَهُمْ بهَا وَنصب عَلَيْهِم المدافع والمهاريس وتعاقب عَلَيْهِم الرَّمْي بهَا من محلّة السُّلْطَان بِعَين قادوس وَمن بستيون أبي الْجُلُود وبستيون(3/36)
بَاب الجيسة وبستيون بَاب الْفتُوح ودام الْحصار أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْحَرب لَا تَنْقَطِع فِي كل وَقت وَكَانَ الودايا يرْمونَ أَيْضا بالكور والبنب وابلى بنوحسن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الْبلَاء الْحسن ثمَّ إِن السُّلْطَان عزم على الْبناء عَلَيْهِم وجلب اللواحين فشرعوا فِي الْعَمَل وسئم الودايا الْحَرْب وملوها فأذعنوا إِلَى الصُّلْح وسعى فِي الوساطة بَينهم وَبَين السُّلْطَان الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على شَرط الْخُرُوج من فاس الْجَدِيد فأذعنوا ثمَّ بعثوا شفاعاتهم بالمشايخ وَالصبيان والألواح على رؤوسها وَمَعَهُمْ سلطانهم ابْن الطّيب فسامح رَحمَه الله الْجَمِيع وَقَالَ لَهُم فِي جملَة مَا قَالَ الْحَمد لله إِذْ لم أغلبكم وَلم تغلبوني لِأَنِّي لَو غلبتكم لذبحت هَذِه الجيوش أَوْلَادكُم وَلم أقدر أَن أردهَا عَنْكُم وَلَو غلبتموني لفعلتم كل مَا تقدرون عَلَيْهِ فَهَذَا من لطف الله بِي وبكم
قلت وَهَذَا كَلَام دَال على وفور عقل السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَمَال شفقته وَرَحمته ثمَّ لما عزم السُّلْطَان على النهوض إِلَى مكناسة ولى على جَيش الودايا كُله الْقَائِد إِدْرِيس بن حمان الجراري وَذَلِكَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ نَهَضَ إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَلما حضر عيد الْفطر قدمت الْوُفُود على السُّلْطَان بمكناسة واستقامت الْأَحْوَال وَكتب رَحمَه الله إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس أَن يحضر الْعِيد فِي جمَاعَة وافرة من إخوانه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَحَضَرُوا ودخلوا على السُّلْطَان ذَات عَشِيَّة بالمشور فوبخهم حَتَّى ظن النَّاس أَنه يقبض عَلَيْهِم ثمَّ سرحهم فعادوا إِلَى فاس الْجَدِيد وَلما عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على النهوض إِلَى مراكش قدم أَولا فاسا وَنزل خَارج الْبَلَد وَنظر فِي شَأْنه وشأن الْجَيْش والرعية ثمَّ ارتحل يُرِيد مراكش فَلَمَّا انْفَصل عَن فاس بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ كتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالطاهر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر يذهبان مَعَه إِلَى مراكش بِقصد الْخدمَة بهَا مَعَ وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فذهبا على فرسيهما مسرحين إِلَّا أَنَّهُمَا كَانَا حذرين من السُّلْطَان لما قدما من الْفِعْل الشنيع الَّذِي كَانَ سَبَب هَذِه الْفِتْنَة الْعَظِيمَة فَقدما مراكش وترتبا فِي(3/37)
الْخدمَة مَعَ الْخَلِيفَة الْمَذْكُور وانسلخت هَذِه السّنة وفيهَا عزل السُّلْطَان وزيره الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس وامتحنه وَبَقِي عاطلا مُدَّة ثمَّ رده إِلَى خطته وَكَانَ السُّلْطَان فِي مُدَّة تَأْخِيره إِيَّاه قد استوزر مَكَانَهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي فَقَامَ بأعباء الخطة وبرز فِيهَا رَحمَه الله وفيهَا بنى السُّلْطَان رَحمَه الله المارستان الْكَبِير على ضريح ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بسلا وَكَانَ على ضريح الْوَلِيّ الْمَذْكُور الْقبَّة وَالْمَسْجِد فَقَط فأدار السُّلْطَان رَحمَه الله على ذَلِك كُله مارستانا كَبِيرا وَبنى بِهِ مَسْجِدا آخر وبيوتا للمرضى تنيف على الْعشْرين وأجرى إِلَيْهِ المَاء وَجعل ميضأة بِإِزَاءِ الْمَسْجِد للرِّجَال وَأُخْرَى شرقيها للنِّسَاء فجَاء ذَلِك من أحسن الْأَعْمَال وَكتب الله أجره فِي صحيفَة السُّلْطَان
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي صفر مِنْهَا ورد على الْقَائِد إِدْرِيس كتاب من عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ لَا زَالَ برباط الْفَتْح يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري فوصل إِلَيْهِ مسرحا فَقبض عَلَيْهِ وَبَعثه إِلَى الصويرة وبإثر ذَلِك ورد على السُّلْطَان كتاب من عِنْد وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد يُعلمهُ بِأَنَّهُ قبض على الطَّاهِر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر لِكَوْنِهِمَا لم يقلعا عَن ضلالهما وشيطنتهما حَتَّى أَنَّهُمَا عزما على اغتياله بمصلى عيد الْأَضْحَى من السّنة الفارطة فحماه الله مِنْهُمَا وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش صَار يكْتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس برؤوس الْفِتْنَة وَالْقَبْض عَلَيْهِم وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن استوفى جلهم وَكَانَ الْقَائِد إِدْرِيس فِي هَذِه الْمدَّة قد أحس بِأَن بَاطِن السُّلْطَان لَا زَالَ متغيرا على الودايا فألح عَلَيْهِ فِي الْبَحْث والاستكشاف عَمَّا هُوَ مضمره لَهُم وَمَا يُرِيد بهم وَمَا الَّذِي يجلب رِضَاهُ عَنْهُم ويصفي بَاطِنه عَلَيْهِم فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله كتابا أفْصح فِيهِ عَن مُرَاده يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح والطابع الشريف بَينه وَبَين الْخطاب مَا نَصه خَالنَا الأرضى الْقَائِد إِدْرِيس الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبعد فَاعْلَم بأنك طلبت منا مشافهة وَكِتَابَة أَن نعرب لَك عَن مرادنا(3/38)
ونطالعك بغاية قصدنا وأمنيتنا فِي الْجَيْش وَمَا يجلب رضانا عَنْهُم وَكُنَّا نجيبك عَن ذَلِك جَوَابا إقناعيا لعدم وثوقنا وقتئذ بِصدق لهجتك وَكَانَ يخيل لنا أَنَّك تباحثنا على جِهَة الِاطِّلَاع على خبيئة أمرنَا والآن اتَّضَح مَا أَنْت عَلَيْهِ من الصدْق ووفور الْمحبَّة وخلوص النِّيَّة حَتَّى صرت بِهِ كَأحد أَوْلَادنَا
(وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء ... إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل)
وَعَلِيهِ فَأَنت أولى من نبثه سرنا وَلَا ندخر عَنهُ شَيْئا من دخيلة أمرنَا فَاعْلَم أرشدك الله أَن من بارزنا بالسوء قولا وفعلا من ذَلِك الْجَيْش هم المغافرة كَافَّة واستوى فِي ذَلِك كَبِيرهمْ وصغيرهم قويهم وضعيفهم وَلم يلف مِنْهُم رجل رشيد وَلَو ساعدهم الودايا وَأهل السوس وخلوا بَينهم وَبَين هواهم لَكَانَ مَا أرادوه من تلف مهجتنا وَلَكِن الله سلم وَلَا يخفى على أحد مَا استوجبوه لذَلِك شرعا وطبعا ولسالف خدمتهم وكظم الغيظ المرغب فِيهِ ارتكبنا فِي جانبهم أخف مَا أوجبه الله تَعَالَى على أمثالهم قَالَ جلّ علاهُ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} الْمَائِدَة 33 الْآيَة وَقد آلَيْت على نَفسِي وأشهدت الله وَمَلَائِكَته أَن لَا يضمني سور فاس الْجَدِيد والمغافرة بِهِ فَهَذَا هُوَ مَحْض الصدْق والآن بَين لنا كَيفَ يكون الْعَمَل فِي ذَلِك وَمَا نقدم وَمَا نؤخر لِأَن المُرَاد قَضَاء الْغَرَض من غير مشقة وَلَا فضيحة للجيش وَهل تفشي هَذَا أَو تكتمه وعَلى تَقْدِير امتثالهم عين لنا أَي مَحل ينتقلون إِلَيْهِ من ثغور إيالتنا كالرباط وَغَيره أَو قَصَبَة مراكش فَإِن النَّفس لم تسمح بهم بِالْكُلِّيَّةِ بل المُرَاد زجرهم وَإِقَامَة بعض حق الله فيهم وَيحصل لنا الاطمئنان والسكينة ونبر قسمنا فالمؤمن لَا يلْدغ من جُحر مرَّتَيْنِ وَمَا ذكرت من أَنا عاهدناك ووعدناك بِالْإِحْسَانِ والتنويه بشأنك فَإِنَّهُ وعد صدق لَا مرية فِيهِ إِن شَاءَ الله وَكَيف وَقد اسْتَوْجَبت منا كل جميل وقدمك لمعالي الْأُمُور عقلك وصدقك وَلَو ألفينا فِي الْجَيْش مثلك لضممنا عَلَيْهِ البراجم والرواجب وَفعلنَا فِي جَانِبه مَا هُوَ الْوَاجِب وَقد اقتصرت حَيْثُ طلبت أَن تكون بِمَنْزِلَة الْقَائِد قدور بن الْخضر عِنْد سَيِّدي الْكَبِير رحمهمَا الله فَأَنت(3/39)
عندنَا بِمَنْزِلَة أعظم من مَنْزِلَته وَالْيَد الَّتِي اتَّخذت عندنَا أعظم مِمَّا اتخذ هُوَ عِنْد سَيِّدي الْكَبِير قدس الله سره فقد جازاه على الصدْق فَقَط أما أَنْت فقد شاركته فِي هَذِه الْمرتبَة وفقته بِمَا هُوَ أعظم وَهُوَ إحسانك لعيالنا وَأَوْلَادنَا وَلَوْلَا أَنْت لهلكوا جوعا فَلَا يكفر هَذِه الضَّيْعَة إِلَّا لئيم وحاشانا الله من ذَلِك فطب نفسا وقر عينا فلك عندنَا من المكانة والخطوة مالو اطَّلَعت على حَقِيقَته لطربت سُرُورًا ونشاطا وسترى إِذا انجلى الْغُبَار وَلَا زَالَ أهلنا يتذكرون إحسانك إِلَيْهِم بحضرتنا ويلتمسون لَك الدُّعَاء الصَّالح من جانبنا وَفِي الحَدِيث مَا مَعْنَاهُ أَن أمْرَأَة من بني اسرائيل أَبْصرت كَلْبا يلعق الحمئة من شدَّة الْعَطش فسقته فغفر الله لَهَا فَكيف بِمن أسدى مَعْرُوفا لجَماعَة انْقَطع رجاؤهم إِلَّا من الله وَالله لن يخزيك الله أبدا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر رَمَضَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب ثمَّ إِن الله تَعَالَى هيأ للسُّلْطَان أمره فِي الودايا وألهمه رشده فيهم فَأمر أَولا بِنَقْل رحى المغافرة إِلَى قَصَبَة الشرادي من أَعمال مراكش وَظن النَّاس أَنه يقْتَصر على ذَلِك لِأَنَّهُ رَحمَه الله لم يكن يظْهر إِلَّا أَنه يُرِيد نقل المغافرة فَقَط ثمَّ نقل رحى الودايا إِلَى العرائش وأحوازها ثمَّ ردهم إِلَى جبل سلفات ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة يسيرَة نقل رحى أهل السوس إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَأنْزل حلتهم بالمنصورية على شاطىء وَادي النفيفيخ وقوادهم ووجوههم بقصبة رِبَاط الْفَتْح ثمَّ رد الْحلَّة بعد مُضِيّ سِتّ سِنِين إِلَى قَصَبَة تمارة قرب رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت متلاشية فَأمر السُّلْطَان بعد سنتَيْن أَو ثَلَاث بترميمها وإصلاحها وَكَانَ رَحمَه الله قد أسقط هَذَا الْجند الوديي من الجندية وَأعْرض عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ سِنِين ثمَّ استردهم فِي حُدُود السِّتين كَمَا سَيَأْتِي وَلما أخلى السُّلْطَان فاسا الْجَدِيد من جَيش الودايا بأسره وَكَانَ بمراكش بعث بالطاهر بن مَسْعُود وبالحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فسجنا بِهِ مُدَّة ثمَّ قدمت عريفة الدَّار الْحَاجة زويدة بِكِتَاب من عِنْد السُّلْطَان على وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد بفاس يتَضَمَّن الْأَمر بقتل الطَّاهِر وَابْن الطَّاهِر بِالْمحل الَّذِي افتك فِيهِ الأول الثَّانِي فأخرجا إِلَى الْمحل الْمَذْكُور وَحضر(3/40)
الوصيف الْقَائِد فرجى وَقدم الطَّاهِر بن مَسْعُود فأخرجت فِيهِ عمَارَة وحز رَأسه ثمَّ قدم الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فَفعل بِهِ مثل صَاحبه فَيُقَال إِنَّه زهقت نَفسه قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لم يسل مِنْهُ دم وَأما الطَّاهِر بن مَسْعُود فَسَالَ مِنْهُ دم كثير وَأمر سَيِّدي مُحَمَّد ولد السُّلْطَان بمواراته فووري وَأما ابْن الطَّاهِر فَإِنَّهُ رمي على المزبلة ووكل بِهِ الحرس إِلَى أَن أَكلته الْكلاب وَلم يبْق إِلَّا رِجْلَاهُ بالقيد وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأما ابْن فَرِحُونَ وَأَصْحَابه فَإِنَّهُم استمروا فِي سجن الجزيرة إِلَى أَن هَلَكُوا
وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة الهائلة دَالَّة على كَمَال عقل السُّلْطَان ووفور حلمه وفضله حَتَّى أَنه مَا عَامل هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين آذوه أَشد الإذاية إِلَّا بِبَعْض الْبَعْض مِمَّا استوجبوه كَمَا قَالَ وكما رَأَيْت وَعلمت ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته ويقينا وإياهم مصَارِع السوء وينيلنا الْأَمْن فِي الدُّنْيَا والفوز فِي الْآخِرَة بجنته إِنَّه على ذَلِك قدير وبالإجابة جدير
ظُهُور الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين الْمُخْتَار بالمغرب الْأَوْسَط وَبَعض أخباره
لما رَجَعَ جَيش السُّلْطَان من تلمسان مَعَ الْمولى على بن سُلَيْمَان حَسْبَمَا مر بَقِي أهل تلمسان فوضى وَرجعت الْحَرْب بَين الْحَضَر من أَهلهَا والكرغلية جَذَعَة وهاجت الْفِتَن بَين قبائل الْعَرَب الَّذين هُنَالك وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَكَانَ الْفَقِيه المرابط محيي الدّين عبد الْقَادِر المختاري نِسْبَة إِلَى أحد أجداده الْمَشْهُورين بِتِلْكَ النَّاحِيَة نازلا وسط حلَّة الحشم عِنْد المشاشيل مِنْهُم وَكَانَ متظاهرا بِالْخَيرِ وتدريس الْعلم وَاتخذ زَاوِيَة لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن فاشتهر عِنْد أُولَئِكَ الْقَبَائِل واعتقدوه فَلَمَّا دهم الْعَدو أهل تِلْكَ الْبِلَاد وجاشت فِيمَا بَينهم الْفِتَن اجْتمع الحشم وَبَعض بني عَامر وتفاوضوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على بيعَة الشَّيْخ محيي الدّين الْمَذْكُور فَذَهَبُوا إِلَيْهِ(3/41)
وعرضوا عَلَيْهِ مَا فِي أنفسهم فتجافى عَن منصب الرياسة وَأظْهر الْوَرع وَاعْتذر بِأَنَّهُ قد شاخ وَذهب مِنْهُ الأطيبان وَإِنَّمَا هُوَ هَامة الْيَوْم أَو غَد فسدكوا بِهِ وتطارحوا عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِم بولده الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين وَكَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ عدَّة أَوْلَاد لَيْسَ الْحَاج عبد الْقَادِر أكبرهم وَلَا أعلمهم وَلَا أَصْلحهم وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ مضاء وإقدام فأسعفوه بِشَرْط أَن يكون نظره منسحبا عَلَيْهِ ومشيرا بِمَا تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَيْهِ وَلما تمّ أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر جمع كَتِيبَة من بني عَامر والحشم وزحف إِلَى وهران وَكَانَت يَوْمئِذٍ فِي ملكة النَّصَارَى قد استولوا عَلَيْهَا مُنْذُ سِتَّة أشهر أَو سَبْعَة فأوقع بهم وقْعَة شنعاء قتل فِيهَا وَأسر وأبلغ فِي النكاية وَرجع مظفرا منصورا فتيمنوا بِهِ وأحبوه وَتمكن مِنْهُم ناموسه وَاتخذ عسكرا من الحشم وَبني عَامر لَا بَأْس بِهِ وَلما سمع بِهِ أهل تلمسان وهم أحْوج مَا كَانُوا إِلَى من يقوم بأمرهم وفدوا عَلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْهُم من مبايعة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن صَاحب مراكش وفاس وَأَنَّهُمْ يبايعونه على بيعَته والإعلان بدعوته فأجابهم الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَى ذَلِك وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة وَأظْهر الطَّاعَة والانقياد للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وخطب بِهِ على مَنَابِر تلمسان وَغَيرهَا وَولى على تلمسان وأعمالها وزيره أَبَا عبد الله مُحَمَّد البوحميدي الولهاصي وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بِأَنَّهُ بعض خدمه وقائد من قواد جنده واستقام أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر وَثبتت قدمه فِي تِلْكَ الإيالة التلمسانية ثمَّ إِن قبيلتي الزمالة والدوائر الَّذين قدمنَا ذكرهم انحرفوا عَن الْحَاج عبد الْقَادِر لأسباب مِنْهَا أَنهم كَانُوا معادين للحشم وَلما قرب الْحَاج عبد الْقَادِر الحشم وجعلهم جنده ازدادت عداوتهم ونفرتهم عَن الْحَاج عبد الْقَادِر وَسَارُوا إِلَى وهران وأعلنوا بدعوة الفرنسيس فقبلهم وحماهم وَحدثت بَينه وَبَين الْحَاج عبد الْقَادِر بسببهم حروب صعبة
حَدثنِي الْأمين السَّيِّد الْحَاج عبد الْكَرِيم ابْن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني قَالَ ذهبت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف إِلَى مَدِينَة وهران بِقصد التِّجَارَة بهَا وَذَلِكَ عقب اسْتِيلَاء الفرنسيس عَلَيْهَا قَالَ وَكنت يَوْمئِذٍ فِي سنّ(3/42)
الشَّبَاب حِين بقل عِذَارَيْ فأقمت بهَا مُدَّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِذْ ذَاك مهادنا لكبير الفرنسيس بوهران والجزائر قد أنزل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِبَلَد الآخر قنصله وتجاره على الْعَادة فِي ذَلِك أَيَّام الْهُدْنَة فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم ورد الْخَبَر بِأَن قبيلتي الزمالة والدوائر من إيالة الْحَاج عبد الْقَادِر وهم نَحْو الْأَلفَيْنِ كَانُوا قد فروا مِنْهُ ونزلوا حول مَدِينَة وهران مستجيرين بالفرنسيس وَقد رفعوا سنجقة وأعلنوا بِأَنَّهُم تَحت حكمه وَمن جملَة رَعيته فَبعث إِلَيْهِم الفرنسيس يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد قبلهم وَلَا يصيبهم مَكْرُوه فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث الْحَاج عبد الْقَادِر مَعَ كَبِير دولته الْحَاج الحبيب ولد الْمهْر المعسكري كتابا إِلَى الفرنسيس يَقُول فِيهِ إِنَّك قد علمت أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين فروا إِلَيْك هم رعيتي وَمن إيالتي وَعَلِيهِ فَلَا بُد أَن تردهم عَليّ وَإِلَّا فالحرب بيني وَبَيْنك فَامْتنعَ الفرنسيس من ردهم وَأجَاب إِلَى الْحَرْب وَاتَّفَقُوا أَن يخرج كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر تجاره الَّذين فِي أرضه وَأَن من بَقِي مِنْهُم بعد ثَلَاث فَهُوَ هدر وَاتَّفَقُوا أَيْضا على أَن يكون القنصلان آخر من يخرج وَأَن يكون خروجهما فِي سَاعَة مَعْلُومَة من اللَّيْل بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ على المحدة الَّتِي بَين أَرض الْمُسلمين وَأَرْض النَّصَارَى فَفَعَلُوا وخلص كل إِلَى مأمنه
وَلما انْقَضى الْأَجَل تزاحفوا لِلْقِتَالِ فِي يَوْم مَعْلُوم فَكَانَت بَينهم حَرْب يشيب لَهَا الْوَلِيد وَلما كَانَ عشي النَّهَار سمع النَّاس من دَاخل الْبَلَد ضوضاء وجلبة عَظِيمَة وبارودا كثيرا وَإِذا بالحاج عبد الْقَادِر هزم الْكفَّار هزيمَة شنعاء حَتَّى ألجأهم إِلَى سور الْبَلَد وازدحموا على أبوابه وَركب بَعضهم بَعْضًا وَجَاءَت خيالتهم من خَلفهم فركبوهم أَيْضا وَمَشوا عَلَيْهِم ورفسوهم بخيلهم فَهَلَك بِهَذَا الازدحام من الفرنسيس نَحْو أَرْبَعَة آلَاف دون الَّذين هَلَكُوا خَارج الْبَلَد بالكور والرصاص والتوافل والرماح وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على معسكر النَّصَارَى بِمَا فِيهِ من مدافع وعجلات وفساطيط وأخبية وأثاث وَكَانَت فتكة بكرا قَالَ الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور وَكنت فِي تِلْكَ الْمدَّة مساكنا لبَعض كبراء عَسْكَر الفرنسيس فِي دَار وَاحِدَة فَلَمَّا انْقَضتْ الْوَقْعَة بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ سَأَلته كم ترَاهُ يكون هلك من عَسْكَر الفرنسيس فِي هَذِه الْوَقْعَة قَالَ أقرب لَك أم(3/43)
أبعد قلت بل أقرب قَالَ أَنا كَبِير من كبراء الْعَسْكَر وَتَحْت نَظَرِي ثَمَان عشرَة مائَة بَقِي مِنْهَا فِي هَذِه الْوَقْعَة ثَمَانِيَة عشر عسكريا انْتهى كَلَام هَذَا الْمخبر
ثمَّ إِن الزمالة والدوائر لجوا فِي مُوالَاة الفرنسيس وأحكموا أَمرهم مَعَه وولوا عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْمُصْطَفى بن إِسْمَاعِيل كَانَ هُوَ السَّبَب الْأَكْبَر فِي تملك الفرنسيس بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَجل الحروب الَّتِي كَانَت تكون بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمدَّة على يَده إِلَى أَن قتل منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ضاعف الله عَلَيْهِ غَضَبه ونقمته وَلما اتَّصل بالسلطان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله مَا عَلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر من جِهَاد عَدو الدّين وحماية بَيْضَة الْمُسلمين أعجبه حَاله وَحسنت مَنْزِلَته عِنْده لِأَنَّهُ رأى أَنه قد قَامَ بنصرة الْإِسْلَام على حِين لَا نَاصِر لَهُ فَصَارَ السُّلْطَان رَحمَه الله يمده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال الْمرة بعد الْمرة على يَد الْأمين الْحَاج الطَّالِب بن جلون الفاسي وَغَيره وطالت الْحَرْب بَينه وَبَين الفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس فِي بعض الكرات على تلمسان وضايقه الْحَاج عبد الْقَادِر فِيهَا حَتَّى أخرجه مِنْهَا ثمَّ استردها الفرنسيس بعد معارك شَدِيدَة ومواقف صعبة إِلَّا أَن ضَرَر الْحَاج عبد الْقَادِر للفرنسيس كَانَ مَقْصُورا على قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَأما الفرنسيس فَكَانَ ضَرَره بِالْمُسْلِمين عَائِدًا على تملك بِلَادهمْ وتنقصها من أطرافها ودام ذَلِك مُدَّة من سِتّ عشرَة سنة
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَقَد كَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر هَذَا فِي أول أمره على مَا يَنْبَغِي من المثابرة على الْجِهَاد والدرء فِي نحر الْعَدو وَلَوْلَا أَنه انعكس حَاله فِي آخر الْأَمر وخلصت الأَرْض للفرنسيس وَالله غَالب على أمره
وَفِي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ولد مؤلف هَذَا الْكتاب أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي أَخْبَرتنِي والدتي السِّت فَاطِمَة بنت الْفَقِيه السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن قَاسم بن زَرُّوق الحسني الإدريسي الجباري أَنِّي ولدت بعد طُلُوع الْفجْر صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة(3/44)
الْمَذْكُورَة وَفِي محرم فاتح سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الشهير السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي بمراكش واستوزر السُّلْطَان بعده الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الحاجي النكنافي مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَخّرهُ ورد وزيره الأقدم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة كَانَ الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور الْعَينَيْنِ وبرودة الْأَطْرَاف
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد سُؤال من عِنْد الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِلَى عُلَمَاء فاس يَقُول فِيهِ مَا نَصه
الْحَمد لله سادتنا الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام فُقَهَاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرّحال العيسية أطباء أدواء الدّين ومحقين حَقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فِيمَا عظم بِهِ الْخطب وَاشْتَدَّ بِهِ الكرب بوطن الجزائر الَّذِي صَار لغربال الْكفَّار جزائر وَذَلِكَ أَن الْعَدو الْكَافِر يحاول ملك الْمُسلمين مَعَ استرقاقهم بِالسَّيْفِ وَتارَة بحيل سياسته وَمن الْمُسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الْخَيل إِلَيْهِم وَلَا يَخْلُو من دلالتهم على عورات الْمُسلمين ويطالعهم وَمن أَحيَاء الْعَرَب المجاورين لَهُم من يفعل ذَلِك ويتمالؤون على الْجُحُود وَالْإِنْكَار فَإِذا طلبُوا بتعيينه جعجعوا وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ مِنْهُم الْأَعْين والْآثَار فَمَا حكم الله فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَل لَهُم من عِقَاب أم يتركون على حَالهم وَمَا الحكم فِيمَن يتَخَلَّف عَن المدافعة عَن الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد إِذا استنفره نَائِب الإِمَام للدفاع والجلاد فَهَل يعاقبون وَكَيف عقابهم وَلَا يَتَأَتَّى بِغَيْر قِتَالهمْ وَهل تُؤْخَذ أَمْوَالهم وأسلابهم كَيفَ الْعَمَل فِيمَن يمْنَع الزَّكَاة أَو يمْنَع بَعْضهَا من التحقق بعمارة ذمَّته فِي الْحَال فَهَل يصدق مَعَ قلَّة الدّين فِي هَذَا الزَّمَان أم يكون للِاجْتِهَاد فِيهِ مجَال وَمن أَيْن يرْزق الْجَيْش المدافع عَن الْمُسلمين الساد ثغورهم عَن المغيرين وَلَا بَيت مَال وَمَا يجمع من الزَّكَاة لَا يَفِي بشبعهم فضلا(3/45)
عَن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فَهَل تتْرك فيستبيح الْكَافِر الوطن أم يكون مَا يلْزمهُم على جمَاعَة الْمُسلمين وَإِذا كَانَ فَهَل على الْعُمُوم أم على الْأَغْنِيَاء فَقَط وَلَا يُمكن اخْتِصَاص الْأَغْنِيَاء لجفوة الْأَعْرَاب وجهلهم وَهل يعد مَانع المعونة بَاغِيا أم لَا وَمَا حكم أَمْوَال الْبُغَاة وَهل القَوْل بِعَدَمِ ردهَا يجوز الْعَمَل بِهِ أم لَا أجِيبُوا عَمَّا ذكرنَا وَعَما يُنَاسب الْمقَام وَالْحَال مِمَّا لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضَاقَ من هَذِه الْأُمُور الذرع وَكَاد الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين لضيق الْأَسْبَاب أَن يتخلى عَن الْأَمر ويطرح ثوب الْإِمَارَة والدرع مَأْجُورِينَ وَالسَّلَام فِي تَاسِع عشر من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة صَدره عَن إِذن الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين لطف الله بِهِ
وَقد أجَاب عَن هَذَا السُّؤَال بِإِشَارَة السُّلْطَان الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام مديدش التسولي بِجَوَاب طَوِيل يشْتَمل على خمس كراريس وَزِيَادَة وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلأَجل مَا كَانَ يصل من هَذِه الْأُمُور من جَانب الْحَاج عبد الْقَادِر كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يبْذل مجهوده فِي إمداده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال وَغير ذَلِك ثمَّ لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد ظهر يَوْم السبت الْعشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة المتفنن الْمُحدث أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحَاج الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي وَدفن صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد فِي الْجَبانَة الَّتِي قرب ضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر وَشهد جنَازَته خلق كثير وأمهم الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي طُوبَى وللفقيه أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور شرح حفيل على موطأ الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس
وَفِي سنة أَربع وَخمسين بعْدهَا وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله طُوبَى الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ رَحمَه الله من قُضَاة الْعدْل وَأهل الْعلم بالنوازل وَالْأَحْكَام مَحْمُود السِّيرَة ذَا سكينَة ووقار(3/46)
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي سَابِع جُمَادَى الأولى مِنْهَا كمل بِنَاء الْمنَار بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا وَكَانَ الْمنَار الَّذِي قبله قد أَصَابَته صَاعِقَة تداعت لَهَا أَرْكَانه فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بنقضه وإعادته جَدِيدا فأعيد على هَيْئَة متقنة أحسن مِمَّا كَانَ وَأعظم وصير عَلَيْهِ بِوَاسِطَة أُمَنَاء مرسى العدوتين ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وَأَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وست أَوَاقٍ وَثلث الْأُوقِيَّة والريال الْكَبِير يَوْمئِذٍ من سعر سِتّ عشرَة أُوقِيَّة وَكَانَ جلّ الصائر من بَيت المَال وَأقله من مَال الْحَبْس وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى النظارة يَوْمئِذٍ وَالْقِيَام على الْبناء عَامل سلا الأبر الْأَخير السَّيِّد الْحَاج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْهَاشِمِي عواد
وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق البارع أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام التسولي الْمَدْعُو مديدش صَاحب الشَّرْح الْكَبِير على تحفة ابْن عَاصِم فِي الْأَحْكَام وَشرح الشَّامِل وحاشية الزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف الحسان رَحمَه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قَبيلَة زمور الشلح وَكَانُوا قد تجاوزوا الْحَد فِي الْإِفْسَاد وإخافة الْعباد والبلاد فأوقع بهم وقْعَة شنعاء كسرت من حَدهمْ وفلت من غربهم وَكتب السُّلْطَان رَحمَه الله فِي ذَلِك إِلَى وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد كتابا من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله بن إِدْرِيس يَقُول فِيهِ مَا نَصه ولدنَا الأرضى الأبر الأرشد سَيِّدي مُحَمَّد أصلحك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد كُنَّا أردنَا الْإِبْقَاء على قَبيلَة زمور رَحْمَة وإشفاقا وَحَملهمْ على الاسْتقَامَة بالإرهاب من الشدَّة فِي بعض الْأُمُور هِدَايَة وإرفاقا فَلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حَولهمْ وقوتهم فَمَا رَأَوْا منا لينًا وسدادا إِلَّا ازدادوا شدَّة وَفَسَادًا وَلَا أظهرنَا لَهُم عظة وإرشادا إِلَّا أظهرُوا تطاولا وعنادا وَمَا أخرنا الْمحلة المنصورة عَن الرّكُوب إِلَيْهِم إبْقَاء وألفا إِلَّا ظنُّوا ذَلِك عَجزا وضعفا قد طمس الْإِعْجَاب مِنْهُم بصرا وسمعا وَلم يرَوا أَن الله قد أهلك من قبلهم من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر جمعا(3/47)
(إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته ... وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا)
(وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا)
فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد(3/48)
(وَمَا عَن رضى مِنْهَا عَطِيَّة أسلمت ... وَلكنهَا قد قادها للهدى الْقَهْر)
(أردنَا بهَا الْإِبْقَاء فازداد عجبها ... وأدبها التَّشْدِيد والفتك والأسر)
وَلَو قيدوا النِّعْمَة بالشكر لأمنوا الزَّوَال {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال} الرَّعْد 11 وَالسَّلَام فِي فاتح رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام تِسْعَة وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف
انْتِقَاض الْهُدْنَة مَعَ الفرنسيس وتمحيص الْمُسلمين بإيسلي قرب وَجدّة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَت الْهُدْنَة معقودة بَين هَذِه الدولة الشَّرِيفَة وَبَين جنس الفرنسيس من لدن دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله وَلما حدث الشنآن بَين ترك الجزائر والفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس على ثغورهم جَاءَ أهل تلمسان إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله راغبين فِي بيعَته وَالدُّخُول فِي طَاعَته فقبلهم بعد التَّوَقُّف والمشاورة كَمَا مر وَلما أعرى جَيش السُّلْطَان تلمسان وَاجْتمعَ أهل ذَلِك الْقطر على الْحَاج عبد الْقَادِر محيي الدّين تَحت كلمة السُّلْطَان بر بِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وقاوم الفرنسيس بِتِلْكَ الْبِلَاد أَشد المقاومة إِلَّا أَن فَائِدَة حربه كَانَت تظهر فِي قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَفَائِدَة حَرْب الفرنسيس كَانَت تظهر فِي انتقاص الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا وشتان مَا بَينهمَا
وَلما كَانَت سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ اسْتِيلَاء الفرنسيس على جَمِيع بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَصَارَ الْحَاج عبد الْقَادِر يتنقل فِي أطرافها فَتَارَة بالصحراء وَتارَة ببني يزناسن وَتارَة بوجدة والريف وَغير ذَلِك وَرُبمَا استكثر فِي هَذِه التنقلات بِمن هُوَ من رعية السُّلْطَان أَو جنده فَمد الفرنسيس يَده إِلَى إيالة السُّلْطَان رَحمَه الله فشن الْغَارة على بني يزناسن وعَلى وَجدّة وأعمالها الْمرة بعد الْمرة ثمَّ اقتحم وَجدّة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وانتهبها وَكثر عيثه(3/49)
فِي الْحُدُود فَكلم من جَانب السُّلْطَان رَحمَه الله فِيمَا ارْتَكَبهُ من إيالته فتعلل بِأَن الْهُدْنَة قد انتقضت بإمداد الْحَاج عبد الْقَادِر بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال الْمرة بعد الْمرة وبمحاربة جَيش السُّلْطَان المرابط على الْحُدُود لَهُ وبمحاربة بني يزناسن لَهُ مَعَ الْحَاج عبد الْقَادِر وَغير ذَلِك مِمَّا اعْتد بِهِ وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر فِي هَذِه الْمدَّة قد فَسدتْ نِيَّته أَيْضا فِي السُّلْطَان وَفِي الْجِهَاد مَعَ أَنه مَا كَانَ لجهاده ثَمَرَة ورام الِاسْتِقْلَال وَأخذ فِي استفساد الْقَبَائِل الَّذين هُنَالك وَتحقّق السُّلْطَان بأَمْره وشرى الشَّرّ وتفاقم الْأَمر فَعمد السُّلْطَان رَحمَه الله على حَرْب الفرنسيس وَتقدم إِلَى أهل الثغور بالاستعداد والحراسة وإرهاف الْحَد لما عَسى أَن يحدث ثمَّ عقد لِابْنِ عَمه الْمولى الْمَأْمُون بن الشريف على كَتِيبَة من الْجند ووجهها إِلَى نَاحيَة وَجدّة وعززه بالفقيه أبي الْحسن عَليّ بن الجناوي من أَعْيَان رِبَاط الْفَتْح فَكَانَت لَهُم مناوشة مَعَ رابطة الفرنسيس الَّتِي هُنَالك ثمَّ أَخذ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي أَسبَاب الْغَزْو والاستعداد التَّام وحشد الْجنُود واتخاذ الرَّايَات والبنود واستنفار الْقَبَائِل وَقَالَ فِي ذَلِك الْوَزير ابْن إِدْرِيس أشعارا يستنفر بهَا أهل الْمغرب ويحضهم على الْجِهَاد وإيقاظ العزائم لَهُ من ذَلِك قَوْله
(يَا أهل مغربنا حق النفير لكم ... إِلَى الْجِهَاد فَمَا فِي الْحق من غلط)
(فالشرك من جنبات الشرق جاوركم ... من بعد مَا سلم أهل الدّين بالشطط)
(فَلَا يَغُرنكُمْ من لين جَانِبه ... مَا عَاد قبل على الْإِسْلَام بالسخط)
(فَعنده من ضروب الْمَكْر مَا عجزت ... عَن دركه فكرة الشبَّان والشمط)
(فواتح الْمَكْر تبدو من خواتمه ... فَعنده الْمَكْر وَالْمَكْرُوه فِي نمط)
(وَأَنْتُم الْقَصْد لَا تبقن فِي دعة ... إِن السّكُون إِلَى الأعدا من السقط)
(من جاور الشَّرّ لَا يعْدم بوائقه ... كَيفَ الْحَيَاة مَعَ الْحَيَّات فِي سقط)
(قد يغبط الْحر فِي عز يخلده ... وَلَيْسَ حَيّ على ذل بمغتبط)
وَفِي هَذَا الشّعْر تضمين بَيت ابْن الْعَسَّال وَهُوَ مَشْهُور فَاجْتمع للسُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الاستنفار ثَلَاثُونَ ألف فَارس تزيد قَلِيلا أَو تنقص قَلِيلا فِيهَا(3/50)
الْجند وحصص الْقَبَائِل فِي أكمل شكة وَأحسن زِيّ وَلم يشهدها من الودايا سوى نفر يسير لأَنهم كَانُوا فِي زَاوِيَة الإهمال عِنْد السُّلْطَان ثمَّ عقد رَحمَه الله على هَذِه الْجنُود لوَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَسَار حَتَّى نزل بوادي إيسلي من أَعمال وَجدّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر لَا زَالَ جائلا فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَمَعَهُ نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مِمَّن كَانَ قد بَقِي مَعَه من أهل الْمغرب الْأَوْسَط لِأَن حَاله كَانَ قد أَخذ فِي التراجع والانحطاط وَلم تبْق لَهُ هُنَالك كَبِير فَائِدَة بل انْقَلب نَفعه ضَرَرا وحزمه خورا بِفساد نِيَّته واستفساده لجند السُّلْطَان ورعيته وَلما احتل الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بإيسلي وعسكر بِهِ جَاءَهُ الْحَاج عبد الْقَادِر يسْتَأْذن عَلَيْهِ فِي الِاجْتِمَاع بِهِ فَأذن لَهُ وَاجْتمعَ بِهِ وَهُوَ على فرسه فدار بَينهمَا كَلَام كَانَ من جملَته أَن قَالَ الْحَاج عبد الْقَادِر إِن هَذِه الْفرش والأثاث والشارة الَّتِي جئْتُمْ بهَا حَتَّى وضعتموها بِبَاب جَيش الْعَدو لَيْسَ من الرَّأْي فِي شَيْء وَمهما نسيتم فَلَا تنسوا أَن لَا تلاقوا الْعَدو إِلَّا وَأَنْتُم متحملون منكمشون بِحَيْثُ لَا يبْقى لكم خباء مَضْرُوب على الأَرْض وَإِلَّا فَإِن الْعَدو مني رأى الأخبية مَضْرُوبَة لم ينْتَه دون الْوُصُول إِلَيْهَا وَلَو أفنى عَلَيْهَا عساكره وَبَين كَيفَ كَانَ هُوَ يقاتله وَكَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ صَوَابا إِلَّا أَنه لم ينجع فِي الْقَوْم لانفساد البواطن وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَرُبمَا انتهره بعض حَاشِيَة الْخَلِيفَة على التفصح بمحضره وَالْإِشَارَة عَلَيْهِ فَبل استيشاره فَرجع الْحَاج عبد الْقَادِر عوده على بدئه وانتبذ نَاحيَة فِي جَيْشه ولسان حَاله يَقُول لم آمُر بهَا وَلم تسؤني وَلما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وَقعت الْحَرْب صبيحتها جَاءَ رجلَانِ من أَعْرَاب تِلْكَ النَّاحِيَة وطلبوا الدُّخُول على الْحَاجِب وَهُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين فدخلا عَلَيْهِ وَقَالا إِن الْعَدو عازم على أَن يصبحكم غَدا إِن شَاءَ الله فَاسْتَعدوا لَهُ وأعلموا الْأَمِير فَيُقَال إِن الْحَاجِب قَالَ إِن الْأَمِير الْآن نَائِم وَلست بِالَّذِي أوقظه ثمَّ جَاءَ عقب ذَلِك أَرْبَعَة أنَاس آخَرُونَ يعلمُونَ بِأَمْر الْعَدو فَكَانَ سبيلهم سَبِيل الْأَوَّلين وَلما طلع الْفجْر وَصلى الْخَلِيفَة الصُّبْح جَاءَ عشرَة من الْخَيل قيل من الْعَرَب وَقيل من حرس الْخَلِيفَة فأعلموا بمجيء الْعَدو وَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ قد أَخذ(3/51)
فِي الرحيل فَأمر الْخَلِيفَة رَحمَه الله النَّاس بالركوب والاستعداد وَأَن لَا يبْقى بالمحلة إِلَّا الرُّمَاة وَكَانُوا دون الْألف وَبعث إِلَى بني يزناسن بالركوب فَرَكبُوا فِي أُلُوف كَادَت تَسَاوِي جَيش الْخَلِيفَة وَصَارَت الْخَيل نَحْو الْعَدو مصطفة مد الْبَصَر وراياتها تخفق على هَيْئَة عَجِيبَة وترتيب بديع وَكَانَ الْخَلِيفَة سائرا فِي وَسطهمْ ناشرا المظلة على رَأسه رَاكِبًا على فرس أَبيض وَعَلِيهِ طيلسان أرجواني قد تميز بزيه وشارته وَلما تقَارب الجيشان جعلت الفرسان تبرز من الصُّفُوف كَأَنَّمَا تتعجل الْقِتَال فَأمر الْخَلِيفَة رَحمَه الله بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالسير بسير النَّاس
ثمَّ لما التقى الْجَمْعَانِ وانتشبت الْحَرْب رصد الْعَدو الْخَلِيفَة وقصده بِالرَّمْي مَرَّات عديدة حَتَّى سَقَطت بنبة أَمَام حَامِل المظلة وجمح فرسه بِهِ وَكَاد يسْقط وَلما رأى الْخَلِيفَة ذَلِك غير زيه بِأَن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فَرَكبهُ وَلبس طيلسانا آخر فاختفى حِينَئِذٍ وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد أَحْسنُوا دفاع الْعَدو وصدموه صدمة قَوِيَّة برقتْ لَهُم بهَا بارقة وَكَانَت خيلهم تنفر من صَوت المدافع وَلَكنهُمْ كَانُوا يقحمونها إقحاما وثبتوا فِي نحر الْعَدو مِقْدَار سَاعَة وَلما التفتوا إِلَى جِهَة الْخَلِيفَة وَلم يروه بِسَبَب تغير زيه خَشَعت نُفُوسهم وَقَالَ المرجفون إِن الْخَلِيفَة قد هلك فماج النَّاس بَعضهم فِي بعض وتسابق الشراردة إِلَى الْمحلة فعمدوا إِلَى الخباء الَّذِي فِيهِ المَال فانتهبوه وتقاتلوا عَلَيْهِ وتبعهم غَيرهم مِمَّن كَانَ الرعب قد ملك قلبه وَجعل النَّاس يَتَسَلَّلُونَ حَتَّى ظهر الفشل فِي الْجَيْش من كل جِهَة فَتقدم بعض الْحَاشِيَة إِلَى الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن النَّاس قد انْهَزمُوا وهم الْآن بالمحلة يقتل بَعضهم بَعْضًا ويسلب بَعضهم بَعْضًا فَقَالَ يَا سُبْحَانَ الله والتفت فَرَأى مَا هاله من أَمر النَّاس فَرجع عوده على بدئه وَانْهَزَمَ من كَانَ قد بَقِي مَعَه عَن آخِرهم وتبعهم الْعَدو يَرْمِي الكور والضوبلي من غير فَتْرَة وَثَبت الله بعض الطبجية بالمحلة وَلَكِن سَالَ الْوَادي فطم على الْقرى وَنفذ أَمر الله وَلم يهْزم الْمُسلمين إِلَّا الْمُسلمُونَ كَمَا رَأَيْت وَلما استولى الْعَدو على الْمحلة فر النهاب الَّذين كَانُوا(3/52)
بهَا وَبقيت فِي يَده بِمَا فِيهَا وَكَانَت مُصِيبَة عَظِيمَة وفجيعة كَبِيرَة لم تفجع الدولة الشَّرِيفَة بِمِثْلِهَا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار منتصف شعْبَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما رَجَعَ المنهزمة تفَرقُوا شذر مذر وَأهْلك النَّاس الْعَطش والجوع والتعب حَتَّى كَانَ نسَاء عرب آنكاد يستلبنهم كَيفَ شئن وانْتهى الْخَلِيفَة إِلَى تازا فَأَقَامَ بهَا أَرْبَعَة أَيَّام ريثما اجْتمع إِلَيْهِ الرُّمَاة وضعاف الْجَيْش ثمَّ قدم فاسا وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قادما من مراكش إِلَى فاس فاتصل بِهِ خبر الْوَقْعَة وَهُوَ برباط الْفَتْح فَنَهَضَ إِلَى فاس مجدا واتصل بِهِ فِي أثْنَاء طَرِيقه خبر وقعتين اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وهما هجوم الفرنسيس على طنجة والصويرة ورميه إيَّاهُمَا بألوف من الكور والبنب وَوَقع بالصويرة حَادث عَظِيم بِسَبَب الغوغاء الَّذين بِالْبَلَدِ والشياظمة المجاورين لَهُم فَإِنَّهُم لما رَأَوْا الْعَدو دخل الجزيرة ظنُّوا أَنه سيدخل الْبَلَد فمدوا أَيْديهم للنهب وَكَانَ ذَلِك أَولا فِي الْيَهُود ثمَّ عَم غَيرهم وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ فَكَانَ هَذَا مِمَّا زَاد غيظ السُّلْطَان وكمده فَعمد إِلَى جمَاعَة من قواد الْجَيْش وَحلق لحاهم تأديبا لَهُم
وَذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة فَزعم أَن عَسَاكِر الفرنسيس كَانَت يَوْمئِذٍ عشرَة آلَاف وَإنَّهُ كَانَ غَرَضه محاربة الَّذين كَانُوا يحاربونه على أَطْرَاف الْبِلَاد حَتَّى لقد أعْطى خطّ يَده للنجليز أَنه إِذا حَارب وَغلب لَا يتَمَلَّك من أَرض الْمغرب شَيْئا قَالَ فَلذَلِك لما وَقعت الْهَزِيمَة بعث بإثرها رسله يطْلب الصُّلْح مَعَ أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لم يظْهر عَجزا وَلَا فل ذَلِك من غربه بل اسْتَأْنف الْجد وَشرع فِي جمع الْعدَد اه كَلَامه
ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله هادن الفرنسيس على يَد الْفَقِيه أبي سلهام بن عَليّ آزطوط عَامل طنجة والعرائش على شُرُوط ثَمَانِيَة من جُمْلَتهَا نفي الْحَاج عبد الْقَادِر من تِلْكَ الْبِلَاد لما فِي بَقَائِهِ هُنَالك من آثاره الْفِتْنَة بَين الدولتين بِلَا فَائِدَة ودعت الْمصلحَة الوقتية السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى أَن أسقط عَن جنس(3/53)
الدينمرك وجنس السويد مَا كَانَا يؤديانه إِلَى الدولة الْعلية كل سنة فَالْأول خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف ريال وَالثَّانِي عشرُون ألف ريال وَكَذَلِكَ أسقط عَن غَيرهم وظائف أخر والأمور كلهَا بيد الله {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} الْأَنْبِيَاء 23
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع وَكَانَ الريال الْكَبِير ذُو المدفع بست عشرَة أُوقِيَّة والريال الصَّغِير الإفرنك بِخمْس عشرَة أُوقِيَّة والبندقي بِثَلَاثِينَ أُوقِيَّة وَالدِّرْهَم الصَّغِير بِأَرْبَع موزونات وَالْكَبِير بست موزونات وَلما أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع أخذت الأسعار فِي الِارْتفَاع أَيْضا وحاول السُّلْطَان رَحمَه الله حصرها فَلم تَنْحَصِر وَعلة ذَلِك وَالله أعلم أَنه لما وَقع مَعَ الفرنسيس هَذَا الصُّلْح وَأسْقط السُّلْطَان عَن الْأَجْنَاس مَا كَانَت تُؤَدِّيه كثر خطارهم وتجارهم بمراسي الْمغرب وازدادت مخالطتهم وممازجتهم لأَهله وَكَثُرت تِجَارَتهمْ فِي السّلع الَّتِي كَانُوا ممنوعين مِنْهَا وَانْفَتح لَهُم بَاب كَانَ مسدودا عَلَيْهِم من قبل فَظهر أثر ذَلِك فِي السِّكَّة وَفِي السّلع أما السِّكَّة فَلِأَن سكتهم كَانَت هِيَ الْغَالِبَة وَهِي أَكثر روجانا من سكَّة الْمغرب فَلَا بُد أَن يكون الحكم والتأثير لَهَا والتجار يعتبرون فِيهَا من الفضول والأرباح الناشئة عَن تغاير القطرين مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيرهم من الْعَامَّة وتبعهم على ذَلِك تجار الْمُسلمين وَأما السّلع فَلِأَن تجار النصاري يغالون فِي أثمانها أَكثر من غَيرهم كَمَا هُوَ مشَاهد ثمَّ مَا دَامَت بِلَاد الفرنج مترقية فِي التمدن وَحسن التَّرْتِيب واتساع الْأَمْن وَالْعدْل إِلَّا وسككنا وأسعارنا دائمة الترقي فِي الغلاء على نِسْبَة كَثْرَة المخالطة واتساع مَادَّة البيع وَالشِّرَاء فَتَأَمّله وَالله الْمُوفق
وَفِي هَذِه السّنة ثار أهل رِبَاط الْفَتْح على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد السُّوسِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ من أهل الوجاهة بالرباط ومتبوع الْعقب فِيهَا وَكَانَ كثيرا مَا يُجَالس(3/54)
الْعَامِل الْمَذْكُور ويدلي عِنْده بالصداقة والمودة فَيُقَال إِنَّه تشفع عِنْده فِي بعض أهل الْبَلَد فَرد شَفَاعَته فَغَضب الزُّبْدِيُّ وَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وَكَانَ أهل الْبَلَد قد سئموا ملكة السُّوسِي ومرضوا فِي طَاعَته لأسباب تعدها الرّعية على الْعمَّال فجَاء الزُّبْدِيُّ إِلَى منزله وَجمع جمَاعَة من أَعْيَان الْبَلَد مِمَّن يعلم انحرافهم عَن الْعَامِل الْمَذْكُور وأطعمهم وأطلعهم على خبيئة صَدره فِي أَمر الْعَامِل فَوَجَدَهُمْ إِلَيْهِ سرَاعًا فتحالفوا وتعاهدوا على أَن لَا يبْقى مُتَوَلِّيًا عَلَيْهِم بِحَال ثمَّ مَشوا إِلَيْهِ وأنذروه وتقدموا إِلَيْهِ بِأَن يلْزم بَيته ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على تَقْدِيم الزُّبْدِيُّ مَكَانَهُ فقدموه وَضبط أَمر الْبَلَد واتصل الْخَبَر بالسلطان رَحمَه الله وَهُوَ بفاس فَقَامَ وَقعد وَكتب إِلَيْهِم بالوعظ والتقريع فصموا عَن سَمَاعه وتمادوا على شَأْنهمْ ثمَّ بعث إِلَيْهِم الْقَائِد الطّيب الوديني البُخَارِيّ يتَوَلَّى عَلَيْهِم وَيقبض على أهل الْفساد مِنْهُم فأفحشوا عَلَيْهِ وطردوه من الْبَلَد مَعَ الْعشي فَعبر إِلَى سلا فِي مطر غزير وَرجع إِلَى السُّلْطَان فَأعلمهُ الْخَبَر فاحتال السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن بعث الْفَقِيه الْكَاتِب أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي فَقدم رِبَاط الْفَتْح وَجمع أعيانها وَخَيرهمْ فِيمَن يتَوَلَّى عَلَيْهِم فَاخْتَارُوا الزُّبْدِيُّ فولاه السُّلْطَان عَلَيْهِم وحمدوا سيرته وَبعد نَحْو سِتَّة أشهر قدم السُّلْطَان رِبَاط الْفَتْح وتريث بهَا مُدَّة حَتَّى نقر عَن رُؤُوس الْفِتْنَة فَقبض عَلَيْهِم وعَلى قائدهم الزُّبْدِيُّ وَبعث بهم إِلَى فاس فسجنوا بهَا ثمَّ سرحوا بعد حِين
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف نَهَضَ السُّلْطَان من فاس ونهض الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش والتقيا بمشرع أبي الأعوان من دكالة وعيدا هُنَالك عيد المولد الْكَرِيم ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى مراكش وَانْحَدَرَ الْخَلِيفَة إِلَى فاس وَفِي هَذَا الْعِيد بعث أَبُو عبد الله أكنسوس إِلَى السُّلْطَان بالقصيدة
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ بِنَاء البرج الْكَبِير بسلا الْمَعْرُوف بالصقالة الجديدة وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله شرع فِي بنائِهِ زمَان انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الفرنسيس وَتمّ فِي هَذِه الْمدَّة على أكمل الْأَحْوَال وأحسنها(3/55)
بَقِيَّة أَخْبَار الْحَاج عبد الْقَادِر وانقراض أمره وَمَا آل إِلَيْهِ حَاله
قد قدمنَا مَا كَانَ من فَسَاد نِيَّة الْحَاج عبد الْقَادِر وَأَنه رام الاستبداد بل والتملك على الْمغرب فَلَمَّا كَانَت الْهَزِيمَة بإيسلي ازْدَادَ طمعه فَصَارَ يَدْعُو أهل النواحي إِلَى مبايعته وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَكَاتب الْخَواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على مَا قيل ثمَّ احتال بِأَن بعث جمَاعَة وافرة من الحشم وَبني عَامر شيعته إِلَى السُّلْطَان قدمهم أَمَامه فِي صُورَة هراب مستجيرين بالسلطان فقبلهم السُّلْطَان وأنزلهم على نهر سبو ثمَّ تقدم الْحَاج عبد الْقَادِر حَتَّى وصل إِلَى الْقعدَة الْحَمْرَاء بَين التسول والبرانس وَكَانَ قَصده أَن يجْتَمع بشيعته ويصل يدهم بِيَدِهِ وَيتم لَهُ مَا أَرَادَ فَلَمَّا أطلع السُّلْطَان على دسيسته بعث إِلَى أُولَئِكَ الْجَمَاعَة عسكرا من الشراردة عَلَيْهِم الْقَائِد إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأكحل فاجتاحوهم بعد جهد جهيد وقتال شَدِيد من ذَلِك أَنهم اعتصموا بِرَبْوَةٍ وَجعلُوا يُقَاتلُون على حريمهم وَكَانُوا رُمَاة لَا تسْقط لَهُم رصاصة فِي الأَرْض فَكَانُوا كلما تَوَجَّهت إِلَيْهِم طَائِفَة من الْجَيْش استأصلوها بالرصاص وَكَانُوا يجمعُونَ موتاهم وينصبونهم أشبارا يتترسون بِهِ ويقاتلون من خَلفه وَلما أعيا الْجَيْش أَمرهم حملُوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة حَتَّى خالطوهم فِي معتصمهم وجالدوهم بِالسُّيُوفِ وطاعنوهم بِالرِّمَاحِ والتوافل وَانْقطع البارود فَكَانُوا يقتلُون أَبْنَاءَهُم ونساءهم بِأَيْدِيهِم فِرَارًا من السَّبي والعار ثمَّ جعلُوا يقتلُون أنفسهم حِين تحققوا أَنهم فِي قَبْضَة الأسار وَبعد هَذَا وَجه السُّلْطَان وَلَده سَيِّدي مُحَمَّدًا لحسم دائه فِي جَيش كثيف وَكَانَ رَئِيس الْجَيْش وكبيره بعد الْخَلِيفَة الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي الْمَدْعُو أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ ذكر فِي الشجَاعَة والرأي وَلما وصل الْخَلِيفَة إِلَى سلوان بعث إِلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر جمَاعَة فيهم وزيره أَبُو عبد الله البوحميدي يتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة والخدمة للسُّلْطَان وَقدمُوا إِلَى الْخَلِيفَة هَدِيَّة ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن يقدموا على السُّلْطَان رَحمَه الله فينهوا إِلَيْهِ الْأَمر وَالْعَمَل على مَا قَالَ(3/56)
فَوجه مَعَهم الْخَلِيفَة من يصحبهم إِلَى أَبِيه بفاس وَفِي أثْنَاء ذَلِك عمد الْحَاج عبد الْقَادِر ذَات لَيْلَة إِلَى طَائِفَة من جنده نَحْو الْخمس عشرَة مائَة على مَا قيل كلهم بَطل مجرب انتقاهم انتقاء وَكَانَ جَيش الْخَلِيفَة منقسما قسمَيْنِ بعضه مَعَه وَبَعضه مَعَ أَخِيه الْمولى أَحْمد فضمد الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَيْهِمَا
(فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أندية ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا)
بِتِلْكَ الْعصبَة الَّذين هم فتيَان الكريهة ومساعير الهيجاء وجمرات الْحَرْب كالما شهد بهم الوقائع وخاض غَمَرَات الْمَوْت مَعَ الفرنسيس وَغَيره فَلم يقف بهم إِلَّا بَين المجلتين وأطلقوا الرصاص مثل الْمَطَر وَأَرْسلُوا حراقيات على الْجمال وتهاويل مفزعة فماج النَّاس فِي ذَلِك الظلام الْغَاسِق وَنزل بهم من الهول مَا يقصر اللِّسَان عَن وَصفه وَقَامَ الْخَلِيفَة فَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ويمنعهم من الرّكُوب خوف الْفِرَار وَأمر الْعَسْكَر والطبجية بِالرَّمْي بالكور والضوبلي فَكَانُوا يرْمونَ إِلَى جِهَة محلّة الْمولى أَحْمد ظنا مِنْهُم أَن الْعَدو لَا زَالَ مقابلهم ومحلة الْمولى أَحْمد يرْمونَ إِلَى جهتهم كَذَلِك فَهَلَك من المحلتين بِسَبَب ذَلِك بشر كثير وَأما الْحَاج عبد الْقَادِر فَإِنَّهُ فر فِي أَصْحَابه بعد أَن حملُوا الْكثير من موتاهم مَعَهم وَكَانَ للقائد مُحَمَّد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ذكر وَلما أصبح النَّاس وتفقدوا حَالهم وجدوا فيهم من الْجَرْحى نَحْو الْألف وَمن الْقَتْلَى مَا يقرب ذَلِك وَأصْبح حول الْمحلة من قَتْلَى أَصْحَاب الْحَاج عبد الْقَادِر الَّذين أجهضهم الْقِتَال عَن حملهمْ نَحْو الْخمسين وأسروا نَفرا أَحيَاء فشاهدوا من طمأنينتهم عِنْد الْقَتْل مَا قضوا مِنْهُ الْعجب ووجدوا عَلَيْهِم كسى رفيعة مطرزة بالصقلى وَالْحَرِير وَنَحْو ذَلِك فَلَقَد كَانَ للرجل اعتناء بالجيش كَمَا نرى ثمَّ إِن الْخَلِيفَة رَحمَه الله أَمر بِاتِّبَاع الْحَاج عبد الْقَادِر فتبعته الْكَتَائِب المختارة فَكَانَ اللِّقَاء ثَانِيًا بمشرع الرحائل من وَادي ملوية قرب الْبَحْر عِنْد مسْقط ملوية فِي الْبَحْر فصدمته الجيوش صدمة أُخْرَى فنى فِيهَا كماته وَكسرت شوكته وفل حَده وخشعت نَفسه وأيس من جبر حَاله ففر إِلَى الفرنسيس ولجأ إِلَيْهِ وَترك محلته بِمَا فِيهَا فاستولى جَيش الْخَلِيفَة عَلَيْهَا(3/57)
حكى من حضر أَن الْخَيل كَانَ يطردون الْجَمَاعَة من أَصْحَاب الْحَاج عبد الْقَادِر وهم راجلون ليأسروهم فَمَا كَانُوا يدركونهم إِلَّا بعد الْمسَافَة الْبَعِيدَة جدا وَالْحَاصِل أَن مقَام هَذَا الرجل فِي الشجَاعَة مَعْرُوف وبصارته بمكائد الْحَرْب مَعْلُومَة لَوْلَا مَا ذَكرْنَاهُ من انعكاس حَاله ورومه الاستبداد وخلعه طَاعَة الإِمَام الْحق الَّذِي كَانَت بيعَته فِي عُنُقه
وَاعْلَم أَنه قد يقف بعض المنتقدين على مَا حكيناه من أَخْبَار هَذَا الرجل فينسبنا إِلَى تعصب وَسُوء أدب وَالْجَوَاب أَنا مَا حكينا إِلَّا الْوَاقِع وَأَيْضًا فَلَقَد قَالَ لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله حضرت يَوْمًا بَين يَدي السُّلْطَان أبي عنان فِي بعض وفاداتي عَلَيْهِ لغَرَض الرسَالَة وَجرى ذكر بعض أعدائه فَقلت مَا أعتقد فِي إطراء ذَلِك الْعَدو وَمَا عَرفته من فَضله فَأنْكر عَليّ بعض الْحَاضِرين مِمَّن لَا يحطب إِلَّا فِي حَبل السُّلْطَان فصرفت وَجْهي وَقلت أيدكم الله تحقير عَدو السُّلْطَان بَين يَدَيْهِ لَيْسَ من السياسة فِي شَيْء بل غير ذَلِك أَحَق وَأولى فَإِن كَانَ السُّلْطَان قد غلب عدوه كَانَ قد غلب غير حقير وَهُوَ الأولى بفخره وجلالة قدره وَإِن غَلبه الْعَدو لم يغلبه حقير فَيكون أَشد للحسرة وآكد للفضيحة فَوَافَقَ رَحمَه الله على ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وشكر عَلَيْهِ وخجل الْمُعْتَرض اه
وَلما كَانَ هَذَا الْفَتْح كتب السُّلْطَان إِلَى الْبِلَاد وزينت الْأَسْوَاق وأعلمت المفرحات وَنَصّ مَا كتب بِهِ السُّلْطَان بعد الِافْتِتَاح وَبعد فَإِن الْفَاسِد الفتان وَخَلِيفَة الشَّيْطَان أبعد فِي الجسارة وامتطى مطي الخسارة وَاسْتَوْسَعَ سَبِيل العناد واستضل سَبِيل الرشاد وَقَالَ من أَشد مِنْهُ قُوَّة وسولت لَهُ نَفسه الأمارة الاتصاف بالإمارة وَأَرَادَ شقّ عَصا الْإِسْلَام وصدع مهج الْأَنَام فأعلن بِكُل قَبِيح وَاسْتشْكل كل صَرِيح واستبطن الْمَكْر وَالْخداع وفَاق فِيهِ عابدي ود وسواع وشاع فِي طرف الإيالة ضَرَره وساء مخبره وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يظْهر مظَاهر يستهوي بهَا أهل الْجَهَالَة والعماية والضلالة فأيسنا من رشده وعرفنا مُضْمر قَصده فجهزنا لَهُ محلّة منصورة ذَات أَعْلَام منشورة جعلنَا فِي وَسطهَا ولدنَا الأبر سَيِّدي مُحَمَّد أصلحه الله وأسندنا إِلَيْهِ(3/58)
أمرهَا وقلدناه تدبيرها وعهدنا إِلَيْهِ أَن يسْعَى فِي حقن الدِّمَاء جهد الْإِمْكَان ويحتال على إِقَامَة أود هَذَا الفتان وَأَن يعالج داءه بِكُل دَوَاء وَأَن لَا يتبع فِيهِ الْأَغْرَاض والأهواء وَأَن يَجْعَل الْقِتَال آخر عمله وَعَدَمه غَايَة أمله فَلَمَّا رأى عَدو نَفسه إحاطة الجيوش بِهِ وَجه وَفْدًا من قبله يَدعِي التَّوْبَة فِيمَا مضى والكون على وفْق الْمُقْتَضى فأجبناهم بِأَن أحب الحَدِيث إِلَى الله أصدقه إِن صَاحبكُم هَذَا إِن أَرَادَ الْخَيْر لنَفسِهِ واحتاط لدينِهِ وَعمل لرمسه يخْتَار أحد أَمريْن أما أَن يدْخل لإيالتنا هُوَ وَمن مَعَه آمِنين على أنفسهم ومالهم لَهُم وَمَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا أَو يصحر فطلبوا منا الْإِمْهَال حَتَّى يوجهوا بَعضهم يخبرونه بالملاقاة ويستدركون الْأَمر قبل الْفَوات فأجبناهم إِلَى ذَلِك فَمَا وصلوا حَتَّى ضرب على الْمحلة لَيْلًا فَرده الله بالخيبة وأشوه أوبة وَترك قتلاه صرعى بعد مَا حمل مِنْهُم عددا وَجعل يدْفن مِنْهُم فِي قفوله ويخفي مَا حل بِهِ فِي أفوله فتقدمت إِلَيْهِ الْمحلة الْغَالِبَة بِاللَّه وقاتلته قتالا أذاقته فِيهِ الوبال والخبال فَكَانَت الكرة عَلَيْهِ فأجفل إجفال النعام واستدبر المعركة وهام وَمَات من خاصته ورؤسائه وَأهل شدته وَذَوي بأسائه عدد مُعْتَبر وَمن هُوَ أدهى وَأمر وعادت جموعه جمع تكسير وجيوشه موزعة بَين قَتِيل وأسير وسخر بهم بعد أَن كَانُوا ساخرين وغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين وَمن الله أَسْتَمدّ التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة إِلَى أرشد طَرِيق وَالسَّلَام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من محرم الْحَرَام فاتح سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف وَأما الْحَاج عبد الْقَادِر فَإِنَّهُ فر إِلَى الفرنسيس كَمَا قُلْنَا فَبَقيَ عِنْده مُدَّة
قَالَ صَاحب قطف الزهور مَا صورته لما فر الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَى الفرنسيس بَقِي عِنْدهم سِتّ سِنِين ثمَّ أعْتقهُ نابليون الثَّالِث وَعين لَهُ مُرَتبا سنويا يدْفع إِلَيْهِ من بَيت مَال الدولة فسكن دمشق الشَّام وَلم يزل قاطنا بهَا إِلَى هَذَا الْيَوْم اه قلت وَهُوَ الْآن فِي قيد الْحَيَاة حَسْبَمَا يبلغنَا وَالله تَعَالَى يتَوَلَّى أَمر الْمُسلمين ويتداركهم بِلُطْفِهِ وفضله آمين(3/59)
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وَفِي ضحى يَوْم الْإِثْنَيْنِ الرَّابِع من الْمحرم فاتح سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الْأَعْظَم الْفَقِيه الْأَجَل الأكرم إِمَام عملة اليراع ومقدم حَملَة ذَلِك الشراع مقلد الدولة بقلائد النثار والنظام فِي المواقف الْعِظَام والمزري ببدائعه وأوابده وروائعه ببديع الزَّمَان وَالْفَتْح بن خاقَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس جدد الله عَلَيْهِ ملابس الرِّضَا كلما لَاحَ نجم وأضا فولى السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه النجيب ذَا الْأَخْلَاق العاطرة والأنامل الواكفة الماطرة والرأي الْأَصِيل وَالْأَمر المحبوك وَالْبَاطِن الصافي الَّذِي يحاكيه الذَّهَب المسبوك أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رَحمَه الله لحضرة مراكش آخر قدمة قدمهَا سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف عَزله وَولى مَكَانَهُ الْفَقِيه الْكَاتِب اليحيى النزيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار التطاوني
وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من فاس إِلَى نَاحيَة وَجدّة فوصل إِلَى عين زورة فَوقف على تِلْكَ النواحي وَأصْلح من شَأْنهَا وَعَاد إِلَى فاس لَيْلَة عيد الْأَضْحَى من السّنة
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت فتْنَة عرب عَامر بأحواز سلا وفتنة عرب زعير بأحواز رِبَاط الْفَتْح وكلب هَاتَانِ القبيلتان على المدينتين وألحوا عَلَيْهِمَا بالغارات والنهب وَالْمُبَالغَة فِي العيث والإفساد بالطرقات والجنات واستافوا السَّرْح مرَارًا وَبَقِي النِّتَاج عِنْد أربابه حَتَّى هلك ضيَاعًا إِلَى غير ذَلِك وَلما تجاوزوا الْحَد فِي الطغيان بعث السُّلْطَان وصيفه الباشا فرجى صَاحب فاس الْجَدِيد فأوقع بعامر وقْعَة شنعاء رَابِع يَوْم النَّحْر من السّنة ومزقهم شذر مذر بعد أَن تحَصَّنُوا بالغراك فِيمَا بَين سلا والمهدية
وَفِي هَذِه السّنة حج ولد السُّلْطَان الْمولى الرشيد وَالْمولى سُلَيْمَان واعتنى بشأنهما صَاحب مصر وَصَاحب الْحجاز غَايَة ورجعا من السّنة الْقَابِلَة وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب كَانَ يطلع فِي نَاحيَة الْمغرب ويغرب بعد(3/60)
الْعشَاء مُدَّة من شهر وَنَحْوه فَفَزعَ النَّاس من ذَلِك وتخوفوه كَمَا قَالَ أَبُو تَمام
(وخوفوا النَّاس من دهياء مظْلمَة ... إِذا بدا الْكَوْكَب الغربي ذُو الذَّنب)
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أحدث السُّلْطَان المكس بفاس وَغَيرهَا من الْأَمْصَار أحدثه أَولا فِي الْجلد على يَد الْمُصْطَفى الدكالي بن الجيلاني الرباطي والمكي القباج الفاسي ثمَّ أحدثه فِي الْبَهَائِم ثمَّ تفاحش أمره فِي دولة ابْنه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وهلم جرا
وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ لَيْلَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان توفّي ولي الله أَبُو عبد الله سَيِّدي عبد الْقَادِر العلمي الْبركَة الشهير صَاحب الأزجال الملحونة وَكَانَت وَفَاته بمكناسة الزَّيْتُون وَدفن بحومة سَيِّدي أبي الطّيب وَعَلِيهِ بِنَاء حفيل إِلَى الْغَايَة رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى عبد الْقَادِر وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَى سلا بِقصد الْقِرَاءَة بهَا فَنزل بدار قاضيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن حسون عواد وَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن يعود الْوَلَد الْمَذْكُور الخشن من الْمطعم والملبس وَأَن لَا يُمكنهُ من شرب الأتاي إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ فِي الْجُمُعَة وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ الغلاء الْكَبِير والجوع المفرط وَكَانَ أَكْثَره بقبائل الْحَوْز من ابْن مِسْكين وَعَبدَة ودكالة وَغَيرهم فأهرعت هَذِه الْقَبَائِل إِلَى بِلَاد الغرب والفحص وأكلت النَّاس الْجِيَف وَالْميتَة والنبات وَصَارَ يعرف عِنْد أهل الْبَادِيَة بعام الخبيزي وعام يرني وَكَانَ الرجل يَأْكُل وَلَا يشْبع وَإِذا أمعن فِي الْأكل وتضلع شبعا لم تمض إِلَّا هنيهة حَتَّى تضطرم أحشاؤه جوعا وَكَانَ الْمَدّ بسلا ورباط الْفَتْح وَهُوَ مد كَبِير جدا قد بلغ ثَمَانِيَة عشر مِثْقَالا فَجعله الْعَامَّة تَارِيخا يَقُولُونَ كَانَ ذَلِك عَام ثَمَانِيَة عشر مِثْقَالا
وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي بسلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حسون عواد وَدفن بزاوية الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي من(3/61)
حومة بَاب أحسين من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَحمَه الله عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث والنحو قد أفنى عمره فِي جمع الْكتب ونسخها وخطه مُعْتَمد سَالم من التَّصْحِيف وَكَانَت فِيهِ شَفَقَة على الضُّعَفَاء والأشراف وَذَوي البيوتات كثير البرور بهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم رَحمَه الله وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء فاتح هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْأَفْضَل أَبُو عبد الله سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَكَانَ جليل الْقدر شهير الذّكر نفعنا الله بِهِ وبأسلافه
وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف هجم الفرنسيس على ثغر سلا وَذَلِكَ بِسَبَب مركبين وردا إِلَى مرسى العدوتين مملوءين قمحا وَكَانَت السّنة سنة مسغبة فنشب المركبان بساحل سلا فتسارعت الْعَامَّة إِلَيْهِمَا وانتهبوهما ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى أَلْوَاح المركبين وآلتهما فتوزعوها وَكَانَ المركبان لتجار الفرنسيس فتكلموا فِي شَأْنهمَا مَعَ السُّلْطَان رَحمَه الله فَكتب إِلَى عَامل سلا أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر يستكشفه عَن الْخَبَر فَجحد ذَلِك ظنا مِنْهُ أَنه يدْفع بذلك عَن الْبَلَد وَلما لم يحصل الفرنسيس بالْكلَام مَعَ السُّلْطَان على طائل هجم على سلا يَوْم الثُّلَاثَاء مهل صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فِي خَمْسَة بابورات وقاباق كَبِير وَيُقَال لَهُ النابيوس يشْتَمل على نَحْو سِتِّينَ مدفعا أَو أَكثر وَمن الْغَد زحف بمراكبه حَتَّى سامت بهَا الْبَلَد فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار وَشرع فِي رمي الكور والبنب إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا فَإِنَّهُ تبَاعد قَلِيلا وَبَقِي ينظر قيل هُوَ للنجليز وَكَانَ ترادف الكور والبنب على الْبَلَد على صُورَة فظيعة مثل الرَّعْد القاصف تكَاد تنهد لَهُ الْجبَال وَكَانَ فِي أول النَّهَار لَا يفتر وَبعد الزَّوَال صَار تتخلله فترات يسيرَة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن غربت الشَّمْس وَمضى نَحْو نصف سَاعَة وَكَانَت مُدَّة الرَّمْي ثَمَانِي سَاعَات وَنصفا وبذل النَّاس مجهودهم فِي مقابلتهم بِالرَّمْي وَفِي آخر النَّهَار عجز النَّاس وَبَقِي يَرْمِي وَحده وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو سَبْعَة أنفس وَكَانَ الكور والبنب الَّذِي رمى بِهِ الْعَدو فِي ذَلِك الْيَوْم شَيْئا كثيرا فالمقلل يَقُول سَبْعَة آلَاف وَالْمُكثر يَقُول اثْنَا عشر ألفا وَكَانَ البنب يتفرقع بعد مُدَّة وَقتل أُنَاسًا وَوَقع فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومناره كور كثير خرق(3/62)
السقوف والحيطان وَكَذَا فِي دور أهل الْبَلَد فأنعم السُّلْطَان على النَّاس بإصلاحها من بَيت المَال
وَقد سَاق منويل خبر هَذِه الْقِصَّة وَقَالَ إِنَّه لما انْقَضى للفرنسيس الزَّاد يَعْنِي الكور والبارود أقلع لَيْلًا لِأَنَّهُ خَافَ إِن لم يذهب طَوْعًا ذهب كرها وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان رَحمَه الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس كتب كتابا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه عبد الرَّحْمَن بن هِشَام الله وليه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بِمَا صدر من مراكب عَدو الله الفرنسيس من استرسال الرَّمْي على الْمَدِينَة من ضحى النَّهَار إِلَى قرب الْعشَاء ثمَّ أقلعوا بالخيبة والهوان وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا ومنح الله الْمُسلمين من الصَّبْر والثبات وَالْيَقِين ماقرت بِهِ عين الدّين وَكَانَ قذا فِي عين أهل الشّرك الْمُعْتَدِينَ وَاسْتشْهدَ من الْمُجَاهدين من ختم الله لَهُ بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية فَالْحَمْد لله على إعزاز دينه وَنصر مِلَّة نبيه وَلَا زَالَت وَالْحَمْد لله مشكاة الْإِسْلَام ساطعة الْأَنْوَار مشيدة الْمنَار {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} الصَّفّ 8 وَلَا يخفى عَلَيْكُم مَا ورد من اآيات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فِي فضل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَالصَّبْر لإعلاء كلمة الله وَقد قُمْتُم بِالْوَاجِبِ عَلَيْكُم فِي ذَلِك وكنتم عَن الظَّن بكم وأتيتم بالمطلوب مِنْكُم أصلحكم الله وَرَضي عَنْكُم وَمن قتل فقد أكْرمه الله بالنعيم الَّذِي لَا نفاد لَهُ وكل مَا تلف يخلفه الله فَمَا كَانَ فِي الله تلفه فَعَلَيهِ سُبْحَانَهُ خَلفه فزيدوا فِي التيقظ وَالصَّبْر أعانكم الله وَقد أمرنَا خدامنا أُمَنَاء العدوتين بتوجبه معلمين للغابة لقطع الكراريط وكتبنا لخديمنا ابْن الحفيان بإنزال خيام بقربهم يأوون إِلَيْهَا حَسْبَمَا طلبت وَلَا تعدمون شَيْئا مِمَّا يخصكم إِن شَاءَ الله وَمَا ذكرت من اجْتِمَاع أهل الْمَدِينَة عنْدك مَعَ القَاضِي والأمين راغبين فِي الْكتب لحضرتنا الْعلية بالإنعام عَلَيْهِم بِمَا يصلحون بِهِ صقالتهم ومساجدهم ودورهم وأسوارهم فها نَحن كتبنَا لأمناء العدوتين بالقدوم عَلَيْكُم والتطواف على الْمحَال المتهدمة دور(3/63)
وَغَيرهَا بمحضرك مَعَ القَاضِي والعدول وتقويم إصْلَاح كل مَحل بالمناسب وَأما الْجَامِع الْكَبِير وسيدي ابْن عَاشر فييسرون لَهما الْإِقَامَة وَعَن تيسيرها يشرعون فِي إصلاحهما وَأما الصقالة الجديدة والسور فيشرعون الْآن فِي إصلاحهما إصلاحا متقنا بالطابية الجيدة الَّتِي لَا يُؤثر الكور فِيهَا شَيْئا ويجعلون لَهَا ساترا على كَيْفيَّة بِحَيْثُ يكون الضَّارِب فِي أَمَان وَلَا تتراخوا فِي ذَلِك وَنحن على نِيَّة إِحْدَاث بستيون جيد إِن شَاءَ الله عِنْد مُنْتَهى السُّور من جِهَة الصقالة الجديدة فالعزم الْعَزْم والحزم الحزم ويصلك كتاب اقرأه على خداما أهل سلا وَالسَّلَام فِي ثامن صفر عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى نَص الْكتاب الشريف وَقد أحدث السُّلْطَان رَحمَه الله هَذَا البستيون فجَاء فِي غَايَة الْجَوْدَة والمتانة وَالْحسن وَهُوَ أثر من آثَار الدول الْعِظَام
وَفِي هَذِه السّنة ورد كتاب من السُّلْطَان فِي شَأْن حصر السِّكَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فقد طالما حاولنا حصر الزِّيَادَة فِي السِّكَّة وحذرنا وأنذرنا وأوعدنا من تعدى فِيهَا حدا أَو مد فِيهَا بِغَيْر مَا عينا يدا فَلم يزدْ النَّاس إِلَّا تطاولا فِيهَا وإقداما عَلَيْهَا فاستخرنا الله فِي أمرهَا فَظهر لنا أَن نزيد فِيهَا مَا تواطأ النَّاس على زِيَادَته وَلم يرجِعوا عَنهُ تتميما للأعذار وتكميلا للإنذار فَمن وقف عِنْد مَا حددنا وَلم يحد عَمَّا أبرمنا فقد اخْتَار سَلامَة نَفسه وَمَاله وَمن تعدى وافتات فِي ذَلِك بِأَدْنَى شَيْء فقد سعى فِي هَلَاك نَفسه ويناله من الوبال والنكال مَا يتْركهُ عِبْرَة لمن اعْتبر وَتَذْكِرَة لم تذكر وَقد أعذر من أنذر وَهَا نَحن جعلنَا للبندقي أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة وللضبلون اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِثْقَالا وللريال ذِي المدفع عشْرين أُوقِيَّة وللذي لَا مدفع فِيهِ تسع عشرَة أُوقِيَّة وللبسيطة الَّتِي بالمدفع خمس أَوَاقٍ وللتي لَا مدفع فِيهَا أَربع أَوَاقٍ وللدرهم الرباعي أَربع موزونات وَنصف موزونة وللدرهم السداسي سبع موزونات فعلى هَذَا الْعَمَل فأعلموا بِهِ من إِلَى نظركم وَفِي إيالتكم ومروهم بِالْوُقُوفِ عِنْده وَمن حاد عَنهُ وشممتم عَلَيْهِ رَائِحَة الْخَوْض والتعدي فِيهِ ازجروه زجرا شَدِيدا وأعلمونا وَالسَّلَام فِي رَابِع عشر ربيع الثَّانِي عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف(3/64)
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان رَحمَه الله قَبيلَة زمور الثَّلج وَكَانَ بمكناسة فَكتب أَولا لِابْنِهِ وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فَنَهَضَ مِنْهَا وَمر على تادلا فأوقع ببني مُوسَى وَقطع مِنْهُم أَرْبَعَة وَسِتِّينَ رَأْسا وَقبض على مائَة وَخمسين مسجونا وَكَانُوا قد قتلوا عاملهم أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن زيدوح ثمَّ دخل الْخَلِيفَة رِبَاط الْفَتْح يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بِهِ إِلَى يَوْم السبت السَّادِس عشر مِنْهُ ثمَّ عبر الْوَادي وَنزل بقرميم من أَعمال سلا ثمَّ سَار من الْغَد وَبَات بسيدي علال البحراوي فَأَقَامَ هُنَالك يَوْمَيْنِ ثمَّ رَحل فَنزل بتيفلت وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ تقدم إِلَى دَار ابْن الْغَازِي وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد خرج من مكناسة فَنزل الخمسينات وَشن الغارات على زمور فتوغلوا فِي الْجبَال فانتسف السُّلْطَان أَمْوَالهم وَأكل زُرُوعهمْ حَتَّى أشجاهم ثمَّ ارتحل عَنْهُم إِلَى مراكش وارتحل الْخَلِيفَة إِلَى فاس وَذَلِكَ فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة من السّنة وَمن هَذَا التَّارِيخ صَار السُّلْطَان والخليفة رحمهمَا الله يغزوانهم كل سنة ويجتمعان عَلَيْهِم فتنتسف الْجنُود زُرُوعهمْ وَأَمْوَالهمْ حَتَّى أضرّ بهم الْحَال وأشرفوا على الْهَلَاك وكادت تعدم عِنْدهم الأقوات وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة طَوْعًا وَكرها وَلما نَهَضَ السُّلْطَان عَنْهُم فِي هَذِه الْمرة كتب كتابا يَقُول فِيهِ وَبعد فَإِن فَسَاد زمور يعرفهُ الْخَاص وَالْعَام وَالْجُمْهُور أَشد سوادا من اللَّيْل وَأقوى مضاهاة بالسيل وطالما ذَكَرْنَاهُمْ ووعظناهم وحذرناهم وأنذرناهم وغضضنا الطّرف عَنْهُم مقابلين شدتهم باللين وتحريكهم بالتسكين فأطغاهم الْعجب وأبطرهم وغطى الشَّرّ سمعهم وبصرهم {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} الْمَائِدَة 41 وَلما رَأينَا ضلالهم لم يسفر عَنهُ صبح الإقلاع وشعائر الْإِسْلَام استولت عَلَيْهَا يَد الضّيَاع استنهضنا إِلَيْهِم الجيوش المنصورة الَّتِي لم تزل ألوية الْفَتْح أمامها بحول الله منشورة واستقدمنا ولدنَا الأبر سَيِّدي مُحَمَّدًا حفظه الله من مراكش فِي جَيش يقدمهُ الْيمن والإقبال ويسوقه السعد فِي الْمقَام والترحال ونهضنا نَحن من مكناسة الزَّيْتُون فِي جَيش شحن الفضاء وملأ النواحي والأرجاء خيلا ورجالا خفافا وثقالا وَكُنَّا فِيمَا تقدم(3/65)
نحارب هَؤُلَاءِ المفسدين فِي الْمحل الْمَشْهُور بالخميسات فَكَانَت الْمحَال لَا تستوعبهم قتلا ونهبا وتشريدا وَضَربا فَرَأَيْنَا هَذِه الْمرة أَن ننزل عَلَيْهِم أَولا بِعَين العرمة مَحل أفسدهم على الْإِطْلَاق والشمول والاستغراق فخيمنا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رحلنا مِنْهَا ونزلنا بمحصى ثمَّ رحلنا مِنْهُ ونزلنا الخميسات وَفِي خلال مقامنا ورحيلنا حل ولدنَا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله من الرِّبَاط وَنزل بتيفلت مَحل المفسدين ومحط رحال الْبُغَاة الْمُعْتَدِينَ وتقاربت المحلتان فعظمت على المفسدين بذلك النكاية وَبَلغت فيهم الْحَد وَالنِّهَايَة واشتغلت الْمحَال بِأَكْل زُرُوعهمْ وتبديدها واستخراج خباياهم قديمها وجديدها وهم حيارى ينظرُونَ وَإِلَى مَا حل بهم من الْبلَاء يبصرون وَكلما عزموا على المدافعة رجعُوا بالهوان وتخطفت رُؤُوس زعمائهم العقبان فعجزوا إِذا وَخَرجُوا من بِلَادهمْ وأيقنوا أَن الشَّقَاء الْمَكْتُوب عَلَيْهِم حكم بطردهم وبعادهم وَلم يبْق بهَا أنيس إِلَّا اليعافير والا العيس وتحصنوا بأوعارهم الْمَعْلُومَة وصياصيهم المشؤومة فِي جبال تنقبت بالغيوم وكادت تصافح النُّجُوم فَضَاقَ بهم الْحَال وَهلك الْعِيَال وضاعت الْأَمْوَال جوعا وعطشا وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ وَمَعَ تحصنهم بِتِلْكَ الأوعار وملتف تِلْكَ الْأَشْجَار كَانَت الجيوش تود أَن تقتحمها عَلَيْهِم وتهب نَفِيس أعمارها فِي أَخذهم وَنحن قد هبنا الرِّفْق الَّذِي يزين وَتَركنَا الْخرق الَّذِي يشين فَأمرنَا بالإمساك عَنْهُم حَتَّى تلفظهم أوعارهم وتحرقهم نارهم فَلَمَّا طَال بهم الأمد وتجرعوا حمى الكمد استجاروا بولدنا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله فشفع عندنَا فيهم فَقبلنَا شَفَاعَته على شُرُوط قبلوها وَحُقُوق التزموها ومثالب نبذوها وجنحنا إِلَى الْحلم وَالْعَفو اللَّذين أَمر الله بهما وأسندنا أَمرهم إِلَى ولدنَا الْمَذْكُور قطعا لأعذارهم ونهضنا عَنْهُم وَالْحَمْد لله محتسبين وَالله أسَال توفيق الْمُسلمين أَجْمَعِينَ آمين فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تِسْعَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف
وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب أَيْضا وَفِي أوائلها استوزر السُّلْطَان رَحمَه الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْأَفْضَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله(3/66)
الصفار التطاوني عقب قدومه إِلَى مراكش وفيهَا تمّ بِنَاء البستيون الْعَظِيم بسلا الْمَوْضُوع بالزاوية الشمالية مِنْهَا على شاطىء الْبَحْر وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ بِأَمْر السُّلْطَان من أحباس الْمَسْجِد الْأَعْظَم برباط الْفَتْح خَمْسُونَ ألف مِثْقَال أَو مَا يقرب مِنْهَا وفيهَا أَيْضا وَقعت نادرة بفاس وَهِي أَن الإِمَام كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين فَسقط بالصف الثَّالِث مِنْهُ قِطْعَة من الجبص الْمَبْنِيّ بِهِ السّقف تزن نَحْو ربع قِنْطَار ففر النَّاس الَّذين كَانُوا بذلك الصَّفّ فَرَآهُمْ الَّذين من خَلفهم فَفرُّوا لفرارهم فَرَآهُمْ غَيرهم فَفَعَلُوا مثلهم حَتَّى تقوضت صُفُوف الْمَسْجِد كلهَا وَخَرجُوا يتسابقون إِلَى الْأَبْوَاب وَوَقع عَلَيْهَا ازدحام شَدِيد وجاوزت مقدمتهم سوق الشماعين وَتركُوا نعَالهمْ ولبدهم وطيالسهم بل وَقَلَانِسِهِمْ وَضاع من الْمَصَاحِف والأجزاء وَدَلَائِل الْخيرَات مَا لَا يُحْصى كل ذَلِك وهم لَا يَدْرُونَ مَا وَقع وَمَا تراجعوا إِلَّا بعد حِين
ثورة إِبْرَاهِيم يسمور اليزدكي بالصحراء
لما كَانَت أواسط إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ظهر إِبْرَاهِيم يسمور اليزدكي بصحراء تافيلالت وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن برابرة الصَّحرَاء يَوْمئِذٍ كَانُوا حزيين حزب آيت عطة وَلَهُم الْعِزَّة وَالْكَثْرَة بذلك الْقطر وحزب آيت يفلمان وهم دون ذَلِك وَكَانَت آيت عطة تؤذي الْأَشْرَاف بِتِلْكَ النَّاحِيَة وتسيء جوارهم فَقَامَ إِبْرَاهِيم هَذَا فِي آيت يفلمان وجنح إِلَى الْأَشْرَاف وَبَالغ فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَصَارَ يَأْمر قومه بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيذكر السُّلْطَان بِخَير ويحض قومه على طَاعَته حَتَّى اشْتهر بذلك الْقطر وَكثر الثَّنَاء عَلَيْهِ وَاتفقَ أَن حدث فِي أثْنَاء ذَلِك بَينهم وَبَين آيت عطة شنآن فزحف إِلَيْهِم إِبْرَاهِيم وأوقع بهم وقْعَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا فازداد قومه فِيهِ محبَّة وغبطة وعلقت بِهِ آمال الْأَشْرَاف وأحبوه لِأَن غَلَبَة آيت عطة يَوْمئِذٍ كَانَت من الْأَمر الْغَرِيب وانضم إِلَى ذَلِك بسط يَده بالعطاء للبعيد والقريب واتصل خَبره بالسلطان وَكَانَ من طبعه رَحمَه الله محبَّة أهل الْخَيْر والجنوح لَهُم فَأقبل عَلَيْهِ(3/67)
وَرفع من قدره وولاه على تِلْكَ النَّاحِيَة فَاشْتَدَّ أمره وطار ذكره وسرت فِيهِ نخوة الرياسة فَأَرَادَ الاستبداد واستحال حَاله إِلَى الْفساد حَتَّى صَار يرد على السُّلْطَان أوامره ثمَّ تدنى قَلِيلا قَلِيلا من أَطْرَاف المملكة وَقَوي حسه بالمغرب فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله الْكَتَائِب وَبعث الْبعُوث فقاتلوه بُرْهَة ثمَّ قبض الله بعض قرَابَته فاغتاله واحتز رَأسه وَجَاء بِهِ متقربا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش فَأمر السُّلْطَان بإعمال المفرحات واستدعى أهل مراكش على طبقاتهم فَأَفَاضَ عَلَيْهِم النعم وغمرهم بِالْإِحْسَانِ غمر الديم
نادرة كَانَ مِمَّن استدعاه السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الصَّنِيع أهل الْمدَارِس من طلبة الْعلم المتغربين بهَا فجلسوا نَاحيَة من الْقَوْم وَلما خرج الطَّعَام من دَار السُّلْطَان وَفرق على طَبَقَات النَّاس اتّفق تَأْخِيره عَن هَؤُلَاءِ الطّلبَة وَاتفقَ أَيْضا أَن سَأَلَ بعض الْحَاشِيَة بعض الأعوان القائمين على الطَّعَام فَقَالَ لَهُ من الَّذِي بَقِي بِدُونِ إطْعَام فَقَالَ لم يبْق إِلَّا الطّلبَة والطحانون وَكَانَ كَذَلِك فَسَمعهُ أحد الطّلبَة فَقَالَ لأَصْحَابه أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُول هَذَا فَقَالُوا وَمَا قَالَ قَالَ لَهُم قَالَ إِنَّه لم يبْق إِلَّا أَنْتُم والطحانون فقد شوركتم مَعَهم بالْعَطْف بِالْوَاو وَالله لَا جلستم وَقَامُوا مغضبين فَتَبِعهُمْ بعض حَاشِيَة السُّلْطَان واستعطفهم فَلم يرجِعوا واتصل الْخَبَر بالسلطان فَقَالَ دعهم فسنصلح شَأْنهمْ وَمن الْغَد دعاهم إِلَى بُسْتَان الْوَزير إِبْنِ إِدْرِيس دَاخل بَاب الرب من مراكش وأفاض عَلَيْهِم من النعم مَا غمرهم ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى رَضوا ثمَّ عَمدُوا إِلَى ثمار الْبُسْتَان فاستلبوها عَن آخرهَا وَهَذِه الْقِصَّة تدل على كرم طبع السُّلْطَان رَحمَه الله وسعة أخلاقه وتعظيمه للْعلم وَأَهله وَقد ذكرت بِهَذِهِ النادرة قَول الْقَائِل
(إِذا شوركت فِي أَمر بِدُونِ ... فَلَا يَك مِنْك فِي هَذَا نفور)
(فَفِي الْحَيَوَان يجْتَمع اضطرارا ... أرسطاليس وَالْكَلب الْعَقُور)
وَتَحْقِيق مَسْأَلَة هَذَا الْعَطف مَذْكُور فِي بَاب الْفَصْل والوصل من علم الْمعَانِي وبستان ابْن إِدْرِيس هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ أَبُو عبد الله أكنسوس رَحمَه الله(3/68)
(ألمم بمغنى الْيمن من ذَا الْمجْلس ... وأدر بساحته نُجُوم الأكؤس)
(واسعد فَإِن الدَّهْر أسعد أَهله ... وأحلهم فِيهِ حُلُول المعرس)
(واشرب هنيء البال فِي جنباته ... يُغْنِيك عَن جيرون أهل الْمُقَدّس)
(واصرف عَن الزهراء ذكرك ساليا ... وَعَن الخورنق والرسوم الدَّرْس)
(لَو قلت مَا نَالَتْ بَدَائِع حسنه ... غرف البديع وَحقّ مجدك لم تس)
(نصر تحف بِهِ المحاسن كلهَا ... وتحار فِي مرآه عين الأكيس)
(فَإِذا أردْت إِصَابَة الْأَغْرَاض من ... كل المنى أَو كل معنى أنفس)
(أرسل مهام اللَّفْظ فِي أكنافه ... إِن الحنايا الحدب فِيهِ كالقس)
(لَا شَيْء أهنى من تفيىء ظله ... المخضل أَو من زهره المتنفس)
(تتمثل الأزهار فِي أنهاره ... مثل المجرة والنجوم النكس)
(وَترى الجداول تلتوي بغصونه ... تحكي البرين عَن الغواني الميس)
(طابت حسى الكاسات تَحت ظلاله ... وتسابقوا اللَّذَّات نَحْو المحتس)
(يَا منزلا قد خصصته سَعَادَة ... واستبدلته أنعما من أبؤس)
(أَصبَحت مأوى للوزير مُحَمَّد ... نجل الأدارسة الْكِرَام المغرس)
(إِنْسَان عين الْكَوْن من لبست بِهِ ... رتب العلى أبهى وأبهج ملبس)
(يَا أَيهَا الْبَحْر الَّذِي من فيضه ... كل الْأَمَانِي والغنى للْمُفلس)
(يهنيك ذَا الْقصر الَّذِي أنشأته ... بالسعد فِي عَام انْشِرَاح الْأَنْفس)
(قَابل قدور الدوح فِي جنباته ... بالغيد ترفل فِي بهي السندس)
(وَمَتى شربت زلاله فامزج بِهِ ... رَاح المراشف من أغن ألعس)
(لَا زلت تشرف من مطالع سعده ... كالبدر يظْهر من خلال الحندس)
(والدهر يخْدم جانبيك ويحتمي ... بجلالك العالي الْأَعَز الأقعس)
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب وَهُوَ إسهال مفرط يعتري الشَّخْص ويصحبه وجع حاد فِي الْبَطن والساقين ويعقبه تشنج وبرودة واسوداد لون فَإِذا تَمَادى بالشخص حَتَّى جَاوز أَرْبعا وَعشْرين سَاعَة فالغالب السَّلامَة وَإِلَّا فَهُوَ الحتف وَفِي هَذَا الوباء مَاتَ(3/69)
شيخ الطَّرِيقَة أَبَا عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الحراق التطاوني وبموته أقلع الوباء من تِلْكَ الْبَلدة وَمَات بِهِ بسلا منتصف ذِي الْقعدَة من السّنة مائَة وَعِشْرُونَ نفسا وَفِي هَذَا الْيَوْم توفّي عَامل سلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف الْتفت الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن إِلَى عرب الْخَلْط فاستعملهم فِي الجندية بعد أَن كَانُوا فِي عداد الْقَبَائِل الغارمة من لدن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فاعتنى بهم الْخَلِيفَة الْمَذْكُور ونقلهم من بِلَاد سُفْيَان وَبني مَالك وأحواز العرائش وأنزلهم بزقوطة ووادي مكس من أَعمال مكناسة وكساهم وأجرى عَلَيْهِم الجرايات ثمَّ اخْتَلَّ أَمرهم بعد سنتَيْن أَو ثَلَاث
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد كتاب من السُّلْطَان رَحمَه الله يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح مَا نَصه خديمنا الأرضى الطَّالِب عبد الْعَزِيز محبوبة وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فبوصول كتَابنَا هَذَا إِلَيْك عين عشْرين من الْولدَان النجباء لتعلم علم تاطبجيت وَانْظُر لَهُم معلما ماهرا أَو معلمين من طبجية الْبَلَد يعلمهُمْ ويشرعون فِي التَّعَلُّم الْآن فيبدؤون بمقدماته ثمَّ يتدربون مِنْهَا إِلَى الْأَخْذ فِي تعلم رماية المدفع والمهراس وَهَكَذَا حَتَّى ينجبوا ويمهروا فِي الصَّنْعَة ويصيروا قَادِرين على الْخدمَة ونطلب الله أَن يعينهم وَيفتح بصائرهم وَهَؤُلَاء الْعشْرين يكونُونَ زائدين على من هُنَالك من الطبجية ونأمر الْأُمَنَاء أَن يرتبوا لَهُم إِعَانَة على ذَلِك خمس عشرَة أُوقِيَّة فِي كل شهر للْوَاحِد ثمَّ من ظَهرت نجابته مِنْهُم وفَاق غَيره فَإنَّا نزيده فِي الْمُرَتّب كَمَا نأمرهم أَن يرتبوا لمعلمهم وَاحِد أَو أثنين ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة للْوَاحِد فِي كل شهر زِيَادَة على راتبهم الْمَعْلُوم واعتن بأمرهم غَايَة الاعتناء وَقد كتبنَا لغيركم من المراسي مثل هَذَا وسننظر من تظهر ثَمَرَته واعتناؤه وَالسَّلَام فِي عشْرين من ذِي الْقعدَة عَام ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف(3/70)
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين النجليز وَهِي قِسْمَانِ قسم فِي أُمُور التِّجَارَة وَبَيَان الصاكة والأعشار وَأَن لَا تُعْطى من أَعْيَان السّلع إِلَّا إِذا أَرَادَ التَّاجِر ذَلِك عَن طيب نَفسه وَهِي خَمْسَة عشر شرطا وَقسم فِي أُمُور الْهُدْنَة بشمول الْأَمْن والاحترام لرعيتي الْجَانِبَيْنِ فِي أَي مَوضِع كَانُوا وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا وَكَانَ الْمُبَاشر لعقدها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْخَطِيب التطاوني بطنجة
بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أَوْلَاده إِلَى الْحجاز وَمَا اتّفق لَهُم فِي ذَلِك
وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان رَحمَه الله أَوْلَاده إِلَى الْحجاز بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج وهم الْمولى عَليّ وَالْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى عبد الله وَالْمولى جَعْفَر وَابْن عمهم الْمولى أَبُو بكر بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الله وَبَالغ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي حسن تجهيزهم بِمَا لم يتَقَدَّم مثله لإخوتهم الَّذين حجُّوا قبلهم لَا من الْأَمْوَال وَلَا من الرِّجَال وَلَا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وَبعث مَعَهم من الْأَمْوَال شَيْئا كثيرا لأشراف الْحَرَمَيْنِ ولخواص مُعينين من الْفُقَهَاء والمجاورين وَوجه أكَابِر التُّجَّار والأمناء العارفين بعوائد الْبِلَاد والأقاليم والأمم مثل الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني والحاج مُحَمَّد بن جنان البارودي التلمساني وَبعث مَعَهم قَاضِي مكناسة الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب بن سَوْدَة المري الفاسي وأخاه الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن سَوْدَة فِي جملَة من الْفُقَهَاء يقرؤون عَلَيْهِم
أَخْبرنِي الْحَاج عبد الْكَرِيم بن الْحَاج أَحْمد الرزيني وَهُوَ أَخُو الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور آنِفا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله لما عزم على بعث أَوْلَاده إِلَى الْحجاز استدعى الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور فَدخل عَلَيْهِ(3/71)
فَأَوْصَاهُ بِمَا تنبغي الوصاة بِهِ وَأخْبرهُ أَن المَال الَّذِي عينه للنَّفَقَة على الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين هِيَ نَفَقَة جمعت من حَلَال بَعْضهَا من أصُول بتافيلالت وَبَعضهَا من غَيرهَا مِمَّا هُوَ حَلَال وَقَالَ لَهُ احتفظ بذلك المَال وَاجعَل السخاء فِيهِ بِمَنْزِلَة الْملح فِي الطَّعَام اه وَلما عزم الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين على الِانْفِصَال إِلَى وجهتهم أصحبهم السُّلْطَان رَحمَه الله وَصِيَّة كَافِيَة يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَوْلَادنَا عبد الله وَإِبْرَاهِيم وعليا وَأَبا بكر وجعفرا وفقنا الله وَإِيَّاكُم للْعَمَل بِطَاعَتِهِ وحفظكم وأرشدكم وتولاكم وَكَانَ لكم فِي سَائِر أحوالكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما كَانَت الْأَوْلَاد قطع الأكباد وعماد الظُّهُور وثمار الْقُلُوب وشفاء الصُّدُور وَجب أَن يكون لَهُم الْآبَاء السَّمَاء الظليلة والسحابة المنيلة وَخير الْآبَاء للأبناء مَا لم تَدعه الْمَوَدَّة للتفريط فِي الْحُقُوق وَخير الْأَبْنَاء للآباء مَا لم يَدعه التَّقْصِير إِلَى الْمُخَالفَة والعقوق قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَوْلَاد من رياحين الْجنَّة وَقَالَ الْقَائِل
(وَإِنَّمَا أَوْلَادنَا بَيْننَا أكبادنا ... تمشي على الأَرْض)
(إِن هبت الرّيح على بَعضهم ... تمْتَنع الْعين من الغمض)
هَذَا وَإِن أولى مَا زود بِهِ وَالِد وَلَده وَصِيَّة يتخذها فِي سَفَره إِمَامه ومعتمده فاعلموا أَنا وجهناكم لحج بَيت الله الْحَرَام وزيارة قبر نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام واستودعناكم الله الَّذِي لَا تضيع ودائعه فاقدروا قدر هَذِه الوجهة الَّتِي قصدتموها واعرفوا حق هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي يممتموها فتوجهوا لَهَا بِحسن النِّيَّة راجين من الله سُبْحَانَهُ بُلُوغ الْقَصْد والأمنية وأوصيكم بتقوى الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى وَبِمَا أوصى بِهِ إِبْرَاهِيم بنيه {يَا بني إِن الله اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} الْبَقَرَة 132 وَبِمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} {يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} لُقْمَان 13، 17 الْآيَة وَاسْتَوْصُوا بَعْضكُم بَعْضًا خيرا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة وأخوكم مولَايَ عبد الله أكبركم فكونوا عِنْد إِشَارَته فَإِن للسن حَقًا فِي(3/72)
التَّقَدُّم وَفِي الحَدِيث الشريف كبر كبر ومنذ نوينا توجيهكم لهَذِهِ الوجهة السعيدة وَنحن نجيل الْفِكر فِيمَن نوجهه مَعكُمْ حَتَّى وَقع اختيارنا على خديمنا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني لكَونه نعم الرجل وَاجْتمعَ فِيهِ من الْأَوْصَاف المحمودة مَا افترق فِي غَيره فكونوا لَهُ بِمَنْزِلَة الْأَوْلَاد البررة وَليكن لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد الشفيق كَمَا قَالَ الْقَائِل
(وَكَانَ لَهَا أَبُو حسن عَليّ ... أَبَا برا وَنحن لَهُ بَنِينَ)
وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وَحسن هَدْيه وسمته وَكِلَاهُمَا خير وَالْحَمْد لله وآثرناكم على أَنْفُسنَا بالفقيه الأوحد المشارك السَّيِّد الْمهْدي ابْن سَوْدَة وَتوجه مَعَه أَخُوهُ وَهُوَ أَيْضا مِمَّن يشفع بِعِلْمِهِ فأوفوا كل وَاحِد مِنْهُم قسطه ومستحقه مِمَّا أرشد إِلَيْهِ الرَّسُول فهذب وأدب إِذْ قَالَ لَيْسَ منا من لم يوقر كَبِيرنَا وَيرْحَم صَغِيرنَا وَيعرف لعالمنا حَقه وحافظوا على دينكُمْ وَاشْتَغلُوا بِمَا يعنيكم واتركوا مَا لَا يعنيكم فَفِي الحَدِيث الشريف من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَالا يعنيه واعكفوا على قراءتكم وَلَا تضيعوا الْأَوْقَات فِي البطالة خُصُوصا مَا يتَعَلَّق بِالْعبَادَة الَّتِي أَنْتُم بصددها فَمن الْآن اصرفوا كليتكم لقِرَاءَة الْمَنَاسِك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مَنَاسِك المرشد الْمعِين ثمَّ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أوسع فروعا وَأكْثر مسَائِل وعَلى الْفَقِيه السَّيِّد الْمهْدي الْمَذْكُور أَن لَا يألو جهدا ونصيحة فِي تعليمكم وَالْقِرَاءَة مَعكُمْ وَاجْعَلُوا أَيْضا وقتا مَعَ أَخِيه فَإِنَّهُ من طلبة الْوَقْت المدرسين فَلم يبْق لكم عذر فِي التَّقْصِير والبطالة وكل من توجه مَعكُمْ من الْأَصْحَاب والأتباع والدايات فَهُوَ فِي رعايتكم وَفِي الحَدِيث كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته فعلموهم أَمر دينهم ومناسك حجهم وخاطبوهم فِي ذَلِك على قدر مَا يفهمون ليَكُون عَمَلهم فِي صحيفتكم وَفِي الحَدِيث خَيركُمْ من تعلم وَعلم وَفِيه أَيْضا لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وتحلوا بحلية أهل الْفضل والكمال وَكُونُوا على مَا يَنْبَغِي من الْأَدَب مَعَ الْخلق وَمَعَ الْخَالِق وهذبوا أخلاقكم وهشوا وبشوا لملاقاة النَّاس وعاملوا كل وَاحِد بِمَا يسْتَحقّهُ وَلَا زَالَ النَّاس يذكرُونَ هُنَالك أَخَاكُم مولَايَ سُلَيْمَان(3/73)
أصلحه الله وَيدعونَ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة لما رَأَوْا من سَعَة أخلاقه وَحسن بشره وبشاشته مَعَ النَّاس ونعهد إِلَيْكُم أَن لَا تتركونا من الدُّعَاء فِي أَي موطن حللتموه من تِلْكَ المواطن الشَّرِيفَة خُصُوصا عِنْد الْمُلْتَزم وَالْمقَام وَغَيرهمَا من الْأَمَاكِن الَّتِي ترجى إِجَابَة الدُّعَاء عِنْدهَا وتوبوا عَنَّا فِي استلام الْحجر الأسعد وَفِي زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ وعَلى صَاحِبيهِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَلَيْكُم بالاستقامة فِي جَمِيع أُمُوركُم وسلوك سَبِيل الْمُوَافقَة والائتلاف وَترك المشاجرة وَالِاخْتِلَاف وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس والشيطان فَإِن لَهُ مزِيد تسلط بِالشَّرِّ فِي طرق الْخَيْر فكونوا فِي جَمِيعهَا على حذر قَالَ تَعَالَى {إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا} فاطر 6 نسْأَل الله لكم الْحِفْظ والسلامة والأمن والعافية ذَهَابًا وإيابا فِي أَنفسكُم ودينكم ودنياكم ونستودع الله دينكُمْ وأمانتكم وخواتم عَمَلكُمْ فتوجهوا فِي حفظ الله على مهل حَتَّى تصلوا إِلَى الْقصر وَأقِيمُوا بِهِ فِي جوَار أبي الْحسن بن غَالب نفعنا الله وَإِيَّاكُم ببركاته كَمَا فعل إخْوَانكُمْ قبل فَإِن الْمقَام بِالْقصرِ خير من الْمقَام بطنجة حَتَّى يقدم البابور وَيكْتب لكم الْخَطِيب بالإعلام وَحِينَئِذٍ توجهوا إِلَيْهَا راشدين وَقد كتبنَا بذلك للطَّالِب مُحَمَّد الْخَطِيب وطالعوا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني على كتَابنَا هَذَا حِين تتلاقوا مَعَه إِن شَاءَ الله وَاعْلَمُوا أننا عينا عشْرين ألف ريال بِقصد أَن يَشْتَرِي بهَا حبس فِي سَبِيل الله عشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا بِمَكَّة وَعشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا فِي سَبِيل الله بِالْمَدِينَةِ المنورة وَهِي من جملَة مَا حَاز الْحَاج مُحَمَّد الرزيني ورفيقه فِيمَا حازا من الصائر رَجَاء أَن يبْقى أجر ذَلِك جَارِيا مُنْتَفعا بِهِ إِن شَاءَ الله وَالسَّلَام فِي السَّادِس من رَمَضَان الْمُعظم عَام أَرْبَعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
قَالَ أكنسوس وَكَانَ ركوبهم من طنجة فِي قرصان النجليز فَلَمَّا بلغُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة تلقاهم صَاحب مصر بغاية الْفَرح وَالسُّرُور وَفَوق مَا يُوصف من الْإِكْرَام والبرور وأنزلهم فِي أعز مساكنه وأبهاها وأبهجها وأشهاها وَأعد فِيهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أواني الْفضة وَالذَّهَب وفرش الْحَرِير(3/74)
والديباج والنفائس الغريبة ورتب لَهُم الرَّوَاتِب الْعَالِيَة من أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الفاخرة الَّتِي تناسب أقدارهم وأباح لَهُم الدُّخُول إِلَى كل مَحل أَرَادوا رُؤْيَته من الْأَبْنِيَة والمصانع والرياض والبساتين الملوكية الَّتِي يتعجب من رؤيتها وتنقل أَخْبَارهَا فشاهدوا من ذَلِك مَا لَا يكْشف حَقِيقَته اللِّسَان وَمَا لَا يظنّ أَن تناله قدرَة الْإِنْسَان ثمَّ ركبُوا فِي بَحر القلزم إِلَى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مُبَاشرَة شَعَائِر الشَّرِيعَة المطهرة من الطّواف وَالسَّعْي وَالْوُقُوف وزيارة الْمشَاهد الْمُبَارَكَة وتوجهوا إِلَى أعظم الْمَقَاصِد وأسناها الَّتِي هِيَ لنفوس الْمُؤمنِينَ غَايَة منأها زِيَارَة شَفِيع الْأُمَم فِي الْموقف الْأَعْظَم وَكَانُوا صادفوا بِمَكَّة وخما وَفَسَاد هَوَاء مَاتَ مِنْهُ كثير من الْحجَّاج الأفاقين فَمَاتَ من أَصْحَابهم جملَة وَمَات من أَوْلَاد السُّلْطَان الْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى جَعْفَر الأول بِمَكَّة وَالثَّانِي بِالْمَدِينَةِ وَسلم الله الْبَاقِي وأكرمه وَأَعْلَى مقَامه وعظمه وَجمع لَهُ بَين شرف الْحَيَاة وثواب احتساب مصيبته لمن مَاتَ وَلما فازوا بزيارة سيد الْأَرْضين وَالسَّمَوَات ووافقتهم السَّعَادَة فِي ذَلِك الْمقَام الَّذِي تتضاءل دونه جَمِيع المقامات وأدركوا مَا أَملوهُ من لثم تُرَاب أشرف الْبِقَاع وَأكْرم الْحجر وانفجر عَلَيْهِم من كرم الله مَا انفجر ونال كل وَاحِد مَا كَانَ يؤمله ويرجوه فَخَرجُوا من الْمَدِينَة رَاجِعين بِكُل خير وغسلوا بالدموع مَا كَانُوا عفروه فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن من الْوُجُوه وَلَكِن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الْأَعْرَاب فِي الْمسَافَة الَّتِي بَين الْمَدِينَة وينبع لأَنهم انفردوا عَن الركب عِنْد الرُّجُوع وَلَوْلَا لطف الله لاستؤصلوا عَن آخِرهم وَلَقَد كَانَت نجاتهم من تِلْكَ الشدَّة من أعجب العجاب وَفِي خلوصهم مِنْهَا عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب فَإِنَّهُم كمن بعث بعد مماته وإقباره وَانْقِطَاع أنفاسه وأخباره وَالْحَمْد لله الَّذِي لَا تخفر ذمَّته وَلَا تنتهك حرمته فَلَمَّا بلغُوا يَنْبع وجدوا المراكب الَّتِي تحملهم فِي انتظارهم فَرَكبُوا قافلين ورياح السَّلامَة تسوقهم وأرباح التِّجَارَة والسعادة قد تكفل بهَا سوقهم فَلَمَّا وردوا حَضْرَة مراكش تَحت ظلال السَّلامَة وَقد نشر عَلَيْهِم الْقبُول بنوده وأعلامه باتوا بقنطرة تانسيفت وَفِي الْغَد ركبت الْخُيُول والعساكر السُّلْطَانِيَّة لتلقيهم وَخرج أهل(3/75)
مراكش فِي زيهم وزينتهم وَكَانَ يَوْم لقائهم يَوْمًا مشهودا وموسما من المواسم المعظمة معدودا اه
وَفِي سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي عَالم فاس وَالْمغْرب والمجيد فِي صناعَة التدريس والتحرير لَا سِيمَا مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل الْفَقِيه الْعَلامَة الأوحد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الفيلالي الفاسي وَكَانَ الْمُصَاب بِهِ خُصُوصا عِنْد طلبة الْعلم عَظِيما وَلم يتْرك بعده فِي إجادة تَحْرِير الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة مثله رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة السَّادِس من شعْبَان مِنْهَا بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة زلزلت الأَرْض زلزالا يَسِيرا وَفِي رَابِع شَوَّال من هَذِه السّنة ورد الْمُجَاهِد أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ فنيش السلاوي من مَدِينَة لوندرة إِلَى ثغر سلا وَمَعَهُ مركب موسوق فِيهِ سَبْعَة عشر مدفعا ومهراسان عظيمان من الْمَعْدن وَأَشْيَاء أخر من آلَة الْحَرْب وَكَانَ جلبه لذَلِك بِأَمْر السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لعمارة البستيون الْجَدِيد بسلا الَّذِي قدمنَا ذكره قبل وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب أَيْضا وَهِي الْمرة الثَّالِثَة فِي هَذِه الْمدَّة
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله
كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد قدم مراكش فاتح سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ولأول دُخُوله عزل الْوَزير أَبَا عبد الله الجامعي ورتب مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله غريط أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ استوزر الْفَقِيه أَبَا عبد الله الصفار التطاوني وَاسْتمرّ السُّلْطَان مُقيما بمراكش إِلَى آخر سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فغزا زمور الشلح وَاجْتمعَ عَلَيْهَا هُوَ والخليفة سَيِّدي مُحَمَّد على الْعَادة ثمَّ صَار الْخَلِيفَة إِلَى مراكش وَانْحَدَرَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة فاستمر مُقيما بهَا يَغْزُو زمور الشلح وَيعود إِلَيْهَا وَرُبمَا ذهب فِي بعض(3/76)
الأحيان إِلَى فاس إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَمَرض مرض مَوته وَقد كَانَ ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ منَازِل لزمور فَنَهَضَ عَنْهَا إِلَى مكناسة وَتَمَادَى بِهِ مَرضه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم فاتح سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن بَين العشاءين أول لَيْلَة من صفر بضريح السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رحم الله الْجَمِيع بمنه وَقد كنت رثيته بقصيدة شذت عني الْآن وأولها
(أَمن طيف ذَات الْخَال قَلْبك هائم ... ودمعك هام واكتئابك دَائِم)
(وَهل أذكرتك النائبات عشائرا ... عفت مِنْهُم بعد الْمَعَالِي معالم)
ورثاه الْفَقِيه أَبُو عبد الله أكنسوس بقوله
(هذي الْحَيَاة شَبيهَة الأحلام ... مَا النَّاس إِن حققت غير نيام)
(حسب الْفَتى إِن كَانَ يعقل أَن يرى ... مِنْهُ لآدام رُؤْيَة استعلام)
(فَيرى بداية كل حَيّ تَنْتَهِي ... أبدا وَإِن طَال المدا لتَمام)
(وَالنَّفس من حجب الْهوى فِي غَفلَة ... عَمَّا يُرَاد بهَا من الْأَحْكَام)
(أوليس يَكْفِي مَا يرى متعاقبا ... بَين الورى من سطوة الْأَيَّام)
(من لم يصب فِي نَفسه فمصابه ... بحبيبه حكما على إِلْزَام)
(بعد الشبيبة شيبَة يخْشَى لَهَا ... ذُو صِحَة أَن يبتلى بسقام)
(دَار أُرِيد بهَا العبور لغَيْرهَا ... ويظنها الْمَغْرُور دَار مقَام)
(منع الْبَقَاء بهَا تخَالف حَالهَا ... وتكرر الْإِشْرَاق والإظلام)
(لَو كَانَ ينجو من رداها مَالك ... فِي كَثْرَة الْأَنْصَار والخدام)
(لنجا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمن غَدا ... أَعلَى مُلُوك الأَرْض نجل هِشَام)
(خير السلاطين الَّذين تقدمُوا ... فِي الغرب أوفي الشرق أَو فِي الشَّام)
(سر الْإِلَه وَرَحْمَة منشورة ... كَانَت سرادق مِلَّة الْإِسْلَام)
(قصدته عَادِية الْحمام فَمَا عدت ... إِن هددت علما من الْأَعْلَام)
(لم تحجب الْحجاب مِنْهَا طَارِقًا ... كلا وَلَا دفعت يَد الأقوام)
(وَالْملك فِي عز مهيب شامخ ... وإمامه فِي جرْأَة الضرغام)(3/77)
(عجبا لَهَا لم تخش من فتكاته ... والأسد تزأر حوله وتحامي)
(عجبا لَهَا لم تستح من وَجهه ... وَالْوَجْه أبهج من بدور تَمام)
(عجبا لَهَا لم ترع طول قِيَامه ... متهجدا لله خير قيام)
(تَبًّا لَهَا لم تدر من فجعت بِهِ ... من مُعتق وأرامل الْأَيْتَام)
(أسفا على ذَات الْجلَال وَأَنه ... لأجل من أَسف وفرط هيام)
(يَا مَالِكًا كَانَت لنا أَيَّامه ... ظلا ظليلا دَائِم الإنعام)
(لَا ضير أَنَّك قد رحلت ميمما ... دَار الهناء وجنة الْإِكْرَام)
(فِي حَضْرَة تَغْدُو عَلَيْك بشائر ... من حورها بِتَحِيَّة وَسَلام)
(ضاجعت فِي تِلْكَ الْقُصُور كواعبا ... درية الألوان والأجسام)
(تسقيك صرف السلسبيل مروقا ... وتدير كأسا من مدام مدام)
(فلك الرضى فانعم بِمَا أَعْطيته ... وَلَك الهناء بنيل كل مرام)
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسيرَته ومآثره
يَكْفِيك أَيهَا الْوَاقِف على أَخْبَار هَذَا الإِمَام الْجَلِيل السّري النَّبِيل من مناقبه خصلتان إِحْدَاهمَا شَهَادَة عَمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لَهُ بالتقوى وَالْعَدَالَة والمحافظة على خِصَال الْخَيْر ونوافله حَتَّى قدمه على بنيه حَسْبَمَا مر ذَلِك كُله مُسْتَوفى وَالثَّانيَِة إِقَامَته صلب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة بعد إشرافها على الاختلال وردهَا إِلَى شبابها بعد أَن حَان مِنْهَا الزَّوَال والارتحال كَمَا رَأَيْته أَيْضا فعلى التَّحْقِيق أَن الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله هُوَ الْمولى إِسْمَاعِيل الثَّانِي وَأما حزمه وَضَبطه وَكَمَال عقله وتأنيه فِي الْأُمُور وَوَضعه الْأَشْيَاء موَاضعهَا وتبصره فِي مبادئها وعواقبها وإجراؤها على قوانينها فَمَا أَظُنك تجْهَل مِنْهُ شَيْئا بعد أَن قَصَصنَا عَلَيْك مَا مضى من أخباره رَحمَه الله وَقد رَأَيْت كَيفَ نزلت بِهِ النَّوَازِل وترادفت عَلَيْهِ الهزاهز من غير معِين يذكر أَو وَزِير يعْتَبر إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر فَقَامَ رَحمَه الله بأعباء ذَلِك كُله وعالج حلوه ومره حَتَّى رد النّصاب الملكي(3/78)
إِلَى أَصله وَأحل عزه فِي مَحَله وَأما ورعه وَصَبره وحياؤه وتوقفه فِي الدِّمَاء توقفا تَاما إِلَّا إِذا حصحص الْحق وَصرح الشَّرْع فَكل ذَلِك أَمر مَعْلُوم يُعلمهُ الْخُصُوص والعموم وَأما آثاره بالمغرب فشيء كثير من ذَلِك مَا افْتتح بِهِ ولَايَته من بِنَاء مَا تهدم من مرسى طنجة وصير عَلَيْهِ مَالا عَظِيما حَتَّى أَعَادَهُ أحسن وَأحْصن مِمَّا كَانَ وَمن ذَلِك تَجْدِيد الْحرم الإدريسي بفاس وَبِنَاء مَسْجده وتوسعته وتنميقه حَسْبَمَا مر وَمن ذَلِك البرجان العظيمان بسلا وأشبار الْكَبِير المواجه للبحر مِنْهَا والمارستان الْكَبِير بضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر والمنار الشهير بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم مِنْهَا وخزين البارود بالقليعة وَغير ذَلِك وأشبار الْكَبِير برباط الْفَتْح وَبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إِحْدَاهمَا الصخيرات وَالْأُخْرَى قَصَبَة أبي زنيقة فأمن النَّاس بهما وارتفقوا بالتردد إِلَيْهِمَا وجدد مَا تهدم من أبراج الصويرة واعتنى بهَا وصير عَلَيْهَا أَمْوَالًا ثقالا فَجَاءَت فِي غَايَة الإتقان والحصانة وَمن آثاره بمراكش آجدال الشهير وتجديد جَامع الْمَنْصُور بالقصبة بعد أَن لم يبْق مِنْهُ إِلَّا الِاسْم فَأَعَادَهُ إِلَى حَالَته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائِهِ وتجديد جَامع الكتبيين مرَّتَيْنِ وَإِصْلَاح قبَّة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي رَضِي الله عَنهُ وَالزِّيَادَة فِي جَامع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق البلفيقي بسوق الدقاقين مِنْهَا وَهدم جَامع الْوُسْطَى وإعادته على شكل بديع وهيئة حَسَنَة وَبِنَاء جَامع أبي حسون وَإِقَامَة الْجُمُعَة بِهِ كَمَا كَانَت أَولا وَبِنَاء جَامع القنارية وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمن آثاره بِحَضْرَة فاس الْعليا تَجْدِيد بُسْتَان آمِنَة المرينية
قَالَ أكنسوس وَكَانَ هَذَا الْبُسْتَان خرابا تألفه الوحوش مَعَ أَنه بِبَاب دَار السُّلْطَان وَفِي سرة الحضرة وَقد كَانَ فِي الدول المرينية على هَيْئَة بهية فِيهِ ظَهرت زِينَة تِلْكَ الدولة وضخامتها وَفِيه مَقَاعِدهمْ ومنازلهم الْعَالِيَة ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إِلَى أَن قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت تِلْكَ الْعَرَصَة منية من زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وجنة حائزة من الْبَهْجَة الْمرتبَة الْعليا ثمَّ أخنت عَلَيْهَا الْأَيَّام بصروفها ومحت من تِلْكَ الرسوم جَمِيع حروفها فرآها(3/79)
الْمُلُوك قبل مَوْلَانَا الْمُؤَيد فَلم يرقوا لحالها وَلَا أنقذوها من أوحالها مَعَ أَنَّهَا فِي جوارهم وعقر دِيَارهمْ فعطف الله عَلَيْهَا هَذَا السُّلْطَان الْمُبَارك فَأَعَادَ بعد الْمَمَات محياها وأبرز من ظلمات الْعَدَم جميل محياها
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله
كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله بِعَين الرضى من وَالِده مُنْذُ نَشأ وشب وَكَانَ متميزا عَن سَائِر إخْوَته بِشدَّة البرور بِأَبِيهِ ومتصفا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالصَّلَاح وَالتَّقوى وَسَائِر خِصَال الْخَيْر واستخلفه أَبوهُ صَغِيرا فَجرى على السّنَن الأقوم وحمدت سيرته وَلما رأى مِنْهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مخايل النجابة وَالصَّلَاح فوض إِلَيْهِ وَألقى بزمام مَمْلَكَته بيدَيْهِ وَلم يدّخر عَنهُ شَيْئا من أُمُور الْملك ووظائفه فاستلحق فِي أَيَّام أَبِيه واستركب وَاتخذ العساكر وجند الأجناد وَقدم وَأخر وخفض وَرفع وَأعْطى وَمنع حَتَّى كَأَنَّهُ ملك مُسْتَقل وَكَانَت الْعَادة أَنه إِذا كَانَ السُّلْطَان بمراكش كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا بفاس أَو بمكناسة وَبِالْعَكْسِ فَلَمَّا مرض السُّلْطَان رَحمَه الله مرض مَوته بمكناسة كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فَلم يرعه إِلَّا وُرُود الْكتب عَلَيْهِ من أَخِيه الْمولى الْعَبَّاس وَمن الْوَزير أبي عبد الله الصفار أَن السُّلْطَان قد أشرف وَوَقع الْيَأْس مِنْهُ فَنَهَضَ سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش منزعجا وجد السّير لَعَلَّه يدْرك حَيَاة أَبِيه فَلَمَّا كَانَ بِبِلَاد السراغنة على مرحلَتَيْنِ من مراكش اتَّصل بِهِ الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان رَحمَه الله ثمَّ قدمت عَلَيْهِ بيعَة أهل الحضرتين فاس ومكناسة وَجَمِيع الْجَيْش البُخَارِيّ وَسَائِر أهل الْحل وَالْعقد من أَعْيَان الْقَبَائِل والبربر فَاسْتَرْجع السُّلْطَان لمصابه وشكر الله إِذْ أبقى أَمر الْمُسلمين فِي نصابه وَكتب بالْخبر إِلَى مراكش وَبعث بالبيعة الْوَارِدَة عَلَيْهِ فَاجْتمع أهل مراكش على طبقاتهم بِجَامِع الكتبيين وَحضر عَامل الْبَلَد يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة وقائد الْجَيْش السُّوسِي بالقصبة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد(3/80)
الجراوي وقواد الْحَوْز من الرحامنة وَغَيرهم فقرىء كتاب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بالأخبار بِمَوْت وَالِده واجتماع النَّاس على بيعَته فارتفعت الْأَصْوَات بالترحم على السُّلْطَان الصائر إِلَى عَالم الرضى وَالرَّحْمَة وبالنصر لهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الله لحماية الْأمة وَكتب أهل مراكش بيعتهم من إنْشَاء أبي عبد الله أكنسوس وَكَذَا الْجَيْش السُّوسِي وَأهل الْحَوْز وَقدمُوا على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بمكناسة مؤدين الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فَأكْرم وفادتهم وَأجل مقدمهم وأفاض عَلَيْهِم من الْإِحْسَان مَا غمرهم وَكَانَ مِمَّا قيل فِي تهنئته بِالْملكِ قَول أبي عبد الله أكنسوس
(وُجُوه الْأَمَانِي حسنها متجدد ... ومنظرها يحكيه خد مورد)
(قضى الْحبّ فِي كل الْقُلُوب بِأَنَّهَا ... مماليك أَرْبَاب الْجمال وأعبد)
(وَكم من عصي للهوى متعفف ... يفر من السود الْعُيُون وَيبعد)
(تصيده ظَبْي على حِين غَفلَة ... مهفهف مستن الوشاحين أغيد)
(فَأصْبح مَفْقُود الْفُؤَاد مخبلا ... وَأي فؤاد عاشق لَيْسَ يفقد)
(وَللَّه فِي أسر الغرام ونهره ... نفوس ضِعَاف ليلهن مسهد)
(إِذا اللَّيْل أضواها تكنفها الْهوى ... وَلَيْسَ لَهَا غير الكواعب منجد)
(وَذي ظمأ بَين الضلوع يجنه ... إِلَى رشفات للصبابة تبرد)
(ترَاءى لَهُ من منحنى الْجزع برقه ... فَظن بِأَن الْجزع ثغر منضد)
(وتذكره تِلْكَ البروق مباسما ... عَلَيْهِنَّ مرفض الجفان معقد)
(يراقب أسراب النُّجُوم بمقلة ... تقسمها شطرين نسر وفرقد)
(ويهفو لأيام العقيق فتنثني ... مدامعه مثل العقيق تبدد)
(وَهل يتناهى عهد من سكن اللوى ... إِذا الْعَيْش غض والحبائب تسعد)
(وَمَا زَالَت الْأَيَّام تغري بِنَا النَّوَى ... وتنفي الَّذِي نهواه عَنَّا وتبعد)
(وَلست أُبَالِي للزمان صروفه ... وكهفي أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد)
(خَليفَة رب الْعَالمين بأرضه ... وصارمه الشاكي الشبات المهند)
(إِمَام تولى الله تشييد ملكه ... وناهيك ملكا بالإله يشيد)
(وصفوة هَذَا الْخلق من آل هَاشم ... وَأَعْلَى ذَوي التيجان فخرا وأمجد)(3/81)
(وأرحبهم فِي الْعِزّ باعا وَفِي العلى ... وَأَكْثَرهم فِي الْفضل حظا وأزيد)
(أَتَتْهُ عروس الْملك عاشقة لَهُ ... وَكم عاشق عَنْهَا يذاذ ويطرد)
(وَأَلْقَتْ على شوق إِلَيْهِ زمامها ... فطاب لَهَا مِنْهُ الجناب الممهد)
(فَأَصْبَحت الْأَيَّام تزهو بعدله ... وتنعم فِي ظلّ الهناء وتسعد)
(فَفِي بَابه مأوى المكارم والندى ... وَفِي بَابه الْخيرَات تولي وتوجد)
(ودولته للعز والنصر مألف ... وحضرته للأمن واليمن موعد)
(تذل مُلُوك الْعَالمين لِبَأْسِهِ ... وتركع مهما أبصرته وتسجد)
(لَهُ رَاحَة فِي الْجُود مَا الْغَيْث عِنْدهَا ... وَمَا الْبَحْر والدر النفيس الْمُقَلّد)
(لَهُ أنعم تأوي إِلَى ظلها المنى ... وتسحب أذيال السماح وترفد)
(وعزم على الْخيرَات لَيْسَ بسامع ... مقَالَة من فِي المكرمات يزهد)
(ورأي ينير الْخطب عِنْد اعتكاره ... وَيفْسخ مَا أَيدي النوائب تعقد)
(وَوجه إِذا مَا لَاحَ أيقنت أَنه ... محيا لَهُ وَقت السَّعَادَة مولد)
(حييّ كثير الابتسام مبارك ... يكبر رَبِّي إِن بدا ويوحد)
(أهز بِهَذَا الْمَدْح مِنْهُ معاطفا ... تجر ذيول الْفَخر إِن هُوَ يحمد)
(لَهُ الْعَسْكَر الجرار تبرق فِي الوغا ... صوارم مِنْهُ والمدافع ترْعد)
(يعد إِلَى الْأَعْدَاء كل كَتِيبَة ... من الرَّعْد يحدوها الوشيح المسدد)
(وكل كمى كالغضنفر مغضبا ... وكل صقيل وَهُوَ مَاض مُجَرّد)
(يبد العدا قبل اللِّقَاء مهابة ... فصارمه يفري الطلى وَهُوَ مغمد)
(هُوَ الْملك الْمَشْهُور بالحلم والدها ... وبالعلم والشهب الدراري تشهد)
(تشد لإدراك الْغنى عِنْد بَابه ... ركائب أنضاها الدؤب المشدد)
(يحدث عَنهُ الْوَفْد عِنْد صدوره ... أَحَادِيث من بَحر إِذا الْبَحْر يزِيد)
(إِلَى مجده آمالنا قد تطاولت ... وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا حماه الْمُؤَيد)
(فيا ملكا يحمي الرّعية بأسه ... ويحييهم بالبذل والبذل أرغد)
(يدبر فيهم كل يَوْم مصالحا ... تعود بِمَا يرضون وَالْعود أَحْمد)
(ويشملهم بِالْعَدْلِ وَالْفضل والندا ... وَيصْلح بالصمصام من هُوَ مُفسد)
(هَنِيئًا لَك الْملك الْجَدِيد فَإِنَّهُ ... يَدُوم بِحَمْد الله وَهُوَ مسرمد)(3/82)
(هَنِيئًا لنا نَحن العبيد فإننا ... بسؤدد مَوْلَانَا الإِمَام نسود)
(ودونك يَا خير السلاطين كاعبا ... بديعة حسن للنَّهْي تتودد)
(تدير كؤوس الراح دون تأثم ... إِذا هِيَ أثْنَاء المحافل تنشد)
(فَلَا زلت مَا بَين الْمُلُوك مُخَيّرا ... كَمَا اختبر مَا بَين الْمَعَادِن عسجد)
وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظهر الْمولى عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد وَقرب من فاس طَالبا للْملك قيل إِن بعض أَبنَاء عَمه بفاس ومكناسة لما توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله كاتبوه واستحثوه للقدوم وواطأهم على ذَلِك بعض عبيد البُخَارِيّ وَبَعض البربر الَّذين بأحواز مكناسة وَلما قرب من فاس كَانَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي يَوْمئِذٍ يَلِي أَمر شراقة بهَا فَقَامَ فِي ذَلِك أحسن قيام وَحمل النَّاس على الثَّبَات والتمسك بِطَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فَكَانَ ذَلِك سَببا فِي سُكُون هَذِه الْفِتْنَة وانحسام مادتها فَرجع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عوده على بدئه وآيس من بُلُوغ قَصده وَأقَام بزاوية العياشي عِنْد البربر إِلَى أَن أضمحل أمره وَلما قدم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله من مراكش إِلَى مكناسة اجتاز بِمَدِينَة سلا وَنزل بِرَأْس المَاء فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَبعد الزَّوَال دخل فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وزار الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن حسون وَالشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنْهُمَا وَدخل البستيون الْكَبِير وَرَأى مدافعه مَنْصُوبَة على عجلات الْحَدِيد وَكَانَت تغوص فِي الأَرْض إِذا جرت من شدَّة ثقل المدافع فَأَشَارَ بِأَن يفرش لَهَا بِسَاط من الْعود الْجيد الْمُحكم الصَّنْعَة والتركيب حَتَّى يَتَأَتَّى جريانها عَلَيْهِ بِلَا كلفة فصنعت لَهَا كَمَا أَشَارَ رَحمَه الله وَقد كنت مدحته بقصيدة لم يبْق على ذكري الْآن مِنْهَا إِلَّا بيتان وهما
(حوى العلويون الْمَعَالِي كلهَا ... وَمَا مِنْهُم إِلَّا ذرى الْمجد صاعد)
(وَلَكِن أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد ... هُوَ الْبَدْر فِي العلياء وَهِي الفراقد)(3/83)
انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الإصبنيول واستيلاؤه على تطاوين ورجوعه عَنْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السَّبَب فِي انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ جنس الإصبنيول أَن الْعَادة كَانَت جَارِيَة مَعَ أهل سبتة من النَّصَارَى وَأهل اللانجرة من الْمُسلمين أَن يتَّخذ كل من الْفَرِيقَيْنِ محلا للحراسة على المحدة الَّتِي بَينهمَا وَكَانَ النَّصَارَى يتخذون هُنَالك بُيُوتًا صغَارًا من اللَّوْح والمسلمون يتخذون أخصاصا من البردى وَنَحْوه فَلَمَّا كَانَ آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بنى نَصَارَى سبتة على المحدة بَيْتا من حجر وطين وَجعلُوا فِيهِ عَلامَة طاغيتهم الْمُسَمَّاة عِنْدهم بالكرونة فَتقدم إِلَيْهِم أهل اللانجرة وَقَالُوا لَهُم لَا بُد أَن تهدموا هَذَا الْبَيْت الَّذِي لم تجر الْعَادة ببنائه وترجعوا إِلَى حالتكم الأولى من اتِّخَاذ بيُوت الْخشب فَامْتنعَ النَّصَارَى من ذَلِك فَعمد أهل اللانجرة إِلَى ذَلِك الْبَيْت فهدموه وَإِلَى تِلْكَ الكرونة فنجسوها بالعذرة وَقتلُوا مِنْهُم أُنَاسًا وضيقوا على أهل سبتة بالغارات حَتَّى كَانُوا يصلونَ إِلَى السُّور فَرفع أهل سبتة أَمرهم إِلَى كَبِيرهمْ بطنجة فَكلم كَبِيرهمْ نَائِب السُّلْطَان بهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْحَاج عبد الله الْخَطِيب التطاوني وشكا إِلَيْهِ مَا نَالَ أهل سبتة من عيث اللانجرة فدافعه الْخَطِيب فَلم ينْدَفع وَقَالَ لَا بُد من حُضُور اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بطنجة وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا بُد من قَتلهمْ جَزَاء على فعلهم فَعظم الْأَمر على الْخَطِيب وَرُبمَا كلم فِي ذَلِك باشدور النجليز فَقَالَ لَهُ أحضر هَؤُلَاءِ المطلوبين على عين الْأَجْنَاس وَإِذا حَضَرُوا وَظهر حق الإصبنيول فَأَنا ضَامِن أَن لَا يصيبهم شَيْء فأعجب الْخَطِيب ذَلِك وعزم عَلَيْهِ فاتصل الْخَبَر بِأَهْل اللانجرة وَأَن الْخَطِيب عازم على أَن يكْتب إِلَى السُّلْطَان فِي شَأْن اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بأعيانهم فَمَشَوْا إِلَى الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بن الْعَرَبِيّ الوزاني وَقَالُوا لَهُ إِن الْخَطِيب لَا ينصح السُّلْطَان وَلَا الْمُسلمين وَإِن كل مَا قَالَه النَّصَارَى يساعدهم عَلَيْهِ حَتَّى جسرهم علينا وَنحن جئْنَاك لتعلم السُّلْطَان بأمرنا وتسأله أَن يمدنا بالقبائل الْمُجَاورَة لنا وَنحن نكفيه(3/84)
هَذَا المهم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة توفّي السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وَولي ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم مكناسة وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ فَكتب لَهُ الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بِأَمْر أهل اللانجرة وَقرر لَهُ مطلبهم فَشَاور السُّلْطَان فِي ذَلِك بعض حَاشِيَته فَمَال إِلَى الْحَرْب وَذَلِكَ كَانَ الرَّاجِح عِنْد السُّلْطَان لِأَنَّهُ عظم عَلَيْهِ أَن يُمكن الْعَدو من اثْنَي عشرا من الْمُسلمين وفْق اقتراحه واختياره يقتلهُمْ بِمحضر الْمَلأ من نواب الْأَجْنَاس وَرَأى رَحمَه الله أَن لَا يُمكنهُ من مطلبه حَتَّى يعْذر فِيهِ فاستخار الله تَعَالَى وَبعث خديمه الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي إِلَى الْخَطِيب بطنجة وَأمره أَن ينظر فِي الْقَضِيَّة ويستكشف الْحَال وَأَن لَا يجنح إِلَى الصُّلْح إِلَّا إِذا لم يجد عَنهُ محيصا وَكثر المتنصحون لَدَى السُّلْطَان وهونوا عَلَيْهِ أَمر الْعَدو جدا مَعَ أَنه لَيْسَ من السياسة تهوين أَمر الْعَدو وتحقيره وَلَو كَانَ هينا حَقِيرًا فوصل الزُّبْدِيُّ إِلَى طنجة وَاجْتمعَ بالخطيب وفاوضه فِي الْقَضِيَّة فَوجدَ الْخَطِيب جانحا إِلَى السّلم فَأبى أَن يساعده على ذَلِك وَأظْهر كتاب السُّلْطَان بتفويض النّظر إِلَيْهِ فِي النَّازِلَة فَتَأَخر الْخَطِيب عَنْهَا وَترك الْخَوْض وَالْكَلَام فِيهَا وَآخر الْأَمر أَن الزُّبْدِيُّ انْفَصل مَعَ نَائِب الإصبنيول على الْحَرْب وَذهب إِلَى حَال سَبيله وأزال الإصبنيول سنجقه من طنجة وَركب إِلَى بِلَاده فِي الْحِين وَكتب الزُّبْدِيُّ إِلَى السُّلْطَان بالْخبر فَكتب السُّلْطَان إِلَى الثغور يُخْبِرهُمْ بِمَا عقده مَعَ الإصبنيول من الْحَرْب وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا على حذر وَأَن يَأْخُذُوا أهبتهم للْجِهَاد وَفتح السُّلْطَان بَيت المَال وأبدأ وَأعَاد فِي تَفْرِيق المَال وَالسِّلَاح والكسي وَقدم أَولا الْقَائِد الْمَأْمُون الزراري إِلَى تطاوين فِي نَحْو مائَة فَارس وَخَمْسمِائة من رُمَاة الْعَسْكَر فرابطوا خَارج تطاوين إِلَى جِهَة سبتة ثمَّ برز جَيش الإصبنيول من سبتة فِي نَحْو عشْرين ألفا من الْعَسْكَر فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة وَنزل على طرف المحدة دَاخل أرضه وَكَانَ خُرُوجه يَوْم السبت أواسط ربيع الأول سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَيْهِ أهل اللانجرة وَمن جاورهم من قبائل الْجَبَل وتسامع النَّاس بذلك فقدموا من كل جِهَة حَتَّى اجْتمع مِنْهُم نَحْو(3/85)
الْخَمْسَة آلَاف وزحفوا إِلَى الْعَدو وقاتلوه نَحْو نصف شهر وكل يَوْم يقتل مِنْهُ ضعف مَا يقتل من الْمُسلمين لِأَن حربه كَانَ زحفا بالصف وحربهم كَانَ مطاردة بالكر والفر فَلَا بُد أَن يهْلك مِنْهُ أَكثر مِمَّا يهْلك من الْمُسلمين غير أَنهم لم يتمكنوا من مخالطته فِي مُعَسْكَره وَلَا من هزيمته لِأَنَّهُ كَانَ يحصن على نَفسه بأشبارات والمتارزات بخناشى الرمل وَغَيرهَا غَايَة التحصين ثمَّ بعث السُّلْطَان رَحمَه الله أَخَاهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الْمولى الْعَبَّاس فِي كَتِيبَة من الْخَيل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَارس فَنزل بِموضع يعرف بِعَين الدالية قرب طنجة ثمَّ بعد أَيَّام زحف إِلَى الْعَدو فَنزل بمدشر يُقَال لَهُ الْبيُوت باللانجرة وَاسْتمرّ الْقِتَال بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على نَحْو ماسبق نَحْو الْعشْرَة أَيَّام ثمَّ انْتقل الْمُسلمُونَ إِلَى مَوضِع آخر يعرف بِأبي كدان خوفًا من كرة الْعَدو ودهمه إيَّاهُم فَكَانَ ذَلِك مِمَّا جرأ الْعَدو عَلَيْهِم وَأظْهر الفشل فيهم وقاتلوا هُنَالك نَحْو الْخَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ إِن الْعَدو اجْتمع يَوْمًا وَتحمل بخيله وَرجله وزحف إِلَى الْمُسلمين فصدمهم بِجَمِيعِ قوته وشوكته فصبروا لَهُ وَصَدقُوهُ اللِّقَاء فَردُّوهُ على عقبه وَلما لم يستقم لَهُ ذَلِك جمع نَفسه ذَات لَيْلَة من غير شُعُور من الْمُسلمين وَركب الْبَحْر وَنزل بِمحل يعرف بالفنيدق لِأَنَّهُ كَانَ هُنَالك فندق قديم وَكَانَ الْعَدو فِي تنقلاته هَذِه لَا يُفَارق السَّاحِل ليحمي ظَهره بمراكبه البحرية وَكَانَ بَين الفندق ومحلة الْمُسلمين نَحْو سَاعَة وَنصف فَأَشَارَ أهل الرَّأْي على الْمولى الْعَبَّاس بِأَن يتَأَخَّر فليلا لكَون الْعَدو قد ضايقه فَتَأَخر الْمولى الْعَبَّاس بالجيش إِلَى مَوضِع يعرف بمجاز الْحَصَا فازداد طمع الْعَدو فِي الْمُسلمين وَظهر لَهُ ضعف رَأْيهمْ فِي مَكَائِد الْحَرْب وَعدم ثباتهم لَدَى الطعْن وَالضَّرْب وَكَانَ قَائِد عَسْكَر الإصبنيول يُسمى أردنيل ووزيره المشير عَلَيْهِ يُسمى بريم ورينتهم يَوْمئِذٍ إيسابيلا الثَّانِيَة ثمَّ عَاد الْمُسلمُونَ إِلَى مطاردة الْعَدو ومقاتلته على نَحْو مَا أسلفنا فَكَانُوا يذهبون إِلَيْهِ وَهُوَ بالفنيدق فيقاتلونه من الصَّباح إِلَى الْمسَاء فَكَانُوا ينالون مِنْهُ وينال مِنْهُم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَفد جمَاعَة من أهل تطاوين على السُّلْطَان رَحمَه الله بمكناسة فأعظموا أَمر الْعَدو(3/86)
وتخوفوا معرته فِي مَالهم وَأَوْلَادهمْ لأَنهم كَانُوا قد أحسوا بِشدَّة شوكته فَوَعَدَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن يمدهُمْ ويحامي عَنْهُم وَلَا يدّخر عَنْهُم شَيْئا من الْعدَد وَالْعدَد حَتَّى يعْذر فيهم وَفِي غَيرهم ثمَّ إِن الْعَدو ارتحل من الفنيدق بعد نَحْو عشرَة أَيَّام وَتقدم نَحْو تطاوين وَكَانَ النَّاس قبل هَذَا لَا يَدْرُونَ أَيْن هُوَ قَاصد وَلما ارتحل من الفنيدق عرفُوا أَنه قَاصد تطاوين فَنزل بِموضع يُقَال لَهُ النيكرو فَأَقَامَ هُنَالك نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام والقتال على حَاله الْمُتَقَدّم غير أَن الْعَدو كَانَ فِي مَادَّة قَوِيَّة من الْبر وَالْبَحْر يصل إِلَيْهِ من سبتة وَغَيرهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وَغير ذَلِك حَتَّى أَنه كَانَ إِذا ارتحل ترك من ذَلِك فضلَة كَثِيرَة يتعيش فِيهَا ضعفاء أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَكَانَ ذَلِك مكيدة مَقْصُودَة عِنْده يظْهر بهَا الْقُوَّة والرفاهية وَكَانَ شذاذ المتطوعة من أهل الْبَادِيَة يهجمون على مُعَسْكَره بِاللَّيْلِ ويجلبون مِنْهُ البغال والنيران ويصبحون بهَا فِي تطاوين وَغَيرهَا وَكَانَ ضعفاء الْعُقُول من الْعَامَّة يستحسنون ذَلِك وينشطون لَهُ ويرون أَنهم قد صَنَعُوا شَيْئا مَعَ أَن ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ فِي جنب مَا كَانَ يستولي عَلَيْهِ الْعَدو من الأَرْض ويتقدم بِهِ فِي نحر الْمُسلمين وهم يتأخرون وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين لم يَكُونُوا يقاتلونه على تَرْتِيب مَخْصُوص وهيئة منضبطة إِنَّمَا كَانُوا يقاتلونه وهم متفرقون أَيدي سبا فَإِذا حَان الْمسَاء تفَرقُوا إِلَى محالهم فِي غير وَقت مَعْلُوم وعَلى غير تعبية فَكَانَ قِتَالهمْ على هَذَا الْوَجْه لَا يجدي شَيْئا وَكَانَ الْعَدو يُقَاتل بالصف وعَلى تَرْتِيب مُحكم وَكَانَت عنايته بِمَا يستولي عَلَيْهِ من الأَرْض وَيرى تقدمه إِلَى أَمَام وَتَأَخر الْمُسلمين بَين يَدَيْهِ إِلَى خلف هزيمَة عَلَيْهِم
وَقد ذكر ابْن خلدون فِي فصل الحروب قتال أهل الْمغرب الَّذِي هُوَ المطاردة بالكر والفر وعابه فَقَالَ وَصفَة الحروب الْوَاقِعَة بَين أهل الْخَلِيفَة مُنْذُ أول وجودهم على نَوْعَيْنِ نوع بالزحف صُفُوفا وَنَوع بالكر والفر أما الَّذِي بالزحف فَهُوَ قتال الْعَجم كلهم على تعاقب أجيالهم وَأما الَّذِي بالكر والفر فَهُوَ قتال الْعَرَب والبربر من أهل الْمغرب وقتال الزَّحْف أوثق وَأَشد(3/87)
من قتال الْكر والفر وَذَلِكَ لِأَن قتال الزَّحْف ترَتّب فِيهِ الصُّفُوف وتسوى كَمَا تسوى القداح أَو صُفُوف الصَّلَاة ويمشون بصفوفهم إِلَى الْعَدو قدما فَلذَلِك تكون أثبت عِنْد المصارع وأصدق فِي الْقِتَال وأرهب لِلْعَدو لِأَنَّهُ كالحائط الممتد وَالْقصر المشيد لَا يطْمع فِي إِزَالَته
وَفِي التَّنْزِيل {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} الصَّفّ 4 اه ولازال الْعَدو هَكَذَا يتنقل شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى وصل إِلَى وَادي يعرف بوادي آسمير وَكَانَ يتحَرَّى فِي تنقلاته يَوْم السبت مُعْتَمدًا فِي ذَلِك حكما نجوميا على مَا قيل فَلَمَّا احتل بآسمير صَادف ريحًا شرقية هاج من أجلهَا الْبَحْر حَتَّى لم تقدر مراكبه أَن تحاذيه قرب السَّاحِل فَانْقَطَعت عَنهُ مَادَّة الْبَحْر وطلع مَاء الْبَحْر فِي وَادي النيكرو من خَلفه فأفعمه وَقطع عَنهُ الْمَادَّة من سبتة كَمَا طلع أَيْضا فِي وَادي آسمير من أَمَامه فحبسه عَن العبور وَصَارَ الْعَدو متوسطا بَين الوادين وَالْبَحْر عَن يسَاره وانقطعت عَنهُ الْموَاد حَتَّى حكى بعض عسكره بعد ذَلِك الْيَوْم أَن الكليطة وَهِي خبْزَة صَغِيرَة تشبه البقسماط كَانَت أول النَّهَار تبَاع ببسيطة وَفِي آخِره بِيعَتْ بريال وَلَا وجود لَهَا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ لَو وجدوا من ينتهز الفرصة فيهم وَلَكِن أَيْن الْيَد الباطشة وبقوا على تِلْكَ الْحَال يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة ثمَّ سكن الْبَحْر وانفش الواديان وجاءه المدد وَلما رأى الْمُسلمُونَ أَن الْعَدو وصل إِلَى ذَلِك الْمحل تقهقروا ونزلوا بمدشر القلالين بَينه وَبَين تطاوين نَحْو نصف سَاعَة ثمَّ إِن الْعَدو عبر الْوَادي من آخر اللَّيْل وَأصْبح بِموضع يُقَال لَهُ الْمضيق وَكَانَ متطوعة الْأَعْرَاب فِي هَذِه الْمدَّة على قسمَيْنِ الحازمون وَأهل الْغيرَة مِنْهُم يَقُولُونَ لَوْلَا أَنه بَين الْجبَال ومتحصن بالمتارزات لفعلنَا وَفعلنَا وَالْآخرُونَ يَقُول أحدهم مَا لي وللتقدم إِلَى هَذِه الشرشمة وَإِنَّمَا أهل تطاوين يُقَاتلُون عَن تطاونهم وَأما أَنا فحتى يصل إِلَيّ بخيمتي فِي عَبدة أَو دكالة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يعْتَقد أَنه لَا تجب عَلَيْهِ نصْرَة الْمُسلمين نعم الَّذين قَاتلُوا قتالا شَدِيدا وأحسنوا الدفاع وَقَامُوا بالنصرة بنية خَالِصَة وهمة صَادِقَة هم طَائِفَة من شُبَّان أهل فاس وَطَائِفَة من أهل زرهون وَالْبَعْض من آيت يمور وخصوصا(3/88)
الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِأبي ريالة مِنْهُم فَإِنَّهُ أبدأ وَأعَاد وأتى بِمَا لم يسمع إِلَّا فِي زمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
حكى من حضر وتواتر عَنهُ أَنه كَانَ معلما براية صفراء وَكَانَ يضمها إِلَى صَدره ويسددها نَحْو الْعَدو ثمَّ يحمل على صفهم فيخرقه حَتَّى يَأْتِي من خَلفه ويفتك فيهم أَشد الفتك ثمَّ يعود ويستلب خيل الْعَدو ويقودها بأرسانها وَيَأْتِي بهَا حَتَّى يَدْفَعهَا لمن بإزائه وَكَانَ إِذا تقدم نَحْو الْعَدو يَقُول لمن حوله تقدمُوا فَأَنا درقتكم وَأَنا سوركم تكَرر ذَلِك مِنْهُ الْمرة بعد الْمرة وَلما أصبح الْعَدو بالمضيق فَارق الْبَحْر وصمد إِلَى تطاوين فَدخل بَين جبلين وَكَانَ فِي انْتِهَاء ذَلِك الْمضيق الَّذِي بَين الجبلين من جِهَة تطاوين وَيُسمى فَم العليق بعض أخبية أهل فاس وَغَيرهم فصمد الْعَدو نحوهم وبغتهم بالكور والضوبلي وَهُوَ يقرع طبوله حَتَّى أعجل الْبَعْض مِنْهُم عَن حمل أثقاله وَلما وصل إِلَى هَذَا الْموضع حصل بتطاوين انزعاج كَبِير واستأنف النَّاس الْجد وَالِاجْتِهَاد والقتال وتذامر جَيش الْمُسلمين وَكَانَ الْيَوْم شَدِيد الْمَطَر وقاتلوا قتالا شَدِيدا وأبدأ أَبُو ريالة وَأعَاد فِي هَذَا الْيَوْم هلك تَحْتَهُ فرسَان وَأرْسل لَهُ الْمولى الْعَبَّاس فرسه وَكَانَ يعتني بِهِ وينوه بِقَدرِهِ وَيبْعَث الطبل يقرع على خبائه وأصابته فِي هَذَا الْيَوْم جِرَاحَة خَفِيفَة وَهلك من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى عدد كثير قيل هلك من أهل تطاوين فَقَط نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَكَانَ الظُّهُور فِي ذَلِك الْيَوْم لِلْعَدو وَمن الْغَد ارتحل من فَم العليق وَعدل يسارا إِلَى المرسى فَنزل بهَا ليتَمَكَّن من مدد الْبَحْر وَاسْتولى على برج مرتيل وَمَا وَالَاهُ كدار مرتيل الَّتِي هِيَ الديوانة وبمجرد وُصُوله إِلَيْهَا حصنها بأشبارات الرمل والمدافع وَغير ذَلِك وَاتخذ بهَا دورا من اللَّوْح وحوانيت مِنْهُ وَأقَام مطمئنا وَصَارَت المراكب تَتَرَدَّد لَهُ فِي الْبَحْر بالأقوات وَالْعدة والعسكر وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَتَّى استراح ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَلم يكن فِي هَذِه الْمدَّة قتال وَلَا أنشبه الْعَدو وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْمولى أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن فِي جَيش بعث بِهِ السُّلْطَان من مكناسة وَنزل بِموضع يُقَال لَهُ فَم الجزيرة بِالتَّصْغِيرِ وَكَانَ الْمولى الْعَبَّاس نازلا بمدشر القلالين بِمحل مُرْتَفع يشرف على مَا حوله وَلما استراح الْعَدو(3/89)
وصلحت أَحْوَال جَيْشه أنشب الْقِتَال فَكَانَ يخرج فيحوم حول المحلتين فَيُقَاتل وَيرجع فَكَانَ بريم دَائِما يكون فِي أول الْمُقدمَة على فرس أَبيض مَشْهُورا عِنْدهم مَوْصُوفا بالشجاعة وجودة الرَّأْي ثمَّ إِن الْعَدو عزم على مصادمة الْمُسلمين والهجوم على تطاوين فارتحل يَوْم السبت الْحَادِي عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وانكمش وَاجْتمعَ وَتقدم لِلْقِتَالِ وَأرْسل جنَاحا من الْخَيل طالعا مَعَ الْوَادي إِلَى جِهَة الْمَدِينَة وجناحا من الْعَسْكَر الرجالة طالعا من الغابة إِلَى جِهَتهَا أَيْضا وزحف بعسكره شَيْئا فَشَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِك يَرْمِي الكور والضوبلي وَالْبِغَال تجر المدافع والجناحات ممتدان يكتنفان محلّة الْمولى أَحْمد وَلما قربا مِنْهَا وَكَاد ينطبقان عَلَيْهَا فر من كَانَ بهَا وَتركُوا الأخبية والأثاث بيد الْعَدو فاستولى عَلَيْهَا وَنزل هُنَالك بعسكره وحصن عَلَيْهِ وتقهقر الْمولى الْعَبَّاس بجيشه حَتَّى نزل خلف تطاوين وَبقيت بَينه وَبَين الْعَدو وَكَانَ فِي تقهقره هَذَا قد دخل الْمَدِينَة وَمر فِي وَسطهَا وَاضِعا منديلا على عَيْنَيْهِ وَهُوَ يبكي أسفا على الدّين وَقلة ناصره وَلما اسْتَقر بالمحلة مَعَ الْعشي خرج إِلَيْهِ أهل تطاوين وَشَكوا إِلَيْهِ مَا نزل بهم من أَمر الْعَدو وَاسْتَأْذَنُوا فِي تَحْويل أثاثهم وأمتعتهم وحريمهم إِلَى مداشر الْجَبَل وَحَيْثُ يأمنون على أنفسهم قبل حُلُول معرة الْعَدو بهم فَأذن لَهُم وَعذرهمْ وَكَانَ قبل ذَلِك قد منع النَّاس من نقل أمتعتهم وحريمهم لِئَلَّا يفتنوا الْمُسلمين ويجروا عَلَيْهِم الْهَزِيمَة ولكي يقاتلوا عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ والقالب فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْم وَشَكوا إِلَيْهِ أَمر الْعَدو الَّذِي قد أطل عَلَيْهِم وَلم يبْق إِلَّا أَن يثب وثبة أُخْرَى فَيصير بهَا فِي وسط الْبَلَد عذرهمْ وَكَانَ الْعَدو حِين نزل بِفَم الجزيرة عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم قد أرسل أَربع كورات على تطاوين فَوَقَعت فِي وسط الْمَدِينَة كَأَنَّهُ يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد أشرف عَلَيْهِم وَلم يبْق دون أَخذهم قَلِيل وَلَا كثير وَلما سمع النَّاس كَلَام الْمولى الْعَبَّاس انْطَلقُوا مُسْرِعين إِلَى نقل أمتعتهم وَقَامَ الضجيج فِي الْمَدِينَة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل وامتدت أَيدي الغوغاء إِلَى النهب وخلع النَّاس جِلْبَاب الْحيَاء وانهار من كَانَ هُنَالك من أهل الْجَبَل والأعراب والأوباش ينقبون ويكسرون أَبْوَاب الدّور والحوانيت والداخل للمدينة أَكثر من الْخَارِج(3/90)
وَبَاتُوا ليلتهم كَذَلِك إِلَى الصَّباح وَلما طلع النَّهَار وتراءت الْوُجُوه انتقلوا من نهب الْأَمْتِعَة إِلَى الْمُقَاتلَة عَلَيْهَا فَهَلَك دَاخل الْمَدِينَة نَحْو الْعشْرين نفسا وعظمت الْفِتْنَة وتخوف من بَقِي بتطاوين عَاجِزا عَن الْفِرَار فَاجْتمع جمَاعَة مِنْهُم على الْحَاج أَحْمد بن عَليّ آبعير أَصله من طنجة وَسكن تطاوين وَتَشَاوَرُوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على أَن يكتبوا كتابا إِلَى كَبِير محلّة الْعَدو أردنيل يطْلبُونَ مِنْهُ أَن يقدم عَلَيْهِم لتحسم مَادَّة الْفِتْنَة الَّتِي هم فِيهَا فَكَتَبُوا الْكتاب ووجهوه مَعَ جمَاعَة مِنْهُم فَمَا انفصلوا عَن الْمَدِينَة غير بعيد حَتَّى عثروا على طلائع الْعَدو يطوفون حول الْمَدِينَة ويحرسون محلتهم فتسابقوا إِلَيْهِم وهشوا وبشوا وسألوهم مَا الَّذِي أقدمكم فَقَالُوا جِئْنَا بِكِتَاب إِلَى أردنيل فأبلغوهم إِلَيْهِ فأظهر أَيْضا الْبشر والفرح وَقدم إِلَيْهِم طَعَاما من الْحَلْوَاء وَقَالَ لَهُم فِي جملَة كَلَامه إِنِّي أفعل مَعكُمْ مَا لم يَفْعَله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان يَعْنِي من الْإِحْسَان وَكذب خذله الله فَإِن ذَلِك من حيله الَّتِي يستهوي بهَا الأغمار وَيفْسد بهَا الدّين وَإِلَّا فَأَي إِحْسَان فعله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان أَلسنا نرى دينهم قد ذهب وَأَن الْفساد قد عَم فيهم وَغلب وَأَن ذَرَارِيهمْ قد نشؤوا على الزندقة وَالْكفْر إِلَّا قَلِيلا وَعَما قريب يلْحق التَّالِي بالمقدم وَالله تَعَالَى يحوط مِلَّة الْإِسْلَام وَيكسر بقوته شَوْكَة الزَّنَادِقَة وَعَبدَة الْأَصْنَام وَلما عرضوا على الْعَدو الدُّخُول إِلَى بلدهم قَالَ لَهُم أما الْيَوْم فَيوم الْأَحَد وَهُوَ عيد النَّصَارَى وَلَا يحل لي التحرك والانتقال وَأما غَدا فانظروني فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار فَرَجَعُوا إِلَى أهلهم وأصحابهم وأعلموهم بمقالة الْعَدو وَالْحَال مَا حَال والقتال لَا زَالَ وأبواب الحوانيت تكسر والدور تخرب وَالْقَوِي يَأْكُل الضَّعِيف وَبَاتُوا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ كَذَلِك وَأَصْبحُوا من الْغَد كَذَلِك ثمَّ إِن الْعَدو استعد وَأخذ أهبته وَتقدم إِلَى تطاوين بعد أَن فرق عسكره على جِهَتَيْنِ فرقة مرت مَعَ أردنيل على الْجَبانَة قاصدة الْبَاب الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهَا وَفرْقَة ذهبت مستعلية إِلَى جِهَة القصبة والبرج وَلما وصل أردنيل إِلَى الْبَاب وصل الْآخرُونَ إِلَى القصبة فَأَما أردنيل فَوجدَ الْبَاب مغلقا وَكَلمه الْمُسلمُونَ من دَاخل الْمَدِينَة فَأَمرهمْ(3/91)
بِالْفَتْح فَقَالُوا إِن المفاتيح قد ذهبت فِي الْفِتْنَة فَقَالَ اكسروا الأقفال فكسروها وَدخل وَدخل مَعَه كبراء عسكره فَتوجه هُوَ إِلَى دَار المخزن فَنزل بهَا وافترق كبراء الْعَسْكَر فِي الْمَدِينَة بِأَيْدِيهِم وَرَقَات مَكْتُوب فِيهَا أَسمَاء الدّور الَّتِي ينزلون بهَا كل وَاحِد بداره مَكْتُوبَة فِي ورقته فَكَانَ أحدهم يسْأَل عَن دَار الرزيني وَآخر يسْأَل عَن دَار اللبادي وَآخر يسْأَل عَن دَار ابْن الْمُفْتِي وَهَكَذَا بِحَيْثُ دخلُوا على بَصِيرَة بأَمْره الْبَلَد ودور كِبَارهَا فاستقر كل وَاحِد مِنْهُم فِي دَاره الَّتِي عينت لَهُ وَأما الَّذين ذَهَبُوا نَحْو القصبة فَإِنَّهُم لما وصلوا إِلَى السُّور أنشبوا فِيهِ سلاليم من قمن غِلَاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فِيهَا بِسُرْعَة وَلما صَارُوا فِي أَعلَى البرج رفعوا سنجقهم فِي أَعلَى الصاري وأخرجوا عَلَيْهَا مدفعا وَلما سمع المشتغلون بالنهب وَالْقَتْل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إِلَى البرج وبمجرد مَا وَقع بصرهم على بنديرة الْعَدو تلوح خَرجُوا على وُجُوههم فارين كالنعم الشارد فَالْأَمْر لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَا أسفي على الدّين وَأَهله وَلما اسْتَقر الْعَدو بِالْبَلَدِ رتب حكامها وكف الْيَد العادية عَنْهَا وَولى على الْمُسلمين الْحَاج أَحْمد آبعير الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ دُخُوله إِلَى تطاوين واستيلاؤه عَلَيْهَا ضحوة يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّالِث عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورثاها الأديب الشريف السَّيِّد الْفضل أفيلال بقصيدة يَقُول فِيهَا
(يَا دهر قل لي على مَه ... كسرت جمع السَّلامَة)
(نصبته للدواهي ... وَلم تخف من ملامة)
(خفضت قدر مقَام ... للرفع كَانَ علامه)
(ملكته لأعاد ... لَيست تَسَاوِي قلامة)
(فالدين يبكي بدمع ... يحكيه صوب الغمامة)
(على مَسَاجِد أضحت ... تبَاع فِيهَا المدامة)
(كم من ضريح ولي ... تلوح مِنْهُ الْكَرَامَة)
(علق فِيهِ رهيب ... صليبه ولجامه)
(ومنزل لشريف ... وعالم ذِي استقامة)(3/92)
(صَار كنيفا لعلج ... وَلم يراع احترامه)
(وَكم وَكم من أُمُور ... للدّين فِيهَا اهتضامه)
(تبْكي عَلَيْهَا عُيُون ... كآبة وندامة)
(تطوان مَا كنت إِلَّا ... بَين الْبِلَاد حمامة)
(أَو كخطيب تردى ... من بعد لبس الْعِمَامَة)
(بل كنت روضا بهيجا ... زهرك أبدى ابتسامه)
(أَو كمحيا عروس ... علاهُ فِي الخد شامة)
(فقت بهاء وحسنا ... فاسا ومصر وشامه)
(رماك بِالْعينِ دهر ... وَلَا كزرق الْيَمَامَة)
(فَفرق الْأَهْل حَتَّى ... لم يبْق إِلَّا ارتسامه)
(مَا كَانَ أحلى زَمَانا ... وَمَا ألذ غرامه)
(مضى لنا مَعَ بدور ... ذَوي نهى وفخامه)
(مَا بَين إنشاد شعر ... وَبَين إنشا مقَامه)
(وشملنا فِي التئام ... والبسيط يهوى التئامه)
(حن السرُور إِلَيْهِ ... شوقا ورام التثامه)
(ساعده السعد حَتَّى ... نَالَ المنى ومرامه)
(يَا حسنها من لَيَال ... لَو لم تصر كالمنامة)
(تطوان يَا دَار أنس ... وخيس أهل الزعامة)
(هَل للوصال سَبِيل ... فالهجر أكمل عَامه)
(وَالْقلب ذاب اشتياقا ... وحسرة واستهامة)
(والوجد أَضْعَف جسما ... وَكَاد يبري عِظَامه)
(يَا أهل تطوان صبرا ... فَمَا لخطب أدامه)
(دوَام حَال محَال ... وَهل لظل إِقَامَة)
(إِن غَابَ نجم سعود ... ولاح نجم شآمة)
(فَسَوف يطلع بدر ... يمحو سناه ظلامه)
(فَاعْتَصمُوا برجاء ... وارعوا بِصدق ذمامه)(3/93)
(وحسنوا الظَّن تنجوا ... دنيا وَيَوْم الْقِيَامَة)
(وفوضوا الْأَمر لله ... يكف عَنَّا انتقامه)
(مَا فَازَ إِلَّا ذكي ... قدم خيرا أَمَامه)
(حَيْثُ أَقَامَهُ يرضى ... وَلَو بقصر كتامة)
(وَلَا يزل ذَا انْتِظَار ... فِي كل وَقت ختامه)
(يراقب الله سرا ... وجهرة باستدامه)
(يطْلب حسن ختام ... وَحل دَار المقامة)
ثمَّ إِن أردنيل بعد أَن رتب الْحُكَّام بتطاوين عَاد إِلَى محلته وَقسم عسكره قسمَيْنِ وأنزله مكتنفا للبلد شرقا وغربا وَاخْتَارَ مِنْهُ عشرَة آلَاف فَأدْخلهَا الْمَدِينَة وَبَقِي هُوَ خَارِجا بِإِحْدَى المحلتين قَالَ إِن جَيْشه كَانَ يَوْم دخل تطاوين سبعين ألفا كلهَا مقاتلة فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة ثمَّ أَمر بالنداء فِي الْبَلَد أَن من أوقد نَارا تلْزمهُ الْعقُوبَة الشَّدِيدَة حذرا من أَن تكون هُنَالك مينا للْمُسلمين أَو مَا أشبههَا فَبَقيَ النَّاس على ذَلِك نَحْو أَرْبَعَة أَيَّام لم يوقدوا فِيهَا نَارا ونادى أَيْضا بِأَن من فر من أهل الْبَلَد وَلم يَأْتِ إِلَى مَتَاعه وَأَصله إِلَى سَبْعَة أَيَّام فَلَا شَيْء لَهُ بعد وَلم يقدم شَيْئا على نقل البارود والمدفع الَّذِي كَانَ للْمُسلمين بِالْمَدِينَةِ فَأَما المدفع فَحَمله إِلَى أصبانيا وَأما البارود فَجعله بضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي السعيدي وَكَذَا فعل بِجَمِيعِ آلَات الْجِهَاد ثمَّ عمد إِلَى ضريح سَيِّدي عبد الله الْبَقَّال فَجعله كَنِيسَة وَجعل مَسْجِد الباشا مختزنا للأرز وَالشعِير وَمَسْجِد القصبة مختزنا للكليط ثمَّ سَار فِي الْمُسلمين بالتوقير والاحترام وَلم يسمهم خسفا وَلَا كلفهم شغلا وَلَا اقْتضى مِنْهُم مغرما كَانَ يتألفهم بذلك وَمن بَاعَ مِنْهُم شَيْئا أَضْعَف لَهُ فِي الثّمن وأربحه وَكَذَا فعل مَعَ أهل المداشر الَّذين حول الْبَلَد حَتَّى اتخذ النَّاس سوقا بِموضع يعرف بكدية المدفع خَارج تطاوين وشاع خَبره فِي قبائل الْجَبَل فانهاروا عَلَيْهِ من كل جَانب وربحت النَّاس فِيهِ ثمَّ كتب أردنيل كتبا وَبعث بهَا إِلَى قبائل الْجَبَل يعدهم ويمنيهم إِن هم قدمُوا عَلَيْهِ وخالطوه بِالْبيعِ وَالشِّرَاء ويتوعدهم إِن لم يَفْعَلُوا فقدموا من كل أَوب وَارْتَفَعت الأسعار(3/94)
فزادت ضعف مَا كَانَت عَلَيْهِ وَأكْثر واستمرت كَذَلِك فَلم ترجع بعد ثمَّ أَخذ فِي تَرْتِيب بِنَاء الْمَدِينَة وتبديل شكلها حَسْبَمَا جرت بِهِ عَادَة النَّصَارَى فِي مدنهم فهدم مَا لم يُوَافق نظره وفرز الدّور من سور الْبَلَد وكل دَار كَانَت ملتصقة بالسور فصلها عَنهُ وَاسْتمرّ على هَذَا الْحَال نَحْو الْعشْرين يَوْمًا ثمَّ دَار الْكَلَام بَينه وَبَين الْمولى الْعَبَّاس فِي الصُّلْح وتسامع النَّاس بِهِ ففرح الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى مَعًا أما الْمُسلمُونَ فَوجه فَرَحهمْ ظَاهر وَأما النَّصَارَى فَإِنَّهُم وَإِن كَانَ لَهُم الظُّهُور فهم لَا يدركونه سهلا بل مَعَ الْقَتْل الْعَظِيم وَالْجرْح الْكثير وَالْمَشَقَّة الفادحة قَالَ تَعَالَى {إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَا لَا يرجون} النِّسَاء 104 هَذَا إِلَى مُفَارقَة بِلَادهمْ الَّتِي ألفوها وعوائدهم الَّتِي ربوا عَلَيْهَا لَا سِيمَا عَامَّة جيشهم الَّذين الْغَلَبَة فِي ضمن هلاكهم فدماؤهم هِيَ ثمنهَا كَمَا قيل بجبهة العير يفد حافر الْفرس
حكى من حضر أَن عَسْكَر النَّصَارَى لما سمعُوا بتناول الصُّلْح حصل لَهُم من الْفَرح أَضْعَاف مَا حصل للْمُسلمين وصاروا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِم ويبحثونهم عَمَّا تجدّد من الْأَخْبَار وَكلما سمعُوا بِشَيْء من أَمر الصُّلْح طاروا فَرحا وَذَلِكَ لِأَن قتال النَّصَارَى كُله على الْإِكْرَاه إِذْ لَا يُمكن عسكريا مِنْهُم أَن يفر من الزَّحْف حَال الْقِتَال لِأَن الخيالة والسيافة من ورائهم يذمرونهم إِلَى الإِمَام وَمهما رَجَعَ أحد مِنْهُم إِلَى خلف وَترك فِي الصَّفّ فُرْجَة ضربت عُنُقه فِي الْحِين فالموت عِنْدهم فِي الْفِرَار مُحَقّق وَفِي التَّقَدُّم مظنون فيختارون المظنون على الْمُحَقق اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا اشتدت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس وَاخْتَلَطَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ أمكن الْفِرَار حِينَئِذٍ لاشتغال الرئيس والمرؤوس كل بِنَفسِهِ وَبِهَذَا الضَّبْط لم تتفق لَهُم هزيمَة مُنْذُ خَرجُوا من سبتة وَمن عَادَة الْعَدو فِي الْحَرْب أَنه إِذا نَهَضَ لِلْقِتَالِ ارتحل بِجَمِيعِ مَا فِي عسكره كَأَنَّهُ مُسَافر فترى العسكري مِنْهُم إِذا تقدم لِلْقِتَالِ حَامِلا مَعَه جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من مَاء وَطَعَام وبارود ورصاص حَتَّى الموسى والمقص والمرآة والصابون وَغير ذَلِك قد اتخذ لجَمِيع ذَلِك أوعية لطافا وعلقها عَلَيْهِ فَلَا يؤده حملهَا لِأَنَّهُ اقْتصر من كل على(3/95)
قدر الْحَاجة وَأما الأخبية فَيحمل كل ثَلَاثَة رجال خباء وَلَا تلحقهم كلفة فِي حمله لِأَن أخبيتهم فِي غَايَة اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فَهِيَ مَعَ كفايتها على الْوَجْه الأتم فِي غَايَة الخفة بِحَيْثُ إِذا لف الخباء بِمَا فِيهِ كَانَ كلا شَيْء وَلَو أَرَادَ أَن يحملهُ وَاحِد لفعل لكنه يقسمهُ ثَلَاثَة أشخاص زِيَادَة فِي الرِّفْق وَلِئَلَّا يحصل الضجر إِذا طَال السّفر وَأما المدافع فقد اتَّخذُوا لَهَا عجلات أفرغت إفراغا وَركبت عَلَيْهَا على وَجه مُحكم وَاتَّخذُوا للعجلات بغالا خصية تجرها فِي غَايَة الفراهة والارتياض ويجعلون فَوق تِلْكَ العجلات صناديق الْإِقَامَة من بارود ورصاص وضوبلي وَغير ذَلِك وتجلس الطبجية على تِلْكَ الصناديق وَيقوم آخَرُونَ حَولهمْ قد أخذُوا أهبتهم لِلْقِتَالِ بِكُل مَا يُمكن ثمَّ تنْدَفع العساكر على هَذَا التَّرْتِيب صُفُوفا صُفُوفا وتتقدم شَيْئا فَشَيْئًا يخلف بَعْضهَا بَعْضًا كَأَنَّهَا أمواج الْبَحْر تبرق الشَّمْس على طموس رؤوسها وتلمع على عَددهَا المصقولة وآلاتها وَهُوَ فِي هَذِه الْحَالة لَا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جِهَة هَكَذَا قِتَاله أبدا وَإِذا أدْركهُ الْمسَاء أَو وَقعت محاجزة أثْنَاء النَّهَار وَكَانَ قَصده الثَّبَات ثَبت بمحله ذَلِك وَلَا يتزحزح عَنهُ بِحَال إِلَّا إِذا فني كل عسكره أَو جله فبمثل هَذَا الضَّبْط كَانَ لَهُ الِاسْتِيلَاء والظهور وَأما مقاتلة الْمُسلمين لَهُ فَكَانَت غير منضبطة وَإِنَّمَا قَاتله من قَاتله مِنْهُم بِاخْتِيَارِهِ وَمن قبل نَفسه وَإِن كَانَ هُنَالك ضبط من أَمِير الْجَيْش فكلا ضبط وَمَتى ظهر لَهُ أَن يذهب ذهب مَعَ أَن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} النُّور 62 لَكِن الْمقَاتل من الْمُسلمين يَأْتِي الْقِتَال وَلَيْسَ مَعَه مَا يَأْكُل وَلَا مَا يشرب فبالضرورة إِذا جَاع أَو عَطش ذهب يبْحَث عَمَّا يُقيم بِهِ صلبه ثمَّ هم يُقَاتلُون على غير صف وَلَا تعبية بل يتفرقون فِي الشعاب ومخارم الأودية وحول الْأَشْجَار فيقاتلون من وَرَائِهَا وَإِذا دفعُوا فِي نحر الْعَدو دفعُوا زرافات ووحدانا ثمَّ إِذا أدركهم الْمسَاء وَوَقعت المحاجزة ذهب كل إِلَى خبائه الَّذِي تَركه وَرَاءه بمسافة بعيدَة(3/96)
وهم فِي هَذَا كُله لَيْسَ لَهُم وازع يحملهم على مَا يُرَاد مِنْهُم
فَالْحَاصِل أَن جَيش مغربنا إِذا حَضَرُوا الْقِتَال وَكَانُوا على ظُهُور خيولهم فهم فِي تِلْكَ الْحَال مساوون فِي الاستبداد لأمير الْجَيْش لَا يملك من أَمرهم شَيْئا وَإِنَّمَا يُقَاتلُون هِدَايَة من الله لَهُم وحياء من الْأَمِير وَقَلِيل مَا هم وَقد جربنَا ذَلِك فصح فَفرُّوا عَن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي وقْعَة ظيان أَولا وَفِي وقْعَة الشراردة ثَانِيًا وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أهيب فِي نُفُوسهم مِنْهُ فَكَانُوا يلزمون غرزه لكنه لما بَعثهمْ إِلَى تلمسان فعلوا فعلتهم وسلكوا عَادَتهم وَلما شهدُوا مَعَ الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وقْعَة إيسلي جاؤوا بهَا شنعاء غَرِيبَة فِي الْقبْح وَلَوْلَا أَنه قَامَ بِنَفسِهِ لَيْلَة الْحَاج عبد الْقَادِر وَمنع النَّاس من الرّكُوب لربما عَادوا إِلَى فعلهم وَأحسن مَا كَانَت حَالهم فِي هَذَا الْحَرْب فَإِنَّهُم قاوموا الْعَدو وَفرقُوا صفوفه غير مرّة لكِنهمْ أَتَوا من عدم الضَّبْط الَّذِي هُوَ كضبطه فَعدم ملاقاتهم لِلْعَدو فِي الْكَيْفِيَّة القتالية هُوَ الَّذِي أضرّ بهم وَأوجب لعدوهم الظُّهُور عَلَيْهِم إِذْ الشَّيْء كَمَا علمت إِنَّمَا يُقَاوم بِمثلِهِ وَالشَّر إِنَّمَا يدْفع بضده فالتنافي إِنَّمَا يحصل بَين الضدين أَو المثلين وحربنا وَحرب الإصبنيول كَانَ من بَاب الخلافين وَلَا تنَافِي بَين الخلافين كَمَا هُوَ مُقَرر فِي علم الْحِكْمَة والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله
ولنرجع إِلَى الْكَلَام على الصُّلْح المتناول فَنَقُول لما دَار الْكَلَام بَين الْمولى الْعَبَّاس رَحمَه الله وَبَين أردنيل فِي الصُّلْح اسْتَعدوا للاجتماع فِي يَوْم مَعْلُوم بمَكَان سوي بَين المحلتين فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم ضرب بِالْمحل الْمعِين خباء وَجَاء الْمولى الْعَبَّاس وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه جَيْشه وَفِيهِمْ أَبُو عبد الله الْخَطِيب التطاوني وَخرج أردنيل وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه عسكره وَخرج مَعَه مقدم الْمُسلمين بتطاوين الْحَاج أَحْمد آبعير رَجَاء أَن يكون هُوَ الترجمان بَين الأميرين فيفوز بِذكر ذَلِك الْجمع وفخره فأخفق رجاؤه لِأَنَّهُ لما توافى الْجَمْعَانِ إِلَى الخباء بَقِي النَّاس كلهم قَائِمين على بعد مِنْهُ وَلم يدْخلهُ إِلَّا الْمولى الْعَبَّاس وأردنيل والخطيب لَا رَابِع لَهُم فِيمَا قيل وَأبْدى أردنيل من(3/97)
الْأَدَب والخضوع للْمولى الْعَبَّاس مَا جَاوز الْحَد وتفاوضوا سَاعَة ثمَّ انفض الْمجْلس وتناقل النَّاس أَن حَاصِل مَا دَار بَينهمَا أَن أردنيل رغب فِي الصُّلْح وتأكيد الوصلة بَينهم وَبَين الْمُسلمين على شُرُوط ذكرهَا وَأَن الْمولى الْعَبَّاس توقف فِيهَا وأحال ذَلِك على مشورة أَخِيه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَذهب كل إِلَى سَبيله وَبَقِي النَّاس ينتظرون الْجَواب بِأَيّ شَيْء يَأْتِي من عِنْد السُّلْطَان وَبعد أَيَّام ورد الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان لم يقبل ذَلِك الصُّلْح فاستمر النَّاس على حالتهم الأولى من كَون محلّة الْعَدو بتطاوين وَبَعضهَا خَارِجهَا شرقا وغربا ومحلة مولَايَ الْعَبَّاس على بعد من الْبَلَد مِقْدَار نصف يَوْم ثمَّ إِن الْمُسلمين اجْتَمعُوا ذَات يَوْم وبيتوا محلّة الْعَدو النَّازِلَة خَارج الْبَلَد فِي لَيْلَة مَعْلُومَة فتقدموا إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وهجموا عَلَيْهَا فِي لَيْلَة مظْلمَة وَالنَّصَارَى غَارونَ وفتكوا فيهم فتكة بكرا باتوا يَقْتُلُونَهُمْ اللَّيْل كُله وَمن الْغَد كَذَلِك إِلَى الْمسَاء وَقَاتل النَّصَارَى ذَلِك الْيَوْم أَيْضا وَلَكِن الظُّهُور كَانَ للْمُسلمين وَلَوْلَا قُوَّة نفوس الْعَدو باستنادهم إِلَى الْبَلَد وتحصن كَبِيرهمْ بهَا لكانوا انكسروا كسرة شنيعة وَكَانَ عدد الْقَتْلَى من النَّصَارَى فِي هَذِه الْوَقْعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ والجرحى أَكثر من ألف وَأما الْمُسلمُونَ فَكَانَ الْقَتْل فيهم ضَعِيفا وَلما أصبح أردنيل وَرَأى مَا حل بعسكره ساءت أخلاقه وقلب لأهل تطاوين ظهر الْمِجَن وأبدل تِلْكَ الشَّفَقَة الَّتِي كَانَ يعاملهم بهَا بالغلظة والبشاشة بالاكفهرار وَعمد إِلَى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بركَة رَحمَه الله فاتخذه مارستانا للجرحى فظلت الْجَرْحى تنقل إِلَيْهِ وَفرض على أهل تطاوين اللحف والقطائف فَجمع من ذَلِك شَيْئا كثيرا فرشه بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور لجرحاه وَصَارَ عَامَّة عَسْكَر النَّصَارَى بتطاوين كلما لقوا أحدا من الْمُسلمين عيروه بالغدر وقبحوه ثمَّ إِن أردنيل أَقَامَ بعد هَذِه الْوَقْعَة نَحْو عشرَة أَيَّام ريثما استجم جَيْشه وأبلت جرحاه وَخرج فِي تَمام الشَّوْكَة وَكَمَال الاستعداد يُرِيد أَن يضْرب فِي محلّة الْمُسلمين فَجعل تطاوين(3/98)
خَلفه وَتقدم حَتَّى كَانَ بوادي أبي صفيحة فَلَمَّا شعر بِهِ النَّاس من أهل المداشر والمتطوعة تسابقوا إِلَيْهِ من كل جَانب وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم قدوم عرب الحياينة جاؤوا فِي حرد كَبِير وحنق شَدِيد فَقَوِيت قُلُوب النَّاس بهم وَاشْتَدَّ أزرهم وتقدموا إِلَى الْعَدو فأنشبوا مَعَه الْحَرْب بِأبي صفيحة قبل أَن يصل إِلَى محلّة الْمُسلمين وكثروه فأوقعوا بِهِ وقْعَة أنست مَا قبلهَا فَقتلُوا مِنْهُ مَا خرج عَن الْحصْر وَأما الْجَرْحى فَقل مَا شِئْت وكست قتلاه الأَرْض وَلما أعياه الدّفن جعل يجمع الْجَمَاعَة من الثَّمَانِية إِلَى الْعشْرَة ويهيل عَلَيْهَا التُّرَاب وَمَعَ ذَلِك بَقِي مِنْهُ عدد كَبِير بِلَا دفن حَتَّى أنتن مَوضِع المعركة من شدَّة نَتن الْجِيَف ونال الْمُسلمُونَ من عدوهم فِي هَذَا الْيَوْم مَا لم ينالوا قبله مثله وَلَا مَا يُقَارِبه وَكَانَ الذّكر فِيهِ لعرب الحياينة ثمَّ للمتطوعة غَيرهم وَأما محلّة الْمولى الْعَبَّاس فَكَانَت بعيدَة عَن المعركة بمسافة كَبِيرَة
وَقد ذكر منويل خبر هَذَا الْيَوْم فَأقر بِأَنَّهُ أهرق مِنْهُم دم كثير وخسروا فِيهِ عددا كَبِيرا من نفوس الْعَسْكَر وَالْخَيْل وَلما بلغ الْمولى الْعَبَّاس أَن الْعَدو قد برز من تطاوين وَأَن الْمُسلمين يقاتلونه الْآن فِي أبي صفيحة قلب رَأْيه واستأنف النّظر فِي عَاقِبَة أمره وَرَأى أَن الْمُسلمين وَإِن نالوا من الْعَدو فِي هَذِه الْمرة وأبلغوا فِي نكايته لَكِن الثَّمَرَة ضَعِيفَة من جِهَة أَن نكايتنا لَهُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْقَتْل وَالْجرْح ونكايته فِي أَخذ الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَا غير مرّة فجنح رَحمَه الله إِلَى الصُّلْح وَاخْتَارَهُ على الْحَرْب حَتَّى تَدور للْمُسلمين سعود إِن شَاءَ الله
أَخْبرنِي صاحبنا الْقَائِد الْأَجَل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري حفظه الله قَالَ لما طَالَتْ الْحَرْب بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على تطاوين استدعاني السُّلْطَان وسيدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وَأَعْطَانِي سِتِّينَ ألف مِثْقَال أذهب بهَا إِلَى جَيش الْمُسلمين المرابط على تطاوين بِقصد الْمُؤْنَة والصائر وَقَالَ لي مَعَ ذَلِك إِذا وصلت إِلَى محلّة الْمُسلمين فَانْظُر(3/99)
حَالهم وتبصر فِي جَمِيع أُمُورهم وَمَا هم عَلَيْهِ فِي قتال عدوهم من الضَّبْط وَعَدَمه وَهل هم مكفيون فِي جَمِيع مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ أم لَا واستوعب ذَلِك وائتنى بِالْأَمر على وَجهه قَالَ فَذَهَبت فوصلت إِلَى الْمحلة يَوْم الْخَمِيس وَفِي صَبِيحَة الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ كَانَ حَرْب أبي صفيحة فجَاء النذير إِلَى الْمولى الْعَبَّاس وَأخْبرهُ بِأَن الْمُسلمين الْآن يُقَاتلُون الْعَدو قَالَ فركبت فِي جمَاعَة من النَّاس وَذَهَبت لأنظر حَال الْمُسلمين وَحَال عدوهم كَمَا أَمرنِي السُّلْطَان رَحمَه الله فوصلت إِلَى مقاتلة الْمُسلمين فَإِذا هم يرتادون موضعا ينزلون بِهِ أثقالهم ويضربون بِهِ أخبيتهم ليتفرغوا لقِتَال عدوهم فَإِذا هم عزموا على النُّزُول بوادي آكراز فأجهضهم الْعَدو عَنهُ بِالرَّمْي بالكور والضوبلي وَهُوَ مُتَقَدم أَمَام لَا يثنيه شَيْء فتأخروا عَن ذَلِك الْمحل ونزلوا بِمحل أمنُوا بِهِ على أخبيتهم وأثاثهم ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ وقاتلوه قتالا شَدِيدا حَتَّى ردُّوهُ على عقبه بالموضع الْمَعْرُوف بآمصال مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَقتلُوا مِنْهُ مَا جَاوز الْحصْر وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد عَامل سُفْيَان وَبني مَالك أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن عبد الْكَرِيم بن عودة الْحَارِثِيّ وَبَات الْعَدو تِلْكَ اللَّيْلَة بوادي آكراز الَّذِي كَانَ الْمُسلمُونَ أَرَادوا أَن ينزلُوا بِهِ وباتت محلّة الْمُسلمين بالفنيديق وتفرق جلّ متطوعتها كل إِلَى حَال سَبيله على عَادَتهم وَكَانَ الْوَقْت وَقت شتاء وَبرد غَايَة
قَالَ فَلم يُعجبنِي ذَلِك وَمن الْغَد وَهُوَ يَوْم السبت أصبح الْعَدو مُقيما والمسلمون مقيمين كَذَلِك وَكَانَ الرَّأْي أَن يعاجلوه بوقعة أُخْرَى ويلحوا عَلَيْهِ كي يكسروا شوكته ويهضموا مَا دَامَ متألما وَلَا يَتْرُكُوهُ حَتَّى يجم ويستريح لكِنهمْ لم يَفْعَلُوا وَدَار الْكَلَام فِي ذَلِك الْيَوْم فِي الصُّلْح فأذعن كل من الأميرين أَمِير الْمُسلمين وأمير النَّصَارَى وجنحوا إِلَيْهِ لأَنهم كَانُوا مَعًا قد سئموا الْحَرْب وملوا الْقِتَال ثمَّ من الْغَد وَهُوَ يَوْم الْأَحَد تداعوا للاجتماع بعد أَن نَهَضَ الْعَدو من مَحَله الَّذِي كَانَ نازلا بِهِ وَاجْتمعَ وانكمش وَأظْهر الْقُوَّة بالتهييىء للحرب والتعبئة لِلْقِتَالِ حَتَّى أَنه إِذا كَانَ صلح فَذَاك وَإِلَّا فالقتال فعل ذَلِك مكيدة وَالْحَاصِل أَن الْمولى الْعَبَّاس تقدم فِي جمَاعَة من وُجُوه الْجَيْش(3/100)
وتدنى أردنيل فِي جمَاعَة من أَصْحَابه كَذَلِك بعد أَن أمربضرب خباء صَغِير يَجْتَمِعَانِ بِهِ وَتقدم أردنيل على الخباء بِكَثِير لملاقاة الْمولى الْعَبَّاس وإظهارا للأدب مَعَه فتلاقى بِهِ وعادا إِلَى الخباء وَحضر مَعَهم الترجمان ورجلان آخرَانِ وأبرموا الصُّلْح وَأعْطى كل خطّ يَده بذلك وانفصلوا وَذهب كل إِلَى مَحَله وَكَانَ ذَلِك آخر حَرْب بَين الْمُسلمين والإصبنيول وَلما وصل الْخَبَر بانعقاد الصُّلْح إِلَى عَسْكَر النَّصَارَى فرحوا فَرحا لم يعْهَد مثله وَجعلُوا ينادون الباص الباص أَي الصُّلْح الصُّلْح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بهَا أَصْوَاتهم وَكلما لقوا مُسلما هشوا لَهُ كَأَنَّهُمْ يهنئونه بِالصُّلْحِ وَكَانَ الصُّلْح قد انْعَقَد بَين الْمُسلمين والإصبنيول على شُرُوط مِنْهَا أَن يدْفع السُّلْطَان إِلَيْهِم عشْرين مليونا من الريال ويخرجوا من تطاوين وَمَا استولوا عَلَيْهِ من الأَرْض الَّتِي بَينهَا وَبَين سبتة إِلَّا شَيْئا يَسِيرا يُزَاد لَهُم فِي المحدة على سَبِيل التَّوسعَة وَكَانَ انْعِقَاد هَذَا الصُّلْح فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وتراخى السُّلْطَان رَحمَه الله فِي دفع هَذَا المَال فاستمر الْعَدو مُقيما بتطاوين حَتَّى يَسْتَوْفِيه وَبعد سنة من يَوْم هَذَا الصُّلْح استوفى عشرَة ملايين مِنْهُ وَبقيت عشرَة وَقع الِاتِّفَاق فِيهَا على أَن يقتضيها الْعَدو من مُسْتَفَاد مراسي الْمغرب فَأَقَامَ أمناءه بهَا لاقْتِضَاء نصف دَاخل كل شهر مِنْهَا وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى يَكْفِي الْمُسلمين شرهم وَشر كل شَرّ وَبعد مَا وَقع هَذَا الِاتِّفَاق أسلم النَّصَارَى تطاوين إِلَى الْمُسلمين وَكَانَ خُرُوجهمْ مِنْهَا ضحوة يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد أَن مَكَثُوا فِيهَا سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَنصفا ووقعة تطاوين هَذِه هِيَ الَّتِي أزالت حجاب الهيبة عَن بِلَاد الْمغرب واستطال النَّصَارَى بهَا وانكسر الْمُسلمُونَ انكسارا لم يعْهَد لَهُم مثله وَكَثُرت الحمايات وَنَشَأ عَن ذَلِك ضَرَر كَبِير نسْأَل الله تَعَالَى الْعَفو والعافية فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلما فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من أَمر تطاوين جد فِي جمع الْعَسْكَر الْمُرَتّب على التَّرْتِيب الْمَعْهُود الْيَوْم وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان أول من أحدثه من مُلُوك الْمغرب وَكَانَ إحداثه إِيَّاه فِي دولة أَبِيه رَحمَه الله بعد رُجُوعه(3/101)
من وقْعَة إيسلي مَعَ الفرنسيس ثمَّ جد فِيهِ فِي هَذِه الْأَيَّام فَجمع مِنْهُ مَا تيَسّر جمعه ثمَّ رتب المكوس على الْأَبْوَاب والمبيعات وَكتب فِي ذَلِك كتبا للآفاق فمما كتبه لأمناء مرسى الدَّار الْبَيْضَاء فِي ذَلِك مَا نَصه وَبعد فَإنَّا لما أَخذنَا فِي جمع النظام للْمصْلحَة المتعينة الْوَاضِحَة الْبَيِّنَة الْمقر أمرهَا لَدَى الْخَاص وَالْعَام وَاجْتمعَ مِنْهُ عدد يسير واختبرنا مَا صير عَلَيْهِ فِي شهر وَاحِد فَاجْتمع فِيهِ عدد كثير فَكيف أَن جَمعنَا مِنْهُ عددا مُعْتَبرا يحصل بِهِ المُرَاد وَيكون قذى فِي أعين أهل العناد اقْتضى الْحَال ذكر ذَلِك لكبراء التُّجَّار لينظروا فِيمَا يستعان بِهِ على أَمرهم إِذْ لَا بُد من كفايتهم وَإِلَّا انحل نظام جمعهم وَفِي ذَلِك مَا لَا يجهله من لَهُ أدنى عقل ومحبة فِي الدّين فأشاروا بِفَرْض إِعَانَة لَا ضررفيها على الرّعية وسطروها فِي ورقة وَهِي كل شَيْء بِالنِّسْبَةِ لما ارْتَكَبهُ الْمُلُوك فِي مثل هَذَا للاستعانة بِهِ على الْمصَالح المرعية وللضرورة أَحْكَام تخصها كَمَا هُوَ مَعْلُوم مُقَرر ومسطر فِي غير مَا ديوَان مُحَرر ثمَّ اقْتضى نَظرنَا أَن نسند الْأَمر فِي ذَلِك لأهل الْعلم ليقرروا للنَّاس حكمه تقريرا تَنْشَرِح لَهُ الصُّدُور وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فِي الْوُرُود والصدور وَإِن كَانَ جلهم يعلم هَذَا إِذْ من الْمَعْلُوم أَن الرّعية لَا يَسْتَقِيم أمرهَا إِلَّا بجند قوي بِاللَّه وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَهُوَ لَا يكون إِلَّا من الرّعية على وَجه لَا ضَرَر فِيهِ وَقد أَخذ النَّاس هَذِه مُدَّة بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وبمكناسة وتازا والعدوتين ومراكش فِي ذَلِك وسلكوا فِي ترتيبه أحسن المسالك وَلَا نشك أَن بركَة ذَلِك تعود عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وأنفسهم فبوصول هَذَا إِلَيْكُم قومُوا على سَاق الْجد فِي الْقَبْض من النَّاس بِالْبَابِ على نَحْو مَا فِي الورقة الْمشَار إِلَيْهَا وَلَا دخل لِلنَّصَارَى فِي ذَلِك وَالله أسَال أَن يُبَارك للْمُسلمين فِي مَالهم ويعوضهم خلفا آمين وَالسَّلَام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام سَبْعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَإِذا انجر بِنَا الْكَلَام على اتِّخَاذ الْعَسْكَر وترتيبه فَلَا بُد من تتميم الْفَائِدَة بِذكر كَلَام نَافِع(3/102)
القَوْل فِي اتِّخَاذ الْجَيْش وترتيبه وَبَعض آدابه
اعْلَم أَنه وَاجِب على الإِمَام حماية بَيْضَة الْإِسْلَام وحياطة الرّعية وكف الْيَد العادية عَنْهَا والنصح لَهَا وَالنَّظَر فِيمَا يصلحها وَيعود عَلَيْهَا نَفعه فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بجند قوي وشوكة تَامَّة بِحَيْثُ تكون يَده غالبة على الكافة وقاهرة لَهُم فاتخاذ الْجند إِذا وَاجِب وَعَلِيهِ فَينْدب لَهُ أَن يتَّخذ لَهُم ديوانا يجمع أَسْمَاءَهُم ويحصي عَددهمْ ليحصل الضَّبْط وينتفي اللّبْس وَأول من اتخذ الدِّيوَان أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَمر عقيل بن أبي طَالب ومخزمة بن نَوْفَل وَجبير بن مطعم وَكَانُوا من كتاب قُرَيْش فَكَتَبُوا ديوَان العساكر الإسلامية على تَرْتِيب الْأَنْسَاب مُبْتَدأ من قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا بعْدهَا الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب فَهَكَذَا يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يرتب جُنُوده فِي ديوَان يحفظها ودستور يجمعها ثمَّ يَنْبَغِي أَن يكون عِنْده أَولا ديوَان كَبِير هُوَ الْأُم يجمع أَسمَاء العساكر كلهَا الْحَاضِرَة والغائبة والخاصة والعامة ثمَّ يَجْعَل دواوين صغَارًا يشْتَمل كل وَاحِد مِنْهَا على طَائِفَة مَخْصُوصَة مثل عَسْكَر الإِمَام الَّذِي يلازمه حضرا وسفرا وعساكر الثغور والقلاع وَنَحْو ذَلِك وَتَكون هَذِه الدَّوَاوِين الصغار بِمَنْزِلَة الْفُرُوع للكبير تجدّد كلما تَجَدَّدَتْ الطوائف كَمَا سَيَأْتِي وكل ديوَان مِنْهَا يشْتَمل على أرحاء مثلا وكل رحى على مئين وكل مائَة بضباطها وطبيبها وعالمها الَّذِي يعلمهَا أَمر دينهَا وَغير ذَلِك
قَالَ صَاحب مِصْبَاح الساري مَا ملخصه كَانَت الدولة العثمانية فِي أول أمرهَا إِذا استخدمت طَائِفَة من الْجند بقيت فِي الْخدمَة طول عمرها وَلما كَانَ هَذَا الْأَمر صعبا يَعْنِي وَغير مُقْتَض للتسوية بَين الرّعية فِي هَذَا الْحق الْعَظِيم اقْتضى نظرهم أَن يعملوا الْقرعَة بَين أَبنَاء الرعايا عِنْد انْتِهَاء كل خمس سِنِين فَمن اسْتكْمل مُدَّة خدمته وتبصر بِمَا يلْزمه من حَرْب عدوه وَقدر على الْمُطَالبَة والمدافعة ذهب إِلَى حَال سَبيله لطلب معيشته فذو الحرفة يرجع إِلَى حرفته(3/103)
والتاجر إِلَى تِجَارَته وَهَكَذَا وَيُؤْتى بطَائفَة أُخْرَى بدلهَا حَتَّى تصير الرّعية كلهَا جندا قادرة على الْمُطَالبَة والمدافعة مَتى احْتَاجَت إِلَى ذَلِك ثمَّ من استوفى مُدَّة خدمته بَقِي معدودا فِي صنف الرديف سبع سِنِين أُخْرَى وَمعنى الرديف أَنهم يكونُونَ عدَّة للدولة مَتى احْتَاجَت إِلَيْهِم فِي نازلة عَظِيمَة أَو حَرْب عَامَّة مثل مَا يكون بَين الْأَجْنَاس فَإِذا انسلخت السَّبع سِنِين فَهُوَ حر دَائِما وأبدا فَلَا يضْرب عَلَيْهِ بعث وَلَا يُكَلف بغزو إِلَّا أَن يَشَاء فجملة مُدَّة الْخدمَة العسكرية بَين أَصْلِيَّة ورديفية اثْنَتَا عشرَة سنة وَشرط المستخدمين فِي الْعَسْكَر أَن يَكُونُوا فِي سنّ الْعشْرين إِلَى خمس وَعشْرين سنة فَمن زَاد على ذَلِك أَو نقص لَا تقبله الدولة لينضبط الْأَمر وَإِن اصْطلحَ على أقل من ذَلِك أَو أَكثر فَلَا بَأْس فَإِذا أُرِيد إِعْمَال الْقرعَة بَينهم وَذَلِكَ عِنْد رَأس خمس سِنِين كَمَا قُلْنَا اجْتمع كل من هُوَ فِي ذَلِك السن من أهل النَّاحِيَة مثل مراكش وأعمالها وفاس وأعمالها والعدوتين وأعمالهما فِي يَوْم مَعْلُوم من السّنة لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر فيحضر نَائِب السُّلْطَان ويحضر القَاضِي وَالشُّهُود وتكتب بطائق على عدد رُؤُوس الْحَاضِرين فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ سنة كَذَا فَإِذا اجْتمع لنا من البطائق مائَة وَنحن غرضنا اسْتِخْدَام خمسين مثلا أَخذنَا تِلْكَ البطائق وَاحِدَة وَاحِدَة حَتَّى نستوفي الْخمسين ثمَّ نفتحها فَمن عثرنا عَلَيْهِ فِيهَا فَهُوَ عسكري فِي تِلْكَ الْمدَّة وَمن أخطأته الْقرعَة ذهب إِلَى حَال سَبيله لكنه إِن جَاوز سنّ العسكرية الَّذِي هُوَ خمس وَعِشْرُونَ سنة وَلم تصبه الْقرعَة فَهُوَ فِي صنف الرديف إِلَى سبع سِنِين كَمَا قُلْنَا وَالَّذين أَصَابَتْهُم الْقرعَة وأثبتوا فِي الدِّيوَان يرخص لَهُم فِي الذّهاب إِلَى محالهم عشْرين يَوْمًا لقَضَاء أوطارهم ثمَّ يحْضرُون بعْدهَا إِلَى القشلة وَمن تخلف عَن حُضُور هَذَا الْجمع بِدُونِ عذر مَقْبُول يثبت فِي الدِّيوَان بِلَا قرعَة وَيسْقط من أصل الْعدَد الْمَطْلُوب وَلَا تقبل فِيهِ شَفَاعَة وَلَا فدَاء وَمن لَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْن وَاحِد من رجل كَبِير أَو امْرَأَة أرملة أَو نَحْو ذَلِك وَلَا كَافِي لَهُ سواهُ فَإِنَّهُ يسرح لَهُ لِئَلَّا يضيع لَكِن بعد حُضُور الْجمع وَإِثْبَات مَا ادَّعَاهُ وَمن لَهُ ولدان وأصابتهما مَعًا الْقرعَة فَيمسك وَاحِد ويسرح لَهُ الآخر وَمن لَهُ أَرْبَعَة أَو خَمْسَة وأصابت الْقرعَة مِنْهُم ثَلَاثَة(3/104)
فَأكْثر أمسك اثْنَان وسرح الْبَاقِي ويعفى عَن كل من كَانَ مُفردا فِي بَيته وَعَن كل أَعور وأشل وأعرج وأحدب وَعَن كل مبتلى بداء مزمن أَو عِلّة معدية أَو ضَعِيف الْجِسْم نحيف البنية لَا يقدر على الْأَعْمَال الجندية وَغير سَالم المزاج وَهَكَذَا ويعفى عَن طلبة الْعلم لَكِن بعد حضورهم وامتحانهم فَمن ظَهرت نجابته خلى سَبيله لِأَنَّهُ قد قَامَ بوظيف هُوَ من أهم الْوَظَائِف وَمن كَانَ قَلِيل الْفَهم أَو مقسم البال أَو طائش الفكرة لَا ترجى فَائِدَته وَإِنَّمَا تستر بِطَلَب الْعلم دخل فِي الْقرعَة وَإِذا كَانَ لرجل ولدان وأصابت الْقرعَة أَحدهمَا وَأَرَادَ إِبْدَاله بِالْآخرِ فَذَلِك لَهُ إِذا توفرت فِيهِ شُرُوط الْخدمَة وَإِذا أَرَادَ أَن يُبدلهُ بِغَيْر أَخِيه من عبد أَو أجِير فَلَا بُد من زِيَادَة قدر مَعْلُوم من المَال لَا يجحف بِهِ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل تِجَارَته وَلَا بيع أَصله وَلِهَذَا الْبَدَل شُرُوط الأول أَن يكون سالمامن الْآفَات الْمُتَقَدّمَة الثَّانِي أَن لَا يكون مِمَّن استوفى مُدَّة الْخدمَة الَّتِي هِيَ خمس سِنِين وَدخل فِي صنف الرديف اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا لم تكن الْقرعَة أَصَابَته حَتَّى جَاوز السن الْمَعْلُوم وَصَارَ فِي صنف الرديف فَهَذَا يقبل الثَّالِث أَن يكون من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة فَلَا يقبل مراكشي عَن فاسي مثلا وَبِالْعَكْسِ الرَّابِع أَن لَا يكون من العبيد السود اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ فِي الْجند صنف مِنْهُم فَيقبل فِي صنفه وَلَا بَأْس إِذا كَانَ مَمْلُوكا أَبيض الْخَامِس أَن لَا يكون من الَّذين استعملوا فِي الجندية وأخرجوا مِنْهَا لعَارض خلقي أَو خلقي مثل آفَة بدنية أَو فعل قَبِيح من سَرقَة وَنَحْوهَا السَّادِس أَن لَا يكون الْبَدَل قد جِيءَ بِهِ بعد ثَلَاثَة أشهر ثمَّ إِذا فر الْبَدَل فينتظر مَجِيئه إِلَى شهر فَإِن جَاءَ وَإِلَّا أَخذ بِهِ صَاحبه الَّذِي جَاءَ بِهِ ثمَّ إِذا انتظم هَذَا الْجمع العسكري فَأول مَا يعلمونهم أَمر دينهم مِمَّا لَا بُد مِنْهُ على سَبِيل الِاخْتِصَار بِأَن يلقنوا كَيْفيَّة اللَّفْظ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَبَين لَهُم مَعْنَاهَا بِوَجْه إجمالي فَإِن جلّ الْعَوام سِيمَا أهل الْبَادِيَة والقرى النائية لَا يفقهُونَ ضروريات دينهم ويعلمون كَيْفيَّة الْوضُوء وَالصَّلَاة ويلزمون بالمحافظة عَلَيْهَا حَتَّى أَن من لم يحضر مِنْهُم وَقت النداء لَهَا يُعَاقب عقَابا شَدِيدا وَإِلَّا فَلم يحضر عِنْد سَمَاعه الطرنبيطة وَلَا يحضر إِذا سمع دَاعِي الله فَهَذَا أول مَا يتعلمونه لتعود عَلَيْهِم بركَة الدّين وينجح سَعْيهمْ فِي حماية(3/105)
الْمُسلمين فَإنَّا لم نرد بِجمع هَذَا الْجند إِلَّا حفظ الدّين فَإِذا كَانَ الْجند مضيعا لَهُ فَكيف يحفظه على غَيره وَيعود على الْمُسلمين نَفعه ثمَّ بعد هَذَا يعلمُونَ الْأُمُور الَّتِي تدل على كَمَال الْمُرُوءَة وعلو الهمة من الْحيَاء والحشمة والإيثار وَترك الْكَلَام الْفُحْش وتوفير الْكَبِير وَرَحْمَة الصَّغِير ويلقنون أَن من أفضل الْخِصَال عِنْد الله وَعند الْعباد الْغيرَة على الدّين والوطن ومحبة السُّلْطَان ونصحه وَيُقَال لَهُ مثلا إِذا كَانَ العجمي الزنديق يغْضب لدينِهِ الْبَاطِل ووطنه فَكيف لَا يغْضب الْعَرَبِيّ الْمُؤمن لدينِهِ ودولته ووطنه وَلَا بُد من تَرْتِيب مجْلِس يومي يسمعُونَ فِيهِ سيرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومغازيه وَمَغَازِي الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَسلف الْأمة وأخبار رُؤَسَاء الْعَرَب وحكمائها وشعرائها ومحاسنهم وسياساتهم وليتخير لَهُم من الْكتب الْمَوْضُوعَة فِي ذَلِك أنفعها مثل كتاب الْأَكفاء لأبي الرّبيع الكلَاعِي وَكتاب ابْن النّحاس فِي الْجِهَاد وَكتاب سراج الْمُلُوك وَنَحْوهَا فَإِن ذَلِك مِمَّا يُقَوي إِيمَانهم ويحرك هممهم ويؤكد محبتهم فِي الدّين وَأَهله وينبهون على التحافظ على ثِيَابهمْ وأطرافهم من الأوساخ والأوضار الَّتِي تدل على دناءة الهمة ونقصان الإنسانية وَعدم النخوة ويلزمون بترك اسْتِعْمَال الدُّخان فَإِنَّهُ منَاف لنظافة الدّين وَمذهب للمروءة وَالْمَال بِلَا فَائِدَة ثمَّ إِذا رسخت فيهم هَذِه الْآدَاب فِي سِتَّة أشهر أَو عشرَة أَو أَكثر أخذُوا فِي تعلم الثقافة وَأُمُور الْحَرْب ثمَّ من أهم مَا يعتنى بِهِ فِي شَأْنهمْ أَن لَا يتخلقوا بأخلاق الْعَجم وَلَا يسلكوا سبيلهم فِي اصطلاحاتهم ومحاوراتهم وَكَلَامهم وسلامهم وَغير ذَلِك فقد عَمت الْمُصِيبَة فِي عَسْكَر الْمُسلمين بالتخلق بِخلق الْعَجم فيريدون تعلم الْحَرْب ليحفظوا الدّين فيضيعون الدّين فِي نفس ذَلِك التَّعَلُّم فَلَا تمْضِي على أَوْلَاد الْمُسلمين سنتَانِ أَو ثَلَاث حَتَّى يصيروا عجما متخلقين بأخلاقهم متأدبين بآدابهم حَتَّى أَنهم تركُوا السَّلَام الْمَشْرُوع فِي الْقُرْآن وأبدلوه بِوَضْع الْيَد خلف الْأذن فَيجب على معلمهم فِي حَالَة تَعْلِيمه إيَّاهُم أَن يعدل عَن الِاصْطِلَاح العجمي إِلَى الْعَرَبِيّ ويعبر عَن الْأَلْفَاظ العجمية بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِن كَانَ أصل الْعَمَل مأخوذا عَن الْعَجم فليجتهد(3/106)
الْمعلم الحاذق فِي تعريبه وَلَيْسَ ذَلِك بعسير على من وَفقه الله إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْدَال لفظ عجمي بِلَفْظ عَرَبِيّ بِأَن يَقُول مثلا أَمَام خلف دَائِرَة نصف دَائِرَة وَهَكَذَا فَإِذا مرنوا عَلَيْهِ شهرا أَو شَهْرَيْن كَانَ أسهل شَيْء عَلَيْهِم لِأَن تِلْكَ هِيَ لغتهم الَّتِي فِيهَا نشأوا وَعَلَيْهَا ربوا فَالْعَمَل عجمي وَالْكَلَام الَّذِي ينبهون بِهِ على ذَلِك الْعَمَل عَرَبِيّ فَأَي كلفة فِي هَذَا وَبِه ينْدَفع عَنْهُم التَّشَبُّه بالعجم الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَإِن التزيي بزيهم لَا يَأْتِي بِخَير أبدا وَهُوَ وَالله من أفسد الْأَشْيَاء للدّين الَّذِي نُرِيد أَن نحوطه بهم
قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ من لم تصلحه السّنة فَلَا أصلحه الله ثمَّ عَمُود هَذَا كُله وصلبه الْعَقِيم لَهُ وروحه الَّذِي بِهِ حَيَاته هُوَ الْكِفَايَة فِي الْمطعم والملبس وليختر لَهُم من الأغذية أطيبها وأنفعها للبدن وليجعل لَهُم كسوتان كسْوَة الشتَاء وَكِسْوَة الصَّيف وليتخير لَهُم من المساكن والمنازل أطيبها وَأَصْلَحهَا هَوَاء وأبعدها عَن مَحل الوخم وليلزمهم بالاعتناء بتنظيف مساكنهم وتبريدها وتطييبها حَتَّى لَا ينشأ عَنْهَا دَاء وَإِذا تراخوا فِي مثل ذَلِك عوقبوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دَال على دناءة الهمة ودنيء الهمة لَا يَأْتِي مِنْهُ شَيْء وليرتب لَهُم الْأَطِبَّاء العارفون حَتَّى إِذا أصَاب أحدا مِنْهُم مرض عالجه الطَّبِيب فِي الْحَال فَإِن هَذَا الْجند هُوَ سور الْإِسْلَام وسياج الدّين فبحفظه يحفظ الدّين وبسلامته يسلم فَإِذا اتخذ الْجند على هَذِه الْكَيْفِيَّة الَّتِي ذكرنَا سهل على النَّاس الدُّخُول فِي الجندية وتنافسوا فِيهَا وَمن كَانَ عِنْده من الرّعية دِرْهَم طابت نَفسه بِأَن يقتسمه مَعَهم وَيكون الْجند حِينَئِذٍ فِي مرتبَة هِيَ أشرف من مرتبَة الرّعية بِكَثِير لِأَن الْجند يحفظهم والرعية تكسب وتبذل لَهُم ثمَّ إِذا ظهر من آحَاد الْجند نجابة أَو شجاعة أَو نصيحة فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة رفع قدره ونوه باسمه ليغتبط هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ ويزداد فِي خدمته ويغبطه غَيره وينافسه فِي خصاله الَّتِي أكسبته تِلْكَ الْمنزلَة وليقس مَا لم يقل وَالله الْهَادِي إِلَى التَّوْفِيق بمنه ولنرجع إِلَى التَّارِيخ فَنَقُول
وَفِي سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر(3/107)
من ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي والدنا الْفَقِيه المرابط الْأَخير أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن حَمَّاد بن مُحَمَّد الْكَبِير الناصري بقبيلة سُفْيَان وَدفن بتربة الشَّيْخ أبي سلهام رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ رَحمَه الله من الْوَرع والتحري فِي أكل الْحَلَال على جَانب عَظِيم بِحَيْثُ فاق أَكثر أهل زَمَانه فِي ذَلِك وَكَانَ دينا وقورا كثيرالأوراد ذَا صمت وجد وَله إِلْمَام بالفقه والسيرة النَّبَوِيَّة مرجو الْبركَة عِنْد الْعَامَّة رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين
ثورة الجيلاني الروكي ومقتله
كَانَ الجيلاني الروكي من عرب سُفْيَان رجلا خامل الذّكر سَاقِط الْقدر حرفته رعي الْبَهَائِم وَنَحْو ذَلِك من عمل أهل الْبَادِيَة فَوكل بِهِ جني أَو شَيْطَان ففاه بالمخاريق وتبعته الْعَامَّة فثار بِبِلَاد كورت وَتقدم إِلَى دَار الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن عبد السَّلَام بن عودة الْحَارِثِيّ السفياني فِي أخلاط من الأوباش بِالْعِصِيِّ والمقاليع فحاصر الْقَائِد الْمَذْكُور فِي دَاره من الظّهْر إِلَى الْغُرُوب ثمَّ اقتحم الْعَامَّة عَلَيْهِ دَاره فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا جمَاعَة من إخْوَته وَبني عَمه ونهبوا مَا وجدوا بداره وَكَانَ شَيْئا كثيرا من المَال والأثاث وَبَقِي أُولَئِكَ الْقَتْلَى مصرعين بِفنَاء الدَّار ثَلَاثَة أَيَّام لم يدفنوا وافتتنت الْعَامَّة بِهَذَا الروكي ونسبوا لَهُ الخوارق والكرامات من غير استناد إِلَى دَلِيل وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ يستولي على الْملك وَيحكم المتمسكين بدعوته فِي الْأَمْوَال كَيفَ شاؤوا وضاعت نفوس فِي تِلْكَ الْفِتْنَة ونهبت أَمْوَال وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل وَكنت حَاضرا لهَذَا الْخطب الْعَظِيم فَكَانَ من افتتان الْعَامَّة بِهَذَا الْمَعْتُوه واعتقادهم فِيهِ وجهلهم الْمركب فِي أمره مَا لَا يكَاد يصدق بِهِ إِذا حُكيَ وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فاهتز لهَذَا الْخطب لِأَن الشَّيْطَان كَانَ قد نفخ فِي أباطيل الروكي وشاعت فِي الْعَالم حَتَّى اهتز لَهَا النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بتطاوين وَحَدثُوا أنفسهم بالفرار ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله أغراه أَخَاهُ الْمولى الرشيد فَلَمَّا سمع الروكي بمجيئه وعد أوباشه بِأَنَّهُ سينصر عَلَيْهِ وَأَن خيل السُّلْطَان(3/108)
تكون غنيمَة لَهُ وَقَالَ لَهُم اتَّخذُوا الشكائم أَي الأرسان من الدوم وأعدوها لتقودوا بهَا خيل السُّلْطَان فَاتخذ جمع عَظِيم من الْعَامَّة الحبال والأرسان وتوشحوا بهَا تَحت الثِّيَاب وَجعلُوا يتبعُون الروكي أَيْنَمَا ذهب انتظارا لوعده وَلما قرب الْمولى الرشيد مِنْهُ أَخذ أمره فِي النُّقْصَان وناموسه فِي الْبطلَان وَلما كَانَ الْمولى الرشيد قرب سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان جعل الشكائمية يقربون من الْمحلة ويتطوفون حولهَا مختفين بالأودية والشعاب والكدى ينتظرون هزيمتها بخارق من خوارق دجالهم فَأعْلم الْمولى الرشيد بمكانهم فَبعث الْخَيل فالتقطوهم فِي سَاعَة وَاحِدَة وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وسيقوا إِلَى رِبَاط الْفَتْح فسجنوا بِهِ مُدَّة وَأما الروكي فَإِنَّهُ قصد جبل زرهون وَدخل رَوْضَة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ فَاجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَشْرَاف الأدارسة والعلويين وغلقوا أَبْوَاب الْقبَّة وَتقدم إِلَيْهِ شرِيف علوي ففتك فِيهِ وأراح النَّاس من شَره واحتزوا رَأسه وَيَده وحملوهما إِلَى السُّلْطَان فَبعث بهما إِلَى مراكش فعلقا بِجَامِع الفناء مُدَّة وَكَانَ جهلة الْعَوام لَا يصدقون بِمَوْتِهِ وبقوا ينتظرون رجعته سنتَيْن أَو ثَلَاثًا {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} الرَّعْد 33 وَكَانَ مقتل الروكي فِي أواسط شعْبَان سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلم تجَاوز مدَّته أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ مِمَّا كتبه السُّلْطَان فِي شَأْنه مَا نَصه وَبعد فَإِن فتانا من سُفْيَان مرق من الدّين وَفتن بِأُمُور شيطنته من اغْترَّ بِهِ من الْمُسلمين وَجمع عَلَيْهِ أوباشا من أَمْثَاله وَأَضْرَابه وأشكاله وَتقدم بهم لدار خديمنا ابْن عودة فَقَتَلُوهُ ثمَّ تقدم بهم للشراردة فقاتلوه ثمَّ تقدم بهم لزاوية مَوْلَانَا إِدْرِيس فقاتله أَهلهَا قتالا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَلم يحصل لَهُم من قِتَاله ضجر ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وعلقوا رَأسه بِبَاب الزاوية الْمُسَمّى بِبَاب الْحجر وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب بعد ذَلِك على من دخل مَعَه من أَتْبَاعه وأنصاره وأشياعه فقبضوا عَلَيْهِم وجعلوهم فِي السلَاسِل والأغلال وَنحن على نِيَّة إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِم إِن شَاءَ الله جَزَاء وفَاقا على مَا ارتكبوه من الْفساد وقبيح الْأَعْمَال وَمن كَانَ مِنْهُم حِينَئِذٍ خَارِجا عَن الْبَاب تخطفته الْأَيْدِي وجنوا ثمار مَا سعوا فِيهِ من الْبَغي والتعدي وَقطع دابر جَمِيعهم فَالْحَمْد لله حق حَمده وَمَا كل نعْمَة إِلَّا(3/109)
من عِنْده وأعلمناكم لِتَكُونُوا على بَصِيرَة إِذْ رُبمَا يبلغ المرجفون على عَادَتهم النَّازِلَة على غير وَجههَا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر شعْبَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بعرب الرحامنة
لما كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بِبِلَاد الغرب مشتغلا بِأَمْر الإصبنيول وحربه على تطاوين ثار عرب الرحامنة بالحوز وعمدوا إِلَى سوق الْخَمِيس بمراكش فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوه وسلبوا الْمَارَّة وأرباب الجنات وضايقوا أهل مراكش حَتَّى منعوهم من الارتفاق حول الْمَدِينَة فَانْقَطَعت السبل وَارْتَفَعت الأسعار وَقطع الرحامنة مَا حول الأسوار من الْأَشْجَار واحتطبوها وحصدوا الزروع فِي الفدن واغتصبوها وَاشْتَدَّ الْحصار وتخاذلت الْأَنْصَار ودام الْحَال إِلَى أَن فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من حَرْب الإصبنيول وفتنة الروكي فَوجه وجهته إِلَى مراكش فَلَمَّا قرب مِنْهَا تحزب الرحامنة وَأَجْمعُوا على حربه فانحازوا إِلَى نَاحيَة الرميلة والأودية وزاوية ابْن ساسي ليحولوا بَينه وَبَين الدُّخُول إِلَى مراكش فهجم عَلَيْهِم وأوقع بهم وقْعَة سيقوا بهَا بعد سَاعَة إِلَى مراكش مُقرنين فِي الحبال حَتَّى ضَاقَتْ بهم السجون وَلَوْلَا أَنه رَحمَه الله كف أَيدي الْجَيْش عَنْهُم لاستأصلوهم ثمَّ عَفا عَنْهُم بعد أَن انتزع مِنْهُم بِلَاد آيت سَعَادَة وغواطم والأودية وَهِي من أخصب الْبِلَاد وأزكاها وَكتب السُّلْطَان فِي هَذِه الْوَقْعَة لِأَخِيهِ الْمولى الرشيد بِكِتَاب مختوم عَلَيْهِ بالخاتم الْكَبِير بن الِافْتِتَاح وَالْخطاب وبداخل الْخَاتم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن غفر الله لَهُ وبدائرته
(وَمن تكن برَسُول الله نصرته ... إِن تلقه الْأسد فِي آجامها تجم) {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} هود 88 وبأركان الْخَاتم الله(3/110)
مُحَمَّد أَبُو بكر عمر عُثْمَان عَليّ وَنَصّ الِافْتِتَاح الْحَمد لله الَّذِي تدارك الْأمة باللطف الْكَفِيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الَّذين نصروا الدّين بالصفاح والأسنة وأوضحوا أَحْكَام السّنة أخانا الْأَعَز الأرضى مولَايَ الرشيد أصلحك الله وأعانك وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما تَوَاتَرَتْ الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها بِمَا ارْتَكَبهُ ظالموا أنفسهم الرحامنة من أَنْوَاع الْفساد الَّتِي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وَقد كَانَت فِي صُدُورهمْ كامنة صرفنَا الوجهة إِلَيْهِم وطوينا المراحل من أَجلهم وَلما حللنا ببلادهم أرسلنَا عَلَيْهِم سيل العرم من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أَتَوا برؤوس مِنْهُم كَثِيرَة مَحْمُولَة على أسنة الرماح وأسارى من مُقَاتلَتهمْ مجردين من الثِّيَاب وَالسِّلَاح وَمن نجى مِنْهُم رَجَعَ مُجَردا إِلَّا من خيبة سَعْيه وَمَا سقِِي إِلَّا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على جَمِيع مَا كَانَ عِنْد أهل الْفساد وَمن الْمَعْلُوم أَن من سل سيف الْبَغي يعود إِلَى نَحره وَمن ركب متن الشقاق يغرق فِي بحره وَأَن الْفِتْنَة نَار تحرق من أوقدها والمخالفة صَفْقَة تعود بالخسارة على من عقدهَا وَلما أردنَا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت مَا بَقِي من رماد أَثَرهم تعلقوا بالمرابطين من ذَوي الوجاهات وَأَكْثرُوا من الذَّبَائِح على الْمحَال وتوجيه العارات وَقَامُوا بِوَاجِب السّمع وَالطَّاعَة فِي كل مَا أمرناهم بِهِ جهد الِاسْتِطَاعَة فأبقينا عَلَيْهِم وَإِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا بحول الله لَهَا وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة فَالْحَمْد لله الَّذِي خيب آمالهم وأبطل أَعْمَالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أَبْصَارهم وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الْأَمْوَال وَقطع الرّقاب {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} الْأَنْفَال 13 ونعوذ بِاللَّه من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة وَسُوء الْفِعْل الَّذِي يُورد المهالك والحرمان الَّذِي يَجْعَل الْبَصِير كالأعمى فِي دجنة اللَّيْل الحالك هَذَا ويصلكم مَا قطع من رُؤُوس قتلاهم لتتعلق بِبَاب الْمَدِينَة وَيعْتَبر بهَا المعتبرون ويتذكر بهَا(3/111)
المتذكرون وَالله أسأَل أَن لَا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا طرفَة عين وَلَا أقل من ذَلِك وَأَن يكون لنا وللمسلمين بِمَا كَانَ لأوليائه وأحبائه وأصفيائه وَأَن يوفقنا وإياهم لما يُحِبهُ ويرضاه وَيخْتم للْجَمِيع بِخَير وَالسَّلَام فِي ذِي الْحجَّة الْحَرَام عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَمن تَمَامه وَأَن علقت يَوْمًا وَاحِدًا فادفعها لحملتها وَلَا بُد ليتوجهوا بهَا إِلَى مكناسة صَحَّ بِهِ اهـ نَص الْكتاب الشريف
وَفِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف سَافر شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز محبوبة السلاوي إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج فوافته منيته بِمَكَّة المشرفة بعد الْفَرَاغ من الْحَج وَالْعمْرَة وَدفن بالمعلاة وَكَانَ رَحمَه الله وَاعِيَة دراكة نفاعة كثير الدَّرْس وَالتَّقْيِيد والنسخ للكتب الْمُعْتَبرَة فصيح الْعبارَة حسن النغمة وَالصَّوْت عَارِفًا بِالْحَدِيثِ دؤوبا على سرده عَارِفًا بالنحو وَالْفِقْه وعلوم الْآلَة لازمناه وانتفعنا بِهِ وعادت علينا بركاته رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَكنت رثيته بقصيدة ذهبت فِي جملَة مَا ذهب من شعري إِذْ لم يكن لي اعتناء بتقييده ومطلعها
(مُلَازمَة التذْكَار تذْهب باللب ... وتغري قديم الوجد بالهائم الصب)
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم السبت الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا كَانَت هدة البارود بمراكش وَذَلِكَ أَنه كَانَ بِجَامِع الفناء مِنْهَا فندق فِي بعض بيوته نَحْو أَرْبَعمِائَة قِنْطَار من البارود وَبِه أَيْضا شَيْء من فَحم الريش الْمُتَّخذ للبارود فَوَقَعت فِيهِ نَار وسرت مِنْهُ إِلَى البارود فنفض وَقت الْغُرُوب من الْيَوْم الْمَذْكُور وَالنَّاس كَثِيرُونَ حول الفندق فطار الفندق بِمَا فِيهِ وَكَانَت حيطانه عَادِية وطار من كَانَ حوله من النَّاس قيل نَحْو الثلاثمائة فَمنهمْ من لم يُوجد أصلا وَمِنْهُم من وجد بعضه من يَد أَو رجل وَنَحْو ذَلِك وتهدمت كل دَار كَانَت متلاشية بمراكش وانخلعت الأقفال من الْأَبْوَاب وصرصرت السقوف والحيطان وَكَانَ الْحَادِث عَظِيما وَفِي هَذِه السّنة ورد يَهُودِيّ من اللوندرة على السُّلْطَان بمراكش يطْلب مِنْهُ الْحُرِّيَّة ليهود الْمغرب وَذَلِكَ لِأَنَّهُ(3/112)
لما كَانَت وقْعَة تطاوين ودهم النَّاس مَا دهمهم من أَمر الحمايات وَأكْثر من تعلق بهَا الْيَهُود لم يقتصروا على ذَلِك وراموا الْحُرِّيَّة تشبها بيهود مصر وَنَحْوهَا فَكَتَبُوا إِلَى يَهُودِيّ من كبار تجارهم باللوندرة اسْمه روشابيل وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيّ قَارون زَمَانه وَكَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة فِي دولة النجليز لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج إِلَيْهِ فيسلفها الْأَمْوَال الطائلة وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَشْهُورَة فَكتب يهود الْمغرب إِلَيْهِ أَو بَعضهم يَشكونَ إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من الذلة وَالصغَار وَيطْلبُونَ مِنْهُ الوساطة لَهُم عِنْد السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الإنعام عَلَيْهِم بِالْحُرِّيَّةِ فعين هَذَا الْيَهُودِيّ صهرا لَهُ للوفادة على السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الْغَرَض وَفِي غَيره وأصحبه هَدَايَا نفيسة وَسَأَلَ من دولة النجليز أَن يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان ويكتبوا لَهُ فِي قَضَاء غَرَضه فَفَعَلُوا وَقدم على السُّلْطَان بمراكش وَقدم هداياه وَسَأَلَ تَنْفِيذ مطلبه فتجافى السُّلْطَان رَحمَه الله عَن رده مخفقا وَأَعْطَاهُ ظهيرا فتمسك بِهِ الْيَهُودِيّ يتَضَمَّن صَرِيح الشَّرْع وَمَا أوجب الله لَهُم من حفظ الذِّمَّة وَعدم الظُّلم والعسف وَلم يعطهم فِيهِ حريَّة كحرية النَّصَارَى وَنَصّ الظهير الْمَذْكُور بالطابع الْكَبِير
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم نأمر من يقف على كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وأطلع فِي سَمَاء الْمَعَالِي شمسه المنيرة وبدره من سَائِر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أَعمالنَا أَن يعاملوا الْيَهُود الَّذين بِسَائِر إيالتنا بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من نصب ميزَان الْحق والتسوية بَينهم وَبَين غَيرهم فِي الْأَحْكَام حَتَّى لَا يلْحق أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة من الظُّلم وَلَا يضام وَلَا ينالهم مَكْرُوه وَلَا اهتضام وَأَن لَا يتعدوا هم وَلَا غَيرهم على أحد مِنْهُم لَا فِي أنفسهم وَلَا فِي أَمْوَالهم وَأَن لَا يستعلموا أهل الْحَرْف مِنْهُم إِلَّا عَن طيب أنفسهم وعَلى شَرط توفيتهم بِمَا يستحقونه على عَمَلهم لِأَن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَنحن لَا نوافق عَلَيْهِ لَا فِي حَقهم وَلَا فِي حق غَيرهم وَلَا نرضاه لِأَن النَّاس كلهم عندنَا فِي الْحق سَوَاء وَمن ظلم أحدا مِنْهُم أَو تعدى عَلَيْهِ فَإنَّا نعاقبه بحول الله وَهَذَا الْأَمر الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وأوضحناه وبيناه كَانَ مقررا ومعروفا محررا لَكِن زِدْنَا هَذَا المسطور تقريرا وتأكيدا(3/113)
ووعيدا فِي حق من يُرِيد ظلمهم وَتَشْديد ليزِيد الْيَهُود أمنا إِلَى أَمنهم وَمن يُرِيد التَّعَدِّي عَلَيْهِم خوفًا إِلَى خوفهم صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان الْمُبَارك عَام ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما مكنهم السُّلْطَان من هَذَا الظهير أخذُوا مِنْهُ نسخا وفرقوها فِي جَمِيع يهود الْمغرب وَظهر مِنْهُم تطاول وطيش وَأَرَادُوا أَن يختصوا فِي الْأَحْكَام فِيمَا بَينهم لَا سِيمَا يهود المراسي فَإِنَّهُم تحالفوا وتعاهدوا على ذَلِك ثمَّ أبطل الله كيدهم وَخيَّب سَعْيهمْ على أَن السُّلْطَان رَحمَه الله لما أحس بطيش الْيَهُود عقب ذَلِك الظهير بِكِتَاب آخر بَين فِيهِ المُرَاد وَأَن ذَلِك الْإِيصَاء إِنَّمَا هُوَ فِي حق أهل الْمُرُوءَة وَالْمَسَاكِين مِنْهُم المشتغلين بِمَا يعنيهم وَأما صعاليكهم المعروفون بِالْفُجُورِ والتطاول على النَّاس والخوض فِيمَا لَا يَعْنِي فيعاملون بِمَا يستحقونه من الْأَدَب
وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرِّيَّة الَّتِي أحدثها الفرنج فِي هَذِه السنين هِيَ من وضع الزَّنَادِقَة قطعا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم إِسْقَاط حُقُوق الله وَحُقُوق الْوَالِدين وَحُقُوق الإنسانية رَأْسا أما إِسْقَاطهَا لحقوق الله فَإِن الله تَعَالَى أوجب على تَارِك الصَّلَاة وَالصَّوْم وعَلى شَارِب الْخمر وعَلى الزَّانِي طَائِعا حدودا مَعْلُومَة وَالْحريَّة تَقْتَضِي إِسْقَاط ذَلِك كَمَا لَا يخفى وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الْوَالِدين فلأنهم خذلهم الله يَقُولُونَ إِن الْوَلَد الْحَدث إِذا وصل إِلَى حد الْبلُوغ وَالْبِنْت الْبكر إِذا بلغت سنّ الْعشْرين مثلا يفْعَلَانِ بأنفسهما مَا شاءا وَلَا كَلَام للْوَالِدين فضلا عَن الْأَقَارِب فضلا عَن الْحَاكِم وَنحن نعلم أَن الْأَب يسخطه مَا يرى من وَلَده أَو بنته من الْأُمُور الَّتِي تهتك الْمُرُوءَة وتزري بِالْعرضِ سِيمَا إِذا كَانَ من ذَوي البيوتات فارتكاب ذَلِك على عينه مَعَ مَنعه من الْكَلَام فِيهِ مُوجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الإنسانية فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان كرمه وشرفه بِالْعقلِ الَّذِي يعقله عَن الْوُقُوع فِي الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وَبِذَلِك تميز عَمَّا عداهُ من الْحَيَوَان وَضَابِط الْحُرِّيَّة عِنْدهم لَا يُوجب مُرَاعَاة هَذِه الْأُمُور بل يُبِيح للْإنْسَان أَن يتعاطى مَا ينفر عَنهُ الطَّبْع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وَغير ذَلِك إِن شَاءَ لِأَنَّهُ مَالك أَمر نَفسه فَلَا يلْزم أَن يتَقَيَّد بِقَيْد وَلَا فرق بَينه وَبَين الْبَهِيمَة(3/114)
الْمُرْسلَة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد هُوَ إِعْطَاء الْحق لإِنْسَان آخر مثله فَلَا يجوز لَهُ أَن يَظْلمه وَمَا عدا ذَلِك فَلَا سَبِيل لأحد على إِلْزَامه إِيَّاه وَهَذَا وَاضح الْبطلَان لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَمَا ميز الْإِنْسَان بِالْعقلِ إِلَّا ليحمله هَذِه التكاليف الشَّرْعِيَّة من معرفَة خالقه وبارئه والخضوع لَهُ لتَكون لَهُ بهَا الْمنزلَة عِنْد الله فِي العقبى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْأَحْزَاب 72 الْآيَة
وَاعْلَم أَن الْحُرِّيَّة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه وَبَينهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته وحررها الْفُقَهَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي بَاب الْحجر من كتبهمْ فراجع ذَلِك وتفهمه ترشد وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كمل بِنَاء الدَّار الفيحاء الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله بآجدال من ظَاهر رِبَاط الْفَتْح بجوار ضريح جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهِي دَار كَبِيرَة حَسَنَة الْبناء وَاسِعَة المقاعد والفناء يُقَال إِنَّهَا من أَخَوَات بديع الْمَنْصُور وَلما كمل بناؤها أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يخْتم فِيهَا فُقَهَاء رِبَاط الْفَتْح صَحِيح البُخَارِيّ أَولا وفقهاء سلا ثَانِيًا فدخلناها فِي جُمْلَتهمْ وتقصينا منازلها ومقاعدها فَرَأَيْنَا مَا مَلأ أبصارنا حسنا وإتقانا وَعَجِيب صَنْعَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف حدثت فتْنَة بفاس وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا فِي صَلَاة الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين خَامِس ربيع الأول وَكَانَ فيهم التَّاجِر الأمجد أَبُو عبد الله حبيب بن هَاشم بن جلون الفاسي فَلَمَّا سجد مَعَ النَّاس شدخ بعض اللُّصُوص رَأسه بِحجر كَبِير من أَحْجَار التَّيَمُّم الَّتِي تكون بِالْمَسْجِدِ ثمَّ انحنى عَلَيْهِ بخنجر كَانَ بِيَدِهِ فَقطع بِهِ صفاق بَطْنه وساوره التَّاجِر الْمَذْكُور وَمَا بالعير من قماص وَلما وَقعت الضجة قطع النَّاس صلَاتهم وَخَرجُوا فارين من الْمَسْجِد وَتركُوا ثِيَابهمْ ونعالهم ومصاحفهم وَغير ذَلِك فَقَائِل يَقُول إِن الإِمَام الْمهْدي قد خرج وَآخر يَقُول إِن النَّاس يذبح بَعضهم بَعْضًا فِي الْجَامِع واهتزت الْمَدِينَة ثمَّ تراجع النَّاس بعد حِين وَأما اللص فَإِنَّهُ خرج شاهرا سلاحه حَتَّى وصل إِلَى بَاب الْمَسْجِد فكثره النَّاس وقبضوا عَلَيْهِ وانتزعوا السِّلَاح من يَده وكشفوه فَإِذا بِهِ قد أدَار حِبَالًا كَثِيرَة من تَحت الثِّيَاب(3/115)
على بدنه وقاية لَهُ فَقَتَلُوهُ هُنَالك وَبَقِي التَّاجِر ابْن جلون يعالج جراحاته إِلَى أَن مَاتَ من آخر اللَّيْل واتهم أولياؤه نَاسا من أَعْيَان فاس بِأَنَّهُم أغروا بقتْله وَلم يثبت ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان رَحمَه الله قَائِد جَيْشه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وعامل سلا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سعيد السلاوي باشدورين إِلَى دولة فرنسا بباريس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك مَا أَخْبرنِي بِهِ الْقَائِد أَبُو عبد الله بن سعيد الْمَذْكُور قَالَ كَانَ سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد أصحبنا كتابا إِلَى طاغية الفرنسيس وأمرنا بالْكلَام مَعَه فِي شَأْن هَؤُلَاءِ النواب الَّذين يَبْعَثهُم إِلَى الْمغرب وَأَن يكون ينتخبهم من بيُوت الْأَعْيَان وَمِمَّنْ يَتَّصِف بالتأني وَحسن السِّيرَة وَالْوُقُوف عِنْد مَا حد لَهُم وَلما وصلنا إِلَى باريس شرحنا ذَلِك للطاغية الْمَذْكُور كِتَابَة ففرح وقابلنا بمالا مزِيد عَلَيْهِ من البرور الَّذِي لَا نقدر على شَرحه مَعَ إِن إكرامنا وَالْحَمْد لله لَهُم يفوق ذَلِك فِي الصوائر وَكُنَّا توجهنا ومعنا خُيُول وَغَيرهَا وأقمنا بباريس شهرا وَكَانَ مقامنا بدار كَثِيرَة الْفرش والأثاث من الْفضة والمعدن ووكل بِنَا أَمِين يصير علينا حسب نَظرنَا وقومة يباشرون فرش الْمنزل وتنظيفه وَغير ذَلِك ومعنا أَصْحَابنَا وطباخنا إِلَّا أَنهم منعزلون بِمحل يخصهم وَفِي كل يَوْم تستدعينا الدولة للفرجة بِمحل يُسمى التياترو فِيهِ مواعظ وَحكم لمن تبصر ومتعة للنَّفس لمن كَانَ حَظه النّظر وَقد أكرمنا الطاغية بمنزله وَأَكْرمنَا الوزراء وعامل الْبَلَد والأعيان لَيْلًا وكل وَاحِد يجمع علينا أَعْيَان الدولة وَأهل الْبَلَد نسَاء ورجالا وعادتهم عِنْد دخولك الْمنزل أَن تحيي الزَّوْجَة وَمن مَعهَا بِالسَّلَامِ أَولا ثمَّ بعد ذَلِك تحيي الرجل ورأينا من الطاغية ووزيره على الْأُمُور البرانية من البرور والبشاشة مَا جَاوز الْحَد وَطلب منا هَذَا الطاغية أَن نبحث لَهُ فِي كتب التَّارِيخ بالمغرب هَل نعثر على تَارِيخ بِنَاء رومة وَفِي أَي وَقت بنيت وَاسم بانيها ونبعث بِهِ إِلَيْهِ اهـ كَلَام الْعَامِل الْمَذْكُور وَهُوَ حفظه الله من أمثل النَّاس(3/116)
وأعدلهم وأتقاهم وَله الْمنزلَة الْكَبِيرَة عِنْد السُّلْطَان وَعند النَّاس حرس الله مجادته وأدام بمنه عافيته وسلامته
وَنَصّ الْكتاب الَّذِي وجههم بِهِ السُّلْطَان رَحمَه الله مَكْتُوبًا فِيهِ اسْم السُّلْطَان بداخل الطابع الشريف بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم من عبد الله المتَوَكل على الله الْمُفَوض أمره إِلَى الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ بالمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَفقه الله أدام الله نَصره وزين بالخيرات عصره إِلَى الْمُحب الَّذِي حل من مَرَاتِب الرياسة أسناها وَحَازَ من خِصَال التَّقَدُّم أقصاها وَأَدْنَاهَا فَأَصْبَحت ألسن الرؤساء لهجة بِذكرِهِ مفصحة بِتَسْلِيم نتائج فكره ملك الممالك الفرنساوية السُّلْطَان نابليون الثَّالِث بونابارتي أما بعد فموجب تَحْرِير هَذَا المسطور إِلَيْكُم إعلامكم بِمَا تضمنه الْفُؤَاد من خَالص الْمحبَّة وَحفظ الوداد وإننا مسرورون بِمَا يَتَجَدَّد لدينا كل وَقت من عقد أَسبَابهَا وَمَا يظْهر كل حِين من تشييد أَرْكَانهَا وَفتح أَبْوَابهَا فَإِن محبتنا مَعكُمْ الشخصية زَادَت على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد الأسلاف وَذَلِكَ لما جبلتم عَلَيْهِ من صفاء الطوية وَحسن الائتلاف فَإِن الْقُلُوب فِي الوداد تتضاهى وَمَا بني على أصل وثيق كَانَ جَدِيرًا بِأَن يعظم ويتناهى وبموجب ذَلِك عينا للسفارة إِلَيْكُم خَالنَا الأرضى الأنجد الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وَهُوَ أحد باشات جيشنا وَمن كبراء رجال دولتنا مَعَ مَا تشرف بِهِ من قرَابَة الرَّحِم لدينا وَمَعَهُ خديمنا الأرضي الْأمين الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد قَائِد سلا وَهُوَ عندنَا أَيْضا بِالْمَكَانِ المكين لما تخلق بِهِ من الْأَدَب وَالْعقل الرصين وَالْغَرَض من توجيههما تَجْدِيد الْعَهْد بكم والحرص على مُوالَاة المواصلة مَعكُمْ لما فِي ذَلِك من تَأْكِيد أَسبَاب الْمحبَّة بَين الدولتين وتمهيد طَرِيق الْخَيْر بَين الإيالتين وَالظَّن بشيمتكم مقابلتهم بِحسن الْقبُول وتبليغهم فِي وجهتهم غَايَة المأمول جَريا على عادتكم الْقَدِيمَة وسلوكا على طريقتكم القويمة وَقد حملناهم مَا فِي خاطرنا من أُمُور السياسة الجالبة لمصَالح الْجَانِبَيْنِ مَا يقررونه لديكم ويعرضونه عَلَيْكُم فَفِي أخبارهم كِفَايَة وأوصيناهم بِحسن الِاسْتِمَاع لما تلقونه(3/117)
إِلَيْهِم وَالْأَدب فِي تلقي مَا تعرضونه عَلَيْهِم كَمَا أننا نتحقق أَنكُمْ لحسن معاملتكم ومزيد محبتكم توصون نوابكم الَّذين توجهونهم للْخدمَة بإيالتنا السعيدة بِحسن الْمُعَامَلَة والتقصي فِي ترحيب الصَّدْر والمجاملة وَالْوُقُوف عِنْد الشُّرُوط وَالْعَمَل بمقتضاها والتمام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَاعْلَم أَن هَذَا الْكتاب بديع فِي بَابه غَرِيب فِي منواله قد اشْتَمَل من التوريات والنكات ومقتضيات الْأَحْوَال على مَا يشْهد لمنشئه بالمعرفة والمهارة والبصيرة والبصارة رَحمَه الله وَفِي شَوَّال من هَذِه السّنة مرض السُّلْطَان رَحمَه الله مَرضا شَدِيدا أشرف مِنْهُ على الْهَلَاك بل أشاع المرجفون أَنه قد هلك واضطربت أَحْوَال الرّعية وَعَاد أَعْرَاب الْبَادِيَة إِلَى العيث فِي الطرقات واستلاب النَّاس بهَا من الْمَارَّة وَغَيرهم وحاصر عرب عَامر مَدِينَة سلا وعاثوا فِي جناتها وَمنعُوا الدَّاخِل إِلَيْهَا وَالْخَارِج مِنْهَا وغلقت الْأَبْوَاب وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى عيد الْأَضْحَى ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بإبلال السُّلْطَان وإفاقته من علته وَكَانَت علته الدَّاء الْمَعْرُوف بالخوانق بلغ بِهِ إِلَى حد الْيَأْس والإشراف ثمَّ تدارك الله الْمُسلمين بِلُطْفِهِ وَمن على إمَامهمْ بعافيته فأعملت المفرحات والولائم فِي جَمِيع الْأَمْصَار
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس مَا ملخصه لما أَفَاق السُّلْطَان رَحمَه الله من علته هَذِه كتب حجاب الحضرة ووزراؤها لِابْنِهِ الْخَلِيفَة الْمُنْتَصر بِاللَّه أبي عَليّ الْمولى حسن بن مُحَمَّد يهنئونه بعافية السُّلْطَان فَأمر هَذَا الْخَلِيفَة أعزه الله بِإِخْرَاج المدافع والأنفاض حَتَّى اهتزت الْجبَال ثمَّ دَعَا أيده الله النَّاس الدعْوَة الحفلا فَلم يتَخَلَّف مِمَّن كَانَ بمراكش أحد من الْعُقَلَاء فَأمر أيده الله بتهيئة جنان رضوَان ففتحت أبوابه وفرشت قصوره وقبابه وفجرت أنهاره حَتَّى تفتقت أزهاره وَحضر وُجُوه الدولة وأعيانها ورؤساء الْقَبَائِل وأقيالها وَكَانَ ذَلِك بأثر عيد الْأَضْحَى قبل انْفِصَال وُفُود الْعِيد عَن الحضرة ثمَّ انْدفع عَلَيْهِم من الدَّار المولوية من سيول مَوَائِد الطَّعَام الفاخر مَا عَم الأول مِنْهُم وَالْآخر هَذَا للعامة الْمُطلقَة والأوزاع الملفقة وَأما الْخَواص وَالْوُجُوه(3/118)
فَلهم الْحَظ الأوفر من الْعِنَايَة وَالْخطاب بِصَرِيح الترحيب دون كِنَايَة بالقعود على الْفرش الحريرية المذهبة والمقاعد الْعَالِيَة المطنبة والرش بمياه الأزهار ومباخر الطّيب وكل معنى لطيف ومنظر عَجِيب وَقد أحضر كل وَاحِد مَا شَاءَ من آلَات اللَّهْو والفرح على حسب مَا اشْتهى واقترح فَلَا تكَاد تسمع فِي تِلْكَ الْمجَالِس والمغاني إِلَّا أصوات المثالث والمثاني وضروب الألحان والأغاني وَاسْتمرّ النَّاس فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام وَالْمولى الْخَلِيفَة أعزه الله مَعَ إخْوَته وَبني عَمه فِي الْقبَّة المحمدية الصويرية المشرفة على مجاري الْخَيل وملاعبها ومطاردها ومتاعبها وكل عَشِيَّة يركب من بالحضرة من الْوُجُوه والأكابر على عتاق الْخَيل والجياد الضوامر ويبدي مَا عِنْده من الثقافة والفروسية مَعَ إِظْهَار الشارة المخزنية والأبهة الملوكية ثمَّ بعد هَذَا شرع كبار الدولة ووجوهها ورؤساؤها وقوادها فِي انتخاب الصَّنَائِع والولائم كل على حسب مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اخْتِيَاره واعتناؤه ثمَّ تتَابع النَّاس فِي مزهاتهم وَإِظْهَار أبهاتهم وانتخاب دواعي الأفراح ومقتضيات الازدهاء والانشراح فَمَا يمر اُحْدُ ببستان إِلَّا ويجد بِهِ جمَاعَة زاهية وَطَائِفَة منبسطة لاهية اهـ
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ بالمغرب جَراد سد الْأُفق وَذَلِكَ فِي ربيع الأول الْمُوَافق لشهر مارس العجمي فَأكل النَّجْم وَالشَّجر ثمَّ عقبه فرخه الْمَعْرُوف بآمرد فَأكل كل خضراء على وَجه الأَرْض واستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها وفاض فِي الْأَمْصَار حَتَّى دخل على النَّاس فِي بُيُوتهم
وَفِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الغلاء المفرط بالمغرب الَّذِي لم يتَقَدَّم مثله بلغ فِيهِ الرّبيع وَهُوَ ربع ثمن الْمَدّ بسلا ورباط الْفَتْح سِتِّينَ أُوقِيَّة وَبَاعَ النَّاس أثاثهم وحليهم بالبخس وَكَانَ الْأَمر شَدِيدا على الضُّعَفَاء وَفِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة توفّي الْقَائِد الْأَجَل أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَ من كبار قواد الْمغرب وَأهل الْبَذْل والإيثار وَالْمَعْرُوف لَهُ فِي ذَلِك أَخْبَار مَذْكُورَة رَحمَه الله(3/119)
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين على نَحْو مَا وصفناه فِي السنين الْمَاضِيَة وَفِي زَوَال يَوْم الْأَحَد الْحَادِي عشر من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة الْوَرع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور وَدفن بالجبانة الْمُتَّصِلَة بضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت لهَذَا القَاضِي سيرة حَسَنَة وَعدل فِي الْأَحْكَام وتأن فِيهَا مَعَ سمت ومروءة وانقباض رَحمَه الله وَبقيت سلا بِلَا قَاض أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى وَقع اخْتِيَار السُّلْطَان على شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أبي بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد رحم الله الْجَمِيع
وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بِضَرْب الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وحاول ضبط السِّكَّة بِهِ وَحمل النَّاس على أَن لَا يذكرُوا فِي معاملاتهم وأنكحتهم وَسَائِر عقودهم إِلَّا الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وشدد فِي ذَلِك وَكتب فِيهِ إِلَى وُلَاة الْأَمْصَار يَقُول فِي كِتَابه مَا نَصه وَبعد فَإِن أَمر السِّكَّة من الْأُمُور الْوَاجِبَة الْمُتَعَيّن رد البال إِلَيْهَا والاهتمام بشأنها وَالنَّظَر فِيمَا يصدر بِسَبَبِهَا من النَّفْع وَالضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم وَقد كَانَ أسلافنا رَحِمهم الله اعتنوا كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها وَدفع مفاسدها وجعلوها على قدر شَرْعِي مَعْلُوم لضبط أمرهَا والتبرك بِتِلْكَ النِّسْبَة إِذْ بذلك يعلم الْمُسلم علم يَقِين كَمَال النّصاب عِنْده فَتجب عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاة الَّتِي هِيَ من دعائم الْإِسْلَام أَو عدم كَمَاله فَلَا يكون مُخَاطبا فِي بِشَيْء وَلما رَأينَا مَا حدث فِيهَا من التَّغَيُّر وَعدم الضَّبْط وَنَشَأ عَن ذَلِك من الضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم مَا لم يخف على أحد اقْتضى نَظرنَا السديد ردهَا لأصلها الْأَصِيل الَّذِي أسسه أسلافنا الْكِرَام سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف أذلنا فيهم أُسْوَة حَسَنَة فِي الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل فَرددْنَا الدِّرْهَم الْكَبِير المسلوك على وزن الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ والمنهاج المرعي كَمَا كَانَ على عهد جدنا سَيِّدي الْكَبِير قدسه الله وجدد عَلَيْهِ وابل رحماه بِحَيْثُ تكون عشرَة دَرَاهِم مِنْهُ هِيَ المثقال كَمَا هُوَ مَعْلُوم إِن عشرَة دَرَاهِم من الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَت تروج قبل على عهد أسلاقنا رَحِمهم الله هِيَ المثقال وَبِهَذَا الْعدَد(3/120)
الَّذِي هُوَ عشرَة مِنْهُ فِي المثقال تكون جَمِيع الْمُعَامَلَات والمخالطات فِي البيع والابتياع وَغَيرهمَا بَين جَمِيع رعيتنا السعيدة فِي كل الْبَوَادِي والحواضر وَبِه أمرنَا جَمِيع الْعمَّال وَمن هُوَ مُكَلّف بِعَمَل من الْأَعْمَال وإشاعته ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَبِه يقبل لجَانب المَال وأمرناهم بِالْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمر الَّذِي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وَأَن يعاقبوا كل من عثروا عَلَيْهِ ارْتكب خلاف ذَلِك وَبِأَن يسلكوا بِهِ أضيق المسالك جَزَاء وفَاقا على مُخَالفَته وتعديه الْحَد وافتياته نعم مَا سلف من الْمُعَامَلَات بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا فِيمَا تقدم قبل تَارِيخ هَذَا الْكتاب فَحكمه حكم مَا تقدم فِي السِّكَّة فَلَا يُكَلف أحد بِزِيَادَة وَمن كَانَ بِذِمَّتِهِ شَيْء فِيمَا سلف يُؤَدِّيه بِحِسَاب مَا كَانَت تروج بِهِ السِّكَّة فِي الريال وَالدِّرْهَم وَالْعَمَل بِهَذَا الَّذِي أمرنَا بِهِ هُوَ من الْآن لما يسْتَقْبل إِن شَاءَ الله وَبِهَذَا يَزُول الْإِشْكَال فِيمَا تقدم بَين النَّاس فِي الْمُعَامَلَات ونسأل الله أَن يخلص الْعَمَل فِي سَبيله ومرضاته ويجازي من فَضله وَكَرمه على قَصده وَصَلَاح نياته وَالسَّلَام فِي ثامن شَوَّال عَام خَمْسَة وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس عشر من شَوَّال الْمَذْكُور توفّي الْبركَة الْخَيْر المنتسب سَيِّدي الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الدلائي الرباطي بِالدَّار الْبَيْضَاء وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بالزاوية المنسوبة إِلَيْهِ بهَا رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي هَذِه السّنة كَانَ سوق دَار البلار بباريس من أَرض افرانسا وَذَلِكَ أَن الطاغية نابليون الثَّالِث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الْكَلِمَة مَا قل اتفاقه لغيره من الْأَجْنَاس حاول أَن يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى أَن يجلب إِلَى رَعيته وَدَار ملكه كل أَمر غَرِيب فِي الْعَالم حَتَّى يجْتَمع عِنْده مَا افترق عِنْد غَيره فَكتب إِلَى مُلُوك الْآفَاق يَقُول إِنَّه قد عزم على إِقَامَة سوق بباريس فِي وَقت مَعْلُوم وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا بتجارهم لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إِلَيْهَا وقصده بذلك عُمُوم النَّفْع وتعدي الصَّنَائِع والحرف من أمة إِلَى أُخْرَى فَأجَاب الْمُلُوك داعيه بِمُقْتَضى الْعرف الْجَارِي بَين الدول وَالْعَادَة المقررة من عهد الْمُلُوك الأول وَلم يبْق إِلَّا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الْجَلِيل إِلَى الحقير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله قد بعث تاجره الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ القباج الفاسي(3/121)
الْمَعْرُوف بالفرنساوي وَهَذَا الرجل من العارفين بِاللِّسَانِ الفرنجي البصيرين بعوائد ذَلِك الجيل وَلذَا لقب بالفرنساوي وَبعث مَعَه السُّلْطَان رَحمَه الله كل شَيْء غَرِيب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ قطر الْمغرب من سروج مذهبَة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وَغير ذَلِك من الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى حَتَّى الزليج الفاسي والمعلمين الَّذين يباشرون ترصيعه فِي محاله وَحضر هَذَا السُّوق الْمُلُوك فَمن دونهم من كل إقليم حَتَّى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز العثماني رَحمَه الله فَكَانَ الْحَال كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة ... فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)
وأقامت عمارتها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ انفض النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وَلما بلغ نابليون الثَّالِث إِلَى هَذِه الْغَايَة فَجِئْته وقْعَة البروس الَّتِي كسرت من شوكته وفلت من غربه وَقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ وحوصرت دَار ملكه باريس مُدَّة طَوِيلَة فَبلغ فِيهَا لحم الْحمار أَرْبَعَة ريالات افرنك لكل رَطْل على مَا قيل وَلم تغب عَنْهُم محنة وَوَقع الصُّلْح على شُرُوط مِنْهَا ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه كَانَ بِهِ دَاء الْحصْر فَدخل الميضأة الَّتِي بمشور أبي الخصيصات من دَار السُّلْطَان بِحَضْرَة مراكش فَيُقَال إِن مثانته تمزقت فَمَاتَ رَحمَه الله وَحمل إِلَى دَاره وَصلى عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة بِمَسْجِد المواسين وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير وَدفن بضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني من حومة الْقُصُور وَكَانَ رَحمَه الله ذَا جد فِي الْأُمُور ونصح للسُّلْطَان وللمسلمين
وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي مِنْهَا خسف الْقَمَر خسوفا كليا بعد الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي فجر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الناسك السّني أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب ابْن الشَّيْخ الْأَشْهر مولَايَ(3/122)
الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَدفن بِمحل زاويته بآمجوط من بِلَاد بني زروال وَكَانَ من خِيَار عبد الله على غَايَة من التَّقْوَى والورع والتواضع من النَّاس يركب الْحمار ويلبس الْجُبَّة وَلَا يتَمَيَّز عَن أَصْحَابه بِشَيْء مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَعدم الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي والإعراض عَن زهرَة الدُّنْيَا وَأَهْلهَا رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة انكسفت الشَّمْس وَكَانَ ابْتِدَاء الْكُسُوف على مَا أعطَاهُ التَّعْدِيل بعد الزَّوَال بِنَحْوِ نصف سَاعَة وَكَاد يكون كليا حَتَّى أظلم الجو وَبَقِي من الشَّمْس حَلقَة نورانية يسيرَة وَلم يُمكن تَحْقِيق وَقت التجلي لتراكم السَّحَاب وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظَهرت حمرَة فِي السَّمَاء غَرِيبَة أرجوانية مَعَ غَايَة الصحو وَكَانَ ظُهُورهَا يكون فِيمَا بَين العشاءين معظمها فِي جِهَة الشمَال ودامت كَذَلِك نَحْو سَبْعَة أَيَّام وانقطعت وَفِي لَيْلَة السبت الثَّامِن من شَوَّال من السّنة وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْهَا زلزلت الأَرْض وَلم يشْعر بهَا كثير من النَّاس لكَوْنهم نياما
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله قبائل تادلا فَمر على السماعلة منتصف رَجَب ثمَّ مِنْهُم لبني زمور ثمَّ لأبي الْجَعْد ثمَّ مِنْهُ توجه لقصبة تادلا وَعبر القنطرة وَنزل على بني عُمَيْر ثمَّ زحف لبني مُوسَى فأوقع بهم لأَنهم كَانُوا خَارِجين على عاملهم الغزواني ابْن زيدوح فَقطع مِنْهُم خمسين رَأْسا وَقبض على أَرْبَعِينَ مسجونا وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم عَلَيْهِ وَفد أهل مراكش وَكَانُوا قد ثَارُوا على عاملهم أَحْمد بن دَاوُد لكَونه كَانَ يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السُّلْطَان متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فَأَعْرض السُّلْطَان عَنْهُم وَلم يسمع مِنْهُم كلَاما وَلَا قبل لَهُم عذرا فَرَجَعُوا مخفقين ثمَّ تقدم السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مراكش وَهُوَ غَضْبَان على أَهلهَا وَكَانُوا مظلومين فِيمَا قيل إِلَّا أَنه لبس على السُّلْطَان فِي أَمرهم فَلَمَّا شَارف الْمَدِينَة خَرجُوا إِلَيْهِ بالعلماء والقراء وصبيان الْمكَاتب متشفعين فَلم يقف لَهُم وَلَا الْتفت إِلَيْهِم وَكَانَ ابْنه وخليفته الْمولى الْحسن حَاضرا يَوْمئِذٍ فَتقدم إِلَى أهل مراكش ورق لَهُم وَقَالَ لَهُم قولا جميلا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث فِي رَمَضَان(3/123)
من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ لم يلبث ابْن دَاوُد بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى توفّي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذَلِك مرقوب
وَفِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت جَائِحَة النَّار بِكَثِير من بِلَاد الْمغرب أحرقت الزروع وَالثِّمَار وأجيحت الجنات وتراجع النَّاس فِي أَثمَان مَا بيع مِنْهَا بعد إِثْبَات الموجبات وَكَانَت أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي أَولهَا شَدِيدَة بِسَبَب ظُهُور الْعَدو على الْمُسلمين وَمَا عقبه من الغلاء وَالْمَوْت ثمَّ بعد ذَلِك اتَّسع الْحَال وَحصل الْأَمْن وانخضدت شَوْكَة قبائل الْعَرَب بالمغرب وَأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدُّنْيَا ورخصت الأسعار رخصا يَسِيرا وَكَانَ النَّاس ممعشين فِي أَيَّامه وغلت الدّور والأملاك حَتَّى كَانَت فِي بعض السنين لَا تسمسر وَمن يَشْتَرِي دَارا إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بالتنقير عَنْهَا والطلب من رَبهَا بِالثّمن الجافي وَاتخذ النَّاس ذَوُو الْيَسَار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا فِي الْبُنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لَا سِيمَا بفاس ورباط الْفَتْح ولاحت على النَّاس سمة الحضارة الأعجمية وَكَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كل بلد عُيُون يَكْتُبُونَ لَهُ بِمَا يَقع من الْوُلَاة فَمن دونهم فَكَانَت الرّعية كَأَنَّهَا فِي كف يَده وَكَانَ يخْتَار أُولَئِكَ الْعُيُون من الْعَوام فَكَانُوا يَكْتُبُونَ لَهُ بالغث والسمين فَيسمع ذَلِك كُله فينتقي مِنْهُ الصَّحِيح ويطرح السقيم فاستقامت أَحْوَال الرّعية بذلك
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله
كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي زَوَال يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بداره بِحَضْرَة مراكش فِي الْبُسْتَان الْمُسَمّى بالنيل وَلم يمرض إِلَّا يَوْمًا أَو بعض يَوْم قيل إِنَّه شرب دَوَاء مسهلا فَكَانَ فِيهِ أَجله وَالله أعلم وَدفن لَيْلًا بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف قرب ضريح القَاضِي عِيَاض وَكتب على رخامة قَبره أَبْيَات لَيست من جيد الشّعْر وَهِي(3/124)
(أمستعبرا حَولي رويدك إِنَّنِي ... ضريح سعيد حل فِيهِ سعيد)
(هُوَ الْعلوِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد ... إِمَام لَهُ فِي الْملك سعي حميد)
(أَبوهُ أَبُو زيد وَقدس ذكره ... فقد كَانَ يُبْدِي فِي العلى وَيُعِيد)
(ترحم عَلَيْهِ وَاعْتبر بمصابه ... فعقد نَفِيس قد أُصِيب فريد)
(وَمن رام تَارِيخ الْوَفَاة فَقل لَهُ ... بشعرك أرخ مَا عَلَيْهِ مزِيد)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله متقيا لله تَعَالَى بانيا أمره على الشَّرْع لَا يشذ عَنهُ طرفَة عين حَتَّى أَنه لما عزم على بِنَاء دَاره الَّتِي برباط الْفَتْح قَامَ جمَاعَة من أهل الْبَلَد يطْلبُونَ مِنْهُ النصفة فِي جناتهم الَّتِي هُنَالك فأذعن رَحمَه الله لإعمال الشَّرْع مَعَهم واستناب وَكيلا عَنهُ واستنابوا هم وكيلهم أَيْضا وتحاكموا لَدَى قَاضِي سلا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور ثمَّ انفصلت الْقَضِيَّة عَن ضرب من الصُّلْح بِأَن أَعْطَاهُم أَثمَان جناتهم أَو بَعْضهَا وذهبوا بِسَلام وَكَانَ رَحمَه الله حازما فِي أمره عالي الهمة راميا بهَا الْغَرَض الْأَقْصَى إِلَّا أَن الزَّمَان لم يساعده كل المساعدة فَكَانَت همته أجل من دهره وَكَانَ ذَا سياسة وسكينة وتأن فِي الْأُمُور وتبصر بالعواقب كثير الْحيَاء بعيد الْغَضَب سريع الرضى مشفقا على الرّعية متوقفا فِي الدِّمَاء لَا يزايل خوف الله قلبه رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه وَله آثَار بالمغرب مِنْهَا مَا خلده أَيَّام خِلَافَته فِي حَيَاة وَالِده وَمِنْهَا مَا فعله بعد ولَايَته
فَمن آثاره فِي أَيَّام أَبِيه كَمَا قَالَ أكنسوس إِجْرَاء الْأَنْهَار وتفجير الْعُيُون الَّتِي عجز الْمُلُوك المتقدمون عَنْهَا وتكملة غرس آجدال بِحَضْرَة مراكش وَكَانَ فِي زمَان الصَّيف يَنَالهُ الجدب من قلَّة المَاء لِأَن بركه الَّتِي كَانَ يختزن بهَا المَاء كَانَت قد تعطلت بامتلائها بِالتُّرَابِ والطين الَّذِي(3/125)
تجلبه السُّيُول إِلَيْهَا وَأَعْظَمهَا الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر وطولها اثْنَتَا عشرَة مائَة قدم وعرضها تِسْعمائَة قدم حَسْبَمَا أخبر من قاسها وَكَانَ تربيعها بِمَنْزِلَة سور قَصَبَة فجَاء من بني فِي وَسطهَا قَرْيَة بدورها وأزقتها وأسواقها فجَاء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله أَيَّام خِلَافَته فَأمر بِإِخْرَاج مَا فِي تِلْكَ البرك والصهاريج كلهَا وتنقيتها من الطيون المتحجرة فَاجْتمع على ذَلِك عَالم من النَّاس فكنسوها وعادت إِلَى حَالهَا الَّذِي بنيت لأَجله وَهُوَ اختزان المَاء لوقت المصيف وَبِذَلِك كمل المُرَاد من آجدال وَصَارَ آمنا من الْعَطش والأمحال وَمن ذَلِك أَيْضا إحْيَاء عين أبي عكاز خَارج بَاب الطبول من مراكش وَكَانَت لَهَا بركَة بائدة على الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا فَعمد إِلَيْهَا سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وفجر لَهَا عينا ثرة وَمَاء غدقا وأجراه إِلَى الْبركَة الْمَذْكُورَة بعد أَن أَمر بتنقيتها وإصلاحها فَعَاد ذَلِك الْبَسِيط الَّذِي حولهَا مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وَبنى رَحمَه الله حولهَا قلعة يأوي إِلَيْهَا الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم وَاتخذ هُنَالك من إناث الْخَيل الْمعدة للنتاج عددا كثيرا وَمن ذَلِك إحْيَاء عين المنارة وبركتها الْعُظْمَى الَّتِي تقرب من الْبَحْر الْأَصْغَر بدار الهناء وَكَانَت قد عطلت مُنْذُ زمَان فقيض الله لَهَا هَذَا السُّلْطَان فَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا حَتَّى أخرج مَا فِي جوفها من جبال الطين وَأصْلح مَا تشعث من حيطانها وأجرى إِلَيْهَا الْعُيُون والأنهار وَأمر بغرس مَا حولهَا من الفضاء بأنواع الْأَشْجَار وضاهى بهَا جنَّة آجدال وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الْمُسَمّى بتاركي المستمد من وَادي نَفِيس فَإِنَّهُ ضاهى بِهِ النَّهر الْقَدِيم الَّذِي هُنَاكَ وَهَذَا النَّهر الْجَدِيد أَنْفَع مِنْهُ وأوسع أحيى الله بِهِ تِلْكَ البسائط الَّتِي بَين مراكش ووادي نَفِيس وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الَّذِي جلبه من تاستاوت إِلَى الْبَسِيط الَّذِي بَين بِلَاد زمران والرحامنة والسراغنة وَهُوَ الْمُسَمّى بفيطوط فَصَارَ ذَلِك كُله رياضا مخضرة وبساتين(3/126)
ذَات أزهار مفترة وَبنى رَحمَه الله فِيهَا قَصَبَة عامرة يأوي إِلَيْهَا الوكلاء والفلاحون وَصَارَت آهلة بعد أَن كَانَت بائدة غامرة
وَمن آثاره بعد ولَايَته أَمر الْمُؤمنِينَ دَاره الْكُبْرَى بآجدال رِبَاط الْفَتْح والسور الْكَبِير الْمُحِيط ببسيطها وجلب المَاء إِلَيْهَا بعد أَن صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وأحيى جَامع السّنة قربهَا وَكَانَ بائدا يعشش فِيهِ الصدى والبوم وَأقَام فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس وَالْخطْبَة كل جُمُعَة وَأَحْيَا الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَالك الْمُسَمّى بِمَسْجِد أهل فاس واعتنى بِهِ وزخرف سقوفه وانتهج الطَّرِيق من الدَّار الْمَذْكُورَة إِلَى الْوَادي أَسْفَل من حسان تسهيلا على الْمَارَّة وتقريبا عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَنه نقل طَائِفَة من الْجَيْش السُّوسِي الَّذِي بالمنشية وأوطنها حول الدَّار الْمَذْكُورَة بآجدال فاستطابوا الْمقَام هُنَاكَ وَحسنت حَالهم وانعمرت بهم تِلْكَ النَّاحِيَة وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَمِنْهَا بِالدَّار الْبَيْضَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِالسوقِ وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من أحباس الْمَسْجِد الْقَدِيم وَإِنَّمَا السُّلْطَان رَحمَه الله أذن فِي بنائِهِ بِإِشَارَة عاملها يَوْمئِذٍ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَمِنْهَا الْحمام الْقَدِيم الَّذِي بهَا وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من بَيت المَال وَأصْلح رَحمَه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وَبعث من نوابه من يتفقد أحوالها وَمِنْهَا بمراكش دَار فابريكة السكر بآجدال مِنْهَا صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا طائلة وَجَاءَت على عمل متقن وهيئة ضخمة إِلَّا أَنَّهَا الْيَوْم معطلة لقلَّة الْمَادَّة وَمِنْهَا دَار فابريكة تزديج البارود بِالْمحل الْمَعْرُوف بالسجينة من مراكش أَيْضا وَمن ذَلِك برج الفنار الَّذِي على سَاحل الْبَحْر بأشقار قرب طنجة يسرج فِيهِ ضوء كثير يظْهر للسيارة فِي الْبَحْر لَيْلًا من مَسَافَة بعيدَة وصير عَلَيْهِ مَالا لَهُ بَال وَكَانَت المراكب تنشب بذلك السَّاحِل كثيرا إِذْ لم يكن لَهَا عَلامَة تهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَلما اتخذ السُّلْطَان رَحمَه الله هَذَا الفنار أمنت من تِلْكَ الآفة وَله رَحمَه الله آثَار كَثِيرَة يطول ذكرهَا جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَرفع بهَا فِي عليين درجاته(3/127)
الْخَبَر عَن دولة ملك الزَّمن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خلد الله ملكه
لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من كبار الدولة وقواد الْجَيْش والقضاة وَالْعُلَمَاء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على بيعَة نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد لما توفر فِيهِ من شُرُوط الْإِمَامَة وتكامل فِيهِ من النجدة والشهامة والزعامة وَلما اتّصف بِهِ من الْفضل وَالدّين وَسَائِر خِصَال الْخَيْر وَأَسْبَاب الْيَقِين وَلِأَن وَالِده رَحمَه الله كَانَ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَألقى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مهماته فَنَهَضَ بأعبائها وتقلب من مغاني السَّعَادَة فِي ظلالها وأفيائها
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما اسْتخْلف الْمولى الْحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الْخلَافَة المترادفة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلَا فِي قصوره السُّلْطَانِيَّة من الحدائق والأزهار عَن وظائف الدّين وَأَسْبَاب الْيَقِين من نوافل الْخَيْر من صَلَاة وَصِيَام وتلاوة كَمَا حَدثنِي بذلك بعض بطائنه وَأَنه يجد لَهَا فِي خلواته لَذَّة وحلاوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان كَمَا قُلْنَا كَانَ الْمولى حسن أيده الله غَائِبا عَن الحضرة بِأبي ريقي من بِلَاد حَاجَة فَكتب إِلَيْهِ رُؤَسَاء الدولة بِمَا حدث من موت السُّلْطَان واجتماع النَّاس على بيعَته فَقدم مراكش فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دنا مِنْهَا خرج للقائه الوزراء والقضاة والأشراف والأعيان وَسَائِر أهل مراكش برجالهم وَنِسَائِهِمْ وصبيانهم فملؤوا تِلْكَ البطاح وَضَاقَتْ بهم الأَرْض وَأخذُوا يعزونه ويهنئونه وَهُوَ أيده الله يقف لكل جمَاعَة مِنْهُم عل حدتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان إشفاقا عَلَيْهِم وتطييبا لنفوسهم وَكَانَ يَوْم دُخُوله لحضرة مراكش يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَلما اسْتَقر بدار الْملك قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من جَمِيع الْأَمْصَار ونسلوا إِلَيْهِ من سَائِر النواحي والأقطار وكل وَفد يَأْتِي ببيعته وهديته واغتبط النَّاس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا(3/128)
بِمَا يسْتَحقّهُ من الْإِكْرَام وأفاض على الرّعية جلائل الإنعام وَشرع فِي تجهيز الجيوش وَفتح بيُوت الْأَمْوَال فغمر النَّاس بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَاصِدا حَضْرَة فاس وَالْوُقُوف على الرِّعَايَة وَالنَّظَر فِيهَا بِمَا يصلحها فَمر على بِلَاد السراغنة وَخرج مِنْهَا إِلَى البروج وَمِنْهَا إِلَى كيسر من بِلَاد تامسنا فاتصل بِهِ هُنَالك خبر فتْنَة أهل فاس وإيقاعهم بالأمين الْحَاج مُحَمَّد بن الْمدنِي بنيس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك على مَا قيل أَنه لما وصل خبر وَفَاة السُّلْطَان إِلَى فاس وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا على بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن أعزه الله وَاجْتمعَ أهل فاس لعقد الْبيعَة أَيْضا اشْترط عامتهم لَا سِيمَا الدباغون أَن يزَال عَنْهُم المكس فَيُقَال إِن بعض من أَرَادَ جمع الْكَلِمَة من الْعلمَاء والأعيان تكفل لَهُم بذلك عَن السُّلْطَان وَلما تمت الْبيعَة أصبح الْأمين بنيس غاديا على عمله من تَرْتِيب وكلائه لقبض الوظيف فِي الْأَسْوَاق والأبواب وَغَيرهَا فَكَلمهُ بعض أَعْيَان فاس فِي التَّأَخُّر عَن هَذَا الْأَمر قَلِيلا حَتَّى تطمئِن النُّفُوس وَيثبت الْحق فِي نصابه وَحِينَئِذٍ يُؤْتى الْأَمر من بَابه فَأبى وأصر على مَا هُوَ بصدده فثار بِهِ الْعَامَّة وهدموا دَاره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده وَأَرَادُوا قَتله فاختفى بِبَعْض الْأَمَاكِن حَتَّى سكنت الهيعة ثمَّ تسرب إِلَى حرم الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فَأَقَامَ بِهِ وَأمن على نَفسه وَكَانَت فتْنَة عَظِيمَة يطول شرحها واتصل بالسلطان وَهُوَ بكيسر أَيْضا خبر فتْنَة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وَكَانَ عاملهم يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة المراكشي ونائبه هُوَ أَحْمد بن الْمُؤَذّن الْفَرَجِيِّ من سكان آزمور وَكَانَ قَتلهمْ لَهُ تَاسِع عشر رَمَضَان من السّنة ثمَّ أَن أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بِبِلَاد تامسنا رِسَالَة بليغة يتنصلون فِيهَا من فعلة بنيس ويرمون بهَا الْعَامَّة والغوغاء وَمن لَا خلاق لَهُم وَنَصهَا
الْحَمد لله وَحده الْكَرِيم الَّذِي لَا يعجل بعقوبة من ارْتكب الذَّنب وتعمده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد صَاحب الشَّفَاعَة الْكُبْرَى والجاه الْعَظِيم الْمُخَاطب بقول مَوْلَانَا فِي كِتَابه الْحَكِيم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}(3/129)
الْقَلَم 4 وعَلى آله الَّذين أوجب الله لَهُم مَوَدَّة وحبا وَأنزل فيهم {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وَأَصْحَابه الَّذين كَانُوا أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم فَكَانَت الْمَلَائِكَة يَوْم حنين نَصرهم وعونهم هَذَا ونخص الْمقَام الَّذِي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار وَالْوَقار وعلاه الْبَهَاء وكساه وَألبسهُ الرَّسُول من رِدَاء الشّرف يَوْم كَانَ عَليّ وَفَاطِمَة والحسنان فِي دَاخل كَسَاه من ارْتقى وفَاق وساد ومهد بِهِ للخلافة المهاد والوساد وتزينت بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها بناديه وَلم تزل الْمَعَالِي تَدعُوهُ لنَفسهَا وتناديه واتخذت بيعَته جلبابا للأجياد والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أَعْيَان الدولة الشَّرِيفَة المولوية وَصدر المملكة العلوية الَّذين لم تزل سيرتهم فِي سجلات الْآثَار المحمودة مرسومة ومآثرهم فِي الدَّوَاوِين مرقومة وَألقى إِلَيْهِ هَذَا الْقطر المغربي الرسن وَحل مِنْهُ مَحل الوسن السُّلْطَان الْمُؤَيد مَوْلَانَا الْحسن سلالة الْقَوْم الَّذين زكتْ نُفُوسهم وأينعت فِي حدائق المزايا غروسهم ويسير الْمجد تَحت أَلْوِيَتهم وتتعطر الْمجَالِس بِطيب أفنيتهم لَا زَالَ السعد يراوحك ويغاديك والعز نَائِما بواديك والطعن فِي عين حاسديك والقذى فِي عين أعاديك وجعلك الله من صروف الزَّمَان فِي أَمَان وَلَا قطع الله عَن جمَاعَة الْعلمَاء جميل عادتكم وَلَا سلب الْمُسلمين ملابس سعادتكم وَرفع فِي بروج السَّعَادَة أعلامك وَمكن من رِقَاب الْأَعْدَاء حسامك وَجعل الْفَتْح أَيْنَمَا تَوَجَّهت قبالتك وأمامك وَشَرِيعَة جدك مقلدك وأمامك فِي نعْمَة طَوِيلَة الْأَعْمَار وروضة حلوة الثِّمَار أما بعد أبعد الله عَن ساحة سيدنَا كل شَرّ وَقرب مِنْهَا المحسن وَالْبر وأبقاها ملْجأ للمحتاج والمضطر فَإِنَّهُ لما ورد علينا من حَضْرَة سيدنَا الْعُظْمَى ومكانته الشما كتاب سنى مُعظم الصِّفَات والأسما بديع الْمعَانِي رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي ببراعته أَعلَى المنابر فَمن تكلم دونه فقد لَغَا بادرناه بالتقبيل وأحللناه مَحل التَّاج والإكليل فقرىء على الجم الْغَفِير وَفَرح بوروده الْكَبِير وَالصَّغِير واطمأنت بنشره النُّفُوس وارتفع بِهِ كل كدر وبوس وَتَشَوُّقِ الْحَاضِرُونَ(3/130)
لسَمَاع مَا فِيهِ وأنصت لقرَاءَته ذُو الْمُرُوءَة وَالسَّفِيه وَالْجَامِع غاص بأَهْله وكل حَال بمحله فَلَمَّا قرىء الْكتاب تبين أَن صَدره مدح وعجزه لوم وعتاب فَاشْتَمَلَ على بسط وجمال وَقبض وجلال وَجمع بَين ترغيب وترهيب فارتاب مِنْهُ كل مريب فَلَمَّا تمّ وَختم وتقرر كل مَا فِيهِ وَعلم تَفَرَّقت الْجَمَاعَات أَفْوَاجًا وارتجت الْمَدِينَة ارتجاجا وَحصل للنَّاس بذلك الْجزع وعمهم الْخَوْف والفزع وَالَّذِي أوقع النَّاس فِي ذَلِك مَا فِي الْكتاب من الْأَمر بتدارك مَا وَقع ففهموا أَن ذَلِك برد مَا ضَاعَ وَقد تفرق فِي الْآفَاق وَمَا اجْتمع وَذَلِكَ غير مُمكن كَمَا سيتبين وَالْحق أوضح وَأبين من أَن يبين على أَن الْمَقْصُود بذلك وَالْمرَاد حسم مَادَّة الْفساد لينقطع من جمَاعَة السُّفَهَاء عداؤها وَلِئَلَّا تتقد نَار الْفِتْنَة فيتعذر إطفاؤها أما مَا وَقع فِي قَضِيَّة الْحَاج مُحَمَّد بنيس حَتَّى أفْضى بِهِ الْحَال إِلَى الاحترام بمولانا إِدْرِيس وَفعل بأمكنته الْفِعْل الخسيس وليم بِسَبَبِهِ المرؤوس والرئيس حَتَّى تَوَجَّهت الْحجَّة على مسموع الْكَلِمَات إِذْ هِيَ متوجهة من جِهَات فقد تنْدَفع الْحجَّة بشرح الْقَضِيَّة على وَجههَا وإيرادها على مُقْتَضى كنهها من غير قلب للْحَقِيقَة وَلَا خُرُوج عَن متن الطَّرِيقَة وَفِي كريم علم سيدنَا أَن للْإنْسَان أعذارا يرْتَفع عَنهُ بهَا الملام وَلَا يُعَاتب مَعهَا وَلَا يلام وَذَلِكَ أَن مَا وَقع من النهب وَقع بَغْتَة فِي يَوْم يستعظم شَاهده وَصفه ونعته وَالْمَدينَة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة وَلَا معرفَة لنا بِمن نهب وَلَا بِمن أَتَى وَلَا بِمن ذهب أَمر أبرزته الْقُدْرَة لم يمكنا تلافيه وَلم يفد فِيهِ نهي سَفِيه فَلَو صدر ذَلِك من آحَاد مُعينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ من غير اعتساف لَكِن الْأَمر برز وَصدر من قوم مختلطين من بَدو وَحضر فيهم الْأَبْيَض وَالْأسود والأحمر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من أستأسد وتنمر وَلَيْسَ فِي وُجُوههم من الْحيَاء عَلامَة وَلَا أثر لَا يقلبون موعظة إِذْ لَيْسُوا من أهل الْفِكر فَلَا يُمكن دفعهم إِلَّا بِجَيْش عَظِيم وعسكر يصاح فيهم بِالنَّهْي وهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَا يلتفتون إِلَى من نَهَاهُم بل لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء إِذا مَا ينذرون ثمَّ لما كَانَ الْيَوْم الْعَاشِر من شهر تَارِيخه وَقع(3/131)
بِالْحرم الإدريسي مَا وصلكم وَلَا أَظُنهُ إِلَّا فصل لكم لَكِن عمتنا ألطاف الله ورحماته وَحفظ الضريح ورحباته وَلم تنتهك حرماته وحمته حماته ورماته فأبوابه قد فتحت وزواره بمشاهدة أنواره قد منحت وَمِمَّا فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السَّفِيه إِذا لم ينْتَه فَهُوَ مَأْمُور ولعمرك أَنه لَيْسَ منا علم بذلك وَلَا شُعُور وَكَيف يَأْمر الْعَاقِل بالمحظور أم كَيفَ يرضى مُسلم بهتك حُرْمَة الْإِسْلَام وَأَهله وَمَا يُوجب افْتِرَاق الْكَلِمَة من قَول أحد أَو فعله وَقد جَاءَ الْوَعيد بِمَا يلْزم من سكت وَحضر فَكيف بِمن بَاشر أَو أَمر لَكِن بَاب التَّوْبَة وَالْحَمْد لله مَفْتُوح لمن يَغْدُو عَلَيْهِ أَو يروح فنسأل الله أَن يمن عَلَيْهِم بِالتَّوْبَةِ من ارْتِكَاب هَذِه الحوبة وَقد كتبنَا لسيدنا بِهَذَا الْكتاب وَالْمَدينَة بِحَمْد الله آمِنَة والنفوس مطمئنة سَاكِنة وَالْأَيْدِي على التَّعَدِّي مَكْفُوفَة والطرق مسلوكة غير مخوفة وَذَلِكَ بعد معاناة فِي إخماد نَار الْفِتْنَة وَنصب وألطاف الله تتوارد وتصب بعد أَن كَانَت نَار الْفِتْنَة توقدت وتأججت وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وبالأكدار قد مزجت وكل من لَهُ مُرُوءَة وَدين وعد من المهتدين بذل فِي صَلَاح الْمُسلمين جهده وَأبْدى من الْفِعْل الْجَمِيل مَا عِنْده ولقاضينا بَارك الله فِيهِ الْيَد الطُّولى فَلم يَقع مِنْهُ تَقْصِير فِي الْقَضِيَّة الثَّانِيَة وَلَا الأولى هَذَا وكما فِي علمكُم أَن الْملك من ملك هَوَاهُ وَلم يغتر بِهَذَا الْعرض الفاني وَمَا أغواه وقهر نَفسه عِنْد الْغَضَب وابتكر مَا يوصله إِلَى الله واقتضب وَأَن الْكَرِيم إِذا حاسب مسامح وَإِذا قدر عَفا وَلَو أبدى الْمُسِيء إساءته وهفا فليتفضل سيدنَا بِقبُول شَفَاعَة من يضع اسْمه فِي هَذَا الْكتاب من الْعلمَاء والأشراف وَمِنْهُم بِعَدَمِ صَوَاب مَا صدر من السُّفَهَاء إِقْرَار واعتراف وَلَا يستغرب صُدُور الْخَيْر من معدنه وَالْفضل من موطنه وتتحاشى أخلاقك الفاخرة وشيمك الطاهرة أَن تكون شفاعتنا فِي هَؤُلَاءِ العصاة مَرْدُودَة وجماعتنا عَن ساحتكم مبعدة مطرودة ولحسن الظَّن بكم تحمل لجانبكم الزعيم وَالْكَفِيل على أَن لَا نرى مِنْكُم إِلَّا الْجَمِيل فليمن سيدنَا على هَذِه الحضرة الفاسية منا وَلَا يؤاخذنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا وَكَيف والحلم من داركم برز وَخرج وَفِي أوصافكم الحسان اندرج فأحببنا أَن تكون هَذِه(3/132)
المنقبة فِي أوصافكم تذكر وَفِي صحيفتكم تكْتب وتسطر فقابلوا بالصفح والإغضا عَمَّا سلف وَمضى وكلنَا من رعيتكم ومقتطفون من ثمار روضتكم ومستمدون من مائدتكم وَالظَّن الْأَقْوَى بكم أَنكُمْ تقبلون الشَّفَاعَة منا وتمنون على الْمُسْتَضْعَفِينَ من رعيتكم منا وكأنا بِكِتَابِكُمْ بضمن ذَلِك يُتْلَى وكلماته أشهر من الْعَسَل وَأحلى وَالله يتَوَلَّى أَمر الائتلاف بمتعود إحسانه وَيجمع قُلُوبنَا على طَاعَته وموجبات رضوانه حَتَّى نَكُون فِي ذَات الله إخْوَانًا وعَلى الدّين أنصارا وأعوانا والقلوب بيد من لَهُ الْأَمر وَالِاخْتِيَار وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار وَإِذا تَعَارَضَت الحظوظ فَمَا عِنْد الله خير للأبرار وَخير الْعَمَل عمل قرب إِلَى الْجنَّة وَأبْعد من النَّار فَالْوَاجِب على كل مُسلم أَن يدع مَا يزري بِالْإِسْلَامِ ويهينه وَلَا يلْتَفت لدواعي القطيعة فَإِنَّهَا تقَوِّي الْكفْر وتعينه أما علمنَا أَن من وَرَائِنَا عدوا يَشْتَهِي مواطىء أقدامنا وتنكيس أعلامنا تقضي أخوة الْإِسْلَام ومناصرته ومعاضدته ومواصلته أَن لَا يكون لجميعنا طموح إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا تمالؤ إِلَّا عَلَيْهِ وفقنا الله لما فِيهِ رِضَاهُ وَجعل سعينا فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه آمين وَالسَّلَام فِي منتصف رَمَضَان الْمُعظم عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
ثمَّ دخل السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله رِبَاط الْفَتْح صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور وَكَانَ الْعِيد يَوْم السبت فَأَقَامَ السُّلْطَان أيده الله سنة الْعِيد برباط الْفَتْح وَختم بِهِ صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ على الْعَادة وَكَانَ فَقِيه الْمجْلس ومدرسه يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي وَحضر ذَلِك الْمجْلس وُفُود الْمغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها وحضرنا فِي جُمْلَتهمْ ومدح السُّلْطَان بقصائد بليغة واحتفل أعزه الله لهَذَا الْخَتْم بأنواع الْأَطْعِمَة والأشربة وَالطّيب وَفرق الْأَمْوَال على من حضر ثمَّ وصل أهل العدوتين من علمائهما وقرائهما ومؤذنيهما وطبجيتها وبحريتهما على الْعَادة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أهل آزمور متنصلين مِمَّا صدر من عامتهم فِي حق مُحَمَّد بن الْمُؤَذّن فقابلهم بالبشر والصفح إِلَى أَن بحث عَن رُؤُوس الْفِتْنَة بعد ذَلِك فعاملهم بِمَا يستحقونه وَأقَام السُّلْطَان أعزه(3/133)
الله برباط الْفَتْح إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة فَنَهَضَ قَاصِدا مكناسة فَعبر الْمجَاز وَمَعَهُ من جنود الدولة وعساكر الْقَبَائِل مَا يجل عَن الْحصْر وَكَانَ نهوضه عَن إزعاج بِسَبَب مَا اتَّصل بِهِ من خبر الْمولى عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان ولد الَّذِي كَانَ ثار لأوّل بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فسلك هَذَا الْوَلَد مَسْلَك أَبِيه وأطمعه شياطين البربر فِي الْملك حَتَّى أوردوه مورد الردى وحان وَسقط الْعشي بِهِ على سرحان وَلما كَانَ السُّلْطَان أعزه الله بِبِلَاد بني حسن بلغه خبر الْقَبْض عَلَيْهِ فَكتب كتابا إِلَى الْأَمْصَار يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فَإِن عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن الَّذِي سَوَّلت لَهُ نَفسه مَا سَوَّلت من الرَّأْي المنكوس والحظ المعكوس كَانَ تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وَأتوا بِهِ لآيت عَيَّاش قرب فاس فَلَمَّا سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وَغَيرهم من الْجَيْش السُّوسِي وقبائل الصّلاح قَامُوا على سَاق فِي طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده وقابلوه بالنكاية والوبال وَرَأى مِنْهُم مَا لم يخْطر لَهُ ببال وَرجع بخفي حنين ثمَّ بعد الطَّرْد والإبعاد لم يبال بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء الْحَال وَلَا أقلع عَمَّا طمع فِيهِ من الْمحَال وَلَا انتبه من نومته وَلَا أَفَاق من سكرته وَبَقِي على دورانه عِنْد البربر إِلَى أَن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسي فَحكم الله فِيهِ هُنَالك وأتى بِهِ مَقْبُوضا عَلَيْهِ وَذَهَبت رِيحه وَسقط فِي أَيدي من كَانَ آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وَهَا الفتان متقف تَحت يَد أخينا الأرضى مولَايَ إِسْمَاعِيل رعاه الله فَالْحَمْد لله حق حَمده وَلَا نعْمَة إِلَّا من عِنْده وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجزينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد مَا خيمنا بحول الله بِبِلَاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بِاللَّه محفوفة بالنصر والعز بِحَمْد الله وأعلامنا المنصورة بِاللَّه ريَاح الْيمن والسعادة تسوقها والأرباح تكفل بهَا سوقها وَقد أعلمناكم لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بِمَا خول مَوْلَانَا جلّ وَعلا من عَظِيم نعمه فَللَّه الْحَمد وَله الْمِنَّة(3/134)
وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ ثمَّ تقدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى دَار ابْن العامري فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وَكَانُوا قد ثَارُوا بعاملهم عبد الْقَادِر بن أَحْمد المحروقي فهدموا دَاره وانتهبوها وعاثوا فِي الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله وقْعَة كَادَت تستأصلهم وَتَأْتِي عَلَيْهِم فتشفعوا إِلَيْهِ وتطارحوا عَلَيْهِ وأظهروا التَّوْبَة والخضوع فَقبل تَوْبَتهمْ وَولى عَلَيْهِم ثَلَاثَة عُمَّال ووظف عَلَيْهِم مَالا لَهُ بَال ونهض أعزه الله إِلَى مكناسة الزَّيْتُون ف 4 ي سَابِع ذِي الْقعدَة من السّنة فَدَخلَهَا مظفرا منصورا وَلما احتل بهَا كتب أيده الله إِلَى الْأَمْصَار بِمَا نَصه وَبعد فَأَنا بإثر الْفَرَاغ من أَمر الْقَبِيلَة اليحيوية وَبِنَاء أمرهَا على أساس الْجد بحول الله وَحُصُول المُرَاد من كَمَال استقامتها بِحَمْد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الْكِرَام قدسهم الله بمكناسة الزَّيْتُون وتقدمنا فِي محلتنا السعيدة المنصورة الَّتِي أرْخى الْيمن وَالظفر عَلَيْهَا ستوره فلقينا فِي طريقنا أهل هَذَا الْقطر المغربي من البرابرة وَغَيرهم على اخْتِلَاف شعوبهم وقبائلهم مظهرين غَايَة الْفَرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعَلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزَّيْتُون فِي يَوْم كَانَ من الْأَيَّام السعيدة المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذَلِك الْيَوْم السعيد بِمَا وَقع فِيهِ من السرُور كل موسم وَعِيد فَالْحَمْد لله على مَا خول وَأولى من فَضله العميم وخيره الجسيم وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجرينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته آمين وَالسَّلَام فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَكَانَ دُخُوله أعزه الله إِلَى مكناسة بعد زيارته تربة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر وَصلَاته الْجُمُعَة بهَا وَأطَال أيده الله الْمقَام بمكناسة وَفِي مُدَّة مقَامه بهَا أوقع ببني مطير وَمن لافهم من مجاط وَبني مكيلد وآيت يوسي وَغَيرهم بعد أَن طَال قِتَاله لَهُم ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم معاقلهم وانْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالحاجب بحبوحة قرارهم وَمحل منعتهم وانتصارهم بل تجاوزته عساكره(3/135)
المنصورة وأعلامه المنشورة بمسافة بعيدَة إِلَى أَن دخلت فَم الخنيق الَّذِي هُوَ أول بني مكيلد فاستباحت هُنَالك حلاتهم وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم فِي أعز مكانهم كل ممزق وقبضت مِنْهُم على عدد وافر من الأسرى بعث بِهِ السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الْأَمْصَار فَكَانَت عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار وَكَانَ إِيقَاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَاسْتمرّ مُقيما بمكناسة إِلَى فاتح ربيع الأول مِنْهَا وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور نَهَضَ أيده الله إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس مِنْهُ بعد مَا تَلقاهُ أَشْرَافهَا وأعلامها وأعيانها وَجَمِيع رماتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان مَعَ الْعَامِل وَالْقَاضِي وَاجْتمعت بِهِ مقدمتهم بوادي النجَاة فألان جَانِبه لَهُم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم وَلما وصل إِلَى الْبَلَد لم يعرج على شَيْء دون قصد ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وزيارته والتبرك بِهِ وانهار عَلَيْهِ الضُّعَفَاء وَالنِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ أَطْرَافه ويتمسحون بأذياله وَقدم الذَّبَائِح للحرم الإدريسي وَغَيره وأفاض من العطايا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا جَاوز الْحصْر وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَعِيد بفاس عيد المولد الْكَرِيم وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَاجْتمعت بِبَابِهِ وُجُوه الْقَبَائِل من كل قاصية ودانية وازدان الْعَصْر وَعم الْفَتْح والنصر واستقامت الْأُمُور ونادى مُنَادِي السرُور فِي الْخَاص وَالْجُمْهُور وَلما فرغ السُّلْطَان أعزه الله من شَأْن الْعِيد أَمر أَمِينه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون المراكشي أَن يرتب الوظيف المجعول على أَبْوَاب فاس وأسواقها على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فَفعل وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما جَلَست الْأُمَنَاء كل بمحله واستقامت الْأَحْوَال وَذَهَبت الْأَهْوَال ثقل ذَلِك على الدباغين ومرضوا فِيهِ وذهبوا إِلَى الشريف الْفَقِيه الْمولى عبد الْملك الضَّرِير وَقَالُوا لَهُ أَنْت الَّذِي أوقعتنا فِي هَذَا كُله بضمانك إِسْقَاط المكس أَولا حَتَّى صدر منا فِي حق بنيس مَا صدر والآن أخرجنَا مِمَّا أوقعتنا فِيهِ أما بِإِسْقَاط المكس وَأما بِإِخْرَاج بنيس من بَين أظهرنَا لِئَلَّا تدول لَهُ دولة علينا وَالرجل قد صَار عدوا لنا فَقَامَ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقدم على السُّلْطَان(3/136)
أعزه الله وَذكر لَهُ مَا عزم عَلَيْهِ السفلة من الدباغين فَأَعْرض السُّلْطَان أيده الله عَن ذَلِك وقابل بالجميل فَقَالَ الْفَقِيه الْمَذْكُور إِن لم يكن شَيْء مِمَّا ذكرت لسيدنا فَالْأولى بِي أَن أنتقل إِلَى تافيلالت وَلَا أبقى بَين أظهر هَؤُلَاءِ الْقَوْم فأسعفه السُّلْطَان وَبعث جملَة من الحمارين لحمله وَحمل أَوْلَاده وَلما رأى الدباغون ذَلِك نفخ الشَّيْطَان فيهم وعمدوا إِلَى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس وَمَاجَتْ الْأَسْوَاق وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان أيده الله فاستدعى عَامل فاس إِدْرِيس بن عبد الرَّحْمَن السراج وَكَانَ مُتَّهمًا بالخوض فِي وقْعَة بنيس وَمَا ترَتّب عَلَيْهَا بعد فأظهر الطَّاعَة والامتثال وَركب بغلته يُرِيد الْقدوم على السُّلْطَان بفاس الْجَدِيد فَقَامَ الدباغون دونه ومنعوه من الذّهاب إِلَى السُّلْطَان وتهددوه بِالْقَتْلِ إِن فعل فَقعدَ وَوَقع ذَلِك مِنْهُ الْموقع لِأَنَّهُ كَانَ متخوفا على نَفسه وَلما رأى السُّلْطَان أيده الله تمادي هَؤُلَاءِ الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أَن بَالغ فِي إلانة الْجَانِب والمقابلة بالجميل وَمن ذَلِك إعراضه أعزه الله عَن الْكَلَام فِي أَمر بنيس أَمر بحصارهم والتضييق عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ثمَّ لم يَكفهمْ عصيانهم حَتَّى صعدوا على منار الْمدرسَة العثمانية وعَلى غَيرهَا مِمَّا هُوَ مطل على فاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي الرَّمْي بالرصاص حَتَّى أَصَابُوا بعض من كَانَ بِأبي الْجُلُود وَلما انْتَهوا من سوء الْأَدَب إِلَى هَذِه الْغَايَة أَمر السُّلْطَان أيده الله بمقابلتهم على قدر جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل نَاحيَة ثمَّ اقتحمت طَائِفَة من الْعَسْكَر سور فاس من جِهَة الطالعة وَأخذُوا فِي النهب وَالْقَتْل وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَفِي أثْنَاء ذَلِك بعث السُّلْطَان أعزه الله وزيره أَبَا عبد الله الصفار يَعِظهُمْ ويعرض عَلَيْهِم الْأمان بِشَرْط التَّوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نَار الْفِتْنَة وانحسمت أَسبَاب المحنة فَعجل السُّلْطَان أيده الله بِالْكِتَابَةِ لجَمِيع الْآفَاق وتلطف وَاعْتذر بِأَنَّهُم الَّذين بدؤوا بِالْحَرْبِ والبادي أظلم وَمَعَ ذَلِك فبمجرد مَا أذعنوا إِلَى الطَّاعَة كف عَنْهُم رَحْمَة لَهُم وإبقاء عَلَيْهِم وَكَانَ هَذَا الْحَادِث يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الثَّانِي من السّنة(3/137)
وَنَصّ كتاب السُّلْطَان أعزه الله وَبعد فَبعد مَا كتبنَا لكم فِي شَأْن مَا تلقانا بِهِ أهل فاس من الْفَرح وَالسُّرُور والاحتفال فِي جَمِيع الْأُمُور اختبرناهم وبلونا أَحْوَالهم فألفينا أَحْوَالهم تصدق أَقْوَالهم فأمرناهم حِينَئِذٍ برد المستفادات لحالها الْمُعْتَاد كَمَا فعلنَا بمكناسة وَغَيرهَا من الْبِلَاد فامتثلوا طائعين وجدوا فِي دَفعهَا مسارعين وَمن جملَة من أمنا عَلَيْهَا ابْن شقرون المراكشي الْأمين فَلم نشعر بالدباغين أَصْحَاب فعلة بنيس إِلَّا وَقد ملئوا رعْبًا وتخوفوا أَن يركبُوا فِي الْمُؤَاخَذَة بهَا مركبا صعبا فطلبوا إِخْرَاج بنيس من بَين أظهرهم وإبعاده وهم حِينَئِذٍ عِنْد السّمع وَالطَّاعَة الْمُعْتَادَة فَلم نساعدهم فازدادوا تخوفا وَظهر مِنْهُم طيش أبان مِنْهُم تشوشا وتشوفا فتصدينا بحول الله وقوته لتربيتهم وتأنينا كل التأني فِي مفاجأتهم وأحجمنا حَيَاء من معاجلتهم تأدبا مَعَ حرمهم الْأَكْبَر سيدنَا ومولانا إِدْرِيس الْأَزْهَر ومراعاة لجَماعَة أهل الله الْأَحْيَاء والنائمة وإعذارا وإنذارا لتَكون الْحجَّة عَلَيْهِم شرعا وطبعا قَائِمَة حَتَّى ابتدؤونا وكسروا الْحرم فقابلناهم والبادي أظلم فَمَا كَانَ إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب حَتَّى ظهر نصر الله فهدمت دور وصوامع وَخَربَتْ فنادق ومصانع كَانُوا يضْربُونَ مِنْهَا ويتترسون بهَا ونهبت حوانيت ودور واستلبت أَيدي الْجَيْش أَقْوَامًا مِنْهُم وأسرت أسرى وَأخذُوا نكالا للآخرة وَالْأولَى لَكنا بِمُجَرَّد ظُهُور سطوة الله الْقَاهِرَة فيهم وَالْفَتْح أمرنَا بالنداء فِي الْحِين بِالْعَفو والصفح وكف أَيدي الْقَتْل والأسر عَنْهُم إبْقَاء عَلَيْهِم وشفقة لَهُم حَتَّى يظْهر مآل أَمرهم ويصفوا كدر غمرهم وَفِي عصر ذَلِك الْيَوْم ورد الْعلمَاء والشرفاء والرؤساء والعرفاء ضارعين صارخين شُفَعَاء على شَرط أَدَاء الْحُقُوق والتزام الشُّرُوط والبقاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قيد حَيَاة مَوْلَانَا الْمُقَدّس من اللوازم والمغارم فشفعناهم على الشُّرُوط الْمَذْكُورَة وقبلناهم على الْتِزَام الْحُدُود المحصورة وأعلمناكم لتفرحوا بنصر الله وتكونوا على بَال من حَقِيقَة الْوَاقِع وَلِئَلَّا تصيخوا للْأَخْبَار الكاذبة مسام المسامع أَو تلتفتوا إِلَى أقاويل المرجفين الَّذين لَا يدينون الله بدين ولايريدون إِلَّا فتْنَة الْمُؤْمِنَات وَالْمُؤمنِينَ وَالسَّلَام فِي رَابِع ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف(3/138)
اهـ ثمَّ إِن السُّلْطَان أعزه الله قبض على عَامل فاس إِدْرِيس السراج وعَلى وَلَده واثنين آخَرين مَعَه من رُؤُوس الْفِتْنَة وغربهم إِلَى مراكش وَولى على فاس الْقَائِد الجياني بن حمو البُخَارِيّ أحد قواده واستقامت الْأَحْوَال
وَكَانَ مِمَّا قيل من الشّعْر فِي هَذِه الْوَقْعَة قَول صاحبنا الْفَقِيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر حركات السلاوي حفظه الله
(لله ياتلك الَّتِي تأوي الفنا ... لَا تَنْقَضِي مَا كَانَ صبري قد بنى)
(كلا وَقد هيجت مني لوعة ... قد أوشكت فِي مهجتي أَن تهدنا)
(وأتيت موطن مصرع العشاق ثمَّ ... بَكَيْت حَتَّى كدت تبْكي الموطنا)
(لَو كَانَت الأجبال تعقل لانثنت ... تبْكي لما بك رأفة وتحننا)
(فَبِأَي رَأْي يَا حميمة قد غَدا ... مِنْك البكا عوض الترنم والغنا)
(وَبِأَيِّ ذَنْب قد فجعت قُلُوبنَا ... وسقيتنا كأس الأسى بدل الهنا)
(أَو مَا كَفاك من المتيم مهجة ... مَا شَأْنهَا إِلَّا معاناة العنا)
(صب لَهُ فِي كل يَوْم عِبْرَة ... وتلهف يقتده قد القنا)
(كَيفَ اصْطِبَارِي والحبيب مصارمي ... والدهر مغرا بالوشاية بَيْننَا)
(دَعْنِي فعدلك للمتيم ضلة ... شَرّ عَلَيْهِ من مقاساة الضنا)
(تالله لارقأت لعَيْنِي عِبْرَة ... حَتَّى ترى وَجه المليك الأيمنا)
(الْيَد الشهم السّري الأصيد الفخم ... النَّهْي الباهي الْهمام الصيدنا)
(الْأَعْظَم المستعظم العذب الْحلِيّ المستعذب ... الْحسن الثنا المستحسنا)
(قد حَاز فِي الْأَشْرَاف كل فَضِيلَة ... مَلأ المسامع حسنها والأعينا)
(ومكارما ومحاسنا ومفاخرا ... لَو ذاق لذتها الكفور لآمَنَّا)
(فلذاك سيدنَا الْمُقَدّس خصّه ... بمآثر مَا تَنْتَهِي فتدونا)
(ورث الْخلَافَة كَابِرًا عَن كَابر ... لَا كَالَّذي يَأْتِي إِلَيْهَا ضعيفنا)
(عشقته عشق ابْن الملوح خذنه ... وصبت إِلَيْهِ صبا الْعُيُون إِلَى الرنا)
(وَله وَقد لبته قبل دُعَائِهِ ... أَلْقَت أزمتها وَقَالَت هَا أَنا)
(ملك بِهِ الْملك الْأَغَر تشيدت ... أَرْكَانه فِي الْعِزّ محكمَة الْبَنَّا)
(أضحى بِهِ يختال فخرا قَائِلا ... لسواك يَا ركن الورى لن أركنا)(3/139)
(والدهر سلم والحظوظ بواسم ... والنصر يقبل من هُنَاكَ وَمن هُنَا)
(والسعد قد ألْقى عَصا تسياره ... فِي قصره متاليا أَن يقطنا)
(حسنت بطلعته الدنا فَكَأَنَّهَا ... حلى بِهِ هَذَا الزَّمَان تزينا)
(إِن المزايا والعطايا والحجا ... أَخْلَاق سيدنَا تناء أودنا)
(لَا لَا تقس قيسا بِهِ فِي النبل أَو ... فِي الْفضل قعقاعا وأحنف فِي الأنا)
(أَو فِي الشجَاعَة عَامِرًا أَو فِي الندى ... مَعنا وَفِي الإفصاح قس الألسنا)
(فهم لَو اطلعوا على خصلاته ... لغدت ظنونهم بِذَاكَ تَيَقنا)
(فاستصغروا مَا كَانَ يصدر مِنْهُم ... وأتى جَمِيعهم إِلَيْهِ مذعنا)
(لَيْت الْمُلُوك السالفين قد أحضروا ... فَرَأَوْا مليكا مَالِكًا حسن الثنا)
(وَلَو أَنهم علمُوا ضخامة ملكه ... قَالُوا لنا ملك وَلَكِن قدونا)
(وَلَو أَنهم سمعُوا بِعظم سماحه ... تاقوا وَقَالُوا ليته فِي عصرنا)
(وَلَو أَنهم قد أبصروا إقدامه ... بهتُوا وَقَالُوا لَيْسَ ذَا فِي طوقنا)
(هَذَا الْأَمِير ابْن الْأَمِير ابْن الْأَمِير ... ابْن الْأَمِير الْمَالِكِي رسن الدنا)
(هاذ العصامي العظامي الَّذِي ... وسع الْأَمَاكِن فَضله والأزمنا)
(مَا زَالَ يسمح بالجوائز واللها ... حَتَّى لقد تخذ السماحة ديدنا)
(فخم نتيه تلذذا بحَديثه ... حَتَّى نظن الأَرْض قد مادت بِنَا)
(طبع الْفُؤَاد على مودنه فَمَا ... نَدْعُو لَهُ بالنصر إِلَّا هيمنا)
(يَا أَيهَا الْملك السميذع وَالَّذِي ... مَا كَانَ مشبهه مضى فِي غربنا)
(مَا زلت تجتاب الْبِلَاد بسيرة ... عمرية تذر الْمعاصِي مذعنا)
(وَتبين للنَّاس الرشاد وسبله ... وتريهم نهج السوَاء البينا)
(وتدمر العاتي بأبيض صارم ... وَتقوم المعوج بالسمر القنا)
(لَوْلَا الْبُغَاة من الْأَنَام وجورهم ... مَا فَارَقت بيض السيوف الأجفنا)
(لَكِن بِحِلْمِك قد حقنت دِمَاءَهُمْ ... مَا أوشكت من بغيهم أَن تحقنا)
(وأنمت فِي ظلّ الْأمان جفونهم ... لولاك لم يَك لامرىء أَن يأمنا)
(وَلَقَد تَركتهم وكل قَبيلَة ... تثني عَلَيْك ثَنَا الْقُلُوب على المنا)
(حَتَّى أتيت الحضرة الفاسية الغراء ... معتجرا بأثواب السنا)(3/140)
(وَالْملك من فرط السرُور بك أزدهى ... وَله فَم بجميل ذكرك أعلنا)
(وأتاك أَهلهَا قؤلا هَل لنا ... يَا ماجدا من عطفة تشفي الضنى)
(يَا طالما اشتاقت إِلَيْك قُلُوبنَا ... شوق الْفَقِير إِلَى ملاقاة الْغنى)
(فمنحتهم بعد الضراعة عزة ... وكسوتهم بعد الأسا ثوب الهنا)
(هَذَا وَمَا صبحتهم بكريهة ... حَتَّى جنى جهلا بِفَضْلِك من جنا)
(شربوا كؤوس الحتف لَوْلَا أَنَّهَا ... أبقت عَلَيْهِم رأفة وتحننا)
(وأتاك أَرْبَاب البصائر قولا ... يَا لَا تُؤَاخِذنَا بزلة غَيرنَا)
(فصفحت عَنْهُم صفح مقتدر وَلم ... تتْرك جيوشك فيهم أَن تثخنا)
(وحبوتهم بعد الآسى بمسرة ... منعت قُلُوب النَّاس أَن تتحزنا)
(فغدى ببغيته المصافي وانثنى ... بندامة الكسفى من قد شيطنا)
(لَو كَانَ فِي الْإِحْسَان شَيْء يتقى ... لنهاك طبع الْجُود أَن لَا تحسنا)
(إِن الْكَرِيم إِذا تمكن من أَذَى ... صاحت بِهِ أحلامه فتحننا)
(مثل الشجاع إِذا سطى يَوْم الوغا ... أضحى بري طعم الردى حُلْو الجنا)
(لَا كالجبان فَلَو تكلّف نجدة ... صدته خَشيته الْحمام فأقبنا)
(وَكَذَا اللَّئِيم إِذا أَرَادَ تفضلا ... جَاءَتْهُ أَخْلَاق اللئام فأشقنا)
(لَو أَن جودك فِي الورى متفرق ... مَا كَانَ فيهم من بَرى متمسكنا)
(وَلَو أَن بأسك قد تفرق بَينهم ... مَا كَانَ يُمكن لامرىء أَن يجبنا)
(لَو لم تكن مولى خَمِيس أرعن ... لكفتك هيبتك الْخَمِيس الأرعنا)
(لَو أَن من أثنى على هرم رأى ... يَوْمًا علاك لقَالَ غَيْرك مَا عَنَّا)
(شهد الْأَنَام بِأَن مجدك باهر ... لم يجحدنه جَاحد فنبرهنا)
(يدعونك الْحسن الرضى طرا وَلَو ... شوركت فِي حسن دعوك الأحسنا)
(يَا أَيهَا الشهم السّري وَمن بِهِ ... أضحى على الأقطار يفخر قطرنا)
(إِنِّي امتدحتك والمحبة شَافِعِيّ ... ومحبة الْأَشْرَاف نعم المقتنى)
(وتحصني أبدا بعزة ركنكم ... ومعزز من بالكرام تَحَصُّنًا)
(لَا زَالَت أمداحي لأقعس مجدكم ... مُتَوَالِيَات أَو يصدني المنا)
(تالله لَا قمنا بشكركم وَلَو ... أعضاؤنا كَانَت جَمِيعًا أَلسنا)(3/141)
(فلنمدحنك فِي الْحَيَاة وَإِن نمت ... قَامَت عظامتنا بمدحك بَعدنَا)
(خُذْهَا إِلَيْك خريدة فكرية ... طلعت بغيظ قُلُوب أَبنَاء الزِّنَى)
(بهرت قُلُوب ذَوي النَّهْي بمحاسن ... منعت خرائد فكرهم أَن تحسنا)
(فاصرف إِلَيْهَا منَّة عين الرضى ... وامنع بِفَضْلِك حسنها أَن يغبنا)
(دَامَت إِلَيْك من الْمُهَيْمِن نصْرَة ... تدع المعاند ضارعا مستهجنا)
(بِمُحَمد الْمُخْتَار جدك خير من ... قد أوضح النهج الْقَدِيم وَبينا)
(صلى عَلَيْهِ الله مَا جن الدجى ... وأمالت الرّيح الْجنُوب الأغصنا)
(والآل والصحب الصناديد الذرى ... والمانحي قصادهم نيل المنا)
ثمَّ شرع السُّلْطَان أعزه الله بِجمع الْعَسْكَر وتنظيمه زِيَادَة على مَا كَانَ فِي حَيَاة وَالِده فألزم أهل فاس بِخَمْسِمِائَة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غَيرهمَا من الثغور بمائتين مِائَتَيْنِ وَلم يتَّخذ من مراكش وَلَا أَعمالهَا شَيْئا فصعب على النَّاس ذَلِك وجمعوا مِنْهُ مَا قدرُوا عَلَيْهِ واعتنى السُّلْطَان أعزه الله بِهِ فَكَانَ يُبَاشر عرضه وترتيبه بِنَفسِهِ وَفِي أَيَّام مقَامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وَجدّة يُقَال لَهُ أَبُو عزة الهبري من هبرة بطن من سُوَيْد وسُويد من عرب بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ هَذَا الرجل فِيمَا زَعَمُوا يخط فِي الرمل وَيتَعَاطَى بعض السحريات فَتَبِعَهُ بعض الأوباش الَّذين لَا شغل لَهُم وتأشبوا عَلَيْهِ ودنا من أَطْرَاف الإيالة وَقَوي حسه وَكَانَ السُّلْطَان أعزه الله عَازِمًا على النهوض إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وتمهيدها وَنفي الدجاجلة عَنْهَا فاستعد غَايَة الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الْجنُود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلهَا ثمَّ نَهَضَ من فاس منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما بَات فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة بآيت شغروسن أغار على الْمحلة لَيْلًا أَبُو عزة الهبري وَمَعَهُ سعيد بن أَحْمد الشغروسني وَيُقَال إِنَّه إدريسي النّسَب فماجت الْمحلة بعض الشَّيْء ثمَّ تراجع النَّاس وَأخذُوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الْحَرْب نَحْو عدوهم فشردوهم فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهم وَقبض على عدد من أَصْحَابه وَقطعت رُؤُوس مِنْهُم وَتقدم السُّلْطَان أعزه الله(3/142)
فِي جموع مؤلفة من الْجَيْش السعيد المظفر وأنجاد نظام الْعَسْكَر وغزاة الْقَبَائِل الغربية بربرية وعربية إِلَى بني سادان وآيت شغروسن فأوقع بهم وَقتل وَأسر وانتسفت الجيوش زُرُوعهمْ وبعثرت أَرضهم وديارهم فلجؤوا إِلَى بني وراين فَأمر السُّلْطَان أيده الله بِقِتَال الْجَمِيع ثمَّ جَاءَ بَنو وراين متنصلين متبرئين إِلَى السُّلْطَان مِنْهُم فقبلهم وَولى عَلَيْهِم رجلا من أعيانهم ثمَّ جَاءَ بَنو سادان وآيت شغروسن تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم ووظف عَلَيْهِم مائَة ألف مِثْقَال وَزِيَادَة أَرْبَعمِائَة من الْخَيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السُّلْطَان أعزه الله مِنْهُم فِي أَوَائِل شعْبَان من السّنة ثمَّ تقدم إِلَى تازا فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما احتل بهَا قدمت عَلَيْهِ وُفُود قبائلها مُتَمَسِّكِينَ بِحَبل الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فرحين مغتبطين وَبِكُل مَا أمكنهم من الْخدمَة متقربين وَجَاءَت عرب الأحلاف وَمن جاورهم حاملين هوادجهم المحلاة بِأَحْسَن حليهم وشاراتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وزيهم فقابل السُّلْطَان أعزه الله كلا بِمَا يجب من المجاملة وَحسن الْمُعَامَلَة مَا عدا ثَلَاث فرق من غياثة المجاورين لتازا وهم بَنو أبي قيطون وَأهل الشقة وَأهل الدولة فَإِنَّهُم كَانُوا يضرون بِأَهْل تازا ويغيرون عَلَيْهِم فألزمهم السُّلْطَان أيده الله بأَدَاء مَا تعلق لَهُم بِذِمَّتِهِمْ فأدوه فِي الْحَال ثمَّ وظف عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ ألف ريال أُخْرَى لبيت المَال فأدوها أَيْضا عَن طيب أنفسهم وَمن عداهم من أهل غياثة فَإِنَّمَا أَدّوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن الطَّاعَة والامتثال وَفِي هَذِه الْأَيَّام جِيءَ إِلَى السُّلْطَان بالهبري أَسِيرًا فَإِنَّهُ لما خرج السُّلْطَان أعزه فِي طلبه وَطلب غَيره أبعد فِي الصَّحرَاء وَلم تزل تلفظه الْبِلَاد وتتدافعه الشعاب والوهاد إِلَى أَن ساقته خَاتِمَة النكال إِلَى قَبيلَة بني كلال وهم على أَربع مراحل من تازا فقبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أَسِيرًا حَتَّى أوقفوه بَين يَدَيْهِ مصفدا كسيرا فأظهر الهبري الْجزع وتضرع وخضع فحقن السُّلْطَان أعزه الله دَمه وَأمر بِهِ فطيف فِي الْمحلة على جمل ثمَّ أَمر ببعثه إِلَى فاس فسجن بهَا بعد أَن طيف(3/143)
بِهِ فِي أسواقها ثمَّ مضى السُّلْطَان أعزه الله لوجهه حَتَّى بلغ قَصَبَة سلوان على طرف الإيالة المغربية من جِهَة الشرق فوفدت عَلَيْهِ قبائل تِلْكَ النواحي وأهدوا ومانوا وأظهروا غَايَة الْفَرح وَالسُّرُور
حكى من حضر أَنهم كَانُوا يزدحمون عَلَيْهِ لتقبيل يَده وركابه وَوضع ثِيَابه على أَعينهم تبركا بِهِ وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من هَذِه السّنة فِي لَيْلَة الْخَامِس أَو السَّادِس وَقع تناثر فِي الْكَوَاكِب وتداخل واضطراب عَظِيم على هَيْئَة مفزعة بَعْضهَا مشرق وَبَعضهَا مغرب وَبَعضهَا إِلَى هَيْئَة أُخْرَى فَكَانَ الْحَال كَمَا وصف الْأَعْمَى بقوله
(كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه)
دَامَ ذَلِك إِلَى قرب السحر وَأقَام السُّلْطَان أعزه الله بِهَذِهِ الْبِلَاد حَتَّى عيد بهَا بعيد الْفطر وَكَانَ المشهد هُنَالك عَظِيما والموسم مخيما وَحضر بَنو يزناسن وَمَعَهُمْ كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود فأهدى هَدِيَّة كَبِيرَة وولاه السُّلْطَان على تِلْكَ الْقَبَائِل من بني يزناسن وَغَيرهَا وقفل أعزه الله رَاجعا فأدركه فصل الشتَاء بِتِلْكَ الْجبَال والفيافي فَاشْتَدَّ الْبرد وَقلت الأقوات وَهلك بِسَبَب ذَلِك عدد كثير من الْجند وَلحق النَّاس مشقة فادحة وَأظْهر السُّلْطَان نَصره الله يَوْمئِذٍ من الشَّفَقَة والبرور مَا تناقله النَّاس وتحدثوا بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يسير بسير الضَّعِيف وَيقف على المرضى حَتَّى يصلح من شَأْنهمْ وَيَأْمُر بدفن من يدْفن وَحمل من يحمل وَإِذا سقط لأحد دَابَّته أَو رَحْله وقف عَلَيْهِ بِنَفسِهِ حَتَّى يعان عَلَيْهِ وَهَكَذَا إِلَى أَن دخل حَضْرَة فاس بِحَيْثُ أدْرك بِهِ عيد الْأَضْحَى من السّنة فعيد بهَا وتفرغ للنَّظَر فِي أَمر الْعَسْكَر يقوم عَلَيْهِ بِنَفسِهِ ويعرضه على عينه ويتصفح قَوَائِم مؤنه ورواتبه فَاطلع أيده الله على مَا كَانَ يدلسه القائمون على ذَلِك من الزِّيَادَة الْبَاطِلَة فعزل من عزل وأدب من يسْتَحق التَّأْدِيب ثمَّ قبض على كَبِير الْعَسْكَر السُّوسِي وَهُوَ الْحَاج منو الحاحي وَكَانَت فِيهِ شجاعة وإقدام إِلَّا أَنه كَانَ مفرطا فِي التهور والإدلال على الدولة وكبرائها فَأدى ذَلِك إِلَى الانتقام مِنْهُ بِالضَّرْبِ والسجن وَالِاحْتِيَاط على مَاله وضياعه(3/144)