غَزْو السُّلْطَان أبي ثَابت بِلَاد غمارة وسبتة ومحاصرته لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء
قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ قد ورد من الأندلس صُحْبَة الرئيس أبي سعيد بن الْأَحْمَر المتغلب على سبتة أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف وَأَنه ثار بجبال غمارة ودعا لنَفسِهِ واستحوذ عَلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف بلغه خَبره وأهمه شَأْنه إِلَّا أَنه كَانَ يَرْجُو أَن يفتح تلمسان عَن قريب ثمَّ ينْهض إِلَيْهِ فعاجله الْحمام دون ذَلِك وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي ثَابت وَقدم حَضْرَة فاس شغله عَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء مَا كَانَ من ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بمراكش كَمَا قدمْنَاهُ فعقد على حَرْب عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِابْنِ عَمه عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق فزحف إِلَيْهِ ونهض عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء الى لِقَائِه منتصف ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسَبْعمائة فَهَزَمَهُ عُثْمَان بن ابي الْعَلَاء واستلحم من كَانَ مَعَه من جند الفرنج وَهلك فِي تِلْكَ الْوَقْعَة عبد الْوَاحِد الفودودي من رجالات الدولة المرشحين للوزارة وَسَار عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى قصر كتامة فدخله وَاسْتولى على جهاته وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال وعَلى أثر ذَلِك كَانَ رُجُوع السُّلْطَان أبي ثَابت من غزَاة مراكش وَقد حسم الدَّاء ومحى أثر النِّفَاق فاعتزم على النهوض إِلَى بِلَاد غمارة ليمحو مِنْهَا أثر دَعْوَة ابْن أبي الْعَلَاء الَّتِي كَادَت تلج عَلَيْهِ دَار ملكه ويستخلص سبتة من يَد ابْن الْأَحْمَر المتغلب عَلَيْهَا لِأَنَّهَا صَارَت ركابا لمن يروم الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْقَرَابَة المستقرين وَرَاء الْبَحْر غزَاة فِي سَبِيل الله
فَنَهَضَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت من فاس عقب عيد الْأَضْحَى من سنة سبع وَسَبْعمائة حَتَّى انْتهى إِلَى قصر كتامة فَتلوم بِهِ ثَلَاثًا حَتَّى تلاحق بِهِ قبائل مرين وَالْعرب وَالرُّمَاة من سَائِر الْبِلَاد فَعرض جَيْشه وارتحل قَاصِدا جبال غمارة وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء قد فر أَمَامه إِلَى نَاحيَة سبتة فَسَار السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي أَتْبَاعه حَتَّى نَازل حصن علودان واقتحمه عنْوَة واستلحم بِهِ زهاء أَرْبَعمِائَة ثمَّ نَازل بلد الدمنة على شاطئ الْبَحْر فَقتل الرِّجَال وسبى النِّسَاء والذرية(3/95)
وانتهب الْأَمْوَال وَكَانُوا قد تمسكوا بِطَاعَة ابْن أبي الْعَلَاء وأجازوه إِلَى الْقصر فِي وسط بِلَادهمْ وبالغوا فِي تضييفه وإكرامه ودخلوا مَعَه الْقصر وآصيلا ونهبوا كثيرا من مَال أهلهما ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وتحصن ابْن أبي الْعَلَاء بسبتة مَعَ أوليائه من ابْن الْأَحْمَر وسرح السُّلْطَان أَبُو ثَابت عسكره فتفرقت فِي نواحي سبتة بالغارات واكتساح الْأَمْوَال
بِنَاء مَدِينَة تطاوين
ثمَّ أَمر السُّلْطَان باختطاط مَدِينَة تطاوين لنزول عسكره وللأخذ بمخنق سبتة هَكَذَا عِنْد ابْن أبي زرع وَابْن خلدون وَاعْلَم أَن تطاوين هَذِه هِيَ تطاوين الْقَدِيمَة وَقد تقدم لنا أَن قصبتها بنيت فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ثمَّ بنى السُّلْطَان أَبُو ثَابت هَذِه الْمَدِينَة عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّارِيخ الَّذِي هُوَ فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَكَانَ بناؤها خَفِيفا شبه الْقرْيَة عدا قصبتها فَإِن بناءها كَانَ محكما وثيقا واستمرت هَذِه الْمَدِينَة عامرة إِلَى صدر الْمِائَة التَّاسِعَة فخربت ثمَّ جدد بناؤها بعد نَحْو تسعين سنة حَسْبَمَا يَأْتِي الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالُوا وَلَفظ تطاوين مركب من كَلِمَتَيْنِ تبط وَمَعْنَاهَا فِي لِسَان البربر الْعين ووين وَهِي كِنَايَة عَن الْمُخَاطب نَحْو يَا فلَان وَمَا أشبه ذَلِك قَالُوا وَالسَّبَب فِي تَسْمِيَتهَا بذلك أَنهم فِي وَقت اختطاطهم لَهَا كَانُوا يضعون الحرس على تطاوين أَي يَا فلَان افْتَحْ عَيْنك لِأَن عَادَة الحارس أَن يَقُول ذَلِك فَصَارَ هَذَا بَعضهم تيط مَعْنَاهَا الْعين ووين مَعْنَاهَا المقلة وَمعنى مَجْمُوع الْكَلِمَتَيْنِ مقلة الْعين وَالْإِضَافَة مَقْلُوبَة كَمَا هِيَ فِي لِسَان بعض الْأُمَم العجمية فَإِنَّهُ لَا مُسْتَند لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم(3/96)
وَلما شرع السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي بِنَاء مَدِينَة تطاوين أوفد كَبِير الْفُقَهَاء بمجلسه أَبَا يحيى بن أبي الصَّبْر إِلَى ابْن الْأَحْمَر صَاحب سبتة فِي شَأْن النُّزُول لَهُ عَن الْبَلَد وَأقَام هُوَ بقصبة طنجة ينْتَظر الْجَواب بِمَاذَا يكون وَفِي أثْنَاء ذَلِك مرض مرض مَوته وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من شهر صفر سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَدفن بِظَاهِر طنجة ثمَّ حمل شلوه بعد أَيَّام إِلَى مدفن آبَائِهِ بشالة فووري هُنَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن أبي عَامر عبد الله بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
لما هلك السُّلْطَان أَبُو ثَابت تصدى للْقِيَام بِالْأَمر عَمه عَليّ بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن زريقاء وَهِي أمه وعَلى هَذَا هُوَ الَّذِي قتل شُيُوخ المصامدة بِكِتَاب ابْن الملياني كَمَا تقدم وخلص الْمَلأ من بني مرين أهل الْحل وَالْعقد إِلَى أبي الرّبيع الْمَذْكُور أخي أبي ثَابت فَبَايعُوهُ واستتب أمره فتقبض على عَمه عَليّ بن زريقاء وسجنه بطنجة فَبَقيَ مسجونا بهَا إِلَى أَن هلك سنة عشر وَسَبْعمائة وَبث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْعَطاء فِي النَّاس وأجزل الصلات فأرضى الْخَاصَّة والعامة وَصفا لَهُ الْأَمر ثمَّ ارتحل نَحْو فاس واستدعى من كَانَ بمحلة تطاوين من الْجند فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وأرضاهم بِالْمَالِ كَذَلِك وَلما فصل من طنجة تبعه عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من سبتة فِي جَيش كثيف ليضْرب فِي محلته لَيْلًا فَنَذر بِهِ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الرّبيع فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على صهوات خيولهم فوافاهم عُثْمَان بِسَاحَة علودان وهم على ذَلِك فناجزهم الْحَرْب فهزموه وتقبض على وَلَده وَكثير من عسكره وَقتل آخَرُونَ وَكَانَ للسُّلْطَان أبي الرّبيع الظُّهُور الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَوصل أَبُو يحيى بن أبي الصَّبْر من الأندلس وَقد أحكم عقدَة الصُّلْح مَعَ ابْن الْأَحْمَر صَاحب غرناطة(3/97)
وَلما رأى عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء ذَلِك سقط فِي يَده وأيس من الْمغرب فَعبر الْبَحْر فِيمَن مَعَه من الْقَرَابَة إِلَى الأندلس وَولي مشيخة الْغُزَاة بهَا فَكَانَت لَهُ فِي جِهَاد الْعَدو الْيَد الْبَيْضَاء وَعلا أمره بالأندلس وزاحم بني الْأَحْمَر مُلُوكهَا فِي رياستهم وجبايتهم حَتَّى كَاد يستولي على الْأَمر من أَيْديهم وشرقوا بدائه ومارسهم ومارسوه مُدَّة طَوِيلَة وَعدلُوا فِي أمره إِلَى المصانعة والمجاملة فِي أَخْبَار لَيْسَ جلبها من غرضنا إِلَى أَن توفّي لَكنا نذْكر من ذَلِك أنموذجا يسْتَدلّ بِهِ الْوَاقِف عَلَيْهِ على مَا وَرَاءه فَنَقُول لما توفّي عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء رَحمَه الله كتب على قَبره مَا صورته هَذَا قبر شيخ الحماة وَصدر الْأَبْطَال والكماة وَاحِد الْجَلالَة لَيْث الْإِقْدَام والبسالة علم الْأَعْلَام حامي ذمار الْإِسْلَام صَاحب الْكَتَائِب المنصورة وَالْأَفْعَال الْمَشْهُورَة والمغازي المسطورة وَإِمَام الصُّفُوف الْقَائِم بِبَاب الْجنَّة تَحت ظلال السيوف سيف الْجِهَاد وقاصم الأعاد وَأسد الآساد العالي الهمم الثَّابِت الْقدَم الْهمام الْمَاجِد الأرضى البطل الباسل الأمضى الْمُقَدّس المرحوم أبي سعيد عُثْمَان ابْن الشَّيْخ الْجَلِيل الْهمام الْكَبِير الْأَصِيل الشهير الْمُقَدّس المرحوم أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن عبد الله بن عبد الْحق
كَانَ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة أنفقهُ مَا بَين رَوْحَة فِي سَبِيل الله وغدوة حَتَّى استوفى فِي المشهورر سَبْعمِائة واثنتين وَثَلَاثِينَ غَزْوَة وَقطع عمره مُجَاهدًا مُجْتَهدا فِي طَاعَة الرب محتسبا فِي إدارة الْحَرْب ماضي العزائم فِي جِهَاد الْكفَّار مصادما بَين جموعهم تدفق التيار وصنع الله تَعَالَى لَهُ فيهم من الصَّنَائِع الْكِبَار مَا سَار ذكره فِي الأقطار أشهر من الْمثل السيار حَتَّى توفّي رَحمَه الله وغبار الْجِهَاد طي أثوابه وَهُوَ مراقب لطاغية الْكفَّار وأحزابه فَمَاتَ على مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَفِي ملحمة الْجِهَاد قَبضه الله إِلَيْهِ واستأثر بِهِ سعيدا مرتضى وسيفه على رَأس ملك الرّوم منتضى مُقَدّمَة قبُول وإسعاد ونتيجة جِهَاد وجلاد ودليلا على نِيَّته الصَّالِحَة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله برحمة من عِنْده توفّي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي لذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة رَحمَه الله(3/98)
وَأما السُّلْطَان أَبُو الرّبيع فَإِنَّهُ لما سَار عَن طنجة دخل حَضْرَة فاس حادي عشر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا سنة المولد الْكَرِيم وَفرق الْأَمْوَال واستقامت الْأُمُور وتمهد الْملك وَعقد السّلم مَعَ صَاحب تلمسان أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن وَأقَام وادعا بِحَضْرَتِهِ مجتنيا ثَمَرَة ملكه وَكَانَ فِي أَيَّامه غلاء إِلَّا أَن النَّاس انفتحت لَهُم فِيهَا أَبْوَاب المعاش والترف حَتَّى تغَالوا فِي أَثمَان الْعقار فبلغت قيمتهَا فَوق الْمُعْتَاد حَتَّى لقد بيع كثير من الدّور بفاس بِأَلف دِينَار من الذَّهَب الْعين وتنافس النَّاس فِي الْبناء فاتخذوا الْقُصُور المشيدة وتأنفوا فِيهَا بالزليج والرخام وأنواع النقوش وتناغو فِي لبس الْحَرِير وركوب الفاره وَأكل الطّيب واقتناء الْحلِيّ من الذَّهَب وَالْفِضَّة واستبحر الْعمرَان وَظَهَرت الزِّينَة والأمور كلهَا بيد الله تَعَالَى
نكبة الْفَقِيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين واستئصال بني وقاصة الْيَهُودِيين بعد ذَلِك
كَانَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين شُعَيْب بن مخلوف من بني أبي عُثْمَان إِحْدَى قبائل كتامة المجاورين للقصر الْكَبِير وَكَانَ بَيته بَيت الْعلم وَالدّين واتصلوا خدمَة بني مرين أَيَّام دُخُولهمْ الْمغرب واستيلائهم عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا من خَاصَّة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب وَجعل بِيَدِهِ وضع الْعَلامَة على الرسائل وفوض إِلَيْهِ فِي حسبان الْخراج وَالضَّرْب على أَيدي الْعمَّال وتنفيذ الْأَوَامِر بِالْقَبْضِ والبسط فيهم واستخلصه لمناجاته والإفضاء إِلَيْهِ بسره وَلما هلك السُّلْطَان يُوسُف وَولي بعده السُّلْطَان أَبُو ثَابت ضاعف رُتْبَة هَذَا الرجل وشفع لَدَيْهِ حَظه ومنصبه وَرفع على الأقدار قدره ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ أَبُو الرّبيع فسلك فِيهِ مَذْهَب سلفه واضطلع أَبُو مُحَمَّد بن أبي مَدين بِأُمُور دولته وَكَانَ بَنو وقاصة الْيَهُود حِين نكبوا أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف يرَوْنَ أَن نكبتهم كَانَت بسعاية أبي مُحَمَّد فيهم وَكَانَ خَليفَة الْأَصْغَر مِنْهُم قد أفلت من تِلْكَ النكبة كَمَا ذَكرْنَاهُ(3/99)
فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع اسْتعْمل خَليفَة هَذَا بداره فِي بعض المهن فباشر الْأُمُور وترقى فِيهَا حَتَّى اتَّصل بالسلطان فَجعل غَايَة قَصده السّعَايَة بِأبي مُحَمَّد بن أبي مَدين وَكَانَ يُؤثر عَن السُّلْطَان أبي الرّبيع أَنه يختلي مَعَ حرم حَاشِيَته وتعرف خَليفَة ذَلِك من مقالات النَّاس فَدس إِلَى السُّلْطَان بِأَن ابْن أبي مَدين يعرض باتهامك فِي ابْنَته وَأَن صَدره قد وغر لذَلِك وَأَنه مترصد بالدولة ومتربص بهَا الدَّوَائِر فتمكنت سعايته من السُّلْطَان وَظن أَنه صَادِق وَكَانَ يخْشَى غائلة ابْن أبي مَدين بِمَا كَانَ لَهُ من الوجاهة فِي الدولة ومداخلة الْقَبِيل فاستعجل السُّلْطَان أَبُو الرّبيع دفع غائلته ودس إِلَى قَائِد جند الفرنج بقتْله فَسَار إِلَيْهِ ولقيه بمقبرة الشَّيْخ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ فرصده وَأَتَاهُ من خَلفه فطعنه طعنة كبته على ذقنه واحتز رَأسه وألقاه بَين يَدي السُّلْطَان أبي الرّبيع وَدخل الْوَزير سُلَيْمَان بن يرزيكن فَوجدَ الرَّأْس بَين يَدَيْهِ فَذَهَبت نَفسه عَلَيْهِ وعَلى مَكَانَهُ من الدولة حسرة وأسفا وَأَيْقَظَ السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وأطلعه على خبثه وَأخرج لَهُ بَرَاءَة كَانَ بعث بهَا ابْن أبي مَدين مَعَه إِلَى السُّلْطَان يتنصل فِيهَا وَيحلف على كذب مَا رمي بِهِ عِنْده فَتنبه السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وَعلم أَنه قد خدعه وَنَدم حَيْثُ لم يَنْفَعهُ النَّدَم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وحاشيته من الْيَهُود المتصدين للْخدمَة وسطا بهم سطوة الهلكة فَأَصْبحُوا مثلا للآخرين
انْتِقَاض أهل سبتة على بني الْأَحْمَر ومراجعتهم طَاعَة بني مرين
كَانَ أهل سبتة قد سئموا ملكة أهل الأندلس وثقلت عَلَيْهِم ولايتهم لَا سِيمَا حِين رَحل عَنْهُم عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وَعبر الْبَحْر بِقصد الْجِهَاد كَمَا مر واتصل خبر ذَلِك بالسلطان أبي الرّبيع فانتهز الفرصة فيهم وَعقد لِثِقَتِهِ تاشفين بن يَعْقُوب الوطاسي أخي وزيره عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب على عَسْكَر ضخم من بني مرين وَسَائِر طَبَقَات الْجند وَبَعثه إِلَى سبتة فأغذ السّير إِلَيْهَا وَنزل بساحتها وَلما أحس بِهِ أهل الْبَلَد تمشت رجالاتهم فِيمَا بَينهم وتنادوا(3/100)
بشعار بني مرين وثاروا على من كَانَ بسبتة من حامية ابْن الْأَحْمَر فأخرجوهم مِنْهَا واقتحم تاشفين بن يَعْقُوب الْبَلَد عَاشر صفر من سنة تسع وَسَبْعمائة وتقبض على قَائِد القصبة أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن مليلة وعَلى قَائِد الْبَحْر أبي الْحسن بن كماشة وعَلى قَائِد الْحَرْب بهَا من الْقَرَابَة عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الْحق وطير تاشفين بالْخبر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع فَعم السرُور وَعظم الْفَرح واتصل ذَلِك بِابْن الْأَحْمَر فَضَاقَ ذرعه وخشي عَادِية بني مرين وجيوش الْمغرب حِين انْتَهوا إِلَى الفرضة وملكوها فَقلب رَأْيه وَرَأى أَن يجنح إِلَى السّلم مَعَ السُّلْطَان أبي الرّبيع لشدَّة شوكته ولكلب الطاغية عَلَيْهِ فِي أرضه لَوْلَا أَن غزاه بني مرين يكفون من غربه فبادر السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر وَهُوَ أَبُو الجيوش نصر بن مُحَمَّد أَخُو المخلوع الَّذِي كَانَ قبله وأوفد رسله على السُّلْطَان أبي الرّبيع راغبين فِي السّلم خاطبين للولاية وتبرع بالنزول عَن الجزيرة ورندة وحصونها ترغيبا للسُّلْطَان أبي الرّبيع فِي الْجِهَاد فَقبل مِنْهُ ذَلِك وَعقد لَهُ الصُّلْح على مَا أَرَادَ وخطب مِنْهُ أُخْته فأنكحه ابْن الْأَحْمَر إِيَّاهَا وَبعث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع إِلَيْهِ بالمدد للْجِهَاد أَمْوَال وخيولا جنائب مَعَ ثقته عُثْمَان بن عِيسَى اليريناني أخي وزيره إِبْرَاهِيم بن عِيسَى واتصلت بَينهمَا الْولَايَة إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان أَبُو الرّبيع رَحمَه الله
انْتِقَاض الْوَزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي على السُّلْطَان أبي الرّبيع ومبايعته لعبد الْحق بن عُثْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما انْعَقَد الصُّلْح بَين السُّلْطَان أبي الرّبيع وَابْن الْأَحْمَر وحصلت الْمُصَاهَرَة بَينهمَا والمودة كَانَت رسل ابْن الْأَحْمَر لَا تزَال تَتَرَدَّد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس فَقدم مِنْهُم ذَات يَوْم بعض المنهمكين فِي اللَّهْو المدمنين للشُّرْب والقصف فكشف صفحة وَجهه فِي معاقرة الْخمر وتجاهر بذلك بَين النَّاس وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الرّبيع قد عزل قَاضِي فاس أَبَا غَالب المغيلي وَولى الْقَضَاء مَكَانَهُ الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا الْحسن الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير صَاحب(3/101)
التَّقْيِيد على الْمُدَوَّنَة وَكَانَ رَحمَه الله قد شدد على أهل الفسوق والمناكر فسيق إِلَيْهِ ذَات يَوْم هَذَا الأندلسي وَهُوَ سَكرَان فَأمر الْعُدُول فاستروحوه واشتموا مِنْهُ رَائِحَة الْخمر وأدوا شَهَادَتهم على ذَلِك فَأمْضى القَاضِي حكم الله فِيهِ وَجلده الْحَد فاضطرم الأندلسي غيظا وَتعرض للوزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي وَيُقَال لَهُ رحو بِاللِّسَانِ الزناتي فكشف لَهُ عَن ظَهره يرِيه أثر السِّيَاط وينعي عَلَيْهِ سوء هَذَا الْفِعْل مَعَ رسل الدول فضجر الْوَزير من ذَلِك وأخذته الْعِزَّة بالإثم وَلَعَلَّه كَانَ فِي قلبه شَيْء على القَاضِي فَأمر وزعته بإحضاره على أَسْوَأ الْحَالَات وعزم على الْبَطْش بِهِ فتبادروا إِلَيْهِ واعتصم القَاضِي بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع ونادى فِي الْمُسلمين فثارت الْعَامَّة بهم ومرج أَمر النَّاس وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان فتلافى الْأَمر وأحضر أَصْحَاب الْوَزير فَضرب أَعْنَاقهم وشرد بهم من خَلفهم جزاه الله خيرا فأسرها الْوَزير فِي نَفسه وداخل الْحسن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وَكَانَ من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى فيهم وداخل قَائِد الفرنج غنصالوا الْمُنْفَرد برياسة الْعَسْكَر وشوكة الْجند وَكَانَ لهَؤُلَاء الفرنج بالوزير اخْتِصَاص بِحَيْثُ آثروه على السُّلْطَان فَدَعَاهُمْ لخلع طَاعَة السُّلْطَان أبي الرّبيع وبيعة عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق كَبِير الْقَرَابَة وَأسد الأعياص فَأَجَابُوهُ وَبَايَعُوا لَهُ وَتمّ أَمرهم وَلما كَانَ يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من ربيع الآخر من سنة عشر وَسَبْعمائة فر الْوَزير الْمَذْكُور وقائده الفرنجي وَمن شايعهم على رَأْيهمْ فَخَرجُوا إِلَى ظَاهر الْبَلَد الجديدة وجاهروا بالخلعان وَأَقَامُوا الْآلَة والرسم وَبَايَعُوا سلطانهم عبد الْحق على عُيُون الْمَلأ وعسكروا بالعدوة القصوى من سبو ثمَّ سَارُوا إِلَى نَاحيَة تازا وَلما استقروا برباطها أخذُوا فِي جمع الجيوش ومكاتبة الْخَاصَّة من بني مرين وَالْعرب يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم والمشايعة لَهُم على رَأْيهمْ وأوفدوا على أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان يَدعُونَهُ إِلَى المظاهرة على أَمرهم واتصال الْيَد والمدد بالعسكر وَالْمَال فتوقف أَبُو حمو وَلم يقدم وَلم يحجم وَبَقِي ينْتَظر عماذا ينجلي أَمرهم واتصل خبر ذَلِك كُله بالسلطان أبي(3/102)
الرّبيع فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَقدم بَين يَدَيْهِ يُوسُف بن عِيسَى الحشمي وَعمر بن مُوسَى الفودودي فِي جَيش كثيف من بني مرين وَسَار هُوَ فِي ساقتهم واتصل خبر خُرُوجه بِعَبْد الْحق بن عُثْمَان ووزيره فانكشفوا عَن تازا وَلَحِقُوا بتلمسان وَكَانُوا يظنون أَن السُّلْطَان لايخرج إِلَيْهِم وَحمد أَبُو حمو عَاقِبَة توقفه عَن نَصرهم ويئسوا من صريخه إيَّاهُم وَلما ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ أجَاز عبد الْحق بن عُثْمَان ووزيره إِلَى الأندلس وَرجع الْحسن بن عَليّ وَمن مَعَه إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع بعد أَن أَخذ مِنْهُ الْأمان وَهلك رحو بن يَعْقُوب بالأندلس لمُدَّة قريبَة وَلما احتل السُّلْطَان أَبُو الرّبيع بتازا حسم الدَّاء ومحا أثر الشقاق وأثخن فِي حَاشِيَة الْخَوَارِج وشيعتهم بِالْقَتْلِ والسبي ثمَّ اعتل أَيَّامًا أثْنَاء ذَلِك فَتوفي بتازا بَين العشاءين لَيْلَة الْأَرْبَعَاء منسلخ جُمَادَى الْأَخِيرَة من سنة عشر وَسَبْعمائة وَدفن من ليلته تِلْكَ بِصَحْنِ الْجَامِع الْأَعْظَم من تازا رَحمَه الله
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي سعيد عُثْمَان ابْن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
كَانَ هَذَا السُّلْطَان من أهل الْعلم والحلم والعفاف جوادا متواضعا متوقفا فِي سفك الدِّمَاء لقبه السعيد بِفضل الله وَأمه حرَّة اسْمهَا عَائِشَة بنت الْأَمِير أبي عَطِيَّة مهلهل بن يحيى الخلطي وَلما هلك السُّلْطَان أَبُو الرّبيع بتازا فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تطاول لِلْأَمْرِ عَمه أَبُو سعيد الْأَصْغَر وَهُوَ عُثْمَان بن السُّلْطَان يُوسُف وخب فِي ذَلِك وَوضع وأسدى وألحم فَلم يحصل على شَيْء
وَاجْتمعَ الوزراء والمشيخة بِالْقصرِ بعد هدأة من اللَّيْل وتفاوضوا فِي أَمرهم حَتَّى وَقع اختيارهم على أبي سعيد الْأَكْبَر وَهُوَ عُثْمَان ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فاستدعوه فَحَضَرَ فَبَايعُوهُ ليلتئذ وَتمّ أمره وأنفذ كتبه إِلَى النواحي والجهات باقتضاء الْبيعَة وسرح ابْنه الْأَكْبَر الْأَمِير أَبَا الْحسن عَليّ بن عُثْمَان إِلَى فاس فَدَخلَهَا غرَّة رَجَب من سنة عشر وَسَبْعمائة وَملك قصر الْخلَافَة بالحضرة واحتوى على أَمْوَاله وذخيرته وَفِي غَد ليلته أخذت(3/103)
الْبيعَة للسُّلْطَان أبي سعيد بِظَاهِر تازا على بني مرين وَسَائِر زناتة وَالْعرب والعسكر والحاشية والموالي والصنائع وَالْعُلَمَاء والصلحاء ونقباء النَّاس وعرفائهم والخاصة والدهماء فَقَامَ بِالْأَمر واستوسق لَهُ الْملك وَفرق الأعطيات وأسنى الجوائز وتفقد الدَّوَاوِين وَرفع الظلامات وَحط المغارم والمكوس وسرح السجون وَرفع عَن أهل فاس مَا كَانَ يلْزم رباعهم من الْوَظَائِف المخزنية فِي كل سنة فصلح حَال النَّاس فِي أَيَّامه
ثمَّ ارتحل لعشرين من رَجَب من السّنة فَدخل حَضْرَة فاس فاستقر بهَا وَقدم عَلَيْهِ وُفُود التهنئة من جَمِيع بِلَاد الْمغرب ثمَّ خرج فِي ذِي الْقعدَة الى رِبَاط الْفَتْح لتفقد الْأَحْوَال وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية وإنشاء الأساطيل الجهادية فعيد هُنَالك عيد الْأَضْحَى وباشر أُمُور النَّاس وَأمر بإنشاء الأساطيل بدار الصِّنَاعَة من سلا برسم جِهَاد الفرنج ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فعقد سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة لِأَخِيهِ الْأَمِير أبي الْبَقَاء يعِيش على ثغور الأندلس الجزيرة ورندة وَمَا إِلَيْهِمَا من الْحُصُون ثمَّ نَهَضَ سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة إِلَى نَاحيَة مراكش لما كَانَ بهَا من اختلال الْأَحْوَال وَخُرُوج عدي بن هنو الهسكوري ونقضه للطاعة فنازله السُّلْطَان أَبُو سعيد وحاصره مُدَّة ثمَّ اقتحم عَلَيْهِ حصنه عنْوَة وَقبض عَلَيْهِ وَبَعثه موثقًا فِي الْحَدِيد إِلَى فاس فأودعه المطبق وقفل رَاجعا إِلَى حَضرته فاحتل بهَا مؤيدا منصورا وَالله تَعَالَى أعلم
غَزْو السُّلْطَان أبي سعيد نَاحيَة تلمسان
كَانَ بَنو مرين قد حقدوا على أبي حمو صَاحب تلمسان من أجل توقفه فِي أَمر عبد الْحق بن عُثْمَان ووزيره رحو بن يَعْقُوب الوطاسي وتسهيله الطَّرِيق لَهُم إِلَى الأندلس ومداهنته فِي ذَلِك وَكَانَ مُقْتَضى الصُّلْح المنعقد بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الرّبيع أَن يقبض عَلَيْهِم وَيبْعَث بهم إِلَيْهِ حَالا فحقد بَنو مرين على أبي حمو ووجدوا فِي أنفسهم عَلَيْهِ وَلم أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد واستوسق ملكه ودوخ الْجِهَات المراكشية وَفرغ من شَأْن(3/104)
الْمغرب اعتزم على غَزْو تلمسان فَنَهَضَ إِلَيْهَا سنة أَربع عشرَة وَلما انْتهى إِلَى وَادي ملوية قدم ابنيه الأميرين أَبَا الْحسن وَأَبا عَليّ فِي عسكرين عظيمين فِي الجناحين وَسَار هُوَ فِي ساقتهما فَدخل بِلَاد بني عبد الواد على هَذِه التعبية فاكتسح نَوَاحِيهَا وَاصْطلمَ نعمتها ثمَّ نَازل وَجدّة فقاتلها قتالا شَدِيدا فمتنعت عَلَيْهِ ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان فَنزل بالملعب من ساحتها وتحصن أَبُو حمو بالأسوار وَغلب السُّلْطَان ابو سعيد على معاقلها وَسَائِر ضواحيها فحطمها حطما ونسفها نسفا ودوخ جبال بني يزناسن وأثخن فيهم وانْتهى فِي قفوله إِلَى وَجدّة ففر أَخُوهُ أَبُو الْبَقَاء يعِيش وَكَانَ فِي مُعَسْكَره من أجل استرابة لحقته من السُّلْطَان وَسَار إِلَى تلمسان فَنزل على أبي حمو وَرجع السُّلْطَان أَبُو سعيد على التعبية فَانْتهى إِلَى تازا فَأَقَامَ بهَا وَبعث ابْنه الْأَمِير أَبَا عَليّ إِلَى فاس فَكَانَ من خُرُوجه عَلَيْهِ مَا نذكرهُ
خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ للسُّلْطَان أبي سعيد ولدان أَحدهمَا وَهُوَ الْأَكْبَر من أمته الحبشية وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان وَثَانِيهمَا وَهُوَ الْأَصْغَر من علجة من سبي الفرنج وَهُوَ أَبُو عَليّ عمر بن عُثْمَان وَكَانَ هَذَا الْأَصْغَر أعلق بقلب السُّلْطَان وأحبهما إِلَيْهِ وَلما استولى على ملك الْمغرب رشحه لولاية الْعَهْد وَهُوَ شَاب لم يطر شَاربه وَوضع لَهُ ألقاب الْإِمَارَة وصير مَعَه الجلساء والخاصة وَالْكتاب وَأمره باتخاذ الْعَلامَة فِي كتبه وَلم يدّخر عَنهُ شَيْئا من مراسم الرياسة وَالْملك وَعقد على وزارته لإِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني من كبار الدولة ووجوهها وَكَانَ أَخُوهُ الْأَكْبَر أَبُو الْحسن شَدِيد البرور بِأَبِيهِ فَلَمَّا رأى إقبال أَبِيه على أَخِيه عَليّ انحاش هُوَ أَيْضا إِلَيْهِ وَصَارَ فِي جملَته وخلط نَفسه بحاشيته طَاعَة لِأَبِيهِ ومسارعة فِي هَوَاهُ واستمرت حَال الْأَمِير أبي عَليّ على هَذَا وخاطبه مُلُوك النواحي وخاطبهم وهادوه وهاداهم وَعقد الرَّايَات وَأثبت فِي الدِّيوَان ومحا وَزَاد فِي الْعَطاء وَنقص وَكَاد يستبد بِالْأَمر كُله(3/105)
وَلما قفل السُّلْطَان أَبُو سعيد من تلمسان أَوَاخِر سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة أَقَامَ بتازا وَبعث ولديه إِلَى فاس فَلَمَّا اسْتَقر الْأَمِير أَبُو عَليّ بهَا حدثته نَفسه بِالْقيامِ على أَبِيه وخلع طَاعَته فراوده المداخلون لَهُ على التَّرَبُّص حَتَّى يمكر بِأَبِيهِ وَيقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ فابى واستعجل الْأَمر وَركب الْخلاف وجاهر بالخلعان ودعا لنَفسِهِ فأطاعه النَّاس وَلم يتوقفوا عَنهُ لما كَانَ أَبوهُ جعله إِلَيْهِ من أَمرهم وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد يُرِيد غَزْو أَبِيه فبرز السُّلْطَان أَبُو سعيد من تازا فِي عسكره يقدم رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى ثمَّ بدا للأمير أبي عَليّ فِي وزيره إِبْرَاهِيم بن عِيسَى وعزم على الْقَبْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بلغه أَنه يُكَاتب أَبَاهُ فَبعث للقبض عَلَيْهِ عمر بن يخلف الفودودي وتفطن الْوَزير لما أَرَادَهُ من الْمَكْر بِهِ فَقبض هُوَ على الفودودي وَنزع إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فتقبله وَرَضي عَنهُ وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْحسن قد لحق بِأَبِيهِ قبل ذَلِك نازعا عَن جملَة أَخِيه فقوي جنَاح السُّلْطَان بهما وارتحل إِلَى لِقَاء ابْنه أبي عَليّ وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ بالمقرمدة مَا بَين فاس وتازا اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان وَانْهَزَمَ جريحا إِلَى تازا فَتَبِعَهُ ابْنه أَبُو عَليّ وحاصره بهَا وَيُقَال إِن أَبَا الْحسن إِنَّمَا لحق بِأَبِيهِ بعد المحنة ثمَّ سعى الْخَواص بَين السُّلْطَان وَابْنه أبي عَليّ بِالصُّلْحِ على أَن يخرج لَهُ السُّلْطَان عَن الْأَمر ويقتصر على تازا وجهاتها فَقَط فَرضِي السُّلْطَان بذلك وَشهد الْمَلأ من مشيخة الْعَرَب وزناتة وَأهل الْأَمْصَار واستحكم العقد بَينهمَا وانكفأ الْأَمِير أَبُو عَليّ رَاجعا إِلَى حَضْرَة فاس مملكا على الْمغرب وتوافت إِلَيْهِ بيعات الْأَمْصَار ووفودهم واستوسق أمره
ثمَّ تدارك الله السُّلْطَان أَبَا سعيد بِلُطْفِهِ ورد عَلَيْهِ من حَقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَذَلِكَ أَن الْأَمِير أَبَا عَليّ اعتل عقب وُصُوله إِلَى فاس وَاشْتَدَّ وَجَعه حَتَّى أشرف على الْهَلَاك وخشي النَّاس على أنفسهم اختلال الْأَمر بِمَوْتِهِ فتسايلوا إِلَى وَالِده السُّلْطَان أبي سعيد بتازا وَلحق بِهِ سَائِر خَواص الدولة وَحَمَلُوهُ على تلافي الْأَمر وانتهاز الفرصة فَنَهَضَ من تازا وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كَافَّة بني مرين والجند وعسكر على الْبَلَد الْجَدِيد وَأقَام محاصرا لَهُ وابتنى دَارا لسكناه وَجعل لِابْنِهِ الْأَمِير أبي الْحسن مَا كَانَ لِأَخِيهِ أبي عَليّ من ولَايَة الْعَهْد(3/106)
وتفويض الْأَمر وَلما تبين للأمير أبي عَليّ اخْتِلَاف أمره بعث إِلَى أَبِيه فِي الصُّلْح على أَن يعوض سجلماسة وَمَا والاها فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وفى لَهُ السُّلْطَان بِمَا اشْترط وارتحل إِلَى سجلماسة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا دولة فخيمة وَاسْتولى على بِلَاد الْقبْلَة وَدون الدَّوَاوِين واستلحق واستركب واستخدم ظواعن الْعَرَب من بني معقل وافتتح معاقل الصَّحرَاء وقصور توات وتيكرارين وتامنطيت وَغير ذَلِك
وَأما السُّلْطَان أَبُو سعيد فَإِنَّهُ دخل إِلَى فاس الْجَدِيد وَنزل بقصره وَأصْلح شؤون ملكه وَأنزل ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن بِالدَّار الْبَيْضَاء من قصوره وفوض إِلَيْهِ فِي سُلْطَانه تَفْوِيض الِاسْتِقْلَال وَأذن لَهُ فِي اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة على كتبه وَسَائِر مَا كَانَ لِأَخِيهِ ووفدت عَلَيْهِ بيعات الْأَمْصَار بالمغرب وَرَجَعُوا إِلَى طَاعَته وَفِي سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِبِنَاء الْبَاب أَمَام القنطرة من الجزيرة الخضراء ثمَّ بعد ذَلِك أدَار الستارة بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وفيهَا سَار إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا حَتَّى اصلح شؤونها وَعَاد إِلَى الحضرة
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة نكب السُّلْطَان أَبُو سعيد كَاتبه منديل بن مُحَمَّد الْكِنَانِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما ثار الْأَمِير أَبُو عَليّ على ابيه وخلعه انحاش إِلَيْهِ منديل هَذَا ثمَّ لما اخْتَلَّ أَمر أبي على عَاد منديل إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد وترتب فِي مَنْزِلَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْحسن يحقد عَلَيْهِ لأجل انحياشه إِلَى أَخِيه لما كَانَ بَينهمَا من المنافسة وَكَانَ هُوَ كثيرا مَا يوغر صدر أبي الْحسن بِإِيجَاب حق أَخِيه عَلَيْهِ وامتهانه فِي خدمته فطوى لَهُ أَبُو الْحسن على البث حَتَّى إِذا فصل أَبُو عَليّ إِلَى سجلماسة وَانْفَرَدَ أَبُو الْحسن بِمَجْلِس أَبِيه وخلاله وَجهه أحكم السّعَايَة فِي منديل عِنْد أَبِيه وَكَانَ منديل كثيرا مَا يغْضب السُّلْطَان فِي المحاورة وَالْخطاب دَالَّة عَلَيْهِ وكبرا فاعتد السُّلْطَان عَلَيْهِ بِشَيْء من ذَلِك مَعَ مَا كَانَ ابْنه أَبُو الْحسن يغريه بِهِ فسخطه سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة وَأذن لِابْنِهِ أبي الْحسن فِي نكبته فاعتقله واستصفى أَمْوَاله وطوى ديوانه وامتحنه أَيَّامًا ثمَّ قَتله بمحبسه(3/107)
خنقا وَقيل جوعا وَذهب فِي الذاهبين وَأَبوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي هُوَ الَّذِي بَعثه السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق إِلَى الْمُسْتَنْصر الحفصي عِنْد فتح مراكش وَعَاد إِلَيْهِ مِنْهُ بالهدية صُحْبَة وَفد أهل تونس وتلطف أَبُو عبد الله الْكِنَانِي حَتَّى ذكر الْمُسْتَنْصر فِي الْخطْبَة على مِنْبَر مراكش وَفَرح الْوَفْد بذلك حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى وَنَشَأ ابْنه منديل هَذَا فِي ظلّ الدولة المرينية فَكَانَ من أمره مَا قصصناه عَلَيْك
وفادة أهل الأندلس على السُّلْطَان أبي سعيد واستصراخهم إِيَّاه على الطاغية وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
كَانَ الْمُلُوك من بني مرين قد انْقَطع غزوهم عَن الأندلس بُرْهَة من الدَّهْر مُنْذُ دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب لاشتغاله فِي آخر أمره بحصار تلمسان واشتغال حفدته من بعده بِأَمْر الْمغرب مَعَ قصر مدتهم فتطاول الْعَدو وَرَاء الْبَحْر على الْمُسلمين بِسَبَب هَذِه الفترة وَاشْتَدَّ كَلْبه كَلْبه على ثغورها مَعَ أَن الْقَرَابَة من بني مرين كَانُوا شجى فِي صَدره وقذى فِي عَيْنَيْهِ فِي تِلْكَ الْبِلَاد حَسْبَمَا ألمعنا إِلَيْهِ غير مرّة وَلما أفْضى الْأَمر الى السُّلْطَان أبي سعيد اشْتغل فِي صدر دولته بِأَمْر ابْنه عَليّ وَخُرُوجه عَلَيْهِ فاهتبل الطاغية الْغرَّة فِي الأندلس وزحف فِي جموعه إِلَى غرناطة سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ من خبر هَذِه الْوَقْعَة أَن الطاغية بطرة بن سانجة وَيُقَال دون بطرة وَقد نبهنا على لَفظه دون فِيمَا سبق ذهب إِلَى طليطلة وَدخل على مرجعهم الَّذِي يُقَال لَهُ البابا وَسجد لَهُ وتضرع بَين يَدَيْهِ وَطلب مِنْهُ استئصال مَا بَقِي من الْمُسلمين بِأَرْض الأندلس وأكد عزمه وتأهب لذَلِك غَايَة الأهبة فوصلت أثقاله ومجانيقه وآلات الْحصار والأقوات فِي المراكب وَتقدم فِي جموعه حَتَّى نزل بأحواز غرناطة وَكَانَ رديفه فِي ذَلِك الْجند علجا آخر يُقَال لَهُ جوان وانضم إِلَيْهِم مُلُوك آخَرُونَ من مُلُوك الْأَطْرَاف قيل سَبْعَة وَقيل أَكثر وامتلأت الأَرْض بهم وعزموا على استئصال بَقِيَّة الْمُسلمين بالأندلس وَكَانَ جيشهم فِيمَا قيل يشْتَمل على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألفا من الفرسان وعَلى نَحْو مائَة ألف من الرجالة الْمُقَاتلَة(3/108)
وَلما رأى أهل الأندلس ذَلِك بعثوا صريخهم إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَقدم عَلَيْهِ وفدهم بِحَضْرَتِهِ من فاس وَفِيهِمْ من وُجُوه الأندلس وصلحائها الشَّيْخ أَبُو عبد الله الطنجالي وَالشَّيْخ ابْن الزيات البلشي وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْعَاصِ وَغَيرهم فَاعْتَذر إِلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد بمَكَان عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من دولتهم وَمحله من دَار ملكهم وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء يتَوَلَّى يَوْمئِذٍ مشيخة الْغُزَاة بالأندلس لِأَن وَفَاته تَأَخَّرت إِلَى سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا مر فَشرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد أَن يمكنوه مِنْهُ ليتأتى لَهُ العبور إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد وَجِهَاد الْعَدو بهَا من غير تشويش وَقَالَ ادفعوه إِلَيْنَا برمتِهِ حَتَّى يتم أَمر الْجِهَاد ثمَّ نرده عَلَيْكُم حياطة على الْمُسلمين وخشية من تَفْرِيق كلمتهم فاستصعب أهل الأندلس هَذَا الشَّرْط لما يعلمونه من صرامة عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وإدلاله ببأسه وبأس عشيرته فأخفق سَعْيهمْ وَرَجَعُوا منكسرين وأطالت الفرنج الْمقَام على غرناطة وطمعوا فِي التهامها
ثمَّ إِن الله تَعَالَى نفس عَن مخنقهم ودافع بقدرته عَنْهُم وهيأ لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء فِي الفرنج وَاقعَة كَانَت من أغرب الوقائع وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم المهرجان وَهُوَ الْخَامِس من جُمَادَى الأولى من سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة عمد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى جمَاعَة جنده وَاخْتَارَ من أنجاد بني مرين مِنْهُم نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَقيل أَكثر وَتقدم بهم نَحْو جَيش الفرنج فَظن النَّصَارَى أَنهم إِنَّمَا خَرجُوا لأمر غير الْقِتَال من مُفَاوَضَة أَو إبلاغ رِسَالَة أَو نَحْو ذَلِك حَتَّى إِذا سامتوا موقف الطاغية ورديفه جوان صمموا نَحْوهمَا حَتَّى خالطوهما فِي مراكزهما فصرعوهما فِي جملَة من الْحَاشِيَة وَانْهَزَمَ ذَلِك الْجمع من حِينه وولوا الأدبار واعترضهم من ورائهم مسارب المَاء للشُّرْب على نهر شنيل فتطارحوا فِيهَا وَهلك أَكْثَرهم واكتسحت أَمْوَالهم وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج أهل غرناطة لجمع الْأَمْوَال وَأخذ الأسرى فاستولوا على أَمْوَال عَظِيمَة مِنْهَا من الذَّهَب فِيمَا قيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن الْفضة مائَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن السَّبي سَبْعَة آلَاف نفس حَسْبَمَا كتب بذلك بعض الغرناطيين إِلَى الديار المصرية وَكَانَ من جملَة الْأُسَارَى امْرَأَة الطاغية وَأَوْلَاده(3/109)
فبذلت فِي نَفسهَا مَدِينَة طريف وجبل الْفَتْح وَثَمَانِية عشر حصنا فِيمَا حكى بعض المؤرخين فَلم يقبل الْمُسلمُونَ ذَلِك قلت هَذَا خطأ فِي الرَّأْي وَضعف فِي السياسة قَالُوا وزادت عدَّة الْقَتْلَى فِي هَذِه الْغَزْوَة على خمسين ألفا وَيُقَال إِنَّه هلك مِنْهُم بالوادي مثل هَذَا الْعدَد لعدم معرفتهم بِالطَّرِيقِ وَأما الَّذين هَلَكُوا بالجبال والشعاب فَلَا يُحصونَ وَقتل الْمُلُوك السَّبْعَة جَمِيعهم وَقيل خَمْسَة وَعِشْرُونَ وَاسْتمرّ البيع فِي الأسرى والسبي وَالدَّوَاب سِتَّة أشهر ووردت البشائر بِهَذَا النَّصْر الْعَظِيم إِلَى سَائِر الْبِلَاد وَمن الْعجب أَنه لم يقتل من الْمُسلمين سوى ثَلَاثَة عشر نفسا وَقيل عشرَة أنفس وسلخ الطاغية بطرة وحشى جلده قطنا وعلق على بَاب غرناطة وَبَقِي مُعَلّقا سِنِين وَطلبت النَّصَارَى الْهُدْنَة فعقدت لَهُم وَالله تَعَالَى أعلم
انْتِقَاض الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة انْتقض الْأَمِير أَبُو عَليّ صَاحب سجلماسة والصحراء على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وتغلب على درعة وسما إِلَى طلب مراكش فعقد السُّلْطَان أَبُو سعيد على حربه لِأَخِيهِ الْأَمِير أبي الْحسن واغزاه إِيَّاه ثمَّ نَهَضَ على اثره فاحتل بمراكش وثقف أطرافها وحسم عللها وَعقد عَلَيْهَا لكندوز بن عُثْمَان من صنائع دولتهم وقفل إِلَى الحضرة ثمَّ لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة نَهَضَ الْأَمِير أَبُو عَليّ فِي جموعه من سجلماسة وأغذ السّير إِلَى مراكش فاقتحمها بعساكره قبل أَن يجْتَمع لكندوز أمره وتقبض عَلَيْهِ وَضرب عُنُقه وَرَفعه على القناه وَملك مراكش وَسَائِر ضواحيها
وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَخرج من حَضرته فِي عساكره بعد أَن احتشد وأزاح الْعِلَل وَاسْتوْفى الأعطيات وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن(3/110)
ولي عَهده وَجَاء هُوَ على ساقته وَسَارُوا على هَذِه التعبية وَلما انْتَهوا إِلَى وَادي ملوية اتَّصل بهم الْخَبَر أَن أَبَا عَليّ يُرِيد أَن يبيتهم فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على ظُهُور خيلهم وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل طرقهم أَبُو عَليّ فِي جموعه فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وفل عسكره وَارْتَحَلُوا من الْغَد فِي أَثَره وَكَانَ قد سلك جبل درن فافترقت جُنُوده فِي أوعاره ولحقهم من المشاق مَا يفوت الْوَصْف حَتَّى ترجل الْأَمِير أَبُو عَليّ عَن فرسه وسعى على قَدَمَيْهِ وخلص من ورطة ذَلِك الْجَبَل بعد عصب الرِّيق وَلحق بسجلماسة ومهد السُّلْطَان أَبُو سعيد نواحي مراكش وَعقد عَلَيْهَا لمُوسَى بن عَليّ الهنتاتي فَعظم غناؤه فِي ذَلِك واضطلاعه وامتدت أَيَّام ولَايَته وارتحل السُّلْطَان إِلَى سجلماسة فدافعه الْأَمِير أَبُو عَليّ بالخضوع وَرغب إِلَيْهِ فِي الصفح وَالرِّضَا وَالْعود إِلَى السّلم فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك لما كَانَ قد شغفه من حبه فقد كَانَ يُؤثر عَنهُ من ذَلِك غرائب وَرجع إِلَى الحضرة وَأقَام الْأَمِير أَبُو عَليّ بمكانه وَمن مملكه الْقبْلَة إِلَى أَن هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد وتغلب عَلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بِنَاء مدارس الْعلم بِحَضْرَة فاس حرسها الله
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله كَانَ قد بنى مدرسته الَّتِي بفاس مَعَ غَيرهَا مِمَّا سبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ ووقف عَلَيْهَا كتب الْعلم الَّتِي بعث بهَا إِلَيْهِ الطاغية سانجة عِنْد عقد الصُّلْح مَعَه ووقف عَلَيْهَا غير ذَلِك واقتفى أَثَره فِي هَذِه المنقبة الشَّرِيفَة بنوه من بعده فاستكثروا من بِنَاء الْمدَارِس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الْأَوْقَاف المغلة وأجروا على الطّلبَة بهَا الجرايات الكافية فأمسكوا بِسَبَب ذَلِك من رَمق الْعلم وأحيوا مراسمه وَأخذُوا بضبعيه جزاهم الله عَن نيتهم الصَّالِحَة خيرا
وَلما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله بِبِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بفاس الْجَدِيد فبنيت أتقن بِنَاء وَأحسنه ورتب فِيهَا الطّلبَة لقِرَاءَة(3/111)
الْقُرْآن وَالْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى عَلَيْهِم المرتبات والمؤن فِي كل شهر وَحبس عَلَيْهَا الرباع والضياع ابْتِغَاء ثَوَاب الله ورغبة فِيمَا عِنْده
وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعْدهَا بنى ولي عَهده الْأَمِير أَبُو الْحسن الْمدرسَة الَّتِي بغربي جَامع الأندلس من حَضْرَة فاس فَجَاءَت على أكمل الهيئات وأعجبها وَبنى حولهَا سِقَايَة وَدَار الْوضُوء وفندقا لسكنى طلبة الْعلم وجلب المَاء إِلَى ذَلِك كُله من عين خَارج بَاب الْجَدِيد أحد أَبْوَاب فاس وَأنْفق على ذَلِك أَمْوَالًا جليلة تزيد عَن مائَة ألف دِينَار وشحنها بطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن وَحبس عَلَيْهَا رباعا كَثِيرَة ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء للتدريس وأجرى عَلَيْهِم الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة نَفعه الله بِقَصْدِهِ
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي فاتح شعْبَان مِنْهَا أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيْضا بِبِنَاء الْمدرسَة الْعُظْمَى بِإِزَاءِ جَامع الْقرَوِيين بفاس وَهِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة العطارين فنيت على يَد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار وَحضر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِنَفسِهِ فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر حَتَّى أسست وَشرع فِي بنائها بمحضره فَجَاءَت هَذِه الْمدرسَة من أعجب مصانع الدول بِحَيْثُ لم يبن ملك قبله مثلهَا وأجرى بهَا مَاء معينا من بعض الْعُيُون هُنَالك وشحنها بالطلبة ورتب فِيهَا إِمَامًا ومؤذنين وقومة يقومُونَ بأمرها ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى على الْكل المرتبات والمؤن فَوق الْكِفَايَة وَاشْترى عدَّة أَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا احتسابا بِاللَّه تَعَالَى وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه على مَا بناه ابْنه أَبُو الْحسن من ذَلِك أَيَّام ولَايَته وحافده أَبُو عنان وَغَيرهمَا إِن شَاءَ الله وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ لبني مرين جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي الْعلم وَأَهله تشهد بذلك آثَارهم الْبَاقِيَة إِلَى الْآن فِي مدارسهم العلمية وَغَيرهَا وَفِي مثل ذَلِك يحسن أَن ينشد
(همم الْمُلُوك إِذا أَرَادوا ذكرهَا ... من بعدهمْ فبألسن الْبُنيان)
(إِن الْبناء إِذا تعاظم شَأْنه ... أضحى يدل على عَظِيم الشان)(3/112)
أَخْبَار بني العزفي أَصْحَاب سبتة
قد تقدم لنا أَن الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة كَانَ قد غدر بِأَهْل سبتة وَقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إِلَى غرناطة سنة خمس وَسَبْعمائة فاستقروا هُنَالك فِي إيالة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالمخلوع مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الرّبيع المريني على سبتة وَنفى بني الْأَحْمَر عَنْهَا استأذنه بَنو العزفي فِي الرُّجُوع إِلَى الْمغرب والقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُم واستقروا بفاس وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْنا أبي طَالب عبد الله بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس احْمَد العزفي من سرواتهم وَأهل الْمُرُوءَة وَالدّين فيهم وَكَانُوا يغشون مجَالِس الْعلم بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس لما كَانُوا عَلَيْهِ من انتحاله وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيَّام ولَايَة بني أَبِيه من قبله يحضر مجْلِس الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الْحسن الصَّغِير وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب يلازمه ويتودد إِلَيْهِ فاتصل بِهِ وَصَارَت لَهُ بذلك وَسِيلَة عِنْده فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد رعى لبني العزفي تِلْكَ الْوَسِيلَة فأنعم عَلَيْهِم وَعقد لأبي زَكَرِيَّاء مِنْهُم على سبتة وردهم إِلَى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد والتزموا طَاعَته
وَلما فوض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى ابْنه ابي عَليّ الْأَمر وَجعل لَهُ الإبرام والنقض عقد أَبُو عَليّ على سبتة لأبي زَكَرِيَّاء حيون بن أبي الْعَلَاء الْقرشِي وعزل أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب مِنْهَا واستقدمه إِلَى فاس فَقَدمهَا هُوَ وَأَبوهُ أَبُو طَالب وَعَمه أَبُو حَاتِم واستقروا فِي جملَة السُّلْطَان وَهلك أَبُو طَالب بفاس أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة ثمَّ كَانَ من خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه وانتقاضه عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فلحق أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب وَأَخُوهُ أَبُو زيد بالسلطان أبي(3/113)
سعيد نازعين إِلَيْهِ ومفارقين لِابْنِهِ الثائر عَلَيْهِ واستمروا فِي جملَته إِلَى أَن مرض الْأَمِير أَبُو عَليّ وزحف أَبوهُ إِلَيْهِ وحاصره بفاس حَسْبَمَا مر فَحِينَئِذٍ عقد السُّلْطَان أَبُو سعيد لأبي زَكَرِيَّاء على سبتة ثَانِيًا وَبَعثه إِلَيْهَا ليقيم دَعوته فِي تِلْكَ الْجِهَات وَترك ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء تَحت يَده رهنا على الطَّاعَة فاستقل أَبُو زَكَرِيَّاء بإمارتها وَأقَام دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد بهَا واتصل ذَلِك مِنْهُ نَحْو سنتَيْن ثمَّ هلك عَمه أَبُو حَاتِم بسبتة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة وانتقض أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب على السُّلْطَان أبي سعيد وَرجع إِلَى حَال سلفه من الاستبداد وَإِقَامَة الشورى بِالْبَلَدِ واستقدم من الأندلس عبد الْحق بن عُثْمَان الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع مَعَ الْوَزير عبد الرَّحْمَن الوطاسي فَقدم عَلَيْهِ وَعقد لَهُ على الْحَرْب ليفرق بِهِ كلمة بني مرين بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عَلَيْهِ وطأتهم
واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سعيد فَقَامَ وَقعد وجهز إِلَى سبتة العساكر من بني مرين وَعقد على حربها للوزير إِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَاعْتَذر إِلَيْهِ أَبُو زَكَرِيَّاء بِحَبْس ابْنه عَنهُ ومفارقته لَهُ وَأَنه إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنه بذل الطَّاعَة وراجع الدعْوَة فَأعْلم الْوَزير السُّلْطَان بذلك فَبعث إِلَيْهِ بِالْوَلَدِ ليسلمه إِلَى أَبِيه بعد أَن يَقْتَضِي مِنْهُ مُوجبَات الطَّاعَة وأسبابها وَجَاء الْخَبَر إِلَى أبي زَكَرِيَّاء بِأَن ابْنه قد قدم وَأَنه كَائِن بفسطاط الْوَزير بساحل الْبَحْر بِحَيْثُ تتأتى الفرصة فِي أَخذه فَبعث أَبُو زَكَرِيَّاء إِلَى عبد الْحق بن عُثْمَان قَائِد الْحَرْب وأعلمه بمَكَان ابْنه فواطأه عبد الْحق على انْتِزَاعه مِنْهُم ثمَّ هجم لَيْلًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته على فسطاط الْوَزير فَاحْتمل الْوَلَد وَأصْبح بِهِ عِنْد أَبِيه وَسمع أهل عَسْكَر الْوَزير بالهيعة فَرَكبُوا وتبعوا الْأَثر فَلم يقفوا على خبر وتفقد الْوَزير الْوَلَد الَّذِي كَانَ عِنْده فَلم يجده واتهم الْجَيْش الْوَزير بِأَنَّهُ مالأ شيعَة أَبِيه على أَخذه وَإِلَّا فَلَا يقدم أحد هَذَا الْإِقْدَام بِدُونِ مداخلة من بعض الْجَيْش فتقبضوا على الْوَزير وَحَمَلُوهُ الى السُّلْطَان إبلاء فِي الطَّاعَة وابلاغا فِي الْعذر فَشكر لَهُم ذَلِك واطلق الْوَزير لعلمه ببراءته ونصحه
ثمَّ رغب أَبُو زَكَرِيَّاء بعْدهَا فِي رضَا السُّلْطَان وطاعته وولايته فَنَهَضَ(3/114)
السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله سنة سِتّ عشرَة إِلَى طنجة لاختبار طَاعَة أبي زَكَرِيَّاء فَبَان لَهُ صدقه وَعقد لَهُ على سبتة وَاشْترط هُوَ على نَفسه حمل الجباية إِلَى السُّلْطَان وإسناء الْهَدِيَّة فِي كل سنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك أَبُو زَكَرِيَّاء سنة عشْرين وَسَبْعمائة وَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء إِلَى نظر ابْن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَقِيه أبي الْقَاسِم شيخ قرابتهم وَكَانَ قَائِد الأساطيل بسبتة ولي النّظر فِيهَا بعد أَن نزع الْقَائِد يحيى الرنداحي إِلَى الأندلس وتغلب مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا بسبتة وَاخْتلفت كلمة الغوغاء واضطرب الْأَمر على بني العزفي بهَا
فانتهز السُّلْطَان أَبُو سعيد الفرصة فِيهَا وَأجْمع النهوض إِلَيْهَا فَنَهَضَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وَنزل عَلَيْهَا فبادر أهل سبتة بإيتاء طاعتهم وَعجز مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء عَن المناهضة وظنها مُحَمَّد بن عَليّ من نَفسه فتعرض لِلْأَمْرِ فِي أوغاد من لفيفها اجْتَمعُوا إِلَيْهِ فدافعهم الْمَلأ من أهل سبتة عَن ذَلِك وحملوهم على الطَّاعَة واقتادوا بني العزفي إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فانقادوا إِلَيْهِ واحتل السُّلْطَان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم مِثْلَمَا واصلح خللها وَاسْتعْمل كبار رجالاته وخواص مَجْلِسه فِي أَعمالهَا فعقد لحاجبه عَامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها وَعقد لأبي الْقَاسِم بن أبي مَدين العثماني على جبايتها وَالنَّظَر فِي مبانيها وَإِخْرَاج الْأَمْوَال للنفقات فِيهَا وأسنى جوائز الْمَلأ من مشيختها ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم وأوعز بِبِنَاء الْبَلَد الْمُسَمّى أفراك على سبتة فشرعوا فِي بنائها سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَقد ذكر ابْن الْخَطِيب فِي كتاب الإكليل مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء هَذَا فَقَالَ فِيهِ مَا صورته فرع تأود من الرياسة فِي دوحة وَتردد بَين غدْوَة فِي الْمجد وروحة نَشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله والدهر ييسر أمله الْأَقْصَى ويسهله حَتَّى اتسقت اسباب سعده وانتهت إِلَيْهِ رياسة سلفه من بعده فَأَلْقَت إِلَيْهِ رِحَالهَا وحطت ومتعته بقربها بعد مَا شطت ثمَّ كلح لَهُ الدَّهْر بعد مَا تَبَسم وَعَاد زعزعا نسيمه الَّذِي كَانَ تنسم وعاق هلاله عَن تمه مَا كَانَ من تغلب ابْن عَمه وَاسْتقر بِهَذِهِ الْبِلَاد نازح الدَّار بِحكم الأقدار وَإِن كَانَ نبيه المكانة(3/115)
والمقدار وَجَرت عَلَيْهِ جراية وَاسِعَة ورعاية متتابعة إِلَى آخر كَلَامه وَيَعْنِي بقوله هَذِه الْبِلَاد بِلَاد الأندلس وَالله أعلم
الْمُصَاهَرَة بَين السُّلْطَان أبي سعيد فِي ابْنه أبي الْحسن وَبَين أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ أَبُو تاشفين عبد الرَّحْمَن بن أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان قد ضايق بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فِي بِلَادهمْ وَاسْتولى على كثير من ثغورهم وردد الْبعُوث والسرايا إِلَى أَطْرَاف ممالكهم وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة جهز ابو تاشفين إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا وَعقد عَلَيْهِ ليحي بن مُوسَى من صنائع دولته وَنصب مَعَ ذَلِك لملك تونس وإفريقية بعض أعقاب الحفصيين وَهُوَ مُحَمَّد بن ابي عمرَان كَانَ لَجأ إِلَيْهِ فِي بعض الْفِتَن الَّتِي كَانَت لَهُ مَعَ بني عَمه وَتقدم هَذَا الْجَيْش إِلَى أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي فهزموه واقتحموا مَدِينَة تونس فاستولوا عَلَيْهَا ونصبوا لملكها وَالْولَايَة عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي عمرَان الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ من الْملك إِلَّا الِاسْم وَالْأَمر كُله بيد يحيى بن مُوسَى قَائِد الْجَيْش وخلص السُّلْطَان أَبُو بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي إِلَى بونة جريحا مطرودا عَن كرْسِي ملكه وَدَار عزه فعزم حِينَئِذٍ على الْوِفَادَة على السُّلْطَان أبي سعيد المريني ليَأْخُذ لَهُ حَقه من آل يغمراسن المتغلبين عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَعَ ذَلِك تَجْدِيد الوصلة الَّتِي كَانَت لسلفه مَعَ بني مرين فَأَشَارَ عَلَيْهِ حَاجِبه مُحَمَّد بن سيد النَّاس بإنفاذ ابْنه الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء صَاحب الثغر استنكافا لَهُ عَن مثلهَا فَقبل إِشَارَته وأركب ابْنه الْمَذْكُور الْبَحْر وَبعث مَعَه وزيره أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين نافضا أَمَامه طرق الْمَقَاصِد والمحاورات ونزلوا بمرسى غساسة من سَاحل الْمغرب وَقدمُوا على السُّلْطَان أبي سعيد بِحَضْرَتِهِ فأبلغوه رِسَالَة أبي بكر الحفصي فاهتز لذَلِك هُوَ وَابْنه الْأَمِير أَبُو الْحسن وَقَالَ لوفد الحفصيين
وَالله لأبذلن فِي مظاهرتكم مَالِي وقومي وَنَفْسِي ولأسيرن بعساكري إِلَى(3/116)
تلمسان فأنازلها وَكَانَ فِيمَا شَرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد مسير أبي بكر الحفصي بعساكره إِلَى منازلة تلمسان مَعَه فقبلوا وَانْصَرفُوا إِلَى مَنَازِلهمْ مسرورين
ونهض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى تلمسان سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَلما انْتهى إِلَى وَادي ملوية وعسكر بصبره جَاءَهُ الْخَبَر الْيَقِين بِعُود أبي بكر الحفصي إِلَى تونس وجلوسه على كرسيه بهَا فاستدعى السُّلْطَان أَبُو سعيد ابْنه أَبَا زَكَرِيَّاء ووزيره أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين وأعلمهما الْخَبَر وأسنى جوائزهم وَأمرهمْ بالانصراف إِلَى صَاحبهمْ فَرَكبُوا أساطيلهم من غساسة
وَبعث مَعَهم إِبْرَاهِيم بن أبي حَاتِم العزفي وَالْقَاضِي بِحَضْرَتِهِ أَبَا عبد الله بن عبد الرَّزَّاق يخطبون بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي لِابْنِهِ الْأَمِير أبي الْحسن فوصلوا إِلَى الحفصي وأدوا الرسَالَة وانعقد الصهر بَينهم فِي ابْنَته فَاطِمَة شَقِيقَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء وزفها إِلَيْهِم فِي أساطيله مَعَ مشيخة الْمُوَحِّدين وَكَبِيرهمْ ابي الْقَاسِم بن عتو فوصلوا إِلَى مرسى غساسة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَقَامَ بَنو مرين لَهَا على أَقْدَام الْبر والكرامة وبعثوا بِالظّهْرِ إِلَى غساسة لركوبها وَحمل أثقالها صنعت حكمات الذَّهَب وَالْفِضَّة ومدت ولايا الْحَرِير المغشاة بِالذَّهَب واحتفل السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لوفدها وأعراسها بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ فِي دولتهم وتحدث النَّاس بِهِ دهرا وَهلك السُّلْطَان أَبُو سعيد بَين يَدي موصلها كَمَا نذْكر
وَفَاة السُّلْطَان أبي سعيد بن يَعْقُوب رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لما بلغه الْخَبَر بوصول الْعَرُوس فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ارتحل بِنَفسِهِ إِلَى تازا ليشارف أحوالها كَرَامَة لَهَا ولأبيها وسرورا بعرس ابْنه فاعتل هُنَالك وازداد مَرضه حَتَّى إِذا أشفا على الهلكة ارتحل بِهِ ولي الْعَهْد لأمير أَبُو الْحسن إِلَى الحضرة وَحمله فِي فرَاشه على أكتاد الْحَاشِيَة والجند(3/117)
حَتَّى نزل بواد سبو ثمَّ أدخلهُ كَذَلِك لَيْلًا إِلَى قصره فَأَدْرَكته الْمنية فِي طَرِيقه فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ مَرضه بعلة النقرس فوضعوه بمكانه من بَيته واستدعى ابْنه أَبُو الْحسن الصَّالِحين لمواراته فَدفن بِبَعْض قبابه رَحمَه الله وَكَانَت أَيَّامه أعيادا ومواسم وَمن أكَابِر كِتَابه الرئيس أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ السبتي
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه أبي الْحسن عَليّ ابْن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
هَذَا السُّلْطَان هُوَ أفخم مُلُوك بني مرين دولة وأضخمهم ملكا وأبعدهم صيتًا وأعظمهم أبهة وَأَكْثَرهم آثارا بالمغربين والأندلس وَيعرف عِنْد الْعَامَّة بالسلطان الأكحل لِأَن لأمه كَانَت حبشية فَكَانَ أسمر اللَّوْن والعامة تسمي الأسمر وَالْأسود أكحل وَإِنَّمَا الأكحل فِي لِسَان الْعَرَب أكحل الْعَينَيْنِ فَقَط وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو عَليّ لمملوكة من سبي النَّصَارَى فَكَانَ أَبيض وانضاف لذَلِك أَن كَانَ أَبُو الْحسن ملكا على الحضرة وَأَبُو عَليّ ملكا على بِلَاد الْقبْلَة فَكَانَا أَخَوَيْنِ ملكَيْنِ فِي عصر وَاحِد أَحدهمَا أسمر وَالْآخر أَبيض فَعرف هَذَا بالأكحل وَالْآخر بالأبيض للمقابلة
وَلما هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله اجْتمع الْخَاصَّة من المشيخة ورجالات الدولة على ولي عَهده أبي الْحسن الْمَذْكُور وعقدوا لَهُ على أنفسهم وآتوه طاعتهم فَأمر للحين بِنَقْل مُعَسْكَره من نَاحيَة سبو إِلَى الزَّيْتُون من نَاحيَة فاس وَلما فرغ من دفن أَبِيه خرج إِلَى مُعَسْكَره بِالْمحل الْمَذْكُور وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ على طبقاتهم لأَدَاء الْبيعَة بفسطاطة وَتَوَلَّى أَخذ الْبيعَة لَهُ يَوْمئِذٍ على النَّاس الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار والمزوار فِي لِسَان(3/118)
زناتة مَعْنَاهُ الرئيس وَكَانَ هَذَا الرجل رَئِيس الوزعة والمتصرفين وحاجب الْبَاب السلطاني قديم الْولَايَة فِي ذَلِك مُنْذُ عهد السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب ثمَّ زفت على السُّلْطَان أبي الْحسن زَوجته الحفصية فَبنى بهَا بمكانه من المعسكر الْمَذْكُور وَأجْمع رَأْيه على الإنتقام لأَبِيهَا من عدوه أبي تاشفين الزياني على مَا نذكرهُ
حُدُوث الْفِتْنَة بَين الْأَخَوَيْنِ أبي الْحسن وَأبي عَليّ ثمَّ مقتل أبي عَليّ وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لما عهد بِالْأَمر لِابْنِهِ أبي الْحسن وَتحقّق مصيره إِلَيْهِ كثيرا مَا يستوصيه بأَخيه أبي عَليّ لكلفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَى أبي الْحسن وَكَانَ موثرا رضَا أَبِيه جهده اعتزم على الْحَرَكَة إِلَى سجلماسة لمشارفة أَحْوَال أَخِيه وَاخْتِيَار أمره وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من سلم أَو حَرْب ليعْمَل على مُقْتَضى ذَلِك فارتحل من مُعَسْكَره بالزيتون قَاصِدا سجلماسة فَتَلَقَّتْهُ وُفُود أَخِيه أبي عَليّ أثْنَاء الطَّرِيق مُؤديا حَقه وموجبا مبرته ومهنئا لَهُ بِمَا آتَاهُ الله من الْملك ويعمله مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ متجاف عَن الْمُنَازعَة لَهُ قَانِع من تراث أَبِيه بِمَا فِي يَده طَالب مِنْهُ أَن يعْقد لَهُ بذلك فَأَجَابَهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى مَا سَأَلَ وَعقد لَهُ على سجلماسة وَمَا والاها من بِلَاد الْقبْلَة كَمَا كَانَ لعهد أَبِيه وَأشْهد على ذَلِك الْمَلأ من بني مرين وَسَائِر زناتة وَالْعرب وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى تلمسان عَازِمًا على الإنتقام من أبي تاشفين الزياني فَسَار حَتَّى انْتهى إِلَى تلمسان ثمَّ تجوزها إِلَى جِهَة الشرق حَتَّى نزل بتاسالت منتظرا لقدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر الحفصي عَلَيْهِ وَفَاء بالعهد الَّذِي كَانَ انْعَقَد لَهُ مَعَ السُّلْطَان أبي سعيد أَيَّام وفادة ابْنه أبي زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ من أَنَّهُمَا يكونَانِ يدا وَاحِدَة على حِصَار تلمسان حَتَّى يحكم الله بَينهمَا وَبَين صَاحبهَا فَعَسْكَرَ أَبُو الْحسن بتاسالت ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده فِي الْبَحْر إِلَى صهره الحفصي مدَدا لَهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببجايه يُقَاتل جَيش بن زيان عَلَيْهَا
وَلم اتَّصل الْخَبَر بِأبي تاشفين صَاحب تلمسان فكر فِي أَمر أبي الْحسن(3/119)
وأعمل الْحِيلَة بِأَن دس الى أَخِيه الْأَمِير أبي عَليّ صَاحب سجلماسة فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ والاتفاق مَعَه على أَخِيه أبي الْحسن وَأَن يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا بحجزته عَن صَاحبه ويشغله عَنهُ حَتَّى يتمكنا مِنْهُ ووعده أَبُو تاشفين ومناه وَلم يزل بِهِ حَتَّى انْتقض على أَخِيه ونهض من سجلماسة إِلَى درعة فَقتل عاملها وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله ثمَّ سرح العساكر إِلَى جِهَة مراكش وأجلب عَلَيْهَا بخيله وَرجله
واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن وَهُوَ بمعسكره من تاسالت ينْتَظر قدوم الحفصي عَلَيْهِ فانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة مجمعا الانتقام من أَخِيه وَلما انْتهى فِي طَرِيقه إِلَى حصن تاوريرت شحنه بالعسكر وَعقد عَلَيْهِ لِابْنِهِ تاشفين بن أبي الْحسن ووقف أمره على نظر منديل بن حمامة شيخ بني تيربعين ثمَّ أغذ السّير إِلَى سجلماسة فَنزل عَلَيْهَا وَأخذ بمخنقها وَحشر الفعلة والصناع لصنع الْآلَات وَالْبناء بساحتها وَأقَام عَلَيْهَا يغاديها بِالْقِتَالِ ويراوحها حولا كَامِلا ونهض أَبُو تاشفين فِي عساكره من تلمسان يُرِيد الْغَارة على أَطْرَاف الْمغرب كي يشغل أَبَا الْحسن عَن أَخِيه بذلك فَانْتهى إِلَى تاوريرت فبرز إِلَيْهِ تاشفين بن ابي الْحسن فِي عَسَاكِر مرين فهزموه وردوه على عقبه إِلَى تلمسان ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده مدَدا للأمير أبي عَليّ فتسربوا إِلَى سجلماسة جماعات وأفذاذا حَتَّى تكاملوا لَدَيْهِ فَلم يغنوا شَيْئا وطاولهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْحصار أنزل بهم أَنْوَاع النكال حَتَّى اقتحم الْبَلَد عنْوَة تَاسِع عشر محرم سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وتقبض على الْأَمِير أبي عَليّ عِنْد بَاب قصره وَجِيء بِهِ إِلَى أَخِيه أبي الْحسن وَقد خامره الْجزع فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ تضرع إِلَيْهِ وَقبل حافر فرسه فَأمر أَبُو الْحسن بتثقيفه وَحمله على بغل إِلَى فاس وانكفأ هُوَ رَاجعا إِلَى الحضرة فَلَمَّا دَخلهَا اعتقل أَخَاهُ بِبَعْض حجر الْقصر أشهرا ثمَّ قَتله فصدا وخنقا وَكَانَت سنّ أبي عَليّ يَوْمئِذٍ سبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت دولته بسجلماسة تسع عشرَة سنة وأشهرا وَكَانَ رَقِيق الْحَاشِيَة ينتمي إِلَى الْأَدَب وَهُوَ الَّذِي استقدم ابا مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ من سبتة واستكتبه أَيَّام أَبِيه وَمن شعر الْأَمِير أبي عَليّ يُخَاطب أَخَاهُ أَبَا الْحسن أَيَّام حصاره لَهُ بسجلماسة وَقد أَيقَن بِزَوَال أمره(3/120)
(فَلَا يغرنك الدَّهْر الخؤون فكم ... أباد من كَانَ قبلي يَا أَبَا الْحسن)
(الدَّهْر مذ كَانَ لَا يبْقى على صفة ... لابد من فَرح فِيهِ وَمن حزن)
(أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت تهابهم ... أَسد العرين ثووا فِي اللَّحْد والكفن)
(بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عَن كل ذِي حسن)
(فاعمل لأخرى وَكن بِاللَّه مؤتمرا ... واستغن بِاللَّه فِي سر وَفِي علن)
(واختر لنَفسك أمرا أَنْت آمره ... كأنني لم أكن يَوْمًا وَلم تكن)
وفادة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر على السُّلْطَان أبي الْحسن بِحَضْرَة فاس وَفتح جبل طَارق
لما هلك السُّلْطَان أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن الْأَحْمَر المتغلب على ملك الأندلس من يَد ابْن عَمه أبي الجيوش قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد طفْلا صَغِيرا واستبد عَلَيْهِ وزيره مُحَمَّد بن المحروق فَقتله بَعْدَمَا شب وعقل وَكَانَ الطاغية قد استولى على جبل الْفَتْح وَهُوَ جبل طَارق سنة تسع وَسَبْعمائة وزاحم الفرنج بِهِ ثغور الْمُسلمين وَصَارَ شجى فِي صدر الدولتين المرينية والأحمرية وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن بُويِعَ الْأَمِير السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد اقْتِدَاء بِمذهب جده يَعْقُوب بن عبد الْحق فبادر السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر إِلَى الْوِفَادَة عَلَيْهِ لإحكام عقد الْمَوَدَّة مَعَه وللمفاوضة فِي أَمر الْجِهَاد وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ صَلَاح لدولته فَقدم عَلَيْهِ بدار ملكه بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأكبر السُّلْطَان أَبُو الْحسن موصله وأركب النَّاس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق دَاره واستبلغ فِي إكرامه وفاوضه ابْن الْأَحْمَر فِي شَأْن الْمُسلمين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أَهَمَّهُمْ من عدوهم وشكى إِلَيْهِ حَال الْجَبَل واعتراضه شجى فِي صُدُور الثغور قبل وشكى إِلَيْهِ أَمر بني عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لأَنهم كَانُوا قد استطالوا عَلَيْهِ فِي أرضه فأشكاه أَبُو الْحسن وعامل الله تَعَالَى فِي أَسبَاب الْجِهَاد وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا بفتنة أَخِيه أبي عَليّ وَمَعَ ذَلِك فقد أمده بالجند وَعقد لِابْنِهِ أبي مَالك(3/121)
على خَمْسَة آلَاف من آنجاد بني مرين وأنفذهم مَعَ ابْن الْأَحْمَر لمنازلة جبل الْفَتْح فاحتل أَبُو مَالك بالجزيرة الخضراء وَتَتَابَعَتْ إِلَيْهِ الأساطيل بالمدد وَأرْسل ابْن الْأَحْمَر فِي الأندلس حاشرين فتسايل النَّاس إِلَيْهِ من كل جِهَة وزحفوا جَمِيعًا إِلَى الْجَبَل وَأَحَاطُوا بِهِ وأبلوا فِي منازلته الْبلَاء الْحسن إِلَى أَن فتحوه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واقتحمه الْمُسلمُونَ عنْوَة ونفلهم الله من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى بِمَا مَعَهم وَشرع الْمُسلمُونَ فِي شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة الخضراء على خيولهم خوفًا من كرة الْعَدو وباشر نقلهَا الأميران أَبُو مَالك وَابْن الْأَحْمَر بأنفسهما ونقلها النَّاس عَامَّة وتحيز الْأَمِير أَبُو مَالك إِلَى الجزيرة الخضراء وَترك بِالْجَبَلِ يحيى بن طَلْحَة بن محلي من وزراء أَبِيه وَوصل الطاغية بعد ثَلَاث من فَتحه فَأَنَاخَ عَلَيْهِ وحاصره وبرز أَبُو مَالك بعساكره من الجزيرة فَنزل بإزائه وزحف ابْن الْأَحْمَر فَنزل بإزائه أَيْضا ثمَّ خَافَ ابْن الْأَحْمَر عَادِية الْعَدو لقرب الْعَهْد بارتجاع الْجَبَل وخفة من بِهِ من الحامية وَالسِّلَاح فبادر إِلَى لِقَاء الطاغية وَسبق النَّاس إِلَى فسطاطة عجلا بَائِعا نَفسه من الله فِي رضَا الْمُسلمين وسد خلتهم فَتَلقاهُ الطاغية رَاجِلا حاسرا إعظاما لَهُ وأجابه إِلَى مَا سَأَلَ من الإفراج عَن هَذَا المعقل وأتحفه بذخائر مِمَّا لَدَيْهِ وارتحل من فوره وَشرع الْأَمِير أَبُو مَالك فِي تحصين ذَلِك الثغر وسد فروجه
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي النفخ ارتجع السطلان أَبُو الْحسن جبل طَارق بعد أَن أنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَصرف إِلَيْهِ الْجنُود والحشود ونازلته جيوشه مَعَ وَلَده وخواصه وضيقوا بِهِ إِلَى أَن استرجعوه ليد الْمُسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وَأنْفق عَلَيْهِ أحمال المَال فِي بنائِهِ وحصنه وسوره وَبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه وَلما كَاد يتم ذَلِك نازله الْعَدو برا وبحرا فَصَبر الْمُسلمُونَ وَخيَّب الله سعي الْكَافرين فَأَرَادَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن يحصن سفح الْجَبَل بسور مُحِيط بِهِ من جَمِيع جهاته حَتَّى لَا يطْمع عَدو فِي منازلته وَلَا يجد سَبِيلا للتضييق عَلَيْهِ بمحاصرته وَرَأى النَّاس ذَلِك من الْمحَال فأنفق الْأَمْوَال وأنصف الْعمَّال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وَكَانَ بَقَاء هَذَا الْجَبَل بيد الْعَدو نيفا وَعشْرين سنة وحاصره السُّلْطَان أَبُو الْحسن سِتَّة(3/122)
أشهر وَزَاد فِي تحصينه ابْنه السُّلْطَان أَبُو عنان رحمهمَا الله تَعَالَى
وَأما ابْن الْأَحْمَر فَإِن أَوْلَاد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء شُيُوخ الْغَزْو بالأندلس لما رَأَوْا مَا حصل بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن من الْوِفَاق واتصال الْيَد خَافُوا أَن تعود موافقتهم بِالضَّرَرِ عَلَيْهِم إِذْ كَانُوا أَعدَاء للدولتين مَعًا أما دولة الْمغرب فبخروجهم عَلَيْهِم ومنابذتهم إيَّاهُم غير مرّة وَأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أَهلهَا ومزاحمتهم إيَّاهُم فِي رياستها فتشاوروا فِيمَا بَينهم وفتكوا بِابْن الْأَحْمَر يَوْم رحيله عَن الْجَبَل إِلَى غرناطة فتقاصفوه بِالرِّمَاحِ وَقدمُوا أَخَاهُ ابا الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل مَكَانَهُ فَقَامَ بِالْأَمر بعده وشمر للأخذ بثار أَخِيه فاحتال على بني أبي الْعَلَاء حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
فتح تلمسان ومقتل صَاحبهَا أبي تاشفين وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه
لما استقام ملك الْمغرب للسُّلْطَان أبي الْحسن بمقتل أَخِيه أبي عَليّ صَاحب سجلماسة وَنصر الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صَاحبهَا أبي تاشفين الَّذِي ضايق أصهاره من بني أبي حَفْص فِي أَرضهم ونازعهم فِي ملكهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن قد بعث لأوّل بيعَته شُفَعَاء إِلَى أبي تاشفين فِي أَن يتخلى عَن عمل الْمُوَحِّدين وَيرجع إِلَى تخوم أَعماله الَّتِي ورثهَا عَن سلفه وَقَالَ لَهُ فِي جملَة ذَلِك كف عَنْهُم وَلَو سنة وَاحِدَة ليسمع النَّاس أَنِّي نافحت عَن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أَبُو تاشفين من ذَلِك وَأَغْلظ للرسل فِي القَوْل وأفحش بعض السُّفَهَاء من عبيده فِي الرَّد عَلَيْهِم بمجلسه ونالوا من السُّلْطَان أبي الْحسن بمحضره فَعَادَت الرُّسُل إِلَيْهِ وأعلموه بالقضية على وَجههَا فحمي لذَلِك وَغَضب وتأكد عزمه على النهوض إِلَى تلمسان فَكَانَ من نهوضه أَولا وانتقاض أَخِيه عَلَيْهِ وَعوده إِلَيْهِ من تاسالت مَا قصصناه قبل مُسْتَوفى(3/123)
ثمَّ عاود السُّلْطَان النهوض إِلَى تلمسان فِي هَذِه الْمرة فَعَسْكَرَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد وَبعث وزراءه ووجوه دولته إِلَى قاصية الْبِلَاد المراكشية لحشد الْقَبَائِل والجموع ثمَّ تعجل وَعرض جُنُوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وَفصل فِي التعبية من فاس أواسط خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَسَار يجر الشوك والمدر من أُمَم الْمغرب وَجُنُوده وَمر بوجدة فجمر عَلَيْهَا الْكَتَائِب للحصار ثمَّ مر بندرومة فقاتلها بعض يَوْم ثمَّ اقتحمها عنْوَة فاستولى عَلَيْهَا وَقتل حاميتها ثمَّ سَار على التعبية حَتَّى أَنَاخَ على تلمسان ثمَّ بلغه الْخَبَر بتغلب عسكره على وَجدّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأوعز إِلَيْهِم بتخريب أسوارها فأضرعوها بِالْأَرْضِ وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد النواحي وحشودها ووفدت عَلَيْهِ قبائل مغراوة وَبنى توجين فَأتوهُ طاعتهم وسرح كتائبه إِلَى القاصية فتغلب على وهران وهنين ثمَّ على مليانة وتنس والجزائر وَغَيرهَا وَاسْتولى على الضواحي وَنزع إِلَيْهِ يحيى بن مُوسَى كَبِير قواد أبي تاشفين وَصَاحب الثغور الشرقية من أَعماله فلقاه مبرة وكرامة وَرفع بساطه ونظمه فِي طَبَقَات وزرائه وجلسائه وَعقد على فتح الْبِلَاد الشرقية ليحيى بن سُلَيْمَان العسكري شيخ بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وصهر السُّلْطَان على ابْنَته فَسَار فِي الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حَتَّى انْتهى إِلَى لمدية ونظم الْبِلَاد فِي طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن واحتشد جموعها فَلَحقُوا بمعسكره وَاسْتعْمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عماله على الْجِهَات
واختط بغربي تلمسان الْبَلَد الْجَدِيد لسكناه ونزول عساكره وَأَحْيَا معالم المنصورة الَّتِي كَانَ اختطها عَمه يُوسُف بن يَعْقُوب وخربها بَنو زيان من بعده فأدار عَلَيْهَا سياجا من السُّور ونطاقا من الخَنْدَق وَنصب المجانيق وآلات من وَرَاء خندقه وَجعلت رماته تنضح رُمَاة الْعَدو بِالنَّبلِ ويشغلونهم بِأَنْفسِهِم حَتَّى شيد برجا آخر يقرب مِنْهُم وترتفع شرفاته فَوق خندقهم وتماصع الْمُقَاتلَة بِالسُّيُوفِ من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وَأحكم عَملهَا لدكها فنالت من ذَلِك فَوق الْغَايَة وَعظم أَثَرهَا فِي الْقُصُور الْعَظِيمَة والقباب الرفيعة الَّتِي تأنق أَبُو تاشفين فِي تشييدها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يصبح الْمُقَاتلَة كل يَوْم(3/124)
وَيَطوف على الْبَلَد من جَمِيع جهاته لتفقد رُؤَسَاء الْعَسْكَر فِي مراكزهم وَرُبمَا انْفَرد فِي طَوَافه فَطَافَ فِي بعض الْأَيَّام منتبذا عَن الْحَاشِيَة فاهتبل بَنو عبد الواد غرته حَتَّى إِذا سلك مَا بَين الْجَبَل والبلد فتحُوا أَبْوَابهَا وَأَرْسلُوا عَلَيْهِ عقبان جنودهم يحسبونها فرْصَة كَالَّتِي كَانَت ليغمراسن بن زيان فِي السعيد الموحدي واضطروه إِلَى سفح الْجَبَل حَتَّى لحق بأوعاره وَكَاد ينزل عَن فرسه هُوَ ووليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد وأحس أهل المعسكر بذلك فَرَكبُوا زرافات ووحدانا وَركب ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك وهما جنَاحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إِلَيْهِم صقور بني مرين من كل جو فَانْكَشَفَتْ عَسَاكِر بني عبد الواد وولوا الأدبار منهزمين لَا يلوي أحد مِنْهُم على أحد واعترضهم مهوى الخَنْدَق فتطارحوا فِيهِ وتهافتوا على ردمه فَكَانَ الْهَالِك يَوْمئِذٍ فِيهِ أَكثر من الْهَالِك بِالسِّلَاحِ وَهلك من بني توجين يَوْمئِذٍ عمر بن عُثْمَان كَبِير الحشم وعامل جبل وانشريس وَمُحَمّد بن سَلامَة بن عَليّ كَبِير بني يدللتن وَصَاحب قلعة تاوغروت وهما مَا هما فِي زناتة إِلَى أشباه لَهما استلحموا فِي هَذِه الْوَقْعَة فحص هَذَا الْيَوْم من جناج دولة بني زيان وحطم مِنْهَا واتصل الْحصار مُدَّة من ثَلَاث سِنِين حَتَّى إِذا كَانَ السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة اقتحم السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَدِينَة تلمسان عنْوَة ووقف أَبُو تاشفين رَحمَه الله عِنْد بَاب قصره فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مِنْهُم ولداه عُثْمَان ومسعود ووزيره مُوسَى بن عَليّ ووليه عبد الْحق بن عُثْمَان وَهُوَ الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع وَبَايَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي حَسْبَمَا مر فَإِنَّهُ لحق بِهِ بعد تِلْكَ الْوَقْعَة بتلمسان ثمَّ مِنْهَا إِلَى الأندلس ثمَّ حضر انْتِقَاض العزفي بسبتة سنة سِتّ عشرَة كَمَا مر ثمَّ لحق بِأبي بكر الحفصي ثمَّ نزع عَنهُ إِلَى أبي تاشفين وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى هَذَا الْيَوْم فشهده فِي جمَاعَة من بنيه وَبني أَخِيه وَكَانُوا أحلاس حَرْب وفتيان كريهة فمانعوا دون الْقصر واستماتوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استلحموا وَرفعت رؤوسهم على عَصا الرماح فطيف بهَا وغصت سِكَك الْبَلَد من داخلها وخارجها بالعساكر وكظت أَبْوَابهَا بالزحام حَتَّى لقد كب النَّاس على أذقانهم(3/125)
وتواقعوا على مساربهم فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم مَا بَين الْبَابَيْنِ حَتَّى ضَاقَ المسلك مَا بَين السّقف ورحبة الْبَاب وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على الْمنَازل نهبا واكتساحا
وَأما أَبُو تاشفين فَإِنَّهُ قَاتل حَتَّى قتل ابناه عُثْمَان ومسعود أَمَامه وخلصت إِلَيْهِ جراحات فأثخنته وتقبض عَلَيْهِ بعض الفرسان فساقه إِلَى السُّلْطَان فَلَقِيَهُ ابْنه الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَأمر بِهِ فَقتل فِي الْحِين واحتز رَأسه وَسخط السُّلْطَان ذَلِك من فعله لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على توبيخه وتقريعه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وقف أَبُو تاشفين وَبَنوهُ بِإِزَاءِ الْقصر مدافعين عَن أنفسهم وَقَامُوا مقَام الصَّبْر والإستجماع وَصَدقُوا عَن أنفسهم الدفاع إِلَى أَن كوثروا وأعجلتهم ميتَة الْعِزّ عَن شدّ الوثاق وَإِمْكَان الشمات فَكَانَ فِي شَأْنهمْ عِبْرَة رَحِمهم الله
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بحاشيته واستدعى شُيُوخ الْفتيا بتلمسان وهما الإمامان الشهيران أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مُوسَى عِيسَى ابْنا الإِمَام فخلصوا إِلَيْهِ بعد الْجهد ووعظوه وذكروه بِمَا نَالَ النَّاس من النهب والعيث فَركب لذَلِك بِنَفسِهِ وَسكن النَّاس وَقبض أَيدي الْجند عَن الْفساد وَعَاد إِلَى مُعَسْكَره بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَقد كمل الْفَتْح وَعز النَّصْر وَاسْتولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على تِلْكَ الْإِمَارَة المؤثلة بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من نَفِيس الحلى وثمين الذَّخِيرَة وفاخر الْمَتَاع وخطير الْعدة وبديعة الْآلَة وصامت المَال وضروب الرَّقِيق وصنوف الأثاث والماعون وَرفع الْقَتْل عَن بني عبد الواد أعدائه وشفا نَفسه بقتل سلطانهم وَعَفا عَنْهُم وأثبتهم فِي الدِّيوَان وَفرض لَهُم الْعَطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وَجمع كلمة بني واسين من بني مرين وَبني عبد الواد وَبني توجين وَسَائِر زناتة وصاروا عصبا تَحت لوائه وسد بِكُل طَائِفَة مِنْهُم ثغرا من أَعماله فَأنْزل مِنْهُم بقاصية السوس وبلاد غمارة وَأَجَازَ مِنْهُم إِلَى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا فِي جملَته واتسع نطاق مَمْلَكَته وَأصْبح أَبُو الْحسن ملك زناتة بعد أَن كَانَ ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أَن كَانَ سُلْطَان الْمغرب فَقَط {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}(3/126)
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لسلطان مصر وَبَعثه الْمَصَاحِف من خطه إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة شرفها الله
كَانَ للسُّلْطَان أبي الْحسن مَذْهَب وَرَأى فِي ولَايَة مُلُوك الْمشرق والمكلف بالمعاهد الشَّرِيفَة اقْتِدَاء فِي ذَلِك بِعَمِّهِ يُوسُف بن يَعْقُوب وَغَيره من سلفه وضاعف ذَلِك لَدَيْهِ متين ديانته ورفيع همته وَلما قضى من أَمر تلمسان مَا قضى وَاسْتولى على المغربين خَاطب لحينه صَاحب مصر وَالشَّام والحجاز الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعرفه بِالْفَتْح وارتفاع الْعَوَائِق عَن ركب الْحَاج فِي سابلتهم وَكَانَ سفيره فِي ذَلِك فَارس بن مَيْمُون بن وردار وَعَاد بِجَوَاب الْكتاب وَتَقْرِير الْمَوَدَّة بَين الْخلف كَمَا كَانَت بَين السّلف فأجمع السُّلْطَان أَبُو الْحسن حِينَئِذٍ على كتب نُسْخَة عتيقة من الْمُصحف الْكَرِيم بِخَط يَده ليوقفها بِالْحرم الشريف حرم مَكَّة قربَة إِلَى الله تَعَالَى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بِيَدِهِ وَجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لَهَا وعَاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصَّنْعَة وَغشيَ بصفائح الذَّهَب ورصع بالجوهر والياقوت وَاتخذ لَهُ أصونة الْجلد المحكمة الصَّنْعَة المرقوم أديمها بخطوط الذَّهَب وَمن فَوْقهَا غلائف الْحَرِير والديباج وأغشية الْكَتَّان وَأخرج من خزائنه أملا عينهَا لشراء الضّيَاع بالمشرق لتَكون وَقفا على الْقُرَّاء فِيهَا وأوفد على الْملك النَّاصِر خَواص مَجْلِسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أَمِير بني زغبة من عرب بني هِلَال وَمثل السَّابِق الْمُقدم فِي بساطه على كل خَالِصَة عَطِيَّة بن مهلهل بن يحيى كَبِير أَخْوَاله من عرب الْخَلْط وَبعث كَاتبه أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وعريف الوزعة بِبَابِهِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار
واحتفل فِي الْهَدِيَّة للسُّلْطَان صَاحب مصر احتفالا تحدث النَّاس بِهِ دهرا قَالَ ابْن خلدون وقفت على برنامج الْهَدِيَّة بِخَط أبي الْفضل بن أبي مَدين الرَّسُول الْمَذْكُور ووعيته ثمَّ أنسيته وَذكر لي بعض قهارمة الدَّار أَنه كَانَ فِيهَا خَمْسمِائَة من(3/127)
عتاق الْخَيل المقربات بسروج الذَّهَب وَالْفِضَّة ولجمها خَالِصا ومغشى ومموها وَخَمْسمِائة حمل من مَتَاع الْمغرب وماعونه وأسلحته وَمن نسج الصُّوف الْمُحكم ثيابًا وأكسية وبرانس وعمائم وإزرا معلمة وَغير معلمة وَمن نسج الْحَرِير الْفَائِق الْمعلم بِالذَّهَب ملونا وَغير ملون وساذجا ومنمقا وَمن الدرق المجلوبة من بِلَاد الصَّحرَاء المحكمة الدبغ المنسوبة إِلَى الملط وَمن خرثي الْمغرب وَمَا عونة مَا تستطرف صناعته بالمشرق حَتَّى لقد كَانَ فِيهَا مَكِيل من حَصى الْجَوْهَر والياقوت واعتزمت حظية من حظايا أَبِيه على الْحَج فِي ذَلِك الركب فَأذن لَهَا واستبلغ فِي تكرمتها واستوصى بهَا وفده وسلطان مصر فِي كِتَابه وفصلوا من تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ووصلوا إِلَى مصر فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وأدوا رسالتهم إِلَى الْملك النَّاصِر وَقدمُوا هديتهم إِلَيْهِ فقبلها وَحسن موقعها لَدَيْهِ وَكَانَ يَوْم وفادتهم عَلَيْهِ بِمصْر يَوْمًا مشهودا تحدث النَّاس بِهِ دهرا ولقاهم سُلْطَان مصر فِي طريقهم أَنْوَاع الْبر والكرامة حَتَّى قضوا فرضهم وَوَضَعُوا الْمُصحف الْكَرِيم حَيْثُ أَمرهم صَاحبه وأسنى الْملك النَّاصِر هَدِيَّة السُّلْطَان من الفساطيط المشرقية الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب وَمن ثِيَاب الْإسْكَنْدَريَّة البديعة النسج المرقومة بِالذَّهَب ورجعهم بهَا إِلَى مرسلهم وَقد استبلغ فِي تكرمتهم وصلتهم وَبَقِي حَدِيث هَذِه الْهَدِيَّة مَذْكُورا بَين النَّاس لهَذَا الْعَهْد اه كَلَام ابْن خلدون بِبَعْض إِيضَاح
وَقد ذكر الإِمَام الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فِي كِتَابه الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن هَذِه الْهَدِيَّة وَفصل مِنْهَا بعض مَا أجمله إِبْنِ خلدون فَقَالَ أرسل السُّلْطَان أَبُو الْحسن للناصر بن قلاوون صَاحب الديار المصرية من أَحْجَار الْيَاقُوت الْعَظِيم الْقدر وَالثمن ثَمَانمِائَة وَخَمْسَة وَعشْرين وَمن الزمرد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الزبرجد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الْجَوْهَر النفيس الملوكي ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَأرْسل حللا كَثِيرَة مِنْهَا مذهبَة ثَلَاثَة عشر وَمن الأنان عشْرين مذهبَة وَمن الخلادي سِتَّة وَأَرْبَعين وَمن القنوع سِتَّة وَعشْرين مذهبَة وَمن المحرارت المختمة ثَمَانمِائَة وَمن الرصان عشْرين شقة وَمن الأكسية المحررة أَرْبَعَة وَعشْرين وَمن(3/128)
البرانس المحررة ثَمَانِيَة عشر وَمن المشقفات مائَة وَخمسين وَمن أحارم الصُّوف المحررة عشْرين وَمن شقق الملف الرفيع سِتَّة عشر وَمن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق وَالْحلَل ثَمَانمِائَة وَمن أوجه اللحف المذهبة عشْرين وحائطين حلَّة وحنابل مائَة واثني عشر كلهَا حَرِير وفرش جلد مخروز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن السيوف المحلات بِالذَّهَب المنظم بالجوهر عشرَة والسروج عشرَة بركب الذَّهَب كَذَلِك ومهاميز الذَّهَب وَثَلَاثَة ركب فضَّة وَسِتَّة مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مِمَّا يَلِيق بالملوك وشاشية حَدِيد بِذَهَب مكلل بالجوهر وَمن لزمات الْفضة عشرَة وسروج مخروزة بِالْفِضَّةِ عشرَة وَعشر عَلَامَات مغشاة مذهبَة وَعشر رايات مذهبَة وَعشر براقع مذهبَة وَعشر أَمْثِلَة مرقومة وَثَلَاثُونَ جلدا شرك وَأَرْبَعَة آلَاف درقة لمط مِنْهَا مِائَتَان بنهود الذَّهَب وَثَمَانمِائَة بنهود الْفضة وخباء قبَّة كَبِيرَة من مائَة بنيقة لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب وقبة أُخْرَى مضربة من سِتّ وَثَلَاثِينَ بنيقة مبطنة بحلة مذهبية وَهِي من حَرِير أَبيض ومرابطها حَرِير ملون وعمودها عاج وآبنوس وأكبارها من فضَّة مذهبَة وَمن البزات الْأَحْرَار المنتقات أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ وَمن عتاق الْخَيل العراب ثَلَاثمِائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ وَمن البغال الذُّكُور وَالْإِنَاث مائَة وَعشْرين وَمن الْجمال سَبْعمِائة وتوجهت مَعَ هَذِه الْهَدِيَّة أُمَم برسم الْحَج مَعَ الربعة المكرمة يَعْنِي ربعَة الْمُصحف الْكَرِيم وَأعْطى السُّلْطَان الْحرَّة أم أُخْته أم ولد أَبِيه مَرْيَم ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا ولقاضي الركب ثَلَاثمِائَة وَكِسْوَة ولقائد الركب أَرْبَعمِائَة وكساوى مُتعَدِّدَة وبغلات وَلِلرَّسُولِ الْمعِين للهدية ألفا ولشيخ الركب أَحْمد بن يُوسُف بن أبي مُحَمَّد صَالح خَمْسمِائَة ولجماعة الضُّعَفَاء من الْحجَّاج سِتّمائَة وبرسم الْعَطاء للْعَرَب ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة ولشراء الرباع سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة ذَهَبا اه وَذكر فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن أهْدى هَدَايَا غير هَذِه لكثير من الْمُلُوك مِنْهَا لصَاحب الأندلس صلَة وَصدقَة وهدية فِي مَرَّات وَمِنْهَا لملوك النَّصَارَى بعد هداياهم وَمِنْهَا لسلاطين السودَان كصاحب مَالِي وَمِنْهَا لصَاحب إفريقية وَمِنْهَا لصَاحب تلمسان اه وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي مؤرخ مصر فِي كتاب السلوك مَا نَصه(3/129)
وَفِي ثَانِي وَعشْرين من رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة من عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب المريني صَاحب فاس تُرِيدُ الْحَج وَمَعَهَا هَدِيَّة جليلة إِلَى الْغَايَة نزل لحملها من الأسطول السلطاني ثَلَاثُونَ قطارا من بغال النَّقْل سوى الْجمال وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَرْبَعمِائَة فرس مِنْهَا مائَة حجرَة وَمِائَة فَحل وَمِائَتَا بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَعضهَا سُرُوجهَا وركبها ذهب وَكَذَلِكَ لجمها وعدتها اثْنَان وَأَرْبَعُونَ رَأْسا مِنْهَا سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ بازا وفيهَا سيف قرَابه ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيهَا مائَة كسَاء وَغير ذَلِك من القماش العالي وَكَانَ قد خرج المهمندار إِلَى لقائهم وأنزلهم بالقرافة قريب مَسْجِد الْفَتْح وهم جمع كثير جدا وَكَانَ يَوْم طُلُوع الْهَدِيَّة من الْأَيَّام الْمَذْكُورَة فَفرق السُّلْطَان الْهَدِيَّة على الْأُمَرَاء بأسرهم على قدر مَرَاتِبهمْ حَتَّى نفدت كلهَا سوى الْجَوْهَر واللؤلؤ فَإِنَّهُ اخْتصَّ بِهِ فقدرت قيمَة هَذِه الْهَدِيَّة بِمَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار ثمَّ نقلت الْحرَّة إِلَى الميدان بِمن مَعهَا ورتب لَهَا من الْغنم والدجاج وَالسكر والجلواء والفاكهة فِي كل يَوْم بكرَة وَعَشِيَّة مَا عمهم وَفضل عَنْهُم فَكَانَ مرتبهم كل يَوْم عدَّة ثَلَاثِينَ رَأْسا من الْغنم وَنصف أردب أرزا وقنطارا حب رمان وَربع قِنْطَار سكرا وثمان فانوسيات شمعا وتوابل الطَّعَام وَحمل إِلَيْهَا برسم النَّفَقَة مبلغ خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَأُجْرَة حمل أثقالهم مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم ثمَّ خلع على جَمِيع من قدم مَعَ الْحرَّة فَكَانَت عدَّة الْخلْع مِائَتَيْنِ وَعشْرين خلعة على قدر طبقاتهم حَتَّى خلع على الرِّجَال الَّذين قادوا الْخُيُول وَحمل إِلَى الْحرَّة من الْكسْوَة مَا يجل قدره وَقيل لَهَا أَن تملي مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يعوزها شَيْء وَإِنَّمَا تُرِيدُ عناية السُّلْطَان إكرامها وإكرام من مَعهَا حَيْثُ كَانُوا فَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو وَإِلَى الْأَمِير أَحْمد إِن بغى بتجهيزها اللَّائِق بهَا فقاما بذلك واستخدما لَهَا السقائين والضوئية وهيأ كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي سفرها من أَصْنَاف الحلاوات وَالسكر والدقيق والبجماط وطلبا الْحمالَة لحمل جهازها وأزودتها وَندب السُّلْطَان للسَّفر مَعهَا جمال الدّين مُتَوَلِّي الجيزة وَأمره أَن يرحل بهَا فِي مركب لَهَا(3/130)
بمفردها قُدَّام الْمحمل ويمتثل كلما تَأمر بِهِ وَكتب لأميري مَكَّة وَالْمَدينَة بخدمتها أتم خدمَة اه وَفِيه بعض مُخَالفَة لما وَصفه ابْن مَرْزُوق فِي الْهَدِيَّة والخطب سهل
ثمَّ انتسخ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم على القانون الأول ووقفها على الْقُرَّاء بِالْمَدِينَةِ وَبعث بهَا من تخيره لذَلِك الْعَهْد من أهل دولته سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَفعل مثل ذَلِك بحرم بَيت الْمُقَدّس قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني قد كتب ثَلَاثَة مصاحف شريفة بِخَطِّهِ وأرسلها إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال ووقف عَلَيْهَا أوقافا جليلة كتب سُلْطَان مصر وَالشَّام توقيعه بمسامحتها من إنْشَاء الأديب الشهير جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ وَنَصّ مَا يتَعَلَّق بِهِ الْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله
وَهُوَ الَّذِي مد يَمِينه بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات الشَّرِيفَة فأيد الله حزبه بِمَا سطره من أحزابها واتصلت مَلَائِكَة النَّصْر بلوائه تَغْدُو وَتَروح وَكَثُرت فتوحه لأملياء الغرب فَقَالَت أوقاف الشرق لَا بُد للْفُقَرَاء من فتوح ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي ورتب عَلَيْهَا أوقافا تجْرِي أَقْلَام الْحساب فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا وَحبس أملاكا شامية تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الأَرْض إِلَى مشرقها وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الختمات بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف وينفع الْجَالِس من وُلَاة الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف اه قَالَ الْمقري وَقد رَأَيْت أحد الْمَصَاحِف الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي بِبَيْت الْمُقَدّس وربعته فِي غَايَة الصَّنْعَة اه وَالله تَعَالَى أعلم
واتصلت الْولَايَة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي أَمر مصر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله(3/131)
نكبة الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن وفرار وزيره زيان بن عمر الوطاسي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله عِنْدَمَا نَهَضَ إِلَى تلمسان أَولا وَثَانِيا ينْتَظر قدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي عَلَيْهِ لما كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين أَبِيه أبي سعيد رَحمَه الله من الِاجْتِمَاع على تلمسان والتعاون على حصارها وَلما فتح أَبُو الْحسن تلمسان فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم كَانَ وَزِير الحفصيين الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين شَاهدا لذَلِك الْفَتْح قدم رَسُولا من عِنْد مخدومه السُّلْطَان أبي بكر الْمَذْكُور فَأسر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن بِأَن مخدومه قادم عَلَيْهِ للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه فتشوف السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَيْهَا لما كَانَ يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وارتحل عَن تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وعسكر بمتيجة منتظرا لوفادة صهره عَلَيْهِ فتكاسل الحفصي عَن الْقدوم بِسَبَب تثبيط مُحَمَّد بن الْحَكِيم من رجال دولته إِيَّاه عَن ذَلِك وَقَالَ لَهُ إِن لِقَاء سلطانين لَا يتَّفق إِلَّا فِي يَوْم على أَحدهمَا فكره الحفصي ذَلِك وتقاعد عَنهُ وَطَالَ مقَام السُّلْطَان أبي الْحسن فِي انْتِظَاره ثمَّ طرقه بفسطاطه مرض ألزمهُ الْفراش حَتَّى تحدث أهل الْعَسْكَر بمهلكه
وَكَانَ ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك متناغيين فِي ولَايَة عهد مُنْذُ أَيَّام جدهما أبي سعيد وَكَانَ أَبوهُمَا قد جعل لَهما لأوّل دولته ألقاب الْإِمَارَة وَأَحْوَالهَا من اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَإِثْبَات الْعَطاء واستلحاق الفرسان وانفراد كل بعسكره على حِدة وَجعل لَهما مَعَ ذَلِك الْجُلُوس بمقعد فَصله مناوبة لتنفيذ الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة فَكَانَا لذَلِك رديفين لَهُ فِي سُلْطَانه وَلما اشْتَدَّ وجع السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة تمشت سماسرة الْفِتَن بَينهمَا وتحزب أهل الْعَسْكَر لَهما حزبين وشوشوا بواطنهما فَبَثَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا المَال وَحمل على المقربات وَصَارَ الْجَيْش شيعًا وهم الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن بالتوثب على الْأَمر قبل أَن يتَبَيَّن حَال السُّلْطَان بإغراء(3/132)
وزرائه وبطانته بذلك وتفطن خَاصَّة السُّلْطَان لما وَقع فأخبروه الْخَبَر وحضوه على الْخُرُوج إِلَى النَّاس قبل أَن يَتَفَاقَم الْأَمر ويتسع الْخرق فبرز السُّلْطَان إِلَى فسطاط جُلُوسه وتسامع أهل المعسكر بِهِ فازدحموا إِلَى بساطة وتقبيل يَده وتقبض على أهل الظنة من الْجَيْش فأودعهم السجْن وَسخط على الأميرين وَأمر برحيل من كَانَ مَعَهُمَا من الْجند فردهم إِلَى مُعَسْكَره ثمَّ رَجَعَ إِلَى فسطاطه وطفئت نَار الْفِتْنَة وَسكن سعي المفسدين وانتبذ النَّاس عَن الأميرين الْمَذْكُورين فبقيا أوحش من وتد بقاع فَاشْتَدَّ جزع الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن وَركب من فسطاطه وخاض اللَّيْل فَأصْبح بحلة أَوْلَاد على أُمَرَاء بني زغبة من هِلَال الموطنين بِأَرْض حَمْزَة فتقبض عَلَيْهِ أَمِيرهمْ مُوسَى بن أبي الْفضل ورده إِلَى أَبِيه فاعتقله بوجدة ورتب الْعُيُون لحراسته وَلحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين أَصْحَاب تونس فأجاروه وَرَضي السُّلْطَان صَبِيحَة فرار أبي عبد الرَّحْمَن عَن أَخِيه أبي مَالك وَعقد لَهُ على ثغور عمله بالأندلس وَصَرفه إِلَيْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان وَالله أعلم
ثورة ابْن هيدور الجزار وَمَا كَانَ من أمره
لما تقبض السُّلْطَان أَبُو الْحسن على ابْنه عبد الرَّحْمَن وأودعه السجْن تفرق خدمه وحشمه فِي الْجِهَات وَكَانَ مِنْهُم رجل جزار مُرَتّب فِي مطبخه يعرف بِابْن هيدور وَكَانَ لَهُ شبه فِي الصُّورَة بِأبي عبد الرَّحْمَن فلحق ببني عَامر بن زغبة وَكَانُوا لذَلِك الْعَهْد منحرفين عَن طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن لاختصاصه عريف بن يحيى أَمِير بني سُوَيْد أعدائهم فَلَمَّا لحق بهم ابْن هيدور هَذَا انتسب لَهُم إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَأَنه ابْنه أَبُو عبد الرَّحْمَن فَشبه لَهُم وَبَايَعُوهُ وأجلبوا بِهِ على نواحي لمدية فبرز إِلَيْهِم قائدها فهزموه ثمَّ جمع لَهُم ونزمار بن عريف بن يحيى فَهَزَمَهُمْ وافترق جمعهم ونبذوا للجزار عَهده فلحق ببني يزناتن من زواوة فَنزل على شيختهم شمسي من بني(3/133)
عبد الصَّمد مِنْهُم وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة قد ملكتهم وغلبت عَلَيْهِم بقومها ورجالها وَكَانَ لَهَا بنُون عشرَة فاستفحل أمرهَا بهم وَلما نزل عَلَيْهَا الجزار الْمَذْكُور وانتسب لَهَا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن قَامَت بأَمْره وشمرت عزائمها لإجارته وحملت قَومهَا على طَاعَته وشاع فِي النَّاس خَبره فَمن مُصدق وَمن مكذب وسرب السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْأَمْوَال فِي قَومهَا وبنيها على إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأَبت ثمَّ نمى إِلَيْهَا الْخَبَر بكذبه وتمويهه فنبذت إِلَيْهِ عَهده وَخرج عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَرَب فلحق بالذواودة أُمَرَاء ريَاح من بني هِلَال وَنزل على سيدهم يَعْقُوب بن عَليّ وانتسب لَهُ فِي مصل ذَلِك فأجاروه إِن صدق نسبه وأوعز السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى صهره أبي بكر الحفصي فِي شَأْن الجزار فَبعث الحفصي إِلَى يَعْقُوب بن عَليّ فِي ذَلِك فأشخصه إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مَعَ بعض حَاشِيَته فلحق بِهِ بمكانه بسبتة يُرِيد الْجِهَاد فامتحنه وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وَبَقِي الْمغرب تَحت جراية من الدولة إِلَى أَن هلك فِي بعض السنين وَأما الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما سجن بوجدة بَقِي هُنَالك إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَوَثَبَ ذَات يَوْم بالسجان فَقتله واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فأنفذ حَاجِبه عَلان بن مُحَمَّد فَقضى عَلَيْهِ رحم الله الْجَمِيع
أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ من وقْعَة طريف الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين وَغير ذَلِك
لما فرغ السُّلْطَان أَبُو الْحسن من شَأْن عدوه وعلت على الْأَيْدِي يَده وَانْفَسَحَ نطاق ملكه دَعَتْهُ همته إِلَى الْجِهَاد وَكَانَ كلفا بِهِ فأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير أبي مَالك أَمِير الثغور الأندلسية سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب وجهز إِلَيْهِ العساكر من حَضرته وأنفذ إِلَيْهِ الوزراء فشخص أَبُو مَالك غازيا وتوغل فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة واكتسحها وَخرج بِالسَّبْيِ والغنائم إِلَى أدنى صدر من أَرضهم وأناخ بهَا فاتصل بِهِ الْخَبَر أَن النَّصَارَى قد جمعُوا لَهُ وَأَنَّهُمْ(3/134)
أغذو السّير فِي اتِّبَاعه فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمَلأ بِالْخرُوجِ من أَرضهم وعبور الْوَادي الَّذِي كَانَ تخما بَين أَرض الْمُسلمين وَدَار الْحَرْب ويتحيز إِلَى مدن الْمُسلمين فَيمْتَنع بهَا فلج فِي إبايته وصمم على التَّعْرِيس وَكَانَ قرما ثبتا إِلَّا أَنه غير بَصِير بِالْحَرْبِ لصِغَر سنه فصحبتهم عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة فِي مضاجعهم قبل أَن يركبُوا وخالطوهم فِي بياتهم وأدركوا الْأَمِير أَبَا مَالك بِالْأَرْضِ قبل أَن يَسْتَوِي على فرسه فجدلوه واستلحموا الْكثير من قومه واحتووا على المعسكر بِمَا فِيهِ من أَمْوَال الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وَرَجَعُوا على اعقابهم واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فتفجع لهلاك ابْنه واسترحم لَهُ واحتسب عِنْد الله أجره ثمَّ أنفذ وزراءه إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل وَفتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجنُود وأزاح عللهم واستنفر أهل الْمغرب كَافَّة ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة ليباشر أَحْوَال الْجِهَاد وتسامعت بِهِ أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاسْتَعدوا للدفاع وَأخرج الطاغية أسطوله إِلَى الزقاق ليمنع السُّلْطَان من الْإِجَازَة واستحث السُّلْطَان أساطيل الْمُسلمين من مراسي الْمغرب وَبعث إِلَى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إِلَيْهِ فعقدوا عَلَيْهِ لزيد بن فَرِحُونَ قَائِد أسطول بجاية ووافى سبتة فِي سِتَّة عشر أسطولا من أساطيل إفريقية كَانَ فِيهَا من طرابلس وَقَابِس وجربة وتونس وبونة وبجاية وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الْمِائَة وَعقد السُّلْطَان عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ العزفي الَّذِي كَانَ صَاحب سبتة يَوْم فتحهَا أَيَّام السُّلْطَان أبي سعيد وَأمره بمناجزة أسطول النَّصَارَى بالزقاق وَقد تَكَامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا فِي السِّلَاح وزحفوا إِلَى أسطول النَّصَارَى وتواقفوا مَلِيًّا ثمَّ قربوا الأساطيل بَعْضهَا من بعض وقرنوها للمصاف فَلم يمض إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وأظفر الله الْمُسلمين(3/135)
بعدوهم وخالطوهم فِي أساطيلهم واستلحموهم هبرا بِالسُّيُوفِ وطعنا بِالرِّمَاحِ وألقوا أشلاءهم فِي اليم وَقتلُوا قائدهم الملند وَاسْتَاقُوا أساطيلهم مجنوبة إِلَى مرسى سبتة فبرز النَّاس لمشاهدتها وطيف بِكَثِير من رؤوسهم فِي جَوَانِب الْبَلَد ونظمت أصفاد الأسرى بدار الْإِنْشَاء وَعظم الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان للتهنئة وَأنْشد الشُّعَرَاء بَين يَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت سادس شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة فَكَانَ من أعز أَيَّام الْإِسْلَام ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إجَازَة العساكر من المتطوعة والمرتزقة وانتظمت الأساطيل سلسلة وَاحِدَة من العدوة إِلَى العدوة وَلما تكاملت العساكر بالعبور وَكَانَت نَحْو سِتِّينَ ألفا أجازهو فِي أسطوله مَعَ خاصته وحشمه آخر سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَنزل بِسَاحَة طريف وأناخ عَلَيْهَا ثَالِث محرم من السّنة بعْدهَا وَشرع فِي منازلتها ووافاه سُلْطَان الأندلس أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر فِي عَسْكَر الأندلس من غزَاة بني مرين وحامية الثغور ورجالة البدو فعسكروا حذاء مُعَسْكَره وَأَحَاطُوا بطريف نطاقا وَاحِدًا وأنزلوا بهَا أَنْوَاع الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا الْآلَات وجهز الطاغية أسطولا آخر اعْترض بِهِ الزقاق لقطع الْمرَافِق عَن المعسكر وَطَالَ مقَام الْمُسلمين بمكانهم حول طريف ففنيت أَزْوَادهم وَقلت العلوفات فوهن الظّهْر واختلت أَحْوَالهم ثمَّ احتشد الطاغية أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَظَاهره البرتقال صَاحب أشبونة وَغرب الأندلس وزحفوا إِلَى الْمُسلمين لسِتَّة أشهر من نزولهم على طريف وَلما قرب الطاغية من معسكر الْمُسلمين سرب إِلَى طريف جَيْشًا من النَّصَارَى أكمنه بهَا إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ فَدَخَلُوهَا لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس الَّذين أرصدوا لَهُم وأحسوا بهم آخر اللَّيْل فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أَعْقَابهم قبل دُخُول الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم عددا وَقد نجا أَكْثَرهم فلبسوا على السُّلْطَان أَنه لم يدْخل الْبَلَد سواهُم حذرا من سطوته ثمَّ زحف الطاغية من الْغَد فِي جموعه إِلَى الْمُسلمين وعبأ السُّلْطَان مواكبه صُفُوفا وتزاحفوا وَلما نشبت الْحَرْب برز الْجَيْش الكمين من الْبَلَد وَهُوَ الَّذِي(3/136)
دخل لَيْلًا وخالفوا الْمُسلمين إِلَى معسكرهم وعمدوا إِلَى فسطاط السُّلْطَان فدافعهم عَنهُ الناشبة الَّذين كَانُوا على حراسته فاستلحموهم لقلتهم ثمَّ دافعهم النِّسَاء عَن أنفسهم فقتلوهن كَذَلِك وخلصوا إِلَى حظايا السُّلْطَان مِنْهُنَّ عَائِشَة بنت عَمه أبي بكر بن يَعْقُوب بن عبد الْحق وَفَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَغَيرهمَا من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن ومثلوا بِهن وانتهبوا سَائِر الْفسْطَاط وأضرموا المعسكر نَارا ثمَّ أحس الْمُسلمُونَ بِمَا وَرَاءَهُمْ فِي معسكرهم فاختل مَصَافهمْ وَارْتَدوا على أَعْقَابهم بعد أَن كَانَ تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن صمم فِي طَائِفَة من قومه وحاشيته حَتَّى خالطهم فِي صفوفهم فأحاطوا بِهِ وتقبضوا عَلَيْهِ وَعظم الْمُصَاب بأسره وَكَانَ الْخطب على الْإِسْلَام قَلما فجع بِمثلِهِ وَذَلِكَ ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن متحيزا إِلَى فِئَة الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ كثير من الْغُزَاة وَتقدم الطاغية حَتَّى انْتهى إِلَى فسطاط السُّلْطَان من الْمحلة فَأنْكر قتل النِّسَاء والولدان وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى أَثَره ثمَّ انكفأ رَاجعا إِلَى بِلَاده وَلحق ابْن الْأَحْمَر بغرناطة وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ مِنْهَا إِلَى جبل الْفَتْح ثمَّ ركب الأسطول إِلَى سبتة فِي لَيْلَة غده ومحص الله الْمُسلمين وأجزل ثوابهم
اسْتِيلَاء الْعَدو على الجزيرة الخضراء
لما رَجَعَ الطاغية من طريف استأسد على الْمُسلمين بالأندلس وطمع فِي التهامهم وَجمع عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة ونازل أَولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعَلى مرحلة مِنْهَا وَجمع الْآلَات وَالْأَيْدِي على حصارها وَأخذ بمخنقها فَأَصَابَهُمْ الْجهد من الْعَطش فنزلوا على حِكْمَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأدال الله الطّيب مِنْهَا بالخبيث وَانْصَرف الطاغية إِلَى بِلَاده وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن لما أجَاز إِلَى سبتة أَخذ نَفسه بِالْعودِ إِلَى الْجِهَاد لرجع الكرة فَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين وَأخرج قواده إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل فتكامل(3/137)
لَهُ مِنْهَا عدد مُعْتَبر ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس وَقدم عساكره إِلَيْهَا مَعَ وزيره عَسْكَر بن تاحضريت وَعقد على الجزيرة الخضراء لمُحَمد بن الْعَبَّاس بن تاحضريت من قرَابَة الْوَزير وَبعث إِلَيْهَا مدَدا من الْعَسْكَر مَعَ مُوسَى بن إِبْرَاهِيم اليريناني من المرشحين للوزارة نِيَابَة وَبلغ الطاغية خَبره فَجهز أسطوله وأجراه إِلَى بَحر الزقاق لمدافعته وتلاقت الأساطيل ومحص الله الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ مِنْهُم أعداد وتغلب اسطول الطاغية على بَحر الزقاق فملكه دون الْمُسلمين وَأَقْبل الطاغية من إشبيلية فِي عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة حَتَّى أَنَاخَ بهَا على الجزيرة الخضراء مرفأ أساطيل الْمُسلمين وفرضة الْمجَاز وَرَجا أَن ينظمها فِي مَمْلَكَته مَعَ جارتها طريف وَحشر الفعلة والصناع للآلات وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وطاولها الْحصار وَاتخذ أهل المعسكر بُيُوتًا من الْخشب للمطاولة وَجَاء السطلان أبوالحجاج بن الْأَحْمَر بعساكر الأندلس فَنزل قبالة الطاغية بِظَاهِر جبل الْفَتْح فِي سَبِيل الممانعة وَأقَام السُّلْطَان أَبُو الْحسن بمكانه من سبتة يسرب إِلَى أهل الجزيرة المدد من الفرسان وَالْمَال والقوت فِي أَوْقَات الْغَفْلَة من أساطيل الْعَدو تَحت جنَاح اللَّيْل وَأُصِيب كثير من الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلم يغن على أهل الجزيرة ذَلِك المدد شَيْئا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم الْحصار وأصابهم الْجهد وَأَجَازَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن يفاوضه فِي شَأْن السّلم مَعَ الطاغية بعد أَن أذن الطاغية لَهُ فِي الْإِجَازَة مكرا بهَا وأصدر لَهُ بعض الأساطيل فِي طَرِيقه فَصَدَّقَهُمْ الْمُسلمُونَ الْقِتَال وخلصوا إِلَى السَّاحِل بعد غص الرِّيق وَضَاقَتْ أَحْوَال أهل الجزيرة وَمن كَانَ بهَا من عَسْكَر السُّلْطَان فسألوا الطاغية الْأمان على أَن ينزلُوا لَهُ عَن الْبَلَد فبذله لَهُم وَخَرجُوا فوفى لَهُم وأجازوا إِلَى الْمغرب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم السُّلْطَان ببلاده على خير نزل ولقاهم من المبرة والكرامة مَا عوضهم بِمَا فاتهم وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ ووصلهم بِمَا تحدث النَّاس بِهِ وتقبض على وزيره عَسْكَر بن تاحضريت عُقُوبَة لَهُ على تَقْصِيره فِي المدافعة مَعَ تمكنه مِنْهَا وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى حَضرته موقنا بِظُهُور أَمر الله وإنجاز وعده وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ(3/138)
بَقِيَّة أَخْبَار بني أبي الْعَلَاء
قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ يَلِي مشيخة الْغُزَاة بالأندلس وَأَنه اسْتشْهد سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بأَمْره ابْنه أَبُو ثَابت فاستحوذ بعصبيته وَقَومه على بني الْأَحْمَر فَقتلُوا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل مِنْهُم مرجعه من فتح جبل الْفَتْح ونصبوا لِلْأَمْرِ أَخَاهُ يُوسُف بن إِسْمَاعِيل حَسْبَمَا تقدم الإلماع بذلك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا الْحجَّاج هَذَا بَقِي بَين جَنْبَيْهِ دَاء دخيل من بني أبي الْعَلَاء الَّذين فتكوا بأَخيه فَلم يزل يسْعَى فِي أَمرهم حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس فنزلوا على السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّا الحفصي واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فَكتب إِلَيْهِ باعتقالهم فَفعل ثمَّ بدا لَهُ فَبعث إِلَيْهِ مَعَ عريف الوزعة بِبَابِهِ مَيْمُون بن بكرون فِي إشخاصهم إِلَى حَضرته فتوقف الحفصي عَن ذَلِك وأبى من إخفار ذمتهم فَأَشَارَ عَلَيْهِ وزيره أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين ببعثهم إِلَيْهِ وَأَنه لَا يُرِيد بهم إِلَّا الْخَيْر فبعثهم وَبعث كِتَابه بالشفاعة فيهم فقدموا على السُّلْطَان أبي الْحسن مرجعه من الْجِهَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَتَلقاهُمْ بِالْبرِّ والكرامة إِكْرَاما لشفيعهم وأنزلهم بمعسكره وَحَملهمْ على الْخُيُول المسومة بالمراكب الثَّقِيلَة وَضرب لَهُم الفساطيط وأسنى لَهُم الْخلْع والجوائز وَفرض لَهُم فِي أَعلَى رتب الْعَطاء وصاروا فِي جملَته وَلما احتل بسبتة لمشارفة أَحْوَال الجزيرة الخضراء سعى عِنْده فيهم بِأَن كثيرا من المفسدين يداخلونهم فِي الْخُرُوج والتوثب على الْأَمر فتقبض عَلَيْهِم وأودعهم السجْن بمكناسة الزَّيْتُون واستمروا هُنَالك إِلَى أَن قَامَ أَبُو عنان فَأَطْلَقَهُمْ واستعان بهم على أمره حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله(3/139)
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لصَاحب مصر أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن راسل الْملك النَّاصِر صَاحب مصر وهاداه بِمَا عظم وقعه عِنْد الْخَاصَّة والعامة واتصلت الْولَايَة بَينه وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا وأتحفه وَعَزاهُ عَن أَبِيه وأوفد عَلَيْهِ كَاتبه وَصَاحب ديوَان الْخراج أَبَا الْفضل بن أبي عبد لله بن أبي مَدين وَفِي صحبته الْحرَّة أُخْت السُّلْطَان أبي الْحسن فَقضى من وفادته مَا حمل وأصحبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن كتابا إِلَى الْملك الصَّالح أبي الْفِدَاء وَكَانَ وُصُوله إِلَى مصر منتصف شعْبَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
وَنَصّ الْكتاب بعد الْبَسْمَلَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله رب الْعَالمين الْمَنْصُور بِفضل الله المتَوَكل عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فِي جَمِيع أُمُوره لَدَيْهِ سُلْطَان البرين حامي العدوتين مُؤثر المرابطة والمثاغرة موازر حزب الْإِسْلَام حق الموازرة نَاصِر الْإِسْلَام مظَاهر دين الْملك العلام ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين فَخر السلاطين حامي حوزة الدّين ملك البرين إِمَام العدوتين ممهد الْبِلَاد مبدد شَمل الأعاد مجند الْجنُود الْمَنْصُور الرَّايَات والبنود محط الرّحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين حَسَنَة الْأَيَّام حسام الْإِسْلَام أبي الْأَمْلَاك مشجي أهل العناد والإشراك مَانع الْبِلَاد رَافع علم الْجِهَاد مدوخ أقطار الْكفَّار مصرخ من ناداه للانتصار الْقَائِم لله بإعلاء دين الْحق أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أخْلص الله لوجهه جهاده وَيسر فِي قهر عداة الدّين مُرَاده إِلَى مَحل ولدنَا الَّذِي طلع فِي أفق الْعلَا بَدْرًا تما وصدع بأنواع الفخار فَجلى ظلاما وظلما وَجمع شَمل المملكة الناصرية فأعلى مِنْهَا علما وأحيى رسما حَائِط الْحَرَمَيْنِ الْقَائِم بِحِفْظ الْقبْلَتَيْنِ باسط الْأمان قَابض كف(3/140)
الْعدوان الجزيل النوال الْكَفِيل تأمينه بحياطة النُّفُوس وَالْأَمْوَال قطب الْمجد وسماكه حسب الْحَمد وملاكه السُّلْطَان الْجَلِيل الرفيع الْأَصِيل الحافل الْعَادِل الْفَاضِل الْكَامِل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان المؤزر الْمُؤَيد المظفر الْملك الصَّالح أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مَحل أخينا الشهير علاؤة المستطير فِي الْآفَاق ثَنَاؤُهُ زين الْأَيَّام والليال كَمَال عين إناس الْمجد وإنسان عين الْكَمَال وَارِث الدول النافث بِصَحِيح رَأْيه فِي عُقُود أهل الْملَل والنحل حامي الْقبْلَتَيْنِ بعدله وحسامه النامي فِي حفظ الْحَرَمَيْنِ أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين وجيوشها هَادِم الْكَنَائِس وَالْبيع فَهِيَ خاوية على عروشها السُّلْطَان الْأَجَل الْهمام الأحفل الأفخم الأضخم الْفَاضِل الْعَادِل الشهير الْكَبِير الرفيع الخطير الْمُجَاهِد المرابط المقسط عدله فِي الجائر والقاسط الْمُؤَيد المظفر الْمُنعم الْمُقَدّس المطهر زين السلاطين نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الْملك الأرضى الْهمام الأمضى وَالِد السلاطين الأخيار عَاقد لِوَاء النَّصْر فِي قهر الأرمن والفرنج والتتار محيي رسوم الْجِهَاد معلي كلمة الْإِسْلَام فِي الْبِلَاد جمال الْأَيَّام ثمال الْأَعْلَام فاتح الأقاليم صَالح مُلُوك عصره المتقادم الإِمَام الْمُؤَيد الْمَنْصُور المسدد قسيم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَا تقلد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون مكن الله لَهُ تَمْكِين أوليائه ونمى دولته الَّتِي أطلعها لَهُ السعد شمسا فِي سمائه وَأحسن إيزاعه للشكر أَن جعله وَارِث آبَائِهِ سَلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصِّبَا مجْرَاه يَصْحَبهُ رضوَان يَدُوم مَا دَامَت تقل الْفلك حركاته ويتولاه روح وَرَيْحَان تحييه بِهِ رَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله مَالك الْملك جَاعل الْعَاقِبَة للتقوى صدعا بِالْيَقِينِ ودفعا للشَّكّ وخاذل من أسر النِّفَاق فِي النَّجْوَى فاصر على الدخن والإفك وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد رَسُوله الَّذِي محى بأنوار الْهدى ظلم الشّرك وَنبيه الَّذِي ختم بِهِ الْأَنْبِيَاء وَهُوَ وَاسِطَة ذَلِك السلك ودعا بِهِ حجَّة الْحق فمادت بالكفرة مَحْمُولَة الأفلاك وَمَاجَتْ بهم حاملة الْفلك وَالرِّضَا عَن آله وَصَحبه الَّذين سلكوا سَبِيل هداه فسلك فِي قُلُوبهم أجمل السلك وملكوا أعنه هواهم فلزموا من محجة الصَّوَاب أنجح السلك وَصَابِرُوا فِي جِهَاد(3/141)
الْأَعْدَاء فَزَاد خلوصهم مَعَ الِابْتِلَاء وَالذَّهَب يزِيد خلوصا على السبك وَالدُّعَاء لأولياء الْإِسْلَام وحماته الْأَعْلَام بنصر لمضائه فِي العدي أعظم الفتك وَيسر بِقَضَائِهِ دَرك آمال الظُّهُور وأحفل بذلك الدَّرك فَكَتَبْنَاهُ إِلَيْكُم كتب الله لكم رسوخ الْقدَم وسبوغ النعم من حضرتنا مَدِينَة فاس المحروسة وصنع الله سُبْحَانَهُ يعرف مَذَاهِب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الْأَلْسِنَة فِي الْقُصُور عَن شكرها بالاعتراف وَيصرف من أمره الْعَظِيم وقضائه المتلقى بِالتَّسْلِيمِ مَا يتكون بَين النُّون وَالْكَاف ومكانكم العتيد سُلْطَانه وسلطانكم الْمجِيد مَكَانَهُ وولاؤكم الصَّحِيح برهانه وعلاؤكم الفسيح فِي مجَال الْجلَال ميدانه وَإِلَى هَذَا زَاد الله سلطانكم تمكينا وَأفَاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنَن من خلفتموه سَبِيلا مُبينًا فَلَا خَفَاء بِمَا كَانَت عقدته أَيدي التَّقْوَى ومهدته الرسائل الَّتِي على الصفاء تطوى بَيْننَا وَبَين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مَعَ الْأَبْرَار فِي عليين أنسه من مؤاخاة أحكمت مِنْهَا العهود تالية الْكتب والفاتحة وَحفظ عَلَيْهَا مُحكم الْإِخْلَاص معوذاتها الْمحبَّة وَالنِّيَّة الصَّالِحَة فانعقدت على التَّقْوَى والرضوان واعتضدت بتعارف الْأَرْوَاح عِنْد تنازح الْأَبدَان حَتَّى استحكمت وصلَة الْوَلَاء والتأمت كلحمة النّسَب لحْمَة الإخاء فَمَا كَانَ إِلَّا وشيكا من الزَّمَان وَلَا عجب قصر زمن الوصلة أَن يشكوه الخلان ورد وَارِد أورد رنق المشارب وحقق قَول وَمن يسْأَل الركْبَان عَن كل غَائِب أنبأ باستثارة الله تَعَالَى بِنَفسِهِ الزكية وإكنان درته السّنيَّة وانقلابه إِلَى مَا أعد لَهُ من الْمنَازل الرضوانية بجليل مَا وقر لفقده فِي الصُّدُور وعظيم مَا تأثرت لَهُ النُّفُوس لوُقُوع ذَلِك الْمَقْدُور حنانا لِلْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الأقطار وإشفاقا من أَن يعتور قاصدي بَيت الله الْحَرَام من جراء الْفِتَن عَارض الْإِضْرَار ومساهمة فِي مصاب الْملك الْكَرِيم وَالْوَصِيّ الْحَمِيم ثمَّ عميت الْأَخْبَار وطويت طي السّجل الْآثَار فَلم نر مخبرا صدقا وَلَا معلما بِمن اسْتَقر لَهُ ذَلِكُم الْملك حَقًا وَفِي أثْنَاء ذَلِك حفزنا للحركة عَن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الْأَخْبَار بِأَن النَّصَارَى أَجمعُوا على خراب أوطانها وَنحن أثْنَاء ذَلِك الشَّأْن نستخبر الوراد من تلكم الْبلدَانِ عَمَّا أجلى عَنهُ ليل الْفِتَن بتلكم الأوطان فَبعد لأي(3/142)
وقعنا مِنْهَا على الْخَبِير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أَن الْملك اسْتَقر مِنْكُم فِي نصابه وتداركه الله تَعَالَى مِنْكُم بفاتح الْخَيْر من أبوابه فأطفأ بكم نَار الْفِتْنَة وأخمدها مِنْهُ أدواء النِّفَاق مَا أعل الْبِلَاد وأفسدها فَقَامَ سَبِيل الْحَج سابلا وَعبر طَرِيقه لمن جَاءَ قَاصِدا وقافلا وَلما احتفت بِهَذَا الْخَبَر الْقَرَائِن وتواتر بِنَقْل الْحَاضِر المعاين أثار حفظ الإعتقاد البواعث والود الصَّحِيح تجره حَقًا الموارث فأصدرنا لكم هَذِه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بَين الْخَبَر والإستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار وَمثل ذَلِك الْملك رضوَان الله عَلَيْهِ من تجل المصائب لفقدانه وَتحل عرى الإصطبار بِمَوْتِهِ ولات حِين أَوَانه وَلَكِن الصَّبْر اجمل مَا ارتداه ذُو عقل حُصَيْن وَالْأَجْر أولى مَا اقتناه ذُو دين متين ومثلكم من لَا يخف وقاره وَلَا يشف عَن ظُهُور الْجزع الْحَادِث اصطباره وَمن خلفتموه فَمَا مَاتَ ذكره وَمن قُمْتُم بأَمْره فَمَا زَالَ بل زَاد فخره وَقد طَالَتْ وَالْحَمْد لله العيشه الراضية بالحقب وطاب بَين مبداه ومحتضره هَنِيئًا بِمَا من الْأجر اكْتسب وَصَارَ حميدا إِلَى خير مُنْقَلب ووفد من كرم الله على أفضل مَا منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بَيته مقيلة أَو معرسة وَنحن بعد بسط هَذِه التَّعْزِيَة نهنيكم بِمَا خولكم الله أجمل التهنية وَفِي ذَات الله الْإِيرَاد والإصدار وَفِي مرضاته سُبْحَانَهُ الْإِضْمَار والإظهار فَاسْتَقْبلُوا دولة ألْقى الْعِزّ عَلَيْهَا رواقه وَعقد الظُّهُور عَلَيْهَا نطاقه وَأَعْطَاهُ أَمَان الزَّمَان عقده وميثاقه وَنحن على مَا عاهدنا عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر رضوَان الله عَلَيْهِ من عهود موثقة وموالاة مُحَققَة وثناء كمائمه عَن أذكى من الزهر غب الْقطر مفتقه وَلم يغب عَنْكُم مَا كَانَ من بعثنَا المصحفين الأكرمين اللَّذين خطتهما منا الْيَمين وآوت بهما الرَّغْبَة من الْحَرَمَيْنِ الشريفين إِلَى قَرَار مكين وَإنَّهُ كَانَ لوالدكم الْملك النَّاصِر تولاة الله برضونه وَأوردهُ موارد إحسانه فِي ذَلِكُم من الْفِعْل الْجَمِيل والصنع الْجَلِيل مَا ناسب مَكَانَهُ الرفيع وشاكل فَضله من الْبر الَّذِي لَا يضيع حَتَّى طبق فعله الْآفَاق ذكرا وطوق أَعْنَاق الوراد والقصاد برا وَكَانَ من أجمل مَا بِهِ تحفى وأتحف وَأعظم مَا بعرفه إِلَى الْملك العلام فِي ذَلِك تعرف إِذْنه(3/143)
للمتوجهين إِذا ذَاك فِي شِرَاء رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم الْمُبَارَكَة بتحرير ذَلِك الْوَقْف مَعَ اخْتِلَاف الجديدين فجرت أَحْوَال الْقُرَّاء فِيهَا بذلك الْخراج السمتفاد ريثما يصلهم من خراج مَا وقفناه عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْبِلَاد على مَا رسمه رَحْمَة الله عَلَيْهِ من عناية بِهِ مُتَّصِلَة واحترام فِي تِلْكَ الْأَوْقَاف فوائدها بِهِ متوفرة متحصلة وَقد أمرنَا مؤدي هَذَا لَكمَا لكم وموفده على جلالكم كاتبنا الْأَسْنَى الْفَقِيه الْأَجَل الأحظى الْأَكْمَل أَبَا الْمجد ابْن كاتبنا الشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْحَاج الأتقى الأرضى الْأَفْضَل الأحظى الْأَكْمَل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مَدين حفظ الله عَلَيْهِ رتبته وَيسر فِي قصد الْبَيْت الْحَرَام بغيته بِأَن يتفقد أَحْوَال تِلْكَ الْأَوْقَاف ويتعرف تصرف النَّاظر عَلَيْهَا وَمَا فعله من سداد وإسراف وَأَن يتَخَيَّر لَهَا من يرتضي لذَلِك ويحمد تصرفه فِيمَا هُنَالك وخاطبنا سلطانكم فِي هَذَا الشَّأْن جَريا على الود الثَّابِت الْأَركان وإعلاما بِمَا لوالدكم رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْأَفْعَال الحسان وكما لكم يَقْتَضِي تخليد ذَلِكُم الْبر الْجَمِيل وتجديد علم ذَلِك الْملك الْجَلِيل وتشييد مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الشِّرَاء الْأَصِيل وَالْأَجْر الجزيل والتقدم بِالْإِذْنِ السلطاني فِي إِعَانَة هَذَا الْوَافِد بِهَذَا الْكتاب على مَا يتوخاه فِي ذَلِك الشَّأْن من طرق الصَّوَاب وثناؤنا عَلَيْكُم الثَّنَاء الَّذِي يفاوح زهر الرِّبَا ويطارح نغم حمام الأيك مطربا وبحسب المصافاة وَمُقْتَضى الْمُوَالَاة نشرح لكم المتزايدات بِهَذِهِ الْجِهَات وننبئكم بِمُوجب إبطاء إِنْفَاذ هَذَا الْخطاب على ذَلِكُم الجناب وَذَلِكَ أَنه لما وصلنا من الأندلس الصَّرِيخ ونادى منا للْجِهَاد عزما لمثل ندائه يصيخ أَنبأَنَا أَن الْكفَّار قد جمعُوا أحزابهم من كل صوب وَفرض عَلَيْهِم باباهم اللعين التناصر من كل أَوب وَأَن تقصد طوائفهم الْبِلَاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرْضهَا من أطرافها ليمحو كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ويقلصوا ظلّ الْإِيمَان عَنْهَا فقدمنا من يشْتَغل بالأساطيل من القواد وسرنا على اثرهم إِلَى سبتة مُنْتَهى الغرب الْأَقْصَى وَبَاب الْجِهَاد فَمَا وصلناها إِلَّا وَقد أَخذه الْعَدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجَاز العبور وَأتوا من أجفانهم بِمَا لَا يُحْصى عددا وأرصدوها بمجمع الْبَحْرين حَيْثُ الْمجَاز إِلَى دفع العدا وتقلصوا عَن(3/144)
الانبساط فِي الْبِلَاد واجتمعوا إِلَى الجزيرة الخضراء أَعَادَهَا الله بِكُل من جَمَعُوهُ من الأعاد لَكنا مَعَ انسداد تِلْكَ السَّبِيل وَعدم أُمُور نستعين بهَا فِي ذَلِكُم الْعَمَل الْجَلِيل حاولنا إمداد تلكم الْبِلَاد بِحَسب الْجهد وأصرخناهم بِمَا أمكن من الْجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرْصَة الْإِجَازَة تَتَرَدَّد على خطر بِمن جهز للْجِهَاد جهازه وأمرنا لصَاحب الأندلس من المَال بِمَا يُجهز بِهِ حركته لمداناة محلّة حزب الضلال وأجرينا لَهُ ولجيشه الْعَطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لَهُم من النوال مَا نرجو بِهِ ثَوَاب الْآخِرَة وَجعلت أجفاننا تَتَرَدَّد فِي مينا السواحل وتلج أَبْوَاب الْخَوْف العاجل لإحراز الْأَمْن الآجل مشحونة بِالْعدَدِ الموفورة والأبطال الْمَشْهُورَة وَالْخَيْل المسومة والأقوات المقومة فَمن نَاجٍ حَارب دونه الْأَجَل وشهيد مضى لما عِنْد الله عز وَجل وَمَا زَالَت الأجفان تَتَرَدَّد على ذَلِك الْخطر حَتَّى تلف مِنْهَا سبع وَسِتُّونَ قِطْعَة غزوية أجرهَا عِنْد الله يدّخر ثمَّ لم نقنع بِهَذَا الْعَمَل فِي الْإِمْدَاد فَبَعَثنَا أحد أَوْلَادنَا أسعدهم الله مساهمة بِهِ لأهل تِلْكَ الْبِلَاد فلقي من هول الْبَحْر وارتجاجه وإلحاح الْعَدو ولجاجه مَا بِهِ الْأَمْثَال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب وَلما خلص لتِلْك العدوة بِمن أبقته الشدائد نزل بِإِزَاءِ الْكَافِر الجاحد حَتَّى كَانَ مِنْهُ بفرسخين أَو أدنى وَقد ضرب بِعَطَن يصابح الْعَدو ويماسيه بِحَرب بهَا يمنى وَقد كَانَ من مددنا بالجزيرة جَيش شريت شرارته وقويت فِي الْحَرْب إدارته يبلون الْبلَاء الأصدق وَلَا يبالون بالعدو وهم مِنْهُ كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاء فِي الْبَعِير الأورق إِلَّا أَن المطاولة بحصارها فِي الْبَحْر مُدَّة ثَلَاثَة أَعْوَام وَنصف ومنازلتها فِي الْبر نَحْو عَاميْنِ معقودا عَلَيْهَا الصَّفّ بالصف أدّى إِلَى فنَاء الأقوات فِي الْبَلَد حَتَّى لم يبْق لأهليه قوت شهر مَعَ انْقِطَاع المدد وَبِه من الْخلق مَا يربى على عشرَة آلَاف دون الْحرم وَالْولد فَكتب إِلَيْنَا سُلْطَان الأندلس يرغب فِي الْأذن لَهُ فِي عقد الصُّلْح وَوَقع الِاتِّفَاق على أَنه لاستخلاص الْمُسلمين من وُجُوه النجع فأذنا لَهُ فِيهِ الْإِذْن الْعَام إِذْ فِي إصراخه وإصراخ من بقطره من الْمُسلمين توخينا ذَلِك المرام هُنَالك دَعَا النَّصَارَى إِلَى السّلم فاستجابوا وَقد كَانُوا علمُوا فنَاء الْقُوت وَمَا استرابوا فتم الصُّلْح إِلَى عشر سِنِين وَخرج من بهَا من فرسَان(3/145)
وَرِجَال وَأهل وبنين وَلَا رزئوا مَالا وَلَا عدَّة وَلَا لقوا فِي خُرُوجهمْ غير النزوح عَن أول أَرض مس الْجلد ترابها شدَّة ووصلوا إِلَيْنَا فأجزلنا لَهُم الْعَطاء وأسليناهم عَمَّا جرى بالحباء فَمن خيل تزيد على الْألف عتاقها وخلع تربى على عشرَة آلَاف أطواقها وأموال عَمت الْغَنِيّ وَالْفَقِير ورعاية شملت الْجَمِيع بالعيش النَّضِير كف الله ضرّ الطواغيت عَمَّا عَداهَا وَمَا انقلبوا بِغَيْر مَدَرَة عَفا رسمها وصم صداها وَقد كَانَ من لطف الله حِين قضى بِأخذ هَذَا الثغر أَن قدر لنا فتح جبل طَارق من أَيدي الْكفْر وَهُوَ المطل على هَذِه المدرة والفرصة مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى متيسرة حَتَّى يفرق عقد الْكفَّار ويفرج بِهَذِهِ الْجِهَة مِنْهُم مجاورو هَذِه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جَانب وكونهم سدوا مَسْلَك العبور بِمَا لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بأصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتِّفَاقهم وَلَكِن للموانع أَحْكَام وَلَا راد لما جرت بِهِ الأقلام وَقد أمرنَا لذَلِك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا لَهُ ولسائر تِلْكَ الْبِلَاد الْعدَد وَالْعدَد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السّفر ونرتبط الْجِيَاد وننتخب الْعدَد لوقت الظُّهُور المنتظر ونكون على أهبة الْجِهَاد وعَلى مرقبة الفرصة عِنْد تمكنها فِي الأعاد وَعند عودنا من تِلْكَ المحاولة نيسر الركب الْحِجَازِي موجها إِلَى هُنَاكُم رواحله فأصدرنا إِلَيْكُم هَذَا الْخطاب إصدار الود الْخَالِص وَالْحب اللّبَاب وَعِنْدنَا لكم مَا عِنْد أحنى الْآبَاء واعتقادنا فِيكُم فِي ذَات الله لَا يخْشَى جديده من الْبلَاء ومالكم من غَرَض بِهَذِهِ الأنحاء موفي قَصده على أكمل الْأَهْوَاء موَالِي تتميمه على أجمل الأراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب وَالْأَيْدِي على مَا فِيهِ مرضاة الله عز وَجل منعقدة جعل الله ذَلِكُم خَالِصا لرب الْعباد مدخورا ليَوْم التناد مسطورا فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَوْم الْمعَاد بمنه وفضله هُوَ سُبْحَانَهُ يصل إِلَيْكُم سَعْدا تتفاخر بِهِ سعود الْكَوَاكِب وتتضافر على الانقياد لَهُ صُدُور المواكب وتتقاصر عَن نيل مجده متطاولات المناكب وَالسَّلَام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَكتب فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين لشهر صفر الْمُبَارك من عَام خَمْسَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَصُورَة الْعَلامَة وَكتب فِي التَّارِيخ المؤرخ(3/146)
قَالَ ابْن خلدون فَقضى أَبُو الْفضل بن أبي عبد الله بن ابي مَدين من وفادته مَا حمل وَكَانَ شَأْنه عجبا فِي إِظْهَار أبهة سُلْطَانه والإنفاق على الْمُسْتَضْعَفِينَ من إلحاج فِي طَرِيقه وإتحاف رجال الدولة التركية بِذَات يَده وَالتَّعَفُّف عَمَّا فِي أَيْديهم رَحمَه الله وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي وَفِي منتصف شعْبَان من سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة أُخْت صَاحب الْمغرب فِي جمَاعَة كَثِيرَة وعَلى يَدهَا كتاب السُّلْطَان أبي الْحسن يتَضَمَّن السَّلَام وَأَن يَدْعُو لَهُ الخطباء فِي يَوْم الْجُمُعَة ومشايخ الصّلاح وَأهل الْخَيْر بالنصر على عدوهم وَيكْتب إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ بذلك اه وَلَعَلَّ هَذَا الْكتاب آخر غير الَّذِي سردناه يتَضَمَّن مَا ذكره وَالله أعلم
ونشخة الْجَواب عَن الْكتاب الَّذِي سردناه من إنْشَاء خَلِيل الصَّفَدِي شَارِح لآمية الْعَجم بعد الْبَسْمَلَة فِي قطع النّصْف بقلم الثُّلُث عبد الله ووليه صُورَة الْعَلامَة وَلَده إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد السُّلْطَان الْملك الصَّالح السَّيِّد الْعَالم الْعَادِل الْمُؤَيد الْمُجَاهِد المرابط المظفر الْمَنْصُور عماد الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي الْعدْل فِي الْعَالمين منصف المظلومين من الظَّالِمين وَارِث الْملك ملك الْعَرَب والعجم وَالتّرْك فاتح الأقطار واهب الممالك والأمصار إسكندر الزَّمَان مملك أَصْحَاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه مَالك الْبَحْرين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين سيد الْمُلُوك والسلاطين جَامع كلمة الْمُوَحِّدين ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك النَّاصِر نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون خلد الله تَعَالَى سُلْطَانه وَجعل الْمَلَائِكَة أنصاره واعوانه يخص الْمقَام العالي الْملك الْأَجَل الْكَبِير الْمُجَاهِد الْمُؤَيد المرابط المثاغر الْمُعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد السّني السّري الْمَنْصُور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَمِير الْمُسلمين أبي سعيد عُثْمَان بن أَمِير الْمُسلمين أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أمده الله بالظفر وَقرن عزمه بالتأييد فِي الآصال وَالْبكْر سَلام وشت البروق وشائعه وادخرت الْكَوَاكِب ودائعه(3/147)
واستوعب الزَّمَان ماضيه ومستقبله ومضارعه وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه وَنبهَ بالتغريد فِي الرَّوْض سواجعه وجلى فِي كأسه من الشَّفق المحمر مدامه وَمن النُّجُوم فواقعه أما بعد حمد الله على نعم أدَّت لنا الْأَمَانَة فِي عود سلطنة والدنا الموروثة وأجلستنا على سَرِير مملكة زرابيها بَين النُّجُوم مبثوثة وأحسنت بِنَا الْخلف عَن سلف عهدوه فِي الْأَعْنَاق غير منكورة وَلَا منكوثة وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله وعَلى آله وَصَحبه الَّذين بلغ بجهادهم فِي الْكَفَرَة غَايَة أمله وسؤله صَلَاة تحط بالرضوان سيولها وتجر بالغفران ذيولها مَا تراسل أَصْحَاب وتواصل أحباب فيوضح للْعلم الْكَرِيم وُرُود كتابكُمْ الْعَظِيم وخطابكم الْفَائِق على الدّرّ النظيم تفاخر الخمائل سطوره ويصبغ خد الْورْد بالخجل منثوره ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عَلَيْهَا طيوره ويخلع على الْآفَاق حلل الْأَيَّام والليالي فالطرس صباحه والنقس ديجوره لَفظه يطرب وَمَعْنَاهُ يعرب فيغرب وبلاغته تدل على أَنه آيَة لِأَن شمس بَيَانهَا طلعت من الْمغرب فاتخذنا سطوره ريحانا ورجعنا أَلْفَاظه ألحانا ورجعنا إِلَى الْجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح وورقه بصقال الصفاح وحروفه المفرقه بأفواه الْجراح وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة يَوْم الكفاح وانتهينا إِلَى مَا أودعتموه من اللَّفْظ المسجوع وَالْمعْنَى الَّذِي يطرب طَائِره المسموع والبلاغة الَّتِي فَضَح التطبع بَيَانهَا المطبوع فَأَما العزاء بأخيكم الْوَالِد قدس الله روحه وَسَقَى عَهده وَأحسن لسلفه خلفا بعده فلنا برَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة وَلَوْلَا الوثوق بِأَنَّهُ فِي عدَّة الشُّهَدَاء مَا رام الْقلب قراره وَلَا الطّرف وَسنة عَاشَ سعيدا يملك الأَرْض وَمَات شَهِيدا. 000 يفوز بِالْجنَّةِ يَوْم الْعرض قد خلد الله ذكره يسير مسير الشَّمْس فِي الْآفَاق وَيُوقف عِنْد نضارة حدائقه الأحداق وورثنا مِنْهُ حسن الآخاء لكم وَالْوَفَاء بعهود مَوَدَّة تشبه فِي اللطف شمائلكم وَأما الهناء بوراثة ملكه والإنخراط مَعَ الْمُلُوك فِي سلكه فقد شكرنا لكم منحى هَذِه المنحة وقابلناها بثناء يعطر النسيم فِي كل نفحه ووقفنا عَلَيْهَا حمدا جعل الود علينا إِيرَاده وعَلى أنفاس سرحة الرَّوْض شَرحه وتحققنا بِهِ حسن ودكم الْجَمِيل وكريم إخائكم الَّذِي لَا يميد طود رسوخه وَلَا يمِيل(3/148)
وَأما مَا ذكرتموه من أَمر المصحفين الكريمين الشريفين الَّذين وقفتموهما على الْحَرَمَيْنِ المنيفين وَإِنَّكُمْ جهزتم كاتبكم الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الأسمى أَبَا الْمجد ابْن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مَدين أعزه الله لتفقد أحوالهما وَالنَّظَر فِي أَمر أوقافهما فقد وصل الْمَذْكُور بِمن مَعَه فِي حرز السَّلامَة وَأَكْرمنَا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الْإِحْسَان إِلَيْهِم شملهم وَحضر الْمَذْكُور بَين أَيْدِينَا وقربناه وَسَمعنَا كَلَامه وخاطبناه وأمرنا فِي أَمر المصحفين الشريفين بِمَا أشرتم ورسمنا لنوابنا فِي توخي أوقافهما بِمَا ذكرْتُمْ وَهَذَا الْوَقْف المبرور جَار على أحسن عَادَة ألفها وَأثبت قَاعِدَة عرفهَا مرعي الجوانب محمي الْمنَازل وَالْمُضَارب آمن إِزَالَة رسمه أَو إذالة حكمه بدره أبدا فِي مطالع تمه وزهرة دَائِما يرقص فِي كمه لَا يزْدَاد إِلَّا تخليدا وَلَا إِطْلَاق ثُبُوته إِلَّا تقييدا وَلَا عنق اجْتِهَاده إِلَّا تقليدا جَريا على قَاعِدَة أوقاف ممالكنا وَعَادَة تصرفاتنا فِي مسالكنا وَله مزِيد الرِّعَايَة وإفادة الحماية ووفادة الْعِنَايَة وَأما مَا وصفتموه من أَمر الجزيرة الخضراء وَمَا لاقاه أَهلهَا ومني بِهِ من الْكفَّار حزنها وسهلها فَإِنَّهُ شقّ علينا سَمَاعه الَّذِي أنكى أهل الْإِيمَان وَعدد بِهِ نوب الزَّمَان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النَّصْر على عَدوكُمْ فجر ذيل الْهَزِيمَة وفر وَلَكِن الْحَرْب سِجَال وكل زمَان لدوائره دولة ولرجائه رجال وَلَو أمكنت المساعدة لطارت بِنَا إِلَيْكُم عقبان الْجِيَاد المسومة وسالت على عَدوكُمْ أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عين النُّجُوم بمراود الرماح وَجَعَلنَا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الْحَرْب بتوالي الكرات وعطفنا عَلَيْهِم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات وَلَكِن أَيْن الْغَايَة من هَذَا المدى المتطاول وَأَيْنَ الثريا من يَد المتناول وَمَا لنا غير إمدادكم بِجُنُود الدُّعَاء الَّذِي نرفعه نَحن ورعايانا والتوجه الصَّادِق الَّذِي تعرفه مَلَائِكَة الْقبُول من سجايانا أما مَا فقدتموه من(3/149)
الأجفان الَّتِي طرقها طيف الْإِتْلَاف وَأم حرم فنائها الفناء وَطَاف بِهِ بعد الألطاف فقد روع هَذَا الْخَبَر قلب الْإِسْلَام وَنَوع لَهُ الْحزن على اخْتِلَاف الإصباح والإظلام وَهَذِه الدَّار لَا يَخْلُو صفوها من كدر الْقدر وطالما انامت بالأمن أول اللَّيْل وخاطبت بالخطب فِي السحر وَلَكِن فِي بقائكم مَا يسلي عَن خطب العطب وَمَعَ سَلامَة نفسكم الْكَرِيمَة فَالْأَمْر هَين لِأَن الدّرّ يفدى بِالذَّهَب وَأما مَا رَأَيْتُمُوهُ من الصُّلْح فَرَأى عقده مبارك وَأمر مَا فِيهِ فارط عزم وَإِن كَانَ فيتدارك وَالْأَمر يَجِيء كَمَا يحب لَا كَمَا نحب والحروب يزورها نصرها تَارَة ويغب مَعَ الْيَوْم غَدا وَقد يرد الله الردى وَيُعِيد الظفر بالعدا وَأما عودكم إِلَى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عنْدكُمْ من الْجنُود وتجهيزا لمن يصل من عنْدكُمْ إِلَى الْحجاز الشريف من الْوُفُود فَهَذَا أَمر ضَرُورِيّ التَّدْبِير سروري التثمير لِأَن النُّفُوس تمل وثير المهاد فَكيف مُلَازمَة صهوات الْجِيَاد وتسأم من مجالسة الشّرْب فَكيف بممارسة الْحَرْب وَتعرض عَن دوَام اللَّذَّة فَكيف بِمُبَاشَرَة المنايا الفذة وَهَذَا جبل طَارق الَّذِي فتح الله بِهِ عَلَيْكُم وسَاق هدي هديته إِلَيْكُم لَعَلَّه يكون سَببا إِلَى ارتجاع مَا شرد وحسما لهَذَا الطاغية الَّذِي مرد وردا لهَذَا النَّازِل الَّذِي كدرر ورد الصَّبْر لما ورد فعادة الألطاف بكم مَعْرُوفَة وعزماتكم إِلَى جِهَات الْجِهَاد مصروفة وَقد تفاءلنا لكم من هَذَا الْجَبَل بِأَنَّهُ طَارق خير من الرَّحْمَن يطْرق وجبل يعْصم من سهم يمر من قسي الْكفَّار ويمرق وَأما مَا منحتموه من الْخَيل الْعتاق والملابس الَّتِي تطلع بدور الْوُجُوه من مَشَارِق الأطواق وَالْأَمْوَال الَّتِي زكتْ عِنْد الله تَعَالَى ونمت على الْإِنْفَاق فعلى الله عز وَجل خلفهَا وَلكم فِي منَازِل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة سرفها وشرفها وإليكم تساق هَدَايَا أثنيتها وتحفكم تحفها وَإِذا وصل وفدكم الْحَاج وأنار لَهُ بِوَجْه إقبالنا عَلَيْهِم ليلهم الداج وَكَانُوا مقيمين تَحت ظلّ إكرامنا وشمول إسعافنا لَهُم وإنعامنا يتخولون تحفا أَنْتُم سَببهَا ويتناولون طرفا فِي كؤوس الاعتناء بهم ينضد حببها وَإِذا كَانَ أَوَان الرحيل إِلَى الْحَج فسحنا لَهُم الطَّرِيق وسهلنا لَهُم الرفيق وبلغناهم بحول الله تَعَالَى مُنَاهُمْ من منى وسألهم مِمَّن إِذا(3/150)
زاروا حجراته الشَّرِيفَة حازوا الشَّرِيفَة حازوا الرَّاحَة من العناء وفازوا بالغنى وَإِذا عَادوا عاملناهم بِكُل جميل ينسبهم مشقة ذَلِك الدَّرْب ويخيل إِلَيْهِم أَن لَا مَسَافَة لمسافر بَين الشرق والغرب وغمرناهم بِالْإِحْسَانِ فِي الْعود إِلَيْكُم وأمرناهم بِمَا ينهونه شفاها لديكم وعناية الله تَعَالَى تحوط ذاتكم وتوفر لأخذ الثار حماتكم وتخصكم بتأييد تَنْزِلُونَ روضه الأنضر وتجنون بِهِ ثَمَر النَّصْر اليانع من ورق الْحَدِيد الْأَخْضَر وتتحفكم بِسَعْد لَا يبْلى قشيبه وَعز لَا يمحو شبابه مشيبة وتحيته الْمُبَارَكَة تغاديكم وترواحكم وتفاوحكم أنفاسها الْمُعْتَبرَة وتنافحكم بمنه وَكَرمه فِي سادس رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
قَالَ ابْن خلدون ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن بعد استيلائه على إفريقية كَمَا نذكرهُ فِي كتب نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم ليوقفها بِبَيْت الْمُقَدّس فَلم يقدر إِتْمَامهَا وَهلك قبل فَرَاغه من نسخهَا اه وَهُوَ يَقْتَضِي أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور ماا كتب سوى مصحفين اثْنَيْنِ وَيُؤَيِّدهُ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ المسرودين آنِفا مَعَ أَنه تقدم النَّقْل عَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمقري أَنه وقف على النُّسْخَة الْمَوْقُوفَة بِبَيْت الْمُقَدّس وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
هَدِيَّة السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى ملك مَالِي من السودَان المجاورين للمغرب
اعْلَم أَن أَرض السودَان الْمُجَاورَة للمغرب تشْتَمل على ممالك مِنْهَا مملكة غانة وَمِنْهَا مملكة مَالِي وَمِنْهَا مملكة كاغو وَمِنْهَا مملكة برنو وَغير ذَلِك وَكَانَ ملك مَالِي وَهُوَ السُّلْطَان منسى مُوسَى بن أبي بكر من أعظم مُلُوك السودَان فِي عصره وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على الْمغرب الْأَوْسَط وَغلب بني زيان على ملكهم عظم قدره وَطَالَ ذكره وشاعت أخباره فِي الْآفَاق فسما هَذَا السُّلْطَان وَهُوَ منسى مُوسَى إِلَى مُخَاطبَة السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ مجاورا لمملكة الْمغرب على نَحْو مائَة مرحلة فِي القفر فأوفد(3/151)
عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل مَمْلَكَته مَعَ ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة فوفدوا على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي سَبِيل التهنئة بالظفر فَأكْرم وفادتهم وَأحسن مثواهم ومنقلبهم وَنزع إِلَى مذْهبه فِي الْفَخر فانتخب طرفا من مَتَاع الْمغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة دَاره وأسنى الْهَدِيَّة وَعين رجَالًا من أهل دولته كَانَ فيهم كَاتب الدِّيوَان أَبُو طَالب بن مُحَمَّد بن أبي مَدين ومولاه عنبر الْخصي فأوفدهم بهَا على ملك مَالِي منسى سُلَيْمَان لمهلك أَخِيه مُوسَى قبل مرجع وفده وأوعز إِلَى أَعْرَاب الفلاة من بني معقل بالسير مَعَهم ذَاهِبين وجاءين فشمر لذَلِك عَليّ بن غَانِم أَمِير أَوْلَاد جرار من معقل وصحبهم فِي طريقهم امتثالا لأمر لسلطان وتوغل ذَلِك الركب فِي القفر إِلَى بلد مَالِي بعد الْجهد وَطول الشقة فَأحْسن منسى سُلَيْمَان مبرتهم وَأعظم موصلهم وَأكْرم وفادتهم ومنقلبهم وعادوا إِلَى مرسلهم فِي وَفد من كبار مَالِي يعظمون السُّلْطَان أَبَا الْحسن ويوجبون حَقه ويؤدون طَاعَته ويذكرون من خضوع مرسلهم وقيامه بِحَق السُّلْطَان أبي الْحسن واعتماله فِي مرضاته مَا استوصاهم بِهِ
وَاعْلَم أَن منسى مُوسَى الَّذِي ذَكرْنَاهُ كَانَ من كبار الْمُلُوك كَمَا قُلْنَا وَهُوَ الَّذِي صَحبه أَبُو إِسْحَاق الساحلي الْمَعْرُوف بالطويجي من شعراء الأندلس كَانَ قد لقِيه فِي لموسم بِعَرَفَة فحلى بِعَيْنِه وحظيت مَنْزِلَته عِنْده فصحبه إِلَى بِلَاده وَأقَام عِنْده مصحوبا بِالْبرِّ والكرامة وَبنى للسُّلْطَان الْمَذْكُور قبَّة رائعة فازدادت حظوته عِنْده قَالَ ابْن خلدون أطرف أَبُو إِسْحَاق الطويجن السُّلْطَان منسى مُوسَى بِبِنَاء قبَّة مربعة الشكل استفرغ فِيهَا إجادته وَكَانَ صناع الْيَدَيْنِ وأضفى عَلَيْهَا من الكلس ووالى عَلَيْهَا بالأصباغ المشبعة فَجَاءَت من أتقن المباني وَوَقعت من السُّلْطَان منسى مُوسَى موقع الاستغراب لفقدان صَنْعَة الْبناء بأرضهم وَوَصله بِاثْنَيْ عشر ألفا من مَثَاقِيل التبر مثوبة عَلَيْهَا اه وَكَانَت وَفَاة أبي إِسْحَاق بتنبتكوا يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة(3/152)
مصاهرة السُّلْطَان أبي الْحسن ثَانِيًا مَعَ السُّلْطَان أبي بكر الحفصي رحمهمَا الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من وقْعَة طريف وَإنَّهُ هلك فِيهَا حرم السُّلْطَان أبي الْحسن من جملتهن فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي فَلَمَّا فقدها أَبُو الْحسن بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا حنين إِلَى مَا شغفته بِهِ من خلالها ولذادة الْعَيْش فِي عشرتها فسما لَهُ من الإعتياض عَنْهَا بِبَعْض أخواتها فأوفد فِي خطبتها وليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد من بني زغبة الهلاليين وَكَاتب الجباية والعسكر بدولته أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وفقيه الْفَتْوَى بمجلسه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي ومولاه عنبر الْخصي فوفدوا على السُّلْطَان أبي بكر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم منزل الْبر والكرامة ثمَّ دس إِلَيْهِ حَاجِبه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين غَرَض وفادتهم وَأَنَّهُمْ قدمُوا خاطبن بعض كرائمه لسلطانهم فَأبى من ذَلِك صونا لحرمه عَن جَوْلَة الأقطار وتحكم الرِّجَال مثل مَا وَقع فِي ابْنَته الأولى فَلم يزل حَاجِبه الْمَذْكُور يخْفض عَلَيْهِ الشَّأْن ويعظم عَلَيْهِ حق السُّلْطَان أبي الْحسن فِي رد خطبَته مَعَ مَا بَينهمَا من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف وَجعل ذَلِك للحاجب الْمَذْكُور فانعقد الصهر بَين السلطانين على ابْنَته عزونه شَقِيقَة ابْنه أبي الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر صَاحب بونة وَأخذ الْحَاجِب فِي شوار الْعرس وتأنق فِيهِ واحتفل واستكثر وَطَالَ مقَام الرُّسُل بتونس إِلَى أ، اسْتكْمل الجهاز فارتحلوا مِنْهَا فِي ربيع سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأوعز السُّلْطَان أَبُو بكر إِلَى ابْنه الْفضل شَقِيق الْعَرُوس الْمَذْكُورَة أَن يزفها على السُّلْطَان أبي الْحسن قيَاما بِحقِّهِ وَبعث من بَابه جمَاعَة من مشيخة الْمُوَحِّدين فوفدوا جَمِيعًا على السُّلْطَان أبي الْحسن واتصل بهم الْخَبَر فِي طريقهم بوفاة السُّلْطَان أبي بكر فَجْأَة لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فعزاهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَنهُ عِنْد مَا وصلوا إِلَيْهِ واستبلغ فِي إكرامهم وأجمل موعد(3/153)
أَخِيهَا الْفضل بسلطانه ومظاهرته على تراث أَبِيه فاطمأنت بِهِ الدَّار عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى أَن سَار فِي جملَته وَتَحْت لوائه إِلَى إفريقية كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
غَزْو السُّلْطَان أبي الْحسن إفريقية واستيلاؤه على تونس وأعمالها
كَانَ السُّلْطَان أَبُو بكر الحفصي رَحمَه الله قد عهد بِالْأَمر بعده لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ أوفد على السُّلْطَان أبي الْحسن حَاجِبه ابا الْقَاسِم بن عتو فِي غَرَض لَهُ وأصحبه كتاب الْعَهْد إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور ليُوَافق عَلَيْهِ فَوقف عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكتب على حشايته بِخَطِّهِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ رَحمَه الله وَأحكم العقد فِي ذَلِك وَلما مَاتَ السُّلْطَان أَبُو بكر كَانَ ولي الْعَهْد غَائِبا عَن الحضرة فَبَايع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين لِابْنِهِ عمر
ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الوانشريسي فِي أقضية المعيار عَن الشَّيْخ ابْن عَرَفَة أَن سُلْطَان إفريقية أَبَا بكر الحفصي كتب الْعَهْد لوَلَده أَحْمد فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور أحضر أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قاضيي تونس قَاضِي الْجَمَاعَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام وقاضي الأنكحه أَبَا عبد الله الآجمي وَأَمرهمَا أَن يبايعا ولد الخليفه عمر فَقَالَا كَيفَ نُبَايِعهُ وَنحن شَهِدنَا بيعَة أَخِيه أَحْمد والتزمناها وَكَانَ الْحَاجِب ابْن تافراجين نبيلا فَلَمَّا دخلا أحضر الْحَاجِب الْمَذْكُور أهل العقد والحل وَأمرهمْ أَن يباييعوا عمر فَبَايعُوهُ فَلَمَّا خرج القاضيان وجدا الْبيعَة قد حصلت وَكَانَ فِي انْتِظَار أَحْمد الْمَشْهُود لَهُ بالعهد وَهُوَ غَائِب بقفصة خوف الْفِتْنَة فَبَايع القاضيان وَكَانَ ابْن عَرَفَة يستصوب فعل الْحَاجِب وَامْتِنَاع القاضيين أَولا وبيعتهما ثَانِيًا ثمَّ قدم ولي الْعَهْد وَوَقع بَينه وَبَين أَخِيه قتال وَجَرت خطوب كَانَ فِي آخرهَا قتل ولي الْعَهْد وَقتل وليه أبي الهول بن حَمْزَة أَمِير الكعوب من عرب سليم فِي آخَرين مِنْهُم وَقطع عمر(3/154)
أَيْضا أَخَوَيْهِ عبد الْعَزِيز وخالدا من خلاف فهلكا وَكَانَ الْحَاجِب أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قد حس بِالشَّرِّ من جِهَة عمر المتغلب وتوقع النكبة من جَانِبه فتسلل إِلَى قصره وَأخذ مَا خف من ذخيرته وَلحق بالسلطان أبي الْحسن وقص عَلَيْهِ الْخَبَر وأغراه بتملك إفريقية وَأوجب عَلَيْهِ النّظر للْمُسلمين فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يتَمَنَّى ذَلِك لَوْلَا مَكَان صهره أبي بكر فَأَقَامَ بتحين لَهَا الْأَوْقَات ويترقب لَهَا الفرص حَتَّى كَانَت هَذِه وَإِنَّمَا تنجع الْمقَالة فِي الْمَرْء إِذا صادقت هوى فِي القؤاد فأظهر أَبَوا لحسن الإمتعاض لما فعله عمر بأَخيه ولي الْعَهْد من مَنعه من حَقه أَولا ثمَّ غراقة دَمه ثَانِيًا لَا سِيمَا وَقد كَانَ أعْطى خطّ يَده بالموافقة على الْعَهْد الْمَذْكُور فأجمع الْحَرَكَة إِلَى إفريقية وَلحق بِهِ خَالِد بن حَمْزَة بن عمر أَخُو أبي الهول الْمَقْتُول مَعَ ولي الْعَهْد فاستعداه على عدوه فَفتح السُّلْطَان أبوة الْحسن ديوَان الطعاء ونادى فِي النَّاس بِالْمَسِيرِ إِلَى إفريقية وأزاح عللهم وعسكر بِظَاهِر تلمسان ثمَّ نَهَضَ فِي صفر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة يجر الدُّنْيَا بِمَا حملت بعد أَن عقد لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عنان على الْمغرب الْأَوْسَط وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أُمُوره كَافَّة وَجعل إِلَيْهِ جبايته وقدمت عَلَيْهِ فِي طَرِيقه أَعْرَاب إفريقية وولاة قابس وبلاد الجريد وأطاعته طرابلس والزاب وبجاية وصاحبها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر وَلما وصل قسنطينة خرج غليه أَبنَاء الْأَمِير أبي عبد الله بن أبي بكر وَلما وصل إِلَى قسنطينة خرج إِلَيْهِ أَبنَاء الْأُمِّي أبي عبد الله بن أبي بكر فَبَايعُوهُ فَأقبل عَلَيْهِم وصرفهم إِلَى الْمغرب وأنزلهم بوحدة وأقطعهم جبايتها وَأنزل بقسنطينة خلفاءه وعماله وَقد كَانَ صرف أَبَا عبد الله صَاحب بجاية إِلَى ندرومة فأنزله بهَا وأقطعه الْكِفَايَة من جبايتها ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بَنو حَمْزَة بن عمر أُمَرَاء الكعوب من سليم فأخبروه بإجفال عمر المتغلب بتونس مَعَ ظاعنة أَوْلَاد مهلهل واستحثوه فِي اعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر فسرح مَعَهم العساكر فِي طلبه لنظر حمو بن يحيى العسكري
وتلوم السُّلْطَان أَبُو الْحسن بقسنطينة وَعرض جيوشه بسطح الجعاب مِنْهَا ثمَّ ارتحل على أَثَرهم وأغذ حمو بن يحيى السّير مَعَ ناجعة أَوْلَاد أبي اللَّيْل فَلَحقُوا بعمر صَاحب تونس بِأَرْض الحامة من نَاحيَة قابس فدافعوا عَن(3/155)
أنفسهم بعض الشَّيْء ثمَّ انْهَزمُوا وكبا بعمر جَوَاده فِي نافقاء بعض اليرابيع وانجلى الْغُبَار عَنهُ وَعَن مَوْلَاهُ ظافر راجلين فتقبض عَلَيْهِمَا وأوثقهما قَائِد الْعَسْكَر بِيَدِهِ حَتَّى إِذا جن اللَّيْل ذبحهما خوفًا من أَن تفتكهما الْعَرَب من يَده وَبعث برأسيهما إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن فوصلا إِلَيْهِ بباجية وخلص الفل من تِلْكَ الْوَقْعَة إِلَى قابس فتقبض عبد الْملك بن مكي صَاحبهَا على رجالات من أهل الدولة كَانَ فيهم أَبُو الْقَاسِم بن عتو من مشيخة الْمُوَحِّدين وصخر بن مُوسَى من رجالات سدويكش وَغَيرهمَا من أَعْيَان الدولة فَبعث بهم ابْن مكي إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ممقرنين فِي الأصفاد فَأَما ابْن عتو وصخر بن مُوسَى وَعلي بن مَنْصُور فقطعهم من خلاق لفتيا الْفُقَهَاء بجرابتهم واعتقل الْبَاقِي
وسرح السُّلْطَان عساكره إِلَى تونس وَعقد عَلَيْهِم لصهره على ابْنَته يحيى بن سُلَيْمَان من بني عَسْكَر فاحتلوا بتونس ثمَّ جَاءَ السُّلْطَان على أَثَرهم فَنزل بظاهرها يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وتلقاه وَفد تونس وشيوخها من أهل الْفتيا وأرباب الشورى فآتوه طاعتهم وانقلبوا مسرورين بولايته مغتبطين بملكته وَكَانَت تونس يَوْمئِذٍ مشحونة بالأعلام الأكابر مِنْهُم ابْن عبد السَّلَام وَابْن عَرَفَة وَابْن عبد الرفيع وَابْن رَاشد القفصي وَابْن هَارُون وأعلام آخَرُونَ ثمَّ عبا السُّلْطَان أَبُو الْحسن يَوْم السبت مواكبه لدُخُول الحضرة فَصف جُنُوده سماطين من مُعَسْكَره بسيجوم إِلَى بَاب الْبَلَد نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال وَركبت بَنو مرين من مراكزهم من جموعهم وَتَحْت راياتهم وَركب السُّلْطَان من فسطاطه وَعَن يَمِينه وليه عريف بن يحييى كَبِير سُوَيْد ويليه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين وَعَن يسَاره الْأَمِير أ [وَعبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء وَهُوَ أَخُو السُّلْطَان أبي بكر ويليه الْأَمِير أَبُو عبد الله ابْن أَخِيه خَالِد كَانَا معتقلين بقسنطينة فأطلقهما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وصحببوه إِلَى تونس فَكَانُوا طراز ذَلِك الموكب فِيمَن لَا يُحْصى من أعياص بني مرين وكبرائهم وهدرت طبوله وخفقت راياته وَكَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو الْمِائَة وَجَاء السُّلْطَان والمواكب تَجْتَمِع عَلَيْهِ صفاصفا إِلَى أَن وصل إِلَى الْبَلَد(3/156)
وَقد ماجت الأَرْض بالجيوش قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فِيمَا عَقَلْنَاهُ قلت كَانَ سنّ أبن خلدون يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة لِأَنَّهُ ولد غرَّة رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
وَكَانَ قدم فِي جملَة السُّلْطَان أبي الْحسن جمَاعَة كَبِيرَة من أَعْلَام الْمغرب كَانَ يلْزمهُم شُهُود مَجْلِسه ويتجمل بمكانهم نيه ثمَّ دخل الْقصر الخلافي وخلع على أبي مُحَمَّد بن تافراجين وَقرب إِلَيْهِ فرسا بسرجه ولجامه وَطعم النَّاس بَين يَدَيْهِ وانتشروا إِلَى مَنَازِلهمْ ثمَّ دخل السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَعَ ابْن تافراجين إِلَى حجر الْقصر ومساكن الْخُلَفَاء فَطَافَ عَلَيْهَا وَدخل مِنْهَا الى الرياض الْمُتَّصِلَة بهَا المدعوة بِرَأْس الطابية فَطَافَ على تِلْكَ الْبَسَاتِين وسرح نظره فِيهَا وَاعْتبر بِحَالِهَا ثمَّ أفْضى مِنْهَا إِلَى مُعَسْكَره وَأنزل يحيى بن سُلَيْمَان بقصبة تونس فِي عَسْكَر لحمايتها ثمَّ ارتحل من الْغَد إِلَى القيروان فجال فِي نَوَاحِيهَا ووقف على اثار الْأَوَّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين وَالْتمس الْبركَة فِي زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي نذْكر للصحابة وَالسَّلَف من التَّابِعين والأولياء فِي ساحتها ثمَّ سَار إِلَى سوسة ثمَّ إِلَى المهدية ووقف على سَاحل الْبَحْر مِنْهَا وَتَطوف فِي معالمها وَنظر فِي عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبله أَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض وَاعْتبر باحوالهم وَمر فِي طَرِيقه بقصر الأجم ورباط المنستير وانكفأ رَاجعا إِلَى تونس فاحتل بهَا غرَّة رَمَضَان من السّنة وَنزل المسالح على ثغور إفريقية وأقطع بني مرين الْبِلَاد والضواحي وأمضى إقطاعات الْعَرَب الَّتِي كَانَت لَهُم من قبل الحفصيين وَاسْتعْمل على الْجِهَات وخفتت الْأَصْوَات وسكنت الدهماء وانقبضت أَيدي أهل الْفساد وانقرض أَمر الحفصيين فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنه عقد على بونة لصهره الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر إِكْرَاما لصهره ووفادته عَلَيْهِ واتصلت ممالك السُّلْطَان أبي الْحسن مَا بَين مسراته إِلَى السوس الْأَقْصَى من هَذِه العدوة وَإِلَى رندة من عدوة الأندلس وَدخل الْمغرب بأسره فِي طَاعَته وحذر مُلُوك مصر وَالشَّام مَا شاع من بسطته وانفساخ دولته ونفوذ كَلمته وَالْملك لله يؤتيه من يَشَاء من عبَادَة وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَقد كَانَ الشُّعَرَاء رفعوا إِلَيْهِ قصائد فِي سَبِيل التهنئة بِالْفَتْح وَكَانَ سَابق(3/157)
الحلبة يَوْمئِذٍ أَبُو الْقَاسِم الرحوي فِي قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(أجابك شَرق إِذْ دَعَوْت ومغرب ... فمكة هشت للقاء وَيشْرب) وَهِي طَوِيلَة تخطيناها اختصارا وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بمنه
انْتِقَاض عرب سليم بإفريقية على السُّلْطَان أبي الْحسن وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على الْعَرَب الداخلين إِلَى الْمغرب أَن جمهورهم كَانَ من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَبني هِلَال بن عَامر بن صعصعه وَبني سليم بن مَنْصُور وَإِن الَّذين بقوا مِنْهُم بإفريقية هم بَنو سليم وَبَعض هِلَال وَكَانَ لَهُم استطالة على الدول واعتزاز عَلَيْهَا فَكَانَ مُلُوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات وَنَحْو ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني حَاله مَعَ عرب الْمغرب الْأَقْصَى غير حَال الحفصين مَعَ عرب إفريقية وملكته لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فَلَمَّا ورد إفريقية وَاسْتولى عَلَيْهَا رَأْي من اعتزاز الْعَرَب بهَا على الدولة وَكَثْرَة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار مَا تجَاوز الْحَد الْمُعْتَاد عِنْده فَأنْكر ذَلِك وَضرب على أَيْديهم وعوضهم عَنهُ بأعطيات فَرضهَا لَهُم فِي الدِّيوَان من جملَة الْجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الْكثير مِنْهَا ثمَّ شكا إِلَيْهِ الرّعية من أُولَئِكَ الْعَرَب وَمَا ينالونهم بِهِ من الظلامات وَضرب الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فَقبض أَيْديهم عَن ذَلِك كُله وَتقدم إِلَى الرعايا بمنعهم مِنْهَا فارتابت الْعَرَب لذَلِك وفسدت ضمائرهم وثقلت وَطْأَة الدولة المرينية عَلَيْهِم فتربصوا بهَا وتحزبوا لَهَا وتعاوت ذئابهم فِي بواديهم فَاجْتمعُوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم فِي ثغور إفريقية حَتَّى أَنهم أَغَارُوا على ضواحي تونس فَاسْتَاقُوا الظّهْر الَّذِي كَانَ فِي مرعاها وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ بهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أَيَّام الْفطر من رجالاتهم خَالِد بن حَمْزَة أَمِير بني كَعْب وَأَخُوهُ أَحْمد وَخَلِيفَة بن عبد الله من بني مِسْكين وَابْن عَمه خَليفَة بن(3/158)
أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره
وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة(3/159)
ارتحل من ساحة تونس يُرِيد الْعَرَب فوافاهم بالموضع الْمَعْرُوف بالتينة بَين بسيط تونس وبسيط القيروان فأجفلوا أَمَامه فأتبعهم وألح عَلَيْهِم إِلَى أَن وصلوا إِلَى القيروان فَلَمَّا رَأَوْا أَن لَا ملْجأ لَهُم مِنْهُ عزموا على الثَّبَات لَهُ وتحالفوا على الإستماتة وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الْحسن يَوْمئِذٍ مشحونا بأعدائه من بني عبد الواد المغلوبين على ملكهم ومغراوة وَبني توجين وَغَيرهم فدسوا إِلَى الْعَرَب أثْنَاء هَذِه المناوشة بِأَن يناجزوا السُّلْطَان غَدا حَتَّى يتميزوا إِلَيْهِم ويجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فأجابوهم إِلَى ذَلِك وصبحوا معسكر السُّلْطَان من الْغَد فَركب إِلَيْهِم فِي التعبية وَلما تقابلوا تحيز إِلَيْهِم الْكثير مِمَّن كَانَ مَعَه واختل مصافه فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء وبادر الى القيروان فَدَخلَهَا فِيمَن مَعَه من الفل مستجيرا بهَا ودافع عَنهُ أَهلهَا وتسابقت الْعَرَب إِلَى مُعَسْكَره فانتهبوه بِمَا فِيهِ من الْمضَارب وَالْعدَد والآلات ودخلوا فسطاط السُّلْطَان فاستولوا على ذخيرته وَالْكثير من حرمه وَأَحَاطُوا بالقيروان وزحفت إِلَيْهَا حللهم فدارت بهَا سياجا وَاحِدًا وتعاوت ذئابهم بأطراف الْبِقَاع وأجلب ناعق الْفِتْنَة مِنْهُم بِكُل قاع واضطرمت إفريقية نَارا وَكَانَت الْهَزِيمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع محرم من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى تونس وَكَانَ السُّلْطَان قد خلف بهَا عِنْد رحيله الْكثير من أبنائه وَحرمه ووجوه قومه وأمناء بَيت مَاله وَبَعض الْحَاشِيَة من جنده فَتَحَصَّنُوا بالقصبة وأحاط بهم الغوغاء كي يستنزلوهم عَنْهَا فامتنعوا عَلَيْهِم وَكَانُوا بهَا أملك مِنْهُم وَكَانَ الْأَمِير أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أبي الْحسن قد جَاءَ من الْمغرب فِي هَذَا التَّارِيخ فوافاه الْخَبَر قرب القيروان فانفض مُعَسْكَره وَرجع إِلَى تونس فَكَانَ مَعَهم فِي القصبة ثمَّ نزع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين عَن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ محصورا مَعَه بالقيروان وَكَانَ قد سئم صحبته ومل خدمته لِأَنَّهُ كَانَ أَيَّام حجابته للسُّلْطَان الحفصي مستبدا عَلَيْهِ مفوضا إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُوره فَلَمَّا استوزره السُّلْطَان أَبُو الْحسن لم يجره على تِلْكَ الْعَادة لِأَنَّهُ كَانَ قَائِما على أُمُوره بِنَفسِهِ وَلَيْسَ التَّفْوِيض للوزراء من شَأْنه وَكَانَ ابْن تافراجين يظنّ أَنه سيوكل إِلَيْهِ أَمر إفريقية وَينصب مَعَه لملكها الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر شَقِيق زَوجته وَرُبمَا زَعَمُوا أَنه عاهده على ذَلِك(3/160)
فَكَانَ فِي قلبه من الدولة المرينية مرض وَكَانَ الْعَرَب أَيَّام عزمهم على الْخُرُوج يفاوضونه بِذَات صُدُورهمْ فَلَمَّا حصلوا على البغية من الظُّهُور على السُّلْطَان وحصاره بالقيروان احْتَالُوا فِي أَمر ابْن تافراجين فبعثوا إِلَى السُّلْطَان يطْلبُونَ مِنْهُ بَعثه إِلَيْهِم ليفاوضوه فِي الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة والانخراط فِي سلك الْجَمَاعَة فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِم وَوصل يَده بيدهم وَلم يرجع الى السُّلْطَان أبي الْحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابْن أبي دبوس ثمَّ سرحوه إِلَى حِصَار من بالقصبة من بني مرين وطمعوا فِي الإستيلاء عَلَيْهَا وفض ختامها فَسَار ابْن تافراجين إِلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين فِي زعانف من الغوغاء وَأَحَاطُوا بالقصبة ثمَّ لحق بهم ابْن أبي دبوس فعاودوها الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق فامتنعت عَلَيْهِم وَلم يغنوا شَيْئا وَابْن تافرجين فِي أثْنَاء ذَلِك يحاول الْفِرَار بِنَفسِهِ لاضطراب الْأُمُور واختلال الرسوم إِلَى أَن بلغه خلوص السُّلْطَان أبي الْحسن من القيروان إِلَى سوسة
وَكَانَ من خَبره أَن الْعَرَب بعد حصارهم إِيَّاه بالقيروان اخْتلفت كلمتهم لَدَيْهِ وَكَانَ قد دخل أَوْلَاد مهلهل فِي الإفراج عَنهُ وَاشْترط لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا وَنذر بَنو أبي اللَّيْل بذلك فاضربت كلمتهم وَدخل عَلَيْهِ قُتَيْبَة بن حَمْزَة مِنْهُم بمكانه من القيروان زعيما بِالطَّاعَةِ فتقبله وَأطلق أَخَوَيْهِ خَالِدا وَأحمد وَمَعَ ذَلِك فَلم يطمئن إِلَيْهِم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن طَالب من أَوْلَاد مهلهل وَخَلِيفَة بن أبي زيد وَأَبُو الهول بن يَعْقُوب من أَوْلَاد الْقوس وَعَاهَدُوهُ على الإفراج عَنهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه فَخرج مَعَهم لَيْلًا على التعبية وذؤبان الْعَرَب تطَأ أذياله وضباعها تنوشه إِلَى أَن اسْتَقر بسوسة وَأمن على نَفسه وَقد أَتَى النهب على جلّ مَا كَانَ مَعَه وَلما سمع ابْن تافراجين وَهُوَ محاصر للقصبة بوصول السُّلْطَان إِلَى سوسة تسلل من أَصْحَابه وَركب الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَصْبحُوا وَقد فقدوه فاضطرب أَمرهم وارتاب سلطانهم ابْن أبي دبوس لما علم بِخَبَرِهِ فانفض جمعهم عَن القصبة وأفرجوا عَنْهَا وَخرج بَنو مرين فملكوا الْبَلَد وخربوا منَازِل الْحَاشِيَة بهَا ثمَّ ركب السُّلْطَان أَبُو الْحسن من سوسة الْبَحْر فاحتل بتونس فِي ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين(3/161)
وَسَبْعمائة فَاجْتمع شَمله واستتب أمره وَكتب إِلَى صَاحب مصر فِي التقبض على ابْن تافراجين فأجاره بعض الْأُمَرَاء وَانْصَرف لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج واعتمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إصْلَاح أسوار تونس وإدارة الخَنْدَق عَلَيْهَا وَأقَام لَهَا من الصيانة والحصانة رسما دفع بِهِ فِي نحر عدوه وَبَقِي لَهُ ذكره من بعده ثمَّ أجلب الْعَرَب وسلطانهم ابْن أبي دبوس على تونس ونازلوا أَبَا الْحسن بهَا واستبلغوا فِي حصاره وخلصت ولَايَة أَوْلَاد مهلهل للسُّلْطَان فعول عَلَيْهِم ثمَّ رَاجع بَنو حَمْزَة بصائرهم وصاروا إِلَى مهادنته فعقد لَهُم السّلم وَدخل عَلَيْهِ عمر بن حَمْزَة وافدا فحبسه حَتَّى قبض إخوانه على أَمِيرهمْ ابْن أبي دبوس وقادوه إِلَيْهِ استبلاغا فِي الطَّاعَة وإمحاضا للولاية فَتقبل فئتهم وأودع ابْن أبي دبوس السجْن وَعقد الصهر بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة فزوج ابْنه عمر بِابْنِهِ أبي الْفضل وَاخْتلفت أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الطَّاعَة تَارَة والانحراف أُخْرَى مُدَّة إِقَامَته بتونس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَالله غَالب على أمره
انْتِقَاض الْأَطْرَاف وثورة أبي عنان ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن واستيلاؤه على الْمغرب
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا بكر الحفصي رَحمَه الله لما زوج ابْنَته من السُّلْطَان أبي الْحسن بعث مَعَهُمَا فِي زفافها شقيقها أَبَا الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر وَأَن خبر وَفَاة وَالِده أدْركهُ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن عزاهُ عَن مصاب أَبِيه ووعده بالمظاهرة على ملكه فَبَقيَ عِنْده بتلمسان إِلَى أَن نَهَضَ فِي صحبته إِلَى إفريقية فَلَمَّا غلب السُّلْطَان أَبُو الْحسن على بجاية وقسنطينة وارتحل إِلَى تونس عقد لَهُ على بونة الَّتِي كَانَ يَلِي عَملهَا أَيَّام أَبِيه فَانْقَطع أمله وَفَسَد ضَمِيره وطوى على البث حَتَّى إِذا كَانَت نكبة القيروان سما إِلَى التوثب على ملك سلفه وَكَانَ أهل قسنطينة وبجاية قد سئموا ملكة بني مرين وبرموا بولايتهم لمخالفتهم بعض العوائد الَّتِي كَانَت لَهُم مَعَ الْمُلُوك(3/162)
الحفصيين وَلِأَن الصبغة الحفصية كَانَت قد رسخت فِي نُفُوسهم جيلا بعد جيل فصعب عَلَيْهِم نَزعهَا
(نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى ... مَا الْحبّ إِلَّا للحبيب الأول)
(كم منزل فِي الأَرْض يألفه الْفَتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل)
فأشرأبوا إِلَى الثورة على المرينيين لما سمعُوا بنكبة القيروان وَاتفقَ أَن قدم قسنطينة ركب من أهل الْمغرب قَاصِدين إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ فيهم عُمَّال الجباية قدمُوا بجبايتهم عِنْد راس الْحول كَمَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي ذَلِك وَمَعَهُمْ ابْن صَغِير للسُّلْطَان اسْمه عبد الله وَفِيهِمْ وَفد من رُؤَسَاء الفرنج بَعثهمْ طاغيتهم بِقصد التهنئة بِفَتْح إفريقية وَمَعَهُمْ تاشفين ابْن السُّلْطَان الَّذِي أسر يَوْم طريف أطلقهُ الطاغية بعد أَن أَصَابَهُ خبال فِي عقله وَأرْسل مَعَه بهدية نفيسة وَفِيهِمْ وَفد من أهل مَالِي بَعثهمْ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بِقصد التهنئة أَيْضا فتوافت هَؤُلَاءِ الْوُفُود بقسنطينة وَقد طم عباب الْفِتْنَة على إفريقية فَأَرَادَ غوغاؤها وانتهاب مَا مَعَهم ثمَّ تخلصوا مِنْهُم فِي خبر طَوِيل
وَفِي أثْنَاء ذَلِك ثار الْفضل بن السُّلْطَان أبي بكر صَاحب بونة فراسله أهل قسنطينة فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم فَقَدمهَا وَجَرت خطوب واتصل بِأَهْل بجاية مَا فعله أهل قسنطينة فتبعوهم على رَأْيهمْ من الانتقاض ووثبوا على من كَانَ عِنْدهم من حامية بني مرين فاستلبوهم وأخرجوهم عُرَاة واستدعوا الْفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إِلَيْهِم وَاسْتولى على بجاية واستتب أمره بهَا وَأعَاد ألقاب الْخلَافَة وبينما هُوَ يحدث نَفسه بغزو تونس ثار عَلَيْهِ أَبنَاء أَخِيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا مِنْهُ بجاية وردوه إِلَى عمله الأول وانتقض على السُّلْطَان أبي الْحسن أَيْضا سَائِر زناتة من بني عبد الواد ومغراوة وَبني توجين وَبَايع بَنو عبد الواد لعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان وَسَارُوا إِلَى تلمسان فاستجدوا بهَا ملك سلفهم فِي أَخْبَار طَوِيلَة
وَجَرت هَذِه الخطوب وَالسُّلْطَان أَبُو الْحسن مُقيم بتونس تغاديه الْعَرَب(3/163)
بِالْقِتَالِ وترواحه وتعوج عَلَيْهِ تَارَة وتستقيم أُخْرَى وَطَالَ مقَامه بهَا وعميت أنباؤه على أهل الْمغرب وَحدث فِي الْخلق الوباء الْعَظِيم الَّذِي عَم الْمشرق وَالْمغْرب فَأَرْجَفَ بِمَوْتِهِ واضطربت الْأَحْوَال بالمغارب الثَّلَاثَة الْأَدْنَى والأوسط والأقصى واتصل ذَلِك بالأمير أبي عنان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان كَانَ أَبوهُ قد ولاه عَلَيْهَا عِنْد ذَهَابه إِلَى إفريقية حَسْبَمَا مر فَلَمَّا أرجف بمهلك أَبِيه وتساقط إِلَيْهِ الفل من عسكره عُرَاة زرافات ووحدانا تطاول إِلَى الاستئثار بِملك أَبِيه دون سَائِر إخْوَته وَكَانَ مرشحا عِنْده لذَلِك لمزيد فَضله عَلَيْهِ فِي غير وصف وَاتفقَ أَن كَانَ عِنْده رجل من بني عبد الواد اسْمه عُثْمَان بن يحيى بن مُحَمَّد بن جرار وَكَانَ ينْسب إِلَى علم الْحدثَان وَلما سَافر السُّلْطَان إِلَى إفريقية كَانَ هَذَا الرجل أول المرجفين بِهِ وَأَنه لَا يرجع من سفرته وَأَن الْأَمر صائر إِلَى أبي عنان ونجع ذَلِك فِي أبي عنان لموافقته هَوَاهُ فَاشْتَمَلَ على ابْن جرار وخلطه بِنَفسِهِ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بنكبة السُّلْطَان وانحصاره أَولا بالقيروان ثمَّ بتونس لم يستزب أَبُو عنان فِي صدق ابْن جرار وَأَنه على بَصِيرَة من أمره فتحفز للوثبة وصمم على الثورة ثمَّ أكد عزمه على ذَلِك مَا اتَّصل بِهِ من خبر ابْن أَخِيه مَنْصُور بن أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أبي الْحسن بفاس الْجَدِيد وَأَنه ثار بهَا وَفتح ديوَان الْعَطاء واستلحق واستركب ورام التغلب على الْمغرب واحتياز الْأَمر لنَفسِهِ دون غَيره وروى فِي ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا عزم على الذّهاب إِلَى إفريقية لاستنفاذ السُّلْطَان من هوة الْحصار يسر من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وتفطن لشأنه الْحسن بن سُلَيْمَان بن يزريكن عَامل القصبة بفاس وَصَاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه فِي اللحاق بالسلطان فَأذن لَهُ رَاحَة مِنْهُ فلحق بِأبي عنان على حِين أمضى عزيمته على التوثب فَأخْرج مَا كَانَ بقصر السُّلْطَان بالمنصورة من المَال والذخيرة وجاهر بِالدُّعَاءِ لنَفسِهِ وَجلسَ لِلْبيعَةِ بِمَجْلِس السُّلْطَان من قصره فِي ربيع الثَّانِي من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَبَايعهُ الْمَلأ وَقَرَأَ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثمَّ بَايعه الْعَامَّة وانفض الْمجْلس وَقد استتب سُلْطَانه ورست قَوَاعِد ملكه وَركب فِي التعبية والآلة حَتَّى نزل بقبة الملعب وَطعم النَّاس وانتشروا وَعقد على وزارته لِلْحسنِ بن سُلَيْمَان بن(3/164)
يرزيكن القادم عَلَيْهِ ثمَّ لفارس بن مَيْمُون بن وردار وَجعله رديفا لَهُ وَرفع مَكَان ابْن جرار عَلَيْهِم كلهم واختص لمناجاته كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو ثمَّ فتح الدِّيوَان وَجعل يستركب كل من تساقط إِلَيْهِ من قبل أَبِيه ويخلع عَلَيْهِم وارتحل إِلَى الْمغرب وَعقد على تلمسان لِابْنِ جرار وأنزله بِالْقصرِ الْقَدِيم مِنْهَا فاستمر بهَا واستبد إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ بَنو عبد الواد مُجْتَمعين على سلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فَقَتَلُوهُ غرقا فِي خبر طَوِيل وَلما انْتهى الْأَمِير أَبُو عنان إِلَى وَادي الزَّيْتُون وشى إِلَيْهِ بالوزير الْحسن بن سُلَيْمَان وَأَنه عازم على الفتك بِهِ بتازا تقربا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ووفاء بِطَاعَتِهِ وَأَنه قد دَاخل فِي ذَلِك حافده مَنْصُور بن أبي مَالك الثائر بفاس وأطلعه هَذَا الواشي على كتاب الْوَزير فِي ذَلِك فَلَمَّا قَرَأَهُ تقبض عَلَيْهِ ثمَّ قَتله خنقا فِي مسَاء ذَلِك الْيَوْم وأغذ السّير إِلَى الْمغرب
وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَنْصُور صَاحب فاس فزحف للقائه والتقى الْجَمْعَانِ بوادي أبي الأجراف من نَاحيَة تازا فاختل مصَاف مَنْصُور وانهزمت جموعه وَلحق بفاس الْجَدِيد فتحصن بهَا وَتَبعهُ أَبُو عنان فَأَنَاخَ عَلَيْهِ خَارِجهَا وَقد تسايل النَّاس على طبقاتهم إِلَيْهِ وآتوه طاعتهم وَكَانَ قد سلك مَعَ الرّعية والجند من الْبَذْل والاستيلاف طَرِيقا لم يسْبق إِلَيْهِ وَكَانَت منازلته لفاس الْجَدِيد فِي ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأخذ بمخنقها وَأجْمع الْأَيْدِي والفعلة على الْآلَات لحصارها ثمَّ أرسل إِلَى مكناسة بِإِطْلَاق أَوْلَاد أبي الْعَلَاء المعتقلين بالقصبة مِنْهَا فأطلقوا وَلَحِقُوا بِهِ وحاصروا مَعَه فاس الْجَدِيد وضيقوا عَلَيْهَا إِلَى أَن ضَاقَتْ أَحْوَال أَهلهَا وَاخْتلفت أهواؤهم وَنزع إِلَى أبي عنان أهل الشَّوْكَة مِنْهُم ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء احتال فِي فتح الْبَلَد بِأَن أظهر النُّزُوع عَن أبي عنان إِلَى مَنْصُور المحصور فَدخل الْبَلَد وَتمكن مِنْهُ وثار بِهِ فِيمَن مَعَه من حَاشِيَته واقتحمه الْأَمِير أَبُو عنان عَلَيْهِم وَنزل مَنْصُور على حكمه فاعتقله إِلَى أَن قَتله بمحبسه وَاسْتولى على ذَلِك الْملك وتسابقت إِلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار للتهنئة بالبيعة وَتمسك أهل سبتة بِطَاعَة السُّلْطَان(3/165)
أبي الْحسن ثمَّ رجعُوا عَن ذَلِك وثاروا على عاملهم عبد الله بن عَليّ بن سعيد من طبقَة الوزراء فقبضوا عَلَيْهِ وقادوه إِلَى أبي عنان مبايعين لَهُ متقربين بِهِ إِلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك فيهم زعيمهم الشريف أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن رَافع الصّقليّ من آل الْحُسَيْن السبط رَضِي الله عَنهُ كَانَ سلفه قد انتقلوا من صقلية إِلَى سبتة فاستوطنوها ثمَّ استوطنوا بعْدهَا حَضْرَة فاس واستوسق للأمير أبي عنان ملك الْمغرب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ قومه من بني مرين إِلَّا من أَقَامَ مَعَ أَبِيه بتونس وَفَاء بِحقِّهِ وحص جنَاح أَبِيه عَن الكرة على بني كَعْب النَّاكِثِينَ لعهده الناكبين عَن طَاعَته فَأَقَامَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله بتونس يَرْجُو الْأَيَّام ويأمل الكرة والأطراف تنْتَقض والخوارج تتجدد وَقَنطَ من كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وسئموا الْمقَام بِأَرْض لَيست لَهُم بدار مقَام فحسنوا لَهُ النهوض إِلَى الْمغرب فأسعفهم وعزم على الرحلة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر كتابا من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب يسائله عَن أَحْوَاله ويعزيه عَن مصابه ويتأسف لَهُ وَنَصّ الْكتاب الْمقَام الَّذِي أقمار أسعده فِي انتظام واتساق وجياد عزه الى الْغَايَة القصوى ذَات استباق والقلوب على حبه ذَات اتِّفَاق وعناية الله تَعَالَى عَلَيْهِ مديدة الرواق وأياديه الجمة فِي الْأَعْنَاق ألزم من الأطواق وَأَحَادِيث مجده سمر النوادي وَحَدِيث الرفاق مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي شَأْن قُلُوبنَا الاهتمام بِشَأْنِهِ وَأعظم مطلوبنا من الله تَعَالَى سَعَادَة سُلْطَانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا إِبْنِ السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى والصنائع الإلهية تحط بِبَابِهِ والألطاف الْخفية تعرس فِي جنابه والنصر الْعَزِيز يحف بركابه وَأَسْبَاب التَّوْفِيق مُتَّصِلَة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه مُعظم سُلْطَانه الَّذِي لَهُ الْحُقُوق المحتومة والفواضل الْمَشْهُورَة الْمَعْلُومَة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر المنسوقة الْمَنْظُومَة الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى فِي وقاية ذَاته المعصومة وحفظها على هَذِه الْأمة المرحومة الْأَمِير عبد الله يُوسُف بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن فرج بن نصر سَلام كريم طيب عميم(3/166)
كَمَا سطعت فِي غياهب الشدَّة أنوار الْفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطة الأرج يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد اله جالي الظُّلم بعد اعتكارها ومقيل الْأَيَّام من عثارها ومزين سَمَاء الْملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح الْقُلُوب من وَحْشَة أفكارها ومنشئ سَحَاب الرَّحْمَة على هَذِه الْأمة بعد افتقارها وَشدَّة اضطرابها ومتداكها باللطف الْكَفِيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد رَسُوله صفوة النُّبُوَّة ومختارها ولباب مجدها السَّامِي ونجارها نَبِي الْمَلَاحِم وخائض تيارها وَمذهب رسوم الْفِتَن ومطفئ نارها الَّذِي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حَتَّى بلغت كلمة الله مَا شَاءَت من سطوع أنوارها ووضوح أثارها وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين تمسكوا بعهده على إجلاء الْحَوَادِث وإمرارها وَبَاعُوا نُفُوسهم فِي إعلاء دَعوته الحنيفية وإظهارها وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى باتصال السَّعَادَة واستمرارها وانسحاب الْعِنَايَة الإلهية وإسدال أستارها حَتَّى تقف الْأَيَّام بباكم موقف اعتذارها وَتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة فِي اغتفارها فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم أوفى مَا كتب لصالحي الْمُلُوك من مواهب السَّعَادَة وعرفكم عوارف الآلاء فِي إصدار أَمركُم الرفيع وإيراده وأجرى الْفلك الدوار بِحكم مُرَاده وَجعل لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي مُحكم كِتَابه الْمُبين للصالحين من عباده من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِفضل الله الَّذِي عَلَيْهِ فِي الشدائد الِاعْتِمَاد وَإِلَى كنف فَضله الِاسْتِنَاد ثمَّ ببركة جاه نَبينَا الَّذِي وضح بهدايته سَبِيل الرشاد إِلَّا الصَّنَائِع الَّتِي تشام بوراق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بِطُلُوع السُّعُود واستقبالها وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها لله الْحَمد على نعمه الَّتِي نرغب فِي كمالها ونستدر عذب زلالها وَعِنْدنَا من الاستبشار باتساق أَمركُم وانتظامه وَالسُّرُور بسعادة أَيَّامه وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره وإتمامه مَا لَا تفي الْعبارَة بأحكامه وَلَا تتعاطى حصر أَحْكَامه وَإِلَى هَذَا أيد الله تَعَالَى أَمركُم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم(3/167)
الْحَاضِر وَالْغَائِب وخلص الخلوص الَّذِي لَا تغيره الشوائب مَا عندنَا من الْحبّ الَّذِي وضحت مِنْهُ الْمذَاهب وَإنَّهُ لما اتَّصل بِنَا مَا جرت بِهِ الْأَحْكَام من الْأُمُور الَّتِي صَحِبت مقامكم فِيهَا الْعِنَايَة من الله والعصمة وَجعل على الْعباد والبلاد الْوِقَايَة وَالنعْمَة لَا يسْتَقرّ بقلوبنا الْقَرار وَلَا تتأتى بأوطاننا الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم اللَّيْل وَالنَّهَار ورجاؤنا فِي اسْتِئْنَاف سعادتكم يشْتَد على الْأَوْقَات وَيُقَوِّي علما بِأَن الْعَاقِبَة للتقوى وَفِي هَذِه الْأَيَّام عميت الأنباء وتكالبت فِي الْبر وَالْبَحْر الْأَعْدَاء وَاخْتلفت الْفُصُول والأهواء وعاقت الْوَارِد الأنواء وعَلى ذَلِك من فضل الله الرَّجَاء وَلَو كُنَّا نجد للاتصال بكم سَببا أَو نلقي لإعانتكم مذهبا لما شغلنا الْبعد الَّذِي بَيْننَا اعْترض والعدو بساحتنا فِي هَذِه الْأَيَّام ربض وَكَانَ خديمكم الَّذِي رفع من الْوَفَاء راية خافقة واقتنى مِنْهُ فِي سوق الكساد بضَاعَة نافقة الشَّيْخ الْأَجَل الأوفى الأود الأخلص الأصفى على أَبُو مُحَمَّد بن آجانا سنى الله مأموله وبلغه من سَعَادَة أَمركُم سؤله وَقد ورد على بابنا وتحيز إِلَى اللحاق بجانبنا ليتيسر لَهُ من جهتنا الْقدوم ويتأتى لَهُ بإعانتنا الْغَرَض المروم فَبَيْنَمَا نَحن نَنْظُر فِي تتميم غَرَضه وإعانته على الْوَفَاء الَّذِي قَامَ بمفترضه إِذا اتَّصل بِنَا خبر قرقورتين من الأجفان الَّتِي استعنتم بهَا على الْحَرَكَة والعزمة المقترنة بِالْبركَةِ حطت إِحْدَاهمَا بمرسى الْمنْكب وَالْأُخْرَى بمرسى المرية فِي كنف الْعِنَايَة الإلهية فتلقينا من الواصلين فِيهَا الأنباء المحققة بعد التباسها وَالْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها وتعرفنا مَا كَانَ من عزمكم على السّفر وحركتكم المقرونة بِالْيمن وَالظفر وَإِنَّكُمْ استخرتم الله تَعَالَى فِي اللحاق بالأوطان الَّتِي يُؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها وَيصْلح أحوالها وَيذْهب أهوالها وَإِنَّكُمْ سبقتم حركتها بِعشْرَة أَيَّام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور واليمن الرَّائِق السفور والأسطول الْمَنْصُور فَلَا تسألوا عَن انبعاث الآمال بعد سكونها ونهوض طيور الرَّجَاء من وَكَونهَا واستبشار الْأمة المحمدية مِنْكُم بقرة عيونها وَتحقّق ظنونها وارتياح الْبِلَاد إِلَى دعوتكم الَّتِي ألبستها ملابس الْعدْل وَالْإِحْسَان وقلدتها(3/168)
قلائد السّير الحسان وَمَا مِنْهَا إِلَّا من باح بِمَا يخفيه من وجده وجهر بشكر الله تَعَالَى وحمده وابتهل إِلَيْهِ فِي تيسير غَرَض مقامكم الشهير وتتميم قَصده واستئناس نور سعده وَكم مطل الِانْتِظَار بديون آمالها والمطاولة من اعتلالها وَأما نَحن فَلَا تسألوا عَمَّن استشعر دنو حَبِيبه بعد طول مغيبه إِنَّمَا هُوَ صدر رَاجعه فُؤَاده وطرف أَلفه رقاده وفكر ساعده مُرَاده فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر بادرنا إِلَى إنجاز مَا بذلنا لخديمكم الْمَذْكُور من الْوَعْد واغتنمنا مِيقَات هَذَا السعد ليصل سَببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فَعنده خدم نرجو أَن ييسر الله تَعَالَى بحوله أَسبَابهَا وَيفتح بنيتكم الصَّالِحَة أَبْوَابهَا وَقد شَاهد من امتعاضنا لذَلِك الْمقَام الَّذِي ندين لَهُ بالتشيع الْكَرِيم الوداد ونصل لَهُ على بعد المزار ونزوح الأقطار سَبَب الِاعْتِدَاد مَا يُغني عَن الْقَلَم والمداد وَقد القينا إِلَيْهِ من ذَلِك كُله مَا يلقيه إِلَى مقامكم الرفيع الْعِمَاد وكتبنا إِلَى من بالسواحل من ولاتنا نحد لَهُم مَا يكون عَلَيْهِ عَمَلهم فِي بر من يرد عَلَيْهِم من جِهَة أبوتكم الكرمية ذَات الْحُقُوق الْعَظِيمَة والأيادي الحديثة والقديمة وهم يعْملُونَ فِي ذَلِك بِحَسب المُرَاد وعَلى شاكلة جميل الِاعْتِقَاد وَيعلم الله تَعَالَى أننا لَو لم تعق الْعَوَائِق الْكَبِيرَة والموانع الْكَثِيرَة والأعداء الَّذين غصت بهم فِي الْوَقْت هَذِه الجزيرة مَا قدمنَا عملا على اللحاق لكم والاتصال بسببكم حَتَّى نوفي لأبوتكم الْكَرِيمَة حَقّهَا ونوضح من المسرة طرقها لَكِن الْأَعْذَار وَاضِحَة وضوح الْمثل السائر وَإِلَى الله تَعَالَى نبتهل فِي أَن يُوضح لكم من التَّيْسِير طَرِيقا وَيجْعَل لكم السعد مصباحا ورفيقا وَلَا يعدمكم عناية مِنْهُ وتوفيقا وَيتم سرورنا عَن قريب بتعريف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فَذَلِك مِنْهُ سُبْحَانَهُ غَايَة آمالنا وَفِيه أَعمال ضراعتنا وابتهالنا هَذَا مَا عندنَا بادرنا لإعلامكم بِهِ أسْرع البدار وَالله تَعَالَى يوفد علينا أكْرم الْأَخْبَار بسعادة ملككم السَّامِي الْمِقْدَار وييسر مَا لَهُ من الأوطار ويصل سعدكم ويحرس مجدكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته اه(3/169)
ركُوب السُّلْطَان أبي الْحسن الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب وَمَا جرى عَلَيْهِ من المحن فِي ذَلِك
كَانَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْفضل أَبُو السُّلْطَان أبي بكر الحفصي بعد أَن لحق بِعَمَلِهِ الْقَدِيم من بونة قد وَفد عَلَيْهِ مشيخة الْعَرَب من اولاد أبي اللَّيْل وأغروه بِملك إفريقية والنهوض إِلَى تونس ومحاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض إِلَيْهَا بعد عيد الْفطر سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فحاصرها مُدَّة ثمَّ انفض عَنْهَا ثمَّ عاود حصارها ثمَّ انفض عَنْهَا وَدخل الْفقر مَعَ أَوْلَاد أبي اللَّيْل إِلَى أَن بَايعه أهل بِلَاد الجريد بِإِشَارَة أبي الْقَاسِم بن عتو الْمَقْطُوع وَدخل فِي طَاعَته توزر وقفصة ونفطة والحامة وَقَابِس وجربة وانْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن باستيلاء الْفضل على هَذِه الْأَمْصَار واستفحال أمره بهَا وَأَنه ناهض إِلَى تونس فأهمه شَأْنه وخشي على الْأَمر وَكَانَت بطانته توسوس إِلَيْهِ بالرحلة إِلَى الْمغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه مَعَ مَا أَصَابَهُم بتونس من الغلاء وَالْمَوْت الذريع فاجابهم إِلَى ذَلِك وشحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل الْمُسَافِرين وَلما قضى نسك عيد الْفطر من سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب الْبَحْر فِي فصل الشتَاء وهيجان الْبَحْر وكلب الْبرد بعد أَن عقد لِابْنِهِ أبي الْفضل على تونس ثِقَة بِمَا بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة من الْمُصَاهَرَة وتفاديا بمكانه من معرة الغوغاء وثورتهم بِهِ وَكَانَت مُدَّة محاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بتونس سنة وَنصفا واتصل خبر رحيله بِالْفَضْلِ بن أبي بكر وَهُوَ بِبِلَاد الجريد فأغذ السّير إِلَى تونس وَنزل بهَا على أبي الْفضل المريني وَمن كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وَأهل دولته ثمَّ اقتحمها واتصلت يَده بيد أهد الْبَلَد ثمَّ أحاطوا بالقصبة يَوْم منى حَتَّى استنزلوا أَبَا الْفضل على الْأمان فَخرج إِلَى دَار أصهاره من بني حَمْزَة فَبَقيَ عِنْدهم حَتَّى أنفذوا مَعَه من أوصله إِلَى أَبِيه فلحق بِهِ بثغر الجزائر
وَأما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وجيشه الرَّاكِب الْبَحْر مَعَه فَإِنَّهُم لما لججوا احتاجوا إِلَى المَاء فَدَخَلُوا مرسى بجاية لخمس لَيَال من إقلاعهم عَن تونس فَمَنعهُمْ صَاحب بجاية الحفصي من الْوُرُود وأوعز إِلَى سَائِر سواحله بمنعهم(3/170)
فزحفوا إِلَى السَّاحِل وقاتلوا من صدهم عَن المَاء إِلَى أَن غلبوهم واستقوا وأقلعوا ثمَّ عصفت بهم الرّيح فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وجاءهم الموج من كل مَكَان وتكسرت الأجفان وغرق الْكثير من بطانة السُّلْطَان وَعَامة النَّاس وَقذف الموج بالسلطان فَأَلْقَاهُ على حجر قرب السَّاحِل من بِلَاد زواوة عاري الْجَسَد مباشرا للْمَوْت وَقد هلك من كَانَ مَعَه من الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء وَالْكتاب والأشراف والخاصة وَهُوَ يُشَاهد مصَارِعهمْ واختطاف الموج لَهُم من فَوق الصخور الَّتِي تعلقوا بهَا فَمَكَثُوا ليلتهم على ذَلِك وصبحهم جفن من بقيه الأساطيل كَانَ قد سلم من ذَلِك العاصف فبادر أهل الجفن إِلَيْهِ حِين رَأَوْهُ فاحتملوه وَقد تصايح بِهِ البربر من الْجبَال وتواثبوا إِلَيْهِ حِين وضح النَّهَار وأبصروه فَتَدَاركهُ الله بِهَذَا الجفن فاحتملوه وقذفوا بِهِ فِي مَدِينَة الجزائر
وَفِي نفح الطّيب أَن أساطيل السُّلْطَان أبي الْحسن كَانَت نَحْو الستمائة فغرقت كلهَا وَنَجَا هُوَ على لوح وَهلك من كَانَ مَعَه من أَعْلَام الْمغرب وهم نَحْو أَرْبَعمِائَة عَالم مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي شَارِح الحوفي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الصّباغ المكناسي الَّذِي أمْلى فِي مجْلِس درسه بمكناسة على حَدِيث يَا ابا عُمَيْر مَا فعل النغير أَرْبَعمِائَة فَائِدَة والأستاذ الزواوي أَبُو الْعَبَّاس وَغير وَاحِد وَكَانَ غرق الأسطول على سَاحل تدلس وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله الأبي فِي شرح مُسلم كَلَامه على أَحَادِيث الْعين مَا مَعْنَاهُ أَن رجلا كَانَ بِتِلْكَ الديار مَعْرُوفا بِإِصَابَة الْعين فَسَأَلَ مِنْهُ بعض الموتورين للسُّلْطَان أبي الْحسن أَن يُصِيب أساطيله بِالْعينِ وَكَانَت كَثِيرَة نَحْو الستمائة فَنظر إِلَيْهَا الرجل العائن فَكَانَ غرقها بقدرة الله الَّذِي يفعل مَا يَشَاء ونجى السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَجَرت عَلَيْهِ محن اه
وَلما احتل بالجزائر وَقد تمسك أَهلهَا بِطَاعَتِهِ استنشق ريح الْحَيَاة ولأم الصدع وَأقَام الرَّسْم وخلع على من وصل إِلَيْهِ من قل الأساطيل واستلحق واستركب وَلحق بِهِ ابْنه النَّاصِر من بسكرة والتف عَلَيْهِ بعض الْعَرَب من أحواز الجزائر ووفد عَلَيْهِ أولياؤه من عرب سُوَيْد فَنَهَضَ إِلَى جِهَة تلمسان وَقد استولى عَلَيْهَا بَنو زيان وسلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فبرز إِلَيْهِ أَبُو ثَابت(3/171)
أَخُو عُثْمَان الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان أبي الْحسن واستبيح مُعَسْكَره وانتبهت فساطيطه وَقتل ابْنه النَّاصِر وَظهر يَوْمئِذٍ من بسالته وَصدق دفاعه وَشدَّة حملاته حَتَّى أَنه أركب ظعائنه وخلص محاميا عَنْهَا وَاحْتمل وَلَده جريحا فَتوفي بِالطَّرِيقِ فواراه فِي التُّرَاب وأخفى قَبره ثمَّ خلص إِلَى الصَّحرَاء مَعَ وليه ونزمار بن عريف بن يحيى السويدي وَلحق بحلل قومه قبْلَة جبل وانشريس وَأجْمع أمره على قصد الْمغرب موطن قومه ومنبت عزه وَدَار ملكه فارتحل مَعَه وليه ونزمار بالناجعة من قومه وَخَرجُوا إِلَى جبل رَاشد ثمَّ قطعُوا المفاوز إِلَى سجلماسة فِي القفر فَلَمَّا أطلوا عَلَيْهَا وعاين أَهلهَا السُّلْطَان تهافتوا عَلَيْهِ تهافت الْفراش على ضوء السراج حَتَّى خرج إِلَيْهِ العذارى من ستورهن ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي ولَايَته وفر الْعَامِل بسجلماسة إِلَى منجاته
وَكَانَ الْأَمِير أَبُو عنان لما بلغه الْخَبَر بِقصد أَبِيه سجلماسة نَهَضَ إِلَيْهِ فِي قومه وجموعه بعد أَن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم وَكَانَت بَنو مرين نافرة عَن السُّلْطَان أبي الْحسن حاذرة من عُقُوبَته لجنايتهم بالتخاذل فِي المواقف والفرار عَنهُ فِي الشدائد وَلما كَانَ يبعد بهم فِي الْأَسْفَار ويتجشم بهم المهالك والأخطار فَكَانُوا لذَلِك مُجْمِعِينَ على منابذته ومخلصين فِي طَاعَة ابْنه وَلما اتَّصل خبر قدومهم بالسلطان أبي الْحسن علم من حَاله أَنه لَا يُطيق دفاعهم وَكَانَ ونزمار قد أجفل عَنهُ فِي قومه سُوَيْد لِأَن أَبَاهُ عريف بن يحيى كَانَ قد نزع إِلَى أبي عنان قبل قدوم السُّلْطَان من تونس فَأكْرم مَحَله وَرفع مَنْزِلَته فَكتب إِلَى ابْنه ونزمار ينهاه عَن ولَايَة السُّلْطَان أبي الْحسن ومظاهرته لَهُ وَأقسم لَهُ لَئِن لم يُفَارق السُّلْطَان ليوقعن بِابْنِهِ عنتر وَكَانَ مَعَه فِي جملَة الْأَمِير أبي عنان فآثر ونزمار رضَا أَبِيه وَعلم أَن غناءه عَن السُّلْطَان فِي وَطن الْمغرب قَلِيل فأجفل عَنهُ وَلحق بسكرة فَكَانَ بهَا إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى أبي عنان بعد هَذَا وَلما قرب أَبُو عنان من سجلماسة أجفل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى نَاحيَة مراكش وَدخل أَبُو عنان سجلماسة فثقف أطرافها وسد فروجها وَعقد عَلَيْهَا ليحتاتن بن عمر بن عبد الْمُؤمن كَبِير بني ونكاسن وبلغه أَن أَبَاهُ قد سَار إِلَى مراكش فاعتزم على اتِّبَاعه إِلَيْهَا فَلم تطاوعه بَنو مرين فَرجع بهم إِلَى فاس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ(3/172)
اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي الْحسن على مراكش ثمَّ انهزامه عَنْهَا إِلَى هنتاته أهل جبل درن ووفاته هُنَاكَ
لما أجفل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَن سجلماسة سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة قصد مراكش وَركب إِلَيْهَا الأوعار من جبال المصامدة وَلما شارفها تسارع إِلَيْهِ أهل جهاتها بِالطَّاعَةِ من كل أَوب ونسلوا إِلَيْهِ من كل حدب وفر عَامل مراكش إِلَى أبي عنان وَنزع إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن صَاحب ديوَان الجباية أَبُو الْمجد بن مُحَمَّد بن أبي مَدين بِمَا كَانَ فِي الخزانة من مَال الجباية فاختصه واستكتبه وَجعل إِلَيْهِ علامته واستركب واستلحق وجبى الْأَمْوَال وَبث الْعَطاء وَدخل فِي طَاعَته قبائل الْعَرَب من جشم وَسَائِر المصامدة وثاب لَهُ بمراكش ملك رجى مَعَه أَن يستولي على سُلْطَانه ويرتجع فارط أمره
وَكَانَ أَبُو عنان لما رَجَعَ إِلَى فاس عَسْكَر بساحتها وَشرع فِي الْعَطاء وإزاحة الْعِلَل ثمَّ ارتحل فِي جموع بني مرين إِلَى مراكش وبرز السُّلْطَان أَبُو الْحسن للقائه وانْتهى كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى وَادي أم الرّبيع وتربص كل وَاحِد بِصَاحِبِهِ عبور الْوَادي فعبره أَبُو الْحسن وَكَانَ اللِّقَاء بتامد غوست فِي آخر صفر من سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة فاختل مصَاف السُّلْطَان وَانْهَزَمَ عسكره وَلحق بِهِ أبطال بني مرين ثمَّ راجعوا عَنهُ حَيَاء وهيبة وكبى بِهِ فرسه يَوْمئِذٍ فِي مفره فَسقط إِلَى الأَرْض والفرسان تحوم حوله فاعترضهم دونه أَبُو دِينَار سُلَيْمَان بن عَليّ بن أَحْمد أَمِير الذواودة من عرب ريَاح ورديف أَخِيه يَعْقُوب كَانَ هَاجر مَعَ السُّلْطَان من الجزائر وَلم يزل فِي جملَته إِلَى هَذَا الْيَوْم فدافع عَنهُ حَتَّى ركب وَسَار من وَرَائه ردا لَهُ وَأسر حَاجِبه علال بن مُحَمَّد فأودعه أَبُو عنان السجْن ثمَّ امتن عَلَيْهِ بعد وَفَاة أَبِيه
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله إِلَى جبل هنتانة من جبال درن وَمَعَهُ كَبِيرهمْ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عَليّ الهنتاني فَنزل عَلَيْهِ وَأَجَارَهُ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمَلأ من قومه هنتانة وَمن انضاف إِلَيْهِم من المصامدة وَتَآمَرُوا(3/173)
وتعاهدوا على المدافعة عَنهُ وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت وَجَاء أَبُو عنان على أَثَره حَتَّى احتل بمراكش وَأنزل عساكره على جبل هنتانة ورتب المسالح لحصاره وحربه وَطَالَ عَلَيْهِ ثواؤه حَتَّى طلب السُّلْطَان من ابْنه الْإِبْقَاء عَلَيْهِ وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عمر فَحَضَرَ عِنْده وَأحسن الْعذر عَن الْأَمِير أبي عنان وَالْتمس لَهُ الرِّضَا مِنْهُ فَرضِي عَنهُ وَكتب لَهُ بِولَايَة عَهده وأوعز إِلَيْهِ بِأَن يبْعَث لَهُ مَالا وكسى فسرح الْحَاجِب ابْن أبي عمر بإخراجها من الْمُودع بدار ملكهم واعتل السُّلْطَان خلال ذَلِك فمرضه أولياؤه وخاصته وافتصد لإِخْرَاج الدَّم ثمَّ بَاشر المَاء للطَّهَارَة فورم مَحل الفصادة وَمَات رَحمَه الله فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة هَكَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا وَالَّذِي رَأَيْته مَكْتُوبًا بالنقش على رخامة قَبره بشالة أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَبعث أَوْلِيَاء السُّلْطَان بالْخبر إِلَى ابْنه وَهُوَ بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أَعْوَاد نعشه إِلَيْهِ فَتَلقاهُ حافيا حاسرا وَقبل أعواده وَبكى واسترجع ورضني عَن أوليائه وخاصته وأنزلهم بِالْمحل الَّذِي رضوه من دولته ثمَّ دفن أَبَاهُ بمراكش قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة بالموضع الَّذِي بِهِ الْيَوْم قُبُور الْمُلُوك الْأَشْرَاف السعديين ثمَّ لما نَهَضَ أَبُو عنان إِلَى فاس احْتمل شلو أَبِيه مَعَه حَتَّى دَفنه بشالة مَقْبرَة سلفهم وَلَا زَالَ ضريحه قَائِم الْعين والأثر إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله أسمر طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل معتدل اللِّحْيَة حسن الْوَجْه وَكَانَ عَفا مائلا إِلَى التَّقْوَى مُولَعا بالطيب لم يشرب الْخمر قطّ لَا فِي صغره وَلَا فِي كبره محبا للصالحين عدلا فِي رَعيته(3/174)
يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَقَالَ بعض المشارقة فِي حَقه مَا صورته ملك أَضَاء الْمغرب بأنوار هلاله وَجَرت إِلَى الْمشرق أنواء نواله وَطَابَتْ نسماته واشتهرت عزماته كَانَ حسن الْكِتَابَة كثير الْإِنَابَة ذَا بلاغة وبراعة وشهامة وشجاعة اه وَبنى رَحمَه الله عدَّة مدارس مِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بمراكش قبلي جَامع ابْن يُوسُف قَالَ الْعَلامَة اليفرني فِي النزهة إِن الَّذِي بناها هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْمَذْكُور قلت وَمن وقف على هَذِه الْمدرسَة وَتَأمل تنجيدها وتنميقها قدر هَذَا السُّلْطَان وَعلم عظم أهميته ومحبته للْعلم وَأَهله وَمِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بطالعه سلا قبلي الْمَسْجِد الْأَعْظَم مِنْهَا بناها رَحمَه الله على هَيْئَة بديعة وصنعة رفيعة وأودع جوانبها من أَنْوَاع النقش وضروب التخريم مَا يحير الْبَصَر ويدهش الْفِكر ووقف عَلَيْهَا عدَّة أوقاف رصع أسماءها بالنقش والأصباغ على رخامة عَظِيمَة ثمَّ نصب الرخامة بِالْحَائِطِ الجوفي مِنْهَا كل ذَلِك مُحَافظَة على تِلْكَ الْأَوْقَاف أَن تغير وَأما الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومدرسته الجوفية فهما من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي حَسْبَمَا تقدم ذَلِك فِي أخباره وَعِنْدِي أَن السُّور الْمَحْمُول عَلَيْهِ المَاء الدَّاخِل إِلَى سلا الْمَعْرُوف عِنْدهم بسور الأقواس من بِنَاء السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله ولي فِي ذَلِك مُسْتَند غَرِيب وَهُوَ أَنِّي كنت ذَات يَوْم أفاوض بعض القناقنة بسلا مِمَّن كَانَ يُبَاشر أَمر الْمِيَاه بهَا وَيصْلح مَا احْتَاجَ إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا فَقلت كالمستفهم لنَفْسي من غير قصد تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ يَا ترى من الَّذِي بنى سور المَاء الدَّاخِل إِلَى الْبَلَد فَقَالَ على البديهة الَّذِي بنى الْمدرسَة هُوَ الَّذِي بنى سور المَاء فَقلت لَهُ وَكنت متشوفا يَوْمئِذٍ لتحقيق ذَلِك وَمَا علمك بِهَذَا فَقَالَ إِن بيلة الْمدرسَة بنيت يَوْم بنيت الْمدرسَة بِدَلِيل الزليج المرصوف حولهَا بِالْعَمَلِ الْكَبِير الْمَوْجُود نَظِيره فِي سَائِر حيطان الْمدرسَة وسواريها وَهَذِه البيلة لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا إِلَى أَن باشرت إصلاحها فِي هَذِه الْأَيَّام فحفرت عَن قنواتها وتتبعت مَادَّة المَاء الْوَاصِل إِلَيْهَا فَإِذا عمل تِلْكَ القوادس وصنعة بنائها حَتَّى الكلس المفرغ عَلَيْهَا الْجَامِع بَينهَا مماثل لعمل قنوات مَبْنِيَّة بالسور الْمَذْكُور دَاخِلَة فِيهِ بِحَيْثُ بنى عَلَيْهَا يَوْم تأسيسه من غير(3/175)
فَوق بَين هَذِه وَتلك فِي جَمِيع عملهما وَلَيْسَ بِشَيْء من القنوات الْحَادِثَة بعدهمَا يشبههما فَعلمت أَن الَّذِي بناهما وَاحِد فَأَعْجَبَنِي كَلَامه وباحثته فِي ذَلِك فصمم على معتقده وحاولت تشكيكه بِكُل وَجه فَلم يتشكك فَظهر لي صدق دَلِيله وَغلب على ظَنِّي مَا جزم بِهِ وَعند الله علم حَقِيقَة الْأَمر
وَاعْلَم أَن هَذَا السُّور من المباني العادية والهياكل الْعَظِيمَة الَّتِي تدل على فخامة الدولة وَكَمَال قوتها مثل مَا يُقَال عَن حنايا قرطاجنة وَنَحْوهَا وَهَذَا السُّور مسوق من عُيُون الْبركَة خَارج مَدِينَة سلا على أَمْيَال كَثِيرَة ممتدا من الْقبْلَة إِلَى الْجوف على أضخم بِنَاء وأحكمه مَوْزُون سطحه بالميزان الهندسي ليَأْتِي جَرَيَان المَاء فَوْقه على اسْتِوَاء وَلذَلِك ينخفض إِلَى الأَرْض مَتى ارْتَفَعت ويعلو عَنْهَا إِذا انخفضت وَيجْرِي على مَتنه من المَاء مِقْدَار النَّهر الصَّغِير فِي سَاقيه قد اتَّخذت لَهُ وَلما شَارف الْبَلَد عظم ارتفاعه جدا لأجل انخفاض الأَرْض عَنهُ وَكلما مر فِي سيره بطرِيق مسلوك فتحت لَهُ فِيهِ أقواس فَسُمي لذَلِك سور الأقواس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاهد لبانية بضخامة الدولة وَعظم الهمة
وللسلطان أبي الْحسن رَحمَه الله بفاس ومكناسة وَغَيرهمَا من بِلَاد الْمغرب آثَار كَثِيرَة فَمن آثاره بفاس بيلة الرخام الْأَبْيَض المجلوبة من المرية زنتها مائَة قِنْطَار وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا سيقت من المرية الى مُوسَى العرائش ثمَّ طلعت فِي وَادي قصر كتامة ثمَّ حملت على عجل الْخشب تجرها الْقَبَائِل إِلَى منزل أَوْلَاد مَحْبُوب الَّذين على ضفة وَادي سبو فوسقت فِيهِ إِلَى أَن وصلت إِلَى ملتقاه مَعَ وَادي فاس ثمَّ حملت على عجل الْخشب أَيْضا يجرها النَّاس إِلَى أَن وصلت إِلَى مدرسة الصهريج الَّتِي بعدوة الأندلس ثمَّ نقلت مِنْهَا بعد ذَلِك بأعوام إِلَى مدرسة الرخام الَّتِي أَمر رَحمَه الله ببنائها جَوف جَامع الْقرَوِيين الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة مِصْبَاح ومصباح هَذَا هُوَ أَبُو الضياء مِصْبَاح بن عبد الله الياصلوتي الْفَقِيه الْمَشْهُور وَإِنَّمَا نسبت إِلَيْهِ لِأَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما بناها كَانَ أَبُو الضياء أول من تصدى للدرس بهَا فنسبت إِلَيْهِ وَقد تقدم لنا خبر الْمدرسَة الَّتِي بناها غربي جَامع الأندلس أَيَّام أَبِيه وَأنْفق عَلَيْهَا أَكثر من مائَة ألف دِينَار وَمن آثاره بمكناسة الزَّيْتُون الزاويتان القدمى والجديدة وَكَانَ بنى القدمى(3/176)
فِي زمَان أَبِيه والجديدة حِين ولي الْخلَافَة وَله فِي هَذِه الْمَدِينَة عدَّة آثَار سوى الزاويتين من القناطر والسقايات وَغَيرهَا وَمن أجل ذَلِك الْمدرسَة الجديدة بهَا وَكَانَ قدم للنَّظَر على بنائها قاضيه على الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ بناؤها جَاءَ إِلَيْهَا من فاس ليقف عَلَيْهَا وَيرى عَملهَا وصنعتها فَقعدَ على كرْسِي من كراسي الْوضُوء حول صهريجها وَجِيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللَّازِمَة فِيهَا فغرقها من الصهريج قبل أَن يطالع مَا فِيهَا وَأنْشد
(لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن ... لَيْسَ لما قرت بِهِ الْعين ثمن)
وَكَانَ لَهُ معرفَة بالشعر فَمن شعره قَوْله
(أرضي الله فِي سر وجهر ... وأحمي الْعرض عَن دنس ارتياب)
(وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا ... وأضرب بِالسَّيْفِ طلي الرّقاب)
وأخباره كَثِيرَة وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيلها فَعَلَيهِ بِكِتَاب الْخَطِيب بن مَرْزُوق الَّذِي أَلفه فِي دولته وَسيرَته وَسَماهُ الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَحَادِيث السُّلْطَان أبي الْحسن وَلما ذكر الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي كِتَابه رقم الْحلَل هَذَا السُّلْطَان وَصفه بقوله
(الْملك الْمَعْدُود من خير سلف ... ومجموع القَوْل إِذا القَوْل اخْتلف)
(الدّين والعفاف وَالْجَلالَة ... والعز وَالْقُدْرَة والجزالة)
(وَالْعلم والحلم وَفضل الدّين ... وصفوه الصفوة من مرين)
(ممهد الْملك ومسدي المنن ... وَوَاحِد الدَّهْر وفخر الزَّمن)
(باني المباني النخبة الشَّرِيفَة ... بِمُقْتَضى همته المنيفة)
(وتارك الْمدَارِس الظريفة ... شاهدة بِأَنَّهُ الْخَلِيفَة)
(وقاطع الدَّهْر بِغَيْر لَهو ... فِي مجْلِس مُعظم أَو بهو)
(أما لتدريس وَعلم يدرس ... أَو لبلاد من عَدو تحرس)
(أَو لأياد فِي عباد ثغرس ... أَو لثواب ورضا يلْتَمس)
(أَو نسخ قُرْآن وَعرض حزب ... أَو عدَّة معدة لِحَرْب)
وَمن أَعْيَان وزرائه عَامر بن فتح الله السدراتي وَعبد الله بن إِبْرَاهِيم(3/177)
الفودودي وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَأَبُو الْحسن عَليّ بن القبايلي التينمللي رحم الله الْجَمِيع بمنه
ولنذكر مَا كَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة
فَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق تلمسان الجديدة الْمُسَمَّاة بالمنصورة حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنْهَا مُسْتَوفى
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة كَانَ الْقَحْط بالمغرب فَاسْتَسْقَى النَّاس وَخرج السُّلْطَان أَبُو سعيد مَاشِيا على قَدَمَيْهِ لإِقَامَة سنة الاسْتِسْقَاء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُور وَتَقَدَّمت أَمَامه الصلحاء وَالْفُقَهَاء والقراء يدعونَ الله تَعَالَى وَقدم بَين يَدي نَجوَاهُ صدقَات وَفرق أَمْوَالًا وَفِي يَوْم السبت بعده خرج فِي جنده إِلَى قبر الشَّيْخ أبي يَعْقُوب الْأَشْقَر بجبل الكندرتين فَدَعَا هُنَالك ورحم الله تَعَالَى عباده وغاث أرضه وبلاده
وَفِي سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْحق الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير بِضَم الصَّاد وَفتح الْغَيْن وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة وَكَانَ ربعَة آدم اللَّوْن خَفِيف العارضين يلبس أحسن زِيّ ويدرس بِجَامِع الأجدع من فاس يقْعد على كرْسِي عَال ليسمع الْقَرِيب والبعيد على انخفاض كَانَ فِي صَوته وَكَانَ حسن الإقراء وقورا صبورا ثبتا وَكَانَ أحد الأقطاب الَّذين تَدور عَلَيْهِم الْفتيا بالمغرب فَيحسن(3/178)
التوقيع عَلَيْهَا على طَرِيق الِاخْتِصَار وَترك فضول القَوْل ولاه السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْقَضَاء بفاس وَشد عضده فَجرى فِي الْعدْل على صِرَاط مُسْتَقِيم
وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَزْدِيّ المراكشي الْمَعْرُوف بِابْن الْبناء الإِمَام الْمَشْهُور فِي علم التعاليم والهيئة والنجوم والأزياج وَغير ذَلِك وَكَانَ رَحمَه الله عز وَجل مَعْرُوفا بِاتِّبَاع السّنة موسوما بِطَهَارَة الِاعْتِقَاد منعوتا بالصلاح وَكَانَ انتفاعه بِصُحْبَة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا هبت ريح شَدِيدَة بفاس ومكناسة وأحوازهما وَاسْتمرّ هبوبها يَوْمَيْنِ وليلتين فعاقت عَن الْأَسْفَار وهدمت الدّور وقلعت الْأَشْجَار
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا فِي الْمحرم مِنْهَا جرت الْعين الموالية للمشرق من عُيُون صنهاجة بأحواز فاس بِدَم عبيط من وَقت الْعَصْر إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ عَادَتْ إِلَى حَالهَا وفيهَا كَانَ الْمَطَر الْعَظِيم والثلج الْكثير بالمغرب وَعدم الفحم والحطب حَتَّى بيع الفحم بفاس بِدِرْهَمَيْنِ للرطل وَفِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا احْتَرَقَ سوق العطارين الْكُبْرَى بفاس فجدده السُّلْطَان أَبُو سعيد من بَاب مدرسة العطارين إِلَى رَأس عقبَة الجزارين وَعقد عَلَيْهِ هُنَالك بَابا ضخما وأفرده للعطارين دون غَيرهم
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة كَانَت المجاعة بالمغرب وَارْتَفَعت الأسعار فِي جَمِيع الْبِلَاد فَبلغ الْمَدّ من الْقَمْح بفاس خَمْسَة عشر درهما والصحفة مِنْهُ تسعين دِينَارا وغلا الإدام وعدمت الْخضر بأسرها وكسى السُّلْطَان أَبُو سعيد وَأطْعم فِي هَذِه المسغبة شَيْئا كثيرا ودام ذَلِك إِلَى قرب منتصف السّنة بعْدهَا وفيهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر رَمَضَان مِنْهَا نَشأ خَارج فاس من جِهَة جوفيها سَحَاب عَظِيم وظلمة شَدِيدَة ورياح عَاصِفَة أعقب ذَلِك برد كثير عَظِيم الجرم تزن الْوَاحِدَة مِنْهُ ربع رَطْل وَأَقل وَأكْثر وَنزل فِي خلاله مطر وابل جَاءَت مِنْهُ السُّيُول طامية حملت النَّاس وَالدَّوَاب وأهلكت جَمِيع مَا بجبل زالغ من الكروم وَالزَّيْتُون وَسَائِر الشّجر(3/179)
وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى مِنْهَا دخل السَّيْل الْعَظِيم مَدِينَة فاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهَا بِحَيْثُ هدم الدّور والمساجد والأسواق وَأهْلك آلافا من الْخلق حَتَّى خيف على الْبَلَد التّلف
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة انْتهى تَارِيخ ابْن أبي زرع الْمُسَمّى بالأنيس الْمغرب القرطاس فِي أَخْبَار مُلُوك الْمغرب وتاريخ مَدِينَة فاس وَمِمَّا هُوَ الْغَايَة فِي بَاب الأغراب مَا ذكره ابْن خلدون قَالَ حضر أشياخنا بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْحسن وَقد رفع إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أَنفسهمَا عَن الْأكل جملَة مُنْذُ سِنِين وشاع أَمرهمَا وَوَقع اختبارهما فصح شَأْنهمَا واتصل على ذَلِك حَالهمَا إِلَى أَن ماتتا وذكرهما أَيْضا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمحاضرات قَالَ وَردت على تلمسان فِي الْعشْرَة الْخَامِسَة من الْمِائَة الثَّامِنَة امْرَأَة من رندة لَا تَأْكُل وَلَا تشرب وَلَا تبول وَلَا تتغوط وتحيض فَلَمَّا اشْتهر هَذَا من أمرهَا أنكرهُ الْفَقِيه أَبُو مُوسَى ابْن الإِمَام وتلى كَانَا يأكلان الطَّعَام فَأخذ النَّاس يبثون ثِقَات نِسَائِهِم ودهاتهن إِلَيْهَا فكشفوا عَنْهَا بِكُل وَجه يمكنهن فَلم يَقِفن على غير مَا ذكر وسئلت هَل تشتهين الطَّعَام فَقَالَت هَل تشتهون التِّبْن بَين يَدي الدَّوَابّ وسئلت هَل يَأْتِيهَا شَيْء فَأخْبرت أَنَّهَا صَامت ذَات يَوْم فأدركها الْجُوع والعطش فنامت فَأَتَاهَا آتٍ فِي النّوم بِطَعَام وشراب فَأكلت وشربت فَلَمَّا أفاقت وجدت نَفسهَا قد استغنت فَهِيَ على تِلْكَ الْحَال تُؤْتى فِي الْمَنَام بِالطَّعَامِ وَالشرَاب إِلَى الْآن وَلَقَد جعلهَا السُّلْطَان فِي مَوضِع بقصره وحفظها بالعدول وَمن يكْشف عَمَّا عَسى تَجِيء أمهَا بهَا إِذا أَتَت إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلم يُوقف لَهَا على أَمر قَالَ بيد أَنِّي أردْت أَن يُزَاد فِي عدد الْعُدُول وَيضم إِلَيْهِم الْأَطِبَّاء وَمن يَخُوض فِي المعقولات من عُلَمَاء الْملَل الْمُسلمين وَغَيرهم ويوكل من نسَاء الْفرق من يُبَالغ فِي كشف من يدْخل إِلَيْهَا وَلَا يتْرك أحدا يَخْلُو بهَا وَبِالْجُمْلَةِ يُبَالغ فِي ذَلِك ويستدام رعيها عَلَيْهِ سنة لاحْتِمَال أَن يغلب عَلَيْهَا طبع فتستغني فِي فصل دون فصل ثمَّ يكْتب هَذَا فِي الْعُقُود ويشاع أمره فِي الْعَالم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يهدم حكم الطبيعة الَّذِي(3/180)
هُوَ أضرّ الْأَحْكَام على الشَّرِيعَة وَيبين كَيْفيَّة غذَاء أهل الْجنَّة وَأَن الْحيض لَيْسَ من فضلات الْغذَاء وَيبْطل التَّأْثِير والتولد وَيُوجب ان الاقترانات بالعادات لَا باللزوم وَعند الْأَسْبَاب لَا بهَا إِلَى غير ذَلِك إِلَّا إِنِّي لما أَشرت بِهَذَا انقسم من أَشرت عَلَيْهِ بتبليغه إِلَى من لم يفهم مَا قلت وَمن لم يرفع بِهِ رَأْسا لإيثار الدُّنْيَا على الدّين فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قَالَ الْمقري وَقد ذكر أَن امْرَأَة أُخْرَى كَانَت مَعهَا على تِلْكَ الْحَالة وحَدثني غير وَاحِد من الثِّقَات مِمَّن أدْرك عَائِشَة الجزرية أَنَّهَا كَانَت كَذَلِك وَإِن عَائِشَة بنت أبي بكر يَعْنِي زَوْجَة السُّلْطَان أبي الْحسن الَّتِي استشهدت فِي طريف اختبرتها أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَيْضا وَكم من آيَة أضيعت وَحجَّة نسيت مِمَّا لم يعرف مثله قبل الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَذَلِكَ الوباء الْعَام الْقَرِيب فروطه يُوشك أَن يطول أمره فينسى ذكره ويكذب الْمُحدث بِهِ اذا انْقَضى عصره وَكم فِيهِ من أَدِلَّة على أصُول الْملَّة اه كَلَام الشَّيْخ أبي عبد الله الْمقري رَحمَه الله وَيَعْنِي بالوباء الْقَرِيب فروطه وباء منتصف الْمِائَة الثَّامِنَة أَيَّام كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن بتونس فَإِنَّهُ كَانَ وباء عَظِيما لم يعْهَد مثله قد عَم أقطار الأَرْض وتحيف الْعمرَان جملَة حَتَّى كَاد يَأْتِي على الخليقة أجمع والأمور كلهَا بيد الله لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي عنان فَارس بن أبي الْحسن رَحمَه الله
كَانَ هَذَا السُّلْطَان محبوبا فِي قومه وعشيرته أثيرا عِنْد وَالِده متميزا بذلك عَن سَائِر اخوته لفضله وَعَمله وصيانته وعفافه واستظهار الْقُرْآن الْكَرِيم وَغير ذَلِك من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا شمس الضُّحَى وقبرها بشالة مَعْرُوف إِلَى الْآن رَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالنقش أَنَّهَا توفيت لَيْلَة السبت رَابِع رَجَب الْفَرد سنة خمسين وَسَبْعمائة ودفنت إِثْر صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور وَحضر لدفنها أَعْيَان الْمشرق(3/181)
وَالْمغْرب اه وَكَانَ مولد السُّلْطَان أبي عنان بفاس الْجَدِيد فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وبويع فِي حَيَاة وَالِده يَوْم ثار عَلَيْهِ بتلمسان حَسْبَمَا فدمنا الْخَبَر عَنهُ وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء منسلخ ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَلما هلك وَالِده أَبُو الْحسن بجبل هنتانة وانقضى شَأْن الْحصار ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى فاس وَنقل شلو أَبِيه إِلَى شالة فدفنه بهَا وأغذ السّير إِلَى فاس وَقد استتب أمره وخلا لَهُ الجو فاحتل بدار ملكه وَأجْمع أمره على غَزْو بني عبد الواد لارتجاع مَا بِأَيْدِيهِم من الْملك الَّذِي تطاولوا إِلَيْهِ وَلما دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة نَادَى بالعطاء وأزاح الْعِلَل وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد وَعرض جَيْشه ثمَّ نَهَضَ يُرِيد تلمسان
واتصل خَبره بسلطانها أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الزياني فَجمع لَهُ قومه وَمن شايعهم من زناتة وَالْعرب ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَخُوهُ ووزيره أَبُو ثَابت فَكَانَ اللِّقَاء ببسيط أَن كَاد آخر ربيع الثَّانِي من السّنة المكذورة وَأجْمع بَنو عبد الواد على صدمة المرينيين وَقت القائلة وَعند ضرب الْأَبْنِيَة وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر فِي حاجاتهم فحملوا عَلَيْهِم وأعجلوهم عَن تَرْتِيب المصاف وَركب السُّلْطَان أَبُو عنان لتلافي الْأَمر وخاض بَحر الْقِتَال وَقد أظلم الجو بالغبار حَتَّى إِذا خلص إِلَيْهِم وخالطم فِي صفوفهم ولوا الأدبار وَاتبع بَنو مرين آثَارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوهم قتلا وسبيا وصفدوهم أسرى وَلم يزَالُوا فِي اتباعهم إِلَى اللَّيْل وتقبضوا على سلطانهم أبي سيعد فساقوه إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاعتقله وَتقدم على التعبية إِلَى تلمسان فَدَخلَهَا فِي ربيع الْمَذْكُور واستوت فِي ملكهَا قدمه وأحضر أَبَا سعيد فوبخه وَأرَاهُ أَعماله حسرات عَلَيْهِ ثمَّ أحضر الْفُقَهَاء وأرباب الْفتيا(3/182)
فافتوا بحرابته وَقَتله فَأمْضى حكم الله فِيهِ فذبح فيمحبسه لتاسعة من أعتقاله
وفر أَخُوهُ الزعيم أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق بعد أَن احْتمل مَعَه حرمه وَحرم أَخِيه ومتخلفهم واحتل بوادي شلف من بِلَاد مغرواة فَعَسْكَرَ هُنَالك وَاجْتمعَ عَلَيْهِ أَو شَاب من زناتة وَحدث نَفسه باللقاء ووعدها بِالصبرِ والثبات واتصل خَبره بالسلطان أبي عنان فسرح إِلَيْهِ وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي عَسَاكِر بني مرين والجند فأغذ السّير إِلَيْهِم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان من تلمسان على أَثَره وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ تَصَادقا الحملة وخاض النَّهر بَعضهم إِلَى بعض ثمَّ صدق بَنو مرين الحملة فاجتازوا النَّهر وانكشفت بَنو عبد الواد وَاتبع بنومرين آثَارهم فاستلحموهم ثَانِيَة واستباحوا معسركهم وَاسْتَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ ودوابهم وَكتب الْوَزير بالتفح إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق فِي نفر من عشيرته وَبني أَبِيه فاعترضتهم قبائل زواوة فانتهبوا أسلابهم وأرجلوهم عَن خيولهم ومروا على وجوهم حُفَاة عُرَاة لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَكتب الْوَزير إِلَى أُمَرَاء الثغور فِي شَأْن أبي ثَابت وَأَصْحَابه فأذكوا الْعُيُون عَلَيْهِم وقعدوا لَهُم بالمراصد حَتَّى عثر عَلَيْهِم بعض الحشم فقبضوا على أبي ثَابت وَابْن أَخِيه أبي زيان بن أبي سعيد الْمَقْتُول ووزيرهم يحيى بن دَاوُد فرفعوهم إِلَى أَمِير بجاية أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر الحفصي وَكَانَ خَالِصَة للسُّلْطَان أبي عنان مُنْذُ أَيَّام وَالِده فاعتقلهم عِنْده حَتَّى وَفد بهم عَلَيْهِ بالمدية فَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان وفادته وَركب للقائه لما تراءيا نزل الحفصي عَن فرسه إعظاما للسُّلْطَان فَنزل السُّلْطَان مُكَافَأَة لَهُ ولقاه مبرة وكرامة وأودع أَبَا ثَابت السجْن وتوافت إِلَيْهِ وُفُود الذواودة بمكانه من لمدية فَأكْرم وفادتهم وأسنى عطاياهم من الْخلْع والحملان وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وانقلبوا خير مُنْقَلب ووافته بمكانه ذَلِك بيعَة ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب مَعَ وفدهم فأكرمهم ووصلهم وَفرغ السُّلْطَان أَبُو عنان من شَأْن الْمغرب الْأَوْسَط وَبث عماله فِي نواحيه وثقف أَطْرَافه وسمى إِلَى تملك إفريقية على مَا نذكرهُ إنْشَاء الله(3/183)
تملك السُّلْطَان أبي عنان بجاية وتولية عمر بن عَليّ الوطاسي عَلَيْهَا
لما وَفد أَبُو عبد الله الحفصي على السُّلْطَان أبي عنان بلمدية فِي شعْبَان من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وَبَالغ فِي إكرامه ناجاه بِذَات صَدره وشكا إِلَيْهِ مَا يلقاه من رَعيته من الِامْتِنَاع من الجباية وَالسَّعْي فِي الْفساد وَمَا يتبع ذَلِك من شقَاق الحامية واستبداد البطانة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان متشوفا لمثلهَا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بالنزول عَنْهَا وَأَن يعوضه عَنْهَا مَا شَاءَ من بِلَاده فسارع إِلَى قبُول ذَلِك ودس إِلَيْهِ السُّلْطَان مَعَ حَاجِبه مُحَمَّد بن أبي عَمْرو أَن يشْهد بذلك على رُؤُوس الْمَلأ فَفعل وعوضه عَنْهَا مكناسة الزَّيْتُون ونقم بطانة الحفصي عَلَيْهِ وَنزع بَعضهم عَنهُ إِلَى إفريقية وَأمره السُّلْطَان أَبُو عنان أَن يكْتب بِخَطِّهِ إِلَى عَامله على بجاية بالنزول عَنْهَا وتمكين عُمَّال السُّلْطَان مِنْهَا فَفعل وَعقد أَبُو عنان عَلَيْهَا لعمر بن عَليّ الوطاسي من بني الْوَزير الَّذين قدمنَا خبر ثورتهم بحصن تازوطا أَيَّام يُوسُف بن يَعْقُوب وَلما قضى السُّلْطَان أَبُو عنان حَاجته من الْمغرب الْأَوْسَط وَاسْتولى على بجاية ثغر إفريقية انكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان لشهود عيد الْفطر بهَا ودخلها فِي يَوْم مشهود حمل أَبَا ثَابت الزياني ووزيره يحيى بن دَاوُد على جملين وَدخل بهما تلمسان يخطوان بهما فِي ذَلِك المحفل بَين السماطين فَكَانَا عِبْرَة لمن حضر ثمَّ جنبا من الْغَد إِلَى مصارعهما فقتلا قعصا بِالرِّمَاحِ وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور
ثورة أهل بجاية ومقتل عمر بن الوطاسي بهَا
لما قدم عمر بن عَليّ الوطاسي بجاية وَاسْتقر بهَا ثقل أمره على نفوس أَهلهَا لألفهم ملكة الحفصيين وانصباغهم بالميل إِلَيْهِم فتربصوا بالوطاسي الدَّوَائِر وَكَانَ أَبُو عبد الله الحفصي قد استصحب مَعَه فِي وفادته على السُّلْطَان أبي عنان حَاجِبه فارحا مولى ابْن سيد النَّاس فَلَمَّا نزل(3/184)
للسُّلْطَان عَن بجاية نقم فارح عَلَيْهِ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه إِلَى أَن بَعثه الحفصي الْمَذْكُور مَعَ الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون دَاره إِلَى الْمغرب فَانْتهى إِلَى بجاية وبينما هُوَ يحاول مَا أرسل فِي شَأْنه شكا إِلَيْهِ الصنهاجيون سوء ملكة بني مرين فنجع كَلَامهم فِيهِ وَنَفث لَهُم بِمَا عِنْده من الضغن ودعاهم إِلَى الثورة بالمرينيين وَالْقِيَام بدعوة الحفصيين فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وتواعدوا للفتك بعلي بن عمر الوطاسي بمجلسه من القصبة وَتَوَلَّى كبرها مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج من مشيختهم وباكره فِي دَاره على عَادَة الْأُمَرَاء وَلما أكب عَلَيْهِ ليلثم أَطْرَافه طعنه بخنجره ثمَّ ولج عَلَيْهِ الْبَاقُونَ فاستلحموه وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وثارت الغوغاء بِالْبَلَدِ وهتف الْهَاتِف بدعوة أبي زيد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي صَاحب قسنطينة وطيروا إِلَيْهِ بالْخبر واستدعوه فتثاقل عَنْهُم وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاتهم أَبَا عبد الله الحفصي بمداخلة حَاجِبه فارح فِي ذَلِك فاعتقله بداره واعتقل وَفْدًا من أَشْرَاف بجاية كَانُوا بِبَابِهِ ثمَّ رَاجع شُيُوخ بجاية بصائرهم وتداركوا أَمرهم فِي الرُّجُوع إِلَى طَاعَة السُّلْطَان أبي عنان وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن يرقعوا هَذَا الْخرق ويسدوا هَذِه الثلمة براس الْحَاجِب فارح وصنهاجة الثائرين مَعَه وداخلهم فِي ذَلِك الْقَائِد هِلَال مولى ابْن سيد النَّاس وَلما عزموا على أَمرهم دعوا الْحَاجِب فارحا إِلَى الْمَسْجِد ليفاوضوه فِيمَا نزل بهم فأحس بِالشَّرِّ ولجأ إِلَى دَار الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِدْرِيس البجائي إِمَام بجاية ومفتيها فاقتحموا عَلَيْهِ الدَّار وباشره مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن سيد النَّاس بطعنة فأنفذه وَرمى بشلوه من أَعلَى الدَّار فاحتزوا رَأسه وبعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج وَقَومه صنهاجة عَن الْبَلَد وسرح السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهَا حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي عَمْرو فِي الْكَتَائِب فَدَخلَهَا فاتح سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَذَهَبت صنهاجة فِي كل وَجه وَلحق أَصْحَاب الفعلة مِنْهُم بتونس وتقبض الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو على جمَاعَة من غوغاء بجاية(3/185)
المتهمين بالخوض فِي الْفِتْنَة يناهزون الْمِائَتَيْنِ فاعتقلهم وأركبهم الأسطول إِلَى الْمغرب فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وتوافت لَدَيْهِ وُفُود الذواودة من كل جِهَة فأجزل صلَاتهم ووفد عَلَيْهِ عَامل الزاب يُوسُف بن مزني فَأكْرم وفادته ثمَّ ارتحل إِلَى تلمسان غرَّة جمدى الأولى من السّنة وَمَعَهُ شُيُوخ الذواودة ووجوه بجاية
قَالَ ابْن خلدون وَكنت يَوْمئِذٍ فِي جُمْلَتهمْ فَجَلَسَ السُّلْطَان للوفد وَعرض مَا جنب إِلَيْهِ من الْجِيَاد والهدايا وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَانْصَرفُوا إِلَى مواطنهم فاتح شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ وانقلبت مَعَ الْحَاجِب بعد إسناء الْجَائِزَة وَالْخلْع والحملان من السُّلْطَان والوعد الْجَمِيل بتجديد مَا إِلَى قومِي ببلدي من الإقطاعات وَلما احتل الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو ببجاية ضبط أمرهَا وَأقَام أودها وألح على قسنطينة بترديد الْبعُوث وتجهيز الْكَتَائِب إِلَى أَن أذعنوا للطاعة ومكنوه من تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن الْمَنْصُوب هُنَاكَ للفتنة وأوفد أَبُو زيد الحفصي صَاحب قسنطينة ابْنه على السُّلْطَان أبي عنان فَقبل وفادته وشكر سَعْيه وانكفأ الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو إِلَى بجاية وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة فَذهب حميد السِّيرَة عِنْد أهل الْبَلَد وَعقد السُّلْطَان أَبُو عنان على بجاية لعبد الله بن عَليّ بن سعيد أحد وزرائه فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فاستقر بهَا وسلك سنَن الْحَاجِب قبله وَسيرَته وجهز العساكر إِلَى حِصَار قسنطينة إِلَى أَن كَانَ من فتحهَا مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
خُرُوج أبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن بِبِلَاد السوس ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما ركب الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب عقد على تونس لِابْنِهِ أبي الْفضل هَذَا وَأَنه لما أقلع عَنْهَا ثار أهل الْبَلَد وشيعة الحفصيين عَلَيْهِ فأخرجوه عَنْهَا وَلحق بِأَبِيهِ فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن هلك وخلص الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فلحق بِهِ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو سَالم ففكر أَبُو(3/186)
عنان فِي أَمرهمَا وخشي عَاقِبَة ترشيحهما فأشخصهما إِلَى الأندلس ليكونا مَعَ الْغُزَاة والقرابة فِي إيالة السُّلْطَان أبي الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر ثمَّ نَدم على ذَلِك وَلما استولى على تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَرَأى أَن قد استفحل أمره واعتز سُلْطَانه أنفذ الرُّسُل إِلَى أبي الْحجَّاج فِي أَن يشخصهما إِلَيْهِ لِأَن مقامهما عِنْده أحوط لجمع الْكَلِمَة بِخِلَاف مَا إِذا غابا عَن حَضرته وخشي أَبُو الْحجَّاج غائلته عَلَيْهِمَا فَأبى من إسلامهما الْيَد وَأجَاب الرُّسُل بِأَنَّهُ لَا يخفر ذمَّته وَلَا يسيء جوَار الْمُسلمين الْمُجَاهدين لَدَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان أَبُو عنان لذَلِك وَقَامَ وَقعد وَأمر حَاجِبه ابْن أبي عَمْرو أَن يكْتب إِلَه ويبالغ فِي التوبيخ واللوم فَفعل الْحَاجِب الْمَذْكُور
قَالَ ابْن خلدون وَقد أوقفني الْحَاجِب على ذَلِك الْكتاب ببجاية فَقضيت عجبا من فصوله وأغراضه وَلما قَرَأَهُ أَبُو الْحجَّاج ابْن الْأَحْمَر دس إِلَى أبي الْفضل وَكَانَ أكبر الْأَخَوَيْنِ باللحاق بالطاغية وَكَانَت بَينهمَا ولَايَة ومخالصة فَنزع إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وجهز الطاغية لَهُ أسطولا أركبه فِيهِ وأنزله بساحل السوس من أَرض الْمغرب وَنذر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك فأوعز إِلَى قَائِد أسطوله باعتراض أسطول الطاغية فاعترضه وأوقع بِهِ وَكتب ابْن الْأَحْمَر أثْنَاء ذَلِك كتابا إِلَى السُّلْطَان أبي عنان يعْتَذر عَن أَمر أبي الْفضل من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب وَنَصه
الْمقَام الَّذِي شهد اللَّيْل وَالنَّهَار بأصالة سعادته وَجرى الْفلك الدوار بِحكم إِرَادَته وتعود الظفر بِمن يناويه فاطرد وَالْحَمْد لله جَرَيَان عَادَته فَوَلِيه مُتَحَقق لإفادته وعدوه مرتقب لإبادته وحلل الصَّنَائِع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته مقَام مَحل أخينا الَّذِي سهم سعده صائب وأمل من كاده خاسر خائب وسير الْفلك الْمدَار فِي مرضاته دائب وصنائع الله تَعَالَى لَهُ تصحبها الألطاف الْعَجَائِب فسيان شَاهد مِنْهُ فِي عصمَة وغائب السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى مُسَددًا لسهم ماضي الْعَزْم تجل سعوده عَن تصور الْوَهم وَلَا زَالَ مرهوب الْحَد ممتثل الرَّسْم موفور الْحَظ من نعْمَة الله تَعَالَى عِنْد تعدد الْقسم فائزا بفلج الْخِصَام عِنْد لد الْخصم مُعظم قدره(3/187)
وملتزم بره مبتهج بِمَا يسببه الله تَعَالَى لَهُ من إعزاز نَصره وَإِظْهَار أمره فلَان سَلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى ومثابتكم الفضلى الَّتِي حازت فِي الْفَخر الأمد الْبعيد وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي فسح لملككم الرفيع فِي الْعِزّ مدى وعرفه عوارف آلائه وعوائد النَّصْر على أعدائه يَوْمًا وَغدا وحرس سَمَاء علائه بشهب من قدره وقضائه فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا وَجعل نجح آماله وَحسن مآله قِيَاسا مطردا فَرب مُرِيد ضره ضرّ نَفسه وهاد إِلَيْهِ الْجَيْش أهْدى وَمَا هدي وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد نبيه وَرَسُوله الَّذِي مَلأ الْكَوْن نورا وَهدى وَأَحْيَا مراسم الْحق وَقد صَارَت طرائق قددا أَعلَى الْأَنَام يدا وأشرفهم محتدا الَّذِي بجاهه نلبس أَثوَاب السَّعَادَة جددا ونظفر بالنعيم الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين رفعوا لسماء سنته عمدا وأوضحوا لسبيل اتِّبَاعه مقصدا وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وَسجدا سيوفا على من اعْتدى ونجوما لمن اهْتَدَى حَتَّى علت فروع مِلَّته صعدا وَأصْبح بناؤها مديدا مخلدا وَالدُّعَاء لمقامكم الأسمى بالنصر الَّذِي يتوالى مثنى وموحدا كَمَا جمع لملككم مَا تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب فَجعل سيفكم سِفَاحًا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم صنعا يشْرَح لِلْإِسْلَامِ خلدا ونصرا يُقيم للدّين الحنيفي أوادا وعزما يمْلَأ أَفْئِدَة الْكفْر كمدا وجعلكم مِمَّن هيأ لَهُ من أمره رشدا وَيسر لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز وَالله أصدق موعدا من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله وَلَا زَائِد بِفضل الله سُبْحَانَهُ إِلَّا استطلاع سعودكم فِي آفَاق الْعِنَايَة واعتقاد جميل صنع الله فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَالْعلم بِأَن ملككم تحدى من الظُّهُور على أعدائه بِآيَة وأجرى جِيَاد السعد فِي ميدان لَا يحد بغاية وخرق حجاب الْمُعْتَاد بِمَا لم يظْهر إِلَّا لأَصْحَاب الْكَرَامَة وَالْولَايَة وَنحن على مَا علمْتُم من السرُور بِمَا يهز لملككم الْمَنْصُور عطفا ويسدل عَلَيْهِ من الْعِصْمَة سجفا فقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تَعَالَى نصفا وَنصفا ونعقد بَين أنباء مسرته وَبَين الشُّكْر لله حلفا ونعد التَّشَيُّع لَهُ مِمَّا يقربنا إِلَى الله زلفى(3/188)
ونؤمل من إمداده ونرتقب من جهاده وقتا يكفل بِهِ الدّين ويكفى وتروى غلل النُّفُوس وتشفى وَإِلَى هَذَا وصل الله سعدكم ووالى نصركم وعضدكم فَإنَّا من لدن صدر عَن أخيكم أبي الْفضل مَا صدر من الانقياد لخدع الآمال والاغترار بموارد الْآل وَقَالَ رَأْيه فِي اقتحام الْأَهْوَال وتورط فِي هفوة حَار فِيهَا حيرة أهل الْكَلَام فِي الْأَحْوَال وناصب من أَمركُم السعيد جبلا قضى الله لَهُ بالاستقرار والاستقلال وَمن ذَا يزاحم الأطواد ويزحزح الْجبَال وأخلف الظَّن منا فِي وفائه وأضمر عملا اسْتَأْثر عَنَّا بإخفائه واستعان من عَدو الدّين بِمعين فَلَا ورى لمن استنصر بِهِ زند وَلَا خَفق لمن تولاه بالنصر بند وَإِن الطاغية أَعَانَهُ وأنجده وَرَأى أَنه سهم على الْمُسلمين سدده وعضب للفتنة جرده فَسخرَ لَهُ الْفلك وأمل أَن يستخدمه بِسَبَب ذَلِك الْملك فَأوردهُ الهلك وَالظُّلم الحلك علمنَا أَن طرف سعادته كاب وسحائب آماله غير ذَات انسكاب وَقدم عزته لم يسْتَقرّ من السداد فِي غرز ركاب فَإِن نجاح أَعمال النُّفُوس مُرْتَبِط بنياتها وغايات الْأُمُور تظهر فِي بداياتها وعوائد الله تَعَالَى فِيمَن نَازع قدرته لَا تجْهَل وَمن غَالب أَمر الله خَابَ مِنْهُ الْمعول فَبَيْنَمَا نَحن ترنقب خسار تِلْكَ الصَّفْقَة المعقودة وخمود تِلْكَ الشعلة الموقودة وصلنا كتابكُمْ يشْرَح الصُّدُور ويشرح الْأَخْبَار وَيهْدِي طرف المسرات على أكف الاستبشار ويعرب بِلِسَان حَال المسارعة والابتدار عَن الود الْوَاضِح وضوح النَّهَار والتحقق بخلوصنا الَّذِي يُعلمهُ عَالم الْأَسْرَار فَأَعَادَ فِي الإفادة وأبدأ وأسدى من الْفَضَائِل الجلائل مَا أسدى فَعلم مِنْهُ مآل من رام يقْدَح زند الشتات من بعد الالتئام ويثير عجاجة الْمُنَازعَة من بعد ركُوب القتام هَيْهَات تِلْكَ قلادة الله تَعَالَى الَّتِي مَا كَانَ ليتركها بِغَيْر نظام وَلم يدر أَنكُمْ نصبتم لَهُ من الحزم حبالة لَا يفلتها قنيص سددتم لَهُ من السعد سَهْما مَا لَهُ عَنهُ من محيص بِمَا كَانَ من إرْسَال جوارح الأسطول السعيد فِي مطاره حَائِلا بَينه وَبَين أوطاره فَمَا كَانَ إِلَّا التَّسْمِيَة والإرسال ثمَّ الْإِمْسَاك والقتال ثمَّ الاقتيات والاستعمال فيا لَهُ من زجر استنطق لِسَان الْوُجُود مجدله واستنصر الْبَحْر فخذله وصارع الْقدر فجدله لما جد لَهُ وَإِن خدامكم استولوا على مَا كَانَ فِيهِ من مُؤَمل غَايَة بعيدَة ومنتسب إِلَى نِسْبَة غير سعيدة(3/189)
وشانئ غمرته من الْكفَّار خدام المَاء وأولياء النَّار تحكمت فيهم أَطْرَاف العوالي وصدور الشفار وَتحصل مِنْهُم من تخطاه الْحمام فِي قَبْضَة الأسار فعجبنا من تيسير هَذَا المرام وإخماد الله لهَذَا الضرام وَقُلْنَا تكييف لَا يحصل فِي الأوهام وتسديد لَا تَسْتَطِيع إِصَابَته السِّهَام كلما قدح الْخلاف زندا أطفأ سعدكم شعلته أَو أظهر الشتات ألما أَبْرَأ يمن طائركم علته مَا ذَاك إِلَّا لنِيَّة صدقت معاملتها فِي جنب الله تَعَالَى وَصحت واسترسلت بركتها وسحت وَجِهَاد نذرتموه إِذا فرغت شواغلكم وتمت واهتمام بِالْإِسْلَامِ يَكْفِيهِ الخطوب الَّتِي أهمت فَنحْن نهنيكم بمنح الله ومننه ونسأله أَن يلْبِسكُمْ من إعانته أوقى جننه فأملنا أَن تطرد آمالكم وتنجح فِي مرضات الله أَعمالكُم فمقامكم هُوَ الْعُمْدَة الَّتِي يدافع الْعَدو بسلاحها وتنبلج ظلماته بصفاحها وَكَيف لانهنئكم بصنع على جهتنا يعود وبشابقنا تطلع مِنْهُ السُّعُود فتيقنوا مَا عندنَا من الِاعْتِقَاد الَّذِي رسومه قد اسْتَقَلت وكتفت وديمه بِسَاحَة الود قد وكفت وَالله عز وَجل يَجْعَل لكم الْفتُوح عَادَة وَلَا يعدمكم عناية وسعادة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلي مقامكم وينصر أعلامكم ويهني الْإِسْلَام أيامكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه
وَلما نزل أَبُو الْفضل بساحل السوس لحق بِعَبْد الله السكسيوي صَاحب الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ودعا لنَفسِهِ وَكَانَ ذَلِك إِثْر مقدم الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو من فتح بجاية سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة فَجهز السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهِ عسكره من تلمسان وَعقد على حَرْب السكسيوي وابي الْفضل لوزيره فَارس بن مَيْمُون بن وردار فَسَار حَتَّى نزل على جبل السكسيوي وأحاط بِهِ وَأخذ بمخنقه واختط مَدِينَة لمعسكره وتجمير كتائبه بسفح ذَلِك الْجَبَل سَمَّاهَا الْقَاهِرَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على السكسيوي بعث إِلَى الْوَزير يسْأَله الرُّجُوع إِلَى طَاعَته الْمَعْرُوفَة وَأَن ينْبذ الْعَهْد إِلَى أبي الْفضل ففارقه وانتقل إِلَى جبال المصامدة وَدخل الْوَزير فَارس أَرض السوس فدوخ أقطارها ومهد أكنافها وسارت الألوية والجيوش فِي جهاتها ورتب المسالح فِي ثغورها وأمصارها
وَسَار أَبُو الْفضل ينْتَقل فِي جبال المصامدة إِلَى أَن انْتهى إِلَى صناكة(3/190)
وَألقى بِنَفسِهِ على ابْن الْحميدِي مِنْهُم مِمَّا يَلِي بِلَاد درعة فأجاره وَقَامَ بأَمْره ونازله عَامل درعة يَوْمئِذٍ عبد الله بن مُسلم الزردالي من مشيخة بني عبد الواد كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله قد اصطنعه أَيَّام فَتحه لتلمسان فاستقر فِي دولتهم واندرج فِي صنائعهم فَأخذ بمخنق ابْن الْحميدِي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إِلَيْهِ وداخله فِي التقبض على أبي الْفضل وَأَن يبْذل لَهُ من المَال فِي ذَلِك مَا أحب فَأجَاب ولاطف عبد الله بن مُسلم الْأَمِير أَبَا الْفضل ووعده من نَفسه الدُّخُول فِي الْأَمر وَطلب لقاءه فَركب إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وَلما استمكن مِنْهُ ابْن مُسلم تقبض عَلَيْهِ وَدفع لِابْنِ الْحميدِي مَا اشْترط لَهُ من المَال وأشخصه معتقلا إِلَى أَخِيه السُّلْطَان أبي عنان سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة فأودعه السجْن وَكتب بِالْفَتْح إِلَى القاصية ثمَّ قَتله لليال يسيرَة من اعتقاله خنقا بمحبسه وانقضى أَمر الْخَوَارِج وتمهدت الدولة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وفادة الْوَزير ابْن الْخَطِيب من قبل سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه على السُّلْطَان أبي عنان رَحِمهم الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر قد أوفد وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي عنان إِثْر مهلك السُّلْطَان أبي الْحسن معزيا لَهُ بمصابه فَقدم ابْن الْخَطِيب وَأدّى الرسَالَة وجلى فِي اغراض تِلْكَ السفارة وَعَاد إِلَى غرناطة ثمَّ هلك السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة بمصلى عيد الْفطر وَهُوَ ساجد طعنه بعض الزعانف فأصماه لوقته وَبَايع النَّاس ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف الْغَنِيّ بِاللَّه وَقَامَ بِأَمْر دولته مَوْلَاهُ رضوَان الراسخ الْقدَم فِي قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من مُلُوكهمْ واستبد بِالْأَمر وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بوزارته كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ من قبل وَاتخذ لكتابته غَيره وَجعل ابْن الْخَطِيب رديفا لرضوان فِي أمره وتشاركا فِي الاستبداد(3/191)
مَعًا فجرت الدولة على أحسن حَال ثمَّ إِن السُّلْطَان الْغَنِيّ بِاللَّه بعث وزيره ابْن الْخَطِيب سفيرا عَنهُ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان مستمدا لَهُ على عدوه الطاغية على عَادَة سلفه فِي ذَلِك قَالَ ابْن الْخَطِيب لما أشرفت على مَدِينَة فاس فِي غَرَض هَذِه الرسَالَة خاطبني الْخَطِيب الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَرْزُوق التلمساني بمنزل الشاطبي على مرحلة مِنْهَا بِمَا نَصه
(
(يَا قادما وافي بِكُل نجاح ... أبشر بِمَا تَلقاهُ من أفراح)
(هذي ذرى ملك الْمُلُوك فلذ بهَا ... تنَلْ المنى وتفز بِكُل سماح)
(مغنى الإِمَام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر بالندا طفاح)
(من قَاس جود أبي عنان فِي الندا ... بسواه قَاس الْبَحْر بالضحضاح)
(ملك يفِيض على العفاة نواله ... قبل السُّؤَال وَقبل بسطة رَاح)
(فلجود كَعْب وَابْن سعد فِي الندا ... ذكر محاه عَن نداه ماح)
(مَا أَن سَمِعت وَلَا رَأَيْت بِمثلِهِ ... من أريحي للندا مرتاح)
(بسط الْأمان على الْأَنَام فَأَصْبحُوا ... قد ألحفوا مِنْهُ بِظِل جنَاح)
(وهم على العافين سيب نواله ... حَتَّى حكى سح الْغَمَام الساح)
(فنواله وجلاله وفعاله ... فاقت وأعيت السن المداح)
(وَبِه الدنا أضحت تروق وأصبحت ... كل المنى تنقاد بعد جماح)
(من كَانَ ذَا ترح فرؤية وَجهه ... متلافة الأحزان والأتراح)
(فانهض أَبَا عبد الْإِلَه تفز بِمَا ... تبغيه من أمل ونيل نجاح)
(لَا زلت ترتشف الْأَمَانِي رَاحَة ... من رَاحَة الْمولى بِكُل صباح)
فَالْحَمْد لله يَا سَيِّدي وَأخي على نعمه الَّتِي لَا تحصى حمد يؤم بِهِ جميعنا الْمَقْصد الْأَسْنَى فَيبلغ الأمد الْأَقْصَى فطالما كَانَ مُعظم سَيِّدي للأسى فِي خبال وللأسف بَين اشْتِغَال بَال واشتعال بلبال ولقدومكم على هَذَا الْمحل المولوي فِي ارتقاب ولمواعيدكم بذلك فِي تحقق وُقُوعه من غير شكّ وَلَا ارتياب فها أَنْت تجتني من هَذَا الْمقَام الْعلي بتشيعك وُجُوه المسرة صباحا وتتلقى أَحَادِيث مكارمه ومواهبه مُسندَة صحاحا بحول الله تَعَالَى ولسيدي(3/192)
الْفضل فِي قبُول مركوبة الْوَاصِل إِلَيْهِ بسرجه ولجامه فَهُوَ من بعض مَا لَدَى الْمُعظم من إِحْسَان مَوْلَاهُ وإنعامه ولعمري لقد كَانَ وافدا على سَيِّدي فِي مستقره مَعَ غير فَالْحَمْد لله الَّذِي يسر فِي إيصاله على أفضل أَحْوَاله قَالَ ابْن الْخَطِيب فراجعته بِمَا نَصه
(راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخْفض للجنوح جنَاح)
(وسرت تدل على الْقبُول كَأَنَّمَا ... دلّ النسيم على انبلاج صباح)
(حسناء قد غنيت بِحسن صفاتها ... عَن دملج وقلادة ووشاح)
(أمست تَحض على اللياد بِمن جرت ... بسعوده الأقلام فِي الألواح)
(بخليفة الله الْمُؤَيد فَارس ... شمس الْمَعَالِي الْأَزْهَر الوضاح)
(مَا شِئْت من شيم وَمن همم غَدَتْ ... كالزهر أَو كالزهر فِي الأوداح)
(فضل الْمُلُوك فَلَيْسَ يدْرك شأوه ... أَنى يُقَاس الْغمر بالضحضاح)
(أَسْنَى بني عباسهم بلوائه ... الْمَنْصُور أَو بحسامه السفاح)
(وغدت مغاني الْملك لما حلهَا ... تزري ببدر هدى وبحر سماح)
(وحياة من أهداك تحفة قادم ... فِي الْعرف مِنْهَا رَاحَة الْأَرْوَاح)
(مَا زلت أجعَل ذكره وثناءه ... روح وريحاني الأريح وَرَاح)
(وَلَقَد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الْأَجْسَام بالأرواح)
(وَلَو أنني أَبْصرت يَوْمًا فِي يَدي ... أَمْرِي لطرت إِلَيْهِ دون جنَاح)
(فَالْآن ساعدني الزَّمَان وأيقنت ... من قربه نَفسِي بفوز قداح)
(إيه أَبَا عبد الْإِلَه وَإنَّهُ ... لنداء ود فِي علاك صراح)
(أما إِذا استنجدتني من بعد مَا ... ركدت لما جنت الخطوب ريَاح)
(فإليكها مَهْزُولَة وَأَنا امْرُؤ ... قررت عجزي وأطرحت سلَاح)
سَيِّدي أبقاك الله لعهد تحفظه وَوَلَاء بِعَين الْوَفَاء تلحظه وصلتني رقعتك الَّتِي ابتدعت وبالحق من مولى الْخَلِيفَة صدعت والفتنى وَقد سطت بِي الأوحال حَتَّى كَادَت تتْلف الرّحال وَالْحَاجة إِلَى الْغَدَاء قد شمرت عَن كشح البطين وثانية العجماوين قد توقع فَوَات وَقتهَا وَإِن كَانَت صلَاتهَا صَلَاة الطين(3/193)
والفكر قد غاض مُعينَة وَضعف وعَلى الله جَزَاء الْمولى الَّذِي يُعينهُ فغزتني بكتيبتي بَيَان أسدها هسور وَعلمهَا مَنْصُور وألفاظها لَيْسَ فِيهَا قُصُور ومعانيها عَلَيْهَا الْحسن مَقْصُور واعتراف مثلي بِالْعَجزِ فِي المضايق حول وَمِنْه وَقَول لَا أَدْرِي للْعَالم فَكيف بِغَيْرِهِ جنَّة لَكِنَّهَا بشرتني بِمَا يقل لمؤديه بذل النُّفُوس وَإِن جلت وأطلعتني من السَّرَّاء على وَجه تحسده الشَّمْس إِذا تجلت بِمَا أعلمتني بِهِ من جميل اعْتِقَاد مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله فِي عَبده وَصدق المخيلة فِي كرم مجده وَهَذَا هُوَ الْجُود الْمَحْض وَالْفضل الَّذِي شكره هُوَ الْفَرْض وَتلك الْخلَافَة المولوية تتصف بِصِفَات من يبْدَأ بالنوال من قبل الضراعة وَالسُّؤَال من غير اعْتِبَار للأسباب وَلَا مجازات للأعمال نسْأَل الله تَعَالَى أَن يبقي مِنْهَا على الْإِسْلَام أَو فِي الظلال ويبلغها من فَضله أقْصَى الآمال وَوصل مَا بَعثه سَيِّدي صحبتهَا من الْهَدِيَّة والتحفة الودية وقبلتها امتثالا واستجليت مِنْهَا عتقا وجمالا وسيدي فِي الْوَقْت أنسب باتخاذ ذَلِك الْجِنْس وأقدر على الاستكثار من إناث البهم وَالْإِنْس وَأَنا ضَعِيف الْقُدْرَة غير مستطيع لذَلِك إِلَّا فِي الندرة فَلَو رأى سَيِّدي ورايه سداد وقصده فضل ووداد أَن ينْقل الْقَضِيَّة إِلَى بَاب الْعَارِية من بَاب الْهِبَة مَعَ وجود الْحُقُوق المترتبة لبسط خاطري وَجمعه وَعمل فِي رفع الْمُؤْنَة على شاكلة حَالي مَعَه وَقد استصحبت مركوبا يشق عَليّ هجره ويناسب مقَامي شكله ونجره وسيدي فِي الْإِسْعَاف على الله أجره وَهَذَا أَمر عرض وَفرض فرض وعَلى نظره الْمعول واعتماد إغضائه هُوَ الْمَعْقُول الأول وَالسَّلَام على سَيِّدي من مُعظم قدره وملتزم بره ابْن الْخَطِيب فِي لَيْلَة الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين لذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَالسَّمَاء قد جَادَتْ بمطر سهرت مِنْهُ الأجفان وَظن أَنه طوفان واللحاق فِي غدها بِالْبَابِ المولوي مُؤَمل بحول الله اه
وَلما قدم الْوَزير الْمَذْكُور على السُّلْطَان الْمَذْكُور تقدم الْوَفْد الَّذين مَعَه من وزراء الأندلس وفقهائها وممثل بَين يَدَيْهِ واستأذنه فِي إنشاد شَيْء من الشّعْر يقدمهُ بَين يَدي نَجوَاهُ فَأذن لَهُ وَأنْشد وَهُوَ قَائِم(3/194)
(خَليفَة الله ساعد الْقدر ... علاك مَا لَاحَ فِي الدجى قمر)
(ودافعت عَنْك كف قدرته ... مَا لَيْسَ يَسْتَطِيع دَفعه الْبشر)
(وَجهك فِي النائبات بدر دجى ... لنا وَفِي الْمحل كفك الْمَطَر)
(وَالنَّاس طرا بِأَرْض أندلس ... لولاك مَا أوطنوا وَلَا عمروا)
(وَمن بِهِ مذ وصلت حبلهم ... مَا جَحَدُوا نعْمَة وَلَا كفرُوا)
(وَجُمْلَة الْأَمر أَنه وَطن ... فِي غير علياك مَا لَهُ وطر)
(وَقد أهمتهم نُفُوسهم ... فوجهوني إِلَيْك وَانْتَظرُوا)
فاهتز السُّلْطَان أَبُو عنان لهَذِهِ الأبيات وَأذن لَهُ فِي الْجُلُوس وَقَالَ لَهُ قبل أَن يجلس مَا ترجع إِلَيْهِم إِلَّا بِجَمِيعِ طلباتهم ثمَّ أدّى الرسَالَة وَدفع الْكتاب وَلما عزموا على الِانْصِرَاف أثقل كاهلهم بِالْإِحْسَانِ وردهم بِجَمِيعِ مَا طلبوه
قَالَ ابْن خلدون قَالَ شَيخنَا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الشريف وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَفْد لم نسْمع بسفير قضى سفارته قبل أَن يسلم على السُّلْطَان إِلَّا هَذَا
وَنَصّ الْكتاب الَّذِي قدم بِهِ ابْن الْخَطِيب الْمقَام الَّذِي يُغني عَن كل مَفْقُود بِوُجُودِهِ ويهز إِلَى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ونستضيء عِنْد إظلام الخطوب بِنور سعوده ونرث من الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ أَسْنَى ذخر يَرِثهُ الْوَلَد عَن آبَائِهِ وجدوده مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي رعى الأذمة شَأْنه وصلَة الرَّاعِي سجية انْفَرد بهَا سُلْطَان ومواعد النَّصْر ينجزها زَمَانه وَالْقَوْل وَالْفِعْل فِي ذَات الله تَعَالَى تكفلت بهما يَده الْكَرِيمَة وَلسَانه وتطابق فيهمَا إسراره وإعلانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى محروسا من غير الْأَيَّام جنابه مَوْصُولَة بالوقاية الإلهية أَسبَابه مسدولا على ذَاته الْكَرِيمَة ستر الله تَعَالَى وحجابه مصروفا عَنهُ من صروف الْقدر مَا يعجز عَن رده بوابه وَلَا زَالَ ملْجأ تنْفق لَدَيْهِ الْوَسَائِل الَّتِي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ويسطر فِي صحف الْفَخر ثَوَابه وتشتمل على مَكَارِم الدّين وَالدُّنْيَا أثوابه وتتكفل بنصر الْإِسْلَام وجبر الْقُلُوب عِنْد طوارق الْأَيَّام كتائبه وَكتابه مُعظم مَا عظم من حَقه(3/195)
السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه المستضيء فِي ظلمَة الْخطب بِنور أفقه الْأَمِير عبد الله مُحَمَّد بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْحجَّاج ابْن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد بن فرج بن نصر سَلام كريم بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي لاراد لأَمره وَلَا معَارض لفعله مصرف الْأَمر بقدرته وحكمته وعدله الْملك الْحق الَّذِي بِيَدِهِ ملاك الْأَمر كُله مُقَدّر الْآجَال والأعمار فَلَا يتَأَخَّر شَيْء عَن مِيقَاته وَلَا يبرح عَن مَحَله جَاعل الدُّنْيَا مناخ نَقله لَا يغتبط الْعَاقِل بِمِائَة وَلَا بظله وسبيل رحْلَة فَمَا أكثب ظعنه من حلّه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وَسيد رسله الَّذِي نعتصم بِسَبَبِهِ الْأَقْوَى ونتمسك بحبله ونمد يَد الافتقار إِلَى فَضله ونجاهد فِي سَبيله من كذب بِهِ أَو حاد عَن سبله ونصل إِلَيْهِ ابْتِغَاء مرضاته وَمن أَجله وَالرِّضَا عَن آله وأحزابه وأنصاره وَأَهله المستولين من ميدان الْكَمَال على خصله وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى بعز نَصره ومضاء فَضله فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم وقاية لَا تطرق الخطوب حماها وعصمة ترجع عَنْهَا سِهَام النوائب كلما فَوْقهَا الدَّهْر ورماها وعناية لَا تغير الْحَوَادِث اسْمهَا وَلَا مسماها وَعزا يزاحم أجرام الْكَوَاكِب منتماها من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَنعم الله سُبْحَانَهُ تتواتر لدينا دفعا ونفعا وألطافه نتعرفها وترا وشفعا ومقامكم الأبوي هُوَ الْمُسْتَند الْأَقْوَى والمورد الَّذِي ترده آمال الْإِسْلَام فتروي وتهوي إِلَيْهِ أفئدتهم فتجد مَا تهوى ومثابتكم الْعدة الَّتِي تأسست مبانيها على الْبر وَالتَّقوى وَإِلَى هَذَا وصل الله تَعَالَى سعدكم وَأبقى مجدكم فَإنَّا لما نعلم من مساهمة مجدكم الَّتِي يقتضيها كرم الطباع وطباع الْكَرم وَتَدْعُو إِلَيْهَا ذمم الرَّعْي ورعي الذمم نعرفكم بعد الدُّعَاء لملككم بدفاع الله تَعَالَى عَن إرتقائه وامتاع الْمُسلمين بِبَقَائِهِ بِمَا كَانَ من وَفَاة مَوْلَانَا الْوَالِد نَفعه تَعَالَى بالسعادة الَّتِي ألبسهُ حلتها وَالشَّهَادَة الَّتِي فِي أَعمالهَا الزكية كتبهَا والدرجة الْعَالِيَة الَّتِي حتمها لَهُ وأوجبها وَبِمَا تصير لنا من أمره وَضم بِنَا من نشره وسدل على من خَلفه من ستره وَإِنَّهَا لعبرة لمن ألْقى السّمع وموعظة تهز الْجمع وَترسل الدمع وحادثة أجمل الله تَعَالَى فِيهَا(3/196)
الدّفع وَشرح مجملها وَإِن اخرس اللِّسَان هولها وَأسلم الْعبارَة قوتها وحولها إِنَّه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما برز لإِقَامَة سنة هَذَا الْعِيد مستشعرا شعار كلمة التَّوْحِيد مظْهرا سمة الخضوع للْمولى الَّذِي تضرع بَين يَدَيْهِ رِقَاب العبيد آمنا بَين قومه وَأَهله متسربلا فِي حلل نعم الله تَعَالَى وفضله قرير الْعين باكتمال عزه واجتماع شَمله قد احترس بأقصى استطاعته وَاسْتظْهر بخلصان طَاعَته وَالْأَجَل الْمَكْتُوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت الْقَضَاء وَالْقدر وَسجد بعد الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صلَاته أَتَاهُ أمرالله لميقاته على حِين الشَّبَاب غض جلبابه وَالسِّلَاح زاخر عبابه وَالدّين بِهَذَا الْقطر قد أينع بالأمن جنابه وَأمر من يَقُول للشَّيْء كن فَيكون قد بلغ كِتَابه وَلم يرعه وَقد اطمأنت بِذكر الله تَعَالَى الْقُلُوب وخلصت الرغبات إِلَى فَضله الْمَطْلُوب إِلَّا شقي قيضه الله تَعَالَى لسعادته غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب وخبيث لم يكن بمعتبر وَلَا مَحْسُوب تخَلّل الصُّفُوف المعقودة وَتجَاوز الْأَبْوَاب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم المحشورة إِلَى طَاعَة الله المحشودة لَا تدل الْعين عَلَيْهِ شارة وَلَا بزَّة وَلَا تحمل على الحذر من مثله أَنفه وَلَا عزة وَإِنَّمَا هُوَ خَبِيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وَحي مَحْذُور وَآلَة مصرفة لينفذ بهَا قدر مَقْدُور فَلَمَّا طعنه وأثبته وأعلق بِهِ شرك الْحِين فَمَا أفلته قبض عَلَيْهِ من الخلصان الْأَوْلِيَاء من خبر ضَمِيره وَأحكم تَقْرِيره فَلم يجب عِنْد الِاسْتِفْهَام جَوَابا يعقل وَلَا عثر على شَيْء عَنهُ ينْقل لطفا من الله أَفَادَ بَرَاءَة الذمم وتعاورته للحين أَيدي التمزيق وَاتبع شلوه بالتحريق وَاحْتمل مَوْلَانَا الْوَالِد رَحمَه الله إِلَى الْقصر وَبِه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إِلَّا أيسر من الْيَسِير وتخلف الْملك ينظر من الطّرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وَقد عَاد جمع السَّلامَة إِلَى جمع التكسير إِلَّا أَن الله تَعَالَى تدارك هَذَا الْقطر الْغَرِيب أَن أقامنا مقَامه لوقته وحينه وَرفع عماد بِنَاء ملكه وَلم شعث دينه وَكَانَ جَمِيع من حضر المشهد من شرِيف النَّاس ومشروفهم وأعلامهم ولفيفهم قد جمعه ذَلِك الْمِيقَات وَحضر الْأَوْلِيَاء الثِّقَات فَلم تخْتَلف علينا كلمة وَلَا شذت مِنْهُم عَن بيعتنا نفس مسلمة وَلَا أخيف بري وَلَا حذر جري وَلَا فرى فري وَلَا وَقع لبس وَلَا استوحشت(3/197)
نفس وَلَا نبض للفتنة وَلَا أغفل للدّين حق فاستند النَّقْل إِلَى نَصه وَلم يعْدم من فقيدنا غير شخصه وبادرنا إِلَى مُخَاطبَة الْبِلَاد نمهدها ونسكنها ونقرر الطَّاعَة فِي النُّفُوس ونمكنها وأمرنا النَّاس بهَا بكف الْأَيْدِي وَرفع التَّعَدِّي وَالْعَمَل من حفظ شُرُوط المسالمة المعقودة بِمَا يجدي من شَره مِنْهُم للفرارا عاجلناه بالإنكار وصرفنا على النَّصَارَى مَا أوصاه مصحبا بالإعتذار وخاطبنا صَاحب قشتالة نرى مَا عِنْده فِي صلَة السّلم إِلَى أمدها من الْأَخْبَار واتصلت بِنَا البيعات من جَمِيع الأقطار وَعفى على حزن الْمُسلمين بوالدنا مَا ظهر عَلَيْهِم بولايتنا من الإستبشار واستبقوا تطير بهم أَجْنِحَة الإبتدار جعلنَا الله تَعَالَى مِمَّن قَابل الْحَوَادِث بالإعتبار وَكَانَ على حذر من تصاريف الأقدار وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وأعاننا على إِقَامَة دينه فِي هَذَا الوطن الْغَرِيب الْمُنْقَطع بَين الْعَدو الطاغي وَالْبَحْر الزخار وألهمنا من شكره مَا يتكفل بالمزيد من نعمه وَلَا قطع عَنَّا عوائد كرمه وَإِن فَقدنَا والدنا فَأَتمَّ لنا من بعده الْوَالِد والذخر الَّذِي تكرم مِنْهُ العوائد وَالْحب يتوارث كَمَا ورد فِي الْأَخْبَار الَّتِي صحت مِنْهَا الشواهد وَمن أعد مثلكُمْ لِبَنِيهِ فقد تيسرت من بعد الْمَمَات أمانيه وتأسست قَوَاعِد ملكه وتشيدت مبانيه فالإعتقاد الْجَمِيل مَوْصُول وَالْفُرُوع لَهَا فِي التَّشَيُّع إِلَيْكُم أصُول وَفِي تَقْرِير فخركم محصول وَأَنْتُم ردء الْمُسلمين بِهَذِهِ الْبِلَاد الْمسلمَة الَّذِي يعينهم بإرفاده وَيَنْصُرهُمْ بإنجاده ويعامل الله تَعَالَى فِيهَا بِصدق جهاده وعندما اسْتَقر هَذَا الْأَمر الَّذِي تبِعت المحنة فِيهِ المنحة وراقت من فضل الله تَعَالَى ولطفه فِيهِ الصفحة وأخذنا الْبيعَة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أَيْمَانهم وتأصلت قَوَاعِد ألفاظها ومعانيها فِي قُلُوبهم وآذانهم وضمنوا الْوَفَاء بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ وَقد خبر سلفنا وَالْحَمْد لله وَفَاء ضمانهم بادرنا تَعْرِيف مقامكم الَّذِي نعلم مساهمته فِيمَا سَاءَ وسر أحلى وَأمر عملا بِمُقْتَضى الخلوص الَّذِي ثَبت وَاسْتقر وَالْحب الَّذِي مَا مَال يَوْمًا وَلَا أَزور وَمَا أَحَق تَعْرِيف مقامكم بِوُقُوع هَذَا الْأَمر الْمَحْذُور وانجلاء ليله عَن صبح الصنع البادي السفور وَإِن كُنَّا قد خاطبنا من خدامكم من يُبَادر إعلامكم بالأمور إِلَّا(3/198)
أَنه أَمر لَهُ مَا بعده وحادث يَأْخُذ حَده ونبعث إِلَى بَابَكُمْ من شَاهد الْحَال مَا بَين وُقُوعهَا إِلَى استقرارها رَأْي العيان وَتَوَلَّى تسديد الْأُمُور بِأَعْمَالِهِ الْكَرِيمَة ومقاصده الحسان ليَكُون أبلغ فِي الْبر وأشرح للصدر وأوعب للْبَيَان فوجهنا إِلَيْكُم وَزِير أمرنَا وَكَاتب سرنا الْفَقِيه الْأَجَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْخَطِيب وألقينا إِلَيْهِ من تَقْرِير تعويلنا على ذَلِك الْمقَام الْأَسْنَى واستنادنا من التَّشَيُّع إِلَيْهِ إِلَى الرُّكْن الوثيق الْمَبْنِيّ مَا نرجو أَن يكون لَهُ فِيهِ الْمقَام الأغنى وَالثَّمَرَة العذبة الْمَجْنِي فلاهتمامه بِهَذَا الْغَرَض الأكيد الَّذِي هُوَ أساس بنائنا وقامع أَعْدَائِنَا آثرنا تَوْجِيهه على توفر الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ ومدار الْحَال عَلَيْهِ والمرغوب من أبوتكم المؤملة أَن يتلقاه قبُولهَا بِمَا يَلِيق بِالْملكِ العالي والخلافة السامية الْمَعَالِي وَالله عز وَجل يديم أيامكم لصلة الْفضل المتوالي ويحفظ مجدكم من غير الْأَيَّام والليالي وَهُوَ سُبْحَانَهُ يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويوالي نصركم وعضدكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه
وللسلطان الْغَنِيّ بِاللَّه هَذَا مَعَ السُّلْطَان أبي عنان رحمهمَا الله مراسلات عديدة ومكاتبات مديدة قد ذكر صَاحب نفح الطّيب مِنْهَا جملَة وافرة مَعَ التَّنْبِيه على أَسبَابهَا فانظرها فِيهِ إِن شِئْت وَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي هَذِه الْوِفَادَة وَغَيرهَا إِكْرَاما بليغا وَلما انْصَرف عَنهُ مدحه بقصيدة طَوِيلَة طنانة يَقُول فِي أَولهَا
(أبدى لداعي الْفَوْز وَجه منيب ... وأفاق من عذل وَمن تأنيب)
وَيَقُول فِي أَثْنَائِهَا
(يَا نَاصِر الدّين الحنيف وَأَهله ... إنضاء مسغبة وفل خطول)
(حقق ظنون بنيه فِيك فَإِنَّهُم ... يتعللون بوعدك المرقوب)
(ضَاقَتْ مَذَاهِب نَصرهم فتعلقوا ... بجناب عز من علاك رحيب)
(ودجا ظلام الْكفْر فِي آفاقهم ... أَو لَيْسَ صبحك مِنْهُم بقريب)
(فَانْظُر بِعَين الْعِزّ من ثغر غَدا ... حذر العدا يرنو بِطرف مريب)
(نادتك أندلس ومجدك ضَامِن ... أَلا يخيب لديك ذُو مَطْلُوب) وَهِي طَوِيلَة(3/199)
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة انْتقض على السُّلْطَان أبي عنان وزيره وَصَاحب شواره عِيسَى بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من شُيُوخ بني مرين ووجوها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان قد اسْتَعْملهُ على جبل طَارق فتمكنت رياسته بِهِ وانتقض على السُّلْطَان لأسباب يطول شرحها ثمَّ التاثت حَاله وَضَاقَتْ مذاهبه فَقبض عَلَيْهِ وأحضر بَين يَدي السُّلْطَان أبي عنان هُوَ وَابْنه يَوْم منى من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فتنصلا واعتذرا فَلم يقبل مِنْهُمَا وأودعهما السجْن وضيق عَلَيْهِمَا وَلما كَانَ آخر السّنة أَمر بهما فجنبا إِلَى مصارعهما وَقتل عِيسَى قعصا بِالرِّمَاحِ وَقطع ابْنه أَبُو يحيى من خلاف وأبى من مداواة قطعه فَلم يزل يتخبط فِي دَمه إِلَى أَن هلك بعد ثَلَاثَة أَيَّام من قطعه وَعقد السُّلْطَان على جبل طَارق وَسَائِر ثغور الأندلس لِسُلَيْمَان بن دَاوُد ثمَّ عقد بعده لوَلَده أبي بكر السعيد وَهُوَ الَّذِي تولى الْملك بعده وَالله أعلم
رحْلَة السُّلْطَان أبي عنان الى سلا وتطارحه على وَليهَا الْأَكْبَر أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ
كَانَ لبني مرين عُمُوما وللسلطان أبي عنان خُصُوصا جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي أَهله وَتعرض لمن يشار إِلَيْهِ بالصلاح واستمطار لطله ووبله وَكَانَ الشَّيْخ الْأَشْهر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر الأندلس رَضِي الله عَنهُ قد استوطن فِي هَذَا التَّارِيخ مَدِينَة سلا وَكَانَ من الْأَفْرَاد الجامعين بَين الْعلم وَالْعَمَل المتمسكين بِالْكتاب وَالسّنة الناهجين سنَن السّلف الصَّالح فِي الزّهْد والورع والإنقطاع عَن الْخلق جملَة بِحَيْثُ طَار ذكره وَعظم لَدَى الْخَاص وَالْعَام(3/200)
قدره فتحركت همة السُّلْطَان أبي عنان لزيارته والإقتباس مِمَّا يفتح الله بِهِ من وعظه وإشارته فارتحل سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة إِلَى سلا فَقَدمهَا وحرص على الإجتماع بالشيخ الْمَذْكُور ووقف بِبَابِهِ مرَارًا فَلم يَأْذَن لَهُ وترصده يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة وَلما انفض النَّاس تبعه على قَدَمَيْهِ وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يرَاهُ فَقَالَ السُّلْطَان عِنْد ذَلِك لقد منعنَا من هَذَا الْوَلِيّ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ وَلَده رَاغِبًا ومستعطفا فَأَجَابَهُ بِمَا قطع رَجَاءَهُ من لِقَائِه غير أَنه كتب إِلَيْهِ كتابا وعظه فِيهِ وَذكره فسر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك الْكتاب وحزن لما فَاتَهُ من الإجتماع بالشيخ وَقد ذكر الْفَقِيه الْعَلامَة الْبركَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بن عبد الرَّحْمَن السلاوي الْمَدْعُو بالحافي فِي كِتَابه تحفة الزائر فِي مَنَاقِب الشَّيْخ ابْن عَاشر نَص هَذَا الْكتاب وَلم يحضرني الْآن فَانْظُرْهُ فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
غَزْوَة السُّلْطَان أبي عنان إفريقية وَفتح قسنطينة ثمَّ فتح تونس بعْدهَا
لما كَانَ أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة اعتزم السُّلْطَان أَبُو عنان على النهوض إِلَى إفريقية واضطرب مُعَسْكَره بِسَاحَة فاس الْجَدِيد وَبعث فِي الحشد إِلَى مراكش وأوعز إِلَى بني مرين بِأخذ الأهبه للسَّفر وَجلسَ للعطاء وَعرض الْجنُود من لدن عزمه على النهوض إِلَى شهر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَخمسين بعْدهَا ثمَّ ارتحل من فاس وسرح فِي مقدمته وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي العساكر وَسَار هُوَ فِي ساقته على التعبية إِلَى أَن احتل ببجاية وتلوم لإزاحة الْعِلَل ثمَّ نَازل الْوَزير قسنطينة وَجَاء السُّلْطَان على أَثَره وَلما أطلت راياته وَمَاجَتْ الأَرْض بجُنُوده ذعر أهل الْبَلَد وألقوا بِأَيْدِيهِم إِلَى الأذعان وانفضوا من حول سلطانهم أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي وجاؤوا مهطعين إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وتحيز الحفصي فِي خاصته إِلَى القصبة ثمَّ طلبُوا الْأمان من السُّلْطَان أبي عنان فبذله لَهُم وَخَرجُوا وأنزلهم بمعسكره أَيَّامًا ثمَّ بعث بِأبي الْعَبَّاس فِي(3/201)
الأسطول إِلَى سبتة فاعتقله بهَا وَعقد على قسنطينة لمنصور بن الْحَاج خلوف الياباني من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى مِنْهُم وأنزله بالقصبة فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة ووصلت إِلَيْهِ بيعات أُمَرَاء الْأَطْرَاف من توزر ونفطة وَقَابِس وَغَيرهَا ووفد عَلَيْهِ أَوْلَاد مهلهل أُمَرَاء بني كَعْب من سليم وأقبال بني أبي اللَّيْل مِنْهُم يستحثونه لملك تونس فسرح مَعَهم العساكر وَعقد عَلَيْهَا ليحيى بن عبد الرَّحْمَن بن تاشفين وَبعث أسطوله فِي الْبَحْر مدَدا لَهُم وَعقد عَلَيْهِ للرئيس مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بالأبكم من أُمَرَاء بني الْأَحْمَر
وَكَانَ سُلْطَان تونس يَوْمئِذٍ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الحفصي وَلما اتَّصل بِهِ خبر بني مرين أخرج حَاجِبه أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين لقتالهم فزحفت الجيوش إِلَى تونس وَوصل الأسطول إِلَى مرْسَاها فَقَاتلهُمْ ابْن تافارجين يَوْمًا أَو بعض يَوْم ثمَّ ركب اللَّيْل إِلَى المهدية فتحصن بهَا وَدخل أَوْلِيَاء السُّلْطَان إِلَى تونس فِي رَمَضَان من سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا بهَا الدعْوَة المرينية واحتل يحيى بن عبد الرَّحْمَن بالقصبة وأنفذ الْأَوَامِر وَكتب إِلَى السُّلْطَان أبي عنان بِالْفَتْح فَعظم سروره وَنظر بعد ذَلِك فِي أَحْوَال ذَلِك الْقطر وَقبض أَيدي الْعَرَب من ريَاح عَن الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فارتابوا وطالبهم بِالرَّهْنِ عَن الطَّاعَة فَأَجْمعُوا الْخلاف والتفوا على أَمِيرهمْ يَعْقُوب بن عَليّ وَلَحِقُوا بالزاب وارتحل السُّلْطَان فِي اثرهم فأجفلوا أَمَامه إِلَى القفر فخرب حصونهم الَّتِي بالزاب وَرجع عَنْهُم وَحمل لَهُ ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب جبايته وَأطلق الْمُؤَن للعسكر من الإدام وَالْحِنْطَة والحملان والعلوفة ثَلَاثَة أَيَّام وكافأه السُّلْطَان على صَنِيعه فَخلع عَلَيْهِ وعَلى أَهله وَولده وأسنى جوائزهم
وَرجع إِلَى قسنطينة واعتزم على الرحلة إِلَى تونس وَضَاقَتْ العساكر ذرعا بشأن النَّفَقَات والإبعاد فِي الرحلة وارتكاب الْخطر فِي دُخُول إفريقية(3/202)
فتمشت رجالاتهم فِي الانفضاض عَن السُّلْطَان وداخلو الْوَزير فَارس بن مَيْمُون فِي ذَلِك فوفقهم ثمَّ أذن شُيُوخ الْعَسْكَر ونقباؤه لمن تَحت أَيْديهم من الْقَبَائِل فِي اللحاق بالمغرب حَتَّى يبقو منفردين وأنهى إِلَى السُّلْطَان أبي عنان أَن شُيُوخ الْعَسْكَر قد عزموا على قَتله وَنصب إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِلْأَمْرِ فأسرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَرَأى قلَّة من مَعَه من الْجند فارتاب وكر رَاجعا إِلَى الْمغرب بعد أَن كَانَ ارتحل عَن قسنطينة إِلَى جِهَة تونس مرحلَتَيْنِ فانكفأ وأغذ السّير إِلَى فاس فاحتل بهَا غرَّة ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وَخمسين الْمَذْكُورَة وتقبض يَوْم دُخُوله على وزيره فَارس بن مَيْمُون لِأَنَّهُ اتهمه بمداخلة بني مرين فِي شَأْنه وَقَتله رَابِع أَيَّام التَّشْرِيق قعصا بِالرِّمَاحِ وتقبض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع طَائِفَة مِنْهُم السجْن
وَلما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية بلغ خَبره إِلَى الْجِهَات فارتحل أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين من المهدية إِلَى تونس وَلما أطل عيها ثارت شيعَة الحفصيين على من كَانَ بهَا من جَيش بني مرين فنجوا إِلَى السفن وركبوا الْبَحْر إِلَى الْمغرب وَجَاء على أَثَرهم يحيى بن عبد الرَّحْمَن فِيمَن كَانَ مَعَه من العساكر وَأَوْلَاد مهلهل وَكَانَ يَوْم الهيعة بِنَاحِيَة الجريد لاقْتِضَاء جبايته فصوب إِلَى الْمغرب واجتمعوا كلهم بِبَاب السُّلْطَان أبي عنان فأرجأ حركته إِلَى الْعَام لقابل وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وزارة سُلَيْمَان بن دَاوُد ونهوضه بالعساكر إِلَى إفريقية
لما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية وَلم يستتم فتحهَا بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا شَيْء وخشي على ضواحي قسنطينة من يَعْقُوب بن عَليّ وَمن مَعَه من الذواودة الْمُخَالفين فأهمه شَأْنهمْ واستدعى سُلَيْمَان بن دَاوُد من مَكَانَهُ بجبل طَارق وَعقد لَهُ على وزارته وسرحه فِي العساكر إِلَى إفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان لما خَالف عَلَيْهِ يَعْقُوب بن عَليّ وفر إِلَى القفر أَقَامَ مَكَانَهُ أَخَاهُ المنازع لَهُ فِي رياسة ريَاح(3/203)
مَيْمُون بن عَليّ وَقدمه على أَوْلَاد مُحَمَّد من الذواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو فَنزع إِلَيْهِ عَن أَخِيه يَعْقُوب الْكثير من قومه وَتمسك بِطَاعَة السُّلْطَان أَيْضا طوائف من أَوْلَاد سِبَاع بن يحيى فانحاشوا جَمِيعًا للوزير ونزلوا بحللهم على مُعَسْكَره
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان ابو عنان من فاس حَتَّى احتل بتلمسان فَأَقَامَ بهَا لمشارفة أَحْوَال الْوَزير الْمَذْكُور واحتل الْوَزير بوطن قسنطينة وَبعث إِلَى عَامل بسكرة والزاب يُوسُف بن مزني بِأَن تكون يَده مَعَه وَأَن يفاوضه فِي أَحْوَال الذواودة لرسوخه فِي مَعْرفَتهَا فارتحل إِلَيْهِ من بسكرة ونازلوا جبل أوراين واقتضوا جبايته ومغارمه وشردوا الْمُخَالفين من الذواودة عَن العيث فِي الوطن فتم غرضهم من ذَلِك وانْتهى الْوَزير وعساكر السُّلْطَان إِلَى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات ريَاح وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب فَوَافى السُّلْطَان أَبَا عنان بتلمسان ووصلت مَعَه وُفُود الْعَرَب الَّذين أبلوا فِي الْخدمَة فوصلهم السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء بالزاب وَكتب لَهُم بذلك وانقلبوا إِلَى أَهْليهمْ فرحين مغتبطين ووفد على اثرهم أَحْمد بن يُوسُف بن مزني اوفده أَبوهُ بهدية إِلَى السُّلْطَان من الْخَيل وَالرَّقِيق والدرق فتقبلها السُّلْطَان وَأكْرم وفادته ثمَّ استصحبه إِلَى فاس ليريه أَحْوَال كرامته وليستبلغ فِي الاحتفاء بِهِ واحتل بدار ملكه منتصف ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة
وَفَاة السُّلْطَان أبي عنان رَحمَه الله
لما وصل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى دَار ملكه بفاس احتل بهَا بَين يَدي الْعِيد الْأَكْبَر حَتَّى إِذا قضى الصَّلَاة من يَوْم الْأَضْحَى أدْركهُ الْمَرَض بالمصلى وأعجله طائف الوجع عَن الْجُلُوس للنَّاس يَوْم الْعِيد على الْعَادة فَدخل قصره وَلزِمَ فرَاشه(3/204)
وَذكر ابْن خلدون مَا حَاصله إِنَّه كَانَت بَين الْوَزير حسن بن عمر الفودودي وَبَين ولي الْعَهْد أبي زيان مُحَمَّد بن السُّلْطَان أبي عنان نفرة مستحكمة لسوء طويته وَشر ملكته فاتفق الْوَزير الْمَذْكُور مَعَ من كَانَ على رَأْيه من أهل مجْلِس السُّلْطَان على تَحْويل الْأَمر عَنهُ إِلَى غَيره من أَبنَاء السُّلْطَان فَأَجْمعُوا الفتك بِهِ والبيعة لِأَخِيهِ أبي بكر السعيد طفْلا خماسيا ثمَّ أغروا الْوَزير مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي بتطلب أبي زيان ولي الْعَهْد فِي نواحي الْقصر والتقبض عَلَيْهِ فَدخل إِلَيْهِ وتلطف فِي إِخْرَاجه من بَين الْحرم وقاده إِلَى أَخِيه السعيد فَبَايع وثل إِلَى بعض حجر الْقصر فاتلفت فِيهَا مهجته واستقل الْحسن بن عمر بِالْأَمر يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَالسُّلْطَان أَبُو عنان أثْنَاء ذَلِك يجود بِنَفسِهِ وارتقب النَّاس دَفنه يَوْم الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس بعده فَلم يدْفن فارتابوا وفشى الْكَلَام فَدخل الْوَزير زَعَمُوا إِلَيْهِ بمكانه من قصره ثمَّ غطه حَتَّى أتْلفه وَدفن يَوْم السبت وحجب الْحسن بن عمر الْوَلَد الْمَنْصُوب لِلْأَمْرِ وأغلق عَلَيْهِ بَابه وَتفرد بِالْأَمر وَالنَّهْي دونه انْتهى وَهَذَا أول مرض نزل بالدولة المرينية
وَقَالَ فِي الجذوة توفّي السُّلْطَان أَبُو عنان قَتِيلا خنقه وزيره الْحسن بن عمر الفودودي يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة متم سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَسنة يَوْم توفّي ثَلَاثُونَ سنة
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي عنان وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان رَحمَه الله أَبيض اللَّوْن تعلوه صفرَة طَوِيل الْقَامَة يشرف على النَّاس بِطُولِهِ نحيف الْبدن عالي الْأنف حسنه أعين أدعج جَهورِي الصَّوْت فِي كَلَامه عجلة حَتَّى لَا يكَاد السَّامع يفهم مَا يَقُول عَظِيم اللِّحْيَة تملأ صَدره أسودها وَإِذا مرت بهَا الرّيح تَفَرَّقت نِصْفَيْنِ حَتَّى يستبين مَوضِع الذقن وَكَانَ فَارِسًا شجاعا يقوم فِي الْحَرْب مقَام جنده وَكَانَ فَقِيها(3/205)
يناظر الْعلمَاء الجلة عَارِفًا بالْمَنْطق وأصول الدّين وَله حَظّ صَالح من علمي الْعَرَبيَّة والحساب وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بناسخه ومنسوخه حَافِظًا للْحَدِيث عَارِفًا بِرِجَالِهِ فصيح الْقَلَم كَاتبا بليغا حسن التوقيع شَاعِرًا أنْشد لَهُ صَاحب الجذوة اشعارا حَسَنَة من ذَلِك فِي الْحِكْمَة قَوْله
(وَإِذا تصدر للرياسة خامل ... جرت الْأُمُور على الطَّرِيق الأعوج)
وَقَالَ ابْن الْأَحْمَر كنت يَوْمًا جَالِسا مَعَه بمقعد ملكه من الْمَدِينَة الْبَيْضَاء بفاس فَدخل عَلَيْهِ رجل يتصلح فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ بديهة
تراهم فِي ظواهرهم كراما ... ويخفون المكيدة والخداعا)
وللسلطان أبي عنان رَحمَه الله آثَار دينية من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا وَغير ذَلِك ومدرسته العنانية بفاس مَشْهُورَة إِلَى الْآن وَمن مدارسه الْمدرسَة العجيبة بحومة بَاب حُسَيْن من سلا وَقد صَارَت الْيَوْم فندقا يعرف بفندق أسكور وَمِمَّا قَالَه أَبُو بكر بن جزي فِي بعض مَا أنشأه السُّلْطَان الْمَذْكُور من الزوايا قَوْله
(هَذَا مَحل الْفضل والإيثار ... والرفق بالسكان وَالزُّوَّارِ)
(دَار على الْإِحْسَان شيدت والتقى ... فجزاؤها الْحسنى وعقبى الدَّار)
(هِيَ ملْجأ للواردين ومورد ... لِابْنِ السَّبِيل وكل ركب ساري)
(آثَار مَوْلَانَا الْخَلِيفَة فَارس ... أكْرم بهَا فِي الْمجد من آثَار)
(لَا زَالَ مَنْصُور اللِّوَاء مظفرا ... ماضي العزائم سامي الْمِقْدَار)
(بنيت على يَد عبدهم وخديم ... بابهم الْعلي مُحَمَّد بن حدار)
(فِي عَام أَرْبَعَة وَخمسين انْقَضتْ ... من بعد سبعمئين فِي الْأَعْصَار)
وَقَالَ صَاحب الجذوة حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد اليدري أَن السُّلْطَان أَبَا عنان هُوَ الَّذِي أحدث بفاس الْعلم الْأَزْرَق فِي الصومعة يَوْم الْجُمُعَة
وَقَالَ فِي مَوْضُوع آخر مِنْهَا حُكيَ أَن السُّلْطَان ابا عنان المريني صعد الصومعة يَعْنِي بالقرويين ليعتبر الْمَدِينَة وترتيبها ووقف على المنجانة وَمَا اتَّصل بهَا فَاسْتحْسن ذَلِك وأنعم على النَّاظر فِيهَا بمرتب وسع عَلَيْهِ فِيهِ(3/206)
ليستعين بِهِ على الْقيام بشعائر الْإِسْلَام وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَالَ وَأمر بإثر ذَلِك بِأَن ينصب بِأَعْلَى الصومعة صاري من خشب وينشر فِيهِ علم فِي الْأَوْقَات الَّتِي يصلى فِيهَا وفنار فِيهِ سراج مزهر فِي أَوْقَات صَلَاة اللَّيْل ليستدل بذلك من بعد وَمن لم يسمع النداء وَفِي ذَلِك اعتناء بِأُمُور الْأَوْقَاف وَمَا يتَعَلَّق بهَا من وجوب الصَّلَوَات وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا من وُجُوه الْحُقُوق فِي الْعَادَات والعبادات وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك
(نور بِهِ علم الْإِيمَان مُرْتَفع ... للمهتدين بِهِ للحق إرشاد)
(يأْتونَ من كل صوب نَحوه فَلهم ... لَدَيْهِ للرشد إصدار وإيراد)
وَقد لخص ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله فِي رقم الْحلَل سيرة السُّلْطَان أبي عنان فَقَالَ
(وخلص الْأَمر لكف فَارس ... باني الزوايا الكثر والمدارس)
(الْأسد المفترس الْمَصْنُوع لَهُ ... من نَالَ من كل المساعي أمله)
(وَاحِد آحَاد الْمُلُوك العظما ... ومطلع النَّصْر إِذا مَا أقدما)
(ومخجل الْغَيْث إِذا الْغَيْث هما ... الْملك وَملك العلما)
(أوجب حق الشّعْر وَالْكِتَابَة ... فَأَمْلَتْ أعلامها جنابه)
(واستجلب الأماثل الكبارا ... النبهاء الْعلية الأخيارا)
(يجبرهم على حُضُور الدولة ... فهم بدور وشموس حوله)
(وَكَانَ جبارا على خُدَّامه ... ينالهم فِي القسر فِي أَحْكَامه)
(مذْهبه أَلا يقيل عثره ... حَتَّى لأرباب التقى والثرة)
(فطْرَة السَّيْف تناغي الدرة ... إِذْ غلبت على المزاج الْمرة)
(وَمَات فِيمَا قيل شَرّ ميتَة ... بغيلة لنَفسِهِ مفيته)
(لم يغن عَنهُ الْبَأْس والبسالة ... وأصبحت مهجته مسالة)
(وألقيت أزمة التَّدْبِير ... من بعده فِي رَاحَة الْوَزير)
وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو الْقَاسِم بن رضوَان وَأَبُو الْقَاسِم الْبُرْجِي
وَمن أَعْيَان قُضَاته أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري وَهُوَ(3/207)
جد أبي الْعَبَّاس الْمقري صَاحب نفح الطّيب وَغَيره من التآليف الحسان وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الفشتالي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع(3/208)
4 -(4/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة المرينية
الْقسم الثَّانِي
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان السعيد بِاللَّه أبي بكر بن أبي عنان بن أبي الْحسن المريني
هَذَا السُّلْطَان أول من استبد عَلَيْهِ من مُلُوك بني مرين أمه أم ولد اسْمهَا الياسمين كنيته أَبُو يحيى وَهِي كنية كل من اسْمه أَبُو بكر لقبه السعيد بِاللَّه صفته دري اللَّوْن مستدير الْوَجْه حسن الْأنف ألعس الشفتين براق الثنايا جعد الشّعْر بُويِعَ وَأَبوهُ مَرِيض فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ محجوبا بوزيره حسن بن عمر الفودودي لَا يملك مَعَه ضرا وَلَا نفعا وَلما بُويِعَ لحق أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي عنان بجبل الكاي وَكَانَ أسن مِنْهُ وَإِنَّمَا آثروه لمَكَان ابْن عَمه مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي من وزارته فبعثوا إِلَيْهِ من لاطفه واستنزله على الْأمان وَجَاء بِهِ إِلَى أَخِيه فاعتقله الْحسن ابْن عمر بقصبته من فاس وَبعث على أَبنَاء السُّلْطَان الأصاغر الْأُمَرَاء بالثغور فجَاء المعتصم من سجلماسة وَامْتنع الْمُعْتَمد بمراكش وَكَانَ بهَا فِي كَفَالَة عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وَكَانَ عَامر هَذَا من بيوتات هنتاتة وَأهل الرياسة والشرف فيهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان قد أوصى إِلَيْهِ بولده الْمَذْكُور وَجعله هُنَالك لنظره فَلَمَّا بعثوا عَلَيْهِ مَنعه من الْوُصُول إِلَيْهِم وَخرج بِهِ من(4/3)
مراكش إِلَى حصنه من جبل هنتاتة فَجهز إِلَيْهِ الْوَزير حسن بن عمر الجيوش لنظر الْوَزير سُلَيْمَان بن دَاوُد مُشَاركَة فِي الاستبداد وسرحه فِي الْمحرم سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة فَسَار إِلَى مراكش فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ تخطى إِلَى الْجَبَل فأحاط بِهِ وضيق على عَامر حَتَّى أشرف على اقتحام الْحصن إِلَى أَن بلغه خبر افْتِرَاق بني مرين بفاس وَظُهُور مَنْصُور بن سُلَيْمَان بهَا على مَا نذكرهُ فانفض الْعَسْكَر من حوله وتسابقوا إِلَى مَنْصُور فَلَحقُوا بِهِ وَلحق بِهِ سُلَيْمَان ابْن دَاوُد أَيْضا وتنفس الْحصار عَن عَامر ومكفوله وَالله غَالب على أمره
ظُهُور أبي حمو مُوسَى بن يُوسُف الزياني واستيلاؤه على تلمسان ونهوض مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن إِلَيْهِ وطرده عَنْهَا
كَانَ بَنو عَامر بن زغبة من عرب هِلَال خَارِجين على السُّلْطَان أبي عنان مُنْذُ استيلائه على تلمسان وَكَانَت رياستهم إِلَى صَغِير بن عَامر بن إِبْرَاهِيم وَلما رَجَعَ أَبُو عنان إِلَى فاس اعتزم صَغِير على الرحلة بقَوْمه إِلَى وطنهم من صحراء الْمغرب لأَنهم كَانُوا منتبذين عَنْهَا بأطراف إفريقية فدعوا أَبَا حمو مُوسَى بن يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان إِلَى الرحلة مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ ويجلبوا بِهِ على تلمسان فأجابهم إِلَى ذَلِك وأغذوا السّير إِلَى الْمغرب للعيث فِي نوا حيه فَجمع لَهُم أعداؤهم من سُوَيْد وَكَانُوا خَالِصَة لبني مرين فَالْتَقوا بقبلة تلمسان فانهزمت سُوَيْد وَهلك كَبِيرهمْ عُثْمَان بن ونزمار واتصل بهم فِي أثْنَاء ذَلِك خبر وَفَاة السُّلْطَان أبي عنان بفاس فأغذوا السّير إِلَى تلمسان وقاتلوا علهيا حامية بني مرين ثمَّ اقتحموها عَلَيْهِم لليال خلون من ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة واستباحوا من كَانَ بهَا مِنْهُم وامتلأت أَيْديهم من أسلابهم وَاسْتولى أَبُو حمو على ملك تلمسان واستأثر بِمَا ألفاه بهَا من مَتَاع بني مرين وَمن جملَته هَدِيَّة كَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان أعدهَا هُنَالك ليَبْعَث بهَا إِلَى طاغية برشلونة وفيهَا فرس أدهم من مقرباته بمركب ولجام مذهبين ثقيلين فَاتخذ أَبُو حمو الْفرس لركوبه وَصرف بَاقِي الْهَدِيَّة فِي وُجُوه مقاصده وَلما انْتهى إِلَى(4/4)
الْوَزير حسن بن عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عَلَيْهَا جمع شُيُوخ بني مرين وَأخْبرهمْ بالنهوض إِلَيْهَا فَأَبَوا عَلَيْهِ من النهوض بِنَفسِهِ وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه من أنفسهم الْمسير كَافَّة فَفتح ديوَان الْعَطاء وَفرق الْأَمْوَال وأسنى الصلات وأزاح الْعِلَل وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد ثمَّ عقد عَلَيْهِم لمسعود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَحمل مَعَه المَال وَأَعْطَاهُ الْآلَة وَسَار فِي العساكر والألوية وَلما اتَّصل خبر مسيره بِأبي حمو أفرج لَهُ عَن تلمسان ودخلها مَسْعُود فِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة فاستولى عَلَيْهَا وَخرج أَبُو حمو إِلَى الصَّحرَاء إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
ظُهُور مَنْصُور بن سُلَيْمَان وبيعة مَسْعُود ابْن عبد الرَّحْمَن لَهُ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
مَنْصُور هَذَا هُوَ مَنْصُور بن سُلَيْمَان بن مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب ابْن عبد الْحق وَكَانَ النَّاس يرجفون بِأَن ملك الْمغرب سَائِر إِلَيْهِ بعد وَفَاة أبي عنان وشاع ذَلِك على أَلْسِنَة النَّاس حَتَّى تحدث بِهِ السمر والندمان وخشي مَنْصُور على نَفسه من ذَلِك فجَاء إِلَى الْوَزير حسن بن عمر وشكا إِلَيْهِ ذَلِك فَنَهَاهُ أَن يختلج بفكرة هَذَا الوسواس وانتهره انتهارا خلا عَن وَجه السياسة فانزجر واستكان قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد شهِدت هَذَا الموطن فرحمت ذلة انكساره وخضوعه فِي موقفه ثمَّ لما نَهَضَ مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن إِلَى تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا كَانَ مَنْصُور هَذَا فِي جملَته وَلما فر أَبُو حمو إِلَى الصَّحرَاء اجْتمعت عَلَيْهِ جموع الْعَرَب من بني زغبة وَبني معقل ثمَّ خالفوا بني مرين إِلَى الْمغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم فَجهز إِلَيْهِم مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن عسكرا من جُنُوده انتقى فِيهِ مشيخة بني مرين وأمراءهم وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه عَامر بن عبد الله بن ماساي وسرحه فزحف إِلَى الْعَرَب بِسَاحَة وَجدّة فَصدقهُ الْعَرَب الْقِتَال فَانْكَشَفَتْ بَنو مرين واستبيح معسكرهم واستلبت مشيختهم وأرجلوا عَن خيولهم ودخلوا إِلَى وَجدّة عُرَاة وَبلغ الْخَبَر(4/5)
إِلَى بني مرين الَّذين بتلمسان وَكَانَ فِي قُلُوبهم مرض من استبداد حسن بن عمر عَلَيْهِم وحجره لسلطانهم فَكَانُوا يتربصون بالدولة الدَّوَائِر فَلَمَّا بَلغهُمْ هَذَا الْخَبَر حاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وخلصوا نجيا بِسَاحَة الْبَلَد فاتفقوا على الْبيعَة ليعيش بن عَليّ بن أبي زيان بن يُوسُف بن يَعْقُوب فَبَايعُوهُ وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ فِي جملَته مَنْصُور بن سُلَيْمَان كَمَا قُلْنَا فأكرهه على الْبيعَة وَبَايَعَهُ مَعَه الرئيس الأبكم من بني الْأَحْمَر وقائد النَّصَارَى والقهردور وتسايل إِلَيْهِ النَّاس من كل جَانب وتسامع الْمَلأ من بني مرين بالْخبر فتهاروا إِلَيْهِ وَذهب يعِيش بن عَليّ لوجهه فَركب الْبَحْر إِلَى الأندلس واستتب أَمر مَنْصُور بن سُلَيْمَان وَاجْتمعَ بَنو مرين على كَلمته فارتحل بهم من تلمسان يُرِيد الْمغرب واعترضتهم جموع الْعَرَب فِي طريقهم فأوقعت بهم بَنو مرين وامتلأت أَيْديهم من أسلابهم وظعنهم ثمَّ أغذوا السّير إِلَى الْمغرب فاحتلوا بوادي سبو فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى الْحسن بن عمر فبرز واضطرب مُعَسْكَره بِسَاحَة الْبَلَد وَأخرج السُّلْطَان السعيد فِي الْآلَة والتعبية إِلَى أَن أنزلهُ بفسطاطه وَلما غشيهم اللَّيْل انفض عَنهُ الْمَلأ إِلَى مَنْصُور فَأوقد الْوَزير الشموع وأذكى النيرَان وَجمع الموَالِي والجند حول الْفسْطَاط حَتَّى أركب السُّلْطَان وَعَاد بِهِ إِلَى قصره وتحصن بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَأصْبح مَنْصُور بن سُلَيْمَان فارتحل فِي التعبية حَتَّى نزل بكدية العرائس فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَغدا على فاس الْجَدِيد بِالْقِتَالِ وَجمع الْأَيْدِي على اتِّخَاذ الْآلَات للحصار وانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار بالمغرب لِلْبيعَةِ وَلَحِقت بِهِ كتائب بني مرين الَّتِي كَانَت مجمرة على حصن عَامر بن مُحَمَّد الهنتاني وَلحق بِهِ أَيْضا قائدها سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَاد أمره يتم وَأقَام على فاس الْجَدِيد يغاديها الْقِتَال ويراوحها ثمَّ بدا الْخلَل فِي عسكره وَنزع عَنهُ إِلَى الْوَزير حسن بن عمر طَائِفَة من بني مرين وَلحق آخَرُونَ ببلادهم ووقفوا ينتظرون مآل أمره وَاسْتمرّ هَذَا الْحَال إِلَى غرَّة شعْبَان فَبَيْنَمَا النَّاس فِي ذَلِك إِذْ ظهر السُّلْطَان أَبُو سَالم بجبال غمارة فَانْصَرَفت إِلَيْهِ وُجُوه أهل الْمغرب وَبَطل أَمر السلطانين(4/6)
أبي بكر السعيد وَمَنْصُور بن سُلَيْمَان مَعًا وذابا كَمَا يذوب الْملح فَأَما مَنْصُور بن سُلَيْمَان فَإِنَّهُ فر إِلَى بادس فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم فَقتله وَأما السعيد فَإِن وزيره الْحسن بن عمر لما سمع بِظُهُور السُّلْطَان أبي سَالم واستفحال أمره نبذ دَعْوَة سُلْطَانه الْمَذْكُور وَبعث بِطَاعَتِهِ إِلَى أبي سَالم ووعده بالتمكين من دَار الْملك إِن قدم عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك وخلع السعيد يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ قتل بعد ذَلِك غرقا فِي الْبَحْر فَإِن السُّلْطَان أَبَا سَالم بَعثه فِي جملَة الْأَبْنَاء المرشحين من بني أبي الْحسن إِلَى الأندلس ووكل بهم من يحرسهم ثمَّ بعد ذَلِك بعث إِلَى الْمُوكل بهم فحملهم فِي سفينة كَأَنَّهُ يُرِيد بهم الْمشرق ثمَّ غرقهم فِي الْبَحْر وَالْأَمر لله وَحده
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المستعين بِاللَّه أبي سَالم إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن المريني
كَانَ هَذَا السُّلْطَان جوادا جم الْعَطاء مَعْرُوفا بِالْوَفَاءِ كثير الْحيَاء كنيته أَبُو سَالم لقبه المستعين بِاللَّه أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا قمر صفته آدم اللَّوْن معتدل الْقَامَة رحب الْوَجْه وَاسع الجبين بادن الْجِسْم أعين أدعج معتدل اللِّحْيَة أسودها وَكَانَ بعد مهلك وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله قد اسْتَقر بالأندلس بَعثه إِلَيْهَا أَخُوهُ أَبُو عنان كَمَا مر وَلما مَاتَ أَبُو عنان الْمَذْكُور وَولي ابْنه الصَّبِي طمع أَبُو سَالم هَذَا فِي الْملك فَاسْتَأْذن الْحَاجِب رضوَان مُدبر دولة ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فِي اللحاق ببلاده فَأبى عَلَيْهِ فغاضه ذَلِك وَنزع عَنهُ إِلَى طاغية قشتالة وتطارح عَلَيْهِ فِي أَن يحملهُ إِلَى بر العدوة يطْلب ملك أَبِيه فأسعفه وَأمر بِهِ فَحمل فِي مركب وَألقى بِهِ ملاحه فِي سَاحل بِلَاد غمارة بعد أَن تردد فِي أَي السواحل يلقيه وَوَافَقَ(4/7)
ذَلِك اخْتِلَاف الْكَلِمَة بفاس ومحاصرة مَنْصُور بن سُلَيْمَان للمدينة الْبَيْضَاء فتسامع النَّاس بِخُرُوجِهِ بِبِلَاد غمارة أحْوج مَا كَانُوا إِلَيْهِ فتسايلوا إِلَيْهِ من كل وَجه وانفض النَّاس من حول مَنْصُور وَمَشى أهل مُعَسْكَره بأجمعهم على التعبية فَلَحقُوا بالسلطان أبي سَالم واستغذوه إِلَى دَار ملكه فأغذ السّير إِلَيْهَا وخلع الْحسن بن عمر سُلْطَانه السعيد من الْأَمر لتسعة أشهر من خِلَافَته وأسلمه إِلَى عَمه فَخرج إِلَيْهِ وَبَايَعَهُ وَدخل السُّلْطَان أَبُو سَالم الْبَلَد الْجَدِيد يَوْم الْجُمُعَة منتصف شعْبَان من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة وَاسْتولى على ملك الْمغرب وتوافت وُفُود النواحي بالبيعات وَعقد لِلْحسنِ بن عمر على مراكش وجهزه إِلَيْهَا بالعساكر تخففا مِنْهُ وريبة بمكانه من الدولة واستوزر مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَالْحسن بن يُوسُف الورتاجني وَاصْطفى من خواصه خطيب أَبِيه الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَرْزُوق وَجعل إِلَى أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون صَاحب التَّارِيخ توقيعه وَكِتَابَة سره قَالَ وَكنت نزعت إِلَيْهِ من معسكر مَنْصُور بن سُلَيْمَان بكدية العرائس لما رَأَيْت من اخْتِلَاف أَحْوَاله ومصير الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم فَأقبل عَليّ وأنزلني بِمحل التنويه واستخلصني لكتابته أه
قدوم الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر ووزيره ابْن الْخَطِيب مخلوعين على السُّلْطَان أبي سَالم وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحجَّاج قتل يَوْم عيد الْفطر بالمصلى سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه الْغَنِيّ بِاللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه إِسْمَاعِيل فَجعله الْغَنِيّ بِاللَّه فِي بعض الْقُصُور من حَمْرَاء غرناطة احتفاظا بِهِ إِلَى أَن كَانَ رَمَضَان من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة فَخرج الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى بعض منتزهاته خَارج القصبة وَلما كَانَت لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور أَو ثَمَان وَعشْرين مِنْهُ تسور جمَاعَة من شيعَة إِسْمَاعِيل(4/8)
الْمَحْبُوس عَلَيْهِ القصبة لَيْلًا وأخرجوه من محبسه وأعلنوا بدعوته ثمَّ اقتحموا على حَاجِبه رضوَان دَاره فَقَتَلُوهُ على فرَاشه وَبَين نِسَائِهِ وضبطوا القصبة وأعلنوا بالدعوة وَلم يرع الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَّا قرع الطبول بالقصبة فِي جَوف اللَّيْل فاستكشف الْخَبَر وَتسمع فَعلم بِمَا تمّ عَلَيْهِ من خلعه وتولية أَخِيه فَركب فرسه وخاض اللَّيْل إِلَى وَادي آش فاستولى عَلَيْهَا وضبطها وَبَايَعَهُ أَهلهَا على الْمَوْت ثمَّ عمد شيعَة إِسْمَاعِيل الثائر إِلَى الْوَزير ابْن الْخَطِيب فأودعوه السجْن بعد أَن أغروا بِهِ ثائرهم واكتسحوا دَاره واصطلموا نعْمَته وأتلفوا موجوده وَكَانَ شَيْئا يجل عَن الْحصْر واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سَالم وَكَانَت لَهُ مصافاة مَعَ ابْن الْأَحْمَر من لدن كَانَ عِنْده بالأندلس فَكتب إِسْمَاعِيل الثائر وشيعته يَأْمُرهُم بتخلية طَرِيق الْغَنِيّ بِاللَّه للقدوم عَلَيْهِ ويشفع فِي تَسْرِيح ابْن الْخَطِيب وتخلية سَبيله فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك وَقدم الْغَنِيّ بِاللَّه بن الْأَحْمَر ووزيره ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي سَالم فِي السَّادِس من محرم فاتح سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فأجل السُّلْطَان أَبُو سَالم قدومه وَركب للقائه وَدخل بِهِ إِلَى مجْلِس ملكه وَقد احتفل فِي ترتيبه وَقد غص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابْن الْخَطِيب على قَدَمَيْهِ فَأَنْشد السُّلْطَان أَبَا سَالم قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بِمَا أبكى النَّاس شَفَقَة لَهُ ورحمه وَنَصّ القصيدة
(سلا هَل لَدَيْهَا من مخبرة ذكر ... وَهل أعشب الْوَادي ونم بِهِ الزهر)
(وَهل باكر الوسمي دَارا على اللوا ... عفت آيها إِلَّا التَّوَهُّم وَالذكر)
(بلادي الَّتِي عاطيت مشمولة الْهوى ... بِأَكْنَافِهَا والعيش فينان مخضر)
(وجوى الَّذِي ربى جناحي وَكره ... فها أَنا ذَا مَا لي جنَاح وَلَا وكر)
(نبت بِي لَا عَن جفوة وملالة ... وَلَا نسخ الْوَصْل الهني بهَا هجر)
(وَلكنهَا الدُّنْيَا قَلِيل متاعها ... ولذاتها دأبا تزور وتزور)
(فَمن لي بِقرب الْعَهْد مِنْهَا ودوننا ... مدى طَال حَتَّى يَوْمه عندنَا شهر)
(وَللَّه عينا من رآنا وللأسى ... ضرام لَهُ فِي كل جانحة جمر)(4/9)
(وَقد بددت در الدُّمُوع يَد النَّوَى ... وللشوق أشجان يضيق لَهَا الصَّدْر)
(بكينا على النَّهر الشروب عشيه ... فَعَاد أجاجا بَعدنَا ذَلِك النَّهر)
(أَقُول لأظعاني وَقد غالها السرى ... وآنسها الْحَادِي وأوحشها الزّجر)
(رويدك بعد الْعسر يسران أَبْشِرِي ... بإنجاز وعد الله قد ذهب الْعسر)
(وَللَّه فِينَا علم غيب وَرُبمَا ... أَتَى النَّفْع من حَال أُرِيد بهَا الضّر)
(وَإِن تخن الْأَيَّام لم تخن النهى ... وَأَن يخذل الأقوام لم يخذل الصَّبْر)
(وَإِن عركت مني الخطوب مجربا ... نقابا تساوى عِنْده الحلو والمر)
(فقد عجمت عودا صليبا على الردى ... وعزما كَمَا تمْضِي المهندة البتر)
(إِذا أَنْت بالبيضاء قررت منزلي ... فَلَا اللَّحْم حل مَا حييت وَلَا الظّهْر)
(زجرنا بإبراهيم برْء همومنا ... فَلَمَّا رَأينَا وَجهه صدق الزّجر)
(بمنتخب من آل يَعْقُوب كلما ... دجا الْخَطِيب لم يكذب لعزمته فجر)
(تناقلت الركْبَان طيب حَدِيثه ... فَلَمَّا رَأَتْهُ صدق الْخَبَر الْخَبَر)
(ندى لَو حواه الْبَحْر لذ مذاقه ... وَلم يتعقب مده أبدا جزر)
(وبأس غَدا يرتاع من خَوفه الردى ... وترفل فِي أذياله الفتكة الْبكر)
(أَطَاعَته حَتَّى العصم فِي قنن الرِّبَا ... وهشت إِلَى تأميله الأنجم الزهر)
(قصدناك يَا خير الْمُلُوك على النَّوَى ... لتنصفنا مِمَّا جنى عَبدك الدَّهْر)
(كففنا بك الْأَيَّام عَن غلوائها ... وَقد رابنا مِنْهَا التعسف وَالْكبر)
(وعدنا بذلك الْمجد فانصرم الردى ... ولدنَا بِذَاكَ الْعَزْم فَانْهَزَمَ الذعر)
(وَلما أَتَيْنَا الْبَحْر يرهب موجه ... ذكرنَا نداك الْعُمر فاحتقر الْبَحْر)
(خلافتك الْعُظْمَى وَمن لم يدن بهَا ... فإيمانه لَغْو وعرفانه نكر)
(ووصفك يهدي الْمَدْح قصد صَوَابه ... إِذا ظلّ فِي أَوْصَاف من دُونك الشّعْر)
(دعتك قُلُوب الْمُؤمنِينَ وأخلصت ... وَقد طَابَ مِنْهَا السِّرّ لله والجهر)
(ومدت إِلَى الله الأكف ضراعة ... فَقَالَ لَهُنَّ الله قد قضى الْأَمر)
(وألبسها النعمى ببيعتك الَّتِي ... لَهَا الطَّائِر الميمون والمحتد الْحر)
(فَأصْبح ثغر الثغر يبسم ضَاحِكا ... وَقد كَانَ مِمَّا نابه لَيْسَ يفتر)
(وَآمَنت بالسلم الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... فَلَا ظبة تعرى وَلَا روعة تعرو)(4/10)
(وَقد كَانَ مَوْلَانَا أَبوك مُصَرحًا ... بأنك فِي أَوْلَاده الْوَلَد الْبر)
(وَكنت حَقِيقا بالخلافة بعده ... على الْفَوْر لَكِن كل شَيْء لَهُ قدر)
(فأوحشت من دَار الْخلَافَة هَالة ... أَقَامَت زَمَانا لَا يلوح بهَا الْبَدْر)
(فَرد عَلَيْك الله حَقك إِذْ قضى ... بِأَن تَشْمَل النعمى وينسدل السّتْر)
(وقاد إِلَيْك الْملك رفقا بخلقه ... وَقد عدموا ركن الْإِمَامَة واضطروا)
(وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ... وَأَجرا وَلَوْلَا السبك مَا عرف التبر)
(وَأَنت الَّذِي يدعى إِذا دهم الردى ... وَأَنت الَّذِي يُرْجَى إِذا أخلف الْقطر)
(وَأَنت إِذا جَار الزَّمَان مُحكم ... لَك النَّقْض والإبرام وَالنَّهْي وَالْأَمر)
(وَهَذَا ابْن نصر قد أَتَى وجناحه ... مهيض وَمن علياك يلْتَمس الْجَبْر)
(غَرِيب يرجي مِنْك مَا أَنْت أَهله ... فَإِن كنت تبغي الْفَخر قد جَاءَك الْفَخر)
(ففز يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الْغدر)
(وَمثلك من يرْعَى الدخيل وَمن دَعَا ... بيا لمرين جَاءَهُ الْعِزّ والنصر)
(وَخذ يَا إِمَام الْحق ثاره ... فَفِي ضمن مَا تَأتي بِهِ الْعِزّ وَالْأَجْر)
(وَأَنت لَهَا يَا نَاصِر الْحق فلتقم ... بِحَق فَمَا زيد يُرْجَى وَلَا عَمْرو)
(فَإِن قيل مَال مَالك الدثر وافر ... وَإِن قيل جَيش عنْدك الْعَسْكَر المجر)
(يكف بك العادي ويحيا بك الْهدى ... وَيَبْنِي بك الْإِسْلَام مَا هدم الْكفْر)
(أعده إِلَى أوطانه عَنْك رَاضِيا ... وطوقه نعماك الَّتِي مَا لَهَا حصر)
(وعاجل قُلُوب النَّاس فِيهِ بجبرها ... فقد صدهم عَنهُ التغلب والقهر)
(وهم يرقبون الْفِعْل مِنْك وصفقة ... تحاولها يمناك مَا بعْدهَا خسر)
(مرامك سهل لَا يؤودك كلفة ... سوى عرض مَا إِن لَهُ فِي الْعلَا خطر)
(وَمَا الْعُمر إِلَّا زِينَة مستعارة ... ترد وَلَكِن الثَّنَاء هُوَ الْعُمر)
(وَمن بَاعَ مَا يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح الْمَسْعَى وَقد ربح التَّجر)
(وَمن دون مَا تبغيه يَا ملك الْهدى ... جِيَاد المذاكي والمحجلة الغر)
(وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در)
(وشهب إِذا مَا ضمرت يَوْم غَارة ... مصممة غارت بهَا الأنجم الزهر)
(وَأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض وآسالها سمر)(4/11)
(عَلَيْهَا من المأذي كل مفاضة ... تدافع فِي أعطافها اللجج الْخضر)
(هم الْقَوْم إِن هبوا لكشف ملمة ... فَلَا الْمُلْتَقى صَعب وَلَا المرتقى وعر)
(إِذا سئلوا أعْطوا وَإِن نوزعوا سطوا ... وَإِن واعدوا وفوا وَإِن عَاهَدُوا بروا)
(وَإِن مدحوا اهتزوا ارتياحا كَأَنَّهُمْ ... نشاوى تمشت فِي معاطفهم خمر)
(وَإِن سمعُوا العوراء فروا بأنفس ... حرَام على هاماتها فِي الوغى الفر)
(وَتَبَسم مَا بَين الوشيج ثغورهم ... وَمَا بَين قضب الدوح يبتسم الزهر)
(أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ... طباعي فَلَا طبع يعين وَلَا فكر)
(وَلَوْلَا حنان مِنْك داركتني بِهِ ... وأحييتني لم يبْق عين وَلَا أثر)
(فأوجدت مني فائتا أَي فَائت ... وأنشرت مَيتا ضم أشلاءه قبر)
(بدأت بِفضل لم أكن لعظيمه ... بِأَهْل فجل اللطف وانشرح الصَّدْر)
(وطوقتني النعمى المضاعفة الَّتِي ... يقبل عَلَيْهَا مني الْحَمد وَالشُّكْر)
(وَأَنت بتتميم الصَّنَائِع كافل ... إِلَى أَن يعود الجاه والعز والوفر)
(جَزَاك الَّذِي أَسْنَى مقامك رَحْمَة ... يفك بهَا عان وينعش مُضْطَر)
(إِذا نَحن أثنينا عَلَيْك بمدحة ... فهيهات يُحْصى الرمل أَو يحصر الْقطر)
(ولكننا نأتي بِمَا نستطيعه ... وَمن بذل المجهود حق لَهُ الْعذر)
ثمَّ انفض الْمجْلس وَانْصَرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى منزله الْمعد لَهُ وَقد فرشت الْقُصُور وَقربت لَهُ الْجِيَاد بالمراكب المذهبة وَبعث إِلَيْهِ بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات لَهُ ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصَّنَائِع وانحفظ عَلَيْهِ رسم سُلْطَانه فِي الرَّاكِب والراجل وَلم يفقد من ألقاب ملكه إِلَّا الأداة أدبا مَعَ السُّلْطَان وَاسْتقر فِي جملَته إِلَى أَن لحق بعد بالأندلس وَعَاد لَهُ ملكه سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وأرغد السُّلْطَان أَبُو سَالم عَيْش ابْن الْخَطِيب وأفاض عَلَيْهِ الجرايات ورتب لَهُ الإقطاعات غير أَنه كَانَ مضمرا لمفارقة السُّلْطَان والتخلي عَن خدمته والانفراد بِنَفسِهِ لاغتنام مَا بَقِي من عمره فِي طَاعَة الله تَعَالَى فَكَانَ من أمره فِي ذَلِك مَا نذكرهُ(4/12)
سفر ابْن الْخَطِيب إِلَى مراكش وأعمالها وزيارته لأوليائها ورجالها وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله عِنْدَمَا حصلت لَهُ هَذِه النكبة وخلصه الله مِنْهَا بانتقاله إِلَى بِلَاد العدوة قد عَن لَهُ رَأْي فِي التزهد والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى واغتنام بَقِيَّة الْعُمر فِيمَا يعود نَفعه فِي العاجل والآجل ورفض السُّلْطَان وأسبابه وَترك مَا يلجئه للوقوف بِبَابِهِ فتلطف فِي اسْتِئْذَان السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله وَطلب مِنْهُ الْإِذْن فِي الذّهاب إِلَى جِهَات مراكش وَالْوُقُوف على آثَار الأقدمين بهَا والتطارح على أوليائها والمثول بأعتابها والتعلق بأذيالها والتمسك بأسبابها جاعلا ذَلِك مِفْتَاح الْعُزْلَة والتخلي عَن الدولة فَأذن لَهُ وَكتب إِلَى الْعمَّال بإتحافه والاعتناء بِهِ فتباروا فِي ذَلِك كَمَا يفصح عَنهُ بعض شعره الْآتِي وَجعل طَرِيقه على مَدِينَة سلا فَتَأمل أحوالها وَرَآهَا أوفق لمراده فِي الْعُزْلَة فأضمر الاستيطان بهَا عِنْد عوده من وجهته وَلما دخل مَدِينَة أنفى وَهِي الدَّار الْبَيْضَاء مر بهَا على دَار عَظِيمَة تنْسب إِلَى وَالِي جبايتها عبو من بني الترجمان قَارون قومه وغني صنفه وَكَانَ قد هلك قبل ذَلِك فَقَالَ ابْن الْخَطِيب
(قد مَرَرْنَا بدار عبو الْوَالِي ... وَهِي ثَكْلَى تَشْكُو صروف اللَّيَالِي)
(أقصدت رَبهَا الْحَوَادِث لما ... رشقته بصائبات النبال)
(كَانَ بالْأَمْس واليا مستطيلا ... وَهُوَ الْيَوْم مَا لَهُ من وَالِي)
وَأَظنهُ فِي هَذِه الوجهة خَاطب شيخ الْعَرَب مبارك بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة ابْن مهلهل الخلطي وَنَصّ مَا خاطبه بِهِ
(ساحات دَارك للضياف مبارك ... وبضوء نَار قراك يهدي السالك)
(ونوالك المبذول قد شَمل الورى ... طرا وفضلك لَيْسَ فِيهِ مشارك)
(قل للَّذي قَالَ الْوُجُود قد انطوى ... والبأس لَيْسَ لَهُ حسام فاتك)
(والجود لَيْسَ لَهُ غمام هاطل ... وَالْمجد لَيْسَ همام باتك)
(جمع الشجَاعَة والرجاحة والندى ... والبأس والرأي الْأَصِيل مبارك)
(للدّين وَالدُّنْيَا وللشيم الْعلَا ... والجود إِن شح الْغَمَام السافك)(4/13)
(عِنْد الْهياج ربيعَة بن مكدم ... وَالْفضل وَالتَّقوى الفضيل وَمَالك)
(ورث الْجَلالَة عَن أَبِيه وجده ... فكأنهم مَا غَابَ مِنْهُم هَالك)
(فجياده للآملين مراكب ... وخيامه للقاصدين أرائك)
(فَإِذا الْمَعَالِي أَصبَحت مَمْلُوكَة ... أعناقها بِالْحَقِّ فَهُوَ الْمَالِك)
(يَا فَارس الْعَرَب الَّذِي من بَيته ... حرم لَهَا حج بِهِ ومناسك)
(يَا من يبشر باسمه قصاده ... فَلهم إِلَيْهِ مسارب ومسالك)
(أَنْت الَّذِي استأثرت فِيك بغبطتي ... وَسوَاك فِيهِ مآخذ ومتارك)
(لَا زلت نورا يَهْتَدِي بضيائه ... من جنه للروع ليل حالك)
(ويخص مجدك من سلامي عاطر ... كالمسك صاك بِهِ الغوالي صائك)
الْحَمد لله تَعَالَى الَّذِي جعل بَيْتك شهيرا وجعلك للْعَرَب أَمِيرا وَجعل اسْمك فالا ووجهك جمالا وقربك جاها ومالا وَآل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلا أسلم عَلَيْك يَا أَمِير الْعَرَب وَابْن أمرائها وقطب سادتها وكبرائها وأهنيك بِمَا منحك الله تَعَالَى من شهرة تبقى ومكرمة لَا يضل المتصف بهَا وَلَا يشقى إِذْ جعل خيمتك فِي هَذَا الْمغرب على اتساعه وَاخْتِلَاف أشياعه مأمنا للخائف على كَثْرَة الْمذَاهب والطوائف وَصرف الْأَلْسِنَة إِلَى مدحك وَالْخُلُود إِلَى حبك وَمَا ذَلِك إِلَّا لسريرة لَك عِنْد رَبك وَلَقَد كنت أَيَّام تجمعني وَإِيَّاك الْمجَالِس السُّلْطَانِيَّة على معرفتك متهالكا وطوع الأمل سالكا لما يلوح لي على وَجهك من سِيمَا الْمجد وَالْحيَاء والشيم الدَّالَّة على العلياء وزكاء الْأُصُول وكرم الأباء وَكَانَ وَالِدي رَحمَه الله قد عين للقاء خَال السُّلْطَان قريبكم لما توجه فِي الرسَالَة إِلَى الأندلس نَائِبا فِي تأنيسه عَن مخدومه ومنوها حَيْثُ حل بقدومه واتصلت بعد ذَلِك بَينهمَا المهاداة والمعرفة والرسائل الْمُخْتَلفَة فَعظم لأجل هَذِه الْوَسَائِل شوقي إِلَى التشرف بزيارة ذَلِك الجناب الَّذِي حُلُوله شرف وفخر ومعرفته كنز وَذخر فَلَمَّا ظهر الْآن لمحل الْأَخ الْقَائِد فلَان اللحاق بك والتعلق بسببك رَأَيْت أَنه قد اتَّصل بِهَذَا الْغَرَض المؤمل بَعْضِي وَالله تَعَالَى ييسر فِي الْبَعْض عِنْد تَقْرِير الْأَمر وهدنة الأَرْض وَهَذَا الْفَاضِل بركَة حَيْثُ حل لكَونه من بَيت أَصَالَة وَجِهَاد(4/14)
وماجدا وَابْن أمجاد وَمثلك لَا يوصى بِحسن جواره وَلَا يُنَبه على إيثاره وقبيلك من الْعَرَب فِي الحَدِيث وَالْقَدِيم وَهُوَ الَّذِي أوجب لَهَا مزية التَّقْدِيم لم تفتخر قطّ بِذَهَب يجمع وَلَا ذخر يرفع وَلَا قصر يبْنى وَلَا غرس يجنى إِنَّمَا فخرها عَدو يغلب وثناء يجلب وجزر تنحر وَحَدِيث يذكر وجود على الْفَاقَة وسماحة بِحَسب الطَّاقَة فَلَقَد ذهب الذَّهَب وفنى النشب وتمزقت الأثواب وَهَلَكت الْخَيل العراب وكل الَّذِي فَوق التُّرَاب تُرَاب وَبقيت المحاسن تروى وتنقل والأعراض تجلى وتصقل وَللَّه در الشَّاعِر إِذْ يَقُول
(إِنَّمَا الْمَرْء حَدِيث بعده ... فَكُن حَدِيثا حسنا لمن وعى)
(هَذِه مُقَدّمَة إِن يسر الله بعد لِقَاء ... الْأَمِير فيجلى اللِّسَان عَمَّا فِي الضَّمِير)
(ومدحي على الْأَمْلَاك وقف وَإِنَّمَا ... رَايَتك مِنْهَا فامتدحت على وَسمي)
(وَمَا كنت بالمهدي لغيرك مدحتي ... وَلَو أَنه قد حل فِي مفرق النَّجْم)
وَقَالَ فِي الشَّيْخ ابْن بطان الصنهاجي صنهاجة آزمور
(لله دَرك يَا ابْن بطان فَمَا ... لشهير جودك فِي البسيطة جَاحد)
(إِن كَانَ فِي الدُّنْيَا كريم وَاحِد ... يزن الْجَمِيع فَأَنت ذَاك الْوَاحِد)
(أجريت فضلك جعفرا يحيى بِهِ ... مَا كَانَ من مجد فذكرك خَالِد)
(فالقوم مِنْك تجمعُوا فِي مُفْرد ... ولد كَمَا شَاءَ الْعَلَاء ووالد)
(وَهِي اللَّيَالِي لَا تزَال صروفها ... يشقى بموقعها الْكَرِيم الْمَاجِد)
(وبمستعين الله يصلح مِنْك مَا ... قد كَانَ أفْسدهُ الزَّمَان الْفَاسِد)
وَقَالَ رَحمَه الله عِنْدَمَا توَسط بسيط تامسنا
(كأنا بتامسنا نجوس خلالها ... وممدودها فِي سيرنا لَيْسَ يقصر)
(مراكب فِي الْبَحْر الْمُحِيط تخبطت ... وَلَا جِهَة تَدْرِي وَلَا الْبر يبصر)
وَقَالَ رَحمَه الله يُخَاطب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف حفيد الْمولى الصَّالح سَيِّدي أبي مُحَمَّد صَالح النَّائِم فِي ظلّ صيته رَضِي الله عَنهُ
(يَا حفيد الْوَلِيّ يَا وَارِث الْفَخر ... الَّذِي نَالَ فِي مقَام وَحَال)
(لَك يَا أَحْمد بن يُوسُف جبنا ... كل قطر يعي أكف الرّحال)(4/15)
وَقَالَ فِي نفاضة الجراب لما خرجت من آسفي سرت إِلَى منزل ينْسب إِلَى أبي حدو وَفِيه رجل من بني الْمَنْسُوب إِلَيْهِ اسْمه يَعْقُوب فألطف وأجزل وآنس فِي اللَّيْل وطلبني بتذكرة تثبت عِنْدِي معرفَة فَكتبت لَهُ
(نزلنَا على يَعْقُوب نجل أبي حدو ... فَعرفنَا الْفضل الَّذِي مَا لَهُ حد)
(وقابلنا بالبشر واحتفل الْقرى ... فَلم يبْق لحم لم ننله وَلَا زبد)
(يحِق علينا أَن نقوم بِحقِّهِ ... ويلقاه منا الْبر وَالشُّكْر وَالْحَمْد)
وَقَالَ رَحمَه الله وَقد انتابه البرغوث
(زحفت إِلَيّ ركائب البرغوث ... نم الظلام بركبها المحثوث)
(بالحبة السَّوْدَاء قَابل مقدمي ... لله أَي قرى أعد خَبِيث)
(كسحت بِهن ذُبَاب سرح تجلدي ... لَيْلًا فحبل الصَّبْر جد رثيث)
(إِن صابرت نَفسِي أَذَاهُ تعبدت ... أَو صحت مِنْهُ أنفت من تحنيثي)
(جيشان من ليل وبرغوث فَهَل ... جَيش الصَّباح لصرختي بمغيث)
وَقَالَ رَحمَه الله وَقد أشرف على الحضرة المراكشية حاطها الله تَعَالَى
(مَاذَا أحدث عَن بَحر سبحت بِهِ ... من الْبحار فَلَا إِثْم وَلَا حرج)
(دَعَاهُ مُبْتَدع الْأَشْيَاء مستويا ... مَا إِن بِهِ دَرك كلا وَلَا درج)
(حَتَّى إِذا مَا الْمنَار الْفَرد لَاحَ لنا ... صحت أَبْشِرِي يَا مطايا جَاءَك الْفرج)
(قربت من عَامر دَارا ومنزلة ... وَالشَّاهِد الْعدْل هَذَا الطّيب والأرج)
وَلما وقف على مصانع مراكش وقصورها وقصبتها وَاعْتبر مَا صَار إِلَيْهِ حَالهَا بعد الْمُوَحِّدين قَالَ
(بلد قد غزاه صرف اللَّيَالِي ... وأباح المصون مِنْهُ مُبِيح)
(فَالَّذِي خر من بناة قَتِيل ... وَالَّذِي خر مِنْهُ بعض جريح)
(وَكَأن الَّذِي يزور طَبِيب ... قد تَأتي لَهُ بهَا التشريح)
(أعجمت مِنْهُ أَربع ورسوم ... كَانَ قدما بهَا اللِّسَان الفصيح)
(كم معَان غَابَتْ بِتِلْكَ المغاني ... وجمال أخفاه ذَاك الضريح)
(وملوك تعبدوا الدَّهْر لما ... أصبح الدَّهْر وَهُوَ عبد صَرِيح)(4/16)
2 - 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 وأصبحت(4/17)
ديار الأندلس وَهِي البلاقع وَحسنت من استدعائك إيَّايَ المواقع وَقَوي الْعَزْم وَإِن لم يكن ضَعِيفا وَعرضت على نَفسِي السّفر بسببك فَأَلْفَيْته خَفِيفا والتمست الْإِذْن حَتَّى لَا نرى فِي قبْلَة السداد تحريفا واستقبلتك بصدر مشروح وزند للعزم مقدوح وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحَقّق السول ويسهل بمثوى الأمائل المثول ويهيئ من قبيل هنتاتة الْقبُول بفضله انْتهى
وَلما ذهب إِلَى عَامر بن مُحَمَّد الْمَذْكُور ورقي الْجَبَل زار الْموضع الَّذِي توفّي بِهِ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله وَقد ألم بِذكر ذَلِك فِي نفاضة الجراب إِذْ قَالَ وشاهدت بجبل هنتاتة مَحل وَفَاة السُّلْطَان الْمُقَدّس أَمِير الْمُسلمين أبي الْحسن رَحمَه الله حَيْثُ أَصَابَهُ طَارق الْأَجَل الَّذِي فصل الخطة وأصمت الدعْوَة وَرفع الْمُنَازعَة وعاينته مرفعا عَن الابتذال بِالسُّكْنَى مفروشا بالحصباء مَقْصُودا بالابتهال وَالدُّعَاء فَلم أَبْرَح يَوْم زيارته أَن قلت
(يَا حسنها من أَربع وديار ... أضحت لباغي الْأَمْن دَار قَرَار)
(وجبال عز لَا تذل أنوفها ... إِلَّا لعز الْوَاحِد القهار)
(ومقر تَوْحِيد واس خلَافَة ... آثارها تبنى عَن الْأَخْبَار)
(مَا كنت أَحسب أَن أَنهَار الندى ... تجْرِي بهَا فِي جملَة الْأَنْهَار)
(مَا كنت أَحسب أَن أنوار الحجا ... تلتاح فِي قنن وَفِي أَحْجَار)
(مجت جوانبها البرود وَإِن تكن ... شبت بهَا الْأَعْدَاء جذوة نَار)
(هدت بناها فِي سَبِيل وفائها ... فَكَأَنَّهَا صرعى بِغَيْر عقار)
(لما توعدها على الْمجد العدا ... رضيت بعيث النَّار لَا بالعار)
(عمرت بحلة عَامر وأعزها ... عبد الْعَزِيز بمرهف بتار)
(فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والباس فِي طلق وَفِي مضمار)
(ورثا عَن النّدب الْكَبِير أَبِيهِمَا ... مَحْض الْوَفَاء ورفعة الْمِقْدَار)
(وَكَذَا الْفُرُوع تطول وَهِي شَبيهَة ... بِالْأَصْلِ فِي ورق وَفِي أثمار)
(أزرت وُجُوه الصَّيْد من هنتاتة ... فِي جوها بمطالع الأقمار)
(لله أَي قَبيلَة تركت لَهَا النظراء ... دَعْوَى الْفَخر يَوْم فخار)
(نصرت أَمِير الْمُسلمين وَملكه ... قد أسلمته عزائم الْأَنْصَار)(4/18)
(وارت عليا عِنْد مَا عظم الردى ... والروع بالأسماع والأبصار)
(وتخاذل الْجَيْش اللهام وَأصْبح ... الْأَبْطَال بَين تقاعد وفرار)
(كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهرا مِنْهَا بعز جوَار)
(وَأقَام بَين ظُهُورهَا لَا يَتَّقِي ... وَقع الردى وَقد ارتمى بشرار)
(فَكَأَنَّهَا الْأَنْصَار لما أَن سمت ... فِيمَا تقدم غربَة الْمُخْتَار)
(لما غَدا لحظا وهم أجفانه ... نابت شفارهم عَن الأشفار)
(حَتَّى دَعَاهُ الله بَين بُيُوتهم ... فَأجَاب ممتثلا لأمر الْبَارِي)
(لَو كَانَ يمْنَع من قَضَاء الله مَا ... خلصت إِلَيْهِ نوافذ الأقدار)
(قد كَانَ يأمل أَن يُكَافِئ بعض مَا ... أولوه لَوْلَا قَاطع الْأَعْمَار)
(مَا كَانَ يقنعه لَو امْتَدَّ المدى ... إِلَّا الْقيام بِحَقِّهَا من دَار)
(فَيُعِيد ذَاك المَاء ذائب فضَّة ... وَيُعِيد ذَاك الترب ذوب نضار)
(حَتَّى تفوز على النَّوَى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار)
(حَتَّى يلوح على وُجُوه وُجُوههم ... أثر الْعِنَايَة سَاطِع الْأَنْوَار)
(ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير مَا ثنيا وَلَا استعصار)
(مَا كَانَ يرضى الشَّمْس أَو بدر الدجا ... عَن دِرْهَم فيهم وَلَا دِينَار)
(أَو أَن يتوج أَو يُقَلّد هامها ... ونحورها بأهلة ودراري)
(حق على الْمولى ابْنه إِيثَار مَا ... بذلوه من نصر وَمن إِيثَار)
(فلمثلها ذخر الْجَزَاء وَمثله ... من لَا يضيع صنائع الْأَحْرَار)
(وَهُوَ الَّذِي يقْضِي الدُّيُون وبره ... يرضيه فِي علن وَفِي أسرار)
(حَتَّى تحج محلّة رفعوا بهَا ... علم الْوَفَاء لأعين النظار)
(فَيصير مِنْهَا الْبَيْت بَيْتا ثَانِيًا ... للطائفين إِلَيْهِ أَي بدار)
(تغني قُلُوب الْقَوْم عَن هدى بِهِ ... ودموعهم تَكْفِي لرمي جمار)
(حييت من دَار تكفل سعيها الْمَحْمُود ... بالزلفى وعقبى الدَّار)
(وضفت عَلَيْك من الْإِلَه عناية ... مَا كرّ ليل فِيك أثر نَهَار)
وَيَعْنِي بالمولى ابْنه السُّلْطَان أَبَا سَالم بن أبي الْحسن ثمَّ سَار ابْن الْخَطِيب إِلَى أغمات فزار مشاهدها وَشَاهد معاهدها فَحكى عَن نَفسه رَحمَه الله(4/19)
قَالَ وقفت على قبر الْمُعْتَمد بن عباد فِي مَدِينَة أغمات فِي حَرَكَة أعملتها إِلَى الْجِهَات المراكشية باعثها لِقَاء الصَّالِحين ومشاهدة الْآثَار سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَهُوَ بمقبرة أغمات فِي نشز من الأَرْض وَقد حفت بِهِ سِدْرَة وَإِلَى جنبه قبر اعْتِمَاد حظيته مولاة رميك وَعَلَيْهِمَا أثر التغرب ومعاناة الخمول من بعد الْملك فَلم تملك الْعين دمعها عِنْد رُؤْيَتهمَا فأنشدت فِي الْحَال
(قد زرت قبرك عَن طوع بأغمات ... رَأَيْت ذَلِك من أولى الْمُهِمَّات)
(لم لَا أزورك يَا أندى الْمُلُوك يدا ... وَيَا سراج اللَّيَالِي المدلهمات)
(وَأَنت من لَو تخطى الدَّهْر مصرعه ... إِلَى حَياتِي لجادت فِيهِ أَبْيَات)
(أناف قبرك من هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التَّحِيَّات)
(كرمت حَيا وَمَيتًا واشتهرت علا ... فَأَنت سُلْطَان أَحيَاء وأموات)
(مارئي مثلك فِي مَاض ومعتقدي ... أَلا يرى الدَّهْر فِي حَال وَلَا آتٍ)
وَلما انكفأ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله رَاجعا من سفرته هَذِه وانْتهى إِلَى سلا أَقَامَ بهَا منتبذا عَن سُلْطَانه رافضا للْملك وأسبابه طول مقَامه بالمغرب على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بَقِيَّة أَخْبَار ابْن الْخَطِيب بسلا حرسها الله
قد قدمنَا أَن ابْن الْخَطِيب كَانَ قد عزم على التخلي عَن الدُّنْيَا والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى وَأَنه اخْتَار أَن يكون مقَامه بسلا لكَونهَا يَوْمئِذٍ أعون لَهُ على مُرَاده من غَيرهَا حَسْبَمَا يُؤْخَذ ذَلِك من مَوَاضِع من كَلَامه من ذَلِك أَنه لما وصف أَمْصَار الأندلس وَالْمغْرب فِي مقاماته الْمَشْهُورَة وصف مَدِينَة سلا بقوله العقيلة المفضله والبطيحة المخضله وَالْقَاعِدَة المؤصله وَالسورَة المفصله ذَات الوسامة والنضارة والجامعة بَين البداوة والحضارة مَعْدن الْقطن وَالْكتاب والمدرسة والمارستان والزاوية كَأَنَّهَا الْبُسْتَان والوادي المتعدد الأجفان الْقطر الْأمين عِنْد الرجفان والعصير الْعَظِيم الشَّأْن والأسواق السارة حَتَّى برقيق الحبشان اكتنفها المسرح وَالْخصب الَّذِي لَا(4/20)
يبرح وَالْبَحْر الَّذِي يأسو ويجرح وشقها الْوَادي الَّذِي يتمم محاسنها ويشرح وقابلها الرِّبَاط الَّذِي ظهر بِهِ من الْمَنْصُور الِاغْتِبَاط حَيْثُ القصبة والساباط ثمَّ يَقع الانحطاط إِلَى شالة مرعى الذمم ونتيجة الهمم ومشمخ الأنوف ذَوَات الشمم وعنوان الرمم حَيْثُ الْحَسَنَات المكتتبة والأوقاف الْمرتبَة والقباب كالأزهار مجودة بِذكر الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وطلل حسان الْمثل فِي الاشتهار وَهِي على الْجُمْلَة من غَيرهَا أوفق ومغارمها لاحترام الْمُلُوك الْكِرَام أرْفق ومقبرتها المنضدة عجب فِي الانتظام مَعْدُودَة فِي المواقف الْعِظَام ويتأتى بهَا للعباد الْخلْوَة وتوجد عِنْدهَا للهموم السلوة كَمَا قَالَ ابْن الْخَطِيب
(وصلت حثيث السّير فِيمَن فلى الفلا ... فَلَا خاطري لما نأى وانجلا انجلا)
(وَلَا نسخت كربي بقلبي سلوة ... فَلَمَّا سوى فِيهِ نسيم سلا سلا)
وَكفى بالشابل رزقا طريا وسمكا بالتفضيل حريا يبرز عدد قطر الديم وَيُبَاع ببخس الْقيم ويعم المجاشر النائية والخيم أه
وَمَا قَالَه فِي حق سلا من كَونهَا تتأتى بهَا للعباد الْخلْوَة هُوَ كَذَلِك مَعْرُوف عِنْد صلحاء الْمغرب وعباده من لدن قديم وَلذَا لما قدم أَبُو الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ من الأندلس وتنقل فِي بِلَاد الْمغرب مثل فاس ومكناسة لم يطب لَهُ الْقَرار إِلَّا بسلا وَقد صرح رَضِي الله عَنهُ بذلك حَيْثُ قَالَ
(سلا كل قلب غير قلبِي مَا سلا ... أيسلو بفاس والأحبة فِي سلا)
(بهَا خيموا فالقلب خيم عِنْدهم ... فأجروا دموعي مُرْسلا ومسلسلا)
وَلما ذكر أَبُو الْعَبَّاس الصومعي رَحمَه الله فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ اسْتِحْبَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء قَالَ مَا نَصه وَلَا سِيمَا فِي مشَاهد الأخيار إِذا اجْتَمعُوا فِي مَكَان من الْأَمْكِنَة المشرفة كَمَا كَانُوا يَجْتَمعُونَ قبل هَذَا برباط شَاكر وبساحل دكالة وبسلا وبجبل الْعلم وَعند(4/21)
الشَّيْخ أبي يعزى فِي أَيَّام الرّبيع وَغير ذَلِك أه
وَأَقُول على ذكر سلا فقد كتب إِلَيّ وَأَنا بمراكش حرسها الله الْأَخ فِي الله الْفَقِيه الأديب المحاضر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عزوز الرباطي أصلا المراكشي دَارا بطاقة يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله وَحده السَّيِّد الْأَخ الَّذِي ثوب إخائه مَا اتسخ الْفَقِيه الْعَلامَة اللابس من أسلحة الْعُلُوم الدرْع واللامة أَبَا الْعَبَّاس السَّيِّد أَحْمد الناصري سَلام عَلَيْك سَلاما ذكي الْعرف رائج الصّرْف وَبعد فقد اشتقنا إِلَى لذيذ مذكراتكم وحلو فكاهتكم والآن نحب من السِّيَادَة أَن تشرفونا بِنَقْل قدمكم وتكرمونا بطلعتكم السعيدة بكرَة غَد إِن شَاءَ الله وعَلى الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي فاتح رَجَب الْفَرد سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَألْحق بأسفلها مَا نَصه
(سلا الْبَحْر مَا بَحر بنيت بشطه ... كبحر عُلُوم فِيك أنشئ صَالحا)
(فَهَذَا هُوَ الْفَيَّاض بِالْعلمِ والتقى ... وَذَاكَ هُوَ الْفَيَّاض بِالْمَاءِ مالحا)
وَلم ندر هَل البيتان لَهُ أَو تمثل بهما وعَلى كل حَال فَمَا قَالَه حفظه الله إِنَّمَا حمله عَلَيْهِ حسن نِيَّته وصفاء طويته وَأما الْمَكْتُوب إِلَيْهِ بهما فَلَا وَالله لَا علم وَلَا تقى إِلَّا أَن يتغمدنا الله برحمته ثمَّ إِنِّي أَجَبْته بنثر تركته للاختصار ووصلته بِأَبْيَات أَقُول فِيهَا مَا نَصه
(بعثت أَبَا عبد الْإِلَه مدائحا ... هُوَ الدّرّ حسنا والشذور لوائحا)
(فنبهت فكرا طالما بَات نَائِما ... وروضت ذهنا طالما ظلّ جامحا)
(وشيدت من ذكري وَقد كَانَ خاملا ... وهيجت من قلبِي الشجي القرائحا)
(وطوقتني النعمى بتقريضك الَّذِي ... بِهِ ظلّ مجدي للنجوم مصافحا)
(وَإِلَّا فَمَا قدري وَإِن جد جده ... وَمَا قيمتي لَو لم تكن لي مادحا)
(فَأَنت أديب الْعَصْر حَقًا وَمن غذا ... لعمري لأبواب المعارف فاتحا)
(فَخذ من أَخِيك العي واستر عيوبه ... وسامح فظني أَن تكون مسامحا)
(فوصفك يعيي كل أشدق بارع ... وَلَو ظلّ فِي بَحر البلاغة سابحا)
(فَلَقِيت من ذِي الْعَرْش كل كَرَامَة ... ووقيت من هَذَا الزَّمَان الطوائحا)(4/22)
4
- (وَلَا زَالَ هَذَا الدَّهْر طوعك خَادِمًا ... علاك وطرف السعد نَحْوك طامحا)
وَمِمَّا مدح بِهِ سلا وَأَهْلهَا قَول الإِمَام الْعَلامَة الْهمام أبي عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي رَضِي الله عَنهُ
(مرسى سلا مأوى الشمم ... وَالْمجد عَن طول الْأُمَم)
(بلد بحسبك منظر مِنْهُ ومخبره أتم ... مسري الهموم ومسرح الْأَبْصَار مسلاة الغمم)
(مترفلا فِي حلَّة من حسنه جنب الْعلم ... كَالْحرَّةِ الْحَسْنَاء فِي كنف الْهمام الْمُحْتَرَم)
(وتراه من جناته متلألئا بَين الأجم ... كالدر بَين زمرد فِي قرط مَارِيَة انتظم)
(وكوجه خود حفه السوالف فِي دلم ... {وكغرة فِي أدهم وَالصُّبْح فِي حنج الإحم)
(والثغر من زنجية ترنو إِلَيْهِ وَقد بِسم ... والبدر مَا بَين الدجى والشيب فِي سود اللمم)
(يَعْلُو فويق جنبه علم تدلى من أُمَم ... فَكَأَنَّهُ تَاج اللجين على جبيني ذِي عظم)
(أَو كالكبير مزملا أودى بنهضته الْهَرم ... فِي رَأسه صلع وَفِيمَا تَحت جَبهته غمم)
(أَو كالجواد بِأَنْفِهِ من ذَلِك الْقصر الرثم ... يَكْفِيك مِنْهُ هواؤه لَا خبث فِيهِ وَلَا وخم)
(عجبا صَحِيح والهوى أبدا عليل ذُو سقم ... وزلاله العذب الَّذِي يشفي الْفُؤَاد من الضرم)
(حاكى الْعقار وفاقها بصفاء لون الشيم ... أَبنَاء مجد فِي الألى كَانُوا يراعون الذمم)
(من نبلهم دون العويص ونبلهم خلف الْحرم ... ونفيسهم فقع الفلا ونفوسهم بيض الرخم)
(من كل أَبيض وَجهه تجلى بِهِ سدف الظُّلم ... فِي الْخطب بدر لامع ولدى الندى بَحر خضم)
(وأحبة كَانُوا لنا كَالْمَاءِ بِالرَّاحِ التأم ... لم يعد بَين بَيْننَا وَلَو الْفِرَاق بِنَا ألم)
(الْبَين بَين جسومنا لَا بَين أَنْفُسنَا يحم ... والعهد حَبل مَا انفصا عَنهُ الوداد وَلَا انفصم)
(والصدق نهج قد علا فِي كل أوجهه علم ... وَالْبر مرعاة قرى من فِيهِ للحسنى قرم)
(وَالنَّفس أَرض قد كرا الْمعِين ذَوُو الْكَرم ... وَالدّين روض قد رعى فِيهِ من العقبى رعم)
(وَالْعلم ورد مَا حلا إِلَّا لمن نزع الْحلم ... والسر برق مَا أضا إِلَّا لمن غسل الإضم)
(والدهر دولاب شما فِيهِ سوى أهل الشمم ... من ذاق مورده الصري يَوْمًا فللدنيا صرم)
ولنرجع إِلَى بَقِيَّة أَخْبَار ابْن الْخَطِيب
وَلما اسْتَقر بسلا وَاطْمَأَنَّ جنبه بهَا قَالَ
(يَا أهل هَذَا الْقطر ساعده الْقطر ... بليت فدلوني لمن يرفع الْأَمر)(4/23)
(تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطا ... وَفِي شغلي أَو نومتي سرق الْعُمر)
ثمَّ حرص على لِقَاء الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى ظفر بِهِ فَعظم سروره بذلك وتبجح بِهِ إِذْ قَالَ فِي نفاضة الجراب وَلَقِيت من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى بسلا الْوَلِيّ الزَّاهِد الْكَبِير الْمُنْقَطع القرين فِرَارًا عَن زهرَة الدُّنْيَا وعزوفا عَنْهَا وإغراقا فِي الْوَرع وشهرة بالكشف وَإجَابَة الدعْوَة وَظُهُور الكرامات أَبَا الْعَبَّاس بن عَاشر يسر الله تَعَالَى لقاءه على تعذره لصعوبة تَأتيه وكثافة هيبته قَاعِدا بَين الْقُبُور فِي الْخَلَاء رث الهيثة مطرق اللحظ كثير الصمت مفرط الانقباض وَالْعُزْلَة قد ضرسه أهل الدُّنْيَا وتطارحهم فَهُوَ شَدِيد الاشمئزاز من قاصده مجرمز للوثبة من طارقه نفع الله تَعَالَى بِهِ أه كَلَامه فِي النفاضة وَقَالَ رَحمَه الله من قصيدته العينية السلاوية الَّتِي وَجههَا إِلَى سلا أَيَّام خلف بهَا أَهله وَولده
(بولِي الله فابدأ وابتدر ... وَاحِدًا الأحاد فِي بَاب الْوَرع)
وَمرَاده بولِي الله ابْن عَاشر الْمَذْكُور
ثمَّ إِن ابْن الْخَطِيب بعد رُجُوعه من مراكش جعل ينتاب رِبَاط شالة مدفن الْمُلُوك من بني مرين وَمِنْهُم السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله للدُّعَاء وَقِرَاءَة الْقُرْآن بهَا وتعاهدها وَقد كتب بذلك إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم وَطلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد أهل الأندلس فِي رد مَتَاعه الَّذِي أتلفوه عَلَيْهِ أَيَّام النكبة وَنَصّ الْكتاب مولَايَ المرجو لإتمام الصنيعة وصلَة النِّعْمَة وإحراز الْفَخر أبقاكم الله تَعَالَى تضرب بكم الْأَمْثَال فِي الْبر وَالرِّضَا وعلو الهمة ورعي الْوَسِيلَة مقبل موطئ قدمكم الْمُنْقَطع إِلَى تربة الْمولى والدكم ابْن الْخَطِيب من الضريح الْمُقَدّس بشالة وَقد حط رَحل الرَّجَاء فِي الْقبَّة المقدسة وَتيَمّم بالتربة الزكية وَقعد بِإِزَاءِ لحد الْمولى أبيكم سَاعَة إيابه من الوجهة الْمُبَارَكَة وزيارة الرَّبْط الْمَقْصُودَة والترب المعظمة وَقد عزم أَن لَا يبرح طَوْعًا من هَذَا الْجوَار الْكَرِيم والدخيل المرعى حَتَّى يصله من مقامكم مَا(4/24)
يُنَاسب هَذَا التطارح على قبر هَذَا الْمولى الْعَزِيز على أهل الأَرْض ثمَّ عَلَيْكُم والتماس شَفَاعَته فِي أَمر سهل عَلَيْكُم لَا يجر إنفاد مَال وَلَا اقتحام خطر إِنَّمَا هُوَ إِعْمَال لِسَان وَخط بنان وَصرف عزم وإحراز فَخر وإطابة ذكر وَأجر وَذَلِكَ أَن العَبْد عرفكم يَوْم وداعكم أَنه ينْقل عَنْكُم إِلَى الْمولى الْمُقَدّس بِلِسَان الْمقَال مَا يحضر مِمَّا يفتح الله تَعَالَى فِيهِ ثمَّ ينْقل عَنهُ لكم بِلِسَان الْحَال مَا يتلَقَّى عَنهُ من الْجَواب وَقَالَ لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة الْمولى والدكم سَيِّدي الْخَطِيب يَعْنِي ابْن مَرْزُوق سنى الله تَعَالَى أمله من سَعَادَة مقامكم وَطول عمركم أَنْت يَا فلَان وَالْحَمْد لله مِمَّن لَا يُنكر عَلَيْهِ الْوَفَاء بِهَذَيْنِ الفرضين وَصدر عَنْكُم من الْبشر وَالْقَبُول والإنعام مَا صدر جزاكم الله تَعَالَى جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وَقد تقدم تَعْرِيف مولَايَ بِمَا كَانَ من قيام العَبْد بِمَا نَقله إِلَى التربة الزكية عَنْكُم حَسْبَمَا أَدَّاهُ من حضر ذَلِك المشهد من خدامكم وَالْعَبْد الْآن يعرض عَلَيْكُم الْجَواب وَهُوَ أَنِّي لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الْمَلأ الْكَبِير والجم الْغَفِير أكببت على اللَّحْد الْكَرِيم دَاعيا ومخاطبا وأصغيت بإذني نَحْو قَبره وَجعل فُؤَادِي يتلَقَّى مَا يوحيه إِلَيْهِ لِسَان حَاله فَكَأَنِّي بِهِ يَقُول لي قل لمولاك يَا وَلَدي وقرة عَيْني الْمَخْصُوص برضاي وبري وَستر حريمي ورد ملكي وصان أَهلِي وَأكْرم صنائعي وَوصل عَمَلي أسلم عَلَيْك وأسأل الله تَعَالَى أَن يرضى عَنْك وَيقبل عَلَيْك الدُّنْيَا دَار غرور {وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} وَمَا النَّاس إِلَّا هَالك وَابْن هَالك وَلَا تَجِد إِلَّا مَا قدمت من عمل يَقْتَضِي الْعَفو وَالْمَغْفِرَة أَو ثَنَاء يجلب الدُّعَاء بِالرَّحْمَةِ وَمثلك من ذكر فَتذكر وَعرف فَمَا أنكر وَهَذَا ابْن الْخَطِيب قد وقف على قَبْرِي وتهمم بِي وَسبق النَّاس إِلَى رثائي وأنشدني ومجدني وَبكى لي ودعا لي وَهَنأَنِي بمصير أَمْرِي إِلَيْك وعفر وَجهه فِي تربتي وأملني لما انْقَطَعت مني آمال النَّاس فَلَو كنت يَا وَلَدي حَيا لما وسعني أَن أعمل مَعَه إِلَّا مَا يَلِيق بِي وَأَن أستقل فِيهِ الْكثير وأحتقرن الْعَظِيم لَكِن لما(4/25)
عجزت عَن جَزَائِهِ وكلته إِلَيْك وأحلته يَا حبيب قلبِي عَلَيْك وَقد أَخْبرنِي أَنه سليب المَال كثير الْعِيَال ضَعِيف الْجِسْم قد ظهر فِي عدم نشاطه أثر السن وأمل أَن يَنْقَطِع بِجوَارِي ويستتر بدخيلي وخدمتي وَيرد عَلَيْهِ حَقه بخدمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعبد الله تَعَالَى تَحت حرمتك وحرمتي وَقد كنت تشوفت إِلَى استخدامه فِي الْحَيَاة حَسْبَمَا يُعلمهُ حبيبنا الْخَاص الْمحبَّة وَخَطِيبِنَا الْعَظِيم المزية الْقَدِيم الْقرْبَة أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فَاسْأَلْهُ يذكرك واستخبره يُخْبِرك فَأَنا الْيَوْم أُرِيد أَن يكون هَذَا الرجل خديمي بعد الْمَمَات إِلَى أَن نلحق جَمِيعًا برضوان الله تَعَالَى وَرَحمته الَّتِي وسعت كل شَيْء وَله يَا وَلَدي ولد نجيب يخْدم ببابك وينوب عَنهُ فِي مُلَازمَة بَيت كتابك وَقد اسْتَقر ببابك قراره وَتعين بِأَمْرك مرتبه ودثاره فَيكون الشَّيْخ خديم الشَّيْخ والشاب خديم الشَّاب هَذِه رغبتي مِنْك وحاجتي إِلَيْك وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث لَا بُد أَن يذكر ويتحدث فِي الدُّنْيَا وَبَين أَيدي الْمُلُوك والكبراء فاعمل مَا يبْقى لَك فخره ويتخلد ذكره وَقد أَقَامَ مجاورا ضريحي تاليا كتاب الله تَعَالَى على منتظرا مَا يصله مِنْك ويقرأه على من السَّعْي فِي خلاص مَاله والاحتجاج بِهَذِهِ الْوَسِيلَة فِي جبره وإجراء مَا يَلِيق بك من الْحُرْمَة والكرامة وَالنعْمَة فَالله الله يَا إِبْرَاهِيم اعْمَلْ مَا يسمع عني وعنك فِيهِ ولسان الْحَال أبلغ من لِسَان الْمقَال أه وَالْعَبْد يَا مولَايَ مُقيم تَحت حرمته وَحُرْمَة سلفه منتظر مِنْكُم قَضَاء حَاجته ولتعلموا وتتحقوا أنني لَو ارتكبت الجرائم ورزأت الْأَمْوَال وسفكت الدِّمَاء وَأخذت خسائف الْمُلُوك الأعزة مِمَّن وَرَاء النَّهر من التتار وَخلف الْبَحْر من الرّوم ووراء الصَّحرَاء من الْحَبَشَة وأمكنهم الله تَعَالَى مني من غير عهد بعد أَن بَلغهُمْ تذلمي بِهَذَا الدخيل ومقامي بَين هَذِه الْقُبُور الْكَرِيمَة مَا وسع أحد مِنْهُم من حَيْثُ الْحيَاء والحشمة من الْأَحْيَاء والأموات وَإِيجَاب الْحُقُوق الَّتِي لَا يغفلها الْكِبَار للكبار إِلَّا الْجُود الَّذِي لَا يتعقبه الْبُخْل وَالْعَفو الَّذِي لَا تفسده الْمُؤَاخَذَة(4/26)
فضلا عَن سُلْطَان الأندلس أسعده الله تَعَالَى وَعلا بموالاتكم فَهُوَ فَاضل وَابْن مُلُوك أفاضل وَحَوله أكياس مَا فيهم من يجهل قدركم وَقدر سلفكم لَا سِيمَا مولَايَ والدكم الَّذِي أتوسل بِهِ إِلَيْكُم وإليهم فقد كَانَ يتبنى مولَايَ أَبَا الْحجَّاج ويشمله بنظره وصارخه بِنَفسِهِ وأمده بأمواله ثمَّ صير الله تَعَالَى ملكه إِلَيْكُم وَأَنْتُم من أَنْتُم ذاتا وقبيلا فقد قرت يَا مولَايَ عين العَبْد بِمَا رَأَتْ فِي هَذَا الوطن المراكشي من وفور حشودكم وَكَثْرَة جنودكم وترادف أَمْوَالكُم وعددكم زادكم الله تَعَالَى من فَضله وَلَا شكّ عِنْد عَاقل أَنكُمْ إِن انْحَلَّت عُرْوَة تأميلكم وأعرضت عَن ذَلِك الوطن الأندلسي اسْتَوَت عَلَيْهِ يَد عدوه وَقد علم تطارحي بَين الْمُلُوك الْكِرَام الَّذين خضعت لَهُم التيجان وتعلقي بِثَوْب الْملك الصَّالح وَالِد الْمُلُوك الْكِرَام مولَايَ والدكم وشهرة حُرْمَة شالة مَعْرُوفَة حاش الله أَن يضيعها أهل الأندلس وَمَا توسل إِلَيْهِم قطّ بهَا إِلَّا الْآن وَمَا يجهلون اغتنام هَذِه الْفَضِيلَة الغريبة وأملي مِنْكُم أَن يتَعَيَّن من بَين يديكم خديم بِكِتَاب كريم يتَضَمَّن الشَّفَاعَة فِي رد مَا أَخذ لي ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر مَا ألزمتكم بِسَبَب هَذَا الترامي من الضَّرُورَة المهمة والوظيفة الْكَبِيرَة عَلَيْكُم وعَلى قبيلكم حَيْثُ كَانُوا وتطلبون مِنْهُ عَادَة المكارمة بِحل هَذِه الْعقْدَة وَمن الْمَعْلُوم أَنِّي لَو طلبت بِهَذِهِ الْوَسَائِل من صلب مَا وسعهم بِالنّظرِ الْعقلِيّ إِلَّا حفظ الْوَجْه مَعَ هَذَا الْقَبِيل وَهَذَا الوطن فالحياء والحشمة يأبيان الْعذر عَن هَذَا فِي كل مِلَّة ونحلة وَإِذا تمّ هَذَا الْغَرَض وَلَا شكّ فِي إِتْمَامه بِاللَّه تَعَالَى تقع صدقتكم على الْقَبْر الْكَرِيم بِي وتعينوني لخدمة هَذَا الْمولى وزيارته وتفقده ومدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة المولد فِي جواره وَبَين يَدَيْهِ وَهُوَ غَرِيب مُنَاسِب لبركم بِهِ إِلَى أَن أحج بَيت الله بعناية مقامكم وأعود دَاعيا مثنيا مستدعيا للشكر وَالثنَاء من أهل الْمشرق وَالْمغْرب وأتعوض من ذِمَّتِي بالأندلس ذمَّة بِهَذَا الرِّبَاط الْمُبَارك يَرِثهَا ذريتي وَقد ساومت فِي شَيْء من ذَلِك منتظرا ثمنه مِمَّا يُبَاع بالأندلس بشفاعتكم وَلَو ظَنَنْت أَنهم(4/27)
يتوقفون لكم فِي مثل هَذَا أَو يتَوَقَّع فِيهِ وَحْشَة أَو جفَاء وَالله مَا طلبته لكِنهمْ أسرى وَأفضل وانقطاعي أَيْضا لوالدكم مِمَّا لَا يسع مجدكم إِلَّا عمل مَا يَلِيق بكم فِيهِ وَهَا أَنا أترقب جوابكم بِمَا لي عنْدكُمْ من الْقبُول ويسعني مجدكم فِي الطّلب وَخُرُوج الرَّسُول لاقْتِضَاء هَذَا الْغَرَض وَالله سُبْحَانَهُ يطلع من مولَايَ على مَا يَلِيق بِهِ وَالسَّلَام وَكتب فِي الْحَادِي عشر من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَفِي مدرج الْكتاب بعد نثر هَذِه القصيدة
(مولَايَ هَا أَنا فِي جوَار أبيكا ... فابذل من الْبر الْمُقدر فيكا)
(أسمعهُ مَا يرضيه من تَحت الثرى ... وَالله يسمعك الَّذِي يرضيكا)
(وَاجعَل رِضَاهُ إِذا نهدت كَتِيبَة ... تهدي إِلَيْك النَّصْر أَو تهديكا)
(واجبر بجبري قلبه تنَلْ المنا ... وتطالع الْفَتْح الْمُبين وشيكا)
(فَهُوَ الَّذِي سنّ البرور بِأُمِّهِ ... وَأَبِيهِ فاشرع شَرعه لبنيكا)
(وَابعث رَسُولك منذرا ومحذرا ... وَبِمَا تؤمل نيله يأتيكا)
(قد هز عزمك كل قطر نازح ... وأخاف مَمْلُوكا بِهِ ومليكا)
(فَإِذا سموت إِلَى مرام شاسع ... فغصونه ثَمَر المنا تجنيكا)
(ضمنت رجال الله مِنْك مطالبي ... لما جعلتك فِي الثَّوَاب شَرِيكا)
(فلئن كفيت وجوهها فِي مقصدي ... ورعيتها بركاتها تكفيكا)
(وَإِذا قضيت حوائجي وأريتني ... أملا فربك مَا أردْت يريكا)
(وَاشْدُدْ على قولي يدا فَهُوَ الَّذِي ... برهانه لَا يقبل التشكيكا)
(مولَايَ مَا استأثرت عَنْك بمهجتي ... إِنِّي ومهجتي الَّتِي تفديكا)
(لَكِن رَأَيْت جناب شالة مغنما ... يضفي على الْعِزّ فِي ناديكا)
(وفروض حَقك لَا تفوت فوقتها ... بَاقٍ إِذا استجزيته يجزيكا)
(ووعدتني وتكرر الْوَعْد الَّذِي ... أَبَت المكارم أَن يكون أفيكا)
(أضفى عَلَيْك الله ستر عناية ... من كل مَحْذُور الطَّرِيق يقيكا)
(ببقائك الدُّنْيَا تحاط وَأَهْلهَا ... فَالله جلّ جَلَاله يبقيكا)
وَقَالَ أَيْضا فِي الْغَرَض الْمَذْكُور(4/28)
(عَن بَاب والدك الرضي لَا أَبْرَح ... يأسو الزَّمَان لأجل ذَا أَو يجرح)
(ضربت خيامي فِي حماه فصبيتي ... تجني الْحَمِيم بِهِ وبهمي بشرح)
(حَتَّى يُرَاعِي وَجهه فِي وجهتي ... بعناية تشفي الصُّدُور وتشرح)
(أيسوغ عَن مثواه سيري خائبا ... ومنابر الدُّنْيَا بذكرك تصدح)
(أَنا فِي حماه وَأَنت أبْصر بِالَّذِي ... يرضيه مِنْك فوزن عقلك أرجح)
(فِي مثلهَا سيف الحمية ينتضى ... فِي مثلهَا زند الحفيظة يقْدَح)
(وَعَسَى الَّذِي بَدَأَ الْجَمِيل يُعِيدهُ ... وَعَسَى الَّذِي سدا الْمذَاهب يفتح)
فَأَجَابَهُ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله بِمَا صورته من عبد الله المستعين بِاللَّه إِبْرَاهِيم أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين أبي الْحسن ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين أبي سعيد ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق أيد الله أمره وأعز نَصره إِلَى الشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأحظى الْأَوْجه الأنوه الصَّدْر الأحفل المُصَنّف البليغ الأعرف الْأَكْمَل أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْأَجَل الْأَعَز الْأَسْنَى الْوَزير الأرفع الأنجد الْأَصِيل الْأَكْمَل المرحوم المبرور أبي مُحَمَّد بن الْخَطِيب وصل الله عزته ووالى رفعته سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله تَعَالَى وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالرِّضَا على آله وَصَحبه أَعْلَام الْإِسْلَام وأئمة الرشد وَالْهدى وصلَة الدُّعَاء لهَذَا الْأَمر الْعلي الْعَزِيز الْمَنْصُور المستعيني بالنصر الْأَعَز وَالْفَتْح الْأَسْنَى فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم بُلُوغ الْأَمر ونجح القَوْل وَالْعَمَل من منزلنا الأسعد بضفة وَادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل وَمِنْه جزيل وَالْحَمْد لله وَلكم عندنَا المكانة الْوَاضِحَة الدَّلَائِل والعناية المتكفلة برعي الْوَسَائِل ذَلِك بِمَا تميزتم بِهِ من التَّمَسُّك بالجناب الْعلي المولوي الْعلوِي جدد الله تَعَالَى عَلَيْهِ ملابس غفرانه وسقاه غيوث رَحمته وحنانه وَبِمَا أهديتم إِلَيْنَا من التَّقَرُّب لدينا بِخِدْمَة ثراه الطَّاهِر والاشتمال بمطارف حرمته السامية الْمظَاهر وَإِلَى هَذَا وصل الله حظوتكم(4/29)
ووالى رفعتكم فَإِنَّهُ ورد علينا خطابكم الْحسن عندنَا قَصده الْمُقَابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على مَا نَصه واستوفينا مَا شَرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم فِي التوسل بأكبر الْوَسَائِل إِلَيْنَا ورعينا أكمل الرِّعَايَة حق ذَلِكُم الجناب الْعَزِيز علينا وَفِي الْحِين عينا لكَمَال مطلبكم وَتَمام مأربكم والتوجه بخطابنا فِي حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أَبَا الْبَقَاء بن تاشكورت وَأَبا زَكَرِيَّاء بن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تَارِيخه انفصلا مودعين إِلَى الْغَرَض الْمَعْلُوم بعد التَّأْكِيد عَلَيْهِمَا فِيهِ وَشرح الْعَمَل الَّذِي يُوفيه فكونوا على علم من ذَلِكُم وابسطوا لَهُ جملَة آمالكم وَإِنَّا لنَرْجُو ثَوَاب الله فِي جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم وَالله سُبْحَانَهُ يصل مبرتكم ويتولى تكرمتكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته كتب فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ فَرَاجعه ابْن الْخَطِيب بِمَا نَصه مولَايَ خَليفَة الله بِحَق وكبير مُلُوك الأَرْض عَن حجَّة ومعدن الشَّفَقَة وَالْحكمَة ببرهان وَحِكْمَة أبقاكم الله تَعَالَى على الدرجَة فِي المنعمين وافري الْحَظ عِنْد جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وأراكم ثَمَرَة بر أبيكم فِي الْبَنِينَ وصنع لكم فِي عَدوكُمْ الصنع الَّذِي لَا يقف عِنْد مُعْتَاد وأذاق الْعَذَاب الْأَلِيم من أَرَادَ فِي مثابتكم بإلحاد عبدكم الَّذِي ملكتم رقّه وآويتم غربته وسترتم أَهله وَولده وأسنيتم رزقه وجبرتم قلبه وَيقبل موطئ الأخمص الْكَرِيم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بِفضل الله تَعَالَى لموقف النَّصْر الفارغة هضبة الْعِزّ المعملة الخطوة فِي مجَال السعد ومسير الْحَظ ابْن الْخَطِيب من شالة الَّتِي تَأَكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيتكم عهدها واستبشر بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وَقد ورد على العَبْد الْجَواب المولوي الْبر الرَّحِيم الْمُنعم المحسن بِمَا يَلِيق بِالْملكِ الْأَصِيل وَالْقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الْأَب الْكَرِيم فَثَابَ الرَّجَاء وانبعث الأمل وَقَوي الْعَضُد وزار اللطف فَالْحَمْد لله الَّذِي أجْرى الْخَيْر على يدكم الْكَرِيمَة وأعانكم على رعي ذمام الصَّالِحين المتوسل إِلَيْكُم أَولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب(4/30)
أجداثهم ثمَّ بِقَبْر مولَايَ ومولاكم وَمولى الْخلق أَجْمَعِينَ الَّذِي تسبب فِي وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بِلُطْفِهِ وحنانه وعلمكم آدَاب الشَّرِيعَة وأورثكم ملك الدُّنْيَا وهيأتكم دَعْوَاهُ بالاستقامة إِلَى ملك الْآخِرَة بعد طول المدى وانفساخ الْبَقَاء وَفِي علومكم المقدسة مَا تَضَمَّنت الحكايات عَن الْعَرَب من النُّصْرَة عَن طَائِر داست أفراخه نَاقَة فِي جوَار رَئِيس مِنْهُم وَمَا انْتهى إِلَيْهِ الامتعاض لذَلِك مِمَّا أهينت فِيهِ الْأَنْفس وَهَلَكت الْأَمْوَال وقصارى من امتعض لذَلِك أَن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فَمَا الظَّن بكم وَأَنْتُم الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم فِيمَن لَجأ أَولا إِلَى حماكم بالأهل وَالْولد عَن حَسَنَة تبرعتم بهَا وَصدقَة حملتكم الْحُرِّيَّة على بذلها ثمَّ فِيمَن حط رَحل الاستجارة بضريح أكْرم الْخلق عَلَيْكُم دامع الْعين خافق الْقلب واهي الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عَلَيْهِم فِي الْحَيَاة أَمَام الذعر يذهل الْعقل ويحجب عَن التميز بقصر دَاره ومضجع رقاده مَا من يَوْم إِلَّا وأجهر بعد التِّلَاوَة ياليعقوب يالمرين نسْأَل الله تَعَالَى أَن لَا يقطع عني معروفكم وَلَا يسلبني عنايتكم ويستعملني مَا بقيت فِي خدمتكم ويتقبل دعائي فِيكُم ولحين وُصُول الْجَواب الْكَرِيم نهضت إِلَى الْقَبْر الْمُقَدّس وَوَضَعته بإزائه وَقلت يَا مولَايَ يَا كَبِير الْمُلُوك وَخَلِيفَة الله وبركة بني مرين صَاحب الشُّهْرَة وَالذكر فِي الْمشرق وَالْمغْرب عَبدك الْمُنْقَطع إِلَيْك المترامي بَين يَدي قبرك المتوسل إِلَى الله ثمَّ ولدك بك ابْن الْخَطِيب وَصله من مَوْلَاهُ ولدك مَا يَلِيق بمقامه من رعي وَجهك والتقرب إِلَى الله برعيك والاشتهار فِي مشرق الدُّنْيَا وَمَغْرِبهَا ببرك وَأَنْتُم من أَنْتُم من إِذا صنع صَنِيعه كملها وَإِذا من منَّة تممها وَإِذا أسدى يدا أبرزها طَاهِرَة بَيْضَاء غير مَعِيبَة وَلَا ممنونة وَلَا منتقصة وَأَنا بعد تَحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حَتَّى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نِعْمَتك بِي ويطمئن إِلَى مأمنك قلبِي ثمَّ قلت للطلبة أَيهَا السَّادة بيني وَبَيْنكُم تِلَاوَة كتاب الله تَعَالَى مُنْذُ أَيَّام ومناسبة النحلة وأخوة التَّأْلِيف بِهَذَا الرِّبَاط الْمُقَدّس وَالسُّكْنَى بَين أظْهركُم فَأمنُوا على دعائي بإخلاص من قُلُوبكُمْ واندفعت فِي الدُّعَاء(4/31)
والتوسل الَّذِي أَرْجُو أَن يتقبله الله تَعَالَى وَلَا يضيعه وخاطب العَبْد مَوْلَاهُ شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته ومسرورا بقبوله وشأنه من التَّعَلُّق والتطارح شَأْنه حَتَّى يكمل الْقَصْد وَيتم الْغَرَض معمور الْوَقْت بِخِدْمَة يرفعها وَدُعَاء يردده وَالله الْمُسْتَعَان أه
وَلما وصل كتاب السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى أهل الأندلس أعظموا وسيلته وقبلوا شَفَاعَته وردوا إِلَى ابْن الْخَطِيب مَا تأتى رده مِمَّا كَانَ ضَاعَ لَهُ وأتلف عَلَيْهِ وَاسْتمرّ مُقيما بسلا سنتَيْن وَزِيَادَة ثمَّ استدعاه سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى الأندلس بعد رُجُوعه إِلَيْهَا واحتوائه على ملكهَا فَأجَاب حَيَاء لَا رَغْبَة ومكرها لَا بطلا إِلَى كَانَ مَا نذكرهُ من شَأْنه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله ونوادره بسلا وَمَا جرياته كَثِيرَة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة
انْتِقَاض الْحسن بن عمر الفودودي وَخُرُوجه بتادلا ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان أَبَا سَالم لما استولى على ملك فاس وَالْمغْرب عقد لِلْحسنِ بن عمر على مراكش وَوَجهه إِلَيْهَا تخففا مِنْهُ وريبة بمكانه من الدولة فاستقر بهَا وتأثلت لَهُ بهَا رياسة نَفسهَا عَلَيْهِ أهل مجْلِس السُّلْطَان وَسعوا فِيهِ عِنْده حَتَّى تنكر لَهُ وأظلم الجو بَينهمَا وأحس الْحسن بن عمر بذلك فخشي على نَفسه وَخرج من مراكش فِي صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فلحق بتادلا منحرفا عَن السُّلْطَان ومرتكبا للْخلاف فَتَلقاهُ بَنو جَابر من عرب جشم وأجاروه واعصوصبوا عَلَيْهِ فسرح إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو سَالم وزيره الْحسن بن يُوسُف الورتاجني فاحتل بتادلا وانشمر الْحسن بن عمر إِلَى الْجَبَل بهَا فاعتصم بِهِ وَمَعَهُ كَبِير بني جَابر الْحسن بن عَليّ الورديغي فأحاطت بهم العساكر وَأخذُوا بمخنقهم وداخل الْوَزير بعض أهل الْجَبَل من برابرة صناكة فِي الثورة بهم وسرب إِلَيْهِم المَال فثاروا بهم وانفض جمعهم وتقبضوا على الْحسن بن عمر وقادوه برمتِهِ إِلَى الْحسن بن يُوسُف فاعتقله وانكفأ رَاجعا بِهِ إِلَى الحضرة فَدَخلَهَا فِي يَوْم مشهود استركب السُّلْطَان فِيهِ الْجند(4/32)
وَجلسَ ببرج الذَّهَب مَقْعَده من ساحة الْبَلَد وَحمل الْحسن بن عمر على جمل فطيف بِهِ بَين تِلْكَ الجموع وَلما قرب من مجْلِس السُّلْطَان أَوْمَأ إِلَى تَقْبِيل الأَرْض من فَوق جمله ثمَّ ركب السُّلْطَان إِلَى قصره وانفض الْجمع وَقد شهر الْحسن بن عمر وَأَصْحَابه فصاروا عِبْرَة لمن اعْتبر
وَلما دخل السُّلْطَان قصره جلس على كرسيه واستدعى خاصته وجلساءه وأحضر ابْن عمر فوبخه وَقرر عَلَيْهِ ذنُوبه فتلوى بالمعاذير وفزع إِلَى الْإِنْكَار قَالَ ابْن خلدون وَحَضَرت هَذَا الْمجْلس يَوْمئِذٍ فِيمَن حَضَره من الْخَاصَّة فَكَانَ مقَاما تسيل فِيهِ الْعُيُون رَحْمَة وعبرة ثمَّ أَمر بِهِ السُّلْطَان فسحب على وَجهه ونتفت لحيته وَضرب بالعصى وثل إِلَى محبسه ثمَّ قتل بعد لَيَال قعصا بِالرِّمَاحِ خَارج الْبَلَد وَنصب شلوه بِبَاب المحروق رَحمَه الله تَعَالَى
نهوض السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا
لما استوسق للسُّلْطَان أبي سَالم ملك الْمغرب ومحا أثر الْخَوَارِج مِنْهُ سمت همته إِلَى تملك تلمسان كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وأخيه من قبل وأكد عزمه على ذَلِك مَا كَانَ من فرار عبد الله بن مُسلم الزرد إِلَى عاملهم على درعة إِلَيْهَا فأجمع السُّلْطَان أَبُو سَالم النهوض إِلَيْهَا وعسكر بِظَاهِر فاس الْجَدِيد منتصف سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَلما توافت لَدَيْهِ الحشود وتكاملت بسدته الْجنُود ارتحل إِلَى تلمسان
واتصل خبر نهوضه بسلطانها أبي حمو بن يُوسُف الزياني ووزيره عبد الله بن مُسلم الزردالي فَنَادوا فِي الْعَرَب من بني عَامر بن زغبة وَبني معقل فأجابوهم كَافَّة الأشرذمة قَليلَة من الأحلاف ثمَّ خرج أَبُو حمو وشيعته عَن تلمسان إِلَى الصَّحرَاء والتفت عَلَيْهِ الْعَرَب بحللها
وَلما دخل السُّلْطَان أَبُو سَالم تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا خَالفه أَبُو حمو فِي عربه إِلَى الْمغرب فنزلوا آكرسيف ووطاط وبلاد ملوية وحطموا زروعها وانتسفوا بركتها وخربوا عمرانها وَبلغ السُّلْطَان أَبَا سَالم مَا كَانَ من إفسادهم فأهمه أَمر الْمغرب وَكَانَ فِي جملَته من بني زيان مُحَمَّد بن عُثْمَان ابْن(4/33)
السُّلْطَان أبي تاشفين ويكنى أَبَا زيان فعقد لَهُ على تلمسان وَأَعْطَاهُ الْآلَة وَجمع لَهُ جَيْشًا من مغراوة وَبني توجين وَدفع لَهُم أعطياتهم وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس فأجفل أَبُو حمو وَالْعرب أَمَامه ثمَّ خالفوه إِلَى تلمسان فطردوا عَنْهَا أَبَا زيان واستولوا عَلَيْهَا وَثَبت قدم أبي حمو بهَا وَعَاد أَبُو زيان إِلَى الْمغرب لاحقا بالسلطان أبي سَالم قبله وَعقد المهادنة مَعَ أبي حمو وَاسْتقر الْأَمر على ذَلِك وَقد كَانَ ابْن الْخَطِيب عِنْدَمَا بلغه اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي سَالم على تلمسان هنأه بقصيدة طَوِيلَة يَقُول فِي مطْلعهَا
(أطَاع لساني فِي مديحك إحساني ... وَقد لهجت نَفسِي بِفَتْح تلمسان)
وَيَقُول فِي أَثْنَائِهَا وَقد ألم بِشَيْء من علم الْأَحْكَام النجومية لميل السُّلْطَان إِلَيْهِ
(وَللَّه من ملك سعيد ونصبة ... قضى المُشْتَرِي فِيهَا بعزلة كيوان)
(وسجل حكم الْعدْل من بيوتها ... وقوفا مَعَ الْمَشْهُور من رَأْي يونان)
(فَلم تخشى سهم الْقوس صفحة بدرها ... وَلم تشك فِيهَا الشَّمْس من بخس ميزَان)
(وَلم يعْتَرض مبتزها قطع قَاطع ... وَلَا نازعت نوبهرها كف عدوان)
(تولى اخْتِيَار الله حسن اخْتِيَارهَا ... فَلم يحْتَج الفرغان فِيهَا لفرغان)
(وَلَا صرفت فِيهَا دقائق نِسْبَة ... وَلَا حققت فِيهَا طوالع بلدان)
وفادة السودَان من أهل مَالِي على السُّلْطَان أبي سَالم وإغرابهم فِي هديتهم بالزرافة الْحَيَوَان الْمَعْرُوف
قد تقدم لنا مَا جرى من المواصلة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَالسُّلْطَان منسا مُوسَى وأخيه أَو ابْنه من بعده منسا سُلَيْمَان وَتردد الْوُفُود وإسناء الْهَدَايَا بَينهم وَقد كَانَ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان قد هيأ هَدِيَّة نفيسة بِقصد أَن يبعثها إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مُكَافَأَة لَهُ على هديته فَهَلَك السُّلْطَان أَبُو الْحسن خلال ذَلِك ثمَّ هلك السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بعده وَاخْتلف أهل مَالِي وافترق أَمرهم وتقاتلوا على الْملك إِلَى أَن جمع الله كلمتهم على السُّلْطَان منسا زاطة واستوسق لَهُ الْأَمر ثمَّ نظر فِي أعطاف ملكه وَأخْبر بشأن الْهَدِيَّة الَّتِي كَانَ منسا(4/34)
سُلَيْمَان قد هيأها لملك الْمغرب فَأمر بإنفاذها إِلَيْهِ وَضم إِلَيْهَا الزرافة الْحَيَوَان الْغَرِيب الشكل الْعَظِيم الهيكل الْمُخْتَلف الشّبَه بالحيوانات وفصلوا بهَا من بِلَادهمْ فوصلوا إِلَى حَضْرَة فاس فِي صفر من سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة
قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْم وفادتهم يَوْمًا مشهودا جلس لَهُم السُّلْطَان ببرج الذَّهَب بمجلسه الْمعد لعرض الْجنُود وَنُودِيَ فِي النَّاس بالبروز إِلَى الصَّحرَاء فبرزوا يَنْسلونَ من كل حدب حَتَّى غص بهم الفضاء وَركب بَعضهم بَعْضًا فِي الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وَحضر الْوَفْد بَين يَدي السُّلْطَان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عَن إبطاء الْهَدِيَّة بِمَا كَانَ من اخْتِلَاف أهل مَالِي وتواثبهم على الْأَمر وتعظيم سلطانهم وَمَا صَار إِلَيْهِ والترجمان يترجم عَنْهُم وهم يصدقونه بالنزع فِي أوتار قسيهم عَادَة مَعْرُوفَة لَهُم وحيوا السُّلْطَان بِأَن جعلُوا يحثون التُّرَاب على رؤوسهم على سنة مُلُوك الْعَجم وَأنْشد الشُّعَرَاء فِي معرض الْمَدْح والتهنئة وَوصف الْحَال ثمَّ ركب السُّلْطَان إِلَى قصره وانفض ذَلِك الْجمع وَقد طَار بِهِ طَائِر الاشتهار وَاسْتقر الْوَفْد تَحت جراية السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى أَن هلك قبل انصرافهم فوصلهم الْقَائِم بِالْأَمر من بعده وَانْصَرفُوا إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى ذَوي حسان عرب السوس الْأَقْصَى من بني معقل المتصلين ببلادهم وَمن هُنَاكَ لَحِقُوا بسلطانهم وَالْأَمر كُله لله
وَكَانَ مِمَّا قيل من الشّعْر فِي ذَلِك الْيَوْم قَول ابْن خلدون من قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(قدحت يَد الأشواق من زند ... وهفت بقلبي زفرَة الوجد)
إِلَى أَن قَالَ فِي وصف الزرافة
(ورقيمة الأعطاف حَالية ... موشية بوشائع الْبرد)
(وحشية الْأَنْسَاب مَا أنست ... فِي موحش الْبَيْدَاء بالقرد)
(تسمو بجيد بَالغ صعدا ... شرف الصروح بِغَيْر مَا جهد)
(طَالَتْ رُؤُوس الشامخات بِهِ ... ولربما قصرت عَن الوهد)(4/35)
(قطعت إِلَيْك تنائفا وصل ... أسئادها بِالنَّصِّ والوخد)
(تحدى على استصعابها ذللا ... وتبيت طوع الْقِنّ وَالْقد)
(بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الْحَيَاة بعيشة رغد)
(جاءتك فِي وَفد الأحابش لَا ... يرجون غَيْرك مكرم الْوَفْد)
(وافوك أنضاء تقليبهم ... أَيدي السرى بالغور والنجد)
(كالطيف يستقري مضاجعه ... أَو كالحسام يسل من غمد)
(يثنون بِالْحُسْنَى الَّتِي سبقت ... من غير إِنْكَار وَلَا جحد)
(ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند)
(يَا مستعينا جلّ فِي شرف ... عَن رُتْبَة الْمَنْصُور وَالْمهْدِي)
(جازاك رَبك عَن خليقته ... خير الْجَزَاء فَنعم مَا تسدى)
(وَبقيت للدنيا وساكنها ... فِي عزة أبدا وَفِي سعد)
وَقَول الْكَاتِب البارع أبي عبد الله بن زمرك الأندلسي من قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(لَوْلَا تألق بارق التذْكَار ... مَا صاب واكف دمعي المدرار)
(لكنه مهما تعرض خافقا ... قدحت يَد الأشواق زند أواري)
إِلَى أَن قَالَ فِي الْغَرَض الْمَذْكُور
(وغريبة قطعت إِلَيْك على الونى ... بيدا تبيد بهَا هموم الساري)
(تنسيه طيته الَّتِي قد أمهَا ... والركب فِيهَا ميت الْأَخْبَار)
(يقتادها من كل مُشْتَمل الدجى ... فَكَأَنَّمَا عَيناهُ جذوة نَار)
(تشدو بِحَمْد المستعين حداتها ... يتعللون بِهِ على الأكوار)
(إِن مسهم لفح الهجير أبلهم ... مِنْهُ نسيم ثنائك المعطار)
(خَاضُوا بهَا لجج الفلا فتخلصت ... مِنْهَا خلوص الْبَدْر بعد سرار)
(سلمت بسعدك من غوائل مثلهَا ... وَكفى بسعدك حاميا لذمار)
(وأتتك يَا ملك الزَّمَان غَرِيبَة ... قيد النواظر نزهة الْأَبْصَار)
(موشية الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يَد الأقدار)
(راق الْعُيُون أديمها فَكَأَنَّهُ ... روض تفتح عَن شَقِيق بهار)(4/36)
(مَا بَين مبيض وأصفر فَاقِع ... سَالَ اللجين بِهِ خلال نضار)
(يَحْكِي حدائق نرجس فِي شَاهِق ... تنساب فِيهِ أراقم الْأَنْهَار)
(تحدو قَوَائِم كالجذوع وفوقها ... جبل أَشمّ بنوره متواري)
(وسمت بجيد مثل جذع مائل ... سهل التعطف لين خوار)
(تستشرف الجدرات مِنْهُ ترائبا ... فَكَأَنَّمَا هُوَ قَائِم بمنار)
(تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ... وَمَشى بهَا الْإِعْجَاب مشي وقار)
(خَرجُوا لَهَا الجم الْغَفِير وَكلهمْ ... متعجب من لطف صنع الْبَارِي)
(كل يَقُول لصحبه قومُوا انْظُرُوا ... كَيفَ الْجبَال تقاد بالأسيار)
(أَلْقَت ببابك رَحلهَا ولطالما ... ألْقى الْغَرِيب بِهِ عَصا التسيار)
(علمت مُلُوك الأَرْض أَنَّك فخرها ... فتسابقت لرضاك فِي مضمار)
(يتبوؤون بِهِ وَإِن بعد المدى ... من جاهك الْأَعْلَى أعز جوَار)
(فارفع لِوَاء الْفَخر غير مدافع ... واسحب ذيول الْعَسْكَر الجرار)
(واهنأ بأعياد الْفتُوح مخولا ... مَا شِئْت من نصر وَمن أنصار)
(وإليكها من روض فكري نفحة ... شف الثَّنَاء بهَا على الأزهار)
(فِي فصل منطقها ورائق رسمها ... مستمتع الأسماع والأبصار)
(وتميل من أصغى لَهَا فكأنني ... عاطيته مِنْهَا كؤوس عقار)
مقتل السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله قد غلب على هَوَاهُ الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق وَألقى زِمَام الدولة بِيَدِهِ فنقم خَاصَّة السُّلْطَان وحاشيته ذَلِك عَلَيْهِ وسخطوا الدولة من أَجله ومرضت قُلُوب أهل الْحل وَالْعقد من تقدمه فتربصوا بالدولة الدَّوَائِر إِلَى أَن كَانَت أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فتحول السُّلْطَان أَبُو سَالم عَن دَار الْملك من فاس الْجَدِيد إِلَى القصبة من فاس الْقَدِيم واختط بهَا إيوانا فخما لجلوسه فَلَمَّا استولى عمر بن عبد الله ابْن عَليّ بن سعيد الفودودي أحد كبراء الدولة ووزرائها على دَار الْملك إِذْ كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم قد خَلفه أَمينا عَلَيْهَا حدثته نَفسه بالتوثب وَسَهل(4/37)
ذَلِك عَلَيْهِ مَا كَانَ قد عرفه من مرض الْقُلُوب على السُّلْطَان لمَكَان ابْن مَرْزُوق فداخل قَائِد جند النَّصَارَى غرسية بن أنطول واتعدوا لذَلِك لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فعمدوا إِلَى تاشفين الموسوس ابْن أبي الْحسن فخلعوا عَلَيْهِ وألبسوه شارة الْملك وقربوا لَهُ مركبا وأجلسوه مجْلِس السُّلْطَان وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة مُحَمَّد بن الزَّرْقَاء على الْبيعَة وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إِلَى بَيت المَال ففرضوا الْعَطاء من غير تَقْدِير وَلَا حِسَاب وماج الْجند بفاس الْجَدِيد بَعضهم فِي بعض واختطفوا مَا وصلوا إِلَيْهِ من الْعَطاء ثمَّ انتهبوا مَا كَانَ بالمخازن الخارجية من السِّلَاح وَالْعدة وأضرموا النيرَان فِي بيوتها سترا على مَا ضَاعَ مِنْهَا وَأصْبح السُّلْطَان أَبُو سَالم بمكانه من قَصَبَة فاس الْقَدِيم وَكَانَ قد تحول إِلَيْهَا فِرَارًا من قَاطع فلكي خَوفه إِيَّاه بعض منجميه فَكَانَ الْبلَاء فِيهِ موكلا بالْمَنْطق فَلَمَّا علم بالكائنة ركب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ من حضر من أوليائه وَغدا على فاس الْجَدِيد وَطَاف بهَا يروم اقتحامها فامتنعت عَلَيْهِ ثمَّ اضْطربَ مُعَسْكَره بكدية العرائس لحصارها ونادى فِي النَّاس بالاجتماع إِلَيْهِ وَلما كَانَ وَقت الهاجرة دخل فسطاطة للقيلولة فتسايل النَّاس عَنهُ إِلَى فاس الْجَدِيد فوجا بعد فَوْج بمرأى مِنْهُ إِلَى أَن انفض عَنهُ خاصته وَأَهله مَجْلِسه فَطلب النَّجَاء بِنَفسِهِ وَركب فِي لمة من الفرسان وَفِيهِمْ وزيراه سُلَيْمَان بن دَاوُد ومسعود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي ومقدم الموَالِي والجند بِبَابِهِ سُلَيْمَان بن ونصار وَأذن لِابْنِ مَرْزُوق فِي الدُّخُول إِلَى دَاره وَمضى هُوَ على وَجهه فِيمَن مَعَه وَلما غشيهم اللَّيْل انْفَضُّوا عَنهُ حَتَّى بَقِي وَحده وَرجع الوزيران إِلَى دَار الْملك فتقبض عَلَيْهِمَا رَئِيس الثورة عمر بن عبد الله الفودودي ومشاركه فِيهَا غرسية بن أنطول النَّصْرَانِي واعتقلاهما مُتَفَرّقين وَبعث عمر بن عبد الله الطّلب فِي أثر السُّلْطَان أبي سَالم فعثروا عَلَيْهِ نَائِما من الْغَد فِي بعض المجاشر بوادي ورغة وَقد غير لِبَاسه اختفاء بشخصه وتواريا عَن الْعُيُون بمكانه فتقبضوا عَلَيْهِ وَحَمَلُوهُ على بغل وطيروا بالْخبر إِلَى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شُعَيْب بن مَيْمُون بن دَاوُد وَفتح الله بن عَامر بن فتح الله(4/38)
السدراتي وَأَمرهمَا بقتْله وإنفاذ رَأسه فلقياه بخندق الْقصب إزاء كدية العرائس فأمرا بعض جند النَّصَارَى أَن يتَوَلَّى ذبحه فَفعل وحملوا رَأسه فِي مخلاة ووضعوه بَين يَدي الْوَزير الثائر ومشيخته وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَدفن بالقلة خَارج بَاب الجيسة بِأَعْلَى جبل الْعرض الْمَعْرُوف بجبل الزَّعْفَرَان
قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله بَقِيَّة الْبَيْت وَآخر الْقَوْم دماثه وحياء وبعدا عَن الشرور وركونا للعافية قَالَ وأنشدت على قَبره الَّذِي ووريت بِهِ جثته قصيدة أدّيت فِيهَا بعض حَقه
(بنى الدُّنْيَا بني لمع السراب ... لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب)
وَمن أَعْيَان وزرائه أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَرْزُوق العجيسي الْخَطِيب الْمَشْهُور الَّذِي مر ذكره آنِفا
وَمن قُضَاة عسكره أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن يحيى الأندلسي الْبُرْجِي
وَمن أَعْيَان كِتَابه الرئيس أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون صَاحب التَّارِيخ
وَأَبُو الْقَاسِم عبد الله بن يُوسُف بن رضوَان النجاري من أهل مالقة صَاحب كتاب السياسة وَغَيره وَمِمَّا نظمه هَذَا الْفَاضِل عَن إِذن السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله ليكتب فِي طرة قبَّة رياض الغزلان من حَضرته قَوْله(4/39)
(هَذَا مَحل المنى بالأمن مغمور ... من حلّه فَهُوَ بالأمان محبور)
(مأوى النَّعيم بِهِ مَا شِئْت من ترف ... تهوى محاسنه الْولدَان والحور)
(ويطلع الرَّوْض مِنْهُ مصنعا عجبا ... يضاحك النُّور من لألائه النُّور)
(ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ... ينافح الندى نشر مِنْهُ منشور)
(مغنى السرُور سقَاهُ الله مَا حملت ... غر الْغَمَام وحلته الأزاهير)
(انْظُر إِلَى الرَّوْض تنظر كل معجبة ... مِمَّا ارْتَضَاهُ لرأي الْعين تحبير)
(مر النسيم بِهِ يَبْغِي القرا فقرا ... دَرَاهِم النُّور تبديد وتنثير)
(وهامت الشَّمْس فِي حسن الظلال بِهِ ... ففرقت فَوْقه مِنْهَا دَنَانِير)
(كَأَنَّمَا الطير فِي أفنائها صدحت ... بشكر مَالِكهَا وَالْفضل مشكور)
(والدوح ناعمة تهتز من طرب ... همسا وَصَوت غناء الطير مجهور)
(وَالنّهر شقّ بِسَاط الأَرْض تحسبه ... سَيْفا وَلكنه فِي السّلم مَشْهُور)
(ينساب للجنة الخضراء أزرقه ... كالأيم جد انسياب وَهُوَ مذعور)
(هذي مصانع مَوْلَانَا الَّتِي جمعت ... شَمل السرُور وَأمر السعد مَأْمُور)
(وَهَذِه الْقبَّة الغراء مَا نظرت ... لشكلها الْعين إِلَّا عز تنظير)
(وَلَا يصورها فِي الْفَهم ذُو فكر ... إِلَّا وَمِنْه لكل الْحسن تَصْوِير)
(وَلَا يرام بحصر وصف مَا جمعت ... من المحاسن إِلَّا صد تَقْصِير)
(فِيهَا المقاصير تحميها مهابته ... لله مَا جمعت تِلْكَ المقاصير)
(كَأَنَّهَا الْأُفق تبدو النيرات بِهِ ... ويستقيم بهَا فِي السعد تسيير)
(وينشأ المزن فِي أرجائه وَله ... من عنبر الشحر إنْشَاء وتسخير)
(وينهمي الْقطر مِنْهُ وَهُوَ منسكب ... مَاء من الْورْد يذكو مِنْهُ تعطير)
(وتخفق الرّيح مِنْهُ وَهِي ناسمة ... مِمَّا أهب بِهِ مسك وكافور)
(ويشرق الصُّبْح مِنْهُ وَهُوَ من غرر ... غر تلألأ مِنْهُنَّ الأسارير)
(وتطلع الشَّمْس فِيهِ من سنا ملك ... تَبَسم الدَّهْر مِنْهُ وَهُوَ مسرور)
وَمضى فِي مدح السُّلْطَان وَالله تَعَالَى يتغمد الْجَمِيع برحمته بمنه وَكَرمه(4/40)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عمر تاشفين الموسوس ابْن أبي الْحسن المريني
هَذَا السُّلْطَان كَانَ محجوبا لوزيره عمر بن عبد الله الفودودي لَا يملك مَعَه ضرا وَلَا نفعا أمه أم ولد اسْمهَا مَيْمُونَة صفته طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ أعين أدعج وَكَانَ فَارِسًا بطلا قوي الساعد إِلَّا أَنه كَانَ نَاقص الْعقل
وَلما ثار عمر بن عبد الله بالسلطان أبي سَالم وسعى فِي هَلَاكه إِلَى أَن قتل كَمَا مر استبد بِأَمْر الدولة وَنصب هَذَا الموسوس يموه بِهِ على النَّاس فبويع لَيْلَة الثُّلَاثَاء التَّاسِع عشر من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا سبق وَكَانَ نُقْصَان عقل تاشفين من أجل الْأسر الَّذِي أَصَابَهُ بوقعة طريف أَيَّام وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى أَن افتدي وَبَقِي نَاقص الْعقل مختل المزاج إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ
الفتك بغرسية بن أنطول قَائِد النَّصَارَى ومقتل جنده مَعَه وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما قبض عمر بن عبد الله على الوزيرين مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَسليمَان بن دَاوُد سجنهما مُتَفَرّقين فَأخذ إِلَيْهِ ابْن ماساي لمَكَان صهره مِنْهُ وَدفع لغرسية سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَانَ سُلَيْمَان بن ونصار قد فر مَعَ السُّلْطَان أبي سَالم كَمَا مر وَلما رَجَعَ عَنهُ فِيمَن رَجَعَ نزل على غرسية فَقبله وأكرمه وَكَانَ يعاقره الْخمر ففاوضه ذَات لَيْلَة فِي الثورة بعمر بن عبد الله واعتقاله وَإِقَامَة سُلَيْمَان بن دَاوُد المسجون بداره مقَامه لما هُوَ عَلَيْهِ من السن ورسوخ الْقدَم فِي الْأَمر ونما الْخَبَر بذلك إِلَى عمر بن عبد الله فارتاب(4/41)
وَكَانَ خلوا من العصبية فَفَزعَ إِلَى قَائِد الْمركب السلطاني من ناشبة الأندلس ورماتها وَهُوَ يَوْمئِذٍ إِبْرَاهِيم البطروجي فعاقده على أمره وَبَايَعَهُ على الاستماتة دونه ثمَّ رأى أَن ذَلِك لَا يَكْفِيهِ فَفَزعَ ثَانِيًا إِلَى يحيى بن عبد الرَّحْمَن شيخ بني مرين وَصَاحب شوارهم فَشَكا إِلَيْهِ فأشكاه ووعده الفتك بِابْن أنطول وَأَصْحَابه وانبرم عقد ابْن أنطول وَسليمَان بن ونصار أَيْضا على عمر بن عبد الله وغدوا إِلَى الْقصر وداخل ابْن أنطول طَائِفَة من النَّصَارَى استظهارا بهم وتوافت بَنو مرين بِمَجْلِس السُّلْطَان على عَادَتهم وَحضر ابْن أنطول والبطروجي وَيحيى بن عبد الرَّحْمَن وَغير هَؤُلَاءِ من الْوُجُوه فَسَأَلَ عمر بن عبد الله من ابْن أنطول تَحْويل سُلَيْمَان بن دَاوُد من دَاره إِلَى السجْن فَأبى وضن بِهِ عَن الإهانة حَتَّى سَأَلَ مثلهَا من ابْن ماساي صَاحبه فَأمر عمر بالتقبض عَلَيْهِ فكشر فِي وُجُوه الرِّجَال وَاخْتَرَطَ سكينه للمدافعة فتواثبت بَنو مرين عَلَيْهِ وقتلوه لحينه واستلحموا من وجدوا بِالدَّار من جنده النَّصَارَى عِنْد دُخُولهمْ مَعَ قائدهم وفر بَعضهم إِلَى معسكرهم وَيعرف بالملاح جوَار فاس الْجَدِيد وأرجف الغوغاء بِالْمَدِينَةِ أَن ابْن أنطول قد غدر بالوزير فَقتلُوا جند النَّصَارَى حَيْثُ وجدوهم من سِكَك الْمَدِينَة وتزاحفوا إِلَى الملاح لاستلحام من بَقِي بِهِ مِنْهُم وَركبت بَنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهب يَوْمئِذٍ الْكثير من أَمْوَالهم وآنيتهم وأمتعتهم وَقتل النَّصَارَى أَيْضا كثيرا من مجان الْمُسلمين كَانُوا يعاقرون الْخمر بالملاح ثمَّ سكنت الهيعة وَمَا كَادَت
واستبد عمر بن عبد الله بدار الْملك واعتقل سُلَيْمَان بن ونصار إِلَى اللَّيْل ثمَّ بعث من قَتله بمحبسه وحول سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَى بعض الدّور من دَار الْملك فاعتقله بهَا وَاسْتولى على أمره ثمَّ خَاطب عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ واقتسام ملك الْمغرب بَينه وَبَينه وَبعث إِلَيْهِ بِأبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم اعتده عِنْده ليَوْم مَا ثمَّ فسد مَا بَينه وَبَين مشيخة بني مرين فَاجْتمعُوا على كَبِيرهمْ يحيى بن عبد الرَّحْمَن وعسكروا بِبَاب الْفتُوح واستدعوا عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ ابْن السُّلْطَان أبي سعيد من تلمسان على مَا نذكرهُ(4/42)
ظُهُور عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بن أبي سعيد ومحاصرته لفاس الْجَدِيد ثمَّ فراره عَنْهَا
قد قدمنَا فِي أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن أَن أَخَاهُ أَبَا عَليّ صَاحب سجلماسة كَانَ قد انْتقض عَلَيْهِ فأمكنه الله مِنْهُ فَقتله وكفل أَوْلَاده فَلم يُمَيّز بَينهم وَبَين أَوْلَاده فِي شَيْء من الْأَشْيَاء وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى أبي عنان بعث جمَاعَة من إخْوَته وقرابته إِلَى الأندلس تَحت حياطة ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ فيهم أَوْلَاد أبي عَليّ هَؤُلَاءِ ثمَّ بعد حِين سرحوا وَقدمُوا تلمسان على سلطانها أبي حمو بن يُوسُف فَكَانُوا عِنْده إِلَى هَذَا التَّارِيخ فَلَمَّا فسد مَا بَين عمر بن عبد الله وشيوخ بني مرين بعثوا إِلَى تلمسان جملَة مِنْهُم لاستقدام عبد الْحَلِيم الْمَذْكُور فسرحه أَبُو حمود وأعانه بِشَيْء من الْآلَة وَجمع عَلَيْهِ من رغب فِي طَاعَته وزحف إِلَى فاس فَتَلَقَّتْهُ جمَاعَة بني مرين بسبو ونزلوا على فاس الْجَدِيد يَوْم السبت سَابِع محرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة واضطربوا معسكرهم بكدية العرائس وحاصروا دَار الْملك سَبْعَة أَيَّام وَتَتَابَعَتْ وفودهم وحشودهم ثمَّ إِن عمر بن عبد الله برز يَوْم السبت الْقَابِل فِي مُقَدّمَة السُّلْطَان تاشفين بِمن مَعَه من جند الْمُسلمين وَالنَّصَارَى رامحة وناشبة ووكل بالسلطان من جَاءَ بِهِ فِي السَّاقَة على التعبية المحكمة وناوشهم الْحَرْب فزحفوا إِلَيْهِ فاستطرد لَهُم ليتَمَكَّن الناشبة من عقرهم من الأسوار حَتَّى فَشَتْ فيهم الْجِرَاحَات ثمَّ صمم نحوهم فانفرج الْقلب وانفضت الجموع ثمَّ زحف السُّلْطَان تاشفين فِي السَّاقَة فابذعروا فِي الْجِهَات وافترق بَنو مرين إِلَى مواطنهم وَلحق يحيى بن عبد الرَّحْمَن بمراكش مَعَ مبارك بن إِبْرَاهِيم شيخ الْخَلْط وَلحق عبد الْحَلِيم وَإِخْوَته بتازا بعد أَن شهد لَهُم رجال الدولة بِصدق الجلاد وَحسن الْبلَاء فِي ذَلِك الْمقَام(4/43)
ثمَّ إِن الْوَزير عمر بن عبد الله رَاجع بصيرته فِي تَقْدِيم الْمَعْتُوه لِلْأَمْرِ وَعلم أَن الْأَمر لَا يَسْتَقِيم لَهُ بذلك فبادر باستقدام أبي زيان مُحَمَّد بن أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ عِنْد الطاغية بدار الْحَرْب فَقدم وخلع الْوَزير الْمَذْكُور سُلْطَانه الموسوس يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فَكَانَت دولته ثَلَاثَة أشهر ويومين وَمَات وسنه سِتُّونَ سنة وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي زيان مُحَمَّد بن أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب بن أبي الْحسن المريني
هَذَا السُّلْطَان كَانَ محجوبا للوزير عمر بن عبد الله أَيْضا كنيته أَبُو زيان لقبه المتَوَكل على الله أمه أم ولد اسْمهَا فضَّة صفته آدم اللَّوْن شَدِيد الأدمة معتدل الْقَامَة منفرج الْأنف دَقِيق الْعَينَيْنِ
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة حَاله فَاضل سُكُون منقاد مشتغل بِخَاصَّة نَفسه قَلِيل الْكَلَام حسن الشكل درب بركض الْخَيل مفوض للوزراء عَظِيم التأني لأغراضهم وَكَانَ قبل ولَايَته عِنْد الطاغية بالأندلس فر إِلَيْهِ خوفًا على نَفسه وَلما التبست الْأُمُور على عمر بن عبد الله طلبه إِلَى الطاغية فسمح بِهِ بعد اشْتِرَاط واشتطاط وَفصل من إشبيلية فِي الْمحرم فاتح سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَنزل بسبته وَبهَا سعيد بن عُثْمَان من قرَابَة الْوَزير عمر بن عبد الله أرصده لِقَوْمِهِ فطير إِلَيْهِ بالْخبر فَحِينَئِذٍ خلع عمر تاشفين الموسوس وَبعث إِلَى السُّلْطَان أبي زيان بالبيعة والآلة والفساطيط ثمَّ جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ السّير إِلَى الحضرة فَنزل منتصف(4/44)
صفر بكدية العرائس واضطرب مُعَسْكَره بهَا وتلقاه يَوْمئِذٍ الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني وَبَايَعَهُ وَأخرج فسطاطه فاضطرب بمعسكره وتلوم السُّلْطَان أَبُو زيان هُنَالك ثَلَاثًا ثمَّ دخل فِي الْيَوْم الرَّابِع إِلَى قصره واقتعد أريكته وتودع ملكه
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة كَانَ دُخُوله دَاره مغرب لَيْلَة الْجُمُعَة بطالع الثَّامِن من السرطان وَبِه السعد الْأَعْظَم كَوْكَب المُشْتَرِي من السيارة السَّبْعَة أه وَلما تمّ لَهُ الْأَمر خاطبه ابْن الْخَطِيب من سلا مهنئا لَهُ بقوله
(يَا ابْن الخلائف يَا سمي مُحَمَّد ... يَا من علاهُ لَيْسَ يحصر حاصر)
(أبشر فَأَنت مُجَدد الْملك الَّذِي ... لولاك أصبح وَهُوَ رسم داثر)
(من ذَا يعاند مِنْك وَارثه الَّذِي ... بسعوده فلك الْمَشِيئَة دائر)
(أَلْقَت إِلَيْك يَد الْخلَافَة أمرهَا ... إِذْ كنت أَنْت لَهَا الْوَلِيّ النَّاصِر)
(هَذَا وَبَيْنك للصريخ وَبَينهَا ... حَرْب مضرسة وبحر زاخر)
(من كَانَ هَذَا الصنع أول أمره ... حسنت لَهُ العقبى وَعز الآخر)
(مولَايَ عِنْدِي فِي علاك محبَّة ... وَالله يعلم مَا تكن ضمائر)
(قلبِي يحدثني بأنك جَابر ... كسْرَى وحظي مِنْك حَظّ وافر)
(بثرى جدودك قد حططت حقيبتي ... فوسيلتي لعلاك نور باهر)
(وبذلت وسعي واجتهادي مثل مَا ... يلقى لملكك سيف أَمرك عَامر)
(فَهُوَ الْوَلِيّ لَك الَّذِي اقتحم الردى ... وَقضى الْعَزِيمَة وَهُوَ سيف باتر)
(وَولي جدك فِي الشدائد عِنْدَمَا ... خذلت علاهُ قبائل وعشائر)
(فاستهد مِنْهُ النصح وَاعْلَم أَنه ... فِي كل معضلة طَبِيب ماهر)
(إِن كنت قد عجلت بعض مدائحي ... فَهِيَ الرياض وللرياض بواكر)
ثمَّ أتبعهَا بنثر أضربنا عَنهُ اختصارا وَالله تَعَالَى الْمُوفق(4/45)
وفادة ابْن الْخَطِيب من سلا على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رحمهمَا الله
قَالَ فِي الْإِحَاطَة وفدت على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن ابْن أبي الْحسن من مَحل الِانْقِطَاع بسلا وأنشدته قولي
(لمن علم فِي هضبة الْملك خفاق ... أفاقت بِهِ من غشية الْهَرج آفَاق)
(تقل ريَاح النَّصْر عَنهُ غمامة ... تمد لَهَا أيد وتخضع أَعْنَاق)
(وبيعة شُورَى أحكم السعد عقدهَا ... وأعمل إِجْمَاع عَلَيْهَا وإصفاق)
(قضى عمر فِيهَا بِحَق مُحَمَّد ... فسجل عهد للوفاء وميثاق)
(أحلما ترى عَيْنَايَ أم هِيَ فَتْرَة ... أعندكما فِي مُشكل الْأَمر مصداق)
(وفاض لفضل الله فِي الأَرْض تبتغي ... ومجتمعات لَا تريب وأسواق)
(وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ... وفلح لسقي الْغَيْث قَامَ لَهُ سَاق)
(وَقد كَانَ طيف الْحلم لَا يعْمل الخطا ... وللفتنة العمياء فِي الأَرْض إطباق)
(وللغيث إمْسَاك وَفِي الأَرْض رجة ... وللدين وَالدُّنْيَا وجوم وإطراق)
(فَكل فريق فِيهِ للبغي راية ... وكل طَرِيق فِيهِ للعيث طراق)
(أجل إِنَّه من آل يَعْقُوب وَارِث ... يحن لَهُ الْبَيْت الْعَتِيق ويشتاق)
(لَهُ من جنَاح الرّوح ظلّ مسجف ... وَمن رَفْرَف الْعِزّ الإلهي رستاق)
(أطل على الدُّنْيَا وَقد عَاد ضوءها ... ودجى وعَلى الأحداق للذعر إحداق)
(فأشرقت الأرجاء من نور رَبهَا ... وساح بهَا لله لطف وإشفاق)
(فَمن ألسن بالشكر لله أعلنت ... وَكَانَ لَهَا من قبل هَمس وإطباق)
(وَلَيْسَ لأمر أبرم الله نَاقض ... وَلَيْسَ لمسعى النجح فِي الله إخفاق)
(مُحَمَّد قد أَحييت دين مُحَمَّد ... وللخلق أدماء تفيض وأرماق)
(وَلَو لم تثبت غطى على شفق الضحا ... دم لسيوف الْبَغي فِي الأَرْض مهراق)
(فأيمن بمشحون من الْفلك سابح ... لَهُ بِاخْتِيَار الله حط وإيساق)
(أقلك والدأماء تظهر طَاعَة ... إِلَيْك صفح المَاء أَزْرَق رقراق)
(إِلَى هدف السعد انبرى مِنْهُ والدجا ... تضل الحجى سهم من السعد رشاق)(4/46)
(فخطت لتقويم القوام جداول ... وَصحت من التَّوْفِيق واليمن أوفاق)
(تبَارك من أهداك لِلْخلقِ رَحْمَة ... ومستبعد أَن يهمل الْخلق خلاق)
(هُوَ الله يبلو النَّاس بِالْخَيرِ فتْنَة ... وبالشر وَالْأَيَّام سم وترياق)
(سمت مِنْك أَعْنَاق الورى لخليفة ... لَهُ فِي مجَال السعد عَدو وأعناق)
(وَقَالُوا بنان مَا اسْتَقل بكفه ... تفيض على العافين أم هِيَ أرزاق)
(وَأَطْنَبَ فِيك المادحون وأغرقوا ... فَلم يجد إطناب وَلم يغن إغراق)
(أَلَسْت من الْقَوْم الَّذين أكفهم ... غمام ندى إِن أخلف الْغَيْث غيداق)
(أَلَسْت من الْقَوْم الَّذين وُجُوههم ... بدور لَهَا فِي ظلمَة الروع إشراق)
(رياض إِذا الْعَافِي استظل ظلالها ... فَفِيهَا جنى ملْء الأكف وإيراق)
(أَبوك ولي الْعَهْد لَو سَالم الردى ... وَجدك قد فاق الْمُلُوك وَإِن فاقوا)
(فَمن ذَا لَهُ جد كجدك أَو أَب ... لآلئ وَالْمجد المؤثل نساق)
(وَحسب الْعلَا فِي آل يَعْقُوب أَنهم ... هم الأَصْل فِي العلياء وَالنَّاس إِلْحَاق)
(أسود سروج أَو بدور أسرة ... فَإِن حَاربُوا راعوا وَإِن سالموا راقوا)
(يطول لتَحْصِيل الْكَمَال سهادهم ... فهم للمعالي والمكارم عشاق)
وَمِنْهَا
(لقد نسيت إِحْسَان جدك فرقة ... تزر على أَعْنَاقهم مِنْهُ أطواق)
(أجازت خُرُوج ابْن ابْنه عَن تراثه ... وَلم تدر مَا ضمت من الذّكر أوراق)
(وَمن دون مَا راموه لله قدرَة ... وَمن دون مَا أموه لِلْفَتْحِ إغلاق)
(خُذ الْعَفو وابذل فيهم الْعرف ولتسع ... جريرة من أبدى لَك الْعذر أَخْلَاق)
(فَرُبمَا تنبو مهندة الظبي ... وتهفو حلوم الْقَوْم وَالْقَوْم حذاق)
(وَمَا النَّاس إِلَّا مذنب وَابْن مذنب ... وَللَّه إرفاد عَلَيْهِم وإرفاق)
(وَلَا ترج فِي كل الْأُمُور سوى الَّذِي ... خزائنه مَا ضرها قطّ إِنْفَاق)
(إِذا هُوَ أعْطى لم يضر منع مَانع ... وَإِن حشدت طسم وَعَاد وعملاق)
(عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ... تخوم لمختط الصَّلِيب وأعماق)
(فيسر لليسرى وأحيى بك الورى ... وللروع إرعاد عَلَيْك وإبراق)(4/47)
(فَجَاز صَنِيع الله وازدد بشكره ... مواهب جود غيثها الدَّهْر دفاق)
(وأوف لمن أوفى وكاف الَّذِي كفى ... فَأَنت كريم طهرت مِنْك أعراق)
(وتهنيك يَا مولى الْمُلُوك خلَافَة ... شجتها تباريح إِلَيْك وأشواق)
(فقد بلغت أقْصَى المنى بك نَفسهَا ... وَكم فَازَ بالوصل المهنا مشتاق)
(فَلَا رَاع مِنْهَا السرب للدهر رائع ... وَلَا نَالَ مِنْهَا جدة السعد أَخْلَاق)
(أمولاي رَاع الدَّهْر سربي وغالني ... فطرفي مذعور وقلبي خفاق)
(وَلَيْسَ لكسرى غَيْرك الْيَوْم جَابر ... وَلَا ليدي إِلَّا بمجدك أعلاق)
(ولي فِيك ود واعتداد غرسته ... فراقت بِهِ من يَانِع الْحَمد أوراق)
(وَقد عيل صبري فِي ارتقابي خَليفَة ... تحل بِهِ للضر عني أوهاق)
(وَأَنت حسام الله وَالله نَاصِر ... وَأَنت أَمِين الله وَالله رزاق)
(وَأَنت الْأمان المستجار من الردى ... إِذا رَاع خطب أَو توقع إملاق)
(وأهون مَا يُرْجَى لديك شَفَاعَة ... إِذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق)
(ودونكها من ذائع الْحَمد مخلص ... لَهُ فِيك تَقْيِيد يروق وَإِطْلَاق)
(إِذا قَالَ أما كل سمع لقَوْله ... فمصغ وَأما كل أنف فنشاق)
(وَدم خافق الْأَعْلَام بالنصر كلما ... ذهبت لمسعى لم يكن فِيهِ إخفاق)
قَالَ وعدت مِنْهُ ببر كَبِير واحترام شهير يُشِير بذلك إِلَى مَا أكْرمه بِهِ وَكتب لَهُ من الظهير الَّذِي يتَضَمَّن كَمَال الاحترام والتوقير وَنَصه هَذَا ظهير كريم من أَمِير الْمُسلمين فلَان أيده الله وَنَصره وسنى لَهُ الْفَتْح الْمُبين ويسره للشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنور الأرقى الْعَالم الْعلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المُصَنّف الْمُفِيد الصَّدْر الأحفل الْأَفْضَل الْأَكْمَل أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْفَقِيه الْوَزير الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأرفع الأمجد الْوَجِيه الأنوه الأحفل الْأَفْضَل الحسيب الأَصْل الْأَكْمَل المبرور المرحوم أبي مُحَمَّد ابْن الْخَطِيب قابله أيده الله بِوَجْه الْقبُول والإقبال وأضفى عَلَيْهِ ملابس الإنعام والإفضال ورعى لَهُ خدمَة السّلف الرفيع الْجلَال وَمَا تقرر من(4/48)
مقاصده الْحَسَنَة فِي خدمَة أمرنَا العال وَأمر فِي جملَة مَا سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بِأَن يجدد لَهُ حكم مَا بِيَدِهِ من الْأَوَامِر الْمُتَقَدّم تاريخها المتضمنة تمشية خَمْسمِائَة دِينَار من الْفضة العشرية فِي كل شهر عَن مُرَتّب لَهُ ولولده الَّذِي لنظره من مجبي مَدِينَة سلا حرسها الله وَمن حَيْثُ جرت الْعَادة أَن تمشي لَهُ وَرفع الِاعْتِرَاض ببابها فِيمَا يجلب من الْأدم والأقوات على اختلافها من حَيَوَان وسواه وَفِيمَا يستفيده خُدَّامه بخارجها وأحوازها من عِنَب وقطن وكتان وَفَاكِهَة وخضر وَغير ذَلِك فَلَا يطْلب فِي شَيْء من ذَلِك بمغرم وَلَا وظيف وَلَا يتَوَجَّه فِيهِ إِلَيْهِ بتكليف يتَّصل لَهُ حكم جَمِيع مَا ذكر فِي كل عَام تجديدا تَاما واحتراما عَاما أعلن بتجديد الحظوة واتصالها وإتمام النِّعْمَة وإكمالها من تواريخ الْأَوَامِر الْمَذْكُورَة إِلَى الْآن وَمن الْآن إِلَى مَا يَأْتِي على الدَّوَام واتصال الْأَيَّام وَأَن يحمل جَانِبه فِيمَن يشركهُ أَو يَخْدمه محمل الرَّعْي والمحاشاة فِي السخر مهما عرضت والوظائف إِذا افترضت حَتَّى يتَّصل لَهُ تالد الْعِنَايَة بالطارف وتتضاعف أَسبَاب المنن والعوارف بِفضل الله وتحرر لَهُ الْأزْوَاج الَّتِي يحرثها بتالماغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أَو ضريبة بالتحرير التَّام بحول الله وعونه وَمن وقف على هَذَا الظهير الْكَرِيم فليعمل بِمُقْتَضَاهُ وليمض مَا أَمْضَاهُ إِن شَاءَ الله وَكتب فِي الْعَاشِر من شهر ربيع الْآخِرَة من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَكتب فِي التَّارِيخ أهـ وَقَوله وَكتب فِي التَّارِيخ هُوَ الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة فِي ذَلِك الزَّمَان يكْتب بقلم غليظ وَبَعض مُلُوك الْمغرب يكْتب عِنْد الْعَلامَة صَحَّ فِي التَّارِيخ(4/49)
وفادة ابْن مُحَمَّد الهنتاتي على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رحمهمَا الله
كَانَ الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني مَوَدَّة ومصافاة مَعَ الرئيس الشهير أبي ثَابت عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي كَبِير جبل درن والبلاد المراكشية وَكَانَ الْوَزير عمر الْمَذْكُور قد بعث إِلَيْهِ بصهره وظهيره على الْملك مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن ابْن ماساي يكون عِنْده عدَّة وعتادا ليَوْم مَا فَلَمَّا بُويِعَ السُّلْطَان أَبُو زيان استقدم عمر بن عبد الله صهره الْمَذْكُور لوزارته وَكَانَ عَامر بن مُحَمَّد مجمعا الْقدوم على السُّلْطَان الْمَذْكُور فَقدم فِي صحبته مَسْعُود وَنزلا من الدولة بِخَير منزل
وَعقد السُّلْطَان أَبُو زيان لمسعود الْمَذْكُور على وزارته بِإِشَارَة الْوَزير عمر بن عبد الله فاضطلع بهَا وَدفعه عمر إِلَيْهَا استمالة الْيَد وثقة بمكانه واستظهارا بعصبيته وَعقد مَعَ عَامر بن مُحَمَّد الْحلف على مقاسمة الْمغرب شقّ الأبلمة وَجعل إِمَارَة مراكش لأبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم إسعافا لغَرَض عَامر بن مُحَمَّد فِي ذَلِك
وخطب إِلَيْهِم عَامر بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي الَّتِي توفى عَنْهَا السُّلْطَان أَبُو عنان فَأَجَابُوهُ وحملوا أولياءها على العقد عَلَيْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى مَكَان عمله بمراكش يجر الدُّنْيَا وَرَاءه عزا وثروة وتابعا وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فاستقل بِأَمْر النَّاحِيَة الغربية من مراكش وجبال المصامدة وَمَا إِلَيْهَا من الْأَعْمَال واستبد بهَا وَنصب أَبَا الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم صُورَة واستوزر لَهُ وَتمكن سُلْطَانه وَعلا ذكره وَصَارَت كَأَنَّهَا دولة مُسْتَقلَّة فصرف إِلَيْهِ النازعون من بني مرين عَن(4/50)
الدولة وُجُوه مفرهم ولجؤوا إِلَيْهِ فأجارهم على السُّلْطَان وَاجْتمعَ إِلَيْهِ مِنْهُم مَلأ واتسع الْخرق على الرافع واضطربت الْأَحْوَال بالمغرب وَخرج على السُّلْطَان أبي زيان الْأَمِير عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بن أبي سعيد وتغلب على سجلماسة وأعمالها ثمَّ غلب عَلَيْهِ أَخُوهُ عبد الْمُؤمن بن أبي عَليّ فَخرج عبد الْحَلِيم إِلَى الْمشرق لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج وَاسْتمرّ عبد الْمُؤمن بسجلماسة وَأقَام بهَا دولة كَمَا كَانَ لوالده من قبل إِلَى أَن فتحهَا الْوَزير مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وأضافها إِلَى مملكة فاس ثمَّ انْتقض الْوَزير مَسْعُود أَيْضا وَبَايع الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن بن أبي عَليّ ونصبه لِلْأَمْرِ وَصَارَ يشوش بِهِ على الدولة وشرق عمر بن عبد الله بدائه فِي أَخْبَار طَوِيلَة وَلما لم يتم لَهُ أَمر عبر هُوَ وسلطانه الْبَحْر من مرسى غساسة إِلَى الأندلس فاتح سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وأقبلا على الْجِهَاد واستراح الْوَزير عمر وسلطانه أَبُو زيان من شغبهما وَالله غَالب على أمره
مقتل السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله
لما طَال استبداد الْوَزير عمر بن عبد الله على السُّلْطَان أبي زيان وحجره أَبَاهُ إِذْ كَانَ وضع عَلَيْهِ الرقباء والعيون حَتَّى من حرمه وَأهل قصره عزم على الفتك بالوزير الْمَذْكُور وتناجى بذلك مَعَ بعض ندمائه وَأعد لَهُ طَائِفَة من العبيد كَانُوا يختصون بِهِ فنما ذَلِك إِلَى الْوَزير بِوَاسِطَة بعض الْحرم كَانَت عينا لَهُ عَلَيْهِ فعاجله وَكَانَ قد بلغ من الاستبداد عَلَيْهِ أَن كَانَ الْحجاب مَرْفُوعا لَهُ عَن خلوات السُّلْطَان وَحرمه فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ فِي وسط حشمه فطردهم عَنهُ ثمَّ غطه حَتَّى فاظ وَأمر بِهِ فألقي فِي بِئْر بروض الغزلان واستدعى الْخَاصَّة فَأَرَاهُم مَكَانَهُ بهَا وَأَنه سقط عَن دَابَّته وَهُوَ سَكرَان وَذَلِكَ فِي محرم فاتح سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة كَذَا عِنْد ابْن خلدون وَقَالَ فِي الجذوة توفّي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَله ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة وَدفن بِجَامِع(4/51)
قصره فَكَانَت دولته أَربع سِنِين وَعشرَة أشهر وَيَوْما وَاحِدًا وَالله أعلم
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي فَارس عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن رَحمَه الله
هَذَا السُّلْطَان هُوَ الَّذِي أنعش دولة بني مرين بعد تلاشيها وَأعَاد إِلَيْهَا شبابها بعد هرمها وتقاضيها وأزال عَنْهَا وصمة الْحجر والاستبداد وأعادها من الْعِزّ إِلَى حَالهَا الْمُعْتَاد وَهُوَ الَّذِي ذكره ابْن خلدون فِي أول تَارِيخه الْكَبِير وألفه برسمه وحلى ديباجته باسمه أمه مولدة اسْمهَا مَرْيَم صفته أَدَم اللَّوْن شَدِيد الأدمة طَوِيل الْقَامَة يشرف على النَّاس بِطُولِهِ نحيف الْجِسْم أعين أدعج أخنس فِي وَجهه أثر جدري وَكَانَ عَفا متمسكا بِالدّينِ محبا فِي الْخَيْر وَأَهله لم يشرب خمرًا وَلَا وَقع فِي فَاحِشَة قطّ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من صالحي الْمُلُوك رَحمَه الله
وَلما كَانَ من الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني إِلَى السُّلْطَان أبي زيان رَحمَه الله مَا كَانَ من الخنق وَالْإِلْقَاء فِي الْبِئْر استدعى عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن هَذَا وَكَانَ فِي بعض الدّور من القصبة بفاس محتاطا عَلَيْهِ من قبل الْوَزير الْمَذْكُور فَأحْضرهُ بِالْقصرِ وَأَجْلسهُ على سَرِير الْملك وَبَايَعَهُ وَفتحت الْأَبْوَاب لبني مرين وَسَائِر الْخَاصَّة والعامة فازدحموا على تَقْبِيل يَده معطين الصَّفْقَة بِطَاعَتِهِ فتم أمره وَثَبت ملكه وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ إِن الْوَزير عمر جرى مَعَه على عَادَته من الاستبداد وَمنع التَّصَرُّف فِي شَيْء من أُمُور الْملك فَأَنف السُّلْطَان عبد الْعَزِيز من ذَلِك وتأفف مِنْهُ ودارت بَينه وَبَين الْوَزير أُمُور إِلَى أَن عمل السُّلْطَان على الفتك بِهِ فأعد لَهُ جمَاعَة من الخصيان بزوايا دَاره ثمَّ أحضرهُ ووبخه وثار بِهِ أُولَئِكَ الخصيان فتناولوه هبرا بِالسُّيُوفِ وَصَاح الْوَزير الْمَذْكُور صَيْحَة أسمع بهَا بطانته خَارج الدَّار فَوَثَبُوا على الْأَبْوَاب فكسروها(4/52)
واقتحموا الدَّار فَإِذا صَاحبهمْ مضرج بدمائه قد فرغ مِنْهُ فَوَلوا الأدبار هاربين ثمَّ تتبع السُّلْطَان عبد الْعَزِيز حَاشِيَة الْوَزير بالاعتقال وَالْقَتْل حَتَّى أَتَى على الْجَمِيع فِي خبر طَوِيل واستبد بِملكه واضطلع بِهِ وأدار الْأُمُور فِيهِ على مَا يَنْبَغِي وَالله تَعَالَى أعلم
انْتِقَاض أبي الْفضل بن أبي سَالم ثمَّ مَقْتَله بعد ذَلِك
قد قدمنَا أَن أَبَا الْفضل بن أبي سَالم كَانَ قد عقد لَهُ الْوَزير عمر بن عبد الله على مراكش إسعافا لكافله عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي فَلَمَّا فتك السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بالوزير الْمَذْكُور سَوَّلت لأبي الْفضل نَفسه مثلهَا فِي عَامر بن مُحَمَّد لاستبداده عَلَيْهِ وأغراه بذلك بطانته فأحس عَامر بِالشَّرِّ فتمارض بداره من مراكش ثمَّ استأذنه فِي الصعُود إِلَى معتصمه من الْجَبَل ليمرضه هُنَالك حرمه وأقاربه فارتحل بجملته واحتل بحصنه وَكَانَ أعز من الأبلق الْفَرد فيئس أَبُو الْفضل من الاستمكان مِنْهُ ثمَّ أغرته بطانته إِذْ فاتهم عَامر بِالْفَتْكِ بِعَبْد الْمُؤمن بن أبي عَليّ وَكَانَ قد انضاف إِلَيْهِ بعد إجفاله عَن سجلماسة فَسَكِرَ أَبُو الْفضل ذَات لَيْلَة وَبعث عَن قَائِد الْجند من النَّصَارَى فَأمره بقتل عبد الْمُؤمن بمَكَان معتقله من قَصَبَة مراكش فجَاء بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ وطار الْخَبَر بذلك إِلَى عَامر فارتاع وَحمد الله إِذْ خلصه من غائلته وَبعث ببيعته إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأغراه بِأبي الْفضل ورغبه فِي ملك مراكش ووعده بالمظاهرة فأجمع السُّلْطَان أمره على النهوض إِلَيْهَا ونادى فِي النَّاس بالعطاء وَقضى أَسبَاب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَقد استبد أَبُو الْفضل بمراكش وأعملها
وَأقَام بهَا رسم الْملك واستوزر واستلحق وَجعل شوراه لمبارك بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة الخلطي
وَلما نَهَضَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز من فاس اتَّصل خَبره بِأبي الْفضل وَهُوَ(4/53)
منَازِل لعامر بن مُحَمَّد فانفض مُعَسْكَره وَلحق بتادلا ليعتصم بجبل بني جَابر مِنْهَا فَتَبِعَهُ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَيْهَا ونازله وَأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره ثمَّ دَاخل بعض بني جَابر فِي جر الْهَزِيمَة عَلَيْهِ على مَال يُعْطِيهِ لَهُم فَفَعَلُوا وانهزمت جيوشه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إِبْرَاهِيم إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فاعتقله إِلَى أَن قَتله مَعَ عَامر بن مُحَمَّد كَمَا نذْكر
وَلحق أَبُو الْفضل بقبائل صناكة وَرَاء بني جَابر فداخل بَنو جَابر فِي شَأْنه وبذلوا لَهُم عَن السُّلْطَان مَالا دثرا فِي إِسْلَامه فأسلموه وَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِم وزيره يحيى بن مَيْمُون فجَاء بِهِ أَسِيرًا وأحضره أَمَام السُّلْطَان فوبخه ثمَّ اعتقله بفسطاط مجاور لَهُ ثمَّ غط من اللَّيْل فَكَانَ مهلكه فِي رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة لمضي ثَمَان سِنِين من إمارته على مراكش وَبعث السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَى عَامر بن مُحَمَّد يختبر طَاعَته فَأبى عَلَيْهِ وجاهر بِالْخِلَافِ إِلَى أَن كَانَ من شَأْنه مَا نذكرهُ
انْتِقَاض عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وحصار السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِيَّاه وظفره بِهِ
كَانَ عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي مجير السُّلْطَان أبي الْحسن من ابْنه أبي عنان على مَا وَصفنَا من بُلُوغ الْغَايَة فِي الرياسة والاعتزاز على الدولة وَطول الاستبداد بمراكش وأحوازها وَكَانَ قد حصل فِي مُدَّة رياسته على ثروة عَظِيمَة وجاه كَبِير وَكَانَ لَهُ معتصم بجبل درن أعز من بيض الأنوق قد حصن فِيهِ مَاله وسلاحه وذخيرته وَكَانَ كلما هاجه هائج صعد إِلَيْهِ وَأمن على نَفسه فَلَمَّا صفا الْأَمر للسُّلْطَان عبد الْعَزِيز جعل عَامِرًا هَذَا من أهم أمره فنصب لَهُ واستعد لقتاله وَعقد على وزارته لأبي بكر بن غَازِي بن يحيى بن الكاس ونهض إِلَيْهِ من فاس سنة سبعين وَسَبْعمائة فحاصره فِي جبله سنة كَامِلَة وَلما طَال الْحصار على عَامر وشيعته اخْتلفت كلمتهم عَلَيْهِ وَفَسَد مَا(4/54)
بَينه وَبَين ابْن أَخِيه فَارس بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد فَبعث إِلَى السُّلْطَان وَسَهل لَهُ الطَّرِيق لاقتحام الْجَبَل فزحفت العساكر والجنود وشارفت المعتصم وَلما استيقن عَامر أَن قد أحيط بِهِ بعث إِلَى ابْنه أبي بكر أَن يلْحق بالسلطان مُخْتَارًا لَهُ ومشيرا عَلَيْهِ بِالَّتِي هِيَ أحسن وَأسلم فَألْقى الْوَلَد بِنَفسِهِ إِلَى السُّلْطَان فَقبله وبذل لَهُ الْأمان وألحقه بجملته وانتبذ عَامر عَن النَّاس وَذهب لوجهه ليخلص إِلَى السوس فَرده الثَّلج وَقد كَانَت السَّمَاء أرْسلت بِهِ مُنْذُ أَيَّام حَتَّى تراكم بِالْجَبَلِ بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عَامر حَتَّى هلك فِيهِ بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين الهلكة العاجلة فَرجع أدراجه مختفيا حَتَّى آوى إِلَى غَار مَعَ أدلاء كَانَ قد استخلصهم وبذل لَهُم مَالا على أَن يسلكوا بِهِ ظهر الْجَبَل إِلَى صحراء السوس فأقاموا ينتظرون إمْسَاك الثَّلج وَقد شدد السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فِي التنقير عَنهُ والبحث فعثر عَلَيْهِ بعض البربر بِالْغَارِ الْمَذْكُور فسيق إِلَى السُّلْطَان فَأحْضرهُ بَين يَدَيْهِ ووبخه فَاعْتَذر واعترف بالذنب وَرغب فِي الْإِقَالَة فَحمل إِلَى مضرب بني لَهُ بِإِزَاءِ فسطاط السُّلْطَان واعتقل هُنَالك وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على معاقل عَامر ودياره فانتهب من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح والذخيرة وَالزَّرْع والأقوات مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت
وَاسْتولى السُّلْطَان على الْجَبَل ومعاقله فِي رَمَضَان من سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة لحول من يَوْم حصاره وَعقد على هنتاتة لِابْنِ أخي عَامر وَهُوَ فَارس بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عَليّ الهنتاتي وارتحل إِلَى فاس فاحتل بهَا آخر رَمَضَان الْمَذْكُور ودخلها فِي يَوْم مشهود برز فِيهِ النَّاس وَحمل عَامر وسلطانه تاشفين من بني عبد الْحق كَانَ نَصبه لِلْأَمْرِ مموها بِهِ على عَادَته فحملا مَعًا على جملين وَقد أفرغ عَلَيْهِمَا لِبَاس رث وعبثت بهما أَيدي الإهانة فَكَانَ ذَلِك عِبْرَة لمن رَآهُ
وَلما قضى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز نسك عيد الْفطر أحضر عَامِرًا فقرعه بذنوبه وأتى بِكِتَاب بِخَطِّهِ يُخَاطب فِيهِ أَبَا حمو بن يُوسُف الزياني ويستنجده على(4/55)
السُّلْطَان فَشهد عَلَيْهِ بِهِ وَأمر السُّلْطَان بامتحانه فَلم يزل يجلد حَتَّى انْتَشَر لَحْمه وَضرب بالعصى حَتَّى ورمت أعضاؤه وَهلك بَين يَدي الوزعة وجنب تاشفين سُلْطَانه إِلَى مصرعه فَقتل قعصا بِالرِّمَاحِ وجنب مبارك بن إِبْرَاهِيم الخلطي من محبسه بعد الاعتقال فَألْحق بهم وَلكُل أجل كتاب وَصفا الجو للسُّلْطَان عبد الْعَزِيز من المنازعين وتفرغ لغزو تلمسان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
ارتجاع الجزيرة الخضراء من يَد الإسبانيول
قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الطاغية على الجزيرة الخضراء أَيَّام السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله فاستمرت فِي ملكتهم إِلَى هَذَا التَّارِيخ فَنَشَأَتْ بَينهم فتْنَة وتقاتلوا على الْملك وأعروا ثغورهم الموالية للْمُسلمين من الحامية والجند فَبَقيت عَورَة وتشوف الْمُسلمُونَ إِلَى ارتجاع الجزيرة الخضراء الَّتِي قرب عَهدهم بانتظامها فِي ملكة الْمُسلمين
وَكَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فِي شغل عَن ذَلِك بفتنة أبي الْفضل بن أبي سَالم وعامر بن مُحَمَّد وانتقاضهما فَبعث إِلَى ابْن الْأَحْمَر صَاحب الأندلس أَن يزحف إِلَيْهَا بعساكره وَعَلِيهِ عطاؤهم وإمدادهم بِالْمَالِ والأساطيل على أَن تكون مثوبة جهاده خَالِصَة لَهُ فَأجَاب ابْن الْأَحْمَر إِلَى ذَلِك وَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بأحمال المَال وأوعز إِلَى أساطيله بسبتة فانعمرت وأقلعت حَتَّى احتلت بمرسى الجزيرة الخضراء لحصارها وزحف ابْن الْأَحْمَر بعساكر الْمُسلمين على أَثَرهَا بعد أَن قسم فيهم الْعَطاء وأزاح الْعدَد وَأعد الْآلَات للحصار فنازلها أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ أَيقَن النَّصَارَى بالهلكة لبعدهم عَن الصَّرِيخ ويأسهم من مدد مُلُوكهمْ فَألْقوا بِالْيَدِ وسألوا النُّزُول على الصُّلْح فأجابهم ابْن الْأَحْمَر إِلَيْهِ ونزلوا عَن الْبَلَد وأقيمت فِيهِ شَعَائِر الْإِسْلَام ومحيت مِنْهُ كلمة الْكفْر وَكتب الله أجرهَا لمن أخْلص فِي مُعَامَلَته(4/56)
وَكَانَ ذَلِك سنة سبعين وَسَبْعمائة وَولي ابْن الْأَحْمَر عَلَيْهَا من قبله وَلم تزل إِلَى نظره إِلَى أَن وَقع الِاخْتِيَار على هدمها خشيَة اسْتِيلَاء النَّصْرَانِيَّة عَلَيْهَا مرّة أُخْرَى فهدمت أَعْوَام الثَّمَانِينَ وَسَبْعمائة وأصبحت خاوية كَأَن لم تغن بالْأَمْس
نهوض السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا وفرار سلطانها أبي حمو بن يُوسُف عَنْهَا
كَانَ أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني قد فسد مَا بَينه وَبَين عرب سُوَيْد وَقبض على بعض رُؤَسَائِهِمْ مُحَمَّد بن عريف فاستصرخوا عَلَيْهِ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وَكَانَت القوارص لَا تزَال تسري إِلَيْهِ من أبي حمو الْمَذْكُور فصادفوا مِنْهُ صاغية إِلَى مَا التمسوا مِنْهُ واعتزم على النهوض إِلَى تلمسان وَبعث الحاشرين إِلَى الْجِهَات المراكشية فتوافى النَّاس إِلَيْهِ على طبقاتهم واجتمعوا عِنْده أَيَّام منى سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة فَأَفَاضَ الْعَطاء وأزاح الْعِلَل وَلما قضى نسك عيد الْأَضْحَى عرض الْجند ونهض إِلَى تلمسان فاحتل بتازا
واتصل خَبره بِأبي حمو فَجمع الجموع وهم باللقاء ثمَّ اخْتلفت كلمة أَصْحَابه وتفرق عَنهُ الْعَرَب من بني معقل فأجفل هُوَ وأشياعه من بني عَامر بن زغبة فَدَخَلُوا القفر
وَتقدم السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فاحتل بتلمسان يَوْم عَاشُورَاء من سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَسَبْعمائة فَدَخلَهَا فِي يَوْم مشهود وَاسْتولى عَلَيْهَا وَعقد لوزيره أبي بكر بن غَازِي بن الكاس على عَسَاكِر مرين وَالْعرب وسرحه فِي اتِّبَاع أبي حمو فأدركه بِبَعْض بِلَاد زناتة الشرق فأجهضوه عَن مَاله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أَمْوَال الْعَرَب الَّذين مَعَه وَنَجَا بذمائه إِلَى مصاب وتلاحق بِهِ وَلَده وَقَومه مُتَفَرّقين على كل مفازة ثمَّ دخلُوا القفر بعد ذَلِك ودوخ الْوَزير الْمَذْكُور بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وشرد عصاته واستنزل ثواره فِي أَخْبَار طَوِيلَة(4/57)
وَاسْتولى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز على سَائِر الوطن من الْأَمْصَار والأعمال وَعقد عَلَيْهَا للولاة والعمال واستوسق لَهُ ملك الْمغرب الْأَوْسَط كَمَا كَانَ لسلفه وَاسْتمرّ مُقيما بتلمسان إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
نزوع الْوَزير ابْن الْخَطِيب عَن سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتلمسان
قد قدمنَا مَا كَانَ من رُجُوع الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر إِلَى ملكه بالأندلس سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَلما استولى على غرناطة وَثَبت قدمه بهَا بعث عَن مخلفه بفاس من الْأَهْل وَالْولد والقائم بالدولة يَوْمئِذٍ عمر بن عبد الله فاستقدم عمر ابْن الْخَطِيب من سلا وبعثهم إِلَى نظره فسر السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر بمقدمه ورده إِلَى مَنْزِلَته وَدفع إِلَيْهِ تَدْبِير المملكة وخلط بَينه بندمائه وَأهل خلوته وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بِالْحلِّ وَالْعقد وانصرفت إِلَيْهِ الْوُجُوه وعلقت بِهِ الآمال وغشى بَابه الْخَاصَّة والكافة وغصت بِهِ بطانة السُّلْطَان وحاشيته فتوافقوا على السّعَايَة فِيهِ وَقد صم السُّلْطَان عَن قبُولهَا ونما بذلك الْخَبَر إِلَى ابْن الْخَطِيب فشمر عَن ساعده للرحلة عَن الأندلس واللحاق بالمغرب وَكَانَ لَهُ حنين إِلَيْهِ ورغبة فِي الإيالة المرينية من قبل ذَلِك فَقدم الْوَسَائِل إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأوعز إِلَيْهِ بِمَا عزم عَلَيْهِ من اللحاق بِحَضْرَتِهِ فوعده السُّلْطَان بالجميل وَبسط أمله فَحِينَئِذٍ اسْتَأْذن السُّلْطَان الْغَنِيّ بِاللَّه فِي تفقد الثغور الغربية من أَرض الأندلس فَأذن لَهُ وَسَار إِلَيْهَا فِي جمَاعَة من فرسانه وَمَعَهُ ابْنه عَليّ فَلَمَّا حَاذَى جبل طَارق مَال إِلَيْهِ فَخرج قَائِد الْجَبَل لتلقيه وَقد كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز أوعز إِلَيْهِ بذلك وجهز إِلَيْهِ الأسطول من حِينه فاحتل بسبتة ثمَّ سَار مِنْهَا فَقدم على السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتلمسان سنة ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة فاهتزت لَهُ الدولة وأركب السُّلْطَان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه مَحل الْأَمْن وَالْغِبْطَة وَمن دولته بمَكَان الشّرف والعزة(4/58)
وَأخرج لوقته كَاتبه أَبَا يحيى بن أبي مَدين سفيرا إِلَى الأندلس فِي مطلب أَهله وَولده فجَاء بهم على أكمل الْحَالَات من الْأَمْن والتكرمة ثمَّ نزل بعد ذَلِك مَدِينَة فاس الْقَدِيمَة فَاسْتَكْثر بهَا من شِرَاء الضّيَاع وتأنق فِي بِنَاء المساكن واغتراس الجنات وحفظت عَلَيْهِ رسومه السُّلْطَانِيَّة وتوقيراته وَأقَام مطمئنا بِخَير دَار عِنْد أعز جَار
وَفَاة السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز قد أَصَابَهُ مرض النحول فِي صغره وَلأَجل ذَلِك تجافى السُّلْطَان أَبُو سَالم عَن بَعثه مَعَ الْأَبْنَاء إِلَى الأندلس فَأَقَامَ بالمغرب وَلما شب أَفَاق من مَرضه وَصلح بدنه ثمَّ عاوده وَجَعه فِي مثواه بتلمسان وتزايد نحوله وَلما كمل الْفَتْح واستفحل الْملك اشْتَدَّ بِهِ الوجع فصابره وكتمه عَن النَّاس خشيَة الإرجاف ثمَّ عَسْكَر خَارج تلمسان للحاق بالمغرب
وَلما كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة قضى نحبه رَحمَه الله بِظَاهِر تلمسان بَين أَهله وَولده وسيق إِلَى فاس فَدفن بِجَامِع قصره وسنه يَوْمئِذٍ أَربع وَعشْرين سنة وَكَانَت دولته سِتّ سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر
وَمن نظمه مَا ذكره ابْن الْأَحْمَر فِي نثير الجمان مذيلا بَيْتِي وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن اللَّذين هما قَوْله
(أرضي الله فِي سر وجهر ... وأحمي الْعرض من دنس ارتياب)
(وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا ... وأضرب بِالسُّيُوفِ طلي الرّقاب)
فَقَالَ هُوَ وَأحسن
(وأرغب خالقي فِي الْعَفو عني ... وأطلب حلمه يَوْم الْحساب)
(وَأَرْجُو عونه فِي عز نصر ... على الْأَعْدَاء محروس الجناب)(4/59)
(وَعَبْدك وَاقِف بِالْبَابِ فَارْحَمْ ... عبيدا خَائفًا ألم الْعقَاب)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان السعيد بِاللَّه أبي زيان مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن
هَذَا السُّلْطَان مِمَّن ولي الْأَمر وَهُوَ صبي وَفِيه ألف ابْن الْخَطِيب كِتَابه الْمُسَمّى بأعلام الْأَعْلَام بِمن بُويِعَ من مُلُوك الْإِسْلَام قبل الِاحْتِلَام كنيته أَبُو زيان أمه عَائِشَة بنت الْقَائِد فارح العلج صفته آدم اللَّوْن شَدِيد الأدمة
وَلما مَاتَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز رَحمَه الله بِظَاهِر تلمسان خرج الْوَزير أَبُو بكر بن غَازِي بن الكاس على النَّاس وَقد احْتمل أَبَا زيان ابْن السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فعزاهم عَن سلطانهم ثمَّ طرح ابْنه بَين أَيْديهم فازدحموا عَلَيْهِ بَاكِينَ متفجعين يعطونه الصَّفْقَة ويقبلون يَدَيْهِ لِلْبيعَةِ ثمَّ أَخْرجُوهُ للمعسكر وأنزلوه بفساطيط أَبِيه وَتمّ أمره وكفله الْوَزير الْمَذْكُور فَكَانَ إِلَيْهِ الإبرام والنقض وَالصَّبِيّ كَالْعدمِ إِذْ لم يكن فِي سنّ التَّصَرُّف
ثمَّ إِن الْوَزير ارتحل بِالنَّاسِ وجد السّير فَدخل حَضْرَة فاس وأجلس الصَّبِي لبيعة الْعَامَّة فَبَايعُوا ثمَّ توافت لَدَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار على الْعَادة واستبد الْوَزير أَبُو بكر وَاسْتعْمل على الْجِهَات وَجلسَ بِمَجْلِس الْفَصْل واشتغل بِأَمْر الْمغرب إبراما ونقضا
وَلما فصل بَنو مرين عَن تلمسان عَاد إِلَيْهَا سلطانها أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني والتفت عَلَيْهِ بَنو عبد الواد من كل جَانب ومحا دَعْوَة بني مرين من ضواحي الْمغرب الْأَوْسَط وأمصاره واتصل الْخَبَر بالوزير أبي بكر بن غَازِي فهم بالنهوض إِلَيْهِ ثمَّ ثنى عزمه مَا كَانَ من خُرُوج الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن بن أبي عَليّ بن أبي سعيد بِنَاحِيَة بطوية فَإِن السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر كَانَ قد سرحه من الأندلس صُحْبَة وزيره مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي(4/60)
لطلب ملك الْمغرب تشغيبا على الْوَزير أبي بكر بن غَازِي ثمَّ أتبعه بالأمير أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن السُّلْطَان أبي سَالم الَّذِي كَانَ محتاطا عَلَيْهِ بطنجة فزحف الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور إِلَى فاس وَظَاهره ابْن عَمه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن فحاصروا الْوَزير أَبَا بكر بن غَازِي وسلطانه أَبَا زيان ابْن عبد الْعَزِيز وضربوا على فاس الْجَدِيد سياجا بِالْبِنَاءِ للحصار وأنزلوا بِهِ أَنْوَاع الْقِتَال بعد أَن بعث ابْن الْأَحْمَر رسله إِلَى الْأَمِير عبد الرَّحْمَن باتصال الْيَد بِابْن عَمه الْأَمِير أبي الْعَبَّاس ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وَعقد بَينهمَا الِاتِّفَاق والمواصلة وَأَن يخْتَص عبد الرَّحْمَن بِملك سلفه من سجلماسة وأعمالها فتراضيا وزحفا إِلَى فاس كَمَا قُلْنَا وأمدهم ابْن الْأَحْمَر بِجمع من جنده فاستمر الْحَال على حِصَار فاس إِلَى أَن أذعن الْوَزير أَبُو بكر لخلع سُلْطَانه أبي زيان ومبايعة الْأَمِير أبي الْعَبَّاس فخلعه يَوْم الْأَحَد السَّادِس من محرم فاتح سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَغرب إِلَى الأندلس فَكَانَت دولته سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَالله غَالب على أمره
الْخَبَر عَن الدولة الأولى للسُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي سَالم بن أبي الْحسن
هَذَا السُّلْطَان يُقَال لَهُ ذُو الدولتين لِأَنَّهُ ولي الْملك مرَّتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي أمه حرَّة بنت أبي مُحَمَّد السبائي كنيته أَبُو الْعَبَّاس لقبه الْمُسْتَنْصر بِاللَّه صفته أَبيض اللَّوْن ربعَة تعلوه صفرَة رقيقَة أدعج أسود الشّعْر أكحل الحاجبين ضيق البلج أسيل الْخَدين براق الثنايا جميل الْوَجْه مليح الصُّورَة ظريف المنزع لطيف الشَّمَائِل حسن الشكل إِذا ركب بُويِعَ أَولا بطنجة فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وَسَبْعمائة ثمَّ بُويِعَ الْبيعَة الْعَامَّة بِالْمَدِينَةِ الْبَيْضَاء بعد استيلائه عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد السَّادِس من محرم سنة سِتّ وَسبعين(4/61)
وَسَبْعمائة وَكَانَ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن عِنْدَمَا أشرفوا على فتح فاس شَرط عَلَيْهِم ولَايَة مراكش عوضا عَن سجلماسة فعقدوا لَهُ على كره مَخَافَة أَن تفترق كلمتهم وَلَا يتم أَمرهم فَفَعَلُوا وطووا لَهُ على النكث فارتحل إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ فَارقه وزيره مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى الأندلس فاستقر بهَا فِي إيالة ابْن الْأَحْمَر
واستقل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم بِملك فاس وأعمالها واستوزر مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وفوض إِلَيْهِ أُمُوره فغلب على هَوَاهُ وَجعل أَمر الشورى إِلَى سُلَيْمَان بن دَاوُد فاستقل بهَا وَحَازَ رياسة المشيخة واستحكمت الْمَوَدَّة بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَجعلُوا إِ ليه الْمرجع فِي نقضهم وإبرامهم فَصَارَ لَهُ بذلك تحكم فِي الدولة المرينية وَأصْبح الْمغرب كَأَنَّهُ من بعض أَعمال الأندلس وَذَلِكَ بِمَا كَانَ لِابْنِ الْأَحْمَر من إِعَانَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس على ملك الْمغرب حَتَّى تمّ لَهُ وَبِمَا كَانَ تَحت يَده من أَبنَاء الْمُلُوك المرشحين لِلْأَمْرِ فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس وحاشيته يصانعونه لأجل ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم
محنة الْوَزير ابْن الْخَطِيب ومقتله رَحمَه الله
لما لَجأ ابْن الْخَطِيب إِلَى بني مرين وَأصَاب عِنْدهم دَارا وقرارا عز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر وسعى بطانته عِنْده فِي ابْن الْخَطِيب لعداوتهم لَهُ ثمَّ بلغه أَنه يغري السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتملك أَرض الأندلس وَقطع دَعْوَة بني الْأَحْمَر مِنْهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك ودبر الْحِيلَة فِي قتل ابْن الْخَطِيب وتتبع أعداؤه كَلِمَات زَعَمُوا أَنَّهَا صدرت مِنْهُ فِي بعض تآليفه فأحصوها عَلَيْهِ ورفعوها إِلَى قَاضِي غرناطة أبي الْحسن النباهي فاسترعاها وسجل عَلَيْهِ بالزندقة وَبعث ابْن الْأَحْمَر برسم الشَّهَادَة مَعَ هَدِيَّة لم يسمع بِمِثْلِهَا إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وَطلب مِنْهُ إِقَامَة الْحَد على ابْن الْخَطِيب أَو إِ سَلَامه إِلَيْهِ فَصم السُّلْطَان عبد الْعَزِيز عَن ذَلِك وأنف لذمته أَن تخفر ولجواره أَن يُؤْذى وَقَالَ للوفد هلا(4/62)
انتقمتم مِنْهُ وَهُوَ عنْدكُمْ وَأَنْتُم عالمون بِمَا كَانَ عَلَيْهِ وَأما أَنا فَلَا يخلص إِلَيْهِ بذلك أحد مَا كَانَ فِي جواري ثمَّ وفر الجراية والإقطاع لَهُ ولبنيه وَلمن جَاءَ من فرسَان الأندلس فِي جملَته
ثمَّ لما مَاتَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز رَحمَه الله وَولي ابْنه أَبُو زيان وَقَامَ بأَمْره الْوَزير أَبُو بكر ابْن غَازِي عاود ابْن الْأَحْمَر الْكَلَام فِي شَأْن ابْن الْخَطِيب وَبعث بهدية أُخْرَى إِلَى الْوَزير الْمَذْكُور وَطلب مِنْهُ إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأبى الْوَزير وأساء الرَّد وعادت رسل ابْن الْأَحْمَر إِلَيْهِ مخفقين وَقد رهبوا سطوته فَعِنْدَ ذَلِك عمد ابْن الْأَحْمَر إِلَى الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن وَكَانَ عِنْده بالأندلس فأطمعه فِي ملك الْمغرب وأركبه الْبَحْر فقذف بِهِ بساحل بطوية من بِلَاد الرِّيف تشغيبا على الْوَزير أبي بكر بن غَازِي كَمَا مر ثمَّ ثاب لَهُ رَأْي آخر فأغرى مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وَهُوَ ابْن عَم أبي بكر بن غَازِي الْمَذْكُور وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسبتة قَائِما على ثغرها فداخله فِي الْبيعَة لأبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسبتة محتاطا عَلَيْهِ فِي جملَة من الْقَرَابَة وَالْتزم أَن يمده بِالْمَالِ وَالرِّجَال حَتَّى يتم أمره لَكِن بِشَرْط أَن ينزل لَهُ عَن جبل طَارق وَيبْعَث لَهُ بِالْقَرَابَةِ الَّذين هم بطنجة ليكونوا تَحت يَده وَيسلم إِلَيْهِ ابْن الْخَطِيب مَتى قدر عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس لما استولى على الْأَمر نزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن جبل طَارق فمحا دَعْوَة بني مرين من وَرَاء الْبَحْر ثمَّ ملك بعد ذَلِك سبتة فاستولى عَلَيْهَا وَبعث إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ الْمَذْكُورين فأوسع لَهُم جنابه بغرناطة ثمَّ قبض السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس ووزيره مُحَمَّد بن عُثْمَان على ابْن الْخَطِيب وطيروا بالأعلام لِابْنِ الْأَحْمَر فَحِينَئِذٍ بعث وزيره أَبَا عبد الله بن زمرك وَكَانَ من تلاميذه ابْن الْخَطِيب وَبِه تخرج فَقدم على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وأحضروا ابْن الْخَطِيب بالمشور فِي مجْلِس الْخَاصَّة وَأهل الشورى من الْفُقَهَاء وعرضوا عَلَيْهِ بعض كَلِمَات وَقعت لَهُ فِي بعض كتبه فَعظم عَلَيْهِ النكير فِيهَا فوبخ وَنكل وامتحن بِالْعَذَابِ بمشهد ذَلِك(4/63)
الْمَلأ ثمَّ ثل إِلَى محبسه وتفاوضوا فِي قَتله بِمُقْتَضى تِلْكَ المقالات المسجلة عَلَيْهِ فَأفْتى بعض الْفُقَهَاء بقتْله فَدس سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَيْهِ بعض الأوغاد حَاشِيَته من حَاشِيَته فطرقوا السجْن لَيْلًا وَمَعَهُمْ زعانفة من أهل الأندلس جاؤوا فِي لفيف ذَلِك الْوَفْد فَقَتَلُوهُ خنقا فِي محبسه وأخرجوا شلوه من الْغَد فَدفن فِي مَقْبرَة بَاب المحروق ثمَّ أصبح من الْغَد طريحا على شافة قَبره وَقد جمعُوا لَهُ أعوادا فأضرموها عَلَيْهِ نَارا فَاحْتَرَقَ شعره واسود بشره وأعيد إِلَى حفرته وَكَانَ فِي ذَلِك انْتِهَاء محنته وَعجب النَّاس من هَذِه السفاهة الَّتِي جَاءَ بهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد واعتدوها من هنتاته وَعظم النكير فِيهَا عَلَيْهِ وعَلى قومه وَأهل دولته
وَكَانَ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله أَيَّام مقَامه بالسجن يتَوَقَّع مُصِيبَة الْمَوْت فتجيش هواتفه بالشعر يبكي نَفسه فمما قَالَ فِي ذَلِك
(بَعدنَا وَإِن جاورتنا الْبيُوت ... وَجِئْنَا بوعظ وَنحن صموت)
(وأنفسنا سكنت دفْعَة ... كجهر الصَّلَاة تلاه الْقُنُوت)
(وَكُنَّا عظاما فصرنا عظاما ... وَكُنَّا نقوت فها نَحن قوت)
(وَكُنَّا شموس سَمَاء الْعلَا ... غربنا فناحت عَلَيْهَا السموت)
(فكم جدلت ذَا الحسام الظبي ... وَذُو البخت كم جدلته البخوت)
(وَكم سيق للقبر فِي خرقَة ... فَتى ملئت من كَسَاه التخوت)
(فَقل للعدا ذهب ابْن الْخَطِيب ... وَفَاتَ وَمن ذَا الَّذِي لَا يفوت)
(فَمن كَانَ يفرح مِنْكُم لَهُ ... فَقل يفرح الْيَوْم من لَا يَمُوت)
وَكَانَت نكبته رَحمَه الله أَوَائِل سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَعند الله تَجْتَمِع الْخُصُوم(4/64)
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير مراكش عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن رَحمَه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من معاقدة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس والأمير عبد الرَّحْمَن ابْن أبي يفلوسن على ولَايَة سجلماسة أَولا ثمَّ التعويض عَنْهَا بمراكش ثَانِيًا فَلَمَّا فتح السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فاسا وفى للأمير عبد الرَّحْمَن بعقده فَسَار إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وعَلى أَعمالهَا واقتسمت مملكة الْمغرب الْأَقْصَى يَوْمئِذٍ بنصفين
وَكَانَ الْحَد بَين الدولتين ثغر آزمور فَكَانَت فِي إيالة صَاحب فاس وَمَا وَرَاءَهَا إِلَى مراكش فِي إيالة صَاحب مراكش ثمَّ كَانَت بَينهمَا بعد ذَلِك مواصلات ومناقضات ومسالمات ومحاربات يطول جلبها واتصل ذَلِك إِلَى منتصف سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة فظفر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بِعَبْد الرَّحْمَن بعد محاصرته بقصبة مراكش تِسْعَة أشهر وَلما أشرف السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس على فتحهَا وانفض النَّاس من حول الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ونزلوا من الأسوار ناجين إِلَى السُّلْطَان وَبَقِي هُوَ فِي قصبته مُنْفَردا بَات ليلته يُرَاوِد ولديه على الاستماتة وهما سليم وَأَبُو عَامر وَركب السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس من الْغَد فِي التعبية إِلَى القصبة فاقتحمها بمقدمته ولقيه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن وولداه مسابقين إِلَى الميدان ومباشرين الْقِتَال بَين أَبْوَاب دُورهمْ فجالوا مَعَهم جَوْلَة قتل فِيهَا الْولدَان قَتلهمْ عَليّ بن إِدْرِيس وزيان بن عمر الوطاسي
قَالَ ابْن خلدون وطالما كَانَ زيان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خُيَلَاء فِي جاههم فَذهب مثلا فِي كفران النِّعْمَة وَسُوء الْجَزَاء وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة وَكَانَ ذَلِك خَاتم جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة لمضي عشر سِنِين من إِمَارَة عبد الرَّحْمَن على مراكش ثمَّ رَحل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس منقلبا إِلَى فاس وَقد استولى على سَائِر أَعمال الْمغرب وظفر بعدوه وَدفع النازعين عَن ملكه وَالله غَالب على أمره(4/65)
ذكر الشاوية وَبَيَان نسبهم وأوليتهم وَشرح لقبهم وتسميتهم
ذكر ابْن خلدون أَن الشاوية من ولد حسان بن أبي سعيد الصبيحي نِسْبَة إِلَى صبيح بِالتَّصْغِيرِ بطن من سُوَيْد وسُويد إِحْدَى قبائل بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ دُخُول حسان وأخيه مُوسَى ابْني أبي سعيد إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى أَيَّام السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قدمُوا فِي صُحْبَة عبد الله بن كندوز العَبْد الْوَادي ثمَّ الكمي وَكَانَ عبد الله هَذَا قد نزع عَن يغمراسن بن زيان إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب الْمَذْكُور فَقدم عَلَيْهِ قبل فتح مراكش فاهتز السُّلْطَان يَعْقُوب لقدومه وأحله بِالْمَكَانِ الرفيع من دولته وَأنزل قومه بجهات مراكش وأقطعهم الْبِلَاد الَّتِي كفتهم مهماتهم وَجعل انتجاع إبِله ورواحله وَسَائِر ظَهره فِي إحيائهم فَقدم عبد الله بن كندوز على رعايتها حسان وأخاه مُوسَى الصبيحيين وَكَانَا عارفين برعاية الْإِبِل وَالْقِيَام عَلَيْهَا فأقاموا يَتَقَلَّبُونَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد ويتعدون فِي نجعتها إِلَى أَرض سوس وَكَانَت مَاشِيَة السُّلْطَان يَعْقُوب مُتَفَرِّقَة فِي سَائِر الْمغرب فجمعها لعبد الله بن كندوز وَجَمعهَا عبد الله لحسان الصبيحي الْمَذْكُور فَكَانَ حسان يُبَاشر أُمُور السُّلْطَان فِي شَأْن تِلْكَ الْمَاشِيَة ويطالعه بمهماته فحصلت لَهُ مداخلة مَعَه جلبت إِلَيْهِ الْحَظ حَتَّى ارْتَفع قدره وَنَشَأ بنوه فِي ظلّ الدولة وعزها وتصرفوا فِي الولايات مِنْهَا وانفردوا بخطة الشاوية فَلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بَينهم لهَذَا الْعَهْد إِلَى مَا كَانُوا يتصرفون فِيهِ من غير ذَلِك من الولايات وَكَانَ لحسان من الْوَلَد عَليّ وَيَعْقُوب وَطَلْحَة وَغَيرهم وَمن حسان هَذَا تفرعت شعوبهم فِي وَلَده
قَالَ ابْن خلدون وهم لهَذَا الْعَهْد يتصرفون فِي الدولة على مَا كَانَ لسلفهم من ولَايَة الشاوية وَالنَّظَر فِي رواحل السُّلْطَان وَالظّهْر الَّذِي يحمل من الْإِبِل وَلَهُم عدد وَكَثْرَة ونباهة فِي الدولة أه قلت وَلَفظ الشاوية نِسْبَة إِلَى الشَّاء الَّتِي هِيَ جمَاعَة الْغنم مثلا قَالَ الصِّحَاح وَالنِّسْبَة إِلَى الشَّاء شاوي قَالَ الراجز(4/66)
(لَا ينفع الشاوي فِيهَا شاته ... وَلَا حماراه وَلَا علاته)
وَإِن سميت بِهِ رجلا قلت شائي وَإِن شِئْت شاوي اه
وَاعْلَم أَن الشاوية الْيَوْم يطلقون على سكان تامسنا من قبائل شَتَّى بَعْضهَا عرب وَبَعضهَا زناتة وبربر غير أَن لِسَان الْجَمِيع عَرَبِيّ وَكَانَ أصل جمهورهم من هَؤُلَاءِ الَّذين ذكر ابْن خلدون ثمَّ انضافت إِلَيْهِم قبائل أخر واختلطوا بهم فَأطلق على الْجَمِيع شاوية تَغْلِيبًا وَهَكَذَا وَقع فِي سَائِر عرب الْمغرب الْأَقْصَى المواطنين بتلوله فَإِنَّهُم وَقع فيهم اخْتِلَاط كَبِير حَتَّى نسوا أنسابهم وأصولهم الأولى إِلَّا فِي النَّادِر وَذَلِكَ بِسَبَب تعاقب الْأَعْصَار وتناسخ الأجيال وتوالي المجاعات والانتجاعات ووقعات الْمُلُوك بهم فِي كثير من الأحيان وتفريق بَعضهم من بعض وَنقل بَعضهم إِلَى بِلَاد بعض وَمَعَ ذَلِك فأسماؤهم الأولى لَا زَالَت قَائِمَة فيهم لن تَتَغَيَّر إِلَى الْآن فَمِنْهَا يَهْتَدِي الفطن إِلَى التنقير عَن أنسابهم وإلحاق فروعهم بأصولهم مَتى احْتَاجَ إِلَى ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم
نهوض السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس إِلَى تلمسان وَفتحهَا وتخريبها
لما نَهَضَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى مراكش وحاصر بهَا عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن خَالفه إِلَى الْمغرب أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني فِي جمع من أَوْلَاد حُسَيْن عرب معقل وَذَلِكَ بإغراء عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فَدَخَلُوا إِلَى أحواز مكناسة وعاثوا فِيهَا ثمَّ عَمدُوا إِلَى مَدِينَة تازا فحاصروها سبعا وخربوا قصر الْملك هُنَالك ومسجده الْمَعْرُوف بقصر تازروت وبينما هم على ذَلِك بَلغهُمْ الْخَبَر الْيَقِين بِفَتْح مراكش وَقتل الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فأجفلوا من كل نَاحيَة وَمر أَبُو حمو فِي طَرِيقه إِلَى تلمسان بقصر ونزمار بن عريف السويدي فِي نواحي بطوية الْمُسَمّى بمرادة فهدمه
وَوصل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى فاس فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ أجمع النهوض إِلَى تلمسان فَانْتهى إِلَى تاوريرت وَبلغ الْخَبَر إِلَى أبي حمو فاضطرب رَأْيه(4/67)
واعتزم على الْحصار وَجمع أهل الْبَلَد عَلَيْهِ فَاسْتَعدوا لَهُ ثمَّ بدا لَهُ فَخرج فِي بعض تِلْكَ اللَّيَالِي بولده وَأَهله وخاصته وَأصْبح مخيما بالصفيصف فأهرع أهل الْبَلَد إِلَيْهِ بعيالهم وَأَوْلَادهمْ مُتَعَلقين بِهِ تفاديا من معرة هجوم الْعَسْكَر عَلَيْهِم فَلم يزعه ذَلِك عَن قَصده وارتحل ذَاهِبًا إِلَى الْبَطْحَاء ثمَّ قصد بِلَاد مغراوة فَنزل فِي بني بو سعيد قَرِيبا من شلف وَأنزل أَوْلَاده الأصاغرة وَأَهله بحصن تاجحمومت وَجَاء السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى تلمسان فملكها وَاسْتقر بهَا أَيَّامًا ثمَّ هدم أسوارها وقصور الْملك بهَا بإغراء وليه ونزمار جَزَاء بِمَا فعله أَبُو حمو فِي تخريب قصر تازروت وحصن مُرَادة ثمَّ خرج من تلسمان فِي اتِّبَاع أبي حمو وَنزل على مرحلة مِنْهَا وهنالك بلغه الْخَبَر بِإِجَازَة مُوسَى بن أبي عنان من الأندلس إِلَى الْمغرب وَأَنه خَالفه إِلَى دَار الْملك فانكفأ رَاجعا عوده على بدئه وَرجع أَبُو حمو إِلَى تلمسان فاستقر ملكه بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
خلع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم وتغريبه إِلَى الأندلس وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا مَا كَانَ من تحكم ابْن الْأَحْمَر فِي مملكة الْمغرب ودالته على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِمَا أَنه كَانَ السَّبَب فِي ولَايَته وَبِمَا تَحت يَده من الْقَرَابَة المرشحين الَّذين أرصدهم للتشغيب على دَار الْملك بالمغرب مَتى رأى من أحدهم مَا لَا يُوَافق هَوَاهُ وَكَانَ مَعَ كَثْرَة تحكمه فيهم يتجنى عَلَيْهِم فِي بعض الْأَوْقَات بِمَا يأتونه من تَقْصِير فِي شَفَاعَة أَو مُخَالفَة فِي أَمر لَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا فيضطغن ذَلِك عَلَيْهِم وَكَانَ يعْتد على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِشَيْء من هَذِه الهنات
فَلَمَّا نَهَضَ إِلَى تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا سنة خمس وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة اتَّصل بِابْن الْأَحْمَر أَن دَار الْملك بفاس قد بقيت عَورَة من الْجند والحامية فانتهز الفرصة وبادر بتسريح مُوسَى ابْن السُّلْطَان أَبى عنان إِلَى الْمغرب(4/68)
واستوزر لَهُ مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي رَئِيس الْفِتْنَة وقطب رحاها وَكَانَ عِنْده بالأندلس بعد مُفَارقَة عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن فَنزل مُوسَى ابْن أبي عنان سبتة فاستولى عَلَيْهَا وَسلمهَا لِابْنِ الْأَحْمَر فَدخلت فِي طَاعَته ثمَّ تقدم إِلَى فاس فَدَخلَهَا من يَوْمه وَاسْتقر قدمه بهَا
واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْعَبَّاس وَهُوَ بتلمسان فجَاء مبادرا وَنزل بتازا فَأَقَامَ بهَا أَرْبعا ثمَّ تقدم إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالركن فَانْتقضَ عَلَيْهِ رُؤَسَاء جَيْشه وتسللوا إِلَى مُوسَى طوائف وأفرادا وَلما رأى مَا نزل بِهِ رَجَعَ إِلَى تازا بعد أَن انتهب مُعَسْكَره وأضرمت النَّار فِي خيامه وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الموفي ثَلَاثِينَ من ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة
ثمَّ بعث مُوسَى بن أبي عنان من أَتَاهُ بالسلطان أبي الْعَبَّاس فِي الْأمان فَقدم عَلَيْهِ وَقَيده وَبعث بِهِ إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَبَقيَ عِنْده محتاطا عَلَيْهِ إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَكَانَت دولته هَذِه عشر سِنِين وشهرين وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَمن وزرائه فِي هَذِه الدولة مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس المجذولي وَمن كِتَابه عبد الْمُهَيْمِن ابْن أبي سعيد بن عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ تغمد الله الْجَمِيع برحمته
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي فَارس مُوسَى ابْن أبي عنان بن أبي الْحسن
أمه مولدة اسْمهَا تاملالت صفته أسمر مائل إِلَى السوَاد قصير الْقَامَة جاحظ الْعَينَيْنِ عَظِيم اللِّحْيَة تملأ صَدره قَائِم الْأنف وَإِذا تكلم يمْلَأ لِسَانه فَمه فَيخرج من بَين شَفَتَيْه ويتحرك فيقبح كَلَامه بُويِعَ يَوْم الْخَمِيس الموفي عشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بِأَمْر دولته وزيره مَسْعُود بن ماساي مستبدا عَلَيْهِ وَلما اسْتَقر أمره بالحضرة وَجه إِلَيْهِ ابْن الْأَحْمَر أمه وَعِيَاله وَكَانُوا عِنْده وهناه وزيره أَبُو عبد الله بن زمرك بتوشيح يَقُول فِي مطلعه(4/69)
(قد نظم الشمل أتم انتظام ... ولاحت الأقمار بعد المغيب)
(وضاحك الرَّوْض ثغور الْغَمَام ... عَن مبسم الزهر البرود الشيب)
إِلَى أَن قَالَ فِي آخِره
(مولَايَ يهنيك وَحقّ الهنا ... قد نظم الشمل كنظم السُّعُود)
(قد فزت بالفخر ونيل المنى ... وأنجز السعد جَمِيع الوعود)
(وقرت الْعين وَزَالَ العنا ... وَكلما مر صَنِيع يعود)
(وَلم يزل ملكك حلف الدَّوَام ... يحوز فِي التخليد أوفى نصيب)
(يَتْلُو عَلَيْك الدَّهْر بعد السَّلَام ... نصر من الله وَفتح قريب)
خُرُوج الْحسن بن النَّاصِر بغمارة ونهوض الْوَزير ابْن ماساي إِلَيْهِ
كَانَ الْحسن بن النَّاصِر بن أبي عَليّ بن أبي سعيد قد لحق من مقره بالأندلس بِحَضْرَة تونس فِي سَبِيل طلب الْملك وَكَانَ الْوَزير مَسْعُود بن ماساي قد قتل مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وافترقت حَاشِيَته فِي الْجِهَات فطلبوا بطن الأَرْض دون ظهرهَا وَلحق مِنْهُم ابْن أَخِيه الْعَبَّاس بن الْمِقْدَاد بتونس فعثر على الْحسن بن النَّاصِر بهَا فَثَابَ لَهُ رَأْي فِي الرُّجُوع بِهِ إِلَى الْمغرب لطلب الْأَمر فَخرج بِهِ من تونس وَقطع المفاوز إِلَى أَن انْتهى إِلَى جبال غمارة وَنزل على أهل الصفيحة مِنْهُم فأكرموا مثواه ومنقلبه وأعلنوا بِالْقيامِ بدعوته واستوزر الْعَبَّاس بن الْمِقْدَاد
وَبلغ الْخَبَر إِلَى مَسْعُود الْوَزير فَجهز العساكر مَعَ أَخِيه مهْدي بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي فحاصره بجبل الصَّحِيفَة أَيَّامًا فَامْتنعَ عَلَيْهِ فَنَهَضَ إِلَيْهِ مَسْعُود بِنَفسِهِ على مَا نذكرهُ(4/70)
وَفَاة السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان رَحمَه الله
لما كَانَ من استبداد ابْن ماساي على السُّلْطَان مُوسَى مَا قدمْنَاهُ استنكف من ذَلِك وداخل بطانته فِي الفتك بِهِ فنما ذَلِك إِلَيْهِ وحصلت لَهُ نفرة من السُّلْطَان طلب لأَجلهَا الْبعد عَنهُ وبادر إِلَى الْخُرُوج لدافعة الْحسن بن النَّاصِر الْقَائِم بغمارة واستخلف على دَار الْملك أَخَاهُ يعِيش بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي فَلَمَّا انْتهى إِلَى قصر كتامة بلغه الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان مُوسَى وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الْآخِرَة طرقه الْمَرَض فَهَلَك ليَوْم وَلَيْلَة من مَرضه وَكَانَ النَّاس يرْمونَ يعِيش أَخا الْوَزير بِأَنَّهُ سمه قَالَه ابْن خلدون
وَقَالَ ابْن القَاضِي فِي الجذوة توفّي السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان مسموما يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَله إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة فَكَانَت دولته سنتَيْن وَأَرْبَعَة أشهر وَولي بعده مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سَالم اه
وَمن كِتَابه أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو التَّمِيمِي وَأَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن سَوْدَة المري وَمن قُضَاته أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد المغيلي وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن دولة الْمُنْتَصر بِاللَّه السُّلْطَان أبي زيان مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم بن أبي الْحسن
أمه حرَّة وَهِي رقية بنت السُّلْطَان أبي عنان صفته أَبيض اللَّوْن قَائِم الْأنف أسيل الْخَدين بُويِعَ بعد خَاله مُوسَى بن أبي عنان يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وسنه يَوْم بُويِعَ خمس سِنِين وخلع يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَغرب إِلَى الأندلس مَعَ أَبِيه فَكَانَت دولته ثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا تَحت استبداد الْوَزير مَسْعُود عَفا الله عَنهُ(4/71)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الواثق بِاللَّه أبي زيان مُحَمَّد بن أبي الْفضل بن أبي الْحسن
أمه أم ولد اسْمهَا عسيلة صفته أسود اللَّوْن عَظِيم الْخلق رحب الْوَجْه طَوِيل الْقَامَة والساقين ممتلئ الْأنف عَظِيم الساعدين وَكَانَ قبل ولَايَته عِنْد ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فِي جملَة الْقَرَابَة وَلما استوحش الْوَزير مَسْعُود من السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان بعث ابْنه يحيى إِلَى ابْن الْأَحْمَر يسْأَل مِنْهُ إِعَادَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس إِلَى ملكه فَأخْرجهُ ابْن الْأَحْمَر من الاعتقال وَجَاء بِهِ إِلَى جبل الْفَتْح يروم إِجَازَته إِلَى العدوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان مُوسَى بدا للوزير مَسْعُود فِي أمره ودس لِابْنِ الْأَحْمَر فِي رده وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ بالواثق هَذَا وَرَآهُ أليق بالاستبداد وَالْحجر فأسعفه ابْن الْأَحْمَر فِي ذَلِك ورد السُّلْطَان أَحْمد إِلَى مَكَانَهُ بالحمراء وَجِيء بالواثق فَحَضَرَ بجبل الْفَتْح عِنْده فَأَجَازَهُ إِلَى سبتة وَاتفقَ أَن جمَاعَة من الْحَاشِيَة انتقضوا على الْوَزير مَسْعُود وَلَحِقُوا بسبتة فَقدم عَلَيْهِم الواثق بهَا وَرَجَعُوا بِهِ إِلَى الْمغرب وتقلبوا فِي نواحيه إِلَى أَن وصلوا إِلَى جبل مغيلة قرب فاس فبرز الْوَزير مَسْعُود فِي العساكر وَنزل قبالتهم وَقَاتلهمْ هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن يُبَايع مَسْعُود للواثق بِشَرْط الاستبداد فتم العقد على ذَلِك
قَالَ فِي الجذوة بُويِعَ السُّلْطَان الواثق بِاللَّه أَبُو زيان مُحَمَّد بن أبي الْفضل يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بأَمْره الْوَزير مَسْعُود بن ماساي ثمَّ حدثت الْفِتْنَة بَين الْوَزير الْمَذْكُور وَابْن الْأَحْمَر بِسَبَب أَن الْوَزير طلب مِنْهُ إِعَادَة سبتة إِلَى الإيالة المرينية وَكَانَ مُوسَى ابْن أبي عنان قد نزل لَهُ عَنْهَا كَمَا مر وَكَانَ طلبه على سَبِيل الملاطفة فاستشاط ابْن الْأَحْمَر غَضبا وأساء الرَّد فَجهز ابْن ماساي العساكر لحصار سبتة مَعَ الْعَبَّاس بن عمر بن عُثْمَان الوسنافي وَيحيى بن علال بن آمصمود والرئيس مُحَمَّد بن أَحْمد الأبكم من بني الْأَحْمَر فاستولى عَلَيْهَا(4/72)
ثمَّ سرح ابْن الْأَحْمَر السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس من اعتقاله وَبَعثه إِلَى الْمغرب لطلب ملكه وللتشغيب على ابْن ماساي الجاحد لإحسانه فَعبر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْبَحْر إِلَى الْمغرب فاحتل سبتة وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ تقدم إِلَى فاس فحاصرها وضيق على ابْن ماساي وسلطانه الواثق بِاللَّه وأهرع النَّاس إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَته حَتَّى من مراكش فاستمر الْحصار على فاس الْجَدِيد ثَلَاثَة أشهر ثمَّ أذعن الْوَزير مَسْعُود للطاعة على شَرط أَن يبْقى وزيرا ويغرب سُلْطَانه إِلَى الأندلس فَأُجِيب وخلع الواثق بِاللَّه ثمَّ خرج إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَبَايعهُ وَتقدم أَمَامه فَدخل دَاخل ملكه يَوْم الْخَمِيس خَامِس رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة ولحين دُخُوله قبض على الواثق بِاللَّه فقيده وَبعث بِهِ إِلَى طنجة فَقتل بهَا بعد ذَلِك وسنه يَوْم قتل ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَبهَا قبر
وَمن وزرائه يعِيش بن عَليّ بن فَارس الياباني ومسعود بن رحو بن ماساي وَمن كِتَابه مَنْصُور بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي وَأَبُو يحيى مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن أبي مَدين وَمن قُضَاته أَبُو يحيى مُحَمَّد بن مُحَمَّد السكاك رَحِمهم الله تَعَالَى بمنه
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم بن أبي الْحسن
لما دخل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس حَضْرَة فاس الْجَدِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ الْبيعَة الْعَامَّة فِي الْيَوْم الثَّالِث من دُخُوله وَهُوَ يَوْم السبت السَّابِع من رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة لمضي ثَلَاث سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام من خلعه
وَلما ملك أَمر نَفسه قبض على الْوَزير ابْن ماساي وعَلى إخْوَته وحاشيته وامتحنهم امتحانا بليغا فهلكوا من الْعَذَاب ثمَّ سلط على مَسْعُود من الْعَذَاب(4/73)
والانتقام مَا لَا يعبر عَنهُ واعتد عَلَيْهِ بِمَا كَانَ يَفْعَله فِي دور بني مرين النازعين عَنهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَتى هرب مِنْهُم أحد عمد إِلَى بيوته فنهبها فَأمر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بعقابه فِي أطلالها فَكَانَ يُؤْتى بِهِ إِلَى كل بَيت فِيهَا فَيضْرب عشْرين سَوْطًا إِلَى أَن برح بِهِ الْعَذَاب وَتجَاوز الْحَد ثمَّ أَمر بِهِ فَقطعت أربعته فَهَلَك عِنْد قطع الثَّانِيَة وَذهب مثلا للآخرين
ظُهُور مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بسجلماسة ثمَّ اضمحلاله بعد ذَلِك
قد قدمنَا أَن الْأَمِير عبد الْحَلِيم بن أبي سعيد كَانَ تغلب على سجلماسة ثمَّ غَلبه عَلَيْهَا أَخُوهُ عبد الْمُؤمن وسافر عبد الْحَلِيم إِلَى الْمشرق فَهَلَك فِي سفرته تِلْكَ وَكَانَ قد ترك ابْنه مُحَمَّدًا هَذَا رضيعا فشب متقلبا بَين الدول من ملك إِلَى آخر على أَن أَكثر مقَامه إِنَّمَا كَانَ عِنْد أبي حمو صَاحب تلمسان وَلما حاصر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فاس الْجَدِيد كَانَ مُحَمَّد هَذَا عِنْد الْعَرَب الأحلاف فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحصار على مَسْعُود بن ماساي دس إِلَى الأحلاف أَن ينصبوا مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم لِلْأَمْرِ ويجلبوا بِهِ على الْمغرب ليَأْخُذ بحجزة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس عَنهُ فَفَعَلُوا وَدخل مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم سجلماسة فملكها حَتَّى إِذا استولى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس على فاس الْجَدِيد وأوقع بمسعود ابْن ماساي وَإِخْوَته خرج مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم عَن سجلماسة وَلحق بأحياء الْعَرَب فسارت طَائِفَة مِنْهُم مَعَه إِلَى أَن أبلغوه مأمنه وَنزل على أبي حموا بتلمسان إِلَى أَن هلك فَسَار إِلَى تونس وَنزل على صَاحبهَا أبي الْعَبَّاس الحفصي ثمَّ ارتحل بعد وَفَاته إِلَى الْمشرق لحج الْفَرِيضَة وَالله تَعَالَى أعلم(4/74)
نكبة الْكَاتِب ابْن أبي عَمْرو وحركات بن حسون ومقتلهما
كَانَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو التَّمِيمِي وَقد تقدم ذكر وَالِده فِي دولة السُّلْطَان أبي عنان كَاتبا عِنْد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فِي دولته الأولى فَلَمَّا خلع وَولي مُوسَى بن أبي عنان تقرب إِلَيْهِ بسالف المخالصة لِأَبِيهِ من أبي عنان فقد كَانَ أعز بطانته كَمَا مر فاستخلصه السُّلْطَان مُوسَى للشورى وَرفع مَنْزِلَته على منَازِل أهل الدولة وَجعل إِلَيْهِ كِتَابَة علامته على المراسم السُّلْطَانِيَّة كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وَكَانَ يفاوضه فِي مهماته وَيرجع إِلَيْهِ فِي أُمُوره حَتَّى غص بِهِ أهل الدولة وسعى هُوَ عِنْد السُّلْطَان مُوسَى فِي جمَاعَة من بطانة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَأتى عَلَيْهِم النكال وَالْقَتْل لكلمات كَانَت تجْرِي بَينهم وَبَينه فِي مجَالِس المنادمة عِنْد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس حقدها عَلَيْهِم فَلَمَّا ظفر بالحظ من السُّلْطَان مُوسَى سعى بهم عِنْده فَقَتلهُمْ وَكَانَ القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم اليزناسني من بطانة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَكَانَ يحضر مَعَ ندمائه فحقد عَلَيْهِ ابْن أبي عَمْرو وأغرى بِهِ السُّلْطَان مُوسَى فَضَربهُ وأطافه وَجَاء بهَا شنعاء غَرِيبَة فِي الْقبْح ثمَّ سفر ابْن أبي عَمْرو عَن سُلْطَانه مُوسَى إِلَى الأندلس فَكَانَ يمر بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس من مَحل اعتقاله فَلَا يلم بِهِ وَرُبمَا يلقاه فَلَا يحييه وَلَا يُوجب لَهُ حَقًا فأحفظ ذَلِك السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس فَلَمَّا رد الله عَلَيْهِ ملكه وَفرغ من ابْن ماساي قبض على ابْن أبي عَمْرو هَذَا وأودعه السجْن ثمَّ امتحنه بعد ذَلِك إِلَى أَن هلك تَحت السِّيَاط وَحمل إِلَى دَاره وبينما أَهله يحضرونه إِلَى قَبره إِذا بالسلطان قد أَمر بِأَن يسحب فِي نواحي الْمَدِينَة إبلاغا فِي النكال فَحمل من نعشه وَقد ربط فِي رجله حَبل وسحب فِي سِكَك الْمَدِينَة ثمَّ ألقِي على بعض الْمَزَابِل
ثمَّ قبض السُّلْطَان على حركات بن حسون شيخ الْعَرَب وَكَانَ مجلبا فِي الْفِتْنَة وَكَانَ الْعَرَب المخالفون من معقل لما أجَاز السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى(4/75)
سبتة وحركات هَذَا بتادلا راودوه على طَاعَة السُّلْطَان فَامْتنعَ أَولا ثمَّ أكرهوه وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان فطوى على ذَلِك حَتَّى إِذا استقام أمره وَملك حَضْرَة فاس الْجَدِيد قبض عَلَيْهِ وامتحنه إِلَى أَن هلك وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور
أَخْبَار تلمسان واستيلاء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس عَلَيْهَا
كَانَ السُّلْطَان أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني قد عَاد إِلَى تلمسان وَثَبت قدمه بهَا كَمَا قُلْنَا إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ ابْنه أَبُو تاشفين آخر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة فَوَقَعت بَينهمَا حروب وشرق أَبوهُ بدائه ثمَّ عَادَتْ لَهُ الكرة عَلَيْهِ فِي أَخْبَار طَوِيلَة فاستمد أَبُو تاشفين السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس فأمده بِابْنِهِ الْأَمِير أبي فَارس ووزيره مُحَمَّد بن يُوسُف بن علال عقد لَهما على جَيش كثيف من بني مرين وَغَيرهم فانتصر أَبُو تاشفين على أَبِيه فَقتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس ثمَّ تقدم فَدخل تلمسان آخر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَاسْتمرّ بهَا مُقيما لدَعْوَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَكَانَ يخْطب لَهُ على مَنَابِر تلمسان وَيبْعَث إِلَيْهِ بالضريبة كل سنة كَمَا شَرط على نَفسه عِنْد تَوْجِيه العساكر مَعَه وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَسَبْعمائة فتغلب على تلمسان أَخُوهُ الْأَخير يُوسُف بن أبي حمو
وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْعَبَّاس خرج من الحضرة إِلَى تازا وَمن(4/76)
هُنَالك بعث ابْنه الْأَمِير أَبَا فَارس فِي العساكر إِلَى تلمسان فاستولى عَلَيْهَا وَأقَام فِيهَا دَعْوَة وَالِده وفر يُوسُف بن أبي حمو إِلَى بعض الْحُصُون فاعتصم بِهِ إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
وُصُول هَدِيَّة صَاحب مصر السُّلْطَان الظَّاهِر برقوق إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بتازا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ الْعَلامَة الرئيس ولي الدّين ابْن خلدون قد استوطن فِي آخر عمره مصر الْقَاهِرَة وَنزل من سلطانها بالمنزلة الرفيعة قَالَ رَحمَه الله وَكَانَ يُوسُف ابْن عَليّ بن غَانِم أَمِير أَوْلَاد حُسَيْن من معقل ثمَّ من أَوْلَاد جرار مِنْهُم قد حج سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة واتصل بِصَاحِب مصر الْملك الظَّاهِر برقوق أول مُلُوك الجراكسة من التّرْك قَالَ فتقدمت إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور فِيهِ وأخبرته بمحله من قومه فَأكْرم تلقيه وَحمله بعد قَضَاء حجه هَدِيَّة إِلَى صَاحب الْمغرب يطرفه فِيهَا بتحف من بضائع بَلَده على عَادَة الْمُلُوك فَلَمَّا قدم يُوسُف بهَا على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أعظم موقعها وَجلسَ فِي مجْلِس حفل لعرضها والمباهاة بهَا وَشرع فِي الْمُكَافَأَة عَلَيْهَا بمتخير الْجِيَاد والبضائع وَالثيَاب حَتَّى إِذا اسْتكْمل من ذَلِك مَا رضيه وعزم على بعثها مَعَ يُوسُف بن عَليّ حاملها الأول وَإنَّهُ يَبْعَثهُ بهَا من مَوضِع مقَامه بتازا اخترمته الْمنية دون ذَلِك(4/77)
وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله ...
كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِمحل مقَامه من تازا وَهُوَ يشارف أَحْوَال ابْنه أبي فَارس ووزيره صَالح بن حمو الياباني وَكَانَ قد قدمهما لفتح تلمسان والبلاد الشرقية فَأَصَابَهُ حمامه هُنَالك لَيْلَة الْخَمِيس السَّابِع من محرم فاتح سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالقلة وسنه يَوْمئِذٍ تسع وَثَلَاثُونَ سنة فَكَانَت دولته الثَّانِيَة سِتّ سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَمن وزرائه فِي هَذِه الدولة صَالح بن حمو الياباني وَمُحَمّد بن يُوسُف بن علال الصنهاجي وَمن حجابه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي وَمن كِتَابه الشريف أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله الحسني السبتي والقائد مُحَمَّد بن مُوسَى بن مَحْمُود الْكرْدِي وَيحيى بن الْحسن بن أبي دلامة التسولي وَمن قُضَاته القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم اليزناسني قَالَ فِي الجذوة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس شَاعِرًا مفلقا بديع التَّشْبِيه فَمن نظمه قَوْله
(أما الْهوى يَا صَاحِبي فألقته ... وعهدته من عهد أَيَّام الصِّبَا)
(ورأيته قوت النُّفُوس وحليها ... فتخذته دينا إِلَيّ ومذهبا)
(ولبست دون النَّاس مِنْهُ حلَّة ... كَانَ الْوَفَاء لَهَا طرازا مذهبا)
(لَكِن رَأَيْت لَهُ الْفِرَاق منغصا ... لَا بفراقنا لَا مرْحَبًا)
وَمن أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس مَا حَكَاهُ فِي نفح الطّيب أَن الأديب الْكَاتِب أَبَا الْحسن عَليّ ابْن الْوَزير لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب كَانَ مصاحبا للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس هَذَا فَحَضَرَ مَعَه ذَات يَوْم فِي بُسْتَان سح فِيهِ مَاء المذاكرة الهتان وَقد أبدى الْأَصِيل شَوَاهِد الاصفرار وأزمع النَّهَار لما قدم اللَّيْل على الْفِرَار فَقَالَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس لما لَان جَانِبه وَسَأَلت بَين سرحات الْبُسْتَان جداوله ومذانبه
(يَا فاس أَنِّي وأيم الله ذُو شغف ... بِكُل ربع بِهِ مغناه يسبيني)
(وَقد أنست بقربك مِنْك يَا آملي ... ونظرة فِيكُم بالأنس تحييني)(4/78)
فَأَجَابَهُ أَبُو الْحسن ابْن الْخَطِيب بقوله الْمُصِيب
(لَا أوحش الله ربعا أَنْت زَائِره ... يَا بهجة الْملك وَالدُّنْيَا مَعَ الدّين)
(يَا أَحْمد الْحَمد أبقاك الْإِلَه لنا ... فَخر الْمُلُوك وسلطان السلاطين)
وَمن أخباره أَيْضا أَن كَاتبه أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أَحْمد بن عبد المنان دخل عَلَيْهِ عشَاء فَقَالَ لَهُ أنعم الله صباح مَوْلَانَا فَأنْكر السُّلْطَان ذَلِك وَظن أَنه ثمل فتفطن أَبُو زَكَرِيَّاء لما صدر مِنْهُ وتدارك ذَلِك فَأَنْشد مرتجلا
(صبحته عِنْد الْمسَاء فَقَالَ لي ... مَاذَا الْكَلَام وَظن ذَلِك مزاحا)
(فأجبته إشراق وَجهك غرني ... حَتَّى توهمت الْمسَاء صباحا)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي فَارس عبد الْعَزِيز ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله
من الِاتِّفَاق الْغَرِيب أَن سُلْطَان فاس وَالْمغْرب فِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ اسْمه عبد الْعَزِيز بن أَحْمد وسلطان تونس وإفريقية كَانَ اسْمه أَيْضا عبد الْعَزِيز بن أَحْمد وَكَانَت ولايتهما فِي سنة وَاحِدَة إِلَّا أَن مُدَّة الحفصي طَالَتْ جدا
أم هَذَا السُّلْطَان أم ولد اسْمهَا جَوْهَر صفته شَاب السن ربعَة من الْقَوْم أدعج الْعَينَيْنِ جميل الْوَجْه
لما توفّي السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله بتازا كَانَ ابْنه أَبُو فَارس هَذَا بتلمسان فاستدعاه رجال الدولة مِنْهَا فَقدم عَلَيْهِم بتازا وَبَايَعُوهُ بهَا يَوْم السبت التَّاسِع من محرم سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَلما تمّ أمره أطلق أَبَا زيان بن أبي حمو الزياني وَكَانَ معتقلا عِنْده بفاس لالتجائه إِلَى أَبِيه من قبل فِي خبر لَيْسَ تَفْصِيله من غرضنا وَبَعثه إِلَى تلمسان أَمِيرا عَلَيْهَا من قبله فَسَار إِلَيْهَا أَبُو زيان وملكها وَأقَام فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي فَارس ثمَّ(4/79)
خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ يُوسُف بن أبي حمو واتصل بأحياء بني عَامر بن زغبة وعزم على الإجلاب عَلَيْهِ بهم فسرب أَبُو زيان فيهم الْأَمْوَال فَقَتَلُوهُ وبعثوا إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ فسكنت أَحْوَال تلمسان وَذَهَبت الْفِتْنَة بذهاب يُوسُف واستقامت أُمُور دولة السُّلْطَان أبي فَارس قَالَه ابْن خلدون وَهُوَ آخر مَا ورخه عَن دولة الْمغرب
وَاعْلَم أَن مَا نسوقه بعد هَذَا من الْأَخْبَار عَن هَذِه الدولة المرينية لم يسمح لنا الْوَقْت بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ فِي تأليف يَخُصهَا أَو مَوْضُوع يقص أَخْبَارهَا نسقا وينصها وَإِنَّمَا تتبعنا مَا أَثْبَتْنَاهُ من ذَلِك فِي مَوَاضِع ذكرت فِيهَا بِحَسب التبع لَا بِالْقَصْدِ الأول وعَلى الله تَعَالَى فِي الْهِدَايَة إِلَى الصَّوَاب الْمعول
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان عبد الْعَزِيز ووفاته
قَالُوا كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بن أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله كثير الشَّفَقَة رَقِيق الْقلب منقبضا عَن الْغدر متوقفا فِي سفك الدِّمَاء وَكَانَ فَارِسًا عَارِفًا بركض الْخَيل وَيحسن قرض الشّعْر وَيُحب سَمَاعه فَمن نظمه وَقد نزل الْمَطَر يشْكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ قَوْله
(الله يلطف بالعباد فَوَاجِب ... أَن يشكروا فِي كل حَال نعْمَته)
(فَهُوَ الَّذِي فيهم ينزل غيثه ... من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته)
توفّي رَحمَه الله يَوْم السبت ثامن صفر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَدفن مَعَ أَبِيه بالقلة فَكَانَت دولته ثَلَاث سِنِين وشهرا وَمن وزرائه صَالح بن حمو الياباني وَيحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري وَمن كِتَابه يحيى بن الْحسن ابْن أبي دلامة وَمن قُضَاته عبد الْحَلِيم بن أبي إِسْحَاق اليزناسني رَحِمهم الله تَعَالَى بمنه(4/80)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي عَامر عبد الله ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله تَعَالَى
هَذَا السُّلْطَان شَقِيق الَّذِي قبله أمه الْجَوْهَر الْمُتَقَدّمَة صفته أدعج الْعَينَيْنِ حسن الْأنف لامي العذار بُويِعَ بعد أَخِيه عبد الْعَزِيز يَوْم السبت الثَّامِن من صفر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَكَانَ التَّصَرُّف والنقض والإبرام فِي هَذِه الْمدَّة كلهَا للوزراء وَتُوفِّي السُّلْطَان الْمَذْكُور بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء الموفي ثَلَاثِينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانمِائَة فَكَانَت دولته سنة وَخَمْسَة أشهر سوى أَيَّام وَمن وزرائه صَالح بن حمو وَيحيى بن علال وَمن قُضَاته عبد الرَّحِيم اليزناسني وَمن حجابه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي وفارح بن مهْدي العلج وَالله تَعَالَى أعلم
وَأما أَخْبَار الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فَإِنَّهُ كَانَ أسقط رياسة الْجِهَاد من بني مرين بهَا ومحا رسمها من مَمْلَكَته أَيَّام أجَاز عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن للتشغيب على أبي بكر بن غَازِي بن الكاس حَسْبَمَا تقدم وَصَارَ أَمر الْغُزَاة والمجاهدين إِلَيْهِ وباشر أَحْوَالهم بِنَفسِهِ وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة فولي مَكَانَهُ ابْنه أَبُو الْحجَّاج يُوسُف وَبَايَعَهُ النَّاس وَقَامَ بأَمْره خَالِد مولى أَبِيه وتقبض على إخْوَته سعد وَمُحَمّد وَنصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بهم وَلم يُوقف لَهُم بعد على خبر ثمَّ سعى عِنْده فِي خَالِد الْقَائِم بدولته وَأَنه أعد السم لقَتله وَأَن يحيى بن الصَّائِغ الْيَهُودِيّ طَبِيب دَارهم قد دَاخله فِي ذَلِك ففتك بِخَالِد وتناوشته السيوف بَين يَدَيْهِ لسنة أَو نَحْوهَا من ملكه ثمَّ حبس الطَّبِيب الْمَذْكُور فذبح فِي محبسه ثمَّ هلك سنة أَربع وَتِسْعين وَسَبْعمائة لِسنتَيْنِ أَو نَحْوهَا من ولَايَته
وَقد وقفت لبَعض الإصبنيوليين واسْمه منويل باولو القشتيلي على كتاب مَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى فنقلت مِنْهُ بعض أَخْبَار لم أَجدهَا إِلَّا عِنْده وَهُوَ وَإِن كَانَ ينْقل الغث والسمين والرخيص والثمين إِلَّا أَن النَّاقِد(4/81)
الْبَصِير يُمَيّز حصباءه من دره وَيفرق بَين حشفه وثمره فَمن ذَلِك أَنه حكى عَن السُّلْطَان أبي الْحجَّاج الْمَذْكُور مَا صورته قَالَ كَانَت مراسلات السُّلْطَان المريني يَعْنِي السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس مَعَ السُّلْطَان يُوسُف بن الْغَنِيّ بِاللَّه صَاحب غرناطة حَسَنَة فِي الظَّاهِر تدل على الْمُوَافقَة والمحبة وَكَانَ المريني فِي الْبَاطِن يحب الِاسْتِيلَاء على مملكة غرناطة وَلما لم يُمكنهُ ذَلِك بِالسَّيْفِ عدل إِلَى أَعمال الْحِيلَة فأهدى إِلَى السُّلْطَان أبي الْحجَّاج كسى رفيعة أَحدهَا مَسْمُومَة فلبسها فَهَلَك لحينه وَمَعَ ذَلِك فَلم يدْرك المريني غَرَضه فَإِنَّهُ لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى توفّي أَيْضا اه وَلم توفّي أَبُو الْحجَّاج بُويِعَ ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف وَقَامَ بأَمْره الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الخصاصي من صنائع أَبِيه قَالَ ابْن خلدون وَالْحَال على ذَلِك لهَذَا الْعَهْد ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث
فَفِي سنة خمسين وَسَبْعمائة كَانَ الوباء الَّذِي عَم المسكونة شرقا وغربا على مَا نبهنا عَلَيْهِ فِيمَا مضى
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة توفّي الْوَلِيّ الزَّاهِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن عمر بن مُحَمَّد بن عَاشر الأندلسي نزيل سلا الْعَارِف الْمَشْهُور قَالَ أَبُو عبد الله بن سعد التلمساني فِي كِتَابه النَّجْم الثاقب فِيمَا لأولياء الله من المناقب كَانَ ابْن عَاشر أحد الْأَوْلِيَاء الأبدال معدودا فِي كبار الْعلمَاء مَشْهُورا بإجابة الدُّعَاء مَعْرُوفا بالكرامات مقدما فِي صُدُور الزهاد مُنْقَطِعًا عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَلَو كَانُوا من صالحي الْعباد ملازما للقبور فِي الْخَلَاء الْمُتَّصِل ببحر مَدِينَة سلا مُنْفَردا عَن الْخلق لَا يفكر فِي أَمر الرزق وَله أَخْبَار جليلة وكرامات عَجِيبَة مَشْهُورَة مِمَّن جمع الله لَهُ الْعلم وَالْعَمَل وَألقى عَلَيْهِ الْقبُول من الْخلق شَدِيد الهيبة عَظِيم الْوَقار كثير الخشية طَوِيل التفكير وَالِاعْتِبَار قَصده أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو عنان وارتحل إِلَيْهِ سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة فَوقف بِبَابِهِ طَويلا فَلم يَأْذَن لَهُ وَانْصَرف وَقد امْتَلَأَ قلبه من حبه وإجلاله ثمَّ عاود(4/82)
الْوُقُوف بِبَابِهِ مرَارًا فَمَا وصل إِلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ بعض أَوْلَاده بِكِتَاب كتبه إِلَيْهِ يستعطفه لزيارته ورؤيته فَأَجَابَهُ بِمَا قطع رَجَاءَهُ مِنْهُ وأيأسه من لِقَائِه فَاشْتَدَّ حزنه وَقَالَ هَذَا ولي من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى حجبه الله عَنَّا اه ومناقب الشَّيْخ ابْن عَاشر وكراماته كَثِيرَة وَقد ألف فِيهَا أَبُو الْعَبَّاس بن عَاشر الحافي من عُلَمَاء سلا كِتَابه الْمُسَمّى بتحفة الزائر فِي مَنَاقِب الشَّيْخ ابْن عَاشر فَانْظُرْهُ
وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَهِي السّنة الَّتِي قتل فِيهَا ابْن الْخَطِيب كَانَ الْجُوع بالمغرب قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْخَطِيب القسنطيني الْمَعْرُوف بِابْن قنفذ فِي كِتَابه أنس الْفَقِير مَا حَاصله أَنه رَجَعَ من هجرته بالمغرب الْأَقْصَى فِي السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى بَلَده قسنطينة فاجتاز فِي طَرِيقه بتلمسان قَالَ وَفِي هَذِه السّنة كَانَت المجاعة الْعَظِيمَة وَعم الخراب الْمغرب فأقمت بتلمسان نَحْو شهر أنْتَظر تيَسّر سلوك الطَّرِيق فالتجأت إِلَى قبر الشَّيْخ أبي مَدين ودعوت الله عِنْده فَوَقع مَا أملته وَارْتَحَلت بعد أَيَّام يسيرَة فَرَأَيْت فِي الطَّرِيق من الْخَيْر مَا كَانَ يتعجب مِنْهُ من شَاهده وَكَانَ أَمر الطَّرِيق فِي الْخَوْف والجوع بِحَيْثُ أَن كل من نقدم عَلَيْهِ يتعجب من وصولنا سَالِمين ثمَّ عِنْد ارتحالنا من عِنْده يتأسف علينا حَتَّى أَن مِنْهُم من يسمعنا ضرب الأكف خلفنا تحسرا علينا حَتَّى انْتهى سفرنا على وفْق اختيارنا وَالْحَمْد لله
وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُحدث أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمرَان الفنزاري السلاوي الْمَعْرُوف بِابْن المجراد صَاحب لامية الْجمل وَشرح الدُّرَر وَغَيرهمَا من التآليف الحسان قَالَ صَاحب بلغَة الأمنية ومقصد الْبَيْت فِيمَن كَانَ بسبتة فِي الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب فِي حق الشَّيْخ الْمَذْكُور كَانَ مُحدثا حَافِظًا راوية لَهُ معرفَة بِالرِّجَالِ والمغازي وَالسير وَكَانَ رجلا صَالحا حسن السِّيرَة صَادِق اللهجة انْتفع بِهِ النَّاس وَظَهَرت بركته على كل من عرفه أَو لَازم مَجْلِسه أَو قَرَأَ عَلَيْهِ من صَغِير أَو كَبِير قَالَ وَذَلِكَ عندنَا مَعْرُوف بسبتة(4/83)
مَشْهُور بَين أَهلهَا وانتقل إِلَى بَلَده سلا وَتُوفِّي بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة قلت وقبره مَشْهُور بهَا إِلَى الْآن وَعَلِيهِ قبَّة صَغِيرَة وَهُوَ من مزارات سلا خَارج بَاب الْمُعَلقَة مِنْهَا عَن يَمِين الْخَارِج على نَحْو غلوة وَأهل سلا يسمونه سَيِّدي الإِمَام السلاوي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَارِف الْمُحَقق الرباني أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم النفزي الْمَعْرُوف بِابْن عباد شَارِح الحكم العطائية وَأحد تلامذة الشَّيْخ ابْن عَاشر الْمَذْكُور آنِفا قَالَ صَاحبه وَأَخُوهُ فِي الله الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء السراج فِي حَقه مَا نَصه كَانَ حسن السمت طَوِيل الصمت كثير الْوَقار وَالْحيَاء جميل اللِّقَاء حسن الْخلق والخلق على الهمة متواضعا مُعظما عِنْد الْخَاصَّة والعامة نَشأ ببلدة رندة على أكمل طَهَارَة وعفاف وصيانة وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين ثمَّ اشْتغل بعد بِطَلَب الْعُلُوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية حَتَّى رَأس فِيهَا وَحصل مَعَانِيهَا ثمَّ أَخذ فِي طَرِيق الصُّوفِيَّة والمباحثة عَن الْأَسْرَار الإلهية حَتَّى أُشير إِلَيْهِ وَتكلم فِي عُلُوم الْأَحْوَال والمقامات والعلل والآفات وَألف فِيهَا تآليف عَجِيبَة وتصانيف بديعة غَرِيبَة وَله أجوبة كَبِيرَة فِي مسَائِل الْعُلُوم نَحْو مجلدين ودرس كتبا وحفظها كلهَا أَو جلها إِلَى أَن قَالَ وَلَقي بسلا الشَّيْخ الْحَاج الصَّالح السّني الزَّاهِد الْوَرع أَحْمد بن عَاشر وَأقَام مَعَه وَمَعَ أَصْحَابه سِنِين عديدة قَالَ رَحمَه الله قصدتهم لوجدان السَّلامَة مَعَهم وَتُوفِّي رَحمَه الله بفاس بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَحضر جنَازَته السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم فَمن دونه وهمت الْعَامَّة بِكَسْر نعشه تبركا بِهِ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَمن فَوَائده الَّتِي نقلهَا عَن شَيْخه ابْن عَامر مَا ذكره فِي رسائله قَالَ كنت قد مَا خرجت فِي يَوْم مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَائِما إِلَى سَاحل الْبَحْر فَوجدت هُنَالك سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَجَمَاعَة من(4/84)
أَصْحَابه وَمَعَهُمْ طَعَام يَأْكُلُونَهُ فأرادوا مني الْأكل فَقلت إِنِّي صَائِم فَنظر إِلَيّ سَيِّدي الْحَاج نظرة مُنكرَة وَقَالَ لي هَذَا يَوْم فَرح وسرور يستقبح فِي مثله الصَّوْم كالعيد فتأملت قَوْله فَوَجَدته حَقًا وَكَأَنَّهُ أيقظني من النّوم اه
وَاعْلَم أَنه فِي آخر هَذَا الْقرن الثَّامِن تبدلت أَحْوَال الْمغرب بل وأحوال الْمشرق وَنسخ الْكثير من عوائد النَّاس ومألوفاتهم وأزيائهم قَالَ ابْن خلدون فِي مُقَدّمَة تَارِيخه بعد أَن ذكر أَن الْأَحْوَال الْعَامَّة للآفاق والأجيال والأعصار هِيَ أس المؤرخ الَّذِي تنبني عَلَيْهِ أَكثر مقاصده مَا نَصه وَأما لهَذَا الْعَهْد وَهُوَ آخر الْمِائَة الثَّامِنَة فقد انقلبت أَحْوَال الْمغرب الَّذِي نَحن شاهدوه وتبدلت بِالْجُمْلَةِ واعتاض من أجيال البربر أَهله على الْقدَم بِمن طَرَأَ فِيهِ من لدن الْمِائَة الْخَامِسَة من أجيال الْعَرَب بِمَا كثروهم وغلبوهم وانتزعوا مِنْهُم عَامَّة الأوطان وشاركوهم فِيمَا بَقِي من الْبلدَانِ بملكتهم وبأسهم هَذَا إِلَى مَا نزل بالعمران شرقا وغربا فِي منتصف هَذِه الْمِائَة الثَّامِنَة من الطَّاعُون الجارف الَّذِي تحيف الْأُمَم وَذهب بِأَهْل الجيل وطوى كثيرا من محَاسِن الْعمرَان ومحاها وَجَاء للدول على حِين هرمها وبلوغ الْغَايَة من مداها فقلص من ظلالها وفل من حَدهَا وأوهن من سلطانها وتداعت إِلَى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمرَان الأَرْض بانتقاص الْبشر فخربت الْأَمْصَار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل السَّاكِن وَكَأَنِّي بالمشرق قد نزل بِهِ مثل مَا نزل بالمغرب لَكِن على نسبته وَمِقْدَار عمرانه وكأنما نَادَى لِسَان الْكَوْن فِي الْعَالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَإِذا تبدلت الْأَحْوَال جملَة فَكَأَنَّمَا تبدل الْخلق من أَصله وتحول الْعَالم بأسره وَكَأَنَّهُ خلق جَدِيد ونشأة مستأنفة وعالم مُحدث إِلَى آخر كَلَامه رَحمَه الله فَافْهَم هَذِه الْجُمْلَة وتفطن لأحوال الدول الَّتِي سردنا أَخْبَارهَا فِيمَا مضى وأحوال الَّتِي نسرد أَخْبَارهَا فِيمَا بعد وَتَأمل الْفرق بَين ذَلِك وَالسَّبَب فِيهِ وَالله تَعَالَى الْمُوفق للصَّوَاب بمنه(4/85)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي سعيد عُثْمَان بن أبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم
هَذَا السُّلْطَان هُوَ ثَالِث الْإِخْوَة الأشقاء من بني أبي الْعَبَّاس الَّذين ولوا الْأَمر من بعد وَلَاء أمه الْجَوَاهِر أم أَخَوَيْهِ قبله بُويِعَ بعد صَلَاة الْعَصْر لَهُ من يَوْم الثُّلَاثَاء الموفي ثَلَاثِينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانمِائَة وسنه يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة وَكَانَ النَّقْض والإبرام وَسَائِر التَّصَرُّفَات فِي دولته للوزراء والحجاب وَالسُّلْطَان متفرغ لِاسْتِيفَاء لذاته وَمن أكبر حجابه أَبُو الْعَبَّاس القبائلي الَّذِي نذْكر خَبره الْآن
حجابة أبي الْعَبَّاس القبائلي ونكبته ومقتله وَالسَّبَب فِي ذَلِك
بَيت بني القبائلي بَيت مَشْهُور فِي الوزارة والحجابة وَالْكِتَابَة من لدن الدولة الموحدية بمراكش إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَكَانَ الرئيس الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي كَاتبا مَشْهُورا وحاجبا مَذْكُورا وَكَانَ قد بذ الأقران وتصدر الْأَعْيَان وَبلغ من الجاه ونفوذ الْكَلِمَة مبلغا عَظِيما وَكَانَ يحابي بالخطط السُّلْطَانِيَّة الْأَقَارِب والأرحام لَا يعدل بهَا عَمَّن سواهُم فاضطغنت عَلَيْهِ الْقُلُوب وَكَثُرت فِيهِ السعايات إِلَى أَن نفذ أَمر الله فأوقع بِهِ السُّلْطَان أَبُو سعيد وقْعَة شنعاء كَانَ من خَبَرهَا أَنه كَانَ للحاجب الْمَذْكُور ولد اسْمه عبد الرَّحْمَن وَكَانَ من فضلاء وقته وَكَانَ لعبد الرَّحْمَن هَذَا ولد اسْمه عَليّ وَكَانَ من نجباء الْأَبْنَاء فَكَانَ لجده أبي الْعَبَّاس لذَلِك ميل إِلَيْهِ ومحبة وافتتان بِهِ فاتفق أَن مرض هَذَا الحافد ذَات يَوْم فَنزل جده أَبُو الْعَبَّاس من الحضرة بفاس الْجَدِيد لعيادته بدار وَلَده عبد الرَّحْمَن من عدوة الْقرَوِيين من فاس الْقَدِيم(4/86)
وَكَانَت الدَّار بزنقة الجيلة من الطالعة فَبَاتَ الشَّيْخ عِنْد حافده تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ مُنْذُ ولي خطة الحجابة لم يغب عَن دَار الْملك لَيْلَة وَاحِدَة بل كَانَ يَأْخُذ فِي ذَلِك بالحزم بِحَيْثُ يسد أَبْوَاب الحضرة ويفتحها ويباشر سَائِر الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة بِنَفسِهِ فَلَمَّا أَرَادَ الله إِنْفَاذ قدره غطى على عقله وبصره فتساهل فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَبعث وَلَده أَبَا الْقَاسِم ليقوم مقَامه فِي غلق الْأَبْوَاب وَفتحهَا مَعَ صَاحب السقيف ومساهمه فِي الْقيام بالأمور السُّلْطَانِيَّة أبي مُحَمَّد عبد الله الطريفي الْآتِي ذكره فغلقا الْأَبْوَاب على الْعَادة وَلما كَانَ الصَّباح من الْغَد تقدم الْوَلَد أَبُو الْقَاسِم لأخذ المفاتيح من دَار الْخلَافَة فأخرجت إِلَيْهِ وَتَوَلَّى فتح الْأَبْوَاب وَحده دون أَن يحضر الطريفي المشارك لَهُ فِي ولَايَة السقيف فَلَمَّا جَاءَ أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور وَرَأى الْأَبْوَاب مفتحة بِدُونِ حُضُوره أَخذه من ذَلِك مَا قدم وَمَا حدث وأسرها فِي نَفسه حَتَّى إِذا كَانَ الْمسَاء وَحضر الْوَقْت الْمَعْهُود لغلق الْأَبْوَاب طلع للحضرة ولد آخر من ولد الْحَاجِب القبائلي يعرف بِأبي سعيد فبادر أَبُو مُحَمَّد فسد الْأَبْوَاب فِي وَجهه قبل أَن يصل إِلَيْهِ وَأمْسك المفاتيح عِنْده واستبد بهَا فَطلب مِنْهُ أَبُو سعيد أَن يفتح لَهُ الْبَاب فتجهمه وَامْتنع وَكَأَنَّهُ أَمر دبر بلَيْل ثمَّ تقدم الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَأعلمهُ بِمَا اتّفق لَهُ مَعَ أَوْلَاد الْحَاجِب فأوعز إِلَيْهِ السُّلْطَان أَن لَا يفتح الْبَاب بعد غلقه إِلَّا وَقت فَتحه الْمُعْتَاد وَزَاد فِي الْوَصِيَّة بِأَن لَا يفتح وَلَا يغلق إِلَّا بِمحضر السعيد ابْن السُّلْطَان أبي عَامر رَحمَه الله وَلما رَجَعَ أَبُو سعيد إِلَى وَالِده بعدوة الْقرَوِيين من فاس أعلمهُ بِمَا اتّفق لَهُ مَعَ الْقَائِد الطريفي فَامْتَلَأَ غيظا وَقَامَت قِيَامَته وَكَانَت فِيهِ دَالَّة على السُّلْطَان فَتخلف عَن الْحُضُور وَلم يذكر مَا قالته الْحُكَمَاء إِذا عاديت من يملك فَلَا تلمه إِنَّه يهلكك ثمَّ استعطفه السُّلْطَان فَأبى أَن يعْطف ثمَّ بعث إِلَيْهِ بِبَرَاءَة بِخَطِّهِ ليزيل مَا بصدره من الموجدة فَكتب الْحَاجِب جوابها وَأقسم أَن لَا يطَأ بساطا فِيهِ فارح بن مهْدي العلج وَكَانَ فارح هَذَا بِعَين التجلة من السُّلْطَان فَلَمَّا وقف السُّلْطَان أَبُو سعيد على جَوَاب الْحَاجِب حمى أَنفه وأظلمت الدُّنْيَا فِي عَيْنَيْهِ وَأمر بالإيقاع بالحاجب فِي الْحِين فذبح هُوَ وَولده عبد الرَّحْمَن يَوْم الْخَمِيس الموفي ثَلَاثِينَ(4/87)
من شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانمِائَة وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا فَاضلا شَاعِرًا فَمن شعره فِي الْغَزل قَوْله
(اتسمع فِي الْهوى قَول اللواحي ... وَقد أَبْصرت خشف بني ريَاح)
(غزال خلف الصب المعني ... من الوجد المبرح غير صَاح)
(وَقد قتلت وَلَا إِثْم عَلَيْهَا ... مراض جفونه كل الصِّحَاح)
(يَقُول ولحظه بِالْعقلِ يزري ... علام تطيل وصفي وامتداحي)
(فَقلت فنون سحر فِيك راقت ... قَضَت للقلب بالعشق الصراح)
(جبينك والمقلد والثنايا ... صباح فِي صباح فِي صباح)
وَبَقِي الحافد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور مُرَتبا فِي جملَة الْكتاب وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا أَيْضا وَلما مرض السُّلْطَان أَبُو سعيد فِي شعْبَان سنة سبع وَثَمَانمِائَة وَصَحَّ من مَرضه وهنأته الشُّعَرَاء بقصائد كَثِيرَة فَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَبُو الْحسن الْمَذْكُور فَقَالَ
(هَنِيئًا لنا وَلكُل الْأَنَام ... براحة فَخر الْمُلُوك الْهمام)
(إِمَام أَقَامَ رسوم الْعلَا ... وَحل من الْمجد أَعلَى السنام)
(بِهِ قرت الْعين لما بدا ... صَحِيحا وَمَا إِن بِهِ من سقام)
(وَهل هُوَ إِلَّا كبدر الدجا ... يواري قَلِيلا وَرَاء الْغَمَام)
(وَيظْهر طورا فيجلو بِهِ ... عَن النَّاس يَا صَاح ساجي الظلام)
(أَو اللَّيْث يعكف فِي غيله ... فتحذر مِنْهُ السباح اهتجام)
(أمولاي عُثْمَان بَحر الندى ... ومردي العداة ونجل الْكِرَام)
(لقد رفع الله مقداركم ... فنفسي الْفِدَاء لكم من إِمَام)
(أمولاي عَبدك قد ضره ... أفول رضاكم وَبعد المرام)
(وأضحى كئيبا لإبعادكم ... مشوقا لتقبيل ذَاك الْمقَام)
(فَكُن راحما يَا إِمَام الورى ... عطوفا بمملوكك المستهام)
(لَعَلَّ الَّذِي ناله يَنْقَضِي ... وتشمل مِنْك هبات جسام)
(فأيدك الله بالنصر مَا ... ترنم فَوق الغصون حمام)(4/88)
حجابة فارح بن مهْدي وأوليته وَسيرَته
قَالَ ابْن خلدون يَا فراح بن مهْدي من معلوجي السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس وَأَصله من موَالِي بني زيان مُلُوك تلمسان اه وَقَالَ فِي الجذوة هُوَ من موَالِي السُّلْطَان أبي سعيد بن أبي الْعَبَّاس وَلَا مُنَافَاة بَين الْكَلَامَيْنِ وَالله أعلم وَلما قتل أَبُو الْعَبَّاس القبائلي ولي الحجابة من بعده فارح بن مهْدي هَذَا قَالَ فِي الجذوة وَلم يكن من أهل الْعلم لكنه كَانَ شَيخا مجربا للأمور عَارِفًا مجيدا فِي التَّدْبِير قد أعْطى الرياسة حَقّهَا والخطط مستحقها وَكَانَ ممسكا عنانه فَلَا يمِيل مَعَ نَفسه وَلَا يسحب أردانه وَلَا يوحش سُلْطَانه موسوما عِنْد الْخلَافَة بالأمانة ملحوظا لَدَيْهَا بِعَين الْمَرْوَة والصيانة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد يعتني بِهِ لأجل كبر سنه وتربيته الْحرَّة آمنهُ بنت السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس كَانَت تبدي لَهُ وَجههَا فِي حَالي صغرها وكبرها فَكَانَت لَهُ بذلك مزية لم تكن لغيره بِهَذَا ذكره التاورتي وَلَعَلَّ فِيهِ تعريضا بالحاجب قبله وَلما تكلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي كِتَابه مرْآة المحاسن على مَدِينَة تيجساس وصفهَا بقوله إِنَّهَا فِي شَرْقي تطاوين على مسيرَة يَوْم مِنْهَا فِي مَوضِع كثير الْحِجَارَة والصخر فِي سفح جبل من غربيها وتحتها من شمالها جرف كثير الصخر عَظِيمَة على مكسر موج الْبَحْر وَلها نهر نفاع يجلب إِلَيْهَا مِنْهُ جدول وَلها بسيط تركبه الجداول من كل جِهَة فتسقي الزَّرْع والكتان وَالثِّمَار فأهلها فِي أَمن من الْقَحْط إِلَى أَن قَالَ وَلم تزل عامرة إِلَى حُدُود ثَمَانمِائَة فجلا عَنْهَا أَهلهَا بِسَبَب جور فارح بن مهْدي الْوَالِي عَلَيْهَا من قبل بني مرين فخلت من سكانها وانتقلوا إِلَى الْقَبَائِل وَغَيرهَا وَلم يزل سورها ماثلا إِلَى الْآن اه قلت وَفِي هَذِه الْمدَّة خربَتْ تطاوين الْقَدِيمَة أَيْضا فَزعم منويل فِي تَارِيخه أَن قراصين الْمُسلمين من أهل تطاوين وَغَيرهم(4/89)
كَانَت تغير على سواحل أصبانيا وتغنم مراكبها وَلما كَانَت سنة ألف وَأَرْبَعمِائَة مسيحية الْمُوَافقَة لسنة ثَلَاث وَثَمَانمِائَة هجرية بعث الطاغية الريكي الثَّالِث شكوادرة لغزو تطاوين ومراكبها فانتهت إِلَى وَادي مرتيل وأفسدت قراصين الْمُسلمين الَّتِي بِهِ ثمَّ نزلت عَسَاكِر الإصبنيول للبر فَاقْتَحَمت مَدِينَة تطاوين بعد أَن جلا أَهلهَا عَنْهَا وخربتها وعاثت فِيهَا وَبقيت خربة نَحْو تسعين سنة ثمَّ جدد بناؤها على يَد الرئيس أبي الْحسن عَليّ المنظري الغرناطي كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَت وَفَاة فارح بن مهْدي فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانمِائَة وَالله تَعَالَى أعلم
حجابة أبي مُحَمَّد الطريفي وَسيرَته
لما توفّي الْحَاجِب فارح بن مهْدي ولي الحجابة من بعده أَبُو مُحَمَّد عبد الله الطريفي وَكَانَ من فضلاء الْحجاب وَهُوَ الَّذِي بنى مَسْجِد السُّوق الْكَبِير بفاس الْجَدِيد وَحبس عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة فَكَانَ ذَلِك من حَسَنَاته الْبَاقِيَة نَفعه الله بِقَصْدِهِ
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان أبي سعيد وَالسُّلْطَان أبي فَارس الحفصي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما توفّي السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الحفصي صَاحب تونس ولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو فَارس الْمَذْكُور فوزع الْوَظَائِف من الْإِمَارَة والوزارة وَولَايَة الْأَعْمَال على إخْوَته فاعتضد بهم وَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَخُوهُ أَبُو بكر بن أبي الْعَبَّاس بقسنطينة فنازعه بهَا ابْن عَمه الْأَمِير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي صَاحب بونة وألح عَلَيْهِ فِي الْحصار فصمد إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو فَارس الحفصي وأوقع بِهِ على سيبوس وقْعَة شنعاء انْتَهَت بِهِ هزيمتها إِلَى فاس مستصرخا صَاحبهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَبُو فَارس المريني فَأَقَامَ أَبُو عبد الله بفاس(4/90)
إِلَى سنة عشر وَثَمَانمِائَة فِي دولة السُّلْطَان أبي سعيد فاتفق أَن فسد مَا بَين السُّلْطَان أبي فَارس الحفصي وَبَين أَعْرَاب إفريقية من سليم فَقدمت طَائِفَة مِنْهُم حَضْرَة فاس مستنجدين السُّلْطَان أَبَا سعيد على صَاحبهمْ أبي فَارس فألفوا عِنْده الْأَمِير أَبَا عبد الله المنهزم بسيبوس كَمَا مر فعقد لَهُ السُّلْطَان أَبُو سعيد على جَيش من بني مرين وَغَيرهم وَبَعثه مَعَ الْعَرَب فَلَمَّا انْتهى إِلَى بجاية تَلَقَّتْهُ أَعْرَاب إفريقية طَائِعَة وهون عَلَيْهِ المرابط شيخ حَكِيم مِنْهَا أَمر تونس فَرد الْجَيْش المريني وقصدها بِمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من الحشود فَأخذ بجاية من أبي يحيى وفر فِي الْبَحْر وَعقد أَبُو عبد الله عَلَيْهَا لِابْنِهِ الْمَنْصُور ثمَّ زحف إِلَى السُّلْطَان أبي فَارس فخالفه إِلَى بجاية فَافْتَكَّهَا من يَد ابْنه الْمَنْصُور وَوجه بِهِ مَعَ جمَاعَة من كبار أَهلهَا معتقلين إِلَى الحضرة وَعقد عَلَيْهَا لِأَحْمَد ابْن أَخِيه ونهض لقِتَال ابْن عَمه أبي عبد الله الْمَذْكُور فَنزع المرابط عَنهُ إِلَى السُّلْطَان أبي فَارس لعهد كَانَ بَينهمَا فانفض جمع أبي عبد الله وَقتل واحتز رَأسه وَوَجهه السُّلْطَان أَبُو فَارس مَعَ من علقه بِبَاب المحروق أحد أَبْوَاب فاس إغاظة للسُّلْطَان أبي سعيد وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَثَمَانمِائَة ثمَّ تحرّك السُّلْطَان أَبُو فَارس إِلَى جِهَة الْمغرب قَاصِدا أَخذ الثار من السُّلْطَان أبي سعيد فاستولى على تلمسان ثمَّ قصد حَضْرَة فاس فَلَمَّا شارفها جنح السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى السّلم فَوجه إِلَيْهِ بِهَدَايَا جليلة فَقبل ذَلِك أَبُو فَارس وكافأ عَلَيْهِ وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَلَحِقتهُ فِي طَرِيقه بيعَة أهل فاس وانتظم لَهُ ملك الْمغرب وَبَايَعَهُ صَاحب الأندلس أَيْضا قَالَه صَاحب الْخُلَاصَة النقية وَهُوَ الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْبَاجِيّ أحد كتاب الدولة التركية بتونس(4/91)
//
اسيتلاء البرتغال على مَدِينَة سبتة أَعَادَهَا الله
كَانَ جنس البرتغال وَهُوَ البردقيز فِي هَذِه السنين قد كثر بعد الْقلَّة واعتز بعد الذلة وَظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر فِي الأقطار وسما إِلَى تملك الْأَمْصَار فَانْتهى إِلَى أَطْرَاف السودَان بل وأطراف الصين على مَا قيل وألح على سواحل الْمغرب الْأَقْصَى فاستولى فِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة على مَدِينَة سبتة أَعَادَهَا الله بعد محاصرته لَهَا حصارا طَويلا وسلطان الْمغرب يَوْمئِذٍ أَبُو سعيد بن أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة وسلطان البرتغال يَوْمئِذٍ خوان الأول
وَذكر منويل فِي تَارِيخه أَن سُلْطَان الْمغرب يَوْمئِذٍ عبد الله بن أَحْمد أَخُو أبي سعيد الْمَذْكُور وَسَيَأْتِي كَلَامه بِتَمَامِهِ
وَذكر صَاحب نشر المثاني فِي كَيْفيَّة اسْتِيلَاء البرتغال على سبتة قصَّة تشبه قصَّة قصير مَعَ الزباء قَالَ رَأَيْت بِخَط من يظنّ بِهِ التثبت والصدق أَن النَّصَارَى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أَن بهَا سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة من بعض شهور سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة وَكَانَت تِلْكَ الصناديق مَمْلُوءَة رجَالًا عَددهمْ أَرْبَعَة آلَاف من الشَّبَاب الْمُقَاتلَة فَخَرجُوا على حِين غَفلَة من الْمُسلمين واستولوا على الْبَلَد وَجَاء أَهله إِلَى سُلْطَان فاس مستصرخين لَهُ وَعَلَيْهِم المسوح وَالشعر والوبر وَالنعال السود رجَالًا وَنسَاء وولدانا فأنزلهم بملاح الْمُسلمين ثمَّ ردهم إِلَى الفحص قرب بِلَادهمْ لعَجزه عَن نصرتهم حَتَّى تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وَالْأَمر لله وَحده قَالَ وَسمعت من بَعضهم أَن الَّذِي جرأ النَّصَارَى على ارْتِكَاب تِلْكَ المكيدة هُوَ أَنهم كَانُوا قد قاطعوا أَمِير سبتة على أَن يُفَوض إِلَيْهِم التَّصَرُّف فِي المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا لَهُ خراجا مَعْلُوما فِي كل سنة فَكَانَ حكم المرسى حِينَئِذٍ لَهُم دون الْمُسلمين وَلَو كَانَ الْمُسلمُونَ هم الَّذين يلون حكم المرسى مَا تركوهم ينزلون ذَلِك الْعدَد من الصناديق مقفلة لَا يعلمُونَ مَا فِيهَا وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر(4/92)
وَلما استولى البرتغال على سبتة اعتنى بهَا وحصنها واستمرت فِي ملكتهم مُدَّة تزيد على مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة ثمَّ ملكهَا مِنْهُم طاغية الإصبنيول فِي سَبِيل مهادنة وشروط انْعَقَدت بَينهم بمدنية أشبونة فِي حُدُود الثَّمَانِينَ وَألف وأخبار السُّلْطَان أبي سعيد كَثِيرَة وَقد أرخ دولته وَسيرَته الْكَاتِب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد التاورتي رَحمَه الله وَتُوفِّي السُّلْطَان الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه عبد الْحق الْأَخير كَذَا ذكره فِي جذوة الاقتباس وَقد ذكر منويل فِي أَمر أبي سعيد ووفاته مَا يُخَالف هَذَا قَالَ لما كَانَت دولة السُّلْطَان أبي سعيد المريني كَانَ الْمُسلمُونَ أهل جبل طَارق قد سئموا ملكة ابْن الْأَحْمَر صَاحب غرناطة وتحققوا بِأَن المريني أقوى مِنْهُ شَوْكَة وأقدر على تخليصهم مِمَّا عَسى أَن ينالهم بِهِ الإصبنيول من حِصَار وَنَحْوه فبعثوه إِلَيْهِ يخطبون ولَايَته ويعرضون عَلَيْهِ الدُّخُول فِي طَاعَته إِن هُوَ أمدهم بِمَا يدْفَعُونَ بِهِ فِي نحر ابْن الْأَحْمَر فأعجب أَبَا سعيد ذَلِك وللحين بعث إِلَيْهِم أَخَاهُ عبد الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بسيدي عبو وَمَعَهُ طَائِفَة من الْجَيْش إمدادا لَهُم وَكَانَ قصد أبي سعيد ببعث أَخِيه عبد الله الْحُصُول على إِحْدَى الفائدتين أما فتح جبل طَارق إِن كَانَ الظُّهُور لَهُ أَو الاسْتِرَاحَة مِنْهُ إِن كَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يشوش عَلَيْهِ فجَاء الْأَخ الْمَذْكُور حَتَّى نزل بِإِزَاءِ جبل طَارق فَفتح أهل الْبَلَد الْبَاب وأدخلوه وأدخلوا جنده وتحصن قَائِد الغرناطي وَعَسْكَره بقلعة الْجَبَل وطير الْأَعْلَام بذلك إِلَى صَاحبه فَبعث إِلَيْهِ جَيْشًا قويت بِهِ نَفسه فَنزل من القلعة وانضم إِلَيْهِ مدده وقاتلوا جَيش المريني فهزموه وقبضوا على عبد الله بِالْيَدِ وعَلى جمَاعَة من أَصْحَابه وبعثوا بهم أسرى إِلَى صَاحب غرناطة فَعمد صَاحب غرناطة إِلَى عبد الله وأنزله فِي مَحل مُعْتَبر وَأحسن إِلَيْهِ فَتخلف ظن السُّلْطَان أبي سعيد فِيمَا كَانَ يحب لِأَخِيهِ من التّلف وغاظه فعل ابْن الْأَحْمَر مَعَه من الْإِحْسَان والإبقاء عَلَيْهِ ثمَّ أَن أَبَا سعيد دبر حِيلَة بِأَن بعث من قبله رجلا إِلَى أَخِيه ليسقيه السم ويستريح(4/93)
مِنْهُ مَعَ أَن غوغاء أهل الْمغرب وقبائله المنحرفة عَن السُّلْطَان كَانُوا قد تشوقوا لقدومه عَلَيْهِم وقيامهم مَعَه فبطلت حِيلَة أبي سعيد فِي السم وَلم يحصل على طائل ثمَّ إِن ابْن الْأَحْمَر اتّفق مَعَ عبد الله على أَن يمده بالعسكر وَالْمَال ويسرحه إِلَى الْمغرب ليستولي على ملكه وَيَأْخُذ لَهُ بالثأر من أَخِيه فَقبل عبد الله ذَلِك وأمده ابْن الْأَحْمَر وسرحه إِلَى الْمغرب فَلَمَّا احتل بِهِ تبعه عدد وافر من قبائله الَّذين كَانُوا مستثقلين لوطأة أبي سعيد فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَبُو سعيد فَكَانَت الكرة عَلَيْهِ وَرجع مفلولا فِي يسير من الْجند إِلَى فاس فتقبض عَلَيْهِ أَهلهَا وسجنوه وأعلنوا بنصر أَخِيه عبد الله وفتحوا الْبَاب فَدخل الحضرة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَتمّ أمره وسجن أَخَاهُ أَبَا سعيد إِلَى أَن مَاتَ قَالَ وَلما اسْتَقل عبد الله بِأَمْر الْمغرب كُله هدأت الرّعية واستقامت الْأَحْوَال إِلَّا أَنه تكدر عيشه بذهاب سبتة الَّتِي استولى عَلَيْهَا طاغية البرتغال خوان الأول بعد مَا حاصرها أَشد الْحصار وَكَانَ ذَلِك على السُّلْطَان من أعظم النحوس وتكدر الْمُسلمُونَ غَايَة لفَوَات هَذِه الْمَدِينَة الْعَظِيمَة مِنْهُم ثمَّ ثَارُوا على السُّلْطَان عبد الله واعتورته رماحهم حَتَّى فاظ وَلما قتل تنَازع الْملك بعده اثْنَان من اخوته وَبعد قتال شَدِيد وَلم ينتصف أحد مِنْهُمَا من صَاحبه اتّفق أهل الْحل وَالْعقد على أَن يولوا عبد الْحق بن أبي سعيد اه كَلَام منويل وَهَذَا السُّلْطَان عبد الله الَّذِي زَاده منويل بَين أبي سعيد وَعبد الْحق لم يذكرهُ صَاحب جذوة الاقتباس وَيبعد أَن يكون هَذَا الْخَبَر الَّذِي سَاقه منويل لَا أصل لَهُ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
وَمن جملَة حجاب السُّلْطَان أبي سعيد الرئيس أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الملياني قَالَ فِي الجذوة أَصله من زرهون وَتَوَلَّى حجابة السُّلْطَان الْمَذْكُور قَالَ فغدر مَوْلَاهُ ومخدومه وهتك ستره وَخرب دَاره وعبث بحريمه وَقتل أَوْلَاده وإخوانه وَرفع الأذناب وَحط الرؤساء وَكَانَ فَسَاد الْمغرب على يَده وَقد ذكره التاورتي فَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ فِي الجذوة(4/94)
وَوجدت فِي طرة ذمه وتنقيصه وَالله أعلم
وَمن وزراء السُّلْطَان أبي سعيد صَالح بن حمو الياباني وَيحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري وَقد تقدم ذكرهمَا وَمن كِتَابه الْفَقِيه الأديب أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي الْحسن بن أبي دلامة وَكَانَ صَاحب الْعَلامَة عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور وَمِمَّنْ شهد لَهُ أهل عصره بالتبريز فِي النّظم الْفَائِق ثمَّ ابْنه مُحَمَّد من بعده وَمن قُضَاته الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم اليزناسني وَقد تقدم ذكره وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعيد ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم المريني رَحمَه الله
هَذَا السُّلْطَان هُوَ آخر مُلُوك بني عبد الْحق من بني مرين وَهُوَ أطولهم مُدَّة وأعظمهم محنة وَشدَّة وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن أبي سعيد عُثْمَان ابْن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي سَالم إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق الزناتي المريني أمه علجة إصبنيولية على مَا ذكره منويل وَفِي أَيَّامه ضعف أَمر بني مرين جدا وتداعى إِلَى الانحلال وَكَانَ التَّصَرُّف للوزراء والحجاب شَأْن دولة أَبِيه من قبله على نذكرهُ
زحف البرتغال إِلَى طنجة ورجوعهم عَنْهَا بالخيبة
قَالَ منويل كَانَ لطاغية البرتغال خَمْسَة إخْوَة شجعان فأرادوا أَن يدركوا فخرا باستيلائهم على ثغر من ثغور الْمغرب يضيفونه إِلَى سبتة ويوسعون بِهِ مَا ملكوه من أَعمالهَا فَرَكبُوا قراصينهم فِي سِتَّة آلَاف عسكري ونزلوا بسبتة ثمَّ زحفوا إِلَى طنجة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وحاصروها وضيقوا على أَهلهَا ثمَّ عاجلهم سُلْطَان فاس وسلطان مراكش وأرهقوهم عَن(4/95)
فتحهَا وأوقعوا بهم وقبضوا على كَبِير عَسْكَرهمْ فرناندو وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وعادوا بهم أسرى إِلَى فاس فَلَمَّا صَارَت عُظَمَاء البرتغال فِي يَد الْمُسلمين وأسرهم جنحوا إِلَى السّلم فسالمهم الْمُسلمُونَ على أَن يردوا لَهُم سبتة ويسرحوا لَهُم كَبِيرهمْ وَأَصْحَابه الَّذين مَعَه فَرضِي البرتغال بذلك وانعقد الصُّلْح عَلَيْهِ ثمَّ كَانَ من قدر الله أَن هلك كَبِير البرتغال الَّذِي وَقع الشَّرْط عَلَيْهِ فِي سجن فاس واستمرت سبتة فِي يَد الْعَدو وعد ذَلِك من سوء بخت الْمُسلمين وَالْأَمر لله وَحده
وَقد ذكر صَاحب الْمرْآة أَن البرتغال استولى على طنجة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَهُوَ غير صَوَاب وَإِنَّمَا كَانَ الْحصار فَقَط وَالله تَعَالَى أعلم
أَخْبَار الوزراء والحجاب وتصرفاتهم
كَانَ من جملَة وزراء السُّلْطَان عبد الْحق الْوَزير صَالح بن صَالح بن حمو الياباني قَالُوا وَهُوَ الَّذِي أوقع بالفقيه القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الرَّحِيم ابْن إِبْرَاهِيم اليزناسني قَتله ذبحا سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وَمن وزراء السُّلْطَان الْمَذْكُور الْوَزير أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان الوطاسي قَالُوا وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة غزا الْوَزير الْمَذْكُور الشاوية وَكَانُوا قد تمردوا على الدولة وأعضل داؤهم ففل الْوَزير الْمَذْكُور جمعهم وَخرب مَنَازِلهمْ ثمَّ كَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَمَانمِائَة قَتله عرب أنكاد على سَبِيل الْغدر قعصا بِالرِّمَاحِ وَحمل قَتِيلا إِلَى فاس فَدفن بالقلة خَارج بَاب الحبيسة وَولي الوزارة بعده عَليّ بن يُوسُف الوطاسي قَالُوا فَكَانَت أَيَّامه مواسم لديانته وصيانته وَحفظه أُمُور الْملك ورفقه بالرعية مَعَ الْعدْل وَحسن الإدارة ثمَّ توفّي بتامسنا خَامِس رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالقلة أَيْضا وَفِي هَذِه السّنة أَو الَّتِي قبلهَا استولى البرتغال على(4/96)
قصر الْمجَاز وَهُوَ الْمَعْرُوف بقصر مصمودة وَالْقصر الصَّغِير وَهُوَ الْآن خراب وَالله أعلم
وزارة يحيى بن يحيى الوطاسي ومقتله ومقتل الوطاسيين مَعَه وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما توفّي الْوَزير عَليّ بن يُوسُف رَحمَه الله قدم للوزارة بعده أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن يحيى بن عمر بن زيان الوطاسي قَالُوا فَكَانَت ولَايَة هَذَا الْوَزير هِيَ مبدأ الشَّرّ ومنشأ الْفِتْنَة وَذَلِكَ أَنه لما اسْتَقل بالحجابة أَخذ فِي تَغْيِير مراسم الْملك وعوائد الدولة وَزَاد وَنقص فِي الْجند وَنقض جلّ مَا أبرمه قبله الوزراء وعامل الرّعية بالعسف وَمن جملَة مَا نقم عَلَيْهِ أَنه عزل قَاضِي فاس الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن علال المصمودي وَقدم مَكَانَهُ الْفَقِيه يَعْقُوب التسولي وَكَانَ المصمودي من الدّين وتحرى المعدلة بمَكَان فَلَمَّا رأى السُّلْطَان عبد الْحق فعل الْوَزير واستحواذه على أُمُور الدولة وَتبين لَهُ أَن الوطاسيين قد التحقوا مَعَه رِدَاء الْملك وشاركوه فِي بِسَاط الْعِزّ وكادوا يغلبونه على أمره سَطَا بهم سطوة استأصلت جمهورهم إِلَّا من حماه الْأَجَل مِنْهُم فتقبض على الْوَزير يحيى وعَلى أَخَوَيْهِ أبي بكر وَأبي شامة وعَلى عمهم فَارس بن زيان وقريبهم مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف وأتى الذّبْح على جَمِيعهم وَاسْتمرّ الْبَحْث عَن مُحَمَّد الشَّيْخ وَمُحَمّد الحلو أخوي الْوَزير الْمَذْكُور فَلم يوجدا لذهاب الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم للصَّيْد واختفاء الحلو عِنْد قيام الهيعة فَكَانَ ذَلِك من لطف الله بهما واتصل بهما مَا جرى على عشيرتهم وَبني أَبِيهِم فذهبا إِلَى منجاتهما وَكَانَ من أَمرهمَا مَا نذكرهُ وَكَانَت هَذِه الْحَادِثَة الصماء بعد مُضِيّ سبعين يَوْمًا من وزارة يحيى بن يحيى(4/97)
الْمَذْكُور وَصفا للسُّلْطَان عبد الْحق أمره وَرَأى أَن قد شفا نَفسه من الوطاسيين ونقى بِسَاط حَضرته من قضضهم وَأَبْرَأ جسم ملكه من مرضهم وَالله غَالب على أمره
رياسة الْيَهُودِيين هَارُون وشاويل وَمَا نَشأ عَن استبدادهما من المحنة والفتنة
قَالُوا كَانَ السُّلْطَان عبد الْحق مُنْذُ أوقع ببني وطاس لم تسمح نَفسه بِإِعْطَاء منصب الوزارة لأحد ثمَّ نما إِلَيْهِ أَن الْعَامَّة وَكَثِيرًا من الْخَاصَّة قد نقموا عَلَيْهِ إِيقَاعه بالوطاسيين وَأَن أذنهم صاغية إِلَى مُحَمَّد الشَّيْخ صَاحب آصيلا وَكَانَ قد استولى عَلَيْهَا بعد فراره حَسْبَمَا نذْكر وَرُبمَا شافهه الْبَعْض مِنْهُم بذلك فولى عَلَيْهِم الْيَهُودِيين الْمَذْكُورين تأديبا لَهُم وتشفيا مِنْهُم زَعَمُوا فشرع اليهوديان فِي أَخذ أهل فاس بِالضَّرْبِ والمصادرة على الْأَمْوَال واعتز الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ وتحكموا فِي الْأَشْرَاف وَالْفُقَهَاء فَمن دونهم وَكَانَ الْيَهُودِيّ هَارُون قد ولى على شرطته رجلا يُقَال لَهُ الْحُسَيْن لَا يألو جهدا فِي العسف واستلاب الْأَمْوَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك وَالنَّاس فِي شدَّة
وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة انتزع الإصبنيول جبل طَارق من يَد ابْن الْأَحْمَر
اسْتِيلَاء البرتغال على طنجة
ثمَّ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة استولى البرتغال على طنجة زحفوا إِلَيْهَا من سبتة فِي أُلُوف من العساكر واستولوا عَلَيْهَا واستمرت بِأَيْدِيهِم أَكثر من مِائَتَيْنِ وَخمْس سِنِين ثمَّ بذلوها لطاغية النجليز سنة أَربع وَسبعين وَألف فِي سَبِيل المهاداة والصهر الَّذِي انْعَقَد بَينهمَا كَمَا سَيَأْتِي(4/98)
مقتل السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك
ثمَّ إِن الْيَهُودِيّ عمد إِلَى امْرَأَة شريفة من أهل حومة البليدة فَقبض عَلَيْهَا والبليدة حومة بفاس قَالُوا وَكَانَت بدار الكومى قرب درب جنيارة فأنحى عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ وَلما ألهبتها السِّيَاط جعلت تتوسل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحمى الْيَهُودِيّ وَكَاد يتَمَيَّز غيظا من سَماع ذكر الرَّسُول وَأمره بالإبلاغ فِي عقابها وَسمع النَّاس ذَلِك فأعظموه وتمشت رجالات فاس بَعضهم إِلَى بعض فَاجْتمعُوا عِنْد خطيب الْقرَوِيين الْفَقِيه أبي فَارس عبد الْعَزِيز بن مُوسَى الورياكلي وَكَانَت لَهُ صلابة فِي الْحق وجلادة عَلَيْهِ بِحَيْثُ يلقِي نَفسه فِي العظائم وَلَا يُبَالِي وَقَالُوا لَهُ أَلا ترى إِلَى مَا نَحن فِيهِ من الذلة وَالصغَار وتحكم الْيَهُود فِي الْمُسلمين والعبث بهم حَتَّى بلغ حَالهم إِلَى مَا سَمِعت فنجع كَلَامهم فِيهِ وللحين أغراهم بِالْفَتْكِ باليهود وخلع طَاعَة السُّلْطَان عبد الْحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الْحَفِيد فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك واستدعوا الشريف الْمَذْكُور فَبَايعُوهُ والتفت عَلَيْهِ خاصتهم وعامتهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أهل حومة القلقليين مِنْهُم ثمَّ تقدم الورياكلي بهم إِلَى فاس الْجَدِيد فصمدوا إِلَى حارة الْيَهُود فَقَتَلُوهُمْ واستلبوهم واصطلموا نعمتهم واقتسموا أَمْوَالهم وَكَانَ السُّلْطَان عبد الْحق يَوْمئِذٍ غَائِبا فِي حَرَكَة لَهُ بِبَعْض النواحي قَالَ فِي نشر المثاني خرج السُّلْطَان عبد الْحق بجيشه إِلَى جِهَة الْقَبَائِل الهبطية وَترك الْيَهُودِيّ يقبض من أهل فاس المغارم فَشد عَلَيْهِم حَتَّى قبض على امْرَأَة شريفة وأوجعها ضربا وَحكى مَا تقدم فاتصل ببعد الْحق الْخَبَر وانفض مسرعا إِلَى فاس واضطرب عَلَيْهِ أَمر الْجند ففسدت نياتهم وتنكرت وُجُوههم وَصَارَ فِي كل منزلَة تنفض عَنهُ طَائِفَة مِنْهُم فأيقن عبد الْحق بالنكبة وعاين أَسبَاب الْمنية وَلما قرب من فاس اسْتَشَارَ هَارُون الْيَهُودِيّ فِيمَا نزل بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيّ لَهُ لَا تقدم على فاس لغليان قدر الْفِتْنَة بهَا وَإِنَّمَا يكون قدومنا على مكناسة الزَّيْتُون لِأَنَّهَا بلدنا(4/99)
وَبهَا قوادنا وشيعتنا وَحِينَئِذٍ يظْهر لنا مَا يكون فَمَا استتم الْيَهُودِيّ كَلَامه حَتَّى انتظمه بِالرُّمْحِ رجل من بني مرين يُقَال لَهُ تيان وَعبد الْحق ينظر وَقَالَ وَمَا زلنا فِي تحكم الْيَهُود وَاتِّبَاع رَأْيهمْ وَالْعَمَل بإشارتهم ثمَّ تعاورته الرماح من كل جَانب وخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ والفم ثمَّ قَالُوا للسُّلْطَان عبد الْحق تقدم أمامنا إِلَى فاس فَلَيْسَ لَك الْيَوْم اخْتِيَار فِي نَفسك فَأسلم نَفسه وانتهبت محلته وفيئت أَمْوَاله وحلت بِهِ الإهانة وَجَاءُوا بِهِ إِلَى أَن بلغُوا عين القوادس خَارج فاس الْجَدِيد فاتصل الْخَبَر بِأَهْل فاس وسلطانهم الْحَفِيد فَخرج إِلَى عبد الْحق وأركبه على بغل بالبردعة وانتزع مِنْهُ خَاتم الْملك وَأدْخلهُ الْبَلَد فِي يَوْم مشهود حَضَره جمع كَبِير من أهل الْمغرب وَأَجْمعُوا على ذمه وشكروا الله على أَخذه ثمَّ جنب إِلَى مصرعه فَضربت عُنُقه صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَدفن بِبَعْض مَسَاجِد الْبَلَد الْجَدِيد ثمَّ أخرج بعد سنة وَنقل إِلَى الْقلَّة فَدفن بهَا وانقرضت بمهلكه دولة بني عبد الْحق من الْمغرب والبقاء لله وَحده
وَنقل الثِّقَات أَن الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد زَرُّوق رَحمَه الله كَانَ قد ترك الصَّلَاة خلف الْفَقِيه أبي فَارس الورياكلي لما صدر مِنْهُ فِي حق السُّلْطَان عبد الْحق وَكَانَ يَقُول لَا آمن الغندور على صَلَاتي يعِيبهُ بذلك والغندور فِي لِسَان المغاربة ذُو النخوة والإباية وَمَا أشبه ذَلِك وَالله يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته آمين
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول
فِي سنة سبع وَثَمَانمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن صَالح المكودي عَالم فاس وأديبها ونحويها صَاحب الْمَقْصُورَة وَشرح(4/100)
الْخُلَاصَة وَغير ذَلِك من التآليف قيل هُوَ آخر من درس كتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو بفاس
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر ابْن الْفتُوح التلمساني ثمَّ المكناسي يُقَال إِن سَبَب انْتِقَاله من تلمسان أَنه كَانَ شَابًّا حسن الصُّورَة جميل الشارة فمرت بِهِ امْرَأَة جميلَة فَجعل ينظر إِلَيْهَا من طرف خَفِي فَقَالَت اتَّقِ الله يَا ابْن الْفتُوح يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور فتأثر لقولها واتعظ وَتَابَ إِلَى الله تَعَالَى وَجعل من تَمام تَوْبَته أَن يُهَاجر من الأَرْض الَّتِي قارف الذَّنب فِيهَا فارتحل إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة وانتفع النَّاس بِهِ ثمَّ انْتقل بعْدهَا إِلَى مكناسة فَتوفي بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة قَالُوا وَهُوَ أول من أَدخل مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل مَدِينَة فاس وَالْمغْرب
وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب هلك فِيهِ جمع من كبار الْعلمَاء والأعيان وَيُسمى هَذَا الوباء عِنْد أهل فاس بوباء عزونة
وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله العبدوسي مفتي فاس وعالمها الْكَبِير ومحدثها الشهير وَكَانَ من أهل الصّلاح وَالْخَيْر والإيثار
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي إِمَام الْجَمَاعَة بفاس الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الأندلسي الأَصْل الْمَعْرُوف بالقوري وَدفن بِبَاب الْحَمْرَاء مِنْهَا
وَفِي سنة تسع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة فِي أَوَاخِر صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه المحق أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد البرنسي الشهير بزروق وَكَانَت وَفَاته بمسراته من أَعمال طرابلس وَالله أعلم(4/101)
بَقِيَّة أَخْبَار بني الْأَحْمَر واستيلاء الْعَدو على غرناطة وَسَائِر الأندلس مِنْهَا وانقراض كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا
كَانَت دولة بني الْأَحْمَر فِي هَذِه الْمدَّة متماسكة والفتنة بَين أعياصها متشابكة والعدو فِيمَا بَين ذَلِك يخادعهم عَمَّا بِأَيْدِيهِم ويراوغهم ويسالمهم تَارَة ويحاربهم إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ ابْن السُّلْطَان سعد ابْن الْأَمِير عَليّ ابْن السُّلْطَان يُوسُف ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الْغَنِيّ بِاللَّه فنازعه أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعد الْمَدْعُو بالزغل قدم من بِلَاد النَّصَارَى وبويع بمالقة وَبَقِي بهَا مُدَّة وَعظم الْخطب واشتدت الْفِتَن وشرق الْمُسلمُونَ بداء الْخلاف الْوَاقِع بَين هذَيْن الْأَخَوَيْنِ وتكالب الْعَدو عَلَيْهِم وَوجد السَّبِيل إِلَى تَفْرِيق كلمتهم والتمكن من فسخ عَهدهم وذمتهم وَذَلِكَ أَعْوَام الثَّمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ انْقَادَ أَبُو عبد الله لأبي السحن فسكنت أَحْوَال الأندلس بعض الشَّيْء ثمَّ خرج عَلَيْهِ وَلَده أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن وأسره النَّصَارَى فِي بعض الوقعات فراجع النَّاس طَاعَة أبي الْحسن ثمَّ نزل لِأَخِيهِ أبي عبد الله الزغل عَن الْأَمر لآفة أَصَابَته فِي بَصَره ثمَّ إِن الْعَدو عمد لأسيره أبي عبد الله ابْن الْحسن فوعده ومناه وَأظْهر لَهُ من أكاذيبه وخدعه غَايَة مناه وَبَعثه للتشغيب على عَمه طلبا لتفريق كلمة الْمُسلمين وَعكس مُرَادهم وتوصلا إِلَى مَا بَقِي عَلَيْهِ من حصون الْمُسلمين وبلادهم وطالت الْفِتْنَة بَين الْعم وَابْن الْأَخ وكل عقد كَانَ بَين الْعَدو وَبَينه انحل وانفسخ وخبت الْعَامَّة الَّذين هم أَتبَاع كل ناعق فِي ذَلِك وَوضعت وَكَانَ ذَلِك من أعظم الْأَسْبَاب الْمعينَة لِلْعَدو على التَّمَكُّن من أَرض الأندلس والتهامها واستئصال كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ثمَّ إِن ابْن الْأَخ استولى على غرناطة بعد خُرُوج الْعم عَنْهَا إِلَى الْجِهَاد ففت ذَلِك فِي عضده وَعطف إِلَى وَادي آش فاعتصم بهَا وحاصر الْعَدو مالقة فقاتله أَهلهَا بِكُل مَا أمكنهم حَتَّى إِذا لم يَجدوا لِلْقِتَالِ مساغا نزلُوا على الْأمان فاستولى الْعَدو عَلَيْهَا أَوَاخِر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ثمَّ استولى بعد ذَلِك على وَادي آش وأعمالها صلحا وَدخل فِي طَاعَته صَاحبهَا أَبُو عبد الله الْعم بعد(4/102)
أَن استهوى الْعَدو قواده بالأموال الجزيلة ثمَّ إِن الْعَدو خذله الله وَأرْسل أَبَا عبد الله بن أبي الْحسن صَاحب غرناطة وَعرض عَلَيْهِ الدُّخُول فِي الخطة الَّتِي دخل فِيهَا عَمه من النُّزُول لَهُ عَن الْبِلَاد على أَمْوَال جزيلة يبذلها لَهُ وَيكون تَحت حكمه مُخَيّرا فِي أَي بِلَاد الأندلس شَاءَ فَشَاور رَعيته فاتفق النَّاس على الِامْتِنَاع والقتال فَعِنْدَ ذَلِك أرهف الْعَدو حَده وَجعل غرناطة وَأَهْلهَا من شَأْنه بعد أَن استولى أثْنَاء هَذِه الْفِتَن والتضريبات على حصون كَثِيرَة لم نتعرض لذكرها حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا غرناطة وأعمالها وَقد اختصرنا مُعظم هَذِه الْأَخْبَار إِذْ لم تكن من مَوْضُوع الْكتاب وَإِنَّمَا ألممنا بِهَذِهِ النبذة تتميما للفائدة وَزِيَادَة فِي الإمتاع وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة خرج الْعَدو بمحلاته إِلَى مرج غرناطة وأفسد الزَّرْع ودوخ الأَرْض وَهدم الْقرى وَأمر بِبِنَاء مَوضِع بالسور والحفير فأحكمه وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه عازم على الِانْصِرَاف فَإِذا بِهِ قد صرف عزمه إِلَى الْحصار وَالْإِقَامَة وَصَارَ يضيق على غرناطة كل يَوْم ودام الْقِتَال سَبْعَة أشهر وَاشْتَدَّ الْحصار بِالْمُسْلِمين غير أَن النَّصَارَى على بعد الطّرق بَين غرناطة والبشرات مُتَّصِلَة بالمرافق وَالطَّعَام يَأْتِي من نَاحيَة جبل شلير إِلَى أَن تمكن فصل الشتَاء وكلب الْبرد وَنزل الثَّلج فانسد بَاب الْمرَافِق وَانْقطع الجالب وَقل الطَّعَام وَاشْتَدَّ الغلاء وَعظم الْبلَاء وَاسْتولى الْعَدو على أَكثر الْأَمَاكِن خَارج الْبَلَد وَمنع الْمُسلمين من الْحَرْث وَالسَّبَب وضاق الْحَال وَبَان الاختلال وَعظم الْخطب وَذَلِكَ أول سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وطمع الْعَدو فِي الِاسْتِيلَاء على غرناطة بِسَبَب الْجُوع والغلاء دون الْحَرْب والقتال ففر نَاس كَثِيرُونَ من الْجُوع إِلَى البشرات ثمَّ اشْتَدَّ الْأَمر فِي شهر صفر من السّنة وَقل الطَّعَام وتفاقم الْخطب فَاجْتمع نَاس مَعَ من يشار إِلَيْهِ من أهل الْعلم كَأبي عبد الله الْمُوَافق شَارِح الْمُخْتَصر وَغَيره وَقَالُوا انْظُرُوا لأنفسكم وَتَكَلَّمُوا مَعَ سلطانكم فأحضر السُّلْطَان أَبُو عبد الله بن أبي الْحسن أهل دولته وأرباب مشورته وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْأَمر وَأَن الْعَدو يزْدَاد مدده كل يَوْم وَنحن لَا مدد لنا وَكُنَّا نظن أَنه يقْلع عَنَّا فِي فصل الشتَاء فخاب الظَّن وَبنى وَأسسَ وَأقَام وَقرب(4/103)
منا فانظروا لأنفسكم وَأَوْلَادكُمْ فاتفق الرَّأْي على ارْتِكَاب أخف الضررين وشاع أَن الْكَلَام وَقع بَين النَّصَارَى ورؤساء الأجناد قبل ذَلِك فِي إِسْلَام الْبَلَد خوفًا على نُفُوسهم وعَلى النَّاس ثمَّ عددوا مطَالب وشروطا أداروها وَزَادُوا أَشْيَاء على مَا كَانَ فِي صلح وَادي آش مِنْهَا أَن صَاحب رومة يُوَافق على الِالْتِزَام وَالْوَفَاء بِالشّرطِ إِذا مكنوه من حَمْرَاء غرناطة والمعاقل والحصون وَيحلف على عَادَة النَّصَارَى فِي العهود وَتكلم النَّاس فِي ذَلِك وَذكروا أَن رُؤَسَاء أجناد الْمُسلمين لما خَرجُوا للْكَلَام فِي ذَلِك امتن عَلَيْهِم النَّصَارَى بِمَال جزيل وذخائر ثمَّ عقدت بَينهم الوثائق على شُرُوط قُرِئت على أهل غرناطة فانقادوا إِلَيْهَا ووافقوا عَلَيْهَا وَكَتَبُوا الْبيعَة لصَاحب قشتالة فقبلها مِنْهُم وَنزل سُلْطَان غرناطة أَبُو عبد الله عَن الْحَمْرَاء وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَفِي ثَانِي ربيع الأول من السّنة أَعنِي سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استولى النَّصَارَى على الْحَمْرَاء ودخلوها بعد أَن استوثقوا من أهل غرناطة بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْأَعْيَان رهنا خوف الْغدر وَكَانَت الشُّرُوط سَبْعَة وَسِتِّينَ شرطا مِنْهَا تَأْمِين الصَّغِير وَالْكَبِير فِي النَّفس والأهل وَالْمَال وإبقاء النَّاس فِي أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم وَمِنْهَا إِقَامَة شريعتهم على مَا كَانَت وَلَا يحكم على أحد مِنْهُم إِلَّا بِشَرِيعَتِهِ وَأَن تبقى الْمَسَاجِد كَمَا كَانَت والأوقاف كَذَلِك وَأَن لَا يدْخل النَّصَارَى دَار مُسلم وَلَا يغصبوا أحدا وَأَن لَا يولي على الْمُسلمين نَصْرَانِيّ أَو يَهُودِيّ مِمَّن يتَوَلَّى عَلَيْهِم من قبل سلطانهم وَأَن يفتك جَمِيع من أسر فِي غرناطة حَيْثُ كَانُوا وخصوصا أعيانا نَص عَلَيْهِم وَمن هرب من أُسَارَى الْمُسلمين وَدخل غرناطة لَا سَبِيل عَلَيْهِ لمَالِكه وَلَا لغيره وَالسُّلْطَان يدْفع ثمنه لمَالِكه وَمن أَرَادَ الْجَوَاز إِلَى العدوة لَا يمْنَع ويجوزون فِي مُدَّة عينت فِي مراكب السُّلْطَان لَا يلْزمهُم إِلَّا الْكِرَاء ثمَّ بعد تِلْكَ الْمدَّة يُعْطون عشر مَالهم والكراء وَأَن لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره وَأَن لَا يجْبر من أسلم على الرُّجُوع لِلنَّصَارَى وَدينهمْ وَأَن من تنصر من الْمُسلمين يُوقف أَيَّامًا حَتَّى يظْهر حَاله ويحضر لَهُ حَاكم من الْمُسلمين وَآخر من النَّصَارَى فَإِن أَبى الرُّجُوع إِلَى الْإِسْلَام تَمَادى على مَا أَرَادَ وَلَا يُعَاتب(4/104)
على من قتل نَصْرَانِيّا أَيَّام الْحَرْب وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ مَا سلب من النَّصَارَى أَيَّام الْعَدَاوَة وَلَا يُكَلف الْمُسلم بضيافة أجناد النَّصَارَى وَلَا يسفر لجِهَة من الْجِهَات وَلَا يزِيدُونَ على المغارم الْمُعْتَادَة وترفع عَنْهُم جَمِيع الْمَظَالِم والمغارم المحدثة وَلَا يطلع نَصْرَانِيّ للسور وَلَا يتطلع على دور الْمُسلمين وَلَا يدْخل مَسْجِدا من مَسَاجِدهمْ ويسير الْمُسلم فِي بِلَاد النَّصَارَى آمنا فِي نَفسه وَمَاله وَلَا يَجْعَل عَلامَة كَمَا يَجْعَل الْيَهُود وَأهل الدجن وَلَا يمْنَع مُؤذن وَلَا صَائِم وَلَا مصل وَلَا غَيره من أُمُور دينه وَمن ضحك مِنْهُم يُعَاقب ويتركون من المغارم سِنِين مَعْلُومَة وَأَن يُوَافق على كل الشُّرُوط صَاحب رومة وَيَضَع خطّ يَده وأمثال هَذَا مِمَّا تركنَا ذكره
وَبعد انبرام ذَلِك وَدخُول النَّصَارَى للحمراء وَالْمَدينَة جعلُوا قائدا بالحمراء وحكاما ومقدمين بِالْبَلَدِ وَلما علم بذلك أهل البشرات دخلُوا فِي هَذَا الصُّلْح وشملهم حكمه على هَذَا الْوَجْه ثمَّ أَمر الْعَدو بِبِنَاء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَمْرَاء وتحصينها وتجديد بِنَاء قُصُورهَا وَإِصْلَاح سورها وَصَارَ الطاغية يخْتَلف إِلَى الْحَمْرَاء نَهَارا ويبيت بمحلته لَيْلًا إِلَى أَن اطْمَأَن من خوف الْغدر فَدخل الْمَدِينَة وَتَطوف بهَا وأحاط خَبرا بِمَا يرومه مِنْهَا ثمَّ أَمر سُلْطَان الْمُسلمين أَن ينْتَقل لسكنى البشرات وَأَنَّهَا تكون لَهُ فِي سكناهُ بأندرش فَانْصَرف إِلَيْهَا وَأخرج الأجناد مِنْهَا ثمَّ احتال عَدو الله فِي نَفْيه لبر العدوة وَأظْهر أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور طلب مِنْهُ ذَلِك ثمَّ كتب لصَاحب المرية أَنه سَاعَة وُصُول كتابي هَذَا لَا سَبِيل لأحد أَن يمْنَع مولَايَ أَبَا عبد الله من السّفر حَيْثُ أَرَادَ من بر العدوة وَمن وقف على هَذَا الْكتاب فليصرفه وليقف مَعَه وَفَاء بِمَا عهد لَهُ فَانْصَرف السُّلْطَان أَبُو عبد الله فِي الْحِين بِنَصّ هَذَا الْكتاب وَركب الْبَحْر فَنزل بمليلة واستوطن فاسا وَكَانَ قبل ذَلِك قد طلب الْجَوَاز لناحية مراكش فَلم يسعف بذلك وَحين جَوَازه لبر العدوة لَقِي شدَّة وَغَلَاء وبلاء ثمَّ إِن النَّصَارَى نكثوا الْعَهْد وَنَقَضُوا الشُّرُوط عُرْوَة عُرْوَة إِلَى أَن آل الْحَال لحملهم الْمُسلمين على التنصر سنة أَربع وَتِسْعمِائَة بعد أُمُور وَأَسْبَاب أعظمها عَلَيْهِم أَنهم قَالُوا إِن القسيسين كتبُوا على جَمِيع من أسلم من النَّصَارَى أَن(4/105)
يرجع مهرعا لدينِهِ فَفَعَلُوا ذَلِك وَتكلم النَّاس وَلَا جهد لَهُم وَلَا قُوَّة ثمَّ تعدوا ذَلِك إِلَى أَمر آخر وَهُوَ أَن يَقُولُوا للرجل الْمُسلم إِن جدك كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم فترجع أَنْت نَصْرَانِيّا وَلما تفاحش هَذَا الْأَمر قَالَ أهل البيازين على الْحُكَّام فَقَتَلُوهُمْ وَهَذَا كَانَ السَّبَب الْأَعْظَم فِي التنصر قَالُوا لِأَن الحكم خرج من عِنْد السُّلْطَان أَن من قَامَ على الْحَاكِم فَلَيْسَ إِلَّا الْمَوْت إِلَّا أَن يتنصر فينجو من الْمَوْت وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُم تنصرُوا عَن آخِرهم بادية وحاضرة وَامْتنع قوم من التنصر واعتزلوا النَّصَارَى فَلم يَنْفَعهُمْ ذَلِك وامتنعت قرى وأماكن كَذَلِك مِنْهَا بلفيق وأندرش وَغَيرهمَا فَجمع لَهُم الْعَدو الجموع واستأصلهم عَن آخِرهم قتلا وسبيا إِلَّا مَا كَانَ من جبل بللنقة فَإِن الله تَعَالَى أعانهم على عدوهم وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة مَاتَ فِيهَا صَاحب قرطبة وأخرجوا على الْأمان إِلَى فاس بعيالهم وَمَا خف من أَمْوَالهم دون الذَّخَائِر
ثمَّ بعد هَذَا كُله كَانَ من أظهر التنصر من الْمُسلمين يعبد الله فِي خُفْيَة وَيُصلي فَشدد النَّصَارَى فِي الْبَحْث عَنْهُم حَتَّى إِنَّهُم أحرقوا كثيرا مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك ومنعوهم من حمل السكين الصَّغِيرَة فضلا عَن غَيرهَا من الْحَدِيد وَقَامُوا فِي بعض الْجبَال على النَّصَارَى مرَارًا فَلم يقيض الله تَعَالَى لَهُم ناصرا إِلَى أَن كَانَ إِخْرَاج النَّصَارَى إيَّاهُم جملَة أَعْوَام سَبْعَة عشر وَألف بعد أَن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نَحوا من مائَة وَعشْرين سنة كَانُوا فِيهَا تَحت ذمَّة النَّصَارَى كَمَا رَأَيْت وَالْأَمر لله وَحده وَلما أجلاهم الْعَدو عَن جَزِيرَة الأندلس خرجت أُلُوف مِنْهُم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وَخرج جمهورهم بتونس فتسلط عَلَيْهِم فِي الطرقات الْأَعْرَاب وَمن لَا يخْشَى الله تَعَالَى من الأوباش ونهبوا أَمْوَالهم وَهَذَا بِبِلَاد تلمسان وفاس وَنَجَا الْقَلِيل من هَذِه الْمضرَّة وَأما الَّذين خَرجُوا بنواحي تونس فَسلم أَكْثَرهم وَكَذَلِكَ بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر وَلما استخدم سُلْطَان الْمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ مِنْهُم عسكرا جرارا وَسَكنُوا سلا كَانَ مِنْهُم من الْجِهَاد فِي الْبَحْر مَا هُوَ مَشْهُور وحصنوا قلعة سلا وَهِي رِبَاط الْفَتْح وبنوا بهَا الْقُصُور والحمامات والدور(4/106)
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب وهم الْآن يَعْنِي فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَألف بِهَذَا الْحَال وَوصل جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى مصر وَالشَّام وَغَيرهَا من بِلَاد الْإِسْلَام وانقضى أَمر الأندلس وعادت نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت أول مرّة وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَفِي السّنة الَّتِي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لَهُم أَرض ماركان الَّتِي كَانَت مَجْهُولَة قبل هَذَا التَّارِيخ لسَائِر الْأُمَم وَذَلِكَ أَن الْحُكَمَاء الأقدمين من اليونان وَغَيرهم أَجمعُوا على أَن شكل الأَرْض كرة وَأَن المَاء قد غمر أحد جانبيها كُله بِحَيْثُ صَارَت الأَرْض فِيهِ كَأَنَّهَا بَيْضَة مغرقة فِي طست مَاء قد رسب فِيهِ أَكْثَرهَا وبرز أقلهَا وَأَجْمعُوا على أَن هَذَا البارز مِنْهَا هُوَ المسكون ببني آدم وَغَيرهم من الْحَيَوَانَات وَهُوَ الْمقسم إِلَى سَبْعَة أَقسَام تسمى الأقاليم وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْجَانِب الآخر منكشف عَنهُ المَاء وَلَا أَنه مسكون كَهَذا الْجَانِب بل جزموا بِأَنَّهُ مَاء صرف يُسمى الْبَحْر الْمُحِيط وَاسْتمرّ هَذَا الِاعْتِقَاد عِنْدهم وَنَقله الْخلف عَن السّلف وَوَضَعُوا فِيهِ التآليف العديدة إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي استولى فِيهَا الإصبنيول على غرناطة وَسَائِر الأندلس فاتفق أَن ظهر فِي تِلْكَ الْمدَّة رجل من فرنج جنوة اسْمه كلنب بِضَم الْكَاف وَاللَّام كَانَت حرفته الملاحة وَالسّفر فِي الْبَحْر وَكَانَ بعيد الهمة مُولَعا بالشهرة مغرى بِالذكر وَحسن الصيت فخطر بِبَالِهِ أَن جَانب الأَرْض الَّذِي أغفل الْحُكَمَاء الْأَولونَ ذكره وَزَعَمُوا أَنه بَحر صرف رُبمَا يكون مسكونا كَهَذا الْجَانِب
وَكَانَ جنس البرتغال فِي هَذِه الْمدَّة قد كثرت أسفارهم فِي الْبَحْر وملكوا عدَّة محَال من جزائره الخالدات فَحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرَة ونفاسة مِنْهُم وَأَرَادَ أَن يَأْتِي بأعظم مِمَّا فعلوا فعزم على التلجيج فِي الْبَحْر الْمُحِيط والإبعاد فِيهِ عَسى أَن يظفر بمراده فتطارح على ملك البرتغال واسْمه يَوْمئِذٍ يوحنا الثَّانِي فِي أَن يُعينهُ على مَا هُوَ بصدده ويمده بِمَا يكون سَببا فِي نيل مقْصده فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله وَلَا عرج على رَأْيه وَمن قبل مَا كَانَ أهل(4/107)
جنوة يحمقونه وينسبونه إِلَى التهور بِمثل هَذِه الآراء فَلَمَّا لم يجد عِنْد ملك البرتغال مُرَاده تطارح على ملكة الإصبنيول وَهِي يَوْمئِذٍ إيسابيلا الشهيرة الذّكر عِنْدهم فأسعفته وَهَيَّأْت لَهُ ثَلَاث سفائن وشحنتها بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح والزاد وَالْمَال وَدفعت ذَلِك إِلَيْهِ فسافر بهَا كلنب فِي الْبَحْر الْمُحِيط على سمت الْمغرب حَتَّى أرسى بِبَعْض الجزائر الخالدات فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَافر على السمت الْمَذْكُور ملججا مُدَّة من شَهْرَيْن وَلما طَال السّفر على أَصْحَابه الَّذين مَعَه أَرَادوا قَتله وبينما هم فِي ذَلِك ظَهرت لَهُ أَرض ماركان فَسَار حَتَّى أرسى بأجفانه على ساحلها فِي الْيَوْم الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة الْمَذْكُورَة فعثر مِنْهَا على أَرض وَاسِعَة ذَات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الْحصْر حَتَّى قيل إِنَّهَا تَسَاوِي نصف هَذَا المسكون من الأَرْض أَو تزيد وَإِذا فِيهَا خلق كثير من بني آدم كهذه إِلَّا أَنهم لم يفقهوا قَوْله وَلَا فقه قَوْلهم فَعَاد كلنب إِلَى ملكة الإصبنيول بعد أَن بنى هُنَالك حصنا وَترك بِهِ بعض الْجند وسَاق من تِلْكَ الأَرْض بعض الغرائب من حَيَوَان وَغَيره إِثْبَاتًا لمدعاه فَلَمَّا قدم على الملكة بعد مغيبه سَبْعَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بِمَا أَتَى بِهِ من ذَلِك كُله وعدت ذَلِك من سعادتها إِلَى مَا تسنى لَهَا من الظفر بِجَزِيرَة الأندلس والاستيلاء عَلَيْهَا وَتبين للفرنج حِينَئِذٍ أَن الأَرْض معمورة من كلا الْجَانِبَيْنِ لَا من جَانب وَاحِد كَمَا اعتقده الأقدمون فَحِينَئِذٍ تسارعت أجناسهم إِلَى أَرض ماركان واقتسموها واعتنوا بعمرانها وسموها الدُّنْيَا الجديدة فَكَانَت من أعظم الْأَسْبَاب فِي انتعاشهم وتقويتهم وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلهَا بيد الله
وَمن جملَة مَا كَانَ مفقودا بِأَرْض ماركان نوع الْخَيل وَكَذَا غَيرهَا من الْحَيَوَانَات الْأَهْلِيَّة وَلما رَأَوْا الأدمِيّ رَاكِبًا على الْفرس مسرجا ظنوه قِطْعَة وَاحِدَة وَأَن الْفَارِس وفرسه حَيَوَان وَاحِد خلق على تِلْكَ الْكَيْفِيَّة إِلَى غير ذَلِك وأخبار أَرض ماركان وَكَيْفِيَّة العثور عَلَيْهَا ثمَّ التَّرَدُّد إِلَيْهَا واعتمارها بعد ذَلِك طَوِيلَة وملخصها مَا ذَكرْنَاهُ وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه(4/108)
وَهَذَا آخر النّصْف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى قد شرعنا فِي إمْلَائِهِ منتصف رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وفرغنا مِنْهُ فِي منتصف ذِي الْحجَّة الْحَرَام فِي السّنة الْمَذْكُورَة ونشرع بعون الله تَعَالَى فِي الْجُزْء الثَّانِي مِنْهُ مفتتحا بِمَا يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أَخْبَار البرتغال على الْجُمْلَة وعَلى الله تَعَالَى الْكَمَال بمنه وفضله
أَخْبَار البرتغال بالمغرب الْأَقْصَى على الْجُمْلَة
اعْلَم أَن هَذَا الْمغرب الْأَقْصَى حرسه الله وكلأه بِعَين حفظه لم يزل بِجَمِيعِ ثغوره وسواحله وأقطاره مُنْذُ الْفَتْح الإسلامي إِلَى الْمِائَة التَّاسِعَة مَحْفُوظًا الجوانب من طروق أُمَم الفرنج وَغَيرهم من أَعدَاء الدّين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود الْمُسلمين مرهوبة شَوْكَة ملوكه عِنْد أُمَم النَّصْرَانِيَّة جيلا بعد جيل وَأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث نَفسهَا بغزو شَيْء من بِلَاده أَو طرق ثغر من ثغوره أَو الِاسْتِيلَاء على شَيْء من سواحله وَلم يكن أَهله أَيْضا يتوقعون ذَلِك مِنْهُم وَلَا يخشونه بل هم الَّذين كَانُوا يغزون الفرنج فِي عقر دِيَارهمْ وأعز بِلَادهمْ ويحامون عَن بِلَاد الأندلس وسواحل إفريقية وَغَيرهَا مَتى هاج أَهلهَا هيج من ذَلِك حَسْبَمَا تقدّمت الْأَخْبَار المفصحة عَن ذَلِك وَلم يبلغنَا أَن جِنْسا من أَجنَاس الفرنج فِيمَا قبل الْمِائَة التَّاسِعَة غزا شَيْئا من أَطْرَاف الْمغرب الْأَقْصَى أَو ثغرا من ثغوره بِقصد الِاسْتِيلَاء والتملك إِلَّا مَا كَانَ من مَدِينَة سلا الَّتِي دَخلهَا الإصبنيول غدرا أَيَّام الْفِتْنَة بَين اليعقوبين ثمَّ خَرجُوا عَنْهَا لمُدَّة يسيرَة حَسْبَمَا مر وَإِلَّا مَا كَانَ من محاصرة أهل جنوة لسبتة ثمَّ الإقلاع عَنْهَا كَذَلِك وَنَحْو هَذَا مِمَّا لَا يعْتَبر فَلَمَّا دخلت الْمِائَة التَّاسِعَة وَمضى صدرها وتداعت دوَل الْمغرب من بني أبي حَفْص بإفريقية وَبني زيان بالمغرب الْأَوْسَط وَبني مرين بالمغرب الْأَقْصَى(4/109)
وَبني الْأَحْمَر بالأندلس وأشرفت على الْهَرم وَحدثت الْفِتَن بَين الْمُسلمين ودامت فيهم وَاشْتَغلُوا بِأَنْفسِهِم دون الِالْتِفَات إِلَى جِهَاد الْعَدو ومطالبته فِي أرضه وبلاده على مَا كَانَ لَهُم من الْعَادة قبل ذَلِك وَافق ذَلِك ابْتِدَاء ظُهُور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بِجَزِيرَة الأندلس واستفحال أَمرهم فكثرت أسفار البرتغال فِي الْبَحْر الْمُحِيط ودام تقلبهم فِيهِ ومرنوا عَلَيْهِ حَتَّى حصلوا على عدَّة جزائر مِنْهُ واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أَرض السودَان وَغَيرهَا ثمَّ شرهوا لتملك سواحل الْمغرب الْأَقْصَى فَهَجَمُوا عَلَيْهَا وجالدوا أَهلهَا دونهَا حَتَّى تمكنوا مِنْهَا ونشبوا فِيهَا فَقَوِيت شوكتهم وَعظم ضررهم على الْإِسْلَام وطمحت نُفُوسهم للاستيلاء على مَا وَرَاء ذَلِك حَسْبَمَا تقف عَلَيْهِ مُبينًا فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله
فاستولوا فِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة على مَدِينَة سبتة بعد محاصرتهم لَهَا سِتّ سِنِين على مَا فِي بعض تواريخ الإفرنج ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة استولوا على قصر الْمجَاز ثمَّ استولوا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة على طنجة ثمَّ فِي حُدُود سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة ملكوا آصيلا وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه أَو قبله بِيَسِير استولوا على مَدِينَة آنِفا وَبَعض سواحل السوس ثمَّ فِي حُدُود سنة سبع وَتِسْعمِائَة نزلُوا بِأَرْض الجديدة فِيمَا بَين آزمور وتيط وبنوا بهَا حصن البريجة وَطَالَ مقامهم بهَا ثمَّ فِي سنة عشر وَتِسْعمِائَة استولوا على مَدِينَة العرائش ثمَّ بعد ذَلِك بِيَسِير فِي حُدُود الْعشْر وَتِسْعمِائَة على مَا تَقْتَضِيه تواريخ الفرنج ملكوا حصن آكادير وَمَا اتَّصل بِهِ من سواحل السوس الْأَقْصَى ثمَّ ملكوا فِي حُدُود اثْنَتَيْ عشرَة وَتِسْعمِائَة رِبَاط آسفي ثمَّ عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عَلَيْهِ فِي سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة ثمَّ المعمورة وَهِي المهدية ملكوها أَيْضا فِي حُدُود سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه رجعُوا إِلَى مَدِينَة آنِفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يبْق من ثغور الْمغرب الْأَقْصَى بيد الْمُسلمين إِلَّا الْقَلِيل مثل سلا ورباط الْفَتْح وفجئ الْمُسلمُونَ من هَذَا البرتغال بِالْأَمر الْعَظِيم ودهوا مِنْهُ بالخطب الجسيم واستحوذ عَدو الله على بِلَاد الهبط وضايقهم بهَا حَتَّى(4/110)
انحازوا إِلَى الْأَمْصَار المنزوية عَن الْأَطْرَاف والقرى النائية عَن السواحل وَكَانَ ذَلِك كُله فِيمَا بَين انْقِرَاض دولة بني وطاس وَظُهُور دولة الشرفاء السعديين وَلَقَد ذكر فِي مرْآة المحاسن أَن قصر كتامة كَانَ فِي صدر الْمِائَة الْعَاشِرَة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إِلَيْهِ بضائع العدوتين وسلعها قَالَ إِذْ كَانَ الْقصر الْمَذْكُور ثغرا بَين بِلَاد الْمُسلمين وَبَين بِلَاد النَّصَارَى تحط بِهِ رحال تجار الْمُسلمين من آفَاق الْمغرب وتجار الْحَرْبِيين من أصيلا وطنجة وَقصر الْمجَاز وسبتة وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحل عناية سُلْطَان الْمغرب إِذْ ذَاك مُحَمَّد الشَّيْخ بن أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي فَإِن الْقصر قَاعِدَة بِلَاد الهبط الَّتِي كَانَت موقد شرارة السُّلْطَان الْمَذْكُور ومشب ناره وموشج عصبيته مَعَ مجاورته لبلاد الْحَرْب فَكَانَ نظره مصروفا إِلَيْهِ واختصاصه مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَتقبل بنوه من بعده مذْهبه فِيهِ اه كَلَامه فَهَذَا يدلك على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَدو خذله الله من المضايقة للْمُسلمين فِي ثغورهم وبلادهم وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
وَلما نزل بِأَهْل الْمغرب الْأَقْصَى مَا نزل من غَلَبَة عَدو الدّين واستيلائه على ثغور الْمُسلمين تباروا فِي جهاده وقتاله وأعملوا الْخَيل وَالرجل فِي مقارعته ونزاله وتوفرت دواعي الْخَاصَّة مِنْهُم والعامة على ذَلِك وصرفوا وُجُوه الْعَزْم لتَحْصِيل الثَّوَاب فِيمَا هُنَالك فكم من رَئِيس قوم قَامَ لنصرة الدّين غيرَة واحتسابا وَكم من ولي عصر أَو عَالم مصر بَاعَ نَفسه من الله وَرَأى ذَلِك صَوَابا حَتَّى لقد اسْتشْهد مِنْهُم أَقوام وَأسر آخَرُونَ وَبلغ الله تَعَالَى جَمِيعهم من الثَّوَاب مَا يرجون فَمن اسْتشْهد مِنْهُم فِي سَبِيل الله سَيِّدي عِيسَى ابْن الْحسن المصباحي دَفِين الدعداعة بِأَرْض البروزي من بِلَاد طليق وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الشاوي من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَأَبُو الْفضل فرج الأندلسي ثمَّ المكناسي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد القصري الْمَعْرُوف بسقين قَتله النَّصَارَى عِنْد ضريح الشَّيْخ أبي سلهام وَكَانَ قد قَصده للزيارة ففتكوا بِهِ هُنَالك وكل هَؤُلَاءِ مَعْدُود فِي أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَمِمَّنْ أسر مِنْهُم ثمَّ خلصه الله الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي دَفِين تانسيفت من أحواز مراكش وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الكوش دَفِين جبل الْعرض من أحواز(4/111)
فاس ووالد صَاحب دوحة الناشر وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مِصْبَاح الحسني عرف بِابْن عَسْكَر وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن القَاضِي المكناسي أحد قُضَاة سلا وَهُوَ صَاحب جذوة الاقتباس والمنتقى الْمَقْصُور وَغَيرهمَا من التآليف الحسان أسر وَهُوَ ذَاهِب إِلَى الْحَج وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل التّونسِيّ الْمَعْرُوف بخروف نزيل فاس وَشَيخ الْجَمَاعَة بهَا هَؤُلَاءِ كلهم أَصَابَهُ الْأسر ثمَّ خلصه الله بعد حِين وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم وَيسر بمنه حسابهم وَلَقَد ألف النَّاس فِي ذَلِك الْعَصْر التآليف فِي الحض على الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وَقَالَ الخطباء والوعاظ فِي ذَلِك فَأَكْثرُوا ونظم الشُّعَرَاء والأدباء فِيهِ ونثروا فَمِمَّنْ ألف فِي ذَلِك الْبَاب فَأفَاد الشَّيْخ المتفنن البارع الصُّوفِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم ابْن يَجِيش التازي قَالَ فِي الدوحة وقفت لَهُ على تأليف أَلفه فِي الحض على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَكَانَ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يتَنَاوَل باليدين وَيكْتب دون المداد باللجين أودعهُ نظما ونثرا وَمِمَّنْ نظم فِي ذَلِك فأجاد الشَّيْخ الصَّالح المتصوف الْمُجَاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى البهلولي قَالَ فِي الدوحة كَانَ هَذَا الشَّيْخ مِمَّن لَازم بَاب الْجِهَاد وَفتح لَهُ فِيهِ وَله فِي ذَلِك أشعار وقصائد زجليات وَغَيرهَا وَكَانَ معاصرا للسُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي فَكَانَ إِذا جَاءَهُ زَائِرًا حضه على الْغَزْو فيساعده على مَا أَرَادَ من ذَلِك وَلما توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور ودالت الدولة لوَلَده السُّلْطَان أَحْمد وغص بالشرفاء القائمين عَلَيْهِ بِبِلَاد السوس عقد الْهُدْنَة مَعَ النَّصَارَى المجاورين لَهُ بِبِلَاد الهبط وصاحبهم سُلْطَان البرتغال فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عبد الله الْمَذْكُور فآلى على نَفسه أَن لَا يلقى السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلَا يمشي إِلَيْهِ وَلَا يقبل مِنْهُ مَا كَانَ عينه لَهُ وَالِده من جِزْيَة أهل الذِّمَّة بفاس لقُوته وضرورياته فَمَكثَ على ذَلِك إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة وَكَانَ فِي النزع وَأَصْحَابه دائرون بِهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي أخْبرك أَن السُّلْطَان أَمر بالغزو ونادى بِهِ وحض النَّاس عَلَيْهِ والمسلمون فِي شرح لذَلِك وَفَرح فَفتح الشَّيْخ عَيْنَيْهِ وتهلل وَجهه فَرحا وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ(4/112)
فَفَاضَتْ نَفسه وَهُوَ مسرور بذلك وَلِهَذَا الشَّيْخ زجليات ومقطعات حسان فِي الحض على الْجِهَاد مِنْهَا اللامية الْمَشْهُورَة الَّتِي خَاطب بهَا السُّلْطَان أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ومطلعها
(قل للأمير مُحَمَّد ... يَا طلعة الْهلَال)
(لويلة فِي السواحل ... من أفضل الليال)
وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي مطْلعهَا
(ظهر الرمل مرادي ... والعسكر يَا كرام)
(نَفسِي على الْجِهَاد ... سبلت وَالسَّلَام)
وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي أَولهَا
(قُم للْجِهَاد رعاك الله منتهجا ... نهج الرشاد إِلَى الأقوام لَو فَهموا)
(من بعد أندلس مَا زلت محتدما ... لَو كَانَ يمكنني فِي اللَّيْل أحتزم)
إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره قَالَ صَاحب الدوحة حَدثنِي الْفَقِيه الْعدْل أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الدغموري القصري قَالَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله يَقُول مَا غزونا غَزْوَة قطّ إِلَّا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا ويخبرني بِجَمِيعِ مَا يتَّفق لي ولأصحابي فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَله رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الْجِهَاد والرجولية حِكَايَة ظريفة وَهِي أَنه غز مرّة غَزْوَة إِلَى الثغور الهبطية ثمَّ قدم مِنْهَا مَعَ أَصْحَابه فَوجدَ زَوجته فُلَانَة بنت الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار قد توفيت وَصلى النَّاس عَلَيْهَا بِجَامِع الْقرَوِيين وإمامهم الشَّيْخ غَازِي ابْن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور فوصل الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَوجد جنازتها على شَفير الْقَبْر وَالنَّاس يحاولون دَفنهَا فَقَالَ لَهُم مهلا ثمَّ تقدم وَأعَاد الصَّلَاة عَلَيْهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه فبادر النَّاس إِلَيْهِ بالإنكار فِي تَكْرِير الصَّلَاة فِي الْجِنَازَة بِالْجَمَاعَة مرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُم على البديهة صَلَاتكُمْ الَّتِي صليتم عَلَيْهَا فَاسِدَة لكَونهَا بِغَيْر إِمَام فَقَالُوا لَهُ كَيفَ ذَلِك يَا سَيِّدي قَالَ لِأَن شَرط الإِمَام الذكورية وَهِي مفقودة فِي صَاحبكُم لِأَن الَّذِي لم يتقلد سَيْفا فِي سَبِيل الله قطّ وَلم يضْرب بِهِ وَلَا عرف الْحَرْب كَمَا كَانَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يتعبد بالسيرة النَّبَوِيَّة فَكيف يعد إِمَامًا ذكرا بل(4/113)
إمامكم وَالله من جملَة النِّسَاء اه وَحكى أَيْضا فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله الورياكلي الَّذِي قَالَ لَهُ الْعَلامَة ابْن مَرْزُوق وَقد عزم على الرحلة إِلَى بِلَاد الْمشرق فِي طلب الْعلم لَيْسَ أمامك أحد أعلم مِنْك قَالَ فَرجع من هُنَالك فَوجدَ النَّصَارَى قد تغلبُوا على طنجة وآصيلا فلازم الثغور الهبطية لأجل الرِّبَاط وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله وَبث الْعلم ونشره قَالَ وَكَانَ من عَادَته أَن يشْتَغل بالتدريس فِي فَصلي الشتَاء وَالربيع وَيخرج فِي الصَّيف والخريف فيربط فِي ثغور الْقَبَائِل الهبطية إِلَى آخر كَلَامه وأمثال هَذَا كثير ذكرنَا مِنْهُ هَذِه النبذة الْيَسِيرَة لتقف بهَا على أَحْوَال الْقَوْم وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من الرَّغْبَة فِي الْجِهَاد والمثابرة عَلَيْهِ قدس الله أَرْوَاحهم وَجعل فِي دَار النَّعيم غدوهم ورواحهم
وَقد آن أَن نشرع فِي الْأَخْبَار عَن دولة بني وطاس بعد أَن نذْكر دولة الشريف العمراني الَّذِي بَايعه أهل فاس يَوْم مقتل السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعد رَحمَه الله
الْخَبَر عَن دولة الشريف أبي عبد الله الْحَفِيد وأوليته
هَذَا الشريف هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الإدريسي الجوطي العمراني من بَيت بني عمرَان فرقة من أدارسة فاس وهم وَاسِطَة عقد الْبَيْت الإدريسي وأوضحهم نسبا وَأَعْلَاهُمْ حسبا قَالَ ابْن خلدون لَيْسَ فِي الْمغرب فِيمَا نعلمهُ من أهل الْبَيْت الْكَرِيم من يبلغ فِي صَرَاحَة نسبه ووضوحه مبلغ أعقاب إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ قَالَ وكبراؤهم لهَذَا الْعَهْد بَنو عمرَان بفاس من ولد يحيى الجوطي بن مُحَمَّد بن يحيى العدام بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس وهم نقباء أهل الْبَيْت هُنَاكَ والساكنون بِبَيْت جدهم إِدْرِيس وَلَهُم السِّيَادَة على أهل الْمغرب كَافَّة اه والجوطي قَالَ فِي الْمرْآة نِسْبَة إِلَى جوطة بجيم مضموم وواو مد وطاء مَفْتُوحَة وهاء تَأْنِيث وَهِي قَرْيَة عَظِيمَة على نهر سبو فِي العدوة الجنوبية خربَتْ وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا أثار وَلها مسيل شتوي يعرف بمخروط جوطة نزلها السَّيِّد يحيى فنسب إِلَيْهَا وقبره هُنَالك مَعْرُوف اه(4/114)
بيعَة السُّلْطَان أبي عبد الله الْحَفِيد وَالسَّبَب فِيهَا
كَانَ بَنو مرين أَيَّام ولايتهم على الْمغرب يعظمون هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف الأدارسة ويوجبون حَقهم ويتقربون إِلَى الله تَعَالَى بِرَفْع مَنْزِلَتهمْ وجبر خواطرهم لما فاتهم من رُتْبَة الْخلَافَة الَّتِي كَانَت تكون لَهُم بطرِيق الِاسْتِحْقَاق الشَّرْعِيّ فَكَانَ بَنو مرين لما جبلوا عَلَيْهِ من الجنوح إِلَى مراسم الدّين وانتحالها يرَوْنَ فِي أنفسهم كَأَنَّهُمْ متغلبون مَعَ وجود هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف فَلِذَا كَانُوا يخضعون لَهُم ويتأدبون مَعَهم مَا أمكن وَلَقَد حكى أَبُو عبد الله بن الْأَزْرَق أَن الشَّيْخ الْكَبِير أَبَا عبد الله الْمقري كَانَ يحضر مجْلِس السُّلْطَان أَبَا عنان لَيْث الْعلم وَكَانَ نقيب الشرفاء بفاس إِذا دخل مجْلِس السُّلْطَان يقوم لَهُ السُّلْطَان وَجَمِيع من فِي الْمجْلس إجلالا لَهُ إِلَّا الشَّيْخ الْمقري فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقوم لَهُ فجرت بَين الشريف والفقيه الْمَذْكُور معاتبة ومراجعة فِي حِكَايَة مَشْهُورَة تركناها لعدم تعلق الْغَرَض بهَا إِذْ الْغَرَض هُوَ الْوُقُوف على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْم من التجلة والتعظيم لأهل هَذَا الْبَيْت الْكَرِيم فَلَمَّا اضْطَرَبَتْ أَحْوَال الدولة المرينية بفاس وَاجْتمعَ رُؤَسَاء فاس إِلَى الْفَقِيه أبي فَارس الورياكلي فِي شَأْن الْيَهُودِيين اللَّذين كَانَا يحتكمان فِي الْمَدِينَة ويعتسفان أَهلهَا أجمع رَأْيهمْ على مبايعة هَذَا الشريف الْحَفِيد وَكَانَ يَوْمئِذٍ على نقابة الْأَشْرَاف بفاس فاستدعوه فَحَضَرَ وَبَايَعُوهُ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَتمّ أمره وَكَانَ من قَتله للسُّلْطَان عبد الْحق مَا تقدم ذكره وَالله أعلم(4/115)
فتْنَة الشاوية ووصولهم إِلَى بِلَاد الغرب
قد قدمنَا مَا كَانَ من أَمر الشاوية وفتنتهم فِي أَيَّام السُّلْطَان عبد الْحق وَلما كَانَت أَيَّام الْحَفِيد هَذَا تزايد ضررهم واستطال شرهم فزحفوا إِلَى بِلَاد الغرب من أحواز مكناسة وفاس وعاثوا وأفسدوا وَلما تكلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن على الشَّيْخ عبد الْوَارِث اليالصوتي وَأَنه أَخذ من جمَاعَة مِنْهُم أَبُو النَّجَاء سَالم الروداني الشاوي وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله الصَّغِير السهلي وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الغزواني قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو النَّجَاء أَولا يقْرَأ بِالْمَدْرَسَةِ العنانية فَلَمَّا نزل الشاوية الغرب خرج من فاس خَائفًا يترقب وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْحَفِيد اه وبلاد الغرب تطلق فِي عرف أَهله على خُصُوص بسيط أزغار وَمَا اتَّصل بِهِ إِلَى سَاحل الْبَحْر وَالله أعلم
اسْتِيلَاء البرتغال على مَدِينَة آنفي وآصيلا
رَأَيْت فِي بعض تواريخ الفرنج أَن اسْتِيلَاء البرتغال على آنفي كَانَ فِي حُدُود أَربع وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَأَنَّهُمْ هدموها وَبقيت كَذَلِك مُدَّة تزيد على أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ شرعوا فِي تحصينها وَالْبناء بهَا وَلم يزَالُوا مقيمين بهَا إِلَى حُدُود أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف فِي سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة استولوا على آصيلا وظفروا فِيهَا بِبَيْت مَال الوطاسي وأسروا وَلَده مُحَمَّدًا الْمَدْعُو بالبرتغالي وَابْنَته وزوجتيه وَجَمَاعَة من الْأَعْيَان وَكَانَ الْخطب عَظِيما وَبَقِي ولد الوطاسي عِنْد البرتغال سبع سِنِين ثمَّ افتكه وَالِده بعد وَكَانَ يَوْم أسر صَبيا صَغِيرا وَأما مَدِينَة فضَالة فَلم يَقع عَلَيْهَا اسْتِيلَاء وَإِنَّمَا كَانَت بهَا كمبانية خَمْسَة نفر من تجار مادريد قَاعِدَة قشتالة نزلوها بِقصد التِّجَارَة بِإِذن سُلْطَان الْوَقْت وَكَانَت سلعهم توسق وتوضع من مرْسَاها وبنوا بهَا الْبناء الْمَوْجُود(4/116)
الْيَوْم وَالله تَعَالَى أعلم
خلع السُّلْطَان أبي عبد الله الْحَفِيد وانقراض أمره
قَالَ فِي الجذوة لما قَامَت عَامَّة فاس على السُّلْطَان عبد الْحق وَأَقَامُوا هَذَا النَّقِيب من أهل مَدِينَة فاس إِمَامًا اسْتمرّ بهَا وَابْنه وَزِير لَهُ إِلَى سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة فعزل عَن الْإِمَامَة وَكَانَ الَّذِي خلعه أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن مَنْصُور بن زيان الوطاسي وَكَانَ ذَلِك سَبَب ذهَاب الشريف الْمَذْكُور إِلَى تونس لمُدَّة يسيرَة من خلعه وَبقيت حَضْرَة فاس الْجَدِيد فِي يَد أُخْت أبي الْحجَّاج الْمَذْكُور وَهِي الزهراء المدعوة بزهور مَعَ قائده السجيري إِلَى أَن تولى الْأَمر أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي وَالله غَالب على أمره(4/117)
الْخَبَر عَن دولة بني وطاس وَذكر نسبهم وأوليتهم
اعْلَم أَن بني وطاس فرقة من بني مرين غير أَنهم لَيْسُوا من بني عبد الْحق وَلما دخل بَنو مرين الْمغرب واقتسموا أَعماله حَسْبَمَا تقدم كَانَ لبني وطاس هَؤُلَاءِ بِلَاد الرِّيف فَكَانَت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وَكَانَ بَنو الْوَزير مِنْهُم يسمون إِلَى الرياسة ويروسون الْخُرُوج على بني عبد الْحق وَقد تكَرر ذَلِك مِنْهُم حَسْبَمَا مر ثمَّ أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وراضوا أنفسهم على الْخدمَة فاستعملهم بَنو عبد الْحق فِي وُجُوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أُمُور دولتهم فَحسن أَثَرهم لَدَيْهَا وتعدد الوزراء مِنْهُم فِيهَا وَذكر ابْن خلدون أَن بني الْوَزير هَؤُلَاءِ يرَوْنَ أَن نسبهم دخيل فِي بني مرين وَأَنَّهُمْ من أعقاب يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لَحِقُوا بالبدو ونزلوا على بني وطاس ووشجت فيهم عروقهم حَتَّى لبسوا جلدتهم وَلم يزل السرو متربعا بَين أَعينهم لذَلِك والرياسة شامخة بأنوفهم اه وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان أبي عنان وَاسْتولى على بجابة عقد عَلَيْهَا لعمر بن عَليّ الوطاسي من بني الْوَزير هَؤُلَاءِ فثار عَلَيْهِ أَهلهَا واستلحموه فِي خبر مر التَّنْبِيه عَلَيْهِ
ثمَّ لما كَانَت الدولة الأولى للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم وخلص ملك مراكش وأعمالها إِلَى ابْن عَمه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن كَانَ من جملَة من تحيز إِلَيْهِ وَصَارَ فِي جملَته زيان بن عمر بن عَليّ الْمَذْكُور فَكَانَت لَهُ فِي دولته الوجاهة الْكَبِيرَة والمنزلة الرفيعة ثمَّ لما فسد مَا بَين السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس والأمير عبد الرَّحْمَن كَانَ زيان بن عمر فِي جملَة النازعين إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فاتصل بِهِ وَصَارَ فِي جملَته إِلَى أَن حاصر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس قَصَبَة مراكش وَبهَا يَوْمئِذٍ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فأبلى(4/118)
زيان بن عمر فِي ذَلِك الْحصار وَكَانَ أحد الَّذين باشروا قتل وَلَدي الْأَمِير عبد الرَّحْمَن
قَالَ ابْن خلدون وطالما كَانَ زيان هَذَا يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خُيَلَاء فِي جاههم فَذهب مثلا فِي كفران النِّعْمَة وَسُوء الْجَزَاء وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة ثمَّ جَاءَ بعده ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان فولي الوزارة للسُّلْطَان عبد الْحق كَمَا مر ثمَّ بعده ابْنه يحيى أَيْضا وَهُوَ الَّذِي قَتله السُّلْطَان عبد الْحق فِي جمَاعَة من عشيرته وفر أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ إِلَى الصَّحرَاء وَبَقِي متنقلا فِي الْبِلَاد إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ بن أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي رَحمَه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من إِيقَاع السُّلْطَان عبد الْحق ببني وطاس وإفلات مُحَمَّد الشَّيْخ وَمُحَمّد الحلو من النكبة وَأَن الشَّيْخ كَانَ قد خرج للصَّيْد فاتصل بِهِ الْخَبَر فَذهب على وَجهه لَا يلوي على شَيْء وَأَن الحلو اختفى حَتَّى إِذا سكنت الهيعة تسلل وَلحق بالشيخ فسارا إِلَى جِهَة الصَّحرَاء وَجعلا يترددان فِيمَا بَينهَا وَبَين الْبِلَاد الهبطية حَتَّى ملكا آصيلا وَذَلِكَ قبل اسْتِيلَاء البرتغال عَلَيْهَا وَلما ملك الشَّيْخ آصيلا واستفحل أمره بهَا تشوفت إِلَيْهِ الْأَعْيَان من أهل فاس والرؤساء من أهل دولة السُّلْطَان عبد الْحق وصاروا يكاتبونه ويقدمون إِلَيْهِ الْوَسَائِل سرا وَرُبمَا دَعوه إِلَى الْقدوم على أَن يبذلوا لَهُ من الطَّاعَة والنصرة مَا شَاءَ فاستمر الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن قتل عبد الْحق وبويع الْحَفِيد فَحِينَئِذٍ أرهف الشَّيْخ حَده واستفرغ فِي الْمُطَالبَة جهده إِلَى أَن استولى على الحضرة وَصفا لَهُ ملك الْمغرب
قَالَ فِي الْمرْآة لما بَايع أهل فاس أَبَا عبد الله الْحَفِيد قَامَ مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي فِي آصيلا واستتبع الْقَبَائِل واستفحل أمره وحاصر فاسا وقتا(4/119)
بعد وَقت إِلَى أَن دخلت فِي طَاعَته فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَخرج عَنْهَا الْحَفِيد ودخلها مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور فِي أَوَائِل شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ مورث الْملك لِبَنِيهِ بهَا اه وَقد تقدم لنا أَن الَّذِي خلع الشريف من الْملك هُوَ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن مَنْصُور الوطاسي وَأَن حَضْرَة فاس الْجَدِيد قد بقيت بعد ذهَاب الشريف إِلَى تونس فِي يَد زهور الوطاسية والقائد السجيري إِلَى أَن قدم السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَالله تَعَالَى أعلم
وَقَالَ منويل فِي أَخْبَار مُحَمَّد الشَّيْخ هَذَا مَا صورته كَانَت مملكة الْمغرب الْأَقْصَى فِي غَايَة الِاضْطِرَاب والانتكاس حَتَّى طمع فِي ملكهَا كل من كَانَت توسوس لَهُ نَفسه بذلك وَاسْتولى ابْن الْأَحْمَر على جَمِيع الثغور الَّتِي كَانَت لبني مرين بِأَرْض الأندلس وَلم يتْرك لَهُم قيد شبر واشرأبت أَجنَاس الفرنج للتغلب على الْمغرب وَفِي تِلْكَ الْمدَّة كَانَ بآصيلا مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي وَكَانَ شجاعا مقداما وأحس من نَفسه بِالْقُدْرَةِ على الِاسْتِيلَاء على كرْسِي فاس وتنحية الشريف عَنهُ لَا سِيمَا مَعَ مَا كَانَ النَّاس فِيهِ من افْتِرَاق الْكَلِمَة فَجمع جندا صالحها وزحف إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ الشريف والتقوا بأحواز مكناسة فَوَقَعت بَينهمَا حَرْب عَظِيمَة كَانَت الكرة فِيهَا على الوطاسي ثمَّ جمع عسكرا آخر وزحف بِهِ إِلَى فاس وحاصرها نَحْو سنتَيْن والشريف فِيهَا مَعَ أَرْبَاب دولته وَفِي أثْنَاء الْحصار ورد عَلَيْهِ الْخَبَر باستيلاء البرتغال على آصيلا وعَلى بَيت مَاله الَّذِي كَانَ بهَا وعَلى حظاياه وَأَوْلَاده فأفرج عَن فاس وَرجع مبادرا إِلَى آصيلا فحاصرها وَلما امْتنعت عَلَيْهِ عقد مَعَ البرتغال هدنة وَعَاد سَرِيعا إِلَى فاس فحاصرها وضيق على الشريف بهَا حَتَّى خرج فَارًّا بِنَفسِهِ وأسلمها إِلَيْهِ فَدَخلَهَا مُحَمَّد الشَّيْخ وتمت بيعَته وتفرغ لتدويخ الْقَبَائِل الَّتِي بأحواز فاس وَغَيرهَا فَدَخَلُوا فِي طَاعَته واغتبطوا بِهِ اه كَلَامه(4/120)
رياسة بني رَاشد من شرفاء الْعَالم بغمارة وبناؤهم مَدِينَة شفشاون وَمَا يتبع ذَلِك
قَالَ فِي نشر المثاني اختط بعض شرفاء الْعلم مَدِينَة شفشاون بِقصد تحصين الْمُسلمين من نَصَارَى سبتة إِذْ كَانُوا بعد استيلائهم عَلَيْهَا يتطاولون على أهل تِلْكَ المداشر فِي أَوَاخِر دولة بني وطاس
وَقَالَ فِي الْمرْآة كَانَ ابْتِدَاء اختطاط مَدِينَة شفشاون فِي الْجِهَة الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بالعدوة وَهِي عدوة وَادي شفشاون فِي حُدُود سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة على يَد الشريف الْفَقِيه الصَّالح الناصح الْمُجَاهِد أبي الْحسن بن أبي مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي جُمُعَة العلمي واسْمه الْحسن بن مُحَمَّد ابْن الْحسن بن عُثْمَان بن سعيد بن عبد الْوَهَّاب بن علال بن القطب أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش وَمَات شَهِيدا قبل إتْمَام مَا شرع فِيهِ بتدبير النَّصَارَى دمرهم الله مَعَ أهل النِّفَاق إِذْ ذَاك من أهل الخروب وَقد جَاءَهُم فِي سَبِيل الْجِهَاد وبينما هُوَ يتهجد من اللَّيْل فِي مَسْجِد هُنَالك إِذْ أضرموا عَلَيْهِ نَارا فَمَاتَ رضوَان الله عَلَيْهِ وَقَامَ مقَامه فِيمَا كَانَ بسبيله من الْجِهَاد والاستنفار لَهُ وتجييش الجيوش ابْن عَمه الْأَمِير الْجَلِيل الْفَاضِل الْأَصِيل أَبُو الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد بن عَليّ بن سعيد بن عبد الْوَهَّاب إِلَى آخر النّسَب الْمُتَقَدّم فشرع فِي اختطاط مَدِينَة شفشاون فِي العدوة الْأُخْرَى فَبنى قصبتها وشيدها وأوطنها بأَهْله وعشيرته وَزَل النَّاس بهَا فبنوا وَصَارَت فِي عداد المدن إِلَى أَن توفّي سنة سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة وورثها بنوه من بعده وَلم يزَالُوا فِيهَا بَين سلم وَحرب إِلَى أَن أخرجهم مِنْهَا الشرفاء السعديون عِنْد استيلائهم على بِلَاد الْمغرب وَالله تَعَالَى أعلم(4/121)
ثورة عَمْرو بن سُلَيْمَان السياف بِبِلَاد السوس وَشَيْء من أخباره
هَذَا الرجل هُوَ عَمْرو بن سُلَيْمَان الشيظمي المغيطي الْمَعْرُوف بالسياف وَيُقَال لَهُ المريدي بِضَم الْمِيم وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه كَانَ من تلامذة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ صَاحب دَلَائِل الْخيرَات نقل الثِّقَات أَنه كَانَ يتَرَدَّد إِلَى الشَّيْخ الْمَذْكُور أَيَّام حَيَاته ويأتيه بألواح فِيهَا كَلَام كثير مَنْسُوب إِلَى الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يَقُول لَهُ فِي ذَلِك شَيْئا غير انه أثنى عَلَيْهِ مَرَّات كَثِيرَة ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ الْمَذْكُور رَحمَه الله سنة سبعين وَثَمَانمِائَة ثار عَمْرو الْمَذْكُور مظْهرا الطّلب بثأر الشَّيْخ والانتقام من الَّذين سموهُ إِذْ كَانَ سمه بعض فُقَهَاء عصره فتتبعهم حَتَّى قَتلهمْ ثمَّ صَار يَدْعُو النَّاس إِلَى إِقَامَة الصَّلَاة ويقاتلهم عَلَيْهَا فانتصر عَلَيْهِم وشاع ذكره وَتمكن ناموسه ثمَّ تجَاوز ذَلِك إِلَى أَن صَار يَدْعُو النَّاس إِلَى نَفسه وَيقتل المنكرين عَلَيْهِ وعَلى شَيْخه وَأَصْحَابه وسمى أَصْحَابه المريدين بِضَم الْمِيم قَالَ زَرُّوق وَمَا أحقها بِالْفَتْح وسمى الْمُخَالفين لَهُ الجاحدين ثمَّ جعل يتفوه بالمغيبات وَيَزْعُم أَنه مَأْذُون وَرُبمَا ادّعى النُّبُوَّة وَكَانَ قد أخرج شلو الشَّيْخ الْجُزُولِيّ من قَبره وَجعله فِي تَابُوت وَصَارَ يقدمهُ بَين يَدَيْهِ فِي حروبه كتابوت بني إِسْرَائِيل فينتصر على من خَالفه وَقيل إِنَّه لم يدفنه وَإِنَّمَا أَخذه بعد مَوته فَكَفنهُ وَجعله فِي التابوت وَجمع الجموع وقاد الجيوش وَسَفك الدِّمَاء واستمرت فتْنَة فِي النَّاس عشْرين سنة
قَالَ الشَّيْخ زَرُّوق رَحمَه الله بَلغنِي أَن شَيخنَا الْفَقِيه أَبَا عبد الله القوري ورد عَلَيْهِ سُؤال فِي شَأْن عَمْرو بن سُلَيْمَان السياف فبادرت إِلَيْهِ كي أرَاهُ فَقَالَ لي قد خرج من يَدي فَقلت لَهُ فَمَا مُقْتَضَاهُ قَالَ مُقْتَضَاهُ أَنه يَقُول إِن أَحْكَام الْكتاب وَالسّنة ارْتَفَعت وَلم يبْق إِلَّا مَا يَقُول لَهُ قلبه قَالَ زَرُّوق وشاع من أمره أَنه يَقُول إِنَّه وَارِث النُّبُوَّة وَأَن لَهُ أحكاما تخصه كَمَا فِي قصَّة الْخضر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَأَن الْخضر حَيّ وَنَبِي مُرْسل وَأَنه يلقاه وَيَأْخُذ عَنهُ بل يَدعِي ذَلِك من هُوَ دونه من تلامذته(4/122)
وَحكى بَعضهم أَن عمرا الْمَذْكُور لما جعل شلو الشَّيْخ فِي التابوت كَانَ إِذا رَجَعَ بِهِ من حربه وَضعه فِي رَوْضَة عِنْده يسميها الرِّبَاط فَإِذا جنه اللَّيْل أطاف الحرس بالروضة يَحْرُسُونَ التابوت من السراق ويوقد عَلَيْهِ كل لَيْلَة فَتِيلَة عَظِيمَة فِي مِقْدَار الثَّوْب مغموسة فِي نَحْو مَدين من الزَّيْت ليقوى الضَّوْء وينتشر ويبلغ من كل الْجِهَات إِلَى مَسَافَة بعيدَة فتنكشف الطّرق عَمَّن يَأْتِي عَلَيْهَا كل ذَلِك مَخَافَة أَن يُؤْخَذ مِنْهُ شلو الشَّيْخ فينتصر بِهِ عَلَيْهِ
وَيُقَال إِن ثورة عَمْرو الْمَذْكُورَة وفتنته كَانَت أثرا من آثَار دعوات الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَحمَه الله فقد ذكر تلامذته كالشيخ التباع وَغَيره أَن الشَّيْخ الْجُزُولِيّ خرج عَلَيْهِم من آخر اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِي صبيحتها فَقَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي النَّاس يَزْعمُونَ أَنَّك الفاطمي المنتظر فَقَالَ مَا يبحثون إِلَّا عَمَّن يقطع رقابهم الله يُسَلط عَلَيْهِم من يقطع رقابهم وَكرر ذَلِك مرَارًا فَكَانُوا يرَوْنَ أَن أثر دَعوته ظهر فِي عَمْرو السياف وَالله أعلم
وَقتل عَمْرو الْمَذْكُور سنة تسعين وَثَمَانمِائَة وَاخْتلف فِيمَن قَتله فَقيل كَانَ عَمْرو قد تزوج زَوْجَة الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وبنته فَلَمَّا رأتا مَا هُوَ عَلَيْهِ من الزندقة وَالْفساد فِي الأَرْض قتلتاه امتعاضا للدّين ترصدتاه حَتَّى إِذا نَام عدتا عَلَيْهِ فقتلتاه ثمَّ رمت إِحْدَاهمَا وَهِي بنت الشَّيْخ بِنَفسِهَا من كوَّة هُنَالك فِي الْبَيْت الَّذِي كَانُوا بِهِ فوصلت إِلَى الأَرْض سَالِمَة ونجت وَبقيت الْأُخْرَى وَهِي الزَّوْجَة بِالْبَيْتِ فَدَخَلُوا عَلَيْهَا فَقَتَلُوهَا وَقيل إِنَّمَا قتلته زَوجته وربيبته وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم
وَلما هلك عَمْرو السياف دفن النَّاس الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وَقيل هُوَ دَفنه بِموضع يعرف بتاصروت ثمَّ نقل بعد إِلَى مراكش على مَا نذْكر إنْشَاء الله وَلما ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الصومعي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى قصَّة نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ إِلَى مراكش وَأَنه وجد طريا لم يتَغَيَّر بعد وَفَاته بِنَحْوِ سبعين سنة قَالَ وأعجب من هَذَا أَن عمرا المغيطي السياف زَعَمُوا أَنه وجد كَذَلِك وَلَعَلَّه أَدْرَكته بركَة هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَالْفضل بيد الله اه(4/123)
وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استدعى السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الإِمَام أَبَا عبد الله بن غَازِي من مكناسة إِلَى فاس فولي الخطابة أَولا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع من فاس الْجَدِيد ثمَّ ولي الْإِمَامَة والخطابة ثَانِيًا بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس وَصَارَ شيخ الْجَمَاعَة بهَا واستوطنها إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله
وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة تحرّك السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ إِلَى دبدو ثمَّ عَاد إِلَى حَضرته وفيهَا أَيْضا فِي يَوْم الْخَمِيس السَّابِع من ذِي الْقعدَة توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الحلو الوطاسي وَدفن بالقلة خَارج بَاب الحبيسة
وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استولت الرينة إيسابيلا صَاحِبَة مادريد قَاعِدَة بِلَاد قشتالة على حَمْرَاء غرناطة ومحت دولة بني الْأَحْمَر من جَزِيرَة الأندلس وَلم يبْق للْمُسلمين بهَا سُلْطَان وتفرق أَهلهَا فِي بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا أيادي سبا وَقد تقدم الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى
بِنَاء مَدِينَة تطاوين
قَالَ منويل لما استولى الإصبنيول على غرناطة خرج جمَاعَة كَبِيرَة من أَهلهَا إِلَى الْمغرب فنزلوا فِي مرتيل قرب تطاوين وَلما نزلُوا بِهِ لم يقدموا شَيْئا على الْوِفَادَة على سُلْطَان فاس مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي فأجل مقدمهم ورحب بهم فَقَالُوا إِن ضيافتنا عنْدك أَن تعين لنا موضعا نَبْنِي فِيهِ بَلَدا يكننا ونحفظ فِيهِ عيالنا من أهل الرِّيف فأجابهم إِلَى مُرَادهم وَعين لَهُم مَدِينَة تطاوين الخربة مُنْذُ تسعين سنة وَولى عَلَيْهِم كَبِيرهمْ أَبَا الْحسن عليا المنظري وَكَانَ رجلا شجاعا من كبار جند ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ قد أبلى مَعَه فِي حَرْب غرناطة الْبلَاء الْحسن ثمَّ انْتقل إِلَى الْمغرب كَمَا قُلْنَا وَلما عقد لَهُ الشَّيْخ الوطاسي على أَصْحَابه رَجَعَ بهم إِلَى تطاوين وَشرع فِي بِنَاء أسوار الْبَلَد الْقَدِيم فجدده وَبنى الْمَسْجِد الْجَامِع بِهِ واستوطنه هُوَ وجماعته ثمَّ أَخذ فِي جِهَاد البرتغال بسبتة وبلاد الهبط إِلَى أَن أسر مِنْهُم ثَلَاثَة آلَاف فاستخدمهم فِي إتْمَام مَا بَقِي(4/124)
عَلَيْهِ من بِنَاء تطاوين واتصلت الْحَرْب بَينهم وَبَين برتقال سبتة كاتصالها بَين أهل آزمور وبرتقال الجديدة اه
وَقَوله إِن بِنَاء تطاوين كَانَ عقب أَخذ غرناطة مُخَالف لما يَقُول أهل تطاوين من أَن تَارِيخ بنائها رمز تفاحة وَأَن ذَلِك كَانَ بإعانة الشريف أبي الْحسن عَليّ بن رَاشد فَيظْهر وَالله أعلم أَن أَبَا الْحسن المنظري كَانَ قد قدم من الأندلس قبل أَخذ غرناطة بسنين يسيرَة مُوَافق الرَّمْز الْمَذْكُور وَالله أعلم
قدوم أبي عبد الله بن الْأَحْمَر مخلوعا على السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي رحمهمَا الله
لما استولى طاغية الإصبنيول على حَضْرَة غرناطة وَسَائِر الأندلس انْتقل سلطانها أَبُو عبد الله بن الْأَحْمَر إِلَى حَضْرَة فاس فاستوطنها تَحت كنف السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بعد أَن خاطبه من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الْعقيلِيّ بقصيدة بارعة يَقُول فِي صدرها
(مولى الْمُلُوك مُلُوك الْعَرَب والعجم ... رعيا لما مثله يرْعَى من الذمم)
(بك استجرنا وَنعم الْجَار أَنْت لمن ... جَار الزَّمَان عَلَيْهِ جور منتقم)
(حَتَّى غَدا ملكه بالرغم مستلبا ... وأفظع الْخطب مَا يَأْتِي على الرغم)
(حكم من الله حتم لَا مرد لَهُ ... وَهل مردا لحكم مِنْهُ منحتم)
وَهِي طَوِيلَة ثمَّ وَصلهَا برسالة يَقُول فِيهَا بعد الْحَمد لله وَالصَّلَاة على نبيه مَا نَصه
أما بعد فيا مَوْلَانَا الَّذِي أولانا من النعم مَا أولانا لَا حط الله لكم من الْعِزَّة أرواقا وَلَا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا وَلَا أوراقا وَلَا زَالَت مخضرة الْعود مبتسمة عَن زهرات البشائر متحفة بثمرات السُّعُود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق وَلَا رعود هَذَا مقَام العائذ بمقامكم الْمُتَعَلّق بِأَسْبَاب ذمامكم المرتجي لعواطف قُلُوبكُمْ وعوارف أنعامكم(4/125)
الْمقبل الأَرْض تَحت أقدامكم المتلجلج اللِّسَان عِنْد محاولة مفاتحة كلامكم وماذا الَّذِي يَقُول من وَجهه خجل وفؤاد وَجل وَقَضيته المقضية عَن التنصل والاعتذار تجل بيد أَنِّي أَقُول لكم مَا أَقُول لرَبي واجترائي عَلَيْهِ أَكثر واحترامي إِلَيْهِ أكبر اللَّهُمَّ لَا بَرِيء فَاعْتَذر وَلَا قوي فأنتصر لكني مستقيل مستعتب مُسْتَغْفِر وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء هَذَا على طَرِيق التنازل والاتصاف بِمَا تَقْتَضِيه الْحَال مِمَّن يتحيز إِلَى حيّز الْإِنْصَاف وَأما على جِهَة التَّحْقِيق فَأَقُول مَا قالته الْأُم ابْنة الصّديق وَالله إِنِّي لأعْلم أَنِّي إِن أَقرَرت بِمَا يَقُوله النَّاس وَالله يعلم أَنِّي مِنْهُ بريئة لَا قَول مَا لم يكن وَلَئِن أنْكرت مَا تَقولُونَ لَا تصدقوني فَأَقُول مَا قَالَه أَبُو يُوسُف فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون على أَنِّي لَا أنكر عيوبي فَأَنا مَعْدن الْعُيُوب وَلَا أجحد ذُنُوبِي فَأَنا جبل الذُّنُوب إِلَى الله أَشْكُو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي نعم كل شَيْء وَلَا مَا يَقُوله المتقول المشنع المهول النَّاطِق بِفَم الشَّيْطَان المسول وَمن أمثالهم سبني واصدق وَلَا تفتر وَلَا تخلق أفمثلي كَانَ يفعل أَمْثَالهَا وَيحْتَمل من الأوزار المضاعفة أحمالها وَيهْلك نَفسه ويحبط أَعمالهَا عياذا بِاللَّه من خسران الدّين وإيثار الجاحدين والمعتدين {قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} وَايْم الله لَو علمت شَعْرَة فِي فودي تميل إِلَى تِلْكَ الْجِهَة لقطعتها بل لقطفت مَا تَحت عمامتي من هامتي وقطفتها غير أَن الرعاع فِي كل أَوَان أَعدَاء للْملك وَعَلِيهِ أحزاب وَأَعْوَان كَانَ أَحمَق أَو أَجْهَل من أبي ثروان أَو أَعقل أَو أعلم من أشج بني مَرْوَان رب مُتَّهم بَرِيء ومسربل بسربال وَهُوَ مِنْهُ عري وَفِي الْأَحَادِيث صَحِيح وَسَقِيم وَمن التراكيب المنطقية منتج وعقيم وَلَكِن ثمَّ ميزَان عقل تعْتَبر بِهِ أوزان النَّقْل وعَلى الرَّاجِح الِاعْتِمَاد ثمَّ إساغة الأحماد الْمُتَّصِل المتماد وللمرجوح الإطراح ثمَّ الْتِزَام الصراح بعد النفض من الراح وَأكْثر مَا تسمعه الْكَذِب وطبع جُمْهُور الْخلق إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى إِلَيْهِ منجذب وَلَقَد قذفنا من الأباطيل بأحجار ورمينا بِمَا لَا يرْمى بِهِ الْكفَّار فضلا عَن الْفجار وَجرى من الْأَمر الْمَنْقُول على لِسَان زيد وَعَمْرو مَا(4/126)
لديكم مِنْهُ حفظ الْجَار وَإِذا عظم الإلكاء فعلى تكأة التجلد والاتكاء أَكثر المكثرون وَجهد فِي تعثيرنا المتعثرون ورمونا عَن قَوس وَاحِدَة ونظمونا فِي سلك الْمَلَاحِدَة أكفرا أَيْضا كفرا غفرا اللَّهُمَّ غفرا أعد نظرا يَا عبد قيس فَلَيْسَ الْأَمر على مَا خيل لَك لَيْسَ وَهل زِدْنَا على أَن طلبنا حَقنا مِمَّن رام محقه ومحقنا فطاردنا فِي سَبيله عداة كَانُوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا لَهُ رتق {وَمَا كُنَّا للغيب حافظين} وَبعد فاسأل أهل الْحل وَالْعقد والتمييز والنقد فَعِنْدَ جهينتهم تلقى الْخَبَر يَقِينا وَقد رَضِينَا بحكمهم يوثمنا فيوبقنا أَو يبرئنا فيقينا إيه يَا من اشرأب إِلَى ملامنا وقدح حَتَّى فِي إسْلَامنَا رويدا رويدا فقد وجدت قُوَّة وأيدا وَيحك إِنَّمَا طَال لسَانك علينا وامتد بالسوء إِلَيْنَا لِأَن الزَّمَان لنا مصغر وَلَك مكبر وَالْأَمر عَلَيْك مقبل وعنا مُدبر كَمَا قَالَه كَاتب الْحجَّاج المتبر وعَلى الْجُمْلَة فَهُنَا صرنا إِلَى تَسْلِيم مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالْخَطَأ فِي كل ورد وَصدر فَللَّه در الْقَائِل
إِن كنت أَخْطَأت فَمَا أَخطَأ الْقدر وكأنا بمعتسف إِذا وصل إِلَى هُنَا وَعدم إنصافا يُعلمهُ الهنا قد أَزور متجانفا ثمَّ أفتر متهانفا وَجعل يتَمَثَّل بقَوْلهمْ إِذا عيروا قَالُوا مقادير قدرت وبقولهم الْمَرْء يعجزه الْمحَال فيعارض الْحق بِالْبَاطِلِ والحالي بالعاطل وَينْزع بقول الْقَائِل رب مسمع هائل وَلَيْسَ تَحْتَهُ طائل وَقد فَرغْنَا أول أمس من جَوَابه وَتَركنَا الضغن يلصق حرارة الجوى بِهِ وسنلم الْآن بِمَا يوسعه تبكيتا ويقطعه تسكيتا فَنَقُول لَهُ ناشدناك الله تَعَالَى هَل اتّفق لَك قطّ وَعرض خُرُوج أَمر مَا عَن الْقَصْد مِنْك فِيهِ وَالْغَرَض مَعَ اجتهادك أثناءه فِي إصدارك وإيرادك فِي وُقُوعه على وفْق اقتراحك ومرادك أَو جَمِيع مَا تزاوله بإدارتك لَا يَقع إِلَّا مطابقا لإرادتك أَو كل مَا تقصده وتنويه تحرزه كَمَا تشَاء وتحويه فَلَا بُد أَن يقر اضطرارا بِأَن مَطْلُوبه يشذ عَنهُ مرَارًا بل كثيرا مَا يفلت صَيْده من أشراكه ويطلبه فيعجز عَن إِدْرَاكه فَنَقُول ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل أَيهَا النبيه النَّبِيل ثمَّ نسرد لَهُ من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مَا شِئْنَا مِمَّا يسايرنا فِي غرضنا مِنْهُ ويماشينا كَقَوْلِه(4/127)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل شَيْء بِقَضَاء وَقدر حَتَّى الْعَجز والكيس) وَقَوله أَيْضا (لَو اجْتمع أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يقضه الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يقضه الله عَلَيْك لم يقدروا عَلَيْهِ) أَو كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخلق بِهِ أَن يلوذ بِأَكْنَافِ الأحجام ويزم على نفث فِيهِ كَأَنَّمَا الجم بلجام حِينَئِذٍ نقُول لَهُ وَالْحق قد أبان وَجهه وجلاه وقهره بحجته وعلاه (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْئا) (قل إِن الْأَمر كُله لله) وَفِي مُحَاجَّة آدم ومُوسَى مَا يقطع لِسَان الْخصم ويرخص عَن أَثوَاب أعراضنا مَا عَسى أَن يعلق بهَا من دون الوصم وكيفما كَانَت الْحَال وَإِن سَاءَ الرَّأْي والانتحال ووقعنا فِي أوجال وأوحال فثل عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا ومللت مثوانا فَنحْن أمثل من سوانا وَمَا فِي الشَّرّ خِيَار وَيَد الألطاف تكسر من صولة الأغيار فحتى الْآن لم نفقد من اللَّطِيف تَعَالَى لطفا وَلَا عدمنا أدوات أدعية تعطف بِلَا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا وَإِلَّا فَتلك بَغْدَاد دَار السَّلَام ومتبوأ الْإِسْلَام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة الْخلَافَة العباسية ومقر الْعلمَاء والفضلاء أولي السّير الأويسية والعقول الأياسية قد نوزلت بالجيوش وَنزلت وزوزلت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار التتار عنْوَة بِالسَّيْفِ وَلَا تسل إِذْ ذَاك عَن كَيفَ أَيَّام تجلت عروس الْمنية كاشفة عَن سَاقهَا مبدية وَجَرت الدِّمَاء فِي الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وَقيد الْأَئِمَّة والقضاة تَحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم فِي رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الْخُيُول فتخضبها إِلَى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عَن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها ومستعصمها وَرَاح وَلم يغد ظالمها ومتظلمها وَخَربَتْ مساجدها وديارها وَاصْطلمَ بالحسام أشرارها وخيارها فَلم يبْق من جُمْهُور أَهلهَا عين تطرف حَسْبَمَا عرفت أَو حَسْبَمَا تعرف فلاتك متشككا متوقفا فَحَدِيث تِلْكَ الْوَاقِعَة الشنعاء أشهر عِنْد المؤرخين من قفا فَأَيْنَ تِلْكَ الجحافل والآراء المدارة فِي المحافل حِين أَرَادَ الله تَعَالَى بإدالة الْكفْر لم تَجِد وَلَا قلامة ظفر إِذن من سلمت لَهُ نَفسه(4/128)
الَّتِي هِيَ رَأس مَاله وَعِيَاله وأطفاله اللَّذَان هما من أعظم آماله وكل أوجل أَو قل رياشه وَأَسْبَاب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ثمَّ وجد مَعَ ذَلِك سَبِيلا إِلَى الْخَلَاص فِي حَال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص بعد مَا ظن كل الظَّن أَن لَا محيد وَلَا مناص فَمَا أحقه حِينَئِذٍ وأولاه أَن يحمد خالقه ورازقه ومولاه على مَا أسداه إِلَيْهِ من رفده وخيره ومعافاته مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ كثير من غَيره ويرضى بِكُل إِيرَاد وإصدار تتصرف فيهمَا الْأَحْكَام الإلهية والأقدار فالدهر غدار وَالدُّنْيَا دَار مشحونة بالأكدار وَالْقَضَاء لَا يرد وَلَا يصد وَلَا يغالب وَلَا يُطَالب والدائرات تَدور وَلَا بُد من نقص وَكَمَال للبدور وَالْعَبْد مُطِيع لَا مُطَاع وَلَيْسَ يطاع إِلَّا المستطاع وللخالق الْقَدِير جلت قدرته فِي خليقته علم غيب للأذهان عَن مداه انْقِطَاع وَمَالِي والتكلف لما لَا أحتاج إِلَيْهِ من هَذَا القَوْل بَين يَدي ذِي الْجَلالَة والمجادة وَالْفضل والطول فَلهُ من الْعقل الْأَرْجَح وَمن الْخلق الأسجح مَا لَا تلتاط مَعَه تهمتي بصفره وَلَا تنْفق عِنْده وشاية الواشي لَا عد من نفره وَلَا فَازَ قدحه بظفره وَالْمولى يعلم أَن الدُّنْيَا تلعب باللاعب وتجر براحتها إِلَى المتاعب وقديما للأكياس من النَّاس خدعت وانحرفت عَن وصالهم أَعقل مَا كَانُوا وَقطعت وَفعلت بهم مَا فعلت بيسار الكواعب الَّذِي جبت وجدعت وَلَئِن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت وَلَئِن قرعت ومعضت وَلَقَد أرشدت ووعظت وَيَا ويلنا من تنكرهَا لنا بِمرَّة ورميها لنا فِي غمرة أَي غمرة أَيَّام قلبت لنا ظهر الْمِجَن وغيم أفقها المصمي وأدجن فسرعان مَا عاينا حبالها منبته ورأينا مِنْهَا مَا لم نحتسب كَمَا تقوم السَّاعَة بغته فَمن استعاذ من شَيْء فليستعذ مِمَّا صرنا إِلَيْهِ من الْحور بعد الكور والانحطاط من النجد إِلَى الْغَوْر
(فَبينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصف) (فتبا لدينا لَا يَدُوم نعيمها ... تقلب تارات بِنَا وَتصرف)
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا وَلم نفزع إِلَى غير بَابَكُمْ المنيع الجناب المنفتح حِين سدت الْأَبْوَاب وَلم نلبس(4/129)
غير لِبَاس نعمائكم وَحين خلعنا مَا ألبسنا الْملك من الأثواب وَإِلَى أمه يلجأ الطِّفْل لَجأ اللهفان وَعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان وَوجه الله تَعَالَى يبْقى وكل من عَلَيْهَا فان وَإِلَى هُنَا يَنْتَهِي الْقَائِل ثمَّ يَقُول حسبي هَذَا وكفان وَلَا ريب فِي اشْتِمَال الْعلم الْكَرِيم على مَا تعارفته الْمُلُوك بَينهَا فِي الحَدِيث وَالْقَدِيم من الْأَخْذ بِالْيَدِ عِنْد زلَّة الْقدَم وقرع الْإِنْسَان وعض البنان من النَّدَم دينا تدينته مَعَ اخْتِلَاف الْأَدْيَان وَعَادَة أطردت على تعاقب الْأَزْمَان والأحيان وَلَقَد عرض علينا صَاحب قشتالة مَوَاضِع مُعْتَبرَة خير فِيهَا وَأعْطى من أَمَانَة الْمُؤَكّد فِيهِ خطه بأيمانه مَا يقنع النُّفُوس ويكفيها فَلم نر وَنحن من سلالة الْأَحْمَر مجاورة الصفر وَلَا سوغ لنا الْإِيمَان الْإِقَامَة بَين ظهراني الْكفْر مَا وجدنَا عَن ذَلِك مندوحة وَلَو شاسعة وَأمنا المطالب المشاغب حمة شَرّ لنا لَا سَعَة وادكرنا أَي ادكار قَول الله تَعَالَى الْمُنكر لذَلِك غَايَة الْإِنْكَار {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبالغ فِي ذَلِك بأبلغ الْكَلَام (أَنا بَرِيء من مُؤمن مَعَ كَافِر تتراءى ناراهما) وَقَول الشَّاعِر الحاث على حث المطية المتثاقلة عَن السّير فِي طَرِيق منجاتها البطية
(وَمَا أَنا والتلذذ نَحْو نجد ... وَقد غصت تهَامَة بِالرِّجَالِ)
ووصلت أَيْضا من الشرق إِلَيْنَا كتب كَرِيمَة الْمَقَاصِد لدينا تستدعي الانحياز إِلَى تِلْكَ الجنبات وتتضمن مَالا مزِيد عَلَيْهِ من الرغبات فَلم نختر إِلَّا دَارنَا الَّتِي كَانَت دَار آبَائِنَا من قبلنَا وَلم نرتض الانضواء إِلَّا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا إدلالا على مَحل إخاء متوارث لَا عَن كَلَالَة وامتثالا لوصاة أجداد لَا نظارهم وأقدارهم أَصَالَة وجلالة إِذْ قد روينَا عَن سلف من أسلافنا فِي الْإِيصَاء لمن يخلف بعدهمْ من أخلافنا أَن لَا يَبْتَغُوا إِذا دهمهم أَمر بالحضرة المرينية بَدَلا وَلَا يَجدوا عَن طريقها فِي التَّوَجُّه إِلَى فريقها معدلا فاخترقنا إِلَى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إِلَى الْبَحْر الْفُرَات ظهر الْبَحْر الأجاج فَلَا غرو أَن نرد مِنْهُ على مَا يقر الْعين ويشفي النَّفس الشاكية من ألم الْبَين وَمن توصل هَذَا التَّوَصُّل وتوسل بِمثل(4/130)
ذَلِك التوسل تطارحا على سدة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُحَارب للمحاربين وَالْمُؤمن للمستأمنين فَهُوَ الخليق الْحقيق بِأَن يسوغ أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الْأَيَّام والشهور والسنين ويخلص من الثبور إِلَى الحبور وَيخرج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور خُرُوج الْجَنِين وَلَعَلَّ شُعَاع سعادته يفِيض علينا ونفحة قبُول إقباله تسري إِلَيْنَا فتخامرنا أريحية تحملنا على أَن نبادر لإنشاد قَول الشريف الرضي فِي الْخَلِيفَة الْقَادِر
(عطفا أَمِير الْمُؤمنِينَ فإننا ... فِي دوحة العلياء لَا نتفرق)
(مَا بَيْننَا يَوْم الفخار تفَاوت ... أبدا كِلَانَا فِي الْمَعَالِي معرق)
(إِلَّا الْخلَافَة ميزتك فإنني ... أَنا عاطل مِنْهَا وَأَنت مطوق)
لَا بل الأحرى بِنَا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى أَن نعدل عَن هَذَا الْمِنْهَاج وَيقوم وافدنا بَين يَدي علاهُ مقَام الخاضع المتواضع الضَّعِيف الْمُحْتَاج وينشد مَا قَالَ فِي الشِّيرَازِيّ ابْن حجاج
(النَّاس يفدونك اضطرارا ... مِنْهُم وأفديك باختياري)
(وَبَعْضهمْ فِي جوَار بعض ... وَأَنت حَتَّى أَمُوت جاري)
(فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وَأهل دَاري)
ونستوهب من الْوَهَّاب تَعَالَى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رَحْمَة تجْعَل فِي يَد الْهِدَايَة أعنتنا وعصمة تكون فِي مَوَاقِف المخاوف جنتنا وقبولا يعْطف علينا نوافر الْقُلُوب وصنعا يسني لنا كل مَرْغُوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السَّائِل سؤلا ومأمولا متابا صَادِقا على مَوْضُوع النَّدَم مَحْمُولا ثمَّ عزاء حسنا وصبرا جميلا عَن أَرض أورثها من شَاءَ من عباده معقبا لَهُم ومديلا وسادلا عَلَيْهِم من ستور الْإِمْلَاء الطَّوِيلَة سدولا {سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} فليطر طَائِر الوسواس المرفرف مطيرا {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا} لم نستطع عَن مورده صدورا {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} إِلَّا وَإِن لله سُبْحَانَهُ فِي مقامكم العالي الَّذِي أيده وأعانه سرا من النَّصْر يترجم عَنهُ لِسَان من النصل وَترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قَاعِدَته(4/131)
المتأصلة إِلَى أصل فبمثله يجب اللياد وَالْعِيَاذ ولشبهه يحِق الالتجاء والارتجاء ولأمر مَا آثرناه واخترناه بعد أَن استرشدنا الله سُبْحَانَهُ واستخرناه وَمِنْه جلّ جَلَاله نرغب أَن يُخَيّر لنا وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين ويأوب بِنَا من حمايته ووقايته إِلَى معقل منيع وجناب رفيع آمين آمين آمين وَنَرْجُو أَن يكون رَبنَا الَّذِي هُوَ فِي جَمِيع الْأُمُور حَسبنَا قد خار لنا حَيْثُ أرشدنا وهدانا وساقنا توفيقه وحدانا إِلَى الاستجارة بِملك حفي كريم وَفِي أعز جارا من أبي دَاوُد وأحمى أنفًا من الْحَارِث بن عباد وَيشْهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إِن أغاث ملهوفا فَمَا الْأسود بن قنان يذكر وَإِن أنعش حشاشة هَالك فَمَا كَعْب بن مامة على فعله وَحده يشْكر جليسه كجليس الْقَعْقَاع بن شور ومذاكره كمذاكر سُفْيَان المنتسب من الربَاب إِلَى ثَوْر إِلَى التحلي بأمهات الْفَضَائِل الَّتِي أضدادها أُمَّهَات الرذائل وَهِي الثَّلَاث الْحِكْمَة وَالْعدْل والعفة الَّتِي تشملها الثَّلَاثَة الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَالشَّمَائِل وينشأ عَنْهَا مَا شِئْت من عزم وحزم وَعلم وحلم وتيقظ وَتحفظ واتقاء وارتقاء وُصُول وَطول وسماح نائل فبنور حلاه الْمشرق يفتخر الْمغرب على الْمشرق وبمجده السَّامِي خطره فِي الأخطار وبيته الَّذِي ذكره فِي النباهة والنجابة قد طَار يباهي جَمِيع مُلُوك الْجِهَات والأقطار وَكَيف لَا وَهُوَ الرفيع المنتمي والنجار الراضع من الطَّهَارَة صفو البان النَّاشِئ من السراوة وسط أَحْجَار فِي ضئضئ الْمجد وبحبوح الْكَرم وسرواة أسرة المملكة الَّتِي أكنافها حرم وذؤابة الشّرف الَّتِي مجادتها لم ترم من معشر أَي معشر بخلوا أَن وهبوا مَا دون أعمارهم وجبنوا إِن لم يحموا سوى دمارهم بَنو مرين وَمَا أَدْرَاك مَا بَنو مرين سم العداة وَآفَة الجزر النازلون بِكُل معترك والطيبون معاقد الأزر لَهُم عَن الهفوات انْتِفَاء وَعِنْدهم من السّير النَّبَوِيَّة اكْتِفَاء انتسبوا إِلَى بر بن قيس فَخَرجُوا فِي الْبر عَن الْقَيْس مَا لَهُم الْقَدِيم الْمَعْرُوف قد نفد فِي سَبِيل الْمَعْرُوف وحديثهم الَّذِي نقلته رجال الزحوف من طَرِيق القنا وَالسُّيُوف على الْحسن من الْمَقَاصِد مَوْقُوف تحمد من صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ ذابلهم ولدنهم فَللَّه آبَاء أنجبوهم وَأُمَّهَات ولدنهم شم(4/132)
الأنوف من الطّراز الأول إِلَيْهِم فِي الشدائد والاستناد وَعَلَيْهِم فِي الأزمات الْمعول وَلَهُم فِي الْوَفَاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية وَالرِّعَايَة الخطو الْوَاسِع والباع الأطول كَأَنَّمَا عناهم بقوله جَرْوَل
(أُولَئِكَ قوم إِن بَنو أَحْسنُوا الْبَنَّا ... وَإِن عَاهَدُوا وفوا وَإِن عقدوا شدوا)
(وَإِن كَانَت النعماء فيهم جزوا بهَا ... وَإِن أنعموا لَا كدروها وَلَا كدوا)
(وتعذلني أَبنَاء سعد عَلَيْهِم ... وَمَا قلت إِلَّا بِالَّذِي علمت سعد)
وَبقول الوثيق مبناه البليغ مَعْنَاهُ
(قوم إِذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فَوْقه الكربا)
يزيحون عَن النزيل كل نازح قاصم وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُم عائب وَلَا واصم فَهُوَ أَحَق بِمَا قَالَه فِي منقر قيس بن عَاصِم
(لَا يَفْطنُون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن)
حلاهم هَذِه الغريزة الَّتِي لَيست باستكراه وَلَا جعل وأمير الْمُؤمنِينَ دَامَ نَصره قسيمهم فِيهَا حَذْو النَّعْل بالنعل ثمَّ هُوَ عَلَيْهِم وعَلى من سواهُم بالأوصاف الملوكية مستعل ارْفض مزنهم مِنْهُ عَن غيث ملث يمحو آثَار اللزبة وَانْشَقَّ عيلهم مِنْهُ عَن لَيْث ضار منقبض على براثنه للوثبة فَقل لسكان الفلا لَا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فَلَا يُبَالِي السرحان الْمَوَاشِي سَوَاء مشي إِلَيْهَا النقرا أَو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم مِنْهُم كل عرنين ثمَّ يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فَهُوَ هُوَ كَمَا عرفوه وعهدوه وألفوه وأخو المنايا وَابْن جلا وطلاع الثنايا مُجْتَمع أشده قد احتنكت سنه وَبَان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عَن ساعد الْجد
(لَا يشرب المَاء إِلَّا من قليب دم ... وَلَا يبيت لَهُ جَار على وَجل)
(أسدى الْقلب آدَمِيّ الروا لابس ... جلد النمر يَزْنِي العناد والنوى)
(وَلَيْسَ بشاري عَلَيْهِ دمامة ... إِذا مَا سعى يسْعَى بقوس وأسهم)
(وَلكنه يسْعَى عَلَيْهِ مفاضة ... دلاص كأعيان الْجَرَاد المنظم)
فالنجاء النَّجَاء سَامِعين لَهُ طائعين والوجل الوجل لاحقين بِهِ خاضعين(4/133)
قبل أَن تساقوا إِلَيْهِ مُقرنين فِي الأصفاد ويعيي الْفِدَاء بنفائس النُّفُوس وَالْأَمْوَال على الفاد حِينَئِذٍ يعَض ذُو الْجَهْل والفدامة على يَدَيْهِ حسرة وندامة إِذا رأى أبطال الْجنُود تَحت خوافق الرَّايَات والبنود قد لفحتهم نَار لَيست بِذَات خمود وأخذتهم صَاعِقَة مثل صَاعِقَة الَّذين من قبلهم عَاد وَثَمُود زعقات تؤز الْكَتَائِب أزا وهمزا محققا للخيل بعد الْمَدّ المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حَتَّى يَقُول النسْر للذئب هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا ثق خَليفَة الله بِذَاكَ فِي كل من رام أَذَى رعيتك أَو أذاك فَتلك عَادَة الله سُبْحَانَهُ فِي ذَوي الشقاق والنفاق الَّذين يشقون عَصا الْمُسلمين ويقطعون طَرِيق الرفاق وينصبون حبائل الْبَغي وَالْفساد فِي جَمِيع النواحي والآفاق فَلَنْ يجعلهم الله عز وَجل من الْآمنينَ أَنى وَكَيف وَقد أفسدوا وخانوا وَهُوَ سُبْحَانَهُ {لَا يصلح عمل المفسدين} و {لَا يهدي كيد الخائنين} وَهَا نَحن قد وجهنا إِلَى كعبة مجدكم وُجُوه صلوَات التَّقْدِيس والتعظيم بعد مَا زينا معاظفها باستعطافكم بدر ثَنَاء أبهى من در العقد النظيم منتظمين فِي سلك أوليائكم متشرفين بِخِدْمَة عليائكم وَلَا فقد عزة وَلَا عدمهَا من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وَأَن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عَاشَ بَقِيَّة عمره محروسا من الضيم مصونا وَقد قيل فِي بعض الْكَلَام من قعدت بِهِ نكاية الْأَيَّام أقامته إغاثة الْكِرَام ومولانا أيده الله تَعَالَى ولي مَا يزفه إِلَيْنَا من مكرمَة بكر ويصنعه لنا من صَنِيع حافل يخلد فِي صَحَائِف حسن الذّكر ويروي مُعَنْعَن حَدِيث حَمده وشكره طرس عَن قلم عَن بنان عَن لِسَان عَن فكر وَغَيره من ينَام عَن ذَلِك فيوقظ ويسترسل مَعَ الْغَفْلَة حَتَّى يذكر ويوعظ وَمَا عهد مُنْذُ وجد إِلَّا سَرِيعا إِلَى دَاعِي الندى والتكرم بَرِيئًا من الضجر بالمطالبة والتبرم حَافِظًا للْجَار الَّذِي أوصى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحفظه مستفرغا وَسعه فِي رعيه المستمر ولحظه آخِذا من حسن الثَّنَاء فِي جَمِيع الْأَوْقَات والآناء بحظه
(فَهُوَ من دوحة السنا فرع عز ... لَيْسَ يحْتَاج مجتنيه لهز)(4/134)
(كَفه فِي الأمحال أغزر ويل ... وذراه فِي الْجوف أمنع حرز)
(حلمه يسفر اسْمه لَك عَنهُ ... فتفهم يَا مدعي الْفَهم لغزي)
(لَا تسله شَيْئا وَلَا تستلنه ... نظرة مِنْهُ فِيك تغني وتجزي)
(فنداه هُوَ الْفُرَات الَّذِي قد ... عَام فِيهِ الْأَنَام عوم الأوز)
(وحماه هُوَ المنيع الَّذِي ترجع ... عَنهُ الخطوب مرجع عجز)
(فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فَهُوَ أدرى بِمَا تضمن رمزي)
(دَامَ يحيى بِكُل صنع وَمن ... وَيُعَافى من كل بوس ورجز)
وكأنا بِهِ قد عمل على شاكلة جَلَاله من مد ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بتهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبُوله وإقباله وإيرادنا على حَوْض كوثره المترع بزلاله وَالله سُبْحَانَهُ يسْعد مقَامه الْعلي ويسعدنا بِهِ فِي حلّه وارتحاله ومآله وحاله وَيُؤَيّد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المسؤول أَن يرِيه قُرَّة الْعين فِي نَفسه وَأَهله وخدامه وأمواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه وأحواله وأحق مَا نصل بِالسَّلَامِ وَأولى على الْمقَام الْجَلِيل مقَام الْخَلِيفَة الْمولى وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة وَسلَامًا دائمين أبدا موصولين بدوام الْأَبَد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صَلَاح فَسَاد أَعماله وبلوغ غَايَة آماله وَذَلِكَ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وإذنه وفضله وأفضاله انْتَهَت الرسَالَة وَمَا كَادَت
وَوصل السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر المخلوع بعد نُزُوله بمليلية إِلَى مَدِينَة فاس بأَهْله وَأَوْلَاده معتذرا عَمَّا أسلفه متلهفا على مَا خَلفه وَبنى بفاس بعض قُصُور على طَرِيق بُنيان الأندلس وَتُوفِّي بهَا سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة وَدفن بِإِزَاءِ الْمصلى خَارج بَاب الشَّرِيعَة وَخلف ذُرِّيَّة من بعده قَالَ فِي نشر المثاني انقرضوا وَلم يبْق مِنْهُم أحد وَزعم منويل أَنه هلك فِي وقْعَة أبي عقبَة فِي حَرْب الوطاسيين مَعَ السعديين قَالَ وَلم يحسن هَذَا الرجل أَن يدْفع عَن ملكه فَدفع عَن ملك غَيره(4/135)
اسْتِيلَاء البرتغال على سَاحل البريجه وبناؤهم مَدِينَة الجديدة صانها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمنه
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ قد وقفت لبَعض البرتغاليين واسْمه لويز مَارِيَة على تأليف فِي أَخْبَار الجديدة من لدن بنوها إِلَى أَن انتزعها الْمُسلمُونَ مِنْهُم فاقتطفت مِنْهُ مَا أثْبته فِي هَذِه التَّرْجَمَة قَالَ هَذَا الْمُؤلف لما كَانَت سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين مسيحية قلت ويوافقها من تَارِيخ الْهِجْرَة سنة سبع وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا بعث سُلْطَان البرتغال واسْمه منويل من دَار ملكه أشبونة عمَارَة فِي الْبَحْر للاستيلاء على بعض ثغور الْمغرب فألجأهم هيجان الْبَحْر وموجه إِلَى سَاحل البريجة فِيمَا بَين آزمور وتيط وَكَانَت البريجة على مَا يفهم من كَلَامه بِنَاء متخذا هُنَالك للحراسة وَنَحْوهَا كَانَ يُسمى برج الشَّيْخ وَلَا زَالَ مُسَمّى بِهَذَا الِاسْم إِلَى الْآن فأرسى البرتغاليون على السَّاحِل الْمَذْكُور وَنزلت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى الْبر فتطوفوا بالبريجة وَمَا حولهَا وأعجبهم الْمَكَان فعزموا على الْمقَام بِهِ وَاتفقَ رَأْيهمْ أَن يتْركُوا جمَاعَة هُنَالك يحفظون الْمحل وَيرجع باقيهم إِلَى ملكهم يستأذنوه فِيمَا عزموا عَلَيْهِ فتركوا اثْنَي عشر رجلا بالبريجة بعد أَن حصنوها وشحنوها بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من عدَّة وقوت وَنَحْوهمَا وَرجع الْبَاقُونَ إِلَى الْملك فأخبروه بشأنهم فَأذن لَهُم وَبعث مَعَهم جمَاعَة من البنائين والعملة ليبنوا لَهُم مَا يتحصنون بِهِ فقدموا على إخْوَانهمْ وشرعوا فِي إدارة السُّور على قِطْعَة من الأَرْض فَنَذر بهم أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْمُسلمين وتسابقوا إِلَيْهِم على الصعب والذلول ففر النَّصَارَى إِلَى البريجة وتحصنوا بهَا وأفسد الْمُسلمُونَ كل مَا كَانُوا عملوه فِي تِلْكَ الْأَيَّام وأحجروهم بحصنهم وَوَضَعُوا عَلَيْهِم الرصد إِلَى أَن فتر عزمهم وَأَيِسُوا من نجاح سَعْيهمْ فَعَاد جلهم أَو كلهم إِلَى أشبونة وأعادوا الْكَلَام على ملكهم منويل فِي شَأْن البريجة ووصفوا لَهُ حسن الْبقْعَة وَصِحَّة هوائها ومنزلتها من الْبَحْر وَمن قبائل أهل الْمغرب من أهل تامسنا ودكالة وَغَيرهم وَأَنَّهَا عَسى أَن تكون سلما للاستيلاء(4/136)
على غَيرهَا من بِلَاد الْمغرب لَا سِيمَا ودولة الْمُسلمين بِهِ يَوْمئِذٍ قد تلاشت وملكهم قد ضعف فوقر ذَلِك فِي نفس الْملك واستأنف الْعَزْم وَبعث مَعَهم حِصَّة من الْعَسْكَر تحصل بهَا الْكِفَايَة وتتأتى بهَا المدافعة والممانعة مَعَ جمَاعَة وافرة من البنائين والمهندسين وَحَملهمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من آلَة وَغَيرهَا فَانْتَهوا إِلَى الْموضع الْمَذْكُور بعد سبع سِنِين من مقدمهم الأول وتحينوا غَفلَة أهل الْبِلَاد وشرعوا فِي بِنَاء حصن مربع على كل ربع مِنْهُ برج وثيق ودأبوا فِي الْعَمَل لَيْلًا وَنَهَارًا فَلم تمض مُدَّة يسيرَة حَتَّى فرغوا مِنْهُ وامتنعوا على الْمُسلمين بِهِ وَكَانَ إنشاؤهم لهَذَا الْحصن على البريجة الْقَدِيمَة بِأَن جعلوها أحد أَرْبَاعه وأضافوا إِلَيْهَا ثَلَاثَة أَربَاع أخر وأداروا السُّور على الْجَمِيع وَاتَّخذُوا فِي دَاخل هَذَا الْحصن ماجلا عَظِيما لخزن المَاء وَهُوَ النطفية فِي لِسَان الجيل بنوه مربعًا بتربيع الْحصن مساحة كل ربع مِنْهُ مائَة وَثَلَاثُونَ شبْرًا وجوانبه وقبوه من حجر النّصْف العجيب النحت الْمُحكم الْوَضع والالتئام مَحْمُولا ذَلِك القبو على سِتَّة أقواس فِي كل ربع قَالَ هَذَا الْمُؤلف وامتلاء نَحْو بلكاظة من هَذَا الماجن يسع عشْرين بوطة من المَاء ثمَّ شيدوا على أحد أَربَاع هَذَا الْحصن طريا عَظِيما مرتفعا جدا لَيْسَ صَادِق التربيع وَلَا الاستدارة غير مهندس الشكل ثمَّ بنوا فِي أَعْلَاهُ على أحد جوانبه بِنَاء آخر لطيفا مستديرا صاعدا فِي الجويرقي إِلَيْهِ على مدارج لَطِيفَة وَجعلُوا فِي أَعْلَاهُ صاريا خَارِجا من جَوْفه وناقوسا للحراسة يشرف الحارس مِنْهُ على نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ميلًا من سَائِر جهاته وَجَمِيع هَذِه البناءات الَّتِي ذكرهَا الْمُؤلف من الْحصن وَمَا مَعَه لَا زَالَت قَائِمَة الْعين والأثر إِلَى الْآن إِلَّا الطري فَإِنَّهُ قد اتخذ فِي هَذِه الْأَيَّام الَّتِي هِيَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف منارا لِلْمَسْجِدِ الْجَامِع وَذَلِكَ أَن عَامل الجديدة فِي هَذَا الْعَصْر وَهُوَ الرئيس الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري حفظه الله اسْتَأْذن الْخَلِيفَة وَهُوَ السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى الشريف أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الْعلوِي نَصره(4/137)
الله فِي جعله منارا لكَون الْمنَار الْقَدِيم قَصِيرا لَا يسمع النَّاس الْأَذَان فَأذن أعزه الله فِي ذَلِك وَهَذَا الْعَامِل الْيَوْم جاد فِي إِصْلَاحه وَالزِّيَادَة فِيهِ وَقد أشرف على التَّمام وَكَذَلِكَ اسْتَأْذن هَذَا الْعَامِل حَضْرَة السُّلْطَان الْمَذْكُور فِي إدارة جِدَار من دَاخل سور الْمَدِينَة يكون ستْرَة على منَازِل أَهلهَا وَبُيُوتهمْ لِأَن السُّور الْمَذْكُور كَانَ مرتفعا على الْبَلَد بِحَيْثُ يكون الصاعد عَلَيْهِ متكشفا على الْبيُوت واستأذنه فِي إصْلَاح الْقبَّة المشرفة على الْبَحْر الْمَعْرُوفَة بقبة الخياطين وَكَانَت قد تلاشت وباتخاذ سجن متسع مُحكم عَن يَمِين الدَّاخِل من بَاب الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة لِأَنَّهُ لم يكن بهَا سجن مُعْتَبر فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَة الْمَذْكُور إِلَى ذَلِك كُله أدام الله علاهُ وَقد تمّ جلّ ذَلِك وعادت الْقبَّة إِلَى أحسن حالاتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا أَيَّام البرتغال وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا
ولنرجع إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ فَنَقُول ثمَّ شرع نَصَارَى البرتغال بعد الْفَرَاغ من الْحصن الْمَذْكُور فِي إدارة سور الْمَدِينَة على أوثق وَجه وأحكمه وَذَلِكَ أَنهم عَمدُوا إِلَى بقْعَة مربعة من الأَرْض مساحة كل ربع مِنْهَا ثَلَاثمِائَة وَخمْس وَسَبْعُونَ خطْوَة وَجعلُوا مركزها الْحصن الْمَذْكُور ثمَّ أداروا بهَا سورين عاديين ثخن الْخَارِج مِنْهُمَا نَحْو خَمْسَة عشر شبْرًا والداخل على نَحْو الثُّلثَيْنِ مِنْهُ وَبَينهمَا فضاء مردوم بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَة الصَّغِيرَة فَصَارَ السوران بذلك سورا وَاحِد سعته خَمْسُونَ شبْرًا وَهَذَا فِي غير الرّبع الموَالِي للبحر أما هُوَ فَلَيْسَ فِيهِ ردم وَإِنَّمَا هُوَ سور وَاحِد مصمت أضيق مِمَّا عداهُ يَسِيرا وارتفاع هَذِه الأسوار من دَاخل الْبَلَد نَحْو سِتِّينَ شبْرًا وَمن خَارجه نَحْو السّبْعين ثمَّ أداروا خَارج السُّور خَنْدَقًا فسيحا وَجعلُوا عمقه أَرْبَعَة عشر شبْرًا بِحَيْثُ بلغُوا بِهِ المَاء وَإِذا فاض الْبَحْر مَلأ مَا بَين جوانبه وَاتَّخذُوا للمدينة ثَلَاثَة أَبْوَاب أَحدهَا للبحر وَهُوَ بَاب المرسى وَقد سد بِالْبِنَاءِ فِي هَذِه السنين وَاثْنَانِ للبر وَجعلُوا أمامهما قنطرتين بِالْعَمَلِ الهندسي بِحَيْثُ ترفعان وتوضعان وَقت الْحَاجة إِلَى ذَلِك فَصَارَت الْمَدِينَة بِهَذَا كُله فِي غَايَة المناعة(4/138)
وَكَانَ بَنو وطاس فِي هَذِه الْمدَّة أشغل من ذَات النحيين مَعَ برتقال سبتة وطنجة وَسَائِر بِلَاد الهبط فَلِذَا تَأتي لهَؤُلَاء النَّصَارَى أَن يَفْعَلُوا مَا فَعَلُوهُ فِي هَذِه الْمدَّة الْيَسِيرَة وَجعلُوا دَاخل الْمَدِينَة خمس حارات وَسموا كل حارة باسم كَبِير من قدمائهم على عَادَتهم فِي ذَلِك وَاتَّخذُوا بهَا أَربع كنائس وَاتَّخذُوا المخازن والأهراء للاختزان وَسَائِر الْمرَافِق وَمن جُمْلَتهَا هرى كَانَ يسع سِتّمائَة فنيكة من الْحبّ وأوطنوها بأهلهم وعيالهم وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من أَشْرَافهم وَذَوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وَغَيرهَا وَكَانُوا يعدون فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف نفس مَا بَين الْمُقَاتلَة والعيال والذرية وَكَانُوا يأملون الِاسْتِيلَاء مِنْهَا على مراكش فخيب الله رجاءهم ثمَّ ذكر هَذَا الْمُؤلف مَا كَانَ يَقع بَين الْمُسلمين ونصارى الجديدة من الحروب والغارات مِمَّا لَعَلَّنَا نشِير إِلَى بعضه فِي مَحَله إِن شَاءَ الله
اسْتِيلَاء البرتغال على سواحل السوس وبناؤهم حصن فونتي قرب أكادير وَمَا قيل فِي ذَلِك
ذكر بعض المؤرخين من الفرنج أَن اسْتِيلَاء البرتغال على آكادير كَانَ فِي مُدَّة ملكهم منويل الْمَذْكُور آنِفا وَإِن ذَلِك كَانَ على حِين غَفلَة من أهل تِلْكَ الْبِلَاد
قَالَ منويل لما علم طاغية البرتغال منويل أَن مرسى آكادير جَيِّدَة لمناعتها وَكَثْرَة تجارتها بِسَبَب مجاورتها لقبائل السوس أَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَكَانَ يظنّ أَن ذَلِك لَا يَتَأَتَّى لَهُ لحصانتها وَكَثْرَة الْقَبَائِل المجاورين لَهَا ثمَّ خاطر وَبعث إِلَيْهَا جَيْشًا فاستولوا عَلَيْهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَحَصَّنُوهَا وبنوا بهَا دورا وبرجا جيدا وَأخذُوا فِي التِّجَارَة بهَا مَعَ أهل السوس وَكَثُرت أرباحهم ثمَّ لما ضعفت شوكتهم خَرجُوا عَنْهَا وَعَن آسفي وآزمور قلت مُرَاده بآكادير حصن فونتي الْقَرِيب مِنْهُ وَإِلَّا فآكادير إِنَّمَا بني بعد هَذَا التَّارِيخ(4/139)
بِكَثِير كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ مُقْتَضى مَا ذكره أَن يكون زمَان استيلائهم عَلَيْهِ مُوَافقا أَو قَرِيبا لزمان استيلائهم على البريجة وَمُقْتَضى مَا نَقله فِي النزهة عَن ابْن القَاضِي أَن يكون استيلاؤهم عَلَيْهِ فِي حُدُود سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة فَإِنَّهُ لما وصف حَال السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله قَالَ وَكَانَ لَهُ بخت عَظِيم فِي الْجِهَاد فتح حصن النَّصَارَى بسوس بعد أَن أَقَامُوا بِهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة اه وَكَانَ فَتحه إِيَّاه فِي حُدُود سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَالظَّاهِر أَنهم استولوا على بعض حصون السوس فِي التَّارِيخ الأول وعَلى بَعْضهَا فِي الثَّانِي وَالله أعلم
وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي رَحمَه الله
ذكر ابْن القَاضِي فِي الجذوة أَن وَفَاة السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَت سنة عشر وَتِسْعمِائَة قَالَ وَمن حَملَة وزرائه أَخُوهُ النَّاصِر بن أبي زَكَرِيَّاء وَالله أعلم وَولي الْأَمر من بعده ابْنه مُحَمَّد البرتغالي على مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي رَحمَه الله
لما توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بُويِعَ ابْنه مُحَمَّد البرتغالي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ نَصَارَى سبتة وطنجة وآصيلا قد استحوذوا على بِلَاد الهبط وضايقوا الْمُسلمين بهَا حَتَّى ألجأوهم إِلَى قصر كتامة فَكَانَ هُوَ الثغر يَوْمئِذٍ بَين بِلَاد الْمُسلمين وبلاد النَّصَارَى كَمَا مر وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد هَذَا قد عني بجهادهم وترديد الْغَزْو إِلَيْهِم والإجلاب عَلَيْهِم حَتَّى شغل بذلك عَن الْبِلَاد المراكشية وسواحلها فَكَانَ ذَلِك سَببا لظُهُور الدولة السعدية بهَا سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله(4/140)
اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر آسفي حرسه الله
قَالَ منويل كَانَ البرتغال قد تشوفوا للاستيلاء على آسفي وَكَانَ أَهلهَا فيهم شجاعة أَكثر من غَيرهم من أهل الثغور فزحفوا إِلَيْهَا وَجرى بَينهم وَبَين أَهلهَا قتال شَدِيد هلك فِيهِ عدد كَبِير من البرتغال وَعظم عَلَيْهِم أَن تمْتَنع مِنْهُم بَلْدَة صَغِيرَة لَيْسَ لَهَا حامية سوى أَهلهَا ثمَّ طاولوها بالحصار حَتَّى قل الْقُوت عِنْد أهل آسفي وأشرفوا على الْهَلَاك فَحِينَئِذٍ شارطوا البرتغال وأسلموها إِلَيْهِم على الْأمان فاستولوا عَلَيْهَا وَحَصَّنُوهَا غَايَة لتوقعهم كرة الْمُسلمين عَلَيْهِم فَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُم زحفوا إِلَيْهِم بعد ثَلَاث سِنِين من أَخذهَا وَوَقع بَينهم وَبَين البرتغال حَرْب شَدِيدَة كَانَت صُفُوف الْمُسلمين تترادف فِيهَا كأمواج الْبَحْر وَقتل قواد عَسْكَر البرتغال وكبارهم ثمَّ قدمت عَلَيْهِم شكوادره من مادرة بالعسكر والزاد فَقَوِيت نفوس البرتغال وارتحل الْمُسلمُونَ عَنْهَا بعد أَن أشرفوا على الْفَتْح وتبعهم البرتغال لينتهزوا فيهم الفرصة فكر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم واستلبوهم وَهَذَا أول حِصَار كَانَ على آسفي
ثمَّ بعد سِنِين قَلَائِل زحف الْمُسلمُونَ إِلَيْهَا أَيْضا وَمَعَهُمْ عدد من المدافع وقاتلوا قتالا صعبا وزحفوا إِلَى السُّور فهدموا مِنْهُ ثلمة كَبِير وَاشْتَدَّ الْقِتَال عَلَيْهَا بِمَا خرج عَن الْعَادة ثمَّ رَحل الْمُسلمُونَ من غير فتح وأعرضوا عَنْهَا مُدَّة لم يحدثوا أنفسهم بِالْقِتَالِ وعمرت آسفي بالنصارى وانتقل إِلَيْهَا التُّجَّار وبنوا بهَا الدّور وَكَانُوا يسقون مِنْهَا الْحبّ ويحملونه فِي السفن إِلَى بِلَادهمْ وَلَعَلَّ ذَلِك لهدنة كَانَت لَهُم مَعَ الْمُسلمين
ثمَّ عَادَتْ للْمُسلمين بعد نَحْو ثَلَاث وَعشْرين سنة وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن مَا نَصه قَرَأت بِخَط شَيخنَا أبي عبد الله الْقصار أَن صَاحب آسفي أخرج الشَّيْخ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ مِنْهَا فَدَعَا عَلَيْهِم فَسئلَ مِنْهُ الْعَفو فَقَالَ أَرْبَعِينَ سنة فَأَخذهَا النَّصَارَى بعْدهَا اه وَهَذَا يَقْتَضِي أَن استيلاءهم عَلَيْهَا كَانَ فِي حُدُود(4/141)
عشر وَتِسْعمِائَة لِأَن وَفَاة الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَحمَه الله كَانَت فِي سنة سبعين وَثَمَانمِائَة كَمَا مر وَعند الفرنج مَا يَقْتَضِي أَن استيلاءهم عَلَيْهَا كَانَ بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ أَو ثَلَاث وَالله أعلم
زحف السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي إِلَى آصيلا
قَالَ منويل لما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي أَرَادَ أَن يَأْخُذ بثأره من البرتغال الَّذين أسروه لسبع سِنِين فزحف إِلَى آصيلا فِي حُدُود أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة وحاصرها وَطَالَ قِتَاله عَلَيْهَا ثمَّ اقتحمها الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم اقتحاما واقتتلوا فِي وسط الْأَزِقَّة والأسواق يَوْمَيْنِ ثمَّ جَاءَ المدد إِلَى البرتغال من طنجة وجبل طَارق فَقَوِيت نُفُوسهم وَخرج الْمُسلمُونَ عَنْهُم لَكِن مَا خَرجُوا حَتَّى هدموها وأحرقوها وَلم يتْركُوا لَهُم بهَا إِلَّا الخربات ثمَّ جد البرتغال فِي إصلاحها وَأَقَامُوا بهَا بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن رجعت للْمُسلمين
اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر آزمور حرسه الله
قَالَ منويل بعث طاغية البرتغال أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة إِلَى ثغر آزمور شكوادره فِيهَا أَلفَانِ من الْعَسْكَر وَأَرْبَعمِائَة خيالة فدافعهم زيار الوطاسي ابْن عَم السُّلْطَان ونشبت مراكب البرتغال فِي السَّاحِل وتكسر جلها وعاث فِيهَا الْمُسلمُونَ وَرجع الْبَاقِي مفلولا ثمَّ بعد أَربع سِنِين بعث إِلَيْهَا الطاغية منويل شكوادره فِيهَا عشرُون ألفا من الْعَسْكَر وَأَلْفَانِ وَسَبْعمائة خيالة فَانْتَهوا إِلَى آزمور وحاصروها بحرا وزحفوا إِلَيْهَا من الجديدة برا وَوَقع حَرْب شَدِيدَة بَينهم وَبَين أهل آزمور وَأهل الْبَادِيَة ثمَّ انهزم الْمُسلمُونَ وَخَرجُوا من بَاب تَركه لَهُم البرتغال قصدا قَالَ لِأَنَّهُ يُقَال فِي الْمثل الفار مِنْك فِي الْحَرْب(4/142)
اجْعَل لَهُ قنطرة من فضَّة يعبر عَلَيْهَا
وَقَالَ فِي النزهة كَانَ نزُول النَّصَارَى بآزمور سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة قَالَ وَفِي هَذِه السّنة بنى النَّصَارَى حجر باديس وَفِي أَوَاخِر الْمحرم مِنْهَا أَخذ النَّصَارَى يَعْنِي الإصبنيول مَدِينَة وهران ونكبوا أَهلهَا فَمَا مِنْهُم إِلَّا أَسِير أَو قَتِيل إِلَى أَن أَعَادَهَا الله لِلْإِسْلَامِ على يَد الأتراك فِي حُدُود الْعشْرين وَمِائَة وَألف اه
قلت أهل آزمور يَزْعمُونَ أَن اسْتِيلَاء البرتغال على مدينتهم كَانَ متكررا وَسَيَأْتِي مَا يفهم مِنْهُ ذَلِك وَالله أعلم
وَمن أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله مَا وقفت عَلَيْهِ فِي تَارِيخ البرتغاليين من أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كتب لطاغيتهم منويل يطْلب مِنْهُ أَن يتَقَدَّم بالوصاة لأَصْحَاب قراصينه البحرية أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمركبين لَهُ كَانَ قد عزم على بعثهما إِلَى الجزائر ثمَّ مِنْهَا إِلَى تونس وَكَانَ الطاغية لم يجبهُ أَو أَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فكرر إِلَيْهِ الْكتاب ثَانِيًا فِي الْقَضِيَّة الْمَذْكُورَة وسرد هَذَا المؤرخ نَص الْكِتَابَيْنِ مَعًا مترجمين بلغته وَذكر أَن تَارِيخ الأول مِنْهُمَا الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وتاريخ الثَّانِي الثَّامِن وَالْعشْرُونَ من ذِي الْقعدَة من السّنة اه
اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر المعمورة حرسه الله
قَالَ فِي نشر المثاني إِن الَّذِي اختط حصن المعمورة هُوَ الْمهْدي الشيعي على يَد بعض عماله وَزعم بعض الفرنج أَن المعمورة من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي قَالَ وَلما كَانَ زمن منويل البرتغالي بلغه أَن مينا المعمورة جَيِّدَة وبلادها نفاعة فَبعث إِلَيْهَا طَائِفَة من جنده فوصلوا إِلَى ساحلها ونزلوا فِي الْبر الْمُقَابل لَهَا وبنوا هُنَالك برجا لحصارها ثمَّ أردفهم ملكهم الْمَذْكُور بعمارة تشْتَمل على مِائَتي مركب مشحونة بِثمَانِيَة آلَاف(4/143)
من الْمُقَاتلَة قَالَ وَكَانَ خُرُوج هَذِه الْعِمَارَة من مَدِينَة أشبونة فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من يونيه العجمي سنة ألف وَخَمْسمِائة وَخمْس عشرَة مسيحية قلت يُوَافِقهَا من تَارِيخ الْهِجْرَة تَقْرِيبًا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فوافت مينا المعمورة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من يوينه الْمَذْكُور وحاصروها وألحوا عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ أَيَّامًا وَبلغ الْخَبَر بذلك إِلَى السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي فَبعث أَخَاهُ النَّاصِر صريخا فِي جَيش كثيف فوصل سادس أغشت من السّنة الْمَذْكُورَة وَقَاتل البرتغال قتالا شَدِيدا وَهَزَمَهُمْ هزيمَة قبيحة ثمَّ كَانَت لَهُم الكرة على الْمُسلمين فهزموهم واستولوا على المعمورة وَثَبت قدمهم بهَا وَحَصَّنُوهَا بالسور الْمَوْجُود بهَا الْآن واستمروا بهَا نَحْو خمس سِنِين ثمَّ استرجعها الْمُسلمُونَ مِنْهُم فِي دولة السُّلْطَان الْمَذْكُور وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي السّنة الَّتِي استولوا على المعمورة رجعُوا إِلَى مَوضِع مَدِينَة آنفي فشرعوا فِي بنائها وَمن يَوْمئِذٍ سميت الدَّار الْبَيْضَاء وبقوا بهَا مُدَّة طَوِيلَة إِلَى زمن السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل على مَا زعم منويل
أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني رَضِي الله عَنهُ
أصل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله الغزواني دَفِين حومة الْقُصُور من مراكش من غَزوَان قَبيلَة من عرب تامسنا وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره يقْرَأ الْعلم بمدرسة الْوَادي من عدوة الأندلس بفاس فحصلت لَهُ إِرَادَة فسافر إِلَى مراكش ولازم الشَّيْخ التباع وَتخرج بِهِ ثمَّ انْتقل إِلَى بِلَاد الهبط فَنزل بهَا على قَبيلَة يُقَال لَهُم بَنو فزنكار وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس واشتهر أمره وَعظم صيته فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان أَبَا عبد الله وَكَانَ يَوْمئِذٍ بِبِلَاد الهبط قد خرج إِلَيْهَا بِقصد الْغَارة على نَصَارَى آصيلا وَكَانَ مَعَه فِي هَذِه الْحَرَكَة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور فَتوهم السُّلْطَان الْمَذْكُور من أَمر الشَّيْخ الغزواني وخشي(4/144)
على الدولة عَاقِبَة أمره وأغراه بِهِ مَعَ ذَلِك الْفَقِيه ابْن عبد الْكَبِير البادسي السفياني الأَصْل وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه يصحب الْوُلَاة والعمال وَيخرج فِي بعوثهم قَاضِيا فكثرت سعايته بالشيخ حَتَّى وقر ذَلِك فِي نفس السُّلْطَان فَبعث إِ ليه فَحَضَرَ وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ بالموضع الْمَعْرُوف بتاجناوت وَجعله فِي سلسلة وَبعث بِهِ إِلَى فاس وَتقدم فِي شَأْنه إِلَى ابْن شقرون صَاحب شرطته بقصبة فاس الْقَدِيم وَكَانَ الشَّيْخ ابْن غَازِي قد مرض فِي هَذِه الْغَزْوَة وَأمر السُّلْطَان بِحمْلِهِ إِلَى منزله من فاس فَلَمَّا وصل إِلَى قرب عقبَة المساجين اشْتَدَّ بِهِ الْحَال وَأمر أَصْحَابه أَن يريحوا بِهِ هُنَالك فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ مر بِهِ الشَّيْخ الغزواني فِي سلسلته فَسَأَلَ الموكلين بِهِ أَن يعوجوا بِهِ على الشَّيْخ ابْن غَازِي كي يعودهُ وَيُؤَدِّي حَقه فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ طلب ابْن غَازِي مِنْهُ الدُّعَاء فَدَعَا لَهُ بِخَير وَانْصَرف فَلَمَّا غَابَ عَنهُ قَالَ ابْن غَازِي لأَصْحَابه احْفَظُوا وصيتي فَإِنِّي راحل عَنْكُم إِلَى الله تَعَالَى بِلَا شكّ قَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي مَا عنْدك باس فَقَالَ إِن الله وَعَدَني أَن لَا يقبض روحي حَتَّى يريني وليا من أوليائه وَقد أرانيه السَّاعَة فدلني ذَلِك على انْقِضَاء الْأَجَل فَحَمَلُوهُ من حِينه إِلَى منزله فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ هَكَذَا سَاق هَذَا الْخَبَر صَاحب الدوحة فِي ترجمتي الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين
وَكَانَت وَفَاة ابْن غَازِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَقَالَ صَاحب الْمرْآة عَن بعض شُيُوخه بعد أَن ذكر سِعَايَة ابْن عبد الْكَبِير بالشيخ الغزواني مَا نَصه فَتحَرك الشَّيْخ الغزواني لزيارة ضريح الشَّيْخ أبي سلهام فَعرض لَهُ العروسي قَائِد الْقصر الْكَبِير وناوله كتاب السُّلْطَان يَأْمُرهُ فِيهِ بقدوم الشَّيْخ إِلَى فاس دَار الْملك إِذْ ذَاك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ طَاعَة السُّلْطَان وَاجِبَة وَقَالَ للزائرين مَعَه بلغت النِّيَّة فَتوجه الشَّيْخ إِلَى فاس من ذَلِك الْمَكَان وَكلما بَات فِي منزل ذهبت جمَاعَة من الَّذين مَعَه فَلم يصل مَعَه إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْبَقَاء عبد الْوَارِث اليالصوتي إِذْ ذَاك سَاكِنا بفاس(4/145)
وَلم يكن صحب الشَّيْخ قبل ذَلِك فَلَمَّا دخل الشَّيْخ حَضْرَة فاس لقِيه أَبُو الْبَقَاء الْمَذْكُور فَسلم عَلَيْهِ فَشد الشَّيْخ يَده على يَده فَلم يرسلها حَتَّى عاهده على الرُّجُوع فَلَمَّا انْفَصل عَنهُ اشْترى خبْزًا وَعِنَبًا وَحمل ذَلِك إِلَى الشَّيْخ وَأَصْحَابه فَوَجَدَهُمْ عِنْد القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله اليفرني المكناسي وَهُوَ مؤلف الْمجَالِس المكناسية فَوَجَدَهُمْ فِي الْمَسْجِد الْقَرِيب من دَار القَاضِي الْمَذْكُور بدرب السُّعُود فناولهم مَا مَعَه وَوجد الشَّيْخ موكلا بِهِ وَأَصْحَابه يدْخلُونَ وَيخرجُونَ ثمَّ دخل القَاضِي على الشَّيْخ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك قَالَ أَبُو الْبَقَاء فتكلمت أَنا وَقلت إِن هَذَا الرجل قد نزل بَلَدا عَظِيمَة المناكر وَأخذت أعدد مناكرها وَصَارَ هَذَا السَّيِّد ينهاهم عَن ذَلِك فهدى الله على يَده من هدى وشنئه من أَبى فَقَامَ القَاضِي وَركب إِلَى دَار السُّلْطَان ثمَّ رَجَعَ إِلَى منزله فَبَاتَ وَمن الْغدر ركب إِلَى دَار السُّلْطَان أَيْضا وَمَعَهُ الشَّيْخ الغزواني فَلَمَّا اطْمَأَن بهم مجْلِس السُّلْطَان وَكَانَ فِيهِ صَاحب تازا وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الشَّيْخ أَخُو السُّلْطَان الْمَذْكُور سكت الْجَمِيع وَتكلم كَاتب السُّلْطَان وَإِمَام صلَاته قَالَ صَاحب الْمرْآة وَلم يسم لنا فَقَالَ للشَّيْخ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَنْت لَا تَتَكَلَّم حَتَّى تَغْتَسِل من جنابتك فاستشاط الْكَاتِب غَضبا فَقَالَ لَهُ أَخُو السُّلْطَان هَؤُلَاءِ الْقَوْم يعنون الْجَنَابَة غير مَا تعنيه الْعَامَّة يُشِير إِلَى مَا فِي الحكم فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان وَمن أَيْن تعرف هَذَا فَقَالَ لَهُ من سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن يَجِيش ففرح السُّلْطَان بِمَعْرِِفَة أَخِيه ذَلِك وَقَالَ للشَّيْخ نَحن نُرِيد قربك وَأَن تكون مَعنا فِي هَذِه الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ على بركَة الله فانتقل إِلَى فاس الْقَدِيم وَبنى خَارج بَاب القليعة دَاخل بَاب الْفتُوح وَأقَام هُنَالك مَا شَاءَ الله قيل سبع سِنِين إِلَى أَن كَانَت سنة تعذر فِيهَا الْمَطَر وَأخذ النَّاس فِي اسْتِخْرَاج السواقي للحرث فَأخْرج الشَّيْخ من وَادي اللَّبن ساقية لم يكن(4/146)
فِي سواقي السُّلْطَان وَغَيره مثلهَا فَبعث إِلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان وَهُوَ النَّاصِر الملقب بالكديد بِالْكَاف المعقودة وَالدَّال الْمُشَدّدَة على لُغَة الْعَامَّة وَقَالَ لَهُ نَحن أَحَق بِتِلْكَ الساقية فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ خُذْهَا وَأخذ فِي الرحيل إِلَى مراكش وَلما توجه تلقاءها أَخذ خنيفه فِي يَده وَجعل يُشِير بِهِ من جِهَة فاس إِلَى جِهَة مراكش وَيَقُول أيا يَا سلطنة إِلَى مراكش قَالَ صَاحب الْمرْآة هَذَا حَدِيث شَيخنَا أبي عبد الله النيجي قَالَ وآخنيف مَعْرُوف وَهُوَ نوع من البرانس السود وَمعنى أيا بلغَة عَامَّة الْمغرب سيري معي وَمَوْضِع بني فزنكار أَظُنهُ تاصروت فَإِن بهَا رسما مَنْسُوبا إِلَيْهِ إِلَى الْآن وَأَنه منزله الَّذِي كَانَ يأوي إِلَيْهِ وَمَا زَالَت آثاره هُنَالك وَالدَّار الَّتِي بنى بِبَاب القليعة هِيَ المتصيرة إِلَى تِلْمِيذه الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْهَرَوِيّ الْمَعْرُوف بالطالب وَلَعَلَّ سنة إِخْرَاج السواقي هِيَ سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فَإِنَّهُ قد تعذر فِيهَا الْمَطَر وَحدث الغلاء الْكَبِير المؤرخ بِسنة سبع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى انْتِقَال السلطنة عَن بني وطاس مُلُوك فاس إِلَى الشرفاء السعديين مُلُوك مراكش يَوْمئِذٍ وَالله أعلم
نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي إِلَى مراكش ومحاصرته أَبَا الْعَبَّاس الْأَعْرَج السَّعْدِيّ بهَا
قد تقدم لنا أَن ظُهُور الدولة السعدية بِبِلَاد السوس كَانَ فِي سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة وَمَا زَالَ أَمرهم فِي الزِّيَادَة إِلَى أَن كَانَت دولة أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج مِنْهُم فاستفحل أمره وَبعد صيته وفتك بنصارى السوس فكاتبه أُمَرَاء هنتاتة أَصْحَاب مراكش ودخلوا فِي طَاعَته فانتقل إِلَيْهَا وملكها فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان أبي عبد الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس قَامَت قِيَامَته وَأَقْبل فِي جموع عديدة وَمَعَهُ وزيره ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر كَذَا فِي النزهة وَالَّذِي عِنْد غَيره أَن الْوَزير الَّذِي جَاءَ مَعَه هُوَ النَّاصِر(4/147)
أَخُو السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلما رأى أَبُو الْعَبَّاس السَّعْدِيّ مَا لَا قبل لَهُ بِهِ تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة فَتقدم السُّلْطَان أَبُو عبد الله وَنصب الأنفاض على مراكش ودام الْحصار عَلَيْهَا أَيَّامًا فيحكى أَنه قيل للشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَكَانَ قد استوطن مراكش يَوْمئِذٍ أَن أهل مراكش سئموا الْحصار فَركب الشَّيْخ فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وَخرج من بَاب فاس الْمَعْرُوف الْيَوْم بِبَاب الْخَمِيس فَوجدَ رُمَاة السُّلْطَان أبي عبد الله يرْمونَ من علا الأسوار من أهل الْبَلَد فَوقف الشَّيْخ ينظر فَجَاءَت رصاصة ضربت صَدره وخرقت الْجُبَّة الَّتِي عَلَيْهِ والتصقت بِلَحْمِهِ كَأَنَّهَا وَقعت فِي صَخْرَة صماء فَقبض عَلَيْهَا بِيَدِهِ وَقَالَ هَذِه خَاتِمَة حربهم ثمَّ رَجَعَ إِلَى منزله فوردت الأنباء على السُّلْطَان أبي عبد الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بِأَن بني عَمه قد قَامُوا عَلَيْهِ بفاس ونبذوا دَعوته فَأصْبح من الْغَد راحلا إِلَى فاس وَظهر مصداق مَا قَالَ الشَّيْخ الغزواني وَلم يعد لبني وطاس وُصُول بعْدهَا إِلَى مراكش وَلَا إِلَى أَعمالهَا وَالله تَعَالَى أعلم
ذكر وزراء السُّلْطَان أبي عبد الله وَمَا قيل فيهم
كَانَ من جملَة وزرائه ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر وَهُوَ الَّذِي زحف مَعَه إِلَى مراكش على مَا فِي النزهة وَكَانَ من جملَة وزرائه القائمين بأَمْره أَخُوهُ النَّاصِر بن مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَعْرُوف عِنْد عَامَّة فاس بِأبي علاقَة وبالكديد على مَا مر قَالَ فِي الجذوة لقب بذلك لِكَثْرَة سفكه الدِّمَاء وإقدامه عَلَيْهِ فَكَانَ يقتل النَّاس ويجزرهم كثيرا وَكَذَا بمكناسة أَيَّام وزارته بهَا كَذَا حدث غير وَاحِد مِمَّن أدْركهُ وَرَآهُ وَتُوفِّي الْوَزير الْمَذْكُور سنة ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة
وَفَاة السُّلْطَان أبي عبد الله رَحمَه الله
كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة على مَا فِي الجذوة وَيُؤْخَذ من النزهة أَنَّهَا كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وَالله أعلم وَولي الْأَمر من بعده أَخُوهُ أَبُو حسون بِولَايَة عَهده إِلَيْهِ(4/148)
الْخَبَر عَن الدولة الأولى للسُّلْطَان أبي حسون بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن زيار الوطاسي وَيعرف بِأبي حسون البادسي قَالَ فِي النزهة بُويِعَ بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ قبض عَلَيْهِ ولد أَخِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد البرتغال وخلعه وَأشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ آخر ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة انْتهى
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الوطاسي رَحمَه الله تَعَالَى
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي عبد الله مُحَمَّد البرتغالي ابْن أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان الوطاسي بُويِعَ يَوْم خلع عَمه أبي حسون آخر ذِي الْحجَّة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ ابْن القَاضِي وَقد رَأَيْت الْبيعَة الَّتِي كتبت لَهُ بِخَط الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد ابْن أَحْمد الوانشريسي من إنشائه وَعَلَيْهَا خطوط جمَاعَة من فُقَهَاء فاس كَأبي الْعَبَّاس الحباك والفقيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد الماواسي وَغَيرهمَا اه
قَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي النزهة وَانْظُر مَا وَجه كتب الْبيعَة لِأَحْمَد مَعَ أَن خلع أبي حسون لم يكن لموجب والوانشريسي من أهل الْوَرع وَقَالَ وَلَعَلَّه لأمر لم يظْهر لنا وَالله أعلم اه وَقَالَ ابْن عَسْكَر فِي الدوحة لما توفّي السُّلْطَان أَبُو عبد الله البرتغالي ودالت الدولة لوَلَده السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد وغص بالشرفاء القائمين عَلَيْهِ بِبِلَاد السوس وزوحم بهم عقد الْهُدْنَة مَعَ النَّصَارَى المحاورين لَهُ بِبِلَاد الهبط وصاحبهم سُلْطَان البرتغال فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن يحيى البهلولي وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد وَمِمَّنْ لَهُ وصلَة بالسلطان أبي عبد الله فَكَانَ إِذا جَاءَهُ زَائِرًا حضه على الْغَزْو(4/149)
فيساعده على مَا أَرَادَ من ذَلِك فَلَمَّا بلغ الشَّيْخ الْمَذْكُور مَا عقده السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس من الصُّلْح آلى على نَفسه أَن لَا يلقى السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلَا يمشي إِلَيْهِ وَلَا يقبل مِنْهُ مَا كَانَ عينه لَهُ وَالِده من جِزْيَة أهل الذِّمَّة بفاس لقُوته وقوت عِيَاله فَمَكثَ على ذَلِك إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة وَكَانَ فِي النزع وَأَصْحَابه دائرون بِهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي أخْبرك أَن السُّلْطَان أَمر بالغزو وَأمر بالنداء بِهِ وحض النَّاس عَلَيْهِ والمسلمون فِي شَره لذَلِك وَفَرح فَفتح الشَّيْخ عَيْنَيْهِ وتهلل وَجهه فَرحا وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ فَفَاضَتْ نَفسه وَهُوَ مسرور بذلك اه
وقْعَة آنماي بَين الوطاسيين والسعديين
قد تقدم لنا فِي خبر السُّلْطَان أبي عبد الله أَنه لما حاصر مراكش وأصابت الرصاصة الشَّيْخ الغزواني قَالَ هَذِه خَاتِمَة حربهم وَلم يعد لبني وطاس وُصُول إِلَى مراكش وَلَا إِلَى أحوازها قَالَ فِي النزهة فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج يتلاقى مَعَ أبي الْعَبَّاس الوطاسي بتادلا وأحوازها قَالَ وَكَانَت بَينهمَا معركة بِموضع يُقَال لَهُ آنماي وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة فَافْتَرقَا على اصْطِلَاح اه وآنماي مَوضِع قرب مراكش بِهِ زَاوِيَة الشَّيْخ أبي الْعَزْم رحال الكوش(4/150)
عقد الصُّلْح بَين السلطانين أبي الْعَبَّاس الوطاسي وَأبي الْعَبَّاس السَّعْدِيّ رحمهمَا الله تَعَالَى
لما رأى أهل الْمغرب مَا وَقع بَين السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي صَاحب فاس وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالأعرج صَاحب مراكش من التقاتل على الْملك والتهالك عَلَيْهِ وفناء الْخلق بَينهم دخلُوا فِي الصُّلْح بَينهم والتراضي على قسْمَة الْبِلَاد وَحضر لذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء والصلحاء مِنْهُم أَبُو حَفْص عمر الْخطاب دَفِين جبل زرهون وَأَبُو الرواين المحجوب دَفِين مكناسة الزَّيْتُون وَكَانَ صَاحب حَال وجذب فَجعل النَّاس يوصونه بِالسُّكُوتِ مَخَافَة أَن يفْسد عَلَيْهِم أَمرهم فَلَمَّا دخلُوا على أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وأخيه وزيره مُحَمَّد الشَّيْخ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ جَاءُوا لأَجله وجدوا فيهمَا شدَّة وغلظة وامتناعا من مساعدتهم على مَا أَرَادوا فَحلف أَبُو حَفْص الْخطاب لَا دخلوها يَعْنِي فاسا مَا دمت على وَجه الأَرْض فَمَا دخلوها حَتَّى مَاتَ بعد مُدَّة فَكَانَ بَعضهم يَقُول لَو كَانَ بَنو وطاس يعْرفُونَ شَيْئا مَا دفنُوا أَبَا حَفْص الْخطاب يَعْنِي لتركوه فِي تَابُوت على وَجه الأَرْض لِأَنَّهُ حلف لَا دخلوها مَا دَامَ على وَجه الأَرْض حَكَاهُ صَاحب ممتع الأسماع وَذكر فِي شرح زهرَة الشماريخ أَن الصُّلْح انبرم بَين الطَّائِفَتَيْنِ على أَن للأشراف من تادلا إِلَى السوس ولبني وطاس من تادلا إِلَى الْمغرب الْأَوْسَط وَإِن مِمَّن حضر الصُّلْح الْمَذْكُور قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أَبَا الْحسن عَليّ بن هَارُون المطغري بِالطَّاءِ الْمُهْملَة مطغرة تلمسان وَالْإِمَام الشهير أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي وَغَيرهمَا من مَشَايِخ فاس وَيذكر أَنه لما تواطأت كلمة الْحَاضِرين على الصُّلْح وعقدوا شُرُوطه وهدأت الْأَصْوَات وَسكن اللجاج أَتَى بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس ليكتب الصُّلْح فَمَا وضعت الدواة بَين يَدي أحد الْفُقَهَاء الْحَاضِرين إِلَّا وجم وانقبض وَدفعهَا عَن نَفسه استحياء فِي ذَلِك المحفل أَن يكْتب مَا لَا يُنَاسب الْجِهَتَيْنِ فَقَامَ قَاضِي الْجَمَاعَة الْمَذْكُور وَأخذ الدواة وأساودها ووضعها بَين يَدي أبي مَالك(4/151)
الْمَذْكُور فَأَنْشَأَ أَبُو مَالك فِي الْحِين خطْبَة بليغة ونسج الصُّلْح على منوال عَجِيب واخترع أسلوبا غَرِيبا تحير فِيهِ الْحَاضِرُونَ وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته فِي مثل ذَلِك المشهد الْعَظِيم الَّذِي تخرس فِيهِ ألسن الفصحاء هَيْبَة وإكبارا فَقَامَ قَاضِي الْجَمَاعَة وَقَبله بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ جَزَاك الله عَن الْمُسلمين خيرا وَمَا هِيَ بِأول بركتكم يَا آل أبي بكر وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة اه
غَزْوَة الْحمر قرب آصيلا حرسها الله
ذكر صَاحب الدوحة فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الشاوي رَحمَه الله أَنه اسْتشْهد فِي وقْعَة الْحمر الَّتِي كَانَت فِي حُدُود أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة بَين النَّصَارَى والقائد عبد الْوَاحِد بن طَلْحَة العروسي على مقربة من آصيلا قَالَ حَدثنِي غير وَاحِد مِمَّن يوثق بِهِ مِمَّن حضر الْوَقْعَة وَبَعْضهمْ يصدق بَعْضًا قَالُوا لما انهزم النَّاس اسْتقْبل الشَّيْخ أَبُو الْحسن النَّصَارَى وسيفه فِي يَده وَهُوَ يَتْلُو بردة البوصيري فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ وَلما رَجَعَ النَّاس من الْغَد ليحملوا قتلاهم لم يُوقف لَهُ على عين وَلَا أثر وَإِنَّمَا وجد غنباز من لِبَاسه عِنْد النَّصَارَى وَفِيه أثر طعنة فِي صَدره اه كَلَام الدوحة
وَفِي الْمرْآة أَن الشَّيْخ الْمَذْكُور مَاتَ فِي حَيَاة شَيْخه الغزواني شَهِيدا فِي الْجِهَاد سنة خمس وَعشْرين وَتِسْعمِائَة اه وَلَعَلَّه الصَّوَاب
والعروسي الْمَذْكُور هُوَ من أُمَرَاء بني عبد الحميد العروسيين أَصْحَاب قصر كتامة وَكَانَت لَهُم رياسة وسياسة وَجِهَاد فِي الْعَدو إِلَى أَن انقرض أَمرهم أَعْوَام الْخمسين وَتِسْعمِائَة
قَالَ فِي الدوحة أخبر غير وَاحِد من فُقَهَاء قصر كتامة أَن الشَّيْخ أَبَا الرواين جَاءَ إِلَى الْقصر وَصَاحبه يَوْمئِذٍ الْقَائِد عبد الْوَاحِد العروسي فِي عصبَة من أَقَاربه أَوْلَاد عبد الحميد فَصَعدَ أَبُو الرواين صومعة الْمَسْجِد ثمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوته يَا بني عبد الحميد اشْتَروا مني الْقصر وَإِلَّا خَرجْتُمْ مِنْهُ(4/152)
فِي هَذِه السّنة فَسمع الْقَائِد عبد الْوَاحِد ذَلِك فَقَالَ إِن كَانَ الْقصر لَهُ أَو بِيَدِهِ فلينزعه منا مَا بَقِي لنا إِلَّا كَلَام الحمقى نلتفت إِلَيْهِ وَمن الْغَد خرج الشَّيْخ أَبُو الرواين من الْبَلَد وَهُوَ يَقُول الْقَائِد عبد الْوَاحِد وَأَهله يخرجُون من الْقصر وَلَا يعودون إِلَيْهِ أبدا فَكَانَ كَذَلِك بقدرة الله تَعَالَى
وقْعَة أبي عقبَة بوادي العبيد وَمَا كَانَ فِيهَا بَين الوطاسيين والسعديين من الْقِتَال الشَّديد
هَذِه الْوَقْعَة من أعظم الوقعات الَّتِي كَانَت تكون بَين الوطاسيين والسعديين وَمَا زَالَت الْعَامَّة تَتَحَدَّث بهَا فِي أنديتها إِلَى الْآن ويبالغون فِي وصفهَا وَالْأَخْبَار عَنْهَا وَقد ذكرهَا شعراؤهم فِي أزجالهم الملحونة وَهِي مَحْفُوظَة فِيمَا بَينهم وَذَلِكَ أَنه لما طمى عباب السعديين على بِلَاد الْحَوْز وكادوا يلجون على الوطاسيين دَار ملكهم من فاس نَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة يجر الشوك والمدر فِي جمع كثيف من الْجند وقبائل الْعَرَب فِي حللها وظعنها وَجَاء أَبُو الْعَبَّاس السَّعْدِيّ فِي قبائل الْحَوْز بحللها وظعنها كَذَلِك فَكَانَ اللِّقَاء بمشروع أبي عقبَة أحد مشارع وَادي العبيد من تادلا فنشبت الْحَرْب وتقاتل النَّاس وبرز أهل الحفائظ مِنْهُم والتراث وَقَاتل النَّاس على حرمهم وأحسابهم وعزهم فأفنى بَعضهم بَعْضًا إِلَّا قَلِيلا ودامت الْحَرْب أَيَّامًا على مَا قيل إِلَى أَن كَانَت الْهَزِيمَة على الوطاسيين عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة ثامن صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي الجذوة فَرجع السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي إِلَى فاس وَبقيت محلته وقصبة تادلا بَين الشريف السعيد قَالَ وَتسَمى هَذِه السّنة سنة أبي عقبَة
وَقَالَ فِي الْمرْآة وَمِمَّا اشْتهر من كرامات الشَّيْخ أبي طَلْحَة مُحَمَّد المصباحي الشاوي الزناتي أَنه لما التقى مقاتلة فاس وسلطانهم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي ومقاتلة مراكش وسلطانهم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج وَمَعَهُ(4/153)
أَخُوهُ الْمُتَوَلِي بعده أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة على مشرع أبي عقبَة من وَادي العبيد انهزم السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي وَتَفَرَّقَتْ جموعه وتبعته الْخَيل فكادوا يقبضون عَلَيْهِ فَحَضَرَ هُنَالك رجل على فرس أُنْثَى فَجعل يحول بَينه وَبينهمْ وَيَقُول لَهُ سر يَا أَحْمد وَلَا تخف وَلم يزل مَعَه إِلَى أَن رجعُوا عَنهُ وَأمن الطّلب وَقد عرف السُّلْطَان صفته وتحققها وَلم يزل يسْأَل عَن صَاحب تِلْكَ الصّفة حَتَّى قيل لَهُ هَذِه صفة أبي طَلْحَة المصباحي وَتحقّق ذَلِك وَلما كَانَ خُرُوج السُّلْطَان الْمَذْكُور الَّذِي وصل فِيهِ تطاوين وَتزَوج بهَا الْحرَّة بنت الْأَمِير السَّيِّد أبي الْحسن عَليّ بن مُوسَى ابْن رَاشد الشريف وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وبتطاوين بنى بهَا وَقصد أَبَا طَلْحَة الْمَذْكُور وَنزل عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ عرفه وأيقن أَنه الرجل الَّذِي أغاثه فأكب عَلَيْهِ السُّلْطَان وَذكر مَا وَقع لَهُ مَعَه فَقَالَ الشَّيْخ يَا رب كَيفَ الْعَيْش مَعَ هَذِه الشُّهْرَة فاقبضني إِلَيْك فَمَاتَ عقب ذَلِك من سنته قَالَ فِي الْمرْآة سَمِعت هَذِه الْحِكَايَة من غير وَاحِد وَسَأَلت شَيخنَا أَبَا الْقَاسِم بن أبي طَلْحَة الْمَذْكُور فَقَالَ لي أَعقل مَجِيء السُّلْطَان وَأَنا صَغِير جدا أقعد فِي حجر أبي وَعند ركبته اه قلت والأمير أَبُو الْحسن بن رَاشد الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي اختط مَدِينَة شفشاون كَمَا مر وَذكر فِي الْمرْآة أَن وَفَاته كَانَت سنة سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة فَيكون السُّلْطَان الْمَذْكُور إِنَّمَا تزوج ابْنَته بعد وَفَاته وَلَعَلَّه خطبهَا من أَخِيهَا الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن مَا سلكناه هُنَا من تَقْدِيم قَضِيَّة الصُّلْح على وقْعَة أبي عقبَة هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ التَّارِيخ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ وَسَيَأْتِي بعد هَذَا مَا رُبمَا يفهم مِنْهُ أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ وَالْجَوَاب أَن قَضِيَّة الصُّلْح تَكَرَّرت حَسْبَمَا يُؤْخَذ مِمَّا مر وَالله أعلم وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا عقد السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي مَعَ برتقال آسفي صلحا على ثَلَاث سِنِين وَدخل فِي هَذَا العقد آسفي والجديدة وآزمور وَكتب البرتغال بذلك إِلَى ملكهم وَوَقعت المحادة فِي الْبِلَاد وتفرغ الوطاسي لقِتَال السعديين(4/154)
بِنَاء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي قنطرة الرصيف بفاس حرسها الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي قد جدد بِنَاء قنطرة الرصيف بِحَضْرَة فاس وَذَلِكَ منتصف سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَفِي ذَلِك يَقُول الْفَقِيه أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي مُشِيرا إِلَى التَّارِيخ الْمَذْكُور
(جسر الرصيف أَبُو الْعَبَّاس جدده ... فَخر السلاطين من أَبنَاء وطاس)
(فجَاء فِي غَايَة الإتقان مرتفقا ... لمن يمر بِهِ من عدوتي فاس)
(وَكَانَ تجديده فِي نصف عَام غنا ... من هِجْرَة الْمُصْطَفى الْمَبْعُوث للنَّاس)
وَقَالَ الْفَقِيه أَبُو مَالك أَيْضا
(أيا أهل فاس سدد الله سدكم ... بِرَأْي أبي الْعَبَّاس حامي حمى فاس)
(وأحيى بِهِ أشجاركم وثماركم ... على رغم قوم منكرين من النَّاس)
(فدام ودام السعد يخْدم مجده ... وفاز من الشُّكْر الْجَمِيل بأجناس)
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى السراج
(أَلا سدد الله رَأْي الَّذِي ... بتسديده سديدا حصينا)
(وخلد فِي عزه ملكه ... وأولاه فتحا ونصرا مُبينًا)
(إِمَام الْهدى أَحْمد المرتضى ... مبيد العدا عدَّة المسلمينا)
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن هَارُون
(لقد سدد الله رَأْي الْعِمَاد ... وأبطل فِي السد رَأْي الجهول)
(وَقرب مَا رامه من بعاد ... بمولاي أَحْمد مدحي يطول)
(فطردا وعكسا لساني يناد ... عقول الْمُلُوك مُلُوك الْعُقُول)(4/155)
وقْعَة وَادي درنة بتادلا وَأسر الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي ومهلكه رَحمَه الله
ذكر فِي الْمرْآة عِنْد الْكَلَام على أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف الفاسي وَهُوَ وَالِد الشَّيْخ أبي المحاسن رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا عبد الله الْمَذْكُور كَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة عِنْد أَمِير الْقصر أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي عبد الله البرتغالي وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَخُو السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي قَالَ فَانْتَفع بوجاهة أبي عبد الله الفاسي خلق كثير وَلم يسامح هُوَ نَفسه فِي نيل شَيْء من الدُّنْيَا بِسَبَب ذَلِك الجاه إِلَى أَن أسر الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّاء الْمَذْكُور فِي وقْعَة وَادي درنة من تادلا للشرفاء على بني وطاس فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَمَات فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْقَرِيبَة غما وأسفا رَحمَه الله قلت وَكَانَ سُلْطَان السعديين يَوْمئِذٍ مُحَمَّد الشَّيْخ الملقب بالمهدي فَإِنَّهُ تغلب على أَخِيه الْأَعْرَج وانتزع مِنْهُ الْملك وسجنه كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
اسْتِيلَاء السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ على فاس وَقَبضه على بني وطاس ومهلك سلطانهم أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله تَعَالَى بفضله
لما غلب السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ على أَخِيه أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَاسْتولى على مراكش طمحت نَفسه للتوغل فِي بِلَاد الغرب وقراه فتفرغ لِحَرْب بني وطاس ونكث مَا كَانَ بَينه وَبينهمْ من الصُّلْح ورموا مِنْهُ بِحجر الأَرْض وردد إِلَيْهِم الْبعُوث والسرايا وَأكْثر فيهم من شن الغارات وَصَارَ يستلبهم الْبِلَاد شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا وَكَانَ أول مَا ملك من أَمْصَار الغرب مكناسة الزَّيْتُون افتتحها عقب سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة بعد حِصَار ومقاتلة ثمَّ تقدم إِلَى فاس فألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وضايقها بالحصار مُدَّة قريبَة من السّنة ثمَّ استولى عَلَيْهَا بعد أَن أسر سلطانها أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي وَصَارَ فِي قَبضته وَكَانَ دُخُوله إِيَّاهَا أَوَائِل سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَلما(4/156)
4 - دَخلهَا تقبض على الوطاسيين أجمع وَبعث بهم مصفدين إِلَى مراكش عدا أَبَا حسون المخلوع فَإِنَّهُ فر إِلَى الجزائر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ ثمَّ إِن الشَّيْخ السَّعْدِيّ غدر ببني وطاس فِيمَا قيل بعد أَن أظهر الْعَفو عَنْهُم وسرح سلطانهم أَبَا الْعَبَّاس من ثقافة وَالله أعلم وَفِي الجذوة كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي بمراكش قرب سنة السِّتين وَتِسْعمِائَة اه
وَزعم منويل أَنه قتل مذبوحا بدرعة قَالَ زحف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ أَبُو حسون الوطاسي وَكَانَ قَائِد جَيش ابْن أَخِيه وَوَقع بَينهمَا قتال عَظِيم انهزم فِيهِ أَبُو حسون إِلَى فاس وحاصره السَّعْدِيّ بهَا سنتَيْن وَلما قلت الأقوات وَعجز الوطاسيون عَن الدفاع نزلُوا على حكم السَّعْدِيّ فَقبض على أبي الْعَبَّاس الوطاسي وفر أَبُو حسون إِلَى الجزائر واستقل مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ بِأَمْر الْمغرب وَغرب الوطاسيين إِلَى درعة فَقتل أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي الَّذِي كَانَ تلميذا لَهُ ذبحا اه كَلَامه
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي وَسيرَته
كَانَ من جملَة وزراء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور ابْنه مُحَمَّد وَمن أخباره مَا ذكره فِي الدوحة فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر المشترائي دَفِين مكناسة الزَّيْتُون قَالَ من كراماته الشائعة مَا اتّفق لَهُ مَعَ الْوَزير أبي عبد الله مُحَمَّد بن السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي لما استوزره أَبوهُ وولاه على مكناسة فَكَانَ بهَا فَغَضب ذَات يَوْم على أحد المشاورية فهرب المشاوري إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان فَبعث الْوَزير إِلَى الشَّيْخ بِأَن عَلَيْهِ الْأمان ويبعثه إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ إِن شِئْت أَن تذْهب إِلَى سيدك فافعل فَقَالَ المشاوري يَا سَيِّدي أَخَاف أَن يقتلني فَقَالَ الشَّيْخ إِن قَتلك فَالله يقْتله فَذهب المشاوري إِلَى الْوَزير وَبَقِي عِنْده لَيْلَتَيْنِ وَفِي الثَّالِثَة قَتله وَلم يظْهر لَهُ فَجَاءَت أمه إِلَى الشَّيْخ وَقَالَت يَا سَيِّدي إِن وَلَدي قد(4/157)
قَتله الْوَزير فَقَالَ لَهَا سبق ذَلِك فِي علم الله وَإِن الآخر سيلحقه الْآن يَعْنِي الْوَزير فوعك الْوَزير تِلْكَ اللَّيْلَة وسلط عَلَيْهِ آكال فِي جِسْمه فتمزق لَحْمه وتقطع شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن هلك لليال قَلَائِل من مَرضه فَاعْتبر النَّاس وَالسُّلْطَان بذلك وَمن ذَلِك الْوَقْت زَاد الْأُمَرَاء وَغَيرهم فِي احترام حرم زَاوِيَة الشَّيْخ الْمَذْكُور اه
وَكَانَ للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس اعْتِقَاد فِي المتصلحين وأرباب الْأَحْوَال فَمن فَوْقهم من أهل الْعلم وَالدّين من ذَلِك مَا حَكَاهُ فِي الدوحة أَيْضا فِي تَرْجَمَة أبي الْحسن عَليّ الصنهاجي الْمَعْرُوف بالدوار قَالَ كَانَ أَبُو الْحسن الْمَذْكُور من الملامتية وَكَانَ يدْخل دور الْمُلُوك من بني وطاس فيتلقاه النِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ يَدَيْهِ وقدميه فَلَا يلْتَفت إِلَى أحد ويعطونه الثِّيَاب الرفيعة والذخائر النفيسة ويلبسه السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس من أشرف لِبَاسه فَإِذا خرج تصدق بِجَمِيعِ ذَلِك ويمر على حوانيت الزياتين فيغمس أكمام الْحلَّة الَّتِي تكون عَلَيْهِ ويبرقعها بالزيت أَو بالسمن وَلَا يزَال يَدُور فِي الْأَمَاكِن ويصرخ باسم الْجَلالَة اه قَالُوا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وَاقِفًا عِنْد إِشَارَة الْفَقِيه أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي وَهُوَ ابْن صَاحب المعيار لَا يتَعَدَّى أمره وَلَا يُخَالف رَأْيه كَمَا وَقع لَهُ فِي مَسْأَلَة رجل إسلامي يعرف بِعَبْد الرَّحْمَن المنجور وَكَانَ تَاجِرًا جَامعا لِلْمَالِ فَشهد عَلَيْهِ فِي حِكَايَة طَوِيلَة أَرْبَعُونَ رجلا من الْعُدُول باستغراق ذمَّته فَأَخذه السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي وَقَتله وصير أملاكه لبيت مَال الْمُسلمين فَرغب أَوْلَاد المنجور من السُّلْطَان أَن يؤدوا لَهُ عشْرين ألف دِينَار وَيرد إِلَيْهِم أملاكهم وَيسْقط عَنْهُم بَيِّنَة الِاسْتِغْرَاق فَقَالَ السُّلْطَان لحاجبه اذْهَبْ إِلَى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الوانشريسي وشاوره فِي ذَلِك وعرفه بِأَنِّي فِي الْحَاجة إِلَى هَذَا المَال لأجل هَذِه الْحَرَكَة الَّتِي عرضت لي فَذهب الْحَاجِب إِلَيْهِ وَأخْبرهُ بمقالة السُّلْطَان ورغبته فِي قبُول ذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ(4/158)
وَالله لَا ألْقى الله بِشَهَادَة أَرْبَعِينَ رجلا من عدُول الْمُسلمين لأجل سلطانك اذْهَبْ وَقل لَهُ إِنِّي لَا أوافق على ذَلِك وَلَا أرضاه فَرجع الْحَاجِب إِلَى السُّلْطَان وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ الشَّيْخ فَرجع السُّلْطَان عَمَّا عزم إِلَيْهِ
وَنَظِير هَذَا مَا اتّفق لَهُ مَعَه أَيْضا وَهُوَ أَن النَّاس خَرجُوا يَوْم الْعِيد للصَّلَاة فانتظروا السُّلْطَان فَأَبْطَأَ عَلَيْهِم وَلم يَأْتِ إِلَى خُرُوج وَقت الصَّلَاة وَحِينَئِذٍ أقبل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فِي أبهته فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْمصلى نظر الشَّيْخ أَبُو مَالك فَرَأى أَن الْوَقْت قد فَاتَ فرقي الْمِنْبَر وَقَالَ معشر الْمُسلمين أعظم الله أجركُم فِي صَلَاة الْعِيد فقد عَادَتْ ظهرا ثمَّ أَمر الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام الصَّلَاة فَتقدم الشَّيْخ أَبُو مَالك وَصلى النَّاس الظّهْر فَخَجِلَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس واعترف بخطيئته رحم الله الْجَمِيع
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للسُّلْطَان أبي حسون الوطاسي رَحمَه الله
لما دخل السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَقبض على بني وطاس بهَا حَسْبَمَا تقدم فر أَبُو حسون هَذَا إِلَى ثغر الجزائر حَقنا لدمه ومستجيشا لتركها ومستجيشا على السَّعْدِيّ وَكَانَ التّرْك قد استولوا على الْمغرب الْأَوْسَط وانتزعوه من يَد بني زيان كَمَا سَيَأْتِي(4/159)
فَلم يزل أَبُو حسون عِنْدهم يفتل لَهُم فِي الغارات والسنام وَيحسن لَهُم بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى ويعظمها فِي أَعينهم وَيَقُول إِن المتغلب عَلَيْهَا قد سلبني ملكي وَملك آبَائِي وغلبني على تراث أجدادي فَلَو ذهبتم معي لقتاله لَكنا نرجو الله تَعَالَى أَن يتيح لنا النَّصْر عَلَيْهِ ويرزقنا الظفر بِهِ وَلَا تعدمون أَنْتُم مَعَ ذَلِك مَنْفَعَة من ملْء أَيْدِيكُم غَنَائِم وذخائر وَوَعدهمْ بِمَال جزيل فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا طلب وَأَقْبلُوا مَعَه فِي جَيش كثيف تَحت راية باشاهم صَالح التركماني الْمَعْرُوف بِصَالح رَئِيس إِلَى أَن اقتحموا حَضْرَة فاس بعد حروب عَظِيمَة ومعارك شَدِيدَة وفر عَنْهَا مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى منجاته
وَكَانَ دُخُول السُّلْطَان أبي حسون إِلَى فاس ثَالِث صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَلما دَخلهَا فَرح بِهِ أَهلهَا فَرحا شَدِيدا وترجل هُوَ عَن فرسه وَصَارَ يعانق النَّاس كَبِيرا وصغيرا شريفا ووضيعا ويبكي على مَا دهمه وَأهل بَيته من أَمر السعديين واستبشر النَّاس بمقدمه وتيمنوا بطلعته وَقبض على كَبِير فاس يَوْمئِذٍ الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن رَاشد الشريف الإدريسي واطمأنت بِهِ الدَّار ثمَّ لم يلبث السُّلْطَان أَبُو حسون إِلَّا يَسِيرا حَتَّى كثرت شكاية النَّاس إِلَيْهِ بِالتّرْكِ وَأَنَّهُمْ مدوا أَيْديهم إِلَى الْحَرِيم وعاثوا فِي الْبِلَاد فبادر بِدفع مَا اتّفق مَعَهم عَلَيْهِ من المَال وأخرجهم عَن فاس وتخلف بهَا مِنْهُم نفر يسير(4/160)
مَجِيء السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ومقتل السُّلْطَان أبي حسون رَحمَه الله
لما فر السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ من وقْعَة الأتراك بفاس وصل إِلَى مراكش فاستقر بهَا وَصرف عزمه لقِتَال أبي حسون فَأخذ فِي استنفار الْقَبَائِل وانتخاب الْأَبْطَال وتعبية العساكر والأجناد فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَا اشْتَدَّ بِهِ أزره وَقَوي بِهِ عضده ثمَّ نَهَضَ بهم إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو حسون فِي رُمَاة فاس وَمَا انضاف إِلَيْهِم من جَيش الْعَرَب فَكَانَت الْهَزِيمَة على أبي حسون فَرجع إِلَى فاس وتحصن بهَا فَتقدم الشَّيْخ السَّعْدِيّ وحاصره إِلَى أَن ظفر بِهِ فِي وقْعَة كَانَت بَينهمَا بالموضع الْمَعْرُوف بِمسلمَة فَقتله وَاسْتولى على حَضْرَة فاس وَصفا لَهُ أمرهَا وَكَانَ استيلاؤه عَلَيْهَا يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة على الصَّوَاب خلاف مَا وَقع فِي الدوحة وَالله أعلم وبمقتل السُّلْطَان أبي حسون رَحمَه الله انقرضت الدولة المرينية بالمغرب وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَبَقِي علينا الإلماع بأواخر دولة بني زيان مُلُوك تلمسان وَكَيف كَانَ انْقِرَاض أَمرهم فلنشر إِلَى ذَلِك فَنَقُول كَانَت دولة بني زيان على مَا علمت من الِاضْطِرَاب سَائِر أَيَّام بني مرين وَكَانَ مِنْهُم فِي صدر الْمِائَة التَّاسِعَة السُّلْطَان الواثق بِاللَّه من أمثل مُلُوكهمْ وغلبهم على تلمسان فِي تِلْكَ الْمدَّة السُّلْطَان أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الحفصي فَأخذُوا بِطَاعَتِهِ ثمَّ بعد مَوته سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة اعتزوا بعض الشَّيْء إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان بن مُحَمَّد الحفصي فغزا تلمسان أَعْوَام السّبْعين وَثَمَانمِائَة مرَّتَيْنِ وَفِي الثَّانِيَة هدم أسوارها وعزم على استئصال أَهلهَا إِلَى أَن تشفع إِلَيْهِ علماؤها وصلحاؤها فَعَفَا عَنْهُم وَكَانَ الْبَاعِث لَهُ على غزوها أَولا مَا بلغه من أَن الْأَمِير مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي ثَابت استولى عَلَيْهَا فَفعل مَا فعل وصاهرهم بِبَعْض حفدته
وَقَالَ صَاحب بَدَائِع السلك شاهدت بتلمسان وَبَعض أَعمالهَا تَصْرِيح(4/161)
الْخَطِيب باسم السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان صَاحب تونس مقدما فِي الذّكر على اسْم صَاحب تلمسان أبي عبد الله من أعقاب بني زيان لما بَينهمَا من الشَّرْط فِي ذَلِك وَبقيت حَال بني زيان متماسكة إِلَى أَن ظهر جنس الإصبنيول فِي صدر الْمِائَة الْعَاشِرَة بعد مَا تمّ لَهُ ملك الأندلس وعظمت شوكته فطمح للتغلب على ثغور المغربين الْأَدْنَى والأوسط فاستولى على بجاية سنة عشر وَتِسْعمِائَة ثمَّ على وهران سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَفعل بِأَهْلِهَا الأفاعيل ثمَّ سما لتملك الجزائر وشره لالتهامها وضايق الْمُسلمين فِي ثغورهم وَضعف بَنو زيان عَن مقاومته وَكَانَ الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن القَاضِي الزواوي مِمَّن لَهُ الشُّهْرَة والوجاهة الْكَبِيرَة فِي بسائط الْمغرب الْأَوْسَط وجباله وَكَانَت دولة العثامنة من التّرْك فِي هَذِه الْمدَّة قد زخر عبابهم وملكت أَكثر المسكونة وَظهر من قواد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير الدّين باشا وَأَخُوهُ عروج باشا وَكَانَا قد تَابعا الْغَزْو على بِلَاد الْكفْر برا وبحرا وأوقعا بِأَهْل دوَل الأوروبا وقائع شهيرة وَصَارَ لَهُم ذكر فِي أقطار الْبِلَاد وَتمكن ناموسهم من قُلُوب الْعباد فكاتبهم الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وعرفهم بِمَا الْمُسلمُونَ فِيهِ من مضايقة الْعَدو الْكَافِر وَقَالَ إِن بِلَادنَا بقيت لَك أَو لأخيك أَو للذئب فَأقبل التّرْك نَحوه مُسْرِعين وَاسْتولى عروج على ثغر الجزائر بعد مَا كَاد الْعَدو يملكهُ فتخلصه مِنْهُ ثمَّ استولى على تلمسان وَغلب بني زيان على أَمرهم وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة على مَا فِي النزهة ثمَّ إِن أهل تلمسان أَنْكَرُوا سيرة التّرْك وسئموا ملكتهم وَيُقَال إِن التّرْك عسفوهم وصادروهم على أَمْوَالهم وَكَانَ عروج قد أغرى بالفقيه أبي الْعَبَّاس المستدعي لَهُ فَقتل شَهِيدا بعد الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَرَأى عروج أَن أَمر الْمغرب الْأَوْسَط لَا يصفو لَهُ مَعَ وجود الْفَقِيه الْمَذْكُور فَدس عَلَيْهِ من قَتله ثمَّ نَهَضَ عروج إِلَى بني يزناسن فَكَانَ الكرة عَلَيْهِ وَقتل هُنَالك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه عسكره وَتَفَرَّقَتْ جموعه
وعادت تلمسان إِلَى بني زيان فجددوا بهَا رياستهم وأحيوا رَمق دولتهم إِلَى أَن عاود التّرْك غزوها بعد حِين وانتزعوها من يَد صَاحبهَا أبي الْعَبَّاس(4/162)
أَحْمد بن عبد الله من أعقاب يغمراسن بن زيان
قَالَ فِي الْمرْآة مَا نَصه قَالَ الشَّيْخ الإِمَام قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي رَحمَه الله وَمن خطه نقلت قدم حسن ابْن خير الدّين التركي فاستولى على تلمسان فِي أواسط شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَأخرج مِنْهَا الْأَمِير أَحْمد ابْن الْأَمِير عبد الله ووزيره مَنْصُور بن أبي غَانِم ولحقا بدبدو مَعَ من انضاف إِلَيْهِمَا من أُمَرَاء تلمسان وكبرائها فغدر بهم عمر بن يحيى الوطاسي صَاحب دبدو وَأخذ أَمْوَالهم واعتقلهم وسرح منصورا فِي محرم من سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة اه واستمرت تلمسان فِي يَد التّرْك إِلَى أواسط صدر الْمِائَة الثَّالِثَة عشرَة فاستولى عَلَيْهَا الفرنسيس على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَاعْلَم أَنه كَانَ فِي صدر هَذِه الْمِائَة الْعَاشِرَة أُمُور عِظَام
مِنْهَا ظُهُور الفرنج بالديار المغربية واستيلاؤهم على ثغورها بِمَا لم يعْهَد مثله قبل ذَلِك لَا سِيمَا البرتغال والإصبنيول حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَمِنْهَا ظُهُور دولة آل عُثْمَان مُلُوك التركمان بالديار المشرقية وَمَا أضيف لَهَا الظُّهُور الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَابْتِدَاء هَذِه الدولة وَإِن كَانَ قبل هَذَا التَّارِيخ بِنَحْوِ مِائَتي سنة لَكِن إِنَّمَا كَانَ عنفوان شبابها وفيضان عبابها فِي هَذِه الْمدَّة لَا سِيمَا فِي دولة سلطانهم الْأَعْظَم وخاقانهم الأفخم سُلَيْمَان بن سُلَيْمَان خَان فَإِنَّهُ ملك أَكثر الْمَعْمُور وَقَامَ بدعوته من الْأُمَم الْجُمْهُور وهجمت عساكره على ديار الأرنا فقاتلوهم فِي أعز بِلَادهمْ واستلبوهم من طارفهم وتلادهم وخضعت مُلُوكهمْ لعزته واستكانوا لصولته وَأَعْطوهُ يَد المقادة وآتوه من الطَّاعَة والخضوع مَا خَالف الْعَادة ثمَّ أوطأ عساكره المغربيين الْأَدْنَى والأوسط فاستولى عَلَيْهِمَا وَكَاد يتَنَاوَل الْأَقْصَى ويضيفه إِلَيْهِمَا على مَا تقف عَلَيْهِ فِي أَخْبَار السعديين إِن شَاءَ الله
وَمِنْهَا ظُهُور الْأَوْلِيَاء وَأهل الصّلاح من الملامتية وأرباب الْأَحْوَال والجذب فِي بِلَاد الشرق والغرب لكنه انْفَتح بِهِ للمستورين على النِّسْبَة(4/163)
وَأهل الدَّعْوَى بَاب متسع الْخرق متعسر الرتق فاختلط المرعى بالهبل وَادّعى الخصوصية من لَا نَاقَة لَهُ فِيهَا وَلَا جمل وصعب على جلّ النَّاس التَّمْيِيز حَتَّى بَين البهرج والإبريز لَا سِيمَا الْعَاميّ الْغمر الَّذِي لَا يفرق بَين الْحَصْبَاء والدر وَيرْحَم الله الشَّيْخ اليوسي إِذْ قَالَ فِي محاضرته مَا نَصه وَقد طرق أسماع الْقَوْم من قبل الْيَوْم كَلَام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية رَضِي الله عَنْهُم وَكَلَام أَرْبَاب الْأَحْوَال فِي كل زمَان فتعشقت النُّفُوس ذَلِك وأذعن لَهُ الْجُمْهُور وخاضوا فِي التَّشْبِيه بهم فَمَا شِئْت أَن تلقى جَاهِلا مُسْرِفًا على نَفسه لم يعرف بعد ظَاهر الشَّرِيعَة فضلا عَن أَن يعْمل فضلا عَن أَن يخلص إِلَى الْبَاطِن فضلا عَن أَن يكون صَاحب مقَام إِلَّا وجدته يصول وَيَقُول وينابذ الْمَنْقُول والمعقول وَأكْثر ذَلِك فِي أَبنَاء الْفُقَرَاء يُرِيد الْوَاحِد مِنْهُم أَن يتحلى بحلية أَبِيه ويستتبع أَتْبَاعه بِغَيْر حق وَلَا حَقِيقَة بل لمُجَرّد حطام الدُّنْيَا فَيَقُول خدام أبي وزريبة أبي وَيضْرب عَلَيْهِم المغرم كمغرم السُّلْطَان وَلَا يقبل أَن يُحِبُّوا أحدا فِي الله أَو يعرفوه أَو يقتدوا بِهِ غَيره وَإِذا رأى من خرج يطْلب دينه أَو من يدله على الله تَعَالَى يغْضب عَلَيْهِ ويتوعده بِالْهَلَاكِ فِي نَفسه وَمَاله وَقد يَقع شَيْء من المصائب بِحكم الْقَضَاء والابتلاء فيضيفه إِلَى نَفسه فَيَزْدَاد بذلك هُوَ وَأَتْبَاعه ضلالا ثمَّ يخترق لَهُم من الخرافات والأمور الْمُعْتَادَة مَا يَدعِيهِ سيرة ودينا يستهويهم بِهِ ثمَّ يضمن لَهُم الْجنَّة على مساوئ أَعْمَالهم والشفاعة يَوْم الْمَحْشَر وَيقبض على لحْمَة من ذراعه فَيَقُول للجاهل مثله أَنْت من هَذِه اللحمة فيكتفي جهال الْعَوام بذلك ويبقون فِي خدمته ولدا عَن وَالِد قائلين نَحن خدام الدَّار الْفُلَانِيَّة وَفِي زريبة فلَان فَلَا نخرج عَنْهَا وَكَذَا وجدنَا آبَاءَنَا وَهَذَا هُوَ الضلال الْمُبين وَهَؤُلَاء قطاع الْعباد عَن الله إِلَى آخر كَلَامه فقف عَلَيْهِ فِي الْفَصْل الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهَا فَإِنَّهُ نَفِيس وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَتِسْعمِائَة توفّي الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عِيسَى الماواسي البطوي الموقت الْمَشْهُور
وَفِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن قَاسم(4/164)
التجِيبِي الْمَعْرُوف بالزقاق فَقِيه فاس وَهُوَ صَاحب الْمَنْظُومَة اللامية فِي علم الْقَضَاء وَغَيرهَا وَفِي سنة أَربع وَتِسْعمِائَة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الْعشْرين من صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الوانشريسي مؤلف المعيار وَغَيره من التآليف الحسان أَصله من تلمسان واستوطن مَدِينَة فاس إِلَى أَن توفّي بهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وفيهَا أَيْضا توفّي الشَّيْخ الْكَبِير أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن عبد الْحق الْحرار الْمَعْرُوف بالتباع دَفِين حومة الفحول من مراكش من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَصفه شَيْخه الْمَذْكُور بالكيمياء وَكَانَ يُقَال النظرة فِيهِ تغني أَفَاضَ الله علينا من مدده
وَفِي سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة النظار أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن غَازِي العثماني المكناسي ثمَّ الفاسي وَقد تقدم خَبره مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني رحمهمَا الله
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة انحبس الْمَطَر بفاس وَالْمغْرب واضطر النَّاس إِلَى اسْتِخْرَاج السواقي من الأودية والأنهار لسقي زرعهم وثمارهم
وَفِي سنة سبع وَعشْرين بعْدهَا كَانَ الغلاء والجوع الْكَبِير الَّذِي صَار تَارِيخا فِي النَّاس مُدَّة
وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا كَانَ الوباء بالمغرب سنة الله فِي خلقه وَفِي هَذِه الْمدَّة أَعنِي أَعْوَام الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة على مَا فِي الدوحة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَنْصُور السفياني دَفِين جَزِيرَة البسابس من بِلَاد أَوْلَاد جلون على مسيرَة نصف يَوْم من مصب نهر سبو فِي الْبَحْر من جِهَة الْمشرق وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّيْخ التباع وَالرَّوْضَة الَّتِي عَلَيْهَا بناها الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المجذوب يُقَال إِنَّه لما أكملها رَآهُ فِي الْمَنَام وَألبسهُ حلَّة خضراء
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة فِي ثَانِي يَوْم من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن عمر الحاجي الْمَعْرُوف بالفلاح ضجيع القَاضِي عِيَاض فِي روضته بحومة بَاب إيلان من مراكش وَهُوَ من أَصْحَاب(4/165)
الشَّيْخ التباع أَيْضا وَفِي هَذِه الْمدَّة على مَا فِي الدوحة توفّي الشَّيْخ أَبُو يشو مَالك بن خدة الصبيحي من عرب صبيح كَانَ من أهل الْعلم وَالْفضل وَالدّين وَدفن على ضفة نهر سبو على نَحْو مرحلة من فاس وقبره مزارة إِلَى الْآن
وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الغزواني رَضِي الله عَنهُ دَفِين حومة الْقُصُور من مراكش وَقد تقدم شَيْء من خَبره
وَفِي أَعْوَام أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْكَامِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِيسَى السفياني الْمُخْتَار ثمَّ الفهدي دَفِين مكناسة الزَّيْتُون وَهُوَ شيخ جليل الْقدر شهير الذّكر رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ آمين
تمّ الْجُزْء الرَّابِع ويليه الْجُزْء الْخَامِس
أَوله
الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السعديين من آل زَيْدَانَ(4/166)
5 -(5/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة السعدية
الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السعديين من آل زَيْدَانَ وَذكر أوليتهم وَتَحْقِيق نسبهم
اعْلَم أَن هَؤُلَاءِ السعديين كَانُوا يَقُولُونَ إِن أصل سلفهم من يَنْبع النّخل من أَرض الْحجاز وَأَنَّهُمْ أَشْرَاف من ولد مُحَمَّد النَّفس الزكية رَضِي الله عَنهُ وَإِلَيْهِ كَانُوا يرفعون نسبهم وَيَقُولُونَ فِي أول مُلُوكهمْ الْقَائِم بِأَمْر الله مثلا هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مخلوف بن زَيْدَانَ بن أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أبي مُحَمَّد بن عَرَفَة بن الْحسن بن أبي بكر بن عَليّ بن حسن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن قَاسم ابْن مُحَمَّد النَّفس الزكية ابْن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم فهم بَنو عَم السَّادة العلويين أَشْرَاف سجلماسة يَجْتَمعُونَ مَعَهم فِي مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الْمَذْكُور فِي النّسَب
قَالُوا وَالسَّبَب فِي قدوم سلفهم من الْحجاز إِلَى الْمغرب أَن أهل درعة كَانَت لَا تصلح ثمارهم وتعتريها العاهات كثيرا فَقيل لَهُم لَو أتيتم بشريف إِلَى بِلَادكُمْ كَمَا أَتَى أهل سجلماسة لصلحت ثماركم كَمَا صلحت ثمارهم وَقد كَانَ أهل سجلماسة جاؤوا بالمولى الْحسن بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم من أَرض يَنْبع فِي قصَّة ظريفة تَأتي فِي محلهَا إِن شَاءَ الله قَالُوا فَأتى أهل درعة بالمولى زَيْدَانَ بن أَحْمد مضاهاة لأهل سجلماسة فَعَادَت عَلَيْهِم بركته
وَاعْلَم أَن هَذَا النّسَب الشريف المسرود آنِفا فِيهِ كَمَا قَالَ اليفرني بتر(5/3)
بَين قَاسم وَمُحَمّد النَّفس الزكية فَإِنَّهُ لَا يعرف فِي أَوْلَاد النَّفس الزكية من اسْمه قَاسم وَإِنَّمَا هُوَ قَاسم بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية وَلَعَلَّه سقط عَن ذُهُول من النَّاسِخ وَقيل الصَّوَاب إِنَّه قَاسم بن حسن بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية
وَاعْلَم أَيْضا أَن مَا زَعمه هَؤُلَاءِ السعديون من انتسابهم لهَذَا الْبَيْت الْكَرِيم هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الكافة وتلقاه فضلاء عصرهم بِالْقبُولِ وأثبتوه فِي تقريضاتهم ومؤلفاتهم الْمَوْضُوعَة فِي أخبارهم وَمن النَّاس من يطعن فِي ذَلِك وَنَقله بَعضهم عَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمقري صَاحب نفح الطّيب وَأَنه صحّح أَنهم من بني سعد بن بكر بن هوَازن الَّذين مِنْهُم حليمة السعدية ظئر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا النَّقْل ضَعِيف لِأَن الشَّيْخ الْمقري صرح فِي نفح الطّيب بشرف هَؤُلَاءِ السَّادة فِي غير مَوضِع وَهُوَ من آخر مَا ألف
وَمِمَّنْ طعن فِي نسبهم الْمولى مُحَمَّد فتحا بن الشريف السجلماسي أول مُلُوك السَّادة العلويين صرح بذلك فِي بعض الرسائل الَّتِي كَانَت تَدور بَينه وَبَين الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ مِنْهُم قَالَ فِيهَا وَقد اعتمدنا فِي ذَلِك يَعْنِي فِي عدم شرفهم على مَا نَقله الثِّقَات المؤرخون لأخبار النَّاس من عُلَمَاء مراكش وتلمسان وفاس وَلَقَد أمعن الْكل التَّأَمُّل بِالذكر والفكر فَمَا وجدوكم إِلَّا من بني سعد بن بكر اه
ويحكى شَائِعا عَن الْفَقِيه الْوَرع الْمولى أبي مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر السجلماسي وَكَانَ من أهل الصّلاح وَالدّين أَنه كَانَ ذَات يَوْم جَالِسا مَعَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فِي بعض قصوره من حَضْرَة مراكش وهما مجتمعان على خوان طَعَام فَقَالَ الْمَنْصُور للشَّيْخ أبي مُحَمَّد أَيْن اجْتَمَعنَا يَا فَقِيه يَعْنِي فِي النّسَب فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد على هَذَا الخوان ويروى فِي هَذَا المشور فأسرها الْمَنْصُور فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُ إِلَى أَن احتال عَلَيْهِ بِمَا كَانَ السَّبَب فِي إِتْلَاف مهجته فَكَانَ الْمَنْصُور بعد ذَلِك يَدْعُو الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد فيجلسه على الرخام فِي زمَان كلب الْبرد وهيجانه من غير حَائِل وَقد اتخذ الْمَنْصُور فِيمَا زَعَمُوا لبدة صوف دَاخل سراويله لَا يحس مَعهَا بالبرد فَإِذا(5/4)
رَآهُ أَبُو مُحَمَّد جَالِسا مَعَه تجلد واستحيى أَن يقوم عَن السُّلْطَان ويتركه ويستمران على المذاكرة فِي مسَائِل الْعلم فعل ذَلِك بِهِ أَيَّامًا حَتَّى سكنته عِلّة الْبرد فَلم يزل أَبُو مُحَمَّد يشتكي من ذَلِك إِلَى أَن قَضَت عَلَيْهِ
وَأنكر هَذَا صَاحب نشر المثاني ورده بتأخر وَفَاة ابْن طَاهِر عَن وَفَاة الْمَنْصُور بِأَكْثَرَ من ثَلَاثِينَ سنة
وَجَوَاب أبي مُحَمَّد هَذَا من النَّوْع الْبَيَانِي الْمُسَمّى بتلقي المخاطر بِغَيْر مَا يترقب على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب الْفَنّ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ الْمَنْصُور لما مر من أَن السعديين يَزْعمُونَ أَن جدهم قدم من يَنْبع أَيْضا كَمَا قدم جد العلويين والعلويون يُنكرُونَ ذَلِك كل الْإِنْكَار وَيَقُولُونَ إِنَّهُم لم يجتمعوا مَعَهم فِي قبيل وَلَا دبير
قَالَ اليفرني لَكِن صحّح لنا غير وَاحِد من أشياخنا أَن الشَّيْخ ابْن طَاهِر رَجَعَ عَن ذَلِك الْإِنْكَار وَأَن الْمَنْصُور أطلعه بعد ذَلِك على ظهير فِيهِ خطّ الإِمَام ابْن عرفه وَشَيْخه ابْن عبد السَّلَام بِثُبُوت نسبهم فاطمأنت نفس ابْن طَاهِر لذَلِك فَكَانَ يُصَرح بِصِحَّة نسبهم بعد ذَلِك ويزجر من يطعن فِيهِ اه
قلت وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب إِذْ مُسْتَند من يطعن فِي نسبهم عدم وضوحه وَلَا يلْزم من عدم وضوحه عدم ثُبُوته فِي نفس الْأَمر وَإِلَّا فيبعد أَن يكون هَؤُلَاءِ المنكرون قد اطلعوا على أَحْوَال عَمُود نسبهم وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْآبَاء والأجداد من لدن مبدئه إِلَى منتهاه مَعَ طول الْمدَّة وتناسخ الأجيال فالتنقير عَن ذَلِك عسير جدا وَلذَا وكل الشَّارِع أَمر الْأَنْسَاب إِلَى أَهلهَا وجعلهم مُصدقين فِيهَا إِذْ لَا تعرف غَالِبا إِلَّا من قبلهم فَهَؤُلَاءِ السَّادة الزيدانيون لَو فَرضنَا أَنهم مَا كَانُوا ملوكا وَلَا بلغُوا من الشُّهْرَة إِلَى حَيْثُ بلغُوا ثمَّ ادعوا هَذَا النّسَب الْكَرِيم فَلَا سَبِيل لأحد أَن يدفعهم عَنهُ إِلَّا بقاطع وَلَا قَاطع كَمَا علمت نعم الْحِكَايَة المسوقة فِي سَبَب دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب يظْهر عَلَيْهَا أثر الصَّنْعَة وَالله أعلم بحقائق الْأُمُور
وَأما تسميتهم بالسعديين فقد قَالَ اليفرني إِن هَذِه النِّسْبَة لم تكن لَهُم(5/5)
فِي الْقَدِيم وَلَا وَقعت بهَا تحليتهم فِي ظهائرهم وَلَا فِي سجلاتهم وصدور رسائلهم بل كَانُوا لَا يقبلُونَ ذَلِك وَلَا يجترئ أحد على مواجهتهم بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يصفهم بذلك من يقْدَح فِي نسبهم ويطعن فِي شرفهم وَيَزْعُم أَنهم من بني سعد بن بكر كَمَا قُلْنَا وَكثير من الْعَامَّة وإخوانهم من الطّلبَة يَعْتَقِدُونَ أَنهم إِنَّمَا سموا بذلك لِأَن النَّاس سعدوا بهم وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا معنى لَهُ اه
قلت وَإِنَّمَا نصفهم نَحن بذلك لأَنهم اشتهروا عِنْد الْخَاصَّة والعامة بِهِ فَصَارَ كَالْعلمِ الصّرْف المرتجل مَعَ أَنه لَا مَحْذُور بعد تَحْقِيق النّسَب وَثُبُوت الشّرف وَالله تَعَالَى يلهمنا الصَّوَاب بمنه وفضله
الْخَبَر عَن دولة الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد الْقَائِم بِأَمْر الله وبيعته وَالسَّبَب فِيهَا
قَالَ ابْن القَاضِي درة السلوك لم يزل أسلاف السعديين مقيمين بدرعة إِلَى أَن نَشأ مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْقَائِم بِأَمْر الله فَنَشَأَ على عفاف وَصَلَاح وَحج الْبَيْت الْحَرَام وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَلَقي جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام والصلحاء الْعِظَام فِي وفادته على الْحَرَمَيْنِ الشريفين أَخْبرنِي بعض الْفُضَلَاء أَنه لَقِي رجلا صَالحا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَشَارَ لَهُ بِمَا يكون مِنْهُ وَمن ولديه وَكَانَ قد رأى رُؤْيا وَهِي أَن أسدين خرجا من إحليله فتبعهما النَّاس إِلَى أَن دخلا صومعة ووقف هُوَ ببابها فعبرت لَهُ رُؤْيَاهُ بِأَنَّهُ سَيكون لِوَلَدَيْهِ شَأْن وإنهما يملكَانِ النَّاس ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمغرب وَهُوَ معلن بالدعوة فَيَقُول فِي كل محفل إِن ولديه سيملكان الْمغرب وسيكون لَهما شَأْن من غير تردد مِنْهُ ثِقَة بِخَبَر الرجل الصَّالح وبرؤياه الْمَذْكُورَة فَمَا زَالَ إِلَى أَن قَامَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة اه
وَقَالَ صَاحب زهرَة الشماريخ مَا صورته إِن سَبَب قيام أبي عبد الله الْقَائِم أَن أهل السوس أحَاط بهم الْعَدو الْكَافِر وَنزل بجوانبهم من كل جِهَة حَتَّى أظلم الجو واستحكمت شَوْكَة البرتغال وَبَقِي الْمُسلمُونَ فِي أَمر مريج لعدم أَمِير تَجْتَمِع عَلَيْهِ كلمة الْإِسْلَام لِأَن بني وطاس فشلت ريحهم يَوْمئِذٍ(5/6)
فِي بِلَاد السوس وَإِنَّمَا كَانَ لَهُم الْملك فِي حواضر الْمغرب وَلم يكن لَهُم مِنْهُ بالسوس إِلَّا الِاسْم مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ من قتال الْعَدو بطنجة وآصيلا وَحجر بادس وَغَيرهَا من ثغور بِلَاد الهبط فَلَمَّا رأى قبائل السوس مَا دهمهم من تفاقم الْأَحْوَال وَكَثْرَة الْأَهْوَال وطمع الْعَدو فِي بِلَادهمْ ذَهَبُوا إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الأقاوي نِسْبَة إِلَى آقة من بِلَاد السوس فَذكرُوا لَهُ مَا هم فِيهِ من افْتِرَاق الْكَلِمَة وانتشار الْجَمَاعَة وكلب الْعَدو على مباكرتهم بِالْقِتَالِ ومراوحتهم وطلبوا مِنْهُ أَن يعقدوا لَهُ الْبيعَة وتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ إِن رجلا من الْأَشْرَاف بتاجمدارت من درعة يَقُول إِنَّه سَيكون لَهُ ولولديه شَأْن فَلَو بعثتم إِلَيْهِ وبايعتموه كَانَ أنسب بكم وأليق بمقصودكم فبعثوا إِلَيْهِ وَكَانَ من أمره مَا كَانَ
وَقَالَ اليفرني رَأَيْت بِخَط الْفَقِيه الْعَلامَة أبي زيد عبد الرَّحْمَن ابْن شيخ الْجَمَاعَة أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي مَا صورته ذكر لنا الْوَالِد عَن سَيِّدي أَحْمد بن عَليّ السُّوسِي البوسعيدي أَن ابْتِدَاء دولة الشرفاء بالسوس أَن بعض السَّادة وَهُوَ سَيِّدي بَرَكَات توَسط فِي فدَاء بعض الْأُسَارَى وَأَرَادَ أَن يكون مَعَ النَّصَارَى اتِّفَاق على أَن لَا يحبسوا أَسِيرًا فَكَلَّمَهُمْ فِي ذَلِك فَقَالُوا لَهُ حَتَّى يكون لكم أَمِير فَإِن ملككم قد ذهب واضمحل قَالَ ثمَّ إِن بعض أهل السوس سَارُوا إِلَى قَبيلَة جسيمة يكتالون الطَّعَام فَأَخَذتهم جسيمة وأكلوا مَتَاعهمْ وبضاعتهم فَذَهَبُوا إِلَى شيخهم وَكَانَ ذَا حزم وتدبير فَرد عَلَيْهِم كل مَا ضَاعَ لَهُم حَتَّى لم يبْق لَهُم شَيْء فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ قَالُوا إِن هَذَا الشَّيْخ الرئيس هُوَ الَّذِي يَلِيق أَن نُبَايِعهُ فَاجْتمعُوا وأتوه وطلبوا مِنْهُ أَن يرأسهم فَامْتنعَ واحتاط لدينِهِ وَاعْتذر بتشويش هَذَا الْأَمر للدّين ودلهم على رجل شرِيف كَانَ مُؤذنًا بدرعة فَقَالَ لَهُم إِن كَانَ وَلَا بُد فاقصدوا الشريف الْفُلَانِيّ(5/7)
فَإِنَّهُ يذكر أَن ولديه يملكَانِ الْمغرب فقصدوه وَحَمَلُوهُ إِلَى بِلَادهمْ وَبَايَعُوهُ وفرضوا لَهُ من الْمُؤْنَة مَا يَكْفِيهِ وَأَوْلَاده وَبَقِي هُنَالك فِي نحر الْعَدو
ويروى أَنه لما بَايعه أهل السوس وَرَأى قلَّة مَا بِيَدِهِ مَعَ أَن الْملك لَا يقوم إِلَّا بِالْمَالِ احتال بِأَن أَمر أهل السوس أَن يأتوه ببيضة لكل كانون فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك آلَاف من الْبيض لَا تحصى لِأَن النَّاس استهونوا أَمر الْبَيْضَة فَلَمَّا اجْتمع عِنْده الْبيض أَمر أَن كل من أَتَى ببيضة يَأْتِي بدلهَا بدرهم فَفَعَلُوا فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَال وافر فَأصْلح بِهِ شَأْنه وقوى بِهِ جَيْشه وَكَانَت تِلْكَ أول نائبة فرضت فِي دولة السعديين وَالله أعلم
وَقَالَ ابْن القَاضِي إِن الْأَمِير أَبَا عبد الله الْقَائِم لما اجْتمع بالشيخ ابْن مبارك بِبَلَدِهِ آفَة وَذَلِكَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة على مَا مر فاوضه فِي شَأْنه ثمَّ عَاد إِلَى مقره من درعة ثمَّ فِي سنة سِتّ عشرَة بعْدهَا بعث إِلَيْهِ فُقَهَاء الصامدة وشيوخ الْقَبَائِل وَدعوهُ إِلَى تَوليته عَلَيْهِم وَتَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ فلبى دعوتهم وَجَاء إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا تيدسي قرب تارودانت فَبَايعهُ النَّاس بهَا وَأَصْبحُوا مَعَه بقلوب متفقة وَأَهْوَاء على الْجِهَاد مجتمعة اه
وَقد سَاق منويل أولية هَذِه الدولة مساقا غَرِيبا وَلَا يَخْلُو عَن فَائِدَة فلنذكر مِنْهُ مَا يقرب إِلَى الصِّحَّة وَيكون كالشرح لما مضى أَو يَأْتِي من أَخْبَار هَذِه الدولة قَالَ
لما كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الوطاسي يَعْنِي البرتغالي أَمِيرا بفاس ظهر فِي درعة رجل شرِيف يَعْنِي أَبَا عبد الله مُحَمَّدًا الْقَائِم بِأَمْر الله قَالَ وَكَانَ هَذَا(5/8)
الشريف من قراء الْقُرْآن وَمن أهل الْعلم وَالدّين والفقر والخمول وَلم يكن من بَيت الرياسة وَكَانَ لَهُ اطلَاع على تواريخ قطره وعوائد جيله وأخلاقهم وطبائعهم وَرَأى مَا وصل إِلَيْهِ ملك الْمغرب من الانحطاط والضعف وتيقن أَنه لَا يصعب عَلَيْهِ تنَاوله فأعمل فِي ذَلِك فكره ومكره وَصَارَ يحض النَّاس على الْقيام بِأُمُور دينهم والامتعاض لَهَا وَكَانَ قد بعث ثَلَاثَة من أَوْلَاده وهم عبد الْكَبِير وَأحمد وَمُحَمّد إِلَى الْحجاز بِقصد الْحَج وَكَانَت لَهُم فصاحة ورجاحة وَمَعْرِفَة بإدارة الْكَلَام فَظهر لَهُم ناموس فِي تِلْكَ الْبِلَاد وأحبهم النَّاس لَا سِيمَا أَحْمد وَمُحَمّد وَلما رجعا من مَكَّة أَقَامَا بفاس وَهِي يَوْمئِذٍ دَار الْملك وترتب أَحْمد فِي مجْلِس بالقرويين لتدريس الْعلم فاكتسب بذلك جاها وتقرب مُحَمَّد إِلَى السُّلْطَان حَتَّى صَار مؤدبا لأولاده وبقيا على ذَلِك مُدَّة وهما فِي ذَلِك كُله يتحببان إِلَى النَّاس ويسعيان فِي مَذَاهِب الشُّهْرَة والبرتغال فِي أثْنَاء ذَلِك ملح على الثغور واستلابها من أَهلهَا وَلم تكن تقوم للْمُسلمين مَعَه راية فَدَعَا ذَلِك الْأَخَوَيْنِ أَحْمد ومحمدا إِلَى أَن ندبا السُّلْطَان وَهُوَ أَبُو عبد الله البرتغالي إِلَى المناداة فِي النَّاس بِالْجِهَادِ إِظْهَارًا للنصح وهما يسران حسوا فِي ارتغاء وقصدهما تَفْرِقَة الْكَلِمَة على السُّلْطَان لَا غير فاغتر السُّلْطَان بنصحهما وَقَالَ لَهما لَا أحد أولى مِنْكُمَا بِالْقيامِ بِهَذِهِ الْوَظِيفَة فأجاباه إِلَى ذَلِك عَن توفر دَاعِيَة وَكَمَال رَغْبَة فأرسلهما يناديان ويستنفران النَّاس فِي نواحي الْمغرب إِلَى الْجِهَاد ويحضان النَّاس عَلَيْهِ ويخطبان بذلك فِي المحافل ويعظان وتتبعا الحواضر والبوادي وتقريا الْأَحْيَاء والمداشر والقرى إِلَى أَن وصلا إِلَى درعة حَيْثُ أَبوهُمَا وأخوهما عبد الْكَبِير فاجتمعا بهما وذاكراهما فِي أَمرهمَا وأنهما قد أشرفا على المُرَاد وكادا يلجان الْملك من بَابه لِأَن أهل تِلْكَ الْبِلَاد كَانُوا سَامِعين لَهُم من قبل الْيَوْم فَكيف بهم الْيَوْم فَحِينَئِذٍ أَخذ الْأَب وَأَوْلَاده فِي نشر معايب الدولة للعامة ويقررون ذَلِك بفصاحتهم ووجاهتهم وَمَا أوتوه من الْقبُول وعضدهم على ذَلِك شُيُوخ الْبَلَد وتبعهم النَّاس واجتمعوا عَلَيْهِم من كل جِهَة وَصَارَ حَالهم ينموا شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن استبدوا على السُّلْطَان وَلم يرجِعوا إِلَيْهِ بعد(5/9)
وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ السَّبَب فِي قيام الشرفاء الزيدانيين واستبدادهم بِملك الْمغرب أَن الْحَرْب نشبت بَين النَّصَارَى وَأهل السوس ودامت وَكَانَ بَنو وطاس يمدون أهل السوس بِالْمَالِ وَالْعدَد فاتفق أَن خرج الشريفان مُحَمَّد الشَّيْخ وَأَخُوهُ أَحْمد الْأَعْرَج للْجِهَاد مَعَ أهل السوس فَظهر مكانهما فِي الْجِهَاد فَلَمَّا وَفْدًا على الوطاسي تلقاهما بالرحب وَأَقْبل عَلَيْهِمَا لأجل قيامهما بِالْجِهَادِ وأعطاهما عدَّة وخيولا كَثِيرَة فَرَجَعَا إِلَى جهادهما ثمَّ عادا إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى فَأَعْطَاهُمَا مثل ذَلِك وَكَانَت لَهما وقائع فِي النَّصَارَى ونكاية وَظُهُور وصارا يكتبان إِلَى الْقَبَائِل فيساعدونهما على ذَلِك حَتَّى اجْتمعت عَلَيْهِم جموع عديدة فَحِينَئِذٍ خلعا طَاعَة الوطاسي ودعوا لأنفسهما اه
قَالَ منويل وَكَانَ أَكثر شهرة أَمرهم بالسوس الْأَقْصَى ودرعة وأعمالهما وصاروا يرفعون إِلَيْهِم زكواتهم وأعشارهم ثمَّ بايعوهم ونهض هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف إِلَى تارودانت فاستولوا عَلَيْهَا وَحَصَّنُوهَا ثمَّ زحفوا إِلَى آكادير لِحَرْب البرتغال فقاتلوه مُدَّة وَلم يفتح لَهُم وَكَانُوا يشيعون أَنهم لَا قصد لَهُم إِلَّا فِي الْجِهَاد ومحاربة عَدو الدّين وَمن هُوَ سلم لَهُ من الْمُسلمين إِذْ لم يتأت لَهُم إِذْ ذَاك التَّصْرِيح بخلع السُّلْطَان
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة تجاوزوا جبل درن إِلَى بِلَاد حاحة والشياظمة ثمَّ دخلُوا بسيطة عَبدة وَكَانَ بآسفي رجل تنصر اسْمه يحيى بن تافوت احتمى بالبرتغال من السُّلْطَان وَكَانَ مَعْرُوفا بالشجاعة واتصل خَبره بطاغية البرتغال منويل فولاه على النَّصَارَى وعَلى أَتْبَاعه من الْمُسلمين تأليفا لَهُ
وَلما زحف الْأَشْرَاف إِلَى بِلَاد عَبدة كَانَ بَينهم وَبَين يحيى الْمَذْكُور ونصاراه معركتان شديدتان كَانَ الظُّهُور فيهمَا ليحيى لَكِن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج تدارك أمره فَوْرًا وَجمع عسكرا آخر وخطبهم ووعظهم وزحف إِلَى يحيى الْمَذْكُور ففضه وفض نصاراه إِلَى أَن انجحروا بآسفي وأغلقوه عَلَيْهِم وأتيح لِأَحْمَد عَلَيْهِم مَا لم يتَقَدَّم لغيره فيهم فبذلك تأتى لَهُ أَن يتَنَاوَل ملك الْمغرب(5/10)
وَلما اتَّصل خبر هَذَا الظُّهُور لَهُ بالسلطان الوطاسي لم يُعجبهُ ذَلِك وَظهر لَهُ أَن مَا كَانَ أَحْمد وَأَخُوهُ يحاولانه من أَمر الْجِهَاد لم يكن ظَاهره كباطنه وحقق لَهُ ذَلِك مَا فَعَلُوهُ من تحصين تارودانت مَعَ مَا كَانَ لأبيهم من نُفُوذ الْكَلِمَة بالسوس
وَكَانَ فِي هَذَا التَّارِيخ بمراكش وأعمالها عَامل اسْمه نَاصِر بوشتنوف وَكَانَ مستبدا على الوطاسي ويبذل لَهُ شَيْئا تافها يتقيه بِهِ وَلما مر بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف فِي أول أَمرهم داعين إِلَى الْجِهَاد أحسن إِلَيْهِم غَايَة وَلما أوقعوا وقْعَة آسفي أبرموا أَمرهم مَعَ نَاصِر أبي شتنوف وأظهروا لَهُ الْمحبَّة والموالاة وطلبوا مِنْهُ أَن يظاهرهم على جِهَاد الْعَدو وَأَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة وجندا وَاحِدًا عَلَيْهِ فأسعفهم وَقدمُوا مراكش فَدَخَلُوهَا مرّة ثَانِيَة وَأحسن إِلَيْهِم وَبعد أَيَّام خَرجُوا بِهِ للصَّيْد فَسَموهُ فِي خبز صَغِير يُسمى القريشلات فَهَلَك للحين وَصفا للأشراف مراكش وأعمالها إِذا كَانَ أَهلهَا قد أحبوهم وشرهوا إِلَيْهِم وَلما تمّ لَهُم أَمر درعة والسوس ومراكش تسمى أَحْمد باسم الْأَمِير واستخلف أَخَاهُ مُحَمَّدًا الشَّيْخ
وَلما اتَّصل الْخَبَر بالوطاسي وَأَنَّهُمْ استولوا على مراكش أقلقه ذَلِك وَمن مكر أَحْمد أَنه بعث إِلَيْهِ يَقُول مَا أَنا إِلَّا وَاحِد من أعمالك وَمَا كَانَ يُعْطِيهِ أهل هَذِه الْبِلَاد أبذله لَك مضاعفا وَمَعَ ذَلِك لم يطمئن إِلَيْهِ ثمَّ هلك الوطاسي وَولي مَكَانَهُ ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد وانقسمت مملكة الْمغرب فَصَارَت فاس للوطاسي ومراكش وأعمالها لأبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وتارودانت والسوس ودرعة لمُحَمد الشَّيْخ وَأما عبد الْكَبِير فَإِنَّهُ كَانَ اسْتشْهد قبل هَذَا فِي حَرْب البرتغال قرب آسفي
وَلما رأى أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي استفحال أَمر الْأَشْرَاف وَأَنَّهُمْ أَمْسكُوا عَنهُ مَا وعدوا بِأَدَائِهِ لِأَبِيهِ عزم على حربهم فَجمع عسكرا عَظِيما وزحف إِلَى مراكش فتحصن أَحْمد الْأَعْرَج بهَا وَقدم عَلَيْهِ أَخُوهُ فَظَاهره على عدوه وَفِي أثْنَاء حصاره الوطاسي لمراكش اتَّصل بِهِ الْخَبَر بِأَن أهل فاس قد قَامُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوا بعض إخْوَته فَرجع إِلَى فاس وَقبض على أَخِيه الثائر عَلَيْهِ ثمَّ كرّ إِلَى(5/11)
مراكش بعسكر أعظم من الأول وَفِي هَذِه الْمرة برز إِلَيْهِ الْأَشْرَاف خَارج الْبَلَد ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ فَكَانَ اللِّقَاء على أبي عقبَة من تادلا وَوَقعت بَينهم حَرْب هائلة لِأَن الوطاسيين كَانُوا يرَوْنَ أَن هَذِه الْحَرْب هِيَ الفيصل بَينهم وَبَين عدوهم والأشراف كَذَلِك وَحضر هَذَا الْحَرْب أَبُو عبد الله ابْن الْأَحْمَر سُلْطَان الأندلس المخلوع وأبلى بلَاء حسنا حَتَّى قتل وَكَانَ الظُّهُور للأشراف وَرجع الوطاسي مفلولا إِلَى فاس وَترك محلته بِمَا فِيهَا من مدافع وَغَيرهَا بيد عدوه وَبعد هَذِه الْوَقْعَة استولى الْأَشْرَاف على تافيلالت وملكوا آكادير وآسفي وآزمور لِأَن البرتغال كَانُوا قد تخلوا عَنْهَا ثمَّ عَن قريب حدث بَين الْأَخَوَيْنِ النفرة وحاول رجال دولتهما الْوِفَاق بَينهمَا فَلم يتَّفقَا وَكَانَت الكرة على أَحْمد وفر ابْنه زَيْدَانَ الَّذِي كَانَ عضد أَبِيه فِي الحروب إِلَى تافيلالت فاستولى عَلَيْهَا واقتطعها عَن عَمه مُحَمَّد الشَّيْخ ثمَّ زحف الشَّيْخ إِلَى فاس فحاصرها إِلَى أَن قبض على الوطاسيين وغربهم إِلَى درعة اه كَلَام منويل
ثمَّ نرْجِع إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن هَذِه الدولة حَسْبَمَا عِنْد اليفرني وَغَيره
أَخْبَار الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم فِي الْجِهَاد وَمَا هيأ الله لَهُ من النَّصْر فِيهِ
لما استتب أَمر الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم وَاجْتمعت كلمة الْقَبَائِل السوسية عَلَيْهِ ندب النَّاس إِلَى مقارعة البرتغال وجهاده ونفيه عَن ثغور الْمغرب وبلاده وَكَانَت مَعَه يَوْمئِذٍ جموع حافلة من الْمُسلمين فصمدوا مَعَه إِلَى النَّصَارَى وناوشوهم الْحَرْب فأتاح الله للأمير أبي عبد الله الْفَتْح والنصر ونثر أثلاء الْكفَّار بمخالب الظفر وَأخرج حَيَّة الغي من جحرها وَأعَاد كلمة الْإِسْلَام إِلَى مقرها فَلَمَّا رأى الْمُسلمُونَ ذَلِك تيمنوا بطلعته وتفاءلوا بطائره الميمون ونقيبته وَزَادَهُمْ ذَلِك محبَّة فِي جَانِبه وتعظيما فِي مكانته وَلما فصل من جهاده عَاد إِلَى مَحَله الْمَذْكُور من تيدسي فَوَقع بَينه وَبَين بعض الرؤساء هُنَالك منافرة أدَّت إِلَى ارتحاله عَنْهَا وَعوده إِلَى درعة فَلم يزل مُقيما(5/12)
بهَا إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة فَرجع إِلَى مَكَانَهُ من تيدسي واطمأنت بِهِ دارها وأزال الله عَنهُ مَا كَانَ أزعجه عَنْهَا وَالله غَالب على أمره
عقد الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج رَحِمهم الله تَعَالَى
قد تقدم لنا مَا كَانَ من أَمر الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْأَمِير أَبُو عبد الله الْقَائِم فِي شَأْن ولديه وأنهما يملكَانِ الْمغرب وَفِي معنى ذَلِك أَيْضا مَا يحْكى شَائِعا أَن وَلَدي أبي عبد الله الْمَذْكُور وهما أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَأَبُو عبد الله الشَّيْخ كَانَا يقرآن فِي مكتب وهما صبيان فَدخل ديك فَوَثَبَ على رَأس كل مِنْهُمَا وصرخ فَأول ذَلِك مؤدبهما بِأَنَّهُمَا سَيكون لَهما شَأْن فَمن أجل هَذَا وَنَحْوه كَانَ والدهما يعلن بِأَن أَمر الْمغرب صائر إِلَيْهِمَا فَلَمَّا قضى الله ببيعته واجتماع النَّاس عَلَيْهِ واطمأنت بِهِ فِي الْبِلَاد السوسية الدَّار وطاب لَهُ بهَا الْمقَام والقرار ندب النَّاس إِلَى بيعَة أكبر ولديه وَهُوَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَعْرُوف بالأعرج فَبَايعُوهُ وَكَانَ ذَلِك مبدأ ظُهُور أمره على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
انْتِقَال الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم إِلَى أفغال من بِلَاد حاحة ووفاته بهَا رَحمَه الله
ثمَّ إِن أَبَا عبد الله الْقَائِم وَفد عَلَيْهِ أَشْيَاخ حاحة والشياظمة لما بَلغهُمْ من حسن سيرته ونصرة لوائه فشكوا إِلَيْهِ أَمر البرتغال ببلادهم وَشدَّة شوكته واستطالته عَلَيْهِم وطلبوا مِنْهُ أَن ينْتَقل إِلَيْهِم هُوَ وَولده ولي الْعَهْد الْمَذْكُور فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض مَعَهم هُوَ وَابْنه أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بآفغال من بِلَاد حاحة وَترك وَلَده الْأَصْغَر أَبَا عبد الله الشَّيْخ بالسوس يرتب(5/13)
الْأُمُور ويمهد المملكة ويباكر الْعَدو بِالْقِتَالِ ويراوحه وَاسْتمرّ الْأَمِير أَبُو عبد الله الْقَائِم بمكانه من آفغال مسموع الْكَلِمَة متبوع الْعقب إِلَى أَن توفّي بِهِ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَدفن هُنَالك بِإِزَاءِ ضريح الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن نقل إِلَى مراكش بِنَقْل الشَّيْخ الْمَذْكُور على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج ابْن الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم رَحمَه الله
كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج فِيمَا حَقَّقَهُ ابْن القَاضِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وبويع بِولَايَة الْعَهْد من أَبِيه سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة كَمَا مر وَلما توفّي أَبوهُ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع النَّاس على بيعَته من سَائِر الْآفَاق وآتوه طاعتهم عَن رضَا مِنْهُم وإصفاق فاستقام أمره وَصرف عزمه إِلَى تمهيد الْبِلَاد واقتناء الأجناد وتعبية الجيوش إِلَى الثغور وَشن الغارات على الْعَدو فِي الآصال والبكور فِي أحواز تيلمست وآسفي وَغَيرهمَا وَكَانَ النَّصَارَى قد خيموا بشاطئ الْبَحْر وعاثوا فِي تِلْكَ السواحل فأجلاهم عَنْهَا وطهر تِلْكَ الْبِقَاع من رجسهم وأراح أَهلهَا من شؤمهم ونحسهم وَفِي ذَلِك يَقُول الْبِقَاع مخلوف بن صَالح يمدحه
(فَللَّه هَذَا الْهَاشِمِي وفضله ... فلولاه صال الْكفْر أعظم صولة)(5/14)
دُخُول السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا
لما كَانَ من إِيقَاع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بنصارى السوس وانتصاره عَلَيْهِم مَا ذَكرْنَاهُ بعد صيته وانتشر فِي الْبِلَاد ذكره وأهرع النَّاس إِلَيْهِ من كل جَانب وَدخلت فِي طَاعَته سَائِر الْبِلَاد السوسية فَعِنْدَ ذَلِك كَاتبه أُمَرَاء هنتاتة مُلُوك مراكش يخطبون أمره ويرومون الدُّخُول فِي طَاعَته فَأجَاب داعيهم وانتقل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ
نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ من مدفنه بآفغال إِلَى مراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا فِي أَخْبَار عَمْرو السياف أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ هَذَا وَأَنه لما توفّي الشَّيْخ الْمَذْكُور جعل جثته فِي تَابُوت وَصَارَ يستنصر بِهِ فِي حروبه مُدَّة من عشْرين سنة أَو نَحْوهَا ثمَّ دفن بعد ذَلِك بآفغال وَتقدم لنا أَن الْأَمِير أَبَا عبد الله الْقَائِم لما توفّي دَفنه ابْنه أَبُو الْعَبَّاس بِإِزَاءِ هَذَا الشَّيْخ ثمَّ لما ملك أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور مراكش نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ إِلَيْهَا وَنقل أَبَاهُ مَعَه فدفنه بِقُرْبِهِ أَيْضا
وَاخْتلف فِي سَبَب ذَلِك فَقيل إِن السُّلْطَان الْمَذْكُور خَافَ أَن يثور عَلَيْهِ أحد بِتِلْكَ الْبِلَاد فيستخرج الشَّيْخ من ملحده وينتصر عَلَيْهِ بِهِ فنقله إِلَى مراكش ليأمن من ذَلِك وَقيل إِن الْحَامِل لَهُ على نَقله أَنه ذكر لَهُ أَن تَحْتَهُ كنز فتعلل للنبش عَنهُ بِأَنَّهُ قصد نَقله إِلَى الحضرة تبركا بِهِ وَالله أعلم وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة(5/15)
مَجِيء السُّلْطَان أبي عبد الله الوطاسي إِلَى مراكش وحصاره للسُّلْطَان الْأَعْرَج بهَا ثمَّ إقلاعه عَنْهَا
لما استولى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج على مراكش وَصفا لَهُ أمرهَا اتَّصل خَبره بِصَاحِب فاس أبي عبد الله الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي فَأقبل فِي جموع عديدة مَعَ وزيره ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر وَيُقَال مَعَ أَخِيه النَّاصِر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس مَا لَا قبل لَهُ بِهِ تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة والمقاتلة وزحف الوطاسي إِلَى الحضرة فنصب الأنفاض عَلَيْهَا ووالى الرَّمْي عَلَيْهَا أَيَّامًا وَاشْتَدَّ الْأَمر على النَّاس فَكَانَ من ذهابهم إِلَى الشَّيْخ الغزواني وَخُرُوجه إِلَى بَاب الْخَمِيس وَقَوله عِنْد إِصَابَة الرصاصة لَهُ أَنَّهَا خَاتِمَة حربهم مَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار الوطاسيين مُسْتَوفى ثمَّ كَانَ اللِّقَاء بعد ذَلِك بَين الْفَرِيقَيْنِ إِنَّمَا يكون فِي تادلا وأعمالها على مَا مر وَالله أعلم
خبر آسفي والثغور
رَأَيْت فِي تواريخ الفرنج أَن البرتغال خَرجُوا من آسفي سنة ألف وَخَمْسمِائة وَثَلَاثِينَ مسيحية وَهَذَا التَّارِيخ يُوَافقهُ من سني الْهِجْرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَهِي وسط دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَزعم هَذَا المؤرخ(5/16)
أَنهم خَرجُوا مِنْهَا من قبل أنفسهم ونقلوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من عدَّة وأثاث إِلَى الجديدة بَعْدَمَا خربوها وأفسدوها وأوقدوا فِيهَا النَّار قَالَ وَبقيت اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهِي مخربة إِلَى أَن أصلحها السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ يَعْنِي السَّعْدِيّ الْآتِي ذكره
وَفِي النزهة مَا يقرب من هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ بعد ذكر إِيقَاع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بنصارى السواحل مَا نَصه وَيُقَال إِن النَّصَارَى لما رَأَوْا مَا فعل بِمن كَانَ مِنْهُم بالسوس من الْقَتْل والسبي أخلوا ثغر آزمور ورباط آسفي وآصيلا من غير قتال ثمَّ نقل هَذَا الْخَبَر فِي مَحل آخر عَن ابْن القَاضِي مَنْسُوبا إِلَى أبي عبد الله الشَّيْخ وَسَيَأْتِي ذكره فِي مَحَله وأظن أَن الإخلاء كَانَ متكررا وَالله أعلم وعَلى كل حَال فَذكر آصيلا هُنَا غير مُنَاسِب إِذْ هِيَ يَوْمئِذٍ فِي جِهَة الوطاسيين وتخومهم فَمَا بَال نصاراها يخرجُون فِرَارًا مِنْهَا خوفًا من السعديين وَلَيْسوا مجاورين لَهُم وَلَا متوقعين هجومهم عَلَيْهِم ثمَّ كَانَ بعد هَذَا بَين أبي الْعَبَّاس السَّعْدِيّ وَأبي الْعَبَّاس الوطاسي من الْحَرْب وَالسّلم مَا تقدم بَيَانه كوقعة آنماي ووقعة أبي عقبَة وَغَيرهمَا مِمَّا لَا فَائِدَة فِي إِعَادَته
حُدُوث النفرة بَين الْأَخَوَيْنِ السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج ووزيره أبي عبد الله الشَّيْخ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس رَحمَه الله من الشهامة والصرامة واستفحال الْأَمر بِالْمحل الَّذِي وصفناه قبل وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو عبد الله الشَّيْخ أَصْغَر سنا مِنْهُ وَكَانَ تَحت طَاعَته وَاقِفًا عِنْد إِشَارَته وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس يستشيره فِي أُمُوره ويفاوضه فِي مهماته ويستعين بنجدته فِي الزحوف والمعارك ويستضيء بِرَأْيهِ فِي الْحَوَادِث الحوالك وَكَانَ الشَّيْخ ثاقب الذِّهْن نَافِذ البصيرة مُصِيب الرَّأْي حازما شهما فَكَانَت كلمتهما وَاحِدَة وَأَمرهمَا(5/17)
جَمِيعًا إِلَى أَن دخل الوشاة بَينهمَا فأفسدوا قلوبهما وأفضى الْحَال إِلَى المصافة والمقاتلة وانقسم الْجند حزبين وانصرفت كل طَائِفَة إِلَى متبوعها وَصَاحب أمرهَا وتقاتلا مُدَّة وَكَانَت جلّ الْقَبَائِل السوسية صاغية إِلَى الشَّيْخ لما كَانَ نَشأ بَين أظهرهم وسبروه من نجابته وكفايته مُنْذُ تَركه أَبوهُ عِنْدهم عِنْد انْتِقَاله إِلَى آفغال حَسْبَمَا مر فاستفحل أمره وَغلب على أَخِيه أبي الْعَبَّاس فَقبض عَلَيْهِ وَاسْتولى على مَا بِيَدِهِ وَاجْتمعت كلمة أهل السوس عَلَيْهِ ثمَّ أودع أَخَاهُ وَأَوْلَاده السجْن ووسع عَلَيْهِم فِي الجرايات والنفقات وَأصْبح ملكا مُسْتقِلّا بعد أَن كَانَ وزيرا وَكَانَ ذَلِك سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة
وَفِي نشر المثاني أَن قبض الشَّيْخ على أَخِيه أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج كَانَ سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَالْأول أصح وَلم يزل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس وَأَوْلَاده فِي حكم الثقاف إِلَى أَن قتل يَوْم مقتل أَخِيه الشَّيْخ بعد ثَمَان عشرَة سنة أَو نَحْوهَا حَسْبَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله وَكَانَت دولته من يَوْم بُويِعَ إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ أَخُوهُ ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَكَانَ من حجابه مُحَمَّد بن عَليّ الأنكراطي اليملالي وَمُحَمّد بن أبي زيد المنزاري وَمن كِتَابه سعيد بن عَليّ الحامدي رَحِمهم الله
أَمر زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَمَا كَانَ مِنْهُ
قَالَ صَاحب درة الحجال اخْتلف النَّاس هَل بُويِعَ لزيدان بن الْأَعْرَج بعد وَفَاة أَبِيه أم لَا وَقَالَ شَارِح زهرَة الشماريخ كَانَ زَيْدَانَ بن أبي الْعَبَّاس بسجلماسة وبويع لَهُ بهَا فَلم يتم أمره وَنفي إِلَى أَن توفّي سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة(5/18)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الْمهْدي الْمَعْرُوف بالشيخ ابْن الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم بِأَمْر الله
كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ويلقب بالشيخ بآمغار وَهُوَ الشَّيْخ بالبربرية ويلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمهدي لقبه بِهِ غير وَاحِد من أَئِمَّة عصره وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وعني بِالْعلمِ فِي صغره وَتعلق بأهدابه فَأخذ عَن جمَاعَة من الشُّيُوخ وَبلغ فِيهِ إِلَى دَرَجَة الرسوخ
فتح حصن فونتي وآسفي وآزمور وَمَا قيل فِي ذَلِك
لما اسْتَقل السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بِأَمْر السوس وَاجْتمعت كَلمته عَلَيْهِ صرف عزمه إِلَى جِهَاد الْعَدو الَّذِي بثغوره وحصونه وأرهف حَده لتطهيرها من بقايا شغبه وزبونه فانتصر عَلَيْهِم واستأصل شأفتهم وَقطع من تِلْكَ النواحي دابرهم وحسم آفتهم
قَالَ ابْن القَاضِي كَانَ الشَّيْخ رَحمَه الله ماضي الْعَزِيمَة قوي الشكيمة عَظِيم الهيبة كثير الْغَزَوَات ذَا همة عالية وشهامة عالية فعد قَوَاعِد الْملك وَأسسَ مبانيه وأحيى مراسم الْخلَافَة الدارسة ومعالمها الطامسة وَكَانَ لَهُ سعد وبخت عَظِيم فِي الْجِهَاد وَيَد بَيْضَاء فِي الْإِسْلَام فتح حصن النَّصَارَى بالسوس يَعْنِي حصن فونتي بعد أَن أَقَامُوا فِيهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة وَكَانَ منصورا بِالرُّعْبِ حَتَّى تركُوا لَهُ آسفي وآزمور وآصيلا من غير قتال وَلَا إيجَاف عَلَيْهِم اه وَنَحْوه فِي تَارِيخ البرتغاليين زَاد مؤرخهم أَن ذَلِك كَانَ بِإِذن طاغيتهم صَاحب أشبونة وَقد تقدم نَحْو هَذَا فِي أَخْبَار الْأَعْرَج وَالْجَوَاب عَنهُ وَكَانَ فتح فونتي سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة كَمَا فِي النزهة وَفتح آسفي سنة(5/19)
ثَمَان وَأَرْبَعين بعْدهَا كَمَا فِي الْمرْآة وَعند البرتغاليين أَن ذَلِك كَانَ سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين وَأَرْبَعين مسيحية وَهُوَ مُوَافق لهَذَا التَّارِيخ الهجري
وَفِي الدوحة لما أخلى النَّصَارَى آزمور تسارع إِلَيْهَا جمَاعَة من الْفُقَرَاء مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الكوش دَفِين جبل الْعرض من فاس وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي دَفِين تانسيفت قرب مراكش فقعدوا بهَا يحرسونها حَتَّى يَأْتِي مدد الْمُسلمين وَمن يعمرها مِنْهُم مَخَافَة أَن يرجع إِلَيْهَا الْعَدو فَإِذا بِهِ قد رَجَعَ واقتحمها عَلَيْهِم وأسرهم إِلَى أَن افتكهم الْمُسلمُونَ
قَالَ منويل كَانَ فداؤهما بألفي ريال ومائتي ريال بالتثنية فيهمَا وَلما افتدى الشَّيْخ الكوش وعزم على الْخُرُوج وَكَانَ أَسِيرًا عِنْد امْرَأَة نَصْرَانِيَّة ناولته كتبا للْمُسلمين وَقَالَت لَهُ هَذِه كتب كَانَت عِنْدِي وَلَا حَاجَة لي بهَا فَخذهَا إِلَيْك فَأَخذهَا وَخرج بهَا فِي قفة على رَأسه فَكَانَ من جُمْلَتهَا كتاب تَنْبِيه الْأَنَام الْمَوْضُوع فِي الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ذَلِك أول دُخُوله لهَذِهِ الْبِلَاد على يَد الشَّيْخ الْمَذْكُور اه
بِنَاء حصن آكادير
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي فِي كِتَابه الْمُنْتَقى الْمَقْصُور كَانَت للأمير السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ مآثر حسنه مِنْهَا أَنه أول من اختط مرسى آكادير بالسوس الْأَقْصَى سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة لما أجلى النَّصَارَى من الْموضع الْمَعْرُوف بفونتي على مقربة من آكادير الْمَذْكُور وَكَانَ لَهُ فِي اختطاطه رَأْي مُصِيب وفراسة تَامَّة اه(5/20)
اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ على مراكش وتجديد الْبيعَة لَهُ بهَا
كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بعد الْقَبْض على أَخِيه واستقلاله بِالْأَمر قد أَقَامَ بالبلاد السوسية مثابرا على جِهَاد الْعَدو إِلَى أَن قلع عروق مفسدته مِنْهَا وَكَانَت مراكش فِي هَذِه الْمدَّة قد توقفت عَن بيعَته وتربصت عَن الدُّخُول فِي دَعوته اتقاء للوطاسيين وارتياء فِي أمره إِلَى مَاذَا يؤول وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة فانقادت لَهُ حِينَئِذٍ وَبَايَعَهُ أَهلهَا فَقَدمهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وخلص لَهُ جَمِيع مَا كَانَ بيد أَخِيه المخلوع من تادلا إِلَى وَادي نول وَالله غَالب على أمره
نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ لِحَرْب بني وطاس واستيلاؤه على مكناسة وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
لما استولى السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ على مراكش وصفت لَهُ أَعمالهَا طمحت نَفسه للاستيلاء على بَقِيَّة بِلَاد الْمغرب وأمصاره وَقطع جرثومة الوطاسيين من سَائِر أقطاره فَجمع الجموع وَتقدم بهَا إِلَى أَعمال فاس فَلم يزل يستفتحها بَلَدا بَلَدا ومصرا مصرا إِلَى أَن أَتَى عَلَيْهَا أجمع وَكَانَ أول مَا ملك مِنْهَا مكناسة الزَّيْتُون فَإِنَّهُ افتتحها عقب سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة بعد حِصَار وقتال كَبِير(5/21)
حِصَار السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ حَضْرَة فاس ومقتل الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الوانشريسي رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ قد ألح على فاس بِالْقِتَالِ وحاصرها حصارا طَويلا وَلما عسر عَلَيْهِ أمرهَا بحث عَن ذَلِك فَقيل لَهُ لَا سَبِيل لَك إِلَيْهَا وَلَا يُبَايِعك أَهلهَا إِلَّا إِذا بَايَعَك ابْن الوانشريسي يعنون الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي رَحمَه الله فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور سرا ووعده ومناه فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد بيعَة هَذَا السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي فِي رقبتي وَلَا يحل لي خلعها إِلَّا لموجب شَرْعِي وَهُوَ غير مَوْجُود وَزعم بَعضهم أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كتب إِلَى أهل فاس يَقُول لَهُم إِنِّي إِن دخلت فاسا صلحا ملأتها عدلا وَإِن دَخَلتهَا عنْوَة ملأتها قتلا فَأَجَابَهُ ابْن الوانشريسي بِأَبْيَات أغْلظ لَهُ فِيهَا مِنْهَا قَوْله
(كذبت وَبَيت الله مَا تحسن العدلا ... وَلَا خصك الْمولى بِفضل وَلَا أولى)
كَذَا فِي النزهة قلت وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات قديمَة والوانشريسي إِنَّمَا تمثل بِهِ لَا غير فقد ذكر الْعَلامَة ابْن خلدون فِي أَخْبَار بني صَالح بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي أَصْحَاب قلعة نكور لأوّل الْفَتْح أَن عبيد الله الْمهْدي العبيدي صَاحب إفريقية لما تغلب على الْمغرب خَاطب سعيد بن صَالح مِنْهُم يَدعُوهُ إِلَى أمره وَكتب لَهُ فِي أَسْفَل كِتَابه
(فَإِن تستقيموا أستقم لصلاحكم ... وَإِن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا)
(وأعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عنوا وأملأها قتلا)
فَأَجَابَهُ سعيد بن صَالح بِأَبْيَات من نظم شاعره الطليطلي نَصهَا(5/22)
(كذبت وَبَيت الله مَا تحسن العدلا ... وَلَا علم الرَّحْمَن من قَوْلك الفصلا)
(وَمَا أَنْت إِلَّا جَاهِل ومنافق ... تمثل للجهال فِي السّنة المثلى)
(وهمتنا الْعليا بدين مُحَمَّد ... وَقد جعل الرَّحْمَن همتك السُّفْلى)
فَلَعَلَّ الشَّيْخ كتب لأهل فاس بالبيتين الْأَوَّلين والوانشريسي كَانَ مطلعا على الْقَضِيَّة فَأَجَابَهُ بجوابهما
وَلما بلغ ذَلِك السُّلْطَان الشَّيْخ حقد على الوانشريسي ودس إِلَى جمَاعَة من المتلصصة بِأَن يأخذوه ويأتوا بِهِ إِلَى محلته مَحْبُوسًا من غير قتل وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد يقْرَأ صَحِيح البُخَارِيّ بِجَامِع الْقرَوِيين بَين العشاءين وينقل عَلَيْهِ كَلَام ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي ويستوفيه لِأَنَّهُ شَرط الْمحبس فَقَالَ لَهُ ابْنه يَا أَبَت إِنِّي قد سَمِعت أَن اللُّصُوص أَرَادوا الفتك بك فِي هَذِه اللَّيْلَة فَلَو تَأَخَّرت عَن الْقِرَاءَة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن وقفنا البارحة قَالَ على كتاب الْقدر قَالَ فَكيف نفر من الْقدر إِذا اذْهَبْ بِنَا إِلَى الْمجْلس فَلَمَّا افترق الْمجْلس خرج الشَّيْخ عبد الْوَاحِد من بَاب الشماعين أحد أَبْوَاب الْمَسْجِد الْمَذْكُور فثار بِهِ اللُّصُوص وَأَرَادُوا حمله فَأخذ بِإِحْدَى عضادتي الْبَاب فَضرب أحدهم يَده فقطعها وأجهز عَلَيْهِ الْبَاقُونَ فَقَتَلُوهُ بِبَاب الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة
قَالَ الشَّيْخ المنجور فِي فهرسته واشتهر عَن الْفَقِيه الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَدْعُو بِأبي شامة أَنه رأى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد فِي الْمَنَام بعد مَقْتَله فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأَنْشَأَ يَقُول
(لقد عمني رضوَان رَبِّي وفضله ... وَلم أر إِلَّا الْخَيْر فِي وَحْشَة الْقَبْر)
(وَإِنِّي أسأَل الْإِلَه بفضله ... ليحفظني يَوْم الْخُرُوج إِلَى الْحَشْر)
(وَمَا بعد ذَاك من أُمُور عسيرة ... كنشر الْكتاب والمرور على الجسر)(5/23)
اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ على فاس وَقَبضه على الوطاسيين وتغريبهم إِلَى مراكش
ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا عبد الله الشَّيْخ جد فِي حِصَار فاس وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ إِلَى أَن ملكهَا واحتوى عَلَيْهَا
قَالَ فِي الدوحة لما ألح السُّلْطَان الشَّيْخ بالحصار على فاس جَاءَهُ الشَّيْخ أَبُو الرواين المحجوب وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ مني فاسا بِخَمْسِمِائَة دِينَار فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان مَا أنزل الله بِهَذَا من سُلْطَان هَذَا شَيْء لم تأت بِهِ الشَّرِيعَة فَقَالَ وَالله لَا دَخَلتهَا هَذِه السّنة فَبَقيَ أشهرا وَالْأَمر لَا يزْدَاد إِلَّا شدَّة فَقَالَ ابْن السُّلْطَان وَهُوَ الْأَمِير أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر ابْن الشَّيْخ لِأَبِيهِ يَا أَبَت افْعَل مَا قَالَ لَك الشَّيْخ أَبُو الرواين فَإِنَّهُ رجل مبارك من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَلم يزل بِهِ حَتَّى أذن لَهُ فِي الْكَلَام مَعَه فكلمة الْأَمِير عبد الْقَادِر فَقَالَ لَهُ ادْفَعْ المَال فَدفعهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عِنْد تَمام السّنة يقْضِي الله الْحَاجة وأمري بأَمْره سُبْحَانَهُ ثمَّ إِن الشَّيْخ أَبَا الرواين فرق المَال من يَوْمه وَلم يمسك مِنْهُ لنَفسِهِ حَبَّة وَمن ذَلِك الْيَوْم وَالسُّلْطَان الْمَذْكُور فِي الظُّهُور إِلَى أَن انْقَضتْ السّنة فَدخل فاسا كَمَا قَالَ اه
وَقَالَ صَاحب الممتع وَالشَّيْخ أَبُو الرواين هُوَ كَانَ أحد الْأَسْبَاب فِي تمكن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْملك وَإِخْرَاج بني وطاس عَنهُ فَإِنَّهُ لما رأى اضْطِرَاب أَمر النَّاس وهيجان النَّصَارَى على الْمُسلمين جعل يُنَادي يَا حران جئ فَإِنِّي قد أَعطيتك الغرب وَذَلِكَ قبل ظُهُور السعديين وَلم يكن النَّاس يَدْرُونَ مَا يَقُول حَتَّى ظهر الحران وَهُوَ أحد أَوْلَاد السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يتَقَدَّم للحرب وَلم يفتح وَالِده من الْبِلَاد إِلَّا مَا فتح لَهُ على يَده
وَكَانَ دُخُول السُّلْطَان الشَّيْخ إِلَى فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَلما دَخلهَا تقبض على الوطاسيين أجمع وَبعث بهم مصفدين إِلَى مراكش عدا(5/24)
أَبَا حسون مِنْهُم فَإِنَّهُ فر إِلَى الجزائر مستجيرا بِتَرْكِهَا حَسْبَمَا مر
وَقَالَ اليفرني لما دخل الشَّيْخ حَضْرَة فاس دَخلهَا وَعَلِيهِ وعَلى أَصْحَابه الدراعات الصفر وسمة البداوة لائحة عَلَيْهِم فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الْحَاضِرَة والتخلق بأخلاقهم يَعْنِي حَتَّى رسخ فيهم ذَلِك وَالله أعلم
نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا
قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء حسن بن خير الدّين التركي على تلمسان وانقراض دولة بني زيان مِنْهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة فَلَمَّا فتح أَبُو عبد الله الشَّيْخ حَضْرَة فاس فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تاقت نَفسه إِلَى الِاسْتِيلَاء على الْمغرب الْأَوْسَط وَكَانَ يعز عَلَيْهِ اسْتِيلَاء التّرْك عَلَيْهِ مَعَ أَنهم أجانب من هَذَا الإقليم ودخلاء فِيهِ فيقبح بأَهْله وملوكه أَن يتركوهم يغلبُونَ على بِلَادهمْ لَا سِيمَا وَقد فر إِلَيْهِم عَدو من أعدائه وعيص من أعياص أقتاله وَهُوَ أَبُو حسون الوطاسي فَرَأى الشَّيْخ من الرَّأْي وَإِظْهَار الْقُوَّة فِي الْحَرْب أَن يبدأهم قبل أَن يبدؤوه فَنَهَضَ من فاس قَاصِدا تلمسان فِي جموعه إِلَى أَن نزل عَلَيْهَا وحاصرها تِسْعَة أشهر وَقتل فِي محاصرتها وَلَده الحران وَكَانَ نابا من أنيابه وسيفا من سيوفه ثمَّ استولى الشَّيْخ على تلمسان ودخلها يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سبع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَنفى التّرْك عَنْهَا وانتشر حكمه فِي أَعمالهَا إِلَى وَادي شلف واتسعت خطة مَمْلَكَته بالمغرب ودانت لَهُ الْبِلَاد ثمَّ كرت عَلَيْهِ الأتراك وأخرجوه من تلمسان فَعَاد إِلَى مقره من فاس ثمَّ عاود غَزْو تلمسان حِين بلغه قيام رعاياها على التّرْك وانحصار التّرْك بقصبتها فَأَقَامَ مرابطا عَلَيْهَا أَيَّامًا فامتنعت عَلَيْهِ وأقلع عَنْهَا وَلم يعاود غزوها بعد ذَلِك وخلص أمرهَا إِلَى التّرْك على مَا نذكرهُ(5/25)
امتحان السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَرْبَاب الزوايا والمنتسبين وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة أَمر السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بامتحان أَرْبَاب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفًا على ملكه مِنْهُم لما كَانَ للعامة فيهم من الِاعْتِقَاد والمحبة وَالْوُقُوف عِنْد إشاراتهم والتعبد بِمَا يتأولونه من عباراتهم أَلا ترى أَن بيعَة وَالِده أبي عبد الله الْقَائِم لم تَنْعَقِد إِلَّا بهم وَلَا ولج بَيت الْملك إِلَّا من بابهم فامتحن جمَاعَة مِنْهُم كالشيخ أبي مُحَمَّد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وَأمر برحيله إِلَى فاس
وَفِي الدوحة لما امتحن السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ زَوَايَا الْمغرب قيل لأبي عَليّ الْحسن بن عِيسَى المصباحي دَفِين الدعادع الَّتِي على وَادي مُضِيّ من عمل الْقصر أَلا تخشى من هَذَا السُّلْطَان فَقَالَ إِنَّمَا الخشية من الله وَمَعَ هَذَا فالماء والقبلة لَا يقدر أحد على نزعهما وَالْبَاقِي مَتْرُوك لمن طلبه
وَكَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور يُطَالب أَرْبَاب الزوايا بودائع أُمَرَاء بني مرين ويتهمهم بهَا وَبعث خديمه يَوْمًا إِلَى الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر المشترائي دَفِين مكناسة يُطَالِبهُ بِشَيْء من ذَلِك فَوَجَدَهُ جَالِسا بِنَاحِيَة زاويته يضفر الدوم وَإِذا بطائر لَعَلَّه اللقلاق سلح أَمَامه فَمَا رفع أَبُو عُثْمَان بَصَره حَتَّى سقط الطَّائِر مَيتا متطاير الريش فَلَمَّا رأى الخديم ذَلِك فزع وَولى هَارِبا قَالَه فِي الممتع وَالله تَعَالَى أعلم(5/26)
وفادة الإِمَام أبي عبد الله الخروبي من جَانب دولة التّرْك فِي شَأْن قسم الْبِلَاد وتحديدها
لما كَانَ من السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ مَا كَانَ من غَزوه تلمسان مرَّتَيْنِ وَكَانَ يحدث نَفسه بمعاودة غَزْو تِلْكَ الْبِلَاد عينت دولة التّرْك من جَانبهَا الْفَقِيه الصَّالح أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر ودفينها للوفادة على السُّلْطَان الْمَذْكُور فِي شَأْن عقد المهادنة وتحديد الْبِلَاد فَقدم عَلَيْهِ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَهُوَ بمراكش سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي هَذَا الْغَرَض فَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عبد الله وفادته إِلَّا أَنه لم تظهر ثَمَرَة لمقدمه
وَفِي الْمرْآة أَن أَبَا عبد الله الخروبي قدم الْمغرب الْأَقْصَى مرَّتَيْنِ فِي سَبِيل السفارة بَين مُلُوك الْمغرب الْأَوْسَط وَالْمغْرب الْأَقْصَى فَأخذ عَنهُ كثير من أهل الْمغرب الْأَقْصَى وَأخذ هُوَ عَن الشَّيْخ زَرُّوق رَحمَه الله وَفِي قدمة الخروبي هَذِه إِلَى مراكش أنكر على الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي دَفِين رياض الْعَرُوس من مراكش حلق شعر التائب الَّذِي يُرِيد الدُّخُول فِي طَرِيق الْقَوْم وَقَالَ إِنَّه بِدعَة فَقَالُوا لَهُ إِن الشَّيْخ الْجُزُولِيّ كَانَ يَفْعَله فَقَالَ لَهُم لَعَلَّه بِإِذن وَالْإِذْن لَهُ لَا يعمكم فَإِن الْإِذْن للنَّبِي يعم أَتْبَاعه وَالْإِذْن للْوَلِيّ لَا يعم أَتْبَاعه وَأنكر عَلَيْهِ مسَائِل كَثِيرَة وَبعث إِلَيْهِ رِسَالَة أقذع لَهُ فِيهَا وَقد وقفت عَلَيْهَا رحم الله الْجَمِيع بمنه وَتُوفِّي الخروبي هَذَا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَدفن خَارج الجزائر وَالله أعلم(5/27)
قدوم أبي حسون الوطاسي بِجَيْش التراك واستيلاؤه على فاس ونفيه الشَّيْخ عَنْهَا
قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله على فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَقَبضه على بني وطاس وفرار أبي حسون إِلَى الجزائر فَلم يزل أَبُو حسون عِنْد تَركهَا إِلَى أَن قدم بهم مَعَ باشاهم صَالح التركماني فاستولى على فاس ثَالِث صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنفى أَبَا عبد الله الشَّيْخ عَنْهَا حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى
عود السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا
لما فر السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ من وقْعَة التّرْك بفاس وَوصل إِلَى مراكش صرف عزمه لقِتَال أبي حسون فاستنفر قبائل السوس وَجمع الجموع وزحف إِلَى فاس فدارت بَينه وَبَين سلطانها أبي حسون حروب شَدِيدَة كَانَ فِي آخرهَا الظفر للشَّيْخ فَقتل أَبَا حسون وَاسْتولى على فاس وَصفا لَهُ أَمر الْمغرب وَقد تقدّمت هَذِه الْأَخْبَار مستوفاة فِي محلهَا وَكَانَ اسْتِيلَاء السُّلْطَان الشَّيْخ على فاس يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة
وَفِي الدوحة أَن دُخُول أبي حسون لفاس كَانَ سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وعود السُّلْطَان الشَّيْخ إِلَيْهَا واستيلاؤه عَلَيْهَا كَانَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتِّينَ أَيْضا وَالله تَعَالَى أعلم(5/28)
مقتل الفقيهين أبي مُحَمَّد الزقاق وَأبي عَليّ حرزوز وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما استولى السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ على فاس فِي هَذِه الْمرة أَمر بقتل الْفَقِيه الصَّالح قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد ابْن عَليّ الزقاق لِأَنَّهُ اتهمه بالميل إِلَى أبي حسون
ويحكى أَنه لما مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ اختر بِأَيّ شَيْء تَمُوت فَقَالَ لَهُ الْفَقِيه اختر أَنْت لنَفسك فَإِن الْمَرْء مقتول بِمَا قتل بِهِ فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان اقْطَعُوا رَأسه بشاقور فَكَانَ من حِكْمَة الله وعدله فِي خلقه أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور قتل بِهِ أَيْضا كَمَا سَيَأْتِي
وَفِي كتاب خُلَاصَة الْأَثر أَن الشَّيْخ الزقاق كَانَ يَقُول من قتل سوسيا كَانَ كمن قتل مجوسيا فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ الشَّيْخ قَالَ لَهُ أَنْت زق الضلال فَقَالَ لَهُ لَا وَالله بل أَنا زق الْعلم وَالْهِدَايَة ثمَّ قَتله
وَأمر أَيْضا بقتل خطيب مكناسة الزَّيْتُون الشَّيْخ أبي عَليّ حرزور المكناسي لكَلَام بلغه عَنهُ وَأَنه كَانَ يذكرهُ فِي خطبه ويحذر النَّاس من اتِّبَاعه والانقياد إِلَيْهِ وَيَقُول فِي خطبَته جَاءَكُم أهل السوس الْأَقْصَى البعاد ثمَّ يذكر الشَّيْخ وَيَقُول {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم فحسبه جَهَنَّم ولبئس المهاد} فِي كَلَام غير هَذَا وَكَانَ مقتل الفقيهين الْمَذْكُورين فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة(5/29)
تَرْتِيب السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَمر دولته وَمَا قيل فِي ذَلِك
قَالَ اليفرني كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ مُولَعا بتدبير أَمر الرّعية مستيقظا فِي أُمُوره حازما غير مُتَوَقف فِي سفك الدِّمَاء قَالَ ويحكى أَنه لما دخل فاسا دَخلهَا وَعَلِيهِ وعَلى أَصْحَابه سمة البداوة فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب أهل الْحَاضِرَة والتخلق بأخلاقهم وَذكر أَن ملك السعديين إِنَّمَا تأنق على يَد رجل وَامْرَأَة فَأَما الرجل فقاسم الزرهوني فَإِنَّهُ رتب للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ هَيْئَة السلاطين فِي ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب أَصْحَابهم وَكَيْفِيَّة مثولهم بَين أَيْديهم وَأما الْمَرْأَة فالعريفة بنت خجو فَإِنَّهَا عَلمته سيرة الْمُلُوك فِي مَنَازِلهمْ وحالاتهم فِي الطَّعَام واللباس وعاداتهم مَعَ النِّسَاء وَغير ذَلِك فاكتسى ملك الشَّيْخ بذلك طلاوة وازداد فِي عُيُون الْعَامَّة رونقا وحلاوة بِسَبَب جَرَيَانه على العوائد الحضرية لِأَن أهل الْبَادِيَة مسترذلون فِي عُيُون أهل الْحَاضِرَة قَالُوا وَلم يزل السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ يَدُور على مدن الْمغرب وأمصاره ويطيل الْإِقَامَة بفاس
قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَمن مآثره أَنه بنى جسر وَادي سبو وجسر وَادي أم الرّبيع وَتقدم بِنَاؤُه حصن آكادير وَالله تَعَالَى أعلم
وضع الوظيف الْمُسَمّى فِي لِسَان الْعَامَّة بالنائبة
قد تقدم لنا فِي صدر هَذَا الْكتاب اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو غير ذَلِك وعَلى القَوْل بِأَنَّهَا فتحت عنْوَة فَهِيَ خَرَاجِيَّة كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتب الْفِقْه وَتقدم لنا أَيْضا أَن أول من وظف الْخراج على أَرض الْمغرب عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَتَبعهُ بنوه على ذَلِك وَقفا نهجهم بَنو مرين وَفِي الظهير الَّذِي كتبه السُّلْطَان أَبُو زيان المريني لِابْنِ الْخَطِيب أَيَّام مقَامه بسلا شَاهد بذلك وَلما جَاءَ السعديون من بعدهمْ سلكوا هَذَا السَّبِيل أَيْضا وَقَول اليفرني إِن أَبَا عبد الله الشَّيْخ أول من أحدث النائبة(5/30)
بالمغرب يحمل على أَنه أول من أحدثها على الْوَجْه الْآتِي بَيَانه وَذَلِكَ أَنه لما صفا للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَمر الْمغرب واستأصل جرثومة بني وطاس مِنْهُ الْتفت إِلَى تَرْتِيب ملكه وتهذيب أعطافه وتأسيس أُمُور دولته كَمَا قُلْنَا فَمن ذَلِك أَنه فرض على قبائل الْمغرب الضريبة الْمُسَمَّاة فِي لِسَان الْعَامَّة بالنائبة وَلم ينزه عَنْهَا شريفا وَلَا مشروفا حَتَّى أَرْبَاب الزوايا والمنتسبين وَمِنْهُم أَوْلَاد الشَّيْخ أبي الْبَقَاء خَالِد المصمودي مَعَ مَا كَانَ لأبيهم من الشُّهْرَة بِالْولَايَةِ والصيت فِي بِلَاده وَكَانَ قدر هَذِه النائبة صَحْفَة من الشّعير وَعشْرين مدا من الْقَمْح لكل نائبة وصاعا من السّمن وكبشا لكل أَربع نَوَائِب وَكَانَت تفرض فِي زمَان الشَّيْخ على الكوانين وتوظف على حسب السكان وتدفع بِأَعْيَانِهَا وَجرى على ذَلِك وَلَده الْغَالِب بِاللَّه وَأَخُوهُ المعتصم وَلما جَاءَ الْمَنْصُور من بعدهمْ قوم تِلْكَ الْأَعْيَان بِسعْر الْوَقْت وَصَارَت تدفع دَرَاهِم ثمَّ ازْدَادَ ذَلِك إِلَى أَن خرج الْأَمر عَن الْقيَاس واتسع الْخرق على الراقع وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة
مراسلة السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
قد قدمنَا مَا كَانَ من غص السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ بمَكَان التّرْك من تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَأَنه غزاهم مرَّتَيْنِ وَقدم الإِمَام أَبُو عبد الله الخروبي ساعيا فِي الْهُدْنَة فَلم يرجع بطائل وَكَانَ السُّلْطَان الشَّيْخ يَقُول فِيمَا زَعَمُوا لَا بُد لي أَن أغزو مصر وَأخرج التّرْك من أحجارها وَكَانَ يُطلق لِسَانه فِي السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني ويسميه بسُلْطَان الحواتة يَعْنِي لِأَن التّرْك كَانُوا أَصْحَاب أساطيل وسفر فِي الْبَحْر فأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان فَبعث إِلَيْهِ رسله فَهَذَا سَبَب المراسلة على مَا فِي النزهة
وأشبه مِنْهُ بِالصَّوَابِ مَا حَكَاهُ بَعضهم قَالَ لما بلغ خبر انْقِرَاض الدولة الوطاسية إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني واستيلاء السعديين على ملك الْمغرب الْأَقْصَى كتب إِلَى الشَّيْخ يهنئه بِالْملكِ ويلتمس مِنْهُ الدُّعَاء لَهُ على مَنَابِر(5/31)
الْمغرب وَبعث إِلَيْهِ بذلك رَسُولا فِي الْبَحْر فَانْتهى إِلَى الجزائر وَمِنْهَا قدم إِلَى مراكش فِي الْبر وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أنزلهُ على كَبِير الأتراك فِي محلته صَالح باي الْمَعْرُوف بالكاهية وَكَانَ هَؤُلَاءِ الأتراك قد انحاشوا إِلَى الشَّيْخ من بقايا القادمين مَعَ أبي حسون فضمهم إِلَيْهِ وجعلهم جندا على حِدة وَسَمَّاهُمْ اليكشارية بِالْيَاءِ ثمَّ الْكَاف ثمَّ الشين وَهُوَ لفظ تركي مَعْنَاهُ الْعَسْكَر الْجَدِيد وَلما قَرَأَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ كتاب السُّلْطَان سُلَيْمَان وَوجد فِيهِ أَنه يَدْعُو لَهُ على مَنَابِر الْمغرب وَيكْتب اسْمه على سكته كَمَا كَانَ بَنو وطاس حمى أَنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرَّسُول وأزعجه فَطلب مِنْهُ الْجَواب فَقَالَ لَا جَوَاب لَك عِنْدِي حَتَّى أكون بِمصْر إِن شَاءَ الله وَحِينَئِذٍ أكتب لسلطان القوارب فَخرج الرَّسُول من عِنْده مذعورا يلْتَفت وَرَاءه إِلَى أَن وصل إِلَى سُلْطَانه وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ
قدوم طَائِفَة التّرْك من عِنْد السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني واغتيالهم للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ رَحمَه الله
لما خرج رَسُول السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني من عِنْد السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَوصل إِلَى الجزائر ركب الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَانْتهى إِلَيْهَا وَاجْتمعَ بالوزير الْمَعْرُوف عِنْدهم بالصدر الْأَعْظَم وَأخْبرهُ بِمَا لَقِي من سُلْطَان الْمغرب فأنهى الْوَزير ذَلِك إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان فَأمره أَن يُهَيِّئ الْعِمَارَة والعساكر لغزو الْمغرب فَاجْتمع أهل الدِّيوَان وكرهوا توجيهها وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن عينوا اثْنَي عشر رجلا من فتاك التّرْك وبذلوا لَهُم اثْنَي عشر ألف دِينَار وَكَتَبُوا لَهُم كتابا إِلَى صَالح الكاهية كَبِير عَسْكَر الشَّيْخ ووعدوه بِالْمَالِ والمنصب إِن هُوَ نصح فِي اغتيال الشَّيْخ وتوجيه رَأسه مَعَ القادمين عَلَيْهِ
وَفِي النزهة أَن صَالحا هَذَا كَانَ من ترك الجزائر جَاءَ فِي جملَة(5/32)
الطَّائِفَة الموجهين لاغتيال الشَّيْخ وَالله أعلم ثمَّ دخل الْوَزير على السُّلْطَان سُلَيْمَان وَاعْتذر إِلَيْهِ عَن تَوْجِيه الْعِمَارَة وَقَالَ هَذَا أَمر سهل لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى تَقْوِيم عمَارَة وَهَذَا المغربي الَّذِي أَسَاءَ الْأَدَب على السُّلْطَان يَأْتِي رَأسه إِلَى بَين يَديك فاستصوب رَأْيهمْ وشكر سَعْيهمْ وَأمر بتوجيه الْجَمَاعَة الْمعينَة فِي الْبَحْر إِلَى الجزائر وَمِنْهَا يتوجهون إِلَى مراكش فِي الْبر فَفَعَلُوا وَلما وصلوا إِلَى الجزائر هيؤوا أسبابا واشتروا بغالا وَسَارُوا إِلَى فاس فِي هَيْئَة التُّجَّار فباعوا بهَا أسبابهم وتوجهوا إِلَى مراكش وَلما اجْتَمعُوا بِصَالح الكاهية أنزلهم عِنْده ودبر الْحِيلَة فِي أَمرهم إِلَى أَن تَوَجَّهت لَهُ
وَفِي النزهة أَن هَؤُلَاءِ الأتراك خَرجُوا من الجزائر إِلَى مراكش مظهرين أَنهم فروا من سلطانهم وَرَغبُوا فِي خدمَة الشَّيْخ والاستيجار بِهِ ثمَّ إِن صَالحا الكاهية دخل على السُّلْطَان أبي بعد الله الشَّيْخ وَقَالَ يَا مولَايَ إِن جمَاعَة من أَعْيَان جند الجزائر سمعُوا بمقامنا عنْدك ومنزلتنا مِنْك فرغبوا فِي جوارك والتشرف بخدمتك وَلَيْسَ فَوْقهم من جند الجزائر أحد وهم إِن شَاءَ الله السَّبَب فِي تَملكهَا فَأمره بإدخالهم عَلَيْهِ وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ رأى وُجُوهًا حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم ثمَّ ترجع لَهُ صَالح كَلَامهم فأفرغه فِي قالب الْمحبَّة والنصح وَالِاجْتِهَاد فِي الطَّاعَة والخدمة حَتَّى خيل إِلَى الشَّيْخ أَنه قد حصل على ملك الجزائر فَأمره بإكرامهم وَأَن يعطيهم الْخَيل وَالسِّلَاح ويكونوا يدْخلُونَ عَلَيْهِ مَعَ الكاهية كلما دخل فَكَانُوا يدْخلُونَ عَلَيْهِ كل صباح لتقبيل يَده على عَادَة التّرْك فِي ذَلِك
وَصَارَ الشَّيْخ يبْعَث بهم إِلَى أَشْيَاخ السوس مناوبة فِي الْأُمُور المهمة ليتبصروا فِي الْبِلَاد ويعرفوا النَّاس وَكَانَ يُوصي الْأَشْيَاخ بإكرام من قدم عَلَيْهِم مِنْهُم وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن أمكنتهم فِيهِ الفرصة وَهُوَ فِي بعض حركاته بجبل درن بِموضع يُقَال لَهُ آكلكال بِظَاهِر تارودانت فولجوا عَلَيْهِ خباءه لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس فَضربُوا عُنُقه بشاقور ضَرْبَة أبانوا بهَا رَأسه وَاحْتَمَلُوهُ فِي مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا بِهِ أحشاء الظلماء وسلكوا طَرِيق درعة وسجلماسة كَأَنَّهُمْ أرسال تلمسان لِئَلَّا يفْطن بهم أحد من(5/33)
أهل تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ أدركوا بِبَعْض الطَّرِيق فقاتلت طَائِفَة مِنْهُم حَتَّى قتلوا وَنَجَا الْبَاقُونَ بِالرَّأْسِ وَقتل مَعَ الشَّيْخ تِلْكَ اللَّيْلَة الْفَقِيه مفتي مراكش أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر السكتاني وَالْكَاتِب أَبُو عمرَان الوجاني
وَلما شاع الْخَبَر بِأَن التّرْك قتلوا السُّلْطَان واستراب النَّاس بِجَمِيعِ من بَقِي مِنْهُم بالمغرب أغلق إخْوَانهمْ الَّذين كَانُوا بتارودانت أَبْوَابهَا واقتسموا الْأَمْوَال واستعدوا للحصار وَلما بُويِعَ ابْنه الْغَالِب بِاللَّه وَقدم من فاس نَهَضَ فِي العساكر إِلَى تارودانت للأخذ بثأر أَبِيه من التّرْك الَّذين بهَا فَحَاصَرَهُمْ مُدَّة وَلما لم يقدر مِنْهُم على شَيْء أعمل الْحِيلَة بِأَن أظهر الرحلة عَنْهُم وأشاع أَنه رَاجع إِلَى فاس لثائر قَامَ بهَا وَلما أبعد عَنْهُم مسيرَة يَوْم خَرجُوا فِي اتِّبَاعه لَيْلًا والعيون مَوْضُوعَة عَلَيْهِم بِكُل جِهَة إِلَى أَن شارفوا محلّة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه فعطف عَلَيْهِم وَلما لم يُمكنهُم الرُّجُوع إِلَى تارودانت تحيزوا إِلَى الْجَبَل وبنوا بِهِ قياطنهم وَجعلُوا عَلَيْهَا المتارزات من الْأَحْجَار وتحصنوا بهَا وأحاطت بهم العساكر من كل جِهَة فَقَاتلُوا إِلَى أَن فنوا عَن آخِرهم وَلم يُؤْخَذ مِنْهُم أَسِير وَقتلُوا من محلّة الْغَالِب بِاللَّه ألفا وَمِائَتَيْنِ وَأما الَّذين نَجوا بِالرَّأْسِ فَانْتَهوا إِلَى الجزائر وركبوا الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فأوصلوا الرَّأْس إِلَى الصَّدْر الْأَعْظَم وَأدْخلهُ على السُّلْطَان سُلَيْمَان فَأمر بِهِ أَن يَجْعَل فِي شبكة نُحَاس ويعلق على بَاب القلعة فَبَقيَ هُنَالك إِلَى أَن شفع فِي إنزاله وَدَفنه ابناه عبد الْملك المعتصم وَأحمد الْمَنْصُور حِين قدما الْقُسْطَنْطِينِيَّة على السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان مستعديين لَهُ على ابْن أخيهما المسلوخ كَمَا يَأْتِي وَكَانَ مقتل الشَّيْخ رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَلما بلغ خبر مَقْتَله إِلَى خَلِيفَته بمراكش الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن أبي بكر آزناك بَادر بقتل أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج المخلوع وَأَوْلَاده ذُكُورا وإناثا كبارًا وصغارا خشيَة أَن يُخرجهُ أهل مراكش فيبايعوه وَلما قتلوا لم يتجرأ أحد على دفنهم فبقوا مصرعين حَتَّى دفنهم الشَّيْخ أَبُو عَمْرو القسطلي الْوَلِيّ الشهير بمقربة من ضريح الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وَهِي الْقبَّة الَّتِي قرب الضريح الْمَذْكُور تسمى قُبُور الْأَشْرَاف وَأما السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ(5/34)
فَإِنَّهُم حملُوا جثته إِلَى مراكش فدفنت بهَا قبلي جَامع الْمَنْصُور بروضة السعديين وقبره شهير بهَا إِلَى الْآن وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات
(حَيّ ضريحا تغمدته رحمات ... وظلت لحده مِنْهَا غمامات)
(واستنشقن نفحة التَّقْدِيس مِنْهُ فقد ... هبت من الْخلد لي مِنْهَا نسيمات)
(بَحر بِهِ كورت شمس الْهدى فكست ... من أجلهَا السَّبْعَة الْأَرْضين ظلمات)
(يَا مهجة غالها غول الردى قنصا ... وأثبتت سهمها فِيهَا المنيات)
(دكت لموتك أطواد الْعلَا صعقا ... وَارْتجَّ من بعْدك السَّبع السَّمَوَات)
(وشيعت نَعشك المزجى إِلَى عدن ... من الملائك ألحان وأصوات)
(يَا رَحْمَة الله عاطيه سلاف رضَا ... تَدور مِنْهَا عَلَيْهِ الدَّهْر كاسات)
(قضى فَوَافَقَ فِي التَّارِيخ مِنْهُ حلى ... دَار إِمَام الْهدى الْمهْدي جنَّات)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ يلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمهدي وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وعني بِالْعلمِ فِي صغره وَتعلق بأهدابه فَأخذ عَن جمَاعَة من الشُّيُوخ وَبلغ فِيهِ دَرَجَة الرسوخ حَتَّى كَانَ يُخَالف الْقُضَاة فِي الْأَحْكَام وَيرد عَلَيْهِم فتاويهم فيجدون الصَّوَاب مَعَه وَقع ذَلِك مِنْهُ مرَارًا وَله حواش على التَّفْسِير وَذَلِكَ مِمَّا يدل على غزارة علمه
وَقَالَ فِي الْمُنْتَقى كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ رَحمَه الله أديبا متفننا حَافِظًا حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد أَنه كَانَ ممتع المجالسة والمذاكرة نقي الشيبة عَظِيم الهيبة مَا رَأَيْت بعد شَيْخي أبي الْحسن عَليّ بن هَارُون أحفظ مِنْهُ للمقطعات الشعرية وَكَثِيرًا مَا ينشد
(النَّاس كالناس وَالْأَيَّام وَاحِدَة ... والدهر كالدهر وَالدُّنْيَا لمن غلب)
وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فهما جدا حَافظ لصحيح البُخَارِيّ ويستحضر مَا للنَّاس عَلَيْهِ وَيَقُول فِي شرح ابْن حجر مَا صنف فِي الْإِسْلَام مثله عَارِفًا بالتفسير وَغَيره وَكَانَ يحفظ ديوَان المتنبي عَن ظهر قلب وَكَانَ يحض على(5/35)
الْمُشَاورَة وَيَقُول لَا سِيمَا فِي حق الْمُلُوك وينشد قَول المتنبي
(وَمن جهلت نَفسه قدره ... رأى غَيره مِنْهُ مَا لَا يرى)
وَكَانَ يَقُول يَنْبَغِي للْملك أَن يكون طَوِيل الأمل فَإِن طول الأمل وَإِن كَانَ لَا يحسن من غَيره فَهُوَ مِنْهُ صَالح لِأَن الرّعية تصلح بطول أمله وَكَانَ يَقُول من طول أمله أَخذ تلمسان وسبتة وَغَيرهمَا انْتهى
وَقَوله إِنَّه كَانَ يحفظ ديوَان المتنبي سَببه مَا ذكره فِي الدوحة قَالَ أَخْبرنِي الْوَزير الْمُعظم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف قَالَ لما غدرت قَبيلَة المنابهة بجد السُّلْطَان الْمَذْكُور وأنجاه الله من غدرتهم عرف الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله ابْن عمر بذلك فَكتب إِلَيْهِ يَقُول أَيْن أَنْت من قَول أبي الطّيب المتنبي
(غاض الْوَفَاء فَمَا تَلقاهُ فِي عدَّة ... وأعوز الصدْق فِي الْإِخْبَار وَالْقسم)
قَالَ فعكف السُّلْطَان الْمَذْكُور على ديوَان المتنبي حَتَّى حفظه كُله وَلم يعزب عَنهُ بَيت وَاحِد اه وَابْن عمر الْمَذْكُور هُوَ أحد أَشْيَاخ السُّلْطَان الْمَذْكُور وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عمر المضغري الْفَقِيه الفرضي الحاسب فَقِيه درعة وعالمها وَكَانَ قد وَفد على السُّلْطَان الْمَذْكُور أَيَّام كَونه بالسوس وَلما عَاد إِلَى درعة سَأَلَهُ فقهاؤنا كَيفَ وجدت أهل السوس فَقَالَ وجدت فقهاءهم على ضَعِيف الفتاوي وفقراءهم على عَظِيم الدعاوي وعامتهم على كثير الْمسَاوِي
وَمن أَشْيَاخ السُّلْطَان الْمَذْكُور الإِمَام الشهير شيخ الْجَمَاعَة بالصقع السُّوسِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الثاملي ذكره فِي الْمُنْتَقى وَأثْنى عَلَيْهِ وَمن أشياخه عَلامَة فاس ومحققها أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد اليستني أَخذ عَنهُ علوما مِنْهَا التَّفْسِير قَالَ المنجور وَكنت أَنا قارئه بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله الشَّيْخ الْمَذْكُور وَكَانَ شَدِيد الْمحبَّة لَهُ قَالَ وَلما(5/36)
توفّي الْفَقِيه الْمَذْكُور وَذَهَبت مَعَ وَلَده صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي توفّي بهَا لنخبر السُّلْطَان بوفاته وَجَدْنَاهُ يقْرَأ ورده بحمام المريني فَخرج السُّلْطَان إِلَيْنَا وَهُوَ يبكي بِصَوْت عَال يفزع من سَمعه حَتَّى رَأينَا مِنْهُ الْعجب وَمَا سكت إِلَّا بعد مُدَّة لما كَانَ يعلم مِنْهُ من صِحَة الدّين والنصح لخاصة الْمُسلمين وعامتهم وَحضر جنَازَته وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله سنة تسع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وللسلطان الْمَذْكُور عدَّة أَشْيَاخ غير هَؤُلَاءِ
وَمن وزرائه الرئيس أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر آصناك الحاحي وَأَبُو عمرَان مُوسَى بن أبي جمدي الْعمريّ وَغَيرهم
وَمن قُضَاته بفاس أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الخصاصي وبمراكش أبوالحسن عَليّ بن أبي بكر السكتاني رحم الله الْجَمِيع
وَكَانَ للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ عدَّة أَوْلَاد نجباء وَمن أنجبهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالحران الْقَتِيل على تلمسان وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه وَأَبُو مَرْوَان عبد الْملك الْغَازِي وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة ولوا الْأَمر بعد أَبِيهِم وَمِنْهُم الْوَزير أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر وَتُوفِّي فِي حَيَاة أَبِيه سنة تسع وَخمسين وَتِسْعمِائَة
وَفِي نشر المثاني أَنه قتل مخنوقا بِأَمْر أَخِيه عبد الله الْغَالِب بِاللَّه سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة فَالله أعلم وَمِنْهُم عُثْمَان وَعبد الْمُؤمن وَعمر وَغَيرهم
قَالَ المنجور فِي فهرسته حضرت يَوْمًا مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عد الله الشَّيْخ وَقد حضر عِنْده أَوْلَاده الصناديد الْأُمَرَاء الْمولى مُحَمَّد الحران وَالْمولى عبد الْقَادِر وَالْمولى عبد الله فَدخل شَيخنَا الإِمَام أَبُو عبد الله اليستني فَلَمَّا نظر إِلَيْهِم حول أَبِيهِم أنْشد بَيت تَلْخِيص الْمِفْتَاح
(فَقلت عَسى أَن تبصريني كَأَنَّمَا ... بنى حوالي الْأسود الحوارد)
فأعجب ذَلِك السُّلْطَان وَأَوْلَاده رَحْمَة الله عَلَيْهِم(5/37)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ رَحمَه الله
كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه كَمَا رَأَيْته مرقوما على الرخامة الَّتِي على قَبره فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَكَانَ رَحمَه الله أدعج الْعَينَيْنِ مستدير الْوَجْه عريضه أسيل الْخَدين مشرف الوجنتين ربعَة للقصر وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ بِطرف صَالح من الْعلم وَكَانَ ولي عهد أَبِيه وَكَانَ يلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالغالب بِاللَّه لقبه بِهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة وَلما وافته الأنباء بمقتل أَبِيه وَهُوَ بفاس بَايعه أَهلهَا وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته مِنْهُم أحد
وَذكر صَاحب زهرَة الشماريخ أَن الْفَقِيه الميقاتي الْمعدل بمنار الْقرَوِيين أَبَا عبد الله المزوار وَكَانَ بَصيرًا بِعلم الْأَحْكَام والحدثان بَيْنَمَا هُوَ ذَات لَيْلَة يرقب الطالع وَالْغَارِب وَقد ابهار اللَّيْل واسود ديجوره رأى طالع السُّلْطَان الشَّيْخ قد سقط وَكَانَت بَينه وَبَين ابْنه أبي مُحَمَّد عبد الله وصلَة فأسرع فِي الذّهاب إِلَيْهِ ليخبره بِمَا رأى فَلَمَّا بلغ بَاب فاس الْجَدِيد وجده مغلقا فَاسْتَأْذن الموكلين بِهِ فِي فَتحه فَأَبَوا فَقَالَ لَهُم إِنِّي جِئْت إِلَى الْخَلِيفَة يَعْنِي خَليفَة السُّلْطَان فِي أَمر مُهِمّ عِنْده وَإِن لم تعلموه بمكاني السَّاعَة لحقكم مِنْهُ غَدا مَا تَكْرَهُونَ فأنذروا الْخَلِيفَة الْمَذْكُور بِهِ فَحمل إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن قَضيته فَأخْبرهُ بِمَا رأى ونعى إِلَيْهِ أَبَاهُ فَلم يكذب فِي ذَلِك وتهيأ واستعد فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى وافته الأنباء بمقتل أَبِيه فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي قَالَ لَهُ الْمعدل الْمَذْكُور فصادفه الْحَال على أهبة واستعداد وَلما بلغ أهل مراكش مبايعة أهل فاس لَهُ وافقوا عَلَيْهَا فاستوسق لَهُ الْأَمر وتمهد لَهُ ملك أَبِيه وَكَانَ ذَلِك كُله فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة(5/38)
مَجِيء حسن بن خير الدّين التركي إِلَى فاس ورجوعه مُنْهَزِمًا عَنْهَا
قَالَ ابْن القَاضِي لما ولي السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه الْخلَافَة اشْتغل بتأسيس مَا بِيَدِهِ وتحصينه بِالْعدَدِ وَالْعدة وَلم تطمح نَفسه إِلَى الزِّيَادَة على مَا ملك أَبوهُ من قبله
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا غزاه حسن بن خير الدّين باشا التركي صَاحب تلمسان فِي جَيش كثيف من الأتراك فَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه فَالْتَقَيَا بمقربة من وَادي اللَّبن من عمالة فاس فَكَانَت الدبرة على حسن فَرجع مُنْهَزِمًا يطْلب صياصي الْجبَال إِلَى أَن بلغ إِلَى باديس وَكَانَت يَوْمئِذٍ للترك وَرجع الْغَالِب بِاللَّه إِلَى فاس لكنه لم يدخلهَا لوباء كَانَ بهَا يَوْمئِذٍ وَلما رَجَعَ من حركته هَذِه أَمر بقتل أَخِيه عُثْمَان لأمر نقمه عَلَيْهِ فَقتل فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم
بِنَاء جَامع المواسين بِحَضْرَة مراكش وَالْبركَة الْمُتَّصِلَة بِهِ والمارستان وَغير ذَلِك
قَالَ اليفرني وَفِي عشرَة السّبْعين وَتِسْعمِائَة أنشأ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه جَامع الْأَشْرَاف بحومة المواسين من مراكش والسقاية الْمُتَّصِلَة بِهِ الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْمَدِينَة الْمَذْكُور والمارستان الَّذِي ظهر نَفعه ووقف عَلَيْهِ أوقافا عَظِيمَة قلت وَهَذَا المارستان هُوَ الَّذِي بحومة الطالعة قرب السجْن وَقد اتخذ الْيَوْم سجنا للنِّسَاء قَالَ وَهَذَا السُّلْطَان هُوَ الَّذِي جدد أَيْضا بِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بجوار جَامع ابْن يُوسُف اللمتوني وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهَا كَمَا يَعْتَقِدهُ كثير من النَّاس بل الَّذِي أَنْشَأَهَا أَولا هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني رَحمَه الله حَسْبَمَا ذكره ابْن بطوطة فِي رحلته وشاع على الْأَلْسِنَة أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه توصل إِلَى بنائها بصناعة الكيمياء وَأَن الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي علمه إِيَّاهَا حِين تلمذ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ اليفرني وَهُوَ كذب فَإِن الْمَنْقُول عَن الشَّيْخ الْمَذْكُور إنكارها(5/39)
وَمَا كَانَ ليفتح على مُسلم بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الْفِتْنَة وسببا بليغا من أَسبَاب المحنة لِأَن هَذِه الحرفة من أعظم أَبْوَاب الْفِتَن وَقد أجمع أَرْبَاب البصائر على التحذير من تعاطيها لوجوه ثَلَاثَة أَولهَا إِنَّهَا من المستحيلات كَمَا ذكره ابْن سيناء مستدلا عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {لَا تَبْدِيل لخلق الله} وكما أَنه لَيْسَ فِي قدرَة الْمَخْلُوق أَن يحول القرد إنْسَانا وَالذِّئْب غزالا كَذَلِك لَيْسَ فِي قدرته أَن يصير الرصاص فضَّة والنحاس ذَهَبا يَعْنِي لِأَن ذَلِك من بَاب قلب الْحَقَائِق وَهُوَ محَال وَلَقَد تناظر رجلَانِ فِيهَا فَقَالَ مجوزها أتنكر مَا تشاهده فِي الصَّبْغ وتصيير الْجَسَد الْأَحْمَر أصفر والأبيض أسود فَقَالَ مانعها لَا أنكر ذَلِك لِأَن الصَّبْغ لَيست تَغْيِير أصل وَإِنَّمَا أنكر أَن ثوب الصُّوف الْأَبْيَض ترده صناعَة الصَّبْغ قطنا أَو حَرِيرًا أَحْمَر أَو أَخْضَر وَأما الصَّبْغ فَلَا شكّ أَن النّحاس يصير أَبيض وَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن أَصله وَلَا يسلب عَنهُ اسْم النّحاس بل يُقَال فِيهِ نُحَاس أَبيض كَمَا لَا يسلب صبغ الصُّوف عَنهُ اسْم الصُّوف ثَانِيهَا سلمنَا أَنَّهَا جَائِزَة الْوُجُود لَكِنَّهَا مَعْدُومَة فِي الْخَارِج كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ رَحمَه الله إِذْ قَالَ ثَلَاث مُتَّفق على وجودهَا فِي الْغَالِب وَقد اتّفق على عدم رؤيتها أهل الْمَشَارِق والمغارب الكيمياء والعنقاء والغول وأخبارها كلهَا على وَجه السماع والإسنادات وحكايتها كالموضوعات عَن العجماوات والجمادات ثَالِثهَا سلمنَا أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْخَارِج لكنه يحرم تنَاولهَا وَالْبيع وَالشِّرَاء بهَا
وَقد سُئِلَ عَنْهَا الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق التّونسِيّ رَحمَه الله فَقيل لَهُ أحلال هِيَ إِذا كَانَت خَالِصَة فَقَالَ لَو دبر النّحاس أَو غَيره من الأجساد حَتَّى صَار ذَهَبا خَالِصا لَا شكّ فِيهِ فَمَتَى لم يقل بَائِعه لمبتاعه هَذَا كَانَ نُحَاسا أَو جسدا من الأجساد فدبرته حَتَّى صَار ذَهَبا كَمَا ترى لَكَانَ غاشا مدلسا قَالَ وَمَتى ذكره لم يشتر أحد مِنْهُ ذَلِك بفلس وَيَقُول فَكَمَا دَبرته حَتَّى صَار ذَهَبا فَكَذَلِك يدبره غَيْرك حَتَّى يرجع إِلَى أَصله فَمن لم يبين فِيهَا فَهُوَ دَاخل(5/40)
فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَشنَا فَلَيْسَ منا فَتكون صناعتها حَرَامًا وَقيل لبَعض الْفُضَلَاء لم لم تتعلل بِهَذِهِ الصِّنَاعَة فَإِنَّهَا تسلي الخاطر فَقَالَ قيل للحمار لم لم تجتر فَقَالَ أكره مضغ الْبَاطِل وَأنْشد
(فَقلت لِأَصْحَابِي هِيَ الشَّمْس ضوءها ... قريب وَلَكِن فِي تنَاولهَا بعد)
اه مَا نَقله اليفرني مُلَخصا مهذبا وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا عوج فِيهِ وَلَا أمت ثمَّ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا شاع عَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه من ذَلِك لَا أصل لَهُ وَلَقَد كَانَ أهل الْوَرع يجتنبون الصَّلَاة فِي جَامع الْأَشْرَاف بعد مَا بنى مُدَّة وَيُقَال إِن مَوضِع ذَلِك الْجَامِع كَانَ مَقْبرَة للْيَهُود وَالله تَعَالَى أعلم
فتح مَدِينَة شفشاون وانقراض أَمر بني رَاشد مِنْهَا
تقدم أَن مَدِينَة شفشاون حرسها الله بناها بَنو رَاشد من شرفاء الْعلم وَكَانُوا أهل جِهَاد ومرابطة على الْعَدو بِبِلَاد غمارة والهبط وَلما توفّي مختطها الْأَمِير أَبُو الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد بقيت بيد أَوْلَاده يتولون رياستها قَالَ فِي الْمرْآة وَلم يزَالُوا فِيهَا بَين سلم وَحرب إِلَى أَن حَاصَرَهُمْ بهَا الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ بجيوش عَمه السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه وَصَاحب شفشاون يَوْمئِذٍ الْأَمِير الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْأَمِير أبي الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار خرج فِيمَن إِلَيْهِ من أَهله وَولده وقرابته وصعدوا الْجَبَل المطل على شفشاون فِي مَسْلَك وعر صحبتهم فِيهِ السَّلامَة وَذَلِكَ لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي من صفر سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَسَارُوا إِلَى ترغة فَرَكبُوا مِنْهَا الْبَحْر يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع الشَّهْر الْمَذْكُور وَاسْتقر الْأَمِير أَبُو عبد الله بِالْمَدِينَةِ المنورة إِلَى أَن مَاتَ بهَا رَحمَه الله(5/41)
حِصَار البريجة الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالجديدة
قد قدمنَا مَا كَانَ من بِنَاء البرتغال لمدينة الجديدة وتحصينهم لَهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَة وَكَانَت غارات الْمُسلمين المجاورين لَهُم لَا تَنْقَطِع عَنْهُم وَكَذَلِكَ هم سَائِر مقامهم بهَا وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة جهز إِلَيْهَا السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه جَيْشًا كثيفا واستنفر لَهَا قبائل الْحَوْز وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِهِ مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسلوخ قَتِيل وَادي المخازن وَكَانَ يَوْمئِذٍ ابْن عشْرين سنة على مَا قيل واستوزر لَهُ الْقَائِد الْمُجَاهِد الشَّاعِر الْفَاضِل أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن تودة العمراني وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْحَرْب وَابْن السُّلْطَان صُورَة فزحف إِلَيْهَا وحاصرها أَرْبَعَة وَسِتِّينَ يَوْمًا وَملك بعض أسوارها وَلم يقْض الله بِفَتْحِهَا
وَفِي النزهة ذكر أَن الْقَائِد ابْن تودة دخل البريجة الَّتِي قرب آزمور وَأخذ أسوارها وعزم على أَن يستأصل فِي الْغَد بقيتها وَلَا يبقي للكفر بهَا أثرا فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ينهاه عَنْهَا فتراجع النَّصَارَى إِلَيْهَا بعد أَن ركبُوا الْبَحْر عازمين على الْجلاء عَنْهَا اه
وَقد وقفت فِي التَّارِيخ البرتغالي الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة وَاسم مُؤَلفه لويز مَارِيَة على أَخْبَار هَذَا الْحصار وَقد استوعبها وبسطها وتتبع الوقائع فصلا فصلا وَيَوْما يَوْمًا وأتى من ذَلِك بِمَا يزِيد على الكراسة فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ إِنَّه لما عزم السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه على غزوهم وَأخذ فِي تجهيز الجيوش إِلَيْهِم أَتَاهُم بعض المتنصرة قَالَ وَهُوَ عبد أسود فَأخْبرهُم بِأَن السُّلْطَان مستعد لحربهم وَكَانُوا عازمين على التَّوَثُّق من هَذَا الجاسوس فَأَفلَت مِنْهُم فَعَلمُوا أَن إِظْهَاره للتنصر كَانَ مكيدة ثمَّ أخذُوا فِي الاستعداد واشتروا من عِنْد قَائِد آزمور ألفي سيف هَكَذَا زعم قَالَ وَفِي الْيَوْم الرَّابِع من مارس سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين وَسِتِّينَ مسيحية وصلت جموع الْمُسلمين إِلَى حوز الجديدة وَهَذَا التَّارِيخ مُوَافق للتاريخ الْعَرَبِيّ الَّذِي قدمْنَاهُ قَالَ فَكَانَت خيل الْمُسلمين نَحْو ثَلَاثِينَ ألف وَالرُّمَاة ضعف ذَلِك وَكَانَ فيهم عَسْكَر التّرْك الْمَعْرُوف بالبلدروش وَكَانُوا يَوْمئِذٍ جندا للسعديين وَكَانَ مَعَهم(5/42)
عشرُون مدفعا عشرَة كَبِيرَة وَعشرَة صَغِيرَة وفيهَا وَاحِد أعظم من الْجَمِيع يُسمى ميمونا وَكَانَ مَعَهم الْعلم الْكَبِير الْأَبْيَض ورايات أخر ملونة وتقدموا إِلَى الجديدة فحاصروها حصارا شَدِيدا وحاربوها حَربًا هائلة وصف هَذَا المؤرخ ذَلِك كُله وَصفا كاشفا وَكَانَت الجديدة يَوْمئِذٍ فِي غَايَة الحصانة والمناعة فَلم يتَمَكَّن الْمُسلمُونَ من النَّصَارَى على مَا يَنْبَغِي وَأرْسل التّرْك عَلَيْهِم أَنْوَاع الحراقيات وملكوا المتارزات الَّتِي كَانَت حول السُّور بعد أَن هَلَكت عَلَيْهَا نفوس من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ صنع النَّصَارَى للْمُسلمين عِنْدهَا مينا البارود مرَّتَيْنِ فَفِي الأولى كَانَت المينا تِسْعَة براميل نفط مِنْهُنَّ سَبْعَة فأهلكت خلقا من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَفِي الثَّانِيَة كَانَت تِسْعَة عشر برميلا أَمَام السُّور فنفطت بِالْمُسْلِمين وأتلفت مِنْهُم عددا فبعضهم طَار فِي الْهَوَاء وَبَعْضهمْ تَحت التُّرَاب
وَكَانَ رُمَاة الْمُسلمين ينالون مِنْهُم نيلا عَظِيما واعترف النَّصَارَى لَهُم بجودة الرَّمْي بِحَيْثُ كَانُوا كلما ظهر مِنْهُم عسكري على السُّور اختطفته رصاصة فِي أخير مَوضِع من بدنه من الرَّأْس أَو الصَّدْر
قَالَ لويز المؤرخ وَلَقَد قدم فِي بعض الْأَيَّام من أشبونة كَبِير من كبراء جندهم فَقَالَ لَهُم أروني كَيفَ قتالكم لهَؤُلَاء الْمُسلمين وَكَيف مصافتكم لَهُم قَالَ فَمَا ظهر بِرَأْسِهِ على السُّور ليرى محلّة الْمُسلمين حَتَّى أَصَابَته رصاصة نثرت دماغه كَأَن صَاحبهَا كَانَ ينتظره وَكَانَ ذَلِك بِنَفس نُزُوله من الْبَحْر قبل أَن يذهب إِلَى منزله فَعوضهُ مِنْهُ الْمُسلمُونَ الْقَبْر قَالَ فَمَا كَانَ النَّصَارَى بعْدهَا يقدرُونَ أَن يظهروا على السُّور إِلَّا فِي النَّادِر وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار ندب كَبِيرهمْ جمَاعَة مِنْهُم لِلْخُرُوجِ إِلَى السواحل الْبَعِيدَة عَن محلّة الْمُسلمين لَعَلَّهُم يظفرون بأسير مِنْهُم يستكشفونه عَن خبر الْجَيْش المحاصر لَهُم هَل هُوَ مرتحل أَو مُقيم وَمَا مُدَّة الْإِقَامَة قَالَ فَخَرجُوا فِي فلك لَهُم لَيْلًا وَسَارُوا حَتَّى بلغُوا سَاحل طيط وَهِي يَوْمئِذٍ خَالِيَة وَكَانَ بقربها محلّة لقائد آسفي فَلَمَّا طلع الْفجْر تقدمُوا إِلَى الْبر وأرسوا فلكهم إِلَى جَانب بعض الْأَحْجَار هُنَالك بِحَيْثُ يخفى على المارين بالسَّاحل ثمَّ كمنوا هُنَالك فَلَمَّا كَانَ وَقت الْإِسْفَار إِذا بِرَجُل من محلّة آسفي أَتَى على فرسه إِلَى(5/43)
شاطئ الْبَحْر لبَعض حاجاته فَلم يرعه إِلَّا النَّصَارَى قد أَحدقُوا بِهِ وَأخذُوا بلجام فرسه وَجعل بَعضهم فَم مكحلته فِي صَدره فَلم يملك الْمُسلم من نَفسه شَيْئا ثمَّ أنزلوه عَن الْفرس وساقوه إِلَى الْفلك أَسِيرًا ولججوا بِهِ فِي الْبَحْر وَلما بعدوا عَن الْبر شَيْئا مَا رمى أحدهم الْفرس بِرَصَاصٍ فَقتله ثمَّ أَسْرعُوا إِلَى الجديدة فَدَخَلُوهَا وَاجْتمعَ النَّصَارَى على الْمُسلم وَهُوَ كالمبهوت بَينهم ثمَّ سَأَلُوهُ عَن خبر الْجَيْش المحاصر لَهُم فَأخْبرهُم بِأَنَّهُم يناجزونهم بعد هَذَا مرّة أُخْرَى أَو مرَّتَيْنِ فَإِن لم يظفروا بهم ارتحلوا عَنْهُم فَكَانَ كَذَلِك قَالَ وَكَانَ ارتحال الْمُسلمين من الجديدة فِي سَابِع مايه العجمي من السّنة الْمَذْكُورَة فَعمل النَّصَارَى لذَلِك عيدا وأحدثوا فِي كنائسهم صلوَات لم تكن قبل وَذَلِكَ بِإِشَارَة باباهم صَاحب رومة
وَمِمَّا حَكَاهُ هَذَا البرتغالي فِيمَا كَانَ يجْرِي بَين أهل آزمور وَبينهمْ من الْحَرْب وَذَلِكَ بعد هَذَا الْحصار بِمدَّة يسيرَة أَنه كَانَ بآزمور امْرَأَة حسناء وخطبها رجل من أهل الْبَلَد سَمَّاهُ لويز إِلَّا أَنه لم يحسن النُّطْق بِهِ لعجمته وَأَظنهُ اسْمه الميلودي لِأَن الْحُرُوف الَّتِي ذكر تقرب مِنْهُ قَالَ فامتنعت عَلَيْهِ فَرَاوَدَهَا أَيَّامًا وَاشْتَدَّ كلفه بهَا فَلم تَزْدَدْ عَلَيْهِ إِلَّا تمنعا فَبعث إِلَيْهَا ذَات يَوْم يرغبها فِي نَفسه ويدلي عَلَيْهَا بمآثره الَّتِي من جُمْلَتهَا الشجَاعَة حَتَّى قَالَ لَهَا وَإِن شِئْت أَن آتِيك بِرَأْس أعظم نَصْرَانِيّ بالجديدة وأشجعه فعلت ولعلها كَانَت موتورة لَهُم فَقَالَت لَهُ إِن أتيتني بِهِ تَزَوَّجتك فَذهب الرجل الْمَذْكُور إِلَى قَائِد آزمور وَلم يسمه لويز وَعرض عَلَيْهِ أَن يكْتب إِلَى كَبِير نَصَارَى الجديدة وَصَاحب رَأْيهمْ بِأَن يعين من جَانِبه رجلا من شجعانهم(5/44)
ليبارزه إِن شَاءَ فَأَجَابَهُ الْقَائِد إِلَى مُرَاده وَذهب الرَّسُول بِالْكتاب حَتَّى وقف على نَحْو غلوة من الْمَدِينَة وَهَذَا الْموضع هُوَ الَّذِي كَانَت تقف فِيهِ رسل آزمور إِذا قدمت لغَرَض فَخرج إِلَيْهِ الْبَرِيد من عِنْد صَاحب الجديدة وَحَازَ الْكتاب وَرجع بِهِ إِلَى صَاحبه فَلَمَّا قَرَأَهُ أحضر جمَاعَة من وُجُوه جنده وَعرض عَلَيْهِم مَا فِيهِ فَقَامَ رجل مِنْهُم وَقَالَ أَن صَاحبه وَهَذَا الرجل سَمَّاهُ لوزير وَقَالَ كَانَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة كَامِل الْقَامَة ممتلئ الْأَعْضَاء أسمر اللَّوْن كثير شعر الْبدن أسود اللِّحْيَة وَكَانَ بِرَأْسِهِ جرح لم يندمل من وقْعَة كَانَت بَينهم وَبَين أهل أزمور قبل ذَلِك فَكتب صَاحب الجديدة إِلَى قَائِد آزمور إِنَّا قد أجبناك إِلَى مَا دَعَوْت وَقد أعجبنا ذَلِك وَهَا نَحن قد عينا لصاحبك قرنه فلتعينوا لنا الْيَوْم والساعة الَّتِي تكون فِيهَا الملاقاة فاتفقا على يَوْم مَعْلُوم وَفِي ذَلِك الْيَوْم سَار قَائِد آزمور فِي أَصْحَابه ووجوه أهل بَلَده وَمَعَهُمْ الرجل الْمَذْكُور إِلَى الجديدة فَانْتَهوا إِلَى الْموضع الَّذِي جرت الْعَادة أَن يقف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَخرج قَائِد النَّصَارَى فِي جماعته وشرطوا للمبارزة وكيفتها شُرُوطًا مِنْهَا أَن تبعد كل جمَاعَة من صَاحبهَا بِخَمْسِينَ خطْوَة وَلَا يلتقي إِلَّا المتبارزان وَحدهمَا بمرأى من الْفَرِيقَيْنِ وَمِنْهَا أَن مساحة الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ مجالهما خَمْسُونَ شبْرًا وسطا من الْفَرِيقَيْنِ وَإِن من خرج عَن هَذَا الْمحل مِنْهُمَا وَلَو قيد شبر كَانَ رقا للْآخر وأعطوا خطوطهم بذلك وَلما حَان وَقت البرَاز خرج عَدْلَانِ من جَانب الْمُسلمين حَتَّى انتهيا إِلَى النَّصْرَانِي ففتشاه لينظرا مَا عَلَيْهِ من السِّلَاح وَمَا مَعَه لِأَن من جملَة الشُّرُوط أَن لَا يتبارزا إِلَّا بِالسَّيْفِ وَالرمْح فَقَط فَلم يجدا مَعَ النَّصْرَانِي سواهُمَا قَالَ لويز وَكَانَ صَاحبهمْ الْمَذْكُور يحسن الضَّرْب بكلتا يَدَيْهِ فَشرط عَلَيْهِ العدلان أَن لَا يُقَاتل إِلَّا بِالْيَمِينِ فَرضِي ثمَّ خرج شَاهِدَانِ من جَانب النَّصَارَى حَتَّى انتهيا إِلَى الْمُسلم ففتشاه فَلم يجدا عِنْده سوى السَّيْف وَالرمْح أَيْضا غير أَنه قد علق على ذراعه تمائم كَثِيرَة مخروزة فِي الْجلد فَقَالَ لَهُ الشَّاهِدَانِ لَا بُد أَن تنْزع(5/45)
هَذِه التمائم لِأَن صاحبنا لَيْسَ عِنْده شَيْء من هَذَا وَأَيْضًا فَيمكن أَن تقيك هَذِه التمائم بعض الْوِقَايَة فَقَالَ لَهُم لَا أَنْزعهَا لِأَن مثل هَذَا لَا يتقى بِهِ فِي الْحَرْب وَلَا يُغني فِي الظَّاهِر من السَّيْف وَالرمْح شَيْئا وَإِنَّمَا فِيهَا أَسمَاء الله وَلَا يحسن بِي أَن أطرحها فِي هَذِه الْحَالة الَّتِي أَنا مشرف فِيهَا على الْمَوْت فَيكون ذَلِك سوء أدب مني مَعَ اسْم الله تَعَالَى وَرُبمَا يكون سَببا فِي خذلاني فَرجع النصرانيان إِلَى قائدهما وأخبراه بالقضية فَقَالَ لَا بُد من نَزعهَا فعادا إِلَيْهِ وَزعم لويز أَن الْمُسلمين وافقوا على نَزعهَا وَقَالَ لَهُ العدلان إِن الْحق مَعَ النَّصَارَى لأَنا كشفنا صَاحبهمْ كشفا تَاما وراوده الْقَائِد أَيْضا فأصر على الِامْتِنَاع معتذرا بِمَا سلف وَلما لم يحصلوا على طائل رَجَعَ الْمُسلمُونَ إِلَى بلدهم وَلم يكن برَاز قَالَ لويز وعد النَّصَارَى ذَلِك غلبا وَجعلُوا يصيحون وَيخرجُونَ البارود قَالَ وَكَانَ سور الجديدة مكسوا بِالنسَاء وَالصبيان واغتاظ قَائِد آزمور فسجن الْمُسلم الْمَذْكُور لكَونه جر هَذِه المذلة على الْمُسلمين
قلت من تَأمل وأنصف علم أَن الفشل إِنَّمَا هُوَ من جَانب النَّصَارَى لِأَن تِلْكَ التمائم من حَيْثُ الظَّاهِر لَا تغني شَيْئا وَكَون بركتها تقيه من ضربات السَّيْف وطعنات الرمْح فَهَذَا لَا يَعْتَقِدهُ النَّصَارَى بل وَلَا يسلمونه فَلم يبْق إِلَّا الفشل والتعلل بِمَا لَا اعْتِبَار بِهِ عِنْد الْعُقَلَاء ثمَّ قَالَ لويز وَقد كَانَت بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى بعد ذَلِك وقائع فأبلى فِيهَا ذَلِك الْمُسلم الْبلَاء الْحسن وَعرف مَحَله من الشجَاعَة اه وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وَإِنَّمَا أثبت هَذِه الْحِكَايَة بِطُولِهَا لغرابتها وَلما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من خلال الفتوة ومنازع النخوة الإيمانية فنسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يعلي منار الدّين ويكبت كيد الجاحدين والمعتدين آمين
وَفِي سنة سبعين وَتِسْعمِائَة ولى السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه الْفَقِيه أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي قَضَاء فاس فطالت مدَّته(5/46)
وفادة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه على الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي رَضِي الله عَنهُ
حكى صَاحب الممتع أَن السُّلْطَان أَبَا مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه قَالَ للأستاذ أبي عبد الله الترغي إِنِّي أجد فِي نَفسِي إِرَادَة وطلبا للشَّيْخ فَامْضِ فاطلب لي شَيخا فَذهب يطوف على مَشَايِخ الْمغرب وَكَانُوا إِذْ ذَاك متوافرين حَتَّى أَتَى على الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الْجُزُولِيّ ثمَّ السملالي فَوَجَدَهُ شَيخا جَلِيلًا سنيا متواضعا زاهدا ظَاهر الْوَرع حسن الْأَخْلَاق باهر الكرامات وَاضح الطَّرِيقَة جَامعا لمحاسن الْخلال والأوصاف فَرجع إِلَيْهِ وَجعل يصف لَهُ كل من رأى من الْمَشَايِخ بِمَا ظهر لَهُ فِيهِ حَتَّى أَتَى على الشَّيْخ الْمَذْكُور فَقَالَ وَهُوَ ولي ثمَّ ولي ثمَّ ولي ثمَّ ولي سبعا فَقَالَ لَهُ كَأَنَّك تدلني عَلَيْهِ وَأَنه مطلوبي وَأَنه الْمُقدم على غَيره فَقَالَ لَهُ لَا أدلك عَلَيْهِ وَلَا عِنْدِي مَا أعرفهُ بِهِ تَقْدِيمه غير أَن هَذَا الَّذِي ظهر لي فأزمع السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه الرحلة إِلَيْهِ فَلَمَّا بلغ الشَّيْخ الْمَذْكُور مَجِيء السُّلْطَان إِلَيْهِ خرج يتلقاه وَقد هيأ لَهُ النزل وَمَا يصلحه وَأعد لَهُ مَا يُنَاسِبه من الْأَطْعِمَة الرفيعة النفيسة وَقدم إِلَيْهِ الثَّمر الْجيد وَاللَّبن الحليب وَلما خرج للقائه أَتَاهُ بَعضهم بفرس وَكَانَ من عَادَته أَن لَا يركب وَإِذا أَتَاهُ أحد بمركوب لَا يردهُ عَلَيْهِ بل يستصحبه مَعَه ويعلفه لَهُ حَتَّى يرجع فَفعل ذَلِك وَلَقي السُّلْطَان وَرجع بِهِ مَعَه وأنزله عِنْده فَمَكثَ فِي ضيافته ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ طلب مِنْهُ أَن يَتَّخِذهُ وَسِيلَة إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَهُ مَعَ ذَلِك تمهيد الْملك وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الْعَيْش بِدُونِهِ وَلَا يَأْمَن على نَفسه وَلَا تؤويه أَرض إِذا هُوَ تخلى عَنهُ فَقَالَ الشَّيْخ يَا عرب يَا بربر يَا سهل يَا جبل أطِيعُوا السُّلْطَان مولَايَ عبد الله وَلَا تختلفوا عَلَيْهِ ثمَّ بعد الثَّلَاث انْصَرف السُّلْطَان إِلَى مَحَله فَبَقيَ مُدَّة وَهُوَ مسكن ممهد الْملك فِي عَافِيَة(5/47)
ثمَّ أَتَى التّرْك إِلَى بوغاز طنجة وسبتة فخافهم وتشوش مِنْهُم كثيرا وَلم يهنأ لَهُ عَيْش فَجعلت حَاشِيَته يهونون عَلَيْهِ أَمرهم فَقَالَ دَعونِي مِنْكُم حَتَّى أستقي من رَأس الْعين ثمَّ أبرد بريدا إِلَى الشَّيْخ فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ سَمعه يَقُول يَا ترك ارْجعُوا إِلَى بِلَادكُمْ وَيَا مولَايَ عبد الله هُنَاكَ الله فِي بلادك بالعافية فَتقدم الرَّسُول وَسلم على الشَّيْخ وبلغه سَلام السُّلْطَان ثمَّ انْقَلب من فوره بعد مَا ورخ وَقت سَماع مقَالَته فَلَمَّا بلغ إِلَى السُّلْطَان أخبرهُ بِمَا كَانَ من الشَّيْخ من تِلْكَ الْمقَالة وَمَا كَانَ مِنْهُ من التَّارِيخ وَأَقَامُوا ينتظرون مَا يكون فَإِذا الْخَبَر قد ورد على السُّلْطَان بِأَن التّرْك قد ارتحلوا وَانْصَرفُوا إِلَى بِلَادهمْ وَإِذا ارتحالهم كَانَ وَقت مقَالَة الشَّيْخ الْمَذْكُورَة
ثمَّ إِن الشَّيْخ قدم مراكش فِي بعض الْأَيَّام زَائِرًا من كَانَ بهَا من أهل الله تَعَالَى فَرغب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أَن يدْخل دَاره هُوَ وَأَصْحَابه ويصنع لَهما طَعَاما وَشرط على نَفسه أَن لَا يُطعمهُمْ إِلَّا الْحَلَال وَلَا يُطعمهُمْ مَا فِيهِ شُبْهَة وَحلف للشَّيْخ على ذَلِك فأسعفه وَلما حضر الطَّعَام وضع الشَّيْخ يَده عَلَيْهِ وَلم يصب مِنْهُ فَلَمَّا خرج قيل لَهُ مَالك لَا تتَنَاوَل من طَعَام السُّلْطَان وَقد حلف أَن لَا يطعمكم إِلَّا الْحَلَال فَقَالَ لَهُ من أكل طَعَام السُّلْطَان وَهُوَ حَلَال أظلم قلبه أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمن أكله وَفِيه شُبْهَة مَاتَ قلبه أَرْبَعِينَ سنة اه
وَمِمَّا ينخرط فِي هَذَا السلك أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَ لَهُ اعْتِقَاد فِي الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَكَانَ يعظمه غَايَة وَكَانَت عِنْده مظلة لَهُ من سعف النّخل يَتَّقِي بهَا الْحر تبركا بهَا وَلما توفّي الشَّيْخ أَبُو عَمْرو الْمَذْكُور وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة حضر السُّلْطَان الْمَذْكُور جنَازَته وحثا التُّرَاب على قَبره بِيَدِهِ
وَمن أَخْبَار السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن المغاري كَانَ ظهر بمراكش وَكَثُرت الجموع عَلَيْهِ وقصده النَّاس من كل جِهَة فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور إِمَّا أَن تخرج عني أَو أخرج عَنْك فَقَالَ(5/48)
الشَّيْخ ابْن حُسَيْن بل أَنا أخرج وَخرج من فوره إِلَى تامصلوحت فَكَانَ من أمره مَا كَانَ
اسْتِيلَاء النَّصَارَى على حجر باديس وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا فِي أَخْبَار الوطاسيين أَن النَّصَارَى بنوا حجر باديس واستولوا على وهران سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة واستمروا بهما إِلَى أَن انتزعهما التّرْك من أَيْديهم وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وطمع التّرْك فِي الِاسْتِيلَاء على الْمغرب الْأَقْصَى أغرى السُّلْطَان الْمَذْكُور النَّصَارَى بِالِاسْتِيلَاءِ على الثغور الهبطية وسد أنقابها دونه
قَالَ فِي النزهة ذكر بَعضهم أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه لما رأى عمَارَة ترك الجزائر وأساطيلهم لَا يَنْقَطِع ترددها عَن حجر باديس ومرسى طنجة يَعْنِي البوغاز وتخوف مِنْهُم اتّفق مَعَ الطاغية أَن يُعْطِيهِ حجر باديس ويخليها لَهُم من الْمُسلمين فتنقطع بذلك مَادَّة التّرْك عَن الْمغرب وَلَا يَجدوا سَبِيلا إِلَيْهِ فَنزل النَّصَارَى على حجر باديس وأخرجوا الْمُسلمين مِنْهَا ونبشوا قُبُور الْأَمْوَات وحرقوها وأهانوا الْمُسلمين كل الإهانة وَلما بلغ خبر نزولهم عَلَيْهَا لوَلَده مُحَمَّد وَكَانَ خَلِيفَته على فاس خرج بجيوشه لإغاثة الْمُسلمين فَلَمَّا كَانَ بوادي اللَّبن بلغه استيلاؤهم عَلَيْهَا فَرجع وَتركهَا لَهُم اه
وَذكر اليفرني أَنه وجد هَذِه الْأَخْبَار فِي أوراق مَجْهُولَة وَالله تَعَالَى أعلم(5/49)
فتْنَة الْفَقِيه أَبُو عبد الله الأندلسي ومقتله
كَانَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الأندلسي نزيل مراكش متظاهرا بالزهد وَالصَّلَاح حَتَّى استهوى كثيرا من الْعَامَّة فتبعوه وَكَانَت تصدر عَنهُ مقالات قبيحة من الطعْن على أَئِمَّة الْمذَاهب رَضِي الله عَنْهُم ينحو فِيهَا منحى ابْن حزم الظَّاهِرِيّ ويتفوه بمقالات شنيعة فِي الدّين فَأمر السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بقتْله فاستغاث بالعامة من أَتْبَاعه واعصوصبوا عَلَيْهِ وَوَقعت فتْنَة عَظِيمَة بمراكش بِسَبَبِهِ إِلَى أَن قتل وصلب على بَاب دَاره برياض الزَّيْتُون من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ ذَلِك أواسط ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
ظُهُور بِدعَة الشراقة من الطَّائِفَة اليوسفية وَمَا قيل فيهم
قَالَ فِي الدوحة كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي نزيل مليانة تظهر على يَده الكرامات وأنواع الانفعلات فَبعد صيته وَكَثُرت أَتْبَاعه فغلوا فِي محبته وأفرطوا فِيهَا حَتَّى نسبه بَعضهم إِلَى النُّبُوَّة قَالَ وَفَشَا ذَلِك الغلو على يَد رجل مِمَّن صحب أَصْحَابه يُقَال لَهُ ابْن عبد الله فَإِنَّهُ تزندق وَذهب مَذْهَب الإباضية على مَا حكى عَنهُ واعتقد هَذَا الْمَذْهَب الخسيس كثير من الغوغاء وأجلاف الْعَرَب وَأهل الْأَهْوَاء من الحواضر وتعرف هَذِه الطَّائِفَة باليوسفية قَالَ وَلم يكن الْيَوْم بالمغرب من طوائف المبتدعة سوى هَذِه الطَّائِفَة وَسمعت بعض الْفُضَلَاء يَقُول إِنَّه قد ظهر ذَلِك فِي حَيَاة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور فَلَمَّا بلغه ذَلِك قَالَ من قَالَ عَنَّا مَا لم نَقله يَبْتَلِيه الله بِالْعِلَّةِ والقلة وَالْمَوْت على غير مِلَّة(5/50)
قَالَ صَاحب الدوحة وَلَقَد أَشَارَ الْفُقَهَاء على السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بالاعتناء بحسم مَادَّة فَسَاد هَذِه الطَّائِفَة فسجن جمَاعَة مِنْهُم وَقتل آخَرين وَهَؤُلَاء المبتدعة لَيْسُوا من أَحْوَال الشَّيْخ فِي شَيْء وَإِنَّمَا فعلوا كَفعل الروافض والشيعة فِي أئمتهم وَإِنَّمَا أَصْحَاب الشَّيْخ كَأبي مُحَمَّد الْخياط وَالشَّيْخ الشطيبي وَأبي الْحسن عَليّ بن عبد الله دَفِين تافلالت وأنظارهم من أهل الْفضل وَالدّين وَإِلَّا فالأئمة المقتدى بهم كلهم يعظم الشَّيْخ ويعترف لَهُ بِالْولَايَةِ وَالْعلم والمعرفة اه
وَقَالَ فِي الْمرْآة مَا نَصه وَالشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي الملياني من كبار الْمَشَايِخ أهل الْعلم وَالْولَايَة وَعُمُوم البركات وَالْهِدَايَة وَكَانَ كثير التَّلْقِين فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الخروبي أهنت الْحِكْمَة فِي تلقينك الْأَسْمَاء للعامة حَتَّى النِّسَاء فَقَالَ لَهُ قد دَعونَا الْخلق إِلَى الله فَأَبَوا فقنعنا مِنْهُم بِأَن نشغل جارحة من جوارحهم بِالذكر قَالَ الشَّيْخ الخروبي فَوَجَدته أوسع مني دَائِرَة
قَالَ صَاحب الْمرْآة وانتسبت إِلَيْهِ الطَّائِفَة الْمَعْرُوفَة بالشراقة بتَشْديد الرَّاء وَهُوَ بَرِيء من بدعتهم فَمَا كَانَ إِلَّا إِمَام سنة وَهدى مقتدى بِهِ فِي الْعلم وَالدّين قد نزهه الله وطهر جَانِبه وَقد أظهرُوا شَيْئا من ذَلِك فِي حَيَاته فتبرأ مِنْهُم وَقَاتلهمْ وَبلغ المجهود فِي تشريدهم قَالَ وحَدثني شَيخنَا أَبُو عبد الله النيجي أَن الشَّيْخ أَبَا الْبَقَاء عبد الْوَارِث اليالصوتي لما ظَهرت بِدعَة الشراقة وانتسابهم إِلَيْهِ وَقع فِي نَفسه من ذَلِك شَيْء فَقيل لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد الْخياط من أَصْحَابه فَقَالَ أَنا تائب إِلَى الله كفى فِي طَهَارَة جَانِبه أَن يكون الْخياط من أَصْحَابه وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ الملياني سنة سبع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة لَكِن مَا كَانَ عنفوان تِلْكَ الْبِدْعَة المدسوسة عَلَيْهِ إِلَّا فِي دولة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَمَا مر وَالله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء(5/51)
احتيال النَّصَارَى بمكيدة البارود بِجَامِع الْمَنْصُور من مراكش وَمَا وقى الله تَعَالَى من شَرها
كَانَ بقصبة مراكش جمَاعَة من أُسَارَى النَّصَارَى من لدن أَيَّام أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وأخيه أبي عبد الله الشَّيْخ فَرَأَوْا الجم الْغَفِير من أَعْيَان الْمُسلمين وَأهل الدولة يحْضرُون كل جُمُعَة للصَّلَاة مَعَ السُّلْطَان بِجَامِع الْمَنْصُور من القصبة الْمَذْكُورَة فحدثتهم نفسهم الشيطانية بِأَن يصنعوا مكيدة يهْلكُونَ بهَا السُّلْطَان وَمن مَعَه فَحَفَرُوا فِي خُفْيَة تَحت الْجَامِع الْمَذْكُور حُفْرَة ملأؤها من البارود وَوَضَعُوا فِيهَا فتيلا تسري فِيهِ النَّار على مهل كي يَنْقَلِب الْجَامِع بأَهْله وَقت الصَّلَاة فنفطت المينا وانهدت بهَا الْقبَّة الواسعة من الْجَامِع الْمَذْكُور وَانْشَقَّ مناره شقا كَبِيرا وَلَا زَالَ ماثلا بِهِ إِلَى الْآن وَكَانَ ذَلِك مبلغ ضررهم وَكفى الله الْمُسلمين شَرّ تِلْكَ المكيدة وَلم يتَمَكَّن لَهُم الْحَال على وفْق مَا أَرَادوا وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
وَفَاة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه رَحمَه الله
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي فِي شرح درة السلوك توفّي السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِسَبَب غم كَانَ يَعْتَرِيه اه وَهَذَا الْغم هُوَ الدَّاء الْمُسَمّى عِنْد الْعَامَّة بالضيقة أعاذنا الله مِنْهُ وَذكر غَيره أَنه توفّي فِي شَوَّال بِسَبَب تكلفه للصيام فعدت عَلَيْهِ الْعلَّة الْمَذْكُورَة وشاع على أَلْسِنَة النَّاس أَنه بَات يُصَلِّي لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان فوافته ميتَته وَهُوَ ساجد وَذَلِكَ كذب وَدفن رَحمَه الله عِنْد ضريح أَبِيه بقبور الْأَشْرَاف وقبره مَعْرُوف وَمِمَّا كتب بالنقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات
(أيا زائري هَب لي الدُّعَاء ترحما ... فَإِنِّي إِلَى فضل الدُّعَاء فَقير)(5/52)
(وَقد كَانَ أَمر الْمُؤمنِينَ وملكهم ... إِلَى وصيتي فِي الْبِلَاد شهير)
(فها أَنا ذَا قد صرت ملقى بحفرة ... وَلم يغن عني قَائِد ووزير)
(تزودت حسن الظَّن بِاللَّه راحمي ... وزادي بِحسن الظَّن فِيهِ كثير)
(وَمن كَانَ مثلي عَالما بحنانه ... فَهُوَ بنيل الْعَفو مِنْهُ جدير)
(وَقد جَاءَ إِن الله قَالَ ترحما ... إِلَى مَا يظنّ العَبْد بِي سيصير)
وَحكى أَنا ابْنه أَبَا عبد الله الْمَعْرُوف بالمسلوخ لما قَرَأَ هَذِه الأبيات عاقب ناظمها وَقَالَ لَهُ إِن فِي قَوْلك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحا إِلَى الحَدِيث (الْقَبْر رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَو حُفْرَة من حفر النَّار) فَهَلا قلت ببلقع أَو نَحوه
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه ذَا سياسة وخبرة بأحوال الْملك وتأن فِي الْأُمُور وَلما ولي الْخلَافَة ألان الْجَانِب وخفض الْجنَاح وَسَار بسيرة حَسَنَة حَتَّى صلحت الرّعية وازدانت الدُّنْيَا وانتعش النَّاس حَتَّى كَانَ يُقَال ثَلَاث عينات هم عُيُون الزَّمَان السُّلْطَان الْمولي عبد الله وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن المغاري وَالشَّيْخ أَبُو السرُور عياد السُّوسِي
قَالَ اليفرني وَرَأَيْت من جملَة سُؤال كتب بِهِ الْفَقِيه الصَّالح خطيب الْجَامِع الْأَعْظَم بتارودانت أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن التلمساني إِلَى قَاضِي الْجَمَاعَة أبي مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني يَقُول فِيهِ وَلَا شكّ أَن مولَايَ عبد الله مجمع على عَدَالَته وبيعته وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجَامِع أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي أَنه قَالَ مولَايَ عبد الله ياقوتة الْأَشْرَاف هُوَ صَالح لَا سُلْطَان وَقد اشْتهر بَين الْأَنَام وعَلى أَلْسِنَة الْخَاص وَالْعَام أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَانَ عدلا صَالحا وَوَقع فِي الرسَالَة(5/53)
الَّتِي كتب بهَا ابْن أَخِيه السُّلْطَان أَبُو الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن مَنْصُور إِلَى الْفَقِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي مَا ظَاهره يُخَالف ذَلِك وَيُؤذن بِأَنَّهُ كَانَ كَغَيْرِهِ من الْمُلُوك وَنَصّ الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من تِلْكَ الرسَالَة مُخَاطبا للفقيه الْمَذْكُور يَقُول وَقد تحققت وَعلمت أَن ولَايَة أَحْمد بن مُوسَى السملالي كَادَت تكون قَطْعِيَّة واشتهر أمره عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى أطبق أهل الْمغرب على ولَايَته وَقد كَانَ على عهد مَوْلَانَا عبد الله برد الله ضريحه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر عَنهُ وَمَا برح الشَّيْخ الْمَذْكُور يَدْعُو لَهُ ولدولته بِالْبَقَاءِ وَيظْهر حبه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يعْزل ويولي وَيقتل وَكَانَ شرد مِنْهُ إِلَى زاويته المرابط الأندلسي وَولد آصناك وأمثالهم وَكَانَ الشَّيْخ يقدم للشفاعة فَيشفع وَلَا يتعقب وَلَا يبْحَث عَمَّا وَرَاء ذَلِك بَاقٍ على عَهده ومودته وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور بعث لِابْنِ حُسَيْن بسد دَاره فَمَا فتحهَا حَتَّى أمره وَلَا استعظم أحد ذَلِك وَلَا أَكثر فِيهِ وَلَا جعله سَببا لفتح الْفِتْنَة وَكَانَ قواد الْمَذْكُور مثل وزيره ابْن شقراء وَبعد الْكَرِيم بن الشَّيْخ وَعبد الْكَرِيم بن مُؤمن العلج والهبطي والزرهوني وَعبد الصَّادِق بن مُلُوك وَغَيرهم مِمَّن لَا يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا فِي شرب الْخُمُور واتخاذ القيان وَبسط الْحَرِير وَغير ذَلِك من آلَات الْفضة وَالذَّهَب وَكَانَ فِي عصره أَحْمد بن مُوسَى الْمَذْكُور وَابْن حُسَيْن والشرقي وَأَبُو عَمْرو القسطلي وَأَبُو مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التامنارتي والشيظمي وَغير هَؤُلَاءِ من الْمَشَايِخ وَأهل الدّين الَّذين لَا يسع من يَدعِي هَذِه الطَّرِيقَة التَّقَدُّم عَلَيْهِم وَلَا اكْتِسَاب الْفَضِيلَة دونهم فَأحْسنُوا السِّيرَة وَلَا تعرضوا للسلطنة وَلَا سمع مِنْهُم مَا يقْدَح فِي وُلَاة الْأَمر وقادة الأجناد مِمَّن ذكر الَّذين كَانَ الْملك يَدُور عَلَيْهِم وَيرجع إِلَيْهِم فِي تَدْبيره اه الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من الرسَالَة الْمَذْكُورَة
قَالَ اليفرني وَمثل هَذَا مَا ذكر بَعضهم أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أعْطى حجر باديس للطاغية لتنقطع بذلك مَادَّة التّرْك عَنهُ وَمثله مَا ذكر عَنهُ أَيْضا أَن قائده ابْن تودة أَخذ بعض أسوار الجديدة وعزم على فتحهَا من الْغَد فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور ينهاه عَن ذَلِك وَنَظِيره أَيْضا قَضيته مَعَ أهل غرناطة(5/54)
وَأطَال فِيهَا هَذَا الْبَعْض الْمَنْقُول عَنهُ بِمَا استنكفت من ذكره هُنَا قَالَ وَهَذِه أُمُور شنيعة إِن صَحَّ أَنه فعلهَا وَلست أَدخل فِي عهدتها لِأَنِّي إِنَّمَا رَأَيْتهَا فِي أوراق مَجْهُولَة الْمُؤلف اشْتَمَلت على ذمّ هَذِه الدولة السعدية وظني أَنَّهَا من وضع بعض أعدائهم لحطة من قدرهم وإخراجه إيَّاهُم من النّسَب الشريف وَوَصفه دولتهم بالدولة الخبيثة فَلِذَا تجنبت مِنْهُم كثيرا من الْأَخْبَار الَّتِي لَا تظن بأولئك السَّادة رَحِمهم الله فقد قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين السُّبْكِيّ رَحمَه الله فِي طبقاته إِن المؤرخين على شفا جرف هار لأَنهم يتسلطون على أَعْرَاض النَّاس وَرُبمَا وضعُوا من النَّاس تعصبا أَو جهلا أَو اعْتِمَادًا على نقل من لَا يوثق بِهِ قَالَ فعلى المؤرخ أَن يَتَّقِي الله تَعَالَى اه إِلَّا أَن الْمُلُوك لَا يستغرب فِي حَقهم أَن يهدموا أساس الشَّرِيعَة ليبنوا منار رياستهم ويستهونوا عظائم الْأُمُور لتطيعهم الرّعية سَاعَة كَيفَ لَا وشراع أفئدتهم تلعب بِهِ ريَاح الشَّهَوَات فتلقي سفينة قُلُوبهم على سَاحل بَحر الْقنُوط من رَحْمَة الله تَعَالَى وَالله يسامح الْجَمِيع ويتجاوز عَن كَافَّة عصاة هَذِه الْأمة بمنه وفضله اه كَلَام اليفرني رَحمَه الله
وَمن وزراء السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ابْن أَخِيه الْأَمِير الْأَجَل الأديب الأحفل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الشَّيْخ كَانَ من أنبل الوزراء وألطفهم مسلكا وأخفهم روحا وَله عارضة فِي النّظم والنثر
ذكر الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الفاسي فِي كِتَابه الْأَعْلَام بِمن مضى وغبر من أهل الْقرن الْحَادِي عشر مَا صورته قدم الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر السَّعْدِيّ من مراكش إِلَى فاس وَمَعَهُ الْفَقِيه قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي والفقيه الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المنجوز فَلَمَّا تبدت لَهُم معالم فاس الْجَدِيد وتلظى للشوق فِي جوانحهم أوار
(وأبرح مَا يكون الشوق يَوْمًا ... إِذا دنت الديار من الديار)
وَأنْشد الْوَزير الْمَذْكُور لنَفسِهِ ارتجالا
(أخلائي هَذَا المستقى وربوعه ... وهذي نواعير الْبِلَاد تنوح)(5/55)
(وَذَاكَ الْمصلى مطرح الشوق والأسى ... وَتلك منَازِل الديار تلوح)
فَقَالَ القَاضِي الْحميدِي ارتجالا
(وَتلك القباب الْخضر شبه زبرجد ... بِهن غوان طرفهن جموح)
(يمسن كأملود من الرَّوْض يَانِع ... شذاهن من حول الديار يفوح)
فَقَالَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس المنجور ارتجالا أَيْضا
(ويرفلن فِي الحلات يختلن فِي الحلى ... وفيهن أَنْوَاع الْجمال وضوح)
(يبادرن ترقيع الكوى بمحاجر ... لإقبال حب طَال مِنْهُ نزوح)
وَلما بلغت الأبيات إِلَى الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الزموري قَالَ مذيلا
(تَأمل سنا الْحَسْنَاء تَحت قبابها ... كشمس غَدَتْ تَحت السَّحَاب تلوح)
(تحلت ربوع المستقي بجمالها ... وَأَنت إِلَى تِلْكَ القباب تروح)
وَبَعْضهمْ جعل الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين للْمولى الأديب أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف السجلماسي وَكَانَ كَاتبا للوزير الْمَذْكُور وَيجْعَل مَوضِع أخلائي أمولاي والبيتين بعدهمَا للوزير وَالله تَعَالَى أعلم والمستقى بِصِيغَة اسْم الْمَفْعُول اسْم بُسْتَان مَعْرُوف
وَنَظِير هَذَا مَا ذكره الأديب الْمَذْكُور فِي أَعْلَامه الْمَذْكُور قَالَ كَانَ الْوَزير الْمَذْكُور مَعَ كَاتبه الْمولى عبد الْوَاحِد الشريف فِي بعض الْأَسْفَار وَأرْسلت السَّمَاء بغيثها المدرار فَقَالَ الْوَزير الْمَذْكُور
(لله أَشْكُو غَدَاة السفح إِذْ ركضت ... أَيدي المطايا وحادي الرّيح يحدونا)
فَأَجَابَهُ الْكَاتِب الْمَذْكُور
(والغيم فِي الْأُفق قد أرْخى ذوائبه ... بأسهم الودق لَا يَنْفَكّ يرمينا)
فَقَالَ الْوَزير
(حَتَّى اسْتَوَى المَاء والآكام واستترت ... معالم الرشد لَا خريت يهدينا)
(فطلت الْخَيل فِي الأمواج سابحة ... سبح السلاحف نَحْو الدَّار يهوينا)
فَقَالَ الْكَاتِب
(وَالنَّفس فِي قلق لبين مألفها ... والشوق يَحْدُو بِنَا وَالْحَال يقصينا)(5/56)
فَقَالَ الْوَزير
(كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... حَتَّى غَدا الطير فَوق السَّرْح يفشينا)
وأخبار هَذَا الْوَزير ونوادره كَثِيرَة وَهُوَ الَّذِي أخرج بني رَاشد من مَدِينَة شفشاون حَسْبَمَا مر وَكَانَت وَفَاته فِي الْعشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة
وَمن وزراء السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أَيْضا الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن مُؤمن بن يحيى العلج الجنوي وَعبد الرَّحْمَن بن تودة وقاسم الزرهوني وَأحمد الهبطي وَمن وُلَاة مظالمه أَبُو عمرَان مُوسَى بن مخلوف الكنسوسي وَهُوَ وَالِي الشرطة وَكَانَ فَقِيها مشاركا
وَذكر بَعضهم أَن الشَّيْخ الصَّالح أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي كَانَ فِي بعض قدماته على السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه قد انحشر النَّاس لزيارته بزاويته فَوقف أَبُو عمرَان الْمَذْكُور يذود النَّاس عَنهُ وَيَقُول رحمكم الله من زار خرج فَسَمعهُ الشَّيْخ فَقَالَ لَهُ لَا تقل ذَلِك وَقل من جَار خرج وَمن كتاب السُّلْطَان الْمَذْكُور مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السجلماسي وَمُحَمّد بن أَحْمد بن عِيسَى وَغَيرهمَا وَمن قُضَاته بمراكش الْفَقِيه قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو الْقَاسِم بن عَليّ الشاطبي وبفاس أَبُو عبد الله الْعَوْفِيّ وَأَبُو مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي رَحِمهم الله
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد المتَوَكل على الله ابْن السُّلْطَان عبد الله الْغَالِب بِاللَّه رَحمَه الله
لما توفّي السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِحَضْرَة مراكش كَانَ ابْنه مُحَمَّد هَذَا بفاس وَكَانَ ولي عهد أَبِيه فَاجْتمع أهل العقد والحل بمراكش واستأنفوا لَهُ(5/57)
الْبيعَة وَكَتَبُوا بهَا إِلَيْهِ فوصلت إِلَيْهِ وَهُوَ بفاس أَوَائِل شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَبَايعهُ أهل فاس وَتمّ أمره
قَالَ ابْن القَاضِي أمه أم ولد وكنيته أَبُو عبد الله ولقبه المتَوَكل على الله وَيعرف عِنْد الْعَامَّة بالمسلوخ لِأَنَّهُ سلخ جلده وَحشِي تبنا كَمَا سَيَأْتِي
وَكَانَ مِمَّا وَقع فِي أَيَّامه أَنه كَانَت بَين الْمُسلمين وَبَين نَصَارَى طنجة وقْعَة بالرملة الْمُسَمَّاة بِأبي غاص من فحص طنجة قرب قنطرة عصماء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء منتصف جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَفِي هَذِه الْوَقْعَة اسْتشْهد الشَّيْخ أَبُو مهْدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي دَفِين الدعادع على وَادي مُضِيّ من عمل الْقصر فَإِنَّهُ حمل بعد استشهاده إِلَى الْموضع الْمَذْكُور فَدفن بِإِزَاءِ قبر أَبِيه فِي الرَّوْضَة الَّتِي هُنَالك
وَاسْتمرّ أَمر أبي عبد الله المتَوَكل منتظما إِلَى أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَقدم عَلَيْهِ عَمه عبد الْملك ابْن الشَّيْخ بِجَيْش التّرْك فنثر سلكه وبدد ملكه على مَا نذكرهُ وَيُقَال إِنَّه كَانَ أضمر الفتك بعميه أَحْمد وَعبد الْملك ففرا مِنْهُ إِلَى نَاحيَة التّرْك على مَا سَيَأْتِي قَالُوا وَكَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور فَقِيها أديبا مشاركا مجيدا قوي الْعَارِضَة فِي النّظم والنثر وَكَانَ مَعَ ذَلِك متكبرا تياها غير مبال بِأحد وَلَا متوقفا فِي الدِّمَاء عسوفا على الرّعية وَمن شعره قَوْله
(فَقُمْ بِنَا نصطبح صهباء صَافِيَة ... فِي وَجههَا عسجد فِي وَجهه نقط)
(وانهض إِلَيْهَا على رغم العدا قلقا ... فَإِن تَأْخِير أَوْقَات الصِّبَا غلط)
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(سَارُوا فَسَار فُؤَادِي إِثْر ظعنهم ... وخلفوني نحيل الْجِسْم حيرانا)
(لَا افتر ثغر الثرى من بعد بَينهم ... وَلَا سقى هاطل وردا وريحانا)
وَكَانَ خَلِيفَته بمراكش الْقَائِد ابْن شقراء وحاجبه أَحْمد بن حمو الدرعي وَكتابه يُونُس بن سُلَيْمَان الثاملي وَعلي بن أبي بكر وَغَيرهمَا رَحِمهم الله تَعَالَى(5/58)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك المعتصم بِاللَّه ابْن مُحَمَّد الشَّيْخ وأولية أمره ومآله
كَانَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أبي عبد الله الشَّيْخ السَّعْدِيّ وَأَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَدْعُو بعد بالمنصور مقيمين بسجلماسة سَائِر أَيَّام أَبِيهِمَا فَلَمَّا توفّي وَولي الْأَمر بعده ابْنه الْغَالِب بِاللَّه فر عبد الْملك وَأحمد إِلَى تلمسان خوفًا على أَنفسهمَا مِنْهُ فأقاما عِنْد صَاحبهَا حسن بن خير الدّين مُدَّة وَلحق بهما أخوهما عبد الْمُؤمن فَصَارَ ثَالِثَة الأثافي ثمَّ انتقلوا بعد ذَلِك إِلَى الجزائر وَمِنْهَا ركب عبد الْملك الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة متطارحا على صَاحبهَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان العثماني رَحمَه الله فأمده بالجند حَتَّى ملك الْمغرب كَمَا سَيَأْتِي
ولنذكر هُنَا كَيْفيَّة اسْتِيلَاء العساكر العثمانية على تونس وانقراض أَمر الحفصيين مِنْهَا ثمَّ نرْجِع إِلَى بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي مَرْوَان المعتصم بِاللَّه لِأَنَّهَا تنبني على ذَلِك فَنَقُول اعْلَم أَن أَمر بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس كَانَ قد مرج فِي هَذِه الْمدَّة وتداعى إِلَى الاختلال وَكَانَ خير الدّين باشا التركي الْمُقدم ذكره فِي أَخْبَار تلمسان قد استولى على تونس فِي حُدُود الْأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَغلب عَلَيْهَا صَاحبهَا الْحسن بن مُحَمَّد الحفصي ففر الْحسن الْمَذْكُور إِلَى طاغية الإصبنيول صَاحب قشتالة فَأعْطَاهُ العساكر وَجَاء بهَا إِلَى تونس فَنزل عَسْكَر النَّصَارَى ببرج الْعُيُون قرب حلق الْوَادي وتقدموا إِلَى تونس فملكوها وَانْهَزَمَ خير الدّين إِلَى الجزائر وشارك النَّصَارَى الْحسن بن مُحَمَّد فِي إمرة تونس واستباحوا أَهلهَا قتلا وأسرا ونهبا يُقَال إِنَّهُم قتلوا من أهل تونس الثُّلُث وأسروا الثُّلُث وأبقوا الثُّلُث وكل ثلث سِتُّونَ ألفا هَكَذَا عِنْد صَاحب الْخُلَاصَة النقية ثمَّ ملكوا الْموضع الْمُسَمّى بحلق الْوَادي وَلَيْسَ هُنَاكَ وَاد عذب وَإِنَّمَا هُوَ جون دخل من الْبَحْر فِي الْبر وَعَلِيهِ مرسى تونس ثمَّ بنى النَّصَارَى فِي الْحلق الْمَذْكُور حصنا عاديا أَقَامُوا فِي بنائِهِ نَحْو ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة بِحَيْثُ عجز التّرْك عَن هَدمه لما ملكوه بعد(5/59)
ثمَّ ثار على الْحسن ابْنه أَحْمد الْمَدْعُو حميدة وَملك الحضرة مُدَّة وَقَاتل نَصَارَى حلق الْوَادي فامتنعوا عَلَيْهِ ثمَّ غزاه عَليّ باشا صَاحب الجزائر وَاسْتولى على تونس سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وطرد أَحْمد عَنْهَا فَذهب أَحْمد إِلَى طاغية قشتالة مستغيثا بِهِ شَأْن أَبِيه من قبله هَذَا كُله ونصارى الْحلق لَا زَالُوا متمكنين مِنْهُ أَي تَمْكِين فأمد الطاغية أَحْمد الْمَذْكُور بأسطول عَظِيم وَاشْترط عَلَيْهِ أَدَاء مَال فَالْتَزمهُ
وَلما وصل الأسطول إِلَى ظَاهر تونس اطلع قائده السُّلْطَان أَحْمد على كتاب من الطاغية مضمنه الْمُشَاركَة فِي الحكم فَأنْكر أَحْمد ذَلِك وأنف مِنْهُ وَذهب إِلَى صقلية فَبَقيَ بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَحمل إِلَى تونس وَكَانَ هُنَالك أَخُوهُ مُحَمَّد بن الْحسن فَرضِي بالمقاسمة وَدخل بالنصارى إِلَى تونس فاستولى عَلَيْهَا وَملك قصبتها وجالسه شَرِيكه النَّصْرَانِي بهَا وانتهبت الْمَدِينَة وأهين الدّين وَعم الخراب وتكدر المشرب وتفرق الْجمع وارتبطت خيل العدا بالجامع الْأَعْظَم وألقيت مَا فِيهِ من نفائس الْكتب بالطرق ونبش قبر الشَّيْخ أبي مَحْفُوظ مُحرز بن خلف فَلم يُوجد فِيهِ إِلَّا الرمل حماية من الله لَهُ وحاشا أَن تعدو الأَرْض على جَسَد مثله وَأرْسل مُحَمَّد بن الْحسن إِلَى النَّاس بالأمان واستمالهم النَّصْرَانِي بعد بكاذب الرِّفْق فأقاموا بدار مذلة وهوان
واتصل ذَلِك كُله بالسلطان سليم بن سُلَيْمَان العثماني فأعظمه وجهز الْعِمَارَة للحين مَعَ الْوَزير سِنَان باشا يُقَال كَانَت أَرْبَعمِائَة وَخمسين قِطْعَة فَخرج بهَا الْوَزير الْمَذْكُور من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَهِي إصطنبول غرَّة ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ووصلوا إِلَى حلق الْوَادي فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَكَانَ حيدر باشا صَاحب القيروان ومصطفى باشا صَاحب طرابلس محاصرين لتونس قبل ذَلِك حَتَّى فتر عزمهم فَلَمَّا قدم عَلَيْهِم سِنَان باشا قويت نُفُوسهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وتقدموا إِلَى الْحصن الَّذِي بحلق الْوَادي فحاصروه حَتَّى اقتحموه عنْوَة سادس جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة واستلحموا من بِهِ وغنموا مَا فِيهِ والتجأ مُحَمَّد بن الْحسن الحفصي وأنصاره من النَّصَارَى إِلَى البستيون وَهُوَ حصن آخر كَانُوا قد بنوه خَارج بَاب تونس فَحَاصَرَهُمْ سِنَان باشا بِهِ حَتَّى اقتحمه(5/60)
عنْوَة وَقتلُوا من بِهِ وامتلأت أَيْديهم من الْمَغَانِم وطهر الله بهم الْبِلَاد وَكَانَت إِحْدَى الوقائع الجليلة الْقدر الْبَاقِيَة الذّكر وظفر الْوَزير بِمُحَمد بن الْحسن فاحتمله مَعَه إِلَى السُّلْطَان سليم فاعتقله فِي يَد قلَّة أحد حصونه حَتَّى هلك وانقرضت بمهلكه دولة بني أبي حَفْص الَّتِي هِيَ بَقِيَّة الْمُوَحِّدين
إِذا علمت هَذَا فَاعْلَم أَن اسْتِيلَاء العساكر العثمانية على تونس كَانَ قبل وَفَاة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِنَحْوِ خَمْسَة أشهر لِأَن وَفَاته كَانَت فِي آخر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا مر وَفتح تونس كَانَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وَوَقع فِي النزهة أَن فتح تونس كَانَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَهُوَ غير صَوَاب وَالله تَعَالَى أعلم
مَجِيء السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك بن الشَّيْخ السَّعْدِيّ بعسكر التّرْك واستيلاؤه على الْمغرب
اعْلَم أَنه وَقع فِي النزهة وَغَيرهَا أَن عبد الْملك بن الشَّيْخ وأخاه أَحْمد كَانَا فِي ابْتِدَاء أَمرهمَا بسجلماسة فَلَمَّا توفّي أَبوهُمَا وَولي أخوهما الْغَالِب بِاللَّه لَحقا بتلمسان فأقاما بهَا مُدَّة ثمَّ انتقلا إِلَى الجزائر فَلَمَّا اتَّصل بهما خبر وَفَاة أخيهما الْغَالِب وَولَايَة ابْنه مُحَمَّد المتَوَكل من بعده ركب عبد الْملك الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وتطارح على ملكهَا العثماني فِي أَن يمده بِجَيْش ليملك الْمغرب فتثاقل عَنهُ العثماني إِلَى أَن بعث بالعمارة لفتح تونس فَشهد عبد الْملك الْفَتْح وَعَاد إِلَيْهِ بالبشارة فأسعفه وَهَذَا غير صَوَاب من جِهَة أَن فتح تونس كَانَ مُتَقَدما على وَفَاة الْغَالِب بِاللَّه كَمَا مر اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ عبد الْملك وَفد على العثماني مستعديا على أَخِيه الْغَالِب بِاللَّه وَفِي أثْنَاء ذَلِك توفّي وَولي ابْنه المتَوَكل فَيكون الْكَلَام صَحِيحا وَأما مَا فِي النزهة مِمَّا يَقْتَضِي تَأَخّر فتح تونس عَن وَفَاة الْغَالِب بِاللَّه فَغير صَوَاب كَمَا مر
ولنذكر مَا حكوه من ذَلِك فَنَقُول لما بُويِعَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد(5/61)
المتَوَكل على الله كَانَ عبد الْملك بن الشَّيْخ وَأَخُوهُ أَحْمد الْمَدْعُو بعد بالمنصور بالجزائر فركبا الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى قَاصِدين السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان العثماني رَحمَه الله وَمَعَ عبد الْملك أمه سَحَابَة الرحمانية وَزعم بَعضهم أَن الَّتِي كَانَت مَعَهُمَا مسعودة الوزكيتية وَهِي أم أَحْمد مِنْهُمَا فَانْتَهَيَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وتعلقا بكرَاء الدولة حَتَّى أدخلوهما على السُّلْطَان سليم وَدخلت أمهما دَاره وطلبوا مِنْهُ أَن يبْعَث مَعَهم العساكر لتملك الْمغرب ويقوموا فِيهِ بدعوته فتثاقل عَنْهُم مُدَّة إِلَى أَن كَانَ الْغَزْو إِلَى تونس فَكتب السُّلْطَان سليم إِلَى أهل الجزائر وَأهل طرابلس أَن يوجهوا قراصينهم لحصار تونس مَعَ الْعِمَارَة الموجهة من قبله فَطلب عبد الْملك وَأَخُوهُ أَحْمد من الدولاتي وَهُوَ صَاحب الجزائر أَن يَجْعَل لَهما رياسة قرصان مِنْهُمَا يتوجهان فِيهِ للْجِهَاد مَعَه فَأَعْطَاهُمَا غليوطة فِيهَا سِتَّة وَثَلَاثُونَ رجلا فركباها ولحقا بعمارة السُّلْطَان سليم فِي جملَة مراكب الجزائر هَكَذَا وَقع فِي سِيَاقَة هَذَا الْخَبَر وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا كَانَا يَوْمئِذٍ بالجزائر لَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فلعلهما عادا إِلَيْهَا من عِنْد السُّلْطَان سليم إِلَى أَن سافرا فِي جملَة عَسْكَر الجزائر وَالله تَعَالَى أعلم وَلما فتحُوا تونس واستأصلوا من بهَا من الْكفَّار حَسْبَمَا مر عين رَئِيس الْعِمَارَة العثمانية مركبين يتوجهان بِكِتَاب الْفَتْح إِلَى السُّلْطَان سليم فَطلب مِنْهُ عبد الْملك وَأحمد أَن يَأْذَن لَهما فِي الذّهاب مَعَهُمَا بالغليوطة ليأتيا بأمهما الَّتِي تركاها هُنَالك فَلم يَزَالَا بالرئيس الْمَذْكُور حَتَّى أسعفهما فَكَانَ من قدر الله تَعَالَى أَن هاج الْبَحْر عَلَيْهِم ذَات لَيْلَة فَفرق مراكبهم وَلما أصبح عبد الْملك وَأحمد لم يجدا للمركبين أثرا فوافقهم السعد وساعدتهم الرّيح فوصلوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة قبل المركبين بِثَلَاث
واتصل خبرهما بالصدر الْأَعْظَم فأحضرهما وسألهما عَن الْعِمَارَة وَمَا كَانَ مِنْهَا فَأَخْبَرَاهُ بِفَتْح تونس وقصا عَلَيْهِ الحَدِيث من البدء إِلَى التَّمام فَأعْلم السُّلْطَان سليما بهما فأدخلهما عَلَيْهِ وسألهما كَذَلِك فَأَخْبَرَاهُ وسألهما عَن كتاب الْفَتْح إِن أَمِير الْعِمَارَة قد بعث بِهِ مَعَ مركبين صحبناهما إِلَى أَن فرق بَيْننَا الْبَحْر وَلم ندر مَا كَانَ مِنْهُمَا بعد ذَلِك(5/62)
وَلما رَأيا من السُّلْطَان سليم تنازلا واهتزازا لكلامهما طلبا مِنْهُ فِي بشارتهما أَن يبْعَث مَعَهم العساكر إِلَى الغرب وشفعا فِي إِنْزَال رَأس والدهما وَدَفنه فَقبل شفاعتهما ثمَّ أَمر بهما إِلَى بعض الْمنَازل فأنزلهما بِهِ وأكرمهما وَبعث إِلَيْهِمَا بِالْأُمِّ الَّتِي كَانَت هُنَالك وأرجأ أَمرهمَا إِلَى قدوم الْخَبَر الْيَقِين وَبعد ثَلَاث قدم المركبان ومعهما كتاب الْفَتْح وَظهر صدق عبد الْملك الْملك وَأحمد فَحِينَئِذٍ أقبل عَلَيْهِمَا السُّلْطَان سليم وأعطاهما مَالا وسلاحا وَزَادا وَكتب لَهما فرمانا للدولاتي صَاحب الجزائر ليَبْعَث مَعَهُمَا خَمْسَة آلَاف من عَسْكَر التّرْك تطَأ مَعَهُمَا أَرض الْمغرب الْأَقْصَى
وَلما قدما على الدولاتي بالفرمان وقرأه على أهل الدِّيوَان قَالُوا علينا الرِّجَال وَعَلَيْهِمَا المَال وَهَذِه عادتنا مَعَ السُّلْطَان وَلما لم يكن عِنْدهمَا مَال يَوْمئِذٍ تطارحا على الخزندار وعَلى الآغا وَالْوَكِيل وأهديا إِلَيْهِم ورغبا مِنْهُم أَن يسلفوهما مَا ينفقانه فِي وجهتهما تِلْكَ إِلَى أَن يبعثا بِهِ إِلَيْهِم من الْمغرب فسهلوا لَهما وَقومُوا الْعَسْكَر بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ وفرضوا لَهُ الْمُؤْنَة كل يَوْم بيومه إِلَى أَن يرجع وَأشْهدُوا عَلَيْهِمَا بذلك فِي دفتر فَقبلا وأعطوا خطوطهما بِهِ ثمَّ نَهَضَ عبد الْملك وَأَخُوهُ إِلَى الْمغرب يجران عَسَاكِر التّرْك خلفهمَا وَكتب عبد الْملك إِلَى شيعته بالمغرب يعرفهُمْ قدومه ويعدهم ويمنيهم إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ
وسَاق اليفرني هَذَا الْخَبَر وَفِيه بعض مُخَالفَة لما تقدم قَالَ لما فتحت تونس كَانَ عبد الْملك أول من أرسل الْبشَارَة مَعَ أَصْحَابه إِلَى السُّلْطَان العثماني فبلغت الرسَالَة أمه سَحَابَة الرحمانية فأعطتها السُّلْطَان الْمَذْكُور والتمست مِنْهُ أَن يُعْطِيهَا فِي بشارتها أَمر أهل الجزائر بالذهاب مَعهَا إِلَى الْمغرب فَأَعْطَاهَا ذَلِك فجَاء عبد الْملك مَعَ أمه بِكِتَاب السُّلْطَان إِلَى أهل الجزائر يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ مَعَه لتملك مَا كَانَ بيد آبَائِهِ فطالبه أهل الجزائر بالراتب فَقَالَ لَهُم أسلفوني وَعلي الْقَضَاء فاتفق مَعَهم أَن يعطيهم عشرَة آلَاف لكل مرحلة وَكَانَ عدد جَيش التّرْك أَرْبَعَة آلَاف
وَقَالَ فِي شرح الدرة إِن عبد الْملك طلب من رَئِيس التّرْك أَن يُعينهُ(5/63)
بِحِصَّة مِنْهُم توصله إِلَى تخم بِلَاده ليدخلها إِذْ الْجند كُله جند أَبِيه لَا يُمكن أَن يقاتلوه ويضربوا فِي وَجهه لتعظيمهم إِيَّاه فأسعفه على مُرَاده وَأرْسل مَعَه عِصَابَة وَحِصَّة قَليلَة فَأقبل بهم حَتَّى انْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالركن من أحواز فاس فَلَمَّا سمع بذلك ابْن أَخِيه مُحَمَّد المتَوَكل خرج للقائه بِنَفسِهِ وَلما التقى الْجَمْعَانِ نزع رَئِيس جند الأندلس سعيد الرغالي إِلَى عبد الْملك وَكَانَ عبد الْملك يُكَاتب حَاشِيَة المتَوَكل وبطانته ورؤوس أجناده ويعد طائعهم ويوعد عاصيهم فَلَمَّا سمع المتَوَكل بِمَا فعله جند الأندلس فت ذَلِك فِي عضده وفشلت رِيحه وأيقن بالنكبة ظنا مِنْهُ أَن جنده كُله سيفعل فعل الرغالي فَكَانَ ذَلِك سَبَب جزعه وفراره من المعركة وَسبب خراب ملكه وَإِقَامَة ملك عَمه وَيُقَال إِن بعض الْجند لما سمع بِأَن الْقَائِد جرمون وَأَوْلَاد عمرَان نزعوا إِلَى عبد الْملك أَيْضا جَاءَ إِلَى المتَوَكل وَقَالَ لَهُ إِن الْقَائِد ابْن شقراء قد غدر وفر إِلَى عبد الْملك وَكَانَ ابْن شقراء هَذَا من أكبر قواده وأصدقهم لَدَيْهِ فارتاع المتَوَكل لذَلِك وانقلب مُنْهَزِمًا وانتهبت خزائنه وأوقد فِيهَا النَّار ونفط مَا كَانَ بهَا من البارود حَتَّى رئي من رُؤُوس الْجبَال
وَلما انهزم المتَوَكل بالركن عطف على فاس الْجَدِيد فَأخذ مِنْهَا مَا يعز عَلَيْهِ من الذَّخِيرَة ثمَّ خرج على وَجهه إِلَى مراكش لَا يلوي على شَيْء فلحق بِهِ الْقَائِد ابْن شقراء بوادي النجَاة على مقربة من فاس وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل ولامه على عدم التأني والتثبت وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا
اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك المعتصم بِاللَّه على حَضْرَة فاس وَمَا يتبع ذَلِك
لما انهزم المتَوَكل بالركن وأجفل إِلَى مراكش تقدم عَمه أَبُو مَرْوَان إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة من بَاب الْفتُوح وَبعد أَن دَخلهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ طمحت نَفسه إِلَى اتِّبَاع ابْن أَخِيه إِلَى مراكش وَلما عزم على النهوض إِلَيْهِ(5/64)
طَالبه التّرْك بِأَن يردهم إِلَى بِلَادهمْ وَأَن يعطيهم المَال الَّذِي اتّفق مَعَهم عَلَيْهِ وهم يسمونه بلغتهم البقشيش فبذل لكل وَاحِد مِنْهُم أَرْبَعمِائَة أُوقِيَّة واستسلف المَال من تجار أهل فاس حَتَّى يَتَّسِع حَاله فَكَانَ جملَة مَا أعْطى التّرْك خَمْسمِائَة ألف وَأَعْطَاهُمْ عشرَة من الأنفاض مِنْهَا النفض الْكَبِير الَّذِي لَهُ عشرَة أَفْوَاه وَزَادَهُمْ من تحف الْمغرب وطرفه مَا سلى بِهِ نُفُوسهم وَركب لوداعهم بِنَفسِهِ إِلَى نهر سبو ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس
وَفِي هَذِه الْمدَّة قبض على قاضيها الْفَقِيه أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي لأمر نقمه عَلَيْهِ وأودعه السجْن فَبعث الْفَقِيه الْمَذْكُور أَوْلَاده إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي النَّعيم رضوَان بن عبد الله الجنوي يطْلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد السُّلْطَان المعتصم بِاللَّه فَكتب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو النَّعيم يحضه على الاستشفاع بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاستمساك بحبله لِأَنَّهُ بَاب الله الْأَعْظَم فَقبل القَاضِي إِشَارَته وَتوجه إِلَى ربه بكليته فَأَتَاهُ الْفرج من حِينه رحم الله الْجَمِيع بمنه
نهوض السُّلْطَان أبي مَرْوَان إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا وفرار ابْن أَخِيه إِلَى السوس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان نَهَضَ من فاس فِي جنده الَّذِي أَقَامَهُ وَكَانَ غرس يَده وَفِيمَا انضاف إِلَيْهِ من جند ابْن أَخِيه وَتقدم إِلَى الْبِلَاد المراكشية قَاصِدا حربه وتشريده عَنْهَا وَلما سمع ابْن أَخِيه بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِ وقصده إِيَّاه تهَيَّأ لملاقاته وَسَار إِلَى منازلته فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُسمى خَنْدَق الريحان على مقربة من وَادي شراط من أحواز سلا فَكَانَت الْهَزِيمَة أَيْضا على المتَوَكل وفر بِرَأْس طمرة ولجام وأجفل كعادته إجفال النعام وَتَبعهُ أَحْمد الْمَنْصُور خَليفَة أَخِيه أبي مَرْوَان يَوْمئِذٍ فَلَمَّا سمع المتَوَكل باتباعه بعد بُلُوغه إِلَى مراكش فر عَنْهَا إِلَى جبل درن وَأسلم لَهُ مراكش فَدَخلَهَا أَحْمد نَائِبا عَن أَخِيه وَأخذ لَهُ الْبيعَة على أَهلهَا ثمَّ لحق بِهِ السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان فَدَخلَهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ(5/65)
تَاسِع عشر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأقَام بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج فِي طلب ابْن أَخِيه فعميت عَلَيْهِ أنباؤه وَسقط بَين سمع الأَرْض وبصرها فَعَاد أَبُو مَرْوَان إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
اسْتِخْلَاف السُّلْطَان أبي مَرْوَان لِأَخِيهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد على فاس وأعمالها
لما اسْتَقر السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان بمراكش وَانْقطع خبر المتَوَكل عَنهُ بالسوس تقدم إِلَيْهِ أَخُوهُ أَحْمد وَسَأَلَهُ أَن يستخلفه على فاس ليكفيه أمرهَا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وولاه عَلَيْهَا ظنا مِنْهُ أَن أَمر الْمغرب قد صفا لَهُ وَإِن المتَوَكل لَا يعود إِلَيْهِ وَكَانَ الْوَزير أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي حَاضرا للطلبة والعطية فَأنْكر ذَلِك وَلم يره صَوَابا وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَكمَا أَن تقعدا حَتَّى يحكم الله بَيْنكُمَا وَبَين ابْن أَخِيكُمَا فغاظ ذَلِك أَحْمد وَظن أَنه من سوء رَأْي عبد الْعَزِيز فِيهِ وبغضه لجانبه فَأَعْرض عَن مقَالَة الْوَزير الْمَذْكُور وَذهب إِلَى فاس خَليفَة عَلَيْهَا وَبَقِي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان بمراكش
وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لِأَخِيهِ أَحْمد برسالة يَقُول فِيهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عبد الله المعتصم بِاللَّه الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي مَرْوَان عبد الْملك ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيده الله وأعز نَصره وأسعد زَمَانه الْمُبَارك وعصره وَأبقى بمنه فخره من إمْلَائِهِ أيده الله وَنَصره إِلَى أخينا الْأَعَز الأحظى بَابا أَحْمد حفظه الله السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فَاعْلَم أَنِّي لَا أحب أحدا بعد نَفسِي كمحبتي لَك ورغبتي فِي انْتِقَال هَذَا الْأَمر بعدِي إِلَيْك لَا لغيرك غير أَنِّي أعتاد مِنْك التَّرَاخِي فِي الْأُمُور حَتَّى أَنَّك لَا تبالي بعظيم الْأَمر وَلَا تعتبره إِلَى أَن يتَطَرَّق إِلَى مَا لَا يتلافى جبره من الْأُمُور الَّتِي تكَاد لَوْلَا لطف الله تذْهب بِهَذَا الْملك وتهد أَرْكَانه ويبلغ الْعَدو مَعهَا مناه وَمرَاده من ذَلِك التَّرَاخِي إهمالك أَمر الْجند الَّذِي(5/66)
بالعرائش وإغفالك لَهُ مَعَ مَا يترادف عَلَيْك فِي كل سَاعَة من تلقائه من استدعاء مَا دعت الْحَاجة إِلَيْهِ من المؤونة والبارود والرصاص الَّذِي لَا يَسْتَقِيم لَهُم أَمر فِي مقاومة الْعَدو دون ذَلِك وَجعلت تقَابل خطابهم بالإهمال وَعدم المبالاة والآن سَاعَة يرد عَلَيْك كتَابنَا هَذَا قبل وَضعه من يدك ابْعَثْ إِلَيْهِم مُؤنَة عشرَة أَيَّام بَيْنَمَا نصل إِن شَاءَ الله فَيَقَع التَّدْبِير فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ زَائِدا على ذَلِك مَعَ مَا عنْدكُمْ هُنَالك من البارود والرصاص من غير عطلة وَلَا تراخ بِحَيْثُ لَا نقبل مِنْك عذرا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى الإهمال وَلَا بُد وَلَا بُد فقد بلغنَا أَن صَاحب النَّصَارَى بِقرب آصيلا فِي خمس عشرَة مائَة من النَّصَارَى وتمنيت أَن لَو حركتك الهمة للاقتحام عَلَيْهِ فِي مَكَانَهُ بِجَيْش يكسوه أردية الصغار وَيرجع سَاعَة رُؤْيَته إِلَى عَادَته من الذل والفرار فانتبه من الْغَفْلَة وَافْتَحْ عين الانتباه واليقظة فَإِن السَّاعَة لَا تَقْتَضِي إِلَّا الحزم والتشمير عَن ساعد الِاجْتِهَاد والعزم وَالسَّلَام اه
ظُهُور أبي عبد الله المتَوَكل بالسوس ومجيئه إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا
كَانَ أَبُو عبد الله المتَوَكل بعد فراره من مراكش يجول فِي جبال السوس ويتنقل فِي قبائلها وأحيائها إِلَى أَن اجْتمعت عَلَيْهِ طَائِفَة من الصعاليك وتأشب عَلَيْهِ مَا يشبه أَن يكون جَيْشًا فاستهوتهم مِنْهُ الأضاليل وقادهم قَود الْملك الضليل وَجَاء بهم إِلَى مراكش فَسمع بِهِ السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان فَخرج للقائه فخالفه المتَوَكل وسلك طَرِيقا غير طَرِيقه وفجا غير فجه وَقصد مراكش فَدَخلَهَا بِاتِّفَاق أَهلهَا ونصروه وَكَتَبُوا لَهُ الْبيعَة إِلَّا أَنه لم يتَمَكَّن من القصبة(5/67)
لِأَن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان كَانَ قد ترك بهَا أُخْته السِّت مَرْيَم فِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف من الرُّمَاة فَتَحَصَّنُوا بهَا وَبلغ الْخَبَر أَبَا مَرْوَان باستيلاء المتَوَكل على مراكش فَرجع عوده على بدئه إِلَى أَن وافى الحضرة فحاصره بهَا وَكتب إِلَى أَخِيه أَحْمد الْخَلِيفَة على فاس أَن يَأْتِيهِ بِجَيْش مِنْهَا فَأَتَاهُ بِهِ أَحْمد مسرعا
وَمَا انْتهى إِلَى مراكش اجْتمع بالوزير أبي فَارس الوزكيتي فَقَالَ لَهُ أوقفت على الرَّأْي أول الفكرة آخر الْعَمَل فَبَانَت لِأَحْمَد نصيحته وَزَالَ مَا كَانَ يختلج بصدره عَلَيْهِ
وَلما جَاءَ أَحْمد بِجَيْش فاس أسلم المتَوَكل شيعته من أهل مراكش وفر إِلَى السوس فَبَقيَ أهل مراكش متمادين على الْحصار إِلَى أَن اتّفق السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان مَعَ أَعْيَان جراوة فأدخلوه من بعض الأسوار والأنقاب وَلما فر المتَوَكل إِلَى السوس تبعه أَحْمد الْمَنْصُور فَكَانَت بَينهمَا هُنَالك حروب عَظِيمَة أتاح الله فِيهَا النَّصْر للمنصور مِنْهَا وقْعَة تينزرت الَّتِي أنْشدهُ فِيهَا وزيره الْكَاتِب أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي الْبَيْتَيْنِ اللَّذين قالهما فِيهِ الْكَاتِب أَبُو عبد الله بن عِيسَى وهما
(هُوَ الْغَيْث وَالْبَحْر الغطمطم فِي الندى ... وَلَيْث إِذا جد الطعان هصور)
(يفوق السِّهَام عزمه وانبعاثه ... وَيقصر عَنهُ فِي الثَّبَات ثبير)
فَأَجَابَهُ أَحْمد الْمَنْصُور ببيتي أبي فراس الحمداني وهما
(وَنحن أنَاس لَا توَسط عندنَا ... لنا الصَّدْر دون الْعَالمين أَو الْقَبْر)
(تهون علينا فِي الْمَعَالِي نفوسنا ... وَمن خطب الْحَسْنَاء لم يغله الْمهْر)
وَمِنْهَا الْوَقْعَة الَّتِي بعْدهَا بأساطين الْمَنْصُور وَهُوَ فِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف والمتوكل فِي نَحْو سِتِّينَ ألفا وَمَعَ ذَلِك هَزَمه الْمَنْصُور
قلت كَانَ أَحْمد الْمَنْصُور هَذَا مجدودا محظوظا مسعودا بِحَيْثُ أربت سعادته على شجاعته وَمَا كَانَ أَخُوهُ عبد الْملك يسري إِلَّا فِي ضوء طلعته ويمن نقيبته فَلِذَا كَانَ يقدمهُ فِي الحروب ويستكفي بِهِ فِي نَوَازِل الخطوب وَمن سعادته مَا اتّفق لَهُ فِي ذَهَابه إِلَى العثماني بِخَبَر الْفَتْح وتقدمه(5/68)
قبل الْكتاب بِثَلَاث حَتَّى تسنى لَهُ من جَانب السُّلْطَان الْمَذْكُور مَا كَانَ سَببا فِي استيلائهما على الْمغرب وستسمع فِي أَخْبَار دولته من أنباء سعاداته مَا تقف بِهِ على حَقِيقَة الْحَال إِن شَاءَ الله وَأما أَمر المتَوَكل فَإِنَّهُ بعد توالي الهزائم عَلَيْهِ فر إِلَى جبل درن وتوغل فِي قننه ثمَّ فر مِنْهُ إِلَى باديس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ ذهب إِلَى سبتة ثمَّ دخل طنجة مستصرخا بعظيم البرتغال وَالله تَعَالَى لَا يهمل من حُقُوق عباده وزن المثقال
الْغَزْوَة الْكُبْرَى بوادي المخازن من بِلَاد الهبط وَالسَّبَب فِيهَا
كَانَ من خبر هَذِه الْغَزْوَة أَن السُّلْطَان المخلوع أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله السَّعْدِيّ لما دخل طنجة قصد طاغية البرتغال واسْمه سبستيان بِكَسْر السِّين وَفتح الْبَاء وَالسِّين وَسُكُون التَّاء الْقَرِيبَة من الطَّاء وَهُوَ طاغيتهم الْأَعْظَم وَلَيْسَ قَائِد الْجَيْش فَقَط على مَا هُوَ الْمُحَقق فِي تواريخهم وتطارح عَلَيْهِ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من عَمه أبي مَرْوَان المعتصم بِاللَّه وَطلب مِنْهُ الْإِعَانَة عَلَيْهِ كي يسترجع ملكه وينتزع مِنْهُ حَقه فأشكاه الطاغية ولبى دَعوته وصادف مِنْهُ شَرها إِلَى تملك سواحل الْمغرب وأمصاره فَشرط عَلَيْهِ أَن يكون لِلنَّصَارَى سَائِر السواحل وَله هُوَ مَا وَرَاء ذَلِك فَقبل أَبُو عبد الله ذَلِك وَالْتَزَمَهُ وللحين جمع الطاغية جموعه واستوعب كبراء جَيْشه ووجوه دولته وعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام
وَمن الْمُتَوَاتر فِي تواريخ الإفرنج أَن كبار دولته حذروه عَاقِبَة هَذَا الْخُرُوج ونهوه عَن التَّغْرِير ببيضة البرتغال وتوريطها فِي بِلَاد الْمغرب وقبائله فَصم عَن سَماع قَوْلهم ولج فِي رَأْيه وَملك الطمع قلبه وأبى إِلَّا الْخُرُوج فأسعفوه وَخرج من طنجة فِي جَيش قَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور عدده مائَة ألف وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن يُقَال إِن مجموعهم كَانَ مائَة ألف وَعشْرين ألفا وَأَقل مَا قيل فِي عَددهمْ ثَمَانُون ألف مقَاتل وَكَانَ مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله نَحْو الثلاثمائة من أَصْحَابه قَالَ بَعضهم وَكَانَ عدد الأنفاض الَّتِي يجرونها مِائَتَيْنِ(5/69)
وقصدوا هَلَاك الْمغرب وحصد الْمُسلمين وإدارة رحى الهوان على الدّين فَعظم ذَلِك على النَّاس وامتلأت صُدُورهمْ رعْبًا وَقُلُوبهمْ كربا وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر واتقدت بهَا نيران الهواجر وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله الْمَذْكُور قد كتب عِنْد خُرُوجه بِجَيْش البرتغال إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام رِسَالَة بعث بهَا إِلَى أَعْيَان الْمغرب من علمائه وأشرافه وَذَوي رَأْيه يغمض عَلَيْهِم بهَا فِي نكث بيعَته ونقضها ومبايعة عَمه من غير مُوجب شَرْعِي وَقَالَ لَهُم مَا استصرخت بالنصارى حَتَّى عدمت النُّصْرَة من الْمُسلمين وَقد قَالَ الْعلمَاء أَنه يجوز للْإنْسَان أَن يَسْتَعِين على من غصبه حَقه بِكُل مَا أمكنه وتهددهم فِيهَا وأبرق وأرعد وَقَالَ فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله وسمى النَّصَارَى أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نَصَارَى فَأَجَابَهُ عُلَمَاء الْإِسْلَام رضوَان الله عَلَيْهِم عَن رسَالَته تِلْكَ برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تَأْوِيله وَهَذَا نَص جَوَاب تِلْكَ الرسَالَة حرفا حرفا الْحَمد الله كَمَا يجب لجلاله وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرضى عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين هجروا دين الْكفْر فَمَا نصروه وَلَا استنصروا بِهِ حَتَّى أسس الله دين الْإِسْلَام بِشُرُوط صِحَّته وكماله
وَبعد فَهَذَا جَوَاب من كَافَّة الشرفاء وَالْعُلَمَاء والصلحاء والأجناد من أهل الْمغرب وفقهم الله لمولانا مُحَمَّد ابْن مَوْلَانَا عبد الله السَّعْدِيّ عَن كِتَابه الَّذِي استدعاهم فِيهِ لحكم الْكتاب وَالسّنة وَاسْتدلَّ بحججه الْوَاهِيَة المنكبة عَن الصَّوَاب قائلين لَهُ عَن أول حجَّة صدر بهَا الْخطاب لَو رجعت على نَفسك اللوم والعتاب لعَلِمت أَنَّك المحجوج والمصاب فقولك خلعنا بيعتك الَّتِي التزمناها وطوقناها أعناقنا وعقدناها فَلَا وَالله مَا كَانَ ذَلِك منا عَن هوى مُتبع وَلَا على سَبِيل خَارج عَن طَرِيق الشَّرْع مُبْتَدع وَإِنَّمَا ذَلِك منا على مَنْهَج الشَّرْع وَطَرِيقه وعَلى سَبِيل الْحق وتحقيقه وسنشرح لَك ذَلِك ونبينه ونسطره لَك بالأدلة الشَّرْعِيَّة الَّتِي ترقيه وتزينه نعم كنت سُلْطَانا بِمَا عقد لَك والدك من الْبيعَة وَترك لَك من الْأَمْوَال وَالْعدَد والحصون مِمَّا لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الْكِرَام رضوَان الله عَلَيْهِم فجاهدوا بِمَا حصل لَهُم من ذَلِك فِي الله حق جهاده حَتَّى استخلصوا من أَيدي الْكفَّار رِقَاب عباد الله وحصون بِلَاده(5/70)
وأسسوا لدين الله قَوَاعِد وأركانا وملكوا من الْمغرب بلادا مُعْتَبرَة وأوطانا فَلَمَّا وصل ذَلِك إِلَيْك أَلْقَت إِلَيْك الْعباد أعنتها وملكتك أزمتها غير مبدلين وَلَا مغيرين وَلَا باغين وَلَا منكرين إِلَى أَن قَامَ عَلَيْك عمك بحجته الَّتِي لَا يمكنك جَحدهَا حَسْبَمَا ثَبت كَمَا يجب عقدهَا فَخرجت مبادرا لَهُ بدفعها ولقيته بهَا وَأَنت وَاسِطَة عقدهَا وحامل راية عهدها وعمك فِي فِئَة لَا يخْطر على بَال عَاقل أَن يُقَابل جندا من جنودك أَو يدافع مَا تَحت لِوَاء من ألويتك وبنودك فَمَا هُوَ إِلَّا أَن جرى الْقِتَال وَحضر النزال رجعت على عقبك هَارِبا هروب مطرود بقصاص وجنودك تناديك ولات حِين مناص فَتركت عددك ومحلتك بِكُل مَا فِيهَا وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها وهربت عَن مَدِينَة فاس المحروسة وسكانها يُنَادُونَك لمن تركتنا وَإِلَى من تكلنا فَلم تلْتَفت إِلَيْهِم وَأسْلمت بِلَادهمْ على مَا فِيهَا من خَزَائِن الْأَمْوَال وَالْعدَد الوافرة وَالرِّجَال والأسوار المرتفعة الْمَانِعَة وَالْمَدينَة الْمَشْهُورَة الجامعة فَأصْبح أَهلهَا وَالْيَد العادية من المفسدين تُرِيدُ أَن تمتد إِلَى الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد والطارف والتلاد وَلَا دَافع عَن الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين إِلَّا الله تَعَالَى الَّذِي قَالَ فِي مثلهم {وَمن أصدق من الله قيلا} {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} فَمَا أمكنهم بعد هروبك عَنْهُم وإسلامك لَهُم فوضى مهملين إِلَّا النّظر فِي أَمرهم وإعمال الْفِكر فِي التَّدْبِير على أنفسهم فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك إِذا بعمك بجُنُوده على بَاب مدينتهم قَائِما بحجته سالكا فِي ذَلِك سَبِيل أَبِيه رَحمَه الله ومحجته حَسْبَمَا تقرر ذَلِك عنْدكُمْ وَظهر وَلم يخف عَنْكُم مِنْهُ عين وَلَا أثر إِذْ كَانَ مَوْلَانَا مُحَمَّد الْجد الْأَكْبَر عهد لأولاده مَوْلَانَا أَحْمد ومولانا مُحَمَّد الشَّيْخ وإخوانهم لَا يتَوَلَّى الْخلَافَة مِنْهُم وَلَا من أَوْلَادهم إِلَّا الْأَكْبَر فالأكبر فالتزموا ذَلِك إِلَى أَن كبر أَوْلَادهم فَطلب جدك من عمك الْوَفَاء بذلك فَامْتنعَ فقاتله على ذَلِك حَتَّى تمّ لَهُ الْأَمر وانتظم فعهد لوالدك الَّذِي كَانَ أكبر أَوْلَاده فَلم ينازعه أحد فِي ذَلِك إِلَى أَن ألْقى والدك رَحمَه الله ذَلِك وعهد إِلَيْك فَلم ينازعكم أحد فَأبى الله إِلَّا الْحق فَأعْطى ملكه لعمك الَّذِي هُوَ أكبركم بعد أَبِيك فَإِن سلمت هَذَا فَأَي حجَّة تدلي بهَا وَأي طَرِيق(5/71)
تعتمد عَلَيْهَا وَإِن أنْكرت هَذَا فَلَا أثر لخلافة أَبِيك من قبلك وَلَا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مَوْلَانَا أَحْمد إِذْ لَا حجَّة حِينَئِذٍ لجدك فِي الْقيام على عمك فخلافته صَحِيحَة لبيعة جدك لَهُ فَلم يبْق إِلَّا التغلب الَّذِي تدلي بِهِ فِي مَسْأَلَة عمك وَفِي قِيَامه عَلَيْك فَإِن كنت تُرِيدُ أَن تسْقط حجَّته بالتغلب عَلَيْك فحجتك أبين فِي السُّقُوط لعدم ثُبُوت الْخلَافَة لمن عقدهَا لَك إِذْ الْمَعْدُوم شرعا كَالْمَعْدُومِ حسا فَلم يبْق بَيْنكُم إِلَّا وَالْملك بعد أبي ليلى لمن غلبا فيلزمك على هَذَا أَن تثبت مَا عقده مَوْلَانَا الْجد رَحْمَة الله وَعَلِيهِ فالخلافة لعمك الْقَائِم عَلَيْك إِذْ هُوَ أكبركم فِي هَذَا التَّارِيخ
فَإِن قلت إِن مَا عقده الْجد غير صَحِيح قُلْنَا فقد ذكر الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ فِي كتاب الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة لَهُ فِي بَاب عقد الْخلَافَة أَن عبد الْملك بن مَرْوَان رتبها فِي الْأَكْبَر فالأكبر من بنيه فَلم ينازعه أحد فِي ذَلِك
فَإِن قلت فعل عبد الْملك لَيْسَ بِحجَّة قُلْنَا سكُوت الْعلمَاء على ذَلِك وهم مَا هم فِي زَمَانه هُوَ الْحجَّة إِذْ لَا يُمكن أَن يسكتوا على بَاطِل وَإِقْرَار أهل الْعَصْر الْوَاحِد على مَسْأَلَة من الْمسَائِل واتفاقهم عَلَيْهَا يقوم مقَام الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة الله فِي أرضه وَكَانَ أَيْضا من محفوظات عُلَمَاء فاس المحروسة مَا خرجه مُسلم رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيحه فِي كتاب الْإِمَارَة مَا نَصه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يرفع لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَأسه يُقَال هَذِه غدرة فلَان ابْن فلَان أَلا وَلَا غادر أعظم غدرا من أَمِير عَامَّة) قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض رَحمَه الله فِي كتاب إِكْمَال الْمعلم على شرح فَوَائِد مُسلم يَعْنِي لم يحطهم وَلم ينصح لَهُم وَلم يَفِ بِالْعقدِ الَّذِي تقلده من أَمرهم وَفِي الْبَاب نَفسه عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نَصه (مَا من أَمِير استرعاه الله رعية ثمَّ لم ينصح لَهُم إِلَّا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة وَإِن رِيحهَا ليوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) وَفِي الْإِكْمَال نَفسه قَالَ القَاضِي وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاس إِن الْقَوْم إِذا بقوا فوضى مهملين لَا إِمَام لَهُم فَلهم أَن يتفقوا على إِمَام يبايعونه ويستخلفونه عَلَيْهِم ينصف بَعضهم من بعض وَيُقِيم لَهُم الْحُدُود(5/72)
فَلَمَّا أسلمتهم وأضحوا بِغَيْر إِمَام وعمك يُدْلِي بحجته الَّتِي ذكرنَا لَك مَعَ مَا حفظوه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام السّلف الصَّالح وَأَيِسُوا من رجوعك إِلَيْهِم وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاس رضوَان الله عَلَيْهِم فاتفقوا على أَن يبايعوا عمك لما ذكرنَا لَك من الْحجَج الَّتِي لَا يسعك جَحدهَا إِلَّا على وَجه المكابرة فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وانفتحت السبل وأقيمت الْحُدُود وَارْتَفَعت الْيَد العادية
فَإِن قلت كَانَ يجب على أهل فاس أَن يقاتلوا على الْبيعَة الَّتِي التزموها لَك قُلْنَا إِنَّمَا يلْزمهُم الْقِتَال أَن لَو أَقمت بَين أظهرهم فَيكون قِتَالهمْ على وَجه شَرْعِي لِأَن الْقِتَال على الْحُدُود الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا يكون بعد نصب إِمَام يصدر النَّاس عَن رَأْيه وَلَا يمكنك أَيْضا جَحدهَا إيه ثمَّ وصلت إِلَى مراكش الغراء الَّتِي تجبى إِلَيْهَا الْأَمْوَال من الْبَوَادِي والأمصار وتشد إِلَيْهَا الرّحال من سَائِر الأقطار فلقيك أَهلهَا بالترحاب وَالسُّرُور وأنواع الْفَرح والحبور فَوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شَيْء فَأَما أسوارها ورحابها فَهِيَ كَمَا قيل تربة الْوَلِيّ ومدرج الْحلِيّ وحضرة الْملك الأولي والبرج النير الْجَلِيّ فحللتها وتمكنت من أموالها وخزائنها ووافقك أَهلهَا فَمَا نكثوا وَلَا غدروا وَلَا خَرجُوا عَلَيْك فِي سلطانك وَلَا أَنْكَرُوا فطلبت أَيْضا قتال عمك وجندت جُنُودا لَا يجمعها ديوَان حَافظ وَلَا يعهدها لِسَان لافظ فَخرجت إِلَيْهِ تجر أَعِنَّة الْخَيل وَرَاءَك كالسيول وَالرُّمَاة قد مَلَأت الهضاب والتلول فَمَا كَانَ من حَدِيثك إِلَّا أَن وَقع الْقِتَال وَحضر النزال بادرت هَارِبا محكما للْعَادَة تَارِكًا للرؤساء من أجنادك والقادة فَحلت بهم الخطوب والرزايا واختطفتهم أَيدي المنايا فَتركت أَيْضا محلتك بِمَا فِيهَا من حريمك وأموالك وعدتك ثمَّ أسرعت هَارِبا إِلَى مراكش فَمَا صدك عَنْهَا أحد من أَهلهَا وَلَا قَالَ لَك أحد لست ببعلها فعملوا على الْقِتَال مَعَك والتمنع بأسوارها الحصينة والحصار دَاخل الْمَدِينَة فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونساءك وَخرجت عَنْهُم من القصبة وتركتهم لَا بواب عَلَيْهِم وَلَا حارس وَلَا راجل وَلَا فَارس فيالها من مُصِيبَة مَا أعظمها وَمن داهية مَا أعضلها وَلَوْلَا(5/73)
فضل الله ولطفه ووعده بتطهير أهل الْبَيْت لامتدت إِلَيْهِم أَيدي السفلة من الفسقة فَأَي حجَّة تبقى لَك بعد هَذَا وَأي كَلَام لَك بَين الرِّجَال يَا هَذَا ثمَّ جَاءَك عمك أَيْضا بِمَا سلف من الْحجَج فَوجدَ أَهلهَا فِي لطف الله سُبْحَانَهُ وهم يَحْرُسُونَ أَوْلَادهم وديارهم من الْيَد العادية فأنقذهم الله بِهِ أَيْضا فَبَايعُوا عمك بِمَا سلف من الْحجَج واطمأنوا وَسَكنُوا ثمَّ هربت للجبل عِنْد صَاحبه فصرتما فِي نهب أَمْوَال الرّعية وَسَفك دِمَائِهِمْ وَأكْثر مَا صفا لَك من ذَلِك أهل الذِّمَّة المصغرون بِحكم الْقُرْآن الداخلون تَحت عهد سيد الثقلَيْن فِي الْأَمْن والأمان فَأَنت وهم فِي استيلائك عَلَيْهِم وظلمك إيَّاهُمَا كَمَا قيل
(إِن هُوَ مستوليا على أحد ... إِلَّا على أَضْعَف المجانين)
وَلم تبال بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا خصيم من ظلم ذِمِّيا يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ خربَتْ العامر وأفسدت مَا شيدت الأسلاف لِلْإِسْلَامِ من المآثر فَلَمَّا رأى أهل السوس الْأَقْصَى ذَلِك أيقنوا أَنَّك إِنَّمَا قصدت خراب الْإِسْلَام وَأَهله فنكب عَنْك أهل الدّين وَالْعلم مِنْهُم وَبقيت كَمَا قيل فِي خلف كَجلْد الأجرب
فَإِن قلت إِن أُولَئِكَ الْخلف لم يبايعوا عمك فتنقض بهم مَا قَرَّرْنَاهُ قُلْنَا لم يطعن فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْحسن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ من تخلف عَنْهَا من أهل الشَّام وَفِيهِمْ من قد علمت من النَّاس وَالْإِجْمَاع على صِحَة بيعَته وَسمي من تخلف عَنْهَا بَاغِيا لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار تقتلك الفئة الباغية فَقتله أَصْحَاب مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ والْحَدِيث من أَعْلَام نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقَاعِدَة أَن مَا اجْتمع عَلَيْهِ من يعْتَبر من أهل الْعَصْر الْوَاحِد هُوَ الْمعول عَلَيْهِ وَلَا يعد خلاف من خَالفه خلافًا وَهَذَا كُله بِالنّظرِ إِلَى مَا كَانَ من حَدِيثك قبل التحزب مَعَ عَدو الدّين وَالْأَخْذ(5/74)
فِي التَّخْلِيط الْعَظِيم على الْمُسلمين فَإنَّك اتّفقت مَعَهم على دُخُول آصيلا وأعطيتهم بِلَاد الْإِسْلَام فيالله وَيَا لرَسُوله لهَذِهِ الْمُصِيبَة الَّتِي أحدثتها وعَلى الْمُسلمين فتقتها وَلَكِن الله تَعَالَى لَك وَلَهُم بالمرصاد ثمَّ لم تتمالك أَن ألقيت بِنَفْسِك إِلَيْهِم ورضيت بجوارهم وموالاتهم كَأَنَّك مَا طرق سَمعك قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} قَالَ أَبُو حَيَّان رَحمَه الله أَي لَا تنصروهم وَلَا تستنصروا بهم وَفِي كتاب الْقَضَاء من نَوَازِل الإِمَام الْبُرْزُليّ رَحمَه الله أَن أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين اللمتوني رَحمَه الله استفتى عُلَمَاء زَمَانه رَضِي الله عَنْهُم وهم مَا هم فِي استنصار ابْن عباد الأندلسي بِالْكِتَابَةِ إِلَى الإفرنج على أَن يعينوه على الْمُسلمين فَأَجَابَهُ جلهم رَضِي الله عَنْهُم بردته وكفره فَتَأمل هَذَا مَعَ قضيتك تجدها أحروية مُنَاسبَة لقضية ابْن عباد فِي عقدهَا ابْتِدَاء وَأَنه مَتى طَرَأَ الْكفْر وَجب الْعَزْل وناهيك بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَبِمَا أفتى الْعلمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم بردة من استنصر بالنصارى على الْمُسلمين فَهُوَ نَص جلي فِي وجوب خلعك وَسُقُوط بيعتك فَلم يبْق لَك إِلَّا مُنَازعَة الْحق سُبْحَانَهُ فِي حكمه {وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب}
وَأما قَوْلك فِي النَّصَارَى فَإنَّك رجعت إِلَى أهل العدوة واستعظمت أَن تسميهم بالنصارى فَفِيهِ المقت الَّذِي لَا يخفى وقولك رجعت إِلَيْهِم حِين عدمت النُّصْرَة من الْمُسلمين فَفِيهِ محظوران يحضر عِنْدهمَا غضب الرب جلّ جَلَاله أَحدهمَا كونك اعتقدت أَن الْمُسلمين كلهم على ضلال وَأَن الْحق لم يبْق من يقوم بِهِ إِلَّا النَّصَارَى وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَالثَّانِي أَنَّك استعنت بالكفار على الْمُسلمين وَفِي الحَدِيث أَن رجلا من الْمُشْركين مِمَّن عرف بالنجدة والشجاعة جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدَهُ بحرة الْوَبرَة مَوضِع على نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمَّد جِئْت لأنصرك فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كنت تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَقَالَ لَا أفعل فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لَا أستعين بمشرك وَمَا سمعته من قَول الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي(5/75)
الِاسْتِعَانَة بهم إِنَّمَا هُوَ على الْمُشْركين بِأَن نجعلهم خدمَة لأزبال الدَّوَابّ لَا مقاتلة فَأَما الِاسْتِعَانَة بهم على الْمُسلمين فَلَا يخْطر إِلَّا على بَال من قلبه وَرَاء لِسَانه وَقد قيل قَدِيما لِسَان الْعَاقِل من وَرَاء قلبه وَفِي قَوْلك يجوز للْإنْسَان أَن يَسْتَعِين على من غصبه حَقه بِكُل مَا أمكنه وَجعلت قَوْلك هَذَا قَضِيَّة أنتجت لَك دَلِيلا على جَوَاز الِاسْتِعَانَة بالكفار على الْمُسلمين وَفِي ذَلِك مصادمة لِلْقُرْآنِ والْحَدِيث وَهُوَ عين الْكفْر أَيْضا وَالْعِيَاذ بِاللَّه
وقولك فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله إيه أَنْت مَعَ الله وَرَسُوله أَو مَعَ حزبه فَتَأمل مَا قلت فِي الحَدِيث يتَكَلَّم أحدكُم بِالْكَلِمَةِ تهوي بِهِ فِي النَّار سبعين خَرِيفًا
وَلما سَمِعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من الْعَرَب والعجم قَوْلك هَذَا حملتهم الْغيرَة الإسلامية وَالْحمية الإيمانية وتجدد لَهُم نور الْإِيمَان وأشرق عَلَيْهِم شُعَاع الإيقان فَمن قَائِل يَقُول لَا دين إِلَّا دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن قَائِل يَقُول سَتَرَوْنَ مَا أصنع عِنْد اللِّقَاء وَمن قَائِل يَقُول {وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} وَمن قَائِل يَقُول إِنَّمَا قصد التشفي بِالْمُسْلِمين إِذْ لَو كَانَ يطْلب الصّلاح لما صدرت مِنْهُ هَذِه الْأَفْعَال القبيحة إِلَى غير ذَلِك فجزاهم الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَرَضي عَنْهُم وَبَارك فيهم فَللَّه دِرْهَم من رجال وفرسان وأبطال وشجعان فَلَو لم يكن مِنْهُم إِلَّا مَا غير قُلُوبهم على الدّين لَكَانَ كَافِيا فِي صِحَة إِيمَانهم وعظيم إيقانهم فقد بلغ نور غضبهم لله سُبْحَانَهُ سَاق الْعَرْش وَالْحب فِي الله والبغض فِي الله من قَوَاعِد الْإِيمَان
وقولك أَيْضا متبرئا من حول الله وقوته فَإِن لم تَفعلُوا فالسيف فَهُوَ كَلَام هذيان يدل على حَمَاقَة قَائِله فَقَط أنبأ سَيْفك هَذَا وَأَنت مَعَ الْمُسلمين فِي أَربع وَعشْرين معركة لم تثبت لَك فِيهَا راية ثمَّ زَالَ نبوه الْآن بالكفار فَهَذِهِ أضحوكة فتأملها
وَأما مَا نسبته لإِمَام دَار الْهِجْرَة فكفاك عَجزا إِن لم تعين لنا نصا جليا نعتمد عَلَيْهِ فِيمَا تحتج بِهِ إِلَّا أَنَّك كثرت بِهِ سَواد القرطاس مغربا بِذكرِهِ لَا معربا بنصه(5/76)
وَمَا نسبته للحنفية من أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة وتسويغ الغصة بِخَمْر فَهُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّة فِي مختصراتهم الَّتِي ألفوها للصبيان فعدولك عَن ذَلِك إِلَى الْحَنَفِيَّة إِمَّا قُصُور وَإِمَّا إِلْغَاء لمَذْهَب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ النَّجْم الثاقب
وَأما قَوْلك أَنْتُم أهل بغي وعناد فَلَا نسلم لَك ذَلِك إِلَّا لَو أَقمت بَين أظهرنَا وقاتلت مَعنا حَتَّى ترى أنسلمك أم لَا فَأَما إِذا هربت عَنَّا وَتَرَكتنَا فالحجة عَلَيْك لَا علينا على انك فِي كتابك تفسق الْكل بذلك وتكفره وَقد قَالَ الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم من يَقُول بتكفير الْعَامَّة فَهُوَ أولى بالتكفير وَذَلِكَ معزو لزعيم الْعلمَاء القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد وَالْقَاضِي أبي الْفضل عِيَاض وَكَيف لَا تنظر لقضايا تلمسان وتونس وَغَيرهمَا من سَائِر الْبلدَانِ وَكَيف وَقع لأمرائهم المستنصرين بالكفار على الْمُسلمين هَل حصلوا على شَيْء مِمَّا قصدوه أَو بلغُوا شَيْئا مِمَّا أَملوهُ على أَن أَكثر الْعلمَاء حكمُوا بردتهم ففاتتهم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه
وَقد افتخرت فِي كتابك بجموع الرّوم وقيامهم مَعَك وعولت على بُلُوغ الْملك بحشودهم وأنى لَك هَذَا مَعَ قَول الله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} وَفِي الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لن تغلب هَذِه الْأمة وَلَو اجْتمع عَلَيْهَا من الْكفَّار مَا بَين لابات الدُّنْيَا) وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سيقاتل آخر هَذِه الْأمة الدَّجَّال وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (سَأَلت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَة سَأَلته أَلا يُهْلِكهُمْ بِسنة عَامَّة فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَلا يَغْلِبهُمْ عدوهم الْكَافِر فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَلا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمَنَعَنِيهَا) وَالْكل عَلَيْك وَإِيَّاك نعني
وَمَا ذكرته عَن عمك فَاعْلَم أَنه لما بلغه خبرك واستنصارك بالكفار عقد ألويته المنصورة بِاللَّه فِي وسط جَامع الْمَنْصُور بعد أَن ختم عَلَيْهَا أهل الله من حَملَة الْقُرْآن مائَة ختمة وصحيح البُخَارِيّ وضجوا عِنْد ذَلِك بالتهليل(5/77)
وَالتَّكْبِير وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدُّعَاء لَهُ وللأسلام بالنصر والتمكين وَالْفَتْح الشامخ الْمُبين فَلَو سَمِعت ذَلِك لعَلِمت وتحققت أَن أَبْوَاب السَّمَاء انفتحت لذَلِك وَقضى مَا هُنَالك وبلغه كتابك الَّذِي كَانَ هَذَا جوبا عَنهُ وَهُوَ بوسط تامسنا مَعَه من جنود الله وأنصاره وحماة دينه مَا يَجْعَل الله فِيهِ الْبركَة وَلَوْلَا أَن الشَّرْع الْعَزِيز أَمر بتعظيم جنود الْإِسْلَام والمباهاة بهَا والافتخار بكثرتها لما قَررنَا لكم أمرهَا إِذْ لَا اعْتِمَاد لَهُ أيده الله عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ هم لَا اعْتِمَاد لَهُم إِلَّا على حول الله وقوته وَنَصره وتأييده وَالنَّاس على دين الْملك وَقد قَاتَلت وَأَنت فِي وسط الْمُسلمين فِي بضع عشرَة معركة لم تنصر لَك فِيهَا راية فَأَي نحس وشؤم حلا بديار الرّوم فَإِن جلبتهم فَالله لَك وَلَهُم بالمرصاد ارْجع إِلَى الله أَيهَا الْمِسْكِين وَتب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يقبل التَّوْبَة عَن عباده فِي كل وَقت وَحين ودع عَنْك كَلَام من لَا ينهضك حَاله وَلَا يدلك على الله مقاله وَهَذِه نصيحة إِن قبلتها وموعظة إِن وفقت إِلَيْهَا وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَهُوَ نعم الْمولى وَنعم النصير وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام انْتَهَت الرسَالَة
وَكَانَ خُرُوج مُحَمَّد بن عبد الله بِجَيْش البرتغال وفصوله بِهِ من طنجة فِي ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي الْمرْآة إِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ضربوا محلاتهم بالفحص على أقل من مسيرَة يَوْم من مَدِينَة الْقصر وَكَانَت آصيلا قد تصيرت إِلَيْهِم قبل ذَلِك بأشهر يَعْنِي بعد فرارهم عَنْهَا أَيَّام السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ كَمَا تقدم فعاين أهل الْقصر الهلكة لقرب الْعَدو مِنْهُم وقوته الَّتِي لَا طَاقَة لَهُم بهَا وَفَشَا النِّفَاق لأجل السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله الَّذِي مَعَهم وَلأَجل بعد صريخ الْمُسلمين فَإِن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان المعتصم بِاللَّه كَانَ إِذْ ذَاك بمراكش فاستبطؤوا وُصُول الْخَبَر إِلَيْهِ ثمَّ مَجِيئه بعد ذَلِك فَلم يبْق لَهُم تَدْبِير إِلَّا الْفِرَار والتحصن بالجبال وَغَيرهَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو المحاسن يُوسُف الفاسي رَحمَه الله وَكَانَ إِذْ ذَاك بِالْقصرِ لرجل من أَصْحَابه نَاد فِي النَّاس أَن الزموا بِلَادكُمْ ودوركم فَإِن عَظِيم(5/78)
النَّصَارَى مسجون حَيْثُ هُوَ حَتَّى يَجِيء السُّلْطَان من مراكش وَإِن النَّصَارَى غنيمَة للْمُسلمين وَمن شَاءَ فليعط خمسين أُوقِيَّة فِي النَّصْرَانِي يُشِير إِلَى مبلغ قيمَة النَّصْرَانِي فِي الْغَنِيمَة فَمَا انْتقل النَّصَارَى من مكانهم ذَلِك أَكثر من شهر حَتَّى قدم السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان وَكَانَ مَرِيضا اه
وَقَالَ فِي النزهة إِن النَّصَارَى لما برزوا من طنجة شنوا الْغَارة على السواحل فَأعْلم أَهلهَا السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان وَكَانَ بمراكش وَشَكوا إِلَيْهِ كلب الْعَدو عَلَيْهِم فَكتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان من مراكش إِلَى الطاغية إِن سطوتك قد ظَهرت فِي خُرُوجك من أَرْضك وجوازك العدوة فَإِن ثَبت إِلَى أَن نقدم عَلَيْك فَأَنت نَصْرَانِيّ حَقِيقِيّ شُجَاع وَإِلَّا فَأَنت كلب ابْن كلب فَلَمَّا بلغه الْكتاب غضب وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه هَل نُقِيم حَتَّى يلْحق بِنَا من خلفنا من أَصْحَابنَا فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن عبد الله الرَّأْي أَن نتقدم ونملك تطاوين والعرايش وَالْقصر ونجمع مَا فِيهَا من الْعدة ونتقوى بِمَا فِيهَا من الذَّخَائِر فأعجب ذَلِك الرَّأْي أهل الدِّيوَان وَلم يعجب الطاغية وَكتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لِأَخِيهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ نَائِبه على فاس وأعمالها أَن يخرج بجيوش فاس وأحوازها ويتهيأ لِلْقِتَالِ ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَيْضا فِي شَأْن مُؤنَة الْجَيْش كتابا يَقُول فِيهِ من عبد الله المعتصم بِاللَّه الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي مَرْوَان عبد الْملك بن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نَصره إِلَى أخينا الْأَعَز الأنجب بَابا أَحْمد ابْن مَوْلَانَا الْوَالِد حرس الله كريم إخائه سَلام كريم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم من محلتنا السعيدة بتامسنا وَلَا زَائِد بِحَمْد الله إِلَّا الْخَيْر والعافية وَالنعَم الضافية هَذَا وَإنَّهُ سَاعَة وُصُوله إِلَيْكُم تخرجُونَ من الخدام لعمالة مكناسة وقبيلة آزمور وَأَوْلَاد جلول من يفْرض عَلَيْهِم علف محلتنا المنصورة ومؤنتها وَيَأْمُرهُمْ بِرَفْعِهِ وإبلاغه إِلَى مَدِينَة سلا وَقدر ذَلِك صَحْفَة شعير وَعِشْرُونَ مدا من الْقَمْح لكل نائبة وَصَاع من سمن وكبش لكل أَربع نَوَائِب ووكد عَلَيْهِم رعاك الله أَن يعتنوا بذلك وبإيصاله إِلَى الْمَكَان الْمَذْكُور من غير عطلة وَهَذَا مَا وَجب بِهِ الْإِعْلَام إِلَيْكُم وَالله يرعاكم بمنه وَالسَّلَام اه(5/79)
ثمَّ كتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان للطاغية ثَانِيَة وَذَلِكَ بعد مَا وصل إِلَى الْقصر إِنِّي رحلت إِلَيْك سِتّ عشرَة مرحلة أما ترحل إِلَى وَاحِدَة فَرَحل الطاغية من مَوضِع يُقَال لَهُ تاهدارت وَنزل على وَادي المخازن بمقربة من قصر كتامة وَكَانَ ذَلِك من السُّلْطَان أبي مَرْوَان مكيدة ثمَّ إِن الطاغية تقدم بجيوشه وَعبر جسر الْوَادي وَنزل من هَذِه العدوة فَأمر السُّلْطَان بالقنطرة أَن تهدم وَوجه إِلَيْهَا كَتِيبَة من الْخَيل فهدموها وَكَانَ الْوَادي لَا مشرع لَهُ سوى القنطرة ثمَّ زحف السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان إِلَى الْعَدو بجيوش الْمُسلمين وخيل الله المسومة وانضاف إِلَيْهِ من المتطوعة كل من رغب فِي الْأجر وطمع فِي الشَّهَادَة وَأَقْبل النَّاس سرَاعًا من الْآفَاق وابتدروا حُضُور هَذَا المشهد الْجَلِيل فَكَانَ مِمَّن حَضَره من الْأَعْيَان الشَّيْخ أَبُو المحاسن يُوسُف الفاسي وَغَيره
قَالَ فِي الْمرْآة كَانَ الشَّيْخ أَبُو المحاسن فِي ذَلِك الْيَوْم فِي أحد الجناحين وَأَظنهُ الميسرة من عَسْكَر الْمُسلمين فِي مُقَابلَة النَّصَارَى دمرهم الله قَالَ فَوَقع فِي ذَلِك الْجنَاح انكسار تزحزح بِهِ الْمُسلمُونَ عَن مَصَافهمْ وحملت عَلَيْهِم النَّصَارَى دمرهم الله فَثَبت الشَّيْخ وَثَبت من كَانَ مَعَه إِلَى أَن منح الله الْمُسلمين النَّصْر وركبوا أكتاف الْعَدو يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وَالشَّيْخ لم يتزلزل وَلم يلْتَفت مُنْذُ توجه إِلَى قِتَالهمْ حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم اه
وَلما الْتَقت الفئتان وزحف النَّاس بَعضهم إِلَى بعض وَحمى الْوَطِيس واسود الجو بنقع الْجِيَاد ودخان المدافع وَقَامَت الْحَرْب على سَاق توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان رَحمَه الله عِنْد الصدمة الأولى وَكَانَ مَرِيضا يُقَاد بِهِ فِي محفة فَكَانَ من قَضَاء الله السَّابِق ولطفه السابغ أَنه لم يطلع على وَفَاته أحد إِلَّا حَاجِبه مَوْلَاهُ رضوَان العلج فَإِنَّهُ كتم مَوته وَصَارَ يخْتَلف إِلَى الأجناد وَيَقُول السُّلْطَان يَأْمر فلَانا أَن يذهب إِلَى مَوضِع كَذَا وَفُلَانًا أَن يلْزم الرَّايَة وَفُلَانًا يتَقَدَّم وَفُلَانًا يتَأَخَّر
وَقَالَ شَارِح الزهرة لما توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لم يظْهر الَّذِي كَانَ سائس المحفة مَوته فَصَارَ يقدم دَوَاب المحفة نَحْو الْعَدو وَيَقُول للجند السُّلْطَان يَأْمُركُمْ بالتقدم إِلَيْهِم وَعلم أَيْضا بِمَوْتِهِ أَخُوهُ وخليفته أَبُو(5/80)
الْعَبَّاس أَحْمد بن الشَّيْخ فكتمها وَلم يزل الْحَال على ذَلِك وَالنَّاس فِي المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء بِنَار الطعان واحتساء كؤس الْحمام إِلَى أَن هبت على الْمُسلمين ريح النَّصْر وساعدهم الْقدر وأثمرت أَغْصَان رماحهم زهر الظفر فولى الْمُشْركُونَ الأدبار ودارت عَلَيْهِم دَائِرَة الْبَوَار وحكمت السيوف فِي رِقَاب الْكفَّار فَفرُّوا ولات حِين فرار وَقتل الطاغية سبستيان عَظِيم البرتغال غريقا فِي الْوَادي وَقصد النَّصَارَى القنطرة فَلم يَجدوا إِلَّا آثارها فخشعت نُفُوسهم وتهافتوا فِي النَّهر تهافت الْفراش على النَّار فَكَانَ ذَلِك من أكبر الْأَسْبَاب فِي استئصالهم وَأعظم الحبائل فِي اقتناصهم وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا عدد نزر وشرذمة قَليلَة
وَقَالَ فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور كَانَت هَذِه الْغَزْوَة من الْغَزَوَات الْعَظِيمَة الوقائع الشهيرة حضرها جم غفير من أهل الله تَعَالَى حَتَّى إِنَّهَا أشبه شَيْء بغزوة بدر حَدثنَا شَيخنَا أَبُو رَاشد يَعْقُوب البدري عَمَّن يَثِق بِهِ أَن الرجل من حاضري ذَلِك المعترك كَانَ يستبق إِلَى النَّصْرَانِي لينتهز فِيهِ الفرصة فَمَا يصله حَتَّى يجده مَيتا اه
وَبحث فِي الْقَتْلَى عَن مُحَمَّد بن عبد الله المستصرخ بهم والقائد لَهُم إِلَى مصَارِعهمْ فَوجدَ غريقا فِي وَادي المخازن وَذَلِكَ أَنه لما رأى الْهَزِيمَة فر ناجيا بِنَفسِهِ واضطر إِلَى عبور النَّهر فتورط فِي غَدِير مِنْهُ وغرق فَمَاتَ فاستخرجه الغواصون وسلخ وَحشِي جلده تبنا وطيف بِهِ فِي مراكش وَغَيرهَا من الْبِلَاد
وَمِمَّنْ وجد صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَسْكَر السريفي الشفشاوني صَاحب الدوحة فَإِنَّهُ كَانَ هرب مَعَ المسلوخ وَكَانَ من بطانته فَدخل مَعَه بِلَاد الْعَدو فَوجدَ بَين جيف النَّصَارَى قَتِيلا وَتكلم النَّاس فِي أمره حَتَّى قيل إِنَّه وجد على شِمَاله مستدبر الْقبْلَة وَفِيه يَقُول الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام الشهير أبي مُحَمَّد عبد الله الهبطي رَحمَه الله فِي منظومته الَّتِي نظم فِيهَا أَصْحَاب أَبِيه معتذرا عَن ابْن عَسْكَر الْمَذْكُور ومشيرا إِلَى توهين مَا قيل فِيهِ
(وَمِنْهُم الشَّيْخ الَّذِي لَا يُنكر ... مُحَمَّد أَخُو الدهاء عَسْكَر)(5/81)
(وَإِن يكن أَتَى بذنب ظَاهر ... فعرضه من الشكوك طَاهِر)
(رَأَيْته فِي النّوم ذَا بشاره ... وهيئة حَسَنَة وشارة)
وَكَانَ التقاء الجمعين يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَيُوَافِقهُ من التَّارِيخ المسيحي الْيَوْم الرَّابِع من أغشت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس عشرَة مائَة
قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَكَانَ مِقْدَار زمَان الْمُقَاتلَة خمْسا وَأَرْبَعين دَرَجَة وَقيل اثْنَتَيْنِ وَخمسين على مَا حَدثنِي بِهِ بعض الميقاتيين
وَقَالَ فِي الْمرْآة وَحصل الْمُسلمُونَ على غنيمَة لم يكن قطّ مثلهَا بالمغرب إِذْ لم يتَقَدَّم لِلنَّصَارَى خُرُوج بِهِ على هَذِه الصُّورَة إِلَّا أَن الْغَنِيمَة لم تقسم وَإِنَّمَا انتهبها النَّاس كَمَا اتّفق لَهُم بِحَسب الْقُوَّة وَالْبخْت الدنيوي وَكَانَ النَّاس يتوقعون مغبتها لاختلاط الْأَمْوَال بالحرام فَظهر ذَلِك من غلاء وَغَيره وَكُنَّا نسْمع أَن الْبركَة رفعت من الْأَمْوَال من يَوْمئِذٍ
وَقد حضر الشَّيْخ أَبُو المحاسن هَذِه الْغَزْوَة وأبلى فِيهَا بلَاء حسنا وتورع عَن الْغَنِيمَة فَلم يتلبس مِنْهَا بِشَيْء وَبَلغت قيمَة النَّصْرَانِي مَا ذكره الشَّيْخ وَكَانَ سَبَب عدم ضبط الْغَنِيمَة وَقسمهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع موت السُّلْطَان أبي مَرْوَان قبل هزيمَة النَّصَارَى وَكَانَ مَرِيضا فاشتغل أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بِجمع الْكَلِمَة وَلم يهتبل بِأَمْر الْغَنِيمَة فتم لَهُ مَا قصد
وَقد سَاق منويل فِي تَارِيخه خبر هَذِه الْوَقْعَة مساقا حسنا فَقَالَ لما استولى عبد الْملك السَّعْدِيّ الْمَدْعُو عِنْد أهل الْمغرب بمولاي مُلُوك على ملك الْمغرب وطرد ابْن أَخِيه مولَايَ مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالأكحل يَعْنِي المسلوخ ذهب أَولا إِلَى إصبانيا وتطارح على طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي فِي أَن يُعينهُ على استرجاع ملكه فَامْتنعَ ثمَّ دخل أشبونة وتطارح على طاغية البرتغال سبستيان فَأَجَابَهُ وَذهب إِلَى خَاله طاغية الإصبنيول فيليب الْمَذْكُور آنِفا وَطلب مِنْهُ الْإِعَانَة على مَا هُوَ بصدده فوعده بِأَن يُعْطِيهِ من المراكب والعساكر مَا يملك بِهِ العرائش لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَنَّهَا تعدل سَائِر(5/82)
مراسي الْمغرب ثمَّ أمده بِعشْرين ألفا من عَسْكَر الإصبنيول وَكَانَ سبستيان قد سَاق مَعَه اثْنَي عشر ألفا من البرتغال وَثَلَاثَة آلَاف من الطليان وَمثلهَا من الألمان وَمن متطوعة الإصبنيول وَغَيرهم عددا كثيرا وَبعث إِلَيْهِ البابا صَاحب رومة بأَرْبعَة آلَاف أُخْرَى وبألف وَخَمْسمِائة من الْخَيل واثني عشر مدفعا وَجمع سبستيان نَحْو ألف مركب وَجَاء إِلَى قادس
وَلما عزم على اقتحام بِلَاد الْمغرب تشفعت إِلَيْهِ جدته وأرباب دولته وشيوخ دينه فِي الرُّجُوع فَصم عَنْهُم وَكَذَلِكَ خَاله فيليب حذره عَاقِبَة التوغل فِي أَرض الْمغرب فَصم على ذَلِك كُله وَجَاء إِلَى قادس وَمِنْهَا خرج إِلَى طنجة
وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله المسلوخ ينتظره هُنَالك فَاجْتمع بِهِ وزحفوا إِلَى بِلَاد الْمغرب وزحف إِلَيْهِم السُّلْطَان عبد الْملك فِي عَسَاكِر الْمُسلمين وَكَانُوا أَرْبَعِينَ ألفا وَزِيَادَة ومدافعهم أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ مدفعا وقواد الْجَيْش أَبُو عَليّ القوري وَالْحُسَيْن العلج الجنوي وَمُحَمّد أَبُو طيبَة وَعلي بن مُوسَى وَأَخُوهُ أَحْمد بن مُوسَى الَّذِي كَانَ عَاملا على العرائش فجَاء فِي جمعه إِلَى السُّلْطَان عبد الْملك وانضم إِلَيْهِ وَلما تقَارب الجيشان جمع السُّلْطَان عبد الْملك النَّاس وخطبهم ثمَّ استدعى النَّصَارَى إِلَى الْقِتَال وَنصب لَهُم علامته فأحجموا وَكَانَ قصدهم المطاولة وَقصد السُّلْطَان عبد الْملك المناجزة وَذَلِكَ لِأَن مُحَمَّد المسلوخ قد دس إِلَيْهِ من سمه
قَالَ منويل وَلما أحس عبد الْملك بذلك وَأَنه لَا محَالة هَالك بذل نَفسه لِلْقِتَالِ ليَمُوت فِي الْجِهَاد وَكَانَ المسلوخ يتربص كي يهْلك عَمه قبل اللِّقَاء فَتَقَع الْفِتْنَة فِي عَسْكَر الْمُسلمين لَكِن جَيش النَّصَارَى لم تكن لَهُم مُؤنَة يطاولون بهَا فألجأهم ذَلِك إِلَى المناجزة وَلما انتشبت الْحَرْب هلك عبد الْملك للحين
قَالَ منويل وَكَانَ أَمر هَذَا الرجل عجبا فِي الحزم والشجاعة حَتَّى أَنه لما مَاتَ مَاتَ وَهُوَ وَاضع سبابته على فَمه كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى جَيْشه أَن يسكتوا عَن الْخَوْض فِي وَفَاته حَتَّى يتم أَمرهم وَلَا يضطربوا وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّهُم كتموا مَوته فانتصروا وظفروا بالنصارى ظفرا لَا كفاء لَهُ فَكَانُوا يذبحونهم مثل(5/83)
الكباش ودهش النَّصَارَى وتكبكبت جموعهم وتراكمت أمتعتهم وصناديقهم وخيلهم وسلاحهم بِلَا تَرْتِيب وَزَادَهُمْ دهشا أَن بعض طوابيرهم كَانَ يُنَادي صَاحب صفارته وراءكم وراءكم قطعكم الْعَدو ووقدت النَّار فِي بارود النَّصَارَى فنفط وانهزموا إِلَى وَادي المخازن فتهافت جلهم فِيهِ فهلكوا وَالْبَاقِي أسره الْمُسلمُونَ
وَزعم أَن سبستيان هلك تَحْتَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعَة أَفْرَاس وَكَانَ شَابًّا حَدثا وَقَالَ لأَصْحَابه إِن تروني تروني أمامكم وَإِن لم تروني فَأَنا فِي وسط الْعَدو أقَاتل عَنْكُم قَالَ وأبدأ وَأعَاد فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى أَن خر قَتِيلا وَبَقِي مَذْكُورا عِنْد البرتغال يسمرون بأخباره وَذكره شعراء الأوربا فِي أشعارهم وَلَا زَالُوا يذكرُونَهُ إِلَى الْآن
وَخَلفه فِي ملكه الطاغية الريكي البرتغالي فَهُوَ الَّذِي ولي بعده وافتدى جنَازَته من الْمُسلمين ونقلها إِلَى سبتة فَبَقيت هُنَالك إِلَى أَن هلك الطاغية الريكي وَتَوَلَّى على البرتغال طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي فَصَارَ ملك الدولتين مَعًا وَهُوَ خَال سبستيان أَخُو أمه فَنقل جنَازَته من سبتة إِلَى أشبونة ثمَّ أرخ منويل الْوَقْعَة بالتاريخ الْعَرَبِيّ والعجمي مُوَافقا لما مر فَهَذَا مَا ذكره فِي هَذِه الْوَقْعَة
قَالَ فِي النزهة توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن الشَّيْخ فِي زَوَال الْيَوْم الْمَذْكُور وَبَايع النَّاس أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
قَالَ فِي درة الحجال فَانْظُر لحكمة الله الْوَاحِد القهار أهلك ثَلَاثَة مُلُوك يَوْم وَاحِد وهم أَبُو مَرْوَان الشَّيْخ وَولد أَخِيه مُحَمَّد بن عبد الله المسلوخ والطاغية سبستيان وَأقَام وَاحِدًا وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور اه
قلت وَفِي إهلاك الثَّلَاثَة وَإِقَامَة الْوَاحِد إِشَارَة وَاضِحَة لإهلاك دين التَّثْلِيث وَنصر دين التَّوْحِيد فِي ذَلِك الْيَوْم وَالله تَعَالَى أعلم
وَلما بلغت الْهَزِيمَة إِلَى الطاغية الْأَعْظَم أَعنِي الْقَائِم بِالْأَمر بعد سبستيان لِأَن التَّحْقِيق أَنه كَانَ الْأَعْظَم يَوْمئِذٍ لما مر بعث إِلَى الْمَنْصُور بعد استقلاله(5/84)
بِالْملكِ وَعوده إِلَى فاس كَمَا سَيَأْتِي يلْتَمس مِنْهُ الْفِدَاء فِيمَن بَقِي بِيَدِهِ من الْأُسَارَى فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَحصل لَهُ بِسَبَبِهِ أَمْوَال طائلة وَذكر بَعضهم أَن الْأُسَارَى لما ذَهَبُوا إِلَى بِلَادهمْ قَالَ الطاغية لم لم تَأْخُذُوا تطاوين والعرائش وَالْقصر قبل أَن يصل ملكهم فَقَالُوا لَهُ امْتنع من ذَلِك الْأَمِير الَّذِي كَانَ علينا فَأمر بهم فأحرقوا جَمِيعًا
مضحكة قَالَ فِي النزهة ذكر بَعضهم أَن النَّصَارَى لما وَقعت عَلَيْهِم الكائنة الْمَذْكُورَة وفنى من فنى مِنْهُم وَرَأى أساقفتهم قلَّة عَددهمْ وخلاء بِلَادهمْ لِكَثْرَة من مَاتَ مِنْهُم أباحوا للعامة فَاحِشَة الزِّنَى ليكْثر التناسل ويخلف مَا هلك مِنْهُم وَرَأَوا ذَلِك من نصْرَة دينهم وتقويم أود ملتهم أخزاهم الله اه
وَقد وقفت على تَارِيخ لبَعض مؤرخي الفرنج الإنجليزيين من أهل جَزِيرَة مالطة فرأيته قد ألم بِخَبَر هَذِه الْوَقْعَة وَصرح بِأَنَّهَا كَانَت سَبَب هَلَاك البرتغال وتلاشي دولتهم وَبطلَان كرْسِي سلطنتهم حَتَّى استضافهم إِلَيْهِ طاغية الإصبنيول بعد نَحْو سنتَيْن وصيرهم من جملَة رَعيته وَمن فُصُول كَلَامه بعد أَن ذكر أَن أَكثر البرتغال قتلوا فِي ذَلِك الْيَوْم مَا نَصه وَكَانَت يَعْنِي الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة وقْعَة هائلة وَيَوْما مشؤوما وَبِالْجُمْلَةِ فقد قتل فِي ذَلِك الْيَوْم سَائِر أَشْرَاف البرتكيسيين وَلم يتَخَلَّف مِنْهُم أحد فَلَمَّا بَطل كرْسِي سلطنتهم قَامَ وقتئذ فيليبس الثَّانِي ملك إصبانيا وَتزَوج ملكتهم وَحكم على الْبِلَاد كلهَا اه كَلَامه إِلَّا أَنه ذكر أَن السَّبَب فِي استغاثة السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله بالبرتغال هُوَ تغلب الإصبنيوليين على مَمْلَكَته وانتزاعها من يَده وَهُوَ كذب أَو غلط وَلَعَلَّه تصحف عَلَيْهِ لفظ الإصطنبوليين بالإصبنيوليين إِذْ قد تقدم أَن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان إِنَّمَا استولى على الْمغرب بِجَيْش التّرْك المنفذ من قبل السُّلْطَان سليم العثماني وَالله أعلم
وَقد ألم بِهَذِهِ الْوَقْعَة أَيْضا لويز مَارِيَة فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة لكنه لم يبسطها على عَادَته فِي السُّكُوت عَن مَا يكون من الظُّهُور فِي جَانب الْمُسلمين وإشاعة مَا يكون من ذَلِك فِي جَانب النَّصَارَى بل(5/85)
وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمَعَ ذَلِك فقد قَالَ فِي وصفهَا كلَاما هَذِه تَرْجَمته وَقد كَانَ مخبوءا لنا فِي مُسْتَقْبل الْأَعْصَار الْعَصْر الَّذِي لَو وَصفته كَمَا وَصفه غَيْرِي من المؤرخين لَقلت هُوَ الْعَصْر النحس الْبَالِغ فِي النحوسة الَّذِي انْتَهَت فِيهِ مُدَّة الصولة وَالظفر والنجاح وَانْقَضَت فِيهِ أَيَّام الْعِنَايَة من البرتغال وانطفأ مصباحهم بَين الْأَجْنَاس وَزَالَ رونقهم وَذَهَبت النخوة وَالْقُوَّة مِنْهُم وَخَلفهَا الفشل وَانْقطع الرَّجَاء واضمحل إبان الْغنى وَالرِّبْح وَذَلِكَ هُوَ الْعَصْر الَّذِي هلك فِيهِ سبستيان فِي الْقصر الْكَبِير من بِلَاد الْمغرب اه فَهَذَا كَلَام هَذَا البرتغالي قد تحفظت عَلَيْهِ وَأديت تَرْجَمته كَمَا هِيَ ليعتبر بِهِ من يقف عَلَيْهِ وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء
وَلما تمت للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور الْبيعَة بوادي المخازن طَالبه الْجَيْش بأرزاقهم واستنجزوا أعطياتهم حَسْبَمَا جرت بِهِ عَادَة من قبله مَعَهم فطالبهم هُوَ بِخمْس الْغَنِيمَة لأَنهم جعلوها نهبى وَلم يقتسموها على الْوَجْه الشَّرْعِيّ كَمَا سبق فصعب استخراجها مِنْهُم لعدم التَّعْيِين وجرأة النَّاس على الْغلُول فسامحهم فِيهَا وسامحوه فِي عطائهم
ثمَّ أَمر الْمَنْصُور بتوجيه كتب البشارات إِلَى الْآفَاق بِهَذَا الْفَتْح الْمُبين فَكتب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى سَائِر ممالك الْإِسْلَام المجاورين للمغرب يعرفهُمْ بِمَا أنعم الله بِهِ من إِظْهَار الدّين وهلاك عَبدة الصَّلِيب واستئصال شوكتهم ورد كيدهم فِي نحرهم فوردت عَلَيْهِ الأرسال من سَائِر الأقطار مهنئين لَهُ بِمَا فتح الله على يَده حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي مَرْوَان وَسيرَته
قَالَ ابْن القَاضِي كَانَ سَبَب وَفَاة السُّلْطَان أبي مَرْوَان رَحمَه الله أَنه سقِِي سما وَذَلِكَ أَن قَائِد التّرْك الَّذين كَانُوا مَعَه واسْمه رَمَضَان العلج بعث إِلَى بعض قواده أَن يتلقاه بكعك مَسْمُوم هَدِيَّة للسُّلْطَان الْمَذْكُور وَقت مرورهم عَلَيْهِ وَقصد بذلك قَتله وَذَلِكَ بعد أَخذه بِهِ مَدِينَة فاس ليثبت لَهُم الْملك بهَا فَلم يكمل الله مُرَادهم لما شهدوه من عَظِيم جَيش الْمغرب فَهَذَا كَانَ سَبَب فِي مَوته رَحمَه الله اه وَلما توفّي حمل إِلَى مراكش فقبر بهَا وَكَانَت مُدَّة(5/86)
خِلَافَته أَربع سِنِين وَمن حجابه الْقَائِد رضوَان العلج وَكتابه مُحَمَّد بن عِيسَى وَمُحَمّد بن عمر الشاوي وقضاته قُضَاة ولد أَخِيه
وَكَانَ يتزيا بزِي التّرْك وَيجْرِي مجراهم فِي كثير من شؤونه وَكَانَ يتهم بالميل إِلَى الْأَحْدَاث وَرُبمَا كَانَ يظْهر ذَلِك وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور خَلِيفَته على فاس كَمَا مر وَكَانَت لَهُ فِيهِ محبَّة تَامَّة وَكَانَ يظْهر أَنه ولي عَهده ويرشحه لذَلِك كثيرا حَسْبَمَا أفصحت عَنهُ رسائله الَّتِي كَانَ يبْعَث بهَا إِلَيْهِ
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث
فَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة كَانَ الوباء بالمغرب كَمَا قدمنَا
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة نزل مطر غزير بمراكش حَتَّى امْتَلَأت مِنْهُ الْآبَار وتهدمت الدّور وَصَارَ النَّاس يؤرخون بعام الْآبَار
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي من أَوْلَاد أبي السبَاع وَدفن بزاويته على ضفة وَادي تانسيفت من أَعمال مراكش وقبره مزارة مَشْهُورَة وَعَلِيهِ بِنَاء حفيل
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن مُحَمَّد الصنهاجي الطنجي الْمَعْرُوف بالهبطي وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَحمَه الله من أهل الْوَرع وَالدّين والاتباع للسّنة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمن فَوَائده مَا حَكَاهُ عَنهُ فِي الدوحة قَالَ سَأَلت شَيخنَا الإِمَام أَبَا مُحَمَّد عبد الله الهبطي عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَكَانَ من أَصْحَابه فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَا لسَائِر الْمَشَايِخ من أَصْحَاب الشَّيْخ الغزواني كَأبي الْحجَّاج التليدي وَأبي الْبَقَاء اليالصوتي وَأبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان وَغَيرهم يصرحون بقبطانية الشَّيْخ وينسبونك أَنْت إِلَى التَّقْصِير فِي حَقه حَيْثُ لم تقل بِمَا يَقُولُونَهُ فَقَالَ لي رَضِي الله عَنهُ قد علمت معنى الشَّهَادَة فِي الشَّرْع مَا هِيَ فَقلت نعم فَقَالَ لي كَيفَ لي أَن أشهد لأحد بمقام معِين وَأَنا لم أسلكه وَلم أتحققه وَلم يكْشف لي عَنهُ فَإِن فعلت فقد شهِدت شَهَادَة الزُّور فَقلت لَهُ وَأي شَهَادَة تشهد فِي الشَّيْخ(5/87)
فَقَالَ لي أشهد أَنه من العارفين بِاللَّه تَعَالَى وَأَنه كَانَ يُجيب بِالْحَال أَكثر مِمَّا يُجيب بالمقال انْتهى قلت وَهَذَا شَأْن أهل الدّين والورع المحتاطين لدينهم لَا يقدمُونَ على أَمر وَلَا يتفوهون بِهِ حَتَّى يَكُونُوا مِنْهُ على بَصِيرَة وتجد كثيرا مِمَّن عقله وَرَاء لِسَانه يتقولون على الله فِي غيبه ويخبطون خبط العشواء وينسبون المقامات وَالْأَحْوَال لمن لَيْسَ مِنْهَا فِي قبيل وَلَا دبير نسْأَل الله تَعَالَى أَن يلهمنا رشدنا بمنه
وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا كسفت الشَّمْس الْكُسُوف الْكُلِّي الْعَظِيم
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة كَانَ بالمغرب وباء عَظِيم كسا سهله وجباله وأفنى كماته وأبطاله واتصل أمره إِلَى سنة سِتّ وَسِتِّينَ بعْدهَا
وَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الْجُزُولِيّ ثمَّ السملالي الشهير بِبِلَاد السوس أَخذ عَن الشَّيْخ أبي فَارس عبد الْعَزِيز التباع وَالشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي ثمَّ الملياني
وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة لَيْلَة عبد الْأَضْحَى مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عياد الصنهاجي ثمَّ الْفَرَجِيِّ الدكالي الْمَعْرُوف بالمجذوب الْوَلِيّ الْمَشْهُور دَفِين مكناسة الزَّيْتُون كَانَ مأوى سلفه بِمَدِينَة تيط قرب آزمور ثمَّ رَحل هُوَ ووالده إِلَى مكناسة فَمَاتَ بهَا
وَفِي سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة بعد صَلَاة الْجُمُعَة من أول يَوْم من الْمحرم مِنْهَا زلزلت الأَرْض زلزالا شَدِيدا وفزع النَّاس لذَلِك وَفِي هَذِه السّنة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن من شرفاء بني آمغار دَفِين تامصلوحت وَقد تقدم مَا جرى بَينه وَبَين السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه
وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَذَلِكَ أَوَاخِر شَوَّال مِنْهَا الْمُوَافق لأواسط مارس العجمي حدث بالمغرب جَراد كثير وَفِي أَيَّام السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ظهر نجم لم يكن معهودا ثمَّ ظَهرت فِي أَيَّام ابْنه مُحَمَّد بن عبد الله أَعْلَام حمر فِي الجو من النَّاحِيَة الشرقية تبعتها فِي الأَرْض أجناد التّرْك الَّتِي(5/88)
جَاءَ بهَا السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان من الجزائر كَمَا مر وَفِي أَيَّام السُّلْطَان أبي مَرْوَان الْمَذْكُور ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب الْكَبِير فِي برج الْعَقْرَب وطلع أَيَّامًا ثمَّ غَابَ وَظهر بعده كَوْكَب آخر ذُو ذَنْب أَصْغَر مِنْهُ وعَلى أَثَره كَانَ خُرُوج البرتغال من طنجة ووقعة وَادي المخازن كَمَا مر وَالله تَعَالَى أعلم بغيبه
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالذهبي وأوليته ونشأته
كَانَت ولادَة السُّلْطَان أَبى الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه ابْن السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ بفاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَأمه الْحرَّة مسعودة بنت الشَّيْخ الْأَجَل أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الوزكيتي الوارززاتي وَكَانَت من الصَّالِحَات الْخيرَات وَسَتَأْتِي بَقِيَّة أَخْبَارهَا
وَذكر فِي الْمُنْتَقى قَالَ مرض الْمَنْصُور فِي صغره مَرضا شَدِيدا حَتَّى أيس مِنْهُ فرأت أمه فِي النّوم شخصا يَقُول لَهَا أزيريه الشَّيْخ أَبَا مَيْمُونَة فَإِنَّمَا أَصَابَته عين فأزارته إِيَّاه فَعُوفِيَ وَكَانَ أَبوهُ الْمهْدي يُنَبه على أَنه وَاسِطَة عقد أَوْلَاده
قَالَ فِي مناهل الصَّفَا حَدثنِي الشَّيْخ المسن الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد مُؤمن ابْن الْغَازِي الْعمريّ أَن الْمَنْصُور أقبل يَوْمًا فِي حَيَاة أَبِيه وَهُوَ صبي والمجلس غاص بالأكابر فَانْدفع يخترق الصُّفُوف قَالَ فصاح بِي الْمهْدي إِذْ ذَاك وَأَنا أَصْغَر الْقَوْم فَقَالَ يَا مُؤمن ارفعه فيسنفعك أَو ينفع عقبك فابتدرت حمله وَكَانَ كَذَلِك فَإِن الْمَنْصُور لما أفضت إِلَيْهِ الْخلَافَة كَانَ الْقَائِد مُؤمن ابْن الْغَازِي عِنْده بالحظوة الرفيعة والمنزلة الْعَالِيَة
وَنَشَأ الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي عفاف وصيانة وتعاط للْعلم ومثافنة لأَهله عَلَيْهِ وَكَانَت مخايل الْخلَافَة لائحة عَلَيْهِ من لدن عقدت عَلَيْهِ التمائم إِلَى أَن تمّ أمره حَدثنَا الْفَقِيه الْعَالم سفير الْخُلَفَاء أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن(5/89)
مُحَمَّد بن عَليّ الْجُزُولِيّ الدرعي أَنه اجْتمع بِبَعْض أهل المكاشفة بِمصْر فَسَأَلَهُ عَن السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَأَوْلَاده قَالَ فسميتهم لَهُ واقتصرت على الْكِبَار مِنْهُم فَلم أذكر الْمَنْصُور لِأَنَّهُ كَانَ أَصْغَرهم سنا يَوْمئِذٍ فَقَالَ لي بَقِي مِنْهُم من لم تذكره فَقلت لَهُ احْمَد فَقَالَ ذَاك وَاسِطَة عقدهم وَوجه صفقتهم فَكَانَ كَذَلِك
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي لما أَخذ الْمهْدي الْبيعَة لوَلَده السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَمَا تقدم استقدمه من فاس وأوصاه بالمنصور جدا وَقَالَ لَهُ إِن الْفَائِدَة فِيهِ أَو كَمَا قَالَ وَهَكَذَا كَانَ يُنَبه على أَنه وَاسِطَة عقد أَوْلَاده وَكَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله يحدث أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وأنواره تشرق قَالَ فَوَقع فِي نَفسِي أَن أسأله عَن نَصِيبي من الْخلَافَة فكاشفني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِي خاطري وأجابني بِمَا حقق لي نيلها ثمَّ أَشَارَ لي بأصابعه الثَّلَاثَة الشَّرِيفَة ضاما الْإِبْهَام مِنْهَا إِلَى السبابَة وَالْوُسْطَى وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ اه
وَقَالَ الإِمَام أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد التامنارتي فِي كِتَابه الْفَوَائِد الجمة بِإِسْنَاد عُلُوم الْأمة أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الدغوغي صَاحب الْحِسْبَة بتارودانت أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَنَّهُ فِي حَلقَة يسْرد فِيهَا صَحِيح البُخَارِيّ بِموضع من دَار الْخلَافَة بهَا وَأَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ بهَا وَذَلِكَ قبل ولَايَته قَالَ فَرَأَيْت فِي طرة الْكتاب هَذَا اللَّفْظ ورى الزند فَكنت أتأمل مَعْنَاهُ فَالْتَفت فَإِذا بِرَجُل انْعَزل نَاحيَة على طنفسة فَوَقع فِي نَفسِي أَن أسأله فَأَتَيْته بِالْكتاب وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَا معنى هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي فِي طرة هَذَا الْكتاب فَقَالَ لي قل لمولاك أَحْمد أَنا الَّذِي أوريت زندك مَا دمت على الْحق فَإِن عدلت عَنهُ فَأَنا بَرِيء مِنْك فَقلت لَهُ وَمن أَنْت يَا سَيِّدي فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمض إِلَّا قَلِيل حَتَّى ولي الْخلَافَة وحمدت سيرته قَالَ أَبُو زيد وناهيك بزند أوراه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا يدل على أَن ولَايَة الْإِسْلَام لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد اشتهرت الْمرَائِي بذلك(5/90)
وَيقرب من هَذَا مَا ذكره صَاحب ابتهاج الْقُلُوب فِي مَنَاقِب الشَّيْخ المجذوب أَن الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عبد الله الملقب بكدار ابْن الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن علال الْمَالِكِي البوخصيبي رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فَشَكا إِلَيْهِ أَوْلَاد مُطَاع لما رَآهُمْ عَلَيْهِ من الْفساد فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِيهم أَحْمد فَكَانَ كَذَلِك أَتَاهُم عقب ذَلِك السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور فَأَخذهُم وفل جمعهم اه وأخبار الْمَنْصُور من هَذَا النمط كَثِيرَة
وَكَانَ رَحمَه الله طَوِيل الْقَامَة ممتلئ الْخَدين وَاسع الْمَنْكِبَيْنِ تعلوه صفرَة رقيقَة أسود الشّعْر أدعج أكحل ضيق البلج براق الثنايا حسن الشكل جميل الْوَجْه ظريف المنزع لطيف الشَّمَائِل
وَكَانَت بيعَته بعد الْفَرَاغ من قتال النَّصَارَى بوادي المخازن يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَاجْتمعَ عَلَيْهَا من حضر هُنَاكَ من أهل الْحل وَالْعقد ثمَّ لما قفل الْمَنْصُور من غزوته تِلْكَ وَدخل حَضْرَة فاس يَوْم الْخَمِيس عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة جددت لَهُ الْبيعَة بهَا وَوَافَقَ عَلَيْهَا من لم يحضرها يَوْم وَادي المخازن ثمَّ بعث إِلَى مراكش وَغَيرهَا من حواضر الْمغرب وبواديه فأذعن الْكل للطاعة وسارعوا إِلَى الدُّخُول فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة
قَالَ الفشتالي لما كَانَت وقْعَة وَادي المخازن وَنصر الله دينه وكبت الْكفْر وَأَهله واستوسق الْأَمر للمنصور كتب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَهُوَ يَوْمئِذٍ السُّلْطَان مُرَاد بن سليم العثماني وَإِلَى سَائِر ممالك الْإِسْلَام المجاورين للمغرب يعرفهُمْ بِمَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من إِظْهَار الدّين وهلاك عَبدة الصَّلِيب واستئصال شأفتهم فوردت عَلَيْهِ الأرسال من سَائِر الأقطار مهنئين لَهُ بِمَا فتح الله على يَده وَكَانَ أول من وَفد عَلَيْهِ رَسُول صَاحب الجزائر ثمَّ تلته أرسال طاغية البرتغال وَهُوَ الريكي الْقَائِم بأمرهم بعد هَلَاك سبستيان وَلَيْسَ خَاله وَإِنَّمَا خَاله طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي الَّذِي جمع المملكتين مَعًا بعد هَلَاك الريكي الْمَذْكُور وَبعد وقْعَة وَادي المخازن بِثَلَاث سِنِين فقدموا بهدية عَظِيمَة وضعوها يَوْم دُخُولهمْ إِلَى فاس على الكراريص والعجل فَعجب النَّاس مِنْهَا(5/91)
عجبا بليغا وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمًا مشهودا وَكَانَ من جملَة مَا فِيهَا ثَلَاثمِائَة ألف دكات من ريال الْفضة وَأما الطّرف النفيسة والأثاث الرفيع فشيء لَا يُحْصى ثمَّ وَردت أرسال طاغية الإصبنيول صَاحِبَة قشتالة بهدية عَظِيمَة مِنْهَا اليواقيت الْكِبَار الَّتِي انتزعها الطاغية من تَاج آبَائِهِ وصنيديق مَمْلُوء من الدّرّ الفاخر وقضب الزمرد وَغير ذَلِك وَتكلم النَّاس فِيمَا بَين الهديتين أَعنِي هَدِيَّة البرتغالي وهدية الإصبنيولي أَيهمَا أعظم وَلم يهتد أهل الْعقل والمعرفة إِلَى مِقْدَار التَّفَاوُت بَينهمَا ثمَّ قدمت أرسال السُّلْطَان مُرَاد العثماني وَمَعَهُمْ هَدِيَّة وَهِي سيف محلى لم ير مثله مضاء وصفاء متن ثمَّ قدمت أرسال طاغية أفرانسة وَمَعَهُمْ هَدِيَّة عَظِيمَة وَلم تزل الْوُفُود مترادفة بِبَاب الْمَنْصُور والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تِلْكَ الْقُصُور إِلَى أَن لم يبْق أحد مِمَّن تتشوف النُّفُوس إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ اطمأنت بالمنصور الدَّار وطاب الْمقَام وَتمّ الْقَرار
وَفِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة مرض الْمَنْصُور مَرضا مخوفا وَطَالَ بِهِ حَتَّى كَادَت الْأُمُور تختل ثمَّ تَدَارُكه الله على يَد الْحَكِيم الماهر أبي عبد الله مُحَمَّد الطَّبِيب وَلما أبل من مَرضه أحسن إِلَى الطَّبِيب الْمَذْكُور ونثر عَلَيْهِ خُرُوجه من الْخلْع مَا لَا يُحْصى وَكَانَ يَوْم خُرُوجه يَوْمًا مشهودا وَفِي ذَلِك يَقُول الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الهوزالي الْمَعْرُوف بالنابغة
(تردى أَذَى من سقمك الْبر وَالْبَحْر ... وضجت لشكوى جسمك الشَّمْس والبدر)
(وَبَات الْهدى خوفًا عَلَيْك مسهدا ... وَأصْبح مذعور الْفُؤَاد الندى الْغمر)
(فَلَمَّا أعَاد الله صحتك الَّتِي ... أَفَاق بهَا من غمه البدو والحضر)
(تراءت لنا الدُّنْيَا بزينة حسنها ... وَعَاد إِلَى إبانه ذَلِك الْبشر)
(وَصَارَ بك الْإِسْلَام فِي كل بَلْدَة ... يهني وَيَدعِي أَن يطول لَك الْعُمر)
(وَصحت لنا الآمال بعد اعتلالها ... وعادت إِلَى الإيناع أَغْصَانهَا الْخضر)
(وَلَا غرو إِن صَامت على سمط الندى ... إِذا اغبر وَجه الأَرْض وَاحْتبسَ الْقطر)
(لبيت أبي الْعَبَّاس أنضت عجافها ... قَدِيما فخافت أَن يعاودها الضّر)
(لَئِن صدئت بيض الْمَعَالِي لقد غَدَتْ ... تسيء الكماة الْبيض واللدن السمر)(5/92)
(بقيت لهَذَا الدّين تَحْمِي ذماره ... ويحميك رب الْعَرْش مَا بَقِي الدَّهْر)
عقد الْمَنْصُور ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَدْعُو الْمَأْمُون
قَالَ الفشتالي لما أبل الْمَنْصُور من مَرضه الْمَذْكُور وَعَاد إِلَى حَاله من الصِّحَّة أجمع رَأْي أَعْيَان الدولة واتفقت كلمة كبرائها على أَن يطلبوا مِنْهُ تعْيين من يَلِي الْأَمر بعده وَيكون ولي عَهده وَكَانَ الْمَنْصُور مهيبا لَا يقدر أحد على مواجهته بِمثل هَذَا فاتفقوا على أَن يكون البادئ لذَلِك الْقَائِد الْمُؤمن بن الْغَازِي الْعمريّ لما لَهُ من الإدلال على الْمَنْصُور بطول الْخدمَة وسالف التربية فَقَالَ لَهُ الْقَائِد الْمَذْكُور يَا مَوْلَانَا الله تَعَالَى حفظ الْإِسْلَام بإبلالك من هَذَا الْمَرَض وعصم الدّين بإبقائه عَلَيْك وَقد بَقِي النَّاس فِي أَيَّام سقمك فِي حيرة عَظِيمَة ودخلهم من الدهش مَا لَا يخفى عَلَيْك فَلَو عينت لنا من أبنائك القساورة من تَجْتَمِع كلمة الْإِسْلَام عَلَيْهِ ويشار بالخلافة إِ ليه لَكَانَ أولى وأليق بسياسة الْملك وَإِن ابْنك الأبر أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَأْمُون حقيق بذلك وجدير بسلوك تِلْكَ المسالك لما فِيهِ من خلال الْخَيْر وخصال السِّيَادَة زِيَادَة على مَا هُوَ عَلَيْهِ من التيقظ فِي أُمُوره والحزم فِي شؤونه وَقد ظَهرت للنَّاس محَاسِن سيرته واطلعوا على جميل سَرِيرَته فَاسْتحْسن الْمَنْصُور ذَلِك وَأَعْجَبهُ مَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ فَقَالَ لَهُ سَوف أستخير الله فِي ذَلِك فَإِن يكن من عِنْد الله يمضه قلت هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الفشتالي على لِسَان الْقَائِد مُؤمن فِي حق الْمَأْمُون الْمَذْكُور هُوَ بِخِلَاف الْوَاقِع كَمَا ستقف عَلَيْهِ من أَحْوَال الْمَأْمُون بعد هَذَا إِن شَاءَ الله وَلَكِن المؤرخين وَالشعرَاء يمدحون ويقدحون بِحَسب أغراضهم لَا بِحَسب الْوَاقِع غَالِبا لَا سِيمَا إِذا كَانَ من يعنونه بذلك مخدوما لَهُم ومنعما عَلَيْهِم فَلَا يَنْبَغِي لمن وقف على كَلَام هَؤُلَاءِ الصِّنْف مِنْهُم أَن يعْتَمد عَلَيْهِ إِلَّا بعد التثبت والتبصر وَالله تَعَالَى الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب بمنه ثمَّ لبث الْمَنْصُور بعد هَذِه الْإِشَارَة أَيَّام يستخير ربه فِي ذَلِك ويستشير من يعلم أَهْلِيَّته للمشورة من أهل الْعلم وَالصَّلَاح فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام الاستخارة وتواطأت الآراء على حسن تِلْكَ الْإِشَارَة جمع الْمَنْصُور أَعْيَان حَاضِرَة مراكش وأعيان مَدِينَة فاس(5/93)
وَغَيرهم من أَشْيَاخ الْقَبَائِل بِوُجُوه النَّاس من أهل الحواضر والبوادي وَأوصى بالعهد لوَلَده الْمَذْكُور أبي عبد الله مُحَمَّد الْمَأْمُون وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
وَكَانَ الْمَأْمُون إِذْ ذَاك خَليفَة أَبِيه على فاس فَلم يحضر هَذِه الْبيعَة فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بعد ذَلِك ليقدم من فاس ويبايع بِحَضْرَتِهِ وَلم يقنعه مَا كَانَ عقد لَهُ من الْبيعَة وَهُوَ غَائِب وَلما بعث إِلَيْهِ خرج الْمَنْصُور بعسكره إِلَى تانسيفت خَارج مراكش ثَانِي عشر صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَلم يزل بعسكره هُنَاكَ متلوما ومنتظرا لقدوم الْمَأْمُون إِلَى أَن قدم غرَّة جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَكَانَت ملاقاتهما من عجائب الزَّمَان وَلما اصطف جَيش الْمَنْصُور وجيش الْمَأْمُون ترجل الْمَأْمُون عَن فرسه وَتقدم حافي الْقدَم فعفر وَجهه بَين يَدي وَالِده ثمَّ قبل رجله والمنصور على فرسه وَاقِفًا بَين الصفين فَدَعَا لَهُ بِخَير وَأظْهر الْفَرح بمقدمه وَكَانَ الْمَأْمُون قد عبأ جَيْشه تعبية لم ير مثلهَا ورتبهم ترتيبا حسنا فِي لباسهم وَسَائِر أُمُورهم فسر الْمَنْصُور بذلك وَبعد أَيَّام من بُلُوغه أَمر بِهِ فأجلس فِي سرادقه الْأَعْظَم الَّذِي لم يكن للملوك قبله مثله كَمَا سَيَأْتِي وَأمر أهل الْحل وَالْعقد فازدحموا على تَقْبِيل يَده واقتضيت مِنْهُم الْأَيْمَان بِحَضْرَتِهِ وَقَامَ الشُّعَرَاء فأفصحوا عَن وصف الْحَال وغمر الْمَنْصُور النَّاس بالنوال وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمًا مشهودا وَبعد أَيَّام مِنْهُ أَمر الْمَنْصُور الْمَأْمُون أَن يرجع إِلَى حَضْرَة فاس فَرجع وَدخل الْمَنْصُور حَضرته وَتمّ غَرَضه الَّذِي قَصده
ثورة دَاوُد بن عبد الْمُؤمن بن مُحَمَّد الشَّيْخ وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قَالَ الفشتالي لما وَقعت الْبيعَة لِلْمَأْمُونِ وتكامل أمرهَا ثار الرئيس الْأَجَل أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَهُوَ ابْن أخي الْمَنْصُور وفر إِلَى جبل سكسيوة وشق الْعَصَا ودعا إِلَى نَفسه فانثالت عَلَيْهِ أوشاب من البربر وَغَيرهم وَنجم أمره وأثرت فِي إِذن الرّعية جعجعته فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور قائده الزعيم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن بجة فناوشه(5/94)
الْقِتَال بجبل سكسيوة فَهَزَمَهُ وفر إِلَى جبل هوزالة فتحزبوا عَلَيْهِ وقويت بهم شوكته وَأخذ يَشن لَهُم الغارات على أهل درعة إِلَى أَن ضاقوا بِهِ ذرعا فشكوا أمره إِلَى الْمَنْصُور فَبعث إِلَيْهِ قائده الَّذِي ذكر فَلم يزل فِي مُقَابلَته ومقاتلته إِلَى أَن شرده عَن جبل هوزالة ففر دَاوُد مِنْهُ إِلَى الصَّحرَاء وَاسْتقر بِهِ الرحيل بهَا عِنْد عرب الودايا من بني معقل فَلم يزل عِنْدهم إِلَى أَن هلك سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَكفى الْمَنْصُور أمره
حُدُوث النفرة بَين الْمَنْصُور وَالسُّلْطَان مُرَاد العثماني وتلافي الْمَنْصُور لذَلِك
قد علمت مَا كَانَ من التجاء عبد الْملك المعتصم وَأحمد الْمَنْصُور إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني وتطارحهما عَلَيْهِ حَتَّى أمدهما بالجيش الَّذِي كَانَ سَببا فِي تملكهما الْمغرب وَلما صفا الْأَمر لعبد الْملك أهمل جَانب العثماني وَلم يكاتبه بِشَيْء وَلَا عرج عَن ساحته ثمَّ لما ملك الْمَنْصُور وَكتب إِلَى النواحي بِخَبَر وقْعَة وَادي المخازن كتب إِلَى السُّلْطَان مُرَاد فِي جُمْلَتهمْ فَبعث السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى الْمَنْصُور بالهدية الَّتِي تقدم ذكرهَا وَكَانَ الْمَنْصُور استقلها وأنف مِنْهَا فتشاغل عَن الْوَفْد وتركهم مهملين بِحَضْرَتِهِ وَتَأَخر عَن جَوَاب السُّلْطَان مُرَاد فَكَانَ ذَلِك سَببا للنفرة وَكَانَ وَزِير الْبَحْر للعثماني واسْمه الرئيس عَليّ علوج يبغض الْمَنْصُور فَلم يزل يسْعَى بِهِ عِنْد سُلْطَانه ويذكره مَا كَانَ من أَبِيه الشَّيْخ من الْقدح فِي ولَايَة التّرْك والطعن عَلَيْهِم وَقَالَ لَهُ فِي ذَلِك قد ضَاعَ صنيعك فِي هَذَا الغادر وصنيع والدك من قبلك وَلم يزل يفتل لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب ويهون عَلَيْهِ أَمر الْمغرب حَتَّى أذن لَهُ فِي تَوْجِيه الْعِمَارَة إِلَيْهِ ومنازلته وَالْأَخْذ بآفاقه إِلَى أَن يستأصل أَمر الْمَنْصُور ويخمد جمرته وَيُقَال إِن السُّلْطَان مرَادا أَمر وزيره الْمَذْكُور أَن يذهب بالعمارة إِلَى الجزائر فَتكون هُنَالك ثمَّ يتَقَدَّم بالعساكر فِي الْبر إِلَى الْمغرب فَأخذ الْوَزير فِي التأهب لذَلِك واتصل الْخَبَر بالمنصور على يَد بعض قناصل(5/95)
النجليز فارتحل إِلَى فاس من حِينه وشحن الثغور وملأ المراسي وَكَانَ على أهبة وَكَمَال استعداد وَبعث أرساله إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور بهدية عَظِيمَة تلافيا لما فرط واعتذارا عَمَّا سلف وَكَانَ من جملَة أرساله الْقَائِد الأنجد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ودة العمراني وَالْكَاتِب الشهير أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الهوزالي فَرَكبُوا الْبَحْر من مرسى تطاوين قَاصِدين الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وبينما هم فِي أثْنَاء الطَّرِيق على ثبج الْبَحْر لَقِيَهُمْ الْوَزير علوج فِي أسطوله قَاصِدا ديار الْمغرب عَازِمًا على منازلة الْمَنْصُور بِهِ فَلَمَّا رَآهُمْ سقط فِي يَده وأيقن بخيبة مسعاه فرام صدهما عَمَّا قصدا إِلَيْهِ وأيأسهما من تدارك الْأَمر وَقَالَ لَهما إِن الْخرق قد اتَّسع على الراقع وَلَو كَانَ لصاحبكم غَرَض فِي الْمَسْأَلَة مَا بَقِي أَصْحَابنَا بأبوابه كالكلاب والبادي أظلم فَلم يزل الْوَزير علوج بالقائد ابْن ودة إِلَى أَن صرفه عَن رَأْيه ورده مَعَه وَترك الهوزالي يبلغ الرسَالَة والهدية ظنا مِنْهُ أَن صَغِير السن لَا يحسن مُخَاطبَة الْمُلُوك الْعِظَام وَابْن ودة الَّذِي كَانَ عِنْده مَظَنَّة لكَمَال التَّدْبِير ومثافنة الْمُلُوك رده مَعَه فَلَمَّا انْتهى الهوزالي إِلَى السُّلْطَان مُرَاد وَدخل عَلَيْهِ أظهر من نبله ولطف مخاطبته مَا خلب بِهِ قلب السُّلْطَان الْمَذْكُور واستل السخيمة من صَدره وَاعْتذر لَهُ عَن تَأَخّر الْمَنْصُور عَن الْجَواب بِمَا لَا يعود بوهن على مخدومه وَلَا يُفِيد غَلَبَة خَصمه فَقبل السُّلْطَان مُرَاد الِاعْتِذَار وَتقبل الْهَدِيَّة بِقبُول حسن وَكتب مَعَ الهوزالي إِلَى الْوَزير علوج بِالرُّجُوعِ عَن منازلة الْمَنْصُور فَرجع بهَا الهوزالي يطير سُرُورًا وَلم يغب عَن علوج إِلَّا نَحْو الشَّهْر حَتَّى قدم عَلَيْهِ بِأَمْر الْملك فقرع لَهَا علوج سنّ النَّدَم وأسف على تفريطه فِي الهوزالي وَتَركه وَبعث السُّلْطَان مُرَاد رسله مَعَ الهوزالي إِلَى الْمَنْصُور يلومه على التَّرَاخِي فِي أُمُور الْمُلُوك فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أكْرم وفادتهم وَأحسن نزلهم وردهم مكرمين إِلَى مرسلهم وَبعث مَعَهم الْفَقِيه الإِمَام قَاضِي الْجَمَاعَة بِحَضْرَة مراكش أَبَا الْقَاسِم ابْن عَليّ الشاطبي والقائد الأنجد أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن مَنْصُور الشيظمي المريدي فَلَمَّا وردوا على خاقَان التّرْك فَرح بهم كل الْفَرح ورتب الشاطبي كلَاما بليغا أعرب فِيهِ عَن فضل الدولتين وَقرر فِيهِ حق أهل الْبَيْت وأطرى(5/96)
الْمَنْصُور وحض فِيهِ على اتِّحَاد كلمة الْإِسْلَام وَقَرَأَ ذَلِك على السُّلْطَان مُرَاد فاهتز لسماعه ثمَّ بعد أَيَّام أحسن إِلَيْهِم وأجزل صلتهم وردهم مكرمين إِلَى مرسلهم
وَقَالَ صَاحب خُلَاصَة الْأَثر كَانَ الْمَنْصُور موادعا لسلاطين آل عُثْمَان فَيُرْسل إِلَيْهِم بالهدايا فِي كل سنة وَكَانُوا هم يرسلون إِلَيْهِ بالمكاتيب وَالْخلْع السّنيَّة حَتَّى إِن السُّلْطَان مُرَاد بن سليم كتب إِلَيْهِ أثْنَاء مكاتيبه ملك عَليّ الْعَهْد أَن لَا أمد يَدي إِلَيْك إِلَّا للمصافحة وَإِن خاطري لَا يَنْوِي لَك إِلَّا الْخَيْر والمسامحة وَكَانَت رسله دَائِما تَأتي إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة من جَانب الْبَحْر ويمكثون زَمَانا طَويلا ويتعهدون الوزراء وَمن لَهُ قرب من الدولة من جُمْلَتهمْ الرئيس الأديب مُحَمَّد الْأمين الدفتري فقد ذكر صَاحب خُلَاصَة الْأَثر أَن هَذَا الرئيس كَانَ يجمع نفائس الْكتب وَيبْعَث بهَا إِلَى الْمَنْصُور فبسبب ذَلِك كَانَت المراسلات بَينهمَا غير مُنْقَطِعَة وَقد ذكر صَاحب خُلَاصَة الْأَثر فِي تَرْجَمَة الرئيس الْمَذْكُور بعض تِلْكَ المراسلات فَانْظُرْهُ
وَلما تَكَامل هَذَا الْغَرَض وَصَحَّ جسم الدولة من الْمَرَض وَرجعت الأرسال فِي أحسن الْأَحْوَال عَاد الْمَنْصُور إِلَى مراكش وَفِي يَوْم خُرُوجه من فاس خرج أَعْيَان أَهلهَا ومشيخة الْعلم بهَا وَقُرِئَ البُخَارِيّ بَين يَدَيْهِ سردا على عَادَة الْخُلَفَاء فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك كُله سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
إِيقَاع الْمَنْصُور بعرب الْخَلْط وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا فِي أَخْبَار الدولة المرينية مَا كَانَ لهَؤُلَاء الْخَلْط من الاعتزاز والدالة عَلَيْهَا بِسَبَب مَا كَانَ لَهُم من الشَّوْكَة والمصاهرة مَعَ مُلُوكهَا وَلما أَدْبَرت دولة بني مرين وَاسْتولى على ملكهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمهْدي انحاشوا إِلَيْهِ وأظهروا الْخدمَة والنصيحة فَلَمَّا جَاءَ أَبُو حسون الوطاسي بِجَيْش التّرْك حَسْبَمَا شرحناه قبل أوقعوا الْهَزِيمَة على الْمهْدي لأبي(5/97)
حسون كَمَا مر فَلَمَّا غلب الْمهْدي على الْمغرب وَصفا لَهُ أمره خلعهم من الجندية ووظف عَلَيْهِم الْخراج ومحا اسمهم من ديوَان الْخدمَة وَنقل أعيانهم إِلَى مراكش واتخذهم رهائن عِنْده وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَيَّام الْمَنْصُور فَرَأى جلادهم يَوْم وَادي المخازن وَحسن بلائهم فَاخْتَارَ النّصْف مِنْهُم ورده إِلَى الجندية وَأبقى نصفهم الآخر فِي غمار الرّعية ونقلهم إِلَى آزغار فاستوطنوه حينا من الدَّهْر ثمَّ عاثوا فِي الْبِلَاد وَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد ومدوا أَيْديهم إِلَى أَوْلَاد مُطَاع فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إِلَى الْمَنْصُور فَضرب عَلَيْهِم سبعين ألفا غَرَامَة فَلم يزدادوا إِلَّا عتوا وَشدَّة فَأرْسل إِلَيْهِم ليبعثوا طَائِفَة مِنْهُم إِلَى تيكورارين فامتنعوا من ذَلِك فَحِينَئِذٍ بعث إِلَيْهِم الْقَائِد مُوسَى بن أبي جمدي الْعمريّ فَانْتزع مِنْهُم الْخَيل وأبقاهم رجالة ثمَّ حكم السَّيْف فِي رقابهم واستأصل جمهورهم فَمن ثمَّ خضدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم
اسْتِيلَاء الْمَنْصُور على بِلَاد الصَّحرَاء تيكورارين وتوات وَغَيرهمَا
لما اسْتَقر الْمَنْصُور بمراكش مرجعه من فاس وَأمن من هجوم التّرْك على الْمغرب طمحت نَفسه إِلَى التغلب على بِلَاد تيكورارين وتوات من أَرض الصَّحرَاء وَمَا انضاف إِلَى ذَلِك من الْقرى والمداشر إِذْ كَانَ أهل تِلْكَ الْبِلَاد قد انكفت عَنْهُم أَيدي الْمُلُوك وَلم تسسهم الدول مُنْذُ أزمان وَلَا قادهم سُلْطَان قاهر إِلَى مَا يُرَاد مِنْهُم فسنح للمنصور أَن يجمع بهم الْكَلِمَة ويردهم إِلَى أَمر الله فَبعث إِلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن بركَة والقائد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الْحداد الْعمريّ المعقلي فِي جَيش كثيف فَقطعُوا إِلَيْهِم القفر من مراكش وانتهوا إِلَيْهِم على سبعين مرحلة مِنْهَا فتقدموا إِلَيْهِم أَولا بِالدُّعَاءِ للطاعة والأعذار والأنذار فامتنعوا فنازلوهم وقاتلوهم وطالت الْحَرْب بَينهم ياما ثمَّ كَانَ الظُّهُور لجيش الْمَنْصُور فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم إِلَى أَن أذعنوا للطاعة وصاروا فِي حزب الْجَمَاعَة وأنهى خبر الْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور(5/98)
فسر بذلك سُرُورًا عَظِيما وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي ذَلِك وَعم الْفَرح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ ذَلِك سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَبعد هَذَا تشوفت نفس الْمَنْصُور إِلَى الِاسْتِيلَاء على بِلَاد السودَان فَكَانَ من أمرهَا مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
اعْلَم أَن هَؤُلَاءِ السودَان هم من نسل حام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِاتِّفَاق النسابين والمؤرخين ويجاور البربر بِأَرْض الْمغرب مِنْهُم أُمَم كَثِيرَة من أعظمها أهل مملكة غانة وهم المتصلون بالبحر الْمُحِيط من جِهَة الغرب على مصب النّيل السوداني فِيهِ وتتصل بهم من جِهَة الشرق أمة أُخْرَى تعرف بصوصو بصادين أَو سينين مهملتين مضمومتين ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى يُقَال لَهَا مَالِي ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تسمى كوكو وَيُقَال كاغو ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تعرف بتكرور وَيُقَال لَهُم أَيْضا سغاي ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تدعى كانم وهم أهل مملكة برنو الْمُجَاورَة لإفريقية من جِهَة قبلتها ثمَّ بعْدهَا أَرض النّوبَة الْمُجَاورَة لبلاد مصر وَهَكَذَا إِلَى آخر الشرق أُمَم لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم
فَأَما أهل مملكة غانة فقد كَانُوا فِي صدر الْإِسْلَام من أعظم أُمَم السودَان أَسْلمُوا قَدِيما وَكَانَ لَهُم ملك ضخم وَكَانَت حَاضِرَة ملكهم هِيَ غانة وَهِي مدينتان على ضفتي النّيل السوداني من أعظم مدن الْعَالم وأكثرها عمرانا ذكرهَا صَاحب نزهة المشتاق وَصَاحب المسالك والممالك وَغَيرهمَا
وَقَالَ الْفَقِيه الأديب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْمُؤمن الْقَيْسِي الشريشي فِي شرح المقامات الحريرية مَا نَصه غانة بلد من بِلَاد السودَان وإليها يَنْتَهِي التُّجَّار يَعْنِي من الْمغرب والمدخل إِلَيْهَا من سجلماسة وَمن سجلماسة إِلَيْهَا ذَهَابًا مسيرَة ثَلَاثَة أشهر وَمن غانة إِلَى سجلماسة إيابا مسيرَة شهر وَنصف وَدون ذَلِك وَسبب ذَلِك أَن الرفاق تتجهز إِلَيْهَا من سجلماسة بالأمتعة والأثقال فتباع فِي غانة بالتبر فَمن سَافر إِلَيْهَا بِثَلَاثِينَ حملا يرجع مِنْهَا بِثَلَاثَة أحمال أَو بحملين وَاحِد لركوبه وثان للْمَاء بِسَبَب الْمَفَازَة الَّتِي فِي طريقها(5/99)
حَدثنِي غير وَاحِد من تجارها أَنهم يقطعون الْمَفَازَة فِي سِتَّة عشر يَوْمًا لَا يرَوْنَ فِيهَا مَاء إِلَّا على ظُهُور الْإِبِل فأثمان أحمال الثَّلَاثِينَ جملا يجْتَمع فِيهَا من التبر مَا يَجْعَل فِي مزود وَاحِد فيطوون المراحل للخفة قَالَ وغانة بلد مملكة السودَان وانتشر الْإِسْلَام فِي أَهلهَا وَبهَا مدارس للْعلم وَبهَا من تجار الْمغرب كثير يدْخلُونَ للتِّجَارَة فيصيبون الخصب والأمن وَكَثْرَة المتاجر فيشترون بهَا خدما للتسري ويقيمون بهَا عِنْد أميرها فِي غَايَة الْكَرَامَة وَالْإِمَاء فِيهَا قد جعل الله فِيهِنَّ من الْخِصَال الْكَرِيمَة فِي خَلقهنَّ وخلقهن فَوق المُرَاد من ملاسة الْأَبدَان وتفتق السوَاد وَحسن الْعَينَيْنِ واعتدال الأنوف وَبَيَاض الْأَسْنَان وَطيب الروائح اه
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ فِي غانة فِيمَا يُقَال ملك ودولة لقوم من العلويين يعْرفُونَ ببني صَالح
وَقَالَ صَاحب نزهة المشتاق أَنه صَالح بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم قَالَ وَلَا يعرف صَالح هَذَا فِي ولد عبد الله بن حسن وَقد ذهبت هَذِه الدولة لهَذَا الْعَهْد اه
ثمَّ أَن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أَمرهم فِي الْمِائَة الْخَامِسَة واستفحل أَمر الملثمين المجاورين لَهُم من جِهَة الشمَال مِمَّا يَلِي البربر وزحف إِلَيْهِم الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر اللمتوني فاتح الْمغرب ومستخلف يُوسُف بن تاشفين عَلَيْهِ حَسْبَمَا مر ذَلِك فِي أخبارهم فَلَمَّا رَجَعَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى الصَّحرَاء غزا بِلَاد السودَان وَفتح مِنْهَا مسيرَة ثَلَاثَة أشهر وَاقْتضى مِنْهُم الأتاوات وَحمل الْكثير مِنْهُم مِمَّن لم يكن أسلم قبل ذَلِك على الْإِسْلَام فدا نوابه ثمَّ اضمحل ملك أهل غانة بِالْكُلِّيَّةِ وتغلب عَلَيْهِم أهل مملكة صوصو المجاورون لَهُم واستعبدوهم وصيروهم فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ إِن أهل مَالِي كَثُرُوا أُمَم السودَان فِي نواحيهم تِلْكَ واستطالوا على الْأُمَم المجاورين لَهُم فغلبوا على صوصو وملكوا مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم وبأيدي أهل غانة ثمَّ افتتحوا بِلَاد كوكو وأضافوها إِلَى ملكهم وَصَارَت دولة مَالِي مُتَّصِلَة فِيمَا بَين غانة فِي الغرب وَأَرْض التكرور فِي الشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أُمَم السودَان وَمن(5/100)
هَذِه الدولة كَانَ السُّلْطَان منسا مُوسَى بن أبي بكر وَأَخُوهُ منسا سُلَيْمَان اللَّذَان كَانَ بَينهمَا وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن المريني من المهاداة والمواصلة مَا تقدم ذكره وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان منسا مُوسَى الْمَذْكُور الأديب الشَّاعِر أَبُو إِسْحَاق الطوبجن الأندلسي الَّذِي بنى لَهُ الْقبَّة المربعة العجيبة الصَّنْعَة البديعة النقش والتخريم الَّتِي أجَازه عَلَيْهَا بِاثْنَيْ عشر ألف مِثْقَال من التبر وَغير ذَلِك مِمَّا مر ذكره فِي أَخْبَار الدولة المرينية وَكَانَ مِنْهَا أَيْضا السُّلْطَان ماري زاطة الَّذِي هادى السُّلْطَان أَبَا سَالم المريني وَأغْرب عَلَيْهِ بالزرافة حَسْبَمَا تقدم قَالُوا وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان مُسْرِفًا مبذرا بِحَيْثُ أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وَكَاد أَمر سلطانهم يخْتل حَتَّى لقد انْتهى الْحَال بِهِ فِي سرفه وتبذيره أَن بَاعَ حجر الذَّهَب الَّذِي كَانَ من الذَّخَائِر الموروثة عِنْدهم وَهُوَ حجر يزن عشْرين قِنْطَارًا من الذَّهَب الْعين مَنْقُولًا من الْمَعْدن كَذَلِك من غير علاج وَلَا تصفية بالنَّار فَكَانُوا يرونه من أنفس الذَّخَائِر وأكبر الغرائب لندور مثله فِي الْمَعْدن فعرضه منسا زاطة على تجار مصر المترددين إِلَى بَلَده فاشتروه مِنْهُ بأبخس ثمن ثمَّ أَصَابَته عِلّة النّوم وَهُوَ مرض يطْرق أهل ذَلِك الإقليم كثيرا وخصوصا الرؤساء مِنْهُم بِحَيْثُ يعتاده غشي النّوم عَامَّة زَمَانه حَتَّى لَا يكَاد يفِيق وَلَا يَسْتَيْقِظ إِلَّا فِي الْقَلِيل من الْأَوْقَات ويضر بِصَاحِبِهِ غَايَة ويتصل سقمه إِلَى أَن يهْلك ودامت هَذِه الْعلَّة بِهَذَا السُّلْطَان سنتَيْن ثمَّ هلك مِنْهَا سنة خمس وَسبعين وَسَبْعمائة ثمَّ توارث بنوه الْملك من بعده فَكَانُوا فِي تراجع وانتقاص إِلَى أَن انقرض أَمرهم شَأْن غَيرهم من الدول وَظَهَرت دولة آل سكية من أهل مملكة كوكو وَيُقَال كاغو
قَالَ الإِمَام التكروري فِي كِتَابه نصيحة أهل السودَان إِن آل سكية أصلهم من صنهاجة وملكوا كثيرا من بِلَاد السودَان وَأول مُلُوكهمْ الْحَاج مُحَمَّد سكية بِضَم السِّين وَسُكُون الْكَاف بعْدهَا يَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء تَأْنِيث وَكَانَ الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور رَحل فِي أَوَاخِر الْمِائَة التَّاسِعَة إِلَى مصر والحجاز(5/101)
بِقصد حج بَيت الله الْحَرَام وزيارة قبر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلقي بِمصْر الْخَلِيفَة العباسي إِذْ كَانَ رسم الْخلَافَة العباسة لَا زَالَ قَائِما بهَا يَوْمئِذٍ حَتَّى محاه السُّلْطَان سليم العثماني أَيَّام تغلبه على مصر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فَلَمَّا اجْتمع الْحَاج مُحَمَّد سكية بالخليفة الْمَذْكُور طلب مِنْهُ أَن يَأْذَن لَهُ فِي إِمَارَة بِلَاد السودَان وَأَن يكون خَلِيفَته هُنَاكَ ففوض إِلَيْهِ الْخَلِيفَة العباسي النّظر فِي أَمر ذَلِك الإقليم وَجعله نَائِبه على من وَرَاءه من الْمُسلمين فَرجع الْحَاج مُحَمَّد سكية إِلَى بِلَاده وَقد بنى أَمر رياسته على قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَجرى على منهاج أهل السّنة وَلَقي بِمصْر أَيْضا الإِمَام شيخ الْإِسْلَام حَافظ الْحفاظ جلال الدّين السُّيُوطِيّ فَأخذ عَنهُ عقائده وَتعلم مِنْهُ الْحَلَال وَالْحرَام وَسمع عَلَيْهِ جملا من آدَاب الشَّرِيعَة وأحكامها وانتفع بوصاياه ومواعظه فَرجع إِلَى السودَان وَنصر السّنة وأحيى طَرِيق الْعدْل وَجرى على منهاج الْخَلِيفَة العباسي فِي مَقْعَده وملبسه وَسَائِر أُمُوره وَمَال إِلَى السِّيرَة الْعَرَبيَّة وَعدل عَن سيرة الْعَجم فصلحت الْأَحْوَال وَبرئ جَسَد الرشاد من الدَّاء العضال وَكَانَ الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور سهل الْحجاب رَقِيق الْقلب خافض الْجنَاح شَدِيد التَّعْظِيم لأئمة الدّين محبا للْعُلَمَاء مكرما لَهُم يفسح لَهُم فِي الْمجْلس ويوسع عَلَيْهِم فِي الْعَطاء وَلم يكن فِي أَيَّامه كلهَا بؤس وَلَا بَأْس بل كَانَت رَعيته فِي خفض عَيْش وَأمن سرب وَفرض عَلَيْهِم شَيْئا خَفِيفا من المغارم وظفه عَلَيْهِم وَزعم أَنه مَا فعل ذَلِك حَتَّى اسْتَشَارَ الإِمَام السُّيُوطِيّ شَيْخه وَلم يزل على سيرته الْمَذْكُورَة إِلَى أَن اخترمته الْمنية فَقَامَ بِالْأَمر بعده وَلَده دَاوُد بن مُحَمَّد فَأحْسن مَا شَاءَ وَتبع طَريقَة أَبِيه إِلَى أَن لحق بربه وَمضى لسبيله فَقَامَ بِالْأَمر بعده وَلَده إِسْحَاق بن دَاوُد فَعدل عَن بعض سيرة أَبِيه وَلم يكن فِي أمره بالذميم وَاسْتمرّ حَاله على الانتظام إِلَى أَن غزته جيوش الْمَنْصُور فنقضت ملكه وَنَثَرت سلكه وانقرض عَلَيْهِ أَمر آل سكية بعد أَن كَانَ تَحت طاعتهم مسيرَة سِتَّة أشهر من بِلَاد السودَان وَسَنذكر كَيْفيَّة ذَلِك
وَأما مملكة التكرور وكانم فَقَالَ ابْن خلكان مَا نَصه كانم بِكَسْر النُّون جنس من السودَان وهم بَنو عَم تكرور وكل وَاحِدَة من هَاتين القبيلتين لَا تنْسب إِلَى أَب وَلَا أم وَإِنَّمَا كانم اسْم بَلْدَة بنواحي غانة فَسُمي هَذَا الْجِنْس(5/102)
باسم هَذِه الْبَلدة وتكرور اسْم للْأَرْض الَّتِي هم فِيهَا وَسمي جنسهم باسم أَرضهم اه
قلت وَكَانَ من كانم الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الكانمي الْأسود الشَّاعِر وَهُوَ الَّذِي دخل على يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي فأنشده
(أَزَال حجابه عني وعيني ... ترَاهُ من المهابة فِي حجاب)
(وقربني تفضله وَلَكِن ... بَعدت مهابة عِنْد اقترابي)
وَأهل كانم هم أهل مملكة برنو الْمُجَاورَة لإفريقية من جِهَة قبلتها كَمَا قُلْنَا وَكَانَت لَهُم مَعَ الدولة الحفصية فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَمَا بعْدهَا مهاداة ومواصلة كَمَا كَانَ لأهل مَالِي مَعَ بني مرين
قلت وَمن أهل برنو الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الله البرنوي شيخ الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي فَارس عبد الْعَزِيز الدّباغ الْمَوْضُوع فِي مناقبه كتاب الذَّهَب الإبريز
واتصل أَمر أهل برنو على الانتظام إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَعَ الْمَنْصُور مَا نذكرهُ وكل هَؤُلَاءِ الْأُمَم كَانُوا على دين الْإِسْلَام قَدِيما كَمَا رَأَيْت وَكَانَ فيهم الْعلمَاء والصلحاء والأدباء وَالشعرَاء كَمَا عَلمته آنِفا وتعلمه فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بَابا السوداني فِي تَقْيِيده الْمُسَمّى بمعراج الصعُود أَن أهل السودَان أَسْلمُوا طَوْعًا بِلَا اسْتِيلَاء أحد عَلَيْهِم كَأَهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي مَا سمعنَا قطّ أَن أحدا استولى عَلَيْهِم قبل إسْلَامهمْ وَمِنْهُم من هم قدماء الْإِسْلَام كَأَهل مَالِي أَسْلمُوا فِي الْقرن الْخَامِس أَو قربه وكأهل برنو وسغاي اه وَقد علمت أَن أهل غانة تقدم إسْلَامهمْ على هَذَا التَّارِيخ وَالله تَعَالَى أعلم ولنرجع إِلَى مَا كُنَّا بصدده من أَخْبَار الْمَنْصُور فَنَقُول(5/103)
وُصُول هَدِيَّة صَاحب برنو إِلَى الْمَنْصُور بِحَضْرَة فاس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من بيعَته لَهُ والتزام طَاعَته
كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله مسعودا محظوظا كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ سَابِقًا وَكَانَ من سعادته مَا هيأ الله لَهُ من مهاداة صَاحب مملكة برنو ومخاطبته لَهُ حَتَّى كَانَ ذَلِك سَببا فِي مبايعته لَهُ وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَكَانَ من خبر ذَلِك مَا حَكَاهُ فِي مناهل الصَّفَا قَالَ وَفِي سنة تسعين وَتِسْعمِائَة ورد على الْمَنْصُور الْخَبَر وَهُوَ بِمَدِينَة فاس بقدوم رَسُول صَاحب مملكة برنو من مُلُوك السودَان وجلب فِي هديته مَا جرت عَادَتهم أَن يجلبوه من فتيَان العبيد وَالْإِمَاء وَكسَاء السودَان وطرفه وَكَانَ من ذَلِك عدد كثير يناهز المئين فَوَافى الْمَنْصُور بعسكره على رَأس المَاء من ساحة فاس وَكَانَ يَوْم ملاقاته يَوْمًا مشهودا حسنا وأبهة وجلالة جلس نَصره الله تَعَالَى بالقبتين التوأمين المضروبتين أَمَام السياج الْمُحِيط بقبابه وَهُوَ آفراك واستوقف الموَالِي والمماليك سماطين من التوأمين إِلَى الْقبَّة الْعَرَبيَّة ثمَّ مِنْهَا إِلَى فسطاط الْجُلُوس الْمَعْلُوم بالديوان ثمَّ مِنْهُ إِلَى بَاب المعسكر القبلي وأتى بالرسول يخترق السماطين حَتَّى نزل بالديوان وَكَانَ الْمَلأ من أكَابِر الدولة وصدور المملكة جُلُوسًا وكرسي المملكة وسرير الْخلَافَة مَنْصُوبًا بِهِ والمهابة قد أخرست الألسن وأخشعت الْقُلُوب والأبصار فَجَلَسَ الرَّسُول هُنَالك مَلِيًّا ثمَّ توجه بِهِ على سَبِيل الترقي إِلَى الْقبَّة الْعَرَبيَّة فَجَلَسَ بهَا ثمَّ جَاءَ الْإِذْن الْكَرِيم بإيصاله إِلَى مقرّ أَمِير الْمُؤمنِينَ بالتوأمتين فَوقف بَين يَدَيْهِ وتشرف بِالنّظرِ إِلَى طلعته السعيدة فَأدى الرسَالَة وَقضى فرض التهنئة وَسنة الْهَدِيَّة وأعرب عَن مَقَاصِد مرسله واعترف للمملكة الْعَظِيمَة بِحَقِّهَا وَأظْهر من الخضوع والتملق والاستكانة والخدمة والطواعية مَا أوصاه بِهِ مرسله ثمَّ توجه بِهِ إِلَى معسكر ولي الْعَهْد وتاج الْإِسْلَام وكافل الْأمة بعد وَالِده الْمولى الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون بِاللَّه وَكَانَ لصق معسكر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِرَأْس المَاء فَأَشْرَف الرَّسُول على دنيا أُخْرَى وأبهة مدهشة ومحلة هائلة فَوقف موقف الْحيرَة واستدرج إِلَى أَن وصل لقباب ولي الْعَهْد ومضاربه وَكَانَ قد قعد لَهُ(5/104)
بفسطاط جُلُوسه أفخم قعُود وَلما استؤذن عَلَيْهِ ووقف بَين يَدَيْهِ هَنأ وحيى وفدى وَانْصَرف عَنهُ إِلَى مَحل نُزُوله بالقصبة من فاس وأدر عَلَيْهِ من الإنعام وَالْإِكْرَام مَا لم يكن لَهُ فِي حِسَاب
وَكَانَ من أغراض الرسَالَة الَّتِي أنفذه بهَا سُلْطَانه طلب المدد من أَمِير الْمُؤمنِينَ بالعساكر والأجناد وعدة البنادق ومدافع النَّار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودَان من الْكفَّار وَكَانَ هَذَا الرَّسُول قد وَفد قبل على سُلْطَان التّرْك بالإصطنبول السُّلْطَان مُرَاد العثماني يطْلب مِنْهُ المدد لجهاز كفار السودَان فأخفق سَعْيه وَلم يحصل على طائل فوجهه فِي هَذِه النّوبَة إِلَى ملك الْمغرب يطْلب مِنْهُ المدد وَلما قرئَ كِتَابه على أَمِير الْمُؤمنِينَ اتّفق أَن وَقع بَينه وَبَين كَلَام الرَّسُول اخْتِلَاف بَين وتباين وَاضح فَكَانَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب خلاف مَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام الرَّسُول جر إِلَيْهِم ذَلِك توغلهم فِي الْجَهْل والغباوة وَعدم من يحسن الْإِعْرَاب عَن مقاصدهم من فرسَان الْإِنْشَاء وَالْكِتَابَة لطموس معالم الْعُلُوم عِنْدهم على الْجُمْلَة وقارن ذَلِك مَا كَانَ من تَوْجِيه أَمِير الْمُؤمنِينَ عساكره لتدويخ قطري توات وتيكورارين وأمل أَن يجعلهما ركابا لبلاد السودَان والاستيلاء على ممالكها الَّتِي وَجه إِلَيْهَا عساكره بعد ذَلِك فبلغت مملكة مَالِي عَظِيم السودَان إِلَى أَن وَردت من نيلها على مَائه مرحلة من ثغور الْمغرب فاغتنم الْمَنْصُور لذَلِك اخْتِلَاف الرَّسُول والرسالة وَبنى عَلَيْهِ مَا اعْتد بِهِ على صَاحب برنو وَرجع الرَّسُول إِلَى مرسله بعد مكافأته وتوجيه هَدِيَّة من عتاق الْخَيل وأشرافها بكسي من ملابس الْخلَافَة وَأَسْبَاب أخر وَلما بلغ الرَّسُول وَألقى المعذرة إِلَى سُلْطَانه اسْتَأْنف الْهَدِيَّة وأعرب إِذْ ذَاك عَن مُرَاده ورد الرَّسُول ثَانِيَة إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فوافاه بِحَضْرَتِهِ وَدَار خِلَافَته من مراكش فأزال اللّبْس وَبَين الْغَرَض وَصرح بِالْمَقْصُودِ فَلَمَّا تحقق الْمَنْصُور بِقَصْدِهِ صدع لَهُ بِالْحَقِّ وَالدُّعَاء إِلَى الَّتِي هِيَ أقوم وطالبهم بالبيعة لَهُ وَالدُّخُول فِي دَعوته النَّبَوِيَّة الَّتِي أوجب الله عَلَيْهِم وعَلى جَمِيع الْعباد فِي أقطار الْبِلَاد الانقياد إِلَيْهَا وَقرر لَهُم بِلِسَان السّنة النَّاطِق وَالْكتاب الْمنزل على جده الصَّادِق أَن الْجِهَاد الَّذِي ينتحلونه ويظهرون الْميل إِلَيْهِ وَالرَّغْبَة فِيهِ لَا يتم لَهُم(5/105)
فَرْضه وَلَا يكْتب لَهُم علمه مَا لم يستندوا فِي أَمرهم إِلَى إِذن من إِمَام الْجَمَاعَة الَّذِي اخْتصَّ الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بوصفه إِذْ هُوَ الكافل لهَذِهِ الْأمة ووارث تراث النُّبُوَّة وقيضه الله لحماية بَيْضَة الْإِسْلَام وَخَصه بالشرف الْقرشِي الَّذِي هُوَ شَرط فِي الْخلَافَة بِإِجْمَاع من عُلَمَاء الْإِسْلَام وأئمة السّنة الْأَعْلَام وألزمهم الْقيام فِي أقطارهم بدعوته ومجاهدة أعدائهم الْكفَّار بكلمته وعلق لَهُم أيده الله الْإِمْدَاد على الْبيعَة وَالْوَفَاء بِهَذَا الشَّرْط فَالْتَزمهُ بالرسول وَزعم أَيْضا عَن سُلْطَانه بِالْقبُولِ والإجابة وَطلب من السُّلْطَان نُسْخَة يتَوَجَّه بهَا من صُورَة الْبيعَة إِذْ لَيْسَ ببلدهم من يحسن الْإِنْشَاء ويوفي الْغَرَض لِئَلَّا يَخْلُو بِشَيْء من الشُّرُوط الَّتِي شارطتهم عَلَيْهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأنشأها كَاتب الدولة أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي وَنَصهَا الْحَمد الله الَّذِي أَعلَى لكلمة الْحق منارا يسامي فِي مطالعها النُّجُوم وأزاح بهَا عَن شمس الْهِدَايَة المنيرة غياهب الغباوة المدلهمة وسحائب الغواية المركوم وَحي على الْفَلاح بهَا دَاعِي التَّوْفِيق الَّذِي نشر للنجاح كِتَابه الموقوت واستنجز للسعادة أجلهَا الْمَعْلُوم وَشرف هَذَا الْمَوْجُود والعالم الْمَوْجُود بالخلافة النَّبَوِيَّة والإمامة الحسنية العلوية الَّتِي صرفت الْوُجُوه إِلَى قبلتها الْمَشْرُوعَة واستبان الْحق بتبلج الصَّباح فِي مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة وَنسخ بدولتها الغراء دوَل الحيف الَّتِي هِيَ بِسيف النُّبُوَّة المصلت مقطوعه وبلسان السّنة مدفوعه وقوض بهَا مباني الادعاء الَّتِي هِيَ على غير أساس الشَّرْع الصَّحِيح مدفوعه وَفرق بكلمتها الْمَجْمُوعَة على التَّوْحِيد فرق التَّثْلِيث الَّتِي هِيَ على مشاقة الله وَرَسُوله تَابِعَة ومتبوعة وخلع بظهورها على أعطاف الحنيفية السمحة رِدَاء الْعِزّ الفضفاض واستل بتأييدها للدّين المحمدي سيف الأنفة والامتعاض وَأَشَارَ للأعادي من بأسها المروع بِلِسَان الْحَيَّة النضناض وفجر للْمُؤْمِنين ينبوع رحمتها الْجَارِي على حصا عدلها الرضراض ومهد بسيوفها المنتضاة الْآفَاق والأقطار تمهيدا أَزَال عَن حكمه الِاعْتِرَاض وجلا بأنوارها المتألقة سدف الْجَهَالَة الَّتِي ادلهم جوها وغيم وأسعد الْوُجُود بيمنها الَّذِي لبث فِي أكناف مجدها وخيم وَقضى لهاب بتراحم الأَرْض وَمن عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله إِلَى عِيسَى ابْن مَرْيَم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم(5/106)
الَّذِي تعاضدت الْبَرَاهِين القاطعة على صدق رسَالَته البارعة ونهج الدّين القويم طَريقَة الْحق المثلى ومادته الشارعة وسوغ لمن آمن بِهِ مناهل الْهدى النميرة الزلَال وموارده العذبة ومشارعه نَبِي الرَّحْمَة وشفيع الْأمة وعَلى آله وَأَصْحَابه الْكِرَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام وَالدُّعَاء لمولانا الإِمَام الْعلوِي الْهمام أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ نجل سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين وسليل الْوَصِيّ والسبطين وَبعد فَإِنَّهُ لما أذن الله فِي ليل الْجَهَالَة أَن ينجاب وَفِي شمس الْحق الوهاجة أَن يرْتَفع عَنْهَا الْحجاب وَفِي الْعِزّ الْخلق الجلباب أَن يعود إِلَى الشَّبَاب وَفِي النجاح والاستقامة أَن يفتح لَهما الْبَاب وَفِي الْإِمَارَة أَن تستند إِلَى السّنة وَالْكتاب وتتعلق من الشَّرْع بِأَسْبَاب تدارك الله سُبْحَانَهُ الْوُجُود وأعز الْعَالم الْمَوْجُود واستطارت الْأَنْوَار المضيئة للأغوار والنجود بِطُلُوع شمس الْخلَافَة النَّبَوِيَّة والإمامة الهاشمية العلوية فَفَاضَتْ على أَدِيم البسيطة أنوارها وارتفع إِلَى حَيْثُ السها والفرقدين منارها وتبلج بالأصباح نَهَارهَا ولاحت فِي سَمَاء الْمجد بدورها وأقمارها وكادت تنهب نُجُوم السَّمَاء أتباعها وأنصارها وانتشرت فِي الْآفَاق والأقطار على الْبعد والقرب آثارها وهزت عطف الزَّمَان انتشاء مناقبها وأخبارها وفاض ببركتها على أكناف الْمَعْمُور يمها الزاخر وتيارها خلَافَة ينتمي إِلَى النُّبُوَّة عنصرها وتستنبط من رِسَالَة الْوَحْي أسطرها ويناط بعروتها الوثقى خنصرها وإمامة عَليّ وَليهَا وَالله نصيرها والسبط بدرها الَّذِي حَيَّاهُ منبرها وسريرها وَالْحَمْد لله الَّذِي اصْطفى من هَذِه الدوحة النَّبَوِيَّة الشماء والشجرة الطّيبَة الهاشمية الَّتِي أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء إِمَامًا ألْقى الله لَهُ فِي الْقُلُوب حبا جميلا وَمولى جعله الله على مرضاته سُبْحَانَهُ عَلامَة ودليلا وَخَلِيفَة استرعاه فَكَانَ بِحسن الرَّعْي لخلقه وعباده كَفِيلا وانتضى من بأسه وبسالته لحماية حمى الشَّرِيعَة حساما صقيلا مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَخَلِيفَة الله فِي الْأَرْضين وسليل خَاتم النَّبِيين ووارث الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ المفترضة طَاعَته على الْخلق أَجْمَعِينَ والممنون بإمامته المقدسة على الْعَالمين بَحر الندى والباس وعصمة الله للنَّاس أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه مَوْلَانَا أَبَا الْعَبَّاس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة(5/107)
الطيبين الطاهرين وَطيب بِأَنْفَاسِ الْمَغْفِرَة لحودهم أَجْمَعِينَ إِمَام تهتز لذكره أعطاف المنابر وتتقلد من شرِيف دَعوته أبهى من نَفِيس الْجَوَاهِر وتستضيء الْبِلَاد بإكليل شرفه الزَّاهِر وتسكن الْعباد تَحت ظلّ رَحمته الوارف الوافر أبقى الله أَيَّامه الغر بَقَاء يصحب النَّصْر دَوَامه وخلد لَهُ ولأعقابه هَذَا الْأَمر الْكَرِيم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلما طلعت أيده الله على هَذِه الأصقاع الزنجية طلائع إِمَامَته النَّبَوِيَّة وخلافته ولاحت فِي سمائها شهب مناقبه المنيفة الدَّالَّة على فخامة شرفه وأنافته وتليت لمجده الْآيَات الْبَينَات الَّتِي تشهد لَهُ بتراث الرسَالَة وتقضي لَهُ على الْإِسْلَام وعَلى الْأَنَام بِحكم الْوَلَاء وَالْكَفَالَة وأوضح الله سُبْحَانَهُ للنَّاس من اعْتِقَاد وجوب طَاعَته والاقتداء بإمامته والانقياد لدعوته وتقليد بيعَته مَا جَاءَ بِهِ كِتَابه الْحَكِيم ووردت بِهِ سنة نبيه الْكَرِيم كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تزَال الْخلَافَة فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان) وكما ورد فِي صَحِيح الْخَبَر (إِن الْخلَافَة فِي قُرَيْش وَالْقَضَاء فِي الْأَنْصَار وَفِي الْحَبَشَة الْأَذَان) وَيدل على هَذَا تعاضد الْخَبَر والعيان فَلَا ناكر أَن لَيْسَ فِي الْمَعْمُور على هَذَا الشَّرْط غَيره أيده الله من ثَان فَنَهَضَ بِدَلِيل الشَّرْع أَنه إِمَام الْجَمَاعَة حَقًا المستوفي شُرُوطهَا وَالْوَارِث للخلافة النَّبَوِيَّة والحريص على بَيْضَة الْإِسْلَام أَن يحوطها وَأَن الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر على الْإِطْلَاق غَيره دعِي ومحاوله دون إِذْنه الْمَشْرُوع بدعي فَتعين لذَلِك أَن الرُّجُوع إِلَى الْحق فَرِيضَة واستبان بِمَا تقرر وَعلم أَن إِمَارَة لَا تلاقي فِي الشُّرُوع محلهَا الْمَشْرُوع منبوذة مرفوضة وعروتها لذَلِك مفصومة ومنقوضة فَانْتدبَ لهَذِهِ الْآثَار صَحِيح الْأَخْبَار وَصرف إِلَى رضى الله الْعِنَايَة ووقف من الشَّرَائِع الْمَشْرُوعَة حَيْثُ مَرْكَز الرَّايَة ومنتهى الغية الرئيس أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس أكْرمه الله انتداب من وقفت بِهِ مَطِيَّة التَّوْفِيق على حَضْرَة الْإِخْلَاص والتصديق وَأخذت بزمامه السَّعَادَة إِلَى حَيْثُ الْفَوْز بِرِضا الله ورضا رَسُوله حقيق والتأييد صَاحب ورفيق وَروض الآمال أنيق وَرَاح الرَّاحَة والاطمئنان عَتيق إِلَى تقلد إِمَام بيعَة الْجَمَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه زَاده الله تقديسا وتشريفا الَّتِي تؤسس إِن شَاءَ الله على تقوى من الله ورضوان وَتشهد عقدهَا الْكَرِيم مَلَائِكَة الرَّحْمَن وآثر أسعده الله أَن يُؤَدِّي(5/108)
فَرضهَا الْمَعْدُود من فروض الْأَعْيَان وَحكمهَا الَّذِي توجه بِهِ خطاب الشَّرْع الْعَام إِلَى القاصي والدان وينشر سنتها الْمَشْرُوعَة فِي صقعه وَمَا يَلِيهِ من الأصقاع وَالْبِقَاع بالسودان تقلدا يستضيء إِن شَاءَ الله بأنواره ويستشرف بِهِ للعز المكين على مناره ويخمد بِهِ للْجَهْل جذوة ناره وتنتظم بِهِ فِي اتِّبَاع الْحق زمر أنصاره ويجتلي بِهِ صُورَة إنسانه ويستوجب من الله عوارف صنعه وإحسانه ويرهف بِهِ لِلْعَدو على العزمات حد سَيْفه وسنانه ويقرع بِهِ لرضا الله بَاب الْقبُول ويتضاعف لَهُ ببركته الْعَمَل المقبول ويستنشق بمشهد عقده الْكَرِيم نواسم النُّبُوَّة وَيعود لَهُ بِهِ الزَّمَان للشباب والفتوة وَيرْفَع بِهِ منار الْإِمَارَة على قَوَاعِد الشَّرْع الْوَثِيقَة ويعدل بِهِ فِي كل الْأَحْوَال عَن الْمجَاز إِلَى الْحَقِيقَة وتتسنى لَهُ بِهِ وَهِي الْمَقْصد الْأَسْنَى والخاتمة الْحسنى الأسوة الْحَسَنَة بإمامي بني الْعَبَّاس السفاح والمنصور وَيحيى سنتهما الَّتِي نقلهَا ثِقَات الْأَعْلَام والصدور فِي مبايعتهما الإِمَام الْخَلِيفَة الْمهْدي الْأَكْبَر سليل سيد الْمُرْسلين وجد مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي رأى إِمَام دَار الْهِجْرَة أَنه بتراث الْخلَافَة النَّبَوِيَّة أولى وأحق وَفِي منصب الْإِمَامَة على شَرطهَا أعرق وبسريرها ومنبرها أليق فتأكد للمنتدب أكْرمه الله بِهَذِهِ الْآثَار الشَّرِيفَة والمناقب المنيفة الْعَزْم وَالْقَصْد وأنجز لَهُ فِيمَا أَرَادَهُ صَادِق الْوَعْد وساعد نِيَّته الصَّالِحَة فِيهِ السعد فَبَايعهُ أَعلَى الله يَده على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وَالْعدْل الَّذِي يشيد للمجد أَرْكَانه مبايعة شايعه على عقدهَا الْكَرِيم أكْرمه الله أَتْبَاعه وجموعه وأشياعه بِحكم الْوِفَاق والاتفاق والمواثيق الشَّدِيدَة الوثاق وبجميع الْأَيْمَان الصادقة الْأَيْمَان أعْطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وَرفع بهَا العقيرة مناديهم عارفين أَن يَد الله فِيهَا فَوق أَيْديهم وأمضوها على السّمع وَالطَّاعَة والانتظام فِي سلك الْجَمَاعَة إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر واليسر والعسر والرخاء والشدة والأزمان المشتدة والتزموا شُرُوطهَا طَوْعًا واستوعبوها جِنْسا ونوعا بنيات مِنْهُم خَالِصَة صَادِقَة وعدة من الله لَهُم بِالْخَيرِ سَابِقَة وسعادة بِالْحُسْنَى لاحقة أبرموا عقدهَا وأحكموا وعدها وعهدها على حكم الْكتاب وَالسّنة وَالْجَمَاعَة وَالْأَخْذ بسنتها أعقابا من أعقاب وأحقابا أثر أحقاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة(5/109)
واقتراب السَّاعَة لَا يلْحق عقدهَا الْكَرِيم فسخ وَلَا يعقبه بحول الله نسخ وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ نقض وَلَا نكث وَلَا يشوبه بشوائب الشُّبُهَات بحث وَأجْمع على هَذَا أسعده الله بالمواثيق المستفيضة والأيمان اللَّازِمَة الْمُغَلَّظَة هُوَ وَأَتْبَاعه إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا وحتموه على أنفسهم حتما مقضيا واعتقده اعتقادا أبديا وعرضوا على الْتِزَامه بمشهد عقده الْمُبَارك أفرادا وأزواجا وحدانا وأفواجا وَأشْهدُوا على الْوَفَاء بِهِ بأيمانهم الصادقة البرور ومواثيقهم المثلجة للصدور قائلين بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس الْعَلِيم بالخفيات والخبير بالآجال والوفيات وبجميع الرُّسُل الْكِرَام والأنبياء وملائكة الرَّحْمَن فِي الأَرْض وَالسَّمَاء وعَلى أَنهم إِن حادوا عَن هَذَا السَّبِيل وانقادوا لدعاء دَاعِي التَّغْيِير والتبديل أَو انحرفوا عَن هَذَا الْمِنْهَاج وسنته فهم برَاء من حول الله وقوته وَمن دينه وعصمته ومستوجبون لعذابه وغضبه وَسخطه ونقمته وبعداء من رَحمته وَمن شَفَاعَة نبيه الْكَرِيم يَوْم الْقِيَامَة لأمته وَأَنَّهُمْ خالعون لربقة الْإِسْلَام وخارجون عَن سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْلنُوا بِهَذَا إعلانا تعضده النَّجْوَى وأدوه بِشُرُوطِهِ الْجَارِيَة على مَذَاهِب الْفَتْوَى وَأَحْكَامه اللَّازِمَة لكلمة التَّقْوَى استرضاء لله وللخلافة النَّبَوِيَّة والإمامة العلوية ورياضة للنفوس على بيعتها الْمُبَارَكَة الميمونة النقيبة وَاسْتِيفَاء لشروطها وأقسامها الْوَاجِبَة والمستحبة والمندوبة مستسلمين إِلَى الله بالقلوب الخاشعة ومتضرعين إِلَى بَابه الْكَرِيم بالأدعية النافعة فِي أَن يعرفهُمْ خير هَذَا العقد الْكَرِيم والعهد الصميم بَدَأَ وختاما وَأَن يمنحهم بركته الَّتِي تصحبهم حَالا ودواما لَا رب غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره أشهد على نَفسه بِمَا فِيهِ وعَلى رَعيته الرئيس أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس أسعده الله وأكرمه وبتاريخ الْمحرم الْحَرَام من عَام تسعين وَتِسْعمِائَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة انْتهى
وَلما كتبت هَذِه الْبيعَة دفعت للرسول وَأكْرم وكافأه أَمِير الْمُؤمنِينَ على هَدِيَّة سُلْطَانه وَتوجه إِلَى بِلَاده بِجَوَاب مرسله وَلم يلبث أَن رجعه سُلْطَانه ثَالِثَة وَوجه مَعَه هَدِيَّة ورسالة وخاض القفر إِلَى دَار الْخلَافَة فوصل إِلَى بِلَاد تيكورارين وَهُنَاكَ اعترضته منيته فاعتل وَهلك فأشخص أولو الْأَمر(5/110)
الَّذين بتيكورارين الْهَدِيَّة مَعَ رفقائه القادمين مَعَه من عِنْد سُلْطَانه فوصلوا بهَا إِلَى حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ بمراكش وَقدمُوا إِلَيْهِ رسالتهم وهديتهم فتقبلها بِقبُول حسن وَتمّ السرُور وَعظم الحبور واستقامت للمنصور الْأُمُور
بعث الْمَنْصُور وَرَسُوله بالدعوة إِلَى آل سكية وَكَيْفِيَّة ذَلِك
لما أدّى الْوَفْد الواردون على الْمَنْصُور من السُّلْطَان أبي الْعَلَاء صَاحب مملكة برنو مَا قدمُوا لأَجله ردهم الْمَنْصُور إِلَى صَاحبهمْ مكرمين وانتخب رَسُولا عَارِفًا مجربا مِمَّن لَهُم بَصِيرَة بأحوال السودَان فَبَعثه مَعَهم عينا يَأْتِيهِ بأخبار الْبِلَاد حَتَّى كَأَنَّهُ يشاهدها وَبعث مَعَه رِسَالَة إِلَى السُّلْطَان إِسْحَاق بن دَاوُد من آل سكية صَاحب مملكة كاغو من أَرض السودَان يَأْمُرهُ فِيهَا أَن يرتب على مَعْدن الْملح الَّذِي بتغازي بَين الْمغرب والسودان وَمِنْه يحمل الْملح إِلَى أقطار السودَان وظيفا بِأَن يَجْعَل كل من يحمل مِنْهُ شَيْئا من الواردين عَلَيْهِ مِثْقَالا من الذَّهَب الْعين لكل حمل تستعين بذلك الْخراج عَسَاكِر الْمُسلمين على جِهَاد الْكفَّار لِأَن ذَلِك بَحر لَا سَاحل لَهُ
وَكَانَ الْمَنْصُور لم يكاتبه فِي ذَلِك حَتَّى أستفتى عُلَمَاء إيالته وأشياخ الْفتيا بهَا فأفتوه بِمَا هُوَ الْمَنْصُوص للْعُلَمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم من أَن النّظر فِي الْمَعَادِن مُطلقًا إِنَّمَا هُوَ للْإِمَام لَا لغيره وَأَنه لَيْسَ لأحد أَن يتَصَرَّف فِي ذَلِك إِلَّا عَن إِذن السُّلْطَان أَو نَائِبه وَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بِتِلْكَ الْفَتَاوَى مَعَ الرسَالَة الموجه بهَا مَعَ الرَّسُول وَكَانَت من إنْشَاء الْعَلامَة الأديب مفتي الحضرة المراكشية الْمولى أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف السجلماسي لِأَن كَاتب الْإِنْشَاء أَبَا فَارس عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الفشتالي كَانَ مَرِيضا يَوْمئِذٍ وَلما فرغ الشريف الْمَذْكُور من إنشائها بَقِي عَلَيْهِ الصَّدْر فَلم يدر كَيفَ يَقُول فِي مُخَاطبَة إِسْحَاق سكية وَلَا كَيفَ يمدحه وَهل يتوغل فِي الْمَدْح أَو يتوسط فَكتب أَبُو مَالك حِين تحير فِي ذَلِك إِلَى الْمَنْصُور بِمَا نَصه أيدكم الله وَنصر(5/111)
أعلامكم إِن مُخَاطبَة هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ فِي مرتبَة مماليك الحضرة المولوية أَمر تلعثم فِيهِ لساني ووقف عَن خوض لجته بناني لِأَن النأي عَن هَذِه المحجة قد مد بيني وَبَينهَا حِجَابا وأغلق فِي وَجْهي بَابا فَلَا آمن من أَن أقتحم الْوُقُوع فِي تَفْرِيط أَو إفراط وَخير الْأُمُور لَو عَلمته الأوساط لَكِن لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته إِلَّا بعد علم الطَّرفَيْنِ وَالْعَبْد مَحْجُوب عَن ذَلِك دون مين فَتركت أيدكم الله الصَّدْر لمن هُوَ بِهِ مني أقعد وتحاميت عقده لمن هُوَ لَهُ أعقد أبي فَارس عبد الْعَزِيز الَّذِي فاضت عَلَيْهِ أنواركم وأضاءت لَهُ سبل هَذَا الْمخبر أقماركم وَإِلَّا قرعت هواتف لِسَان الْحَال سَمْعِي بقول الْقَائِل
(يَا باري الْقوس بريا لَيْسَ يُحسنهُ ... لَا تظلم الْقوس أعْط الْقوس باريها)
وَلما بلغت رِسَالَة الْمَنْصُور إِلَى السُّلْطَان إِسْحَاق سكية واطلع عَلَيْهَا شقّ عَلَيْهِ ذَلِك وماطل فِي الْجَواب وَحَيْثُ أَبْطَأَ الرَّسُول فطن الْمَنْصُور لما انطوى عَلَيْهِ سكية من عدم إجَابَته لما طلب من الوظيف على الملاحة فَاشْتَدَّ غَضَبه وعزم على تَوْجِيه العساكر إِلَى السودَان فَهَذَا هُوَ الْحَامِل لَهُ على قصد تِلْكَ الْبِلَاد وتدويخها وَلما فتح تيكورارين وتوات قوي عزمه على ذَلِك وطمحت نَفسه للاستيلاء على مَا هُنَالك على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
مفاوضات الْمَنْصُور الْمَلأ من أَصْحَابه فِي غَزْو آل سكية وَمَا دَار بَينهم فِي ذَلِك
قَالَ الفشتالي رَحمَه الله لما رجعت أرسال الْمَنْصُور إِلَيْهِ من عِنْد إِسْحَاق سكية وأعلموه بمقالته وامتناعه واحتجاجه بِأَنَّهُ أَمِير نَاحيَة والمنصور أَمِير نَاحيَة وَأَنه لَا تجب طَاعَته عَلَيْهِ شاور الْمَنْصُور أَصْحَابه وَجمع أَعْيَان دولته والتقى أهل الرَّأْي والمشورة فَاجْتمعُوا وَكَانَ يَوْم اجْتِمَاعهم يَوْمًا مشهودا فَقَالَ لَهُم الْمَنْصُور إِنِّي عزمت على منازلة أَمِير السودَان صَاحب كاغو(5/112)
وَبعث الجيوش إِلَيْهِم لتجتمع كلمة الْمُسلمين وتتحد الرّعية وَلِأَن بِلَاد السودَان وافرة الْخراج كَثِيرَة المَال يتقوى بهَا جَيش الْإِسْلَام ويشتد ساعد كتيبته مَعَ أَن صَاحب أَمرهم وَالْمُتوَلِّيّ لسلطنتهم الْيَوْم مَعْزُول عَن الْإِمَارَة شرعا إِذْ لَيْسَ بقرشي وَلَا اجْتمعت شُرُوط السلطنة فِيهِ الْعُظْمَى فَلم نثل الْمَنْصُور مَا فِي كِنَانَته وَأبْدى مَا فِي خبيئته وَعرض مَا فِي عيبته سكت الْحَاضِرُونَ وَلم يراجعوا بِشَيْء فَقَالَ لَهُم أسكتم استصوابا لرأيي أَو ظهر لكم خلاف مَا ظهر لي فَأجَاب كلهم بِلِسَان وَاحِد ورأي مُتَّفق إِن ذَلِك رَأْي عَن الصَّوَاب منحرف وَأَنه بمهامه عَن الآراء السديدة وَلَا يخْطر ببال السوقة فَكيف بالملوك وَذَلِكَ لِأَن بَيْننَا وَبَين السودَان مهامه فيحا تقصر فِيهَا الخطا وتحار فِيهَا لقطا وَلَيْسَ فِيهَا مَاء وَلَا كلأ فَلَا يَتَأَتَّى السّفر فِيهَا وَلَا اعتساف شَيْء من طريقها مَعَ كَونهَا مخوفة مَمْلُوءَة الجوانب ذعرا وَأَيْضًا فَإِن دولة المرابطين على ضخامتها ودولة الْمُوَحِّدين على عظمها ودولة المرينيين على قوتها لم تطمح همة وَاحِد مِنْهُم لشَيْء من ذَلِك وَلَا تعرضوا لما هُنَالك وَمَا ذَاك إِلَّا لما رَأَوْا من صعوبة مسالكها وَتعذر مداركها وحسبنا أَن نقتفي أثر تِلْكَ الدول فَإِن الْمُتَأَخر لَا يكون أَعقل من الأول فَلَمَّا قضى أُولَئِكَ الأقوام كَلَامهم وأبدوا لَهُ رَأْيهمْ وملامهم قَالَ لَهُم الْمَنْصُور إِن كَانَ هَذَا غَايَة مَا استضعفتم بِهِ أَمْرِي وفيلتم بِهِ رَأْيِي فَلَيْسَ فِيهِ حجَّة وَلَا مَا يخدش فِيمَا عِنْدِي أما قَوْلكُم بَيْننَا وَبَينهَا صحار مخوفة ومفاوز مهلكة لجدوبتها وعطشها فَنحْن نرى التُّجَّار على ضعفهم وَقلة استعدادهم يشقون تِلْكَ الطّرق فِي كل وَقت ويخوضون فِي أحشائها مشَاة وركبانا وَجَمَاعَة ووحدانا وَلم تَنْقَطِع قطّ ركاب التُّجَّار عَنْهَا وَأَنا أقوى أهبة مِنْهُم وللجيش همة لَيست للقوافل وَأما قَوْلكُم إِن من كَانَ قبلنَا من الدول الطنانة لم تطمح أَبْصَارهم لذَلِك فاعلموا أَن المرابطين صرفُوا عنايتهم لغزو الأندلس ومقابلة الإفرنج وَمن بذلك السَّاحِل من الأروام والموحدون اقتفوا سبيلهم فِي ذَلِك وَزَادُوا بِحَرب ابْن غانية والمرينيون كَانَت غَالب وقائعهم مَعَ بني عبد الواد بتلمسان وَنحن الْيَوْم قد انسد عَنَّا بَاب الأندلس باستيلاء الْعَدو الْكَافِر عَلَيْهَا(5/113)
جملَة وانقطعت عَنَّا حروب تلمسان باستيلاء التّرْك عَلَيْهَا ثمَّ إِن أهل تِلْكَ الدول لَو أَرَادوا مَا أردنَا لصعب عَلَيْهِم لِأَن جيوشهم كَانَت فُرْسَانًا رامحة ورماة ناشبة وَلم يكن عِنْدهم هَذَا البارود وعساكر النَّار المرهبة الصَّوَاعِق وَأهل السودَان لَيْسَ عِنْدهم الْآن إِلَّا الرماح وَالسُّيُوف وَهِي لَا تقاوم هَذِه المدافع المستحدثة فمقاتلتهم سهلة وحربهم أيسر من كل شَيْء وَأَيْضًا فَإِن بِلَاد السودَان أَنْفَع من إفريقية فالاشتغال بهَا أولى من منازلة التّرْك لِأَنَّهُ تَعب كثير فِي نفع قَلِيل فَهَذَا جَوَاب مَا عرض لكم وَلَا يحملنكم ترك الْمُلُوك الأول ذَلِك على استبعاد الْقَرِيب واستصعاب السهل فَإِنَّهُ كم ترك الأول للْآخر وَقد يفتح على الْمُتَأَخر بِمَا لم يفتح بِهِ على الْمُتَقَدّم فَلَمَّا فرغ الْمَنْصُور من خطابه وَأبْدى مَا فِي وطابه اسْتحْسنَ الْحَاضِرُونَ جَوَابه واستملحوا إِشَارَته واستجادوا رَأْيه وَقَالُوا لَهُ قد طبقت الْمفضل وألهمت الصَّوَاب وَلم تبْق لأحد مَا يَقُول وَصدق من قَالَ عقول الْمُلُوك مُلُوك الْعُقُول فانفصل الْجمع على الْبَعْث إِلَى السودَان ومناهضة أَهله ومتابعة الْمَنْصُور فِي رَأْيه عَلَيْهِ قلت وَفِي كَلَام الْمَنْصُور أَمْرَانِ يحتاجان إِلَى مزِيد بَيَان الأول مَا قَالَه من أَن الملثمين لم تكن لَهُم سلطنة على السودَان يَعْنِي بهم الَّذين أَقَامُوا بِأَرْض الْمغرب ودبروا أمره مثل يُوسُف بن تاشفين وبنيه فَلَا يرد عَلَيْهِ أَن الْأَمِير أَبَا بكر بن عمر غزا السودَان وَفتح مِنْهُ مسيرَة ثَلَاثَة أشهر لِأَن ذَلِك كَانَ بعد رُجُوعه إِلَى الصَّحرَاء واستقراره بهَا وإعراضه عَن ملك الْمغرب بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مر الثَّانِي مَا قَالَه من أَن البارود لم يكن فِي تِلْكَ الدول الفارطة يَعْنِي بِهِ لم يكن مَوْجُودا فِيهَا بِكَثْرَة بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ الْجَيْش عَن غَيره سَاعَة الْقِتَال فَلَا يرد عَلَيْهِ أَن ظُهُوره كَانَ فِي أَوَائِل الْمِائَة السَّابِعَة لأوّل دولة بني مرين كَمَا مر إِذْ ظُهُوره فِي تِلْكَ الْمدَّة كلا ظُهُور وَالله تَعَالَى أعلم بحقائق الْأُمُور(5/114)
استجازة الْمَنْصُور لعلماء مصر رَضِي الله عَنْهُم وتلمذه لَهُم
قَالُوا وَمن اعتناء الْمَنْصُور رَحمَه الله أَنه بعث إِلَى عُلَمَاء مصر يستجيزهم رَغْبَة فِي اتِّصَال حَبل السَّنَد واقتفاء لاحب ذَلِك الطَّرِيق الْأسد وَمِمَّنْ أجَازه الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ رَضِي الله عَنهُ وَمن بعض فُصُول إِجَازَته لَهُ قَوْله يمدح كتاب الْمَنْصُور إِلَيْهِ ويثني عَلَيْهِ بالفصاحة والبلاغة مَا نَصه وَلَقَد وصل إِلَى الْمثل العديم الْمِثَال المزري نظامه بعقود اللآل فَإِذا بِهِ السحر إِلَّا أَنه الْحَلَال وَلَو ادّعى أحد أَن من معجزات أَحْمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمد الله كراما كاتبين فِي زمَان نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بِكِتَاب كريم على أسلوب قويم يُرْسِلهُ إِلَى محب قديم من النبعة والصميم لم تكذب دَعْوَاهُ فَمَا من خارق فِي الْأمة إِلَّا وَهُوَ من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَال على علاهُ وَأما مَا شرفني بِهِ من طلب الْإِجَازَة فالبيت والْحَدِيث لَهُ وَلَكِن رب أَب أرسل إِلَى ابْنه على يَد عَبده عَطاء فَقبله وَإِلَيْهِ بأَمْره حمله وَحَيْثُ وَقع الْأَمر فَأمر مَوْلَانَا حتم وطاعته غنم فمولانا مجَاز من هَذَا الْعَهْد من جَمِيع مَا يجوز لهَذَا العَبْد بِجَمِيعِ مَا يجوز لَهُ وَعند رِوَايَته بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبر عِنْد أهل الْأَمر وَكَذَلِكَ مجَاز أهل الْعَصْر إجَازَة عَام بعام ليَكُون أَبنَاء الْوَقْت جَمِيعًا على مائدة فضل مَوْلَانَا وَتَحْت ظلال ذَلِك الإنعام فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَب فِي تَحْصِيل ذَلِك المرام وَكتب تحريرا فِي رَابِع عشْرين ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مُحَمَّد بن أبي الْحسن الصديقي سبط آل الْحسن اه
وَمِمَّنْ استجازه الْمَنْصُور أَيْضا من عُلَمَاء مصر الإِمَام الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى الْمصْرِيّ الشهير ببدر الدّين الْقَرَافِيّ صَاحب ذيل الديباج فَأَجَازَهُ إجَازَة عَامَّة بسط فِيهَا القَوْل ثمَّ خَتمهَا بقوله
(أجزت لمن تفضل واستجازا ... وبادر لاقتنا خير وحازا)
(وأبرز فِي سلوك الْعلم حَالا ... بِهِ من فضل مَوْلَانَا يجازى)
(إِمَام كَامِل غوث البرايا ... أَمِير الْمُؤمنِينَ حوى مجَازًا)(5/115)
(وَذَلِكَ بعد تشريفي بِأَمْر ... وَقصد للإجازة فاستجازا)
(فبادرت امتثالا قدر وسعي ... ومقتفيا مناهج من أجازا)
(وَقد أبديت حَقًا لَا محالا ... بِمَا صَار الإِمَام بِهِ مجَازًا)
(بِفَاتِحَة وَسنة خير هدى ... وسلسلة لمن حَاز امتيازا)
(بدار الْهِجْرَة الْعليا إِمَام ... بِمَا أبداه من فضل مجَازًا)
(وَأَرْجُو مِنْهُ يهدي لي دُعَاء ... لما أرجوه من خير مجَازًا)
(بخاتمة تبلغني مراما ... بجنات أَرَاهَا لي مفازا)
(وأشياخي يبلغهم رِضَاء ... ويواصلهم إِلَى خير يجازا)
تَجْدِيد الْمَنْصُور ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ الْمَأْمُون وَمَا وَقع فِي ذَلِك
قَالُوا وَفِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة جدد الْمَنْصُور الْبيعَة لوَلَده مُحَمَّد الشَّيْخ الملقب بالمأمون وَأَخذهَا لَهُ على إخْوَته خُصُوصا لأَنهم كَانُوا فِي الْبيعَة الأولى قبل الْبلُوغ فَأَرَادَ أَن يستوثق لَهُ مِنْهُم بعد الْبلُوغ حسما لمادة النزاع بَينهم فارتحل الْمَنْصُور من مراكش إِلَى تامسنا وَبعث الباشا عزوز بن سعيد الوزكيتي ليَأْتِيه بولِي عَهده الْمَذْكُور من فاس فتوافى القصدان بتامسنا وباشر الْمَنْصُور أَخذ الْبيعَة لَهُ بِنَفسِهِ وَحضر الْأَعْيَان وَأهل الْحل وَالْعقد وأحضر الْمُصحف الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ من ذخائر الْخُلَفَاء وأحضر الصحيحان لِلشَّيْخَيْنِ وَقُرِئَ ظهير الْبيعَة فَتَوَلّى قِرَاءَته الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي وبجنبه القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الشاطبي يُفَسر مَا أشكل من لفظ الظهير
وَلما أَخذ الْبيعَة أخر أَوْلَاده إِلَى غَد يَوْمهَا فَكَتَبُوا خطوطهم عَقبهَا بالموافقة على ذَلِك والالتزام لَهُ وَوَقع فِي رِسَالَة السُّلْطَان زَيْدَانَ لأبي زَكَرِيَّاء ابْن عبد الْمُنعم الإِمَام بِذكر هَذِه الْبيعَة فَقَالَ إِنِّي حضرت بيعَة مُحَمَّد الشَّيْخ صَاحب الْمغرب سامحه الله وَحضر أَوْلَاد السُّلْطَان فاستحلفهم لَهُ إِلَّا أَنا فَإِنَّهُ رَضِي الله عَنهُ قَالَ فلَان لَا يحلف لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيمَا نأمره بِهِ ونفعله وَعظم(5/116)
ذَلِك على إخوتي وَظَهَرت فِي وُجُوههم لأَجله الْكَرَاهِيَة اه
وَلما فرغ الْمَنْصُور من تَجْدِيد الْبيعَة رأى أَن يرشح كلا من أَوْلَاده للإمارة وَيقسم بَينهم الْبِلَاد حَتَّى لَا تبقى فِي نُفُوسهم إحن وَلَا تنطوي قُلُوبهم على ضغائن فعقد لأبي فَارس شَقِيق الْمَأْمُون على السوس وَسَائِر عمائره وَعقد لأبي الْحسن على مكناسة وَمَا والاها وَعقد لزيدان على تادلا ثمَّ عكس ذَلِك لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال فَنقل زَيْدَانَ إِلَى مكناسة وَنقل أَبَا الْحسن إِلَى تادلا وَلم يزَالُوا على ذَلِك إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ فِي مَحَله إِن شَاءَ الله
ثورة الْحَاج قرقوش بِبِلَاد غمارة ومقتله
قَالُوا وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثار رجل يُقَال لَهُ الْحَاج قرقوش بجبال غمارة وبلاد الهبط وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره حائكا فتلبس بالزهد وَالصَّلَاح واعتقدته الْعَامَّة ثمَّ اسْتَحَالَ أمره إِلَى مَا ذكرنَا فَأخذ وَقتل وَحمل رَأسه إِلَى مراكش وانقطعت مَادَّة فَسَاده فَلم تبكه أَرض وَلَا سَمَاء
بِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِبَاب دكالة من حَضْرَة مراكش حرسها الله
كَانَت الْحرَّة مسعودة أم الْمَنْصُور وَهِي بنت الشَّيْخ الْأَجَل أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الوزكيتي الورززاتي من الصَّالِحَات حريصة على اقتناء المفاخر راغبة فِي فعل الْخَيْر قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَهِي الَّتِي أنشأت الْمَسْجِد الْجَامِع بحومة بَاب دكالة دَاخل مَدِينَة مراكش ووقفت عَلَيْهِ أوقافا عَظِيمَة وَكَانَ ذَلِك سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة قَالَ وَهِي الَّتِي بنت جسر وَادي أم الرّبيع وَغير ذَلِك اه(5/117)
قلت المرقوم على رخامة قبرها أَنَّهَا بنت جسرين بِلَفْظ التَّثْنِيَة وتزعم الْعَامَّة أَنَّهَا بنت الْمَسْجِد الْمَذْكُور كَفَّارَة لما انتهكته من حُرْمَة رَمَضَان وَذَلِكَ أَنَّهَا دخلت بستانا من بساتين قُصُورهَا وَهِي فِي حَال الوحم فرأت بِهِ خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت مِنْهُمَا فِي نَهَار رَمَضَان ثمَّ نَدِمت على مَا صدر مِنْهَا وَفعلت أفعالا كَثِيرَة من بَاب الْبر رَجَاء أَن يتَجَاوَز الله عَنْهَا وَمِنْهَا الْجَامِع الْمَذْكُور وَلَا زَالَ النِّسَاء وَالصبيان يسجعون بقضيتها إِلَى الْآن فَيَقُولُونَ عودة أكلت رَمَضَان بالخوخ وَالرُّمَّان فِي أسجاع غير هَذِه وَلَفظ عودة مخفف من مسعودة على طَريقَة البربر فِي مثل هَذَا وَالله تَعَالَى أعلم
بعث الْمَنْصُور ببيلة الرخام إِلَى جَامع الْقرَوِيين من فاس حرسها الله
قَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور إِن الْمَنْصُور رَحمَه الله بعث الخصة الْعَظِيمَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة إِلَى جَامع الْقرَوِيين من فاس مَعَ كرْسِي من المرمر تُوضَع عَلَيْهِ وزنهما مَعًا مائَة قِنْطَار قَالَ وَهِي الخصة الَّتِي تَحت منار الْجَامِع الْمَذْكُور وَقَالَ ابْن القَاضِي الْمَذْكُور فِيهَا نقش برقبتها
(إِمَام دَار الْهدى الْمَنْصُور شيدني ... بَحر المكارم من أَبنَاء عدنان)
(حزت المفاخر بالمنصور أجمعها ... وَمن علاهُ سَنَام الْمجد أرساني)
(من جَاءَ يشكو الظما يَوْمًا وقبلني ... أغناه مَا قد همى من صوب أجفاني)
(لَا تنكرن وجود الدمع من فَرح ... فالعين تَدْمَع من أفراط سلوان)
(واشرب هَنِيئًا من السلسال لَا حرج ... معِين دمع جرى من فيض خلجاني)
(فَخر السلاطين من أَبنَاء فَاطِمَة ... أشاع صيتي إِلَى أَطْرَاف عمان)
(وَقد جرت مقلتي تحكي سحائبها ... كف الْخَلِيفَة من أَبنَاء زَيْدَانَ)
(لَا زَالَ للدّين وَالدُّنْيَا يسوسهما ... مَا هيجت عَاشِقًا ورق بأفنان)
(إنشائي فِي زمن التَّارِيخ وَافقه ... للدّين وَالْأَجْر بَحر الْجُود سواني)(5/118)
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا سَافر الْمَنْصُور إِلَى فاس وبينما هُوَ فِي الطَّرِيق وافته الْبُشْرَى بِالْفَتْكِ بنصارى سبتة وَأَن زعيم الفئة الجهادية وَهُوَ الْمُقدم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس التطواني كمن لَهُم مَعَ جمَاعَة من الفرسان فِي مَوضِع فَخرج النَّصَارَى بأولادهم وحشمهم فحال النقسيس بَينهم وَبَين سبتة وأوقع بهم وَكَاد يفتحها وسر الْمَنْصُور بِهَذَا الْخَبَر وأنشده فِي ذَلِك الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي بَيْتَيْنِ زجر لَهُ مِنْهُمَا الفال باستيلائه عَلَيْهَا وهما
(هَذِه سبتة تزف عروسا ... نَحْو ناديك فِي شباب قشيب)
(وَهِي بشرى وَأَنت كفؤ اللواتي ... كافأت بَعْلهَا بِفَتْح قريب)
وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فِي الْيَوْم الثَّانِي من ذِي الْقعدَة مِنْهَا أخلى النَّصَارَى مَدِينَة آصيلا حملهمْ الْخَوْف من كَتِيبَة الْمُسلمين المرابطة هُنَالك على الْفِرَار بِأَنْفسِهِم فتركوها يبابا وذهبوا وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي
(يَا أَيهَا الْمَنْصُور أبشر بالعلا ... فَالله أبلغ فِي العدا المأمولا)
(أنضاكم سَيْفا لحتف عداته ... وبكم غَدا سيف الردى مفلولا)
(وهزمتم الشّرك المتين بعزمكم ... من غير سيف لم يرى مسلولا)
(وأذيتم كيد الْخَبيث بهمة ... وفتحتم دَار العدا آصيلا)
(أكْرم بِهِ من مَالك بل صَالح ... أضحى لبارود العداة خَلِيلًا)
(لَا زَالَ فِي أنف الْهدى شمما وَفِي ... عين الْعَلَاء يشاكل التكحيلا)
وَأَشَارَ بقوله لبارود العداة خَلِيلًا إِلَى مَا صنعه النَّصَارَى دمرهم الله حِين أَرَادوا الْخُرُوج من آصيلا فَإِنَّهُم حفروا تَحت قصبتها وملؤوا الحفرة بالبارود وأوقدوا فتيلا تبلغه ناره عِنْد دُخُول الْمُسلمين فيهلكون ففر نَصْرَانِيّ مِنْهُم وَأخْبر الْمُسلمين بذلك فنجاهم الله تَعَالَى من مكيدة الوبال وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَقَالَ فِي ذَلِك أَيْضا الْكَاتِب البارع أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي شعرًا ذكره صَاحب نشر المثاني فَانْظُرْهُ
وَكَانَ فِي زمن الْمَنْصُور رجال من بيوتات الْمغرب معروفون بالشجاعة(5/119)
والنجدة فِي قتال الْعَدو وَمِنْهُم أَوْلَاد النقسيس التطوانيون وَمِنْهُم أَوْلَاد أبي الليف من أهل بِلَاد الهبط قَالَ فِي الْمرْآة لما كَانَ الْمُقدم الْمُجَاهِد الشَّهِيد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن أَبُو الليف من الشهامة والصرامة على مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمن شدَّة نكايته فِي الْعَدو الْكَافِر الطنجي وَبعد أَثَره فيهم جرت أُمُور بَينه وَبَين صَاحب عمل الْقصر فسعى بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فَأمر برحيله إِلَى فاس هُوَ وعشيرته مغربين عَن وطنهم كَأَنَّهُمْ فِي سجن فأقاموا بفاس مُدَّة لَا أَدْرِي هَل هِيَ سنة أم أَكثر إِلَّا أَنِّي كنت أرَاهُ عِنْد الشَّيْخ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأَنا إِذْ ذَاك صَغِير وَيَعْنِي بالشيخ وَالِده أَبَا المحاسن رَحمَه الله قَالَ فضاقت عَلَيْهِم أنفسهم من الاغتراب فَقَالَ يَوْمًا الْمُقدم عمر لِأَخِيهِ كبيره الْمُقدم مُحَمَّد لَو زرنا الشَّيْخ الْيَوْم وتبركنا بِهِ لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا فَإِن النَّاس كثيرا مَا يقصدونه فِي الْمُهِمَّات فَقَالَ لَهُ لَا أتحرك فقد غلب الْيَأْس فَسَار الْمُقدم عمر وَحده فَلَمَّا وصل إِلَى الشَّيْخ قَالَ لَهُ قنطتم قَالَ نعم يَا سَيِّدي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ غَدا يخلي سبيلكم إِن شَاءَ الله فَرجع إِلَى أَخِيه وَأخْبرهُ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث إِلَيْهِم القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الْحميدِي فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ لَهُم أَبْشِرُوا بالسراح وَالرُّجُوع إِلَى الوطن إِن شَاءَ الله فَإِنَّهُ قد قرئَ الْآن بَين يَدي السُّلْطَان بعض الْغَزَوَات الَّتِي ذكرهَا ابْن النّحاس وغناء أبطال الْمُسلمين فِيهَا فَقَالَ السُّلْطَان أَو غَيره ترى هَل بَقِي فِي هَذَا الزَّمَان من يماثلهم فَقَالُوا قد بَقِي من يفعل فعلهم وَهَا هم أَوْلَاد أبي الليف المغربون هُنَا يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك فَقَالَ السُّلْطَان سرحوهم إِلَى بِلَادهمْ ليحموا ثغورهم ويجاهدوا فِي سَبِيل الله فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ وفعلوا الأفاعيل فِي عَدو الدّين إِلَى أَن اسْتشْهد الْمُقدم مُحَمَّد فِي ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَألف اه(5/120)
غَزْو السودَان وَفتح مَدِينَة كاغو ومقتل سلطانها إِسْحَاق سكية رَحمَه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من مُفَاوَضَة الْمَنْصُور لحاشيته فِي غَزْو السودَان واستقرار رَأْيهمْ على ذَلِك فَبَقيَ الْمَنْصُور يقدم رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فقوي عزمه واشتغل بتجهيز آلَة الْحَرْب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجَيْش من آلَة السّفر ومهماته وَأمر القواد أَن يقومُوا حصص الْقَبَائِل وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من إبل وخيل وبغال وَإِن من أَتَى بجمل ضَعِيف يُعَاقب واشتغل هُوَ بتقويم آلَة الْحَرْب من المدافع والعجلات الَّتِي تحملهَا والبارود والرصاص والكور وتقويم الْخشب واللوح وَالْحَدِيد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف والقلوع والبراميل والروايا لحمل المَاء وَألف النجارون ذَلِك فِي الْبر إِلَى أَن تألف ثمَّ خلعوه وشدوه أحمالا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن استوفى الْمَنْصُور أَمر الْغَزْو فِي ثَلَاث سِنِين ثمَّ أَمر بِإِخْرَاج الْمضَارب والمباني لوادي تانسيفت فَخرجت الْأَحْمَال والأثقال من مراكش فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَنزلت العساكر وَضربت أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرُون ألفا وَمَعَهُمْ من المعلمين البحرية والطبجية أَلفَانِ فالمجموع اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا وَعقد الْمَنْصُور على ذَلِك الْجَيْش لمَوْلَاهُ الباشا جؤذر وَشد أزره بِجَمَاعَة من أَعْيَان الدولة فَاخْتَارَ مِنْهُم من يعلم نجدته وَيعرف كِفَايَته وتخير من الْإِبِل كل بازل وكوماء وَمن الْخَيل كل عَتيق وجرداء ثمَّ نهضوا فِي زِيّ عَظِيم وهيئة لم ير مثلهَا وَذَلِكَ فِي محرم فاتح سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكتب الْمَنْصُور إِلَى قَاضِي تنبكتو الْفَقِيه الْعَلامَة أبي حَفْص عمر ابْن الشَّيْخ مَحْمُود ابْن عمراء قيت الصنهاجي يَأْمُرهُ بحض النَّاس على الطَّاعَة وَلُزُوم الْجَمَاعَة
وَلما نهضوا من تانسيفت جعلُوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثمَّ على درعة ودخلوا القفر والفيافي فقطعوها فِي مائَة مرحلة وَلم يضع لَهُم عقال بعير وَلَا نقص مِنْهُم أحد فنزلوا على مَدِينَة تنبكتو ثغر السودَان فأراحوا بهَا أَيَّامًا(5/121)
ثمَّ صَارُوا قَاصِدين دَار إِسْحَاق سكية وَلما سمع بقدومهم احتشد أُمَم السودَان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لَهُم وَخرج من مَدِينَة كاغو يجر الشوك والمدر يُقَال إِنَّه جمع مائَة ألف مقَاتل وَأَرْبَعَة آلَاف مقَاتل
وَقَالَ الفشتالي وَلم يقنع بالجيوش الَّتِي جمع حَتَّى أضَاف إِلَيْهَا أَشْيَاخ السَّحَرَة وَأهل النفث فِي العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا مِنْهُ أَن ذَلِك يُغْنِيه شَيْئا وهيهات وَيرْحَم الله أَبَا تَمام إِذْ قَالَ فِيمَا يقرب من هَذَا الْحَال
(السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب ... فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب)
(بيض الصفائح لَا سود الصحائف فِي ... متونهن جلاء الشَّك والريب)
(وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة ... بَين الخميسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب)
(أَيْن الرِّوَايَة بل أَيْن النُّجُوم وَمَا ... صاغوه من زخرف فِيهَا وَمن كذب)
(تخرصا وأحاديثا ملفقة ... لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب)
وَلما تقَارب الْجَمْعَانِ عبأ الباشا جؤذر عساكره وَتقدم للحرب فدارت بهم عَسَاكِر السودَان من كل جِهَة وعقلوا أَرجُلهم مَعَ الْإِبِل وصبروا مَعَ الضُّحَى إِلَى الْعَصْر وَكَانَت سِلَاحهمْ إِنَّمَا هِيَ الحرشان الصغار والرماح وَالسُّيُوف وَلم تكن عِنْدهم هَذِه المدافع فَلم تغن حرشانهم ورماحهم مَعَ البارود شَيْئا وَلما كَانَ آخر النَّهَار هبت ريح النَّصْر وَانْهَزَمَ السودَان فَوَلوا الأدبار وَحقّ عَلَيْهِم الْبَوَار وحكمت فِي رقابهم سيوف جؤذر وجنده حَتَّى كَانَ السودَان ينادون نَحن مُسلمُونَ نَحن إخْوَانكُمْ فِي الدّين وَالسُّيُوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلُون ويسلبون فِي كل وَجه وفر إِسْحَاق فِي شرذمة من قومه وَلم يدْخل قلعة ملكه وَتقدم جؤذر فَدَخلَهَا واحتوى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالْمَتَاع وَكَانَ ذَلِك منتصف جُمَادَى الأولى من سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَيُقَال إِن جؤذرا لم يدْخل مَدِينَة كاغو وَإِنَّمَا تحصن بهَا إِسْحَاق فحاصره جؤذر فِيهَا وَكتب إِلَى الْمَنْصُور بِخَبَر الْفَتْح وَبعث إِلَيْهِ بهدية فِيهَا عشرَة آلَاف مِثْقَال ذَهَبا ومائتان من خِيَار الرَّقِيق وَغير ذَلِك وامتدت العساكر المنصورة فِي بِلَاد آل سكية تعيث وتفسد وَتَسْبِي وتغنم إِلَى أَن راسل إِسْحَاق الباشا جؤذرا فِي تَقْرِير الصُّلْح على مَال معِين يَدْفَعهُ الْآن وضريبة يُؤَدِّيهَا كل سنة(5/122)
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك على مشورة الْمَنْصُور وإمضائه إِيَّاه ثمَّ كتب إِلَى الْمَنْصُور بذلك وَكَانَت العساكر قد أصابتها الْحمى ووخامة تِلْكَ الأَرْض فاتفق رَأْي الْأُمَرَاء على الرُّجُوع وَالْإِقَامَة بتنبكتو إِلَى أَن يَأْتِي جَوَاب الْمَنْصُور فَرَجَعُوا وَأخذ جؤذر فِي إنْشَاء الغلائط والسفن وتركيبها وَلما أكملها دَفعهَا فِي النّيل وَلما بلغ الْمَنْصُور خبر الصُّلْح قَامَ وَقعد وَقوم عسكرا خَفِيفا وَبعث بِهِ مَعَ مَمْلُوكه الآخر مَحْمُود باشا وَهُوَ أَخُو جؤذر وقلده أَمر العساكر كلهَا وعزل جؤذرا عَنْهَا وَأمر مَحْمُودًا أَن يبقيه مَعَه وَكتب إِلَى أُمَرَاء الْعَسْكَر يعاتبهم يوبخهم على مَا فَعَلُوهُ مَعَ إِسْحَاق من الصُّلْح ويؤكد عَلَيْهِم فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَاده واتباعه حَيْثُمَا توجه وَلَو عبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَخرج مَحْمُود باشا فِيمَن عين لَهُ من الْعَسْكَر فِي زمَان الْحر فِي وَقت لَا يقدر على الْحَرَكَة فِيهِ إِلَّا القطا الكدري وَقطع القفر فِي خمسين مرحلة أَمر لم يسمع بِمثلِهِ وَنزل بالعساكر على ظَاهر تنبكتو على رَأس سنة الْألف فأراح بهَا ثَلَاثًا ثمَّ شحن الغلائط والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الْجند فَسَارُوا فِي النّيل وَسَار السوَاد الْأَعْظَم فِي الْبر إِلَى أَن نزلُوا على مَدِينَة كاغو قَاعِدَة ملك إِسْحَاق سكية وَكَانَ إِسْحَاق لما رجعت عَنهُ العساكر إِلَى تنبكتو احتشد أُمَم السودَان المجاورين لَهُ وتذامروا وأصفقوا مَعَه على الْمَوْت فَلَمَّا بلغه رُجُوع العساكر إِلَى كاغو قصدهم فِي جموعه وَلما التقى الْجَمْعَانِ لم يكن إِلَّا مِقْدَار فوَاق نَاقَة حَتَّى انهزم السودَان من سَماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع القنابل فِي الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلُون وَيَأْسِرُونَ إِلَى أَن غشيهم ظلم اللَّيْل وَرَجَعُوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثَلَاثًا ثمَّ أَمر مَحْمُود أَخَاهُ جؤذرا أَن يُقيم بِمَدِينَة كاغو عَامِرًا لَهَا وَيتْرك مَعَه عددا من الْعَسْكَر يكون ردْءًا لَهُم وَسَار هُوَ فِي اتِّبَاع إِسْحَاق إِلَى أَن لحقه بِبَعْض الْجِهَات فأوقع بِهِ وقْعَة شنعاء وفر فِي فل من قومه فَعبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَتَبعهُ مَحْمُود فَعبر النّيل بعساكره فِي السفن وَسَار خَلفه إِلَى أَن لحقه فأوقع بِهِ وقْعَة ثَالِثَة احتوى فِيهَا على مَا مَعَه من المَال والحريم وَدخل إِسْحَاق القفر فَهَلَك فِيهِ ثمَّ كَانَت لمحمود وقْعَة أُخْرَى مَعَ أَخِيه الَّذِي كَانَ ينازعه فِي(5/123)
الْملك فَإِنَّهُ قَامَ بعد مهلك أَخِيه وَجمع الجموع وزحف إِلَى مَحْمُود باشا فَنَهَضَ إِلَيْهِ مَحْمُود فَهَزَمَهُ وَقَتله فِيمَن مَعَه من جنده وَأَتْبَاعه وتمهدت لَهُ الْبِلَاد وَاسْتولى عَلَيْهَا اسْتِيلَاء كليا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور
وَلما بلغه هَذَا الْفَتْح وَصورته كَانَ عِنْده ذَلِك الْيَوْم عيدا من الأعياد أخرج فِيهِ الصَّدقَات وَأعْتق الرّقاب وَأقَام مهرجانا عَظِيما بِظَاهِر الحضرة خرج لَهُ عَامَّة النَّاس للفرجة والنزهة وزينت الْأَسْوَاق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الْخُيُول وَأطْعم الْمَنْصُور النَّاس عدَّة أَيَّام ونظم الشُّعَرَاء قصائدهم وَرفعُوا أمداحهم وَأَجَازَهُمْ بِمَا تحدث النَّاس بِهِ دهرا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح وَصورته نسخ وجهت إِلَى جَمِيع الْآفَاق وَكَانَ مِمَّا قيل فِي ذَلِك من الشّعْر مَا أنْشدهُ الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي فَقَالَ
(جَيش الصَّباح على الدجا متدفق ... فبياض ذَا السوَاد ذَلِك يمحق)
(وَكَأَنَّهُ رايات عسكرك الَّتِي ... طلعت على السودَان بيضًا تخفق)
(لاحت وأفقهم لَيَال كُله ... كعمود صبح فِي الدجا يتألق)
(نشرت لتطوي مِنْهُ لَيْلًا دامسا ... أضحى بسيفك ذِي الفقار يمزق)
(أرسلتهن جوائحا وجوارحا ... فِي كل مخلبها غراب ينعق)
(وسرت فَكَانَ دليلهن إِلَيْهِم ... مشحوذ عزمك والسنان الْأَزْرَق)
(لهي اللَّيَالِي قد جلى أحلاكها ... نور النُّبُوَّة من جبينك يشرق)
(صعِقَتْ بِهن رعود نارك صعقة ... رجت لصيحتها الْعرَاق وجلق)
(سحقا لإسحاق الشقي وَحزبه ... فَلَقَد غَدا بِالسَّيْفِ وَهُوَ مطوق)
(رام النجَاة وَكَيف ذَاك وَخَلفه ... من جَيش جؤذرك الغضنفر فيلق)
(جَيش أواخره ببابك سيله ... عرم وأوله بكاغو محدق)
(لم يشعروا إِلَّا وأسوار الردى ... ضربت عَلَيْهِم من قناك وَخَنْدَق)
(كتب الْإِلَه على عداتك أَنهم ... قنص لسهمك غربوا أَو شرقوا)
(ضلت مُلُوك ساجلوك على الْعلَا ... سفها وشأوك فِي الْعلَا لَا يلْحق)
(أَن يشبهوك وَلَا شَبيه يرى لكم ... فِي الْخلق أَيْن من اللجين الزئبق)
(بشر مُلُوك الأَرْض أَنَّك فاتح ... بالمشرفي على الولا مَا غلقوا)(5/124)
(وبقاصل لَك ذِي الفقار مفرق ... مَا جَمَعُوهُ وجامع مَا فرقوا)
(دَامَت طيور السعد وَهِي غوارد ... بالمشتهى لَك والمسرة تنطق)
(مَا دَامَ أصل علاك فِي صحف الثنا ... أصل الفخار وكل غَيْرك مُلْحق)
والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هَذَا الشَّاعِر وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا وَكَانَ مَحْمُود باشا لما استوسق لَهُ الْأَمر هُنَالك بعث بِنصْف جَيْشه إِلَى الْمَنْصُور مَعَ هَدِيَّة عَظِيم فِيهَا من الذَّخَائِر مَا لَا يُحْصى من ذَلِك ألف ومائتان من متخير الرَّقِيق الْجَوَارِي والغلمان وَأَرْبَعُونَ حملا من التبر وَأَرْبَعَة سروج ذَهَبا خَالِصا وأحمال كَثِيرَة من اليانبور وقطوط الغالية وَغير ذَلِك وَلما وافت الْمَنْصُور سر بذلك سُرُورًا عَظِيما وَأمر بِعَمَل المفرحات فِي بِلَاد الْمغرب وبتزيين الْأَسْوَاق غدْوَة وَعَشِيَّة ثَلَاثَة أَيَّام ووفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة مهنئين لَهُ بِمَا منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية فِي سلك طَاعَته مَا بَين الْبَحْر الْمُحِيط من أقْصَى الْمغرب إِلَى بِلَاد برنو المتاخمة لبلاد النّوبَة المتاخمة لصعيد مصر قَالَ الفشتالي فكلمة الْمَنْصُور نافدة فِيمَا بَين بِلَاد النّوبَة إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط من نَاحيَة الْمغرب وَهَذَا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَلما فتح الله عَلَيْهِ ممالك الْبِلَاد السودانية حمل إِلَيْهِ من التبر مَا يعيى الحاسبين ويحير الناظرين حَتَّى كَانَ الْمَنْصُور لَا يُعْطي فِي الرَّوَاتِب إِلَّا النضار الصافي وَالدِّينَار الوافي وَكَانَ بِبَابِهِ كل يَوْم أَربع عشرَة مائَة مطرقة لضرب الدِّينَار الوافي دون مَا هُوَ معد لغير ذَلِك من صوغ الأقراط والحلى وَشبه ذَلِك وَلأَجل هَذَا لقب بالذهبي لفيضان الذَّهَب فِي أَيَّامه والأمور كلهَا بيد الله(5/125)
وَفَاة أم الْمَنْصُور الْحرَّة مسعودة الوزكيتية رَحمهَا الله
كَانَت الْحرَّة مسعودة هَذِه من الْخيرَات الصَّالِحَات وَتقدم بعض مآثرها من بِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِبَاب دكالة وَغَيره وَكَانَت وفاتها سحر يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة ألف وَمن المستفيض أَنَّهَا ريئت بعد مَوتهَا فَسُئِلت مَا فعل الله بهَا فَقَالَت غفر لي بِسَبَب أَنِّي كنت ذَات يَوْم جالسة لقَضَاء الْحَاجة فَسمِعت الْمُؤَذّن شرع فِي الآذان فَرددت على ثِيَابِي إعظاما لذكر الله تَعَالَى حَتَّى فرغ الْمُؤَذّن من آذانه فَشكر الله لي ذَلِك فغفر لي
وَفِي سنة إِحْدَى وَألف أُتِي بالفيلة من بِلَاد السودَان إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا لمراكش يَوْمًا مشهودا برز لرؤيتها كل من بِالْمَدِينَةِ من رجال وَنسَاء وشيوخ وصبيان ثمَّ حملت إِلَى فاس فِي رَمَضَان سنة سبع وَألف قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ دُخُول الْفِيل إِلَى فاس يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشر رَمَضَان سنة سبع وَألف وَبعث الْمَنْصُور مَعَ الْفِيل إِلَى وَلَده الْمَأْمُون بهدية سنية فِيهَا تحف وأموال عريضة وَخرج أهل فاس فِي ذَلِك الْيَوْم للقاء الْفِيل بِنَحْوِ مائَة ألف نفس
قَالَ بَعضهم وبسبب دُخُول هَذِه الفيلة إِلَى الْمغرب ظَهرت هَذِه العشبة الخبيثة الْمُسَمَّاة بتابغ لِأَن أهل السودَان الَّذين قدمُوا بالفيلة يسوسونها قدمُوا بهَا مَعَهم يشربونها ويزعمون أَن فِيهَا مَنَافِع فشاعت مِنْهُم فِي بِلَاد درعة ومراكش وَغَيرهمَا من بقاع الْمغرب وتعارضت فِيهَا فَتَاوَى الْعلمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم فَمن قَائِل بِالتَّحْرِيمِ وَمن قَائِل بالتحليل ومتوقف وَالْعلم فِيهَا عِنْد الله سُبْحَانَهُ قَالَ اليفرني
قلت من تَأمل أدنى تَأمل فِي قَوَاعِد الشَّرِيعَة وآدابها علم يَقِينا أَن تنَاول هَذِه العشبة حرَام لِأَنَّهَا من الْخَبَائِث الَّتِي حرمهَا الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة المطهرة وَبِذَلِك وصفهَا فِي الْكتب السالفة إِذْ قَالَ تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث}(5/126)
وَبسط هَذَا الْمقَام إِن تعلم أَن الله تَعَالَى اخْتَار هَذِه الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم قَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَاخْتَارَ لَهَا من الطَّاعَات وأنواع الْعِبَادَات مَا هُوَ أفضلهَا قَالَ تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَأفضل تِلْكَ الْعِبَادَات كلهَا الصَّلَاة الَّتِي هِيَ من الدّين بِمَنْزِلَة الرَّأْس من سَائِر الْجَسَد ثمَّ إِذا أمعنت النّظر رَأَيْت الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَالغ فِي الِاحْتِيَاط لهَذِهِ الْعِبَادَة الشَّرِيفَة والاستعداد لَهَا بِاسْتِعْمَال كل طيب أمكن وَاجْتنَاب كل خَبِيث أمكن فشرع أَولا الطَّهَارَة الْكُبْرَى الشاملة لسَائِر الْبدن وحظر من مقاربة الصَّلَاة وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَال الْخُلُو عَنْهَا ثمَّ شرع ثَانِيًا الطَّهَارَة الصُّغْرَى الْمُتَعَلّقَة بأطراف الْبدن زِيَادَة فِي الاعتناء بهَا لِأَنَّهَا تبرز فِي غَالب الْأَحْوَال فيعلق بهَا من الأقذار مَا لَا يعلق بغَيْرهَا وألزم الْمُكَلف اسْتِعْمَال هَذِه الطَّهَارَة عِنْد عرُوض كل حدث مستقذر حَتَّى الرّيح وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى خُرُوجه ثمَّ نَدبه إِلَى اسْتِعْمَالهَا عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس
ثمَّ إِنَّا إِذا تأملنا أَفعَال هَذِه الطَّهَارَة وجدناها تشْتَمل على مبالغات كَثِيرَة تستدعي غَايَة النَّظَافَة وتنفي كل قذر وَإِن قل فشرع الْغسْل فِي أَعْضَاء الْوضُوء مكررا وَشرع مسح شعر الرَّأْس بِالْمَاءِ دفعا لما يعلق بِهِ من الْغُبَار وَشرع تتبع مسام الْوَجْه بِالْغسْلِ والتنظيم كالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق ثَلَاثًا تطييبا للنكهة وَشرع مسح الْأُذُنَيْنِ من ظاهرهما وباطنهما حَتَّى الصماخين إِزَالَة لما بداخلهما من تِلْكَ الفضلة مَعَ أَن الْحَيّ ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه كلهَا طَاهِرَة أَو لَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل وَاضح على أَن الْحِكْمَة فِي هَذَا كُله إِنَّمَا هُوَ الْمُبَالغَة فِي النَّظَافَة وتطييب الرَّائِحَة والنكهة إِذْ بذلك يسْتَحق العَبْد أَن يتلبس بِالْعبَادَة وَيدخل حَضْرَة الرب وَشرط للدخول فِيهَا طَهَارَة الْبدن وَالثَّوْب وَالْمَكَان من سَائِر المستقذرات حَتَّى يكون على أكمل الْحَالَات بَعيدا عَن القذر بِكُل وَجه ثمَّ لم يكتف الشَّارِع بِهَذَا حَتَّى شرع السِّوَاك عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة وَقَالَ (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) كل ذَلِك الْمَقْصُود مِنْهُ طيب النكهة فَانْظُر وَتَأمل اعتناء الشَّارِع بتطييب رَائِحَة(5/127)
فَم الْمُؤمن ونكهته حَتَّى فِي حق الصَّائِم الَّذِي (خلوف فَمه أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) هَذَا كُله فِي حَال الصَّلَاة
وَأما خَارِجهَا فقد علم من الشَّرْع علما ضَرُورِيًّا أَن العَبْد مَطْلُوب بالمحافظة على هَذِه الْحَال والبقاء عَلَيْهَا سَائِر أوقاته مَتى قدر على ذَلِك وتيسر لَهُ وَمن هَذَا الْمَعْنى مَا حرم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة من تنَاول المستقذرات كالميتة وَالدَّم وَسَائِر النَّجَاسَات إِذْ عِلّة حُرْمَة الْأَشْيَاء وتناولها إِمَّا كَونهَا مستقذرة كالنجاسات إِجْمَاعًا وكالحشرات وَمَا تعافه النُّفُوس على مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَو مضرَّة كالسم والطين وَنَحْوهمَا مِمَّا يضر بِالْبدنِ أَو بِبَعْض الْأَعْضَاء مِنْهُ أَو مُحْتَرمَة إِمَّا لذاتها كالأدمي أَو لكَونهَا ملكا للْغَيْر وَهُوَ ظَاهر فالشارع لَهُ غَرَض أكيد فِي اجتلاب الطَّيِّبَات وَاجْتنَاب مَا يضادها من المستخبثات وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يعْملُونَ فِي حوائطهم فَإِذا حضرت الْجُمُعَة أَتَوا إِلَى الْمَسْجِد وأبدانهم سهكة فَأَمرهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالاغتسال عِنْد كل جُمُعَة ثمَّ منع كل من تلبس برائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث من حُضُورهَا وحبب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دُنْيَانَا النِّسَاء وَالطّيب وَندب أمته إِلَى اسْتِعْمَاله فِي الْمشَاهد الْعَامَّة مثل الْجمع والأعياد وَنَحْوهَا وخصال الْفطْرَة إِنَّمَا شرعت لهَذَا الْمَعْنى فَفِيهَا كِفَايَة لمن تأملها قَوَّال صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إزرة الْمُؤمن إِلَى أَنْصَاف سَاقيه) دفعا للسرف وَالْخُيَلَاء وَلِئَلَّا يعلق بِهِ شَيْء من النَّجَاسَات والأقذار إِلَى غير هَذَا مِمَّا لَو استقصي لطال وَدلّ دلَالَة قَطْعِيَّة على أَن الْمَطْلُوب من العَبْد أَن يكون نظيفا طيب الرَّائِحَة حسن البزة طَاهِر الْبدن وَالثَّوْب مجانبا لكل خَبِيث مستقذر وَهَذِه حَالَة أهل الْجنَّة وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ وَأَنت لَا تَجِد أَخبث وَلَا أقذر من رَائِحَة أَفْوَاه شربة الدُّخان وَلَا أنتن وَلَا أعفن من نكهات المستفين لغبار تابغ وَهَذَا النتن من أقبح الْعُيُوب فِي نظر الشَّرْع حَتَّى أَنه جعل الْخِيَار لأحد الزَّوْجَيْنِ إِذا كَانَ صَاحبه أبخر فَإِذا لَا نشك أَن اسْتِعْمَال هَذِه العشبة الخبيثة فِي الْفَم أَو الْأنف من أعظم الْمَحْظُورَات لِأَنَّهَا تصدم غَرضا كَبِيرا من أغراض الشَّارِع وتضاده وتنفيه(5/128)
وَأَقُول لَو كَانَ نتنها يعلق بعضو من الْأَعْضَاء غير الْوَجْه لَكَانَ هَين لكنه يعلق بالفم وَالْأنف اللَّذين وضعهما الْحَكِيم الْعلي فِي وسط الْوَجْه الَّذِي هُوَ أشرف الْأَعْضَاء فَأَي مضمضة وَأي استنشاق وَأي سواك يزِيل ذَلِك النتن الَّذِي يرسخ فِي أنفاس أَهلهَا وأفواههم وخياشيمهم رسوخا لَا يماثله شَيْء
وَلَقَد أفْصح الْعَامَّة عَن شدَّة نَتن هَذِه العشبة وصادفوا الصَّوَاب حَيْثُ قَالُوا إِن فضلَة الدُّخان الْمُسَمَّاة بالقير تنجس النَّجَاسَة هَذَا إِلَى مَا يتبع ذَلِك من الْمَفَاسِد المتعددة من تَغْيِير عقل متعاطيها حَتَّى أَنه إِذا انْقَطَعت عَنهُ صَار كَالْمَجْنُونِ لَا يُبَالِي بِمَا يصدر مِنْهُ وَمن دُخُول الشَّك فِي صِيَامه لِأَن بقايا ذَلِك الدُّخان أَو ذَلِك الْغُبَار قد يمْكث فِي حلقه إِلَى طُلُوع الْفجْر وَمَا بعده لِأَن جلهم إِذا قرب الْفجْر والوا اسْتِعْمَاله حَتَّى يكون هُوَ خَاتِمَة سحورهم وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يسْتَعْمل ذَلِك إِلَّا من لَا خلاق لَهُ وَلَا يكترث بمروءه وَلَا دين وَهُوَ قَادِح فِي الشَّهَادَة والإمامة وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه
نكبة الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بَابا السوداني وعشيرته من آل آقيت وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ بَنو آقيت التكروريون من أهل مَدِينَة تنبكتو وَمِمَّنْ لَهُم الوجاهة الْكَبِيرَة والرياسة الشهيرة بِبِلَاد السودَان دينا وَدُنْيا بِحَيْثُ تعدّدت فيهم الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة والقضاة وتوارثوا رياسة الْعلم مُدَّة طَوِيلَة تقرب من مِائَتي سنة وَكَانُوا من أهل الْيَسَار والسؤدد وَالدّين لَا يبالون بالسلطان فَمن دونه وَلما فتح جَيش الْمَنْصُور بِلَاد السودَان أبقاهم الباشا مَحْمُود على حَالهم إِلَى أَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَألف فَكَانَ أهل السودَان قد سئموا ملكة المغاربة وآنسوا مِنْهُم خلاف مَا كَانُوا يعهدونه من سلطانهم الأول وَكَانَت أذنهم مَعَ ذَلِك صاغية لآل آقيت فتخوف الْمَنْصُور مِنْهُم وَرُبمَا وشي إِلَيْهِ بهم فَكتب إِلَى عَامله مَحْمُود بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم وتغريبهم إِلَى مراكش فَقبض على جمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم كَانَ فِيهَا الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد ثَلَاثَة أحامد ابْن(5/129)
عمر بن مُحَمَّد آقيت الْمَدْعُو بَابا صَاحب تَكْمِيل الديباج وَغَيره من التآليف وَكَانَ فِيهَا أَيْضا الْفَقِيه القَاضِي أَبُو حَفْص عمر بن مَحْمُود بن عمر ابْن مُحَمَّد آقيت وَغَيرهمَا وحملوا مصفدين فِي الْحَدِيد إِلَى مراكش وَمَعَهُمْ حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم
قَالَ فِي بذل المناصحة سَمِعت الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بَابا يَقُول أَنا أقل عشيرتي كتبا وَقد نهب لي سِتّ عشرَة مائَة مُجَلد وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِم فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَألف ووصلوا إِلَى مراكش فِي أول رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة واستقروا مَعَ عِيَالهمْ فِي حكم الثقاف إِلَى أَن انصرم أمد المحنة فسرحوا يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة أَربع وَألف فَفَرِحت قُلُوب الْمُؤمنِينَ بذلك
وَلما دخل الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس على الْمَنْصُور بعد تسريحه من السجْن وجده يكلم النَّاس من وَرَاء حجاب وَبَينه وَبينهمْ كلة مسدولة على طَريقَة خلفاء بني الْعَبَّاس وَمن يتشبه بهم فَقَالَ الشَّيْخ إِن الله تَعَالَى يَقُول {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} وَأَنت قد تشبهت بِرَبّ الأرباب فَإِن كَانَت لَك حَاجَة فِي الْكَلَام فَانْزِل إِلَيْنَا وارفع عَنَّا الْحجاب فَنزل الْمَنْصُور وَرفعت الأستار فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَي حَاجَة لَك فِي نهب متاعي وتضييع كتبي وتصفيدي من تنبكتو إِلَى هُنَا حَتَّى سَقَطت عَن ظهر الْجمل واندقت ساقي فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور أردنَا أَن تَجْتَمِع الْكَلِمَة وَأَنْتُم فِي بِلَادكُمْ من أعيانها فَإِن أذعنتم أذعن غَيْركُمْ فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس فَهَلا جمعت الْكَلِمَة بترك تلمسان فَإِنَّهُم أقرب إِلَيْك منا فَقَالَ الْمَنْصُور قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتْرُكُوا التّرْك مَا تركوكم فامتثلنا الحَدِيث فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ذَاك زمَان وَبعده قَالَ ابْن عَبَّاس لَا تتركوا التّرْك وَإِن تركوكم فَسكت الْمَنْصُور وانفض الْمجْلس
وَلما سرح الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس تصدر لنشر الْعلم وأهرع النَّاس إِلَيْهِ للأخذ عَنهُ وَلم يزل بمراكش إِلَى أَن مَاتَ الْمَنْصُور لِأَنَّهُ مَا سرحهم حَتَّى شَرط عَلَيْهِم السُّكْنَى بمراكش وَلما توفّي أذن ابْنه زَيْدَانَ لآل آقيت فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ بعد أَن مَاتَ جمَاعَة مِنْهُم بمراكش وَقد كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس يتشوق إِلَى(5/130)
رُؤْيَة بلدته ويسكب العبرات عِنْد ذكرهَا وَلم ييأس من روح الله فِي الْعود إِلَيْهَا وَله فِي ذَلِك شعر على طَريقَة الْفُقَهَاء وَلما خرج من مراكش قَاصِدا بَلَده شيعه أَعْيَان طلبتها فَأخذ بَعضهم بِيَدِهِ عِنْد الْوَدَاع وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} على مَا جرت بِهِ الْعَادة من قرَاءَتهَا عِنْد وداع الْمُسَافِر فَيرجع سالما فَانْتزع الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس يَده بِسُرْعَة وَقَالَ لَا ردني الله إِلَى هَذَا الْمعَاد وَلَا رجعني إِلَى هَذِه الْبِلَاد ثمَّ لحق بتنبكتو فاستقر بهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله
تَتِمَّة
قد تبين لَك بِمَا قصصناه عَلَيْك من أَخْبَار السودَان مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْأَخْذ بدين الْإِسْلَام من لدن قديم وَأَنَّهُمْ من أحسن الْأُمَم إسلاما وأقومهم دينا وَأَكْثَرهم للْعلم وَأَهله تحصيلا ومحبة وَهَذَا الْأَمر شَائِع فِي جلّ ممالكهم الموالية للمغرب كَمَا علمت وَبِهَذَا يظْهر لَك شناعة مَا عَمت بِهِ الْبلوى بِبِلَاد الْمغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودَان مُطلقًا وجلب القطائع الْكَثِيرَة مِنْهُم فِي كل سنة وبيعهم فِي أسواق الْمغرب حَاضِرَة وبادية يسمسرون بهَا كَمَا تسمسر الدَّوَابّ بل أفحش قد تمالأ النَّاس على ذَلِك وتوالت عَلَيْهِ أجيالهم حَتَّى صَار كثير من الْعَامَّة يفهمون أَن مُوجب الاسترقاق شرعا هُوَ اسوداد اللَّوْن وَكَونه مجلوبا من تِلْكَ النَّاحِيَة وَهَذَا لعمر الله من أفحش المناكر وَأَعْظَمهَا فِي الدّين إِذْ أهل السودَان قوم مُسلمُونَ فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا وَلَو فَرضنَا أَن فيهم من هُوَ مُشْرك أَو متدين بدين آخر غير الْإِسْلَام فالغالب عَلَيْهِم الْيَوْم وَقبل الْيَوْم بِكَثِير إِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَام وَالْحكم للْغَالِب وَلَو فَرضنَا أَن لَا غَالب وَإِنَّمَا الْكفْر وَالْإِسْلَام هُنَالك متساويان فَمن لنا بِأَن المجلوب مِنْهُم هُوَ من صنف الْكفَّار لَا الْمُسلمين وَالْأَصْل فِي نوع الْإِنْسَان هُوَ الْحُرِّيَّة والخلو عَن مُوجب الاسترقاق ومدعي خلاف الْحُرِّيَّة مُدع لخلاف الأَصْل وَلَا ثِقَة بِخَبَر الجالبين لَهُم والبائعين لَهُم لما تقرر وَعلم فِي الباعة مُطلقًا من الْكَذِب عِنْد بيع سلعهم وإطرائها بِمَا لَيْسَ فِيهَا وَفِي باعة(5/131)
الرَّقِيق خُصُوصا مِمَّا هُوَ أَكثر من ذَلِك كَيفَ وَنحن نرى أَن الَّذين يجلبونهم أَو يتجرون فيهم إِنَّمَا هم من لَا خلاق لَهُم وَلَا مُرُوءَة وَلَا دين وَالزَّمَان كَمَا علمت وَأَهله كَمَا ترى وَلَا يعْتَمد أَيْضا على قَول ذَلِك العَبْد نَفسه أَو الْأمة نَفسهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ الْفُقَهَاء لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض وَالْأَحْوَال فِي ذَلِك فَإِن البَائِع لَهُم قد يَضْرِبهُمْ حَتَّى لَا يقرونَ إِلَّا بِمَا لَا يقْدَح فِي صِحَة بيعهم وَقد يكون للْعَبد أَو الْأمة غَرَض فِي الْخُرُوج من ملك من هُوَ بِيَدِهِ بِأَيّ وَجه كَانَ فيهون عَلَيْهِ أَن يقر على نَفسه بالرقية كي ينفذ بَيْعه عَاجلا إِلَى غير ذَلِك من الْأَغْرَاض وَقد استفاض عَن أهل الْعدْل وَغَيرهم أَن أهل السودَان الْيَوْم وَقبل الْيَوْم يُغير بَعضهم على بعض ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض ويسرقونهم من الْأَمَاكِن النائية عَن مداشرهم وعمرانهم وَإِن فعلهم ذَلِك كَفعل أَعْرَاب الْمغرب فِي إغارة بَعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أَو سرقتها وَالْكل مُسلمُونَ وَإِنَّمَا الْحَامِل لَهُم على ذَلِك قلَّة الدّيانَة وَعدم الْوَازِع فَكيف يسوغ للمحتاط لدينِهِ أَن يقدم على شِرَاء مَا هُوَ من هَذَا الْقَبِيل وَكَيف يجوز لَهُ التَّسَرِّي بإناثهم وَفِي ذَلِك مَا فِيهِ من الْإِقْدَام على فرج مَشْكُوك
وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب الْحَلَال وَالْحرَام من إحْيَاء عُلُوم الدّين مَا نَصه اعْلَم أَن كل من قدم إِلَيْك طَعَاما أَو هَدِيَّة أَو أردْت أَن تشتري مِنْهُ أَو تتهب فَلَيْسَ لَك أَن تفتش عَنهُ وتسأل وَتقول هَذَا مِمَّا لَا أتحقق حلّه فَلَا آخذه بل أفتش عَنهُ وَلَيْسَ لَك أَيْضا أَن تتْرك الْبَحْث فتأخذ كل مَا لَا تتيقن تَحْرِيمه بالسؤال وَاجِب مرّة وَحرَام مرّة ومندوب مرّة ومكروه مرّة فَلَا بُد من تَفْصِيله وَالْقَوْل الشافي فِيهِ هُوَ أَن مَظَنَّة السُّؤَال مواقع الرِّيبَة ثمَّ أَطَالَ رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْرِير ذَلِك وَصرح بِأَن البَائِع إِذا كَانَ مُتَّهمًا على ترويج سلْعَته لَا يعْتَمد على قَوْله فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَمْوَال فَكيف باسترقاق الرّقاب وَملك الأبضاع الَّذين للشارع بهما مزِيد اعتناء كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الشَّرْع وأصوله
وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بَابا فِي تَقْيِيده الْمَوْضُوع فِي هَذِه(5/132)
الْمَسْأَلَة الْمُسَمّى بمعراج الصعُود تَفْصِيلًا ختم بِهِ كَلَامه وَذكر قبائل من كفار السودَان مثل موشى وَبَعض فلَان وَغَيرهم وَقَالَ إِن كل من كَانَ من هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل فَيجوز استرقاقه وَكَذَلِكَ ذكر ولي الدّين ابْن خلدون إِن وَرَاء النّيل قوما من السودَان يُقَال لَهُم لملم قَالَ وهم كفار ويكتوون فِي وُجُوههم وأصداغهم قَالَ وَأهل غانة والتكرور يغيرون عَلَيْهِم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إِلَى الْمغرب وهم عَامَّة رقيقهم وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ فِي الْجنُوب عمرَان يعْتَبر إِلَى آخر كَلَامه لَكِن هَذَا التَّفْصِيل الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس إِنَّمَا ينفع أهل تِلْكَ الْبِلَاد المجاورين لَهُم والمطلعين على المجلوب مِنْهُم وَمن غَيرهم فَأَما أهل الْمغرب الَّذين هم من وَرَاء وَرَاء وَبينهمْ وَبَين أَرض السودَان مهامه فيح وقفار لَا يعمرها إِلَّا الرّيح فَمن الَّذِي يُحَقّق لَهُم ذَلِك وَقد قُلْنَا إِنَّه لَا يجوز الِاعْتِمَاد على قَول الجالبين لَهُم وَأَيْضًا فَمن لنا بِأَن أُولَئِكَ الْقَبَائِل لَا زَالُوا على كفرهم إِلَى الْآن على أَن النَّاس الْيَوْم لَا يلتفتون إِلَى ذَلِك أصلا وَمهما رأى أحدهم العَبْد أَو الْأمة يسمسر فِي السُّوق إِلَّا وَيقدم على شِرَائِهِ غافلا عَن هَذَا كُله لَا يسْأَل إِلَّا عَن عُيُوب بدنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين أسود أَو أَبيض وَغَيرهمَا بل صَار الفسقة الْيَوْم وَأهل الجراءة على الله يختطفون أَوْلَاد الْأَحْرَار من قبائل الْمغرب وقراه وأمصاره ويبيعونهم فِي الْأَسْوَاق جهارا من غير نَكِير وَلَا امتعاض للدّين وَصَارَ النَّصَارَى وَالْيَهُود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وَذَلِكَ عُقُوبَة من الله لنا لَو اعْتبرنَا فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على مَا دهينا بِهِ فِي ديننَا
فَالْحَاصِل أَنه لما كَانَ الأَصْل فِي النَّاس هُوَ الْحُرِّيَّة كَمَا قُلْنَا وَعلم تواترا أَن أهل بِلَاد السودَان الموالية لنا جلهم أَو كلهم مُسلمُونَ واستفاض عَن أهل الْعدْل وَغَيرهم أَنهم يُغير بَعضهم على بعض ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض ويبيعونهم ظلما وعدوانا ورأينا بِالْمُشَاهَدَةِ أَن الجالبين لَهُم والمتجرين فيهم إِنَّمَا هم من لَا خلاق لَهُم وَلَا دين لَهُم لم يبْق لنا توقف فِي أَن الْإِقْدَام على شِرَاء هَذَا الصِّنْف مَحْظُور فِي الشَّرْع والمقدم عَلَيْهِ مخاطر فِي دينه وَأما(5/133)
وضع يَد الجالبين لَهُم عَلَيْهِم فَلَا تَكْفِي شرعا فِي جَوَاز الْإِقْدَام على شرائهم مِنْهُم لضعف هَذِه الْعَلامَة بِمَا أحتف بهَا من الْقَرَائِن المكذبة لَهَا وليستفت الْمَرْء قلبه فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استفت قَلْبك وَإِن أفتوك فَإِنَّهُ مَتى رَجَعَ إِلَى قلبه فِي هَذِه المعضلة إِلَّا وَلَا يقدر أَن يحوم حول هَذَا الْحمى بِحَال ثمَّ تنزل عَن هَذَا كُله ونقول لَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا الشُّبْهَة القوية وَفَسَاد الزَّمَان ورقة ديانَة أَهله لَكَانَ فِي هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة مَعَ مُلَاحظَة سد الذريعة الَّذِي هُوَ أحد أصُول الشَّرِيعَة لَا سِيمَا عِنْد الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ مَا يَقْتَضِي وجوب التخلي عَن مُلَابسَة هَذِه الْمفْسدَة المزرية بِالْعرضِ وَالدّين فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يوفق من ولاه أَمر الْعباد لحسم مَادَّة هَذِه الْفساد فَإِن سَبَب الاسترقاق الشَّرْعِيّ الَّذِي كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف الصَّالح مَفْقُود الْيَوْم وَهُوَ السَّبي النَّاشِئ عَن الْجِهَاد الْمَقْصُود بِهِ إعلاء كلمة الله تَعَالَى وسوق النَّاس إِلَى دينه الَّذِي اصطفاه لِعِبَادِهِ هَذَا هُوَ ديننَا الَّذِي شَرعه لنا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلافه خلاف الدّين وَغَيره غير الْمَشْرُوع والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}
بِنَاء قصر البديع بِحَضْرَة مراكش مرسها الله
قَالَ فِي مناهل الصَّفَا كَانَ السَّبَب الْحَامِل للمنصور على بِنَاء البديع وإنفاقه فِيهِ جلائل الْأَمْوَال ونفائس الذَّخَائِر هُوَ أَنه أَرَادَ أَن تكون لأهل الْبَيْت بِهِ مأثرة وشفوف على دولة البرابر من المرابطين والموحدين وَمن بعدهمْ فَإِن كلا من أهل تِلْكَ الدول أبقى بِنَاء يحيا بِهِ ذكره وَلم يكن لأهل الْبَيْت فِي ذَلِك الْمَعْنى شَيْء تزداد بِهِ حظوتهم مَعَ أَنهم أَحَق النَّاس بالمجد والسؤدد الأثيل فتصدى لبنائه بِقصد تشريف أهل الْبَيْت لِأَن الْبناء كَمَا قيل
(همم الْمُلُوك إِذا أَرَادوا ذكرهَا ... من بعدهمْ فبألسن الْبُنيان)
(إِن الْبناء إِذا تعاظم شَأْنه ... أضحى يدل على عَظِيم الشَّأْن)
قلت هَذَا اعتذار بَارِد كَمَا لَا يخفى(5/134)
وَلما أَرَادَ الْمَنْصُور أَن يشرع فِيهِ أحضر أهل الْعلم وَمن يتسم بالصلاح فتحينوا أَوَان الِابْتِدَاء وَوقت الشُّرُوع فِيهِ فَكَانَ ابْتِدَاء الشُّرُوع فِي تأسيسه فِي شَوَّال خَامِس الْأَشْهر من خِلَافَته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة واتصل الْعَمَل فِيهِ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَلم يَتَخَلَّل ذَلِك فَتْرَة وحشد لَهُ الصناع حَتَّى من بِلَاد الإفرنجية فَكَانَ يجْتَمع كل يَوْم فِيهِ من أَرْبَاب الصَّنَائِع ومهرة الْحُكَمَاء خلق عَظِيم حَتَّى كَانَ بِبَابِهِ سوق عَظِيم يَقْصِدهُ التُّجَّار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب لَهُ الرخام من بِلَاد الرّوم فَكَانَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُم بالسكر وزنا بِوَزْن على مَا قيل
وَكَانَ الْمَنْصُور قد اتخذ معاصر السكر بِبِلَاد حاحة وشوشاوة وَغَيرهمَا حَسْبَمَا ذكره الفشتالي رَحمَه الله فِي المناهل
وَأما جبصه وجيره وَبَاقِي أنقاضه فَإِنَّهَا جمعت من كل جِهَة وحملت من كل نَاحيَة حَتَّى أَنه وجدت بطاقة فِيهَا أَن فلَانا دفع صَاعا من جير حمله من تنبكتو وظف عَلَيْهِ فِي غمار النَّاس
وَكَانَ الْمَنْصُور مَعَ ذَلِك يحسن إِلَى الأجراء غَايَة الْإِحْسَان ويجزل صلَة العارفين بِالْبِنَاءِ ويوسع عَلَيْهِم فِي الْعَطاء وَيقوم بمؤن أَوْلَادهم كي لَا تتشوف نُفُوسهم وتتشعب أفكارهم
وَهَذَا البديع دَار مربعة الشكل وَفِي كل جِهَة مِنْهَا قبَّة رائقة الْهَيْئَة وأحتف بهَا مصانع أخر من قباب وقصور ودور فَعظم بذلك بِنَاؤُه وطالت مسافته وَلَا شكّ أَن هَذَا البديع من أحسن المباني وأعجب المصانع يقصر عَنهُ شعب بوان وينسى ذكر غمدان ويبخس الزهراء والزاهره ويزري بقباب الشَّام وأهرام الْقَاهِرَة وَفِيه من الرخام المجزع والمرمر الْأَبْيَض وَالْأسود مَا يحير الْفِكر ويدهش النّظر وكل رخامة طلي رَأسهَا بِالذَّهَب الذائب وموه بالنضار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي الْبشرَة وَجعل فِي أَضْعَاف ذَلِك الزليج المتنوع التلوين حَتَّى كَأَنَّهُ خمائل الزهر أَو برد موشى من عمل صنعاء وتستر وَأما سقوفه فتجسم فِيهَا الذَّهَب وطليت الجدرات بِهِ مَعَ بديع النقش ورائق الرقم بخالص الجبص فتكاملت فِيهِ المحاسن وأجرى بَين قبابه(5/135)
مَاء غير آسن وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن هَذَا البديع كَانَ من المباني المتناهية الْبَهَاء وَالْإِشْرَاق المباهية لزوراء الْعرَاق وَمن المصانع الَّتِي هِيَ جنَّة الدُّنْيَا وفتنة الْمحيا ومنتهى الْوَصْف وموقف السرُور والقصف
(كل قصر بعد البديع يذم ... فِيهِ طَابَ المجنى وطاب المشم)
(منظر رائق وَمَاء نمير ... وثرى عاطر وقصم أَشمّ)
(إِن مراكشا بِهِ قد تباهت ... مفخرا فَهِيَ للعلا الدَّهْر تسمو)
وَبِه من الْأَشْعَار المرقومة فِي الأستار والأبيات المنقوشة فِي الْجِهَات على الْخشب والزليج والجبص مَا يسر النَّاظر ويروق المتأمل ويبهر الْعُقُول وعَلى كل قبَّة مَا يُنَاسِبهَا وَفِي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها وتتبع ذَلِك يطول لَكِن لَا بَأْس أَن نلم هُنَا بثمالة من ذَلِك الْحَوْض ونخوض فِي بحار تِلْكَ الْبَدَائِع بعض الْخَوْض إِذْ فِي ذَلِك عِبْرَة لمن اعْتبر وترويح للقلوب بكيفية فعل الدَّهْر بِمن غبر فَمن ذَلِك مَا نقش خَارج الْقبَّة الخمسينية لِأَن فِيهَا خمسين ذِرَاعا بِالْعَمَلِ من إنْشَاء الْكَاتِب البليغ أبي فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي على لِسَان الْقبَّة الْمَذْكُورَة
(سموت فَخر الْبَدْر دوني وانحطا ... وَأصْبح قرص الشَّمْس فِي أُذُنِي قرطا)
(وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي ... ونيطت بِي الجوزاء فِي عنقِي سمطا)
(ولاحت بأطواقي الثريا كَأَنَّهَا ... نثير جمان قد تتبعته لقطا)
(وعديت عَن زهر النُّجُوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا)
(وأجريت من فيض السماحة والندى ... خليجا على نهر المجرة قد غطا)
(عقدت عَلَيْهِ الجسر للفخر فارتمت ... إِلَيْهِ وُفُود الْبَحْر تغرف مَا أنطا)
(ينضنض مَا بَين الغروس كَأَنَّهُ ... وَقد رقرقت حصباؤه حَيَّة رقطا)
(حواليه من دوح الرياض خرائد ... وغيد تجر من خمائلها مِرْطًا)
(إِذا أرْسلت لدن الْفُرُوع وَفتحت ... جنى الزهر لَاحَ فِي ذوائبها وخطا)
(يرنحها مر النسيم إِذا سرى ... كَمَا مَال نشوان تشرب اسفنطا)
(يشق رياضا جادها الْجُود والندى ... سَوَاء لَدَيْهَا الْغَيْث أسكب أم أَبْطَا)
(وسالت بسلسال اللجين حياضه ... بحارا غَدا عرض الْبَسِيط لَهَا شطا)(5/136)
(تطلع مِنْهَا وسط وسطاه دمية ... هِيَ الشَّمْس لَا تخشى كسوفا وَلَا غمطا)
(حكت وحباب المَاء فِي جنباتها ... سنا الْبَدْر حل من نُجُوم السما وسطا)
(إِذا غازلتها الشَّمْس ألْقى شعاعها ... على جسمها الفضي نَهرا بهَا لطا)
(توسمت فِيهَا من صفاء أديمها ... نقوشا كَأَن الْمسك ينقطها نقطا)
(إِذا اتسقت بيض القباب قلادة ... فَأنى لَهَا فِي الْحسن درتها الوسطا)
(تكنفني بيض الدمى فَكَأَنَّهَا ... عذارى نضت عَنْهَا القلائد والريطا)
(قدود وَلَكِن زَادهَا الْحسن عريها ... وأجمل فِي تنعيمها النحت والخرطا)
(سمت صعدا تيجانها فَكسرت ... فوارير أفلاك السَّمَاء بهَا ضغطا)
(فيالك شأوا بالسعادة آهلا ... بأكنافه رَحل الْعلَا وَالْهدى حطا)
(وكعة مجد شادها الْعِزّ فانبرت ... تَطوف بمعناها أماني الورى شوطا)
(ومسرح غزلان الصريم كناسها ... حنايا قباب لَا الْكتب وَلَا السقطا)
(فلكن بِهِ مَا طَابَ لَا الإثل والخمطا ... ووسدن فِيهِ الوشي لَا السدر والأرطا)
(ثراه من الْمسك الفتيت مُدبر ... إِذا مازجته السحب عَاد بهَا خلطا)
(وَإِن باكرته نسمَة ينسري بهَا ... إِلَى كل أنف عرف عنبره قسطا)
(أقرَّت لَهُ الزهراء والخلد وانثنت ... أواوين كسْرَى الْفرس تغبطه غبطا)
(جناب رواق الْمجد فِيهِ مطنب ... على خير من يعزى لخير الورى سبطا)
(إِمَام يسير الدَّهْر تَحت لوائه ... وترسي سفائن الْعلَا حَيْثُمَا حطا)
(وفتاح أقطار الْبِلَاد بفيلق ... يفلق هامات العدا بالظبي خبطا)
(تطلع من خرصاته الشهب فانثنت ... ذوائب أَرض الزنج من ضوءها شُمْطًا)
(كتائب نصران جرت لملمة ... جرت قبلهَا الأقدار تسبقها فرطا)
(إِذا مَا عقدن راية علوِيَّة ... جعلن ضَمَان الْفَتْح فِي عقدهَا شرطا)
(فَمَا للسما تِلْكَ الْأَهِلّة إِنَّمَا ... سنابكها أبقت مِثَالا بهَا خطا)
(يطاوع أَيدي المعلوات عنانها ... فيعتاض من قبض الزَّمَان بهَا بسطا)
(يَد لأمير الْمُؤمنِينَ بكفها ... زِمَام يَقُود الرّوم وَالْفرس والقبطا)
(أدَار جدارا للعلا وسرادقا ... يحوط جِهَات الأَرْض من رعيه حوطا)
وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب بداخل الْقبَّة الْمَذْكُورَة(5/137)
(جمال بدائعي سحر العيونا ... ورونق منظري بهر الجفونا)
(وَقد حسنت بقوسي واستطارت ... سنا يغشى عُيُون الناظرينا)
(وأطلع سمكي الْأَعْلَى نجوما ... ثواقب لَا تغور الدَّهْر حينا)
(وجوى من دُخان الند ألْقى ... على أرضي الغياهب والدجونا)
(عَلَوْت دوائر الأفلاك سبعا ... لذاك الدَّهْر مَا ألفت سكونا)
(فصغت من الْأَهِلّة والحنايا ... أساور والخلاخل والبرينا)
(تكنفني حِيَاض مائحات ... أَمَامِي وَالشَّمَائِل واليمينا)
(يُقيد حسنها الطّرف انفساحا ... وَيجْرِي الْفلك فِيهَا والسفينا)
(تدافع نهرها نحوي فَلَمَّا ... علاهُ الْبَحْر فِي غَدا دَفِينا)
(وَقد نشر الْحباب على سَمَّاهَا ... لآلي تزدري العقد الثمينا)
(فخرت وَحقّ لي لما اجتباني ... لمجلسه أَمِير المؤمنينا)
(هُوَ الْمَنْصُور حائز فصل سبق ... وباني الْمجد بنيانا مكينا)
(وَلَيْث وغى إِذا زأر امتعاضا ... يروع زئيره هندا وصينا)
(إِذا أمت كتائبه الأعادي ... بعثن برعبه جَيْشًا كمينا)
(يُدِير عَلَيْهِم من كل حَرْب ... تدقهم رحى أَو منجنونا)
(إِمَام بالمغارب لَاحَ شمسا ... بهَا الشرق اكتسى نورا مُبينًا)
(بقيت بِذِي الْقُصُور الغر بَدْرًا ... تلوح بأفقهن مدى السنينا)
(تحف بكم عواكف عِنْد بَابي ... مَلَائِكَة كرام كاتبينا)
(لَك الْبُشْرَى أَمِير الْمُؤمنِينَ ادخلوها ... مَعَ سَلام آمنينا)
وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب فِي بهوها بمرمر أسود فِي أَبيض
(لله بهو عز مِنْهُ نَظِير ... لما غَدا كالروض وَهُوَ نضير)
(رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ... قد نضدتها فِي النحور الْحور)
(فَكَأَنَّهَا والتبر سَالَ خلالها ... وشي وَفِضة تربها كافور)
(وَكَأن أَرض قراره ديباجة ... قد زَان حسن طرازها تشجير)
(وَإِذا تصاعد نده نوأ فَفِي ... أنماطه نور بِهِ مَمْطُور)
(شأو الْقُصُور قُصُورهَا عَن وَصفه ... سيان فِيهِ خورنق وسدير)(5/138)
(فَإِذا أجلت اللحظ فِي جنباته ... يرْتَد وَهُوَ بحسنه محسور)
(وَكَأن موج البركتين أَمَامه ... حركات سحب صافحته دبور)
(صفت بضفتها تماثل فضَّة ... ملك النُّفُوس بحسنها تَصْوِير)
(فتدير من صفو الزلَال مُعَللا ... يسري إِلَى الْأَرْوَاح مِنْهُ سرُور)
(مَا بَين آساد يهيج زئيرها ... وأساود يَعْلُو لَهُنَّ صفير)
(ودحت من الْأَنْهَار أَرض زجاجة ... وأضلها فلك يضيء مُنِير)
(راقت فَمن حصبائها وفواقع ... يطفو عَلَيْهَا اللُّؤْلُؤ المنثور)
(يَا حسنه من مصنع فبهاؤه ... باهى نُجُوم الْأُفق وَهِي تنور)
(وكأنما زهر الرياض بجنبه ... حَيْثُ الْتفت كواكب وبدور)
(ولدسته الأسمى تخير رصفه ... فَخر الورى وإمامها الْمَنْصُور)
(ملك أناف على الفراقد رُتْبَة ... وَأقله فَوق السماك سَرِير)
(قطب الْخلَافَة تَاج مفرق دولة ... رميت بجحفلها اللهام الكور)
(وَجرى إِلَى أقْصَى الْعرَاق لرعبها ... جَيش على جسر الْفُرَات عبور)
(نجل النَّبِي ابْن الْوَصِيّ سليل من ... حقن الدِّمَاء وعف وَهُوَ قدير)
(بَحر الندى لكنه متموج ... سيف الْعلَا لكنه مطرور)
(طود يخف لحلمه ووقاره ... ولجيشه يَوْم النزال ثبير)
(دَامَت معاليه ودام ومجده ... طوق على جيد الْعلَا مزرور)
(وتعاهدته من الْفتُوح بشائر ... يَغْدُو عَلَيْهِ بهَا مسا وبكور)
(مَا زَالَ منزل سعده يرتاده ... نصر يرف لِوَاؤُهُ المنشور)
(وَجَرت بِهِ مرحا جِيَاد مَسَرَّة ... وأدار كأس الْأنس فِيهِ سمير)
وَقَالَ بعض الْكتاب مِمَّا نقش فِي عضادتي بَاب الْقبَّة الخمسينية الْمَذْكُورَة
(يَا نَاظرا بِاللَّه قف وَتَأمل ... وَانْظُر إِلَى الْحسن البديع الْأَكْمَل)
(وَإِذا نظرت إِلَى الْحَقِيقَة فَلْتَقُلْ ... السِّرّ فِي السكان لَا فِي الْمنزل)
وَقَالَ بعض الْكتاب أَيْضا مَا طرزت بِهِ الأستار المذهبة المحكمة الصَّنْعَة لتستر بهَا النواحي الْأَرْبَعَة من الْقبَّة الخمسينية وَتسَمى هَذِه الأستار عِنْد أهل(5/139)
الْمغرب بالحائطي فَفِي الْجِهَة الأولى
(متع جفونك فِي بديع لباسي ... وأدر على حسني حميا الكاس)
(هذي الرِّبَا وَالرَّوْض من جرعائها ... لم تغتذي بالعارض البجاس)
(أَنى لروض أَن يروق بهاؤه ... مثلي وَأَن يجْرِي على مقياسي)
(فالروض تغشاه السوام وَإِنَّمَا ... تأوي إِلَى كنفي ظباء كناس)
وَفِي الْجِهَة الثَّانِيَة
(من كل حسنا كالقضيب إِذا انثنى ... تزري بِغُصْن البانة المياس)
(وَلَقَد نشرت على السماك ذوائبي ... وَنظرت من شرز إِلَى الكناس)
(وجررت ذيلي بالمجرة عابثا ... فخرا بمخترعي أبي الْعَبَّاس)
(مَا نيط مثلي فِي القباب وَلَا ازدهت ... بفتى سواهُ مَرَاتِب وكراس)
وَفِي الْجِهَة الثَّالِثَة
(ملك تقاصرت الْمُلُوك لعزه ... وَرَمَاهُمْ بالذل والإتعاس)
(غيث الْمَوَاهِب بَحر كل فَضِيلَة ... لَيْث الحروب مسعر الأوطاس)
(فَرد المحاسن والمفاخر كلهَا ... قطب الْجمال أَخُو الندى والباس)
(ملك إِذا وافى الْبِلَاد تأرجت ... مِنْهُ الوهاد بعاطر الأنفاس)
وَفِي الْجِهَة الرَّابِعَة
(وَإِذا تطلع بدره من هَالة ... يعشى سناه نواظر الْجلاس)
(أَيَّامه غرر تجلت كلهَا ... أبهى من الأعياد والأعراس)
(لَا زَالَ للمجد السّني يشده ... وَيُقِيم مبناه على الأساس)
(مَا مَال بالغصن النسيم وكللت ... دُرَر الندى فِي جيده المياس)
وَقَالَ أَبُو فَارس الفشتالي مِمَّا كتب على المصرية المطلة على الرياض المرتفعة على الْقبَّة الخضراء من بديع الْمَنْصُور وَكَانَ أَنْشَأَهَا فِي جُمَادَى الأولى من سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة
(باكر لدي من السرُور كؤوسا ... وَأَرْض النديم أَهله وشموسا)
(وأعرج على غرفي المنيف سماؤها ... تلق الفراقد فِي حماي جُلُوسًا)(5/140)
(وَإِذا طلعت بأوجها قمر الْعلَا ... لَا تَرْتَضِي غير النُّجُوم جَلِيسا)
(شَرق الْقُصُور بريقها لما اجتلت ... مني على بسط الرياض عروسا)
(واعتضت بالمنصور أَحْمد ضيغما ... وردا تخير من بديعي خيسا)
(ملك أرى كل الْمُلُوك ممالكا ... لعلاه وَالدُّنْيَا عَلَيْهِ حَبِيسًا)
(وَهُنَاكَ يَا شرف الْخلَافَة دولة ... تلقى برايتها طلائع عيسا)
وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب فِي بعض المباني البديعية
(مَعَاني الْحسن تظهر فِي المغاني ... ظُهُور السحر فِي حدق الحسان)
(مشابه فِي صِفَات الْحسن أضحت ... تمت بهَا المغاني للغواني)
(بِكُل عَمُود صبح من لجين ... تكون فِي استقامة خوط بَان)
(مفصلة القدود مثلثات ... مُوَاصلَة العناق من التدان)
(تردت سابري الْحسن يزري ... بِحسن السابري الخسرواني)
(وتعطو الخيزرانة من حماها ... بسالفة القطيع البرهماني)
(لمجدك تنتمي لَكِن نماها ... إِلَى صنعاء مَا صنع اليدان)
(يدين لَك ابْن ذِي يزن ويعنو ... لَهما غمدان فِي أَرض الْيَمَانِيّ)
(غَدَتْ حرما وَلَكِن حل فِيهَا ... لوفدكم الْأمان مَعَ الْأَمَانِي)
(مبان بالخلافة آهلات ... بهَا يَتْلُو الْهدى السَّبع المثاني)
(هِيَ الدُّنْيَا وساكنها إِمَام ... لأهل الأَرْض من قاص وداني)
(قُصُور مَا لَهَا فِي الأَرْض شبه ... وَمَا فِي الْمجد للمنصور ثَانِي)
وَقَالَ مِمَّا نقش فِي بعض الْأَبْوَاب
(هذي وُفُود السعد نحوي ترتمي ... وطلائع الْبُشْرَى لبابي تنتمي)
(وسمت إِلَيّ عفاة عرفك مثل مَا ... يسمو الحجيج إِلَى سِقَايَة زَمْزَم)
(حطت بمصراعي السُّعُود بشائرا ... لاحت على الشرفات مثل الأنجم)
(وَأَوَان صنعي أَن تَقول وَلَا تبل ... ببديع أَحْمد جنَّة المتنعم)
وَقَالَ الفشتالي لما عرضت عَلَيْهِ هَذِه الأبيات استحسنها إِلَّا أَنه كره لَفْظَة جنَّة وَتغَير مِنْهَا كثيرا وَقَالَ الْوَزير الأديب أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي مِمَّا كتب على مُبَاح قبَّة الزّجاج(5/141)
(إِن شِئْت تَارِيخ إِكْمَال البديع فَقل ... إيوَان أَحْمد إيوَان السعادات)
وَقَالَ الْوَزير الْمَذْكُور مِمَّا نقش على أحد أَبْوَاب البديع
(بَاب أَتَى كبراعة استهلال ... وكأنما الْقصر القصيد التَّالِي)
(ولذاك سمي بالبديع وَجَاء بَال ... إغراق والتجنيس والإيفال)
(وأتى التَّمام فَقلت فِي تَارِيخه ... بَيْتا بِلَا عقد وَلَا إِشْكَال)
(صرح على تقوى من الله انبنى ... فِي طالع للسعد والإقبال)
وَقَالَ أَيْضا فِي تَمام البديع مهنئا
(يَا مليكا ملكه فِيمَن ملك ... كطلوع الْفجْر من بعد الحلك)
(تمّ هَذَا الْقصر فاسكنه على ... حسن حَال بدوام الْملك لَك)
وَكَانَ الْفَرَاغ من تَمام البديع سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَفِي تَارِيخه يَقُول الْوَزير الْمَذْكُور وَهُوَ مِمَّا نقش بِبَاب الرخام أحد أَبْوَاب البديع
(الْحسن لفظ وَهَذَا الْقصر مَعْنَاهُ ... ياما أميلح مرآه وَأَبْهَاهُ)
(فَهُوَ البديع الَّذِي راقت بدائعه ... وطابق اسْم لَهُ فِيهِ مُسَمَّاهُ)
(صرح أُقِيمَت على التَّقْوَى قَوَاعِده ... وَدلّ مِنْهُ على التَّارِيخ مَعْنَاهُ)
(ولاح أَيْضا وَعين الْحِفْظ تكلاه ... تَارِيخه من تَمام قل هُوَ الله)
قَالَ فِي نفح الطّيب اخترع الْمَنْصُور من المصانع ثَلَاثَة أَشْيَاء فَجَاءَت غَرِيبَة الشكل بديعة الْحسن وَهِي البديع والسمرة والمشتهى وَفِيهِمَا يَقُول الْمَنْصُور موريا
(بُسْتَان حسنك أبدعت زهراته ... وَلكم نهيت الْقلب عَنهُ فَمَا انْتهى)
(وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يَا حسن رمان بِهِ للمشتهى) اه
قَالَ اليفرني وَالَّذِي ذكره صَاحب كتاب الْبَيَان الْمغرب عَن أَخْبَار الْمغرب وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِذَارَيْ الأندلسي حَسْبَمَا رَأَيْته فِي السّفر الثَّانِي مِنْهُ أَن أول من أنشأ المسرة الَّتِي بِظَاهِر جنان الصَّالِحَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ كَبِير الْمُوَحِّدين قَالَ وَهُوَ بُسْتَان طوله ثَلَاثَة أَمْيَال وَعرضه قريب مِنْهَا فِيهِ كل فَاكِهَة تشْتَهى وجلب إِلَيْهِ المَاء من أغمات واستنبط لَهُ عيُونا كَثِيرَة(5/142)
قَالَ ابْن اليسع وَمَا خرجت أَنا من مراكش فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة إِلَّا وَهَذَا الْبُسْتَان الَّذِي غرسه عبد الْمُؤمن يبلغ مَبِيع زيتونه وفواكهه ثَلَاثِينَ ألف دِينَار مؤمنية على رخص الْفَاكِهَة بمراكش اه وَلَعَلَّ الْمَنْصُور جدد معالم المسرة بعد اندراسها وأفاض سِجَال الْحَيَاة على ميت غراسها وَكَانَ الْمَنْصُور يفتخر بالبديع كثيرا وينوه بِقَدرِهِ وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو فَارس الفشتالي
(هَذَا البديع يعز شبه بَدَائِع ... أبدعتهن بِهِ فجَاء غَرِيبا)
(أضنى الغزالة حسنه حسدا لَهُ ... أبدى عَلَيْهَا للأصيل شحوبا)
(وَانْقَضَت الزهر المنيرة إِذْ رَأَتْ ... زهر الرياض بِهِ ينور عجيبا)
(شيدتهن مصانعا وصنائعا ... أنجزن وَعدك للعلا المرقوبا)
(وجريت فِي كل الفخار لغاية ... أدركتهن وَمَا مسست لغوبا)
(فانعم بملكك دَامَ فِيهِ مُؤَبَّدًا ... تجني بِهِ فنن النَّعيم رطيبا)
وَلما أكمل الْمَنْصُور البديع وَفرغ من تنميق بردته وتطريز حلته صنع مهرجانا عَظِيما ودعا الْأَعْيَان والأكابر فَقدم لَهُم من ضروب الْأَطْعِمَة وصنوف الموائد وأفرغ عَلَيْهِم من العطايا ومنحهم من الجوائز مَا لم يعْهَد مِنْهُ قبل ذَلِك وَكَانَ مِمَّن دخل فِي غمار النَّاس رجل من البهاليل مِمَّن كَانَت لَهُ شهرة بالصلاح فِي الْوَقْت فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور مباسطا كَيفَ رَأَيْت دَارنَا هَذِه يَا فلَان فَقَالَ لَهُ إِذا هدمت كَانَت كدية كَبِيرَة من التُّرَاب فَوَجَمَ لَهَا الْمَنْصُور وَتَطير مِنْهَا وتحكى هَذِه الْحِكَايَة عَن غير الْمَنْصُور فَالله أعلم
قَالَ اليفرني وَقد ظهر مصداق ذَلِك على يَد السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف فَإِنَّهُ أَمر بهدمه سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف لموجب يطول شَرحه فهدمت معالمه ومحيت مراسمه وَفرق مَا كَانَ بِهِ من جموع الْإِنْس وَعَاد حصيدا كَأَن لم يغن بالْأَمْس حَتَّى صَار مرعى للكلاب والمواشي ووكرا للصدى والبوم وَحقّ على الله أَن لَا يرفع شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه وَمن الْعَجَائِب أَنه لم يبْق بلد من بِلَاد الْمغرب إِلَّا ودخله شَيْء من أنقاض البديع وَلَقَد تذكرت بِهَذَا مَا حَكَاهُ بعض مؤرخي الأندلس أَن(5/143)
الزاهرة الَّتِي بناها الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَهِي من عجائب الدُّنْيَا مر عَلَيْهَا فِي أَيَّام الْمَنْصُور بعض أهل البصائر وَهِي فِي نِهَايَة الْعمرَان والازدهاء بسكانها فَقَالَ يَا دَار فِيك من كل دَار فَجعل الله مِنْك فِي كل دَار قَالَ فَضرب الدَّهْر ضرباته وسلط عَلَيْهَا أَيدي الْعدوان فهدمت وَخَربَتْ وَتَفَرَّقَتْ محاسنها حَتَّى نقل بعض أنقاضها إِلَى الْعرَاق
قَالَ اليفرني وَلما دخلت البديع مقفلي من الرحلة وَرَأَيْت مَا هالني أنشدت أبياتا أنشدها الشَّيْخ محيى الدّين بن عَرَبِيّ فِي كتاب المسامرة لما دخل الزاهرة فَوَجَدَهَا متهدمة وَهِي
(ديار بِأَكْنَافِ الملاعب تلمع ... وَمَا أَن بهَا من سَاكن فَهِيَ بلقع)
(ينوح عَلَيْهَا الطير من كل جَانب ... فتصمت أَحْيَانًا وحينا ترجع)
(فخاطبت مِنْهَا طائرا متفردا ... لَهُ شجن فِي الْقلب وَهُوَ مروع)
(فَقلت على مَاذَا تنوح وتشتكي ... فَقَالَ على دهر مضى لَيْسَ يرجع)
وأنشدت مَا أنْشدهُ ابْن الْآبَار فِي تحفة القادم
(قلت يَوْمًا لدار قوم تفانوا ... أَيْن سكانك الْكِرَام علينا)
(فأجابت هُنَا أَقَامُوا قَلِيلا ... ثمَّ سَارُوا وَلست أعلم أَيّنَا)
ثمَّ قَالَ اليفرني رَحمَه الله
لَطِيفَة تَأَمَّلت لفظ البديع فَوجدت عدد نقط حُرُوفه بِحِسَاب الْجمل مائَة وَسَبْعَة عشر وَهَذَا الْقدر هُوَ الَّذِي بَقِي فِيهِ البديع قَائِما فَإِنَّهُ فرغ مِنْهُ سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَشرع فِي هَدمه سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف فمدة عمره مائَة وَسبع عشرَة سنة على عدد اسْمه وَذَلِكَ من غَرِيب الِاتِّفَاق فسبحان من دقَّتْ حكمته وجلت قدرته وعمت رَحمته لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم(5/144)
ثورة النَّاصِر ابْن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِبِلَاد الرِّيف ومقتله
كَانَ النَّاصِر هَذَا فِي حَيَاة أَبِيه عبد الله الْغَالِب بِاللَّه خَلِيفَته على تادلا ونواحيها وَلما توفّي أَبوهُ الْمَذْكُور وَقَامَ بِالْأَمر أَخُوهُ المتَوَكل كَمَا اسْتَوْفَيْنَا خَبره قبض على النَّاصِر فاعتقله فَلم يزل معتقلا عِنْده سَائِر أَيَّامه إِلَى أَن قدم المعتصم بِجَيْش التّرْك وانتزع الْملك من يَد المتَوَكل كَمَا مر فسرح النَّاصِر من اعتقاله وَأحسن إِلَيْهِ فَلم يزل عِنْده فِي أرغد عَيْش إِلَى أَن توفّي المعتصم يَوْم وَادي المخازن وأفضى الْأَمر إِلَى الْمَنْصُور ففر النَّاصِر إِلَى آصيلا وَكَانَت لِلنَّصَارَى يَوْمئِذٍ ثمَّ عبر الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الأندلس فَكَانَ عِنْد طاغية قشتالة مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن سرحه الطاغية إِلَى الْمغرب بِقصد تَفْرِيق كلمة الْمُسلمين وإحداث الشقاق بَينهم فَخرج النَّاصِر بمليلية وَنزل بهَا لثلاث مَضَت من شعْبَان سنة ثَلَاث وَألف وتسامعت بِهِ الغوغاء والطغام من أهل تِلْكَ الْبِلَاد فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون فكثرت جموعه وتوفرت جيوشه واهتز الْمغرب بأسره لذَلِك
وَذكر اليفرني فِي الصفوة أَن الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار كتب كتابا إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن ريسون من أهل بِلَاد غمارة وَكَانَ مسموع الْكَلِمَة بهَا يحضه على الاستمساك بدعوة الْمَنْصُور وَأَن يلْزم الطاغية لَهُ فَوَقع الْكتاب فِي يَد الْمَنْصُور فَعرف للشَّيْخ الْقصار حَقه وَلما وَفد عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَصله وولاه الْفَتْوَى وَالْخطْبَة بِجَامِع الْقرَوِيين وتفرقة صَدَقَة الْمَسَاكِين
ثمَّ إِن النَّاصِر خرج من مليلية قَاصِدا تازا فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا ونزعت إِلَيْهِ الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهَا كالبرانس وَغَيرهم فتألبوا عَلَيْهِ وتمالؤوا على إعزازه وَنَصره وَلما دخل تازا طَالب أَهلهَا بالمكس وَقَالَ لَهُم إِن النَّصَارَى يغرمون حَتَّى على الْبيض وَلما سمع الْمَنْصُور بِخَبَرِهِ أقلقه ذَلِك وتخوف مِنْهُ غَايَة لِأَن النَّاصِر اهتز الْمغرب لقِيَامه وتشوفت النُّفُوس إِلَيْهِ لميل الْقُلُوب عَن الْمَنْصُور لشدَّة وطأته واعتسافه للرعية
قَالَ فِي ابتهاج الْقُلُوب فِي تَرْجَمَة الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْحسن عَليّ بن(5/145)
مَنْصُور البوزيدي الْمَعْرُوف بِأبي الشكاوي دَفِين شالة إِنَّه كَانَ سائرا يَوْمًا على بغلة وَمَعَهُ أَصْحَابه فَقَالَ لَهُم يَا فُقَرَاء أتسمعون مَا تَقول بغلتي إِنَّهَا تصيح بالنصر لمولاي النَّاصِر وَكَذَلِكَ الشّجر وَالْحجر وَإِنِّي أرى غير ذَلِك فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ اهتز لقِيَام النَّاصِر كل شَيْء ثمَّ قتل عَن قريب وَلم يتم لَهُ أَمر اه
ثمَّ إِن الْمَنْصُور بعث إِلَيْهِ جَيْشًا وافرا فَهَزَمَهُمْ النَّاصِر واستفحل أمره وَتمكن ناموسه من الْقُلُوب فَأمر الْمَنْصُور ولي عَهده الْمَأْمُون بمنازلته فَخرج إِلَيْهِ من فاس فِي تعبية حَسَنَة وهيئة تَامَّة فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على النَّاصِر بالموضع الْمَعْرُوف بالحاجب وَمر على وَجهه فاحتل بالجاية بَلْدَة من عمل بِلَاد الزَّبِيب فلحق بِهِ ولي الْعَهْد فَلم يزل فِي مقاتلته إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ فأزال رَأسه وَبعث بِهِ إِلَى مراكش وَكَانَ ذَلِك سنة خمس وَألف وَقيل سنة أَربع وَألف
قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ مقتل النَّاصِر وإدخاله مَقْطُوع الرَّأْس إِلَى فاس يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة أَربع وَألف وَهُوَ الْأَصَح
وَذكر الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي فِي المحاضرات مَا نَصه حدثوا عَن صلحاء تادلا أَنه لما قَامَ على السُّلْطَان أَحْمد الْمَنْصُور ابْن أَخِيه النَّاصِر قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصومعي إِن النَّاصِر يدْخل تادلا يَعْنِي دُخُول الْملك فَلَمَّا بلغ الْخَبَر إِلَى الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي التادلي قَالَ مِسْكين بَابا أَحْمد رأى رَأس النَّاصِر قد دخل تادلا فَظَنهُ النَّاصِر يدخلهَا فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ هزم فِي نواحي تازا ثمَّ قطع رَأسه وَحمل إِلَى مراكش فَدخل تادلا فِي طَرِيقه اه
وَلما قتل النَّاصِر سر الْمَنْصُور بذلك وأتته الْوُفُود للتهنئة وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي ذَلِك مِنْهُم الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الشاوي قَالَ
(تهنأ أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد جرت ... بسطوتك الأقدار جري السوابق)
(أَضَاءَت لَك الْأَيَّام واحلولكت على ... عَدوك وارتجت رُؤُوس الشواهق)
(وَذَاكَ الَّذِي قد خيب الله سعده ... تردى فَلم تَنْفَعهُ نصْرَة مارق)
(فَكَانَ كَمَا قد قيل لَكِن رَأسه ... أَتَى سَابِقًا وَالرجل لَيست بسابق)(5/146)
ضمن قَول بَعضهم فِي الْوَزير ابْن الْفرس وَقد رَآهُ مصلوبا منكوس الرَّأْس
(لقد طمح الْمهْر الجموح لغاية ... تقطع أَعْنَاق الْجِيَاد السوابق)
(جرى فجرت رِجْلَاهُ لَكِن رَأسه ... أَتَى سَابِقًا وَالرجل لَيست بسابق)
وَكتب الْمَنْصُور بِخَبَر هَذَا الْفَتْح إِلَى الْآفَاق
فمما كتبه لِلشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أبي عبد الله مُحَمَّد زين العابدين الْبكْرِيّ وَأبي عبد الله مُحَمَّد بدر الدّين الْقَرَافِيّ رِسَالَة يَقُول فِيهَا مَا نَصه
من عبد ربه الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ الحسني إِلَى الْفَاضِل الَّذِي اعتجر بالتقوى وَهُوَ زين العابدين وتحلى بحلى المعارف الربانية وَتلك حلى العارفين والسالك الَّذِي برز فِي الطَّرِيقَة وسلك على الْمجَاز الْوَاضِح إِلَى الْحَقِيقَة ففات شأو السَّابِقين والعارف الَّذِي تجرد عَن رعونة الْأَهْوَاء النفسانية فَكَانَ سلوكه على التَّجْرِيد إِلَى حَضْرَة الواصلين الشَّيْخ الْعَالم الْحجَّة الوافي السَّيِّد بدر الدّين الْقَرَافِيّ وَالشَّيْخ الْعَارِف الْوَاصِل السِّرّ الْكَامِل سلالة الْعلمَاء سبط الْفُضَلَاء أبي عبد الله زين العابدين ابْن الشَّيْخ السَّامِي الْمقَام قطب الْمَشَايِخ الْأَعْلَام فَخر عُلَمَاء الْإِسْلَام الشهير الْبركَة فِي الْأَنَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن الصديقي أبقاكما الله وأرواحكما تتعطر برياحين الْإِنْس فِي حَضْرَة الْقُدس وتتنسم النفحات الهابة من رياض الْمُشَاهدَة إِلَى مدارج الْإِنْس ومعارج النَّفس وَسَلام عَلَيْكُمَا وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته
وَبعد حمد الله مفيض أنوار عناية أَحْمد على صَاحبه الصّديق مظهر كنوز المعارف الربانية جيلا بعد جيل من بَيت عَتيق وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي اخْتَار لمرافقته صَاحبه فِي الْغَار والعريش وَالطَّرِيق وَالرِّضَا عَن آله أَئِمَّة الْخلق وسيوف الْحق وَأَصْحَابه الَّذين فاضت أنوار هدايتهم على الغرب والشرق وببركتهم انتسق لنا الْفَتْح انتساق الأسلاك وبفضلهم يَعْلُو سعدنا على الْكفْر علو القطب على دَائِرَة الأفلاك فكتبنا هَذَا إِلَيْكُم من حضرتنا مراكش حاطها الله وصنع الله لَهَا مفعم السجال وواسع المجال(5/147)
وعزمتها الْمَاضِيَة تبْعَث إِلَى العدا رسل الأوجال وَالْأَيَّام بعز صولتها ويمن دولتها بِهَذِهِ المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرهَا الْعَزِيز بحول الله إِلَى أَن تطوى ملاءة الدَّهْر هَذَا وَأَنه اتَّصل بعلي مقامنا كتابكما الَّذِي صدحت على أفنان البلاغة سواجعه وعذبت فِي موارد الْمحبَّة الصديقية مناهله ومشارعه ولطفت فِي كل معنى من الْمعَانِي أفانينه ومنازعه وتألفت على الإجادة فِي كل مقصد من الْمَقَاصِد مواصله العذبة ومقاطعه وأينعت بأزهار الْعِنَايَة الربانية أباطحه الفيح وأجارعه وَمَعَهُ المنظومات الَّتِي سحت بالحكم ديمها ورسا فِي البلاغة قدمهَا وَربا فِي منبت الْمَوَاهِب الربانية يراعها الفصيح وقلمها وَحل من نفوسنا موقعها العجيب محلا من دونه الثريا فِي مطْلعهَا والبدر لَيْلَة تَمَامه إعجابا بهَا وتنويها بمهديها وابتهاجا بالخوارق الَّتِي أطلق الله على لِسَان مبديها وَإِلَى هَذَا فليحط علمكما بِأَن مقامنا تنْفق فِيهِ على الدَّوَام إِن شَاءَ الله نفائس بضائعكم وتنمو فِيهِ مَعَ الْأَيَّام سعود مطالعكم وتسمو فِيهِ على كل مقَام مقاماتكم وتستوضح فِيهِ على الْمحبَّة الصميمة أماراتكم الْوَاضِحَة وعلاماتكم فعلى هَذَا تَنْعَقِد مِنْكُم الخناصر وتشتد الأواخي والأواصر بعز الله وَمِنْه ثمَّ مِمَّا نستطرد لكم ذكره على جِهَة الْبُشْرَى وإهداء المسرة الْكُبْرَى إعلامكم أَن عَدو الدّين طاغية قشتالة الَّذِي هُوَ الْيَوْم الْعَدو الْكَبِير لِلْإِسْلَامِ وعميد ملل التَّثْلِيث وَعَبدَة الْأَصْنَام لما انس من تِلْقَاء جنابنا نَار الْعَزْم تلتهب منا التهابا وبحر الاحتفال تضطرب أمواجه الزاخرة بِكُل عدد وعدة اضطرابا وهممنا قد هَمت بتجديد الأسطول والاستكثار من المراكب المتكفلة للْجِهَاد إِن شَاءَ الله بِقَضَاء كل دين ممطول وَعلم أَن الحَدِيث إِلَيْهِ يساق وَإِلَى أرضه بالخسف والتدمير بحول الله يهفو كل لِوَاء خفاق رام خذله الله مكافاتنا على ذَلِك بِمَا أمل أَن يفت بِهِ فِي عضدنا الْأَقْوَى وعزمنا الَّذِي بعناية الله يزْدَاد ويقوى فَرمى بمخذول من أَبنَاء أخينا عبد الله كَانَ ربى لَدَيْهِ وطوحت بِهِ الطوائح مُنْذُ ثَمَانِيَة عشر عَاما إِلَيْهِ إِلَى مليلية إِحْدَى الثغور المصاقبة لغرب ممالكنا الشَّرِيفَة الَّتِي إِلَى كَفَالَة ولدنَا وَولي عهدنا كافل الْأمة من بَعدنَا الْأَمِير الْأَجَل الأرضى صارم الْعَزْم(5/148)
المنتضى وحسام الدّين الأمضى أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون بِاللَّه وصل الله لرايته التأييد والظهور والعز الَّذِي يستخدم الْأَيَّام والدهور فالتف عَلَيْهِ من اغْترَّ بأباطيله الْوَاهِيَة الْبناء من أوباش الْعَامَّة والغوغاء وَمن قضى لَهُ من أجناد تِلْكَ النَّاحِيَة بالشقاء جموع تكاثر الرمل وتفوت الْحَصَا والنمل لَاحَ بهَا للشقي خلب بارق أكذبته أمْنِيته إِذْ صدقته منيته فصمم نَحوه ولدنَا أعزه الله بِجُنُود الله الَّتِي إِلَيْهِ وبعساكر تِلْكَ الممالك الَّتِي ألقينا زِمَام تدبيرها فِي يَدَيْهِ فَمَا رَاع الشقي إِلَّا انقضاضه عَلَيْهِ من الجو انقضاض الأجدل وتصميمه إِلَيْهِ بعزائم تدك الطود وتفلق الصخر والجندل فاستولى عَلَيْهِ بِحَمْد الله للحين وعَلى جموعه الأشقياء فِي يَوْم أغر محجل وَسَاعَة أنزل الله فِيهَا على الْخَوَارِج المارقين الْعَذَاب الْمُعَجل فاستأصلتهم الشفار وحصدت هشيمهم المصوح أَلْسِنَة النَّار وَقبض على الشقي فِي يَوْم كَانَ شِفَاء للصدور ومنتزها لحملة السيوف وربات الْخُدُور وأحرز الله تَعَالَى فَخر هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والمن الجسيم لولدنا أعزه الله عز وَجل فِي خَاصَّة أجناده ونهض وَحده بأعبائه وَنحن على سَرِير ملكنا وادعون مطمئنون وأجنادنا فِي أوطارنا لاهون ومفتنون فَلم يحْتَج إِلَى أنجاده من قبلنَا وَلَا إمداده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَالْحَمْد لله حمد الشَّاكِرِينَ وعرفناكم لِتَأْخُذُوا بحظكم من السرُور بِهَذِهِ الْبُشْرَى الَّتِي سرت الْإِسْلَام وَسَاءَتْ بِحَمْد الله عَبدة الْأَوْثَان والأصنام وتعلموا مَعَ ذَلِك مَا عَلَيْهِ الْأَحْوَال الْيَوْم بحول الله لدينا من خَفق رايات الْعَزْم وشحذ آراء الْجَزْم وأعمال عوامل الْجَزْم إِلَى مجازاة عَدو الدّين إِن شَاءَ الله على فعلته الَّتِي عَادَتْ عَلَيْهِ أسفا ولهفا وإعادة مَا كَانَ أسلف من ذَلِك إِن شَاءَ الله بالمكيال الأوفى وَقدمنَا إِلَيْكُم التَّعْرِيف لتمدونا إِن شَاءَ الله بأدعيتكم الصَّالِحَة فِي أَوْقَات الْإِجَابَة وتحرصوا على التماسها هُنَالك وبالحرمين الشريفين من كل ذِي خضوع وإنابة أَن يؤيدنا الله على عَدو الدّين بفضله وينجز لنا وعده الصَّادِق فِي إِظْهَار دين الْحق على الدّين كُله ويسهل علينا بفضله ومعونته أَسبَاب فتح الأندلس وتجديد رسوم الْإِيمَان بهَا وإحياء أطلاله الدَّرْس حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِي أرْضهَا بِكَلِمَة(5/149)
الله الَّتِي طالما سكت عَنْهَا نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فبيده الْحول وَالْقُوَّة وعنايته الْعِنَايَة المرجوة ثمَّ نوصيكم بِحسن الْوُقُوف مَعَ أَصْحَابنَا فِيمَا يشترى من الْكتب العلمية برسم خزانتنا الْكَرِيمَة الإمامية الْعلية ثمَّ الإتحاف بديوان الشَّيْخ والدكم التماسا لجميل بركاته وتمسكا بِمَا سبق من الْإِجَازَة الْعَامَّة فِي سَائِر منظوماته وموضوعاته ومروياته وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالسَّلَام الأتم معاد عَلَيْكُم ورحمه الله وَبَرَكَاته فِي ربيع النَّبَوِيّ سنة خمس وَألف اه وَهَذِه الرسَالَة من إملاء الْمَنْصُور على مَا قيل
وَمِمَّا كتب بِهِ أَيْضا بِخَط يَده إِلَى سُلْطَان مَكَّة وَالْمَدينَة والحجاز الشريف أبي المحاسن حسن بن أبي نمي بن بَرَكَات مَا نَصه
من عبد الله الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الشريف الحسني إِلَى الْأَصَالَة الَّتِي تبحبحت من ذؤابة هَاشم فِي صميمها وتوغلت من غرفات حُرْمَة الله بَين زمزمها وحطيمها وتمتعت من عرارة نجد بانتشاق نفحاتها الأريجة وشميمها أَصَالَة السُّلْطَان الأثيل الْأَثِير الْأَسْنَى الأسمى الأزكى السُّلْطَان حسن بن أبي نمي أبقاكم الله وَالْبَيْت ذُو الأستار تتفيؤون ظلاله وتلثمون من الْحجر الْأسود الأسعد خَاله وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
أما بعد حمد الله الَّذِي أعز هَذِه المثابة العلوية الإمامية النَّبَوِيَّة العزيزة الْأَنْصَار السامية المحتد والنجار الساحبة أذيال عزها الوريف الظلال على أهل الْبَيْت السَّامِي الْمِقْدَار سكان الْحمى وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أطلع شموس الْهِدَايَة الساطعة الْأَنْوَار وَالرِّضَا عَن آله الَّذين تتضاءل لمجدهم السَّامِي الْمنَار الشموس والأقمار وَعَن أَصْحَابه الَّذين استأصلوا شأفة الْكفْر بمواضي الشفار وصلَة الدُّعَاء لهَذَا الْمقَام الْعلي الإمامي المنصوري الحسني بنصر تجني الْفتُوح من قضب رماحه وتجري الأقدار على وفْق اقتراحه فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حَضْرَة مراكش حاطها الله ووسع لَهَا المجال فِي ميادين السجال وَالْأَيَّام بعز صولتها ويمن دولتها بِهَذِهِ المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرهَا الْعَزِيز بحول الله إِلَى أَن تطوى(5/150)
ملاءة الدهور بعز الله وعنايته هَذَا وَإِن شيخ الركب المغربي وَهُوَ المرابط الْخَيْر الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر لما أزمع إِلَى الْمعَاهد الشَّرِيفَة الرحيل لتجديد رسم الطَّاعَة الَّذِي لَيْسَ بعاف وَلَا محيل وهب لَهُ من محارم الله نسيم يمِيل وآن للمطايا أَن تعْمل الوخد والذميل مد إِلَى عَليّ مقامنا أكف الرَّغْبَة فِي كتاب كريم يتشرف بِحمْلِهِ ويتعرف مِنْهُ السَّعَادَة بحول الله فِي مرتحله وحله يتَضَمَّن الْإِيصَاء بِهِ إِلَيْكُم فِي المورد والمصدر وَمُدَّة مقَامه من جواركم بحرم الله تجاه الْبَيْت والمشعر فحملناه هَذِه العجالة لترعوا لَهُ إِن شَاءَ الله عَنْهَا الْحق الْمُعْتَبر وتولوه من جانبكم بِمَا يصدق بِهِ الْخَبَر وتدنوا لَهُ من آماله قطوف كل فنن مهتصر وَمِمَّا نكلفكم النهوض لأجل حُقُوق الْأُخوة بأعبائه ونطالبكم لوشائج الرَّحِم بالاعتناء بِأَدَائِهِ التمَاس الدُّعَاء مَعَ الأحيان تجاه الْبَيْت الْحَرَام وَعند الْمُلْتَزم وَالْمقَام أَن يؤيدنا الله على عَدو الدّين بفضله وينجز لنا وعده الصَّادِق فِي إِظْهَار دينه على الدّين كُله ويسهل علينا بفضله ومعونته أَسبَاب فتح الأندلس وتجديد رسوم الْإِيمَان بهَا وإحياء أطلاله الدَّرْس حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِيهَا بِكَلِمَات الله الَّتِي طالما سكت عَنْهَا نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فَذَلِك دُعَاء لَا يرد لِأَنَّهُ جرى من أَهله فِي مَحَله ومعاد السَّلَام الأثم عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته انْتهى
وَقَوله حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِيهِ تورية بِابْن الْخَطِيب رَحمَه الله
قَالَ الفشتالي كَانَ تَرْتِيب الْمَنْصُور فِي الاحتفال بالمولد النَّبَوِيّ الْكَرِيم أَنه إِذا طلعت طلائع شهر ربيع الأول صرف الرّقاع إِلَى الْفُقَرَاء أَرْبَاب الذّكر على رسم الصُّوفِيَّة والمؤذنين النعارين فِي الأسحار فَيَأْتُونَ من كل جِهَة ويحشرون من سَائِر حواضر الْمغرب ثمَّ يَأْمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى فِي ذَلِك مهرَة الشماعين من كل مَا يباري النَّحْل فِي نسج أشكالها لطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع الَّتِي تحير النواظر وَلَا تذبل زهورها النواضر فَإِذا كَانَ لَيْلَة المولد تهَيَّأ لحملها وزفاف كواعبها(5/151)
الصحافون المحترفون بِحمْل خدور العرائس عِنْد الزفاف فيتزينون لذَلِك وَيَكُونُونَ فِي أجمل شارة وَأحسن منظر ويجتمع النَّاس من أَطْرَاف الْمَدِينَة كلهَا لرؤيتها فيمكثون إِلَى حِين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشَّمْس للغروب فَيخْرجُونَ بهَا على رؤوسهم كالعذارى يرفلن فِي حلل الْحسن وَهِي عدد كثير كالنحل فيتسابق النَّاس لرؤيتها وتمتد لَهَا الْأَعْنَاق وتبرز ذَوَات الْخُدُور ويتبعها الأطبال والأبواق وَأَصْحَاب المعازف والملاهي حَتَّى تستوي على منصات معدة لَهَا بالإيوان الشريف فتصطف هُنَالك فَإِذا طلع الْفجْر خرج السُّلْطَان فصلى بِالنَّاسِ وَقعد على أريكته وَعَلِيهِ حلَّة الْبيَاض شعار الدولة وأمامه تِلْكَ الشموع الْمُخْتَلفَة الألوان من بيض كالدمى وحمر جليت فِي ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أَنْوَاع الحسك والمباخر مَا يلهي المحزون ويدهش النَّاظر ثمَّ دخل النَّاس أَفْوَاجًا على طبقاتهم فَإِذا اسْتَقر بهم الْمجْلس تقدم الْوَاعِظ فسرد جملَة من فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعجزاته وَذكر مولده ورضاعه وَمَا وَقع فِي ذَلِك بِاخْتِصَار فَإِذا فرغ انْدفع الْقَوْم فِي الْأَشْعَار المولديات فَإِذا فرغوا تقدم أهل الذّكر المزمزمون بِكَلَام الششتري وأشعار الصُّوفِيَّة ويتخلل ذَلِك نوبَة المنشدين للبيتين فَإِذا فرغوا من ذَلِك كُله قَامَ شعراء الدولة فيتقدم قَاضِي الْجَمَاعَة الشاطبي بلبل مَنَابِر الْجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب فَإِذا تمّ تخلص لمدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يخْتم بمدح الْمَنْصُور وَالدُّعَاء لَهُ ولولي عَهده فَإِذا قضى نشيده تقدم الإِمَام الْمُفْتِي الْمولى أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد الشريف فينشد قصيدته على ذَلِك المنوال فَإِذا فرغ تلاه الْوَزير أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي ثمَّ تلاه الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي ويليه الْكَاتِب مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي ويليه الأديب مُحَمَّد بن عَليّ الهوزالي النَّابِغَة ويليه الأديب الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد المسفيوي فَإِذا طوى بِسَاط القصائد نشر خوان الْأَطْعِمَة والموائد فَيبْدَأ بالأعيان على مَرَاتِبهمْ ثمَّ يُؤذن للْمَسَاكِين فَيدْخلُونَ جملَة فَإِذا انْقَضتْ أَيَّام المولد الشريف برزت صلات الشُّعَرَاء على أقدارهم هَكَذَا كَانَ دأبه فِي جَمِيع الموالد وَلَا يُحْصى مَا يفرغ فِيهِ من أَنْوَاع الْإِحْسَان(5/152)
على النَّاس اه من كتاب مناهل الصفاء
وَقَالَ صَاحب النفحة المسكية فِي السفارة التركية وَهُوَ الْعَلامَة المشارك أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد التامجروتي حضرت المولد الشريف بعد القفول من بِلَاد التّرْك فاستدعى الْمَنْصُور النَّاس لإيوانه السعيد واستدخلهم لقصره البديع المشيد المحتوي على قباب متقابلة عالية وَقد مد فِيهَا من فرش الْحَرِير وصفت النمارق وتدلت الأستار والكلل والحجال المخوصة بِالذَّهَب على كل بَاب قبَّة وحنية سَرِير وَدَار على الْحِيطَان حائطيات الْحَرِير الَّتِي هِيَ كأزهار الخمائل مَا رئيت قطّ فِي عهد الْأَوَائِل وَتلك القباب مَرْفُوعَة الجوانب على قَوَاعِد وأساطين من رُخَام مجزع مطلية الرؤوس بِالذَّهَب الذائب مفروش جلها بالمرمر الْأَبْيَض مخططا بِالسَّوَادِ يَتَخَلَّل ذَلِك مَاء عذب فَيدْخل النَّاس على طبقاتهم وَيَأْخُذ كل مرتبته من قُضَاة وعلماء وصلحاء ووزراء وقواد وَكتاب وأصناف الأجناد فيخيل لكل مِنْهُم أَنه فِي جنَّة النَّعيم وَالسُّلْطَان جَالس فِي فاخر ملابسه تعلوه الهيبة وَالْوَقار وترمقه الْأَبْصَار بالتعظيم والإكبار وَيجْلس من عَادَته الْجُلُوس وَيقف على رَأس السُّلْطَان الوصفان والعلوج وَعَلَيْهِم الأقبية المخوصة والمناطق المرصعة والحزم المذهبة مِمَّا يدهش النَّاظر وركز أمامهم الشمع الملون وَأذن لعامة النَّاس فَدَخَلُوا من أَصْنَاف الْقَبَائِل على أجناسها من الأجناد والطلبة وسكنت بعد حِين الجلبة وأوتي بأنواع الطَّعَام فِي القصاع المالقية والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية وأوتي بالطسوس والأباريق وصب المَاء على أَيدي النَّاس ونصبت مباخر العنبر وَالْعود وأبرزت صَحَائِف الْفضة وَالذَّهَب وأغصان الريحان الغض فرش بهَا الْبسَاط ورش من مَاء الْورْد والزهر وأنشدوا قصائد وَتكلم المنشدون وَأحسن إِلَيْهِم السُّلْطَان ثمَّ ختموا الْمجْلس بِالدُّعَاءِ للأمير وَإِذا كَانَ يَوْم السَّابِع يكون تَرْتِيب أبدع من الأول وَهَذِه سيرته دَائِما اه
وَهَكَذَا كَانَت سيرته فِي شهر رَمَضَان عِنْد ختم صَحِيح البُخَارِيّ وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِذا دخل رَمَضَان سرد القَاضِي وأعيان الْفُقَهَاء كل يَوْم سفرا من نُسْخَة(5/153)
البُخَارِيّ وَهِي عِنْدهم مجزأَة على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ سفرا فِي كل يَوْم سفرا إِلَّا يَوْم الْعِيد وتاليه فَإِذا كَانَ يَوْم سَابِع الْعِيد ختم فِيهِ صَحِيح البُخَارِيّ وتهيأ لَهُ السُّلْطَان أحسن تهيؤ إِلَّا أَن الْعَادة الْجَارِيَة عِنْدهم فِي ذَلِك أَن القَاضِي يتَوَلَّى السرد بِنَفسِهِ فيسرد نَحْو الورقتين من أول السّفر ويتفاوض مَعَ الْحَاضِرين فِي الْمسَائِل ويلقى من ظهر لَهُ بحث أَو تَوْجِيه مَا ظهر لَهُ وَلَا يزالون فِي المذاكرة فَإِذا تَعَالَى النَّهَار ختم الْمجْلس وَذهب القَاضِي بِالسَّفرِ فيكمله سردا فِي بَيته وَمن الْغَد يَبْتَدِئ سفرا آخر وَهَكَذَا وَالسُّلْطَان فِي جَمِيع ذَلِك جَالس قريب من حَاشِيَة الْحلقَة قد عين لجلوسه مَوضِع
قَالَ الفشتالي وَكَانَ الْمَنْصُور يُعْطي أَمْوَال لِذَوي الْحَاجَات عِنْد انْقِضَاء رَمَضَان وَيُقِيم مهرجانا يَوْم عَاشُورَاء لختان أَوْلَاد الضُّعَفَاء وكل من ختن مِنْهُم أعطي أذرعا من كتَّان وَحِصَّة من الدِّرْهَم وَسَهْما من اللَّحْم اه
وَأما تَرْتِيب جَيش الْمَنْصُور وعادته فِي أَسْفَاره فسنذكرها فِي الْفَصْل بعد هَذَا إِن شَاءَ الله ولنذكر بعض القصائد الميلادية الَّتِي أنشدت بمجالس الْمَنْصُور حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَمن ذَلِك قَول القَاضِي أبي الْقَاسِم بن على الشاطبي رَحمَه الله
(مَا بَال طيفك لَا يزور لماما ... وبمنحنى الأحشا ضربت خياما)
(أيعيش فِيك عواذلي لسلوهم ... وأموت فِيك صبَابَة وغراما)
(وتبيح نهرك سَائِلًا من أدمعي ... أَو لَيْسَ نهر السَّائِلين حَرَامًا)
(مَا ذقت مَاء لماك فِي سنة الْكرَى ... إِلَّا انْتَبَهت فَكَانَ لي أحلاما)
(عرض إِذا حدثت عَن بَان الْحمى ... فَحَدِيث قلبِي بالأوجاع هاما)
(أروى حَدِيث الرقمتين مسلسلا ... عَن دمع باكية الْغَمَام سجاما)
(وتلق من جيب النسيم تَحِيَّة ... أضحى الْهوى بردا لَهَا وَسلَامًا)
(يَا جيرة العلمين دَعْوَة شيق ... للذيذ عَيْش بالغضا لَو داما)
(فَخُذُوا بجرعاء الْحمى قلبِي فقد ... ألف الْإِقَامَة بالحمى فأقاما)
(وخذوا بثار أهل نجدانهم ... سلبوا الْفُؤَاد وأدنفوا الأجساما)
(فِي كل غرب دموع عَيْني مشرق ... لكواكب فِيهَا أثرن ظلاما)(5/154)
(صليت بِنَار الشوق ثمَّ رثت إِلَى ... إنسانها فِي لجة قد عَاما)
(وتسلسلت عبراتها شوقا لمن ... وقفت عَلَيْهِ صلَاتهَا وَسلَامًا)
(خير الْأَنَام مُحَمَّد الْهَادِي الَّذِي ... أردى الضلال وَجب مِنْهُ سناما)
(كنز العوالم سر طِينَة آدم ... ولحفظ ذَاك السِّرّ جَاءَ ختاما)
(وَأجل أرسال الْإِلَه وَمن بِهِ ... قد لَاذَ يُونُس حِين خَاضَ ظلاما)
(وتقاصرت عَن فَرده أعدادهم ... فَلِذَا تقدم فِي الْحساب إِمَامًا)
(أسرى إِلَى السَّبع الطباق فَأَقْبَلت ... زمر الملائك وفده إعظاما)
(فِي لَيْلَة غصت بأملاك السما ... فتسير خلف ركابه وإماما)
(يَا خير من بهر المعاند شَأْنه ... عَجزا فغص بريقه إفحاما)
(أعيى جلالك أَن يُحِيط بوصفه ... وصف البليغ وأخرس الأقلاما)
(صلى عَلَيْك الله مَا زار الحيا ... روضا فَفتح زهره الأكماما)
(مَا لذتي فِي مدح غير مخلصا ... إِلَّا بمدحي من بَيْنك إِمَامًا)
(خير الورى وإمامها الْمَنْصُور من ... فِي ظلّ دولته الْأَنَام أناما)
(أضفى على الْأَرْضين ظلّ مهابة ... فحمى بهَا حام الْعباد وساما)
(وسما على الدُّنْيَا عِقَاب تنوفة ... فانقض يفترس الْأسود بهاما)
(قل للملوك هبوا لمالككم فدى ... وخذوا لأنفسكم لَدَيْهِ ذماما)
(هَذَا الَّذِي يحيى الْبِلَاد بعدله ... وَيُعِيدهَا نشرا وَكن رماما)
(هَذَا الَّذِي وعد الْإِلَه بِأَنَّهُ ... يطوي الْبِلَاد وَيفتح الأهراما)
(يَا مشبه الْمهْدي فِي آرائه ... حزما وَفِي عزماته إقداما)
(أَنْت الَّذِي ببنيه أَبنَاء الْعلَا ... أرسى الْبِلَاد ووطد الإسلاما)
(فَكَأَنَّهَا من حولك الأشبال فِي ... غَابَ الوشيج تبوأت آجاما)
(وأمينها الْمَأْمُون عضب سمامها ... علم أناف على الهضاب سناما)
(وَأجل مضطلع تخيره الورى ... بعد الإِمَام فقدموه إِمَامًا)
(وحباه أَحْمد عهد أمة أَحْمد ... فوفى فَكَانَ لرعيه المعتاما)
(لَا يعدون النَّصْر سَيْفك أَنه ... سيف يحوط الدّين والإسلاما)
(خُذْهَا ينم على العبير مديحها ... ويفض عَن مسك الختام ختاما)
وَقَالَ الْعَلامَة مفتي الحضرة أَبُو مَالك الْمولى عبد الْوَاحِد بن أَحْمد(5/155)
الشريف الفيلالي
(أرقت وشاقتني البروق اللوامع ... وذكرى خليط هيجتها المرابع)
(مرابع عفتها الروامس والسما ... تراق من الأشواق فِيهَا المدامع)
(كَأَن لم تكن من قبل قدما أَو أَهلا ... إِذْ السلك منظوم وشملي جَامع)
(تذكرني عهد الأجازع واللوى ... وَأَيْنَ اللوى مني وَأَيْنَ الأجازع)
(سحبنا بهَا ذيل الصبابة بُرْهَة ... وجفن الردى عَنَّا وحاشاك هاجع)
(وقفت بهَا بالبزل وَاللَّيْل دامس ... أنازعها الشكوى بهَا وتنازع)
(أسائلها عَن جيرة بَان حيهم ... وضمت هواهم بعد ذَاك الأضالع)
(فَهَل قدمُوا نَحْو العقيق صُدُورهمْ ... ولاح لَهُم برق من الْغَوْر لامع)
(يخبر عَن دَار الرَّسُول وقربها ... عراص بهَا للوحي فاضت ينابع)
(ديار بهَا حل الْحمى سيد الورى ... وهبت على الأشراك مِنْهَا زعازع)
(عَلَيْك صَلَاة الله يَا خير مُرْسل ... وَيَا خير من تثني عَلَيْهِ الْأَصَابِع)
(فلولاك هَذَا الْكَوْن مَا زَالَ معدما ... وَأَنت الَّذِي يرجوه عَاص وطائع)
(لَك الْفَخر فِي الدَّاريْنِ والموقف الَّذِي ... لأهواله كل النَّبِيين جازع)
(فآدمهم وَالْكل تَحت لوائكم ... وَلَيْسَ لنا وَالله غَيْرك شَافِع)
(فجازاك رب الْعَرْش مَا أَنْت أَهله ... جَزَاء بِهِ يشجي الْمَنَاوِيّ المخادع)
(وجازى إِمَامًا قد نمته إِلَيْكُم ... أصُول وآباء كرام فوارع)
(سميك وَابْن السبط حَقًا وَمن لَهُ ... عوارف فِي أعناقنا وصنائع)
(فدم للعلا يَا ابْن الخلائف مُفردا ... إِلَيْك اشتراؤها وَغَيْرك بَائِع)
(ودام ولي الْعَهْد بعْدك صَارِمًا ... يخب إِلَى نيل الْعلَا ويسارع)
(هُوَ الآمن الْمَأْمُون من كل فتْنَة ... لفيض الندى من راحتيه يدافع)
(ففيك أَقُول والنصوص شَوَاهِد ... أَحَادِيث صحت لَيْسَ فِيهَا مُنَازع)
(بكم رَأس هَذَا الْقرن جدد ديننَا ... وفاضت بحور للعلوم هوامع)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن الله يبْعَث على رَأس كل قرن من يجدد لهَذِهِ الْأمة أَمر دينهَا)
وَحمله بعض الْأَئِمَّة على أَن المجدد من الْمُلُوك وَقيل من الْعلمَاء(5/156)
وَقيل من الْأَوْلِيَاء وَالصَّوَاب الْإِطْلَاق
وَقَالَ الْوَزير الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي رَحمَه الله تَعَالَى
(من بعد أهل قبا وَأهل كداء ... شوقي يزِيد وَعز ذَاك عزائي)
(ولي الشِّفَاء بقربهم وهم جلا ... مَا فِي الخواطر من صدى وصداء)
(لكنه بعد المزار فَأَيْنَ من ... تِلْكَ الْمعَاهد سَاكن الْحَمْرَاء)
(بانوا وهاج الشوق ذكر ربوعهم ... ذَات السنا والرند والأضواء)
(وشدا بهم حادي الركاب فكاد أَن ... تدع الْقُلُوب جسومها بفضاء)
(يَا سعد لَو أَن الزَّمَان مساعدي ... ومجيب دَاعِي الْبعد بعد ندائي)
(لركبت حرفا كالهلال منافرا ... للهمز إِلَّا فِي الْمُنَادِي النائي)
(ولجبت أَحيَاء الفلا وطوبتها ... طي الملا بنجيبة فوداء)
(تختاض فِي جَوف الظلام كَأَنَّهَا ... سري تولج فِي ضمير حجاء)
(وتخال فِي لجج السراب سفينة ... تجْرِي القلوع بهَا برِيح رخاء)
(هَل أنزلن بهَا المخصب من منى ... وأزور بعد معاهد الزَّوْرَاء)
(فأحط عَنْهَا الرحل ثمَّ مخيما ... فِي ظلّ احْمَد بغيتي ومنائي)
(وامرغ الْخَدين ملتثما ترى ... وطئته رجلا خَاتم النبئاء)
(محيى الْهدى ماحي الضَّلَالَة والردا ... بالبيض والخطية السمراء)
(صلى عَلَيْهِ الله مَا نسخ السخا ... لؤما وَمَا أجلى الدجا ابْن ذكاء)
(وعَلى صحابته الْكِرَام وَآله ... أكْرم بهم من سادة فضلاء)
(أكْرم بوارث مجده وعلائه ... سبط الرسَالَة غرَّة الْأَبْنَاء)
(خير الخلائف أَحْمد الْمَنْصُور من ... حَاز الْكَمَال وَشرط كل عَلَاء)
(الصارم الْهِنْدِيّ فِي يمنى الْهدى ... والكوكب الْوَقَّاد فِي الظلماء)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي بسيوفه ... حاط الْهدى وبرأيه الوضاء)
(ذخر الْإِلَه لَك الْفتُوح وصانها ... كالزهر فِي الأكمام والأوعاء)
(لَا بُد من فتح يروقك وَاضح ... كالصبح يدْرَأ فِي نحور عداء)
(وستملك الْحرم الشريف وينتمي ... للوائك الْمَنْصُور دون مراء)(5/157)
(وَترى الْجِهَات وَقد أَتَت منقادة ... بِظَبْيٍ بنيك السَّادة النجباء)
(وتقر عينا بالخليفة مِنْهُم ... وزر الْبَريَّة عدَّة الْأُمَرَاء)
(بِمُحَمد الْمَأْمُون خير من ارْتقى ... درج الْكَمَال ودب للعلياء)
(فرع سيحكي أَصله وَلَقَد حكى ... بمقاصد قد سددت ودهاء)
وَقَالَ الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الفشتالي رَحمَه الله تَعَالَى
(هم سلبوني الصَّبْر وَالصَّبْر من شأني ... وهم حرمُوا من لَذَّة الغمض أجفاني)
(وهم أخفروا فِي مهجتي ذمم الْهوى ... فَلم يثنهم عَن سفكها حبي الْجَانِي)
(لَئِن أترعوا من قهوة الْبَين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني)
(وَإِن غادرتني بالعراء حمولهم ... كفى أَن قلبِي جَاهد أثر أظعاني)
(قف العيس واسأل ربعهم أَيَّة مضوا ... أللجزع سَارُوا مدلجين أم البان)
(وَهل باكروا بالسفح من جَانب اللوا ... ملاعب آرام هُنَاكَ وغزلان)
(وَأَيْنَ استقلوا هَل بهضب تهَامَة ... أناخوا المطايا أم على كثب نعْمَان)
(وَهل سَالَ فِي بطن المسيل تشوقا ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان)
(وَإِذا زجروها بالْعَشي فَهَل ثنى ... أزمتها الْحَادِي إِلَى شعب بوان)
(وَهل عرسوا فِي دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نَجْرَان)
(سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شَتَّى صِفَات وألوان)
(وأدلج فِي الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوما فِي معارج كُثْبَان)
(لَك الله من ركب يرى الأَرْض خطْوَة ... إِذا زمها بدنا نواعم أبدان)
(أرحها مطايا قد تمشي بهَا الْهوى ... تمشي الحميا فِي مفاصل نشوان)
(ويمم بهَا الْوَادي الْمُقَدّس بالحمى ... بِهِ المَاء صدا والكلا نبت سَعْدَان)
(واهد حُلُول الْحجر مِنْهُ تَحِيَّة ... تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان)
(لقد نفحت من شيخ يثرب نفحة ... فهاجت مَعَ الأسحار شوقي وأشجاني)
(وفتت مِنْهَا الشرق فِي الغرب مسكة ... سحبت بهَا فِي أَرض دارين أرداني)
(وأذكرني نجدا وَطيب عراره ... نسيم الصِّبَا من نَحْو طيبَة حياني)
(أحن إِلَى تِلْكَ الْمعَاهد إِنَّهَا ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني)(5/158)
(وأهفو مَعَ الأشواق للوطن الَّذِي ... بِهِ صَحَّ لي أنسي الهني وسلواني)
(وأصبوا إِلَى أَعْلَام مَكَّة شائقا ... إِذا لَاحَ برق من شمام وشهلان)
(أهيل الْحمى ديني على الدَّهْر زورة ... أحث بهَا شوقا لكم عزمي الواني)
(مَتى يشتفي جفني القريح بنظرة ... يَزُجّ بهَا فِي نوركم عين إنساني)
(وَمن لي بِأَن يدنوا لقاكم تعطفا ... ودهري عني دَائِما عطفه ثَانِي)
(سقى عَهدهم بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان)
(وأنعم فِي شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظلّ المنى والهوى داني)
(وَحيا ربوعا بَين مروة والصفا ... تَحِيَّة مشتاق لَهَا الدَّهْر حيران)
(ربوعا بهَا تتلو الْمَلَائِكَة الْعلَا ... أفانين وَحي بَين ذكر وَقُرْآن)
(وَأول أَرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إِيمَان)
(وعرس فِيهَا للنبوة موكب ... هُوَ الْبَحْر طام فَوق هضب وغيطان)
(وَأدّى بهَا الرّوح الْأمين رِسَالَة ... أفادت بهَا الْبُشْرَى مدائح عنوان)
(هُنَالك فض خَتمهَا أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان)
(مُحَمَّد خير الْعَالمين بأسرها ... وَسيد أهل الأَرْض الْإِنْس والجان)
(وَمن بشرت بِالْبَعْثِ من قبل كَونه ... نوامس كهان وأخبار رُهْبَان)
(وَحِكْمَة هَذَا الْكَوْن لولاه مَا سمت ... سَمَاء وَلَا غاضت طوافح طوفان)
(وَلَا زخرفت من جنَّة الْخلد أَربع ... تسبح فِيهَا أَدَم حور وولدان)
(وَلَا طلعت شمس الْهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران)
(وَلَا لحقت بالمذنبين شَفَاعَة ... يذود بهَا عَنْهُم زباني نيران)
(لَهُ معجزات أخرست كل جَاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهَان)
(لَهُ انْشَقَّ قرص الْبَدْر شقين وارتوى ... بِمَاء همي من كَفه كل ظمآن)
(وأنطقت الْأَوْثَان نطقا تبرأت ... إِلَى الله فِيهِ من زخارف ميان)
(دَعَا سرحة عجما فلبت وَأَقْبَلت ... تجر ذيول الزهر مَا بَين أفنان)
(وضاءت قُصُور الشَّام من نوره الَّذِي ... على كل أفق نازح الْقطر أوداني)
(وَقد بهج الْأَنْوَار بدعوته الَّتِي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان)
(وَأَن كتاب الله أعظم آيَة ... بهَا افتضح المرتاب وابتأس الشاني)(5/159)
(وعدى على شأو البليغ بَيَانه ... فهيهات مِنْهُ سجع قس وسحبان)
(نَبِي الْهدى من أطلع الْحق أنجما ... محا نورها أسداف إفْك وبهتان)
(بعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان)
(وأحرز للدّين الحنيفي بالظبا ... تراث الْمُلُوك الصَّيْد من عهد يونان)
(ونقع من سمر القنا السم قيصرا ... فجرعه مِنْهُ مجاجة ثعبان)
(وأضحت ربوع الْكفْر والشرك بلقعا ... يناغي الصدا فِيهِنَّ هَاتِف شَيْطَان)
(وأصبحت السمحا تروق نضارة ... وَوجه الْهدى بَادِي الصباحة للراني)
(أيا خير أهل الأَرْض بَيْتا ومحتدا ... وَأكْرم كل الْخلق عجم وعربان)
(فَمن للقوافي أَن تحيط بوصفكم ... وَلَو سجلت سبقا مدائح حسان)
(إِلَيْك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان)
(أجرني إِذا أبدى الْحساب جرائمي ... وأنقلت الأوزار كفة ميزاني)
(فَأَنت الَّذِي لَوْلَا وَسَائِل عزه ... لما فتحت أَبْوَاب عَفْو وغفران)
(عَلَيْك سَلام الله مَا هبت الصِّبَا ... وماست على كثبانها ملد قضبان)
(وَحمل فِي جيب الْجنُوب تَحِيَّة ... يفوح بمسراها شذا كل تربان)
(إِلَى العمرين صاحبيك كليهمَا ... وتلوهما فِي الْفضل صهرك عُثْمَان)
(وحيي عليا عرفهَا وأريجها ... ووالي على سبطيك أوفر رضوَان)
(إِلَيْك رَسُول الله صممت عَزمَة ... إِذا أزمعت فالشحط والقرب سيان)
(وخاطبت مني الْقلب وَهُوَ مُقَلِّب ... على جَمْرَة الأشواق فِيك فلباني)
(فيا لَيْت شعري هَل أزم قلائصي ... إِلَيْك بدارا أَو أقلقل كيراني)
(وأطوي أَدِيم الأَرْض نَحْوك راحلا ... نواجي المهاري فِي صحاصح فيعان)
(يرنحها فرط الحنين إِلَى الْحمى ... إِذا غرد الْحَادِي بِهن وغناني)
(وَهل تمحون عني خَطَايَا اقترفتها ... خطى لي فِي تِلْكَ الْبِقَاع وأوطان)
(وماذا عَسى يثني عناني وَإِن لي ... بآلك جاها صهوة الْعِزّ أمطاني)
(إِذا صد عَن زوارك الباس والعنا ... فجود ابْنك الْمَنْصُور أَحْمد أغناني)
(عمادي الَّذِي أوطا السماكين أخمصي ... وأوفى على السَّبع الطباق فأدناني)
(متوج أَمْلَاك الزَّمَان وَإِن سَطَا ... أحل سيوفا فِي معاقد تيجاني)(5/160)
(وقاري أسود الغاب بالصيد مثلهَا ... إِذا أضْرب الخطى من فَوق جدران)
(هز بر إِذا زرا الْبِلَاد زئيره ... تضاءل فِي أخياسها أَسد خفان)
(وَإِن اطَّلَعت غيم القتام جيوشه ... وارزم فِي مركومه رعد نيران)
(صببن على أَرض العداة صواعقا ... أسلن عَلَيْهِم بَحر خسف ورجفان)
(كتائب لَو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الْجِيَاد الجرد تعدو بعقبان)
(عديد الْحَصَا من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان)
(إِذا جن ليل الْحَرْب عَنْهُم طلى العدا ... هدتهم إِلَى أوداجها شهب خرصان)
(من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن فِي وَجه الثرى وَجه بُسْتَان)
(وفتحن أقطار الْبِلَاد فَأَصْبَحت ... تُؤدِّي الْخراج الجزل أَمْلَاك سودان)
(إِمَام البرايا من على نجاره ... وَمن عترة سادوا الورى آل زَيْدَانَ)
(دعائم إِيمَان وأركان سؤدد ... ذووهم قد عرست فَوق كيوان)
(هم العلويون الَّذين وُجُوههم ... بدور إِذا مَا احلولكت شهب أزمان)
(وهم آل بَيت شيد الله ملكه ... على هضبة العلياء ثَابت أَرْكَان)
(وَفِيهِمْ أَتَى الذّكر الْحَكِيم وصرحت ... بفضلهم آيَات ذكر وَقُرْآن)
(فروع ابْن عَم الْمُصْطَفى ووصيه ... فناهيك من فخرين قربى وقربان)
(ودوحة مجد معشب الرَّوْض بالعلا ... يجاد بأمواه الرسَالَة رَيَّان)
(بمجدهم الْأَعْلَى الصَّرِيح تشرفت ... معد على العرباء عَاد وقحطان)
(أُولَئِكَ فخري إِن فخرت على الورى ... ونافس بَيْتِي فِي الولا بَيت سلمَان)
(إِذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظَاهر رُجْحَان)
(إِمَام لَهُ فِي جبهة الدَّهْر ميسم ... وَمن عزه فِي مفرق الْملك تاجان)
(سما فَوق هامات النُّجُوم بهمة ... يحوم بهَا فَوق السَّمَوَات نسران)
(وأطلع فِي أفق الْمَعَالِي خلَافَة ... عَلَيْهَا وشاح من علاهُ وسمطان)
(إِذا مَا احتبى فَوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الْملك نخوة سُلْطَان)
(توسمت لُقْمَان الحجا وَهُوَ نَاطِق ... وشاهدت كسْرَى الْعدْل فِي صدر إيوَان)(5/161)
(وَإِن هزه حر الثَّنَاء تدفقت ... أنامله عرفا تدفق خلجان)
(أيا نَاظر الْإِسْلَام شم بارق المنا ... وباكر لروض فِي ذرا الْمجد فينان)
(قضى الله فِي علياك أَن تملك الدنا ... وتفتحها مَا بَين سوس وسودان)
(وَإنَّك تطوي الأَرْض غير مدافع ... فَمن أَرض سودان إِلَى أَرض بغدان)
(وتملأها عدلا يرف لِوَاؤُهُ ... على الْحَرَمَيْنِ أَو على رَأس غمدان)
(فكم هنأت أَرض الْعرَاق بك الْعلَا ... ووافت بك الْبُشْرَى لأطراف عمان)
(فَلَو شارفت شَرق الْبِلَاد سُيُوفكُمْ ... أَتَاك استلابا تَاج كسْرَى وخاقان)
(وَلَو نشر الْأَمْلَاك دهرك أَصبَحت ... عيالا على علياك أَبنَاء مَرْوَان)
(وشايعك السفاح يقتاد طَائِعا ... برايته السَّوْدَاء أهل خرسان)
(فَمَا الْمجد إِلَّا مَا رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوَال ومران)
(وهاتيك أبكار القوافي جلوتها ... تغازلهن الْحور فِي دَار رضوَان)
(أتتك أَمِير الْمُؤمنِينَ كَأَنَّهَا ... لطائم مسك أَو خمائل بُسْتَان)
(تعاظمن حسنا أَن يُقَال شبيهها ... فرائد در أَو قلائد عقيان)
(فَلَا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بِملك سُلَيْمَان)
(وَلَا زلت بالنصر الْعَزِيز مؤزرا ... تقاد لَك الْأَمْلَاك فِي زِيّ عَبْدَانِ)
انْتَهَت القصيدة الفريدة
قَالَ فِي نفح الطّيب أَخْبرنِي ناظمها أَنه أَرَادَ بقوله ونافس بَيْتِي فِي الولا بَيت سلمَان قَبيلَة سلمَان الَّتِي مِنْهَا لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب إِشَارَة إِلَى وَلَاء الْكِتَابَة للخلافة كَمَا كَانَ لِسَان الدّين رَحمَه الله وَفِيه مَعَ ذَلِك تورية بسلمان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ انْتهى
وَهَذِه القصيدة على طولهَا من غرر القصائد وَلذَا لم يذكر فِي الْمُنْتَقى من الأمداح المنصورية غَيرهَا وَقد أثنى عَلَيْهَا فِي نفح الطّيب جدا وتتبع مَا قيل فِي هَذَا الاحتفال وَإِقَامَة المولد العديم الْمِثَال من الأمداح يُفْضِي إِلَى الطول وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق(5/162)
ذكر سيرة الْمَنْصُور فِي تَرْتِيب جيوشه وحالات أَسْفَاره
قَالَ الفشتالي كَانَت السِّيرَة على عهد أبي عبد الله الْمهْدي وَولده الْغَالِب بِاللَّه وَابْنه المتَوَكل سيرة الْعَرَب فِي الْجَيْش والمأكل والملبس وَغير ذَلِك وَلما ولي المعتصم حمل النَّاس على السِّيرَة العجمية وجنح إِلَيْهَا فِي سَائِر شؤونه لما رأى مِنْهَا فِي بِلَاد التّرْك حَيْثُ كَانَ بهَا فكره النَّاس ذَلِك وأنفوا مِنْهُ وقوفا مَعَ العوائد فَلَمَّا جَاءَ الله بالمنصور ألف بَين سيرتي الْعَرَب والعجم وَاصْطفى من الْعَجم موَالِي رباهم بنعمته وأشملهم درور إحسانه مِنْهُم مصطفى باي وَمَعْنَاهُ بلغَة التّرْك قَائِد القواد وَيخْتَص بِهِ قَائِد الإصباحية وَكَانَ برسم حراسة الْبَاب العالي وَمِنْهُم الباشا مَحْمُود وَهُوَ صَاحب خَزَائِن الدَّار بِيَدِهِ مَفَاتِيح بيُوت الْأَمْوَال وَمِنْهُم الْقَائِد علوج قَائِد جَيش العلوج والباشا جؤذر فاتح السودَان وَهُوَ قَائِد جَيش الأندلس وَكَانَ لأهل الأندلس جَيش عَظِيم رُمَاة وعمار قَائِد جَيش السوس فَهَؤُلَاءِ أكَابِر العلوج وتليهم طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا بختيار وبغا ثمَّ إِن جَيش الْعَجم من الأتراك والعلوج قسمه إِلَى أَقسَام مِنْهَا البياك وهم أهل القلانس الصفرية المذهبة ذَوَات الْأَعْرَاف من ريش النعام الملون يقفون سماطين أَمَام قُبَّته أَو فسطاطه والسلاق أهل القلانس الطَّوِيلَة الْبيض الْمُرْسلَة على المناكب ويناط بهَا من أَعلَى الجباه جعاب صفر مذهبَة ويضيفون إِلَيْهَا وَقت الحزام أَجْنِحَة طوَالًا يؤلفونها أَيْضا من ريش النعام الْبَاقِي على أصل خلقته ويركزونها فِي الجعاب المنوطة بالقلانس من أَعلَى الجباه ويرسلونها إِلَى وَرَاء وَيقف هَؤُلَاءِ خلف البياك وبلبدروش وهم أهل اللقاقيف وَهِي رماح قَصِيرَة غَلِيظَة العصى مغشاة بالحديد ومرصعة بالمسامير الْبيض ركبت عَلَيْهَا أسنة عِظَام وزجاج هائلة ينْبت من ريشتي كل سِنَان مِنْهَا أضلاع مُسْتَقِيمَة وَيقف هَؤُلَاءِ خلف السلاق والشنشرية وهم أهل الطَّعَام وضعا ورفعا لَا غير وَقَائِدهمْ بختيار من سبي وَادي المخازن والقبجية وهم أهل حفظ الْأَبْوَاب وغلقها وَفتحهَا وَقَائِدهمْ مَوْلُود المشاوري وَطَائِفَة من هَؤُلَاءِ تحرس لَيْلًا(5/163)
وَتَطوف على مسايف السُّور الْمُحِيط بِالدَّار وَمن وَظِيفَة هَؤُلَاءِ خدمَة الْكُرْسِيّ والسرير اللَّذين يجلس عَلَيْهِمَا السُّلْطَان بالإيوان وتعاهد أنماط الْجُلُوس وكنسها والشواش وهم الَّذين يتولون ضبط الجيوش فِي المصاف فِي حَرْب أَو سلم وإنهاء الْكتب والرسائل للجهات بِخَير أَو شَرّ
قَالَ الفشتالي وَهَذَا مِمَّا زَادَت بِهِ دولته على سَائِر الدول فَإِذا خرج فِي يَوْم عيد أَو ملاقاة أَو تهنئة خَرجُوا متزينين وكل قَائِد يقف عِنْد مبدأ انبعاث حَبل جَيْشه تَحت ألوية محفوفا بِجَيْش من رُؤَسَاء جنده أهل الْخَيل وهم الَّذين يدعونَ عِنْدهم بالبكباشات فاصلا بذلك بَين جَيْشه وجيش من يردفه خَلفه وَهَكَذَا يَمْتَد إِلَى انبعاث الْجَيْش من تِلْقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ وكل يعرف مركزه ورتبته لَا يتعداه إِلَى غَيره بتقدم أَو تَأَخّر وَلَا يجد السَّبِيل إِلَى ذَلِك لَو أَرَادَهُ
قَالَ الفشتالي وَالتَّرْتِيب الَّذِي جرى بِهِ الْعَمَل فِي عَسَاكِر النَّار أَن يتَقَدَّم أَولا جَيش السوس ثمَّ يردفه جَيش شراكة وكل مِنْهُمَا يَنْقَسِم حبلين ثمَّ يردفهما العسكران العظيمان عَسْكَر الموَالِي من المعلوجي وَمن انضاف إِلَيْهِم وعسكرك الأندلس وَمن لبس جلدتهم وَدخل فِي زمرتهم وَهَذَانِ يسيران صفّين متساويين لِاسْتِوَاء مرتبتهما وَعند الْعَطاء تَارَة يتَقَدَّم هَؤُلَاءِ وَتارَة هَؤُلَاءِ غير أَن الموَالِي يكونُونَ فِي الميمنة لمزية الْوَلَاء وَكِلَاهُمَا يحظى بموالاة ركاب السُّلْطَان ويتقدم قائدهما مَحْمُود قَائِد الموالى وجؤذر قَائِد الأندلس وترفع على رَأس كل مِنْهُمَا الرَّايَات ويحفه عَسْكَر من بكباشات ثمَّ يتَّصل بِهَذَيْنِ العسكرين الدخلة الْعَظِيمَة الْمُؤَلّفَة من البياك والسلاق وبلبدروش فتسير الْفرق الثَّلَاث أَمَام الْمَنْصُور صُفُوفا مُتَسَاوِيَة فَأَما البياك فيلون ركابه يحفونَ بِهِ يَمِينا وَشمَالًا وَيرْفَع بِالْبَعْضِ رماحه اليزنية المنصوبة أَمَامه وَمِنْهُم صَاحب المظل الْمَرْفُوع على رَأسه كالغمامة يحملهُ حَالَة ركُوبه أقربهم دَرَجَة لقائدهم أبرويز وَإِذا مَشى الْمَنْصُور إِلَى جَامع الْمَنْصُور من جِهَة قُبُور الْأَشْرَاف أَو للمشتهى وَهُوَ الرَّوْض الْمُتَّصِل بقصر البديع على رجلَيْهِ حمله أبرويز بِنَفسِهِ ثمَّ يسير عَن يمينهم وشمالهم السلاق ويسير عَن(5/164)
يَمِين هَؤُلَاءِ وشمالهم بلبدروش أهل اللقاقيف وتتكيف من الْجَمِيع صُورَة تزرع الرعب فِي الْقُلُوب وتسير الجنائب فِيمَا بَين سماطي هَذِه الدخلة مجنوبة صفا صفا إِلَى ألوية عَسَاكِر النَّار ومنبعث حبالها الممدودة يَقُودهَا صنف يدعونَ السراجة ركبانا وَكَانَت جنائب الْخُلَفَاء يَقُودهَا الرجل من الوزعة وَهَذَا أكمل مزية وجيش الإصباحية الَّذِي إِلَى نظر بيلارباي يَنْقَسِم كتيبتين عظيمتين تسير إِحْدَاهمَا ذَات الْيَمين وَالْأُخْرَى ذَات الشمَال أَمَام الموكب الَّذِي يرفع اللِّوَاء الْعَظِيم الْأَبْيَض الْمَدْعُو باللواء الْمَنْصُور عَلامَة على شعار الدولة على رَأس الْمَنْصُور يسامته من خَلفه وَهُنَاكَ ألوية كَثِيرَة ذَات ألوان مُخْتَلفَة وأمامه الطبل الْعَظِيم الَّذِي يسمع دويه من مَسَافَة بعيدَة وَمن خَلفه الطبول الْأُخَر مَعهَا الغيطات واحدتها غيطة يتَوَلَّى النفخ فِيهَا قوم من الْعَجم أساتيذ يتعلمونها فينفخون فِيهَا فتنبعث مِنْهَا أصوات وتلاحين لَا تحرّك الطباع وَلَا تبعثها على شَيْء دون الْحَرْب فَإِنَّهَا تشجع الجبان وتقوي جأش الْخَائِف حِكْمَة فيلسوفية وَهُنَاكَ مَزَامِير أخر وجعاب طوال صفرية على مِقْدَار النفير تسمى الطرنباط مِمَّا أحدثه أَيْضا فِي دولته وزادت بِهِ دولته فخامة وضخامة ثمَّ يردف هَذِه الألوية والآلات من خلف أَمِير الْمُؤمنِينَ موكبه الْعَظِيم فَهَذَا تَرْتِيب جَيش الْمَنْصُور انْتهى بِاخْتِصَار من كتاب مناهل الصَّفَا وَلَيْسَ اتِّخَاذ المظل مِمَّا أحدثته الدولة السعدية كَمَا زعم بَعضهم بل كَانَ ذَلِك مَوْجُودا فِي الدول الْقَدِيمَة شرقا وغربا
قَالَ اليفرني وَمَا ذكره الإِمَام الفشتالي من توافر أجناد الْمَنْصُور وتكاثر جيوشه هُوَ كَذَلِك وَقد أولعت الْعَامَّة فِي ذَلِك بأخبار واهية وَزَعَمُوا أَن الْمَنْصُور خرج مرّة إِلَى الرميلة بِظَاهِر مراكش وَلم تعلم أَصْحَابه بِخُرُوجِهِ فحين علمُوا بِخُرُوجِهِ تبعوه خفافا وثقالا فَأمر بعد مَا مَعَه هُنَالك من الْجَيْش فَوجدَ ثَمَانِينَ ألفا فَقَالَ يَا سُبْحَانَ الله قد خاطرنا بِأَنْفُسِنَا حَيْثُ ركبنَا فِي هَذَا الْعدَد يستقله وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الإفراط وَالَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد أفقاي الأندلسي فِي كِتَابه الْمُسَمّى ب رحْلَة الشَّبَاب إِلَى لِقَاء الأحباب مَا مَعْنَاهُ قَالَ إِن جَزِيرَة الأندلس الَّتِي استردادها من أَيدي(5/165)
الْكفَّار سهل واسترجاعها مِنْهُم قريب لما دخلت مراكش فِي أَيَّام الْمَنْصُور وجدت عِنْده من الْخَيل نَحوا من سِتَّة وَعشْرين ألفا فَلَو تحركت همته لفتحها لاستولى عَلَيْهَا فِي الْحِين اه بِالْمَعْنَى اه كَلَام اليفرني
وَأما بَيَان حَالَة الْمَنْصُور فِي السّفر فقد قَالَ شَارِح زهرَة الشماريخ إِن الْمَنْصُور كَانَ قَلِيل الْأَسْفَار وَإِنَّمَا سَافر إِلَى فاس مرَّتَيْنِ لَا غير وَإِنَّمَا كَانَ متفرغا للذاته وَاسْتِيفَاء شهواته مُدَّة خِلَافَته قَالَ اليفرني وَبِه يعلم أَن مَا شاع على الْأَلْسِنَة من أَنه كَانَ يمْكث بفاس سِتَّة أشهر وبمراكش مثلهَا لَيْسَ بِصَحِيح وَالله أعلم
وَكَانَ الْمَنْصُور إِذا سَافر استعد غَايَة الاستعداد وَأحسن فِي التهيئة مَا شَاءَ قَالَ صَاحب النفحة المسكية كَانَ لَهُ قصر من عود مسمر بمسامير ومخاطيف وَحلق وصفائح مفضضة على هَيْئَة عَظِيمَة وَقد أحدق بذلك كُله سرادق كالسور من نَسِيج الْكَتَّان كَأَنَّهُ حديقة بُسْتَان وزخرفة بُنيان وَفِي دَاخل الْقصر الْمَذْكُور القباب الملونة بيضًا وسودا وحمرا وخضرا كَأَنَّهَا أزاهير الرياض قد نقش ذَلِك أحسن النقش ومليء بأبهى الْفرش وللسرادق الَّذِي هُوَ كالسور أَبْوَاب كَأَنَّهَا أَبْوَاب الْقُصُور المشيدة يدْخل مِنْهَا إِلَى دهاليز وتعاريج ثمَّ يَنْتَهِي مِنْهَا إِلَى الْقصر الَّذِي فِيهِ القباب وَهَذَا الْقصر كَأَنَّهُ مَدِينَة تنْتَقل بانتقاله وَهُوَ من الأبهات الملوكية الَّتِي لم يُوجد مثلهَا عِنْد الْمُلُوك الماضين اه
وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهِ مَا حَكَاهُ أَبُو فَارس الفشتالي فِي المناهل قَالَ خرج الْمَنْصُور يَوْم الِاثْنَيْنِ عَاشر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة لزيارة أضرحة الصَّالِحين بأغمات قَالَ فتأخرت وَرَاءه فلحقني الْمولى عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف وَأَنا فِي أخريات النَّاس فأنشده
(أَبَا فَارس بَان الخليط وودعوا ... )
فَقلت
(وولوا وَحسن الصَّبْر مني شيعوا ... )
فَقَالَ
(وغرد حادي الْبَين وانشقت الْعَصَا ... وَكَاد فُؤَادِي للنوى يتقطع)(5/166)
فَقلت
(إِلَى الله أَشْكُو فرقة مِنْهُم وَقد ... تجرعت من كأس النَّوَى مَا تجرعوا)
ثمَّ زِدْت
(لَئِن شرد السلوان عني بعدهمْ ... فَفِي صُحْبَة الْمَنْصُور أنسي أجمع)
ثمَّ قَالَ
(تَدور عَلَيْهِ هَالة لقبابه ... ومركزها قصر الْخلَافَة يلمع)
فَقلت
(سياج بِهِ بَحر الندى متموج ... وَمن أفقه شمس الْإِمَامَة تطلع)
وَكَانَ الْمَنْصُور خرج لزيارة أغمات فِي شارة حَسَنَة فَلَمَّا بلغ أغمات مكث فِيهِ يَوْمَيْنِ وَفِي الثَّالِث نَهَضَ إِلَى زِيَارَة الإِمَام أبي عبد الله الهزميري وعاج على ضريح الشَّيْخ سَيِّدي عبد الْجَلِيل ووقف عِنْد الْجَبانَة الْكُبْرَى فَدَعَا مَا تيَسّر وَفرق أمولا على ذَوي الْحَاجَات على يَد القَاضِي الشابطي والفقيه الْأمين أبي الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان الثاملي وَكَانَ مَعَه الْفَقِيه القَاضِي أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي كَانَ قد استقدمه من فاس برسم الْقِرَاءَة مَعَه وَكَانَ الْحميدِي لوذعيا خَفِيف الرّوح وَفِي هَذِه السفرة صدرت مِنْهُ الأبيات الَّتِي تبارى فِي معارضتها شعراء الدولة وَقد ذكرهَا فِي النزهة فَلْتنْظرْ هُنَالك
وَمِمَّا يتَعَلَّق بأخبار الْحميدِي الْمَذْكُور أَن الْمَنْصُور سَافر مرّة إِلَى تارودانت وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأَعْيَان كَالْقَاضِي الْحميدِي وَأبي الْعَبَّاس المنجور وَغَيرهمَا فخيم الْمَنْصُور بِبَاب تارودانت وَضرب النَّاس أخبيتهم فَمر رجل عَلَيْهِ أطمار بالية وهيئة رثَّة وَيُقَال إِن هَذَا الرجل هُوَ أَبُو عُثْمَان الْهِلَالِي الروداني فوطئ على طُنب من أطناب خباء القَاضِي الْحميدِي فصاح القَاضِي من هَذِه الْبَقَرَة الَّتِي قوضت على خَيْمَتي متهكما بِالرجلِ فَألْقى إِلَيْهِ الرجل قرطاسا فِيهِ أَبْيَات وَقَالَ الْبَقَرَة من لَا يُجيب عَن هَذِه وَنَصّ الأبيات
(إِلَى بابك العالي مسَائِل ترتقي ... تفطن لَهُنَّ يَا حميدي واصدق)
(فَمَا الحكم فِي الأوزاغ هَل سَاغَ أكلهَا ... وَمَا الحكم فِي موتى المجانين فانطق)(5/167)
(وَهل جَازَ للمسبوق بعد تشهد ... دُعَاء إِذا مَا رام إِكْمَال مَا بَقِي)
(وَمَا وزن لَيْسَ يَا أديب وَأَصله ... وَمَا جمع قلَّة لصاع فحقق)
(وَمَا وَزنه شمر ولاتن وائتنا ... بِجمع سَوَاء والمقيد أطلق)
(وَبَين لنا من فِي أعوذ بربنا ... من إِبْلِيس والتخمين فِي الْكل فَاتق)
فَبَدَا للحميدي مَا لم يكن يحْتَسب وَتوقف عَن الْجَواب فَرفعت الْقَضِيَّة إِلَى الْمَنْصُور فاستغربها وَقَالَ هَذَا رجل من أهل الْبَادِيَة فَضَح قَاضِي قُضَاة الحواضر وَأمر المنجور فَأجَاب عَنْهَا يُقَال بعد أَربع سِنِين وَبعد موت السَّائِل وَنَصّ الْجَواب
(جوابك فِي الأولى إِبَاحَة أكلهَا ... بمذهبنا فأجزم بِذَاكَ وَصدق)
(كَذَا ابْن حبيب فِي الخشاش أَبَاحَهُ ... لمحتاجه مثل العقارب فاسبق)
(وَقد قيل فِي الأوزاغ يحرم أكلهَا ... وَذَلِكَ فِي الْكَافِي ليوسف فَاتق)
(ومستقذر يَحْكِي الْمُخَالف مَنعه ... وَأنْكرهُ التَّنْبِيه فَافْهَم ودقق)
(وَرجح مَا يَحْكِي الْمُخَالف بعض من ... لَهُ الْعزو للتحقيق لَا للتشدق)
(وميت مَجْنُون جرى خلف حكمه ... بِعلم كَلَام لَا تكن غير متق)
(وتحقيقها إِن الْجُنُون الَّذِي طرا ... يصير كموت فصل الْحق يعبق)
(فآونة بعد الْبلُوغ طروه ... وحينا يرى قبل الْبلُوغ فطبق)
(وآونة إِثْر الصّلاح وُقُوعه ... وحينا بعصيان الْكَبِيرَة يلتقي)
(وحينا يَدُوم للممات وَتارَة ... يفِيق فَخذ حكم الْجَمِيع ووثق)
(وَينْدب للمسبوق دَعْوَى تشهد ... وفَاق إِمَام فِي الْمُنَاجَاة فارتق)
(وَلَيْسَ لَهُ فعل كقال وَأَصله ... بِكَسْر لياء فاكسر الْعين ترتق)
(وجمعك صَاعا فِي الْقَلِيل بأصوع ... وأصؤع بهمز الْوَاو فانهج ونمق)
(وَإِن شِئْت فاقلبه فَيرجع آصعا ... لضابط تصريف فللعلم شوق)
(وَصَاع كعام عينه فرع ضمة ... وتحريكه فتح فزنه وحقق)
(وَجمع سَوَاء فَالَّذِي مِنْهُ جامد ... يأسوية علم يُقَاس فَفرق)
(ومشتقه وزن الْخَطَايَا قِيَاسه ... سواسية ثقل فبالحق فانطق)
(ومقصد من فِي العوذ بَدْء لغاية ... فإبليس مبدأ العوذ عِنْد الْمُوفق)(5/168)
انْتِقَاض ولي الْعَهْد مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون على أَبِيه الْمَنْصُور وَمَا آل إِلَيْهِ أمره فِي ذَلِك
كَانَ الْمَأْمُون كَمَا تقدم ولي عهد أَبِيه الْمَنْصُور وَكَانَ خَلِيفَته على فاس وأعمالها سَائِر مُدَّة أَبِيه وَكَانَ للمنصور اعتناء تَامّ بِهِ واهتمام بِشَأْنِهِ حَتَّى قيل إِن الْمَنْصُور كَانَ لَا يخْتم على صندوق من صناديق المَال إِلَّا قَالَ جعل الله فَتحه على يَد الشَّيْخ رَجَاء أَن يقوم بِالْأَمر بعده فَلم يساعد الْقدر وَخرج الْأَمر كَمَا قَالَ الْقَائِل
(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ ... تجْرِي الرِّيَاح بِمَا لَا تشْتَهي السفن)
فأساء الْمَأْمُون السِّيرَة وأضر بالرعية
قَالَ اليفرني وَكَانَ فسيقا خَبِيث الطوية مُولَعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا للدماء غير مكترث بِأُمُور الدّين من الصَّلَاة وشرائطها وَلما ظهر فَسَاده وَبَان للنَّاس عواره نَهَاهُ وَزِير أَبِيه الْقَائِد أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم السفياني عَن سوء فعله فَلم ينْتَه وَاسْتمرّ على قبح سيرته فَأَعَادَ عَلَيْهِ اللوم فلح فِي مذْهبه وَلما أَكثر عَلَيْهِ من التقريع سقَاهُ السم فَكَانَ فِيهِ حتف الْقَائِد الْمَذْكُور وَمِمَّا أنكر عَلَيْهِ أَنه قبض على كَاتب أَبِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى وَهُوَ مؤلف كتاب الْمَمْدُود وَالْمَقْصُود من سناء السُّلْطَان الْمَنْصُور ووظف عَلَيْهِ أَمْوَالًا وابتزه ذخائره حَتَّى كَانَ مِمَّا أَخذ مِنْهُ ثَمَانُون حسكة مذهبَة وَمِائَة تخت من الملف الْمُخْتَلف الألوان فَلَمَّا كثرت قبائحه وترددت الشكايات لِأَبِيهِ كتب إِلَيْهِ لينكف عَن غيه وينزجر عَن خبثه فَمَا زَاده التحذير إِلَّا إغراء فَلَمَّا رأى الْمَنْصُور أَنه لم يكترث بأَمْره وَلم ينزجر عَن قبائحه عزم على التَّوَجُّه إِلَى فاس بِقصد أَن يمكر بِهِ ويؤدبه بِمَا يكون رادعا لَهُ فَسمع الشَّيْخ بذلك فَجمع عساكره وهيأ جنده وَدفع الْمُرَتّب لأَصْحَابه وَكَانَ عدد جَيْشه فِيمَا قيل اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا كلهم بكساوى الملف وَالْحَرِير(5/169)
على أحسن شارة وأكمل زِيّ وعزم أَنه إِن بلغه خُرُوج أَبِيه من مراكش أَن يتَوَجَّه فِي أَصْحَابه إِلَى تلمسان ويستجير بِالتّرْكِ فَلَمَّا بلغ الْمَنْصُور مَا عزم عَلَيْهِ الشَّيْخ من الذّهاب إِلَى تلمسان تخلف عَن الْخُرُوج من مراكش وَكتب إِلَى الشَّيْخ يلاطفه ويأمره أَن لَا يفعل وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى لَهُ عَن خراجهما وَقَالَ لَهُ قد سوغتكه وَلَا أطالبك فِيهِ وَمرَاده بذلك أَن تسكن نفرته وَيرجع إِلَيْهِ عقله فأظهر الشَّيْخ امْتِثَال الْأَمر وَخرج يؤم سجلماسة فَمَا انْفَصل عَن فاس بِشَيْء يسير حَتَّى نَدم وَرجع إِلَيْهَا وَعَاد لما كَانَ عاكفا عَلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور أَعْيَان مراكش وعلمائها فنصحوه ووعظوه وخوفوه سخط وَالِده وَحَذرُوهُ عَاقِبَة العقوق وَلم يألوا جهدا فِي نصحه فوجوده مَشْغُول الْقلب عَن نصيحتهم مغمور الذِّهْن بِخِلَاف قَوْلهم إِلَّا أَنه أظهر الرُّجُوع عَمَّا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ من الْفِرَار عَن أَبِيه وأقصر فِي الظَّاهِر عَن بعض تِلْكَ الْمسَاوِي فَرجع الْوَفْد إِلَى الْمَنْصُور وَقَالُوا لَهُ إِنَّه قد تَابَ وَحسنت حَاله واطمأنت نَفسه وَأَنه وَاقِف عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي فَلم يطمئن الْمَنْصُور لقَولهم وَقَالَ لَهُم لَعَلَّ هَذَا إطفاء لنار الشحناء وَكذب لإِصْلَاح الْبَاطِن وصمم على الْمَكْر بالشيخ فَكتب إِلَيْهِ كتابا طَويلا يلومه فِيهِ على بعض الْأَشْيَاء وَفِي ضمن ذَلِك تسكين خاطره حَتَّى يبغته على حِين غَفلَة وَنَصّ الْكتاب
من عبد الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيد الله أوامره وظفر عساكره إِلَى ولدنَا وَولي عهدنا الْأَمِير الْأَجَل الْأَفْضَل الْأَكْمَل الْأَعَز بَابا الشَّيْخ وصل الله كمالكم وسنى من خير الدَّاريْنِ آمالكم وَسَلام عَلَيْكُم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حَضْرَة مراكش حاطها الله وَلَا جَدِيد إِلَّا مَا عوده مَوْلَانَا من الْخَيْر لله الْحَمد وَله الْمِنَّة هَذَا وَالَّذِي أوجبه أسعدكم الله وكلاكم أَنه بلغنَا أَنكُمْ قد استخدمتم هُنَاكُم جمَاعَة من أَوْلَاد طَلْحَة كأولاد أخي عَليّ بن مُحَمَّد وَأخي عَليّ بن مُلُوك وَغير هَؤُلَاءِ وَأَنَّك قد فرضت لَهُم فِي أعطياتهم نَحْو خَمْسَة آلَاف وَإِلَى هَذَا أَي مصلحَة ظَهرت لَك فِي اسْتِخْدَام هَؤُلَاءِ الْقَوْم حَتَّى تتحمل كلفة فرض هَذِه الْفُرُوض بل مَا(5/170)
فِي ذَلِك إِلَّا الْفساد الْبَين لِأَن هَذَا الَّذِي تعرضتم لَهُ لَا يَفِي بِهِ الْمغرب وَلَا يقوم مَعَه بكم شَيْء وَمَسْأَلَة هَؤُلَاءِ أَوْلَاد طَلْحَة إِن كنت رَأَيْت استخدامنا وَأَرَدْت تقليدنا فِي ذَلِك واقتفاء سيرتنا فِيهِ فَاعْلَم أَن بَيْننَا وَبَيْنكُم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فرقا من وُجُوه مِنْهَا إِن مراكش لَيست كفاس وَإِن خدمتهم هُنَا لبعدهم عَن بِلَادهمْ لَيست كخدمتهم هُنَاكَ وَأَيْضًا هَؤُلَاءِ النَّاس أَنا أعرفهم وَكنت فِي بِلَادهمْ وَهَذِه الْخدمَة كَانُوا قد طلبوها مني وَأَنا هُنَاكَ فوعدتهم إِذْ لَا يمكنني وَأَنا ببلادهم إِلَّا مساعفتهم فَلَمَّا جاؤوا الْيَوْم وطالبونا بالوعد لم يُمكن إِلَّا الْوَفَاء لَهُم بِهِ فَعَلَيهِ شرطنا عَلَيْهِم مراكش وسكناها وعَلى هَذَا الشَّرْط استخدمناهم وَمَعَ هَذِه الْوُجُوه كلهَا والاعتبارات فقد نَدِمت وَالله على استخدامهم غَايَة الندامة وَكنت فِي ذَلِك على خطأ إِذا كَانَ الأولى إِن كُنَّا حاسناهم وتركناهم فِي الْخدمَة وَأما أَنْت فَفِي مندوحة عَن هَذَا كُله لِأَنَّهُ لَا وعد لَك سَابق حَتَّى يلزمك الْوَفَاء بِهِ ويمكنك أَن تحيلهم على إذننا ومشورتنا فنكفهم عَنْك بِالشّرطِ الَّذِي شرطنا عَلَيْهِم من الْخدمَة هُنَا بمراكش وسكناها وعَلى هَذَا الشَّرْط استخدمنا مِنْهُم من استخدمنا وَإِلَى هَذَا فَالَّذِي نؤكد بِهِ عَلَيْك أَن تنقصهم من الْخدمَة وَلَا تستخدم مِنْهُم حَتَّى فَارِسًا وَاحِدًا أصلا من الَّذين ذكرنَا لَك وَمن غَيرهم من كَافَّة أَوْلَاد طَلْحَة وأمرناك أَن تتنصل لَهُم فِينَا وَتقول لَهُم إِن السُّلْطَان مَنَعَنِي من استخدامكم هُنَا وتقرأ عَلَيْهِم كتَابنَا الْوَاصِل إِلَيْكُم صُحْبَة هَذَا لتتفادى مِنْهُم وَلَكِن الْجفَاء مَعَ هَذَا كُله لَا تظهره بل تحسن اللِّقَاء بهم وتواليهم بِإِظْهَار الْبشر وَالْقَبُول وَبَاب الطمع تسده دونهم
وَالَّذِي شقّ علينا أعظم من هَذَا كُله واستنكرناه وَلم نجد صبرا عَلَيْهِ هُوَ مَا وجدناهم قد اطلعوا عَلَيْهِ أَعنِي أَوْلَاد طَلْحَة عَليّ بن مُحَمَّد وَغَيره من أحوالكم وأخباركم وألفيناهم قد توصلوا من ذَلِك إِلَى مَا لم يتَوَصَّل إِلَيْهِ أحد من كبار خدامكم أهل بِلَادنَا وخواص أهل بساطنا لِأَن أهل بِلَادنَا أحباء مَا لَهُم بحث إِلَّا فِي مصَالح أنفسهم هَؤُلَاءِ إِنَّمَا ينتقدون ويبحثون عَن الْغرَّة وعورات المملكة فَإِذا بكم تتخذونهم بطانة وأصدقاء وتطالعونهم بأحوالكم(5/171)
وأموركم مَعَ أَن الْقَوْم لَا زَالُوا بِبِلَاد الْعَدو وَبَين أظهرهم وَمَا يطلعون عَلَيْهِ تحْتَاج تقطع وتجزم بِأَن التّرْك قد اطلعوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ شاهدوه ووقفوا بِأَنْفسِهِم عَلَيْهِ وَأَيْضًا لَو كَانُوا أصدقاء وَلَا يُرِيدُونَ بِنَا إِلَّا خيرا فالقوم عرب لَا يتحفظون على مَا يطلعون عَلَيْهِ وَلَا يفهمون مَا يحسن إخفاؤه وَلَا إبداؤه وَلَا يتمالكون قولا وَلَا نطقا وَبِالْجُمْلَةِ فقد أَحْرَقَتْنَا هَذِه الْمَسْأَلَة وتفطرت لَهَا أكبادنا وَصَارَت قُلُوبنَا مِنْهَا مطعونة وَمَا عنْدكُمْ علم بِأَن النَّاس كَانُوا يتحفظون فِي أقل الْأُمُور أَن يطلع عَلَيْهَا الْأَجَانِب وَإِن كَانُوا أحب من كل محب وَأقرب من كل قريب وَهل مَا عنْدكُمْ علم بِأَنا أخانا بَابا مَنْصُور كَانَ عرض لَهُ غَرَض ضَعِيف جدا أَرَادَ أَن يَطْلُبهُ من أخينا بَابا عبد الله وَحضر فِي الْمجْلس مَنْصُور بن المزوار فَلم يرد بَابا مَنْصُور لفطنته أَن يذكر ذَلِك حَتَّى يشاور من بإزائه لِئَلَّا يكون عيب فِي ذكر ذَلِك بمحضره فَعَلَيهِ شاور الْقَائِد دحو بن فرج كَانَ بإزائه فَقَالَ لَهُ هَذَا رجل براني فَلَا تطلب شَيْئا قدامه على أَن مَنْصُور بن المزوار هَذَا كَانَ مَعَ أسلافنا من أقرب مَا إِلَيْهِم من خَواص الخدام أهل بساطنا محبَّة وقربا لِأَنَّهُ أسلف مَعَهم خدمَة عَظِيمَة فقد كَانَ عدوا للترك وَبَينه وَبينهمْ أَرْوَاح وَحضر مَعَ أخينا بَاب حمو الحران جَمِيع مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد أَيَّام استيلائه على الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ مَعَ بَابا عبد الْقَادِر كَذَلِك وَشرب مَعَهم الحلوة والمرة وَلما جَاءَ من تلمسان جَاءَ بأولاده مِنْهَا راحلا كَمَا جَاءَ مِنْهَا بَابا عبد الله بأولاده وكما جَاءَ مَعَهم خدامنا أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَمَا زَالَ على الْخدمَة وَالْوَفَاء حَتَّى حصلت لَهُ يَد عَظِيمَة مَعَ أسلافنا وناهيك بِمن بلغ إِلَى أَن قلدوه حَاضِرَة تازا ثمَّ بِلَاد الفحص الَّتِي لَا تُعْطى كلتاهما إِلَّا لأَقْرَب الخدام الموثوق بمحبتهم وَخدمَتهمْ وقربهم وَمَعَ بُلُوغه إِلَى هَذَا الْمبلغ كُله محبَّة وصداقة وهجرة وانقطاعا حَتَّى انه فِي دُخُول صَالح رَئِيس مَدِينَة فاس رَحل بأولاده مَعَ السُّلْطَان إِلَى هُنَا كَمَا فعل أهل هَذِه الْبِلَاد وَحين دَخَلنَا نَحن من جِهَة الشرق لفاس رحلوا أَيْضا مَعَ صَاحب الْجَبَل إِلَى مراكش وَلَا يعدوا أنفسهم من هَذَا الْجَانِب أبدا فِي الحَدِيث الْقَدِيم ثمَّ إِن النَّاس استبعدوا أَن يطلبوا أقل الْمسَائِل بمحضره وَقَالُوا إِنَّه(5/172)
براني فضلا عَن هَؤُلَاءِ الَّذين مَا زَالُوا إِلَى الْيَوْم فِي بِلَاد الْعَدو يباكرونه ويراوحونه فَإِذا بكم تَنْزِلُونَ مَعَهم إِلَى أَن تطالعوهم على أُمُوركُم ويتوصلوا إِلَى الْمعرفَة بأحوالكم فَمَا تمالكنا لهَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَا وجدنَا عَلَيْهَا صبرا وَمن جملَة الْأُمُور الَّتِي غاظتنا وَقُلْنَا كَيفَ يتَوَصَّل الرجل البراني إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأُمُور أَن عَليّ بن مُحَمَّد كَانَ يتَكَلَّم يَوْمًا مَعنا وَأخذ يثني عَلَيْكُم فِي نجدتكم وصبركم عِنْد الشدَّة وسخائكم عِنْد الْحَاجة ثمَّ قَالَ إِلَّا أَن الْخَيل لَيست عِنْده لَا فِي الْحَرَكَة الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة لِأَن الْقَبَائِل أهل الْخَيل امْتَنعُوا من الْحَرَكَة مَعَه وَهِي الَّتِي غاظتني وَقلت كَيفَ يتَوَصَّل الرجل البراني إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأُمُور حَتَّى أننا مَا وجدنَا إِلَّا الرَّد عَلَيْهِ وَعكس مَا عرفنَا أَنهم اعتقدوه وَقُلْنَا اللَّهُمَّ نِسْبَة التَّقْصِير إِلَيْكُم وَلَا اعْتِقَادهم خلو الْبِلَاد من الْخَيل لأننا فهمنا مِنْهُم ذَلِك وَلِهَذَا أَجَبْته وَقلت لَهُ إِن ولدنَا لم يعطهم شَيْئا وَأعْطى من لَا يسْتَحق من ضعفاء القواد المعروفين بِأَكْل المَال وَعدم المخزنية وَلَو أعْطى تِلْكَ الْقَبَائِل لحشرها عَلَيْهِ لِأَن أَوْلَاد مُطَاع عِنْدهم من الْخَيل نَحْو الثَّلَاثَة آلَاف وَعند أَوْلَاد أبي عَزِيز نَحْو ألف وَنصف وَعند الغربية وَعند أَوْلَاد عمرَان وَعند عَبدة وَعند الشياظمة وَعند أَوْلَاد أبي رَأس وَعند أَحْمَر وَعند المنابهة أهل سايس وَعند المنابهة أَصْحَاب عمر بن مُحَمَّد عبو وَجعلت أعدد لَهُ قبائل السوس وقبائل مراكش وأحصي لَهُ خيلهم بِمَا بَهته وَقلت لَهُ لَو أنصفهم لحرك مِنْهُم مَعَه سِتَّة عشر ألفا أَو أَكثر وَيكون قد مَلأ بهم تِلْكَ الْبِلَاد وسال عَلَيْهَا من سيل العرم لَا فِي الْحَرَكَة لأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة وَلَو وَجه إِلَيْهِم المحركين وَالرُّمَاة لأتوه أَيْضا بِلَا خلاص وَإِلَى هَذَا نوصيكم على الْمُحَافظَة من أُولَئِكَ النَّاس وَمن رفع الْحجاب لَهُم عَن أُمُوركُم والاطلاع على أحوالكم وَعدم الْغَفْلَة عَن أَمْثَال هَذَا وَاعْلَم أَن من جملَة مَا بلغنَا أَيْضا أَن الْخَلْط رجعُوا كلهم رُمَاة على يَد مصطفى باشا مَعَ حَدِيث عَهدهم بِالْفَسَادِ وَالْخلاف وَكُنَّا انتشبنا مَعَهم بالعودات فَإِذا بهم الْيَوْم بالمدافع وعدة النَّار وَهل هَذَا يجوز عَلَيْكُم حَتَّى تسمحوا فِيهِ مَعَ أَن هَذِه الْمسَائِل لَيست بغائبة عَنْكُم سمعتموها بِالسَّمَاعِ فَقَط وَلَا طَوِيلَة عهد حَتَّى(5/173)
تنساها بالْأَمْس شاهدت وباشرت وَرَأَيْت فَمَا الَّذِي أنساك فعلهم وَمَا زَالَ جرحهم الْآن لم يبرأ لِأَن خُرُوج الْقَائِد مُؤمن الْخَارِج الْآن مَا كَانَ إِلَّا إِلَيْهِم والآن نؤكد عَلَيْك أَن تنقصهم من الْخدمَة وَلَا تسمع لمصطفى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقد سمعنَا أَيْضا أَن قواد الْفساد الَّذين عنْدكُمْ من أَوْلَاد حُسَيْن قد صَارَت جُمْلَتهمْ من بَاب الْخَمِيس إِلَى دَار الدبيبغ وكأنكم نسيتم أَيْضا مَا عمل أَوْلَاد حُسَيْن بالْأَمْس دون بعد من النهب وأضرموا من الْفساد فِي الْبِلَاد حَتَّى ينزلُوا تِلْكَ الْمنَازل وَإِلَى هَذَا فساعة وَصله إِلَيْكُم تقبض على قواد الْفساد هَؤُلَاءِ خُصُوصا أَحْمد بن عبد الْحق من أَوْلَاد يحيى بن غَانِم الَّذِي كَانَ أَبوهُ حاجبا عِنْد المريني فَهُوَ أصل الْفساد ثمَّ لَا تتْرك لقبائلهم جنَاحا وَاحِدًا وزد للقائد مُؤمن بن مُلُوك ألف رام ليستوفي لكم الْغَرَض فِي هَؤُلَاءِ وأمثالهم من كل مَا تَأمره بِهِ لِأَن بَقَاء الرُّمَاة هُنَالك مَا فِيهِ إِلَّا الِاشْتِغَال بِالْفَسَادِ فِي الْمَدِينَة فتحتاج أَن تتولاهم بِالْقَتْلِ كل يَوْم بَاطِلا فَكَانَ خُرُوجهمْ إِذْ ذَاك دفعا لمضرتهم وجلبا للْمصَالح بهم وَحَتَّى الْكَاتِب اللَّائِق بأمثالكم ورسائلكم لم يكن عنْدكُمْ لِأَن كتبكم تَأتي بِخَط سَالم وَهُوَ غير عَارِف بالإنشاء وَتارَة بِخَط الكريني وَهُوَ جَاهِل مَعَ أَنَّك لما كنت خليفتنا وَولي عهدنا كنت بصدد أَن يكْتب لَك كل أحد لَا صَاحب الجزائر وَلَا صَاحب تونس وَحَتَّى صَاحب التّرْك وَصَاحب النَّصَارَى وكل من يكْتب لنا من مُلُوك الأَرْض بصدد أَن يكْتب لَك فتحتاج حِينَئِذٍ إِلَى من يحسن الْجَواب عَنْك لكل من يكْتب إِلَيْك وَيكون أَيْضا مِمَّن يوثق بِهِ فِي الْمُحَافظَة على أسراركم وَإِلَى هَذَا فَلَا بُد من تعْيين قَائِد الْمحلة وحاجب وَكَاتب سرك وَصَاحب مشورك وَصَاحب الْمَظَالِم كَمَا هُنَا هُوَ عندنَا السَّيِّد عَليّ بن سُلَيْمَان وَاعْلَم أَن مِمَّا تحْتَاج أَن ننبهك عَلَيْهِ مَسْأَلَة القواد الَّذين يُرِيدُونَ أَن يحملوك أثقال أَوْلَادهم مثل مَا فعلت فِي أَوْلَاد الْقَائِد بركَة وإخوتهم الَّذين استخدمتهم وَجعلت لَهُم خَمْسمِائَة أُوقِيَّة فنؤكد عَلَيْك أَن لَا تستخدم مِنْهُم أحدا فَمَا أعطيناه سلا إِلَّا ليرْفَع فِيهَا أَوْلَاده وَإِخْوَته وَكَذَلِكَ(5/174)
الحكم فِي أَمْثَاله مِمَّن أعطيناه عملا وقلدناه قيادة وَمن جملَة من نحذرك من استخدامهم فِي الرماية أهل الْجبَال من أهل الصحفة وَالدِّينَار فَلَا تستخدموا مِنْهُم أحدا وَإِلَّا فاعلموا أَنكُمْ مَا أردتم حِينَئِذٍ أَن يغرموا لكم وَلَا يعطوكم شَيْئا وَإِن أردتم الْخدمَة فهاهم أهل هَذِه الْبِلَاد مثل أهل السوس وَأهل درعة وَأهل مراكش فَكل مَا تستخدمون من هَؤُلَاءِ فَلَا عَلَيْكُم وَإِذا لم يكن من هَؤُلَاءِ وَكَانَ ولابد من غَيرهم فَمن أهل فاس سكان الْحَاضِرَة وَأما من عداهم فَلَا على أَن الرُّمَاة أهل السوس هَا هِيَ عندنَا كَثِيرَة فَكل مَا تُرِيدُ مِنْهُم عرفنَا نبعثهم إِلَيْك ونضيفهم إِلَى خدمتك ونؤكد عَلَيْك أَن تكْتب بِجَوَاب هَذِه الْأُمُور كلهَا فصلا فصلا مَعَ الْمَمْلُوك الْحَامِل لهَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله ولابد ولابد وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالله يحرس بمنه علاكم وَالسَّلَام وَفِي مهل جُمَادَى الأولى من عَام أحد عشر وَألف اه
ثمَّ لم يلبث الْمَنْصُور أَن بعث إِلَى وَلَده زَيْدَانَ وَكَانَ خَلِيفَته على تادلا يَأْمُرهُ أَن يُرْسل مائَة من الفرسان على طَرِيق تاقبلات وكل من وجوده قَاصِدا للغرب من نَاحيَة مراكش يردونه وَأرْسل مَوْلَاهُ مَسْعُود الدوري على طَرِيق سلا يفعل مثل ذَلِك وَخرج الْمَنْصُور من مراكش فِي اثْنَي عشر ألفا أَوَائِل جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وجد السّير فَلم يمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى نزل بالدوح مَوضِع قريب من فاس وَالشَّيْخ فِي جَمِيع ذَلِك لَا شُعُور لَهُ بِخُرُوج أَبِيه وَلَا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَبعث يَوْمًا عيونه يرصدون لَهُ من قدم من مراكش ويكشفون عَن الْخَبَر فَمَا راعهم إِلَّا الأباطح تسيل بأعناق الْجِيَاد وأفواه الشعاب تقذف بالجيوش من بطُون الأودية والوهاد لأَنهم كَانُوا قد عميت عَلَيْهِم الأنباء بِقطع الْمَنْصُور للسابلة فَرَجَعُوا إِلَى الشَّيْخ مُسْرِعين والرعب يفت فِي أعضادهم ويطفئ جذوة عزائمهم فقصوا عَلَيْهِ مَا دهمهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا رَأَوْا فَعلم أَنه محاط بِهِ فَلم يُمكنهُ إِلَّا الْفِرَار فَركب من حِينه وفر إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ الصَّالح أبي الشتَاء من بِلَاد فشتالة قرب نهر ورغة وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الشتَاء قد توفّي قبل ذَلِك سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة كَمَا فِي(5/175)
الْمرْآة فَنزل بالزاوية وَمَعَهُ بطانته وَأَصْحَاب دَخلته من الْأَحْدَاث وقرناء السوء فَبلغ خَبره الْمَنْصُور فَبعث إِلَيْهِ الباشا جؤذرا مَعَ الْقَائِد مَنْصُور النبيلي وَحلف لَهما بأغلظ الْأَيْمَان إِن لم يأتياه بِهِ ليمكرن بهما ويجعلهما عِبْرَة فذهبا إِلَيْهِ فَامْتنعَ من الدُّخُول فِي يدهما وانعزل فِي أَصْحَابه حَتَّى ناوشوه الْقِتَال وتراموا بالنبال ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وَأتوا بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فِي خبر طَوِيل فَأمر بِهِ إِلَى مكناسة فسجن بهَا
وَدخل الْمَنْصُور دَار الْملك من حَضْرَة فاس الْجَدِيد وشكر الله على مَا أولاه من الظفر والنصر من غير إِرَاقَة دم وَتصدق فِي ذَلِك بأموال عَظِيمَة وَكتب بذلك إِلَى وَلَده أبي فَارس خَلِيفَته على مراكش يُعلمهُ بِمَا كَيفَ الله لَهُ من الظفر والنصر وَنَصّ الْكتاب
إِلَى ولدنَا الْأَجَل الأرضى الْأَكْمَل الأسعد الأصعد الأمجد الأسمى الْأَسْنَى بَابا أبي فَارس وصل الله كمالكم وسنى بمنه آمالكم وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم أسعدكم الله من محلتنا السعيدة بالمستقى وَلَا شَيْء إِلَّا مَا جرت بِهِ الأقدار وَحكم بِهِ الْفَاعِل الْمُخْتَار وَمَا جَاءَ بِهِ من عجائب الدَّهْر اللَّيْل وَالنَّهَار وَهِي قَضِيَّة أخيكم الَّتِي ثارت إِلَيّ بهَا صروف الدَّهْر من مكمني وطلعت عَليّ من مأمني إِلَّا أَن الله تَعَالَى بصنعه الْجَمِيل كفانا أَولا ثمَّ شفانا آخرا لله الْحَمد دَائِما وَالشُّكْر واظبا وَشرح ذَلِك أسعدكم الله ووقاكم السوء إِن الْحَال كَانَ انْتهى فِي معالجة أمره الَّذِي تجاوزنا فِي وُجُوه الْخَيْر إِلَيْهِ حد الاستقصا وأتينا فِي محاولة استصلاحه من أَحْوَال السياسة المرجوة النجح بِمَا لَا يُحْصى إِلَى مَا كُنَّا سوغناه من ولَايَة سجلماسة بخراجها وخراج درعة وأبحنا لَهُ التَّوَجُّه إِلَيْهَا بجملته وَجمعه رَجَاء أَن تسكن بالانتباذ إِلَيْهِمَا نفرته وتطمئن نَفسه ويثوب إِلَيْهِ قلبه الطَّائِر ويراجعه أنسه الحائر فأظهر أَولا التَّوَجُّه إِلَيْهِمَا ونهض مرتحلا عَن فاس موريا بالقدوم عَلَيْهِمَا ثمَّ بدا لَهُ على الْحِين فكر رَاجعا إِلَى فاس ورجونا أَن يكون قد ذهب عَنهُ النفار والشماس وثاب لنَفسِهِ السّكُون والاستئناس فَإِذا بِهِ قد انطوى بِرُجُوعِهِ على خلاف مَا أظهر فأبدى مَا أضمر فَمَا كَانَ إِلَّا أَن(5/176)
طَرَأَ عَلَيْهِ خبر نزولنا بالدوح فَلم يَتَمَالَك أَن أقلع لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشر شهر تَارِيخه إقلاعا أزعجه من الدَّار فريدا وطارت بِهِ النفرة إِلَى أَن حل بزاوية الشَّيْخ أبي الشتَاء وحيدا فتلاحق بِهِ من جَيش رماته اليكشارية ومتفرقة سماسرة الْفِتَن وطلائع الشؤم والمحن جمع عَظِيم وَعدد من كثرته لَا يريم فبادرت حِينَئِذٍ بتجهيز جؤذر باشا من غير إغفال فِي خَمْسمِائَة صبائحية وَمَعَهُ الْقَائِد مُؤمن بن مُلُوك فِي خَمْسمِائَة فَارس ثمَّ أردفناه ببعوث أخر تألبت إِلَيْهِ وتناثلت عَلَيْهِ تناهز الْأَلفَيْنِ ورماة بَابا زَيْدَانَ حفظه الله فأحدقت بِهِ من كل الْجِهَات وملكوا عَلَيْهِ الفجاج والثنيات وَنحن مَعَ ذَلِك خلال هَذِه الْأَحْوَال لم نهمل مُقَابلَة نفرته بالتسكين وَمَا يخشن من أَحْوَاله بالتليين بإرسال المرابطين تجاهه بمواثيق تهنيه وعهود تؤنسه وتقرب أمانيه رَجَاء أَن يثوب إِلَيْهِ ثائب استبصار أَو يخْطر لَهُ خاطر إقلاع عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وإقصار وقرناء السوء المتلاحقون بِهِ من جَيْشه يقدحون للشر نَارا ويزينون لَهُ عقوقا ونفارا فدهمتهم حِينَئِذٍ عساكرنا المظفرة بِاللَّه فِي مَصَافهمْ دونه ودارت بَين الْفَرِيقَيْنِ حَرْب عَظِيمَة فخمدت النَّار من وَقت الظّهْر إِلَى الْعَصْر فأظهر الله تَعَالَى فِئَة الْحق على فِئَة الْبَاطِل وَقضى بِمَا جرى بِهِ الْقَضَاء المحتوم الحكم الْعَادِل وكتبناه إِلَيْكُم وَقد حصل فِي القبضة كَمَا سبق بِهِ الْقَضَاء وَالْقدر وَجعل بمَكَان الِاحْتِيَاط عَلَيْهِ من مكناسة فَكَانَت مَشِيئَة الله فِي ذَلِك من إِحْدَى الْعَجَائِب العبر وعرفناكم أسعدكم الله لتستشعروا صنع الله فِي هَذِه الداهية الَّتِي فَجئْت بهَا الْأَيَّام ودهمت والغاشية الَّتِي اعتكرت وادلهمت وتقدروا مَا صنع الله فِي ذَلِك من حسن الْعَاقِبَة حق قدره وتشكروه فَهُوَ الجدير بجميل حمد كل لِسَان وشكره ونسأله تَعَالَى أَن يجعلكم فِي حيّز الْكِفَايَة وجانب الْوِقَايَة حَتَّى لَا تساؤوا بقريب مَأْمُون وَلَا بِبَعِيد مظنون وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء الموفي عشْرين من جُمَادَى الأولى عَام أحد عشر وَألف اه
ثمَّ إِن أم الشَّيْخ وَاسْمهَا الخيزران بعثت إِلَى أَعْيَان مراكش الَّذين قدمُوا مَعَ الْمَنْصُور ترغب إِلَيْهِم فِي أَن يشفعوا لولدها عِنْد أَبِيه ويعتذروا عَنهُ بِمَا يزِيل مَا فِي بَاطِنه عَلَيْهِ فتقدموا إِلَى الْمَنْصُور وَقَالُوا لَهُ إِن الشَّيْخ قد(5/177)
صلحت حَالَته وَتَابَ مِمَّا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَأَنه نَدم على مَا فرط مِنْهُ فَقَالَ لَهُم اذْهَبُوا إِلَى مكناسة واختبروا أمره كَافِيا وانظروا هَل رَجَعَ عَن أباطيله وتنصل من أضاليله فَلَمَّا أَتَوْهُ وجدوه أَخبث مِمَّا تَرَكُوهُ وعاينوا مِنْهُ من القبائح مَا يقصر عَن وَصفه اللِّسَان فَلَمَّا جَلَسُوا إِلَيْهِ فِي محبسه لم يسألهم إِلَّا عَن أَصْحَاب بطانته وقرناء السوء من أهل غيه وَلم يظْهر الأسف إِلَّا على تِلْكَ الْعِصَابَة ورآهم أهل الْإِصَابَة
وَكَانَ من الْأَعْيَان الَّذين وجههم الْمَنْصُور أَولا وآخرا أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَأَوْلَاد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن ساسي وَأَوْلَاد الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار وَغَيرهم فَلَمَّا رجعُوا إِلَى الْمَنْصُور من مكناسة سَأَلَهُمْ عَن الْخَبَر فَنَافَقَ بَعضهم وَقَالَ وَجَدْنَاهُ تَائِبًا نَادِما على مَا صدر مِنْهُ وَتكلم بعض أَولا د الشَّيْخ ابْن ساسي فَقَالَ لَا وَالله لَا داهنت فِي حق الله وَلَا واجهت الْأَمِير بالخديعة إِن ولدك لَا نَأْذَن لَك أَن تؤمره على اثْنَيْنِ وَلَا تحكمه على عِيَال الله فَإنَّا وَجَدْنَاهُ خَبِيث الطوية قَبِيح السريرة لم ينْدَم على مَا فرط مِنْهُ فَسكت الْحَاضِرُونَ وَلم يتَكَلَّم أحد فَقَالَ لَهُم الْمَنْصُور افتوني فِي أَمر هَذَا الْوَلَد فَلم يجبهُ أحد إِلَّا باشاه عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ الرَّأْي أَن تقتله فَإِنَّهُ لَا ينجبر أمره وَلَا يُرْجَى صَلَاحه وَقد رَأَيْت مَا صنع فَلم يعجب الْمَنْصُور ذَلِك وَقَالَ كَيفَ أقتل وَلَدي ثمَّ بعث إِلَى مكناسة يَأْمر بالتضييق على الشَّيْخ وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ فِي ذَلِك ثمَّ خرج الْمَنْصُور فَنزل بمحلته فِي ظهر الزاوية قَاصِدا مراكش بعد أَن اسْتخْلف ابْنه زَيْدَانَ على فاس وأعمالها وَقد كَانَ كتب إِلَى وَلَده أبي فَارس خَلِيفَته على مراكش برسالة أَجَابَهُ فِيهَا عَمَّا كتب بِهِ إِلَيْهِ فِي شَأْن الوباء الَّذِي ظهر بالسوس ومراكش هَل يفر مِنْهُ أم لَا وَنَصهَا
من عبد الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْخَلِيفَة الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الشريف الحسني أيد الله بعزيز نَصره أوامره وظفر عساكره وأسعد بمنه موارده ومصادره إِلَى ولدنَا الْأَجَل الْأَفْضَل الْأَكْمَل الْأَعَز الأبر الأسعد الأمجد الأرضى بَابا أبي فَارس وصل الله تَعَالَى عنايتكم(5/178)
ووالى بمنه رعايتكم وَسَلام عَلَيْكُم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه الْمَدِينَة الْبَيْضَاء حاطها الله عَن الْخَيْر والعافية وَنعم الله المتوافية لله الْحَمد وَله الْمِنَّة وَأَنه اتَّصل بعلي مقامنا كتابكُمْ الْأَعَز عَشِيَّة يَوْم الثُّلَاثَاء فكتبنا إِلَيْكُم صَبِيحَة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَلَوْلَا أَنه وصل يَوْم الدِّيوَان مَا كُنَّا نؤخر كتب الْجَواب لكم عَن سَاعَة وُصُوله فِي الْيَوْم بِنَفسِهِ حرصا منا بذلك على الْمُبَادرَة بوصوله إِلَيْكُم فِي الْحِين وَإِلَى هَذَا أسعدكم الله أَن أول مَا تبادرون بِهِ قبل كل شَيْء هُوَ خروجكم إِذا لَاحَ لكم شَيْء من عَلَامَات الوباء وَلَو أقل الْقَلِيل حَتَّى بشخص وَاحِد وَيبقى فِي القصبة وصيفنا مَسْعُود مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد بن مُوسَى بن أبي بكر وتتركوا مائَة رام تثقون بهَا من رماتكم مَعَ أَصْحَاب السقيف وتتكلون على الله وتخرجون بالسلامة ثمَّ لَا تعملوا كعملنا فِي الِاقْتِصَار على الرميلة والتقلب بهَا بل لَا تَزِيدُوا إِذا خَرجْتُمْ على الْمقَام أَكثر من يَوْمَيْنِ ثمَّ اطووا المراحل إِلَى أَن تنزلوا بسلا وتدخلوها دُخُول هناء وعافية إِن شَاءَ الله وَهُنَاكَ يكون لقاؤنا بكم لِقَاء يمن وسعادة إِن شَاءَ الله ثمَّ لَا تغفلوا عَن اسْتِعْمَال الترياق أسعدكم الله فلازموه وَإِذا استشعرتم مِنْهُ حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الْوَزْن الْوَصْف الْمَعْرُوف مِنْهُ وَلَا تهملوه وَأما ولدك حفظه الله فَلَمَّا كَانَ من سنّ الشبيبة بِحَيْثُ مَنعه الْحَال من المداومة على الترياق فها هِيَ الشربة الْمَعْرُوفَة النافعة لذَلِك قد تركناها كَثِيرَة هُنَاكُم عِنْد التّونسِيّ فَيكون يستعملها هُوَ وَالْأَبْنَاء الصغار المحفوظون بِاللَّه حَتَّى إِذا أحس بِبرد الْمعدة من أجلهَا تعطوه الترياق الْمرة والمرتين على قدر الْحَاجة فَيَعُود إِلَيْهَا وَالله تَعَالَى بمنه وبحرمة صفوة خلقه خير الْبشر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَلَّى حمايتكم جَمِيعًا ويحلكم من جميل كلاءته ورعايته حصنا منيعا وَأَن يعافي الْبِلَاد والعباد بمنه وفضله والسلعة أسعدكم الله تبادرون بإرسالها إِلَيْنَا وَكَذَلِكَ الْقَائِد مَسْعُود النبيلي تعزمون بإرساله إِلَى حَيْثُ أمرناه بالْمقَام من خنق الْوَادي بالسوس وَطَرِيق تاحظيشت وَاعْلَم أسعدكم الله مَا قطّ أرضانا أَن أمرهَا يتم وَقبل عقلنا الْكَرِيم إِن أهل درن يتجرون بِسَبَبِهَا وَلَكِن هَذَا سَبَب يكون حجَّة عَلَيْهِم إِن شَاءَ الله وَأَنْتُم(5/179)
تحاولون أسعدكم الله سلوك النَّاس على بويباون على الْعَادة وتجهدوا فِي أَن تكون إِن شَاءَ الله سابلة وأولائكم أَعنِي أهل طَرِيق تاحظيشت يسكت عَنْهُم حَتَّى نصل بِخَير وعافية لتلكم الْبِلَاد إِن شَاءَ الله وَمَسْأَلَة أيسي الَّتِي كتبت لكم من خنق الْوَادي على الزَّرْع وَأَنه مَا عِنْدهم مَا يكفيهم مِنْهُ سوى شهر فَلَقَد كُنَّا كتبنَا لكم أسعدكم الله على حمل الزَّرْع إِلَيْهِم على الْبَحْر فَإِن كَانَ قد تيَسّر ذَلِك فَيكون قد بلغ إِلَيْهِم وَإِن لم يكن ذَلِك قد تيَسّر فلتأمر أيسي هَذَا بِالتَّدْبِيرِ على الزَّرْع وَلَو بِالشِّرَاءِ وألزموه عهدته وشددوا عَلَيْهِ فِي أمره وخالنا الْقَائِد حمو بن مُحَمَّد الَّذِي استأذنكم فِي الْخُرُوج عَن ذَلِكُم الْمَرَض من المحمدية فَإِذا تفاحش فَلَا عَلَيْهِ فِي الْخُرُوج ويلتحق بِأَهْل تِلْكَ الْمحلة بخنق الْوَادي وَيتْرك فِي القصبة أهل الأندلس مَعَ قائدهم وَمَسْأَلَة مُؤمن بن مَنْصُور مَعَ هكسيمة الَّتِي ذكرْتُمْ أسعدكم الله إِن مُؤمنا قد تثاقل بدمنات بِسَبَب مرض ألم بِهِ حَتَّى جَاءَ بِهِ شاوش وَإِن أَخَاهُ ذَلِكُم المفسود بعث إِلَيْهِ يلتقي مَعَه بتامصلوحت فعلى بركَة الله والحاضر بَصِيرَة وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالله يصل بمنه رعايتكم وَالسَّلَام وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر رَمَضَان الْمُعظم عَام أحد عشر وَألف عرفنَا الله خَيره وبركته وَبعد أَن كتبنَا لكم هَذَا بلغنَا كتابكُمْ وَنحن نجيبكم عَمَّا تحتاجون إِلَى الْجَواب عَنهُ والبطاقة الَّتِي ترد عَلَيْكُم من السوس من عِنْد الْحَاكِم أَو ولد خالكم أَو غَيرهمَا لَا تقْرَأ وَلَا تدخل دَارا بل تُعْطى لكاتبكم هُوَ يتَوَلَّى قرَاءَتهَا ويعرفكم مضمنها وَلأَجل إِن كاتبكم يدْخل مجلسكم ويلابس مقامكم حَتَّى هُوَ لَا يفتحها إِلَّا بعد أَن تغمس فِي خل ثَقِيف وتنشر حَتَّى تيبس وَحِينَئِذٍ يقْرؤهَا ويعرفكم بمضمنها إِذْ لَيْسَ يأتيكم من السوس وَالله سُبْحَانَهُ أعلم مَا يُوجب الكتمان عَن مثل كتابكُمْ وَقد طالعنا كتاب ولد خالكم أَحْمد بن مُحَمَّد بن الصَّغِير وَصَحَّ عندنَا من فحوى كَلَامه مَا ذكرْتُمْ عَنهُ من أَنه أَكثر من خبر الوباء ليجده ذَرِيعَة لِلْخُرُوجِ من السوس(5/180)
وَالَّذِي تأمرونه بِهِ أَنكُمْ تحذرونه من الْقدوم عَلَيْكُم بمراكش وَإِن ذَلِك لَا يرضينا مِنْهُ وَكَيف يروم الْخُرُوج من مَوضِع عَيناهُ لَهُ من غير أمرنَا لَا سِيمَا مَعَ غيبتنا عَن الْبِلَاد وَأَنه إِن فعل ذَلِك لَا محَالة تسْقط مَنْزِلَته عندنَا ثمَّ لَا يعود أبدا إِلَيْهَا إِلَّا أَن تفاحش الْمَرَض بتلكم النَّاحِيَة فَلَا عَلَيْهِ فِي الْخُرُوج والتنقل قرب الْبِلَاد أَو يلْتَحق بمحلة أَصْحَابه الَّذين بخنق الْوَادي وَأما مَا ذكرْتُمْ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الوردي فقد طالعنا الجريدة الَّتِي جرد لكم وتصفحناها ورأينا أَن جلّ مَا يَطْلُبهُ بهَا لَا يُمكن مَعَ غيبتنا وَالَّذِي نأمركم بِهِ فِي مَسْأَلته أَنكُمْ تحاولون فِي رده لموضعه فَإِنَّهُ بذلك الْموضع أليق من أَخِيه بِكَثِير وكل مَا يمكنكم من أغراضه المسطرة فاقضوه لَهُ وَمَا لَا يُمكن عدوه بِهِ عِنْد قدومنا إِن شَاءَ الله وَأما أَمر أخي أَحْمد بن الْحسن الَّذِي عَيناهُ لجباية درعة وذكرتم أَنه غير لَائِق بهَا وأنكم استصغرتموه عَن تِلْكَ العمالة فَلَا شكّ أَنه كَمَا ذكرْتُمْ وَلَكِن إِنَّمَا وَقع الِاخْتِيَار عَلَيْهِ لأمرين الأول الذِّمَّة لِأَنَّهُ بِمَالِه وَلَا نخشى إِن شَاءَ الله على مالنا الثَّانِي إِن خراج درعة سهل مَعْلُوم وَلَعَلَّه يكره هَذِه الْولَايَة وَيُحب الْجُلُوس بداره ويغري من يتَكَلَّم فِيهِ عنْدكُمْ فَإِن كَانَ من ذكره لكم مثل مَسْعُود أوتاودي فاتهمه وَقد طالعنا فِي جريدتكم أَنكُمْ وجهتم مَعَ زرع المعاصر مائَة رام وَهَذَا الَّذِي ذكرْتُمْ مَا نعلم أَنا كتبنَا لكم عَلَيْهِ قطّ وَإِنَّمَا كتبنَا لكم على الزَّرْع تحملونه فِي الْبَحْر برسم الْمحلة الَّتِي هُنَاكُم بخنق الْوَادي فَإِن كَانَ هُوَ هَذَا فَنحْن أردناه للمحلة وَإِن كَانَ غَيره فَعرفنَا بقضيته فَإِن زرع المعاصر إِنَّمَا يلْزم الْيَهُود وَالنَّصَارَى المكثرين للمعاصر وفيهَا أَيْضا مَا أخْبركُم بِهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بِخَبَر مَا سقط من القنطرة وَإِنَّكُمْ عنفتموه على عدم الْمُبَادرَة وَقد أشكل علينا الْأَمر لأنكم لم تعرفوا مقامنا بالساقط هَل هُوَ من الْقَدِيم أَو من هَذَا الْإِصْلَاح الَّذِي أمرنَا بِهِ فَعرفنَا لنكون على بَصِيرَة من ذَلِك وفيهَا أَيْضا مَسْأَلَة أَوْلَاد طَلْحَة فدبروا عَلَيْهِم إِمَّا من عِنْد أيسي أَو غَيره حَتَّى لَا يرجعُونَ إِلَيْنَا شاكين وَولد إِبْرَاهِيم بن الْحداد إِلَى الْآن لم يصل وزمام الأسرى وصل وَأما الدراقة الَّتِي ذكرْتُمْ فها السلتة الْمعدة لَهَا عِنْد صَاحب بَيت ثيابنا فَوجه ليوسف العَبْد حَتَّى تكَلمه(5/181)
ومره يُخرجهَا من عِنْده وركبها فِي موضعهَا وَلَا تركب الَّتِي عنْدكُمْ بل تمسكونها لأنفسكم وَاعْلَم أَنِّي تركت عِنْد أُولَئِكَ المعلمين أَعنِي معلمي بركاضو سلاتي برسم ابنتنا العزيزة طَاهِرَة صانها الله وكلاها وَحَيْثُ يفرغون من الدراقة اجمعهم عَلَيْهَا كي نجد ذَلِك طالعا إِن شَاءَ الله فَإنَّا قد أمرنَا بنسج درارق تلكم السلاتي هَذَا وَالْمرَاد أَن تَجِد السلاتي قد فرغ مِنْهَا إِن شَاءَ الله وَقصر الْخَيل مَعَ الْحمام حرض المعلمين على الْمُبَادرَة باشتغالهما بهما وحاول أَن تسقفوا ذَلِك البلاط الَّذِي يوالي سور القصبة من قصر الْخَيل والقبة الَّتِي فِيهِ لنجده كَامِلا إِن شَاءَ الله عِنْد قدومنا عَلَيْكُم وَحَتَّى سواري الرخام رَكبُوهَا فِي تِلْكَ الْجِهَة إِذا سقفتم وَلَا تزالوا تعرفونا بِمَا تزايد من الأشغال فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورين وأوصيكم أعزكم الله أَن تتفقدوا فرسنا الْأَحْمَر الصَّغِير وَلَا تتركوهم يعطونه القصيل لِئَلَّا يكثر لَحْمه ويزداد ألمه بل انْظُر لَهُ من يركبه كل يَوْم بل لَا تنْزع السرج بِالْكُلِّيَّةِ عَن ظَهره بَيَاض النَّهَار كُله أَو أَعْطوهُ لصَاحب المسرة يركبه فِي ذَهَابه وإيابه لداره والمسرة وأوصوه أَن لَا يركبه غَيره وَلَا ينزل عَن ظَهره النَّهَار كُله وأوصيكم أَيْضا إِذا ظهر الْمَرَض بتلكم النَّاحِيَة وخرجتم خُرُوج يمن وسلامة بحول الله وقوته أَن لَا تتركوا وراءكم بنت عمكم وَالِدَة ولدنَا الْعَزِيز بَابا عبد الْملك حفظه الله وامر يُوسُف العَبْد أَن يخرج لكم من عِنْد صَاحب بَيت الثِّيَاب الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من الترياق الْجَدِيد الَّذِي كَانَ بقبة المشور وَيدخل على أَيْدِيكُم لدارنا واستدعوا أم المَال قهرمانة الدَّار وأعطها إِيَّاه برسم أهل دَارنَا وأمرها أَن تعطيهم إِيَّاه فِي كل رَابِع من الْيَوْم الَّذِي يَأْكُلُونَهُ فِيهِ وَهِي أَيْضا تَأْكُل مِنْهُ وَالْعَبْد يُوسُف أَيْضا يَأْكُل مِنْهُ وَحَتَّى صَاحب السقيف أَعْطوهُ مِنْهُ أَعنِي مَسْعُود بن مبارك وَالله سُبْحَانَهُ يرعاكم ويتولى حفظكم أَنْتُم وَأَوْلَادكُمْ وَقد استودعناكم الله الَّذِي لَا تضيع لَدَيْهِ الودائع وَأَنْتُم فِي أَمَان الله وَحفظه وَالله سُبْحَانَهُ خليفتي عَلَيْكُم أَنْتُم فِي يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين وَالسَّلَام الأتم(5/182)
عَائِد عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته ونسلم على ولدنَا الْأَعَز الأرضى بَابا عبد الْملك وعَلى ابنتنا الرضية سيدة الْملك وَنحن فِي غَايَة الاشتياق والتوحش لَهَا جمع الله بكم الشمل جَمِيعًا آمين بِحرْمَة سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله خير آل وَالسَّلَام اه
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ قد وَقع فِي كَلَام الْمَنْصُور رَحمَه الله أَمْرَانِ يحتاجان إِلَى التَّنْبِيه عَلَيْهِمَا الأول إِذْنه لوَلَده أبي فَارس فِي الْخُرُوج من مراكش إِذا ظهر بهَا أثر الوباء وَلَو شَيْئا يَسِيرا وَهَذَا الْأَمر مَحْظُور فِي الشَّرْع كَمَا هُوَ مَعْلُوم ومصرح بِهِ فِي الْأَحَادِيث وَالثَّانِي أمره إِيَّاه أَن لَا يقْرَأ البطائق الْوَارِدَة عَلَيْهِ من السوس وَإِنَّمَا يتَوَلَّى قرَاءَتهَا كَاتبه بعد أَن تغمس فِي الْحل وَهَذَا عمل من أَعمال الفرنج وَمن يسْلك طريقهم فِي تحفظهم من الوباء الْمُسَمّى عِنْدهم بالكرنتينة وَقد اتّفق لي فِيهَا كَلَام أذكرهُ هُنَا تتميما للفائدة وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف عرض لنا سفر إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان الْمولى أبي عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الشريف أيده الله عز وَجل بمراكش المحروسة بِاللَّه فخرجنا من سلا أَوَاخِر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ومررنا فِي طريقنا على الْمُحب الْقَائِد الأنبل أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري بثغر الجديدة وَهُوَ يَوْمئِذٍ متول لعملها فأجل قدومنا على عَادَته حفظه الله فِي محبَّة الْعلم وَمن ينتمي إِلَيْهِ وَحضر مَعنا عِنْده بعض فُقَهَاء الْوَقْت وَكَانَت السّنة سنة وباء فجرت المذاكرة فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ النَّصَارَى فِي أَمر الكرنتينة من حبس الْمُسَافِرين وشذاذ الْآفَاق عَن الْمُرُور بالسبل وَالدُّخُول إِلَى الْأَمْصَار والقرى وَمنع النَّاس من مرافقهم وَأَسْبَاب معاشهم وَحصل التَّوَقُّف تِلْكَ السَّاعَة فِي حكمهَا الشَّرْعِيّ مَاذَا يكون لَو أجريت على قَوَاعِد الْفِقْه ثمَّ بعد ذَلِك بِنَحْوِ ثَلَاثَة أشهر وقفت على رحْلَة الْعَلامَة الشَّيْخ رِفَاعَة الطهطاوي الْمصْرِيّ فِي أَخْبَار باريز فرأيته ذكر فِي صدرها أَنه وَقعت المحاورة بَين الْعَلامَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد المناعي التّونسِيّ الْمَالِكِي الْمدرس بِجَامِع الزيتونة ومفتي الْحَنَفِيَّة بهَا الْعَلامَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد البيرم فِي إِبَاحَة الكرنتينة وحظرها فَقَالَ الْمَالِكِي بحرمتها وَألف فِي ذَلِك(5/183)
رِسَالَة واعتماده فِي الِاسْتِدْلَال فِيهَا على أَن الكرنتينة من جملَة الْفِرَار من الْقَضَاء وَقَالَ الْحَنَفِيّ بإباحتها وَاسْتدلَّ على ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة أَيْضا فَلَمَّا وقفت على هَذَا الْكَلَام تجدّد لي النّظر فِي حكم هَذِه الكرنتينة وَظهر لي أَن القَوْل بإباحتها أَو حرمتهَا مَنْظُور فِيهِ إِلَى مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من مصلحَة ومفسدة وَلَو مُرْسلَة على مَا هُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب مَالك رَحمَه الله ثمَّ يوازن بَينهمَا وأيتهما رجحت على الْأُخْرَى عمل عَلَيْهَا فَإِن استوتا كَانَ دَرْء الْمفْسدَة مقدما على جلب الْمصلحَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي أصُول الْفِقْه وَنحن إِذا أمعنا النّظر فِي هَذِه الكرنتينة وجدناها تشْتَمل على مصلحَة وعَلى مفْسدَة أما الْمصلحَة فَهِيَ سَلامَة أهل الْبَلَد المستعملين لَهَا من ضَرَر الوباء وَهَذِه الْمصلحَة كَمَا ترى غير مُحَققَة بل وَلَا مظنونة لِأَنَّهُ لَيست السَّلامَة مقرونة بهَا كَمَا يَزْعمُونَ وَأَنه مهما استعملها أهل قطر أَو بلد إِلَّا ويسلمون لَا دَائِما وَلَا غَالِبا بل الْكثير أَو الْأَكْثَر أَنهم يستعملونها ويبالغون فِي إِقَامَة قوانينها ثمَّ يصيبهم مَا فروا مِنْهُ كَمَا هُوَ مشَاهد وَمن زعم أَن السَّلامَة مقرونة بِهَذَا دَائِما أَو غَالِبا فَعَلَيهِ الْبَيَان إِذْ الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي فنتج من هَذَا أَن مصلحَة الكرنتينة مشكوكة أَو مَعْدُومَة وَإِذا كَانَت كَذَلِك فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا شرعا بل وَلَا طبعا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ من قبيل الْعَبَث وَأما الْمفْسدَة فَهِيَ دنيوية ودينية أما الدُّنْيَوِيَّة فَهِيَ الْإِضْرَار بالتجار وَسَائِر الْمُسَافِرين إِلَى الأقطار بحبسهم وتسويقهم عَن أغراضهم وتعطيل مرافقهم على أبلغ الْوُجُوه وأقبحها كَمَا هُوَ مَعْلُوم وَأما الدِّينِيَّة فَهِيَ تشويش عقائد عوام الْمُؤمنِينَ والقدح فِي توكلهم وإيهام أَن ذَلِك دَافع لقَضَاء الله تَعَالَى وَعَاصِم مِنْهُ وناهيك بهما مفسدتين محققتين ترتكبان لشَيْء يكون أَو لَا يكون فَإِن الْعَامَّة لقُصُور أفهامهم قد تذْهب أوهامهم مَعَ هَذِه الظَّوَاهِر فيقفون مَعهَا ويقعون فِي ورطة ضعف الْإِيمَان عياذا بِاللَّه فَإِن قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ ميل إِلَى سوء الظَّن بالعامة وهم جُمْهُور الْأمة قلت لَيْسَ فِيهِ ميل إِلَى سوء الظَّن بهم وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِير الْخَوْف عَلَيْهِم وَالِاحْتِيَاط لَهُم حَتَّى لَا نتركهم هملا يَفْعَلُونَ مَا شاؤوا أَو يفعل بهم مَا يضرهم فِي دينهم ودنياهم مَعَ أَن سد الذريعة قَاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع لَا سِيمَا فِي الْمَذْهَب(5/184)
الْمَالِكِي ولأمر مَا جَاءَت الشَّرِيعَة المطهرة ممتلئة من التحذيرات من مكامن هَذِه الْمَفَاسِد وَنَحْوهَا ورد الْأَسْبَاب والمسببات كلهَا إِلَى الله تَعَالَى مَعَ مَا فِي اسْتِعْمَال هَذِه الكرنتينة مَعَ الِاقْتِدَاء بالأعاجم والتزيي بزِي الْكَفَرَة الضلال ورمقهم بِعَين التَّعْظِيم ونسبتهم إِلَى الْإِصَابَة وَالْحكمَة كَمَا قد يُصَرح بِهِ الحمقى من الْعَوام فَأَما إِذا وَافق قدر بالسلامة عِنْد اسْتِعْمَالهَا فَهِيَ الْفِتْنَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَأَي مفْسدَة أقبح من هَذِه فَالْحَاصِل أَن الكرنتينة اشْتَمَلت على مفاسد كل مِنْهَا مُحَقّق فَتعين القَوْل بحرمتها وجلب النُّصُوص الشاهدة لذَلِك من الشَّرِيعَة لَا تعوز الْبَصِير وَقد ذكر الْعَلامَة الْحَافِظ الْقُسْطَلَانِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء من الْجَامِع الصَّحِيح عِنْد قَوْله تَعَالَى {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركُمْ} مَا نَصه دلّ على وجوب الحذر من جَمِيع المضار المظنونة وَمن ثمَّ علم أَن العلاج بالدواء والاحتراز عَن الوباء والتحرز عَن الْجُلُوس تَحت الْجِدَار المائل وَاجِب اه وَهُوَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَن الِاحْتِرَاز عَن الوباء وَاجِب بِأَيّ وَجه كَانَ وَلَا يخفى أَنه يتَعَيَّن تَقْيِيده بِالْوَجْهِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مفْسدَة شَرْعِيَّة كَعَدم الْقدوم على الأَرْض الَّتِي بهَا الوباء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا وَردت بِهِ السّنة وَلَا تأباه قَوَاعِده الشَّرِيعَة كبعض العلاجات المستعملة فِي إبانة المنقولة عَن أَئِمَّة الطِّبّ أما بِالْوَجْهِ الَّذِي يشْتَمل على مفْسدَة أَو مفاسد كهذه الكرنتينة فَلَا هَذَا مَا تحرر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَالله أعلم
وَلما وقف على هَذَا الْكَلَام أخونا فِي الله الْعَلامَة الْأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي ابْن خضراء السلاوي وَهُوَ الْيَوْم قَاضِي حَضْرَة مراكش كتب إِلَيّ مَا نَصه وَأما حكم الكرنتينه فَهُوَ مَا ذكرْتُمْ من الْحَظْر وَبِه أَقُول لما فِيهِ من الْفِرَار من الْقَضَاء مَعَ الْمَفَاسِد الْعَظِيمَة الَّتِي لَا تفي بهَا مصلحتها على فرض تحققها أَو غَلَبَة ظن حُصُولهَا سِيمَا وَقد انتفيا بعد التجربة المتكررة فِي الْجِهَات المتعددة وَلَا يُخَالف فِي هَذَا الحكم إِلَّا مكابر مُتبع للهوى فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال ثمَّ جلب حفظه الله من النُّصُوص مَا يشْهد لذَلِك تركناها اختصارا وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه(5/185)
وَفَاة الْمَنْصُور رَحمَه الله
كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله بعد فَرَاغه من قَضِيَّة ابْنه الْمَأْمُون قد عزم على الرُّجُوع إِلَى مراكش فَلَمَّا بلغه ظُهُور الوباء بِتِلْكَ النَّاحِيَة تربص إِلَى أَن دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف فانتشر الوباء فِي بِلَاد الغرب أَيْضا فَكَانَ مصاب الْمَنْصُور بِهِ على مَا نذكرهُ
قَالَ صَاحب الأصليت وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله السجلماسي الْمَعْرُوف بِأبي محلي كُنَّا نسْمع أَن السُّلْطَان الْمَنْصُور إِذا خرج من مراكش قَاصِدا مَدِينَة فاس لَا يرجع إِلَى مراكش وذاع هَذَا الْخَبَر فِي النَّاس قبل نُزُوله فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك ثمَّ لَا أَدْرِي من أَيْن للنَّاس بذلك هَل أنطقهم الله بِهِ أَو عَن علم تلقوهُ عَن أربابه وَكَأَنَّهُ الْأَشْبَه وَالله أعلم قَالَ وَمن هَذَا مَا ذكره بَعضهم أَيْضا لَكِن بعد الْوُقُوع وَالنُّزُول أَن دُخُول رايات أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور فِي حَيَاته للسودان واستيلاءه على سلطانها سكية فِي دَار إمارته كاغو مَعَ تنبكتو وأعمالها كل ذَلِك من أَمَارَات خُرُوج الإِمَام الْمهْدي الفاطمي وَكَذَلِكَ الوباء الْمُنْتَشِر فِي هَذِه الأعوام وَكَثْرَة الْهَرج والغلاء فِي سَائِر الْبِلَاد حَتَّى الْآن وَبَقِي من إمارات خُرُوجه فِيمَا نسْمع فتح وهران إِمَّا على يَده أَو بِإِذْنِهِ فِيمَا يَقُوله من لَا علم عِنْده بِحَقِيقَة الْأَمر اه
وَكَانَ ابْتِدَاء مرض الْمَنْصُور بمحلته خَارج فاس الْجَدِيد قرب سَيِّدي عميرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر ربيع النَّبَوِيّ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَدخل إِلَى دَاره بِالْمَدِينَةِ الْبَيْضَاء عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم واحتل بهَا بعد الْغُرُوب وَتُوفِّي هُنَالك لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الموَالِي لتاريخه وَدفن بِإِزَاءِ مَقْصُورَة الْجَامِع الْأَعْظَم هُنَالك ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُور وَحضر جنَازَته وَلَده زَيْدَانَ وَقدم للصَّلَاة مفتي فاس وخطيب جَامع الْقرَوِيين بهَا الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار
قَالَ اليفرني كَانَت وَفَاة الْمَنْصُور بالوباء وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد(5/186)
الله بن يَعْقُوب السملالي فِي شَرحه لجامع شَامِل بهْرَام كَانَ بالمغرب وباء استطال بِهِ من سنة سبع إِلَى سنة سِتّ عشرَة وَألف وَعم سهل الْمغرب وجبله حَتَّى أفنى أَكثر الْخلق وَمَات بِهِ جمع من الْأَعْيَان وَبِه مَاتَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله وَنَحْوه ذكره صَاحب الْفَوَائِد وَغَيره قَالَ اليفرني وَبِه تعلم مَا شاع على الْأَلْسِنَة من أَن الْمَنْصُور سمه وَلَده زَيْدَانَ بِإِشَارَة من أمه الشبانية فِي باكور أَوَائِل ظُهُوره وَقطع عَنهُ الْأَطِبَّاء إِلَى أَن هلك وَأَن الْمَنْصُور لما أحس بذلك قَالَ استعجلتها يَا زَيْدَانَ لَا هُنَاكَ الله بهَا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ قَالُوا وبسبب ذَلِك لم تنصر لزيدان راية فَإِنَّهُ انهزم فِي زهاء سبع وَعشْرين معركة كُله كذب لَا أصل لَهُ لِأَن الْمَنْصُور طعن بالوباء وَلم يذكر أحد مِمَّن يوثق بِهِ مَا شاع على أَلْسِنَة الْعَامَّة وأضرابهم من الطّلبَة اه ثمَّ نقل الْمَنْصُور رَحمَه الله بعد دَفنه إِلَى مراكش فَدفن بهَا فِي قُبُور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة وقبره هُنَالك شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات
(هَذَا ضريح من غَدَتْ ... بِهِ الْمَعَالِي تفتخر)
(أَحْمد مَنْصُور اللوا ... لكل مجد مبتكر)
(يَا رَحْمَة الله اسرعي ... بِكُل نعمى تستمر)
(وباكري الرمس بِمَاء ... من رِضَاهُ منهمر)
(وطيبي ثراه من ... ندى كذكره الْعطر)
(وَافق تَارِيخ الْوَفَاة ... دون تفنيد ذكر)
(مقْعد صدق دَاره ... عِنْد مليك مقتدر)(5/187)
بَقِيَّة أَخْبَار الْمَنْصُور وَبَعض سيرته
كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله حسن السياسة حازما يقظا مشاورا فِي مهمات الْأُمُور وَكَانَ قد اتخذ يَوْم الْأَرْبَعَاء للمشورة وَسَماهُ يَوْم الدِّيوَان تَجْتَمِع فِيهِ وُجُوه الدولة ويتطارحون فِيهِ وُجُوه الرَّأْي فِيمَا يَنُوب من جلائل الْأُمُور وعظيم النَّوَازِل وهنالك يظْهر شكايته من لم يجد سَبِيلا للوصول إِلَى السُّلْطَان قَالُوا وَمن حزمه انه كَانَ متطلعا لأخبار النواحي بحاثا عَنْهَا غير متراخ فِي قِرَاءَة مَا يرد عَلَيْهِ من رسائل عماله وَلَا يبطئ بِالْجَوَابِ وَيَقُول كل شَيْء يقبل التَّأْخِير إِلَّا مجاوبة الْعمَّال عَن رسائلهم وَكَانَ الْكتاب لَا يفارقون مراكزهم إِلَّا فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة
قَالَ الفشتالي وَلَقَد كُنَّا بِالْبَابِ يَوْمًا يَعْنِي معشر الْكتاب قبل أَن يخرج الْمَنْصُور فورد النذير على الْكَاتِب أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي بِأَن ولدا لَهُ فِي النزع فَلم يملك نَفسه أَن ذهب إِلَى دَاره فَخرج الْمَنْصُور على أَثَره فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه ذهب إِلَى دَاره فاستشاط غَضبا وَبعث إِلَيْهِ فجيء بِهِ مزعجا وَمَا شككنا فِي عُقُوبَته فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ مَا الَّذِي ذهب بك فَذكر لَهُ أَمر وَلَده وَأَنه اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَلم ينجع فِيهِ دَوَاء طَبِيب فرق لَهُ وَقَالَ إِن أمراض الصّبيان قَلما ينجع فِيهَا إِلَّا طب الْعَجَائِز وَلَا كعجائز دَارنَا فَابْعَثْ من يسألهن
وَمن حزمه أَنه اخترع أشكالا من الْخط على عدد حُرُوف المعجم وَكَانَ يكْتب بهَا فِيمَا يُرِيد أَن لَا يطلع عَلَيْهِ أحد يمزج فِيهَا الْخط الْمُتَعَارف فَيصير الْكتاب مغلقا فَإِذا سقط وَوَقع فِي يَد عَدو أَو غَيره لَا يدْرِي مَا فِيهِ وَلَا يعرف معنى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فَكَانَ إِذا جهز أحد أَوْلَاده نَاوَلَهُ خطا من تِلْكَ الخطوط يفك بهَا رسائله إِلَيْهِ وَيكْتب عنوانه كَذَلِك
وَمن ضَبطه أَنه تعلم الْخط المشرقي فَكَانَ يُكَاتب بِهِ عُلَمَاء الْمشرق كِتَابَة كأحسن مَا يُوجد فِي خطّ المشارقة وَمِمَّا وَقع لَهُ فِي ذَلِك أَنه بعث بطاقة(5/188)
بِخَط يَده على طَريقَة أهل الْمشرق لكَاتبه أبي عبد الله بن عِيسَى يَسْتَدْعِي مِنْهُ كتابا فَبَعثه ابْن عِيسَى إِلَيْهِ وَبعث مَعَه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(سقتني كؤس السرُور دهاقا ... خطوط أَتَتْنِي فِي مهرق)
(رَأَتْ كف أَحْمد فِي الغرب بحرا ... فَجَاءَت إِلَيْهِ من الْمشرق)
وَكَانَ الْمَنْصُور على مَا هُوَ عَلَيْهِ من ضخامة الْملك وسعة الْخراج يوظف على الرّعية أَمْوَالًا طائلة يلْزمهُم بأدائها وَزَاد الْأَمر على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد أَبِيه حَسْبَمَا مر وَكَانَت الرّعية تَشْتَكِي ذَلِك مِنْهُ ونالها إجحاف مِنْهُ وَمن عماله وَكَانَ غير مُتَوَقف فِي الدِّمَاء وَلَا هياب للوقيعة فِيهَا قَالَ اليفرني وتتبع مَا وَقع فِي ذَلِك يُنَاقض الْمَقْصُود من الإغضاء عَن العورات والستر على الفضائح وَقد ألمعنا لَك بِمَا يكون دَالا على مَا وَرَاءه وَذكر أَن بعض عُمَّال الْمَنْصُور عدا على امْرَأَة من دكالة فَأخذ مِنْهَا أَمْوَالًا فَقدمت الْمَرْأَة على الْمَنْصُور بمراكش تَشْكُو لَهُ مَا نالها من عَامله فَلم يشكها وَلَا كشف ظلامتها فَخرجت إِلَى أَوْلَادهَا بِالْبَابِ وَقَالَت لَهُم انصرفوا فَإِنِّي كنت أَظن أَن رَأس الْعين صَافِيَة فَإِذا بهَا مكدرة فَلِذَا تكدرت مصارفها
ويحكى أَن الْفَقِيه القَاضِي أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي قد سَافر فِي جمع من فُقَهَاء فاس وأعيانها إِلَى مراكش بِقصد الْعِيد مَعَ الْمَنْصُور كَمَا هِيَ الْعَادة فَمروا فِي طريقهم على جمَاعَة رجال وَنسَاء قد سلكوا فِي سلسلة وَاحِدَة وَفِيهِمْ امْرَأَة أَخذهَا الطلق وَهِي فِي كرب الْمَخَاض فَرَأَوْا من ذَلِك مَا أَهَمَّهُمْ وأحزنهم فَبَقيَ ذَلِك فِي نفس القَاضِي فَلَمَّا جلس إِلَى الْمَنْصُور ذكره لَهُ وَأظْهر الشكاية مِنْهُ فَسكت الْمَنْصُور عَن جَوَابه وهجره على ذَلِك أَيَّامًا ثمَّ إِن القَاضِي تلطف فِي القَوْل وَأظْهر التَّوْبَة مِمَّا صدر مِنْهُ وعدها بادرة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور لَوْلَا مَا رَأَيْت مَا أمكنك أَن تَجِيء مَعَ أَصْحَابك مسيرَة عشرَة أَيَّام فِي أَمن ودعة فَإِن أهل الْمغرب مجانين مارستانهم هِيَ السلَاسِل والأغلال
وَلَقَد وَفد القَاضِي الْمَذْكُور على الْمَنْصُور فِي بعض المواسم مَعَ الْفُقَهَاء فَلَمَّا انصرفوا من الحضرة جمعتهم الطَّرِيق بأرباب الموسيقى وَأَصْحَاب(5/189)
الأغاني من أهل فاس وَقد كَانُوا وفدوا أَيْضا على الْمَنْصُور على سَبِيل الْعَادة فَأخْرج بَعضهم شَبابَة من الإبريز مرصعة أعطَاهُ إِيَّاهَا الْمَنْصُور وَبَعْضهمْ قَالَ أَعْطَانِي كَذَا وَقَالَ الآخر أجازني بِكَذَا مِمَّا لم يُعْط مثله للْقَاضِي وشيعته من الْفُقَهَاء فَقَالَ القَاضِي لَئِن بلغت فاسا لأردن أَوْلَادِي إِلَى صَنْعَة الموسيقى فَإِن صَنْعَة الْعلم كاسدة وَلَوْلَا أَن الموسيقى هِيَ الْعلم الْعَزِيز مَا رَجعْنَا مخفقين وَرجع الْمُغنِي بشبابة الإبريز فَنقل إِلَى الْمَنْصُور هَذَا الْكَلَام فلذعه عَلَيْهِ بِيَسِير من الملام
وَذكر أَبُو زيد فِي الْفَوَائِد مَا صورته عدا مُحَمَّد الْكَبِير خَال الْمَنْصُور على رجل بدرعة فِي ضَيْعَة لَهُ فَشَكَاهُ إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ كم تَسَاوِي ضيعتك قَالَ سَبْعمِائة أُوقِيَّة قَالَ خُذْهَا وَقل لخالي الْموعد بيني وَبَيْنك الْموقف الَّذِي لَا أكون أَنا فِيهِ سُلْطَان وَلَا أَنْت خَال السُّلْطَان فَرجع صَاحب الضَّيْعَة وأبلغ إِلَى الْعَامِل كَلَام الْمَنْصُور فَأمْسك بِرَأْسِهِ سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ الْحق بضيعتك وَغرم لَهُ كل مَا أكل مِنْهَا اه
وَقَالَ فِي المناهل كَانَ للمنصور مصانع اخترعها ومآثر خلفهَا مِنْهَا المعقلان الكبيران اللَّذَان أنشأهما بفاس أَحدهمَا خَارج بَاب عجيسة والأخر قبالته بِبَاب الْفتُوح وَهَذَانِ المعقلان يعرفان عِنْد الْعَامَّة بالبستيون وهما من الإتقان بِحَيْثُ لَا يعرف قدرهما إِلَّا من وقف عَلَيْهِمَا وَكَانَ الشُّرُوع فِي بنائهما يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَمن ذَلِك الحصنان اللَّذَان بناهما بثغر العرائش أَحدهمَا يعرف بحصن الْفَتْح وهما أَيْضا فِي نِهَايَة الوتاقة وَالْحسن وَمن ذَلِك معاصر السكر فَإِنَّهُ أحدثها بمراكش وبلاد حاحة وشوشاوة قَالَ الفشتالي وَكَانَ ابْتَدَأَ ذَلِك وَالِده أَبُو عبد الله الشَّيْخ فَكثر السكر فِي أَيَّامه بالبلاد المغربية حَتَّى لم تكن لَهُ قيمَة وَقد تقدم أَنه كَانَ يَشْتَرِي الرخام من النَّصَارَى بالسكر وَمن مآثره النبيلة العظمي مَعَ كرسيها من المرمر بِجَامِع الْقرَوِيين تَحت منار الْجَامِع الْمَذْكُور وَقد تقدم الْخَبَر عَنْهَا وَقَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور إِن اللبَاس الْمُسَمّى بالمنصورية وَهُوَ لِبَاس من الملف لم يكن مُسْتَعْملا قبله وَهُوَ(5/190)
أول من اخترعه وأضيف إِلَيْهِ فَقيل المنصورية
وَكَانَ فِي مُدَّة الْمَنْصُور من الْأَحْدَاث أَنه
فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقع غلاء عَظِيم بالمغرب حَتَّى عرف ذَلِك الْعَام بعام الْبُقُول قَالَ فِي الْمرْآة لما انتهب النَّاس غنيمَة وَادي المخازن كَانَ النَّاس يتوقعون مغبتها لاختلاط الْأَمْوَال بالحرام فَظهر أثر ذَلِك من غلاء وَغَيره وَكُنَّا نسْمع أَن الْبركَة رفعت من الْأَمْوَال من يَوْمئِذٍ وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا أصَاب النَّاس فِي بعض فصولها سعال كثير قل من سلم مِنْهُ وَكَانَ الرجل لَا يزَال يسعل إِلَى أَن تفيض نَفسه فَسمى الْعَامَّة تِلْكَ السّنة سنة كحيكحة
وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْكَبِير الشَّأْن أَبُو النَّعيم رضوَان بن عبد الله الجنوي نِسْبَة إِلَى جنوة من بِلَاد الفرنج كَانَ أَبوهُ نَصْرَانِيّا وَأمه يَهُودِيَّة وَسبب إِسْلَام وَالِده مَا حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاس الأندلسي فِي رحلته أَنه كَانَ لَهُ فرس بِبَلَدِهِ جنوة فَانْطَلق لَيْلًا وَدخل الْكَنِيسَة الْعُظْمَى وراث فِيهَا من غير أَن يشْعر بذلك أحد من السَّدَنَة وَلَا غَيرهم ثمَّ بَادر بِإِخْرَاج الْفرس وَلما أصبح أهل الْكَنِيسَة وَرَأَوا الروث قَالُوا إِن الْمَسِيح جَاءَ البارحة على فرسه إِلَى الْكَنِيسَة وراث فِيهَا فاهتز الْبَلَد لذَلِك وتنافس النَّصَارَى فِي شِرَاء ذَلِك الروث حَتَّى بيع قدر الذّرة مِنْهُ بِمَال جزيل فَعلم أَن النَّصَارَى على ضلال وَهَاجَر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام فَنزل برباط الْفَتْح من أَرض سلا فَوجدَ هُنَالك امْرَأَة يَهُودِيَّة فَتزَوج بهَا وَولدت لَهُ الشَّيْخ أَبَا النَّعيم فَنَشَأَ مثلا فِي الْعلم وَالْولَايَة ومحبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ يَقُول خرجت من بَين فرث وَدم أَخذ الطَّرِيقَة عَن أبي مُحَمَّد الغزواني وَقدم عَلَيْهِ مراكش ثمَّ عَاد إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب الْفتُوح
وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور كَانَ متبحرا فِي الْعُلُوم خُصُوصا أصُول الْفِقْه أَخذ عَن اليسيتني وَأبي زيد سقين العاصمي وَأبي الْحسن بن هَارُون وَأبي مَالك الوانشريسي وَغَيرهم(5/191)
وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الشتَاء الشباوي دَفِين جبل آمركو من بِلَاد فشتالة وَيُقَال اسْمه مُحَمَّد بن مُوسَى وكني بِأبي الشتَاء لِأَن النَّاس قحطوا ولجؤوا إِلَيْهِ فسقوا فِي الْحِين وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّيْخ الغزواني وَيُقَال مَا لقِيه إِلَّا مرّة بقبيلتهما الشاوية فعينه ومكنه فهام على وَجهه وَكَانَ من أمره مَا كَانَ
وَفِي ثامن عشر ربيع الثَّانِي سنة ثَلَاث وَألف توفّي القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَدفن بروضة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري خَارج بَاب مصمودة من عدوة فاس الأندلس وَقد تقدّمت بعض أخباره
وَفِي سنة أَربع وَألف توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور البوزيدي الْمَعْرُوف بِأبي الشكاوي دَفِين شالة وَبهَا كَانَ سكناهُ أَخذ عَن الشَّيْخ المجذوب وَأبي الرواين المحجوب وَغَيرهمَا وَأَوْلَاده ينتسبون إِلَى عِيسَى بن إِدْرِيس الحسني دَفِين آيت عتاب وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي سنة سِتّ وَألف توفّي الشَّيْخ الرباني أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الزعري دَفِين تاستاوت من مشاهير الْأَوْلِيَاء كَانَ أول نشأته بمكناسة الزَّيْتُون ثمَّ خرج إِلَى الْبَادِيَة بعد أَن صعبت عَلَيْهِ الْقِرَاءَة وَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ إِنَّك لن تقْرَأ وَلَكِنَّك شيخ فَخرج إِلَى الْبَادِيَة وَكَانَ يظنّ أَنه يكون من أَشْيَاخ الْقَبَائِل حَتَّى هبت عَلَيْهِ نفحة رحمانية فَقدم مراكش وَأخذ عَن الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَرجع إِلَى باديته فَبنى مَسْجِدا فِي الْموضع الَّذِي عين لَهُ شَيْخه لسكناه فَيُقَال إِنَّه لما قيل لَهُ جعلت محرابه منحرفا عَن الْقبْلَة أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى جِهَة مَكَّة فتزحزحت الْجبَال حَتَّى شَاهد الْحَاضِرُونَ مَكَّة وَالله على كل شَيْء قدير وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي معاصرا لَهُ فَقيل لَهُ إِن الشَّيْخ ابْن مبارك قَالَ أهل زَمَاننَا محسوبون علينا فَقَالَ اشْهَدُوا أَنا من أهل زمَان ابْن مبارك وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ الطَّاعُون الْعَظِيم بمراكش وَغَيرهَا بِحَيْثُ عَم تلول الْمغرب واستطال فِيهَا وَمَات بِهِ جمع من الْأَعْيَان مِنْهُم الشَّيْخ ابْن مبارك الْمَذْكُور
وَفِي سنة تسع وَألف فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا كَانَ سيل عَظِيم بفاس ثمَّ(5/192)
فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ سيل أعظم من الأول تهدمت مِنْهُ الدّور والحوانيت وتهدم سد الْوَادي بفاس على وثاقته وإحكامه وَهَذَا السد هُوَ الَّذِي كَانَ جدده السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي ثمَّ جدده الْمَنْصُور فِي هَذِه الْمرة من أحباس الْقرَوِيين
وَفِي سنة عشر وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه الرباني أَبُو عبد الله وَيُقَال أَبُو عبد الله مُحَمَّد فتحا الشَّرْقِي ابْن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْقَاسِم الزعري الجابري ثمَّ الرثمي هَكَذَا نسبه صَاحب الْمرْآة وَغَيره وَرفع أَبُو عَليّ المعداني فِي كِتَابه الرَّوْض الفائح نسبه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ثمَّ نقل عَن حفيده الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي عبد الله مُحَمَّد الصَّالح بن الْمُعْطِي مَا نَصه إِن الشَّيْخ سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي لم تُوجد هَذِه النِّسْبَة العمرية بِخَطِّهِ فِيمَا عثرنا عَلَيْهِ أما بَنو أَخِيه وَبَنوهُ وحفدته فقد وجدت بِخَط الثِّقَة مِنْهُم وتواتر نقلهَا عَنْهُم وكتبت فِي إجازاتهم وَكَذَا فِي تمليكاتهم اه وَهَذَا الشَّيْخ أَعنِي أَبَا عبد الله الشَّرْقِي كَانَ من أكَابِر أهل وقته يُقَال إِنَّه بلغ دَرَجَة القطبانية وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْأَوْلِيَاء وَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور جمَاعَة يختبرونه فظهرت لَهُم كراماته واتفقت لَهُ مَعَ الشَّيْخ المنجور كَرَامَة حَملته على أَن وَفد عَلَيْهِ زَائِرًا ومدحه بقصيدة ذكر بَعْضهَا اليفرني فِي الصفوة وَله مَعَ أبي المحاسن الفاسي مراسلات ومواصلات وَوَقع بَينهمَا كَلَام طَوِيل انْظُر ابتهاج الْقُلُوب أَخذ رَضِي الله عَنهُ عَن وَالِده عَن الشَّيْخ التباع وَاعْتمد على الشَّيْخ الْكَبِير أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَمْرو المختاري من أحواز مكناسة وَأخذ أَيْضا عَن ابْن مبارك الزعري(5/193)
وَأبي مُحَمَّد بن ساسي وَتُوفِّي أَوَائِل الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بجعيدان وقبره شهير نفعنا الله بِهِ وبسائر أهل الله
تمّ الْجُزْء الْخَامِس ويليه الْجُزْء السَّادِس
وأوله
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله تَعَالَى(5/194)
6 -(6/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة السعدية
الْقسم الثَّانِي
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله تَعَالَى
لما توفّي الْمَنْصُور رَحمَه الله وَفرغ النَّاس من دَفنه اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من أَعْيَان فاس وكبرائها وَالْجُمْهُور من جَيش الْمَنْصُور على بيعَة وَلَده زَيْدَانَ وَقَالُوا إِن الْمَنْصُور اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَمَات فِي حجره وَكَانَ مِمَّن تصدى لذَلِك القاضيان قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أَبُو الْقَاسِم بن أبي النَّعيم وَالْقَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي والأستاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشاوي وَالشَّيْخ النظار أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار وَغَيرهم ويحكى أَن القَاضِي ابْن أبي النَّعيم قَامَ فِي النَّاس خَطِيبًا وَقَالَ أما بعد السَّلَام عَلَيْكُم فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما مَاتَ اجْتمع النَّاس على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَنحن قد مَاتَ مَوْلَانَا أَحْمد وَهَذَا وَلَده مَوْلَانَا زَيْدَانَ أولى بِالْملكِ من إخْوَته فَبَايعهُ الْحَاضِرُونَ يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّادِس عشر من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف قَالُوا وَكَانَ زَيْدَانَ لما توفّي وَالِده كتم مَوته وَبعث(6/3)
جمَاعَة للقبض على أَخِيه الشَّيْخ المسجون بمكناسة فَمَنعهُمْ من ذَلِك الباشا جؤذر كَبِير جَيش الأندلس وَحمل الشَّيْخ موثقًا إِلَى مراكش حَتَّى دَفعه إِلَى أَخِيه أبي فَارس وَكَانَ شقيقا لَهُ فَلم يزل مسجونا عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا يَأْتِي كَذَا قَالَ بَعضهم وَقَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ إِن زَيْدَانَ لما اشْتغل بدفن وَالِده احتال الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مَنْصُور العلج فَذهب بِنصْف الْمحلة إِلَى مراكش نازعا عَن زَيْدَانَ إِلَى أبي فَارس وَمر فِي طَرِيقه بمكناسة فَأخْرج الشَّيْخ من اعتقاله واحتمله مَعَه إِلَى أبي فَارس فسجنه فَلم يزل مسجونا عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وَالله تَعَالَى أعلم
انحراف أهل مراكش عَن طَاعَة زَيْدَانَ وبيعتهم لأبي فَارس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من الْفِتْنَة
كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله قد فرق عمالات الْمغرب على أَوْلَاده كَمَا مر فَاسْتعْمل الشَّيْخ على فاس والغرب وولاه عَهده وَاسْتعْمل زَيْدَانَ على تادلا وأعمالها واستخلف عِنْد نهوضه إِلَى فاس ابْنه أَبَا فَارس على مراكش وأعمالها وَكَانَ يكاتبه بِمَا مر بعضه من الرسائل فَلَمَّا اتَّصل بِأَهْل مراكش وَفَاة الْمَنْصُور وَكتب إِلَيْهِم أهل فاس بمبايعتهم لزيدان امْتَنعُوا وَبَايَعُوا أَبَا فَارس لكَونه خَليفَة أَبِيه بدار ملكه الَّتِي هِيَ مراكش وَلِأَن جلّ الْخَاصَّة من حَاشِيَة أَبِيه كَانَ يمِيل إِلَى أبي فَارس لِأَن زَيْدَانَ كَانَ منتبذا عَنْهُم بتادلا سَائِر أَيَّام أَبِيه فَلم يكن لَهُم بِهِ كثير إِلْمَام وَلَا مزِيد استئناس مَعَ أَنه كَانَ جَدِيرًا بِالْأَمر لعلمه وأدبه وَكَمَال مروءته رَحمَه الله إِلَّا أَن السعد لم يساعده وَقد قيل فِي الْمثل قَدِيما قَاتل بِسَعْد وَإِلَّا فدع وَلما شقّ أهل مراكش الْعَصَا على زَيْدَانَ كثر فِي ذَلِك القيل والقال حَتَّى صدرت فَتْوَى من قَاضِي فاس ابْن أبي النَّعيم ومفتيها أبي عبد الله الْقصار تَتَضَمَّن التَّصْرِيح بِحَدِيث (إِذا بُويِعَ خليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا) وَكَانَت بيعَة أبي فَارس(6/4)
بمراكش يَوْم الْجُمُعَة أَوَاخِر ربيع الأول من سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَهُوَ شَقِيق الشَّيْخ الْمَأْمُون أمهما أم ولد اسْمهَا الْجَوْهَر وَيُقَال الخيزران وَاسم أبي فَارس هَذَا عبد الله وتلقب بالواثق بِاللَّه وَكَانَ أكولا عَظِيم الْبَطن مصابا بِمَسّ الْجِنّ وَيُقَال إِنَّه لذَلِك ابتنى الْمَسْجِد الْجَامِع بجوار ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي وشيد مَنَارَة وشحن الخزانة الَّتِي بقبلي الْجَامِع الْمَذْكُور بمنتخب الْكتب ونفيس الدفاتر كل ذَلِك رَجَاء أَن تعود عَلَيْهِ بركَة ذَلِك الشَّيْخ بالبرء من تِلْكَ الْعلَّة وَكَانَ مَعَ ذَلِك يمِيل إِلَى الْمُرُوءَة والرفق وَحسن السِّيرَة رَحمَه الله
نهوض السُّلْطَان زَيْدَانَ لِحَرْب أبي فَارس وانهزامه بِأم الرّبيع ثمَّ فراره إِلَى تلمسان
لما بَايع أهل مراكش أَبَا فَارس بن الْمَنْصُور عزم زَيْدَانَ على النهوض إِلَيْهِ فَخرج من فاس يؤم بِلَاد الْحَوْز واتصل الْخَبَر بِأبي فَارس فَجهز لقتاله جَيْشًا كثيفا وَأمر عَلَيْهِم وَلَده عبد الْملك إِلَى نظر الباشا جؤذر فَقيل لَهُ إِن زَيْدَانَ رجل شُجَاع عَارِف بمكايد الْحَرْب وخدعه وولدك عبد الْملك لَا يقدر على مقاومته فَلَو سرحت أَخَاك الشَّيْخ لقتاله كَانَ أقرب للرأي لِأَن أهل الغرب لَا يقاتلونه لِأَنَّهُ كَانَ خَليفَة عَلَيْهِم مُدَّة فهم آنس بِهِ من زَيْدَانَ فَأطلق أَبُو فَارس أَخَاهُ الْمَأْمُون من ثقاف السجْن وَأخذ عَلَيْهِ العهود والمواثيق على النصح وَالطَّاعَة وَعدم شقّ الْعَصَا ثمَّ سرحه فِي سِتّمائَة من جَيش المتفرقة الَّذين كَانَ الْمَنْصُور جمعهم ليَبْعَث بهم إِلَى كاغو من أَعمال السودَان وَقَالَ لَهُ ولأصحابه جدوا السّير اللَّيْلَة كي تصبحوا بمحلة جؤذر على وَادي أم الرّبيع فَلَمَّا انْتهى الشَّيْخ إِلَى الْمحلة الْمَذْكُورَة وَعلم النَّاس بِهِ أهرعوا إِلَيْهِ وَاسْتَبْشَرُوا بمقدمه ثمَّ كَانَت الملاقاة بَينه وَبَين السُّلْطَان زَيْدَانَ بِموضع يُقَال لَهُ حواتة عِنْد أم الرّبيع ففر عَن زَيْدَانَ أَكثر جَيْشه إِلَى الْمَأْمُون وحنوا إِلَى(6/5)
سالف عَهده وقديم صحبته فَانْهَزَمَ زَيْدَانَ لذَلِك وَرجع أدراجه إِلَى فاس فتحصن بهَا
وَكَانَ أَبُو فَارس قد تقدم إِلَى أَصْحَابه فِي الْقَبْض على الشَّيْخ مَتى وَقعت الْهَزِيمَة على زَيْدَانَ فَلَمَّا فر زَيْدَانَ انْعَزل الشَّيْخ فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِ من جَيش أهل الغرب وَامْتنع على أَصْحَاب أبي فَارس فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وانتعش أمره واشتدت شوكته ثمَّ سَار إِلَى فاس يقفو أثر السُّلْطَان زَيْدَانَ
وَلما اتَّصل بزيدان خبر مَجِيئه إِلَيْهِ راود أهل فاس على الْقيام مَعَه فِي الْحصار والذب عَنهُ وَالْوَفَاء بِطَاعَتِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضى بيعتهم الَّتِي أعْطوا بهَا صفقتهم عَن رضى مِنْهُم فامتنعوا عَلَيْهِ وقلبوا لَهُ ظهر الْمِجَن وأعلنوا بنصر الشَّيْخ وبيعته لقديم صحبتهم لَهُ وَلما آيس زَيْدَانَ من نَصرهم وَقد أرهقه الشَّيْخ فِي جموعه خرج من فاس بحشمه وَثقله ناجيا بِنَفسِهِ وَتَبعهُ جمع عَظِيم من أَصْحَاب الشَّيْخ فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وَذهب إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
وَأما الشَّيْخ فَإِنَّهُ لما وصل إِلَى فاس تَلقاهُ أَهلهَا ذُكُورا وإناثا وأظهروا الْفَرح بمقدمه فَدَخلَهَا ودعا لنَفسِهِ فَأُجِيب واستبد بملكها ثمَّ أَمر جَيش أهل مراكش أَن يرجِعوا إِلَى بِلَادهمْ فانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ مخفقين
وَكَانَ الشَّيْخ لما تمّ غَرَضه من الاستبداد بِالْأَمر والانفراد بالسلطنة دَعَا بالشيخين الفقيهين قَاضِي الْجَمَاعَة أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم ومفتيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار فلامهما على مبايعة زَيْدَانَ وقولهما فِيهِ وَفِي أَخِيه أبي فَارس إِن أَوْلَاد الْإِمَاء لَا يتقدمون فِي الْأَمر على أَوْلَاد الْحَرَائِر وَكَانَ أَبُو فَارس وَالشَّيْخ وَلَدي أمه اسْمهَا الخيزران كَمَا مر وزيدان أمه حرَّة من الشبانات وعزم أَن ينكل بهما ثمَّ بعث بهما مَعَ جَيش مراكش إِلَى أَخِيه أبي فَارس ليرى فيهمَا رَأْيه فَأَما الشَّيْخ الْقصار فَتوفي رَحمَه الله على مقربة من مراكش بزاوية الشَّيْخ ابْن ساسي وَحمل إِلَى مراكش فَدفن بقبة القَاضِي عِيَاض(6/6)
وَذَلِكَ فِي أواسط سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَأما القَاضِي أَبُو الْقَاسِم فَاجْتمع بِأبي فَارس فَقبل عذره وصفح عَنهُ ورده مكرما إِلَى فاس هَكَذَا ذكره بَعضهم وَقيل إِن الَّذِي بعث بالشيخ الْقصار إِلَى مراكش هُوَ السُّلْطَان زَيْدَانَ على وَجه يُخَالف هَذَا وَالله أعلم
نهوض عبد الله بن الشَّيْخ لِحَرْب عَمه أبي فَارس واستيلاؤه على مراكش
ثمَّ إِن الشَّيْخ المتغلب على فاس دَعَا بتجار أَهلهَا فاستسلف مِنْهُم مَالا كثيرا وَأظْهر من الظُّلم وَسُوء السِّيرَة وخبث السريرة مَا هُوَ شهير بِهِ ثمَّ تتبع قواد أَبِيه فنهب ذخائرهم واستصفى أَمْوَالهم وعذب من أخْفى من ذَلِك شَيْئا مِنْهُم ثمَّ جهز جَيْشًا لقِتَال أَخِيه أبي فَارس بمراكش وَكَانَ عدد الْجَيْش نَحْو الثَّمَانِية آلَاف وَأمر عَلَيْهِ وَلَده عبد الله فَسَار بجيوشه فَوجدَ أَبَا فَارس بمحلته فِي مَوضِع يُقَال لَهُ إكلميم وَيُقَال فِي مرس الرماد فَوَقَعت الْهَزِيمَة على أبي فَارس وَقتل نَحْو الْمِائَة من أَصْحَابه ونهبت محلته وفر هُوَ بِنَفسِهِ إِلَى مسفيوة وَدخل عبد الله بن الشَّيْخ مراكش فأباحها لجيشه فنهبت دورها واستبيحت محارمها وَا شتغل هُوَ بِالْفَسَادِ وَمن يشابه أَبَاهُ فَمَا ظلم حَتَّى حُكيَ أَنه زنى بِجوَارِي جده الْمَنْصُور واستمتع بحظاياه وَأكل رَمَضَان وَشرب الْخمر فِيهِ جهارا وَعَكَفَ على اللَّذَّات وَألقى جِلْبَاب الْحيَاء عَن وَجهه وَكَانَ دُخُوله مراكش فِي الْعشْرين من شعْبَان سنة خمس عشرَة وَألف(6/7)
مَجِيء السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى الْمغرب واستيلاؤه على مراكش وطرده عبد الله بن الشَّيْخ عَنْهَا
كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ لما فر من فاس إِلَى تلمسان كَمَا مر أَقَامَ بهَا مُدَّة وَكَانَ قد بعث إِلَى ترك الجزائر يستمدهم ويستعديهم على أَخَوَيْهِ فأبطؤوا عَلَيْهِ وَطَالَ عَلَيْهِ انتظارهم فَلَمَّا يئس مِنْهُم توجه إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا من غير قتال وَلَا محاربة ثمَّ انْتقل عَنْهَا إِلَى درعة وَمِنْهَا إِلَى السوس فَكتب إِلَيْهِ أهل مراكش وَقد ندموا على مَا فرطوا فِيهِ من أمره وَالدُّخُول فِي طَاعَته أَن يَأْتِيهم وَلَو وَحده فَتوجه إِلَيْهِم وَدخل عَلَيْهِم لَيْلًا فَلم يفجأ عبد الله بن الشَّيْخ إِلَّا نِدَاء أهل مراكش بنصر السُّلْطَان زَيْدَانَ وتحزبوا مَعَه وتقدموا إِلَى قائدهم عبد الله آعراس الَّذِي ولاه عَلَيْهِم الشَّيْخ فَقَتَلُوهُ وَخرج عبد الله فَارًّا بجموعه من أهل فاس والغرب فَحَاصَرَهُمْ أهل مراكش بَين الأسوار والجنات وَقتلُوا من أَصْحَاب عبد الله بِموضع يعرف بجنان بكار نَحْو الْخَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَأمر زَيْدَانَ بقتل كل من تخلف عَن عبد الله من جَيْشه فَأتى الْقَتْل على جَمِيع من وجد بمراكش من جَيش أهل فاس وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة خمس عشرَة وَألف وفر عبد الله بن الشَّيْخ ناجيا بِنَفسِهِ حَتَّى قدم على أَبِيه بفاس فِي أَسْوَأ الْحَالَات مفلول العساكر مهزوم الجموع معتاضا عَن جَيش النَّصْر بِجَيْش الدُّمُوع(6/8)
عودة عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا وطرده زَيْدَانَ عَنْهَا
لما قدم عبد الله بن الشَّيْخ على أَبِيه بفاس سليبا مهزوما قَامَت قِيَامَته وَرَأى أَن يُهَيِّئ عسكرا آخر ويجدد جمعا ثَانِيًا فَلم يجد لذَلِك طَاقَة لفراغ يَده من المَال وَقلة جبايته واستحيى أَن يستسلف من التُّجَّار لِأَنَّهُ كَانَ استسلف مِنْهُم فَلم يرد لَهُم شَيْئا وَلما أعيته الْحِيلَة رَجَعَ على قواده فَقلب لَهُم ظهر الْمِجَن وَنهب أَمْوَالهم واستلب ذخائرهم وَصَارَ يفرقها على التُّجَّار فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك أَمْوَال عريضة فرقها فِي جَيْشه وتهيأ عبد الله للمسير إِلَى مراكش وَكَانَ أهل فاس قد غضبوا لمن قتل من إخْوَانهمْ بهَا وَنَادَوْا بِأخذ ثأرهم حَتَّى إِن بَعضهم خرج مَعَ عبد الله من غير أَخذ مُرَتّب وَلَا جامكية فَخرج عبد الله بجموع عديدة وجيوش حفيلة وَلما بلغ خَبره للسُّلْطَان زَيْدَانَ بعث إِلَيْهِ العلج مصطفى باشا فِي جيوش كَثِيرَة قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ كَانَ بعث مصطفى باشا وَخُرُوجه من مراكش فِي شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ تافلفلت على طَرِيق سلا فَهزمَ مصطفى باشا وَقتل من جَيش مراكش نَحْو التِّسْعَة آلَاف وَبعث الشَّيْخ جمَاعَة من عدُول فاس إِلَى مَوضِع المعركة حَتَّى أحصوا الْقَتْلَى ثمَّ توجه عبد الله إِلَى مراكش فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مقَاتل والتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ رَأس الْعين فَانْهَزَمَ أهل مراكش وَتقدم عبد الله بن الشَّيْخ فاقتحمها بجيشه وفر زَيْدَانَ إِلَى المعاقل المنيعة وَالْجِبَال الشامخة فَبَقيَ منتقلا هُنَالك إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ(6/9)
ثورة مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وانقراض أمره وعود زَيْدَانَ إِلَى مراكش
لما دخل عبد الله بن الشَّيْخ مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا فعل فِيهَا أعظم من فعلته الأولى وهربت شرذمة من أهل مراكش إِلَى جبل جيليز وَاجْتمعَ هُنَالك مِنْهُم عِصَابَة من أهل النجدة وَالْحمية وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن يقدموا للخلافة مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَكَانَ رجلا خيرا دينا صينا وقورا فَبَايعهُ أهل مراكش هُنَالك والتفوا عَلَيْهِ فَخرج عبد الله بن الشَّيْخ لقِتَال من بجبل جيليز وَالْقَبْض على أَمِيرهمْ الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ انهزم عبد الله وَولى أَصْحَابه الأدبار فَخرج من مراكش مهزوما سادس شَوَّال سنة سِتّ عشرَة وَألف وَترك محلته وأنفاضه وعدته وَجل الْجَيْش وَأخذ على طَرِيق تامسنا وامتحن أَصْحَابه فِي ذهابهم حَتَّى كَانَ مد الْقَمْح عِنْدهم بِثَلَاثِينَ أُوقِيَّة والخبزة من نصف رَطْل بِربع مِثْقَال وَلم يزل أَصْحَابه ينتهبون مَا مروا عَلَيْهِ من الْخيام والعمود ويسبون الْبَنَات إِلَى أَن وصلوا إِلَى فاس فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة
وَأما مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن فَإِنَّهُ لما دخل مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا صفح عَن الَّذين تخلفوا بهَا من أهل الغرب من جَيش عبد الله بن الشَّيْخ وَأَعْطَاهُمْ الرَّاتِب فَلم يعجب ذَلِك أهل مراكش ونقموا عَلَيْهِ إبقاءه عَلَيْهِم وَكَانُوا نَحْو الْألف وَنصف فَكَتَبُوا سرا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ بِالْجَبَلِ فَأَتَاهُم وخيم نازلا بِظَاهِر الْبَلَد فَخرج مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن إِلَى لِقَائِه فَانْهَزَمَ ابْن عبد الْمُؤمن وَدخل السُّلْطَان زَيْدَانَ مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وصفح هُوَ أَيْضا عَن الفئة المتخلفة عَن عبد الله بن الشَّيْخ وَذكر فِي شرح زهرَة الشماريخ إِن هَذَا الثائر بجبل جيليز اسْمه أَبُو حسون من أَوْلَاد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَالله أعلم وَلَعَلَّ هَذَا الصَّوَاب بِدَلِيل مَا يَأْتِي فِي رِسَالَة زَيْدَانَ إِن شَاءَ الله(6/10)
خُرُوج جالية الأندلس من غرناطة وأعمالها إِلَى بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا
قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الطاغية صَاحب قشتالة على غرناطة وأعمالها سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَإِن أهل غرناطة التزموا طَاعَته والبقاء تَحت حكمه على شُرُوط اشترطوها عَلَيْهِ قد ذكرنَا بَعْضهَا فِيمَا سلف وَأَن عَدو الدّين قد نقض تِلْكَ الشُّرُوط عُرْوَة عُرْوَة وَكَانَ أهل الأندلس من أجل ذَلِك كثيرا مَا يهاجرون من بِلَاد الْكفْر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام أثْنَاء هَذِه الْمدَّة السالفة غير أَن عامتهم كَانُوا قد تخلقوا بأخلاق الْعَجم وَأثر فيهم ذَلِك أثرا ظَاهرا لطول صحبتهم لَهُم ونشأة أَعْقَابهم بَين أظهرهم فَكَانَت تصدر مِنْهُم فِي بعض الأحيان مقالات قبيحة فِي حق وُلَاة الْمُسلمين من أهل الْمغرب وعامتهم لَا سِيمَا إِذا نالهم مِنْهُم بعض الظُّلم وَلَقَد رَأَيْت فِي كتاب المعيار وَغَيره سُؤَالَات وفتاوى صدرت عَن عُلَمَاء الْمغرب فِي حق هَؤُلَاءِ الصِّنْف مِنْهُم وَكَانَ الْمُلُوك السعديون قد جمعُوا مِنْهُم جندا كَبِيرا وبهم فتح الْمَنْصُور إقليم السودَان وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت سنة سِتّ عشرَة وَألف فَهَاجَرَ جَمِيع من لم يتنصر مِنْهُم إِلَى بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا
قَالَ فِي نفح الطّيب كَانَ النَّصَارَى بالأندلس قد شَدَّدُوا على الْمُسلمين بهَا فِي التنصر حَتَّى أَنهم أحرقوا مِنْهُم كثيرا بِسَبَب ذَلِك ومنعوهم من حمل السكين الصَّغِير فضلا عَن غَيرهَا من الْحَدِيد وَقَامُوا فِي بعض الْجبَال على النَّصَارَى مرَارًا وَلم يقيض الله لَهُم ناصرا إِلَى أَن كَانَ إِخْرَاج النَّصَارَى إيَّاهُم أَعْوَام سَبْعَة عشرَة وَألف فَخرجت أُلُوف بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وَخرج جمهورهم بتونس فتسلط عَلَيْهِم الْأَعْرَاب وَمن لَا يخْشَى الله تَعَالَى فِي الطرقات ونهبوا أَمْوَالهم وَهَكَذَا كَانَ بِبِلَاد تلمسان وفاس وَنَجَا الْقَلِيل مِنْهُم من هَذِه الْمضرَّة وَأما الَّذين خَرجُوا بنواحي تونس فَسلم أَكْثَرهم وهم لهَذَا الْعَهْد قد عمروا قراها الخالية وبلادها اه(6/11)
وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية فِي أُمَرَاء إفريقية مَا نَصه وَفِي سنة سِتّ عشرَة وَألف قدمت الْأُمَم الجالية من جَزِيرَة الأندلس فأوسع لَهُم صَاحب تونس عُثْمَان داي كنفه وأباح لَهُم بِنَاء الْقرى فِي مَمْلَكَته فبنوا نَحْو الْعشْرين قَرْيَة واغتبط بهم أهل الحضرة وتعلموا حرفهم وقلدوا ترفهم اه ثمَّ قَالَ فِي نفح الطّيب وَكَذَلِكَ خرج طوائف مِنْهُم بتطاوين وسلا والجزائر وَلما استخدم سُلْطَان الْمغرب الْأَقْصَى مِنْهُم عسكرا جرارا وَسَكنُوا سلا كَانَ مِنْهُم من الْجِهَاد فِي الْبَحْر مَا هُوَ مَشْهُور الْآن وحصنوا قلعة سلا وبنوا بهَا الْقُصُور والحمامات والدور وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَوصل جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى مصر وَالشَّام وَغَيرهَا من بِلَاد الْإِسْلَام اه كَلَام نفح الطّيب وَقَوله وحصنوا قلعة سلا يَعْنِي بهَا رِبَاط الْفَتْح إِذْ هِيَ يَوْمئِذٍ مُضَافَة إِلَى سلا ومعدودة مِنْهَا وَالله تَعَالَى أعلم
اسْتِيلَاء السُّلْطَان زَيْدَانَ على فاس وفرار الشَّيْخ بن الْمَنْصُور عَنْهَا إِلَى العرائش ثمَّ إِلَى طاغية الإصبنيول
كَانَ الشَّيْخ بن الْمَنْصُور عَفا الله عَنهُ على مَا تقدم من قبح السِّيرَة والإساءة إِلَى الْخَاصَّة والعامة حَتَّى مِلَّته النُّفُوس ورفضته الْقُلُوب وضاق أهل فاس بشؤمه ذرعا وَكَانَ قد بعث ابْنه عبد الله مرّة ثَالِثَة إِلَى حَرْب السُّلْطَان زَيْدَانَ بمراكش وأعمالها فَخرج عبد الله من فاس آخر ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي بوركراك فَكَانَت الْهَزِيمَة على عبد الله وفر فِي رَهْط من أَصْحَابه وَترك محلته بِمَا فِيهَا بيد السُّلْطَان زَيْدَانَ فاستولى عَلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ جَيش عبد الله من أهل فاس وَغَيرهم ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي صحبته فَعَفَا عَنْهُم وتألفهم واستفحل أَمر السُّلْطَان زَيْدَانَ وَتكلم بِهِ أهل فاس وَسَائِر بِلَاد الغرب واتصل الْخَبَر بالشيخ وَعرف أَن قُلُوب النَّاس عَلَيْهِ فخاف الفضيحة وَأصْبح غاديا فِي أَهله وحشمه إِلَى نَاحيَة العرائش فاحتل(6/12)
بِالْقصرِ الْكَبِير وَهُنَاكَ لحق بِهِ ابْنه عبد الله مهزوما من وقْعَة بوركراك وانضم إِلَيْهِمَا أَبُو فَارس بن الْمَنْصُور فَإِنَّهُ بعد فراره من مرس الرماد إِلَى مسفيوة أَقَامَ بهَا مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان زَيْدَانَ على مراكش كَمَا مر شدد فِي طلبه ففر إِلَى السوس وَلما أعيت عَلَيْهِ الْمذَاهب وزيدان فِي طلبه لحق بشقيقه الشَّيْخ فَكَانَ مَعَه إِلَى هَذَا التَّارِيخ
ثمَّ إِن السُّلْطَان زَيْدَانَ بعث كَبِير جَيْشه مصطفى باشا إِلَى فاس فَانْتهى إِلَيْهَا وَنزل مخيما بِظهْر الزاوية وَوجد لأَصْحَاب الشَّيْخ زروعا كَثِيرَة فَأرْسل مصطفى باشا عَلَيْهَا جَيْشه فانتسفوها وَدخلت فاس فِي طَاعَته ثمَّ نَهَضَ إِلَى نَاحيَة الْقصر الْكَبِير نَاوِيا الْقَبْض على الشَّيْخ وَحزبه واتصل بالشيخ خَبره ففر إِلَى العرائش وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى طاغية الإصبنيول مستصرخا بِهِ على السُّلْطَان زَيْدَانَ وَحمل مَعَه أمه الخيزران وَبَعض عِيَاله وَجَمَاعَة من قواده وبطانته وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع عشرَة وَألف
وانْتهى مصطفى باشا إِلَى الْقصر الْكَبِير فَقبض على من وجد بِهِ من أَصْحَاب الشَّيْخ وفر عبد الله وَأَبُو فَارس فَنزلَا بِموضع يُقَال لَهُ سطح بني وارتين فَبلغ خبرهما إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ فجَاء حَتَّى نزل قبالتهما بِموضع يُقَال لَهُ آرورات ففر من كَانَ مَعَهُمَا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ وَلما بقيا أوحش من وتد بقاع فرا إِلَى دَار الْيَهُودِيّ ابْن مشعل من بِلَاد بني يزناسن فأقاما بهَا
وَاخْتصرَ صَاحب الْمرْآة هَذَا الْخَبَر فَقَالَ كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور التقى مَعَ ابْن أَخِيه عبد الله بن الشَّيْخ صَاحب فاس برؤوس الشعاب يَوْم الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة سبع عشرَة وَألف فَانْهَزَمَ عبد الله بن الشَّيْخ وفر إِلَى محلّة أَبِيه بالعرائش ثمَّ رَجَعَ إِلَى جِهَة فاس وانْتهى إِلَى دَار ابْن مشعل وَاسْتولى عَمه السُّلْطَان زَيْدَانَ على محلته وَسَار إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا اه
وَفِي دخلة السُّلْطَان زَيْدَانَ هَذِه إِلَى فاس قبض على الْفَقِيه القَاضِي أبي(6/13)
الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي رَحمَه الله قَالَ اليفرني فِي الصفوة كَانَ القَاضِي الْمَذْكُور مِمَّن أَخذ عَن الشَّيْخ الْقصار وَكَانَ مَعَ ذَلِك لما ولي الْقصار الْفَتْوَى والخطابة بِجَامِع الْقرَوِيين يسْعَى عِنْد السُّلْطَان فِي تَأْخِيره حَتَّى أخر وَولي هُوَ مَكَانَهُ مُدَّة يسيرَة ثمَّ أُعِيد الْقصار وَكَانَت بَينهمَا شَحْنَاء عَظِيمَة بِسَبَب فَتْوَى تنَازعا فِيهَا ثمَّ أفضت الْحَال بِالْقَاضِي أبي الْحسن إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ السُّلْطَان زَيْدَانَ بِسَبَب أَنه عثر لَهُ على كتاب كتبه إِلَى بعض إخْوَته ينتقصه فِيهِ ويوهن أمره فأوغر ذَلِك قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ فسطا بِهِ وسجنه وَنهب دَاره وأثاثه ثمَّ سقَاهُ سما على مَا قيل فَكَانَ فِيهِ حتفه وَقد حُكيَ هَذَا الْخَبَر فِي مَوضِع آخر من الصفوة مطولا فَقَالَ كَانَ القَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي شَدِيد الانحراف عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الفاسي سيئ الِاعْتِقَاد فِيهِ وَلم يزل يسْعَى بِهِ ويكيده فاتفق أَن اجْتمع بالشيخ فِي بعض اللَّيَالِي بعض من يتعاطى الْعلم فتكلموا فِي مسَائِل من صِفَات الله فَنقل كَلَام الشَّيْخ إِلَى القَاضِي على غير وَجهه فَأنْكر ذَلِك وَركب من حِينه إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس منتهزا للفرصة فَقَالَ إِن هَهُنَا رجلا يعلم النَّاس الْبدع ويلقنهم آراء الْفرق الضَّالة فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان من هُوَ قَالَ فلَان قَالَ أَخُو سَيِّدي يُوسُف قَالَ نعم قَالَ سمعنَا أَنه أعلم من أَخِيه ثمَّ بعث السُّلْطَان إِلَيْهِ وَهُوَ مستشيط غَضبا لخَبر بلغه من ثورة بعض أَقَاربه عَلَيْهِ فجَاء الشَّيْخ أَبُو زيد وَلم يخلع نَعله حَتَّى بلغ بِسَاط السُّلْطَان فَسلم عَلَيْهِ وَمد يَده فصافحه ثمَّ تكلمُوا فِي الْمَسْأَلَة فَانْقَطع القَاضِي وَلم يجد مَا يَقُول إِلَّا أَن النَّاقِل لم يحسن نقلهَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ فَهَلا تثبت وَكَانَ بعض عُلَمَاء مراكش حَاضرا فَبَالغ فِي عتاب القَاضِي وَقيل للشَّيْخ مَا سَبَب الوحشة بَيْنك وَبَين هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَا شَيْء إِلَّا الِاسْتِغْنَاء عَنْهُم فَقَالُوا يَا سَيِّدي هَذَا وصف يُوجب الْحبّ فَمَا انْفَصل الشَّيْخ عَن السُّلْطَان حَتَّى اطلع على مَا يُوجب الْقَبْض على القَاضِي فَقبض عَلَيْهِ وَنهب دَاره فِي الْحِين فَنزل الشَّيْخ من فاس الْجَدِيد فلقي أثاث القَاضِي فِي الطَّرِيق جِيءَ بِهِ منهوبا وَبَقِي فِي السجْن إِلَى أَن مَاتَ مسموما رَحمَه الله وَكَانَ(6/14)
الأديب الْكَاتِب أَبُو عبد الله المكلاثي قد كتب إِلَيْهِ بِأَبْيَات يَقُول فِيهَا مَا نَصه
(أما لهِلَال غَابَ عَنَّا سفور ... فيجلى بِهِ خطب دجاه تثور)
(فصبرا لدهر رام يمنحك الأسى ... فَأَنت عَظِيم والعظيم صبور)
(سَيظْهر مَا عهدته من جمالكم ... فللبدر من بعد الْكُسُوف ظُهُور)
(وتحيى رسوم للمعالي تَغَيَّرت ... فللميت من بعد الْمَمَات نشور)
(أَبَا حسن إِنِّي على الْحبّ لم أزل ... مُقيما عَلَيْهِ مَا أَقَامَ ثبير)
(فَفِي الْفَم مَاء من بقايا ودادكم ... وَذَلِكَ عِنْدِي سَائِغ ونمير)
(عَلَيْكُم سَلام الله مَا هطل الحيا ... وغنت بأغصان الرياض طيور)
قَالَ منشئها وَقد أنشدتها بَين يَدَيْهِ بمحبسه فَبكى حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيهلك ثمَّ أَفَاق وَقَالَ {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} الرّوم 4 فراجعني رَضِي الله عَنهُ بِأَبْيَات يَقُول فِيهَا
(تفتق عَن زهر الرّبيع سطور ... فَمَا هِيَ إِلَّا رَوْضَة وغدير)
(هزمت من الصَّدْر الجريح همومه ... فَأَنت على جند الْكَلَام أَمِير)
(مُحَمَّد هَل فِي الْعَصْر غَيْرك شَاعِر ... لَهُ مَعكُمْ فِي الْخَافِقين ظُهُور)
(فَإِنِّي على صفو الوداد وإنني ... سأشدوا وقلبي بالهموم كسير)
(مَتى وَعَسَى يثني الزَّمَان عنانه ... بنهضة جد وَالزَّمَان عثور)
(فتدرك آمال وتقضي مآرب ... وتحدث من بعد الْأُمُور أُمُور)
(عَلَيْك سَلام الله مني فإنني ... غَرِيب بأقصى المغربين أَسِير)
وَكَانَت وَفَاة القَاضِي الْمَذْكُور رَحمَه الله فِي جَامع المشور فِي مهل ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف(6/15)
عود عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ومقتل مصطفى باشا رَحمَه الله
لما دخل السُّلْطَان زَيْدَانَ حَضْرَة فاس وَاسْتولى عَلَيْهَا أَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَألف فاتصل بِهِ خبر قيام بعض الثوار عَلَيْهِ بِنَاحِيَة مراكش فَنَهَضَ إِلَيْهَا مزعجا واستخلف على فاس مَوْلَاهُ مصطفى باشا وَلما اتَّصل خبر نهوضه بِعَبْد الله بن الشَّيْخ وَهُوَ بدار ابْن مشعل زحف إِلَى فاس فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِ فبرز إِلَيْهِ مصطفى باشا وَضرب محلته بِظَاهِر فاس من نَاحيَة بَاب الْفتُوح قَالَ فِي الْمرْآة وَعرض لأبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف الأندلسي الْمَعْرُوف بالبيطار غَرَض من أُمُور الْعَامَّة كَانَ يتَرَدَّد فِيهِ إِلَى الْمحلة فَركب إِلَيْهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ يَوْمئِذٍ بَين الظهرين فأجلت الْحَرْب عَن مقتل مصطفى باشا وفقد أَبُو الْحسن ابْن البيطار وَقَالَ فِي النزهة لما رَحل زَيْدَانَ إِلَى مراكش بِسَبَب مَا بلغه من قيام بعض الثوار عَلَيْهِ هُنَالك قدم عبد الله بن الشَّيْخ وَعَمه أَبُو فَارس إِلَى فاس فَخرج مصطفى باشا لمقاتلتهما فعثر بِهِ فرسه وَقتل وَأخذت محلته بأسرها وَهلك مَا لَا يُحْصى من النَّاس وَوَقع النهب حَتَّى انتهب من الْبَقر الَّتِي تحلب نَحْو سِتَّة آلَاف وَدخل عبد الله بن الشَّيْخ فاسا مَعَ عَمه أبي فَارس وَذَلِكَ سَابِع عشر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف(6/16)
تَلْخِيص خبر أبي فَارس ومقتله رَحمَه الله تَعَالَى
تقدم لنا أَن أَبَا فَارس بن الْمَنْصُور بُويِعَ بمراكش وَبعث أَخَاهُ الشَّيْخ لقِتَال السُّلْطَان زَيْدَانَ فنكث الشَّيْخ عَهده واستبد عَلَيْهِ ثمَّ بعث إِلَيْهِ ابْنه عبد الله فَهَزَمَهُ إِلَى مسفيوة ثمَّ فر مِنْهَا إِلَى السوس فَأَقَامَ عِنْد حَاجِب أَبِيه عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي ثمَّ لما بَالغ زَيْدَانَ فِي طلبه فر إِلَى أَخِيه الشَّيْخ فَلم يزل مَعَ ابْنه عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى أَن قتل مصطفى باشا وَدخل عبد الله فاسا فاستولى عَلَيْهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا فاتفق رَأْي قواد شراكة على قتل عبد الله وتولية عَمه أبي فَارس فَبلغ ذَلِك عبد الله فَدخل على عَمه أبي فَارس لَيْلًا مَعَ حَاجِبه حمو بن عمر فَوَجَدَهُ على سجادته وجواريه حوله فأخرجهن وَأمر بِعَمِّهِ فخنق وَهُوَ يضْرب برجليه إِلَى أَن مَاتَ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان عشرَة وَألف هَذَا هُوَ الصَّوَاب لَا مَا فِي نشر المثاني على اضطرابه فأسف النَّاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يردهُ عَن المناكر ويزجره عَن كثير من القبائح وَذكر فِي الْمُنْتَقى أبياتا من إنْشَاء الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن الْقَاسِم الفشتالي مِمَّا كتب تطريزا على نجاد الواثق بِاللَّه أبي فَارس الْمَذْكُور وَهِي
(أتيه وأزرى بِكُل نجاد ... يروق على حلَّة اللابس)
(إِذا كنت يَوْم الوغى محملًا ... لعضب حكى شعلة القابس)
(على عاتق الْملك المرتضى ... سليل الْوَصِيّ أبي فَارس)(6/17)
عودة السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ثمَّ إعراضه عَنْهَا سَائِر أَيَّامه
لما سمع السُّلْطَان زَيْدَانَ وَهُوَ بمراكش بمقتل مصطفى باشا نَهَضَ إِلَى فاس وَجَاء على طَرِيق الْجَبَل وَكَانَ نَصَارَى الإصبنيول يَوْمئِذٍ قد نزلُوا على العرائش وحاولوا الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِإِذن الشَّيْخ كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ بفاس فَسمع بنزول النَّصَارَى على العرائش فاستنفر النَّاس وحضهم على الْجِهَاد فتهيؤوا لذَلِك وعزموا على النهوض إِلَيْهَا فَمَا راعهم إِلَّا السُّلْطَان زَيْدَانَ قد أقبل من نَاحيَة أدخسان وَقد أنزل بِهِ محتله وَتقدم إِلَى جِهَة فاس وَضرب بأنفاضه فأنهزم النَّاس عَن عبد الله وَدخل شراكة فاسا فَبعث زَيْدَانَ قائده عبد الصَّمد لتسكين روعة أهل الْبَلَد وَأمر الْمُنَادِي أَن يُنَادي بنصره فَنزل الْمُنَادِي إِلَى أَن بلغ بَاب السلسلة فَقَامَ فِي وَجهه بعض السياب من أهل العدوة وضربه فجرحه وَرجع الْمُنَادِي وَبَطل الْأَمر فَبلغ الْخَبَر السُّلْطَان زَيْدَانَ فَأمر بِإِطْلَاق السَّبِيل فِي أهل فاس وتحكيم السَّيْف فيهم ثمَّ نَدم فَأَمنَهُمْ وَسكن روعتهم وَنزل زَيْدَانَ بوادي فاس فَخرج النَّاس للقائه وَهُوَ غَضْبَان عَلَيْهِم وَقد استولى على فاس وَتمكن مِنْهَا فَأخذ يسب أعيانهم وهم بِقَتْلِهِم وَلَكِن الله سلم
ثمَّ إِن الْعَرَب اجْتَمعُوا عِنْد قنطرة المهدومة فِي نَحْو ثَمَانِيَة آلَاف فَخرج إِلَيْهِم زَيْدَانَ وَمَعَهُ عرب الشرق فَانْهَزَمُوا عَنهُ وَلم يبْق مَعَه إِلَّا رَهْط يسير فَرَأى زَيْدَانَ أَمَامه خيلا قَليلَة فقصدها فَإِذا فِيهَا عبد الله بن الشَّيْخ وَقد رأى زَيْدَانَ مُقبلا إِلَيْهِ ففر مَعَ أَن زَيْدَانَ إِنَّمَا قصد الْفِرَار إِلَيْهِ من غير علم لَهُ بِهِ فاستتب أَمر زَيْدَانَ وتراجع إِلَيْهِ أَصْحَابه وَمن الْغَد رَجَعَ إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ أهل فاس يهنئونه كبارًا وصغارا فَاتَّهمهُمْ بِأَنَّهُم يستهزئون بِهِ فَأمر بهم فسلبوا رجَالًا وَنسَاء فَكَانَ بَعضهم ينظر إِلَى عَورَة بعض وَكَانَ عدد السَّلب نَحْو عشرَة(6/18)
آلَاف كسْوَة وَدخل أَصْحَاب زَيْدَانَ فاسا فنهبوها وفعلوا فِيهَا الأفاعيل ثمَّ أَمر زَيْدَانَ بتسكين الروعة والأمان وَكَانَ ذَلِك كُله سادس رَجَب سنة تسع عشرَة وَألف فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الْحَادِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور نزل عبد الله بن الشَّيْخ بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ زَيْدَانَ واقتتلوا فَانْهَزَمَ زَيْدَانَ وَقتل من أَصْحَابه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وفر إِلَى محلته الَّتِي ترك بأدخسان وَكَانَ ذَلِك آخر رُجُوع زَيْدَانَ إِلَى فاس فَإِنَّهُ لما أعياه أَمر الغرب أعرض عَنهُ وَصرف عنايته إِلَى ضبط مَا خلف وَادي أم الرّبيع إِلَى مراكش وأعمالها وتوارث بنوه سلطنته على ذَلِك النَّحْو من بعده وَبَقِي عبد الله بن الشَّيْخ يقطع الْأَيَّام بفاس إِلَى أَن هلك وَقَامَ بِأَمْر فاس من بعده ثوارها وسيابها على مَا نذْكر وَفِي كتاب ابتهاج الْقُلُوب فِي أَخْبَار الشَّيْخ المجذوب مَا صورته تكلم الشَّيْخ سَيِّدي كدار يَوْمًا فِي مُلُوك وقته فَقَالَ أما الشَّيْخ معطي العرائش فَإِن أهل الله قد دقوا أوتاده هُنَالك حَتَّى يَمُوت فَلم يتَجَاوَز مَحَله إِلَى أَن قتل بِهِ حوز تطاوين كَمَا سَيَأْتِي وَأما زَيْدَانَ فَإِنَّهُ لما أطلق السَّبِيل فِي أهل فاس ضربه مولَايَ إِدْرِيس بركلة صيرته وَرَاء أم الرّبيع فَلم يتجاوزه بعد ذَلِك اه(6/19)
اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على العرائش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا مَا كَانَ من خبر الشَّيْخ الْمَأْمُون من أَنه فر إِلَى العرائش وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى طاغية الإصبنيول مستصرخا بِهِ على أَخِيه السُّلْطَان زَيْدَانَ فَأبى الطاغية أَن يمده فراوده الشَّيْخ على أَن يتْرك عِنْده أَوْلَاده وحشمه رهنا ويعينه بِالْمَالِ وَالرِّجَال حَتَّى إِذا ملك أمره بذل لَهُ مَا شارطه عَلَيْهِ وَلم يزل بِهِ إِلَى أَن شَرط عَلَيْهِ الطاغية أَن يخلي لَهُ العرائش من الْمُسلمين ويملكه إِيَّاهَا فَقبل الشَّيْخ ذَلِك وَالْتَزَمَهُ وَخرج حَتَّى نزل حجر باديس فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان عشرَة وَألف ثمَّ تقدم فَنزل بِبِلَاد الرِّيف
وَلما سمع ذَلِك أهل فاس خَافُوا من شوكته وَذهب جمع من عُلَمَائهمْ وأعيانهم كَالْقَاضِي أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم والشريف أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الصّقليّ الْحُسَيْنِي وَغَيرهمَا لملاقاته وتهنئته بالقدوم فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ فَرح بهم وَأمر قبطان النَّصَارَى أَن يخرج مدافعه وأنفاضه إرهابا وإظهارا لقُوَّة النَّصَارَى الَّذين استنصر بهم فَفعل حَتَّى اصطكت الآذان وارتجت الْجبَال وَنزل القبطان من السَّفِينَة للسلام على الْأَعْيَان فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقبلا أَمرهم الشَّيْخ بِالْقيامِ لَهُ فَقَامُوا إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ وجازوه خيرا على مَا فعل مَعَ الشَّيْخ من الْإِحْسَان والنصرة وَسلم هُوَ عَلَيْهِم بِنَزْع قلنسوته على عَادَة النَّصَارَى وَأنكر النَّاس على أُولَئِكَ الْأَعْيَان قيامهم للْكَافِرِ وضربوا بعصى الذل حَتَّى أَنهم فِي رجوعهم إِلَى فاس تعرض لَهُم عرب الحياينة فسلبوهم وَأخذُوا مَا مَعَهم وجردوهم من ملابسهم جَمِيعًا مَا عدا القَاضِي ابْن أبي النَّعيم فَإِنَّهُ عرف بزِي الْقَضَاء فاحترموه
ثمَّ إِن الشَّيْخ انْتقل إِلَى الْقصر الْكَبِير وَهُوَ قصر كتامة وَقصر عبد الْكَرِيم فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة وراود قواده ورؤساء جَيْشه أَن يقفوا مَعَه فِي تَمْكِين النَّصَارَى من العرائش ليفي لَهُ الطاغية بِمَا وعده من النُّصْرَة فَامْتنعَ النَّاس من إسعافه فِي(6/20)
ذَلِك وَلم يُوَافقهُ على غَرَضه إِلَّا قائده الكرني فَإِنَّهُ ساعده على ذَلِك فَبَعثه الشَّيْخ إِلَيْهَا وَأمره أَن يخليها وَلَا يدع بهَا أحدا من الْمُسلمين فَذهب الكرني الْمَذْكُور وكلم أَهلهَا فِي ذَلِك فامتنعوا من الْجلاء عَنْهَا فَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَخرج الْبَاقُونَ وهم يَبْكُونَ تخفق على رؤوسهم ألوية الصغار
وَلما خرج مِنْهَا الْمُسلمُونَ أَقَامَ بهَا الْقَائِد الكرني إِلَى أَن دَخلهَا النَّصَارَى واستولوا عَلَيْهَا فِي رَابِع رَمَضَان سنة تسع عشرَة وَألف وَوَقع فِي قُلُوب الْمُسلمين من الامتعاض لأخذ العرائش أَمر عَظِيم وأنكروا ذَلِك أَشد الْإِنْكَار وَقَامَ الشريف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِدْرِيس العمراني وَدَار على مجَالِس الْعلم بفاس ونادى بِالْجِهَادِ وَالْخُرُوج لإغاثة الْمُسلمين بالعرائش فانضاف إِلَيْهِ أَقوام وعزموا على التَّوَجُّه لذَلِك ففت فِي عضدهم قائدهم حمو الْمَعْرُوف بِأبي دبيرة وَصرف وجوهم عَمَّا قصدوه فِي حِكَايَة طَوِيلَة
وَكَانَ الشَّيْخ لما خَافَ الفضيحة وأنكار الْخَاصَّة والعامة عَلَيْهِ إعطاءه بَلَدا من بِلَاد الْإِسْلَام للْكفَّار احتال فِي ذَلِك وَكتب سؤالا إِلَى عُلَمَاء فاس وَغَيرهَا يذكر لَهُم فِيهِ أَنه لما وغل فِي بِلَاد الْعَدو الْكَافِر واقتحمها كرها بأولاده وحشمه مَنعه النَّصَارَى من الْخُرُوج من بِلَادهمْ حَتَّى يعطيهم ثغر العرائش وَأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوهُ خرج بِنَفسِهِ حَتَّى ترك لَهُم أَوْلَاده رهنا على ذَلِك فَهَل يجوز لَهُ أَن يفْدي أَوْلَاده من أَيدي الْكفَّار بِهَذَا الثغر أم لَا فَأَجَابُوهُ بِأَن فدَاء الْمُسلمين سِيمَا أَوْلَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ سِيمَا أَوْلَاد سيد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(6/21)
من يَد الْعَدو الْكَافِر بِإِعْطَاء بلد من بِلَاد الْإِسْلَام لَهُ جَائِز وَإِنَّا موافقون على ذَلِك وَوَقع هَذَا الاستفتاء بعد أَن وَقع مَا وَقع وَمَا أجَاب من أجَاب من الْعلمَاء عَن ذَلِك إِلَّا خوفًا على نَفسه وَقد فر جمَاعَة من تِلْكَ الْفَتْوَى كَالْإِمَامِ أبي عبد الله مُحَمَّد الْجنان صَاحب الطرر على الْمُخْتَصر وكالإمام أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري مؤلف نفح الطّيب فاختفيا مُدَّة اسْتِبْرَاء لدينهما حَتَّى صدرت الْفَتْوَى من غَيرهمَا وبسبب هَذِه الْفَتْوَى أَيْضا فر جمَاعَة من عُلَمَاء فاس إِلَى الْبَادِيَة كالشيخ أبي عَليّ الْحسن الزياتي شَارِح جمل ابْن المجراد والحافظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الفاسي وَغَيرهمَا
بَقِيَّة أَخْبَار الشَّيْخ ومقتله رَحمَه الله وَتجَاوز عَنهُ
ثمَّ إِن الشَّيْخ ابْن الْمَنْصُور نزل بالفحص وَاجْتمعت عَلَيْهِ لمة من أهل الذعارة وَالْفساد على شاكلته فَنَهَضَ بهم إِلَى تطاوين فاستولى عَلَيْهَا وَأخرج مِنْهَا كبيرها الْمُقدم الْمُجَاهِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس وَلم يزل الشَّيْخ يجول فِي بِلَاد الفحص ويعسف أَهلهَا إِلَى أَن مِلَّته الْقُلُوب وتمالأ أَشْيَاخ الفحص على قَتله لما رَأَوْا من انحلال عقيدته ورقة ديانته وتمليكه ثغر الْإِسْلَام للْكفَّار ففتك بِهِ الْمُقدم أَبُو الليف فِي وسط محلته بِموضع يعرف بفج الْفرس وَبَقِي صَرِيعًا مَكْشُوف الْعَوْرَة أَيَّامًا حَتَّى خرج جمَاعَة من أهل تطاوين فَحَمَلُوهُ مَعَ من قتل مَعَه من أَصْحَابه كالدبيريين وَبَعض أَوْلَاده ودفنوهم خَارج تطاوين إِلَى حمل الشَّيْخ إِلَى فاس الْجَدِيد مَعَ أمه الخيزران فدفنا بِهِ وَكَانَ مَقْتَله خَامِس رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف(6/22)
وَقَالَ منويل إِنَّه وصل إِلَى قرب تطاوين وَبنى هُنَالك أفراكا وَأقَام ينْتَظر اجْتِمَاع الجيوش عَلَيْهِ ثمَّ سكر ذَات يَوْم على عَادَته وَخرج إِلَى عين مَاء هُنَالك فاستلقى قربهَا فِي نَبَات أَخْضَر أَعْجَبته خضرته فَجَاءَهُ أنَاس من أهل تِلْكَ الْبَلدة فعرفوه وشدخوا رَأسه بصخرة فَقَتَلُوهُ وَيُقَال إِن قَتله كَانَ بِإِشَارَة الثائر أبي محلي الْآتِي ذكره وَإنَّهُ كتب إِلَى المقدمين النقسيس وَأبي الليف يحضهما على قَتله فَقَتَلُوهُ وانتهبوا مَاله وَكَانَ شَيْئا كثيرا وَمن جملَة مَا نهب مِنْهُ نَحْو الْمَدّ من الْيَاقُوت وَبَقِي من أثاثه نَحْو وسق سفينة كَانَ قد تَركه بطنجة فاستولى عَلَيْهِ نصاراها من البرتغال لما قتل وَكَانَ للشَّيْخ عَفا الله عَنهُ مُشَاركَة فِي الْعلم وَيَد فِي مبادئ الطِّبّ أَخذ عَن أَشْيَاخ الحضرتين وَله شعر مُتَقَارب وَمن كِتَابه الأديب المتفنن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الغرديس التغلبي وَكَانَ من أهل الإجادة والتبريز فِي صناعَة الْإِنْشَاء قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي شَرحه لدلائل الْخيرَات عِنْد قَوْله وَكَانَ لي جَار نساخ مَا نَصه وَقد كَانَ الشَّيْخ الْكَاتِب الرئيس أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الغرديس شيخ كتاب الْإِنْشَاء بِحَضْرَة فاس رَحمَه الله اسْتعَار مني كتاب الأنباء فِي شرح الْأَسْمَاء للإقليشي ثمَّ مرض مرض مَوته فعدته فَوجدت الْكتاب عِنْد رَأسه وَمَعَهُ كراريس مَنْسُوخَة وَأُخْرَى معدة للنسخ فَقَالَ لي إِنِّي إِذا وجدت رَاحَة كتبت مِنْهُ مَا قدرت عَلَيْهِ فَإِذا غلبني مَا بِي أَمْسَكت فَقَالَ لَهُ وَلم تتكلف هَذَا فَقَالَ إِنِّي عصيت الله بِهَذِهِ الْأَصَابِع مَا لَا أحصيه فرجوت أَن يكون مَا أعانيه على هَذِه الْحَال من نسخ هَذَا الْكتاب خَاتِمَة عَمَلي وَكَفَّارَة لذَلِك فكمل الله قَصده وَأتم الْكتاب وَتُوفِّي من مَرضه ذَلِك وَقد طَال بِهِ سنة عشْرين والف اه وَلِهَذَا الْكَاتِب يَقُول الشَّاعِر
(تمتعت يَا غرديس والدهر رَاقِد ... وَأَنت بفاس وَابْن حيون وَاجِد)
(بسعدك راحت خيزران لقبرها ... مصائب قوم عِنْد قوم فَوَائِد)(6/23)
رياسة ولي الله تَعَالَى أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد العياشي على الْجِهَاد ومبدأ أمره فِي ذَلِك
هَذَا الرجل هُوَ ولي الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَبُو عبد الله مُحَمَّد فتحا ابْن أَحْمد الْمَالِكِي الزياني الْمَعْرُوف بالعياشي ونسبته إِلَى بني مَالك ابْن زغبة الهلاليين وهم الْيَوْم قَبيلَة من عرب الغرب كَانَ رَحمَه الله مستوطنا مَدِينَة سلا وَكَانَ من تلامذة الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي مُحَمَّد عبد الله بن حسون السلاسي دَفِين سلا
وَكَانَ ابْتِدَاء أَمر أبي عبد الله أَنه كَانَ ملازما لشيخه الْمَذْكُور من أقرب التلامذة إِلَيْهِ وأسرعهم إِلَى خدمته وأولهم دُخُولا عَلَيْهِ وَآخرهمْ خُرُوجًا عَنهُ وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الْوَرع قَلِيل الْكَلَام مديما للصيام وَقِرَاءَة الْقُرْآن فَكَانَ الشَّيْخ ابْن حسون ملتفتا إِلَيْهِ وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن شاعت مَنَاقِب الشَّيْخ وَكثر غاشيه فأهدى لَهُ يَوْمًا بعض أَشْيَاخ الْقَبَائِل فرسا فَأمر الشَّيْخ بإسراجه وَقَالَ أَيْن مُحَمَّد العياشي فَقَالَ هَا أَنا ذَا يَا سَيِّدي فَقَالَ الشَّيْخ اركب بحول الله فرسك ودنياك وآخرتك فتفهقر تأدبا فَحلف عَلَيْهِ ليركبن وَحبس لَهُ الركاب بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ ارتحل عني إِلَى آزمور وَانْزِلْ على أَوْلَاد أبي عَزِيز وَلَا بُد لَك من الرُّجُوع إِلَى هَذِه الْبِلَاد وسيكون لَك شَأْن عَظِيم فودعه أَبُو عبد الله وَوضع الشَّيْخ يَده على رَأسه وَبكى ودعا لَهُ بِخَير فقصد نَاحيَة آزمور وَنزل حَيْثُ عين لَهُ شَيْخه الْمَذْكُور وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان زَيْدَانَ سنة ثَلَاث عشرَة وَألف فَلم يزل أَبُو عبد الله العياشي مثابرا على الْجِهَاد شَدِيد الشكيمة على الْعَدو عَارِفًا بِوُجُوه المكايد الحربية بطلا شهما مقداما فِي مَوَاطِن الإحجام وقورا صموتا عَن الْكَلَام فطار بذلك فِي الْبِلَاد صيته وشاع بَين النَّاس ذكره لما هُوَ عَلَيْهِ من(6/24)
التَّضْيِيق على نَصَارَى الجديدة وَكَانُوا يَوْمئِذٍ قد أَمر أَمرهم ففرح بذلك قَائِد آزمور وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن توفّي قَائِد الفحص والبلاد الآزمورية فَسَأَلَ السُّلْطَان زَيْدَانَ عَمَّن يَلِيق بتولية ذَلِك الثغر فَقيل لَهُ سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَكتب إِلَيْهِ بالتولية فَقبل ونهض بأعباء مَا حمل من ولَايَة الفحص وجهاده
وَكَانَت لَهُ مَعَ نَصَارَى الجديدة وقائع وضيق عَلَيْهِم حَتَّى مَنعهم من الْحَرْث والرعي فَبعث النَّصَارَى إِلَى حَاشِيَة السُّلْطَان زَيْدَانَ بالتحف ونفائس الْهَدَايَا ليعزلوا عَنْهُم أَبَا عبد الله الْمَذْكُور لمضايقته لَهُم فخوفوا السُّلْطَان زَيْدَانَ عاقبته وحضوه على عَزله وأظهروا لَهُ أَنه مسموع الْكَلِمَة فِي تِلْكَ النواحي وَأَنه يخْشَى على الدولة مِنْهُ وَكَانَ أَبُو عبد الله العياشي كلما بعث بالغنائم وَمَا يفتح الله بِهِ عَلَيْهِ من الْأُسَارَى إِلَى مراكش ازدادت شهرته وتناقل النَّاس حَدِيثه فوغر بذلك قلب زَيْدَانَ وحنق عَلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ قائده مُحَمَّد السنوسي فِي أَرْبَعمِائَة فَارس وَأمره بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَقَتله وَألقى الله فِي قلب الْقَائِد الْمَذْكُور الشَّفَقَة عَلَيْهِ لما يعلم من بَرَاءَته مِمَّا قذف بِهِ فَبعث إِلَيْهِ خُفْيَة أَن أَنْج بِنَفْسِك فَإنَّك مغدور فَخرج أَبُو عبد الله العياشي فِي أَرْبَعِينَ رجلا فُرْسَانًا وَمُشَاة قَاصِدين سلا فاستقر بهَا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَلما انْتهى السنوسي إِلَى آزمور وَلم يجد لَهُ أثرا أظهر الْعِنَايَة بالبحث عَنهُ وعاقب شرذمة من أهل الفحص على إفلاته تعمية على السُّلْطَان وَإِقَامَة لعذره عِنْده فَقبل السُّلْطَان زَيْدَانَ ذَلِك وَالله غَالب على أمره(6/25)
ثورة الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله السجلماسي الْمَعْرُوف بِأبي محلي
قَالَ فِي كِتَابه أصليت الخريت مَا ملخصه كَانَت ولادتي سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة بسجلماسة وَالَّذِي تلقيته من أبي وكافة عمومتي أَن أَوْلَاد أبي محلي من ذُرِّيَّة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ وَأما جدنا الْأَشْهر المكنى بِأبي محلي فتح الْمِيم والحاء وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة بعْدهَا يَاء تحتية سَاكِنة مَعَ كَبِير شهرته لَا علم لي الْآن بِسَبَب تكنيته بذلك وَلَا بتفاصيل أَحْوَاله بعد الْبَحْث عَنهُ قَالَ وبخطة الْقَضَاء اشْتهر نسبنا فنعرف بأولاد القَاضِي وزاويتنا بزاوية القَاضِي وَلم تزل بَقِيَّة الْعلم فِي دُورنَا وخصوصا دَار أبي اه
وَقَالَ صَاحب الْبُسْتَان أَبُو محلي هَذَا اسْمه أَحْمد بن عبد الله وينتسب إِلَى بني الْعَبَّاس ويعرفون فِي سجلماسة بأولاد ابْن اليسع أهل زَاوِيَة القَاضِي انْتهى قلت أما الانتساب إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ فقد أنكر ابْن خلدون وجود النِّسْبَة العباسية فِي الْمغرب قَالَ فِي فصل اخْتِلَاط الْأَنْسَاب وَمَا بعده مَا نَصه وَلم يعلم دُخُول أحد من العباسيين إِلَى الْمغرب لِأَنَّهُ كَانَ مُنْذُ أول دولتهم على دَعْوَة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فَكيف يسْقط العباسي إِلَى أحد من شيعَة العلويين اه ثمَّ قَالَ أَبُو محلي فِي الْكتاب الْمَذْكُور فَلَمَّا نشأت فِي حجر وَالِدي بذل مجهوده فِي تعليمي وَقد كَانَت أُمِّي رَأَتْ وَهِي حَامِل بِي وليا من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى أحد شُيُوخ التربية ببلدنا وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله السجلماسي قد سَقَاهَا قدحا من لبن وَأَرْجُو الله صدق تَأْوِيلهَا بِالْعلمِ وَالدّين وَحقّ الْيَقِين قَالَ وَكَانَ خروجي لطلب الْعلم بفاس فِي حُدُود(6/26)
الثَّمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق أَو بَالغ الْحلم لَا همة لي إِلَّا فِي الْعلم فأقمت بفاس نَحْو خمس سِنِين إِلَى أَن جَاءَ النَّصَارَى إِلَى وَادي المخازن فدهش النَّاس واستشرت أَخا من الطّلبَة فدلني على الْخُرُوج إِلَى الْبَادِيَة حَتَّى ينجلي نَهَار الْأَمْن فَخرجت إِلَى كريكرة فَحفِظت فِيهَا الرسَالَة وَقد كنت مَا حصلت بفاس إِلَى النَّحْو ثمَّ رجعت إِلَى فاس بعد أَن زَالَ الدهش بهزيمة النَّصَارَى وَولَايَة الْمَنْصُور والنحو صنعتي وَفِي الْفِقْه رغبتي
وَقد كنت فِي الخرجة الأولى إِلَى الْبَادِيَة زرت قبر الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ فطلبت الله عِنْده أَن أكون من الراسخين فِي الْعُلُوم بأسرها وتوبة يتقبلها فَمَا دَار عَليّ الْحول إِلَّا وَأَنا بزاوية الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن مبارك الزعري لَا عَن قصد لكوني إِذْ ذَاك مُولَعا بِالْعلمِ أما طَرِيق الْفقر فَلَا تخطر لي ببال لِأَن الْمُعْتَمد يَوْمئِذٍ فِي فُقَرَاء الْوَقْت أَخْلَاق الضلال فَكنت أَشد النَّاس حذرا مِنْهُم إِلَى أَن انْكَشَفَ السّتْر فَرَأَيْت مَا رَأَيْت ووعيت فصاحبت شَيْخي الَّذِي لولاه مَعَ فضل الله لهلكت وَلَوْلَا هدايته بِإِذن الله لضللت أَعنِي أَبَا عبد الله مولَايَ مُحَمَّد بن مبارك الزعري الْقَبِيل الجراري السَّبِيل وَهُوَ رَضِي الله عَنهُ من قَبيلَة عرب بالمغرب يُقَال لَهُم زعير بِصِيغَة التصغير وَالنّسب إِلَيْهَا زعرى على التَّكْبِير وَهِي قَبيلَة من عرب السوس بالمغرب الْأَقْصَى قَالَ فَبَقيت فِي صُحْبَة شَيْخي الْمَذْكُور نَحوا من ثَمَان عشرَة سنة وَمَا فارقته إِلَّا عَن أمره إِذْ هُوَ الَّذِي وجهني إِلَى بلدي سجلماسة من غير اخْتِيَار قَائِلا لي صَلَاحهمْ فِيك ثمَّ ناولني عَصَاهُ وبرنسه وَنَعله من غير طلب مني لشَيْء من ذَلِك وَجعل فِي رَأْسِي قلنسوة كالخرقة بِيَدِهِ الْيُمْنَى عِنْد الْوَدَاع فَلَمَّا استوطنت بلدي عَن إِذْنه زرته مِنْهُ إِحْدَى عشرَة مرّة وَفِي الْأَخِيرَة مِنْهَا وَذَلِكَ بعد مقفلي من الْحجَّة الأولى الَّتِي كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف دَعَا لي بقوله بلاك الله أَكثر مِمَّا بلاني فتأولتها بإقبال الْخلق كَمَا ترى وَقد صَاح عِنْدهَا صَيْحَة عَظِيمَة لم أر مثلهَا مِنْهُ مُنْذُ(6/27)
صحبته إِذْ عَادَته كَانَت الطُّمَأْنِينَة وَلما توفّي رَحمَه الله بقيت نَحوا من ثَلَاث سِنِين عاطلا ثمَّ تحلى النَّحْر بدرر لطائفه الْمَوْعُود بهَا فَلهُ الْحَمد على مَا أسدى وَله الشُّكْر فِيمَا أولى ثمَّ ذكر بَقِيَّة أشياخه كالشيخ أبي الْعَبَّاس المنجور وَالشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السوداني وَالشَّيْخ سَالم السنهوري وَغَيرهم مِمَّن يطول ذكرهم قَالَ ثمَّ كملت الْفَائِدَة بعد المقفل من الْحَج فَرَجَعت إِلَى الديار المغربية وَنزلت بوادي الساورة ثمَّ تحولت بِجَمِيعِ عيالي إِلَى الْوَادي الْمَذْكُور هَذَا ملخص أوليته مَنْقُولًا من كِتَابه الْمَذْكُور
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التواتي رَحمَه الله تَعَالَى فِي رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا مقامة التحلي والتخلي من صُحْبَة الشَّيْخ أبي محلي وَهِي رِسَالَة طَوِيلَة مسجعة قَالَ كَانَ الْفَقِيه أَبُو محلي فِي أول أمره فَقِيها صرفا ثمَّ انتحل طَريقَة التصوف مُدَّة حَتَّى وَقع على بعض الْأَحْوَال الربانية ولاحت لَهُ مخايل الْولَايَة فانحشر النَّاس لزيارته أَفْوَاجًا وقصدوه فُرَادَى وأزواجا وَبعد صيته وَكَثُرت أَتْبَاعه قَالَ فَلَمَّا سَمِعت بذلك ذهبت إِلَيْهِ وَجَلَست عِنْده إِلَى أَن وجدته يُشِير إِلَى نَفسه بِأَنَّهُ الْمهْدي الْمَعْلُوم المبشر بِهِ فِي صَحِيح الْأَحَادِيث فتركته وَرَاء ونبذته بالعراء اه
وَقَالَ الشَّيْخ اليوسي فِي محاضراته وَقد تكلم على الدَّعْوَى الفاطمية مَا نَصه وَمِمَّنْ ابْتُلِيَ بهَا قَرِيبا أَحْمد بن عبد الله بن أبي محلي التستاوتي خَاضَ فِي الطَّرِيق حَتَّى حصل لَهُ نصيب من الذَّوْق وَألف فِيهَا كتابا يدل على ذَلِك ثمَّ نزغت بِهِ هَذِه النزغة فحدثونا أَنه كَانَ فِي أول أمره معاشرا لمُحَمد بن أبي بكر الدلائي وَكَانَ الْبَلَد إِذْ ذَاك قد كثرت فِيهِ المناكر وشاعت فَقَالَ ابْن أبي محلي لِابْنِ أبي بكر ذَات لَيْلَة هَل لَك فِي أَن نخرج غَدا إِلَى النَّاس فنأمر بِالْمَعْرُوفِ وننهى عَن الْمُنكر فَلم يساعفه لما رأى من تعذر ذَلِك لفساد الْوَقْت وتفاقم الشَّرّ فَلَمَّا أصبحا خرجا فَأَما ابْن أبي بكر فَانْطَلق إِلَى نَاحيَة النَّهر فَغسل ثِيَابه وازال شعثه بِالْحلقِ وَأقَام صلَاته وأوراده فِي أَوْقَاتهَا(6/28)
وَأما ابْن أبي محلي فَتقدم لما هم بِهِ من الْحِسْبَة فَوَقع فِي شَرّ وخصام أَدَّاهُ إِلَى فَوَات الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَلم يحصل على طائل فَلَمَّا اجْتمعَا بِاللَّيْلِ قَالَ لَهُ ابْن أبي بكر أما أَنا فقد قضيت مآربي وحفظت ديني وانقلبت فِي سَلامَة وصفاء وَمن أَتَى مُنْكرا فَالله حسيبه أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام وَأما أَنْت فَانْظُر مَا الَّذِي وَقعت فِيهِ ثمَّ لم ينْتَه إِلَى أَن ذهب إِلَى بِلَاد الْقبْلَة ودعا لنَفسِهِ وَادّعى أَنه الْمهْدي المنتظر وَأَنه بصدد الْجِهَاد فاستخف قُلُوب الْعَوام واتبعوه اه
وَصَارَ ابْن أبي محلي يُكَاتب رُؤَسَاء الْقَبَائِل وَعُظَمَاء الْبلدَانِ يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ ويحضهم على الاستمساك بِالسنةِ ويشيع أَنه الفاطمي المنتظر وَأَن من تبعه فَهُوَ الفائز وَمن تخلف عَنهُ فموبق وَرُبمَا كَانَ يَقُول لأَصْحَابه محرضا لَهُم على نصرته أَنْتُم أفضل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنكم قُمْتُم بنصر الْحق فِي زمن الْبَاطِل وهم قَامُوا بِهِ فِي زمن الْحق وَنَحْو هَذَا من زخارف كَلَامه وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي فِي بعض قصائده معرضًا بِأبي محلي الْمَذْكُور فَقَالَ
(يَا أمة الْمُصْطَفى الْهَادِي أَلَيْسَ لكم ... فِيمَن مضى أُسْوَة من سَائِر العلما)
(نسيتم دين خير الْخلق وافترقت ... آراؤكم فغدا الْإِسْلَام منقسما)
(أتحسبون بِأَن الله تارككم ... سدى وخلقكم قد تعلمُونَ لما)
(ناشدتكم بِالَّذِي فِي الْعرض يجمعنا ... أما فطنتم ومالاه كمن فهما)
(بِأَن مغربكم قد عَمه سخط ... من الْمُهَيْمِن يَا لله معتصما)
(إِن قيل للنَّاس إِن الْهَرج يوبقكم ... قَالُوا الْفَقِيه فلَان قبلنَا اعتزما)
(لَو لم يكن جَازَ مَا أفتى الإِمَام بِهِ ... وَلَا أَتَاهُ أَلا تبنوا الَّذِي انهدما)
(وَمن يقل قَالَ خير الْخلق قيل لَهُ ... هَا صَاحب الْوَقْت يكفينا الَّذِي علما)
(وَنحن أفضل من صحب الرَّسُول لنا ... أجر يُضَاعف فِي أجفارنا نظما)
(وزخرفوا ترهات القَوْل فانفعلت ... لَهُم نفوس عوام رشدها عدما)(6/29)
نهوض ابْن أبي محلي إِلَى سجلماسة ودرعة واستيلاؤه عَلَيْهَا ثمَّ على مراكش بعدهمَا
كَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن أبي محلي عَفا الله عَنهُ لما كثرت جموعه وانثال النَّاس عَلَيْهِ يُصَرح بِوُجُوب الْقيام بتغيير الْمُنكر الَّذِي شاع فِي النَّاس وَيَقُول إِن أَوْلَاد الْمَنْصُور قد تهالكوا فِي طلب الْملك حَتَّى فنى النَّاس فِيمَا بَينهم وانتهبت الْأَمْوَال وانتهكت الْمَحَارِم فَيجب الضَّرْب على أَيْديهم وَكسر شوكتهم وَلما بلغه مَا فعل الشَّيْخ من إجلاء الْمُسلمين عَن العرائش وَبَيْعهَا لِلْعَدو الْكَافِر استشاط غَضبا وَأظْهر انه غضب لله لَا لشَيْء سواهُ فَخرج يؤم سجلماسة وَكَانَ خَليفَة زَيْدَانَ عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ يُسمى الْحَاج المير فَخرج عَامل زَيْدَانَ لمصادمته وَهُوَ فِي نَحْو أَرْبَعَة آلَاف وَابْن أبي محلي فِي نَحْو أَرْبَعمِائَة فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على جَيش زَيْدَانَ وأشاع النَّاس أَن الرصاص يَقع على أَصْحَاب أبي محلي بَارِدًا لَا يضرهم وَنفخ الشَّيْطَان فِي هَذِه الْفِرْيَة فسكنت هيبته فِي الْقُلُوب وَتمكن ناموسه مِنْهُ وَلما دخل سجلماسة أظهر الْعدْل وَغير المناكر فأحبته الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ وُفُود أهل تلمسان والراشدية يهنئونه وَفِيهِمْ الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عُثْمَان سعيد الجزائري الْمَعْرُوف بقدورة شَارِح السّلم وَهُوَ من تلامذة ابْن أبي محلي كَمَا ذكره فِي الأصليت وَلما بلغ خبر الْهَزِيمَة إِلَى زَيْدَانَ وانْتهى إِلَيْهِ فلهَا جهز إِلَيْهِ من مراكش جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِ أَخَاهُ عبد الله بن الْمَنْصُور الْمَعْرُوف بالزبدة فَسمع بِهِ أَبُو محلي فَسَار إِلَيْهِ فَكَانَ اللِّقَاء بَينهمَا بدرعة فَوَقَعت الْهَزِيمَة على عبد الله بن الْمَنْصُور وَمَات من أَصْحَابه نَحْو الثَّلَاثَة آلَاف فقوي أَمر ابْن أبي محلي واشتدت شوكته وَجمع بَين سجلماسة ودرعة وَكَانَ الْقَائِد يُونُس الأيسي قد هرب من زَيْدَانَ لأمر نقمه عَلَيْهِ وَقصد إِلَى أبي محلي فجَاء مَعَه يَقُودهُ ويطلعه على عورات زَيْدَانَ ويهون عَلَيْهِ أمره وَمَا زَالَ بِهِ إِلَى أَن أَتَى بِهِ(6/30)
إِلَى مراكش فَبعث إِلَيْهِ زَيْدَانَ جَيْشًا كثيفا فَهَزَمَهُ أَبُو محلي وَتقدم فَدخل مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وفر زَيْدَانَ إِلَى ثغر آسفي وهم بركوب الْبَحْر إِلَى بر العدوة هَكَذَا فِي النزهة
وَذكر الْوَزير البرتغالي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة إِن نَصَارَى الجديدة بعثوا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ بمائتين من مُقَاتلَتهمْ إِعَانَة لَهُ على عدوه من غير أَن يطْلب مِنْهُم ذَلِك فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أنف من الِاسْتِعَانَة بهم على الْمُسلمين لكنه أحسن إِلَيْهِم وَأطلق لَهُم بعض أَسْرَاهُم وردهم مكرمين هَذَا كَلَامه وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وَذَلِكَ هُوَ الظَّن بزيدان رَحمَه الله
وَلما دخل أَبُو محلي قصر الْخلَافَة بمراكش فعل فِيهِ مَا شَاءَ وَولد لَهُ هُنَالك مَوْلُود سَمَّاهُ زَيْدَانَ وَيُقَال إِنَّه تزوج أم زَيْدَانَ وَبنى بهَا ودبت فِي رَأسه نشوة الْملك وَنسي مَا بنى عَلَيْهِ أمره من الْحِسْبَة والنسك
وَفِي المحاضرات للشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله مَا صورته وَزَعَمُوا أَن إخوانه من الْفُقَرَاء ذَهَبُوا إِلَيْهِ حِين استولى على مراكش برسم زيارته وتهنئته فَلَمَّا كَانُوا بَين يَدَيْهِ أخذُوا يهنئونه ويفرحون لَهُ بِمَا حَاز من الْملك وَفِيهِمْ رجل سَاكِت لَا يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنك لَا تَتَكَلَّم وألح عَلَيْهِ فِي الْكَلَام فَقَالَ الرجل أَنْت الْيَوْم سُلْطَان فَإِن أمنتني على أَن أَقُول الْحق قلته قَالَ لَهُ أَنْت آمن فَقل فَقَالَ إِن الكرة الَّتِي يلْعَب بهَا الصّبيان يتبعهَا المائتان وَأكْثر من خلفهَا وينكسر النَّاس وينجرحون وَقد يموتون وَيكثر الصياح والهول فَإِذا فتشت لم يُوجد فِيهَا إِلَّا شراويط أَي خرق باليه ملفوفة فَلَمَّا سمع ابْن أبي محلي هَذَا الْمثل وفهمه بَكَى وَقَالَ رمنا أَن نجبر الدّين فأتلفناه انْتهى(6/31)
استصراخ السُّلْطَان زَيْدَانَ بِأبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي ومقتل أبي محلي رَحمَه الله
لما التف الرعاع من الْعَامَّة على أبي محلي وَكَثُرت جموعه وَعلم زَيْدَانَ ضعفه عَن مقاومته كتب إِلَى الْفَقِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي ثمَّ الدَّاودِيّ مستغيثا بِهِ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَكَانَ يحيى بزاوية أَبِيه من جبل درن وَله شهرة عَظِيمَة بالصقع السُّوسِي وَله أَتبَاع فَأَتَاهُ السُّلْطَان زَيْدَانَ وَقَالَ لَهُ إِن بيعتي فِي أَعْنَاقكُم وَأَنا بَين أظْهركُم فَيجب عَلَيْكُم الذب عني ومقاتلة من ناوأني فلبي أَبُو زَكَرِيَّاء دَعوته وَحشر الجيوش من كل جِهَة وَخرج يؤم مراكش فِي ثامن رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف
وَلما انْتهى إِلَى فَم تانوت مَوضِع على مرحلَتَيْنِ من مراكش كتب إِلَيْهِ أَبُو محلي بِمَا نَصه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أَحْمد بن عبد الله إِلَى يحيى بن عبد الله أما بعد فقد بَلغنِي أَنَّك جندت وبندت وَفِي فَم تانوت نزلت اهبط إِلَى الوطاء ينْكَشف بَيْننَا الغطاء فالذئب ختال والأسد صوال وَالْأَيَّام لَا تستقيم إِلَّا بطعن القنا وَضرب الحسام وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ يحيي بِمَا نَصه من يحيى بن عبد الله إِلَى أَحْمد بن عبد الله أما بعد فَلَيْسَتْ الْأَيَّام لي وَلَا لَك إِنَّمَا هِيَ للْملك العلام وَقد أَتَيْتُك بِأَهْل البنادق الْأَحْرَار من الشبانة وَمن انْتَمَى إِلَيْهِم من بني جرار وَمن أهل الشرور والبؤس من هشتوكة إِلَى بني كنسوس فالموعد بيني وَبَيْنك جيليز هُنَالك ينْتَقم الله من الظَّالِم ويعز الْعَزِيز
ثمَّ زحف يحيى إِلَى مراكش فِي جموعه فَنزل بِقرب جيليز جبل مطل على مراكش وبرز إِلَيْهِ أَبُو محلي والتحم الْقِتَال بَينهمَا فَكَانَت أول رصاصة فِي نحر أبي محلي فَهَلَك مَكَانَهُ وانذعرت جموعه ونهبت محلته واحتز(6/32)
رَأسه وعلق على سور مراكس فَبَقيَ مُعَلّقا هُنَالك مَعَ رُؤُوس جمَاعَة من أَصْحَابه نَحوا من اثْنَتَيْ عشرَة سنة وحملت جثته فدفنت بروضة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي تَحت الْمكتب الْمُعَلق هُنَالك عِنْد الْمَسْجِد الْجَامِع وَزعم أَصْحَابه أَنه لم يمت وَلكنه تغيب
قَالَ اليفرني وحَدثني من أَثِق بِهِ من أهل وَادي الساورة أَن فيهم إِلَى الْآن من هُوَ على هَذَا الِاعْتِقَاد
وَذكر الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات أَن أَبَا محلي كَانَ ذَات يَوْم عِنْد أستاذه ابْن مبارك فورد عَلَيْهِ وَارِد حَال فَتحَرك وَجعل يَقُول أَنا سُلْطَان أَنا سُلْطَان فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذ يَا أَحْمد هَب أَنَّك تكون سُلْطَانا إِنَّك لن تخرق الأَرْض وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا وَوَقع فِي يَوْم آخر للْفُقَرَاء سَماع فَتحَرك أَبُو محلي وَجعل يَقُول أَنا سُلْطَان أَنا سُلْطَان فَتحَرك فَقِيرا آخر وَجعل يَقُول ثَلَاث سِنِين غير ربع ثَلَاث سِنِين غير ربع قَالَ وَهَذِه هِيَ مُدَّة ملكه اه
وَيذكر انه لما طَاف بِالْبَيْتِ فِي وجهته الحجازية سمع وَهُوَ يَقُول يَا رب إِنَّك قلت وقولك الْحق {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} آل عمرَان 140 فَاجْعَلْ لي يَا رب دولة بَينهم قَالُوا وَلم يسْأَل حسن الْعَاقِبَة فرزق الدولة وَآل بِهِ الْأَمر إِلَى مَا أبرمته يَد الْقُدْرَة وَكَانَ أَبُو محلي رَحمَه الله فَقِيها محصلا لَهُ قلم بليغ وَنَفس عَال وَله تآليف مِنْهَا الوضاح والقسطاس والأصليت والهودج ومنجنيق الصخور فِي الرَّد على أهل الْفُجُور وَجَوَاب الخروبي عَن رسَالَته الشهيرة لأبي عَمْرو القسطلي وَغير ذَلِك وَقد وَقعت بَينه وَبَين يحيى بن عبد الله مراسلات ومهاجيات نظما ونثرا كَقَوْلِه
(أيحيى الخسيس النذل مَالك تَدعِي ... بزور شعارا للفحول الْأَوَائِل)
(كدعواك فِي بَيت النُّبُوَّة نِسْبَة ... وَأَنت دنيء من أخس الْقَبَائِل)
(ووجهك وَجه القرد قبح صُورَة ... ورأسك رَأس الديك بَين الْمَزَابِل)(6/33)
ويزعمون أَن يحيى كَانَ معاشرا لأبي محلي أَيَّام الطّلب بِالْمَدْرَسَةِ بفاس قَالَ اليفرني وحَدثني صاحبنا القَاضِي أَبُو زيد السكتاني أَنه وقف على تأليف كَبِير مُشْتَمل على مَا وَقع بَين يحيى وَأبي محلي من الشّعْر فِي غَرَض الهجاء وَغَيره
وَقد رمز تَارِيخ ثورة أبي محلي ووفاته الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المريدي المراكشي فَقَالَ قَامَ طيشا وَمَات كَبْشًا وَلَا يخفى مَا فِيهِ بعد إِفَادَة التَّارِيخ من حسن التلميح وبديع التورية وَلما قتل ابْن أبي محلي دخل يحيى مراكش وَاسْتقر بدار الْخلَافَة مِنْهَا وَألقى بهَا عَصا تسياره ورام أَن يتخذها دَار قراره فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان زَيْدَانَ يَقُول أما بعد فَإنَّا كنت إِنَّمَا جِئْت لنصرتي وكف يَد ذَلِك الثائر عني فقد أبلغت المُرَاد وشفيت الْفُؤَاد وَإِن كنت إِنَّمَا رمت أَن تجر النَّار لقرصك وَتجْعَل الْملك من قنصك فَأقر الله عَيْنك بِهِ وَالسَّلَام فتجهز يحيى للعود إِلَى وَطنه وَأظْهر الْعِفَّة عَن الْملك وَأَنه إِنَّمَا جَاءَ ليدافع عَن السُّلْطَان الَّذِي بيعَته فِي عُنُقه وانقلب إِلَى بِلَاده وَرجع زَيْدَانَ إِلَى مراكش فاستقر بدار ملكه وَقد قيل إِن يحيى رام الْملك وَأَن أجناده من البربر لم يساعدوه فِي قصَّة طَوِيلَة وَالله أعلم(6/34)
بَقِيَّة أَخْبَار أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي وَمَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله
هُوَ يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي الدَّاودِيّ المناني وَكَانَ جده سعيد وَاحِد وقته علما ودينا وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الله بِهِ السّنة بالسوس وانتعش بِهِ الْإِسْلَام فِيهِ وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة فخلفه وَلَده أَبُو مُحَمَّد عبد الله وَجرى على نهجه وسبيله بل كَانَ بعض النَّاس يفضله على أَبِيه وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَدفن بزداغة من جبل درن حَيْثُ كَانَت زاويته وَلما مَاتَ جلس وَلَده أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى مَوْضِعه وانتهج سَبيله وَكَانَ فَقِيها مشاركا رَحل إِلَى فاس وَأخذ عَن شيوخها كالمنجور وَغَيره وَعَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد الحسني على مَا وجد بِخَطِّهِ السوساني الشهير بأدفال دَفِين درعة وَهُوَ معتمده أَخذ عَنهُ كثيرا من الْفُنُون وَأَجَازَهُ فِي عُلُوم الحَدِيث إجَازَة عَامَّة وَكَانَ يحيى شَاعِرًا محسنا وَكَانَت لَهُ شهرة عَظِيمَة بالصلاح وَله أَتبَاع كوالده وجده وتوجهت إِلَى زيارته الهمم وَركبت إِلَيْهِ النجائب إِلَّا أَنه وَقع لَهُ قريب مِمَّا وَقع لأبي محلي فتصدى للْملك وخاض فِي أُمُور السلطنة فتكدر مشربه وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء إِن الرياسة إِذا دخلت قلب رجل لَا تقصر عَن إذهاب رَأسه وَلذَلِك قَالَ صَاحب الْفَوَائِد فِي حَقه إِنَّه قَامَ لجمع(6/35)
الْكَلِمَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْأمة فاستمر بِهِ علاج ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَلم يتم لَهُ أَمر وَكَانَ يراسل السُّلْطَان زَيْدَانَ وَيكثر عَلَيْهِ وَيُجِير عَلَيْهِ من استجار بِهِ ويروم إِلَى مناصحته ابْتِغَاء ويحسو من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَكَانَ زَيْدَانَ يتَحَمَّل مِنْهُ أمرا عَظِيما فمما كتب بِهِ يحيى إِلَيْهِ مَا نَصه من يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم كَانَ الله لَهُ بجميل لطفه آمين اللَّهُمَّ إِنَّا نحمدك على كل حَال ونشكرك يَا ولي الْمُؤمنِينَ على دفع اللاواء والمحال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونستوهبك يَا مَوْلَانَا جميل لطفك وجزيل فضلك فِي الْمقَام والترحال عائذين بِوَجْهِك الْكَرِيم من مؤاخذتنا بِسوء أَعمالنَا يَا شَدِيد الْمحَال هَذَا وَسَلام الله الأتم ورضوانه الْأَعَمّ وَرَحمته وَبَرَكَاته على الْمولى الإِمَام الْعلم الْمِقْدَام الْعلوِي الْهمام كَيفَ أَنْتُم وَكَيف أحوالكم مَعَ هَذَا الزَّمَان الَّذِي شمر عَن سَاقه لسلب الْأَدْيَان وألح فِي اقْتِضَاء هَوَاهُ على كل مديان فَإنَّا لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَبعد فالباعث بِهِ إِلَيْكُم فِي هَذِه البطاقة أُمُور ثَلَاثَة مدارها على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولخاصة الْمُسلمين وعامتهم) فَالْأول بَيَان سَبَب الركون إِلَى جانبكم وَالثَّانِي الْحَامِل على دفع مناويكم وَالثَّالِث مُلَازمَة نصحكم وتذكيركم والضجر مِمَّا يصدر مِنْكُم وَمن أعوانكم للرعية أما الأول فَلهُ أَسبَاب كَثِيرَة مِنْهَا مُرَاعَاة الجناب النَّبَوِيّ الْكَرِيم فِي أهل بَيته وَرَضي الله عَن أبي بكر الصّديق الْقَائِل ارقبوا مُحَمَّدًا فِي أهل بَيته وَالْقَائِل لقرابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيّ أَن أصل من قَرَابَتي
(يَا أهل بَيت رَسُول الله حبكم ... فرض من الله فِي الْقُرْآن أنزلهُ)
(يكفيكم من عَظِيم الْمجد أَنكُمْ ... من لم يصل عَلَيْكُم لَا صَلَاة لَهُ)
وَمِنْهَا نصح خَاصَّة الْمُسلمين الَّذِي هُوَ الدُّعَاء بالهداية لَهُم ورد الْقُلُوب النافرة إِلَيْهِم ونصحهم بِقدر الْإِمْكَان مشافهة ومراسلة ومكاتبة وَقد(6/36)
بذلنا الْجهد فِي الْجَمِيع أخْلص الله الْقَصْد فِي الْجَمِيع وَأما الثَّانِي فَلَمَّا جرى الْقدر بتغلب ذَلِك الْإِنْسَان المتسلط على النَّفس والحريم وَالْأَمْوَال وَأدْخل بتأويلاته الْبَعِيدَة عَن الصَّوَاب مَا لَيْسَ فِي الْمَذْهَب وتعدى خُصُوص الْوُلَاة إِلَى سَائِر الرّعية فاضلها ومفضولها وَمد مَعَ ذَلِك يَد الْوَعيد الْمُؤَكّد بِالْإِيمَان إِلَيْنَا فِي الْأَنْفس وَالْأَمْوَال فناشدناه كَمَا تقرر فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم حَيْثُ توفرت فِيهِ فُصُول الصَّائِل كلهَا بِشَاهِد العيان فَكَانَ الْأَمر كَمَا قدر الله تَعَالَى {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} الرّوم 4 وَأما الثَّالِث فالكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أما الْكتاب فسورة وَالْعصر قَائِمَة الْبُرْهَان فِي كل أَوَان وعصر وَقَالَ تَعَالَى فِي قَضِيَّة كليمه {رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} الْقَصَص 17 وَقد اسْتشْهد بِهِ بعض الْعلمَاء فِي بري قلم لكاتب بعض الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَوله جلّ من قَائِل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} الْمَائِدَة 2 وَأما السّنة فَالْحَدِيث الأول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمعِين شريك) وَقَوله (من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يقدر فبلسانه فَإِن لم يقدر فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان) وَقد كُنَّا مقتصرين على التَّغْيِير بِاللِّسَانِ والقلم لكَون التَّغْيِير العملي إِلَيْكُم حَتَّى جذبتمونا إِلَيْهِ ودللتمونا بارتكاب أصعب مرام عَلَيْهِ وَقَوله (من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله) وَقد قَالَ الْمواق فِي شَرحه على الْمُخْتَصر من أعَان على عزل إِنْسَان وتولية غَيره وَلم يَأْمَن سفك دم مُسلم فَهُوَ شريك فِي دَمه إِن سفك ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدّم استعظاما لذَلِك الْأَمر الفظيع فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على أَنا اِنْخَدَعْنَا بِاللَّه حَتَّى كُنَّا نَأْمَن بِالْقطعِ سفك الدِّمَاء إِذْ ذَاك حَيْثُ كتبت إِلَيْنَا مرَارًا وَأمنت وَأرْسلت وَكنت أَتَخَوَّف من هَذَا الْوَاقِع الْيَوْم بآزمور وآسفي ومراكش والغرب وَلذَلِك كنت ألححت عَلَيْكُم فِي تَقْرِير الْعَهْد حَتَّى أَتَانِي الْقَائِد عبد الصَّادِق بمصحف ذكر انه لسلطان تلمسان فِي جرم صَغِير وَقَالَ لي أَمرنِي السُّلْطَان أَن أَحْلف لَك فِيهِ نِيَابَة عَنهُ على بَقَائِهِ(6/37)
على الْعَهْد فِيمَا بَيْنك وَبَينه من تَأْمِين كل من أمنته وإمضاء كل مَا رَأَيْته صلاحا للْأمة ثمَّ لم أكتف حَتَّى أَتَى القَاضِي فَكتبت إِلَيّ مَعَه إِن كل مَا رَأَيْت فِيهِ الصّلاح للْأمة أمضيته وَأَنَّك آمَنت كل من أمنته ثمَّ بعد استقرارك فِي دَارك كتبت إِلَيّ كتابا إِنَّك بَاقٍ على مَا تعاهدنا مَعَك عَلَيْهِ من الْأُمُور كلهَا على معيار الشَّرِيعَة فَمَا راعني إِلَّا وَقد أخفرت فِي ذمَّة الله وأماني الَّذِي عقدته للنَّاس فَمن مأسور ومقيد ومطلوب بِمَال ومطرود عَن بلد وأخبار آخر ترد علينا من جِهَة السواحل وَأَن النَّاس تبَاع فِيهَا لِلْعَدو دمره الله وَلم نر من اهتبل بذلك مِمَّن قلدتموه أُمُور الثغور فَلم ندر هَل بلغك ذَلِك فَتسقط عَنَّا ملامة الشَّرْع أَو لم يبلغك فأعلمنا الله لتطمئن قُلُوبنَا فَإِنِّي أكاتبك فِي ذَلِك فَلَا أرى جَوَابا فَقضيت وَالله من الْأَمر عجبا فَإِن عددت مَا من الله بِهِ عَلَيْك من رجوعك إِلَى سَرِير ملكك واجتماعك بسربك آمنا من قبيل النعم فقيده بِمَا تقيد بِهِ كَمَا فِي كريم علمك وَإِن رَأَيْته بِنَظَر آخر فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَأما الْإِجْمَاع فَلم نر من الْعلمَاء من نهى عَن نصح خَاصَّة الْمُسلمين وتنبيههم على مَا يصلح بهم وبالرعية بل عدوه من الدّين للْحَدِيث الأول وَغَيره وَأما استشعرناه من امتعاضكم من عدم الأنة القَوْل فِي مكاتبتنا لكم فَمَا خاطبناكم قطّ رعيا لذَلِك وَلَو بِنصْف مَا خَاطب بِهِ الْأَئِمَّة الأول أهل زمانهم اتكالا على مطالعتكم لكتبهم وعلمكم بِمَا لم نعلمهُ من ذَلِك وَلم نروه ويكفيكم نصح الفضيل وسُفْيَان وإمامنا مَالك رَضِي الله عَنْهُم لمعاصريهم من الْوُلَاة وَمِنْهُم من بَكَى وانتفع وَمِنْهُم من غشي عَلَيْهِ وتوجع وَمِنْهُم من نَدم واسترجع إِلَى غير مَا ذكرنَا على اخْتِلَاف الْأَعْصَار وتنوع الدول والأقطار فبذلك اقتدينا وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أشياخنا وأسلافنا لكم ولأسلافكم عَملنَا كالفقيه شيخ والدنا رَحمَه الله سَيِّدي عبد الله الهبطي لجدكم المرحوم بكرم الله فطمعت بنجح النصح ونفعه دنيا وَأُخْرَى فَهَذَا أصل قَضِيَّتنَا مَعكُمْ وهلم جرا والذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ على كل الْأَحْوَال وَالْحَمْد لله على كل حَال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبتاريخ أَوَاخِر ربيع النَّبَوِيّ الأنور كتبه عَن إِذْنه رَضِي الله عَنهُ(6/38)
عبد ربه مُحَمَّد بن الْحسن بن أبي الْقَاسِم لطف الله بِهِ بمنه اه فَأَجَابَهُ السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله بِمَا نَصه
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من عبد ربه تَعَالَى المقترف الْمُعْتَرف زَيْدَانَ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد إِلَى السَّيِّد أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن السَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الله ابْن سعيد أعاننا الله وَإِيَّاكُم على اتِّبَاع الْحق ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فقد ورد علينا كتابكُمْ ففضضنا ختامه ووقفنا على سَائِر فصوله ثمَّ إننا إِن جاوبناكم على مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام الْخطابِيّ رُبمَا غَيْركُمْ ذَلِك وَأدّى إِلَى المباغضة والمشاحنة فيحكى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه بعث إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وأحضره عِنْده وَألقى إِلَيْهِ مَا كَانَ يجده من أَوْلَاد الصَّحَابَة الَّذين اعصوصبوا بِأَهْل الرِّدَّة الَّذين كَانَ رجوعهم إِلَى الْإِسْلَام على يَد الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي كل ذَلِك لَا يجِيبه فَقَالَ لَهُ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَا أسكتك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن تَكَلَّمت فَلَا أَقُول إِلَّا مَا تكره وَإِن سكت فَلَيْسَ لَك عِنْدِي إِلَّا مَا تحب وَلَكِن لما لم أجد بدا من الْجَواب أرى أَن أقدم لَك مُقَدّمَة قبل الْجَواب فلتعلم أَن الْحجَّاج لما ولاه عبد الْملك الْعرَاق وَكَانَ من سيرته مَا يُغني اشتهاره عَن تسطيره هُنَا فتأول ابْن الْأَشْعَث الْخُرُوج عَلَيْهِ وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة من التَّابِعين كسعيد بن جُبَير وَأَمْثَاله من أَوْلَاد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلما قوي عزمهم على ذَلِك استدعوا الْحسن الْبَصْرِيّ لذَلِك فَقَالَ لَا أفعل فإنني أرى الْحجَّاج عُقُوبَة من الله فنفزع إِلَى الدُّعَاء أولى قَالَ بعض فضلاء الْعَجم يُؤْخَذ من هَذَا أَن الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْكَبَائِر وَجَوَاز الْمقَام تَحت ولَايَة الظُّلم والجور وَقد علمت مَا كَانَ من أَمر عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث وَسَعِيد وَأَمْثَاله وَعلمت قَضِيَّة أهل الْحرَّة لما أوقع بهم جند يزِيد بن مُعَاوِيَة بِالْحرم الشريف وَلما بلغه الْخَبَر أنْشد(6/39)
(لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا ... جزع الْخَزْرَج من وَقع الأسل)
وشاع ذَلِك عَنهُ وذاع وَكَانَ على عهد أكَابِر الصَّحَابَة وَأَوْلَادهمْ وَلَا تعرض أحد مِنْهُم لنكير عَلَيْهِ وَلَا تصدى لقِيَام وَلَا خاطبه بملام وَأما مَا يرجع إِلَى جَوَاب الْكتاب فَأَما مَا حكيت عَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي أهل الْبَيْت وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فيهم وَأَنه يجب تعظيمهم واحترامهم وتبجيلهم لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ يجب عَلَيْكُم تعظيمهم فَإِن تعظيمهم يجب على أولى وَأولى عملا بقوله تَعَالَى {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وأجرى الله تَعَالَى عَادَته أَنه مَا تصدى أحد لعداوة هَذَا الْبَيْت النَّبَوِيّ إِلَّا كَبه الله لوجهه وَأما مَا أوردتم من الْأَحَادِيث فِي النصح فَإِنِّي وَالله أحب أَن تنصحني سرا وَعَلَانِيَة مَعَ زِيَادَة شكري عَلَيْهِ وأراها مِنْك مَوَدَّة وأعدها محبَّة وَلَكِنِّي أفعل مَا أقدر عَلَيْهِ لِأَن الله سُبْحَانَهُ يَقُول {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} الْبَقَرَة 286 وَلِهَذَا قَالَ أَكثر الْعلمَاء فِي صُدُور تصانيفهم وَلم آل جهدا فِي كَذَا لِأَن النُّفُوس الشَّرِيفَة الْعَالِيَة لَا تتْرك من فعل الْخَيْر وَالْجد فِي اكتسابه إِلَّا مَا عز تنَاوله عَلَيْهَا وصعب اكتسابه
وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَمر أبي محلي وَسيرَته وَمَا كَانَ تسلط عَلَيْهِ أما مَا كَانَ من استنهاضكم إِلَيْهِ الْمرة بعد الْمرة وتكررت فِي ذَلِك إِلَيْكُم الرُّسُل حَتَّى أجبْت إِلَيْهِ فَلَا نحتاج فِيهِ إِلَى إِقَامَة حجَّة غير كَونه خرج عَن الْجَمَاعَة وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أَرَادَ أَن يشق عصاكم فَاقْتُلُوهُ كَائِنا من كَانَ) وَإِلَّا فَلَو دخل الْملك من بَابه وَبَايَعَهُ أهل الْحل وَالْعقد وَأخذ ذَلِك بوسائط مثل بيعَة جدنا المرحوم الَّتِي تضافرت عَلَيْهَا عُلَمَاء الْمغرب وَأهل الدّين الْمَشَاهِير فَلَو كَانَ وصل إِلَى ذَلِك بِمثل هَذِه الوسائط لم يجب حربه وَلَا الْقيام عَلَيْهِ بِمَا ذكرْتُمْ لِأَن السُّلْطَان لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ والجور وَإِلَّا فَإِن الصَّحَابَة فِي زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة لَا يُحْصى عَددهمْ وَمَا تصدى أحد للْقِيَام عَلَيْهِ وَلَا قَالَ بعزله وَإِلَّا فَإِنَّهُم لَا يُقِيمُونَ على الضَّلَالَة وَلَو نشرُوا بالمناشير وَأما أَبُو محلي فبمجرد قِيَامه يجب عَلَيْك وعَلى غَيْرك إعانتنا عَلَيْهِ لِأَنَّك فِي بيعتنا وَهِي لَازِمَة لَك فالطاعة وَاجِبَة عَلَيْك وَاعْلَم أَيْضا أَن والدك أفضل مِنْك بِدَلِيل {آباؤكم وأبناؤكم}(6/40)
من أَبْنَائِكُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَكَانَ عمنَا مولَايَ عبد الْملك رَحمَه الله وسامحه على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر بِهِ إعلانا وَكَانَ والدك فِي دولته وبيعته ووفد عَلَيْهِ وَلم يستنكف من ذَلِك وَلَا ظهر مِنْهُ مَا يُخَالف السلطنة وَلَا أنكر وَلَا عرض بِمَا يسوء سُلْطَان الْوَقْت وَلَا سمع ذَلِك مِنْهُ فَإِن كَانَ رَاضِيا بِفِعْلِهِ فَهُوَ مثله وَإِن لم يرض فَمَا وَجه سُكُوته والوفادة عَلَيْهِ وَقد تحققت وَعلمت أَن ولَايَة أَحْمد ابْن مُوسَى الْجُزُولِيّ كَادَت تكون قَطْعِيَّة واشتهر أمره عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى أطبق أهل الْمغرب على ولَايَته وَقد كَانَ على عهد مولَايَ عبد الله برد الله صَرِيحه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر عَنهُ وَمَا برح الشَّيْخ الْمَذْكُور يَدْعُو لَهُ ولدولته بِالْبَقَاءِ وَيظْهر حبه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يعْزل ويولي وَيقتل وَكَانَ قد شرد مِنْهُ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ الْمَذْكُور المرابط الأندلسي وَولد آضاك وأمثالهم وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور يقدم للشفاعة فَيشفع وَلَا يتعقب وَلَا يبْحَث عَمَّا وَرَاء ذَلِك بَاقٍ على عَهده ومودته وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور بعث لِابْنِ حُسَيْن بسد دَاره فَمَا فتحهَا حَتَّى أمره وَلَا استعظم أحد ذَلِك وَلَا أَكثر فِيهِ وَلَا جعله سَببا لفتح الْفِتْنَة وَكَانَ قواد الْمَذْكُور مثل وزيره ابْن شقراء وَعبد الْكَرِيم بن الشَّيْخ وَعبد الْكَرِيم بن مُؤمن العلج والهبطي والزرهوني وَعبد الصَّادِق بن مُلُوك وَغَيرهم مِمَّن لم يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا فِي شرب الْخُمُور واتخاذ القيان وَبسط الْحَرِير وَغير ذَلِك من آلَات الْفضة وَالذَّهَب وَكَانَ فِي عصره أَحْمد بن مُوسَى الْمَذْكُور وَابْن حُسَيْن وَمُحَمّد الشَّرْقِي وَأَبُو عَمْرو القسطلي وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التامنارتي والشيظمي وَغير هَؤُلَاءِ من الْمَشَايِخ وَأهل الدّين الَّذين لَا يسع من يَدعِي هَذِه الطَّرِيقَة التَّقَدُّم عَلَيْهِم وَلَا اكْتِسَاب الْفَضِيلَة دونهم فَأحْسنُوا السِّيرَة وَلَا تعرضوا للسلطنة وَلَا سمع مِنْهُم مَا يقْدَح فِي ولادَة الْأَمر وقادة الأجناد مِمَّن ذكر الَّذين كَانَ الْملك يَدُور عَلَيْهِم وَيرجع فِي تَدْبيره إِلَيْهِم وَمثل من ذكر من الْأَوْلِيَاء كَانَ عَلامَة الزَّمَان وَوَاحِد وقته شيخ مَشَايِخ إفريقية وَبَعض أهل الْمغرب عبد الْعَزِيز القسنطيني الشَّيْخ الْمُتَكَلّم الصُّوفِي صَاحب الْآيَات الْبَينَات قد كَانَ من سكان تونس وَكَانَ مُلُوك تونس وَمن انضاف إِلَيْهِم على الْفساد الَّذِي لَا ينْحَصر(6/41)
واشتهر أَمرهم حَتَّى عرفُوا بِهِ فِي الْمَشَارِق والمغارب وَلم يبرح الشَّيْخ الْمَذْكُور من بَينهم وَلَا تصدى لتغيير الْمُنكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى قَبضه الله إِلَيْهِ
وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَن من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله هَذِه حجَّة عَلَيْك لَا علينا لِأَنِّي مَا سعيت فِي قتل أحد يعلم الله وَلَا قتل من قتل إِلَّا بِأَمْر الْقُضَاة وَأهل الْعلم إِن كَانَ وَاعْلَم أَنه إِذا كَانَ هَذَا يكون وعيدا فِي قتل الْوَاحِد فَمَا بالك بِمن يُرِيد فتح بَاب الْفِتْنَة حَتَّى لَا يقف الْقَتْل على المئين والآلاف وَنهب الْأَمْوَال وكشف الْحَرِيم إِلَى غير ذَلِك أما تعلم أَن فتْنَة أبي محلي قد هلك بِسَبَبِهَا من النُّفُوس وَالْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى عدده وَلَا يسْتَوْفى نهايته كَاتب وَكَانَ كل ذَلِك على رقبته لِأَنَّهُ هُوَ المتسبب الأول الفاتح أَبْوَاب الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ يقتل كل من انْتَمَى إِلَيْنَا حَتَّى قتل بِسَبَبِهِ فِي يَوْم وَاحِد بمَكَان وَاحِد خَمْسمِائَة قَتِيل وَلَوْلَا أَبُو محلي مَا قتلوا وَأعظم فِي حُرْمَة النُّفُوس من هَذَا الَّذِي قلت قَوْله تَعَالَى {كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا} الْمَائِدَة 32
وَلَيْسَ فِي قَول الْمواق مَا يحْتَج بِهِ على السُّلْطَان وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَصْحَاب الخطط على التَّرْتِيب الَّذِي كَانَ على عَهده مثل أَصْحَاب الشَّرْط كصاحب الشرطة الَّذِي ينفذ أَحْكَام القَاضِي وَصَاحب شرطة السُّوق الَّذِي ينفذ الْأَحْكَام عَن قَاضِي الحضرة وَغير ذَلِك من الولايات
وَولَايَة أبي محلي لَا تعد ولَايَة حَتَّى يعْتَبر عَزله وَمَا عِنْد الْمواق وَغَيره وقفنا عَلَيْهِ وعرفناه وتلقيناه عَن الْأَشْيَاخ الجلة وعرفنا مَا عِنْد الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة ودرسناه الْمرة بعد الْمرة وَلست مِمَّن ينطبق عَلَيْهِ قَوْله (أَشْقَى النَّاس عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ) وَلَكِن لماذا تحتج بقول الْمواق لغرضك وتجعله حجَّة وَلم تجبنا نَحن فِيمَا كتبنَا إِلَيْك بِهِ فِي يُونُس اليوسي وَقُلْنَا لَك(6/42)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحرم لَا يجير عَاصِيا) قَالَ الأبي وَهَذَا يحْتَج بِهِ على أهل الزوايا وأضربت عَن الْجَواب وَلَيْسَ ذَلِك من أدب الجدل وَلَكِن أخبرنَا عَن الْوَجْه الَّذِي منعت بِهِ يُونُس اليوسي من الشَّرْع فَإِن متاعنا عِنْده وإماء أهلنا فِي دَاره إِلَى يَوْم الْوَقْعَة وترتب فِي ذمَّته للْمُسلمين من الْأَمْوَال والدماء مَا علمت فَإِن كنت مِمَّن يُرِيد الْعدْل فَهَلا عدلت فِيهِ فَحِينَئِذٍ نعلم أَنَّك لَا تريح جِهَته وَلَا تذْهب بك النَّفس مذهبها لَا جرم حِينَئِذٍ نَكُون عِنْد مَا تُرِيدُ وَمَعَ هَذَا لما أمسكنا زَوجته وكتبت لنا فِيهَا سرحناها سَاعَة وُصُول خطابك من غير توقف فَلَو كنت عناديا لعبثت بهَا عبثه هُوَ بإماء أَهلِي وَأهل دَاري على أَنِّي مَا رددت شفاعتك مُنْذُ عرفتك بعثت لي إِبْرَاهِيم بن يعزى فسرحناه لغرضك على أَنه ترَتّب فِي ذمَّته مَا ينيف على خمسين ألف أُوقِيَّة وَذَلِكَ المَال إِنَّمَا يُقَال لَهُ بَيت مَال الْمُسلمين وَإِنَّمَا كَانَ يجب تخليده فِي السجْن وَأهل الْحصن أخرجناهم مِنْهُ عَن آخِرهم وأنفذتم كتابكُمْ بردهمْ فَأمرنَا بردهمْ عَن آخِرهم وَابْن يَعْقُوب أوزال حَاكم الْبَلَد وَشبه الْخَلِيفَة تَرَكْنَاهُ على دَارنَا وحرك من غير إذننا وَلَا مشورتنا وبعثنا مَكَانَهُ فأنفذت الْكتاب فِيهِ فَرد لمكانه مَا هُوَ الْأَمر الَّذِي سَافَرت كتبك فِيهِ وَلَا أَسْرَعنَا فِيهِ خفافا وَأما مَسْأَلَة أهل آزمور فَلَمَّا جَاءَ كتابكُمْ عزلنا صَاحبه وسرحنا من كَانَ عِنْده ورددنا الْخَيل وَقَضِيَّة الحناشة النَّاس فِي شَأْنهمْ بِالِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّة الْعَرَب اعْلَم أَن الْعَرَب قد أفسدوا الأَرْض واستطالوا سَوَاء هَذِه الْبِلَاد والغرب وَالَّذِي يَلِيق بهم مَا أفتى بِهِ سَحْنُون فِي عرب إفريقية وَالْمغْرب وَلَو طالبناهم بِمُجَرَّد الْعشْر مُدَّة هَذِه الْفِتْنَة فِي الْمغرب لأتى ذَلِك على أَمْوَالهم وَالنَّاس قد خَرجُوا عَن أطوارهم وأحبوا الْفِتَن طلبا للراحة وَانْظُر كتاب الإفادة كَذَا للْقَاضِي واستطالتهم فِيهِ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة شَرْعِيَّة مشروحة فِي رسمها الْقَدِيم على أَنهم أَضْعَف النَّاس قلوبا انْظُر مَا صدر مِنْهُم فَمَا بالك بالعرب الَّذين خَرجُوا عَن الطَّاعَة وتساوى الشَّيْخ وَالصَّغِير فِي ذَلِك فَإِن كنت تصغي لمقالاتهم وإسعاف شهواتهم والتعرض للسُّلْطَان دونهم فَهَذَا نفس خراب الْعَالم وطالع كتاب صاحبنا من عِنْد الرحامنة وَمَا صدر مِنْهُم لخديمكم وَرَأَيْت أَن أقدم(6/43)
لَك مُقَدّمَة أَمَام هَذَا وَإِن كَانَت أدبية قيل لِابْنِ الرُّومِي وَهُوَ عَليّ بن الْعَبَّاس لم لم تقل كَقَوْل ابْن المعتز
(كَانَ آذريوننا وَالشَّمْس فِيهِ عاليه ... مداهن من ذهب فِيهَا بقايا غاليه)
فَأجَاب بِأَن قَالَ لَا يقدر أَن يَقُول هُوَ فِي مثل قولي فِي وصف الرقاقة
(مَا أنس لَا أنس خبازا مَرَرْت بِهِ ... يدحو الرقاقة وَشك اللمح بالبصر)
(مَا بَين رؤيتها فِي كَفه كرة ... وَبَين رؤيتها فوراء كَالْقَمَرِ)
(إِلَّا بِمِقْدَار مَا تنداح دَائِرَة ... فِي صفحة المَاء يرْمى فِيهِ بِالْحجرِ)
وَقَالَ كل منا وصف أواني بَيته وَرب الْبَيْت أعلم بِمَا فِيهِ وَأهل مَكَّة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بِنَقْد الدِّينَار وقصة الْخضر والكليم صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم فِيهَا كِفَايَة لمن يعْتَبر فِي خرقه السَّفِينَة وَقَتله الْغُلَام وإقامته الْجِدَار والكليم يرد عَلَيْهِ فِي كل ذَلِك حَتَّى أنبأه الله بسر مَا لم يعلم على أَن علم الْخضر فِي علم مُوسَى كحلقة ملقاة فِي فلاة هَكَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء وَقَالَ بَعضهم كل مِنْهُم على علم خصّه الله تَعَالَى بِهِ وَمن هُنَا جوز ابْن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي فِي بعض كتبه وأحسب أَن ذَلِك فِي الفصوص أَن الْوَلِيّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الله ويصطفيه بمحبته يطلعه على علم لم يطلع عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم فَقَالَ مُشِيرا إِلَى نَفسه أطلعني الله على علم لم يطلع عَلَيْهِ آدم فَمن دونه
وَاعْلَم أَن السلطنة لَهَا أسرار لَا بُد مِنْهَا وسياسة يُنكر ظَاهرهَا وَلَكِن نرْجِع إِلَى غرضك ومرادك أخبرنَا كَيفَ تحب أَن يسْلك النَّاس فِي الْعَرَب فَإِن كنت تحب أَن يسْلك النَّاس فيهم مَسْلَك مولَايَ عبد الله فالزمان غير الزَّمَان والأسعار قد طلعت وَبَلغت النِّهَايَة وَالله تَعَالَى قد بعث أنبياءه وَأنزل كتبه بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الزَّمَان وَهَذَا يعرفهُ من خالط الشَّرَائِع والكتب الْمنزلَة وَأخذ الْعلم من أَفْوَاه الرِّجَال وأدبته مجَالِس الْعلم وَنحن نلخص لكم الْكَلَام(6/44)
على بعض مَا أورد النَّاس فِي الْخَارِج أما مَا بنوا عَلَيْهِ فَرْضه فِي صدر الْإِسْلَام والدول الْعِظَام فَلَا نطيل بِذكرِهِ لشهرته وَأما فِي الْمغرب خُصُوصا فَأول من فَرْضه عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَجعله على أقطاع الأَرْض بِنَاء على أَن الْمغرب فتح عنْوَة وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْعلمَاء وَمِنْهُم من يَقُول إِن السهل فتح عنْوَة والجبل فتح صلحا فَإِذا تقرر هَذَا وَعلمت أَن أهل ذَلِك الْعَصْر قد بادوا واندثروا وَبَقِي السهل كُله إِرْثا لبيت المَال تعين أَن يكون الْخراج فِيهِ على مَا يُرْضِي صَاحب الأَرْض وَهُوَ السُّلْطَان والجبل تتعذر معرفَة مَا كَانَ الصُّلْح عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيرجع فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد وَقد اجْتهد سلفنا الْكِرَام رضوَان الله عَلَيْهِم فِي فَرْضه لأوّل الدولة الشَّرِيفَة على حسب وفْق أَئِمَّة السّنة ومشايخ أهل الْعلم وَالدّين فِي ذَلِك الْعَهْد فَجرى الْأَمر على السّنَن القويم إِلَى أَن هبت عواصف الْفِتْنَة لأيام ابْن عمنَا صَاحب الْجَبَل وإدالة مَوْلَانَا الإِمَام وصنوه المرحوم على حواضر الْمغرب وسهله عِنْد الزَّحْف بالأتراك وامتدت بِهِ الْفِتْنَة فِي الْجَبَل إِلَى أَن هلك مَعَ النَّصَارَى فِي الْغَزْوَة الشهيرة وَجَاء الله من مَوْلَانَا الْمُقَدّس بِالْجَبَلِ العاصم لِلْإِسْلَامِ من طوفان الْأَهْوَال فَقدر رَضِي الله عَنهُ الْأَشْيَاء حق قدرهَا وَرَأى أَن الْمغرب غب تِلْكَ الْفِتَن قد فغر فَمه لالتهامه عدوان عظيمان التّرْك وعدو الدّين الطاغية فاضطر رَحمَه الله إِلَى الاستكثار من الأجناد لمقاومة الْعَدو والذب عَن الدّين وحماية ثغور الْإِسْلَام فَدَعَا تضَاعف الأجناد إِلَى تضَاعف الْعَطاء وتضاعف الْعَطاء إِلَى تضَاعف الْخراج وتضاعف الْخراج إِلَى الإجحاف بالرعية والإجحاف بالرعية أَمر يستنكف رَضِي الله عَنهُ من ارتكابه وَلَا يرضاه فِي سيرة عدله طول أَيَّامه فَلم يُمكن لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا أَن أمعن النّظر رَحمَه الله فِي أصل الْخراج فَوجدَ بَين السّعر الَّذِي بنى عَلَيْهِ فِي قيمَة الزَّرْع وَالسمن والكبش الَّذِي تعطيه الرّعية مُنْذُ زمن الْفَرْض وَبَين سعر الْوَقْت أضعافا فَحِينَئِذٍ تحرى رَحمَه الله الْعدْل فَخير الرّعية بَين دفع كل شَيْء بِوَجْهِهِ وَدفع مَا يُسَاوِيه بِسعْر الْوَقْت فَاخْتَارُوا السّعر مَخَافَة أَن يطلع إِلَى مَا هُوَ أَكثر(6/45)
فأجابهم إِلَيْهِ رَضِي الله عَنهُ وَعرف النَّاس الْحق فَلم يُنكره أحد من أهل الدّين وَلَا من أهل السياسة لَيْت شعري لَو طلبنا نَحن الرّعية بِسعْر الْوَقْت الَّذِي طلع الْيَوْم إِلَى أَضْعَاف مضاعفة مَاذَا تَقولُونَ وَقد انتقدتم علينا مَا هُوَ أخف من ذَلِك وَالْحَاصِل راجعوا رَضِي الله عَنْكُم مَا عِنْد الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِي ضرب الْخراج فقد استوفى الْكَلَام فِي ذَلِك
وَأما مَا تقضيه من الْعجب لتعطل أجوبتنا عَنْك فَنحْن نراجع أقل مِنْك وَلَكِن كتابك آكِد مبناه على قصَّة أهل آزمور فأنفذنا من أخرج الَّذِي كَانَ بِهِ وأقصاه عَنهُ وشرد من كَانَ عِنْده فتوقف الْجَواب حَتَّى رَجَعَ الخديم فَحِينَئِذٍ أجبناكم بِمَا وصلكم وتعجيل الْأَجْوِبَة وبطؤها فَاعْلَم أَن الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِك أُمُور مِنْهَا أَن يكون الْأَمر الَّذِي ورد الْخطاب فِيهِ مِنْكُم مَا سَمِعت بِهِ وَلَا بَلغنِي فنتوجه للبحث عَنهُ والفحص عَن أَسبَابه فَرُبمَا أوجب ذَلِك البطء بِحَسب الْأَمَاكِن والبلدان فَيكون جَوَابنَا على أساس وَبَيَان وَإِن كَانَ عندنَا خبر مَا ورد فِيهِ خطابكم فَالْجَوَاب لَا يتَأَخَّر وَقد وَقع هَذَا منا غير مرّة وَكَون تعطيله منشأه مَا من الله بِهِ علينا من رجوعنا إِلَى سَرِير ملكنا واجتماعنا بسربنا آمِنين اعْلَم أَن أهل هَذَا الْمغرب لما تمالؤوا عَليّ وَخرجت إِلَى الْمشرق والتقيت بِالتّرْكِ والأروام وجالسوني وجالستهم وخاطبوني وخاطبتهم فَمنهمْ مشافهة وَمِنْهُم مراسلة وَكنت أَيَّام مقَامي فِي أَرضهم كمقامي على سَرِير ملكي لِأَن كَبِيرهمْ وصغيرهم وَرَئِيسهمْ ومرؤوسهم كَانَ ينتجع فضلي ويمد كَفه رَغْبَة فِي نعمتي وواسيت الْجَمِيع عَطاء مترفا مَعَ قلَّة الزَّاد والذخيرة وترفعت عَن مواساة الأماثل والأكابر من الْعَجم وَالْعرب وَلَا ركنت لأحد بل تجودت بِمَا قدرت عَلَيْهِ من الأخبية حَتَّى جعلت محلّة برماتها وخيلها فترامت عَليّ الْعَجم بالرغبة وبسطوا أكف الضراعة فِي الْمقَام عِنْدهم وَالدُّخُول فِي جُمْلَتهمْ وعرضوا عَليّ الإقطاعات السّنيَّة والبلادات الملوكية بلطف مقَال وأدب خطاب حَتَّى قَالَ لي القبطان مُرَاد رَئِيس الْمُجَاهدين وَمَا مثلك يكون مَعَ الْعَرَب هَا نَحن نخدمك بِأَمْوَالِنَا وأنفسنا وبمالنا من السفن حَيْثُ أردْت وأحببت وَمَا انفصلت عَنْهُم حَتَّى(6/46)
كتبت لَهُم بخطي إِنِّي احْمِلْ أَهلِي وحاشيتي وأرجع إِلَيْهِم إِلَّا إِن تمكن لي الدُّخُول فِي الْملك وَالْغَلَبَة على الْبِلَاد أَو بَعْضهَا وقفلت من عِنْدهم وَلم يتَعَلَّق بِثَوْب عفافي مَا يشينه مَعَهم وَلَا مَعَ الْعَرَب وَلَا كَانَ لأحد عَليّ منَّة وَلَا نعْمَة إِلَّا فضل الله سُبْحَانَهُ وَكَانَ فضل الله علينا عَظِيما
ثمَّ إِنِّي دخلت سجلماسة على رغم أنف أَهلهَا وواليها وَمِنْهَا دخلت السوس وَجعلت ولي الله الْعَارِف بِهِ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْمُبَارك وَاسِطَة بيني وَبَين أخي حَتَّى اجْتمعت بأهلي وَمَالِي ثمَّ بعث إِلَيّ التّرْك بِأحد بلكباشات اسْمه مصطفى صولجي إِلَى السوس راغبين فِي إنجاز الْوَعْد وجنحت للمسير إِلَيْهِم فَرَأَيْت الْأَهْل والأتباع قد عظم الْأَمر عَلَيْهِم واستعظموا الْخُرُوج فأسعفت رغبتهم فِي الْمقَام بالمغرب وشيعت الرَّسُول قَافِلًا إِلَى قومه من سجلماسة عِنْد الدُّخُول الثَّانِي لَهَا ومغالبة أَهلهَا عَلَيْهَا وعززته برَسُول من عِنْدِي إِلَيْهِم بتحف وأموال ورد بهَا عَلَيْهِم مَعَ رسولهم ثمَّ إِنِّي اقتحمت مراكش على أهل فاس على كَثْرَة عَددهمْ وعددهم وقلتي فَفتح الله ثمَّ خرجت إِلَى السوس مرّة أُخْرَى وأوقعت بِولد مولَايَ أَحْمد الشريف وجموع مراكش وَقد تعصبوا عَلَيْهِ لأَنهم شيعَة جده ففضضته على رغمهم ونازلته بالسهل والحزن حَتَّى أمكن الله مِنْهُ وَحكم بيني وَبَينه ثمَّ نجم الغوى أَبُو محلي وغلبت على الرَّأْي وَقد قَالَ من هُوَ أفضل مني مَوْلَانَا عَليّ كرم الله وَجهه لَا رَأْي لمن لَا يطاع وَدخل هَذِه الْبِلَاد وَخرجت أَنا إِلَى السوس ريثما تَجْتَمِع قبائلنا فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ اجْتِمَاعهم فِيهِ إِلَى أَن بلغتهم وَقصد إِلَيْهِم أَبُو محلي فقاتلوه ورحل عَنْهُم بعد أَن أثخنوا فِيهِ بِالْقَتْلِ ثمَّ وافيتهم فَكَانَ الْحَرْب بَيْننَا سجالا فَهَل سَمِعْتُمْ خلال هَذِه الْأَحْوَال أَنِّي احتجت إِلَى أحد فِيمَا قل أَو جلّ وَهَذَا كُله بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْك اللَّهُمَّ أَن تعدوا الْوِفَادَة الَّتِي وفدنا عَلَيْك من قبيل الِاضْطِرَار والاحتياج فَلَا أَدْرِي على أَنِّي مَا قصدتك لطلب دنيا لِأَنِّي كنت أسمع مَا أَنْت عَلَيْهِ من متانة الدّين وَالصَّلَاح والإقبال على طَاعَة الله والتمسك بِسنة رَسُول الله(6/47)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غرو أَن من كَانَ هَذَا وَصفه كَانَ جَدِيرًا بِأَن يقْصد للدُّعَاء ولإصلاح الْقلب وَلَا شكّ أننا نزلنَا دَارك وحللنا بمكانك وَلما وَقع الِاجْتِمَاع بك جرت المذاكرة فِي أبي محلي وَغَيره حَتَّى كتبت الْكتاب الَّذِي علمنَا عَلَيْهِ وَهَا هُوَ بِخَط يدك فَإِن نَسِينَا بعض مَا فِيهِ وَلَا فعلنَا فَأخْبرنَا بِهِ نستدركه وَهَذِه مراكش الَّتِي ذكرْتُمْ قد كنت فِيهَا مَا ذكرْتُمْ ووقفت على عبد الْمُؤمن بن ساسي وعدته مرّة أُخْرَى فِي مَرضه وَهل قصدته لطلب دنيا أَو عَرفته لأَجلهَا وَمُحَمّد بن أبي عَمْرو لما وقفت على الْمدرسَة الَّتِي من بِنَاء مولَايَ عبد الله وقفت عَلَيْهِ فِي دَاره وكل ذَلِك إِنَّمَا نفعله تَأْكِيدًا للمحبة وَزِيَادَة فِي الْمعرفَة بِاللَّه وَلَو علمت أَن ذَلِك يعد عَيْبا ويظن أَنه نوع من الِاحْتِيَاج مَا كنت وَالله لأقف على أحد وَلَو أَنه يملكني الدُّنْيَا بحذافيرها لِأَن الْخَيْر وَالشَّر بيد الْفَاعِل الْمُخْتَار فَهُوَ أولى بالاضطرار إِلَيْهِ وَأما سربي فَمَا تروع قطّ حَتَّى يَأْمَن وَأما من كَانَ بِالدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فَإِنَّمَا هم أَهلِي ومتروك أعمامي وَهَذِه الدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فها نَحن ننتقل عَنْهَا إِلَى بعض الْبِلَاد الغربية البحرية كَمَا قلت لَك ذَلِك مشافهة سَاعَة قلت لي يَنْبَغِي للأشراف بِنَاء بِالْجَبَلِ لوقت مَا وحكيت ذَلِك عَن والدك وَأما مَا أخْبركُم بِهِ القَاضِي أَيَّام ورودي إِلَى السوس وَقت بَلغنِي كتابكُمْ الَّذِي نَصه قد اجْتمعت أنَاس وفسدت النيات وتعينت المطامع وأردنا تدبيركم لِأَن الْمُلُوك أهل التَّدْبِير وَالْمرَاد رجوعنا لأوكارنا من غير وصمة تلْحق الْجَانِبَيْنِ فَكلما حمل فَهُوَ عني والتزمته إِلَى الْآن إِلَّا مَا طَرَأَ علينا فِيهِ النسْيَان فذكرونا بِهِ فَإنَّا لَا نخرج عَنهُ وَأما يَمِين الْمُصحف وَأَنِّي حَلَفت فِيهِ للقائد عبد الصَّادِق فَلَا وَالله مَا حَلَفت فِيهِ وَلَا أَحْلف لأحد إِلَى لِقَاء الله أما علمت أَنِّي حضرت بيعَة الشَّيْخ الْمَأْمُون صَاحب الغرب سامحه الله وَحضر أَوْلَاد السُّلْطَان واستحلفهم لَهُ إِلَّا أَنا رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ فلَان لَا يحلف لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيمَا نأمره بِهِ ونفعله وَعظم ذَلِك على إخوتي وَظَهَرت فِي وُجُوههم لأَجله الْكَرَاهِيَة وَلَكِن الَّذِي قلت لعبد الصَّادِق أَحْلف للمرابط فَإِنِّي أوفى لَك بِهِ وَلَا زلت على ذَلِك لِأَن(6/48)
الَّذِي كنت تَقول فِي ذَلِك الْوَقْت أَخَاف أَن تقع فِي أهل مراكش والأكابر وَنَحْوهم مثل حُكُومَة عبد الْقَادِر وَنَحْوهَا أما أهل مراكش فَمَا تعرضنا لأحد مِنْهُم حَتَّى تركنَا متاعنا لأجلكم كَوَلَد المولوع وَغَيره وَهَذَا الميدان والشقراء فَابْعَثْ من رضيت يُنَادي فيهم من لَهُ حق علينا ننصفه مِنْهُ وَمن خدامي أَيْضا وَإِن كنت سَمِعت قَضِيَّة مَنْصُور العكاري فالعكاري نزل أهلنا فِي خيمته عِنْد وقْعَة رَأس الْعين فَلَمَّا أَرَادوا الطُّلُوع إِلَى الْجَبَل تركُوا أَكثر مَالهم فِي خيمته مَعَ بعض الخدم خوفًا من غائلة البربر لما كَانَ وَقع مِنْهُم لأهل بَابا أبي فَارس فَأخذ سماطا من ذهب يزِيد على سِتِّينَ ألف أُوقِيَّة وَكَانَ أَيَّام أبي حسون مَعَه وَفِي جملَته حَتَّى مَاتَ الْقَائِم فبذل حجَّته بإنجازه عشْرين ألفا وَالْبَاقِي حَتَّى يُؤَدِّيه على سَعَة وَطلب منا أَن يتعمل ويتولى بعض الخطط لينْتَفع وَيجمع بعض ذَلِك فصرفناه حَتَّى إِذا جَاءَ أَبُو محلي وَوَقع مَا وَقع طالبناه بمتاعنا وَهُوَ لَا يَسعهُ إِنْكَاره وَهَكَذَا عبد الْكَرِيم الَّذِي فِي زاويتك بِنَفسِهِ يعلم أَن إخْوَته أخذُوا لي سلْعَة فِي وسط حلتهم وَأَنا بَين بُيُوتهم تزيد على خمسين ألفا وَأخذُوا الْإِبِل وَهَا نَحن سكتنا عَنْهُم وَلَا طالبناهم بهَا وَأَيْضًا قَالَ لَك انْظُر مَا فعل بإخوتي وصرت تكاتبنا وَأَنت لَا علم عنْدك بِأَصْل الْمَسْأَلَة وَأما الْأَمْوَال فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد وسع علينا من فَضله وَعِنْدنَا مَا يَكْفِي الْخَامِس وَالسَّادِس من الْوَلَد وعرفنا النَّاس وعرفونا وعاملناهم وعاملونا وَلَو أردْت خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال من أَصْحَاب أَفلا مِنْك أَو من أَصْحَاب الإنجليز وكتبت إِلَيْهِم فِي ذَلِك مَا تأنوا فِي بَعثه وَلَا لاذوا فِيهِ بمعذرة وَقد كفانا الله بِهِ وَالْحَمْد لله على ذَلِك
وَاعْلَم أَن الظَّن فِيك جميل وَلَوْلَا ذَلِك مَا أَعطيتك خَمْسَة آلَاف مِثْقَال وسمحت بِالْمَالِ الَّذِي حمل إِلَيْكُم ابْن عبد الْوَاسِع أَولا وسلعة السفن أخيرا وَبِهَذَا كُله تستدل على صفاء السريرة وَصَالح النِّيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يعلم ذَلِك وَأما الامتعاض من عدم الأنة القَوْل وَحسن الْخطاب فَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} الْبَقَرَة 83 وَإنَّك لم تبلغ وَلَو نصف مَا خَاطب بِهِ(6/49)
الْأَئِمَّة رضوَان الله عَلَيْهِم أهل زمانهم اتكالا على علمنَا بِهِ وحسبي نصح الفضيل ابْن عِيَاض وسُفْيَان وَمَالك رضوَان الله عَلَيْهِم فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة حسبي فِي الْجَواب مِنْك انْتهى مَا وقفنا عَلَيْهِ من هَذِه الرسَالَة وَهِي دَالَّة على براعة الرجل فقها وأدبا وَكَمَال مُرُوءَة وعلو همة رَحمَه الله وَغفر ذنُوبه
اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على المعمورة ونهوض أبي عبد الله العياشي لجهادهم وانتفاض أندلس سلا على السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله
قد قدمنَا فِي أَخْبَار الوطاسيين مَا كَانَ من اسْتِيلَاء البرتغال على المعمورة الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالمهدية ومقامهم بهَا سِنِين قَلَائِل ثمَّ جلائهم عَنْهَا ثمَّ لما استولى الإصبنيول خذله الله فِي هَذِه الْمدَّة على العرائش كَمَا مر طمحت نَفسه إِلَى الِاسْتِيلَاء على غَيرهَا وتعزيزها بأختها فَرَأى أَن المهدية أقرب إِلَيْهَا فَبعث إِلَيْهَا الطاغية فيليبس الثَّالِث من جَزِيرَة قادس تسعين مركبا حربية فَانْتَهوا إِلَيْهَا واستولوا عَلَيْهَا من غير قتال لفرار الْمُسلمين الَّذين كَانُوا بهَا عَنْهَا هَكَذَا فِي تواريخ الفرنج
وَقَالَ شَارِح الزهرة كَانَ نزُول النَّصَارَى بمرسى الْحلق سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَقيل سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ عَدو الله الإصبنيول أَرَادَ أَن يضمها إِلَى العرائش لينضبط لَهُ مَا بَينهمَا من السواحل وتتقوى عساكره بهما فخيب الله ظَنّه وَلَقي من أهل الْإِسْلَام عرق الْقرْبَة وَكَانَ أَبُو عبد الله العياشي بعد رُجُوعه من آزمور وسلامته من اغتيال قَائِد زَيْدَانَ دخل سلا فِي نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا وزار ضريح شَيْخه أبي مُحَمَّد بن حسون وَبَات عِنْده فَجَاءَهُ أهل سلا وَذكروا لَهُ مَا هم فِيهِ من الْخَوْف من نَصَارَى المعمورة وَأَن مسارحهم قد امتدت إِلَى الغابة وَأَن النَّصَارَى أَلفَانِ من الرُّمَاة سوى الفرسان فَأَمرهمْ بالتهيؤ إِلَيْهِم
وَفِي نشر المثاني مَا نَصه وَفِي أَوَاخِر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَلَاث(6/50)
وَعشْرين وَألف أَخذ النَّصَارَى المهدية فَكتب أهل سلا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ فَبعث إِلَيْهِم أَبَا عبد الله العياشي الَّذِي كَانَ مقدما بوكالته على الْجِهَاد بدكالة وَهُوَ يَقْتَضِي أَن مَجِيء العياشي إِلَى سلا كَانَ بِإِذن السُّلْطَان لَا فِرَارًا مِنْهُ وَالْأول أصح اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مَجِيئه فَارًّا كَانَ بعد هَذَا التَّارِيخ وَالله أعلم
وَأمر أَبُو عبد الله العياشي أهل سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ الْعدة فَلم يجد عِنْدهم إِلَّا نَحْو الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا وَكَانَت السنون والفتن قد أضعفتها فحضهم على الزِّيَادَة والاستكثار مِنْهَا فَكَانَ مبلغ عدتهمْ بِمَا زادوه زهاء أَرْبَعمِائَة ثمَّ نَهَضَ بهم إِلَى المعمورة فصادف بهَا من النَّصَارَى غرَّة فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حَرْب قربهَا إِلَى أَن غربت الشَّمْس فَقتل من النَّصَارَى زهاء أَرْبَعمِائَة وَمن الْمُسلمين مِائَتَان وَسَبْعُونَ وَهَذِه أول غَزْوَة أوقعهَا فِي أَرض الغرب بعد صدوره من ثغر آزمور وَمِنْهَا أقصرت النَّصَارَى عَن الْخُرُوج إِلَى الغابة وضاق بهم الْحَال
ثمَّ إِن السُّلْطَان زَيْدَانَ لما بلغه اجْتِمَاع النَّاس على سَيِّدي مُحَمَّد العياشي بسلا وسلامته من غدرة قائده السنوسي بعث إِلَى قائده على عَسْكَر الأندلس بقصبة سلا الْمَعْرُوف بالزعروري وَأمره باغتياله وَالْقَبْض عَلَيْهِ ففاوض الزعروري أَشْيَاخ الأندلس فِي ذَلِك فاتفق رَأْيهمْ على أَن يكون مَعَ العياشي جمَاعَة مِنْهُم عينا عَلَيْهِ وطليعة على نِيَّته واستخبارا لما هُوَ عازم عَلَيْهِ وَمَا هُوَ طَالب لَهُ فلازمه بَعضهم وَشعر العياشي بذلك فانقبض عَن الْجِهَاد وَلزِمَ بَيته
ثمَّ إِن الله أوقع النفرة بَين السُّلْطَان زَيْدَانَ وَبَين أهل الأندلس وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَ قد بعث قبل ذَلِك إِلَى الْقَائِد الزعروري أَن يُجهز إِلَى درعة أَرْبَعمِائَة من أندلس سلا فجهزهم إِلَيْهَا وطالت غيبتهم بهَا ففر أَكْثَرهم ونفرت قُلُوبهم عَن الزعروري وسلطانه فَكَانَ زَيْدَانَ يبْعَث إِلَى أهل الأندلس بسلا بتجديد الْبَعْث إِلَى درعة فيأبون الانقياد إِلَيْهِ فِي ذَلِك وكرهوه وأزمعوا على خلع طَاعَته ثمَّ وشوا إِلَيْهِ بقائده الزعروري فَبعث زَيْدَانَ(6/51)
بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَنهب أهل الأندلس دَاره وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان بذلك مظهرين طَاعَته مكيدة ونفاقا فَبعث إِلَيْهِم مَوْلَاهُ وقائده الْمَمْلُوك عجيبا فَمَكثَ بَين أظهرهم مُدَّة فَلم يعبؤوا بِهِ وصاروا يهزؤون بِهِ ثمَّ عدوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ فَظهر مِنْهُم شقّ الْعَصَا على السُّلْطَان زَيْدَانَ وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ وَبَقِي أهل سلا فوضى لَا وَالِي عَلَيْهِم وَكثر النهب وامتدت أَيدي اللُّصُوص إِلَى المَال والحريم وسيدي مُحَمَّد العياشي سَاكِت لَا يتَكَلَّم وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ بعد هَذَا إِن شَاءَ الله
انعطاف إِلَى خبر عبد الله بن الشَّيْخ بفاس والثوار القائمين بهَا وَمَا تخَلّل ذَلِك
قد قدمنَا مَا كَانَ من قدوم السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى فاس أواسط سنة تسع عشرَة وَألف واستيلائه عَلَيْهَا ثمَّ خُرُوجه عَنْهَا وإعراضه عَنْهَا وَعَن أَعمالهَا إِلَى آخر دولته وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ حَيَاة أَبِيه الشَّيْخ تَحت أمره يصغي إِلَيْهِ وَلَا يقطع أمرا دونه وَقيل إِنَّه خرج عَن طَاعَته سنة عشْرين وَألف وَلما قتل أَبوهُ بِبِلَاد الهبط كَمَا مر استبد عبد الله هَذَا بفاس وَمَا انضاف إِلَيْهَا على وَهن وفشل ريح وَكَانَ غَالب جنده من شراقة وشراقة هَؤُلَاءِ هم عرب بادية تلمسان وَمَا انضاف إِلَيْهَا وَسموا بذلك لأَنهم فِي نَاحيَة الشرق من الْمغرب الْأَقْصَى فَأهل تلمسان وأعمالها يسمون أهل الْمغرب الْأَقْصَى مغاربة وَأهل الْمغرب الْأَقْصَى يسمون أهل تلمسان وأعمالها مشارقة لَكِن الْعَامَّة يلحنون فِي هَذِه النِّسْبَة فَيَقُولُونَ شراقة فَكَانَ غَالب جند عبد الله من هَؤُلَاءِ الْعَرَب وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم فهم حماته وأنصاره وبهم كَانَ يعتصم حَتَّى أَعْطَاهُم أجنة النَّاس ودورهم فَكَانَ الرجل من أهل فاس يَأْتِي بستانه فيجد الْأَعرَابِي بخيمته فِي وَسطه فَيَقُول لَهُ أعطانيه السُّلْطَان
ومدوا أَيْديهم إِلَى حَرِيم النَّاس ونهبوا الْأَسْوَاق وجاهروا بِالْفَسَادِ وأظهروا السكر فِي الطرقات واقتحموا على النَّاس دُورهمْ حَتَّى أَن امْرَأَة كَانَت تطبخ خليعا وَوَلدهَا رَضِيع عِنْدهَا فاقتحم عَلَيْهَا الدَّار أحد شراقة فهربت(6/52)
الْمَرْأَة وأغلقت عَلَيْهَا مشربَة لَهَا فَلم يقدر لَهَا على شَيْء فَرَاوَدَهَا على النُّزُول فَأَبت فَقَالَ لَهَا إِن لم تنزلي رميت الْوَلَد فِي الطنجير فتمادت على الِامْتِنَاع فَرمى بِهِ فِيهِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَتْ وَلَدهَا فِي وسط الطنجير صاحت وَأَلْقَتْ بِنَفسِهَا عَلَيْهِ فاندقت رقبَتهَا وَمَاتَتْ فغاظ النَّاس ذَلِك وأعظموه
وَقَامَ رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الشريف الزرهوني محتسبا على شراقة واعصوصب عَلَيْهِ كثير من الْعَامَّة وَقَامُوا بنصرته فَقتل شراقة والتلمسانيين بفاس حَيْثُ وجدوا وَحكم السَّيْف فِي رقابهم ونفاهم عَن فاس وحماها من إذايتهم وطهرها من رجسهم فَاسْتحْسن النَّاس أمره وأذعنوا إِلَيْهِ
قَالَ فِي الْمرْآة وَفِي يَوْم الْجُمُعَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول يَعْنِي سنة عشْرين وَألف ثار بفاس الشريف أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الزرهوني وعضده الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد اللمطي الْمَعْرُوف بالمربوع وتبعهما أهل فاس بأجمعهم وأخرجوا من كَانَ بهَا من جَيش السُّلْطَان وَقتلُوا كثيرا مِنْهُم وَجَرت فِي ذَلِك خطوب آلت بعد سِنِين إِلَى انْقِطَاع الْملك بفاس وَبَقِي النَّاس فوضى إِلَى الْآن اه كَلَام الْمرْآة
وَكَانَ ابْتِدَاء أَمر شراقة واشتداد شوكتهم سنة سِتّ عشرَة وَألف كَانُوا إدالة على أهل فاس نازلين بقصبة الطالعة وبقصبة أُخْرَى وببعض الفنادق وَقرب بَاب الْمُسَافِرين إِلَى أَن قَامَ عَلَيْهِم الشريف أَبُو الرّبيع فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ يَوْم ثورة أبي الرّبيع وفتكه بشراقة غَائِبا فِي سلا فَلَمَّا بلغه الْخَبَر قدم ورام أَن يصلح بَين أهل فاس وَبَين شراقة وراودهم على ذَلِك فَقَالُوا لَا لَا فسميت تِلْكَ السّنة سنة لَا لَا ثمَّ أَمر أَبُو الرّبيع أهل فاس بشرَاء الْعدة والتهيؤ لقِتَال شراقة وَخرج إِلَيْهِم فَاقْتَتلُوا خَارج بَاب الجيسة فانهزمت شراقة واستتب أَمر أبي الرّبيع وسكنت أَحْوَال الْمَدِينَة وَأمن النَّاس أَمَانًا لم يعْهَد من زمَان السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة عشْرين وَألف كَانَت(6/53)
وقْعَة المترب مَوضِع خَارج بَاب الْفتُوح وسببها أَن أهل فاس اسْتَغَاثَ بهم الملالقة واستصرخوهم على شراقة مكيدة وحيلة فَخَرجُوا فِي يَوْم شَدِيد الرّيح وَكَمن لَهُم شراقة بخولان وأغاروا عَلَيْهِم بَغْتَة فَانْهَزَمَ النَّاس وَقتل من أهل فاس نَحْو الْأَلفَيْنِ
وَفِي نشر المثاني سَبْعمِائة فَقَط قَالَ وجلهم هلك بالعطش وغلقت الْأَبْوَاب واضطربت الْمَدِينَة وهاج الشَّرّ بِسَبَب ذَلِك مُدَّة ثمَّ خرج أهل فاس مرّة أُخْرَى لقِتَال عبد الله بن الشَّيْخ فهزموه وأسروه وَبَقِي فِي أَيْديهم فعفوا عَن قَتله وأطلقوه وذهبوا خَلفه حَتَّى دخل دَاره من فاس الْجَدِيد
وَلما قتل أَبوهُ الشَّيْخ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين كَمَا مر واتصل خبر مَقْتَله بِابْنِهِ عبد الله عزم على الْأَخْذ بثأره من قاتليه أَوْلَاد أبي الليف وأزمع الْمسير إِلَيْهِم وَوَافَقَهُ على ذَلِك الشريف أَبُو الرّبيع والفقيه المربوع وأصحابهما وامتنعت الْعَامَّة من الذّهاب مَعَهم لِأَن الشَّيْخ لم تبْق لَهُ فِي نفوس الْمُسلمين مَوَدَّة حَيْثُ بَاعَ العرائش لِلنَّصَارَى فاجتمعت الْعَامَّة بِجَامِع الْقرَوِيين وَقَالُوا لَا نقبل سُلَيْمَان وَلَا المربوع وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَاتَّخذُوا رُؤَسَاء آخَرين فَوَقع بِسَبَب ذَلِك شَرّ عَظِيم أدّى إِلَى قتل الشريف مولَايَ إِدْرِيس بن أَحْمد الجوطي العمراني التّونسِيّ وَسبب ذَلِك أَن مُنَادِي أبي الرّبيع مر يُنَادي فِي السُّوق باستنفار النَّاس مَعَ عبد الله بن الشَّيْخ فَقَامَ إِلَيْهِ الشريف مولَايَ إِدْرِيس وضربه بعصا وسبه فَأقبل أَبُو الرّبيع وَمن مَعَه واقتحموا على مولَايَ إِدْرِيس دَار القيطون وقتلوه على خصتها وَلما كَانَ صباح الْقَبْر من الْغَد قَامَ ولد مولَايَ إِدْرِيس وشكا هضيمته لعلماء فاس فأمروه بِالصبرِ ثمَّ التف عَلَيْهِ أهل العدوة وقصدوا دَار أبي الرّبيع وناوشوه الْحَرْب فَرَجَعُوا مفلولين وَقتل بَعضهم وَالْأَمر لله وَحده وَوَقع الغلاء حَتَّى بيع الْقَمْح بأوقيتين وَربع للمد وَكَثُرت الْأَمْوَات حَتَّى أَن صَاحب المارستان أحصى من الْأَمْوَات من عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف إِلَى ربيع النَّبَوِيّ من السّنة بعْدهَا أَرْبَعَة آلَاف وسِتمِائَة وَخَربَتْ أَطْرَاف الْمَدِينَة وخلت المداسر وَلم(6/54)
يبْق بلمطة إِلَّا الوحوش وَكثر النهب فِي القوافل
وَلما كَانَ الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَعشْرين وَألف قبض الشريف أَبُو الرّبيع على أَرْبَعَة من كبار شراقة ثمَّ قَتلهمْ فَوَجَمَ لَهَا اللمطيون وَخَافَ النَّاس على الْمَدِينَة وتوقعوا الشَّرّ وَعظم الرعب فِي الْقُلُوب حَتَّى وَقعت بِسَبَب ذَلِك الْهَزِيمَة فِي كل مَسْجِد من مَسَاجِد الْخطْبَة بفاس وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِمَام جَامع الْقرَوِيين ذَات يَوْم يخْطب وَالنَّاس فِي صحن الْمَسْجِد فَوَقع شؤبوب من الْمَطَر غزير فابتدر من فِي الصحن الدُّخُول إِلَى تَحت السّقف فَظن النَّاس أَن أَبَا الرّبيع قد قَصده شراقة فَانْهَزَمُوا وَخَرجُوا من الْمَسْجِد لَا يلوي أحد على أحد فَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل جَامع الأندلس فاقتدوا بهم وَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل الطالعة فَكَانَ كَذَلِك وَتَتَابَعَتْ الهزائم بالمساجد
وَفِي يَوْم السبت الْخَامِس من صفر سنة سِتّ وَعشْرين وَألف قتل الشريف أَبُو الرّبيع غدرا فِي جَنَازَة رجل لمطي خرج إِلَيْهَا فَقتله الْفَقِيه المربوع وَقتل أَبَاهُ وَأَبْنَاء عَمه وَسِتَّة من أَصْحَابه وَدفن مَعَ وَالِده بِمَسْجِد الجرف وَلما قتل أَبُو الرّبيع بقيت فاس فِي يَد المربوع واعصوصب عَلَيْهِ اللمطيون واشتدت شوكته ثمَّ قدم جمع من عشيرة أبي الرّبيع من زرهون وحاولوا الفتك بالمربوع فَفطن بهم وَوَقع بَينه وَبينهمْ قتال هلك فِيهِ نَحْو مائَة وَثَلَاثِينَ رجلا وَسلم المربوع مِنْهَا
وَقَالَ صَاحب مُعْتَمد الرَّاوِي لما قتل أَبُو الرّبيع الزرهوني قَامَ أَخُوهُ مولَايَ أَحْمد يطْلب بثأره وسَاق مَعَه نَحْو أَرْبَعمِائَة من الزراهنة واقتحم بهم فاس وقاتلوا الْفَقِيه المربوع وشيعته من اللمطيين فالتف أهل فاس على المربوع وقاتلوا مَعَه الشريف يدا وَاحِدَة فَانْهَزَمَ الشريف وَقتل جلّ من مَعَه وَكَاد يقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ ففر إِلَى رَوْضَة سَيِّدي أَحْمد الشاوي وَمَعَهُ نَحْو الثَّمَانِينَ من أَصْحَابه فَتَبِعهُمْ الْفَقِيه المربوع فِي جمع عَظِيم من اللمطيين واقتحم عَلَيْهِم الرَّوْضَة ففر الزراهنة إِلَى بيُوت دَار الشَّيْخ فهجم عَلَيْهِم المربوع بجنده وقتلهم أَجْمَعِينَ ثمَّ إِن المربوع واللمطيين جاؤوا بِرَجُل يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن الخنادقي كَانَ يتعبد بزرهون فاستقدموه فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع(6/55)
وَعشْرين وَألف وراموا أَن يملكوه ويجتمعوا عَلَيْهِ فأنزلوه مَعَ أَصْحَابه فِي رَوْضَة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم واتصل الْخَبَر بالقائد أَحْمد بن عميرَة وَزِير عبد الله بن الشَّيْخ فَأتى وفتك بأصحاب الرجل الْمَذْكُور ولجأ هُوَ إِلَى ضريح الشَّيْخ ابْن حرزهم فَرَمَوْهُ من طاق هُنَالك فَقَتَلُوهُ وَسقط مَيتا على الْقَبْر وَبَطل أمره
وَلما سئم أهل فاس من الْفِتَن وَكَثْرَة الْحصار وضاق بهم الْحَال من غارات الْأَعْرَاب ذَهَبُوا إِلَى عبد الله بن الشَّيْخ بفاس الْجَدِيد ونصروه وأظهروا الْمحبَّة لَهُ ففرح بهم غَايَة وتحالفت الْعَامَّة والخاصة على نَصره والإذعان إِلَيْهِ فصفح عَنْهُم وَعَفا لَهُم عَمَّا سلف وَبعث وزيره إِلَى المربوع بالأمان فَلم يَأْمَن وَخَافَ على نَفسه وصمم مَعَ اللمطيين على قتال عبد الله وتهيؤوا لَهُ حَتَّى لم تصل الصَّلَوَات الْخمس بالقرويين ثمَّ إِن الْقَائِد حمو بن عَمْرو وَزِير عبد الله أَمر بِأَن يُنَادى بِأَمَان اللمطيين ففر اللمطيون عَن المربوع حِينَئِذٍ حَتَّى لم يبْق مَعَه إِلَّا قَلِيل ثمَّ بعث إِلَيْهِ عبد الله بسبحته وخاتمه أَمَانًا فَلم يَأْمَن وفر لَيْلًا إِلَى بني حسن فَأَخذه شيخهم سرحان وأتى بِهِ إِلَى عبد الله فَعَفَا عَنهُ وعادت دولة عبد الله إِلَى شبابها واستتب أمره وتمهدت لَهُ الْبِلَاد وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَعشْرين وَألف فَجمع الجيوش وَبعث بعض جنده لحصار تطاوين وَبَعْضهمْ لقبض الأعشار وَبعث وزيره حمو بن عَمْرو مَعَ المربوع لأرجين مَوضِع من جبال الزَّبِيب فغدر المربوع بالوزير وَقَتله اعْتِمَادًا على كَلَام سَمعه من عبد الله فَغَضب عبد الله وأسرها فِي نَفسه ثمَّ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث ربيع النَّبَوِيّ سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف قتل المربوع اللمطي ونهبت دَاره
وَقَالَ فِي نشر المثاني قَتله عبد الله بن الشَّيْخ وعلقه على البرج الْجَدِيد خَارج بَاب السَّبع ثمَّ أنزلهُ ولعبت عَلَيْهِ خيله ثمَّ بعد أَيَّام وظف عبد الله على اللطميين ثَمَانِينَ ألفا فثقل عَلَيْهِم أمرهَا فَهَرَبُوا فِي كل وَجه فأسقط عَنْهُم نصفهَا وَالله تَعَالَى أعلم(6/56)
ثورة مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة على أَخِيه عبد الله بن الشَّيْخ وَمَا وَقع فِي ذَلِك
قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ لما رأى أهل بِلَاد الهبط مَا وَقع من افْتِرَاق الْكَلِمَة وتوقد الْفِتَن بَايعُوا مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة على ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ الَّذِي قَامَ بدعوته الشريف أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن الإدريسي المحمدي اليونسي الْمَعْرُوف بِابْن ريسون وَهِي أم جده عَليّ نزيل تاصروت وَبَايَعُوهُ على الْكتاب وَالسّنة وعَلى إحْيَاء الْحق وإماتة الْبَاطِل فَلَمَّا بلغ خَبره أَخَاهُ عبد الله خرج لقتاله فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي الطين واقتتلوا فَانْهَزَمَ عبد الله وَتقدم مُحَمَّد إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَقبض على بعض عُمَّال عبد الله فَقَتلهُمْ واستصفى أَمْوَالهم
وَفِي آخر شعْبَان الْمَذْكُور وَقعت الْحَرْب بَينهمَا بمكناسة فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وَدخل عبد الله فاسا فِي مهل رَمَضَان من السّنة وَأظْهر الْعَفو عَن الْخَاص وَالْعَام ثمَّ قتل أهل فاس قائده ابْن شُعَيْب وَأخذُوا حذرهم من عبد الله ثمَّ وَقع قتال بَين أهل الطالعة وَأهل فاس الْجَدِيد ودام أَيَّامًا عديدة حَتَّى اصْطَلحُوا لتاسع رَجَب من سنة تسع وَعشْرين وَألف ثمَّ إِن عبد الله خرج لقِتَال أَخِيه مُحَمَّد فَوَقَعت المعركة بَينهمَا بوادي بهت فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وفر شَرِيدًا إِلَى أَن قَتله ابْن عَمه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف قتل الْفَقِيه الْعَالم القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن أبي النَّعيم بعد أَن نزل من صَلَاة الْجُمُعَة(6/57)
بفاس الْجَدِيد فَقتلته اللُّصُوص بِبَاب الْمدرسَة العنانية وَفِي نشر المثاني قَتله اللمطيون بالزربطانة لأَنهم اتَّهَمُوهُ بالميل إِلَى عبد الله بن الشَّيْخ فَوَقع بِسَبَب قَتله شَرّ عَظِيم بَين أهل العدوتين من فاس
وَلم يزل عبد الله فِي معالجة أهل فاس فَتَارَة يميلون إِلَيْهِ وَتارَة ينحرفون عَنهُ لفساد سيرته وقبح طويته حَتَّى كَانَ قائده مامي العلج ينهب الدّور جهارا وَيُعْطِي عبد الله كل يَوْم على ذَلِك عشرَة آلَاف مِمَّا ينهب من النَّاس من غير جريمة وَلَا ذَنْب
وَقَامَ عَلَيْهِ بمكناسة أَيْضا رجل يُقَال لَهُ الشريف آمغار وَقَامَ عَلَيْهِ بتطاوين الْمُقدم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس وَلم يبْق فِي يَده إِلَّا فاس الْجَدِيد وَأما فاس الْقَدِيم فَتَارَة وَتارَة كَمَا ذكرنَا آنِفا لِأَنَّهُ استولى عَلَيْهَا الشريف أَبُو الرّبيع والفقيه المربوع وَلما قتلا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا قَامَ بفاس مُحَمَّد بن سُلَيْمَان اللمطي الْمَدْعُو الْأَقْرَع وَعلي بن عبد الرَّحْمَن فَقتل ابْن سُلَيْمَان
وَقَامَ أَحْمد بن الْأَشْهب مَعَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فَوَقَعت فتن وحروب ثمَّ قَامَ الْحَاج على سوسان وَابْن يعلى وَتَوَلَّى أَيْضا يزرور ومسعود ابْن عبد الله وَغَيرهم من الثوار
وَكَانَت فاس أَيَّام هَؤُلَاءِ على فرق وشيع لَا يَأْمَن التَّاجِر على نَفسه إِلَّا إِن استجار بِأحد من هَؤُلَاءِ وَوَقع من الْفِتَن مَا أظلم بِهِ جو فاس ونتن أفقها العاطر الأنفاس وخلا أَكثر الْمَدِينَة وَاسْتولى عَلَيْهَا الخراب ودام الشَّرّ بَين أهل العدوتين حَتَّى كَادَت فاس تضمحل وَيَعْفُو رسمها
وَحدث غير وَاحِد من الثِّقَات أَنه لما دَامَت الْحَرْب بَين أهل العدوتين وَلم يكن لأهل الأندلس غَلَبَة على اللمطيين قَالَ الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد الفاسي لَا يغلب أحد اللمطيين مَا داموا مواظبين على قِرَاءَة الحزب الْكَبِير للْإِمَام الشاذلي رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت طَائِفَة من اللمطيين يقرؤونه كل صباح بزاوية سَيِّدي رضوَان الجنوي من عدوة اللمطيين فَسمع ذَلِك أهل عدوة الأندلس فاحتالوا على إبِْطَال قِرَاءَة ذَلِك الحزب بِأَن بعثوا(6/58)
أحدا فاحتال على أُولَئِكَ الَّذين يقرؤونه فاستضافهم فَبَاتُوا عِنْده جَمِيعًا فِي منزله فَلَمَّا طلع الْفجْر أَو كَاد زعم أَن مِفْتَاح الدَّار قد سقط مِنْهُ وَتلف وَلم يزل يعاني فتحهَا إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَخَرجُوا وَلم يقرأوا الحزب ذَلِك الْيَوْم وَأخْبر أهل الأندلس بذلك فحملوا على أهل عدوة اللمطيين فهزموهم وتحكموا فيهم مَعَ أَنهم كَانُوا لم يَجدوا إِلَيْهِم سَبِيلا قبل ذَلِك ببركة حزب الشاذلي رَضِي الله عَنهُ
وَذكر بَعضهم أَن سَبَب هَذِه الفترة مَا حُكيَ أَن عبد الله بن الشَّيْخ عزم على التنكيل بِأَهْل فاس فِي بعض غلباته عَلَيْهِم أَيَّام خُرُوجهمْ عَلَيْهِ فاستشفعوا إِلَيْهِ بالصالحين المجذوبين سَيِّدي جلول بن الْحَاج وسيدي مَسْعُود الشراط وَكَانَ من الملامتية فَلَمَّا وَقفا بَين يَدَيْهِ قَالَ أما وجد أهل فاس شَفِيعًا غير هَؤُلَاءِ الخراءين فِي ثيابهما فَغَضب سَيِّدي جلول وَقَالَ وَالله لَا تصرف فِيهَا يَعْنِي فاسا أحد أَرْبَعِينَ سنة وانصرفا فَيُقَال إِن عبد الله بن الشَّيْخ انقلبت معدته فَخرج غائطه من فَمه أَيَّامًا إِلَى أَن أَتَى بالشيخين فاسترضاهما فَكَانَ أَمر فاس كَمَا قَالَ سَيِّدي جلول لم يُطَأْطِئ رُؤُوس أعيانها سُلْطَان إِلَى أَن جَاءَ الله بالمولى الرشيد بن الشريف السجلماسي رَحمَه الله كَمَا سَيَأْتِي وَإِنَّمَا كَانَ يتَصَرَّف فِيهَا رُؤَسَاء أهل فاس الَّذين يسمونهم السياب قَالَ اليفرني وَهَذِه حِكَايَة صَحِيحَة سَمعتهَا من غير وَاحِد بفاس ملخصها مَا ذكرنَا
وَلم يزل عبد الله فِي محاربة أهل فاس الْقَدِيم من سنة عشْرين وَألف إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بِسَبَب مرض اعتراه من إسرافه فِي الْخمر وإدمانه عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا ويتعاطاه سرا وجهارا
قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ وَلما توفّي عبد الله ولي بعده أَخُوهُ عبد الْملك فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَلم يزل مُقْتَصرا على مَا كَانَ قد صفا لِأَخِيهِ إِلَى أَن توفّي فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف(6/59)
وَمن آثَار عبد الله بن الشَّيْخ الْقبَّة الَّتِي على الخصة الكائنة أَسْفَل المنارة الَّتِي بوسط صحن جَامع الْقرَوِيين فَإِنَّهُ لم يكن فِي الْقَدِيم إِلَّا الخصة الْمُقَابلَة لَهَا شَرْقي الْجَامِع الْمَذْكُور
غَرِيبَة
قَالَ اليفرني حَدثنِي شَيخنَا الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد قَالَ كَانَ شيخ شُيُوخنَا الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ميارة يَقُول إِن أَحْمد ابْن الْأَشْهب الَّذِي تقدم ذكره قبل فِي الثوار أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والْحَدِيث بذلك مَذْكُور فِي كتاب الْجَامِع الْكَبِير لِلْحَافِظِ جلال الدّين السُّيُوطِيّ رَحمَه الله اه وَقتل ولد ابْن الْأَشْهب رَابِع جُمَادَى الأولى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف فتك بِهِ عَليّ بن سعد فِي جَامع الْقرَوِيين وَهُوَ فِي صَلَاة الْعَصْر وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك حَرْب بَين أهل الأندلس واللمطيين وانتهبت السّلع الَّتِي بسوق القيسارية وسوق العطارين وَبنى اللمطيون الدَّرْب الَّذِي بِبَاب العطارين واستمرت الْحَرْب نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ اصْطَلحُوا
ثورة أبي زَكَرِيَّاء بن عبد الْمُنعم بالسوس ومغالبته لأبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة على تارودانت
كَانَ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي لما رَجَعَ من مراكش إِلَى السوس حَسْبَمَا مر بدا لَهُ فِي طلب الْملك وَجمع الْكَلِمَة لما رأى من افتراقها فِي حواضر الْمغرب وبواديه
وَكَانَ المرابط أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي وَيُقَال لَهُ أَيْضا أَبُو حسون قد ظهر بالصقع السُّوسِي عِنْد فشل ريح السُّلْطَان زَيْدَانَ بِهِ وَاسْتولى على تارودانت وأعمالها
فَلَمَّا ثار الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء سَار إِلَى تارودانت فتغلب عَلَيْهَا وملكها من يَد أبي حسون الْمَذْكُور وَبعد أَن وَقع بَينه وَبَينه معارك ومقاتلات كَبِيرَة وَكَانَ(6/60)
القَاضِي بتارودانت يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الْعَالم أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّا قد استشاره فِيمَا عزم عَلَيْهِ فَلم يُوَافقهُ على ذَلِك وَلم يساعده على مُرَاده لما فِيهِ من الْخُرُوج على السُّلْطَان بِلَا مُوجب فَغَضب عَلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء حَتَّى أَمر بقتْله غيله فِيمَا قيل فَخرج القَاضِي من الْمَدِينَة خَائفًا يترقب وَذهب إِلَى مراكش فاستقر بهَا وَعَصَمَهُ الله مِنْهُ وَكتب إِلَى أبي زَكَرِيَّاء برسالة يعظه فِيهَا وينهاه عَن الْخُرُوج على السُّلْطَان وَنَصهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول الْفَقِير الشَّديد الْحَاجة إِلَى رَحْمَة مَوْلَاهُ الْغَنِيّ بِهِ عَمَّن سواهُ السَّائِل مِنْهُ التَّوْفِيق واللطف فِي ظعنه ومأواه كَاتبه عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني عَفا الله عَنهُ وسمح لَهُ الْحَمد لله الَّذِي جعل الصدع بِالْحَقِّ وَظِيفَة الْأَنْبِيَاء وأورثه بعدهمْ من خلقه فريق الْعلمَاء وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم على من أكد أَمر الصُّلْح وَقَالَ (الدّين النَّصِيحَة) فَقيل لمن يَا رَسُول الله فَقَالَ (لله وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم) وَالرِّضَا على آله وَصَحبه الَّذين سلكوا سَبيله وانتهجوا من المناهج طَرِيقه وَعَن التَّابِعين وتابع التَّابِعين لَهُم إِلَى وُقُوع الْقصاص بَين الخليقة وَبعد فَإِنِّي لما قفلت بِحَمْد الله بسلامة وعافية إِلَى جبلي وجدت أَهلِي وأولادي مستوحشين من الْبَادِيَة وَإِن كَانَت مَحل سلفي ومقر تلادي بعد أَن ألفوا الحواضر وطبعوا على طباعها فَكَانُوا أَحَق بهَا وَكنت فِي غَايَة الضّيق والتأسف لما حل بالأولاد فتذكرت قَول بعض فُقَهَاء الأندلس مِمَّن نابه مثل مَا نابني وأصابه مثل مَا أصابني
(أَلَيْسَ من الْقَبِيح مقَام مثلي ... بدار الْخَسْف منكسف الْجمال)
(أخالط أهل سَائِمَة وسرح ... وأرتع بَين راعية الْجمال)
فأجلت فكري وَإِن كَانَ الْكل بِقدر الله وإرادته فَرَأَيْت أَن ذَلِك وَفِي الْقَضَاء لطف أَمر أنتجه كَمَا لَا يخفى على ذِي بَصِيرَة مَا حل بالمغرب من(6/61)
افْتِرَاق الْكَلِمَة وتلاعب شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ بذوي الْعُقُول مِنْهُم فصاروا أحزابا وفرقا فاتبعت كل طَائِفَة من هَواهَا مَا كَانَت تعبد حَتَّى إِذا عرض لعاقل أَو عرض عَلَيْهِ مِنْهُم الإقلاع بادره الشَّيَاطِين فسدوا عَلَيْهِ بَابه وأروه بإغوائهم وزينوا لَهُ أَن ذَلِك يشينه لَدَى الْعَامَّة وَيُوجب لَهُ السُّقُوط من أعين النَّاس مَعَ أَنه لَا يعده من السُّقُوط إِلَّا {الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} النَّاس 6 - 4 وَأَيْنَ يغيب عَن الْمُوفق أَن السُّقُوط من عين الله هُوَ الطامة الْكُبْرَى وَأَيْنَ غَابَ عَنهُ أَن الْعبْرَة بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بِكَلَام الهمج الرعاع مِمَّن لَا يزَال الشَّيْطَان يلْعَب بِهِ آخِذا بزمامه سَاكِنا على قلبه وَلسَانه وَأَيْنَ يغيب عَنهُ من كتاب الله {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} النازعات 37 - 41 فَقلت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون هَذِه مُصِيبَة عَظِيمَة نزلت بمغربنا فافترق ملأهم وَقتلت سرواتهم وانتهبت أَمْوَالهم وهتكت حرمهم ومزقت أعراضهم وفسدت أديانهم واختلت وبدت عَن التَّوْفِيق آراؤهم وكادت تطمع بل طمعت فيهم أعداؤهم اللَّهُمَّ يَا ذَا الطول والامتنان يَا حنان يَا منان يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام تداركنا بألطافك الْخفية فِي ديننَا ودنيانا يَا خَالق الأَرْض وَالسَّمَاء
فَإِن قلت مَا ذكرته من أَن خُرُوجك من الحواضر إِلَى الْبَوَادِي هُوَ نتيجة افْتِرَاق الْكَلِمَة كَمَا فعله من يَقْتَدِي بِهِ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فتبدى صَحِيح وَمَا دليلك على التلاعب قلت مَا خرجه أَئِمَّة الصِّحَاح من منع الْخُرُوج على الْأَئِمَّة وَأَن الْوَاجِب فِي حق من رأى مِنْهُم مَا يكره الصَّبْر والاحتساب إِذْ غائلة الْجور وَإِن تفاحش أقل بِكَثِير من غائلة الْخُرُوج الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَسَاد المهج وَالْأَمْوَال والأعراض والأديان وهتك الْحرم وَلِهَذَا صَبر على الْحجَّاج من عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من صَبر حَتَّى لقوا الله تَعَالَى سالمي الْأَدْيَان وبعبادته مغتنمي الزَّمَان وتذكر فَمَا بالعهد من قدم بالمرابط أبي محلي كَانَ فِي قطره عالي الصيت يقْصد ويتبرك بِهِ ويعتقد فِيهِ أَنه من قطب زَمَانه وَبلغ بِهِ الْحَال إِلَى أَن سَوَّلت لَهُ نَفسه أَو سَوَّلَ لَهَا أَنه يصلح بِهِ(6/62)
مَا لم يصلح بِغَيْرِهِ من أهل الزَّمَان فَقَامَ وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ حَتَّى مَلأ الدُّنْيَا صياحا ودعاوى وعياطا وأكاذيب لَا يشْهد لَهَا عقل وَلَا نقل فتمرد على الْمُسلمين حَتَّى لم يسلمُوا من لِسَانه وَيَده فَقتل وَنهب وَسَب واغتاب وَحمل نَفسه مَا لَا تُطِيقهُ فاستهوته شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ وَالنَّفس والهوى ثمَّ بعد ذَلِك كُله لم يحصل من سَعْيه على طائل وآفته الْغَفْلَة عَن الْكتاب وَالسّنة وَالرِّضَا عَن النَّفس حَتَّى أَنه حكمهَا فَصَارَت تلعب بِهِ إِلَى أَن فَاه وَادّعى بدعاوى استبيح بهَا مَا كَانَ مَعْصُوما من دَمه وَهَلَكت بِسَبَبِهِ بعده نفوس وأموال وَغير ذَلِك أيشك من ارتاض بِالْكتاب وَالسّنة وَنظر بِعَين الشَّرِيعَة إِن فعله ذَلِك مِمَّا حمله عَلَيْهِ من تجب مُخَالفَته من الشَّيْطَان وَالنَّفس والهوى وَرُبمَا اسحسن فعله ذَلِك من شيعته من ابْتُلِيَ بِهِ أَو قَلّدهُ تقليدا رديا فِي فعله فَإِن توليت فَإِنَّمَا عَلَيْك إِثْم الأريسيين وَإِلَى الْآن كَانُوا يستصوبون فعله ويستحسنون قَوْله مَعَ أَنه بمعزل عَن الْكتاب وَالسّنة
فَإِن قلت وَهَذِه طَائِفَة الْفُقَرَاء مَا بَين متعصب متحزب ومتحيل متصيد ومتسور على مَا اسْتَأْثر بِهِ الْبَارِي من الغيوب مرتكب للآثام مصر على الْعُيُوب قلت وَهَذِه طَائِفَة الْفُقَرَاء فِيهَا جلّ مَا تقدم وزيادات تضيق عَن الْإِحَاطَة بهَا السطور والطروس قد بددتها وَالْعِيَاذ بِاللَّه الْفِتَن وشردها مَا تخوفته من المحن بَانَتْ الْعُلُوم واضمحلت الفهوم وتعطلت الرسوم فَلَا مَنْطُوق يذكر وَلَا مَفْهُوم
(هَذَا الزَّمَان الَّذِي كُنَّا نحاذره ... فِي قَول كَعْب وَفِي قَول ابْن مَسْعُود)
وَقلت وَهَذَا الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء وَهُوَ الَّذِي يساق إِلَى نصحه الحَدِيث كُنَّا نستسقي بِهِ ونستشفي وَكَانَت تشد إِلَيْهِ الرّحال وَلَا يأنف من إِتْيَانه النِّسَاء وَالرِّجَال قد أَتَتْهُ من أقطار مغربنا الْوُفُود ودانت لَهُ الذئاب وَالْأسود وَكَانَ يعلم الْجُهَّال وَيهْدِي الضلال وَيطْعم الجائع ويكسو الْعُرْيَان ويعين ذَا الْحَاجة ويغيث اللهفان وَهِي سَبِيل يَا لَهَا من سَبِيل وَطَرِيقَة مَا أحْسنهَا من طَريقَة ثمَّ صَارَت تِلْكَ الجموع وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا أَيدي سبا(6/63)
وتلاشت شذر مدر مَا لَهَا من نبا
أَيهَا الشَّيْخ أكرمك الله بتسديده أَو تَجِد فِي الْوُجُود ملكا أعظم من ذَلِك الْملك فتطلبه أَو سُلْطَانا يوازيه أَو يُقَارِبه فتحاوله أَيْن خَفِي عَلَيْك الشَّيْء وَهُوَ ضَرُورِيّ أم أَيْن ضلت عَنْك النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة وَأَنت منقولي معقولي {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق} الْحَدِيد 16 {لمقت الله أكبر من مقتكم أَنفسكُم} غَافِر 10 و (إِن أبْغض الْكَلَام إِلَى الله أَن يَقُول الرجل للرجل اتَّقِ الله فَيَقُول عَلَيْك نَفسك) وَهُوَ طرف من حَدِيث خرجه النَّسَائِيّ وَقد وعظتك وذكرتك إِن نَفَعت الذكرى قَالَ جلّ من قَائِل {وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ} الذرايات 55
(فَقلت من التَّعَجُّب لَيْت شعري ... أأيقاظ أُميَّة أم نيام)
فَإِن قَالَ شَيْطَان من شياطين الْإِنْس أَو الْجِنّ هَذَا مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله قلت الله الْموعد إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وستلقون ربكُم فيسألكم عَن أَعمالكُم وَإِن خطر هَذَا وهجس بقلب الشَّيْخ أكْرمه الله والشيطان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم قلت أدل دَلِيل على أَنِّي قصدت مَحْض النَّصِيحَة هُوَ أَنه استنصحني على دفاع أبي محلي فنصحته وَقلت لَهُ إِن هَذَا لَا تستقيم مَعَه الدّيانَة فَكَأَنَّهُ مَا قبل فانفصلت عَنهُ وَهُوَ يَقُول استخر لي الله فكاتبته بِأَن لَا يفعل ثمَّ لما نزل وَكَانَ على بَاب الْغَزْو من تارودانت خلوت بِهِ فَقلت لَهُ إِذْ ذَاك إِن النَّاس يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا وعرفته إِذْ ذَاك بِمَا عَرفته من أَبنَاء الزَّمَان فجمعنا فِي رَملَة إِلَى الْآن أتخيل حرهَا وتبرأ من كل مَا يُقَال وَمَا زلت على الْمَنْع إِلَى أَن جَاءَت كراريس من قبل أبي محلي فتأملتها فَوَجَدتهَا مُشْتَمِلَة على كفريات فِي جزئيات فيحنئذ شرح الله صَدْرِي لإباحة دفاعه
ثمَّ وَإِن قلت ذَلِك فنفسي آمرة وَلَا أَقُول فِي نَفسِي مَا كَانَ يَقُوله سَحْنُون فِي قَضِيَّة ابْن أبي الْجواد مَالِي وَله الشَّرْع قَتله وَلَو قلت أَو غششت لغششت فِي قَضِيَّة ذَلِك الرجل وزينت لَك قِتَاله أَولا لِأَن ذَلِك هُوَ مُقْتَضى التعصب للأمير وَإِذا لم أتعصب إِذْ ذَاك فَكيف أستسهله الْآن فَتعين(6/64)
أَنِّي نصحت لكم أَن قبلتم وَإِلَّا فَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَن نَبِي من أنبيائه {وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} الْأَعْرَاف 79 أنْشدك الله الَّذِي بِإِذْنِهِ تقوم السَّمَاوَات وَالْأَرْض أما قلت لَك بعد رجوعي الْعَام الأول من مراكش بل الَّذِي قبله إِن الْعذر لَا يحسن وصرحت ولوحت بِأَن شقّ الْعَصَا لَا يحل غيرَة مرّة وَمَا كفاني القَوْل الدَّال على ذَلِك إِلَى أَن زِدْت الْفِعْل بِالْخرُوجِ من مَدِينَة لَا أبغضها كَمَا قَالَ
(فوَاللَّه مَا فارقتها عَن قلي لَهَا ... وَإِنِّي بشطي جانبيها لعارف)
ورضيت بالبادية مَعَ جفائها فِرَارًا من الْفِتَن وَعَملا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يُوشك أَن يكون خير مَال الرجل غنما يتبع بِهِ سعف الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن) ثمَّ بعد فعلى هَذَا كُله نصحت فَلم أَفْلح وخانوا فأفلحوا وعدوا عَليّ من القبائح طَاعَتي للأئمة مَعَ أَنَّك يَوْم جَاءَ إِلَى دَارك قلت لَهُم هَذَا أميركم وَنحن لَا نشك أَنَّك من المعتبرين فِي مغربنا وَأَن بيعتك لأحد لَازِمَة لنا وَكَذَلِكَ حِين ذهبت إِلَى مراكش فِي وقْعَة أبي محلي قد أَرَادَ أهل مراكش فأبيت وأبحت الْبِلَاد لخدم الْأَمِير وَقلت لَهُم إِنَّه الْأَمِير وفهمه النَّاس عَنْك بِلِسَان الْحَال وبلسان الْمقَال ونصروه بمرأى مِنْك ومسمع أفتشك بعد أَن كَانَ مِنْك هَذَا أَنَّك مبايع وَأَنت قدوة وَإِذا كَانَ هَذَا فَأَي حجَّة لَك على الْأَمِير وَلَا على المأمورين فَمن زين لَك قِتَاله فقد غشك إِذْ هُوَ مُسلم وَابْن مُسلمين
فَإِن قلت موافقتي مَشْرُوطَة بِشُرُوط لم يوف لي بهَا قلت هَب أَنه لم يوف لَك أفتستبيح قِتَاله لأجل ذَلِك وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار) الحَدِيث فبالله أَيهَا الشَّيْخ مَا تَقول فِي هَذَا الحَدِيث وأنظاره وَمَا تَقول فِيمَا انتهب أَو عَسى أَن ينتهب من أَمْوَال النَّاس وَأخذ بِغَيْر حق وَأنْفق فِي سَبِيل الطاغوت وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس) أَو مَا تَسْتَحي من رَبك يَوْم تسْأَل عَن النقير والقطمير وَلست مِمَّن خَفِي عَلَيْهِ ذَلِك كُله فَتعذر عِنْد(6/65)
المخلوقين أَو مَا علمت أَن كثيرا من الْعَوام يعْتَقد جَوَاز ذَلِك إِذْ رآك ارتكبته فَتكون قد سننت هَذِه السّنة وضل بِسَبَب ذَلِك كثير من النَّاس أَو مَا خشيت دَعْوَة الْمَظْلُوم الَّتِي مَا بَينهَا وَبَين الله حجاب أَو مَا كنت تعير من يرتكب مثل ذَلِك من الْوُلَاة وتتأسف عَلَيْهِ (لَا تعير أَخَاك الْمُؤمن) الحَدِيث
(لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم)
أما انْتَبَهت لما وَقع لأهل درعة من النهب وَالسَّلب واسترقاق الْأَحْرَار وهتك الْحرم (إِن دماءكم وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام) الحَدِيث وَقد أَتَانَا السُّؤَال من قبل الشَّيْخ عَن صَنِيع سكتانة ذَلِك وَلم يسْتَطع إِذْ ذَاك من نظر بِنور الْعلم أَن يَقُول لَهُم فِي وزر نظرا إِلَى مَا آل إِلَيْهِ الْحَال فِي أهل درعة مَعَ أَن جلهم حَملَة الْقُرْآن وعامتهم بله (وَأكْثر أهل الْجنَّة البله) أفيليق بِحَق الصلحاء أَن يُسَلط عَلَيْهِم من لَا يرحمهم (وَلَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من قلب شقي) (إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء) (من لَا يرحم لَا يرحم) (ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء) أَو نسيت أَنه يقْتَصّ للجماء من القرناء وَأَن الظُّلم الَّذِي لَا يتْركهُ الله ظلم النَّاس بَعضهم لبَعض أَفِي علمك أَن حَسَنَاتك تفي بِمَا عَلَيْك من التَّبعَات أَو أَنه لَا تباعة لأحد عَلَيْك وَلَو كنت بَدْرِيًّا لاحتمل أَن يُقَال فِي شَأْنك مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر (وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر) فَقَالَ (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم) أَو كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَالظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة) أَو تَسْتَطِيع أَن تقتحم ظلمات الصِّرَاط وَأَنت مسؤول عَن القيراط وَحَتَّى أهل تارودانت بلغنَا أَنه لم يغن فِي شَأْنهمْ الترويع بل بلغ بهم الْحَال والجور إِلَى التقريع فَاتق الله أَيهَا الشَّيْخ وَلَا تكن كمن إِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم هَذَا مَا يتَعَلَّق بِبَعْض حُقُوق النَّاس على الْعُمُوم وَيتَعَلَّق بِحَق كَاتبه على الْخُصُوص إِنَّك أخذت عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي الطَّاعَة للأمير ويرعى مَا هُوَ من شيم الْمُؤمنِينَ من حسن الْعَهْد والتبري من الْغدر وشق الْعَصَا بعد أَن بذل وَسعه فِي نصحك ونصح الْأَمِير وحاول بكليته على جمع الْكَلِمَة وتعب فِي ذَلِك(6/66)
واقتحم فِيهِ عقبات لَا يقطعهَا إِلَّا بازل وَلَا سَبِيل إِلَيْهَا لمن يكون فِي دينه وَعَمله مثلي مِمَّن هُوَ نَازل
(لعمر أَبِيك مَا نسب الْمُعَلَّى ... إِلَى كرم وَفِي الدُّنْيَا كريم)
(وَلَكِن الْبِلَاد إِذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعى الهشيم)
(إِذا غَابَ ملاح السَّفِينَة فارتمت ... بهَا الرّيح هوجا دبرتها الضفادع)
وَلَكِن لَيْسَ من شَرط النَّصِيحَة كَمَال الناصح كَمَا أَنه لَيْسَ من شَرط تَغْيِير الْمُنكر عدم ارْتِكَاب المغير مَا غير لِأَن هَذِه طَاعَة وَتلك أُخْرَى والتوفيق بيد الله سُبْحَانَهُ نعم بَلغنِي مَعَ ذَلِك وَجزم لي بِهِ أَنَّك مَعَ بذل النصح لَك وللأمير أصلح الله الْجَمِيع وَأصْلح ذَات بَينهم أخذت عَليّ بالرصد فِي قفولي لصبيتي وَالرُّجُوع إِلَيْهِم رِعَايَة لما يجب وَينْدب من حُقُوقهم وَهل هَذَا إِلَّا حكم الْهوى والشيطان أعندك مَا تستبيح بِهِ ذَلِك مَعَ أَنِّي وَالْحَمْد لله أَيْنَمَا كنت لَا أسعى إِلَّا فِي مصلحَة جهد الِاسْتِطَاعَة أَو بَث نصيحة حِين لَا أرى من يبثها أَو إغاثة ملهوف حِين تجب إغاثته {لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني} المائده 28 الْآيَة وَلَكِن الله عز وَجل يَقُول {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله} فاطر 43 وَفِي التَّوْرَاة من حفر حُفْرَة فليوسعها وَلَا تحفرن بِئْرا تُرِيدُ بهَا أَخا فَأَيْنَ وجدت مَا يسوغ لَك ارْتِكَاب مثل هَذَا قولا أَو فعل أَو إِشَارَة أَو تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا وَأي جريمة توازي هَذِه الجريمة أَو كَبِيرَة من الآثام أكبر مِنْهَا وَالله الْموعد {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} الشُّعَرَاء 227 هَذَا والسعاية المصحوبة بسؤالي عَن دفاع سكتانه أَيْن تَجِدُونَ مَا يُوجب إباحتها أَيْن غَابَ عَنْكُم إِنَّهَا من الْكَبَائِر وَأَيْنَ غَابَ عَنْكُم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الرجل ليَتَكَلَّم بِكَلِمَة يهوي بهَا فِي النَّار سبعين خَرِيفًا) أَهَذا من أَخْلَاق الْمُؤمنِينَ وَالصَّالِحِينَ وَأَنت من بَيت الصّلاح مَا كَانَ جدك يرضى مثل هَذَا {مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء} مَرْيَم 28 وَهَذَا وَالله أعلم نتيجة قرناء السوء وَلَا تصْحَب من لَا ينهضك حَاله وَلَا يدلك على الله مقاله وَإِلَى هَذَا يَنْتَهِي حق الصُّحْبَة أَعنِي بذل النصح إِن الله يسْأَل عَن صُحْبَة سَاعَة(6/67)
وَنحن صحبناك واعتقدناك ونصحناك ووعظناك (انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما) فَنَصَرْنَاك بِالرَّدِّ إِلَى الجادة أَيْن أَنْت من مَوْلَانَا الْحسن بن عَليّ إِذْ تخلى عَن الْأَمر لِابْنِ عَمه مُعَاوِيَة مَعَ أَنه هاشمي علوي فاطمي إِحْدَى ريحانتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُعَاوِيَة أموي يجمعهما عبد منَاف فتخلى عَن الْإِمَارَة مَعَ أَنه إِمَام وَابْن إِمَام وَأصْلح الله بِهِ وَهُوَ سيد بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين بعد أَن كَانَ يلقب بأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه إِذْ سلم عَلَيْهِ يَا عَار الْمُؤمنِينَ فَلم يكترث بذلك وَقَالَ النَّار أَشد من الْعَار ألهمنا الله وَإِيَّاكُم رشد أَنْفُسنَا وَجَعَلنَا وَإِيَّاكُم من الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه انْتهى
وَلم يزل الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء مصمما على طلب جمع الْكَلِمَة إِلَى أَن اخترمته الْمنية قَالَ صَاحب الْفَوَائِد مَا صورته قَامَ الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء بِجمع الْكَلِمَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْأمة وَاسْتمرّ بِهِ علاج ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَلم يتم لَهُ أَمر انْتهى وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس سادس جُمَادَى الثَّانِيَة من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف بقصبة تارودانت وَحمل من الْغَد إِلَى رِبَاط وَالِده فَدفن بجنبه رَحمَه الله(6/68)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان زَيْدَانَ وَذكر وَفَاته رَحمَه الله
قد ذكر المؤرخ لويز البرتغالي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة شَيْئا من أَخْبَار السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله فَقَالَ كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ صَاحب مراكش مسالما لنا كافا عَن حربنا وَكَانَت الْقَبَائِل تفتات عَلَيْهِ فِي غزونا فَكَانَت غاراتهم لَا تَنْقَطِع عَنَّا وَكَانَ هُوَ أَيْضا مَعَهم فِي شدَّة ومكابدة من أجل اعوجاجهم عَلَيْهِ ثمَّ ذكر أَن من جملَة من غزاهم فِي دولته السَّيِّد سعيد الدكالي قلت وَأَظنهُ وَالِد السَّيِّد إِسْمَاعِيل صَاحب الزاوية الْمَشْهُورَة بِبِلَاد دكالة قَالَ فَنَهَضَ سعيد بِحَال وغيرة وامتعاض لِلْإِسْلَامِ وَسَار إِلَى الْجَبَل الْأَخْضَر وَغَيره فَجمع الجموع نَحْو اثْنَي عشر ألفا وزحف بهم إِلَى الجديدة وَوَافَقَهُ على ذَلِك قَائِد آزمور وَبَعض أَشْيَاخ الشاوية وَكَانُوا فِي نَحْو مِائَتَيْنِ وَخمسين من الْخَيل وارتاع النَّصَارَى مِنْهُم وخافوا خوفًا شَدِيدا وَأمرهمْ قائدهم بالجد فِي حراسة الأسوار والأنقاب وَأَن يسدوا بَاب الجديدة وَلَا يفتحوا مِنْهُ إِلَّا خوخته وحاصرهم الْمُسلمُونَ ثَلَاثًا ثمَّ قضى الله بوفاة السَّيِّد سعيد فافترق ذَلِك الْجمع قَالَ لويز مَاتَ أسفا على مَا فَاتَهُ من الفتك بالنصارى كَمَا يحب
وَفِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف خرج السُّلْطَان زَيْدَانَ من مراكش وَقصد نَاحيَة آزمور وَلما انْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِأم كرس من بِلَاد دكالة حمل إِلَيْهِ نَصَارَى الجديدة هَدِيَّة نفيسة ثمَّ قدم ثغر آزمور فِي نَحْو أَرْبَعِينَ ألفا من الْخَيل على مَا زعم لويز وَدخل الْبَلَد وَأخرج أهل آزمور عدَّة مدافع من البارود فَرحا بِهِ وَلما سمع نَصَارَى الجديدة بذلك أخرجُوا مدافعهم أَيْضا فَرحا بالسلطان وأدبا مَعَه(6/69)
وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف ثار على السُّلْطَان زَيْدَانَ الْفَقِير إِبْرَاهِيم كانوت هَكَذَا سَمَّاهُ لويز وَلم أدر من هُوَ قَالَ وَفِي خَامِس عشر من دجنبر من السّنة تواقف جَيش الثائر الْمَذْكُور مَعَ جَيش السُّلْطَان للحرب بِبِلَاد دكالة وَكَانَ جَيش السُّلْطَان يَوْمئِذٍ ألفا وَخَمْسمِائة فَقَط وَجعل على مقدمته ابْنه عبد الْملك فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم وَقتل وَقتل جمَاعَة كَثِيرَة من أَصْحَابه وَقبض على وَلَده فَبَعثه السُّلْطَان مَعَ عدد وافر من رُؤُوس أَصْحَابه إِلَى مراكش وَأخرج نَصَارَى الجديدة المدافع أَيْضا فَرحا بِهَذَا الْخَبَر فَبعث إِلَيْهِم السُّلْطَان زَيْدَانَ بفرس أَحْمَر لقائدهم إِكْرَاما لَهُ وَكتب إِلَيْهِم بِكِتَاب تَارِيخه سادس رَمَضَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف مُكَافَأَة لَهُم على أدبهم مَعَه انْتهى كَلَام لويز وَقَالَ اليفرني رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ من لدن مَاتَ أَبوهُ الْمَنْصُور وبويع هُوَ بفاس فِي محاربة مَعَ إخْوَته وَأَبْنَائِهِمْ ومقاتلة مَعَ القائمين عَلَيْهِ من الثوار الَّذين تقدم ذكر بَعضهم وَلم يخل قطّ فِي سنة من سني دولته من هزيمَة عَلَيْهِ أَو وقيعة بِأَصْحَابِهِ وَوَقعت بَينه وَبَين إخْوَته معارك يشيب لَهَا الْوَلِيد وَكَانَ ذَلِك سَبَب خلاء الْمغرب وخصوصا مَدِينَة مراكش وَمِمَّا عد عَن نحس زَيْدَانَ وَاسْتدلَّ بِهِ على فشل رِيحه أَنه فِي بعض الوقائع بعث كَاتبه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد التغلبي بِعشْرَة قناطير من الذَّهَب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَطلب مِنْهُ أَن يمده بِبَعْض أجناده كَمَا فعل مَعَ عَمه عبد الْملك الْغَازِي فَجهز لَهُ السُّلْطَان العثماني اثْنَي عشر ألفا من جَيش التّرْك وركبوا الْبَحْر فَلَمَّا توسطوه غرقوا جَمِيعًا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا غراب وَاحِد فِيهِ شرذمة قَليلَة
وَقَالَ منويل إِن قراصين الإصبنيول غنمت فِي بعض الْأَيَّام مركبا للسُّلْطَان زَيْدَانَ فِيهِ أثاث نفيسة من جُمْلَتهَا ثَلَاثَة آلَاف سفر من كتب الدّين وَالْأَدب والفلسفة وَغير ذَلِك
قَالَ اليفرني وَكَانَ زَيْدَانَ غير مُتَوَقف فِي الدِّمَاء وَلَا مبال بالعظائم قلت وَهُوَ مُخَالف لما ذكره زَيْدَانَ فِي رسَالَته الَّتِي خَاطب بهَا أَبَا زَكَرِيَّاء(6/70)
الْمُتَقَدّمَة من أَنه مَا سعى فِي قتل أحد إِلَّا بفتوى أهل الْعلم وَالظَّن بزيدان أَنه مَا قَالَ ذَلِك إِلَّا عَن صدق وَإِلَّا فَمن الْبعيد أَن يفخر على خَصمه ويدلي بِشَيْء هُوَ متصف بضده
وَكَانَ زَيْدَانَ فَقِيها مشاركا متضلعا فِي الْعُلُوم وَله تَفْسِير على الْقُرْآن الْعَظِيم اعْتمد فِيهِ على ابْن عَطِيَّة والزمخشري
قَالَ اليفرني وَكَانَ كثير المراء والجدال كَمَا وَقع لَهُ مَعَ الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الصومعي قلت الَّذِي وَقع لَهُ مَعَ الصومعي هُوَ أَنه لما ألف كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ وَسَماهُ المعزى بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي بِصِيغَة اسْم الْمَفْعُول من الرباعي عَارضه زَيْدَانَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتادلا واليا عَلَيْهَا من قبل أَبِيه بِأَنَّهُ لم يسمع الرباعي من هَذِه الْمَادَّة وَإِنَّمَا قَالَت الْعَرَب عزاهُ يعزوه ثلاثيا فأصر أَبُو الْعَبَّاس رَحمَه الله على رَأْيه إِلَى أَن لطمه زَيْدَانَ على وَجهه بالنعل فَشَكَاهُ إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ لَو لطمك وَهُوَ الْمُخطئ لعاقبته أما إِذا كَانَ الصَّوَاب مَعَه فَلَا
قلت كَانَ زَيْدَانَ يَوْمئِذٍ فِي عنفوان الشبيبة فصدر مِنْهُ مَا صدر
(فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا ... فَإِن منظمة الْجَهْل الشَّبَاب)
وَمَعَ ذَلِك فَمَا كَانَ من حَقه أَن يفعل وأظن أَن انتكاس رايته سَائِر أَيَّامه إِنَّمَا هُوَ أثر من آثَار تِلْكَ اللَّطْمَة فَإِن لله تَعَالَى غيرَة على المنتسبين إِلَى جنابه الْعَظِيم وَإِن كَانُوا مقصرين فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يجنبنا موارد الشَّقَاء ويسلك بِنَا مسالك الرِّفْق فِي الْقَضَاء وللسلطان زَيْدَانَ شعر لَا بَأْس بِهِ مِنْهُ قَوْله
(فتنتنا سوالف وخدود ... وعيون مدعجات رقود)
(ووجوه تبَارك الله فِيهَا ... وشعور على المناكب سود)
(أهلكتنا الملاح وَهِي ظباء ... وخضعنا لَهَا وَنحن أسود)
وَقَوله
(مَرَرْت بِقَبْر هامد وسط رَوْضَة ... عَلَيْهِ من النوار مثل النمارق)(6/71)
(فَقلت لمن هَذَا فَقَالُوا بذلة ... ترحم عَلَيْهِ إِنَّه قبر عاشق)
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي الْمحرم فاتح سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بِجَانِب قبر أَبِيه من قُبُور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره قَول الْقَائِل
(هَذَا ضريح من بِهِ ... تفتخر المفاخر)
(حامي حمى الدّين ... بِكُل ذابل وباتر)
(لَا زَالَ صوب رَحْمَة ... الله عَلَيْهِ ماطر)
(أرخ وَفَاة من غَدا ... جارا لرب غَافِر)
(زَيْدَانَ سبط أَحْمد ... مبتكر المآثر)
(أجل من خَاضَ الوغا ... وللأعادي قاهر)
(وَمن شذا رضوانه ... نفحة كل عاطر)
(بمقعد الصدْق علا ... أَبُو الْمَعَالِي النَّاصِر)
ووزراؤه الباشا مَحْمُود وَيحيى آجانا الوريكي وَغَيرهمَا وَكتابه عبد الْعَزِيز الفشتالي كَاتب أَبِيه وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد التغلبي وَغَيرهمَا وقضاته أَبُو عبد الله الرجراجي وَغَيره وَترك عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم عبد الْملك والوليد وَمُحَمّد الشَّيْخ وَهَؤُلَاء ولوا الْأَمر بعده وَأحمد وَغَيرهم رحم الله الْجَمِيع
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ رَحمَه الله
لما توفّي السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ بعده ابْنه عبد الْملك وَلما تمت لَهُ الْبيعَة ثار عَلَيْهِ أَخَوَاهُ الْوَلِيد وَأحمد فَوَقَعت بَينه وَبَينهمَا معارك وحروب إِلَى أَن هزمهما وَاسْتولى على مَا كَانَ بيدهما من الْعدة والذخيرة وفر أَحْمد إِلَى بِلَاد الغرب فَدخل حَضْرَة فاس يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من صفر بعد وَفَاة أَبِيه بِسِتَّة وَأَرْبَعين يَوْمًا فاتسم بسمة(6/72)
السُّلْطَان وَضرب سكته وَفِي ثَالِث عشر شَوَّال من السّنة عدا على ابْن عَمه مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة فَقتله غدرا بالقصبة وَلما كَانَ الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف أَخذ أَحْمد الْمَذْكُور وسجن بفاس الْجَدِيد على يَد قائدهم عبو وباها وَبَقِي مسجونا سبع سِنِين ثمَّ خرج من السجْن مستخفيا بَين نسَاء فِي سَابِع رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وأعلن الْعَامَّة بنصره وَلم يتم لَهُ أَمر ثمَّ توفّي قَتِيلا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف رمي برصاصة من بعض الْعَامَّة فَكَانَ مِنْهَا حتفه وَذَلِكَ بفاس الْجَدِيد وَلم يتم لَهُ أَمر
ظُهُور أبي عبد الله العياشي بسلا ومبايعة أكَابِر عصره لَهُ على الْجِهَاد وَالْقِيَام بِالْحَقِّ
قد تقدم لنا انْتِقَاض أندلس سلا على السُّلْطَان زَيْدَانَ وقتلهم مَوْلَاهُ عجيبا فَبَقيت سلا فوضى لَا وَالِي بهَا فَكثر النهب وامتدت أَيدي اللُّصُوص إِلَى المَال والحريم وسيدي مُحَمَّد العياشي سَاكِت لَا يتَكَلَّم وَكَثُرت الشكايات من التُّجَّار والمسافرين بمخافة السبل وَقطع الطرقات فأهرع النَّاس إِلَى أبي عبد الله الْمَذْكُور من كل جَانب وَكَثُرت وفوده وأشرقت فِي الجو السلاوي أنواره فشمر عَن ساعد الْجد وَأظْهر الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
وَلما طَالبه النَّاس بالتقدم عَلَيْهِم وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين وَأُمُور جهادهم مَعَ عدوهم أَمر أَشْيَاخ الْقَبَائِل وأعيانها من عرب وبربر ورؤساء الْأَمْصَار أَن يضعوا خطوطهم فِي ظهير بِأَنَّهُم رضوه وقدموه على أنفسهم والتزموا طَاعَته وَأَن أَي قَبيلَة خرجت عَن أمره كَانُوا مَعَه يدا وَاحِدَة على مقاتلتها حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فأعطوا بذلك خطوطهم فِي ظهير وَأَنَّهُمْ رضوه وقدموه على أنفسهم وَوَافَقَ على ذَلِك قُضَاة الْوَقْت وفقهاؤه من تامسنا إِلَى تازا(6/73)
وَكَانَ الْحَامِل لَهُ على طلب ذَلِك مِنْهُم أَنه بلغه عَن بعض طلبة الْوَقْت أَنه قَالَ لَا يحل الْجِهَاد إِلَّا مَعَ الْأَمِير فَفعل ذَلِك خُرُوجًا من تِلْكَ الدَّعْوَى الْوَاهِيَة وَإِلَّا فقد كتب لَهُ عُلَمَاء الْوَقْت كَالْإِمَامِ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر وَالْإِمَام أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الكلالي بِضَم الْكَاف المعقودة وَالْإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي وَغَيرهم بِأَن مقاتلة الْعَدو الْكَافِر لَا تتَوَقَّف على وجود السُّلْطَان وَإِنَّمَا جمَاعَة الْمُسلمين تقوم مقَامه وَلما كمل أمره وَبَايَعَهُ النَّاس على إعلاء كلمة الله ورد الظُّلم عَن ضعفاء الْأمة ضَاقَ الْأَمر على عرب الْمغرب لاعتيادهم الْفساد وَعدم الْوَازِع ومحبتهم الْخلاف والفتنة فنكث بيعَته جمَاعَة مِنْهُم
وَكَانَ من نكث النَّاصِر بن الزبير فِي لمة من شراقة فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله حَتَّى ظفر بهم ثمَّ عَفا عَنْهُم ونكث أَيْضا الطاغي بِالتَّاءِ بدل الطَّاء فِي لسانهم مَعَ جموعه أَوْلَاد سجير فَغَلَبَهُمْ وَعَفا عَنْهُم وَكَذَلِكَ عرب الحياينة طغوا على أهل فاس وعاثوا خلال تِلْكَ الْبِلَاد بإغراء ولد السُّلْطَان زَيْدَانَ فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِم وَتَابَ على يَده جمَاعَة من رُؤَسَاء شراقة الَّذين كَانُوا مَعَ الحياينة وَكَانَت عَاقِبَة كل من بغى عَلَيْهِ خسرا
وَكَانَ أهل سلا قد لقوا من نَصَارَى المعمورة مضرَّة وَشدَّة فَلَمَّا اجْتمعت الْكَلِمَة على أبي عبد الله العياشي ورد الله كيد من نكث فِي نَحره كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَنه تهَيَّأ لِلْخُرُوجِ إِلَى حلق المعمورة واستعد لقتاله ومنازلة من فِيهِ من النَّصَارَى طَمَعا فِي فَتحه فيتقوى الْمُسلمُونَ بذخائره وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد حاصروه قبل ذَلِك فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وصعب عَلَيْهِم أمره وَكَانَ أَبُو عبد الله إِذا أَرَادَ الله أَن يظفره بغنيمة رأى فِي مَنَامه أَنه يَسُوق خنازير أَو نَحْوهَا وَلما سَار بجموعه إِلَى الْحلق وَنزل عَلَيْهِ رأى قطعتين من(6/74)
الْخَنَازِير مَعهَا عنوز فَكَانَ من قَضَاء الله وصنعه أَنه فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة قدمت أغربة من سفن النَّصَارَى بِقصد الدُّخُول إِلَى الْحلق فضيق عَلَيْهِم رُمَاة الْمُسلمين الَّذين بالخندق فأرادوا أَن ينحرفوا إِلَى الْبَحْر فردهم الْبَحْر إِلَى سَاحل الرمل هُنَالك فَتمكن الْمُسلمُونَ مِنْهُم وَقتلُوا وَسبوا ووجدوا فِي الأغربة زهاء ثَلَاثمِائَة أَسِير من الْمُسلمين فَأعْتقهُمْ الله وَأسر يَوْمئِذٍ من النَّصَارَى أَكثر من ثَلَاثمِائَة وَقتل مِنْهُم أَكثر من مِائَتَيْنِ وظفر الْمُسلمُونَ بقبطان من عظمائهم ففدى بِهِ الرئيس طابق رَئِيس أهل الجزائر وَكَانَ عِنْدهم مَحْبُوسًا فِي قفص من حَدِيد
واستقامت الْأُمُور لأبي عبد الله العياشي بسلا وَبنى دَاره دَاخل بَاب الْمُعَلقَة مِنْهَا وَبنى برجين على سَاحل مرسي العدوتين من نَاحيَة سلا وهما المعروفان الْيَوْم بالبساتين
ثمَّ كَانَت غَزْوَة الْحلق الْكُبْرَى وَكَانَ من خَبَرهَا أَن جَيش أهل فاس خَرجُوا بِقصد الْجِهَاد فنزلوا بِموضع يعرف بِعَين السَّبع وكمنوا فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع خرج النَّصَارَى إِلَى تِلْكَ الْجِهَات على غرَّة فظفر بهم الْمُسلمُونَ وَكَانَ النَّصَارَى لما خرج جَيش أهل فاس أعلمهم بذلك مُسلم عِنْدهم مُرْتَد فَأَعْطوهُ سلعا وَجَاء بهَا إِلَى سلا بِقصد بيعهَا والتجسس لَهُم على الْخَبَر فَأخذ وَقتل وعميت عَلَيْهِم الأنباء إِذْ كَانُوا ينتظرون من يرد عَلَيْهِم فيخبرهم وَلما أَبْطَأَ عَلَيْهِم خَرجُوا فَلم يشعروا إِلَّا بِالْخَيْلِ قد أحاطت بهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الستمائة وَلم ينج إِلَّا الْقَلِيل حَتَّى لم يبت فِي الْحلق تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا مِنْهُم وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم أَرْبَعمِائَة من الْعدة وَلم يحضر أَبُو عبد الله العياشي فِي هَذِه الْوَقْعَة لِأَنَّهُ كَانَ قد ذهب إِلَى طنجة حنقا على يَوْم المسامير لِأَن النَّصَارَى خذلهم الله كَانُوا قد صَنَعُوا نوعا من المسمار بِثَلَاثَة رُؤُوس تنزل على الأَرْض وَالرَّابِع يبْقى مَرْفُوعا وَثبُوا ذَلِك فِي مجالات الْقِتَال مكيدة عَظِيمَة تتضرر مِنْهَا الفرسان والرجالة فَلَمَّا رَجَعَ وَأعلم بِضعْف من بَقِي بِالْحلقِ بعث إِلَى أهل الأندلس بسلا يصنعون لَهُ السلالم كي يصعد بهَا إِلَى من بَقِي فِي الْحلق فيستأصلهم فتثاقلوا عَن صنعها غشا(6/75)
لِلْإِسْلَامِ ومناواة لأبي عبد الله حَتَّى جَاءَ المدد لأهل الْحلق وَكَانَت تِلْكَ الرابطة بَين أهل الأندلس وَالنَّصَارَى متوارثة من لدن كَانُوا بأرضهم فَكَانُوا آنس بهم من أهل الْمغرب فَلَمَّا أَتَى أَبُو عبد الله بالسلالم لم تغن بعد شَيْئا وَمن هُنَالك استحكمت الْبغضَاء بَينه وَبَين أهل الأندلس وَكَانَ أهل الأندلس قد أعلمُوا النَّصَارَى بِأَن محلّة أبي عبد الله النَّازِلَة لمحاصرة الْحلق لَيست لَهَا إِقَامَة فَبلغ ذَلِك أَبَا عبد الله فَأَقَامَ عَلَيْهِم الْحجَّة وشاور الْعلمَاء فِي قِتَالهمْ فَأفْتى أَبُو عبد الله الْعَرَبِيّ الفاسي وَغَيره بِجَوَاز مُقَاتلَتهمْ لأَنهم حادوا الله وَرَسُوله ووالوا الْكفَّار ونصحوهم وَلِأَنَّهُم تصرفوا فِي مَال الْمُسلمين ومنعوهم من الرَّاتِب وَقَطعُوا البيع وَالشِّرَاء عَن النَّاس وخصوا بِهِ أنفسهم وصادقوا النَّصَارَى وأمدوهم بِالطَّعَامِ وَالسِّلَاح وَكَانَ سَيِّدي عبد الْوَاحِد بن عَاشر لم يجب عَن هَذِه الْقَضِيَّة حَتَّى رأى بِعَيْنِه حِين قدم إِلَى سلا بِقصد المرابطة فَرَأى أهل الأندلس يحملون الطَّعَام إِلَى النَّصَارَى ويعلمونهم بِعَوْرَة الْمُسلمين فَأفْتى حِينَئِذٍ بِجَوَاز مُقَاتلَتهمْ فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله وَحكم السَّيْف فِي رِقَاب هم أَيَّامًا إِلَى أَن أخمد بدعتهم وَجمع الْكَلِمَة بهم
وَلما وَقعت غَزْوَة الْحلق الْكُبْرَى قدمت الْوُفُود على أبي عبد الله بِقصد التهنئة بِمَا منحه الله من الظفر فحض النَّاس على استئصال شافة من بَقِي بِالْحلقِ من النَّصَارَى وعير الْعَرَب بترك الْكفَّار فِي بِلَادهمْ وَكَانَ مِمَّن حضر من الْعَرَب جمَاعَة من الْخَلْط وَبني مَالك والتاغي والدخيسي وَغَيرهم فَقَالَ لَهُم أَبُو عبد الله وَالله وَالله وَالله إِن لم تأخذكم النَّصَارَى لتأخذنكم البربر فَقَالُوا يَا سَيِّدي كَيفَ يكون هَذَا وَأَنت فِينَا فَقَالَ لَهُم اسْكُتُوا أَنْتُم الَّذين تقطعون رَأْسِي فَكَانَ كَذَلِك وَهَذَا من كراماته رَضِي الله عَنهُ ثمَّ صرف عزمه إِلَى التَّضْيِيق على نَصَارَى العرائش وَشن الغارات عَلَيْهِم فَتقدم فِي جمع من الْمُسلمين وَكَمن بِالْغَابَةِ نَحوا من سَبْعَة أَيَّام فَخَرجُوا على حِين غَفلَة فمكن الله من رقابهم وَكَانَ فِي مُدَّة كمونه بِالْغَابَةِ أَخذ حناشا من عرب طليق يُقَال لَهُ ابْن عبود والحناش فِي لِسَان عَامَّة أهل الْمغرب هُوَ الجاسوس فَأَرَادَ عبد الله قَتله فَقَالَ لَهُ اسبقني وَأَنا تائب إِلَى الله وَأَنا أَنْفَع الْمُسلمين(6/76)
إِن شَاءَ الله فَتَركه فَذهب إِلَى النَّصَارَى وَكَانَ موثوقا بِهِ عِنْدهم حَتَّى كَانُوا يؤدون إِلَيْهِ الرَّاتِب فَقَالَ لَهُم إِن أَحيَاء الْعَرَب وحللها قد نزلُوا بوادي العرائش فَلَو أَغَرْتُم عَلَيْهِم لغنمتموهم فَخَرجُوا فمكن الله مِنْهُم وطحنهم الْمُسلمُونَ فِي سَاعَة وَاحِدَة طحت الحصيد وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الشريد وَكَانَ ابْن عبود قد بَقِي بِأَيْدِيهِم فَأَخَذُوهُ ومثلوا بِهِ ونزعوا أَسْنَانه وَأَرَادُوا قَتله لَوْلَا أَنه رفعهم إِلَى شرعهم وَكَانَ عدد من قتل من النَّصَارَى نَحْو ألف وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة سنة أَرْبَعِينَ وَألف
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ ووفاته
قَالَ اليفرني كَانَ عبد الْملك بن زَيْدَانَ فَاسد السِّيرَة مطموس البصيرة وَبلغ من قلَّة ديانته أَنه تزايد لَهُ مَوْلُود فأظهر أَنه أَرَادَ أَن يحتفل لسابعه فَبعث إِلَى نسَاء أَعْيَان مراكش وَنسَاء خُدَّامه أَن يحضرن وَصعد هُوَ إِلَى مَنَارَة فِي دَاره فَنظر إِلَى النِّسَاء وَهن منتشرات قد وضعن ثيابهن فأيتهن أَعْجَبته بعث إِلَيْهَا وَكَانَ مدمنا على شرب الْخمر إِلَى أَن قَتله العلوج بمراكش وَهُوَ سَكرَان يَوْم الْأَحَد سادس عشر شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَدفن إِلَى جَانب قبر أَبِيه
وَبسط منويل خبر مَقْتَله فَقَالَ لما ثار الْوَلِيد على أَخِيه عبد الْملك وعادت الكرة عَلَيْهِ بَقِي متنقلا فِي الْبِلَاد ثمَّ رغب إِلَى أَخِيه حَتَّى رده إِلَى مراكش فَأخذ الْوَلِيد يستميل رُؤَسَاء الدولة ووجوهها وتجارها ويعدهم بِالْإِحْسَانِ حَتَّى وافقوه على الفتك بأَخيه فترصدوه حَتَّى غفل البوابون ودخلوا عَلَيْهِ قُبَّته وَهُوَ متكئ على طنفسة فَرَمَوْهُ برصاصة وتناولوه بالخناجر الْمُسَمَّاة عِنْد المغاربة بالكميات وَقَامَت الهيعة بالمشور والقصبة فخاف الْوَلِيد على نَفسه من بعض قواد الْجند فَأخْرج جَنَازَة أَخِيه إِلَى المشور حَتَّى شَاهده النَّاس مَيتا فسكنوا وَانْقطع أملهم وَبَايَعُوهُ انْتهى قَالَ اليفرني وَمِمَّا رَأَيْته مَنْقُوشًا على رخامة قَبره هَذَانِ البيتان(6/77)
(لَا تقنطن فَإِن الله منان ... وَعِنْده للورى عَفْو وغفران)
(إِن كَانَ عنْدك إهمال ومعصية ... فَعِنْدَ رَبك أفضال وإحسان)
وَمن وزرائه مُحَمَّد باشا العلج وَيحيى آجانا الوريكي وجؤذر وَغَيرهم وقاضيه الْفَقِيه أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني قَاضِي مراكش ومفتيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السملالي رحم الله الْجَمِيع
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي يزِيد الْوَلِيد بن زَيْدَانَ رَحمَه الله
لما قتل السُّلْطَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ أَخُوهُ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ فَلم يزل مُقْتَصرا على مَا كَانَ لِأَخِيهِ وَأَبِيهِ من قبله لم يُجَاوز سُلْطَانه مراكش وأعمالها وعظمت الْفِتَن بفاس حَتَّى عطلت الْجُمُعَة والتراويح من جَامع الْقرَوِيين مُدَّة وَلم يصل بِهِ لَيْلَة الْقدر إِلَّا رجل وَاحِد من شدَّة الهول والحروب الَّتِي كَانَت بَين أهل الْمَدِينَة
واقتسم الْمغرب فِي أَيَّام أَوْلَاد زَيْدَانَ طوائف فَكَانَ حَاله كَحال الأندلس أَيَّام طوائفها كَمَا ذكرنَا وَنَذْكُر بعد إِن شَاءَ الله
ظُهُور أبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة بالسوس ثمَّ استيلاؤه على درعة وسجلماسة وأعمالها
هَذَا الرجل هُوَ أَبُو الْحسن وَيُقَال أَبُو حسون عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي وَكَانَ بَدْء أمره أَنه لما ضعف أَمر السُّلْطَان زَيْدَانَ بالصقع السُّوسِي وفشل رِيحه فِيهِ نبغ هُوَ فَدَعَا لنَفسِهِ وجر نَار الرياسة إِلَى قرصه وتألبت عَلَيْهِ البرابرة من بسائط جزولة وجبالها والتفت عَلَيْهِ غَالب الْقَبَائِل السوسية فاستولى على تارودانت وأعمالها إِلَى أَن أخرجه عَنْهَا الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء بن عبد الْمُنعم بعد حروب(6/78)
وَفتن عَظِيمَة حَسْبَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
وَلما توفّي أَبُو زَكَرِيَّاء فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم صفا لأبي حسون قطر السوس وَنفذ فِيهِ أمره وَسمعت كَلمته ثمَّ بعد مهلك زَيْدَانَ مد يَده إِلَى درعة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ استولى سجلماسة ونواحيها فاستحكم أمره وتقوى عضده
وَلم يزل أمره نَافِذا فِي سجلماسة إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ الْأسد الهصور الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فَأخْرجهُ من سجلماسة بعد حروب يشيب لَهَا الْوَلِيد ثمَّ أخرجه من درعة أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد وَقد وقفت على سُؤال رفع من جَانب أبي حسون إِلَى القَاضِي أبي مهْدي السكتاني فِي شَأْن مَدِينَة إيليغ دَار رياسته ومقر عزه يستفتيه فِي إِحْدَاث كَنِيسَة الْيَهُود بهَا هَل يجوز أم لَا وَفِيه مَعَ ذَلِك بعض الْكَشْف عَن حَال هَذِه الْمَدِينَة فلنذكره وَنَصه
الْحَمد لله الَّذِي ارتضى لِلْإِسْلَامِ دينا وَأنزل بِهِ على خيرة خلقه كتابا مُبينًا الْفَقِيه الْأَجَل الْعَلامَة الأحفل القَاضِي الأعدل خَاتِمَة الْمُحَقِّقين ومعتمد الموثقين أَبَا مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَفقه الله لما يرضيه وأعانه على مَا هُوَ متوليه السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فقد تقرر عِنْد سيدنَا أَمر هَذِه الحضرة الْعلية العلوية إيليغ أَدَم بهجتها كَمَا رفع كَغَيْرِهَا من الحواضر درجتها وَأَنَّهَا محدثة فتوفرت ببركة بانيها عمارتها ومبانيها فاتخذها مسكنا أهل السهول والحزون وجمعت لطيب تربَتهَا بَين الضَّب وَالنُّون فنزلها برسم الاستيطان أَو شَاب من أهل الذِّمَّة بِإِذن مختطها(6/79)