ـ[الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى]ـ
المؤلف: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ)
المحقق: جعفر الناصري/ محمد الناصري
الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء
سنة النشر:
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](1/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الْملك المعبود الرؤوف الرَّحِيم الْوَدُود الْمخْرج لِلْخلقِ من ظلمَة الْعَدَم إِلَى نور الْوُجُود الفاتح عَلَيْهِم بمعرفته والتحقق بوحدانيته كل بَاب مسدود الدَّال لَهُم على باهر حكمته وعظيم قدرته بِالْمَعْنَى الْمَعْقُول والحس الْمَشْهُود فَلَا يرتاب فِي أَنه الْوَاحِد الْقَدِير الْعَلِيم الْخَبِير إِلَّا الكفور الكنود خلق الْعباد وَقدر آجالهم وأحصى أنفاسهم وأمالهم وأوقفهم من شَرعه على نهج سوي وحد مَحْدُود فَمن وقف عِنْده وأطاع فقد فَازَ من ثَمَرَة الإيجاد بِالْمَقْصُودِ وَمن حاد عَنهُ واستكبر فقد أورد نَفسه الردى وَبئسَ الْورْد المورود نحمده تَعَالَى على مَا أَسْبغ من النعم الْبيض وكسا من البرود وأزاح من الْعِلَل وَوقى من النوب السود ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة نتبوأ بهَا من الْجنان السدر المخضود(1/57)
والطلح المنضود والظل الْمَمْدُود ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أكْرم مَبْعُوث وأشرف مَوْلُود صَاحب الْمقَام الْمَحْمُود واللواء الْمَعْقُود والحوض المورود صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين هم فِي محافل السّلم بدور وَفِي جحافل الْحَرْب أسود وَلَهُم فِي أَتْبَاعه ونصرته الْيَد الْبَيْضَاء والباع الْمَمْدُود وَالدُّعَاء لأمير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن كَوْكَب السُّعُود ومنبع الْكَرم والجود والمنير بطلعته الغراء وإمامته الْبَيْضَاء الأغوار والنجود لَا زَالَت بِهِ مِلَّة الْإِسْلَام بحول الله فِي صعُود تردي الْكفْر وتنفي الْبَغي وتذود وتصول على الضلال وَتسود آمين وَبعد فَيَقُول مُؤَلفه أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي عَفا الله عَنهُ هَذَا بعون الله كتاب الِاسْتِقْصَاء لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى كتاب جمعته لنَفْسي وَلمن شَاءَ الله من أَبنَاء جنسي ذكرت فِيهِ دوَل هَذَا الْقطر المغربي من لدن الْفَتْح الإسلامي إِلَى وقتنا هَذَا الَّذِي هُوَ آخر الْقرن الثَّالِث عشر سالكا فِيمَا أنقله من ذَلِك سَبِيل الِاخْتِصَار آتِيَا مِنْهُ بِمَا تسمو إِلَيْهِ النُّفُوس من حوادث الْأَعْصَار ملما بِمَا لَا بُد مِنْهُ من وفيات بعض الْأَئِمَّة المقتدى بهم فِي الدّين متبركا أَولا بِذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه الرَّاشِدين متحريا من القَوْل أَصَحهَا وَمن الْعبارَات أفصحها وَالله تَعَالَى المسؤول فِي بُلُوغ المأمول فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الْمِنَّة والطول وَبِيَدِهِ تَعَالَى الْقُوَّة والحول(1/58)
مُقَدّمَة فِي فضل علم التَّارِيخ
اعْلَم أَن علم التَّارِيخ من أجل الْعُلُوم قدرا وأرفعها منزلَة وذكرا وأنفعها عَائِدَة وذخرا وَكَفاهُ شرفا أَن الله تَعَالَى شحن كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه من أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والقرون الخالية بِمَا أفحم بِهِ أكَابِر أهل الْكتاب وأتى من ذَلِك بِمَا لم يكن لَهُم فِي ظن وَلَا حِسَاب ثمَّ لم يكتف تَعَالَى بذلك حَتَّى امتن بِهِ على نبيه الْكَرِيم وَجعله من جملَة مَا أسداه إِلَيْهِ من الْخَيْر العميم فَقَالَ جلّ وَعلا {تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها} وَقَالَ {وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك} وَقَالَ {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب} وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يحدث أَصْحَابه بأخبار الْأُمَم الَّذين قبلهم ويحكي من ذَلِك مَا يشْرَح بِهِ صُدُورهمْ وَيُقَوِّي إيماناهم ويؤكد فَضلهمْ وَكتاب بَدْء الْخلق من صَحِيح البُخَارِيّ رَحمَه الله كَفِيل بِهَذَا الشَّأْن وَآت من الْقدر المهم مِنْهُ مَا يبرد غلَّة العطشان قَالَ بَعضهم احْتج الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على أهل الْكِتَابَيْنِ بالتاريخ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} وَحكى بدر الدّين الْقَرَافِيّ رَحمَه الله إِن الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول مَا مَعْنَاهُ دأبت فِي قِرَاءَة علم التَّارِيخ كَذَا وَكَذَا سنة وَمَا قرأته إِلَّا لأستعين بِهِ على الْفِقْه(1/59)
قلت معنى كَلَام الشَّافِعِي هَذَا أَن علم التَّارِيخ لما كَانَ مطلعا على أَحْوَال الْأُمَم والأجيال ومفصحا عَن عوائد الْمُلُوك والأقيال ومبينا من أعراف النَّاس وأزيائهم ونحلهم وأديانهم مَا فِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر وَحِكْمَة بَالِغَة لمن تدبر وافتكر كَانَ معينا على الْفِقْه وَلَا بُد وَذَلِكَ أَن جلّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَبْنِيّ على الْعرف وَمَا كَانَ مَبْنِيا على الْعرف لَا بُد أَن يطرد باطراده وينعكس بانعكاسه وَلِهَذَا ترى فتاوي الْفُقَهَاء تخْتَلف باخْتلَاف الْأَعْصَار والأقطار بل والأشخاص وَالْأَحْوَال وَهَذَا السَّبَب بِعَيْنِه هُوَ السِّرّ فِي اخْتِلَاف شرائع الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتباينها حَتَّى جَاءَ مُوسَى بشرع وَعِيسَى بآخر وَمُحَمّد بسوى ذَلِك صلى الله على جَمِيعهم وَسلم تمّ فَائِدَة التَّارِيخ لَيست محصورة فِيمَا ذَكرْنَاهُ بل لَهُ فَوَائِد أخر جليلة لَو قيل بِعَدَمِ حصرها مَا بعد قَالَ الْجلَال السُّيُوطِيّ رَحمَه الله من فَوَائِد التَّارِيخ وَاقعَة رَئِيس الرؤساء الْمَشْهُورَة مَعَ الْيَهُود بِبَغْدَاد وحاصلها أَنهم أظهرُوا رسما قَدِيما يتَضَمَّن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن يهود خَيْبَر وَفِيه شَهَادَة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَرفع الرَّسْم إِلَى رَئِيس الرؤساء وعظمت حيرة النَّاس فِي شَأْنه ثمَّ عرض على الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فَتَأَمّله وَقَالَ هَذَا مزور فَقيل لَهُ بِمَ عَرفته قَالَ فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة وَهُوَ إِنَّمَا أسلم عَام الْفَتْح سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وخيبر فتحت سنة سبع وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَهُوَ مَاتَ يَوْم بني قُرَيْظَة وَذَلِكَ قبل فتح خَيْبَر فسر النَّاس بذلك وزالت حيرتهم اه قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي حُدُود صدر هَذِه الْمِائَة أَعنِي الْمِائَة الْحَادِيَة عشرَة ظهر نَحْو هَذَا الْكتاب المزور بِمَعْنَاهُ وَالرَّفْع على خطوطه بتاريخ سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة(1/60)
بِالْمُوَحَّدَةِ ثمَّ ظهر أَيْضا بتاريخ سِتّ وَثَمَانمِائَة ثمَّ تعدد ظُهُوره مرَارًا آخرهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف مُسَمّى فِيهِ جمَاعَة مِمَّن شهرتهم بِالدّينِ وَالْعلم قاطعه بالتقول عَلَيْهِم فِي ذَلِك انْظُر بَقِيَّة كَلَامه
قلت وَقد وقفت فِي بعض التقاييد المظنون بهَا الصِّحَّة على كَلَام للأديب أبي عبد الله اليفرني الْمَعْرُوف بالصغير فِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ جرى بِمَجْلِس شَيخنَا قَاضِي الْجَمَاعَة فلَان الْفُلَانِيّ ذكر علم التَّارِيخ فَقَالَ إِن علم التَّارِيخ يضر جَهله وَتَنْفَع مَعْرفَته لَا كَمَا قيل إِنَّه علم لَا ينفع وجهالة لَا تضر قَالَ وَانْظُر مَا وَقع فِي هَذَا الْوَقْت فِي حُدُود عشر وَمِائَة ألف من أَن نَفرا من يهود فاس الْجَدِيد امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة وأخرجوا ظهيرا قَدِيما مضمنه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقد لمُوسَى بن حييّ بن أَخطب أخي صَفِيَّة رَضِي الله عَنْهَا وَلأَهل بَيت صَفِيَّة الْأمان لَا يطَأ أَرضهم جَيش وَلَا عَلَيْهِم نزل وَلَهُم ربط العمائم فعلى من أحب الله وَرَسُوله أَن يؤمنهم وَكتب عَليّ بن أبي طَالب وَشهد عَتيق بن أبي قُحَافَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وتاريخ شَهَادَتهم فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع من الْهِجْرَة قَالَ شَيخنَا فَظهر لي ولعلماء الْعَصْر أَن ذَلِك زور وافتراء لَا شكّ فِيهِ وَلَا امتراء لِأَن التَّارِيخ بِالْهِجْرَةِ إِنَّمَا حدث زمن عمر سنة سبع عشرَة لأسباب(1/61)
اقْتَضَت ذَلِك كَمَا فِي ابْن حجر وَلِأَن أهل التَّارِيخ لم يذكرُوا لصفية أَخا اسْمه مُوسَى وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ فِي الْأَحَادِيث أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قتل أَبَا صَفِيَّة وَزوجهَا وَلِأَن الظهير الَّذِي استظهروا بِهِ نُسْخَة من الأَصْل الَّذِي فِيهِ خطوط الصَّحَابَة وَقد أَرخُوا الاستنساخ من الأَصْل بِسنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فقد تَأَخّر خطّ الصَّحَابَة بزعمهم إِلَى الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَيف يتَوَصَّل فِي الْمِائَة الثَّامِنَة إِلَى أَن ذَلِك خطّ الصَّحَابَة هَذَا خُلَاصَة مَا كتبه أهل فاس فِي إبِْطَال الظهير وَلما رفع ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله عاقب الْيَهُود عقَابا شَدِيدا اه
وَبِالْجُمْلَةِ ففضيلة علم التَّارِيخ شهيرة وَفَائِدَته جليلة خطيرة ومادحه مَحْمُود غير ملوم والْحَدِيث بفضله حَدِيث بِمَعْلُوم وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول
(وَبعد فالتاريخ والإخبار ... فِيهِ لنَفس الْعَاقِل اعْتِبَار)
(وَفِيه للمستبصر استبصار ... كَيفَ أَتَى الْقَوْم وَكَيف صَارُوا)
(يجْرِي على الْحَاضِر حكم الْغَائِب ... فَيثبت الْحق بِسَهْم صائب)
(وَينظر الدُّنْيَا بِعَين النبل ... وَيتْرك الْجَهْل لأهل الْجَهْل)
وَقَالَ الآخر
(لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا عَاقل ... من لَا يعي التَّارِيخ فِي صَدره)
(وَمن روى أَخْبَار من قد مضى ... أضَاف أعمارا إِلَى عمره)(1/62)
ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم
أما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهيميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام ابْن تارح وَهُوَ آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام ابْن لامك بن متوشلخ بن حنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَما مَا بَين رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين عدنان فمتفق عَلَيْهِ عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأما مَا بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل فمختلف فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا مَا بَين سَبْعَة آبَاء إِلَى نَحْو الْأَرْبَعين وَالْمُخْتَار مَا ذَكرْنَاهُ تبعا لأبي الْفِدَاء وَأما مَا بَين إِسْمَاعِيل وآدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام فمتفق عَلَيْهِ عِنْد أهل الْكتاب وَهِي أَسمَاء أَعْجَمِيَّة يكثر تغييرها لصعوبة النُّطْق بحروفها وَالله أعلم
قَالَ ابْن خلدون ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفِيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول لأربعين سنة من ملك كسْرَى أنو شرْوَان وَقيل لثمان وَأَرْبَعين ولثمانمائة واثنتين وَثَمَانِينَ سنة لذِي القرنين وَمَات أَبوهُ عبد الله وَأمه حَامِل بِهِ وكفله جده عبد الْمطلب واسترضع لَهُ امْرَأَة من بني(1/63)
سعد بن بكر اسْمهَا حليمة بنت أبي ذُؤَيْب السعدية فَكَانَ عِنْدهَا نَحْو أَربع سِنِين وشق صَدره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عِنْدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة من مولده فخافت عَلَيْهِ وردته إِلَى أمه ثمَّ مَاتَت أمه عقب ذَلِك وَاسْتمرّ فِي كَفَالَة جده عبد الْمطلب إِلَى أَن توفّي أَيْضا لمضي ثَمَان سِنِين من مولده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأوصى بِهِ عبد الْمطلب إِلَى ابْنه أبي طَالب فَكَفَلَهُ أَبُو طَالب أحس كَفَالَة وَقَامَ بِشَأْنِهِ أتم قيام وَنَشَأ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نشأة طيبَة يحفظه ربه ويكلؤه لما يُرِيد بِهِ من كرامته ويهيء لَهُ من نبوته ورسالته وَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَشهد بِنَاء الْكَعْبَة وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة وَوضع الْحجر الْأسود بِيَدِهِ الشَّرِيفَة فِي مَوْضِعه بعد أَن تراضت قبائل قُرَيْش عَلَيْهِ ثمَّ آتَاهُ الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة على رَأس أَرْبَعِينَ سنة من عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَلمُسلم الصادقة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء يَتَحَنَّث فِيهِ والتحنث التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد قبل أَن يرجع إِلَى أَهله ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْي وَفِي رِوَايَة حَتَّى فجئه الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ اقْرَأ فَقَالَ (مَا أَنا بقارىء قَالَ فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ قلت مَا أَنا بقاريء فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ {اقْرَأ فَقلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ} (اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم) فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترجف بوادره حَتَّى دخل على خَدِيجَة فال (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة (أَي خَدِيجَة مَالِي) وأخبرها الْخَبَر وَقَالَ (لقد خشيت على نَفسِي) قَالَت لَهُ خَدِيجَة كلا أبشر(1/64)
فو الله لَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة وَكَانَ امراءا تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فِي كتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمى فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة أَي ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك فَقَالَ لَهُ ورقة يَا ابْن أخي مَاذَا ترى فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر مَا رأى فَقَالَ لَهُ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي أنزل الله على مُوسَى يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا لَيْتَني أكون حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَو مخرجي هم) قَالَ نعم لم يَأْتِ رجل قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم يلبث ورقة أَن توفّي وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول الله حَقًا فيسكن لذَلِك جأشه وتقر عينه فَيرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك فيتبدى لَهُ جِبْرِيل فَيَقُول لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ نزل عَلَيْهِ بعد فَتْرَة الْوَحْي سُورَة المدثر قَالَ الْعلمَاء كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ نَبيا فَقَط ثَلَاث سِنِين لم يُؤمر فِيهَا بإنذار ثمَّ أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام برسالة من ربه عز وَجل فَكَانَ فِيمَا أنزل عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين}
روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِسَنَدِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (يَا عَليّ إِن الله أَمرنِي أَن أنذر عشيرتي الْأَقْرَبين فضقت بذلك ذرعا وَعرفت أَنِّي مَتى أباديهم بِهَذَا الْأَمر أرى مِنْهُم مَا أكره فَصمت عَلَيْهَا حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن لَا تفعل مَا تُؤمر يعذبك رَبك فَاصْنَعْ لنا طَعَاما وَاجعَل لنا عَلَيْهِ رجل شَاة واملأ لنا عسا من لبن ثمَّ اجْمَعْ لي بني عبد الْمطلب حَتَّى أبلغهم مَا أمرت بِهِ) فَفعلت(1/65)
مَا أَمرنِي بِهِ ثمَّ دعوتهم لَهُ وَكَانُوا يَوْمئِذٍ نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا يزِيدُونَ رجلا أَو ينقصونه فيهم أَعْمَامه أَبُو طَالب وَحَمْزَة وَالْعَبَّاس وَأَبُو لَهب فَلَمَّا اجْتَمعُوا دَعَاني بِالطَّعَامِ الَّذِي صنعت فَجئْت بِهِ فَتَنَاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جذبه من اللَّحْم فَشَقهَا بِأَسْنَانِهِ ثمَّ أَلْقَاهَا فِي نواحي الصحفة ثمَّ قَالَ (كلوا باسم الله) فَأكل الْقَوْم حَتَّى مَا لَهُم بِشَيْء من حَاجَة وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليَأْكُل مثل مَا قدمت لجميعهم ثمَّ قَالَ (اسْقِ الْقَوْم) فجئتهم بذلك الْعس فَشَرِبُوا حَتَّى رووا جَمِيعًا وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليشْرب مثله فَلَمَّا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكلمهم بدره أَبُو لَهب فَقَالَ سحركم صَاحبكُم فَتفرق الْقَوْم وَلم يكلمهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَقَالَ الْغَد يَا عَليّ إِن هَذَا الرجل قد سبقني إِلَى مَا سَمِعت من القَوْل فَتفرق الْقَوْم قبل أَن أكلمهم فاعدد لنا من الطَّعَام مثل مَا صنعت ثمَّ أجمعهم) فَفعلت ثمَّ جمعتهم ثمَّ دَعَاني بِالطَّعَامِ فقربته فَفعل كَمَا فعل بالْأَمْس فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا ثمَّ تكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (يَا بني عبد الْمطلب إِنِّي قد جِئتُكُمْ بخيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد أَمرنِي الله عز وَجل أَن أدعوكم إِلَيْهِ فَأَيكُمْ يؤازرني على أَمْرِي هَذَا وَيكون أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم) فأحجم الْقَوْم عَنْهَا جَمِيعًا وَأَنا أحدثهم سنا فَقلت يَا رَسُول الله أَنا أكون وزيرك عَلَيْهِ فَأخذ برقبتي ثمَّ قَالَ (هَذَا أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم فا سمعُوا لَهُ وَأَطيعُوا) فَقَامَ الْقَوْم يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لأبي طَالب قد أَمرك أَن تسمع لعَلي وتطيع
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا فَجعل يُنَادي (يَا بني فهر يَا بني عدي) لبطون قُرَيْش حَتَّى اجْتَمعُوا فَجعل الرجل إِذْ لم يسْتَطع أَن خرج أرسل رَسُولا لينْظر مَا هُوَ فجَاء أَبُو لَهب وقريش فَقَالَ (أَرَأَيْتكُم لَو أَخْبَرتكُم أَن خيلا بالوادي تُرِيدُ أَن تغير عَلَيْكُم أَكُنْتُم مصدقي) قَالُوا نعم مَا جربنَا عَلَيْك كذبا قَالَ (فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد) فَقَالَ أَبُو لَهب تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم أَلِهَذَا جمعتنَا فَنزلت {تبت يدا أبي لَهب وَتب}(1/66)
مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب) ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر ربه صَابِرًا محتسبا فِيمَا يَنَالهُ من المحن وضروب الْأَذَى مُعْلنا بالتذكير والإنذار دَاعيا إِلَى الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَأسلم مَعَه جمَاعَة من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام كخديجة وَعلي وَأبي بكر وَزيد بن حَارِثَة وَعُثْمَان وَسَائِر الْعشْرَة سوى عمر بن الْخطاب فَإِن إِسْلَامه كَانَ قد تَأَخّر قَلِيلا ونصبت قُرَيْش الْعَدَاوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وافترقت كلمتهم عَلَيْهِ وانحاز بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب إِلَى أبي طَالب وتعاهدت قُرَيْش على أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا ينفعوهم بِشَيْء ونال أَصْحَاب رَسُول الله الَّذِي آمنُوا مَعَه من الْأَذَى فَوق مَا يُوصف وَهَاجَر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى النَّجَاشِيّ بِالْحَبَشَةِ فِرَارًا بدينهم من الْفِتْنَة وحدب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمه أَبُو طَالب وَقَامَ دونه وذب عَنهُ سُفَهَاء قُرَيْش وَمنعه مِنْهُم مَا اسْتَطَاعَ وَكَانَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا توازره على أمره وتسليه وتهون عَلَيْهِ مايلقاه من قومه فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرتاح لذَلِك ويخف عَلَيْهِ بعض مَا يجد ثمَّ توفّي أَبُو طَالب فِي شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة وَتوفيت خَدِيجَة بعد ذَلِك بِيَسِير وَكَانَت وفاتهما قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين فعظمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصِيبَة وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ المحن حَتَّى كَانَ يُسَمِّي ذَلِك الْعَام عَام الْحزن ونالت قُرَيْش مِنْهُ مَا لم تكن تطمع فِي نيله قبل ذَلِك فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ الثَّلَاث سِنِين إِذا حضر الْمَوْسِم خرج إِلَى قبائل الْعَرَب بمنى وَطَاف عَلَيْهِم قَبيلَة قَبيلَة يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى ويعرض عَلَيْهِم نَفسه ويسألهم النُّصْرَة لَهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يبلغ رِسَالَة ربه فَإِن قُريْشًا قد عَتَتْ على الله وكذبت رَسُوله وَردت عَلَيْهِ كرامته وَيَقُول فِيمَا يَقُول (يَا بني فلَان إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم يَأْمُركُمْ أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تخلعوا مَا تَعْبدُونَ من دونه من هَذِه الأنداد وَأَن تؤمنوا بِي وتصدقوني)
وَلَقي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْمدَّة من الشدائد مَا رفع الله بِهِ فِي عليين دَرَجَته وأجزل بِهِ كرامته وَشرف مَنْزِلَته وَحَازَ بِهِ فِي جوَار الله تَعَالَى أكْرم نزل(1/67)
وَصَارَ إِمَام أولي الْعَزْم من الرُّسُل صلى الله على جَمِيعهم وَسلم وَلما أَرَادَ الله إِظْهَار دينه وإعزاز نبيه خرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض المواسم يعرض نَفسه على الْقَبَائِل كَمَا كَانَ يصنع فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة بمنى إِذْ لَقِي سِتَّة نفر من الْخَزْرَج من أهل مَدِينَة يثرب وَأَهْلهَا يَوْمئِذٍ قبيلتان الْأَوْس والخزرج ويجمعهم أَب وَاحِد وهم من عرب الْيمن والنفر السِّتَّة هم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة وعَوْف بن الْحَارِث وَهُوَ ابْن عفراء وَرَافِع بن مَالك بن العجلان وَقُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة وَعقبَة بن عَامر بن نابي وَجَابِر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أَنْتُم) قَالُوا نفر من الْخَزْرَج قَالَ (أَمن موالى يهود) وَكَانُوا يحالفون قُرَيْظَة وَالنضير قَالُوا نعم قَالَ (أَفلا تجلسون حَتَّى أكلمكم) قَالُوا بلَى فجلسوا مَعَه فَدَعَاهُمْ إِلَى ألله عز وَجل وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن قَالَ وَمِمَّا كَانَ صنع الله لَهُم فِي الْإِسْلَام أَن الْيَهُود كَانُوا مَعَهم ببلادهم وَكَانُوا أهل كتاب وَعلم وهم أهل أوثان وشرك وَكَانُوا إِذا كَانَ بَينهم شَيْء قَالُوا إِن نَبينَا الان مَبْعُوث قد أظل زَمَانه سنتبعه ونقتلكم مَعَه قتل عَاد وإرم فَلَمَّا كلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُولَئِكَ النَّفر ودعاهم إِلَى الله عز وَجل قَالَ بَعضهم لبَعض يَا قوم تعلمُوا وَالله إِنَّه النَّبِي الَّذِي توعدكم بِهِ يهود فَلَا يسبقنكم إِلَيْهِ فَأَجَابُوهُ وَصَدقُوهُ وَأَسْلمُوا مَعَه وَقَالُوا إِنَّا قد تركنَا قَومنَا وَبينهمْ من الْعَدَاوَة وَالشَّر مَا بَينهم فَعَسَى الله أَن يجمعهُمْ بك وسنقدم عَلَيْهِم وندعوهم إِلَى أَمرك فَإِن يجمعهُمْ الله عَلَيْك فَلَا أحد أعز مِنْك ثمَّ انصرفوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة ذكرُوا لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى فَشَا فيهم فَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار اثْنَا عشر رجلا مِنْهُم خَمْسَة من السِّتَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا عدى جَابر بن عبد الله فَإِنَّهُ لم يحضرها وَسَبْعَة من غَيرهم وهم معَاذ بن الْحَارِث أَخُو عَوْف بن الْحَارِث الْمَذْكُور وذكوان بن عبد الْقَيْس وَيزِيد بن ثَعْلَبَة البلوي وَعبادَة بن(1/68)
الصَّامِت وَالْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَهَؤُلَاء الْعشْرَة من الْخَوَارِج وَمن الْأَوْس أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان وعويم بن سَاعِدَة فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء أَن لَا يشركوا بِاللَّه شَيْئا وَلَا يسرقوا وَلَا يزنوا وَلَا يقتلُوا أَوْلَادهم إِلَى آخر الْآيَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَإِن وفيتم فلكم الْجنَّة وَإِن غشيتم شَيْئا من ذَلِك فأخذتم بحده فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لكم وَإِن ستر عَلَيْكُم فأمركم إِلَى الله عز وَجل إِن شَاءَ الله عذبكم وَإِن شَاءَ غفر لكم) قَالَ وَذَلِكَ قبل أَن تفرض الْحَرْب فَلَمَّا انْصَرف الْقَوْم بعث مَعَهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصي وَمَعَهُ عَمْرو بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى ليعلمهم الْقُرْآن وَشَرَائِع الْإِسْلَام ويفقهم فِي الدّين فَكَانَ مُصعب بِالْمَدِينَةِ يُسمى المقرىء وَكَانَ منزله على أسعد بن زُرَارَة فَأسلم على يَده كثير من الْأَوْس والخزرج مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ سيدا الْأَوْس وَسعد هَذَا هُوَ الذ ي يَقُول فِيهِ حسان بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ
(وَمَا اهتز عرش الله من أجل هَالك ... سمعنَا بِهِ إِلَّا لسعد أبي عَمْرو)
وَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا رجال وَنسَاء مُسلمُونَ إِلَّا مَا كَانَ من دَار بني أُميَّة بن زيد وخطمة وَوَائِل وواقف بطُون من الْأَوْس وَكَانُوا فِي عوالي الْمَدِينَة وَكَانَ فيهم أَبُو قيس بن الأسلت الشَّاعِر سيدا مُطَاعًا فَوقف بهم عَن الْإِسْلَام حَتَّى هَاجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة وَمضى بدر وَأحد وَالْخَنْدَق فأسلموا كلهم ثمَّ إِن مُصعب بن عُمَيْر رَجَعَ إِلَى مَكَّة من الْعَام الْمقبل وَذَلِكَ سنة ثَلَاث عشرَة من المبعث وَخرج مَعَه من الْأَنْصَار الَّذين أَسْلمُوا ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ بَعضهم من الْأَوْس وَبَعْضهمْ من الْخَزْرَج مَعَ حجاج قَومهمْ من أهل الشّرك فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة واعدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجتمعوا بِهِ لَيْلًا فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق بِالْعقبَةِ من منى وجاءهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهُوَ يَوْمئِذٍ على دين قومه إِلَّا أَنه أحب أَن يتوثق لِابْنِ أَخِيه فَقَالَ يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا(1/69)
منا حَيْثُ قد علمْتُم وَقد منعناه من قَومنَا مِمَّن هُوَ على مثل رَأينَا وَهُوَ فِي عز ومنعة من قومه وبلده وَأَنه قد أَبى إِلَّا الانحياز إِلَيْكُم واللحوق بكم فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ ومانعوه مِمَّن خَالفه فَأنْتم وَمَا تحملتم من ذَلِك وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ مسلموه وخاذلوه فَمن الْآن فَدَعوهُ فَقَالُوا قد سمعنَا مَا قلت فَتكلم يَا رَسُول الله وَخذ لنَفسك ولربك مَا شِئْت فَتكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتلا الْقُرْآن ودعا إِلَى الله عز وَجل وَرغب فِي الْإِسْلَام ثمَّ قَالَ (أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم ونساءكم وأبناءكم) قَالَ فَأخذ الْبَراء بن معْرور بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا لنمنعنك مِمَّا نمْنَع مِنْهُ أزرنا فَبَايعْنَا يَا رَسُول الله فَنحْن أهل الْحَرْب وَأهل الْحلقَة ورثناهما كَابِرًا عَن كَابر فَاعْترضَ القَوْل والبراء يكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن بَيْننَا وَبَين النَّاس حِبَالًا يَعْنِي عهودا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا فَهَل عَسَيْت أَن فعلنَا ذَلِك ثمَّ أظهرك الله أَن ترجع إِلَى قَوْمك وَتَدعنَا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ (بل الدَّم الدَّم وَالْهدم الْهدم أَنْتُم مني وَأَنا مِنْكُم أُحَارب من حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ من سَالَمْتُمْ) وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَي عشر نَقِيبًا يكونُونَ كفلاء على قَومهمْ بِمَا فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابْن مَرْيَم فأخرجوا لَهُ اثنى عشر نَقِيبًا) وَتِسْعَة من الْخَزْرَج وَثَلَاثَة من الْأَوْس
قَالَ عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة إِن الْقَوْم لما اجْتَمعُوا لبيعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة يَا معشر الْخَزْرَج هَل تَدْرُونَ على مَا تُبَايِعُونَ هَذَا الرجل إِنَّكُم تبايعونه على حَرْب الْأَحْمَر وَالْأسود فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ إِذا نهكت أَمْوَالكُم مُصِيبَة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فَمن الْآن فَهُوَ وَالله خزي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ إِنَّكُم وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ على نهكة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَخُذُوهُ فَهُوَ وَالله خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالُوا فَإنَّا نَأْخُذهُ على مُصِيبَة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَمَا لنا بذلك يَا رَسُول الله إِن نَحن وَفينَا قَالَ (الْجنَّة) قَالُوا ابْسُطْ يدك فَبسط يَده فَبَايعُوهُ وَأول من(1/70)
ضرب على يَده الْبَراء بن معْرور ثمَّ تتَابع الْقَوْم ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (انْفَضُّوا إِلَى رحالكُمْ) فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَئِن شِئْت لنميلن غَدا على أهل منى بأسيافنا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنِّي لم أومر بذلك وَلَكِن ارْجعُوا إِلَى رحالكُمْ) ثمَّ انْصَرف الْقَوْم رَاجِعين إِلَى الْمَدِينَة وَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَخَرجُوا أَرْسَالًا وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة ينْتَظر الْإِذْن من ربه فِي الْهِجْرَة وَبَقِي مَعَه أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب إِلَى أَن أذن الله لنَبيه فِي الْهِجْرَة فَهَاجَرَ كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي كتب الحَدِيث وَالسير وَلما اسْتَقر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ أظهر الْإِسْلَام وَشرع الْأَحْكَام وَبَين الْحَلَال وَالْحرَام وَنزل عَلَيْهِ من الْقُرْآن السَّبع الطول سوى سُورَة الْأَنْعَام فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة وَنزل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله) فَكَانَت هَذِه أول آيَة نزلت بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَال فَجَاهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الله حق جهاده ونال من نصْرَة الدّين وإعلاء كلمة الله غَايَة مُرَاده وانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب من كل نَاحيَة ولبت دَعوته من أماكنها الدانية والقاصية وَضرب الْإِسْلَام بجرانه فِي جَزِيرَة الْعَرَب كلهَا وَأجْمع على التَّمَسُّك بِدِينِهِ أهل عقدهَا وحلها قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فِي كتاب الشفا فتح على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته بِلَاد الْحجاز واليمن وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب وَمَا دانى ذَلِك من الشَّام وَالْعراق وجبى إِلَيْهِ من أخماسها وجزيتها وصدقاتها مَا لَا يجبى للملوك إِلَّا بعضه وهادته جمَاعَة من مُلُوك الأقاليم فَمَا اسْتَأْثر بِشَيْء مِنْهُ وَلَا أمسك مِنْهُ درهما بل صرفه مصارفه وأغنى بِهِ غَيره وقوى بِهِ الْمُسلمين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما حصل الْمَقْصُود من بعثته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأظْهر دينه على الدّين كُله أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ نزلت هَذِه الْآيَة يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر يَوْم عَرَفَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِف بِعَرَفَات على(1/71)
نَاقَته العضباء فَكَادَتْ عضد النَّاقة تندق وبركت لثقل الْوَحْي وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة بَكَى عمر فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا يبكيك يَا عمر) فَقَالَ أبكاني أَنا كُنَّا فِي زِيَادَة من ديننَا فَأَما إِذا كمل فَإِنَّهُ لم يكمل شَيْء إِلَّا نقص قَالَ صدقت فَكَانَت هَذِه الْآيَة نعي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاشَ بعْدهَا إِحْدَى وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَمَات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين خلتا من ربيع الأول وَقيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة قَالَ الخازن فِي تَفْسِيره وَهُوَ الْأَصَح سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة فمجموع عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة على الصَّحِيح
أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة فَمَكثَ ثَلَاث عشرَة سنة يُوحى إِلَيْهِ ثمَّ أَمر بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة فَمَكثَ بهَا عشر سِنِين ثمَّ توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ ورد فِي عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة الثَّانِيَة خمس وَسِتُّونَ سنة وَالثَّالِثَة ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَهِي أَصَحهَا وأشهرها اه وَفضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشهر من أَن يشْرَح وَيبين فَهُوَ حجَّة الله فِي الأَرْض وشهيده على الْخلق ومصطفاه من الْبشر والمخصوص بمزية النُّبُوَّة وآدَم بَين المَاء والطين وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول
(يَا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح لَهُ أغلاق)
(أيروم مَخْلُوق ثناءك بعد مَا ... أثنى على أخلاقك الخلاق)(1/72)
خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ
هُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الله وَقيل عَتيق بن أبي قُحَافَة واسْمه عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب التَّيْمِيّ الْمَعْرُوف بِالصديقِ يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب ولي الْخلَافَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَمن تَأَخّر عَنْهَا أَولا رَجَعَ إِلَيْهَا ثَانِيًا إِلَّا مَا كَانَ من سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ توقف عَن بيعَته وَذَلِكَ أَنه لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتمعت الْأَنْصَار فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة وهموا بمبايعة سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر لأَنهم الَّذين آووا ونصروا وتبوأوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبل الْمُهَاجِرين وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى أبي بكر وَعمر أفزعهما ذَلِك وبادرا إِلَى السَّقِيفَة ومعهما أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح فوجدوا الْأَنْصَار بهَا على مَا بَلغهُمْ من الْعَزْم على بيعَة سعد فحاجهم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ نَحن أَوْلِيَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعشيرته وأحق النَّاس بِالْأَمر بعده فَنحْن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر لَا وَالله لَا نَفْعل منا أَمِير ومنكم أَمِير وَإِن شِئْتُم أعدناها جَذَعَة أَنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب فَقَامَ بشير بن سعد الْأنْصَارِيّ فَقَالَ أَلا إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قُرَيْش وَإِن قومه أَحَق وَأولى بِالْأَمر بعده وَنحن وَإِن كُنَّا أولي فضل فِي الْجِهَاد وسابقة فِي الدّين فَمَا أردنَا بذلك إِلَّا رضى الله وَطَاعَة نبيه فَلَا نبتغي بِهِ من الدُّنْيَا عوضا وَلَا نستطيل بِهِ على النَّاس ثمَّ أَشَارَ أَبُو بكر بِأَن يبايعوا أحد الرجلَيْن إِمَّا عمر بن الْخطاب وَإِمَّا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح فكرها ذَلِك وَبَايِعًا أَبَا بكر وسبقهما إِلَيْهِ بشير بن سعد ثمَّ تناجى الْأَوْس فِيمَا بَينهم وَكَانَ فيهم أسيد بن حضير أحد النُّقَبَاء فكرهوا إِمَارَة الْخَزْرَج عَلَيْهِم ومالوا إِلَى بيعَة أبي بكر فَبَايعُوهُ وَأَقْبل النَّاس من كل جَانب يبايعون أَبَا بكر حَتَّى كَادُوا يطؤون سعد بن عبَادَة وَهُوَ مُضْطَجع بَينهم يوعك فَقَالَ رجل من أَصْحَابه قتلتم سعد بن عبَادَة فَقَالَ(1/73)
عمر قَتله الله فَقَالَ أَبُو بكر مهلا يَا عمر الرِّفْق هُنَا أبلغ ثمَّ لحق سعد بِالشَّام فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى توفّي أَيَّام عمر رحم الله جَمِيعهم وَكَانَت بيعَة أبي بكر يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي من وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل دَفنه وَلما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت عَامَّة الْعَرَب لِأَن كلمة الْإِسْلَام لم تكن رسخت فِي قُلُوبهم على مَا يَنْبَغِي وَمنع آخَرُونَ مِنْهُم الزَّكَاة وَقَالُوا نصلي وَلَا نُؤَدِّي الزَّكَاة ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط واضطرب أَمر الْمُسلمين عِنْد وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقلتهم وَكَثْرَة عدوهم قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت الْعَرَب وَنجم النِّفَاق واشرأبت الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَنزل بِأبي بكر مَا لَو نزل بالجبال الراسية لهاضها وَصَارَ الْمُسلمُونَ كالغنم الْمَطِيرَة فِي اللَّيْلَة الشَّاتِيَة لفقد نَبِيّهم وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول مَا ولد بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر الصّديق لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء فِي قتال أهل الرِّدَّة
وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلف ابو بكر وَكفر من كفر من الْعَرَب قَالَ عمر يَا أَبَا بكر كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ وحسابه على الله) قَالَ أَبُو بكر وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَإِن الزَّكَاة حق المَال وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلتهم على منعهَا قَالَ عمر فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن قد شرح الله صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ فَعرفت أَنه الْحق
وَحكى ابْن خلدون أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما عزم على قتال أهل الرِّدَّة اسْتخْلف أُسَامَة بن زيد بعد رُجُوعه من بَعثه الَّذِي كَانَ بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ قبل وَفَاته فَبَقيَ فِي الْمَدِينَة حَتَّى أنفذه أَبُو بكر بعد(1/74)
وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج أَبُو بكر فِي جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى ذِي حسي وَإِلَى ذِي الْقِصَّة موضِعين قرب الْمَدِينَة ثمَّ سَار حَتَّى نزل على أهل الربذَة بالإبريق وَبهَا عبس وذبيان وَبَنُو بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة وثعلبة بن سعد وَغَيرهم فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر وَهَزَمَهُمْ وَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ خرج إِلَى ذِي الْقِصَّة ثَانِيًا فعقد فِيهِ أحد عشر لِوَاء على أحد عشر جندا لقِتَال أهل الرِّدَّة وَأمر كل وَاحِد باستنفار من يَلِيهِ من الْمُسلمين من كل قَبيلَة وَعقد لِلْأُمَرَاءِ على تِلْكَ الأجناد مِنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهم وَكتب لَهُم عهودهم بِنَصّ وَاحِد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا عهد من أبي بكر خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفُلَان حِين بَعثه فِيمَن بَعثه لقِتَال من رَجَعَ عَن الْإِسْلَام وعهد إِلَيْهِ أَن يَتَّقِي الله مَا اسْتَطَاعَ فِي أمره كُله سره وجهره وَأمره بالجد فِي أَمر الله ومجاهدة من تولى عَنهُ وَرجع عَن الْإِسْلَام إِلَى أماني الشَّيْطَان بعد أَن يعْذر إِلَيْهِم فيدعوهم بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام فَإِن أجابوه أمسك عَنْهُم وَإِن لم يُجِيبُوهُ شن غارته عَلَيْهِم حَتَّى يقرُّوا لَهُ ثمَّ ينبئهم وَالَّذِي عَلَيْهِم وَلِذِي لَهُم فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِم ويعطيهم الَّذِي لَهُم لَا ينظرهم وَلَا يرد الْمُسلمين عَن قتال عدوهم فَإِن أجَاب إِلَى أَمر الله تَعَالَى وَأقر لَهُ قبل ذَلِك مِنْهُ وأعانه عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا يُقَاتل من كفر بِاللَّه على الْإِقْرَار بِمَا جَاءَ من عِنْد الله فَإِذا أجَاب الدعْوَة لم يكن عَلَيْهِ سَبِيل كَانَ الله حسيبه بعد فِيمَا استسر بِهِ وَمن لم يجب إِلَى دَاعِيَة الله قوتل وَقتل حَيْثُ كَانَ وَحَيْثُ بلغ مراغمة لَا يقبل الله من أحد شَيْئا مِمَّا أعْطى إِلَّا الْإِسْلَام فَمن أَجَابَهُ وَأقر بِهِ قبل مِنْهُ وأعانه وَمن أَبى قَاتله فَإِن أظهره الله عَلَيْهِ قَتلهمْ فِيهِ كل قتلة بِالسِّلَاحِ والنيران ثمَّ قسم مَا أَفَاء الله عَلَيْهِ إِلَّا الْخمس فَإِنَّهُ يبلغناه وَيمْنَع أَصْحَابه العجلة وَالْفساد وَأَن لَا يدْخل فيهم حَشْوًا حَتَّى يعرفهُمْ وَيعلم مَا هم لِئَلَّا يَكُونُوا عيُونا وَلِئَلَّا يُؤْتى الْمُسلمُونَ من قبلهم وَأَن يقتصد بِالْمُسْلِمين ويرفق بهم فِي السّير والمنزل ويتفقدهم وَلَا يعجل بَعضهم عَن بعض ويستوصي بِالْمُسْلِمين فِي حسن الصُّحْبَة ولين القَوْل اه(1/75)
وَكتب إِلَى كل من بعث إِلَيْهِ الْجنُود من الْمُرْتَدين كتابا وَاحِدًا أَيْضا وَجعله فِي نسخ مُتعَدِّدَة بيد رسل تقدمُوا أَمَام الْأُمَرَاء يَأْمُرهُم فِيهِ بالتمسك بِكَلِمَة الْإِسْلَام وينهاهم عَن الارتداد ويحذرهم عاقبته وَسُوء أَثَره تركنَا ذكره اختصارا وَكَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ خَالِد بن الْوَلِيد رَحمَه الله من الْقِتَال قتال طليحة بن خويلد الْأَسدي أَسد خُزَيْمَة وَكَانَ كَاهِنًا وَادّعى النُّبُوَّة فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَبعهُ أفاريق من قومه بني أَسد وَمن غَيرهم فَوجه إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرار بن الْأَزْوَر ليقاتله فَبَيْنَمَا ضرار يُرِيد مناجزته إِذْ ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بوفاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ففت ذَلِك فِي عضد ضرار وانكفأ رَاجعا بِمن مَعَه من الْمُسلمين إِلَى الْمَدِينَة وَعظم أَمر طليحة حِينَئِذٍ واستطار شرره وانضمت إِلَيْهِ غطفان وَبَعض طييء وأخلاط من الْعَرَب على مَاء من مياه بني أَسد يُقَال لَهُ بزاخة فَسَار إِلَيْهِم خَالِد رَحمَه الله فأوقع بهم وقْعَة شنعاء فل بهَا جمعهم وَقتل من قتل مِنْهُم وَنَجَا طليحة إِلَى الشَّام بِرَأْس طمرة ولجام وَبَقِي هُنَاكَ إِلَى أَن أسلم وَحسن إِسْلَامه وَكَانَت لَهُ فِي قتال فَارس وَالروم زمَان الْفَتْح الْيَد الْبَيْضَاء ثمَّ تتبع خَالِد رَحمَه الله أهل الرِّدَّة قَبيلَة قَبيلَة وجمعا جمعا فَقتل وَحرق ورضخ بِالْحِجَارَةِ وَرمى من رُؤُوس الْجبَال وأبلغ فِي النكاية بِكُل وَجه فخشعت نفوس الْمُرْتَدين وخامر قُلُوبهم الرعب وَقوم اعواججهم الطعْن وَالضَّرْب حَتَّى راجعوا الْإِسْلَام كرها وَكَانَ من اعظمهم شَوْكَة وأشدهم قُوَّة بَنو حنيفَة قوم مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَكَانَ موطنهم بِالْيَمَامَةِ وَهِي بِلَاد وَاسِعَة ذَات نخل وَزرع على أَرْبَعَة أَيَّام من مَكَّة وَكَانَ مُسَيْلمَة هَذَا قد قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيوفد بني حنيفَة فَأسلم ثمَّ ارْتَدَّ وَادّعى النُّبُوَّة اسْتِقْلَالا ثمَّ مُشَاركَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشهد لَهُ بذلك الرِّجَال بن عنفوة أحد أَشْرَاف بني حنيفَة وَكَانَ قد هَاجر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام عِنْده وَقَرَأَ الْقُرْآن وتفقه فِي الدّين فَلَمَّا ارْتَدَّ مُسَيْلمَة بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معلما لأهل الْيَمَامَة ومشغبا عَن مُسَيْلمَة فَكَانَ من أعظم الْفِتَن على بني حنيفَة فَإِنَّهُ شهد لمُسَيْلمَة بِالنُّبُوَّةِ وَاتبعهُ على شَأْنه وَصَارَ مُؤذنًا لَهُ يشْهد لَهُ بالرسالة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعظم شَأْنه(1/76)
فيهم وَكَانَ مُسَيْلمَة يَنْتَهِي إِلَيْهِ رَأْيه وَكَانَ يَأْتِي بأسجاع كَثِيرَة يزْعم أَنَّهَا قُرْآن ينزل عَلَيْهِ وَيَأْتِي بمخارق من الشعبذة وَيَقُول إِنَّهَا معجزاته فَتَقَع على خلاف الْمَقْصُود إهانة من الله لَهُ فَنَهَضَ خَالِد رَحمَه الله بعد الْفَرَاغ من طليحة وَغَيره من أهل الرِّدَّة إِلَى بني حنيفَة وهم يَوْمئِذٍ كثير يُقَال كَانُوا أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَلما سمعُوا بدنو خَالِد مِنْهُم خَرجُوا وعسكروا فِي مُنْتَهى ريف الْيَمَامَة واستنفروا النَّاس فنفروا مَعَهم وَأَقْبل خَالِد وعَلى مقدمته شُرَحْبِيل بن حَسَنَة ونازل بني حنيفَة وَكَانَ الرِّجَال بن عنفوة على مُقَدّمَة مُسَيْلمَة فَالْتَقوا واقتتلوا واشتدت الْحَرْب وانكشف الْمُسلمُونَ حَتَّى دخل بَنو حنيفَة خباء خَالِد ثمَّ تراجع الْمُسلمُونَ وكروا على بني حنيفَة وَقَاتل ثَابت بن قيس بن شماس حَتَّى قتل ثمَّ زيد بن الْخطاب أَخُو عمر كَذَلِك ثمَّ أَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة بن ربيعَة ثمَّ مَوْلَاهُ سَالم ثمَّ الْبَراء أَخُو أنس بن مَالك وَكَانَ تَأْخُذهُ عِنْد الْحَرْب رعدة حَتَّى ينتفض وَيقْعد عَلَيْهِ الرّحال حَتَّى يَبُول ثمَّ يثور كالأسد فقاتل ذَلِك الْيَوْم وَفعل الأفاعيل واستحر الْقَتْل فِي الْمُسلمين خُصُوصا قراء الْقُرْآن وَأهل السَّابِقَة
قَالَ ابْن خلدون قتل يَوْم الْيَمَامَة من الْأَنْصَار مَا ينيف على الثلاثمائة وَسِتِّينَ وَمن الْمُهَاجِرين مثلهَا وَمن التَّابِعين لَهُم مثلهَا أَو يزِيدُونَ وفشت الْجِرَاحَات فِيمَن بَقِي ثمَّ هزم الله الْعَدو وألجأهم الْمُسلمُونَ إِلَى حديقة كَانَت هُنَاكَ وفيهَا مُسَيْلمَة فَقَالَ الْبَراء بن مَالك ألقوني عَلَيْهِم من أَعلَى الْجِدَار فاقتحم وَقَاتلهمْ على بَاب الحديقة حَتَّى دخل بعض الْمُسلمين عَلَيْهِم واقتحم الْبَاقُونَ من أَعلَى الْحِيطَان فَقتل من بني حنيفَة يَوْمئِذٍ سَبْعَة عشر ألف مقَاتل فسميت الحديقة حديقة الْمَوْت وَأما مُسَيْلمَة فَقتله وَحشِي بالحربة الَّتِي قتل بهَا حَمْزَة بن عبد الْمطلب يَوْم أحد وشاركه فِي قَتله رجل من الْأَنْصَار ثمَّ صَالح خَالِد بني حنيفَة فِي خبر طَوِيل وَهَذِه الْوَقْعَة من أعظم الوقعات الَّتِي كَانَت فِي زمن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَهِي كَانَت السَّبَب الدَّاعِي إِلَى جمع الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن جمعه عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ الْجمع الثَّانِي فِي الْمُصحف(1/77)
فَفِي الصَّحِيح عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ أرسل إِلَى أَبُو بكر مقتل أهل الْيَمَامَة فَإِذا عمر بن الْخطاب عِنْده قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِن عمر أتأني فَقَالَ إِن الْقَتْل قد استحر يَوْم الْيَمَامَة بقراء الْقُرْآن وَإِنِّي أخْشَى أَن يستحر الْقَتْل بالقراء فِي المواطن فَيذْهب كثير من الْقُرْآن وَإِنِّي أرى أَن تَأمر بِجمع الْقُرْآن قَالَ أَبُو بكر قلت لعمر كَيفَ أفعل شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عمر هُوَ وَالله خير فَلم يزل عمر يراجعني فِيهِ حَتَّى شرح الله لذَلِك صَدْرِي وَرَأَيْت الَّذِي رأى عمر قَالَ زيد بن ثَابت وَعمر عِنْده جَالس لَا يتَكَلَّم فَقَالَ أَبُو بكر إِنَّك رجل شَاب عَاقل لَا نتهمك وَقد كنت تكْتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتتبع الْقُرْآن فاجمعه فو الله لَو كلفوني نقل جبل من الْجبَال مَا كَانَ أثقل عَليّ مِمَّا أَمرنِي بِهِ من جمع الْقُرْآن قلت كَيفَ تفعلان شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو بكر هُوَ وَالله خير فَلم أزل أراجعهم حَتَّى شرح الله صَدْرِي للَّذي شرح لَهُ صدر أبي بكر وَعمر فَقُمْت فتتبعت الْقُرْآن أجمعه من الرّقاع والأكناف والعسف واللخاف وصدور الرِّجَال حَتَّى وجدت آخر سُورَة التَّوْبَة مَعَ أبي خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ لم أَجدهَا مَعَ أحد غَيره {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} حَتَّى خَاتِمَة بَرَاءَة فَكَانَت الصُّحُف عِنْد أبي بكر حَتَّى توفاه الله ثمَّ عِنْد عمر حَيَاته حَتَّى توفاه الله ثمَّ عِنْد حَفْصَة بنت عمر اه
وَلما فرغ خَالِد من أَمر الْيَمَامَة بعث إِلَيْهِ أَبُو بكر فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْ عشرَة يَأْمُرهُ بالسير إِلَى الْعرَاق وَذَلِكَ عِنْدَمَا أَجمعت الْعَرَب على الْإِسْلَام وَاتَّفَقُوا على التَّمَسُّك بكلمته وَأَخْلصُوا الطَّاعَة لله ولخليفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَمت لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ همة فِي قتال فَارس وَالروم أهل الدولتين العظيمتين فِي الْعَالم يَوْمئِذٍ فَتوجه خَالِد رَحمَه الله نَحْو فَارس وَكَانَ عذَابا من عَذَاب الله أرْسلهُ على أهل الْكفْر والضلال وَمَا مثله إِلَّا قَول المتنبي
(وَمَا كَانَ إِلَّا النَّار فِي كل مَوضِع ... يثير غبارا فِي مَكَان دُخان)(1/78)
فَتوجه خَالِد رَحمَه الله وَفتح الْحيرَة وَمَا وَرَاءَهَا من أَعمال الْعرَاق وَفتح الأنبار وَعين التَّمْر وأوقع الوقائع الْعَظِيمَة بمسالح أهل فَارس وجيوشهم حَتَّى أَخَافهُم فِي بِلَادهمْ وهم بالاقتحام عَلَيْهِم ومقاتلتهم فِي عقر دَارهم وَكتب إِلَيْهِم بكتابين يتوعدهم ويتهددهم ثمَّ صرفه أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى الشَّام فَشهد اليرموك مَعَ جيوش الْمُسلمين الَّذين كَانُوا هُنَاكَ فَفِي الأكنفاء عَن عبد الله بن أبي أوفى الْخُزَاعِيّ وَكَانَت لَهُ صُحْبَة قَالَ لما أَرَادَ أَبُو بكر أَن يُجهز الْجنُود إِلَى الشَّام دَعَا عمر وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح ووجوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من أهل بدر وَغَيرهم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَأَنا فيهم فَقَالَ إِن الله لَا تحصى نعمه وَلَا تبلغ جزاءها الْأَعْمَال فَلهُ الْحَمد كثيرا على مَا اصْطنع عنْدكُمْ ثمَّ جمع كلمتكم وَأصْلح ذَات بَيْنكُم وهداكم إِلَى الْإِسْلَام وَنفى عَنْكُم الشَّيْطَان فَلَيْسَ يطْمع أَن تُشْرِكُوا بِاللَّه وَلَا أَن تَتَّخِذُوا إِلَهًا غَيره فالعرب الْيَوْم بَنو أم وَأب وَقد رَأَيْت أَن أستنفرهم إِلَى الرّوم بِالشَّام فَمن هلك مِنْهُم هلك شَهِيدا وَمَا عِنْد الله خير للأبرار وَمن عَاشَ مِنْهُم عَاشَ مدافعا عَن الدّين مستوجبا على الله ثَوَاب الْمُجَاهدين هَذَا رَأْيِي الَّذِي رَأَيْت فليشر عَليّ امْرُؤ بمبلغ رَأْيه فَأجَاب كل من الْحَاضِرين باستصواب رَأْيه وتقوية عزمه فَجهز أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ جيوشا وَأمر عَلَيْهِم أُمَرَاء كخالد بن سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَعِكْرِمَة بن أبي جهل والوليد بن عقبَة وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وَأمر أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح على جَمِيعهم وَعين لَهُ حمص وَأوصى كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا تنبغي الْوَصِيَّة بِهِ فَكَانَ بِسَبَب تِلْكَ الجموع وقْعَة اليرموك بَين الْمُسلمين وَالروم فِي رَجَب سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة بعد وَفَاة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بِنَحْوِ شهر لِأَن وَفَاته رَضِي الله عَنهُ كَانَت مسَاء لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين العشاءين لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة فَكَانَت خِلَافَته سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَعشرَة لَيَال وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ(1/79)
خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
هُوَ أول من دعِي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ أَبُو بكر قبله يدعى خَليفَة رَسُول الله وَهُوَ أَبُو حَفْص عمر بن الْخطاب بن نفَيْل مُصَغرًا بن عبد الْعُزَّى بن ريَاح بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة بن عبد الله بن قرط بِضَم الْقَاف ابْن رزاح بِفَتْح الرَّاء بن عدي بن كَعْب بن لؤَي يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَعْب بن لؤَي ولي الْخلَافَة بعد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْن خلدون لما احْتضرَ أَبُو بكر عهد إِلَى عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْأَمر من بعده بعد أَن شاور عَلَيْهِ طَلْحَة وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَغَيرهم وَأخْبرهمْ بِمَا يُرِيد فِيهِ فَأَثْنوا على رَأْيه فَأَشْرَف على النَّاس وَقَالَ إِنِّي قد اسْتخْلفت عمر وَلم آل لكم نصحا فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا ودعا عُثْمَان فَأمره فَكتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا عهد بِهِ أَبُو بكرخليفة مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد آخر عَهده بالدنيا وَأول عَهده بِالآخِرَة فِي الْحَال الَّتِي يُؤمن فِيهَا الْكَافِر وينيب فِيهَا الْفَاجِر إِنِّي اسْتعْملت عَلَيْكُم عمر بن الْخطاب وَلم آلكم خيرا فَإِن صَبر وَعدل فَذَلِك علمي بِهِ ورأيي فِيهِ وَإِن جَار وَبدل فَلَا علم لي بِالْغَيْبِ وَالْخَيْر أردْت وَلكُل امْرِئ مَا اكْتسب {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} فَكَانَ أول مَا أنفذه من الْأُمُور عزل خَالِد بن الْوَلِيد عَن إِمَارَة الجيوش بِالشَّام وتولية أبي عُبَيْدَة وَجَاء الْخَبَر بذلك والمسلمون مواقفون عدوهم باليرموك فكتم أَبُو عُبَيْدَة الْأَمر كُله حَتَّى انْقَضى أَمر اليرموك وَكَانَ فتح دمشق بعْدهَا فَحِينَئِذٍ أظهر أَبُو عُبَيْدَة إمارته وعزل خَالِد فَسمع خَالِد وأطاع وَقيل فِي هَذَا الْخَبَر غير هَذَا مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي كتب الْفَتْح ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ سدد عزمه وأرهف حَده لغزو فَارس وَالروم فتابع عَلَيْهِم الْجنُود وَعين لكل أَمِير عمله وَعقد لأبي عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ على جَيش من الْمُسلمين وَبَعثه نَحْو الْعرَاق فاستشهد أَبُو عبيد بِموضع يُقَال لَهُ قس الناطف على الْفُرَات فولى مَكَانَهُ الْمثنى بن حَارِثَة(1/80)
الشَّيْبَانِيّ وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال نَظِير خَالِد بن الْوَلِيد فِي يمن النقيبة والجراءة على الْأَعْدَاء فأوقع بِأَهْل فَارس عدَّة وقعات مِنْهَا وقْعَة البويب قتل فِيهَا من الْفرس مائَة ألف أَو يزِيدُونَ ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْنف الْجد لجهاد فَارس وَقَالَ وَالله لَأَضرِبَن مُلُوك الْعَجم بملوك الْعَرَب فَلم يدع رَئِيسا وَلَا ذَا رَأْي وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا إِلَّا رماهم بِهِ فَرَمَاهُمْ بِوُجُوه النَّاس وَكتب إِلَى الْمثنى يَأْمُرهُ أَن يخرج بِالْمُسْلِمين من بَين الْعَجم ويتفرق بهم على الْمِيَاه بحيالهم وَأَن يَدْعُو الفرسان وَأهل النجدات من ربيعَة وَمُضر ويحضرهم طَوْعًا وَكرها
ثمَّ حج عمر سنة ثَلَاث عشرَة وَرجع إِلَى الْمَدِينَة فوافته أَمْدَاد الْعَرَب بهَا فعقد عَلَيْهِم لسعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ وولاه حَرْب الْعرَاق وأوصاه وَقَالَ يَا سعد بن أم سعد لَا يغرنك من الله أَن يُقَال خَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله لَا يمحو السىء بالسىء وَلكنه يمحو السىء بالْحسنِ وَلَيْسَ بَين الله وَبَين أحد نسب إِلَّا بِطَاعَتِهِ فَالنَّاس فِي دين الله سَوَاء الله رَبهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون مَا عِنْده بِالطَّاعَةِ فَانْظُر الْأَمر الَّذِي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْزمه فالزمه وَعَلَيْك بِالصبرِ ثمَّ سرحه فِي أَرْبَعَة آلَاف مِمَّن اجْتمع إِلَيْهِ فيهم وُجُوه الْعَرَب وأشرافها وانضاف إِلَيْهِ فِي طَريقَة جموع أخر فَكَانَت لَهُ فِي هَذَا الْوَجْه وقْعَة الْقَادِسِيَّة الْمَشْهُورَة دَامَت فِيهَا الْحَرْب بَين الْمُسلمين وَالْفرس أَرْبَعَة أَيَّام بلياليها وَقتل فِيهَا رستم زعيم الْفرس وَصَاحب حربها واستلحمت جُنُوده وَكَانَ الْفَتْح الَّذِي لم يكن لَهُ فِي الْإِسْلَام نَظِير وَذَلِكَ فِي الْمحرم سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة ثمَّ كَانَ بعْدهَا فتح الْمَدَائِن وجلولاء وَسَائِر بِلَاد الْعرَاق وَغَيرهَا من بِلَاد فَارس الْجَبَل وأرمينية وأذربيجان وسجستان وكرمان ومكران وخراسان وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَكَذَا استولى جيوش الْمُسلمين الَّذين بِالشَّام على بِلَاد الشَّام والجزيرة وأنطاكية(1/81)
وَغَيرهَا من بِلَاد الرّوم ومصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس الغرب وَغير ذَلِك
وَفِي سنة أَربع عشرَة أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ باختطاط الْبَصْرَة والكوفة بعراق الْعَرَب لما بلغه من وخامة الْبِلَاد وَأَن الْعَرَب قد تَغَيَّرت ألوانهم بالعراق فَأذن لَهُم فِي اختطاط المصرين وَأَن لَا يتجاوزوا فِي بنائهما السّنة وَيُقَال إِن اختطاط الْكُوفَة كَانَ فِي سنة سبع عشرَة
وَفِي سنة خمس عشرَة وضع عمر الدِّيوَان وَفرض الْعَطاء للْمُسلمين وَلم يكن قبل ذَلِك وروى الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمحرم سنة عشْرين
قَالَ ابْن خلدون يُقَال وضع عمر الدِّيوَان لسَبَب مَال أَتَى بِهِ أَبُو هُرَيْرَة من الْبَحْرين فاستكثروه وتعبوا فِي قسْمَة فسموا إِلَى إحصاء الْأَمْوَال وَضبط الْعَطاء والحقوق فَأَشَارَ خَالِد بن الْوَلِيد بالديوان وَقَالَ رَأَيْت مُلُوك الشَّام يدونون فَقبل مِنْهُ عمر وَقيل بل أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ الهرمزان لما رَآهُ يبْعَث الْبعُوث بِغَيْر ديوَان فَقَالَ لَهُ وَمن يعلم بغيبة من يغيب مِنْهُم فَإِن من تخلف أخل بمكانه وَإِنَّمَا يضْبط ذَلِك الْكتاب فَأثْبت لَهُم ديوانا فَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ عقيل بن أبي طَالب ومخزمة بن نَوْفَل وَجبير بن مطعم وَكَانُوا من كتاب قُرَيْش فَكَتَبُوا ديوَان العساكر الإسلامية مُرَتبا على الْأَنْسَاب مُبْتَدأ فِيهِ بِقرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب بعد أَن قَالَ عَليّ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف لعمر ابدأ بِنَفْسِك فَقَالَ لَا بل بعم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ ثمَّ بالأقرب فَالْأَقْرَب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف وَفرض لمن بعدهمْ إِلَى الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ لمن بعدهمْ ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف ثمَّ أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة ثمَّ لأهل الْقَادِسِيَّة وَأهل الشَّام أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ وَفرض لمن بعد الْقَادِسِيَّة واليرموك ألفا ألفا ولروادفهم خَمْسمِائَة خَمْسمِائَة ثمَّ ثَلَاثمِائَة ثمَّ مِائَتَيْنِ وَخمسين ثمَّ مِائَتَيْنِ وَأعْطى نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل وَاحِدَة عشرَة آلَاف وَفضل عَائِشَة بِأَلفَيْنِ وَجعل النِّسَاء على مَرَاتِب فلأهل بدر خَمْسمِائَة ثمَّ أَرْبَعمِائَة ثمَّ ثَلَاثمِائَة ثمَّ مِائَتَيْنِ وَالصبيان مائَة مائَة(1/82)
وَالْمَسَاكِين جريبين فِي الشَّهْر وَلم يتْرك فِي بَيت المَال شَيْئا وَسُئِلَ فِي ذَلِك فَأبى وَقَالَ هِيَ فتْنَة لمن بعدِي ثمَّ سَأَلَ رَضِي الله عَنهُ الصَّحَابَة فِي قوته هُوَ من بَيت المَال فأذنوا لَهُ وسألوه فِي الزِّيَادَة على لِسَان ابْنَته حَفْصَة متكتمين عَنهُ فَغَضب وَامْتنع
وَفِي سنة سِتّ عشرَة قدم جبلة بن الْأَيْهَم ملك غَسَّان على عمر رَضِي الله عَنهُ فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مُسلمين فَتَلقاهُ الْمُسلمُونَ وَدخل فِي زِيّ حسن وَبَين يَدَيْهِ جنائب مقادة وعَلى أَصْحَابه الديباج حَتَّى تطاول النِّسَاء من خُدُورهنَّ لرُؤْيَته وَأكْرم عمر وفادته وَأحسن نزله وأجله بأرفع رتب الْمُهَاجِرين ثمَّ خرج عمر لِلْحَجِّ فِي هَذِه السّنة فحج مَعَه جبلة فَبَيْنَمَا جبلة يطوف بِالْبَيْتِ إِذا وطئ رجل من فَزَارَة فضل إزَاره فَلَطَمَهُ جبلة فهشم أَنفه فَأقبل الْفَزارِيّ إِلَى عمر وشكاه فَأحْضرهُ عمر وَقَالَ لَهُ افتد نَفسك وَإِلَّا أَمرته بلطمك فَقَالَ جبلة كَيفَ ذَلِك وَأَنا ملك وَهُوَ سوقة فَقَالَ عمر إِن الْإِسْلَام جمعكما وَسوى بَين الْملك والسوقة فِي الْحَد فَقَالَ جبلة كنت أَظن أَنِّي بِالْإِسْلَامِ أعز مني فِي الْجَاهِلِيَّة فَقَالَ عمر دع عَنْك هَذَا فَقَالَ جبلة إِنِّي أتنصر فَقَالَ عمر إِن تنصرت ضربت عُنُقك فَقَالَ لَهُ أَنْظرنِي لَيْلَتي هَذِه فأنظره فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل سَار جبلة بخيلة وَرجله إِلَى الشَّام ثمَّ مِنْهَا إِلَى القسطنطينة وَتَبعهُ خَمْسمِائَة رجل من قومه فتنصروا عَن آخِرهم وَفَرح هِرقل بِهِ وأكرمه ثمَّ نَدم جبلة على فعلته تِلْكَ وَقَالَ
(تنصرت الْأَشْرَاف من عَار لطمة ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَو صبرت لَهَا ضَرَر)
(تكنفني فِيهَا لجاج ونخوة ... وبعت لَهَا الْعين الصَّحِيحَة بالعور)
(وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بقفرة ... وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر)
(وَيَا لَيْت لي بِالشَّام أدنى معيشة ... أجالس قومِي ذَاهِب السّمع وَالْبَصَر)
(أدين بِمَا دانوا بِهِ من شَرِيعَة ... وَقد يحبس العير الدجون على الدبر) وَكَانَ قد مضى رَسُول عمر إِلَى هِرقل وَشَاهد مَا هُوَ فِيهِ جبلة من النِّعْمَة(1/83)
فَأرْسل جباة بِخَمْسِمِائَة دِينَار إِلَى حسان بن ثَابت وأمضاها لَهُ عمر فمدحه حسان بن ثَابت بِأَبْيَات مِنْهَا
(إِن ابْن جَفْنَة من بَقِيَّة معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللوم)
(لم ينسني بِالشَّام إِذْ هُوَ رَبهَا ... كلا وَلَا متنصرا بالروم)
(يُعْطي الجزيل وَلَا يرَاهُ عِنْده ... إِلَّا كبعض عَطِيَّة المذموم)
وَفِي سنة سبع عشرَة جِيءَ إِلَى عمر بالهرمزان ملك الأهواز أَسِيرًا وَمَعَهُ وَفد فيهم أنس بن مَالك والأحنف بن قيس فَلَمَّا وصلوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة ألبسوه كسوته من الديباج الْمَذْهَب وَوَضَعُوا على رَأسه تاجه وَهُوَ مكلل بالياقوت ليراه عمر والمسلمون على هَيئته الَّتِي يكون عَلَيْهَا فِي ملكه فطلبوا عمر فَلم يجدوه فسألوا عَنهُ فَقيل هُوَ فِي الْمَسْجِد فَأتوهُ فَإِذا هُوَ نَائِم فجلسوا دونه فَقَالَ الهرمزان أَيْن هُوَ عمر قَالُوا هُوَ ذَا قَالَ فَأَيْنَ حرسه وحجابه قَالُوا لَيْسَ لَهُ حارس وَلَا حَاجِب فَنظر الهرمزان إِلَى عمر وَقَالَ عدلت فأمنت فَنمت واستيقظ عمر لجلبة النَّاس فَقَالَ الهرمزان قَالُوا نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وأشباهه وَأمر بِنَزْع مَا عَلَيْهِ فَنَزَعُوهُ وألبسوه ثوبا ضيقا فَقَالَ عمر كَيفَ رَأَيْت عَاقِبَة أَمر الله فِيك فَقَالَ الهرمزان لما خلى الله بَيْننَا وَبَيْنكُم فِي الْجَاهِلِيَّة غلبناكم وَلما كَانَ الله الْآن مَعكُمْ غلبتمونا
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة كَانَت مجاعَة الرَّمَادَة وطاعون عمواس وَحلف عمر لَا يَذُوق السّمن وَاللَّبن حَتَّى يحيى النَّاس واستسقى عمر بِالْعَبَّاسِ عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا وَهلك بالطاعون أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل وَيزِيد ابْن أبي سُفْيَان والْحَارث بن هِشَام وَسُهيْل بن عَمْرو وَابْنه عتبَة فِي آخَرين أمثالهم وتفانى النَّاس بِالشَّام وبالبصرة أَيْضا وَلما فحش أثر الطَّاعُون بِالشَّام أجمع عمر الْمسير إِلَيْهِ ليقسم مَوَارِيث الْمُسلمين ويتطوف على الثغور فَفعل وَرجع وَكَانَت لَهُ خرجَة أُخْرَى قبل هَذَا لفتح بَيت الْمُقَدّس
وَفِي سنة عشْرين فتح عَمْرو بن الْعَاصِ مصر والإسكندرية وَشهد الْفَتْح(1/84)
مَعَه الزبير بن الْعَوام وَجَمَاعَة من كبار الصَّحَابَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سَار عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى برقة فَصَالحه أَهلهَا على الْجِزْيَة ثمَّ سَار إِلَى طرابلس الغرب فحاصرها وَفتحهَا عنْوَة
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين كَانَت وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ على مَا سَيَأْتِي وَفِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا زلنا أعزة مُنْذُ أسلم عمر وَعنهُ أَيْضا قَالَ لما أسلم عمر كَانَ الْإِسْلَام كَالرّجلِ الْمقبل لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة وَلما مَاتَ عمر كَانَ الْإِسْلَام كَالرّجلِ الْمُدبر لَا يزْدَاد إِلَّا ضعفا وَعند ابْن أبي شيبَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ إِسْلَام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رَحْمَة وَفِي الصَّحِيح أَيْضا عَن ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (بَينا أَنا نَائِم رَأَيْتنِي على قليب وَعَلَيْهَا دلو فنزعت مِنْهَا مَا شَاءَ الله ثمَّ أَخذهَا ابْن أبي قُحَافَة فَنزع مِنْهَا ذنوبا أَو ذنوبين وَفِي نَزعه ضعف وَالله يغْفر لَهُ ثمَّ استحالت غربا فَأَخذهَا عمر بن الْخطاب فَلم أر عبقريا من النَّاس ينْزع نزع عمر وَفِي رِوَايَة فَلم أر عبقريا من النَّاس يفري فريه حَتَّى ضرب النَّاس بِعَطَن) قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله قَالُوا هَذَا الْمَنَام مِثَال لما جرى للخليفتين من ظُهُور آثارهما الصَّالِحَة وانتفاع النَّاس بهما وكل ذَلِك مَأْخُوذ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ صَاحب الْأَمر فَقَامَ بِهِ أكمل قيام وَقرر قَوَاعِد الدّين ثمَّ خَلفه أَبُو بكر فقاتل أهل الرِّدَّة وَقطع دابرهم ثمَّ خَلفه عمر فطالت مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَزِيَادَة واتسع الْإِسْلَام فِي زَمَانه فَشبه أَمر الْمُسلمين بقليب فِيهِ المَاء الَّذِي فِيهِ حياتهم وصلاحهم وأميرهم بالمستقي لَهُم مِنْهَا وسعته هِيَ قِيَامه بمصالحهم اه
قلت من تَأمل أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ علم أَنه كَانَ عجبا من الْعجب فَإِنَّهُ عمد إِلَى ثَلَاث دوَل هِيَ أعظم دوَل الْعَالم فِي ذَلِك الْوَقْت دولة الْفرس ودولة الرّوم ودولة القبط فحاربهم فِي نفس وَاحِد وَفرق جيوشه عَلَيْهِم مَعَ قلَّة الْمُسلمين إِذْ ذَاك وشظف عيشهم فَغَلَبَهُمْ على ممالكهم وأزال عزهم وَكسر كراسيهم وأمات نخوتهم بِحَيْثُ ضرب الْجِزْيَة على رقابهم طول أحقابهم(1/85)
فَلم يطالبوا بعْدهَا بثأر وَلَا عَادوا إِلَى جماح ونفار بل أعْطوا القادة وَأَسْلمُوا أنفسهم للصغار ثمَّ لم يكتف بذلك حَتَّى أغزى خيل الْمُسلمين أَطْرَاف الْمَعْمُور من خُرَاسَان وَالتّرْك وبلاد النّوبَة وبلاد البربر ولعمري مَا أَمر الْإِسْكَنْدَر الَّذِي تضرب الْأُمَم بِهِ الْمثل فِي الْغَلَبَة والتمكن فِي الأَرْض إِلَّا دون أَمر عمر بِكَثِير فَإِن الْإِسْكَنْدَر كَانَ غازيا بِجَمِيعِ جَيْشه مُتَوَلِّيًا ذَلِك بِنَفسِهِ جوالا فِي الأَرْض غير مُقيم ووجهته فِي حروبه وجهة وَاحِدَة كلما فرغ من مملكة انْتقل إِلَى غَيرهَا تَارِكًا للَّتِي خلف وَرَاءه غير ملتفت إِلَيْهَا وَكَأَنَّهُ كَانَ لَا عرض لَهُ إِلَّا فِي إِظْهَار الْقُوَّة والبطش وَالْغَلَبَة على الْأُمَم دون مَا سوى ذَلِك من تصريف الممالك طوع الْأَمر وَالنَّهْي وَلذَا قَالَ حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه تواريخ الْأُمَم وَمَا رَوَاهُ الْقصاص من إِن الْإِسْكَنْدَر بنى بِأَرْض إيران عدَّة مدن مِنْهَا أَصْبَهَان ومرو وهراة وسمرقند فَحَدِيث لَا أصل لَهُ لِأَن الرجل كَانَ مخربا لَا عَامِرًا اه فَأَما عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ لما استولت جيوشه على أَكثر الْمَعْمُور صرف ممالكها طوع أمره حَتَّى جبي إِلَيْهِ خراجها وَثبتت استقامتها وَزَالَ اعوجاجها أقوى مَا كَانُوا شَوْكَة وَأَشد قُوَّة واكثر حامية وَلم يمت رَحمَه الله حَتَّى انْتَهَت خيله فِي جِهَة الشرق إِلَى نهر بَلخ وَفِي جِهَة الشمَال إِلَى الْبَيْضَاء على مِائَتي فَرسَخ من بلنجر وَفِي جِهَة الْمغرب إِلَى تخوم الرّوم وبلاد برقة وطرابلس الغرب كل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة لم يُجَاوز معظمها الثَّلَاث سِنِين وَهُوَ مَعَ ذَلِك فِي جَوف بَيته مُتَرَدّد فِيمَا بَين منزله ومسجده لم يسْتَعْمل لذَلِك كثير أَسبَاب وَلَا أجلب بِنَفسِهِ بخيل وَلَا ركاب إِنَّمَا هُوَ الرَّأْي الميمون والنصر الْمَضْمُون وَالْأَمر الْجَارِي بَين الْكَاف وَالنُّون والوعد الْمُنجز بقوله تَعَالَى {لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} فَأَما وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ فروى ابْن سعد بِإِسْنَاد صَحِيح أَن عمر كَانَ لَا يَأْذَن لمن احْتَلَمَ من أَوْلَاد الْعَجم فِي دُخُول الْمَدِينَة حَتَّى كتب إِلَيْهِ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَهُوَ على الْكُوفَة فَذكر لَهُ أَن عِنْده غُلَاما صنعا وَهُوَ يَسْتَأْذِنهُ أَن يدْخلهُ الْمَدِينَة وَيَقُول إِن لَهُ أعمالا تَنْفَع(1/86)
النَّاس إِنَّه حداد نقاش نجار فَأذن لَهُ عمر وَضرب عَلَيْهِ مَوْلَاهُ كل شهر مائَة فَشكى إِلَى عمر شدَّة الْخراج فَقَالَ لَهُ مَا خراجك بِكَثِير فِي جنب مَا تعْمل فَانْصَرف ساخطا فَلبث عمر ليَالِي فَمر بِهِ العَبْد فَقَالَ عمر ألم أحدث أَنَّك تَقول لَو شِئْت لصنعت رحى تطحن بِالرِّيحِ فَالْتَفت إِلَيْهِ عَابِسا فَقَالَ لأصنعن لَك رحى يتحدث النَّاس بهَا فَأقبل عمر على من مَعَه فَقَالَ توعدني العَبْد فَلبث ليَالِي ثمَّ اشْتَمَل على خنجر ذِي رَأْسَيْنِ نصابه فِي وَسطه فكمن فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد فِي الْغَلَس حَتَّى خرج عمر يوقظ النَّاس للصَّلَاة وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك فَلَمَّا دنا عمر وثب عَلَيْهِ فطعنه ثَلَاث طعنات إِحْدَاهُنَّ تَحت السُّرَّة قد خرقت الصفاق وَهِي الَّتِي قتلته
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ رَأَيْت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل أَن يصاب بأيام بِالْمَدِينَةِ وقف على حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعُثْمَان بن حنيف قَالَ كَيفَ فعلتما فِي أَرض السوَاد أتخافان أَن تَكُونَا قد حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق يَعْنِي من الْخراج قَالَا حملناها أمرا هِيَ لَهُ مطيقة مَا فِيهَا كَبِير فضل قَالَ انظرا أَن تَكُونَا حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق قَالَا لَا فَقَالَ عمر لَئِن سلمني الله تَعَالَى لأدعن أرامل أهل الْعرَاق لَا يحتجن إِلَى رجل بعدِي أبدا قَالَ فَمَا أَتَت عَلَيْهِ رَابِعَة حَتَّى أُصِيب قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون إِنِّي لقائم مَا بيني وَبَينه إِلَّا عبد الله بن عَبَّاس غَدَاة أُصِيب وَكَانَ إِذا مر بَين الصفين قَالَ اسْتَووا حَتَّى إِذا لم ير فِيهِنَّ خللا تقدم فَكبر وَرُبمَا قَرَأَ سُورَة يُوسُف أَو النَّحْل أَو نَحْو ذَلِك فِي الرَّكْعَة الأولى حَتَّى يجْتَمع النَّاس فَمَا هُوَ إِلَّا أَن كبر فَسَمعته يَقُول قتلني أَو أكلني الْكَلْب حِين طعنه أَبُو لؤلؤة واسْمه فَيْرُوز فطار العلج بسكين ذَات طرفين لَا يمر على أحد يَمِينا وَلَا شمالا إِلَّا طعنه حَتَّى طعن ثَلَاثَة عشر رجلا مَاتَ مِنْهُم سَبْعَة فَلَمَّا رأى ذَلِك رجل من الْمُسلمين واسْمه حطاب التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي طرح عَلَيْهِ برنوسا فَلَمَّا ظن العلج أَنه مَأْخُوذ نحر نَفسه وَتَنَاول عمر يَد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فقدمه فَمن يَلِي عمر فقد رأى الَّذِي أرى وَأما نواحي الْمَسْجِد فَإِنَّهُم لَا(1/87)
يَدْرُونَ غير أَنهم قد فقدوا صَوت عمر وهم يَقُولُونَ سُبْحَانَ الله سُبْحَانَ الله فصلى بهم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف صَلَاة خَفِيفَة فَلَمَّا انصرفوا قَالَ يَا ابْن عَبَّاس انْظُر من قتلني فجال سَاعَة ثمَّ جَاءَ فَقَالَ غُلَام الْمُغيرَة قَالَ الصنع قَالَ نعم قَالَ قَاتله الله لقد أمرت بِهِ مَعْرُوفا الْحَمد لله الَّذِي لم يَجْعَل ميتتي بيد رجل يَدعِي الْإِسْلَام قد كنت أَنْت وَأَبُوك تحبان أَن تكْثر العلوج بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم رَقِيقا قَالَ إِن شِئْت فعلنَا أَي إِن شِئْت قتلنَا قَالَ كذبت بَعْدَمَا تكلمُوا بلسانكم وصلوا إِلَى قبلتكم وحجوا حَجكُمْ فَاحْتمل إِلَى بَيته فَانْطَلَقْنَا مَعَه وَكَانَ النَّاس لم تصبهم مُصِيبَة قبل يَوْمئِذٍ فَقَائِل يَقُول لَا بَأْس وَقَائِل يَقُول أَخَاف عَلَيْهِ فَأتي بنبيذ فشربه فَخرج من جرحه ثمَّ أُتِي بِلَبن فشربه فَخرج من جرحه فَعَلمُوا أَنه ميت فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاء النَّاس يثنون عَلَيْهِ وَجَاء رجل شَاب فَقَالَ أبشر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببشرى الله لَك بِصُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقدم فِي الْإِسْلَام مَا قد علمت ثمَّ وليت فعدلت ثمَّ شَهَادَة قَالَ وددت أَن ذَلِك كفاف لَا عَليّ وَلَا لي فَلَمَّا أدبر الشَّاب إِذا إزَاره يمس الأَرْض قَالَ ردوا عَليّ الْغُلَام قَالَ يَا ابْن أخي ارْفَعْ ثَوْبك فَإِنَّهُ أنقى لثوبك وَأتقى لِرَبِّك يَا عبد الله بن عمر انْظُر مَاذَا عَليّ من الدّين فحسبوه فوجدوه سِتَّة وَثَمَانِينَ ألفا أَو نَحوه قَالَ إِن وفى لَهُ مَال آل عمر فأده من أَمْوَالهم وَإِلَّا فاسأل فِي بني عدي بن كَعْب فَإِن لم تف أَمْوَالهم فاسأل فِي قُرَيْش وَلَا تعدهم إِلَى غَيرهم فأد عني هَذَا المَال انْطلق إِلَى عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ فَقل يقْرَأ عَلَيْك عمر السَّلَام وَلَا تقل أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي لست الْيَوْم للْمُؤْمِنين أَمِيرا وَقل يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ فَسلم وَاسْتَأْذَنَ ثمَّ دخل عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَة تبْكي فَقَالَ يقْرَأ عَلَيْك عمر بن الْخطاب السَّلَام ويستأذن أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ فَقَالَت كنت أريده لنَفْسي ولأوثرنه بِهِ الْيَوْم على نَفسِي فَلَمَّا أقبل قيل هَذَا عبد الله بن عمر قد جَاءَ قَالَ ارفعوني فأسنده رجل إِلَيْهِ فَقَالَ مَا لديك قَالَ الَّذِي تحب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَذِنت قَالَ الْحَمد لله مَا كَانَ من شَيْء(1/88)
أهم عَليّ من ذَلِك فَإِذا أَنا قضيت فاحملوني ثمَّ سلم فَقل يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب فَإِن أَذِنت لي فادخلوني وَإِن ردتني ردوني إِلَى مَقَابِر الْمُسلمين وَجَاءَت أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة وَالنِّسَاء تسير مَعهَا فَلَمَّا رأيناها قمنا فولجت عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْده سَاعَة وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَال فولجت دَاخِلا لَهُم فسمعنا بكاءها من الدَّاخِل فَقَالُوا أوص يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اسْتخْلف قَالَ مَا أجد أحدا أَحَق بِهَذَا الْأَمر من هَؤُلَاءِ النَّفر أَو الرَّهْط الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَنْهُم رَاض فَسمى عليا وَعُثْمَان وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وسعدا وَعبد الرَّحْمَن وَقَالَ يشهدكم عبد الله بن عمر وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء كهينة التَّعْزِيَة لَهُ فَإِن أَصَابَت الْإِمَارَة سَعْدا فَهُوَ ذَاك وَإِلَّا فليستعن بِهِ أَيّكُم مَا أَمر فَإِنِّي لم أعزله عَن عجز وَلَا خِيَانَة وَقَالَ أوصِي الْخَلِيفَة من بعدِي بالمهاجرين الْأَوَّلين أَن يعرف لَهُم حَقهم ويحفظ لَهُم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم أَن يقبل من محسنهم وَأَن يعفي عَن مسيئهم وأوصيه بالأنصار خيرا فَإِنَّهُم ردء الْإِسْلَام وجباة المَال وغيظ الْعَدو وَأَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُم إِلَّا فَضلهمْ عَن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فَإِنَّهُم أصل الْعَرَب ومادة الْإِسْلَام أَن يُؤْخَذ من حَوَاشِي أَمْوَالهم وَترد على فقرائهم وأوصيه بِذِمَّة الله وَذمَّة رَسُوله أَن يُوفي لَهُم بعدهمْ وَأَن يُقَاتل من ورائهم وَلَا يكلفوا إِلَّا طاقتهم فَلَمَّا قبض خرجنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نمشي فَسلم عبد الله بن عمر وَقَالَ يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب قَالَت أدخلوه فَأدْخل فَوضع هُنَالك مَعَ صَاحِبيهِ فَلَمَّا فرغ من دَفنه اجْتمع هَؤُلَاءِ الرَّهْط فَقَالَ عبد الرَّحْمَن اجعلوا أَمركُم إِلَى ثَلَاثَة مِنْكُم فَقَالَ الزبير قد جعلت أَمْرِي إِلَى عَليّ فَقَالَ طَلْحَة قد جعلت أَمْرِي إِلَى عُثْمَان وَقَالَ سعد قد جعلت أَمْرِي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقَالَ عبد الرَّحْمَن أيكما يتبرأ من هَذَا الْأَمر فنجعله إِلَيْهِ وَالله عَلَيْهِ وَالْإِسْلَام لينظرن أفضلهم فِي نَفسه فأسكت الشَّيْخَانِ فَقَالَ عبد الرَّحْمَن أفتجعلونه إِلَيّ وَالله على أَن لَا آلو عَن أفضلكم قَالَا نعم فَأخذ بيد أَحدهمَا فَقَالَ لَك(1/89)
من قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقدم مَا قد علمت فَالله عَلَيْك لَئِن أَمرتك لتعدلن وَلَئِن أمرت عُثْمَان لتسمعن ولتطيعن ثمَّ خلا بِالْآخرِ فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك فَلَمَّا أَخذ الْمِيثَاق قَالَ ارْفَعْ يدك يَا عُثْمَان فَبَايعهُ وَبَايع لَهُ عَليّ وولج أهل الدَّار فَبَايعُوهُ اه
وَكَانَت وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ يَوْم السبت منسلخ ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وَدفن يَوْم الْأَحَد هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام كَذَا لأبي الْفِدَاء وَفِي حَدِيث عَائِشَة مِمَّا أخرجه أَبُو عمر بن عبد الْبر ناحت الْجِنّ على عمر رَضِي الله عَنهُ قبل أَن يَمُوت بِثَلَاث فَقَالَت
(أبعد قَتِيل بِالْمَدِينَةِ أظلمت ... لَهُ الأَرْض تهتز العضاه بأسوق)
(جزى الله خيرا من إِمَام وباركت ... يَد الله فِي ذَاك الْأَدِيم الممزق)
(فَمن يسع أَو يركب جنَاح نعَامَة ... ليدرك مَا قدمت بالْأَمْس يسْبق)
(قضيت أمورا ثمَّ غادرت بعْدهَا ... بوائق من أكمامها لم تفتق)
خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ
هُوَ أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف ولي الْخلَافَة بعد عمر رَضِي الله عَنهُ بِاخْتِيَار أهل الشورى لَهُ وَقد تقدم خبر ذَلِك مُسْتَوفى وَلما بُويِعَ رقى الْمِنْبَر وَقَامَ خَطِيبًا فَحَمدَ الله وَتشهد ثمَّ ارتج عَلَيْهِ فَقَالَ إِن أول كل أَمر صَعب وَإِن أعش فستأتيكم الْخطب على وَجههَا إِن شَاءَ الله ثمَّ نزل وَأقر عُمَّال عمر كلهم إِلَّا مَا كَانَ من الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَمِير الْكُوفَة فَإِنَّهُ عَزله واستبدل بِهِ سعد بن أبي وَقاص لوَصِيَّة عمر بذلك ثمَّ بعد مُدَّة نَحْو سنة عزل من عزل من عُمَّال عمر واستبدل بهم آخَرين كَانَ فيهم من هُوَ من قرَابَته فعزل سعد بن أبي وَقاص عَن الْكُوفَة وَولى عَلَيْهَا الْوَلِيد بن عقبَة وَكَانَ أَخا عُثْمَان من أمه وعزل عَمْرو بن الْعَاصِ عَن مصر وَولى عَلَيْهَا(1/90)
عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وَكَانَ أَخَاهُ من الرضَاعَة ثمَّ عزل بعد ذَلِك أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن الْبَصْرَة وَولى عَلَيْهَا عبد الله بن عَامر بن كريز وَهُوَ ابْن خَاله واستكتب مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ وَهُوَ ابْن عَمه كل ذَلِك كَانَ لمصْلحَة اقتضاها الْحَال وَضم حمص وقنسرين وفلسطين وَغَيرهَا من بِلَاد الشَّام إِلَى مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أَمِير دمشق وَمضى رَضِي الله عَنهُ على سنَن عمر فِي الْجِهَاد وتجهيز الجيوش وتكتيب الْكَتَائِب حَتَّى اتسعت خطة الْإِسْلَام اتساعا أعظم مِنْهُ فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ لأوّل خلَافَة عُثْمَان قد انْتقض بعض الثغور والجهات مثل الْإسْكَنْدَريَّة وَبَعض بِلَاد الْعَجم وَفَارِس وَنَحْو ذَلِك فتلاقاها بالغزو والبعوث حَتَّى عَادَتْ إِلَى الطَّاعَة وَأَدت مَا كَانَت تُؤَدِّيه أَيَّام عمر أَو أَكثر وَفتح عَلَيْهِ بِلَاد أرمينية مثل تفليس وقاليقلا وخلاط والسيرجان وعدة حصون وانْتهى الْفَتْح إِلَى مَدِينَة الْبَاب وَكَانَ ذَلِك على يَد سُلَيْمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ سنة أَربع وَعشْرين وغزا مُعَاوِيَة صَاحب الشَّام أَيْضا بِلَاد الرّوم حَتَّى بلغ عمورية وَوجد مَا بَين أنطاكية وطرطوس من حصون الرّوم خَالِيا فَجمع فِيهَا العساكر حَتَّى رَجَعَ وخربها وَكَذَا استتم الْمُسلمُونَ فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فتح مدن خُرَاسَان والجوزجان والطالقان وطخارستان وَمَا وَرَاء النَّهر إِلَى فرغانة فِي الشرق وانْتهى الْفَتْح أَيْضا إِلَى كابل وزابلستان وَهِي بِلَاد غزنة من ثغور الْهِنْد فِي الْجنُوب(1/91)
فتح أفريقية
وَفتح فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إفريقية أَيْضا من بِلَاد الْمغرب وَكَانَ من خَبَرهَا أَنه لما كَانَت سنة سِتّ وَعشْرين من الْهِجْرَة عزل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ عَن خراج مصر وَاسْتعْمل مَكَانَهُ عبد الله بن سعد بن أبي سرح رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا قدم ابْن أبي سرح مصر كَانَ على خراجها وَعَمْرو بن الْعَاصِ على حربها فَكتب ابْن أبي سرح إِلَى عُثْمَان يشكو عمرا فاستقدمه عُثْمَان واستقل ابْن أبي سرح بالخراج وَالْحَرب مَعًا ثمَّ أمره عُثْمَان بغزو إفريقية بعد أَن كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ اسْتَشَارَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي غزوها فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ لَهُ تِلْكَ المفرقة وَلَيْسَت بإفريقية أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَلما أَمر عُثْمَان بن أبي سرح بغزوها قَالَ لَهُ إِن فتح الله عَلَيْك فلك خمس الْخمس من الْغَنَائِم ثمَّ عقد عُثْمَان لعبد الله بن نَافِع بن عبد الْقَيْس على جند ولعَبْد الله بن نَافِع بن الْحَارِث على آخر وسرحهما فَخَرجُوا إِلَى أفريقية فِي عشرَة آلَاف وصالحهم أَهلهَا على مَال يؤدونه وَلم يقدروا على التوغل فِيهَا لِكَثْرَة أَهلهَا ثمَّ إِن ابْن أبي سرح اسْتَأْذن عُثْمَان فِي ذَلِك واستمده فَاسْتَشَارَ عُثْمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فأشاروا بِهِ فَجهز العساكر من الْمَدِينَة وَفِيهِمْ جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَابْن جَعْفَر وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَسَارُوا مَعَ ابْن أبي سرح سنة سِتّ وَعشْرين ولقيهم عقبَة بن نَافِع فِيمَن مَعَه من الْمُسلمين ببرقة ثمَّ سَارُوا إِلَى طرابلس فنهبوا(1/92)
الرّوم عِنْدهَا ثمَّ سَارُوا إِلَى إفريقية وبثوا السَّرَايَا فِي كل نَاحيَة وَكَانَ ملكهم جرجير يملك مَا بَين طرابلس وطنجة تَحت ولَايَة هِرقل وَيحمل إِلَيْهِ الْخراج فَلَمَّا بلغه الْخَبَر جمع مائَة وَعشْرين ألفا من العساكر ولقيهم على يَوْم وَلَيْلَة من سبيطلة دَار ملكهم وَأَقَامُوا يقتتلون وَدعوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير مدَدا بَعثه عُثْمَان لما أَبْطَأت أخبارهم وَسمع جرجير بوصول المدد ففت فِي عضده وَشهد ابْن الزبير مَعَهم الْقِتَال وَقد غَابَ ابْن أبي سرح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سمع مُنَادِي جرجير يَقُول من قتل ابْن أبي سرح فَلهُ مائَة ألف دِينَار وأزوجه ابْنَتي فخاف وَتَأَخر عَن شُهُود الْقِتَال فَقَالَ لَهُ ابْن الزبير تنادي أَنْت بِأَن من قتل جرجير نفلته مائَة ألف وَزَوجته ابْنَته واستعملته على بِلَاده فخاف جرجير أَشد مِنْهُ ثمَّ قَالَ عبد الله بن الزبير لِابْنِ أبي سرح الرَّأْي أَن تتْرك جمَاعَة من أبطال الْمُسلمين الْمَشَاهِير متأهبين للحرب وتقاتل الرّوم بباقي الْعَسْكَر إِلَى أَن يضجروا فتركبهم بالآخرين على غرَّة لَعَلَّ الله ينصرنا عَلَيْهِم وَوَافَقَ على ذَلِك أَعْيَان الصَّحَابَة فَفَعَلُوا ذَلِك وركبوا من الْغَد إِلَى الزَّوَال وألحوا عَلَيْهِم حَتَّى أتعبوهم ثمَّ افْتَرَقُوا وأركب عبد الله الْفَرِيق الَّذين كَانُوا مستريحين فكبروا وحملوا حَملَة رجل وَاحِد حَتَّى غشوا الرّوم فِي خيامهم فَانْهَزَمُوا وَقتل كثير مِنْهُم وَقتل ابْن الزبير جرجير وَأخذت ابْنَته سبية فنفلها ابْن أبي سرح ابْن الزبير ثمَّ حاصر ابْن أبي سرح سبيطلة حَتَّى فتحهَا وَكَانَ سهم الْفَارِس فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَسَهْم الراجل ألفا وَبث جيوشه فِي الْبِلَاد إِلَى قفصه فَسبوا وغنموا وَبعث عسكرا إِلَى حصن الأجم وَقد اجْتمع بِهِ أهل الْبِلَاد فحاصره وفتحه على الْأمان ثمَّ صَالحه أهل أفريقية على ألفي ألف وَخَمْسمِائة ألف دِينَار وَأرْسل عبد الله بن أبي سرح عبد الله بن الزبير بِخَبَر الْفَتْح وبالخمس إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَاشْتَرَاهُ مَرْوَان بن الحكم بِخَمْسِمِائَة ألف دِينَار ثمَّ وَضعهَا عَنهُ عُثْمَان وَأعْطى ابْن أبي سرح خمس الْخمس من الْغَزْوَة الأولى ثمَّ بعد تَمام الصُّلْح رَجَعَ عبد الله بن أبي سرح(1/93)
إِلَى مصر بعد مقَامه بأفريقية سنة وَثَلَاثَة أشهر وَيُقَال إِنَّه لما فتح إفريقية أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عبد الله بن نَافِع أَن يسير إِلَى جِهَة الأندلس فغزا تِلْكَ الْجِهَة وَعَاد إِلَى أفريقية فَأَقَامَ بهَا واليا من قبل عُثْمَان وَرجع ابْن أبي سرح إِلَى مصر وَالله أعلم
وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين اسْتَأْذن مُعَاوِيَة عُثْمَان فِي غَزْو الْبَحْر فَأذن لَهُ وَقد كَانَ مُعَاوِيَة وَهُوَ بحمص أَيَّام عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَيْهِ فِي شَأْن جَزِيرَة قبرص يَقُول إِن قَرْيَة من قرى حمص يسمع أَهلهَا نباح كلاب قبرص وصياح ديوكهم فَكتب عمر إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول صف لي الْبَحْر وراكبه فَكتب إِلَيْهِ عَمْرو يَقُول هُوَ خلق كَبِير يركبه خلق صَغِير لَيْسَ إِلَّا السَّمَاء وَالْمَاء إِن ركد أقلق الْقُلُوب وَإِن تحرّك أزاغ الْعُقُول يزْدَاد فِيهِ الْيَقِين قلَّة وَالشَّكّ كَثْرَة وراكبه دود على عود إِن مَال غرق وَإِن نجا فرق فَكتب عمر إِلَى مُعَاوِيَة وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَا أحمل فِيهِ مُسلما أبدا وَقد بَلغنِي أَن بَحر الشَّام يشرف على أطول جبل بِالْأَرْضِ فيستأذن الله كل يَوْم وَلَيْلَة فِي أَن يغرق الأَرْض فَكيف أحمل الْجنُود على هَذَا الْبَحْر الْكَافِر وَبِاللَّهِ لمُسلم وَاحِد أحب إِلَيّ مِمَّا حوت الرّوم فإياك أَن تعرض لي فِي ذَلِك فقد علمت مَا لَقِي الْعَلَاء مني ثمَّ لما كَانَت خلَافَة عُثْمَان ألح مُعَاوِيَة عَلَيْهِ فِي غَزْو الْبَحْر فَأَجَابَهُ على خِيَار النَّاس وطوعهم فَاخْتَارَ الْغَزْو جمَاعَة من الصَّحَابَة فيهم أَبُو ذَر وَأَبُو الدَّرْدَاء وَشَدَّاد بن أَوْس وَعبادَة بن الصَّامِت وزوجه أم حرَام بنت ملْحَان وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عبد الله بن قيس حَلِيف بني فَزَارَة وَسَارُوا إِلَى قبرص وَجَاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فَاجْتمعُوا عَلَيْهَا وصالحهم أَهلهَا على سَبْعَة آلَاف دِينَار لكل سنة ويؤدون مثلهَا للروم وَلَا مَنْعَة لَهُم على الْمُسلمين مِمَّن أَرَادَهُم من سواهُم وعَلى أَن يَكُونُوا عينا للْمُسلمين على عدوهم وَيكون طَرِيق الْغَزْو للْمُسلمين عَلَيْهِم وَكَانَت هَذِه(1/94)
الْغُزَاة سنة ثَمَان وَعشْرين كَمَا قدمنَا وَقيل غير ذَلِك وفيهَا توفيت أم حرَام بنت ملْحَان سَقَطت عَن دابتها حِين خرجت من الْبَحْر وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهَا بذلك وَهُوَ نَائِم عِنْدهَا كَمَا فِي الصَّحِيح وَأقَام عبد الله بن قيس على الْبَحْر فغزا خمسين غَزْوَة لم ينكب فِيهَا أحد إِلَى أَن نزل فِي بعض الْأَيَّام فِي سَاحل المرفأ من أَرض الرّوم فثاروا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَنَجَا الملاح وَكَانَ اسْتخْلف سُفْيَان بن عَوْف الْأَزْدِيّ على السفن فجَاء إِلَى أهل المرفأ وَقَاتلهمْ حَتَّى قتل وَقتل مَعَه جمَاعَة من الْمُسلمين
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ جمع عُثْمَان الْقُرْآن الْجمع الثَّانِي فِي الْمَصَاحِف وفيهَا هلك يزدجرد كسْرَى فَارًّا من جيوش الْمُسلمين بِمَدِينَة مرو من خُرَاسَان وَهُوَ آخر الأكاسرة وبموته انقرضت دولة آل ساسان وَكَانَ من خبر جمع الْقُرْآن مَا أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن شهَاب أَن أنس بن مَالك حَدثهُ أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قدم على عُثْمَان وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية وأذربيجان مَعَ أهل الْعرَاق فأفزع حُذَيْفَة اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة فَقَالَ حُذَيْفَة لعُثْمَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف ثمَّ نردها إِلَيْك فَأرْسلت بهَا حَفْصَة إِلَى عُثْمَان فَأمر زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام فنسخوها فِي الْمَصَاحِف وَقَالَ عُثْمَان للرهط القرشيين الثَّلَاثَة إِذا اختلفتم أَنْتُم وَزيد بن ثَابت فِي شَيْء من الْقُرْآن فاكتبوه بِلِسَان قُرَيْش فَإِنَّمَا نزل بلسانهم فَفَعَلُوا حَتَّى إِذا نسخوا الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف رد عُثْمَان الصُّحُف إِلَى حَفْصَة فَأرْسل إِلَى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا وَأمر بِمَا سواهُ من الْقُرْآن فِي كل صحيفَة أَو مصحف أَن يحرق قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي خَارِجَة بن زيد بن ثَابت أَنه سمع أَبَاهُ زيد بن ثَابت قَالَ فقدت آيَة من الْأَحْزَاب حِين نسخنا الْمُصحف قد كنت أسمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بهَا فالتمسناها فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَة بن ثَابت الْأنْصَارِيّ {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا}(1/95)
عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ) فألحقناها فِي سورتها فِي الْمُصحف
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ تكلم جمَاعَة من أهل الْكُوفَة فِي عُثْمَان بِأَنَّهُ ولى جمَاعَة من أهل بَيته لَا يصلحون للولاية ونقموا عَلَيْهِ أمورا أخر لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكرهَا مَعَ أَنه كَانَ فِيهَا مُجْتَهدا وَذَلِكَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِيهِ مزِيد حَيَاء ورأفة وبرور بأقاربه وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مرهوب الْجَانِب عِنْد الْخَاصَّة والعامة لَهُ عين كالئة على الرّعية بَصيرًا بِمَا يأْتونَ ويذرون مُحدثا فِي ذَلِك كَمَا أخبر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ من الحزم والضبط على مَا وَصفته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذْ قَالَت رحم الله عمر كَانَ أحوذ بِهِ نَسِيج وَحده قد أعد للأمور أقرانها فَكَانَ عُثْمَان أَلين جانبا من عمر فتوسع النَّاس فِي زَمَانه فِي أُمُور الدُّنْيَا أَكثر مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زمَان عمر واستعملوا النفيس من الملبس والمسكن والمطعم واقتنوا الضّيَاع والآثاث
قَالَ المَسْعُودِيّ فِي مروج الذَّهَب وَفِي أَيَّام عُثْمَان اقتنى الصَّحَابَة الضّيَاع وَالْمَال فَكَانَ لَهُ يَوْم قتل عِنْد خازنه خَمْسُونَ وَمِائَة ألف دِينَار وَألف ألف دِرْهَم وَقِيمَة ضيَاعه بوادي الْقرى وحنين وَغَيرهمَا مائَة ألف دِينَار وَخلف إبِلا وخيلا كَثِيرَة وَبلغ الثّمن الْوَاحِد من مَتْرُوك الزبير بعد وَفَاته خمسين ألف دِينَار وَخلف ألف فرس وَألف أمة وَكَانَت غلَّة إِلَى طَلْحَة من الْعرَاق ألف دِينَار كل يَوْم وَمن نَاحيَة السراة أَكثر من ذَلِك وَكَانَ على مربط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ألف فرس وَله ألف بعير وَعشرَة آلَاف من الْغنم وَبلغ الرّبع من متروكه بعد وَفَاته أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألفا وَخلف زيد بن ثَابت من الْفضة وَالذَّهَب مَا كَانَ يكسر بالفؤوس غير مَا خلف من الْأَمْوَال والضياع بِمِائَة ألف دِينَار وَبنى الزبير دَاره بِالْبَصْرَةِ وَكَذَلِكَ بنى بِمصْر والإسكندرية والكوفة وَكَذَلِكَ بنى طَلْحَة دَاره بِالْكُوفَةِ وشيد دَاره بِالْمَدِينَةِ وبناها بالجص والآجر والساج وَبنى سعد بن أبي وَقاص دَاره بالعقيق وَرفع سمكها وأوسع فضاءها وَجعل على أَعْلَاهَا شرفات وَبنى الْمِقْدَاد دَاره بِالْمَدِينَةِ وَجعلهَا مجصصة الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَخلف يعلى بن منية خمسين ألف دِينَار وَغير(1/96)
ذَلِك مِمَّا قِيمَته ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم اه كَلَام المَسْعُودِيّ فاستحالت الْأَحْوَال فِي زمَان عُثْمَان كَمَا ترى وَلما رأى ذَلِك بعض النَّاس مِمَّن لم يكن لَهُ رسوخ فِي الْفِقْه وَالدّين وَلَا هُوَ من أهل السَّابِقَة من فضلاء الصَّحَابَة وَالْمُسْلِمين صَارُوا ينقمون على عُثْمَان بِأَنَّهُ أهمل أَمر الرّعية وَخَالف سيرة العمرين مَعَ مَا أنضاف إِلَى ذَلِك من تَوْلِيَة أَقَاربه وحاشاه من ذَلِك رَضِي الله عَنهُ فَإِن الرجل كَانَ مُجْتَهدا وَهُوَ أهل للِاجْتِهَاد وَمَا تخيلوه من إهماله أَمر الرّعية حَتَّى اسْتَحَالَ أمرهَا إِلَى مَا ذكر تخيل بَاطِل إِذْ لَيْسَ فِي طوقه وَلَا بِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا طبيعة الْعمرَان البشري تَقْتَضِي ذَلِك بِسَبَب مَا فتح على الْمُسلمين من الأقاليم والممالك والأقطار والنواحي والأمصار وترادف الجبايات الفائقة الْحصْر وانثيال كنوز كسْرَى وَقَيْصَر وَغَيرهم من مُلُوك الأَرْض عَلَيْهِم فَأنى يبْقى الْأَمر على حَاله مَعَ هَذَا الْفَتْح العجيب والنصر الْغَرِيب وَقد قيل دوَام الْحَال من الْمحَال وَالنَّاس لَيْسُوا على قدم وَاحِد فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا فَالْحق الَّذِي لَا عوج فِيهِ وَلَا أمت أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ على الْحق حَتَّى لَقِي ربه وَمَا يعتدون بِهِ عَلَيْهِ من مُخَالفَة الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا إِن صَحَّ فمحله الِاجْتِهَاد كَمَا قُلْنَا وَمَعْلُوم أَن أَحْكَام الشَّرْع تَدور مَعَ الْمصَالح والمفاسد وتختلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال كَمَا لَا يخفى على من لَهُ أدنى مَسِيس بالفقه
قَالَ ابْن خلدون اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِنَّمَا يَقع فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة وينشأ عَن الِاجْتِهَاد فِي الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة والمدارك الْمُعْتَبرَة والمجتهدون إِذا اخْتلفُوا فَإِن قُلْنَا إِن الْحق فِي الْمسَائِل الاجتهادية فِي وَاحِد من الطَّرفَيْنِ وَمن لم يصادفه فَهُوَ مُخطئ فَإِن جِهَته لَا تتَعَيَّن بِإِجْمَاع فَيبقى الْكل على احْتِمَال الْإِصَابَة والتأثيم مَدْفُوع عَن الْكل إِجْمَاعًا وَإِن قُلْنَا إِن الْكل حق وَإِن كل مُجْتَهد مُصِيب فأحرى بِنَفْي الْخَطَأ والتأثيم ثمَّ اسْتمرّ أُولَئِكَ الناقمون على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وتمادوا فِي طعنهم وتشغيبهم حَتَّى تفاقم الْأَمر وشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل(1/97)
(وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ ... فَظن خيرا وَلَا تسْأَل عَن الْخَبَر)
وَآخر الْأَمر أَنه لما كَانَت سنة خمس وَثَلَاثِينَ قدم من مصر جمع قيل ألف وَقيل سَبْعمِائة وَقدم من الْكُوفَة جمع آخر وَمن الْبَصْرَة كَذَلِك وحاصروا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي دَاره وَكَانَت خطوب وَقَطعُوا عَنهُ المَاء وَاسْتمرّ الْحصار نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ تسور عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل مصر دَاره فَقَتَلُوهُ وسال دَمه على الْمُصحف يُقَال أَن الَّذِي تولى قَتله كنَانَة بن بشر التجِيبِي وطعنه عَمْرو بن الْحمق طعنات وَجَاء عُمَيْر بن ضابئ البرجمي وَكَانَ أَبوهُ قد مَاتَ فِي سجن عُثْمَان فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَتَّى كسر ضلعا من أضلاعه وَكَانَ قَتله لثمان عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَّا اثْنَي عشر يَوْمًا وَقيل أَنه قتل صَبِيحَة عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي عِنْد ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل وَابْن بدرون فِي شرح العبدونية وَيُؤَيِّدهُ قَول حسان بن ثَابت يرثيه
(ضحوا بأشمط عنوان السُّجُود بِهِ ... يقطع اللَّيْل تسبيحا وقرآنا)
لتسمعن وشيكا فِي دِيَارهمْ ... الله أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا)
وَقَول الفرزدق بعده
(عُثْمَان إِذْ قَتَلُوهُ وانتهكوا ... دَمه صَبِيحَة لَيْلَة النَّحْر)
رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ ونفعنا بِهِ(1/98)
خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي طَالب واسْمه عبد منَاف بن عبد الْمطلب جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْمه شيبَة وَفِيه يجْتَمع مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بُويِعَ بعد مقتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بِاتِّفَاق من يعْتَبر أهل الْحل وَالْعقد بعد امْتِنَاعه من ذَلِك
قَالَ ابْن خلدون لما قتل عُثْمَان اجْتمع طَلْحَة وَالزُّبَيْر والمهاجرون وَالْأَنْصَار وَأتوا عليا يبايعونه فَأبى وَقَالَ أكون وزيرا لكم خير من أَن أكون أَمِيرا وَمن اخترتم رضيته فألحوا عَلَيْهِ وَقَالُوا لَا نعلم أَحَق مِنْك وَلَا نَخْتَار غَيْرك حَتَّى غلبوه فِي ذَلِك فَخرج إِلَى الْمَسْجِد وَبَايَعُوهُ وَأول من بَايعه طَلْحَة ثمَّ الزبير بعد أَن خيرهما وَيُقَال أَنَّهُمَا ادّعَيَا الْإِكْرَاه بعد ذَلِك بأَرْبعَة أشهر وتخلف عَن بيعَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ نَاس من الصَّحَابَة وَغَيرهم فَلم يبغضهم وَقَالَ أُولَئِكَ قوم قعدوا عَن الْحق وَلم يقومُوا مَعَ الْبَاطِل وَلما ولي الْخلَافَة رَضِي الله عَنهُ أحيى السّنة وأمات الْبِدْعَة وأوضح منار الْحق وأخمد نَار الْبَاطِل وَلم تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم
وَلما دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ فرق عماله على النواحي فَبعث إِلَى الْكُوفَة عمَارَة بن شهَاب وَكَانَ من الْمُهَاجِرين وَولى على الْبَصْرَة عُثْمَان بن حنيف الْأنْصَارِيّ وعَلى الْيمن عبيد الله بن عَبَّاس وَكَانَ من الأجواد وعَلى مصر قيس بن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ وَكَانَ من أهل الْجُود والشجاعة والرأي وعَلى الشَّام سهل بن حنيف الْأنْصَارِيّ فَلَمَّا وصل سهل إِلَى تَبُوك لَقيته خيل فَقَالُوا من أَنْت قَالَ أَمِير على الشَّام فَقَالُوا إِن كَانَ بَعثك غير عُثْمَان فَارْجِع فَرجع إِلَى عَليّ وَمضى قيس بن سعد إِلَى مصر فوليها واعتزلت عَنهُ فرقة كَانُوا عثمانية وأبوا أَن يدخلُوا فِي طَاعَة عَليّ حَتَّى يقتل قتلة عُثْمَان وَمضى عُثْمَان بن حنيف إِلَى الْبَصْرَة فَدَخلَهَا واتبعته فرقة وخالفته اخرى وَمضى عمَارَة بن شهَاب إِلَى الْكُوفَة فَلَقِيَهُ طَلْحَة بن خويلد الْأَسدي الَّذِي(1/99)
كَانَ ادّعى النُّبُوَّة زمَان الرِّدَّة فَقَالَ لَهُ إِن أهل الْكُوفَة لَا يستبدلون بأميرهم أحدا وَكَانَ عَلَيْهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من قبل عُثْمَان رَحمَه الله تَعَالَى فَرجع عمَارَة إِلَى عَليّ وَمضى عبيد الله بن عَبَّاس إِلَى الْيمن فوليها وَكَانَ الْعَامِل بهَا من قبل عُثْمَان يعلى بن منية فَأخذ مَا كَانَ بهَا من المَال وَلحق بِمَكَّة وَمَعَهُ سِتّمائَة بعير وَصَارَ مَعَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَذَلِكَ أَن عَائِشَة كَانَت خرجت إِلَى مَكَّة زمَان حِصَار عُثْمَان فقضت نسكها وانقلبت تُرِيدُ الْمَدِينَة فلقيها الْخَبَر بمقتل عُثْمَان فأعظمت ذَلِك ودعت إِلَى الطّلب بدمه وَلحق بهَا طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الله بن عمر وَجَمَاعَة من بني أُميَّة وَاتفقَ رَأْيهمْ على الْمُضِيّ إِلَى الْبَصْرَة للاستيلاء عَلَيْهَا وَكَانَ عبد الله بن عمر قد قدم مَكَّة من الْمَدِينَة فَدَعوهُ إِلَى الْمسير مَعَهم فَأبى وَأعْطى يعلى بن منية عَائِشَة الْجمل الْمُسَمّى بعسكر وَكَانَ اشْتَرَاهُ بِمِائَة دِينَار فركبته وَسَارُوا فَمروا فِي طريقهم بِمَاء يُقَال لَهُ الحوأب فنبحتهم كلابه فَقَالَت عَائِشَة أَي مَاء هَذَا فَقيل مَاء الحوأب فصرخت بِأَعْلَى صَوتهَا وَقَالَت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَعِنْده نساؤه لَيْت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثمَّ ضربت عضد الْجمل فأناخته وَقَالَت ردوني أَنا وَالله صَاحِبَة مَاء الحوأب وَقَامَت بهم يَوْمًا وَلَيْلَة إِلَى أَن قيل النَّجَاء فقد أدرككم عَليّ بن أبي طَالب وغلبوها على رأيها فارتحلوا نَحْو الْبَصْرَة فاستولوا عَلَيْهَا بعد قتال مَعَ أميرها عُثْمَان بن حنيف وَلما بلغ عليا رَضِي الله عَنهُ مسير عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى الْبَصْرَة سَار نحوهم فِي أَرْبَعَة آلَاف من أهل الْمَدِينَة فيهم أَرْبَعمِائَة مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة وَثَمَانمِائَة من الْأَنْصَار وَكَانَت رايته مَعَ ابْنه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وعَلى ميمنته الْحسن وعَلى ميسرته الْحُسَيْن وعَلى الْخَيل عمار بن يَاسر وعَلى الرجالة مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق وعَلى مقدمته عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ مسيره فِي ربيع الآخر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ
وَلما وصل عَليّ إِلَى ذِي قار لقِيه أَمِير الْبَصْرَة عُثْمَان بن حنيف وَأخْبرهُ الْخَبَر فَقَالَ عَليّ إِن النَّاس وليهم قبلي رجلَانِ فعملا بِالْكتاب وَالسّنة ثمَّ(1/100)
وليهم ثَالِث فَقَالُوا فِي حَقه وفعلوا ثمَّ بايعوني وبايعني طَلْحَة وَالزُّبَيْر ثمَّ نَكثا وَمن الْعجب انقيادهما لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وخلافهما عَليّ وَالله إنَّهُمَا ليعلمان أَنِّي لست بِدُونِ رجل مِمَّن تقدم ثمَّ سَار عَليّ يؤم الْبَصْرَة فِيمَن مَعَه من أهل الْمَدِينَة وَأهل الْكُوفَة وانضم إِلَى عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر جمع آخر والتقوا بمَكَان يُقَال لَهُ الخريبة عِنْد مَوضِع قصر عبيد الله بن زِيَاد يَوْم الْخَمِيس النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ خرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر وجاءهم عَليّ حَتَّى اخْتلفت أَعْنَاق دوابهم فَقَالَ عَليّ لقد أعددتما سِلَاحا وخيلا ورجالا إِن كنتما أعددتما عِنْد الله عذرا ألم أكن أخاكما فِي دينكما تحرمان دمي وَأحرم دمكما فَهَل من حدث أحل لَكمَا دمي قَالَ طَلْحَة ألبت على عُثْمَان قَالَ عَليّ {يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق} فلعن الله قتلة عُثْمَان يَا طَلْحَة أما بايعتني قَالَ وَالسيف على عنقِي ثمَّ قَالَ الزبير أَتَذكر يَوْم قَالَ لَك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَتُقَاتِلنَّهُ وَأَنت لَهُ ظَالِم) قَالَ اللَّهُمَّ نعم وَلَو ذكرت ذَلِك قبل مسيري مَا سرت وَوَاللَّه لَا أقاتلنك أبدا وافترقوا وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ قد بعث إِلَيْهِم قبل اللِّقَاء الْقَعْقَاع بن عَمْرو التَّمِيمِي وَأمره أَن يُشِير بِالصُّلْحِ مَا اسْتَطَاعَ فَقدم الْقَعْقَاع على عَائِشَة أَولا وَقَالَ أَي أُمَّاهُ مَا أشخصك قَالَت أُرِيد الْإِصْلَاح بَين النَّاس قَالَ فابعثي إِلَى طَلْحَة وَالزُّبَيْر فاسمعي مني ومنهما فَبعثت إِلَيْهِمَا فجاءا فَقَالَ لَهما القعقعاع إِنِّي سَأَلت أم الْمُؤمنِينَ مَا أقدمها فَقَالَت الْإِصْلَاح فَقَالَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر كَذَلِك هُوَ قَالَ الْقَعْقَاع فأخبراني مَا هُوَ قَالَا قتلة عُثْمَان فَإِن تَركهم ترك لِلْقُرْآنِ قَالَ فقد قتلتم مِنْهُم عددا من أهل الْبَصْرَة يَعْنِي حِين قتلوا أميرها عُثْمَان بن حنيف قَالَ وَغَضب لَهُم سِتَّة آلَاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زُهَيْر فَمَنعه سِتَّة آلَاف فَإِن قاتلتم هَؤُلَاءِ كلهم اجْتمع ربيعَة وَمُضر على حربكم فَأَيْنَ الْإِصْلَاح قَالَت عَائِشَة فَمَاذَا تَقول أَنْت قَالَ هَذَا الْأَمر دواؤه التسكين فَإِذا سكن الْأَمر اختلجوا أَي أخذُوا على غرَّة فَقَالُوا قد أصبت وأحسنت فَارْجِع إِلَى عَليّ فَإِن كَانَ على مثل رَأْيك(1/101)
صلح الْأَمر فَرجع الْقَعْقَاع إِلَى عَليّ فأعجبه وأشرف الْقَوْم على الصُّلْح وَعلم بذلك جمَاعَة مِمَّن كَانَ سعى فِي قتل عُثْمَان أَو رَضِي بِهِ فَقَالُوا إِن يصطلح هَؤُلَاءِ فعلى دمائنا يصطلحون ثمَّ تعاقدوا على أَنهم إِذا الْتَقَوْا بِجَيْش عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أنشبوا الْقِتَال حَتَّى يشْتَغل النَّاس عَمَّا عزموا عَلَيْهِ من الصُّلْح فَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لما كَانَت صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي اجْتمع فِيهَا عَليّ بطلحة وَالزُّبَيْر علس أُولَئِكَ المتعاهدون على إنشاب الْحَرْب وَمَا يشْعر بهم أحد وصمدت مِنْهُم مضرإلى مُضر وَرَبِيعَة إِلَى ربيعَة واليمن إِلَى الْيمن فوضعوا فيهم السِّلَاح على حِين غَفلَة فثار النَّاس وتسابقوا إِلَى خيولهم وزحف الْبَعْض إِلَى الْبَعْض واشتبكت الْحَرْب فَكَانَت الْوَقْعَة الْعُظْمَى الْمَعْرُوفَة بوقعة الْجمل يَوْم الْخَمِيس لعشر بَقينَ من الشَّهْر الْمَذْكُور أَعنِي جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَقتل طَلْحَة فِي المعركة وَالزُّبَيْر وَهُوَ رَاجع إِلَى الْمَدِينَة وعقر الْجمل الَّذِي كَانَت عَلَيْهِ عَائِشَة وَأمر عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِنَقْل هودجها إِلَى دَار عبد الله بن خلف الْخُزَاعِيّ ونادى مُنَادِي عَليّ يَوْم الْجمل وَكَذَا يَوْم صفّين الْآتِي أَن لَا تتبعوا مُدبرا وَلَا تجهزوا على جريح وَلَا تدْخلُوا الدّور ثمَّ صلى على الْقَتْلَى من الْجَانِبَيْنِ وَأمر بالأطراف فدفنت فِي قبر عَظِيم وَجمع مَا كَانَ فِي الْعَسْكَر من الأثاث وَبعث بِهِ إِلَى مَسْجِد الْبَصْرَة وَقَالَ من عرف شَيْئا فليأخذه إِلَّا سِلَاحا عَلَيْهِ ميسم السُّلْطَان وأحصى الْقَتْلَى من الْجَانِبَيْنِ فَكَانُوا عشرَة آلَاف مِنْهُم من ضبة ألف رجل وَبلغ عليا أَن بعض الغوغاء عرض لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بالْقَوْل السىء فأحضر الْبَعْض مِنْهُم وأوجعهم ضربا ثمَّ جهزها إِلَى الْمَدِينَة بِمَا احْتَاجَت إِلَيْهِ وَبعث مَعهَا أخاها مُحَمَّد بن أبي بكر فِي أَرْبَعِينَ امْرَأَة من نسَاء الْبَصْرَة اختارهن لمرافقتها وَجَاء يَوْم ارتحالها فودعها واستعتب لَهَا واستعتبت لَهُ وَمَشى مَعهَا أميالا وشيعها بنوه مَسَافَة يَوْم وَذَلِكَ غرَّة رَجَب فَذَهَبت إِلَى مَكَّة وأقامت بهَا حَتَّى حجت تِلْكَ السّنة ثمَّ رجعت إِلَى الْمَدِينَة وَاسْتعْمل عَليّ رَضِي الله عَنهُ على الْبَصْرَة عبد الله بن عَبَّاس وَسَار إِلَى الْكُوفَة فَنزل بهَا وانتظم لَهُ الْأَمر بالعراق ومصر(1/102)
واليمن والحرمين وَفَارِس وخراسان وَلم يبْق خَارِجا عَن طَاعَته إِلَّا أهل الشَّام وأميرهم مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فَبعث إِلَيْهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ جرير بن عبد الله البَجلِيّ يَأْمُرهُ بِالدُّخُولِ فِيمَا دخل فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فَلَمَّا قدم جرير على مُعَاوِيَة ماطله حَتَّى قدم عَلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ من فلسطين فَاسْتَشَارَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بترك الْبيعَة والطلب بِدَم عُثْمَان وَأَن يُقَاتل مَعَه على أَنه ظفر ولاه مصر فاجابه مُعَاوِيَة إِلَى ذَلِك وَرجع جرير إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ بالْخبر فَسَار عَليّ من الْكُوفَة قَاصِدا مُعَاوِيَة وَمن مَعَه بِالشَّام وَقدم عَلَيْهِ عبد الله بن عَبَّاس وَمن مَعَه من أهل الْبَصْرَة فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ
(لأصبحن الْعَاصِ وَابْن الْعَاصِ ... سبعين ألفا عاقدي النواصي)
(مجنبين الْخَيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص)
وَسَار مُعَاوِيَة وَمَعَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ وَأهل الشَّام من دمشق يُرِيد عليا وتأنى مُعَاوِيَة فِي مسيره(1/103)
حَرْب صفّين
وَخرجت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَدخلت سنة سبع بعْدهَا فَاجْتمع الجيشان بصفين وتراسوا وتداعوا إِلَى الصُّلْح فَلم يقْض الله بذلك وَكَانَت حَرْب يسيرَة بِالنِّسْبَةِ لما بعْدهَا وَلما دخل صفر وَقع بَينهمَا الْقِتَال فَكَانَت وقعات كَثِيرَة بصفين يُقَال إِنَّهَا تسعون وقْعَة وَكَانَت مُدَّة مقامهم على الْحَرْب مائَة يَوْم وَعشرَة أَيَّام وَعدد الْقَتْلَى بصفين من أهل الشَّام خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن أهل الْعرَاق خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا مِنْهُم سِتَّة وَعِشْرُونَ من أهل بدر وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ قد تقدم إِلَى أَصْحَابه أَن لَا يقاتلوهم حَتَّى يبدؤوهم بِالْقِتَالِ وَأَن لَا يقتلُوا مُدبرا وَلَا يكشفوا عَورَة وَلَا يأخذو من أَمْوَالهم شَيْئا وَقَاتل عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ مَعَ عَليّ قتالا عَظِيما وَكَانَ عمره قد نَيف على تسعين سنة وَكَانَت الحربة فِي يَده وَيَده ترتعد فَقَالَ هَذِه راية قَاتَلت بهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات وَهَذِه الرَّابِعَة ودعا بقدح من لبن فَشرب مِنْهُ ثمَّ قَالَ صدق الله وَرَسُوله الْيَوْم ألْقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر رِزْقِي من الدُّنْيَا ضيحة لبن وَرُوِيَ أَنه كَانَ يرتجز
(نَحن قتلناكم على تَأْوِيله ... كَمَا قتلناكم على تَنْزِيله)
(ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله)
وَلم يزل عمار يُقَاتل ذَلِك الْيَوْم حَتَّى اسْتشْهد رَضِي الله عَنهُ
وَفِي الصَّحِيح الْمُتَّفق عَلَيْهِ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَيْح عمار تقتله الفئة الباغية) وَبعد قتل عمار رَضِي الله عَنهُ انتخب عَليّ اثْنَي عشر ألفا بعد أَن روى لَهُم حَدِيث عمار وَحمل بهم على عَسْكَر مُعَاوِيَة فَلم يبْق لأهل الشَّام صف إِلَّا انتفض ثمَّ نَادَى يَا مُعَاوِيَة على مَا نقْتل النَّاس بَيْننَا هَلُمَّ(1/104)
أحاكمك إِلَى الله فأينا قتل صَاحبه استقام لَهُ الْأَمر فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ أنصفك فَقَالَ مُعَاوِيَة لكنك مَا أنصفت ثمَّ تقاتلوا لَيْلَة الهرير شبهت بليلة الْقَادِسِيَّة وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى الصَّباح وَكَانَ عَليّ يسير بَين الصُّفُوف ويحرض كل كَتِيبَة على التَّقَدُّم حَتَّى أصبح والمعركة كلهَا خلف ظَهره
وَرُوِيَ أَنه كبر تِلْكَ اللَّيْلَة سَبْعمِائة تَكْبِيرَة وَكَانَت عَادَته أَنه كلما قتل قَتِيلا كبر ودام الْقِتَال إِلَى ضحى يَوْم الْجُمُعَة وَقَاتل الأشتر النَّخعِيّ قتالا عَظِيما حَتَّى انْتهى إِلَى معسكرهم وَقتل صَاحب رايتهم وأمده عَليّ بِالرِّجَالِ فَلَمَّا رأى عَمْرو شدَّة الْأَمر قَالَ لمعاوية مر النَّاس يرفعون الْمَصَاحِف على الرماح وَيَقُولُونَ كتاب الله بَيْننَا وَبَيْنكُم فَإِن قبلوا ذَلِك ارْتَفع عَنَّا الْقِتَال وَإِن أَبى بَعضهم وجدنَا فِي افتراقهم رَاحَة فَفَعَلُوا ذَلِك فَقَالَ النَّاس نجيب إِلَى كتاب الله فَقَالَ عَليّ يَا عباد الله امضوا على حقكم فِي قتال عَدوكُمْ فَإِن عمرا وَمُعَاوِيَة وَابْن أبي معيط وَابْن أبي سرح وَالضَّحَّاك بن قيس لَيْسُوا بأصحاب دين وَلَا قُرْآن وَأَنا أعرف بهم مِنْكُم وَيحكم وَالله مَا رفعوها إِلَّا خديعة ومكيدة فَقَالُوا لَا يسعنا أَن ندعى إِلَى كتاب الله فَلَا نقبل فَقَالَ عَليّ إِنَّمَا قاتلناهم ليدينوا بِكِتَاب الله فَإِنَّهُم نبذوه فَقَالَ جمَاعَة من الْقُرَّاء الَّذين صَارُوا خوارج يَا عَليّ أجب إِلَى كتاب الله وَإِلَّا دفعناك برمتك إِلَى الْقَوْم أَو فعلنَا بك مَا فعلنَا بِابْن عَفَّان فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن تطيعوني فَقَاتلُوا وَإِن تعصوني فافعلوا مَا بدا لكم وَآخر الْأَمر إِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن يحكموا رجلَيْنِ من الْجَانِبَيْنِ وَمَا حكما بِهِ عَلَيْهِم صَارُوا إِلَيْهِ فَاخْتَارَ أهل الشَّام عَمْرو بن الْعَاصِ داهية الْعَرَب وَاخْتَارَ أهل الْعرَاق أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ بعد مراجعات وَقعت بَين عَليّ وَبينهمْ وَاجْتمعَ الحكمان عِنْد عَليّ لتكتب الْقَضِيَّة بِحُضُورِهِ فَكَتَبُوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِنَّمَا هُوَ أميركم وَلَيْسَ بأميرنا فَقَالَ الْأَحْنَف لَا تمحوا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ(1/105)
الْأَشْعَث امحها فَقَالَ عَليّ الله أكبر سنة بِسنة وَالله إِنِّي لكاتب الْقَضِيَّة يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَكتبت مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت قُرَيْش لست برَسُول الله وَلَكِن اكْتُبْ اسْمك وَاسم أَبِيك فَأمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمحوه فَقلت لَا أَسْتَطِيع قَالَ فأرنيه فأريته فمحاه بِيَدِهِ فَقَالَ لي إِنَّك ستدعى إِلَى مثلهَا فتجيب ثمَّ كتب الْكتاب هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قاضى عَليّ على أهل الْكُوفَة وَمن مَعَهم وقاضى مُعَاوِيَة على أهل الشَّام وَمن مَعَهم إِنَّا ننزل عِنْد حكم الله وَكتابه وَأَن لَا يجمع بَيْننَا غَيره وَإِن كتاب الله بَيْننَا من فاتحته إِلَى خاتمته نحيي مَا أحيى ونميت مَا أمات فَمَا وجد الحكمان فِي كتاب الله وهما أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عملا بِهِ وَمَا لم يجدا فِي كتاب الله فَالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وَأخذ الحكمان من عَليّ وَمُعَاوِيَة وَمن الجندين العهود والمواثيق إنَّهُمَا آمنان على أَنفسهمَا وأهلهما وَالْأمة لَهما أنصار على الَّذِي يتقاضيان عَلَيْهِ وعَلى عبد الله بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عهد الله وميثاقه أَن يحكما بَين هَذِه الْأمة وَلَا يورداها فِي حَرْب وَلَا فرقة وأجلا الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان من السّنة وَإِن أحبا أَن يؤخرا ذَلِك أخراه وَإِن مَكَان قضيتهما مَكَان عدل بَين أهل الْكُوفَة وَأهل الشَّام وَشهد رجال من أهل الْعرَاق وَرِجَال من أهل الشَّام وَوَضَعُوا خطوطهم فِي الصَّحِيفَة ودعي الأشتر النَّخعِيّ ليشهد فَقَالَ لَا صحبتني يَمِيني وَلَا نفعتني بعْدهَا شمَالي إِن وضع لي فِيهَا اسْم وَكتب الْكتاب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وعينوا مَوضِع الحكم بدومة الجندل فَوَقع الِاجْتِمَاع للأجل الْمَذْكُور
وَحَاصِل مَا كَانَ من ذَلِك أَن الْحكمَيْنِ اتفقَا على خلع عَليّ وَمُعَاوِيَة وَيكون الْأَمر شُورَى بَين النَّاس حَتَّى يختاروا من يقدمونه لِلْأَمْرِ وَقدم عَمْرو بن الْعَاصِ أَبَا مُوسَى على نَفسه فِي الْكَلَام فَتكلم أَبُو مُوسَى على رُؤُوس النَّاس بِمَا اتفقَا عَلَيْهِ من خلع عَليّ وَمُعَاوِيَة حَتَّى ينظر النَّاس لأَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا سكت أَبُو مُوسَى قَامَ عَمْرو فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِن هَذَا قد خلع(1/106)
صَاحبه وَقد خلعته كَمَا خلعه وَأثبت مُعَاوِيَة فَهُوَ ولي ابْن عَفَّان وأحق النَّاس بمقامه فكذبه أَبُو مُوسَى وتنازعا وتشاتما ومرج أَمر النَّاس وَلم يحصلوا على طائل وانسل أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا وَلم يرجع إِلَى عَليّ حَيَاء مِنْهُ وَمضى عَمْرو بن الْعَاصِ فِي أهل الشَّام فَسَلمُوا على مُعَاوِيَة بالخلافة وَلَام عَليّ أَصْحَابه فِيمَا كَانَ مِنْهُم من عصيانه أَولا وانخداعهم لأهل الشَّام آخرا وَقَالَ فِيمَا قَالَ كَأَنِّي وَإِيَّاكُم كَمَا قَالَ أَخُو جشم
(أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوا ... فَلم يستبينوا الرشد إِلَّا ضحى الْغَد)
وَقَالَ إِن هذَيْن الْحكمَيْنِ اللَّذين اخترتموهما تركا حكم الله وَحكما بهوى النَّفس وَاخْتلفَا فِي حكمهمَا فَلم يرشدهما الله فتأهبوا للْجِهَاد واستعدوا للسير وَأصْبح عَليّ رَضِي الله عَنهُ غاديا يُرِيد الشَّام فِي ثَمَانِيَة وَسبعين ألفا
وَكَانَت الْخَوَارِج قد خَرجُوا عَلَيْهِ واعتزلوه وَقَالُوا حكمت الرِّجَال فِي دين الله وَلَا حكم إِلَّا لله وبلغه أَن الْخَوَارِج قد اجْتَمعُوا بالنهروان وتعاهدوا على حَرْب الْمُسلمين ثمَّ بلغه أَن الْخَوَارِج الْبَصْرَة لقوا عبد الله بن خباب صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرِيبا من النهروان فعرفهم بِنَفسِهِ فَسَأَلُوهُ عَن أبي بكر وَعمر فَأثْنى خيرا ثمَّ عَن عُثْمَان فِي أول خِلَافَته وَآخِرهَا فَقَالَ كَانَ محقا فِي الأول وَالْآخر فَسَأَلُوهُ عَن عَليّ قبل التَّحْكِيم وَبعده فَقَالَ هُوَ أعلم بِاللَّه وَأَشد توقيا على دينه فَقَالُوا إِنَّك توالي الرِّجَال على أسمائها ثمَّ ذبحوه وبقروا بطن امْرَأَته وَقتلُوا مَعَهُمَا ثَلَاث نسْوَة من طَيء وَمن عَجِيب أَمرهم أَنهم لقوا مُسلما ونصرانيا فَقتلُوا الْمُسلم وَقَالُوا احْفَظُوا ذمَّة نَبِيكُم فِي النَّصْرَانِي فَسَار إِلَيْهِم عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأرْسل إِلَيْهِم أَن ادفعوا قتلة إِخْوَاننَا مِنْكُم فنكف عَنْكُم حَتَّى نلقى أهل الْمغرب فَلَعَلَّ الله يردكم إِلَى خير فأرسلوا إِلَيْهِ كلنا قد قَتلهمْ وكلنَا يسْتَحل دماءكم فَأَتَاهُم عَليّ رَضِي الله عَنهُ(1/107)
فَقَالَ أيتها الْعصبَة الَّتِي أخرجهَا المراء من الْحق إِلَى الْبَاطِل وأصبحت فِي اللّبْس والخطب الْعَظِيم إِنِّي نَذِير لكم أَن تصبحوا تلقاكم الْأمة غَدا صرعى بأثناء هَذَا النَّهر بِغَيْر بَيِّنَة مِنْكُم وَلَا برهَان ألم تعلمُوا أَنِّي قد نَهَيْتُكُمْ عَن الْحُكُومَة إِلَيّ وأخبرتكم أَن الْقَوْم إِنَّمَا طلبوها خديعة فعصيتموني وحملتموني على أَن حكمت وَلما حكمت شرطت وَأخذت على الْحكمَيْنِ أَن يحيى يَا مَا أَحْيَا الْقُرْآن ويميتا مَا أمات فانقلبا وَحكما بِغَيْر حكم الْكتاب فنبذنا أَمرهمَا وَنحن على أمرنَا الأول فَمَا الَّذِي أَصَابَكُم وَمن أَيْن أتيتم قَالُوا حكمنَا وَكُنَّا بذلك كَافِرين وَقد تبنا فَإِن تبت كَمَا تبنا فَنحْن قَوْمك وَإِلَّا فاعتزلنا وَنحن ننابذك على سَوَاء إِن الله لَا يحب الخائنين فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ صبحكم صَاحب وَلَا بَقِي مِنْكُم وَافد أبعد إيماني برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجهادي فِي سَبِيل الله وهجرتي مَعَ رَسُول الله أشهد على نَفسِي بالْكفْر {قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} وَرُوِيَ أَنه لما كَلمهمْ وَاحْتج عَلَيْهِم تنادوا لَا تخاطبوهم وَلَا تكلموهم وتهيؤوا للقاء الرب الرواح الرواح إِلَى الْجنَّة فَخرج عَليّ رَضِي الله عَنهُ فعبأ النَّاس ميمنة وميسرة ووقف هُوَ فِي الْقلب فِي مُضر وَجعل على الْخَيل ابا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وعَلى أهل الْمَدِينَة وَكَانُوا سَبْعمِائة قيس بن سعد بن عبَادَة وعبأت الْخَوَارِج على نَحْو هَذِه التعبية وَرفع عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَعَ أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ راية الْأمان فَنَادَى أَبُو أَيُّوب من أَتَى هَذِه الرَّايَة وَلم يُقَاتل وَلم يستعرض فَهُوَ آمن وَمن انْصَرف إِلَى الْكُوفَة أَو الْمَدَائِن فَهُوَ آمن وَمن انْصَرف عَن هَذِه الْجَمَاعَة فَهُوَ آمن فاعتزل فَرْوَة بن نَوْفَل الْأَشْجَعِيّ فِي خَمْسمِائَة وَقَالَ أعتزل حَتَّى يَتَّضِح لي الْأَمر فِي قتال عَليّ فَنزل الدسكرة وَخرج آخَرُونَ إِلَى الْكُوفَة وَرجع آخَرُونَ إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف فَبَقيَ مِنْهُم ألف وَثَمَانمِائَة فَحمل عَلَيْهِم عَليّ وَالنَّاس وزحفوا هم إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ ينادون الرواح الرواح إِلَى الْجنَّة فَاسْتَقْبَلَهُمْ الرُّمَاة وعطفت عَلَيْهِم الْخَيل من المجنبتين ونهض إِلَيْهِم الرِّجَال بِالسِّلَاحِ فهلكوا(1/108)
كلهم فِي سَاعَة وَاحِدَة كَأَنَّمَا قيل لَهُم موتوا فماتوا وَكَانَ جملَة من قتل من أَصْحَاب عَليّ رَضِي الله عَنهُ سَبْعَة نفر فَطلب عَليّ رَضِي الله عَنهُ المخدج فِي الْقَتْلَى فَلم يُوجد فَقَامَ رَضِي الله عَنهُ وَعَلِيهِ أثر الْحزن لفقده فَانْتهى إِلَى قَتْلَى بَعضهم فَوق بعض فَقَالَ أفرجوا ففرجوا يَمِينا وَشمَالًا فاستخرجوه فَقَالَ الله أكبر وَالله مَا كذبت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإنَّهُ لناقص الْيَد مَا فِيهَا عظم طرفها مثل ثدي الْمَرْأَة عَلَيْهَا خمس شَعرَات أَو سبع رؤوسها معقفة ثمَّ قَالَ أئتوني بِهِ فَنظر إِلَى مَنْكِبه فَإِذا اللَّحْم مُجْتَمع على مَنْكِبه كثدي الْمَرْأَة عَلَيْهَا شَعرَات سود إِذا مدت اللحمة امتدت حَتَّى تحاذي بطن يَده الْأُخْرَى ثمَّ تتْرك فتعود إِلَى مَنْكِبه فَقَالَ أَصْحَاب عَليّ رَضِي لله عَنهُ قد قطع الله دابرهم آخر الدَّهْر فَقَالَ عَليّ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم لفي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء لَا تخرج خَارِجَة إِلَّا خرجت بعْدهَا مثلهَا حَتَّى تخرج خَارِجَة بَين الْفُرَات ودجلة يُقَال لَهُم الشمط فَيخرج إِلَيْهِم رجل منا أهل الْبَيْت فيقتلهم فَلَا تخرج لَهُم بعْدهَا خَارِجَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَفِي الصَّحِيح عَن سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِذا حدثتكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا فوَاللَّه لِأَن أخر من السَّمَاء أحب إِلَيّ من أَن أكذب عَلَيْهِ وَإِذا حدثتكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم فَإِن الْحَرْب خدعة وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (سيخرج قوم فِي آخر الزَّمَان أَحْدَاث الْأَسْنَان سُفَهَاء الأحلام يَقُولُونَ من خير قَول الْبَريَّة لَا يُجَاوز إِيمَانهم حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا لمن قَتلهمْ
ثمَّ إِن عليا رَضِي الله عَنهُ ندب أَصْحَابه إِلَى غَزْو الشَّام فتثاقلوا عَلَيْهِ وَلما وصلوا إِلَى الْكُوفَة تسللوا إِلَى بُيُوتهم وَتركُوا المعسكر خَالِيا وَلما رأى عَليّ ذَلِك دخل الْكُوفَة ثمَّ ندبهم ثَانِيًا فَلم ينفروا ثمَّ ثَالِثا فَلم ينشط مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل فخطبهم وَأَغْلظ فِي عتابهم وأعلمهم بِمَا لَهُ عَلَيْهِم من الطَّاعَة فِي الْحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن اسْتَأْثر بِهِ ربه وأراحه من(1/109)
شغبهم وَقَبضه إِلَيْهِ وَنَقله إِلَى كرامته وجنته سَابق مضمار الْإِيمَان وَالْهجْرَة والنصرة والنجدة والصهر والقربى والقناعة وَالْجهَاد وَالْعلم والزهد رَضِي الله عَنهُ
وَكَانَ من خبر وَفَاته أَن ثَلَاثَة من الْخَوَارِج مِمَّن نجا من وقْعَة النهروان وهم عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي وَعَمْرو بن بكر التَّمِيمِي السَّعْدِيّ وَالْحجاج بن عبد الله التَّمِيمِي الصريمي ويلقب بالبرك اجْتَمعُوا بِمَكَّة فَذكرُوا إخْوَانهمْ الَّذين قتلوا بالنهروان وَقَالُوا مَا نصْنَع بِالْبَقَاءِ بعدهمْ فَلَو شرينا أَنْفُسنَا وقتلنا أَئِمَّة الضلال وَأَرِحْنَا مِنْهُم النَّاس فَقَالَ ابْن ملجم وَكَانَ من مصر أَنا أكفيكم عليا وَقَالَ البرك أَنا أكفيكم مُعَاوِيَة وَقَالَ عَمْرو بن بكر أَنا أكفيكم عَمْرو بن الْعَاصِ وتعاهدوا أَن لَا يرجع أحد مِنْهُم عَن صَاحبه حَتَّى يقْتله أَو يَمُوت دونه وتواعدوا سبع عشرَة لَيْلَة تمْضِي من رَمَضَان من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَرْبَعِينَ وَانْطَلَقُوا فلقي ابْن ملجم أَصْحَابه بِالْكُوفَةِ فطوى خَبره عَنْهُم إِلَّا أَنه جَاءَ إِلَى شبيب بن شَجَرَة الْأَشْجَعِيّ وَدعَاهُ إِلَى الْمُوَافقَة على شَأْنه فَقَالَ شبيب ثكلتك أمك فَكيف تقدر على قَتله فَقَالَ أكمن لَهُ فِي الْمَسْجِد عِنْد صَلَاة الْغَدَاة فَإِن قَتَلْنَاهُ وَإِلَّا فَهِيَ الشَّهَادَة قَالَ وَيحك لَا أجدني أنشرح لقَتله مَعَ سابقته وفضله قَالَ ألم يقتل الْعباد الصَّالِحين أَصْحَاب النهروان قَالَ بلَى قَالَ فنقتله بِمن قَتله مِنْهُم فَأَجَابَهُ ثمَّ لَقِي امْرَأَة من تيم الربَاب فائقة الْجمال اسْمهَا قطام قتل أَبوهَا وأخوها يَوْم النهروان فَخَطَبَهَا ابْن ملجم فشرطت عَلَيْهِ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وعبدا وقنية وَأَن يقتل عليا وَقَالَت فَإِن قتلته شفيت النُّفُوس وَإِلَّا فَهِيَ الشَّهَادَة قَالَ وَالله مَا جِئْت إِلَّا لذَلِك وَلَك مَا سَأَلت وَفِي ذَلِك قيل
(ثَلَاثَة آلَاف وَعبد وقنية ... وَضرب عَليّ بالحسام المسمم)
(فَلَا مهر أغْلى من عَليّ وَإِن غلا ... وَلَا فتك إِلَّا دون ابْن ملجم)
ثمَّ قَالَت سأبعث مَعَك من يشد ظهرك ويساعدك وَبعثت مَعَه رجلا من قَومهَا اسْمه وردان(1/110)
فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وَاعد ابْن ملجم أَصْحَابه فِيهَا وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة جَاءَ إِلَى الْمَسْجِد وَمَعَهُ شبيب ووردان وجلسوا قبالة السدة الَّتِي يخرج مِنْهَا عَليّ للصَّلَاة فَلَمَّا خرج ونادى للصَّلَاة علاهُ شبيب بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي عضادة الْبَاب وضربه ابْن ملجم على مقدم رَأسه وَقَالَ الحكم لله يَا عَليّ لَا لَك وَلَا لأصحابك وهرب وردان إِلَى منزله وهرب شبيب مغلسا وَنَجَا فِي غمار النَّاس وَقبض على ابْن ملجم فجيء بِهِ مكتوفا إِلَى عَليّ وَقد حمل إِلَى بَيته فَقَالَ أَي عَدو الله مَا حملك على هَذَا ثمَّ قَالَ إِن هَلَكت فَاقْتُلُوهُ كَمَا قتلني وَإِن بقيت رَأَيْت فِيهِ رَأْيِي يَا بني عبد الْمطلب لَا تحرضوا على دِمَاء الْمُسلمين وَتَقولُوا قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تقتلُوا إِلَّا قاتلي يَا حسن إِن أَنا مت من ضربتي هَذِه فَاضْرِبْهُ بِسَيْفِهِ وَلَا تمثلن بِالرجلِ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إيَّاكُمْ الْمثلَة) وَقَالَ لَهُ جُنْدُب بن عبد الله أنبايع الْحسن إِن فقدناك فَقَالَ مَا آمركُم بِهِ وَلَا أنهاكم عَنهُ أَنْتُم أبْصر وَلما حَضرته الْوَفَاة كتب وَصيته الْعَامَّة ثمَّ لم ينْطق إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا الله حَتَّى قبض رَضِي الله عَنهُ
وَلما قبض أخرج عبد الرَّحْمَن بن ملجم من السجْن فَقطع عبد الله بن جَعْفَر يَده ثمَّ رجله ثمَّ لِسَانه وكحلت عَيناهُ بمسمار محمى وأحرق لَعنه الله وَأما البرك فَوَثَبَ على مُعَاوِيَة تِلْكَ اللَّيْلَة وضربه بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي إليته وَأخذ البرك فَقَالَ لمعاوية عِنْدِي بشرى أتنفعني إِن أَنا أَخْبَرتك بهَا قَالَ نعم قَالَ إِن أَخا لي قتل عليا هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ مُعَاوِيَة لَعَلَّه لم يقدر عَلَيْهِ فَقَالَ بلَى إِن عليا لَيْسَ مَعَه من يحرصه فَقتله مُعَاوِيَة وَقيل قطع يَده وَرجله وَأقَام إِلَى أَيَّام زِيَاد فَقتله بِالْبَصْرَةِ وَأما عَمْرو بن بكر التَّمِيمِي فَإِنَّهُ جلس تِلْكَ اللَّيْلَة لعَمْرو بن الْعَاصِ فَلم يخرج عَمْرو إِلَى الصَّلَاة لمَرض أَصَابَهُ واستناب خَارِجَة بن حذافة الْعَدوي فِي الصَّلَاة فَشد عَلَيْهِ عَمْرو بن بكر وَهُوَ يظنّ أَنه عَمْرو بن الْعَاصِ فَقتله فَلَمَّا أَخَذُوهُ وأدخلوه على عَمْرو قَالَ فَمن قتلت إِذا قَالُوا قتلت خَارِجَة بن حذافة فَقَالَ أردْت عمرا وَأَرَادَ الله خَارِجَة فأرسلها(1/111)
مثلا وَأمر بِهِ عَمْرو فَقتل وَيرْحَم الله ابْن عبدون إِذْ يَقُول
(وليتها إِذْ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بِمَا شَاءَت من الْبشر)
وَكَانَت وَفَاة عَليّ رَضِي الله عَنهُ صَبِيحَة الْجُمُعَة لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ كَمَا ذكرنَا وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته خمس سِنِين إِلَّا ثَلَاثَة أشهر وَاخْتلف فِي مَوضِع قَبره فَقيل دفن مِمَّا يَلِي قبْلَة الْمَسْجِد بِالْكُوفَةِ وَقيل عِنْد قصر الْإِمَارَة بهَا وَقيل نَقله ابْنه الْحسن إِلَى الْمَدِينَة وَدَفنه بِالبَقِيعِ عِنْد زوجه فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا
قَالَ أَبُو الْفِدَاء وَالأَصَح وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره إِن قَبره هُوَ الْمَشْهُور بالنجف وَهُوَ الَّذِي يزار الْيَوْم
وفضائل عَليّ رَضِي الله عَنهُ ومناقبه فِي الْعدْل وَحسن السِّيرَة أجل من أَن يحاط بهَا من ذَلِك مشاهده الْمَشْهُورَة بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومؤاخاته لَهُ وَسبق إِسْلَامه وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ) وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر (لَأَبْعَثَن الرَّايَة غَدا مَعَ رجل يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله) وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ (أما ترْضى ان تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أقضاكم عَليّ) وَالْقَضَاء يَسْتَدْعِي معرفَة أَبْوَاب الْفِقْه كلهَا بِخِلَاف قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (أفرضكم زيد وأقرأكم أبي) وَلم يضع رَضِي الله عَنهُ لبنة على لبنة حَتَّى لَقِي الله وَكَانَ يقسم مَا فِي بَيت المَال كل جُمُعَة حَتَّى لَا يتْرك فِيهِ شَيْئا وَدخل مرّة بَيت المَال فَوجدَ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَقَالَ يَا صفراء اصفري وَيَا بَيْضَاء ابيضي وغري غَيْرِي لَا حَاجَة لي فِيك
وَرُوِيَ ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب بِسَنَدِهِ إِلَى مجمع التَّمِيمِي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قسم مَا فِي بَيت المَال بَين الْمُسلمين ثمَّ أَمر بِهِ فكنس ثمَّ صلى فِيهِ رَجَاء أَن يشْهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه قَالَ قدم على عَليّ مَال من أَصْبَهَان فَقَسمهُ سَبْعَة اسباع وَوجد فِيهِ رغيفا فَقَسمهُ سبع كسر وَجعل على(1/112)
كل جُزْء كسرة ثمَّ أَقرع بَينهم أَيهمْ يُعْطي أَولا قَالَ ابْن عبد الْبر وأخباره رَضِي الله عَنهُ فِي مل هَذَا من سيرته لَا يحيى ط بهَا كتاب وَيرْحَم الله من قَالَ
(أحسن من عود وَمن ضَارب ... وَمن فتاة ناهد كاعب)
(وَمن مدام فِي قواريرها ... يسْعَى بهَا سَاق إِلَى شَارِب)
(وَمن جِيَاد الْخَيل فِي مهمه ... وضارب يَسْطُو على ضَارب)
(أحسن من ذَاك وَهَذَا وَذَا ... حب عَليّ بن أبي طَالب)
(لَو فتشوا قلبِي لألفوا بِهِ ... سطرين قد خطا بِلَا كَاتب)
(الْعلم والتوحيد فِي جَانب ... وَحب آل الْبَيْت فِي جَانب)
(إِن كنت فِيمَا قلته كَاذِبًا ... فلعنه الله على الْكَاذِب)
وَلما توفّي عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَايع النَّاس ابْنه الْحسن رَضِي الله عَنهُ وَأول من بَايعه قيس بن سعد بن عبَادَة قَالَ لَهُ ابْسُطْ يدك على كتاب الله وَسنة رَسُوله وقتال الْمُلْحِدِينَ فَقَالَ الْحسن على كتاب الله وَسنة رَسُوله ويأتيان على كل شَرط ثمَّ بعد ذَلِك نزل لمعاوية عَن الْأَمر فِي خبر طَوِيل نذْكر مِنْهُ مَا فِي الصَّحِيح فَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله قَالَ اسْتقْبل وَالله الْحسن بن عَليّ مُعَاوِيَة بكتائب أَمْثَال الْجبَال فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِنِّي لأرى كتائب لَا تولي حَتَّى تقتل أقرانها فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة وَكَانَ وَالله خير الرجلَيْن أَي عَمْرو إِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء هَؤُلَاءِ فَمن لي بِأُمُور النَّاس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم فَبعث إِلَيْهِ رجلَيْنِ من قُرَيْش من بني عبد شمس عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَعبد الله بن عَامر بن كريز فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرجل فاعرضا عَلَيْهِ وقولا لَهُ واطلبا إِلَيْهِ فَأتيَاهُ فدخلا عَلَيْهِ فتكلما وَقَالا لَهُ وطلبا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهما الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّا بني عبد الْمطلب قد أصبْنَا من هَذَا المَال وَإِن هَذِه الْأمة قد عاثت فِي دمائها قَالَا فَإِنَّهُ يعرض عَلَيْك كَذَا وَكَذَا وَيطْلب إِلَيْك ويسألك قَالَ فَمن لي بِهَذَا قَالَا نَحن لَك بِهِ فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئا إِلَّا قَالَا نَحن لَك بِهِ فَصَالحه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله وَلَقَد سَمِعت أَبَا بكرَة يَقُول رَأَيْت(1/113)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى جنبه وَهُوَ يقبل على النَّاس مرّة وَعَلِيهِ أُخْرَى وَيَقُول (إِن ابْني هَذَا سيد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين)
وَهَا هُنَا فَائِدَتَانِ الأولى هَذِه الحروب الَّتِي وَقعت بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم محملها الإجتهاد كَمَا قدمنَا والذب عَن الدّين وَكَانَ النَّاس من السذاجة فِي الدّين والتمسك بِهِ على مَا عهد مِنْهُم فَكَانُوا إِذا رَأَوْا مَا يَظُنُّونَهُ مُنْكرا غيروه وَلَو بِإِتْلَاف مهجهم إِلَّا أَنهم كَانَ مِنْهُم الْمُجْتَهد الْمُصِيب وَهُوَ ذُو الأجرين كَمَا فِي الحَدِيث وَمِنْهُم الْمُجْتَهد المخطىء وَهُوَ ذُو الْأجر الْوَاحِد كَمَا فِي الحَدِيث أَيْضا وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ مصيبا فِي جَمِيع أمره من أَوله إِلَى آخِره فعلى الْعَاقِل المحتاط لدينِهِ أَن يظنّ بصحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظَّن الْجَمِيل وَيعْمل بوصيته فيهم إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (الله الله فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غَرضا بعدِي فَمن أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم) الحَدِيث وإياي وإياه أَن يجرح من زكاهم الله تَعَالَى بقوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه} وزكاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمرتهم وأمتنا على سنتهمْ وطريقتهم يَا أكْرم الأكرمين وَيَا أرْحم الرَّاحِمِينَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم
الْفَائِدَة الثَّانِيَة أطبق السّلف على أَن تَرْتِيب الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْفضل على حسب ترتيبهم فِي الْخلَافَة وَذهب بعض السّلف إِلَى تَقْدِيم عَليّ على عُثْمَان وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ سُفْيَان الثَّوْريّ لَكِن قيل إِنَّه رَجَعَ عَنهُ وَقَالَت الشِّيعَة وَكثير من الْمُعْتَزلَة الْأَفْضَل بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَالْحق هُوَ القَوْل الأول وَهل التَّفْضِيل بَين الْخُلَفَاء قَطْعِيّ أَو ظَنِّي فَالَّذِي مَال إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيّ هُوَ الأول وَالَّذِي مَال إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني وَاخْتَارَهُ(1/114)
إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَاد هُوَ الثَّانِي وَعبارَته لم يقم عندنَا دَلِيل قَاطع على تَفْضِيل بعض الْأَئِمَّة على بعض إِذْ الْعقل لَا يدل على ذَلِك وَالْأَخْبَار الورادة فِي فضائلهم متعارضة وَلَكِن الْغَالِب على الظَّن أَن أَبَا بكر أفضل الْخَلَائق بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عمر أفضلهم بعده وتتعارض الظنون فِي عُثْمَان وَعلي
وَهَا هُنَا انْتهى بِنَا القَوْل فِيمَا قصدناه من التَّبَرُّك بِذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر خلفائه الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم ولنرجع إِلَى مَا نَحن بصدده من ذكر أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى مقدمين القَوْل أَولا فِي نسب البربر وَبَيَان حَالهم قبل الْإِسْلَام وَبعده على الْجُمْلَة لنتخلص بعده للمقصود وَالله تَعَالَى يعصمنا من الزلل بمنه وَكَرمه(1/115)
القَوْل فِي نسب البربر وَبَيَان أصلهم
أعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي تَحْقِيق نسب البربر وَإِلَى أَي اصل من أصُول الخليقة يرجعُونَ فَذكر صَاحب كتاب الجمان فِي أَخْبَار الزَّمَان وَنَقله عَن أهل الْعلم بالسير أَن بني حام تنازعوا مَعَ بني سَام فَانْهَزَمَ بَنو حام أمامهم إِلَى الْمغرب وتناسلوا بِهِ واتصلت شعوبهم من أَرض مصر إِلَى آخر الْمغرب إِلَى تخوم السودَان وَكَانَ بسواحل الْمغرب الأفارقة والإفرنج فَكَانَت ذُرِّيَّة حام فِي المداشر والخيام والأعاجم الأول فِي الْبلدَانِ وَبَقِي أَكثر أَوْلَاد حام فِي بِلَاد فلسطين من أَرض الشَّام إِلَى زمن دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ ملكهم يُسمى جالوت فَلَمَّا قتل دَاوُد جالوت وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء أَمر بإجلائهم من بِلَاد كنعان وفلسطين إِلَى أَرض الْمغرب فَسَارُوا نَحْو إفريقية والزاب وانتشروا هُنَالك حَتَّى ضَاقَتْ بهم تِلْكَ الْبِلَاد وامتلأت مِنْهُم الْجبَال والكهوف والرمال وصاروا يتبعُون مواقع الْقطر بِالْإِبِلِ وبيوت الشّعْر وَلم تقدر الفرنج على ردهم ودفاعهم فانحازت الْأَعَاجِم للمدن وَبَقِي البربر فِيمَا عدى المدن وهم مَعَ ذَلِك على أَدْيَان مُخْتَلفَة يدين كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا شَاءَ من الْأَدْيَان الْفَاسِدَة فَمنهمْ من تمجس وَمِنْهُم من تهود وَمِنْهُم من تنصر واستمروا على ذَلِك إِلَى زمَان الْإِسْلَام وَكَانَ فيهم رُؤَسَاء وملوك وكهان وَلَهُم حروب وملاحم عِظَام مَعَ من قارعهم من الْأُمَم
وَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيره إِن البربر أخلاط من كنعان والعماليق وَغَيرهم فَلَمَّا قتل دَاوُد جالوت تفَرقُوا فِي الْبِلَاد
وَقَالَ الْكَلْبِيّ اخْتلف النَّاس فِيمَن أخرج البربر من الشَّام فَقيل دَاوُد بِالْوَحْي قيل يَا دَاوُد أخرج البربر من الشَّام فَإِنَّهُم جذام الأَرْض وَقيل يُوشَع بن نون عَلَيْهِ السَّلَام وَقيل إفريقش الْحِمْيَرِي وَاخْتلف فِي إفريقش هَذَا فَقَالَ المَسْعُودِيّ هُوَ إفريقش بن أَبْرَهَة ذِي الْمنَار أحد التبابعة الْمَشْهُورين(1/116)
وَقَالَ ابْن حزم هُوَ إفريقش بن قيس بن صَيْفِي أَخُو الْحَارِث الرائش مِنْهُم وَهُوَ الَّذِي ذهب بقبائل الْعَرَب إِلَى إفريقية وَبِه سميت وسَاق البربر إِلَيْهَا من أَرض كنعان مر بهَا عِنْدَمَا غلبهم يُوشَع بن نون وقتلهم فَاحْتمل الفل مِنْهُم وساقهم إِلَى إفريقية فأنزلهم بهَا وَقتل ملكهَا جرجير وَيُقَال إِنَّه الَّذِي سمى البربر بِهَذَا الإسم لِأَنَّهُ لما فتح الْمغرب وَسمع رطانتهم قَالَ مَا أَكثر بربرتهم فسموا البربر والبربرة فِي لُغَة الْعَرَب اخْتِلَاط أصوات غير مَفْهُومه وَمِنْه بربرة الْأسد وينسبون إِلَيْهِ فِي ذَلِك شعرًا وَهُوَ قَوْله
(بربرت كنعان لما سقتها ... من بِلَاد الضنك للخصب العجيب)
(اي أَرض سكنوها وَلَقَد ... فازت البربر بالعيش الخصيب)
وَلما قفل إفريقش من غَزْو الْمغرب ترك هُنَالك حامية من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهما بهَا إِلَى الْآن وَلَيْسوا نم نسب البربر قَالَه الطَّبَرِيّ والجرجاني والمسعودي وَابْن الْكَلْبِيّ والسهيلي وَجَمِيع النسابين من الْعَرَب
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب التَّمْهِيد لَهُ اخْتلف النَّاس فِي نسب البربر اخْتِلَافا كثيرا وأنسب مَا قيل فيهم أَنهم من ولد قبط بن حام وَأَنه لما نزل مصر خرج بنوه يُرِيدُونَ الْمغرب فسكنوا من آخر عمالة مصر وَذَلِكَ فِيمَا وَرَاء برقة إِلَى الْبَحْر الْأَخْضَر مَعَ بَحر الأندلس إِلَى مُنْقَطع الرمل متصلين السودَان وَقيل إِن البربر صنفان البرانس والبتر وَأَن البتر مِنْهُم من ولد بر بن قيس بن عيلان بن مُضر وَاخْتلفُوا فِي تَوْجِيه ذَلِك فَقَالَ الطَّبَرِيّ خرج بر بن قيس بن عيلان ينشد ضَالَّة لَهُ بأحياء البربر فَرَأى جَارِيَة مِنْهُم فَخَطَبَهَا من أَبِيهَا وَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ
وَقَالَ فِي كتاب الجمان وَأما تسميتهم بالبربر فَإِنَّهُ لما صَار ملك مُضر لقيس بن عيلان كَانَ لَهُ ولد اسْمه بر فَخرج مغاضبا لِأَبِيهِ وَإِخْوَته إِلَى جِهَة الْمغرب فَقَالَ النَّاس بربر أَي توحش فِي البراري فسموا بربرا وَنقل ابْن(1/117)
أبي زرع وَابْن خلدون عَن النسابين من البربر وَحَكَاهُ أَيْضا الْبكْرِيّ وَغَيره أَنه كَانَ لمضر بن نزار ولدان إلْيَاس وعيلان أمهما الربَاب بنت حيدة بن عَمْرو بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مُضر وَلدين وهما قيس ودهمان ابْنا عيلان أما دهمان فولده قَلِيل وهم أهل بَيت من قيس يُقَال لَهُم بَنو أُمَامَة وَأما قيس بن عيلان فولد أَرْبَعَة بَنِينَ وَجَارِيَة وهم سعد وَعَمْرو وخصفة أمّهم مزنة بنت أَسد بن ربيعَة بن نزار ثمَّ بر وَأُخْته تماضر أمهما تمريغ بنت يجدول بن غمار بن مصمود الْبَرْبَرِي اليجدولي
وَكَانَت قبائل البربر إِذْ ذَاك يسكنون الشَّام ويجاورون الْعَرَب فِي المساكن والأسواق والمساعي ويشاركونهم فِي الْمِيَاه والمسارح والمراعي ويصاهر بَعضهم بَعْضًا وَكَانَت الْبَهَاء بنت دهمان بن عيلان بن مُضر من أجمل نسَاء زمانها وأكملهن ظرفا وأدبا فَكثر خطابها من سَائِر قبائل الْعَرَب فَقَالَ بَنو عَمها وهم عَمْرو وَسعد وخصفة وبر لَا يتَزَوَّج ابْنة عمنَا إِلَّا أَحَدنَا وَلَا تخرج منا إِلَى غَيرنَا فخيروها فِيمَن شَاءَت مِنْهُم فَاخْتَارَتْ برا وَكَانَ أَصْغَرهم سنا وأكملهم شبَابًا فَتَزَوجهَا دون اخوته فحسدوه عَلَيْهَا وهموا بقتْله من أجلهَا وَكَانَت أمه تمريغ من دهاة النِّسَاء فَبعثت إِلَى أَبِيهَا دهمان وأعلمته الْخَبَر وواطأته على الْخُرُوج بِوَلَدِهَا إِلَى أَرض قَومهَا من البربر حَيْثُ تأمن عَلَيْهِ ثمَّ بعثت إِلَى قَومهَا فأتوها سرا فارتحلت مَعَهم هِيَ وَوَلدهَا بر وكنتها الْبَهَاء بنت دهمان فَلَحقُوا بِبِلَاد البربر وهم يَوْمئِذٍ مستوطنون فلسطين وأكناف الشَّام فَنزل بر على أَخْوَاله واعتز بهم وَبنى بابنة عَمه الْبَهَاء فَولدت لَهُ هُنَاكَ وَلدين علوان ومادغيس ابْني بر بن قيس بن عيلان فَأَما علوان فَمَاتَ صَغِيرا وَلم يعقب وَأما مادغيس فَكَانَ يلقب الأبتر وَهُوَ أَبُو البتر من البربر وَإِلَيْهِ يرفعون أنسابهم وَمن وَلَده جَمِيع زناته كَمَا سَيَأْتِي ويزعمون أَن تماضر أُخْت بر بكته بعد فرقته بِشعر تَقول فِيهِ
(لتبك كل باكية أخاها ... كَمَا أبْكِي على بر بن قيس)
(تحمل عَن عشيرته فأضحى ... وَدون لِقَائِه انضاء عنس)(1/118)
وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهَا أَيْضا قَوْلهَا
(وشطت ببر دَاره عَن بِلَادنَا ... وطوح بر نَفسه حَيْثُ يمما)
(وأزرت ببر لكنة أَعْجَمِيَّة ... وَمَا كَانَ بر فِي الْحجاز بأعجما)
(كأنا وَبرا لم نقف بجيادنا ... بِنَجْد وَلم نقسم نهابا ومغنما)
وَأنْشد عُلَمَاء البربر لعبيدة بن قيس الْعقيلِيّ
(أَلا أَيهَا السَّاعِي لفرقة بَيْننَا ... توقف هداك الله سبل الأطايب)
(فأقسم أَنا والبرابر إخْوَة ... تناولنا جد كريم الْمُنَاسب)
(أَبونَا أبوهم قيس عيلان فِي الذرى ... لَهُ حومة تشفي غليل الْمُحَارب)
(وبر بن قيس عصبَة مضرية ... وَفِي الْفَرْع من أحسابها والذوائب)
(فَنحْن وهم ركن منيع وإخوة ... على رغم أَعدَاء لئام المناقب)
فِي أَبْيَات غير هَذِه وينشد أَيْضا ليزِيد بن خَالِد يمدح البربر قَوْله
(أَيهَا السَّائِل عَنَّا أصلنَا ... قيس عيلان بَنو الغر الأول)
(نَحن مَا نَحن بَنو بر الندى ... طارد الأزمة نحار الْإِبِل)
(قد بنى الْمجد فأورى زنده ... وكفانا كل خطب ذِي جلل)
(إِن قيسا يعتزي بر لَهُ ... ولبر يعتزي قيس الْأَجَل)
(فلنا الْفَخر بقيس إِنَّه ... جدنا الْأَكْبَر فكاك الكبل)
(إِن قيسا قيس عيلان هم ... مَعْدن الْخَيْر على الْخَيْر دلل)
(حسبي البربر قومِي إِنَّهُم ... ملكوا الأَرْض بأطراف الأسل)
فِي أَبْيَات أخر
وَاعْلَم أَن الْخلاف فِي نسب البربر طَوِيل وَقد تركنَا جله اختصارا وأشبه هَذِه الْأَقْوَال بِالصِّحَّةِ مَا نَقَلْنَاهُ أَولا مِمَّا يدل على أَن جيل البربر من ولد حام وَأَنَّهُمْ جيل قديم قد سكنوا الْمغرب عِنْدَمَا تناسلت ذُرِّيَّة نوح عَلَيْهِ(1/119)
السَّلَام وانتشرت الخليقة على وَجه الأَرْض ثمَّ تلاحقت بهم بَقِيَّة بني كنعان من الشَّام عِنْدَمَا أجلاهم يُوشَع بن نون عَلَيْهِ السَّلَام أَولا ثمَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثَانِيًا
قَالَ ابْن خلدون بعد تزييف القَوْل بِأَن البربر من ولد جالوت بالخصوص أَو من الْعَرَب مَا نَصه وَالْحق الَّذِي لَا يَنْبَغِي التعويل على غَيره فِي شَأْنهمْ أَنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن اسْم أَبِيهِم مازيغ اه
وَمِمَّا يستملح من النَّوَادِر المقولة فِي نسب البربر قَول خلف بن فرج السميسير من شعراء الأندلس يهجو البربر
(رَأَيْت آدم فِي نومي فَقلت لَهُ ... أَبَا الْبَريَّة إِن النَّاس قد حكمُوا)
(إِن البرابر نسل مِنْك قَالَ إِذا ... حَوَّاء طَالِق إِن كَانَ الَّذِي زَعَمُوا)
وَهَذَا من ملح الشُّعَرَاء وشيطنتهم وَإِلَّا فالبربر جيل مَعْرُوف من أعظم الأجيال وأعزها وَلَهُم الْفَخر الَّذِي لَا يجهل وَالذكر الَّذِي لَا يهمل وَقد تعدّدت فيهم الدول وَكَثُرت فيهم الْمُلُوك الْعِظَام وَكَانَ لَهُم الْقدَم الراسخ فِي الْإِسْلَام وَالْيَد الْبَيْضَاء فِي الْجِهَاد وَمِنْهُم الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء والأولياء وَالشعرَاء وَأهل المزايا والفضائل وستقف على كثير من ذَلِك عَن قريب إِن شَاءَ الله
القَوْل فِي تَقْسِيم شعوب البربر على الْجُمْلَة
اعْلَم أَن أمة البربر أمة عَظِيمَة قد مَلَأت مَا بَين برقة وَالْبَحْر الْمُحِيط شرقا وغربا وَمَا بَين بِلَاد السودَان وَالْبَحْر الرُّومِي جنوبا وَشمَالًا وَمَعَ عظمها فيجمعها شعْبَان عظيمان بِحَيْثُ لَا يخرج بربري عَنْهُمَا
قَالَ ابْن خلدون عُلَمَاء النّسَب متفقون على أَن البربر يجمعهُمْ جدان عظيمان وهما برنس ومادغيس ويلقب مادغيس بالأبتر فَلذَلِك يُقَال لشعوبه البتر وَيُقَال لشعوب برنس البرانس وَبَين النسابين خلاف هَل هما لأَب وَاحِد أم لَا فَعِنْدَ ابْن حزم أَنَّهُمَا لأَب وَاحِد والجميع من نسل كنعان بن(1/120)
حام وَقَالَ سَابق بن سُلَيْمَان المطماطي وَغَيره من نساب البربر إِن البرانس فَقَط من نسل كنعان وَأما البتر فهم بَنو بر بن قيس بن عيلان بن مُضر وَهَذَا القَوْل قد تقدم مَا فِيهِ فَالْحق أَن الشعبين مَعًا عريقان فِي البربرية وَأَن الْجَمِيع من ولد مزيغ ومازيغ هُوَ من ولد كنعان بن حام كَمَا مر
فَأَما البرانس فتنقسم إِلَى سبع قبائل أوربة وصنهاجة وكامة ومصمودة وعجيسه وأوريغة وأرداجة وَيُقَال ورداجة بِالْوَاو بدل الْهمزَة وَزَاد سَابق المطماطي وَغَيره ثَلَاث قبائل أخر وهم لمطة وهسكورة وجزولة فَتكون عشرا فَأَما أوربة فَكَانَ مِنْهُم كسيلة بن أغز الأوربي قَاتل عقبَة بن نَافِع رَضِي الله عَنهُ زمَان الْفَتْح وَمِنْهُم إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد الأوربي الْقَائِم بدعوة إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ وَأما صنهاجة فهم أكبر قبائل البربر حَتَّى زعم كثير من النَّاس أَنهم مِقْدَار الثُّلُث مِنْهُم وَكَانَ مِنْهُم بَنو زيرى بن مُنَاد مُلُوك إفريقية والملثمون مُلُوك مراكش والأندلس وَأما كتامة فهم القائمون بدعوة العبيديين بإفريقية ومصر وَأما المصامدة فَمنهمْ غمارة وَكَانَ مِنْهُم يليان النَّصْرَانِي صَاحب سبتة وطنجة أَيَّام دُخُول عقبَة بن نَافِع للمغرب الْأَقْصَى وهم القائمون أَيْضا بدعوة بني إِدْرِيس فِي دولتهم الثَّانِيَة بعد بني أبي الْعَافِيَة وَمن المصامدة أَيْضا برغواطة أهل تامسنا وَمَا اتَّصل بهَا وَمِنْهُم أهل جبل درن القائمون بدعوة مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين
وَأما بَاقِي قبائل البرانس فَلم يكن لَهُم ملك يذكر وَقد تقدم لنا أَن النسابين من الْعَرَب يَقُولُونَ إِن صنهاجة وكتامة من حمير وَأَن إفريقش الْحِمْيَرِي تَركهم حامية بإفريقية فتناسلوا بهَا واستحال لسانهم إِلَى البربرية لَكِن الْمُحَقِّقُونَ من نساب البربر كسابق المطماطي وَغَيره يُنكرُونَ ذَلِك ويجزمون بِأَنَّهُمَا قبيلتان عريقتان فِي البربر وَأما البتر وهم بَنو مادغيس الأبتر فينقسم شِعْبهمْ إِلَى أَربع قبائل وهم ضريسة ونفوسة وأداسة وَبَنُو لوي وهم لواتة فَأَما ضريسة فَمنهمْ مكناسة وَمن مكناسة بَنو مدرار مُلُوك سجلماسة وَبَنُو أبي الْعَافِيَة مُلُوك فاس وَمن(1/121)
ضريسة أَيْضا زناتة كلهَا ومبن زناتة جرواة قوم الكاهنة داهيا صَاحِبَة جبل أوراس الَّتِي أوقعت بِحسان بن النُّعْمَان عَامل الْخَلِيفَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَمن زناتة أَيْضا بَنو خزر المغراويون مُلُوك تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَمِنْهُم مغرواة مُلُوك فاس وَبَنُو يفرن مُلُوك سلا وتادلا وَمِنْهُم بَنو زيان مُلُوك تلمسان وَبَنُو مرين مُلُوك فاس أَيْضا فَهَؤُلَاءِ كلهم من زناتة وزناتة هُوَ زانا بن يحيى بن ضرى بن زجيك بن مادغيس الأبتر
وَأما نفوسة وأداسة ولواتة فَلم يكن لَهُم ملك يذكر
وَأعلم أَن كل قَبيلَة من هَذِه الْقَبَائِل الْأَرْبَع عشرَة تشْتَمل على عمائر وبطون وأفخاذ وفصائل لَا حصر لَهَا وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْخَبَر عَن حَال البربر قبل الْإِسْلَام وَذكر بعض أَمْصَار الْمغرب الْقَدِيمَة وَمَا قيل فِي ذَلِك
قد تقدم لنا أَن البربر أمة قديمَة سكنوا أَرض الْمغرب فِي قديم الزَّمَان وَأَنَّهُمْ لما عمروا بِلَاده وملؤوا أكنافه انْحَازَتْ الفرنج عَنْهُم إِلَى السواحل والثغور وَبَقِي البربر فِيمَا سوى ذَلِك من الضواحي وَالْجِبَال والكهوف وهم مَعَ ذَلِك على أَدْيَان مُخْتَلفَة يدين كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا شَاءَ من الْأَدْيَان الْفَاسِدَة إِلَى آخر مَا مر فَهَذَا كَانَ حَالهم على الْجُمْلَة
وَقَالَ ابْن خلدون لم تزل بِلَاد الْمغرب إِلَى طرابلس بل وَإِلَى الْإسْكَنْدَريَّة عامرة بِهَذَا الجيل مَا بَين الْبَحْر الرُّومِي وبلاد السودَان مُنْذُ أزمنة لَا يعرف أَولهَا وَلَا مَا قبلهَا وَكَانَ دينهم دين الْمَجُوسِيَّة شَأْن الْأَعَاجِم كلهَا بالمشرق وَالْمغْرب إِلَّا فِي بعض الْأَحَايِين يدينون بدين من غلب عَلَيْهِم من الْأُمَم فَإِن الْأُمَم أهل الدول الْعَظِيمَة كَانُوا يتغلبون عَلَيْهِم فقد غزتهم مُلُوك الْيمن من قراهم مرَارًا على مَا ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم ذكر ابْن الْكَلْبِيّ أَن حميرا أَبَا الْقَبَائِل اليمانية ملك الْمغرب مائَة سنة(1/122)
وانه الَّذِي ابتنى مدائنه مثل إفريقية وصقلية وَاتفقَ المؤرخون من الْعَرَب على غَزْو إفريقش الْحِمْيَرِي من التبابعة أَرض الْمغرب اه وَمَا نَقله عَن ابْن الْكَلْبِيّ من غَزْو حمير أَرض الْمغرب قد نقل أَيْضا إِنْكَاره عَن الحافظين أبي عمر بن عبد الْبر وَأبي مُحَمَّد بن حزم وأنهما قَالَا مَا كَانَ لحمير طَرِيق إِلَى بِلَاد البربر إِلَّا فِي تكاذيب مؤرخي الْيمن ثمَّ ذكر أَن الْبَعْض من البربر كَانُوا قد دانوا بدين الْيَهُودِيَّة وأخذوه عَن بني إِسْرَائِيل عِنْد استفحال ملكهم لقرب الشَّام وسلطانه مِنْهُم كَمَا كَانَ جراوة أهل جبل أوراس قَبيلَة الكاهنة وكما كَانَت نفوسة من برابرة إفريقية وفندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة وَبَنُو فازاز من برابرة الْمغرب الْأَقْصَى حَتَّى محا إِدْرِيس الْأَكْبَر جَمِيع مَا كَانَ فِي نواحيه من بقايا الْأَدْيَان والملل
وَقَالَ غير وَاحِد من المؤرخين كَانَ أهل الْمغرب الْأَقْصَى يضرون بِأَهْل الأندلس لاتصال الأَرْض بَينهم ويلقون مِنْهُم الْجهد الجهيد فِي كل وَقت إِلَى أَن أجتاز بهم الْإِسْكَنْدَر فشكوا حَالهم إِلَيْهِ فأحضر المهندسين وأتى إِلَى الزقاق يَعْنِي زقاق سبتة فَأَمرهمْ بِوَزْن سطح المَاء من الْبَحْر الْمُحِيط وَالْبَحْر الرُّومِي فوجدوا الْمُحِيط يَعْلُو الرُّومِي بِشَيْء يسير فَأمر بِرَفْع الْبِلَاد الَّتِي على سَاحل الْبَحْر الرُّومِي ونقلها من الحضيض إِلَى الْأَعْلَى ثمَّ أَمر بِحَفر مَا بَين طنجة وبلاد الأندلس من الأَرْض فحفرت حَتَّى ظَهرت الْجبَال السفلية وَبنى عَلَيْهَا رصيفا بِالْحجرِ والجيار بِنَاء محكما وَجعل طوله اثنى عشر ميلًا وَهِي الْمسَافَة الَّتِي كَانَت بَين الْبَحْرين وَبنى رصيفا آخر يُقَابله من نَاحيَة طنجة وَجعل بَين الرصيفين سَعَة سِتَّة أَمْيَال فَلَمَّا كمل الرصيفان حفر(1/123)
من جِهَة الْبَحْر الْأَعْظَم وَأطلق فَم المَاء بَين الرصيفين فَدخل فِي الْبَحْر الرُّومِي ثمَّ ارْتَفع المَاء فأغرق مدنا كَثِيرَة وَأهْلك أمما عَظِيمَة كَانَت على الشطين وطما المَاء على الرصيفين بِإِحْدَى عشرَة قامة فَأَما الرصيف الَّذِي يَلِي بِلَاد الأندلس فَإِنَّهُ يظْهر فِي بعض الْأَوْقَات إِذا نقص المَاء ظهورا بَينا مُسْتَقِيمًا على خطّ وَاحِد وَأهل الجزيرة يسمونه القنظرة وَأما الرصيف الَّذِي يَلِي جِهَة العدوة فَإِن المَاء حمله فِي صَدره واحتفر مَا خَلفه من الأَرْض بِنَحْوِ اثْنَي عشر ميلًا وعَلى طرفه من جِهَة الْمغرب قصر الْمجَاز وسبتة وطنجة وعَلى طرفه من النَّاحِيَة الْأُخْرَى جبل طَارق بن زِيَاد وجزيرة طريف بن مَالك والجزيرة الخضراء وَمَا يين سبتة والخضراء هُوَ عرض الْبَحْر الْمُسَمّى بالزقاق والبوغاز أَيْضا اه
وَمَا ذَكرُوهُ من أَن أَرض الْمغرب كَانَت مُتَّصِلَة بِأَرْض الأندلس نَحوه فِي تواريخ الفرنج الْقَدِيمَة غير أَنهم يسمون الْملك الَّذِي فتح الباغاز هِرقل الْجَبَّار وَعند ابْن سعيد أَنه كَانَ فِيمَا بَين قصر الْمجَاز وطريف قنطرة عَظِيمَة قد وصلت مَا بَين البرين يزْعم النَّاس أَن الْإِسْكَنْدَر بناها ليعبر عَلَيْهَا من بر الأندلس إِلَى بر العدوة وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
وَفِي تواريخ الفرنج الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهَا عِنْدهم أَن مُلُوك الرّوم الأولى حَاربُوا القرطاجنيين من أهل إفريقية وَالْمغْرب وغلبوهم على الْبِلَاد وهدموا فِي بعض تِلْكَ الحروب مَدِينَة قرطاجنة الشهيرة الذّكر قَالَ الشَّيْخ رِفَاعَة فِي بداية القدماء مَا نَصه قرطاجنة مَدِينَة بِأَرْض إفريقية هِيَ إِحْدَى مدن الدُّنْيَا الشهيرة وَقد هدمها الرّوم قبل مِيلَاد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بِمِائَة وست وَأَرْبَعين سنة ثمَّ أسست ثَانِيَة وخربها الْعَرَب حَتَّى إِنَّه لَا يرى الْآن شَيْء من آثارها إِلَّا بغاية الْجهد وبقرب موضعهَا مَدِينَة تونس اه
وَقَالَ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان حِين تكلم على قيادة الأساطيل مَا نَصه وَقد كَانَت الرّوم والإفرنجية والقوط بالعدوة الشمالية من هَذَا الْبَحْر الرُّومِي وَكَانَ أَكثر حروبهم ومتاجرهم فِي السفن فَكَانُوا مهرَة(1/124)
إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة لبلة
وَكَانَ الْمُتَوَلِي لفتحها بحيى بن يغمور وَالِي قرطبة وإشبيلية حاصرها مُدَّة ثمَّ فتحهَا عنْوَة وَقبض على أَهلهَا فَخرج بهم إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَصفهم فِي صَعِيد وَاحِد ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف أَجْمَعِينَ حَتَّى خلص الْقَتْل مِنْهُم إِلَى الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحُكَّام بن بطال والفقيه الصَّالح أبي عَامر بن الْجد
وَكَانَ عدد من قتل من أهل لبلة فِي ذَلِك الصَّعِيد ثَمَانِيَة آلَاف وَقتل بأحوازها نَحْو(1/125)
بِلَادهمْ ورعاياهم وَكَانَ الفرنج مجاورين للبربر فِي الْمغرب الْأَدْنَى والقوط مجاورين لَهُم فِي الْأَقْصَى لَيْسَ بَينهم وَبينهمْ إِلَّا خليج الْبَحْر فحملوا أهل السواحل مِنْهُم على الْأَخْذ بذلك الدّين فدانوا بِهِ أَيْضا وَنظر القياصرة يَوْمئِذٍ منسحب عَن الْجَمِيع وَأمرهمْ نَافِذ فِي الْكل وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك حَتَّى جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وأظهره على الدّين كُله فدانت بِهِ البربر على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله فَلهَذَا السَّبَب كَانَ كسيلة الأوربي ويليان الغماري وَغَيرهمَا من كبار البربر نَصَارَى
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ للبربر فِي الضواحي وَرَاء ملك الْأَمْصَار المرهوبة الحامية مَا شَاءَ الله من قُوَّة وعدة وَعدد وملوك ورؤساء وأقيال وأمراء لَا يرامون بذل وَلَا تنالهم الرّوم والفرنج فِي ضواحيهم تِلْكَ بمسخطة وَلَا إساءة ثمَّ قَالَ وَكَانُوا يؤدون الجباية لهرقل ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة كَمَا كَانَ الْمُقَوْقس صَاحب مصر والإسكندرية وبرقة يُؤَدِّي الجباية لَهُ وكما كَانَ صَاحب طرابلس ولبدة وصبرة وَصَاحب صقلية وَصَاحب الأندلس من القوط لما كَانَ الرّوم قد غلبوا على هَؤُلَاءِ الْأُمَم أجمع وعنهم أخذُوا دين النَّصْرَانِيَّة وَكَانَ الفرنجة هم الَّذين ولوا أَمر إفريقية وَلم تكن للروم فِيهَا ولَايَة وَإِنَّمَا كَانَ كل من كَانَ مِنْهُم بهَا جند للفرنج وَمن حشودهم وَمَا يسمع فِي كتب الْفَتْح من ذكر الرّوم فِي فتح أفريقية فَمن بَاب التغليب لِأَن الْعَرَب يَوْمئِذٍ لم يَكُونُوا يعْرفُونَ الفرنج وَمَا قَاتلُوا فِي الشَّام إِلَّا الرّوم فظنوا أَنهم هم الغالبون على أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَإِن هِرقل هُوَ ملك النَّصْرَانِيَّة كلهَا فغلبوا اسْم الرّوم على جَمِيع أُمَم النَّصْرَانِيَّة ونقلت الْأَخْبَار عَن الْعَرَب كَمَا هِيَ فجرجير الْمَقْتُول عِنْد الْفَتْح من الفرنج وَلَيْسَ من الرّوم وَكَذَا الْأمة الَّذين مَاتُوا بإفريقية غَالِبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها كَانُوا من الفرنجة اه(1/126)
القَوْل فِي تَحْدِيد الْمغرب وَذكر حَال البربر بعد الْإِسْلَام
اعْلَم أَن لفظ الْمغرب يُطلق فِي عرف أَهله على نَاحيَة من الأَرْض مَعْرُوفَة بِعَينهَا حَدهَا من جِهَة مغرب الشَّمْس الْبَحْر الْمُحِيط الْمَعْرُوف بالكبير وَمن جِهَة مشرق الشَّمْس بِلَاد برقة وَمَا خلفهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ومصر فبرقة خَارِجَة عَن بِلَاد الْمغرب بِهَذَا الِاعْتِبَار وبلاد طرابلس وَمَا دونهَا إِلَى جِهَة الْبَحْر الْمُحِيط دَاخِلَة فِيهِ وَحدهَا من جِهَة الشمَال الْبَحْر الرُّومِي المفرع عَن الْمُحِيط وَيعرف هَذَا الرُّومِي بالصغير وَمن جِهَة الْجنُوب جبال الرمل الفاصلة بَين بِلَاد السودَان وبلاد البربر وتعرف عِنْد الْعَرَب الرحالة هُنَالك بالعرق
ثمَّ هَذَا الْمغرب يشْتَمل على ثَلَاث ممالك مملكة إفريقية وَهِي الْمغرب الْأَدْنَى وقاعدتها فِي صدر الْإِسْلَام مَدِينَة القيروان وَفِي هَذَا الْعَصْر مَدِينَة تونس وَسمي أدنى لِأَنَّهُ أقرب إِلَى بِلَاد الْعَرَب وَدَار الْخلَافَة بالحجاز ثمَّ بعد إفريقية مملكة الْمغرب الْأَوْسَط وقاعدتها تلمسان وجزائر بني مزغنة وَهَذِه المملكة الْيَوْم فِي يَد فرنج إفرانسة ملكوها فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأَهْلهَا مُسلمُونَ ثمَّ بعد ذَلِك مملكة الْمغرب الْأَقْصَى وَسمي الْأَقْصَى لِأَنَّهُ أبعد الممالك الثَّلَاث عَن دَار الْخلَافَة فِي صدر الْإِسْلَام وحد هَذَا الْأَقْصَى من جِهَة الْمغرب الْبَحْر الْمُحِيط وَمن جِهَة الْمشرق وَادي ملوية مَعَ جبال تازا وَمن جِهَة الشمَال الْبَحْر الرُّومِي وَمن جِهَة الْجنُوب جبل درن قَالَه ابْن خلدون
وَفِي تَقْسِيم الفرنج أَن الْمغرب الْأَقْصَى يشْتَمل على خمس عمالات عمالة فاس وعمالة مراكش وعمالة السوس وعمالة درعة وعمالة تافيلالت وَدَار الْملك بِهِ تَارَة فاس وَتارَة مراكش وَهُوَ فِي الْأَغْلَب ديار المصامدة(1/127)
من البربر ويساكنهم فِيهِ عوالم من صنهاجة ومضغرة وأوربة وَغَيرهم لكِنهمْ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى المصامدة ويساكنهم فِيهِ أَيْضا عَالم من الْعَرَب أهل الْخيام انتقلوا من جَزِيرَة الْعَرَب إِلَى إفريقية ثمَّ من إفريقية إِلَيْهِ أَوَاخِر الْمِائَة السَّادِسَة أَيَّام الْخَلِيفَة يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي وهم الْيَوْم قبائل عديدة يرجعُونَ فِي نسبهم إِلَى ريَاح وجشم فَأَما ريَاح فهم من بني هِلَال بن عَامر بن صعصعة وَأما جشم فهم بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَكلهمْ يَنْتَهِي نسبهم إِلَى مُضر ويضاف إِلَيْهِم قبائل أخر نحقق الْكَلَام فيهم بعد هَذَا إِن شَاءَ الله
ثمَّ قد علمت أَن كلامنا بِالْقَصْدِ الأول فِي هَذَا الْكتاب إِنَّمَا هُوَ على الْمغرب الْأَقْصَى لَكنا نتكلم أَولا على أَخْبَار الْمغرب مُطلقًا وَنَذْكُر أمراءه الموجهين من قبل الْخُلَفَاء بالمشرق على التَّفْصِيل مَا دَامَ نظرهم منسحبا عَلَيْهِ وظلهم ممتدا إِلَيْهِ إِذْ كَانَ أَمر الْخلَافَة فِي صدر الْإِسْلَام متحدا وَحكمهَا مجتمعا وكلمتها نَافِذَة فِي جَمِيع ممالك الْإِسْلَام شرقا وغربا بِحَيْثُ لَا يخرج قطر من الأقطار وَلَا مصر من الْأَمْصَار فِيمَا بعد أَو دنا عَن الأَرْض عَن نظر الْخَلِيفَة الْأَعْظَم وَقد كَانَ ذَلِك دينا مُتبعا وَحكما مجمعا عَلَيْهِ وَلَا تصح لأحد إِمَارَة أَو ولَايَة إِلَّا بالإستناد إِلَيْهِ حَتَّى إِذا طَال الْعَهْد وَضعف أَمر الْخلَافَة وتقلص ظلها من القاصية تَفَرَّقت ممالك الْإِسْلَام الْبَعِيدَة عَن دارها وتوزعتها الثوار من بني هَاشم وَغَيرهم واستبد الْأُمَرَاء النازحون عَنْهَا كل بِمَا غلب عَلَيْهِ وَسَار أَمر الْوحدَة إِلَى الْكَثْرَة وَحكم الإجتماع إِلَى الْفرْقَة فَلهَذَا نتكلم الْآن على أَخْبَار الْمغرب مُطلقًا وَنَذْكُر ولاته الموجهين إِلَيْهِ من قبل الْخُلَفَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى زمن إِدْرِيس بن عبد الله المستبد بِملك الْمغرب الْأَقْصَى والمقتطع لَهُ عَمَّا عداهُ من الممالك الإسلامية فَحِينَئِذٍ نفرد الْكَلَام عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ على مَا شرطناه فَأَما الْآن فَلَا يمكننا الْكَلَام عَلَيْهِ وَحده لِأَنَّهُ وَالْحَالة هَذِه مندرج فِي غَيره من ممالك الْمغرب إِذْ الْوَالِي الموجه من قبل الْخَلِيفَة فِي صدر الْإِسْلَام كَانَ يكون واليا على إفريقية وَمَا بعْدهَا من بِلَاد الْمغرب إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وَقد تُضَاف إِلَى نظره الأندلس بل كَانَ الْوَالِي(1/128)
بِمصْر قد يكون نظره شَامِلًا لجَمِيع بِلَاد الْمغرب حَسْبَمَا نقف عَلَيْهِ فاعرف هَذِه الْجُمْلَة ولتكن مِنْك على بَال
وَأما حَال البربر بعد الْإِسْلَام فَيعرف من أَخْبَار الْوُلَاة الَّتِي نسردها الْآن وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
ولَايَة عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ وفتحه برقة وطرابلس
لما كَانَت خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَفتح عَمْرو بن الْعَاصِ مصر والإسكندرية وَفرغ مِنْهَا سَار فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين من الْهِجْرَة إِلَى برقة وَكَانَت تسمى فِي الْقَدِيم إنطابلس فَصَالحه أَهلهَا على الْجِزْيَة ثمَّ سَار بعْدهَا إِلَى طرابلس فحاصرها شهرا وَكَانَت مكشوفة السُّور من جَانب الْبَحْر وسفن الرّوم فِي مرْسَاها فحسر المَاء فِي بعض الْأَيَّام وانكشف أمرهَا لبَعض الْمُسلمين المحاصرين لَهَا فاقتحموا الْبَلَد فِيمَا بَين الْبَحْر والبيوت فَلم يكن للروم ملْجأ إِلَّا سفنهم وارتفع الصياح فَأقبل عَمْرو بعساكره فَدخل الْمَدِينَة وَلم يفلت الرّوم إِلَّا بِمَا خف فِي المراكب ثمَّ عطف عَمْرو رَضِي الله عَنهُ على مَدِينَة صبرَة وَكَانُوا قد أمنُوا بمنعة طرابلس واشتغال الْمُسلمين بحصارها فصبحهم فِي جَيش الْمُسلمين واقتحمها عَلَيْهِم عنْوَة وكمل الْفَتْح وَرجع عَمْرو إِلَى برقة فَصَالحه أَهلهَا على ثَلَاثَة عشر ألف دِينَار جِزْيَة وَكَانَ أَكثر أهل برقة لواته وهم بَنو لوي الْأَكْبَر وَأكْثر أهل طرابلس وصبرة نفوسة وكلتا القبيلتين من البتر
وَلما فرغ عَمْرو رَضِي الله عَنهُ من أَمر طرابلس وَمَا مَعهَا اسْتَأْذن عمر بن(1/129)
الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي التَّقَدُّم إِلَى إفريقية فَمَنعه وَقَالَ تِلْكَ المفرقة وَلَيْسَت بإفريقية أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فامتثل وَعَاد إِلَى مصر فَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ أول أَمِير للْمُسلمين وطِئت خيله أَرض الْمغرب لكنه لم يصل إِلَى إفريقية وَلَا كَانَ من البرابر إِسْلَام غير أَن صَاحب كتاب الجمان نقل أَنه لما كَانَت خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ واستفتحت مَدِينَة مصر وَكَانَ عَلَيْهَا عَمْرو بن الْعَاصِ قدم عَلَيْهِ سِتَّة نفر من البربر مُحَلِّقِينَ الرؤوس واللحى فَقَالَ لَهُم عَمْرو من أَنْتُم وَمَا الَّذِي جَاءَ بكم قَالُوا رغبنا فِي الْإِسْلَام فَجِئْنَا لَهُ لِأَن جدودنا قد أوصونا بذلك فوجههم عَمْرو إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ وَكتب إِلَيْهِ بخبرهم فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ وهم لَا يعْرفُونَ لِسَان الْعَرَب كَلمهمْ الترجمان على لِسَان عمر فَقَالَ لَهُم من أَنْتُم قَالُوا نَحن بَنو مازيغ فَقَالَ عمر لجلسائه هَل سَمِعْتُمْ قطّ بهؤلاء فَقَالَ شيخ من قُرَيْش يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ البربر من ذُرِّيَّة بر بن قيس بن عيلان خرج مغاضبا لِأَبِيهِ وَإِخْوَته فَقَالُوا بر بر أَي أَخذ الْبَريَّة فَقَالَ لَهُم عمر رَضِي الله عَنهُ مَا علامتكم فِي بِلَادكُمْ قَالُوا نكرم الْخَيل ونهين النِّسَاء فَقَالَ لَهُم عمر ألكم مَدَائِن قَالُوا لَا قَالَ ألكم أَعْلَام تهتدون بهَا قَالُوا لَا قَالَ عمر وَالله لقد كنت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مغازيه فَنَظَرت إِلَى قلَّة الْجَيْش وبكيت فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عمر لَا تحزن فَإِن الله سيعز هَذَا الدّين بِقوم من الْمغرب لَيْسَ لَهُم مَدَائِن وَلَا حصون وَلَا أسواق وَلَا عَلَامَات يَهْتَدُونَ بهَا فِي الطّرق) ثمَّ قَالَ عمر فَالْحَمْد لله الَّذِي من عَليّ برؤيتهم ثمَّ أكْرمهم ووصلهم وَقَدَّمَهُمْ على من سواهُم من الجيوش القادمة عَلَيْهِ وَكتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ أَن يجعلهم على مُقَدّمَة الْمُسلمين وَكَانُوا من أفخاذ شَتَّى اه وَالله أعلم(1/130)
44
- ولَايَة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وفتحه إفريقية
لما كَانَت خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ عزل عَمْرو بن الْعَاصِ عَن مصر وَولى عَلَيْهَا عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أَخَاهُ من الرضَاعَة وَأمره بغزو إفريقية سنة خمس وَعشْرين من الْهِجْرَة وَقَالَ لَهُ إِن فتح الله عَلَيْك فلك خمس الْخمس من الْغَنَائِم ثمَّ عقد عُثْمَان لعبد الله بن نَافِع بن عبد قيس على جند وَعبد الله بن نَافِع بن الْحَارِث على آخر وسرحهما فَخَرجُوا إِلَى إفريقية فِي عشرَة آلَاف وصالحهم أَهلهَا على مَال يؤدونه وَلم يقدروا على التوغل فِيهَا لِكَثْرَة أَهلهَا ثمَّ إِن عبد الله بن أبي سرح اسْتَأْذن عُثْمَان فِي ذَلِك واستمده فَاسْتَشَارَ عُثْمَان الصَّحَابَة فأشاروا بِهِ فَجهز العساكر من الْمَدِينَة وَفِيهِمْ جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَابْن جَعْفَر وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَابْن الزبير وَقيل لحقهم مدَدا وَسَارُوا مَعَ عبد الله بن سعد سنة سِتّ وَعشْرين ولقيهم عقبَة بن نَافِع فِيمَن مَعَه من الْمُسلمين ببرقة ثمَّ سَارُوا إِلَى طرابلس فنهبوا الرّوم عِنْدهَا ثمَّ تجاوزوها إِلَى إفريقية وبثوا السَّرَايَا فِي كل نَاحيَة وَكَانَ ملكهم جرجير الفرنجي يملك مَا بَين طرابلس وطنجة تَحت ولَايَة هِرقل وَيحمل إِلَيْهِ الْخراج فَلَمَّا بلغه الْخَبَر جمع مائَة وَعشْرين ألفا من العساكر ولقيهم على يَوْم وَلَيْلَة من سبيطلة دَار ملكهم وَأَقَامُوا يقتتلون وَدعوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير مدَدا بَعثه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما أَبْطَأت عَلَيْهِ أخبارهم وَسمع جرجير بوصول المدد ففت ذَلِك فِي عضده وَشهد ابْن الزبير مَعَهم الْقِتَال وَقد غَابَ ابْن أبي سرح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل لَهُ إِنَّه سمع مُنَادِي جرجير يَقُول من قتل ابْن أبي سرح فَلهُ مائَة ألف دِينَار وأزوجه ابْنَتي فخاف وَتَأَخر عَن شُهُود الْقِتَال فَقَالَ لَهُ ابْن الزبير تنادي أَنْت بِأَن من قتل جرجير نفلته مائَة ألف وَزَوجته ابْنَته واستعملته على(1/131)
بِلَاده فخاف جرجير أَشد مِنْهُ ثمَّ أَشَارَ ابْن الزبير على ابْن أبي سرح أَن يتْرك جمَاعَة من أبطال الْمُسلمين الْمَشَاهِير متأهبين للحرب وَيُقَاتل الرّوم بباقي الْعَسْكَر إِلَى أَن يضجروا فيركبهم بالآخرين على غرَّة قَالَ لَعَلَّ الله ينصرنا عَلَيْهِم وَوَافَقَ على ذَلِك أَعْيَان الصَّحَابَة فَفَعَلُوا وركبوا من الْغَد إِلَى الزَّوَال وألحوا عَلَيْهِم حَتَّى أتعبوهم ثمَّ افْتَرَقُوا وأركب عبد الله الْفَرِيق الَّذين كَانُوا مستريحين فكبروا وحملوا حَملَة رجل وَاحِد حَتَّى غشوا الرّوم فِي خيامهم فَانْهَزَمُوا وَقتل كثير مِنْهُم وَقتل ابْن الزبير جرجير وحيزت ابْنَته سبية فنفلها ابْن أبي سرح ابْن الزبير ثمَّ حاصر ابْن أبي سرح سبيطلة فَفَتحهَا وخربها وَكَانَ سهم الْفَارِس فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَسَهْم الراجل ألفا وَبث جيوشه فِي الْبِلَاد إِلَى قفصة فَسبوا وغنموا وَبعث عسكرا إِلَى حصن الأجم وَقد اجْتمع بِهِ أهل الْبِلَاد فحاصره وفتحه على الْأمان ثمَّ صَالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وَخَمْسمِائة ألف دِينَار
وَأرْسل ابْن الزبير بِخَبَر الْفَتْح وبالخمس إِلَى الْمَدِينَة فَاشْتَرَاهُ مَرْوَان بن الحكم بِخَمْسِمِائَة ألف دِينَار وَبَعض النَّاس يَقُول أعطَاهُ إِيَّاه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَلَا يَصح وَإِنَّمَا أعْطى ابْن أبي سرح خمس الْخمس من الْغَزْوَة الأولى وانحاز الفرنجة وَمن مَعَهم من الرّوم بعد الْهَزِيمَة وَالْفَتْح إِلَى حصون إفريقية وانساح الْمُسلمُونَ فِي البسائط بالغارات وَوَقع بَينهم وَبَين أهل الضواحي من البربر زحوف وَقتل وَسبي حَتَّى لقد أَسرُّوا يَوْمئِذٍ من مُلُوك البربر صولات بن وزمار الزناتي ثمَّ المغراوي جد بني خزر مُلُوك تلمسان فَرَفَعُوهُ إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَأسلم على يَده فَمن عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وعهد لَهُ على قومه وَيُقَال إِنَّمَا وَصله وافدا فَأكْرم وفادته وَالله أعلم
ثمَّ رغب الفرنج والبربر فِي السّلم وسألوا الصُّلْح وشرطوا لِابْنِ أبي سرح ثَلَاثمِائَة قِنْطَار من الذَّهَب على أَن يرحل عَنْهُم بالعرب وَيخرج من بِلَادهمْ فَفعل وَرجع الْمُسلمُونَ إِلَى الْمشرق بعد مقامهم بإفريقية سنة وَثَلَاثَة أشهر وَلما بلغ هِرقل ملك الرّوم أَن أهل إفريقية صَالحُوا الْمُسلمين بذلك المَال(1/132)
الَّذِي أَعْطوهُ غضب عَلَيْهِم وَبعث بطريقا يَأْخُذ مِنْهُم مثل ذَلِك فَنزل قرطاجنة وَأخْبرهمْ بِمَا جَاءَ لَهُ فَأَبَوا وَقَالُوا قد كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يسعدنا فِيمَا نزل بِنَا فَقَاتلهُمْ البطريق وَهَزَمَهُمْ وطرد الْملك الَّذِي ولوه عَلَيْهِم بعد جرجير فلحق بِالشَّام وَقد اجْتمع النَّاس على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ فاستجاشه على إفريقية فَبعث مَعَه مُعَاوِيَة بن حديج السكونِي على مَا نذكرهُ
ولَايَة مُعَاوِيَة بن حديج على الْمغرب
هُوَ مُعَاوِيَة بن حديج بِالْحَاء الْمُهْملَة مُصَغرًا الْكِنْدِيّ ثمَّ السكونِي لَهُ صُحْبَة وَمِمَّنْ شهد مَعَ عَمْرو بن الْعَاصِ فتح مصر وَقدم بِخَبَر الْفَتْح على عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَلما قدم علج إفريقية على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من صَاحب قَيْصر بعث مَعَه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من صَاحب قَيْصر بعث مَعَه مُعَاوِيَة بن حديج هَذَا فِي عَسْكَر ضخم سنة خمس وَأَرْبَعين فَلَمَّا وصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة هلك العلج وَمضى مُعَاوِيَة فَقدم إفريقية فِي عشرَة آلَاف فَنزل قمونية فسرح إِلَيْهِ البطريق ثَلَاثِينَ ألف مقَاتل كَانَ قَيْصر قد وَجههَا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي الْبَحْر لمدافعة الْعَرَب عَن إفريقية فَلَنْ تغن شَيْئا وَقَاتلهمْ مُعَاوِيَة فَهَزَمَهُمْ عِنْد حصن الأجم ثمَّ بَث السَّرَايَا ودوخ الْبِلَاد فَبعث عبد الله بن الزبير إِلَى سوسة فافتتحها ثمَّ بعث عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى جَلُولَاء فافتتحها كَذَلِك وَقَالَ ابْن خلدون إِن مُعَاوِيَة حاصر حصن جَلُولَاء فَامْتنعَ عَلَيْهِ حَتَّى سقط ذَات يَوْم سوره فملكه الْمُسلمُونَ وغنموا مَا فِيهِ(1/133)
ثمَّ وَجه جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى صقلية فِي مِائَتي مركب فأثخنوا فِيهَا ثمَّ فتح بنزرت وَظهر الْإِسْلَام فِي البربر ثمَّ عَاد إِلَى مصر بعد أَن خلد آثارا حسية وَبنى بِمحل القيروان آبارا ثمَّ عَزله مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان عَن إفريقية وَأقرهُ على مصر فَقَط ثمَّ عَزله عَنْهَا فِي خبر لَيْسَ ذكره من غرضنا
ولَايَة عقبَة بن نَافِع الفِهري على الْمغرب وبناؤه مَدِينَة القيروان
هُوَ عقبَة بن نَافِع بن عبد الْقَيْس الْقرشِي الفِهري صَحَابِيّ بالمولد وَهُوَ آخر من ولي الْمغرب من الصَّحَابَة وَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ أَمِير على مصر قد اسْتعْمل عقبَة هَذَا وَهُوَ ابْن خَالَته على إفريقية فَانْتهى إِلَى لواتة ومزاتة فأطاعوا ثمَّ كفرُوا فغزاهم وَقتل وسبى ثمَّ افْتتح سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين غدامس من تخوم السودَان وَفِي السّنة بعْدهَا افْتتح ودان وكورا من كور السودَان وأثخن فِي تِلْكَ النواحي وَكَانَ لَهُ فِيهَا جِهَاد وفتوح فَظهر غناؤه وَعرفت نجدته وكفايته فَلَمَّا كَانَت سنة خمسين ولاه مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ على إفريقية اسْتِقْلَالا وَبعث مَعَه عشرَة آلَاف فَارس فَدخل عقبَة إفريقية بعد رُجُوع مُعَاوِيَة بن حديج عَنْهَا وانضاف إِلَيْهِ مسلمة البربر فَكثر جمعه وَوضع السَّيْف فِي أَهلهَا لأَنهم كَانُوا إِذا جَاءَت عَسَاكِر الْمُسلمين أَسْلمُوا فَإِذا رجعُوا عَنْهَا ارْتَدُّوا ثمَّ رأى عقبَة رَحمَه الله أَن يتَّخذ مَدِينَة يعتصم بهَا جَيش الْمُسلمين من البربر وتقام بهَا الْجَمِيع والأعياد فَاسْتَشَارَ من مَعَه فَقَالُوا نَحن أَصْحَاب إبل وَلَا حَاجَة لنا بمجاورة الْبَحْر فتسطو علينا الفرنج فَانْظُر لنا ينظر الله
قَالَ صَاحب الجمان وَكَانَت بقْعَة القيروان غيضة لَا يأوى إِلَيْهَا إِلَّا الوحوش وَالسِّبَاع فصاح بهَا عقبَة أَن اخْرُجِي أيتها الوحوش والهوام بِإِذن الله عز وَجل فَبَقيت أَرض القيروان أَرْبَعِينَ سنة لَا يرى فِيهَا شَيْء من الْهَوَام(1/134)
المؤذية وَلَا السبَاع العادية ثمَّ شرع فِي بنائها وَقَالَ هَذِه أوسع لأبلكم وآمن عَلَيْكُم من روم الْقُسْطَنْطِينِيَّة وإفرنج الجزيرة وَعَن اللَّيْث بن سعد أَن عقبَة رَحمَه الله غزا إفريقية فَأتى وَادي القيروان فَبَاتَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابه حَتَّى إِذا أصبح وقف على رَأس الْوَادي فَقَالَ يَا أهل الْوَادي أظعنوا فَإنَّا نازلون قَالَ ذَلِك ثَلَاثًا فَجعلت الْحَيَّات تنساب والعقارب وَغَيرهَا مِمَّا لَا يعرف من الدَّوَابّ تخرج ذَاهِبَة وهم قيام ينظرُونَ إِلَيْهَا من حِين أَصْبحُوا حَتَّى أوهجتهم الشَّمْس وَحَتَّى لم يرَوا مِنْهَا شَيْئا فنزلوا الْوَادي عِنْد ذَلِك قَالَ اللَّيْث فَحَدثني زِيَاد بن عجلَان أَن أهل إفريقية اقاموا بعد ذَلِك أَرْبَعِينَ سنة وَلَو التمست حَيَّة أَو عقرب بِأَلف دِينَار مَا وجدت اه
وَفِي الجمان لما شرع عقبَة رَحمَه الله فِي بِنَاء جَامعهَا تنازعوا فِي الْقبْلَة فَأتى عقبَة آتٍ فِي النّوم فَوضع لَهُ عَلامَة على سمت الْقبْلَة فَلم انتبه أعلم النَّاس بذلك فَأتوا إِلَى الْموضع فوجدوا الْعَلامَة كَمَا قَالَ فَوقف عقبَة ينظر إِلَى الْقبْلَة فَسمع تَكْبِيرَة فِي الجو من نَاحيَة الْقبْلَة فَنظر فَرَأى الْكَعْبَة عيَانًا وَرَآهَا كل من كَانَ حوله وَقَالَ ابْن خلدون اختط عقبَة رَضِي الله عَنهُ القيروان وَبنى بهَا الْمَسْجِد الْجَامِع وَبنى النَّاس مساكنهم ومساجدهم وَكَانَ دورها ثَلَاثَة آلَاف بَاعَ وسِتمِائَة بَاعَ وكملت فِي خمس سِنِين وَكَانَ يَغْزُو وَيبْعَث السَّرَايَا للإغارة والنهب وَدخل أَكثر البربر فِي الْإِسْلَام واتسعت خطة الْمُسلمين ورسخ الدّين اه
وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية اختط عقبَة بن نَافِع القيروان سنة خمسين وَجعل دور سورها اثْنَي عشر ميلًا وَبنى بهَا الْجَامِع الْأَعْظَم وَقَاتل البربر وشردهم ثمَّ عَزله مُعَاوِيَة عَنْهَا وَالله أعلم(1/135)
ولَايَة أبي المُهَاجر دِينَار وفتحه الْمغرب الْأَوْسَط
كَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ قد ولى على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد بِوَزْن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ فَاسْتعْمل مسلمة على إفريقية مَوْلَاهُ أَبَا المُهَاجر الْمَذْكُور وَيُقَال مولى بني مَخْزُوم فَقَدمهَا سنة خمس وَخمسين وأساء عزل عقبَة واستخف بِهِ لشَيْء كَانَ بَينهمَا وَكره نزُول القيروان فَبنى مَدِينَة قربهَا وأخلى قيروان عقبَة فَدَعَا عقبَة الله تَعَالَى أَن يُمكنهُ مِنْهُ وَكَانَ رجلا صَالحا مجاب الدعْوَة فاستجيب لَهُ فِيهِ على مَا نذكرهُ ثمَّ إِن أَبَا المُهَاجر بعث حَنش بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ صنعاء الشَّام إِلَى جَزِيرَة شريك وَهِي الْمَعْرُوفَة الْآن بالجزيرة الْقبلية وإليها يسْلك من بَاب الجزيرة أحد أَبْوَاب تونس فافتتحها
وَكَانَ كسيلة بن أغز البرنسي ثمَّ الأوربي من أهل الْمغرب الْأَقْصَى من عُظَمَاء البربر وَكَانَ نَصْرَانِيّا قد جمع الجموع من البربر والفرنج وزحف إِلَى الْمُسلمين فزحف إِلَيْهِم ابو المُهَاجر فَهَزَمَهُمْ حول تلمسان وَتمكن من الْبِلَاد وظفر بكسيلة فأظهر الْإِسْلَام فاستبقاه أَبُو المُهَاجر واستخلصه قَالَ ابْن خلدون لم أَقف لتلمسان على خبر أقدم من خبر ابْن الرَّقِيق من أَن أَبَا المُهَاجر لما قدم إفريقية توغل فِي ديار الْمغرب وَوصل إِلَى تلمسان وَبِه سميت الْعُيُون الْقَرِيبَة مِنْهَا عُيُون أبي المُهَاجر اه فَهُوَ أول أَمِير الْمُسلمين وطِئت خيله الْمغرب الْأَوْسَط
ثمَّ إِن عقبَة بن نَافِع لما قفل إِلَى الْمشرق شكا إِلَى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ(1/136)
مَا ناله من أبي المُهَاجر فَاعْتَذر إِلَيْهِ ووعده برده إِلَى عمله ثمَّ ولاه ابْنه يزِيد على الْمغرب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ
وَذكر الْوَاقِدِيّ أَن عقبَة ولي الْمغرب سنة سِتّ وَأَرْبَعين فاختط القيروان ثمَّ عَزله يزِيد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بِأبي المُهَاجر فَحِينَئِذٍ قبض على عقبَة وضيق عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ يزِيد يَأْمُرهُ ببعثه فَبَعثه إِلَيْهِ ثمَّ أَعَادَهُ واليا على إفريقية وَالله أعلم
ولَايَة عقبَة بن نَافِع الثَّانِيَة وفتحه الْمغرب الْأَقْصَى ومقتله
لما توفّي مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وَولي بعده ابْنه يزِيد بعث عقبَة بن نَافِع واليا على الْمغرب فقدمه فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم واعتقل ابا المُهَاجر وَخرب مدينته وَعمر القيروان وعزم على الْجِهَاد فاستخلف زُهَيْر بن قيس البلوي على القيروان وَيُقَال ولاه على مُقَدّمَة جَيْشه وَخرج فِي جَيش كثيف فَفتح حصن لميس ومدينة باغانة المطل عَلَيْهَا جبل أوراس وَفتح بِلَاد الجريد فتحا ثَانِيًا وَصَالح أهل فزان وَسَار إِلَى الزاب وتاهرت فشتت جموع البربر وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من الفرنج ثمَّ تقدم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فأثخن فِي أَهله إِلَى إِن وصل إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط فَكَانَ عقبَة رَحمَه الله أول أَمِير الْمُسلمين وطِئت خيله الْمغرب الْأَقْصَى
وَقَالَ ابْن خلدون قدم عقبَة بن نَافِع الْمغرب فِي ولَايَته الثَّانِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فاضطغن على كسيلة صحبته لأبي المُهَاجر ونكبه وَتقدم أَبُو المُهَاجر إِلَى عقبَة فِي اصطناعه فَلم يقبل ثمَّ زحف إِلَى الْمغرب وعَلى مقدمته زُهَيْر بن قيس البلوي فدوخه وَلَقي مُلُوك البربر وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من الفرنجة بالزاب وتاهرت فَهَزَمَهُمْ واستباحهم وأذعن لَهُ يليان أَمِير غمارة ولاطفه وهاداه ودله على عورات البربر وَرَاءه بِمَدِينَة وليلى وبلاد المصامدة والسوس(1/137)
وَقَالَ صَاحب الجمان افْتتح عقبَة الْمغرب وَنزل على طنجة فحاصرها واستنزل ملكهَا يليان الغماري وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَنزل على حكمه بعد أَن أعطَاهُ أَمْوَالًا جليلة ثمَّ أَرَادَ عقبَة اللحاق بالجزيرة الخضراء من عدوة الأندلس فَقَالَ لَهُ يليان أتترك كفار البربر خَلفك وَتَرْمِي بِنَفْسِك فِي بحبوحة الْهَلَاك مَعَ الفرنج وَيقطع الْبَحْر بَيْنك وَبَين المدد فَقَالَ عقبَة وَأَيْنَ كفار البربر قَالَ بِبِلَاد السوس وهم أهل نجدة وبأس قَالَ عقبَة وَمَا دينهم قَالَ لَيْسَ لَهُم دين وَلَا يعْرفُونَ إِن الله حق وَإِنَّمَا هم كَالْبَهَائِمِ وَكَانُوا على دين الْمَجُوسِيَّة يَوْمئِذٍ فَتوجه عقبَة نحوهم فَنزل على مَدِينَة وليلى بِإِزَاءِ جبل زرهون وَهِي يَوْمئِذٍ من أكبر مدن الْمغرب فِيمَا بَين النهرين العظيمين سبو وورغة وَهَذِه الْمَدِينَة هِيَ الْمُسَمَّاة الْيَوْم فِي لِسَان الْعَامَّة بقصر فِرْعَوْن فافتتحها عقبَة وغنم وسبى ثمَّ توجه إِلَى بِلَاد درعة والسوس فلقتيه جموع البربر فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا ثمَّ انْهَزَمت البربر بعد حروب صعبة وقتلهم الْمُسلمُونَ قتلا ذريعا وتبعوا آثَارهم إِلَى صحراء لمتونة لَا يلقاهم أحد إِلَّا هزموه
ثمَّ عطف عقبَة على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط الغربي فَانْتهى إِلَى بِلَاد آسفي وَأدْخل قَوَائِم فرسه فِي الْبَحْر ووقف سَاعَة ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه ارْفَعُوا أَيْدِيكُم فَفَعَلُوا وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي لم أخرج بطرا وَلَا أشرا وَإنَّك لتعلم إِنَّمَا نطلب السَّبَب الَّذِي طلبه عَبدك ذُو القرنين وَهُوَ أَن تعبد وَلَا يُشْرك بك شَيْء اللَّهُمَّ إِنَّا معاندون لدين الْكفْر ومدافعون عَن دين الْإِسْلَام فَكُن لنا وَلَا تكن علينا يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام ثمَّ انْصَرف رَاجعا
وَقَالَ ابْن خلدون أَيْضا وصل عقبَة إِلَى جبال درن وَقَاتل المصامدة بهَا فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حروب وحاصروه بجبل درن فَنَهَضت إِلَيْهِم جموع زناتة وَكَانُوا خَالِصَة للْمُسلمين مُنْذُ إِسْلَام مغراوة فأفرجت المصامدة عَن عقبَة وأثخن فيهم حَتَّى حملهمْ على طَاعَة الْإِسْلَام ودوخ بِلَادهمْ ثمَّ أجَاز إِلَى بِلَاد السوس لقِتَال من بهَا من صنهاجة أهل اللثام وهم يَوْمئِذٍ على دين(1/138)
الْمَجُوسِيَّة وَلم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم وانْتهى إِلَى تارودانت وَهزمَ جموع البربر وَقَاتل مسوقة من وَرَاء السوس ودوخهم وقفل رَاجعا
وَكَانَ كسيلة الأوربي فِي جَيش عقبَة قد استصحبه فِي غَزَوَاته هَذِه وَكَانَ يستهين بِهِ ويمتهنه فَأمره يَوْمًا بسلخ شَاة بَين يَدَيْهِ فَدَفعهَا كسيلة إِلَى غلمانه فأراده عقبَة على أَن يتولاها بِنَفسِهِ وانتهره فَقَامَ إِلَيْهَا كسيلة مغضبا وَجعل كلما دس يَده فِي الشَّاة مسح بلحيته وَالْعرب يَقُولُونَ مَا هَذَا يَا بربري فَيَقُول هُوَ أجِير فَيَقُول لَهُم شيخ مِنْهُم إِن الْبَرْبَرِي يتوعدكم وَبلغ ذَاك أَبَا المُهَاجر وَهُوَ معتقل عِنْد عقبَة فَبعث إِلَيْهِ ينهاه وَيَقُول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَأْنف جبابرة الْعَرَب وَأَنت تعمد إِلَى رجل جَبَّار فِي قومه وبدار عزه حَدِيث عهد بالشرك فستفسده وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يتوثق مِنْهُ وخوفه غائلته فتهاون عقبَة بقوله فَلَمَّا قفل من غزاته هَذِه وانْتهى إِلَى طبنة من أَرض الزاب وكسيلة أثْنَاء هَذَا كُله فِي صحبته صرف العساكر إِلَى القيروان أَفْوَاجًا ثِقَة بِمَا دوخ من الْبِلَاد وأذل من البربر حَتَّى بَقِي فِي قَلِيل من الْجند فَلَمَّا وصل إل تهودة وَأَرَادَ أَن ينزل بهَا الحامية نظر إِلَيْهِ الفرنجة وطمعوا فِيهِ فراسلوا كسيلة ودلوه على الفرصة فِيهِ فانتهزوها وراسل بني عَمه وَمن تَبِعَهُمْ من البربر فاتبعوا أثر عقبَة وَأَصْحَابه حَتَّى إِذا غشوهم بتهودة ترجل الْقَوْم وكسروا أجفان سيوفهم وَنزل الصَّبْر واستلحم عقبَة وَأَصْحَابه فَلم يفلت مِنْهُم أحد وَكَانُوا زهاء ثَلَاثمِائَة من كبار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ اسْتشْهدُوا فِي مسرع وَاحِد وَفِيهِمْ أَبُو المُهَاجر كَانَ عقبَة قد استصحبه فِي اعتقاله كَمَا قُلْنَا فأبلى رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك الْيَوْم الْبلَاء الْحسن
قَالَ ابْن خلدون واجداث الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أُولَئِكَ الشُّهَدَاء أَعنِي عقبَة وَأَصْحَابه بمكانهم من أَرض الزاب لهَذَا الْعَهْد وَقد جعل على قُبُورهم أسنمة ثمَّ جصصت وَاتخذ على الْمَكَان مَسْجِد عرف باسم عقبَة وَهُوَ فِي عداد المزارات ومظان البركات بل هُوَ أشرف مزور من الأجداث فِي بقاع الأَرْض لما توفر فيهه من عدد الشُّهَدَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين لَا(1/139)
يبلغ أحد مد أحدهم وَلَا نصيفه
وَأسر من الصَّحَابَة يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن أَوْس الْأنْصَارِيّ وَيزِيد بن خلف الْعَبْسِي وَنَفر مَعَهُمَا ففداهم ابْن مصاد صَاحب قفصة وَبعث بهم إِلَى القيروان
ثمَّ زحف كسيلة بعد الْوَقْعَة إِلَى جِهَة القيروان إِذْ هِيَ دَار الْإِمَارَة بالمغرب يَوْمئِذٍ وَبهَا جُمْهُور الْعَرَب ووجوده الْإِسْلَام فَبَلغهُمْ الْخَبَر وَعظم عَلَيْهِم الْأَمر فَقَامَ زهر بن قيس البلوي فيهم خَطِيبًا وَقَالَ يَا معشر الْمُسلمين إِن أصحابكم قد دخلُوا الْجنَّة فاسلكوا سبيلهم أَو يفتح الله عَلَيْكُم فَخَالف حَنش بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ لما علم أَنه لَا طَاقَة للْمُسلمين بِمَا دهمهم من أَمر البربر وَرَأى أَن النجَاة بِمن مَعَه من الْمُسلمين أولى ونادى فِي النَّاس بالرحيل إِلَى مشرقهم فَاتَّبعُوهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَبَقِي زُهَيْر فِي أهل بَيته فاضطر إِلَى الْخُرُوج وَسَار إِلَى برقة فَأَقَامَ بهَا مطلا على الْمغرب ومنتظرا للمدد من الْخُلَفَاء
وَاجْتمعَ إِلَى كسيلة جَمِيع أهل الْمغرب من البربر والفرنجة وَعظم أمره وَتقدم إِلَى القيروان فاستولى عَلَيْهَا فِي الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وفر مِنْهَا بَقِيَّة الْعَرَب فَلَحقُوا بزهير وَلم يقم بهَا إِلَّا أَصْحَاب الذَّرَارِي والأثقال فَأَمنَهُمْ كسيلة وَثبتت قدمه بالقيروان وَاسْتمرّ أَمِيرا على البربر وَمن بَقِي بهَا من الْعَرَب خمس سِنِين
وقارن ذَلِك مهلك يزِيد بن مُعَاوِيَة وفتنة الضَّحَّاك بن قيس مَعَ مَرْوَان ابْن الحكم بمرج راهط من أَرض الشَّام وحروب آل الزبير فاضطرب أَمر الْخلَافَة بالمشرق واضطرم الْمغرب نَارا وفشت الرِّدَّة فِي زناتة والبرانس إِلَى أَن اسْتَقل عبد الْملك بن مَرْوَان بالخلافة وأذهب آثَار الْفِتْنَة من الْمشرق فَالْتَفت إِلَى الْمغرب وتلافى أمره على مَا نذكرهُ(1/140)
ذكر من دخل الْمغرب من الصَّحَابَة مرتبَة أَسمَاؤُهُم على حُرُوف المعجم
فَمنهمْ بِلَال بن حَارِث بن عَاصِم الْمُزنِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن من أهل الْمَدِينَة أقطعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العقيق وَكَانَ صَاحب لِوَاء مزينة يَوْم الْفَتْح ذكره صَاحب الْخُلَاصَة النقية فِيمَن دخل الْمغرب
وَمِنْهُم جرهد بن خويلد الْأَسدي أَو الْأَسْلَمِيّ ذكر صَاحب الْإِشْرَاق أَنه من جملَة من دخل إفريقية من أَرض الْمغرب
وَمِنْهُم جبلة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن أسيرة الْأنْصَارِيّ أَخُو أبي مَسْعُود البدري قَالَ فِي التَّجْرِيد شهد أحدا وَشهد فتح مصر وصفين مَعَ عَليّ وغزا إفريقية مَعَ مُعَاوِيَة بن حديج سنة خمسين وَكَانَ فَاضلا من فُقَهَاء الصَّحَابَة روى ابْن مَنْدَه وَمُحَمّد بن الرّبيع من طَرِيق مَالك بن أبي عمرَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه سُئِلَ عَن النَّفْل فِي الْغَزْو فَقَالَ لم أر أحدا يُعْطِيهِ غير أَن ابْن حديج نفلنا من إفريقية الثُّلُث بعد الْخمس ومعنا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين نَاس كثير فَأبى جبلة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا
وَمِنْهُم الحسنان رَضِي الله عَنْهُمَا على مَا ذكره ابْن خلدون وهما سيدا شباب أهل الْجنَّة وريحانتا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشهر من أَن يعرف بهما
وَمِنْهُم الْحَارِث بن حبيب بن خُزَيْمَة الْقرشِي العامري ذكره خَليفَة بن خياط فِيمَن نزل مصر من الصَّحَابَة قَالَ وَقتل بإفريقية مَعَ معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب
وَمِنْهُم حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ ذكره فِي الْإِشْرَاق
وَمِنْهُم حبَان بِالْكَسْرِ وموحده ابْن أبي جبلة قَالَ فِي الْإِصَابَة لَهُ إِدْرَاك قَالَ ابْن يُونُس بَعثه عمر بن الْخطاب إِلَى أهل مصر يفقههم وَذكره(1/141)
ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين وَقَالَ غَيره مَاتَ بإفريقية
وَمِنْهُم خَالِد بن ثَابت الْعجْلَاني الفهمي قَالَ ابْن يُونُس شهد فتح مصر وَولي بَحر مصر سنة إِحْدَى وَخمسين وأغزاه مسلمة بن مخلد إفريقية سنة أَربع وَخمسين قَالَ فِي الْإِصَابَة ذكرته اعْتِمَادًا على أَنهم كَانُوا لَا يؤمرون فِي الْفتُوح إِلَّا الصَّحَابَة
وَمِنْهُم ربيعَة بن عباد الديلِي ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر من الصَّحَابَة لغزو الْمغرب قَالَ مَالك وَأَبوهُ بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة على الصَّوَاب وَيُقَال بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد ذكر خَليفَة وَابْن سعد أَنه مَاتَ فِي خلَافَة الْوَلِيد
وَمِنْهُم رويفع بن ثَابت بن السكن الْأنْصَارِيّ ثمَّ النجاري ولاه مُعَاوِيَة على طرابلس سنة سِتّ وَأَرْبَعين فغزا إفريقية قَالَ ابْن يُونُس توفّي ببرقة وَهُوَ أَمِير عَلَيْهَا من قبل مسلمة بن مخلد سنة سِتّ وَخمسين
وَمِنْهُم زُهَيْر بن قيس البلوي أَبُو شَدَّاد الْآتِي ذكره بعد قَالَ ابْن يُونُس يُقَال لَهُ صُحْبَة
وَمِنْهُم سُفْيَان بن وهب الْخَولَانِيّ أَبُو أَيمن لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة شهد حجَّة الْوَدَاع وَفتح مصر وإفريقية وَسكن الْمغرب مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وَمِنْهُم سلكان بن مَالك قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر لغزو الْمغرب
وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع الْأَسْلَمِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر من الصَّحَابَة لغزو الْمغرب مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سبع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة وَكَانَ شجاعا راميا سَابِقًا يسْبق الْفرس شدا على قَدَمَيْهِ
وَمِنْهُم العبادلة الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم
فَمنهمْ عبد الله بن عَبَّاس ترجمان الْقُرْآن أشهر من أَن يعرف بِهِ وَهُوَ الَّذِي قسم غَنَائِم إفريقية يَوْم الْفَتْح(1/142)
وَمِنْهُم عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا من أَعْلَام الصَّحَابَة وعبادهم وزهادهم والمتمسكين بِالسنةِ مِنْهُم رَضِي الله عَنهُ
وَمِنْهُم عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الشجاع الْمَشْهُور والبطل الْمَذْكُور وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بعد الْهِجْرَة وَهُوَ قَاتل جرجير يَوْم الْفَتْح كَمَا مر
وَمِنْهُم عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب أحد أجواد الدُّنْيَا وأبطالها ذكر ابْن خلدون إِنَّه مِمَّن دخل إفريقية غازيا فَهَؤُلَاءِ العبادلة الْأَرْبَعَة
وَمِنْهُم عبد الله بن سعد بن ابي سرح الْأَمِير الْمَعْرُوف وَقد تقدم ذكره
وَمِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور أسلم قبل أَبِيه وَهُوَ أَكثر النَّاس حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّوَاب أَن يَجْعَل أحد العبادلة بدل ابْن جَعْفَر وَالله أعلم قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ أحد أَكثر مني حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب عده ابْن نَاجِي فِيمَن دخل الْمغرب مَعَ ابْن أبي سرح
وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقتل بإفريقية
وَمِنْهُم عبيد الله بن عمر بن الْخطاب ذكره فِي الْخُلَاصَة النقية وَكَانَ صحابيا بالمولد قتل يَوْم صفّين مَعَ مُعَاوِيَة
وَمِنْهُم أَخُوهُ عَاصِم بن عمر وصحبته بالمولد ذكره صَاحب الْخُلَاصَة أَيْضا
وَمِنْهُم عبد الله بن نَافِع بن الْحصين وَجهه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَعَ ابْن أبي سرح لشدَّة بطشه وإصابة رَأْيه
وَمِنْهُم عقبَة بن نَافِع الفِهري الْأَمِير الْمَشْهُور فاتح الْمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ صَاحب التَّرْجَمَة(1/143)
وَمِنْهُم عُثْمَان بن عَوْف الْمُزنِيّ على خلاف فِيهِ
وَأما عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ فقد تقدم أَنه انْتهى إِلَى طرابلس وَلم يصل إِلَى إفريقية
وَمِنْهُم مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ الْأمَوِي ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ وَلم تحصل لَهُ رِوَايَة لِأَنَّهُ خرج مَعَ أَبِيه إِلَى الطَّائِف فَأَقَامَ بِهِ ذكره صَاحب الْخُلَاصَة فِيمَن دخل الْمغرب
وَمِنْهُم مَسْعُود بن الْأسود البلوي وَقيل الْعَدوي قَالَ الذَّهَبِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة يعد فِي المصريين وغزا إفريقية
وَمِنْهُم الْمسور بن مخرمَة بن نَوْفَل الزُّهْرِيّ لَهُ ولأبيه صُحْبَة قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع دخل مصر لغزو الْمغرب مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ
وَمِنْهُم الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي وَالِد سعيد بن الْمسيب لَهُ ولأبيه صُحْبَة وَرِوَايَة ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر لغزو الْمغرب
وَمِنْهُم الْمطلب بن أبي ودَاعَة الْقرشِي السَّهْمِي لَهُ ولأبيه صُحْبَة وهما من مسلمة الْفَتْح قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع دخل مصر لغزو الْمغرب فِيمَا ذكره الْوَاقِدِيّ
وَمِنْهُم مُعَاوِيَة بن حديج السكونِي أحد الْأُمَرَاء وَقد تقدم ذكره
وَمِنْهُم معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ابْن عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الذَّهَبِيّ ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتشْهدَ بإفريقية شَابًّا فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَحكى المؤروخون أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أغزى سعيد بن عُثْمَان بن عَفَّان خُرَاسَان وَمَعَهُ قثم بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَعبر سعيد النَّهر إِلَى سَمَرْقَنْد فاستشهد قثم بهَا وَكَانَ أَخُوهُ الْفضل بن عَبَّاس قد مَاتَ بأجنادين من أَرض الشَّام وَعبد الله الترجمان مَاتَ بِالطَّائِف وَعبيد الله الْأَصْغَر مَاتَ بِالْيمن ومعبد بإفريقية فَقَالَ النَّاس لم ير مثل بني أم وَاحِدَة أبعد قبورا من بني الْعَبَّاس(1/144)
وَمِنْهُم الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ وَلَيْسَ الْأسود أبه وَإِنَّمَا تبناه الْأسود بعد عبد يَغُوث وَهُوَ صَغِير فَعرف بِهِ وَإِنَّمَا اسْم أَبِيه عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْكِنْدِيّ كَانَ الْمِقْدَاد أحد السَّابِقين شهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا وَلم يثبت أَن أحدا شهد بَدْرًا فَارِسًا سواهُ غزا إفريقية مَعَ ابْن أبي سرح فَلَمَّا رجعُوا إِلَى مصر قَالَ لَهُ ابْن أبي سرح فِي دَار بناها كَيفَ ترى فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَاد إِن كَانَ من مَال الله فقد أفسدت وَإِن كَانَ من مَالك فقد أسرفت فَقَالَ ابْن أبي سرح لَوْلَا أَن يُقَال أفسدت مرَّتَيْنِ لهدمتها
وَمِنْهُم المنيذر الْأَسْلَمِيّ قَالَ ابْن يُونُس لَهُ صُحْبَة وَكَانَ بإفريقية وَقَالَ عبد الْملك بن حبيب لم يدْخل الأندلس من الصَّحَابَة إِلَّا المنيذر الإفْرِيقِي
وَأما المشتهرون بكنيتهم فَمنهمْ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ الشَّاعِر الْمَشْهُور واسْمه خويلد بن خَالِد أسلم على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره وَقدم الْمَدِينَة يَوْم وَفَاته فَشهد السَّقِيفَة وبيعة أبي بكر وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدَفنه قَالَ ابْن كثير توفّي غازيا بإفريقية فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ
قلت وَهلك لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد بِمصْر بالطاعون فَقَالَ قصيدته العينية يرثيهم وَهِي مَشْهُورَة
وَمِنْهُم أَبُو رمثة البلوي قيل اسْمه رِفَاعَة بن يثربي وَقيل بِالْعَكْسِ لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة قَالَ الذَّهَبِيّ سكن بِمصْر وَمَات بإفريقية
وَمِنْهُم أَبُو زَمعَة البلوي قَالَ الذَّهَبِيّ اسْمه عبد وَقيل عبيد بن أَرقم بَايع تَحت الشَّجَرَة وَنزل مصر وغزا إفريقية مَعَ ابْن حديج روى حَدِيث الَّذِي قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسا وَسَأَلَ هَل من تَوْبَة مَاتَ بإفريقية ودفنت مَعَه شَعرَات من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور وَهُوَ صَاحب الْمقَام خَارج القيروان
وَمِنْهُم أَبُو ضبيس البلوي قَالَ الذَّهَبِيّ لَهُ صُحْبَة وَقَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزي دخل مصر لغزو الْمغرب
وَمِنْهُم أَبُو المبتذل خلف لَهُ صُحْبَة وَنزل إفريقية وَقيل أَبُو المنيذر كَذَا(1/145)
فِي التَّجْرِيد وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يحضرنا ذكرهم
أخرج ابْن عبد الحكم عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ غزونا إفريقية مَعَ ابْن حديج ومعنا بشر كثير من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار اه رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم وحشرنا فِي زمرتهم آمين
ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو غير ذَلِك
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ رَحمَه الله فِي شرح الْمُوَطَّأ فِي كتاب الْجِهَاد مِنْهُ اخْتلف النَّاس فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو مختلطة اي الْبَعْض عنْوَة وَالْبَعْض صلحا على ثَلَاثَة اقوال الأول وَهُوَ الَّذِي يظْهر من روايتة ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنَّهَا فتحت بِالسَّيْفِ عنْوَة لِأَنَّهُ جعل النّظر فِي معادنها للْإِمَام وَلَو صَحَّ ذَلِك لم يجز لأحد بيع شَيْء مِنْهَا كأرض مصر لِأَنَّهَا فتحت بِالسَّيْفِ الثَّانِي إِنَّهَا فتحت صلحا صَالح أَهلهَا عَلَيْهَا فَإِن كَانَ كَذَلِك جَازَ بيع بَعضهم من بعض الثَّالِث إِنَّهَا مختلطة هرب بَعضهم عَن بعض وتركوها فَمن بَقِي بِيَدِهِ شَيْء كَانَ لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم
ويحكى أَن أحد عُمَّال الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس حِين تغلب على أَرض فاس قَالَ لَهُم أخبروني عَن أَرْضكُم أصلح هِيَ أم عنْوَة فَقَالُوا لَهُ لَا جَوَاب لنا حَتَّى يَأْتِي الْفَقِيه يعنون الشَّيْخ أَبَا جَيِّدَة فجَاء الشَّيْخ الْمَذْكُور فَسَأَلَهُ الْعَامِل فَقَالَ لَيست بصلح وَلَا عنْوَة إِنَّمَا أسلم أَهلهَا عَلَيْهَا فَقَالَ خلصكم الرجل وَأَبُو جَيِّدَة هَذَا هُوَ دَفِين بَاب بني مُسَافر أحد أَبْوَاب فاس المحروسة رَحمَه الله(1/146)
ولَايَة زُهَيْر بن قيس البلوي على الْمغرب ومقتل كسيلة وَمَا يتبع ذَلِك
لما اسْتَقل عبد الْملك بن مَرْوَان بالخلافة كَانَ زُهَيْر مُقيما ببرقة مُنْذُ مهلك عقبَة بن نَافِع كَمَا مر فَبعث إِلَيْهِ عبد الْملك بالمدد وولاه حَرْب البربر وَأمره بإستنقاذ القيروان وَمن بهَا من الْمُسلمين من يَد كسيلة المتغلب عَلَيْهَا وحضه على الطّلب بِدَم عقبَة فَرَاجعه زُهَيْر يُعلمهُ بِكَثْرَة الفرنج والبربر فأمده بِالْمَالِ ووجوه الْعَرَب وفرسانها فزحف زُهَيْر إِلَى الْمغرب سنة تسع وَسِتِّينَ فِي آلَاف من الْمُقَاتلَة وَجمع لَهُ كسيلة البرانس وَسَائِر البربر ولقيه بممس من نواحي القيروان وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انْهَزَمت البربر بعد حروب صعبة وَقتل كسيلة ووجوه من مَعَه من البربر وَمن لَا يُحْصى من عامتهم واتبعهم الْعَرَب إِلَى مرماجنة ثمَّ إِلَى وَادي ملوية وَفِي هَذِه الْوَقْعَة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضدت شوكتهم واضمحل أَمر الفرنجة فَلم يعد وَخَافَ البربر من زُهَيْر وَالْعرب خوفًا شَدِيدا فلجؤوا إِلَى القلاع والحصون وَكسرت شَوْكَة أوربة من بَينهم وَاسْتقر جمهورهم بديار الْمغرب الْأَقْصَى وملكوا مَدِينَة وليلى وَكَانَت فِيمَا بَين مَوضِع فاس ومكناسة بِجَانِب جبل زرهون وَلم يكن لَهُم بعد هَذِه الْوَقْعَة ذكر إِلَى أَن قدم عَلَيْهِم إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ فَقَامُوا بدعوته على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَأما زُهَيْر فَإِنَّهُ لما رأى مَا منحه الله من الظفر والنصر وسَاق إِلَيْهِ من الْعِزّ وَالْملك خشِي على نَفسه الْفِتْنَة وَكَانَ من الْعباد المخبتين فَترك القيروان آمن مَا كَانَت وارتحل إِلَى الْمشرق وَقَالَ إِنَّمَا جِئْت للْجِهَاد فِي سَبِيل الله وأخاف على نَفسِي أَن تميل إِلَى الدُّنْيَا فَلَمَّا وصل إِلَى برقة وجد(1/147)
أسطول الرّوم على قتالها فِي جموع عَظِيمَة من قبل قَيْصر وبأيديهم أسرى من الْمُسلمين فاستغاثوا بِهِ وَهُوَ فِي خف من أَصْحَابه فصمد إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه وَقَاتل الرّوم حَتَّى قتل وَقتل مَعَه جمَاعَة من أَشْرَاف أَصْحَابه وَنَجَا الْبَاقُونَ إِلَى دمشق فَأخْبرُوا الْخَلِيفَة عبدا لملك بِمَا وَقع فآسفه ذَلِك
ولَايَة حسان بن النُّعْمَان على الْمغرب وتخريبه قرطاجنة
لما رَحل زُهَيْر بن قيس إِلَى الْمشرق وَاسْتشْهدَ ببرقة كَمَا قدمنَا واضطرمت بِلَاد الْمغرب بعده واضطربت نَار الْفِتَن وافترق أَمر البربر وتعدد سلطانهم فِي رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ من أعظمهم هم شَوْكَة يَوْمئِذٍ الكاهنة داهيا الزناتية ثمَّ الجراوية صَاحِبَة جبل أوراس وكبيرة قَومهَا جراوة والبتر فَبعث عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى عَامله على مصر حسان بن النُّعْمَان الغساني وَكَانَ يُقَال لَهُ الشَّيْخ الْأمين يَأْمُرهُ أَن يخرج إِلَى جِهَاد البربر وَبعث إِلَيْهِ بالمدد فزحف إِلَيْهِم سنة تسع وَسِتِّينَ فِي أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَلما دخل القيروان سَأَلَ الأفارقة عَن أعظم مُلُوكهمْ فَقَالُوا صَاحب قرطاجنة وَهِي الْمَدِينَة الْعُظْمَى قريعة رومة وضرتها وَإِحْدَى عجائب الدُّنْيَا وَكَانَ با يَوْمئِذٍ من جموع الفرنج أُمَم لَا تحصى فصمد إِلَيْهَا حسان وافتتحها وَقتل أَكثر من بهَا وَنَجَا فَلهم فِي المراكب إِلَى صقلية والأندلس وَلما انْصَرف حسان عَنْهَا دَخلهَا أَقوام من أهل الضواحي والبادية وتحصنوا بهَا فَرجع إِلَيْهِم وَقَاتلهمْ أَشد قتال فافتتحها عنْوَة وَأمر بتخريبها وإعفاء رسمها وَكسر قنواتها فَذَهَبت كأمس الدابر وَلم يبْق بهَا الْآن إِلَّا آثَار خَفِيفَة تدل على مَا كَانَ بهَا من عَجِيب الصَّنْعَة وإحكام الْعَمَل وبأنقاضها عمرت مَدِينَة تونس كَمَا فِي الْقَامُوس
ثمَّ بلغ حسان أَن البربر والفرنج قد عسكروا فِي جموع عَظِيمَة بِبِلَاد صطفورة وبنزرت فصمد إِلَيْهِم وَهَزَمَهُمْ وشرد بهم من خَلفهم وانحاز فَلهم إِلَى باجة وبونة وَرجع حسان إِلَى القيروان فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَأَلَ عَن بَقِيَّة الْمُلُوك الْمُخَالفَة فدلوه على الكاهنة داهيا وقومها جراوة وهم ولد جراو بن(1/148)
الديديت بن زانا وزانا هُوَ أَبُو زناتة وَكَانَ لهَذِهِ الكاهنة بنُون ثَلَاثَة ورثوا رياسة قَومهمْ عَن سلفهم وربوا فِي حجرها فاستبدت عَلَيْهِم واعتزت على قَومهَا بهم وَبِمَا كَانَ لَهَا من الكهانة والمعرفة بِغَيْب أَحْوَالهم وعواقب أُمُورهم فانتهت إِلَيْهَا رياستهم ووقفوا عِنْد إشارتها قَالَ هانىء بن بكور الضريسي ملكت عَلَيْهِم خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وَعَاشَتْ مائَة وَسبعا وَعشْرين سنة وَكَانَ قتل عقبَة بن نَافِع وَأَصْحَابه فِي الْبَسِيط قبْلَة جبل أوراس بإغرائها برابرة الزاب عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُسلمُونَ يعْرفُونَ ذَلِك مِنْهَا فَلَمَّا قتل كسيلة وانفضت جموع البربر رجعُوا إِلَى هَذِه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس وَقد انْضَمَّ إِلَيْهَا بَنو يفرن وَمن كَانَ بإفريقية من قبائل زناتة وَسَائِر البتر فَسَار إِلَيْهَا حسان حَتَّى نزل وَادي مليانة وزحفت هِيَ إِلَيْهِ فَاقْتَتلُوا بالبسيط أَمَام جبلها قتالا شَدِيدا ثمَّ انهزم الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم خلق كثير وَأسر خَالِد بن يزِيد الْقَيْسِي فِي ثَمَانِينَ رجلا من وُجُوه الْعَرَب وَلم تزل الكاهنة والبربر فِي إتباع حسان وَالْعرب حَتَّى أخرجوهم من عمل قابس وَلحق حسان بِعَمَل طرابلس فَلَقِيَهُ هُنَاكَ كتاب عبد الْملك يَأْمُرهُ بالْمقَام حَيْثُ يصله كِتَابه فَأَقَامَ ببرقة وَبنى قصوره الْمَعْرُوفَة لهَذَا الْعَهْد بقصور حسان ثمَّ رجعت الكاهنة إِلَى مَكَانهَا من الْجَبَل وأطلقت أسرى الْمُسلمين سوى خَالِد فَإِنَّهَا اتَّخذت عِنْده عهدا بإرضاعه مَعَ ولديها وصيرته أَخا لَهما وأقامت فِي سُلْطَان إفريقية والبربر خمس سِنِين بعد هزيمَة حسان ونفت الْعَرَب عَن بِلَاد الْمغرب وَقَالَت لقومها إِنَّمَا تطلب الْعَرَب من الْمغرب مدنه وَمَا فِيهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَنحن إِنَّمَا نُرِيد الْمزَارِع والمراعي فَالرَّأْي أَن نخرب هَذِه المدن والحصون ونقطع أطماع الْعَرَب عَنْهَا
قَالَ ابْن خلدون وَكَانَت المدن والضياع من طرابلس إِلَى طنجة ظلا وَاحِدًا فِي قرى مُتَّصِلَة فخربت الكاهنة ديار الْمغرب وعضدت أشجاره ومحت جماله وجاست بِالْفَسَادِ خلاله فشق ذَلِك على البربر واستأمنوا إِلَى حسان وَكَانَ عبد الْملك قد بعث إِلَيْهِ بالمدد فَأَمنَهُمْ وَوجد السَّبِيل إِلَى تَفْرِيق أمرهَا ثمَّ دس إِلَى خَالِد بن يزِيد يستعلمه أمرهَا فأطلعه على كنه خَبَرهَا واستحثه(1/149)
فزحف إِلَى الْمغرب سنة أَربع وَسبعين وبرزت إِلَيْهِ فأوقع بهَا وبجموعها وقتلها واحتز رَأسهَا عِنْد الْبِئْر الْمَعْرُوفَة بهَا لهَذَا الْعَهْد من جبل أوراس ثمَّ اقتحم الْجَبَل عنْوَة واستلحم فِيهِ زهاء مائَة ألف من البربر وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ باقيهم على الْإِسْلَام وَالطَّاعَة وَشرط عَلَيْهِم حسان أَن يكون مَعَه مِنْهُم اثْنَا عشر ألفا لَا يفارقونه فِي مَوَاطِن جهاده فَأَجَابُوا وَأَسْلمُوا وَحسن إسْلَامهمْ وَعقد للأكبر من وَلَدي الكاهنة على قومه من جراوة وعَلى جبل أوراس فَقَالُوا قد لزمتنا لَهُ الطَّاعَة وسبقنا إِلَيْهَا وبايعناه عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك بِإِشَارَة من الكاهنة لإثارة من علم كَانَت لَدَيْهَا بذلك من شياطينها
وَانْصَرف حسان إِلَى القيروان مؤيدا منصورا وَثَبت ملكه واستقام أمره فدون الدَّوَاوِين وَكتب الْخراج على عجم إفريقية وَمن أَقَامَ مَعَهم على النَّصْرَانِيَّة من البربر ثمَّ أوعز إِلَيْهِ الْخَلِيفَة عبد الْملك باتخاذ دَار الصِّنَاعَة بتونس لإنشاء الْآلَات البحرية حرصا على مراسم الْجِهَاد وَمِنْهَا كَانَ فتح صقلية أَيَّام زِيَادَة الله الأول من بني الْأَغْلَب على يَد أَسد بن الْفُرَات شيخ الْفتيا وَصَاحب الإِمَام ابْن الْقَاسِم بعد أَن كَانَ مُعَاوِيَة بن حديج أغزى صقلية أَيَّام ولَايَته على الْمغرب فَلم يفتح الله عَلَيْهِ وَفتحت على يَد ابْن الْأَغْلَب وقائده ابْن الْفُرَات كَمَا قُلْنَا وَاسْتمرّ حسان واليا على الْمغرب إِلَى أَن عَزله عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان صَاحب مصر وَكَانَ أَمر الْمغرب إِذْ ذَاك إِلَيْهِ فاستخلف حسان على الْمغرب رجلا من جنده اسْمه صَالح وارتحل إِلَى الْمشرق بِمَا جمعه من ذريع المَال ورائع السَّبي ونفيس الذَّخِيرَة فَلَمَّا انْتهى إِلَى مصر أهْدى إِلَى عبد الله مِائَتي جَارِيَة من بَنَات مُلُوك الفرنج والبربر فَلم يقنعه ذَلِك وانتزع كثيرا مِمَّا بِيَدِهِ وَلما قدم على الْخَلِيفَة بِدِمَشْق وَهُوَ يَوْمئِذٍ الْوَلِيد بن عبد الْملك شكا إِلَيْهِ مَا صنع بِهِ عَمه عبد الْعَزِيز فَغَاظَهُ ذَلِك وَأنْكرهُ ثمَّ أهْدى إِلَيْهِ حسان من غَرِيب النفائس الَّتِي أخفاها عَن عبد الله مَا استعظمه الْوَلِيد وشكره عَلَيْهِ ووعده برده إِلَى عمله فَحلف حسان أَن لَا يَلِي لبني أُميَّة عملا أبدا
وَذكر الْبكْرِيّ أَن حسان بن النُّعْمَان هَذَا هُوَ فاتح تونس وَقَالَ غَيره بل(1/150)
فاتحها زُهَيْر بن قيس البلوي وَلم تتوفر الدَّوَاعِي على تَحْقِيق ذَلِك لِأَنَّهَا لم تكن يَوْمئِذٍ قَاعِدَة ملك وَإِنَّمَا عظم أمرهَا فِي دولة الحفصيين فَمن بعدهمْ وَالله تَعَالَى أعلم
ولَايَة مُوسَى بن نصير على الْمغرب وفتحه الأندلس
لما أرتحل حسان بن النُّعْمَان إِلَى الْمشرق اخْتلفت أَيدي البربر فِيمَا بَينهم على إفريقية وَالْمغْرب فكثرت الْفِتَن وخلت أَكثر الْبِلَاد حَتَّى قدم مُوسَى بن نصير فتلافى أمرهَا وَلم شعثها
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي جذوة المقتبس ولي مُوسَى بن نصير إفريقية وَالْمغْرب سنة سبع وَسبعين وَقَالَ غَيره سنة سبع وَثَمَانِينَ
وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ مُوسَى بن نصير من التَّابِعين وَرُوِيَ عَن تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ عَاقِلا كَرِيمًا شجاعا ورعا متقيا لله تَعَالَى لم يهْزم لَهُ جَيش قطّ وَلما قدم الْمغرب وجد أَكثر مدنه خَالِيَة لاخْتِلَاف أَيدي البربر عَلَيْهَا وَكَانَت الْبِلَاد فِي قحط شَدِيد فَأمر النَّاس بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وَإِصْلَاح ذَات الْبَين وَخرج بهم إِلَى الصَّحرَاء وَمَعَهُ سَائِر الْحَيَوَانَات فَفرق بَينهَا وَبَين أَوْلَادهَا فَوَقع الْبكاء والصراخ وَأقَام على ذَلِك إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ صلى وخطب النَّاس وَلم يذكر الْوَلِيد بن عبد الْملك فَقيل لَهُ أَلا تَدْعُو لأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ هَذَا مقَام لَا يدعى فِيهِ غير الله عز وَجل فسقوا حَتَّى رووا(1/151)
وَقَالَ ابْن خلدون كتب الْخَلِيفَة الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى عَمه عبد الله بن مَرْوَان وَهُوَ على مصر وَيُقَال عبد الْعَزِيز أَن يبْعَث بمُوسَى بن نصير إِلَى إفريقية وَكَانَ أَبوهُ نصير من حرس مُعَاوِيَة فَبَعثه عبد الله فَقدم القيروان وَبهَا صَالح خَليفَة حسان فَعَزله وَرَأى أَن البربر قد طمعت فِي الْبِلَاد فَوجه الْبعُوث فِي النواحي وَبعث ابْنه عبد الله فِي الْبَحْر إِلَى جَزِيرَة ميورقة فغنم وسبى وَعَاد ثمَّ بَعثه إِلَى نَاحيَة أُخْرَى وَبعث ابْنه مَرْوَان كَذَلِك وَتوجه هُوَ إِلَى نَاحيَة فغنموا وَسبوا وعادوا وَبلغ الْخمس من الْمغنم سبعين ألف رَأس من السَّبي
قَالَ أَبُو شُعَيْب الصَّدَفِي لم يسمع فِي الْإِسْلَام بِمثل سَبَايَا مُوسَى بن نصير وَنقل الْكَاتِب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الْقَرَوِي الْمَعْرُوف بِابْن الرفيق أَن مُوسَى بن نصير لما فتح سقوما كتب إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك أَنه صَار لَك من سبي سقوما مائَة ألف رَأس فَكتب إِلَيْهِ الْوَلِيد وَيحك إِنِّي أظنها من بعض كذباتك فَإِن كنت صَادِقا فَهَذَا محشر الْأمة
ثمَّ خرج مُوسَى غازيا أَيْضا وتتبع البربر وَقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عَظِيما وتوغل فِي جِهَات الْمغرب حَتَّى انْتهى إِلَى السوس الْأَدْنَى ثمَّ تقدم إِلَى سبتة فصانعه صَاحبهَا يليان الغماري بالهدايا وأذعن للجزية وَكَانَ نَصْرَانِيّا فأقره عَلَيْهَا واسترهن ابْنه وَأَبْنَاء قومه على على الطَّاعَة فَلَمَّا رأى بَقِيَّة البربر مَا نزل بهم استأمنوا لمُوسَى وبذلوا لَهُ الطَّاعَة فَقبل مِنْهُم وَولى عَلَيْهِم
وَقَالَ ابْن خلدون أَيْضا غزا مُوسَى بن نصير طنجة وافتتح درعة وصحراء تافيلالت وَأرْسل ابْنه إِلَى السوس فأذعن البربر لسلطانه وَأخذ رهائن المصامدة فأنزلهم بطنجة وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَولى عَلَيْهَا طَارق بن زِيَاد اللَّيْثِيّ قَالَ وَأنزل مَعَه سَبْعَة وَعشْرين ألفا من الْعَرَب واثني عشر ألفا من البربر وَأمرهمْ ان يعلمُوا البربر الْقُرْآن وَالْفِقْه قَالَ ثمَّ أسلم بَقِيَّة البربرعلى يَد إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر سنة إِحْدَى وَمِائَة أَيَّام عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ اه(1/152)
وَلما اسْتَقَرَّتْ الْقَوَاعِد لمُوسَى بالمغرب كتب إِلَى طَارق وَهُوَ بطنجة يَأْمُرهُ بغزو الأندلس فَغَزَاهَا فِي اثْنَي عشر ألفا من البربر وَخلق يسير من الْعَرَب وَعبر الْبَحْر من سبتة إِلَى الجزيرة الخضراء وَصعد الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمَعْرُوف الْيَوْم بجبل طَارق يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس خلون من رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين لِلْهِجْرَةِ وَذكر عَن طَارق أَنه كَانَ نَائِما وَقت العبور فِي الْمركب فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة يَمْشُونَ على المَاء حَتَّى مروا بِهِ فبشره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْفَتْح وَأمره بالرفق بِالْمُسْلِمين وَالْوَفَاء بالعهد ذكر ذَلِك ابْن بشكوال
وَقَالَ ابْن خلدون فِي أَخْبَار الأندلس إِن أمة القوط ملكوا جَزِيرَة الأندلس نَحْو أَرْبَعمِائَة سنة إِلَى أَن جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وَالْفَتْح وَكَانَ ملكهم لذَلِك الْعَهْد يُسمى لذريق وَهُوَ سمة مُلُوكهمْ كجرجير سمة مُلُوك صقلية وَكَانَت لَهُم خطْوَة وَرَاء الْبَحْر فِي هَذِه العدوة الجنوبية خطوها من زقاق الْبَحْر إِلَى بِلَاد البربر واستعبدوهم وَكَانَ ملك البربر بذلك الْقطر الَّذِي هُوَ الْيَوْم جبال غمارة يُسمى يليان وَكَانَ يدين بطاعتهم وبملتهم ومُوسَى بن نصير أَمِير الْعَرَب إِذْ ذَاك عَامل بإفريقية من قبل الْوَلِيد بن عبد الْملك ومنزله بالقيروان وَكَانَ قد أغزا لذَلِك الْعَهْد عَسَاكِر الْمُسلمين بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى ودوخ أقطاره وأوغل فِي جبال طنجة حَتَّى وصل إِلَى خليج الزقاق واستنزل يليان لطاعة الْإِسْلَام وَخلف مَوْلَاهُ طَارق بن زِيَاد واليا بطنجة وَكَانَ يليان ينقم على لذريق ملك القوط بالأندلس فعلة فعلهَا زَعَمُوا بابنته الناشئة فِي دَاره على عَادَتهم فِي بَنَات بطارقتهم فَغَضب لذَلِك وَأَجَازَ إِلَى لذريق فَأخذ ابْنَته مِنْهُ(1/153)
شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره ثَانِيَة إِلَى البربر
لما كَانَ شهر ربيع الأول من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع بِهِ فنذرت بذلك أمه الْحرَّة خناثى بنت بكار ففرت من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد تبعها ابْنهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَنزل بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ الودايا وَأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا لَهُ فاستعطفهم السُّلْطَان وَقَالَ لَهُم أَنْتُم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وَأُرِيد مِنْكُم أَن تَكُونُوا معي على كلمة وَاحِدَة وعاهدهم وَعَاهَدُوهُ وَرَجَعُوا وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه أَن أَحْمد بن عَليّ الريفي قد كَاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه وَاتفقَ مَعَهم على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى زين العابدين وَكَانَ يَوْمئِذٍ عِنْده بطنجة وَأَنَّهُمْ وافقوه فَوَجَمَ لَهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ استعجل أَمر الْمولى زين العابدين ففر الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد البربر كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ زين العابدين بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله
كَانَ ابْتِدَاء أَمر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين أَنه قدم مكناسة فِي أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء فَلَمَّا سمع بِهِ أَمر بسجنه قبل أَن يجْتَمع بِهِ فسجن مُدَّة ثمَّ أَمر يَوْمًا بِإِخْرَاجِهِ وضربه فَضرب وَهُوَ فِي قَيده ضربا وجيعا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت كَمَا مر وَمَعَ ذَلِك فَلم ينْطق بِكَلِمَة ثمَّ رده إِلَى السجْن ثمَّ أَمر ببعثه مُقَيّدا إِلَى سجلماسة كي يسجن بهَا مَعَ بعض الْأَشْرَاف المسجونين هُنَالك فَلَمَّا سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من صفرو إِلَى فاس وَمن هُنَالك بعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وأمروه أَن يحْتَفظ بِهِ مكرما مبجلا(1/154)
ألفا فَالْتَقوا بفحص شريش فَهَزَمَهُ الله ونفلهم أَمْوَال أهل الْكفْر ورقابهم وَكتب طَارق إِلَى مُوسَى بِالْفَتْح والغنائم فحركته الْغيرَة وَكتب إِلَى طَارق يتوعده إِن توغل بِغَيْر إِذْنه ويأمره أَن لَا يتَجَاوَز مَكَانَهُ حَتَّى يلْحق بِهِ واستخلف على القيروان وَلَده عبد الله وَخرج مَعَه حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري ونهض من القيروان سنة ثَلَاث وَتِسْعين فِي عَسْكَر ضخم من وُجُوه الْعَرَب والموالي وعرفاء البربر فَوَافى خليج الزقاق مَا بَين طنجة والجزيرة الخضراء فَأجَاز إِلَى الأندلس وتلقاه طَارق فانقاد وَاتبع وَيُقَال إِن مُوسَى لما سَار إِلَى الأندلس عبر الْبَحْر إِلَيْهَا من نَاحيَة الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمَعْرُوف الْيَوْم بجبل مُوسَى وتنكب النُّزُول على جبل طَارق وتمم الْفَتْح وتوغل فِي الأندلس إِلَى برشلونة فِي جِهَة الشرق وأربونة فِي الْجوف وَضم قادس فِي الغرب ودوخ أقطارها وَجمع غنائمها وَأجْمع أَن يَأْتِي الْمشرق من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة ويتجاوز إِلَى الشَّام دروب الأندلس ودروبه ويخوض إِلَيْهِ مَا بَينهمَا من بِلَاد الْأَعَاجِم وأمم النَّصْرَانِيَّة مُجَاهدًا فيهم ومستلحما لَهُم إِلَى أَن يلْحق بدار الْخلَافَة من دمشق ونمى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة الْوَلِيد فَاشْتَدَّ قلقه بمَكَان الْمُسلمين من دَار الْحَرْب وَرَأى أَن مَا هم بِهِ مُوسَى تغرير بِالْمُسْلِمين فَبعث إِلَيْهِ بالتوبيخ والانصراف وَأسر إِلَى سفيره أَن يرجع بِالْمُسْلِمين إِن لم يرجع هُوَ وَكتب لَهُ بذلك عَهده ففت ذَلِك فِي عزم مُوسَى وقفل عَن الأندلس بعد أَن أنزل الرابطة والحامية بثغورها وَاسْتعْمل ابْنه عبد الْعَزِيز لسدها وَجِهَاد غدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دَار إِمَارَة واحتل مُوسَى بالقيروان سنة خمس وَتِسْعين وارتحل إِلَى الْمشرق سنة سِتّ بعْدهَا بِمَا كَانَ مَعَه من الْغَنَائِم والذخائر وَالْأَمْوَال على الْعجل وَالظّهْر يُقَال إِن من جُمْلَتهَا ثَلَاثِينَ ألف رَأس من السَّبي وَولى على إفريقية ابْنه عبد الله واندرجت ولَايَة الأندلس يَوْمئِذٍ فِي ولَايَة الْمغرب فَكَانَ صَاحب القيروان نَاظرا فِي الْجَمِيع وَقدم مُوسَى على سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَقد ولي الْخلَافَة بعد الْوَلِيد فسخطه ونكبه وثارت عَسَاكِر الأندلس بِابْنِهِ عبد الْعَزِيز(1/155)
فَقَتَلُوهُ لِسنتَيْنِ من ولَايَته بإغراء الْخَلِيفَة سُلَيْمَان وَكَانَ خيرا فَاضلا وافتتح فِي ولَايَته مَدَائِن كَثِيرَة وَكَانَ الَّذِي تولى قَتله حبيب بن أبي عُبَيْدَة الفِهري وَكَانَ سَبَب غضب سُلَيْمَان على مُوسَى أَنه لما توجه إِلَى الْمشرق وانْتهى إِلَى مصر وصل أَشْرَافهَا وفقهاءها وبلغة الْخَبَر بِمَرَض الْوَلِيد ووافاه كِتَابه يستحثه على الْقدوم ووافاه كتاب آخر من أَخِيه سُلَيْمَان يثبطه فأسرع مُوسَى اللحاق بالوليد فَقدم عَلَيْهِ قبل وَفَاته بِثَلَاثَة أَيَّام وَدفع إِلَيْهِ مَا مَعَه من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال فغاظ ذَلِك سُلَيْمَان وأساء مكافأته حِين أفْضى الْأَمر إِلَيْهِ فنكبه ونكب آل بَيته أجمع وَكَانَت وَفَاة مُوسَى رَحمَه الله بِالْمَدِينَةِ المنورة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَقيل غير ذَلِك
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن أبي زيد القيرواني ارْتَدَّت البربر اثْنَتَيْ عشرَة مرّة من طرابلس إِلَى طنجة وَلم يسْتَقرّ إسْلَامهمْ حَتَّى عبر مُوسَى بن نصير الْبَحْر إِلَى الأندلس وَأَجَازَ مَعَه كثيرا من رجالات البربر برسم الْجِهَاد فاستقروا هُنَالك فَحِينَئِذٍ اسْتَقر الْإِسْلَام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه وتناسوا الرِّدَّة ثمَّ نبضت فيهم عروق الخارجية بعد على مَا نذكرهُ
ولَايَة مُحَمَّد بن يزِيد على الْمغرب
لما ارتحل مُوسَى بن نصير إِلَى الْمشرق ونكبه الْخَلِيفَة سُلَيْمَان كَمَا قُلْنَا عزل ابْنه عبد الله عَن الْمغرب وَولى مَكَانَهُ مُحَمَّد بن يزِيد مولى قُرَيْش وَيُقَال مولى الْأَنْصَار فَقدم القيروان سنة سبع وَتِسْعين وَكَانَ سُلَيْمَان قد أمره باستئصال آل مُوسَى بن نصير واصطلام نعمتهم فَأتى على ذَلِك ثمَّ لما قتل أهل الأندلس أَمِيرهمْ عبد الْعَزِيز بن مُوسَى ولوا عَلَيْهِم أَيُّوب بن حبيب اللَّخْمِيّ وَهُوَ ابْن أُخْت مُوسَى فَوجه مُحَمَّد بن يزِيد الْحر بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ واليا من قبله على الأندلس فَقَدمهَا وَاسْتقر أَمِيرا بهَا سنتَيْن وَثَمَانِية أشهر قَالُوا وَكَانَ مُحَمَّد بن يزِيد هَذَا عادلا حسن السِّيرَة قَاتل الْمُخَالفين بثغور الْمغرب وغنم وسبى وَلم يزل واليا عَلَيْهِ حَتَّى(1/156)
مَاتَ سُلَيْمَان فَكَانَت ولَايَته سنتَيْن وأشهرا وَالله أعلم
ولَايَة إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر على الْمغرب
لما توفّي سُلَيْمَان بن عبد الْملك رَحمَه الله وَولي الْخلَافَة بعده عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ اسْتعْمل على الْمغرب إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر مولى بني مَخْزُوم فَقدم القيروان سنة مائَة وَكَانَ خير أَمِير وَخير وَال وَلم يزل حَرِيصًا على دُعَاء البربر إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى تمّ إسْلَامهمْ على يَده وَبث فيهم من فقههم فِي دينهم
وَذكر أَبُو الْعَرَب مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمِيم فِي تَارِيخ إفريقية أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أرسل عشرَة من التَّابِعين يفقهُونَ أهل الْمغرب فِي الدّين مِنْهُم حبَان بن أبي جبلة
وَلما توفّي عمر بن عبد الْعَزِيز سنة إِحْدَى وَمِائَة وبويع يزِيد بن عبد الْملك وَجه يزِيد بن أبي مُسلم الثَّقَفِيّ واليا على الْمغرب على مَا نذكرهُ(1/157)
ولَايَة يزِيد بن أبي مُسلم على الْمغرب
هُوَ يزِيد بن أبي مُسلم دِينَار مولى الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ الظَّالِم الْمَشْهُور وَكَانَ يزِيد هَذَا كَاتبه وَصَاحب شرطته قَالَ ابْن خلكان كَانَت فِيهِ كِفَايَة ونهضة قدمه الْحجَّاج بسببهما
وَكَانَ من خَبره أَن الْحجَّاج لما حَضرته الْوَفَاة اسْتخْلف يزِيد هَذَا على خراج الْعرَاق فأقره الْوَلِيد بن عبد الْملك واغتبط بِهِ وَقَالَ مَا مثلي وَمثل الْحجَّاج وَابْن أبي مُسلم بعده إِلَّا كَرجل ضَاعَ مِنْهُ دِرْهَم فَوجدَ دِينَارا
وَلما مَاتَ الْوَلِيد وَولي بعده أَخُوهُ سُلَيْمَان عزل ابْن أبي مُسلم وَأمر بِهِ فأحضر بَين يَدَيْهِ فِي جَامِعَة وَكَانَ رجلا قَصِيرا دميما قَبِيح الْوَجْه عَظِيم الْبَطن تحتقره الْعين فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ سُلَيْمَان قَالَ أَنْت يزِيد بن أبي مُسلم قَالَ نعم اصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لعن الله من أشركك فِي أَمَانَته وحكمك فِي دينه قَالَ لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإنَّك رايتني وَالْأَمر عني مُدبر وَلَو رَأَيْتنِي وَالْأَمر عَليّ مقبل لاستعظمت مَا استصغرت ولاستجللت مَا احتقرت فَقَالَ سُلَيْمَان قَاتله الله فَمَا أربط جاشه وأعضب لِسَانه ودارت بَينه وَبَين سُلَيْمَان محاورات غير هَذِه ثمَّ كشف عَنهُ فَلم يجد عَلَيْهِ خِيَانَة فهم باستكتابه فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز أنْشدك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا تحيي ذكر الْحجَّاج باستكتاب كَاتبه فَقَالَ إِنِّي كشفت عَنهُ فَلم أجد عَلَيْهِ خِيَانَة يَا أَبَا حَفْص فَقَالَ عمر أَنا أوجدك من هُوَ أعف عَن الدِّينَار وَالدِّرْهَم مِنْهُ فَقَالَ سُلَيْمَان من هُوَ قَالَ إِبْلِيس مَا مس دِينَارا وَلَا درهما قطّ وَقد أهلك هَذَا الْخلق فَتَركه سُلَيْمَان
وَحدث جوَيْرِية بن أَسمَاء أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما ولي الْخلَافَة بلغه أَن يزِيد بن أبي مُسلم خرج فِي جَيش من جيوش الْمُسلمين فَكتب إِلَى عَامل الْجَيْش برده وَقَالَ إِنِّي لأكْره أَن أستنصر بِجَيْش هُوَ فيهم فَلَمَّا توفّي عمر رَضِي الله عَنهُ وأفضت الْخلَافَة إِلَى يزِيد بن عبد الْملك عزل(1/158)
إِسْمَاعِيل بن عبيد الله عَن الْمغرب وَولى مَكَانَهُ يزِيد بن أبي مُسلم فأساء السِّيرَة قَالُوا وَوجه عَنْبَسَة بن سحيم الْكَلْبِيّ واليا من قبله على الأندلس فاستقام على يَده أمرهَا ثمَّ ثار أهل الْمغرب بِابْن أبي مُسلم فَقَتَلُوهُ سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَة لشهر من ولَايَته
قَالَ الطَّبَرِيّ وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ قد عزم أَن يسير فِي أهل الْمغرب بسيرة الْحجَّاج فِي أهل الْعرَاق فَإِن الْحجَّاج كَانَ وضع الْجِزْيَة على رِقَاب الَّذين أَسْلمُوا من أهل السوَاد وَأمر بردهمْ إِلَى قراهم ورساتيقهم على الْحَالة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قبل الْإِسْلَام فَلَمَّا عزم يزِيد على ذَلِك تآمر البربر فِيهِ وَأَجْمعُوا على قَتله فَقَتَلُوهُ وولوا عَلَيْهِم مُحَمَّد بن يزِيد الَّذِي كَانَ قبله فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ وَكَانَ غازيا بصقلية فَلَمَّا قدم بمغانمه ولوه أَمرهم
وَقَالَ ابْن عَسَاكِر ولوا بعده إِسْمَاعِيل بن عبيد الله وَالله أعلم
ثمَّ كتب أهل الْمغرب إِلَى الْخَلِيفَة يزِيد إِنَّا لم نخلع يدا من طَاعَة وَلَكِن يزِيد بن أبي مُسلم سامنا مَا لَا يرضى بِهِ الله وَرَسُوله فقتلناه وأعدنا عاملك فَكتب إِلَيْهِم يزِيد إِنِّي لم أَرض مَا صنع ابْن أبي مُسلم وَأقر مُحَمَّد بن يزِيد على الْمغرب وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة كَمَا قُلْنَا
وَحدث الوضاح بن أبي خَيْثَمَة وَكَانَ حَاجِب عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ أَمرنِي عمر بن الْعَزِيز يَعْنِي فِي مرض مَوته بِإِخْرَاج قوم من السجْن وَفِيهِمْ يزِيد بن أبي مُسلم فأخرجتهم وَتركته فحقد عَليّ فَلَمَّا مَاتَ عمر هربت إِلَى أفريقية خوفًا مِنْهُ قَالَ فَبينا أَنا بإفريقية إِذْ قيل قدم ابْن ابي مُسلم واليا فاختفيت فَأعْلم بمكاني وَأمر بِي فَحملت إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ طالما سَأَلت الله أَن يمكنني مِنْك فَقلت وَأَنا وَالله لطالما سَأَلت الله أَن يعيذني مِنْك فَقَالَ مَا أَعَاذَك الله وَالله لأَقْتُلَنك وَلَو سابقني فِيك ملك الْمَوْت لسبقته ثمَّ دَعَا بِالسَّيْفِ والنطع فَأتي بهما وَأمر بالوضاح فأقيم عَلَيْهِ مكتوفا وَقَامَ السياف وَرَاءه ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَتقدم يزِيد إِلَيْهَا فَلَمَّا سجد أَخَذته السيوف وَدخل على الوضاح من قطع كِتَافِهِ وَأطْلقهُ فسبحان اللَّطِيف الْخَبِير(1/159)
ولَايَة بشر بن صَفْوَان على الْمغرب
لما كتب أهل الْمغرب إِلَى الْخَلِيفَة يزِيد بن عبد الْملك بِمَا كَانَ مِنْهُم إِلَى ابْن أبي مُسلم وَمَا اعتذروا بِهِ فِي شَأْنه أقرّ عَلَيْهِم مُحَمَّد بن يزِيد أَو إِسْمَاعِيل بن عبيد الله على الْخلاف الْمُتَقَدّم مَا شَاءَ الله ثمَّ ولى عَلَيْهِم بشر بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ وَكَانَ واليا على مصر فَقدم القيروان سنة ثَلَاث وَمِائَة فمهد الْمغرب وَسكن أرجاءه واستصفى بقايا آل مُوسَى بن نصير ثمَّ وَفد على يزِيد بن عبد الْملك فَوَجَدَهُ قد مَاتَ وبويع هِشَام بن عبد الْملك فَرده هِشَام إِلَى عمله من الْمغرب فاستقر بالقيروان واستدعى مِنْهُ أهل الأندلس واليا يقوم بأمرهم وَذَلِكَ بعد مقتل عَنْبَسَة بن سحيم الْكَلْبِيّ شَهِيدا فِي بعض غزوات الفرنج فولى عَلَيْهِم يحيى بن سَلمَة الْكَلْبِيّ فَقدم الأندلس آخر سنة سبع وَمِائَة فَأصْلح شَأْنهَا ثمَّ غزا بشر بن صَفْوَان صقلية بِنَفسِهِ سنة تسع وَمِائَة فَأصَاب سبيا كثيرا وَرجع إِلَى القيروان منصورا فَكَانَت منيته عقب ذَلِك
ولَايَة عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب
لما توفّي بشر بن صَفْوَان وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام بن عبد الْملك ولى على الْمغرب عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَهُوَ ابْن أخي أبي الْأَعْوَر السّلمِيّ وَقيل ابْن ابْنه فَقدم القيروان سنة عشر وَمِائَة وَنظر فِي أَمر الْمغرب والأندلس مَعًا وَولى من قبله على الأندلس وُلَاة أَرْبَعَة وَاحِدًا بعد وَاحِد وهم عُثْمَان بن أبي نسعة الخثعي وَحُذَيْفَة بن الْأَحْوَص الْقَيْسِي والهيثم بن عبيد الْكلابِي وَمُحَمّد بن عبد الله الْأَشْجَعِيّ وَكَانَ عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن قد أَخذ عُمَّال بشر بن صَفْوَان قبله وعذبهم فَكتب بَعضهم بذلك إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام فَعَزله لأَرْبَع سِنِين وَسِتَّة أشهر من ولَايَته(1/160)
ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب على الْمغرب
عبيد الله هَذَا هُوَ مولى بني سلول وَكَانَ رَئِيسا نبيلا وأميرا جَلِيلًا وخطيبا مصقعا ولاه هِشَام بن عبد الْملك على الْمغرب بعد عزل عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ وَأمره أَن يمْضِي إِلَيْهِ من مصر فاستخلف عبيد الله على مصر ابْنه أَبَا الْقَاسِم وَسَار إِلَى الْمغرب فَقدم القيروان فِي ربيع الآخر سنة أَربع عشرَة وَمِائَة وَاسْتعْمل عمر بن عبيد الله الْمرَادِي على طنجة وَالْمغْرب الْأَقْصَى وَاسْتعْمل ابْنه إِسْمَاعِيل بن عبيد الله مَعَه على السوس وَمَا وَرَاءه وَاسْتعْمل على الأندلس عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الغافقي فَكَانَت لَهُ فِي الفرنجة وقائع وَأُصِيب جَيْشه فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فِي مَوضِع يعرف ببلاط لشهداء وَبِه عرفت الْغَزْوَة(1/161)
ثمَّ ولى عبيد الله على الأندلس عبد الْملك بن قطن الفِهري ثمَّ بعده عقبَة بن الْحجَّاج السَّلُولي فَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة وَتمكن سُلْطَان عبيد الله بالمغرب وَبنى جَامع الزيتونة بتونس لَكِن صحّح صَاحب المؤنس أَن أول مختط للجامع الْمَذْكُور حسان بن النُّعْمَان وتممه عبيد الله هَذَا وَاتخذ بهَا دَار صناعَة لإنشاء المراكب البحرية ثمَّ بعث حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري غازيا أَرض الْمغرب فَانْتهى إِلَى السوس الْأَقْصَى وَقَاتل مسوفة ثمَّ تخطاهم إِلَى تخوم السودَان وَأصَاب من مَغَانِم الذَّهَب وَالْفِضَّة والسبي شَيْئا كثيرا ودوخ بِلَاد البربر وقبائلها وَرجع ثمَّ أغزاه ثَانِيَة جَزِيرَة صقلية فَركب الْبَحْر إِلَيْهِم سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة وَمَعَهُ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدن صقلية وَضرب على أَهلهَا الْجِزْيَة وأثخن فِي سَائِر الجزيرة
وَكَانَ عمر بن عبيد الله فِي هَذِه الْمدَّة بطنجة قد أَسَاءَ السِّيرَة فِي برابرة الْمغرب الْأَقْصَى وَأَرَادَ أَن يُخَمّس من أسلم مِنْهُم وَزعم أَنه الْفَيْء فنفرت قُلُوب البربر عَنهُ وأحسوا بِأَنَّهُم طعمة للْعَرَب وثقلت عَلَيْهِم وَطْأَة عُمَّال ابْن الحبحاب جملَة بِمَا كَانُوا يطالبونهم بِهِ من الْوَظَائِف البربرية مثل الإدم العسلية الألوان وأنواع طرف الْمغرب فَكَانُوا يتغالون فِي جمع ذَلِك وانتخابه حَتَّى كَانَت الصرمة من الْغنم تهْلك ذبحا لاتخاذ الْجُلُود العسلية من سخالها وَلَا يُوجد فِيهَا مَعَ ذَلِك إِلَّا الْوَاحِد وَمَا قرب مِنْهُ فَكثر عيثهم بذلك فِي أَمْوَال البربر فَأَجْمعُوا الانتقاض وبلغهم مسير العساكر مَعَ حبيب بن أبي عُبَيْدَة إِلَى صقلية فجرأهم ذَلِك على مُرَادهم وثار ميسرَة المضغري بأحواز طنجة على مَا نذكرهُ
وَكَانَت بِدعَة الخارجية يَوْمئِذٍ قد سرت فِي البربر وتلقنها رؤوسهم عَن عرب الْعرَاق الساقطين إِلَى الْمغرب نزعوا بهَا إِلَى الْأَطْرَاف داعين أغمار(1/162)
الْأُمَم إِلَيْهَا عَسى أَن تكون لَهُم دولة فاستحكمت صبغتها فِي طغام البربر ووشجت فيهم عروقها فَكَانَ ذَلِك من أقوى البواعث والأسباب فِي خرق حجاب الهيبة على الْخُلَفَاء وانتقاض البربر على الْعَرَب ومزاحمتهم لَهُم فِي سلطانهم
ولنذكر هُنَا أصل الْخَوَارِج وفرقهم على الْجُمْلَة ثمَّ نعود إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ فَنَقُول قد تقدم لنا فِي خلَافَة عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ من أَمر التَّحْكِيم وَمَا نَشأ عَنهُ من خُرُوج طَائِفَة من الْقُرَّاء عَلَيْهِ وَقَالُوا حكمت الرِّجَال فِي دين الله وَلَا حكم إِلَّا لله وَأَن عليا رَضِي الله عَنهُ استأصلهم بالنهروان فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه قد قطع الله دابرهم آخر الدَّهْر فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم لفي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء لَا تخرج خَارِجَة إِلَّا خرجت بعْدهَا مثلهَا فَصدق الله قَول عَليّ ونبغت مِنْهُم طوائف بالعراق وَغَيره وتكرر خُرُوجهمْ على الْخُلَفَاء وشرى داؤهم وأعيى دواؤهم وتعددت فرقهم ومذاهبهم
قَالَ ابْن خلدون افْتَرَقت الْخَوَارِج على أَربع فرق
الأولى الْأزَارِقَة أَصْحَاب نَافِع بن الْأَزْرَق الْحَنَفِيّ وَكَانَ رَأْيه الْبَرَاءَة من سَائِر الْمُسلمين وتكفيرهم والاستعراض يَعْنِي الْقَتْل من غير سُؤال عَن حَال أحد وَقتل الْأَطْفَال وَاسْتِحْلَال الْأَمَانَة لِأَنَّهُ يراهم كفَّارًا
الثَّانِيَة النجدية وَيُقَال لَهُم النجدات أَصْحَاب نجدة بن عَامر الْحَنَفِيّ وَهُوَ بِخِلَاف الْأزَارِقَة فِي ذَلِك كُله
الثَّالِثَة الإباضية أَصْحَاب عبد الله بن أباض التَّمِيمِي ثمَّ الصريمي وهم يرَوْنَ أَن الْمُسلمين كلهم يحكم لَهُم بِحكم الْمُنَافِقين فَلَا ينتهون إِلَى الرَّأْي الأول وَلَا يقفون عِنْد الثَّانِي وَلَا يحرمُونَ مناكحة الْمُسلمين وَلَا موارثتهم وهم عِنْدهم كالمنافقين وَمن هَؤُلَاءِ البيهسية أَصْحَاب أبي بيهس هَيْصَم بن جَابر الضبعِي(1/163)
الرَّابِعَة الصفرية وهم موافقون للإباضية إِلَّا فِي الْقعدَة يَعْنِي الَّذين يَقْعُدُونَ عَن الْقِتَال مَعَهم فَإِن الإباضية أَشد على الْقعدَة مِنْهُم وَرُبمَا تشعبت هَذِه الآراء بعد ذَلِك
وَاخْتلف فِي تَسْمِيَة الصفرية فَقيل نسبوا إِلَى عبد الله بن صفار الصريمي وَقيل اصفروا بِمَا نهكتهم الْعِبَادَة وَفِي الْقَامُوس الصفرية بِالضَّمِّ وبكسر قوم من الحرورية نسبوا إِلَى عبد الله بن صفار بن ككتان أَو إِلَى زِيَاد بن الْأَصْفَر أَو إِلَى صفرَة ألوانهم أَو لخلوهم من الدّين اه
وَقد كَانَت الْخَوَارِج من قبل هَذَا الِافْتِرَاق على رَأْي وَاحِد لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا فِي الشاذ من الْفُرُوع وَفِي أصل افتراقهم مكاتبات بَين نَافِع بن الْأَزْرَق وَأبي بيهس وَعبد الله بن أباض ذكرهَا الْمبرد فِي الْكَامِل فَلْتنْظرْ هُنَالك
وَكَانَت خوارج الْمغرب إباضية وصفرية فَلَمَّا كَانَت ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب ونال عماله من البربر مَا نالوا من الْجور والعسف انتقضوا عَلَيْهِ وثار ميسرَة المضغري الْمَعْرُوف بالخفير بأحواز طنجة ومضغرة بطن من بني فاتن بن تامضيت بن ضرى بن زجيك بن مادغيس الأبتر وَكَانُوا على رَأْي الصفرية وَكَانَ شيخهم ميسرَة الْمَذْكُور مقدما فِي ذَلِك الْمَذْهَب فَحمل البربر على الْخُرُوج عَن الطَّاعَة وزحف إِلَى عمر بن عبيد الله بطنجة فَقتله سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة وَولى عَلَيْهَا من قبله عبد الْأَعْلَى بن جريج الإفْرِيقِي رومي الأَصْل وَمولى للْعَرَب كَانَ إِمَام الصفرية فِي انتحال مَذْهَبهم فَقَامَ بأمرهم مُدَّة ثمَّ تقدم إِلَى السوس فَقتله عاملها إِسْمَاعِيل بن عبيد الله وَكَانَ ميسرَة لما استولى على طنجة وَالْمغْرب الْأَقْصَى قد بَايعه البربر بالخلافة وخاطبوه بأمير الْمُؤمنِينَ إِذْ الْخَوَارِج لَا يشترطون فِي الإِمَام الْأَعْظَم القريشية محتجين بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن(1/164)
رَأسه زبيبة) وَهُوَ مؤول واضطرم الْمغرب نَارا وفشت نحلة الخارجية فِي جَمِيع قبائله وانتقض أمره على خلفاء الْمشرق فَلم يُرَاجع طاعتهم بعد
ثمَّ إِن ابْن الحبحاب بعث إِلَى ميسرَة خَالِد بن حبيب الفِهري فِيمَن كَانَ قد بَقِي عِنْده من الْجَيْش واستقدم أَبَاهُ حبيب بن أبي عُبَيْدَة من صقلية فَقدم فِيمَن مَعَه من عَسَاكِر الْمُسلمين وَبَعثه فِي أثر خَالِد ونهض إِلَيْهِم ميسرَة فِي جموع البربر فَلَقِيَهُمْ بأحواز طنجة فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا ثمَّ تحاجزوا وَرجع ميسرَة إِلَى طنجة فَسَاءَتْ سيرته فِي البربر ونقموا عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ فَقَتَلُوهُ وولوا عَلَيْهِم مَكَانَهُ خَالِد بن حميد الزناتي
قَالَ ابْن عبد الحكم هُوَ من هتورة إِحْدَى بطُون زناتة فَقَامَ بأمرهم وَاجْتمعَ إِلَيْهِ البربر فزحف إِلَى الْعَرَب وسرح إِلَيْهِ ابْن الحبحاب عَسَاكِر الْخَلِيفَة هِشَام بن عبد الْملك وعَلى مقدمتها خَالِد بن حبيب الفِهري فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي شلف فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَقتل خَالِد بن حبيب ووجوه من مَعَه من الْعَرَب فسميت الْوَقْعَة وقْعَة الْأَشْرَاف وانتقض الْمغرب على ابْن الحبحاب من سَائِر جهاته وَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل الأندلس فعزلوا عَامله عقبَة بن الْحجَّاج السَّلُولي وولوا عَلَيْهِم عبد الْملك بن قطن الفِهري ومرج أَمر النَّاس وانْتهى الْخَبَر بذلك كُله إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام بِدِمَشْق فعزل ابْن الحبحاب عَن الْمغرب
وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة لما اختلت الْأُمُور على ابْن الحبحاب اجْتمع النَّاس وعزلوه فَبلغ ذَلِك هشاما فَغَضب وَكتب إِلَى ابْن الحبحاب بالقدوم فَخرج فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وَالله أعلم(1/165)
ولَايَة كُلْثُوم بن عِيَاض على الْمغرب ومقتله
لما انْتهى إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام مَا كَانَ من أَمر خوارج البربر بالمغرب والأندلس وخلعهم للطاعة شقّ ذَلِك عَلَيْهِ واستضعف ابْن الحبحاب فَكتب إِلَيْهِ يستقدمه وَولى على الْمغرب كُلْثُوم بن عِيَاض الْقشيرِي وَوجه مَعَه جَيْشًا كثيفا لقتالهم كَانَ فِيهِ مَعَ مَا انضاف إِلَيْهِ من مَجْمُوع الْبِلَاد الَّتِي مر بهَا سَبْعُونَ ألفا على مَا قيل
وَلما انْتهى كُلْثُوم إِلَى القيروان أَسَاءَ السِّيرَة فِي أَهلهَا فَكَتَبُوا إِلَى حبيب بن أبي عُبَيْدَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان مَوَاقِف للبربر يَشكونَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَكَانَ لآل عقبَة بالمغرب وجاهة لم تكن لغَيرهم فَكتب إِلَيْهِ حبيب ينهاه ويتوعده فَاعْتَذر كُلْثُوم وأغضى لَهُ عَلَيْهَا ثمَّ اسْتخْلف على القيروان عبد الرَّحْمَن بن عقبَة وَسَار يؤم الْمغرب فِي جموعه وعَلى مقدمته ابْن أَخِيه بلج بن بشر الْقشيرِي فَمر على طَرِيق سبتة وانْتهى إِلَى تلمسان فلقي حبيب بن أبي عُبَيْدَة فاقتتلا ثمَّ اصطلحا وزحفا جَمِيعًا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فَنَهَضت إِلَيْهِم البربر وَكَانَ اللِّقَاء على وَادي سبو من أَعمال طنجة
وَقَالَ ابْن خلدون فِي أَخْبَار البربر إِن الْخَلِيفَة هِشَام ولى كُلْثُوم بن عِيَاض على الْمغرب سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة سرحه فِي اثْنَي عشر ألفا من أهل الشَّام وَكتب إِلَى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أَن يمدوه فزحف إِلَى إفريقية ثمَّ إِلَى الْمغرب حَتَّى بلغ وَادي سبو فبرز إِلَيْهِ خَالِد بن حميد الزناتي فِيمَن مَعَه من البربر وَكَانُوا خلقا لَا يُحصونَ فَلَقوا كُلْثُوم بن عِيَاض بعد أَن هزموا مقدمته فَاشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وَقتل كُلْثُوم وحبِيب بن أبي عُبَيْدَة وَكثير(1/166)
من الْجند وافترقت العساكر فَمضى أهل الشَّام إِلَى الأندلس مَعَ بلج بن بشر وَمضى أهل مصر وإفريقية إِلَى القيروان
وَمَا ذكره أَن خَالِد بن حميد هُوَ الَّذِي هزم جيوش كُلْثُوم فِي هَذِه الْوَقْعَة هُوَ مُقْتَضى مَا سبق من أَن ميسرَة قتل فِي ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب وَجزم ابْن حَيَّان بِأَن الَّذِي هزم جيوش كُلْثُوم هُوَ ميسرَة الخفير وَاقْتصر عَلَيْهِ ابْن خلدون فِي أَخْبَار بني فاتن قَالَ انْتَهَت مُقَدّمَة كُلْثُوم بن عِيَاض إِلَى سبو من أَعمال طنجة فَلَقِيَهُ البربر هُنَالك مَعَ ميسرَة وَقد فحصوا عَن أوساط رؤوسهم وتنادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثمَّ هزموه وقتلوه وَكَانَ كيدهم فِي لقائهم إِيَّاه أَن ملؤوا الشنان بِالْحِجَارَةِ وربطوها فِي أَذْنَاب الْخَيل ثمَّ أرسلوها فِي جَيش الْعَرَب فَكَانَت الْحِجَارَة تقَعْقع فِي شنانها وخيل الْعَرَب تنفر حَتَّى اخْتَلَّ مَصَافهمْ وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهِم فافترقوا وَذهب بلج مَعَ الطَّلَائِع من أهل الشَّام إِلَى سبتة وَرجع أهل مصر وإفريقية إِلَى القيروان وَظَهَرت الْخَوَارِج فِي كل جِهَة واقتطع الْمغرب عَن طَاعَة الْخُلَفَاء إِلَى أَن هلك ميسرَة وَقَامَ برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حَارِث مِنْهُم اه كَلَام ابْن خلدون فاضطرب النَّقْل فِي هَذِه الْوَاقِعَة كَمَا ترى وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
قَالَ ابْن حَيَّان إِن كُلْثُوم بن عِيَاض لما انْهَزَمت جيوشه نجا جريحا إِلَى سبتة فِي أهل الشَّام وَمَعَهُ ابْن أَخِيه بلج بن بشر بن عِيَاض وحاصرهم البربر بهَا وَلما اشْتَدَّ حصارهم بسبتة وانقطعت عَنْهُم الأقوات وبلغوا من الْجهد الْغَايَة اسْتَغَاثُوا بإخوانهم من عرب الأندلس فتثاقل عَنْهُم صَاحبهَا عبد الْملك بن قطن لخوفه على سُلْطَانه مِنْهُم فَلَمَّا شاع خبر ضررهم عِنْد رجالات الْعَرَب اشفقوا عَلَيْهِم فأغاثهم زِيَاد بن عَمْرو اللَّخْمِيّ بمركبين مشحونين ميرة أَمْسَكت من أرماقهم فَلَمَّا بلغ ذَلِك عبد الْملك بن قطن ضربه سَبْعمِائة سَوط ثمَّ اتهمه بعد ذَلِك بتضريب الْجند عَلَيْهِ فسمل عَيْنَيْهِ ثمَّ ضرب عُنُقه وصلب عَن يسَاره كَلْبا وَاتفقَ فِي هَذَا الْوَقْت أَن برابرة الأندلس لما بَلغهُمْ مَا كَانَ من ظُهُور برابرة العدوة على الْعَرَب انتقضوا على عرب الأندلس(1/167)
وَاقْتَدوا بِمَا فعله إخْوَانهمْ بالمغرب وتفطنوا لما كَانُوا غافلين عَنهُ قبل ذَلِك من الْخلاف على الْعَرَب ومزاحمتهم فِي سلطانهم وأصل ذَلِك كُله النزعة الخارجية فاستفحل أَمرهم بالأندلس وَكثر إيقاعهم بجيوش ابْن قطن فخاف أَن يلقى مِنْهُم مَا لقِيه الْعَرَب بالمغرب من إخْوَانهمْ وبلغه أَنهم قد عزموا على قَصده فَلم ير أجدى لَهُ من الإستعداد بصعاليك عرب الشَّام أَصْحَاب بلج الموتورين بسبتة فَكتب إِلَى بلج وَقد مَاتَ عَمه كُلْثُوم فَأَسْرعُوا إِلَى إجَابَته وَكَانَت تِلْكَ أمنيتهم فَأحْسن إِلَيْهِم وأسبغ النِّعْمَة عَلَيْهِم وَشرط عَلَيْهِم أَن يقيموا عِنْده سنة وَاحِدَة حَتَّى إِذا فرغوا لَهُ من البربر انصرفوا إِلَى مغربهم وَخَرجُوا لَهُ عَن أندلسه فرضوا بذلك وَعَاهَدُوهُ وَأخذ مِنْهُم الرهائن عَلَيْهِ ثمَّ قدم عَلَيْهِم ابنيه قطنا وَأُميَّة والبربر فِي جموع لَا يحصيها غير رازقها فَاقْتَتلُوا قتالا صَعب فِيهِ الْمقَام إِلَى أَن كَانَت الدبرة على البربر فَقَتلهُمْ الْعَرَب بأقطار الأندلس حَتَّى ألْحقُوا فَلهم بالثغور وخفوا عَن الْعُيُون فكر الشاميون وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم فاشتدت شوكتهم وثابت همتهم وبطروا ونسوا العهود وطالبهم ابْن قطن بِالْخرُوجِ عَن الأندلس فتعللوا عَلَيْهِ وَذكروا صَنِيعه بهم أَيَّام انحصارهم بسبتة وَقَتله الرجل الَّذِي أغاثهم بالميرة فخلعوه وَقدمُوا على أنفسهم أَمِيرهمْ بلج بن بشر وَتَبعهُ جند بن قطن وأغروه بقتْله فَأبى فثارت اليمانية وَقَالُوا قد حميت لمضرك وَالله لَا نطيعك فَلَمَّا خَافَ تفرق الْكَلِمَة أَمر بِابْن قطن فَأخْرج إِلَيْهِم وَهُوَ شيخ كَبِير كفرخ نعَامَة قد شهد وقْعَة الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ فَجعلُوا يَسُبُّونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ أفلت من سُيُوفنَا يَوْم الْحرَّة ثمَّ طالبتنا بِتِلْكَ الترة فعرضتنا لأكل الْكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حَتَّى أمتنَا جوعا فَقَتَلُوهُ وصلبوه فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وصلبوا عَن يَمِينه خنزيرا وَعَن يسَاره كَلْبا وَاسْتولى بلج على الأندلس وَكَانَت خطوب يطول ذكرهَا وَالله ولي العون والتوفيق(1/168)
ولَايَة حَنْظَلَة بن صَفْوَان على الْمغرب
لما سمع الْخَلِيفَة هِشَام بِمَا جرى على كُلْثُوم وَأَصْحَابه قَامَت قِيَامَته فَوجه حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ وَهُوَ أَخُو بشر بن صَفْوَان الْمُتَقَدّم واليا على الْمغرب فَقدم القيروان سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة فَوجدَ هوارة وهم ولد هوار بن أوريغ بن برنس خوارج على الدولة ورئيساهم عكاشة بن أَيُّوب الْفَزارِيّ وَعبد الْوَاحِد بن يزِيد الهواري وَكَانَا على مَذْهَب الصفرية
فَلَمَّا اسْتَقر حَنْظَلَة بالقيروان لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى زحف إِلَيْهِ عكاشة وَعبد الْوَاحِد فِي هوارة وَمن تَبِعَهُمْ من البربر فَخرج إِلَيْهِم حَنْظَلَة والتقوا على الْقرن من ظَاهر القيروان فَهَزَمَهُمْ بعد قتال صَعب واستلحمهم وَقتل عبد الْوَاحِد وَأخذ عكاشة أَسِيرًا وَلما جِيءَ إِلَيْهِ بعكاشة فِي رمته وبرأس عبد الْوَاحِد سجد شكرا لله تَعَالَى على مَا منحه من الْفَتْح وَأمر بعكاشة فَقتل وأحصيت الْقَتْلَى فِي ذَلِك الْيَوْم فَكَانُوا مائَة وَثَمَانِينَ ألفا وَكتب حَنْظَلَة بذلك إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام وسمعها اللَّيْث بن سعد فَقَالَ مَا غَزْوَة كنت أحب أَن أشهدها بعد غَزْوَة بدر أحب إِلَيّ من غَزْوَة الْقرن والأصنام
ثمَّ وَجه حَنْظَلَة أَبَا الخطار حسام بن ضرار الْكَلْبِيّ واليا من قبله على الأندلس فَركب إِلَيْهَا الْبَحْر من تونس سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة فدان لَهُ أهل الأندلس واستقام أمره بهَا حينا من الدَّهْر ثمَّ ثار عَلَيْهِ الصميل بن حَاتِم الْكَلْبِيّ وخلعه فِي خبر طَوِيل(1/169)
وَلم يزل حَنْظَلَة على الْمغرب فِي أحسن حَال إِلَى أَن طرق الْخلَل الْخلَافَة بالمشرق وَخفت صَوتهَا لما حدث فِي بني أُميَّة من فتْنَة الْوَلِيد الْفَاسِق وَمَا كَانَ من أَمر الشِّيعَة والخوارج مَعَ مَرْوَان الْحمار آخر خلفائهم وأفضى الْأَمر إِلَى الإدالة مِنْهُم ببني الْعَبَّاس فَأجَاز عبد الرَّحْمَن بن حبيب الفِهري من الأندلس إِلَى الْمغرب وَغلب حَنْظَلَة عَلَيْهِ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة على مَا نذكرهُ
ذكر صَالح بن طريف البرغواطي المتنبي ومخرقته
وَفِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ ظُهُور صَالح بن طريف البرغواطي الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة بتامسنا من بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فِيمَا بَين سلا وآسفي وبرغواطة بطن من المصامدة على مَا حَقَّقَهُ ابْن خلدون وَكَانَ أَبوهُ طريف يكنى أَبَا صبيح وَكَانَ من قواد ميسرَة الخفير الْقَائِم بدعوة الصفرية وَلما انقرض أَمر ميسرَة بَقِي طريف قَائِما بِأَمْر برغواطة بتامسنا وَيُقَال إِنَّه تنبأ أَيْضا وَشرع لَهُم الشَّرَائِع ثمَّ هلك وَولى مَكَانَهُ ابْنه صَالح هَذَا وَقد كَانَ شهد مَعَ أَبِيه حروب ميسرَة
قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْخَيْر ثمَّ انْسَلَخَ من آيَات الله وَانْتَحَلَ دَعْوَى النُّبُوَّة وَشرع لَهُم الدّيانَة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من بعده وَهِي مَعْرُوفَة فِي كتب المؤرخين
قَالَ فِي القرطاس كَانَ الضلال الَّذِي شرع لَهُم أَنهم يقرونَ بنبوته وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ شهر رَجَب ويأكلون شهر رَمَضَان وَفرض عَلَيْهِم عشر صلوَات خمْسا بِاللَّيْلِ وخمسا بِالنَّهَارِ وَأَن الْأُضْحِية وَاجِبَة على كل شخص فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم وَشرع لَهُم فِي الْوضُوء غسل السُّرَّة والخاصرتين وَأمرهمْ أَن لَا يغتسلوا من جَنَابَة إِلَّا من حرَام وصلاتهم إِيمَاء لَا سُجُود فِيهَا لكِنهمْ يَسْجُدُونَ فِي آخر رَكْعَة خمس سَجدَات وَيَقُولُونَ عِنْد تنَاول الطَّعَام وَالشرَاب بِاسْمِك يَا كساي وَزعم أَن تَفْسِيره بِسم الله(1/170)
وَأمرهمْ أَن يخرجُوا الْعشْر من جَمِيع الثِّمَار وأباح لَهُم أَن يتَزَوَّج الرجل من النِّسَاء مَا شَاءَ وَلَا يتَزَوَّج من بَنَات عَمه ويطلقون ويراجعون ألف مرّة فِي الْيَوْم فَلَا تحرم عَلَيْهِم الْمَرْأَة بِشَيْء من ذَلِك وَأمرهمْ بقتل السَّارِق حَيْثُ وجد وَزعم أَنه لَا يطهره من ذَنبه إِلَّا السَّيْف وَأَن الدِّيَة تكون من الْبَقر وَحرم عَلَيْهِم رَأس كل حَيَوَان والدجاجة مَكْرُوه أكلهَا وقدوتهم فِي الْأَوْقَات الديكة وَحرم عَلَيْهِم ذَبحهَا وأكلها وَمن ذبح ديكا أَو أكله أعتق رَقَبَة وَأمرهمْ أَن يلحسوا بصاق ولاتهم على سَبِيل التَّبَرُّك فَكَانَ يبصق فِي أكفهم فيلحسونه ويحملونه إِلَى مرضاهم يستشفون بِهِ وَوضع لَهُم قُرْآنًا يقرؤونه فِي صلواتهم ويتلونه فِي مَسَاجِدهمْ وَزعم أَنه نزل عَلَيْهِ وَأَنه وَحي من الله تَعَالَى إِلَيْهِ وَمن شكّ فِي ذَلِك فَهُوَ كَافِر وَالْقُرْآن الَّذِي شرع لَهُم ثَمَانُون سُورَة سَمَّاهَا لَهُم بأسماء النَّبِيين وَغَيرهم مِنْهَا سُورَة آدم وَسورَة نوح وَسورَة فِرْعَوْن وَسورَة مُوسَى وَسورَة هَارُون وَسورَة بني إِسْرَائِيل وَسورَة الأسباط وَسورَة أَيُّوب وَسورَة يُونُس وَسورَة الْجمل وَسورَة الديك وَسورَة الحجل وَسورَة الْجَرَاد وَسورَة هاروت وماروت وَسورَة إِبْلِيس وَسورَة الْحَشْر وَسورَة غرائب الدُّنْيَا وفيهَا الْعلم الْعَظِيم بزعمهم حرم فِيهَا وحلل وَشرع وَفصل وَتسَمى فيهم بِصَالح الْمُؤمنِينَ وَقَالَ أَنا صَالح الْمُؤمنِينَ الَّذِي ذكره الله فِي كِتَابه الَّذِي أنزلهُ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا حَكَاهُ الْبكْرِيّ عَن زمور بن صَالح الْوَافِد مِنْهُم على الحكم الْمُسْتَنْصر الْخَلِيفَة بقرطبة من قبل ملكهم يَوْمئِذٍ أبي مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة وَكَانَ يترجم عَنهُ بِجَمِيعِ خَبره دَاوُد بن عمر المسطاسي قَالَ وَكَانَ ظُهُور صَالح هَذَا فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة
وَقد قيل إِن ظُهُوره كَانَ لأوّل الْهِجْرَة وَأَنه انتحل ذَلِك عنادا ومحاكاة لما بلغه من شَأْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأول أصح ثمَّ زعم أَنه الْمهْدي الْأَكْبَر الَّذِي يخرج(1/171)
فِي آخر الزَّمَان وَأَن عِيسَى يكون صَاحبه وَيُصلي خَلفه وَأَن اسْمه فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ صَالح وَفِي السرياني مَالك وَفِي العجمي عَالم وَفِي العبراني روبيل وَفِي الْبَرْبَرِي واربا وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَيْسَ بعده نَبِي
ثمَّ خرج إِلَى الْمشرق بعد أَن ملكهم سبعا وَأَرْبَعين سنة وَوَعدهمْ أَنه يرجع إِلَيْهِم فِي دَوَاة السَّابِع مِنْهُم وَأوصى بنيه بالتمسك بِدِينِهِ فتوارثوا ضلاله من بعده إِلَى أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة وَكَانَ للدول فيهم ملاحم إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين فمحوا أثر بدعتهم وسنعيد القَوْل فيهم بأبسط من هَذَا عِنْد الْوُصُول إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن تغلب آل عقبَة بن نَافِع على الْمغرب وَولَايَة عبد الرَّحْمَن بن حبيب مِنْهُم
كَانَ عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ واليا على الْمغرب كَمَا مر وَهُوَ الَّذِي افْتتح الْأَقْصَى مِنْهُ وَلما اسْتشْهد بالزاب بَقِي بنوه بِهِ فَكَانَت لَهُم وجاهة مَعْرُوفَة بَين أَهله لمَكَان أَبِيهِم عقبَة من جِهَاد الْعَدو وَمَا فتح الله على يَده من الأقطار واختطاطه مَدِينَة القيروان إِلَى هِيَ كرْسِي الْإِمَارَة فَكَانَ مَا منح الله أهل الْمغرب من الْإِسْلَام وَالدّين كُله فِي صَحِيفَته فنالوا بذلك شرفا خَاصّا زِيَادَة على شرف القرشية وَعز الفهرية فَكَانَ يكون لَهُم الشفوف فِي بعض الأحيان حَتَّى على الْوُلَاة فضلا عَن غَيرهم
وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار مُوسَى بن نصير أَنه اسْتعْمل ابْنه عبد الْعَزِيز على الأندلس فثار عَلَيْهِ حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع وَقَتله بإغراء سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَتقدم أَيْضا مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى كُلْثُوم بن عِيَاض عِنْد قدومه القيروان من التوعد حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى مقاتلتهما
وَلما قتل حبيب هَذَا فِي وقْعَة كُلْثُوم الْمُتَقَدّمَة كَانَ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن حبيب صَاحب التَّرْجَمَة فِي جملَة أَصْحَاب بلج الناجين إِلَى سبتة وَلما قتل أَصْحَاب بلج عبد الْملك بن قطن الفِهري وصلبوه كَمَا مر فارقهم(1/172)
عبد الرَّحْمَن هَذَا لما صَنَعُوا بِابْن عَنهُ وعزم على الطّلب بدمه فَاجْتمع إِلَيْهِ نَحْو مائَة ألف من عرب الأندلس وبربرها وَعمد إِلَى بلج فَقتله فِي خبر طَوِيل
ثمَّ حاول عبد الرَّحْمَن التغلب على الأندلس فَلَمَّا قدم أَبُو الخطار واليا عَلَيْهَا من قبل حَنْظَلَة بن صَفْوَان أيس مِنْهَا وَركب الْبَحْر إِلَى الْمغرب فاحتل بتونس فِي جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَقد توفّي هِشَام وَولي الْخلَافَة بعده الْوَلِيد بن يزِيد الْفَاسِق فَدَعَا عبد الرَّحْمَن أهل تونس إِلَى نَفسه فَأَجَابُوهُ وَبلغ ذَلِك حَنْظَلَة صَاحب القيروان فكره قتال الْمُسلمين وَسَفك دِمَائِهِمْ فَبعث إِلَيْهِ جمَاعَة من وُجُوه الْجند يَدعُونَهُ إِلَى الطَّاعَة فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ انتهز الفرصة وأوثقهم فِي الْحَدِيد وَأَقْبل بهم إِلَى القيروان فِيمَن اجْتمع إِلَيْهِ وَأرْسل إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ يُحَذرهُمْ قِتَاله وَيَقُول إِن رميتم وَلَو بحجرة قتلت من فِي يَدي فأحجموا عَنهُ ضنا بأشرافهم عَن الْقَتْل وَعلم بذلك حَنْظَلَة فارتحل إِلَى الْمشرق سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَدخل عبد الرَّحْمَن القيروان فَتمكن مِنْهَا وَاسْتولى على الْمغرب وَهُوَ أول متغلب عَلَيْهِ قَالُوا وَلما ولي مَرْوَان بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالحمار الْخلَافَة بعث إِلَيْهِ بعهده وَكَانَ أَمر البربر يَوْمئِذٍ قد تفاقم وداء الخارجية قد أعضل ورؤوسها قد نبغت فِي كل جِهَة فانتقضوا من أَطْرَاف الْبِقَاع وتواثبوا على الْأَمر بِكُل مَكَان داعين إِلَى بدعتهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك مِنْهُم صنهاجة فَإِنَّهُم التفوا على كَبِيرهمْ ثَابت الصنهاجي وتغلبوا على باجة وثارت هوارة بطرابلس ملتفين على رئيسهم عبد الْجَبَّار والْحَارث وَغير هَؤُلَاءِ وَكَانُوا على مَذْهَب الإباضية فَقتلُوا عَامل طرابلس بكر بن عِيسَى الْقَيْسِي لما خرج يَدعُوهُم إِلَى السّلم وَعظم الْخطب فزحف إِلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن حبيب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فظفر بالصنهاجي والهواري وقتلهما وَقل جموعهما ثمَّ زحف إِلَى عُرْوَة بن الْوَلِيد الصفري وَكَانَ قد ثار بتونس فَقتله واستأصل الثوار وَانْقطع أَمر الْخَوَارِج من(1/173)
إفريقية ثمَّ زحف سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة إِلَى جموع من البربر وَكَانُوا قد تجمعُوا بنواحي تلمسان فظفر بهم وفل جمعهم وَرجع ثمَّ أغزى جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى صقلية وَآخر إِلَى سردانية فأثخنوا فِي أُمَم الفرنج حَتَّى أذعنوا للجزية ودوخ عبد الرَّحْمَن أَرض الْمغرب وأذل المعاندين إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
وَأما أهل الأندلس فَإِنَّهُم كَانُوا قد خلعوا أَبَا الخطار وولوا عَلَيْهِم ثوبة بن سَلامَة الجذامي قَالَ ابْن بشكوال لما اتَّفقُوا عَلَيْهِ خاطبوا بذلك عبد الرَّحْمَن بن حبيب فَكتب إِلَيْهِ بعهده وَذَلِكَ سلخ رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة فضبط الْبِلَاد وَاسْتمرّ واليا سنتَيْن أَو نَحْوهمَا ثمَّ هلك وَولى أهل الأندلس عَلَيْهِم يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن بن حبيب وَهُوَ ابْن صَاحب التَّرْجَمَة ذكر الرَّازِيّ أَن مولده كَانَ بالقيروان وَأَنه لما استولى أَبوهُ على الْمغرب خرج يُوسُف هَذَا مغاضبا لَهُ لأمر اقْتضى ذَلِك فَقدم الأندلس واستوطنها وساد بهَا فأقامه أَهلهَا واليا عَلَيْهِم بعد أَمِيرهمْ ثوابة وَقد مَكَثُوا فوضى أَرْبَعَة أشهر وَكَانَ اجْتِمَاعهم عَلَيْهِ بِإِشَارَة الصميل بن حَاتِم الْكلابِي فاستبد يُوسُف بالأندلس وضبطها إِلَى أَن دخل عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي الْمَعْرُوف بالداخل فانتزعها مِنْهُ وأورثها بنيه كَمَا سَيَأْتِي
دُخُول عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي إِلَى إفريقية وجوازه إِلَى الأندلس وتأسيسه للدولة الأموية بهَا
وَلما اسْتَقر قدم الدولة العباسية بالمشرق وانقرض أَمر بني أُميَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وذهبوا فِي كل وَجه أفلت عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة هَذَا وَقصد(1/174)
الْمغرب فاجتاز بالقيروان وَبهَا عبد الرَّحْمَن بن حبيب صَاحب التَّرْجَمَة فارتاب بِهِ وعزم على قَتله فنجا الْأمَوِي إِلَى الأندلس وَكَانَ من أمره مَا كَانَ
ذكر ابْن حَيَّان أَن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي سَار حَتَّى أَتَى إفريقية فنزلها وَقد سبقه إِلَيْهَا جمَاعَة من فل بني أُميَّة وَكَانَ عِنْد صَاحبهَا عبد الرَّحْمَن بن حبيب يَهُودِيّ حدثاني قد صحب مسلمة بن عبد الْملك فَكَانَ يتكهن لَهُ ويخبره بتغلب الْقرشِي وَملكه الأندلس ويرثها عقبه من بعده وَأَن اسْمه عبد الرَّحْمَن وَهُوَ ذُو ضفيرتين وَمن بَيت الْملك فَاتخذ الفِهري ضفيرتين أرسلهما رَجَاء أَن تناله الرِّوَايَة فَلَمَّا جِيءَ إِلَيْهِ بِعَبْد الرَّحْمَن الْأمَوِي وَرَأى ضفيرتيه قَالَ لِلْيَهُودِيِّ هُوَ هَذَا وَأَنا قَاتله فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ إِن قتلته فَمَا هُوَ بِهِ وَإِن غلبت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَهو
وَثقل فل بني أُميَّة على ابْن حبيب فطرد كثيرا مِنْهُم خوفًا على ملكه ثمَّ تجنى على ابْنَيْنِ للوليد بن يزِيد كَانَ قد استجار بِهِ فَقَتَلَهُمَا وَأخذ مَالا كَانَ مَعَ إِسْمَاعِيل بن أبان بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان وغلبه على أُخْته فَتَزَوجهَا غصبا وَطلب عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل فاختفى كَذَا لِابْنِ حَيَّان
وَعند ابْن خلدون أَن الْأُخْت الْمَذْكُورَة زَوجهَا عبد الرَّحْمَن من أَخِيه إلْيَاس بن حبيب وَلما قتل ابْني عَمها امتعضت لذَلِك وأغرت زَوجهَا واستفسدته على أَخِيه حَتَّى قَتله كَمَا نذْكر وَذَلِكَ أَنه لما انتظم أَمر الدولة العباسية بالمشرق وبويع السفاح ثمَّ الْمَنْصُور بعده كتب إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حبيب يَدعُوهُ إِلَى الطَّاعَة والبيعة فَأَجَابَهُ ودعا لَهُ وَبعث إِلَيْهِ بهدية فِيهَا بزاة وكلاب وَذهب قَلِيل وَذكر أَن إفريقية الْيَوْم إسلامية وَقد انْقَطع السَّبي فَغَضب الْمَنْصُور وَكتب إِلَيْهِ يتوعده وَبعث إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك بخلعه الْإِمَارَة فَنزع عبد الرَّحْمَن يَده من الطَّاعَة ومزق الخلعة على الْمِنْبَر فَوجدَ أَخُوهُ إلْيَاس بذلك السَّبِيل إِلَى مَا كَانَ يحاوله عَلَيْهِ وداخل وُجُوه الْجند فِي الفتك بِهِ وإعادة الدعْوَة للخليفة الْمَنْصُور ومالأه على ذَلِك أَخُوهُ عبد الْوَارِث بن حبيب وأحس عبد الرَّحْمَن مِنْهُمَا بِالشَّرِّ فَأمر إلْيَاس بِالْمَسِيرِ إِلَى تونس(1/175)
فأظهر الِامْتِثَال ثمَّ جَاءَ ليودعه وَمَعَهُ عبد الْوَارِث وَكَانَ عبد الرَّحْمَن مَرِيضا فدخلا عَلَيْهِ وَقَتله على فرَاشه آخر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة لعشر سِنِين وَسَبْعَة أشهر من تغلبه على الْمغرب
اسْتِيلَاء إلْيَاس بن حبيب على الْمغرب
لما فتك إلْيَاس بأَخيه عبد الرَّحْمَن معتدا عَلَيْهِ بخلعه طَاعَة الْخَلِيفَة فر ابْنه حبيب بن عبد الرَّحْمَن إِلَى تونس بعد أَن طلبوه وضبطوا أَبْوَاب الْقصر ليأخذوه فَلم يظفروا بِهِ وَكَانَ عَمه عمرَان بن حبيب واليا بتونس من قبل أَبِيه فلحق بِهِ وَتمّ الْأَمر لإلياس وَاسْتولى على القيروان ثمَّ زحف إِلَيْهِ عمرَان وحبِيب فِيمَن اجْتمع إِلَيْهِمَا وَخرج إلْيَاس للقائهم فَالْتَقوا واقتتلوا مَلِيًّا ثمَّ اصْطَلحُوا على أَن يكون لحبيب قفصة وقسطيلة وَسَائِر بِلَاد الجريد ولعمران تونس وسطفورة والجزيرة ولإلياس القيروان وَسَائِر إفريقية وَالْمغْرب وَتمّ هَذَا الصُّلْح سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَسَار حبيب إِلَى عمله من بِلَاد الجريد وارتحل إلْيَاس مَعَ أَخِيه عمرَان إِلَى تونس وَلما وصلا إِلَيْهَا غدر إلْيَاس بعمران فَقتله وَقتل جمَاعَة من الْأَشْرَاف مَعَه وَقيل غربه إِلَى الأندلس وَعَاد هُوَ إِلَى القيروان فَبعث بِطَاعَتِهِ إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور مَعَ قَاضِي إفريقية عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم وَصفا لَهُ أَمر الْمغرب وَثقل عَلَيْهِ مَكَان حبيب فاحتال عَلَيْهِ حَتَّى أركبه الْبَحْر إِلَى الأندلس وأركب مَعَه أَخَاهُ عبد الْوَارِث فردهم قاصف من الرّيح إِلَى طبرقة وَكَتَبُوا بخبرهم إِلَى إلْيَاس(1/176)
فلج فِي طردهم
وتسامعت موَالِي عبد الرَّحْمَن وشيعته بِابْن مَوْلَاهُم فتسارعوا إِلَيْهِ وأنزلوه من السفين والتفوا عَلَيْهِ وزحفوا بِهِ إِلَى تونس فملكوها وَخرج إلْيَاس لقتالهم فخالفوه إِلَى القيروان وملكوها عَلَيْهِ وفتقوا السجون فَرجع إلْيَاس لقتالهم وَقد فر أَكثر من مَعَه إِلَى حبيب وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ حول القيروان برز حبيب فَنَادَى يَا عَم لم نقْتل أولياءنا وضائعنا وهم جنتنا فَهَلُمَّ للبراز فأينا غلب ملك فصاح الجيشان بتصويب رَأْيه فبرزا وتضاربا حَتَّى عجب النَّاس من صبرهما ثمَّ قتل حبيب إلْيَاس وَدخل القيروان فملكها آخر سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فَكَانَت ولَايَة إلْيَاس نَحْو سنة وَنصف
وَفِي هَذِه السّنة استولى عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي على جَزِيرَة الأندلس انتزعها من يَد أميرها يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري وَهُوَ أَخُو حبيب الْمَذْكُور آنِفا
قَالَ ابْن حَيَّان كَانَ تغلب عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة المرواني على سَرِير الْملك بقرطبة يَوْم الْأَضْحَى لعشر خلون من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة واستقام أمره بالأندلس وَبنى الْمَسْجِد الْجَامِع وَالْقصر بقرطبة وَأنْفق فِيهِ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَمَات قبل تَمَامه ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل بَيته من الْمشرق وَكَانَ يَدْعُو للمنصور العباسي ثمَّ قطع دَعوته ومهد الدولة بالأندلس وأثل بهَا الْملك الْعَظِيم لبني مَرْوَان وَخرجت الأندلس من يَوْمئِذٍ عَن نظر صَاحب القيروان بل وَعَن نظر الْخَلِيفَة بالمشرق وَالله غَالب على أمره(1/177)
اسْتِيلَاء حبيب بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب وفتنة عَاصِم بن جميل المتنبئ ومقتله
لما قتل حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَمه إلْيَاس وَتمكن من القيروان طلب عَمه عبد الْوَارِث لمشاركته فِي دم أَبِيه كَمَا مر ففر عبد الْوَارِث إِلَى ورفجومة إِحْدَى بطُون نفزاو بن لوي من البرابرة البتر فَنزل على كَبِيرهمْ عَاصِم بن جميل وَكَانَ كَاهِنًا يَدعِي النُّبُوَّة فأجاره ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِم حبيب فأوقعوا بِهِ وهزموه إِلَى قابس
واستفحل أَمر عَاصِم وشايعه على شَأْنه من رجالات نفزاوة عبد الْملك بن أبي الْجَعْد الورفجومي وَيزِيد بن سكوم الولهاصي وَكَانَا على رَأْي الإباضية وانضمت إِلَيْهِم سَائِر نفزاوة واشتدت شوكتهم وَكَانَ قيامهم أَولا بدعوة الْخَلِيفَة الْمَنْصُور
وَلما بَقِي أهل القيروان فوضى بِسَبَب فرار أَمِيرهمْ إِلَى قابس كتب من بهَا من الْعَرَب إِلَى عَاصِم هَذَا يَدعُونَهُ للقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم بِشَرْط الدُّعَاء للمنصور فَأتى وَقَاتلهمْ فَهَزَمَهُمْ وَدخل القيروان عنْوَة واستباح أَهلهَا وَخرب مساجدها وأهانها ثمَّ سَار إِلَى حبيب بقابس بعد أَن اسْتخْلف على القيروان وَمن بَقِي بهَا من نفزاوة عبد الْملك ابْن أبي الْجَعْد فقاتل حبيبا وهزمه فلحق حبيب بجبل أورابن وَأَجَارَهُ أَهله ثمَّ زحف إِلَيْهِم عَاصِم فهزموه وقتلوه واستلحموا جمَاعَة من أَصْحَابه وَقَامَ بِأَمْر ورفجومة والقيروان من بعده عبد الْملك بن أبي الْجَعْد وَأهل القيروان أثْنَاء هَذَا كُله فِي غَايَة المذلة والهوان مَعَ البربر ثمَّ زحف حبيب إِلَى القيروان فبرز إِلَيْهِ عبد الْملك وَهزمَ حبيبا وَقَتله فِي الْمحرم سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة فَكَانَت ولَايَته نَحْو ثَلَاث سِنِين وانقرض بمقتله أَمر آل عقبَة من الْمغرب والبقاء لله وَحده(1/178)
اسْتِيلَاء عبد الْملك بن أبي الْجَعْد على الْمغرب
لما قتل عبد الْملك بن أبي الْجَعْد الورنجومي حبيب بن عبد الرَّحْمَن الفِهري رَجَعَ فِي جموع البربر إِلَى القيروان فملكها وَأمر أَمر ورفجومة واستطالوا على أهل القيروان وَقتلُوا من بهَا من قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب حَيْثُ وجدوا وعاملوهم مُعَاملَة المكناسيين لآل إِدْرِيس وَاسْتَحَلُّوا من الحرمات مَا لم يستحله عَاصِم بن جميل قبلهم حَتَّى لقد ربطوا دوابهم بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع وَاشْتَدَّ الْبلَاء على أهل القيروان وافترقوا فِي النواحي فِرَارًا بِأَنْفسِهِم وشاع خبرهم فِي الْآفَاق فَحِينَئِذٍ قَامَ أَبُو الْخطاب عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الغافري من رجالات الْعَرَب وَكَانَ على رَأْي الإباضية بأحواز طرابلس مُنْكرا لفعل ورفجومة ومغيرا عَلَيْهِم حَسْبَمَا نذْكر
اسْتِيلَاء عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح على الْمغرب وَظُهُور الصفرية من آل مدرار المكناسيين وبناؤهم مَدِينَة سجلماسة
كَانَ أَبُو الْخطاب عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الْمعَافِرِي من وُجُوه الْعَرَب وَكَانَ على رَأْي الإباضية كَمَا قنلا وَلما بلغه مَا ارتكبته ورفجومة من أهل القيروان امتعض لذَلِك وَقَامَ محتسبا عَلَيْهِم وشايعه على ذَلِك برابرة طرابلس
وَتَوَلَّى كبر ذَلِك هوارة مِنْهُم وهوارة إِحْدَى بطُون أوريغة من البرانس فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَتقدم بهم إِلَى طرابلس فملكها ثمَّ زحف إِلَى القيروان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة فَخرج إِلَيْهِ عبد الْملك بن أبي الْجَعْد فِي جموعة فانخزل عَنهُ أهل القيروان لما نالهم من عسفه وعسف قومه فَانْهَزَمَ وَقتل
وَاسْتولى أَبُو الْخطاب على القيروان وأثخن فِي جموع عبد الْملك من(1/179)
ورفجومة وَسَائِر نفزاوة ثمَّ ولى على القيروان عبد الرَّحْمَن بن رستم الْفَارِسِي وَهُوَ من أَبنَاء رستم أَمِير الْفرس يَوْم الْقَادِسِيَّة كَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا من موَالِي الْعَرَب وَمن رُؤُوس هَذِه الْبِدْعَة فاستخلفه أَبُو الْخطاب على القيروان وَرجع هُوَ إِلَى طرابلس للقاء العساكر القادمة من جِهَة الْخَلِيفَة الْمَنْصُور على مَا نذكرهُ
وَلما حصل هَذَا الِاضْطِرَاب بالمغرب اجْتمعت الصفرية من مكناسة بِنَاحِيَة الْمغرب الْأَقْصَى فنقضوا طَاعَة الْعَرَب وولوا عَلَيْهِم عِيسَى بن يزِيد الْأسود من موَالِي الْعَرَب ورؤوس الْخَوَارِج واختطوا مَدِينَة سجلماسة سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة من الْهِجْرَة وَدخل سَائِر مكناسة من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة فيدينهم واقتطعوا سجلماسة وأعمالها عَن نظر الْوُلَاة بالقيروان
وَمن هَذَا الِاجْتِمَاع نشأت دولة بني مدرار مُلُوك سجلماسة فَإِن صفرية مكناسة لما بَايعُوا عِيسَى بن يزِيد أَقَامَ أَمِيرا عَلَيْهِم نَحْو خمس عشرَة سنة ثمَّ سخطوا إمرته ونقموا عَلَيْهِ بعض أَحْوَاله فعمدوا إِلَيْهِ وأوثقوه كتافا ووضعوه على قنة حَبل إِلَى أَن هلك سنة خمس وَخمسين وَمِائَة واجتمعوا بعده على كَبِيرهمْ أبي الْقَاسِم بن سمكو بن واسول المكناسي الصفري كَانَ أَبوهُ سمكو من حَملَة الْعلم ارتحل إِلَى الْمَدِينَة فَأدْرك التَّابِعين وَأخذ عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس قَالَه عريب بن حميد الْقُرْطُبِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَ عِكْرِمَة بربري الأَصْل كَمَا عِنْد ابْن خلكان قَالَ وَقد تكلم النَّاس فِيهِ لِأَنَّهُ(1/180)
كَانَ يرى رَأْي الْخَوَارِج وَكَانَ أَبُو الْقَاسِم الْمَذْكُور صَاحب ماسية وَهُوَ الَّذِي بَايع لعيسى بن يزِيد وَحمل قومه على طَاعَته فَلَمَّا خلعوا عِيسَى بَايعُوا أَبَا الْقَاسِم من بعده وَقَامَ بأمرهم إِلَى أَن هلك سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة
وَكَانَ يخْطب فِي عمله للمنصور ثمَّ للمهدي من بني الْعَبَّاس وَلما هلك ولوا عَلَيْهِم ابْنه إلْيَاس بن أبي الْقَاسِم وَكَانَ يدعى بالوزير ثمَّ انتفضوا عَلَيْهِ سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة فخلعوه وولوا مَكَانَهُ أَخَاهُ اليسع بن أبي الْقَاسِم وكنيته أَبُو مَنْصُور وَكَانَ صفريا وعَلى عَهده استفحل ملكهم بسجلماسة وَهُوَ الَّذِي أدَار سورها وَأتم بناءها واختط بهَا المصانع والقصور وانتقل إِلَيْهَا آخر الْمِائَة الثَّانِيَة وَهلك سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَولى بعده ابْنه مدرار ولقبه الْمُنْتَصر وطالت مدَّته وَكَانَ لَهُ ولدان كل مِنْهُمَا اسْمه مَيْمُون أَحدهمَا لأروى بنت عبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت وَالْآخر لبغي وَكَانَ يعرف بالأمير فتنازعا وتداولا الْأَمر بَينهمَا استبدادا على أَبِيهِمَا ودامت الْحَرْب بَينهمَا ثَلَاث سِنِين وَهلك أَبوهُمَا مدرار سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ فِي نوبَة مَيْمُون الْأَمِير وَاسْتمرّ مَيْمُون هَذَا فِي استبداده إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَولي ابْنه مُحَمَّد بن مَيْمُون وَكَانَ إباضيا وَتُوفِّي سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ فولي اليسع بن الْمُنْتَصر
وَفِي أَيَّامه قدم عبيد الله الْمهْدي أول خلفاء العبديين من الشِّيعَة وَابْنه أَبُو الْقَاسِم من الْمشرق فدخلا سجلماسة متنكرين وَكَانَ الْخَلِيفَة المعتضد بِاللَّه العباسي قد أوعز إِلَى اليسع هَذَا بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا فَنقبَ عَنْهُمَا وَقبض عَلَيْهِمَا وأودعهما السجْن إِلَى أَن افتكهما مُقيم دولتهما أَبُو عبد الله الشيعي الْمَعْرُوف بالمحتسب فَإِنَّهُ اقتحم سجلماسة فِي خبر مَعْرُوف وَأخرج عبيد الله وَابْنه من السجْن وَقتل اليسع سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ(1/181)
ثمَّ بَايع أهل سجلماسة من بعده الْفَتْح بن مَيْمُون الْأَمِير وَكَانَ أباضيا وَهلك على رَأس الْمِائَة الرَّابِعَة فولي أَخُوهُ أَحْمد بن مَيْمُون الْأَمِير واستقام أمره إِلَى أَن زحف مصالة بن حبوس الكتامي قَائِد الشِّيعَة العبديين فِي جموع كتامة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة تسع وثلاثمائة فدوخه وَأخذ أَهله بدعوة صَاحبه عبيد الله الْمهْدي وافتتح سجلماسة وتقبض على صَاحبهَا أَحْمد بن مَيْمُون الْأَمِير ثمَّ ولى عَلَيْهَا من قبله مُحَمَّد بن بسادر بن مدرار فَلم يلبث أَن استبد على الشِّيعَة وتلقب بالمعتز وَهلك سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة وَولي ابْنه الْمُنْتَصر مُحَمَّد بن المعتز فَمَكثَ عشرا وَهلك وَولي ابْنه الْمُنْتَصر سمكو شَهْرَيْن وَكَانَت جدته تدبر أمره لصغره
ثمَّ ثار عَلَيْهِ ابْن عَمه مُحَمَّد بن الْفَتْح بن مَيْمُون الْأَمِير ورفض الخارجية ونادى بالدعوة العباسية وَأخذ بِمذهب أهل السّنة وتلقب بالشاكر لله وَاتخذ السِّكَّة باسمه فَكَانَت تسمى بِالدَّرَاهِمِ الشاكرية
قَالَ ابْن حزم وَكَانَ فِي غَايَة الْعدْل وَكَانَت سكته فِي غَايَة الطّيب وَاسْتمرّ إِلَى أَن زحف جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد الْمعز العبيدي فِي جموع صنهاجة وكتامة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وفر عَنْهَا مُحَمَّد بن الْفَتْح إِلَى حصن تسكرات على أَمْيَال مِنْهَا ثمَّ دخل سجلماسة متنكرا فَعرفهُ رجل من مضغرة وَأعلم بِهِ جوهرا فتقبض عَلَيْهِ وَسَاقه أَسِيرًا مَعَ أَحْمد بن أبي بكر الزناتي صَاحب فاس إِلَى المهدية كَمَا نذكرهُ
ثمَّ لما انْتقض الْمغرب على الشِّيعَة وَأخذ زناته بِطَاعَة الحكم الْمُسْتَنْصر صَاحب الأندلس ثار بسجلماسة قَائِم من ولد الشاكر لله وتلقب بالمنتصر(1/182)
بِاللَّه ثمَّ وثب عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو مُحَمَّد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة فَقتله وَقَامَ بِالْأَمر مَكَانَهُ وتلقب بالمعتز بِاللَّه وَأقَام على ذَلِك مُدَّة وَأمر مكناسة يَوْمئِذٍ قد تداعى إِلَى الانحلال وَأمر زناتة قد استفحل بالمغرب إِلَى أَن زحف خزرون بن فلول الزناتي ثمَّ المغرواي إِلَى سجلماسة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فبرز إِلَيْهِ ابو مُحَمَّد المعتز فَهزمَ خزرون وَقَتله وَاسْتولى على بَلَده وذخيرته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ ذَلِك لأوّل حجابة الْمَنْصُور بن أبي عَامر المستبد على بني أُميَّة بالأندلس وانقرض أَمر بني مدرار والبقاء لله
وَقد لخصنا هَذِه الدولة المدرارية من كتاب العبر وسردناها هُنَا اسْتِطْرَادًا ثمَّ نعود إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
ولَايَة مُحَمَّد بن الْأَشْعَث على الْمغرب
لما ارتكبت ورفجومة من أهل القيروان مَا ارتكبته وَفد جمَاعَة من رجالات الْعَرَب بهَا على الْخَلِيفَة الْمَنْصُور واستصرخوه على الْخَوَارِج وَشَكوا إِلَيْهِ تسلقهم على كرْسِي الْإِمَارَة بالقيروان فَوجه الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْخُزَاعِيّ واليا على مصر وَأمره باستنقاذ إفريقية من البربر فَوجه مُحَمَّد بن الْأَشْعَث أَبَا الْأَحْوَص عَمْرو بن الْأَحْوَص الْعجلِيّ سنة اثْنَتَيْنِ واربعين وَمِائَة فَخرج إِلَيْهِ أَبُو الْخطاب الْمعَافِرِي وهزمه بسرت قَرِيبا من طرابلس وَاسْتولى على عسكره
وَرجع أَبُو الْأَحْوَص مفلولا إِلَى مصر فَكتب الْمَنْصُور إِلَى ابْن الْأَشْعَث(1/183)
يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمغرب بِنَفسِهِ فَسَار إِلَيْهِ فِي أَرْبَعِينَ ألفا وَمَعَهُ الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي فَلَقِيَهُمْ أَبُو الْخطاب بسرت أَيْضا فأوقع بِهِ ابْن الْأَشْعَث وَقَتله واستلحم جموعه
وطار الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الرَّحْمَن بن رستم بمكانه من القيروان فَاحْتمل أَهله وَولده وَلحق بإباضية الْمغرب الْأَوْسَط وَنزل على لماية بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضرى من البتر لحلف كَانَ بَينه وَبينهمْ فالتفوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوا لَهُ بالخلافة وتفاوضوا فِي بِنَاء مَدِينَة تكون كرسيا لإمارتهم شَأْن الصفرية من بني مدرار فشرعوا فِي بِنَاء مَدِينَة تاهرت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة فعمرت واتسعت خطتها وتوارثها بَنو رستم واقتطعوها عَن نظر وُلَاة الْمغرب
وَكَانَ يسلم عَلَيْهِم بالخلافة على مَا هُوَ الْمَعْرُوف منذهب الْخَوَارِج إِلَى أَن انقرضت دولتهم على يَد العبيديين أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة
وَأما ابْن الْأَشْعَث فَإِنَّهُ اسْتَقر بالقيروان غرَّة جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَشرع فِي بِنَاء سورها فِي ذِي الْقعدَة من السّنة وَتمّ فِي رَجَب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَضبط الْمغرب أحسن ضبط وافتتح طرابلس وَاسْتعْمل عَلَيْهَا الْمخَارِق بن غفار الطَّائِي وعَلى طبنة والزاب الْأَغْلَب بن سَالم وخافه البربر
ثمَّ ثار عَلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى بن عجلَان الْخُرَاسَانِي أحد الْجند فِي جمَاعَة من قواد مُضر ونفوه عَن القيروان فقفل إِلَى الْمشرق ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة فَكَانَت ولَايَته نَحْو أَربع سِنِين(1/184)
ولَايَة الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي على الْمغرب
لما قفل ابْن الْأَشْعَث إِلَى الْمشرق ولى جند مُضر عَلَيْهِم عِيسَى بن مُوسَى الْخُرَاسَانِي واتصل بالمنصور مَا فعله قواد مُضر من ذَلِك فَبعث إِلَى الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي ثمَّ السَّعْدِيّ بعهده على الْمغرب والأغلب هَذَا هُوَ جد الأغالبة مُلُوك أفريقية من بعده على الْمغرب وَكَانَ من ذَوي الشجَاعَة والرأي وَمن صِحَاب أبي مُسلم بخراسان فَدخل الْمغرب مَعَ ابْن الْأَشْعَث وَاسْتَعْملهُ على طبنة كَمَا مر فَلَمَّا وافاه عهد الْخَلِيفَة أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة انْتقل إِلَى القيروان وأمنها واستقام أمره
ثمَّ خرج عَلَيْهِ أَبُو قُرَّة ين دوناس اليفرني وَيُقَال المغيلي من الصفرية والتفت عَلَيْهِ زناتة بِجِهَة تلمسان وَبَايَعُوا لَهُ بالخلافة واستفحل أمره فزحف إِلَيْهِ الْأَغْلَب فَلَمَّا دنا مِنْهُ فر أَبُو قُرَّة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فَلم يقف إِلَّا بطنجة وانْتهى الْأَغْلَب إِلَى الزاب ثمَّ عَاد إِلَى القيروان فَعَاد أَبُو قُرَّة إِلَى وَطنه من تلمسان
وَفِي سنة خمسين وَمِائَة خرج الْأَغْلَب لقِتَال الصفرية فتثاقل عَنهُ طَائِفَة من الْجند وَلما أوغل فِي طلب الصفرية ثار عَلَيْهِ الْحسن بن حَرْب الْكِنْدِيّ وَكَانَ بتونس وَلحق بِهِ المتثاقلون من الْجند وَكَانَ تثاقلهم عَن الْأَغْلَب بمكاتبة الْحسن إيَّاهُم فِي ذَلِك فَأقبل بهم إِلَى القيروان وَاسْتولى عَلَيْهَا وَلحق الْأَغْلَب بقابس وَكَاتب الْحسن يرغبه فِي الطَّاعَة فَلم يقبل ثمَّ وافى كتاب الْمَنْصُور يَدْعُو الْحسن إِلَى الطَّاعَة فَأبى فصمد إِلَيْهِ الْأَغْلَب واقتتلا فَانْهَزَمَ الْحسن وفر إِلَى تونس وَجمع الجموع وَرجع فَخرج إِلَيْهِ الْأَغْلَب فاصابه سهم فَقتله فَقدم أَصْحَابه عَلَيْهِم الْمخَارِق بن غفار الطَّائِي الَّذِي كَانَ على طرابلس وحملوا على الْحسن فَانْهَزَمَ أمامهم إِلَى تونس ثمَّ لحق بكتامة وخيل الْمخَارِق فِي اتِّبَاعه ثمَّ رَجَعَ إِلَى تونس بعد شَهْرَيْن فَقتله الْجند(1/185)
وَقيل إِن أَصْحَاب الْأَغْلَب قَتَلُوهُ فِي الْوَقْت الَّذِي قتل فِيهِ الْأَغْلَب وَكَانَ مقتل الْأَغْلَب فِي شعْبَان سنة خمسين وَمِائَة
وَقَامَ بِأَمْر إفريقية الْمخَارِق بن غفار إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
ولَايَة عمر بن حَفْص هزارمرد على الْمغرب
لما بلغ الْخَلِيفَة الْمَنْصُور مقتل الْأَغْلَب بن سَالم وَجه مَكَانَهُ عمر بن حَفْص من ولد قبيصَة بن أبي صفرَة أخي الْمُهلب بن أبي صفرَة فَقدم القيروان فِي خَمْسمِائَة فَارس سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة فاستقامت أُمُوره ثَلَاث سِنِين ثمَّ خرج إِلَى طبنة لإدارة السُّور عَلَيْهَا واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي فثار البربر بإفريقية لما علمُوا من بعد الحامية عَنْهَا وغلبوا على من كَانَ بهَا وزحفوا إِلَى القيروان فَخرج إِلَيْهِم حبيب فهزموه وقتلوه وثار البربر الإباضية بطرابلس وولوا عَلَيْهِم أَبَا حَاتِم يَعْقُوب بن لَبِيب المغيلي مولى كِنْدَة
وتسامعت بِهِ خوارج الْمغرب فانقضوا من كل نَاحيَة ونبغت رُؤُوس الْفِتْنَة من كل وَجه وعادت هيف إِلَى أديانها وَكَانَت هَذِه الْفِتْنَة هِيَ زبدة الْفِتَن الَّتِي مخضتها الْخَوَارِج بالمغرب من لدن ميسرَة الخفير إِلَى الْآن فَإِنَّهُم زحفوا إِلَى عمر بن حَفْص وَهُوَ بطبنة من أَرض الزاب فِي اثْنَي عشر عسكرا فَكَانَ مِنْهُم أَبُو قُرَّة اليفرني من أَرْبَعِينَ ألفا من الصفرية وَعبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت فِي خَمْسَة عشر ألفا من الإباضية والمسور بن هَانِئ الزناتي فِي عشرَة آلَاف من الإباضية أَيْضا وَعبد الْملك بن سكرديد الصنهاجي فِي الفين من صنهاجة الصفرية وَجَرِير بن مَسْعُود المديوني فِيمَن تبعه من مديونة وانضم إِلَيْهِم غير هَؤُلَاءِ من خوارج هوارة وزناتة مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة
وَلما اشْتَدَّ الْحصار على عمر بن حَفْص أعمل الْحِيلَة فِي إِيقَاع الْخلاف(1/186)
بَينهم ودافعهم بالأموال وَأرْسل إِلَى أبي قُرَّة على يَد ابْنه أبي نور أَن يُعْطِيهِ أَرْبَعِينَ ألفا ولابنه أَرْبَعَة آلَاف على أَن يرتحل عَنهُ فَقبل وارتحل بقَوْمه وانفض البربر عَن طبنه
ثمَّ سَار أَبُو حَاتِم يَعْقُوب بن لَبِيب إِلَى القيروان وحاصرها ثَمَانِيَة أشهر حَتَّى أكل أَهلهَا الْميتَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على أهل القيروان خرج عمر بن حَفْص من طبنة يُرِيد أَبَا حَاتِم الإباضية الَّذين مَعَه وَبلغ أَبَا حَاتِم وَأَصْحَابه وهم محاصرون للقيروان مسير عمر بن حَفْص إِلَيْهِم فَسَارُوا للقائه فَمَال هُوَ من الأربس إِلَى تونس ثمَّ جَاءَ إِلَى القيروان فَدَخلَهَا واستعد للحصار وشحنها بالأقوات وَالرِّجَال وَأتبعهُ أَبُو حَاتِم والبربر وَأَبُو قُرَّة مَعَهم فِي قومه وَكَانُوا فِي ثَلَاثمِائَة وَخمسين ألفا الْخَيل مِنْهُم خَمْسَة وَثَمَانُونَ ألفا وَالْبَاقِي رجالة وَأَحَاطُوا بالقيروان وَعمر بن حَفْص داخلها وَطَالَ الْحصار ثمَّ بلغه الْخَبَر أَن الْمَنْصُور وَجه لاستنقاذه ابْن عَمه يزِيد بن حَاتِم المهلبي فَأَنف من ذَلِك وَقَالَ لَا خير فِي الْحَيَاة بعد أَن يُقَال يزِيد أخرجه من الْحصار إِنَّمَا هِيَ رقدة ثمَّ ابْعَثْ إِلَى الْحساب وَخرج عمر فقاتل حَتَّى قتل أواسط حجَّة سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة
وَكَانَ عمر هَذَا بطلا سَمحا يلقب هزارمرد وَهُوَ لفظ فَارسي مَعْنَاهُ ألف رجل
ثمَّ ولى النَّاس عَلَيْهِم أَخَاهُ لأمه حميد بن صَخْر وانقضى الْحصار وأحرق أَبُو حَاتِم أَبْوَاب القيروان وثلم سورها وَخرج أَكثر الْجند إِلَى طبنة وَدخل أَبُو حَاتِم القيروان فاستولى عَلَيْهَا وَيُقَال إِن ابْن صَخْر وادعه على مَا أحب وَالله تَعَالَى أعلم(1/187)
ولَايَة يزِيد بن حَاتِم على الْمغرب
لما بلغ الْمَنْصُور انْتِقَاض إفريقية على عمر بن حَفْص وحصاره بطبنة أَولا ثمَّ بالقيروان ثَانِيًا بعث إِلَيْهِ يزِيد بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب بن أبي صفرَة فِي سِتِّينَ ألفا وَبلغ خَبره عمر بن حَفْص فَحَمله ذَلِك على الاستماتة كَمَا تقدم
وَبلغ أَبَا حَاتِم وَهُوَ بالقيروان مسير يزِيد بن حَاتِم إِلَيْهِ فَخرج للقائه فَلَقِيَهُ يزِيد بن حَاتِم بنواحي طرابلس واقتتلوا قتالا شَدِيدا فَانْهَزَمَ البربر وَقتل أَبُو حَاتِم فِي ثَلَاثِينَ ألفا من أَصْحَابه وتتبعهم يزِيد بِالْقَتْلِ طلبا بِدَم عمر بن حَفْص
ثمَّ ارتحل إِلَى القيروان فَدَخلَهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر مَضَت من جُمَادَى الأولى سنة خمس وَخمسين وَمِائَة فمهدها ورتب أسواقها وأفرد لكل صناعَة مَكَانا وجدد بِنَاء جَامعهَا وَضبط الْأُمُور أحسن ضبط
وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن حبيب بن عبد الرَّحْمَن الفِهري مَعَ أبي حَاتِم فلحق بكتامة فَبعث يزِيد فِي طلبه الْمخَارِق بن غفار فحاصره ثَمَانِيَة أشهر ثمَّ غلب عَلَيْهِ فَقتل جمَاعَة مِمَّن مَعَه وهرب الْبَاقُونَ فِي كل نَاحيَة وَنَجَا هُوَ إِلَى الأندلس
وَبعث يزِيد الْمخَارِق أَيْضا على الزاب فَنزل طبنة وأثخن فِي البربر وأوقع بهم وقائع عَظِيمَة
وَكَانَت حروب الْخَوَارِج مَعَ الْعَرَب مُنْذُ انتفضوا على عمر بن حَفْص إِلَى انْقِضَائِهَا ثَلَاثمِائَة وخمسا وَسبعين حَربًا قَالَه ابْن خلدون
ثمَّ انتقضت ورفجومة سنة سبع وَخمسين وولوا عَلَيْهِم رجلا اسْمه أَبُو زرجونة فسرح إِلَيْهِم يزِيد بن حَاتِم من عشيرته يزِيد بن مجزأَة المهلبي فهزموه واستأذنه ابْنه الْمُهلب وَكَانَ على الزاب وطبنة فِي الزَّحْف إِلَى(1/188)
ورفجومة فَأذن لَهُ وأمده بِالْعَلَاءِ بن سعيد بن مَرْوَان المهلبي من عشيرتهم أَيْضا فأوقع بهم وقتلهم أَبْرَح قتل
وانتقضت نفزاوة من بعد ذَلِك فِي سلطنة ابْنه دَاوُد بن يزِيد فاستأصلهم قتلا أَيْضا فركدت ريح الْخَوَارِج من البربر وتداعت بدعتهم إِلَى الاضمحلال
قَالَ ابْن خلدون لم يزل أَمر الْخَوَارِج بالمغرب يَعْنِي أَيَّام يزِيد هَذَا فِي تنَاقض إِلَى أَن اضمحلت ديانتهم وافترقت جَمَاعَتهمْ وَبقيت آثَار نحلتهم فِي أعقاب البربر الَّذين دانوا بهَا فِي صدر الْإِسْلَام فَفِي بِلَاد زناتة بالصحراء مِنْهَا أثر بَاقٍ لهَذَا الْعَهْد وَكَذَلِكَ فِي جبال طرابلس أثر بَاقٍ من تِلْكَ النحلة وَالله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَاسْتمرّ يزِيد بن حَاتِم ضابطا لأمر إفريقية وَالْمغْرب إِلَى أَن توفّي بهَا يَوْم الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة سبعين وَمِائَة فِي خلَافَة هَارُون الرشيد العباسي فَكَانَت ولَايَته خمس عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَولى النَّاس عَلَيْهِم ابْنه دَاوُد إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
وَكَانَ يزِيد رَحمَه الله من السمحاء الأمجاد والفضلاء الأنجاد وكل بني الْمُهلب كَذَلِك وبهم ضرب الْمثل أَبُو مُحَمَّد الحريري فِي المقامات إِذْ قَالَ وَصَارَ الْأَدَب أعلق بِي من الْهوى ببني عذرة والشجاعة بآل أبي صفرَة وَقَالَ الشَّاعِر الحماسي
(نزلت على آل الْمُهلب شاتيا ... بَعيدا عَن الأوطان فِي الزَّمن الْمحل)
(فَمَا زَالَ بِي معروفهم وافتقادهم ... وبرهم حَتَّى حسبتهم أَهلِي)
فَأَما يزِيد هَذَا من بَينهم فحاله فِي الشجَاعَة وجودة الرَّأْي كَمَا رَأَيْت وَأما الْجُود والسخاء فَهُوَ فيهمَا الْمثل السائر كَانَ ربيع بن ثَابت الرقي الشَّاعِر مدح يزِيد بن أسيد بِالتَّصْغِيرِ السّلمِيّ وَهُوَ وَال على أرمينية فقصر فِي حَقه ثمَّ مدح يزِيد بن حَاتِم فَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَقَالَ ربيعَة من قصيدة
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليم والأغر بن حَاتِم)
(يزِيد سليم سَالم المَال والفتى ... فَتى الأزد للأموال غير مسالم)(1/189)
(فهم الْفَتى الْأَزْدِيّ إِتْلَاف مَاله ... وهم الْفَتى الْقَيْسِي جمع الدَّرَاهِم)
ولَايَة روح بن حَاتِم على الْمغرب
وَلما بلغ الرشيد وَفَاة يزِيد بن حَاتِم وَكَانَ أَخُوهُ روح واليا على فلسطين وَكَانَ أسن من يزِيد استقدمه وَعَزاهُ فِي أَخِيه وولاه على الْمغرب فَقدم القيروان منتصف سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَكَانَ يزِيد قبْلَة قد أذلّ الْخَوَارِج ومهد الْبِلَاد كَمَا قُلْنَا فَكَانَت أَرض الْمغرب سَاكِنة ايام روح وَرغب فِي موادعته عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت فوادعه
قَالَ ابْن خلدون وَفِي أَيَّام روح انخضذت شَوْكَة البربر واستكانوا للغلب وطاعوا للدّين فَضرب الْإِسْلَام بجرانه وَأَلْقَتْ الدولة المضرية على البربر بكلكلها اه كَلَام ابْن خلدون
وَفِي أَيَّام روح أَيْضا اجتاز الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله بِبِلَاد مصر وإفريقية ناجيا من وقْعَة فخ الَّتِي كَانَت بِمَكَّة لآل الْعَبَّاس على آل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم وَدخل مَدِينَة وليلى من الْمغرب الْأَقْصَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
قَالَ ابْن خلكان كَانَ روح بن حَاتِم من الكرماء الأجواد ولي لخمسة من الْخُلَفَاء السفاح والمنصور وَالْمهْدِي وَالْهَادِي والرشيد وَيُقَال إِنَّه لم يتَّفق مثل هَذَا إِلَّا لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ ولي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وللخلفاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم قَالَ وَكَانَ روح واليا على السَّنَد ولاه عَلَيْهَا الْمهْدي بن الْمَنْصُور فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ يزِيد بالقيروان وَدفن بِبَاب سلم قَالَ أهل إفريقية مَا أبعد مَا يكون بَين قَبْرِي هذَيْن الْأَخَوَيْنِ فَإِن أَخَاهُ بالسند وَهَذَا(1/190)
هُنَا فاتفق أَن الرشيد عزل روحا عَن السَّنَد وسيره إِلَى مَوضِع أَخِيه يزِيد فَدخل إفريقية أول رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَلم يزل واليا بهَا إِلَى أَن توفّي بهَا لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَدفن مَعَ أَخِيه يزِيد فِي قبر وَاحِد فَعجب النَّاس من هَذَا الِاتِّفَاق بعد ذَلِك التباعد رحمهمَا الله
ثمَّ ولي الْمغرب من قبل الرشيد حبيب بن نصر المهلبي ثمَّ عَزله سنة سبع وَسبعين وَمِائَة
وَولي على الْمغرب الْفضل روح بن حَاتِم وَقَتله عبد الله بن الْجَارُود منتصف سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وانقرضت بانقراضه دولة آل الْمُهلب من الْمغرب
ثمَّ ولى الرشيد على الْمغرب هرثمة بن أعين فَبنى الْقصر الْكَبِير بالمنستير وَبنى السُّور على طرابلس من جِهَة الْبَحْر وَلما رأى هرثمة مَا بالمغرب من كَثْرَة الثوار وَالْخلاف استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه لِسنتَيْنِ وَنصف من ولَايَته
ثمَّ ولى الرشيد على إفريقية مُحَمَّد بن مقَاتل العكي وَكَانَ رضيعا لَهُ فاضطربت عَلَيْهِ إفريقية وَبلغ الرشيد ذَلِك
وَطلب أهل إفريقية من إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَكَانَ من عُمَّال مُحَمَّد بن مقَاتل أَن يكْتب إِلَى الرشيد فِي الْولَايَة عَلَيْهِم فَكتب إِلَى الرشيد فِي ذَلِك على أَن يتْرك الْمِائَة ألف دِينَار الَّتِي كَانَت تحمل من مصر إِلَى إفريقية إِعَانَة(1/191)
للولاة بهَا وعَلى أَن يحمل هُوَ من إفريقية إِلَى الْخَلِيفَة أَرْبَعِينَ ألفا وَبلغ الرشيد غناؤه وكفايته فَاسْتَشَارَ فِيهِ أَصْحَابه فَأَشَارَ هرثمة بن أعين بولايته فَكتب لَهُ بالعهد على إفريقية منتصف أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة فَقَامَ إِبْرَاهِيم بِالْأَمر وَضبط الْبِلَاد فسكنت واستراحت من الْفِتَن وابتنى مَدِينَة العباسية قرب القيروان وانتقل إِلَيْهَا بجملته وأورث بإفريقية ملكا لِبَنِيهِ من بعده
وَفِي هَذِه الْمدَّة انقسم الْمغرب إِلَى ثَلَاث ممالك فَكَانَ بَنو الْأَغْلَب بإفريقية والقيروان وَبَنُو خزر المغراويون بالمغرب الْأَوْسَط وتلمسان وَبَنُو إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى
وَقبل أَن نفرد الْكَلَام عَلَيْهِ نذْكر فصلا نشِير فِيهِ إِلَى مَذَاهِب أهل الْمغرب ونحلهم على الْجُمْلَة وَالله الْمُوفق
القَوْل فِي مَذَاهِب أهل الْمغرب أصولا وفروعا وَمَا يتبع ذَلِك
قد تقدم لنا مَا قَالَه الشَّيْخ ابْن أبي زيد رَحمَه الله من أَن البربر ارْتَدُّوا اثْنَتَيْ عشرَة مرّة وَأَنه لم تَسْتَقِر كلمة الْإِسْلَام فيهم إِلَّا لعهد مُوسَى بن نصير وَبعد فَتحه الأندلس ثمَّ كمل إسْلَامهمْ على يَد إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر وَتقدم أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أرسل عشرَة من التَّابِعين يفقهُونَ أهل الْمغرب فِي دينهم فَكَانَ المغاربة فِي صدر الْإِسْلَام لذَلِك على مَذْهَب جُمْهُور السّلف من الْأمة واعتقادهم وَهُوَ الْمَذْهَب الْحق إِلَى أَن حدثت فيهم بِدعَة الخارجية لأوّل الْمِائَة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة نزع إِلَيْهِم بهَا بعض أهل النِّفَاق من خوارج الْعرَاق وبثوها فيهم فتلقوها مِنْهُم بِالْقبُولِ وَحسن موقعها لديهم بِسَبَب مَا كَانُوا يعانونه من ثقل وَطْأَة الْخلَافَة القريشية وجور بعض عمالها حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فلقنهم أهل الْبدع أَن الْخلَافَة لَا تشْتَرط فِيهَا القريشية بل وَلَا الْعَرَبيَّة وَأَن كل من كَانَ أتقى لله كَانَ أَحَق بهَا وَلَو عبدا حَبَشِيًّا على ظَاهر الحَدِيث ودسوا إِلَيْهِم مَعَ ذَلِك بعض(1/192)
تشديدات الْخَوَارِج وتعمقاتهم وأروهم مَا هم عَلَيْهِ من التصلب فِي دينهم فَظهر للبربر ببادئ الرَّأْي أَن تعمقهم ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أثر من آثَار الخشية لله وَالْخَوْف مِنْهُ وَأَن ذَلِك هُوَ عين التَّقْوَى الْمَأْمُور بهَا شرعا وَغَابَ عَنْهُم أَن الدّين يسر كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مِلَّة الْإِسْلَام عرفت من بَين الْملَل بالحنيفية السمحة لذَلِك وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَمن أمعن نظره فِي نُصُوص الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة علم يَقِينا أَن طَرِيق النجَاة إِنَّمَا هِيَ سلوك الْوسط وَإِن كلا من التعمق والانحلال ضلال وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} الْآيَة وَقد قرر جمع من الْأَئِمَّة المقتدى بهم كالغزالي فِي الْإِحْيَاء وَغَيره أَن الْمَحْمُود فِي أُمُور الديانَات كلهَا إِنَّمَا هُوَ سلوك الْوسط بَين الإفراط والتفريط وَبِه يتم مُرَاد الله من خلقه وكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَهَذَا مَبْحَث طَوِيل نَفِيس وَقد رمزنا إِلَيْهِ بِهَذِهِ النبذة الْيَسِيرَة والتوفيق بيد الله
وَقد رسخت هَذِه الْبِدْعَة الخارجية فِي البربر زَمَانا طَويلا إِلَى أَن اضمحلت فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَمَا بعْدهَا وَمَعَ ذَلِك فقد بقيت مِنْهَا آثَار فِي أَعْقَابهم من أَصْحَاب الْأَطْرَاف كَمَا ذكره ابْن خلدون والناقد بَصِير
وَلما طهر الْخُلَفَاء من بني الْعَبَّاس الْمغرب من هَذِه النزعة الشيطانية أَخذ أَهله بعْدهَا بمذاهب أهل الْعرَاق فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع لِأَن ذَلِك الْمَذْهَب يَوْمئِذٍ هُوَ مَذْهَب الْخُلَفَاء بالمشرق وَالنَّاس على قدم إمَامهمْ
قَالَ عِيَاض فِي المدارك ظهر مَذْهَب أبي حنيفَة بإفريقية ظهورا كَبِيرا إِلَى قرب أَرْبَعمِائَة سنة فَانْقَطع مِنْهَا وَدخل مِنْهُ شَيْء إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْمغرب قَدِيما بِمَدِينَة فاس وبالأندلس وَكَذَا ظهر بالأندلس أَيْضا مَذْهَب عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ من أهل الشَّام
وَاخْتلف النَّاس فِي السَّبَب الَّذِي انْتقل بِهِ أهل الْمغرب عَن مَذْهَب أبي حنيفَة وَغَيره إِلَى مَذْهَب الإِمَام مَالك بن أنس الَّذِي هُوَ مَذْهَب السّلف من(1/193)
أهل الْحجاز فَقَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة الْمعز بن باديس الصنهاجي الْمُتَوفَّى فِي أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة مَا نَصه كَانَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بإفريقية أظهر الْمذَاهب فَحمل الْمعز الْمَذْكُور جَمِيع أهل الْمغرب على التَّمَسُّك بِمذهب الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ وحسم مَادَّة الْخلاف فِي الْمذَاهب وَاسْتمرّ الْحَال من ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْآن اه
قلت كَانَ الْمعز هَذَا وأسلافه من صنهاجة بإفريقية على مَذْهَب الرافضة من الشِّيعَة أَخَذُوهُ عَن خلفائهم العبيديين أَيَّام استيلائهم على الْمغرب فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة وحملوا النَّاس عَلَيْهِ وامتحنوهم وطارت بدعتهم فِي أقطار الْمغرب كُله فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى الْمعز بن باديس الْمَذْكُور قطع دَعْوَة الشِّيعَة من إفريقية ودعا لبني الْعَبَّاس وَحمل النَّاس على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك عَالم الْمَدِينَة وَإِمَام دَار الْهِجْرَة
هَذَا وَالْمَعْرُوف أَن مَذْهَب مَالك ظهر أَولا بالأندلس ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى أَيَّام الأدارسة وَكَذَا ظهر بإفريقية ظهورا بَينا قبل وجود الْمغرب بِكَثِير بل قبل اسْتِيلَاء صنهاجة والعبيديين على الْمغرب وَذَلِكَ على يَد أَسد بن الْفُرَات وَعبد السَّلَام بن سعيد التنوخي الْمَعْرُوف بسحنون وَغَيرهمَا من أَئِمَّة المغاربة ثمَّ لما ظَهرت دولة الشِّيعَة بإفريقية حاولوا محوه فَلم يَتَيَسَّر لَهُم ذَلِك وَكَانَ فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة فِي ذَلِك الْعَصْر مَعَهم فِي محنة عَظِيمَة مِنْهُم ابْن أبي زيد والقابسي وَأَبُو عمرَان الفاسي وطبقتهم وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن نَصره الْمعز الْمَذْكُور جزاه الله خيرا قَالُوا وَكَانَ ظُهُوره بالأندلس على يَد الْفَقِيه زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بشبطون فَهُوَ أول من أدخلهُ الأندلس وَكَانُوا قبل ذَلِك يتفقهون على مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ إِمَام أهل الشَّام لمَكَان الدولة الأموية مِنْهُ فَلَمَّا ظهر مَالك رَضِي الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ وَعظم صيته وانتشرت فَتَاوِيهِ بأقطار الأَرْض رَحل إِلَيْهِ جمَاعَة من أهل الأندلس وَالْمغْرب كَانَ من أمثلهم وأسبقهم شبطون الْمَذْكُور وقرعوس بن الْعَبَّاس وَعِيسَى بن دِينَار وسيعد بن ابي هِنْد وَغَيرهم أَيَّام هِشَام بن(1/194)
عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل فَلَمَّا رجعُوا وصفوا من فضل مَالك وسعة علمه وجلالة قدره مَا عظم بِهِ ذكره بالأندلس فانتشر يَوْمئِذٍ علمه ورأيه بهَا
وَكَانَ رائد الْجَمَاعَة فِي ذَلِك هُوَ شبطون كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أول من أَدخل كتاب الْمُوَطَّأ الْمغرب أَتَى بِهِ مكملا متقنا فَأَخذه عَنهُ يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ ثمَّ دخل بعد ذَلِك إِلَى مَالك فقرأه عَلَيْهِ وَعَاد إِلَى الأندلس فتمم مَا كَانَ قد بَقِي من شهرة الْمَذْهَب الْمَالِكِي
قَالَ ابْن حزم مذهبان انتشرا فِي بَدْء أَمرهمَا بالرئاسة وَالسُّلْطَان مَذْهَب أبي حنيفَة فَإِنَّهُ لما ولى الرشيد أَبَا يُوسُف خطة الْقَضَاء كَانَت الْقُضَاة من قبله من أقْصَى الْمشرق إِلَى أقْصَى عمل إفريقية وَمذهب مَالك عندنَا بالأندلس فَإِن يحيى بن يحيى كَانَ مكينا عِنْد السُّلْطَان مَقْبُول القَوْل فِي الْقُضَاة وَكَانَ لَا يَلِي قَاض فِي أقطار الأندلس إِلَّا بمشورته واختياره وَلَا يُشِير إِلَّا بِأَصْحَابِهِ وَمن كَانَ على مذْهبه وَالنَّاس سراع إِلَى الدُّنْيَا فَأَقْبَلُوا على مَا يرجون بِهِ بُلُوغ أغراضهم على أَن يحيى لم يل قَضَاء قطّ وَلَا أجَاب إِلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك زَائِدا فِي جلالته عِنْدهم وداعيا إِلَى قبُول رَأْيه لديهم اه
وَرَأَيْت فِي بعض التآليف فِي سَبَب ظُهُور مَذْهَب مَالك بالأندلس وَالْمغْرب أَن حَاج الْمغرب والأندلس قدمُوا على مَالك رَضِي الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُمْ عَن سيرة عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْمَعْرُوف بالداخل فَقيل لَهُ إِنَّه يَأْكُل الشّعير ويلبس الصُّوف ويجاهد فِي سَبِيل الله فَقَالَ مَالك لَيْت الله زين حرمنا بِمثلِهِ فنقم عَلَيْهِ بَنو الْعَبَّاس هَذِه الْمقَالة وَكَانَ ذَلِك سَبَب توصلهم إِلَى ضربه فِي مَسْأَلَة الْإِكْرَاه كَمَا هُوَ مَشْهُور وَبَلغت مقَالَته صَاحب الأندلس فسر بهَا وَجمع النَّاس على مذْهبه فانتشر فِي أقطار الْمغرب من يَوْمئِذٍ وَالله أعلم
وَمِمَّا يُنَاسب هُنَا مَا نَقله المؤرخون أَن أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن خيرون الأندلسي الأَصْل القيرواني الدَّار رَحل إِلَى الْمشرق فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة(1/195)
فَأخذ عَن علمائه وقرائه وَعَاد إِلَى إفريقية بِقِرَاءَة نَافِع بن أبي نعيم وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِم الْقِرَاءَة بِحرف حَمْزَة فشاع حرف نَافِع من يَوْمئِذٍ فِي أقطار الْمغرب بعد أَن كَانَ لَا يقْرَأ بِهِ إِلَّا الْخَواص وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى الْيَوْم فَهَذَا حَال أهل الْمغرب فِي الْفُرُوع
وَأما حَالهم فِي الْأُصُول والإعتقادات فَبعد أَن طهرهم الله تَعَالَى من نَزعَة الخارجية أَولا والرافضية ثَانِيًا أَقَامُوا على مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مقلدين لِلْجُمْهُورِ من السّلف رَضِي الله عَنْهُم فِي الْإِيمَان بالمتشابه وَعدم التَّعَرُّض لَهُ بالتأويل مَعَ التَّنْزِيه عَن الظَّاهِر وَهُوَ وَالله أحسن الْمذَاهب وأسلمها وَللَّه در الْقَائِل
( ... عقيدتنا أَن لَيْسَ مثل صِفَاته ... وَلَا ذَاته شَيْء عقيدة صائب)
(سلم آيَات الصِّفَات بأسرها ... وأخبارها للظَّاهِر المتقارب)
(ونؤيس عَنْهَا كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا فعل اللبيب المراقب)
(ونركب للتسليم سفنا فَإِنَّهَا ... لتسليم دين الْمَرْء خير المراكب)
وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة إِلَى أَن ظهر مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين فِي صدر الْمِائَة السَّادِسَة فَرَحل إِلَى الْمشرق وَأخذ عَن علمائه مَذْهَب الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ ومتأخري أَصْحَابه من الْجَزْم بعقيدة السّلف مَعَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه من الْكتاب وَالسّنة وتخريجه على مَا عرف فِي كَلَام الْعَرَب من فنون مجازاتها وضروب بلاغاتها مِمَّا يُوَافق عَلَيْهِ النَّقْل وَالشَّرْع ويسلمه الْعقل والطبع ثمَّ عَاد مُحَمَّد بن تومرت إِلَى الْمغرب ودعا النَّاس إِلَى سلوك هَذِه الطَّرِيقَة وَجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره وسمى أَتْبَاعه الْمُوَحِّدين تعريضا بِأَن من خَالف طَرِيقَته لَيْسَ بموحد وَجعل ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى الإنتزاء على ملك الْمغرب حَسْبَمَا تقف عَلَيْهِ مفصلا بعد إِن شَاءَ(1/196)
الله لكنه مَا أَتَى بطريقة الْأَشْعَرِيّ خَالِصَة بل مزجها بِشَيْء من الخارجية والشيعية حَسْبَمَا يعلم ذَلِك بإمعان النّظر فِي أَقْوَاله وأحواله وأحوال خلفائه من بعده وَمن ذَلِك الْوَقْت أقبل عُلَمَاء الْمغرب على تعَاطِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَتَقْرِيره وتحريره درسا وتأليفا إِلَى آلان وَإِن كَانَ قد ظهر بالمغرب قبل ابْن تومرت فظهورا مَا وَالله أعلم
وَقد كَانَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَبَنوهُ من بعده منعُوا النَّاس من التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع وحملوا الْأَئِمَّة على أَخذ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة مُبَاشرَة على طَريقَة الإجتهاد الْمُطلق وحرقوا شَيْئا كثيرا من كتب الْفُرُوع الحديثة التصنيف وَوَقع ذَلِك من بعض عُلَمَاء عصرهم موقع الإستحسان مِنْهُم الإِمَام الْحَافِظ أبوبكر بن الْعَرَبِيّ فقد ذكر فِي كتاب القواصم والعواصم لَهُ مَا يشْعر بذلك قَالَ بعد ذكره مَا وَقع بالمغرب من الْفِتَن مَا نَصه عطفنا عنان القَوْل إِلَى مصائب نزلت بالعلماء فِي طَرِيق الْفَتْوَى لما كثرت الْبدع وَذهب الْعلمَاء وتعاطت المبتدعة منصب الْفُقَهَاء وتعلقت أطماع الْجُهَّال بِهِ فنالوه بِفساد الزَّمَان ونفوذ وعد الصَّادِق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله (اتخذ النَّاس رؤوساء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) وَبقيت الْحَال هَكَذَا فَمَاتَتْ الْعُلُوم إِلَّا عِنْد آحَاد النَّاس واستمرت الْقُرُون على موت الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَذَلِكَ بقدرة الله تَعَالَى وَجعل الْخلف مِنْهُم يتبع السّلف حَتَّى آلت الْحَال إِلَى أَن لَا ينظر فِي قَول مَالك وكبراء أَصْحَابه وَيُقَال قد قَالَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أهل قرطبة وَأهل طلمنكة وَأهل طليطلة وَصَارَ الصَّبِي إِذا عقل وسلكوا بِهِ أمثل طَريقَة لَهُم علموه كتاب الله تَعَالَى ثمَّ نقلوه إِلَى الْأَدَب ثمَّ إِلَى الْمُوَطَّأ ثمَّ إِلَى الْمُدَوَّنَة ثمَّ إِلَى وثائق ابْن الْعَطَّار ثمَّ يختمون لَهُ بِأَحْكَام ابْن سهل ثمَّ يُقَال قَالَ فلَان الطليطي وَفُلَان المجريطي وَابْن مغيث لَا أغاث الله ثراه فَيرجع(1/197)
الْقَهْقَرَى وَلَا يزَال يمشي إِلَى وَرَاء وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى من بطَائفَة تَفَرَّقت فِي ديار الْعلم وَجَاءَت بلباب مِنْهُ كَالْقَاضِي أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَأبي مُحَمَّد الْأصيلِيّ فرشوا من مَاء الْعلم على هَذِه الْقُلُوب الْميتَة وعطروا أنفاس الْأمة الذفرة لَكَانَ الدّين قد ذهب وَلَكِن تدارك الْبَارِي تَعَالَى بقدرته ضَرَر هَؤُلَاءِ ينفع هَؤُلَاءِ وَرُبمَا سكنت الْحَال قَلِيلا وَالْحَمْد لله اه وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق
تَتِمَّة مهمة
قد ظهر بِبِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا مُنْذُ أعصار متطاولة لَا سِيمَا فِي الْمِائَة الْعَاشِرَة وَمَا بعْدهَا بدعوة قبيحة وَهِي اجْتِمَاع طَائِفَة من الْعَامَّة على شيخ من الشُّيُوخ الَّذين عاصروهم أَو تقدموهم مِمَّن يشار إِلَيْهِ بِالْولَايَةِ والخصوصية ويخصونه بمزيد الْمحبَّة والتعظيم ويتمسكون بخدمته والتقرب إِلَيْهِ قدرا زَائِدا على غَيره من الشُّيُوخ بِحَيْثُ يرتسم فِي خيال جلهم أَن كل الْمَشَايِخ أَو جلهم أَن دونه فِي الْمنزلَة عِنْد الله تَعَالَى وَيَقُولُونَ نَحن أَتبَاع سَيِّدي فلَان وخدام الدَّار(1/198)
الْفُلَانِيَّة لَا يحولون عَن ذَلِك وَلَا يزولون خلفا عَن سلف وينادون باسمه ويتسغيثون بِهِ ويفزعون فِي مهماتهم إِلَيْهِ معتقدين أَن التَّقَرُّب إِلَيْهِ نَافِع والإنحراف عَنهُ قيد شبر ضار مَعَ أَن النافع والضار هُوَ الله وَحده وَإِذا ذكر لَهُم شيخ آخر أَو دعوا إِلَيّ حاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش من غير تبصر فِي أَحْوَاله هَل يسْتَحق ذَلِك التَّعْظِيم أم لَا فَصَارَ الْأَمر عصبيا وَصَارَت الْأمة بذلك طرائق قددا فَفِي كل بلد أَو قَرْيَة عدَّة طوائف وَهَذَا لم يكن مَعْرُوفا فِي سلف الْأمة الَّذين هم الْقدْوَة لمن بعدهمْ وغرض الشَّارِع إِنَّمَا هُوَ فِي الإجتماع وَتَمام الألفة واتحاد الوجهة وَقد قَالَ تَعَالَى لأهل الْكتاب {تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} الْآيَة وَقد ذمّ قوما فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي أهل الخصوصية وَالدّين أَن يَكُونُوا عِنْد الْعَاقِل المحتاط لدينِهِ كأسنان الْمشْط بِحَيْثُ يُحِبهُمْ لله وَفِي الله ويستشفع بهم إِلَى الله ويسأله تَعَالَى أَن يُكرمهُ بِمَا أكْرمهم بِهِ من الْخَيْر وَالْهدى وَالدّين وليحبهم حب التشرع لَا حب التَّشَيُّع وليتأدب مَعَهم وَلَا يقدم على مفاضلتهم بالهوى وَالرَّجم بِالْغَيْبِ فَإِن ذَلِك مُتَوَقف على الإطلاع على مَنْزِلَتهمْ عِنْد الله وَذَلِكَ مَحْجُوب عَنَّا وَإِذا نزلت بِهِ حَاجَة فليفرغ فِي قَضَائهَا إِلَى مَوْلَاهُ الَّذِي خلقه ورزقه مستشفعا إِلَيْهِ بِنَبِيِّهِ الَّذِي هداه للْإيمَان على يَده ثمَّ بخواص الْأمة الَّذين هم آبَاؤُنَا فِي الدّين فَإِن الْمَطْلُوب من العَبْد أَن يصرف وجهته وقصده فِي جَمِيع أُمُوره وَيتَعَلَّق فِيهَا بِاللَّه بِحَيْثُ لَا يطْلبهَا إِلَّا مِنْهُ وَلَا يتكل فِيهَا إِلَّا عَلَيْهِ قَاطعا للنَّظَر عَن كل مَا سواهُ اللَّهُمَّ إِلَّا على سَبِيل التوسل والإستشفاع كَمَا قُلْنَا هَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي بعث الله بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَيْهِ دَعَا وَعَلِيهِ قَاتل وسواه شرك ومنابذا لما جَاءَ بِهِ {إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله}
ثمَّ استرسل هَؤُلَاءِ الطغام فِي ضلالهم حَتَّى صَارَت كل طَائِفَة تَجْتَمِع فِي أَوْقَات مَعْلُومَة من مَكَان مَخْصُوص أَو غَيره على بدعتهم الَّتِي يسمونها الحضرة فَمَا شِئْت من طست وطار وطبل ومزمار وغناء ورقص وخيط(1/199)
وفحص وَرُبمَا أضافوا إِلَى ذَلِك نَارا أَو غَيرهَا يستعملونه على سَبِيل الْكَرَامَة بزعمهم ويستغرقون فِي ذَلِك الزَّمن الطَّوِيل حَتَّى يمْضِي الْوَقْت والوقتان من أَوْقَات الصَّلَوَات وداعي الْفَلاح يُنَادي على رؤوسهم وهم فِي حيرتهم يعمهون لَا يرفعون بِهِ رَأْسا وَلَا يرَوْنَ بِمَا هم فِيهِ من الضلال بَأْسا بل يَعْتَقِدُونَ أَن مَا هم فِيهِ من أفضل الْقرب إِلَى الله تَعَالَى الله عَن جهالتهم علوا كَبِيرا
وَلَا تَجِد فِي هَذِه المجامع الشيطانية غَالِبا إِلَّا من بلغ الْغَايَة فِي الْجفَاء وَالْجهل من لَا يحسن الْفَاتِحَة فضلا عَن غَيرهَا مَعَ ترك الصَّلَاة طول عمره أَو من فِي مَعْنَاهُ من معتوه نَاقص الْعقل وَالدّين فَمَا أحْوج هَؤُلَاءِ الفسقة إِلَى محتسب يُغير عَلَيْهِم مَا هم فِيهِ من الْمُنكر الْعَظِيم واللبس الْمُقِيم وَأعظم من هَذَا كُله أَنهم يَفْعَلُونَ تِلْكَ الحضرة غَالِبا فِي الْمَسَاجِد فَإِنَّهُم يتخذون الزاوية باسم الشَّيْخ ويجعلونها مَسْجِدا للصَّلَاة بالمحراب والمنار وَغير ذَلِك ثمَّ يعمرونها بِهَذِهِ الْبِدْعَة الشنيعة فكم رَأينَا من عود ورباب ومزمار على أفحش الهيأت فِي محاريب الصَّلَوَات
وَمن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشُّيُوخ لبيت الله الْحَرَام من جعل الْكسْوَة لَهَا وتحديد الْحرم على مَسَافَة مَعْلُومَة بِحَيْثُ يكون من دخل تِلْكَ الْبقْعَة من أهل الجرائم آمنا وسوق الذَّبَائِح إِلَيْهَا على هَيْئَة الْهَدْي واتخاذ الْمَوْسِم كل عَام وَهَذَا وَأَمْثَاله لم يشرع إِلَّا فِي حق الْكَعْبَة ثمَّ يَقع فِي ذَلِك الْمَوْسِم وَلَا سِيمَا مواسم الْبَادِيَة من المناكر والمفاسد الْعِظَام واختلاط الرِّجَال بِالنسَاء باديات متبرجات شَأْن أهل الْإِبَاحَة وشأن قوم نوح فِي جاهليتهم مَا تصم عَنهُ الآذان وَلَا مُنكر وَلَا مغير وَلَا ممتعض للدّين لَا بل للحسب فَأَما الدّين عِنْد هَؤُلَاءِ فَلَا دين فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على ضَيْعَة الدّين وغفلة أَهله عَنهُ وَبِاللَّهِ وَيَا للْمُسلمين لهَؤُلَاء الهمج الرعاع الَّذين سلبوا الْمُرُوءَة وَالْحيَاء والغيرة وَالْعقل وَالدّين والإنسانية جملَة فليسوا فِي فطنة الشَّيَاطِين وَلَا فِي سَلامَة صُدُور الْبَهَائِم وَلَا فِي نخوة السبَاع فيغضبوا لديهم ومروءتهم(1/200)
وَمن جهالاتهم الفظيعة جمعهم بَين اسْم الله تَعَالَى وَاسم الْوَلِيّ فِي مقامات التَّعْظِيم كالقسم والإستعطاف وَغَيرهمَا فَإِذا أَقْسمُوا قَالُوا وَحقّ الله وَحقّ سَيِّدي فلَان وَإِذا عزموا على أحد قَالُوا دخلت عَلَيْك بِاللَّه وسيدي فلَان وَإِذا سَأَلُوا قَالُوا من يُعْطِينَا على الله وعَلى سَيِّدي فلَان فيعطفون اسْم العَبْد على اسْم مَوْلَاهُ بِالْوَاو الْمُقْتَضِيَة للتشريك والتسوية التَّامَّة فِي مقَام قد حظر الشَّارِع أَن يتَجَاوَز فِيهِ اسْم الله إِلَى غَيره وَهَذَا هُوَ صَرِيح الشّرك
وَمن مناكرهم الجديرة بالتغيير اجْتِمَاعهم كل سنة للوقوف يَوْم عَرَفَة بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ ويسمون ذَلِك حج الْمِسْكِين فَانْظُر إِلَى هَذِه الطامة الَّتِي اخترعها هَؤُلَاءِ الْعَامَّة
وَمن اختراعاتهم تسميتهم لبدعتهم بالحضرة كَمَا قُلْنَا أخذا من اسْم حَضْرَة الله تَعَالَى فِي إصْلَاح الْأَئِمَّة العارفين من الصُّوفِيَّة كَأَهل رِسَالَة الْقشيرِي وَمن فِي معناهم فأوهم هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِين بِهَذِهِ التَّسْمِيَة أَنهم يكونُونَ فِي حَال اشتغالهم بِتِلْكَ الْبِدْعَة فِي حَضْرَة الله تَعَالَى ثمَّ يذهبون فيسمون جنونهم وتخبطهم على تِلْكَ الطبول والمزامير بِالْحَال أخذا من الْحَال الَّتِي تعتري السالك إِلَى الله تَعَالَى فِي حَال ترقيه فِي دَرَجَات الْمعرفَة والوصول وَهَذَا لعمر الله من أقبح الضلالات واشنع الجهالات إِلَى غير هَذَا مِمَّا أُغني فِيهِ العيان عَن الْخَبَر وعرفه الْخَاص وَالْعَام فِي حالتي الْورْد والصدر
ولسنا ننكر على أَوْلِيَاء الله وَأهل الخصوصية مِنْهُم أَو على من يسْلك سبيلهم على الْوَجْه الْمُقَرّر فِي كتب الْأَئِمَّة المقتدى بهم مِنْهُم وَإِنَّمَا نشرح حَال هَؤُلَاءِ الجهلة الَّذين لم يَأْتُوا الْأَمر من بَابه وَلَا أَخَذُوهُ عَن أربابه وَإِنَّمَا حَالهم مَا رَأَيْت وَعلمت وَهَذِه نفثة مصدور صَاحبهَا عِنْد الْمنصف مَعْذُور فنسأل الله الْعَظِيم الْمولى الْكَرِيم أَن يُحَرك همة من لَهُ الْقُدْرَة وَالتَّصَرُّف إِلَى حسم هَذِه الضلالات وقطعها عَسى أَن يَرْحَمنَا رَبنَا وَيجْبر كسرنا ويكبت(1/201)
عدونا إِذا نَحن راجعنا ديننَا وَسنة نَبينَا {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال}
وَقد آن أَن نفرد الْكَلَام على الْمغرب الْأَقْصَى عِنْد مَا استولى عَلَيْهِ الْمولى إِدْرِيس بن عبد الله وَبَنوهُ من بعده واقتطعوه عَن نظر الْخُلَفَاء بالمشرق وصيروه مملكة مُسْتَقلَّة إِذْ كَانَ ذَلِك من شَرط كتَابنَا هَذَا حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ مقدمين لذَلِك مَا يجب تَقْدِيمه من الْإِشَارَة إِلَى أَمر الْخلَافَة وتنازع أهل الصَّدْر الأول فِي اسْتِحْقَاقهَا وَمن هُوَ أولى بهَا ثمَّ نتخلص مِنْهُ إِلَى الْمَقْصُود بِالذَّاتِ وَالله الْمُوفق(1/202)
الدولة الإدريسية
الْخَبَر عَن دولة آل إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى وَذكر السَّبَب فِي أوليتها
أعلم أَنه قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش لَا يعاديهم أحد إِلَّا كَبه الله على وَجهه مَا أَقَامُوا الدّين) وَفِيه أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان)
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر لَو فقد قرشي فكناني ثمَّ رجل من بني إِسْمَاعِيل ثمَّ عجمي على مَا فِي التَّهْذِيب أَو جرهمي على مَا فِي التَّتِمَّة ثمَّ رجل من بني إِسْحَاق وَأَن يكون شجاعا ليغزو بِنَفسِهِ ويعالج الجيوش ويقوى على فتح الْبِلَاد ويحمي الْبَيْضَة وَأَن يكون أَهلا للْقَضَاء بِأَن يكون مُسلما مُكَلّفا حرا عدلا ذكرا مُجْتَهدا ذَا رَأْي وَسمع وبصر ونطق
وتنعقد الْإِمَامَة ببيعة أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء ووجوه النَّاس المتيسر اجْتِمَاعهم وباستخلاف الإِمَام من يُعينهُ فِي حَيَاته وَيشْتَرط الْقبُول فِي حَيَاته ليَكُون خَليفَة بعد مَوته وباستيلاء متغلب على الْإِمَامَة وَلَو غير أهل لَهَا كصبي وَامْرَأَة إِن قهر النَّاس بشوكته وجنده وَذَلِكَ لينظم أَمر الْمُسلمين اه
ثمَّ نقُول قد تقدم لنا أَمر الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن السّلف أطبقوا على أَن ترتيبهم فِي الْفضل عل حسب ترتيبهم فِي الْخلَافَة وَتقدم لنا أَيْضا مَا كَانَ من عَليّ وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَن مَا صدر مِنْهُمَا كَانَ اجْتِهَادًا مَحْضا وطلبا للحق وَأَن الصَّوَاب كَانَ مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالْكل مأجور
ثمَّ لما قتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَايع أهل الْعرَاق ابْنه الْحسن رَضِي الله عَنهُ وزحف إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أهل الشَّام وَرَأى الْحسن مَا فِي حقن دِمَاء الْمُسلمين وَجمع كلمتهم من الثَّوَاب عِنْد الله والكرامة لَدَيْهِ فَاخْتَارَ الْأُخْرَى على الدُّنْيَا(1/203)
وَقدم الآجل على العاجل وَسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة على شُرُوط مَعْرُوفَة وَأصْلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين كَمَا قَالَ جده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَحَازَ مُعَاوِيَة الْخلَافَة وصفت لَهُ وتوارثها بنوا أُميَّة من بعده بعد مقاتلات ومنازعات كَانَت من بني هَاشم وَغَيرهم لَهُم يطول جلبها
وَكَانَ السوَاد الْأَعْظَم من الْمُسلمين يرَوْنَ أَن بني هَاشم أَحَق بِالْأَمر من بني أُميَّة لِأَن بني هَاشم هم آل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعشيرته الأقربون وهم أهل الْعلم وَالدّين والخصوصية الَّذين اجتباهم الله وأذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا فهم أَحَق بِمنْصب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَيرهم وَهَذَا الرَّأْي صَوَاب غير أَن ذَلِك لَيْسَ بطرِيق الْوُجُوب عِنْد أهل السّنة بل بطرِيق الأحقية والأولوية إِذا توفرت الشُّرُوط فيهم وَفِي غَيرهم من سَائِر بطُون قُرَيْش وَإِلَّا فَمن انْفَرَدت بِهِ الشُّرُوط وَجب الْمصير إِلَيْهِ
وَكَانَ شيعَة عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يوجبون الْخلَافَة لِبَنِيهِ دون من عداهم ويزعمون أَن ذَلِك كَانَ بِوَصِيَّة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه الْوَصِيَّة لم تثبت عِنْد أهل السّنة من طَرِيق صَحِيح ومذاهب هَؤُلَاءِ الشِّيعَة فِي كَيْفيَّة سوق الْخلَافَة فِي عقب عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُتعَدِّدَة لَا حَاجَة لنا بذكرها
وَكَانَ بَنو عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّدْر الأول كثيرا مَا يثورون فِي النواحي شرقا وغربا طَالِبين حَقهم فِي الْخلَافَة منازعين فِيهَا لبني أُميَّة أَولا ثمَّ لبني الْعَبَّاس من بعدهمْ ثَانِيًا وخبرهم فِي ذَلِك مَعْرُوف وجلبه يطول إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم عبد الله بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ من سادة أهل الْبَيْت يَوْمئِذٍ وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِالنَّفسِ الزكية وَإِبْرَاهِيم ويحي وَسليمَان وَإِدْرِيس وَغَيرهم
وَلما صَار أَمر بني أُميَّة إِلَى الاختلال أَيَّام مَرْوَان الْحمار آخر خلفائهم اجْتمع أهل الْبَيْت بِالْمَدِينَةِ وَتَشَاوَرُوا فِيمَن يقدمونه للخلافة فَوَقع اختيارهم(1/204)
على مُحَمَّد بن عبد الله النَّفس الزكية فَبَايعُوا لَهُ بالخلافة وسلموا لَهُ الْأَمر بأجمعهم وَحضر هَذَا العقد أَبُو جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وَهُوَ الْمَنْصُور وَذَلِكَ قبل أَن تنْتَقل الْخلَافَة إِلَى بني الْعَبَّاس فَبَايع للنَّفس الزكية فِيمَن بَايع لَهُ من أهل الْبَيْت وَأَجْمعُوا على ذَلِك لتقدمه فيهم لما علمُوا لَهُ من الْفضل عَلَيْهِم
قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا كَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله يحتجان لَهُ حِين خرج بالحجاز ويريان أَن إِمَامَته أصح من إِمَامَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور لانعقاد هَذِه الْبيعَة أَولا وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول بفضله ويحتج لحقه فتأدت إِلَى الْإِمَامَيْنِ المحنة بِسَبَب ذَلِك أَيَّام أبي جَعْفَر الْمَنْصُور حَتَّى ضرب مَالك رَضِي الله عَنهُ على الْفتيا فِي طَلَاق الْمُكْره وَحبس أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ على الْقَضَاء
وَلما انقرضت دولة بني أُميَّة وَجَاءَت دولة بني الْعَبَّاس وَصَارَ الْأَمر إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور مِنْهُم سعى عِنْده بآل الْبَيْت وَأَن مُحَمَّد بن عبد الله يروم الْخُرُوج عَلَيْهِ وَأَن دعاته قد ظَهَرُوا بخراسان فَأمر الْمَنْصُور عَامله على الْمَدِينَة رَبَاح بن عُثْمَان المري بِحَبْس عبد الله بن حسن وَمن إِلَيْهِ من آل الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فحبسه جمَاعَة من بنيه وَإِخْوَته وَبني عَمه قَالَ ابْن خلدون فِي خَمْسَة وَأَرْبَعين من أكابرهم وَقدم الْمَنْصُور الْمَدِينَة فِي حجَّة حَجهَا فساقهم مَعَه إِلَى الْعرَاق وحبسهم بقصر ابْن هُبَيْرَة من ظَاهر الْكُوفَة حَتَّى هَلَكُوا فِي حَبسهم وجد الْمَنْصُور فِي طلب مُحَمَّد بن عبد الله النَّفس الزكية وأخيه إِبْرَاهِيم لِكَوْنِهِمَا تغيبا فَلم يحبسا فِي جملَة من حبس من عشيرتهم
ثمَّ لما كَانَت سنة خمس واربعين وَمِائَة وأرهق مُحَمَّد بن عبد الله الطّلب وأعيت عَلَيْهِ الْمذَاهب ظهر بِالْمَدِينَةِ المنورة ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ
واستفتى أهل الْمَدِينَة الإِمَام مَالِكًا رَضِي الله عَنهُ فِي الْخُرُوج مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله وَقَالُوا فِي أعناقنا بيعَة للمنصور فَقَالَ إِنَّمَا بايعتم(1/205)
مكرهين فَتسَارع النَّاس إِلَى مُحَمَّد وَأَجَابُوا دَعوته وَلزِمَ الإِمَام ملك بَيته وخطب مُحَمَّد بن عبد الله على مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الْمَنْصُور بِمَا نقمه عَلَيْهِ ووعد النَّاس واستنصر بهم وَتسَمى بالمهدي وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته من وُجُوه النَّاس إِلَّا الْقَلِيل
وَبلغ الْمَنْصُور خبر مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا كَانَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ فأشفق من ذَلِك غَايَة الإشفاق وَكتب إِلَى مُحَمَّد كتاب أَمَان ويعده الْجَمِيل إِن هُوَ رَاجع الطَّاعَة فَأَجَابَهُ مُحَمَّد بِعَدَمِ قبُول ذَلِك مِنْهُ ودارت بَينهمَا مكاتبات ومحاورات فِي الْأَفْضَلِيَّة وَاسْتِحْقَاق الْخلَافَة وَقد ذكر مكاتبتهما الْمبرد فِي كَامِله وَابْن خلدون فِي تَارِيخه
وَآخر الْأَمر أَن الْمَنْصُور بعث لِحَرْب مُحَمَّد الْمهْدي ابْن عَمه عِيسَى بن مُوسَى العباسي فاستعد الْمهْدي لِلْقِتَالِ وأدار على الْمَدِينَة الخَنْدَق الَّذِي حفره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحْزَاب وقدمت جيوش العباسيين ونزلوا على الْمَدِينَة
وَخرج إِلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الله فِيمَن بَايعه واقتتل النَّاس قتالا شَدِيدا وأبلى مُحَمَّد الْمهْدي فِي ذَلِك الْيَوْم بلَاء عَظِيما وَقتل بِيَدِهِ سبعين رجلا
وَلما اشْتَدَّ الْقِتَال وعاين مخايل الاختلال انْصَرف فاغتسل وتحنط وَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَمضى فَأحرق الدِّيوَان الَّذِي كَانَ فِيهِ أَسمَاء من بَايعه وَجَاء إِلَى السجْن فَقتل رَبَاح بن عُثْمَان عَامل الْمَنْصُور على الْمَدِينَة وَقتل مَعَه جمَاعَة كَانُوا مسجونين عِنْده ثمَّ عَاد إِلَى المعركة وَقد تفرق عَنهُ جلّ أَصْحَابه وَلم يبْق مَعَه إِلَّا نَحْو ثَلَاثمِائَة فَقَالَ لَهُ بَعضهم نَحن الْيَوْم فِي عدَّة أهل بدر ثمَّ تقدم فقاتل حَتَّى قتل ضرب فَسقط لِرُكْبَتَيْهِ وطعنه حميد بن قَحْطَبَةَ فِي صَدره ثمَّ احْتَرز رَأسه وأتى بِهِ عِيسَى بن مُوسَى فَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور
وَكَانَ مقتل مُحَمَّد الْمهْدي رَحمَه الله فِي منتصف رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقتل مَعَه جمَاعَة من أهل بَيته وَأَصْحَابه وَلحق ابْنه عَليّ بن(1/206)
مُحَمَّد بالسند إِلَى أَن هلك هُنَاكَ واختفى ابْنه الآخر عبد الله الأشتر إِلَى أَن هلك أَيْضا فِي خبر طَوِيل
ثمَّ خرج إِبْرَاهِيم بن عبد الله أَخُو الْمهْدي الْمَذْكُور بِالْبَصْرَةِ عقب ذَلِك فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور عِيسَى بن مُوسَى الْمَذْكُور آنِفا فقاتله آخر ذِي الْقعدَة من السّنة فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم وَقتل رَحمَه الله بعد أَن بَايعه أَكثر من مائَة ألف
ثمَّ لما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة فِي أَيَّام مُوسَى الْهَادِي بن مُحَمَّد الْمهْدي بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور خرج بِالْمَدِينَةِ الْحُسَيْن بِالتَّصْغِيرِ بن عَليّ بن الْحسن المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من أهل بَيته مِنْهُم إِدْرِيس وَيحيى وَسليمَان بَنو عبد الله بن الْحسن الْمثنى وهم إخْوَة مُحَمَّد النَّفس الزكية فَاشْتَدَّ أَمر الْحُسَيْن الْمَذْكُور بِالْمَدِينَةِ وَجرى بَينه وَبَين عَامل الْهَادِي على الْمَدِينَة وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب قتال فَانْهَزَمَ عمر الْمَذْكُور وَبَايع النَّاس الْحُسَيْن الْمَذْكُور على كتاب الله وَسنة نبيه للمرتضى من آل مُحَمَّد وَكَانُوا يكنون بذلك عَن الإِمَام المستور إِلَى أَن يقدر على إِظْهَار أمره وَأقَام الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامًا ثمَّ خَرجُوا إِلَى مَكَّة يَوْم السبت لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة فَانْتهى الْحُسَيْن إِلَى مَكَّة وانضم إِلَيْهِ جمَاعَة من عبيدها
وَكَانَ قد حج تِلْكَ السّنة جمَاعَة من وُجُوه بني الْعَبَّاس وشيعتهم فَمنهمْ سُلَيْمَان بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان بن عَليّ وَالْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ وانضم إِلَيْهِم من حج من قوادهم ومواليهم واقتتلوا مَعَ الْحُسَيْن الْمَذْكُور يَوْم التَّرويَة الثَّامِن من ذِي الْحجَّة فَانْهَزَمَ الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَقتل فاحتزوا رَأسه وأحضروه أَمَام بني الْعَبَّاس وَهُوَ مَضْرُوب على قَفاهُ وجبهته ثمَّ جمعت رُؤُوس أَصْحَابه فَكَانَت مائَة ونيفا وَكَانَ فِيهَا رَأس سُلَيْمَان بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى فِي قَول وَاخْتَلَطَ المنهزمون بالحاج فَذَهَبُوا فِي كل وَجه(1/207)
وَكَانَ مقتلهم بِموضع يُقَال لَهُ فخ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة كَمَا قُلْنَا وَفِي ذَلِك يَقُول بعض شعراء ذَلِك الْعَصْر
(فلأبكين على الْحُسَيْن ... بعولة وعَلى الْحسن)
(وعَلى ابْن عَاتِكَة الَّذِي ... واروه لَيْسَ لَهُ كفن)
(تركُوا بفخ غدْوَة ... فِي غير منزلَة الوطن)
فِي أَبْيَات وَالْحسن الَّذِي ذكره فِي هَذِه الأبيات هُوَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ أسر فِي ذَلِك الْيَوْم فَضربت عُنُقه صبرا وَابْن عَاتِكَة الَّذِي ذكره هُوَ عبد الله بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ حمل رَأس الْحُسَيْن وَمَعَهُ بَاقِي الرؤوس إِلَى الْهَادِي فَأنْكر عَلَيْهِم حمل رَأس الْحُسَيْن وَلم يعطهم جوائزهم غَضبا عَلَيْهِم
دُخُول إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَقْصَى
قد تقدم لنا أَن يحيى وَإِدْرِيس ابْني عبد الله حضرا وقْعَة فخ مَعَ الْحُسَيْن بن عَليّ الْمَذْكُور آنِفا فَأَما يحيى فَإِنَّهُ فر من الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة إِلَى بِلَاد الديلم فِي جِهَة الشرق ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ واشتدت شوكته ثمَّ إِن الرشيد جهز إِلَيْهِ الْفضل بن يحيى الْبَرْمَكِي فِي جَيش كثيف فكاتبه الْفضل وبذل لَهُ الْأمان وَمَا يختاره فَأَجَابَهُ يحيى بن عبد الله إِلَى ذَلِك وَطلب يَمِين الرشيد وَأَن يكون بِخَطِّهِ وَيشْهد فِيهِ الأكابر فَفعل ذَلِك وَحضر يحيى بن عبد الله إِلَى بَغْدَاد فَأكْرمه الرشيد وَأَعْطَاهُ مَالا كثيرا ثمَّ حَبسه حَتَّى مَاتَ فِي السجْن
وَأما إِدْرِيس فَإِنَّهُ فر من الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة وَلحق بِمصْر وعَلى بريدها يَوْمئِذٍ وَاضح مولى صَالح بن الْمَنْصُور وَيعرف بالمسكين وَكَانَ وَاضح يتشيع لآل الْبَيْت فَعلم شَأْن إِدْرِيس وَأَتَاهُ إِلَى الْموضع الَّذِي كَانَ مستخفيا(1/208)
بِهِ وَلم ير شَيْئا أخْلص لَهُ من أَن يحملهُ على الْبَرِيد إِلَى الْمغرب فَفعل وَلحق إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى هُوَ ومولاه رَاشد فَنزل بِمَدِينَة وليلى سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة وَبهَا يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد أَمِير أوربة من البربر البرانس فأجاره وأكرمه وَجمع البربر على الْقيام بدعوته وخلع الطَّاعَة العباسية وكشف القناع فِي ذَلِك وانْتهى الْخَبَر إِلَى الرشيد بِمَا فعله وَاضح فِي شَأْن إِدْرِيس فَقتله وصلبه
وَقَالَ ابْن أبي زرع فِي كتاب القرطاس إِن إِدْرِيس بن عبد الله لما قتلت عشيرته بفخ فر بِنَفسِهِ متسترا فِي الْبِلَاد يُرِيد الْمغرب فَسَار من مَكَّة حَتَّى وصل إِلَى مصر وَمَعَهُ مولى لَهُ اسْمه رَاشد فَدَخلَهَا وَالْعَامِل عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ لبني الْعَبَّاس هُوَ عَليّ بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي فَبَيْنَمَا إِدْرِيس وَرَاشِد يمشيان فِي شوارع مصر إِذا مرا بدار حَسَنَة الْبناء فوقفا يتأملانها وَإِذا بِصَاحِب الدَّار قد خرج فَسلم عَلَيْهِمَا وَقَالَ مَا الَّذِي تنظرانه من هَذِه الدَّار فَقَالَ رَاشد أعجبنا حسن بنائها قَالَ وأظنكما غريبين ليسَا من هَذِه الْبِلَاد فَقَالَ رَاشد جعلت فدَاك إِن الْأَمر كَمَا ذكرت قَالَ فَمن اي الأقاليم أَنْتُمَا قَالَا من الْحجاز قَالَ فَمن أَي بِلَاده قَالَا من مَكَّة قَالَ وأخالكما من شيعَة الحسنين الفارين من وقْعَة فخ فهما بالإنكار ثمَّ توسما فِيهِ الْخَيْر فَقَالَ رَاشد يَا سَيِّدي أرى لَك صُورَة حَسَنَة وَقد توسمت فِيك الْخَيْر أَرَأَيْت إِن أخبرناك من نَحن أَكنت تستر علينا قَالَ نعم وَرب الْكَعْبَة وأبذل الْجهد فِي صَلَاح حالكما فَقَالَ رَاشد هَذَا إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن وَأَنا مَوْلَاهُ رَاشد فَرَرْت بِهِ خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل وَنحن قاصدون بِلَاد الْمغرب فَقَالَ الرجل لتطمئن نفوسكما فَإِنِّي من شيعَة آل الْبَيْت وَأول من كتم سرهم فأنتما من الْآمنينَ ثمَّ أدخلهما منزله وَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا فاتصل خبرهما بعلي بن سُلَيْمَان صَاحب مصر فَبعث إِلَى الرجل الَّذِي هما عِنْده فَقَالَ لَهُ إِنَّه قد رفع إِلَيّ خبر الرجلَيْن الَّذين عنْدك وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كتب إِلَيّ فِي طلب الحسينين والبحث عَنْهُم وَقد بَث عيونه على الطرقات وَجعل الرصاد(1/209)
على أَطْرَاف الْبِلَاد فَلَا يمر بهم أحد حَتَّى يعرف نسبه وحاله وَإِنِّي أكره أَن أتعرض لدماء آل الْبَيْت فلك وَلَهُم الْأمان فَاذْهَبْ إِلَيْهِمَا وأعلمهما بمقالي وَأَمرهمَا بِالْخرُوجِ من عَمَلي وَقد أجلتهما ثَلَاثًا فَسَار الرجل فَاشْترى راحلتين لإدريس ومولاه وَاشْترى لنَفسِهِ أُخْرَى وَوضع زادا يبلغهما إِلَى إفريقية وَقَالَ لراشد اخْرُج أَنْت مَعَ الرّفْقَة على الجادة وَأخرج أَنا وَإِدْرِيس على طَرِيق غامض لَا تسلكه الرفاق وموعدنا مَدِينَة برقة فَخرج رَاشد مَعَ الرّفْقَة فِي زِيّ التُّجَّار وَخرج إِدْرِيس مَعَ الْمصْرِيّ فسلكا الْبَريَّة حَتَّى وصلا إِلَى برقة وَأَقَامَا بهَا حَتَّى لحق بهما رَاشد ثمَّ جدد الْمصْرِيّ لَهما زادا وودعهما وَانْصَرف
وَسَار إِدْرِيس وَرَاشِد يجدان السّير حَتَّى وصلا إِلَى القيروان فأقاما بهَا مُدَّة ثمَّ خرجا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى
وَكَانَ رَاشد من أهل النجدة والحزم وَالدّين والنصيحة لآل الْبَيْت فَعمد إِلَى إِدْرِيس حِين خرجا من القيروان فألبسه مدرعة صوف خشينة وعمامة كَذَلِك وصيره كالخادم لَهُ يَأْمُرهُ وينهاه كل ذَلِك خوفًا عَلَيْهِ وحياطة لَهُ ثمَّ وصلا إِلَى مَدِينَة تلمسان فأراحا بهَا أَيَّامًا ثمَّ ارتحلا نَحْو بِلَاد طنجة فسارا حَتَّى عبرا وَادي ملوية ودخلا بِلَاد السوس الْأَدْنَى وتقدما إِلَى مَدِينَة طنجة وَهِي يَوْمئِذٍ قَاعِدَة بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وَأم مدنه فأقاما بهَا أَيَّامًا فَلَمَّا لم يجد إِدْرِيس بهَا مُرَاده خرج مَعَ مَوْلَاهُ رَاشد حَتَّى انتهيا إِلَى مَدِينَة وليلى قَاعِدَة جبل زرهون
وَكَانَت مَدِينَة متوسطة حَصِينَة كَثِيرَة الْمِيَاه والغروس وَالزَّيْتُون وَكَانَ لَهَا سور عَظِيم من بُنيان الْأَوَائِل يُقَال إِنَّهَا الْمُسَمَّاة الْيَوْم بقصر فِرْعَوْن فَنزل بهَا إِدْرِيس على صَاحبهَا ابْن عبد الحميد الأوربي فَأقبل عَلَيْهِ ابْن عبد الحميد وَبَالغ فِي إكرامه وبره فَعرفهُ إِدْرِيس بِنَفسِهِ وأفضى إِلَيْهِ بسره فوافقه على مُرَاده وأنزله مَعَه فِي دَاره وَتَوَلَّى خدمته وَالْقِيَام بشؤونه
وَكَانَ دُخُول إِدْرِيس الْمغرب ونزوله على ابْن عبد الحميد بِمَدِينَة وليلى(1/210)
غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة
بيعَة الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ
لما اسْتَقر إِدْرِيس بن عبد الله بِمَدِينَة وليلى عِنْد كبيرها إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد الأوربي أَقَامَ عِنْده سِتَّة أشهر فَلَمَّا دخل شهر رَمَضَان من السّنة جمع ابْن عبد الحميد عشيرته من أوربة وعرفهم بِنسَب إِدْرِيس وقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقرر لَهُم فَضله وَدينه وَعلمه واجتماع خِصَال الْخَيْر فِيهِ فَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أكرمنا بِهِ وشرفنا بجواره وَهُوَ سيدنَا وَنحن العبيد فَمَا تُرِيدُ منا قَالَ تبايعونه قَالُوا مَا منا من يتَوَقَّف عَن بيعَته فَبَايعُوهُ بِمَدِينَة وليلى يَوْم الْجُمُعَة رَابِع رَمَضَان الْمُعظم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة
وَكَانَ أول من بَايعه قَبيلَة أوربة على السّمع وَالطَّاعَة وَالْقِيَام بأَمْره والاقتداء بِهِ فِي صلواتهم وغزواتهم وَسَائِر أحكامهم
وَكَانَت أوربة يَوْمئِذٍ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الْأَقْصَى وأكثرها عددا وتلتها فِي نصْرَة إِدْرِيس وَالْقِيَام بأَمْره مغيلة وصدينة وهما مَعًا من ولد تامزيت بن ضرى
وَلما بُويِعَ إِدْرِيس رَحمَه الله خطب النَّاس فَقَالَ بعد حمد الله وَالصَّلَاة على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيهَا النَّاس لَا تَمُدَّن الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا فَإِن الَّذِي تجدونه من الْحق عندنَا لَا تجدونه عِنْد غَيرنَا
ثمَّ بعد ذَلِك وفدت عَلَيْهِ قبائل زناتة والبربر مثل زواغة وزواوة وسدراتة وغياثة ومكناسة وغمارة وكافة البربر بالمغرب الْأَقْصَى فَبَايعُوهُ أَيْضا ودخلوا فِي طَاعَته فاستتب أمره وَتمكن سُلْطَانه وقويت شوكته
وَلحق بِهِ من اخوته سُلَيْمَان بن عبد الله وَنزل بِأَرْض زتاتة من تلمسان ونواحيها كَذَا عِنْد ابْن خلدون فِي أَخْبَار الأدارسة وَالَّذِي عِنْده فِي أَخْبَار بني الْعَبَّاس وَكَذَا عِنْد أبي الْفِدَاء أَن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حسن قتل بوقعة فخ وَجمع رَأسه مَعَ رُؤُوس الْقَتْلَى فَالله أعلم(1/211)
غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وفتحه إِيَّاهَا
ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ اتخذ جَيْشًا كثيفا من وُجُوه زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وَغَيرهم وَخرج غازيا بِلَاد تامسنا ثمَّ زحف إِلَى بِلَاد تادلا فَفتح معاقلها وحصونها وَكَانَ أَكثر أهل هَذِه الْبِلَاد لَا زَالُوا على دين الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَإِنَّمَا الْإِسْلَام بهَا قَلِيل فَأسلم جَمِيعهم على يَده
وقفل إِلَى مَدِينَة وليلى مؤيدا منصورا فَدَخلَهَا أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَيْنِ وَسبعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهر محرم فاتح سنة ثَلَاث وَسبعين ريثما استراح النَّاس ثمَّ خرج برسم غَزْو من كَانَ بَقِي من قبائل البربر بالمغرب على دين الْمَجُوسِيَّة واليهودية والنصرانية وَكَانَ قد بَقِي مِنْهُم بَقِيَّة متحصنون فِي المعاقل وَالْجِبَال والحصون المنيعة فَلم يزل إِدْرِيس رَحمَه الله يجاهدهم فِي حصونهم ويستنزلهم من معاقلهم حَتَّى دخلُوا فِي الْإِسْلَام طَوْعًا وَكرها وَمن أَبى الْإِسْلَام مِنْهُم أباده قتلا وسبيا
وَكَانَت الْبِلَاد الَّتِى غَزَاهَا فِي هَذِه الْمرة حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز ثمَّ عَاد إِلَى مَدِينَة وليلى فَدَخلَهَا فِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة(1/212)
غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَوْسَط وَفتح مَدِينَة تلمسان
لما قفل إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ من غَزْو بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة أَقَامَ بو ليلى بَقِيَّة جُمَادَى الْآخِرَة وَنصف رَجَب التَّالِي لَهَا ريثما استراح جَيْشه ثمَّ خرج منتصف رَجَب الْمَذْكُور برسم غَزْو مَدِينَة تلمسان وَمن بهَا من قبائل مغراوة وَبني يفرن فَانْتهى إِلَيْهَا وَنزل خَارِجهَا فَخرج إِلَيْهِ صَاحبهَا مُحَمَّد بن خزر من ولد صولات المغراوي مستأمنا ومبايعا لَهُ فَأَمنهُ إِدْرِيس وَقبل بيعَته
وَدخل مَدِينَة تلمسان فأمن أَهلهَا ثمَّ أَمن سَائِر زناتة وَبنى مَسْجِد تلمسان وأتقنه وَأمر بِعَمَل مِنْبَر نَصبه فِيهِ وَكتب عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا أَمر بِهِ الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وَذَلِكَ فِي شهر صفر سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة قَالَ ابْن خلدون وَاسم إِدْرِيس مخطوط فِي صفحة الْمِنْبَر لهَذَا الْعَهْد اه ثمَّ رَجَعَ إِدْرِيس رَحمَه الله إِلَى مَدِينَة وليلى فَدَخلَهَا مؤيدا منصورا
وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما حصل لإدريس رَحمَه الله مَا حصل من التَّمَكُّن والظهور اتَّصل خبر ذَلِك بالخليفة بِبَغْدَاد وَهُوَ هَارُون الرشيد العباسي وبلغه أَن إِدْرِيس قد استقام لَهُ أَمر الْمغرب وَأَنه قد استفحل أمره وَكَثُرت جُنُوده وَقد فتح مَدِينَة تلمسان وَبنى مَسْجِدهَا وَأَنه عازم على غَزْو إفريقية فخاف الرشيد عَاقِبَة ذَلِك وَأَنه إِن لم يتدارك أمره الْآن رُبمَا عجز عَنهُ فِي الْمُسْتَقْبل مَعَ مَا يعلم من فضل إِدْرِيس خُصُوصا ومحبة النَّاس فِي آل الْبَيْت عُمُوما فقلق الرشيد من ذَلِك وَاسْتَشَارَ وزيره يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَقَالَ إِن الرجل قد فتح تلمسان وَهِي بَاب(1/213)
إفريقية وَمن ملك الْبَاب يُوشك أَن يدْخل الدَّار وَقد هَمَمْت أَن أبْعث إِلَيْهِ جَيْشًا ثمَّ فَكرت فِي بعد الشقة وَعظم الْمَشَقَّة فَرَجَعت عَن ذَلِك فَقَالَ يحيى الرَّأْي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تبْعَث إِلَيْهِ بِرَجُل داهية يحتال عَلَيْهِ ويغتاله وتستريح مِنْهُ فأعجب الرشيد ذَلِك فَوَقع اختيارهما على رجل من موَالِي الْمهْدي وَالِد الرشيد وَاسم الرجل سُلَيْمَان بن جرير وَيعرف بالشماخ فَأحْضرهُ يحيى وأعلمه بِمَا يُرِيد مِنْهُ ووعده على قتل إِدْرِيس الرّفْعَة والمنزلة الْعَالِيَة عِنْد الرشيد وزوده مَالا وطرفا يَسْتَعِين بهَا على أمره وأصحبه الرشيد كتابا مِنْهُ إِلَى واليه على إفريقية إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب كَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَفِيه أَن ابْن الْأَغْلَب لم يكن واليا على إفريقية فِي هَذَا التَّارِيخ وَإِنَّمَا وَليهَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة حَسْبَمَا سبق فوصل الشماخ إِلَى وَالِي إفريقية بِكِتَاب الرشيد فَأَجَازَهُ إِلَى الْمغرب
وَقدم الشماخ على إِدْرِيس بن عبد الله مظْهرا النُّزُوع إِلَيْهِ فِيمَن نزع إِلَيْهِ من وحدان الْعَرَب متبرئا من الدعْوَة العباسية منتحلا للدعوة الطالبية فاختصه إِدْرِيس رَحمَه الله وحلا بِعَيْنيهِ وعظمت مَنْزِلَته لَدَيْهِ
وَكَانَ الشماخ ممتلئا من الْأَدَب والظرف والبلاغة عَارِفًا بصناعة الجدل فَكَانَ إِذا جلس الإِمَام إِدْرِيس إِلَى رُؤَسَاء البربر ووجوه الْقَبَائِل تكلم الشماخ فَذكر فضل أهل الْبَيْت وعظيم بركتهم على الْأمة ويقرر ذَلِك ويحتج لإمامة إِدْرِيس وَأَنه الإِمَام الْحق دون غَيره فَكَانَ يعجب إِدْرِيس وَيَقَع مِنْهُ الْموقع فاستولى الشماخ عَلَيْهِ حَتَّى صَار من ملازميه وَلَا يَأْكُل إِلَّا مَعَه
وَكَانَ رَاشد كالئا لإدريس ملازما لَهُ أَيْضا قَلما ينْفَرد عَنهُ لِأَنَّهُ كَانَ يخَاف عَلَيْهِ من مثل مَا وَقع فِيهِ لِكَثْرَة أَعدَاء آل الْبَيْت يَوْمئِذٍ وَكَانَ الشماخ يترصد الْغرَّة من رَاشد ويترقب الفرصة فِي إِدْرِيس إِلَى أَن غلب رَاشد ذَات يَوْم فِي بعض حاجاته فَدخل الشماخ على إِدْرِيس فَجَلَسَ بَين يَدَيْهِ على الْعَادة وتحدث مَلِيًّا
وَلما لم ير الشماخ راشدا بالحضرة انتهز الفرصة فِي إِدْرِيس فَقيل إِنَّه(1/214)
كَانَت مَعَ الشماخ قَارُورَة من طيب مَسْمُوم فأخرجها وَقَالَ لإدريس هَذَا طيب كنت استصحبته معي وَهُوَ من جيد الطّيب فَرَأَيْت أَن الإِمَام أولى بِهِ مني وَذَلِكَ من بعض مَا يجب لَهُ عَليّ ثمَّ وضع القارورة بَين يَدَيْهِ فشكره إِدْرِيس وَتَنَاول القارورة فَفَتحهَا واشتم مَا فِيهَا فَصَعدَ السم إِلَى خياشيمه وانْتهى إِلَى دماغه فَغشيَ عَلَيْهِ وَقَامَ الشماخ للحين كَأَنَّهُ يُرِيد حَاجَة الْإِنْسَان فَخرج وأتى منزله فَركب فرسا لَهُ عتيقا كَانَ قد أعده لذَلِك وَذهب لوجهه يُرِيد الْمشرق وافتقد النَّاس الإِمَام إِدْرِيس فَإِذا هُوَ مغشي عَلَيْهِ لَا يتَكَلَّم وَلَا يعلم أحد مَا بِهِ وَقيل إِن الشماخ سمه فِي سنُون والسنون بِوَزْن صبور مَا يستاك بِهِ وَكَانَ إِدْرِيس يشتكي وجع الْأَسْنَان واللثة وَقيل سمه فِي الْحُوت الشابل وَقيل فِي عِنَب أهداه إِلَيْهِ فِي غير إبانة وَالله أعلم
وَلما اتَّصل خبر إِدْرِيس بمولاه رَاشد أقبل مسرعا فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ يُحَرك شَفَتَيْه لَا يبين كلَاما قد أشرف على الْمَوْت فَجَلَسَ عِنْد رَأسه متحيرا لَا يدْرِي مَا دهاه وَاسْتمرّ إِدْرِيس على حَالَته تِلْكَ إِلَى عشي النَّهَار فَتوفي فِي مهل ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وتفقد رَاشد الشماخ فَلم يره فَعلم أَنه الَّذِي اغتال إِدْرِيس
ثمَّ جَاءَ الْخَبَر بِأَن الشماخ قد لَقِي على أَمْيَال من الْبَلَد فَركب رَاشد فِي جمع من البربر واتبعوه وتقطعت الْخَيل فِي النواحي وطلبوه ليلتهم إِلَى الصَّباح فَلحقه رَاشد بوادي ملوية عابرا فَشد عَلَيْهِ رَاشد بِالسَّيْفِ وضربه ضربات قطع فِي بَعْضهَا يمناه وَشَجه فِي رَأسه شجاجا وَنَجَا الشماخ بجربعاء الذقن وأعيى فرس رَاشد عَن اللحاق بِهِ فَرجع عَنهُ وَيُقَال أَن الشماخ رئي بعد ذَلِك بِبَغْدَاد وَهُوَ مَقْطُوع الْيَد
وَلما رَجَعَ رَاشد إِلَى منزله أَخذ فِي تجهيز الإِمَام رَضِي الله عَنهُ وَصلى عَلَيْهِ وَدَفنه بِصَحْنِ رابطة عِنْد بَاب وليلى ليتبرك النَّاس بتربته رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ(1/215)
أَمر البربر بعد وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله رَحمَه الله
قَالُوا إِن الإِمَام إِدْرِيس لما توفّي لم يتْرك ولدا إِلَّا حملا من أمة لَهُ بربرية اسْمهَا كنزة فَلَمَّا فرغ رَاشد من جهازه وَدَفنه جمع رُؤَسَاء البربر ووجوه النَّاس فَقَالَ لَهُم إِن إِدْرِيس لم يتْرك ولدا إِلَّا حملا من أمته كنزة وَهِي الْآن فِي الشَّهْر السَّابِع من حملهَا فَإِن رَأَيْتُمْ أَن تصبروا حَتَّى تضع هَذِه الْجَارِيَة حملهَا فَإِن كَانَ ذكرا أحسنا تَرْبِيَته حَتَّى إِذا بلغ مبلغ الرِّجَال بَايَعْنَاهُ تمسكا بدعوة آل الْبَيْت وتبركا بذرية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ جَارِيَة نظرتم لأنفسكم فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك مَا لنا رَأْي إِلَّا مَا رَأَيْت فَإنَّك عندنَا عوض من إِدْرِيس تقوم بأمورنا كَمَا كَانَ إِدْرِيس يقوم بهَا وَتصلي بِنَا وتقضي بَيْننَا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَصْبِر حَتَّى تضع الْجَارِيَة حملهَا وَيكون مَا أَشرت بِهِ على أَنَّهَا إِن وضعت جَارِيَة كنت أَحَق النَّاس بِهَذَا الْأَمر لفضلك وَدينك وعلمك فشكرهم رَاشد على ذَلِك ودعا لَهُم وَانْصَرفُوا فَقَامَ رَاشد بِأَمْر البربر تِلْكَ الْمدَّة
وَلما تمت لِلْجَارِيَةِ أشهر حملهَا وضعت غُلَاما أشبه النَّاس بِأَبِيهِ إِدْرِيس فَأخْرجهُ رَاشد إِلَى رُؤَسَاء البربر حَتَّى نظرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا هَذَا إِدْرِيس بِعَيْنيهِ كَأَنَّهُ لم يمت فَسَماهُ رَاشد إِدْرِيس وَنَشَأ الصَّبِي نشأة حَسَنَة إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ(1/216)
الْخَبَر عَن دولة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله
كَانَت ولادَة إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث رَجَب سنة سبع وَسبعين وَمِائَة فَكَفَلَهُ رَاشد مولى أَبِيه وَقَامَ بأَمْره أحسن قيام فَأَقْرَأهُ الْقُرْآن حَتَّى حفظه وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين ثمَّ علمه الحَدِيث وَالسّنة وَالْفِقْه فِي الدّين والعربية وَرَوَاهُ الشّعْر وأمثال الْعَرَب وَحكمهَا وأطلعه على سير الْمُلُوك وعرفه أَيَّام النَّاس ودربه على ركُوب الْخَيل وَالرَّمْي بِالسِّهَامِ وَغير ذَلِك من مكايد الْحَرْب فَلم يمض لَهُ من الْعُمر مِقْدَار إِحْدَى عشرَة سنة إِلَّا وَقد اضطلع بِمَا حمل وترشح لِلْأَمْرِ وَاسْتحق لِأَن يُبَايع فَبَايعهُ البربر وآتوه صفقتهم عَن طَاعَة مِنْهُم وإخلاص
قَالَ ابْن خلدون بَايع البربر إِدْرِيس الْأَصْغَر حملا ثمَّ رضيعا ثمَّ فصيلا إِلَى أَن شب فَبَايعُوهُ بِجَامِع مَدِينَة وليلى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة
وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب صَاحب إفريقية قد دس إِلَى بعض البربر الْأَمْوَال واستمالهم حَتَّى قتلوا راشدا مَوْلَاهُ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وحملوا إِلَيْهِ رَأسه وَقَامَ بكفالة إِدْرِيس من بعده أَبُو خَالِد يزِيد بن إلْيَاس الْعَبْدي وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن بَايعُوا لإدريس فَقَامُوا بأَمْره وجددوا لأَنْفُسِهِمْ رسوم الْملك بتجديد طَاعَته وَفِي القرطاس أَن مقتل رَاشد كَانَ فِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا إِدْرِيس بن إِدْرِيس قَالَ وَكَانَت بيعَة إِدْرِيس يَوْم الْجُمُعَة غرَّة ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة بعد مقتل رَاشد بِعشْرين يَوْمًا وَإِدْرِيس يَوْمئِذٍ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر قَالَه عبد الْملك الْوراق فِي تَارِيخه وَفِيه بعض مُخَالفَة لتاريخ الْولادَة الْمُتَقَدّم
وَفِي قتل رَاشد يَقُول إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فِي بعض مَا كتب بِهِ إِلَى الرشيد يعرفهُ بنصحه وَكَمَال خدمته
(ألم ترن بالكيد أرديت راشدا ... وَإِنِّي بِأُخْرَى لِابْنِ إِدْرِيس راصد)(1/217)
(تنَاوله عزمي على بعد دَاره ... بمحتومة يحظى بهَا من يكايد)
(ففاه أَخُو عك بمقتل رَاشد ... وَقد كنت فِيهِ شَاهدا وَهُوَ رَاقِد)
يُرِيد بأخي عك مُحَمَّد بن مقَاتل العكي وَالِي إفريقية فَإِنَّهُ لما حاول ابْن الْأَغْلَب قتل رَاشد وَتمّ لَهُ ذَلِك كتب العكي إِلَى الرشيد يُعلمهُ أَنه هُوَ الَّذِي فعل ذَلِك فَكتب صَاحب الْبَرِيد إِلَى الرشيد بِحَقِيقَة الْأَمر وَأَن ابْن الْأَغْلَب هُوَ الْفَاعِل لذَلِك وَالْمُتوَلِّيّ لَهُ فَثَبت عِنْد الرشيد كذب العكي وَصدق ابْن الْأَغْلَب فعزل الرشيد العكي عَن إفريقيا وَولى ابْن الْأَغْلَب عَلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَ قبل ذَلِك عَاملا للعكي على بعض كورها هَكَذَا حكى صَاحب القرطاس هَذَا الْخَبَر وَفِيه أَن عزل العكي عَن إفريقية وتولية ابْن الْأَغْلَب عَلَيْهَا كَانَ فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ قبل وَفَاة رَاشد بِسنتَيْنِ أَو بِأَرْبَع سِنِين على الْخلاف الْمُتَقَدّم
وَقَالَ الْبكْرِيّ والبرنسي إِن راشدا لم يمت حَتَّى أَخذ الْبيعَة لإدريس بالمغرب وَإِن إِدْرِيس لما تمّ لَهُ من الْعُمر إِحْدَى عشرَة سنة ظهر من وفور عقله ونباهته وفصاحته مَا أذهل عقول الْخَاصَّة والعامة فَأخذ لَهُ رَاشد الْبيعَة على البربر يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَصَعدَ إِدْرِيس الْمِنْبَر وخطب النَّاس فَقَالَ الْحَمد لله أَحْمَده وأستغفره وأستعين بِهِ وَأَتَوَكَّل عَلَيْهِ وَأَعُوذ بِهِ من شَرّ نَفسِي وَمن شَرّ كل ذِي شَرّ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمَبْعُوث إِلَى الثقلَيْن بشيرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آل بَيته الطاهرين الَّذين أذهب الله عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا أَيهَا النَّاس إِنَّا قد ولينا هَذَا الْأَمر الَّذِي يُضَاعف فِيهِ للمحسن الْأجر وعَلى الْمُسِيء الْوزر وَنحن وَالْحَمْد لله على قصد فَلَا تمدوا الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا فَإِن الَّذِي تطلبونه من إِقَامَة الْحق إِنَّمَا تجدونه عندنَا ثمَّ دَعَا النَّاس إِلَى بيعَته وحضهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ فَعجب النَّاس من فَصَاحَته وَقُوَّة جأشه على صغر سنه ثمَّ نزل فَتسَارع النَّاس إِلَى بيعَته وازدحموا عَلَيْهِ يقبلُونَ يَده فَبَايعهُ كَافَّة قبائل الْمغرب من زناتة وأوربة وصنهاجة وغمارة وَسَائِر قبائل البربر فتمت لَهُ الْبيعَة وَبعد بيعَته بِقَلِيل توفّي مَوْلَاهُ رَاشد وَالله أعلم(1/218)
وُفُود الْعَرَب على إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله
لما استقام أَمر الْمغرب لإدريس بن إِدْرِيس وتوطد ملكه وَعظم سُلْطَانه وَكَثُرت جيوشه وَأَتْبَاعه وفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من الْبلدَانِ وَقصد النَّاس حَضرته من كل صقع وَمَكَان فاستمر بَقِيَّة سنة ثَمَان وثنانين يصل الْوُفُود ويبذل الْأَمْوَال ويستميل الرؤساء والأقيال
وَلما دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وفدت عَلَيْهِ وفدت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب من إفريقية والأندلس نازعين إِلَيْهِ وملتفين عَلَيْهِ فَاجْتمع لَدَيْهِ مِنْهُم نَحْو خَمْسمِائَة فَارس من قيس والأزد ومذحج ويحصب والصدف وَغَيرهم فسر إِدْرِيس بوفادتهم وأجزل صلتهم وَأدنى مَنْزِلَتهمْ وجعلهم بطانة دون البربر فاعتز بهم وَأنس بقربهم فَإِنَّهُ كَانَ غَرِيبا بَين البربر فاستوزر مِنْهُم عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ الْمَعْرُوف بالملجوم من ضَرْبَة ضربهَا فِي بعض حربهم وسمته على الخرطوم
وَكَانَ عُمَيْر من فرسَان الْعَرَب وسادتها ولأبيه مُصعب مآثر بإفريقية والأندلس ومواقف فِي غَزْو الفرنج واستقضى مِنْهُم عَامر بن مُحَمَّد بن سعيد القيشي وَكَانَ من أهل الْوَرع وَالْفِقْه وَالدّين سمع من مَالك بن أنس وسُفْيَان الثَّوْريّ وروى عَنْهُمَا كثيرا وَكَانَ قد خرج إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد ثمَّ أجَاز إِلَى العدوة فوفد بهَا على إِدْرِيس فِيمَن وَفد عَلَيْهِ من الْعَرَب فاستقضاه واستكتب مِنْهُم أَبَا الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي
وَلم تزل الْوُفُود تقدم عَلَيْهِ من الْعَرَب والبربر حَتَّى كثر النَّاس لَدَيْهِ وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى(1/219)
وانْتهى إِلَى ابْن الْأَغْلَب مَا عَلَيْهِ إِدْرِيس من الإستفحال فأرهف عزمه للتضريب بَين البربر واستفسادهم على إِدْرِيس فَكَانَ مِنْهُم بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المضغري من خَاصَّة إِدْرِيس وَمن أَرْكَان دولته فكاتبه ابْن الْأَغْلَب واستهواه بِالْمَالِ حَتَّى بَايع الرشيد وانحرف عَن إِدْرِيس واعتزله فِي قومه فَصَالحه إِدْرِيس وَكتب إِلَيْهِ يستعطفه بقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكف عَنهُ وَكَانَ فِيمَا كتب بِهِ إِدْرِيس إِلَى بهْلُول الْمَذْكُور قَوْله
(أبهلول قد حملت نَفسك خطة ... تبدلت مِنْهَا ضلة برشاد)
(أضلك إِبْرَاهِيم مَعَ بعد دَاره ... فَأَصْبَحت منقادا بِغَيْر قياد)
(كَأَنَّك لم تسمع بمكر ابْن أغلب ... وقدما رمى بالكيد كل بِلَاد)
(وَمن دون مَا منتك نَفسك خَالِيا ... ومناك إِبْرَاهِيم شوك قتاد)
ثمَّ أحس إِدْرِيس من إِسْحَاق بن مُحَمَّد الأوربي بانحراف عَنهُ وموالاة لِابْنِ الْأَغْلَب فَقتله سنة ثِنْتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَصفا لَهُ الْمغرب وَتمكن سُلْطَانه بِهِ وَالله غَالب على أمره
بِنَاء مَدِينَة فاس
لما كثرت الْوُفُود من الْعَرَب وَغَيرهم على إِدْرِيس رَحمَه الله وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى اراد أَن يَبْنِي لنَفسِهِ مَدِينَة يسكنهَا هُوَ وخاصته ووجوه دولته فَركب يَوْمًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَخرج يتَخَيَّر الْبِقَاع فوصل إِلَى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطبب هوائه وتربته فاختط بِسَنَدِهِ مَدِينَة مِمَّا يَلِي الْجوف وَشرع فِي بنائها فَبنى بَعْضًا من الدّور وَنَحْو الثُّلُث من السُّور فَأتى السَّيْل من أَعلَى الْجَبَل فِي بعض اللَّيَالِي فهدم السُّور والدور وَحمل مَا حول ذَلِك من الْخيام والزروع وَأَلْقَاهَا فِي نهر سبو فَكف إِدْرِيس عَن الْبناء وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ خرج ثَانِيَة يتصيد ويرتاد لنَفسِهِ موضعا يَبْنِي فِيهِ مَا قد عزم عَلَيْهِ فَانْتهى إِلَى نهر سبو حَيْثُ هِيَ الْيَوْم حمة خولان فأعجبه الْموضع(1/220)
لقُرْبه من المَاء وَلأَجل الْحمة الَّتِي هُنَاكَ والحمة كَمَا فِي الْقَامُوس كل عين فِيهَا مَا حَار يَنْبع مِنْهَا ويستشفى بِهِ فعزم إِدْرِيس على أَن يَبْنِي هُنَاكَ مَدِينَة وَشرع فِي حفر الأساس وَعمل الجيار وَقطع الْخشب وابتدأ بِالْبِنَاءِ ثمَّ فكر فِي نهر سبو وَمَا يَأْتِي بِهِ من الْمَمْدُود والسيول زمَان الشتَاء وَمَا يحصل بذلك من الضَّرَر الْعَظِيم للنَّاس فَكف عَن الْبناء وَرجع إِلَى وليلى
ثمَّ بعث وزيره عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ يرتاد لَهُ موضعا يَبْنِي فِيهِ الْمَدِينَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا فَسَار عُمَيْر فِي جمَاعَة يقص الْجِهَات وَيتَخَيَّر الْبِقَاع والترب والمياه حَتَّى انْتهى إِلَى فحص سايس فأعجبه الْمحل فَنزل هُنَاكَ على عين مَاء تطرد فِي مرج أَخْضَر فَتَوَضَّأ وَصلى الظّهْر هُوَ وَجَمَاعَة الْقَوْم الَّذين مَعَه ثمَّ دَعَا الله تَعَالَى أَن ييسر عَلَيْهِ مطلبه ثمَّ ركب وَحده وَأمر الْجَمَاعَة أَن ينتظروه حَتَّى يعود إِلَيْهِم فنسبت الْعين إِلَيْهِ من يَوْمئِذٍ ودعيت عين عُمَيْر إِلَى الْآن وَعُمَيْر هَذَا هُوَ جد بني الملجوم من بيوتات فاس وكبرائهم فأوغل عُمَيْر فِي فحص سايس حَتَّى انْتهى إِلَى الْعُيُون الَّتِي يَنْبع مِنْهَا وَادي فاس فَرَأى بهَا من عناصر المَاء مَا ينيف على السِّتين عنصرا وَرَأى مياهها تطرد فِي فسيح من الأَرْض وحول الْعُيُون شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكلخ وَغير ذَلِك فَشرب من المَاء فاستطابه وَنظر إِلَى مَا حوله من الْمزَارِع الَّتِي لَيست على نهر سبو فَأَعْجَبتهُ فانحدر مَعَ مسيل الْوَادي حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مَدِينَة فاس الْيَوْم فَنظر فَإِذا مَا بَين الجبلين غيضة ملتفة الْأَشْجَار مطردَة الْعُيُون والأنهار وَفِي جَانب مِنْهَا خيام من شعر يسكنهَا قوم من زواغة يعْرفُونَ ببني الْخَيْر وَقوم من زناتة يعْرفُونَ ببني يرغش وَكَانَ بَنو يرغش على دين الْمَجُوسِيَّة وَكَانَ بَيت نارهم بالموضع الْمَعْرُوف بشيبوبة وَكَانَ الْبَعْض مِنْهُم على دين الْيَهُودِيَّة وَالْبَعْض على دين النَّصْرَانِيَّة
وَكَانَ بَنو الْخَيْر ينزلون بعدوة الْقرَوِيين وَبَنُو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس وَكَانُوا قَلما يفترون عَن الْقِتَال لاخْتِلَاف أهوائهم وتباين أديانهم(1/221)
فَرجع عُمَيْر إِلَى إِدْرِيس وأعلمه بِمَا رأى من الغيضة وساكنيها وَمَا وَقع عَلَيْهِ اخْتِيَاره فِيهَا فجَاء إِدْرِيس لينْظر إِلَى الْبقْعَة فألفى بني الْخَيْر وَبني يرغش يقتتلون فَأصْلح بَينهم وَأَسْلمُوا على يَده
وَاشْترى مِنْهُم الغيضة بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم هم فرضوا بذلك وَدفع لَهُم الثّمن وَأشْهد عَلَيْهِم بذلك على يَد كَاتبه أبي الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي
ثمَّ ضرب أبنتيه بكرواوة وَشرع فِي بِنَاء الْمَدِينَة فاختط عدوة الأندلس غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة
وَفِي سنة ثَلَاث بعْدهَا اختط عدوة الْقرَوِيين وَبنى مساكنه بهَا وانتقل إِلَيْهَا وَقد كَانَ أَولا أدَار السُّور على عدوة الأندلس وَبنى بهَا الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع الْأَشْيَاخ وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة ثمَّ انْتقل ثَانِيًا إِلَى عدوة الْقرَوِيين كَمَا قُلْنَا وَنزل بالموضع الْمَعْرُوف بالمقرمدة وَضرب فِيهِ قيطونة وَأخذ فِي بِنَاء جَامع الشرفاء وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة أَيْضا ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَاره الْمَعْرُوفَة الْآن بدار القيطون الَّتِي يسكنهَا الشرفاء الجوطيون من وَلَده ثمَّ بنى القيسارية إِلَى جَانب الْمَسْجِد الْجَامِع وأدار الْأَسْوَاق حوله وَأمر النَّاس بِالْبِنَاءِ وَقَالَ لَهُم من بنى موضعا أَو اغترسه قبل تَمام السُّور فَهُوَ لَهُ فَبنى النَّاس من ذَلِك شَيْئا كثيرا واغترسوا ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفرس من أَرض الْعرَاق فأنزلهم بغيضة هُنَاكَ كَانَت على الْعين الْمَعْرُوفَة بِعَين علون
وَكَانَ علون عبدا أسود يأوي إِلَى تِلْكَ الغيضة وَيقطع الطَّرِيق بهَا على الْمَارَّة فتحامى النَّاس غيضته وتناذروها فَأعْلم إِدْرِيس رَحمَه الله بِشَأْنِهِ فَبعث فِي طلبه خيلا قبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَيْهِ فَأمر بقتْله وصلبه على شَجَرَة كَانَت على الْعين فأضيفت إِلَيْهِ الْعين من يَوْمئِذٍ وَقيل عين علون
ثمَّ أدَار إِدْرِيس السُّور على عدوة الْقرَوِيين وَكَانَت من لدن بَاب السلسلة إِلَى غَدِير الجوزاء
قَالَ عبد الْملك الْوراق كَانَت مَدِينَة فاس فِي الْقَدِيم بلدين لكل بلد مِنْهُمَا سور يحيى ط بِهِ وأبواب تخْتَص بِهِ وَالنّهر فاصل بَينهمَا وَسميت(1/222)
إِحْدَى العدوتين عدوة الْقرَوِيين لنزول الْعَرَب الوافدين من القيروان بهَا وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة أهل بَيت وَسميت الْأُخْرَى عدوة الأندلس لنزول الْعَرَب الوافدين من الأندلس بهَا وَكَانُوا جما غفيرا يُقَال أَرْبَعَة آلَاف أهل بَيت
وَكَانَ الحكم بن هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس صدرت مِنْهُ لأوّل إمارته هَنَات أوجبت قيام جمَاعَة من أهل الْوَرع عَلَيْهِ فيهم يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ صَاحب مَالك وراوي الْمُوَطَّأ عَنهُ وطالوت الْفَقِيه وَغَيرهمَا فخلعوا الحكم وَبَايَعُوا بعض قرَابَته وَكَانُوا بالربض الغربي من قرطبة فَقَاتلهُمْ الحكم وكثروه وكادوا يأْتونَ عَلَيْهِ ثمَّ أظفره الله بهم وَوضع فيهم السَّيْف ثَلَاثَة أَيَّام وَهدم دُورهمْ ومساجدهم وفر الْبَاقُونَ مِنْهُم فَلَحقُوا بفاس الْمغرب الْأَقْصَى وبالإسكندرية من أَرض مصر فَأَما اللاحقون بفاس فأنزلهم إِدْرِيس رَحمَه الله بعدوة الأندلس فأضيفت إِلَيْهِم وَأما اللاحقون بالإسكندية فثاروا بهَا بعد حِين فزحف إِلَيْهِم عبد الله بن طَاهِر الْخُزَاعِيّ صَاحب مصر من قبل الْمَأْمُون بن الرشيد فَقَاتلهُمْ ونفاهم إِلَى جَزِيرَة إقريطش فَلم يزَالُوا بهَا إِلَى أَن ملكهَا الفرنج من أَيْديهم بعد مُدَّة
وَذكر ابْن غَالب فِي تَارِيخه أَن الإِمَام إِدْرِيس لما فرغ من بِنَاء مَدِينَة فاس وَحَضَرت الْجُمُعَة الأولى صعد الْمِنْبَر وخطب النَّاس ثمَّ رفع يَدَيْهِ فِي آخر الْخطْبَة فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي مَا أردْت بِبِنَاء هَذِه الْمَدِينَة مباهاة وَلَا مفاخرة وَلَا رِيَاء وَلَا سمعة وَلَا مُكَابَرَة وَإِنَّمَا أردْت أَن تعبد بهَا ويتلى بهَا كتابك وتقام بهَا حدودك وَشَرَائِع دينك وَسنة نبيك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بقيت الدُّنْيَا اللَّهُمَّ وفْق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عَلَيْهِ واكفهم مُؤنَة أعدائهم وأدر عَلَيْهِم الأرزاق وأغمد عَنْهُم سيف الْفِتْنَة والشقاق إِنَّك على كل شَيْء قدير(1/223)
فأمن النَّاس على دُعَائِهِ فكثرت الْخيرَات بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرت بهَا البركات
وَمن محَاسِن فاس أَن نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله فِي دورها وحماماتها وشوارعها وأسواقها وتطحن بِهِ أرحاؤها ثمَّ يخرج مِنْهَا وَقد حمل أقذارها وازبالها إِلَى غير ذَلِك من عُيُون المَاء الَّتِي تنبع بداخلها وتتفجر من بيوتها تجَاوز الْحصْر كَثْرَة وَقد مدحها الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْفضل ابْن النَّحْوِيّ بقوله
(يَا فاس جَمِيع الْحسن مسترق ... وساكنوك ليهنهم بِمَا رزقوا)
(هَذَا نسميك أم روح لراحتنا ... وماؤك السلسل الصافي أم الْوَرق)
(أَرض تخللها الْأَنْهَار داخلها ... حَتَّى الْمجَالِس والأسواق والطرق)
وَقَالَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو عبد الله المغيلي يتشوق إِلَى فاس وَكَانَ يَلِي خطة الْقَضَاء بِمَدِينَة آزمور
(يَا فاس حَيا الله أَرْضك من ثرى ... وسقاك من صوب الْغَمَام المسبل)
(يَا جنَّة الدُّنْيَا الَّتِي أربت على ... حمص بمنظرها الْبَهِي الأجمل)
(غرف على غرف وَيجْرِي تحتهَا ... مَاء ألذ من الرَّحِيق السلسل)
(وبساتن من سندس قد زخرفت ... بجداول كالأيم أَو كالمقصل)
وبجامع القروين شرف ذكره ... أنس بذكراه يهيج تململ)
(وبصحنه زمن المصيف محَاسِن ... فَمَعَ الْعشي الغرب مِنْهُ اسْتقْبل)
(واجلس إزاء الخصة الحسنا بِهِ ... واكرع بهَا عني فديتك وانهل)(1/224)
غَزْو إِدْرِيس بن إِدْرِيس المغربين واستيلاؤه عَلَيْهِمَا
لما فرغ إِدْرِيس من بِنَاء مَدِينَة فاس وانتقل إِلَيْهَا بمحلته واستوطنها بحاشيته وأرباب دولته واتخذها دَار ملكه أَقَامَ بهَا إِلَى سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة فَخرج غازيا بِلَاد المصامدة فَانْتهى إِلَيْهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَدخل مَدِينَة نَفِيس ومدينة أغمات وَفتح سَائِر بِلَاد المصامدة وَعَاد إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة فَخرج فِي الْمحرم برسم غَزْو قبائل نفزة من أهل الْمغرب الْأَوْسَط وَمن بَقِي هُنَاكَ على دين الخارجية من البربر فَسَار حَتَّى غلب عَلَيْهِم وَدخل مَدِينَة تلمسان فَنظر فِي أحوالها وَأصْلح سورها وجامعها وصنع فِيهَا منبرا قَالَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك الْوراق دخلت مَدِينَة تلمسان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فَرَأَيْت فِي رَأس منبرها لوحا من بَقِيَّة مِنْبَر قديم قد سمر عَلَيْهِ هُنَالك مَكْتُوبًا فِيهِ هَذَا مَا أَمر بِهِ الإِمَام إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فِي شهر الْمحرم سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة اه وَقد تقدم لنا مَا يُخَالف هَذَا وَالله أعلم
وَأقَام إِدْرِيس بِمَدِينَة تلمسان وأحوازها يدبر أمرهَا وَيصْلح أحوالها ثَلَاث سِنِين ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة فاس
قَالَ دَاوُد بن الْقَاسِم الأوربي شهِدت مَعَ إِدْرِيس بن إِدْرِيس بعض(1/225)
غَزَوَاته مَعَ الْخَوَارِج الصفرية من البربر فلقيناهم وهم ثَلَاثَة أضعافنا فَلَمَّا تقَارب الْجَمْعَانِ نزل إِدْرِيس فَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى ثمَّ ركب فرسه وَتقدم لِلْقِتَالِ قَالَ فقاتلناهم قتالا شَدِيد فَكَانَ إِدْرِيس يضْرب فِي هَذَا الْجَانِب مرّة ويكر فِي هَذَا الْجَانِب الآخر مرّة وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى ارْتَفع النَّهَار ثمَّ رَجَعَ إِلَى رايته فَوقف بإزائها وَالنَّاس يُقَاتلُون بَين يَدَيْهِ فطفقت أتأمله وأديم النّظر إِلَيْهِ وَهُوَ تَحت ظلال البنود يحرض النَّاس ويشجعهم فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت من ثباته وَقُوَّة جأشه فَالْتَفت نحوي وَقَالَ يَا دَاوُد مَا لي أَرَاك تديم النّظر إِلَيّ قلت أَيهَا الإِمَام إِنَّه قد أعجبني مِنْك خِصَال لم أرها الْيَوْم فِي غَيْرك قَالَ وَمَا هِيَ قلت أولاها مَا أرَاهُ من ثبات قَلْبك وطلاقة وَجهك عِنْد لِقَاء الْعَدو قَالَ ذَاك ببركة جدنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعائه لنا وَصلَاته علينا ووراثة من أَبينَا عَليّ بن أبي طَالب قلت وأراك تبصق بصاقا مجتمعا وَأَنا أطلب قَلِيل الرِّيق فِي فمي فَلَا أجد قَالَ يَا دَاوُد ذَاك لقُوَّة جأشي واجتماع لبي عِنْد الْحَرْب وَعدم ريقك لطيش عقلك وافتراق لبك قلت وَأَنا أَيْضا أتعجب من كَثْرَة تقلبك فِي سرجك وَقلة قرارك عَلَيْهِ قَالَ ذَاك مني زمع إِلَى الْقِتَال وصرامة فِيهِ فَلَا تظنه رعْبًا وَأَنْشَأَ يَقُول
(أَلَيْسَ أَبونَا هَاشم شدّ أزره ... وَأوصى بنيه بالطعان وبالضرب)
(فلسنا نمل الْحَرْب حَتَّى تملنا ... وَلَا نشتكي مِمَّا يؤول من النصب)(1/226)
وَفَاة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله
قَالَ ابْن خلدون انتظمت لإدريس بن إِدْرِيس كلمة البربر كلمة البربر ومحى دَعْوَة الْخَوَارِج مِنْهُم واقتطع المغربين عَن دَعْوَة العباسيين من لدن السوس الْأَقْصَى غلى وَادي شلف ودافع إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَن حماه بعد مَا ضايقه بالمكايد واستفساد الْأَوْلِيَاء حَتَّى قتلوا رَاشد مَوْلَاهُ وارتاب إِدْرِيس بالبربر فَصَالح بن الْأَغْلَب وَسكن من غربه وَضرب السِّكَّة باسمه
وَعجز الأغالبة بعد ذَلِك عَن مدافعة هَؤُلَاءِ الأدارسة ودافعوا خلفاء بَين الْعَبَّاس بالمعاذير الْبَاطِلَة وَصفا ملك الْمغرب لإدريس وَاسْتمرّ بدار ملكه من فاس سَاكِنا وادعا مقتعدا أريكته مجتنيا ثَمَرَته إِلَى أَن توفاه الله ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وعمره نَحْو سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة وَدفن بمسجده بِإِزَاءِ الْحَائِط الشَّرْقِي مِنْهُ وَقَالَ البرنسي إِنَّه توفّي بِمَدِينَة وليلى وَدفن إِلَى جنب أَبِيه
وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه أكل عنبا فشرق بِحَبَّة مِنْهُ فَمَاتَ لحينه وَخلف من الْوَلَد اثْنَي عشر ذكرا أَوَّلهمْ مُحَمَّد وَعبد الله وَعِيسَى وَإِدْرِيس وَأحمد وجعفر وَيحيى وَالقَاسِم وَعمر وَعلي وَدَاوُد وَحَمْزَة كَذَا فِي القرطاس وَزَاد ابْن حزم الْحسن وَالْحُسَيْن وَولي الْأَمر مِنْهُم بعده مُحَمَّد وَهُوَ أكبرهم(1/227)
الْخَبَر عَن دولة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله
لما توفّي إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ وَلما ولي قسم بِلَاد الْمغرب بَين اخوته وَذَلِكَ بِإِشَارَة جدته كنزة أم إِدْرِيس فاختص الْقَاسِم مِنْهَا بطنجة وسبتة وَقصر مصمودة وقلعة حجر النسْر وتطوان وَمَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك من الْقَبَائِل والبلاد واختص عمر مِنْهَا بتيكساس وترغة وَمَا بَينهمَا من قبائل صنهاجة وغمارة واختص دَاوُد بِبِلَاد هوارة وتسول وتازا وَمَا بَين ذَلِك من قبائل مكناسة وغياثة واختص يحيى بآصيلا والعرايش وَالْبَصْرَة وبلاد ورغة وَمَا والى ذَلِك واختص عِيسَى بسلا وشالة وآزمور وتامسنا وَمَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك من الْقَبَائِل واختص حَمْزَة بِمَدِينَة وليلى وأعمالها واختص أَحْمد بِمَدِينَة مكناسة ومدينة تادلا وَمَا بَينهمَا من بِلَاد فازاز واختص عبد الله بأغمات وبلد نَفِيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الْأَقْصَى وَأبقى الآخرين فِي كفَالَته وكفالة جدتهم كنزة لصغرهم
وَبقيت تلمسان لولد عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله فَإِن إِدْرِيس بن إِدْرِيس لما غزا تلمسان وَأقَام بهَا ثَلَاث سِنِين كَمَا سبق ودوخ بِلَاد زناتة واستوسقت لَهُ طاعتهم عقد عَلَيْهَا لبني عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله فَلَمَّا توفّي إِدْرِيس واقتسم بنوه أَعمال الْمغرب كَانَت تلمسان فِي سهم عِيسَى بن إِدْرِيس بن(1/228)
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الله واستمرت بِأَيْدِيهِم إِلَى أَن تلاشى أَمرهم بِدُخُول العبيدين عَلَيْهِم قَالَه ابْن خلدون
وَأقَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس بدار مَكَّة من فاس مقتعدا على أريكته واخوته وُلَاة على بِلَاد الْمغرب قد ضبطوا أَعمالهَا وسدوا ثغورها وأمنوا سبلها وَحسنت سيرتهم فِي ذَلِك إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
حُدُوث الْفِتْنَة بَين بني إِدْرِيس
ثمَّ خرج على مُحَمَّد بن إِدْرِيس أَخُوهُ عِيسَى بِمَدِينَة آزمور ونبذ طَاعَته وَطلب الْأَمر لنَفسِهِ فَكتب مُحَمَّد إِلَى أَخِيه الْقَاسِم صَاحب طنجة يَأْمُرهُ بِحَرب عِيسَى فَامْتنعَ من ذَلِك فَكتب مُحَمَّد إِلَى أَخِيه عمر صَاحب تيكساس بِمثل مَا كتب بِهِ إِلَى الْقَاسِم فامتثل أمره وزحف إِلَى عِيسَى فِي قبائل البربر وأمده مُحَمَّد بِأَلف فَارس من زناتة فأوقع عمر بِعِيسَى وهزمه وطرده عَن عمله وَكتب إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد بِالْفَتْح فشكره على ذَلِك وولاه على مَا فَتحه من عمل عِيسَى وَأمره مَعَ ذَلِك بِالْمَسِيرِ إِلَى قتال الْقَاسِم الَّذِي عصى أمره أَولا فزحف عمر إِلَى الْقَاسِم وَنزل عَلَيْهِ بِظَاهِر طنجة فَخرج إِلَيْهِ الْقَاسِم ودارت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة هزم فِيهَا الْقَاسِم وَاسْتولى عمر على مَا بِيَدِهِ من الْبِلَاد فَصَارَ الرِّيف البحري كُله فِي عمل عمر من تيكيساس وبلاد غمارة إِلَى سبتة ثمَّ إِلَى طنجة وَهَذَا سَاحل الْبَحْر الرُّومِي ثمَّ يَنْعَطِف إِلَى آصيلا والعرايش ثمَّ إِلَى سلا ثمَّ آزمور وبلاد تامسنا وَهَذَا سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط وتزهد الْقَاسِم بعد هَذِه الْحَرْب فَبنى مَسْجِدا بساحل الْبَحْر قرب آصيلا بِموضع يعرف بتاهدرات على ضفة النَّهر هُنَاكَ وَأعْرض عَن الدُّنْيَا وَأقَام يعبد الله إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله
واتسعت ولَايَة عمر بن إِدْرِيس وخلصت طويته لِأَخِيهِ مُحَمَّد الْأَمِير إِلَى أَن توفّي عمر بِموضع يعرف بفج الْفرس من بِلَاد صنهاجة فِي دولة أَخِيه مُحَمَّد(1/229)
سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ فَحمل إِلَى فاس وَصلى عَلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد وَدفن مَعَ أَبِيه وَعمر هَذَا هُوَ جد الْأَشْرَاف الحموديين المالكين للأندلس بعد بني أُميَّة
وَعقد الْأَمِير مُحَمَّد على عمله لوَلَده عَليّ بن عمر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وَأما عِيسَى فَيُقَال إِنَّه توفّي بآيت عتاب وَله بهَا ذُرِّيَّة وَالله أعلم
وَفَاة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله
وَأقَام الْأَمِير مُحَمَّد بن إِدْرِيس بعد وَفَاة أَخِيه عمر سَبْعَة أشهر وَتُوفِّي بِمَدِينَة فاس فِي ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَدفن بشرقي جَامعهَا مَعَ أَبِيه وأخيه بعد أَن عهد بِالْأَمر لِابْنِهِ عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بحيدرة على مَا سَيَأْتِي
الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس
لما توفّي مُحَمَّد بن إِدْرِيس بَايع النَّاس لِابْنِهِ عَليّ بن مُحَمَّد بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ ويلقب عَليّ هَذَا بحيدرة على لقب عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ جد الْأَشْرَاف العلميين أهل جبل الْعلم وَمِنْهُم المشيشيون أَوْلَاد مَوْلَانَا عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ والوزانيون أَوْلَاد مَوْلَانَا عبد الله الشريف وَيَنْتَهِي نسب هَؤُلَاءِ إِلَى الْمولى يملح بن مشيش أخي الْمولى عبد السَّلَام بن مشيش
وَكَانَ سنّ عَليّ حيدرة يَوْم بُويِعَ تسع سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر فَقَامَ بأَمْره الْأَوْلِيَاء والحاشية من الْعَرَب والبربر وأحسنوا كفَالَته وطاعته وَكَانَت أَيَّامه خير أَيَّام
وَقَالَ ابْن أبي زرع ظهر لعَلي هَذَا من الذكاء وَالْفضل مَا يَقْتَضِيهِ شرفه(1/230)
وَسَار بسيرة أَبِيه وجده فِي الْعدْل فَكَانَ النَّاس فِي أَيَّامه فِي أَمن ودعة إِلَى أَن توفّي فِي شهر رَجَب سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وعهد بِالْأَمر لِأَخِيهِ يحيى بن مُحَمَّد على مَا سَيَأْتِي
الْخَبَر عَن دولة يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس
قَالَ ابْن خلدون قَامَ يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس بِالْأَمر وامتد سُلْطَانه وعظمت دولته وَحسنت آثَار أَيَّامه واستبحر عمرَان فاس وبنيت بهَا الحمامات والفنادق للتجار وبنيت خَارِجهَا الأرباض ورحل إِلَيْهَا النَّاس من الثغور القاصية
وَقَالَ ابْن أبي زرع قصد إِلَيْهَا النَّاس من الأندلس وإفريقية وَجَمِيع بِلَاد الْمغرب
بِنَاء مَسْجِد الْقرَوِيين بفاس
قَالَ ابْن أبي زرع كَانَ مَوضِع مسج الْقرَوِيين أَرضًا بَيْضَاء لرجل من هوارة كَانَ وَالِده قد حازها أَيَّام بِنَاء فاس وَلما قدم وَفد القيروان على إِدْرِيس الْأَصْغَر حَسْبَمَا تقدم كَانَ فيهم امْرَأَة اسْمهَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد الفِهري وتكنى أم الْبَنِينَ فَنزلت فِي أهل بَيتهَا بِالْقربِ من مَوضِع الْمَسْجِد الْمَذْكُور ثمَّ مَاتَ زَوجهَا وإخوتها فورثت مِنْهُم مَالا جسيما وَكَانَ من حَلَال فَأَرَادَتْ أَن تنفقه فِي وُجُوه الْخَيْر وَكَانَت لَهَا نِيَّة صَالِحَة فعزمت على بِنَاء مَسْجِد تَجِد ثَوَابه عِنْد الله فاشترت الْبقْعَة من رَبهَا وشرعت فِي حفر أساس الْمَسْجِد وَبِنَاء جدرانه وَذَلِكَ يَوْم السبت فاتح رَمَضَان الْمُعظم سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فبنته بالطابية والكدان(1/231)
وَكَانَت الطَّرِيقَة الَّتِي سلكتها فِي بنائِهِ أَنَّهَا التزمت أَن تَأْخُذ التُّرَاب وَغَيره من مَادَّة الْبناء من نفس الْبقْعَة دون غَيرهَا مِمَّا هُوَ خَارج عَن مساحتها فحفرت فِي أعماقها كهوفا وَجعلت تستخرج مِنْهَا التُّرَاب الْجيد وَالْحجر الكدان وتبني بِهِ وأنبطت بهَا بِئْرا يستقى مِنْهَا المَاء للْبِنَاء وَالشرب وَغير ذَلِك وَكَانَ ذَلِك كُله تحريا مِنْهَا أَن لَا تدخل فِي بِنَاء الْمَسْجِد شُبْهَة فَعَادَت بركَة نِيَّتهَا وورعها على الْمَسْجِد الْمَذْكُور حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا ترى
قَالُوا وَلم تزل فَاطِمَة الْمَذْكُورَة صَائِمَة من يَوْم شرع فِي بنائِهِ إِلَى أَن تمّ وصلت فِيهِ شكرا لله تَعَالَى
وَكَانَت مساحة الْمَسْجِد يَوْم بني أَربع بلاطات وصحنا صَغِيرا وَجعلت محرابه فِي مَوضِع الثريا الْكُبْرَى وَجعلت طوله من الغرب إِلَى الشرق مائَة وَخمسين شبْرًا وَبنت بِهِ صومعة غير مُرْتَفعَة بِموضع الْقبَّة الَّتِي على رَأس العنزة الْيَوْم
وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن انقرضت دولة الأدارسة وَجَاءَت دولة زناتة من بعْدهَا وأداروا السُّور على العدوتين مَعًا الْقرَوِيين والأندلس وَزَادُوا فِي مسجديهما زِيَادَة كَثِيرَة فنقلوا الْخطْبَة من مَسْجِد الشرفاء إِلَى مَسْجِد الْقرَوِيين وَمن مَسْجِد الْأَشْيَاخ إِلَى مَسْجِد الأندلس وَذَلِكَ صدر الْمِائَة الرَّابِعَة
ثمَّ لما استولى عبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس على فاس وبلاد العدوة اسْتعْمل على فاس عَاملا لَهُ اسْمه أَحْمد بن أبي بكر الزناتي ثمَّ اليفرني فَاسْتَأْذن النَّاصِر فِي إصْلَاح مَسْجِد الْقرَوِيين وَالزِّيَادَة فِيهِ فَأذن لَهُ وَبعث إِلَيْهِ بِمَال من خمس الْغَنَائِم فَزَاد فِيهِ زِيَادَة بَيِّنَة وأزال الصومعة الْقَدِيمَة عَن موضعهَا وَبنى الصومعة الْمَوْجُودَة الْآن وَكتب على بَابهَا فِي مربعة بالجص واللازورد هَذَا مَا أَمر بِهِ أَحْمد بن أبي بكر الزناتي هداه(1/232)
الله ووفقه ابْتِغَاء ثَوَاب الله وجزيل إحسانه
وابتدأ الْعَمَل فِي هَذِه الصومعة يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَفرغ من بنائها فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَركب فِي أَعلَى المنارة سيف الإِمَام إِدْرِيس بن إِدْرِيس تبركا بِهِ وَذَلِكَ أَن بعض حفدة إِدْرِيس رَحمَه الله تنازعوا فِي السَّيْف الْمَذْكُور وَأَرَادَ كل أَن يحوزه لنَفسِهِ فَقَالَ لَهُم الْأَمِير أَحْمد بن أبي بكر هَل لكم فِي أَن تبيعوني هَذَا السَّيْف قَالُوا وَمَا تصنع بِهِ قَالَ أجعله فِي أَعلَى المنارة فَقَالُوا أما إِذا أردْت هَذَا فَنحْن نهبه لَك مجَّانا فوهبوه لَهُ فَرَكبهُ فِي أَعلَى المنارة
وَكَانَت مَبْنِيَّة من الْحجر المنجور وفيهَا ثقب يعشش فِيهَا الطير من الْحمام والزرزور وَغَيرهمَا ويتأذى الْمَسْجِد وَالنَّاس بهَا وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فَاسْتَأْذن القَاضِي أَبُو عبد الله بن أبي الصَّبْر السُّلْطَان يُوسُف الْمَذْكُور فِي تلبيس المنارة وتبييضها فَأذن لَهُ فلبسها وبيضها ودلكها حَتَّى صَارَت كالمرآة الصقلية
وَقَالَ ابْن خلدون ثمَّ أوسع فِي خطه الْمَسْجِد الْمَذْكُور الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس وَأعد لَهُ السِّقَايَة والسلسلة بِبَاب الحفاة ثمَّ أوسع فِي خطته عَليّ بن يُوسُف اللمتوني ثمَّ مُلُوك الْمُوَحِّدين وَبني مرين واستمرت الْعِمَارَة بِهِ وانصرفت هممهم إِلَى تشييده والمنافسة فِي الاهتبال بِهِ فَبلغ الاحتفال فِيهِ مَا شَاءَ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُور فِي تواريخ الْمغرب أه
وَفِي أَيَّام يحيى بن مُحَمَّد صَاحب التَّرْجَمَة وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ قَامَ رجل مُؤذن بِنَاحِيَة تلمسان يَدعِي النُّبُوَّة وَتَأَول الْقُرْآن على غير وَجهه فَاتبعهُ خلق كثير من الغوغاء
وَكَانَ من بعض شرائعه أَنه ينْهَى عَن قصّ الشّعْر وتقليم الْأَظْفَار ونتف الإبطين والاستحداد وَأخذ الزِّينَة وَيَقُول لَا تَغْيِير لخلق الله فَأمر أَمِير(1/233)
تلمسان بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فهرب وَركب الْبَحْر من مرسى هنين إِلَى الأندلس فشاع بهَا أَيْضا خَبره وَتَبعهُ من سُفَهَاء النَّاس أمة عَظِيمَة فَبعث إِلَيْهِ ملك الأندلس فاستتابه فَلم يتب فَقتله وصلبه وَهُوَ يَقُول أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله
الخبرعن دولة يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس
لما توفّي يحيى بن مُحَمَّد الَّذِي بنى مَسْجِد الْقرَوِيين فِي أَيَّامه ولي الْأَمر من بعده ابْنه يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس فاساء السِّيرَة وَكثر عيثه فِي الْحرم وَدخل على جَارِيَة من بَنَات الْيَهُود فِي الْحمام وَكَانَت بارعة فِي الْجمال فَرَاوَدَهَا عَن نَفسهَا فاستغاثت وبادر النَّاس إِلَيْهَا بالإنكار وثابت الْعَامَّة عَلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك عبد الرَّحْمَن بن أبي سهل الجذامي وَكَانَت زَوْجَة يحيى الْمَذْكُور وَهِي عَاتِكَة بنت عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس صَاحب الرِّيف والسواحل أشارت عَلَيْهِ بالاختفاء بعدوة الأندلس ريثما تسكن الْفِتْنَة فتوارى بهَا فَمَاتَ من ليلته أسفا على مَا صنع بِنَفسِهِ وَمَا وَقع فِيهِ من الْعَار
وَاسْتولى عبد الرَّحْمَن بن أبي سهل على فاس وَقَامَ بأمرها فَكتبت عَاتِكَة بنت عَليّ إِلَى أَبِيهَا تعلمه بالْخبر واستدعاه مَعَ ذَلِك أهل الدولة من الْعَرَب والبربر والموالي فَجمع حشمه وجيشه وَجَاء إِلَى فاس فاستولى عَلَيْهَا
وَانْقطع الْملك من عقب مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَصَارَ بعد هَذَا تَارَة يكون فِي عقب عمر بن إِدْرِيس صَاحب الرِّيف وَتارَة يكون فِي عقب الْقَاسِم بن إِدْرِيس الزَّاهِد على مَا نذكرهُ(1/234)
الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس
لما دخل عَليّ بن عمر مَدِينَة فاس وَاسْتقر بهَا بَايعه النَّاس وَدخلت الكافة فِي طَاعَته وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب واستقام لَهُ الْأَمر إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ عبد الرَّزَّاق الفِهري وَكَانَ من الْخَوَارِج الصفرية وَأَصله من وشقة بلد بالأندلس فَقَامَ بجبال مديونة من أَعمال فاس على مسيرَة يَوْم وَنصف مِنْهَا فَتَبِعَهُ خلق كثير من البربر من مديونة وغياثة وَغَيرهم فَبنى قلعة منيعة بِبَعْض جبال مديونة وسماها وَشقه باسم بَلَده قَالَ ابْن أبي زرع وَهِي بَاقِيَة بِتِلْكَ النَّاحِيَة حَتَّى الْآن
ثمَّ زحف إِلَى قَرْيَة صفرون فَدَخلَهَا وَبَايَعَهُ كَافَّة البربر الصفرونية ثمَّ زحف بهم إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس فِي عَسْكَر ضخم فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة كَانَ الظفر فِي آخرهَا لعبد الرَّزَّاق فَانْهَزَمَ عَليّ بن عمر وَقتل خلق كثير من جنده وفر بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد أوربة فَدخل عبد الرَّزَّاق مَدِينَة فاس وَملك عدوة الأندلس وخطب لَهُ بهَا وَامْتنع مِنْهُ أهل عدوة الْقرَوِيين وبعثوا إِلَى يحيى بن الْقَاسِم الزَّاهِد وَكَانَ مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة يحيى بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس
لما فر عَليّ بن عمر عَن فاس وَاسْتولى عبد الرَّزَّاق الصفري على عدوة الأندلس بعث أهل فاس إِلَى يحيى بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وَيعرف يحيى هَذَا بالعدام فوصل إِلَيْهِم فَبَايعُوهُ وولوه على أنفسهم وَيحيى العدام هَذَا هُوَ جد الْأَشْرَاف الجوطيين بفاس فَإِنَّهُم أَوْلَاد يحيى الجوطي بن مُحَمَّد بن يحيى العدام وَإِنَّمَا قيل لَهُ الجوطي نِسْبَة إِلَى جوطة بِضَم الْجِيم وبالطاء(1/235)
الْمُهْملَة قَرْيَة كَانَت على نهر سبو بالعدوة الجنوبية مِنْهُ نزلها بِيَحْيَى بن مُحَمَّد فنسب إِلَيْهَا وقبره مَعْرُوف بهَا إِلَى الْآن
وَلما اسْتَقل بِيَحْيَى بن الْقَاسِم بِالْأَمر قَاتل عبد الرَّزَّاق حَتَّى أخرجه من عدوة الأندلس فَدَخلَهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا وَجَمِيع من نزل بهَا من أهل الأندلس الربضيين ربض قرطبة وَاسْتعْمل يحيى بن الْقَاسِم عَلَيْهِم ثَعْلَبَة بن محَارب بن عبد الله الْأَزْدِيّ من ولد الْمُهلب بن أبي صفرَة وَهُوَ ربضي أَيْضا فَلم يزل واليا على عدوة الأندلس إِلَى أَن توفّي فَاسْتعْمل يحيى مَكَانَهُ وَلَده عبد الله بن ثَعْلَبَة الْمَعْرُوف بعبود إِلَى أَن توفّي أَيْضا فَاسْتعْمل الْأَمِير يحيى مَكَانَهُ وَلَده محَارب بن عبود بن ثَعْلَبَة
وَخرج الْأَمِير يحيى بن الْقَاسِم إِلَى قتال الصفرية فَكَانَت لَهُ مَعَهم حروب ووقائع كَثِيرَة وَلم يزل أَمِيرا على فاس وأعمالها إِلَى أَن اغتاله الرّبيع بن سُلَيْمَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت فِي أَيَّام هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء أَحْدَاث نذكرها
فَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ كَانَ بِبِلَاد العدوة والأندلس قحط شَدِيد نضبت مِنْهُ الْمِيَاه وَاسْتمرّ إِلَى سنة سِتِّينَ
وَفِي سنة أَربع وَخمسين كسف الْقَمَر كُله من أول اللَّيْل حَتَّى أصبح وَلم ينجل
وَفِي سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ عَم الْقَحْط والغلاء جَمِيع بِلَاد الأندلس وَالْمغْرب وإفريقية ومصر والحجاز حَتَّى رَحل النَّاس عَن مَكَّة إِلَى الشَّام وَلم يبْق بهَا إِلَّا نفر يسير مَعَ سدنة الْكَعْبَة ثمَّ كَانَ بالمغرب والأندلس وباء عَظِيم مَعَ غلاء فِي الأسعار وعدمت الأقوات فَهَلَك خلق كثير
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَت بالسماء حمرَة شَدِيدَة من أول اللَّيْل إِلَى آخِره لم يعْهَد قبلهَا مثلهَا وَذَلِكَ لَيْلَة السبت لتسْع بَقينَ من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من(1/236)
شَوَّال مِنْهَا كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة لم يسمع بِمِثْلِهَا تهدمت مِنْهَا الْقُصُور وانحطت مِنْهَا الصخور من الْجبَال وفر النَّاس من المدن إِلَى الْبَريَّة من شدَّة اضْطِرَاب الأَرْض وتساقطت السقوف والحيطان وفرت الطُّيُور عَن أوكارها وَمَاجَتْ فِي السَّمَاء زَمَانا حَتَّى سكنت الزلزلة وعمت هَذِه الرجفة جَمِيع بِلَاد الأندلس سهلها وجبالها وَجَمِيع بِلَاد العدوة من تلمسان إِلَى طنجة وَمن الْبَحْر الرُّومِي إِلَى أقْصَى الْمغرب إِلَّا أَنَّهَا لم يمت فِيهَا أحد لطفا من الله تَعَالَى بخلقه
وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ طبقت الْفِتْنَة جَمِيع آفَاق الأندلس وَالْمغْرب وإفريقية
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَت المجاعة الشَّدِيدَة الَّتِي عَمت جَمِيع بِلَاد الأندلس وبلاد العدوة حَتَّى أكل النَّاس بَعضهم بَعْضًا ثمَّ عقب ذَلِك وباء وَمرض وَمَوْت كَبِير هلك فِيهِ من الْخلق مَا لَا يُحْصى فَكَانَ يدْفن فِي الْقَبْر الْوَاحِد عدد من النَّاس لِكَثْرَة الْمَوْتَى وَقلة من يقوم بهم وَكَانُوا يدفنون من غير غسل وَلَا صَلَاة وَالْأَمر لله وَحده
الْخَبَر عَن دولة يحيى بن إِدْرِيس بن عمر بن إِدْرِيس
لما قتل يحيى العدام فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولي الْأَمر من بعده يحيى بن إِدْرِيس بن عمر بن إِدْرِيس فَبَايعهُ أهل عدوة فاس وخطب لَهُ بهما وامتد ملكه على جَمِيع أَعمال الْمغرب وخطب لَهُ على سَائِر منابره
وَكَانَ يحيى هَذَا وَاسِطَة عقد الْبَيْت الإدريسي أعلاهم قدرا وأبعدهم ذكرا وَأَكْثَرهم عدلا وأغزرهم فضلا وأوسعهم ملكا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا للْحَدِيث ذَا فصاحة وَبَيَان بطلا شجاعا حازما ذَا صَلَاح وَدين وورع
قَالَ ابْن خلدون لم يبلغ أحد من الأدراسة مبلغه فِي الدولة وَالسُّلْطَان إِلَى أَن طما على ملكه عباب العبيديين القائمين بإفريقية فأغرقه(1/237)
اسْتِيلَاء العبيديين من الشِّيعَة على الْمغرب الْأَقْصَى وقدوم قائدهم مصالة بن حبوس إِلَى فاس
قد قدمنَا عِنْد ذكر وُلَاة الْمغرب أَن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب كَانَ آخِرهم وَأَنه أورث بإفريقية ملكا لِبَنِيهِ فاستمرت دولتهم بهَا إِلَى أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة وانقرضت على يَد أبي عبد الله الْمُحْتَسب دَاعِيَة العبيديين من الشِّيعَة فَإِن الْمُحْتَسب حج فِي بعض السنين وَاجْتمعَ بِمَكَّة بِحجاج كتامة من أهل الْمغرب فتعرف إِلَيْهِم وَوَعدهمْ بِظُهُور الْمهْدي من آل الْبَيْت على يدهم وَيكون لَهُم بِهِ الْملك وَالسُّلْطَان فتبعوه على رَأْيه وصحبهم إِلَى بِلَادهمْ وَرَأس فيهم رئاسة دينية وَقرر لَهُم مَذْهَب الشِّيعَة فَاتَّبعُوهُ وتمسكوا بِهِ ثمَّ بَايعُوا مَوْلَاهُ عبيد الله الْمهْدي أول خلفاء العبيديين فاستولى على إفريقية فِي خبر طَوِيل
ثمَّ سمت همته إِلَى تملك الْمغرب الْأَقْصَى فأغزاه قائده مصالة بن حبوس المكناسي صَاحب تاهرت وَالْمغْرب الْأَوْسَط فزحف مصالة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة خمس وثلاثمائة وانْتهى إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ يحيى بن إِدْرِيس لمدافعته فِي جموع الْعَرَب والبربر والموالي والتقوا بِقرب مكناسة فَانْهَزَمَ يحيى وَعَاد مفلولا إِلَى فاس ثمَّ تقدم مصالة إِلَى فاس وحاصرها إِلَى أَن صَالحه يحيى على مَال يُؤَدِّيه إِلَيْهِ وعَلى الْبيعَة لِعبيد الله الْمهْدي فَقبل يحيى الشَّرْط وَخرج عَن الْأَمر وأنفذ بيعَته إِلَى الْمهْدي وَأبقى عَلَيْهِ مصالة فِي سُكْنى فاس وَعقد لَهُ على عَملهَا خَاصَّة وَعقد لِابْنِ عَمه مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة المكناسي على مَا سوى ذَلِك من بِلَاد الْمغرب
وَكَانَ مُوسَى هَذَا صَاحب تسول وبلاد تازا وَكَانَ كَبِير مكناسة بالمغرب الْأَقْصَى على الْإِطْلَاق وَكَانَ قد خدم مصالة حِين قدم الْمغرب وتعرف إِلَيْهِ وهاداه وَقَاتل مَعَه فِي جَمِيع حروبه بالمغرب فحسنت مَنْزِلَته لَدَيْهِ وولاه بِلَاد الْمغرب كلهَا عدى فاسا وأعمالها فَإِنَّهُ تَركهَا للأمير يحيى كَمَا قُلْنَا(1/238)
وَصَارَ الْمغرب الْأَقْصَى فِي ملكه العبيديين واندرجت دولة الأدراسة فِي دولتهم فَكَانَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة بعد ذهَاب مصالة كلما أَرَادَ الظُّهُور بالمغرب والاستبداد بِهِ غمره يحيى بن إِدْرِيس بِحَسبِهِ وَنسبه وفضله وَدينه فَقطع بِهِ كلما كَانَ يُريدهُ فَكَانَ على قلب مُوسَى مِنْهُ حمل ثقيل فَلَمَّا قدم مصالة الْمغرب فِي كرته الثَّانِيَة وَذَلِكَ سنة تسع وثلاثمائة سعى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عِنْده بِيَحْيَى للقائه وَالسَّلَام عَلَيْهِ فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَقبض مصالة عَلَيْهِم وَقيد بِيَحْيَى بالحديد وَتقدم إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَيحيى بَين يَدَيْهِ موثقًا على جمل ثمَّ عذبه بأنواع الْعَذَاب حَتَّى استصفى أَمْوَاله وذخائره ثمَّ نَفَاهُ إِلَى نواحي آصيلا وَقد ساءت حَاله وانفض جمعه فَأَقَامَ عِنْد بني عَمه بِبِلَاد الرِّيف مُدَّة فَأَعْطوهُ مَالا ووصلوه بِمَا يُقيم بِهِ أوده ويستعين بِهِ على أمره فَلم يرض ذَلِك وارتحل عَنْهُم يُرِيد إفريقية فَعرض لَهُ مُوسَى بن ابي الْعَافِيَة فِي طَريقَة فَقبض عَلَيْهِ وسجنه بِمَدِينَة آلكاي قَرِيبا من عشْرين سنة ثمَّ اطلقه بعد ذَلِك قَالُوا وَكَانَ أَبوهُ إِدْرِيس بن عمر قد دَعَا عَلَيْهِ أَن يميته الله جائعا غَرِيبا فاستجيب لَهُ فِيهِ فَخرج يحيى من سجن ابْن أبي الْعَافِيَة إِلَى إفريقية وَهُوَ فِي فقر وذلة قد بلغ سوء الْحَال مِنْهُ كل مبلغ فوصل إِلَى المهدية على تِلْكَ الْحَال فَوَافَقَ بهَا فتْنَة أبي يزِيد مخلد بن كيداد اليفرني وحصاره إِيَّاهَا فَمَاتَ بهَا جائعا غَرِيبا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة رَحمَه الله(1/239)
عود الْمغرب الْأَقْصَى إِلَى الأدارسة وَظُهُور الْحسن الْحجام بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس
لما قبض مصالة على يحيى بن إِدْرِيس واستصفى أَمْوَاله كَمَا قُلْنَا اسْتعْمل على فاس ريحَان الكتامي وَعَاد إِلَى القيروان فَأَقَامَ ريحَان عَاملا على فاس وأحوازها نَحْو ثَلَاثَة أشهر وثار عَلَيْهِ الْحسن بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس الْمَعْرُوف بالحجام وَعرف بذلك لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين عَمه أَحْمد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس حَرْب فَحمل الْحسن على فَارس من أَصْحَاب عَمه فطعنه فِي مَوضِع المحاجم ثمَّ فعل ذَلِك بثان وثالث لَا يطعنهم إِلَّا فِي مَوضِع المحاجم فَقَالَ عَمه أَحْمد إِن ابْن أخي الْحجام فَلَزِمَهُ ذَلِك اللقب وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم
(وَسميت حجاما وَلست بحاجم ... وَلَكِن لطعن فِي مَكَان المحاجم)
وَكَانَت ثورة الْحجام على ريحَان سنة عشر وثلاثمائة أَتَى إِلَى فاس فِي جمع من شيعته وأنصاره وَكَانَ مقداما شجاعا فَدَخلَهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا فاستولى عَلَيْهَا وَقتل ريحَان وَقيل نَفَاهُ عَنْهَا وَاجْتمعَ النَّاس على بيعَته وَدخل فِي طَاعَته أَكثر قبائل البربر بالمغرب وَملك عدَّة مدن مثل مَدِينَة لواتة وصفرون ومدين وَمَدَائِن مكناسة وَالْبَصْرَة واستقام لَهُ الْأَمر بالمغرب إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَعَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة مَا نذكرهُ(1/240)
خُرُوج الْحسن الْحجام إِلَى قتال مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة
قَالَ فِي القرطاس وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة خرج الْأَمِير الْحسن الْحجام إِلَى قتال مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة فَالتقى مَعَه بفحص الزَّاد على مقربة من وَادي المطاحن مَا بَين فاس وتازا فأوقع الْحجام بِابْن أبي الْعَافِيَة وقْعَة عَظِيمَة لم يَقع فِي دولة الأدارسة مثلهَا قتل فِيهَا من عَسْكَر ابْن أبي الْعَافِيَة نَحْو أَلفَيْنِ وثلاثمائة من جُمْلَتهمْ ابْنه منهال بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وَقتل من عَسْكَر الْحجام نَحْو السبعمائة ثمَّ كَانَت الْعَاقِبَة لمُوسَى على الْحجام فانفض عَسْكَر الْحجام وَعَاد مفلولا إِلَى فاس فَعجل الْحجام وَدخل فاسا وَحده وَترك عسكره خَارج الْمَدِينَة فغدر بِهِ عَامله عَلَيْهَا حَامِد بن حمدَان الْهَمدَانِي وَيُقَال الأوربي من قرى إفريقية دخل عَلَيْهِ لَيْلًا فِي دَاره فقيده وَأَخذه إِلَيْهِ وأغلق الْمَدِينَة فِي وَجه الْجند وطير إِلَى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة يستدعيه إِلَى فاس وَكَانَ مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة آل أبي الْعَافِيَة المكناسيين الناسخة لدولة آل إِدْرِيس بفاس وأعمالها
كَانَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة متمسكا فِي هَذِه الْمدَّة بدعوة العبيديين من الشِّيعَة فَلَمَّا قبض حَامِد بن حمدَان على الْحسن الْحجام واستوعى ابْن أبي الْعَافِيَة بَادر نَحوه فَدخل عدوة الْقرَوِيين وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ قَاتل أهل عدوة الأندلس حَتَّى ملكهَا فَلَمَّا ملك المدينتين مَعًا طَالب حَامِد بن حمدَان بإحضار الْحسن الْحجام وَقَالَ أَقتلهُ بولدي منهال
وَكَانَ حَامِد قد نَدم على فعلته تِلْكَ فدافع مُوسَى وسوفه وَكره المجاهرة بسفك دِمَاء آل الْبَيْت وَلما جن اللَّيْل خَالف حَامِد إِلَى الْحسن ففك عَنهُ قَيده(1/241)
وأرسله فَتَدَلَّى الْحسن من السُّور فَسقط وانكسرت سَاقه فتحامل حَتَّى انْتهى إِلَى عدوة الأندلس فاختفى بهَا إِلَى أَن مَاتَ لمضي ثَلَاث من سقطته رَحمَه الله وَذَلِكَ سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة وَأَرَادَ ابْن أبي الْعَافِيَة قتل حَامِد بن حمدَان لعدم تَمْكِينه إِيَّاه من الْحجام ففر إِلَى المهدية وَكَانَت دولة الْحسن الْحجام بفاس نَحْو سنتَيْن
وانقرضت دولة آل إِدْرِيس من فاس وأعمالها وتداول الْمغرب الْأَقْصَى العبيديون أَصْحَاب إفريقية والمروانيون أَصْحَاب الأندلس مرّة لهَؤُلَاء وَمرَّة لهَؤُلَاء وتجددت للأدارسة دولة أُخْرَى بِبِلَاد الرِّيف نذكرها عَن قريب إِن شَاءَ الله
وصفت فاس وأعمالها لِابْنِ أبي الْعَافِيَة وَملك مَعهَا كثيرا من أَعمال الْمغرب وبايعته الْقَبَائِل والأشياخ وَهُوَ فِي ذَلِك كُله متمسك بدعوة الشِّيعَة كَمَا قُلْنَا فَكَانَ كالنائب عَنْهُم بالمغرب وَالله غَالب على أمره
طرد مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة آل إِدْرِيس من أَعمال الْمغرب وحصره إيَّاهُم بِحجر النسْر
لما استولى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على فاس وَالْمغْرب شمر لطرد الأدارسة عَنهُ فَأخْرجهُمْ من دِيَارهمْ وأجلاهم عَن بِلَادهمْ من شالة وآصيلا وَغَيرهمَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت فِي أَيْديهم ولجؤوا بأجمعهم إِلَى قلعة حجر النسْر مغلوبين على ملكهم مطرودين عَن دَار عزهم الَّتِي أسسها سلفهم
وَكَانَت قلعة حجر النسْر حصنا منيعا بناه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس شامخا فِي عنان السَّحَاب فَنزل عَلَيْهِم(1/242)
مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وشدد عَلَيْهِم الْحصار وَأَرَادَ استئصالهم وَقطع دابرهم فعذله على ذَلِك أكَابِر دولته وَقَالُوا لَهُ أَتُرِيدُ أَن تقطع دابر أهل الْبَيْت من الْمغرب وتخليه مِنْهُم هَذَا الشَّيْء لَا نوافقك عَلَيْهِ وَلَا نَتْرُكك لَهُ فاستحيا عِنْد ذَلِك وارتحل عَنْهُم إِلَى فاس وَخلف على حصارهم قائده أَبَا الْفَتْح التسولي فِي ألف فَارس يمنعهُم من التَّصَرُّف وَكَانَ ذَلِك سنة سبع عشرَة وثلاثمائة
اسْتِيلَاء مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على تلمسان وأعمالها
لما ارتحل مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عَن حجر النسْر سَار إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَقتل عَامله على عدوة الأندلس عبد الله بن ثَعْلَبه بن محَارب بن عبود الْأَزْدِيّ وَولى مَكَانَهُ أَخَاهُ مُحَمَّد بن ثَعْلَبَة ثمَّ عَزله وَولى مَكَانَهُ طوال بن أبي يزِيد فَلم يزل عَاملا عَلَيْهَا إِلَى أَن خرجت فاس عَن يَد أبن أبي الْعَافِيَة
وَاسْتعْمل مُوسَى على الْمغرب الْأَقْصَى وَلَده مَدين بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وأنزله بعدوة الْقرَوِيين ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان سنة تسع عشرَة وثلاثمائة فملكها وأعمالها وَكَانَت بيد الْحسن بن أبي الْعَيْش من أعقاب سُلَيْمَان بن عبد الله أخي إِدْرِيس الْأَكْبَر وفر الْحسن إِلَى مَدِينَة مليلة من جزائر ملوية وَبنى هُنَاكَ حصنا وتحصن بِهِ ثمَّ زحف ابْن أبي الْعَافِيَة إِلَى مَدِينَة نكور فملكها أَيْضا وحاصر الْحسن فِي حصنه مُدَّة ثمَّ عقد لَهُ سلما على حصنه وَكَانَ ذَلِك فِي شعْبَان سنة عشْرين وثلاثمائة ثمَّ عَاد إِلَى فاس وَقد دوخ الْبِلَاد والأقطار وانتظم المغربان الْأَقْصَى والأوسط فِي ملكه(1/243)
انحراف مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عَن الشِّيعَة إِلَى بني مَرْوَان وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
كَانَ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس قد سما لَهُ أمل فِي التَّمَلُّك على الْمغرب الْأَقْصَى لما بلغه من تراجع أَمر بني إِدْرِيس بِهِ وإشراف دولتهم على الْهَرم فَملك سبتة من يَد بني عِصَام القائمين بهَا بالدعوة الإدريسية
وَلما استولى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على الْمغرب خاطبه النَّاصِر فِي الْقيام بدعوته ووعده الْجَمِيل على ذَلِك وَأَتَاهُ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه حَتَّى أَجَابَهُ إِلَى مُرَاده وَنقض طَاعَة الشِّيعَة وخطب للناصر على مَنَابِر عمله فاتصل الْخَبَر بعبيد الله الْمهْدي صَاحب إفريقية فسرح إِلَيْهِ قائده حميد بن يصليتن المكناسي صَاحب تاهرت فِي عشرَة آلَاف فَارس وَهُوَ ابْن أخي مصالة بن حبوس الْمُقدم الذّكر فَالتقى حميد ومُوسَى بفحص مسون فَكَانَت بَينهم حَرْب سِجَال ثمَّ إِن حميدا بَيت مُوسَى لَيْلَة فَضرب فِي عسكره فَانْهَزَمَ مُوسَى وَأَصْحَابه وَمضى إِلَى عين إِسْحَاق من بِلَاد تسول فتحصن بهَا
وَتقدم حميد إِلَى فاس فَلَمَّا شارفها فرعنها مَدين بن مُوسَى وَلحق بِأَبِيهِ فَدَخلَهَا حميد وَاسْتعْمل عَلَيْهَا حَامِد بن حمدَان الْهَمدَانِي وَكَانَ فِي جملَته ثمَّ عَاد إِلَى إفريقية وَقد قضى إربه من الْمغرب وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة
وَلما اتَّصل ببني إِدْرِيس المحصورين بِحجر النسْر خبر هزيمَة مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وفرار ابْنه عَن فاس وَولَايَة حَامِد بن حمدَان عَلَيْهَا قويت نُفُوسهم(1/244)
وتظاهروا على أبي الْفَتْح التسولي فنزلوا إِلَيْهِ وقاتلوه وهزموه ونهبوا مُعَسْكَره وَخَرجُوا إِلَى الفضاء بعد انحصارهم بالقلعة الْمَذْكُورَة أَربع سِنِين
ثورة أَحْمد بن بكر الجذامي بدعوة المروانيين بفاس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
وَأقَام حَامِد بن حمدَان واليا على فاس من قبل الشِّيعَة إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ أَحْمد بن بكر بن عبد الرَّحْمَن بن سهل الجذامي وَذَلِكَ عقب وَفَاة عبيد الله الْمهْدي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة فَقتل حَامِد بن حمدَان وَبعث بِرَأْسِهِ وبولده إِلَى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة فَبعث بِهِ مُوسَى إِلَى عبد الرَّحْمَن النَّاصِر بقرطبة وَاسْتولى على الْمغرب وعادت الدعْوَة بِهِ إِلَى بني مَرْوَان
وَلما اتَّصل الْخَبَر بِصَاحِب إفريقية أبي الْقَاسِم بن عبيد الله الْمهْدي الْمُتَوَلِي بعد أَبِيه سرح قائده ميسورا الْخصي إِلَى الْمغرب فقدمه ميسور سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة وخام ابْن أبي الْعَافِيَة عَن لِقَائِه واعتصم بحصن آلكاي
وَتقدم ميسور إِلَى فاس فحاصرها أَيَّامًا إِلَى أَن خرج إِلَيْهِ أَحْمد بن بكر مبايعا وَقدم بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة نفيسة ومالا جَلِيلًا فَقبض ميسور الْهَدِيَّة وَالْمَال ثمَّ تقبض على أَحْمد بن بكر وَقَيده وَبعث بِهِ إِلَى المهدية
وَلما نذر أهل فاس بغدره امْتَنعُوا عَلَيْهِ وَأَغْلقُوا أَبْوَابهم دونه وَقدمُوا على أنفسهم حسن بن قَاسم اللواتي فَحَاصَرَهُمْ ميسور سَبْعَة أشهر وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار رَغِبُوا فِي السّلم فَصَالحهُمْ على أَن أَعْطوهُ سِتَّة آلَاف دِينَار وأنطاعا ولبودا وقربا للْمَاء وأثاثا وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى أبي الْقَاسِم الشيعي وَكَتَبُوا اسْمه فِي سكتهم وخطبوا لَهُ على منابرهم فَقبل ميسور ذَلِك مِنْهُم وَأقر عَلَيْهِم حسن بن قَاسم اللواتي وارتحل عَنْهُم وَاسْتمرّ حسن عَاملا على فاس إِلَى أَن قدم أَحْمد بن بكر من المهدية مُطلقًا مكرما فتخلى لَهُ عَن مَا(1/245)
كَانَ بِيَدِهِ وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة فَكَانَت ولَايَة حسن بن الْقَاسِم على فاس ثَمَان عشرَة سنة قَالَه فِي القرطاس وَقَالَ ابْن خلدون إِن أَحْمد بن بكر الجذامي قدم من إفريقية سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَسَار إِلَى فاس وَأقَام بهَا متنكرا إِلَى أَن وثب بعاملها حسن بن قَاسم اللواتي فتخلى لَهُ عَن الْعَمَل وَالله أعلم
حَرْب ميسور مَعَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة
لما صَالح ميسور أهل فاس نَهَضَ إِلَى حَرْب ابْن أبي الْعَافِيَة فدارت بَينهم حروب كَانَ الظُّهُور فِي آخرهَا لميسور وَأسر البوري بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وغربه إِلَى المهدية وطرد مُوسَى على أَعمال الْمغرب إِلَى نواحي ملوية ووطاط وَمَا وَرَاءَهَا من بِلَاد الصَّحرَاء ثمَّ قفل إِلَى القيروان
وَقَالَ ابْن أبي زرع فِي كتاب القرطاس إِن بني إِدْرِيس توَلّوا مُعظم الحروب الَّتِي دارت بَين ميسور وَبَين ابْن أبي الْعَافِيَة وَإِنَّهُم قَاتلُوا ابْن أبي الْعَافِيَة حَتَّى فر أمامهم إِلَى الصَّحرَاء قَالَ وتملك الأدارسة أَكثر مَا كَانَ بيد ابْن أبي الْعَافِيَة قَائِمين بدعوة الشِّيعَة فَلم يزل ابْن أبي الْعَافِيَة شَرِيدًا فِي الصَّحرَاء وأطراف الْبِلَاد الَّتِي بقيت بِيَدِهِ وَذَلِكَ من مَدِينَة آكرسيف إِلَى مَدِينَة نكور إِلَى أَن قتل بِبَعْض بِلَاد ملوية وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَقيل إِنَّه قتل سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة قَالَه البرنسي اه كَلَام ابْن أبي زرع
وَقَالَ ابْن خلدون إِن مُوسَى ابْن أبي الْعَافِيَة رَجَعَ من الصَّحرَاء إِلَى أَعماله بالمغرب فملكها وَولى على عدوة الأندلس أَبَا يُوسُف بن محَارب الْأَزْدِيّ قَالَ وَهُوَ الَّذِي مدن عدوة الأندلس وَكَانَت حصونا ثمَّ زحف إِلَى تلمسان سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة فاستولى عَلَيْهَا قَالَ واستفحل أَمر ابْن أبي الْعَافِيَة بالمغرب الْأَقْصَى واتصل عمله بِعَمَل مُحَمَّد بن خرز ملك(1/246)
مغراوة وَصَاحب الْمغرب الْأَوْسَط وبثوا دَعْوَة الأموية فِي أَعمالهَا وَالله أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار آل أبي الْعَافِيَة بالمغرب
قَالَ ابْن أبي زرع لما هلك مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة ولي بعده ابْنه ابراهيم إِلَى أَن توفّي سنة خمسين وثلاثمائة فولي بعده ابْنه عبد الله وَيُقَال عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن ابي الْعَافِيَة إِلَى أَن توفّي سنة سِتِّينَ وثلاثمائة فولي عمله من بعده ابْنه مُحَمَّد وَعَلِيهِ انقرضت دولة آل أبي الْعَافِيَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَذكر بعض المؤرخين لأيامهم أَنه لما توفّي مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة ولي بعده ابْنه الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْمُحَارب للمتونة فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حروب إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين فَقتله واستأصل شافة ذُرِّيَّة مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة بالمغرب وَكَانَت دولتهم مائَة وَأَرْبَعين سنة من سنة خمس وَثَلَاثِينَ إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة اه وَلَكِن دولتهم بفاس انْتَهَت إِلَى قدوم ميسور الْخصي كَمَا مر وَبقيت رياستهم بالأطراف إِلَى دولة اللمتونيين وَالله أعلم وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث مَا نذكرهُ
فَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ كسفت الشَّمْس كسوفا كليا وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة الْعَصْر فَغَاب القرص كُله وَظَهَرت النُّجُوم وَأذن أَكثر النَّاس بالمساجد للمغرب ثمَّ تجلت مضيئة بعد ذَلِك وَمَكَثت مِقْدَار ثلث سَاعَة ثمَّ غربت
وَفِي سنة ثَلَاث وثلاثمائة كَانَ بإفريقية وَالْمغْرب والأندلس فتن كَثِيرَة ومجاعة عَظِيمَة أشبهت مجاعَة سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ وَقع الْمَوْت فِي النَّاس حَتَّى عجزوا عَن دفن موتاهم
وَفِي سنة خمس وثلاثمائة أحرقت النَّار أسواق مَدِينَة فاس وأسواق(1/247)
تاهرت قَاعِدَة زناتة وأحرقت أسواق قرطبة وأرباض مكناسة من بِلَاد جَوف الأندلس وَكَانَ ذَلِك فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فسميت سنة النَّار
وَفِي سنة سبع وثلاثمائة كَانَ بإفريقية وَالْمغْرب والأندلس رخاء مفرط وطاعون ووباء كثير وفيهَا كَانَت الرّيح السَّوْدَاء الشَّدِيدَة الهبوب الَّتِي قلعت الْأَشْجَار وهدمت الدّور بفاس فَتَابَ النَّاس ولزموا الْمَسَاجِد وارتدعوا عَن كثير من الْفَوَاحِش
وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة ظهر حَامِيم المتنبئ بجبال غمارة قَالَ ابْن خلدون كَانَت غمارة غريقة فِي الْجَهَالَة والبعد عَن الشَّرَائِع بِسَبَب البداوة والانتباذ عَن مَوَاطِن الْخَيْر وتنبأ فيهم من قَبيلَة يُقَال لَهَا محسكة حَامِيم بن من الله يكنى أَبَا مُحَمَّد ويكنى أَبوهُ من الله أَبَا يخلف وَكَانَ ظُهُوره بجبل حَامِيم المشتهر بِهِ قَرِيبا من تطوان وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كثير من غمارة وأقروا بنبوته وَشرع لَهُم شرائع وعبادات وصنع لَهُم قُرْآنًا كَانَ يتلوه عَلَيْهِم بِلِسَانِهِ فمما شرع لَهُم صلاتان فِي كل يَوْم وَاحِدَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَالْأُخْرَى عِنْد غُرُوبهَا ثَلَاث رَكْعَات فِي كل صَلَاة ويسجدون وبطون أَيْديهم تَحت وُجُوههم وَمن قرآنهم الَّذِي كَانُوا يقرؤونه بعد تهليل يهللون بِهِ بلسانهم خَلِّنِي من الذُّنُوب يَا من خلى النّظر ينظر فِي الدُّنْيَا أخرجني من الذُّنُوب يَا من أخرج يُونُس من بطن الْحُوت ومُوسَى من الْبَحْر ثمَّ يَقُول فِي رُكُوعه آمَنت بحاميم وبأبيه أبي يخلف من الله وآمن رَأْسِي وعقلي وَمَا يكنه صَدْرِي وَمَا أحَاط بِهِ دمي ولحمي وَآمَنت بتالية عمَّة حَامِيم أُخْت أبي يخلف من الله ثمَّ يسْجد وَكَانَت تالية هَذِه امْرَأَة كاهنة سَاحِرَة وَكَانَ حَامِيم يلقب المفتري وَكَانَت أُخْته دبو كاهنة سَاحِرَة أَيْضا وَكَانُوا يستغيثون بهَا فِي الْحُوب والقحوط وَفرض عَلَيْهِم صَوْم الِاثْنَيْنِ وَصَوْم الْخَمِيس إِلَى الظّهْر وَصَوْم الْجُمُعَة وَصَوْم عشرَة أَيَّام من رَمَضَان ويومين من شَوَّال وَمن أفطر فِي يَوْم الْخَمِيس عمدا فكفارته أَن يتَصَدَّق بِثَلَاثَة أثوار وَمن أفطر فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ فكفارته أَن يتَصَدَّق بثورين وَفرض عَلَيْهِم فِي الزَّكَاة الْعشْر فِي كل(1/248)
شَيْء وَأسْقط عَنْهُم الْحَج وَالْوُضُوء وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَأحل لَهُم أكل الْأُنْثَى من الْخِنْزِير وَقَالَ إِنَّمَا حرم قُرْآن مُحَمَّد الْخِنْزِير الذّكر وَأمر أَن لَا يُؤْكَل الْحُوت إِلَّا بِذَكَاة وَحرم عَلَيْهِم أكل الْبيض وَأكل الرَّأْس من كل حَيَوَان فَبعث إِلَيْهِ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس عسكرا فَالْتَقوا بقصر مصمودة من أحواز طنجة فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا أَتْبَاعه وصلبوا شلوه بِالْقصرِ الْمَذْكُور وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَى النَّاصِر بقرطبة وَرجع من بَقِي من أَتْبَاعه إِلَى الْإِسْلَام وَذَلِكَ سنة خمس عشر وثلاثمائة قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ لِابْنِهِ عِيسَى بن حَامِيم من بعده قدر جليل فِي غمارة
وَفِي سنة سبع وَعشْرين وثلاثمائة ظهر بِبِلَاد الْمغرب غمام كثيف دَامَ خَمْسَة أَيَّام لم ير النَّاس فِيهَا شمسا وَكَانَ الشَّخْص لَا يرى من الأَرْض فِيهِ إِلَّا مَوضِع قَدَمَيْهِ فَتَابَ النَّاس وأخرجوا الصَّدقَات فكشف الله عَنْهُم مَا بهم وَسميت سنة الْغَمَام
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة نزل برد عَظِيم الْوَاحِدَة مِنْهُ تزن رطلا وَأكْثر قتل الطير والوحش والبهائم وَكَثِيرًا من النَّاس وَكسر الْأَشْجَار وأفسد الثِّمَار كَانَ ذَلِك بأثر قحط شَدِيد وَغَلَاء عَام
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة نزل أَيْضا برد كثير لم يعْهَد مثله كَثْرَة قتل الْمَوَاشِي وأفسد الثِّمَار وَجَاءَت السُّيُول الْعَظِيمَة بِجَمِيعِ بِلَاد الْمغرب وَكَانَ بهَا رعود قاصفة وبروق خاطفة ودام ذَلِك أَيَّامًا واستسقى النَّاس واستصحوا فِي هَذِه السّنة وفيهَا أَيْضا كَانَت ريح شَدِيدَة هدمت المباني
وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب والأندلس هلك فِيهِ أَكثر الْخلق
وَفِي هَذِه الْمدَّة كَانَ الشَّيْخ أَبُو سعيد الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بِأبي سلهامة مَوْجُودا وَهُوَ من كبار صلحاء الْمغرب وقبره شهير قرب مشرع الْحَضَر على سَاحل الْبَحْر وَعَلِيهِ قبَّة عَجِيبَة الصَّنْعَة محكمَة الْعَمَل بالنقش والأصباغ والزليج الملون قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن كَانَ على(1/249)
رَأس قبر الشَّيْخ أبي سلهامة لوح مَذْهَب مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذِه الْقُبُور الثَّلَاثَة الَّتِي أخْفى الله تَعَالَى فِيهَا قبر الشَّيْخ أبي سعيد المكنى أبي سلهامة وَكَانَت وَفَاته سنة نَيف وَأَرْبَعين وثلاثمائة قَالَ أَبُو عبد الله الْمَذْكُور ثمَّ إِن النَّصَارَى نزلُوا مرّة هُنَاكَ فاقتلعوا اللَّوْح وذهبوا بِهِ قَالَ وَكَانَ النيف الزَّائِد على الْأَرْبَعين مُسَمّى فِي اللَّوْح وَلَكِنِّي أنسيته وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ لَا يزِيد على السَّبع وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للأدارسة بِبِلَاد الرِّيف
هَذِه الدولة الَّتِي كَانَت للأدارسة بِبِلَاد الرِّيف لم تكن لَهُم على سَبِيل الِاسْتِقْلَال والاستبداد كَمَا كَانَت لَهُم أَولا بفاس وَالْمغْرب إِنَّمَا كَانُوا فِيهَا تَحت نظر المتغلب على بِلَاد الْمغرب إِمَّا من الشِّيعَة أَصْحَاب إفريقية وَإِمَّا من المروانيين أَصْحَاب الأندلس كَمَا ستقف عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن بني إِدْرِيس كَانُوا قد اقتسموا أَعمال الْمغرب بعد وَفَاة أَبِيهِم إِدْرِيس رَحمَه الله وَذَلِكَ بِإِشَارَة جدتهم كنزة وَأَن بِلَاد الرِّيف مِنْهَا كَانَت فِي سهم عمر بن إِدْرِيس وَأَنه قَاتل اخويه عِيسَى وَالقَاسِم وأضاف أعمالهما إِلَى عمله فَبَقيت بِلَاد الرِّيف بيد بني عمر بن إِدْرِيس يتوارثونها خلفا عَن سلف فَلَمَّا انقرضت دولة آل إِدْرِيس بفاس على يَد مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة انحازوا إِلَى بني عمهم وعشيرتهم بِبِلَاد الرِّيف وتحصنوا بقلعة حجر النسْر كَمَا سبق
وَلما قدم ميسور الْخصي من إفريقية وَأجلى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة إِلَى الصَّحرَاء أَقَامَ بَنو إِدْرِيس بريفهم يتداولون رياسته تَحت نظر الشِّيعَة تَارَة وَتَحْت نظر المروانيين أُخْرَى إِلَى أَن انقرضت دولتهم وَذَهَبت رياستهم من الْمغرب بِالْكُلِّيَّةِ وَالله غَالب على أمره(1/250)
الْخَبَر عَن رياسة الْقَاسِم كنون بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس
لما فر مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة أَمَام الْقَائِد ميسور إِلَى الصَّحرَاء صَارَت الرياسة فِي الْمغرب بعده لأبني مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وهما الْقَاسِم الملقب بكنون وشقيقه إِبْرَاهِيم وهما مَعًا أَخَوان لِلْحسنِ الْحجام الَّذِي تقدم ذكره فَاجْتمع بَنو إِدْرِيس وَبَايَعُوا الْقَاسِم الْمَذْكُور فَملك أَكثر بِلَاد الْمغرب إِلَّا فاسا فَإِنَّهُ لم يملكهَا وَكَانَ سكناهُ بقلعة حجر النسْر وَاسْتمرّ على إمارته مُقيما لدَعْوَة الشِّيعَة إِلَى أَن توفّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فولي بعده ابْنه أَبُو الْعَيْش
الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَيْش احْمَد بن الْقَاسِم كنون
كَانَ أَبُو الْعَيْش هَذَا فَقِيها ورعا حَافِظًا للسير عَارِفًا بأخبار الْمُلُوك وَأَيَّام النَّاس وأنساب قبائل الْعَرَب والبربر شجاعا جوادا وَكَانَ يعرف فِي بني إِدْرِيس بِأَحْمَد الْفَاضِل وَكَانَ مائلا إِلَى بني مَرْوَان
وَلما ولي بعد أَبِيه قطع دَعْوَة العبيديين فِي جَمِيع عمله وَبَايع لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر عمله وَبَايع أَبَا الْعَيْش كَافَّة أهل الْمغرب إِلَى سجلماسة وَكَانَ السوَاد الْأَعْظَم من أهل الْمغرب الْأَقْصَى لَهُم محبَّة من جَانب آل إِدْرِيس وإيثار لَهُم لَا يَبْغُونَ بهم بَدَلا مهما وجدوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا(1/251)
تغلب عبد الرَّحْمَن النَّاصِر على بِلَاد الْمغرب ومضايقته لأبي الْعَيْش بهَا
لما بَايع أَبُو الْعَيْش لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر وخطب لَهُ اقترح عَلَيْهِ أَن ينزل لَهُ عَن طنجة ليضيفها إِلَى سبتة الَّتِي كَانَ استولى عَلَيْهَا من قبل فَامْتنعَ أَبُو الْعَيْش من ذَلِك فَبعث إِلَيْهِ النَّاصِر بالأسطول والمقاتلة فحاصره وضيق عَلَيْهِ وَلما رأى أَبُو الْعَيْش أَنه لَا طَاقَة لَهُ بحربه أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ وَنزل لَهُ عَن طنجة
وَبَقِي أَبُو الْعَيْش مَعَ إخْوَته وَبني عَمه من الأدارسة بِمَدِينَة الْبَصْرَة وآصيلا تَحت بيعَة النَّاصِر وَفِي كنفه مُتَمَسِّكِينَ بدعوته وَكَانَت قواد النَّاصِر وجيوشه تجيز من الأندلس إِلَى العدوة يُقَاتلُون من خَالف الأدارسة من البربر ويستألفونهم والناصر ممد لمن عجز مِنْهُم بِرِجَالِهِ مقو لمن ضعف بِمَالِه حَتَّى ملك أَكثر بِلَاد الْمغرب وبايعته قبائله من زناتة والبربر وخطب لَهُ على منابره من تاهرت إِلَى طنجة مَا عدا سجلماسة فَإِنَّهُ قَامَ بهَا فِي ذَلِك الْوَقْت منادر الْبَرْبَرِي
وَبَايع النَّاصِر أهل فاس فِيمَن بَايعه من بِلَاد العدوة فولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن الْخَيْر المغراوي وَكَانَ من أبسط مُلُوك زناتة يدا وأعظمهم شَأْنًا وَأَحْسَنهمْ إِلَى مُلُوك بني أُميَّة انحياشا وأخلصهم طوية
وَكَانَ لبني يفرن ومغراوة من زناتة ولَايَة للأمويين وتشيع لَهُم وَذَلِكَ بِولَايَة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ لجدهم صولات بن وزمار المغراوي الَّذِي وَفد عَلَيْهِ وَأسلم على يَده كَمَا سبق فِي اخبار الْفَتْح وَالله أعلم فسرت تِلْكَ الْولَايَة فِي عقب زناتة للأمويين عُمُوما كَمَا كَانَ لصنهاجة من البربر ولَايَة آل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَأَقَامَ مُحَمَّد بن الْخَيْر واليا على(1/252)
مدينتي فاس نَحْو سنة وارتحل عَنْهَا إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد واستخلف عَلَيْهَا ابْن عَمه أَحْمد بن أبي بكر بن أَحْمد بن عُثْمَان بن سعيد الزناتي وَهُوَ الَّذِي بنى صومعة مَسْجِد الْقرَوِيين سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة كَمَا سبق
وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة ولي النَّاصِر على مَدِينَة طنجة وأحوازها يعلى بن مُحَمَّد اليفرني فنزلها فِي قبائل يفرن وأمضى أمره وَنَهْيه فِيهَا
هِجْرَة أبي الْعَيْش إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد
لما رأى أَبُو الْعَيْش غَلَبَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة هَانَتْ عَلَيْهِ رياستها فَكتب إِلَيْهِ بقرطبة يَسْتَأْذِنهُ فِي الْجِهَاد فَأذن لَهُ وَأمر أَن يَبْنِي لَهُ فِي كل منزل ينزله قصرا وَذَلِكَ من الجزيرة الخضراء إِلَى الثغر وَأَن يجْرِي لَهُ فِيهَا ألف دِينَار فِي كل يَوْم ضِيَافَة لَهُ وَمن الْفرش والأثاث وَالطَّعَام وَالشرَاب مَا يقوم بِالْقصرِ فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى وصل إِلَى الثغر فَكَانَت مَنَازِله من الجزيرة إِلَى الثغر ثَلَاثِينَ منزلا وَمَات أَبُو الْعَيْش رَحمَه الله شَهِيدا فِي جِهَاد الفرنج سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلاثمائة
الْخَبَر عَن دولة الْحسن بن كنون
لما خرج أَبُو الْعَيْش من الأندلس برسم الْجِهَاد اسْتخْلف على عمله أَخَاهُ الْحسن بن كنون وَهُوَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وَهُوَ آخر مُلُوك الأدراسة بالمغرب وَلم يزل مواليا للمروانيين متمسكا بدعوتهم إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ(1/253)
قدوم الْقَائِد جَوْهَر الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب واستيلاؤه عَلَيْهِ
لما اتَّصل بخليفة الشِّيعَة وَهُوَ الْمعز لدين الله معد بن إِسْمَاعِيل العبيدي غَلَبَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة وَأَن جَمِيع من بهَا من قبائل زناتة والبربر رفضوا دعوتهم ودخلوا فِي دَعْوَة بني أُميَّة عظم الْأَمر عَلَيْهِ وَبعث قائده جَوْهَر بن عبد الله الرُّومِي الْمَعْرُوف بالكاتب فِي جَيش كثيف يشْتَمل على عشْرين ألف فَارس من قبائل كتامة وصنهاجة وَغَيرهم وَأمره أَن يطَأ بِلَاد الْمغرب ويذللها وَيُسْتَنْزَلُ من بهَا من الثوار ويشد وطأته عَلَيْهِم
فَخرج جَوْهَر من القيروان سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة يؤم بِلَاد الْمغرب فاتصل خَبره بيعلى بن مُحَمَّد اليفرني صَاحب طنجة وَخَلِيفَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة فحشد قبائل زناتة ونهض إِلَى الْقَائِد جَوْهَر فَكَانَ اللِّقَاء على تاهرت فالتحمت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ فَأخْرج الْقَائِد جَوْهَر الْأَمْوَال وبذلها فِي قواد كتامة فضمنوا لَهُ قتل أَمِير زناتة يعلى بن مُحَمَّد فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَال صممت عِصَابَة من قواد كتامة وأنجادها وقصدوا إِلَى يعلى بن مُحَمَّد فَقَتَلُوهُ واحتزوا رَأسه وَأتوا بِهِ إِلَى جَوْهَر فبذل لَهُم مَالا جَلِيلًا بِشَارَة عَلَيْهِ وَبعث بِالرَّأْسِ إِلَى مَوْلَاهُ الْمعز فطيف بِهِ بالقيروان
وَذكر ابْن خلدون أَن يعلى بن مُحَمَّد بَادر إِلَى لِقَاء جَوْهَر عِنْد قدومه وأذعن لَهُ وَبَايَعَهُ فأظهر جَوْهَر الْقبُول ثمَّ دس إِلَيْهِ من اغتاله وتفرق بَنو يفرن وزناتة بعد مقتل أَمِيرهمْ وَبعد مُدَّة التأم ملكهم على وَلَده يدو بن يعلى بن مُحَمَّد اليفرني
ثمَّ تقدم جَوْهَر إِلَى سجلماسة وَكَانَ قد قَامَ بهَا مُحَمَّد بن الْفَتْح بن مَيْمُون بن مدرار الْمَعْرُوف بالشاكر لله وَقد تقدم لنا أَنه ادّعى الْخلَافَة وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وَضرب السِّكَّة باسمه وَكتب عَلَيْهَا تقدست عزة الله وَكَانَت سكته تعرف بالشاكرية وَكَانَت فِي غَايَة الطّيب وَكَانَ سنيا مالكي(1/254)
الْمَذْهَب قد خَالف سلفه فِي مَذْهَب الصفرية فَنزل عَلَيْهِ جَوْهَر وحاصره بسجلماسة ثمَّ اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ وأفلت الشاكر ثمَّ عَاد بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة فَدخل سجلماسة متنكرا فَعرف وَقبض عَلَيْهِ وَأتي بِهِ إِلَى جَوْهَر فأوثقه فِي الْحَدِيد وَسَاقه أَسِيرًا بَين يَدَيْهِ حَتَّى نزل على فاس بعد أَن أفنى حماة الصفرية ورجالها بِالسَّيْفِ
وَكَانَ نُزُوله على فاس سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فحاصرها وأدار بهَا الْقِتَال من كل جِهَة قَرِيبا من نصف شهر ثمَّ اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ على يَد زيري بن مُنَاد الصنهاجي فَإِنَّهُ تُسنم أسوارها لَيْلًا ودخلها فَقتل بهَا خلقا كثيرا وَقبض على أميرها أَحْمد بن أبي بكر الزناتي الَّذِي ولاه النَّاصِر عَلَيْهَا وَنهب الْمَدِينَة وَقتل حماتها وشيوخها وسبى أَهلهَا وَهدم أسوارها وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما وَكَانَ دُخُول جَوْهَر إِيَّاهَا ضحوة يَوْم الْخَمِيس الموفي عشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
ثمَّ سَار جَوْهَر فِي بِلَاد الْمغرب يقتل أَوْلِيَاء المروانيين وَيَسْبِي وَيفتح الْبِلَاد والمعاقل وخافته البربر وفرت أَمَامه قبائلها فأنفذ الْأَمر فِي الْمغرب الْأَقْصَى ثَلَاثِينَ شهرا وانْتهى إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وصاد من سمكه وَجعله فِي قلال المَاء وأرسله إِلَى مَوْلَاهُ الْمعز ثمَّ انْصَرف رَاجعا بعد أَن دوخ الْبِلَاد وأثخن فِيهَا وَقتل حماتها وَقطع دَعْوَة المروانيين مِنْهَا وردهَا إِلَى العبيديين فَخَطب لَهُم على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب وانْتهى الْقَائِد جَوْهَر إِلَى المهدية دَار الْمعز لدين الله وَقد حمل مَعَه أَحْمد بن أبي بكر اليفرني أَمِير فاس وَخَمْسَة عشر رجلا من أشياخها وَحمل أَيْضا مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح أَمِير سجلماسة وَدخل بهم أُسَارَى بَين يَدَيْهِ فِي أقفاص من خشب على ظُهُور الْجمال وَجعل على رؤوسهم قلانس من لبد مستطيلة منبتة بالقرون فطيف بهم فِي بِلَاد إفريقية وأسواق القيروان ثمَّ ردوا إِلَى المهدية وحبسوا بهَا حَتَّى مَاتُوا فِي سجنها(1/255)
قدوم بلكين بن زيزي بن مُنَاد الصنهاجي الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب
كَانَ الْأَمِير الْحسن بن كنون قد بَايع العبيديين فِيمَن بايعهم عِنْد غَلَبَة جَوْهَر على الْمغرب فَلَمَّا انْصَرف جَوْهَر إِلَى إفريقية أَوَاخِر سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة نكث الْحسن بن كنون بيعَة العبيديين وَعَاد إِلَى المروانيين فتمسك بدعوة النَّاصِر ثمَّ بدعوة ابْنه الحكم الْمُسْتَنْصر خوفًا مِنْهُم لَا محبَّة فيهم لقرب بِلَاده من بِلَادهمْ وَأقَام على ذَلِك إِلَى أَن قدم الْأَمِير بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي من إفريقية إِلَى الْمغرب لأخذ ثار أَبِيه فَقتل زناتة واستأصلهم وَملك الْمغرب بأسره وَقطع أَيْضا مِنْهُ دَعْوَة الأمويين وَقتل أولياءهم وَأخذ الْبيعَة على جَمِيع أهل الْمغرب للمعز معد بن إِسْمَاعِيل كَمَا فعل جَوْهَر قبله فَكَانَ أول من سارع إِلَى بيعَته ونصرته وقتال أَوْلِيَاء المروانيين مَعَه الْحسن بن كنون صَاحب مَدِينَة الْبَصْرَة وكشف وَجهه فِي ذَلِك وأعمل فِيهِ جهده فاتصل خَبره بالحكم الْمُسْتَنْصر فحقد عَلَيْهِ لذَلِك
فَلَمَّا انْصَرف بلكين بن زيري إِلَى إفريقية بعث الحكم الْمُسْتَنْصر صَاحب الأندلس قائده مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن طملس فِي جَيش كثيف إِلَى قتال الْحسن ابْن كنون فَأجَاز إِلَيْهِ من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة فِي عدد كثير وعدة كَامِلَة وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فزحف الْحسن إِلَى قِتَاله فِي قبائل البربر فَكَانَ اللِّقَاء بأحواز طنجة بِموضع يعرف بحفص بني مصرخ فَكَانَت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة قتل فِيهَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم قَائِد الحكم الْمُسْتَنْصر وَقتل مَعَه خلق كثير من أَصْحَابه وفر الْبَاقُونَ فَدَخَلُوا سبتة(1/256)
وتحصنوا بهَا وَكَتَبُوا إِلَى الحكم يستغيثون بِهِ فَبعث إِلَيْهِم صَاحب حروبه غَالِبا مَوْلَاهُ الْبعيد الصيت الْمَعْرُوف بالشهامة والنجدة والدهاء وَأَعْطَاهُ الحكم أَمْوَالًا جليلة وجيوشا كَثِيرَة وعددا وافرة وَأمره بِقِتَال آل إِدْرِيس واستنزالهم من معاقلهم وَقَالَ لَهُ عِنْد وداعه يَا غَالب سر مسير من لَا إِذن لَهُ فِي الرُّجُوع إِلَّا حَيا منصورا أَو مَيتا مَعْذُورًا وَلَا تشح بِالْمَالِ وابسط يدك بِهِ يتبعك النَّاس
قدوم غَالب الْأمَوِي إِلَى الْمغرب وتغريب آل إِدْرِيس إِلَى الأندلس
ثمَّ خرج غَالب من قرطبة فِي آخر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فاتصل خبر قدومه بالْحسنِ بن كنون فخاف مِنْهُ وأخلى مَدِينَة الْبَصْرَة وَحمل مِنْهَا حرمه وأمواله وذخائره إِلَى قلعة حجر النسْر الْقَرِيبَة من سبتة واتخذها معقلا يتحصن بهَا وَأَجَازَ غَالب الْبَحْر من الجزيرة الخضراء إِلَى قصر مصمودة فَلَقِيَهُ الْحسن بن كنون هُنَاكَ فِي جموع البربر وقاتله أَيَّامًا وسرب غَالب الْأَمْوَال إِلَى رُؤَسَاء البربر الَّذين مَعَ الْحسن بن كنون وَوَعدهمْ ومناهم فَانْفَضُّوا عَن الْحسن حَتَّى لم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَرِجَاله فَلَمَّا رأى ذَلِك سَار إِلَى حجر النسْر فتحصن بِهِ وَاتبعهُ غَالب فحاصره بِهِ وَنزل عَلَيْهِ بِجَمِيعِ جيوشه وَقطع عَنهُ الْموَاد وأمده الحكم بعرب الدولة الَّذين بالأندلس وَرِجَال الثغور فوصل المدد إِلَى غَالب غرَّة الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة فَاشْتَدَّ الْحصار على الْحسن بن كنون فَطلب من غَالب الْأمان على نَفسه وَأَهله وَمَاله وَرِجَاله وَينزل إِلَيْهِ فيسير مَعَه إِلَى قرطبة فَيكون بهَا فَأَجَابَهُ غَالب إِلَى ذَلِك وعاهده عَلَيْهِ فَنزل الْحسن بأَهْله وَمَاله وَرِجَاله وَأسلم الْحصن إِلَى غَالب فملكه واستنزل غَالب جَمِيع العلويين الَّذين بِأَرْض العدوة من معاقلهم وأخرجهم عَن أوطانهم وَلم يتْرك بالعدوة رَئِيسا مِنْهُم
وَسَار إِلَى مَدِينَة فاس فملكها وَاسْتعْمل عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن(1/257)
قشوش بعدوة الْقرَوِيين وَعبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة بعدوة الأندلس فَلم تزل فاس بيد بني أُميَّة إِلَى أَن غلب عَلَيْهَا زيري بن عَطِيَّة المغراوي
وَانْصَرف غَالب إِلَى الأندلس وسَاق مَعَه الْحسن بن كنون وَجَمِيع مُلُوك الأدارسة وَقد وطأ جَمِيع بِلَاد الْمغرب وَفرق الْعمَّال فِي نواحيه وَقطع دَعْوَة بني عبيد من جَمِيع آفاقه ورد الدعْوَة إِلَى الأموية فَخرج بهم غَالب من فاس آخر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَوصل إِلَى سبتة فَركب الْبَحْر مِنْهَا وَاسْتقر بالخضراء
وَكتب إِلَى مَوْلَاهُ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يُعلمهُ بقدومه وبمن قدم مَعَه من العلويين فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى الحكم أَمر النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى لقائهم وَركب هُوَ فِي جمع عَظِيم من وُجُوه دولته فَتَلقاهُمْ فَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ قرطبة يَوْمًا مشهودا وَذَلِكَ أول يَوْم من الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَسلم الْحسن بن كنون على الحكم فَأقبل عَلَيْهِ وَعَفا عَنهُ ووفى لَهُ بعهده وأوسع لَهُ ولرجاله فِي الْعَطاء وأجرى عَلَيْهِم الجرايات الْكَثِيرَة وخلع عَلَيْهِم الْخلْع الرفيعة وَأثبت جَمِيع أَهله وَرِجَاله فِي ديوَان الْعَطاء وَكَانُوا سَبْعمِائة رجل أنجاد يعدون بسبعة آلَاف واسكنه قرطبة وَأقَام الْحسن وعشيرته فِي كنف الحكم فِي أَمن وغبطة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
حُدُوث النفرة بَين الحكم وَالْحسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك
وَلما اسْتَقر الْحسن بن كنون وعشيرته بقرطبة تَحت كنف الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْأمَوِي على مَا وصفناه اسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة
وَكَانَ لِلْحسنِ قِطْعَة عنبر غَرِيبَة الشكل كَبِيرَة الحجم ظفر بهَا فِي بعض سواحله من بِلَاد العدوة أَيَّام ملكه بهَا فسواها منشورة يتوسدها ويرتفق بهَا فَبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ الحكم خَبَرهَا فَسَأَلَهُ حملهَا إِلَيْهِ وَضمّهَا إِلَى ذخائره على أَن لَهُ حكمه مسمطا فَامْتنعَ الْحسن من ذَلِك وأبى أَن يُسَلِّمهَا إِلَيْهِ فنكبه(1/258)
عَلَيْهَا وسلبه جَمِيع أَمْوَاله وسلبه الْقطعَة أَيْضا فَبَقيت فِي خزانَة الأمويين إِلَى أَن غلب ابْن حمود الإدريسي على ملك الأندلس وَدخل قرطبة وَاسْتقر بِالْقصرِ مِنْهَا فألفى تِلْكَ العنبر لَا زَالَت قَائِمَة الْعين قد عقبتها الْأَيَّام حَتَّى صَارَت إِلَى أَيدي العلوية أَرْبَابهَا
وَلما نكب الحكم الْحسن أَمر بِإِخْرَاجِهِ وَإِخْرَاج عشيرته من قرطبة وإجلائهم إِلَى الْمشرق فَرَكبُوا الْبَحْر من المرية إِلَى تونس سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَكَانَ قصد الحكم بتغريبهم التخفف مِنْهُم والراحة من نفقاتهم مَعَ مَا كَانَ قومه يعذلونه عَلَيْهِم فَسَار الْحسن بن كنون وعشيرته إِلَى مصر فنزلوا بهَا على خَليفَة الشِّيعَة وَهُوَ الْعَزِيز بِاللَّه نزار بن الْمعز العبيدي وَكَانَ العبيديون قد ملكوا مصر يَوْمئِذٍ ونقلوا كرْسِي خلافتهم إِلَيْهَا فَأقبل الْعَزِيز نزار على الأدارسة وَبَالغ فِي إكرامهم ووعد الْحسن النَّصْر وَالْأَخْذ بثأره مِمَّن غَلبه على ملك سلفه
عود الْحسن بن كنون إِلَى الْمغرب وَمَا كَانَ من أمره إِلَى مَقْتَله وانقراض دولته
لما اسْتَقر الْحسن بن كنون بِمصْر عِنْد الْعَزِيز نزار أَقَامَ عِنْده مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة فِي أَيَّام هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه الْأمَوِي فَكتب نزار لِلْحسنِ بعهده على الْمغرب وَأمر عَامله على إفريقية بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي أَن يقويه بالجيوش فَسَار الْحسن إِلَى بلكين فَأعْطَاهُ عسكرا يشْتَمل على ثَلَاثَة آلَاف فَارس فاقتحم بهم بِلَاد الْمغرب فسارعت إِلَيْهِ قبائل البربر بِالطَّاعَةِ فشرع فِي إِظْهَار دَعوته
واتصل خَبره بالمنصور بن أبي عَامر حَاجِب هِشَام الْمُؤَيد والقائم بِملكه فَبعث إِلَيْهِ ابْن عَمه الْوَزير أَبَا الحكم عَمْرو بن عبد الله بن أبي عَامر الْمَعْرُوف بعسكلاجة فِي جَيش كثيف وقلده أَمر الْمغرب وَسَائِر أَعماله وَأمره(1/259)
بِقِتَال الْحسن بن كنون فنفذ لوجهه وَركب الْبَحْر إِلَى سبتة وَخرج إِلَى حَرْب الْحسن فأحاط بِهِ وحاصره أَيَّامًا ثمَّ أجَاز الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَلَده عبد الْملك فِي أثر الْوَزير أبي الحكم فِي جَيش كثيف مُمِدًّا لَهُ
فَلَمَّا رأى ذَلِك الْحسن بن كنون سقط فِي يَده وَلم يجد حِيلَة فَطلب الْأمان على نَفسه على أَن يسير إِلَى الأندلس كَمثل حَالَته الأولى فَأعْطَاهُ الْوَزير أَبُو الحكم من ذَلِك مَا وثق بِهِ وَكتب إِلَى ابْن عَمه الْمَنْصُور يُخبرهُ بذلك فَأمر بتعجيله إِلَى قرطبة موكلا بِهِ فَبعث بِهِ إِلَيْهِ
وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى الْمَنْصُور بقدوم الْحسن لم يمض أَمَان ابْن عَمه وأنفذ إِلَيْهِ من قَتله من طَرِيقه وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ وَدفن شلوه بمَكَان مَقْتَله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وركدت ريح العلوية بالمغرب وتفرق جمعهم وانقرضت دولتهم وَتَفَرَّقَتْ الأدارسة فِي قبائل الْمغرب ولاذوا بالاختفاء إِلَى أَن خلعوا شارة ذَلِك النّسَب الشريف واستحالت صبغتهم مِنْهُ إِلَى البداوة
وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن أشرفت دولة بني أُميَّة بالأندلس على الانقراض وَكَانَ بالأندلس رجلَانِ من آل إِدْرِيس دخلوها فِي جملَة البربر الَّذين كَانُوا هُنَاكَ وهم عَليّ وَالقَاسِم ابْنا حمود بن مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبيد الله بن عمر بن إِدْرِيس فطار لَهما ذكر فِي الشجَاعَة والإقدام ثمَّ ترقت بهم الْأَحْوَال إِلَى أَن ورثوا خلَافَة الأندلس من يَد الأمويين بهَا فِي خبر طَوِيل
وَلما قتل الْحسن بن كنون هبت ريح عاصف احتملت رداءة فَلم يُوجد بعد قَالُوا وَكَانَ الْحسن هَذَا فظا غليظا قاسي الْقلب كَانَ إِذا ظفر بعدو أَو(1/260)
سَارِق أَو قَاطع طَرِيق أَمر بِهِ فَطرح من ذرْوَة قلعته الْمُسَمَّاة بِحجر النسْر فَيهْوِي مِنْهَا إِلَى الأَرْض مد الْبَصَر يدْفع الرجل بخشبة تمد إِلَيْهِ فَلَا يصل إِلَى الأَرْض إِلَّا وَقد تقطع
قَالَ ابْن أبي زرع كَانَت مُدَّة ملك الأدارسة بالمغرب من يَوْم بُويِعَ إِدْرِيس بن عبد الله وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس السَّابِع من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة إِلَى أَن قتل الْحسن بن كنون وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة مِائَتي سنة وَثَلَاث سِنِين سوى شَهْرَيْن تَقْرِيبًا وَكَانَ عَمَلهم بالمغرب من السوس الْأَقْصَى إِلَى مَدِينَة وهران وَقَاعِدَة ملكهم مَدِينَة فاس ثمَّ الْبَصْرَة وَكَانُوا يكابدون دولتين عظيمتين دولة العبيديين بأفريقة ودولة بني أُميَّة بالأندلس وَكَانُوا يزاحمون الْخُلَفَاء إِلَى ذرْوَة الْخلَافَة وَيقْعد بهم عَنْهَا ضعف سلطانهم وَقلة مَالهم فَكَانَ سلطانهم إِذا امْتَدَّ وَقَوي يَنْتَهِي إِلَى مَدِينَة تلمسان وَإِذا اضْطربَ الْحَال عَلَيْهِم وضعفوا لَا يُجَاوز سلطانهم الْبَصْرَة وَأَصِيلا وحجز النسْر إِلَى أَن انْقَضتْ أيامهم وانقرضت مدتهم والبقاء لله وَحده
وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث أَنه فِي سنة خمس وَخمسين وثلاثمائة كَانَت ريح شَدِيدَة قلعت الْأَشْجَار وهدمت الديار وَقتلت الرِّجَال
وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّامِن عشر من رَجَب مِنْهَا ظهر فِي الْبَحْر شهَاب ثاقب ماثل كالعمود الْعَظِيم أَضَاء اللَّيْل لسطوع نوره وأشبهت تِلْكَ اللَّيْلَة لَيْلَة الْقدر وقارب ضوءها ضوء النَّهَار
وَفِي هَذَا الشَّهْر أَيْضا كسف النيرَان فَخسفَ الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة مِنْهُ وطلعت الشَّمْس كاسفة فِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين مِنْهُ
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلاثمائة كَانَ الْجَرَاد بالمغرب
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بعْدهَا دخل مغراوة الْمغرب وملكوه وتعرف هَذِه السّنة بِسنة لُقْمَان المغراوي وفيهَا توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح الْفَاضِل أَبُو مَيْمُونَة دراس بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ أول من أَدخل مدونة سَحْنُون مَدِينَة فاس(1/261)
وَذكر الرشاطي أَن وَفَاته كَانَت سنة سبع وَخمسين وثلاثمائة وَلَعَلَّه أصح وَفِي سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة عَم الْجَرَاد بِلَاد الْمغرب كلهَا
وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين بعْدهَا كَانَ الْفَيْض الَّذِي فاضت مِنْهُ جَمِيع أَوديَة الْمغرب
وَفِي سنة تسع وَسبعين بعْدهَا كَانَت الرّيح الشرقية بالمغرب ودامت سِتَّة أشهر فأعقبت وباء عَظِيما وأمراضا كَثِيرَة
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وثلاثمائة تدارك الله عباده وَكَانَ الرخَاء المفرط بالمغرب فَكَانَ الزَّرْع لَا يُوجد من يَشْتَرِيهِ لكثرته وَكَانَ الفلاحون وَأَصْحَاب الْحَرْث يتركونه قَائِما فِي محاقلهم لَا يحصدونه لرخصه
الْخَبَر عَن دولة زناتة من مغراوة وَبني يفرن بفاس وَالْمغْرب
يَنْبَغِي أَن نقدم هُنَا كلَاما يكون كالتوطئة لأخبار هَذِه الدولة المغراوية فَنَقُول إِن هَذِه الدولة لم يكن لَهَا اسْتِقْلَال بالمغرب وفاس وَإِنَّمَا كَانَت رياستها تَحت نظر الأمويين بالأندلس ثمَّ إِن مغراوة وَبني يفرن قبيلتان من أَعْيَان قبائل زناتة وَكَانَ مغراو ويفرن أَخَوَيْنِ شقيقين وهما ابْنا يصليتن بن مسري بن زاكيا بن ورسيك بن الدبديت بن زانا وَهُوَ أَبُو زناتة
وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار الْفَتْح أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَسرُّوا صولات بن وزمارا كَبِير مغراوة لذَلِك الْعَهْد وبعثوا بِهِ إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَأسلم على يَده وولاه على قومه وَقيل إِن صولات هَاجر إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ طَائِعا من غير أسر فَأكْرمه وولاه فَكَانَ بَيت صولات بِسَبَب هَذِه المزية نبيها فِي قومه مغراوة وَسَائِر زناتة
وَلما مَاتَ صولات ورث رياسته من بعده ابْنه حَفْص بن صولات ثمَّ من بعده خزر بن حَفْص بن صولات ثمَّ ابْنه مُحَمَّد بن خزر وَهُوَ الَّذِي غزاه إِدْرِيس بن عبد الله بِمَدِينَة تلمسان وانقاد لَهُ وَأجَاب دَعوته وَدخل إِدْرِيس مَعَه تلمسان وَأصْلح شَأْنهَا وَبنى مَسْجِدهَا حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى ثمَّ(1/262)
لم تزل ذُرِّيَّة مُحَمَّد بن خزر هَذَا تتوارث رياسة سلفهم من بعدهمْ إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة أَرْبَعَة اخوة وهم مُحَمَّد بن خزر وَعبد الله بن خزر ومعبد بن خزر وفلفل بن خزر وَكلهمْ رَئِيس شرِيف فِي قومه وَلَهُم أَخْبَار مَعَ خلفاء الشِّيعَة بإفريقية والمروانيين بالأندلس يطول ذكرهَا مَعَ أَنَّهَا لَيست من موضوعنا
وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة زحف بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي صَاحب إفريقية بعد العبيديين إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وأناخ على مدينتي فاس وَقتل عامليها مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن قشوش صَاحب عدوة الْقرَوِيين وَعبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة صَاحب عدوة الأندلس وَاسْتعْمل عَلَيْهَا مُحَمَّد بن عَامر المكناسي وأجفلت مُلُوك زناتة من بني خزر المغراويين وَبني مُحَمَّد بن صَالح اليفرنيين أَمَامه وانحازوا جَمِيعًا إِلَى سبتة
وَعبر مُحَمَّد بن الْخَيْر من آل خزر الْبَحْر إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر صريخا فَخرج الْمَنْصُور فِي عساكره إِلَى الجزيرة الخضراء مُمِدًّا لَهُم بِنَفسِهِ وَعقد لجَعْفَر بن عَليّ بن حمدون على حَرْب بلكين الصنهاجي وَأَجَازَهُ الْبَحْر وأمده بِمِائَة حمل من المَال فاجتمعت إِلَيْك مُلُوك زناتة وضربوا مَصَافهمْ بِسَاحَة سبتة وَجَاء بلكين الصنهاجي حَتَّى صعد جبال تطوان وتنسم هضابها وأطل على عَسَاكِر زناتة وَأهل الأندلس بِسَاحَة سبتة فَرَأى مَا لَا قبل لَهُ بِهِ وَيُقَال إِنَّه لما عاين ذَلِك قَالَ هَذِه أَفْعَى فغرت إِلَيْنَا فاها وكر رَاجعا على عقبَة فاجتاز على مَدِينَة الْبَصْرَة وَكَانَ بهَا حامية أهل الأندلس وَبهَا يَوْمئِذٍ عمَارَة عَظِيمَة فَهَدمهَا ثمَّ صَمد إِلَى برغواطة بِبِلَاد تامسنا فجاهدهم وَقتل ملكهم عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَاسْتولى على الْمغرب(1/263)
أجمع ومحى دَعْوَة بني أُميَّة من نواحيه
ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة وَقدم الْحسن بن كنون الإدريسي من مصر إِلَى الْمغرب يطْلب ملك سلفة انْضَمَّ إِلَيْهِ يدو بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني فِي قومه وشايعه على مُرَاده وسرح الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس إِلَيْهِ ابْن عَمه أَبَا الحكم الملقب بعسكلاجة وانضم إِلَيْهِ آل خزر المغراويون وهم مُحَمَّد بن الْخَيْر الْأَصْغَر وخزرون بن فلفل بن خزر وَمُقَاتِل وزيري ابْنا عَطِيَّة بن عبد الله بن خزر وانضم إِلَيْهِم سَائِر مغراوة وظاهروا أَبَا الحكم عسكلاجة على شَأْنه فِي حِصَار الْحسن بن كنون حَتَّى طلب الْأمان لنَفسِهِ حَسْبَمَا اسْتَوْفَيْنَا خَبره آنِفا ثمَّ تقدم عسكلاجة إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى على عدوة الأندلس سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وخطب بهَا لبني أُميَّة وَبَقِي مُحَمَّد بن عَامر المكناسي عَامل الشِّيعَة بعدوة الْقرَوِيين إِلَى سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة فَأتى أَبُو بياش فَدخل عدوة الْقرَوِيين بِالسَّيْفِ وَقبض على مُحَمَّد بن عَامر المكناسي فَقتله وخطب بهَا لبني أُميَّة أَيْضا هَكَذَا فِي القرطاس
وَقَالَ ابْن خلدون إِن الْمَنْصُور بن أبي عَامر عقد على الْمغرب بعد انصراف عسكلاجة عَنهُ للوزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود السّلمِيّ وَأطلق يَده فِي الْأَمْوَال وَالرِّجَال وأرسله إِلَيْهِ سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة وأوصاه بِالْإِحْسَانِ إِلَى مغراوة وَلَا سِيمَا مقَاتل وزيري ابْنا عَطِيَّة لحسن انحياشهم إِلَى المروانيين وَصدق طاعتهم لَهُم وأغراه بيدو بن يعلى اليفرني لتمريضه فِي الطَّاعَة وقيامه مَعَ الْحسن بن كنون فنفذ الْوَزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود لعمله وَنزل بفاس وَضبط الْمغرب أحسن ضبط وَاجْتمعت عَلَيْهِ مغراوة
ثمَّ هلك مقَاتل بن عَطِيَّة سنة ثَمَان وَسبعين وَورث رياسته على بادية قومه أَخُوهُ زيري بن عَطِيَّة وَحسنت صحبته للوزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود ومعاملته لَهُ(1/264)
ثمَّ إِن الْمَنْصُور بن أبي عَامر استدعى زيري بن عَطِيَّة للوفادة عَلَيْهِ بقرطبة فوفد عَلَيْهِ وَأحسن الْمَنْصُور إِلَيْهِ وَرفع مَنْزِلَته ثمَّ عَاد إِلَى الْمغرب وَأمره بِقِتَال يدو بن يعلى اليفرني فَاجْتمع عَلَيْهِ هُوَ والوزير ابْن عبد الْوَدُود فقاتلوه فانتصر عَلَيْهِم يدو بن يعلى وَقتل الْوَزير ابْن عبد الْوَدُود
ثمَّ عقد الْمَنْصُور بن أبي عَامر لزيري بن عَطِيَّة م بعده على الْمغرب وفاس وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة هَذَا ملخص مَا عِنْد ابْن خلدون فِي هَذَا الْخَبَر ثمَّ حكى بعده مَا يُخَالِفهُ مِمَّا نذكرهُ مَبْسُوطا عَن قريب وَتوقف فِي أَيهمَا الصَّوَاب وَالله أعلم
الْخَبَر عَن دولة زيري بن عَطِيَّة المغراوي بفاس وَالْمغْرب
هُوَ زيري بن عَطِيَّة بن عبد الله بن خزر المغراوي وَعبد الله الْمَذْكُور هُوَ أحد الْإِخْوَة الْأَرْبَعَة من بني خزر قَالَ فِي القرطاس ملك على زناتة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة فَقَامَ فِي الْمغرب بدعوة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه وحاجبه الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَذَلِكَ بعد انْقِرَاض دولة الأدارسة مِنْهُ وَبني أبي الْعَافِيَة المكناسيين فغلب زيري أَولا على جَمِيع بوادي الْمغرب ثمَّ ملك مدينتي فاس بعد عسكلاجة وَأبي بياش دَخلهَا سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة فاستوطنها وصيرها دَار ملكه واستقام لَهُ أَمر الْمغرب فعلا قدره وَقَوي سُلْطَانه وارتفع شَأْنه وَهُوَ فِي ذَلِك متمسك بدعوة بني مَرْوَان أَصْحَاب الأندلس وَالله غَالب على أمره(1/265)
حَدِيث أبي البهار الصنهاجي مَعَ الْمَنْصُور ابْن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
كَانَ أَبُو البهار بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي قد خَالف على ابْن أَخِيه مَنْصُور بن بلكين ابْن زيري بن مُنَاد الصنهاجي أَمِير إفريقية وَظُهُور الدولة العبيدية وخلع دَعْوَة الشِّيعَة وَمَال إِلَى دَعْوَة المروانيين وَغلب على المهدية وتونس وشلشال وتلمسان ووهران وشلف وَكثير من بِلَاد الزاب وخطب للمؤيد وحاجبه الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَبعث ببيعته إِلَيْهِم وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة فَلَمَّا وصلت بيعَته إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بعث إِلَيْهِ بعهده على مَا بِيَدِهِ من الْبِلَاد وبهدية وخلع وبأربعين ألف دِينَار فَلَمَّا قبض أَبُو البهار المَال والهدية أَقَامَ على بيعتهم نَحْو الشَّهْرَيْنِ ثمَّ خلعهم وَعَاد إِلَى العبيديين فَبلغ ذَلِك الْمَنْصُور فَغَاظَهُ وَكتب إِلَى زيري بن عَطِيَّة بعهده على بِلَاد أبي البهار وَأمره بقتاله عَلَيْهَا فَسَار إِلَيْهِ زيري بن عَطِيَّة من فاس فِي جيوش لَا تحصى من قبائل زناتة وَغَيرهم ففر أَبُو البهار أَمَامه وَلحق بِابْن أَخِيه مَنْصُور بن بلكين وَترك لَهُ الْبِلَاد فَملك زيري بن عَطِيَّة تلمسان وَسَائِر أَعمال أبي البهار فانبسط سُلْطَانه بالمغرب من السوس الْأَقْصَى إِلَى الزاب وَكتب بِالْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَبعث لَهُ بهدية عَظِيمَة فِيهَا مِائَتَا فرس من عتاق الْخَيل وَخَمْسُونَ جملا مهريا سَابِقَة وَألف درقة من جُلُود اللمط وأحمال كَثِيرَة من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وَغَيره وَألف حمل من التَّمْر الْجيد فِي جنسه وأحمال كَثِيرَة من ثِيَاب الصُّوف الرقيقة فسر بهَا الْمَنْصُور وكافأه عَلَيْهَا وَكتب لَهُ بتجديد عَهده على الْمغرب وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة واقام زيري بن عَطِيَّة بفاس وأسكن قبيله بأنحائها وبالقرب مِنْهَا فِي قياطينهم وَدفع بني يفرن عَن فاس وأحوازها إِلَى نواحي سلا فاستولوا عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي(1/266)
وفادة زيري بن عَطِيَّة على الْمَنْصُور بن أبي عَامر بالأندلس
لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة استدعى الْمَنْصُور بن أبي عَامر زيري بن عَطِيَّة أَن يقدم عَلَيْهِ بقرطبة فاستخلف على الْمغرب وَلَده الْمعز بن زيري وَأمره بسكنى تلمسان واستخلف على عدوة الأندلس من فاس عبد الرَّحْمَن بن عبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة وعَلى عدوة الْقرَوِيين مِنْهَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن قشوش وَولى قَضَاء المدينتين الْفَقِيه الْفَاضِل أَبَا مُحَمَّد قَاسم بن عَامر الْأَزْدِيّ وَسَار إِلَى الأندلس وَقدم بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة عَظِيمَة من جُمْلَتهَا طَائِر فصيح يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ والبربرية ودابة من دَوَاب الْمسك ومهاة وحشية تشبه الْفرس وحيوانات غَرِيبَة وأسدان عظيمان فِي قفصين من حَدِيد وَشَيْء كثير من التَّمْر فِي غَايَة الْكبر الْوَاحِدَة مِنْهُ تشبه الخيارة عظما وَحمل مَعَه من قومه وَعبيدَة ثَلَاثمِائَة فَارس وثلاثمائة راجل فاحتفل الْمَنْصُور لقدومه احتفالا عَظِيما وبرز الْخَاصَّة والعامة للقائه وأنزله بقصر جَعْفَر الْحَاجِب وَتوسع لَهُ فِي الجرايات وَالْإِكْرَام ولقبه باسم الْوَزير وأفاض عَلَيْهِ أَمْوَالًا جسيمة وخلعا نفيسة وَعجل بسراحه إِلَى عمله بعد أَن جدد لَهُ عَهده على الْمغرب وعَلى جَمِيع مَا غلب عَلَيْهِ مِنْهُ فَعبر الْبَحْر واحتل بِمَدِينَة طنجة فَلَمَّا اسْتَقر بهَا وضع يَده على رَأسه وَقَالَ الْآن علمت أَنَّك لي فاستقل مَا وَصله بِهِ الْمَنْصُور واستقبح اسْم الوزارة الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ وَلَقَد خاطبه بِهِ بعض رِجَاله فَنَهَاهُ عَن ذَلِك وَقَالَ وَزِير من يالكع لَا وَالله إِلَّا أَمِير ابْن أَمِير وَاعجَبا لِابْنِ أبي عَامر ومخرقته لِأَن تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ وَالله لَو كَانَ بالأندلس رجل مَا تَركه على حَاله وَإِن لَهُ منا ليوما وَبَلغت مقَالَته الْمَنْصُور فصر عَلَيْهَا أُذُنه وَزَاد فِي اصطناعه إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ(1/267)
اسْتِيلَاء يدو بن يعلى اليفرني على فاس ومقتله
تقدم لنا أَن بني يفرن من أَعْيَان قبائل زناتة وَكَانَ يدو بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني قد قَامَ بِأَمْر بني يفرن بعد مقتل أَبِيه يعلى بن مُحَمَّد حِين قَتله جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد الشِّيعَة سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فَملك يدو كثيرا من بوادي الْمغرب واتصلت رياسته إِلَى هَذَا التَّارِيخ
وَتقدم لنا أَن مغراوة دفعُوا بني يفرن إِلَى سلا وأحوازها فاستولوا عَلَيْهَا وَكَانَ الْأَمِير يدو بن يعلى مضاهيا لزيري بن عَطِيَّة فِي الْحسب وَالْفضل وَالْمَال
وَلما استدعى الْمَنْصُور بن أبي عَامر زيري بن عَطِيَّة للوفادة الْمُتَقَدّمَة أَرَادَ أَن يفعل بيدو بن يعلى مثل ذَلِك وَكَانَ قَصده أَن يمكر بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يطمئن إِلَيْهِ اطمئنان زيري بن عَطِيَّة فاساء يدو بن يعلى إِجَابَة الْمَنْصُور وَقَالَ مَتى عهد الْمَنْصُور حمر الْوَحْش تنقاد للبياطرة فأقصر عَنهُ الْمَنْصُور
وَكَانَت بَين زيري ويدو بن يعلى منافسات ومنازعات على الرياسة بالمغرب فَكَانَ يدو بن يعلى إِذا غلب على زيري دخل مَدِينَة فاس وَاسْتولى عَلَيْهَا وَإِذا غلب عَلَيْهِ زيري أخرجه عَنْهَا وملكها وَكَانَت الْحَرْب بَينهمَا سجالا وسئمت الرّعية بفاس كَثْرَة تعاقبهم عَلَيْهَا
ثمَّ لما سَافر زيري بن عَطِيَّة إِلَى الأندلس انتهز يدو بن يعلى الفرصة فِي غيبته فزحف إِلَى فاس وَدخل مِنْهَا عدوة الأندلس بِالسَّيْفِ فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَقتل بهَا خلقا كثيرا من مغراوة فَلَمَّا نزل زيري بن عَطِيَّة بطنجة اتَّصل بِهِ خبر يدو بن يعلى واستيلاؤه على فاس فأسرع السّير نَحوه حَتَّى نزل قَرِيبا من فاس فَكَانَت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة هلك فِيهَا خلق كثير من القبيلتين مغراوة وَبني يفرن إِلَى أَن هَزَمه زيري واقتحم عَلَيْهِ فاسا عنْوَة فَقتله وَمثل بِهِ وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بقرطبة وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلاثمائة(1/268)
بِنَاء مَدِينَة وَجدّة
لما قتل زيري بن عَطِيَّة يدو بن يعلى صفا لَهُ أَمر الْمغرب وَلم يبْق لَهُ بِهِ مُنَازع وهابته الْمُلُوك وَبَقِي الْأَمر مُسْتَقِيمًا بَينه وَبَين الْمَنْصُور فِي الظَّاهِر فَسَمت همته إِلَى بِنَاء مَدِينَة تكون خَاصَّة بِهِ ويقومه وأرباب دولته فَبنى مَدِينَة وَجدّة وشيد أسوارها وَأحكم قصبتها وَركب أَبْوَابهَا وسكنها بأَهْله وحشمه وَنقل إِلَيْهَا أَمْوَاله وذخائره وَجعلهَا قَاعِدَة ملكه لكَونهَا وَاسِطَة الْبِلَاد وثغرا للعمالتين الْمغرب الْأَقْصَى والأوسط وَكَانَ اختطاطه إِيَّاهَا فِي شهر رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَلم يزل زيري بن عَطِيَّة فِي علو سُلْطَان وارتفاع شَأْن إِلَى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ثمَّ حدث مَا نذكرهُ
حُدُوث النفرة بَين زيري بن عَطِيَّة والمنصور بن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ فسد مَا بَين الْمَنْصُور وَبَين زيري بن عَطِيَّة واتصل بالمنصور أَن زيري ينتقصه ويعرض فِي شَأْنه وحجره على الْمُؤَيد وَيتَكَلَّم فِيهِ بالقبيح فَقطع الْمَنْصُور عَنهُ رزق الوزارة الَّذِي كَانَ يجريه عَلَيْهِ فِي كل سنة ومحى اسْمه من ديوانه ونادى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فعزم زيري على خلَافَة فَقطع ذكره من الْخطْبَة وَاقْتصر على ذكر هِشَام الْمُؤَيد وطرد عماله من الْمغرب وألجأهم إِلَى سبتة فأنفذ إِلَيْهِ الْمَنْصُور بن أبي عَامر مَوْلَاهُ وَاضحا الْفَتى فِي جَيش عَظِيم وأمده بِالْحُمَاةِ من سَائِر الطَّبَقَات وأزاح عللهم وأفاض عَلَيْهِم الْأَمْوَال للنفقات(1/269)
وأنواع السِّلَاح والكسى فَعبر وَاضح الْبَحْر وَاسْتقر بِمَدِينَة طنجة فانضم إِلَيْهِ بعض قبائل البربر من غمارة وصنهاجة وَغَيرهم وَبَايَعُوهُ على قتال زيري بن عَطِيَّة وَمن مَعَه من قبائل زناتة فَأَفَاضَ عَلَيْهِم الْخلْع وَالْأَمْوَال
ثمَّ أمد الْمَنْصُور بِمن كَانَ مَعَه بالأندلس من مُلُوك البربر النازعين عَن زيري بن عَطِيَّة إِلَيْهِ فتكاملت جيوشه وَخرج بهم وَاضح من طنجة يؤم فاسا فاتصل خَبره بزيري بن عَطِيَّة فَخرج إِلَيْهِ من فاس فِي عَسَاكِر زناتة فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي زادات فَكَانَت بَينهمَا حروب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا مُدَّة من ثَلَاثَة أشهر إِلَى أَن انهزم وَاضح وَقتل أَكثر جَيْشه وفر وَاضح إِلَى طنجة فَدَخلَهَا مُنْهَزِمًا وَكتب إِلَى الْمَنْصُور يطْلب مِنْهُ المدد
وَقَالَ ابْن خلدون إِن وَاضحا حِين برز من طنجة وزحف إِلَيْهِ زيري بن عَطِيَّة تواقفا ثَلَاثَة أشهر ثمَّ تنَاول وَاضح آصيلا ونكور فضبطهما واتصلت الوقائع بَينه وَبَين زيري ثمَّ بَيت وَاضح معسكر زيري بنواحي آصيلا وهم غَارونَ فأوقع بهم
وَخرج الْمَنْصُور من قرطبة فوصل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز ابْنه عبد الْملك المظفر بِجَمِيعِ عَسْكَر الأندلس وقوادها حَتَّى بَقِي الْمَنْصُور وَحده وَأمره بِحَرب زيري بن عَطِيَّة فَركب المظفر الْبَحْر من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة
واتصل خبر المظفر بزيري بن عَطِيَّة فخافه وَأخذ فِي الاستعداد لملاقاته وَكتب إِلَى جَمِيع قبائل زناتة يستصرخهم فَأَتَتْهُ الْوُفُود من بِلَاد ملوية وتلمسان والزاب وَسَائِر بوادي وناتة فَنَهَضَ بهم إِلَى قتال عبد الْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر وبرز عبد الْملك من طنجة وَمَعَهُ وَاضح الْفَتى فِي جيوش لَا تحصى والتقى الْجَمْعَانِ بوادي منى من أحواز طنجة فَكَانَت بَينهم(1/270)
حَرْب أعظم من الأولى ودام الْقِتَال بَينهم يَوْمًا إِلَى اللَّيْل
وَكَانَ فِي عَسْكَر زيري بن عَطِيَّة غُلَام أسود اسْمه سَلام كَانَ زيري قد قتل أَخَاهُ فَوجدَ الفرصة إِلَيْهِ فانتهزها وضربه بسكين فِي نَحره ثَلَاث ضربات فأشواه أَي لم يصب مَقْتَله وَمر الْأسود يشْتَد نَحْو المظفر وبشره بقتل زيري فاستكذبه ثمَّ سقط إِلَيْهِ الْخَبَر الصَّحِيح بِأَن زيري قد أثبت فَشد عَلَيْهِم عبد الْملك وهم فِي حَال دهشة من جرح أَمِيرهمْ فَهَزَمَهُمْ واستمرت الْهَزِيمَة على زيري وَأَصْحَابه واثخن فيهم عبد الْملك بِالْقَتْلِ وَملك محلّة زيري بأسرها واحتوى على جَمِيع مَا فِيهَا من المَال وَالسِّلَاح والكراع وَالْإِبِل وَالْعدة فاستولى من ذَلِك على مَا لَا يَأْخُذهُ الْحصْر
وَمضى زيري على وَجهه حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع يعرف بمضيق الْحَيَّة بِالْقربِ من مكناسة فَعَسْكَرَ بِهِ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الفل من قومه وعزم على الرُّجُوع لمناجزة المظفر فاتصل الْخَبَر بالمظفر فانتخب من عسكره خَمْسَة آلَاف فَارس وَقدم عَلَيْهِم وَاضحا الْفَتى ونهضوا إِلَى زيري بن عَطِيَّة فَضربُوا فِي محلته لَيْلًا بمضيق الْحَيَّة وهم آمنون فأوقعوا بهم وقْعَة عَظِيمَة أسر فِيهَا من اشراف مغراوة نَحْو ألفي رجل وَذَلِكَ فِي منتصف رَمَضَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فامتن عَلَيْهِم عبد الْملك المظفر وأركبهم مَعَه فَكَانُوا من جنده وفر زيري بن عَطِيَّة فِي شرذمة من أَصْحَابه وَبني عَمه فَانْتهى إِلَى فاس فأغلق أَهلهَا الْأَبْوَاب دونه فَسَأَلَهُمْ أَن يخرجُوا إِلَيْهِ عِيَاله وَأَوْلَاده فأخرجوهم إِلَيْهِ وَأَعْطوهُ مَعَ ذَلِك الزَّاد وَالدَّوَاب فَأَخذهُم وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء فَنزل بِلَاد صنهاجة وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى(1/271)
قدوم عبد الْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر مَدِينَة فاس وَمَا كَانَ من شَأْنه بهَا
لما انهزم زيري بن عَطِيَّة من مضيق الْحَيَّة إِلَى الصَّحرَاء نَهَضَ عبد الْملك المظفر من مُعَسْكَره يؤم فاسا فَدَخلَهَا يَوْم السبت منسلخ شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فَاسْتَقْبلهُ أَهلهَا مستبشرين بِهِ فَأحْسن لقاءهم وَكتب إِلَى أَبِيه الْمَنْصُور بِالْفَتْح فَقَرَأَ الْكتاب على مِنْبَر جَامع الزهراء من قرطبة وعَلى مَنَابِر مَسَاجِد الأندلس كلهَا شرقا وغربا وَأعْتق الْمَنْصُور ألفا وَخَمْسمِائة مَمْلُوك وثلاثمائة مَمْلُوكَة شكرا لله تَعَالَى وَفرق أَمْوَالًا كَثِيرَة على الْفُقَرَاء وَذَوي الْحَاجَات وَكتب إِلَى وَلَده المظفر بعهده على الْمغرب وأوصاه بِحسن السِّيرَة وَالْعدْل فَقَرَأَ كِتَابه على مِنْبَر مَسْجِد الْقرَوِيين وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة آخر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة
وَانْصَرف وَاضح إِلَى الأندلس واستوطن عبد الْملك مَدِينَة فاس وَعدل فِيهَا عدلا لم يعهدوه من أحد قبله وَأقَام بهَا سِتَّة أشهر ثمَّ صرفه وَالِده عَنْهَا إِلَى الأندلس وَبعث إِلَيْهَا عوضا عَنهُ عِيسَى بن سعيد صَاحب الشرطة فَأَقَامَ واليا عَلَيْهَا إِلَى صفرَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فَعَزله الْمَنْصُور عَنْهَا وَعَما كَانَ ولاه من بِلَاد العدوة وَولى عَلَيْهَا وَاضحا الْفَتى وَانْصَرف عِيسَى بن سعيد إِلَى الأندلس من السّنة الْمَذْكُورَة بَقِيَّة أَخْبَار زيري بن عَطِيَّة
لما نزل زيري بن عَطِيَّة بِبِلَاد صنهاجة وجدهم قد اخْتلفُوا على ملكهم باديس بن مَنْصُور بن بلكين بن زيري بن مُنَاد صَاحب إفريقية فَأرْسل زيري بن عَطِيَّة فِي قبائل زناتة حاشرين فَأتى مِنْهُم خلق كثير من مغراوة(1/272)
وَغَيرهم فاغتنم زيري تِلْكَ الفرصة من صنهاجة فزحف إِلَيْهِم وأوغل فِي بِلَادهمْ وَهزمَ جيوشهم وَدخل مَدِينَة تاهرت وَجُمْلَة من بِلَاد الزاب وَملك مَعَ ذَلِك تلمسان وشلف والمسيلة وَأقَام بهَا الدعْوَة للمؤيد وحاصر مَدِينَة آشير قَاعِدَة بِلَاد صنهاجة وَكتب إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بذلك يسترضيه وَيشْتَرط على نَفسه الرَّهْن والاستقامة إِن أُعِيد إِلَى ولَايَته وبينما هُوَ محاصر لآشير يباكرها ويراوحها بِالْقِتَالِ انْقَضتْ عَلَيْهِ جراحاته الَّتِي كَانَ جرحه الْأسود فَمَاتَ مِنْهَا سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلاثمائة
الْخَبَر عَن دولة الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة المغراوي
لما هلك زيري بن عَطِيَّة اجْتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابْنه الْمعز بن زيري فَبَايعُوهُ وَضبط أَمرهم وأقصر عَن محاربة صنهاجة وَصَالح الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَقَامَ بدعوته وَرجع إِلَى طَاعَته وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي الْمَنْصُور وَولي ابْنه بعده عبد الْملك المظفر فيايعه الْمعز أَيْضا ودعا لَهُ على منابره فعزل المظفر وَاضحا الْفَتى عَن فاس وَسَائِر بِلَاد الْمغرب وَصَرفه إِلَى الأندلس وَكتب إِلَى الْمعز بن زيري بعهده على فاس وَسَائِر أَعمال الْمغرب حواضره وبواديه وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَشرط لَهُ الْمعز أَن يُؤَدِّي إِلَيْهِ فِي كل سنة مَالا مَعْلُوما وخيلا ودرقا يُوصل ذَلِك إِلَى قرطبة وَأَعْطَاهُ مَعَ ذَلِك وَلَده معنصر بن الْمعز رهنا وَكَانَت نُسْخَة كتاب الْعَهْد
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله
من الْحَاجِب المظفر سيف الدولة دولة الإِمَام الْخَلِيفَة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ عبد الْملك بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر إِلَى كَافَّة أهل مدينتي فاس وكافة أهل الْمغرب سلمهم الله أما بعد أصلح الله(1/273)
شَأْنكُمْ وَسلم أَنفسكُم وأديانكم فَالْحَمْد لله علام الغيوب وغفار الذُّنُوب ومقلب الْقُلُوب ذِي الْبَطْش الشَّديد المبدئ المعيد الفعال لما يُرِيد لَا راد لأَمره وَلَا معقب لحكمه بل لَهُ الْملك وَالْأَمر وَبِيَدِهِ الْخَيْر وَالشَّر إِيَّاه نعْبد وإياه نستعين وَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وعَلى آله الطيبين وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالسَّلَام عَلَيْكُم أَجْمَعِينَ وَإِن الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة أكْرمه الله تَابع رسله لدينا وَكتبه متنصلا من هَنَات دَفعته إِلَيْهَا ضرورات ومستغفرا من سيئات حطتها من تَوْبَته حَسَنَات وَالتَّوْبَة ممحاة الذَّنب وَالِاسْتِغْفَار منقذ من العتب وَإِذا أذن الله بِشَيْء يسره وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَلكم فِيهِ خَيره وَقد وعد من نَفسه استشعار الطَّاعَة وَلُزُوم الجادة واعتقاد الاسْتقَامَة وَحسن المعونة وخفة الْمُؤْنَة فوليناه مَا قبلكُمْ وعهدنا إِلَيْهِ أَن يعْمل بِالْعَدْلِ فِيكُم وَأَن يرفع أَعمال الْجور عَنْكُم وَأَن يعمر سبلكم وَأَن يقبل من محسنكم ويتجاوز عَن مسيئكم إِلَّا فِي حُدُود الله تبَارك وَتَعَالَى وأشهدنا الله عَلَيْهِ بذلك وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَقد وجهنا الْوَزير أَبَا عَليّ بن حذيم أكْرمه الله وَهُوَ من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليَأْخُذ بِشَأْنِهِ ويؤكد الْعَهْد فِيهِ عَلَيْهِ بذلك وأمرناه بإشراككم فِيهِ وَنحن بأمركم معتنون ولأحوالكم مطلعون وَأَن يقْضِي على الْأَعْلَى للأدنى وَلَا يرضى فِيكُم بِشَيْء من الْأَدْنَى فثقوا بذلك واسكنوا إِلَيْهِ وليمض القَاضِي أَبُو عبد الله أَحْكَامه مشدودا ظَهره بِنَا معقودا سُلْطَانه بسلطاننا وَلَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم فَذَلِك ظننا بِهِ إِذْ وليناه وأملنا فِيهِ إِذا قلدناه وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ولتبلغوا منا سَلاما طيبا جزيلا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته(1/274)
وَلما وصل إِلَى الْمعز بن زيري الْعَهْد بولايته على الْمغرب مَا عدا كورة سجلماسة فَإِنَّهَا كَانَت لبني خزرون بن فلفل ضم نشره وثاب إِلَيْهِ نشاطه وَبث عماله فِي جَمِيع كور الْمغرب وجبا خراجها لم تزل ولَايَته متسقة وَطَاعَة رعاياه منتظمة إل إِلَى افترق أَمر الْجَمَاعَة بالأندلس واختل رسم الْخلَافَة بهَا فاضطرب أَمر الْمغرب على الْمعز وَأقَام على ذَلِك إِلَى أَن هلك سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة كَذَا عِنْد ابْن خلدون
وَفِي القرطاس لم تزل بِلَاد الْمغرب أَيَّام الْمعز فِي غَايَة الْهُدْنَة والعافية والرخاء والأمن إِلَى أَن توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم
وَأما ابْنه معنصر فَإِنَّهُ أَقَامَ بقرطبة إِلَى أَن قَامَت الْفِتْنَة بالأندلس وانقرضت الدولة العامرية فَانْصَرف معنصر إِلَى أَبِيه وعشيرته بفاس
وَحكي فِي القرطاس أَنه لما كَانَت سنة تسع وَتِسْعين وثلاثمائة وَتُوفِّي عبد الْملك المظفر وَولي بعده أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر بعث إِلَيْهِ الْمعز بن زيري بهدية نفيسة فِيهَا خَمْسُونَ فرسا وَكَانَ وَلَده معنصر مرتهنا عِنْده بقرطبة كَمَا قُلْنَا فأحضر الْحَاجِب عبد الرَّحْمَن معنصر بن الْمعز حِين وصلت إِلَيْهِ هَدِيَّة أَبِيه فَخلع عَلَيْهِ وعَلى الرُّسُل الَّذين قدمُوا عَلَيْهِ بالهدية وَبعث بِهِ إِلَى أَبِيه مكرما فَجمع الْمعز كل فرس كَانَ عِنْده وَبعث بِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ مبلغ عدد الْخَيل تِسْعمائَة فرس وَلم تصل من الْمغرب إِلَى الأندلس هَدِيَّة أعظم مِنْهَا(1/275)
الْخَبَر عَن دولة حمامة بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي
لما توفّي الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة ولي بعده ابْن عَمه حمامة بن الْمعز بن عَطِيَّة وَلَيْسَ بِابْن لَهُ كَمَا زعم بعض المؤرخين وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عَمه وَقع الِاتِّفَاق فِي بعض الْأَسْمَاء فَنَشَأَ الْغَلَط وَاسْتولى حمامة على عمل فاس وَالْمغْرب واستفحل ملكه وقصده الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء وأتته الْوُفُود ومدحه الشُّعَرَاء
وَكَانَت الدولة بالأندلس قد تداعت إِلَى الاختلال فَكَانَ ذَلِك من أَسبَاب استفحال الدولة المغراوية بفاس وَالْمغْرب واستقلال بِالْأَمر فَكَانَ لحمامة من الظُّهُور مَا ذَكرْنَاهُ إِلَى أَن أَصَابَته عين الْكَمَال بمنازعة أبي الْكَمَال على مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة أبي الْكَمَال تَمِيم بن زيري اليفرني واستيلائه على فاس وأعمالها
قد تقدم لنا أَن بني يفرن كَانُوا قد تحيزوا إِلَى النواحي سلا فاستولوا عليهاوعلى مَدِينَة شالة ثمَّ ملكوا تادلا وَمَا والاها من الْبِلَاد
ثمَّ لما كَانَت سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ الْأَمِير على بني يفرن أَبَا الْكَمَال تَمِيم بن زيري بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني فزحف من سلا إِلَى فاس فِي قبائل بني يفرن وَمن انضاف إِلَيْهِم من زتاته وبرز إِلَيْهِ حمامة فِي جموع مغراوة وَمن إِلَيْهِم فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة أجلت عَن هزيمَة حمامة وَمَات من مغراوة أُمَم وَاسْتولى تَمِيم على فاس وأعمال الْمغرب ودخلها فِي جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة واستباح يهود فاس فَقتل مِنْهُم أَكثر من سِتَّة آلَاف يَهُودِيّ وسبى حرمهم وَاصْطلمَ نعمتهم بالمرة وَلحق حمامة بوجدة فاستمد من كَانَ هُنَالك من قبائل مغراوة وزناتة(1/276)
وأنجاد قبائل ملوية وانْتهى إِلَى تنس فاستنفر من هُنَالك من زناتة وَبعث الحاشدين فِي قياطينهم إِلَى جَمِيع بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَكَاتب من بعد عَنهُ من رجالاتهم فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك جم غفير ثمَّ زحف إِلَى فاس سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فأفرج عَنْهَا أَبُو الْكَمَال وَلحق بِبَلَدِهِ ومقر ملكه من شالة وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَت مُدَّة استيلائه على فاس وأعمالها خمس سِنِين وَقيل سبع سِنِين
وَكَانَ أَبُو الْكَمَال اليفرني يغلب عَلَيْهِ الْجفَاء وَالْجهل وَمَعَ ذَلِك فقد كَانَ صلبا فِي دينه مُسْتَقِيمًا فِيهِ مُولَعا بجهاد برغواطة كَانَ يغزوهم مرَّتَيْنِ فِي السّنة إِلَى أَن توفّي وَلما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقتل ابْنه فِي حَرْب لمتونة جاؤوا بِهِ ليدفنوه إِلَى جَانب قبر أَبِيه أبي الْكَمَال فَسَمِعُوا من قَبره تَكْبِيرا وتشهدا كثيرا فنبشوا قَبره فألفوه لم يتَغَيَّر مِنْهُ شَيْء ثمَّ رَآهُ بعض قرَابَته فِي النّوم فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا التَّكْبِير وَالتَّشَهُّد الَّذِي سمعناه من قبرك قَالَ تِلْكَ الْمَلَائِكَة وَكلهمْ الله بقبري يكبرُونَ ويهللون ويسبحون وَيكون ثَوَاب ذَلِك لي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وَبِمَ نلْت ذَلِك قَالَ بجهادي برغواطة حُكيَ هَذَا الْخَبَر فِي القرطاس وَالله على كل شَيْء قدير وَأقَام حمامة فِي سُلْطَان فاس وَالْمغْرب إِلَى أَن توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقيل غير ذَلِك(1/277)
الْخَبَر عَن دولة دوناس بن حمامة ابْن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي
لما توفّي حمامة بن الْمعز ولي بعده ابْنه دوناس بن حمامة ويكنى ابا العطاف وَاسْتولى على فاس وَسَائِر مَا كَانَ لِأَبِيهِ من مدن الْمغرب وأعماله وَخرج عَلَيْهِ لأوّل دولته ابْن عَمه حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة فجرت لَهُ مَعَه حروب وخطوب وَكَثُرت جموع حَمَّاد وَغلب على ضواحي فاس وحاصرها حصارا شَدِيدا وَقطع عَن عدوة الْقرَوِيين جرية الْوَادي واحتفر السياج الْمَعْرُوف بسياج حَمَّاد وَيُقَال إِن دوناس خَنْدَق بِهِ على نَفسه وَاسْتمرّ حَمَّاد محاصرا لفاس إِلَى أَن هلك سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أَيَّامه وَصَارَ النَّاس فِي هدنة ودعة ورخاء كثير
وَفِي أَيَّامه عظمت فاس وعمرت وَكَثُرت أرباضها وقصدها النَّاس والتجار من جَمِيع النواحي فأدار دوناس السُّور على أرباضها وَبنى بهَا الْمَسَاجِد والحمامات والفنادق واستبحر عمرانها فَصَارَت حَاضِرَة الْمغرب من يَوْمئِذٍ وَلم يشْتَغل دوناس من يَوْم ولي إِلَى ان توفّي إِلَّا بِالْبِنَاءِ والتشييد وَكَانَت وَفَاته فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
الْخَبَر عَن دولة فتوح بن دوناس المغراوي
لما توفّي دوناس بن حمامة ولي بعده ابْنه الْفتُوح بن دوناس وَنزل بعدوة الأندلس ونازعه اللأمر أَخُوهُ الْأَصْغَر واسْمه عجيسة وَكَانَ شهما محربا(1/278)
فاستولى على عدوة الْقرَوِيين واستبد على أَخِيه وافترق أَمر فاس وأعمالها بافتراقهما وَقَامَت الْحَرْب بَينهمَا على سَاق وَبنى الْفتُوح بعدوة الأندلس قَصَبَة منيعة بالموضع الْمَعْرُوف بالكدان وَبنى عجيسة أَيْضا قَصَبَة مثلهَا بِرَأْس عقبَة السعتر من عدوة الْقرَوِيين وَكَثُرت الْعَدَاوَة بَينهمَا واستحكمت فَكَانَا لَا يفتران عَن الْقِتَال لَيْلًا وَنَهَارًا وَعظم الْخَوْف بالمغرب وَكثر الْهَرج وغلت الأسعار واشتدت المجاعة وَظَهَرت لمتونة على أَطْرَاف الْبِلَاد فملكوها وَالْأَمر لَا زَالَ وَالْحَال مَا حَال وَلَيْسَ لأهل فاس شغل إِلَّا الْقِتَال وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَلِك ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن بَيت الْفتُوح عجيسة فاقتحم عَلَيْهِ عدوة الْقرَوِيين لَيْلًا فَقتله وَاسْتولى على العدوتين مَعًا
والفتوح بن دوناس هَذَا هُوَ الَّذِي بنى بَاب الْفتُوح من مَدِينَة فاس بسورها القبلي وَبِه عرف إِلَى الْآن وَأَخُوهُ عجيسة هُوَ الَّذِي بنى بَاب عجيسة بِرَأْس عقبَة السعتر من عدوة الْقرَوِيين من نَاحيَة الْجوف وَبِه عرف أَيْضا إِلَى ألآن فَلَمَّا ظفر الْفتُوح بعجيسة وَقَتله أَمر بتغيير اسْم الْبَاب الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فأسقط النَّاس الْعين من عجيسة وعوضوا عَنْهَا الْألف وَاللَّام فَقَالُوا بَاب الجيسة قَالَه فِي القرطاس وَقَالَ ابْن خلدون خففوه لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال
وَلم يزل الْفتُوح مستوليا على فاس إِلَى أَن دهم الْمغرب مَا دهمه من أَمر المرابطين من لمتونة وخشي الْفتُوح مغبة ذَلِك فأفرج عَن فاس وتخلى عَنْهَا وزحف صَاحب القلعة بلكين بن مُحَمَّد بن حَمَّاد الصنهاجي إِلَى الْمغرب سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَدخل فاسا وَاحْتمل من أكابرها وأشرافها عددا رهنا على الطَّاعَة وقفل إِلَى قلعته
الْخَبَر عَن دولة معنصر بن حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي
لما تخلى الْفتُوح بن دوناس عَن ملك فاس وأعمالها قَامَ بِالْأَمر بعده(1/279)
قريبَة معنصر بن حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة فَبَايَعته قبائل مغراوة الَّذين بفاس وأحوازها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ معنصر ذَا حزم ورأي وشجاعة وإقدام وشغل بِحَرب لمتونة وَكَانَت لَهُ عَلَيْهِم الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة
ثمَّ غلب يُوسُف بن ناشفين على فاس وَخلف عَلَيْهَا عَامله وارتحل إِلَى عمَارَة وَفتح الْكثير من بلادها حَتَّى أشرف على طنجة ثمَّ رَجَعَ إِلَى حِصَار قلعة فازاز فخالفه معنصر إِلَى فاس وملكها وَقتل الْعَامِل وَمن مَعَه من لمتونة وَمثل بهم بالحرق والصلب واتصل الْخَبَر بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ محاصر لقلعة فازاز فاستدعى مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب مكناسة ليستجيش بِهِ على فاس فاستعرضه معنصر فِي طَرِيقه قبل أَن تتصل أَيْدِيهِمَا وناجزه الْحَرْب ففض جموعه وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى وليه الْحَاجِب سكُوت البرغواطي صَاحب سبتة
واستصرخ أهل مكناسة بِيُوسُف بن تاشفين فسرح عَسَاكِر لمتونة إِلَى حِصَار فاس فَأخذُوا بمخنقها وَقَطعُوا الْمرَافِق عَنْهَا وألحوا بِالْقِتَالِ عَلَيْهَا حَتَّى اشْتَدَّ بِأَهْلِهَا الْحصار ومسهم الْجد وبرز معنصر لإحدى الراحتين فَكَانَت الدائرة عَلَيْهِ وفقد فِي الملحمة ذَلِك الْيَوْم سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فَلم يدر مَا فعل الله بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْخَبَر عَن دولة تَمِيم بن معنصر المغراوي
لما فقد معنصر بن حَمَّاد فِي الملحمة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين اللمتونيين بَايع أهل فاس من بعده لِابْنِهِ تَمِيم بن معنصر فَكَانَت أَيَّامه أَيَّام حِصَار وفتنة وَجهد وَغَلَاء
وشغل يُوسُف بن تاشفين عَنْهُم بِفَتْح بِلَاد غمارة حَتَّى إِذا كَانَت سنة ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَفرغ من فتح غمارة صعد إِلَى فاس فحاصرها أَيَّامًا ثمَّ اقتحمها عنْوَة وَقتل بهَا زهاء ثَلَاثَة آلَاف من مغراوة وَبني يفرن ومكناسة وَغَيرهم(1/280)
وَهلك تَمِيم بن معنصر فِي جُمْلَتهمْ حَتَّى عجز النَّاس عَن مواراتهم فُرَادَى فاتخذوا لَهُم الأخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا من الْقَتْل مِنْهُم إِلَى تلمسان قَالَه ابْن خلدون
وَقَالَ فِي القرطاس دخل يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة فاس الدخلة الثَّانِيَة الْكُبْرَى فَقتل بهَا من مغراوة وَبني يفرن فِي أزقتها وجوامعها مَا يزِيد على الْعشْرين ألف رجل وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وانقرضت دولة مغراوة من الْمغرب والبقاء لله وَحده
وَكَانَت مُدَّة دولتهم نَحْو مائَة سنة وَفِي دولتهم عظم شَأْن فاس وبنيت الأسوار على أرباضها وحصنت أَبْوَابهَا وَزيد فِي مسجديها الْقرَوِيين والأندلس زِيَادَة كَثِيرَة واتسع النَّاس فِي أَيَّام مغراوة فِي الْبناء فعظمت فاس واستبحر عمرانها وَكَثُرت خيراتها واتصل الْأَمْن والرخاء جلّ أيامهم إِلَى أَن ضعفت أَحْوَالهم وجاروا على رعيتهم بِأخذ أَمْوَالهم وَسَفك دِمَائِهِمْ والتعرض لحرمهم فَانْقَطَعت عَنْهُم الْموَاد وَكثر الْخَوْف فِي الْبِلَاد وغلت الأسعار وبلى الله عباده بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات وَذَلِكَ فِي دولة الْفتُوح بن دوناس وَمن بعده فَكَانَ رُؤَسَاء مغراوة وَبني يفرن يلجون على النَّاس دُورهمْ فَيَأْخُذُونَ مَا يَجدونَ بهَا من الطَّعَام ويتعرضون لنسائهم وصبيانهم وَيَأْخُذُونَ أَمْوَال التُّجَّار فَلَا يقدر أحد أَن يصدهم عَن ذَلِك
وَكَانَ سفهاؤهم وعبيدهم يصعدون على قنة جبل الْعرض فَيَنْظُرُونَ إِلَى الدّور الَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَإِذا رَأَوْا دَارا بهَا دُخان قصدوها وَأخذُوا مَا وجدوا بهَا من طَعَام أَو غَيره وَمن تعرض لَهُم فِي ذَلِك قَتَلُوهُ فَلَمَّا ارتكبوا هَذِه العظائم سلبهم الله ملكه وَغير مَا بهم من نعْمَة {الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} فَسلط عَلَيْهِم المرابطين فمحوا آثَارهم من الْمغرب ونفوهم عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ وطهروه من جَوْرهمْ
وَفِي أيامهم اتخذ أهل فاس المطامير فِي بُيُوتهم للطحن والطبخ لِئَلَّا(1/281)
يسمع دوِي الرَّحَى فتقصدهم سُفَهَاء مغراوة وفيهَا أَيْضا اتَّخذُوا غرفا لَا مراقي لَهَا حَتَّى إِذا كَانَ عشى النَّهَار صعد الرجل بأَهْله وَعِيَاله إِلَيْهَا بسلم ثمَّ يرفع السّلم مَعَه لِئَلَّا يدْخل عَلَيْهِ فَجْأَة وَكَانَ من هَذَا شَيْء كثير
وَكَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة أَنه فِي لَيْلَة الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ظهر نجم فِي السَّمَاء كَانَ فِي رَأْي الْعين مثل الصومعة الْعَظِيمَة طلع من جِهَة الْمشرق وتهافت جَريا فِيمَا بَين الْمغرب والجوف وتطاير مِنْهُ شرر عَظِيم فزع النَّاس مِنْهُ واستغاثوا رَبهم فِي صرف مَكْرُوهَة عَنْهُم
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بعْدهَا كَانَ الْكُسُوف الْكُلِّي الَّذِي أذهب جَمِيع الفرص
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة كَانَت الرّيح الهائلة الَّتِي نظر النَّاس فِيهَا إِلَى الْبَهَائِم تمر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض نَعُوذ بِاللَّه من سخطه
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وثلاثمائة طلع الْكَوْكَب الْوَقَّاد وَهُوَ نجم عَظِيم ضخم الجرم كثير الضياء
وَفِي سنة سِتّ وَتِسْعين وثلاثمائة طلع نجم عَظِيم من ذَوَات الأذناب شَدِيد الارتعاد
وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة انقرضت دولة بني أُميَّة بالأندلس وَقَامَت بهَا دولة بني حمود فَكَانَت مدَّتهَا نَحْو سبع سِنِين وانقرضت أَيْضا وافترق أَمر الْجَمَاعَة بالأندلس وَصَارَ الْملك بهَا طوائف إِلَى أَن نسخ ذَلِك يُوسُف بن تاشفين
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة اشْتَدَّ الْقَحْط بِبِلَاد الْمغرب كلهَا من تاهرت إِلَى سجلماسة وَكثر الفناء فِي النَّاس نسْأَل الله الْعَافِيَة
وَفِي سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة بالأندلس اضْطَرَبَتْ لَهَا الأَرْض وانهدت الْجبَال(1/282)
وَفِي سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة توفّي الْفَقِيه ابْن الْعَجُوز بفاس
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو عمرَان الفاسي قَالَ فِي التشوف أَبُو عمرَان مُوسَى بن عِيسَى بن أبي حَاج الفاسي أَصله من مَدِينَة فاس وَنزل بالقيروان فَأخذ عَن ابي الْحسن الْقَابِسِيّ ثمَّ رَحل إِلَى بَغْدَاد فَحَضَرَ مجْلِس القَاضِي أبي بكر بن الطّيب ثمَّ عَاد إِلَى القيروان وَبهَا مَاتَ لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شهر رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ مقدما فِي الْفضل وَالْأَمَانَة اه(1/283)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة المرابطية
الْخَبَر عَن الدولة الصنهاجية اللمتونية المرابطية وأوليتها
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على نسب البربر وشعوبها أَن صنهاجة إِحْدَى قبائل البرانس من البربر وَأَنَّهُمْ أعظم قبائلها بالمغرب لَا يكَاد قطر من أقطاره يَخْلُو من بطن من بطونهم فِي جبل أَو بسيط حَتَّى زعم كثير من النَّاس أَنهم ثلث البربر
وَتقدم لنا أَن النسابين من الْعَرَب زَعَمُوا أَن صنهاجة وكتامة من حمير خَلفهم الْملك إفريقيش بالمغرب فاستحالت لغتهم إِلَى البربرية وَالتَّحْقِيق خلاف ذَلِك وَأَنَّهُمْ من كنعان بن حام كَسَائِر البربر وَتَحْت صنهاجة قبائل كَثِيرَة تَنْتَهِي إِلَى السّبْعين مِنْهُم لمتونة وكدالة ومسوفة ومسراته ومداسة وَبَنُو وَارِث وَبَنُو دحير وَبَنُو زِيَاد وَبَنُو مُوسَى وَبَنُو فشتال وَغير ذَلِك وَتَحْت هَذِه الْقَبَائِل بطُون وأفخاذ تفوت الْحصْر
وَكَانَت لَهُم بالمغرب دولتان عظيمتان إِحْدَاهمَا دولة بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين بإفريقية ورثوا ملكهَا من يَد الشِّيعَة العبيديين وَالْأُخْرَى دولة الملثمين بالمغرب الْأَقْصَى والأوسط والأندلس كَمَا سَيَأْتِي
وموطن هَؤُلَاءِ الملثمين أَرض الصَّحرَاء والرمال الجنوبية فِيمَا بَين بِلَاد البربر وبلاد السودَان ومساحة أَرضهم نَحْو سَبْعَة أشهر طولا فِي أَرْبَعَة عرضا وَفِيهِمْ قوما لَا يعْرفُونَ حرثا وَلَا زرعا وَلَا فَاكِهَة وَإِنَّمَا أَمْوَالهم الْأَنْعَام وعيشهم اللَّحْم وَاللَّبن يُقيم أحدهم عمره لَا يَأْكُل خبْزًا إِلَّا أَن يمر ببلادهم التُّجَّار فيتحفونهم بالخبز والدقيق وَإِنَّمَا قيل لَهُم الملثمون لأَنهم(2/3)
يتلثمون وَلَا يكشفون وُجُوههم أصلا
قَالَ ابْن خلكان اللثام سنة لَهُم يتوارثونها خلفا عَن سلف وَسبب ذَلِك على مَا قيل إِن حمير كَانَت تتلثم لشدَّة الْحر وَالْبرد تَفْعَلهُ الْخَواص مِنْهُم فَكثر ذَلِك حَتَّى صَار تَفْعَلهُ عامتهم وَقيل كَانَ سَببه أَن قوما من أعدائهم كَانُوا يقصدون غفلتهم إِذا غَابُوا عَن بُيُوتهم فيطرقون الْحَيّ فَيَأْخُذُونَ المَال والحريم فَأَشَارَ عَلَيْهِم بعض مشايخهم أَن يبعثوا النِّسَاء فِي زِيّ الرِّجَال إِلَى نَاحيَة ويقعدوا هم فِي الْبيُوت مُتَلَثِّمِينَ فِي زِيّ النِّسَاء فَإِذا أَتَاهُم الْعَدو وظنوهم نسَاء خَرجُوا عَلَيْهِم فَفَعَلُوا ذَلِك وثاروا عَلَيْهِم بِالسُّيُوفِ فَقَتَلُوهُمْ فلزموا اللثام تبركا بِهِ بِمَا حصل لَهُم من الظفر بالعدو
وَقَالَ عز الدّين ابْن الْأَثِير فِي كَامِله مَا مِثَاله وَقيل إِن سَبَب تلثمهم أَن طَائِفَة من لمتونة خَرجُوا مغيرين على عَدو لَهُم فخالفهم الْعَدو إِلَى بُيُوتهم وَلم يكن بهَا إِلَّا الْمَشَايِخ وَالصبيان وَالنِّسَاء فَلَمَّا تحقق الْمَشَايِخ أَنه الْعَدو أمروا النِّسَاء أَن يلبسن ثِيَاب الرجل ويتلثمن ويضيقنه حَتَّى لَا يعرفن ويلبسن السِّلَاح ففعلن ذَلِك وَتقدم الْمَشَايِخ وَالصبيان أمامهن واستدار النِّسَاء بِالْبُيُوتِ فَلَمَّا أشرف الْعَدو رأى جمعا عَظِيما فَظَنهُ رجَالًا وَقَالُوا هَؤُلَاءِ عِنْد حريمهم يُقَاتلُون عَنْهُن قتال الْمَوْت والرأي أَن نسوق النعم ونمضي فَإِن اتبعونا قاتلناهم خَارِجا عَن حريمهم فَبَيْنَمَا هم فِي جمع النعم من المراعي إِذْ أقبل رجال إِلَى الْحَيّ فَبَقيَ الْعَدو بَينهم وَبَين النِّسَاء فَقتلُوا من الْعَدو خلقا كثيرا وَكَانَ من قتل النِّسَاء أَكثر فَمن ذَلِك الْوَقْت جعلُوا اللثام سنة يلازمونه فَلَا يعرف الشَّيْخ من الشَّاب وَلَا يزيلونه لَيْلًا وَلَا نَهَارا
وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو مُحَمَّد بن حَامِد الْكَاتِب
(قوم لَهُم شرف الْعلَا من حمير ... وَإِذا انتموا صنهاجة فهم هم)
(لما حووا أحراز كل فَضِيلَة ... غلب الْحيَاء عَلَيْهِم فتلثموا)
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ دين صنهاجة أهل اللثام الْمَجُوسِيَّة شَأْن برابرة(2/4)
الْمغرب وَلم يزَالُوا مستقرين بِتِلْكَ المفالات الصحراوية حَتَّى كَانَ إسْلَامهمْ بعد فتح الأندلس وَكَانَت الرياسة فيهم للمتونة واستوسق لَهُم ملك ضخم عِنْد دُخُول عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة إِلَى الأندلس توارثه مُلُوك مِنْهُم من بني ورتنطيو وطالت أعمارهم فِيهِ إِلَى الثَّمَانِينَ وَنَحْوهَا ودوخوا تِلْكَ الْبِلَاد الصحراوية وَجَاهدُوا من بهَا من أُمَم السودَان وحملوهم على الْإِسْلَام فدان بِهِ كثير مِنْهُم واتقاهم آخَرُونَ بالجزية فقبلوهم مِنْهُم ثمَّ افترق أَمرهم من بعد ذَلِك وَصَارَ ملكهم طوائف ورياستهم شيعًا واستمروا على ذَلِك مائَة وَعشْرين سنة إِلَى أَن قَامَ فيهم الْأَمِير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن تيفاوت الْمَعْرُوف بتاسرت اللمتوني فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وأحبوه وَبَايَعُوهُ وَكَانَ من أهل الْفضل وَالدّين وَالْجهَاد وَالْحج فَلبث فيهم ثَلَاث سِنِين ثمَّ اسْتشْهد فِي بعض غَزَوَاته
الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي وَمَا كَانَ من أمره مَعَ الشَّيْخ أبي عمرَان الفاسي رحمهمَا الله
لما توفّي أَبُو عبد الله بن تيفاوت قَامَ بِأَمْر صنهاجة من بعده يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي وكدالة ولمتونة أَخَوان يَجْتَمِعَانِ فِي أَب وَاحِد وكل مِنْهُمَا قبيل كَبِير يسكنون الصَّحرَاء الَّتِي تلِي بِلَاد السودَان ويليهم من جِهَة الْمغرب الْبَحْر الْمُحِيط فاستمر الْأَمِير يحيى بن إِبْرَاهِيم على رياسة صنهاجة(2/5)
وحربهم لأعدائهم إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فاستخلف على صنهاجة ابْنه إِبْرَاهِيم بن يحيى وارتحل إِلَى الْمشرق برسم الْحَج فَلَمَّا قضى حجه وزريارته قفل إِلَى بِلَاده فَمر فِي عوده بالقيروان فلقي بهَا الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا عمرَان الفاسي وَحضر مجْلِس درسه وتأثر بوعظه فَرَآهُ الشَّيْخ أَبُو عمرَان محبا فِي الْخَيْر فأعجبه حَاله وَسَأَلَهُ عَن اسْمه وَنسبه وبلده فَأخْبرهُ بذلك كُله وأعلمه بسعة بِلَاده وَمَا فِيهَا من كَثْرَة الْخلق فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ وَمَا ينتحلون من الْمذَاهب قَالَ إِنَّهُم قوم غلب عَلَيْهِم الْجَهْل وَلَيْسَ لَهُم كَبِير علم فاختبره الشَّيْخ وَسَأَلَهُ عَن فروض دينه فَلم يجده يعرف مِنْهَا شَيْئا إِلَّا أَنه حَرِيص على التَّعَلُّم صَحِيح النِّيَّة والعقيدة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ وَمَا يمنعك من تعلم الْعلم فَقَالَ يَا سَيِّدي عدم وجود عَالم بأرضي وَلَيْسَ فِي بلادي من يقْرَأ الْقُرْآن فضلا عَن الْعلم وَمَعَ ذَلِك فَأهل أرضي يحبونَ الْخَيْر ويرغبون فِيهِ لَو وجدوا من يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويدرس لَهُم الْعلم ويفقههم فِي دينهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالسّنة وَشَرَائِع الْإِسْلَام فَلَو رغبت فِي الثَّوَاب من الله تعال لبعثت معي بعض طلبتك يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويفقههم فِي الدّين فينتفعون بِهِ وَيكون لَك وَله الْأجر الْعَظِيم عِنْد الله تَعَالَى إِذْ كنت سَبَب هدايتهم فندب الشَّيْخ أبوعمران تلامذته إِلَى ذَلِك فاستصعبوا دُخُول أَرض الصَّحرَاء وَأَشْفَقُوا مِنْهَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عمرَان ليحيى بن إِبْرَاهِيم إِنِّي أعرف بِبَلَد نَفِيس من أَرض المصامدة فَقِيها حاذقا ورعا أَخذ عني علما كثيرا واسْمه وأجاج بن زلو اللمطي من أهل السوس الْأَقْصَى أكتب إِلَيْهِ كتابا لينْظر فِي تلامذته من يَبْعَثهُ مَعَك فسر إِلَيْهِ لَعَلَّك تَجِد حَاجَتك عِنْده فَكتب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو عمرَان كتابا يَقُول فِيهِ أما بعد إِذا وصلك حَامِل كتابي هَذَا وَهُوَ يحيى بن إِبْرَاهِيم(2/6)
الكداني فَابْعَثْ مَعَه من طلبتك من تثق بِعِلْمِهِ وَدينه وورعه وَحسن سياسته ليقرئهم الْقُرْآن وَيُعلمهُم شرائع الْإِسْلَام ويفقههم فِي دين الله وَلَك وَله فِي ذَلِك الثَّوَاب وَالْأَجْر الْعَظِيم وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا
وَأَبُو مُحَمَّد واجاج هَذَا من رجال التشوف قَالَ فِيهِ وَمِنْهُم واجاج بن زلو اللمطي من أهل السوس الْأَقْصَى رَحل إِلَى القيروان وَأخذ عَن أبي عمرَان الفاسي ثمَّ عَاد إِلَى السوس فَبنى دَارا سَمَّاهَا بدار المرابطين لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن وَكَانَ المصامدة يزورونه ويتبركون بدعائه وَإِذا أَصَابَهُم قحط استسقوا بِهِ اه
فَسَار يحيى بن إِبْرَاهِيم بِكِتَاب الشَّيْخ أبي عمرَان حَتَّى وصل إِلَى الْفَقِيه واجاج بِمَدِينَة نَفِيس فَسلم عَلَيْهِ وَدفع إِلَيْهِ الْكتاب وَكَانَ ذَلِك فِي رَجَب سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَنظر الْفَقِيه واجاج فِي الْكتاب ثمَّ جمع تلامذته فقرأه عَلَيْهِم وندبهم لما أَمر بِهِ الشَّيْخ أَبُو عمرَان فَانْتدبَ لذَلِك رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ وَكَانَ من حذاق الطّلبَة وَمن أهل الْفضل وَالدّين والورع والسياسة مشاركا فِي الْعُلُوم فَخرج مَعَ يحيى بن إِبْرَاهِيم إِلَى الصَّحرَاء وَكَانَ من أمره مَا نَقصه عَلَيْك
الْخَبَر عَن دُخُول عبد الله بن ياسين أَرض الصَّحرَاء وَابْتِدَاء أمره بهَا
لما انْتهى يحيى بن إِبْرَاهِيم إِلَى بِلَاده وَمَعَهُ الْفَقِيه عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ تَلقاهُ قبائل كدالة ولمتونة وفرحوا بمقدمهما وتيمنوا بالفقيه وبالغوا فِي إكرامه وبره فشرع يعلمهُمْ الْقُرْآن وَيُقِيم لَهُم رسم الدّين ويسوسهم بآداب الشَّرْع وألفاهم يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ من أَربع حرائر فَقَالَ لَهُم لَيْسَ هَذَا من السّنة وَإِنَّمَا سنة الْإِسْلَام أَن يجمع الرجل بَين أَربع نسْوَة حرائر فَقَط وَله فِيمَا شَاءَ من ملك الْيَمين سَعَة(2/7)
وَجعل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وكبحهم عَن كثير من مألوفاتهم الْفَاسِدَة وشدد فِي ذَلِك فأطرحوه واستصعبوا علمه وَتركُوا الْأَخْذ عَنهُ لما جشمهم من مشاق التَّكْلِيف
فَلَمَّا رأى عبد الله بن ياسين إعراضهم عَنهُ واتباعهم لأهوائهم عزم على الرحيل عَنْهُم إِلَى بِلَاد السودَان الَّذين دخلُوا فِي دين الْإِسْلَام يَوْمئِذٍ فَلم يتْركهُ يحيى بن إِبْرَاهِيم لذَلِك وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا أتيت بك لأنتفع بعلمك فِي خَاصَّة نَفسِي وَمَا عَليّ فِيمَن ضل من قومِي وَكَانَ قومه لَيْسَ عِنْدهم من الْإِسْلَام إِلَّا الشَّهَادَة دون مَا عَداهَا من أَرْكَان الْإِسْلَام وشرائعه
ثمَّ قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم لعبد الله بن ياسين هَل لَك فِي رَأْي أُشير بِهِ عَلَيْك إِن كنت تُرِيدُ الْآخِرَة قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ إِن هَهُنَا جَزِيرَة فِي الْبَحْر قَالَ ابْن خلدون هُوَ بَحر النّيل يُحِيط بهَا من جهاتها يكون ضحضاحا فِي المصيف يخاض بالأقدام وغمرا فِي الشتَاء يعبر الزوارق قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم وفيهَا الْحَلَال الْمَحْض من شجر الْبَريَّة وصيد الْبر وَالْبَحْر ندخل فِيهَا ونقتات من حلالها ونعبد الله تَعَالَى حَتَّى نموت فَقَالَ عبد الله بن ياسين إِن هَذَا الرَّأْي حسن فَهَلُمَّ بِنَا فلندخلها على اسْم الله فَدَخلَهَا وَدخل مَعَهُمَا سَبْعَة نفر من كدالة وابتنى عبد الله رابطة هُنَاكَ وَأقَام فِي أَصْحَابه يعْبدُونَ الله تَعَالَى مُدَّة فِي ثَلَاثَة أشهر فتسامع النَّاس بهم وَأَنَّهُمْ اعتزلوا بدينهم يطْلبُونَ الْجنَّة والنجاة من النَّار فَكثر الواردون عَلَيْهِم والتوابون لديهم فَأخذ عبد الله بن ياسين يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويستميلهم إِلَى الْخَيْر ويرغبهم فِي ثَوَاب الله ويحذرهم ألم عِقَابه حَتَّى تمكن حبه من قُلُوبهم فَلم تمر عَلَيْهِ إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى اجْتمع لَهُ من التلامذة نَحْو ألف رجل وَكَانَ من أَمرهم مَا تسمعه عَن قريب(2/8)
شُرُوع عبد الله بن ياسين فِي الْجِهَاد وإعلانه بالدعوة وَمَا كَانَ من أمره فِي ذَلِك
لما اجْتمع إِلَى عبد الله بن ياسين من أَشْرَاف صنهاجة نَحْو ألف رجل سماهم المرابطين للزومهم رابطته
وَلما تفقهوا ورسخ فيهم الدّين قَامَ فيهم خَطِيبًا فوعظهم وشوقهم إِلَى الْجنَّة وخوفهم من النَّار وَأمرهمْ بتقوى الله وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَأخْبرهمْ بِمَا فِي ذَلِك من ثَوَاب الله تَعَالَى وعظيم جَزَائِهِ ثمَّ ندبهم إِلَى جِهَاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وَقَالَ لَهُم معشر المرابطين إِنَّكُم الْيَوْم جمع كثير نَحْو ألف رجل وَلنْ يغلب ألف من قلَّة وَأَنْتُم وُجُوه قبائلكم ورؤساء عشائركم وَقد أصلحكم الله تَعَالَى وهداكم إِلَى صراطه الْمُسْتَقيم فَوَجَبَ عَلَيْكُم أَن تشكروا نعْمَته عَلَيْكُم بِأَن تأمروا بِالْمَعْرُوفِ وتنهوا عَن الْمُنكر وتجاهدوا فِي الله حق جهاده فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك أمرنَا بِمَا شِئْت تجدنا سَامِعين لَك مُطِيعِينَ وَلَو أمرتنا بقتل آبَاءَنَا لفعلنَا فَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا على بركَة الله وأنذروا قومكم وخوفوهم عِقَاب الله وأبلغوهم حجَّته فَإِن تَابُوا فَخلوا سبيلهم وَإِن أَبَوا من ذَلِك وتمادوا فِي غيهم ولجوا فِي طغيانهم استعنا بِاللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم وجاهدناهم حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين فَسَار كل رجل مِنْهُم إِلَى قومه وعشيرته فوعظهم وَأَنْذرهُمْ ودعاهم إِلَى الإقلاع عَمَّا هم بسبيله فَلم يرفعوا بذلك رَأْسا
فَخرج إِلَيْهِم عبد الله بن ياسين بِنَفسِهِ وَجمع أَشْيَاخ قبائلهم ووجوهها وَقَرَأَ عَلَيْهِم حجَّة الله ودعاهم إِلَى التَّوْبَة ورغبهم فِي الْجنَّة وخوفهم من النَّار وَأقَام ينذرهم سَبْعَة أَيَّام وهم فِي ذَلِك كُله لَا يلتفتون إِلَى قَوْله وَلَا يزدادون إِلَّا فَسَادًا فَلَمَّا يئس مِنْهُم قَالَ لأَصْحَابه قد أبلغنا فِي الْحجَّة(2/9)
وأنذرنا وأعذرنا وَقد وَجب علينا الْآن جهادهم فاغزوهم على بركَة الله فَبَدَأَ أَولا بقبيلة كدالة فغزاهم فِي ثَلَاثَة آلَاف رجل من المرابطين فَانْهَزَمُوا بَين يَدَيْهِ وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وَأسلم الْبَاقُونَ إسلاما جَدِيدا وَحسنت حَالهم وأدوا مَا يلْزمهُم من كل مَا فرض الله عَلَيْهِم وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
ثمَّ سَار إِلَى قَبيلَة لمتونة فَنزل عَلَيْهَا وَقَاتلهمْ حَتَّى أظهره الله عَلَيْهِم وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة وَبَايَعُوهُ على إِقَامَة الْكتاب وَالسّنة
ثمَّ سَار إِلَى قَبيلَة مسوفة فَقَاتلهُمْ حَتَّى أذعنوا لَهُ وَبَايَعُوهُ على مَا بايعته لمتونة وكدالة
فَلَمَّا رأى ذَلِك سَائِر صنهاجة سارعوا إِلَى التَّوْبَة والمبايعة وأقروا لَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَكَانَ كل من أَتَاهُ تَائِبًا مِنْهُم يطهره بِأَن يضْربهُ مائَة سَوط ثمَّ يُعلمهُ الْقُرْآن وَشَرَائِع الْإِسْلَام وَكَانَ يَأْمُرهُم بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَأَدَاء الْعشْر وَاتخذ لذَلِك بَيت مَال يجمع فِيهِ مَا يرفع إِلَيْهِ من ذَلِك
ثمَّ أَخذ فِي اشْتِرَاء السِّلَاح وأركاب الجيوش من ذَلِك المَال وَجعل يَغْزُو الْقَبَائِل حَتَّى ملك جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وذلل قبائلها
ثمَّ جمع أسلاب الْقَتْلَى فِي تِلْكَ الْمَغَازِي وَجعلهَا فَيْئا للمرابطين وَبعث بِمَال دثر مِمَّا اجْتمع لَدَيْهِ من الزكوات والأعشار والأخماس إِلَى طلبة الْعلم بِبِلَاد المصامدة فاشتهر أمره فِي جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وَمَا والاها من بِلَاد السودَان وبلاد الْقبْلَة وبلاد المصامدة وَسَائِر أقطار الْمغرب وَأَنه قَامَ رجل بكدالة يَدْعُو إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَيحكم بِمَا أنزل الله وَأَنه متواضع زاهد فِي الدُّنْيَا وطار لَهُ ذكر فِي الْعَالم وَتمكن ناموسه من الْقُلُوب وأحبته النَّاس
ثمَّ توفّي يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي على أثر ذَلِك وَحكى ابْن خلدون أَن وَفَاة يحيى بن إِبْرَاهِيم كَانَت قبل اعتزال عبد الله بن ياسين وَأَصْحَابه فِي الجزيرة وَالله أعلم(2/10)
الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن عَمْرو بن تكلاكين اللمتوني
لما توفّي يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي عزم عبد الله بن ياسين على تَقْدِيم رجل يقوم بِأَمْر المرابطين فِي حربهم وجهادهم لعدوهم
وَكَانَت قَبيلَة لمتونة من بَين قبائل صنهاجة أَكثر طَاعَة لله تَعَالَى ودينا وصلاحا فَكَانَ عبد الله بن ياسين يكرمهم ويقدمهم على غَيرهم وَذَلِكَ لما أَرَادَهُ الله تَعَالَى من ظُهُور أَمرهم وتملكهم على الْخلق فَجمع عبد الله بن ياسين رُؤُوس الْقَبَائِل من صنهاجة وَولى عَلَيْهِم يحيى بن عمر اللمتوني وَعبد الله بن ياسين هُوَ الْأَمِير على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْمر وَينْهى وَيُعْطِي وَيمْنَع وَعَن رَأْيه يصدرون فَكَانَ يحيى بن عمر يتَوَلَّى النّظر فِي أَمر الْحَرْب وَعبد الله بن ياسين ينظر فِي أَمر الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع وَيَأْخُذ الزكوات والأعشار
وَكَانَ يحيى شَدِيد الانقياد لعبد الله بن ياسين وَاقِفًا عِنْد أمره وَنَهْيه فَمن حسن طَاعَته لَهُ أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا قد وَجب عَلَيْك أدب قَالَ يحيى فيماذا يَا سَيِّدي قَالَ لَا أعرفك بِهِ حَتَّى آخذه مِنْك فكشف لَهُ يحيى عَن بَشرته فَضَربهُ عشْرين سَوْطًا ثمَّ قَالَ لَهُ إِنَّمَا ضربتك لِأَنَّك باشرت الْقِتَال واصطليت بِنَار الْحَرْب بِنَفْسِك وَذَلِكَ خطأ مِنْك فَإِن الْأَمِير لَا يُقَاتل وَإِنَّمَا يقف ويحرض النَّاس وَيُقَوِّي نُفُوسهم فَإِن حَيَاة الْجند بحياة أميره وهلاكه بهلاكه
واستقام الْأَمر ليحيى بن عمر وَملك جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وغزا بِلَاد السودَان فَفتح كثيرا مِنْهَا وَكَانَ من أهل الزّهْد وَالدّين وَالصَّلَاح(2/11)
الْخَبَر عَن غَزْو عبد الله بن ياسين وَيحيى بن عمر سجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على بني مدرار المكناسيين أَصْحَاب سجلماسة أَن انْقِرَاض دولتهم كَانَ على يَد خزرون بن فلفل بن خزر المغراوي وَأَنه زحف إِلَى سجلماسة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة وبرز إِلَيْهِ صَاحبهَا أَبُو مُحَمَّد المعتز بِاللَّه آخر مُلُوك بني مدرار الصفرية فَهَزَمَهُ خزرون وَقَتله وَاسْتولى على بَلَده وذخيرته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ ذَلِك لأوّل حجابة الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَاسْتمرّ خزرون بن فلفل واليا على سجلماسة إِلَى أَن هلك وَولي بعده ابْنه وانودين بن خزرون إِلَى أَن هلك أَيْضا وَولي ابْنه مَسْعُود بن وانودين
وَلما انقرضت الدولة الأموية بالأندلس وافترق أَمر الْجَمَاعَة بهَا وَصَارَ الْملك طوائف استبد أُمَرَاء الْأَطْرَاف وملوك زناتة بالمغرب كل بِمَا فِي يَده وَعدم الْوَازِع وتصرفوا فِي الرعايا بِمُقْتَضى أغراضهم وشهواتهم فنال فاسا وأعمالها من جور بني عَطِيَّة المغراويين مَا حكينا بعضه قبل ونال أهل سجلماسة ودرعة من بني خزرون بن فلفل المغراويين مثل ذَلِك أَو أَكثر
فَلَمَّا كَانَت سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد انْتَشَر ذكر عبد الله بن ياسين وَأَصْحَابه المرابطين فِي الْعَالم اجْتمع فُقَهَاء سجلماسة ودرعة وَكَتَبُوا إِلَى عبد الله بن ياسين وَيحيى بن عمر وأشياخ المرابطين كتابا يرغبون إِلَيْهِم فِي الْوُصُول إِلَى بِلَادهمْ ليطهروها مِمَّا هِيَ فِي من الْمُنْكَرَات وَشدَّة العسف من الْأُمَرَاء وعرفوهم بِمَا هم فِيهِ أهل الْعلم وَالدّين وَسَائِر الْمُسلمين من الذل وَالصغَار مَعَ أَمِيرهمْ مَسْعُود بن وانودين المغراوي
فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى عبد الله بن ياسين جمع رُؤَسَاء المرابطين وقرأه عَلَيْهِم وشاورهم فِي الْأَمر فَقَالُوا أَيهَا الْفَقِيه هَذَا مِمَّا يلْزمنَا ويلزمك فسر بِنَا على بركَة الله فَدَعَا لَهُم بِخَير وحضهم على الْجِهَاد(2/12)
وَخرج بهم فِي عشْرين من صفر سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فِي جَيش كثيف من المرابطين وَقيل كَانَ خُرُوجه سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فَسَار حَتَّى وصل إِلَى بِلَاد درعة فَوجدَ بهَا عَامل مَسْعُود بن وانودين فنفاه عَنْهَا وَوجد بهَا خمسين ألف نَاقَة لمسعود الْمَذْكُور وَكَانَت ترعى فِي حمى حماه لَهَا هُنَالك فاكتسحها عبد الله بن ياسين واتصل الْخَبَر بمسعود فَجمع جيوشه وَخرج نَحوه فَالتقى الْجَمْعَانِ فِيمَا بَين درعة وسجلماسة فَكَانَت بَينهمَا حَرْب فظيعة منح الله فِيهَا المرابطين النَّصْر على مغراوة فَقتل أَمِيرهمْ مَسْعُود وَأكْثر جَيْشه وفر الْبَاقُونَ
وَاسْتولى عبد الله بن ياسين على دوابهم وأسلحتهم وَأَمْوَالهمْ مَعَ الْإِبِل الَّتِي كَانَ اكتسحها فِي درعة فَأخْرج الْخمس من ذَلِك كُله وفرقه على فُقَهَاء سجلماسة ودرعة وصلحائهم وَقسم الْأَرْبَعَة أَخْمَاس على المرابطين
واتحل من فوره إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا وَقتل من وجد بهَا من مغراوة وَأقَام بهَا حَتَّى أصلح شَأْنهَا وَغير مَا وجد بهَا من الْمُنْكَرَات وَقطع المزامير وَآلَة اللَّهْو وأحرق الدّور الَّتِي كَانَت تبَاع بهَا الْخُمُور وأزال المكوس وَأسْقط المغارم المخزنية ومحا مَا أوجب الْكتاب وَالسّنة محوه وَاسْتعْمل على سجلماسة عَاملا من لمتونة وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء
ثمَّ توفّي الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عمر فِي بعض غَزَوَاته بِبِلَاد السودَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
الْخَبَر عَن رياسة أبي بكر بن عمر اللمتوني وَفتح بِلَاد السوس
لما توفّي الْأَمِير يحيى بن عمر اللمتوني ولى عبد الله بن ياسين مَكَانَهُ أَخَاهُ أَبَا بكر بن عمر وَذَلِكَ فِي محرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وقلده أَمر الْحَرْب وَالْجهَاد ثمَّ ندب المرابطين إِلَى غَزْو بِلَاد السوس والمصامدة فزحف إِلَيْهَا فِي جَيش عَظِيم فِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة(2/13)
وَكَانَ أَبُو بكر بن عمر رجلا صَالحا ورعا فَجعل على مقدمته ابْن عَمه يُوسُف بن تاشفين اللمتوني ثمَّ سَار حَتَّى انْتهى إِلَى بِلَاد السوس فغزا جزولة من قبائلها وَفتح مَدِينَة ماسة وتارودانت قَاعِدَة بِلَاد السوس وَكَانَ بهَا قوم من الرافضة يُقَال لَهُم البجلية نِسْبَة إِلَى عَليّ بن عبد الله البَجلِيّ الرافضي كَانَ سقط إِلَى بِلَاد السوس أَيَّام قيام عبيد الله الشيعي بإفريقية فأشاع هُنَالك مَذْهَب الرافضة فتوارثوه عَنهُ جيلا بعد جيل وعضوا عَلَيْهِ فَكَانُوا لَا يرَوْنَ الْحق إِلَّا مَا فِي يدهم فَقَاتلهُمْ عبد الله بن ياسين وَأَبُو بكر بن عمر حَتَّى فتحُوا مَدِينَة تارودانت عنْوَة وَقتلُوا بهَا خلقا كثيرا وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى مَذْهَب السّنة وَالْجَمَاعَة
وَحَازَ عبد الله بن ياسين أسلاب الْقَتْلَى مِنْهُم فَجَعلهَا فَيْئا وَأظْهر الله المرابطين على من عداهم ففتحوا معاقل السوس وخضعت لَهُم قبائله وَفرق عبد الله بن ياسين عماله بنواحيه وَأمرهمْ بِإِقَامَة الْعدْل وَإِظْهَار السّنة واخذ الزكوات والأعشار وَإِسْقَاط مَا سوى ذَلِك من المغارم المحدثة
فتح بِلَاد المصامدة وَمَا يتبع ذَلِك من جِهَاد برغواطة وَفتح بِلَادهمْ وَذكر نسبهم
ثمَّ ارتحل عبد الله بن ياسين إِلَى بِلَاد المصامدة فَفتح جبل درن وبلاد رودة ومدينة شفشاوة بِالسَّيْفِ ثمَّ فتح مَدِينَة نَفِيس وَسَائِر بِلَاد كدميوه ووفدت عَلَيْهِ قبائل رجراجة وحاحة فَبَايعُوهُ ثمَّ ارتحل إِلَى مَدِينَة أغمات(2/14)
وَبهَا يَوْمئِذٍ أميرها لقوط بن يُوسُف بن عَليّ المغراوي فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها حصارا شَدِيدا
وَلما رأى لقوط مَا لَا طَاقَة لَهُ بِهِ أسلمها وفر عَنْهَا لَيْلًا هُوَ وَجَمِيع حشمه إِلَى تادلا فَاسْتَجَارَ ببني يفرن مُلُوك سلا وتادلا
وَدخل المرابطون مَدِينَة أغمات سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فَأَقَامَ بهَا عبد الله بن ياسين نَحْو الشَّهْرَيْنِ ريثما استراح الْجند ثمَّ خرج إِلَى تادلا فَفَتحهَا وَقتل من وجد بهَا من بني يفرن مُلُوكهَا وظفر بلقوط المغراوي فَقتله
وَكَانَ للقوط هَذَا امْرَأَة اسْمهَا زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية قَالَ ابْن خلدون وَكَانَت من إِحْدَى نسَاء الْعَالم المشهورات بالجمال والرياسة وَكَانَت قبل لقوط عِنْد يُوسُف بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن وطاس شيخ وريكة فَلَمَّا قتل المرابطون لقوط بن يُوسُف المغراوي خَلفه أَبُو بكر بن عمر على امْرَأَته زَيْنَب بنت إِسْحَاق الْمَذْكُورَة إِلَى أَن كَانَ من أمرهَا مَا نذكرهُ
ثمَّ تقدم عبد الله بن ياسين إِلَى بِلَاد تامسنا فَفَتحهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ أخبر بِأَن بساحل تامسنا قبائل برغواطة فِي عدد كثير وَجمع عَظِيم
ولنذكر هُنَا كلَاما مُلَخصا فِي برغواطة ودولتهم ثمَّ نرْجِع إِلَى مَا نَحن بصدده فَنَقُول اخْتلف النَّاس فِي نسب برغواطة هَؤُلَاءِ إِلَى أَي شَيْء يرجع فبعضهم يلحقهم بزناتة وَبَعْضهمْ يَقُول فِي متنبئهم صَالح بن طريف البرغواطي إِنَّه يَهُودِيّ الأَصْل من سبط شَمْعُون بن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام نَشأ ببرباط حصن من عمل شدونة من بِلَاد الأندلس ثمَّ رَحل إِلَى الْمشرق وَقَرَأَ على عبيد الله المعتزلي واشتغل بِالسحرِ وَجمع مِنْهُ فنونا وَقدم الْمغرب فَنزل بِلَاد تامسنا فَوجدَ بهَا قبائل جُهَّالًا من البربر فاظهر لَهُم الصّلاح والزهد وموه عَلَيْهِم وخلبهم بِلِسَانِهِ وسحرهم بنير نجاته فصدقوه واتبعوه فَادّعى النُّبُوَّة وَشرع لَهُم شرائع وَوضع لَهُم قُرْآنًا حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى فَكَانَ يُقَال لمن تبعه وَدخل فِي دينه برباطي ثمَّ عربته الْعَرَب فَقَالُوا برغواطي فسموا برغواطة(2/15)
قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا من الأغاليط الْبَيِّنَة وَصحح أَن الْقَوْم من المصامدة بِشَهَادَة الموطن والجوار وَغير ذَلِك وَالتَّحْقِيق أَن برغواطة قبائل شَتَّى لَيْسَ يجمعهُمْ أَب وَاحِد وَإِنَّمَا هم أخلاط من البربر اجْتَمعُوا إِلَى صَالح بن طريف الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة بتامسنا سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة من الْهِجْرَة فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَتسَمى بِصَالح الْمُؤمنِينَ وَشرع لأتباعه الدّيانَة الَّتِي أخذوها عَنهُ وَكَانَ صَالح قد شهد مَعَ أَبِيه طريف حروب ميسرَة المضغري كَبِير الصفرية لعهده وَكَانَ طريف يكنى أَبَا صبيح وَمن كبار أَصْحَاب ميسرَة الْمَذْكُور وَيُقَال إِنَّه ادّعى النُّبُوَّة أَيْضا وَشرع لِقَوْمِهِ الشَّرَائِع ثمَّ هلك سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَقَامَ بأَمْره ابْنه صَالح بن طريف الْمَذْكُور فعفت مخارقه على مُخَارق أَبِيه وَكَانَ أَولا من أهل الْعلم وَالدّين ثمَّ انْسَلَخَ من آيَات الله وَانْتَحَلَ دَعْوَى النُّبُوَّة وأتى من الْبُهْتَان بِمَا أوضحناه قبل فِي ولَايَة حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ على الْمغرب
ثمَّ خرج صَالح بن طريف إِلَى الْمشرق سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة بعد أَن ملك أَمرهم سبعا وَأَرْبَعين سنة وَوَعدهمْ أَنه يرجع إِلَيْهِم فِي دولة السَّابِع مِنْهُم وَأوصى بِشَرِيعَتِهِ إِلَى ابْنه إلْيَاس بن صَالح وَلم يزل إلْيَاس مظْهرا لِلْإِسْلَامِ مصرا على مَا أوصاه بِهِ أَبوهُ من كلمة كفرهم وَكَانَ متظاهرا بالعفاف والزهد إِلَى أَن هلك سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ لمضي خمسين سنة من ولَايَته ثمَّ ولي من بعده ابْنه يُونُس بن إلْيَاس فأظهر دينهم ودعا إِلَى كفرهم وَقتل من لم يدْخل فِي أمره حَتَّى حرق مَدَائِن تامسنا وَمَا والاها يُقَال إِنَّه حرق مِنْهَا ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِينَ مَدِينَة واستلحم أَهلهَا بِالسَّيْفِ لمخالفتهم إِيَّاه وَقتل مِنْهُم بِموضع يُقَال لَهُ تاملوكالات وَهُوَ حجر عَال نابت وسط الطَّرِيق سَبْعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسبعين نفسا
قَالَ زمور بن صَالح ثمَّ رَحل يُونُس بن إلْيَاس إِلَى الْمشرق وَحج(2/16)
وَلم يحجّ أحد من أهل بَيته قبله وَلَا بعده وَهلك سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ لأَرْبَع وَأَرْبَعين سنة من ملكه وانتقل الْأَمر عَن بنيه إِلَى غَيرهم من قرَابَته فولي أَمرهم أَبُو غفير مُحَمَّد بن معَاذ بن اليسع بن صَالح بن طريف فاستولى على ملك برغواطة وَأخذ بدين آبَائِهِ واشتدت شوكته وَعظم أمره وَكَانَت لَهُ فِي البربر وقائع مَشْهُورَة وَأَيَّام مَذْكُورَة أَشَارَ إِلَى شَيْء مِنْهَا سعيد بن هِشَام المصمودي فِي أَبْيَات مِنْهَا قَوْله
(وهذي أمة هَلَكُوا وَضَلُّوا ... وعاروا لَا سقوا مَاء معينا)
(يَقُولُونَ النَّبِي أَبُو غفير ... فأخزى الله أم الكاذبينا)
(سَيعْلَمُ أهل تامسنا إِذا مَا ... أَتَوا يَوْم الْقِيَامَة مفظعينا)
(هُنَالك يُونُس وَبَنُو أَبِيه ... يقودون البرابر حائرينا)
وَاتخذ أَبُو غفير من الزَّوْجَات أَرْبعا وَأَرْبَعين لأَنهم يبيحون فِي ديانتهم الخسيسة أَن يتَزَوَّج الرجل من النِّسَاء مَا شَاءَ وَكَانَ لَهُ من الْوَلَد مثل ذَلِك أَو أَكثر وَهلك أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة لتسْع وَعشْرين سنة من ملكه
ثمَّ ولي بعده ابْنه أَبُو الْأَنْصَار عبد الله بن أبي غفير فاقتفى سنَنه وَكَانَ كَبِير الدعْوَة مهيبا عِنْد مُلُوك عصره يهاودنه ويدافعونه بالمواصلة وَكَانَ يلبس الملحفة والسراويل ويلبس الْمخيط من الثِّيَاب وَلَا يعتم أحد فِي بِلَاده إِلَّا الغرباء وَكَانَ حَافِظًا للْجَار وافيا للْعهد وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة لأَرْبَع وَأَرْبَعين سنة من ملكه وَدفن بتاسلاخت وَبهَا قَبره
وَولي بعده ابْنه أَبُو مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة فَسَار سيرة آبَائِهِ وَادّعى النُّبُوَّة وَاشْتَدَّ أمره وَعلا سُلْطَانه ودانت لَهُ قبائل الْمغرب قَالَ زمور بن صَالح كَانَ عسكره يناهز الثَّلَاثَة آلَاف من برغواطة وَعشرَة آلَاف من سواهُم
وَقد كَانَ لملوك العدوتين فِي غَزْو برغواطة هَؤُلَاءِ وجهادهم آثَار عَظِيمَة من الأدارسة والأموية والشيعة وَغَيرهم
وَلما زحف بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي إِلَى الْمغرب زحفه(2/17)
الْمَشْهُور وأجفلت قبائل زناتة وملوكها بَين يَدَيْهِ وانحازوا إِلَى سبتة وأطل عَلَيْهِم من جبل تطوان وعاين جمعهم الكثيف عَنْهُم إِلَى جِهَاد برغواطة فأوقع بهم وَقتل أَمِيرهمْ ابا مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَبعث بسبيهم إِلَى القيروان وَذَلِكَ سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة
ثمَّ حاربتهم أَيْضا جنود الْمَنْصُور بن ابي عَامر لما عقد ابْنه عبد الْملك المظفر لمَوْلَاهُ وَاضح على جِهَاد برغواطة فَعظم أَثَره فيهم بِالْقَتْلِ والسبي
ثمَّ حاربهم أَيْضا بَنو يفرن لما اسْتَقل بَنو يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح مِنْهُم بِنَاحِيَة سلا واقتطعوها عَن عمل زيري بن عَطِيَّة المغراوي صَاحب فاس
وَكَانَ لأبي الْكَمَال تَمِيم بن زيري اليفرني فيهم جِهَاد كَبِير حَسْبَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَعْوَام الْعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَغَلَبَهُمْ على تامسنا وَولى عَلَيْهَا من قبله بعد أَن أثخن فيهم سبيا وقتلا
ثمَّ تراجعوا من بعده إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين ودخلوا أَرض الْمغرب دخلتهم الثَّانِيَة وفتحوا بِلَاد المصامدة وبلاد تادلا وتامسنا فَأخْبر عبد الله بن ياسين بِأَن بساحلها قبائل برغواطة فِي عدد كثير وَجمع عَظِيم وَأَنَّهُمْ مجوس أهل ضَلَالَة وَكفر وَأخْبر بِمَا تمسكوا بِهِ من ديانتهم الخبيثة وَقيل لَهُ إِن برغواطة قبائل كَثِيرَة وأخلاط شَتَّى اجْتَمعُوا فِي أول أَمرهم على صَالح بن طريف المتنبئ الْكذَّاب وَاسْتمرّ حَالهم على الضَّلَالَة وَالْكفْر إِلَى الْآن فَلَمَّا سمع عبد الله بن ياسين بِحَال برغواطة وَمَا هم عَلَيْهِ من الْكفْر رأى أَن الْوَاجِب تَقْدِيم جهادهم على جِهَاد غَيرهم فَسَار إِلَيْهِم فِي جيوش المرابطين والأمير يَوْمئِذٍ على برغواطة هُوَ أَبُو حَفْص عبد الله من ذُرِّيَّة أبي مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار عبد الله بن أبي غفير مُحَمَّد بن معَاذ بن اليسع بن صَالح بن طريف فَكَانَت بَينه وَبَين عبد الله بن ياسين ملاحم عِظَام مَاتَ فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ خلق كثير وَأُصِيب فِيهَا عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ مهْدي المرابطين فَكَانَ فِيهَا شَهَادَته رَحمَه الله
وَلما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُم يَا معشر المرابطين إِنِّي ميت من يومي(2/18)
هَذَا لَا محَالة وَإِنَّكُمْ فِي بِلَاد عَدوكُمْ فإياكم أَن تجبنوا أَو تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم وَكُونُوا أعوانا على الْحق وإخوانا فِي ذَات الله وَإِيَّاكُم والتحاسد على الرياسة فَإِن الله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء من خلقه ويستخلف فِي أرضه من أَرَادَ من عباده فِي كَلَام غير هَذَا
وَتُوفِّي عبد الله بن ياسين عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ يَوْم الْأَحَد الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَدفن بِموضع يعرف بكريفلة وَبني على قَبره مَسْجِد وَهُوَ مَشْهُور بهَا إِلَى الْآن
وَكَانَ عبد الله بن ياسين رَحمَه الله شَدِيد الْوَرع فِي الْمطعم وَالْمشْرَب إِنَّمَا يتعيش من لُحُوم الصَّيْد وَنَحْوهَا لم يَأْكُل شَيْئا من لُحُوم صنهاجة وَلَا من أَلْبَانهَا مُدَّة إِقَامَته فيهم
وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير النِّكَاح يتَزَوَّج فِي كل شهر عددا من النِّسَاء ثمَّ يُطَلِّقهُنَّ وَلَا يسمع بِامْرَأَة جميلَة إِلَّا خطبهَا وَمن حسن سياسته أَنه أَقَامَ فِي صنهاجة السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى أَنه ألزمهم أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة فِي جمَاعَة ضرب عشْرين سَوْطًا وَمن فَاتَتْهُ رَكْعَة مِنْهَا ضرب خَمْسَة أسواط
وَمن كراماته أَن المرابطين خَرجُوا مَعَه فِي بعض غَزَوَاته بِبِلَاد السودَان فنفذ مَا مَعَهم من المَاء حَتَّى أشرفوا على الْهَلَاك فَقَامَ عبد الله فَتَيَمم وَصلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَأمن المرابطون على دُعَائِهِ فَلَمَّا فرغ من الدُّعَاء قَالَ لَهُم احفروا تَحت مصلاي هَذَا فَحَفَرُوا فصادفوا المَاء على نَحْو شبر من الأَرْض عذبا بادرا فَشَرِبُوا واستقوا وملؤوا أوعيتهم وَمن تقواه وورعه أَنه لم يزل صَائِما من يَوْم دخل بِلَاد صنهاجة إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَاسْتمرّ الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر على رياسته وجددت لَهُ الْبيعَة بعد وَفَاة عبد الله بن ياسين فَكَانَ أول مَا فعله بعد تَجْهِيزه إِيَّاه وَدَفنه أَن زحف إِلَى برغواطة مصمما فِي حربهم متوكلا على الله فِي جهادهم فأثخن فيهم قتلا وسبيا حَتَّى تفَرقُوا فِي المكامن والغياض واستأصل شأفتهم وَأسلم الْبَاقُونَ إسلاما جَدِيدا ومحا أَبُو بكر بن عمر أثر دعوتهم من الْمغرب وَجمع غنائمهم وَقسمهَا بَين المرابطين وَعَاد إِلَى مَدِينَة أغمات(2/19)
غَزْوَة أبي بكر بن عمر بِلَاد الْمغرب سوى مَا تقدم وفتحه إِيَّاهَا
لما اسْتَقر الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر بأغمات أَقَامَ بهَا إِلَى صفر من سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَخرج غازيا بِلَاد الْمغرب فِي أُمَم لَا تحصى من صنهاجة وجزولة والمصامدة فَفتح جبال فازاز وَسَائِر بِلَاد زناتة وَفتح مَدَائِن مكناسة ثمَّ نزل على مَدِينَة لواتة فحاصرها حَتَّى اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ وَقتل بهَا خلقا كثيرا من بني يفرن وخربها فَلم تعمر بعد إِلَى الْآن
وَكَانَ تخريبه إِيَّاهَا فِي آخر يَوْم من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة أغمات
عود أبي بكر بن عمر إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية وَكَانَت بارعة الْجمال وَالْحسن كَمَا قُلْنَا وَكَانَت مَعَ ذَلِك حازمة لَبِيبَة ذَات عقل رصين ورأي متين وَمَعْرِفَة بإدارة الْأُمُور حَتَّى كَانَ يُقَال لَهَا الساحرة فَأَقَامَ الْأَمِير أَبُو بكر عِنْدهَا بأغمات نَحْو ثَلَاثَة أشهر ثمَّ ورد عَلَيْهِ رَسُول من بِلَاد الْقبْلَة فَأخْبرهُ باختلال أَمر الصَّحرَاء وَوُقُوع الْخلاف بَين أَهلهَا
وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر رجلا متورعا فَعظم عَلَيْهِ أَن يقتل الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا وَهُوَ قَادر على كفهم وَلم ير أَنه فِي سَعَة من ذَلِك وَهُوَ متوالي أَمرهم ومسؤول عَنْهُم فعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء ليصلح أمرهَا وَيُقِيم رسم الْجِهَاد بهَا
وَلما عزم على السّفر طلق امْرَأَته زَيْنَب وَقَالَ لَهَا عِنْد فِرَاقه إِيَّاهَا يَا(2/20)
زَيْنَب إِنِّي ذَاهِب إِلَى الصَّحرَاء وَأَنت امْرَأَة جميلَة بضة لَا طَاقَة لَك على حَرَارَتهَا وَإِنِّي مطلقك فَإِذا انْقَضتْ عدتك فَانْكِحِي ابْن عمي يُوسُف بن تاشفين فَهُوَ خليفتي على بِلَاد الْمغرب فَطلقهَا ثمَّ سَافر عَن أغمات وَجعل طَرِيقه على بِلَاد تادلا حَتَّى أَتَى سجلماسة فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا حَتَّى أصلح أحوالها ثمَّ سَافر إِلَى الصَّحرَاء
وَنقل ابْن خلكان عَن كتاب المعرب عَن سيرة مُلُوك الْمغرب فِي سَبَب رُجُوع الْأَمِير أبي بكر بن عمر إِلَى الصَّحرَاء مَا مِثَاله قَالَ كَانَ أَبُو بكر بن عمر رجلا ساذجا خير الطباع مؤثرا لبلاده على بِلَاد الْمغرب غير ميال إِلَى الرَّفَاهِيَة وَكَانَت وُلَاة الْمغرب من زناتة ضعفاء لم يقاوموا الملثمين فَأخذُوا الْبِلَاد من أَيْديهم من بَاب تلمسان إِلَى سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فَلَمَّا حصلت الْبِلَاد لأبي بكر بن عمر سمع أَن عجوزا فِي الصَّحرَاء ذهبت لَهَا نَاقَة فِي غَدَاة فَبَكَتْ وَقَالَت ضيعنا أَبُو بكر بن عمر بِدُخُولِهِ إِلَى بِلَاد الْمغرب فَحَمله ذَلِك على أَن اسْتخْلف على بِلَاد الْمغرب رجلا من أَصْحَابه اسْمه يُوسُف بن تاشفين وَرجع إِلَى بِلَاده الجنوبية اه
وَكَانَ سفر أبي بكر بن عمر إِلَى الصَّحرَاء فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَلما وصل إِلَيْهَا أصلح شَأْنهَا ورتب أحوالها وَجمع جَيْشًا كثيفا وغزا بِهِ بِلَاد السودَان فاستولى مِنْهَا على نَحْو تسعين مرحلة
وَكَانَ يُوسُف بن تاشفين قد استفحل أمره أَيْضا بالمغرب وَاسْتولى على أَكثر بِلَاده فَلَمَّا سمع الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر بِمَا آل إِلَيْهِ أَمر يُوسُف بن تاشفين وَمَا منحه الله من النَّصْر أقبل من الصَّحرَاء ليختبر أَحْوَاله وَيُقَال إِنَّه كَانَ مضمرا لعزله وتولية غَيره فأحس يُوسُف بذلك فَشَاور زَوجته زَيْنَب بنت إِسْحَاق وَكَانَ قد تزَوجهَا بعد أبي بكربن عمر فَقَالَت لَهُ إِن ابْن عمك متورع عَن سفك الدِّمَاء فَإِذا لَقيته فاترك مَا كَانَ يعهده مِنْك من الْأَدَب والتواضع مَعَه وَأظْهر أثر الترفع والاستبداد حَتَّى كَأَنَّك مسَاوٍ لَهُ ثمَّ لاطفه مَعَ ذَلِك بالهدايا من الْأَمْوَال وَالْخلْع وَسَائِر طرف الْمغرب واستكثر من ذَلِك(2/21)
فَإِنَّهُ بِأَرْض صحراء كل مَا جلب إِلَيْهِ من هُنَا فَهُوَ مستطرف لَدَيْهِ
فَلَمَّا قرب أَبُو بكر بن عمر من أَعمال الْمغرب خرج إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين فَلَقِيَهُ على بعد وَسلم عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب سَلاما مُخْتَصرا وَلم ينزل لَهُ وَلَا تأدب مَعَه الْأَدَب الْمُعْتَاد فَنظر أَبُو بكر إِلَى كَثْرَة جيوشه فَقَالَ لَهُ يَا يُوسُف مَا تصنع بِهَذِهِ الجيوش قَالَ أستعين بهَا على من خالفني فارتاب أَبُو بكر بِهِ ثمَّ نظر إِلَى ألف بعير قد أَقبلت موقرة فَقَالَ مَا هَذِه الْإِبِل الموقرة قَالَ أَيهَا الْأَمِير إِنِّي قد جئْتُك بِكُل مَا معي من مَال وأثاث وَطَعَام وإدام لتستعين بِهِ على بِلَاد الصَّحرَاء فازداد أَبُو بكر تعرفا من حَاله وَعلم أَنه لَا يتخلى لَهُ عَن الْأَمر فَقَالَ لَهُ يَا بن عَم انْزِلْ أوصيك فَنزلَا مَعًا وجلسا فَقَالَ أَبُو بكر إِنِّي قد وليتك هَذَا الْأَمر وَإِنِّي مسؤول عَنهُ فَاتق الله تَعَالَى فِي الْمُسلمين وأعتقني وَأعْتق نَفسك من النَّار وَلَا تضيع من أُمُور رعيتك شَيْئا فَإنَّك مسؤول عَنهُ وَالله تَعَالَى يصلحك ويمدك ويوقفك للْعَمَل الصَّالح وَالْعدْل فِي رعيتك وَهُوَ خليفتي عَلَيْك وَعَلَيْهِم ثمَّ ودعه وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء فَأَقَامَ بهَا مواظبا على الْجِهَاد فِي كفار السودَان إِلَى أَن اسْتشْهد من سهم مَسْمُوم أَصَابَهُ فِي شعْبَان سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بعد أَن استقام لَهُ أَمر الصَّحرَاء كَافَّة إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان وَالله غَالب على أمره
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين اللمتوني
لما عزم الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر على السّفر إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء دَعَا ابْن عَمه يُوسُف بن تاشفين بن إِبْرَاهِيم اللمتوني فعقد لَهُ على بِلَاد الْمغرب وفوض إِلَيْهِ أمره وَأمره بِالرُّجُوعِ إِلَى قتال من بِهِ من مغراوة وَبني يفرن وَسَائِر زناتة والبربر وَاتفقَ على تَقْدِيمه أَشْيَاخ المرابطين لما يعلمُونَ من فَضله وَدينه(2/22)
وشجاعته ونجدته وعدله وورعه وسداد رَأْيه ويمن نقيبته فَعَاد يُوسُف من سجلماسة بِنصْف جَيش المرابطين بعد ارتحال أبي بكر بن عمر بِالنِّصْفِ الآخر وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَلما انْتهى يُوسُف بن تاشفين إِلَى ملوية ميز جيوشه فَوَجَدَهَا أَرْبَعِينَ ألفا من المرابطين فَاخْتَارَ مِنْهُم أَرْبَعَة من القواد وهم سير بن أبي بكر اللمتوني وَمُحَمّد بن تَمِيم الكدالي وَعمر بن سُلَيْمَان المسوفي ومدرك التلكاني وَعقد لكل قَائِد مِنْهُم على خَمْسَة آلَاف من قبيلته وجعلهم مُقَدّمَة بَين يَدَيْهِ لقِتَال من بالمغرب من مغراوة وَبني يفرن وَسَائِر قبائل البربر القائمين بِهِ ثمَّ سَار هُوَ فِي أَثَرهم يتقرى الْمغرب بَلَدا بَلَدا ويتتبع أَهله قَبيلَة قَبيلَة فقوم يقاتلونه ثمَّ يظفر بهم وَقوم يفرون بَين يَدَيْهِ وَقوم يلقون إِلَيْهِ السّلم ويبذلون الطَّاعَة حَتَّى دوخ بِلَاد الْمغرب ثمَّ سَار حَتَّى دخل مَدِينَة أغمات وَلما اسْتَقر بهَا تزوج زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية الَّتِي كَانَت تَحت أبي بكر بن عمر فَكَانَت عنوان سعده والقائمة بِملكه والمدبرة لأَمره والفاتحة عَلَيْهِ بِحسن سياستها لأكْثر بِلَاد الْمغرب وَمن ذَلِك إشارتها عَلَيْهِ فِي أَمر أبي بكر بن عمر وَكَيْفِيَّة ملاقاته حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَهَكَذَا كَانَ أمرهَا فِي كل مَا تحاوله رَحمهَا الله
وَمِمَّا يستطاب من حَدِيثهَا مَا حَكَاهُ ابْن الْأَثِير فِي كَامِله وَقد تكلم على يُوسُف بن تاشفين هَذَا فَقَالَ كَانَ حسن السِّيرَة خيرا عادلا يمِيل إِلَى أهل الْعلم وَالدّين يكرمهم ويحكمهم فِي بِلَاده ويصدر عَن رَأْيهمْ وَكَانَ يحب الْعَفو والصفح عَن الذُّنُوب الْعِظَام من ذَلِك أَن ثَلَاثَة نَفرا اجْتَمعُوا فتمنى أحدهم ألف دِينَار يتجر بهَا وَتمنى الآخر عملا يعْمل فِيهِ لأمير الْمُسلمين وَتمنى الآخر زَوجته وَكَانَت من أحسن النِّسَاء وَلها الحكم فِي بِلَاده فَبَلغهُ الْخَبَر فأحضرهم وَأعْطى متمني المَال ألف دِينَار وَاسْتعْمل الآخر وَقَالَ للَّذي تمنى زَوجته يَا جَاهِل مَا حملك على هَذَا الَّذِي لَا(2/23)
تصل إِلَيْهِ ثمَّ أرْسلهُ إِلَى زَوجته فتركته فِي خيمة ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أمرت بِأَن يحمل إِلَيْهِ فِي كل يَوْم طَعَام وَاحِد ثمَّ أحضرته وَقَالَت لَهُ مَا أكلت فِي هَذِه الثَّلَاثَة الْأَيَّام قَالَ طَعَاما وَاحِدًا فَقَالَت لَهُ كل النِّسَاء شَيْء وَاحِد وَأمرت لَهُ بِمَال وَكِسْوَة وسرحته إِلَى حَال سَبيله وَكَانَت وفاتها سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
بِنَاء مَدِينَة مراكش
لما دخلت سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ أَمر يُوسُف بن تاشفين قد استفحل بالمغرب جدا ورسخت قدمه فِي الْملك وَعظم صيته فَسَمت همته إِلَى بِنَاء مَدِينَة يأوي إِلَيْهَا بحشمه وجنده وَتَكون حصنا لَهُ ولأرباب دولته فَاشْترى مَوضِع مَدِينَة مراكش مِمَّن كَانَ يملكهُ من المصامدة وَقَالَ صَاحب المعرب كَانَ ملكا لعجوز مِنْهُم ثمَّ نزل الْموضع الْمَذْكُور بخيام الشّعْر وَبنى مَسْجِدا لصلاته وقصبة صَغِيرَة لاختزان مَاله وسلاحه وَلم يبن على ذَلِك سورا وَقَالَ أَبُو الْخطاب بن دحْيَة فِي كتاب النبراس إِن مَوضِع مَدِينَة مراكش كَانَ مزرعة لأهل نَفِيس فَاشْتَرَاهُ يُوسُف مِنْهُم بِمَالِه الَّذِي خرج بِهِ من الصَّحرَاء وَفِي كتاب المعرب إِن يُوسُف بن تاشفين اختط مَدِينَة مراكش بِموضع كَانَ يُسمى بذلك الِاسْم وَمَعْنَاهُ بلغَة المصامدة امش مسرعا وَكَانَ ذَلِك الْموضع مكمنا للصوص فَكَانَ المارون فِيهِ يَقُولُونَ لرفقائهم تِلْكَ الْكَلِمَة فَعرف الْموضع بهَا وَضبط هَذِه الْكَلِمَة بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء الْمُشَدّدَة بعْدهَا ألف وَبعد ألف كَاف مَكْسُورَة ثمَّ شين مُعْجمَة وَيُقَال كَانَ فِي موضعهَا قَرْيَة صَغِيرَة فِي غابة من الشّجر وَبهَا قوم من البربر فاختطها يُوسُف وَبنى بهَا الْقُصُور والمساكن الأنيقة وَهِي فِي مرج فسيح وحولها جبال على فراسخ(2/24)
مِنْهَا وبالقرب مِنْهَا جبل لَا يزَال عَلَيْهِ الثَّلج وَهُوَ الَّذِي يعدل مزاجها وحرها
وَقَالَ ابْن خلدون اتخذ يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة مراكش لنزوله ونزول عسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المقيمة بمواطنهم مِنْهَا فِي جبل درن إِذْ لم يكن فِي قبائل الْمغرب أَشد مِنْهُم قُوَّة وَلَا أَكثر جمعا وَفِي القرطاس لما شرع يُوسُف بن تاشفين فِي بِنَاء مَسْجِد مراكش كَانَ يحتزم وَيعْمل فِي الطين وَالْبناء بِيَدِهِ مَعَ الْخدمَة تواضعا مِنْهُ لله تَعَالَى قَالَ وَالَّذِي بناه يُوسُف من ذَلِك هُوَ الْموضع الْمَعْرُوف الْآن بسور الْحجر من مَدِينَة مراكش جوفا من جَامع الكتبيين مِنْهَا وَيعرف الْيَوْم بالسجينة وَلم يكن بالموضع مَاء فحفر النَّاس آبارا فَظهر لَهُم المَاء على قرب فاستوطنوها وَبَنُو بهَا قَالُوا وَلم تزل مَدِينَة مراكش لَا سور لَهَا إِلَى أَن توفّي يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله وَولي بعده ابْنه عَليّ بن يُوسُف وَمضى مُعظم دولته فأدار عَلَيْهَا السُّور سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة يُقَال كَانَ ذَلِك بِإِشَارَة القَاضِي أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن رشد الْفَقِيه الْمَشْهُور فَإِنَّهُ كَانَ قد قدم على السُّلْطَان بمراكش فَأَشَارَ عَلَيْهِ بذلك عِنْدَمَا نبغ مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين بجبال المصامدة
وَكَانَت مُدَّة الْبناء ثَمَانِيَة أشهر وَكَانَ الْإِنْفَاق على السُّور سبعين ألف دِينَار وَبنى عَليّ بن يُوسُف أَيْضا الْجَامِع الْأَعْظَم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْيَوْم والمنار الَّذِي عَلَيْهِ وَأنْفق عَلَيْهِ سِتِّينَ ألف دِينَار أُخْرَى
وَرَأَيْت فِي كتاب ابْن عبد الْعَظِيم الأزموري الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب بني أمغار رَضِي الله عَنْهُم أَن أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف اللمتوني لما عزم على إدارة السُّور على مراكش شاور الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر فِي ذَلِك فَمنهمْ من ثبطه وَمِنْهُم من نَدبه إِلَيْهِ وَكَانَ من جملَة من نَدبه القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد ثمَّ شاور أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بأمغار صَاحب عين(2/25)
الْفطر فَأَشَارَ ببنائه وَبعث لَهُ من مَاله الْحَلَال وَأمره أَن يَجعله فِي صندوق صائر الْبناء ويتولى الْإِنْفَاق فِي ذَلِك رجل فَاضل فَقبل السُّلْطَان إِشَارَته وَعمل بِرَأْيهِ فسهل الله أَمر الْبناء
ثمَّ لما جَاءَت دولة الْمُوَحِّدين وَكَانَ مِنْهُم يَعْقُوب الْمَنْصُور الشهير الذّكر اعتنى بِمَدِينَة مراكش واحتفل فِي تشييدها وَبَالغ فِي تنميق مساجدها وتنجيد مصانعها ومعاهدها على مَا نذْكر الْبَعْض مِنْهُ فِي مَحَله إِن شَاءَ الله
وَلم تزل مراكش دَار مملكة المرابطين ثمَّ الْمُوَحِّدين من بعدهمْ سَائِر أيامهم
ثمَّ لما جَاءَت دولة بني مرين من بعدهمْ اتَّخذُوا كرْسِي مملكتهم بِمَدِينَة فاس وبنوا بهَا الْمَدِينَة الْبَيْضَاء
ثمَّ جَاءَت الدولة السعدية من بعدهمْ فنقلوا الْكُرْسِيّ إِلَى مراكش وَبَنُو بهَا قصر البديع الْمَشْهُور
ثمَّ جَاءَت الدولة الشَّرِيفَة العلوية فَاتخذ الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف كرْسِي ملكه بمكناسة الزَّيْتُون واحتفل فِي بنائها احتفالا عَظِيما على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
ثمَّ لما كَانَت دولة الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله رد كرْسِي الْملك إِلَى مراكش وَبنى بهَا قصوره ومصانعه واستمرت كرسيا لمملكتهم إِلَى الْآن
وَفضل مراكش أشهر من أَن يذكر لَا سِيمَا مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من مزارات الْأَوْلِيَاء ومدافن الصلحاء الْكِبَار وَالْأَئِمَّة الأخيار حَتَّى قَالَ الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي مقامات الْبلدَانِ عِنْد ذكره مَدِينَة مراكش هِيَ تربة الْوَلِيّ وحضرة الْملك الأولى وَعبر عَنْهَا أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفخ الطّيب بِبَغْدَاد الْمغرب حرسها الله وصانها من ريب الزَّمَان وطوارق الْحدثَان(2/26)
فتح مَدِينَة فاس وَغَيرهَا من سَائِر بِلَاد الْمغرب
وَفِي سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة الْمَذْكُورَة جند يُوسُف بن تاشفين الأجناد واستكثر القواد وَفتح كثيرا من الْبِلَاد وَاتخذ الطبول والبنود ورتب الْعمَّال وَكتب العهود وَجعل فِي جَيْشه الأغزاز وَالرُّمَاة كل ذَلِك إرهابا لقبائل الْمغرب فكمل لَهُ من الْجَيْش فِي تِلْكَ السّنة أَكثر من مائَة ألف فَارس من قبائل صنهاجة وجزولة والمصامدة وزناتة والأغزاز وَالرُّمَاة فَخرج بهم من حَضْرَة مراكش قَاصِدا مَدِينَة فاس فَتَلَقَّتْهُ قبائلها من زواغة ولماية ولواتة وصدينه وسدراته ومغيلة وبهلوله ومديونة وَغَيرهم فِي خلق عَظِيم فقاتلوه فَكَانَت بَينه وَبينهمْ ملاحم عِظَام انْهَزمُوا فِيهَا من بَين يَدَيْهِ وانحصروا بِمَدِينَة صدينة فَدَخلَهَا عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ عنْوَة فهدم أسوارها وَقتل بهَا مَا يزِيد على أَرْبَعَة آلَاف
ثمَّ رَحل إِلَى فاس فنازلها بعد أَن فتح جَمِيع أحوازها وَذَلِكَ فِي آخر سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَقَالَ ابْن خلدون إِن يُوسُف بن تاشفين نَازل أَولا قلعة فازاز وَبهَا مهْدي بن تولي اليحفشي وَبَنُو يحفش بطن من زناتة وَكَانَ أَبوهُ تولي صَاحب تِلْكَ القلعة ووليها هُوَ من بعده فنازله يُوسُف بن تاشفين ثمَّ استجاش بِهِ على فاس مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب مكناسة لِأَنَّهُ كَانَ عَدو المعنصر المغراوي صَاحب فاس فزحف فِي عَسَاكِر المرابطين إِلَى فاس وَجمع إِلَيْهِ معنصر ففض جموعه اه وَالله أعلم
ثمَّ أَقَامَ يُوسُف على فاس أَيَّامًا فظفر بعاملها بكار بن إِبْرَاهِيم فَقتله وارتحل عَنْهَا إِلَى مَدِينَة صفرو فَدَخلَهَا من يَوْمه عنْوَة وَقتل مُلُوكهَا أَوْلَاد(2/27)
مَسْعُود بن وانودين المغراوي صَاحب سجلماسة وَكَانُوا قد استولوا عَلَيْهَا
ثمَّ رَجَعَ يُوسُف إِلَى فاس فحاصرها حَتَّى فتحهَا وَهُوَ الْفَتْح الأول وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَاسْتعْمل عَلَيْهَا عَاملا من لمتونة وَخرج إِلَى بِلَاد غمارة فَفتح الْكثير مِنْهَا حَتَّى أشرف على طنجة وَبهَا يَوْمئِذٍ الْحَاجِب سكُوت البرغواطي من موَالِي بني حمود
ثمَّ رَجَعَ إِلَى منازلة قلعة فازاز فخالفه بَنو معنصر بن حَمَّاد المغراوي إِلَى فاس فَدَخَلُوهَا وَقتلُوا عَامل يُوسُف الَّذِي كَانَ بهَا
وَكَانَ مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب بِلَاد مكناسة قد بَايع يُوسُف بن تاشفين وَدخل فِي طَاعَة المرابطين فأقره يُوسُف على عمله وَأمره أَن يخرج بَين يَدَيْهِ بجيشه لفتح بِلَاد الْمغرب فَجمع مهْدي بن يُوسُف جَيْشه وَخرج من مَدِينَة عَوْسَجَة يُرِيد الِاجْتِمَاع بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ محاصر لقلعة فازاز فَسمع بذلك تَمِيم بن معنصر المغراوي صَاحب فاس فعاجله فِي أنجاد مغراوة وقبائل زناتة وأدركه بِبَعْض الطَّرِيق وناجزه الْحَرْب ففض جموعه وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَاجِب سكُوت صَاحب سبتة وطنجة
وَلما قتل مهْدي بن يُوسُف بعث أهل مَدَائِن مكناسة إِلَى ابْن تاشفين بِالْخَيرِ وبذلوا لَهُ الطَّاعَة فَملك بِلَادهمْ
ثمَّ توالت عَسَاكِر المرابطين على تَمِيم بن معنصر بالغارات والنهب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار وعدمت الأقوات بفاس فَلَمَّا رأى مَا نزل بِهِ من المرابطين جمع مغراوة وَبنى يفرن وَخرج إِلَيْهِم لإحدى الراحتين فَكَانَت عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فَقتل تَمِيم وَجَمَاعَة من عشيرته وَتقدم مَكَانَهُ بفاس الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة المكناسي فَجمع قبائل زناتة وَخرج بهم إِلَى المرابطين فَالتقى مَعَهم على وَادي صيفير فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة انهزم فِيهَا المرابطون وَقتل جمَاعَة من فرسانهم
واتصل الْخَبَر بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ على قلعة فازاز فارتحل عَنْهَا(2/28)
وَخلف جَيْشًا من المرابطين لحصارها فأقاموا عَلَيْهَا تسع سِنِين ثمَّ دخلوها صلحا سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَلما رَحل يُوسُف عَن قلعة فازاز وَذَلِكَ سنة سِتّ وَخمسين سَار إِلَى بني مراسن وأميرهم يَوْمئِذٍ يعلى بن يُوسُف فعزاهم وَقتل مِنْهُم خلق وَفتح بِلَادهمْ ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد فندلاوة فَغَزَاهَا وَفتح جَمِيع تِلْكَ الْجِهَات ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى بِلَاد ورغة فَفَتحهَا وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَفِي سنة سِتِّينَ فتح جَمِيع بِلَاد غمارة وجبالها من الرِّيف إِلَى طنجة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ أقبل إِلَى فاس فَنزل عَلَيْهَا بِجَمِيعِ جيوشه بعد أَن فرغ من جَمِيع بِلَاد الْمغرب سوى سبتة وشدد الْحصار على فاس حَتَّى دَخلهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل بهَا من مغراوة وَبني يفرن ومكناسة وَغَيرهم خلقا كثيرا حَتَّى امْتَلَأت أسواق الْمَدِينَة وشوارعها بالقتلى وَقتل مِنْهُم بِجَامِع الْقرَوِيين وجامع الأندلس مَا يزِيد على ثَلَاثَة آلَاف وفر من بَقِي مِنْهُم إِلَى أحواز تلمسان وَهَذَا هُوَ الْفَتْح الثَّانِي لمدينة فاس وَكَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَفِي هَذَا الْخَبَر بعض مُخَالفَة لما قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار مغراوة وَذَلِكَ نَقَلْنَاهُ عَن ابْن خلدون وَهَذَا عَن ابْن أبي زرع {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا}
فَلَمَّا دخل يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة فاس أَمر بهدم الأسوار الَّتِي كَانَت فاصلة بَين المدينتين عدوة الْقرَوِيين وعدوة الأندلس وصيرهما مصرا وَاحِدًا وحصنهما وَأمر ببنيان الْمَسَاجِد فِي شوارعها وأزقتها وَأي زقاق لم يجد فِيهِ مَسْجِدا عاقب أَهله وَأمر بِبِنَاء الحمامات والفنادق والأرحاء وَأصْلح بناءها ورتب أسواقها وَأقَام بهَا إِلَى صفر من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ خرج إِلَى بِلَاد ملوية فَفتح حصون وطاط
وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ بعْدهَا استدعى يُوسُف أُمَرَاء الْمغرب وأشياخ الْقَبَائِل من زناتة وغمارة والمصامدة وَسَائِر قبائل البربر فقدموا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ(2/29)
وكساهم ووصلهم بالأموال ثمَّ خرج للطَّواف على أَعمال الْمغرب وتفقد أَحْوَال الرّعية وَالنَّظَر فِي سيرة ولاته وعماله فِيهَا وهم فِي صحبته فصلح على يَده الْكثير من أُمُور النَّاس
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ بعْدهَا غزا يُوسُف مَدِينَة الدمنة من بِلَاد طنجة فَدَخلَهَا عنْوَة وَفتح جبل علودان
وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فتح يُوسُف جبال غياثة وَبني مكود وَبني رهينة وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وفيهَا فرق عماله على بِلَاد الْمغرب فولى سير بن أبي بكر على مَدَائِن مكناسة وبلاد مكلاثة وفازاز وَولى عمر بن سُلَيْمَان على فاس وأحوازها وَدَاوُد بن عَائِشَة على سجلماسة ودرعة وَولى ابْنه تَمِيم بن يُوسُف على مَدِينَة مراكش واغمات وبلاد السوس والمصامدة وتادلا وتامسنا وَصفا ملك الْمغرب ليوسف بن تاشفين سوى سبتة وطنجة وَكَانَ من خبرهما مَا نذكرهُ
فتح سبتة وطنجة وَمَا ترَتّب عَلَيْهِ من جِهَاد بالأندلس
كَانَت سبتة وطنجة لبني حمود الإدريسيين من لدن دولة الأمويين وَلما انقرضت دولتهم وخلفهم بَنو حمود المذكورون بهَا استنابوا على سبتة وطنجة من وثقوا بِهِ من مواليهم الصقالبة وَلم يزل أَمر المدينتين إِلَى نظر هَؤُلَاءِ النواب وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن اسْتَقل بهما الْحَاجِب سكُوت البرغواطي
وَكَانَ عبدا لشيخ حداد من موَالِي الحموديين اشْتَرَاهُ من سبي برغواطة فِي بعض أَيَّام جهادهم ثمَّ صَار إِلَى عَليّ بن حمود فَأخذت النجابة بضبعيه إِلَى أَن اسْتَقل بِالْأَمر واقتعد كرْسِي عَمَلهم بطنجة وسبتة وأطاعته قبائل غمارة واتصلت أَيَّام ولَايَته إِلَى أَن كَانَت دولة المرابطين وتغلب يُوسُف بن(2/30)
تاشفين على بِلَاد الْمغرب ونازل بِلَاد غمارة فَدَعَا الْحَاجِب سكُوت إِلَى مظاهرته عَلَيْهِم فهم بألأجلاب مَعَه ومظاهرته على عدوه ثمَّ ثناه عَن ذَلِك ابْنه الفائل الرَّأْي
فَلَمَّا فرغ يُوسُف بن تاشفين من أهل الدمنة وانقاد الْمغرب لطاعته صرف عزمه إِلَى الْحَاجِب سكُوت
وَكَانَ الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب إشبيلية قد كتب إِلَى يُوسُف بن تاشفين يستدعيه للحوز برسم الْجِهَاد وَنصر الْبِلَاد فَأَجَابَهُ يُوسُف بقوله لَا يمكنني ذَلِك إِلَّا إِذا ملكت طنجة وسبتة فَرَاجعه ابْن عباد يُشِير عَلَيْهِ بِأَن يسير هُوَ إِلَيْهَا بعساكره فِي الْبر فينازلها وَيبْعَث ابْن عباد قطائعه فِي الْبَحْر فينازلوها أَيْضا حَتَّى يتملكها فَأخذ يُوسُف فِي محاولة ذَلِك وَصرف عزمه إِلَيْهِ ثمَّ دخلت سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة فَجهز إِلَيْهَا قائده صَالح بن عمرَان فِي اثْنَي عشر ألف فَارس من المرابطين وَعشْرين ألفا من سَائِر قبائل الْمغرب فَلَمَّا قربوا من طنجة برز إِلَيْهِم الْحَاجِب سكُوت بجموعه وَهُوَ شيخ كَبِير قد ناهز التسعين سنة وَقَالَ وَالله لَا يسمع أهل سبتة طبول اللمتوني وَأَنا حَيّ أبدا فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي منى من أحواز طنجة والتحم الْقِتَال فَقتل سكُوت وفضت جموعه وَسَار المرابطون إِلَى طنجة فَدَخَلُوهَا واستولوا عَلَيْهَا
وَلحق ضِيَاء الدولة يحيى بن سكُوت بسبتة فاعتصم بهَا وَكتب الْقَائِد صَالح بن عمرَان بِالْفَتْح إِلَى يُوسُف
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة بعث يُوسُف بن تاشفين قائده مزدلي بن تيلكان اللمتوني لغزو تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط فَسَار إِلَيْهَا فِي عشْرين ألفا من المرابطين وَكَانَ بتلمسان يَوْمئِذٍ الْعَبَّاس بن بخْتِي من ولد(2/31)
يعلى بن مُحَمَّد بن الْخَيْر بن مُحَمَّد بن خزر المغراوي فَدَخَلُوا الْمغرب الْأَوْسَط وتقروا بِلَاد زناتة وظفروا بيعلى ابْن الْأَمِير الْعَبَّاس بن بختى فَقَتَلُوهُ وانكفؤوا رَاجِعين إِلَى يُوسُف بن تاشفين فألفوه بمراكش ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين فِيهَا غير يُوسُف بن تاشفين السِّكَّة فِي جَمِيع عمله وَكتب عَلَيْهَا اسْمه
وفيهَا فتح مَدِينَة آكرسيف ومدينة مليلية وَجَمِيع بِلَاد الرِّيف وَفتح مَدِينَة نكور وخربها فَلم تعمر بعد
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا زحف يُوسُف بن تاشفين إِلَى مَدِينَة وَجدّة فَفَتحهَا وَفتح بِلَاد بني يزناسن وَمَا والاها ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَفَتحهَا واستلحم من كَانَ بهَا من مغراوة وَقتل أميرها الْعَبَّاس بن بخْتِي المغراوي وَأنزل بهَا عَامله مُحَمَّد بن تينغمر المسوفي فِي عَسَاكِر المرابطين فَصَارَت ثغرا لمملكته واختط بهَا مَدِينَة تاكرارت بمَكَان محلته وَهُوَ اسْم الْمحلة بِلِسَان البربر ثمَّ افْتتح مَدِينَة تنس ووهران وجبل وانشريس وَجَمِيع أَعمال شلف إِلَى الجزائر وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب فَدخل مراكش فِي ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
ثمَّ ورد عَلَيْهِ بهَا كتاب الْمُعْتَمد بن عباد يُعلمهُ بِحَال بِلَاد الأندلس وَمَا آل إِلَيْهِ أمرهَا من تغلب الْعَدو على أَكثر ثغورها ويسأله النَّصْر والإعانة فَأَجَابَهُ يُوسُف بقوله إِذا فتح الله على سبتة اتَّصَلت بكم وبذلت جهدي فِي جِهَاد الْعَدو وَكَانَ الفنش قد تحرّك فِي هَذِه السّنة فِي جيوش لَا تحصى من الإفرنج والبشكنس والجلالقة وَغَيرهم فشق بِلَاد الأندلس شقا يقف على كل مَدِينَة مِنْهَا فَيفْسد وَيخرب وَيقتل وَيَسْبِي ثمَّ يرتحل إِلَى غَيرهَا وَنزل على إشبيلية فَأَقَامَ عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام فأفسد وَخرب وَكَذَلِكَ فعل فِي شدونة وأحوازها وَخرب بشرق الأندلس قرى كَثِيرَة ثمَّ صَار حَتَّى وصل جَزِيرَة طريف فَأدْخل قَوَائِم فرسه فِي الْبَحْر وَقَالَ هَذَا آخر بِلَاد الأندلس قد وطئته ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة سرقسطة فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها وَحلف أَن لَا(2/32)
يرتحل عَنْهَا حَتَّى يدخلهَا أَو يحول الْمَوْت دونهَا وَأَرَادَ أَن يقدمهَا بِالْفَتْح على غَيرهَا فبذل إِلَيْهِ أميرها المستعين بن هود مَالا عَظِيما فَلم يقبله مِنْهُ وَقَالَ المَال والبلاد لي وَبعث إِلَى كل قَاعِدَة من قَوَاعِد الأندلس جَيْشًا لحصارها والتضييق عَلَيْهَا ثمَّ ملك مَدِينَة طليطلة من يَد صَاحبهَا الْقَادِر بن ذِي النُّون سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب المحركة لعزائم الْمُسلمين بالأندلس وَالْمغْرب على الْجِهَاد
الْخَبَر عَن الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالزلاقة من أَرض الأندلس
لما انقرضت دولة بني أُميَّة بالأندلس صدر الْمِائَة الْخَامِسَة بعد نزاع بَين أعياصها شَدِيد وقتال مِنْهُم عريض مديد وخلفتها الدولة الحمودية فَلم يطلّ أمدها حَتَّى اقتسمت رُؤَسَاء الأندلس مملكتها وتوزعوا أَعمالهَا وَصَارَت الْحَال إِلَى مَا قَالَ ابْن الْخَطِيب
(حَتَّى إِذا سلك الْخلَافَة انْتَشَر ... وَذهب الْعين جَمِيعًا والأثر)
(قَامَ بِكُل بقْعَة مليك ... وَصَاح فَوق كل غُصْن ديك)
فَوجدَ الْعَدو السَّبِيل إِلَى الِاسْتِيلَاء على ثغور الْمُسلمين وانتهاز الفرصة فِيهَا بالتضريب بَين مُلُوكهَا وإغراء بَعضهم بعض وَكَانَ مِنْهُم ابْن عباد بإشبيلية وَابْن الْأَفْطَس ببطليوس وَابْن ذِي النُّون بطليطلة وَابْن هود بسرقسطة وَمُجاهد العامري بدانية وَغير هَؤُلَاءِ وَكلهمْ يُدَارِي الطاغية ويتقيه بالجزية إِلَى أَن كَانَ من أَمر الأذفونش مَا كَانَ من تخريب بِلَاد الْمُسلمين واستيلائه على طليطلة بعد حصاره إِيَّاهَا سبع سِنِين ثمَّ حصاره سرقسطة
فَلَمَّا رأى رُؤَسَاء الأندلس مَا نزل بهم من مضايقة عَدو الدّين واستطالته على ثغور الْمُسلمين أجمع رَأْيهمْ على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين فكاتبه أهل الأندلس كَافَّة من الْخَاصَّة وَالْعُلَمَاء يستصرخونه فِي تَنْفِيس الْعَدو عَن مخنقهم ويكونوا مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ(2/33)
فَلَمَّا تَوَاتَرَتْ رسلهم وكتبهم عَلَيْهِ بعث ابْنه الْمعز بن يُوسُف فِي عَسَاكِر المرابطين إِلَى سبتة فَرْضه الْمجَاز فنازلها برا وأحاطت بهَا أساطيل ابْن عباد بحرا فاقتحموها عنْوَة فِي ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَقبض على صَاحبهَا ضِيَاء الدولة يحيى بن سكُوت البرغواطي وَجِيء بِهِ إِلَى الْمعز أَسِيرًا فَقتله صبرا وَبعث بِكِتَاب الْفَتْح إِلَى أَبِيه وَهُوَ بفاس ينظر فِي أَمر الْجِهَاد ويستعد لَهُ ففرح يُوسُف بِفَتْح سبتة وَخرج من حِينه قَاصِدا نَحْوهَا ليعبر مِنْهَا إِلَى الأندلس
وَلما سمع الْمُعْتَمد ابْن عباد بِفَتْح سبتة ركب الْبَحْر إِلَى الْمغرب لاستنفار يُوسُف إِلَى الْجِهَاد فَلَقِيَهُ مُقبلا بِبِلَاد طنجة بِموضع يعرف ببليطة على ثَلَاث مراحل من سبتة وَقَالَ ابْن خلدون لقِيه بفاس فَأخْبرهُ بِحَال الأندلس وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الضعْف وَشدَّة الْخَوْف وَالِاضْطِرَاب وَمَا يلقاه الْمُسلمُونَ من عدوهم من الْقَتْل والأسر والحصار كل يَوْم فَقَالَ لَهُ يُوسُف ارْجع إِلَى بلادك وَخذ فِي أَمرك فَإِنِّي على أثرك فَرجع ابْن عباد إِلَى الأندلس وَنزل ليوسف عَن الجزيرة الخضراء لتَكون رِبَاطًا لجهاده وَدخل يُوسُف سبتة فَنظر فِي أمرهَا وَأصْلح سفنها وقدمت عَلَيْهِ بهَا جنود الله من الْمغرب والصحراء والقبلة والزاب فشرع فِي إجازتها إِلَى الأندلس
وَلما تكاملت بساحل الخضراء عبر هُوَ فِي أَثَرهَا فِي موكب عَظِيم من قواد المرابطين وأنجادهم وصلحائهم فَلَمَّا اسْتَوَى على ظهر السَّفِينَة رفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن فِي جوازنا هَذَا صلاحا للْمُسلمين فسهل علينا هَذَا الْبَحْر حَتَّى نعبره وَإِن كَانَ غير ذَلِك فصعبه حَتَّى لَا نعبره فسهل الله عَلَيْهِم العبور فِي أسْرع وَقت وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس عِنْد الزَّوَال منتصف ربيع الأول سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَنزل بالخضراء فصلى بهَا الظّهْر من يَوْمه ذَلِك ولقيه الْمُعْتَمد ابْن عباد صَاحب إشبيلية وَابْن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس وَغَيرهمَا من مُلُوك الأندلس(2/34)
واتصل الْخَبَر بالأذفونش وَهُوَ محاصر لسرقسطة فارتحل عَنْهَا وَقصد نَحْو أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَى ابْن ردمير والبرهانس وَغَيرهمَا من كبار النَّصْرَانِيَّة واستنفر أهل قشتالة وجليقية وَسَائِر المجاورين لَهُ من أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم مَا يفوت الْحصْر وصمد إِلَى ابْن تاشفين وَالْمُسْلِمين هَكَذَا وَقع مساق هَذِه الْغَزْوَة عِنْد ابْن خلدون وَابْن أبي زرع وَغَيرهمَا
وساقها ابْن الْأَثِير وَابْن خلكان وَابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي مساقا غير هَذَا ولنذكر بعض مَا نقلوه من ذَلِك فَنَقُول لما ملك يُوسُف بن تاشفين الْمغرب وَبنى مراكش وتلمسان الجديدة وأطاعته البربر مَعَ شكيمتها الشَّدِيدَة وتمهدت لَهُ الأقطار العريضة المديدة تاقت نَفسه إِلَى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وَأخذ فِي إنْشَاء السفن والمراكب ليعبر فِيهَا فَلَمَّا علم بذلك مُلُوك الأندلس كَرهُوا إلمامه بجزيرتهم وَأَعدُّوا لَهُ الْعدة وَالْعدَد إِلَّا أَنهم استهولوا جمعه واستصعبوا مدافعته وكرهوا أَن يصبحوا بَين عدوين الفرنج عَن شمالهم والملثمين عَن جنُوبهم وَكَانَت الفرنج قد اشتدت وطأتها عَلَيْهِم فَتغير وتنهب وَرُبمَا يَقع بَينهم صلح على شَيْء مَعْلُوم كل سنة يأخذونه من الْمُسلمين والفرنج مَعَ ذَلِك ترهب جَانب ملك الْمغرب يُوسُف بن تاشفين إِذْ كَانَ لَهُ اسْم كَبِير وصيت عَظِيم لنفاذ أمره وَنَقله دولة زناتة وَملك الْمغرب إِلَيْهِ فِي أسْرع وَقت مَعَ مَا ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة فِي المعارك من ضربات السيوف الَّتِي تقد الْفَارِس والطعنات الَّتِي تنظم الكلى فَكَانَ لَهُم بذلك ناموس ورعب فِي قُلُوب المنتدبين لقتالهم
وَكَانَ مُلُوك الأندلس يفيئون إِلَى ظلم يُوسُف ويحذرونه خوفًا على ملكهم مهما عبر إِلَيْهِم وعاين بِلَادهمْ فَلَمَّا رَأَوْا عزيمته متوفرة على العبور راسل بَعضهم بَعْضًا يستنجدون آراءهم فِي أمره وَكَانَ فزعهم فِي ذَلِك إِلَى الْمُعْتَمد ابْن عباد لِأَنَّهُ أَشْجَع الْقَوْم وأكبرهم مملكة فَوَقع اتِّفَاقهم على مُكَاتبَته وَقد تحققوا أَنه يقصدهم يسألونه الْإِعْرَاض عَنْهُم وَأَنَّهُمْ تَحت(2/35)
طَاعَته فَكتب عَنْهُم كَاتب من أهل الأندلس يَقُول
أما بعد فَإنَّك إِن أَعرَضت عَنَّا نسبت إِلَى كرم وَلم تنْسب إِلَى عجز وَإِن أجبنا داعيك نسبنا إِلَى عقل وَلم تنْسب إِلَى وَهن وَقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنَفسك أكْرم نسبتيك فَإنَّك بِالْمحل الَّذِي لَا يجوز أَن نسبق فِيهِ إِلَى مكرمَة وَإِن فِي أستبقائك ذَوي الْبيُوت مَا شِئْت من دوَام لأمرك وَثُبُوت وَالسَّلَام فوصله الْكتاب مَعَ تحف وهدايا وَكَانَ يُوسُف لَا يعرف اللِّسَان الْعَرَبِيّ لكنه كَانَ ذكي الطَّبْع يجيد فهم الْمَقَاصِد وَكَانَ لَهُ كَاتب يعرف اللغتين الْعَرَبيَّة والمرابطية فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك هَذَا الْكتاب من مُلُوك الأندلس يعظمونك فِيهِ ويعرفونك أَنهم أهل دعوتك وَتَحْت طَاعَتك ويلتمسون مِنْك أَن لَا تجعلهم فِي منزلَة الأعادي فَإِنَّهُم مُسلمُونَ وهم من ذَوي البيوتات فَلَا تغير بهم وكف بهم من ورائهم من الْأَعْدَاء الْكفَّار وبلدهم ضيق لَا يحْتَمل العساكر فَأَعْرض عَنْهُم إعراضك عَمَّن أطاعك من أهل الْمغرب فَقَالَ يُوسُف بن تاشفين لكَاتبه فَمَا ترى أَنْت فَقَالَ أَيهَا الْملك أعلم أَن تَاج الْملك وبهجته وَشَاهده الَّذِي لَا يرد بِأَنَّهُ خليق بِمَا حصل فِي يَده من الْملك أَن يعْفُو إِذا استعفى وَأَن يهب إِذا استوهب وَكلما وهب جزيلا كَانَ أعظم لقدره فَإِذا عظم قدره تأصل ملكه وَإِذا تأصل ملكة تشرف النَّاس بِطَاعَتِهِ وَإِذا كَانَت طَاعَته شرفا جَاءَهُ النَّاس وَلم يتجشم الْمَشَقَّة إِلَيْهِم وَكَانَ وَارِث الْملك من غير إهلاك لآخرته وَاعْلَم أَن بعض الْمُلُوك الأكابر والحكماء البصراء بطرِيق تَحْصِيل الْملك قَالَ من جاد سَاد وَمن سَاد قاد وَمن قاد ملك الْبِلَاد فَلَمَّا ألْقى الْكَاتِب هَذَا الْكَلَام على السُّلْطَان يُوسُف فهمه وَعلم صِحَّته فَقَالَ لِلْكَاتِبِ أجب الْقَوْم واكتب بِمَا يجب فِي ذَلِك واقرأ عَليّ كتابك فَكتب الْكَاتِب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من يُوسُف بن تاشفين سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته تَحِيَّة من سالمكم وَسلم إِلَيْكُم وَحكمه التأييد والنصر فِيمَن حكم عَلَيْكُم وَإِنَّكُمْ مِمَّا بِأَيْدِيكُمْ من الْملك فِي أوسع إِبَاحَة مخصوصون منا بأكرم إِيثَار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا آخاءنا بإصلاح آخائكم وَالله ولي التَّوْفِيق لنا لكم(2/36)
وَالسَّلَام فَلَمَّا فرغ من كِتَابه قَرَأَ على يُوسُف بن تاشفين بِلِسَانِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقرن بِهِ مَا يصلح لَهُم من التحف ودرق اللمط مِمَّا لَا يكون إِلَّا فِي بِلَاده وأنفذ ذَلِك إِلَيْهِم فَلَمَّا وصلهم ذَلِك وقرؤوا كِتَابه فرحوا بِهِ وعظموه واعتزوا بولايته وتقوت نُفُوسهم على دفع الفرنج وأزمعوا إِن رَأَوْا من الفرنج مَا يريبهم أَن يجيزوا إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين ويكونوا من أعوانه عَلَيْهِ فتأتى ليوسف بن تاشفين بِرَأْي وزيره مَا أَرَادَ من محبَّة أهل الأندلس لَهُ وَكَفاهُ حربهم
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي الْكَامِل كَانَ الْمُعْتَمد ابْن عباد أعظم مُلُوك الأندلس وممتلكا لأكبر بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وَكَانَ مَعَ ذَلِك يُؤَدِّي الضريبة إِلَى الأذفونش كل سنة فَلَمَّا تملك الأذفونش طليطلة أرسل إِلَيْهِ الْمُعْتَمد الضريبة على عَادَته فَردهَا عَلَيْهِ وَلم يقبلهَا مِنْهُ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ يتهدده ويتوعده بِالْمَسِيرِ إِلَى قرطبة وتملكها من يَده إِلَّا أَن يسلم إِلَيْهِ جَمِيع الْحُصُون الَّتِي فِي الْجَبَل ويبقي السهل للْمُسلمين وَكَانَ الرَّسُول فِي جمع كثير نَحْو خَمْسمِائَة فَارس فأنزله الْمُعْتَمد وَفرق أَصْحَابه على قواد عسكره ثمَّ أَمر القواد أَن يقتل كل مِنْهُم من عِنْده وأحضر الرَّسُول فصفعه حَتَّى برزت عَيناهُ وَسلم من الْجَمَاعَة ثَلَاثَة نفر فعادوا إِلَى الأذفونش وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر وَكَانَ مُتَوَجها إِلَى قرطبة ليحاصرها فَلَمَّا بلغه هَذَا الْخَبَر رَجَعَ إِلَى طليطلة ليجمع آلَات الْحصار ويستعد اسْتِعْدَادًا غير الَّذِي سبق وَعَاد الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَأقَام بهَا وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع يدافع عَنْهَا
وَقَالَ ابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي فِي كِتَابه الرَّوْض المعطار مَا ملخصه إِن الْمُعْتَمد ابْن عباد أخر فِي سنة من السنين الضريبة الَّتِي كَانَ يَدْفَعهَا للأذفونش عَن وَقتهَا ثمَّ أرسلها إِلَيْهِ بعد فَغَضب الأذفونش واشتط وَطلب بعض الْحُصُون زِيَادَة على الضريبة وأمعن فِي التجني حَتَّى طلب أَن تَأتي زَوجته إِلَى الْجَامِع الْأَعْظَم بقرطبة فتلد فِيهِ إِذْ كَانَت حَامِلا وَكَانَ بالجانب الغربي من الْمَسْجِد الْمَذْكُور مَوضِع كَنِيسَة قديمَة بنى الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا الْمَسْجِد فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء والقسيسون أَن تكون زَوجته سَاكِنة قرب وِلَادَتهَا(2/37)
بِمَدِينَة الزهراء الَّتِي بناها عبد الرَّحْمَن النَّاصِر لدين الله وأبدع فِي تشييدها وتنجيدها وتتردد الْمَرْأَة مَعَ ذَلِك إِلَى الْجَامِع الْمَذْكُور حَتَّى تكون وِلَادَتهَا بَين طيب نسيم الزهراء وفضيلة مَوضِع الْكَنِيسَة وَكَانَ الرَّسُول فِي ذَلِك يَهُودِيّا وَكَانَ وزيرا للأذفونش فَامْتنعَ ابْن عباد من ذَلِك فَرَاجعه الْيَهُودِيّ وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل ولسعه بِكَلِمَة آسفته فَأخذ ابْن عباد محبرة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَضرب بهَا رَأس الْيَهُودِيّ فَأنْزل دماغه فِي حلقه وَأمر بِهِ فصلب منكوسا بقرطبة
وَلما سكن غَضَبه استفتى الْفُقَهَاء عَن حكم مَا فعله باليهودي فبادره الْفَقِيه مُحَمَّد بن الطلاع بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِك لتعدي الرَّسُول حُدُود الرسَالَة إِلَى مَا اسْتوْجبَ بِهِ الْقَتْل إِذْ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَقَالَ للفقهاء إِنَّمَا بادرت بالفتوى خوفًا أَن يكسل الرجل عَمَّا عزم عَلَيْهِ من منابذة الْعَدو وَعَسَى الله أَن يَجْعَل فِي عزيمته للْمُسلمين خيرا
وَبلغ الأذفونش مَا صنعه ابْن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية وليحاصرنه فِي قصره ثمَّ زحف فِي عسكرين أَحدهمَا عَلَيْهِ وَالْآخر على بعض قواده حَتَّى نزل على ضفة النَّهر الْأَعْظَم بإشبيلية قبالة قصر ابْن عباد وَفِي أَيَّام مقَامه هُنَالك كتب إِلَى ابْن عباد زاريا عَلَيْهِ كثر بطول مقَامي فِي مجلسي هَذَا عَليّ الذُّبَاب وَاشْتَدَّ الْحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بهَا على نَفسِي وَأطْرد بهَا الذُّبَاب عَن وَجْهي فَوَقع لَهُ ابْن عباد بِخَط يَده فِي ظهر الرقعة قَرَأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لَك فِي مراوح من جُلُود اللمط تروح مِنْك لَا عَلَيْك إِن شَاءَ الله فَلَمَّا وصلت رِسَالَة ابْن عباد الأذفونش وقرئت عَلَيْهِ وَفهم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخْطر لَهُ ذَلِك ببال وَفَشَا فِي الأندلس توقيع ابْن عباد وَمَا أظهر من الْعَزِيمَة على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين والاستظهار بِهِ على الْعَدو فَاسْتَبْشَرَ النَّاس وفرحوا بذلك وانفتحت لَهُم أَبْوَاب الآمال
وَأما مُلُوك طوائف الأندلس فَلَمَّا تحققوا عزم ابْن عباد وانفراده بِرَأْيهِ فِي ذَلِك اهتموا مِنْهُ فَمنهمْ من كَاتبه وَمِنْهُم من شافهه وَحَذرُوهُ عَاقِبَة ذَلِك وَقَالُوا لَهُ الْملك الْعَقِيم والسيفان لَا يَجْتَمِعَانِ فِي غمد فأجابهم ابْن عباد بكلمته(2/38)
الَّتِي صَارَت مثلا رعي الْجمال خير من رعي الْخَنَازِير وَمَعْنَاهُ أَن كَونه مَأْكُولا ليوسف بن تاشفين أَسِيرًا يرْعَى جماله فِي الصَّحرَاء خير من كَونه ممزقا للأذفونش أَسِيرًا لَهُ يرْعَى خنازيره وَقَالَ لمن لامه يَا قوم إِنِّي من أَمْرِي على حالتين حَالَة يَقِين وَحَالَة شكّ وَلَا بُد لي من إِحْدَاهمَا أما حَالَة الشَّك فَإِنِّي استندت إِلَى ابْن تاشفين أَو إِلَى الأذفونش فَفِي الْمُمكن أَن يَفِي لي وَيبقى على وفائه وَيُمكن أَن لَا يفعل فَهَذِهِ حَالَة شكّ وَأما حَالَة الْيَقِين فَإِنِّي إِن استندت إِلَى ابْن تاشفين فَإِنِّي أرضي الله وَإِن استندت إِلَى الأذفونش أسخطت الله فَإِذا كَانَت حَالَة الشَّك فيهمَا عارضة فلأي شَيْء أدع مَا يُرْضِي الله وَآتِي مَا يسخطه فَحِينَئِذٍ أقصر أَصْحَابه عَن لومه
وَلما عزم ابْن عباد على رَأْيه أَمر صَاحب بطليوس المتَوَكل على الله عمر بن الْأَفْطَس وَصَاحب غرناطة عبد الله بن حبوس الصنهاجي أَن يبْعَث إِلَيْهِ كل مِنْهُمَا قَاضِي حَضرته ففعلا واستحضر قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم وَكَانَ أَعقل أهل زَمَانه فَلَمَّا اجْتمع عِنْد ابْن عباد الْقُضَاة بإشبيلية أضَاف إِلَيْهِم وزيره أَبَا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أَنهم رسله إِلَى يُوسُف بن تاشفين وَأسْندَ إِلَى الْقُضَاة مَا يَلِيق بهم من وعظ يُوسُف وترغيبه فِي الْجِهَاد وَأسْندَ إِلَى الْوَزير مَا لَا بُد مِنْهُ من إبرام الْعُقُود السُّلْطَانِيَّة
وَكَانَ يُوسُف بن تاشفين لَا تزَال تفد عَلَيْهِ وُفُود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بِاللَّه وَالْإِسْلَام مستنجدين بفقهاء حَضرته ووزراء دولته فَيسمع إِلَيْهِم ويصغي لقَولهم وترق نَفسه لَهُم
وَلما انْتَهَت الرُّسُل إِلَى ابْن تاشفين أقبل عَلَيْهِم وَأكْرم مثواهم وَجَرت بَينه وَبينهمْ مراوضات ثمَّ انصرفوا إِلَى مرسلهم
ثمَّ عبر يُوسُف الْبَحْر عبورا سهلا حَتَّى أَتَى الجزيرة الخضراء فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا بِمَا عِنْدهم من الأقوات والضيافات وَأَقَامُوا لَهُ سوقا جلبوا إِلَيْهِ مَا عِنْدهم من سَائِر الْمرَافِق وأذنوا للغزاة فِي دُخُول الْبَلَد وَالتَّصَرُّف فِيهَا(2/39)
فامتلأت الْمَسَاجِد والرحاب بالمطوعة وَتَوَاصَوْا بهم خيرا هَذَا مساق صَاحب الرَّوْض المعطار
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما رَجَعَ الْمُعْتَمد ابْن عباد إِلَى إشبيلية وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع وَسمع مشايخها بِمَا جرى من قتل ابْن عباد لِلْيَهُودِيِّ وَرَأَوا قُوَّة الفرنج وَضعف الْمُسلمين واستعانة بعض مُلُوكهمْ بالفرنج على بعض اجْتَمعُوا وَقَالُوا هَذِه بِلَاد الأندلس قد غلب عَلَيْهَا الفرنج وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل وَإِن استمرت الْأَحْوَال على مَا نرى عَادَتْ نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت وَسَارُوا إِلَى القَاضِي أبي بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم فَقَالُوا لَهُ أَلا تنظر إِلَى مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الصغار والذلة وإعطائهم الْجِزْيَة بعد أَن كَانُوا يأخذونها وَقد رَأينَا رَأيا نعرضه عَلَيْك قَالَ مَا هُوَ قَالُوا نكتب إِلَى عرب إفريقية ونشترط لَهُم إِذا وصلوا إِلَيْنَا قاسمناهم أَمْوَالنَا وَخَرجْنَا مَعَهم مجاهدين فِي سَبِيل الله وَقَالَ أَخَاف إِذا وصلوا إِلَيْنَا أَن يخربوا بِلَادنَا كَمَا فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدؤوا بِنَا والمرابطون أصلح مِنْهُم واقرب إِلَيْنَا قَالُوا لَهُ فكاتب يُوسُف بن تاشفين وراغب إِلَيْهِ فِي العبور إِلَيْنَا أَو يُرْسل بعض قواده
وبينما هم يتفاوضون إِذْ قدم عَلَيْهِم ابْن عباد وهم فِي ذَلِك فَعرض عَلَيْهِ القَاضِي ابْن أدهم مَا كَانُوا فِيهِ فَقَالَ لَهُ ابْن عباد أَنْت رَسُولي إِلَيْهِ فِي ذَلِك فَامْتنعَ القَاضِي وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يبرىء نَفسه من تُهْمَة تلْحقهُ فألح عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فَعبر القَاضِي الْبَحْر إِلَى أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فأبلغه الرسَالَة وأعلمه مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الْخَوْف من الأذفونش وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة سبتة فَفِي الْحَال أَمر بعبور العساكر إِلَى الأندلس وَأرْسل إِلَى مراكش فِي طلب من بَقِي من عساكره فَأَقْبَلت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا فَلَمَّا تكاملت عِنْده عبر الْبَحْر وَسَار فَاجْتمع بالمعتمد ابْن عباد بإشبيلية
وَكَانَ الْمُعْتَمد قد جمع عساكره أَيْضا وَخرج من أهل قرطبة عَسْكَر كَبِير وقصده المطوعة من سَائِر بِلَاد الأندلس ووصلت الْأَخْبَار إِلَى الأذفونش فَجمع عساكره وحشد جُنُوده وَسَار من طليطلة وَكتب إِلَى أَمِير(2/40)
الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين كتابا كتبه لَهُ بعض غواة أدباء الْمُسلمين يغلظ لَهُ فِي القَوْل ويصف مَا مَعَه من الْقُوَّة وَالْعدَد وَبَالغ فِي ذَلِك فَلَمَّا وصل وقرأه يُوسُف أَمر كَاتبه أَبَا بكر بن القصيرة أَن يجِيبه وَكَانَ كَاتبا مفلقا فَكتب وأجاد فَلَمَّا قَرَأَهُ على أَمِير الْمُسلمين قَالَ هَذَا كتاب طَوِيل وأحضر كتاب الأذفونش وَكتب على ظَهره الَّذِي يكون ستراه وأرسله إِلَيْهِ فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ الأذفونش ارتاع لَهُ وَعلم أَنه بلي بِرَجُل لَهُ دهاء وعزم
وَذكر ابْن خلكان أَن يُوسُف بن تاشفين أَمر بعبور الْجمال فَعبر مِنْهَا مَا أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إِلَى عنان السَّمَاء وَلم يكن أهل الجزيرة رَأَوْا جملا قطّ وَلَا خيلهم رأتها قطّ فَصَارَت الْخَيل تجمح من رُؤْيَة الْجمال ورغائها وَكَانَ ليوسف فِي عبورها رَأْي مُصِيب فَكَانَ يحدق بهَا عسكره ويحضرها الْحَرْب فَكَانَت خيل الفرنج تجمح مِنْهَا
وَقدم يُوسُف بن تاشفين بن يَدَيْهِ كتابا للأذفونش يعرض عَلَيْهِ فِيهِ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب كَمَا هِيَ السّنة وَمن جملَة مَا فِي الْكتاب بلغنَا يَا أذفونش أَنَّك دَعَوْت الله فِي الإجتماع بِنَا وتمنيت أَن تكون لَك سفن تعبر عَلَيْهَا الْبَحْر إِلَيْنَا فقد عبرناه إِلَيْك وَقد جمع الله تَعَالَى فِي هَذِه الْعَرَصَة بَيْننَا وَبَيْنك وسترى عَاقِبَة دعائك وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال فَلَمَّا سمع الأذفونش مَا كتب إِلَيْهِ يُوسُف جاش بَحر غيظه وَزَاد فِي طغيانه واقسم أَن لَا يبرح من مَوْضِعه حَتَّى يلقاه
ولنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرَّوْض والمعطار قَالَ رَحمَه الله فَلَمَّا عبر يُوسُف وَجَمِيع جيوشه الْبَحْر إِلَى الخضراء نَهَضَ إِلَى إشبيلية على أحسن الهيئات جَيْشًا بعد جَيش وأميرا بعد أَمِير وقبيلا بعد قبيل وَبعث الْمُعْتَمد ابْنه إِلَى لِقَاء يُوسُف وَأمر عُمَّال الْبِلَاد بجلب الأقوات والضيافات وَرَأى يُوسُف مَا سره من ذَلِك ونشطه وتواردت الجيوش مَعَ أمرائها على إشبيلية
وَخرج الْمُعْتَمد إِلَى لِقَاء يُوسُف من إشبيلية فِي مائَة فَارس من وُجُوه أَصْحَابه فَلَمَّا أَتَى محلّة يُوسُف ركض نحوهم وركضوا نَحوه ثمَّ برز إِلَيْهِ(2/41)
يُوسُف وَحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وَأظْهر كل مِنْهُمَا لصَاحبه الْمَوَدَّة والخلوص وشكرا نعم الله وتواصيا بِالصبرِ وَالرَّحْمَة وبشرا أَنفسهمَا بِمَا استقبلاه من غَزْو أهل الْكفْر وتضرعا إِلَى الله فِي أَن يَجْعَل ذَلِك خَالِصا لوجهه مقربا إِلَيْهِ وافترقا فَعَاد يُوسُف لمحلته وَابْن عباد إِلَى جِهَته وَألْحق ابْن عباد مَا كَانَ أعده من هَدَايَا وتحف وضيافات أوسع بهَا على محلّة يُوسُف بن تاشفين
وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أَصْبحُوا وصلوا الصُّبْح ركب الْجَمِيع وَأَشَارَ ابْن عباد على يُوسُف بالتقدم نَحْو إشبيلية فَفعل وَرَأى النَّاس من عزة سلطانهم مَا سرهم وَلم يبْق من مُلُوك الطوائف بالأندلس إِلَّا من بَادر أَو أعَان وَكَذَلِكَ فعل الصحراويون مَعَ يُوسُف أهل كل صقع من أصقاعه رابطوا وكابدوا
وَكَانَ الأذفونش لما رأى اجْتِمَاع العزائم على مناجزته علم أَنه عَام نطاح فاستنفر الفرنجة لِلْخُرُوجِ وَرفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ فَاجْتمع لَهُ من الجلالقة والإفرنج مَا لَا يُحْصى عدده وجواسيس كل فريق تَتَرَدَّد من الْجَمِيع وَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد إِن صَاحبكُم يُوسُف قد تعنى بالمجيء من بِلَاده وخوض الْبَحْر وَأَنا أكفيه العناء فِيمَا بَقِي وَلَا أكلفكم تعبا أمضي إِلَيْكُم وألقاكم فِي بِلَادكُمْ رفقا بكم وتوفيرا عَلَيْكُم وَقَالَ لخاصته وَأهل مشورته إِنِّي رَأَيْت أَنِّي إِن أمكنتهم من الدُّخُول إِلَى بلادي فناجزوني فِيهَا وَبَين جدرها وَرُبمَا كَانَت الدائرة عَليّ يستحكمون الْبِلَاد ويحصدون من فِيهَا غَدَاة وَاحِدَة وَلَكِنِّي أجعَل يومهم معي فِي حوز بِلَادهمْ فَإِن كَانَت عَليّ اكتفوا بِمَا نالوه وَلم يجْعَلُوا الدروب وَرَاءَهُمْ إِلَّا بعد أهبة أُخْرَى فَيكون فِي ذَلِك صون لبلادي وجبر لمكاسري وَإِن كَانَت الدائرة عَلَيْهِم كَانَ مني فيهم وَفِي بِلَادهمْ مَا خفت أَن يكون فِي وَفِي بلادي إِذا ناجزوني فِي وَسطهَا
ثمَّ برز بالمختار من جُنُوده وأنجاد جموعه على بَاب دربه وَترك بَقِيَّة جموعه خَلفه وَقَالَ حِين نظر إِلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْهُم بهؤلاء أقَاتل الْجِنّ وَالْإِنْس وملائكة السَّمَاء فالمقلل يَقُول المختارون أَرْبَعُونَ ألف دارع(2/42)
وَلكُل وَاحِد أَتبَاع وَأما النَّصَارَى فيعجبون مِمَّن يزْعم ذَلِك ويرون أَنهم أَكثر من ذَلِك كُله
وَاتفقَ الْكل أَن عدد الْمُسلمين كَانَ أقل من عدد الْكفَّار وَرَأى الأذفونش فِي نَومه كَأَنَّهُ رَاكب فيلا وَبَين يَدَيْهِ طبل صَغِير وَهُوَ ينقر فِيهِ فَقص رُؤْيَاهُ على القسيسين فَلم يعرفوا تَأْوِيلهَا فأحضر رجلا مُسلما عَالما بتفسير الرُّؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَيْهِ فاستعفاه من تعبيرها فَلم يعفه فَقَالَ تَأْوِيل هَذِه الرُّؤْيَا من كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} إِلَى آخر السُّورَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير على الْكَافرين غير يسير} وَذَلِكَ يَقْتَضِي هَلَاك هَذَا الْجَيْش الَّذِي تجمعه فَلَمَّا اجْتمع جَيْشه وَرَأى كثرته أعجبه فأحضر ذَلِك الْمعبر وَقَالَ لَهُ بِهَذَا الْجَيْش ألْقى إِلَه مُحَمَّد صَاحب كتابكُمْ فَانْصَرف الْمعبر وَقَالَ لبَعض الْمُسلمين هَذَا الْملك هَالك وكل من مَعَه وَذكر الحَدِيث ثَلَاث مهلكات وَفِيه وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ
ثمَّ خرج الأذفونش إِلَى بِلَاد الأندلس وَتقدم السُّلْطَان يُوسُف نَحوه أَيْضا وَتَأَخر ابْن عباد لبَعض مهماته ثمَّ انزعج يقفو أَثَره بِجَيْش فِيهِ حماة الثغور ورؤساء الأندلس وَجعل ابْنه عبد الله على مقدمته وَسَار وَهُوَ ينشد متفائلا بِبَيْت سَائِر مجيزا لَهُ بِأَبْيَات من شعره
(لَا بُد من فرج قريب ... يَأْتِيك بالعجب العجيب)
(غَزْو عَلَيْك مبارك ... سيعود بِالْفَتْح الْقَرِيب)
(لله سعدك إِنَّه ... نكس على دين الصَّلِيب)
(لَا بُد من يَوْم يكون ... لَهُ أَخا يَوْم القليب)
ووافت الجيوش كلهَا بطليوس فأناخوا بظاهرها وَخرج إِلَيْهِم صَاحبهَا المتَوَكل عمر بن مُحَمَّد بن الْأَفْطَس فَلَقِيَهُمْ بِمَا يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود ثمَّ جَاءَهُم الْخَبَر بشخوص الأذفونش إِلَيْهِم
وَقَالَ ابْن أبي زرع ارتحل يُوسُف بن تاشفين من الخضراء قَاصِدا(2/43)
نَحْو الأذفونش وَقدم بَين يَدَيْهِ قائده أَبَا سُلَيْمَان دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال فِي عشرَة آلَاف فَارس من المرابطين بعد أَن قدم أَمَامه الْمُعْتَمد ابْن عباد مَعَ أُمَرَاء الأندلس وجيوشهم مِنْهُم ابْن صمادح صَاحب المرية وَابْن حبوس صَاحب غرناطة وَابْن مسلمة صَاحب الثغر الْأَعْلَى وَابْن ذِي النُّون وَابْن الْأَفْطَس وَغَيرهم فَأَمرهمْ يُوسُف أَن يَكُونُوا مَعَ الْمُعْتَمد فَتكون محلّة مُلُوك الأندلس وَاحِدَة ومحلة المرابطين أُخْرَى فَتقدم بهم ابْن عباد فَكَانُوا إِذا ارتحل ابْن عباد من مَوضِع نزله يُوسُف بمحلته فَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى نزلُوا مَدِينَة طرطوشة فأقاموا بهَا ثَلَاثًا وَكتب مِنْهَا يُوسُف إِلَى الأذفونش يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب وَكَانَ جَوَاب الأذفونش مَا تقدم ثمَّ ارتحل يُوسُف وارتحل الأذفونش حَتَّى نزلا مَعًا بِالْقربِ من بطليوس وَكَانَ نزُول يُوسُف بِموضع يعرف بالزلاقة وَتقدم الْمُعْتَمد فَنزل نَاحيَة أُخْرَى تحجز بَينه وَبَين يُوسُف ربوة وَبَين الْمُسلمين والفرنج نهر بطليوس حاجزا يشرب مِنْهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فأقاموا ثَلَاثَة أَيَّام وَالرسل تخْتَلف بَينهم إِلَى أَن وَقع اللِّقَاء على مَا نذكرهُ
وَلما ازدلف بَعضهم إِلَى بعض أذكى الْمُعْتَمد عيونه فِي محلات الصحراويين خوفًا عَلَيْهِم من مكايد الأذفونش إِذْ هم غرباء لَا علم لَهُم بالبلاد وَجعل يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ حَتَّى قيل إِن الرجل من الصحراويين كَانَ لَا يخرج إِلَى طرف الْمحلة لقَضَاء أَمر أَو حَاجَة إِلَّا ويجد ابْن عباد بِنَفسِهِ مطيفا بالمحلة بعد تَرْتِيب الْخَيل وَالرِّجَال على أَبْوَاب المحلات ثمَّ قَامَت الأساقفة والرهبان وَرفعُوا صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ وتبايعوا على الْمَوْت
وَوعظ يُوسُف وَابْن عباد أصحابهما وَقَامَ الْفُقَهَاء والصالحون فِي النَّاس مقَام الْوَعْظ وحضوهم على الصَّبْر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار
وَجَاءَت الطَّلَائِع تخبر أَن الْعَدو مشرف عَلَيْهِم صَبِيحَة يومهم وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء فَأصْبح الْمُسلمُونَ وَقد أخدوا مَصَافهمْ فكع الأذفونش وَرجع إِلَى(2/44)
أَعمال الْمَكْر والخديعة فَعَاد النَّاس إِلَى محلاتهم وَبَاتُوا ليلتهم ثمَّ أصبح يَوْم الْخَمِيس فَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد يَقُول غَدا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ عيدكم والأحد عيدنا فَلْيَكُن لقاؤنا بَينهمَا وَهُوَ يَوْم السبت فَعرف الْمُعْتَمد بذلك السُّلْطَان يُوسُف وأعلمه أَنَّهَا حِيلَة مِنْهُ وخديعة وَإِنَّمَا قَصده الفتك بِنَا يَوْم الْجُمُعَة فَلْيَكُن النَّاس على استعداد لَهُ يَوْم الْجُمُعَة كل النَّهَار وَيُقَال إِن الأذفونش واعدهم ليَوْم الْإِثْنَيْنِ وَبَات النَّاس ليلتهم على أهبة واحتراس كَمَا أَشَارَ ابْن عباد
وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل انتبه الْفَقِيه الناسك أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن رميلة الْقُرْطُبِيّ وَكَانَ فِي مَحَله ابْن عباد فَرحا مَسْرُورا يَقُول إِنَّه رآى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة فِي النّوم فبشره بِالْفَتْح وَالْمَوْت على الشَّهَادَة فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة فتأهب ودعا وتضرع ودهن رَأسه وتطيب وانْتهى ذَلِك إِلَى ابْن عباد فَبعث إِلَى يُوسُف يُخبرهُ بهَا تَحْقِيقا لما توقعه من غدر الْعَدو الْكَافِر ثمَّ جَاءَ بِاللَّيْلِ فارسان من طلائع الْمُعْتَمد يخبران أَنَّهُمَا أشرفا على محلّة الأذفونش وسمعا ضوضاء الْجَيْش وخشخشة السِّلَاح ثمَّ تلاحق بَقِيَّة الطَّلَائِع محققين لتحرك الأذفونش ثمَّ جَاءَت الجواسيس من دَاخل محلتهم تَقول استرقنا السّمع فسمعنا الأذفونش يَقُول لأَصْحَابه ابْن عباد مسعر هَذِه الحروب وَهَؤُلَاء الصحراويون وَإِن كَانُوا أهل حفاظ وَذَوي بصائر فِي الْحَرْب فهم غير عارفين بِهَذِهِ الْبِلَاد وَإِنَّمَا قادهم ابْن عباد فاهجموا عَلَيْهِ واصبروا لَهُ فَإِن انْكَشَفَ لكم هان عَلَيْكُم الصحراويون بعده وَلَا أرَاهُ يصبر لكم إِن صدقتموه الحملة فَعِنْدَ ذَلِك بعث ابْن عباد الْكَاتِب أَبَا بكر بن القصيرة إِلَى السُّلْطَان يُوسُف يعرفهُ بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فَمضى ابْن القصيرة يطوي المحلات حَتَّى جَاءَ يُوسُف بن تاشفين فَعرفهُ بجلية الْأَمر فَقَالَ لَهُ قل لَهُ إِنِّي سَائِر إِلَيْك إِن شَاءَ الله وَأمر يُوسُف بعض قواده أَن يمْضِي بكتيبة رسمها لَهُ حَتَّى يدْخل محلّة النَّصَارَى فيضرمها نَارا مَا دَامَ الأذفونش مشتغلا مَعَ ابْن عباد(2/45)
وَانْصَرف ابْن القصيرة إِلَى الْمُعْتَمد فَلم يصله إِلَّا وَقد غَشيته جنود الطاغية فصدم ابْن عباد صدمة قطعت آماله وَمَال الأذفونش عَلَيْهِ بجموعه وَأَحَاطُوا بِهِ من كل جِهَة فهاجت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس واستحر الْقَتْل فِي أَصْحَاب ابْن عباد وصبر صبرا لم يعْهَد مثله واستبطأ السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ يُلَاحظ طَرِيقه وعضته الْحَرْب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه الْبلَاء وَسَاءَتْ الظنون وانكشف الْبَعْض مِنْهُم وَفِيهِمْ ابْنه عبد الله بن الْمُعْتَمد وأثخن هُوَ جراحات فِي رَأسه وبدنه وعقرت تَحْتَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم ثَلَاث أَفْرَاس كلما هلك وَاحِد قدم لَهُ آخر وتذكر فِي تِلْكَ الْحَالة ابْنا لَهُ صَغِيرا يكنى أَبَا هَاشم وَكَانَ قد تَركه بإشبيلية عليلا فَقَالَ
(أَبَا هَاشم هشمتني الشفار ... فَللَّه صبري لذَلِك الأوار)
(ذكرت شخيصك تَحت العجاج ... فَلم يثنني ذكره للفرار)
ثمَّ كَانَ أول من وافى ابْن عباد من قواد يُوسُف بن تاشفين دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا شهما فَنَفْس بمجيئه على ابْن عباد ثمَّ أقبل يُوسُف بعد ذَلِك وطبوله قد مَلَأت أصواتها الجو فَلَمَّا أبصره الأذفونش وَجه حَملته إِلَيْهِ وقصده بمعظم جُنُوده فبادر إِلَيْهِم السُّلْطَان يُوسُف وصدمهم صدمة ردتهم إِلَى مركزهم وانتظم بِهِ شَمل ابْن عباد واستنشق النَّاس ريح الظفر وتباشروا بالنصر ثمَّ صدقُوا جَمِيعًا الحملة فزلزلت الأَرْض من حوافر الْخَيل وأظلم النَّهَار بالعجاج وخاضت الْخَيل فِي الدِّمَاء وصبر الْفَرِيقَانِ صبرا عَظِيما
ثمَّ تراجع ابْن عباد إِلَى يُوسُف وَحمل مَعَه حَملَة مَعهَا النَّصْر وتراجع المنهزمون من أَصْحَاب ابْن عباد حِين علمُوا بالتحام الفئتين وَصَدقُوا الحملة فانكشف الطاغية وَمر هَارِبا مُنْهَزِمًا وَقد طعن فِي إِحْدَى رُكْبَتَيْهِ طعنة بَقِي يخمع بهَا بَقِيَّة عمره قَالُوا وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين على فرس يَوْمئِذٍ أُنْثَى يمر بَين ساقات الْمُسلمين وصفوفهم يحرضهم وَيُقَوِّي نُفُوسهم على الْجِهَاد ويحضهم على الصَّبْر فقاتل النَّاس ذَلِك الْيَوْم قتال من يطْلب الشَّهَادَة ويرغب فِي الْمَوْت(2/46)
وعَلى سِيَاق ابْن خلكان إِن ابْن تاشفين نزل على أقل من فَرسَخ من عَسْكَر الْعَدو فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء وَكَانَ الْموعد بالمناجزة يَوْم السبت فغدر الأذفونش ومكر فَلَمَّا كَانَ سحر يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب أَقبلت طلائع ابْن عباد وَالروم فِي أَثَرهَا وَالنَّاس على طمأنينة فبادر ابْن عباد للرُّكُوب وانبث الْخَبَر فِي العساكر فماجت بِأَهْلِهَا ورجفت الأَرْض وَصَارَت النَّاس فوضى على غير تعبئة وَلَا أهبة ودهمتهم خيل الْعَدو فغمرت ابْن عباد وحطمت مَا تعرض لَهَا وَتركت الأَرْض حصيدا خلفهَا وصرع ابْن عباد وأصابه جرح اشواه وفر رُؤَسَاء الأندلس وَأَسْلمُوا محلاتهم وظنوا أَنه وَهِي لَا يرقع ونازلة لَا تدفع وَظن الأذفونش أَن أَمِير الْمُسلمين فِي المنهزمين وَلم يعلم أَن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين فَتقدم أَمِير الْمُسلمين وَأَحْدَقَتْ بِهِ أنجاد خيله وَرِجَاله من صنهاجة ورؤساء الْقَبَائِل وقصدوا محلّة الأذفونش فاقتحموها وَقتلُوا حاميتها وَضربت الطبول وزعقت البوقات الأَرْض وتجاوبت الْجبَال والآفاق وتراجع الرّوم إِلَى محلتهم بعد أَن علمُوا أَن أَمِير الْمُسلمين فِيهَا فقصدوه فأفرج لَهُم عَنْهَا ثمَّ كرّ عَلَيْهِم فَأخْرجهُمْ مِنْهَا ثمَّ كروا عَلَيْهِ فأفرج لَهُم عَنْهَا وَلم تزل الكرات بَينهم تتوالى إِلَى أَن أَمر أَمِير الْمُسلمين حشمه السودَان فترجل مِنْهُم زهاء أَرْبَعَة آلَاف ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الْهِنْد ومزاريق الزان فخالطوا الْخَيل وطعنوها فرمحت بفرسانها وأحجمت عَن أقرانها وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فَأَهوى ليضربه بِالسَّيْفِ فلصق بِهِ الْأسود وَقبض على عنانه وانتضى خنجرا كَانَ متمنطقا بِهِ فأثبته فِي فَخذه فهتك حلق درعه وَشك فَخذه مَعَ بداد سَرْجه وَكَانَ وَقت الزَّوَال يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وهبت ريح النَّصْر فَأنْزل الله سكينته على الْمُسلمين وَنصر دينه القويم وَصَدقُوا الحملة على الأذفونش وَأَصْحَابه فأخرجوهم عَن محلتهم فَوَلوا ظُهُورهمْ وأعطوا أقفاءهم وَالسُّيُوف تصفعهم والرماح تطعنهم إِلَى أَن لَحِقُوا بِرَبْوَةٍ لجؤوا إِلَيْهَا واعتصموا بهَا وَأَحْدَقَتْ بهم الْخَيل فَلَمَّا أظلم اللَّيْل انساب الأذفونش وَأَصْحَابه من الربوة وأفلتوا من بعد مَا نشبت فيهم أظفار الْمنية وَاسْتولى(2/47)
الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ فِي محلتهم من الأثاث والآنية وَالْمُضَارب والأسلحة وَغير ذَلِك وَأمر ابْن عباد بِضَم رُؤُوس قَتْلَى الْمُشْركين فأجتمع من ذَلِك تل عَظِيم
وَقَالَ صَاحب الرَّوْض المعطار لَجأ الأذفوش إِلَى تل كَانَ يَلِي محلته فِي نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مَا مِنْهُم إِلَّا مكلوم وأباد الْقَتْل والأسر من عداهم من أَصْحَابه وَعمل الْمُسلمُونَ من رؤوسهم مآذن يُؤذنُونَ عَلَيْهَا والمخذول ينظر إِلَى مَوضِع الوقيعة وَمَكَان الْهَزِيمَة فَلَا يرى إِلَّا نكالا محيطا بِهِ وبأصحابه
وَأَقْبل ابْن عباد على السُّلْطَان يُوسُف وَصَافحهُ وهنأه وشكره وَأثْنى عَلَيْهِ وشكر يُوسُف صَبر ابْن عباد ومقامه وَحسن بلائه وَسَأَلَهُ عَن حَاله عِنْدَمَا أسملته رِجَاله بانهزامهم عَنهُ فَقَالَ لَهُ هَا هم هَؤُلَاءِ قد حَضَرُوا بَين يَديك فليخبروك
وَكتب ابْن عباد إِلَى ابْنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هَذَا إِلَيْك من الْمحلة المنصورة يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب وَقد أعز الله الدّين وَنصر الْمُسلمين وَفتح لَهُم الْفَتْح الْمُبين وَهزمَ الْكَفَرَة الْمُشْركين وأذاقهم الْعَذَاب الْأَلِيم والخطب الجسيم فَالْحَمْد لله على مَا يسره وسناه من هَذِه المسرة الْعَظِيمَة وَالنعْمَة الجسيمة فِي تشتيت شَمل الأذفونش والإحتواء على جَمِيع عساكره أصلاه الله نكال الْجَحِيم وَلَا أعدمه الوبال الْعَظِيم بعد إتْيَان النهب على محلاته واستئصال الْقَتْل بِجَمِيعِ أبطاله وحماته حَتَّى اتخذ الْمُسلمُونَ من هاماتهم صوامع يُؤذنُونَ عَلَيْهَا فَللَّه الْحَمد على جميل صنعه وَلم يُصِبْنِي وَالْحَمْد لله إِلَّا جراحات يسيرَة آلمت لَكِنَّهَا قرحت بعد ذَلِك فَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَالسَّلَام
وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء مثل ابْن رميلة صَاحب الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة وقاضي مراكش أبي مَرْوَان عبد الْملك المصمودي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع(2/48)
وَحكي أَن مَوضِع المعترك كَانَ على اتساعه مَا فِيهِ مَوضِع قدم إِلَّا على ميت أَو دم وأقامت العساكر بالموضع أَرْبَعَة أَيَّام حَتَّى جمعت الْغَنَائِم واستؤذن فِي ذَلِك السُّلْطَان يُوسُف فعف عَنْهَا وآثر بهَا مُلُوك الأندلس وعرفهم أَن مَقْصُوده الْجِهَاد وَالْأَجْر الْعَظِيم وَمَا عِنْد الله فِي ذَلِك من الثَّوَاب الْمُقِيم فَلَمَّا رَأَتْ مُلُوك الأندلس إِيثَار يُوسُف لَهُم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا لَهُ صنعه وَأمر أَمِير الْمُسلمين بِقطع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجَمعهَا فَقطعت وَجمع بَين يَدَيْهِ مِنْهَا أَمْثَال الْجبَال فَبعث مِنْهَا إِلَى إشبيلية عشرَة آلَاف رَأس وَإِلَى قرطبة مثل ذَلِك وَإِلَى بلنسية مثلهَا وَإِلَى سرقسطة ومرسية مثلهَا وَبعث إِلَى بِلَاد العدوة أَرْبَعِينَ ألف رَأس فقسمت على مدن العدوة ليراها النَّاس فيشكروا الله على مَا منحهم من النَّصْر وَالظفر الْعَظِيم
قَالَ ابْن أبي زرع وَفِي هَذَا الْيَوْم تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وَلم يكن يدعى بِهِ قبل ذَلِك وَأظْهر الله تَعَالَى الْإِسْلَام وأعز أَهله وَكتب أَمِير الْمُسلمين بِالْفَتْح إِلَى بِلَاد العدوة وَإِلَى تَمِيم بن الْمعز الصنهاجي صَاحب إفريقية فعمت المفرحات فِي جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس وَاجْتمعت كلمة الْإِسْلَام وَأخرج النَّاس الصَّدقَات وأعتقوا الرّقاب شكرا لله تَعَالَى
وَلما بلغ الأذفونش إِلَى بِلَاده وَسَأَلَ عَن أَصْحَابه وأبطاله ففقدهم وَلم يسمع إِلَّا نواح الثكالى عَلَيْهِم اغتم وَلم يَأْكُل وَلم يشرب حَتَّى هلك أسفا وغما وَرَاح إِلَى أمه الهاوية وَلم يخلف إِلَّا بِنْتا وَاحِدَة جعل الْأَمر إِلَيْهَا فتحصنت بطليطلة
ورحل الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَمَعَهُ السُّلْطَان يُوسُف بن تاشفين فَأَقَامَ يُوسُف بِظَاهِر إشبيلية ثَلَاثَة أَيَّام وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بوفاة وَلَده ابي بكر بن يُوسُف وَكَانَ قد تَركه مَرِيضا بسبتة فَاغْتَمَّ لذَلِك وَانْصَرف رَاجعا إِلَى العدوة وَذهب مَعَه ابْن عباد يَوْمًا وَلَيْلَة فعزم عَلَيْهِ يُوسُف فِي الرُّجُوع إِلَى منزله وَكَانَت جراحاته قد تورمت عَلَيْهِ فسير مَعَه وَلَده عبد الله إِلَى أَن وصل الْبَحْر وَعبر إِلَى الْمغرب(2/49)
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين عِنْد مَجِيئه إِلَى بِلَاد الأندلس وقصده ملاقاة الأذفونش قد تحرى الْمسير بالعراء من غير أَن يمر بِمَدِينَة أَو رستاق حَتَّى نزل الزلاقة تجاه الأذفونش وَهُنَاكَ اجْتمع بعساكر الأندلس قَالَه ابْن خلكان
وَلما فرغ من الْوَقْعَة رَجَعَ عوده على بدئه كل ذَلِك تورع مِنْهُ وتكرم وَتَخْفِيف عَن الرعايا رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَلما رَجَعَ ابْن عباد إِلَى إشبيلية جلس للنَّاس وهنىء بِالْفَتْح وقرأت الْقُرَّاء وَقَامَت على رَأسه الشُّعَرَاء فأنشدوه قَالَ عبد الْجَلِيل بن وهبون حضرت ذَلِك الْيَوْم وأعددت قصيدة أنشدها بَين يَدَيْهِ فَقَرَأَ قارىء {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} فَقلت بعدا لي ولشعري وَالله مَا أبقت لي هَذِه الْآيَة معنى أحضرهُ وأقوم بِهِ اه
وَمن هُنَا اخْتلفت أَقْوَال المؤرخين فِي حَال أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد فَقيل إِنَّه لم يرجع إِلَى بِلَاد الأندلس بعد هَذِه الْمرة لكنه ترك قواده فِيهَا ورسم لَهُم بِالْجِهَادِ وَشن الغارات على بِلَاد الْعَدو وَقيل إِنَّه عَاد إِلَيْهَا ثَانِيًا وثالثا وعَلى هَذَا القَوْل فَاخْتَلَفُوا فِي زمَان ذَلِك الْعود وتاريخه وَالله تَعَالَى أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد وَمَا اتّفق لَهُ مَعَ مُلُوك الأندلس وَكَبِيرهمْ ابْن عباد
أعلم أَن أَقْوَال المؤرخين اخْتلفت فِي أَمر يُوسُف بن تاشفين بعد غَزْوَة الزلاقة فَحكى ابْن خلكان وَغَيره أَن أَمِير الْمُسلمين لما عزم على النهوض إِلَى بِلَاد الْمغرب ترك قائده سير بن أبي بكر اللمتوني بِأَرْض الأندلس وَخلف مَعَه جَيْشًا برسم غَزْو الفرنج فاستراح سير بن أبي بكر أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ دخل بِلَاد الأذفونش وَشن الغارات فنهب وَقتل وسبى وَفتح الْحُصُون المنيعة والمعاقل الصعبة وتوغل فِي بِلَاد الْعَدو وَحصل على أَمْوَال جليلة وذخائر عَظِيمَة ورتب رجَالًا وفرسانا فِي جَمِيع مَا استولى عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى السُّلْطَان يُوسُف(2/50)
بِجَمِيعِ مَا حصله وَكتب إِلَيْهِ يعرفهُ أَن الجيوش بالثغور مُقِيمَة على مكابدة الْعَدو وملازمة الْحَرْب والقتال فِي أضيق عَيْش وأنكده وملوك الأندلس فِي بِلَادهمْ وأهليهم فِي أرغد عَيْش وأطيبه وَسَأَلَهُ مرسومه فَكتب إِلَيْهِ أَن يَأْمُرهُم بالنقلة والرحيل إِلَى أَرض العدوة فَمن فعل فَذَاك وَمن أَبى فحاصره وقاتله وَلَا تنفس عَلَيْهِ ولتبدأ بِمن والى الثغور مِنْهُم وَلَا تتعرض لِابْنِ عباد إِلَّا بعد استيلائك على الْبِلَاد وكل بلد أَخَذته فول عَلَيْهِ أَمِيرا من عسكرك فامتثل سير بن أبي بكر أمره واستنزلهم وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى كَانَ آخِرهم ابْن عباد فألحقه بهم ونظمه فِي سلكهم على مَا نذكرهُ
وَقَالَ ابْن أبي زرع لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي برسم الْجِهَاد قَالَ وَسبب جَوَازه أَن الأذفونش لَعنه الله لما هزم وجرح وَقتلت جموعه عمد إِلَى حصن لبيط الموَالِي لعمل ابْن عباد فشحنه بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال وَالرُّمَاة وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا ينزلون من الْحصن الْمَذْكُور فيغيرون فِي أَطْرَاف بِلَاد ابْن عباد دون سَائِر بِلَاد الأندلس إِذْ كَانَ السَّبَب فِي جَوَاز أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس فَكَانُوا ينزلون من الْحصن فِي الْخَيل وَالرجل فيغيرون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ قد جعلُوا ذَلِك وَظِيفَة عَلَيْهِم فِي كل يَوْم فسَاء ابْن عباد ذَلِك وضاق بِهِ ذرعا ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى العدوة مستنفرا لأمير الْمُسلمين فَلَقِيَهُ بالمعمورة من حلق وَادي سبو وَهَذِه المعمورة هِيَ الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالمهدية من أحواز سلا فَشَكا إِلَيْهِ حصن لبيط وَمن يلقاه الْمُسلمُونَ من أَهله فوعده الْجَوَاز إِلَيْهِ فَرجع الْمُعْتَمد
وَسَار يُوسُف فِي أَثَره فَركب الْبَحْر من قصر الْمجَاز إِلَى الخضراء فَتَلقاهُ ابْن عباد بهَا بِأَلف دَابَّة تحمل الْميرَة والضيافة فَلَمَّا نزل يُوسُف بالخضراء كتب مِنْهَا إِلَى أُمَرَاء الأندلس يَدعُوهُم إِلَى الْجِهَاد وَقَالَ لَهُم الْموعد بَيْننَا وَبَيْنكُم حصن لبيط ثمَّ تحرّك يُوسُف من الخضراء وَذَلِكَ فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل على حصن لبيط وَفِي الْقَامُوس لبطيط(2/51)
كزنبيل بلد بالجزيرة الخضراء الأندلسية وَلَعَلَّه هُوَ هَذَا فَلَمَّا نزله أَمِير الْمُسلمين لم يَأْته مِمَّن كتب إِلَيْهِ من أُمَرَاء الأندلس غير ابْن عبد الْعَزِيز صَاحب مرسية وَابْن عباد صَاحب إشبيلية فنازلا مَعَه الْحصن وشرعوا فِي الْقِتَال والتضييق عَلَيْهِ
وَكَانَ يُوسُف رَحمَه الله يَشن الغارات على بِلَاد الفرنج كل يَوْم ودام الْحصار على الْحصن أَرْبَعَة أشهر لم يَنْقَطِع الْقِتَال فِيهَا يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى أَن دخل فصل الشتَاء وَوَقع بَين ابْن عبد الْعَزِيز وَابْن عباد نزاع وَشَنَآن فَشَكا الْمُعْتَمد إِلَى أَمِير الْمُسلمين ابْن عبد الْعَزِيز فَقبض عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وأسلمه إِلَى ابْن عباد فاختل أَمر الْمحلة بِسَبَب ذَلِك وفر جَيش ابْن عبد الْعَزِيز وقواده عَنْهَا وَقَطعُوا الْميرَة عَن الْمحلة وَوَقع بهَا الغلاء
وَلما علم الأذفونش بذلك حشد أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَقصد إِلَى حماية الْحصن فِي أُمَم لَا تحصى فَلَمَّا قرب من الْحصن انحرف لَهُ يُوسُف عَنهُ إِلَى نَاحيَة لورقة ثمَّ إِلَى المرية ثمَّ جَازَ إِلَى العدوة وَقد تغير على أُمَرَاء الأندلس لكَونه لم يَأْته مِنْهُم أحد عِنْدَمَا دعاهم إِلَى الْجِهَاد ومنازلة الْحصن
وَلما أفرج أَمِير الْمُسلمين عَن الْحصن الْمَذْكُور أقبل الأذفونش حَتَّى نزل عَلَيْهِ فأخلاه مِمَّا كَانَ فِيهِ من آلَة الْحصار ومادته وَأخرج من كَانَ فِيهِ من بَقِيَّة النَّصَارَى المنفلتين من مخالب الْمنية وَعَاد إِلَى طليطلة فاستولى ابْن عباد عَلَيْهِ بعد خلائه وفناء جَمِيع حماته بِالْقَتْلِ والجوع سوى تِلْكَ الصبابة المنفلتة
وَكَانَ فِيهِ عِنْدَمَا نازله أَمِير الْمُسلمين اثْنَا عشر ألف مقَاتل دون الْعِيَال والذرية فَأتى عَلَيْهِم الْقَتْل والجوع حَتَّى لم يبْق فِيهِ سوى نَحْو الْمِائَة وهم المنفلتون مِنْهُ عِنْد إخلائه
ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّالِث برسم الْجِهَاد فَسَار حَتَّى نزل على طليطلة وحاصر بهَا الأذفونش وَشن الغارات بأطرافها فاكتسحها وانتسف ثمارها وزروعها(2/52)
وَخرب عمرانها وَقتل وسبى وَلم يَأْته من مُلُوك الأندلس أحد وَلَا عرج عَلَيْهِ مِنْهُم معرج فَغَاظَهُ ذَلِك
وَلما قفل من غَزْو طليطلة عمد إِلَى غرناطة فنازلها وَكَانَ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس قد صَالح الأذفونش وَظَاهره على أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَيْهِ بِمَال واشتغل بتحصين بَلَده وَفِي ذَلِك يَقُول بعض شعراء عصره
(يَبْنِي على نَفسه سفاها ... كَأَنَّهُ دودة الْحَرِير)
(دَعوه يَبْنِي فَسَوف يدْرِي ... إِذا أَتَت قدرَة الْقَدِير)
وَلما انْتهى أَمِير الْمُسلمين إِلَى غرناطة تحصن مِنْهُ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأغلق أَبْوَابهَا دونه فحاصره أَمِير الْمُسلمين نَحْو شَهْرَيْن وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار أرسل يطْلب الْأمان فَأَمنهُ أَمِير الْمُسلمين وتسلم مِنْهُ الْبِلَاد فملكها وَبعث بِعَبْد الله وأخيه تَمِيم بن بلكين صَاحب مالقة إِلَى مراكش مَعَ حريمهما وأولادهما فأقاما بهَا وأجرى عَلَيْهِمَا الْإِنْفَاق إِلَى أَن مَاتَا بهَا
وَلما خلع أَمِير الْمُسلمين بني باديس وَملك غرناطة ومالقة وَمَا أضيف إِلَيْهِمَا خَافَ مِنْهُ الْمُعْتَمد ابْن عباد وانقبض عَنهُ وَيُقَال إِن ابْن عباد طمع فِي غرناطة وَأَن أَمِير الْمُسلمين يُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَعرض لَهُ بذلك فَأَعْرض عَنهُ أَمِير الْمُسلمين فخاف ابْن عباد مِنْهُ وَعمل على الْخُرُوج عَلَيْهِ ثمَّ سعى بَينهمَا الوشاة فَتغير عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وَعبر إِلَى العدوة فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة
وَلما انْتهى إِلَى مراكش ولى على الأندلس قائده سير بن أبي بكر اللمتوني وفوض إِلَيْهِ جَمِيع أمورها كلهَا وَلم يَأْمُرهُ فِي ابْن عباد بِشَيْء فَسَار سير بن أبي بكر نَحْو إشبيلية وَهُوَ يظنّ أَن ابْن عباد إِذا سمع بِهِ يخرج إِلَيْهِ ويتلقاه على بعد وَيحمل إِلَيْهِ الضيافات على الْعَادة فَلم يفعل وتحصن مِنْهُ وَلم يتلفت إِلَيْهِ فراسله سير بن أبي بكر أَن يسلم إِلَيْهِ الْبِلَاد وَيدخل فِي طَاعَة(2/53)
أَمِير الْمُسلمين فَامْتنعَ ابْن عباد فَعِنْدَ ذَلِك تقدم سير إِلَى حصاره وقتاله وَبعث بعض قواده إِلَى قرطبة ليحاصرها وَبهَا يَوْمئِذٍ الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ابْن عباد فنازلها فِي عَسَاكِر المرابطين حَتَّى فتحهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقتل صَاحبهَا الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ثمَّ فتح بياسة وأبدة وحصن البلاط والمدور والصخيرة وشقورة وَلم ينْقض شهر صفر الْمَذْكُور حَتَّى لم يبْق لِابْنِ عباد بلد إِلَّا وَقد ملكه المرابطون مَا عدا قرمونة وإشبيلية ثمَّ ارتحل سير بن أبي بكر إِلَى قرمونة فنازلها حَتَّى دَخلهَا عنْوَة زَوَال يَوْم السبت السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَاشْتَدَّ الْأَمر على ابْن عباد وَطَالَ عَلَيْهِ الْحصار فَبعث إِلَى الأذفونش لَعنه الله يستغيث بِهِ على لمتونة ويعده بِإِعْطَاء الْبِلَاد ويذل الطارف والتلاد إِنَّه هُوَ كشف عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ من الْحصار فَبعث إِلَيْهِ الأذفونش قائده القومس فِي جَيش من عشْرين ألف فَارس وَأَرْبَعين ألف راجل
فَلَمَّا علم سير بقدوم الفرنج إِلَيْهِ انتخب من جَيْشه عشرَة آلَاف فَارس من أهل الشجَاعَة والنجدة وَقدم عَلَيْهِم إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق اللمتوني وَبَعثه للقاء الفرنج فَالتقى الْجَمْعَانِ بِالْقربِ من حصن المدور فَكَانَت بَينهم حروب شَدِيدَة مَاتَ فِيهَا خلق كثير من المرابطين ومنحهم الله النَّصْر فهزموا الفرنج وقتلوهم حَتَّى لم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل
ثمَّ شدّ سير بن أبي بكر فِي الْحصار والتضييق على إشبيلية حَتَّى اقتحمها عنْوَة وَقبض على الْمُعْتَمد وَجَمَاعَة من أهل بَيته فقيدهم وَحَملهمْ فِي السفين بنهر إشبيلية وَبعث بهم إِلَى أَمِير الْمُسلمين بمراكش فَأمر أَمِير الْمُسلمين بإرسال الْمُعْتَمد إِلَى مَدِينَة أغمات فسجن بهَا وَاسْتمرّ فِي السجْن إِلَى أَن مَاتَ بِهِ لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ دُخُول سير بن أبي بكر مَدِينَة إشبيلية يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة(2/54)
ثمَّ ملك المرابطون بعد ذَلِك مَا بَقِي من بِلَاد الأندلس إِلَى أَن خلصت لَهُم وَلم يبْق لملوك الطوائف بهَا ذكر وَهَذِه الْأَخْبَار نقلناها عَن ابْن أبي زرع ممزوجة باليسير من كَلَام غَيره واعتمدنا كَلَامه لِأَنَّهُ مَوْضُوع بِالْقَصْدِ الأول لأحبار الْمغرب فَيكون أعنى بِهِ من غَيره
وَفِي تَارِيخ ابْن خلدون بعض مُخَالفَة لما مر قَالَ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْبَحْر إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتثاقل أُمَرَاء الطوائف عَن لِقَائِه لما أحسوا من نكيره عَلَيْهِم لما يسمون بِهِ رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فَوجدَ عَلَيْهِم وعهد بِرَفْع المكوس وتحرى المعدلة وَقَالَ أَيْضا إِن الْفُقَهَاء بالأندلس طلبُوا من يُوسُف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عَنْهُم فَتقدم بذلك إِلَى مُلُوك الطوائف فَأَجَابُوهُ بالامتثال حَتَّى إِذا رَجَعَ عَن بِلَادهمْ رجعُوا إِلَى حَالهم فَلَمَّا أجَاز ثَانِيَة انقبضوا عَنهُ إِلَّا ابْن عباد فَإِنَّهُ بَادر إِلَى لِقَائِه وأغراه بالكثير مِنْهُم فتقبض على ابْن رَشِيق الْبناء وَأمكن ابْن عباد مِنْهُ للعداوة الَّتِي بَينهمَا وَبعث جَيْشًا إِلَى المرية ففر عَنْهَا صَاحبهَا ابْن صمادح وَنزل بجاية من أَرض إفريقية وتوافق مُلُوك الطوائف على قطع المدد عَن عَسَاكِر أَمِير الْمُسلمين ومحلاته فسَاء نظره وَأَفْتَاهُ الْفُقَهَاء وَأهل الشورى من الْمغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الْأَمر من أَيْديهم وسارت إِلَيْهِ بذلك فَتَاوَى أهل الْمشرق الْأَعْلَام مثل الْغَزالِيّ والطرطوشي وَغَيرهمَا
فَعمد إِلَى غرناطة واستنزل صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأخاه تميما عَن مالقة بعد أَن كَانَ مِنْهُمَا مداخلة للطاغية فِي عَدَاوَة يُوسُف بن تاشفين وَبعث بهما إِلَى الْمغرب فخاف ابْن عباد عِنْد ذَلِك مِنْهُ وانقبض عَن لِقَائِه وفشت السعايات بَينهم ونهض أَمِير الْمُسلمين إِلَى سبتة فاستقر بهَا وَعقد للأمير سير بن أبي بكر على الأندلس وَأَجَازَهُ فَانْتهى إِلَيْهَا وَقعد ابْن عباد عَن تلقيه وميرته فأحفظه ذَلِك وطالبه بِالطَّاعَةِ لأمير الْمُسلمين وَالنُّزُول عَن الْأَمر ففسد ذَات بَينهمَا ثمَّ غَلبه على جَمِيع عمله ثمَّ صَمد إِلَى إشبيلية فحاصره بهَا واستنجد الطاغية فَعمد إِلَى استنقاذه من هَذَا الْحصار فَلم يغن(2/55)
عَنهُ شَيْئا وَكَانَ دفاع لمتونة مِمَّا فت فِي عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عنْوَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتقبض سير على الْمُعْتَمد وقاده أَسِيرًا إِلَى مراكش فَلم يزل فِي اعتقال يُوسُف بن تاشفين إِلَى أَن هلك فِي محبسه من أغمات سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة
ثمَّ عمد إِلَى بطليوس وتقبض على صَاحبهَا عمر بن الْأَفْطَس فَقتله وابنيه يَوْم الْأَضْحَى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بِمَا صَحَّ عِنْده من مداخلتهم الطاغية وَأَن يملكهُ مَدِينَة بطليوس
ورثاهم ألأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْمجِيد بن عبدون بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يَقُول فِي أَولهَا
(الدَّهْر يفجع بعد الْعين بالأثر ... فَمَا الْبكاء على الأشباح والصور)
وَهِي قصيدة غَرِيبَة فِي منوالها وموضوعها عدد فِيهَا أهل النكبات وَمن عثر بِهِ الزَّمَان بِمَا يبكي مِنْهُ الجماد وتستشرف لسماعه الأنجاد والوهاد
ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الثَّالِث إِلَى الأندلس سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وزحف إِلَيْهِ الطاغية فَبعث أَمِير الْمُسلمين عَسَاكِر المرابطين لنظر مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني فَانْهَزَمَ النَّصَارَى أَمَامه وَكَانَ الظُّهُور للْمُسلمين
ثمَّ أجَاز الْأَمِير يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين سنة ثَلَاث وَتِسْعين وانضم إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحَاج وسير بن أبي بكر فافتتحوا عَامَّة الأندلس من أَيدي مُلُوك الطوائف وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا سرقسطة فِي يَد المستعين بن هود معتصما بالنصارى وأغزى الْأَمِير مزدلي صَاحب بلنسية إِلَى بِلَاد برشلونة فأثخن فِيهَا وَبلغ إِلَى حَيْثُ لم يبلغ أحد قبله وَرجع وانتظمت بِلَاد الأندلس فِي ملكة يُوسُف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف مِنْهَا أجمع كَانَ لم يكن وَاسْتولى أَمِير الْمُسلمين على العدوتين مَعًا واتصلت هزائم المرابطين على الفرنج مرَارًا وَالله غَالب على أمره فَهَذَا كَلَام ابْن خلدون فِي سِيَاقه هَذِه الْأَخْبَار(2/56)
وَاعْلَم أَنه قد يُوجد هُنَا لبَعض المؤرخين حط من رُتْبَة أَمِير الْمُسلمين وغض عَلَيْهِ إِمَّا فِي كَونه كَانَ بربريا من أهل الصَّحرَاء بَعيدا عَن مناحي الْملك وَالْأَدب ورقة الْحَاشِيَة وَإِمَّا فِي كَونه تحامل على مُلُوك الأندلس حَتَّى فعل بهم مَا فعل وَذَلِكَ حِين عاين حسن بِلَادهمْ ورفاهية عيشهم
وَاعْلَم أَن هَذَا الْكَلَام جدير بِالرَّدِّ وَأَصله من بعض أدباء الأندلس الَّذين كَانُوا ينادمون مُلُوكهَا ويستظلون بظلهم ويغدون وَيَرُوحُونَ فِي نعمتهم فحين فعل أَمِير الْمُسلمين بسادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ مَا فعل أَخذهم من ذَلِك مَا يَأْخُذ النُّفُوس البشرية من الذب عَن الصّديق والمحاماة عَن الْقَرِيب حَتَّى بِاللِّسَانِ وَإِلَّا فقد كَانَ أَمِير الْمُسلمين رَحمَه الله من الدّين والورع على مَا قد علمت وَمن ركُوب الجادة وتحري طَرِيق الْحق على الْوَصْف الَّذِي سَمِعت
وَهَذَا ابْن خلدون إِمَام الْفَنّ ومتحري الصدْق قد نقل أَن مُلُوك الأندلس كَانُوا يظْلمُونَ رعاياهم بِضَرْب المكوس وَغَيرهَا ثمَّ وصلوا أَيْديهم بالطاغية وبذلوا لَهُ الْأَمْوَال فِي مظاهرته إيَّاهُم على أَمِير الْمُسلمين ثمَّ لم يقدم على قِتَالهمْ واستنزالهم عَن سَرِير ملكهم حَتَّى تعدّدت لَدَيْهِ فَتَاوَى الْأَئِمَّة الْأَعْلَام من أهل الْمشرق وَالْمغْرب بذلك فَافْهَم هَذَا واعرفه وَالله تَعَالَى يُقَابل الْجَمِيع بِالْعَفو والصفح الْجَمِيل بمنه وَكَرمه
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سوى مَا تقدم
قَالَ ابْن خلكان كَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين حازما سائسا للأمور ضابطا لمصَالح مَمْلَكَته مؤثرا لأهل الْعلم وَالدّين كثير المشورة لَهُم قَالَ وَبَلغنِي أَن الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ رَحمَه الله لما سمع مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْأَوْصَاف الحميدة وميله إِلَى أهل الْعلم عزم إِلَى(2/57)
التَّوَجُّه إِلَيْهِ فوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَشرع فِي تجهيز مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فجَاء إِلَيْهِ الْخَبَر بوفاته فَرجع عَن ذَلِك الْعَزْم قَالَ وَكنت وقفت على هَذَا الْفَصْل فِي بعض الْكتب وَقد ذهب عني فِي هَذَا الْوَقْت من أَيْن وجدته
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف معتدل الْقَامَة أسمر اللَّوْن نحيف الْجِسْم خَفِيف العارضين دَقِيق الصَّوْت
وَكَانَ يخْطب لبني الْعَبَّاس وَهُوَ أول من تسمى بأمير الْمُسلمين وَلم يزل على حَاله وعزه وسلطانه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث خلون من الْمحرم سنة خَمْسمِائَة وعاش سبعين سنة ملك مِنْهَا مُدَّة خمسين سنة رَحمَه الله
وَقَالَ ابْن خلدون تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وخاطب الْخَلِيفَة لعهده بِبَغْدَاد وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المستظهر بِاللَّه العباسي وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الإشبيلي وَولده القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ الإِمَام الْمَشْهُور فتلطفا فِي القَوْل وأحسنا فِي الإبلاغ وطلبا من الْخَلِيفَة أَن يعْقد لأمير الْمُسلمين بالمغرب والأندلس فعقد لَهُ وتضمن ذَلِك مَكْتُوب من الْخَلِيفَة مَنْقُول فِي أَيدي النَّاس وانقلبا إِلَيْهِ بتقليد الْخَلِيفَة وَعَهده على مَا إِلَى نظره من الأقطار والأقاليم وخاطبه الإِمَام الْغَزالِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر الطرطوشي يحضانه على الْعدْل والتمسك بِالْخَيرِ ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الرَّابِع إِلَى الأندلس سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة اه كَلَام ابْن خلدون
وَإِنَّمَا احْتَاجَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة المستظهر بِاللَّه مَعَ أَنه كَانَ بَعيدا عَنهُ وَأقوى شوكته مِنْهُ لتَكون ولَايَته مستندة إِلَى الشَّرْع وَهَذَا من ورعه رَحمَه الله
وَإِنَّمَا تسمى بأمير الْمُسلمين دون أَمِير الْمُؤمنِينَ أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَتَّى لَا يُشَارِكهُ فِي لقبه لِأَن لقب أَمِير الْمُؤمنِينَ خَاص بالخليفة والخليفة من قُرَيْش كَمَا فِي الحَدِيث فَافْهَم(2/58)
وَمن أَخْبَار يُوسُف بن تاشفين أَيْضا مَا نَقله غير وَاحِد من الْأَئِمَّة أَن أَمِير الْمُسلمين طلب من أهل الْبِلَاد المغربية والأندلسية المعاونة بِشَيْء من المَال على مَا هُوَ بصدده من الْجِهَاد وَأَنه كَاتب إِلَى قَاضِي المرية أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى عرف بِابْن الْبَراء يَأْمُرهُ بِفَرْض مَعُونَة المرية وَيُرْسل بهَا إِلَيْهِ فَامْتنعَ مُحَمَّد بن يحيى من فَرضهَا وَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ بِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ ذَلِك فَأَجَابَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَن الْقُضَاة عِنْدِي وَالْفُقَهَاء قد أباحوا فَرضهَا وَأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قد فَرضهَا فِي زَمَانه فَرَاجعه القَاضِي عَن ذَلِك بِكِتَاب يَقُول فِيهِ الْحَمد لله الَّذِي إِلَيْهِ مآبنا وَعَلِيهِ حسابنا وَبعد فقد بَلغنِي مَا ذكره أَمِير الْمُسلمين من اقْتِضَاء المعونة وتأخري عَن ذَلِك وَإِن أَبَا الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَجَمِيع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بالعدوة والأندلس أفتوه بِأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اقتضاها فالقضاة وَالْفُقَهَاء إِلَى النَّار دون زَبَانِيَة فَإِن كَانَ عمر اقتضاها فقد كَانَ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووزيره وضجيعه فِي قَبره وَلَا يشك فِي عدله وَلَيْسَ أَمِير الْمُسلمين بِصَاحِب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بوزيره وَلَا بضجيعه فِي قَبره وَلَا مِمَّن لَا يشك فِي عدله فَإِن كَانَ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء أنزلوك مَنْزِلَته فِي الْعدْل فَالله تَعَالَى سائلهم وحسيبهم عَن تقلدهم فِيك وَمَا اقتضاها عمر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى دخل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحضر من كَانَ مَعَه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم وَاحِد يُنْفِقهُ عَلَيْهِم فَلْيدْخلْ أَمِير الْمُسلمين الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة من هُنَاكَ من أهل الْعلم وليحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم يُنْفِقهُ عَلَيْهِم وَحِينَئِذٍ تجب معونته وَالله تَعَالَى على ذَلِك كُله وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته فَلَمَّا بلغ كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُسلمين وعظه الله بقوله وَلم يعد عَلَيْهِ فِي ذَلِك قولا والأعمال بِالنِّيَّاتِ
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين حِين ورد عَلَيْهِ التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة ضرب السِّكَّة(2/59)
باسمه وَنقش على الدِّينَار لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَتَحْت ذَلِك أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين وَكتب على الدائرة {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَكتب على الصفحة الْأُخْرَى عبد الله أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ العباسي وعَلى الدائرة تَارِيخ ضربه وَمَوْضِع سكته
وَكَانَ ملكه قد انْتهى إِلَى مَدِينَة أفراغه من قاصية شَرق الأندلس وَإِلَى مَدِينَة أشبونة على الْبَحْر الْمُحِيط من بَحر الأندلس وَذَلِكَ مسيرَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا طولا وَفِي الْعرض مَا يقرب من ذَلِك
وَملك بعدوة الْمغرب من جزائر بني مذغنة إِلَى طنجة إِلَى آخر السوس الْأَقْصَى إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان
وَلم ير فِي بلد من بِلَاده وَلَا عمل من أَعماله على طول أَيَّامه رسم مكس وَلَا خراج لَا فِي حَاضِرَة وَلَا فِي بادية إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ وأوجبه حكم الْكتاب وَالسّنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذِّمَّة وأخماس الْغَنَائِم
وَقد جبى فِي ذَلِك من الْأَمْوَال على وَجههَا مَا لم يجِيبه أحد قبله يُقَال إِنَّه وجد فِي بَيت مَاله بعد وَفَاته ثَلَاثَة عشر ألف ربع من الْوَرق وَخَمْسَة آلَاف وَأَرْبَعُونَ ربعا من مطبوع الذَّهَب
وَكَانَ رَحمَه الله زاهدا فِي زِينَة الدُّنْيَا وزهرتها ورعا متقشفا لِبَاسه الصُّوف لم يلبس قطّ غَيره ومأكله الشّعير وَلُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا مُقْتَصرا على ذَلِك لم ينْقل عَنهُ مُدَّة عمره على مَا منحه الله من سَعَة الْملك وخوله من نعْمَة الدُّنْيَا وَقد رد أَحْكَام الْبِلَاد إِلَى الْقُضَاة وَأسْقط مَا دون الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَكَانَ يسير فِي أَعماله بِنَفسِهِ فيتفقد أَحْوَال الرّعية فِي كل سنة وَكَانَ محبا للفقهاء وَأهل الْعلم وَالْفضل مكرما لَهُم صادرا عَن رَأْيهمْ يجْرِي عَلَيْهِم أَرْزَاقهم من بَيت المَال وَكَانَ مَعَ ذَلِك حسن الْأَخْلَاق متواضعا كثير الْحيَاء جَامعا لخصال الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ(2/60)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني
لما توفى أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بَايع النَّاس ابْنه عَليّ بن يُوسُف الْمَذْكُور بمراكش بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ وَتسَمى بأمير الْمُسلمين
وَكَانَ سنه يَوْم بُويِعَ ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَملك من الْبِلَاد مَا لم يملكهُ أَبوهُ لِأَنَّهُ صَادف الْبِلَاد سَاكِنة وَالْأَمْوَال وافرة والرعايا آمِنَة بِانْقِطَاع الثوار واجتماع الْكَلِمَة وسلك طَرِيقه أَبِيه فِي جَمِيع أُمُوره واهتدى بهديه
خُرُوج يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين على عَمه أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين
لما توفّي أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سجاه ابْنه عَليّ بن يُوسُف بِثَوْبِهِ وَخرج إِلَى المرابطين وَيَده فِي يَد أَخِيه أبي الطَّاهِر تَمِيم بن يُوسُف فَبَايعهُ ثمَّ قَالَ للمرابطين قومُوا فَبَايعُوا أَمِير الْمُسلمين فَبَايعهُ جَمِيع من حضر من لمتونة وَسَائِر قبائل صنهاجة وَبَايَعَهُ الْفُقَهَاء وأشياخ الْقَبَائِل فتمت لَهُ الْبيعَة بمراكش
ثمَّ كتب إِلَى سَائِر بِلَاد الْمغرب والأندلس وبلاد الْقبْلَة يعلمهُمْ بوفاة أَبِيه واستخلافه من بعده وَيَأْمُرهُمْ بالبيعة فَأَتَتْهُ الْبيعَة من جَمِيع الْبِلَاد وَأَقْبَلت نَحوه الْوُفُود للتعزية والتهنئة إِلَّا أهل مَدِينَة فاس فَإِن ابْن أَخِيه يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف كَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا من قبل جده يُوسُف فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر بِمَوْت جده وَولَايَة عَمه عظم عَلَيْهِ ذَلِك وأنف من مبايعة عَمه فَخرج عَلَيْهِ وَوَافَقَهُ على ذَلِك جمَاعَة من قواد لمتونة فزحف إِلَيْهِ عَليّ بن يُوسُف من(2/61)
مراكش حَتَّى إِذا دنا من فاس خَافَ يحيى بن أبي بكر على نَفسه وَعلم أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِحَرب عَمه فَأسلم فاسا لِعَمِّهِ وَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب فَدَخلَهَا عَليّ بن يُوسُف يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من ربيع الآخر سنة خَمْسمِائَة واستقام لَهُ الْأَمر
وَقيل إِن عَليّ بن يُوسُف لما دنا من فاس نزل بِمَدِينَة مغيلة من أحوازها ثمَّ كتب إِلَى ابْن أَخِيه يعاتبه على مَا ارْتَكَبهُ من الْخلاف ويدعوه إِلَى الدُّخُول فِي الطَّاعَة كَمَا دخل النَّاس وَكتب كتابا آخر إِلَى أَشْيَاخ الْبَلَد يَدعُوهُم فِيهِ إِلَى بيعَته ويتوعدهم فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى يحيى وقرأه جمع أهل الْبَلَد واستشارهم فِي الْمُقَاتلَة والحصار فَلم يوافقوه فَلَمَّا يئس مِنْهُم خرج فَارًّا إِلَى مزدلي بن تيلكان وَكَانَ عَاملا على تلمسان فَلَقِيَهُ مزدلي بوادي ملوية مُقبلا برسم الْبيعَة لعَلي بن يُوسُف فَأعلمهُ يحيى بِمَا كَانَ من شَأْنه فضمن لَهُ مزدلي عَن عَمه الْعَفو والصفح فَرجع مَعَه حَتَّى إِذا وصلا إِلَى فاس دخل مزدلي على أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف وَنزل يحيى مستخفيا بحومة وَادي شردوع
وَلما اجْتمع مزدلي بأمير الْمُسلمين وَسلم عَلَيْهِ وَرَأى مِنْهُ إِكْرَاما وقبولا أعلمهُ بِخَبَر يحيى وَمَا ضمن لَهُ من الْعَفو فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَعَفا عَنهُ وأمنه ثمَّ جَاءَ يحيى فَبَايعهُ وخيره أَمِير الْمُسلمين بَين أَن يسكن بِجَزِيرَة ميروقة بشرق الأندلس أَو ينْصَرف إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء فَاخْتَارَ الصَّحرَاء فَانْصَرف إِلَيْهَا ثمَّ سَافر مِنْهَا إِلَى الْحجاز فحج الْبَيْت وَرجع إِلَى عَمه فاستأذنه أَن يكون فِي جملَته وَيكون سكناهُ مَعَه بِحَضْرَة مراكش فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فسكنها مُدَّة ثمَّ اتهمه عَمه بالتشغيب عَلَيْهِ فثقفه وَبعث بِهِ إِلَى الجزيرة الخضراء فاستمر بهَا إِلَى أَن مَاتَ(2/62)
أَخْبَار الْوُلَاة بالمغرب والأندلس
لما بُويِعَ أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف عزل عَن قرطبة الْأَمِير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني وَولى مَكَانَهُ الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي زلفى فغزا طليطلة وأوقع بالنصارى فَقَتلهُمْ قتلا ذريعا بِبَاب القنطرة أَخذهم على غرَّة
وَفِي سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة عزل أَمِير الْمُسلمين أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف بن تاشفين عَن بِلَاد الْمغرب وَولى مَكَانَهُ أَبَا عبد الله بن الْحَاج فَأَقَامَ واليا على فاس وَسَائِر أَعمال الْمغرب نَحْو سِتَّة أشهر ثمَّ عَزله وولاه بلنسية وأعمالها من بِلَاد شَرق الأندلس
وَلما عزل أَمِير الْمُسلمين أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف عَن بِلَاد الْمغرب ولاه غرناطة وأعمالها من بِلَاد الأندلس فَكَانَت لَهُ على النَّصَارَى وقْعَة أفليج وَذَلِكَ أَنه خرج غازيا بِلَاد الفرنج سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة فَنزل حصن أفليج وَبِه جمع عَظِيم من الفرنج فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِم الْحصن فأرز النَّصَارَى إِلَى القصبة فَتَحَصَّنُوا بهَا وانْتهى خبرهم إِلَى الفنش فاستعد لِلْخُرُوجِ لإغاثتهم فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ زَوجته أَن يبْعَث وَلَده عوضا مِنْهُ لِأَن تَمِيم بن يُوسُف ابْن ملك الْمُسلمين وسانجة ابْن ملك النَّصَارَى فامتثل إشارتها وَبعث وَلَده سانجة فِي جَيش كثيف من زعماء الفرنج وأنجادهم فَسَار حَتَّى إِذا دنا من أفليج أخبر تَمِيم بن يُوسُف بمقدمه فعزم على الإفراج عَن الْحصن وَأَن لَا يلقى الفرنج فَأَشَارَ عَلَيْهِ قواد لمتونة مِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد ابْن فَاطِمَة وَمُحَمّد بن عَائِشَة وَغَيرهم بالْمقَام وشجعوه وهونوا عَلَيْهِ أَمرهم فَقَالُوا إِنَّمَا قدمُوا فِي ثَلَاثَة آلَاف فَارس وبيننا وَبينهمْ مَسَافَة فَرجع إِلَى رَأْيهمْ فَلم يكن إِلَّا عشي ذَلِك الْيَوْم حَتَّى وافتهم جيوش الفرنج فِي أُلُوف(2/63)
كَثِيرَة فهم تَمِيم بالفرار فَلم يجد لَهُ سَبِيلا ثمَّ صمم قواد لمتونة على مناجزة الْعَدو وصمدوا إِلَيْهِ فَكَانَت بَينهم حَرْب عَظِيمَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا فَهزمَ الله تَعَالَى الْعَدو وَنصر الْمُسلمين وَقتل ولد الفنش وَقتل مَعَه من الرّوم ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ألفا ونيف وَدخل الْمُسلمُونَ أفليج بِالسَّيْفِ عنْوَة وَاسْتشْهدَ فِي هَذِه الْوَقْعَة جمَاعَة من الْمُسلمين رَحِمهم الله واتصل الْخَبَر بالفنش فَاغْتَمَّ لقتل وَلَده وَأخذ بَلَده وهلاك جنده فَمَرض وَمَات أسفا لعشرين يَوْمًا من الْوَقْعَة وَكتب تَمِيم بن يُوسُف إِلَى أَمِير الْمُسلمين بِالْفَتْح
وَاعْلَم أَنه يُقَال فِي مُلُوك الجلالقة الَّذين نسميهم الْيَوْم الإصبنيول الأذفونش وَيُقَال الفنش فَقَالَ ابْن خلكان الأذفونش بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا نون ثمَّ شين مُعْجمَة هُوَ اسْم لأكبر مُلُوك الإفرنج وَهُوَ صَاحب طليطلة وَقَالَ ابْن خلدون بَنو أذفونش هم ولد أذفونش بن بطرة أول مُلُوك الجلالقة اه وَأما قَوْلهم الفنش فَهُوَ اسْم علم لبَعض مُلُوكهمْ وَلَيْسَ لقبا لجميعهم
وَكَانَ مُحَمَّد بن الْحَاج رَحمَه الله مُدَّة مقَامه ببلنسية قد ضيق على النَّصَارَى تضييقا فَاحِشا بالغارات والنهب فَخرج فِي غزَاة لَهُ ذَات مرّة فَأخذ على طَرِيق الْبَريَّة فغنم وسبى وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من قواد لمتونة فَبعث بالمغنم على الطَّرِيق الْكَبِير وَأخذ هُوَ على بَريَّة تقرب من بِلَاد الْمُسلمين وَكَانَ أَكثر النَّاس مَعَ الْمغنم وَكَانَ طَرِيق الْبَريَّة الَّذِي أَخذ عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحَاج لَا يسْلك إِلَّا على سرب وَاحِد لصعوبته وَشدَّة وعورته فَلَمَّا توسطه مُحَمَّد بن الْحَاج وأخذته الأوعار والمضايق من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وجد النَّصَارَى قد كمنوا لَهُ فِي جِهَة من تِلْكَ الْجِهَات فَقَاتلهُمْ قتال من أَيقَن بِالْمَوْتِ واغتنم الشَّهَادَة إِذْ لم يجد منفذا يخلص مِنْهُ فاستشهد رَحمَه الله وَاسْتشْهدَ مَعَه جمَاعَة من المتطوعة وتخلص مِنْهُم الْقَائِد مُحَمَّد بن عَائِشَة فِي نفر يسير بحيلة أعملها(2/64)
واتصل خبر الْوَقْعَة بأمير الْمُسلمين فآسفه موت أبي عبد الله بن الْحَاج وَولى مَكَانَهُ أَبَا بكر بن إِبْرَاهِيم بن تافلوت وَهُوَ ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الْحَكِيم الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ وَكَانَ عَاملا على مرسية فوصل إِلَيْهِ الْعَهْد بِالْولَايَةِ على بلنسية وطرطوشة وَمَا والاهما وَهُوَ بمرسية ثمَّ خرج بِجَيْش مرسية الى بلنسية فَاجْتمع إِلَيْهِ من كَانَ بهَا من الْجند ثمَّ زحف بهم إِلَى برشلونة فنازلها وَأقَام عَلَيْهَا عشْرين يَوْمًا فانتسف مَا حولهَا وَقطع ثمارها وَخرب قراها فَأَتَاهُ ابْن رذمير من قرَابَة الأذفونش فِي جيوش كَثِيرَة من حشود بسيط برشلونة وبلاد أربونة فَكَانَت بَينهم حَرْب عَظِيمَة مَاتَ فِيهَا خلق كثير من الفرنج وَاسْتشْهدَ فِيهَا من الْمُسلمين نَحْو السبعمائة رَحِمهم الله تَعَالَى
أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فِي الْجِهَاد وجوازه الأول إِلَى بِلَاد الأندلس
لما دخلت سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة جَازَ أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد فَعبر الْبَحْر من سبتة منتصف الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة فِي جيوش عَظِيمَة تزيد على مائَة ألف فَارس فَانْتهى إِلَى قرطبة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ خرج مِنْهَا غازيا إِلَى مَدِينَة طلايوت فَفَتحهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ وَفتح من أَعمال طليطلة سَبْعَة وَعشْرين حصنا وَفتح مجريط ووادي الْحِجَارَة وانْتهى إِلَى طليطلة فحاصرها شهرا وانتسف مَا حولهَا وَبَالغ فِي النكاية ثمَّ قفل إِلَى قرطبة بعد أَن دوخ الْبِلَاد
وَفِي سنة أَربع وَخَمْسمِائة فتح الْأَمِير سير بن أبي بكر شنترين(2/65)
وبطليوس ويابورة وبرتغال وأشبونة وَغير ذَلِك من بِلَاد غرب الأندلس وَكَانَ ذَلِك فِي شهر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتب بِالْفَتْح إِلَى أَمِير الْمُسلمين
وَفِي سنة سبع وَخَمْسمِائة توفّي الْأَمِير سير بن أبي بكر بإشبيلية وَدفن بهَا وَولي إشبيلية عوضا مِنْهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن فَاطِمَة فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي سنة عشر وَخَمْسمِائة
وَفِي سنة سبع الْمَذْكُورَة غزا الْأَمِير مزدلي طليطلة وأعمالها فدوخها وَفتح حصن أرجنة عنْوَة فَقتل الْمُقَاتلَة وسبى النِّسَاء والذرية واتصل الْخَبَر بالبرهانس كَبِير الفرنج فَأقبل لنصرتهم واستنقاذهم فصمد الْقَائِد مزدلي للقائه ففر أَمَامه لَيْلًا وَعَاد مزدلي إِلَى قرطبة ظافرا غانما
ثمَّ كَانَت لَهُ فِي الفرنج وقائع أُخْرَى إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله غازيا بِبِلَاد الفرنج سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة فولى أَمِير الْمُسلمين مَكَانَهُ على قرطبة ابْنه مُحَمَّد بن مزدلي فَأَقَامَ واليا عَلَيْهَا ثَلَاثَة أشهر ثمَّ توفّي شَهِيدا فِي بعض غَزَوَاته أَيْضا
اسْتِيلَاء الْعَدو على سرقسطة
كَانَت سرقسطة وأعمالها من شَرق الأندلس بيد بني هود الجذاميين تغلبُوا عَلَيْهَا فِي صدر الْمِائَة الْخَامِسَة أَيَّام الطوائف وتوارثوها إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم أَحْمد بن يُوسُف الملقب بالمستعين بِاللَّه فزحف إِلَيْهِ ابْن رذمير سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فَخرج إِلَيْهِ المستعين فَالْتَقوا بِظَاهِر سرقسطة فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَاسْتشْهدَ مِنْهُم جمَاعَة مِنْهُم المستعين بن هود
ثمَّ لما كَانَت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَصَاحب سرقسطة يَوْمئِذٍ عبد الْملك بن المستعين بن هود الملقب بعماد الدولة زحف ابْن رذمير(2/66)
إِلَيْهَا وزحف الفنش أَيْضا فِي أُمَم من النَّصْرَانِيَّة إِلَى لاردة من بِلَاد الْجوف فنازلها واتصل الْخَبَر بأمير الْمُسلمين فَكتب إِلَى أُمَرَاء غرب الأندلس يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ إِلَى أَخِيه تَمِيم بن يُوسُف وَكَانَ يَوْمئِذٍ واليا على شَرق الأندلس فيسيرون مَعَه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة فَقدم على تَمِيم عبد الله بن مزدلي وَأَبُو يحيى بن تاشفين صَاحب قرطبة بعساكرهما فَخرج تَمِيم بن يُوسُف من بلنسية مَعَ أُمَرَاء الأندلس فصمد نَحْو لاردة وَكَانَ بَينه وَبَين الفنش قتال عَظِيم أزعجه عَن لاردة خاسئا صاغرا بعد أَن بذل جهده فِي حصارها وأفقد من جيوشه عَلَيْهَا مَا يزِيد على الْعشْرَة آلَاف فَارس وَرجع تَمِيم إِلَى بلنسية
وَلما رأى ابْن رذمير ذَلِك بعث إِلَى طوائف الإفرنج يستصرخهم على سرقسطة فَأتوا فِي أُمَم كالنمل حَتَّى نازلها مَعَه وشرعوا فِي الْقِتَال وصنعوا أبراجا من خشب تجْرِي على بَرَكَات وقربوها مِنْهَا ونصبوا فِيهَا الرعادات ونصبوا عَلَيْهَا عشْرين منجنيقا وَقَوي طمعهم فِيهَا فَاشْتَدَّ الْحصار وَاسْتمرّ حَتَّى فنيت الأقوات وَهلك أَكثر النَّاس جوعا فراسل الْمُسلمُونَ الَّذين بهَا ابْن رذمير على أَن يرفع عَنْهُم الْقِتَال إِلَى أجل فَإِن لم يَأْتِيهم من ينصرهم أخلوا لَهُ الْبَلَد وأسلموه إِلَيْهِ فعاهدهم على ذَلِك فتم الْأَجَل وَلم يَأْتهمْ أحد فدفعوا إِلَيْهِ الْمَدِينَة وَخَرجُوا إِلَى مرسية وبلنسية وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة وَبعد اسْتِيلَاء النَّصَارَى عَلَيْهَا وصل من بر العدوة جَيش فِيهِ عشرَة آلَاف فَارس بَعثه أَمِير الْمُسلمين لاستنقاذها فوجدوها قد فرغ مِنْهُ وَنفذ حكم الله فِيهَا
وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة تغلب ابْن رذمير على بِلَاد شَرق الأندلس وَملك قلعة أَيُّوب الَّتِي لَيْسَ فِي بِلَاد شَرق الأندلس أمنع مِنْهَا وألح بالغارات على بِلَاد الْجوف فاتصلت هَذِه الْأَخْبَار بأمير الْمُسلمين وَهُوَ بمراكش فَجَاز إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد وَضبط الثغور وَهُوَ جَوَازه الثَّانِي(2/67)
فَجَاز مَعَه خلق كثير من المرابطين والمتطوعة من الْعَرَب وزناتة والمصامدة وَسَائِر قبائل البربر فوصل بجيوشه إِلَى قرطبة وَنزل خَارِجهَا وأتته وُفُود الأندلس للسلام عَلَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَن أَحْوَال بِلَادهمْ وثغورهم بَلَدا بَلَدا فعرفوه بِمَا كَانَ
وعزل القَاضِي أَبَا الْوَلِيد بن رشد عَن قَضَاء قرطبة وَولى مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِم بن حمدين وَيُقَال إِنَّمَا عزل ابْن رشد لِأَنَّهُ استعفاه وَكَانَ قد اشْتغل بتأليف الْبَيَان والتحصيل
ثمَّ سَار أَمِير الْمُسلمين حَتَّى نزل على مَدِينَة شنتمرية فَفَتحهَا عنْوَة وَسَار فِي بِلَاد الفرنج يقتل وَيَسْبِي وَيقطع الثِّمَار وَيخرب الْقرى والديار حَتَّى دوخ بِلَاد غرب الأندلس وفر أَمَامه الفرنج وتحصنوا بالمعاقل المنيعة
وَفِي سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة عَاد أَمِير الْمُسلمين إِلَى بِلَاد العدوة بعد أَن ولى أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف على جَمِيع بِلَاد الأندلس فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي سنة عشْرين وَخَمْسمِائة
ولَايَة الْأَمِير تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف على بِلَاد الأندلس وأخباره فِي الْجِهَاد
لما توفّي الْأَمِير تَمِيم بن يُوسُف فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولى أَمِير الْمُسلمين على بِلَاد الأندلس ابْنه تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف مَا عدا الجزائر الشرقية فَإِنَّهُ قد عقد عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية فَعبر الْأَمِير تاشفين الْبَحْر إِلَى الأندلس فِي خَمْسَة آلَاف من الْجند وَبعث إِلَى أجناد الْبِلَاد فَأتوهُ فَخرج بهم غازيا طليطلة فَفتح بعض حصونها بِالسَّيْفِ وانتسف مَا حولهَا
وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة عشْرين وَخَمْسمِائة هزم الْأَمِير تاشفين(2/68)
النَّصَارَى بفحص الصباب وقتلهم قتلا ذريعا وَفتح ثَلَاثِينَ حصنا من حصون غرب الأندلس وَكتب بِالْفَتْح إِلَى أَبِيه
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة هزم الْأَمِير تاشفين جموع الفرنج بفحص عَطِيَّة وأفنى مِنْهُم خلقا كثيرا بِالسَّيْفِ
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ بعْدهَا دخل الْأَمِير تاشفين مَدِينَة كركى بِالسَّيْفِ فَلم يبْق بهَا بشرا
وَفِي سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ بعْدهَا جَازَ الْأَمِير تاشفين من الأندلس إِلَى الْمغرب بعد أَن غزا مَدِينَة أشكونية فَفَتحهَا عنْوَة وَحمل مَعَه من سبيهَا إِلَى العدوة سِتَّة آلَاف سبية فَانْتهى إِلَى مراكش وَخرج أَمِير الْمُسلمين للقائه فِي زِيّ عَظِيم وسرور كَبِير
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا أَخذ أَمِير الْمُسلمين الْبيعَة لوَلَده تاشفين
وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني رَحمَه الله وَذَلِكَ لسبع خلون من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ ابْن خلكان كَانَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين رجلا حَلِيمًا وقورا صَالحا عادلا منقادا إِلَى الْحق وَالْعُلَمَاء تجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال من الْبِلَاد وَلم يزعزعه عَن سَرِيره قطّ حَادث وَلَا طَاف بِهِ مَكْرُوه
قلت قد طَاف بِهِ فِي آخر دولته أعظم مَكْرُوه وَذَلِكَ مُحَمَّد بن تومرت النابغ تَحت إبطه بحبال المصامدة كَمَا يَأْتِي خَبره إِن شَاءَ الله(2/69)
الْخَبَر عَن دولة أبي الْمعز تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين اللمتوني
لما توفّي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولي بعده ابْنه أَبُو الْمعز تاشفين بن عَليّ بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ وَأخذ بِطَاعَتِهِ وبيعته أهل العدوتين مَعًا كَمَا كَانُوا فِي عهد أَبِيه
وَكَانَ أَمر عبد الْمُؤمن بن عَليّ يَوْمئِذٍ قد استفحل بتينملل وَسَائِر بِلَاد المصامدة أهل جبل درن قَالَ ابْن الْخَطِيب كَانَ تاشفين بن عَليّ قد اسْتَخْلَفَهُ أَبوهُ على بِلَاد الأندلس ثمَّ استقدمه لمدافعة أَصْحَاب مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين فَلم ينجح أمره بِخِلَاف مَا عوده الله فِي بِلَاد الأندلس من النَّصْر لما قَضَاهُ الله من الإدبار على دولتهم
وَلما خرج عبد الْمُؤمن بن عَليّ من تينملل يُرِيد فتح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ مسيره على طَرِيق الْجبَال سير أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف ابْنه تاشفين الْمَذْكُور مُعَارضا لَهُ على طَرِيق السهل وَأَقَامُوا على ذَلِك مُدَّة توفّي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فِي أَثْنَائِهَا وأفضى الْأَمر إِلَى ابْنه تاشفين وَهُوَ فِي الْحَرْب
وَقدم أهل مراكش إِسْحَاق بن عَليّ بن تاشفين نَائِبا عَن أَخِيه تاشفين بمراكش وأعمالها وَمضى تاشفين بعد الْبيعَة لَهُ مُتبعا لعبد الْمُؤمن حَتَّى انتهيا تلمسان فَنزل عبد الْمُؤمن بكهف الضَّحَّاك بَين الصخرتين من جبل تيطرى المطل عَلَيْهَا وَنزل تاشفين بالبسيط مِمَّا يَلِي الصفصاف وَوَصله هُنَاكَ مدد صنهاجة من قبل يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية مَعَ قائده طَاهِر بن كباب لعصبية الصنهاجية وَفِي يَوْم وُصُوله أشرف على عَسْكَر الْمُوَحِّدين وَكَانَ يدل بإقدام وشجاعة فَقَالَ لجيش لمتونة إِنَّمَا جِئتُكُمْ لأخلصكم من صَاحبكُم عبد الْمُؤمن هَذَا وأرجع إِلَى قومِي فامتعض تاشفين لكلمته وَأذن لَهُ فِي المناجزة فَحمل على الْقَوْم فَرَكبُوا وصمموا للقائه فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ(2/70)
وبعسكره وَكَانَ الموحدون قد قتلوا قبل ذَلِك الروبرتير قَائِد تاشفين على الرّوم وَقتلُوا عسكره فِي بعض الغارات ثمَّ فتكوا بعسكر ثَالِث من عَسَاكِر تاشفين ونالوا مِنْهُ أعظم النّيل
وَفِي القرطاس زحف المرابطون لقِتَال الْمُوَحِّدين فنهاهم تاشفين فَلم ينْتَهوا وتعلقوا فِي الْجَبَل لقتالهم فهبط عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم هزيمَة شنعاء
وَلما توالت هَذِه الوقائع على تاشفين أجمع الرحلة إِلَى وهران فَبعث ابْنه إِبْرَاهِيم ولي عَهده إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من لمتونة وَبعث كَاتبا مَعَه أَحْمد بن عَطِيَّة ورحل هُوَ إِلَى وهران سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَأَقَامَ عَلَيْهَا شهرا ينْتَظر قَائِد أسطوله مُحَمَّد بن مَيْمُون إِلَى أَن وصل إِلَيْهِ من المرية بِعشْرَة أساطيل فأرسى قَرِيبا من مُعَسْكَره وزحف عبد الْمُؤمن من تلمسان وَبعث فِي مقدمته الشَّيْخ أَبَا حَفْص عمر بن يحيى فقدموا وهران وفضوا جموع المرابطين الَّذين بهَا ولجأ تاشفين إِلَى رابية هُنَاكَ فأحدقوا بهَا وأضرموا النيرَان حولهَا حَتَّى إِذا غشيهم اللَّيْل خرج تاشفين من الْحصن رَاكِبًا على فرسه فتردى من بعض حافات الْجَبَل وَهلك لسبع وَعشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَنَجَا فل الْعَسْكَر إِلَى وهران فانحصروا مَعَ أَهلهَا حَتَّى جهدهمْ الْعَطش ونزلوا جَمِيعًا على حكم عبد الْمُؤمن يَوْم عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأتى عَلَيْهِم الْقَتْل رَحِمهم الله
وَقَالَ فِي القرطاس إِن تاشفين بن عَليّ خرج ذَات لَيْلَة وَهُوَ بوهران ليضْرب فِي محلّة الْمُوَحِّدين فتكاثرت عَلَيْهِ الْخَيل وَالرجل ففر أمامهم وَكَانَ بجبل عَال مشرف على الْبَحْر فَظن أَن الأَرْض مُتَّصِلَة بِهِ فَأَهوى من شَاهِق بِإِزَاءِ رابطة وهران فَمَاتَ رَحمَه الله وَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة مظْلمَة ممطرة وَهِي لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة آنِفا(2/71)
فَوجدَ من الْغَد بِإِزَاءِ الْبَحْر مَيتا فاحتز رَأسه وَحمل إِلَى تينملل فعلق على شَجَرَة هُنَاكَ وَذَلِكَ بعد مُلَازمَة الْحَرْب مَعَ الْمُوَحِّدين فِي الْبَيْدَاء لم يأو إِلَى ظلّ قطّ من يَوْم بُويِعَ إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنتَيْن وشهرا وَنصف شهر
وَقَالَ ابْن خلكان لما تَيَقّن تاشفين بن عَليّ أَن دولتهم ستزول أَتَى مَدِينَة وهران وَهِي على الْبَحْر وَقصد أَن يَجْعَلهَا مقره فَإِن غلب على الْأَمر ركب مِنْهَا إِلَى الأندلس وَكَانَ فِي ظَاهر وهران ربوة على الْبَحْر تسمى صلب الْكَلْب وبأعلاها رِبَاط يأوي إِلَيْهِ المتعبدون وَفِي لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة صعد تاشفين إِلَى ذَلِك الرِّبَاط ليحضر الْخَتْم فِي جمَاعَة يسيرَة من خواصه وَكَانَ عبد الْمُؤمن بجمعه فِي تاكرارت وَهِي وَطنه وَاتفقَ أَنه أرسل منسرا من الْخَيل إِلَى وهران فوصلوها فِي الْيَوْم السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان ومقدمهم الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى صَاحب الْمهْدي فكمنوا عَشِيَّة وأعلموا بانفراد تاشفين فِي ذَلِك الرِّبَاط فقصدوه وَأَحَاطُوا بِهِ وأحرقوا بَابه فأيقن الَّذين فِيهِ بِالْهَلَاكِ فَخرج رَاكِبًا فرسه وَشد الركض عَلَيْهِ ليثب الْفرس النَّار وينجو فترامى الْفرس نازيا لروعته وَلم يملكهُ اللجام حَتَّى تردى من جرف هُنَالك إِلَى جِهَة الْبَحْر على حِجَارَة فِي مَحل وعر فتكسر الْفرس وَهلك تاشفين فِي الْوَقْت وَقتل الْخَواص الَّذين كَانُوا مَعَه وَكَانَ عسكره فِي نَاحيَة أُخْرَى لَا علم لَهُم بِمَا جرى فِي ذَلِك اللَّيْل وَجَاء الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الْمُؤمن فوصل إِلَى وهران وَسمي ذَلِك الْموضع الَّذِي فِيهِ الرِّبَاط صلب الْفَتْح وَمن ذَلِك الْوَقْت نزل عبد الْمُؤمن من الْجَبَل إِلَى السهل ثمَّ توجه إِلَى تلمسان وَهِي مدينتان قديمَة وحادثة بَينهمَا شوط فرس ثمَّ توجه إِلَى فاس فحاصرها وَاسْتولى عَلَيْهَا سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ قصد مراكش سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين بعْدهَا فحاصرها أحد عشر شهرا وفيهَا إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين(2/72)
وَجَمَاعَة من مَشَايِخ دولتهم فقدموه بعد موت أَبِيه عَليّ بن يُوسُف نَائِبا عَن أَخِيه تاشفين فاستولى عَلَيْهَا وَقد بلغ الْقَحْط من أَهلهَا كل مبلغ وَأخرج إِلَيْهِ إِسْحَاق بن عَليّ وَمَعَهُ سير بن الْحَاج وَكَانَ من الشجعان وَمن خَواص دولتهم وَكَانَا مكتوفين وَإِسْحَاق دون بُلُوغ فعزم عبد الْمُؤمن أَن يعْفُو عَن إِسْحَاق لصِغَر سنه فَلم يُوَافقهُ خواصه وَكَانَ لَا يخالفهم فخلى بَينهم وَبَينهمَا فَقَتَلُوهُمَا ثمَّ نزل عبد الْمُؤمن الْقصر وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَقَالَ ابْن خلدون أَقَامَ الموحدون على مراكش تِسْعَة اشهر وأمير الملثمين يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بَايعُوهُ صَبيا صَغِيرا عِنْد بُلُوغ خبر أَخِيه وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار وَجَهْدهمْ الْجُوع برزوا إِلَى مدافعة الْمُوَحِّدين فَانْهَزَمُوا وتتبعهم الموحدون بِالْقَتْلِ واقتحموا عَلَيْهِم الْمَدِينَة فِي أخريات شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقتل عَامَّة الملثمين وَنَجَا إِسْحَاق فِي جملَته وأعيان قومه إِلَى القصبة حَتَّى نزلو اعلى حكم الْمُوَحِّدين وأحضر إِسْحَاق بَين يَدي عبد الْمُؤمن فَقتله الموحدون بِأَيْدِيهِم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو حَفْص عمر بن واكاك مِنْهُم وانمحى أثر الملثمين وَاسْتولى الموحدون على الْبِلَاد وَالله غَالب على أمره
قَالَ ابْن جُنُون كَانَت لمتونة أهل ديانَة وَصدق وَنِيَّة خَالِصَة وَصِحَّة مَذْهَب ملكوا بالأندلس من بِلَاد الإفرنج إِلَى الْبَحْر الغربي الْمُحِيط وَمن بِلَاد العدوة من مَدِينَة بجاية إِلَى جبل الذَّهَب من بِلَاد السودَان وخطب لَهُم على أَزِيد من ألفي مِنْبَر بالتثنية وَكَانَت أيامهم أَيَّام دعة ورفاهية ورخاء مُتَّصِل وعافية وَأمن تناهى الْقَمْح فِي أيامهم إِلَى أَن بيع أَرْبَعَة أوسق بِنصْف مِثْقَال وبيعت الثِّمَار ثَمَانِيَة أوسق بِنصْف مِثْقَال والقطاني لَا تبَاع وَلَا تشترى وَكَانَ ذَلِك مصحوبا بطول أيامهم وَلم يكن فِي عمل من أَعْمَالهم خراج وَلَا مَعُونَة وَلَا تسقيط وَلَا وظيف من الْوَظَائِف المخزونية حاشا الزَّكَاة وَالْعشر وَكَثُرت(2/73)
الْخيرَات فِي دولتهم وعمرت الْبِلَاد وَوَقعت الْغِبْطَة وَلم يكن فِي أيامهم نفاق وَلَا قطاع طَرِيق وَلَا من يقوم عَلَيْهِم وأحبهم النَّاس إِلَى أَن خرج عَلَيْهِم مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة
وَأما الْأَحْدَاث الْوَاقِعَة فِي أيامهم فَفِي شهر ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة ظهر النَّجْم المعكف بالمغرب
وَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة كسفت الشَّمْس الْكُسُوف الْكُلِّي الَّذِي لم يعْهَد قبله مثله وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ عِنْد الزَّوَال فِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من الشَّهْر
وَفِي سنة اثْنَيْنِ وَسبعين بعْدهَا كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة الَّتِي لم ير النَّاس مثلهَا بالمغرب انهرمت مِنْهَا الْأَبْنِيَة وَوَقعت الصوامع والمنارات وَمَات فيهاخلق كثير تَحت الْهدم وَلم تزل الزلزلة تتعاقب فِي كل يَوْم وَلَيْلَة من أول يَوْم ربيع الأول إِلَى آخر يَوْم من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة ولد الْفَقِيه القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأَصْبَغ الْمَعْرُوف بِابْن المناصف صَاحب الأرجوزة
وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة توفّي الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الطلاع
وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الْفضل يُوسُف بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ بقلعة حَمَّاد صحب أَبَا الْحسن اللَّخْمِيّ وَغَيره من الْمَشَايِخ وَكَانَ أَبُو الْفضل من أهل الْعلم وَالدّين على هدي السّلف الصَّالح وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَلما أفتى فُقَهَاء الْمغرب بإحراق كتب الشَّيْخ أبي حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وَأمر أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بحرقها انتصر أَبُو الْفضل هَذَا لأبي حَامِد رَحمَه الله وَكتب إِلَى أَمِير الْمُسلمين فِي ذَلِك وَحدث صَاحب التشوف وَهُوَ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يحيى التدالي المراكشي الدَّار عرف بِابْن الزيات بِسَنَدِهِ عَن أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم(2/74)
قَالَ لما وصل إِلَى فاس كتاب أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بالتحريج على كتاب الْإِحْيَاء وَأَن يحلف النَّاس بالأيمان الْمُغَلَّظَة أَن كتاب الْإِحْيَاء لَيْسَ عِنْدهم ذهبت إِلَى أبي الْفضل أستفتيه فِي تِلْكَ الْأَيْمَان فَأفْتى بِأَنَّهَا لَا تلْزم وَكَانَت إِلَى جنبه أسفار فَقَالَ لي هَذِه الْأَسْفَار من كتاب الْأَحْيَاء وددت أَنِّي لم أنظر فِي عمري سواهَا وَكَانَ أَبُو الْفضل قد انسخ كتاب الْإِحْيَاء فِي ثَلَاثِينَ جُزْءا فَإِذا دخل شهر رَمَضَان قَرَأَ فِي كل يَوْم جُزْءا ومناقبه كَثِيرَة رَحمَه الله
قلت لم يَقع فِي دولة المرابطين أشنع من هَذِه النَّازِلَة وَهِي إحراق كتاب الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ لما وصلت نُسْخَة إِلَى بِلَاد الْمغرب تصفحها جمَاعَة من فقهائه مُهِمّ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن حمدين فانتقدوا فِيهَا أَشْيَاء على الشَّيْخ أبي حَامِد رَضِي الله عَنهُ وأعلموا السُّلْطَان بأمرها وأفتوه بِأَنَّهَا يجب إحراقها وَلَا تجوز قرَاءَتهَا بِحَال
وَكَانَ عَليّ بن يُوسُف وَاقِفًا كأبيه عِنْد إِشَارَة الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم قد رد جَمِيع الْأَحْكَام إِلَيْهِم فَلَمَّا أفتوه بإحراق كتاب الْإِحْيَاء كتب إِلَى أهل مَمْلَكَته فِي سَائِر الْأَمْصَار والأقطار بِأَن يبْحَث عَن نسخ الْإِحْيَاء بحثا أكيدا وَيحرق مَا عثر عَلَيْهِ مِنْهَا فَجمع من نسخهَا عدد كثير بِبِلَاد الأندلس وَوضعت بِصَحْنِ جَامع قرطبة وصب عَلَيْهَا الزَّيْت ثمَّ أوقد عَلَيْهَا بالنَّار وَكَذَا فعل بِمَا ألفى من نسخهَا بمراكش وتوالى الإحراق عَلَيْهَا فِي سَائِر بِلَاد الْمغرب وَيُقَال إِن ذَلِك كَانَ فِي حَيَاة الشَّيْخ أبي حَامِد رَحمَه الله وَأَنه دَعَا بِسَبَب ذَلِك على المرابطين أَن يمزق ملكهم فاستجيب لَهُ فيهم فَإِن كَانَ كَذَلِك فتاريخ الإحراق يكون فِيمَا بَين الْخَمْسمِائَةِ وَالْخمس بعْدهَا لِأَن بيعَة عَليّ بن يُوسُف كَانَت على رَأس الْخَمْسمِائَةِ ووفاة الشَّيْخ أبي حَامِد(2/75)
الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخَمْسمِائة
وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عَطاء الله الصنهاجي الْمَعْرُوف بِابْن العريف كَانَ متناهيا فِي الْفضل وَالدّين والزهد فِي الدُّنْيَا مُنْقَطِعًا إِلَى الْخَيْر يَقْصِدهُ النَّاس ويألفونه فيحمدون صحبته وسعى بِهِ إِلَى أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فَأمر بإشخاصه إِلَى حَضْرَة مراكش فوصلها وَتُوفِّي بهَا لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة واحتفل النَّاس لجنازته وَنَدم أَمِير الْمُسلمين على مَا كَانَ مِنْهُ لَهُ فِي حَيَاته وَظَهَرت لَهُ كرامات رَحمَه الله وَدفن بِقرب الْجَامِع الْقَدِيم الَّذِي بوسط مراكش فِي رَوْضَة القَاضِي مُوسَى بن أَحْمد الصنهاجي
قلت وقبره الْآن مَشْهُور بسوق العطارين من مراكش عَلَيْهِ بِنَاء حفيل
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا أَعنِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الحكم بن برجان قَالَ ابْن خلكان هُوَ أَبُو الحكم عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن اللَّخْمِيّ عرف بِابْن برجان بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وَبعدهَا جِيم وَبعد الْألف نون وَكَانَ عبدا صَالحا وَله تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم وَأكْثر كَلَامه فِيهِ على طَرِيق أَرْبَاب الْأَحْوَال والمقامات
وَقَالَ فِي التشوف لما أشخص أَبُو الحكم بن برجان من قرطبة إِلَى حَضْرَة مراكش وَكَانَ فُقَهَاء الْعَصْر انتقدوا عَلَيْهِ مسَائِل قَالَ أَبُو الحكم وَالله لَا عِشْت وَلَا عَاشَ الَّذِي أشخصني بعد موتِي يَعْنِي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فَمَاتَ أَبُو الحكم فَأمر أَمِير الْمُسلمين أَن يطْرَح على المزبلة وَلَا(2/76)
يصلى عَلَيْهِ وَقد فِيهِ من تكلم فِيهِ من الْفُقَهَاء
وَكَانَ أَبُو الْحسن عَليّ بن حرزهم يَوْمئِذٍ بمراكش فَدخل عَلَيْهِ رجل أسود كَانَ يَخْدمه ويحضر مَجْلِسه فَأخْبرهُ بِمَا أَمر بِهِ السُّلْطَان فِي شَأْن أبي الحكم فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحسن إِن كنت تبيع نَفسك من الله فافعل مَا أقوله لَك فَقَالَ لَهُ مرني بِمَا شِئْت أَفعلهُ فَقَالَ لَهُ تنادي فِي طرق مراكش واسواقها يَقُول لكم ابْن حرزهم احضروا جَنَازَة الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح الزَّاهِد أبي الحكم بن برجان وَمن قدر على حُضُورهَا وَلم يحضر فَعَلَيهِ لعنة الله فَفعل مَا أمره فَبلغ ذَلِك أَمِير الْمُسلمين فَقَالَ من عرف فَضله وَلم يحضر جنَازَته فَعَلَيهِ لعنة الله
قَالَ ابْن عبد الْملك فِي كتاب الذيل والتكملة أَبُو الحكم بن برجان مدفون بمراكش برحبة الْحِنْطَة مِنْهَا قَالَ وَهُوَ الَّذِي تَقول لَهُ الْعَامَّة سَيِّدي أَبُو الرِّجَال
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو ينور المشترائي مَوْجُودا فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنِّي لم أَقف على تَارِيخ وَفَاته قَالَ فِي التشوف هُوَ أَبُو ينور عبد الله بن واكريس الدكالي من مشتراية من أَشْيَاخ أبي شُعَيْب أَيُّوب السارية كَبِير الشَّأْن من أهل الزّهْد والورع حدثوا عَنهُ أَنه مَاتَ أَخُوهُ فَتزَوج امْرَأَته فَقدمت إِلَيْهِ طَعَاما يَأْكُلهُ فَوَقع فِي نَفسه أَن فِيهِ نصيب الْأَيْتَام الَّذين هم أَوْلَاد أَخِيه فَأمْسك عَنهُ وَبَات طاويا وجاءه رجل من أَشْيَاخ مشتراية فَقَالَ لَهُ إِن عَامل عَليّ بن يُوسُف تهددني بِالْقَتْلِ والصلب وَقد خرج من مراكش مُتَوَجها إِلَى دكالة فَقَالَ لَهُ أَبُو ينور رده الله عَنْك فَسَار إِلَى أَن بَقِي بَينه وَبَين قَرْيَة يليسكاون وَهِي أمتِي تسميها الْعَامَّة بوسكاون نصف يَوْم فَأصَاب الْعَامِل وجع قضى عَلَيْهِ من حِينه
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ثار القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن حمدين بقرطبة مَعَ الْعَامَّة على المرابطين فَقَتلهُمْ وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين(2/77)
الدولة الموحدية الْخَبَر عَن دولة الْمُوَحِّدين من المصامدة وقيامها على يَد مُحَمَّد بن تومرت الْمَعْرُوف بالمهدي
قَالَ ابْن خلدون كَانَ للمصامدة فِي صدر الْإِسْلَام بجبال درن عدد وَقُوَّة وَطَاعَة للدّين وَمُخَالفَة لإخوانهم برغواطة فِي نحلة كفرهم وَكَانَ مِنْهُم قبل الْإِسْلَام مُلُوك وأمراء وَلَهُم مَعَ لمتونة مُلُوك الْمغرب حروب وَفتن أيامهم حَتَّى كَانَ اجْتِمَاعهم على الْمهْدي وقيامهم بدعوته فَكَانَت لَهُم دولة عَظِيمَة أدالت من لمتونة بالعدوتين وَمن صنهاجة بإفريقية حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور وَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وأصل الْمهْدي من هرغة من بطُون المصامدة يُسمى أَبوهُ عبد الله وتومرت وَكَانَ يلقب فِي صغره أَيْضا أمغار غَار وَزعم كثير من المؤرخين أَن نسبه فِي أهل الْبَيْت فبعضهم ينْسبهُ سُلَيْمَان بن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَكَانَ أهل بَيته أهل نسك ورباط وَكَانَت وِلَادَته على مَا عِنْد ابْن خلكان يَوْم عَاشُورَاء سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وشب الْمهْدي قَارِئًا محبا للْعلم ثمَّ ارتحل فِي طلبه إِلَى الْمشرق على رَأس الْمِائَة الْخَامِسَة وَمر بالأندلس وَدخل قرطبة وَهِي يَوْمئِذٍ دَار علم ثمَّ لحق بالإسكندرية وَحج وَدخل الْعرَاق وَلَقي بِهِ جملَة من الْعلمَاء وفحول النظار وَأفَاد علما وَاسِعًا
وَكَانَ يحدث نَفسه بالدولة لِقَوْمِهِ على يَده وَلَقي أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ وفاوضه بِذَات صَدره فِي ذَلِك فأراده عَلَيْهِ(2/78)
قَالَ ابْن خلكان اجْتمع مُحَمَّد بن تومرت بِأبي حَامِد الْغَزالِيّ والكيا الهراسي والطرطوشي وَغَيرهم وَحج وَأقَام بِمَكَّة مُدَّة مديدة وَحصل قدرا صَالحا من علم الشَّرِيعَة والْحَدِيث النَّبَوِيّ وأصول الْفِقْه وَالدّين وَكَانَ ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا مخلولقا كثير الإطراق بساما فِي وُجُوه النَّاس مُقبلا على الْعِبَادَة لَا يَصْحَبهُ من مَتَاع الدُّنْيَا إِلَّا عَصا وركوة وَكَانَ شجاعا فصيحا فِي لِسَان الْعَرَب والبربر شَدِيد الْإِنْكَار على النَّاس فِيمَا يُخَالف الشَّرْع لَا يقنع فِي أَمر الله بِغَيْر إِظْهَاره وَكَانَ مطبوعا على الإلذاذ بذلك متحملا للأذى من النَّاس بِسَبَبِهِ وناله بِمَكَّة شرفها الله شَيْء من الْمَكْرُوه من أجل ذَلِك فَخرج مِنْهَا إِلَى مصر وَبَالغ فِي الْإِنْكَار فزادوا فِي أَذَاهُ وطردته الْوُلَاة وَكَانَ إِذا خَافَ من الْبَطْش وإيقاع الْفِعْل بِهِ خلط فِي كَلَامه فينسب إِلَى الْجُنُون فَخرج من مصر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَركب الْبَحْر مُتَوَجها إِلَى بِلَاده
وَكَانَ قد رأى فِي مَنَامه وَهُوَ فِي بِلَاد الْمشرق كَأَنَّهُ شرب مَاء الْبَحْر جَمِيعه كرتين فَلَمَّا ركب السَّفِينَة شرع فِي تَغْيِير الْمُنكر على أهل السَّفِينَة وألزمهم إِقَامَة الصَّلَوَات وَقِرَاءَة أحزاب من الْقُرْآن الْعَظِيم وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى انْتهى إِلَى المهدية من أَرض إفريقية وَكَانَ ملكهَا يَوْمئِذٍ يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس الصنهاجي وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَخَمْسمِائة هَكَذَا ذكره ابْن أَخِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن شَدَّاد بن تَمِيم الصنهاجي فِي كتاب الْجمع وَالْبَيَان فِي أَخْبَار القيروان وَقيل إِن ارتحال مُحَمَّد بن تومرت عَن بِلَاد الْمشرق كَانَ سنة عشر وَخَمْسمِائة واجتيازه بِمصْر كَانَ سنة إِحْدَى عشرَة بعْدهَا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
وَلما انْتهى إِلَى المهدية نزل بِمَسْجِد مغلق وَهُوَ على الطَّرِيق وَجلسَ فِي طاق شَارِع إِلَى المحجة ينظر إِلَى الْمَارَّة فَلَا يرى مُنْكرا من آلَة الملاهي أَو أواني الْخمر إِلَّا نزل إِلَيْهَا وَكسرهَا فتسامع النَّاس بِهِ فِي الْبَلَد فجاؤوا إِلَيْهِ(2/79)
وقرؤوا عَلَيْهِ كتبا من أصُول الدّين فَبلغ خَبره الْأَمِير يحيى فاستدعاه جمَاعَة من الْفُقَهَاء فَلَمَّا رأى سمته وَسمع كَلَامه أكْرمه وأجله وَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ لَهُ أصلحك الله لرعيتك وَلم يقم بعد ذَلِك بالمهدية إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ انْتقل إِلَى بجاية فَأَقَامَ بهَا مُدَّة وَهُوَ على حَاله فِي الْإِنْكَار فَأخْرج مِنْهَا إِلَى بعض قراها وَاسْمهَا ملالة فَوجدَ بهَا عبد الْمُؤمن بن عَليّ الْقَيْسِي الكومي
وَقَالَ ابْن خلدون انطوى الْمهْدي رَاجعا إِلَى الْمغرب بحرا متفجرا من الْعلم وشهابا واريا من الدّين وَكَانَ قد لَقِي بالمشرق أَئِمَّة الأشعرية من أهل السّنة وَأخذ عَنْهُم وَاسْتحْسن طريقهم فِي الإنتصار للعقائد السلفية والذب عَنْهَا بالحجج الْعَقْلِيَّة الدافعة فِي صدر أهل الْبِدْعَة وَذهب فِي رَأْيهمْ إِلَى تَأْوِيل الْمُتَشَابه من الْآي وَالْأَحَادِيث بعد أَن كَانَ أهل الْمغرب بعزل عَن اتباعهم فِي التَّأْوِيل وَالْأَخْذ برأيهم فِيهِ اقْتِدَاء بالسلف فِي ترك التَّأْوِيل وَإِقْرَار المتشابهات كَمَا جَاءَت فَبَصر الْمهْدي أهل الْمغرب فِي ذَلِك وَحَملهمْ على القَوْل بالتأويل وَالْأَخْذ بمذاهب الأشعرية فِي كَافَّة العقائد وأعلن بإمامتهم وَوُجُوب تقليدهم وَألف العقائد على رَأْيهمْ مثل المرشدة فِي التَّوْحِيد
وَكَانَ من رَأْيه القَوْل بعصمة الإِمَام عَليّ على رَأْي الإمامية من الشِّيعَة وَلم تحفظ عَنهُ فلتة فِي الْبِدْعَة سواهَا واحتل بطرابلس الغرب معنيا بمذهبه ذَلِك مظْهرا للنكير على عُلَمَاء الْمغرب فِي عدولهم عَنهُ آخِذا نَفسه بتدريس الْعلم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مَا اسْتَطَاعَ حَتَّى لَقِي بِسَبَب ذَلِك إذايات فِي نَفسه احتسبها من صَالح عمله
وَلما دخل بجاية وَبهَا يَوْمئِذٍ الْعَزِيز بن الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد من أُمَرَاء صنهاجة وَكَانَ من المقترفين فَأَغْلَظ لَهُ ولأتباعه بالنكير وَتعرض يَوْمًا لتغيير بعض الْمُنْكَرَات فِي الطّرق فَوَقَعت بِسَبَبِهَا هيعة نكرها السُّلْطَان والخاصة وائتمروا بِهِ فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب وَلحق بملالة على فَرسَخ مِنْهَا وَبهَا يَوْمئِذٍ بَنو ورياكل من قبائل صنهاجة وَكَانَ لَهُم اعتزاز(2/80)
ومنعة فآووه وأجاروه وطلبهم السُّلْطَان صَاحب بجاية بِإِسْلَامِهِ إِلَيْهِ فَأَبَوا وأسخطوه وَأقَام بَينهم يدرس الْعلم أَيَّامًا وَكَانَ يجلس إِذا فرغ على صَخْرَة بقارعة الطَّرِيق قَرِيبا من ديار ملالة وَهُنَاكَ لقِيه كَبِير أَصْحَابه عبد الْمُؤمن بن عَليّ حَاجا مَعَ عَمه فأعجب بِعِلْمِهِ وَصرف عزمه إِلَيْهِ فاختص بِهِ وشمر للأخذ عَنهُ
وَفِي كتاب المعرب عَن سيرة مُلُوك الْمغرب أَن الْمهْدي كَانَ قد اطلع على كتاب يُسمى الجفر من عُلُوم أهل الْبَيْت يُقَال إِنَّه عثر عَلَيْهِ عِنْد الشَّيْخ أبي حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وَإنَّهُ رأى فِيهِ صفة رجل يظْهر بالمغرب الْأَقْصَى بمَكَان يُسمى السوس وَهُوَ من ذُرِّيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو إِلَى الله يكون مقَامه ومدفنه بِموضع من الْمغرب يُسمى باسم هجاء حُرُوفه ت ي ن م ل ل وَرَأى فِيهِ أَيْضا أَن استقامة ذَلِك الْأَمر واستيلائه وتمكنه يكون على يَد رجل من أَصْحَابه هجاء اسْمه ع ب د م وم ن ويجاوز وقته الْمِائَة الْخَامِسَة لِلْهِجْرَةِ فأوقع الله سُبْحَانَهُ فِي نَفسه أَنه الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر وَأَن أَوَانه قد أزف فَمَا كَانَ مُحَمَّد يمر بِموضع إِلَّا وَيسْأل عَنهُ وَلَا يرى أحدا إِلَّا أَخذ اسْمه وتفقده حليته
وَكَانَت حلية عبد الْمُؤمن مَعَه فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيق رأى شَابًّا قد بلغ أشده على الصّفة الَّتِي مَعَه فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن تومرت وَقد تجاوزه مَا اسْمك يَا شَاب فَقَالَ عبد الْمُؤمن فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الله أكبر أَنْت بغيتي وَنظر فِي حليته فَوَافَقت مَا عِنْده فَقَالَ لَهُ من أَيْن أَقبلت قَالَ من كومية قَالَ أَيْن مقصدك فَقَالَ الْمشرق قَالَ مَا تبغي قَالَ(2/81)
علما وشرفا قَالَ قد وجدت علما وشرفا وذكرا أصحبني تنله فوافقه على ذَلِك فَألْقى إِلَيْهِ مُحَمَّد بأَمْره وأودعه سره
قَالَ ابْن خلدون وارتحل الْمهْدي إِلَى الْمغرب وَعبد الْمُؤمن فِي جملَته وَلحق بوانشريس فصحبه مِنْهَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله الوانشريسي الْمَعْرُوف بالبشير
وَقَالَ ابْن خلكان وَكَانَ جميلا فصيحا فِي لغتي الْعَرَب والبربر ففاوضه الْمهْدي فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْقيام فوافقه على ذَلِك أتم مُوَافقَة وَكَانَ البشير مِمَّن تهذب وَقَرَأَ فقها فتذاكرا يَوْمًا فِي كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوب فَقَالَ الْمهْدي للبشير أرى أَن تستر مَا أَنْت عَلَيْهِ من الْعلم والفصاحة عَن النَّاس وَتظهر من الْعَجز واللكن والحصر والتعري عَن الْفَضَائِل مَا تشتهر بِهِ عِنْد النَّاس لنتخذ الْخُرُوج عَن ذَلِك واكتساب الْعلم والفصاحة دفْعَة وَاحِدَة سَبِيلا إِلَى الْمَطْلُوب وَيقوم لنا ذَلِك مقَام المعجزة عِنْد حاجتنا إِلَيْهِ فنصدق فِيمَا نقُول فَفعل البشير ذَلِك
ثمَّ لحق الْمهْدي بتلمسان وَقد تسامع النَّاس بِخَبَرِهِ فَأحْضرهُ القَاضِي بهَا وَهُوَ ابْن صَاحب الصَّلَاة ووبخه على منتحله ذَلِك وعَلى خِلَافه لأهل قطره وَظن القَاضِي أَن من الْعدْل نَزعه عَن ذَلِك فَصم عَن قَوْله وَاسْتمرّ على طَرِيقه إِلَى فاس فَنزل بِمَسْجِد طريانة وَأقَام بهَا يدرس الْعلم إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ انْتقل إِلَى مكناسة فَنهى بهَا عَن بعض الْمُنْكَرَات فثار إِلَيْهِ الغوغاء وأوجعوه ضربا ثمَّ لحق بمراكش وَأقَام بهَا آخِذا فِي شَأْنه وَلَقي بهَا أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع عِنْد صَلَاة الْجُمُعَة فوعظه وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل وَلَقي ذَات يَوْم أُخْت أَمِير الْمُسلمين حَاسِرَة قناعها على عَادَة قَومهَا الملثمين فِي زِيّ نِسَائِهِم فوبخها وَدخلت على أَخِيهَا باكية لما نالها من تقريعه ففاوض أَمِير الْمُسلمين الْفُقَهَاء فِي شَأْنه بِمَا وصل إِلَيْهِ من سيرته وَكَانُوا قد ملئوا مِنْهُ حسدا وحفيظة لما كَانَ ينتحل من مَذْهَب(2/82)
الأشعرية فِي تَأْوِيل الْمُتَشَابه وينكر عَلَيْهِم جمودهم على مَذْهَب السّلف فِي إِقْرَاره كَمَا جَاءَ وَيرى أَن الْجُمْهُور لقنوه تجسيما وَيذْهب إِلَى تكفيرهم بذلك على أحد قولي الأشعرية فِي التَّكْفِير فأغروا الْأَمِير بِهِ فَأحْضرهُ للمناظرة مَعَهم فَكَانَ لَهُ الفلج والظهور عَلَيْهِم
وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ مُحَمَّد الْمهْدي قد استدنى أشخاصا من أهل الْمغرب جلادا فِي القوى الجسمانية أَغْمَارًا وَكَانَ أميل إِلَى الأغمار من أولي الفطن والإستبصار فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم سِتَّة نفر سوى أبي مُحَمَّد البشير ثمَّ أَنه رَحل إِلَى أقْصَى الْمغرب وَتوجه فِي أَصْحَابه إِلَى مراكش وملكها يَوْمئِذٍ أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين وَكَانَ ملكا عَظِيما حَلِيمًا ورعا عادلا متواضعا وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ رجل يُقَال لَهُ مَالك بن وهيب الأندلسي وَكَانَ عَالما صَالحا زَاد ابْن خلدون عَارِفًا بالنجوم فشرع مُحَمَّد الْمهْدي فِي الْإِنْكَار على جري عَادَته حَتَّى أنكر على ابْنة الْملك فَبلغ خَبره الْملك وَأَنه يتحدث فِي تَغْيِير الدولة فَتحدث مَعَ مَالك بن وهيب فِي أمره فَقَالَ مَالك بن وهيب نَخَاف من فتح بَاب يعسر علينا سَده والرأي أَن تحضر هَذَا الشَّخْص وَأَصْحَابه لنسمع كَلَامهم بِحُضُور جمَاعَة من عُلَمَاء الْبِلَاد فَأجَاب الْملك إِلَى ذَلِك
وَكَانَ الْمهْدي وَأَصْحَابه مقيمين فِي مَسْجِد خراب خَارج الْبَلَد فطلبوهم فَلَمَّا ضمهم الْمجْلس قَالَ الْملك لعلماء بَلَده سلوا هَذَا الرجل مَا يَبْغِي منا فَانْتدبَ لَهُ قَاضِي المرية واسْمه مُحَمَّد بن أسود فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك من الْأَقْوَال فِي حق الْملك الْعَادِل الْحَلِيم المنقاد إِلَى الْحق الْمُؤثر طَاعَة الله تَعَالَى على هَوَاهُ فَقَالَ لَهُ الْمهْدي أما مَا نقل عني فقد(2/83)
قلته ولي من وَرَائه أَقْوَال وَأما قَوْلك إِنَّه يُؤثر طَاعَة الله على هَوَاهُ وينقاد إِلَى الْحق فقد حضر اعْتِبَار صِحَة هَذَا القَوْل عَنهُ ليعلم بتعرية عَن هَذِه الصّفة إِنَّه مغرور بِمَا تَقولُونَ لَهُ وتضرونه بِهِ مَعَ علمكُم أَن الْحجَّة متوجهة عَلَيْهِ فَهَل بلغك يَا قَاضِي أَن الْخمر تبَاع جهارا وتمشي الْخَنَازِير بَين الْمُسلمين وَتُؤْخَذ أَمْوَال الْيَتَامَى وَعدد من ذَلِك شَيْئا كثيرا فَلَمَّا سمع الْملك كَلَامه ذرفت عَيناهُ وأطرق حَيَاء ففهم الْحَاضِرُونَ من فحوى كَلَامه أَنه طامع فِي المملكة لنَفسِهِ
وَلما رَأَوْا سكُوت الْملك وانخداعه لقَوْله لم يتَكَلَّم أحد مِنْهُم فَقَالَ مَالك بن وهيب وَكَانَ كثير الإجتراء على الْملك أَيهَا الْملك عِنْدِي لنصيحة إِن قبلتها حمدت عَاقبَتهَا وَإِن تركتهَا لم تأمن غائلتها فَقَالَ الْملك مَا هِيَ فَقَالَ إِنِّي أَخَاف عَلَيْك من هَذَا الرجل وَأرى أَن تعتقله وَأَصْحَابه وتنفق عَلَيْهِم كل يَوْم دِينَارا لتكفي شَره وَإِن لم تفعل فلتنفقن عَلَيْهِ خزائنك كلهَا ثمَّ لَا ينفعك ذَلِك فوافقه الْملك على رَأْيه فَقَالَ لَهُ وزيره يقبح بك أَن تبْكي من موعظة رجل ثمَّ تسيء إِلَيْهِ فِي مجْلِس وَاحِد وَإِن يظْهر مِنْك الْخَوْف مِنْهُ على عظم ملكك وَهُوَ رجل فَقير لَا يملك سد جوعه فَلَمَّا سمع الْملك كَلَامه أَخَذته عزة النَّفس واستهون أمره فَصَرفهُ وَسَأَلَهُ الدُّعَاء
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ مَالك بن وهيب حزاء ينظر فِي النُّجُوم وَكَانَ الْكُهَّان يتحدثون بِأَن ملكا كَائِنا بالمغرب فِي أمة من البربر ويتغير فِيهِ شكل السَّمَكَة لقران بَين الكوكبين العلويين من السيارة يَقْتَضِي ذَلِك فَقَالَ مَالك بن وهيب احتفظوا بالدولة من الرجل فَإِنَّهُ صَاحب الْقرَان وَالدِّرْهَم المربع فَطَلَبه عَليّ بن يُوسُف فَفَقدهُ وسرح الخيالة فِي طلبه ففاتهم
وَحكى صَاحب المعرب إِن الْمهْدي لما خرج من عِنْد أَمِير الْمُسلمين لم يزل وَجهه تِلْقَاء وَجهه إِلَى أَن فَارقه فَقيل لَهُ نرَاك قد تأدبت مَعَ الْملك إِذْ لم توله ظهرك فَقَالَ أردْت أَن لَا يُفَارق وَجْهي الْبَاطِل حَتَّى أغيره مَا اسْتَطَعْت اه كَلَامه(2/84)
فَلَمَّا خرج الْمهْدي وَأَصْحَابه من عِنْد الْملك قَالَ لَهُم لَا مقَام لكم هُنَا بمراكش مَعَ وجود مَالك بن وهيب فَمَا نَأْمَن أَن يعاود الْملك فِي أمرنَا فينالنا مِنْهُ مَكْرُوه وَإِن لنا بِمَدِينَة أغمات أَخا فِي الله فنقصد الْمُرُور بِهِ فَلَنْ نعدم مِنْهُ رَأيا وَدُعَاء صَالحا وَاسم هَذَا الشَّخْص عبد الْحق بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من فُقَهَاء المصامدة فَخَرجُوا إِلَيْهِ ونزلوا عَلَيْهِ وَأخْبرهُ مُحَمَّد بن تومرت خبرهم وأطلعه على مقصدهم وَمَا جرى لَهُ مَعَ الْملك فَقَالَ عبد الْحق هَذَا الْموضع لَا يحميكم وَإِن أحصن الْمَوَاضِع الْمُجَاورَة لهَذَا الْبَلَد تينملل وبيننا وَبَينهَا مَسَافَة يَوْم فِي هَذَا الْجَبَل فانقطعوا فِيهِ بُرْهَة ريثما يتناسى ذكركُمْ فَلَمَّا سمع الْمهْدي بِهَذَا الإسم تجدّد لَهُ ذكر اسْم الْموضع الَّذِي رَآهُ فِي كتاب الجفر فقصده مَعَ أَصْحَابه
وَقَالَ ابْن خلدون لما لحق الْمهْدي بأغمات غير الْمُنْكَرَات على عَادَته فأغرى بِهِ أهل أغمات عَليّ بن يُوسُف وطيروا إِلَيْهِ بِخَبَرِهِ فَخرج مِنْهَا هُوَ وتلامذته الَّذين كَانُوا مَعَه فِي صحبته فلحق أَولا بمسفيوة ثمَّ بهنتاتة ولقيه بهَا الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس وإفريقية ثمَّ ارتحل الْمهْدي عَنْهُم إِلَى هرغة فَنزل على قومه وَذَلِكَ سنة خمس عشر وَخَمْسمِائة وَبنى رابطة للعباد فَاجْتمع عَلَيْهِ الطّلبَة من الْقَبَائِل وَأخذ يعلمهُمْ المرشدة لَهُ فِي التَّوْحِيد بِاللِّسَانِ الْبَرْبَرِي وشاع أمره
ثمَّ دَاخل عَامل لمتونة على السوس أُنَاسًا من هرغة فِي قَتله وَنذر بهم إخْوَانهمْ فنقلوا الْمهْدي إِلَى معقل من أشياعهم وَقتلُوا من دَاخل فِي أمره ودعوا المصامدة إِلَى مبايعته على التَّوْحِيد وقتال المجسمة دونه سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فَتقدم إِلَيْهَا رجالاتهم من الْعشْرَة وَغَيرهم وَكَانَ فيهم من هنتاتة أَبُو حَفْص عمر بن يحيى وَأَبُو يحيى بن يكيت ويوسف بن وانودين وَابْن يغمور وَمن تينملل أَبُو حَفْص عمر بن عَليّ الصناكي(2/85)
وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان وَعمر بن تافراكين وَغَيرهم وأوعيت قَبيلَة هرغة فَدَخَلُوا فِي أمره كلهم ثمَّ دخل مَعَهم كدميوة وكنفيسة
وَلما كملت بيعَته لقبوه بالمهدي وَكَانَ قبلهَا يلقب بِالْإِمَامِ وَكَانَ يُسمى أَصْحَابه الطّلبَة وَأهل دَعوته الْمُوَحِّدين تعريضا بلمتونة فِي أَخذهم بالعدول على التَّأْوِيل وميلهم إِلَى التجسم
وَلما تمّ لَهُ من أَصْحَابه خَمْسُونَ سماهم آيت الْخمسين ثمَّ زحف إِلَيْهِم عَامل لمتونة على السوس وهم بمكانهم من هرغة فاستجاشوا إخْوَانهمْ من هنتاتة وتينملل فَاجْتمعُوا إِلَيْهِم وأوقعوا بعكسر لمتونة فَكَانَت تِلْكَ باكورة الْفَتْح وَكَانَ الْمهْدي يعدهم بذلك فاستبصروا فِي أمره وتسابقت كافتهم إِلَى الدُّخُول فِي دَعوته وترددت إِلَيْهِم عَسَاكِر لمتونة مرّة بعد أُخْرَى ففضوهم وانتقل لثلاث سِنِين من بيعَته إِلَى جبل تينملل فأوطنه وَبنى دَاره ومسجده بَينهم وحوالي منبع وَادي نَفِيس وَقَاتل من تخلف عَن بيعَته من المصامدة حَتَّى استقاموا لَهُ هَذَا كَلَام ابْن خلدون فِي سِيَاقه هَذَا الْخَبَر جِئْنَا بِهِ مُخْتَصرا
وَاقْتضى كَلَام ابْن خلكان أَن ظُهُور الْمهْدي ومبايعته لم تكن إِلَّا بتينملل فَإِنَّهُ قد عقب مَا سبق لَهُ من أَن الْفَقِيه عبد الْحق بن إِبْرَاهِيم المصمودي أَشَارَ على الْمهْدي بِالْمَسِيرِ إِلَى تينملل وَأَن الْمهْدي لما سمع هَذَا الإسم تجدّد لَهُ ذكر فِيهِ فقصده مَعَ أَصْحَابه فَلَمَّا أَتَوْهُ رَآهُمْ أَهله على تِلْكَ الصُّورَة فَعَلمُوا أَنهم طلاب علم فَقَامُوا إِلَيْهِم وأكرموهم وتلقوهم بالترحاب وأنزلوهم فِي أكْرم مَنَازِلهمْ وَسَأَلَ أَمِير الْمُسلمين عَنْهُم بعد خُرُوجهمْ من مَجْلِسه فَقيل لَهُ إِنَّهُم سافروا فسره ذَلِك وَقَالَ تخلصنا من الْإِثْم بحبسهم ثمَّ إِن أهل الْجَبَل تسامعوا بوصول الْمهْدي إِلَيْهِم وَكَانَ قد سَار فيهم ذكره فجاؤوه من كل فج عميق وتبركوا بزيارته وَكَانَ كل من أَتَاهُ استدناه وَعرض عَلَيْهِ مَا فِي نَفسه من الْخُرُوج على السُّلْطَان فَإِن(2/86)
أَجَابَهُ أَضَافَهُ إِلَى خواصه وَإِن خَالفه أعرض عَنهُ وَكَانَ يستميل الْأَحْدَاث وَذَوي الْغرَّة وَكَانَ ذَوُو الحنكة وَالْعقل والحلم من أَهَالِيهمْ ينهونهم ويحذرونهم من اتِّبَاعه ويخوفونهم سطوة السُّلْطَان فَكَانَ لَا يتم لَهُ مَعَ ذَلِك أَمر وطالت الْمدَّة وَخَافَ الْمهْدي من مفاجأة الْأَجَل قبل بُلُوغ الأمل وخشي أَن يطْرق على أهل الْجَبَل من جِهَة الْملك مَا يحوجهم إِلَى استسلامه إِلَيْهِ والتخلي عَنهُ فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِيمَا يشاركونه فِيهِ ليعصوا على الْملك بِسَبَبِهِ فَرَأى بعض أَوْلَاد الْقَوْم شقرا زرقا وألوان آبَائِهِم السمرَة والكحل فَسَأَلَهُمْ عَن سَبَب ذَلِك فَلم يُجِيبُوهُ فألزمهم الْإِجَابَة فَقَالُوا نَحن من رعية هَذَا الْملك وَله علينا خراج وَفِي كل سنة تصعد مماليكه إِلَيْنَا وينزلون فِي بُيُوتنَا ويخرجوننا عَنْهَا ويختلون بِمن فِيهَا من النِّسَاء فتأتي أَوْلَادنَا على هَذِه الصّفة وَمَا لنا قدرَة على دفع ذَلِك عَنَّا فَقَالَ الْمهْدي وَالله إِن الْمَوْت خير من هَذِه الْحَيَاة وَكَيف رَضِيتُمْ بِهَذَا وَأَنْتُم أضْرب خلق الله بِالسَّيْفِ وأطعنهم بِالرُّمْحِ فَقَالُوا بالرغم لَا بالرضى فَقَالَ أَرَأَيْتُم لَو أَن ناصرا نصركم على أعدائكم مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ قَالُوا كُنَّا نقدم أَنْفُسنَا بَين يَدَيْهِ للْمَوْت ثمَّ قَالُوا من هُوَ قَالَ هُوَ ضيفكم يَعْنِي نَفسه فَقَالُوا السّمع وَالطَّاعَة وَكَانُوا يغالون فِي تَعْظِيمه فَأخذ عَلَيْهِم العهود والمواثيق وَاطْمَأَنَّ قلبه ثمَّ قَالَ لَهُم اسْتَعدوا لحضور هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ فَإِذا جاؤوكم فأجروهم على عَادَتهم وخلوا بَينهم وَبَين النِّسَاء وميلوا عَلَيْهِم بالخمور فَإِذا سَكِرُوا فآذنوني بهم
فَلَمَّا حضر المماليك وَفعل بهم أهل الْجَبَل مَا أَشَارَ بِهِ الْمهْدي وَكَانَ ذَلِك لَيْلًا أعلموه بذلك أَمر بِقَتْلِهِم كلهم فَلم يمض من اللَّيْل سَاعَة حَتَّى أَتَوا على آخِرهم وَلم يفلت مِنْهُم سوى مَمْلُوك وَاحِد كَانَ خَارج الْمنَازل لحَاجَة لَهُ فَسمع التَّكْبِير عَلَيْهِم والإيقاع بهم فهرب على غير الطَّرِيق حَتَّى خلص من الْجَبَل وَلحق بمراكش فَأخْبر الْملك بِمَا جرى فندم على فَوَات(2/87)
مُحَمَّد بن تومرت من يَده وَعلم أَن الحزم كَانَ مَعَ مَالك بن وهيب فِيمَا أَشَارَ بِهِ فَجهز من وقته خيلا بِمِقْدَار مَا يسع وَادي تينملل فَإِنَّهُ ضيق المسلك
وَعلم الْمهْدي أَنه لَا بُد من عَسْكَر يصل إِلَيْهِم فَأمر أهل الْجَبَل بالقعود على أنقاب الْوَادي ومراصده واستنجد لَهُم بعض المجاورين فَلَمَّا وصلت الْخَيل إِلَيْهِم أَقبلت عَلَيْهِم الْحِجَارَة من جَانِبي الْوَادي مثل الْمَطَر وَكَانَ ذَلِك من أول النَّهَار إِلَى آخِره وَحَال بَينهم اللَّيْل فَرجع الْعَسْكَر إِلَى الْملك وَأَخْبرُوهُ بِمَا تمّ لَهُم فَعلم أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِأَهْل الْجَبَل لتحصنهم فَأَعْرض عَنْهُم
وَتحقّق الْمهْدي ذَلِك مِنْهُ وصفت لَهُ مَوَدَّة أهل الْجَبَل فَعِنْدَ ذَلِك استدعى أَبَا مُحَمَّد البشير وَقَالَ لَهُ هَذَا أَوَان إِظْهَار فضائلك دفْعَة وَاحِدَة ليقوم لَك مقَام المعجزة لنستميل بذلك قُلُوب من لم يدْخل فِي الطَّاعَة ثمَّ اتفقَا على أَنه يُصَلِّي الصُّبْح وَيَقُول بِلِسَان فصيح بعد اسْتِعْمَال العجمة واللكنة فِي تِلْكَ الْمدَّة إِنِّي رَأَيْت البارحة فِي مَنَامِي أَنه نزل إِلَيّ ملكان من السَّمَاء وشقا فُؤَادِي وغسلاه وحشواه علما وَحِكْمَة وقرآنا فَلَمَّا أصبح فعل ذَلِك وَهُوَ فصل يطول شَرحه فانقاد لَهُ كل صَعب القياد وعجبوا من حَاله وَحفظه الْقُرْآن فِي النّوم فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن تومرت فَعجل لنا بالبشرى فِي أَنْفُسنَا وعرفنا أسعداء نَحن أم أشقياء فَقَالَ لَهُ أما أَنْت فَإنَّك الْمهْدي الْقَائِم بِأَمْر الله وَمن تبعك سعد وَمن خالفك هلك ثمَّ قَالَ اعْرِض أَصْحَابك عَليّ حَتَّى أميز أهل الْجنَّة من أهل النَّار وَعمل فِي ذَلِك حِيلَة قتل بهَا كل من خَالف أَمر مُحَمَّد بن تومرت وَأبقى من أطاعه وَشرح ذَلِك يطول
وَكَانَ غَرَضه أَن لَا يبْقى فِي الْجَبَل مُخَالفا لَهُم فَلَمَّا قتل من قتل علم مُحَمَّد بن تومرت أَن فِي البَاقِينَ من لَهُ أهل وعشيرة قتلوا وَأَنَّهُمْ لَا تطيب(2/88)
نُفُوسهم بذلك فَجَمعهُمْ وبشرهم بانتقال ملك مراكش إِلَيْهِم واغتنام أَمْوَالهم فسرهم ذَلِك وسلاهم عَن أهلهم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن تَفْصِيل هَذِه الْوَاقِعَة طَوِيل ولسنا بصدد ذَلِك
وخلاصة الْأَمر أَن مُحَمَّد بن تومرت لم يزل حَتَّى جهز جَيْشًا عدد رِجَاله عشرَة آلَاف بَين فَارس وراجل وَفِيهِمْ عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَأَبُو مُحَمَّد البشير وَأَصْحَابه كلهم وَأقَام هُوَ بِالْجَبَلِ فَنزل الْقَوْم لحصار مراكش وَأَقَامُوا عَلَيْهَا شهرا ثمَّ كسروا كسرة شنيعة وهرب من سلم مِنْهُم من الْقَتْل
وَكَانَ فِيمَن سلم عبد الْمُؤمن وَقتل البشير وَبلغ الْخَبَر الْمهْدي وَهُوَ بِالْجَبَلِ وَقد حَضرته الْوَفَاة قبل عود أَصْحَابه إِلَيْهِ فأوصى من حضر أَن يبلغ الغائبين إِن النَّصْر لَهُم وَإِن الْعَاقِبَة حميدة فَلَا يضجروا وليعاودوا الْقِتَال فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيفتح على أَيْديهم وَإِن الْحَرْب سِجَال وَإِنَّكُمْ ستقوون ويضعفون ويقلون وتكثرون وَأَنْتُم فِي مبدأ أَمر وهم فِي آخِره وَأَشْبَاه هَذِه الْوَصَايَا وَهِي وَصِيَّة طَوِيلَة اه كَلَام ابْن خلكان
وَقَالَ ابْن خلدون لما كَانَ شَأْن أبي مُحَمَّد البشير وميز الموحد من الْمُنَافِق اعتزم الْمهْدي على غَزْو لمتونة فَجمع كَافَّة أهل دَعوته من المصامدة إِلَيْهِم فَلَقوهُ بكبكب وَهَزَمَهُمْ الموحدون وأتبعوهم إِلَى أغمات فلقيتهم هُنَالك زحوف لمتونة مَعَ أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف وَإِبْرَاهِيم بن تاعماشت فَهَزَمَهُمْ الموحدون وفل إِبْرَاهِيم وجنده واتبعوهم إِلَى مراكش فنزلوا الْبحيرَة فِي زهاء أَرْبَعِينَ ألفا كلهم راجل إِلَّا أَرْبَعمِائَة فَارس واحتفل عَليّ بن يُوسُف فِي الاحتشاد وبرز إِلَيْهِم لأربعين من نزولهم خرج عَلَيْهِم من بَاب آيلان فَهَزَمَهُمْ وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفقد البشير واستحر الْقَتْل فِي هيلانة وأبلى عبد الْمُؤمن فِي ذَلِك الْيَوْم أحسن الْبلَاء وَقيل للمهدي إِن الْمُوَحِّدين قد هَلَكُوا فَقَالَ لَهُم مَا فعل عبد الْمُؤمن قَالُوا هُوَ على جَوَاده الأدهم قد أحسن الْبلَاء فَقَالَ مَا بَقِي عبد الْمُؤمن فَلم يهْلك أحد(2/89)
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل كَانَت وقْعَة الْبحيرَة بأحواز مراكش قد استأصلت مُعظم أَصْحَاب الْمهْدي وكادت تَأتي عَلَيْهِم وَمَعَ ذَلِك فَلم تضع مِنْهُ وَلَا وهنت صبره وَكَانَ يَقُول مثل هَذَا الْأَمر كالفجر يتقدمه الْفجْر الْكَاذِب وَبعده ينبلج الصُّبْح ويستعلي الضَّوْء وَيَأْمُرهُمْ باتخاذ مرابط الْخَيل الَّتِي ينالون من فَيْء عدوهم بعْدهَا وَإنَّهُ يُعْطي الرجل على قدر مَا أعد من الرِّبَاط إِلَى غير ذَلِك
فَهَذَا خبر الْمهْدي مُخْتَصرا من ابْن خلدون ممزوجا بِمَا نَقله ابْن خلكان من ذَلِك وَقد سَاق ابْن أبي زرع فِي القرطاس خبر الْمهْدي هَذَا وَفِيه بعض مُخَالفَة لما تقدم فلنأت بِهِ وَإِن أدّى إِلَى بعض التّكْرَار زِيَادَة فِي الإمتاع وتحلية للأسماع فَنَقُول
قَالَ ابْن أبي زرع مَا ملخصه إِن الْمهْدي رَحل إِلَى الْمشرق فِي طلب الْعلم وَلَقي مَشَايِخ وَسمع مِنْهُم وَأخذ عَنْهُم علما كثيرا وَحفظ جملَة من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبغ فِي علم الْأُصُول والاعتقادات
وَكَانَ فِي جملَة من لَقِي من الْعلمَاء الشَّيْخ أَحْمد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ لَازمه ثَلَاث سِنِين وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد كثيرا مَا يُشِير إِلَى الْمهْدي وَيَقُول إِنَّه لَا بُد أَن يكون لَهُ شَأْن ونمى الْخَبَر بذلك إِلَى الْمهْدي فَلم يزل يتَقرَّب إِلَى الشَّيْخ بأنواع الْخدمَة حَتَّى أطلعه على مَا عِنْده من الْعلم فِي ذَلِك فَلَمَّا تحققت عِنْده الْحَال استخار الله وعزم على الترحال فَخرج قَاصِدا بِلَاد الْمغرب غرَّة ربيع الأول سنة عشر وَخَمْسمِائة ولازم فِي طَرِيقه درس الْعلم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَى أَن اجْتمع بِهِ عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَبَايعهُ على مؤازرته فِي الشدَّة والرخاء والعسر واليسر ثمَّ قدم بِلَاد الْمغرب وَاسْتقر بمراكش وَكَانَت لَهُ فصاحة وَعَلِيهِ مهابة فَأخذ يطعن على المرابطين وينسبهم إِلَى الْكفْر والتجسيم ويشيع عِنْد من يَثِق بِهِ ويسكن إِلَيْهِ أَنه الْمهْدي المنتظر الَّذِي يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جورا وَجرى مِنْهُ(2/90)
بمراكش من تَغْيِير الْمُنكر وَنَحْوه مَا تقدم ذكره فاتصل خَبره بعلي بن يُوسُف اللمتوني فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الَّذِي بلغنَا عَنْك فَقَالَ إِنَّمَا أَنا رجل فَقير أطلب الْآخِرَة وآمر بِالْمَعْرُوفِ وأنهى عَن الْمُنكر وَأَنت أَيهَا الْملك أولى من يفعل ذَلِك فَإنَّك المسؤول عَنهُ وَقد ظَهرت بمملكتك الْمُنْكَرَات وفشت الْبدع وَقد وَجب الله عَلَيْك إحْيَاء السّنة وإماتة الْبِدْعَة وَقد عَابَ الله تَعَالَى أمة تركُوا النَّهْي عَن الْمُنكر فَقَالَ {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَلَمَّا سمع أَمِير الْمُسلمين كَلَامه تأثر لَهُ وَأَخذه وأطرق مفكرا ثمَّ أَمر بإحضار الْفُقَهَاء فَحَضَرَ مِنْهُم مَا أغص الْمجْلس ثمَّ قَالَ أَمِير الْمُسلمين اختبروا الرجل فَإِن كَانَ عَالما اتبعناه وَإِلَّا أدبناه وَكَانَ الْمهْدي فصيحا لسنا ذَا معرفَة بالأصول والجدل وَكَانَ الْفُقَهَاء الَّذين حَضَرُوا أَصْحَاب حَدِيث وفروع فدارت بَينهم محاورة ومذاكرة أسكتهم فِيهَا وَبَان عجزهم عَنهُ فعدلوا عَن المذاكرة إِلَّا الممالأة وَأغْروا بِهِ أَمِير الْمُسلمين وَقَالُوا هَذَا رجل خارجي وَإِن بقى بِالْمَدِينَةِ أفسد عقائد أَهلهَا فَأمره أَمِير الْمُسلمين بِالْخرُوجِ من الْبَلَد فَخرج إِلَى الْجَبانَة وَضرب بهَا خيمة جلس فِيهَا وَصَارَ الطّلبَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ لأخذ الْعلم عَنهُ فَكثر جمعه وأحبته الْعَامَّة وعظموه
وانْتهى خَبره إِلَى أَمِير الْمُسلمين ثَانِيًا وَنقل إِلَيْهِ أَنه يطعن على الدولة فَأحْضرهُ مرّة أُخْرَى وَقَالَ لَهُ أَيهَا الرجل اتَّقِ الله فِي نَفسك ألم أَنْهَك عَن عقد الجموع والمحازب وأمرتك بِالْخرُوجِ من الْبَلَد فَقَالَ أَيهَا الْملك قد امتثلت أَمرك وَخرجت من الْمَدِينَة إِلَى الْجَبانَة واشتغلت بِمَا يعنيني فَلَا تسمع لأقوال المبطلين فتوعده أَمِير الْمُسلمين وهم بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ ثمَّ عصمه الله مِنْهُ ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا
وَلما انْفَصل الْمهْدي عَن الْمجْلس أغرى الْحَاضِرُونَ أَمِير الْمُسلمين بِهِ وشرحوا لَهُ جلية أمره وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ فاستدرك أَمِير الْمُسلمين فِيهِ رَأْيه(2/91)
وَبعث إِلَيْهِ من يَأْتِيهِ بِرَأْسِهِ فَسمع بذلك بعض بطانته فَمر مسرعا حَتَّى إِذا قرب من الْخَيْمَة قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} فَسَمعَهَا الْمهْدي وفطن لَهَا فانسل من حِينه وَخرج حَتَّى أَتَى تينملل فَأَقَامَ بهَا وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ لحق بِهِ أَصْحَابه الْعشْرَة السَّابِقُونَ إِلَى دَعوته والمصدقون بإمامته وهم عبد الْمُؤمن بن عَليّ الكومي وَأَبُو مُحَمَّد البشير الوانشريسي وَأَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي وَأَبُو يحيى بن يكيت الهنتاتي وَأَبُو حَفْص عمر بن عَليّ آصناك وَإِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الخزرجي وَأَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو عمرَان مُوسَى بن تمار وَسليمَان بن خلوف وعاشر فأقاموا بتينملل إِلَى رَمَضَان من سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فَعظم صيته بجبل درن وَكَثُرت أَتْبَاعه فَلَمَّا رأى ذَلِك أظهر دَعوته ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعهُ الْعشْرَة الْبيعَة الْخَاصَّة عقب صَلَاة الْجُمُعَة خَامِس عشر رَمَضَان من السّنة
وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم السبت خرج الْمهْدي فِي أَصْحَابه الْعشْرَة متقلدين السيوف وَتقدم إِلَى الْجَامِع فَصَعدَ الْمِنْبَر وخطب النَّاس وأعلمهم أَنه الْمهْدي المنتظر ودعاهم إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ الْبيعَة الْعَامَّة ثمَّ بَث دعاته فِي بِلَاد المصامدة يدعونَ النَّاس إِلَى بيعَته ويزرعون محبته فِي قُلُوبهم بالثناء عَلَيْهِ وَوَصفه بالزهد وتحري الْحق وَإِظْهَار الكرامات فانثال النَّاس عَلَيْهِ من كل جِهَة وسمى أَتْبَاعه الْمُوَحِّدين ولقنهم عقائد التَّوْحِيد بِاللِّسَانِ الْبَرْبَرِي وَجعل لَهُم فِيهِ الأعشار والأحزاب والسور وَقَالَ من لم يحفظ هَذَا التَّوْحِيد فَلَيْسَ بموحد لَا تجوز إِمَامَته وَلَا تُؤْكَل ذَبِيحَته فاستولت محبته على قُلُوبهم وعظموه ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى كَانُوا يستغيثون بِهِ فِي شدائدهم وينوهون باسمه على منابرهم وَلم تزل الْوُفُود تترادف عَلَيْهِ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ جم غفير فَلَمَّا علم أَن ناموسه قد رسخ وسلطانه قد تمكن قَامَ فيهم خَطِيبًا وندبهم إِلَى جِهَاد المرابطين وأباح لَهُم دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فَانْتدبَ النَّاس(2/92)
لذَلِك وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت فانتخب مِنْهُم عشرَة آلَاف من أجناد الْمُوَحِّدين وَقدم عَلَيْهِم أَبَا مُحَمَّد البشير وَعقد لَهُ راية بَيْضَاء ودعا لَهُم وَانْصَرفُوا فصمدوا إِلَى مَدِينَة أغمات
وانْتهى الْخَبَر إِلَى أَمِير الْمُسلمين فَجهز لقتالهم جَيْشًا من الحشم والأجناد فَلَمَّا الْتَقَوْا انتصر عَلَيْهِم الموحدون وهزموهم واتبعوهم حَتَّى أدخلوهم مراكش وحاصروها أَيَّامًا ثمَّ أفرجوا عَنْهَا حِين تكاثرت عَلَيْهِم جيوش لمتونة وَكَانَ ذَلِك ثَالِث شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة وَقسم الْمهْدي الْغَنَائِم الَّتِي غنموها من عَسْكَر المرابطين وتلا عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى {وَعدكُم الله مَغَانِم كَثِيرَة تأخذونها فَعجل لكم هَذِه} الْآيَة وانتشر ذكر الْمهْدي بِجَمِيعِ أقطار الْمغرب والأندلس وأركب جلّ جَيْشه من خيل المرابطين الَّتِي غنموها ثمَّ غزا مراكش بِنَفسِهِ فعبأ جَيْشه وَسَار حَتَّى نزل بجبل كيليز بِقرب الْمَدِينَة فَأَقَامَ محاصرا لَهَا ثَلَاث سِنِين يباكرها بِالْقِتَالِ ويراوحها من سنة سِتّ عشرَة إِلَى سنة تسع عشرَة
وَلما ضجر من مقَامه هُنَاكَ نَهَضَ إِلَى وَادي نَفِيس وَانْحَدَرَ مَعَ مسيله يَدْعُو النَّاس لطاعته وَيُقَاتل من أَبى مِنْهُم فانقاد لَهُ أهل السهل والجبل وبايعته كدميوة ثمَّ غزا بِلَاد ركراكة فَأَخذهُم بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيد الله وَشَرَائِع دينه وَسَار فِي بِلَاد المصامدة يُقَاتل من أَبى ويسالم من أجَاب فَفتح بلادا كَثِيرَة وَدخل فِي دَعوته عَالم كثير من المصامدة وَرجع إِلَى تينملل فَأَقَامَ بهَا شَهْرَيْن ريثما استراح النَّاس ثمَّ غزا مَدِينَة أغمات وبلاد هزرجة فِي ثَلَاثِينَ ألفا من الْمُوَحِّدين فَاجْتمع على حربه أهل أغمات وهزرجة وَخلق كثير من الحشم ولمتونة وَغَيرهم فانتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وَقسم الْمهْدي أنفالهم بَين الْمُوَحِّدين ثمَّ غزا أهل درن فَفتح قلاعه وحصونه وطاع لَهُ جَمِيع من فِيهِ من قبائل هرغة وهنتاتة وكنفسية وَغَيرهم
ثمَّ عَاد إِلَى تينملل فَأَقَامَ بهَا ريثما استراح النَّاس ثمَّ ندبهم إِلَى غَزْو(2/93)
مراكش وَجِهَاد المرابطين وَقدم عَلَيْهِم عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَأَبا مُحَمَّد البشير وَخص عبد الْمُؤمن بإمامة الصَّلَاة فَسَارُوا حَتَّى انْتَهوا إِلَى أغمات فَلَقِيَهُمْ بهَا أَبُو بكر بن عَليّ بن يُوسُف فِي جَيش كثيف من لمتونة وقبائل صنهاجة فَاقْتَتلُوا ودامت الْحَرْب بَينهم ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ انتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموا أَبَا بكر وجيشه إِلَى مراكش وقتلوهم فِي كل طَرِيق وحصروا مراكش أَيَّامًا ثمَّ رجعُوا إِلَى تينملل فَخرج الْمهْدي للقائهم فَرَحَّبَ بهم وعرفهم بِمَا يكون لَهُم من النَّصْر وَالْفَتْح وَمَا يملكونه من الْبِلَاد ثمَّ كَانَت وَفَاته عقب ذَلِك على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله فَهَذَا سِيَاق ابْن أبي زرع لهَذِهِ الْأَخْبَار وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
بَقِيَّة أَخْبَار الْمهْدي وَبَعض سيرته إِلَى وَفَاته
كَانَ الْمهْدي رجلا ربعَة أسمر عَظِيم الهمة غائر الْعَينَيْنِ حَدِيد النّظر خَفِيف العارضين لَهُ شامة سَوْدَاء على كتفه الْأَيْمن ذَا سياسة ودهاء وناموس عَظِيم وَكَانَ مَعَ ذَلِك عَالما فَقِيها رَاوِيا للْحَدِيث عَارِفًا بالأصول والجدل فصيح اللِّسَان مقداما على الْأُمُور الْعِظَام غير مُتَوَقف فِي سفك الدِّمَاء يهون عَلَيْهِ إِتْلَاف عَالم فِي بُلُوغ غَرَضه وَكَانَ حصورا لَا يَأْتِي النِّسَاء وَكَانَ متيقظا فِي أَحْوَاله ضابطا لما ولي من سُلْطَانه أنْشد صَاحب كتاب الْمغرب ف حَقه
(آثاره تنبيك عَن أخباره ... حَتَّى كَأَنَّك بالعيان ترَاهُ)
ثمَّ قَالَ
لَهُ قدم فِي الثرى وهمة فِي الثريا وَنَفس ترى إِرَاقَة مَاء الْحَيَاة دون إِرَاقَة مَاء الْمحيا أغفل المرابطون عقله وربطه حَتَّى دب إِلَيْهِم دَبِيب القلق فِي الغسق وَترك فِي الدُّنْيَا دويا أنشأ دولة لَو شَاهدهَا أَبُو مُسلم لَكَانَ لعزمه فِيهَا غير مُسلم وَكَانَ قوته من غزل أُخْت لَهُ فِي كل يَوْم رغيفا بِقَلِيل سمن أَو(2/94)
زَيْت وَلم ينْتَقل عَن هَذَا حِين كثرت عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَرَأى أَصْحَابه يَوْمًا وَقد مَالَتْ نُفُوسهم إِلَى كَثْرَة مَا غنموه فَأمر بِضَم ذَلِك جَمِيعه وإحراقه وَقَالَ من كَانَ يَتبعني لأجل الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي إِلَّا مَا رأى وَمن تَبِعنِي للآخرة فَجَزَاؤُهُ عِنْد الله وَكَانَ على خمول زيه وَبسط وَجهه مهيبا منيع الْحجاب إِلَّا عِنْد مظْلمَة وَله رجل مُخْتَصّ بخدمته وَالْإِذْن عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ شعر فَمن ذَلِك قَوْله
(أخذت بأعضادهم إِذْ نؤوا ... وخلفك الْقَوْم إِذْ ودعو)
(فكم أَنْت تنْهى وَلَا تَنْتَهِي ... وَتسمع وعظا وَلَا تسمع)
(فيا حجر السن حَتَّى مَتى ... تسن الْحَدِيد وَلَا تقطع)
وَكَانَ كثيرا مَا ينشد
(تجرد من الدُّنْيَا فَإنَّك إِنَّمَا ... خرجت إِلَى الدُّنْيَا وَأَنت مُجَرّد)
وَكَانَ يتَمَثَّل أَيْضا بقول أبي الطّيب المتنبي
(إِذا غامرت فِي شرف مروم ... فَلَا تقنع بِمَا دون النُّجُوم)
(فَطَعِمَ الْمَوْت فِي أَمر حقير ... كطعم الْمَوْت فِي أَمر عَظِيم)
وَبقول أَيْضا
(وَمن عرف الْأَيَّام معرفتي بهَا ... وبالناس روى رمحه غير رَاحِم)
(فَلَيْسَ بمرحوم إِذا ظفروا بِهِ ... وَلَا فِي الردى الْجَارِي عَلَيْهِم بآثم)
وَبِقَوْلِهِ أَيْضا
(وَمَا أَنا مِنْهُم بالعيش فيهم ... وَلَكِن مَعْدن الذَّهَب الرغام)
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل قَالُوا كَانَ مُحَمَّد بن تومرت يزْعم أَنه مَأْمُور بِنَوْع من الْوَحْي والإلهام وينكر كتب الرَّأْي والتقليد وَله بَاعَ فِي علم الْكَلَام وغلبت عَلَيْهِ نزغة خارجية وَكَانَ ينتحل القضايا الإستقبالية وَيُشِير إِلَى الكوائن الْآتِيَة ورتب قومه ترتيبا غَرِيبا فَمنهمْ أهل الدَّار وَأهل الْجَمَاعَة وَأهل السَّاقَة وَأهل خمسين وَأهل سبعين والطلبة والحفاظ(2/95)
وَأهل الْقَبَائِل فَأهل الدَّار للامتهان والخدمة وَأهل الْجَمَاعَة للتفاوض والمشورة وَأهل السَّاقَة للمباهاة وَأهل سبعين وَخمسين والحفاظ والطلبة لحمل الْعلم والتلقي وَسَائِر الْقَبَائِل لمدافعة الْعَدو وَكَانَ يعلمهُمْ أوجه الْعِبَادَات فِي الْعَادَات
قلت من ذَلِك أَن طَائِفَة من المصامدة عسر عَلَيْهِم حفظ الْفَاتِحَة لشدَّة عجمتهم فعدد كَلِمَات أم الْقُرْآن ولقب بِكُل كلمة مِنْهَا رجلا فصفهم صفا وَقَالَ لأولهم اسْمك الْحَمد لله وَللثَّانِي رب الْعَالمين وَهَكَذَا حَتَّى تمت كَلِمَات الْفَاتِحَة ثمَّ قَالَ لَهُم لَا يقبل الله مِنْكُم صَلَاة حَتَّى تجمعُوا هَذِه الْأَسْمَاء على نسقها فِي كل رَكْعَة فسهل عَلَيْهِم الْأَمر وحفظوا أم الْقُرْآن ذكره صَاحب المعرب
قَالُوا وَهُوَ أول من أحدث أصبح وَللَّه الْحَمد فِي أَذَان الصُّبْح
وَمن جراءته وإقدامه وتهالكه على تَحْصِيل مرامه مَا حَكَاهُ صَاحب القرطاس قَالَ كَانَت بَين الْمُوَحِّدين والمرابطين حَرْب فَقتل من الْمُوَحِّدين خلق كثير فَعظم ذَلِك على عَشَائِرهمْ فاحتال الْمهْدي بِأَن انتخب قوما من أَتْبَاعه ودفنهم أَحيَاء بِموضع المعركة وَجعل لكل وَاحِد مِنْهُم متنفسا فِي قَبره وَقَالَ لَهُم إِذا سئلتم عَن حالكم فَقولُوا قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا وَأَن مَا دَعَا إِلَيْهِ الإِمَام الْمهْدي هُوَ الْحق فجدوا فِي جِهَاد عَدوكُمْ وَقَالَ لَهُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك أخرجتكم وَكَانَت لكم عِنْدِي الْمنزلَة الْعَالِيَة وَقصد بذلك أَن يثبتهم على التَّمَسُّك بدعوته ويهون عَلَيْهِم مَا لاقوا من الْقَتْل والجراحات بِسَبَبِهِ ثمَّ جمع أَصْحَابه عِنْد السحر وَقَالَ لَهُم أَنْتُم يَا معشر الْمُوَحِّدين حزب الله وأنصار دينه وَأَعْوَان الْحق فجدوا فِي قتال عَدوكُمْ فَإِنَّكُم على بَصِيرَة من أَمركُم وَإِن كُنْتُم ترتابون فِيمَا أقوله لكم فَأتوا مَوضِع المعركة وسلوا من اسْتشْهد الْيَوْم من إخْوَانكُمْ يُخْبِرُوكُمْ بِمَا لقوا من الثَّوَاب عِنْد الله ثمَّ أَتَى بهم إِلَى مَوضِع المعركة ونادى يَا معشر الشُّهَدَاء مَاذَا لَقِيتُم(2/96)
من الله عز وَجل فَقَالُوا قد أَعْطَانَا من الثَّوَاب مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فَافْتتنَ النَّاس وظنوا أَن الْمَوْتَى قد كلموهم وحكوا ذَلِك لبَقيَّة إخْوَانهمْ فازدادوا بَصِيرَة فِي أمره وثباتا على رَأْيه وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال
وَفَاة الْمهْدي رَحمَه الله
كَانَت وَفَاة الْمهْدي عقب وقْعَة الْبحيرَة قَالَ ابْن خلدون لأربعة أشهر بعْدهَا وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وَغَيره كَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَقيل غير ذَلِك
وَقَالَ فِي القرطاس لما رَجَعَ الموحدون من غَزْو مراكش إِلَى تينملل خرج إِلَيْهِم الْمهْدي فَسلم عَلَيْهِم ورحب بهم وأعلمهم بِمَا يكون لَهُم من النَّصْر وَالْفَتْح وَمَا يملكونه من الْبِلَاد وبمدة ملكهم وأعلمهم أَنه يَمُوت فِي تِلْكَ السّنة فبكوا وأسفوا ثمَّ مرض مَرضه الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَقدم عبد الْمُؤمن للصَّلَاة أَيَّام مَرضه ثمَّ توفّي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم
وَذكر بعض المؤرخين أَن الْمهْدي رأى فِي مَنَامه قبل وَفَاته كَأَن آتِيَا أَتَاهُ فأنشده أبياتا نعى لَهُ فِيهِ نَفسه وأعلمه بِالْيَوْمِ الَّذِي يَمُوت فِيهِ فَكَانَ كَذَلِك انْظُر القرطاس
وَقد مر فِي هَذِه الْأَخْبَار ذكر كتاب الجفر وَرُبمَا تتشوق النَّفس لمعْرِفَة حَقِيقَته فقد قَالَ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان وَاعْلَم أَن كتاب الجفر كَانَ أَصله أَن هَارُون بن سعيد الْعجلِيّ وَهُوَ رَأس الزيدية كَانَ لَهُ كتاب يرويهِ عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَفِيه علم مَا سيقع لأهل الْبَيْت على الْعُمُوم ولبعض الْأَشْخَاص مِنْهُم على الْخُصُوص وَقع ذَلِك لجَعْفَر ونظائره من رجالاتهم على طَرِيق الْكَرَامَة والكشف الَّذِي يَقع لمثلهم من الْأَوْلِيَاء وَكَانَ مَكْتُوبًا عِنْد جَعْفَر الصَّادِق فِي جلد ثَوْر صَغِير فَرَوَاهُ عَنهُ(2/97)
هَارُون الْعجلِيّ وَكتبه وَسَماهُ الجفر باسم الْجلد الَّذِي كتب فِيهِ لِأَن الجفر فِي اللُّغَة هُوَ الصَّغِير فَصَارَ هَذَا الإسم علما على هَذَا الْكتاب عِنْدهم وَكَانَ فِيهِ تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم وَمَا فِي بَاطِنه من غرائب الْمعَانِي مروية عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ
وَذكره ابْن قُتَيْبَة فِي أَوَائِل كتاب اخْتِلَاف الحَدِيث فَقَالَ بعد كَلَام طَوِيل وأعجب من هَذَا التَّفْسِير تَفْسِير الروافض لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم وَمَا يَدعُونَهُ من علم بَاطِنه بِمَا وَقع إِلَيْهِم من الجفر الَّذِي ذكره الْعجلِيّ ثمَّ قَالَ ابْن قُتَيْبَة
(ألم تَرَ أَن الرافضين تفَرقُوا ... فكلهم فِي جَعْفَر قَالَ مُنْكرا)
(فطائفة قَالُوا إِمَام وَمِنْهُم ... طوائف سمته النَّبِي المطهرا)
(وَمن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... بَرِئت إِلَى الرَّحْمَن مِمَّن تجفرا)
فِي أَبْيَات غير هَذِه ثمَّ قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَهُوَ جلد جفر ادعوا أَنه كتب لَهُم فِيهِ الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَكلما يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة اه وَهَذَا تزييف من ابْن قُتَيْبَة لكتاب الجفر وَخَالف هَذَا الْمَذْهَب أَبُو الْعَلَاء المعري فَقَالَ
(لقد عجبوا لأهل الْبَيْت لما ... أَتَاهُم علمهمْ فِي مسك جفر)
(ومرآة المنجم وَهِي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر)
والمسك بِفَتْح الْمِيم الْجلد والجفر بِفَتْح الْجِيم مَا بلغ أَرْبَعَة أشهر من أَوْلَاد الْمعز وَكَانَت عَادَتهم فِي ذَلِك الزَّمَان أَنهم يَكْتُبُونَ فِي الْجُلُود وَمَا شاكلها لقلَّة الأوراق يَوْمئِذٍ
وَقَالَ ابْن خلدون كتاب الجفر لم تتصل رِوَايَته عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَلَا عرف عينه وَإِنَّمَا يظْهر مِنْهُ شواذ من الْكَلِمَات لَا يصحبها دَلِيل وَلَو صَحَّ النِّسْبَة إِلَى جَعْفَر الصَّادِق لَكَانَ فِيهِ نعم الْمُسْتَند من نَفسه أَو من رجال قومه فهم أهل الكرامات رَضِي الله عَنْهُم(2/98)
الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ الكومي وأوليتها
اعْلَم أَن بني عبد الْمُؤمن لَيْسُوا من المصامدة وَإِنَّمَا هم من كومية ثمَّ من بني عَابِد مِنْهُم وكومية ويعرفون قَدِيما بصطفورة بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضري بن زجيك بن مادغيس الأبتر فهم بَنو عَم زناتة يَجْتَمعُونَ فِي ضري بن زجيك هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبَعض المؤرخين يرفعون نسب عبد الْمُؤمن إِلَى قيس عيلان بن مُضر وَهُوَ ضَعِيف
قَالَ ابْن خلدون كَانَ عبد الْمُؤمن من بني عَابِد أحد بيوتات كومية وأشرافهم قَالَ وموطنهم بتاكرارت وَهُوَ حصن فِي الْجَبَل المطل على هنين من نَاحيَة الشرق
وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ وَالِد عبد الْمُؤمن وَسِيطًا فِي قومه وَكَانَ صانعا فِي عمل الطين يعْمل مِنْهُ الْآنِية فيبيعها وَكَانَ عَاقِلا من الرِّجَال وقورا
ويحكى أَن عبد الْمُؤمن فِي صباه كَانَ نَائِما تجاه أَبِيه وَأَبوهُ مشتغل بِعَمَلِهِ فِي الطين فَسمع أَبوهُ دويا فِي السَّمَاء فَرفع رَأسه فَرَأى سَحَابَة سَوْدَاء من النَّحْل قد هوت مطبقة على الدَّار فَنزلت كلهَا مجتمعة على عبد الْمُؤمن وَهُوَ نَائِم فغطته وَلم يظْهر من تحتهَا وَلَا اسْتَيْقَظَ لَهَا فرأته أمه على تِلْكَ الْحَال فصاحت خوفًا على وَلَدهَا فسكتها أَبوهُ فَقَالَت أَخَاف عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْهِ بل إِنِّي متعجب مِمَّا يدل عَلَيْهِ ذَلِك ثمَّ إِنَّه غسل يَدَيْهِ من الطين وَلبس ثِيَابه ووقف ينْتَظر مَا يكون من أَمر النَّحْل فطار عَنهُ بأجمعه فَاسْتَيْقَظَ الصَّبِي وَمَا بِهِ من ألم فتفقدت أمه جسده فَلم تَرَ بِهِ أثرا وَلم يشك ألما
وَكَانَ بِالْقربِ مِنْهُم رجل مَعْرُوف بالزجر فَمضى أَبوهُ إِلَيْهِ فَأخْبرهُ بِمَا(2/99)
رَآهُ من النَّحْل مَعَ وَلَده فَقَالَ الزاجر يُوشك أَن يكون لَهُ شَأْن يجْتَمع على طَاعَته أهل الْمغرب فَكَانَ من أمره مَا اشْتهر
وَقد تقدم لنا أَن الْمهْدي كَانَ عِنْده كتاب الجفر وَكَانَ فِيهِ أَن أمره لَا يتم إِلَّا على يَد رجل اسْمه كَذَا وحليته كَذَا وَهُوَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَأَقَامَ الْمهْدي يتطلبه مُدَّة إِلَى أَن لقِيه بملالة وَعبد الْمُؤمن إِذْ ذَاك شَاب حدث طَالب علم فلازم الْمهْدي واستمسك بغرره إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ
وَكَانَ الْمهْدي يتفرس فِيهِ النجابة وينشد إِذا أبصره
(تكاملت فِيك أَوْصَاف خصصت بهَا ... فكلنا بك مسرور ومغتبط)
(السن ضاحكة والكف مانحة ... وَالنَّفس وَاسِعَة وَالْوَجْه منبسط)
والبيتان لأبي الشيص الْخُزَاعِيّ وَكَانَ يَقُول لأَصْحَابه صَاحبكُم غلاب الدول وَكَانَ يَقُول عبد الْمُؤمن من صديقي هَذِه الدائرة
وَقَالَ ابْن خلدون آثر الْمهْدي عبد الْمُؤمن بمزيد الخصوصية والقرب بِمَا خصّه الله بِهِ من الْفَهم والوعي للتعليم حَتَّى كَانَ خَالِصَة الْمهْدي وكنز صحابته وَكَانَ مؤمله لخلافته لما أظهره عَلَيْهِ من الشواهد المؤذنة بذلك وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الْخَطِيب
(وَخلف الْأَمر لعبد الْمُؤمن ... فانقادت الدُّنْيَا لَهُ فِي رسن)
(حباه بَين الْقَوْم بالأمارة ... إِذْ وضحت لَهُ فِيهِ الْإِمَارَة)
وَلما اجتاز الْمهْدي فِي طَرِيقه إِلَى الْمغرب بالثعالبة عرب الجزائر أهدوا إِلَيْهِ حمارا فارها يركبه لِأَنَّهُ كَانَ ساعيا على رجلَيْهِ فَكَانَ يُؤثر بِهِ عبد الْمُؤمن وَيَقُول لأَصْحَابه اركبوه الْحمار يركبكم الْخُيُول المسومة وَزعم بَنو عبد الْمُؤمن أَن الْمهْدي كَانَ اسْتَخْلَفَهُ من بعده وَقَالَ ابْن خلكان لم يَصح أَنه اسْتَخْلَفَهُ وَإِنَّمَا رَاعى أَصْحَابه فِي تَقْدِيمه إِشَارَته فتم لَهُ الْأَمر وَالله أعلم(2/100)
بيعَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَالسَّبَب فِيهَا
لما توفّي الْمهْدي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تولى عبد الْمُؤمن تَجْهِيزه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ ثمَّ دَفنه بمسجده الملاصق لداره من تينملل
وَلما فرغ الموحدون من أمره تشوف كل وَاحِد من الْعشْرَة إِلَى الْخلَافَة بعده وَكَانُوا من قبائل شَتَّى وأحبت كل قَبيلَة أَن يكون الْخَلِيفَة مِنْهَا وَأَن لَا يتَوَلَّى عَلَيْهَا من هُوَ من غَيرهَا فتنافسوا فِي ذَلِك فَاجْتمع الْعشْرَة وَالْخَمْسُونَ وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم وخافوا على أنفسهم النِّفَاق وَأَن تفْسد نياتهم وتفترق جَمَاعَتهمْ فاتفقوا على خلَافَة عبد الْمُؤمن لكَونه كَانَ غَرِيبا بَين أظهرهم لَيْسَ من المصامدة لِأَن المصامدة من البرانس وكومية قَبيلَة عبد الْمُؤمن من البتر فقدموه لذَلِك مَعَ مَا كَانُوا يرَوْنَ من ميل الْمهْدي إِلَيْهِ وإيثاره على غَيره فتم لَهُ الْأَمر
وَقَالَ ابْن خلدون لما مَاتَ الْمهْدي خشِي أَصْحَابه من افْتِرَاق الْكَلِمَة وَمَا يتَوَقَّع من سخط المصامدة لولاية عبد الْمُؤمن لكَونه من غير جلدتهم فأرجؤوا الْأَمر إِلَى أَن تخالط بشاشة الدعْوَة قُلُوبهم وكتموا مَوته لثلاث سِنِين يموهون فِيهَا بمرضه ويقيمون سنته فِي الصَّلَاة والحزب الرَّاتِب وَيدخل أَصْحَابه إِلَى بَيته كَأَنَّهُ اختصهم بعيادته فَيَجْلِسُونَ حوالي قَبره ويتفاوضون فِي شؤونهم ثمَّ يخرجُون لإنفاذ مَا أبرموه ويتولى ذَلِك عبد الْمُؤمن حَتَّى إِذا استحكم أَمرهم وتمكنت الدعْوَة من كافتهم كشفوا القناع عَن حَالهم وتمالأ من بَقِي من الْعشْرَة على تَقْدِيم عبد الْمُؤمن وَتَوَلَّى كبر ذَلِك الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس فأظهروا للنَّاس موت الْمهْدي وَعَهده لصَاحبه وانقاد بَقِيَّة أَصْحَابه لذَلِك وروى لَهُم يحيى بن يغمور أَنه كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ أثر صلواته اللَّهُمَّ بَارك فِي الصاحب الْأَفْضَل فَرضِي الكافة وانقادوا لَهُ وَأَجْمعُوا على بيعَته(2/101)
وَزَعَمُوا أَن عبد الْمُؤمن اسْتعْمل فِي ذَلِك حِيلَة تمّ لَهُ بهَا مَا أَرَادَ وَذَلِكَ أَنه عمد إِلَى طَائِر وَأسد فضراهما حَتَّى أنسا بِهِ وَعلم الطَّائِر أَن يَقُول عِنْد عَلامَة نصبها لَهُ النَّصْر والتمكين لعبد الْمُؤمن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعلم الْأسد أَن يبصبص لَهُ ويتمسح بِهِ كلما رَآهُ ثمَّ جمع عبد الْمُؤمن الْمُوَحِّدين وخطبهم وحضهم على الألفة واجتماع الْكَلِمَة وحذرهم عَاقِبَة الْبَغي وَالْخلاف وبينما هُوَ فِي ذَلِك إِذْ أرسل سائس الْأسد أسده وصفر صَاحب الطَّائِر لطائره فبصبص هَذَا وأعلن بالنصر هَذَا فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذَلِك وَرَأَوا أَنَّهَا كَرَامَة لعبد الْمُؤمن فازدادوا بهَا بَصِيرَة فِي أمره وثباتا على بيعَته مَعَ مَا كَانَ من تَقْدِيم الْمهْدي لَهُ فِي الصَّلَاة أَيَّام مَرضه وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم
أنس الشبل ابتهاجا بالأسد ... وَرَأى شبه أَبِيه فقصد)
(ودعا الطَّائِر بالنصر لكم ... فَقضى حقكم حِين وَفد)
وَالله أعلم
وَكَانَت بيعَة عبد الْمُؤمن الْعَامَّة بعد صَلَاة الْجُمُعَة لعشرين يَوْمًا من ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة بِجَامِع تينملل وَأول من بَايعه الْعشْرَة أَصْحَاب الْمهْدي ثمَّ الْخَمْسُونَ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين ثمَّ كَافَّة الْمُوَحِّدين لم يتَخَلَّف عَن بيعَته مِنْهُم أحد فاستوثق لَهُ الْأَمر وَاسْتولى على الْمغرب بأسره وَفتح بِلَاد إفريقية إِلَى برقة وبلاد الأندلس بأسرها وخطب لَهُ على مَنَابِر(2/102)
هَذِه الأقاليم كلهَا على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيله إِن شَاءَ الله
وَلما تمت بيعَته غزا من حِينه بِلَاد تادلا فَقتل بهَا وسبى ثمَّ غزا بِلَاد درعة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ غزا بِلَاد غمارة فَافْتتحَ الْبَعْض مِنْهَا وَقتل واليها ثمَّ تسابق النَّاس إِلَى دَعوته أَفْوَاجًا وأنتقضت البربر على المرابطين فِي سَائِر أقطار الْمغرب وَكَانَ مَا نذكرهُ
غَزْوَة عبد الْمُؤمن الطَّوِيلَة الَّتِي استولى فِيهَا على المغربين
ثمَّ صرف عبد الْمُؤمن عزمه لفتح بِلَاد الْمغرب فغزا غزوته الطَّوِيلَة الَّتِي مكث فِيهَا سبع سِنِين وأجلت عَن فتح المغربين مَعًا الْأَقْصَى والأوسط خرج لَهَا ثمَّ تينملل فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَلم يزل يتقرى بِلَاد الْمغرب وَيفتح معاقلها وَيُسْتَنْزَلُ حماتها ويذلل صعابها إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ خُرُوجه من تينملل على طَرِيق الْجَبَل وَخرج تاشفين بن عَليّ فِي أَتْبَاعه من مراكش على طَرِيق السهل إِلَى أَن وصلا إِلَى تلمسان حَسْبَمَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار المرابطين
قَالَ ابْن خلدون خرج عبد الْمُؤمن فِي هَذِه الْغَزْوَة من تينملل يَعْنِي على طَرِيق الْجَبَل كَمَا قُلْنَا وَخرج تاشفين بن عَليّ يَعْنِي فِي حَيَاة وَالِده بعساكره يحاذيه فِي الْبَسِيط وَالنَّاس يفرون مِنْهُ إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ يتنقل فِي الْجبَال فِي سَعَة من الْفَوَاكِه للْأَكْل والحطب للدفء إِلَى أَن وصل إِلَى جبال غمارة واشتعلت نَار الْفِتْنَة والغلاء بالمغرب وأقشعت الرعايا عَن الْبِلَاد وألح الطاغية على الْمُسلمين بالعدوة الأندلسية وَهلك خلال ذَلِك أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَولي بعده ابْنه تاشفين بن عَليّ الْمَذْكُور وَهُوَ فِي غزاته هَذِه(2/103)
وَفِي القرطاس ارتحل عبد الْمُؤمن إِلَى جبال غمارة وارتحل تاشفين بن عَليّ فِي أَثَره فَنزل بِإِزَاءِ عين الْقَدِيم وَذَلِكَ فِي فصل الشتَاء فَأَقَامَ بذلك المنززل شَهْرَيْن حَتَّى أحرق أهل محلته أوتاد أخبيتهم ورماحهم وهدموا بُيُوتهم وخيامهم انْتهى
ونشأت فتْنَة بَين لمتونة ومسوفة فَنزع جمَاعَة من أُمَرَاء مسوفة مِنْهُم عَامل تلمسان يحيى بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بآنكمار وَلَحِقُوا بِعَبْد الْمُؤمن ودخلوا فِي دَعوته فنبذ إِلَيْهِم المرابطون الْعَهْد وَإِلَى سَائِر مسوفة وَاسْتمرّ عبد الْمُؤمن على حَاله فنازل سبتة فامتنعت عَلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر دفاعه عَنْهَا القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الشهير الذّكر وَكَانَ رئيسها يَوْمئِذٍ بأبوته ومنصبه وَعلمه وَدينه
قَالَ ابْن خلدون وَلذَلِك سخطته الدولة يَعْنِي دولة الْمُوَحِّدين آخر الْأَيَّام حَتَّى مَاتَ مغربا عَن سبته مُسْتَعْملا فِي خطة الْقَضَاء بالبادية من تادلا رَحمَه الله وَتَمَادَى عبد الْمُؤمن فِي غزاته إِلَى جبال غياثة وبطوية فافتتحها ثمَّ نَازل ملوية فَافْتتحَ حصونها ثمَّ تخطى إِلَى بِلَاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة وَكَانَ قد بعث إِلَيْهِم جَيْشًا من الْمُوَحِّدين إِلَى نظر يُوسُف بن وانودين فَخرج إِلَيْهِم مُحَمَّد بن يحيى بن فانوا عَامل تلمسان من قبل المرابطين فِيمَن مَعَه من جيوش لمتونة وزناتة فَهَزَمَهُمْ الموحدون وَقتل ابْن فانوا وانفض جمع زناتة وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ وَولى تاشفين بن عَليّ على تلمسان أَبَا بكر بن مزدلي وَقدم على عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمكانه من الرِّيف أَبُو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر من أُمَرَاء بني ومانوا من زناتة فَبعث مَعَهم يحيى بن يغمور ويوسف بن وانودين فِي عَسْكَر فأثخنوا فِي بِلَاد بني عبد الواد وَبني يلومي من زناتة سبيا وأسرا وَلحق صريخهم بتاشفين بن عَليّ فَأَمَدَّهُمْ بعساكر لمتونة وَمَعَهُمْ الروبرتير قَائِد الرّوم ونزلوا منداس وانضمت إِلَيْهِم قبائل زناتة من بني يلومي وَبني عبد الواد مَعَ شيخهم حمامة بن مطهر وإخوانهم بني توجين وَغَيرهم فأوقعوا بيني ومانوا وَقتلُوا(2/104)
أَبَا بكر بن ماخوخ فِي سِتّمائَة من قومه واستنفذوا غنائمهم وتحصن الموحدون وفل بني وماتوا بجبل سيرات
وَلحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بِعَبْد الْمُؤمن ومستجيشا بِهِ على لمتونة وزناتة فارتحل مَعَه عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان ثمَّ أجَاز إِلَى سيرات
وَقصد محلّة لمتونة وزناتة فأوقع بهم وَرجع إِلَى تلمسان فَنزل مَا بَين الصخرتين من جبل تيطرى وَنزل تاشفين بن عَليّ بالسهل مِمَّا يَلِي الصفصاف ثمَّ وصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية لنظر قائده بن كباب أمدوا بِهِ تاشفين بن عَليّ وَقَومه لعصبية الصنهاجية وَفِي يَوْم وُصُوله أشرف على معسكر الْمُوَحِّدين وَكَانَ يدل بإقدام فَعرض بلمتونة وأميرهم تاشفين بن عَليّ لقعودهم عَن مناجزة الْمُوَحِّدين وَقَالَ إِنَّمَا جِئتُكُمْ لأخلصكم من صَاحبكُم عبد الْمُؤمن هَذَا وأرجع إِلَى قومِي فامتعض تاشفين بن عَليّ من كَلمته وَأذن لَهُ فِي المناجزة فَحمل على الْقَوْم فَرَكبُوا وصمموا للقائه فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وانفض عسكره وَكَانَ تاشفين بعث من قبل ذَلِك قائده على الرّوم وَهُوَ الروبرتير فِي عَسْكَر ضخم فَأَغَارَ على قوم من زناتة كَانُوا فِي بسيط لَهُم فاكتسحهم وَرجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من عَسْكَر عبد الْمُؤمن فَقَتَلُوهُمْ وَقتلُوا الروبرتير فِي جُمْلَتهمْ
ثمَّ بعث تاشفين بن عَليّ بعثا آخر إِلَى جِهَة أُخْرَى فَلَقِيَهُمْ تاشفين بن ماخوخ وَمن كَانَ مَعَه من الْمُوَحِّدين واعترضوا عَسْكَر بجاية عِنْد رجوعهم فنالوا مِنْهُم أعظم النّيل
وتوالت هَذِه الوقائع على تاشفين بن عَليّ اللمتوني فأجمع الرحلة إِلَى وهران وَبعث ابْنه ولي عَهده إِبْرَاهِيم بن تاشفين إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من لمتونة وَبعث كَاتبا مَعَه أَحْمد بن عَطِيَّة ورحل هُوَ إِلَى وهران سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَأَقَامَ عَلَيْهَا شهرا ينْتَظر قَائِد أسطوله مُحَمَّد بن مَيْمُون(2/105)
إِلَى أَن وَصله من المرية بِعشْرَة أساطيل فأرسى قَرِيبا من مُعَسْكَره وزحف عبد الْمُؤمن من تلمسان وَبعث فِي مقدمته الشَّيْخ أَبَا حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي وَمَعَهُ بَنو ومانوا من زناتة فتقدموا إِلَى بِلَاد زناتة ونزلوا منداس وسط بِلَادهمْ وَجمع لَهُ بَنو يادين كلهم وَبَنُو بلومي وَبَنُو مرين ومغراوة فأثخن فيهم الموحدون حَتَّى أذعنوا للطاعة ودخلوا فِي دعوتهم ووفد على عبد الْمُؤمن جمَاعَة من رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ مِنْهُم سيد النَّاس ابْن أَمِير النَّاس شيخ بني يلومي وحمامة بن مطهر شيخ بني عبد الواد وَغَيرهم فَتَلقاهُمْ بِالْقبُولِ وَسَار بهم فِي جموع الْمُوَحِّدين إِلَى وهران فبيتوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم ولجأ تاشفين إِلَى رابية هُنَاكَ فأحدقوا بهَا وأضرموا النيرَان حولهَا حَتَّى إِذا غشيهم اللَّيْل خرج تاشفين من الْحصن رَاكِبًا فرسه فتردى بِهِ من بعض حافات الْجَبَل وَهلك لسبع وَعشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى تينملل وَنَجَا فل الْعَسْكَر إِلَى وهران فانحصروا بهَا مَعَ أَهلهَا حَتَّى جهدهمْ الْعَطش فنزلوا على حكم عبد الْمُؤمن يَوْم عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة فاستأصلهم الْقَتْل رَحِمهم الله وَبلغ خبر مقتل تاشفين بن عَليّ إِلَى تلمسان مَعَ فل لمتونة الَّذين نَجوا من وقْعَة وهران وَفِيهِمْ سير بن الْحَاج فِي آخَرين من أعيانهم ففر مَعَهم من كَانَ بهَا من لمتونة
وَلما وصل عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كَانَ أَكْثَرهم من الحشم بعد أَن كَانَ بعثوا سِتِّينَ من وُجُوههم فَلَقِيَهُمْ يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فَقَتلهُمْ أَجْمَعِينَ وافتتح عبد الْمُؤمن تلمسان وَعَفا عَن أَهلهَا ورحل عَنْهَا لسبعة أشهر من فتحهَا بعد أَن ولى عَلَيْهَا سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن وانودين وَقيل يُوسُف بن وانودين(2/106)
فتح مَدِينَة فاس
نقل بعض المؤرخين أَن عبد الْمُؤمن لم يزل محاصرا لتلمسان والفتوح ترد عَلَيْهِ وَهُنَاكَ وصلته بيعَة أهل سجلماسة إِلَى أَن اعتزم على الرحيل إِلَى الْمغرب فَترك إبراهم يبن جَامع محاصرا لتلمسان وَقصد مَدِينَة فاس سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقد تحصن بهَا يحيى بن أبي بكر الصحراوي من فل تاشفين بن عَليّ من وهران فنازلها عبد الْمُؤمن وَبعث عسكرا لحصار مكناسة ثمَّ نَهَضَ فِي أَتْبَاعه وَترك عسكرا من الْمُوَحِّدين على فاس وَعَلَيْهِم الشَّيْخ أَبُو حَفْص وَأَبُو إِبْرَاهِيم من صحابة الْمهْدي الْعشْرَة فحاصروها سَبْعَة أشهر ثمَّ داخلهم ابْن الجياني فسرب الْبَلَد وَأدْخل الْمُوَحِّدين لَيْلًا وفر يحيى بن أبي بكر الصحراوي إِلَى طنجة ثمَّ أجاء مِنْهَا إِلَى يحى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية بالأندلس وَكَانَ واليا على قرطبة من قبل المرابطين فَأَقَامَ عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وانْتهى خبر فتح فاس إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمكانه من حِصَار مكناسة فَرجع إِلَيْهَا ودخلها
وَحكى صَاحب القرطاس فِي فتح فاس خلاف هَذَا الْوَجْه فَقَالَ وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة فتح عبد الْمُؤمن فاسا بعد حِصَار شَدِيد قطع عَنْهَا مَاء النَّهر الدَّاخِل إِلَيْهَا وسده بِالْبِنَاءِ والخشب حَتَّى انحبس المَاء فَوق بسيط الأَرْض وانْتهى إِلَى مراكزه مِنْهَا ثمَّ خرق السد فانحدر المَاء على الْمَدِينَة دفْعَة وَاحِدَة وَهدم سورها ثمَّ هدم من دورها مايزيد عَن ألفي دَار بالتثنية وَهلك بهَا خلق كثير وَكَانَ المَاء يَأْتِي على أَكْثَرهَا ثمَّ دَخلهَا عبد الْمُؤمن وَأمن أَهلهَا إِلَّا من كَانَ بهَا من المرابطين فَإِنَّهُ أَمر أَن لَا يمْضِي لَهُم أَمَان وقتلهم قتل عَاد ثمَّ أَمر بسور الْمَدِينَة فهدم مِنْهُ ثلم كَثِيرَة أوسعها جدا وَقَالَ إِنَّا لَا نحتاج إِلَى سور وَإِنَّمَا أسوارنا سُيُوفنَا وعدلنا فَم تزل فاس لَا سور لَهَا إِلَى أَن تداركها حافده يَعْقُوب الْمَنْصُور فابتدأ بناءه وَمَات فأتمه ابْنه النَّاصِر سنة سِتّمائَة(2/107)
وَلما فتح عبد الْمُؤمن فاسا ولى عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم بن جَامع الَّذِي خَلفه على تلمسان فَإِنَّهُ لما فتحهَا ارتحل إِلَى عبد الْمُؤمن فاتصل بِهِ وَهُوَ محاصر لفاس فَفَتحهَا عبد الْمُؤمن وولاه عَلَيْهَا وان قد اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقه المخضب بن عَسْكَر شيخ بني مرين ونالوا مِنْهُ وَمن رفقته وَكَانَت مَعَه أَمْوَال لمتونة وذخيرتهم الَّتِي استولى عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن بوهران وَكَانَ ابْن جَامع ذَاهِبًا بهَا إِلَى تينملل فاعترضه بَنو مرين وانتزعوها مِنْهُ وانْتهى الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الْمُؤمن فَكتب إِلَى عَامله على تلمسان يُوسُف بن وانودين يَأْمُرهُ أَن يُجهز العساكر إِلَى بني مرين فبعثها صُحْبَة عبد الْحق بن منغفاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين وَقتل المخضب شيخهم
فتح مراكش واستئصال بَقِيَّة اللمتونيين
ثمَّ ارتحل عبد الْمُؤمن من فاس عَامِدًا إِلَى مراكش فوافته فِي طَرِيقه بيعَة أهل سبتة فولى عَلَيْهِم يُوسُف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة وَمر على مَدِينَة سلا فافتتحها بعد مواقعة قَليلَة وثلم سورها كفاس وَنزل مِنْهَا بدار ابْن عشرَة وَكَانَت هَذِه الدَّار قصرا بديعا بِمَدِينَة سلا بناه الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاسِم من بَين عشرَة فشيده وأتقنه وَلما فرغ مِنْهُ وَصفته الشُّعَرَاء وهنته بِهِ ودعت لَهُ وَكَانَ بالحضرة يَوْمئِذٍ الأديب ابْن الحمارة وَلم يكف أعد شَيْئا ففكر قَلِيلا ثمَّ قَالَ
(يَا أوحد النَّاس قد شيدت وَاحِدَة ... فَحل فِيهَا حُلُول الشَّمْس فِي الْحمل)
(فَمَا كدارك فِي الدُّنْيَا لذِي أمل ... وَلَا كدارك فِي الْأُخْرَى لذِي عمل)
وَهَذَا الْقصر لم يبْق لَهُ الْيَوْم اسْم وَلَا رسم ثمَّ تَمَادى عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش وسرح الشَّيْخ أَبَا حَفْص لغزو برغواطة فأثخن فيهم وَرجع فَلَقِيَهُ فِي طَرِيقه وانتهوا جَمِيعًا إِلَى مراكش وَقد انْضَمَّ إِلَيْهَا جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا واكتسحوا أَمْوَالهم وظعائنهم وَأَقَامُوا على(2/108)
مراكش تِسْعَة أشهر وأميرهم يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين وَكَانُوا قد بَايعُوا أَولا إِبْرَاهِيم بن تاشفين بن عَليّ فألفوه مضعفا عَاجِزا فخلعوه وَبَايَعُوا عَمه إِسْحَاق بن عَليّ الْمَذْكُور وَهُوَ صبي صَغِير وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار وَجَهْدهمْ الْجُوع برزوا إِلَى مدافعة الْمُوَحِّدين فَانْهَزَمُوا وتبعهم الموحدون بِالْقَتْلِ فاقتحموا عَلَيْهِم الْمَدِينَة فِي أخريات شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقتل عَامَّة الملثمين وَنَجَا إِسْحَاق فِي جملَته وأعيان قومه إِلَى القصبة حَتَّى نزلُوا على حكم الْمُوَحِّدين وأحضر إِسْحَق بَين يَدي عبد الْمُؤمن فَقتله الموحدون بِأَيْدِيهِم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو حَفْص بن واجاج مِنْهُم
وانمحى أثر الملثمين وَاسْتولى الموحدون على جَمِيع الْبِلَاد وَقد قيل فِي تَرْتِيب هَذِه الْأَخْبَار غير هَذَا الْوَجْه
قَالَ ابْن مطروح الْقَيْسِي لما بُويِعَ عبد الْمُؤمن بتينملل ارتحل بجيوش الْمُوَحِّدين نَحْو مراكش فحاصرها أَيَّامًا وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى تادلا ثمَّ إِلَى سلا فَتَلقاهُ أَهلهَا سَامِعين مُطِيعِينَ فَدَخلَهَا يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وخطب لَهُ بهَا
وَفِي سنة سبع وَعشْرين بعْدهَا فتح عبد الْمُؤمن بِلَاد تازا
وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا تسمى عبد الْمُؤمن بأمير الْمُؤمنِينَ وَاعْلَم أَن اللقب كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام خَاصّا بالخليفة بالمشرق من بني أُميَّة أَو من بني الْعَبَّاس بعدهمْ وَلما قَامَ عبيد الله الْمهْدي أول مُلُوك العبيديين بإفريقية تسمى بأمير الْمُؤمنِينَ لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَنه أَحَق بالخلافة من بني الْعَبَّاس(2/109)
المعاصرين لَهُ بالمشرق فَهُوَ أول من زاحم الْخَلِيفَة فِي هَذَا اللقب ثمَّ تبعه على ذَلِك عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس وَرَأى أَن لَهُ فِي الْخلَافَة حَقًا اقْتِدَاء بسلفه الَّذين كَانُوا خلفاء بالمشرق وَكِلَاهُمَا أَعنِي العبيدي والأموي قرشي من عبد منَاف ثمَّ لم يتجاسر أحد لَا من مُلُوك الْعَجم بالمشرق وَلَا من مُلُوك البربر من الْمغرب على اللقب بأمير الْمُؤمنِينَ لِأَنَّهُ لقب الْخَلِيفَة الْأَعْظَم الْقرشِي كَمَا علمت إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين وَكَانَ مِنْهُم يُوسُف بن تاشفين وَاسْتولى على المغربين والأندلس وَعظم سُلْطَانه واتسعت مَمْلَكَته وخاطب الْخَلِيفَة العباسي بالمشرق فولاه على مَا بِيَدِهِ وَتسَمى بأمير الْمُسلمين أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَسْبَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ سالفا وَلما جَاءَ عبد الْمُؤمن هَذَا لم يبال بذلك كُله واتسم بالخليفة وتلقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَتَبعهُ على ذَلِك بنوه من بعده ولسان الْحَال ينشد
(لقد هزلت حَتَّى بدا من هزالها ... كلاها وَحَتَّى سامها كل مُفلس)
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة أَمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء رِبَاط مَدِينَة تازا فبنيت وحصن سورها ثمَّ كَانَت محاربته لتاشفين بن عَليّ على نَحْو مَا أسلفناه وَالله تَعَالَى أعلم
ثورة مُحَمَّد بن هود السلاوي الْمَعْرُوف بالماسي
كَانَ مُحَمَّد بن هود بن عبد الله السلاوي رجلا من سوقة أهل سلا وَكَانَ أَبوهُ سمسارا بهَا يَبِيع الكنابيش وَكَانَ هُوَ قصارا بهَا مُدَّة ثمَّ لحق بِعَبْد الْمُؤمن عِنْدَمَا ظهر وَبَايَعَهُ وَشهد مَعَه فتح مراكش ثمَّ فَارقه وَظهر برباط ماسة من نَاحيَة السوس ودعا لنَفسِهِ وَتسَمى بالهادي وَتمكن ناموسه من قُلُوب الْعَامَّة وَكثير من الْخَاصَّة فَأقبل إِلَيْهِ الشراد من كل جَانب وانصرفت إِلَيْهِ وُجُوه الأغمار من أهل الْآفَاق وَأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة ورجراجة وقبائل تامسنا وهوارة وفشت ضلالته فِي جَمِيع الْمغرب(2/110)
قَالَ فِي القرطاس بَايعه جَمِيع الْقَبَائِل حَتَّى لم يبْق تَحت طَاعَة عبد الْمُؤمن إِلَّا مراكش فسرح إِلَيْهِ عبد الْمُؤمن عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن إِسْحَاق أنكمار النازع إِلَيْهِ من إيالة تاشفين بن عَليّ حَسْبَمَا تقدم فَالتقى بالماسي وقاتله فانتصر الماسي عَلَيْهِ وَعَاد مهزوما إِلَى عبد الْمُؤمن فسرح إِلَيْهِ عبد الْمُؤمن ثَانِيًا الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي فِي جَيش عَظِيم من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَغَيرهم واحتفل عبد الْمُؤمن فِي الاستعداد ونهض الشَّيْخ أَبُو حَفْص من مراكش فاتح ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وشيعه عبد الْمُؤمن إِلَى وَادي تانسيفت ثمَّ دَعَا لَهُ وودعه وَانْصَرف الشَّيْخ أَبُو حَفْص فِي جيوش الْمُوَحِّدين حَتَّى انْتَهوا إِلَى رابطة ماسة فبرز إِلَيْهِم مُحَمَّد بن هود فِي نَحْو سِتِّينَ ألفا من الرجالة وَسَبْعمائة من الفرسان فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة ثمَّ انتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم وَقتل مُحَمَّد بن هود فِي المعركة مَعَ كثير من أَتْبَاعه وفضت جموعه وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الَّذِي بَاشر قتل ابْن هود هُوَ الشَّيْخ أَبُو حَفْص رَئِيس الْجَيْش فلقبه الموحدون سيف الله تَشْبِيها لَهُ بِخَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ
وَكتب الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى عبد الْمُؤمن برسالة الْفَتْح من إنْشَاء الْفَقِيه أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْقُضَاعِي الْكَاتِب الْمَشْهُور يَقُول فِيهَا كتَابنَا هَذَا من وَادي ماسة بعد مَا تجدّد من أَمر الله الْكَرِيم وَنَصره تَعَالَى الْمَعْهُود الْقَدِيم وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله الْعَزِيز الْحَكِيم فتح بهر الْأَنْوَار إشراقا وأحدق بنفوس الْمُؤمنِينَ إحداقا وَنبهَ للأماني النائمة جفونا وأحداقا واستغرق غَايَة الشُّكْر استغراقا فَلَا تطِيق الألسن لكنه وَصفه إدراكا وَلَا لحَاقًا جمع أشتات الطّلب والأرب وتقلب فِي النعم أكْرم مُنْقَلب وملأ دلاء الأمل إِلَى عقد الكرب
(فتح تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لَهُ ... وتبرز الأَرْض فِي أثوابها القشب)(2/111)
وَتَقَدَّمت بشارتنا بِهِ جملَة حِين لم تعط الْحَال بشرحه مهلة كَانَ أُولَئِكَ الضالون قد بطروا عُدْوانًا وظلما واقتطعوا الْكفْر معنى واسما وأملى الله تَعَالَى لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَكَانَ مقدمهم الشقي قد استمال النُّفُوس بخزعبلاته واستهوى الْقُلُوب بمهولاته وَنصب لَهُ الشَّيْطَان من حبلاته فَأَتَتْهُ المخاطبات من بعد وكثب وانسلت إِلَيْهِ الرُّسُل من كل حدب واعتقدته الخواطر أعجب عجب وَكَانَ الَّذِي قادهم إِلَى ذَلِك وأوردهم تِلْكَ المهالك وُصُول من كَانَ بِتِلْكَ السواحل مِمَّن ارتسم برسم الإنقطاع عَن النَّاس فِيمَا سلف من الأعوام واشتغل على زَعمه بِالْقيامِ وَالصِّيَام آنَاء اللَّيَالِي وَالْأَيَّام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرِّيَاء جلبابا فَلم يفتح الله تَعَالَى لَهُم للتوفيق بَابا
وَمِنْهَا فِي ذكر صَاحبهمْ الماسي الْمُدَّعِي للهداية فصرع بِحَمْد الله تَعَالَى لحينه وبادرت إِلَيْهِ بَوَادِر منونه وأتته وافدات الْخَطَايَا عَن يسَاره وَيَمِينه وَقد كَانَ يدعى أَنه بشر بِأَن الْمنية فِي هَذِه الأعوام لَا تصيبه والنوائب لَا تنوبه وَيَقُول فِي سواهُ قولا كثيرا ويختلق على الله تَعَالَى إفكا وزورا فَلَمَّا رَأَوْا هَيْئَة اضطجاعه وَمَا خطته الأسنة فِي أَعْضَائِهِ وأضلاعه وَنفذ فِيهِ من أَمر الله تَعَالَى مَا لم يقدروا على استرجاعه هزم من كَانَ لَهُم من الْأَحْزَاب وتساقطوا على وجوهم تساقط الذُّبَاب وأعطوا على بكرَة أَبِيهِم صفحات الرّقاب وَلم تقطر كلومهم إِلَّا على الأعقاب فامتلأت تِلْكَ الْجِهَات بأجسامهم وآذنت الْآجَال بانقراض آمادهم وَأَخذهم الله تَعَالَى بكفرهم وفسادهم فَلم يعاين مِنْهُم إِلَّا من خر صَرِيعًا وَسَقَى الأَرْض نجيعا وَلَقي من أَمر الهنديات فظيعا ودعت الضَّرُورَة باقيهم إِلَى الترامي فِي الْوَادي فَمن كَانَ يؤمل الْفِرَار ويرتجيه ويسبح طامعا فِي الْخُرُوج إِلَى مَا ينجيه اختطفته الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا وَمن لج فِي الترامي على لججه ورام الْبَقَاء فِي ثبجه قضى عَلَيْهِ شرقه وألوى بذقنه غرقه وَدخل(2/112)
الموحدون إِلَى الْبَقِيَّة الكائنة فِيهِ يتناولون قَتلهمْ طَعنا وَضَربا ويلقونهم بامر الله تَعَالَى هولا عَظِيما وكربا حَتَّى انبسطت مراقات الدِّمَاء على صفحات المَاء وحكت حمرتها على زرقته حمرَة الشَّفق على زرقة السَّمَاء وجزت الْعبْرَة للمعتبر فِي جري ذَلِك الدَّم جري الأبحر
وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ رِسَالَة بليغة وَهِي الَّتِي أورثت منشئها الرُّتْبَة الْعلية والمنزلة السّنيَّة فَإِن عبد الْمُؤمن لما وقف عَلَيْهَا استحسنها وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا فاستكتبه أَولا ثمَّ استوزره ثَانِيًا ثمَّ نكبه وَقَتله ثَالِثا كَمَا سَيَأْتِي
وَلما انْصَرف الشَّيْخ أَبُو حَفْص من غَزْوَة ماسة أراح بمراكش أَيَّامًا ثمَّ خرج غازيا بِلَاد القائمين بدعوة مُحَمَّد بن هود بجبال درن فأوقع بِأَهْل نَفِيس وهيلانة وأثخن فيهم بِالْقَتْلِ والسبي حَتَّى أذعنوا للطاعة وَرجع
ثمَّ خرج إِلَى هسكورة فأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم
ثمَّ نَهَضَ إِلَى سجلماسة فاستولى عَلَيْهَا وَرجع إِلَى مراكش
ثمَّ خرج ثَالِثَة إِلَى برغواطة فحاربوه مُدَّة ثمَّ هزموه واضطرمت نَار الْفِتْنَة بالمغرب وَكَانَ مَا نذكرهُ
انْتِقَاض أهل سبتة على الْمُوَحِّدين وَخبر القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله مَعَهم
قد تقدم لنا أَن عبد الْمُؤمن كَانَ غزا سبتة فِي غزوته الطَّوِيلَة وَأَن القَاضِي عياضا رَحمَه الله دافعه عَنْهَا وَأَنه لما قتل تاشفين بن عَليّ وَفتحت تلمسان وفاس واستفحل أَمر عبد الْمُؤمن بَايع أهل سبتة فِي جملَة من بَايع من أَمْصَار الْمغرب
قَالُوا وبادر القَاضِي عِيَاض إِلَى لِقَاء عبد الْمُؤمن فَاجْتمع بِهِ بِمَدِينَة سلاحين كَانَ ذَاهِبًا لفتح مراكش فأجزل صلته وَولى على سبتة يُوسُف بن(2/113)
مخلوف التينمللي وَسَاكن الموحدون أهل سبتة فِي دِيَارهمْ واطمأنوا إِلَيْهِم
فَلَمَّا انْتقض الْمغرب على عبد الْمُؤمن بِسَبَب قيام مُحَمَّد بن هود وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من الْفِتَن انْتقض أهل سبتة أَيْضا وَكَانَ انتقاضهم كَمَا فِي القرطاس بِرَأْي القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فَقتلُوا عَامل الْمُوَحِّدين وَمن كَانَ مَعَه من أَصْحَابه وحاميته وحرقهم بالنَّار
وَركب القَاضِي عِيَاض الْبَحْر إِلَى يحيى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَكَانَ معتصما بقرطبة متمسكا بدعوة المرابطين فَلَقِيَهُ وَأدّى إِلَيْهِ الْبيعَة وَطلب مِنْهُ واليا على سبتة فَبعث مَعَه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الَّذِي كَانَ معتصما بفاس أَيَّام حِصَار عبد الْمُؤمن لَهَا ففر وَلحق بِابْن غانية كَمَا قُلْنَا وَبَقِي فِي جملَته إِلَى أَن بَعثه مَعَ القَاضِي عِيَاض فِي هَذِه الْمرة فَدخل يحيى سبتة وَقَامَ بأمرها
وَلما اتَّصَلت بِعَبْد الْمُؤمن هَذِه الْأَخْبَار مَعَ مَا تقدم من هزيمَة برغواطة للشَّيْخ أبي حَفْص خرج من مراكش قَاصِدا بِلَاد برغواطة أَولا ثمَّ من بعدهمْ ثَانِيًا فَتَسَامَعَتْ برغواطة بِخُرُوج عبد الْمُؤمن إِلَيْهِم فَكَتَبُوا إِلَى يحيى بن أبي بكر بمكانه من سبتة يستنصرونه عَلَيْهِم فَأَتَاهُم وَبَايَعُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ وقاتلوا عبد الْمُؤمن فهزموه ثمَّ كَانَت لَهُ الكرة عَلَيْهِم فَهَزَمَهُمْ وَحكم السَّيْف فيهم واستأصل شأفتهم حَتَّى انقادوا للطاعة وتبرؤوا من يحيى الصحراوي ولمتونة وفر الصحراوي إِلَى منجاته ثمَّ طلب الْأمان من عبد الْمُؤمن وَتشفع إِلَيْهِ بأشياخ الْقَبَائِل فَأَمنهُ ووفد عَلَيْهِ فَبَايعهُ وَحسنت طَاعَته لَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَلما رأى أهل سبتة ذَلِك كُله سقط فِي أَيْديهم وندموا على صنيعهم وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى عبد الْمُؤمن وَقدم بهَا أَشْيَاخ سبتة وطلبتها تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم وَعَن القَاضِي عِيَاض وَأمره بسكنى مراكش وَالصَّحِيح أَنه ولاه الْقَضَاء بتادلا ثمَّ دخل مراكش قيل دَخلهَا مَرِيضا مرض مَوته وَقيل مَاتَ بِالطَّرِيقِ(2/114)
وَحمل إِلَيْهَا وَأمر عبد الْمُؤمن مَعَ ذَلِك بهدم سور سبتة فهدم وَكَذَلِكَ فعل بفاس وسلا
وَأعلم أَن مَا صدر من القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فِي جَانب الْمُوَحِّدين دَلِيل على أَنه كَانَ يرى أَن لَا حق لَهُم فِي الْأَمر والإمامة وَإِنَّمَا هم متغلبون وَهَذَا أَمر لَا خَفَاء بِهِ كَمَا هُوَ وَاضح وَلما كَانَت شَوْكَة عبد الْمُؤمن لَا زَالَت ضَعِيفَة وتاشفين بن عَليّ أَمِير الْوَقْت لَا زَالَ قَائِم الْعين امْتنع القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله من مبايعة عبد الْمُؤمن ودافعه عَن سبتة إِذْ لَا مُوجب لذَلِك لِأَن بيعَة تاشفين فِي أَعْنَاقهم وَهُوَ لَا زَالَ حَيا فَلَا يعدل عَن بيعَته إِلَى غَيره بِلَا مُوجب
وَأما مَا غالط بِهِ الْمهْدي رَحمَه الله من أَن المرابطين مجسمة وَأَن جهادهم أوجب من جِهَاد الْكفَّار فضلا عَن أَن تكون طاعتهم وَاجِبَة فسفسطة مِنْهُ عَفا الله عَنَّا وَعنهُ
وَلما قتل تاشفين وَفتحت تلمسان وفاس وقويت شَوْكَة عبد الْمُؤمن بَايعه القَاضِي عِيَاض حِينَئِذٍ وَقبل صلته لِأَن من قويت شوكته وَجَبت طَاعَته
ثمَّ لما ضعف أمره ثَانِيًا بِسَبَب قيام الماسي عَلَيْهِ وَإِجْمَاع قبائل الْمغرب على التَّمَسُّك بدعوته رَجَعَ القَاضِي بِأَهْل سبتة عَن بيعَته إِلَى طَاعَة المرابطين الَّذين لَهُم الْحق فِي الْإِمَامَة بطرِيق الْأَصَالَة وَلم يَأْخُذ بدعوة الماسي لِأَنَّهُ ثَائِر أَيْضا هَذَا مَعَ مَا كَانَ ينْقل عَن الْمهْدي من أَنه غلبت نَزعَة خارجية عَلَيْهِ وَأَنه يَقُول بعصمة الإِمَام وَذَلِكَ بِدعَة كَمَا لَا يخفى فَتكون إِمَامَته وإمامة أَتْبَاعه مقدوحا فِيهَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة لَكِن حَيْثُ حصل التغلب والإستيلاء وَجَبت الطَّاعَة فَالْحَاصِل أَن مَا فعله القَاضِي عِيَاض أَولا وَثَانِيا وثالثا كُله صَوَاب مُوَافق للْحكم الشَّرْعِيّ فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن تفهم أَحْوَال أَئِمَّة الدّين وأعلام الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بعلومهم(2/115)
وَأما الْقَتْل وَالتَّحْرِيق الَّذِي صدر من أهل سبتة فالظن بِالْقَاضِي عِيَاض رَحمَه الله أَنه لَا يُوَافق على ذَلِك وَلَا يرضاه لَكِن الْعَامَّة تتسرع إِلَى مُجَاوزَة الْحُدُود لَا سِيمَا أَيَّام الْفِتَن وَذَلِكَ مَعْرُوف من حَالهم وَالله الْمُوفق
وَلما دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة مكناسة الْقَدِيمَة بعد حصارهم إِيَّاهَا سبع سِنِين اقتحموها عنْوَة يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة فخربت وَقتل أَكثر رجالها وَسبي حريمهم وخمست أَمْوَالهم ثمَّ بنيت مكناسة تاكرارت الْمَدِينَة الْمَوْجُودَة الْآن
أَخْبَار الأندلس وفتوحها
كَانَ عبد الْمُؤمن لما فتح تلمسان وفاسا بعث إِلَى الأندلس جَيْشًا من عشرَة آلَاف فَارس من أنجاد الْمُوَحِّدين
وَقَالَ ابْن خلدون بعث عبد الْمُؤمن بعد فتح مراكش جَيْشًا من الْمُوَحِّدين لنظر بدران بن مُحَمَّد المسوفي النازع إِلَى عبد الْمُؤمن من جملَة تاشفين بن عَليّ وَعقد لَهُ على حَرْب الأندلس وَمن بهَا من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر مُوسَى بن سعيد وَبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صَالح الصنهاجي
وَلما أَجَازُوا إِلَى الأندلس نزلُوا بِأبي الْغمر بن عزرون صَاحب شريش فَكَانَ أول بلد فتحُوا من الأندلس بلد شريش خرج إِلَيْهِم صَاحبهَا أَبُو الْغمر فِيمَن مَعَه من المرابطين وبايعهم لعبد الْمُؤمن وَدخل فِي طَاعَته فَكَانَ الموحدون يسمون أهل شريش بالسابقين الْأَوَّلين وحررت أملاكهم فَلم تزل محررة سَائِر أيامهم فَلم يكن فِي أملاكهم رباعة وَجَمِيع بِلَاد(2/116)
الأندلس مربعة وَكَانَ مُلُوك الْمُوَحِّدين إِذا قدم عَلَيْهِم وُفُود الأندلس كَانَ أول من يُنَادي مِنْهُم أهل شريش فَكَانَ يُقَال أَيْن السَّابِقُونَ فَيدْخلُونَ للسلام فَإِذا سلمُوا وقضيت حاجاتهم انصرفوا فَدخل غَيرهم حِينَئِذٍ وَكَانَ فتح شريش فاتح ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
ثمَّ زحف الموحدون إِلَى لبلة وَكَانَ بهَا من الثوار يُوسُف بن أَحْمد البطروجي فبذل لَهُم الطَّاعَة ثمَّ زحفوا إِلَى شلب ففتحوها ثمَّ نهضوا إِلَى باجة وبطليوس ففتحوهما أَيْضا ثمَّ زحفوا إِلَى إشبيلية فحاصروها برا وبحرا إِلَى أَن فتحوها فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وفر من كَانَ بهَا من المرابطين إِلَى قرمونة وَقتل من أدْركهُ الْقَتْل مِنْهُم وَقتل فِي جُمْلَتهمْ عبد الله ولد القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الْحَافِظ الْمَشْهُور وَأُصِيب فِي هيعة تِلْكَ الدخلة من غير قصد
وَكتب الموحدون بِالْفَتْح إِلَى عبد الْمُؤمن ثمَّ قدم عَلَيْهِ وفدهم بمراكش مبايعين لَهُ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَرَئِيس الْوَفْد يَوْمئِذٍ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور فألفوا عبد الْمُؤمن مَشْغُولًا بِحَرب مُحَمَّد بن هود الماسي فأقاموا بمراكش سنة وَنصفا لم يلقوه فِيهَا حَتَّى كَانَ يَوْم عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَلَقوهُ بالمصلى فَسَلمُوا عَلَيْهِ سَلام الْجَمَاعَة ثمَّ بعد ذَلِك دخلُوا عَلَيْهِ فسملوا عَلَيْهِ السَّلَام الْخَاص وَقبلت بيعتهم
وَسَأَلَ عبد الْمُؤمن القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ عَن الْمهْدي هَل كَانَ لقِيه عِنْد الإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ فَقَالَ مَا لَقيته وَلَكِن سَمِعت بِهِ فَقَالَ لَهُ فَمَا كَانَ أَبُو حَامِد يَقُول فِيهِ قَالَ كَانَ يَقُول إِن هَذَا الْبَرْبَرِي لَا بُد أَن سَيظْهر ثمَّ صرف عبد الْمُؤمن أهل إشبيلية بعد أَن أجازهم وَكتب لَهُم منشورا بتحرير أملاكهم فانصرفوا عَنهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَلَمَّا قربوا من مَدِينَة فاس توفّي الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ رَحمَه(2/117)
الله فَحمل وَدفن خَارج بَاب المحروق مِنْهَا بتربة الْقَائِد مظفر وقبره مزارة إِلَى الْآن وَعَلِيهِ قبَّة حَسَنَة
وَفِي هَذِه السّنة ملك الموحدون قرطبة وَكَانَ بهَا يحيى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية مُقيما لدَعْوَة المرابطين فَلَمَّا دخل الموحدون الأندلس واشتعلت نَار الْفِتْنَة بِحَرب المرابطين انتهز الطاغية الفرصة فِي بِلَاد الْإِسْلَام وضايق ابْن غانية بقرطبة وألح على جهاته حَتَّى نزل لَهُ عَن بياسة وأبدة وتغلب على أشبونة وطرطوشة والمرية وماردة وأفراغة وشنترين وشنتمرية وَغَيرهَا من حصون الأندلس وطالب ابْن غانية بِالزِّيَادَةِ على مَا بذل لَهُ أَو الإفراج عَن قرطبة فَأرْسل ابْن غانية إِلَى بدران بن مُحَمَّد أَمِير الْمُوَحِّدين واجتمعا بأستجة وَضمن لَهُ بدران أَمَان الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن على أَن يتخلى لَهُ عَن قرطبة وقرمونة فَفعل ثمَّ لحق بغرناطة وَبهَا مَيْمُون بن بدر اللمتوني فِي جمَاعَة من المرابطين وَأَرَادَ أَن يكلمهُ فِي الدُّخُول فِي طَاعَة الْمُوَحِّدين وَأَن يُمكنهُم من غرناطة كَمَا فعل هُوَ بقرطبة فَتوفي بغرناطة يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن فِي القصبة بِإِزَاءِ قبر باديس بن حبوس الصنهاجي وانتهز الطاغية الفرصة فِي قرطبة فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَجهز إِلَيْهِ الموحدون الَّذين كَانُوا بإشبيلية أَبَا الْغمر بن عزرون لحمايتها وَوصل إِلَيْهِ مدد يُوسُف البطروجي من لبلة وَبلغ الْخَبَر عبد الْمُؤمن فَبعث إِلَيْهَا عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن يغمور وَلما دَخلهَا أفرج عَنْهَا الطاغية لأيام من مدخله وبادر ثوار الأندلس إِلَى يحيى بن يغمور فِي طلب الْأمان من عبد الْمُؤمن ثمَّ تَلَاحَقُوا بِهِ بمراكش فتقلبهم وصفح لَهُم عَمَّا سلف(2/118)
قدوم عبد الْمُؤمن إِلَى سلا ووفادة أهل الأندلس عَلَيْهِ بهَا
لما كَانَت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة قدم عبد الْمُؤمن من مراكش إِلَى سلا فَنظر فِي أمرهَا وأجرى إِلَيْهَا مَاء عين غبولة حَتَّى وصل إِلَى رباطها وَلم تكن رِبَاط الْفَتْح يَوْمئِذٍ قد بنيت لِأَن بانيها حافده يَعْقُوب الْمَنْصُور كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَإِنَّمَا كَانَ يُقَال رِبَاط سلا
ثمَّ أذن عبد الْمُؤمن لأهل الأندلس فِي الْوِفَادَة عَلَيْهِ بسلا فقدموا عَلَيْهِ فِي نَحْو خَمْسمِائَة فَارس من الْفُقَهَاء والقضاة والخطباء والأشياخ والقواد فَتَلقاهُمْ الشَّيْخ أَبُو حَفْص الهنتاتي والوزير الْكَاتِب أَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة وأشياخ الْمُوَحِّدين على نَحْو ميلين من الْمَدِينَة فَأمر عبد الْمُؤمن بإنزالهم وأفاض عَلَيْهِم سِجَال الْإِكْرَام وأنواع الضيافات والإنعام وبقوا على ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أذن لَهُم فِي الدُّخُول فَدَخَلُوا عَلَيْهِ أول يَوْم من الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَسَلمُوا عَلَيْهِ
وَأَشَارَ الْوَزير ابْن عَطِيَّة لأهل قرطبة بالتقدم فَتقدم قاضيهم أَبُو الْقَاسِم بن الْحَاج فَأَرَادَ أَن يتَكَلَّم فدهش ثمَّ وصف حَال قرطبة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الفنش لَعنه الله قد أضعفها
فتلافاه أَبُو بكر بن الْجد بالحطبة البليغة فَجلى فِي ذَلِك الْمجْلس وَاسْتحْسن عبد الْمُؤمن خطبَته وَوصل الْجَمِيع كلا على قدره وَقضى مطالبهم وأوصاهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَأمرهمْ بالإنصراف إِلَى بِلَادهمْ فانصرفوا فرحين مغتبطين
وَقَالَ ابْن خلدون استدعى عبد الْمُؤمن أهل الأندلس وَهُوَ بسلا فوفدوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ جَمِيعًا وَبَايَعَهُ الرؤساء من الثوار على الإنخلاع من الْأَمر مثل سدراتي ابْن وَزِير صَاحب باجة ويابرة ويوسف البطروجي صَاحب لبلة وَابْن عزرون صَاحب شريش ورندة وَمُحَمّد بن الْحجام(2/119)
صَاحب بطليوس وعامل بن مهيب صَاحب طلبيرة وتخلف ابْن الْقَيْسِي وَأهل شلب عَن هَذَا الْجمع فَكَانَ سَببا لقَتله من بعد وَانْصَرف أهل الأندلس إِلَى بِلَادهمْ وَرجع عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش واستصحب الثوار فَلم يزَالُوا بِحَضْرَتِهِ وَالله تَعَالَى أعلم
غَزْو إفريقية وَفتح مَدِينَة بجاية
ثمَّ بلغ عبد الْمُؤمن اضْطِرَاب بِلَاد إفريقية بِسَبَب تنَازع مُلُوكهَا من بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين واستطالة الْعَرَب عَلَيْهِم بهَا فاجمع الرحلة إِلَى غزوها بعد أَن شاور الشَّيْخ أَبَا حَفْص وَأَبا إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا من المشيخة فوافقوه فَخرج من مراكش أَوَاخِر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة واستخلف عَلَيْهَا الشَّيْخ أباحفص الهنتاتي وَسَار حَتَّى وصل إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا شَهْرَيْن ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى سبتة مظْهرا أَنه يُرِيد العبور إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد
فَلَمَّا وصل إِلَى سبتة استدعى فُقَهَاء قرطبة وإشبيلية وأعيان الأندلس وقوادها فاستوضح مِنْهُم أَحْوَال الْبِلَاد وأوصاهم بِمَا إِلَيْهِم مِنْهَا وودعهم
ورحل عَن سبتة مظْهرا الْعود إِلَى مراكش وَصَارَ حَتَّى وصل إِلَى الْقصر الْكَبِير وَهُوَ قصر كتامة فميز جيوشه وأزاح عللهم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَأمرهمْ بتجديد الأزواد وَخرج يعتسف الْبِلَاد على غير طَرِيق فَجعل مَدِينَة فاس عَن يَمِينه وجد السّير حَتَّى خرج على وَادي ملوية ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ خرج مِنْهَا وَولى السّير قَاصِدا بجاية فطرق الجزائر على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَدَخلَهَا وأمنهم وفر صَاحبهَا الْقَائِم بن يحيى بن الْعَزِيز إِلَى أَبِيه يحيى ببجاية
وَخرج إِلَى عبد الْمُؤمن الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحب المهدية وَكَانَ الفرنج قد أَخْرجُوهُ مِنْهَا فقصد ابْن عَمه يحيى بن الْعَزِيز صَاحب(2/120)
بجاية فَعدل بِهِ إِلَى الجزائر وأنزله بهَا كالمسجون فَلَمَّا طرق عبد الْمُؤمن الجزائر فِي هَذِه الْمرة خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ الْمَذْكُور فصحبه وَوصل يَده بِيَدِهِ حَتَّى كَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
ثمَّ اعترضت جيوش صنهاجة عبد الْمُؤمن بِأم الْعُلُوّ فَهَزَمَهُمْ وصبح بجاية من الْغَد فَدَخلَهَا وفر صَاحبهَا يحيى بن الْعَزِيز الصنهاجي آخر مُلُوك بني حَمَّاد أَصْحَاب القلعة فَركب الْبَحْر فِي أسطولين كَانَ أعدهما لذَلِك وَاحْتمل فيهمَا ذخيرته وأمواله وعزم على الْمسير إِلَى مصر ثمَّ عدل إِلَى بونة فَنزل على أَخِيه الْحَارِث فَأنْكر عَلَيْهِ سوء صَنِيعه وإفراجه عَن الْبَلَد فارتحل عَنهُ إِلَى قسنطينة فَنزل على أَخِيه الْحسن فتخلى لَهُ عَن الْأَمر
وَفِي خلال ذَلِك دخل الموحدون قلعة حَمَّاد عنْوَة وَكَانَ عبد الْمُؤمن وَجه جَيْشًا من الْمُوَحِّدين إِلَيْهَا وَأمر عَلَيْهِم ابْنه أَبَا مُحَمَّد عبد الله فَدَخَلُوهَا وأضرموا النيرَان فِي مساكنها وخربوها وَقتلُوا بهَا نَحْو ثَمَانِيَة عشر ألفا وامتلأت أَيدي الْمُوَحِّدين من الْغَنَائِم والسبي ثمَّ جمع لَهُم الْعَرَب الَّذين هُنَاكَ من الأثبج وزغبة ورياح وَغَيرهم بسطيف فأوقعوا بهم واستلحموهم وَسبوا نِسَاءَهُمْ واكتسحوا أَمْوَالهم
وَأما يحيى بن الْعَزِيز فَإِنَّهُ بَايع لعبد الْمُؤمن سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَنزل لَهُ عَن قسنطينة وَاشْترط لنَفسِهِ فوفى لَهُ عبد الْمُؤمن وَنَقله إِلَى مراكش بأَهْله وخاصته فسكنها وأفاض عَلَيْهِ سِجَال الْإِحْسَان وأنزله منزلَة رفيعة ثمَّ انْتقل إِلَى سلا سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة فسكن بقصر ابْن عشرَة مِنْهَا إِلَى أَن مَاتَ من سنته رَحمَه الله
ووفد على عبد الْمُؤمن بمراكش كبراء الْعَرَب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ مغتبطين(2/121)
فتح المرية وبياسة وأبدة
كَانَت هَذِه الْبِلَاد قد استولى عَلَيْهَا الفرنج أَيَّام الْمُوَحِّدين والمرابطين بالأندلس فَلَمَّا كَانَت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة عبر الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى الأندلس فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَمَعَهُ السَّيِّد أَبُو سعيد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ برسم الْجِهَاد وَكَانَ بَنو عبد الْمُؤمن يسمون أَبْنَاءَهُم بالسادة فنزلوا المرية وضيقوا عَلَيْهَا بالحصار وَبنى السَّيِّد أَبُو سعيد على محلته سورا واستغاث نَصَارَى المرية بالفنش فأغاثهم بِمُحَمد بن مردنيش وَكَانَ واصلا يَده بِيَدِهِ وَوجه مَعَه السلطين أحد قواد الفرنج فِي جَيش كثيف فَلم يتمكنوا من الْبَلَد وَلَا من محلّة الْمُوَحِّدين لكَونهَا مُحصنَة بالسور فَرجع ابْن مردنيش والسلطين بخفي حنين وافترقا فَلم يجتمعا بعد
ثمَّ عمد السلطين إِلَى بياسة وأبدة فأخلاهما من النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بهما خوفًا عَلَيْهِم وَرجع عوده على بدئه وَأما السَّيِّد أَبُو سعيد فَإِنَّهُ شدد الْحصار على المرية حَتَّى نزلُوا على الْأمان بِوَاسِطَة الْوَزير ابْن عَطِيَّة
وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَجه عبد الْمُؤمن على يصليتن قريب الْمهْدي فَأتى بِهِ مكبولا من سبتة فَأمر بقتْله وصلبه بِبَاب مراكش لأمر نقمه عَلَيْهِ
ثمَّ ارتحل عبد الْمُؤمن بعد مقتل يصليتن إِلَى تينملل بِقصد زِيَارَة قبر الْمهْدي فزار وَفرق فِي أَهلهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة وَأمر بِبِنَاء مَسْجِدهَا وتوسعتها(2/122)
قدوم عبد الْمُؤمن مَدِينَة سلا وتولية أَوْلَاده على النواحي بهَا
لما قضى عبد الْمُؤمن إربه من تينملل ارتحل مِنْهَا إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين بعْدهَا فَبَايع لِابْنِهِ السَّيِّد أبي عبد الله مُحَمَّد بِولَايَة الْعَهْد وَأمر أَن يذكر فِي الْخطْبَة بعده وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع الْآفَاق
ثمَّ عقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي الْحسن عَليّ على فاس وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن سُلَيْمَان وَعقد لانه السَّيِّد أبي حَفْص عمر على تلمسان وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا مُحَمَّد عبد الْحق بن وانودين واستكتب لَهُ أَبَا الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش وَعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي سعيد عُثْمَان على سبتة وطنجة واستوزر لَهُ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان وَأَبا عُثْمَان سعيد بن مَيْمُون الصنهاجي واستكتب لَهُ أَبَا بكر بن طفيل الْقَيْسِي وَأَبا بكر بن حُبَيْش الْبَاجِيّ وَعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الله على بجاية وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا سعيد يخلف بن الْحسن وَعقد للشَّيْخ أبي زيد بن يكيث على قرطبة وأعمالها وَيُقَال إِن قرطبة كَانَت فِي هَذَا التَّارِيخ بيد يحيى بن يغمور وَالله أعلم
واستقامت الْأَحْوَال لعبد الْمُؤمن وبنيه وَصفا لَهُ المغربان والأندلس وَالله غَالب على أمره(2/123)
إِيقَاع عبد الْمُؤمن بِعَبْد الْعَزِيز وَعِيسَى أخوي الْمهْدي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ عبد الْعَزِيز وَعِيسَى أخوي الْمهْدي من مشيخة الْعَسْكَر ووجوه الْجَيْش بإشبيلية أَيَّام فتحهَا ووفادة أَهلهَا على عبد الْمُؤمن بمراكش حَسْبَمَا تقدم ثمَّ سَاءَ أثرهما بهَا واستطالت أَيْدِيهِمَا على أَهلهَا واستباحا الدِّمَاء وَالْأَمْوَال ثمَّ اعتزما على الفتك بِيُوسُف البطروجي صَاحب لبلة فلحق بِبَلَدِهِ وَأخرج الْمُوَحِّدين الَّذين بهَا وحول الدعْوَة عَنْهُم إِلَى المرابطين وَنَشَأ عَن ذَلِك فَسَاد كَبِير بالأندلس ثمَّ لحق أخوا الْمهْدي بالعدوة فِي خبر طَوِيل
وَاسْتمرّ حَالهمَا إِلَى أَن بَايع عبد الْمُؤمن لِابْنِهِ مُحَمَّد بِولَايَة الْعَهْد وَعقد لإخوته على العمالات والنواحي ففسدت نِيَّة عبد الْعَزِيز وَعِيسَى بذلك مَعَ مَا كَانَ صدر من عبد الْمُؤمن من قتل ابْن عَمهمَا يصليتن وَكَانَا يَوْمئِذٍ بفاس وَعبد الْمُؤمن بسلا فَخَرَجَا من فاس إِلَى مراكش على طَرِيق الْمَعْدن مضمرين للغدر
واتصل خبر خروجهما بِعَبْد الْمُؤمن فَخرج من سلا فِي أثرهما متلافيا أَمر مراكش وَقدم أَمَامه وزيره أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة فسبقاه إِلَيْهَا وداخلا بعض الأوباش بهَا فِي شَأْنهمَا فَوَثَبُوا بعاملها أبي حَفْص عمر بن تافراكين فَقَتَلُوهُ بمكانه من القصبة
وَوصل على أثرهما الْوَزير ابْن عَطِيَّة ثمَّ عبد الْمُؤمن على أَثَره فأطفا تِلْكَ النائرة وتقبض عبد الْمُؤمن على عبد الْعَزِيز وَعِيسَى فَقَتَلَهُمَا وصلبهما وتتبع المداخلين لَهما فألحقهم بهما وَانْقطع الشغب وَزَالَ الْفساد(2/124)
إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة لبلة وَكَانَ المتولى لفتحها يحيى بن يغمور وَالِي قرطبة وإشبيلية حاصرها مُدَّة ثمَّ اقتحهما عنْوَة وَقبض على أَهلهَا فَخرج بهم إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَصفهم فِي صَعِيد وَاحِد ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف أَجْمَعِينَ حَتَّى خلص الْقَتْل مِنْهُم إِلَى الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحُكَّام بن بطال والفقيه الصَّالح أبي عَامر بن الْجد
وَكَانَ عدد من قتل من أهل لبلة فِي ذَلِك الصَّعِيد ثَمَانِيَة آلَاف وَقتل بأحوازها نَحْو أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ بِيعَتْ نِسَاؤُهُم وأبناؤهم وأمتعتهم وأسلابهم فعل ذَلِك افتياتا على عبد الْمُؤمن وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بمراكش فسخطه وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن سُلَيْمَان فجَاء بِهِ معتقلا إِلَى الحضرة يَوْم عيد الْفطر فألزمه بَيته وَبَقِي على ذَلِك مُدَّة ثمَّ عَفا عَنهُ وسرحه مَعَ ابْنه السَّيِّد أبي حَفْص إِلَى تلمسان وَلم يصرف إِلَى أهل لبلة شَيْئا مِمَّا أَخذ لَهُم واستقام أَمر الأندلس وَنزل مَيْمُون بن بدر اللمتوني عَن غرناطة للموحدين فملكوها وَأَجَازَ إِلَيْهَا السَّيِّد أَبُو سعيد صَاحب سبتة بِعَهْد أَبِيه عبد الْمُؤمن إِلَيْهِ بذلك وَلحق الملثمون بمراكش(2/125)
أَمر عبد الْمُؤمن بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى الْأُصُول من الْكتاب وَالسّنة
لما كَانَت سنة خمسين وَخَمْسمِائة أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ بإصلاح الْمَسَاجِد وبنائها فِي جَمِيع ممالكه وبتغيير الْمُنْكَرَات مَا كَانَت وَأمر مَعَ ذَلِك بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى قِرَاءَة كتب الحَدِيث واستنباط الْأَحْكَام مِنْهَا وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع طلبة الْعلم من بِلَاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا
نقل الْمُصحف العثماني من قرطبة إِلَى مراكش وَبِنَاء جَامع الكتبيين بهَا
كَانَ بقرطبة ثمَّ بجامعها الْأَعْظَم الْمَشْهُور مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ ذكر جمَاعَة من المؤرخين مِنْهُم أبن بشكوال وَغَيره وَكَانَ ذَلِك الْمُصحف الْكَرِيم متداولا عِنْد بني أُميَّة وَأهل الأندلس وَاسْتمرّ بقرطبة إِلَى دولة الْمُوَحِّدين فنقله عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش
قَالَ ابْن بشكوال أخرج الْمُصحف العثماني من قرطبة وَغرب مِنْهَا وَكَانَ بجامعها الْأَعْظَم لَيْلَة السبت الْحَادِي عشر من شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة فِي أَيَّام أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ وبأمره وَهَذَا(2/125)
أحد الْمَصَاحِف الْأَرْبَعَة الَّتِي بعث بهَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْأَمْصَار مَكَّة وَالْبَصْرَة والكوفة وَالشَّام وَمَا قيل من أَن فِيهِ دم عُثْمَان بعيد وَإِن يكن أَحدهَا فَلَعَلَّهُ الشَّامي
قَالَ ابْن عبد الْملك قَالَ أَبُو الْقَاسِم التجِيبِي السبتي أما الشَّامي فَهُوَ بَاقٍ بمقصورة جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق وعاينته هُنَالك سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة كَمَا عَايَنت الْمَكِّيّ بَقِيَّة الشَّرَاب قَالَ فعله الْكُوفِي أَو الْبَصْرِيّ
قَالَ الْخَطِيب ابْن مَرْزُوق فِي كتاب الْمسند الصَّحِيح الْحسن اختبرت الَّذِي بِالْمَدِينَةِ وَالَّذِي نقل من الأندلس فألفيت خطهما سَوَاء وَمَا توهموه أَنه خطه بِيَمِينِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيح فَلم يخط عُثْمَان وَاحِدًا مِنْهَا وَإِنَّمَا جمع عَلَيْهَا بَعْضًا من الصَّحَابَة كَمَا هُوَ مَكْتُوب على ظهر المتني وَنَصّ مَا على ظَهره هَذَا مَا أجمع عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَذكر الْعدَد الَّذِي جمعه عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على كتب الْمُصحف اه
وَكَانَ من خبر نَقله إِلَى مراكش مَا ذكره ابْن رشيد فِي رحلته عَن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن طفيل الْمَذْكُور قَالَ وصل إِلَى عبد الْمُؤمن ابناه السيدان أَبُو سعيد وَأَبُو يَعْقُوب من الأندلس وَفِي صحبتهما مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الإِمَام الَّذِي لم يخْتَلف فِيهِ مُخْتَلف فَتلقى وُصُوله بالإجلال والإعظام وبودر إِلَيْهِ بِمَا يجب من التبجيل وَالْإِكْرَام
وَكَانَ فِي وُصُوله ذَلِك الْوَقْت من عَظِيم الْعِنَايَة وباهر الْكَرَامَة مَا هُوَ مُعْتَبر لأولي الْأَلْبَاب وَذَلِكَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن كَانَ قبل ذَلِك بأيام قد جرى ذكره فِي خاطره وتروى مَعَ نَفسه فِي كَيْفيَّة جلبه من مَدِينَة قرطبة مَحل مثواه الْقَدِيم فتوقع أَن يتَأَذَّى أهل ذَلِك الْقطر بِفِرَاقِهِ ويستوحشوا لفقدان إضاءته وإشراقه فَوقف عَن ذَلِك فأوصله الله إِلَيْهِ تحفة سبنية وهدية(2/127)
هنيَّة دون أَن يكدرها من الْبشر اكْتِسَاب أَو يتقدمها استدعاء أَو اجتلاب بل أوقع الله تَعَالَى فِي نفوس أهل ذَلِك الْقطر من الْفَرح بإرساله مَا أطلع بِالْمُشَاهَدَةِ على صِحَة صدقه وعضلت مخايل برقه سواكب ودقه وعد ذَلِك من كرامات أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن وسعادته
ثمَّ عزم عبد الْمُؤمن على تَعْظِيم الْمُصحف الْكَرِيم وَشرع فِي انتخاب كسوته وَاخْتِيَار حليته فحشر الصناع المتقنين مِمَّن كَانَ بالحضرة وَسَائِر بِلَاد الْمغرب والأندلس فَاجْتمع لذَلِك حذاق كل صناعَة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين وَلم يبْق من يُوصف ببراعة أَو ينْسب إِلَى الحذق فِي صناعَة إِلَّا أحضر للْعَمَل فِيهِ والاشتغال بِمَعْنى من مَعَانِيه
وَبِالْجُمْلَةِ فقد صنعت لَهُ أغشية بَعْضهَا من السندس وَبَعضهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة ورصع ذَلِك بأنواع اليواقيت وأصناف الْأَحْجَار الغريبة النَّوْع والتشكل العديمة الْمِثَال وَاتخذ للغشاء محمل بديع مِمَّا يُنَاسب ذَلِك فِي غرابة الصَّنْعَة وبداعة الصبغة
وَاتخذ للمحمل كرْسِي على شاكلته ثمَّ اتخذ للْجَمِيع تَابُوت يصان فِيهِ على ذَلِك المنوال وَوصف ذَلِك يطول
وَفِي خلال هَذِه الْمدَّة أَمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة مراكش حرسها الله فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وكمل فِي منتصف شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة على أكمل الْوُجُوه وَأغْرب الصَّنَائِع وأفسح المساحة وَأحكم الْبناء والنجارة وَفِيه من شمسيات الزّجاج ودرجات الْمِنْبَر وسياج الْمَقْصُورَة مَا لَو عمل فِي السنين العديدة لاستغرب تَمَامه فَكيف فِي هَذَا الأمد الْيَسِير الَّذِي لم يتخيل أحد من الصناع أَن يتم فِيهِ تَقْدِيره وتخطيطه فضلا عَن بنائِهِ وَصليت فِيهِ صَلَاة الْجُمُعَة منتصف شعْبَان الْمَذْكُور
ونهض عبد الْمُؤمن عقب ذَلِك لزيارة رَوْضَة الْمهْدي بِمَدِينَة تينملل(2/128)
فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة شعْبَان ومعظم رَمَضَان وَحمل فِي صحبته الْمُصحف العثماني فِي التابوت الْمَذْكُور وَمَعَهُ مصحف الْمهْدي وَختم الْقُرْآن الْعَزِيز فِي مَسْجِد الْمهْدي وَعند ضريحه ختمات كَثِيرَة وَعَاد إِلَى مراكش
وَلم يزل الموحدون يعتنون بِهَذَا الْمُصحف الْكَرِيم ويحملونه فِي أسفارهم متبركين بِهِ كتابوت بني إِسْرَائِيل إِلَى أَن حمله مِنْهُم السعيد وَهُوَ عَليّ بن إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور الملقب بالمعتضد بِاللَّه حِين توجه إِلَى تلمسان آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَقتل السعيد قَرِيبا من تلمسان وَوَقع النهب فِي الخزائن واستولت الْعَرَب وَغَيرهم على مُعظم الْعَسْكَر وَنهب الْمُصحف فِي جملَة مَا نهب مِنْهُ وعثر عَلَيْهِ مُلُوك بني عبد الواد أَصْحَاب تلمسان فَلم يزل فِي خزانتهم بهَا إِلَى أَن افتتحها السُّلْطَان الْأَعْظَم أَبُو الْحسن المريني أَوَاخِر شهر رَمَضَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَحصل عِنْده فَكَانَ يتبرك بِهِ ويحمله فِي أَسْفَاره على الْعَادة إِلَى أَن أُصِيب فِي وقْعَة طريف وَحصل فِي بِلَاد البرتغال وأعمل أَبُو الْحسن الْحِيلَة فِي استخلاصه حَتَّى وصل إِلَى فاس سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة على يَد بعض تجار آزمور وَاسْتمرّ فِي خزانته إِلَى أَن سَافر أَبُو الْحسن سفرته الْمَعْلُومَة إِلَى إفريقية فاستولى عَلَيْهَا
وَلما كَانَت سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب أَبُو الْحسن الْبَحْر من تونس قَافِلًا إِلَى الْمغرب وَذَلِكَ فِي إبان هيجان الْبَحْر فغرقت مراكبه وَهَلَكت نفوس تجل عَن الْحصْر وضاعت نفائس يعز وجود مثلهَا وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف العثماني فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ
وَمِمَّا يُنَاسب ذكره هُنَا الْمُصحف العقباني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَكَانَ متداولا عِنْد ملوكه ومتبركا بِهِ وَثَانِي المصحفين فِي الْمنزلَة عِنْد أهل الْمغرب
قَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي كتاب النزهة إِن السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه الْمَعْرُوف بالذهبي لما جدد ولَايَة الْعَهْد لوَلَده الْمَأْمُون(2/129)
بعث إِلَيْهِ بالقدوم من مَدِينَة فاس فوافاه بتامسنا وباشر الْمَنْصُور أَخذ الْبيعَة لَهُ بِنَفسِهِ وَحضر الْأَعْيَان وَأهل العقد والحل وأحضر الْمُصحف الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ قَالَ وَهُوَ من ذخائر الْخُلَفَاء وأحضر الصحيحان لِلشَّيْخَيْنِ وَقُرِئَ ظهير الْبيعَة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَلم يزل الْمُصحف العقباني متداولا بَين الْمُلُوك السعديين إِلَى أَن انقرضت دولتهم وَجَاءَت الدولة الشَّرِيفَة العلوية السجلماسية فانتقل الْمُصحف الْمَذْكُور إِلَيْهَا وتداولته مُلُوكهَا إِلَى أَن جَاءَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله فَبعث هَدِيَّة سنية مَعَ ركب الْحَاج للحرم النَّبَوِيّ وَبعث فِي جُمْلَتهَا الْمُصحف الْمَذْكُور
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما سَافر الركب النَّبَوِيّ يَعْنِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف وَجه مَعَه السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثَلَاثَة وَعشْرين مُصحفا بَين كَبِير وصغير كلهَا محلاة بِالذَّهَب منبتة بالدر والياقوت وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف الْكَبِير العقباني الَّذِي كَانَ الْمُلُوك يتوارثونه بعد الْمُصحف العثماني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري نسخه بالقيروان من الْمُصحف العثماني فَوَقع هَذَا الْمُصحف بيد الْأَشْرَاف الزيدانيين يتداولونه بَينهم إِلَى أَن بلغ إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله الْمَذْكُور فغربه من الْمغرب إِلَى الْمشرق وَرجع الدّرّ إِلَى صدفه والإبريز إِلَى معدنه
قَالَ الشَّيْخ المسناوي وَقد وقفت عَلَيْهِ حِين أَمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بتوجيهه إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَظهر لي أَن تَارِيخ كثبه بالقيروان فِيهِ نظر لبعد مَا بَينهمَا
وَوجه مَعَه السُّلْطَان الْمَذْكُور ألفي حَصَاة بالتثنية وَسَبْعمائة حَصَاة من الْيَاقُوت الْمُخْتَلفَة الألوان إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام
وَهَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَت متباعدة التَّارِيخ فَهِيَ متناسبة الْمَعْنى جمعناها هُنَا ليقف النَّاظر عَلَيْهَا فِي مَحل وَاحِد وَتحصل فائدتها متناسقة وَالله الْمُوفق(2/130)
نكبة الْوَزير ابْن عَطِيَّة وَالسَّبَب فِيهَا
كَانَ الْوَزير أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عَطِيَّة من أهل مراكش وَأَصله الْقَدِيم من طرطوشة ثمَّ بعد من دانية
وَكَانَ أَبوهُ أَبُو أَحْمد بن عَطِيَّة كَاتبا لأمير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف اللمتوني ثمَّ لِابْنِهِ تاشفين من بعده وَتحصل فِي قَبْضَة الْمُوَحِّدين فَعَفَا عَنهُ عبد الْمُؤمن
وَلما حاصر عبد الْمُؤمن فاسا اعتزم أَبُو أَحْمد هَذَا الْفِرَار فتقبض عَلَيْهِ فِي طَرِيقه وسيق إِلَى عبد الْمُؤمن فَاعْتَذر فَلم يقبل عبد الْمُؤمن عذره وسحب إِلَى مصرعه فَقتل رَحمَه الله
وَكَانَ ابْنه أَبُو جَعْفَر صَاحب التَّرْجَمَة كَاتبا لإسحاق بن عَليّ اللمتوني بمراكش فشمله عَفْو أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَن شَمله من ذَلِك الفل
وَخرج فِي جملَة الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي حِين نَهَضَ لقِتَال مُحَمَّد بن هود الماسي
فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح وَكتب رسَالَته الْمُتَقَدّمَة وقف عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن فاستحسنها واستكتبه لذَلِك ثمَّ ارْتَفَعت مكانته عِنْده فاستوزره فَظهر غناؤه وكفايته وحمدت سيرته وإدارته وقاد العساكر وَجمع الْأَمْوَال وبذلها وَبعد فِي الدولة صيته ونال من الرُّتْبَة عِنْد السُّلْطَان مَا لم ينله أحد فِي دولته وتحبب إِلَى النَّاس بإجمال السَّعْي وَالْإِحْسَان فعمت صنائعه وَفَشَا معروفه وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وَكَانَت وزارته زينا للْوَقْت وكمالا للدولة رَحمَه الله
ثمَّ لما كَانَت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَفد أَشْيَاخ إشبيلية على عبد الْمُؤمن وَرَغبُوا مِنْهُ فِي ولَايَة بعض أبنائه عَلَيْهِم فعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي يَعْقُوب عَلَيْهَا وَبعث مَعَه لوزير ابْن عَطِيَّة الْمَذْكُور لمباشرة الْأُمُور وَإِصْلَاح الْأَحْوَال فأغنى فِي ذَلِك الْغناء الْجَمِيل
وَلما غَابَ وَجهه عَن الحضرة وجد حساده السَّبِيل إِلَى التَّدْبِير عَلَيْهِ(2/131)
وَالسَّعْي بِهِ حَتَّى أوغروا صدر الْخَلِيفَة عَلَيْهِ فاستوزر عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي وانبرى لمطالبة ابْن عَطِيَّة وجد فِي التمَاس عوراته وتشنيع سقطاته وطرحت بِمَجْلِس السُّلْطَان أَبْيَات مِنْهَا
(قل للْإِمَام أَطَالَ الله مدَّته ... قولا تبين لذِي لب حقائقه)
(إِن الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه)
(وللوزير إِلَى آرائهم ميل ... فَذَاك مَا كثرت فيهم علائقه)
(فبادر الحزم فِي إطفاء نارهم ... فَرُبمَا عَاق من أَمر عوائقه)
(هم الْعَدو وَمن والاهم كهم ... فاحذر عَدوك وَاحْذَرْ من يصادقه)
(الله يعلم أَنِّي نَاصح لكم ... وَالْحق أَبْلَج لَا تخفى طرائقه)
قَالُوا فَلَمَّا وقف عبد الْمُؤمن على هَذِه الأبيات البليغة فِي مَعْنَاهَا وغر صَدره على وزيره أبي جَعْفَر وأضمر لَهُ فِي نَفسه شرا فَكَانَ ذَلِك من أقوى أَسبَاب نكبته وَقيل أفْضى إِلَيْهِ بسر فأفشاه
وانْتهى ذَلِك كُله إِلَى أبي جَعْفَر وَهُوَ بالأندلس فقلق وَعجل الِانْصِرَاف إِلَى مراكش فحجب عِنْده قومه ثمَّ قيد إِلَى الْمَسْجِد فِي الْيَوْم بعده حاسر الْعِمَامَة واستحضر النَّاس على طبقاتهم وقرروا على مَا يعلمُونَ من أمره وَمَا صَار إِلَيْهِ مِنْهُم فَأجَاب كل بِمَا اقْتَضَاهُ هَوَاهُ وَأمر بسجنه ولف مَعَه أَخُوهُ أَبُو عقيل عَطِيَّة وَتوجه فِي أثر ذَلِك عبد الْمُؤمن إِلَى زِيَارَة تربة الْمهْدي فاستصحبهما بِحَال ثقاف
وَصدر عَن أبي جَعْفَر فِي هَذِه الْحَرَكَة من لطائف الْآدَاب نظما ونثرا فِي سَبِيل التوسل بتربة إمَامهمْ الْمهْدي عجائب فَلم تَجِد شَيْئا مَعَ نُفُوذ الله تَعَالَى فِيهِ
وَلما انْصَرف من وجهته أعادهما مَعَه قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا حَاذَى تاكمارت أنفذ الْأَمر بِقَتْلِهِمَا بالشعراء الْمُتَّصِلَة بالحصن على مقربة من الملاحة هُنَالك فمضيا لسبيلهما وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِمَّا خَاطب بِهِ الْوَزير الْمَذْكُور عبد الْمُؤمن مستعطفا لَهُ من رِسَالَة تغالى فِيهَا فغالته الْمنية وَلم ينل الأمنية وَهَذِه سنة الله تَعَالَى فِيمَن لَا يحترم(2/132)
جناب الألوهية وَلم يحرص لِسَانه من الْوُقُوع فِيمَا يخدش فِي وَجه فضل الْأَنْبِيَاء على غَيرهم قَوْله سامحه الله تالله لَو أحاطت بِي كل خطية وَلم تنفك نَفسِي عَن الْخيرَات بطية حَتَّى سخرت بِمن فِي الْوُجُود وأنفت لآدَم من السُّجُود وَقلت إِن الله تَعَالَى لم يوحي فِي الْفلك إِلَى نوح وأبرمت لحطب نَار الْخَلِيل حبلا وبريت لقدار ثَمُود نبْلًا وحططت عَن يُونُس شَجَرَة اليقطين وَأوقدت مَعَ هامان على الطين وقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وافتريت على الْعَذْرَاء البتول فقذفتها وكتبت صحيفَة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الْأَحْزَاب بالقصوى من العدوة وأبغضت كل قرشي وأكرمت لأجل وَحشِي كل حبشِي وَقلت إِن بيعَة السَّقِيفَة لَا توجب إِمَامَة الْخَلِيفَة وشحذت شفرة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة واعتلقت من حِصَار الدَّار وَقتل أشمطها بشعبة وَقلت تقاتلوا رَغْبَة فِي الْأَبْيَض والأصفر وسفكوا الدِّمَاء على الثَّرِيد الأعفر وغادرت الْوَجْه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سنّ الْحُسَيْن قَضِيبًا ثمَّ أتيت حَضْرَة الْمَعْصُوم لائذا ويقبر الإِمَام الْمهْدي عَائِدًا لأذن لمقالتي أَن تسمع وَتغْفر لي هَذِه الخطيئات أجمع مَعَ أَنِّي مقترف وبالذنب معترف
(فعفوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمن لنا ... بِحمْل قُلُوب هدها الخفقان)
وَالسَّلَام على الْمقَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته
وَكتب مَعَ ابْن لَهُ صَغِير آخِرَة
(عطفا علينا أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد ... بَان العزاء لفرط البث والحزن)
(قد أغرقتنا ذنُوب كلهَا لجج ... وَرَحْمَة مِنْكُم أنجى من السفن)
(وصادفنا سِهَام كلنا غَرَض ... وعطفة مِنْكُم أوفى من الجنن)
(هَيْهَات للخطب أَن تسطو حوادثه ... بِمن أجارته رحماكم من المحن)
(من جَاءَ عنْدكُمْ يسْعَى على ثِقَة ... بنصره لم يخف بطشا من الزَّمن)
(فالثوب يطهر عِنْد الْغسْل من درن ... والطرف يرهص بعد الركض فِي سنَن)
(أَنْتُم بذلتم حَيَاة الْخلق كلهم ... من دون من عَلَيْهِم لَا وَلَا أثمن)
(وَنحن من بعض من أحيت مكاركم ... كلتا الحياتين من نفس وَمن بدن)(2/133)
(وصبية كفراخ الْوَرق من صغر ... لم يألفوا النوح فِي فرع وَلَا فنن)
(قد أوجدتهم أياد مِنْك سَابِقَة ... وَالْكل لولاك لم يُوجد وَلم يكن)
فَوَقع عبد الْمُؤمن على هَذِه القصيدة الْآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين
وَمِمَّا كتب بِهِ من السجْن
(أنوح على نَفسِي أم أنْتَظر الصفحا ... فقد آن أَن تنسى الذُّنُوب وَأَن تمحى)
(فها أَنا فِي ليل من السخط حائر ... وَلَا اهتدي حَتَّى أرى للرضا صبحا)
وامتحن عبد الْمُؤمن الشُّعَرَاء بهجو ابْن عَطِيَّة فَلَمَّا أسمعوه مَا قَالُوا أعرض عَنْهُم وَقَالَ ذهب ابْن عَطِيَّة وَذهب الْأَدَب مَعَه
وَكَانَ لأبي جَعْفَر أَخ اسْمه عَطِيَّة قتل مَعَه كَمَا قُلْنَا ولعطية هَذَا ابْن أديب كَاتب وَهُوَ أَبُو طَالب عقيل بن عَطِيَّة وَمن نظمه فِي رجل تعشق قينة كَانَت ورثت مَالا من مَوْلَاهَا فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَمَّا فرغ المَال ملها
فَقَالَ أَبُو طَالب
(لَا تلحه إِن مل من حبها ... فَلم يكن ذَلِك عَن ود)
(لما رَآهَا قد صفا مَا لَهَا ... قَالَ صفا الوجد مَعَ الوجد)
ويروى أَن الْوَزير ابْن عَطِيَّة رَحمَه الله مر مَعَ الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن بِبَعْض طرق مراكش فأطلت جَارِيَة بارعة الْجمال من شباك فَقَالَ عبد الْمُؤمن
(قدت فُؤَادِي من الشباك إِذْ نظرت ... )
فَقَالَ الْوَزير مجيزا لَهُ
(حوراء ترنو إِلَى العشاق بالمقل ... )
فَقَالَ عبد الْمُؤمن
(كَأَنَّمَا لحظها فِي قلب عاشقها ... )
فَقَالَ الْوَزير
(سيف الْمُؤَيد عبد الْمُؤمن بن عَليّ ... )
وَلَا خَفَاء أَن هَذِه طبقَة عالية رحم الله الْجَمِيع بمنه(2/134)
غَزْو إفريقية ثَانِيًا وَفتح المهدية وَغَيرهَا من الثغور
كَانَت بِلَاد إفريقية بيد بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين من لدن الدولة العبيدية بهَا وَفِي هَذَا التَّارِيخ كَانَت دولتهم قد أشرفت على الْهَرم وَكثر التَّنَازُع بَينهم وزاحمتهم الثوار من الْعَرَب وَغَيرهم بِتِلْكَ الأقطار فانتهز الفرنج أَصْحَاب صقلية الفرصة فيهم وملكوا مِنْهُم عدَّة ثغور مثل صفاقس وَسْوَسَة وَغَيرهمَا ثمَّ ملكوا بعد ذَلِك المهدية وَهِي يَوْمئِذٍ دَار ملك الْحسن بن عَليّ الصنهاجي آخر مُلُوك بني زيري بن مُنَاد ففر الْحسن عَنْهَا إِلَى ابْن عَمه يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية فأنزله بالجزائر
وَلما طرق عبد الْمُؤمن ثغر الجزائر فِي غزوته الأولى إِلَى إفريقية خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ هَذَا وَصَحبه وَصَارَ فِي جملَته فَكَانَ الْحسن يغريه بغزو إفريقية واستنقاذها من يَد الْعَدو
وَكَانَ عبد الْمُؤمن يحب ذَلِك ويرغب فِيهِ إِلَّا أَنه كَانَ ينْتَظر إبان الفرصة فاتفق أَن فرنج صقلية أوقعوا بِأَهْل زويلة وَهِي مَدِينَة بَينهَا وَبَين المهدية نَحْو ميدان وقْعَة شنيعة حَتَّى أَنهم قتلوا النِّسَاء والأطفال ففر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَهُوَ بمراكش يستغيثونه ويستنصرونه على الْعَدو
فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أكْرمهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا جرى على الْمُسلمين وَأَنه لَيْسَ فِي مُلُوك الْإِسْلَام من يقْصد سواهُ وَلَا يكْشف هَذَا الكرب غَيره فَدَمَعَتْ عَيناهُ وأطرق ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أَبْشِرُوا لأنصرنكم وَلَو بعد حِين وَأمر بإنزالهم وَأطلق لَهُم ألفي دِينَار
ثمَّ أَمر بِعَمَل الروايا والقرب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْعَسْكَر فِي السّفر وَكتب إِلَى جَمِيع نوابه فِي الْمغرب وَكَانَ قد ملك العدوتين الأندلس وَالْمغْرب واتسعت خطة مَمْلَكَته إِلَى قرب مَدِينَة تونس فَكتب إِلَى من بطريقه من النواب يَأْمُرهُم بِحِفْظ جَمِيع مَا يتَحَصَّل من الغلات وَأَن يتْرك الزَّرْع فِي سنبله(2/135)
ويخزن فِي موَاضعه وَأَن يحفروا الْآبَار فِي الطّرق فَفَعَلُوا جَمِيع مَا أَمرهم بِهِ وجمعوا غلات الْحبّ ثَلَاث سِنِين ونقلوها إِلَى الْمنَازل الَّتِي على الطَّرِيق وطينوا عَلَيْهَا فَصَارَت كَأَنَّهَا تلال
فَلَمَّا كَانَ صفر من سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة سَار عبد الْمُؤمن من مراكش يؤم بِلَاد إفريقية
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ عبد الْمُؤمن فِي هَذِه السفرة قد عزم على العبور إِلَى الأندلس لما بلغه من اضْطِرَاب أحوالها واستطالة الطاغية بهَا فَنَهَضَ يُرِيد الْجِهَاد واحتل بسلا فَبَلغهُ انْتِقَاض إفريقية وأهمه شَأْن النَّصَارَى بالمهدية فَلَمَّا توافرت العساكر بسلا اسْتخْلف الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي على الْمغرب وَعقد ليوسف بن سُلَيْمَان على مَدِينَة فاس ونهض يغد السّير إِلَى إفريقية وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من العساكر مائَة ألف مقَاتل وَمن الأتباع والسوقة أمثالهم وَكَانَ هَذَا الْجند يَمْتَد أميالا
وَبلغ من حفظه وَضَبطه أَنهم كَانُوا يَمْشُونَ بَين الزروع فَلَا تتأذى بهم سنبلة وَإِذا نزلُوا صلوا بِإِمَام وَاحِد بتكبيرة وَاحِدَة لَا يتَخَلَّف مِنْهُم أحد كَائِنا من كَانَ
وَقدم بَين يَدَيْهِ الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحب المهدية وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ كَمَا قُلْنَا فَلم يزل يسير إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة تونس فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وَبهَا صَاحبهَا أَحْمد بن خُرَاسَان وَأَقْبل أسطوله فِي الْبَحْر فِي سبعين شينا وطريدة وشلندا
فَلَمَّا نازلها راسل أَهلهَا يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة فامتنعوا فَقَاتلهُمْ من الْغَد أَشد قتال وَلما جن اللَّيْل نزل سَبْعَة عشر رجلا من أَعْيَان أَهلهَا إِلَى عبد الْمُؤمن يسألونه الْأمان لأهل بلدهم فأجابهم عبد الْمُؤمن بِأَن لَهُم الْأمان فِي أنفسهم وأهليهم وَأَمْوَالهمْ لمبادرتهم إِلَى الطَّاعَة وَأما من عداهم من سَائِر أهل الْبَلَد فيؤمنهم فِي أنفسهم وأهليهم ويقاسمهم على أَمْوَالهم وأملاكهم نِصْفَيْنِ وَأَن يخرج صَاحب الْبَلَد هُوَ وَأَهله فاستقر الْأَمر على(2/136)
ذَلِك وتسلم الْبَلَد وَبعث إِلَيْهِم من يمْنَع العساكر من الدُّخُول عَلَيْهِم وَبعث أمناءه ليقاسموا النَّاس على أَمْوَالهم وأملاكهم وَأقَام أهل تونس بهَا على أُجْرَة تُؤْخَذ عَن نصف مساكنهم وَعرض عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام على من بهَا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمن أسلم سلم وَمن أَبى قتل
وَأقَام عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار إِلَى المهدية وأسطوله يحاذيه فِي الْبَحْر فوصل إِلَيْهَا ثامن عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ بالمهدية يَوْمئِذٍ خَواص الفرنج من أَوْلَاد مُلُوكهَا وأبطال فرسانها وَقد أخلوا مَدِينَة زويلة الْمُجَاورَة للمهدية فَدَخلَهَا عبد الْمُؤمن وامتلأت بالعساكر والسوقة فَصَارَت مَدِينَة معمورة فِي سَاعَة وَاحِدَة وَمن لم يكن لَهُ مَوضِع من الْعَسْكَر نزل بظاهرها وانضاف إِلَيْهِ من صنهاجة وَالْعرب وَأهل إفريقية مَا يخرج عَن الإحصاء وَأَقْبلُوا يُقَاتلُون المهدية مُدَّة أَيَّام فَلَا يُؤثر فِيهَا لحصانتها وَقُوَّة سورها وضيق محَال الْقِتَال عَلَيْهَا لِأَن الْبَحْر دائر بأكثرها فَكَأَنَّهَا كف فِي الْبَحْر وزندها مُتَّصِل بِالْبرِّ وَكَانَت الفرنج تخرج شجعانها إِلَى أَطْرَاف الْعَسْكَر فتنال مِنْهُ ويعودون سَرِيعا فَأمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء سور غربي الْمَدِينَة يمنعهُم من الْخُرُوج وأحاط الأسطول بهَا فِي الْبَحْر وَركب عبد الْمُؤمن شينيا وَمَعَهُ الْحسن بن عَليّ الَّذِي كَانَ صَاحبهَا وَتَطوف بهَا فِي الْبَحْر فهاله مَا رأى من حصانتها وَعلم أَنَّهَا لَا تفتح بِقِتَال برا وَلَا بحرا وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا المطاولة وَقَالَ لِلْحسنِ كَيفَ نزلت عَن مثل هَذَا الْحصن فَقَالَ لقلَّة من يوثق بِهِ وَعدم الْقُوت وَحكم الْقدر فَقَالَ صدقت
وَعَاد عبد الْمُؤمن من الْبَحْر وَأمر بِجمع الغلات والأقوات وَترك الْقِتَال فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى صَار فِي المعسكر مثل الجبلين من الْحِنْطَة وَالشعِير فَكَانَ من يصل إِلَى المعسكر من بعيد يَقُول مَتى حدثت هَذِه الْجبَال فَيُقَال هِيَ حِنْطَة وشعيرا فيتعجب من ذَلِك وَتَمَادَى الْحصار
وَفِي مُدَّة هَذَا الْحصار استولى عبد الْمُؤمن على طرابلس وصفاقص وَسْوَسَة وجبل نفوسة وقصور إفريقية وَمَا والاها وَفتح مَدِينَة قابس بِالسَّيْفِ وسير ابْنه السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد من مَكَان حصاره للمهدية فِي جَيش فَفتح بلادا أُخْرَى(2/137)
ثمَّ أطاعه أهل مَدِينَة قفصة وَقدم عَلَيْهِ صَاحبهَا فوصله بِأَلف دِينَار وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ استخلص فِي هَذِه الْمدَّة جَمِيع بِلَاد إفريقية من أَيدي القائمين بهَا
وَلما كَانَ الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة جَاءَ أسطول صَاحب صقلية فِي مائَة وَخمسين شينيا غير الطرائد مُمِدًّا لأهل المهدية وَكَانَ هَذَا الأسطول قد قدم من جَزِيرَة يابسة من بِلَاد الأندلس وَقد سبى أَهلهَا وأسرهم وَحَملهمْ مَعَه فَأرْسل إِلَيْهِم ملك الفرنج يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ إِلَى المهدية ليمدوا إخْوَانهمْ الَّذين بهَا فقدموا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَلَمَّا قاربوا الْمَدِينَة حطوا شرعهم ليدخلوا الميناء فَخرج إِلَيْهِم أسطول عبد الْمُؤمن وَركب الْعَسْكَر جَمِيعه ووقفوا على جَانب الْبَحْر فاستعظم الفرنج مَا رَأَوْا من كَثْرَة العساكر وداخل الرعب قُلُوبهم
وَنزل عبد الْمُؤمن إِلَى الأَرْض فَجعل يمرغ وَجهه ويبكي وَيَدْعُو للْمُسلمين بالنصر واقتتلوا فِي الْبَحْر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وَسَارُوا وتبعهم الْمُسلمُونَ فَأخذُوا مِنْهُم سبع شواني وَكَانَ أمرا عجيبا وفتحا غَرِيبا
وَعَاد أسطول الْمُسلمين مظفرا منصورا وَفرق فيهم عبد الْمُؤمن الْأَمْوَال ويئس أهل المهدية حِينَئِذٍ من النجَاة وَمَعَ ذَلِك فقد صَبَرُوا على الْحصار أَرْبَعَة أشهر أُخْرَى إِلَى أخر ذِي الْحجَّة من السّنة فَنزل حِينَئِذٍ من فرسَان الفرنج إِلَى عبد الْمُؤمن عشرَة وسألوا الْأمان لمن فِيهَا من الفرنج على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ لِيخْرجُوا مِنْهَا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَ قوتهم قد فنى حَتَّى أكلُوا الْخَيل فَعرض عَلَيْهِم عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام ودعاهم إِلَيْهِ فَقَالُوا مَا جِئْنَا لهَذَا وَإِنَّمَا جِئْنَا نطلب فضلك وترددوا إِلَيْهِ أَيَّامًا
وَكَانَ من جملَة مَا استعطفوه بِهِ أَن قَالُوا أَيهَا الْخَلِيفَة مَا عَسى أَن تكون المهدية وَمن بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملكك الْعَظِيم وأمرك الْكَبِير وَإِن أَنْعَمت علينا كُنَّا أرقاء لَك فِي أَرْضنَا فَعَفَا عَنْهُم وَكَانَ الْفضل شيمته وَأَعْطَاهُمْ سفنا ركبُوا فِيهَا وَسَارُوا وَكَانَ الزَّمن شتاء فغرق أَكْثَرهم وَلم يصل مِنْهُم إِلَى صقلية إِلَّا النَّفر الْيَسِير(2/138)
وَكَانَ صَاحب صقلية قد قَالَ إِن قتل عبد الْمُؤمن أَصْحَابنَا بالمهدية قتلنَا الْمُسلمين الَّذين عندنَا بِجَزِيرَة صقلية وأخذنا حرمهم وَأَمْوَالهمْ فَأهْلك الله الفرنج غرقا
وَكَانَت مُدَّة استيلائهم على المهدية اثْنَتَيْ عشرَة سنة فَدَخلَهَا عبد الْمُؤمن صَبِيحَة يَوْم عَاشُورَاء من الْمحرم سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة سنة الْأَخْمَاس
وَأقَام عبد الْمُؤمن بالمهدية عشْرين يَوْمًا حَتَّى رتب أحوالها واصلح مَا انثلم من سورها وَنقل إِلَيْهَا الذَّخَائِر والأقوات وَالرِّجَال وَالْعدَد
واستخلف عَلَيْهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن فرج الكومي وَجعل مَعَه الْحسن بن عَليّ الصنهاجي الَّذِي كَانَ صَاحبهَا وَأمره أَن يَقْتَدِي بِرَأْيهِ فِي أَفعاله وأقطع الْحسن بهَا إقطاعا وَأَعْطَاهُ دورا نفيسة يسكنهَا وَكَذَلِكَ فعل بأولاده
وصفت إفريقية كلهَا لعبد الْمُؤمن وَدخل أَهلهَا فِي طَاعَته من برقة إِلَى تلمسان وَلم يبْق لَهُ بهَا مُنَازع فَفرق فِيهَا عماله وقضاته وَضبط ثغورها وَأصْلح شؤونها
وثنى عنانه إِلَى الْمغرب أول صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وانقطعت عَادِية الفرنج عَن بِلَاد إفريقية مُدَّة مديدة وَالله تَعَالَى أعلم
توظيف عبد الْمُؤمن الْخراج على أَرض الْمغرب
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة أَمر عبد الْمُؤمن بتكسير بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب فَكسر من برقة فِي جِهَة الشرق إِلَى بِلَاد نول من السوس الْأَقْصَى فِي جِهَة الغرب بالفراسخ والأميال طولا وعرضا ثمَّ أسقط فِي التكسير الثُّلُث فِي الْجبَال والغياض والأنهار والسماخ والخزون والطرق وَمَا بَقِي قسط عَلَيْهِ الْخراج وألزم كل قَبيلَة بقسطها من الزَّرْع وَالْوَرق فَهُوَ أول من أحدث ذَلِك فِي الْمغرب عَفا الله عَنهُ(2/139)
بِنَاء عبد الْمُؤمن جبل طَارق
كَانَ عبد الْمُؤمن رَحمَه الله وَهُوَ بإفريقية قد أَمر بِبِنَاء جبل الْفَتْح وتحصينه وَهُوَ جبل طَارق فَبنِي وشيد حصنه وَكَانَ ابْتِدَاء الْبناء بِهِ فِي تَاسِع ربيع الأول من سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة الْمَذْكُورَة وكمل بِنَاؤُه فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا بِنَاء عبد الْمُؤمن مَدِينَة الْبَطْحَاء
لما كَانَ عبد الْمُؤمن قَافِلًا من بِلَاد إفريقية بنى مَدِينَة الْبَطْحَاء وَسبب بنائِهِ إِيَّاهَا أَنه لما طَالب بالموحدين الْإِقَامَة بالمشرق والتغرب عَن أوطانهم عزمت طَائِفَة مِنْهُم على قتل عبد الْمُؤمن والفتك بِهِ فِي خبائه إِذا نَام فتأتى شيخ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين مِمَّن اطلع على ذَلِك إِلَى عبد الْمُؤمن فَأخْبرهُ الْخَبَر وَقَالَ لَهُ دَعْنِي أَبَت اللَّيْلَة فِي وضعك وأنم على فراشك فَإِن فعلوا مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ كنت قد فديتك بنفسي فِي حق الْمُسلمين وَأجْرِي فِي ذَلِك على الله وَإِن حصلت السَّلامَة فَمن الله تَعَالَى وَيكون أجري على قدر نيتي فَبَاتَ على فرَاشه فاستشهد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا اصبح عبد الْمُؤمن وَصلى الصُّبْح افتقده فَوَجَدَهُ قَتِيلا على فرَاشه فَأَخذه وَحمله بَين يَدَيْهِ على نَاقَة لَا يَقُودهَا أحد فسارت النَّاقة يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى بَركت وَحدهَا فَأمر عبد الْمُؤمن بالشيخ فَأنْزل عَنْهَا وَأخذ بزمام النَّاقة فأزيلت عَن مبركها وحفر قَبره فِيهِ وَدفن وبنيت عَلَيْهِ قبَّة وَبنى بِإِزَاءِ الْقبَّة جَامعا
ثمَّ أَمر بِبِنَاء الْمَدِينَة حول الْمَسْجِد وَترك بهَا عشرَة أهل بَيت من كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب فقبر الشَّيْخ هُنَالك مزارة عَن أهل تِلْكَ الْبِلَاد إِلَى الْيَوْم قَالَه فِي القرطاس(2/140)
وَلما دخل عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان فِي هَذِه الرّجْعَة قبض على وزيره عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي فسجنه ثمَّ سمه من جرعة لبن هلك بهَا من ليلته
عبور عبد الْمُؤمن إِلَى جبل طَارق وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ عبد الْمُؤمن وَهُوَ بإفريقية قد بلغه أَن مُحَمَّد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس قد خرج من مرسية ونازل جيان وأطاعه واليها مُحَمَّد بن عَليّ الكومي ثمَّ نَازل بعْدهَا قرطبة ورحل عَنْهَا وغدر بقرمونة وملكها ثمَّ رَجَعَ إِلَى قرطبة وَخرج ابْن يكيت لحربه فَهَزَمَهُ ابْن مردنيش وَقَتله
فَكتب عبد الْمُؤمن إِلَى عماله بالأندلس يُخْبِرهُمْ بِفَتْح إفريقية عَلَيْهِ وَأَنه وَاصل إِلَيْهِم فَلَمَّا نَهَضَ من تلمسان فِي رجعته هَذِه عدل إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَأقَام بهَا إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَخمسين بعْدهَا فَعبر مِنْهَا إِلَى الأندلس وَنزل بجبل طَارق فَأَقَامَ بِهِ شَهْرَيْن واستشرف مِنْهُ أَحْوَال الأندلس ووفد عَلَيْهِ قوادها وأشياخها فَأمر بغزو غرب الأندلس فَنَهَضَ إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي حَفْص الهنتاتي من قرطبة فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين فَفتح حصن المرنكش من أحواز بطليوس وَقتل جَمِيع من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى وَخرج الفنش من طليطلة لإغاثته فَوَجَدَهُ قد فتح وصمد الموحدون لقتاله فَهَزَمَهُ الله وَقتل من عسكره سِتَّة آلَاف وسَاق الْمُسلمُونَ السَّبي إِلَى قرطبة وإشبيلية
وَفِي هَذِه السّنة ملك الموحدون بطليوس وباجة ويابورة وحصن الْقصر فولى عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحَاج وَعَاد إِلَى مراكش(2/141)
قدوم كومية قَبيلَة عبد الْمُؤمن عَلَيْهِ بمراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
تقدم لنا أَن عبد الْمُؤمن لم يكن من المصامدة وَإِنَّمَا كَانَ من كومية إِحْدَى بطُون بني فاتن من البرابرة البتر وَكَانَت مواطنهم بالمغرب الْأَوْسَط إِلَى أَن استدعاهم عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما هَمت الطَّائِفَة من الْمُوَحِّدين بقتْله وَقتلُوا الشَّيْخ الَّذِي فدَاه بِنَفسِهِ وَتحقّق ذَلِك مِنْهُم وَرَأى أَنه غَرِيب بَين أظهرهم لَيْسَ لَهُ قبيل يسْتَند إِلَيْهِ وَلَا عشير يَثِق بِهِ ويعتمد عَلَيْهِ أرسل فِي خُفْيَة إِلَى أَشْيَاخ كومية الَّذين هم قبيلته وعشيرتهم وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ وَأَن يركبُوا كل من بلغ الْحلم مِنْهُم ويأتوه فِي أحسن زِيّ وأكمل عدَّة وسرب إِلَيْهِم الْأَمْوَال والكسى فَاجْتمع مِنْهُم أَرْبَعُونَ ألف فَارس ثمَّ أَقبلُوا إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمراكش برسم خدمته وَالْقِيَام بَين يَدَيْهِ
وَلما دخلُوا أَرض الْمغرب تشوش أَهله من قدوم هَذَا الْجَيْش الحفيل من غير أَن يتَقَدَّم لَهُم سَبَب ظَاهر وَتقول النَّاس الْأَقَاوِيل فَسَار جَيش كومية حَتَّى نزلُوا على وَادي أم الرّبيع وتسامع الموحدون بِإِقْبَالِهِمْ فارتابوا مِنْهُم وَعرفُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن بخبرهم فَأمر عبد الْمُؤمن الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي أَن يخرج إِلَيْهِ فِي جمَاعَة من الْمُوَحِّدين وأشياخهم ليتعرفوا خبرهم فَسَار حَتَّى لَقِيَهُمْ على وَادي أم الرّبيع فَقَالَ لَهُم مَا أَنْتُم أسلم لنا أم حَرْب قَالُوا بل نَحن سلم نَحن قبيل أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحن كومية قصدنا زيارته وَالسَّلَام عَلَيْهِ فَرجع أَبُو حَفْص وَأَصْحَابه وَعرف عبد الْمُؤمن الْخَبَر فَأمر جَمِيع الْمُوَحِّدين أَن يخرجُوا إِلَى لقائهم فَفَعَلُوا واحتفلوا لذَلِك
وَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ مراكش يَوْمًا مشهودا فرتبهم عبد الْمُؤمن فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة من أهل الدِّيوَان وجعلهم بَين قَبيلَة تينملل والقبيلة التابعة لَهُم(2/142)
وجعلهم بطانته يركبون خلف ظَهره ويمشون بَين يَدَيْهِ إِذا خرج ويقومون على رَأسه إِذا جلس فاعتضد بهم عبد الْمُؤمن وَبَنوهُ سَائِر دولتهم إِلَى انقراضها وَالله غَالب على أمره
استعداد عبد الْمُؤمن للْجِهَاد وإنشاؤه الأساطيل بسواحل الْمغرب وَمَا يتبع ذَلِك من وَفَاته رَحمَه الله
لما تمهد لعبد الْمُؤمن ملك المغربين وإفريقية والأندلس وطاعت لَهُ سَائِر الأقطار وخضعت لَهُ الرّقاب فِي الْبَوَادِي والأمصار تفرغ لشأنه وتاقت نَفسه للْجِهَاد فعزم على غَزْو بِلَاد الفرنج برا وبحرا فَأمر رَحمَه الله فِي هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة بإنشاء الأساطيل فِي جَمِيع سواحل ممالكه فأنشئ لَهُ مِنْهَا أَرْبَعمِائَة قِطْعَة فَمِنْهَا بحلق المعمورة وَهِي الَّتِي تسمى الْيَوْم المهدية مائَة وَعِشْرُونَ قِطْعَة وَمِنْهَا بطنجة وسبتة وباديس ومراسي الرِّيف مائَة قِطْعَة وَمِنْهَا بِبِلَاد إفريقية ووهران ومرسى هنين مائَة قِطْعَة وَمِنْهَا بِبِلَاد الأندلس ثَمَانُون قِطْعَة
وَنظر فِي استجلاب الْخَيل للْجِهَاد والاستكثار من أَنْوَاع السِّلَاح وَالْعدَد وَأمر بِضَرْب السِّهَام فِي جَمِيع عمله فَكَانَ يضْرب لَهُ مِنْهَا فِي كل يَوْم نَحْو عشرَة قناطير جدية فَجمع لَهُ من ذَلِك مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَفِي خلال هَذَا وفدت عَلَيْهِ قَبيلَة كومية كَمَا مر
ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن من مراكش قَاصِدا الأندلس برسم الْجِهَاد وَكَانَ خُرُوجه يَوْم الْخَمِيس خَامِس ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فوصل إِلَى رِبَاط سلا فَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاد الْمغرب والقبلة وإفريقية والسوس وَغير ذَلِك يستنفرهم إِلَى الْجِهَاد فَأَجَابَهُ خلق كثير وَاجْتمعَ لَهُ من عَسَاكِر الْمُوَحِّدين والمرتزقة وَمن(2/143)
قبائل الْعَرَب والبربر وزناتة أَزِيد من ثَلَاثمِائَة ألف فَارس وَمن جيوش المتطوعة ثَمَانُون ألف فَارس وَمِائَة ألف راجل فضاقت بهم الأَرْض وانتشرت المحلات والعساكر فِي أَرض سلا من عين غبولة إِلَى عين خَمِيس إِلَى حلق المعمورة
فَلَمَّا استوفيت لَدَيْهِ الحشود وتكاملت لَدَيْهِ الْجنُود والوفود كَانَ الْمَعْنى الَّذِي أَشَارَ الله الْقَائِل
(إِذْ تمّ أَمر بدا نَقصه ... ترقب زوالا إِذا قيل تمّ)
فابتدأ بِعَبْد الْمُؤمن مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ وَتَمَادَى بِهِ ألمه فخاف أَن يفجأه الْحمام فَأمر بعزل وَلَده مُحَمَّد عَن ولَايَة الْعَهْد وَإِسْقَاط اسْمه من الْخطْبَة لما ظهر لَهُ من الْعَجز عَن الْقيام بِأَمْر الْخلَافَة
وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع طَاعَته وَتَمَادَى بِهِ مَرضه وَاشْتَدَّ ألمه فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَقيل غير ذَلِك وَحمل إِلَى تينملل فَدفن بهَا إِلَى جنب قبر الإِمَام الْمهْدي رَحمَه الله فسبحان من لَا يبيد ملكه وَلَا يَنْقَضِي عزه
وَنقل ابْن خلكان فِي كَيْفيَّة عزل ولي الْعَهْد وَجها آخر قَالَ نَاقِلا من خطّ الْعِمَاد بن جِبْرِيل أَن عبد الْمُؤمن كَانَ فِي حَيَاته عهد إِلَى أكبر أَوْلَاده وَهُوَ مُحَمَّد وَبَايَعَهُ النَّاس بعد تَحْلِيف الْجند لَهُ وَكتب ببيعته إِلَى الْبِلَاد فَلَمَّا مَاتَ عبد الْمُؤمن لم يتم لَهُ الْأَمر لِأَنَّهُ كَانَ على أُمُور لَا يصلح مَعهَا للمملكة من إدمان شرب الْخمر وَاخْتِلَاف الرَّأْي وَكَثْرَة الطيش وَجبن النَّفس وَيُقَال إِنَّه مَعَ هَذَا كُله كَانَ بِهِ ضرب من الجذام واضطرب أمره(2/144)
وَاخْتلف النَّاس عَلَيْهِ فَخلع وَكَانَت مُدَّة ولَايَته خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَذَلِكَ فِي شعْبَان من سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ الَّذِي سعى فِي خلعه أَخَوَيْهِ أَبَا يَعْقُوب يُوسُف وَأَبا حَفْص عمر ابْني عبد الْمُؤمن وَلما تمّ خلعه دَار الْأَمر بَين الْأَخَوَيْنِ الْمَذْكُورين وهما من نجباء أَوْلَاد عبد الْمُؤمن وَمن ذَوي الرَّأْي فَتَأَخر مِنْهُمَا أَبُو حَفْص عمر وَسلم الْأَمر إِلَى أَخِيه أبي يَعْقُوب يُوسُف فَبَايعُوهُ النَّاس واتفقت عَلَيْهِ الْكَلِمَة وَالله تَعَالَى أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار عبد الْمُؤمن وَسيرَته
قَالَ ابْن خلكان كَانَ عبد الْمُؤمن عِنْد وَفَاته شَيخا نقي الْبيَاض قَالَ ونقلت من تَارِيخ فِيهِ سيرته وحليته فَقَالَ مُؤَلفه رَأَيْته شَيخا معتدل الْقَامَة عَظِيم الهامة أشهل الْعَينَيْنِ كث كث اللِّحْيَة شثن الْكَفَّيْنِ طَوِيل الْقعدَة وَاضح بَيَاض الْأَسْنَان بخده الْأَيْمن خَال
وَكَانَ رَحمَه الله فصيحا فَقِيها عَالما بالأصول والجدل والْحَدِيث مشاركا فِي كثير من الْعُلُوم الدِّينِيَّة والدنيوية ذَا حزم وسياسة وإقدام فِي الْحَرْب ومهمات الْأُمُور سري الهمة مَيْمُون النقيبة لم يقْصد قطّ بَلَدا إِلَّا فَتحه وَلَا جَيْشًا إِلَّا هجمه محبا لأهل الْعلم وَالْأَدب مكرما لوفادتهم منفقا لبضاعتهم ذكر الْعِمَاد الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب الخريدة أَن الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس التيفاشي لما أنْشدهُ
(مَا هز عطفيه بَين الْبيض والأسل ... مثل الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ)
أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يقْتَصر على هَذَا الْبَيْت وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار
وَقد تقدم مَا دَار بَينه وَبَين وزيره ابْن عَطِيَّة من الشّعْر الَّذِي تجاذباه فِي أَمر الْجَارِيَة الَّتِي أطلت فِي الشباك وَذَلِكَ دَلِيل على سراوة طبعه وخفة روحه رَحمَه الله(2/145)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ
قَالَ ابْن خلدون لما هلك عبد الْمُؤمن أَخذ السَّيِّد أَبُو حَفْص بن عبد الْمُؤمن الْبيعَة على النَّاس لِأَخِيهِ أبي يَعْقُوب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِاتِّفَاق من الْمُوَحِّدين كَافَّة ورضى من الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي خَاصَّة واستقل فِي رُتْبَة وزارته
وَذكر القَاضِي أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن عمر مؤرخ دولتهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بُويِعَ بيعَة الْجَمَاعَة يَوْم الْجُمُعَة ثامن ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ بعد وَفَاة وَالِده عبد الْمُؤمن بِسنتَيْنِ لِأَنَّهُ لما بُويِعَ بعد وَفَاة وَالِده توقف عَن بيعَته نَاس من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَامْتنع من بيعَته أَخَوَاهُ السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله صَاحب قرطبة فَكف عَنْهُم وَلم يطالبهم ببيعته وَتسَمى بالأمير وَلم يتسم بأمير الْمُؤمنِينَ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس
وَذكر ابْن مطروح فِي تَارِيخه أَنه لما مَاتَ عبد الْمُؤمن كَانَ وَلَده يُوسُف بإشبيلية فأخفى أَصْحَابه مَوته وَأَرْسلُوا إِلَى يُوسُف فوصل من إشبيلية إِلَى سلا فِي أقرب وَقت فبويع بهَا وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته إِلَّا نَاس قَلِيلُونَ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِم
وَكَانَ أول شَيْء فعله بعد الْبيعَة أَن سرح الجيوش المجتمعة للْجِهَاد إِلَى بِلَادهمْ وقبائلهم وَكتب إِلَى الْبِلَاد بتسريح المساجين وتفريق الصَّدقَات فِي جَمِيع عمله وَتسَمى بالأمير ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا وَكتب إِلَى جَمِيع أهل طَاعَته من الْمُوَحِّدين يطلبهم بالبيعة فَأَتَتْهُ الْبيعَة من جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس مَا خلا قرطبة وبجاية فَإِن ولاتهما وهما أَخَوَاهُ توقفا عَن ذَلِك وانتشر خبر أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف فِي أقطار(2/146)
الْبِلَاد وأدان لَهُ من بالعدوتين من الْعباد وَفرق الْأَمْوَال فِي الْقَبَائِل والأجناد
وَفِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة قدم عَلَيْهِ أَخَوَاهُ السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله صَاحب قرطبة تَائِبين مبايعين وَقدم مَعَهُمَا أَشْيَاخ بلديهما وفقهائهما فوصلهم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بالأموال وَالْخلْع وَأحسن إِلَيْهِم
وَفِي هَذِه السّنة ثار مرزدغ الصنهاجي من صنهاجة مِفْتَاح وَضرب السِّكَّة باسمه وَكتب فِيهَا مرزدغ الْغَرِيب نَصره الله عَن قريب وَكَانَت ثورته بِبِلَاد غمارة فَبَايعهُ خلق كثير من غمارة وصنهاجة وأوربة فأفسد تِلْكَ النَّاحِيَة وَدخل مَدِينَة تازا وَقتل بهَا خلقا كثيرا وسبى فَبعث إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف جَيْشًا من الْمُوَحِّدين فَقتل وَحمل رَأسه إِلَى مراكش
وَفِي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة كَانَت وقْعَة الْجلاب بالأندلس بَين السَّيِّد أبي سعيد بن عبد الْمُؤمن وجيوش الفرنج مَعَ ابْن مردنيش وَكَانَت الفرنج ثَلَاثَة عشر ألفا فَهزمَ ابْن مردنيش وَقتل من مَعَه من الفرنج بأجمعهم وَكتب السَّيِّد أَبُو سعيد بِالْفَتْح إِلَى أَخِيه أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة عقد أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف على بجاية لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي زَكَرِيَّاء وعَلى إشبيلية للشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أدال مِنْهُ بأَخيه السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم وَأقر الشَّيْخ أبي عبد الله على وزارته وَعقد على قرطبة لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي إِسْحَاق وَأقر السَّيِّد أَبَا سعيد على غرناطة
ثمَّ نظر الموحدون فِي وضع الْعَلامَة الْمَكْتُوبَة بِخَط الْخَلِيفَة فَاخْتَارُوا الْحَمد لله وَحده لما وقفُوا عَلَيْهَا بِخَط الإِمَام الْمهْدي فِي بعض مخاطباته فَكَانَت علامتهم إِلَى آخر دولتهم وَالله أعلم(2/147)
ثورة سبع بن منغفاد بجبال غمارة
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثار سبع بن منغفاد وَسَماهُ ابْن أبي زرع يُوسُف بن منغفاد بجبل تيزيران من بِلَاد غمارة وعظمت الْفِتْنَة فِي قبائلها وجاذبهم فِيهَا جيرانهم من صنهاجة فَبعث إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن عَسَاكِر الْمُوَحِّدين إِلَى نظر الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي ثمَّ تعاظمت فتْنَة غمارة وصنهاجة فَخرج إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِنَفسِهِ وأوقع بهم واستأصلهم وَقتل سبع بن مغفاد وَحمل رَأسه إِلَى مراكش وانحسم داؤهم وَعقد يُوسُف لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي عَليّ الْحسن على سبتة وَسَائِر بِلَادهمْ
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ اجْتمع الموحدون على تَجْدِيد الْبيعَة ليوسف بن عبد الْمُؤمن واللقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وخاطب الْعَرَب بإفريقية يستدعيهم إِلَى الْغَزْو ويحرضهم وَكتب إِلَيْهِم فِي ذَلِك بقصيدة ورسالة مَشْهُورَة بَين النَّاس فَكَانَ من احتفالهم ووفودهم عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْرُوف
وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ بعْدهَا وَفد عَلَيْهِ أهل الْأَمْصَار من إفريقية وَالْمغْرب والأندلس الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء والخطباء وَالشعرَاء والأشياخ والأعيان برسم التهنئة والمطالعة بأحوال بِلَادهمْ فوصلت الْوُفُود إِلَى مراكش فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وهنؤوه بالخلافة وَوصل الْجَمِيع كل على قدره وأوصاهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَكتب لَهُم الظهائر بمطالبهم وَإِصْلَاح شؤونهم وَانْصَرفُوا شاكرين
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا بعث أَمِير الْمُؤمنِينَ الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي فِي جيوش الْمُوَحِّدين إِلَى الأندلس لاستنقاذ بطليوس من حِصَار الْعَدو واحتفل أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى إشبيلية بلغه أَن الْمُوَحِّدين وَأهل بطليوس هزموا الْعَدو وأسروا قَائِد جَيْشه فَسَار الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى قرطبة(2/148)
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ بعْدهَا وَجه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا حَفْص إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد فَعبر الْبَحْر من قصر الْمجَاز إِلَى طريف فِي عشْرين ألفا من الْمُوَحِّدين والمتطوعة فَدَخَلُوا بِلَاد الْعَدو وَبعث السَّيِّد أَبُو حَفْص أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا سعيد إِلَى بطليوس فعقد الصُّلْح مَعَ الطاغية ابْن أذفونش وَهُوَ يَوْمئِذٍ أعظم مُلُوك فرنج الجزيرة وَانْصَرف ونهضوا جَمِيعًا إِلَى مرسية وَمَعَهُمْ إِبْرَاهِيم بن همشك كَانَ من قواد ابْن مردنيش فَنزع عَنهُ إِلَى الْمُوَحِّدين فحاصروا ابْن مردنيش الثائر بمرسية وأعمالها واستولوا على أَكثر بِلَاده واتصل الْخَبَر بالخليفة بمراكش وَقد خف إِلَى الْجِهَاد
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِبِنَاء قنظرة تانسيفت وَكَانَ الشُّرُوع فِي بنائها يَوْم الْأَحَد ثَالِث صفر من السّنة الْمَذْكُورَة
الْجَوَاز الأول لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد
لما اتَّصل بأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن مَا اتّفق لشقيقه السَّيِّد أبي حَفْص من الِاسْتِيلَاء على غَالب بِلَاد ابْن مردنيش وَظُهُور الْمُسلمين على عدوهم بهَا وَكَانَ بعض مُلُوك الفرنج بهَا لم يزَالُوا يشغبون على الْمُسلمين بالغارات على أَطْرَاف بِلَادهمْ تاقت نَفسه إِلَى العبور إِلَى بِلَاد الأندلس بِقصد إصْلَاح حَالهَا وَجِهَاد الْعَدو بهَا وَقد توافدت لَدَيْهِ وَهُوَ بمراكش جموع الْعَرَب من إفريقية صُحْبَة السَّيِّد أبي زَكَرِيَّا صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أبي عمرَان صَاحب تلمسان
وَكَانَ يَوْم قدومهم عَلَيْهِ يَوْمًا مشهودا فاعترضهم وَسَائِر عساكرهم(2/149)
ونهض إِلَى الأندلس فِي مائَة ألف من الْعَرَب والموحدين واستخلف على مراكش أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا عمرَان فاحتل بقرطبة سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ ارتحل بعْدهَا إِلَى إشبيلية ولقيه السَّيِّد أَبُو حَفْص هُنَالك منصرفا من بعض غَزَوَاته
وَلما نزل أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بإشبيلية خافه مُحَمَّد بن مردنيش وَحمل على قلبه فَمَرض وَمَات وَقيل إِن أمه سمته لِأَنَّهُ كَانَ قد أَسَاءَ إِلَى خواصه وكبراء دولته فنصحته فتهددها وخافت بطشه فَسَمتْهُ وَلما مَاتَ مُحَمَّد بن مردنيش جَاءَ أَوْلَاده وَإِخْوَته إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَهُوَ بإشبيلية فَسَلمُوا إِلَيْهِ جَمِيع بِلَاد شَرق الأندلس الَّتِي كَانَت لأبيهم فَأحْسن إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتزَوج أختهم وَأَصْبحُوا عِنْده فِي أعز منزلَة وصنع فِي وليمتها مهرجانا عَظِيما يقصر الْوَصْف عَنهُ
وَلما صفت لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الأندلس خرج من إشبيلية غازيا بِلَاد الْعَدو فَنزل على مَدِينَة لَهُ تسمى وبذة فَأَقَامَ محاصرا لَهَا شهورا إِلَى أَن اشْتَدَّ عَلَيْهِم الْحصار وعطشوا فراسلوه فِي تَسْلِيم الْمَدِينَة وَأَن يعطيهم الْأمان على نُفُوسهم فَامْتنعَ من ذَلِك فَلَمَّا اشْتَدَّ بهم الْعَطش سمع لَهُم فِي بعض اللَّيَالِي لغط عَظِيم وأصوات هائلة وَذَلِكَ أَنهم اجْتَمعُوا بأسرهم ودعوا الله تَعَالَى فَجَاءَهُمْ مطر عَظِيم مَلأ مَا كَانَ عِنْدهم من الصهاريج فارتووا وتقووا على الْمُسلمين فَانْصَرف عَنْهُم إِلَى إشبيلية بعد أَن هادنهم مُدَّة سبع سِنِين
فليعتبر الْوَاقِف على هَذِه الْقَضِيَّة وليعلم أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار جاحدون ينسبون إِلَى الله تَعَالَى مَا لَا يَلِيق بِهِ من التَّثْلِيث وأنواع الْكفْر وَمَعَ ذَلِك لما انْقَطع رجاؤهم وَرَجَعُوا إِلَيْهِ تَعَالَى بالاضطرار الصَّادِق رَحِمهم سُبْحَانَهُ وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي بعد هَذَا لِلْمُؤمنِ الموحد إِذا حصل فِي شدَّة أَن ييأس من رَحْمَة الله فَإِنَّهُ {لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} والسر فِي الِاضْطِرَار فَإِنَّهُ عِنْد أَرْبَاب البصائر هُوَ اسْم الله الْأَعْظَم الَّذِي(2/150)
إِذا دعِي بِهِ أجَاب وَإِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا يَا مَوْلَانَا عنْدك من المرحومين وَاجعَل كل من يَرْحَمنَا عنْدك من المرحومين فَأَنت أهل ذَلِك والقادر عَلَيْهِ
ثمَّ بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ خُرُوج الْعَدو إِلَى أَرض الْمُسلمين مَعَ القومس الأحدب فَخرج إِلَيْهِم وأوقع بهم بِنَاحِيَة قلعة رَبَاح وأثخن فيهم وَرجع إِلَى إشبيلية
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة شرع أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فِي بِنَاء جَامع إشبيلية فتم وَصليت بِهِ الْجُمُعَة فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا عقد أَمِير الْمُؤمنِينَ الجسر على وَادي إشبيلية بالقوارب وَبنى قصبتها الداخلية وَبنى الزلاليق للسور وَبنى سور بَاب جَوْهَر وَبنى الرصفان المتدرجة بضفتي الْوَادي وجلب المَاء من قلعة جَابر حَتَّى أدخلهُ إشبيلية وَأنْفق فِي ذَلِك أَمْوَالًا لَا تحصى
ثمَّ انْتقض ابْن أذفونش وأغار على بِلَاد الْمُسلمين فاحتشد الْخَلِيفَة وسرح السَّيِّد أَبَا حَفْص إِلَيْهِ فغزاه بعقر دَاره وافتتح قنصرة بِالسَّيْفِ وَهزمَ جموعه فِي كل جِهَة
ثمَّ ارتحل الْخَلِيفَة من إشبيلية رَاجعا إِلَى مراكش سنة إِحْدَى وَسبعين لخمس سِنِين من إِجَازَته إِلَى الأندلس وَعقد على قرطبة لِأَخِيهِ أبي الْحسن وعَلى إشبيلية لِأَخِيهِ أبي عَليّ
وَأصَاب مراكش طاعون فَهَلَك من السَّادة أَبُو عمرَان وَأَبُو سعيد وَأَبُو زَكَرِيَّا وَقدم الشَّيْخ أَبُو حَفْص الهنتاتي من قرطبة فَهَلَك فِي طَرِيقه وَدفن بِمَدِينَة سلا وَهُوَ جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس وإفريقية
واستدعى الْخَلِيفَة أَخَوَيْهِ السيدين أَبَا عَليّ وَأَبا الْحسن فعقد لأبي عَليّ على سجلماسة وَرجع أَبُو الْحسن إِلَى قرطبة وَعقد لِابْني أَخِيه السَّيِّد أبي حَفْص لأبي زيد مِنْهُمَا على غرناطة وَلأبي مُحَمَّد على مالقة(2/151)
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين سَطَا بذرية بني جَامع وزرائه وغربهم إِلَى ماردة
وَفِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة عقد لغانم بن مُحَمَّد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مَدِينَة أشبونة فغنم وَرجع
وفيهَا كَانَت وَفَاة أَخِيه الْوَزير السَّيِّد أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن بعد مَا أبلى فِي الْجِهَاد وَبَالغ فِي نكاية الْعَدو وَتقدم ابناه من الأندلس فأخبرا الْخَلِيفَة بانتقاض الطاغية واعتزم على الْجِهَاد وَأخذ فِي استدعاء الْعَرَب من إفريقية وَالله تَعَالَى أعلم
غَزْو أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِلَاد إفريقية وَفتح مَدِينَة قفصة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَت قفصة من بِلَاد إفريقية قد استبد بهَا بَنو الرند أَوَاخِر دولة صنهاجة من بني زيري بن مُنَاد كَانَ جدهم عبد الله بن مُحَمَّد بن الرند عَاملا لَهُم بهَا فتوارثها بنوه من بعده فاستبدوا بهَا آخر الدولة وَلما غزا عبد الْمُؤمن بِلَاد إفريقية اسْتَنْزَلَهُمْ فِي جملَة من استنزل من الثوار بهَا وَلما مَاتَ عبد الْمُؤمن وبويع ابْنه يُوسُف بلغه سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة أَن بعض بني الرند قد عَاد إِلَى قفصة وثار بهَا فاضطربت لأجل ذَلِك أحوالها فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي سنة خمس وَسبعين بعْدهَا فَانْتهى إِلَى إفريقية وَنزل على مَدِينَة قفصة وضيق عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ والحصار حَتَّى دَخلهَا وظفر بِابْن الرند الْقَائِم بهَا فَقتله وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ عَاد إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي سنة سبع وَسبعين بعْدهَا هَكَذَا فِي القرطاس وَنَحْوه لِابْنِ خلدون فِي أَخْبَار بني عبد الْمُؤمن
وَذكر عِنْد الْكَلَام على بني الرند وَجها آخر فَقَالَ كَانَ عبد الْمُؤمن قد ولى على قفصة عمرَان بن مُوسَى الصنهاجي فأساء إِلَى الرّعية فبعثوا عَن(2/152)
عَليّ بن الْعَزِيز بن المعتز الرندي من بجاية وَكَانَ بهَا فِي مضيعة يحترف بالخياطة فَقدم عَلَيْهِم وثاروا بعمران بن مُوسَى عَامل الْمُوَحِّدين فَقَتَلُوهُ وَقدمُوا مَكَانَهُ عَليّ بن الْعَزِيز فساس ملكه وحاط رَعيته وأغزاه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا زَكَرِيَّاء فحاصره وضيق عَلَيْهِ وَأَخذه وأشخصه إِلَى مراكش بأَهْله وَمَاله وَاسْتَعْملهُ على الأشغال بِمَدِينَة سلا إِلَى أَن هلك بهَا وفنيت دولة بني الرند والبقاء لله وَحده اه كَلَامه فَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ
وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف من مراكش لبِنَاء حصن أزكندر فبناه على الْمَعْدن الَّذِي ظهر هُنَالك.
الْجَوَاز الثَّانِي لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف ابْن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد وَمَا يتَّصل بذلك من وَفَاته رَحمَه الله
لما قدم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن من فتح قفصة سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة قدم عَلَيْهِ وُلَاة الأندلس ورؤساؤها يهنئونه بالإياب فَأكْرم وفادتهم وَانْصَرفُوا
ثمَّ بلغه الْخَبَر بِأَن أذفونش بن سانجة نَازل قرطبة وَشن الغارات على جِهَة مالقة ورندة وغرناطة ثمَّ نزل إستجة وتغلب على حصن شقيلة وأسكن بِهِ النَّصَارَى وَانْصَرف
فاستنفر السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق سَائِر النَّاس للغزو ونازل الْحصن نَحوا من أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ بلغه خُرُوج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفا رَاجعا وَخرج مُحَمَّد بن يُوسُف بن وانودين من إشبيلية فِي جموع الْمُوَحِّدين ونازل طلبيرة فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فأوقع بهم وَانْصَرف بالغنائم
فاعتزم الْخَلِيفَة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن على معاودة الْجِهَاد وَولى على(2/153)
الأندلس أمناءه وَقَدَّمَهُمْ للإحتشاد فعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي زيد على غرناطة ولابنه السَّيِّد أبي عبد الله على مرسية ونهض سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَفِي القرطاس كَانَ خُرُوجه من مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور على بَاب دكالة قَالَ برسم غَزْو إفريقية فَلَمَّا وصل إِلَى سلا أَتَاهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن جَامع من إفريقية فَأعلمهُ بهدوئها وسكونها فصرف عزمه إِلَى الأندلس فَنَهَضَ من سلا ضحوة يَوْم الْخَمِيس الموفي ثَلَاثِينَ من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بظاهرها وَبَات هُنَاكَ ثمَّ نَهَضَ يَوْم الْجُمُعَة الموَالِي لَهُ فوصل إِلَى مكناسة يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس من ذِي الْحجَّة فعيد بهَا عيد الْأَضْحَى خَارِجهَا ثمَّ ارتحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا بَقِيَّة الشَّهْر
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة فَفِي الْيَوْم الرَّابِع بهَا نَهَضَ من فاس وَسَار حَتَّى انْتهى إِلَى سبتة فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة الشَّهْر الْمحرم وَأمر النَّاس بِالْجَوَازِ إِلَى الأندلس فجازت قبائل الْعَرَب أَولا ثمَّ قبائل زناتة ثمَّ المصامدة ثمَّ مغراوة وصنهاجة وأوربة وأصناف البربر ثمَّ عبرت جيوش الْمُوَحِّدين والأغزاز وَالرُّمَاة فَلَمَّا اسْتكْمل النَّاس الْجَوَاز عبر هُوَ فِي آخِرهم فِي الْحَاشِيَة وَالْعَبِيد
وَكَانَ جَوَازه يَوْم الْخَمِيس خَامِس صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بجبل الْفَتْح ثمَّ ارتحل مِنْهُ إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ سَار إِلَى إشبيلية فَلَمَّا أشرف عَلَيْهَا يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر خرج إِلَيْهِ وَلَده السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق وَمَعَهُ فُقَهَاء إشبيلية وأشياخها فَبعث إِلَيْهِم يَأْمُرهُم بِالْوُقُوفِ بآخر الْمنية حَتَّى يصل إِلَيْهِم فَلَمَّا صلى الظّهْر وَركب اجتاز بهم فَلَمَّا دنا مِنْهُم نزلُوا عَن دوابهم فَوقف لَهُم حَتَّى سلمُوا عَن آخِرهم وركبوا
ثمَّ نَهَضَ إِلَى غَزْو مَدِينَة شنترين من بِلَاد غرب الأندلس فَانْتهى إِلَيْهَا فِي السَّابِع من ربيع الأول فَنزل عَلَيْهَا وأدار بِهِ الجيوش وشدد عَلَيْهَا فِي(2/154)
الْحصار والقتال وبذل المجهود إِلَى لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الْمَذْكُور فانتقل من مَوضِع نُزُوله بجوفي شنترين إِلَى غربها فَأنْكر الْمُسلمُونَ ذَلِك وَلم يعلمُوا لَهُ سَببا فَلَمَّا جن اللَّيْل وَصلى الْعشَاء الْآخِرَة بعث إِلَى وَلَده السَّيِّد أبي إِسْحَاق صَاحب إشبيلية فَأمره بالرحيل من غَد تِلْكَ اللَّيْلَة لغزو أشبونة وَشن الغارات على أنحائها وَأَن يسير إِلَيْهَا فِي جيوش الأندلس خَاصَّة وَأَن يكون رحيله نَهَارا فأساء الْفَهم وَظن أَنه أمره بالرحيل لَيْلًا وصرخ الشَّيْطَان فِي محلّة الْمُسلمين أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد عزم على الرحيل فِي هَذِه اللَّيْلَة وتحدث النَّاس بذلك وتأهبوا لَهُ ورحلت طَائِفَة مِنْهُم بِاللَّيْلِ وَلما كَانَ قرب الْفجْر أقلع السَّيِّد أَبُو اسحاق وأقلع من كَانَ مواليا لَهُ وتتابع النَّاس بالرحيل وتسابقوا لاختيار الْمنَازل وأمير الْمُؤمنِينَ مُقيم فِي مَكَانَهُ لَا علم لَهُ بذلك فَلَمَّا أصبح وَصلى الصُّبْح وأضاء النَّهَار لم يجد حوله من أهل المحلات أحدا إِلَّا يَسِيرا من خاصته وحشمه الَّذين يرحلون لرحيله وينزلون لنزوله وَإِلَّا قواد الأندلس فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا يَسِيرُونَ أَمَام ساقته وَخلف محلته من أجل من يتَخَلَّف عَنْهَا من الضُّعَفَاء فَلَمَّا طلعت الشَّمْس وتطلع النَّصَارَى المحصورون على الْمحلة من سور الْبَلَد وَرَأَوا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُنْفَردا فِي عبيده وحشمه وتحققوا ذَلِك من جواسيسهم فتحُوا الْبَلَد وَخرج جَمِيع من فِيهِ خرجَة مُنكرَة وهم ينادون الرّيّ الرّيّ أَي أقصدوا السُّلْطَان فَضربُوا فِي محلّة العبيد إِلَى أَن وصلوا إِلَى أخبية أَمِير الْمُؤمنِينَ فمزقوها واقتحموها فبرز إِلَيْهِم وَقَاتلهمْ بِسَيْفِهِ حَتَّى قتل سِتَّة مِنْهُم ثمَّ طعنوه طعنة نَافِذَة وَقتل عَلَيْهِ ثَلَاث من جواريه كن قد أكببن عَلَيْهِ وَلما طعن وَقع بِالْأَرْضِ وتصايح العبيد وَنَادَوْا بالفرسان والأجناد فتراجع الْمُسلمُونَ وقاتلوا النَّصَارَى حَتَّى أزاحوهم عَن الأخبية وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وتواقفوا سَاعَة ثمَّ انهزم الفرنج وركبهم الْمُسلمُونَ بِالسَّيْفِ حَتَّى أدخلوهم الْمَدِينَة وَقتل مِنْهُم خلق كثير يزِيدُونَ على الْعشْرَة آلَاف وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين جمَاعَة وَركب أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف(2/155)
وَقد أنفذته الطعنة وارتحل النَّاس وَلَا يَدْرُونَ أَيْن ثمَّ اهتدوا بالطبول فقصدوا جِهَة إشبيلية ثمَّ سَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد العبور إِلَى الْمغرب فَاشْتَدَّ ألمه وَمَات بِالطَّرِيقِ رَحمَه الله قَالَه ابْن مطروح
وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت الْعَاشِر من شهر ربيع الآخر سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة قرب الجزيرة الخضراء فَحمل إِلَى تينملل فَدفن بهَا إِلَى جنب قبر أَبِيه وَقيل إِنَّه لم يمت حَتَّى وصل إِلَى مراكش وَكَانَ وَلَده يَعْقُوب الْخَلِيفَة بعده هُوَ الَّذِي يدْخل على ابيه وَيخرج وَيصرف الْأُمُور بَين يَدَيْهِ من يَوْم طعن إِلَى أَن مَاتَ قَالُوا وكتم وَلَده مَوته حَتَّى وصل إِلَى مَدِينَة سلا فأفشاه
وَكَانَ قبل مَوته بأشهر كثيرا مَا ينشد قَول الشَّاعِر ويردده
(طوى الجديدان مَا قد كنت أنشره ... وأنكرتني ذَوَات الْأَعْين النجل)
ورثاه الأديب أَبُو بكر يحيى بن مجير بقصيدة طَوِيلَة أَجَاد فِيهَا وأولها
(جلّ الأسى فأسل دم الأجفان ... مَاء الشؤون لغير هَذَا الشان)
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَسيرَته
قَالَ ابْن خلكان كَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن أَبيض تعلوه حمرَة شَدِيد سَواد الشّعْر مستدير الْوَجْه أفوه أعين إِلَى الطول مَا هُوَ فِي صَوته جهارة رَقِيق حَوَاشِي الطَّبْع حُلْو الْأَلْفَاظ حسن الحَدِيث طيب المجالسة أعرف النَّاس كَيفَ تَكَلَّمت الْعَرَب وأحفظهم لأيامها فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام صرف عنايته إِلَى ذَلِك وَلَقي فضلاء إشبيلية أَيَّام ولَايَته بهَا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا متفننا لِأَن أَبَاهُ هذبه وَقرن بِهِ وبإخواته أكمل رجال الْحَرْب والمعارف فَنَشَأَ فِي ظُهُور الْخَيل بَين أبطال الفرسان وَفِي قِرَاءَة الْعلم بَين أفاضل الْعلمَاء وَكَانَ ميله إِلَى الْحِكْمَة والفلسفة أَكثر من ميله إِلَى الْأَدَب وبقيه الْعُلُوم وَيُقَال إِنَّه كَانَ يحفظ صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن(2/156)
الْكَرِيم مَعَ جملَة صَالِحَة من الْفِقْه ثمَّ طمح إِلَى علم الْحِكْمَة وَبَدَأَ من ذَلِك بِعلم الطِّبّ وَجمع من كتب الْحِكْمَة شَيْئا كثيرا
وَكَانَ مِمَّن صَحبه من الْعلمَاء بِهَذَا الشَّأْن الْوَزير أَبُو بكر مُحَمَّد بن طفيل كَانَ متحققا بِجَمِيعِ أَجزَاء الْحِكْمَة قَرَأَ على جمَاعَة من أَهلهَا مِنْهُم أَبُو بكر بن الصَّائِغ الْمَعْرُوف بِابْن باجة وَغَيره وَلابْن طفيل هَذَا تصانيف كَثِيرَة
وَكَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن حَرِيصًا على الْجمع بَين علم الشَّرِيعَة وَالْحكمَة وَلم يزل يجمع إِلَيْهِ الْعلمَاء من كل فن من جَمِيع الأقطار وَمن جُمْلَتهمْ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد
وَكَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن شَدِيد الملوكية بعيد الهمة جماعا مناعا ضابطا لخراج مَمْلَكَته عَارِفًا بسياسة رَعيته وَكَانَ سخيا جوادا فِي مَحل السخاء والجود قد اسْتغنى النَّاس فِي أَيَّامه وَكَانَ من ضَبطه وسياسته رُبمَا يحضر حَتَّى لَا يكَاد يغيب حَتَّى لَا يكَاد يحضر وَله فِي غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الْأُمُور إِلَيْهِم لما علم من صَلَاحهمْ وأهليتهم لذَلِك
قَالَ ابْن خلكان وَالدَّنَانِير اليوسفية المغربية منسوبة إِلَيْهِ
وَمِمَّا يستطرف من أخباره رَحمَه الله أَن الأديب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد السَّلَام الكرواني وكروان قَبيلَة من البربر مَنَازِلهمْ بضواحي فاس كَانَ نِهَايَة فِي حفظ الْأَشْعَار الْقَدِيمَة والمحدثة وَتقدم فِي هَذَا الشَّأْن وَله فِيهِ تآليف وَكَانَ مَعَ ذَلِك صَاحب نَوَادِر جَالس بهَا عبد الْمُؤمن ثمَّ وَلَده يُوسُف ثمَّ وَلَده يَعْقُوب
فَمن نوادره أَنه حضر يَوْمًا إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الْمَذْكُور وَحضر إِلَيْهِ أَيْضا الطَّبِيب سعيد الغماري فَقَالَ أَمِير(2/157)
الْمُؤمنِينَ لبَعض خدمه انْظُر من بِالْبَابِ من الْأَصْحَاب فَخرج الْخَادِم ثمَّ عَاد إِلَيْهِ فَقَالَ يَا سَيِّدي بهامد الكرواني وَسَعِيد الغماري فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف من عجائب الدُّنْيَا شَاعِر نم كروان وطبيب من غمارة فَبلغ ذَلِك الكرواني وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه أعجب مِنْهُمَا وَالله خَليفَة من كومية فَيُقَال إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف لما بلغه ذَلِك قَالَ أعاقبه بالحلم عَنهُ فَفِيهِ تَكْذِيب لَهُ وَمن شعر الكرواني من جملَة قصيدة يمدح بهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الْمَذْكُور وَهُوَ بديع
(إِن الإِمَام هُوَ الطَّبِيب وَقد شفا ... علل البرايا ظَاهرا ودخيلا ص)
(حمل البسيطة وَهِي تحمل شخصه ... كالروح يُوجد حَامِلا مَحْمُولا)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ
قَالَ ابْن خلدون لما توفّي الْخَلِيفَة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن على حصن شنترين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ ابْنه أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَرجع بِالنَّاسِ إِلَى إشبيلية فاستكمل الْبيعَة واشتوزر الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الهنتاتي واستنفر النَّاس للغزو مَعَ أَخِيه السَّيِّد يحيى فاستولى على بعض الْحُصُون وأثخن فِي بِلَاد الْكَفَّارَة ثمَّ أجَاز الْبَحْر إِلَى الحضرة
ولقيه بقصر مصمودة السَّيِّد أَبَا زَكَرِيَّا ابْن السَّيِّد أبي حَفْص قادما من تلمسان مَعَ مشيخة بني زغبة من عرب هِلَال وَمضى إِلَى مراكش فَغير المناكر وَبسط الْعدْل وَنشر الْحُكَّام اه وَفِيه نوع مُخَالفَة لما قدمْنَاهُ
وَقَالَ ابْن أبي زرع لما تمت لَهُ الْبيعَة وطاعت لَهُ الْأمة كَانَ أول شَيْء فعله أَن أخرج مائَة ألف دِينَار ذَهَبا من بَيت المَال ففرقها فِي الضُّعَفَاء من بيوتات الْمغرب وَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاده بستريح السجون ورد الْمَظَالِم الَّتِي(2/158)
ظلمها الْعمَّال فِي أَيَّام أَبِيه وَأكْرم الْفُقَهَاء وراعى الصلحاء وَأهل الْفضل وأجرى على أَكْثَرهم الْإِنْفَاق من بَيت المَال وَفرق فِي الْمُوَحِّدين وَسَائِر الأجناد أَمْوَالًا جمة وَكَانَ أول شَيْء حدث فِي دولته شَأْن بني غانية المسوفيين أَصْحَاب جَزِيرَة ميورقة وأعمالها فلنأت بِشَيْء من ذَلِك
خُرُوج عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية على يَعْقُوب الْمَنْصُور
قد تقدم لنا فِي أَخْبَار الدولة اللمتونية أَن أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني كَانَ قد اسْتعْمل على الجزائر الشرقية من بِلَاد الأندلس وَهِي ميورقة ومنورقة ويابسة مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَهِي أَهَمَّهُمْ فتوارثها بنوه من بعده إِلَى أَيَّام يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فَبعث إِلَيْهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد المسوفي الْمَذْكُور بِالطَّاعَةِ فَقبل ذَلِك يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَبعث إِلَيْهِ قائده عَليّ بن الروبرتير ليختبر أمره ويعقد لَهُ الْبيعَة عَلَيْهِ ويؤكد الْأَمر فِي ذَلِك
وَكَانَ لمُحَمد بن إِسْحَاق الْمَذْكُور عدَّة اخوة يساهمونه فِي الرياسة فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِم ابْن الروبرتير وَعَلمُوا الْأَمر الَّذِي قدم لأَجله أَنْكَرُوا على أخيهم ذَلِك لِأَنَّهُ لم يكن أعلمهم بمكاتبة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فخلصوا نجيا دونه وتقبضوا عَلَيْهِ وعَلى ابْن الروبرتير وَقدمُوا مَكَانَهُ أَخَاهُم عَليّ بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد ثمَّ بَلغهُمْ خبر وَفَاة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَولَايَة ابْنه يَعْقُوب الْمَنْصُور فَركب عَليّ بن إِسْحَاق أسطوله وطرق بجاية على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَعَلَيْهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الرّبيع بن عبد الله بن عبد الْمُؤمن
وَكَانَ خَارِجا فِي بعض مذاهبه فاستولى عَلَيْهَا ابْن غانية فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(2/159)
وَحكى ابْن أبي زرع فِي اسْتِيلَاء ابْن غانية على بجاية وَجها آخر قَالَ دخل الميورقي وَهُوَ عَليّ بن إِسْحَاق الْمَذْكُور مَدِينَة بجاية يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس من شعْبَان سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة
وَكَانَ أَبْوَاب المدن قبل ذَلِك لَا تغلق وَقت صَلَاة الْجُمُعَة فَارْتَقِبْ ابْن غانية النَّاس حَتَّى أَحْرمُوا بِصَلَاة الْجُمُعَة ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم الْمَدِينَة وَعمد إِلَى الْجَامِع الْأَعْظَم وأدار بِهِ الْخَيل وَالرجل فَمن بَايعه خلى سَبيله وَمن توقف عَن بيعَته ضرب عُنُقه قَالَ وَأقَام بهَا سَبْعَة أشهر ثمَّ استرجعت من يَده قَالَ وَمن ذَلِك الْيَوْم اتخذ النَّاس غلق أَبْوَاب المدن يَوْم الْجُمُعَة وَقت الصَّلَاة وَالله أعلم
ثمَّ استولى عَليّ بن إِسْحَاق على الجزائر ثمَّ على مازونة ثمَّ على مليانة ثمَّ على القلعة ثمَّ نَازل قسنطينة فامتنعت عَلَيْهِ
واتصل الْخَبَر بالمنصور فسرح السَّيِّد أَبَا زيد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن وَعقد لَهُ على حَرْب ابْن غانية وَعقد لمُحَمد بن إِبْرَاهِيم بن جَامع على الأساطيل وَإِلَى نظره أَبُو مُحَمَّد بن عطوش وَأحمد الصّقليّ فوصل السَّيِّد أَبُو زيد إِلَى أفريقية وشرد ابْن غانية عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء فِي أَخْبَار طَوِيلَة
ثمَّ عاود ابْن غانية الإجلاب على بِلَاد إفريقية وَظَاهره على ذَلِك قراقوش الْغَزِّي من موَالِي السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب الْكرْدِي صَاحب مصر وَكَانَ قد تغلب على طرابلس وَمَا والاها
وَبلغ الْمَنْصُور أَن ابْن غانية قد استولى على قفصة فَنَهَضَ بِنَفسِهِ من حَضْرَة مراكش ثَالِث شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَوصل إِلَى فاس فأراح بهَا ثمَّ سَار إِلَى رِبَاط تازا ثمَّ سَار على التعبية إِلَى تونس
وَجمع ابْن غانية من إِلَيْهِ من الملثمين وَالْعرب وَجَاء مَعَه قراقوش الْغَزِّي صَاحب طرابلس فسرح إِلَيْهِم الْمَنْصُور مُقَدّمَة من جَيْشه لنظر السَّيِّد(2/160)
أبي يُوسُف يَعْقُوب ابْن السَّيِّد أبي حَفْص عمر بن عبد الْمُؤمن فَلَقِيَهُمْ ابْن غانية فِي جموعه فانتصر عَلَيْهِم وَانْهَزَمَ الموحدون وَقبل جمَاعَة من وُجُوههم وَأسر عَليّ بن الروبرتير فِي آخَرين وامتلأت أَيدي الْعَرَب من أثاثهم وأسلابهم
وَوصل سرعَان النَّاس إِلَى الْمَنْصُور وَهُوَ بتونس فَنَهَضَ إِلَيْهِم فِي الْحَال وَنزل القيروان ثمَّ أغذ السّير إِلَى الحامة فَالتقى الْجَمْعَانِ وأنشبوا الْحَرْب فَكَانَت الْهَزِيمَة على ابْن غانية وأحزابه وأفلت من المعركة بذماء نَفسه وَمَعَهُ خَلِيله قراقوش وأتى الْقَتْل على أَكْثَرهم
ثمَّ صبح الْمَنْصُور مَدِينَة قابس وَكَانَت فِي يَد قراقوش فافتتحها وَنقل من كَانَ بهَا من حرم ابْن غانية وَذَوِيهِ فِي الْبَحْر إِلَى تونس وثنى الْعَنَان إِلَى توزر فافتتحها وَقتل من وجد بهَا ثمَّ إِلَى قفصة فنازلها أَيَّامًا حَتَّى نزلُوا على حكمه فَقتل من كَانَ بهَا من الحشود وَهدم سورها واستبقى أَهلهَا وَجعل أملاكهم بِأَيْدِيهِم على حكم الْمُسَاقَاة
وَلما فرغ من أَمر قفصة نَهَضَ إِلَى عرب إفريقية ففتك بهم واستباح حللهم وَأَمْوَالهمْ وشردهم فِي كل وَجه ثمَّ بعد ذَلِك جاؤوه تَائِبين خاضعين فَنقل أهل الْفِتْنَة وَالْخلاف مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَرجع إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
الْخَبَر عَن انْتِقَال الْعَرَب من جزيرتهم إِلَى ارْض إفريقية ثمَّ مِنْهَا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَالسَّبَب فِي ذَلِك
أعلم أَن أَرض إفريقية وَالْمغْرب لم تكن للْعَرَب بوطن فِي الْأَيَّام السالفة لَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي صدر الْإِسْلَام وَإِنَّمَا كَانَ الْمغرب وطنا لأمة البربر خَاصَّة لَا يشاركهم فِيهِ غَيرهم
وَلما جَاءَت الْملَّة الإسلامية وأظهرها الله على الدّين كُله زحفت جيوش(2/161)
الْمُسلمين من الْعَرَب إِلَى أَرض الْمغرب فِي جملَة مَا زحف إِلَيْهِ من أقطار الأَرْض لَكِن الْعَرَب الداخلون إِلَى أَرض الْمغرب فِي ذَلِك الْعَصْر إِنَّمَا كَانُوا يدْخلُونَ إِلَيْهِ غزَاة مجاهدين على ظُهُور خيولهم فيقضون الوطر من فتح الأقطار والأمصار ثمَّ يَنْقَلِب جمهورهم إِلَى وطنهم ومقرهم من جَزِيرَة الْعَرَب وَإِن بَقِي الْقَلِيل مِنْهُم بِهِ فَإِنَّمَا كَانُوا يستوطنون مِنْهُ الْأَمْصَار دون الْبَادِيَة ويسكنون الْقُصُور دون الْخيام فَلم تكن الْعَرَب تسكن الْمغرب يَوْمئِذٍ بقبائلهم وخيامهم وَلَا استوطنوه بأحيائهم وحللهم كَمَا هُوَ شَأْنهمْ الْيَوْم لِأَن الْملك الَّذِي حصل لَهُم والغلب الَّذِي مكنهم الله مِنْهُ كَانَ يمنعهُم من سُكْنى الْبَادِيَة ويعدل بهم إِلَى الحضارة وَلَا بُد فَكَانَت الْخَيْمَة بِأَرْض الْمغرب مَعْدُومَة رَأْسا أَو قَليلَة جدا لبَعض البربر مِمَّن كَانَ يتخذها مِنْهُم وهم قَلِيل وَإِنَّمَا كَانَ يسكن الْجُمْهُور مِنْهُم بالمداشر وكهوف الْجبَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة فَدخلت الْعَرَب أَرض إفريقية واستوطنها بحللهم وخيامهم
ثمَّ لما كَانَت أَوَاخِر الْمِائَة السَّادِسَة فِي دولة يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله نقل الْكثير مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فاستوطنوه بحللهم وخيامهم كَذَلِك وَصَارَت أَرض الْمغرب منقسمة بَين أمتين أمة الْعَرَب أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَأمة البربر أهل اللِّسَان الْبَرْبَرِي بعد أَن كَانَت بِلَاده خَاصَّة بالبربر لَا يشاركهم فِيهَا غَيرهم كَمَا قُلْنَا
وَاعْلَم أَن أمة الْعَرَب تَنْقَسِم أَولا إِلَى قسمَيْنِ عدنان وقحطان ثمَّ يَنْقَسِم كل من عدنان وقحطان إِلَى شعبين عظيمين فَأَما عدنان وهم الإسماعيلية ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام فينقسمون إِلَى ربيعَة وَمُضر وَأما قحطان وهم اليمانية ذُرِّيَّة قحطان بن عَابِر بن شالح بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام فينقسمون إِلَى حمير وكهلان هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف الْمَشْهُور من نسب الْفَرِيقَيْنِ وَقد يذكر النسابون لكل مِنْهُمَا شعوبا(2/162)
أخر لَكنا لم نعتبرها إِمَّا لانقراضها أَو لقُوَّة الْخلاف فِيهَا أَو لقلتهَا جدا واندراجها فِيمَن ذَكرْنَاهُ.
ثمَّ يتشعب كل من هَذِه الشعوب الْأَرْبَعَة إِلَى قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ وفصائل لَا حصر لَهَا لكننا ننبه على الْغَرَض الْمَقْصُود مِنْهَا فَنَقُول من جملَة قبائل مُضر
بَنو سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مُضر
وَمن قبائلها أَيْضا بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوازان بن مَنْصُور الْمَذْكُور فِي النّسَب السَّابِق وَقد نسبت الخنساء جشم هَذَا إِلَى جده فَقَالَت تهجو دُرَيْد بن الصمَّة
(معَاذ الله ينكحني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر)
وَمن قبائلها أَيْضا بَنو هِلَال بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر الْمَذْكُور أَيْضا
وَمن جملَة قبائل كهلان القحطانيين بَنو الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو بن عِلّة بن جلد بن مذْحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان وكهلان هُوَ ابْن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ الَّتِي ذكر المؤرخون أَنَّهَا انْتَقَلت إِلَى أفريقية وَالْمغْرب وَقد يُضَاف إِلَيْهِم غَيرهم من قبائل الْعَرَب لكِنهمْ لَيْسُوا بمشهورين كالأربعة الْمَذْكُورَة
وَأما خبر دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب وَالسَّبَب فِيهِ فقد ذكر المؤرخون أَن بني سليم بن مَنْصُور وَبني هِلَال بن عَامر لم يزَالُوا بِجَزِيرَة الْعَرَب بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن مضى الصَّدْر من دولة بني الْعَبَّاس وَكَانُوا أَحيَاء ناجعة بِأَرْض الْحجاز ونجد فبنوا سليم مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة المنورة وَبَنُو هِلَال فِي جبل غَزوَان عِنْد الطَّائِف ثمَّ تحيز بَنو سليم وَالْكثير من هِلَال بن عَامر إِلَى الْبَحْرين وعمان وصاروا جندا للقرامطة ثمَّ غلب القرامطة على بِلَاد الشَّام وظاهرهم على(2/163)
ذَلِك بَنو سليم وَبَنُو هِلَال ثمَّ انْتَقَلت دولة العبيديين من إفريقية إِلَى مصر وغلبوا القرامطة على الشَّام وانتزعوه مِنْهُم وردوهم على أَعْقَابهم إِلَى الْبَحْرين ونقلوا أشياعهم من بني سليم وَبني هِلَال فأنزلوهم بصعيد مصر فِي العدوة الشرقية من بَحر النّيل فأقاموا هُنَالك وَكَانَ لَهُم أضرار بالبلاد وَلما انْتَقَلت الدولة العبيدية من إفريقية إِلَى مصر كَمَا قُلْنَا استنابوا على إفريقية بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين فملكوها وَكَانُوا يخطبون بملوك العبيديين على منابرهم ويضربون السِّكَّة بِأَسْمَائِهِمْ ويؤدون إِلَيْهِم إتاوة مَعْلُومَة وَطَاعَة مَعْرُوفَة
وَلما انساق ملك إفريقية إِلَى الْمعز بن باديس بن الْمَنْصُور بن بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي كَانَ لَهُ رَغْبَة فِي مَذْهَب أهل السّنة خَالف فِيهِ أسلافه الَّذين كَانُوا على مَذْهَب الشِّيعَة الرافضة وَكَانَ الْخَلِيفَة من العبيديين بِمصْر يَوْمئِذٍ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه معد بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم بن الْعَزِيز بن الْمعز لدين الله والمعز هَذَا هُوَ الَّذِي انْتقل إِلَى مصر وَبنى مَدِينَة الْقَاهِرَة
وَكَانَ الْمعز بن باديس الصنهاجي لَا تزَال المراسلات والهدايا تخْتَلف بَينه وَبَين الْمُسْتَنْصر العبيدي صَاحب مصر كَمَا كَانَت أسلافهما ثمَّ إِن الْمعز بن باديس ركب ذَات يَوْم لبَعض مذاهبه وَذَلِكَ فِي أول ولَايَته فكبا بِهِ فرسه فَنَادَى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَسَمعته الْعَامَّة وَكَانَ جمهورهم سنيا فثاروا بالرافضة وقتلوهم أَبْرَح قتل وأعلنوا بالمعتقد الْحق وَنَادَوْا بشعار الْإِيمَان وَقَطعُوا من الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل
وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة فِي أَيَّام الظَّاهِر العبيدي وَالِد الْمُسْتَنْصر فكاتب الْمعز بن باديس فِي ذَلِك فَاعْتَذر إِلَيْهِ بالعامة فأغضى عَنهُ
وَاسْتمرّ ابْن باديس على إِقَامَة الدعْوَة لَهُم والمهاداة مَعَهم وَهُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك يُكَاتب وزيرهم الْقَائِم بِأُمُور دولتهم أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد الجرجرائي ويستميله ويعرض ببني عبيد وشيعتهم ويغض مِنْهُم
ثمَّ هلك الْوَزير أَبُو الْقَاسِم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَولي الوزارة(2/164)
بعده أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ اليازوري أَصله من قرى فلسطين وَكَانَ أَبوهُ فلاحا بهَا فَلَمَّا ولي الوزارة خاطبه الْمعز بن باديس دون مَا كَانَ يُخَاطب بِهِ من قبله من الوزراء كَانَ يَقُول فِي كِتَابه إِلَيْهِم عبدكم وَصَارَ يَقُول فِي كتاب اليازوري صنيعتكم فحقد ذَلِك عَلَيْهِ وَصَارَت القوارص تسري من بَعضهم إِلَى بعض إِلَى أَن أظلم الجو بَين الْمعز بن باديس وَبَين الْمُسْتَنْصر العبيدي ووزيره اليازوري فَقطع ابْن باديس الْخطْبَة بهم على منابره سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وأحرق بنود الْمُسْتَنْصر ومحا اسْمه من السبكة والطرز ودعا للقائم العباسي خَليفَة بَغْدَاد وجاءه خطابه وَكتاب عَهده فقرئ بِجَامِع القيروان ونشرت الرَّايَات السود وهدمت دور الإسماعيلية
وَبلغ الْخَبَر بذلك كُله إِلَى الْمُسْتَنْصر بِالْقَاهِرَةِ فَقَامَتْ قِيَامَته ففاوض وزيره أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ اليازوري فِي أَمر ابْن باديس فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يسرح لَهُ الْعَرَب من بني هِلَال وَبني جشم الَّذين بالصعيد وَأَن يتَقَدَّم إِلَيْهِم بالاصطناع ويستميل مشايخهم بالعطاء وتولية أَعمال إفريقية وتقليدهم أمرهَا بَدَلا من صنهاجة الَّذين بهَا لينصروا الشِّيعَة ويدافعوا عَنْهُم فَإِن صدقت المخيلة فِي ظفرهم بِابْن باديس وَقَومه صنهاجة كَانُوا أَوْلِيَاء للدولة وعمالا بِتِلْكَ القاصية وارتفع عدوانهم من ساحة الْخلَافَة وَإِن كَانَت الْأُخْرَى فلهَا مَا بعْدهَا وَأمر الْعَرَب على كل حَال أَهْون على الدولة من أَمر صنهاجة الْمُلُوك
فَبعث الْمُسْتَنْصر وزيره إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاء وأرضخ لأمرائهم فِي الْعَطاء وَوصل عامتهم بِبَعِير ودينار لكل وَاحِد مِنْهُم وأباح لَهُم إجَازَة النّيل وَقَالَ لَهُم قد أعطيناكم الْمغرب وَملك ابْن باديس العَبْد الآباق فَلَا تفتقرون بعْدهَا
وَكتب اليازوري إِلَى الْمعز أما بعد فقد أنفذنا إِلَيْكُم خيولا فحولا وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهَا رجَالًا كهولا ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا
فشرهت الْعَرَب إِذْ ذَاك وعبروا النّيل إِلَى برقة فنزلوا بهَا واستباحوها(2/165)
وافتتحوا أمصارها وأعجبتهم الْبِلَاد فَكَتَبُوا لإخوانهم الَّذين بقوا شَرْقي النّيل يرغبونهم فِي الْبِلَاد فأجازوا إِلَيْهِم بعد أَن أعْطوا للمستنصر لكل رَأس دينارين فَأخذ مِنْهُم أَضْعَاف مَا أَخَذُوهُ وتقارعوا على الْبِلَاد فَحصل لبني سليم شرقها ولبني هِلَال غربها ثمَّ انتشروا فِي أقطار أفريقية مثل الْجَرَاد لَا يؤمرون بِشَيْء إِلَّا أَتَوا عَلَيْهِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَلم تمر إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى استولوا على ضواحي إفريقية ونازلوا أمصارها واقتضوا من أَهلهَا الإتاوة وحضروا ابْن باديس فِي مصره وصاهرهم ببناته تأليفا لَهُم وَمَعَ ذَلِك فَلم يجد شَيْئا والْحَدِيث فِي ذَلِك طَوِيل وَلَيْسَ تتبعه من غرضنا
قَالَ ابْن خلدون ولهؤلاء الهلاليين فِي الْحِكَايَة عَن دُخُولهمْ إِلَى إفريقية طرق يَزْعمُونَ أَن الشريف ابْن هَاشم كَانَ صَاحب الْحجاز وَمَكَّة ويسمونه شكر بن أبي الْفتُوح وَأَنه أصهر إِلَى الْحسن بن سرحان فِي أُخْته جازية فأنكحه إِيَّاهَا وَولدت مِنْهُ ولدا واسْمه مُحَمَّد وَإنَّهُ حدث بَينهم وَبَين الشريف الْمَذْكُور مغاضبة وفتنة فَأَجْمعُوا الرحلة عَن أَرض نجد إِلَى إفريقية وتحيلوا عَلَيْهِ فِي استرجاع أختهم جازية الْمَذْكُورَة فطالبته بزيارة أَبَوَيْهَا فأزارها إيَّاهُم وَخرج بهَا إِلَى حللهم وَأقَام مَعهَا مُدَّة الزِّيَارَة فارتحلوا بِهِ وَبهَا وكتموا رحلتهم عَنهُ وموهوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُم يباكرون بِهِ للصَّيْد والقنص وَيَرُوحُونَ بِهِ إِلَى بُيُوتهم بعد بنائها فَلم يشْعر بالرحلة إِلَى أَن فَارق مَوضِع ملكه وَصَارَ حَيْثُ لَا يملك أمرهَا عَلَيْهِم ففارقوه وَرجع إِلَى مَكَانَهُ من مَكَّة وَبَين جوانحه من حبها دَاء دخيل وَأَنَّهَا من بعد ذَلِك كلفت بِهِ مثل مَا كلف بهَا الى ان مَاتَت من حبه ويتناقلون من أَخْبَارهَا فِي ذَلِك مَا يعفي على خبر قيس وليلى ويروون كثيرا من أشعارها محكمَة المباني مثقفة الْأَطْرَاف وفيهَا المطبوع والمنتحل والمصنوع لم يفقد فِيهَا من البلاغة شَيْء وَإِنَّمَا فقد مِنْهَا الْإِعْرَاب فَقَط وَلَا مدْخل لَهُ فِي البلاغة
وَفِي هَذِه الْأَشْعَار شَيْء كثير دَخلته الصَّنْعَة وفقدت فِيهِ صِحَة الرِّوَايَة(2/166)
فَلذَلِك لَا يوثق بِهِ وَلَو صحت رِوَايَته لكَانَتْ فِيهِ شَوَاهِد بآياتهم ووقائعهم مَعَ زناتة وحروبهم وَضبط لأسماء رجالاتهم وَكثير من أَحْوَالهم لَكنا لَا نثق بروايتها وَرُبمَا يشْعر الْبَصِير بالبلاغة بالمصنوع مِنْهَا وَغَيره وهم متفقون على الْخَبَر عَن حَال جازية هَذِه والشريف خلفا عَن سلف وجيلا عَن جيل ويكاد القادح فِيهَا والمستريب فِي أمرهَا أَن يرْمى عِنْدهم بالجنون لتواترها بَينهم
وَهَذَا الشريف الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ هُوَ من الهواشم وَهُوَ شكر بن أبي الْفتُوح الْحسن بن جَعْفَر بن أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْأَكْبَر ابْن مُوسَى الثَّانِي ابْن عبد الله أبي الْكِرَام بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ
وَأَبُو الْفتُوح هُوَ الَّذِي خطب لنَفسِهِ بِمَكَّة أَيَّام الْحَاكِم العبيدي وَبَايع لَهُ بَنو الْجراح أُمَرَاء طيىء بِالشَّام وبعثوا عَنهُ فوصل إِلَى أحيائهم وَبَايع لَهُ كَافَّة الْعَرَب ثمَّ غلبتهم عَسَاكِر الْحَاكِم العبيدي وَرجع إِلَى مَكَّة وَهلك سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فولي بعده ابْنه شكر هَذَا وَهلك سنة ثَلَاث وَخمسين وَولي بعده ابْنه مُحَمَّد الَّذِي يزْعم هَؤُلَاءِ الهلاليون أَنه من جازية هَذِه
وَقَالَ ابْن حزم إِن شكر بن أبي الْفتُوح لم يُولد لَهُ قطّ وَإِنَّمَا صَار أَمر مَكَّة من بعده إِلَى عبد كَانَ لَهُ
وَقَالَ ابْن خلدون بل أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من الهلاليين لهَذَا الْعَهْد أَنه وقف على بِلَاد الشريف شكر بن أبي الْفتُوح وَأَنَّهَا بقْعَة من أَرض نجد مِمَّا يَلِي الْفُرَات وَإِن وَلَده بهَا لهَذَا الْعَهْد وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن جازية بنت سرحان هَذِه كَانَت من بني دُرَيْد بن أثبج بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة فَهِيَ هلالية أثبجية دريدية وَمن مزاعمهم أَنَّهَا لما صَارَت إِلَى إفريقية وَفَارَقت الشريف ابْن هَاشم الْمَذْكُور خَلفه عَلَيْهَا مِنْهُم ماضي بن مقرب من رجالات دُرَيْد فأقامت(2/167)
عِنْده مُدَّة ثمَّ غاضبته وَلَحِقت بأخيها الْحسن بن سرحان فَمنعهَا مِنْهُ فَقَامَتْ عشيرة ماضي بن مقرب مَعَه وقاتلوا الْحسن بن سرحان وعشيرته وثارت الْفِتْنَة بَينهم وَقتل فِيهَا الْحسن بن سرحان واستمرت الْعَدَاوَة بَينهم إِلَى أَيَّام الْمُوَحِّدين فَهَذَا سَبَب انْتِقَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب من الْحجاز ونجد إِلَى إفريقية
وَأما سَبَب انتقالهم من إفريقية إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فقد ذكرنَا أَن بني سليم بن مَنْصُور وَبني هِلَال بن عَامر اقترعوا على بِلَاد إفريقية فَكَانَ لبني سليم شرقها ولبني هِلَال غربها ثمَّ تغلبُوا على ضواحيها وأمصارها وضايقوا مُلُوكهَا بهَا
وانضم إِلَى بني هِلَال بن عَامر بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر فعلت أَيْديهم على الْجَمِيع وَاسْتمرّ أَمرهم على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت دولة يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي رَحمَه الله وثار ابْن غانية بِبِلَاد إفريقية كَمَا تقدم فظاهرته الْعَرَب من جشم وهلال على الْمُوَحِّدين وأوقعوا بمقدمة الْمَنْصُور فَنَهَضَ إِلَيْهِم من تونس وأوقع بالملثمين أَولا ثمَّ بالعرب ثَانِيًا وَقل جمعهم وَاتبع آثَارهم إِلَى أَن شردهم إِلَى صحارى برقة وانتزع تِلْكَ الْبِلَاد من أَيْديهم ثمَّ راجعوا بصائرهم فَأتوهُ طائعين خاضعين حَسْبَمَا قدمنَا الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى
وَكَانَ الَّذين قَاتلُوهُ أَولا ثمَّ راجعوا طَاعَته ثَانِيًا هم قبائل هِلَال بن عَامر وجشم بن مُعَاوِيَة بن بكر كَمَا قُلْنَا وهم أَصْحَاب غرب إفريقية وَأما بَنو سليم بن مَنْصُور فَلم يقاتله مِنْهُم أحد فَلذَلِك بَقِي بَنو سليم بِأَرْض إفريقية
وَنقل الْمَنْصُور رَحمَه الله بني هِلَال وَبني جشم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى حِين أَتَوْهُ طائعين وَكَانَ ذَلِك سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَأنْزل قَبيلَة ريَاح من بني هِلَال بِبِلَاد الهبط فِيمَا بَين قصر كتامة الْمَعْرُوف بِالْقصرِ الْكَبِير إِلَى أزغار الْبَسِيط الأفيح هُنَاكَ إِلَى سَاحل الْبَحْر الْأَخْضَر فاستقروا بهَا وطاب لَهُم الْمقَام وَأنزل قبائل جشم بِلَاد تامسنا الْبَسِيط الأفيح مَا بَين سلا(2/168)
ومراكش وَهُوَ أَوسط بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وأبعدها عَن الثنايا المفضية إِلَى القفار لإحاطة جبل الدَّرن بهَا فَلم ييمموا بعْدهَا قفرا وَلَا أبعدوا رحْلَة
وَاعْلَم أَن هذَيْن البسيطين يسميان الْيَوْم فِي عرف عَامَّة أهل الْمغرب بالغرب والحوز فالغرب عبارَة عَن بِلَاد الهبط وأزغار وَمَا فِي حكمهَا والحوز عبارَة عَن بِلَاد تامسنا وَمَا اتَّصل بهَا إِلَى مراكش فَكَانَ لرياح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ لجشم بِلَاد الْحَوْز
ثمَّ أعلم أَيْضا أَن قَبيلَة ريَاح هم بَنو ريَاح بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة وهم بطُون كَثِيرَة وجلهم قد بَقِي بِأَرْض إفريقية وَالَّذين انتقلوا مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى كَانَ رئيسهم فِي ذَلِك الْعَصْر مَسْعُود بن سُلْطَان بن زِمَام الذوادي من بني ذواد بن مرداس بن ريَاح فَأَقَامَ مَعَهم مُدَّة ثمَّ جمع جمَاعَة من قومه وفر إِلَى إفريقية وَذَلِكَ فِي حُدُود التسعين وَخَمْسمِائة وأبدأ وَأعَاد هُنَالك فِي الإجلاب مَعَ الثوار إِلَى أَن هلك فِي بعض تِلْكَ الْمدَّة
وَأقَام الْبَاقُونَ بعد فرار كَبِيرهمْ مَسْعُود الْمَذْكُور بِبِلَاد الهبط وأزغار إِلَى أَن انقرضت دولة الْمُوَحِّدين وَكَانَ عُثْمَان بن نصر رئيسهم أَيَّام الْمَأْمُون الموحدي وَقَتله سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَلما تغلب بَنو مرين على ضواحي الْمغرب ضرب الموحدون على ريَاح هَؤُلَاءِ الْبَعْث مَعَ عساكرهم فَقَامُوا بحماية ضواحيهم وانضم إِلَيْهِم بَنو عَسْكَر بن مُحَمَّد المرينيون حِين خالفوا إخْوَانهمْ بني حمامة بن مُحَمَّد سلف الْمُلُوك مِنْهُم فَكَانَت بَين الْفَرِيقَيْنِ جَوْلَة قتل فِيهَا عبد الْحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة أَبُو الْمُلُوك المرينيين وَقتل مَعَه ابْنه إِدْرِيس فأوجدت ريَاح السَّبِيل لبني مرين على أنفسهم فِي طلب الثأر فأثخنوا فيهم بعد أَن ملكوا الْمغرب واستلحموهم قتلا وسبيا مرّة بعد أُخْرَى
وَكَانَ آخر من أوقع بهم السُّلْطَان أَبُو ثَابت المريني سنة سبع وَسَبْعمائة تتبعهم بِالْقَتْلِ إِلَى أَن لَحِقُوا برؤوس الهضاب وأسنمه الرِّبَا المتوسطة فِي(2/169)
المرج المستبحر بأزغار فصاروا إِلَى عدد قَلِيل وَلَحِقُوا بالقبائل الغارمة وَذَهَبت ريَاح أدراج الرِّيَاح هَذَا خبرهم على الْجُمْلَة
وَأما بَنو جشم أَصْحَاب تامسنا فَإِن الْمَنْصُور لما نقلهم إِلَيْهَا نقل مَعَهم قبائل أُخْرَى كَانُوا قد قَاتلُوهُ مَعَهم وَلم يَكُونُوا ن نسبهم وَلَكنهُمْ كَانُوا مندرجين فيهم فَكَانَ يُطلق على الْجَمِيع جشم وَهَؤُلَاء الْقَبَائِل هم الْمُقدم والعاصم من بني هِلَال بن عَامر ثمَّ من الأثبج مِنْهُم وقرة من بني هِلَال أَيْضا والخلط من بني عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر فَهَؤُلَاءِ الْقَبَائِل لَيْسُوا من جشم كَمَا ترى وَلَكنهُمْ لما انغمروا فيهم وانتقلوا إِلَى الْمغرب بانتقالهم أطلق على الْجَمِيع جشم
فَأَما الْمُقدم والعاصم فهما ابْنا مشرف بن أثبج بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة وَأما قُرَّة فهم بَنو قُرَّة بن عبد منَاف بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال فَهَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الثَّلَاثَة أَعنِي الْمُقدم والعاصم وقرة هلاليون وَأما الْخَلْط فهم بطن من بني عقيل بِالتَّصْغِيرِ
قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ الْخَلْط بَنو عَوْف وَبَنُو مُعَاوِيَة ابْني المنتفق بن عَامر بن عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة الْمَذْكُور فِي الْأَنْسَاب الْمُتَقَدّمَة فقد بَان لَك بِهَذَا أَن هَذِه الْقَبَائِل الْأَرْبَع أَعنِي العاصم ومقدما وقرة والخلط لَيْسُوا من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر من حَيْثُ النّسَب وَأَن الثَّلَاث الأول من بني هِلَال بن عَامر وَأَن الرَّابِعَة وَهِي الْخَلْط من بني عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر يجْتَمع الْجَمِيع كَمَا ذَكرْنَاهُ أَولا وَالله تَعَالَى أعلم
ولنتكلم الْآن على أَخْبَار جشم على الْجُمْلَة فَنَقُول لما نزل بَنو جشم ببسيط تامسنا أَقَامُوا بِهِ بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ تميز جمهورهم إِلَى العاصم ومقدم وَبني جَابر وسُفْيَان والخلط
فَأَما مقدم والعاصم فَكَانُوا مَعَ إخْوَانهمْ ببسيط تامسنا الْمَذْكُور وَكَانَ(2/170)
للموحدين عَلَيْهِم عسكرة وجباية وَكَانَ شيخ العاصم لعهد الْمُوَحِّدين ثمَّ عهد الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور مِنْهُم حسن بن زيد وَكَانَ لَهُ أثر فِي الْفِتْنَة الَّتِي ثارت بَين الْمَأْمُون وَبَين يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور
وَلما هلك يحيى الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة أَمر الرشيد بن الْمَأْمُون بقتل حسن بن زيد الْمَذْكُور مَعَ قَائِد وقائد ابْني عَامر من شُيُوخ بني جَابر كل مِنْهُمَا اسْمه قَائِد فَقتلُوا جَمِيعًا
ثمَّ صَارَت الرياسة لأبي عياد وبنيه وَكَانَ رئيسهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد وَكَانَ لَهُ تلون على الدولة فِي النفرة تَارَة والاستقامة أُخْرَى فر إِلَى تلمسان وَرجع مِنْهَا أَعْوَام تسعين وسِتمِائَة وفر إِلَى السوس وَرجع مِنْهُ سنة سبع وَسَبْعمائة وَلم يزل هَذَا دأبه وَكَانَت لَهُ ولَايَة مَعَ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني من قبل ذَلِك ومقاماته فِي الْجِهَاد مَعَه مَذْكُورَة وَبقيت رياسته فِي بنيه إِلَى أَن انقرض أَمرهم وتلاشوا وَالله خير الْوَارِثين
وَأما بَنو جَابر بن جشم فَكَانَت لَهُم شَوْكَة أَيْضا وَكَانَ لَهُم أثر فِي الْفِتْنَة الناشئة بَين الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور وَيحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور فَكَانُوا شيعَة ليحيى وَلما ولي الرشيد بن الْمَأْمُون أَمر بقتل قَائِد وقائد ابْني عَامر وهما يَوْمئِذٍ شَيخا بني جَابر فقتلا وَقتل مَعَهم حسن بن زيد شيخ العاصم كَمَا تقدم وَكَانُوا جَمِيعًا معتقلين عِنْد الرشيد
وَولي أَمر بني جَابر بعدهمَا يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن قيطون ثمَّ قبض عَلَيْهِ قَائِد الْمُوَحِّدين أَبُو الْحسن بن يَعْلُو وَكَانَ ذَلِك بِأَمْر أبي حَفْص المرتضى الموحدي وَولي رياسة بني جَابر بعده إِسْمَاعِيل بن يَعْقُوب بن قيطون ثمَّ تحيز بَنو جَابر هَؤُلَاءِ عَن أَحيَاء جشم إِلَى سفح الْجَبَل بتادلا وَمَا إِلَيْهَا يجاورون هُنَالك صناكة من البربر الساكنين بقنته وهضابه فيسهلون إِلَى الْبَسِيط تَارَة ويأوون إِلَى الْجَبَل فِي حلف البربر وجوارهم أُخْرَى إِذا دهمتهم مَخَافَة من السُّلْطَان(2/171)
قَالَ ابْن خلدون والرياسة فيهم لهَذِهِ العصور يَعْنِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّامِنَة فِي ورديغة من بطونهم قَالَ أدْركْت شَيخا عَلَيْهِم لعهد السُّلْطَان أبي عنان حُسَيْن بن عَليّ الورديغي ثمَّ هلك وأقيم مقَامه ابْنه النَّاصِر بن حُسَيْن وَلحق بهم الْوَزير الْحسن بن عمر عِنْد نزوعه عَن السُّلْطَان أبي سَالم المريني سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة ونهضت إِلَيْهِم عَسَاكِر السُّلْطَان فأمكنوا مِنْهُ ثمَّ لحق بهم أَبُو الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم عِنْد فراره من مراكش سنة ثَمَان وَسِتِّينَ ونازله السُّلْطَان عبد العزيز المريني وأحاط بِهِ وبهم فلحق ببرابرة صناكة ثمَّ أمكنوا مِنْهُ على مَال حمل إِلَيْهِم وَلحق بهم أثْنَاء هَذِه الْفِتَن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن المريني على عهد الْوَزير عمر بن عبد الله المتغلب على الْمغرب وَطَلَبه الْوَزير عمر فأخرجوه عَنْهُم وَطَالَ بذلك مراس النَّاصِر هَذَا للفتنة فنكرته الدولة وتقبضت عَلَيْهِ وأودعته السجْن فَمَكثَ فِيهِ سِنِين ثمَّ تجافت عَنهُ الدولة من بعد ذَلِك وأطلقته ثمَّ رَجَعَ من الْمشرق فتقبض عَلَيْهِ الْوَزير أَبُو بكر بن غَازِي المستبد بالمغرب على ولد السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأودعه السجْن ونقلوا الرياسة عَن بَيته إِلَى غَيرهم وَالله تَعَالَى مُقَلِّب الْأُمُور
وَقد يزْعم كثير من النَّاس أَن ورديغة من بني جَابر لَيْسُوا من جشم وَأَنَّهُمْ بطن من بطُون سدراته إِحْدَى شعوب لواتة من البربر ويستدلون على ذَلِك بموطنهم وجوارهم البربر وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة ذَلِك
وَأما سُفْيَان فهم الَّذين كَانَت لَهُم الرياسة والشوكة عِنْد دُخُول الْعَرَب إِلَى الْمغرب كَانَت رياستهم يَوْمئِذٍ فِي أَوْلَاد جرمون على سَائِر بطُون جشم واستمروا على ذَلِك سَائِر أَيَّام الْمُوَحِّدين وَلما ضعف أَمر بني عبد الْمُؤمن استكثروا بهم فِي حروبهم فَكَانَت لَهُم عزة ودالة على الدولة بِسَبَب الْكَثْرَة وَقرب الْعَهْد بالبداوة وخبوا وَوَضَعُوا فِي الْفِتَن مَعَ أعقاب الْمُلُوك من بني عبد الْمُؤمن المتنازعين على الْملك وظاهروا الْبَعْض مِنْهُم على الْبَعْض وَسَاءَتْ آثَارهم بالمغرب وَكَانَ شيخهم الْمَشْهُور على عهد يحيى بن النَّاصِر الموحدي(2/172)
جرمون بن عِيسَى السفياني وَكَانَت بَينهم وَبَين الْخَلْط عَدَاوَة فَصَارَت الْخَلْط شيعَة لِلْمَأْمُونِ وبنيه وَصَارَت سُفْيَان بِسَبَب ذَلِك شيعَة ليحيى بن النَّاصِر مُنَازعَة فِي الْخلَافَة بمراكش ثمَّ قتل الرشيد ن الْمَأْمُون مَسْعُود بن حمدَان شيخ الْخَلْط رُبمَا نذْكر بعد فصاروا إِلَى يحيى بن النَّاصِر وَصَارَت سُفْيَان إِلَى الرشيد
ثمَّ ظهر بَنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مَعَ الْمُوَحِّدين وَنزع جرمون سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة عَن الرشيد وَلحق بِمُحَمد بن عبد الْحق المريني حَيَاء مِمَّا وَقع لَهُ مَعَ الرشيد وَذَلِكَ أَنه نادمه ذَات لَيْلَة حَتَّى سكر فَقَامَ يرقص طَربا ثمَّ حمل عَلَيْهِ وَهُوَ سَكرَان وعربد وأساء الْأَدَب ثمَّ أَفَاق فندم وفر إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْحق وَهلك سنة تسع وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وَعلا كَعْب ابْنه كانون بن جرمون عِنْد السعيد بن الْمَأْمُون ثمَّ خَالف عَلَيْهِ عِنْد نهوضه إِلَى بني مرين سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَرجع إِلَى آزمور فملكها وفت ذَلِك فِي عضد السعيد فَرجع عَن حركته وَقصد كانون بن جرمون ففر أَمَامه ثمَّ حضر مَعَه بعد ذَلِك حركته إِلَى تلمسان وَقتل بحصن تامزردكت قبل مقتل السعيد بِيَوْم وَاحِد قتلته الْخَلْط فِي فتْنَة وَقعت بَينهم فِي محلّة السعيد وَهِي الَّتِي جرت عَلَيْهَا تِلْكَ الْوَاقِعَة
وَقَامَ بِأَمْر سُفْيَان من بعده أَخُوهُ يَعْقُوب بن جرمون وَقتل ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن كانون وَحضر مَعَ عمر المرتضى الموحدي حَرَكَة أَمَان أيملولين سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَرَحل يَعْقُوب عَن السُّلْطَان واختل عسكره بِسَبَب ذَلِك فَرجع وَاتبعهُ بَنو مرين فَكَانَت الْهَزِيمَة ثمَّ عَفا لَهُ المرتضى عَنْهَا ثمَّ قَتله مَسْعُود وَعلي ابْنا أَخِيه كانون بثأر أخيهما مُحَمَّد سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة ولحقا بِيَعْقُوب بن عبد الْحق المريني وَقدم المرتضى ابْنه عبد الرَّحْمَن فعجز عَن الْقيام بأَمْره فَقدم عَمه عبد الله بن جرمون فعجز أَيْضا فَقدم مَسْعُود بن كانون فَأَقَامَ شَيخا على سُفْيَان واستمرت حَالهم مَعَ الْمُوَحِّدين وَبني مرين على هَذَا النَّحْو من إخلاص الطَّاعَة والنصرة تَارَة والتمريض فيهمَا أُخْرَى(2/173)
وَقَالَ ابْن خلدون واتصلت الرياسة على سُفْيَان فِي بني جرمون هَؤُلَاءِ إِلَى عهدنا قَالَ وَأدْركت شَيخا عَلَيْهِم لعهد السُّلْطَان أبي عنان يَعْقُوب بن عَليّ بن مَنْصُور بن عِيسَى بن يَعْقُوب بن جرمون بن عِيسَى
وَكَانَت سُفْيَان هَؤُلَاءِ أَحيَاء حلوا بأطراف تامسنا مِمَّا يَلِي آسفي وغلبتهم الْخَلْط على بسائطها الفسيحة وَبَقِي من أحيائهم الْحَارِث والكلابة ينتجعون أَرض السوس وقفاره وَيطْلبُونَ ضواحي بِلَاد حاحة من المصامدة فَبَقيت فيهم لذَلِك شدَّة وبأس ورياستهم فِي أَوْلَاد مُطَاع من الْحَارِث وَطَالَ عيثهم فِي ضواحي مراكش وإفسادهم فَلَمَّا استبد سُلْطَان مراكش الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن المريني سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة كَمَا نذْكر استخلصهم وَرفع مَنْزِلَتهمْ ثمَّ استقدمهم فِي بعض أَيَّامه للعرض بخيلهم ورجلهم على الْعَادة وشيخهم يَوْمئِذٍ مَنْصُور بن يعِيش من أَوْلَاد مُطَاع فتقبض عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَقتل من قتل مِنْهُم وأودع الآخرين سجونه فَذَهَبُوا مثلا لآخرين وخضضت شوكتهم وَالله قَادر على مَا يَشَاء
وَأما الْخَلْط فقد كَانُوا ببسيط تامسنا أولي عدد وَقُوَّة وَكَانَ شيخهم هِلَال بن حميدان بن مقدم وَلما ولي الْعَادِل بن الْمَنْصُور الموحدي خالفوا عَلَيْهِ وهزموا عساكره وَبعث هِلَال بيعَته إِلَى الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَتَبعهُ الموحدون على ذَلِك ثمَّ جَاءَ الْمَأْمُون فظاهروه على أمره وتحيزت أعداؤهم إِلَى يحيى بن النَّاصِر منازعه وَلم يزل هِلَال بن حميدان مَعَ الْمَأْمُون الى أَن هلك فِي حركته سنته وَبَايع بعده لِابْنِهِ الرشيد وَجَاء بِهِ إِلَى مراكش وَهزمَ سُفْيَان واستباحهم ثمَّ هلك هِلَال بن حميدان فولي مَكَانَهُ أَخُوهُ مَسْعُود بن حميدان ثمَّ خَالف على الرشيد فاحتال الرشيد عَلَيْهِ حَتَّى وَفد عَلَيْهِ بمراكش فَقتله فِي جمَاعَة من قومه سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَولي أَمر الْخَلْط بعده يحيى بن هِلَال وفر بقَوْمه إِلَى يحيى بن النَّاصِر وحاصروا مراكش ثمَّ استولوا عَلَيْهَا وعاثوا فِيهَا وَخرج(2/174)
الرشيد إِلَى سجلماسة ثمَّ عَاد إِلَيْهِم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وغلبهم عَلَيْهَا ثمَّ راجعوا طَاعَة الرشيد وطردوا يحيى بن النَّاصِر إِلَى بني معقل عرب الصَّحرَاء فتقبض الرشيد على وشاح وَعلي ابْني هِلَال وسجنهم بآزمور سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ثمَّ أطلقهُم ثمَّ بعد ذَلِك غدر بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم أَجْمَعِينَ ثمَّ بعد ذَلِك حَضَرُوا مَعَ السعيد بن الْمَأْمُون حركته إِلَى بني عبد الواد أَصْحَاب تلمسان وجروا عَلَيْهِ الْوَاقِعَة حَتَّى قتل فِيهَا بِسَبَب فتنتهم مَعَ سُفْيَان يَوْمئِذٍ فَلم يزل المرتضى يعْمل الْحِيلَة فيهم إِلَى أَن تقبض على أَشْيَاخهم سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة فَقَتلهُمْ وَلحق عواج بن هِلَال بن حميدان ببني مرين وَقدم المرتضى عَلَيْهِم عَليّ بن أبي عَليّ من بَيت الرياسة فيهم ثمَّ رَجَعَ عواد إِلَى الْمُوَحِّدين سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فأغزاه عَليّ بن أبي عَليّ فَقتل فِي غزاته تِلْكَ
ثمَّ كَانَت وَاقعَة أم الرجلَيْن لبني مرين على المرتضى سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة فَنزع عَليّ بن أبي عَليّ إِلَى بني مرين ثمَّ صَار الْخَلْط كلهم إِلَى بني مرين وَكَانَت الرياسة فيهم أول دولة بني مرين لأبي عَطِيَّة مهلهل بن يحيى الخلطي وأصهر إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فأنكحه مهلهل ابْنَته عَائِشَة الَّتِي كَانَ مِنْهَا ابْنه السُّلْطَان أَبُو سعيد بن يَعْقُوب وَلم يزل مهلهل كَبِيرا عَلَيْهِم إِلَى أَن هلك سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ بِأَمْر الْخَلْط ابْنه عَطِيَّة وَكَانَ لعهد السُّلْطَان أبي سعيد وَابْنه السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَعثه السُّلْطَان أَبُو الْحسن سفيرا عَنهُ إِلَى سُلْطَان مصر الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون
وَلما هلك عَطِيَّة قَامَ بِأَمْر الْخَلْط ابْنه عِيسَى بن عَطِيَّة ثمَّ ابْن أَخِيه رمام بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة وَهُوَ الَّذِي بلغ المبالغ من الْعِزّ والترف والدالة على السُّلْطَان والقرب من مَجْلِسه إِلَى أَن هلك فولي أَمر الْخَلْط بعده أَخُوهُ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أخوهما سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أخوهم مبارك بن(2/175)
إِبْرَاهِيم على مثل حَالهم أَيَّام السُّلْطَان أبي عنان المريني وَمن بعده إِلَى أَن كَانَت الْفِتْنَة بالمغرب بعد مهلك السُّلْطَان أبي سَالم المريني وَاسْتولى على الْمغرب أَخُوهُ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأقطع ابْنه نَاحيَة مراكش فَكَانَ إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة هَذَا مَعَه
وَلما تقبض على أبي الْفضل تقبض على مبارك الْمَذْكُور وأودع السجْن إِلَى أَن غلب السُّلْطَان عبد الْعَزِيز على عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وَقَتله فَقتل مَعَه مبارك بن إِبْرَاهِيم هَذَا لما كَانَ يعرف بِهِ من صحبته ومداخلته فِي الْفِتَن كَمَا يذكر فِي أَخْبَار بني مرين وَولي ابْنه مُحَمَّد بن مبارك على قبيل الْخَلْط
قَالَ ابْن خلدون إِلَّا أَن الْخَلْط الْيَوْم دثرت كَأَن لم تكن بِمَا أَصَابَهُم من الخصب والترف مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين بذلك الْبَسِيط الأفيح زِيَادَة على الْعِزّ والدعة فأكلتهم السنون وَذهب بهم الترف وَالله غَالب على أمره أه
وَلما انقرضت الدولة المرينية من الْمغرب وَجَاءَت دولة الشرفاء السعديين وَقَامَ مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَعْرُوف بالمهدي انحاشت الْخَلْط إِلَيْهِ وأظهروا الْخدمَة والنصيحة وَغلب مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور على فاس وَأخرج أَبَا حسون الوطاسي عَنْهَا فَذهب أَبُو حسون الْمَذْكُور إِلَى دولة التّرْك بالجزائر واستنصر بهم على السعديين فلبوا دَعوته وَقدم مَعَه مِنْهُم عَسْكَر جرار إِلَى فاس فأخرجوا مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ عَنْهَا بعد حروب عَظِيمَة جرت الْخَلْط هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ فِيهَا الْهَزِيمَة فَلَمَّا اسْتَقل بِالْأَمر مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور خلع الْخَلْط من الجندية ووظف عَلَيْهِم الْخراج ومحا اسمهم من ديوَان الْخدمَة وَنقل أعيانهم إِلَى مراكش واتخذهم رهائن عِنْده
وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك إِلَى دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور(2/176)
السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالذهبي فَرَأى جلاد الْخَلْط وقتالهم يَوْم وَادي المخازن وإبلاءهم الإبلاء الْحسن فَاخْتَارَ النّصْف مِنْهُم وردهم إِلَى الجندية وَأبقى النّصْف الآخر فِي غمار الرّعية ونقلهم إِلَى أزغار فاستوطنوه فعاثوا فِي تِلْكَ الْبِلَاد وَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد ومدوا أَيْديهم إِلَى أَوْلَاد مُطَاع فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إِلَى الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فَضرب عَلَيْهِم مغرما سبعين ألفا فَلم يزِيدُوا إِلَّا شدَّة فَضرب عَلَيْهِم بعثا إِلَى تكرارين من أَرض الصَّحرَاء فامتنعوا من ذَلِك فَبعث إِلَيْهِم الْقَائِد مُوسَى بن أبي جمادة الْعمريّ فَانْتزع مِنْهُم الْخَيل وأبقاهم رجالة ثمَّ حكم فيهم السَّيْف فمزقهم كل ممزق وَمن ثمَّ خمدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم ثمَّ ختموا أَعْمَالهم بفعلتهم الشنعاء الَّتِي مَلَأت الأفواه وأسالت من الجفون الأمواه وَهِي قَتلتهمْ ولي الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَبَا عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد اليعاشي الْمَالِكِي رَحمَه الله فَمَا زلنا نسْمع أَن قَبيلَة الْخَلْط إِنَّمَا سلبوا الْعِزّ مُنْذُ قَتلهمْ للْوَلِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ ذَلِك فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن بني معقل عرب الصَّحرَاء من أَرض الْمغرب وَتَحْقِيق نسبهم وَبَيَان شعوبهم وبطونهم
قَالَ ابْن خلدون هَذَا الْقَبِيل لهَذَا الْعَهْد من أوفر قبائل الْعَرَب ومواطنهم بقفار الْمغرب الْأَقْصَى مجاورون لني عَامر من زغبة الهلاليين فِي مواطنهم بقبلة تلمسان وينتهون إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط من جِهَة الغرب وَهِي ثَلَاثَة بطُون ذَوي عبيد الله وَذَوي مَنْصُور وَذَوي حسان
فذوي عبيد الله مِنْهُم هم المجاورون لبني عَامر ومواطنهم بَين تلمسان وتاوريرت فِي التل وَمَا يواجهها من الْقبْلَة ومواطن ذَوي مَنْصُور من تاوريرت إِلَى بِلَاد درعة فيستولون على ملوية كلهَا إِلَى سجلماسة وعَلى درعة وَمَا يحاذيها من التل مثل تازا وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمعدن(2/177)
ومواطن ذَوي حسان من درعة إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وَينزل شيوخهم بِلَاد بَوْل قَاعِدَة السوس فيستولون على السوس الْأَقْصَى وَمَا إِلَيْهِ وينتجعون كلهم فِي الرمال إِلَى مَوَاطِن الملثمين من كدالة ومسوفة ولمتونة
وَكَانَ دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب مَعَ الهلاليين فِي عدد قَلِيل يُقَال إِنَّهُم لم يبلغُوا الْمِائَتَيْنِ واعترضتهم بَنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إِلَى الهلالين مُنْذُ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مِمَّا يَلِي ملوية ورمال تافيلالت وجاوروا زناتة فِي القفار فعفوا وكثروا وأثروا فِي صحارى الْمغرب الْأَقْصَى فغمروا رماله وتقلبوا فِي فيافيه وَكَانُوا هُنَالك أحلافا لزناتة سَائِر أيامهم وَبَقِي مِنْهُم بإفريقية جمع قَلِيل اندرجوا فِي جملَة بني كَعْب بن سليم وداخلوهم حَتَّى كَانُوا وزراء لَهُم فِي الِاسْتِخْدَام للسُّلْطَان واستئلاف الْعَرَب فَلَمَّا ملكت زناتة بِلَاد الْمغرب ودخلوا إِلَى الْأَمْصَار والمدن أَقَامَ بَنو معقل هَؤُلَاءِ فِي القفار وتفردوا فِي الْبَيْدَاء فنموا نموا لاكفاء لَهُ وملكوا قُصُور الصَّحرَاء الَّتِي اختطها زناتة بالقفر مثل قُصُور السوس غربا ثمَّ توات ثمَّ بودة ثمَّ تمنطيت ثمَّ واركلان ثمَّ تاسبيبت ثمَّ تيكرارين شرقا وكل وَاحِدَة من هَذِه وَطن مُنْفَرد يشْتَمل على قُصُور عديدة ذَات نخيل وأنهار وَأكْثر سكانها من زناتة وَبينهمْ فتن وحروب على رياستها فحازت عرب معقل هَذِه الأوطان فِي مجالاتهم وَوَضَعُوا عَلَيْهَا الإتاوات والضرائب وَصَارَت لَهُم جباية يعتدون فِيهَا ملكا
وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة السالفة يُعْطون الصَّدقَات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها جمل الرحيل وَكَانَ لَهُم الْخِيَار فِي تَعْيِينهَا وَلم يكن هَؤُلَاءِ الْعَرَب يحْمُونَ من أَطْرَاف الْمغرب وتلوله حمى وَلَا يعرضون لسابلة سجلماسة وَلَا غَيرهَا من بِلَاد الصَّحرَاء بأذية وَلَا مَكْرُوه لما كَانَ بالمغرب من اعتزاز الدّين وسد الثغور وَكَثْرَة الحامية أَيَّام الْمُوَحِّدين وزناتة من بعدهمْ
وَكَانَ لَهُم بِإِزَاءِ ذَلِك أقطاع من الدول يمدون إِلَى أَخذه الْيَد السُّفْلى(2/178)
وعددهم قَلِيل كَمَا قُلْنَا وَإِنَّمَا كَثُرُوا بِمن اجْتمع إِلَيْهِم من الْقَبَائِل من غير نسبهم فَإِن فيهم من فَزَارَة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر وَفِيهِمْ من أَشْجَع بن ريث بن غطفان أَحيَاء كَبِيرَة يظغنون مَعَ بني معقل بجهات سجلماسة ووادي ملوية وَلَهُم عدد وَذكر وَفِيهِمْ الصَّباح من الْأَخْضَر وَيَقُولُونَ إِنَّهُم من ولد أَخْضَر بن عَامر وعامر هَذَا هُوَ وَالله أعلم من ولد ريَاح الهلاليين وَفِيهِمْ المهاية من عِيَاض إِحْدَى بطُون الأثبج الهلاليين وَفِيهِمْ العمور من الأثبج أَيْضا وَفِيهِمْ بطُون أخر من بني هِلَال وَبني سليم وَغَيرهَا
وَأما أنسابهم عِنْد الْجُمْهُور فخفية ومجهولة والنسابون من عرب هِلَال يعدونهم من بطونهم وَهُوَ غير صَحِيح وهم أَعنِي بني معقل يَزْعمُونَ أَن نسبهم فِي أهل الْبَيْت إِلَى جَعْفَر بن أبي طَالب وَلَيْسَ ذَلِك أَيْضا بِصَحِيح لِأَن الطالبيين والهاشميين لم يَكُونُوا أهل بادية ونجعة
هَكَذَا ذكر ابْن خلدون لكنه لم تكلم على جُهَيْنَة إِحْدَى بطُون قضاعة وَذكر أَنهم نزلُوا بِلَاد الصَّعِيد وملؤوها قَالَ وَنزل مَعَهم فِي تِلْكَ المواطن من أسوان إِلَى قوص بَنو جَعْفَر بن أبي طَالب حِين غلبهم بَنو الْحسن على نواحي الْمَدِينَة وأخرجوهم مِنْهَا فهم يعْرفُونَ بَينهم بالشرفاء الجعافرة ويحترفون فِي غَالب أَحْوَالهم بِالتِّجَارَة اه كَلَامه فعلى هَذَا لَا يبعد أَن تكون طَائِفَة من هَؤُلَاءِ الجعافرة قد انتقلوا من ارْض الصَّعِيد ودخلوا مَعَ بني هِلَال الى بِلَاد الْمغرب وأوطنوا صحراءه وهم بَنو معقل المذكورون وَالنَّاس مصدقون فِي أنسابهم وَالله تَعَالَى أعلم بحقائق الْأُمُور
ثمَّ قَالَ ابْن خلدون وَالصَّحِيح وَالله أعلم من أَمرهم أَنهم من عرب الْيمن فَإِن فِي الْيمن بطنين يُسمى كل وَاحِد مِنْهُمَا معقل ذكرهمَا ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيره فأحدهما من قضاعة بن مَالك بن حمير وَهُوَ معقل بن(2/179)
كَعْب بن عليم بن جناب وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى قضاعة وَالْآخر من بني الْحَارِث بن كَعْب أَصْحَاب نَجْرَان الَّذين كَانَ مِنْهُم بَنو عبد المدان مُلُوك نَجْرَان فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَهُوَ معقل بن كَعْب بن ربيعَة بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى كهلان قَالَ والأنسب أَن يَكُونُوا من هَذَا الْبَطن الآخر وَقد عده الإخباريون فِي بطُون هِلَال الداخلين إِلَى إفريقية لمجاورتهم فِي الوطن قَالَ وَمن إملاء نسابهم أَن معقلا جدهم لَهُ من الْوَلَد سجير وَمُحَمّد فولد سجير عبيد الله وثعلب فَمن عبيد الله ذَوي عبيد الله الْبَطن الْكَبِير مِنْهُم وَمن ثَعْلَب الثعالبة الَّذين كَانُوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر وَولد مُحَمَّد مُخْتَارًا ومنصورا وجلالا وسالما وَعُثْمَان فولد مُخْتَار بن مُحَمَّد حسان وشبانة فَمن حسان ذَوي حسان الْبَطن الْمَذْكُور أهل السوس الْأَقْصَى وَمن شبانة الشبانات جيرانهم هُنَالك وَمن جلال وَسَالم وَعُثْمَان الرقيطات بادية فِي ذَوي حسان ينتجعون مَعَهم وَولد مَنْصُور بن مُحَمَّد حُسَيْنًا وَأَبا الْحُسَيْن وهما شقيقان وَعمْرَان ومنبا وهما شقيقان أَيْضا وهما الأحلاف وَيُقَال لعمران العمرانية ولمنبا المنبات ثمَّ يُقَال لجَمِيع الْبُطُون الْأَرْبَعَة ولد مَنْصُور بن مُحَمَّد ذَوي مَنْصُور وهم إِحْدَى بطونهم الثَّلَاث الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم بغيبه
فَهَذِهِ أصُول عرب الْمغرب الْأَقْصَى وَكَيْفِيَّة دُخُولهمْ إِلَيْهِ واستيطانهم إِيَّاه وَبَعض فصولهم قد ذَكرنَاهَا ملخصة من تَارِيخ إِمَام الْفَنّ أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون وَمن جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ حزم وزدنا مَا يحْتَاج مِنْهَا إِلَى الْبَيَان بَيَانا وَالله تَعَالَى الْمُوفق
ولنرجع إِلَى مَا كُنَّا بسبيله من أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله فَإِنَّهُ لما رَجَعَ من إفريقية إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة رفع إِلَيْهِ أَن أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا حَفْص صَاحب مرسية الملقب بالرشيد وَعَمه السَّيِّد أَبَا الرّبيع صَاحب تادلا عِنْدَمَا بلغهما خبر الْوَقْعَة الَّتِي كَانَت على مُقَدّمَة(2/180)
الْمَنْصُور بإفريقية حَدثا أَنفسهمَا بالتوثب على الْخلَافَة فَلَمَّا قدما عَلَيْهِ بالتهنئة أَمر باعتقالهما خلال مَا استملأ أَمرهمَا ثمَّ قَتلهمَا وَعقد للسَّيِّد أبي الْحسن ابْن السَّيِّد أبي حَفْص على بجاية وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة شرع الْمَنْصُور فِي إِدْخَال ساقية المَاء إِلَى مراكش ثمَّ تاقت نَفسه إِلَى الْجِهَاد فَكَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ
الْجَوَاز الأول ليعقوب الْمَنْصُور رَحمَه الله إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد
قَالَ ابْن أبي زرع وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة تحرّك أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى الأندلس برسم غَزْو بِلَاد غربها وَهِي أولى غَزَوَاته فَعبر من قصر الْمجَاز إِلَى الخضراء يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ نَهَضَ من الخضراء حَتَّى نزل شنترين وَشن الغارات على مَدِينَة أشبونة وأنحائها فَقطع الثِّمَار وَحرق الزروع وَقتل وسبا وأضرم النيرَان فِي الْقرى وأبلغ فِي النكاية وَانْصَرف إِلَى العدوة بِثَلَاثَة عشر ألفا من السَّبي فَدخل فاسا فِي آخر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة
مراسلة السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب صَاحب مصر ليعقوب الْمَنْصُور رحمهمَا الله والتماسه مِنْهُ الأساطيل للْجِهَاد
كَانَت الفرنج قد ملكوا سواحل الشَّام فِي آخر الدولة العبيدية مُنْذُ تسعين سنة قبل هَذَا التَّارِيخ وملكوا مَعهَا بَيت الْمُقَدّس شرفه الله فَلَمَّا استولى السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله على ديار مصر وَالشَّام اعتزم على جهادهم وَصَارَ يفتح حصونها وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى أَتَى على جَمِيعهَا(2/181)
وافتتح بَيت الْمُقَدّس سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهدم الْكَنِيسَة الَّتِي بنواحيه وَانْقَضَت أُمَم النَّصْرَانِيَّة من كل جِهَة وَتَتَابَعَتْ أساطيلهم الكفرية بالمدد من كل نَاحيَة لتِلْك الثغور الْقَرِيبَة من بَيت الْمُقَدّس واعترضوا أسطول صَلَاح الدّين فِي الْبَحْر وَلم تقاومهم أساطيل الْإسْكَنْدَريَّة لِضعْفِهَا يَوْمئِذٍ عَن ممانعتهم فَبعث صَلَاح الدّين صَرِيحَة إِلَى الْمَنْصُور سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِطَلَب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور وطرابلس الشَّام وأوفد عَلَيْهِ أَبَا الْحَارِث عبد الرَّحْمَن بن منقذ من بَيت بني منقذ مُلُوك شيزر من حصون الشَّام وَكَانَ صَلَاح الدّين قد ملكهَا من أَيْديهم وَأبقى عَلَيْهِم فِي دولته فَبعث صَلَاح الدّين عبد الرَّحْمَن هَذَا إِلَى يَعْقُوب الْمَنْصُور طَالبا مدد الأساطيل لتحول فِي الْبَحْر بَين أساطيل الفرنج وَبَين أَمْدَاد النَّصْرَانِيَّة بِالشَّام ولمنازلة الثغور الَّتِي ذكرنَا
وَبعث مَعَه إِلَى الْمَنْصُور بهدية تشْتَمل على مصحفين كريمين منسوبين وَمِائَة دِرْهَم من دهن البلسان وَعشْرين رطلا من الْعود وسِتمِائَة مِثْقَال من الْمسك والعنبر وَخمسين قوسا عَرَبِيَّة بأوتارها وَعشْرين من النصول الْهِنْدِيَّة وسروج عدَّة مثقلة فوصل إِلَى الْمغرب فصادف الْمَنْصُور بالأندلس فانتظره بفاس إِلَى أَن رَجَعَ فَلَقِيَهُ وَأدّى الرسَالَة وَقدم الْهَدِيَّة
وَكَانَ الْكتاب الَّذِي بعث بِهِ صَلَاح الدّين من إنْشَاء الأديب عبد الرَّحِيم البيسني الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ عنوان الْكتاب من صَلَاح الدّين إِلَى أَمِير الْمُسلمين وَفِي أَوله الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى يُوسُف بن أَيُّوب وَبعده الْحَمد لله الَّذِي اسْتعْمل على الْملَّة الحنيفة من استعمر الأَرْض وأغنى من أَهلهَا من سَأَلَهُ الْقَرْض وأجرى من أجْرى على يَده النَّافِلَة وَالْفَرْض وزين سَمَاء الْملَّة بدراري الذَّرَارِي الَّتِي بَعْضهَا من بعض وَهُوَ كتاب طَوِيل(2/182)
وَلما وقف عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَرَأى تجافيهم فِيهِ عَن خطابه بأمير الْمُؤمنِينَ لم يُعجبهُ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه وَحمل الرَّسُول على مناهج الْبر والكرامة ورده إِلَى مرسله وَلم يجبهُ إِلَى حَاجته وَيُقَال إِنَّه جهز لَهُ بعد ذَلِك مائَة وَثَمَانِينَ أسطولا وَمنع النَّصَارَى من سواحل الشَّام وَالله تَعَالَى أعلم
قَالَ ابْن خلدون وَفِي هَذَا دَلِيل على اخْتِصَاص مُلُوك الْمغرب يَوْمئِذٍ بالأساطيل الجهادية وَعدم عناية الدول بِمصْر وَالشَّام لذَلِك الْعَهْد بهَا وَكَانَ ابْن منقذ الْمَذْكُور قد مدح الْمَنْصُور بقصيدة يَقُول فِيهَا
(سأشكر بحرا ذَا عباب قطعته ... إِلَى بَحر جود مَا لأخراه سَاحل)
(إِلَى مَعْدن التَّقْوَى إِلَى كعبة الندى ... إِلَى من سمت بِالذكر مِنْهُ الْأَوَائِل)
(إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم تزل ... إِلَى بابك المأمول تزجي الرَّوَاحِل)
(قطعت إِلَيْك الْبر وَالْبَحْر موقنا ... بِأَن نداك الْغمر بالنجح كافل)
(وحزت بقصديك العلى فبلغتها ... وَأدنى عطاياك العلى والفواضل)
(فَلَا زلت للعلياء والجود بانيا ... تبلغك الآمال مَا أَنْت آمل)
وعدتها أَرْبَعُونَ بَيْتا فَأعْطَاهُ بِكُل بَيت ألفا وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا أعطيناك لفضلك ولبيتك يَعْنِي لَا لأجل صَلَاح الدّين
عود الْمَنْصُور إِلَى إفريقية وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما قدم الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى فاس وَفرغ من شَأْن ابْن منقذ تَوَاتَرَتْ إِلَيْهِ الْأَخْبَار بِأَن ابْن غانية قد ظهر بإفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي ثامن شعْبَان من تِلْكَ السّنة فَدخل تونس فِي أول ذِي الْقعدَة مِنْهَا فَألْقى بِلَاد(2/183)
إفريقية سَاكِنة وَقد فر ابْن غانية عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء حِين سمع بقدومه
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة استولى الفرنج على مَدِينَة شلب وباجة ويابورة من غرب الأندلس وَذَلِكَ لما علمُوا أَن الْمَنْصُور قد أبعد عَنْهُم واشتغل بِأَمْر إفريقية فاغتنموا الفرصة فِيهَا واتصل الْخَبَر بالمنصور فَغَاظَهُ ذَلِك وأعظمه وَكتب إِلَى قواد الأندلس يوبخهم وَيَأْمُرهُمْ بغزو بِلَاد الفرنج وَيُعلمهُم أَنه قادم عَلَيْهِم فِي أثر كِتَابه فَاجْتمع قواد الأندلس إِلَى مُحَمَّد بن يُوسُف وَالِي قرطبة فَخرج بهم فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَالْعرب وَأهل الأندلس حَتَّى نزل على شلب فَشدد عَلَيْهَا الْحصار وتابع عَلَيْهَا الْقِتَال حَتَّى فتحهَا وَفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابورة وَرجع إِلَى قرطبة فَدَخلَهَا بِخَمْسَة عشر ألفا من السَّبي وَثَلَاثَة آلَاف أَسِير قدمهم بَين يَدَيْهِ فِي القطائن خَمْسُونَ علجا فِي كل قطينة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَفِي هَذَا الشَّهْر رَجَعَ الْمَنْصُور من إفريقية فَانْتهى إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي فاتح محرم من سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَهِي سنة آكرواو خرج الْمَنْصُور من تلمسان إِلَى فاس وَهُوَ مَرِيض فَكَانَ يركب فِي آكرواو فَدخل فاسا وَأقَام بهَا مَرِيضا سَبْعَة أشهر حَتَّى أبل من علته ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله(2/184)
الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالأرك من بِلَاد الأندلس
قَالَ ابْن خلكان كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله قد خافه الفنش صَاحب طليطلة وَسَأَلَهُ الصُّلْح فَصَالحه إِلَى خمس سِنِين فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْهُدْنَة وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل خرجت طَائِفَة من الفرنج فِي جَيش كثيف إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فنهبوا وَسبوا وعاثوا عيثا فظيعا فَانْتهى الْخَبَر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ بمراكش فتجهز لقصدهم فِي جَيش عَرَمْرَم من قبائل الْمُوَحِّدين وَالْعرب واحتفل فِي ذَلِك وَعبر الْبَحْر إِلَى الأندلس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة واتصل بالفرنج عبوره إِلَيْهِم فَجمعُوا خلقا كثيرا من أقْصَى بِلَادهمْ وأدانيها وَأَقْبلُوا نَحوه
قَالَ ابْن خلكان وَقد رَأَيْت بِدِمَشْق جُزْء بِخَط الشَّيْخ الْحَافِظ تَاج الدّين عبد الله بن حموية السَّرخسِيّ وَكَانَ قد سَافر إِلَى مراكش وَأقَام بهَا مُدَّة وَكتب فصولا تتَعَلَّق بِتِلْكَ الدولة فَمن ذَلِك فصل يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْوَقْعَة فَيَنْبَغِي ذكره هَهُنَا
قَالَ لما انْقَضتْ الْهُدْنَة بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَبَين الأذفونش الفرنجي صَاحب غرب جَزِيرَة الأندلس وَقَاعِدَة مَمْلَكَته يَوْمئِذٍ طليطلة وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة تسعين وَخَمْسمِائة عزم يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش على التَّوَجُّه إِلَى جَزِيرَة الأندلس لمحاربة الفرنج وَكتب إِلَى وُلَاة الْأَطْرَاف وقواد الجيوش بالحضور وَخرج إِلَى مَدِينَة سلا ليَكُون اجْتِمَاع العساكر بظاهرها فاتفق أَنه مرض مَرضا شَدِيدا حَتَّى يئس مِنْهُ أطباؤه فتوقف الْحَال عَن تَدْبِير تِلْكَ الجيوش وَحمل يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى مراكش وَهُوَ مَرِيض فطمع المجاورون لَهُ من الْعَرَب وَغَيرهم فِي الْبِلَاد وعاثوا فِيهَا وأغاروا على النواحي والأطراف وَكَذَلِكَ فعل الأذفونش فِيمَا يَلِيهِ من بِلَاد الْمُسلمين بالأندلس وَاقْتضى الْحَال تَفْرِقَة الجيوش الَّتِي جمعهَا يَعْقُوب الْمَنْصُور شرقا وغربا وَاشْتَغلُوا بالمدافعة والممانعة فَكثر طمع الأذفونش(2/185)
فِي الْبِلَاد وَبعث رَسُولا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور يهدد ويتوعد وَيطْلب بعض الْحُصُون المتاخمة لَهُ من بِلَاد الأندلس وَكتب إِلَيْهِ رِسَالَة من إنْشَاء وَزِير لَهُ من ضعفاء الْمُسلمين يعرف بِابْن الفخار وَهِي بِاسْمِك اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَصلى الله على السَّيِّد الْمَسِيح روح الله وكلمته الرَّسُول الفصيح أما بعد فَإِنَّهُ لَا يخفى على ذِي ذهن ثاقب وَلَا ذِي عقل لازب إِنَّك أَمِير الْملَّة الحنيفية كَمَا أَنِّي أَمِير الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وَقد علمت الْآن مَا عَلَيْهِ رُؤَسَاء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال أَمر الرّعية وإخلادهم إِلَى الرَّاحَة وَأَنا أسومهم بِحكم الْقَهْر وخلاء الديار وأسبي الذَّرَارِي وأمثل بِالرِّجَالِ وَلَا عذر لَك فِي التَّخَلُّف عَن نَصرهم إِذا أمكنتك يَد الْقُدْرَة وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَن الله فرض عَلَيْكُم قتال عشرَة منا بِوَاحِد مِنْكُم فَالْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا وَنحن الْآن نُقَاتِل عشرَة مِنْكُم بِوَاحِد منا لَا تَسْتَطِيعُونَ دفاعا وَلَا تَمْلِكُونَ امتناعا وَقد حُكيَ لي عَنْك أَنَّك أخذت فِي الاحتفال وأشرفت على ربوة الْقِتَال وتماطل نَفسك عَاما بعد عَام تقدم رجلا وتؤخر أُخْرَى فَلَا أَدْرِي أَكَانَ الْجُبْن قد أَبْطَأَ بك أم التَّكْذِيب بِمَا وعد رَبك ثمَّ قيل لي إِنَّك لَا تَجِد إِلَى جَوَاز الْبَحْر سَبِيلا لعِلَّة لَا يسوغ لَك التقحم مَعهَا وَهَا أَنا أَقُول لَك مَا فِيهِ الرَّاحَة لَك وأعتذر لَك وعنك على أَن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرِّهَان وَترسل إِلَيّ جملَة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إِلَيْك فأقاتلك فِي أعز الْأَمَاكِن لديك فَإِن كَانَت لَك فغنيمة كَبِيرَة جلبت إِلَيْك وهدية عَظِيمَة مثلت بَين يَديك وَإِن كَانَت لي كَانَت يَدي الْعليا عَلَيْك واستحققت إِمَارَة الملتين وَالْحكم على البرين وَالله تَعَالَى يوفق للسعادة ويسهل الْإِرَادَة لَا رب غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره
فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور مزقه وَكتب على ظهر قِطْعَة مِنْهُ وَكَانَ الْمَنْصُور يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن التوقيع كَمَا يَأْتِي فِي بَقِيَّة أخباره {ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة}(2/186)
وهم صاغرون) ثمَّ كتب الْجَواب مَا ترى لَا مَا تسمع فَهُوَ أول من تكلم بِهِ فَأرْسلهُ مثلا وَأنْشد متمثلا
(وَلَا كتب إِلَّا المشرفية والقنى ... وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم)
ثمَّ أَمر بالإستنفار واستدعاء الجيوش من الْأَمْصَار وَضرب السرادقات بِظَاهِر الْبَلَد من يَوْمه وَجمع العساكر وَسَار إِلَى الْبَحْر الْمَعْرُوف بزقاق سبتة يُرِيد الأندلس
وَقَالَ ابْن أبي زرع خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور من حَضْرَة مراكش يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة يولي السّير ويطوي المناهل وَلَا يلوي على فَارس وَلَا راجل والجيوش تتَابع فِي أَثَره من سَائِر الأقطار فَلَمَّا انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز أَخذ فِي إجَازَة الجيوش الْوَارِدَة عَلَيْهِ لَا يفرغ من طَائِفَة إِلَّا وَقد لحقت بهَا أُخْرَى فَأجَاز أَولا قبائل الْعَرَب ثمَّ زناتة ثمَّ المصامدة ثمَّ غمارة ثمَّ المتطوعة من قبائل الْمغرب ثمَّ الأغزاز وَالرُّمَاة ثمَّ الموحدون ثمَّ العبيد ثمَّ أجَاز أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَثَرهم فِي موكب عَظِيم من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَأهل النجدة والزعامة وَمَعَهُ فُقَهَاء الْمغرب وصلحاؤه وَاسْتقر بالجزيرة الخضراء بعد صَلَاة الْجُمُعَة الموفي عشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا
ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن تخمد قرائح الْمُجَاهدين وتضعيف نياتهم فَسَار حَتَّى بَقِي بَينه وَبَين حصن الأرك الَّذِي كَانَ الْعَدو نازلا بإزائه نَحْو مرحلَتَيْنِ فَنزل هُنَالك وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شعْبَان من السّنة فَجمع النَّاس ذَلِك الْيَوْم وفاوضهم ووعظهم ثمَّ اخْتصَّ أهل الأندلس بمزيد المشورة وَقَالَ لَهُم إِن جَمِيع من استشرته وَإِن كَانُوا أولي بَأْس وَمَعْرِفَة بِالْحَرْبِ لكِنهمْ لَا يعْرفُونَ من قتال الفرنج مَا تعرفونه أَنْتُم لتمرسكم بهم وتمرسهم بكم فأحالوه فِي الرَّأْي على الْقَائِد أبي عبد الله بن صَنَادِيد فعول الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي ذَلِك على رَأْيه(2/187)
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور رَحمَه الله عرض جَيْشه وَأخذ فِي تقريب الْقرب الى الله تَعَالَى بَين يَدي جهاده فسرح السجون وأدر الأرزاق وَعين الصَّدقَات ورحل فَنزل الأرك وَقد خيمت بأحوازه محلات الْعَدو يضيق عَنْهَا المتسع وَقَامَ الْمَنْصُور بعد أَن اجْتمع النَّاس فتحلل من الْمُسلمين وَقَالَ أَيهَا النَّاس اغفروا لي فِيمَا عَسى أَن يكون صدر مني فبكي النَّاس وَقَالُوا مِنْكُم يطْلب الرضى والغفران وخطب الخطباء بَين يَدَيْهِ محرضين ومذكرين فنشط النَّاس وَطَابَتْ النُّفُوس وَمن الْغَد صدع الْمَنْصُور بالنداء وَأمر بِأخذ السِّلَاح والبروز إِلَى اللِّقَاء فَكَانَت التعبئة تَحت الْغَلَس
وَحكى ابْن أبي زرع أَن الْمَنْصُور بَات تِلْكَ اللَّيْلَة عاكفا بمصلاه على الرُّكُوع وَالسُّجُود وَإنَّهُ أغفى إغفاءه فَرَأى ملكا نزل من السَّمَاء فِي صُورَة بشر وَبِيَدِهِ راية خضراء وبشره بِالْفَتْح وأنشده فِي ذَلِك أبياتا بقيت على ذكر الْمَنْصُور إِلَى أَن اسْتَيْقَظَ وقص رُؤْيَاهُ على وُجُوه الْجند فازداد النَّاس طمأنينة وبصيرة
فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت خَامِس شعْبَان جلس الْمَنْصُور فِي قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة للْجِهَاد ثمَّ دَعَا بكبير وزرائه الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَقدمه على ذَلِك الْجَيْش وَعقد لَهُ رايته وَقدمه بَين يَدَيْهِ فرفرفت على رَأسه الرَّايَات وقرعت بَين يَدَيْهِ الطبول وَسَار فِي قبيل هنتاتة وَبَين يَدَيْهِ الْقَائِد ابْن صَنَادِيد فِي جَيش الأندلس ثمَّ عقد الْمَنْصُور لجرمون بن ريَاح على قبائل الْعَرَب ولمنديل بن عبد الرَّحْمَن المغراوي على قبائل مغراوة ولمحيو بن أبي بكر بن حمامة المريني جد الْمُلُوك المرينيين على قبائل بني مرين ولجابر بن يُوسُف العَبْد الْوَادي على قبائل بني عبد الواد ولعباس بن عَطِيَّة التوجيني على قبائل بني توجين ولتلجين بن عَليّ على قبائل هسكورة وَسَائِر المصامدة ولمحمد بن منغفاد على قبائل غمارة وَعقد للفقيه الصَّالح أبي خزر يخلف بن خزر الأوربي على المتطوعة(2/188)
وَقَالَ ابْن خلدون إِن الَّذِي كَانَ على المتطوعة يَوْمئِذٍ هُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وَالْكل إِلَى نظر الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَبَقِي الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي جَيش الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد وَأمر الشَّيْخ أَبَا يحيى بالرحيل والتقدم أَمَامه إِلَى جِهَة الْعَدو
وَكَانَ الْمَنْصُور قد ضفر مَعَ ابْن صَنَادِيد من الرَّأْي أَن يبْقى هُوَ مُتَأَخِّرًا فِي الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد والجشم على مَسَافَة يخفى بهَا عَن أعين الْعَدو وَيقدم الشَّيْخ أَبَا يحيى بِبَعْض الرَّايَات والطبول فِي هَيْئَة السُّلْطَان فَيلقى الْعَدو فَإِن كَانَت للْمُسلمين فَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِن كَانَت عَلَيْهِم كَانَ الْمَنْصُور ردأ لَهُم ثمَّ يسْتَأْنف الْقِتَال مَعَ الْعَدو وَقد انفل حَده ولانت شوكته
فَسَار الشَّيْخ أَبُو يحيى على هَذَا التَّرْتِيب وَابْن صَنَادِيد أَمَامه فِي فرسَان الأندلس وحماتها فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يحيى إِذا أقلع بجيشه عَن مَوضِع صباحا خَلفه الْمَنْصُور فِيهِ بجيشه مسَاء حَتَّى أشرف الشَّيْخ أَبُو يحيى على جموع الفرنج وَهِي يَوْمئِذٍ إِلَى جنب حصن الأرك وَيُقَال الأركو بِزِيَادَة الْوَاو فِي آخِرَة قد ضربت أخبيتها على ربوة عالية ذَات مهاو وأحجار كبار قد مَلَأت السهل والوعر وَنزل الشَّيْخ أَبُو يحيى بجيشه فِي الْبَسِيط ضحوة يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع من شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَعند ابْن خلكان أَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس قَالَ واقتفى الْمَنْصُور فِي ذَلِك طَريقَة أَبِيه وجده فَإِنَّهُم أَكثر مَا كَانُوا يصافون يَوْم الْخَمِيس ومعظم حركاتهم فِي صفر فعبأ الشَّيْخ أَبُو يحيى عساكره تعبئة الْحَرْب وَعقد الرَّايَات لأمراء الْقَبَائِل وأوقف كل قَبيلَة فِي مركزها الَّذِي عين لَهَا فَجعل عَسْكَر الأندلس فِي الميمنة وَجعل زناتة والمصامدة وَالْعرب وَسَائِر قبائل الْمغرب فِي المسيرة وَجعل المتطوعة والأغزاز وَالرُّمَاة فِي الْمُقدمَة وَبَقِي هُوَ فِي الْقلب فِي قَبيلَة هنتاتة
وَلما أَخذ النَّاس مراكزهم من حومة الْقِتَال خرج جرمون بن ريَاح يمشي فِي صُفُوف الْمُسلمين ويحضهم على الثَّبَات وَالصَّبْر وبينما النَّاس(2/189)
على ذَلِك إِذْ انفصلت من جيوش الْعَدو كَتِيبَة عَظِيمَة من نَحْو عشرَة آلَاف فَارس كلهم مدجج فِي الْحَدِيد وَكَانَت هَذِه الكتيبة هِيَ شَوْكَة ذَلِك الْجَيْش وَحده كَانَ الفنش لَعنه الله قد انتخبهم وصلت أقسته عَلَيْهِم صَلَاة النَّصْر ورشوهم بِمَاء المعمودية وتحالفوا عِنْد الصلبان أَن لَا يبرحوا حَتَّى يقتلُوا الْمُسلمين أَو يهْلكُوا دونهم فَلَمَّا برزت هَذِه الكتيبة نَادَى مُنَادِي الشَّيْخ أبي يحيى معشر الْمُسلمين اثبتوا فِي مَصَافكُمْ وَأَخْلصُوا لله تَعَالَى ينتكم وأذكروا الله عز وَجل فِي قُلُوبكُمْ وبرز عَامر الزعيم من أُمَرَاء الْعَرَب فحض النَّاس على الصَّبْر وثبتهم وحملت كَتِيبَة الْعَدو حَتَّى اندقت رماح الْمُسلمين فِي صُدُور خيلها أَو كَادَت ثمَّ تقهقرت قَلِيلا ثمَّ عاودت الحملة فَكَانَت كالأولى ثمَّ تهيأت للحملة الثَّالِثَة فَدفعت حَتَّى خالطت صُفُوف الْمُسلمين وخلص الْبَعْض مِنْهَا إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى يطنونه الْمَنْصُور فاستشهد رَحمَه الله بعد مَا أحسن الْبلَاء وَقَاتل قتالا شَدِيدا وَاسْتشْهدَ مَعَه جمَاعَة من الْمُسلمين من هنتاتة والمتطوعة وَغَيرهم وَسمي بَنو الشَّيْخ أبي يحيى ببني الشَّهِيد وَعرفُوا بِهِ من يَوْمئِذٍ وأظلم الجو بالغبار واختلطت الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَانْفَرَدَ كل قرن بقرنه وَأَقْبَلت الْعَرَب والمتطوعة فأحاطوا بالكتيبة الَّتِي دفعت إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى وزحفت زناتة والمصامدة وغمارة إِلَى الربوة الَّتِي فِيهَا الفنش وجموعه وَكَانَت على مَا قيل تنيف على ثَلَاثمِائَة ألف بَين فَارس وراجل فتوغل الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الأوعار إِلَيْهِم وخالطوهم بهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَال واستحر الْقَتْل فِي الكتيبة الَّتِي دفعت أَولا وَانْقَضَت عَلَيْهِم الْعَرَب والمتطوعة وهنتاتة فطحنوهم طحنا وانكسرت شَوْكَة الفنش بهلاكهم إِذْ كَانَ اعْتِمَاده ومعوله عَلَيْهِم
وأسرعت خيل من الْعَرَب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور فأعلموه بِأَن الله تَعَالَى قد فل شَوْكَة الْعَدو وأشرف على الإنهزام فَعندهَا أَمر الْمَنْصُور بالرايات فَرفعت وبالطبول فقرعت وَرفع الْمُسلمُونَ أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ وتسابقوا لقِتَال الْعَدو وخفقت البنود وزحف أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحْو المعركة(2/190)
فَلم يرع الفنش اللعين إِلَّا الرَّايَات قد أَقبلت تخفق من كل جِهَة وزعقات الطبول والأبواق وأصوات الْمُجَاهدين بِالتَّكْبِيرِ قد زلزلت الأَرْض فَقَالَ مَا هَذَا فَقيل هَذَا الْمَنْصُور قد أقبل فِي جَيْشه وَمَا قَاتلك سَائِر الْيَوْم إِلَّا طلائعه ومقدماته فقذف الله الرعب فِي قلبه وخشعت نفوس جموعه وزلزلت بهم الأَرْض زِلْزَالهَا فَوَلوا الأدبار لَا يلوون على شَيْء وأسعدهم يَوْمئِذٍ من وجد فِي فرسه بَقِيَّة تنجيه وأتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأحاط بَعضهم بحصن الْأَرَاك يظنون أَن الفنش قد تحصن بِهِ وَكَانَ عَدو الله قد دخل على بَاب وَخرج على آخر من النَّاحِيَة الْأُخْرَى واقتحم الْمُسلمُونَ الْحصن عنْوَة وأضرموا النيرَان فِي أبوابه واحتووا على جَمِيع مَا كَانَ فِيهِ وَفِي محلّة الْعَدو من الْأَمْوَال والذخائر وأنواع السِّلَاح الَّتِي تفوت الْحصْر
وقلا ابْن خلدون كَانَ مُلُوك الفرنج الَّذين قَاتلُوا الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة ابْن أذفونش وَابْن الرند والبيبوج قَالَ واعتصم فَلهم بحصن الأرك وَكَانُوا خَمْسَة آلَاف من زعمائهم فاستنزلهم الْمَنْصُور على حكمه حَتَّى فودي بهم عَددهمْ من الْمُسلمين
وَفِي القرطاس أَن عدد أُسَارَى الأرك كَانُوا أَرْبَعَة وَعشْرين ألفا فَمن عَلَيْهِم الْمَنْصُور وأطلقهم قَالَ فعز ذَلِك على جَمِيع الْمُوَحِّدين وَسَائِر الْمُسلمين وعدت للمنصور سقطة من سقطات الْمُلُوك
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت الدائرة يَوْم الأرك أَولا على الْمُسلمين ثمَّ عَادَتْ على الفرنج وانهزموا أقبح هزيمَة وَكَانَ عدد من قتل من الفرنج أَزِيد من مائَة ألف وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم شَيْئا كثيرا فَمن الْخيام مائَة ألف وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن الْخَيل سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَقيل ثَمَانُون ألفا وَمن البغال مائَة ألف وَمن الْحمير أَرْبَعمِائَة ألف
قَالَ فِي نفح الطّيب جَاءَ بهَا الْكفَّار لحمل أثقالهم لأَنهم لَا إبل لَهُم قَالَ وَأما الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال فَلَا تحصى وَبيع الْأَسير بدرهم وَالسيف(2/191)
بِنصْف دِرْهَم وَالْفرس بِخَمْسَة دَرَاهِم وَالْحمار بدرهم وَقسم الْمَنْصُور الْغَنَائِم بَين الْمُسلمين بِمُقْتَضى الشَّرْع كَذَا فِي نفح الطّيب
وَفِي كَامِل ابْن الْأَثِير أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله نَادَى فِي عسكره من غنم شَيْئا فَهُوَ لَهُ سوى السِّلَاح وأحصى مَا حمل إِلَيْهِ مِنْهُ فَكَانَ زِيَادَة على سبعين ألف لبس وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو عشْرين ألفا
ثمَّ تقدم الْمَنْصُور بجيوشه إِلَى بِلَاد الفرنج وَأخذ يخرب المدن والقرى وَيفتح الْحُصُون والمعاقل وَيقتل وَيَسْبِي ويأسر حَتَّى وصل إِلَى جبل سُلَيْمَان ثمَّ ثنى عنانة رَاجعا وَقد أمتلأت أَيدي الْمُسلمين من الْغَنَائِم وَلم يُعَارضهُ من الفرنج معَارض حَتَّى وصل الى إشبيلية فاستقر بهَا
وَأما الفنش فَإِنَّهُ لما انهزم وصل إِلَى طليطلة فِي أَسْوَأ حَال فحلق رَأسه ولحيته ونكس صليبه وَركب حمارا وَأقسم أَن لَا يركب فرسا وَلَا بغلا وَلَا ينَام على فرَاش وَلَا يقرب النِّسَاء حَتَّى تنصر النَّصْرَانِيَّة فَجمع جموعا عَظِيمَة وَبلغ الْخَبَر بذلك الى الْمَنْصُور فَبعث الى بِلَاد الْمغرب مراكش وَغَيرهَا يستنفر النَّاس من غير إِكْرَاه فَأَتَاهُ من المتطوعة والمرتزقة جمع عَظِيم ثمَّ نَهَضَ إِلَى الفنش فَالْتَقوا فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَانْهَزَمَ الفرنج هزيمَة قبيحة وغنم الْمُسلمُونَ مَا مَعَهم من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب وَغَيرهَا
ثمَّ تقدم الْمَنْصُور إِلَى مَدِينَة طليطلة فحاصرها وقاتلها قتالا شَدِيدا وَقطع أشجارها وَشن الغارات على مَا حولهَا من الْبِلَاد وَفتح فِيهَا عدَّة حصون مثل قلعة رَبَاح ووادي الْحِجَارَة ومجريط وجبل سُلَيْمَان وأفليج وَكثير من أحواز طليطلة
ثمَّ ارتحل عَن طليطلة إِلَى مَدِينَة طلمنكة فَدَخلَهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل الْمُقَاتلَة وسبا النِّسَاء والذرية وغنم أموالها وَهدم أسوارها وأضرم النيرَان فِي جوانبها وَتركهَا قاعا صفصفا
وثنى عنانه إِلَى إشبيلية فَدَخلَهَا غرَّة صفر سنة ثَلَاث وَتِسْعين(2/192)
وَخَمْسمِائة فَرفع إِلَيْهِ فِي القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد مقالات نسب فِيهَا إِلَى الْمَرَض فِي دينه ومعتقده وَكَانَ أحد فلاسفة الْإِسْلَام وَرُبمَا ألفى بَعْضهَا بِخَط يَده فحبس ثمَّ أطلق وأشخص إِلَى مراكش وَبهَا كَانَت وَفَاته رَحمَه الله
ثمَّ خرج الْمَنْصُور من إشبيلة غازيا بِلَاد ابْن أذفونش فَسَار حَتَّى احتل بِسَاحَة طليطلة وبغله أَن صَاحب برشلونة قد أمد ابْن أذفونش بعساكره وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا بحصن مجريط فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَلما أطل عَلَيْهِم انفضت جموع ابْن أذفونش من قبل الْقِتَال ثمَّ انكفأ الْمَنْصُور رَاجعا إِلَى إشبيلية
ثمَّ اجْتمع مُلُوك الفرنج وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وصالحهم على مُدَّة خمس سِنِين بعد أَن كَانَ عَازِمًا على الِامْتِنَاع مرِيدا لملازمة الْجِهَاد إِلَى أَن يفرغ مِنْهُم فَأَتَاهُ خبر عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَأَنه دخل إفريقية وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا ففت ذَلِك فِي عزمه وصالحهم على الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا
وَعقد على إشبيلية للسَّيِّد أبي زيد بن الْخَلِيفَة وعَلى مَدِينَة بطليوس للسَّيِّد أبي الرّبيع ابْن السَّيِّد أبي حَفْص وعَلى الْمغرب للسَّيِّد أبي عبد الله بن السَّيِّد أبي حَفْص ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب فوصل إِلَى مراكش فِي شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَفِي نفح الطّيب أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور لما حاصر طليطلة وضيق عَلَيْهَا وَلم يبْق إِلَّا فتحهَا خرجت إِلَيْهِ وَالِدَة الأذفونش وَبنَاته ونساؤه وبكين بَين يَدَيْهِ وسألنه إبْقَاء الْبَلَد عَلَيْهِنَّ فرق لَهُنَّ وَمن عَلَيْهِنَّ بِهِ ووهب لَهُنَّ من الْأَمْوَال والجواهر مَا جلّ وردهن مكرمات وَعَفا بعد الْقُدْرَة وَالله تَعَالَى أعلم
لَطِيفَة قَالَ الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي رَحمَه الله فِي كتاب الفتوحات المكية مَا نَصه وَلَقَد كنت بِمَدِينَة فاس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وعساكر الْمُوَحِّدين قد عبرت إِلَى الأندلس لقِتَال الْعَدو حِين(2/193)
استفحل أمره على الْإِسْلَام فَلَقِيت رجلا من رجال الله وَلَا أزكى على الله أحدا وَكَانَ من أخص أودائي فَسَأَلَنِي مَا تَقول فِي هَذَا الْجَيْش هَل يفتح لَهُ وينصر فِي هَذِه السّنة أم لَا فَقلت لَهُ مَا عنْدك فِي ذَلِك فَقَالَ إِن الله تَعَالَى قد ذكره فِي كِتَابه ووعد نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الْفَتْح فِي هَذِه السّنة وَبشر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي كِتَابه الَّذِي أنزلهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} فموضع الْبُشْرَى فتحا مُبينًا من غير تكْرَار الْألف فَإِنَّهَا لإِطْلَاق الْوُقُوف فِي تَمام الْآيَة فَانْظُر أعدادها بِحِسَاب الْجمل فَنَظَرت فَوجدت الْفَتْح يكون فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ثمَّ جزت إِلَى الأندلس وَقد نصر الله جَيش الْمُسلمين وَفتح الله بِهِ قلعة رَبَاح والأركو وكركرا وَمَا انضاف إِلَى هَذِه القلاع من الولايات هَذَا عاينته من الْفَتْح مِمَّن هَذِه صفته فَأخذت للفاء ثَمَانِينَ وللتاء أَرْبَعمِائَة وللحاء الْمُهْملَة ثَمَانِيَة وللألف وَاحِد وللميم أَرْبَعِينَ وللباء اثْنَيْنِ وللياء عشرَة وللنون خمسين وَأما الْألف فقد أَخذ عَددهَا وَكَانَ الْمَجْمُوع إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهِي سنو الْهِجْرَة إِلَى هَذِه السّنة فَهَذَا من الْفَتْح الإلهي لهَذَا الشَّخْص انْتهى
ذكر مَا شيده الْمَنْصُور رَحمَه الله من الْآثَار بالمغرب والأندلس
كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله لما عزم عى الْمسير إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد أوصى إِلَى نوابه ووكلائه بِبِنَاء قَصَبَة مراكش والاعتناء بتشييد قُصُورهَا فَمن آثاره الْبَاقِيَة بهَا إِلَى الْآن بَابهَا الْمَعْرُوف بِبَاب أكناور وَلَا مزِيد على ضخامته وارتفاعه وَأمرهمْ بِبِنَاء الْجَامِع الْأَعْظَم بهَا الْمَنْسُوب إِلَيْهِ إِلَى الْيَوْم وتشييد مناره الماثل بِهِ ومنار جَامع الكتبيين الْمَضْرُوب بِهِ الْمثل فِي الِارْتفَاع وَعظم الهيكل قَالَ ابْن سعيد طول صومعة الكتبيين بمراكش مائَة ذِرَاع وَعشر أَذْرع(2/194)
وَلما اجتاز الْمَنْصُور فِي سَفَره هَذَا بِأَرْض سلا أَمر أَيْضا بِبِنَاء مَدِينَة رِبَاط الْفَتْح فأسست سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وأكمل سورها وَركبت أَبْوَابهَا وَأمر بِبِنَاء الْمَسْجِد الْأَعْظَم بطالعة سلا ومدرسة الجوفية مِنْهُ قَالَ صَاحب الرَّوْض المعطار كَانَ يعْمل فِي بنائِهِ وَنقل حجارته وترابه سَبْعمِائة أَسِير من أُسَارَى الفرنج فِي قيودها وَأمر بِبِنَاء جَامع حسان ومناره الْأَعْظَم الْمَضْرُوب بِهِ الْمثل فِي الضخامة وَحسن الصَّنْعَة قَالُوا وَلم يتم بِنَاؤُه
وَلما فرغ الْمَنْصُور من وقْعَة الأرك واحتل بِمَدِينَة إشبيلية أَخذ فِي إتْمَام بِنَاء جَامعهَا الْأَعْظَم وتشييد مناره المشاكل للمنارين الْمُتَقَدِّمين فَهُوَ ثَالِثَة الأثافي بِالنِّسْبَةِ لَهما بل قيل إِنَّه لَيْسَ فِي بِلَاد الْإِسْلَام منار أعظم مِنْهُ وَعمل لهَذَا الْمنَار تفافيح من أَمْلَح مَا يكون قَالَ فِي القرطاس بلغت من الْعظم إِلَى مَا لَا يعرف قدره إِلَّا أَن الْوُسْطَى مِنْهَا لم تدخل على بَاب الْمنَار حَتَّى قلعت الرخامة من أَسْفَله وزنة العمود الَّذِي ركبت عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ ربعا من الْحَدِيد وَكَانَ الَّذِي صنعها ورفعها فِي أَعلَى الْمنَار الْمَذْكُور الْمعلم أَبُو اللَّيْث الصّقليّ وموهت تِلْكَ التفافيح بِمِائَة ألف دِينَار ذَهَبا
وَلما كمل جَامع إشبيلية وَصلى فِيهِ أَمر بِبِنَاء حصن البرج على وَادي إشبيلية وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار عبد الْمُؤمن أَنه هدم أسوار مَدِينَة فاس وَأَن حافده الْمَنْصُور هَذَا شرع فِي بنائها ثمَّ أتمهَا ابْنه النَّاصِر من بعده
وَلما رَجَعَ الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش وجد كل مَا أَمر بِهِ من البناءات قد تمّ على أكمل حَال واحسنه مثل القصبة والقصور وَالْجَامِع والصوامع وَأنْفق على ذَلِك كُله من أَخْمَاس الْغَنَائِم وَكَانَ قد تغير على الوكلاء والصناع الَّذين توَلّوا بِنَاء ذَلِك لِأَنَّهُ سعى إِلَيْهِ بِأَنَّهُم احتجنوا الْأَمْوَال وصنعوا للجامع سَبْعَة أَبْوَاب على عدد أَبْوَاب جَهَنَّم فَلَمَّا دخله الْمَنْصُور وَتَطوف بِهِ أعجبه فَسَأَلَ عَن عدد أبوابه فَقيل إِنَّهَا سَبْعَة أَبْوَاب وَالثَّامِن هُوَ الَّذِي دخل مِنْهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الْمَنْصُور عِنْد ذَلِك لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن(2/195)
وَاتخذ الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي جَامعه هَذَا لمصلاه بِهِ مَقْصُورَة عَجِيبَة كَانَت مُدبرَة بحيل هندسية بِحَيْثُ تنصب إِذا اسْتَقر الْمَنْصُور ووزراؤه بمصلاه مِنْهَا وتختفي إِذا انفصلوا عَنْهَا
حكى الشريف الغرناطي شَارِح الحازمين عَن الْكَاتِب البارع أبي الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش أحد كتاب الْمَنْصُور قَالَ كَانَت لأبي بكر يحيى بن مجير الشَّاعِر الْمَشْهُور وفادة على الْمَنْصُور فِي كل سنة فصادف فِي إِحْدَى وفاداته فَرَاغه من إِحْدَاث الْمَقْصُورَة الَّتِي كَانَ أحدثها بجامعه الْمُتَّصِل بقصره فِي حَضْرَة مراكش وَكَانَت قد وضعت على حركات هندسية ترْتَفع بهَا لِخُرُوجِهِ وتنخفض لدُخُوله وَكَانَ جَمِيع من بِبَاب الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ من الشُّعَرَاء والأدباء قد نظموا أشعارا أنشدوه إِيَّاهَا فِي ذَلِك فَلم يزِيدُوا على شكره وتجزيته الْخَيْر فِيمَا جدد من معالم الدّين وآثاره وَلم يكن فيهم من تصدى لوصف الْحَال حَتَّى قدم أَبُو بكر بن مجير فَأَنْشد قصيدته الَّتِي أَولهَا
(أعلمتني ألقِي عَصا التسيار ... فِي بَلْدَة لَيست بدار قَرَار)
وَاسْتمرّ فِيهَا حَتَّى ألم بِذكر الْمَقْصُورَة فَقَالَ يصفها
(طورا تكون بِمن حوته مُحِيطَة ... فَكَأَنَّهَا سور من الأسوار)
(وَتَكون حينا عَنْهُم مخبوءة ... فَكَأَنَّهَا سر من الْأَسْرَار)
(وَكَأَنَّهَا علمت مقادير الورى ... فتصرفت لَهُم على مِقْدَار)
(فَإِذا أحست بِالْإِمَامِ يزورها ... فِي قومه قَامَت إِلَى الزوار)
(يَبْدُو فتبدو ثمَّ تخفى بعده ... كتكون الهلالات للأقمار)
فطرب الْمَنْصُور لسماعها وارتاح لاختراعها
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب وَقد بطلت حركات هَذِه(2/196)
الْمَقْصُورَة الْآن وَبقيت آثارهما حَسْبَمَا شاهدته سنة عشر وَألف وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا
وَمن شعر ابْن مجير يصف خيل الْمَنْصُور من قصيدة مدحه بهَا قَوْله
(لَهُ حلبة الْخَيل الْعتاق كَأَنَّهَا ... نشاوى تهادت تطلب العزف والقصفا)
(عرائس أغنتها الحجول عَن الحلى ... فَلم تَبْغِ خلخالا وَلَا التسمت وَقفا)
(فَمن يقق كالطرس تحسب أَنه ... وَإِن جردوه فِي ملاءته التقا)
(وأبلق أعْطى اللَّيْل نصف إهابه ... وغار عَلَيْهِ الصُّبْح فاحتبس النصفا)
(وَورد تغشى جلده شفق الدجا ... فَإذْ حازه دلى لَهُ الذيل والعرفا)
(وأشقر مج الراح صرفا أديمه ... وأصفر لم يمسح بهَا جلده صرفا)
(وَأَشْهَب قضى الْأَدِيم مدثر ... عَلَيْهِ خطوط غير مفهمة حرفا)
(كَمَا خطخط الراهي بمهرق كَاتب ... فجر عَلَيْهِ ذيله وَهُوَ مَا جَفا)
(تهب على الْأَعْدَاء مِنْهَا عواصف ... ستنسف أَرض الْمُشْركين بهَا نسفا)
(ترى كل طرف كالغزال فتمتري ... أظبيا ترى تَحت الْعَجَاجَة أم طرفا)
(وَقد كَانَ فِي الْبَيْدَاء يألف سربه ... فربته مهْرا وَهِي تحسبه خشفا)
(تنَاوله لفظ الْجواد لِأَنَّهُ ... إِذا مَا أردْت الجري أعطاكه ضعفا)
وَمِمَّا مدح بِهِ الْمَنْصُور رَحمَه الله قَول بعض شعراء عصره حِين طلب مِنْهُ الفنش الصُّلْح فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ
(أهل بَان يسْعَى إِلَيْهِ ويرتجى ... ويزار من أقْصَى الْبِلَاد على الرجا)
(من قد غَدا بالمكرمات مُقَلدًا ... وموشحا ومختما ومتوجا)
(عمرت مقامات الْمُلُوك بِذكرِهِ ... وتعطرت مِنْهُ الرِّيَاح تأرجا)
وَدخل عَلَيْهِ الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الكانمي الْأسود الشَّاعِر فأنشده
(أَزَال حجابه عني وعيني ... ترَاهُ من المهابة فِي حجاب)
(وقربني تفضله وَلَكِن ... بَعدت مهابة عِنْد اقترابي)
وكانم بِكَسْر النُّون جنس من السودَان وهم بَنو عَم تكروره وَلَيْسَ(2/197)
اسمهما للانتساب لأَب أَو أم وَإِنَّمَا كانم اسْم بَلْدَة بنواحي غانة فَسُمي هَذَا الْجِنْس بهَا وَكَذَلِكَ تكرور اسْم للْأَرْض الَّتِي هم بهَا فسموا بهَا وَالله أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار الْمَنْصُور وَسيرَته
قَالَ ابْن أبي زرع كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله ذَا رَأْي وحزم وَدين وسياسة قَالَ وَهُوَ أول من كتب الْعَلامَة بِيَدِهِ مُلُوك الْمُوَحِّدين الْحَمد لله وَحده فَجرى عَمَلهم على ذَلِك وَقد تقدم لنا أَن ذَلِك كَانَ فِي دولة أَبِيه فَالله أعلم
وَهُوَ وَاسِطَة عقد مُلُوك الْمُوَحِّدين الَّذِي ضخم الدولة وشرفها وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام دعة وَأمن ورخاء ورفاهية وبهجة صنع الله عز وَجل فِي أَيَّامه الْأَمْن بالمشرق وَالْمغْرب والأندلس فَكَانَت الظعينة تخرج من بِلَاد نول فتنتهي إِلَى برقة وَحدهَا لَا ترى من يعرض لَهَا وَلَا من يسومها بِسوء ضبط الثغور وحصن الْبِلَاد وَبنى الْمَسَاجِد والمدارس فِي بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس وَبنى الموستانات للمرضى والمجانين وأجرى عَلَيْهِم الْإِنْفَاق فِي جَمِيع أَعماله وأجرى المرتبات على الْفُقَهَاء وطلبة الْعلم كل على قدر مرتبته وَبنى الصوامع والقناطر وحفر الْآبَار للْمَاء فِي الْبَريَّة وَاتخذ عَلَيْهَا الْمنَازل من السوس الْأَقْصَى إِلَى سويقة بن مصكوك فَكَانَت أَيَّامه زِينَة للدهر وشرفا لِلْإِسْلَامِ وَأَهله
وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله صافي السمرَة جدا إِلَى الطول مَا هُوَ جميل الْوَجْه أفوه أعين شَدِيد الْكحل ضخم الْأَعْضَاء جوهري الصَّوْت جزيل الْأَلْفَاظ من أصدق النَّاس لهجة وَأَحْسَنهمْ حَدِيثا وَأَكْثَرهم إِصَابَة بِالظَّنِّ مجريا للأمور ولي وزارة أَبِيه فبحث عَن الْأَحْوَال بحثا شافيا وطالع مَقَاصِد الْعمَّال والولاة وَغَيرهم مطالعة أفادته معرفَة جزئيات الْأُمُور فَلَمَّا مَاتَ أَبوهُ اجْتمع رَأْي أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين(2/198)
على تَقْدِيمه فَقَامَ بِالْأَمر أحسن قيام وَرفع راية الْجِهَاد وَنصب ميزَان الْعدْل وَبسط أَحْكَام النَّاس على حَقِيقَة الشَّرْع وَنظر فِي أُمُور الدّين والورع وَأقَام الْحُدُود حَتَّى فِي أَهله وعشيرته الْأَقْرَبين كَمَا أَقَامَهَا فِي سَائِر النَّاس أَجْمَعِينَ فاستقامت الْأَحْوَال فِي أَيَّامه وعظمت الفتوحات وَكَانَ قد أَمر لأوّل دولته بِقِرَاءَة الْبَسْمَلَة فِي أول الْفَاتِحَة فِي الصَّلَوَات وَأرْسل بذلك إِلَى سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي فِي ملكه فَأجَاب قوم وَامْتنع آخَرُونَ وَكَانَ ملكا جوادا عادلا متمسكا بِالشَّرْعِ المطهر يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر كَمَا يَنْبَغِي من غير مُحَابَاة وَيُصلي بِالنَّاسِ الصَّلَوَات الْخمس ويلبس الصُّوف وَيقف للْمَرْأَة والضعيف وَيَأْخُذ لَهُم بِالْحَقِّ
قَالَ ابْن خلكان وَسمعت عَنهُ حِكَايَة يَلِيق أَن نذكرها هُنَا وَهِي أَن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر أبي حَفْص كَانَ قد تزوج أُخْت يَعْقُوب الْمَنْصُور فأقامت عِنْده ثمَّ جرت بَينهمَا منافرة فَجَاءَت إِلَى بَيت أَخِيهَا يَعْقُوب الْمَنْصُور فسير الشَّيْخ عبد الْوَاحِد فِي طلبَهَا فامتنعت عَلَيْهِ فَشكى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد ذَلِك إِلَى قَاضِي الْجَمَاعَة بمراكش وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن مَرْوَان فَاجْتمع القَاضِي الْمَذْكُور بأمير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَقَالَ لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد يطْلب أَهله فَسكت عَنهُ الْمَنْصُور وَمَضَت أَيَّام ثمَّ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد اجْتمع بِالْقَاضِي الْمَذْكُور فِي قصر الْمَنْصُور بمراكش وَقَالَ لَهُ أَنْت قَاضِي الْمُسلمين وَقد طلبت أَهلِي فَمَا جاؤوني فَاجْتمع القَاضِي بالمنصور وَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد قد طلب أَهله مرّة وَهَذِه الثَّانِيَة فَسكت الْمَنْصُور ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة لَقِي الشَّيْخ عبد الْوَاحِد القَاضِي بِالْقصرِ الْمَذْكُور فَقَالَ لَهُ يَا قَاضِي الْمُسلمين قد قلت لَك مرَّتَيْنِ وَهَذِه الثَّالِثَة أَنا أطلب أَهلِي وَقد مَنَعُونِي مِنْهُم فَاجْتمع القَاضِي بالمنصور وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن الشَّيْخ عبد الْوَاحِد قد تكَرر طلبه لأَهله فَأَما أَن تسير إِلَيْهِ أَهله وَإِمَّا أَن تعزلني عَن الْقَضَاء فَسكت(2/199)
الْمَنْصُور وَقيل أَنه قَالَ لَهُ يَا عبد الله مَا هَذَا إِلَّا جد كَبِير ثمَّ استدعى خَادِمًا وَأمره سرا بِأَن تحمل أهل الشَّيْخ عبد الْوَاحِد إِلَيْهِ فَحملت إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْيَوْم وَلم يتَغَيَّر على القَاضِي وَلَا قَالَ لَهُ شَيْئا يكرههُ وَتبع فِي ذَلِك حكم الشَّرْع المطهر وانقاد لأَمره وَهَذِه حَسَنَة تعد لَهُ وللقاضي أَيْضا فَإِنَّهُ بَالغ فِي إِقَامَة منار الشَّرْع وَالْعدْل
وَكَانَ الْمَنْصُور يشدد فِي إِلْزَام الرّعية بِإِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس وَقتل فِي بعض الأحيان على شرب الْخمر وَقتل الْعمَّال الَّذين تشكوهم الرعايا أَمر برفض فروع الْفِقْه وإحراق كتب الْمذَاهب وَأَن الْفُقَهَاء لَا يفتون إِلَّا من الْكتاب وَالسّنة النَّبَوِيَّة وَلَا يقلدون أحدا من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين بل تكون أحكامهم بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الْكتاب والْحَدِيث وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس
قَالَ ابْن خلكان وَلَقَد أدركنا جمَاعَة من مَشَايِخ الْمغرب وصلوا إِلَيْنَا وهم على ذَلِك الطَّرِيق مثل أبي الْخطاب بن دحْيَة وأخيه أبي عَمْرو ومحيي الدّين بن عَرَبِيّ نزيل دمشق وَغَيرهم وَكَانَ يُعَاقب على ترك الصَّلَوَات وَيَأْمُر بالنداء فِي الْأَسْوَاق بالمبادرة إِلَيْهَا فَمن غفل عَنْهَا أَو اشْتغل بمعيشته عزره تعزيرا بليغا
وَكَانَ قد عظم ملكه واتسعت دَائِرَة سلطنته حَتَّى أَنه لم يبْق بِجَمِيعِ أقطار بِلَاد الْمغرب من الْبَحْر الْمُحِيط إِلَى برقة إِلَّا من هُوَ فِي طَاعَته وداخل فِي ولَايَته إِلَى غير ذَلِك من جَزِيرَة الأندلس وَكَانَ محسنا محبا للْعُلَمَاء مقربا للأدباء مصغيا إِلَى الْمَدْح مثيبا عَلَيْهِ وَله ألف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد السَّلَام الجراوي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ صفوة الْأَدَب وديوان الْعَرَب فِي مُخْتَار الشّعْر وَهُوَ مَجْمُوع مليح أحسن فِي اخْتِيَاره كل الْإِحْسَان
وَكَانَ الْمَنْصُور يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن التوقيع وإجادته وَقد تقدم لنا مَا وَقع بِهِ على كتاب الفنش(2/200)
وَحكى ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل أَن الْمَنْصُور طلب يَوْمًا من قاضيه أَن يخْتَار لَهُ رجلَيْنِ لغرضين من تَعْلِيم ولد وَضبط أَمر فَعرفهُ برجلَيْن قَالَ فِي أَحدهمَا وَهُوَ بَحر فِي علمه وَقَالَ فِي الآخر وَهُوَ بر فِي دينه وَلما خرج الْمَنْصُور أحضرهما واختبرهما فقصرا بَين يَدَيْهِ وأكذبا الدَّعْوَى فَوَقع الْمَنْصُور على رقْعَة القَاضِي أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر قَالَ ابْن الْخَطِيب وَهَذَا من التوقيع العريق فِي الإجادة والصنعة
وَكَانَ مجْلِس الْمَنْصُور رَحمَه الله مجْلِس الْفُضَلَاء والأدباء وأرباب المعارف والفنون حكى أَبُو الْفضل التيفاشي قَالَ جرت مناظرة بَين يَدي ملك الْمغرب يَعْقُوب الْمَنْصُور وَكَانَت بَين الْفَقِيه أبي الْوَلِيد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد والرئيس الْوَزير أبي بكر بن زهر بِضَم الزَّاي وَكَانَ الأول قرطبيا وَالثَّانِي إشبيليا فَقَالَ ابْن رشد لِابْنِ زهر فِي تَفْضِيل قرطبة مَا أَدْرِي مَا تَقول غير أَنه إِذا مَاتَ عَالم بإشبيلية فَأُرِيد بيع كتبه حملت إِلَى قرطبة حَتَّى تبَاع فِيهَا وَإِن مَاتَ مطرب بقرطبة فَأُرِيد بيع آلاته حملت إِلَى إشبيلية
وَهَذَا الْوَزير ابْن زهر هُوَ أحد أَعْيَان وزراء الدولة الموحدية وَزِير للمنصور ولأبيه من قبله
قَالَ ابْن خلكان كَانَ ابْن زهر من أهل بَيت كلهم عُلَمَاء رُؤَسَاء حكماء وزراء نالوا الْمَرَاتِب وتقدموا عِنْد الْمُلُوك ونفذت أوامرهم وَكَانَ يتَكَرَّر وُرُوده على الحضرة بمراكش فيقيم بهَا وَيرجع إِلَى الأندلس وَمِمَّا قَالَه بمراكش يتشوق إِلَى ولد لَهُ صَغِير تَركه بإشبيلية
(ولى وَاحِد مثل فرخ القطا ... صَغِير تخلف قلبِي لَدَيْهِ)
(نأت عَنهُ دَاري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وَذَاكَ الْوَجِيه)
(تشوقني وتشوقته ... فيبكي عَليّ وأبكي عَلَيْهِ)(2/201)
(لقد تَعب الشوق مَا بَيْننَا ... فَمِنْهُ إِلَيّ ومني إِلَيْهِ)
قَالَ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب أَخْبرنِي الطَّبِيب الماهر الثِّقَة الصَّالح الْعَلامَة سَيِّدي أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْوَزير الغساني الأندلسي الأَصْل الفاسي المولد والنشأة حَكِيم حَضْرَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور بِاللَّه السَّعْدِيّ أَن ابْن زهر لما قَالَ هَذِه الأبيات وسمعها يَعْقُوب الْمَنْصُور أرسل المهندسين إِلَى إشبيلية يَعْنِي من غير علم من ابْن زهر وَأمرهمْ أَن يحيطوا علما ببيوت ابْن زهر وحارته ثمَّ يبنوا مثلهَا بِحَضْرَة مراكش فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ فِي أقرب مُدَّة وفرشها بِمثل فرشه وَجعل فِيهَا مثل آلاته ثمَّ أَمر بِنَقْل عِيَال ابْن زهر وَأَوْلَاده وحشمه وأسبابه إِلَى تِلْكَ الدَّار ثمَّ احتال عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى ذَلِك الْموضع فَرَآهُ أشبه شَيْء ببيوته وحارته فاحتار لذَلِك وَظن أَنه نَائِم وَأَن ذَلِك أَحْلَام فَقيل لَهُ ادخل الْبَيْت الَّذِي يشبه بَيْتك فدخله فَإِذا وَلَده الَّذِي يتشوق إِلَيْهِ يلْعَب فِي الْبَيْت فَحصل لَهُ من السرُور مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَلَا يعبر عَنهُ هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا
وَمن أطباء الْمَنْصُور الْوَزير الطَّبِيب الشهير أَبُو بكر بن طفيل من أهل وَادي آش كَانَ حاذقا بصناعة الطِّبّ والجراحات وَمن أطبائه أَيْضا الْحَفِيد بن رشد الْمُتَقَدّم الذّكر وَمن كِتَابه الْكَاتِب البارع أَبُو الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش الْقُرْطُبِيّ النشأة اليابوري الأَصْل والفقيه البارع أَبُو الْفضل بن طَاهِر من أهل بجاية وَمن الْفُقَهَاء الَّذين كَانُوا يجالسونه ويسامرونه الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْجد والفقيه القَاضِي أَبُو عبد الله بن الصَّقْر وَغَيرهم رحم الله الْجَمِيع(2/202)
وَفَاة يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله
قَالَ ابْن أبي زرع لما رَجَعَ الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش أَخذ الْبيعَة لوَلَده أبي عبد الله مُحَمَّد الملقب بالناصر لدين الله فَبَايعهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وَسَائِر أهل الْأَمْصَار والأقطار فَلَمَّا تمت الْبيعَة للناصر الْمَذْكُور وَجلسَ فِي مَحل الْخلَافَة وَجَرت الْأَحْكَام والأوامر باسمه وعَلى يَدَيْهِ فِي حَيَاة أَبِيه دخل الْمَنْصُور قصره فَلَزِمَهُ
وَقَالَ ابْن خلكان لما وصل الْمَنْصُور إِلَى مراكش يَعْنِي بعد قدومه من الأندلس أَمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السّفر للتوجه إِلَى بِلَاد إفريقية فَاجْتمع إِلَيْهِ مَشَايِخ الْمُوَحِّدين وَقَالُوا لَهُ يَا سيدنَا قد طَالَتْ غيبتنا بالأندلس فمنا من لَهُ خمس سِنِين وَغير ذَلِك فتنعم علينا بالمهلة هَذَا الْعَام وَتَكون الْحَرَكَة فِي أول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فأجابهم إِلَى سُؤَالهمْ وانتقل إِلَى مَدِينَة سلا وَشَاهد مَا فِيهَا من المنتزهات الْمعدة لَهُ
وَكَانَ قد بنى بِالْقربِ من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة مَدِينَة عَظِيمَة سَمَّاهَا رِبَاط الْفَتْح على هَيْئَة الْإسْكَنْدَريَّة فِي الإتساع وَحسن التَّقْسِيم وإتقان الْبناء وتحصينه وتحسينه وبناها على الْبَحْر الْمُحِيط الَّذِي هُنَاكَ وَهِي على نهر سلا مُقَابلَة لَهَا من الْبر القبلي واطاف تِلْكَ الْبِلَاد وتنزه فِيهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مراكش
قَالَ ابْن خلكان وَبعد هَذَا اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أمره فَمن النَّاس من يَقُول إِنَّه ترك مَا كَانَ فِيهِ وتجرد وساح فِي الأَرْض حَتَّى انْتهى إِلَى بِلَاد الشرق وَهُوَ مستخف لَا يعرف وَمَات خاملا وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه لما رَجَعَ إِلَى مراكش كَمَا ذَكرْنَاهُ توفّي فِي غرَّة جُمَادَى الأولى وَقيل فِي ربيع الْآخِرَة فِي سَابِع عشرَة وَقيل فِي غرَّة صفر وَلم ينْقل شَيْء من أَحْوَاله بعد ذَلِك إِلَى حِين وَفَاته وَقيل توفى بِمَدِينَة سلا
قَالَ ابْن خلكان ثمَّ حكى لي جمع كثير بِدِمَشْق أَن بِالْقربِ من(2/203)
المجدل البليدة الَّتِي من أَعمال الْبِقَاع العزيزي قَرْيَة يُقَال لَهُ حمارة وَإِلَى جَانبهَا مشْهد يعرف بِقَبْر الْأَمِير يَعْقُوب ملك الْمغرب وكل أهل تِلْكَ النواحي متفقون على ذَلِك وَلَيْسَ عِنْدهم فِيهِ خلاف وَهَذَا الْقَبْر بَينه وَبَين المجدل مِقْدَار فرسخين من جِهَتهَا الْقبلية بغرب قَالَ وَكَانَ أوصى أَن يدْفن على قَارِعَة الطَّرِيق ليترحم عَلَيْهِ من يمر بِهِ
قَالَ الْمقري فِي نفخ الطّيب هَذِه عامية لَا يتبتها عُلَمَاء الْمغرب وَسبب هَذِه الْمقَالة تولع الْعَامَّة بِهِ فكذبوا فِي مَوته وَقَالُوا إِنَّه ترك الْملك وحكوا مَا شاع إِلَى الْآن وذاع مِمَّا لَيْسَ لَهُ أصل ثمَّ نقل عَن الشريف الغرناطي مثل ذَلِك فَانْظُرْهُ
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن إِنْكَار مَا حَكَاهُ ابْن خلكان لَيْسَ بجيد وهب أَن أهل الْمغرب قَالُوا ذَلِك تولعا بِهِ فَمَا بَال أهل الْمشرق يتولعون بِهِ ويتخذون لَهُ المشهد ثمَّ يتَّفق كَبِيرهمْ وصغيرهم على أَنه قبر يَعْقُوب ملك الْمغرب من غير اصل وَلَا مُسْتَند هَذَا بعيد فِي الْعَادة بل لَا بُد أَن يكون لذَلِك أصل وَالله أعلم بحقيقته نعم مَا تزعمه عَامَّة الْمغرب فِي حمة أبي يَعْقُوب الَّتِي بِقرب مَدِينَة فاس أَنَّهَا منسوبة ليعقوب الْمَنْصُور هَذَا وَأَنه رصد لَهَا عفريتين يوقدان عَلَيْهَا إِلَى الْأَبَد وَأَن حرارة مَائِهَا بِسَبَب ذَلِك الإيقاد وَأَن الشِّفَاء الَّذِي حصل للمستحمين إِنَّمَا هُوَ ببركة يَعْقُوب الْمَنْصُور(2/204)
وَجعلُوا لَهُ زَوْجَة أَو بِنْتا اسْمهَا شافية اشتقاقا من لفظ الشِّفَاء الْحَاصِل بِتِلْكَ الْعين كُله بَاطِل وَإِنَّمَا حرارة الْعين لخاصية أودعها الله فِي أَصْلهَا ومنبعها وَكَذَا الشِّفَاء الْحَاصِل بهَا إِنَّمَا هُوَ بخاصية فِي ذَلِك المَاء ولعلها مَا فِيهِ من الكريتية فَإنَّا نرى أَصْحَاب الجرب يتلطخون بالكبريت المعالج فيشفون وَكم من عين على وَجه الأَرْض فِي الْمشرق وَالْمغْرب وبلاد الْمُسلمين وَالْكفَّار على هَذِه الْحَالة كَمَا أخبر بذلك غير وَاحِد
وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح الْحمة الْعين الحارة يستشفي بهَا الأعلاء والمرضى وَفِي الحَدِيث الْعَالم كالحمة اه وَمثله فِي الْقَامُوس بل ذكر فِيهِ مَدِينَة تفليس وَهِي قَصَبَة كرجستان عَلَيْهَا سوران قَالَ وحمامتها تنبع مَاء حارا بِغَيْر نَار
وَقد ذكر ابْن أبي زرع فِي القرطاس حمة أبي يَعْقُوب هَذِه وَذكر مَعهَا حمتين أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ وبالقرب أَيْضا من مَدِينَة فاس على ميسرَة أَرْبَعَة أَمْيَال مِنْهَا حمة عَظِيمَة تعرف بحمة خولان مَاؤُهَا فِي أَشد مَا يكون من السخونة وبالقرب أَيْضا مِنْهَا حمة وشنانة وحمة أبي يَعْقُوب وَهِي من الحمات الْمَشْهُورَة بالمغرب اه كَلَامه فقد ذكر أَبَا يَعْقُوب بِلَفْظ الكنية فَهُوَ غير يَعْقُوب الْمَنْصُور قطعا وَلَعَلَّه أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر الْآتِي ذكره فِي أَحْدَاث الْمِائَة السَّابِعَة
ولنرجع إِلَى الْكَلَام على وَفَاة الْمَنْصُور عِنْد عُلَمَاء الْمغرب فَنَقُول قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل توفّي يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحْمَة الله فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَدفن بِمَجْلِس سكناهُ من مراكش وَكذب الْعَامَّة بِمَوْتِهِ ولوعا وتمسكا بِهِ فَادعوا أَنه ساح فِي الأَرْض اه
وَقَالَ ابْن أبي زرع لما حضرت الْمَنْصُور الْوَفَاة قَالَ مَا نَدِمت على شَيْء فعلته فِي خلافتي إِلَّا على ثَلَاث وددت أَنِّي لم أَفعَلهَا الأولى إِدْخَال الْعَرَب من إفريقية إِلَى الْمغرب مَعَ إِنِّي أعلم أَنهم أهل فَسَاد وَالثَّانيَِة بِنَاء(2/205)
رِبَاط الْفَتْح أنفقت فِيهِ بَيت المَال وَهُوَ بعد لَا يعمر وَالثَّالِثَة إطلاقي أُسَارَى الأرك وَلَا بُد لَهُم أَن يطلبوا بثأرهم
قلت مَا ذكره رَحمَه الله فِي رِبَاط الْفَتْح من أَنه لَا يعمر قد تخلف ظَنّه فِيهِ فَهُوَ الْيَوْم من أعمر أَمْصَار الْمغرب وأحضرها حرسه الله وحرس سَائِر أَمْصَار الْمُسلمين من آفَاق النُّقْصَان وطوارق الْحدثَان
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول فِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة هدم عَليّ بن عِيسَى بن مَيْمُون وَكَانَ من رُؤَسَاء الْبَحْر فِي دولة اللمتونيين صنم قادس وقادس هَذِه هِيَ الجزيرة الْمُسَمَّاة فِي لِسَان الْعَامَّة الْيَوْم بقالص وَكَانَ بهَا صنم عظميم على صُورَة رجل وَبِيَدِهِ مِفْتَاح يُقَال إِن حكماء اليونان انخذوه طلسما هُنَاكَ كَانَ من خاصيته أَن يمْنَع هبوب الرّيح فِيمَا جاوره من الْبَحْر الْمُحِيط فَكَانَت السفن لَا تجْرِي هُنَاكَ على مَا قيل فَلَمَّا ثار ابْن مَيْمُون الْمَذْكُور بالجزيرة الْمَذْكُورَة ظن أَن تَحت الصَّنَم مَالا فهدمه فَلم يجد شَيْئا
وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة توفّي أَبُو عَليّ مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم المساطسي دَفِين آزمور وَكَانَ كَبِير الشَّأْن من أهل الْعلم وَالْعَمَل وَمن اشياخ أبي شُعَيْب السارية
وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة توفّي الإِمَام الْهمام الْحَافِظ البارع أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الْيحصبِي قَالَ ابْن خلكان توفّي بمراكش يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل فِي شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بِبَاب آيلان دَاخل الْمَدِينَة وَذَلِكَ فِي دولة عبد الْمُؤمن بن عَليّ
وَفِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حرزهم يَنْتَهِي نسبه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ من أهل مَدِينَة فاس وَبهَا توفّي أخريات شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ فَقِيها زاهدا صوفيا قَالَ أَبُو الْحسن(2/206)
الْمَذْكُور اعتكفت على قِرَاءَة الْإِحْيَاء سنة فجردت الْمسَائِل الَّتِي تنتقد عَلَيْهِ وعزمت على إحراق الْكتاب فَنمت فَرَأَيْت قَائِلا يَقُول جردوه واضربوه حد الْفِرْيَة فَضربت ثَمَانِينَ سَوْطًا فَلَمَّا استيقظت جعلت أقلب ظَهْري وَوجدت الْأَلَم الشَّديد من ذَلِك فتبت إِلَى الله ثمَّ تَأَمَّلت تِلْكَ الْمسَائِل فَوَجَدتهَا مُوَافقَة للْكتاب وَالسّنة وَقد تقدم لنا مَا اتّفق لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي جَنَازَة أبي الْحَكِيم بن برجان
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو شُعَيْب أَيُّوب بن سعيد الصنهاجي الملقب بِسَارِيَة من أهل مَدِينَة آزمور وَبهَا توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ شَدِيد المراقبة والورع وَالْخَوْف من الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا وقف فِي صلَاته يُطِيل الْقيام فَلذَلِك لقب بالسارية ونقلت عَنهُ فِي الْوَرع وَالْخَوْف حكايات انْظُر التشوف
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ كنت زرت ضريح هَذَا الشَّيْخ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ومدحته بقصيدة سلكت فِيهَا مَسْلَك الأدباء من النّسَب وَغَيره وأنشدتها عِنْد ضريحه فَرَأَيْت لَهَا بركَة وَالْحَمْد لله فَأَحْبَبْت أَن أذكرها هُنَا وَهِي هَذِه
(لله يَا ربع مَا هيجت من شجن ... على الْفُؤَاد وَمن ضنى على الْبدن)
(وقفت فِيك ركابا طالما وقفت ... على الْقُصُور على الأطلال والدمن)
(أَيَّام فِيك حسان مَا أشبههَا ... بالشمس حسنا وَلَا فِي اللين بالغصن)
(وفيك أَسد من الْمُلُوك عَادَتهَا ... بذل النضار وصون الْبيض والحصن)
(يحْمُونَ مِنْك عراصا كنت أعهدها ... مأوى السرُور فَعَادَت موقف الْحزن)
(عاثت يَد الدَّهْر فيهم مُنْذُ أزمنة ... كَأَن بأسهم الْمَحْذُور لم يكن)
(قوم عرفت نداهم قبل معرفتي ... نَفسِي وفاجأني فِي المهد بِالْمَتْنِ)
(ومذ ترعرعت لم أعلق بغيرهم ... حَتَّى كَأَنِّي رضعت الْحبّ فِي اللَّبن)
(قضيت حق الشَّبَاب فِي مَنَازِلهمْ ... أَيَّام عَيْش لنا أحلى من الوسن)(2/207)
(من ظن بالدهر خيرا فَهُوَ منخدع ... فوده هدنة تبنى على دخن)
(لَا أنتحي منهلا إِلَّا شرفت بِهِ ... وَلَا احل مَكَانا لَيْسَ بالخشن)
(وَلَا أصَاحب من هَذَا الورى بشرا ... إِلَّا حصلت على رزق من الإحن)
(حَتَّى توهمت أنني جنيت لَهُم ... حَرْب البسوس وأنني أَبُو الْفِتَن)
(وَمَا لذِي الْفضل من ذَنْب يلام بِهِ ... سوى فضيلته فِي دهره الزَّمن)
(فعد يَا قلب عَن شكوى أضيق بهَا ... ذرعا فشكواك لي ضرب من الوهن)
(وَلست أَحسب هَذَا الدَّهْر مرعويا ... وَلَو تعلّقت مِنْهُ بِابْن ذِي يزن)
(حلا لقد علقت يَدي بِمن علقت ... أَيدي العفاة بِهِ فِي الشَّام واليمن)
(بأعظم النَّاس منزلا ومنزلة ... وأسمح النَّاس كفا بالندى الهتن)
(وأشمخ النَّاس قدرا فِي الورى وَعلا ... وَأحكم النَّاس للفروض وَالسّنَن)
(ذَاك الْوَلِيّ الَّذِي كل الْأَنَام غَدا ... يَتْلُو مناقبه فِي السِّرّ والعلن)
(أَبُو شُعَيْب الَّذِي من بحره انشعبت ... جداول الْيمن فِي الْأَحْيَاء والمدن)
(بدر غَدا فِي سَمَاء الْمجد مكتملا ... بِهِ علا ذكر آزمور فِي الوطن)
(أَرض إِذا الضَّرع المحروم يممها ... ألفى بهَا بدل الأهلين والسكن)
(أود من أجل ثاويها حجارتها ... وَاجعَل الترب لي مسكا بِلَا ثمن)
(كَيفَ لَا تطبي قلبِي منَازِل من ... بِهِ أكون من الْأَحْدَاث فِي جنن)
(مجلي الغياهب مبذول الْمَوَاهِب مقفو ... الْمَذْهَب بالجنيد والقرني)
(بَحر الْحَقِيقَة والغوث الَّذِي لهجت ... بِهِ الْقَبَائِل فِي الْمقَام والظعن)
(مَا زَالَ يرقى الذرى من كل صَالِحَة ... حَتَّى اكتسى شهرة النيرَان فِي القنن)
(يَا خير من أمه الْعَافِي ولاذ بِهِ ... أهل الجرائم والأوزار والمحن)
(إِنِّي خدمتك فِي شعر عنيت بِهِ ... وَلَيْسَ لَوْلَا حلاك الزهر بالْحسنِ)
(أَشْكُو إِلَيْك سقاما أَنْت مبرئه ... وَلست أَرْجُو سواك مِنْهُ ينعشني)
(وَشد أزري فَإِنِّي كنت مُعْتَقدًا ... إِذا بلغتك قدت الدَّهْر بالرسن)
(وَانْظُر بِفَضْلِك من وافك معتفيا ... فَإِن نظرت فَكل الْخَيْر يشملني)
(وَأعظم السُّؤَال مِنْك النَّفس تصلحها ... وطهر الْقلب مَا لأمراض والدرن)
(وامنحه نورا وتوفيقا وَمَعْرِفَة ... أرى بهَا علمي وَالْبر فِي قرن)(2/208)
(فجد بِمَا رمت من جداوك يَا أملي ... فبحر جودك عذب لَيْسَ بالأجن)
(سقى ضريحك غيث مَا يزَال بِهِ ... بُسْتَان أنسك وَهُوَ مُورق الفنن)
(بجاه أفضل خلق الله كلهم ... مُحَمَّد ذِي المزايا الغر والمنن)
(عَلَيْهِ أزكى صَلَاة الله مَا تليت ... صحف وَمَا نسج القريض ذُو لسن)
(والآل والصحب والأزواج قاطبة ... وَمن قفا نهجهم فِي كل مَا زمن)
وَاعْلَم أَن التَّعَلُّق بأولياء الله رَضِي الله عَنْهُم يجب أَن يكون مَعَ استحضار أَن الله تَعَالَى هُوَ الْمَطْلُوب على الْحَقِيقَة وَالْفَاعِل للأشياء كلهَا لَا معبود غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَإِنَّمَا التَّمَسُّك بِأَهْل الله لأجل التَّبَرُّك بهم والاستشفاع بهم إِلَى الله تَعَالَى لأَنهم أَبْوَاب الله والدالون عَلَيْهِ نفعنا الله بهم وأفاض علينا من مددهم آمين
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن قرقول صَاحب كتاب مطالع الْأَنْوَار الَّذِي وَضعه على مِثَال كتاب مَشَارِق الْأَنْوَار للْقَاضِي عِيَاض كَانَ من الأفاضل وَصَحب جمَاعَة من عُلَمَاء الأندلس وَتُوفِّي بِمَدِينَة فاس يَوْم الْجُمُعَة أول وَقت الْعَصْر سادس شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ قد صلى الْجُمُعَة فِي الْجَامِع ذَلِك الْيَوْم فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة تلى سُورَة الْإِخْلَاص وَجعل يكررها بِسُرْعَة ثمَّ تشهد ثَلَاث مَرَّات وَسقط على وَجهه سَاجِدا فَوَقع مَيتا رَحمَه الله
وَفِي سنة سبعين بعْدهَا توفّي الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بالمتيطي ومتيطية قَرْيَة بأحواز الجزيرة الخضراء وَهُوَ الموثق الْمَشْهُور لَازم بِمَدِينَة فاس خَاله أَبَا الْحجَّاج المتيطي وَبَين يَدَيْهِ تعلم عقد الشُّرُوط وَله كتاب كَبِير فِي الوثائق سَمَّاهُ النِّهَايَة والتمام فِي معرفَة الوثائق وَالْأَحْكَام ثمَّ انْتقل إِلَى سبتة فاستوطنها ولازم مجَالِس علمائها بالمناظرة والتفقه وَمهر فِي كِتَابه الشُّرُوط واشتغل بهَا حَتَّى لم يكن فِي وقته أقدر مِنْهُ عَلَيْهَا وَكَانَ لَهُ فِي السجلات الْيَد الطُّولى وطبع(2/209)
عَلَيْهَا حَتَّى كَاد طبعه لَا يواتيه فِي سواهَا بل كَانَ طبعه فِي ذَلِك أَكثر من فقهه ثمَّ ولي الْقَضَاء بشريش وأصابه خضر لَازمه نَحْو السنتين ثمَّ توفّي مستهل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة توفّي وحيد عصره وأعجوبة دهره الْوَلِيّ الْعَارِف الشَّيْخ أَبُو يعزى يلنور بن مَيْمُون قَالَ قوم إِنَّه من هزميرة إيرجان وَقيل من بني صبيح من هسكورة مَاتَ وَقد نَيف على الْمِائَة بِنَحْوِ الثَّلَاثِينَ سنة وَدفن بجبل إيرجان فِي أَوَائِل شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ يَقُول رَأَيْت أَخْبَار الصَّالِحين من زمن أويس الْقَرنِي إِلَى زَمَاننَا هَذَا فَمَا رَأَيْت أعجب من أَخْبَار أبي يعزى قَالَ وَنظرت فِي كتب التصوف فَمَا رَأَيْت مثل الْإِحْيَاء للغزالي وَكَانَ لِبَاس الشَّيْخ أبي يعزى برنسا أسود مرقوعا إِلَى أَسْفَل من رُكْبَتَيْهِ وجبة من تليس مطرف وشاشية من عزف وَكَانَ يتعيش من نَبَات الأَرْض وَلَا يُشَارك النَّاس فِي مَعَايشهمْ وَكَانَ طَويلا رَقِيقا أسود اللَّوْن وَكَانَ إِذا جنه اللَّيْل دخل غيضة كَثِيرَة السبَاع يتعبد فِيهَا فَإِذا قرب الْفجْر أعلم أَصْحَابه بِهِ وأحواله رَضِي الله عَنهُ وكراماته كَثِيرَة
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف أَبُو الْحسن عَليّ بن خلف بن غَالب الْقرشِي دَفِين قصر كتامة نَشأ بشلب من بِلَاد الأندلس وَقَرَأَ بقرطبة وَاسْتقر آخرا بقصر كتامة وَبِه توفّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَقيل إِن وَفَاته كَانَت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ قبل هَذَا التَّارِيخ وَالله أعلم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مُتَمَكنًا فِي عُلُوم الْقَوْم وَكَانَ الْأَوْلِيَاء يحْضرُون مَجْلِسه وَهُوَ من تلامذة أبي الْعَبَّاس بن العريف الْمُتَقَدّم الذّكر
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله التاودي الْعلم من أهل مَدِينَة فاس وَمن أَصْحَاب الشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ يعلم الصّبيان فَيَأْخُذ الْأجر من أَوْلَاد الْأَغْنِيَاء فَيردهُ على أَوْلَاد الْفُقَرَاء وَمَات بفاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَهَذِه النِّسْبَة إِلَى بني تاودي وَهِي قَبيلَة بِقرب فاس(2/210)
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا توفّي الإِمَام الْمَشْهُور أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد السُّهيْلي الْخَثْعَمِي صَاحب كتاب الرَّوْض الْأنف وَغَيره من التآليف الحسان وَصَاحب الأبيات الْمَشْهُورَة فِي الدُّعَاء وَهِي
(يَا من يرى مَا فِي الضَّمِير وَيسمع ... أَنْت الْمعد لكل مَا يتَوَقَّع)
(يَا من يُرْجَى للشدائد كلهَا ... يَا من إِلَيْهِ المشتكى والمفزع)
(يَا من خَزَائِن رزقه فِي قَول كن ... أمنن فَإِن الْخَيْر عنْدك أجمع)
(مَا لي سوى فقري إِلَيْك وَسِيلَة ... فبالافتقار إِلَيْك فقري أدفَع)
(مَا لي سوى قرعي لبابك حِيلَة ... فلئن رددت فَأَي بَاب أَقرع)
(وَمن الَّذِي أَدْعُو وأهتف باسمه ... إِن كَانَ فضلك عَن فقيرك يمْنَع)
(حاشى لجودك أَن تقنط عَاصِيا ... الْفضل أجزل والمواهب أوسع)
كَانَ ببلدته سُهَيْل وَهِي قَرْيَة بِالْقربِ من مالقة يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حَتَّى نمى خَبره إِلَى السُّلْطَان بمراكش فَطَلَبه إِلَيْهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَأَقْبل بِوَجْهِهِ غَايَة الإقبال عَلَيْهِ فَأَقَامَ بهَا نَحْو ثَلَاث سِنِين ثمَّ توفّي بهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن وَقت الظّهْر خَارج بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش وَكَانَ رَحمَه الله ضريرا نفعنا الله تَعَالَى بِهِ
وَفِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة توفّي ولي الله تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الْحَلِيم بن عبد الله المراسي الْمَعْرُوف بالغماد من صلحاء سلا كَانَ رَحمَه الله عبدا صَالحا يَدُور على الْمكَاتب ويستوهب الدُّعَاء من الصّبيان ويبكي على نَفسه وَله كرامات وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ الْمَذْكُور وقبره مَعْرُوف ملاصق لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَم قرب بَابه الْكَبِير من جِهَة الْقبْلَة
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عَليّ الْمُبْتَلى الْمَعْدُود فِي سَبْعَة رجال من صلحاء مراكش كَانَ رَضِي الله(2/211)
عَنهُ كَبِير الشَّأْن فَاضلا صَابِرًا رَاضِيا على ربه فِيمَا ابتلاه بِهِ من دَاء الجذم سقط بعد جسده ذَات يَوْم فَصنعَ طَعَاما كثيرا للْفُقَرَاء شكرا لله تَعَالَى على ذَلِك وَكَانَ يسكن بحارة الجذمي العتيقة قبلي مراكش وَبهَا مَاتَ فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب أغمات عِنْد رابطة الْغَار واحتفل النَّاس لجنازته رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مَدين شُعَيْب بن الْحسن الْأنْصَارِيّ الْوَلِيّ الْكَبِير الْمَشْهُور أَصله من حصن قطنيانة من عمل إشبيلية ثمَّ انْتقل إِلَى العدوة فَأخذ عَن الشَّيْخ أبي الْحسن بن حزرهم وَعَن الشَّيْخ أبي يعزى وَبِه انْتفع وَعَلِيهِ تخرج وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ من العارفين الراسخين قد خَاضَ من الْأَحْوَال بحارا وَمن المعارف أسرارا وجال فِي حَدَاثَة سنه فِي بِلَاد الْمغرب من سبتة ومراكش وفاس ولازم بفاس الشَّيْخ ابْن حرزهم كَمَا قُلْنَا ثمَّ سمع بِخَبَر الشَّيْخ أبي يعزى فقصده وَأخذ عَنهُ وَظَهَرت عَلَيْهِ بركته
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَدين لما قدمت فاسا لقِيت بهَا الْأَشْيَاخ فَسمِعت رِعَايَة المحاسبي على أبي الْحسن بن حرزهم وَكتاب السّنَن لِلتِّرْمِذِي على أبي الْحسن بن غَالب وَأخذت طَريقَة التصوف على أبي عبد الله الدقاق وَأبي الْحسن السلاوي قَالَ وَكنت أَزور الشَّيْخ أبي يعزى مرَارًا فَقَالَ لي جمَاعَة من الْفُقَهَاء المجاورين لأبي يعزى قد ثبتَتْ عندنَا ولَايَة أبي يعزى وَلَكنَّا نشاهده يلمس بطُون النِّسَاء وصدورهن ويتفل عَلَيْهِنَّ فيبرأن وَنحن نرى أَن لمسهن حرَام فَإِن تكلمنا فِي هَذَا هلكنا وَإِن سكتنا حرنا فَقلت لَهُم أَرَأَيْتُم لَو أَن ابْنة أحدكُم أَو أُخْته أَصَابَهَا دَاء لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الزَّوْج وَلم يُوجد من يعانيه إِلَّا طَبِيب يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ ألستم تجيزون ذَلِك مَعَ أَن دواءه مظنون ودواء أبي يعزى أَنْتُم على يَقِين مِنْهُ فَبلغ كَلَامي أبي يعزى فَاسْتَحْسَنَهُ(2/212)
قَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ خرج الشَّيْخ أَبُو مَدين ألف تلميذ وجاءه رجل ليعترض عَلَيْهِ فَجَلَسَ فِي الْحلقَة فَقَالَ لَهُ أَبُو مَدين لم جِئْت قَالَ لأقتبس من نورك فَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي فِي كمك فَقَالَ لَهُ مصحف فَقَالَ لَهُ افتحه واقرأ أول سطر يخرج لَك فَفعل فَخرج لَهُ قَوْله تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين} فَقَالَ لَهُ ابو مَدين أما يَكْفِيك هَذَا فاعترف الرجل وَتَابَ وكراماته رَضِي الله عَنهُ كَثِيرَة
وَكَانَ استوطن فِي آخر عمره بجاية وَكثر عَلَيْهِ النَّاس وَظَهَرت على يَده كرامات فوشى بِهِ بعض عُلَمَاء الظَّاهِر عِنْد يَعْقُوب الْمَنْصُور وَقَالَ لَهُ إِنَّا نَخَاف مِنْهُ على دولتكم فَإِن لَهُ شبها بِالْإِمَامِ الْمهْدي وَأَتْبَاعه كَثِيرُونَ بِكُل بلد فَوَقع مِنْهُ ذَلِك فَكتب لصَاحب بجاية يَبْعَثهُ إِلَيْهِ وأوصاه بالاعتناء بِهِ وَأَن يحملهُ إِلَيْهِ خير محمل فَفعل
وَلما كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ بِالطَّرِيقِ مرض مرض مَوته فَلَمَّا وصل وَادي يسر قرب تلمسان اشْتَدَّ بِهِ مَرضه فنزلوا بِهِ هُنَالك فَكَانَ آخر كَلَامه الله الْحق فَتوفي وَدفن برابطة الْعباد قرب تلمسان وَسمع أهل تلمسان بجنازته فحضروها وَكَانَت من الْمشَاهد الْعَظِيمَة
وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَهْدَوِيّ صَاحب كتاب الْهِدَايَة أَقَامَ نَحْو أَرْبَعِينَ سنة لم تفته صَلَاة فِي جمَاعَة إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا لعذر عاقه عَن ذَلِك دخل مَدِينَة فاس وَمَعَهُ نَحْو من أَرْبَعِينَ ألفا من المَال فَمَا زَالَ ينفقها فِي سَبِيل الْخَيْر حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا دَار سكناهُ فَبَاعَهَا من بعض أهل فاس وأعمره المُشْتَرِي لَهَا فَلَمَّا خرجت مِنْهَا جنَازَته حازها المُشْتَرِي الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة
وَاعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن الشَّيْخ أَبَا مَدين كَانَ تلميذا للشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يعزى تلميذا للشَّيْخ أبي شُعَيْب السارية وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو(2/213)
شُعَيْب تلميذا للشَّيْخ ابي ينور الدكالي نفعنا الله بجميعهم وأفاض علينا من مددهم آمين
ولنرجع إِلَى أَخْبَار الدولة الموحدية فَنَقُول
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بِاللَّه
بُويِعَ لأبي عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله فِي حَيَاة وَالِده يَعْقُوب الْمَنْصُور ثمَّ جددت لَهُ الْبيعَة بعد وَفَاته وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ أَبوهُ فَأَقَامَ بمراكش بَقِيَّة ربيع الأول وربيع الثَّانِي ثمَّ نَهَضَ فِي فاتح جُمَادَى الأولى إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة السّنة الْمَذْكُورَة
ثمَّ غزا جبال غمارة من أجل علودان الغماري الثائر بهَا فَفَتحهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فَأَتمَّ بِنَاء سورها الَّذِي كَانَ خربه عبد الْمُؤمن وَبنى قصبتها ورتب امورها وَأقَام بهَا إِلَى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَعَاد إِلَى مراكش وَأقَام بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
غَزْو النَّاصِر بِلَاد إفريقية وَولَايَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن أبي حَفْص عَلَيْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما هلك الْمَنْصُور رَحمَه الله قوي أَمر يحيى بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بِابْن غانية بإفريقية وَاسْتولى على أَعمال قراقوش الْغَزِّي صَاحب طرابلس وعَلى المهدية وتغلب على بِلَاد الجريد ثمَّ نَازل تونس سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وافتتحها عنْوَة لأربعة أشهر من حصارها فِي ختام الْمِائَة السَّادِسَة وَقبض على السَّيِّد أبي زيد وَابْنه وَمن كَانَ مَعَه من الْمُوَحِّدين(2/214)
وطالب أهل تونس بِالنَّفَقَةِ الَّتِي أنْفق وَبسط عَلَيْهِم الْعَذَاب حَتَّى هلك فِي الامتحان كثير من بيوتاتهم ثمَّ دخل فِي دَعوته أهل القيروان وَغَيرهَا من الْبِلَاد وانتظمت لَهُ أَعمال إفريقية وَفرق الْعمَّال وخطب للخليفة العباسي
واتصل بالناصر وَهُوَ بمراكش هَذَا كُله فامتعض لذَلِك وشاور الْمُوَحِّدين فِي أَمر إفريقية فأشاروا عَلَيْهِ بمسالمة ابْن غانية وَأَشَارَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص بالنهوض إِلَيْهَا والمدافعة عَنْهَا فَعمل على رَأْيه ونهض إِلَيْهَا سنة سِتّمائَة وَبعث الأسطول فِي الْبَحْر لنظر يحيى بن ابي زَكَرِيَّا الهزرجي
واتصل ذَلِك بِابْن غانية فَبعث ذخائره وَحرمه إِلَى المهدية مَعَ عَليّ بن الغاني من قرَابَته وولاه عَلَيْهَا
وَلما قرب النَّاصِر من إفريقية خرج ابْن غانية من تونس إِلَى القيروان ثمَّ إِلَى قفصة وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْعَرَب وَأَعْطوهُ الرهائن على المظاهرة والدفاع وَسَار إِلَى حمامة مطماطة ثمَّ إِلَى جبل بني دمر فتحصن بِهِ
وَوصل النَّاصِر إِلَى تونس ثمَّ سَار فِي اتِّبَاع ابْن غانية إِلَى قفصة ثمَّ إِلَى قابس ثمَّ عَاد إِلَى المهدية فَعَسْكَرَ عَلَيْهَا وَاتخذ الْآلَة لحصارها وسرح الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد لقِتَال ابْن غانية فِي أَرْبَعَة آلَاف من الْمُوَحِّدين سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة فَلَقِيَهُ بجبل تاجورة من نواحي قابس وأوقع بِهِ وَقتل أَخَاهُ جبارَة بن إِسْحَاق واستنفذ السَّيِّد أَبَا زيد من معتقله
وَأما النَّاصِر فَإِنَّهُ اسْتمرّ محاصرا للمهدية وَبهَا يَوْمئِذٍ عَليّ بن الغاني وَكَانَ يدعى بالحاج وَكَانَ شهما مُحَاربًا فَامْتنعَ على النَّاصِر وَأبْدى من مكايد الْحَرْب وخداعه مَا يقصر عَنهُ الْوَصْف وأشجى الْمُوَحِّدين وَبَالغ فِي نكايتهم فَكَانُوا يسمونه الْحَاج الْكَافِر ثمَّ نزل على الْأمان وَأحسن إِلَيْهِ النَّاصِر إحسانا تَاما وَسَماهُ بالحاج الْكَافِي بِالْيَاءِ بدل الرَّاء لما رأى من مُرَاعَاة(2/215)
لصَاحبه وَحسن عَهده مَعَه وَاسْتشْهدَ الْحَاج الْكَافِي هَذَا فِي وقْعَة الْعقَاب الْآتِيَة
وَكَانَ فتح المهدية فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَولى النَّاصِر عَلَيْهَا مُحَمَّد بن يغمور الهرغي وارتحل عَنْهَا فِي عشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة فَدخل تونس غرَّة رَجَب وَأقَام بهَا بَقِيَّة السّنة وَأكْثر الَّذِي بعْدهَا
وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة ثَلَاث وسِتمِائَة أشاع النَّاصِر الْحَرَكَة إِلَى الْمغرب واستخلف على إفريقية ثقته ووزيره الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاني جد الْمُلُوك الحفصيين بعد مُرَاجعَة وَامْتِنَاع
قَالَ ابْن خلدون امْتنع الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد إِلَى أَن بعث إِلَيْهِ النَّاصِر فِي ذَلِك بِابْنِهِ يُوسُف فأكبر مَجِيئه وأذعن وَيُقَال إِن النَّاصِر قَالَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّد أَنْت تعلم مَا تجشمناه من المشاق والصوائر فِي استنقاذ هَذَا الْقطر وَلَا آمن عَلَيْهِ من عَدو متوثب وَلَا يقوم بحمايته إِلَّا أَنا أَو أَنْت فَامْضِ إِلَى حفظ ممالكنا المغربية وأقيم أَنا أَو قُم أَنْت وارجع أَنا فقنعه الْحيَاء حِينَئِذٍ وأذعن للإقامة وَاشْترط شُرُوطه الْمَعْرُوفَة وَهِي أَن يُقيم ثَلَاث سِنِين ريثما تترتب الْأَحْوَال ثمَّ يعود إِلَى وَطنه وَأَن يحكمه النَّاصِر فِيمَن يحْبسهُ مَعَه من الْجند ويرضاه من أهل الْكِفَايَة وَأَن لَا يتعقب أمره فِي ولَايَة وَلَا عزل فَقبل النَّاصِر شُرُوطه
وَلما عزم النَّاصِر على النهوض إِلَى الْمغرب خرج إِلَيْهِ أهل تونس رافعي أَصْوَاتهم بَين يَدَيْهِ إشفاقا من عود ابْن غانية إِلَيْهِم فاستدعى وُجُوههم وكلمهم بِنَفسِهِ وَقَالَ إِنَّا قد اخترنا لكم من يقوم مقامنا فِيكُم وآثرناكم بِهِ على شدَّة حاجتنا إِلَيْهِ وَهُوَ فلَان فيباشر النَّاس بولايته وشيع النَّاصِر إِلَى باجة وَرجع واليا على جَمِيع بِلَاد إفريقية واستقل بأمرها ونهيها
فَمن هُنَا ورثت الْمُلُوك الحفصيون سلطنة تونس وإفريقية وقفل النَّاصِر(2/216)
إِلَى الْمغرب فَدخل مراكش فِي ربيع سنة أَربع وسِتمِائَة وَلما اسْتَقر بالحضرة وفدت عَلَيْهِ الْوُفُود وهنأته الشُّعَرَاء بِالْفَتْح فَكَانَ من ذَلِك مَا أنْشدهُ ابْن مرج الْكحل وَهُوَ قَوْله
(وَلما توالى الْفَتْح من كل وجهة ... وَلم تبلغ الأوهام فِي الْوَصْف حَده)
(تركنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لشكره ... بِمَا أودع السِّرّ الإلهي عِنْده) (فَلَا نعْمَة إِلَّا تُؤَدّى حُقُوقهَا ... علامته بِالْحَمْد لله وَحده)
فَاسْتحْسن الْكتاب مِنْهُ ذَلِك وَوَقع أحسن موقع وَأَشَارَ بذلك إِلَى الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة عِنْد الْمُوَحِّدين فَإِنَّهَا كَانَت أَن يكْتب السُّلْطَان بِيَدِهِ بِخَط غليظ فِي رَأس المنشور الْحَمد لله وَحده وَقد تقدم ذَلِك وَالله أعلم
فتح جَزِيرَة ميورقة
كَانَت جَزِيرَة ميورقة لبني غانية المسوفيين من عهد عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني وَكَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور قد بعث إِلَيْهَا أسطوله مرَارًا فامتنعت عَلَيْهِ وَلما ولي ابْنه النَّاصِر وغزا إفريقية وَجه إِلَيْهَا من ثغر الجزائر أسطولا مَعَ عَمه السَّيِّد أبي الْعَلَاء وَالشَّيْخ أبي سعيد بن أبي حَفْص فنازلوها ثمَّ اقتحموها عنْوَة وَقتلُوا صَاحبهَا عبد الله بن إِسْحَاق المسوفي
وَانْصَرف السَّيِّد إِلَى مراكش بعد أَن ولي عبد الله بن طاع الله الكومي ووفد أَهلهَا على النَّاصِر فَأكْرم وفادتهم وَولي الْقَضَاء عَلَيْهِم الْفَقِيه الْجَلِيل الْمُحدث أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بِابْن حوط الله ذكره ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة فَقَالَ كَانَ مَشْهُورا بِالْعقلِ وَالْفضل مُعظما عِنْد الْمُلُوك مَعْلُوم الْقدر لديهم يخْطب فِي مجَالِس الْأُمَرَاء والمحافل الجمهورية مقدما فِي ذَلِك ذَا بلاغة وفصاحة إِلَى أبعد مضمار ولي قَضَاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسلا وميورقة فتظاهر بِالْعَدْلِ(2/217)
وَعرف بِمَا أبطن من الدّين وَالْفضل وَكَانَ من الْعلمَاء العاملين مجانبا لأهل الْبدع والأهواء بارع الْخط حسن التَّقْيِيد إِلَى غير ذَلِك
ثمَّ ولى النَّاصِر على ميورقة عَمه السَّيِّد أَبَا زيد وَجعل ابْن طاع الله على قيادة الْبَحْر وَبعد السَّيِّد أبي زيد وَليهَا السَّيِّد أَبُو عبد الله بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن ثمَّ أَبُو يحيى بن عَليّ بن أبي عمرَان التينمللي وَمن يَده أَخذهَا النَّصَارَى سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما
ثورة ابْن الْفرس وَمَا كَانَ من أمره
كَانَ عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن الْفرس من طبقَة الْعلمَاء بالأندلس وَيعرف بِالْمهْرِ وَحضر مجْلِس يَعْقُوب الْمَنْصُور فِي بعض الْأَيَّام وَتكلم بِمَا خشِي عاقبته فِي عقده فَخرج من الْمجْلس واختفى مُدَّة ثمَّ القحطاني المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يخرج رجل من قحطان يَسُوق النَّاس بعصاه يملأها عدلا كَمَا ملئت جورا الحَدِيث وَكَانَ مِمَّا نسب إِلَيْهِ من الشّعْر قَوْله
(قولا لأبناء الْمُؤمن بن عَليّ ... تأهبوا لوُقُوع الْحَادِث الجلل)
(قد جَاءَ سيد قحطان وعالمها ... ومنتهى القَوْل والغلاب للدول)
(وَالنَّاس طوع عَصَاهُ وَهُوَ سائقهم ... بِالْأَمر وَالنَّهْي بَحر الْعلم وَالْعَمَل)
(وَبَادرُوا أمره فَالله ناصره ... وَالله خَادع أهل الزيغ والميل)
فَبعث النَّاصِر إِلَيْهِ الجيوش فهزموه وَقتل وسيق رَأسه إِلَى مراكش فنصب بهَا وسكنت الْفِتْنَة
وَقد ثار أَيْضا فِي سنة سِتّمائَة رجل من آل الْبَيْت من العبيديين واسْمه مُحَمَّد بن عبد الله بن العاضد وَهَذَا العاضد هُوَ آخر خلفاء الشِّيعَة بِمصْر فثار حافده مُحَمَّد بن عبد الله الْمَذْكُور بجبال ورغة من أحواز فاس فظفر بِهِ(2/218)
وَقتل وعلق رَأسه بِبَاب الشَّرِيعَة أحد أَبْوَاب فاس وأحرق جسده فِي وسط الْبَاب الْمَذْكُور وَركبت مصارعه فَسُمي الْبَاب بَاب المحروق بعد أَن كَانَ يُسمى بَاب الشَّرِيعَة
ثمَّ فِي سنة عشر وسِتمِائَة ثار ولد هَذَا المحروق بجبال غمارة وَادّعى أَنه الفاطمي وَتَبعهُ خلق كثير من أهل الْجَبَل والبادية فَبعث إِلَيْهِ النَّاصِر جَيْشًا فظفر بِهِ وَقتل
وَفِي سنة إِحْدَى وسِتمِائَة بنى عَامل الرِّيف من قبل النَّاصِر واسْمه يعِيش سور بادس ولمديه ومليلية حياطة وتحصينا من فَجْأَة الْعَدو
وَفِي سنة أَربع وسِتمِائَة أَمر النَّاصِر بتجديد سور مَدِينَة وَجدّة وإصلاحها فشرع فِي ذَلِك فِي فاتح رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة
وفيهَا أَيْضا أَمر النَّاصِر بِبِنَاء دَار الْوضُوء والسقاية بِإِزَاءِ جَامع الأندلس بفاس فبنيت وجلب إِلَيْهَا المَاء من الْعين الَّتِي خَارج بَاب الْحَدِيد وَأمر بِبِنَاء الْبَاب الْكَبِير المدرج الَّذِي بحصن الْجَامِع الْمَذْكُور وَأنْفق فِي ذَلِك كُله من بَيت المَال
وفيهَا أَيْضا أَمر بِبِنَاء مصلى الْقرَوِيين وَأمر أَن لَا يصلى بمصلى الأندلس فَأَقَامَ النَّاس يصلونَ بعدوة الْقرَوِيين ثَلَاث سِنِين ثمَّ عَادوا يصلونَ بالأندلس والقرويين مَعًا كَمَا كَانُوا أَولا بعد أَن شهد أَنَّهَا قديمَة
وَفِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة نَهَضَ النَّاصِر من فاس إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ(2/219)
غَزْوَة الْعقَاب الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين
ثمَّ اتَّصَلت الْأَخْبَار بالناصر وَهُوَ بمراكش أَن الفنش لَعنه الله قد استطال على ثغور الْمُسلمين بالأندلس وَأَنه يُغير على قراها وينهب الْأَمْوَال وَيَسْبِي النِّسَاء والذرية فأهمه ذَلِك وأقلقه وَكتب إِلَى الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية يستشيره فِي الْغَزْو فَأبى عَلَيْهِ فخالفه وَأخذ فِي الْحَرَكَة للْجِهَاد
وَكَانَ النَّاصِر معجبا بِرَأْيهِ مستبدا بأموره فَفرق الْأَمْوَال على القواد والأجناد وَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب وبلاد الْقبْلَة يستنفر الْمُسلمين لغزو الْكفَّار فَأَجَابَهُ خلق كثير وألزم كل قَبيلَة من قبائل الْعَرَب بِحِصَّة من الْخَيل وَالرجل تخرج للْجِهَاد فتقدمت عَلَيْهِ الجيوش من سَائِر الأقطار وتسارع النَّاس إِلَيْهِ خفافا وثقالا من الْبَوَادِي والأمصار
فَلَمَّا تكاملت لَدَيْهِ الحشود وتوافت بِحَضْرَتِهِ الْجنُود خرج من مراكش فِي تَاسِع عشر شعْبَان سنة سبع وسِتمِائَة فَانْتهى إِلَى قصر الْمجَاز فَأَقَامَ بِهِ وَشرع فِي إجَازَة الجيوش من أَوَائِل شَوَّال إِلَى أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَتَلقاهُ هُنَالك قواد الأندلس وفقهاؤها ورؤساؤها وَأقَام بطريف ثَلَاثًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى إشبيلية فِي أُمَم لَا تحصى وجيوش لَا تستقصى قد مَلَأت السهل والوعر
حكى بعض الثِّقَات من مؤرخي الْمغرب أَنه اجْتمع مَعَ النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة من أهل الْمغرب والأندلس سِتّمائَة ألف مقَاتل وَكَانَ النَّاصِر رَحمَه الله قد أعجبه مَا رأى من كَثْرَة جُنُوده وأيقن بالظفر فقسم النَّاس على خمس فرق فَجعل الْعَرَب فرقة وزناتة وصنهاجة والمصامدة وغمارة وَسَائِر أَصْنَاف قبائل الْمغرب فرقة وَجعل المتطوعة فرقة وَجعل جند الأندلس فرقة والموحدين فرقة وَأمر كل فرقة أَن تنزل نَاحيَة واهتزت جَمِيع بِلَاد(2/220)
الفرنج لجوازه وَتمكن رعبه فِي قُلُوبهم فَأخذُوا فِي تحصين بِلَادهمْ وإخلاء مَا قرب من الْمُسلمين من قراهم وحصونهم وَكتب إِلَيْهِ أَكثر أمرائهم يسألونه السّلم وَيطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو ووفد عَلَيْهِ مِنْهُم ملك ينبلونة مستسلما خاضعا طَالبا للصلح فَيُقَال إِنَّه قدم بَين يَدَيْهِ كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كتبه إِلَى هِرقل ملك الرّوم يستشفع بِهِ وَقد كَانَ هَذَا الْكتاب وَقع إِلَيْهِ وراثة من بعض سلفه فاحتفل النَّاصِر لقدومه وصف لَهُ الجيوش من بَاب مَدِينَة قرمونة إِلَى بَاب إشبيلية أَرْبَعِينَ ميلًا ثمَّ عقد لَهُ الصُّلْح مَا دَامَت دولة الْمُوَحِّدين وَصَرفه إِلَى بِلَاده مكرما مسعفا بِجَمِيعِ مطالبه
وَعند ابْن خلدون أَن الَّذِي وَفد على النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة هُوَ البيبوج أحد الْمُلُوك الثَّلَاثَة الَّذين شهدُوا وقْعَة الْأَرَاك قَالَ وَهُوَ الَّذِي مكر بالناصر يَوْم الْعقَاب قدم عَلَيْهِ وَأظْهر لَهُ التنصح وبذل لَهُ أَمْوَالًا ثمَّ غدر بِهِ وجر عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَالله أعلم
ثمَّ خرج النَّاصِر من إشبيلية غازيا بِلَاد قشتالة فِي أَوَائِل صفر سنة ثَمَان وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل حصن سلبطرة وَهُوَ حصن منيع وضع على قمة جبل وَقد تعلق بِأَكْنَافِ السَّحَاب لَيْسَ لَهُ مَسْلَك إِلَّا من طَرِيق وَاحِد فِي مضائق وأوعار فَنزل عَلَيْهِ لناصر وأدار بِهِ الجيوش وَنصب عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ منجنيقا فهتك أرباضه وَلم يقدر مِنْهُ على شَيْء
قَالُوا وَكَانَ وزيره أَبُو سعيد بن جَامع قد تمكن من النَّاصِر فأقصى شُيُوخ الْمُوَحِّدين وأعيانهم وَذَوي الحنكة والرأي مِنْهُم عَن بساطه وَانْفَرَدَ هُوَ بِهِ فَكَانَ يُشِير على النَّاصِر فِي غزوته هَذِه بآراء كَانَت سَبَب الضعْف والوهن وجلبت الكرة على الْمُسلمين من ذَلِك أَن النَّاصِر لما أعياه أَمر الْحصن عزم على النهوض عَنهُ إِلَى غَيره فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْن جَامع بِأَن لَا يتجاوزه حَتَّى يَفْتَحهُ فَيُقَال إِنَّه أَقَامَ على ذَلِك الْحصن ثَمَانِيَة اشهر فنيت فِيهَا أزواد النَّاس وَقلت علوفاتهم وكلت عزائمهم وفسدت نياتهم وانقطعت الأمداد عَن(2/221)
الْمحلة فغلت بهَا الأسعار وَدخل فصل الشتَاء فَاشْتَدَّ الْبرد وَأصَاب الْمُسلمين كل ضرّ وَيُقَال إِنَّه من طول مقَام النَّاصِر على ذَلِك الْحصن عشش الخطاف فِي جَانب خبائه وباض وأفرخ وطارت فِرَاخه وَهُوَ مُقيم على حَاله
واتصل بالفنش لَعنه الله مَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُسلمين من الضجر وَقلة الْمَادَّة وتشوش البواطن وَاخْتِلَاف الرَّأْي فاغتنم الفرصة وَبعث الحاشرين فِي مدائنه ودعا كل من قدر على حمل السِّلَاح من رَعيته فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَا لَا حصر لَهُ
ثمَّ خَالف النَّاصِر إِلَى قلعة ريَاح فنازلها وَبهَا يَوْمئِذٍ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن قادس من قواد الأندلس وزعمائها كَانَ قد ترَتّب فِي ذَلِك الْحصن فِي جمَاعَة من الْخَيل لحمايته وَضَبطه فحاصره الفنش وَبَالغ فِي التَّضْيِيق عَلَيْهِ فَكَانَ ابْن قادس يكْتب لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر يُعلمهُ بِحَالهِ ويستمده على عدوه وَهُوَ على حصن سلبطرة فَكَانَ الْوَزير ابْن جَامع إِذا وصلت إِلَيْهِ كتب ابْن قادس أخفاها عَن النَّاصِر لِئَلَّا يرحل عَن الْحصن قبل فَتحه فَلَمَّا طَال الْحصار على ابْن قادس وفنى مَا عِنْده من الأقوات وَالسِّلَاح ويئس من إمداد النَّاصِر إِيَّاه وخشي على من فِي الْحصن من النِّسَاء والذرية صَالح الفنش على تَسْلِيم الْحصن لَهُ وَخُرُوج الْمُسلمين آمِنين على أنفسهم فَفعل وَاسْتولى الفنش على قلعة رَبَاح
وَسَار ابْن قادس إِلَى النَّاصِر ليجتمع بِهِ ويعلمه بِالْأَمر على وَجهه وَسَار مَعَه صهر لَهُ بعد أَن عزم ابْن قادس عَلَيْهِ أَن يرجع فَأبى وَقَالَ إِن قتلت قتلت مَعَك وَلما وصل إِلَى الْوَزير ابْن جَامع أَمر بحبسه وَحبس صهره مَعَه ثمَّ دخل على النَّاصِر فَقَالَ لَهُ إِن ابْن قادس قد دفع الْحصن إِلَى الْعَدو ثمَّ قدم عَلَيْك وَأَرَادَ الدُّخُول عَلَيْك
وَكَانَ النَّاصِر قد تغير بَاطِنه على أهل الأندلس واتهمهم بكتمان أَمر الْعَدو عَنهُ حِين كَانَ بمراكش فَلَمَّا قدم ابْن قادس فِي هَذِه الْمرة وَقَالَ لَهُ ابْن(2/222)
جَامع مَا قَالَ أَمر بقتْله هُوَ وصهره قطعا بِالرِّمَاحِ رحمهمَا الله
فحقدت جيوش الأندلس على ابْن جَامع وفسدت نياتهم على النَّاصِر وأحس ابْن جَامع بذلك فَأمر بإحضار قوادهم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ اعتزلوا جَيش الْمُوَحِّدين فَلَا حَاجَة لنا بكم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} وسننظر بعد هَذَا فِي أَمر كل فَاجر
وَلما علم النَّاصِر بِحَال الفنش وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْقُوَّة وَكَثْرَة الجموع واستيلائه على قلعة ريَاح الَّتِي هِيَ أمنع ثغور الْمُسلمين شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب حَتَّى مرض من شدَّة الوجد ثمَّ شدد فِي قتال سلبطرة وبذل الْأَمْوَال الجليلة حَتَّى فتحهَا صلحا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وسِتمِائَة ثمَّ زحف الفنش إِلَى النَّاصِر ونهض النَّاصِر إِلَيْهِ فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يعرف بحصن العقبان فَضرب المصاف وَضرب للناصر قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة لِلْقِتَالِ على رَأس ربوة وَقعد أمامها على درقته وفرسه قَائِم بإزائه ودارت العبيد بالقبة من كل نَاحيَة وَمَعَهُمْ السِّلَاح التَّام ووقفت الساقات والبنود والطبول أَمَام العبيد مَعَ الْوَزير ابْن جَامع وَأَقْبَلت جموع الفرنج على مصافها كَأَنَّهَا الْجَرَاد المنشر فتقدمت إِلَيْهِم المتطوعة وحملوا عَلَيْهِم أَجْمَعُونَ وَكَانُوا مائَة وَسِتِّينَ ألفا فغابوا فِي صفوفهم وانطبقت عَلَيْهِم الفرنج فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا فاستشهد المتطوعة عَن آخِرهم هَذَا وعساكر الْمُوَحِّدين وَالْعرب والأندلس ينظرُونَ إِلَيْهِم لم يُحَرك إِلَيْهِم مِنْهُم أحد
وَلما فرغ الفرنج من المتطوعة حملُوا بأجمعهم على عَسَاكِر الْمُوَحِّدين وَالْعرب حَملَة مُنكرَة فَلَمَّا انتشب الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ فرقت قواد الأندلس وجيوشها لما كَانُوا قد حقدوه على ابْن جَامع فِي قتل ابْن قادس أَولا وتهديدهم وطرده لَهُم ثَانِيًا فجروا الْهَزِيمَة على الْمُسلمين وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وتبعهم قبائل البربر والموحدون الْعَرَب وركبتهم الفرنج بِالسَّيْفِ وكشفوهم عَن النَّاصِر حَتَّى انْتَهوا إِلَى الدائرة الَّتِي دارت عَلَيْهِ من العبيد(2/223)
والحشم فألفوها كالبنيان المرصوص لم يقدروا مِنْهَا على شَيْء وَدفع الفرنج بخيلهم المدرعة على رماح العبيد وَهِي مشرعة إِلَيْهِم فَدَخَلُوا فِيهَا والناصر قَاعد على درقته أَمَام خبائه يَقُول صدق الرَّحْمَن وَكذب الشَّيْطَان حَتَّى كَانَت الفرنج تصل إِلَيْهِ وَحَتَّى قتل حوله من عبيد الدائرة نَحْو عشرَة آلَاف ثمَّ أقبل إِلَيْهِ بعض فرسَان الْعَرَب على فرس لَهُ أُنْثَى فَقَالَ لَهُ إِلَى مَتى قعودك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد نفذ حكم الله وَتمّ أمره وفنى الْمُسلمُونَ فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ النَّاصِر إِلَى جواد لَهُ سَابق كَانَ إِمَامه فَأَرَادَ أَن يركبه فترجل الْعَرَبِيّ عَن فرسه وَقَالَ لَهُ اركب هَذِه الْحرَّة فَإِنَّهَا لَا ترْضى بِعَارٍ فَلَعَلَّ الله ينجيك عَلَيْهَا فَإِن فِي سلامتك الْخَيْر كُله فركبها النَّاصِر وَركب الْعَرَبِيّ جَوَاده وَتقدم أَمَامه فِي كوكبة عَظِيمَة من العبيد مُحِيطَة بهم والفرنج فِي أَعْقَابهم تقتلهم ونادى مُنَادِي الفنش يَوْمئِذٍ أَلا لَا أسر إِلَّا الْقَتْل وَمن أَتَى بأسير قتل هُوَ وأسيره فحكمت سيوف الفرنج فِي الْمُسلمين إِلَى اللَّيْل
وَكَانَت هَذِه الرزية الْعَظِيمَة يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر صفر سنة تسع وسِتمِائَة فَذَهَبت قُوَّة الْمُسلمين بالمغرب ولأندلس من يَوْمئِذٍ وَلم تنصر لَهُم بعْدهَا راية مَعَ الفرنج إِلَى أَن تدارك الله رَمق الأندلس بالسلطان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني رَحمَه الله كَمَا سنقص خبر ذَلِك مُسْتَوفى عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله
قَالَ ابْن الْخَطِيب لما لحق النَّاصِر بإشبيلية حمل السَّيْف على طَائِفَة كَبِيرَة مِمَّن تَوَجَّهت إِلَيْهِم الظنة وَقَالَ ابْن خلدون ثمَّ رجعت الفرنج إِلَى ألأندلس بعد الكائنة للإغارة على بِلَاد الْمُسلمين فَلَقِيَهُمْ السَّيِّد أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن قَرِيبا من إشبيلية فَهَزَمَهُمْ وانتعش الْمُسلمُونَ بهَا واتصلت الْحَال على ذَلِك(2/224)
وَفَاة النَّاصِر رَحمَه الله
قَالَ ابْن أبي زرع لما قدم النَّاصِر إِلَى مراكش منصرفا من وقْعَة الْعقَاب أَخذ الْبيعَة لوَلَده يُوسُف الملقب بالمنتصر فَبَايعهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب والأندلس فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من ذِي الْحجَّة سنة تسع وسِتمِائَة
وَلما تمت لَهُ الْبيعَة دخل النَّاصِر قصره واحتجب فِيهِ عَن النَّاس وانغمس فِي لذاته مصطحبا ومغتبقا إِلَى شعْبَان من سنة عشر وسِتمِائَة فَمَاتَ مسموما بتدبير وزرائه عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي عشر من شعْبَان الْمَذْكُور
وَقَالَ ابْن خلكان تَقول المغاربة إِن النَّاصِر رَحمَه الله كَانَ قد أوصى إِلَى عبيده المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أَن كل من ظهر لَهُم بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُبَاح الدَّم لَهُم ثمَّ أَرَادَ أَن يختبر قدر أمره عِنْدهم فتنكد وَجعل يمشي فِي الْبُسْتَان لَيْلًا فعندما رَأَوْهُ جَعَلُوهُ غَرضا لرماحهم فَجعل يَقُول أَنا الْخَلِيفَة أَنا الْخَلِيفَة فَمَا تحققوه حَتَّى فرغوا مِنْهُ وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك
قلت الصَّحِيح فِي وَفَاة النَّاصِر مَا ذكره الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل قَالَ ثمَّ صرف النَّاصِر وَجهه إِلَى غَزْو الأندلس فِي عزم لم يبلغ إِلَيْهِ ملك قبله وَلما احتل رِبَاط الْفَتْح من سلا نزل بِهِ الْمَوْت فَتوفي لَيْلَة الثُّلَاثَاء عَاشر شعْبَان سنة عشر وسِتمِائَة فانحل الْعَزْم وَتَفَرَّقَتْ الجموع والبقاء لَهُ وَحده(2/225)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الْمُنْتَصر بِاللَّه ابْن النَّاصِر بن الْمَنْصُور رَحمَه الله
لما هلك مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله بُويِعَ ابْنه أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة ولقب بالمنتصر بِاللَّه وَغلب عَلَيْهِ الْوَزير أَبُو سعيد بن جَامع ومشيخة الْمُوَحِّدين فَقَامُوا بأَمْره واستبدوا عَلَيْهِ وتأخرت بيعَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص من إفريقية لصِغَر سنّ الْمُنْتَصر ثمَّ وَقعت المحاولة من الْوَزير ابْن جَامع وَصَاحب الأشغال عبد الْعَزِيز بن أبي زيد فوصلت بيعَته حِينَئِذٍ واشتغل الْمُنْتَصر عَن تَدْبِير الْأَمر وَالْجهَاد بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّبَاب
وَعقد للسادات على عمالات ملكه فعقد للسَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم إِسْحَاق بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن ويلقب بِالظَّاهِرِ على فاس وأعمالها وَهُوَ أَخُو الْمَنْصُور ووالد عمر المرتضى الْآتِي ذكره وَعقد لِعَمِّهِ السَّيِّد أبي إِسْحَاق بن الْمَنْصُور على إشبيلية وَمَا اضيف إِلَيْهَا ولعمه أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْمَنْصُور على بلنسية وشاطبة وأعمالها ولعمه أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْمَنْصُور على مرسية ودانية وأعمالها وَبعث مَعَه الشَّيْخ أَبَا زيد بن يرجان وَكَانَ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين ودهاتهم
وَفِي دولة الْمُنْتَصر هَذَا فشل أَمر الْمُوَحِّدين وَذَهَبت ريحهم وأشرفت دولتهم على الْهَرم وَاسْتولى الفنش على المعاقل الَّتِي أَخذهَا الْمُسلمُونَ وَهزمَ حامية الأندلس فِي كل جِهَة واستبدت السَّادة بالأطراف والتاثت الْأُمُور بالأندلس وَالْمغْرب أجمع أما الأندلس فبتكالب الْعَدو عَلَيْهَا وفناء حماتها وَأما الْمغرب فبخلاء كثير من قراه وأمصاره من وقْعَة الْعقَاب
ثمَّ ظَهرت بَنو مرين بِجِهَة فاس سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَكَانُوا موطنين بصحراء فيجيج وَمَا والاها فاقتحموا الْمغرب فِي هَذِه السنين لخلائه(2/226)
من الحامية واكتسحوا بسائطه بالغارت وانحازت رعاياه إِلَى المعاقل والحصون وَكَثُرت الشكايات بهم إِلَى الْمُنْتَصر وَهُوَ مُقيم بمراكش فَكتب إِلَى السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم صَاحب فاس يَأْمُرهُ بغزوهم فَخرج إِلَيْهِم وَهُوَ بِبِلَاد الرِّيف فأوقعوا بِهِ وقْعَة شنعاء كَانَت باكورة فتحهم وَعَاد السَّيِّد مفلولا إِلَى فاس وَأَصْحَابه عُرَاة بَين يَدَيْهِ يخصفون عَلَيْهِم من ورق النَّبَات الْمَعْرُوف بالمشعلة فسميت السّنة سنة المشعلة وَكَانُوا قد أَسرُّوا السَّيِّد أَبَا إِبْرَاهِيم ثمَّ عرفوه فأطلقوه ثمَّ صمدت بَنو مرين بعْدهَا إِلَى تازا ففلوا حاميتها وعظمت شوكتهم بالمغرب على مَا نذكرهُ بعد أَن شَاءَ الله
وَفِي سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة هزم الْمُسلمُونَ بقصر أبي دانس من الأندلس وَهِي من الهزائم الْكِبَار الَّتِي تقرب من هزيمَة الْعقَاب لِأَن الْعَدو كَانَ قد نزل قصر أبي دانس وحاصره فَخرج إِلَيْهِ جَيش إشبيلية وجيش قرطبة وجيش جيان وحشود بِلَاد غرب الأندلس لاستنقاذ قصر أبي دانس وَكَانَ ذَلِك بِأَمْر الْمُنْتَصر فَسَارُوا يؤمُّونَ الْعَدو فَلم تقع عينهم على عينه إِلَّا وَقد خامر قُلُوب الْمُسلمين الرعب وولوا الأدبار لما كَانَ قد رسخ فِي نُفُوسهم من بأسه يَوْم الْعقَاب فتكالب الْعَدو بعْدهَا على الْمُسلمين وتمرس بهم وَهَان عَلَيْهِ أَمرهم وخشعت نُفُوسهم لَهُ وَلما فروا مِنْهُ فِي هَذِه الخرجة ركبهمْ بِالسَّيْفِ وقتلهم عَن آخِرهم وَرجع الفنش إِلَى قصر أبي دانس فحاصره حَتَّى اقتحمه عنْوَة وَقتل جَمِيع من بِهِ من الْمُسلمين
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة توفّي صَاحب إفريقية الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فَبَايع الموحدون بإفريقية ابْنه ابا زيد عبد الرَّحْمَن فَقَامَ بِالْأَمر وأطفأ النائرة وافاض الْعَطاء ومهد النواحي ورتب الْأُمُور حَتَّى ورد كتاب الْمُنْتَصر من مراكش لثَلَاثَة أشهر من ولَايَته بِتَأْخِيرِهِ وتولية السَّيِّد أبي الْعَلَاء الْأَكْبَر مَكَانَهُ وَهُوَ إِدْرِيس بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فَقدم إفريقية فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة ووالى(2/227)
الهزائم على ابْن غانية الثائر بإفريقية حَتَّى شرد إِلَى الصَّحرَاء وَأَبُو الْعَلَاء هَذَا هُوَ الَّذِي بنى البرجين اللَّذين على بَاب المهدية وحصنها وَهُوَ الَّذِي بنى برج الذَّهَب بإشبيلية أَيَّام ولَايَته عَلَيْهَا فِي دولة أَبِيه وَأقَام أَبُو الْعَلَاء بإفريقية إِلَى أَن توفّي بتونس مِنْهَا فِي شعْبَان سنة عشْرين وسِتمِائَة
وَاسْتولى على إفريقية بعده ابْنه أَبُو زيد بن إِدْرِيس وَسَاءَتْ سيرته فِي النَّاس وَأقَام على ذَلِك إِلَى دولة الْعَادِل عبد الله بن الْمَنْصُور صَاحب مراكش فَعَزله وَولى مَكَانَهُ عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص
ثمَّ غلب عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وتداول ملك إفريقية بنوه من بعده واستبدوا بهَا واقتطعوها عَن نظر بني عبد الْمُؤمن أَصْحَاب مراكش فَلم تعد إِلَيْهِم بعد
وَأما يُوسُف الْمُنْتَصر فَإِنَّهُ اسْتمرّ مُقيما بمراكش على لذاته إِلَى أَن توفّي وَكَانَ من خبر وَفَاته أَنه كَانَ مُولَعا باتخاذ الْحَيَوَان واستنتاجه فَكَانَ يُؤْتى إِلَيْهِ بأصناف الْبَقر من الأندلس فيرسلها فِي بستانه الْكَبِير من حَضْرَة مراكش وَيحمل بَعْضهَا على بعض للتناسل فَخرج ذَات يَوْم للتطوف على تِلْكَ الْبَقر وَالنَّظَر إِلَيْهَا فتوسط قطيعا مِنْهَا وَقد ركب فنشيا فأنكرته بقرة شرود كَانَت فِي ذَلِك القطيع فطعنته فِي صَدره طعنة أَتَت عَلَيْهِ من حِينه وَذَلِكَ فِي عشي يَوْم السبت الثَّانِي عشرَة من ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وسِتمِائَة وَلم يخلف إِلَّا حملا من جَارِيَة لَهُ
قَالَ ابْن خلكان لم يكن فِي بني عبد الْمُؤمن أحسن وَجها من الْمُنْتَصر وَلَا أبلغ فِي المخاطبة إِلَّا أَنه كَانَ مشغوفا براحته فَلم يبرح عَن حَضرته فضعفت الدولة فِي أَيَّامه وَالله تَعَالَى أعلم(2/228)
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْوَاحِد المخلوع ابْن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رَحمَه الله
لما هلك الْمُنْتَصر فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع الْوَزير ابْن جَامع والموحدون وَبَايَعُوا للسَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن يُوسُف وَهُوَ أَخُو الْمَنْصُور
قَالَ ابْن أبي زرع بَايعُوهُ على كره مِنْهُ بقبة الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَهُوَ يَوْمئِذٍ فِي سنّ الشيخوخة وَكَانَ عَالما فَاضلا متورعا فاستقام لَهُ الْأَمر نَحْو شَهْرَيْن وخطب لَهُ فِي جَمِيع أَعمال الْمُوَحِّدين مَا عدا مرسية فَإِن ابْن أَخِيه السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْمَنْصُور الملقب بالعادل كَانَ واليا عَلَيْهَا وَكَانَ وزيره بهَا الشَّيْخ أَبَا زيد بن يرجان الْمَعْرُوف بالأصفر وَكَانَ من دهاة الْمُوَحِّدين وَكَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله إِذا رَآهُ يستعيذ بِاللَّه من شَره وَيَقُول مَاذَا يجْرِي على يَديك من الْفِتَن يَا اصفر وَكَانَ من خَبره أَنه لما بُويِعَ المخلوع أَمر بِإِطْلَاق ابْن يجارن لِأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا على مَا عِنْد ابْن خلدون فَأطلق ثمَّ صده ابْن جَامع عَن ذَلِك وأنفذ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاق فِي الأسطول ليغربه إِلَى ميورقة فلاذ ابْن يرجان حِينَئِذٍ بِعَبْد الله بن الْمَنْصُور صَاحب مرسية وَنزل مِنْهُ منزلَة الْوَزير وأغراه بالتوثب على الْأَمر وَشهد لَهُ أَنه سمع من الْمَنْصُور رَحْمَة الله الْعَهْد لَهُ بالخلافة من بعد النَّاصِر وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ إِنَّك أَحَق بالخلافة من عبد الْوَاحِد أَنْت ولد الْمَنْصُور وأخو النَّاصِر وَعم الْمُنْتَصر وَلَك الرَّأْي وَحسن السياسة والحزم وَلَو دَعَوْت الْمُوَحِّدين إِلَى بيعتك لم يخْتَلف عَلَيْك اثْنَان
وَكَانَ النَّاس على كره من ابْن جَامع وولاة الأندلس يَوْمئِذٍ كلهم بَنو الْمَنْصُور فأصغى إِلَيْهِ عبد الله هَذَا وَكَانَ مترددا فِي بيعَة عَمه فبرز إِلَى مجْلِس حكمه واستدعى من بمرسية وأعمالها من الْمُوَحِّدين وَالْفُقَهَاء والأشياخ فَدَعَاهُمْ إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ وَتسَمى بالعادل وَكَانَ إخْوَته أَبُو الْعَلَاء(2/229)
الْأَصْغَر صَاحب قرطبة وَأَبُو الْحسن صَاحب غرناطة وَأَبُو مُوسَى صَاحب مالقة فَبَايعُوهُ سرا وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي عبد الله بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن الْمَعْرُوف بالبياسي صَاحب جيان وَقد عَزله المخلوع بِعَمِّهِ أبي الرّبيع بن أبي حَفْص فَانْتقضَ وَبَايع للعادل وزحف مَعَ ابي الْعَلَاء صَاحب قرطبة وَهُوَ أَخُو الْعَادِل إِلَى إشبيلية وَبهَا عبد الْعَزِيز أَخُو الْمَنْصُور والمخلوع فَدخل فِي دعوتهم وَامْتنع السَّيِّد أَبُو زيد بن أبي عبد الله أَخُو البياسي عَن بيعَة الْعَادِل وَتمسك بِطَاعَة المخلوع وَخرج الْعَادِل من مرسية إِلَى إشبيلية فَدَخلَهَا مَعَ أبي زيد بن يرجان وَبلغ الْخَبَر إِلَى مراكش فَاخْتلف الموحدون على المخلوع وَبَادرُوا بعزل ابْن جَامع وتغريبه إِلَى هسكورة لكراهيتهم لَهُ وَجَرت خطوب أفضت إِلَى خلع عبد الْوَاحِد وَقَتله
وَفِي القرطاس أَن عبد الْوَاحِد الْعَادِل كتب إِلَى أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين الَّذين بِحَضْرَة مراكش يَدعُوهُم إِلَى بيعَته وخلع عبد الْوَاحِد وَوَعدهمْ على ذَلِك الْأَمْوَال الجزيلة والمنازل الرفيعة والولايات الجليلة فسارعوا إِلَى ذَلِك ودخلوا على عبد الْوَاحِد وتهددوه بِالْقَتْلِ إِلَّا أَن يخلع نَفسه ويبايع للعادل فأجابهم إِلَى ذَلِك فَخَرجُوا عَنهُ ووكلوا بِالْقصرِ من يحفظه وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد بعده دخلُوا على عبد الْوَاحِد الْقصر وأحضروا القَاضِي وَالْفُقَهَاء والأشياخ فَأشْهد على نَفسه بِالْخلْعِ وَبَايع للعادل ثمَّ دخلُوا عَلَيْهِ بعد مُضِيّ ثَلَاث عشرَة لَيْلَة من خلعه فخنقوه حَتَّى مَاتَ وانتهبوا قصره واستولوا على أَمْوَاله وحريمه فَكَانَ عبد الْوَاحِد هَذَا أول من خلع وَقتل من بني عبد الْمُؤمن وَصَارَ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين لخلفائهم كالأتراك لبني الْعَبَّاس فَكَانَ فعلهم ذَلِك سَببا لذهاب ملكهم وانقراض دولتهم وَالله تَعَالَى لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَكَانَت وَفَاة عبد الْوَاحِد المخلوع خَامِس رَمَضَان الْمُعظم سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة(2/230)
الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الله الْعَادِل ابْن الْمَنْصُور رَحمَه الله
بُويِعَ لَهُ الْبيعَة الأولى بمرسية من بِلَاد الأندلس منتصف صفر سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة وتلقب بالعادل فِي أَحْكَام الله ثمَّ خلص لَهُ الْأَمر وَبَايَعَهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وخطب لَهُ بِحَضْرَة مراكش أَوَاخِر شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة
وَتوقف عَن بيعَته السَّيِّد أَبُو زيد بن أبي عبد الله أَخُو البياسي كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَكَانَ واليا على بلنسية وشاطبة ودانية وَلما رأى السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد البياسي أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا زيد توقف عَن بيعَة الْعَادِل وَضبط بِلَاده ثار هُوَ ببياسة وَمَا انضاف إِلَيْهَا من قرطبة وجيان وقيجاطة وحصون الثغر الْأَوْسَط وتلقب بالظافر وَإِنَّمَا دعِي البياسي لقِيَامه من بياسة فوصلت بيعَة الْمُوَحِّدين من مراكش إِلَى الْعَادِل وَمَعَهَا كتاب أبي زَكَرِيَّا يحيى ابْن الشَّهِيد شيخ هنتانة بِقصَّة المخلوع وَمَا كَانَ من أمره فصادف وصولها هيجان هَذِه الْفِتْنَة فشغل الْعَادِل بهَا عَن مراكش وَبعث أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا الْعَلَاء الْأَصْغَر وَهُوَ إِدْرِيس بن الْمَنْصُور فِي جَيش كثيف إِلَى البياسي فحاصره ببياسة وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار أظهر الطَّاعَة والانقياد وَبَايع للعادل حَتَّى إِذا أفرج عَنهُ أَبُو الْعَلَاء عَاد إِلَى النكث وَبعث إِلَى الفنش يستنصره على الْعَادِل وَضمن لَهُ أَن ينزل لَهُ عَن بياسة وقيجاطة فَكَانَ أول من سنّ إِعْطَاء الْحُصُون والبلاد للفرنج فَوجه إِلَيْهِ الفنش بِجَيْش من عشْرين ألفا وَلما توافت لَدَيْهِ جموع الفرنج نَهَضَ من قرطبة يُرِيد إشبيلية حَتَّى إِذا دنا مِنْهَا خرج إِلَيْهِ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء الْأَصْغَر وَهُوَ الَّذِي دعِي بعد بالمأمون فَالْتَقوا واقتتلوا قتالا شَدِيدا فَانْهَزَمَ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء وَاسْتولى البياسي والفرنج على محلته بِمَا فِيهَا من أثاث وَسلَاح ودواب وَغير ذَلِك(2/231)
وَلما رأى الْعَادِل مَا وَقع بأَخيه وجنده خشِي أَن يَتَفَاقَم دَاء البياسي ويمتد عباب فتنته إِلَى مراكش فَترك أَخَاهُ أَبَا الْعَلَاء قبالته وَعبر الْبَحْر إِلَى العدوة وَلما احتل بقصر الْمجَاز دخل عَلَيْهِ عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الْمَدْعُو بعبو فَقَالَ لَهُ الْعَادِل كَيفَ حالك فأنشده
(حَال مَتى علم ابْن الْمَنْصُور بهَا ... جَاءَ الزَّمَان إِلَيّ مِنْهَا تَائِبًا)
فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وولاه إفريقية وَهَذَا الْبَيْت لأبي الطّيب المتنبي وَإِنَّمَا تمثل بِهِ عبو لموافقة اسْم مَنْصُور فِيهِ لاسم وَالِد الْعَادِل فَحسن التَّمْثِيل بِهِ
وانْتهى الْعَادِل فِي سيره إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا وَبعث عَن شُيُوخ جشم عرب تامسنا وَكَانَ لِابْنِ يرجان عناية واختصاص بِهِلَال بن حميدان أَمِير الْخَلْط فتثاقل جرمون بن عِيسَى أَمِير سُفْيَان عَن الْوُصُول إِلَى الْعَادِل ثمَّ بَادر الْعَادِل إِلَى مراكش وقاسى فِي طَرِيقه إِلَيْهَا من الْعَرَب شَدَائِد ثمَّ دَخلهَا واستوزر أَبَا زيد بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وَتغَير لِابْنِ يرجان ففسد بَاطِنه وسعى فِي إِفْسَاد الدولة وَغلب أَبُو زَكَرِيَّا بن الشَّهِيد شيخ هنتاتة ويوسف بن عَليّ شيخ تينملل على أَمر الْعَادِل ثمَّ خَالَفت عَلَيْهِ عرب الْخَلْط وهسكورة وعاثوا فِي نواحي مراكش وخربوا بِلَاد دكالة فَخرج إِلَيْهِم ابْن يرجان فَلم يغن شَيْئا فأنفذ إِلَيْهِم الْعَادِل عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص فَانْهَزَمَ وَقتل واضطربت الْأَحْوَال على الْعَادِل وَخرج ابْن الشَّهِيد ويوسف بن عَليّ إِلَى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة وَالْعرب فاتفقا أَيْضا على خلع الْعَادِل واضطربت الْأُمُور
وَلما انْتهى إِلَى أبي الْعَلَاء صَاحب الأندلس خبر أَخِيه الْعَادِل وَمَا هُوَ فِيهِ بمراكش من الِاضْطِرَاب دَعَا لنَفسِهِ بإشبيلية فبويع بهَا وأجابه أَكثر أهل الأندلس وتلقب بالمأمون وَبَايع لَهُ السَّيِّد أَبُو زيد صَاحب بلنسية وَهُوَ أَخُو البياسي وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة(2/232)
وَلما تمت بيعَته كتب إِلَى الْمُوَحِّدين الَّذين بمراكش يَدعُوهُم إِلَى بيعَته وَيُعلمهُم باجتماع أهل الأندلس والموحدين الَّذين بهَا عَلَيْهِ وَوَعدهمْ فِي ذَلِك ومناهم فَكَانَ مِنْهُم بعض توقف ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على مبايعته وخلع أَخِيه الْعَادِل فَدَخَلُوا عَلَيْهِ قصره وسألوه أَن يخلع نَفسه فَامْتنعَ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ ودسوا رَأسه فِي خصة مَاء كَانَت هُنَاكَ وَقَالُوا لَهُ لَا نُفَارِقك أَو تشهد على نَفسك بِالْخلْعِ فَقَالَ اصنعوا مَا بدا لكم وَالله لَا أَمُوت إِلَّا أَمِير الْمُؤمنِينَ فوضعوا عمَامَته فِي عُنُقه وخنقوه وَرَأسه فِي الخصة حَتَّى فاظ وَكَانَ خيرا فَاضلا رَحمَه الله وَكَانَت وَفَاته فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى أبي الْعَلَاء الْمَأْمُون وبعثوا بهَا إِلَيْهِ مَعَ الْبَرِيد ثمَّ بدا لَهُم فِي بيعَة الْمَأْمُون بعد انْفِصَال الْبَرِيد عَنْهُم فنكثوها وَبَايَعُوا يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور واضطربت الْأَحْوَال بالمغرب والأندلس وطما عباب الْفِتَن وَكَانَ مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور ومزاحمة يحيى بن النَّاصِر لَهُ
كَانَ الْمَأْمُون وَهُوَ أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور لما بلغه انْتِقَاض الْمُوَحِّدين وَالْعرب بالحضرة على أَخِيه وتلاشي أمره دَعَا لنَفسِهِ بإشبيلية وَبَايَعَهُ أهل الأندلس والموحدون بالحضرة كَمَا قُلْنَا ثمَّ لما انْفَصل الْبَرِيد ببيعته من الحضرة نَدم الموحدون على ذَلِك لما يعلموه من شهامته وصرامته وتخلقه بأخلاق الْحجَّاج بن يُوسُف وتخوفوا أَن يَأْخُذهُمْ بِدَم عَمه عبد المخلوع ثمَّ أَخِيه عبد الله الْعَادِل فاتفق رَأْيهمْ على مبايعة يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور وَهُوَ شَاب غر كَمَا يقل عذاره وَإِنَّمَا وَقع اختيارهم عَلَيْهِ ليَكُون أطوع لَهُم فَإِن سنه يَوْمئِذٍ كَانَت سِتَّة عشر سنة(2/233)
فَبَايعُوهُ بِجَامِع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَامْتنع عرب الْخَلْط وقبائل هسكورة من بيعَته وَقَالُوا قد بَايعنَا الْمَأْمُون فَلَا ننكث بيعَته وَتَأَخر قدوم الْمَأْمُون إِلَى مراكش وَبَقِي بالأندلس لأسباب يَأْتِي شرحها وَأقَام يحيى بمراكش واستتب أمره بهَا بعض الشَّيْء وجهز جَيْشًا من الْمُوَحِّدين والجند إِلَى قتال الْخَلْط وهسكورة وهم يَوْمئِذٍ فِي طَاعَة الْمَأْمُون فَانْهَزَمَ جَيش يحيى وَقتل مِنْهُ خلق كثير وَعَاد مفلولا إِلَى مراكش ثمَّ اطلع يحيى على مداخلة أبي زيد بن يرجان للْعَرَب وهسكورة فِي الْغَارة على مراكش واطلع على ذَلِك أَيْضا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن الشَّهِيد فَقتل ابا زيد بن يرجان وَابْنه عبد الله وَنصب رؤوسهما على بَاب الْكحل وطوف أجسادهما بأسواق الْمَدِينَة ثمَّ اضْطَرَبَتْ الْأَحْوَال على يحيى وانتقضت الْبِلَاد وغلت الأسعار وَعم الخراب وَالْفساد بِلَاد الْمغرب واستحوذ بَنو مرين على ضواحيه وضايقوا الْمُوَحِّدين فِي كثير فِي أمصاره واقتضوا جبايته ونبغت الثوار فِي الأقطار على مَا نذكرهُ
ثورة مُحَمَّد بن أبي الطواجين الكتامي بجبال غمارة
وَلما كَانَت سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة ثار بجبال غمارة مُحَمَّد بن أبي الطواجين الكتامي المتنبي وَكَانَ أَبوهُ من قصر كتامة منقبضا عَن النَّاس وَكَانَ ينتحل صناعَة الكيمياء فَكَانَ يلقب بِأبي الطواجين لِكَثْرَة الظروف الَّتِي كَانَ يستعملها فِي ذَلِك بِزَعْمِهِ وتلقن ذَلِك عَنهُ ابْنه هَذَا ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة وَنزل على بني سعيد بأحوازها وَادّعى صناعَة الكيمياء فَتَبِعَهُ الغوغاء ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَشرع الشَّرَائِع وَأظْهر أنواعا من الشعبذة فَكثر تابعوه ثمَّ اطلعوا على خبثه فنبذوا إِلَيْهِ عَهده وزحفت إِلَيْهِ عَسَاكِر سبتة ففر عَنْهُم ثمَّ قَتله(2/234)
بعض البرابرة غيلَة بوادي لاو بَين بِلَاد بني سعيد وبلاد بني زيات وَابْن أبي الطواجين هَذَا هُوَ الَّذِي تسبب فِي قتل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
أَخْبَار الثوار وَمَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين بهَا
لما ضعف أَمر الْمُوَحِّدين بالمغرب وَكَثُرت الْفِتَن فِي أقطاره ونواحيه وانتزى السادات مِنْهُم بنواحي الأندلس كل فِي عمله وَاسْتظْهر كل وَاحِد مِنْهُم على أمره بالطاغية ونزلوا لَهُ عَن كثير من الْحُصُون فَسدتْ من أجل ذَلِك ضمائر أهل الأندلس عَلَيْهِم وتصدى للثورة على الْمُوَحِّدين مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الجذاميين مُلُوك الطوائف بسرقسطة وَكَانَ يؤمل لَهَا وَرُبمَا امتحنه الْمُوَحِّدين لذَلِك مَرَّات فَخرج فِي نفر من الأجناد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وجهز إِلَيْهِ وَالِي مرسية يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الْعَبَّاس بن أبي عمرَان مُوسَى بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن عسكرا فَهَزَمَهُمْ وزحف إِلَى مرسية فَدَخلَهَا واعتقل السَّيِّد بهَا وخطب للخليفة الْمُسْتَنْصر العباسي صَاحب بَغْدَاد وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل عِنْد ذكره لبني هود هَؤُلَاءِ
(وَكَانَ من أعقابه الْأَمِير ... مُحَمَّد بن يُوسُف الْأَخير)
(وَكَانَ باسلا شَدِيد الْبَأْس ... وَبَايع الْمُسْتَنْصر العباسي)
ثمَّ زحف إِلَيْهِ السَّيِّد أَبُو زيد بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَخُو البياسي الْمُتَقَدّم ذكره من شاطبة وَكَانَ واليا بهَا كَمَا مر فَهَزَمَهُ ابْن هود وَرجع إِلَى شاطبة واستجاش بالمأمون وَهُوَ يَوْمئِذٍ بإشبيلية فَخرج فِي العساكر ولقيه ابْن هود فَانْهَزَمَ وَاتبعهُ الْمَأْمُون إِلَى مرسية فحاصره مُدَّة وامتنعت عَلَيْهِ فأقلع عَنهُ وَرجع إِلَى إشبيلية ثمَّ انْتقض على السَّيِّد أبي زيد ببلنسية زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الْحجَّاج يُوسُف بن سعيد بن(2/235)
مردنيش وَخرج عَنهُ إِلَى أبدة سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ بني مردنيش هَؤُلَاءِ أهل عِصَابَة وأولي باس وقوه فتوقع أَبُو زيد اختلال أمره وَبعث إِلَيْهِ ولاطفه فِي الرُّجُوع فَأبى فَخرج أَبُو زيد من بلنسية وَلحق بطاغية برشلونة وَدخل فِي دين النَّصْرَانِيَّة وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَبَايع أهل شاطبة لِابْنِ هود ثمَّ تَتَابَعَت بِلَاد الأندلس على بيعَته وَدخل فِي طَاعَته أهل قرطبة وإشبيلية بعد رحيل الْمَأْمُون عَنهُ إِلَى مراكش وَلم يبْق للموحدين بالأندلس سُلْطَان
ثمَّ فِي سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة ثار مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر بحصن أرجونة من أَعمال قرطبة ودعا لأبي زَكَرِيَّاء الحفصي صَاحب إفريقية ثمَّ دخل فِي طَاعَته أهل قرطبة وتنازع ابْن الْأَحْمَر وَابْن هود رئاسة الأندلس وتجاذبا حَبل الْملك بهَا وَكَانَت خطوب استولى لطاغية فِيهَا على كثير من حصون الأندلس ثمَّ اسْتَقر قدم ابْن الْأَحْمَر فِي الْملك وأورثه بنيه من بعده وَالله غَالب على أمره
قدوم أبي الْعَلَاء الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
قد تقدم لنا أَن الْمُوَحِّدين بمراكش خنقوا الْعَادِل وَبَايَعُوا أَخَاهُ الْمَأْمُون وَبعد انْفِصَال الْبَرِيد بالبيعة ندموا وَبَايَعُوا ابْن أَخِيه يحيى بن النَّاصِر فوصلت بيعَة الْمُوَحِّدين إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ يَوْمئِذٍ بإشبيلية فسر بهَا وَأمر بإقرائها على مَنَابِر الأندلس ثمَّ أَخذ فِي التَّجْهِيز وَالْحَرَكَة إِلَى مراكش دَار ملكهم فَسَار حَتَّى إِذا وصل إِلَى الجزيرة الخضراء اتَّصل بِهِ الْخَبَر أَن الْمُوَحِّدين قد نكثوا بيعَته وَبَايَعُوا ابْن أَخِيه يحيى فَوَجَمَ لذَلِك وأطرق مَلِيًّا ثمَّ أنْشد متمثلا بقول حسان رَضِي الله عَنهُ
(لتسمعن وشيكا فِي دِيَارهمْ ... الله أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا)(2/236)
ثمَّ كتب من حِينه إِلَى ملك قشتالة يستنصره على الْمُوَحِّدين ويسأله أَن يبْعَث لَهُ جَيْشًا من الفرنج يجوز بهم إِلَى العدوة لقِتَال يحيى وَمن مَعَه من الْمُوَحِّدين فَشرط عَلَيْهِ صَاحب قتشالة أَن يُعْطِيهِ عشرَة حصون مِمَّا يَلِي بِلَاده يختارها هُوَ وَأَن يَبْنِي بمراكش إِذا دَخلهَا لجيش النَّصَارَى الَّذين مَعَه كَنِيسَة يظهرون بهَا دينهم ويضربون فِيهَا نواقيسهم لصلواتهم وَأَن من اسْلَمْ مِنْهُم لَا يقبل مِنْهُ إِسْلَامه وَيرد إِلَى إخوانه فيحكمون فِيهِ بأحكامهم إِلَى غير ذَلِك فأسعفه الْمَأْمُون فِي جَمِيع مَا طلبه مِنْهُ
وَكَانَ يحيى بن النَّاصِر صَاحب مراكش لما رأى اخْتِلَاف أَحْوَاله بهَا كَمَا قُلْنَا ومبايعته أَكثر أهل الْمغرب لِعَمِّهِ الْمَأْمُون خرج فَارًّا بِنَفسِهِ إِلَى تيمنلل وَكَانَ ذَلِك فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَلما فر يحيى عَن الحضرة قدم اشياخ الْمُوَحِّدين الَّذين بهَا واليا يضبطها لِلْمَأْمُونِ ريثما يقدم عَلَيْهِم وجددوا لَهُ الْبيعَة وَكَتَبُوا إِلَيْهِ يخبروه بفرار يحيى إِلَى الْجَبَل ويرغبون إِلَيْهِ فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا هِلَال بن حميدان أَمِير الْخَلْط وَاسْتمرّ يحيى معتصما بِالْجَبَلِ أَرْبَعَة اشهر ثمَّ بدا لَهُ فَعَاد إِلَى مراكش وَقتل عَامل الْمَأْمُون الَّذِي قدمه الْمُوَحِّدين بهَا وَاسْتمرّ بهَا نَحْو سَبْعَة أَيَّام ثمَّ خرج إِلَى جبل جليز وعسكر بِهِ وَأقَام منتظرا لقدوم الْمَأْمُون ودفاعه عَن مراكش ثمَّ بعث صَاحب قشتالة إِلَى الْمَأْمُون جَيْشًا من اثْنَي عشر ألفا برسم الْخدمَة مَعَه والمقاتلة دونه على الشُّرُوط الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ وصولهم إِلَيْهِ فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة ثمَّ عبر بهم من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ أول من أَدخل عَسْكَر الفرنج أَرض الْمغرب واستخدمهم بهَا فأراح بسبتة أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش حَتَّى إِذا دنى مِنْهَا لقِيه يحيى بجيوش الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ عشي يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الدَّاخِلَة فَانْهَزَمَ يحيى(2/237)
وفر إِلَى الْجَبَل وَقتل كثير من جَيْشه
وَدخل الْمَأْمُون حَضْرَة مراكش وَبَايَعَهُ الموحدون وَصعد الْمِنْبَر بِجَامِع الْمَنْصُور وَكَانَ عَلامَة أديبا بليغا فَخَطب النَّاس وَلعن الْمهْدي على الْمِنْبَر وَقَالَ لَا تَدعُوهُ بالمهدي الْمَعْصُوم وادعوه بالغوي المذموم أَلا لَا مهْدي إِلَّا عِيسَى وَإِنَّا قد نَبَذْنَا أمره النحس وَلما انْتهى إِلَى آخر خطْبَة قَالَ معشر الْمُوَحِّدين لَا تظنوا أَنِّي أَنا إِدْرِيس الَّذِي تندرس دولتكم على يَده كلا إِنَّه سَيَأْتِي بعدِي إِن شَاءَ الله
ثمَّ نزل وَأمر بالكتب إِلَى جَمِيع الْبِلَاد بمحو اسْم الْمهْدي من السِّكَّة وَالْخطْبَة وتغيير سنَنه الَّتِي ابتدعها للموحدين وَجرى عَلَيْهَا سلفهم ونعى عَلَيْهَا النداء للصَّلَاة باللغة البربرية وزيادته فِي أَذَان الصُّبْح وَللَّه الْحَمد وَغير ذَلِك من السّنَن الَّتِي اخْتصَّ بهَا الْمهْدي وَأمر بتدوير الدَّرَاهِم الَّتِي ضربهَا الْمهْدي مربعة وَقَالَ كل مَا فعله الْمهْدي وَتَابعه عَلَيْهِ أسلافنا فَهُوَ بِدعَة وَلَا سَبِيل إِلَى إبقائه وأبدا فِي ذَلِك وَأعَاد
ثمَّ دخل قصره فاحتجب عَن النَّاس ثَلَاثًا ثمَّ خرج فِي الْيَوْم الرَّابِع فَأمر بأشياخ الْمُوَحِّدين وأعيانهم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُم يَا معشر الْمُوَحِّدين إِنَّكُم قد أظهرتم علينا العناد وأكثرتم فِي الأَرْض الْفساد ونقضتم العهود وبذلتم فِي حربنا المجهود وقتلتم الإخوان والأعمام وَلم ترقبوا فيهم إِلَّا وَلَا ذمام ثمَّ أخرج كتاب بيعتهم الَّذِي بعثوا بِهِ إِلَيْهِ وَاحْتج عَلَيْهِم بنكثهم الَّذِي نكثوا بعده فَقَامَتْ الْحجَّة عَلَيْهِم فَبُهِتُوا وَسقط فِي أَيْديهم والتفت إِلَى قَضِيَّة المكيدي وَكَانَ بإزائه قد قدم مَعَه من إشبيلية فَقَالَ لَهُ مَا ترى ايها القَاضِي فِي أَمر هَؤُلَاءِ النَّاكِثِينَ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله تَعَالَى يَقُول {فَمن نكث فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه} فَقَالَ الْمَأْمُون صدق الله الْعَظِيم فَإنَّا نحكم فيهم بِحكم الله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} ثمَّ أَمر بِجَمِيعِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وأشرافهم فسحبوا إِلَى مصَارِعهمْ وَقتلُوا من عِنْد آخِرهم وَلم يبْق على كَبِيرهمْ وَلَا صَغِيرهمْ حَتَّى أَنه أُتِي بِابْن أُخْت لَهُ صَغِير يُقَال إِن سنه كَانَ ثَلَاث عشرَة(2/238)
سنة وَكَانَ قد حفظ الْقُرْآن فَلَمَّا قدم للْقَتْل قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اعْفُ عني لثلاث قَالَ مَا هن قَالَ صغر سني وَقرب رحمي وحفظي لكتاب الله الْعَزِيز فَيُقَال إِن الْمَأْمُون نظر إِلَى القَاضِي كالمستشير لَهُ وَقَالَ لَهُ كَيفَ ترى قُوَّة جأش هَذَا الْغُلَام وإقدامه على الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام فَقَالَ القَاضِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا فَأمر بِهِ فَقتل رَحمَه الله ثمَّ أَمر بالرؤوس فعلقت بدائر سور الْمَدِينَة
ذكر ابْن أبي زرع أَنَّهَا كَانَت تنيف على أَرْبَعَة آلَاف رَأس وَكَانَ الزَّمَان زمن قيظ فنتنت بهَا الْمَدِينَة وتأذى النَّاس بريحها فَرفع إِلَيْهِ ذَلِك فَقَالَ إِن هَهُنَا مجانين وَأَن تِلْكَ الرؤوس حروز لَهُم لَا يصلح حَالهم إِلَّا بهَا وَإِنَّهَا لعطرة عِنْد المحبين ونتنة عِنْد المبغظين ثمَّ أنْشد
(أهل الْحِرَابَة وَالْفساد من الورى ... بِالْقطعِ وَالتَّعْلِيق فِي الْأَشْجَار)
(ففساده فِيهِ الصّلاح لغيره ... يعزون فِي التَّشْبِيه للذكار)
(فرؤوسهم ذكرى إِذا مَا أَبْصرت ... فَوق الْجُذُوع وَفِي ذرى الأسوار)
(وَكَذَا الْقصاص حَيَاة أَرْبَاب النهى ... وَالْعدْل مألوف بِكُل جوَار)
(لَو عَم حلم الله سَائِر خلقه ... مَا كَانَ أَكْثَرهم من أهل النَّار)
وَهَذِه الفتكة الَّتِي ارتكبها الْمَأْمُون من الْمُوَحِّدين أنست فتكة الْحَارِث بن ظَالِم والبراض الْكِنَانِي والحجاف بن حَكِيم وَهِي الَّتِي استأصلت جمهورهم وأماتت نخوتهم وَإِذن الْمَأْمُون لِلنَّصَارَى القادمين مَعَه فِي بِنَاء الْكَنِيسَة وسط مراكش على شرطهم الْمُتَقَدّم فَضربُوا بهَا نواقيسهم وَكَانَت الْكَنِيسَة فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالسجينة
وَقبض على قَاضِي الْجَمَاعَة بمراكش وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن عبد الْحق فقيده وَدفعه إِلَى هِلَال بن حميدان الخلطي فحبسه حَتَّى أفتدي مِنْهُ بِسِتَّة آلَاف دِينَار
وَأقَام الْمَأْمُون بمراكش خَمْسَة أشهر ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْجَبَل لقِتَال(2/239)
يحيى بن النَّاصِر وَمن مَعَه من الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة فَالتقى مَعَه على الْموضع الْمَعْرُوف بالكاعة فَانْهَزَمَ يحيى وَقتل من عسكره وَمن أهل الْجَبَل خلق كثير سيق من رؤوسهم إِلَى مراكش أَرْبَعَة آلَاف رَأس
وَفِي هَذِه السّنة استبد الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا ابْن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن حَفْص الهنتاتي بإفريقية وخلع طَاعَة الْمُوَحِّدين
وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا نفذت كتب الْمَأْمُون إِلَى سَائِر الْبِلَاد بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وفيهَا خرجت بِلَاد الأندلس كلهَا من ملك الْمُوَحِّدين ونفاهم عَنْهَا ابْن هود لثائر بهَا وقتلتهم الْعَامَّة فِي كل وَجه
وَفِي سنة تسع وَعشْرين بعْدهَا خرج على الْمَأْمُون أَخُوهُ السَّيِّد أَبُو مُوسَى عمرَان بن الْمَنْصُور بِمَدِينَة سبتة وَتسَمى بالمؤيد فاتصل الْخَبَر بالمأمون فَخرج إِلَيْهِ وبلغه فِي طَرِيقه أَن قبائل بني فازاز ومكلاثه قد حاصروا مكناسة وعاثوا فِي نَوَاحِيهَا فَسَار إِلَيْهِم وحسم مَادَّة فسادهم وَعَاد إِلَى سبتة فحاصر بهَا أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا مُوسَى مُدَّة فَلم يقدر مِنْهُ على شَيْء وَكَانَت سبتة من أحصن مدن الْمغرب وَلما طَالَتْ غيبَة الْمَأْمُون عَن الحضرة اغتنم يحيى بن النَّاصِر الفرصة فَنزل من الْجَبَل واقتحمها مَعَ عرب سُفْيَان وشيخهم جرمون بن عِيسَى وَمَعَهُمْ أَبُو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة وعاثوا فِيهَا وهدموا كَنِيسَة النَّصَارَى الَّتِي بنيت بهَا وَقتلُوا كثيرا من يهودها وَسبوا أَمْوَالهم وَدخل يحيى الْقصر فَحمل مِنْهُ جَمِيع مَا وجده بِهِ إِلَى الْجَبَل
واتصل الْخَبَر بالمأمون وَهُوَ على حِصَار سبتة فارتحل عَنْهَا مسرعا إِلَى مراكش وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما أبعد عَن سبتة عبر أَبُو مُوسَى صَاحبهَا إِلَى الأندلس فَبَايعهُ ابْن هود وَأَعْطَاهُ سبتة فَعوضهُ ابْن هود عَنْهَا بالمرية فَكَانَ السَّيِّد أَبُو مُوسَى بهَا إِلَى أَن مَاتَ
وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ فِي طَرِيقه بِأَن ابْن هود قد ملك سبتة فتوالت عَلَيْهِ الفجائع فَمَرض أسفا وَمَات بوادي العبيد وَهُوَ قافل من حِصَار(2/240)
سبتة وَكَانَت وَفَاته فِي آخر يَوْم من سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة
وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام شقاء وعناء ومنازعة افْتَرَقت دولة الْمُوَحِّدين فِيهَا فرْقَتَيْن فرقة مَعَه وَفرْقَة مَعَ يحيى بن النَّاصِر
وَكَانَ محق دولة الْمُوَحِّدين واستئصال أَرْكَانهَا وَذَهَاب نخوتها على يَده قَالُوا وَلَوْلَا أَن الْأُمُور قد استحالت إِلَى مَا ذكر لَكَانَ الْمَأْمُون مُوَافقا لِأَبِيهِ الْمَنْصُور فِي كثير من الْخلَل ومتبعا سنَنه فِي الْأَحْوَال
وَكَانَ الْمَأْمُون فصيح اللِّسَان فَقِيها حَافِظًا للْحَدِيث ضابطا للرواية عَارِفًا بالقراءات حسن الصَّوْت والتلاوة مقدما فِي علم اللُّغَة والعربية وَالْأَدب وَأَيَّام النَّاس كَاتبا بليغا حسن التوقيع لم يزل سَائِر أَيَّام خِلَافَته يسْرد كتب الحَدِيث مثل البُخَارِيّ والموطأ وَسنَن أبي دَاوُد وَكَانَ مَعَ ذَلِك شهما حازما مقداما على عظائم الْأُمُور ولي الْخلَافَة والبلاد تضطرم نَارا والممالك قد توزعتها الثوار فَكَانَ الْمَأْمُون إِذا فكر فِي حَال الثوار وَمَا آل إِلَيْهِ حَال الدولة مَعَهم وَمَا دهاه من كثرتهم ينشد متمثلا
(تكاثرت الظبا على خِدَاش ... فَمَا يدْرِي خِدَاش مَا يصيد)
يُشِير إِلَى حَاله مَعَهم وَأَنه لم يدْرِي مَا يتلافى من ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم
الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الرشيد ابْن الْمَأْمُون ابْن الْمَنْصُور رَحمَه الله
لما هلك الْمَأْمُون بُويِعَ ابْنه عبد الْوَاحِد ولقب بالرشيد
قَالَ ابْن أبي زرع بُويِعَ لَهُ بالخلافة بوادي العبيد ثَانِي يَوْم من وَفَاة أَبِيه وَهُوَ الْأَحَد فاتح محرم سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وسنه يَوْمئِذٍ أَربع عشرَة سنة وَكَانَ الَّذين أخذُوا لَهُ الْبيعَة كانون بن جرمون السفياني وَشُعَيْب بن أوقاليط الهسكوري وفرنسيل قَائِد جَيش الفرنج فَإِنَّهُ لما مَاتَ الْمَأْمُون كتمت جَارِيَته بعد مَوته وَاسْمهَا حباب وَكَانَت فرنجية الأَصْل وَمن دهاة النِّسَاء(2/241)
وعقلائهن وَهِي أم الرشيد فاستدعت هَؤُلَاءِ النَّفر الثَّلَاثَة وَكَانُوا عُمْدَة جَيش الْمَأْمُون يركب كل وَاحِد مِنْهُم فِي أَزِيد من عشرَة آلَاف من قومه وأعوانه وَلِأَن أهل الْحل وَالْعقد من الْمُوَحِّدين قد أَتَت عَلَيْهِم فتكت الْمَأْمُون فجاؤوا إِلَيْهِ فأعلمتهم بِمَوْت الْخَلِيفَة ورغبت إِلَيْهِم فِي بيعَة ابْنهَا الرشيد وَالْقِيَام مَعَه وبذلت لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا جمة ووعدتهم مَعَ ذَلِك أَنهم إِذا فتحُوا الحضرة وَكَانَ يحيى قد استولى عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَا تجعلها لَهُم فَيْئا فَبَايعُوهُ وَأخذُوا الْبيعَة لَهُ على سواهُم فَبَايع النَّاس طَوْعًا وَكرها خوفًا من سيوفهم
وَلما تمّ أمره جعل أَبَاهُ فِي تَابُوت وَقدمه أَمَامه وَسَار إِلَى مراكش وَسمع يحيى واهل مراكش بِمَا شرطته حباب للقواد الثَّلَاثَة من جعل مدينتهم فَيْئا فَخَرجُوا لقِتَال الرشيد بأجمعهم
واستخلف يحيى على مراكش أَبَا سعيد بن وانودين والتقى الْجَمْعَانِ فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ يحيى وَقتل أَكثر من مَعَه وصبح الرشيد مراكش فتحصن مِنْهُ أَهلهَا فَأَمنَهُمْ وَصَالح قَائِد الفرنج وَأَصْحَابه على فَيْئهَا بِخَمْسَة آلَاف دِينَار
وَدخل الرشيد مراكش وَاسْتقر بهَا وَكَانَ قد وصل فِي صُحْبَة عَمه السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد سعد بن الْمَنْصُور فَحل من تِلْكَ الدولة بمَكَان وَكَانَ إِلَيْهِ التَّدْبِير والحل وَالْعقد وَبعد اسْتِقْرَار الرشيد بمراكش قدم عَلَيْهِ عمر بن أوقاريط الهسكوري صُحْبَة أَوْلَاد الْمَأْمُون الَّذين كَانُوا بإشبيلية ونفاهم ابْن هود عَنْهَا وَكَانَ ابْن أوقاريط هَذَا منحرفا عَن الْمَأْمُون ايام حَيَاته فتذمم بِصُحْبَة هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد وَقدم على الرشيد فتقبله واتصل بالسيد أبي مُحَمَّد وَحسنت مَنْزِلَته لَدَيْهِ
ثمَّ لما هلك السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد لحق ابْن أوقاريط بقَوْمه ومعتصمه وكشف وَجه الْخلاف وَأخذ بدعوة يحيى بن النَّاصِر واستنفر لَهُ قبائل الْمُوَحِّدين ونهض إِلَيْهِم الرشيد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة واستخلف على الحضرة صهره أَبَا الْعَلَاء إِدْرِيس وَصعد إِلَيْهِم الْجَبَل فأوقع بِيَحْيَى وجموعه بمكانهم من هزرجة وَاسْتولى على معسكرهم وَلحق يحيى بِبِلَاد سجلماسة(2/242)
وانكفأ الرشيد رَاجعا إِلَى حَضرته وَاسْتَأْمَنَ لَهُ كثير من الْمُوَحِّدين الَّذين كَانُوا مَعَ يحيى فَأَمنَهُمْ وَلَحِقُوا بِحَضْرَتِهِ وَكَانَ كَبِيرهمْ أَبُو عُثْمَان سعيد بن زَكَرِيَّا القدميوي وَجَاء الْبَاقُونَ على أَثَره بعد أَن شرطُوا عَلَيْهِ إِعَادَة مَا كَانَ أزاله الْمَأْمُون من رسوم الْمهْدي وسننه فأعيدت واطمأنوا لإعادة رسوم الدعْوَة المهدية واستقامت الْأَحْوَال فِي هَذِه الْأَيَّام إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
فتْنَة الْخَلْط مَعَ الرشيد واستيلاؤهم على حَضْرَة مراكش
كَانَ مَسْعُود بن حميدان كَبِير الْخَلْط قد أغراه عمر بن أوقاريط بِالْخِلَافِ لصحبة بَينهمَا وَكَانَ مدلا ببأسه وَكَثْرَة جموعه يُقَال إِن الْخَلْط كَانُوا يَوْمئِذٍ يناهزون اثْنَي عشرَة ألف فَارس سوى الرجل والأتباع والحشود فَمَرض مَسْعُود فِي الطَّاعَة وتثاقل عَن الْوِفَادَة إِلَى الحضرة
وَلما علم بِعقد الْمُوَحِّدين واجتماع كلمتهم على الرشيد غاظه ذَلِك وَأخذ فِي السَّعْي للفرقة والشتات بَينهم فأعمل الرشيد الْحِيلَة فِي استدعائه وَصرف عساكره إِلَى بعض الْجِهَات حَتَّى خلا لمسعود الجو وَذهب عَنهُ الريب واستقدمه الرشيد فأسرع اللحاق بالحضرة وَقدم مَعَه مُعَاوِيَة عَم عمر بن أوقاريط فَقبض على مُعَاوِيَة وَقتل لحينه واستدعى الرشيد ابْن حميدان إِلَى الْمجْلس الخلافي للْحَدِيث فتقبض عَلَيْهِ وعَلى خَمْسَة وَعشْرين من أَصْحَابه من كبار الْخَلْط وَقتلُوا ساعتئذ بعد جَوْلَة وهيعة وَقضى الرشيد حَاجَة فِي نَفسه مِنْهُم
وَلما بلغ خبر مقتلهم إِلَى قَومهمْ قدمُوا عَلَيْهِم يحيى بن هِلَال بن حميدان وأجلبوا على سَائِر النواحي وأعلنوا بدعوة يحيى بن النَّاصِر واستقدموه من مَكَانَهُ بقاصية الصَّحرَاء وداخلهم فِي ذَلِك عمر بن أوقاريط وزحفوا لحصار مراكش وَخرجت العساكر لقتالهم وَمَعَهُمْ عبد الصَّمد بن يلولان فدافع ابْن أوقاريط بجموعه فِي تِلْكَ العساكر فَانْهَزَمُوا وأحيط بجند النَّصَارَى فَقتلُوا وتفاقم الْأَمر بالحضرة وعدمت الأقوات واعتزم الرشيد(2/243)
على الْخُرُوج إِلَى جبل الْمُوَحِّدين فَخرج إِلَيْهَا وَسَار مِنْهَا إِلَى سجلماسة فملكها وَاشْتَدَّ الْحصار على مراكش واقتحمها يحيى بن النَّاصِر وأنصاره من الْخَلْط وهسكورة فنهبوها وساء أَثَرهم فِيهَا واضطربت أَحْوَال الْخلَافَة بهَا وتغلب على السُّلْطَان السَّيِّد أَبُو إِبْرَاهِيم بن أبي حَفْص الملقب بِأبي حافة وَهَذِه الْفِتَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
هجوم نَصَارَى جنوة على مَدِينَة سبتة وحصارهم إِيَّاهَا
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة نَازل الفرنج الجنويون سبتة بأجفان لَا تحصى ونصبوا عَلَيْهَا المنجنيقات والآلات الْمعدة للحصار واستمروا على ذَلِك إِلَى أَن دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا فَلم يقدروا مِنْهَا على شَيْء وَلما اشْتَدَّ الْحصار على أهل سبتة صَالحُوا الفرنج فِي الإفراج عَنْهُم بأربعمائة ألف دِينَار فقبلوا وأقلعوا عَنْهُم بعد الْحصار الشَّديد والتضييق الْعَظِيم
عود الرشيد إِلَى مراكش وفرار يحيى عَنْهَا إِلَى بني معقل ومقتله بهم
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة خرج الرشيد من سجلماسة يقْصد مراكش وخاطب جرمون بن عِيسَى وَقَومه من سُفْيَان فَأَجَابُوهُ وعبروا وَادي أم الرّبيع وبرز إِلَيْهِ يحيى فِي جموعه والتقى الْفَرِيقَانِ فانهزمت جموع يحيى واستحر الْقَتْل فيهم وَدخل الرشيد إِلَى الحضرة ظافرا وَأَشَارَ ابْن أوقاريط على الْخَلْط بالاستصراخ بِابْن هود صَاحب الأندلس وَالْأَخْذ بدعوته بدعوته فَنَكَثُوا بيعَة يحيى وبعثوا وفدهم إِلَى ابْن هود صُحْبَة ابْن أوقاريط فاستقر هُنَاكَ وَلم يرجع إِلَيْهِم قولا فَعلم الْخَلْط أَنَّهَا حِيلَة من ابْن أوقاريط وَأَنه تخلص من الورطة(2/244)
وَخرج الرشيد من مراكش وفر الْخَلْط أَمَامه وَسَار إِلَى فاس وَأقَام بهَا أَيَّامًا وَفرق فِي فقهائها وصلحائها أَمْوَالًا ورباعا مغلة وسرح الْوَزير السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد إِلَى غمارة وفازاز لجباية أموالهما
وَكَانَ يحيى بن النَّاصِر لما نكث الْخَلْط بيعَته لحق بعرب معقل فأجاروه ووعدوه النُّصْرَة واشتطوا عَلَيْهِ فِي المطالب فأسف بَعضهم بِالْمَنْعِ فاغتاله فِي جِهَة تازا وسيق رَأسه إِلَى الرشيد بفاس فَبَعثه إِلَى مراكش وأوعز إِلَى نَائِبه بهَا أبي عَليّ بن عبد الْعَزِيز بقتل الْعَرَب الَّذين كَانُوا فِي اعتقاله وهم حسن بن زيد شيخ العاصم وقائد ابْنا عَامر شَيخا بنى جَابر فَقَتلهُمْ وانكفأ الرشيد رَاجعا إِلَى حَضرته سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَكَانَ ابْن أوقاريط لما فصل ابْن هود صَاحب الأندلس أَقَامَ عِنْده إِلَى هَذِه السّنة فَركب الْبَحْر فِي أسطول من أساطيل ابْن هود وَقصد مَدِينَة سلا وَبهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء صهر الرشيد فنازلها وَكَاد يغلب عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ عَنْهَا بِلَا طائل
وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ بعْدهَا بَايع أهل إشبيلية للرشيد وَنَقَضُوا طَاعَة ابْن هود وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو عمر بن الْجد وَوصل وفدهم إِلَى الحضرة ومروا فِي طريقهم بسبتة فَافْتدى أَهلهَا بهم فِي بيعَة الرشيد وَقدمُوا على الحضرة وَولى عَلَيْهِم الرشيد أَبَا عَليّ بن خلاص مِنْهُم وَانْصَرف وَفد إشبيلية وسبتة راضين
واستقدم الرشيد رُؤَسَاء الْخَلْط وَكَانُوا راجعوا طَاعَته بعد مقتل يحيى فقدموا عَلَيْهِ وتقبض عَلَيْهِم وَبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحيائهم ثمَّ أَمر بقتل مشيختهم وَقتل مَعَهم ابْن أوقاريط وَكَانَ أهل إشبيلية قد بعثوا بِهِ إِلَيْهِ فَقطع دابرهم
وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وصلت بيعَة مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر الثائر بالأندلس على ابْن هود وَكَانَ قد بَايع أَولا أَبَا زَكَرِيَّا الحفصي صَاحب إفريقية ثمَّ بدا لَهُ فَرد الْبيعَة إِلَى الرشيد(2/245)
اسْتِيلَاء الْعَدو على قرطبة
وَفِي هَذِه السّنة كَانَ اسْتِيلَاء الْعَدو دمره الله على مَدِينَة قرطبة قَاعِدَة بِلَاد الأندلس وَدَار مملكتها وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ بعْدهَا انْتَشَر بَنو مرين بِبِلَاد الْمغرب واشتدت شوكتهم بِهِ وزحف إِلَيْهِم الرشيد فهزموه ثمَّ زحف ثَانِيَة وثالثة فهزموه وَأقَام فِي محاربتهم سنتَيْن وَرجع عَنْهُم إِلَى الحضرة فَاشْتَدَّ عدوانهم بالمغرب وألحوا على مكناسة حَتَّى أعْطوا الإتاوة لبني حمامة مِنْهُم واتصل أغلبهم فِي نَوَاحِيهَا
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة قتل الرشيد كَاتبه ابْن المومياني لمداخلة لَهُ مَعَ بعض السَّادة وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن يُوسُف ووقف الرشيد على كتب بِخَطِّهِ غلط الرَّسُول بهَا فَدَفعهَا بدار الْخلَافَة فَوَقَعت إِلَى الرشيد فَقتله
وَفَاة الرشيد رَحمَه الله
مَاتَ الرشيد رَحمَه الله غريقا فِي بعض صهاريج بستانه بِحَضْرَة مراكش وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَيُقَال إِنَّه أخرج من المَاء حَيا فَحم لوقته وَمَات
وَذكر أَبُو عبد الله أكنسوس أَن غرق الرشيد كَانَ فِي الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء من أجدال الْيَوْم قَالَ وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر لِأَن مُلُوك بني عبد الْمُؤمن الَّذين أنشؤوها كَانُوا يرسلون فِيهَا الزوارق والفلك الصغار بِقصد النزهة والفرجة وَالله تَعَالَى أعلم(2/246)
الْخَبَر عَن دولة أبي الْحسن السعيد عَليّ بن الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور رَحمَه الله
لما هلك الرشيد بُويِعَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ أَبُو الْحسن على الْمَدْعُو السعيد بِتَعْيِين أبي مُحَمَّد بن وانودين وتلقب بالمعتضد بِاللَّه واستوزر السَّيِّد أَبَا إِسْحَاق ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن ويحي بن عطوش وتقبض على جملَة من مشيخة الْمُوَحِّدين واستصفى أَمْوَالهم واصطنع لنَفسِهِ رُؤَسَاء الْعَرَب من جشم وَاسْتظْهر بجموعهم على أمره وَكَانَ شيخ سُفْيَان كانون بن جرمون كَبِير مَجْلِسه وَكَانَ ضَرَر بني مرين قد تفاقم بالمغرب وداؤهم قد أعضل فَخرج السعيد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة لتمهيد بِلَاد الْمغرب فَانْتهى إِلَى سجلماسة وَكَانَ صَاحبهَا عبد الله بن زَكَرِيَّا الهزرجي قد انْتقض عَلَيْهِ فَقتله وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ حَتَّى نزل المقرمدة من أَرض فاس
وَعقد المهادنة مَعَ بني مرين وقفل إِلَى مراكش فَكَانَت هدنة على دخن فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى عاود النهوض إِلَيْهِم سنة ثَلَاثَة وَأَرْبَعين بعْدهَا واستخلف السَّيِّد أَبَا زيد ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم أَخا الْوَزير الْمَذْكُور آنِفا على مراكش وَاسْتعْمل أخاهما السَّيِّد أَبَا حَفْص وَهُوَ المرتضى على سلا وَسَار نَحْو بني مرين فَجمع لَهُ أَمِيرهمْ أَبُو بكر بن عبد الْحق جموع زناتة وصمد نَحوه حَتَّى إِذا ترَاءى الْجَمْعَانِ وتهيأ الْقَوْم للقاء خَالف كانون بن جرمون إِلَى آزمور فاستولى عَلَيْهَا وَغلب الْمُوَحِّدين عَلَيْهَا فَرجع السعيد أدراجه فِي أَتْبَاعه ففر كانون عَنْهَا فاعترضه السعيد فأوقع بِهِ واستلحم كثير من قومه سُفْيَان وَاسْتولى على مَا كَانَ لَهُم من مَال وماشية وَلحق كانون ببني مرين وَرجع السعيد إِلَى الحضرة
ثمَّ تقدم الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق المريني إِلَى مكناسة فضايقها وخطب طَاعَة أَهلهَا فثارت الْعَامَّة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فَقَتَلُوهُ(2/247)
وحذر شيوخها وكبراؤها من سطوته فحولوا الدعْوَة إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا الحفصي صَاحب إفريقية وَكَانَ استبد على بني عبد الْمُؤمن ورام التغلب حَتَّى على كرسيهم بمراكش فَبَايعهُ أهل مكناسة بمواطأة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ فِي أول أمره وَكَذَا أَخُوهُ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق من بعده ثمَّ اسْتَقل بِنَفسِهِ واستبد بأَمْره عِنْدَمَا تمّ لَهُ ملك الْمغرب حَسْبَمَا نَقصه بعد إِن شَاءَ الله
وَفِي هَذِه السّنة بعث أهل إشبيلية وَأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زَكَرِيَّا الحفصي أَيْضا وَبعث أَبُو عَليّ بن خلاص صَاحب سبتة إِلَيْهِ بهدية مَعَ ابْنه فِي أسطول أنشأه لذَلِك فغرق عِنْد إقلاعه من المرسى وَقبل هَذِه الْمدَّة بِيَسِير كَانَ الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا الحفصي قد تغلب على تلمسان وَبَايَعَهُ صَاحبهَا يغمراسن بن زيان العَبْد الْوَادي وَهُوَ جد ملك بني زيان أَصْحَاب تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط فَعظم قدر أبي زَكَرِيَّا بِسَبَب هَذِه البيعات الَّتِي انثالت عَلَيْهِ من سَائِر الْجِهَات وحدثته نَفسه بالتوثب على كرْسِي الْخلَافَة بمراكش وغص بَنو عبد الْمُؤمن بمكانه وَعظم عَلَيْهِم استبداده ثمَّ طمعه فِي كرسيهم وقرارة عزهم مَعَ أَنه مَا كَانَ إِلَّا جدولا من بحرهم وفرعا من دوحتهم وَالْأَمر كُله لله
نهوض السعيد من مراكش إِلَى غَزْو الثوار بالمغربين ومحاصرته يغمراسن بن زيان وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر من مَقْتَله رَحمَه الله
لما بلغ السعيد وَهُوَ بمراكش استبداد الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا بن أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الهنتاتي بإفريقية ومبايعة أُمَرَاء الْجِهَات لَهُ أعمل نظره فِي الْحَرَكَة إِلَى هَؤُلَاءِ الثوار والنهوض لتدويخ هَذِه الأقطار
وَكَانَ السعيد شهما حازما يقظا بعيد الهمة فَنظر فِي أعطاف دولته وفاوض الْمَلأ من الْمُوَحِّدين فِي تثقيف أطرافها وتقويم أودها وحرك(2/248)
هممهم وأثار حفائظهم وأراهم كَيفَ اقتطع عَنْهُم الْأَمر شَيْئا فَشَيْئًا فَابْن أبي حَفْص اقتطع إفريقية ويغمراسن بن زيان اقتطع الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ أَقَامَ فِيهِ الدعْوَة الحفصية وَابْن هود اقتطع الأندلس وَأقَام فِيهَا دَعْوَة بني الْعَبَّاس وَابْن الْأَحْمَر بالجانب الآخر مِنْهَا مُقيم للدعوة الحفصية أَيْضا وَهَؤُلَاء بَنو مرين قد تغلبُوا على ضواحي الْمغرب ثمَّ سموا إِلَى تملك أمصاره وَإِن سكتنا على هَذَا فيوشك أَن يخْتل الْأَمر وتنقرض الدولة فتذامروا وتداعوا إِلَى النهوض إِلَيْهِم فحشد السعيد الْجنُود وجهز العساكر وأزاح عللهم واستنفر عرب الْمغرب وَمَا يَلِيهِ واحتشد كَافَّة المصامدة
ونهض من مراكش آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص ثَالِثا
وَلما نزل بوادي بهت أَخذ فِي عرض عساكره وتمييزها فَخرج الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق من مكناسة لَيْلًا وَحده يتجسس الْأَخْبَار فَأَشْرَف على جموع السعيد فَرَأى مَا لَا قبل لَهُ بِهِ فَعَاد إِلَى قومه وَأَفْرج للسعيد عَن الْبِلَاد وتلاحقت بِهِ بَنو مرين من أماكنها الَّتِي كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر أنزلهم بهَا واجتمعوا عَلَيْهِ بحصن تازا وطامن بِلَاد الرِّيف
وَتقدم السعيد إِلَى مكناسة فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا يطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو وَقدمُوا بَين أَيْديهم الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عَليّ مَنْصُور بن حرزوز وتلقوه بالصبيان من الْمكَاتب على رؤوسهم الألواح وَبَين أَيْديهم الْمَصَاحِف وَخرج النِّسَاء حاسرات يطلبن الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم
ثمَّ ارتحل إِلَى تازا فِي أَتبَاع بني مرين وانتقل أَبُو بكر بن عبد الْحق إِلَى بني يزناسن ثمَّ رَاجع نظره فِي مسالمة الْمُوَحِّدين وَالدُّخُول فِي أَمرهم فَبعث ببيعته إِلَى السعيد وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتازا مَعَ جمَاعَة من وُجُوه بني مرين فقبلها السعيد وَعَفا لَهُم عَمَّا سلف فَسَأَلَهُ وفدهم أَن يستكفي بالأمير أبي بكر فِي أَمر تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان وَقد كتب إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر أَيْضا(2/249)
بذلك يَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ارْجع إِلَى حضرتك وقوني بالجيش وَأَنا أكفيك أَمر يغمراسن وَافْتَحْ لَك تلمسان فَاسْتَشَارَ السعيد وزراءه فَقَالُوا لَا تفعل فَإِن الزناتي أَخُو الزناتي لَا يَخْذُلهُ وَلَا يُسلمهُ فَكتب إِلَيْهِ السعيد بِأَن يبْعَث إِلَيْهِ جمَاعَة من قومه يعسكرون مَعَه فأمده الْأَمِير أَبُو بكر بِخَمْسِمِائَة من قبائل بني مرين وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه أبي عياد بن ابي يحيى بن حمامة وَخَرجُوا تَحت رايات السعيد ونهض من تازا يُرِيد تلمسان
وَعند ابْن أبي زرع أَن السعيد لما فرغ من أَمر مكناسة عَسْكَر بِظَاهِر فاس وهنالك أَتَتْهُ بيعَة بني مرين قَالَ ثمَّ ارتحل السعيد عَن فاس فِي الرَّابِع عشر من محرم سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَخسف الْقَمَر تِلْكَ اللَّيْلَة خسوفا كليا وَأصْبح السعيد غاديا يُرِيد تلمسان فَلَمَّا ركب فرسه انْكَسَرت لؤلؤة المنصوري فتطير وَنزل وَلم يرتحل إِلَّا فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور
وَلما سمع يغمراسن بإقبال السعيد إِلَيْهِ خرج من تلمسان فِي عشيرته وَقَومه من سَائِر بني عبد الواد وتحملوا بأهليهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى قلعة تامزردكت قبْلَة وَجدّة فَاعْتَصمُوا بهَا ووفد على السعيد الْفَقِيه عبدون وَزِير يغراسن مُؤديا للطاعة وساعيا فِي مَذَاهِب الْخدمَة ومتوليا من حاجات الْخَلِيفَة بتلمسان مَا يَدعُوهُ إِلَيْهِ ويصرفه فِي سَبيله ومعتذرا تخلف يغمراسن عَن الْوُصُول إِلَى حَضْرَة السعيد فلج السعيد فِي شَأْنه وَلم يعذرهُ وأبى إِلَّا مُبَاشرَة طَاعَته بِنَفسِهِ وساعده فِي ذَلِك كانون بن جرمون السفياني صَاحب الشورى بمجلسه وَمن حضر من الْمَلأ وردوا الْفَقِيه عبدون إِلَى يغمراسن ليستقدمه فتثاقل يغمراسن عَن الْقدوم خشيَة على نَفسه
وَاعْتمد السعيد الْجَبَل فِي عساكره حَتَّى أَنَاخَ بهَا فِي ساحة القلعة وَأخذ بمخنقهم ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع ركب مهجرا فِي وَقت القيلولة على حِين غَفلَة من النَّاس ليتطوف بالقلعة ويتقرى مكامنها فَبَصر بِهِ فَارس من بني عبد الواد يعرف بِيُوسُف الشَّيْطَان كَانَ أَسْفَل الْجَبَل بِقصد الحراسة وَاتفقَ أَن يغمراسن بن زيان وَابْن عَمه يَعْقُوب بن جَابر كَانَا قريبين مِنْهُ(2/250)
فعرفوا السعيد فَانْفَضُّوا عَلَيْهِ من بعض الشعاب أَمْثَال العقبان وطعنه يُوسُف الشَّيْطَان فكبه عَن فرسه وَعمد يَعْقُوب بن جَابر إِلَى وزيره يحيى بن عطوش فَقتله ثمَّ استحلموا لوقتهم موَالِيه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان وقائد جند النَّصَارَى وَهُوَ أَخُو القمط ووليدا يافعا من ولد السعيد وَيُقَال إِنَّمَا كَانَ ذَلِك يَوْم عبى السعيد العساكر وَصعد الْجَبَل لِلْقِتَالِ وَتقدم أَمَام النَّاس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعرة فِي طَرِيقه فتواثب عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الفرسان وَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ وَذَلِكَ منسلخ صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْمحلة فارتجت وَمَاجَتْ وَأخذ أَهلهَا فِي الْفِرَار وبادر يغمراسن إِلَى السعيد فَنزل إِلَيْهِ وَهُوَ صريع على الأَرْض فحياه وفداه وَأقسم لَهُ على الْبَرَاءَة من دَمه والسعيد رَحمَه الله واجم بمصرعه يجود بِنَفسِهِ إِلَى أَن فاظ وانتهب المعسكر بجملته
وَاسْتولى بَنو عبد الواد على مَا كَانَ بِهِ من الأخبية الْحَسَنَة والفازات الرفيعة واختص يغمراسن بفسطاط السُّلْطَان فَكَانَ لَهُ خَالِصَة دون قومه وَاسْتولى على الدخيرة الَّتِي كَانَت فِيهِ مِنْهَا مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَزْعمُونَ أَنه أحد الْمَصَاحِف الَّتِي انتسخت لعهد خِلَافَته وَإنَّهُ كَانَ فِي خَزَائِن قرطبة عِنْد ولد عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل ثمَّ صَار فِي ذخائر لمتونة فِيمَا صَار إِلَيْهِم من ذخائر مُلُوك الطوائف بالأندلس ثمَّ صَار إِلَى خَزَائِن الْمُوَحِّدين من يَد لمتونة
قَالَ ابْن خلدون وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد فِي خَزَائِن بني مرين فِيمَا استولوا عَلَيْهِ من ذخيرة آل زيان وَذَلِكَ عِنْد غلب السُّلْطَان أبي الْحسن المريني على تلمسان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة كَمَا نذكرهُ اه
وَقد تقدم لنا الْخَبَر عَن هَذَا الْمُصحف العثماني وَفِيه مُخَالفَة لبَعض مَا هُنَا وَسَيَأْتِي لنا فِي دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني مَا يُخَالف ذَلِك كُله وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
وَمن الذَّخَائِر الَّتِي صَارَت ليغمراسن من فسطاط السعيد العقد المنتظم(2/251)
من خَرَزَات الْيَاقُوت الفاخر والدر النفيس الْمُشْتَمل على مئين مُتعَدِّدَة من حصبائه وَكَانَ يُسمى بالثعبان
ثمَّ صَار إِلَى بني مرين أَيْضا إِلَى أَن تلف فِي الْبَحْر عِنْد غرق الأسطول بالسلطان أبي الْحسن بمرسى بجاية مرجعة من تونس حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِلَى ذخائر من أَمْثَاله وطرف من أشباهه مِمَّا يستخلصه الْمُلُوك لأَنْفُسِهِمْ ويعتدونه من ذخائرهم
وَلما سكنت الْفِتْنَة وركد عاصف تِلْكَ الهيعة نظر يغمراسن فِي شَأْن مواراة الْخَلِيفَة فجهزه وَرَفعه على أعواده فدفنه بالعباد بمقبرة الشَّيْخ أبي مَدين رَضِي الله عَنهُ ثمَّ نظر فِي شَأْن حرمه وَأُخْته تاعزونت الشهيرة الذّكر بعد أَن جاءها وَاعْتذر إِلَيْهَا مِمَّا وَقع وأصحبهن جملَة من مشيخة بني عبد الواد إِلَى مأمنهن فألحقوهن بدرعة من تخوم طاعتهم فَكَانَ ليغمراسن بذلك حَدِيث جميل فِي الْإِبْقَاء على الْحرم ورعي حُقُوق الْملك وَأما أهل محلّة السعيد فَإِنَّهُم بعد نهوضهم تداعوا واجتمعوا إِلَى عبد الله بن السعيد وقفلوا قَاصِدين مراكش
واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر بن عبد الْحق وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببني يزنسن وقدمت عَلَيْهِ الْحصَّة الَّتِي كَانَ وَجههَا مَعَ السعيد فتحقق الْخَبَر وانتهز الفرصة فِي الْمُوَحِّدين فَاعْترضَ عَسْكَرهمْ بجهات تازا فَقتل عبد الله بن السعيد واستلبهم وَاسْتولى على مَا بَقِي من أثاثهم ثمَّ جد السّير إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا وملكها وَلحق فل الْمُوَحِّدين بمراكش فَبَايعُوا عمر المرتضى كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن دولة أبي حَفْص عمر المرتضى ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رَحمَه الله
لما توفّي أَبُو الْحسن السعيد كَانَ عمر المرتضى واليا من قبله بقصبة رِبَاط الْفَتْح من سلا كَمَا قدمنَا فَاجْتمع الموحدون بِجَامِع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش(2/252)
وعقدوا لَهُ الْبيعَة وبعثوا بهَا إِلَيْهِ ونهض هُوَ مُتَوَجها إِلَى مراكش فَلَقِيَهُ وفدهم أثْنَاء طَرِيقه بتامسنا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ أَشْيَاخ الْعَرَب فَبَايعُوهُ أَيْضا واستقام أمره وتلقب بالمرتضى وَعقد ليعقوب بن كانون على بني جَابر ولعمه يَعْقُوب بن جرمون على عرب سُفْيَان بعد أَن كَانَ قومه قدموه عَلَيْهِم وَدخل الحضرة واستوزر أَبَا مُحَمَّد بن يُونُس من قرَابَته وَقبض على حَاشِيَة السعيد ثمَّ وصل أَخُوهُ السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق الَّذِي كَانَ وزيرا للسعيد من قبل ناجيا من وقْعَة تامزردكت آخِذا على طَرِيق سجلماسة فاستوزره أَيْضا وَأسْندَ إِلَيْهِ أمره وَاسْتولى أَبُو بكر بن عبد الْحق أَمِير بني مرين بعد مهلك السعيد على رِبَاط تازا ومكناسة ثمَّ استولى سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة على فاس وأعمالها فاقتطع عَن المرتضى بِلَاد الغرب كلهَا وَلم يبْق لَهُ إِلَّا بِلَاد الْحَوْز من سلا إِلَى السوس
ولأول دولة المرتضى كَانَ اسْتِيلَاء الْعَدو على إشبيلية إِحْدَى قَوَاعِد الأندلس فَإِن طاغية قشتالة وَهُوَ الإصبنيول خذله الله حاصرها سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس من شعْبَان من السّنة بعْدهَا ملكهَا صلحا بعد منازلتها حولا كَامِلا وَخَمْسَة أشهر وانتقل كرْسِي المملكة الإسلامية بالأندلس إِلَى غرناطة وَذَلِكَ فِي دولة بني الْأَحْمَر
وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ملك الْأَمِير أَبُو بكر المريني سلا ورباط الْفَتْح ووفد على المرتضى بمراكش مُوسَى بن زيان الونكاسي وَأَخُوهُ عَليّ بن زيان من قبيل بني مرين وأغروه بِقِتَال بني عبد الْحق فأسعفهم وَلما انْتهى إِلَى أَمَان إيملولين أشاع يَعْقُوب بن جرمون السفياني قَضِيَّة الصُّلْح بَينهمَا وَأصْبح راحلا وَقد استولى الْجزع على قُلُوب الْجَيْش فَانْفَضُّوا وَوَقعت الْهَزِيمَة من غير قتال وَوصل المرتضى إِلَى الحضرة وأغضى ليعقوب عَمَّا صدر مِنْهُ
وَفِي سنة خمسين وسِتمِائَة اسْترْجع المرتضى سلا ورباط الْفَتْح من يَد بني مرين
وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين بعْدهَا فر من حَاشِيَة المرتضى عَليّ بن يدر(2/253)
من بني باداسن وَلحق بِبِلَاد السوس وتحصن بِبَعْض جبالها ثمَّ حاصر تارودانت قَاعِدَة بِلَاد السوس فاستولى عَلَيْهَا واستخدم الشبانات وَذَوي حسان من عرب معقل وأطاعته قبائل جزولة واستفحل أمره وَاسْتولى على بسائط السوس فَوجه إِلَيْهِ المرتضى عدَّة جيوش فَهزمَ الْبَعْض وَقتل الْبَعْض ثمَّ جَاءَ ابو دبوس من بعد المرتضى فَنَهَضَ إِلَيْهِ وحاصره بِبَعْض حصونه قرب تارودانت
وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار رغب فِي الْإِقَالَة ومعاودة الطَّاعَة فَقبل ذَلِك مِنْهُ أَبُو دبوس وأقلع عَن حصاره وَعَاد إِلَى الحضرة وَلما استولى بَنو مرين على مراكش سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة استبد على بني يدر هَذَا عَلَيْهِم وتملك قطر السوس وَاسْتولى على تارودانت وَسَائِر قراه ومعاقله وأرهف حَده للْعَرَب وسامهم الهضيمة فزحفوا إِلَيْهِ وقتلوه فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ توارث قطر السوس من بعده جمَاعَة من عشيرته وَاسْتمرّ ملكهم عَلَيْهِ إِلَى زمَان السُّلْطَان أبي الْحسن المريني فَغَلَبَهُمْ عَلَيْهِ وانقرض أَمرهم
رَجَعَ إِلَى أَخْبَار عمر المرتضى
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة خرج أَبُو الْحسن بن يَعْلُو قَائِد المرتضى فِي جَيش من الْمُوَحِّدين إِلَى تامسنا ليكشف أَحْوَال الْعَرَب وَمَعَهُ يَعْقُوب بن شيخ بني جَابر قبض عَلَيْهِ وعَلى وزيره ابْن مُسلم وطير بهما إِلَى الحضرة معتقلين
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين بعْدهَا خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس وأعمالها من يَد بني مرين المتغلبين عَلَيْهَا واحتفل فِي الاحتشاد وَبَالغ فِي الاستعداد فَكَانَ جَيْشه ثَمَانِينَ ألف فَارس من الْمُوَحِّدين وَالْعرب والأغزاز وَأهل الأندلس والفرنج فَسَار حَتَّى نزل جبل بني بهْلُول قبْلَة فاس وَكَانَت هَيْبَة بني مرين وناموسهم قد تمكن من قُلُوب جَيش المرتضى فَكَانُوا مُنْذُ قربوا من أحواز فاس لَا ينامون إِلَّا غرارا فَانْطَلق ذَات لَيْلَة فرس لبَعض(2/254)
الجنديين وَجرى بَين الأخبية وَجرى النَّاس خَلفه ليأخذوه فَظن أهل الْمحلة أَن بني مرين قد أَغَارُوا عَلَيْهِم فَرَكبُوا خيولهم وماج بَعضهم فِي بعض وانقلبوا منهزمين لَا يلوون على شَيْء
واتصل الْخَبَر بِأبي بكر بن عبد الْحق وَهُوَ بفاس فَخرج للْوَقْت واحتوى على جَمِيع مَا فِي محلّة الْمُوَحِّدين من الأخبية والأثاث وَالسِّلَاح وَالْمَال وَمر المرتضى على وَجهه فَدخل مراكش فِي جمع قَلِيل من الْأَشْيَاخ والإفرنج وَأقَام بهَا وَأعْرض عَن بني مرين وتسلى عَنْهُم سَائِر أَيَّامه وازدادت شَوْكَة الْمُوَحِّدين ضعفا
واستبد أَبُو الْقَاسِم العزفي بسبتة واستتب أمره بهَا وتوارث الرياسة بهَا عشيرته من بعده زَمَانا إِلَى أَن غلبهم عَلَيْهَا بَنو مرين
وَفِي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة استولى أَبُو بكر بن عبد الْحق على سجلماسة وتقبض على واليها عبد الْحق بن أصكوا بمداخلة خديم لَهُ يعرف بِمُحَمد القطراني وَشرط على الْأَمِير أبي بكر أَن يكون هُوَ الْوَالِي عَلَيْهَا فَأمْضى لَهُ شَرطه وَأنزل مَعَه بهَا جمَاعَة من رجالات بني مرين حَتَّى إِذا هلك أَبُو بكر بن عبد الْحق أخرجهم مُحَمَّد القطراني واستبد بِأَمْر سجلماسة وراجع دَعْوَة المرتضى وَاعْتذر إِلَيْهِ وَاشْترط عَلَيْهِ الاستبداد فَأمْضى لَهُ شَرطه إِلَّا فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة وَبعث أَبَا عمر بن حجاج قَاضِيا من الحضرة وَبَعض السَّادة للنَّظَر فِي الْقَضِيَّة وَقَائِدًا من النَّصَارَى بعسكر للحماية فأعمل القَاضِي ابْن حجاج الْحِيلَة فِي قتل القطراني وَتَوَلَّى الفتك بِهِ قَائِد النَّصَارَى واستبد السَّيِّد بِأَمْر سجلماسة بدعوة المرتضى
واستفحل أَمر بني مرين أثْنَاء ذَلِك وَنزل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق بسائط تامسنا فسرح إِلَيْهِم المرتضى عَسَاكِر الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن عبد الله بن وانودين فأجفلوا إِلَى وَادي أم الرّبيع واتبعهم الموحدون وألحوا عَلَيْهِم فعطف عَلَيْهِم بَنو مرين واقتتلوا بِبَطن الْوَادي فانهزمت عَسَاكِر الْمُوَحِّدين وغدر بهم بَنو جَابر وَكَانَ فِي مسيل الْوَادي كدى يحسر عَنْهَا(2/255)
المَاء فتبدو كَأَنَّهَا أرجل فسميت الْوَاقِعَة من أجل ذَلِك بِأم الرجلَيْن وَذَلِكَ فِي سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة وَبَقِي المرتضى يعالج أَمر عَليّ بن بدر الثائر بالسوس إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَأقبل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي جموع بني مرين حَتَّى نزل على مراكش واتصل الْحَرْب بَينه وَبَين الْمُوَحِّدين بظاهرها أَيَّامًا هلك فِيهَا عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد الْحق فَبعث المرتضى إِلَى أَبِيه يَعْقُوب بالتعزية ولاطفه وَضرب إتاوة يبْعَث بهَا إِلَيْهِ فِي كل سنة فَرضِي يَعْقُوب وارتحل عَنْهَا وَقيل إِن مقتل عبد الله بن يَعْقُوب كَانَ سنة سِتِّينَ قبل وقْعَة أم الرجلَيْن وَالله تَعَالَى أعلم
انْتِقَاض أبي دبوس على المرتضى واستيلاؤه على مراكش ومقتل المرتضى عقب ذَلِك
لما ارتحل بني مرين عَن مراكش بعد مهلك عبد الله بن يَعْقُوب فر من الحضرة قَائِد حروب المرتضى وَابْن عَمه وَهُوَ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس الملقب بِأبي دبوس ابْن السَّيِّد أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن السَّيِّد أبي حَفْص عمر بن عبد الْمُؤمن لسعاية تمكنت فِيهِ عِنْد المرتضى وَأَنه يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ فاحس أَبُو دبوس بِالشَّرِّ وَلحق بِيَعْقُوب بن عبد الْحق فأدركه عِنْد مقدمه إِلَى فاس قَافِلًا من مَنَازِله مراكش فَأقبل عَلَيْهِ الْأَمِير يَعْقُوب وَبَالغ فِي إكرامه فَطلب مِنْهُ أَبُو دبوس الْإِعَانَة على حَرْب المرتضى وَكَانَ بطلا محربا وَضمن لَهُ فتح مراكش وَاشْترط لَهُ الْمُقَاسَمَة فِيمَا يغلب عَلَيْهِ من السُّلْطَان وَمَا يستفيده من الذَّخِيرَة وَالْمَال فأمده الْأَمِير يَعْقُوب بِخَمْسَة آلَاف من بني مرين وبالكفاية من المَال وبالمستجاد من آلَة الْحَرْب من طبول وبنود وَنَحْو ذَلِك وَكتب لَهُ مَعَ ذَلِك إِلَى عرب جشم وأميرهم يَوْمئِذٍ عَليّ بن أبي الخلطي أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة فَسَار أَبُو دبوس حَتَّى وصل إِلَى سلا فَكتب مِنْهَا إِلَى الْعَرَب وأشياخ الْمُوَحِّدين والمصامدة الَّذين فِي طَاعَة المرتضى يَدعُوهُم(2/256)
إِلَى بيعَته ويعدهم ويمنيهم فَتَلَقَّتْهُ وُفُود الْعَرَب والهساكرة وصنهاجة آزمور بِبَعْض الطَّرِيق فَبَايعُوهُ وَسَارُوا مَعَه حَتَّى نزل بِلَاد هسكورة ثمَّ كتب إِلَى خاصته من وزراء المرتضى أَن يعلموه بِحَال الْبَلَد والدولة فراجعوه أَن أسْرع السّير وَأَقْبل وَلَا تخشن شَيْئا فَإنَّا قد فرقنا الْجند فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَهَذَا وَقت انتهاز الفرصة فزحف أَبُو دبوس إِلَى مراكش حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى أغمات وجد بهَا الْوَزير أَبَا زيد بن يكيت فِي جَيش من حاميتها فناجزه الْحَرْب فَانْهَزَمَ ابْن يكيت وَقتل عَامَّة أَصْحَابه
وَسَار أَبُو دبوس يؤم مراكش وَمَعَهُ سُفْيَان وَبنى جَابر وَكَبِيرهمْ يَوْمئِذٍ علوش بن كانون السفياني فَلَمَّا دنوا من مراكش أغار علوش على بَاب الشَّرِيعَة مِنْهَا وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى ركز رمحه بمصراع الْبَاب وَدخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة والمرتضى بمراكش غافل عَن شَأْن أبي دبوس والأسوار خَالِيَة من الحامية والحراص فقصد أَبُو دبوس بَاب أغمات وتسور الْبَلَد من هُنَالك وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وصمد إِلَى القصبة فاقتحمها من بَاب الطبول وَاسْتولى عَلَيْهَا
وَقَالَ ابْن أبي زرع إِن دُخُول أبي دبوس مراكش كَانَ من بَاب الصَّالِحَة وَذَلِكَ ضحى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة والصالحة الَّتِي اضيف إِلَيْهَا هَذَا الْبَاب هِيَ بُسْتَان كَبِير من جملَة بساتين أجدال دَار الْخلَافَة بمراكش وَلَا زَالَ هَذَا الْبُسْتَان مَشْهُور بِهَذَا الإسم إِلَى الْآن وَهُوَ من إنْشَاء عبد الْمُؤمن بن عَليّ رَحمَه الله فقد ذ كرّ الشَّيْخ أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد عذارى الأندلسي فِي كتاب الْبَيَان المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب أَن بُسْتَان المسرة الَّذِي بِظَاهِر جنان الصَّالِحَة أنشأه عبد الْمُؤمن بن عَليّ كَبِير الْمُوَحِّدين قَالَ وَهُوَ بُسْتَان طوله ثَلَاثَة أَمْيَال وَعرضه قريب مِنْهَا فِيهِ كل فَاكِهَة تشْتَهى وجلب إِلَيْهِ المَاء من أغمات واستنبط لَهُ عيُونا كَثِيرَة
قَالَ ابْن اليسع وَمَا خرجت أَنا من مراكش فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين(2/257)
وَخَمْسمِائة إِلَّا وَهَذَا الْبُسْتَان الَّذِي غرسه عبد الْمُؤمن يبلغ مَبِيع زيتونه وفواكهه ثَلَاثِينَ ألف دِينَار مؤمنية على رخص الْفَاكِهَة بمراكش اه
قلت ولشهرة هَذَا الْبُسْتَان وموقعه من النَّاس لهجت بِهِ صبيانهم وسجعوا بِهِ فَيَقُولُونَ يَا جردة مالحة أَيْن بت سارحة فِي جنان الصَّالِحَة فِي أسجاع غير هَذِه تجْرِي على أَلْسِنَة الصّبيان وَالله أعلم
رَجَعَ إِلَى خبر أبي دبوس
قَالَ ابْن أبي زرع لما اقتحم أَبُو دبوس مراكش سَار حَتَّى وقف بِبَاب البنود من القصبة فغلقت الْأَبْوَاب دونه وَقَامَ عبيد المخزن عَلَيْهَا يقاتلونه
وَلما رأى المرتضى أَن أَبَا دبوس قد التحف مَعَه كسَاء دَار الْملك خرج من الْقصر ناجيا بِنَفسِهِ من بَاب الْفَاتِحَة وَمَعَهُ الْوَزير أَبُو زيد بن يَعْلُو الكومي وَأَبُو مُوسَى بن عزوز الهنتاتي ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى كدميوة ثمَّ إِلَى شفشاوة ثمَّ لحق آخرا بآزمور وَنزل على صهر لَهُ من بني عطوش كَانَ واليا عَلَيْهَا من قبله وَكَانَ ابْن عطوش هَذَا قد أسره الْعَدو فافتكه المرتضى بِمَال جسيم وزوجه ابْنَته وولاه آزمور فَلَمَّا وَقعت عَلَيْهِ الكائنة بمراكش ذهب إِلَيْهِ مستجيرا بِهِ ومطمئنا إِلَيْهِ فَكَانَ من جَزَائِهِ لَهُ أَن قبض عَلَيْهِ وَقَيده وَكتب إِلَيْهِ أبي دبوس يُعلمهُ بِشَأْنِهِ فَكتب أَبُو دبوس إِلَيْهِ يستكشفه فِي شَأْن الذَّخِيرَة فَأنْكر المرتضى أَن يكون قد أذخر شَيْئا وَحلف على ذَلِك ومت إِلَيْهِ بالرحم حَتَّى كَاد أَبُو دبوس يعْطف عَلَيْهِ ثمَّ أغراه خاصته بِهِ فَوجه إِلَيْهِ من قَتله فِي الطَّرِيق وأتى إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ وَسَار ابْن عطوش بفعلته هَذِه أظلم من الخيفقان
وَكَانَ مقتل المرتضى فِي الْعشْر الآواخر من شهر ربيع الْأُخَر سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَكَانَ رَحمَه الله ينتمي إِلَى التصوف والزهد والورع وَتسَمى بثالث العمرين وَكَانَ مُولَعا بِالسَّمَاعِ لَا يكَاد يَخْلُو مِنْهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَكَانَ فِي أَيَّامه رخاء مفرط لم ير أهل مراكش مثله(2/258)
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب كَانَ المرتضى فَاضلا خيرا عفيفا مغمد السَّيْف مائلا إِلَى الْهُدْنَة رَحمَه الله
الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَلَاء إِدْرِيس الواثق بِاللَّه الْمَعْرُوف بِأبي دبوس
لما تقدم أَبُو دبوس حَضْرَة الْخلَافَة على المرتضى وفر المرتضى عَنْهَا ملكهَا أَبُو دبوس واستتب أمره بهَا وَبَايَعَهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وَأهل العقد والحل من الوزراء وَالْفُقَهَاء والأشياخ وَكَانَ ذَلِك بِجَامِع الْمَنْصُور يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة واستقل أَبُو دبوس بمملكة مراكش وأعمالها وتلقب بالواثق بِاللَّه وَالْمُعْتَمد على الله وبذل الْعَطاء وَنظر فِي الولايات وَرفع المكوس عَن الرّعية
وَلما اتَّصل بالأمير يَعْقُوب بن عبد الْحق مَا كَانَ من أبي دبوس واستيلائه على المملكة كتب إِلَيْهِ يهنئه بِالْفَتْح وَيطْلب مِنْهُ أَن يُمكنهُ من الشَّرْط الَّذِي شَرط لَهُ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْكتاب أَدْرَكته النخوة وَغلب عَلَيْهِ الْكبر وَقَالَ للرسول قل ليعقوب بن عبد الْحق يغتنم سَلَامَته وَيبْعَث إِلَيّ ببيعته حَتَّى أقره على مَا بِيَدِهِ وَإِلَّا غزوته بِجُنُود لَا قبل لَهُ بهَا فَعَاد الرَّسُول إِلَى الْأَمِير يَعْقُوب وأبلغه الْخَبَر وَدفع إِلَيْهِ كتاب أبي دبوس فَإِذا هُوَ يخاطبه مُخَاطبَة الْخُلَفَاء لعمالهم والرؤساء لخدمهم فتحقق الْأَمِير نكثه وغدره فَنَهَضَ إِلَيْهِ فِي جموع بني مرين وعساكر الْمغرب
فَلَمَّا اشرف على مراكش خام أَبُو دبوس عَن اللِّقَاء وتحصن بداره ولجأ إِلَى أسواره فَتقدم الْأَمِير يَعْقُوب حَتَّى نزل على مراكش وحاصرها أَيَّامًا وعادت فِي نَوَاحِيهَا وانتسف مَا حولهَا
وَلما رأى أَبُو دبوس مَا نزل بِهِ مِنْهُ كتب إِلَى قريعه يغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان يطْلب مِنْهُ أَن يشغل عَنهُ الْأَمِير يَعْقُوب بِمَا وَرَاءه من أَعمال(2/259)
فاس وَالْمغْرب وأسنى لَهُ الْهَدِيَّة فِي ذَلِك وأكد الْعَهْد فِي الْمُوَالَاة والمناصرة فَأَجَابَهُ يغمراسن إِلَى ذَلِك نَهَضَ من حِينه فشن الغارات على ثغور الْمغرب واضرم نَار الْفِتْنَة بهَا
واتصل ذَلِك بالأمير يَعْقُوب وَهُوَ محاصر لمراكش فَرجع عوده على بدنه وَسَار إِلَى يغمراسن فناجزه الْحَرْب وانتصف مِنْهُ على مَا يَنْبَغِي وحسم مَادَّة فَسَاده
ثمَّ كرّ رَاجعا إِلَى مراكش فِي شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَلما عبر وَادي أم الرّبيع شن الغارات على النواحي وَبث السَّرَايَا فِي الْجِهَات وَطَالَ عيثه فِي الْبِلَاد وأبدأ فِي ذَلِك وَأعَاد حَتَّى ضَاقَتْ صُدُور بني عبد الْمُؤمن بمراكش وتكدر عيشهم فحرضهم أولياؤهم من عرب جشم وأغروهم باستنهاض أبي دبوس لمدافعة عدوه ووعدوهم النَّصْر من أنفسهم فَتحَرك أَبُو دبوس لذَلِك واشرأبت نَفسه إِلَى الْقِتَال فحشد وأبلغ وبرز من الحضرة فِي جيوش ضخمة وجموع وافرة
وَلما علم الْأَمِير يَعْقُوب بِخُرُوجِهِ ودنوه مِنْهُ أظهر من نَفسه الْعَجز عَن لِقَائِه وكر رَاجعا إِلَى جِهَة بِلَاده يستجره بذلك ليبعد عَن الحضرة ومددها وَتَمَادَى أَبُو دبوس فِي اتِّبَاعه حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي ودغفو فكر عَلَيْهِ الْأَمِير يَعْقُوب والتحم الْقِتَال وَقَامَت الْحَرْب على سَاق فَلم تمض إِلَّا سَاعَة حَتَّى انهزم الْمُوَحِّدين وَأطلق أَبُو دبوس عنانه للفرار يُرِيد مراكش فَأَدْرَكته خيل بني مرين وتناولته رماحهم وخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ واحتز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى الْأَمِير يَعْقُوب فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى ثمَّ بعث بِهِ إِلَى فاس وَتقدم هُوَ إِلَى مراكش فاستولى عَلَيْهَا فِي أَوَائِل محرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وفر الموحدون الَّذين كَانُوا بمراكش إِلَى جبل تينملل فَبَايعُوا إِسْحَاق بن أبي إِبْرَاهِيم أَخا المرتضى فَبَقيَ ذبالة هُنَالك إِلَى سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق هُوَ وَابْن عَمه السَّيِّد أَبُو سعيد بن أبي الرّبيع ووزيره القبائلي وَأَوْلَاده فَقتلُوا جَمِيعًا وانقرضت دولة بني عبد الْمُؤمن من الأَرْض وَذَهَبت محَاسِن مراكش يَوْمئِذٍ(2/260)
بذهاب دولتهم والبقاء لله وَحده لَا رب غَيره وَلَا معبود سواهُ
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث
فَفِي سنة إِحْدَى وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن جَعْفَر الخزرجي الْمَعْرُوف بالسبتي دَفِين مراكش وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب تاغزوت وَكَانَ شَيْخه أَبُو عبد الله الفخار من أَصْحَاب القَاضِي أبي الْفضل عِيَاض
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ جميل الصُّورَة أَبيض اللَّوْن حسن الثِّيَاب فصيح اللِّسَان قَادِرًا على الْكَلَام لَا يناظره أحد إِلَّا أَفْحَمَهُ حَتَّى كَأَن مواقع الْحجَج من الْكتاب وَالسّنة مَوْضُوعَة على طرف لِسَانه وَكَانَ مَعَ ذَلِك حَلِيمًا صبورا عطوفا يحسن إِلَى من يُؤْذِيه ويحلم عَمَّن يسفه عَلَيْهِ برا باليتامى وَالْمَسَاكِين رحِيما بهم يجلس حَيْثُ أمكنه الْجُلُوس من الْأَسْوَاق والطرقات ويحض النَّاس على الصَّدَقَة وَيَأْتِي بِمَا جَاءَ فِي فَضلهَا من الْآيَات والْآثَار فتنثال عَلَيْهِ من كل جَانب فيفرقها على الْمَسَاكِين وينصرف وَكَانَ لَهُ مَعَ الله تَعَالَى فِي التَّوَكُّل عَلَيْهِ عقد أكيد ومقام حميد قد ظهر أَثَره على روضته الْمُبَارَكَة بعد وَفَاته
حدث أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الخزرجي قَالَ بَعَثَنِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد من قرطبة وَقَالَ لي إِذا رَأَيْت أَبَا الْعَبَّاس السبتي بمراكش فَانْظُر مذْهبه واعلمني بِهِ قَالَ فَجَلَست مَعَ السبتي كثيرا إِلَى أَن حصلت على مذْهبه فأعلمته بذلك فَقَالَ لي أَبُو الْوَلِيد هَذَا رجل مذْهبه أَن الْوُجُود ينفعل بالجود
وَقَالَ الْوَزير ابْن الْخَطِيب كَانَ سَيِّدي أَبُو الْعَبَّاس السبتي رَضِي الله عَنهُ مَقْصُودا فِي حَيَاته مستغاثا بِهِ فِي الأزمات وحاله من أعظم الْآيَات الخارقة للْعَادَة ومبنى أمره على انفعال الْعَالم عَن الْجُود وَكَونه حِكْمَة فِي تأثر الْوُجُود لَهُ فِي ذَلِك أَخْبَار ذائعة وأمثال باهرة(2/261)
وَلما توفّي ظهر هَذَا الْأَثر على تربته وانسحبت على مَكَانَهُ عَادَة حَيَاته وَوَقع الْإِجْمَاع على تَسْلِيم هَذِه الدَّعْوَى وتخطى النَّاس مُبَاشرَة قَبره بِالصَّدَقَةِ إِلَى بعثها لَهُ من أماكنهم على بعد المدى وَانْقِطَاع الْأَمَاكِن القصى تحملهم أَجْنِحَة نياتهم فَتَهْوِي إِلَيْهِ بمقاصدهم من كل فج عميق فيجدون الثَّمَرَة الْمَعْرُوفَة والكرامة الْمَشْهُورَة
وَفِي سنة عشر وسِتمِائَة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب والأندلس
وَفِي سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السّلمِيّ البلفيقي يَنْتَهِي نسبه إِلَى الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله من كبار الْعلمَاء العاملين والزهد الْمُحَقِّقين مثابرا على الِاجْتِهَاد والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى وَظَهَرت عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ المرية من عدوة الأندلس كرامات وَاجْتمعَ عَلَيْهِ خلق كثير وشاع ذكره هُنَالك فوشوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَة صَاحب مراكش وَهُوَ يُوسُف الْمُنْتَصر الموحدي فَكتب إِلَى عَامله على المرية يَأْمُرهُ بتوجيهه الشَّيْخ أبي إِسْحَاق مكرما غير مروع
وَلما عزم الْعَامِل على تَوْجِيهه قَامَ الْعَامَّة والأتباع دون الشَّيْخ وَأَرَادُوا أَن يحولوا بَينه وَبَين الْعَامِل فَقَالَ لَهُم الشَّيْخ طَاعَة السُّلْطَان وَاجِبَة وَلما انْتهى إِلَى مراكش وَدخل على الْمُنْتَصر هابه وجله وَنَدم على مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ ثمَّ بَالغ فِي إكرامه وَبعد ذَلِك مرض الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَتُوفِّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة واحتفل النَّاس لجنازته وحضرها الْأُمَرَاء والكبراء وَكسر الْعَامَّة نعشه واقتسموا أعواده تبركا بِهِ وقبره مَشْهُور بمراكش بسوق الدَّقِيق مِنْهَا وبقرب ضريحه مَسْجِد جَامع ينْسب إِلَيْهِ والعامة تَقول جَامع سَيِّدي إِسْحَاق بِدُونِ لفظ الكنية وَلَيْسَ كَذَلِك
وَفِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة كَانَ الْجَرَاد والقحط والغلاء الشَّديد بالمغرب وفيهَا ألف الْفَقِيه أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يحيى التادلي المراكشي الدَّار عرف بِابْن الزيات كِتَابه الْمُسَمّى بالتشوف إِلَى رجال التصوف وَذكر(2/262)
فِيهِ أَنه لم يتَعَرَّض لذكر أحد من أَوْلِيَاء زَمَانه الْأَحْيَاء غير أَنه ذكر أَن من جملَة أَوْلِيَاء زَمَانه الَّذين كَانُوا قيد الْحَيَاة الشَّيْخ الصَّالح الصُّوفِي أَبَا مُحَمَّد صَالح بن ينضارن بن عفيان الدكالي ثمَّ الماجري نزيل ربط آسفي قَالَ وَهُوَ الْآن يفتر من الْجِهَاد والمحافظة على المواصلة والأوراد وَمن كَلَامه الْفَقِير لَيْسَ لَهُ نِهَايَة إِلَّا الْمَوْت قَالَ وحَدثني عَنهُ تلامذته بعجائب من الكرامات وَالْكَلَام على الخواطر وَهُوَ على سنَن الْمَشَايِخ الأول رَضِي الله عَنهُ
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَقيل فِيمَا بعد إِلَى سنة خمس وَعشْرين وَتُوفِّي رَضِي الله عَنهُ شَهِيدا بجبل الْعلم من جبال غمارة وقبره هُنَاكَ مَشْهُور من أعظم مزارات الْمغرب
وَكَانَ سَبَب شَهَادَته أَن مُحَمَّدًا بن أبي الطواجين الكتامي كَانَ قد ثار بِتِلْكَ الْبِلَاد وَانْتَحَلَ صناعَة الكيمياء ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة حَسْبَمَا سلف وَتَبعهُ على ضلالته طغاة غمارة والبربر فَكَانَ عَدو الله يغص بمَكَان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ لما آتَاهُ الله من شرف التَّقْوَى والاستقامة الْمُؤَيد بشرف النّسَب الصميم والعنصر الْكَرِيم فسول لَهُ الشَّيْطَان أَنه لَا يتم أَمر مخرقته فِي تِلْكَ النَّاحِيَة إِلَّا بقتل الشَّيْخ فَدس لَهُ جمَاعَة من أَتْبَاعه وأشياعه فرصدوا الشَّيْخ حَتَّى نزل من خلوته فِي سحر من الأسحار إِلَى عين هُنَالك قرب الْجَبَل الْمَذْكُور فَتَوَضَّأ مِنْهَا وَولى رَاجعا إِلَى مَحل عِبَادَته وارتقاب فجره فعدوا عَلَيْهِ وقتلوه وَمن الشَّائِع أَنه ألقِي عَلَيْهِم ضباب كثيف أضلهم عَن الطَّرِيق ودفعوا إِلَى شَوَاهِق تردوا مِنْهَا فِي مهاوي سحيقة تمزقت فِيهَا أشلاؤهم وَلم يرجع مِنْهُم خبر
وَالشَّيْخ عبد السَّلَام هَذَا هُوَ ابْن مشيش بن أبي بكر بن عَليّ بن حُرْمَة بن عِيسَى بن سَلام بتَشْديد اللَّام بن مزوار بِفَتْح الْمِيم وبالراء الْمُهْملَة أخيرا ابْن حيدرة واسْمه عَليّ بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم(2/263)
وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا استأسد الْعَدو الْكَافِر على الْمُسلمين بالأندلس وتوالت لَهُ عَلَيْهِم الهزائم بمواضع مُتعَدِّدَة وَاسْتولى على كثير من الْحُصُون واستلحم مِنْهُم عدَّة أُلُوف حَتَّى خلت الْمَسَاجِد والأسواق
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة اشْتَدَّ الغلاء بالمغرب والأندلس حَتَّى بيع القفيز من الْقَمْح بِخَمْسَة عشرَة دِينَارا وَعم الْجَرَاد بِلَاد الْمغرب
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة كَانَ السَّيْل الْعَظِيم بفاس هدم من سورها القبلي نَحْو مسافتين وَهدم من جَامع الأندلس ثَلَاثَة بلاطات وَهدم دورا كَثِيرَة وفنادق مُتعَدِّدَة من عدوة الأندلس
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة كَانَ الغلاء بِبِلَاد الْمغرب وَكثر بهَا الْجُوع والوباء حَتَّى بلغ القفيز من الْقَمْح ثَمَانِينَ دِينَارا وخلت الْأَمْصَار من أَهلهَا
وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة عاود الغلاء والوباء أَرض الْمغرب فَأكل النَّاس بَعضهم بَعْضًا وَكَانَ يدْفن فِي الحفير الْوَاحِد الْمِائَة من النَّاس
وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَقع الْحَرِيق بأسواق فاس فاحترقت حارة بَاب السلسلة بأسرها إِلَى حمام الرحبة وَبِاللَّهِ تَعَالَى الْعِصْمَة والتوفيق(2/264)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الدولة المرينية
الْخَبَر عَن دولة بني مرين مُلُوك فاس وَالْمغْرب وَذكر أوليتهم وأصلهم
اعْلَم أَن الْعَلامَة الرئيس أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون رَحمَه الله قسم جبل زناتة إِلَى طبقتين الطَّبَقَة الأولى هِيَ الَّتِي كَانَ مِنْهَا مغراوة مُلُوك فاس وَبَنُو يفرن مُلُوك سلا وَقد تقدم الْكَلَام على دولتهم مُسْتَوفى والطبقة الثَّانِيَة هِيَ الَّتِي كَانَ مِنْهُم بَنو عبد الواد مُلُوك تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَبَنُو مرين مُلُوك فاس وَالْمغْرب الْأَقْصَى وَهَؤُلَاء هم الَّذين تعلق الْغَرَض الْآن بذكرهم
فَاعْلَم أَن جبل زناتة فِي الْمغرب كَمَا قَالَ الرئيس الْمَذْكُور جبل قديم مَعْرُوف الْعين والأثر وهم لهَذَا الْعَهْد آخذون من شعار الْعَرَب فِي سُكْنى الْخيام واتخاذ الْإِبِل وركوب الْخَيل والتقلب فِي الأَرْض وإيلاف الرحلتين وتخطف النَّاس من الْعمرَان والإباية من الانقياد إِلَى النصفة وشعارهم من بَين البربر اللُّغَة الَّتِي يتراطنون بهَا وَهِي مشتهرة بنوعها عَن سَائِر رطانة البربر ومواطنهم فِي سَائِر مَوَاطِن البربر بإفريقية وَالْمغْرب
فَمنهمْ بِبِلَاد النخيل مَا بَين غدامس والسوس الْأَقْصَى حَتَّى أَن عَامَّة تِلْكَ الْقرى الجريدية بالصحراء مِنْهُم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية وبجبل أوراس بقايا مِنْهُم سكنوا مَعَ الْعَرَب الهلاليين لهَذَا الْعَهْد وأذعنوا لحكمهم وَالْأَكْثَر مِنْهُم بالمغرب الْأَوْسَط حَتَّى أَنه ينْسب إِلَيْهِم وَيعرف بهم فَيُقَال وَطن زناته وَمِنْهُم بالمغرب الْأَقْصَى أُمَم أخر وَكَانَ بَنو مرين مِنْهُم قبل استيلائهم على ملك الْمغرب أَحيَاء ظواعن بمجالات الْفقر من فيجج إِلَى(3/3)
سجلماسة إِلَى ملوية وَرُبمَا يخطون فِي ظعنهم إِلَى بِلَاد الزاب وَيذكر نسابتهم أَن الرياسة كَانَت فيهم فِي تِلْكَ العصور لمُحَمد بن ورزيز بن فكوس بن كرماط بن مرين ومرين يتَّصل نسبه بزانا بن يحيى أبي الجيل
وَكَانَ لمُحَمد الْمَذْكُور سَبْعَة من الْوَلَد اثْنَان مِنْهُم شقيقان وهم حمامة وعسكر وَخَمْسَة أَبنَاء علات وَكَانَ يُقَال لَهُم بِلِسَان زناتة تيربعين وَمَعْنَاهُ الْجَمَاعَة
ويزعمون أَن مُحَمَّد بن ورزيز لما هلك قَامَ بأَمْره من قومه ابْنه حمامة بن مُحَمَّد وَكَانَ الْأَكْبَر من وَلَده ثمَّ من بعده شقيقه عَسْكَر بن مُحَمَّد ثمَّ من بعده ابْنه المخضب بن عَسْكَر وَهلك سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة فِي بعض الحروب الَّتِي كَانَت بَين عبد الْمُؤمن والمرابطين
ثمَّ قَامَ بِأَمْر بني مرين بعد المخضب ابْن عَمه أَبُو بكر بن حَمَاقَة بن مُحَمَّد إِلَى أَن هلك فَقَامَ بأمرهم ابْنه أَبُو خَالِد محيو بن أبي بكر وَلم يزل مُطَاعًا فيهم إِلَى أَن استنفرهم يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى غَزْوَة الأرك بالأندلس فشهدوها وأبلوا فِيهَا الْبلَاء الْحسن وأصابت محيو بن أبي بكر يَوْمئِذٍ جراحات هلك مِنْهَا بصحراء الزاب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ من رياسة عبد الْحق ابْنه من بعده وبقائها فِي عقبَة مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْخَبَر عَن دُخُول بني مرين أَرض الْمغرب الْأَقْصَى واستيلائهم عَلَيْهِ وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السَّبَب فِي دُخُول بني مرين لهَذَا الْقطر المغربي أَنه لما كَانَت وقْعَة الْعقَاب بالأندلس سنة تسع وسِتمِائَة وَهزمَ النَّاصِر وَهلك الْجُمْهُور من حامية الْمغرب ورعاياه حَتَّى خلت الْبِلَاد من أَهلهَا ثمَّ حدث عقب ذَلِك الوباء الْعَظِيم الَّذِي تحيف النَّاس إِلَّا قَلِيلا وَهلك النَّاصِر سنة عشر بعْدهَا فَبَايع(3/4)
الموحدون ابْنه يُوسُف الْمُنْتَصر وَهُوَ يَوْمئِذٍ صبي حدث لَا يحسن التَّدْبِير وشغلته مَعَ ذَلِك أَحْوَال الصِّبَا ولذات الْملك عَن الْقيام بِأَمْر الرّعية فتضافرت هَذِه الْأَسْبَاب على الدولة الموحدية فأضعفتها لحينها وأمرضتها الْمَرَض الَّذِي كَانَ سَببا لحينها وَكَانَ بَنو مرين يَوْمئِذٍ موطنين بِبِلَاد الْقبْلَة من زاب إفريقية إِلَى سجلماسة يتنقلون فِي تِلْكَ القفار والصحارى لَا يدْخلُونَ تَحت حكم سُلْطَان وَلَا تنالهم الدولة بهضيمة وَلَا يؤدون إِلَيْهَا ضريبة كَثِيرَة وَلَا قَليلَة وَلَا يعْرفُونَ تِجَارَة وَلَا حرثا إِنَّمَا شغلهمْ الصَّيْد وطراد الْخَيل والغارات على أَطْرَاف الْبِلَاد
وَكَانَت طَائِفَة مِنْهُم ينتجعون تخوم الْمغرب وتلوله زمَان الرّبيع والصيف فيكتالون من أَطْرَاف الْبِلَاد مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْميرَة ويرعون فِيهَا تِلْكَ الْمدَّة أنعامهم وشاءهم حَتَّى إِذا أقبل فصل الشتَاء اجْتمع نجعهم بأكرسيف ثمَّ شدوا الرحلة إِلَى بِلَادهمْ فَكَانَ ذَلِك دأبهم على مر السنين
فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وسِتمِائَة أقبل نجعهم على عَادَته للارتفاق والمبرة حَتَّى إِذا أطلوا على الْمغرب من ثناياه ألفوه قد تبدلت أَحْوَاله وبادت خيله وَرِجَاله وفنيت حماته وأبطاله وعريت من أَهله أوطانه وخف مِنْهَا سكانه وقطانه ووجدوا الْبِلَاد مَعَ ذَلِك طيبَة المنبت خصيبة المرعى غزيرة المَاء وَاسِعَة الأكناف فسيحة الْمزَارِع متوفرة العشب لقلَّة راعيها مخضرة التلول والربى لعدم غاشيها فأقاموا بمكانهم وبعثوا إِلَى إخْوَانهمْ فَأَخْبرُوهُمْ بِحَال الْبِلَاد وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الخصب والأمن وَعدم المحامي والمدافع فاغتنموا الفرصة وَأَقْبلُوا مُسْرِعين بنجعهم وحللهم وانتشروا فِي نواحي الْمغرب وأوجفوا عَلَيْهَا بخيلهم وركابهم واكتسحوا بالغارات والنهب بسيطها ولجأت الرعايا إِلَى حصونها ومعاقلها وَتمّ لَهُم مَا أَرَادوا من الِاسْتِيلَاء على بسيط الْمغرب وسهله وانتجاع مواقع طله ووبله
الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن محيو المريني رَحمَه الله
لما دخل بَنو مرين الْمغرب كَانَ الْأَمِير عَلَيْهِم يَوْمئِذٍ عبد الْحق بن(3/5)
محبو بن أبي بكر بن حمامة بن مُحَمَّد المريني فَكثر عيثهم وضررهم بالمغرب وأعضل داؤهم وتضاعف على الرّعية بلاؤهم فَرفعت الشكايات بهم إِلَى الْخَلِيفَة بمراكش وَهُوَ يَوْمئِذٍ يُوسُف الْمُنْتَصر بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور فَجهز لَهُم جَيْشًا كثيفا من عشْرين ألفا وَعقد عَلَيْهِ لأبي عَليّ بن وانودين وَكتب لَهُ إِلَى صَاحب فاس السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ مَعَه لغزو بني مرين والإثخان فيهم وَعدم الْإِبْقَاء عَلَيْهِم مهما قدر على ذَلِك
واتصل الْخَبَر ببني مرين وهم فِي جِهَات الرِّيف وبلاد بطوية فتركوا أثقالهم وعيالهم بحصن تازوطا من أَرض الرِّيف وصمدوا إِلَى الْمُوَحِّدين فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي نكور فَكَانَ الظُّهُور لبني مرين على الْمُوَحِّدين فهزموهم وقتلوهم وامتلأت الْأَيْدِي من أسلابهم وأمتعتهم وَرجع الموحدون إِلَى فاس يخصفون عَلَيْهِم من ورق النَّبَات الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْمغرب بالمشعلة لِكَثْرَة الخصب يَوْمئِذٍ واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلي فسميت تِلْكَ السّنة يَوْمئِذٍ بعام المشعلة وَهِي سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة ثمَّ زحف الْأَمِير عبد الْحق فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة بجموع بني مرين إِلَى رِبَاط تازة حَتَّى وقف بِإِزَاءِ زيتونها فَخرج عاملها لحربه فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَالْعرب والحشد من قبائل تسول ومكناسة وَغَيرهم فقتلت بَنو مرين الْعَامِل الْمَذْكُور وهزموا جيوشه
وَجمع عبد الْحق الأسلاب وَالْخَيْل وَالسِّلَاح وَقسم ذَلِك كُله فِي قبائل بني مرين وَلم يمسك مِنْهَا لنَفسِهِ شَيْئا وَقَالَ لِبَنِيهِ إيَّاكُمْ أَن تَأْخُذُوا من هَذِه الْغَنَائِم شَيْئا فَإِنَّهُ يكفيكم مِنْهَا الثَّنَاء والظهور على أعدائكم(3/6)
حَرْب بني مرين مَعَ عرب ريَاح ومقتل الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله
لما انتصر بَنو مرين على أعدائهم الْمُوَحِّدين حصل فِي نفوس بني عَسْكَر بن مُحَمَّد من عشيرتهم نفاسة عَلَيْهِم وَضَاقَتْ صُدُورهمْ من اسْتِقْلَال بني عمهم حمامة بن مُحَمَّد بالرياسة دونهم فخالفوا الْأَمِير عبد الْحق وعشيرته إِلَى مُظَاهرَة الْمُوَحِّدين وأوليائهم من عرب ريَاح وَكَانَت ريَاح يَوْمئِذٍ أَشد قبائل الْمغرب قُوَّة وَأَقْوَاهُمْ شَوْكَة وَأَكْثَرهم خيلا ورجالا لحدوث عَهدهم بالعز والبداوة فأغراهم الموحدون يَوْمئِذٍ ببني مرين لينتصفوا لَهُم مِنْهُم واتفقت كلمتهم عَلَيْهِم وَسمعت بَنو مرين بإقبال الْعَرَب والموحدين وَبني عَسْكَر إِلَيْهِم فَاجْتمعُوا إِلَى أَمِيرهمْ عبد الْحق فَقَالُوا لَهُ مَا ترى فِي أَمر هَؤُلَاءِ الْعَرَب المقبلين إِلَيْنَا فَقَالَ يَا معشر مرين أما مَا دمتم فِي أَمركُم مُجْتَمعين وَفِي آرائكم متفقين وكنتم على حَرْب عَدوكُمْ أعوانا وَفِي ذَات الله إخْوَانًا فَلَا أخْشَى أَن ألْقى بكم جَمِيع أهل الْمغرب وَإِن اخْتلفت أهواؤكم وتشتت آراؤكم ظفر بكم عَدوكُمْ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا نجدد لَك الْآن بيعَة على السّمع وَالطَّاعَة وَأَن لَا نَخْتَلِف عَلَيْك وَلَا نفر عَنْك أَو نموت دُونك فانهض بِنَا إِلَيْهِم على بركَة الله فَنَهَضَ الْأَمِير عبد الْحق فِي جموع بني مرين فَكَانَ اللِّقَاء بمقربة من وَادي سبو على أَمْيَال من تافرطاست فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَقتل فِيهَا الْأَمِير عبد الْحق وكبير أَوْلَاده إِدْرِيس
وَلما رَأَيْت بَنو مرين مَا وَقع بأميرها وَابْنه حميت وغضبت وَأَقْسَمت بأيمانها أَن لَا يدْفن حَتَّى يَأْخُذُوا بثاره فصمموا الْعَزْم لقِتَال ريَاح واستأنفوا الْجد لقراعهم وصبروا صبرا جميلا فنصرهم الله على عدوهم فهزموا رياحا وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وشردوهم فِي الشعاب والأودية ورؤوس الهضاب واحتووا على مَا كَانَ فِي محلتهم من السِّلَاح وَالْخَيْل والأثاث وَقَامَ بِأَمْر بني مرين بعد هَلَاك عبد الْحق ابْنه عُثْمَان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله(3/7)
بَقِيَّة أَخْبَار الْأَمِير عبد الْحق وَسيرَته
قَالُوا كَانَ الْأَمِير عبد الْحق المريني مَشْهُورا فِي قومه بالتقى وَالْفضل وَالدّين موسوما بالصلاح وَصِحَّة الْيَقِين مَعْرُوفا بالورع والعفاف مَوْصُوفا فِي سيرته بِالْعَدْلِ والإنصاف يطعم الطَّعَام ويكفل الْأَيْتَام ويؤثر الْمَسَاكِين ويحنو على الْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَت لَهُ بركَة مَعْرُوفَة ودعوة مستجابة مَوْصُوفَة وَكَانَت قلنسوته وسراويله يتبرك بهما فِي جَمِيع أَحيَاء زناتة وَكَانُوا يحملون فضلَة وضوئِهِ فيستشفون بهَا لمرضاهم وَكَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يزَال صَائِما طول عمره فِي الْحر وَالْبرد لَا يرى مُفطرا إِلَّا فِي أَيَّام الأعياد كثير الذّكر والأوراد لَا يفتر عَنْهَا فِي سَائِر الْحَالَات متحريا لأكل الْحَلَال لَا يقتات إِلَّا من لُحُوم إبِله وَأَلْبَانهَا أَو مَا يعانيه من الصَّيْد مُعظما فِي بني مرين مُطَاعًا فيهم يقفون عِنْد أمره وَلَا يصدرون إِلَّا عَن رَأْيه
حكى ابْن أبي زرع عَمَّن حَدثهُ من الثِّقَات أَنه قدم على أَمِير الْمُسلمين يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي وَفد من أَعْيَان فاس وفقهائها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة والأمير يَعْقُوب يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح يُرِيد العبور إِلَى ألأندلس برسم الْجِهَاد قَالَ فَجرى فِي مَجْلِسه ذكر وَالِده الْأَمِير عبد الْحق فَقَالَ الْأَمِير يَعْقُوب كَانَ الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله صَادِق القَوْل إِذا قَالَ فعل وَإِذا عَاهَدَ وفى لم يحلف بِاللَّه قطّ بارا وَلَا حانثا وَلم يشرب مُسكرا قطّ وَلَا ارْتكب فَاحِشَة تضع الْحَوَامِل ببركة إزَاره مَتى عسرت عَلَيْهِنَّ الْولادَة وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَيقوم أَكثر اللَّيْل وَإِذا سمع بِخَبَر صَالح أَو عَابِد قصد لزيارته واستوهب مِنْهُ الدُّعَاء شَدِيد الْخَوْف من الصَّالِحين متواضعا لَهُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك سما لأعدائه قاهرا لَهُم وَمَا وجدنَا إِلَّا بركته وبركة من دَعَا لَهُ من الصَّالِحين
قَالُوا وَكَانَ الْأَمِير عبد الْحق فِي ابْتِدَاء أمره قَلِيل الْأَوْلَاد فَرَأى ذَات لَيْلَة فِي مَنَامه كَانَ شعلا أَرْبعا من نَار خرجن مِنْهُ فعلون فِي جو الْمغرب ثمَّ احتوين على جَمِيع أقطاره فَكَانَ تَأْوِيلهَا تمْلِيك بنيه الْأَرْبَعَة من بعده وَهَذَا(3/8)
مثل الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا عبد الْملك بن مَرْوَان من يوله فِي الْمِحْرَاب أَربع مَرَّات فَكَانَ تَأْوِيلهَا أَن ولي الْخلَافَة أَرْبَعَة من بنيه الْوَلِيد وَسليمَان وَيزِيد وَهِشَام
وَكَانَ للأمير عبد الْحق تِسْعَة من الْوَلَد إِدْرِيس وَهُوَ أكبرهم وَقتل مَعَه فِي حَرْب ريَاح وَعُثْمَان وَمُحَمّد وَأَبُو بكر وَيَعْقُوب وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة هم الَّذين ولوا الْأَمر بعده وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَيُقَال لَهُ بلسانهم رحو وزيان وَأَبُو عياد وَبنت هِيَ الْعَاشِرَة وَالله أعلم
الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق رَحمَه الله
لما فرغ بَنو مرين من حَرْب ريَاح وَرَجَعُوا من اتباعهم اجْتَمعُوا إِلَى الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق وَكَانَ أكبر بني أَبِيه بعد إِدْرِيس فعزوه بمصاب أَبِيه وأخيه وَبَايَعُوهُ عَن رضى مِنْهُم فاجتمعت عَلَيْهِ كلمتهم وَلما فرغ الْأَمِير أَبُو سعيد من تجهيز أَبِيه وأخيه ودفنهما أقسم أَن لَا يرجع عَن حَرْب ريَاح حَتَّى يثأر بِمِائَة شيخ مِنْهُم فَسَار إِلَيْهِم وأثخن فيهم حَتَّى شفى نَفسه وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة ولاذوا بالسلم فسالمهم على إتاوة يؤدونها إِلَيْهِ كل سنة
ثمَّ ضعفت شَوْكَة الْمُوَحِّدين وتداعى أَمرهم إِلَى الاختلال واشرف ملكهم على ربوة الاضمحلال وتقلص ظلّ حكامهم عَن البدو جملَة وفسدت السابلة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل
فَلَمَّا رأى الْأَمِير أَبُو سعيد مَا عَلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين من الضعْف وَمَا نزل برغايا الْمغرب من الْجور والعسف جمع أَشْيَاخ مرين وندبهم إِلَى الْقيام بِأَمْر الدّين وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين فَأَسْرعُوا إِلَى إجَابَته وَبَادرُوا لتلبية دَعوته
فَسَار بهم أَبُو سعيد فِي نواحي الْمغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويتتبع تلوله ودروبه وَيَدْعُو النَّاس إِلَى طَاعَته وَالدُّخُول فِي عَهده وحمايته فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم أَمنه وَوضع عَلَيْهِ قدرا مَعْلُوما من الْخراج وَمن أَبى عَلَيْهِ نابذه وأوقع بِهِ فَبَايعهُ من قبائل الْمغرب هوارة وزكارة ثمَّ تسول ومكناسة ثمَّ بطوية وفشتالة ثمَّ(3/9)
سدرانة وبهلولة ومديونة فَفرض عَلَيْهِم الْخراج وَفرق فيهم الْعمَّال ثمَّ فرض على أَمْصَار الْمغرب مثل فاس ومكناسة وتازا وَقصر كتامة ضريبة مَعْلُومَة يؤدونها على رَأس كل حول على أَن يكف الْغَارة عَنْهُم وَيصْلح سابلتهم
ثمَّ لما كَانَت سنة عشْرين وسِتمِائَة غزا بِلَاد فازاز وَمن بهَا من ظواعن زناتة فأثخن فيهم حَتَّى أذعنوا للطاعة وَقبض أَيْديهم عَن إذابة النَّاس بالغارات والنهب فِي الطرقات
ثمَّ فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعْدهَا غزا عرب ريَاح أهل أزغار وبلاد الهبط فأثخن فيهم حَتَّى كَاد يَأْتِي عَلَيْهِم وَلم يزل دأبه ذَلِك من تدويخ بِلَاد الْمغرب وأقطاره حَتَّى هلك باغتيال علج لَهُ كَانَ رباه صَغِيرا فشب وسول لَهُ الشَّيْطَان الفتك بِهِ فترصد غرته وطعنه بِحَرْبَة فِي منحره فَمَاتَ لوقته سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ
وَكَانَ ذَا نجدة وشجاعة وعزم وكرم وإيثار مكرما للفقهاء وَأهل الصّلاح سالكا فِي ذَلِك سنَن أَبِيه رَحمَه الله
الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي معرف مُحَمَّد بن عبد الْحق رَحمَه الله
لما هلك الْأَمِير أَبُو سعيد قَامَ بِالْأَمر بعده أَخُوهُ أَبُو معرف مُحَمَّد بن عبد الْحق فاقتفى سنَن أخبه فِي تدويخ بِلَاد الْمغرب وَأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم من باديته وَبعث الرشيد بن الْمَأْمُون صَاحب مراكش قائده أَبَا مُحَمَّد بن وانودين لِحَرْب بني مرين وَعقد لَهُ على مكناسة فأجحف بِأَهْلِهَا فِي المغارم ثمَّ نزل بَنو مرين فِي بعض الأحيان بنواحيها وأجلبوا عَلَيْهَا فَنَادَى أَبُو مُحَمَّد فِي عسكره وَخرج إِلَيْهِم فدارت بَينهم حَرْب شَدِيدَة هلك فِيهَا خلق من الْجَانِبَيْنِ وبارز مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الْحق قائدا من قواد الفرنج فاختلفا ضربتين هلك العلج بِإِحْدَاهُمَا وجرح مُحَمَّد بِالْأُخْرَى فاندمل جرحه وَصَارَ أثرا فِي وَجهه لقب من أَجله بِأبي ضَرْبَة ثمَّ شدّ بَنو مرين على الْمُوَحِّدين فانكشفوا وَرجع بن وانودين إِلَى مكناسة مفلولا(3/10)
وَبَقِي بَنو عبد الْمُؤمن من أثْنَاء ذَلِك فِي مرض من الْأَيَّام وتثاقل عَن الحماية ثمَّ أَوْمَضْت دولتهم إيماضة الخمود وَذَلِكَ أَنه لما هلك الرشيد بن الْمَأْمُون سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَولي أَخُوهُ عَليّ وتلقب بالسعيد وَبَايَعَهُ أهل الْمغرب انصرفت عَزَائِمه إِلَى غَزْو بني مرين وَقطع أطماعهم عَمَّا سمت إِلَيْهِ من تملك المواطن فَجهز عَسَاكِر الْمُوَحِّدين لقتالهم وَمَعَهُمْ قبائل الْعَرَب والمصامدة وجموع الفرنج فنهضوا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فِي جَيش كثيف يناهز عشْرين ألفا فَسمع الْأَمِير أَبُو مَعْرُوف بِإِقْبَالِهِمْ فاستعد لقتالهم وزحف إِلَيْهِم فَكَانَ اللِّقَاء بِموضع يعرف بصخرة أبي بياش من أحواز فاس فدارت بَينهم حَرْب شَدِيدَة وصبر الْفَرِيقَانِ وَلما كَانَ عشي النَّهَار قتل الْأَمِير أَبُو معرف بن عبد الْحق فِي الجولة بيد زعيم من زعماء الفرنج تحاملا فعثر فرس أبي معرف بِهِ وأمكنت العلج فِيهِ الفرصة فاغتنمها وطعنه فَمَاتَ فانهزمت بَنو مرين وتبعهم الموحدون فاتخذوا اللَّيْل جملا وأسروا طول ليلتهم بحللهم وعيالاتهم وَأَمْوَالهمْ فَأَصْبحُوا بجبال غياثة من نواحي تازا فَاعْتَصمُوا بهَا أَيَّامًا ثمَّ خَرجُوا إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وولوا عَلَيْهِم أَبَا بكر بن عبد الْحق على مَا نذكرهُ وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة وهلاك الْأَمِير أبي معرف عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
الْخَبَر عَن دولة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق رَحمَه الله
هَذَا الْأَمِير هُوَ الَّذِي رفع من راية بني مرين وسما بهَا إِلَى مرتبَة الْملك وكنيته أَبُو يحيى وَهُوَ أول من جند الْجنُود مِنْهُم وَضرب الطبول وَنشر البنود وَملك الْحُصُون والبلاد واكتسب الطارف والتلاد بَايعه بَنو مرين بعد مهلك أَخِيه أبي معرف فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَكَانَ أول مَا ذهب إِلَيْهِ وَرَآهُ من النّظر لِقَوْمِهِ أَن قسم بِلَاد الْمغرب وقبائل جبايته بَين بني مرين وَأنزل كلا مِنْهُم يناحية مِنْهُ سوغهم إِيَّاهَا سَائِر الْأَيَّام طعمة لَهُم وَأمر كل وَاحِد من أَشْيَاخ بني مرين أَن يستركب الرجل ويستلحق الأتباع فحسنت حَالهم وَكَثُرت غاشيتهم وتوفرت جموعهم(3/11)
اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وبيعة أَهلهَا لِابْنِ أبي حَفْص بواسطته
ثمَّ سَار الْأَمِير أَبُو بكر بمحلته فَنزل جبل زرهون ودعا أهل مكناسة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ على دَعوته وَفِي ولَايَته وحاصرها وضيق عَلَيْهَا بِمَنْع الْمرَافِق وترديد الغارات إِلَى أَن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة أَخِيه يَعْقُوب بن عبد الْحق لزعيمها أبي الْحسن بن أبي الْعَافِيَة وبعثوا ببيعتهم إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَكَانَت الْبيعَة من إنْشَاء أبي الْمطرف بن عميرَة المَخْزُومِي وَكَانَ من أَعْلَام ذَلِك الْعَصْر ومشاهيره ولي الْقَضَاء لبني عبد الْمُؤمن بِمَدِينَة سلا ثمَّ استقضوه بعْدهَا بمكناسة فَشهد هَذِه الْقَضِيَّة وَكتب الْبيعَة
وَلما فتح الْأَمِير أَبُو بكر مكناسة أقطع أَخَاهُ يَعْقُوب ثلث جبايتها جَزَاء لَهُ على وساطته وَكَانَ فتح مكناسة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ آنس الْأَمِير أَبُو بكر من نَفسه الاستبداد وَمن قبيله الِاسْتِيلَاء فَاتخذ الْآلَة لذَلِك وسما بِنَفسِهِ إِلَى مرتبَة الْملك وَأعد لَهُ عدته وانْتهى الْخَبَر إِلَى السعيد صَاحب مراكش بتغلب الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وصرفها لِابْنِ أبي حَفْص فَوَجَمَ لَهَا وفاوض الْمَلأ من أهل دولته فِي أمره وأراهم كَيفَ اقتطع الْأَمر عَنْهُم شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى لم يبْق بيدهم إِلَّا قرارة مراكش وَمَا حولهَا بعد امتداد ظلّ ملكهم على المغربين وإفريقية والأندلس
ثمَّ نَهَضَ السعيد من مراكش سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن بن زيان ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص آخرا
وَلما وصل إِلَى وَادي بهت عرض جيوشه وميزها واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ بمكناسة فَخرج وَحده لَيْلًا يتجسس الْأَخْبَار ويستطلع أَحْوَال السعيد وجموعه فَتقدم حَتَّى أشرف على محلّة السعيد من كثب وَلَا علم(3/12)
لأحد بِهِ فَرَأى مَا لَا طَاقَة لَهُ بِهِ وَرَأى من الرَّأْي أَن يتخلى للسعيد عَن الْبِلَاد وَلَا يناجزه الْحَرْب فلحق بمكناسة واستدعى بني مرين من أماكنهم الَّتِي عين لَهُم فتلاحقوا بِهِ وَسَارُوا إِلَى قلعة تازوطا من بِلَاد الرِّيف فَتَحَصَّنُوا بهَا
وَتقدم السعيد إِلَى مكناسة فَتَلقاهُ أَهلهَا خاضعين مستشفعين إِلَيْهِ بشيوخهم وصبيانهم فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ سَار إِلَى فاس فَنزل بظاهرها من نَاحيَة الْقبْلَة وَخرج إِلَيْهِ أشياخها فَسَلمُوا عَلَيْهِ وسألوه الدُّخُول إِلَى الْبَلَد فتكرم عَنْهُم وَأبي ثمَّ ارتحل إِلَى رِبَاط تازا فَنزل بظاهرها وَهُنَاكَ بعث إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر ببيعته فقبلها وَكتب لَهُ ولقومه بالأمان وَكَانَ فِيمَا خاطبه بِهِ الْأَمِير أَبُو بكر أَن قَالَ لَهُ ارْجع يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى حضرتك وَأَنا أكفيك أَمر يغمراسن وَافْتَحْ لَك تلمسان فَشَاور السعيد خاصته فِي ذَلِك فَقَالُوا لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الزناتي أَخُو الزناتي لَا يُسلمهُ وَلَا يَخْذُلهُ وَإِنَّا نَخَاف أَن يصطلحا على حربك فاسعفهم وَكتب إِلَى الْأَمِير أبي بكر يَقُول لَهُ أقِم بموضعك وَابعث إِلَيّ بِحِصَّة من قَوْمك فأمده بِخَمْسِمِائَة من بني مرين وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِ عَمه أبي عياد بن أبي يحيى بن حمامة
وَتقدم السعيد إِلَى تلمسان فَكَانَ من هَلَاكه على قلعة تامذردكت مَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار دولته وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر لما نزل حصن تازوطا وَأهل ذَلِك الْحصن يَوْمئِذٍ هم بَنو وطاس بطن من بني مرين أَجمعُوا الفتك بِهِ غَيره ونفاسة عَلَيْهِ فَدس إِلَيْهِ بذلك بعض شيوخهم وأعلمه بِمَا تواطؤوا عَلَيْهِ من غدره فارتحل الْأَمِير أَبُو بكر عَنْهُم إِلَى بني بزناسن وَكَانُوا نازلين يَوْمئِذٍ بِعَين الصَّفَا فَأَقَامَ هُنَالك مَعَهم حَتَّى رجعت إِلَيْهِ الْحصَّة الَّتِي كَانَت مَعَ السعيد وأعلموه بمقتله وافتراق جموعه فانتهز الْأَمِير أَبُو بكر الفرصة فِي فل الْمُوَحِّدين واعترضهم بأكرسيف فاستلبهم وانتزع الْآلَة من أَيْديهم وأدار إِلَيْهِ كَتِيبَة الفرنج والناشبة من الأغزاز وَاتخذ الْمركب الملوكي من يَوْمئِذٍ ثمَّ أغذ السّير إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى أَعمال وطاط وحصون ملوية فافتتحها ودوخ جبالها وَذَلِكَ أَوَاخِر صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة(3/13)
اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على فاس وبيعة أَهلهَا لَهَا
لما فرغ الْأَمِير أَبُو بكر من فتح حصون ملوية صرف عزمه إِلَى فتح فاس وانتزاعها من يَد بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ الْعَامِل بهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبَا الْعَبَّاس من بني عبد الْمُؤمن فَأَنَاخَ عَلَيْهَا الْأَمِير أَبُو بكر بخيله وَرجله وتلطف فِي مداخلة أَهلهَا وَضمن لَهُم جميل النّظر وَحميد السِّيرَة وكف الْأَذَى عَنْهُم فَأَجَابُوهُ ووثقوا بعهده وغنائه وأووا إِلَى ظله وركنوا إِلَى طَاعَته وانتحال الدعْوَة الحفصية بأَمْره ونبذوا طَاعَة بني عبد الْمُؤمن بَأْسا من صريخهم فَبَايعُوهُ بالرابطة خَارج بَاب الشَّرِيعَة وَحضر هَذِه الْبيعَة الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الفشتالي ونشده الله على الْوَفَاء بِمَا اشْترط على نَفسه من النّظر لَهُم والذب عَنْهُم وسلوك طَرِيق الْعدْل فيهم فَكَانَ حُضُوره ملاك تِلْكَ الْعقْدَة وَالْبركَة الَّتِي يتعرف أَثَرهَا خَلفهم فِي تِلْكَ الْبيعَة
وَدخل الْأَمِير أَبُو بكر مَدِينَة فاس زَوَال يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بعد موت السعيد صَاحب مراكش بشهرين وَلما دخل الْأَمِير أَبُو بكر قَصَبَة فاس أَمن السَّيِّد أَبَا الْعَبَّاس عَامل الْمُوَحِّدين بهَا وَأخرجه من القصبة بعياله وَأَوْلَاده وَبعث مَعَه سبعين فَارِسًا يبلغونه إِلَى مأمنه فأجازوه وَادي أم الرّبيع وَرَجَعُوا
ثمَّ نَهَضَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى منازلة تازا وَبهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو عَليّ بن مُحَمَّد أَخُو أبي دبوس فنازلها أَرْبَعَة أشهر حَتَّى نزلُوا على حكمه فَقتل بَعضهم وَمن على آخَرين مِنْهُم وسد ثغورها وأقطع أَخَاهُ يَعْقُوب بن عبد الْحق رِبَاط تازا وحصون ملوية وَرجع إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا نَحْو سنة واستقامت لَهُ الْأُمُور وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود وَأمر الْقَبَائِل بالنزول فِي البسائط وَعمارَة الْقرى والمداشر وَأمنت الطرقات وتحركت التُّجَّار ورخصت الأسعار وَصلح أَمر النَّاس واغتبطوا بولايته(3/14)
انْتِقَاض أهل فاس على الْأَمِير أبي بكر ومحاصرته إيَّاهُم
لما استولى الْأَمِير أَبُو بكر على الْمغرب وَملك مَدِينَة فاس كَمَا ذكرنَا نَهَضَ فِي ربيع الأول سنة سبع واربعين وسِتمِائَة إِلَى مَعْدن الْعَوام من بِلَاد فازاز لفتح بِلَاد زناتة وتدويخ نَوَاحِيهَا واستخلف على فاس مَوْلَاهُ السُّعُود بن خرباش من جمَاعَة الحشم أحلاف بني مرين وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر لما فتح فاسا استبقى من كَانَ فِيهَا من عَسْكَر بني عبد الْمُؤمن من غير نسبهم على الْوَجْه الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ من الْخدمَة مَعَ الْمُوَحِّدين وَكَانَ من جُمْلَتهمْ طَائِفَة من النَّصَارَى نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَعَلَيْهِم قَائِد مِنْهُم يُقَال لَهُ شريد الفرنجي فَكَانُوا من حِصَّة السُّعُود هُنَالك فَوَقَعت بَينهم وَبَين شيعَة الْمُوَحِّدين من أهل فاس مداخلة وعزم الفاسيون على الفتك بالسعود وتحويل الدعْوَة إِلَى المرتضى فَاجْتمعُوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الرَّحْمَن المغيلي وفاوضوه فِي ذَلِك فوافقهم على رَأْيهمْ فاستدعوا شَرِيدًا وَقَالُوا لَهُ تقتل هَذَا الْأسود وتضبط الْبَلَد حَتَّى نكتب إِلَى المرتضى فيبعث إِلَيْنَا من يقوم بأمرنا فأجابهم إِلَى ذَلِك وَكَانَ ميله إِلَى الْمُوَحِّدين وهواه مَعَهم لكَونه صنيعتهم وَكَانَ الَّذِي مَشى فِي هَذِه الثورة وَتَوَلَّى كبرها المشرف ولد القَاضِي الْمَذْكُور وَابْن جشار وَأَخُوهُ وَابْن أبي طاط وَولده
فَلَمَّا كَانَت صَبِيحَة الثُّلَاثَاء الموفي عشْرين من شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة طلع الْأَشْيَاخ المذكورون إِلَى القصبة للسلام على السُّعُود على عَادَتهم فِي ذَلِك فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِمَجْلِس حكمه وهاجوه بِبَعْض المحاورات فَغَضب وانتهرهم فَوَثَبُوا بِهِ وَنَادَوْا بشعارهم وَكَانَ شريد الفرنجي وَاقِفًا فِي عسكره أَمَام القصبة قد وأطأهم على ذَلِك فاقتحم على السُّعُود فَقتله وَقتل مَعَه أَرْبَعِينَ من رِجَاله واحتز الْعَامَّة رَأسه ورفعوه على عَصا وطافوا بِهِ فِي أسواق الْبَلَد وسككها واقتحموا الْقصر فانتهبوه وَسبوا الْحرم ونصبوا النَّصْرَانِي لضبط الْبَلَد وبعثوا ببيعتهم إِلَى المرتضى صَاحب مراكش واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ منَازِل بِلَاد فازاز فأفرج عَنْهَا وَأخذ السّير إِلَى فاس فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بعساكره وشمر لحصارها وَقطع الْمَادَّة عَنْهَا(3/15)
وَبعث أهل فاس إِلَى المرتضى بالصريخ فَلم يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا ملك لَهُ ضرا وَلَا نفعا وَلَا وجد لكشف مَا نزل بهم حِيلَة وَلَا وَجها سوى أَنه استجاش على الْأَمِير أبي بكر بيغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان وأمله لكشف هَذِه النَّازِلَة عَمَّن انحاش إِلَى طَاعَته فَأَجَابَهُ يغمراسن إِلَى ذَلِك وطمع أَن يكون ذَلِك سَببا لَهُ فِي تملك الْمغرب وسلما للصعود إِلَى ذرْوَة ملكه فاحتشد لحركته ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الْأَمِير أبي بكر عَن فاس وَأَهْلهَا
واتصل بالأمير أبي بكر خبر نهوضه إِلَيْهِ لتسعة أشهر من منازلته فاسا فجمر الْكَتَائِب عَلَيْهَا وصمد إِلَيْهِ قبل فصوله عَن تخوم بِلَاده فَلَقِيَهُ بوادي أيسلي من بسيط وَجدّة فتزاحف الْقَوْم وَكَانَت ملحمة عَظِيمَة هلك فِيهَا عبد الْحق بن مُحَمَّد بن عبد الْحق بيد إِبْرَاهِيم بن هِشَام من بني عبد الواد
ثمَّ انكشفت بَنو عبد الواد وَنَجَا يغمراسن بن زيان إِلَى تلمسان بِرَأْس طمرة ولجام وَترك محلته بِمَا فِيهَا فاحتوى عَلَيْهَا الْأَمِير أَبُو بكر وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس للأخذ بمخنقها فوصل إِلَيْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وأناخ عَلَيْهَا بكلكله واستأنف الْجد وأرهف الْحَد وشدد فِي الْحصار وأيس أهل فاس من إغاثة المرتضى وَسقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا وَلم يَجدوا وليجة من دون مُرَاجعَة طَاعَة بني مرين فسألوا الْأَمِير أَبَا بكر الْأمان فبذله لَهُم على غرم مَا أتلفوا لَهُ بِالْقصرِ من المَال يَوْم الثورة وَقدره مائَة ألف دِينَار فتحملوها وأمكنوه من قياد الْبَلَد فَدَخلَهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور فَأَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب الموَالِي لَهُ وطالبهم بِالْمَالِ فسوفوه وتلووا فِي الْمقَال
فَلَمَّا رأى ذَلِك مِنْهُم قبض على جمَاعَة من أشياخها وأمنائها وأثقلهم بالحديد وطالبهم بِالْمَالِ والأثاث الَّذِي انتهبوه من الْقصر فَقَالَ لَهُ شيخ يعرف بِابْن الخبا إِنَّمَا فعل الذَّنب منا سِتَّة فَكيف تُهْلِكنَا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا وَلَو فعل الْأَمِير مَا أُشير بِهِ عَلَيْهِ لَكَانَ صَوَابا من الرَّأْي فَقَالَ وَمَا ذَلِك قَالَ تعمد إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفر السِّتَّة وَالَّذين سعوا فِي الْفِتْنَة فتأخذ رؤوسهم وتشرد بهم من خَلفهم ثمَّ تأخذنا نَحن بغرم المَال فَقَالَ لعمري لقد أصبت(3/16)
ثمَّ أَمر بِالْقَاضِي المغيلي وَابْنه وَابْن أبي طاط وَابْنه وَابْن جشار وأخيه فَقتلُوا وَرفعت على الشرفات رؤوسهم وَأخذ البَاقِينَ بغرم المَال طَوْعًا وَكرها قَالَ ابْن خلدون فَكَانَ ذَلِك مِمَّا عبد رعية فاس وقادها لأحكام بني مرين وَضرب الرهب على قُلُوبهم فخشعت مِنْهُم الْأَصْوَات وانقادت مِنْهُم الهمم وَلم يحدثوا بعْدهَا أنفسهم بغمس يَد فِي فتْنَة وَكَانَ مقتل النَّفر الْمَذْكُورين خَارج بَاب الشَّرِيعَة يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من رَجَب الْمَذْكُور
اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على مَدِينَة سلا ثمَّ ارتجاعها مِنْهُ وهزيمة المرتضى بعد ذَلِك
لما أكمل الله للأمير أبي بكر فتح مَدِينَة فاس واستوسق أَمر بني مرين بهَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ من منازلة بِلَاد فازاز فافتتحها ودوخ أوطان زناتة وَاقْتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين بهَا ثمَّ تخطى ذَلِك إِلَى مَدِينَة سلا ورباط الْفَتْح سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فملكها وتاخم الْمُوَحِّدين بثغرها وَاسْتعْمل عَلَيْهَا ابْن أَخِيه يَعْقُوب بن عبد الله بن عبد الْحق وَعقد لَهُ على ذَلِك الثغر وَضم الْأَعْمَال إِلَيْهِ
وَبلغ الْخَبَر بذلك إِلَى المرتضى بمراكش فأهمه الشَّأْن وأحضر الْمَلأ من الْمُوَحِّدين وفاوضهم واعتزم على حَرْب بني مرين وسرح العساكر سنة خمسين وسِتمِائَة فأحاطت بسلا ثمَّ افتتحوها وعادت إِلَى طَاعَة المرتضى وَعقد عَلَيْهَا لأبي عبد الله بن يَعْلُو من مشيخة الْمُوَحِّدين ثمَّ اجْمَعْ المرتضى النهوض بِنَفسِهِ إِلَى بني مرين فَبعث فِي الْمَدَائِن والقبائل حاشرين فأهرعت إِلَيْهِ أُمَم الْمُوَحِّدين وَالْعرب والمصامدة وَغَيرهم وَفصل من مراكش سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة فِي نَحْو الثَّمَانِينَ ألفا وَولى السّير حَتَّى انْتهى إِلَى جبال بهلولة من نواحي فاس وصمد إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر فِي عَسَاكِر بني مرين وَمن اجْتمع إِلَيْهِم من ذويهم(3/17)
والتقى الْجَمْعَانِ هُنَالك وَصدقهمْ بَنو مرين الجلاد فاختل مصَاف الْمُوَحِّدين وانهزمت عَسَاكِر المرتضى وأسلمه قومه وَرجع إِلَى مراكش مفلولا وَاسْتولى بَنو مرين على مُعَسْكَره واستباحوا سرادقة وانتهبوا فساطيطه وغنموا جَمِيع مَا وجدوا لَهَا من المَال والذخيرة وَاسْتَاقُوا سَائِر الكراع وَالظّهْر وامتلأت أَيْديهم من الْغَنَائِم واعتز أَمرهم وانبسط سلطانهم وَكَانَ يَوْمًا لَهُ مَا بعده وَفِي القرطاس أَن انهزام جَيش المرتضى فِي هَذِه الْمرة كَانَ عَن جولان فرس بَين أخبيتهم لَيْلًا فَحَسبُوا أَن بني مرين قد أَغَارُوا عَلَيْهِم فَانْهَزَمُوا لَا يلوون على شَيْء وَالله أعلم
ثمَّ غزا الْأَمِير أَبُو بكر بعد هَذَا بِلَاد تادلا فاستباح حاميتها من بني جَابر عرب جشم واستلحم أبطالهم والآن من جدهم وخضد من شوكتهم وَفِي خلال هَذِه الحروب كَانَ مقتل عَليّ بن عُثْمَان بن عبد الْحق وَهُوَ ابْن أخي الْأَمِير أبي بكر شعر مِنْهُ بِفساد الدخيلة وَالْإِجْمَاع للتوثب على الْأَمر فَدس لِابْنِهِ أبي حَدِيد مِفْتَاح بن أبي بكر بقتْله فَقتله فِي جِهَات مكناسة سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَالله تَعَالَى أعلم
اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على سجلماسة وَدِرْعه وَسَائِر بِلَاد الْقبْلَة
لما كَانَت سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة نَهَضَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى محاربة يغمراسن بن زيان وَسمع بِهِ يغمراسن فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَيْضا فَكَانَ اللِّقَاء بِأبي سليط فَاقْتَتلُوا وَانْهَزَمَ يغمراسن واعتزم الْأَمِير أَبُو بكر على اتِّبَاعه فثناه عَن رَأْيه فِي ذَلِك أَخُوهُ يَعْقُوب بن عبد الْحق لعهد تَأَكد بَينه وَبَين يغمراسن فَرجع
وَلما انْتهى إِلَى المقرمدة من أحواز فاس بلغه أَن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة كَانَت لَهُ من بعض أَهلهَا وعورة أطمعته فِي ملكهَا فأسرع الْأَمِير أَبُو بكر السّير بجموعه إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا قبل وُصُول يغمراسن إِلَيْهَا بِيَوْم ثمَّ جَاءَ يغمراسن حَتَّى نزل خَارِجهَا بِبَاب تاحسنت وَسقط فِي يَده ويئس من غَلَبَة الْأَمِير أبي بكر عَلَيْهَا ودارت بَينهمَا حَرْب تكافأ(3/18)
الْفَرِيقَانِ فِيهَا وَهلك سُلَيْمَان بن عُثْمَان بن عبد الْحق ابْن أخي الْأَمِير أبي بكر وانقلب يغمراسن إِلَى بَلَده وَعقد الْأَمِير أَبُو بكر على سجلماسة ودرعة وَسَائِر بِلَاد الْقبْلَة ليوسف بن يزكاسن وَاسْتعْمل على الجباية عبد السَّلَام الأوربي وَجعل مسلحة الْجند بهَا لنظر أبي يحيى القطراني وَملكه قيادتهم وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس وَالله تَعَالَى أعلم
وَفَاة الْأَمِير أبي بكر رَحمَه الله
لما رَجَعَ الْأَمِير أَبُو بكر من حَرْب يغمراسن على سجلماسة أَقَامَ بفاس أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى سجلماسة أَيْضا متفقدا لثغورها فَانْقَلَبَ مِنْهَا عليلا وَوصل إِلَى فاس فَتوفي بقصره من قصبتها أواسط رَجَب سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَدفن دَاخل بَاب الجيزيين من أَبْوَاب عدوة الأندلس بِإِزَاءِ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الفشتالي حَسْبَمَا أوصى بذلك وتصدى للْقِيَام بِالْأَمر بعده ابْنه عمر على مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة أبي حَفْص الْأَمِير عمر بن أبي بكر بن عبد الْحق رَحمَه الله
لما مَاتَ الْأَمِير أَبُو بكر رَحمَه الله اشْتَمَل الْعَامَّة من بني مرين على ابْنه أبي حَفْص عمر فَبَايعُوهُ ونصبوه لِلْأَمْرِ وتباروا فِي خدمته ومالت المشيخة وَأهل العقد والحل إِلَى عَمه يَعْقُوب بن عبد الْحق وَكَانَ غَائِبا عِنْد مهلك أَخِيه بتازا فَلَمَّا بلغه الْخَبَر أسْرع اللحاق بفاس وتوجهت إِلَيْهِ وُجُوه الأكابر وأحس عمر بميل النَّاس إِلَى عَمه يَعْقُوب فقلق لذَلِك وأغراه أَتْبَاعه بِالْفَتْكِ بِعَمِّهِ فاعتصم بالقصبة ثمَّ سعى النَّاس فِي الْإِصْلَاح بَينهمَا فتفادى يَعْقُوب من الْأَمر وَدفعه إِلَى ابْن أَخِيه على أَن تكون لَهُ بِلَاد تازا وبطوية وملوية الَّتِي كَانَ أقطعه إِيَّاهَا أَخُوهُ من قبل فانفصلوا على ذَلِك وخلص الْأَمر لعمر وَاسْتمرّ بفاس أشهرا إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ عَمه الْمَذْكُور حَسْبَمَا نقص عَلَيْك(3/19)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
هَذَا السُّلْطَان جليل الْقدر عَظِيم الشان وَهُوَ سيد بني مرين على الْإِطْلَاق وستسمع من أخباره الْحَسَنَة مَا يسْتَغْرق الْوَصْف ويستوقف السّمع والطرف وَهُوَ رَابِع الْإِخْوَة الْأَرْبَعَة الَّذين ولوا الْأَمر بالمغرب من بني عبد الْحق وَكَانَت أمه وَاسْمهَا أم الْيمن بنت عَليّ البطوي رَأَتْ وَهِي بكر كَأَن الْقَمَر خرج من قبلهَا حَتَّى صعد إِلَى السَّمَاء وأشرق نوره على الأَرْض فقصت رؤياها على أَبِيهَا فَسَار إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عُثْمَان الورياكلي فَقَصَّهَا عَلَيْهِ فَقَالَ إِن صدقت رؤياها فستلد ملكا عَظِيما فَكَانَ كَذَلِك وَلما انْفَصل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق عَن ابْن أَخِيه عمر بِولَايَة تازا وَمَا أضيف إِلَيْهَا اجْتمع إِلَيْهِ كَافَّة بني مرين وعذلوه فِيمَا كَانَ مِنْهُ من التخلي عَن الْملك وَحَمَلُوهُ على الْعود فِي الْأَمر ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والنصر إِلَى أَن يتم أمره فَأجَاب وَبَايَعُوهُ وصمد الى فاس فبرز الْأَمِير عمر للقائه
وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ خذل عمر جُنُوده وأسلموه فَرجع إِلَى فاس مفلولا وَوجه الرَّغْبَة إِلَى عَمه أَن يقطعهُ مكناسة وَينزل لَهُ عَن الْأَمر فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَدخل السُّلْطَان يَعْقُوب مَدِينَة فاس فملكها سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة ونفذت كَلمته فِي بِلَاد الْمغرب مَا بَين ملوية وَأم الرّبيع وَمَا بَين سجلماسة وَقصر كتامة وَاقْتصر عمر على إِمَارَة مكناسة فتولاها اياما ثمَّ اغتاله بعض عشيرته فَقَتَلُوهُ لنَحْو سنة من إمارته فَكفى الْأَمِير يَعْقُوب أمره واستقام سُلْطَانه وَذهب التَّنَازُع والشقاق عَن ملكه
وَكَانَ يغمراسن بن زيان لما سمع بِمَوْت قرنه الْأَمِير أبي بكر سما لَهُ أمل فِي الإجلاب على الْمغرب فَجمع لذَلِك قومه من بني عبد الواد وَاسْتظْهر ببني توجين ومغراوة وَوَعدهمْ ومناهم وأطمعهم فِي غيل الْأسد ثمَّ نَهَضَ بهم الى الْمغرب حَتَّى إِذا انْتَهوا إِلَى كلدمان صَمد إِلَيْهِم الْأَمِير يَعْقُوب ففلهم وردهم على أَعْقَابهم وَمر يغمراسن فِي طَرِيقه بتافرسيت من بِلَاد بطوية فَأحرق(3/20)
وانتسف واستباح وَأعظم النكاية وَرجع الْأَمِير يَعْقُوب إِلَى فاس واقتفى مَذْهَب أَخِيه الْأَمِير أبي بكر فِي فتح أَمْصَار الْمغرب وتدويخ أقطاره وَكَانَ مِمَّا أكْرمه الله بِهِ أَن فتح أمره باستنقاذ مَدِينَة سلا من أَيدي نَصَارَى الإصبنيول فَكَانَ لَهُ بهَا أثر جميل وَذكر خَالِد رَحمَه الله
اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على مَدِينَة سلا وإيقاع السُّلْطَان يَعْقُوب بهم وطردهم عَنْهَا
كَانَ يَعْقُوب بن عبد الله بن عبد الْحق قد اسْتَعْملهُ عَمه الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مَدِينَة سلا لما ملكهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلما استرجعها الموحدون من يَده أَقَامَ يتقلب فِي جهاتها مترصدا للفرصة وإمكانها فِيهَا وَلما بُويِعَ عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق آسفته بعض الْأَحْوَال مِنْهُ فَذهب مغاضبا حَتَّى نزل عين غبولة وألطف الْحِيلَة فِي تملك رِبَاط الْفَتْح وسلا ليعتدهما ذَرِيعَة لما اسر فِي نَفسه من التوثب على الْأَمر فتمت لَهُ الْحِيلَة وَملك سلا وَركب عاملها أَبُو عبد الله بن يَعْلُو الْبَحْر فَارًّا إِلَى آزمور وَخلف أَمْوَاله وَحرمه فتملك يَعْقُوب بن عبد الله ذَلِك وَتمكن من الْبَلَد وجاهر بِالْخلْعِ وَصرف إِلَى مُنَازعَة عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب وُجُوه الْعَزْم وتمكنت الوحشة بَين اليعقوبين
وداخل يَعْقُوب سلا تجار الْحَرْب من الإصبنيول فِي الْإِمْدَاد بِالسِّلَاحِ فتباروا فِي ذَلِك وَكَثُرت سفن المترددين مِنْهُم إِلَيْهَا حَتَّى كَثُرُوا أَهلهَا وَزَاد عَددهمْ فعزموا على الثورة بهَا واهتبلوا فِيهَا غرَّة عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة عِنْد اشْتِغَال النَّاس بعيدهم وثاروا بسلا فِي الْيَوْم الثَّانِي من شَوَّال فوضعوا السَّيْف فِي أَهلهَا وَقتلُوا الرِّجَال وَسبوا الْحرم وانتهبوا الْأَمْوَال وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما وضبطوا الْبَلَد وتحصن يَعْقُوب بن عبد الله برباط الْفَتْح
وطار الصَّرِيخ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة تازا(3/21)
دَخلهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة لاستشراف أَحْوَال يغمراسن بن زيان فوصل إِلَيْهِ الْخَبَر فِي الْيَوْم الرَّابِع من شَوَّال الْمَذْكُور فَنَهَضَ السُّلْطَان يَعْقُوب من فوره بعد أَن صلى الْعَصْر بتازا من ذَلِك الْيَوْم فَأسْرى ليلته تِلْكَ فِي نَحْو الْخمسين فَارِسًا وَمن الْغَد صلى الْعَصْر بِظَاهِر سلا فَكَانَ قطعه مَسَافَة مَا بَينهمَا فِي يَوْم وَلَيْلَة وَهَذَا أَمر خارق للْعَادَة بِلَا شكّ أظهره الله على يَد هَذَا السُّلْطَان لصدق عزمه وَحسن نِيَّته وَإِلَّا فالمسافة مَا بَين تازا وسلاست مراحل أَو أَكثر ثمَّ تلاحقت بِهِ جيوش الْمُسلمين من الْقَبَائِل المتطوعة من جَمِيع آفَاق الْمغرب فحاصر النَّصَارَى بهَا وضيق عَلَيْهِم ووالى الْقِتَال عَلَيْهِم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار حَتَّى اقتحمها عَلَيْهِم عنْوَة لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة من حصارها وأثخن فيهم بِالْقَتْلِ وَنَجَا من نجا مِنْهُم إِلَى سفنهم فنشروا قلوعهم وذهبوا يلتفتون وَرَاءَهُمْ ثمَّ شرع السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فِي بِنَاء السُّور الغربي من سلا الَّذِي يُقَابل الْوَادي مِنْهَا فَإِنَّهَا كَانَ لَا سور لَهَا من تِلْكَ الْجِهَة من أَيَّام عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَإِنَّهُ كَانَ قد هدم أسوار قَوَاعِد الْمغرب مثل فاس وسبتة وسلا حَسْبَمَا قدمنَا الْخَبَر عَنهُ فِي دولته وَمن هَذِه التلمة كَانَ دُخُول النَّصَارَى الى سلا فشرع السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فِي بنائِهِ فبناه من أول دَار الصِّنَاعَة قبْلَة إِلَى الْبَحْر جوفا وَكَانَ رَحمَه الله يقف على بنائِهِ بِنَفسِهِ ويناول الْحجر بِيَدِهِ ابْتِغَاء ثَوَاب الله وتواضعا وسعيا فِي صَلَاح الْمُسلمين حَتَّى تمّ السُّور الْمَذْكُور على أحصن وَجه وأكمله
وَدَار الصِّنَاعَة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْخَبَر هِيَ الدَّار الَّتِي كَانَت تصنع بهَا الأساطيل البحرية والمراكب الجهادية يجلب إِلَيْهَا الْعود من غابة المعمورة فتصنع هُنَالك ثمَّ ترسل فِي الْوَادي وَكَانَ ذَلِك من الْأَمر المهم فِي دولة الْمُوَحِّدين حَسْبَمَا سلف قَالَ فِي الجذوة دَار الصِّنَاعَة بسلا بناها الْمعلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَاج من أهل إشبيلية وَكَانَ من العارفين بالحيل الهندسية وَمن أهل المهارة فِي نقل الأجرام وَرفع الأثقال بَصيرًا باتخاذ الْآلَات الحربية الجافية اه
وَأما يَعْقُوب بن عبد الله الثائر فَإِنَّهُ خشِي بادرة السُّلْطَان يَعْقُوب بن(3/22)
عبد الْحق فَخرج من رِبَاط الْفَتْح وأسلمه فضبطه السُّلْطَان وثقفه ثمَّ نَهَضَ إِلَى بِلَاد تأمسنا فاستولى عَلَيْهَا وَملك مَدِينَة آنفى وَهِي الْمُسَمَّاة الْآن بِالدَّار الْبَيْضَاء فضبطها وَلحق يَعْقُوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة فَامْتنعَ بِهِ وسرح السُّلْطَان ابْنه أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد وَعلي بن زيان لمنازلته وَسَار هُوَ إِلَى لِقَاء يغمراسن فَلَقِيَهُ وَعقد مَعَه المهادنة وافترقا على السّلم وَوضع أوزار الْحَرْب وَرجع السُّلْطَان إِلَى الْمغرب فَخرج عَلَيْهِ بَنو أَخِيه إِدْرِيس على مَا نذكرهُ
خُرُوج بني إِدْرِيس بن عبد الْحق على عمهم السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
قد تقدم لنا أَن الْأَمِير عبد الْحق المريني كَانَ لَهُ تِسْعَة من الْوَلَد أكبرهم إِدْرِيس وَقتل مَعَ وَالِده فِي حَرْب ريَاح وَكَانَ لإدريس هَذَا عدَّة أَوْلَاد بقوا فِي كَفَالَة أعمامهم وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ أَوْلَاد إِدْرِيس قد ملكوا أَمر أنفسهم واشتدت شكيمتهم فنفسوا عَلَيْهِ مَا أَتَاهُ الله من الْملك وَرَأَوا أَنهم أَحَق بِهِ مِنْهُ لِأَن أباهم هُوَ الْأَكْبَر من ولد عبد الْحق كَمَا مر فَخَرجُوا على عمهم يَعْقُوب وَلَحِقُوا بقصر كتامة وتابعوا ابْن عمهم يَعْقُوب بن عبد الله على رأية واجتمعوا الى كَبِيرهمْ مُحَمَّد بن ادريس بن عبد الْحق وانضم اليه من كَانَ على رَأْيهمْ من عشيرتهم ومواليهم واعتصموا بجبال غمارة فَنَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان يَعْقُوب وتلطف بهم حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ واسترضاهم وَعقد لعامر بن إِدْرِيس مِنْهُم سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة على عَسْكَر من ثَلَاثَة آلَاف فَارس أَو يزِيدُونَ من المتطوعة من بني مرين وأغزاهم الأندلس لجهاد الْعَدو بهَا وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء وشفع بِهَذِهِ الفعلة الْحَسَنَة عمله فِي وَاقعَة سلا وَهُوَ أول جَيش عبر الْبَحْر إِلَى الأندلس من بني مرين فَكَانَ لَهُم فِي الْجِهَاد والمرابطة مَوَاقِف مَذْكُورَة ومقامات محمودة تبع الْخلف فِيهَا السّلف ودام ذَلِك فيهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقَامُوا عَن أهل الْمغرب والأندلس بِهَذَا الْوَاجِب الْعَظِيم رَحِمهم الله وجزاهم عَن الْمُسلمين خيرا(3/23)
وَأما يَعْقُوب بن عبد الله صَاحب سلا فَإِنَّهُ أَقَامَ خَارِجا بالنواحي متنقلا فِي الْجِهَات إِلَى أَن قَتله طَلْحَة بن محلي من أَوْلِيَاء السُّلْطَان يَعْقُوب على سَاقيه غبولة من نَاحيَة رِبَاط الْفَتْح سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَكفى السُّلْطَان يَعْقُوب أمره
حِصَار السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش ونزوع أبي دبوس مِنْهَا إِلَيْهِ وهلاك المرتضى بعد ذَلِك
لما فرغ السُّلْطَان يَعْقُوب من شَأْن الخارجين عَلَيْهِ من عشيرته أجمع رَأْيه لمنازلة المرتضى والموحدين فِي دَارهم وحضرتهم وَرَأى أَنه أوهن لشوكتهم وَأقوى لأَمره عَلَيْهِم فَبعث فِي قومه وحشد أهل مَمْلَكَته واستكمل التعبئة وَسَار سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى جبل جيليز فشارف دَار الْخلَافَة وَنزل بعقرها وَأخذ بمخنقها وخفقت ألويته على جنباتها وَعقد المرتضى على حربه لأبي دبوس إِدْرِيس بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن فعبأ كتائبه ورتب مصافه وبرز لمدافعتهم ظَاهر الحضرة فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا هلك فِيهَا الْأَمِير عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ففت مهلكه فِي عضدهم وَارْتَحَلُوا عَنْهَا إِلَى أَعْمَالهم واعترضتهم عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بوادي أم الرّبيع وَعَلَيْهِم يحيى بن عبد الله بن وانودين فَاقْتَتلُوا فِي بطن الْوَادي وانهزمت عَسَاكِر الْمُوَحِّدين هزيمَة شنعاء وَتركُوا الْأَمْوَال والأثاث فاحتوى بَنو مرين على ذَلِك كُله وَهِي وَاقعَة أم الرجلَيْن
ثمَّ سعى سماسرة الْفِتَن عِنْد الْخَلِيفَة المرتضى فِي ابْن عَمه وقائد حربه أبي دبوس بِأَنَّهُ يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ وَشعر هُوَ بالسعاية فِي جَانِبه فخشي بادرة المرتضى وَلحق بالسلطان يَعْقُوب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة عِنْد دُخُوله إِلَى فاس من محاصرته مراكش فَأَقَامَ عِنْده مَلِيًّا ثمَّ سَأَلَهُ الْإِعَانَة على أمره بعسكر يمده بِهِ وَآلَة يتخذها لملكه وَمَال يصرفهُ فِي ضرورياته على أَن يشركهُ فِي(3/24)
الْفَتْح وَالْغنيمَة وَالسُّلْطَان فأمده السُّلْطَان يَعْقُوب بِخَمْسَة آلَاف من بني مرين وبالمستجاد من الْآلَة والكفاية من المَال وأهاب لَهُ بالعرب والقبائل من أهل مَمْلَكَته وَغَيرهم أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة حَتَّى يبلغ مُرَاده فِي فتح مراكش وَسَار أَبُو دبوس فِي الْكَتَائِب حَتَّى شَارف الحضرة ودس إِلَى أشياعه من الْمُوَحِّدين بأَمْره فثاروا بالمرتضى فَكَانَ من فراره إِلَى آزمور ونزوله على صهره ابْن عطوش ومقتله على يَده مَا قدمنَا ذكره فِي دولته واستتب أَمر أبي دبوس بمراكش وَثَبت قدمه بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان فِي الْوَفَاء بالمشارطة فاستنكف واستكبر وَنقض الْعَهْد وأساء الرَّد فَنَهَضَ إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فِي جموع بني مرين وعساكر الْمغرب فخام عَن اللِّقَاء واعتصم بالأسوار فزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وحاصره أَيَّامًا ثمَّ سَار فِي الْجِهَات والنواحي يحطم الزروع وينسف الأقوات وَعجز أَبُو دبوس عَن مدافعته فاستجاش عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليفت فِي عضده ويشغله عَمَّا أَمَامه بِمَا وَرَاءه فَكَانَ مَا نذكرهُ
وقْعَة تلاغ بَين يَعْقُوب بن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان
لما نزل السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش وربض على ترائبه للتوثب عَلَيْهَا لم يجد أَبُو دبوس ملْجأ من دون الِاسْتِظْهَار عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليَأْخُذ بحجزته عَنْهَا فَبعث إِلَيْهِ بالصريخ فِي ذَلِك وأكد الْعَهْد وأسنى الْهَدِيَّة فشمر يغمراسن لاستنفاذه وجذب السُّلْطَان يَعْقُوب عَنهُ من خَلفه بشن الغارات على ثغور الْمغرب وَإِيقَاد نَار الْفِتْنَة بهَا فهاج عَلَيْهِ من السُّلْطَان يَعْقُوب لَيْث عاديا وأرهف مِنْهُ حدا مَاضِيا فأفرج للْوَقْت عَن مراكش وَرجع عوده على بدئه يُرِيد تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان فَنزل فاسا وتلوم بهَا أَيَّامًا حَتَّى أَخذ أهبة الْحَرْب وعدة النزال ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان منتصف محرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وسلك على أكرسيف ثمَّ على تافرطاست(3/25)
وتزاحف الْفَرِيقَانِ بوادي تلاغ وعبأ كل مِنْهُمَا كتائبه ورتب مصافه وبرز النِّسَاء فِي القباب سافرات على سَبِيل التحريش والتحريض والتحم الْقِتَال وَطَالَ القراع والنزال وَلما فَاء الْفَيْء وَمَال النَّهَار وَكَثُرت حشود بني مرين جموع بني عبد الواد وَمن إِلَيْهِم انكشفوا ومنحوا الْعَدو أكتافهم وَهلك فِي الحومة أَبُو حَفْص عمر بن يغمراسن بن زيان وَكَانَ كَبِير أَوْلَاده وَولي عَهده وَهلك مَعَه جمَاعَة من عشيرته وَلما انهزم بَنو عبد الواد بَقِي يغمراسن فِي ساقتهم حاميا لَهُم من بني مرين أَن تركبهم من خَلفهم فَكَانَ ردْءًا لَهُم إِلَى أَن وصلوا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَت وقْعَة تلاغ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عشر من جُمَادَى الْأَخِيرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى مَكَانَهُ من حِصَار مراكش وَالله غَالب على أمره
فتح حَضْرَة مراكش ومقتل أبي دبوس وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بهَا
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من حَرْب يغمراسن صرف عزمه إِلَى غَزْو مراكش وَالْعود إِلَى حصارها كَمَا كَانَ أول مرّة فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَلما عبروا وَادي أم الرّبيع بَث السَّرَايَا وَشن الغارات وَأطلق الأعنة وَالْأَيْدِي للنهب والعيث فحطموا زروعها وانتسفوا آثارها وتقرى نَوَاحِيهَا كَذَلِك بَقِيَّة عَامه ثمَّ غزا عرب الْخَلْط من جشم بتادلا فأثخن فيهم واستباحهم ثمَّ نزل وَادي العبيد فَأَقَامَ هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ غزا بِلَاد صنهاجة فاستباحها وَلم يزل ينْقل ركابه فِي أحواز مراكش ويجوس خلالها إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَاجْتمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل من الْعَرَب والمصامدة عِنْد أبي دبوس وَقَالُوا لَهُ يَا مَوْلَانَا كم تقعد عَن حَرْب بني مرين وَقد ترى مَا نزل بِنَا فِي حريمنا وَأَمْوَالنَا مِنْهُم فَاخْرُج بِنَا إِلَيْهِم لَعَلَّ الله يَجعله سَبَب الْفَتْح فَإِنَّهُم قَلِيلُونَ وجمهورهم وذوو الشَّوْكَة مِنْهُم قد بقوا(3/26)
برباط تازا لحراسة ذَلِك الثغر من بني عبد الواد وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أجابهم إِلَى رَأْيهمْ فاستعد للحرب وبرز من حَضْرَة مراكش فِي جيوش ضخمة وجموع وافرة فاستجره السُّلْطَان يَعْقُوب بالفرار أَمَامه ليبعد عَن مدد الصَّرِيخ فيستمكن مِنْهُ فَلم يزل أَبُو دبوس يسْعَى خَلفه حَتَّى نزل ودغفوا فَحِينَئِذٍ كرّ عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فالتحمت الْحَرْب واختل مصَاف أبي دبوس وفر يسابق إِلَى مراكش وَأَيْنَ مِنْهُ مراكش فَأَدْرَكته الْخُيُول وحطمته الرماح فَخر صَرِيعًا واحتز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي محرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ تقدم السُّلْطَان يَعْقُوب نَحْو مراكش وفر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى تينملل وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى فَبَقيَ ذبالة هُنَالك إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَجِيء بِهِ فِي جمَاعَة من قومه إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقتلُوا جَمِيعًا وانقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين ثمَّ خرج الْمَلأ وَأهل الشورى من الحضرة إِلَى لِقَاء السُّلْطَان يَعْقُوب ففرح بهم وأمنهم ووصلهم وَدخل مراكش فِي عَسْكَر ضخم وموكب فخم يَوْم الْأَحَد التَّاسِع من محرم الْمَذْكُور وَورث ملك آل عبد الْمُؤمن وتملاه واستوسق أمره بالمغرب وتطامن النَّاس لِبَأْسِهِ وَسَكنُوا لظل سُلْطَانه وَأقَام بمراكش إِلَى رَمَضَان من سنته ثمَّ أغزا ابْنه الْأَمِير أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب بِلَاد السوس فافتتحها وأوغل فِي ديارها ودوخ أقطارها وَرجع إِلَى أَبِيه وَاسْتمرّ السُّلْطَان يَعْقُوب بمراكش يصلح شؤونها إِلَى رَمَضَان من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَخرج بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد درعة فأوقع بعربها الوقيعة الْمَشْهُورَة الَّتِي خضدت من شوكتهم وَرجع لشهرين من غزاته ثمَّ أجمع الرحلة إِلَى دَار ملكه بفاس فعقد على مراكش لمُحَمد بن عَليّ بن يحيى من كبار أَوْلِيَائِهِمْ وَمن أهل خؤلته وَكَانَ من طبقَة الوزراء وأنزله بقصبة مراكش وَجعل المسالح فِي أَعمالهَا لنظره وعهد إِلَيْهِ بتدويخ الأقطار ومحو آثَار بني عبد الْمُؤمن وَفصل من مراكش قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم(3/27)
مراسلة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الحفصي للسُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمهمَا الله
كَانَت دولة بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فرعا من دولة بني عبد الْمُؤمن وَشعْبَة مِنْهَا حَسْبَمَا نبهنا عَلَيْهِ غير مرّة وَلما ضعفت دولة بني عبد الْمُؤمن بمراكش وَالْمغْرب كَانَ صَاحب إفريقية أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَاحِد الهنتاني يأمل الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا والتملك لَهَا ويتمنى ذَلِك لَو ساعده الْقدر لِأَنَّهُ كَانَ يرى انه اولى بِتِلْكَ الحضرة من غَيره حَتَّى من بني عبد الْمُؤمن لِأَنَّهَا أَرض سلفه وموطن أَصله وعشيرته لِأَن عمالة مراكش لم تعرف إِلَّا للمصامدة من قديم الزَّمَان وقبيلة هنتانة هِيَ صميمها وذؤابتها فَبِهَذَا وَنَحْوه كَانَ بَنو أبي حَفْص يتطاولون إِلَى ملك مراكش وَلما نبغ بَنو مرين بالمغرب وغلبوا على الْكثير من ضواحيه كَانُوا يدعونَ إِلَى أبي زَكَرِيَّاء الحفصي تأليفا لأهل الْمغرب واستجلابا لمرضاتهم وإتيانا لَهُم من نَاحيَة أهوائهم إِذْ كَانَت صبغة الدعْوَة الموحدية قد رسخت فِي قُلُوبهم فَلَو دعوا إِلَى غَيرهَا من أول الْأَمر لحاصوا عَنْهَا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَلما لم يُمكن بني مرين أَن يدعوا إِلَى بني عبد الْمُؤمن لأَنهم أقتالهم وإياهم ينازعون وَلَهُم يُحَاربُونَ ويجالدون دعوا إِلَى طَاعَة الحفصيين الَّذين هم فرع مِنْهُم والدعوة إِلَى الْفَرْع كالدعوة إِلَى أَصله فَلم تنفر نفوس أهل الْمغرب عَنْهَا وَإِنَّمَا كَانَ بَنو مرين يسرون من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَلِهَذَا لما اسْتَقل السُّلْطَان يَعْقُوب بِالْأَمر وَتمكن لَهُ السُّلْطَان بالمغرب قطع دَعْوَة الحفصيين حَالا بعد أَن كَانَ أَولا يَدْعُو إِلَيْهَا هُوَ وَإِخْوَته من قبله وَكَانَ بَنو أبي حَفْص ينشطون لذَلِك ويهادون بني مرين ويمدونهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك وَلما عزم السُّلْطَان يَعْقُوب على منازلة مراكش كتب إِلَى أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص يُخبرهُ بذلك ويستمده حَتَّى(3/28)
كَأَنَّهُ نَائِب عَنهُ لَا غير وَأرْسل بكتابه مَعَ ابْن أَخِيه عَامر بن إِدْرِيس بن عبد لحق فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَأكْرم الْمُسْتَنْصر وفادتهم ثمَّ لما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا بعث إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصر بهدية فِيهَا من أَصْنَاف الْخَيل الْجِيَاد وَالسِّلَاح وَالثيَاب الرفيعة مَا اخْتَارَهُ وَاسْتَحْسنهُ وَبعث بذلك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه دولته أَيْضا وَفِيهِمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي فتلطف الْكَاتِب الْمَذْكُور فِي ذكر الْمُسْتَنْصر على مِنْبَر مراكش حَتَّى تمّ لَهُ ذَلِك بِمحضر وَفد الْمُوَحِّدين فَعظم سرورهم وانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ بالْخبر واتصلت الْمَوَدَّة والمهاداة بَين الْمُسْتَنْصر وَالسُّلْطَان يَعْقُوب سَائِر أيامهم وَلما هلك الْمُسْتَنْصر وبويع ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى الْمَدْعُو بالواثق اقتفى سنَن أَبِيه فِي ذَلِك فَبعث إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بهدية حافلة مَعَ قَاضِي بجاية أبي الْعَبَّاس الغماري سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة فَعظم موقعها من السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ لأبي الْعَبَّاس الغماري هَذَا بالمغرب ذكر تحدث النَّاس بِهِ ذهرا وَقطع السُّلْطَان يَعْقُوب لأوّل أمره الدعْوَة إِلَى الحفصيين كَمَا قُلْنَا وَالله تَعَالَى أعلم
عقد السُّلْطَان يَعْقُوب ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي مَالك بسلا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من خُرُوج قرَابَته عَلَيْهِ
كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين خرج من مراكش بعد فتحهَا قَاصِدا حَضْرَة فاس دَار ملك بني مرين اجتاز بِمَدِينَة سلا فأراح بهَا أَيَّامًا فطرقه مرض وعك مِنْهُ وعكا شَدِيدا فَلَمَّا أبل من مَرضه جمع قومه وَعقد الْعَهْد لأكبر أَوْلَاده أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب لما علم من أَهْلِيَّته لذَلِك وَأخذ لَهُ الْبيعَة عليم جَمِيعًا فأعطوها طواعية وَعز ذَلِك على الْقَرَابَة من بني عبد الْحق وهم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء بَنو إِدْرِيس بن عبد الْحق وَبَنُو عبد الله بن عبد الْحق وَبَنُو رحو بن عبد الْحق وَإِنَّمَا قيل لَهُم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من بني عبد الْحق كَانُوا أشقاء أمّهم اسْمهَا سَوط النِّسَاء فَلَمَّا بَايع السُّلْطَان(3/29)
يَعْقُوب لِابْنِهِ أبي مَالك بِولَايَة الْعَهْد آسفهم ذَلِك لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر حَسْبَمَا سلف فَارْتَدُّوا على أَعْقَابهم وقلبوا لعمهم ظهر الْمِجَن وعادت هيف إِلَى أديانها وأسروا من ليلتهم من سلا وَلم يصبحوا إِلَّا بجبل علودان من بِلَاد غمارة عش خلافهم ومدرج فتنتهم وَكَانَ ذَلِك فِي عيد الْفطر من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وانضم إِلَيْهِم بَنو أبي عياد بن عبد الْحق وشايعوهم على رَأْيهمْ فَخرج السُّلْطَان يَعْقُوب فِي أَثَرهم وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه لاأمير يُوسُف بن يَعْقُوب فِي خَمْسَة آلَاف فأحاط بهم وَأخذ بمخنقهم وَلحق بِهِ أَخُوهُ أَبُو مَالك فِي عسكره وَمَعَهُ مَسْعُود بن كانون شيخ سُفْيَان ثمَّ لحق بهم السُّلْطَان يَعْقُوب فِي عساكره فحاصروهم ثَلَاثَة وَلما رَأَوْا أَن قد أحيط بهم سَأَلُوا الْأمان فبذله لَهُم وأنزلهم وَمسح صُدُورهمْ واسترضاهم واستل سخائمهم وَوصل بهم إِلَى حَضرته فسألوا مِنْهُ الْأذن فِي اللحاق بتلمسان حَيَاء مِمَّا ارتكبوه من الْخلاف فَأذن لَهُم فأجازوا الْبَحْر إِلَى الأندلس وَخَالفهُم عَامر بن إِدْرِيس لما آنس من ميل عَمه إِلَيْهِ فَبَقيَ بتلمسان حَتَّى توثق لنَفسِهِ بالعهد وَعَاد إِلَى قومه بعد منازلة السُّلْطَان يَعْقُوب لتلمسان حَسْبَمَا نذكرهُ عَن قريب
قَالَ ابْن خلدون واحتل هَؤُلَاءِ الْقَرَابَة من بني عبد الْحق بِأَرْض الأندلس على حِين أقفر من الحامية جوها واستأسد الْعَدو على ثغورها وتحلبت شفاهه لالتهامها فتبوءوها أسودا ضارية وسيوفا مَاضِيا معودين لِقَاء الْأَبْطَال وقراع الحتوف والنزال مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة الْعِزّ وبساله التوحش فعظمت نكايتهم فِي الْعَدو واعترضوا فِي صَدره سجى دون الوطن الَّذِي كَانَ طعمة لَهُ فِي ظَنّه وارتدوه على عقبه ونشطوا من همم الْمُسلمين الْمُسْتَضْعَفِينَ وَرَاء الْبَحْر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم وزاحموا أَمِير الأندلس قي رياستها بمنكب قوي فتجافى لَهُم عَن خطة الْحَرْب ورياسة الْغُزَاة من أهل العدوة من أعياصهم وَغَيرهم من أُمَم البربر وثافنوه فِي مُسْتَقر عزه وساهموه فِي الجباية بِفَرْض الْعَطاء والديوان فبذله لَهُم واستعدوا على الْعَدو وَحسن أَثَرهم فِيهِ حَسْبَمَا تلمع بِالْبَعْضِ من ذَلِك إِن شَاءَ الله(3/30)
هجوم النَّصَارَى على العرائش وتيشمس من ثغور الْمغرب
لما كَانَ الْمحرم من سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة هجم النَّصَارَى على مَدِينَة العرائش وتيشمس من ثغور العدوة المغربية فَقتلُوا رجالها وَسبوا نساءها وانتهبوا أموالها وأضرموها نَارا وَرَجَعُوا عودهم على بدءهم فَرَكبُوا أجفانهم وَلَحِقُوا ببلادهم وَلم تنلهم شَوْكَة السُّلْطَان يَعْقُوب لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِفَتْح مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلم يبين فِي القرطاس هَؤُلَاءِ النَّصَارَى من هم
وقْعَة إيسلي بَين السُّلْطَان يَعْقُوب ابْن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان
لما أنعم الله على السُّلْطَان يَعْقُوب بامتداد ظلّ ملكه فِي أقطار الْمغرب ونواحيه ونفوذ كَلمته فِي حواضره وبواديه وتمم لَهُ الصنع بِفَتْح مراكش ووراثة كرْسِي بني عبد الْمُؤمن بهَا وَعَاد إِلَى فاس كَمَا قُلْنَا تحرّك مَا كَانَ فِي نَفسه من ضغائن يغمراسن بن زيان وَمَا آسفه بِهِ من تخذيل عَزَائِمه ومجاذبته عَن قَصده وَرَأى أَن وقْعَة تلاغ لم تشف صَدره وَلَا أطفأت نَار موجدته فأجمع أمره لغزوة ونشطه لذَلِك مَا صَار إِلَيْهِ من الْملك وسعة السُّلْطَان فحشد جَمِيع أهل الْمغرب وعزم على استئصاله وَقطع دابره فَعَسْكَرَ بفاس وَبعث وَلَده أَبَا مَالك إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من خواصة حاشرين فِي مدائنها وضواحيها فَاجْتمع عَلَيْهِ من قبائل الْعَرَب والمصامدة وصنهاجة وبقايا عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بالحضرة وحامية الْأَمْصَار من جند الفرنج وناشبة الْغَزْو استكثر من ذَلِك كُله واحتفل السُّلْطَان يَعْقُوب بفاس كَذَلِك ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا غرَّة صفر سنة سبعين وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل وَادي ملوية فَأَقَامَ عَلَيْهِ أَيَّامًا حَتَّى لحقه ابْنه أَبُو مَالك فِي جموعه وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد الْعَرَب من قبائل جشم أهل تامسنا الَّذين هم سُفْيَان والخلط والعاصم وَبَنُو جَابر وَمن مَعَهم من الأثبج وقبائل ذَوي حسان والشبانات من معقل أهل السوس الْأَقْصَى وقبائل ريَاح أهل أزغار وبلاد الهبط فَعرض هُنَالك عساكره وميزها ورتبها فَيُقَال إِنَّهَا بلغت ثَلَاثِينَ ألفا(3/31)
وارتحل يُرِيد تلمسان
وَلما انْتهى إِلَى أنكاد قدمت عَلَيْهِ رسل ابْن الْأَحْمَر ووفد أهل الأندلس يستصرخونه على الْعَدو ويسألونه الْإِعَانَة والنصر ويخبرونه بِأَنَّهُ قد كلب عَلَيْهِم وشره لالتهام بِلَادهمْ فتحركت همته رَحمَه الله للْجِهَاد وَنصر الْمُسلمين وإغاثة الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُم وَنظر فِي صرف الشواغل عَن ذَلِك وجنح للسلم مَعَ يغمراسن وعزم عَلَيْهَا وَاسْتَشَارَ الْمَلأ من أَشْيَاخ الْعَرَب وَبني مرين فِي ذَلِك فصوبوا رَأْيه لما كَانُوا عَلَيْهِ أَيْضا من إِيثَار الْجِهَاد ومحبته فَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب جمَاعَة من أَشْيَاخ الْقَبَائِل إِلَى يغمراسن يَدعُونَهُ إِلَى الصُّلْح واجتماع الْكَلِمَة وَقَالَ لَهُم فِي جملَة قَوْله إِن الصُّلْح خير كُله فَإِن جنح يغمراسن إِلَيْهِ وأناب فَذَاك وَإِلَّا فَأَسْرعُوا إِلَيّ بالْخبر فَسَار الْأَشْيَاخ إِلَى يغمراسن فوافوه بِظَاهِر تلمسان وَقد أَخذ أهبته واستعد للقاء وحشد قبائل زناتة المجاورين لَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من بني عبد الواد وَبني رَاشد وأحلافهم ومغراوة من عرب بني زغبة فبلغوه الرسَالَة وعرضوا عَلَيْهِ مقَالَة السُّلْطَان يَعْقُوب فَأبى واستكبر وصم عَن سَماع قَوْلهم وموعظتهم وَقَالَ أبعد مقتل وَلَدي أصالحه وَالله لَا كَانَ ذَلِك أبدا حَتَّى أثأر بِهِ وأذيق أهل الْمغرب النكال من أَجله فَرَجَعت الرُّسُل إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بالْخبر وتزاحف الْفَرِيقَانِ فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي ايسلي من بسيط وَجدّة وعبأ السُّلْطَان يَعْقُوب كتائبه ورتب مصافه وَجعل ابْنه عبد الْوَاحِد فِي الميمنة وَابْنه يُوسُف فِي الميسرة ووقف هُوَ فِي الْقلب ودارت بَينهم رحى الْحَرْب وركدت مَلِيًّا وَهلك فِي الحومة أَبُو عنان فَارس بن يغمراسن بن زيان فِي جمَاعَة من بني عبد الواد وَهلك عَامَّة عَسْكَر الفرنج الَّذين كَانُوا مَعَهم لثباتهم بثبات يغمراسن فطحنتهم رحى الْحَرْب وتقبض على قائدهم برنيس وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَنَجَا يغمراسن فِي فَلهُ حاميا لَهُم ومدافعا عَنْهُم من خَلفهم وَمر فِي هزيمته بفساطيطه فأضرمها نَارا تفاديا من حصرة اسْتِيلَاء الْعَدو عَلَيْهَا وانتهبت بَنو مرين بَاقِي مُعَسْكَره واستبيحت حرمه وارتحل السُّلْطَان يَعْقُوب من الْغَد فِي أَثَره حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى وَجدّة وقف عَلَيْهَا فَأمر بهدمها فتسارعت أَيدي الْجند إِلَيْهَا وَجعلُوا عاليها(3/32)
سافلها وألصقوا بالرغام جدرانها وتركوها قاعا صفصفا وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة منتصف رَجَب من سنة سبعين وسِتمِائَة
ثمَّ تقدم إِلَى تلمسان فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها أَيَّامًا وَأطلق الْأَيْدِي فِي ساحتها بالنهب والعيث ثمَّ شن الغارات على البسائط فاكتسحها سَببا ونسفها نسفا وَهلك فِي طَرِيقه إِلَى تلمسان وزيره عِيسَى بن ماساي وَكَانَ من عَلَيْهِ وزرائه وحماة ميدانه وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَذْكُورَة وَكَانَ مهلكه فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَقدم عَلَيْهِ وَهُوَ محاصر لتلمسان الْأَمِير أَبُو زيان مُحَمَّد بن عبد الْقوي بن الْعَبَّاس بن عَطِيَّة كَبِير بني توجين من زناتة فِي جَيش كثيف من قومه مباهيا ببنوده وطبوله وَآلَة حربه وَكَانَ قدومه هَذَا بِقصد مُظَاهرَة السُّلْطَان يَعْقُوب على يغمراسن وتلمسان لعداوة كَانَت بَينهمَا فَأكْرم السُّلْطَان يَعْقُوب وفادته واستركب النَّاس للقائه وَاتخذ رُتْبَة السِّلَاح لمباهاته وَاسْتمرّ الْحصار على تلمسان وعظمت نكاية بني توجين فِيهَا بتخريب الرباع وانتساف الجنات وَقطع الثِّمَار وإفساد الزَّرْع وتحريق الْقرى والضياع لما كَانَ يغمراسن يعاملهم فِي بِلَادهمْ بِمثل ذَلِك أَو أَكثر وَلما امْتنعت تلمسان على السُّلْطَان يَعْقُوب وأيس من فتحهَا لحصانتها واشتداد شَوْكَة حاميتها عزم على الإفراج عَنْهَا وَأَشَارَ على الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي بالقفول إِلَى مأمنه قبل أَن ينْهض هُوَ عَن تلمسان وَوَصله وَقَومه وملأ حقائبهم من التحف وجنب لَهُم مائَة من الْخَيل المقربات الْجِيَاد بمراكبها وأراح عَلَيْهِم ألف نَاقَة حَلُوب وعمهم بِالْخلْعِ الفاخرة والصلات الوافرة واستكثر لَهُم من السِّلَاح والفازات والفساطيط وَحَملهمْ على الظّهْر وَارْتَحَلُوا إِلَى منجاتهم ومقرهم من جبل وانشريس وتلوم السُّلْطَان يَعْقُوب عَلَيْهِم أَيَّامًا ريثما وصلوا حذرا عَلَيْهِم من يغمراسن أَن ينتهز الفرصة فِي اتباعهم ثمَّ أقلع السُّلْطَان عَن تلمسان وثنى عنانه إِلَى الْمغرب فوصل إِلَى رِبَاط تازا فِي أول يَوْم من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة فعيد بهَا عيد النَّحْر ثمَّ ارتحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى الْيَوْم الْحَادِي عشر من صفر فَتوفي وَلَده وَولي عَهده الْأَمِير أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فأسف لفقده ثمَّ(3/33)
صَبر واحتسب ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش فَدَخلَهَا أَوَائِل ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بهَا شهرا حَتَّى أصلح من شَأْنهَا ثمَّ نَهَضَ إِلَى طنجة وسبتة على مَا نذكرهُ
فتح طنجة وسبتة وَمَا كَانَ من أَمر العزفي بهما
قد تقدم لنا فِي دولة أبي حَفْص عمر المرتضي أَن الْفَقِيه أَبَا الْقَاسِم العزفي استبد عَلَيْهِ بسبتة وتوارث ذَلِك بنوه من بعده وَكَانَ هَؤُلَاءِ العزفيون من بيوتات سبتة وَأهل الرياسة وَالْعلم وَالدّين فيهم وَلما ضعف أَمر بني عبد الْمُؤمن بالمغرب اسْتَقل الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم بن أبي الْعَبَّاس العزفي برياستها وضبطها وانتظم فِي طَاعَته سَائِر أَعمالهَا وَلما كَانَت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بعث الْفَقِيه الْمَذْكُورَة أجفانه إِلَى مَدِينَة أصيلا فهدموا أسوارها وَنَقَضُوا قصبتها لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهَا من خلائها أَن يملكهَا الْعَدو ويتمنع بهَا واستمرت أُمُوره فِي سبتة ونواحيها على الشداد وَكَانَت طنجة تالية لسبتة فِي سَائِر أحوالها وكانتا مَعًا من أحصن بِلَاد الْمغرب فَدخل صَاحب طنجة وَهُوَ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن مُحَمَّد الْهَمدَانِي الْمَعْرُوف بِابْن الْأَمِير فِي طَاعَة أبي الْقَاسِم الْمَذْكُور ثمَّ انتفض عَلَيْهِ لمضي سنة من طَاعَته واستبد وخطب لِابْنِ أبي حَفْص صَاحب إفريقية ثمَّ للخليفة العباسي صَاحب بَغْدَاد ثمَّ لنَفسِهِ وسلك فِي طنجة مَسْلَك العزفي فِي سبتة وَلَبِثُوا على ذَلِك مَا شَاءَ الله حَتَّى إِذا ملك بَنو مرين الْمغرب وافتتحوا معاقله وحصونه وَهلك الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق وَابْنه أَبُو حَفْص عمر من بعده فتحيز بنوه فِي أتباعهم وحشمهم إِلَى نَاحيَة طنجة وَأَصِيلا فأوطنوا(3/34)
ضاحيتها وعاثوا فِي نَوَاحِيهَا وضيقوا على أهل طنجة حَتَّى شارطهم ابْن الأميرعلى خراج مَعْلُوم على أَن يكفوا الأذية ويحموا الْحَوْزَة ويصلحوا السابلة فاتصلت يَده بيدهم وترددوا إِلَى الْبَلَد لاقْتِضَاء حاجاتهم ثمَّ مكروا وأضمروا الْغدر فَدَخَلُوا فِي بعض الْأَيَّام متأبطين السِّلَاح وفتكوا بِابْن الْأَمِير غيلَة فثارت بهم عَامَّة أهل طنجة واستلحموهم لحينهم فِي مصرع وَاحِد سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة واجتمعوا على وَلَده فَبَايعُوهُ وَبقيت فِي ملكته خَمْسَة أشهر ثمَّ استولى عَلَيْهَا أَبُو الْقَاسِم العزفي فَنَهَضَ إِلَيْهَا بعساكره من الرجل برا وبحرا وملكها وفر ابْن الْأَمِير فلحق بتونس وَنزل على الْمُسْتَنْصر الحفصي واستقرت طنجة فِي إيالة العزفي فضبطها وَقَامَ بأمرها وَولي عَلَيْهَا من قبله وأشرك الْمَلأ من أَشْرَافهَا فِي الشورى
وَلما استولى السُّلْطَان يَعْقُوب على حَضْرَة مراكش ومحا دولة آل عبد الْمُؤمن مِنْهَا وَفرغ من أَمر عدوه يغمراسن هم بِتِلْكَ النَّاحِيَة وَأحب أَن يضيفها إِلَى مَا بِيَدِهِ ليصفوا لَهُ أَمر الْمغرب الْأَقْصَى كُله فَنَهَضَ إِلَى طنجة ونازلها مفتتح اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة لِأَنَّهَا كَانَت فِي الْبَسِيط دون سبتة فَكَانَ أمرهَا أسهل فحاصرها نَحْو ثَلَاثَة أشهر فامتنعت عَلَيْهِ ويئس مِنْهَا وعزم على الإفراج عَنْهَا فَبَيْنَمَا هُوَ يُقَاتل فِي عشي الْيَوْم الَّذِي عزم على النهوض فِي غده إِذا بِجَمَاعَة من رماتها قَامُوا على برج وَرفعُوا لِوَاء أَبيض وَنَادَوْا بشعار بني مرين وَذَلِكَ لخلاف وَقع بَينهم دَاخل الْبَلَد فَتسَارع الْجند إِلَيْهِم فملكوهم البرج فتسوروا إِلَيْهِ الْحِيطَان وقاتلوا عَلَيْهِ سَائِر ليلتهم إِلَى الصَّباح ثمَّ تكاثرت جيوش بني مرين واقتحموا الْبَلَد عنْوَة ونادى مُنَادِي السُّلْطَان يَعْقُوب بالأمان فَلم يهْلك من أَهلهَا إِلَّا نفر يسير مِمَّن رفع يَده لِلْقِتَالِ وَشهر السِّلَاح سَاعَة الدُّخُول وَكَانَ ذَلِك فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة وَلما فرغ السُّلْطَان يَعْقُوب من طنجة بعث وَلَده الْأَمِير يُوسُف إِلَى سبتة فحاصر بهَا العزفي أَيَّامًا ثمَّ لَاذَ بِالطَّاعَةِ على أَن يبْقى مُمْتَنعا بحصنه وَيُؤَدِّي للسُّلْطَان خراجا مَعْلُوما كل سنة فَقبل السُّلْطَان مِنْهُ ذَلِك وأفرجت عَنهُ عساكره وَعَاد إِلَى فاس وَالله غَالب على أمره(3/35)
فتح سجلماسة وَمَا كَانَ من أمرهَا
قد ذكرنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق على سجلماسة ودرعة وَأَنه عقد على مسلحتها لأبي يحيى الفطراني الَّذِي كَانَ السَّبَب فِي غَلبه عَلَيْهَا المرتضى وَقتل القطراني بِوَاسِطَة القَاضِي ابْن حجاج حَسْبَمَا تقدم ذَلِك كُله ثمَّ غلب عَلَيْهَا بعد حِين يغمراسن بن زيان بِوَاسِطَة عرب المنبات من بني معقل أهل الصَّحرَاء وَعقد عَلَيْهَا لعبد الْملك بن مُحَمَّد العَبْد الْوَادي الْمَعْرُوف بِابْن حنينة نِسْبَة إِلَى أمه وَهِي أُخْت يغمراسن بن زيان وَلما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب بِلَاد الْمغرب وانتظمها فِي ملكته وَجه عزمه إِلَى افْتِتَاح سجلماسة وانتزاعها من أَيدي بني عبد الواد المتغلبين عَلَيْهَا فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة فِي جموع بني مرين وقبائل الْمغرب من الْعَرَب والبربر ونازلها وَنصب عَلَيْهَا آلَات الْحصار من المجانيق والعرادات وَغير ذَلِك
قَالَ ابْن خلدون وَنصب عَلَيْهَا هندام النفط الْقَاذِف بحصى الْحَدِيد ينبعث من خزانَة أَمَام النَّار الموقدة فِي البارود بطبيعة غَرِيبَة ترد الْأَفْعَال إِلَى قدرَة بارئها اه كَلَامه قلت وَفِيه فَائِدَة أَن البارود كَانَ مَوْجُودا فِي ذَلِك التَّارِيخ وَأَن النَّاس كَانُوا يُقَاتلُون بِهِ ويستعملونه فِي محاصراتهم وحروبهم يَوْمئِذٍ وَفِيه رد لما نَقله أَبُو زيد الفاسي فِي شرج منظومته الْمَوْضُوعَة فِي الْعَمَل الْجَارِي بفاس قَالَ كَانَ حُدُوث البارود سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا ذكره بَعضهم فِي تأليف لَهُ فِي الْجِهَاد وَأَنه استخرجه حَكِيم كَانَ يعْمل الكيمياء ففرقع لَهُ فَأَعَادَهُ فأعجبه فاستخرج مِنْهُ هَذَا البارود اه وصرخ الشَّيْخ أَبُو عبد الله بناني فِي حَاشِيَته على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل بِأَن حُدُوثه كَانَ فِي وسط الْمِائَة الثَّامِنَة وَهُوَ غير صَوَاب لما علمت من كَلَام ابْن خلدون أَنه كَانَ مَوْجُودا قبل ذَلِك بِنَحْوِ مائَة سنة ويغلب على ظَنِّي أَن لفظ الستمائة تصحف بالسبعمائة فسرى الْغَلَط من ذَلِك وَالله أعلم(3/36)
وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب على حِصَار سجلماسة حولا كَامِلا وَكَانَ سفهاؤها يصعدون فَوق الأسوار ويعلنون بالسب وَالْفُحْش إِلَى أَن هتك المنجنيق ذَات يَوْم طَائِفَة من سورها فَدخلت من هُنَالك عنْوَة بِالسَّيْفِ وعاث الْجند فِي أَهلهَا فَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا الذُّرِّيَّة وأتى الْقَتْل على عاملها عبد الْملك بن حنينة وَمن كَانَ بهَا من أَشْيَاخ بني عبد الواد وعرب المنبات وَكَانَ فتحهَا آخر صفر وَقيل يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وكمل بِفَتْحِهَا للسُّلْطَان يَعْقُوب فتح بِلَاد الْمغرب وتمشت طَاعَته فِي أقطاره فَلم يبْق فِيهِ أهل حصن يدينون بِغَيْر دَعوته وَلَا جمَاعَة تتحيز إِلَى غير فئته
أَخْبَار السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ لَهُ بالأندلس من الذّكر الْجَمِيل وَالْفَخْر الجزيل رَحمَه الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ لِلْعَدو الْكَافِر على الْمُسلمين فِي وقْعَة الْعقَاب من الظُّهُور وَالْغَلَبَة وَأَن تِلْكَ الْوَقْعَة كَانَت سَبَب ضعف الْمُسلمين بالمغرب والأندلس واستيلاء الْعَدو الْكَافِر على جلّ ثغورها وحصونها وَلما ضعف أَمر الْمُوَحِّدين بالمغرب استبد السَّادة مِنْهُم بالأندلس وصاروا إِلَى المنافسة فِيمَا بَينهم واستظهار بَعضهم على بعض بالطاغية وَإِسْلَام حصون الْمُسلمين إِلَيْهِ فِي سَبِيل تِلْكَ الْفِتْنَة فمشت رجالات الأندلس بَعضهم إِلَى بعض وَأَجْمعُوا على إِخْرَاج الْمُوَحِّدين من أَرضهم فثاروا بهم لوقت وَاحِد وأخرجوهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الجذامي ثمَّ من بعده مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر وَنَازع ابْن هود الرياسة بالأندلس وَلَا الشهيرة الَّتِي مِنْهَا قرطبة وإشبيلية قاعدتا أَرض الأندلس كَانَ كل وَاحِد من هذَيْن الثائرين يتَقرَّب إِلَى الطاغية بِمَا غلب عَلَيْهِ من ذَلِك ليعينه على صَاحبه(3/37)
وَالْأَمر لله وَحده وانقرض أَمر ابْن هود عَن أمد قريب واستمرت دولة ابْن الْأَحْمَر فِي عقبه إِلَى آخر الْمِائَة التَّاسِعَة وَلما استتب أَمر ابْن الْأَحْمَر بالأندلس عقد السّلم مَعَ الطاغية على أَن ينزل لَهُ عَن جَمِيع بسائط عرب الأندلس فَنزل لَهُ عَنْهَا أجمع ولجأ بِالْمُسْلِمين إِلَى سيف الْبَحْر معتصمين بأوعاره ومتشبثين بمعاقله وحصونه وَاخْتَارَ ابْن الْأَحْمَر لنزوله مَدِينَة غرناطة واتخذها كرْسِي مَمْلَكَته وابتنى بهَا لسكناه حصن الْحَمْرَاء
وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر هَذَا يدعى بالشيخ وَكَانَ قد عهد إِلَى وَلَده الْقَائِم من بعده مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالفقيه لانتحاله طلب الْعلم فِي صغره وأوصاه إِذا نابه أَمر من الْعَدو أَو وصل إِلَيْهِ مَكْرُوه أَن يستنصر عَلَيْهِ ببني مرين ويدرا بهم فِي نَحره ويجعلهم وقاية بَين الْعَدو وَبَين الْمُسلمين فَلَمَّا تكالب الطاغية على بِلَاد الأندلس بَادر مُحَمَّد الْفَقِيه إِلَى الْعَمَل بِإِشَارَة وَالِده وأوفد مشيخة الأندلس كَافَّة على السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فَلَقِيَهُ وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة فتبادروا للسلام عَلَيْهِ وألقوا إِلَيْهِ كنه الْخَبَر عَن كلب الْعَدو على الْمُسلمين وَثقل وطأته فَحَيَّا وفدهم واستبشر بمقدمهم وبادر لإجابة دَاعِي الله وإيثار الْجنَّة وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله مُنْذُ أول أمره مؤثرا عمل الْجِهَاد كلفا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ لَو أعطي الْخِيَار على سَائِر أَعماله حَتَّى لقد كَانَ اعتزم على الْغَزْو إِلَى الأندلس أَيَّام أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَطلب إِذْنه فِي ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ فَكَانَ فِي نَفسه من ذَلِك شغل وَله إِلَيْهِ صاغية فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ هَذَا الْوَفْد نبهوا عزيمته وأيقظوا همته فأعمل فِي الاحتشاد وَبعث فِي النفير ونهض من فاس فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة فوصل إِلَى طنجة وَأقَام هُنَالك وجهز خَمْسَة آلَاف من قومه أزاح عللهم وأجزل أعطياتهم وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِهِ أبي(3/38)
زيان وَأَعْطَاهُ الرَّايَة واستدعى من العزفي صَاحب سبتة السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الْمجَاز مِنْهُ عشرُون أسطولا فَأجَاز الْعَسْكَر الْمَذْكُور وَنزل بطريف فِي السَّادِس عشر من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فأراح الْأَمِير أَبُو زيان بطريف ثَلَاثًا ثمَّ دخل دَار الْحَرْب وتوغل فِيهَا وأجلب على ثغورها وبسائطها وامتلات أَيْديهم من الْمَغَانِم وأثخنوا بِالْقَتْلِ والأسر وتخريب الْعمرَان ونسف الْآثَار حَتَّى نزل بِسَاحَة شريش فخام حاميتها عَن اللِّقَاء وتحصنوا بالأسوار وقفل الْأَمِير أَبُو زيان الجزيرة الخضراء وَقد أمتلأت أَيدي عسكره من الْأَمْوَال وحقائبهم من السَّبي وركائبهم من السِّلَاح والأثاث وَرَأى أهل الأندلس أَن قد ثأروا بعام الْعقَاب بعد أَن لم تنصر لَهُم راية من ذَلِك الْيَوْم إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره
الْجَوَاز الأول للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
ثمَّ اتَّصل الْخَبَر بالسلطان يَعْقُوب رَحمَه الله أَن الْعَدو قد أَخذ فِي الاستعداد وعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فاعتزم على الْغَزْو بِنَفسِهِ وخشي على ثغور بِلَاده من عَادِية يغمراسن صَاحب تلمسان فَبعث حافده تاشفين بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فِي وَفد من بني مرين لعقد السّلم مَعَ يغمراسن وَالرُّجُوع للاتفاق وَالْمُوَادَعَة وَوضع أوزار الْحَرْب بَين الْمُسلمين للْقِيَام بوظيفة الْجِهَاد فَأكْرم موصله وموصل قومه وبادر إِلَى الْإِجَابَة والألفة وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السُّلْطَان يَعْقُوب لعقد السّلم وَبعث مَعَهم الرُّسُل وأسني الْهَدِيَّة وَجمع الله كلمة الْإِسْلَام وَعظم موقع هَذَا السّلم من السُّلْطَان يَعْقُوب لما كَانَ فِي نَفسه من الْميل الى الْجِهَاد وإيثار مبرورات الْأَعْمَال فَبَثَّ الصَّدقَات شكرا لله تَعَالَى على مَا منحه من التفرغ لذَلِك ثمَّ اسْتنْفرَ الكافة واحتشد الْقَبَائِل والجموع ودعا الْمُسلمين إِلَى جِهَاد عدوهم وخاطب فِي ذَلِك سَائِر أهل الْمغرب من زناتة وَالْعرب والموحدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأروبة ومكناسة وَجَمِيع قبائل البربر من المرتزقة والمتطوعة وأهاب بهم وَشرع فِي عبور الْبَحْر فأجازهم من فرضة قصر الْمجَاز فِي صفر(3/39)
سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة واحتل بساحل طريف وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين استصرخه ابْن الْأَحْمَر وأوفد عَلَيْهِ مَشَايِخ الأندلس اشْترط عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب النُّزُول عَن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره بهَا فتجافى لَهُ عَن رندة وطريف
وَلما أحس الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة بِإِجَازَة السُّلْطَان يَعْقُوب قدم إِلَيْهِ الْوَفْد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق من أَصْهَار ابْن الْأَحْمَر وَكَانَا مستوليين على مالقة ووادي آش وقمارش وَوَقعت بَينهمَا وَبَين ابْن الْأَحْمَر مُنَافَسَة فَخَرَجَا عَن طَاعَته وَلما عبر السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس بَادر أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة إِلَيْهِ واتصل بِهِ وأمحضه الود والنصح وسابق ابْن الْأَحْمَر فِي ذَلِك ونازعه فِي برور مقدمه والإذعان لَهُ وَرُبمَا صدرت من ابْن أشقيلولة فِي حق ابْن الْأَحْمَر جفوة بِمحضر السُّلْطَان يَعْقُوب أدَّت إِلَى بعض الْفساد وَانْصَرف ابْن الْأَحْمَر مغاضبا للسُّلْطَان من أجل ذَلِك
وَلما احتل السُّلْطَان بِنَاحِيَة طريف مَلَأت كتائبه ساحة الأَرْض مَا بَينهَا وَبَين الجزيرة الخضراء ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن يسْبق إِلَيْهِم الْخَبَر فَدخل دَار الْحَرْب وانْتهى إِلَى الْوَادي الْكَبِير فعقد هُنَالك لوَلَده الْأَمِير يُوسُف على خَمْسَة آلَاف من عسكره قدمهَا بَين يَدَيْهِ ثمَّ تبعه على أَثَره وسرح كتائبه فِي البسائط وخلال المعاقل تنسف الزروع وتخطم الغروس وتخرب الْعمرَان وتنتهب الْأَمْوَال وتكتسح السَّرْح وَتقتل الْمُقَاتلَة وَتَسْبِي النِّسَاء والذرية حَتَّى انْتهى إِلَى حصن المدور وبياسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنْوَة وأتى على سَائِر الْحُصُون فِي طَرِيقه فطمس معالمها واكتسح أموالها
وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله وَالْأَرْض تموج سبيا إِلَى أَن عرس بأستجه من تخوم دَار الْحَرْب وجاءه النذير بِاتِّبَاع الْعَدو آثاره لاستنقاذ أسراه واسترجاع أَمْوَاله وَأَن زعيم الفرنج وعظيمهم نونه خرج فِي طَلَبهمْ فِي أُمَم النَّصْرَانِيَّة من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَقدم السُّلْطَان الْغَنَائِم بَين يَدَيْهِ وسرح ألفا من الفرسان أمامها وَسَار يقتفيها من خلفهَا حَتَّى إِذا أطلت رايات الْعَدو مر ورائهم كَانَ(3/40)
الزَّحْف ورتب المصاف وجرد السَّيْف وَذكر اسْم الله وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت فِي طَاعَة رَبهَا والذب عَن دينهَا وَجَاءَت بِمَا يعرف من بأسها وبلائها فِي مقاماتها ومواقفها فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وَظهر أَمر الله وانكشفت جموع النَّصْرَانِيَّة وَقتل الزعيم نونه وَكَانَ هَذَا اللعين زعيم النَّصْرَانِيَّة بالأندلس قد قدمه الفنش على جيوشه وَاسْتَعْملهُ على حروبه وفوض لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره وَكَانَ النَّصَارَى قد سعدوا بطائرة وتيمنوا بنقيبته لِأَنَّهُ لم تهزم لَهُ قطّ راية وَكَانَ وبالا على بِلَاد الْإِسْلَام كثير الغارات عَلَيْهَا حَتَّى جمع الله بَينه وَبَين السُّلْطَان يَعْقُوب فأراحه من تَعب الْحَرْب وكد الغارات وألحقه بِأُمِّهِ الهاوية ومنح الْمُسلمين رِقَاب الفرنج واستحر فيهم الْقَتْل حَتَّى بلغت قتلاهم عدد الألوف وجمعوا من رؤوسهم مآذن أذنوا عَلَيْهَا لصلاتي الظّهْر وَالْعصر وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين مَا يناهز الثَّلَاثِينَ أكْرمهم الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ وآثرهم بِمَا عِنْده وَنصر الله حزبه وأعز أوليائه وَأظْهر دينه وبدا لِلْعَدو مَا لم يكن يحتسبه بمحاماة هَذِه الْعِصَابَة عَن الْملَّة وقيامها بنصر الْكَلِمَة وَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بِرَأْس الزعيم نونه إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَيُقَال إِنَّه بَعثه سرا إِلَى قومه بعد أَن طيبه وأكرمه ولَايَة أخلصها لَهُم ومداراة وانحرافا عَن السُّلْطَان يَعْقُوب ظَهرت شَوَاهِد ذَلِك عَلَيْهِ بعد حِين
وَاعْلَم أَن هَذَا الزعيم يُسَمِّيه كثير من المؤرخين دون نونه وَلَفظه دون مَعْنَاهَا فِي لسانهم السَّيِّد أَو الْعَظِيم أَو مَا أشبه ذَلِك فَلِذَا أسقطناها
وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه إِلَى الجزيرة الخضراء منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم فِي الْمُجَاهدين الْغَنَائِم وَمَا نفلوه من أَمْوَال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المَال على مُوجب الْكتاب وَالسّنة ليصرفه فِي مصارفه وَيُقَال كَانَ مبلغ الْغَنَائِم فِي هَذِه الْغُزَاة مائَة ألف من الْبَقر وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا من السَّبي وَمن الْأُسَارَى سَبْعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَثَلَاثُونَ وَمن الكراع أَرْبَعَة عشر ألفا وسِتمِائَة وَأما الْغنم فاتسعت عَن الْحصْر(3/41)
كَثْرَة حَتَّى لقد زَعَمُوا أَنه قد بِيعَتْ الشَّاة الْوَاحِدَة بدرهم وَكَذَلِكَ السِّلَاح
وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا إشبيليه فجاس خلالها وتقرى نَوَاحِيهَا وأقطارها وأثخن بِالْقَتْلِ والنهب فِي جهاتها وعاث فِي عمرانها وأوغل فِي مسيره حَتَّى وقف على بَابهَا وزعقت طبوله فِي جوها وخفقت ألويته على جنباتها ولجأت الفرنج إِلَى الأسوار واعتمدوا على الْحصار وَلم يخرج إِلَيْهِ مِنْهُم أحد ثمَّ ارتحل إِلَى شريش فأذاقها من وبال العيث والاكتساح مثل ذَلِك أَو أَكثر وَرجع إِلَى الجزيرة لشهرين من غزاته فبيعت الفرنجية من سبيه بهَا بمثقال وَنصف لِكَثْرَة السَّبي حِينَئِذٍ
وَدخل فصل الشتَاء فَنظر السُّلْطَان يَعْقُوب فِي اختطاط مَدِينَة بفرضة الْمجَاز من العدوة لنزول عسكره منتبذا عَن الرّعية لما يلحقهم من ضَرَر الْعَسْكَر وجفائهم وتخير لَهَا مَكَانا ملاصقا للجزيرة فأوعز بِبِنَاء الْمَدِينَة الْمَشْهُورَة بالبنية ثمَّ أجَاز الْبَحْر إِلَى الْمغرب فِي رَجَب من سنته أَعنِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة فَكَانَ مغيبه وَرَاء الْبَحْر سِتَّة أشهر واحتل بقصر مصمودة وَأمر بِبِنَاء السُّور على باديس مرفأ السفن وَمحل العبور من بِلَاد غمارة ثمَّ رَحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا فِي النّصْف من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة
فتح جبل تينملل ونبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن على يَد الملياني عَفا الله عَنهُ
قد تقدم لنا أَن جبل تينملل كَانَ حصنا للموحدين وملجأ لَهُم إِذا نابهم مَكْرُوه وَكَانَ مَسْجده مزارا عَظِيما لَهُم لِأَنَّهُ مدفن إمَامهمْ وملحد خلفائهم فَكَانُوا يعكفون عَلَيْهِ ويلتمسون بركَة زيارته ويقدمون ذَلِك بَين يَدي غزواتهم(3/42)
قربَة يَتَقَرَّبُون بهَا إِلَى الله تَعَالَى وَلما استولى السُّلْطَان يَعْقُوب على مراكش فر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى الْجَبَل الْمَذْكُور واعتصموا بِهِ وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى وأملوا مِنْهُ رَجَعَ الكرة وإدالة الدولة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى هَذِه السّنة فَنَهَضَ عَامل مراكش من قبل السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن محلي أحد خؤلته ونازل الْجَبَل الْمَذْكُور وحاصره مُدَّة ثمَّ اقتحمه عنْوَة وافتض عذرته وَفك ختامه وتقبض عل خَليفَة الْمُوَحِّدين إِسْحَاق وَابْن عَمه السَّيِّد أبي سعيد بن أبي الرّبيع وَمن مَعَهُمَا من الْأَوْلِيَاء وجنبوا إِلَى مصَارِعهمْ بِبَاب الشَّرِيعَة من مراكش فَضربت أَعْنَاقهم وصلبت أشلاؤهم وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم الْكَاتِب القبائلي وَأَوْلَاده
وعاثت عَسَاكِر بني مرين فِي جبل تينملل واكتسحوا أَمْوَاله ونبشوا قُبُور خلفاء بني عبد الْمُؤمن وَاسْتَخْرَجُوا أشلاءهم وَكَانَ فِيهَا شلو يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَابْنه يَعْقُوب الْمَنْصُور فَقطعت رؤوسهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو عَليّ أَحْمد الملياني كَانَ أَبُو عَليّ هَذَا ثار على الحفصيين بِمَدِينَة مليانة فجهزوا إِلَيْهِ عساكره وأجهضوه عَنْهَا ففر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقبله وآواه وأقطعه بلد أغمات إِكْرَاما لَهُ فَحَضَرَ هَذِه الْوَقْعَة فِي جملَة الْعَسْكَر وارتكب هَذَا الْفِعْل الشنيع وَرَأى أَنه قد شفى نَفسه باستخراج هَؤُلَاءِ الْخَلَائق من أرماسهم والعبث بأشلائهم وَقد أنكر النَّاس عَامَّة وَالسُّلْطَان يَعْقُوب خَاصَّة هَذِه الفعلة مِنْهُ وَلم يرضوها وَمَعَ ذَلِك فقد تجَاوز لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب عَنْهَا تأنيسا لغربته ورعيا لجواره وَلما توفّي السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف سعى إِلَيْهِ فِي الملياني هَذَا فنبكه على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَلما وصل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته إِلَى فاس انْتقض عَلَيْهِ طَلْحَة بن محلي أحد أَخْوَاله وتمنع بجبل آصروا من بِلَاد فازاز فَسَار إِلَيْهِ لسلطان يَعْقُوب وحاصره بِهِ فأناب إِلَى الطَّاعَة وَنزل على الْأمان وَذَلِكَ فِي منتصف(3/43)
رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَفِي ثَانِي يَوْم من شَوَّال من هَذِه السّنة ثارت الْعَامَّة باليهود بفاس بِسَبَب حدث أحدثوه فَقتلُوا مِنْهُم أَرْبَعَة عشر يَهُودِيّا وَلَوْلَا أَن السُّلْطَان ركب بِنَفسِهِ ورد الْعَامَّة عَنْهُم لكَانَتْ إِيَّاهَا
بِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء الْمُسَمَّاة الْيَوْم بفاس الْجَدِيد
لما فتح جبل تينملل ومحيت مِنْهُ بَقِيَّة آل عبد الْمُؤمن وتمهد ملك الْمغرب للسُّلْطَان يَعْقُوب واستفحل أمره وَكَثُرت غاشيته رأى أَن يختط بَلَدا ينْسب إِلَيْهِ ويتميز بسكناه وَينزل فِيهِ بحاشيته وأوليائه الحاملين لسرير ملكه فَأمر بِبِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء ملاصقة لمدينة فاس على ضفة واديها المخترق لَهَا من جِهَة أَعْلَاهُ وَشرع فِي تأسيسها ثَالِث شَوَّال من سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَركب السُّلْطَان بِنَفسِهِ فَوقف عَلَيْهَا حَتَّى خطت مساحتها وأسست جدرانها وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وَحشر الصناع والعملة لبنائها وأحضر لَهَا أهل النجامة والمعدلين لحركات الْكَوَاكِب فَاخْتَارُوا لَهَا من الطوالع مَا يرضون أَثَره ويحمدون سيره وأسست فِيهِ وَكَانَ فِي أولائك االمعدلين إمامان شهيران أَبُو الْحسن بن الْقطَّان وَأَبُو عبد الله بن الحباك المقدمان فِي الصِّنَاعَة فكمل تشييد هَذِه الْمَدِينَة على مَا رسم رَحمَه الله وكما رَضِي ونزلها بحاشيته وَذَوِيهِ سنة أَربع وَسبعين الْمَذْكُورَة واختط النَّاس بهَا الدّور والمنازل وأجريت فِيهَا الْمِيَاه إِلَى الْقُصُور وَكَانَت من أعظم آثَار هَذِه الدولة وأبقاها على الْأَيَّام
قَالَ ابْن أبي زرع وَمن سَعَادَة طالعها أَنه لَا يَمُوت فِيهَا خَليفَة وَلم يخرج مِنْهَا لِوَاء قطّ إِلَّا كَانَ منصورا وَلَا جَيش إِلَّا كَانَ ظافرا
ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِبِنَاء قَصَبَة مكناسة فشرع فِي بنائها وَبِنَاء جَامعهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ استوزر صنيعته أَبَا سَالم فتح الله السدراتي وأجرى لَهُ رزق الوزارة على عَادَتهم
ثمَّ كافأ يغمراسن بن زيان على هديته الَّتِي كَانَ بعث بهَا إِلَيْهِ قبل إِجَازَته(3/44)
إِلَى الأندلس فَبعث إِلَيْهِ فسطاطا رائقا كَانَ صنع لَهُ بمراكش وَثَلَاثِينَ من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وَغير ذَلِك مِمَّا يباهي بِهِ مُلُوك الْمغرب
وَفِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة أهْدى إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي التوجيني صَاحب جبل وانشريس أَرْبَعَة من الْجِيَاد انتقاها من خيل الْمغرب كَافَّة وَرَأى أَنَّهَا على قلَّة عَددهَا أحفل هَدِيَّة وَفِي نَفسه أثْنَاء هَذَا كُله من أَمر الْجِهَاد شغل شاغل يتخطى إِلَيْهِ سَائِر أَعماله حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْجَوَاز الثَّانِي للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته الأولى واستنزل الْخَوَارِج وثقف الثغور وهادى الْمُلُوك واختط الْمَدِينَة الْبَيْضَاء لنزوله كَمَا ذكرنَا خرج فاتح سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة إِلَى جِهَة مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل فِي أَرض السوس وَبعث وزيره فتح الله السدراتي فِي العساكر فجاس خلالها ثمَّ انكفأ رَاجعا وَهُنَاكَ خَاطب السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله قبائل الْمغرب كَافَّة بالنفير إِلَى الْجِهَاد فتثاقلوا عَلَيْهِ فَلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين بعْدهَا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَلَيْهِ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح وتلوم بِهِ أَيَّامًا فِي انْتِظَار الْغُزَاة فأبطؤوا عَلَيْهِ فخف فِي خاصته وَتقدم فِي حَاشِيَته حَتَّى انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز وَقد تلاحق بِهِ النَّاس من كل جِهَة لما رَأَوْا من عزمه وتصميمه فَأجَاز بهم الْبَحْر واحتل بطريف آخر محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ إِلَى رندة فوافاه بهَا الرئيسان أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْحسن عَليّ بن أشقيلولة صَاحب مالقة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن برسم الْجِهَاد مَعَه
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من رندة فاتح ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى إشبيلية فعرس عَلَيْهَا يَوْم المولد النَّبَوِيّ وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ ملك الجلالقة أَن أذفونش فَلم يجد بدا من الْخُرُوج إِلَيْهِ بعد أَن خام عَن اللِّقَاء أَولا فبرز فِي جموعه وصفهَا على ضفة الْوَادي الْكَبِير من نَاحيَة السُّلْطَان وَأظْهر من أبهة الْحَرْب مَا قدر عَلَيْهِ فَكَانَت جيوشه كلهَا فِي الدروع السوابغ وَالْبيض اللوامع(3/45)
وَالسُّيُوف البواتر وَغير ذَلِك من آلَات الْحَرْب الَّتِي يكَاد شعاعها يدهش الْبَصَر وزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بعد أَن صلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَوعظ النَّاس وَذكرهمْ فرتب مصافه وَجعل وَلَده الْأَمِير يُوسُف فِي الْمُقدمَة وزحف على التعبية فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزَمت الفرنج فتساقط بَعضهم فِي الْوَادي وَانْحَدَرَ آخَرُونَ مَعَ ضفته وتصاعد آخَرُونَ كَذَلِك واقتحم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وسط المَاء وقتلوهم فِي لجته حَتَّى صَار المَاء أَحْمَر وطفت جيفهم من الْغَد عَلَيْهِ فَكَانَ فيهم عِبْرَة لمن اعْتبر وَبَات السُّلْطَان والمسلمون تِلْكَ اللَّيْلَة على صهوات خيولهم يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأضرموا النيرَان بِسَاحَة إشبيلية حَتَّى صَار اللَّيْل نَهَارا وباتت الفرنج على الأسوار ينفخون فِي الْقُرُون ويحترسون طول ليلتهم
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من الْغَد إِلَى جبل الشّرف وَبث السَّرَايَا فِي نواحيه فَلم يزل يتقرى تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى أباد عمرانها وطمس معالمها وَدخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنْوَة وأثخن فِي الْقَتْل والسبي ثمَّ ارتحل بالغنائم والأثقال إِلَى الجزيرة الخضراء فَدَخلَهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور فأراح بهَا وَقسم الْغَنَائِم فِي الْمُجَاهدين ثمَّ خرج غازيا مَدِينَة شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الْحَرْب ووبال الْحصار وَقطع الزياتين وَالْأَعْنَاب وَسَائِر الْأَشْجَار وأباد خضراءها وَحرق ديارها وأثخن فِيهَا بِالْقَتْلِ والأسر وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب يُبَاشر قطع الشّجر وَالثَّمَر بِيَدِهِ وسرح وَلَده الْأَمِير يُوسُف من مُعَسْكَره فِي سَرِيَّة للغارة على إشبيلية وحصون الْوَادي الْكَبِير فَبَالغ فِي النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطر ثمَّ صبح إشبيلية فاكتسحها وانكفأ رَاجعا بالمغانم والسبي إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فسر بمقدمه وقفلوا جَمِيعًا إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح السُّلْطَان بهَا أَيَّامًا وَقسم فِي الْمُجَاهدين غنائمهم ثمَّ جمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل وندبهم إِلَى غَزْو قرطبة وَقَالَ يَا معشر الْمُجَاهدين إِن إشبيلية وشريش وأحوازهما قد ضعفت وبادت وَلم يبْق لكم بهَا كَبِير نفع وَلَا نكاية وَإِن قرطبة وأعمالها بِلَاد حَصِينَة عامرة وَعَلَيْهَا اعْتِمَاد الفرنج وَمِنْهَا معاشهم ومادتهم فَإِن عزوتموها واستأصلتم خضراءها مثل مَا فَعلْتُمْ بإشبيلية وشريش كَانَ ذَلِك سَبَب ضعف النَّصْرَانِيَّة بِهَذَا الْقطر فَأَجَابُوا(3/46)
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَدَعَا لَهُم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَالْخلْع وخاطب ابْن الْأَحْمَر يستنفره للْجِهَاد مَعَه وَقَالَ إِن خُرُوجك معي إِلَى قرطبة يكون لَك مهابة فِي قُلُوب الفرنج مَا عِشْت سوى مَا تستوجبه من الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي ذَلِك
ونهض السُّلْطَان إِلَى قرطبة فاتح جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَسبعين الْمَذْكُورَة فوافاه ابْن الْأَحْمَر بِنَاحِيَة شدونه فَأكْرم موصله وشكر خفوفه إِلَى الْجِهَاد وَبِدَارِهِ إِلَيْهِ ونازلوا حصن بني بشير فدخلوه عنْوَة وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت النِّسَاء ونفلت الْأَمْوَال وَهدم الْحصن حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر ثمَّ بَث السُّلْطَان رَحمَه الله السَّرَايَا والغارات فِي البسائط فاكتسحها وامتلأت الْأَيْدِي وأثرى الْعَسْكَر وفاض عَلَيْهِم من الْغنم وَالْبَقر والمعز وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير والقمح وَالشعِير وَالزَّيْت وَالْعَسَل مَا لَا يُوصف ثمَّ سَارُوا يتقترون الْمنَازل والعمران فِي طريقهم حَتَّى احتلوا بِسَاحَة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السُّلْطَان فِي نَوَاحِيهَا وزعقت طبوله فِي فضائها وَتقدم فِي أبطاله وحماته حَتَّى وقف على بَابهَا ثمَّ داربأسوارها ينظر كَيفَ الْحِيلَة فِي قتالها ووقف ابْن الاحمر بعساكر الأندلس أَمَام محلّة الْمُسلمين يحرسونها خوفًا من كرة الْعَدو وخنس الفرنج وَرَاء الأسوار وانبثت بعوث الْمُسلمين وسراياهم فِي نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بِالسَّيْفِ وَأقَام السُّلْطَان على قرطبة ثَلَاثًا ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى حصن بركونة فدخله عنْوَة ثمَّ أرجونة كَذَلِك ثمَّ قدم بعثا إِلَى مَدِينَة جيان فقاسمها حظها من الْخَسْف والدمار وخام الطاغية عَن اللِّقَاء وأيقن بخراب عمرانه وَإِتْلَاف بِلَاده فجنح إِلَى السّلم وخطبه من السُّلْطَان يَعْقُوب وَرغب فِيهِ إِلَيْهِ وَبعث الأقسة والرهبان للوساطة فِي ذَلِك فرفعهم السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَجعل الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ تكرمة لمشهده ووفاء بِحقِّهِ وَقَالَ لوفد الفرنج إِنَّمَا أَنا ضيف والضيف لَا يُصَالح على رب الْمنزل فَسَارُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَقَالُوا لَهُ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب قد رد الْأَمر إِلَيْك وَنحن قد جئْنَاك لنعقد مَعَك صلحا مُؤَبَّدًا لَا يعقبه غدر وَلَا حَرْب وأقسموا لَهُ بصلبانهم إِن لم يرضه الفنش ليخلعنه لِأَنَّهُ لم ينصر الصَّلِيب وَلَا حمى الْحَوْزَة فأجابهم ابْن(3/47)
الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة
وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله(3/48)
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من حِصَار الجزيرة الخضراء وَغير ذَلِك
قد تقدم لنا أَن بَنو اشقيلولة كَانُوا أصهارا لِابْنِ الْأَحْمَر وانهم لما قدمُوا على السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء فِي جَوَازه الأول صدرت من ابْن اشقيلولة كَلِمَات أحفظت ابْن الْأَحْمَر وغاظته فَذهب لأَجلهَا مغاضبا وانحرف عَن السُّلْطَان يَعْقُوب وَلم يشْهد مَعَه الْغَزْو وَلَا عرج على الْجِهَاد وَلما نصر الله السُّلْطَان يَعْقُوب على عدوه وَقتل العلج وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى ابْن الْأَحْمَر طيبه وَبَعثه إِلَى قومه انحرافا عَن السُّلْطَان وموالاة لِلْعَدو وَلما جَازَ السُّلْطَان يَعْقُوب الْجَوَاز الثَّانِي انقض عَنهُ ابْن الْأَحْمَر وَلم يلقه حَتَّى خاطبه السُّلْطَان واستنفره إِلَى الْجِهَاد فَلحقه بشدونة كَمَا مر وَلما صنع الله للسُّلْطَان مَا صنع من الظُّهُور والعز الَّذِي الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَاسْتولى على مالقة من يَد ابْن اشقيلولة ارتاب ابْن الْأَحْمَر بمكانه وَظن بِهِ الظنون وتخوف مِنْهُ مَا كَانَ من يُوسُف بن تاشفين للمعتمد بن عباد وَغَيره من مُلُوك الطوائف فغص بمكانه وأظلم الجو بَينهمَا ودارت بَينهمَا مخاطبات شعرية على أَلْسِنَة الْكتاب فِي معنى العتاب وَلم تزل القوارص بَين السلطانين تجْرِي وعقارب السّعَايَة تدب وتسري وَخَوف ابْن الْأَحْمَر على ملكه يشْتَد وَيزِيد وأواصر الْأُخوة الإسلامية تتلاشى وتبيد إِلَى أَن استحكمت الْبغضَاء وضاق بَينهمَا رحب الفضاء فَفَزعَ ابْن الْأَحْمَر إِلَى مداخلة الطاغية فِي شَأْنه واتصال يَده بِيَدِهِ وحبله بحبله وَأَن يعود إِلَى منزله أَبِيه مَعَه من ولَايَته ليدافع بِهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وَقَومه عَن أرضه ويأمن مَعَه من زَوَال سُلْطَانه فاغتنم الطاغية هَذِه الفرصة ونكث عهد السُّلْطَان يَعْقُوب وَنقض السّلم واعلن بِالْحَرْبِ وأغزا أساطيله الجزيرة الخضراء حَيْثُ كَانَت مسالح السُّلْطَان يَعْقُوب وَجُنُوده وأرست بالزقاق حَيْثُ فراض الْمجَاز وانقطعت عَسَاكِر السُّلْطَان وَرَاء الْبَحْر وَحَال الْعَدو بَينهم وَبَين إغاثته إيَّاهُم واتصلت يَد ابْن الْأَحْمَر بيد الطاغية واتفقا على منع السُّلْطَان يَعْقُوب من عبور(3/49)
الْبَحْر وداخل ابْن الْأَحْمَر عمر بن يحيى بن محلى صَاحب مالقة فِي النُّزُول لَهُ عَنْهَا بعوض فَفعل وَاسْتولى ابْن الْأَحْمَر عَلَيْهَا ثمَّ راسل هُوَ والطاغية يغمراسن بن زيان من وَرَاء الْبَحْر وراسلهم هُوَ فِي مشاقة السُّلْطَان وإفساد ثغوره وإنزال الْعَوَائِق الْمَانِعَة لَهُ من حركته وَالْأَخْذ بأذياله عَن النهوض إِلَى الْغَزْو وأسنوا فِيمَا بَينهمَا الْهَدَايَا والتحف وجنب يغمراسن إِلَى ابْن الْأَحْمَر ثَلَاثِينَ من عتاق الْخَيل مَعَ ثِيَاب من عمل الصُّوف وَبعث إِلَيْهِ ابْن الْأَحْمَر مُكَافَأَة على ذَلِك عشرَة آلَاف دِينَار فَلم يرض بِالْمَالِ ورده وأصفقت آراؤهم جَمِيعًا على السُّلْطَان يَعْقُوب وَرَأَوا أَن قد أبلغوا فِي أَحْكَام أَمرهم وسد مذاهبه إِلَيْهِم
واتصل خبر هَذَا كُله بالسلطان وَهُوَ بمراكش كَانَ خرج إِلَيْهَا مرجعه من الْغَزْو فِي الْمحرم سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة لما كَانَ من عيث عرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة فثقف أطرافها وحسم مَادَّة فَسَادهَا ثمَّ اتَّصل بِهِ خبر ابْن محلي ونزوله عَن مالقة لِابْنِ الْأَحْمَر ومنازلة الطاغية بأساطيله للجزيرة الخضراء وتضييقه على الْمُسلمين بهَا فَبلغ ذَلِك مِنْهُ كل مبلغ ونهض من مراكش ثَالِث شَوَّال من السّنة يُرِيد طنجة فوصل إِلَى قَرْيَة مكول من بِلَاد تامسنا فتوالت عَلَيْهِ بهَا الأمطار والسيول وعاقته عَن النهوض وبينما هُوَ فِي ذَلِك ورد عَلَيْهِ الْخَبَر أَيْضا بنزول الطاغية على الجزيرة الخضراء برا وإحاطة عسكره بهَا بعد أَن كَانَت أساطيله منازلة لَهَا فِي الْبَحْر مُنْذُ سِتَّة أشهر أَو سَبْعَة وَأَنه مشرف على التهامها وبعثوا إِلَيْهِ يستصرخونه ويخبرونه بِالْحَال فاعتزم على الرحيل
ثمَّ اتَّصل بِهِ الْخَبَر ثَالِثا بِخُرُوج مَسْعُود بن كانون السفياني بِبِلَاد نَفِيس من أَرض المصامدة خَامِس ذِي الْقعدَة من السّنة وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا إِلَيْهِ من قومه وَغَيرهم فانخرقت على السُّلْطَان الفتوق وتوالت عَلَيْهِ الخطوب وَلم يدر مَا يصنع إِلَّا أَنه رأى أَن يقدم أَمر ابْن كانون وَالْعرب فكر رَاجعا إِلَيْهِ وَقدم بَين(3/50)
يَدَيْهِ حافده تاشفين بن أبي مَالك ووزيره يحيى بن حَازِم الْعلوِي وَجَاء هُوَ على ساقتهم وفر مَسْعُود بن كانون وجموعه أَمَام السُّلْطَان فانتهب معسكرهم وحللهم واستباح عرب الْحَارِث من سُفْيَان وَلحق مَسْعُود بجبل سكسيوة فاعتصم بِهِ وشايع عبد الْوَاحِد السكسيوي الْقَائِم بِهِ على خِلَافه ونازله السُّلْطَان يَعْقُوب بعساكره أَيَّامًا وسرح ابْنه الْأَمِير أَبَا زيان منديل إِلَى بِلَاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها فأوغل فِي ديارها وقفل إِلَى أَبِيه فِي آخر يَوْم من السّنة الْمَذْكُورَة
واتصل بالسلطان مَا تضَاعف على أهل الجزيرة من ضيق الْحصار وَشدَّة الْقِتَال وإعواز الأقوات وَأَنَّهُمْ ختنوا الأصاغر من أَوْلَادهم خشيَة عَلَيْهِم من معرة الْكفْر فأهمه ذَلِك
وَكَانَ أقسم أَن لَا يرتحل عَن ابْن كانون حَتَّى ينزل على حكمه أَو يهْلك دون ذَلِك فأعمل النّظر فِيمَا يكون بِهِ خلاص أهل الجزيرة فعقد لوَلِيّ عَهده ابْنه الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ بمراكش عل الْغَزْو إِلَيْهَا وَكَانَ أهل الجزيرة كَمَا قُلْنَا قد أحَاط بهم الْعَدو برا وبحرا وانقطعت عَنْهُم الْموَاد وعميت عَلَيْهِم الأنباء إِلَّا مَا يَأْتِيهم بِهِ الْحمام من جبل طَارق وفني أَكْثَرهم بِالْقَتْلِ والجوع وسهر اللَّيْل على الأسوار وَشدَّة الْحصار حَتَّى أشرف بَقِيَّتهمْ على الْهَلَاك وَأَيِسُوا من الْحَيَاة فَحِينَئِذٍ جمعُوا صبيانهم وختنوهم كَمَا مر وبينما هم على ذَلِك قدم الْأَمِير يُوسُف بجيوشه إِلَى طنجة وَكَانَ قدومه فِي أَوَائِل صفر من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة
وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب لما بعث ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى طنجة قد كتب إِلَى الثغور بإعداد الأساطيل وعمارتها وتوجيهها إِلَيْهِ وَقسم الإعطاءات وحض النَّاس على النهوض فتوفرت همم الْمُسلمين على الْجِهَاد وَأَجَابُوا من كل نَاحيَة وأبلى الْفَقِيه أَبُو خَاتم العزفي صَاحب سبتة لما بلغه الْخطاب من السُّلْطَان فِي شَأْن الأساطيل الْبلَاء الْحسن وَقَامَ فِيهِ الْمقَام الْمَحْمُود فَهَيَّأَ(3/51)
خَمْسَة وَأَرْبَعين أسطولا واستنفر كَافَّة أهل بَلَده من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَرَكبُوا الْبَحْر أَجْمَعُونَ وَلم يبْق بسبتة إِلَّا النِّسَاء والشيوخ وَالصبيان وَرَأى ابْن الْأَحْمَر مَا نزل بِأَهْل الجزيرة وإشراف الطاغية على أَخذهَا فندم على ممالاته إِيَّاه وَأعد أساطيل سواحله من الْمنْكب والمرية ومالقة فَكَانَت اثْنَي عشر أسطولا فبعثها مدَدا للْمُسلمين وَقدم من بادس وسلا وآنفى خَمْسَة عشر أسطولا فَنَهَضَ فِي الْوَقْت اثْنَان وَسَبْعُونَ أسطولا وَاجْتمعت كلهَا بمرفأ سبتة وَقد أخذت بطرفي الزقاق فِي أحفل زِيّ وأكمل استعداد ثمَّ تقدّمت إِلَى طنجة ليراها الْأَمِير يُوسُف فشاهدها وسر بهَا وَعقد لَهُم رايته مَعَ جمَاعَة من أبطال بني مرين رَغِبُوا فِي الْجِهَاد
ثمَّ أقلعت الأساطيل عَن طنجة ثامن ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة وانتشرت قلوعهم فِي الْبَحْر فأجازوه وَبَاتُوا لَيْلَة المولد الْكَرِيم بمرفأ جبل الْفَتْح وصبحوا الْعَدو وأساطيله يَوْمئِذٍ تناهز أَرْبَعمِائَة فتظاهر الْمُسلمُونَ فِي دروعهم وأسبغوا من شكتهم وَأَخْلصُوا لله عزائمهم وتنادوا بِالْجنَّةِ وشعارها وَوعظ خطباؤهم وَذكر صلحاؤهم والتحم الْقِتَال وَنزل الصَّبْر فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى نضحوا الْعَدو بِالنَّبلِ ففسدت أفروطتهم واختل مَصَافهمْ وانكشفوا وتساقطوا فِي عباب الْبَحْر فاستلحمهم السَّيْف وغشيهم اليم وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على أساطيلهم فملكوها وأسروا قائدها الملند فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَاسْتمرّ مثقفا بفاس حَتَّى فر بعد ذَلِك وسر الْمُسلمُونَ الَّذين بداخل الجزيرة بِفساد أفروطة الْعَدو وهلاكها
وَلما رأى عَسْكَر الطاغية الَّذِي فِي الْبر مَا أصَاب أهل الْبَحْر مِنْهُم من الْقَتْل والأسر داخلهم الرعب وخافوا من هجوم الْأَمِير يُوسُف عَلَيْهِم إِذْ كَانَ مُقيما بساحل طنجة مستعدا للعبور فقوضوا أبنيتهم وأفرجوا عَن الْبَلَد لحينهم وانتشر الْمُسلمُونَ وَالنِّسَاء وَالصبيان بِسَاحَة الْبَلَد كَأَنَّمَا نشرُوا من قبر وغلبت مُقَاتلَتهمْ كثيرا من عَسْكَر الْعَدو على مَتَاعهمْ فغنموا من الْحِنْطَة والإدام(3/52)
والفواكه مَا مَلأ أسواق الْبَلَد أَيَّامًا حَتَّى وصلتها الْميرَة من النواحي
وَأَجَازَ الْأَمِير يُوسُف الْبَحْر من حِينه فاحتل بساحل الجزيرة وأرهب الْعَدو فِي كل نَاحيَة لكنه صده عَن الْغَزْو شَأْن الْفِتْنَة مَعَ ابْن الْأَحْمَر فَرَأى أَن يعْقد مَعَ الطاغية سلما ويصل يَده بِيَدِهِ لمنازلة غرناطة دَار ابْن الْأَحْمَر فَأَجَابَهُ الطاغية إِلَى ذَلِك رهبة من بأسه وموجدة على ابْن الْأَحْمَر فِي مدد أهل الجزيرة وَبعث أساقفته لعقد ذَلِك وإحكامه فأجازهم الْأَمِير يُوسُف إِلَى أَبِيه وَهُوَ بِنَاحِيَة مراكش فَغَضب لَهَا وَأنكر على ابْنه وزوى عَنهُ وَجه رِضَاهُ وَأقسم أَن لَا يرى أسقفا مِنْهُم إِلَّا أَن يرَاهُ بأرضه ورجعهم إِلَى طاغيتهم مخفقي السَّعْي كاسفي البال
ووصلت فِي هَذِه السّنة هَدِيَّة السُّلْطَان أبي زَكَرِيَّاء يحيى الواثق الحفصي مَعَ أبي الْعَبَّاس الغماري حَسْبَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ قبل هَذَا
ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله رَجَعَ إِلَى فاس وَبعث خطابه إِلَى الْآفَاق مستنفرا للْجِهَاد وَفصل عَنْهَا غرَّة رَجَب من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى طنجة وعاين مَا اخْتَلَّ من أَحْوَال الْمُسلمين فِي تِلْكَ الفترة وَمَا جرت إِلَيْهِ فتْنَة ابْن الْأَحْمَر من اعتزاز الطاغية وَمَا حدثته نَفسه من التهام الجزيرة الأندلسية وَمن فِيهَا وَكَانَ قد أَمر أمره فِي هَذِه الْمدَّة وَظَاهره أَعدَاء ابْن الْأَحْمَر من بني اشقيلولة وَغَيرهم عَلَيْهِ حَتَّى حاصروا غرناطة ومرج أَمر الأندلس ونغلت أطرافها وأشفق السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله على الْمُسلمين الَّذين بهَا وعَلى ابْن الْأَحْمَر مِمَّا ناله من خسف الطاغية فراسله فِي الْمُوَادَعَة واتفاق الْكَلِمَة على أَن ينزل لَهُ عَن مالقة الَّتِي خَادع عَنْهَا ابْن محلي كَمَا تقدم فَامْتنعَ ابْن الْأَحْمَر وأساء الرَّد فِي ذَلِك فَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى إِزَالَة الْعَوَائِق عَن شَأْنه فِي الْجِهَاد وَكَانَ من أعظمها فتْنَة يغمراسن واستيقن مَا دَار بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر والطاغية ابْن أذفونش من الِاتِّصَال والإصفاق على تعويقه عَن الْغَزْو فَبعث إِلَى يغمراسن يسْأَله عَن الَّذِي بلغه عَنهُ وَيطْلب مِنْهُ تَجْدِيد الصُّلْح وَجمع الْكَلِمَة فلج فِي الْخلاف وكشف وَجه العناد وأعلن بِمَا(3/53)
وَقع بَينه وَبَين أهل العدوة الأندلسية مسلمهم وكافرهم من الوصلة وَأَنه معتزم على وَطْء بِلَاد الْمغرب فصرف السُّلْطَان يَعْقُوب عزمه إِلَى غَزْو يغمراسن وقفل إِلَى فاس لثَلَاثَة أشهر من حُلُوله بطنجة فَدَخلَهَا آخر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَأعَاد الرُّسُل إِلَى يغمراسن لإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا خاطبه بِهِ إِلَى مَتى يَا يغمراسن هَذَا النفور والتمادي فِي الْغرُور أما آن أَن تَنْشَرِح الصُّدُور وتنقضي هَذِه الشرور فِي كَلَام غير هَذَا فَصم يغمراسن عَن ذَلِك كُله وَلم يرفع بِهِ رَأْسا وَلما أيس السُّلْطَان يَعْقُوب من إقلاعه ورجوعه نَهَضَ إِلَيْهِ من فاس آخر سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة وَقدم ابْنه الْأَمِير يُوسُف فِي العساكر وَتَبعهُ فأدركه بتازا وَلما انْتهى إِلَى ملوية تلوم أَيَّامًا فِي انْتِظَار العساكر ثمَّ ارتحل حَتَّى نزل وَادي تافنا وصمد إِلَيْهِ يغمراسن بجموع زناتة وَالْعرب بحللهم ونجعهم وشائهم ونعمهم والتقت طوالع الْقَوْم أَولا فَكَانَت بَينهمَا حَرْب ثمَّ ركب على آثارهما العسكران والتحم الْقِتَال سَائِر النَّهَار وَكَانَ الزَّحْف بالموضع الْمَعْرُوف بالملعب من أحواز تلمسان ثمَّ انْكَشَفَ بَنو عبد الواد عِنْدَمَا أراح الْقَوْم وانتهب معسكرهم بِمَا فِيهِ من الكراع وَالسِّلَاح والفساطيط وَالْمَتَاع وَبَات عَسْكَر السُّلْطَان يَعْقُوب تِلْكَ اللَّيْلَة على متون جيادهم وَاتبعُوا من الْغَد آثَار عدوهم واكتسحت أَمْوَال الْعَرَب الناجعة الَّذين كَانُوا مَعَ يغمراسن وامتلأت أَيدي بني مرين من شائهم ونعمهم وتوغلوا فِي أَرض يغمراسن ووافاه هُنَالك مُحَمَّد بن عبد الْقوي أَمِير بني توجين لقِيه بِنَاحِيَة القصبات وعاثوا جَمِيعًا فِي بِلَاده تخريبا ونهبا ثمَّ أذن السُّلْطَان يَعْقُوب لبني توجين فِي اللحاق ببلادهم وَأخذ هُوَ بمخنق تلمسان محاصرا لَهَا حَتَّى يصل مُحَمَّد بن عبد الْقوي إِلَى مأمنه من جبل وانشريس خوفًا عَلَيْهِ من غائله يغمراسن واتباعه إِيَّاه ثمَّ أفرج عَنْهَا وقفل إِلَى الْمغرب فَدخل حَضْرَة فاس فِي رَمَضَان سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة ثمَّ نَهَضَ الى مراكش فَدَخلَهَا فاتح سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا فَبنى بهَا بِامْرَأَة مَسْعُود بن كانون السفياني لِأَنَّهُ كَانَ قد هلك قبل هَذِه السّنة وسرح ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى السوس لتدويخ أقطاره ثمَّ وافاه وَهُوَ بمراكش صريخ الطاغية على مَا نذكرهُ الْآن(3/54)
الْجَوَاز الثَّالِث للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس مغيثا للطاغية ومغتنما فرْصَة الْجِهَاد
لما كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بمراكش سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة قدم عَلَيْهِ كتاب طاغية الإضبنيول واسْمه هراندة مَعَ وَفد من بطارقته وزعماء دولته مستصرخا لَهُ على ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ فِي طَائِفَة من النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ غلبوه على أمره زاعمين بِأَنَّهُ شاخ وَضعف عَن تدبيرهم وَلم يقدر على الْقيام بنصرتهم فاستنصره عَلَيْهِم وَدعَاهُ لحربهم وأمله لاسترجاع ملكه من يدهم فاغتنم السُّلْطَان يَعْقُوب هَذِه الفرصة فِي الْحَال وَجعل جَوَابه نفس النهوض والارتحال فَسَار مَعَهم لم يعرج على شَيْء حَتَّى أَتَى قصر الْمجَاز وَهُوَ قصر مصمودة فَعبر مِنْهُ واحتل لوقته بالجزيرة الخضراء فِي ربيع الثَّانِي من سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وأوعز الى النَّاس بالنفير إِلَى الْجِهَاد وَاجْتمعت عَلَيْهِ مسالح الثغور بالأندلس وَسَار حَتَّى نزل صَخْرَة عباد وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ الطاغية هراندة ذليلا لعزة الْإِسْلَام مؤملا صريخ السُّلْطَان فَأكْرم موصله وَأكْرم وفادته
وَذكر ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا من الْأَثْبَات أَن هَذَا الطاغية لما اجْتمع بالسلطان يَعْقُوب قبل يَده إعظاما لقدره وخضوعا لعزه فَدَعَا السُّلْطَان رَحمَه الله بِمَاء فَغسل يَده من تِلْكَ الْقبْلَة بِمحضر من كَانَ هُنَاكَ من جموع الْمُسلمين والفرنج ثمَّ التمس الطاغية من السُّلْطَان أَن يمده بِشَيْء من المَال ليستعين بِهِ على حربه ونفقاته فأسلفه السُّلْطَان مائَة ألف دِينَار من بَيت مَال الْمُسلمين رهنة الطاغية فِيهَا تاجه الْمَوْرُوث عَن سلفه قَالَ ابْن خلدون وَبَقِي هَذَا التَّاج بدار بني يَعْقُوب بن عبد الْحق فخرا لِلْأَعْقَابِ لهَذَا الْعَهْد قلت وَمَا أبعد حَال هَذَا الطاغية المهين من حَال عُطَارِد بن حَاجِب التَّمِيمِي الَّذِي لم يسلم قَوس أَبِيه على تطاول السنين والقصة مَشْهُورَة فَانْظُر مَا بَين الهمم الْعَرَبيَّة والعجمية من البون وَحَال الْفَرِيقَيْنِ فِي الابتذال والصون
ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله تقدم مَعَ الطاغية وَدخل دَار الْحَرْب غازيا حَتَّى نَازل قرطبة وَبهَا يَوْمئِذٍ سانجة ابْن الطاغية الْخَارِج عَلَيْهِ مَعَ طائفته(3/55)
فقاتلها أَيَّامًا ثمَّ أفرج عَنْهَا وتنقل فِي جهاتها وَبعث سراياه إِلَى جيان فأفسدوا زروعها ثمَّ ارتحل إِلَى طليطلة فعاث فِي جهاتها وَخرب عمرانها حَتَّى انْتهى إِلَى حصن مجريط من أقْصَى الثغر فامتلأت أَيدي الْمُسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم الَّتِي استاقوها فقفل السُّلْطَان من أجل ذَلِك إِلَى الجزيرة فاحتل بهَا فِي شعْبَان وَأقَام بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت غَزْوَة لم يسمح الدَّهْر بِمِثْلِهَا وَفِي هَذِه السّنة توفّي يغمراسن بن زيان على مَا فِي القرطاس وَذكر ابْن خلدون أَنه لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان وَقَالَ لَهُ يَا بني إِن بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على حَضْرَة الْخلَافَة بمراكش لَا طَاقَة لنا بلقائهم فإياك أَن تحاربهم فَإِن مددهم موفور ومددك مَحْصُور وَلَا يغرنك أَنِّي كنت أحاربهم وَلَا أنكص عَن لقائهم لِأَنِّي كنت أخْشَى معرة الْجُبْن عَنْهُم بعد التمرس بهم والاجتراء عَلَيْهِم وَأَنت لَا يَضرك ذَلِك لِأَنَّك لم تحاربهم وَلم تتمرس بهم فَعَلَيْك بالتحصن ببلدك مَتى زحفوا إِلَيْك وحاول مَا اسْتَطَعْت الِاسْتِيلَاء على مَا جاورك من عمالات الْمُوَحِّدين أَصْحَاب تونس يستفحل بهَا ملكك وتكافئ حشد الْعَدو بحشدك قَالَ فَعمل ابْنه عُثْمَان على وَصيته وأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ بالأندلس فِي جَوَازه الرَّابِع فعقد مَعَه السّلم على مَا أحب وانكفأ رَاجعا إِلَى أَخِيه فطابت نَفسه وتفرغ لافتتاح الْبِلَاد الشرقية
انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما اتَّصَلت يَد السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بيد الطاغية وَقَامَ مَعَه فِي ارتجاع ملكه خشِي ابْن الْأَحْمَر عاديته فجنح إِلَى مُوالَاة ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ وَوصل يَده بِيَدِهِ وأكد لَهُ العقد واضطرمت الأندلس نَارا وفتنة بِسَبَب هَذَا الْخلاف وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته مَعَ الطاغية وَقد ظهر على ابْنه أجمع على منازلة مالقة الَّتِى استحوذ عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وخدع عَنْهَا ابْن محلي فَنَهَضَ السُّلْطَان إِلَيْهَا من الجزيرة الخضراء فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة(3/56)
فغلب أَولا على الْحُصُون الغربية كلهَا ثمَّ أَسف إِلَى مالقة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بعساكره وضاق على ابْن الْأَحْمَر النطاق وَلم تغن عَنهُ مُوالَاة سانجة شَيْئا وبدا لَهُ سوء المغبة فِي شَأْن مالقة وَنَدم على تنَاولهَا فأعمل نظره فِي الْخَلَاص من ورطتها وَلم ير لَهَا إِلَّا الْأَمِير يُوسُف ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب فخاطبه بمكانه من الْمغرب مستصرخا لَهُ لرقع هَذَا الْخرق ورتق هَذَا الفتق وَجمع كلمة الْمُسلمين على عدوهم فَأَجَابَهُ واغتنم المثوبة فِي مسعاه وَعبر الْبَحْر إِلَى الأندلس فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة فَوَافى أَبَاهُ بمعسكره على مالقة وَرغب مِنْهُ السّلم لِابْنِ الْأَحْمَر فِي شَأْنهَا والتجافي لَهُ عَنْهَا فأسعف رَغْبَة ابْنه لما يؤمل فِي ذَلِك من رضى الله عز وَجل فِي جِهَاد عدوه وإعلاء كَلمته وانعقد السّلم وانبسط أمل ابْن الْأَحْمَر وتجددت عزائم الْمُسلمين للْجِهَاد وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب الى الجزيرة الخضراء فَبَثَّ السَّرَايَا فِي دَار الْحَرْب فأوغلوا وأثخنوا ثمَّ أستأنف الْغَزْو بِنَفسِهِ الى طليطلة فَخرج من الجزيرة غازيا غرَّة ربيع الثَّانِي من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى قرطبة فأثخن وغنم وَخرب الْعمرَان وافتتح الْحُصُون ثمَّ ارتحل نَحْو البرت وَترك محلته على بياسة بالمغانم والأثقال وَترك مَعهَا خَمْسَة آلَاف فَارس يحمونها من كرة الْعَدو ثمَّ أغذ السّير فِي أَرض قفرة لَيْلَتَيْنِ حَتَّى انْتهى إِلَى البرت من نواحي طليطلة فسرح الْخَيل فِي البسائط وجالت فِي أكنافها وَلم تَنْتَهِ إِلَى طليطلة لتثاقل النَّاس بِكَثْرَة الْغَنَائِم وأثخن فِي الْقَتْل وقفل على غير طَريقَة فأثخن وَخرب
وانْتهى إِلَى أبذة فَوقف بساحتها وقاتلها سَاعَة من نَهَار فَرَمَاهُ علج من خلف السُّور بِسَهْم أصَاب فرسه فارتحل عَنْهَا إِلَى مُعَسْكَره ببياسة فأراح بهَا ثَلَاثًا ينسف آثارها ويقتلع أشجارها وقفل إِلَى الجزيرة وَبَين يَدَيْهِ من السَّبي والغنائم مَا يعجز عَنهُ الْوَصْف فَدَخلَهَا فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم الْغَنَائِم وَنفل من الْخمس وَولى على الجزيرة حافده عِيسَى بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فَهَلَك شَهِيدا على شريش بِسَهْم مَسْمُوم لشهرين من ولَايَته
ثمَّ عبر السُّلْطَان إِلَى الْمغرب فاتح شعْبَان وَمَعَهُ ابْنه أَبُو زيان منديل فأراح(3/57)
بطنجة ثَلَاثًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا آخر شعْبَان وَلما قضى صِيَامه ونسك عيده ارتحل إِلَى مراكش لتمهيدها وتفقد أحوالها وَقسم من نظره لنواحي سلا حظا فَأَقَامَ برباط الْفَتْح شَهْرَيْن اثْنَيْنِ وَتوفيت فِي هَذِه الْمدَّة الْحرَّة أم الْعِزّ بنت مُحَمَّد بن حَازِم الْعلوِي وَهِي أم الْأَمِير يُوسُف وَكَانَت وفاتها برباط الْفَتْح فدفنت بشالة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فاتح ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وبلغه مهلك الطاغية هراندة بن أذفونش واجتماع النَّصْرَانِيَّة على ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ فحركت همته إِلَى الْجِهَاد ثمَّ سرح ابْنه الْأَمِير يُوسُف ولي عَهده بالعسكر إِلَى بِلَاد السوس لغزو الْعَرَب الَّذين بهَا وكف عاديتهم ومحو آثَار الْخَوَارِج المنتزين على الدولة فأجفلوا أَمَامه وَاتبع آثَارهم إِلَى الساقية الْحَمْرَاء آخر الْعمرَان من بِلَاد السوس فَهَلَك أَكثر الْعَرَب فِي تِلْكَ القفار جوعا وعطشا وقفل رَاجعا لما بلغه من اعتلال وَالِده السُّلْطَان يَعْقُوب فوصل إِلَى مراكش وَقد أبل من مَرضه وعزم على الْجِهَاد شكرا لله تَعَالَى على نعْمَة الْعَافِيَة وَفِي هَذِه السّنة وصل مَاء عين غبولة إِلَى قَصَبَة رِبَاط الْفَتْح بِأَمْر السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ ذَلِك على يَد الْمعلم المهندس أبي الْحسن عَليّ بن الْحَاج وَالله تَعَالَى أعلم
الْجَوَاز الرَّابِع للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
لما اعتزم السُّلْطَان يَعْقُوب على العبور إِلَى الأندلس عرض جُنُوده وحاشيته وأزاح عللهم وَبعث فِي قبائل الْمغرب بالنفير ونهض من مراكش فِي جُمَادَى الْآخِرَة لثلاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة واحتل برباط الْفَتْح منتصف شعْبَان فَقضى بِهِ صَوْمه ونسكه ثمَّ ارتحل إِلَى قصر الْمجَاز وَشرع فِي إجَازَة العساكر والحشود من المرتزقة والمتطوعة خَاتم سنته ثمَّ أجَاز الْبَحْر بِنَفسِهِ غرَّة صفر من سنة أَربع وَثَمَانِينَ بعْدهَا واحتل بِظَاهِر طريف ثمَّ سَار إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج غازيا حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي لَك وسرح الْخُيُول فِي بِلَاد الْعَدو وبسائطه يحرق وينسف فَلَمَّا خرب بِلَاد النَّصْرَانِيَّة(3/58)
وَدَمرَ أَرضهم قصد مَدِينَة شريش فَنزل بساحتها وأناخ عَلَيْهَا فِي الْعشْرين من صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وَبث السَّرَايَا والغارات فِي جَمِيع نَوَاحِيهَا وَبعث عَن المسالح الَّتِي كَانَت بالثغور فتوافت لَدَيْهِ ولحقه حافده عمر بن عبد الْوَاحِد بِجمع وافر من الْمُجَاهدين من أهل الْمغرب فُرْسَانًا ورجالا ووافته حِصَّة العزفي صَاحب سبتة غزاه ناشبة تناهز خَمْسمِائَة وأوعز إِلَى ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف باستنفار من بَقِي من أهل العدوة
وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله لما أَنَاخَ على شريش بعث وزيره مُحَمَّد بن عطوا وَمُحَمّد بن عمرَان عيُونا فوافوا حصن القناطر وروطة واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور وعادوا إِلَى السُّلْطَان فأخبروه ثمَّ عقد السُّلْطَان لحافده مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد على ألف فَارس من بني مرين والغز وعرب العاصم والخلط والأثبج وَأَعْطَاهُ الرَّايَة وَبَعثه لغزو إشبيلية وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فغنموا ومروا بقرمونة فِي منصرفهم فاستباحوها وأثخنوا بِالْقَتْلِ والأسر وَرَجَعُوا وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم ثمَّ عقد ثَانِيَة لحافده عمر بن عبد الْوَاحِد على مثلهَا من الفرسان فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث من شهر ربيع الأول من السّنة وَأَعْطَاهُ الرَّايَة وسرحه إِلَى بسائط وَادي لَك فَرَجَعُوا من الْغَنَائِم بِمَا مَلأ العساكر بعد أَن أثخنوا فِيهَا بِالْقَتْلِ والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثِّمَار وأبادوا عمرانها
ثمَّ سرح ثامن ربيع الْمَذْكُور عسكرا من خَمْسمِائَة فَارس للإغارة على حصن ركش فوافوه على غرَّة فاكتسحوا أَمْوَالهم وَسبوا ثمَّ عقد تَاسِع ربيع أَيْضا لِابْنِهِ أبي معرف على ألف من الفرسان وسرحه لغزو إشبيلية فَسَارُوا حَتَّى هجموا عَلَيْهَا يَوْم المولد الْكَرِيم وتحصنت مِنْهُ حاميتها بالأسوار فخرب عمرانها وَقطع أشجارها وامتلأت أَيدي عسكره سبيا وأموالا وَرجع إِلَى محلّة السُّلْطَان وَهِي نازلة على شريش كَمَا قدمنَا مَمْلُوء الحقائب
ثمَّ عقد ثَالِثَة لحافده عمر منتصف ربيع الْمَذْكُور لغزو حصن كَانَ بِالْقربِ(3/59)
من مُعَسْكَره كَانَ أَهله يقطعون الطَّرِيق على من خرج من المحله مُفردا أَو فِي قلَّة وسرح مَعَه الرجل من الناشبة والفعلة بآلات من الْمساحِي والفؤوس وأمده بِالرجلِ من المصامدة وغزاة سبتة فاقتحموه عنْوَة على أَهله وَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا النِّسَاء والذرية وألصقوا خَدّه بِالتُّرَابِ ونسفوا آثاره نسفا ولسبعة عشر من الشَّهْر ركب السُّلْطَان إِلَى حصن مرتقوط قَرِيبا من مُعَسْكَره فخربه وَحَرقه بالنَّار واستباحه وَقتل الْمُقَاتلَة وسبى الْأَهْل ولعشرين من شهره الْمَذْكُور وصل ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف من العدوة المغربية بنفير أهل الْمغرب وكافة الْقَبَائِل فِي جيوش ضخمة وعساكر موفورة وَركب السُّلْطَان للقائهم وبرور مقدمهم وَعرض العساكر القادمة مَعَه يَوْمئِذٍ فَكَانَت ثَلَاثَة عشر ألفا من المصامدة وَثَمَانِية آلَاف من برابرة الْمغرب كلهم مُتَطَوّع بِالْجِهَادِ فعقد السُّلْطَان لوَلِيّ الْعَهْد على خَمْسَة آلَاف من المرتزقة وألفين من المتطوعة وَثَلَاثَة عشر ألفا من الرجل وألفين من الناشبة وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور وسرحه لغزو إشبيلية والإثخان فِي نَوَاحِيهَا فعبأ كتائبه ونهض لوجهه وَبث الغارات بَين يَدَيْهِ فأثخنوا وَسبوا وَقتلُوا واقتحموا الْحُصُون واكتسحوا الْأَمْوَال وعاج ولي الْعَهْد على الشّرف والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم بعض حصونها وقفل إِلَى معسكر السُّلْطَان وَهُوَ بمكانه من حِصَار شريش وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّادِس من ربيع الثَّانِي قدم أَبُو زيان منديل ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب من الْمغرب فِي جَيش كثيف فيهم خَمْسمِائَة فَارس من عرب بني جَابر أهل تادلا مَعَ كَبِيرهمْ يُوسُف بن قيطون وَفِيهِمْ من المتطوعة والناشبة عدد كثير فعقد لَهُ السُّلْطَان غَدَاة وُصُوله وأمده بعسكر آخر وأغزاه قرمونة والوادي الْكَبِير فَأَغَارَ على قرمونة وطمعت حاميتها فِي المدافعة فبرزوا لَهُ وَصدقهمْ الْقِتَال فانكشفوا حَتَّى أدخلوهم الْبَلَد ثمَّ أحاطوا ببرج كَانَ قَرِيبا من الْبَلَد فقاتلوه سَاعَة من نَهَار واقتحموه عنْوَة وَلم يزل يتقرى الْمنَازل والعمران حَتَّى وقف بِسَاحَة إشبيلية فَأَغَارَ واقتحم برجا(3/60)
كَانَ هُنَالك عينا على الْمُسلمين وأضرمه نَارا وامتلأت أَيدي عساكره وقفل إِلَى معسكر السُّلْطَان على شريش ولثلاث عشرَة لَيْلَة من ربيع الثَّانِي عقد السُّلْطَان لوَلِيّ الْعَهْد الْأَمِير يُوسُف لمنازلة جَزِيرَة كبتور فصمد إِلَيْهَا وقاتلها واقتحمها عنْوَة وَفِي ثَانِي جُمَادَى الأولى عقد السُّلْطَان للْحَاج أبي الزبير طَلْحَة بن يحيى بن محلى وَكَانَ بعد مداخلته أَخَاهُ عمر فِي شَأْن مالقة سنة خمس وَسبعين خرج إِلَى الْحَج فَقضى فَرْضه وَرجع وَمر فِي طَرِيقه بتونس فاتهمه الدعي ابْن أبي عمَارَة كَانَ بهَا يَوْمئِذٍ فاعتقله سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ثمَّ سرحه وَلحق بقَوْمه بالمغرب ثمَّ عبر إِلَى الأندلس غازيا مَعَ السُّلْطَان يَعْقُوب فعقد لَهُ فِي هَذَا الْيَوْم على مِائَتَيْنِ من الفرسان وسرحه إِلَى إشبيلية ليَكُون ربيئة للمعسكر وَبعث مَعَه لذَلِك عيُونا من الْيَهُود والمعاهدين من النَّصَارَى يتعرفون أَخْبَار الطاغية سانجة وَالسُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله أثْنَاء هَذَا كُله يغادي شريش ويراوحها بِالْقَتْلِ والتخريب ونسف الْآثَار وَبث السَّرَايَا كل يَوْم وَلَيْلَة فِي بِلَاد الْعَدو فَلَا يَخْلُو يَوْم من تجهيز عَسْكَر أَو إغزاء جَيش أَو عقد راية أَو بعث سَرِيَّة حَتَّى انتسف الْعمرَان فِي جَمِيع بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وَخرب بسائط إشبيلية ولبلة وقرمونة وإستجة وجبال الشّرف وَجَمِيع بسائط الفرنتيرة
وأبلى فِي هَذِه الْغَزَوَات عياد بن أبي عياد العاصمي من شُيُوخ جشم وَالْخضر الْغَزِّي من أُمَرَاء الأكراد بلَاء عَظِيما وَكَانَ لَهُم فِيهَا ذكر وصيت وَكَذَلِكَ غزَاة سبتة وَكَذَا سَائِر الْمُجَاهدين من عرب جشم وَغَيرهم مثل مهلهل بن يحيى الخلطي صهر السُّلْطَان ويوسف بن قيطون الجابري وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن يطول ذكرهم
فَلَمَّا دمرها تدميرا وأوسعها تخريبا ونسفها نسفا واكتسحها غَارة ونهبا وهجم فصل الشتَاء وانقطعت الْميرَة عَن الْعَسْكَر اعتزم السُّلْطَان على القفول وَأَفْرج عَن شريش لآخر جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة بعد أَن حاصرها نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام واتصل بِهِ أَن الْعَدو أوعز إِلَى أساطيله(3/61)
باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض فأوعز السُّلْطَان إِلَى جَمِيع سواحله من سبتة وطنجة وبلاد الرِّيف ورباط الْفَتْح والمنكب والجزيرة وطريف بتوجيه أساطيلهم فتوافت مِنْهَا سِتَّة وَثَلَاثُونَ أسطولا متكاملة فِي عدتهَا فأحجمت اساطيل الْعَدو عَنْهَا وارتدت على أعقابها واحتل السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بخوزيرت غرَّة رَمَضَان من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَنزل بقصره من الْمَدِينَة الجديدة الَّتِي بناها بإزائها فبرزت أساطيل الْمُسلمين أَمَامه بالمرسى وَهُوَ جَالس بمشور قصره فلعبوا بمرأى مِنْهُ فِي الْبَحْر وتجاولوا وتناطحوا وتطاردوا كفعلهم سَاعَة الْحَرْب فسر بذلك وَأحسن إِلَيْهِم وصرفهم إِلَى حَال سبيلهم
وفادة الطاغية على السُّلْطَان يَعْقُوب بأحواز الجزيرة الخضراء وَعقد الصُّلْح بَينهمَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قَالَ ابْن خلدون رَحمَه الله لما نزل بِبِلَاد النَّصْرَانِيَّة من السُّلْطَان يَعْقُوب مَا نزل من تدمير قراهم واكتساح أَمْوَالهم وَسبي نِسَائِهِم وإبادة مفاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم زاغت مِنْهُم الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر واستيقنوا أَن لَا عَاصِم لَهُم من أَمِير الْمُسلمين فَاجْتمعُوا إِلَى طاغيتهم سانجة خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة متوجعين مِمَّا أذاقهم جنود الله من سوء الْعَذَاب وأليم النكال وَحَمَلُوهُ على الضراعة لأمير الْمُسلمين فِي السّلم وإيفاد الْمَلأ من كبار النَّصْرَانِيَّة عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَإِلَّا فَلَا تزَال تصيبهم مِنْهُ قَارِعَة أَو تحل قَرِيبا من دَارهم فَأجَاب إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ من الْخَسْف والهضيمة لدينِهِ وأوفد على أَمِير الْمُسلمين وَهُوَ بالجزيرة الخضراء وَفْدًا من بطارقتهم وشمامستهم يخطبون السّلم ويضرعون فِي المهادنة والإبقاء وَوضع أوزار الْحَرْب فردهم أَمِير الْمُسلمين اعتزازا عَلَيْهِم ثمَّ أعادهم الطاغية بترديد الرَّغْبَة على أَن يشْتَرط مَا شَاءَ من عز دينه وَقَومه فأسعفهم أَمِير الْمُسلمين وجنح إِلَى السّلم لما تَيَقّن من صاغيتهم إِلَيْهِ وذلهم لعز الْإِسْلَام وأجابهم إِلَى مَا سَأَلُوهُ(3/62)
وَاشْترط عَلَيْهِم مَا تقبلوه من مسالمة الْمُسلمين كَافَّة من قومه وَغير قومه وَالْوُقُوف عِنْد مرضاته فِي ولَايَة جِيرَانه من الْمُلُوك أَو عدواتهم وَرفع الضريبة عَن تجار الْمُسلمين بدار الْحَرْب من بِلَاده وَترك التضريب بَين مُلُوك الْمُسلمين وَالدُّخُول بَينهم فِي فتْنَة واستدعى السُّلْطَان الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْحق الترجمان وَبَعثه لاشْتِرَاط ذَلِك وإحكام عقده فَسَار عبد الْحق إِلَى الطاغية سانجة وَهُوَ بإشبيلية فعقد مَعَه الصُّلْح واستبلغ وأكد فِي الْوَفَاء بِهَذِهِ الشُّرُوط ووفدت رسل ابْن الْأَحْمَر على الطاغية وَهُوَ عِنْده لعقد السّلم مَعَه على قومه وبلاده دون أَمِير الْمُسلمين وَأَن يكون مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ فأحضرهم الطاغية بمشهد عبد الْحق وأسمعهم مَا عقد مَعَ أَمِير الْمُسلمين على قومه وَأهل مِلَّته كَافَّة وَقَالَ لَهُم إِنَّمَا أَنْتُم عبيد آبَائِي فلستم معي فِي مقَام السّلم وَالْحَرب وَهَذَا أَمِير الْمُسلمين على الْحَقِيقَة وَلست أُطِيق مقاومته وَلَا دفاعه عَن نَفسِي فَكيف عَنْكُم فانصرفوا وَلما رأى عبد الْحق ميله إِلَى رضَا السُّلْطَان وسوس إِلَيْهِ بالوفادة عَلَيْهِ لتتمكن الألفة وتستحكم الْعقْدَة وَأرَاهُ مغبة ذَلِك فِي سل السخيمة وتسكين الحفيظة فَمَال إِلَى مُوَافَقَته وَسَأَلَهُ لَقِي الْأَمِير يُوسُف ولي عهد السُّلْطَان أَولا لِيَطمَئِن قلبه فوصل إِلَيْهِ ولقيه على فراسخ من شريش وباتا بمعسكر الْمُسلمين هُنَالك ثمَّ ارتحلا من الْغَد للقاء السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ قد أَمر النَّاس بالاحتفال للقاء الطاغية وَقَومه وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وأبهته وَأَن لَا يلبسوا إِلَّا الْبيَاض فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الْملَّة وَشدَّة الشَّوْكَة ووفور الحامية
وَقدم الطاغية فِي جماعته سود اللبَاس خاضعين ذليلين فَاجْتمعُوا بالأمير بحصن الصخرات على مقرب من وَادي لَك وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَتقدم الطاغية فَلَقِيَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَحْسَن مبرة وَأتم كَرَامَة يلقى بهَا مثله من عُظَمَاء الْملَل وَقدم الطاغية بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة من طرف بِلَاده أتحف بهَا السُّلْطَان وَولي عَهده كَانَ فِيهَا زوج من الْخُيُول(3/63)
الوحشي الْمُسَمّى بالفيل وحمارة من حمر الْوَحْش إِلَى غير ذَلِك من الطّرف فقبلها السُّلْطَان وَابْنه وأضعفوا لَهُ الْمُكَافَأَة وكمل عقد السّلم وَقبل الطاغية سَائِر الشُّرُوط وَرَضي بعز الْإِسْلَام عَلَيْهِ وانقلب إِلَى قومه بملء صَدره من الرضى والمسرة وَسَأَلَ مِنْهُ السُّلْطَان أَن يبْعَث إِلَيْهِ بكتب الْعلم الَّتِي بأيدي النَّصَارَى مُنْذُ استيلائهم على مدن الْإِسْلَام فَبعث إِلَيْهِ مِنْهَا ثَلَاثَة عشر حملا فِيهَا جملَة من مصاحف الْقُرْآن الْكَرِيم وتفاسيره كَابْن عَطِيَّة والثعلبي وَمن كتب الحَدِيث وشروحاتها كالتهذيب والاستذكار وَمن كتب الْأُصُول وَالْفُرُوع واللغة والعربية وَالْأَدب وَغير ذَلِك فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بحملها إِلَى فاس وتحبيسها على الْمدرسَة الَّتِي أسسها بهَا لطلبة الْعلم وقفل السُّلْطَان فاحتل بقصره من الجزيرة لليلتبن بَقِيَتَا من شعْبَان فَقضى صَوْمه ونسك عيده وَجعل من قيام لَيْلَة جزأ لمحاضرة أهل الْعلم وَأعد الشُّعَرَاء كَلِمَات أنشدوها يَوْم عيد الْفطر بمشهد الْمَلأ فِي مجْلِس السُّلْطَان وَكَانَ من أسبقهم فِي ذَلِك الميدان شَاعِر الدولة أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الأَصْل المكناسي الدَّار وَيعرف بعزوز أَتَى بقصيدة طَوِيلَة من بَحر الوافر على رُوِيَ الْبَاء الْمَفْتُوحَة المردوفة بِالْألف ذكر فِيهَا سيرة السُّلْطَان وغزواته وغزوات بنيه وحفدته وامتدح قبائل مرين ورتبهم على مَنَازِلهمْ وَذكر فَضلهمْ وقيامهم بِالْجِهَادِ وَذكر قبائل الْعَرَب على اختلافها وأنشدت بِمحضر السُّلْطَان والحاشية فَأمر لمنشئها بِأَلف دِينَار وخلعة ولمنشدها بِمِائَتي دِينَار ثمَّ أعمل السُّلْطَان نظره فِي الثغور فرتب بهَا المسالح وَبعث وَلَده الْأَمر أَبَا زيان منديلا ليقف على الْحَد بَين أرضه وَأَرْض ابْن الْأَحْمَر وَعقد لَهُ على تِلْكَ النَّاحِيَة وأنزله بحصن ذكْوَان قرب مالقة وأوصاه أَن لَا يحدث فِي بِلَاد ابْن الْأَحْمَر حَدثا وَعقد لعياد بن أبي عياد العاصمي على مسلحة أُخْرَى وأنزله بأسطبونة وَأَجَازَ ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى الْمغرب لتفقد أَحْوَاله ومباشرة أُمُوره وَأمره أَن يَبْنِي على قبر وَالِده أبي الْمُلُوك عبد الْحق بتافر طاست زَاوِيَة فاختط هُنَالك رِبَاطًا حفيلا وَبنى على قبر الْأَمِير(3/64)
عبد الْحق إِدْرِيس أسنمة من الرخام ونقشها بِالْكِتَابَةِ ورتب عَلَيْهَا قراء لتلاوة الْقُرْآن ووقف على ذَلِك ضيَاعًا وأرضا تسع حرث أَرْبَعِينَ زوجا رحم الله الْجَمِيع بمنه
وَفَاة السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
وَفِي آخر ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة مرض السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ فَلم يزل ألمه يشْتَد وحاله يضعف إِلَى أَن توفّي بقصره من الجزيرة الخضراء من ارْض الأندلس فِي ضحى يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَحمل إِلَى رِبَاط الْفَتْح من بِلَاد العدوة فَدفن بِمَسْجِد شالة وقبره الْيَوْم طامس الْأَعْلَام رَحمَه الله
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله أَبيض اللَّوْن تَامّ الْقد معتدل الْجِسْم حسن الْوَجْه وَاسع الْمَنْكِبَيْنِ كَامِل اللِّحْيَة معتدلها أشيب نقي الْبيَاض حَلِيمًا متواضعا جوادا مظفرا مَنْصُور الرَّايَة مَيْمُون النقيبة لم يقْصد جَيْشًا إِلَّا هَزَمه وَلَا عدوا إِلَّا قهره وَلَا بَلَدا إِلَّا فَتحه صواما قواما دَائِم الذّكر كثير الْبر لَا تزَال سبحته فِي يَده مقربا للْعُلَمَاء مكرما للصلحاء صادرا فِي أَكثر أُمُوره عَن رَأْيهمْ وَلما استقام لَهُ الْأَمر بنى المرستانات للمرضى والمجانين ورتب لَهُم الْأَطِبَّاء لتفقد أَحْوَالهم وأجرى على الْكل المرتبات والنفقات من بَيت المَال وَكَذَا فعل بالجذمى والعمي والفقراء رتب لَهُم مَالا مَعْلُوما يقبضونه فِي كل شهر من جِزْيَة الْيَهُود وَبنى الْمدَارِس لطلبة الْعلم ووقف عَلَيْهَا الْأَوْقَاف وأجرى عَلَيْهِم بهَا المرتبات كل ذَلِك ابْتِغَاء ثَوَاب الله تَعَالَى نَفعه الله بِقَصْدِهِ(3/65)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان النَّاصِر لدين الله يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله تَعَالَى
لما مرض السُّلْطَان يَعْقُوب بقصره من الجزيرة الخضراء مَرضه نساؤه وطيرن بالْخبر الى ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ يَوْمئِذٍ بالمغرب فاتصل بِهِ الْخَبَر وَهُوَ بأحواز فاس فأسرع السّير إِلَى طنجة وَقد مَاتَ أَبوهُ قبل وُصُوله فَأخذ الْبيعَة لَهُ الوزراء والأشياخ وَلما عبر إِلَيْهِم الْبَحْر واحتل بالجزيرة جددوا لَهُ الْبيعَة غرَّة صفر سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وأخذوها لَهُ على الكافة فاستتب ملكه واستقام أمره فَفرق الْأَمْوَال وأجزل الصلات وسرح السجون وَرفع عَن النَّاس الْأَخْذ بِزَكَاة الْفطر ووكلهم فِيهَا إِلَى أمانتهم وكف أَيدي الظلمَة والعمال عَن النَّاس وأزال المكوس وَرفع الأنزال عَن دور الرّعية وَصرف اعتناءه إِلَى إصْلَاح السابلة فأزال أَكثر الرتب والقبالات الَّتِي كَانَت بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الأقطار الخالية والمفازات المخوفة فخضعت مرين تَحت قهره وَصلح أَمر النَّاس فِي أَيَّامه وَكَانَ أول شَيْء أحدث من أمره أَن بعث إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَضرب لَهُ موعدا للإجتماع بِهِ فبادر إِلَيْهِ ولقيه بِظَاهِر مربالة فِي الْعشْر الأول من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فلقاه السُّلْطَان مبرة وتكريما وتجافى لَهُ عَن جَمِيع الثغور الأندلسية الَّتِي كَانَت فِي مكلة أَبِيه وَنزل لَهُ عَنْهَا مَا عدى الجزيرة ورندة وطريف وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة وَرجع السُّلْطَان يُوسُف إِلَى الجزيرة فَقدم عَلَيْهِ بهَا وَفد الطاغية سانجة مجددين عقد السّلم الَّذِي عقده لَهُم السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله
وَلما تمهد للسُّلْطَان يُوسُف أَمر الأندلس عقد لِأَخِيهِ أبي عَطِيَّة الْعَبَّاس بن يَعْقُوب على الثغور الغربية وأوصاه بضبطها وَعقد للشَّيْخ الْمُجَاهِد أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن يزكاتن على مسلحتها وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْحَرْب وأعنة الْخَيل وأمده بِثَلَاثَة آلَاف من بني مرين وَالْعرب ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب يَوْم(3/66)
الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بقصر الْمجَاز ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة فاس فَدَخلَهَا ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى مِنْهَا ولحين استقراره بهَا خرج عَلَيْهِ مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الْحق فِي بنيه وَإِخْوَته وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِ وَلحق بجبال ورغة ودعا لنَفسِهِ فسرح إِلَيْهِ السُّلْطَان يُوسُف أَخَاهُ أَبَا معرف مُحَمَّد بن يَعْقُوب فَبَدَا لَهُ فِي النُّزُوع إِلَيْهِم فلحق بهم وشايعهم على رَأْيهمْ من الْخلاف فأغزاهم السُّلْطَان يُوسُف عساكره وردد إِلَيْهِم الْبعُوث والكتائب ثمَّ تلطف فِي استنزال أَخِيه حَتَّى نزل على الْأمان وفر بَنو إِدْرِيس إِلَى تلمسان فَقبض عَلَيْهِم اثناء طريقهم وَجِيء بهم فِي الْحَدِيد إِلَى تازا فَبعث السُّلْطَان يُوسُف أَخَاهُ أَبَا زيان فَقَتلهُمْ خَارج بَاب الشَّرِيعَة مِنْهَا فِي رَجَب من السّنة ورهب الأعياص من بني عبد الْحق يَوْمئِذٍ وخافوا بادرة السُّلْطَان يُوسُف فَلَحقُوا بغرناطة ملتفين على بني إِدْرِيس مِنْهُم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى مراكش لتمهيد نَوَاحِيهَا وتثقيف أطرافها فَدَخلَهَا فِي شَوَّال وَأقَام بهَا إِلَى رَمَضَان الْقَابِل من سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فَنَهَضَ من مراكش لغزو عرب معقل بصحراء درعة لأَنهم كَانُوا قد اضروا بالرعايا وأفسدوا السابلة فَسَار إِلَيْهِم فِي اثْنَي عشر الْفَا من الْخَيل وَمر على بِلَاد هسكورة مُعْتَرضًا جبل درن وأدركهم نواجع بالقفر فأثخن فيهم بِالْقَتْلِ والسبي واستكثر من رؤوسهم فعلقت بشرفات مراكش وسجلماسة وفاس وقفل من غَزوه آخر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة الى مراكش فنكب مُحَمَّد بن عَليّ بن محلى عاملها الْقَدِيم الْولَايَة بهَا من لدن انْقِرَاض الدولة الموحدية لما وَقع من الإرتياب بأولاد محلى بِكَثْرَة خُرُوجهمْ على الدولة وَكَانَت نكبته غرَّة محرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَهلك فِي السجْن فِي صفر الموَالِي لَهُ وَعقد السُّلْطَان يُوسُف على مراكش وأعمالها لمُحَمد بن عطوا الجاناتي من موَالِي دولتهم وَلَاء حلف وَترك مَعَه ابْنه أَبَا عَامر عبد بن يُوسُف ثمَّ ارتحل السُّلْطَان يُوسُف إِلَى فاس فَدَخلَهَا منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة(3/67)
قدوم بني اشقيلولة على السُّلْطَان يُوسُف بسلا وإقطاعه إيَّاهُم قصر كتامة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا أَن بني اشقيلولة كَانُوا من وُجُوه الأندلس وَأهل الرياسة بهَا حَتَّى صاهرهم ابْن الْأَحْمَر بابنته وَأُخْته وَقَامُوا مَعَه فِي إِثْبَات قَوَاعِد ملكه ثمَّ انحرفوا عَنهُ إِلَى مُوالَاة بني مرين وَنزل مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي الْحسن مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب عَن مالقة وَكَانَ عَمه أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْحسن صَاحب وَادي آش وأعمالها واتصل ذَلِك فِي بنيه إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان يُوسُف فَقَامُوا بدعوته فِيهَا ثمَّ حصلت المصافاة وتأكدت الْمَوَدَّة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر على مَا أسلفناه آنِفا فَطلب ابْن الْأَحْمَر من السُّلْطَان يُوسُف أَن ينزل لَهُ عَن وَاد آش الَّتِي هِيَ لبني اشقيلولة المتمسكين بدعوته كَمَا نزل لَهُ عَن غَيرهَا من الثغور فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَى أبي الْحسن بن إِسْحَاق بن اشقيلولة يَأْمُرهُ بالتخلي لَهُ عَنْهَا فَتَركهَا لَهُ وَعبر هُوَ وحاشيته الْبَحْر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف سنة سبع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة فَلَقِيَهُ بِمَدِينَة سلا فَأعْطَاهُ السُّلْطَان يُوسُف الْقصر الْكَبِير وأعماله طعمه سوغه إِيَّاهَا فَلم تزل ولَايَته متوارثة فِي بنيه حَتَّى انقرضوا آخر دولة بني مرين واستمكن ابْن الْأَحْمَر من وَادي آش وحصونها وَلم يبْق لَهُ بالأندلس مُنَازع من قرَابَته وَالله أعلم
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَعُثْمَان بن يغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان
قد تقدم لنا أَن يغمراسن لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان أَن لَا يحدث مَعَ بني مرين حَربًا وَلَا يوافقهم فِي زحف مَا اسْتَطَاعَ لاستغلاظ أَمرهم عَلَيْهِ بملكهم الْمغرب الْأَقْصَى وأعماله وَأَن عُثْمَان قد عمل على ذَلِك فأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب بالأندلس وَعقد مَعَه السّلم(3/68)
وَرجع إِلَى أَخِيه كَمَا تقدم وَلما ولي السُّلْطَان يُوسُف وقفل من مراكش إِلَى فاس فِي هَذِه الْمرة بعد أَن ترك ابْنه أَبَا عَامر عبد الله مَعَ مُحَمَّد بن عطوا عَامل مراكش ثار أَبُو عَامر الْمَذْكُور بهَا وخلع طَاعَة أَبِيه ودعا إِلَى نَفسه وشايعه ابْن عطوا على ذَلِك واتصل الْخَبَر بالسلطان يُوسُف وَهُوَ بفاس فأسرع السّير إِلَى مراكش وبرز إِلَيْهِ ابْنه أَبُو عَامر فَاقْتَتلُوا ثمَّ انهزم أَبُو عَامر فَعَاد إِلَى مراكش واكتسح بَيت المَال بهَا وفر إِلَى تلمسان وَمَعَهُ ابْن عطوا الْمَذْكُور فقدماها سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فآواهم عُثْمَان بن يغمراسن ومهد لَهُم الْمَكَان فلبثوا عِنْده مَلِيًّا
ثمَّ عطف السُّلْطَان على ابْنه الرَّحِم فَرضِي عَنهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ وطالب عُثْمَان بن يغمراسن أَن يسلم إِلَيْهِ ابْن عطوا الناجم فِي النِّفَاق مَعَ ابْنه فَأبى من إِضَاعَة جواره وإخفار ذمَّته وَأَغْلظ لَهُ الرَّسُول فِي القَوْل فسطا بِهِ عُثْمَان واعتقله فثارت من السُّلْطَان يُوسُف الحفائظ الكامنة وتحركت مِنْهُ إلاحن الْقَدِيمَة والنزغات المتوارثة فاعتزم على غَزْو تلمسان ونهض إِلَيْهَا من مراكش فِي صفر من سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد أَن عقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب بن يُوسُف ثمَّ نَهَضَ من فاس إِلَيْهَا آخر ربيع الآخر من سنته فِي عساكره وَجُنُوده وحشد الْقَبَائِل وكافة أهل الْمغرب وَسَار حَتَّى نَازل تلمسان فتحصن مِنْهُ عُثْمَان وَقَومه بأسوارها فحاصره السُّلْطَان يُوسُف وضيق عَلَيْهِ وَنصب عَلَيْهِ المجانيق وَكَانَ حصاره إِيَّاهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ سَار فِي نَوَاحِيهَا ينسف الْآثَار وَيخرب الْقرى ويحطم الزروع ثمَّ نزل بِذِرَاع الصابون من ناحيتها ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى تامت وحاصرها أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقطع أشجارها وأباد خضراءها وَلما امْتنعت عَلَيْهِ أفرج عَنْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب وَقضى نسك الْفطر بِعَين الصَّفَا من بِلَاد بني يزناسن ونسك الْأَضْحَى وقربانه بتازا وتلبث بهَا أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد على مَا نذكرهُ(3/69)
انْتِقَاض الطاغية سانجة وإجازة السُّلْطَان يُوسُف إِلَيْهِ
لما رَجَعَ السُّلْطَان يسف من غَزْو تلمسان وافاه الْخَبَر وَهُوَ بتازا أَن الطاغية سانحة قد انْتقض ونبذ الْعَهْد وَتجَاوز التخوم وأغار على الثغور فأوعز السُّلْطَان إِلَى قَائِد المسالح بالأندلس عَليّ بن يُوسُف بن يزكاتن بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب ومنازلة شريش وَشن الغارات على بِلَاد الطاغية فَنَهَضَ لذَلِك فِي ربيع الآخر من سنة تسعين وسِتمِائَة وجاس خلالها وتوغل فِي أقطارها وابلغ فِي النكاية
ثمَّ فصل السُّلْطَان يُوسُف من تازا غازيا أَثَره فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة واحتل قصر مصمودة وَهُوَ قصر الْمجَاز واستنفر أهل الْمغرب وقبائله فنفروا وَشرع فِي إجازتهم الْبَحْر فَبعث الطاغية أساطيله إِلَى الزقاق حجزا لَهُم دون الْإِجَازَة فأوعز السُّلْطَان يُوسُف إِلَى قواد أساطيله بالسواحل بمعمارتها لمقابلة أساطيل الْعَدو فَفَعَلُوا وقدمت فالتقت مَعَ أساطيل الْعَدو ببحر الزقاق فِي شعْبَان من السّنة فَاقْتَتلُوا وانكشف الْمُسلمُونَ ومحصهم الله وَقتل قواد الأساطيل فَأمر السُّلْطَان يُوسُف باستئناف الْعِمَارَة ثمَّ أغزاهم ثَانِيَة فخامت أساطيل الْعَدو عَن اللِّقَاء وصاعدوا عَن الزقاق فملكته أساطيل السُّلْطَان فَأجَاز أخريات رَمَضَان من السّنة واحتل بطريف ثمَّ دخل دَار الْحَرْب غازيا فنازل حصن بجير ثَلَاثَة أشهر وضيق عَلَيْهِم وَبث السَّرَايَا فِي أَرض الْعَدو وردد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إِلَى أَن بلغ فِي النكاية والإثخان غَرَضه وَقضى من الْجِهَاد وطره وهجم عَلَيْهِ فصل الشتَاء وانقطعت الْميرَة عَن الْعَسْكَر فأفرج عَن الْحصن وَرجع إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ عبر إِلَى الْمغرب فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة فتظاهر ابْن الْأَحْمَر والطاغية على مَنعه من الْجَوَاز مرّة أُخْرَى كَمَا نذكرهُ الْآن(3/70)
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر واستيلاء الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا
لما قفل السُّلْطَان يُوسُف من الأندلس وَقد أبلغ فِي نكاية الْعَدو كَمَا قُلْنَا عظم على الطاغية أمره وثقلت عَلَيْهِ وطأته فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْإِفْسَاد بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر يتخوف من السُّلْطَان يُوسُف أَن يغلبه على بِلَاده فخلص مَعَ الطاغية نجيا وتفاوضا فِي أَمر السُّلْطَان يُوسُف وَأَن تمكنه من الْإِجَازَة إِلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ لقرب مَسَافَة بَحر الزقاق وانتظام ثغور الْمُسلمين حفافيه وَتصرف شوانيهم وسفنهم فِيهِ مَتى أَرَادوا فضلا عَن الأساطيل الجهادية وَأَن أم تِلْكَ الثغور هِيَ طريف وَأَنَّهُمْ إِذا استمكنوا مِنْهَا منعُوا السُّلْطَان من العبور وَكَانَت عينا لَهُم على الزقاق وَكَانَ أسطولهم بمرفئها رصدا لأساطيل صَاحب الْمغرب الخائضة لجة ذَلِك الْبَحْر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف وَبهَا يَوْمئِذٍ مسلحة بني مرين وتكفل لَهُ ابْن الْأَحْمَر بمظاهرته على ذَلِك وَالْتزم لَهُ بالمدد والميرة للعسكر أَيَّام منازلتها على أَن تكون لَهُ إِن خلصت للطاغية وتعاهدوا على ذَلِك وأناخ الطاغية بعساكر النَّصْرَانِيَّة على طريف وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وَنصب الْآلَات من المجانيق والعرادات وأحاط بهَا برا وبحرا وَانْقطع المدد والميرة عَن أَهلهَا وحالت أساطيل الْعَدو بَينهم وَبَين صريخ السُّلْطَان واضطرب ابْن الْأَحْمَر مُعَسْكَره بمالقة قَرِيبا من عَسْكَر الطاغية وسرب إِلَيْهِ المدد من الرِّجَال وَالسِّلَاح والميرة وأصناف الأقوات وَبعث عسكرا لمنازلة حصن إسطبونة فتغلب عَلَيْهِ بعد مُدَّة من الْحصار واتصلت هَذِه الْحَال أَرْبَعَة أشهر حَتَّى أصَاب أهل طريف الْجهد ونال مِنْهُم الْحصار فراسلوا الطاغية فِي الصُّلْح وَالنُّزُول عَن الْبَلَد فَصَالحهُمْ واستنزلهم وتملكها آخر يَوْم من شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة ووفى لَهُم بِمَا عاهدهم عَلَيْهِ واستشرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى تجافي الطاغية لَهُ عَنْهَا حَسْبَمَا تعاهدا عَلَيْهِ فَأَعْرض عَن ذَلِك واستأثر بهَا بعد أَن كَانَ نزل لَهُ عَن سِتَّة من الْحُصُون عوضا عَنْهَا فَخرج من يَده الْجَمِيع وَلم(3/71)
يحصل على طائل فَكَانَت حَاله فِي ذَلِك كَحال صَاحِبَة النعامة الْمَضْرُوب بهَا الْمثل عِنْد الْعَرَب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
ثورة عمر بن يحيى بن الْوَزير الوطاسي بحصن تازوطا
اعْلَم أَن بني وطاس فَخذ من بني مرين لكِنهمْ لَيْسُوا من بني عبد الْحق وَكَانَت الرياسة فيهم لبني الْوَزير مِنْهُم وَبَنُو الْوَزير يَزْعمُونَ أَن نسبهم دخيل فِي مرين وَأَنَّهُمْ من أعقاب يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لَحِقُوا بالبادية ونزلوا على بني وطاس فالتحموا بهم ولبسوا جلدتهم وحازوا رياستهم وَلما دخل بَنو مرين الْمغرب واقتسموا أَعماله كَمَا قدمنَا بقيت بِلَاد الرِّيف خَالِصَة لبني وطاس هَؤُلَاءِ فَكَانَت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وَكَانَ حصن تازوطا بهَا من أمنع معاقل الْمغرب وَلما غلب الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مكناسة وَأقَام فِيهَا دَعْوَة الحفصيين ونهض السعيد بن الْمَأْمُون الموحدي من مراكش لغزوه فر أَمَامه إِلَى حصن تازوطا هَذَا وَنزل بِهِ على بني الْوَزير هَؤُلَاءِ لاجئا إِلَيْهِم ومستجيرا بهم فأرادوا الفتك بِهِ غيرَة مِنْهُ وحسدا لَهُ فشعر بهم وتحول عَنْهُم إِلَى عين الصَّفَا من بِلَاد بني يزناسن حَسْبَمَا تقدم ذَلِك كُله
وَلما انقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن واستقام ملك الْمغرب لبني مرين صرفُوا عنايتهم إِلَى هَذَا الْحصن فَكَانُوا ينزلون بِهِ من الحامية من يثقون بغنائه واضطلاعه ليَكُون آخِذا بناصية هَؤُلَاءِ الرَّهْط من بني وطاس لما يعلمُونَ من سموهم إِلَى الرياسة وتطلعهم إِلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله قد عقد على هَذَا الْحصن لِابْنِ أَخِيه مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب وَكَانَ عمر وعامر ابْنا يحيى ابْن الْوَزير رئيسين على بني وطاس لذَلِك الْعَهْد فاستهونوا أَمر السُّلْطَان يُوسُف بعد موت وَالِده وَحَدثُوا أنفسهم بالثورة فِي ذَلِك الْحصن والاستبداد بِتِلْكَ النَّاحِيَة فَوَثَبَ عمر بن يحيى مِنْهُم بمنصور بن عبد الْوَاحِد فِي شعْبَان من سنة إِحْدَى وَتِسْعين(3/72)
وسِتمِائَة وفتك بحاشيته وَرِجَاله وأزعجه عَن الْحصن وغلبه على مَا كَانَ بقصره من مَال وَسلَاح ومتاع وأعشار للروم كَانَت مختزنة هُنَالك وَضبط الْحصن وشحنه بِرِجَالِهِ ووجوه قومه وَلحق مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بِعَمِّهِ السُّلْطَان يُوسُف فَهَلَك لليال أسفا على مَا أَصَابَهُ
وسرح السُّلْطَان يُوسُف وزيره الناصح أَبَا عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي العساكر لمنازلة حصن تازوطا فَأَنَاخَ عَلَيْهِ بكلكله ثمَّ تبعه السُّلْطَان يُوسُف على أَثَره وَفِي صحبته عَامر بن يحيى بن الْوَزير أَخُو عمر الثائر فَإِنَّهُ كَانَ قد نزع إِلَيْهِ فأحاط السُّلْطَان بالحصن وضيق عَلَيْهِ حَتَّى اشفق عمر لشدَّة الْحصار ويئس من الْخَلَاص وَظن أَنه قد أحبط بِهِ فَدس إِلَى أَخِيه عَامر فِي كشف مَا نزل بِهِ فضمن عَامر للسُّلْطَان يُوسُف نزُول أَخِيه إِن هُوَ تَركه يصعد إِلَيْهِ حَتَّى يجْتَمع بِهِ فَأذن لَهُ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك فَصَعدَ إِلَيْهِ وتفاوضا فِي أَمرهمَا وَآخر الْأَمر أَن عمر احْتمل الذَّخِيرَة وفر لَيْلًا الى تلمسان وبدا لعامر فِي النُّزُول عِنْدَمَا صَار فِي الْحصن فَامْتنعَ بِهِ قيل لِأَنَّهُ بلغه أَن السُّلْطَان يُوسُف عزم على قَتله أخذا بثار ابْن أَخِيه مَنْصُور ولإفلاته أَخَاهُ من يَده
وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن قدم على السُّلْطَان يُوسُف وَفد الأندلس وَفِيهِمْ الرئيس أَبُو سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة رَاغِبًا فِي الصُّلْح مَعَ ابْن عَمه ومعتذرا عَنهُ فأرسى أساطيله بمرسى غساسة وَنزل إِلَى السُّلْطَان وَقدم بَين يَده هَدِيَّة تناسب الْحَال فَسمع بهم عَامر الوطاسي وَهُوَ فِي الْحصن فَبعث إِلَيْهِم يسألهم الشَّفَاعَة لَهُ عِنْد السُّلْطَان يُوسُف لوجاهتهم لَدَيْهِ فشفع لَهُ الرئيس أَبُو سعيد فَقبل السُّلْطَان يُوسُف شَفَاعَته بِشَرْط أَن ينْتَقل بحاشيته إِلَى المرسى وَركب أَكْثَرهم الأسطول وَتَأَخر عَامر إِلَى جَوف اللَّيْل فَنزل من الْحصن وخاض الفلاة إِلَى تلمسان فتبعت الْخَيل أَثَره ففاتهم وأدركوا وَلَده أَبَا الْخَيل فجيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يُوسُف فَبعث بِهِ إِلَى فاس فَضربت عُنُقه وصلب(3/73)
هُنَالك وَأنزل السُّلْطَان يُوسُف بَقِيَّة الْحَاشِيَة من الأسطول فَأمر بهم فاستلحموا مَعَ من كَانَ من بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذرياتهم وتملك السُّلْطَان يُوسُف حصن تازوطا وَأنزل بِهِ عماله ومسلحته وقفل إِلَى حَضرته بفاس أخر جُمَادَى الأولى من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَلما كَانَ السُّلْطَان نازلا على تازوطا قدم عَلَيْهِ رجل من فرنج جنوة بهدية جليلة فِيهَا شَجَرَة مموهة بِالذَّهَب عَلَيْهَا أطيار تصوت بحركات هندسية مثل مَا صنع للمتوكل العباسي وَفِي هَذِه الْمدَّة سعي عِنْد السُّلْطَان يُوسُف بأولاد الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق وَأَنَّهُمْ أَرَادوا الْخُرُوج عَلَيْهِ فحقد عَلَيْهِم لذَلِك وأحسوا بِالشَّرِّ فَفرُّوا إِلَى تلمسان وَأَقَامُوا هُنَالك إِلَى أَن بعث السُّلْطَان يُوسُف إِلَيْهِم بالأمان فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بصبرة من نَاحيَة ملوية اعْتَرَضَهُمْ الْأَمِير أَبُو عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف فاستلحمهم أَجْمَعِينَ وَهُوَ يرى أَنه قد أرْضى أَبَاهُ بذلك الْفِعْل واتصل الْخَبَر بالسلطان يُوسُف فسخطه وأقصاه وتبرأ مِنْهُ فَلم يزل طريدا بِبِلَاد الرِّيف وجبال غمارة إِلَى أَن هلك ببني سعيد مِنْهُم آخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالزاوية الَّتِي دَاخل بَاب الْفتُوح وَخلف ثَلَاثَة أَوْلَاد عَامر وَسليمَان وَدَاوُد فكفلهم جدهم السُّلْطَان يُوسُف إِلَى أَن هلك فولي الْأَمر بعده حافده عَامر وَبعد عَامر سُلَيْمَان وَسَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله
انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر ووفادته عَلَيْهِ بطنجة
لما استولى الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا وَنقض الطاغية عهد ابْن الْأَحْمَر فِي النُّزُول لَهُ عَنْهَا سقط فِي يَد ابْن الْأَحْمَر وَنَدم على فعله وَرجع إِلَى التَّمَسُّك بالسلطان يُوسُف فأوفد عَلَيْهِ ابْن عَمه الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل ووزيره أَبَا سُلْطَان عَزِيز الداني فِي وَفد من أهل حَضرته لتجديد الْعَهْد وتأكيد الْمَوَدَّة وَتَقْرِير المعذرة عَن شَأْن طريف فوافوه(3/74)
بمكانه من حِصَار تازوطا كَمَا قدمنَا فأبرموا العقد وأحكموا الصُّلْح وَانْصَرفُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة بإسعاف غَرَضه من المؤاخاة واتصال الْيَد فَوَقع ذَلِك مِنْهُ أجمل موقع وطار سُرُورًا من أعواده وَأجْمع الرحلة إِلَى السُّلْطَان لإحكام العقد والاستبلاغ فِي الْعذر عَن وَاقعَة طريف وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي نَصره بِلَاد الأندلس وإغاثة الْمُسلمين الَّذين بهَا فتهيأ لذَلِك وَعبر الْبَحْر فِي ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة واحتل بجبل بيونش من نَاحيَة سبتة ثمَّ ارتحل إِلَى طنجة فَلَقِيَهُ بهَا الأميران أَبُو عَامر عبد الله وَأَبُو عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْنا السُّلْطَان يُوسُف وَكَانَ أَبُو عَامر لَا زَالَ يَوْمئِذٍ من أَبِيه بِعَين الرِّضَا
وَلما علم السُّلْطَان يُوسُف بقدومه خرج من فاس للقائه وبرور مقدمه فوافاه بطنجة فَقدم ابْن الْأَحْمَر بَين يَدي نَجوَاهُ هَدِيَّة أتحف بهَا السُّلْطَان يُوسُف كَانَ من أحْسنهَا موقعا لَدَيْهِ الْمُصحف الْكَبِير الَّذِي يُقَال إِنَّه مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ كَانَ بَنو أُميَّة يتوارثونه بقرطبة ثمَّ خلص إِلَى ابْن الْأَحْمَر فأتحف بِهِ السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وكافأه بأضعافه وَبَالغ فِي تكرمته وأسعفه بِجَمِيعِ مطالبه وَأَرَادَ ابْن الْأَحْمَر أَن يبسط الْعذر عَن شَأْن طريف فتجافى السُّلْطَان يُوسُف عَن سَماع ذَلِك وأضرب عَن ذكره صفحا وبر وأحفى وَوصل وأجزل وَنزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن الجزيرة ورندة والغربية وَعشْرين حصنا من ثغور الأندلس كَانَت قبل فِي ملكته وملكة أَبِيه وَعَاد ابْن الْأَحْمَر إِلَى أندلسه آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة محبوا محبورا وعبرت مَعَه عَسَاكِر السُّلْطَان يُوسُف لحصار طريف ومنازلته وَعقد على حربها لوزيره الشهير الذّكر عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي فنازلها مُدَّة فامتنعت عَلَيْهِ وَأَفْرج عَنْهَا
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين بعْدهَا فرغ السُّلْطَان يُوسُف من بِنَاء جَامع تازا(3/75)
وعلقت بِهِ الثريا الْكُبْرَى من النّحاس الْخَالِص وَزنهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ قِنْطَارًا وَعدد كؤوسها خَمْسمِائَة كأس وَأَرْبَعَة عشر كأسا وَأنْفق السُّلْطَان فِي بِنَاء الْجَامِع وَعمل الثريا الْمَذْكُورَة ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار ذَهَبا
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين بعْدهَا خرج السُّلْطَان يُوسُف لغزو تلمسان فوصل إِلَى تاوريرت وَكَانَت تخما لعمل بني مرين وَبني عبد الْوَاحِد فنصفها للسُّلْطَان يُوسُف وَنِصْفهَا لعُثْمَان بن يغمراسن وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا بهَا عَامل من ناحيته فطرد السُّلْطَان يُوسُف عَامل ابْن يغمراسن وَشرع فِي بِنَاء الْحصن الَّذِي هُنَالك فأدار سوره وشيده وَركب أبوابه مصفحة بالجديد وَكَانَ يقف على بنائِهِ بِنَفسِهِ من صَلَاة الْغَدَاة إِلَى الْمسَاء لَا يغيب عَن العملة إِلَّا فِي أَوْقَات الضَّرُورَة وَفرغ من بنائِهِ وتحصينه فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ شحنه بالعسكر وَالسِّلَاح وَعقد عَلَيْهِ لِأَخِيهِ أبي بكر بن يَعْقُوب ويكنى أَبَا يحيى وانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة ثمَّ خرج من فاس سنة خمس وَتِسْعين بعْدهَا بِقصد تلمسان فَسَار حَتَّى نزل على ندرومة فحاصرها وشدد فِي قتالها ورماها بالمنجنيق أَرْبَعِينَ يَوْمًا فامتنعت عَلَيْهِ فأفرج عَنهُ ثَانِي عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة فَسَار إِلَى تلمسان وبرز عُثْمَان بن يغمراسن لمدافعته فَانْهَزَمَ وتحصن بالأسوار وَتقدم السُّلْطَان يُوسُف حَتَّى نزل على تلمسان وَقتل من أَهلهَا خلقا ثمَّ أقلع عَنْهَا وَرجع إِلَى الْمغرب فَقضى نسك الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة برباط تازا وَأمر بِبِنَاء الْقصر بهَا وَسَار إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة ثمَّ ارتحل إِلَى مكناسة فَقضى بهَا بعض الوطر ثمَّ عَاد إِلَى فاس ثمَّ خرج مِنْهَا فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا تلمسان وَمر فِي طَرِيقه بِمَدِينَة وَجدّة فَأمر ببنائها وَكَانَ أَبوهُ السُّلْطَان يَعْقُوب قد هدمها كَمَا مر فبناها السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة وحصن أسوارها وَبنى بهَا قَصَبَة ودارا لسكناه وحماما ومسجدا ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَنزل بساحتها وأحاطت عساكره بهَا إحاطة الهالة بالقمر وَنصب عَلَيْهَا الْقوس الْبَعِيدَة النزع الْعَظِيمَة الهيكل الْمُسَمَّاة بقوس الزيار اخترعها المهندسون والصناع وتقربوا إِلَى السُّلْطَان(3/76)
بعملها فَأَعْجَبتهُ وَكَانَت تحمل على أحد عشر بغلا وَلما امْتنعت تلمسان عَلَيْهِ أفرج عَنْهَا فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَمر فِي عوده إِلَى الْمغرب بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد لنظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر بن يَعْقُوب كَمَا كَانُوا بتاوريرت وَأمرهمْ بشن الغارات على أَعمال تلمسان مَعَ السَّاعَات والأحيان فَفَعَلُوا وَاسْتولى الْأَمِير أَبُو بكر بذلك على أَكثر تِلْكَ الْجِهَات وَالله تَعَالَى أعلم
فتكة ابْن الملياني بشيوخ المصامدة وتزويره الْكتاب بهم وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على فتح جبل تنيملل أَن أَبَا عَليّ الملياني كَانَ قد سعى فِي نبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن والعبث بأشلائهم وَأَن النَّاس قد غاظهم ذَلِك لَا سِيمَا المصامدة مِنْهُم وَلما هلك السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف اسْتعْمل أَبَا عَليّ الملياني على جباية المصامدة فباشرها مُدَّة ثمَّ سعى بِهِ شُيُوخ المصامدة عِنْد السُّلْطَان بِأَنَّهُ احتجن المَال لنَفسِهِ فَأمر السُّلْطَان بمحاسبته فحوسب وَظَهَرت مخايل صدقهم عَلَيْهِ فنكبه السُّلْطَان يُوسُف أَولا ثمَّ قَتله ثَانِيًا واصطنع ابْن أَخِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الملياني وَاسْتَعْملهُ فِي كِتَابَته وأقامه بِبَابِهِ فِي جملَة كِتَابه وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف قد سخط على بعض شُيُوخ المصامدة مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد كَبِير هنتانة وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى كَبِير قدميوة وأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير عَليّ بن يُوسُف بمراكش باعتقالهما فاعتقلهما فِيمَن لَهما من الْوَلَد والحاشية وأحس بذلك أَحْمد بن الملياني فاستعجل الثأر الَّذِي كَانَ يعتده عَلَيْهِم فِي عَمه أبي عَليّ
وَكَانَت الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة يَوْمئِذٍ موكولة إِلَى كتاب الدولة لم تخْتَص بِوَاحِد مِنْهُم لما كَانُوا كلهم ثِقَات أُمَنَاء وَكَانُوا عِنْد السُّلْطَان كأسنان الْمشْط فَكتب أَحْمد بن الملياني إِلَى الْأَمِير أبي عَليّ كتابا على لِسَان وَالِده يَأْمُرهُ فِيهِ أمرا جزما(3/77)
بقتل مشيخة المصامدة وَلَا يمهلهم طرفَة عين وَوضع عَلَيْهِ الْعَلامَة الَّتِي تنفذ بهَا الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة وَختم الْكتاب وَبعث بِهِ مَعَ الْبَرِيد قَالَ ابْن الْخَطِيب وَلما أكد على حامله فِي الْعجل وضايقه فِي تَقْدِير الْأَجَل تأنى حَتَّى إِذا علم أَنه قد وصل وَأَن غَرَضه قد حصل فر الى تلمسان وَهِي بِحَال حصارها فاتصل بأنصارها حَالا بَين أنوفها وأبصارها وتعجب النَّاس من فراره وَسُوء اغتراره ورجمت الظنون فِي آثاره ثمَّ وصلت الْأَخْبَار بِتمَام الْحِيلَة واستيلاء الْقَتْل على أَعْلَام تِلْكَ الْقَبِيلَة فَتَركهَا شنعاء على الْأَيَّام وعارا فِي الأقاليم على حَملَة الأقلام اه وَلما وصل الْكتاب إِلَى ولد السُّلْطَان أخرج أُولَئِكَ الرَّهْط المعتقلين إِلَى مصَارِعهمْ وَحكم السَّيْف فِي رِقَاب جَمِيعهم فَقتل عَليّ بن مُحَمَّد الهنتاني وَولده وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى القدميوي وَبَنوهُ الثَّلَاثَة عِيسَى وَعلي مَنْصُور وَابْن أَخِيه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وطير الْأَمِير عَليّ بالأعلام إِلَى وَالِده مَعَ بعض وزرائه وَهُوَ يرى أَنه قد امتثل الْأَمر واستوجب الشُّكْر
فَلَمَّا وصل الرَّسُول بالْخبر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بَطش بِهِ فَقتله غيظا عَلَيْهِ وأنفذ الْبَرِيد فِي الْحَال باعتقال وَلَده وَقَامَ وَقعد لذك وَمن ذَلِك الْوَقْت قصر السُّلْطَان علامته على من يختاره من ثِقَات الْكتاب وعدولهم وَجعلهَا يَوْمئِذٍ للفقيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين وَكَانَ من الكفاة المضطلعين بِأُمُور الدولة المتحملين للكثير من أعبائها وَأما ابْن الملياني فَإِنَّهُ فر إِلَى تلمسان وَالسُّلْطَان يُوسُف محاصر لَهَا وَلما وَقع الإفراج عَنْهَا بعد حِين انْتقل إِلَى الأندلس فَبَقيَ هُنَالك إِلَى أَن توفّي بغرناطة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وَمن شعره يفخر بِهَذِهِ الفعلة وَغَيرهَا قَوْله
(الْعِزّ مَا ضربت عَلَيْهِ قبابي ... وَالْفضل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ ثِيَابِي)
(والزهر مَا أهداه غُصْن يراعتي ... والمسك مَا أبداه نقس كتابي)
فالمجد يمْنَع أَن يزاحم موردي ... والعزم يَأْبَى أَن يضام جنابي)
(فَإِذا بلوت صَنِيعَة جَازَيْتهَا ... بجميل شكري أَو جزيل ثوابي)
(وَإِذا عقدت مَوَدَّة أجريتها ... مجْرى طَعَامي من دمي وشرابي)
(وَإِذا طلبت من الفراقد والسهى ... ثارا فَأوشك أَن أنال طلابي)(3/78)
الْحصار الطَّوِيل وَمَا تخَلّل ذَلِك من الْأَحْدَاث على تلمسان
تقدم لنا أَن السُّلْطَان يُوسُف لما رَجَعَ من محاصرة تلمسان فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة مر فِي طَرِيقه بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر إِلَى نظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَأمره بشن الغارات على أَعمال بني زيان فامتثل الْأَمِير أَبُو بكر أمره وألح على النواحي بالغارات وإفساد السابلة فَضَاقَ أهل ندرومة بذلك ذرعا وأوفدوا وَفْدًا مِنْهُم على الْأَمِير أبي بكر يسألونه الْأمان لَهُم وَلمن وَرَاءَهُمْ من قَومهمْ على أَن يمكنوه من قياد بلدهم ويدينوا بِطَاعَة السُّلْطَان يُوسُف فبذل لَهُم من ذَلِك مَا ارضاهم ونهض الى الْبَلَد فدخله بعسكره وتبعهم على ذَلِك أهل تاونت فأوفد الْأَمِير أَبُو بكر جمَاعَة من أهل البلدين على أَخِيه السُّلْطَان يُوسُف فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَجَب من سنة ثَمَان وَتِسْعين الْمَذْكُورَة فادوا طاعتهم فقبلها وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الْحَرَكَة إِلَى بِلَادهمْ ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم عُثْمَان بن يغمراسن ووصفوا لَهُ من عسفه وجورة وَضَعفه عَن الحماية مَا أكد عزمه على النهوض فَنَهَضَ لحينه من فاس فِي رَجَب الْمَذْكُور بعد أَن اسْتكْمل حشده ونادى فِي قومه وَعرض عسكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم وَسَار فِي التعبية حَتَّى نزل بِسَاحَة تلمسان ثَانِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بككله وربض قبالتها على ترائبه وَأنزل محلته بفنائها وأحاط بِجَمِيعِ جهاتها وتحصن يغمراسن وَقَومه بالجدران وعولوا على الْحصار
وَلما رأى السُّلْطَان يُوسُف ذَلِك أدَار سورا عَظِيما جعله سياجا على تلمسان وَمَا اتَّصل بهَا من الْعمرَان وصيرها فِي وَسطه ثمَّ أرْدف ذَلِك السُّور من وَرَائه بحفير بعيد المهوى وَفتح فِيهِ مدَاخِل لحربها ورتب على ابواب تِلْكَ المداخل مسالح تحرسه وأوعد بالعقاب من يخْتَلف إِلَى تلمسان بِرِفْق أَو يتسلل إِلَيْهَا بقوت وَأخذ بمخنقها من بَين يَديهَا وَمن خلفهَا حَتَّى لم يخلص(3/79)
إِلَيْهَا الطير لَا بل الطيف وَاسْتمرّ مُقيما عَلَيْهَا كَذَلِك مائَة شهر وَلما دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة اختط إِلَى جَانب ذَلِك السُّور بمَكَان فسطاطه وقبابه قصرا لسكانه وَاتخذ بِهِ مَسْجِدا لصلاته وأدار عَلَيْهِمَا سورا يحرزهما ثمَّ أَمر النَّاس بِالْبِنَاءِ حول ذَلِك فبنوا الدّور الواسعة والمنازل الرحيبة والقصور الأنيقة وَاتَّخذُوا الْبَسَاتِين وأجروا الْمِيَاه وَأمر السُّلْطَان باتخاذ الحمامات والفنادق والمارستان وابتنى مَسْجِدا جَامعا أَقَامَهُ على الصهريج الْكَبِير وشيد لَهُ منارا رفيعا وَجعل على رَأسه تفافيح من ذهب صير عَلَيْهَا سَبْعمِائة دِينَار ثمَّ أدَار السُّور على ذَلِك كُله فَصَارَت مَدِينَة عَظِيمَة استبحر عمرانها ونفقت أسواقها ورحل إِلَيْهَا التُّجَّار بالبضائع من جَمِيع الْآفَاق وسماها المنصورة فَكَانَت من أعظم أَمْصَار الْمغرب وأحفلها إِلَى أَن خربها آل يغمراسن عِنْد مهلك السُّلْطَان يُوسُف وارتحال جيوشه عَنْهَا وَلما تمكن السُّلْطَان يُوسُف من حِصَار تلمسان سرح كتائبه وسراياه فِي أَعمالهَا وحصونها فاستولى فِي مُدَّة قريبَة على ندرومة وهنين ووهران وتالموت وتامزردكت ومستغانم وتنس وشرشال وبرشك والبطحاء ومازونة ووانشريس ومليانة والقصبات ولمدية وتافرجينت وَجَمِيع بِلَاد بني عبد الواد وبلاد بني توجين وبلاد مغراوة وَبَايَعَهُ ابْن عَلان صَاحب الجزائر وَأخذ رعبه بملوك الناحي وَكَانَت دولة بني أبي حَفْص يَوْمئِذٍ قد انقسمت بقسمين فَصَارَ كرْسِي مِنْهَا بتونس وَآخر ببجاية فتنافس صَاحب تونس وَصَاحب بجاية فِي مصانعة السُّلْطَان يُوسُف والتقرب إِلَيْهِ بالهدايا والتحف وَصَارَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك الْوَقْت ملك الْمغرب على الْحَقِيقَة وَالْإِطْلَاق وَالله غَالب على أمره
نكبة بَين وقاصة من يهود فاس
كَانَ بَنو وقاصة هَؤُلَاءِ من يهود ملاح فاس وَكَانُوا مداخلين للسُّلْطَان يُوسُف من صغره إِلَى كبره وَكَانُوا يتولون قهرمة دَاره ويقضون أُمُوره الْخَاصَّة(3/80)
بِهِ ويخلصون إِلَى الْكثير من بَاطِن أمره قد التحموا بِهِ التحاما وامتزجوا بِهِ امتزاجا يجالسونه فِي خلواته وينادمونه فِي أنسه فَعظم جاههم عِنْد الْحَاشِيَة لإقبال السُّلْطَان عَلَيْهِم واستتبعوا الوزراء فَمن دونهم من رجال الدولة وتعددت فيهم الرؤساء والقهارمة فَكَانَ مِنْهُم خَليفَة بن وقاصة وَأَخُوهُ إبراهم وصهره مُوسَى بن السبتي وَابْن عَمه خَليفَة الْأَصْغَر وَغَيرهم واستمروا على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ إِن السُّلْطَان يُوسُف استفاق استفاقة والتفت إِلَيْهِم التفاتة وراجع بصيرته فِي شَأْنهمْ فأهمه أَمرهم وَشعر كَاتبه بذلك الْقَائِم بِأُمُور دولته أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ابي مَدين فسعى عِنْده فيهم وأوجده السَّبِيل عَلَيْهِم فسطا بهم سطوة مُنكرَة واعتقلوا فِي شعْبَان من سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة بمعسكره من حِصَار تلمسان وَقتل خليفه الْكَبِير وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن السبتي وَإِخْوَته بعد أَن امتحنوا وَمثل بهم وَأَتَتْ النكبة على حاشيتهم وأقاربهم فَلم تبْق مِنْهُم بَاقِيَة إِلَّا أَن السُّلْطَان استبقى مُهِمّ خَليفَة الْأَصْغَر احتقارا لشأنه حَتَّى كَانَ من قَتله بعد مَا نذكرهُ وعبث بسائرهم وطهرت الدولة من رجسهم وأزيل مِنْهَا معرة رياستهم والأمور بيد الله سُبْحَانَهُ
ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة توفّي عُثْمَان بن يغمراسن فِي الْحصار عقب شربة لبن يُقَال إِنَّه جعل فِيهَا سما وشربه فعل ذَلِك بِنَفسِهِ تفاديا من معرة غَلبه عدوه عَلَيْهِ فَاجْتمع بَنو عبد الواد لحينهم وَبَايَعُوا ابْنه مُحَمَّد بن عُثْمَان واجتمعوا عَلَيْهِ ثمَّ برزوا إِلَى قتال عدوهم على الْعَادة حَتَّى كَأَن عُثْمَان لم يمت وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف فتفجع على عُثْمَان وَعجب من صرامة قومه من بعده(3/81)
انْتِقَاض ابْن الْأَحْمَر واستيلاء الرئيس أبي سعيد على سبتة
كَانَ مُحَمَّد بن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالفقيه قد هلك سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمخلوع واستبد عَلَيْهِ كَاتبه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحَكِيم الرندي وَكَانَ من أول مَا فعله مُحَمَّد المخلوع بعد استقلاله بِالْأَمر الْمُبَادرَة إِلَى أَحْكَام عقد الْمُوَالَاة بَينه وَبَين السُّلْطَان يُوسُف فأوفد عَلَيْهِ وَزِير أَبِيه أَبَا سُلْطَان عبد الْعَزِيز بن سُلْطَان الداني ووزيره الْكَاتِب أَبَا عبد الله بن الْحَكِيم فوصلا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بمعسكره من حِصَار تلمسان فتلقاهما بِالْقبُولِ والمبرة وجددت لَهما أَحْكَام الود وَالْولَايَة وانقلبا إِلَى مرساهما خير مُنْقَلب وَطلب السُّلْطَان مِنْهُمَا أَن يمدوه بِالرجلِ من عَسْكَر الأندلس وناشبتهم المعودين منازلة الْحُصُون والمثاغرة بالرباط فأسعفوه ثمَّ فسد مَا بَينهمَا لمنافسات جرت إِلَى ذَلِك فَانْتقضَ ابْن الْأَحْمَر وَعَاد لسنة سلفه من مُوالَاة الطاغية وممالاته على الْمُسلمين أهل الْمغرب وَأحكم الْعَهْد مَعَ هراندة بن سانجة من بني أذفونش مُلُوك قشتالة خذلهم الله
ثمَّ أوعز ابْن الْأَحْمَر الى ابْن عَمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل صَاحب مالقة فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْغدر بِأَهْل سبتة فَفعل وداخل فِي ذَلِك بعض عُمَّال بني العزفي بهَا فأمكنه من الْبَلَد فاقتحمها بأساطيله وجنده على حِين غَفلَة من أَهلهَا وتقبض على بني العزفي ولى حاشيتهم وأركبهم الأسطول وَبعث بهم إِلَى مالقة ثمَّ مِنْهَا إِلَى غرناطة فَتَلقاهُمْ ابْن الْأَحْمَر واحتفل لَهُم وأنزلهم بقصوره وأجرى عَلَيْهِم النَّفَقَة واستقروا بالأندلس بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ عَادوا إِلَى الْمغرب كَمَا نذْكر وَأسْندَ الرئيس أَبُو سعيد بِأَمْر سبتة وثقف أطرافها وسد ثغورها وَبلغ الْخَبَر بذلك إل السُّلْطَان يُوسُف فحمى أَنفه وَعظم عَلَيْهِ الْأَمر فَبعث وَلَده الْأَمِير أَبَا سَالم إِبْرَاهِيم فِي جَيش كثيف إِلَى حصارها وحشد إِلَيْهَا قبائل الرِّيف وقيائل تازا فَلم يغن شَيْئا وَرجع مهزوما فسخطه السُّلْطَان لذَلِك وَأَهْمَلَهُ وَبَقِي على ذَلِك الى وَفَاة السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَانَ انْتِقَاض ابْن الْأَحْمَر سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة(3/82)
ثورة عُثْمَان بن ابي الْعَلَاء بجبال غمارة
كَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن عبد الْحق من أعياص الْملك المريني وَكَانَ قد قدم من الأندلس فِي صُحْبَة الرئيس أبي سعيد عِنْد استيلائه على سبتة ثمَّ ثار بعد ذَلِك بِبِلَاد غمارة ودعا لنَفسِهِ وَبَقِي متنقلا هُنَالك مُدَّة فتغلب على تكساس وآصيلا والعرايش وانْتهى إِلَى قصر كتامة وخب فِي الْفِتْنَة وَوضع إِلَى أَن لحق بالأندلس لأوّل دولة السُّلْطَان أبي الرّبيع فولي بهَا مشيخة الْغُزَاة وَكَانَت لَهُ فِي جِهَاد الْعَدو الْيَد الْبَيْضَاء كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَفِي سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة بعث السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ محاصر لتلمسان ركب الْحَاج المغربي إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين واعتنى بشأن هَذَا الركب فَبعث مَعَهم حامية من زناتة تناهز خَمْسمِائَة فَارس من الْأَبْطَال وخاطب صَاحب الديار المصرية لعهده وهوالملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الصَّالِحِي من مماليك بني أَيُّوب المعروفين بالبحرية واستوصاه بحاج أهل الْمغرب وأتحفه بهدية استكثر فِيهَا من الْخَيل العراب والمطايا الفارهة يُقَال كَانَ عدد الْخَيل والمطايا أَرْبَعمِائَة إِلَى غير ذَلِك مَا يُنَاسب من طرف الْمغرب وماعونه وَبعث مَعَهم إِلَى حرم مَكَّة مُصحفا ضخما اعتنى بِهِ واستكتبه وَجعل لَهُ غشاء مكللا بنفيس الدّرّ وشريف الْيَاقُوت ورفيع الْأَحْجَار ونهج السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله بِهَذَا الركب والهدية السَّبِيل لحاج الْمغرب فَأَجْمعُوا الْحَج سنة أَربع بعْدهَا فَاجْتمع مِنْهُم عدد وافر وَركب ضخم فعقد السُّلْطَان يُوسُف على دلالتهم لأبي زيد الْغِفَارِيّ وفصلوا من تلمسان فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي شهر ربيع الآخر بعده قدم حَاج الركب الأول الَّذين حملُوا الْمُصحف والهدية ووفد مَعَهم على السُّلْطَان يُوسُف شرِيف مَكَّة السَّيِّد لبيدة بن أبي نمي نازعا عَن سُلْطَان التّرْك صَاحب مصر لما كَانَ قد قبض(3/83)
على أَخَوَيْهِ حميضة ورميثة بعد مهلك أَبِيهِم أبي نمي صاب مَكَّة فاستبلغ السُّلْطَان يُوسُف من إكرامه والتنويه بِقَدرِهِ وسرحه إِلَى الْمغرب ليجول فِي أقطاره وَيَطوف على معالم الْملك وقصوره وأوعز إِلَى الْعمَّال بالبرور بِهِ وإتحافه على مَا يُنَاسب قدره وَرجع هَذَا الشريف إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان من تلمسان سنة خمس وَسَبْعمائة ثمَّ فصل مِنْهَا إِلَى مشرقه وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة قدم أَبُو زيد الْغِفَارِيّ دَلِيل ركب الْحَاج الثَّانِي وَمَعَهُ بيعَة الشرفاء أهل مَكَّة للسُّلْطَان يُوسُف لما كَانَ صَاحب مصر قد آسفهم بالتقبض على إخْوَانهمْ وَكَانَ ذَلِك شَأْنهمْ مَتى غاظهم السُّلْطَان وأهدوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف ثوبا من كسْوَة الْكَعْبَة أعجب بِهِ فَاتخذ مِنْهُ ثوبا للبوسه فِي الْجمع والأعياد كَانَ يتبطنه بَين ثِيَابه تبركا بِهِ
وَأما الْملك النَّاصِر صَاحب مصر فَإِنَّهُ كافأ السُّلْطَان يُوسُف على هديته بِأَن جمع من طرف بِلَاد الْمشرق مَا يستغرب جنسه وشكله من الثِّيَاب والحيوانات وَنَحْو ذَلِك مثل الْفِيل والزرافة وَنَحْوهمَا وأوفد بِهِ مَعَ عُظَمَاء دولته وفصلوا من الْقَاهِرَة آخر سنة خمس وَسَبْعمائة فوصلوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ بالمنصورة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ بعْدهَا واهتز لقدومهم وأركب النَّاس للقيهم وَأكْرم وفادتهم وبعثهم إِلَى الْمغرب للتطوف بِهِ على الْعَادة فِي مبرة أمثالهم وَهلك السُّلْطَان يُوسُف أثْنَاء ذَلِك وأفضى الْأَمر إِلَى حافده أبي ثَابت فَأحْسن منقلبهم مَلأ حقائبهم وفصلوا من الْمغرب إِلَى بِلَادهمْ فِي ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَسَبْعمائة وَلما انْتَهوا إِلَى بِلَاد بني حسن فِي ربيع من سنة ثَمَان بعْدهَا اعْتَرَضَهُمْ الْأَعْرَاب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إِلَى مصر بجريعة الذقن فَلم يعاودوا بعْدهَا إِلَى الْمغرب سفرا وَلَا لفتوا إِلَيْهِ وَجها وطالما أوفد عَلَيْهِم مُلُوك الْمغرب بعْدهَا من رجال دولتهم من يوبه لَهُ ويهادونهم ويكافئون وَلَا يزِيدُونَ فِي ذَلِك كُله على الْخطاب شَيْئا(3/84)
وَفَاة السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قد اتخذ فِي جملَة حَاشِيَته ومماليكه خَصيا اسْمه سَعَادَة وَكَانَ هَذَا الْخصي قد تصير إِلَيْهِ من جِهَة أبي عَليّ الملياني أَيَّام كَانَ عَاملا لَهُ على مراكش وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ابْتِدَاء أمره يخلط الخصيان بأَهْله وَلَا يحجبهم عَن حرمه وَعِيَاله ثمَّ حدثت للسُّلْطَان رِيبَة فِي بعض الخصيان فَأعتق جملَة مِنْهُم كَانَ فيهم عنبر الْكَبِير عريفهم وحجب سَائِرهمْ فارتاعوا لذَلِك وفسدت نياتهم فسولت لهَذَا الْخصي الْخَبيث نَفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فَعمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بعض حجر قصره فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فألفاه مُسْتَلْقِيا على فرَاشه مختضبا بحناء فَوَثَبَ عَلَيْهِ وطعنه طعنات قطع بهَا أمعاءه وَخرج هَارِبا وَانْطَلق بعض الْأَوْلِيَاء فِي أَثَره فأدركه من الْعشي بِنَاحِيَة تاسلت فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى الْقصر فَقتلته العبيد والحاشية وصابر السُّلْطَان يُوسُف منيته إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ قضى رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَسَبْعمائة وقبر هُنَالك ثمَّ نقل بعد مَا سكنت الهيعة إِلَى مقبرتهم بشالة فَدفن بهَا مَعَ سلفه وأطلال ضريحه لَا زَالَت مائلة إِلَى الْآن
وبموت السُّلْطَان يُوسُف انْقَضتْ مُدَّة الْحصار عَن آل يغمراسن وقومهم من بني عبد الواد وَسَائِر أهل تلمسان وَكَانَت الْمدَّة فِي ذَلِك مائَة شهر كَمَا قُلْنَا نالهم فِيهَا من الْجهد والشدة مَا لم ينل أمة من الْأُمَم واضطروا إِلَى أكل الْجِيَف والقطوط والفيران حَتَّى أَنهم أكلُوا فِيهَا أشلاء الْمَوْتَى من النَّاس وخربوا السقوف للوفود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وَسَائِر الْمرَافِق بِمَا(3/85)
تجَاوز حد الْعَادة وَعجز وجدهم عَنْهَا فَكَانَ ثمن مكيال الْقَمْح ومقداره اثْنَا عشر رطلا وَنصف مثقالين وَنصفا من الذَّهَب الْعين وَثمن الشَّخْص الْوَاحِد من الْبَقر سِتِّينَ مِثْقَالا وَمن الضَّأْن سَبْعَة مَثَاقِيل وَنصفا وأثمان اللَّحْم من الْجِيَف الرطل من لحم البغال وَالْحمير بِثمن المثقال وَمن الْخَيل بِعشر المثقال والرطل من الْجلد البقري ميتَة أَو مذكى بِثَلَاثِينَ درهما والهر الداجي بمثقال وَنصف وَالْكَلب بِمثلِهِ والفأر بِعشْرَة دَرَاهِم والحية بِمثل ذَلِك والدجاجة بِثَلَاثِينَ درهما وَالْبيض وَاحِدَة بِسِتَّة دَرَاهِم والعصافير كَذَلِك وَالْأُوقِية من الزَّيْت بِاثْنَيْ عشر درهما وَمن السّمن بِمِثْلِهَا وَمن الشَّحْم بِعشْرين درهما وَمن الْملح بِعشْرَة دَرَاهِم وَمن الْحَطب كَذَلِك وَالْأَصْل الْوَاحِد من الكرنب بِثَلَاثَة أَثمَان المثقال وَمن الخس بِعشْرين درهما وَمن اللفت بِخَمْسَة عشر درهما والواحدة من القثاء والفقوس بِأَرْبَعِينَ درهما وَالْخيَار بِثَلَاثَة أَثمَان الدِّينَار والبطيخ بِثَلَاثِينَ ردهما والحبة من التِّين والإجاص بِدِرْهَمَيْنِ واستهلك النَّاس أَمْوَالهم وموجودهم وَضَاقَتْ أَحْوَالهم وَهَلَكت حاميتهم فاعتزموا على الْإِلْقَاء بِالْيَدِ وَالْخُرُوج للاستماتة فَهَيَّأَ الله لَهُم الصنع الْغَرِيب وَنَفس عَن مخنقهم بمهلك السُّلْطَان يُوسُف على يَد الْخصي الْمُرِيب وأذهب الله العناء عَن آل زيان وقومهم وَخَرجُوا كَأَنَّمَا نشرُوا من الْقُبُور وَكَتَبُوا بعد هَذِه الْحَادِثَة فِي سكنهم مَا أقرب فرج الله استغرابا لَهَا
قَالَ ابْن خلدون حَدثنِي شَيخنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الابلي قَالَ جلس السُّلْطَان أَبُو زيان بن عُثْمَان بن يغمراسن صَبِيحَة يَوْم الْفرج وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة فِي زَاوِيَة من زَوَايَا قصره يفكر واستدعى ابْن جحاف خَازِن الزَّرْع فَسَأَلَهُ كم بَقِي من الأهراء والمطامير المختومة فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا بَقِي عولة الْيَوْم وغد فاستوصاه بكتمان ذَلِك وبينما هم يتذاكرون فِي ذَلِك دخل عَلَيْهِم أَخُوهُ أَبُو حمو فأخبروه بذلك فَوَجَمَ وجلسوا سكُوتًا لَا ينطقون(3/86)
وَإِذا بدعد قهرمانة الْقصر وَكَانَت وصيفة من وصائف بنت السُّلْطَان أبي إِسْحَاق حظية أَبِيهِم قد خرجت من الْقصر إِلَيْهِم وحيتهم وَقَالَت لَهُم تَقول لكم خَطَايَا قصركم وَبَنَات زيان حرمكم مَا لنا وللبقاء وَقد أحيط بكم وأسف عَدوكُمْ لالتهامكم وَلم يبْق الأفواق نَاقَة لمصارعكم فأريحونا من معرة السَّبي وقربونا إِلَى مصارعنا وأريحوا أَنفسكُم فِينَا فالحياة فِي الذل عَذَاب والوجود بعدكم عدم فَالْتَفت أَبُو حمو إِلَى أَخِيه أبي زيان وَكَانَ من الشَّفَقَة بمَكَان فَقَالَ قد صدقتك الْخَبَر فَمَا تنْتَظر بِهن فَقَالَ يَا مُوسَى أرجئني ثَلَاثًا لَعَلَّ الله يَجْعَل بعد عسر يسرا وَلَا تشاورني بعْدهَا فِيهِنَّ بل سرح الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى قتلهن وَتَعَالَى إِلَيّ نخرج مَعَ قَومنَا إِلَى عدونا فنستميت وَيَقْضِي الله مَا شَاءَ فَغَضب أَبُو حمو وَأنكر عَلَيْهِ التَّأْخِير فِي ذَلِك وَقَالَ إِنَّمَا نَحن وَالله نتربص المعرة بِهن وبأنفسنا وَقَامَ عَنهُ مغضبا وجهش السُّلْطَان أَبُو زيان بالبكاء قَالَ أَيْن جحاف وَأَنا بمكاني بَين يَدَيْهِ لَا أملك مُتَأَخِّرًا وَلَا مُتَقَدما إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ النّوم فَمَا راعني إِلَّا حرسي يالباب يُشِير إِلَيّ أَن أعلم السُّلْطَان بمَكَان رَسُول جَاءَ من محلّة بني مرين وَهَا هُوَ بسدة الْقصر قَالَ ابْن جحاف فَلم أطق رد جَوَابه إِلَّا بِالْإِشَارَةِ وانتبه السُّلْطَان من همسنا فَزعًا فأعلمته فاستدعاه للحين فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب هلك السَّاعَة وَأَنا رَسُول حافده أبي ثَابت إِلَيْكُم فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان أَبُو زيان واستدعى أَخَاهُ وَقَومه حَتَّى بلغ الرَّسُول الْمَذْكُور رسَالَته بمسمع مِنْهُم فَكَانَت إِحْدَى المغربات فِي الْأَيَّام وَكَانَ من خبر هَذِه الرسَالَة أَن السُّلْطَان يُوسُف لما هلك تطاول لِلْأَمْرِ بعده القربابه من إخْوَته وَولده وحفدته وتحيز حافده أَبُو ثَابت إِلَى بني ورتاجن لخؤلة كَانَت لَهُ فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وَبعث إِلَى بني زيان أَن يعطوه آلَة الْحَرْب ويكونوا مفزعا لَهُ إِن أخفق مسعاه على أَنه إِن تمّ أمره قوض عَنْهُم معسكر بني مرين وَأَفْرج عَنْهُم فعاقدوه على ذَلِك فوفى لَهُم لما تمّ أمره وَنزل لَهُم عَن جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي كَانَ السُّلْطَان يُوسُف غلب عَلَيْهَا من بِلَادهمْ ورحلوا إِلَى مغربهم وَالله غَالب على أمره(3/87)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان يُوسُف وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله أَبيض حسن الْقد مليح الْوَجْه أقنى الْأنف مهيبا لَا يكَاد أحد يبدأه بالْكلَام جوادا مشفقا على الرّعية متفقدا لأحوالها شجاعا شهما ذَا عَزِيمَة
(إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ همه ... ونكب عَن ذكر العواقب جانبا)
وَهُوَ أول من هذب ملك بني مرين وأكسبه رون لحضارة وبهاء الْملك وَكَانَ غليظ الْحجاب لَا يكَاد يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بعد الْجهد وَمن أَعْيَان كِتَابه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَمن أَعْيَان شعرائه أَبُو الحكم مَالك بن المرحل السبتي وَأَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي المكناسي وَغَيرهمَا وَالله تَعَالَى أعلم
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق كَانَ الرخَاء المفرط بالمغرب بِحَيْثُ كَانَ الدَّقِيق يُبَاع بفاس وَغَيرهَا ربع مِنْهُ بدرهم والقمح سِتَّة دَرَاهِم للصحفة وَالشعِير ثَلَاثَة دَرَاهِم للصحفة وَأما القطاني فَلم يكن لَهَا ثمن وَالْعَسَل ثَلَاثَة أَرْطَال بدرهم وَالزَّيْت أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة بدرهم وَالزَّبِيب دِرْهَم وَنصف للربع وَالثَّمَر ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم واللوز صَاع بدرهم والشابل الطري فردة بقيراط وَالْملح حمل بدرهم وَلحم الْبَقر مائَة أُوقِيَّة بدرهم وَلحم الضَّأْن سَبْعُونَ أُوقِيَّة بدرهم والكبش بِخَمْسَة دَرَاهِم وَهَكَذَا
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وستمائه ظهر النَّجْم أَبُو الذوائب وَكَانَ ابْتِدَاء ظُهُوره لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَبَقِي يطلع كل لَيْلَة وَقت السحر نَحوا من عشْرين يَوْمًا
وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة كَانَ دُخُول الشريف الْمولى حسن بن قَاسم الحسني من أَرض يَنْبع الْحجاز إِلَى سجلماسة وَهَذَا الشريف هُوَ جد الْأَشْرَاف العلويين السجلماسيين مُلُوك الْمغرب الْأَقْصَى فِي عصرنا هَذَا أَعلَى(3/88)
الله تَعَالَى قدرهم وخلد مجدهم وفخرهم وَعند الْكَلَام على دولتهم السعيدة نذْكر كَيْفيَّة دُخُول هَذَا الشريف إِلَى الْمغرب وَالسَّبَب فِيهِ إِن شَاءَ الله
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة سرق من بَيت المَال بقصبة فاس اثْنَا عشر ألف دِينَار وَثَلَاث قلائد يساوين أَكثر من ذَلِك
وَفِي حُدُود السّبْعين وسِتمِائَة كَانَ ظُهُور البارود على مَا مر من أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فتح بِهِ سجلماسة فِي هَذِه الْمدَّة وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بنى الْمَسْجِد الْجَامِع بفاس الْجَدِيد وَفِي سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة علقت بِهِ ثرياه وَذَلِكَ يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول مِنْهَا وَوزن هَذِه الثريا سَبْعَة قناطير وَخَمْسَة عشر رطلا وَعدد كؤوسها مِائَتَا كأس بالتثنية وَسبع وَثَمَانُونَ كأسا وفيهَا كَانَ الْجَرَاد الْعَام بالمغرب أكل الجسر وَالزَّرْع وَلم يتْرك خضراء على وَجه الأَرْض وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للصاع
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قنطرة وَادي النجَاة وقنطرة ماريج
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَ بالمغرب قحط شَدِيد لم ير النَّاس قَطْرَة مَاء حَتَّى كَانَ الْيَوْم السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي توفيت فِيهِ الْحرَّة أم الْعِزّ بنت مُحَمَّد بن حَازِم العلوية من بني عَليّ بن عَسْكَر وَهِي أم السُّلْطَان يُوسُف فغاث الله الْعباد وأحيى برحمته الْبِلَاد
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قَصَبَة تطاوين وفيهَا ركبت الناعورة الْكُبْرَى على وَاد فاس شرع فِي عَملهَا فِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ودارت فِي صفر من السّنة بعْدهَا
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بني سور قصر الْمجَاز وَركبت أبوابه وفيهَا غرس بُسْتَان المصارة بفاس الْجَدِيد وبنيت الدَّار الْبَيْضَاء بهَا أَيْضا
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَت الرّيح الشرقية المتوالية الهبوب وَنَشَأ عَنْهَا الْقَحْط الشَّديد وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى آخر سنة تسعين بعْدهَا فرحم الله(3/89)
بِلَاده وعباده وفيهَا توفّي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر بالكندرتين من بِلَاد بني بهْلُول من أحواز فاس وَلَعَلَّ أَبَا يَعْقُوب هَذَا هُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْحمة الَّتِي قدمنَا الْكَلَام عَلَيْهَا فِي أَخْبَار الْمَنْصُور الموحدي وَالله أعلم وفيهَا بني الْمَسْجِد الْجَامِع بِمَدِينَة تازا وبنيت قبَّة مكناسة الزَّيْتُون ورباعها
وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة أَمر السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بِعَمَل المولد النَّبَوِيّ وتعظيمه والاحتفال لَهُ وصيره عيدا من الأعياد فِي جَمِيع بِلَاده وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الْأَمر بِهِ قد صدر عَنهُ وَهُوَ بصبره من بِلَاد الرِّيف فِي آخر صفر من السّنة فوصل برسم إِقَامَته بِحَضْرَة فاس الْفَقِيه ابو يحيى بن أبي الصَّبْر وَاعْلَم أَنه قد كَانَ سبق السُّلْطَان يُوسُف إِلَى هَذِه المنقبة المولدية بَنو العزفي أَصْحَاب سبتة فهم أول من أحدث عمل المولد الْكَرِيم بالمغرب وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة كَانَ كسوف الشَّمْس وَذَلِكَ قرب زَوَال يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة كسف مِنْهَا نَحْو الثُّلثَيْنِ وَصلى بِالنَّاسِ صَلَاة الْكُسُوف بِجَامِع الْقرَوِيين من فاس الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن أبي الصَّبْر حَتَّى انجلت فَخرج من الْمِحْرَاب ووقف بإزائه فوعظ النَّاس وَذكرهمْ فِي هَذِه السّنة رفعت أَيدي الموثقين من الشَّهَادَة بفاس وَلم يبْق بهَا مِنْهُم سوى خَمْسَة عشر رجلا من أهل الْعَدَالَة والمعرفة وَكَانُوا قيل ذَلِك أَرْبَعَة وَتِسْعين وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا كَانَت الْجَمَاعَة الشَّدِيدَة والوباء الْعَظِيم عَم ذَلِك بِلَاد الْمغرب وإفريقية ومصر فَكَانَت الْمَوْتَى تحمل اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة على المغتسل وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للمد والدقيق سِتّ أَوَاقٍ بدرهم وَأمر السُّلْطَان يُوسُف(3/90)
بتبديل الصيعان وَجعلهَا على مد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ذَلِك بالحضرة على يَد الْفَقِيه ابي فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الشَّاعِر الْمَشْهُور
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فِيهَا صلح أَمر النَّاس وانجبرت أَحْوَالهم ورخصت الأسعار فِي جَمِيع الْأَمْصَار فَبيع الْقَمْح بِعشْرين درهما للصحفة وَفِي هَذِه السّنة كسفت الشَّمْس أَيْضا الْكُسُوف الْكُلِّي بِحَيْثُ غَابَ قرص الشَّمْس كُله وَصَارَ النَّهَار لَيْلًا كالحالة الَّتِي تكون مَا بَين العشاءين وَظَهَرت النُّجُوم وماج النَّاس وَضَاقَتْ نُفُوسهم وَلَوْلَا أَن الله سُبْحَانَهُ تداركهم بِسُرْعَة انجلائها لهلكوا جزعا وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة ظهر الثُّلَاثَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَتِسْعين الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب مدينته المنصورة بِإِزَاءِ تلمسان وَهُوَ محاصر لَهَا الْحصار الطَّوِيل حَسْبَمَا مر الْخَبَر على ذَلِك مُسْتَوفى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي ثَابت عَامر بن عبد الله ابْن يُوسُف ابْن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله
قد تقدم لنا أَن أَبَا عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف كَانَ قد انتبذ عَن أَبِيه وَبَقِي متنقلا فِي جِهَات الرِّيف وبلاد غمارة إِلَى أَن هلك فِي بِلَاد بني سعيد مِنْهُم وَأَنه خلف ثَلَاثَة أَوْلَاد أحدهم أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله هَذَا الَّذِي ولي الْأَمر بعد جده وَذَلِكَ أَنه لما هلك السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله بالمنصورة كَمَا تقدم كَانَ حافده أَبُو ثَابت هَذَا فِي جملَته وَكَانَ لَهُ فِي بني ورتاجن من أهل تِلْكَ الْبِلَاد خؤلة فلحق بهم ودعا لنَفسِهِ فَبَايعُوهُ وَقَامُوا مَعَه فِي أمره وَبَايَعَهُ مَعَهم أَشْيَاخ بني مرين وَالْعرب بِظَاهِر المنصورة يَوْم الْخَمِيس ثَانِي يَوْم وَفَاة جده يُوسُف وبادر الْحَاشِيَة والوزراء وَمن شايعهم بداخل المنصورة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي سَالم بن السُّلْطَان يُوسُف وَكَاد أَمر بني(3/91)
مرين يفْسد وكلمتهم تتفرق فَبعث السُّلْطَان أَبُو ثَابت لحينه وَكَانَ شهما مقداما إِلَى صَاحِبي تلمسان أبي زيان وَأبي حمو ابْني عُثْمَان بن يغمراسن فعقد لَهما عهدا على أَن يرحل عَنْهُم بجموعه وَأَن يمدوه بالآلة ويرفعوا لَهُ كسر بَيتهمْ ويضموه إِلَيْهِم إِن خَابَ أمله وَلم يتم لَهُ أَمر فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَحضر العقد أَبُو حمو فأحكمه وَشرط عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو ثَابت أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمدينة جده المنصورة بِسوء وَأَن يتعاهدوا مساجدها وقصورها بالإصلاح وَأَن من أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا من أَهلهَا فَمَا لأحد عَلَيْهِ من سَبِيل لِأَن النَّاس كَانُوا قد استوطنوها وألفوها وطاب مقامهم بهَا وتأثلوا بهَا الأثاث وَالْمَتَاع والخرثي وَسَائِر الماعون مِمَّا يثبط المرتحل ويثقل جنَاح الناهض فَقبل أَبُو حمو ذَلِك كُله
وتفرغ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لشأنه وَجمع كلمة قومه واختل أَمر أبي سَالم فَلم يتم وَكتب السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى حامية بني مرين وحصصها الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي الثغور الشرقية الَّتِي استولى عَلَيْهَا السُّلْطَان يُوسُف أَيَّام حَيَاته فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَنْسلونَ من كل حدث وَأَسْلمُوا الْبِلَاد إِلَى أَهلهَا من بني عبد الواد وَقتل السُّلْطَان أَبُو ثَابت عَمه أَبَا سَالم بن يُوسُف ثمَّ أتبعه بعم أَبِيه أبي بكر بن يَعْقُوب فِي آخَرين من الْقَرَابَة وَغَيرهم مِمَّن يتَوَقَّع مِنْهُ الشَّرّ وفر بَقِيَّة الْقَرَابَة خشيَة على أنفسهم من سطوة أبي ثَابت فَلَحقُوا بعثمان بن أبي الْعَلَاء الثائر بجبال غمارة من عهد السُّلْطَان يُوسُف فشايعوه على أمره وتقوى بهم على مَا نذكرهُ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي جموع لاتحصى وأمم لَا تستقصى فعيد عيد الْأَضْحَى من سنة سِتّ وَسَبْعمائة فِي طَرِيقه بن تلمسان ووجدة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ نَهَضَ بعد ذَلِك إِلَى مراكش على مَا نذكرهُ وَلما علم بَنو يغمراسن أَن أَبَا ثَابت قد أبعد عَنْهُم وَأَنه توغل فِي الْبِلَاد المراكشية واشتغل بحروب الثائرين بهَا عَمدُوا إِلَى المنصورة فَجعلُوا عاليها سافلها وطمسوا معالمها ومحوا آثارها فَأَصْبَحت كَأَن لم تغن بالْأَمْس(3/92)
ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد ابْن عبد الْحق وَمَا كَانَ من أمره
كَانَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لما فصل من تلمسان قدم بَين يَدَيْهِ ابْن عَمه الْحسن بن عَامر بن عبد الله بن يَعْقُوب وَأمره بِالنّظرِ فِي أَحْوَال فاس وَالْمغْرب وَأمره بضبطها وتسريح سجونها ورد مظالمها وتفريق الْأَمْوَال على الْخَاصَّة والعامة فَفعل وَلما قدم حَضْرَة فاس عقد لِابْنِ عَمه يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بن عبد الْحق على مراكش ونواحيها وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أحوالها وضبطها صَمد إِلَيْهَا واحتل بهَا وَتمكن مِنْهَا ثمَّ حدثته نَفسه بالإنتزاء فاستلحق واستركب وَاتخذ الْآلَة وجاهر بالخلعان وتقبض على الْوَالِي بمراكش الْحَاج المسعود فَقتله من تَحت السِّيَاط فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسَبْعمائة ودعا لنَفسِهِ واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي ثَابت وَهُوَ بفاس فسرح إِلَيْهِ وزيره يُوسُف بن عِيسَى بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة وَيَعْقُوب بن آصناك فِي خَمْسَة آلَاف فَارس فَسَارُوا إِلَى مراكش وبرز يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد إِلَى حربهم وَعبر إِلَيْهِم وَادي أم الرّبيع فَالْتَقوا مَعَه على ضفته الشرقية فهزموه وَعَاد إِلَى مراكش وَاتبعهُ الْوَزير وَدخل ابْن أبي عياد مراكش فَقتل جمَاعَة من جند الفرنج الَّذين بهَا وسبى ذَرَارِيهمْ وَخرج مِنْهَا إِلَى أغمات فَلم يسْتَقرّ بهَا ثمَّ إِلَى جبال هسكورة فَنزل على كبيرها مخلوف بن هنو الهسكوري وَلحق بِهِ مُوسَى بن سعيد الصبيحي من أغمات تدلى من سورها فلحق بِهِ
وَدخل السُّلْطَان أَبُو ثَابت مراكش منتصف رَجَب من سنة سبع وَسَبْعمائة وَأمر بقتل أوربة المداخلين لِابْنِ أبي عياد فِي انتزائه فاستلحموا جَمِيعًا وَلما لحق ابْن أبي عياد بمخلوف بن هنو الهسكوري واستجار بِهِ فَلم يجره على السُّلْطَان أبي ثَابت بل قبض عَلَيْهِ مَعَ ثَمَانِيَة من كبار أَصْحَابه وبعثهم فِي(3/93)
الْحَدِيد إِلَيْهِ وَهُوَ بمراكش فَقتلُوا فِي مصرع وَاحِد بعد أَن مثل بهم بالسياط وَبعث بِرَأْس ابْن أبي عياد إِلَى فاس فطيف بِهِ وَنصب على سورها ثمَّ أثخن أَبُو ثَابت فِي كل من كَانَ على رَأْي ابْن أبي عياد وخاض مَعَه فِي الْفِتْنَة فاستلحم مِنْهُم بمراكش مَا ينيف على الستمائة وصلبهم على سورها من بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش إِلَى برج دَار الْحرَّة عزونه وَقتل فِي أغمات مِنْهُم مثل ذَلِك وَخرج منتصف شعْبَان إِلَى منازلة السكسيوي وتدويخ جِهَات مراكش فَنزل بتامزوارت وتلقاه السكسيوي بالبيعة والهدية والضيافة فَقبل السُّلْطَان أَبُو ثَابت ذَلِك مِنْهُ ثمَّ بعث قائده يَعْقُوب بن آصناك فِي جَيش من ثَلَاثَة آلَاف فَارس إِلَى بِلَاد حاحة برسم غَزْو قبائل زكنة فَفرُّوا بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخلُوا بِلَاد الْقبْلَة وَانْقطع أَثَرهم وَرجع إِلَى معسكر السُّلْطَان بتامزوارت وَأخْبرهُ بِسُكُون الْبِلَاد وأمنها فانكفأ السُّلْطَان أَبُو ثَابت رَاجعا إِلَى مراكش فَدَخلَهَا غرَّة رَمَضَان من سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ خرج مِنْهَا فِي منتصفه قَاصِدا رِبَاط الْفَتْح فاجتاز على بِلَاد صنهاجة وَعبر وَادي أم الرّبيع من مشرع كتامة فِي القوارب لزِيَادَة المَاء يَوْمئِذٍ ثمَّ ارتحل فاجتاز بِبِلَاد تامسنا فَتَلقاهُ بهَا عرب جشم من قبائل الْخَلْط وسُفْيَان وَبني جَابر والعاصم فاستصحبهم مَعَه إِلَى مَدِينَة آنفي بعد أَن استأذنوه فِي الرُّجُوع فَلم يَأْذَن لَهُم وَلما أحتل بآنفي دَعَا بأشياخهم فَحَضَرُوا عِنْده فَقبض على سِتِّينَ مِنْهُم أودعهم سجن آنفى وَضرب أَعْنَاق عشْرين من فسادهم القاطعين للسبل وصلبهم على سور آنفى ثمَّ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فدخله فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان فعيد هُنَالك عيد الْفطر وَقتل بِهِ ثَلَاثِينَ من فتاك لعرب المتهمين بالحرابة وَقطع الطَّرِيق وصلبهم على أسوار العدوتين ثمَّ ارتحل منتصف شَوَّال لغزو عرب ريَاح الموطنين بِأبي طَوِيل وفحص آزغار وبلاد الهبط فغزاهم وَأَخذهم بالإجن الْقَدِيمَة فَقتل مِنْهُم خلقا وسبى ذَرَارِيهمْ وانتهب أَمْوَالهم ونهض إِلَى فاس فاحتل بهَا منتصف ذِي الْقعدَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى ثمَّ نَهَضَ إِلَى سبتة على مَا نذكرهُ(3/94)