بِدِمَشْق إِلَى مذْهبه وأعانه وَزِير بوري طَاهِر بن سعد المزدغاني وَسلم إِلَى بهْرَام قلعة بانياس فَعظم بهْرَام وَملك بِالشَّام عدَّة حصون بالجبال، وَقَاتل أهل وَادي التيم فَقتل بهْرَام وَقَامَ مقَامه بقلعة بانياس رجل مِنْهُم يُسمى إِسْمَاعِيل، وَأقَام الْوَزير المزدغاني عوض بهْرَام بِدِمَشْق رجلا اسْمه أَبُو الوفا وَعظم أَبُو الوفا حَتَّى صَار الحكم لَهُ بِدِمَشْق، فكاتب الفرنج ليسلم إِلَيْهِم دمشق ويعوضوه بصور وَجعلُوا موعدهم يَوْم الْجُمُعَة ليجعل أَصْحَابه على بَاب الْجَامِع، وَعلم بوري بذلك فَقتل المزدغاني وَأمر النَّاس فثاروا بالإسماعيلية فَقتل بِدِمَشْق سِتَّة آلَاف إسماعيلي، وَوصل الفرنج إِلَى الميعاد وحصروا دمشق فَلم يظفروا بِشَيْء، وَاشْتَدَّ الشتَاء فرحلوا كالمنهزمين وتبعهم بوري بالعسكر فَقتلُوا عدَّة كَثِيرَة، وَسلم إِسْمَاعِيل الباطني قلعة بانياس إِلَى الفرنج وَصَارَ مَعَهم.
وفيهَا: ملك زنكي حماة فَإِن سونج بن بوري كَانَ نَائِب أَبِيه بحماة وَكَانَ قد سَار زنكي من الْموصل إِلَى الشَّام، وَعبر الْفُرَات واستنجد ببوري على الفرنج فَأمر بوري سونج بِالْمَسِيرِ من حماة إِلَى زنكي فغدر زنكي بسونج وارتكب أمرا شنيعاً من الْقَبْض عَلَيْهِ، وَنهب عسكره وخيامه، واعتقله فِي جمَاعَة من مقدمي عسكره بحلب، وَسَار من وقته فَملك حماة لخلوها من الْجند.
ثمَّ حاصر حمص مُدَّة وَكَانَ قد غدر أَيْضا بصاحبها قرجان بن قراجة وَقبض عَلَيْهِ وأحضره صحبته إِلَى حمص، وَأمره أَن يَأْمر ابْنه وَعَسْكَره بِتَسْلِيم حمص فَأَمرهمْ فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا يأس زنكي مِنْهَا عَاد إِلَى الْموصل بسونج وأمراء دمشق واستمرهم معتقلين وبذل لَهُ بوري أَمْوَالًا فِي ابْنه سونج فَلم يتَّفق حَال.
وفيهَا ملك الفرنج: القدموس.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح أسعد بن أبي نصر الشَّافِعِي مدرس النظامية، وطريقته مَشْهُورَة فِي الْخلاف، وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم عِنْد الْخَلِيفَة وَالنَّاس.
وفيهَا: توفّي الشريف حَمْزَة بن هبة الله بن مُحَمَّد الْعلوِي الْحُسَيْنِي النَّيْسَابُورِي سمع الحَدِيث الْكثير وَرَوَاهُ جمع بَين شرف النَّفس وَالنّسب وَالتَّقوى، وَكَانَ زيدي الْمَذْهَب، ومولده سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا اشْتَدَّ ضَرَر الفرنج بحصن الأثارب على الْمُسلمين حَتَّى قاسموا أهل حلب على أَعمالهَا الغربية حَتَّى طاحون الغربية، فَسَار عماد الدّين زنكي من الْموصل ونازله، وَجمع الفرنج وقصدوه، فَترك الْحصار وَقَاتلهمْ أَشد قتال، فَانْهَزَمَ الفرنج وَأسر كثير من فرسانهم وَقتل كثيرا، ثمَّ عَاد زنكي فَأخذ الأثارب عنْوَة وَقتل وَأسر كل من فِيهِ، وَجعل الْحصن دكاً إِلَى الْآن.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة (توفّي الْآمِر) بِأَحْكَام الله مَنْصُور بن المستعلي بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر وثب عَلَيْهِ فِي المنتزه الباطنية فَقَتَلُوهُ وولايته تسع وَعِشْرُونَ سنة(2/34)
وَخَمْسَة أشهر وَخَمْسَة عشر يَوْمًا، وعمره أَربع وَثَلَاثُونَ سنة، وَهُوَ الْعَاشِر من ولد الْمهْدي، وَهُوَ الْعَاشِر من الْخُلَفَاء العلويين، وَلما قتل لم يكن لَهُ ولد فولي ابْن عَمه الْحَافِظ عبد الْمجِيد بن أبي الْقَاسِم بن الْمُسْتَنْصر صُورَة نَائِب عَسى أَن يظْهر للْآمِر حمل واستوزر أَبَا عَليّ أَحْمد بن الْأَفْضَل بن بدر الجمالي فتغلب على الْحَافِظ وَنقل مَا بِالْقصرِ إِلَى دَاره وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن قتل أَبُو عَليّ كَمَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: كَانَ الرصد بِالدَّار السُّلْطَانِيَّة شَرْقي بَغْدَاد، تولاه البديع الأسطرلابي وَلم يتم.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان مَسْعُود قلعة ألموت.
وفيهَا توفّي إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن مُحَمَّد الْغَزِّي، وَدفن ببلخ، وَهُوَ من غَزَّة، ومولده سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَهُوَ من الشُّعَرَاء المجيدين، لَهُ قصيدة فِي مدح التّرْك مِنْهَا:
(أمط عَن الدُّرَر الزهر اليواقيتا ... وَاجعَل لحج تلاقينا مواقيتا)
(فِي فتية من جيوش التّرْك مَا تركت ... للرعد كراتهم صَوتا وَلَا صيتًا)
(قوم إِذا قوبلوا كَانُوا مَلَائِكَة ... حسنا وَإِن قوتلوا كَانُوا عفاريتا)
ثمَّ ترك الشّعْر وَقَالَ:
(قَالُوا هجرت الشّعْر قلت ضَرُورَة ... بَاب البواعث والدواعي مغلق)
(خلت الْبِلَاد فَلَا كريم يرتجى ... مِنْهُ النوال وَلَا مليح يعشق)
(وَمن الْعَجَائِب أَنه لَا يَشْتَرِي ... ويخان فِيهِ مَعَ الكساد وَيسْرق)
قلت: وَله وَقد كبر وَضعف:
(طول حَيَاة مَا لَهَا طائل ... نغض عِنْدِي كل مَا يشتهى)
(أَصبَحت مثل الطِّفْل فِي ضعفه ... تناسب المبدأ والمنتهى)
وَللَّه قَوْله:
(خُذ مَا صفا لَك فالحياة غرور ... والدهر يعدل تَارَة ويجور)
(هُوَ مذنب وعلاك من حَسَنَاته ... كالنار محرقة وفيهَا النُّور)
(بَادر فَإِن الْوَقْت سيف قَاطع ... والعمر جَيش والشباب أَمِير)
وَقَوله:
(قَالُوا نزلت فَقلت الدَّهْر أقسم بِي ... لَا وَجه للرفع فِي الْمَجْرُور بالقسم)
وَقَوله:
(أما الخيال فَمَا قبلت مِنْهُ فَمَا ... بل كَانَ حظي من إلمامه ألما)
(وافى عبوساً فَمَا استوفيت رُؤْيَته ... باللحظ حَتَّى تلاه الْفجْر مُبْتَسِمًا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة " أسر دبيس بن صَدَقَة ": سَببه مسيره من(2/35)
الْعرَاق إِلَى صرخد فَإِن صَاحب صرخد الحصني توفّي، فاستولت سريته إِلَى قلعتها بِمَا فِيهَا، واستدعت دبيساً للتزوج بِهِ اسْتِدَامَة للجاه، فضل الدَّلِيل بدبيس فَنزل بناس من كلب شَرْقي الغوطة، فَحَمَلُوهُ إِلَى بوري صَاحب دمشق فِي شعْبَان مِنْهَا فحبسه بوري، وَبلغ ذَلِك زنكي فَأرْسل يَطْلُبهُ مِنْهُ وَيُطلق عوضه ابْنه سونج وَأَصْحَابه حَسْبَمَا مر، فَأَجَابَهُ بوري إِلَى ذَلِك وَأطلق زنكي الْمَذْكُورين وتسلم دبيساً، فأيقن دبيس بِالْهَلَاكِ لِكَثْرَة مَا وَقع مِنْهُ فِي حق زنكي، فعامله زنكي بِخِلَاف ظَنّه، وأكرمه وَحمل إِلَيْهِ الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب، وَقدمه على نَفسه، وَبعث المسترشد الْخَلِيفَة يطْلب مِنْهُ دبيساً مَعَ سديد الدولة بن الْأَنْبَارِي وَأبي بكر بن بشر الْجَزرِي، فَأَمْسَكَهُمَا زنكي وأوقع بِابْن بشر مَكْرُوها، ثمَّ شفع المسترشد فِي ابْن الْأَنْبَارِي فَأَطْلقهُ، وَاسْتمرّ دبيس عِنْد زنكي، وَسَيَأْتِي بَاقِي خَبره.
وفيهَا: فِي شَوَّال (توفّي السُّلْطَان مَحْمُود) بن مُحَمَّد بن ملك شاه ابْن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق بهمدان، وعمره نَحْو سبع وَعشْرين سنة، وَكسر، فاجلس وزيره أَبُو الْقَاسِم النساباذي ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود فِي السلطنة وَصَارَ أتابكه أقسنقر الأحمديلي، وَكَانَ حَلِيمًا عَاقِلا.
وفيهَا: وَثَبت الباطنية على تَاج الْمُلُوك بوري بن طغتكين صَاحب دمشق فجرحوه جرحين برأَ أَحدهمَا وتنسر الآخر فأضعفه.
وفيهَا: توفّي حَمَّاد بن مُسلم الرحي الدباس الزَّاهِد الْمَشْهُور لَهُ كرامات وَسمع الحَدِيث، وَله تلاميذ كَثِيرُونَ وَلَا مبالاة بثلب أبي الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا قتل أَبُو عَليّ بن الْأَفْضَل الجمالي وَزِير الْحَافِظ الْعلوِي كَانَ قد حجر على الْحَافِظ حَتَّى خطب لنَفسِهِ خَاصَّة، وَقطع من الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل فنفرت الشِّيعَة مِنْهُ وقتلته المماليك فِي لعب الكرة، ونهبت دَاره، وَخرج الْحَافِظ من الاعتقال وَنقل مَا فِي دَار أبي عَليّ إِلَى الْقصر، وبويع الْحَافِظ يَوْم قَتله واستوزر أَبَا الْفَتْح يانس الحافظي، وَمَات يانس بعد قَلِيل فاستوزر ابْن الْحسن نَفسه وخطب لَهُ بِولَايَة الْعَهْد.
ثمَّ قتل الْحسن سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة فَإِنَّهُ تغلب على الْأَمر، وصادر النَّاس، فسمه أَبوهُ، واستوزر بهْرَام النَّصْرَانِي فتحكم وَاسْتعْمل الأرمن على النَّاس وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: طلب مَسْعُود أَخذ السلطنة من ابْن أَخِيه دَاوُد بن مَحْمُود، وَكَذَلِكَ طلب سلجوق بن مُحَمَّد صَاحب فَارس السلطنة، وَقدم سلجوق بَغْدَاد وَاتفقَ مَعَ الْخَلِيفَة، واستنجد مَسْعُود بزنكي فَسَار إِلَى بَغْدَاد لقِتَال الْخَلِيفَة وسلجوق، فقاتله قراجة أتابك سلجوق، فَانْهَزَمَ زنكي إِلَى تكريت وَكَانَ الدزدار بهَا نجم الدّين أَيُّوب فَأَقَامَ لَهُ المعابر فَعبر عماد الدّين زنكي وَسَار إِلَى بِلَاده وَهَذَا سَبَب اتِّصَال نجم الدّين أَيُّوب بزنكي، ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن السلطنة لمسعود وَولَايَة الْعَهْد السلجوق وعادوا إِلَى بَغْدَاد وَنزل مَسْعُود بدار(2/36)
السُّلْطَان وسلجوق بدارالشحنكية، وَكَانَ اجْتِمَاعهم فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا ثمَّ أقبل سنجر من خُرَاسَان وَمَعَهُ طغرل بك ابْن أَخِيه السُّلْطَان مُحَمَّد لأخذ السلطنة من مَسْعُود، وَجرى المصاف بَينه وَبَين مَسْعُود وسلجوق، فَانْهَزَمَ مَسْعُود، ثمَّ أَمن سنجر مسعوداً فَحَضَرَ عِنْده وَقَبله وعاتبه وَأَعَادَهُ إِلَى كنجة، وأجلس الْملك طغرل بك فِي السلطنة، وخطب لَهُ ثمَّ عَاد سنجر إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا: سَار زنكي وَمَعَهُ دبيس بن صَدَقَة فقاتل الْخَلِيفَة بحصن البرامكة فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب فَهزمَ زنكي ميمنة الْخَلِيفَة وَحمل الْخَلِيفَة بِنَفسِهِ وَبَقِيَّة الْعَسْكَر فَانْهَزَمَ دبيس ثمَّ زنكي.
وفيهَا: توفّي تَاج الْمُلُوك بوري بِسَبَب جرح الباطنية حَسْبَمَا مر فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب، وإمارته أَربع سِنِين وَكسر، ووصى بِالْملكِ لِابْنِهِ شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل، ووصى ببعلبك وأعمالها لوَلَده شمس الدولة مُحَمَّد، ثمَّ استولى مُحَمَّد على حصني الرَّأْس واللبوة فكاتب إِسْمَاعِيل أَخَاهُ مُحَمَّدًا فِي إعادتهما فَأبى فافتتحهما إِسْمَاعِيل وقررهما وَحصر أَخَاهُ ببعلبك وَملك الْمَدِينَة وَحصر القلعة فَسَأَلَهُ مُحَمَّد الصفح فَأَجَابَهُ وَأبقى عَلَيْهِ بعلبك وَعَاد إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا سَار شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل بن بوري فِي غَفلَة، وَفتح مَدِينَة بانياس بِالسَّيْفِ، ثمَّ قلعتها بالأمان من أَيدي الفرنج.
وفيهَا: جرى بَين مَسْعُود وَمَعَهُ ابْن أَخِيه دَاوُد وَبَين أَخِيه طغرل بك قتالاً شَدِيدا انهزم فِيهِ طغرل بك وَاسْتولى مَسْعُود على الباطنية وطرد طغرل بك حَتَّى إِلَى الرّيّ فاقتتلا ثَانِيًا فَانْهَزَمَ طغرل بك أَيْضا وَأسر جمَاعَة من أمرائه.
وفيهَا: حصر الْخَلِيفَة المسترشد الْموصل ثَلَاثَة أشهر، وَكَانَ زنكي قد خرج مِنْهَا إِلَى سنجار، ثمَّ عَاد الْخَلِيفَة وَلم يظفر بهَا.
وفيهَا: حاصر إِسْمَاعِيل بن بوري حماه وَهِي لزنكي من حِين غدر بسونج، وَقَاتل من بهَا يَوْم عيد الْفطر وَعَاد لم يملكهَا، ثمَّ بكر وزحف من جنباتها فملكها عنْوَة وَأمن أَهلهَا وَحصر القلعة وَلم تكن حَصِينَة لِأَن تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي النَّاصِر صَلَاح الدّين قطع جبلها فِيمَا بعد، وعملها على هيئتها الْآن، فعجز النَّائِب عَن حفظهَا فسلمها إِلَى إِسْمَاعِيل وَمَا بهَا من ذخائر فِي شَوَّال مِنْهَا، ثمَّ حاصر قلعة شيزر فصانعه صَاحبهَا بِمَال فَعَاد عَنْهَا.
وفيهَا: اجْتمع التركمان إِلَى نَحْو طرابلس فَخرج فرنجها واقتتلوا فَانْهَزَمَ الفرنج وَسَار القومص صَاحب طرابلس وَمن مَعَه وانحصروا فِي حصن بعرين، وحصرهم التركمان فِيهِ، ثمَّ هرب القومص من الْحصن فِي عشْرين فَارِسًا وَجمع الفرنج وقصدوا التركمان فَعَادَت التركمان عَنْهُم.
وفيهَا: اشترت الإسماعيلية حصن القدموس من صَاحبه ابْن عمرون.(2/37)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر وثب على شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل بعض مماليك جده طغتكين بِسيف فَلم يعْمل فِيهِ وقبضوا الواثب فَقَالَ: أردْت إراحة الْمُسلمين من ظلمك، وَأقر من الضَّرْب على جمَاعَة فَقَتلهُمْ من غير تَحْقِيق وَقتل مَعَ ذَلِك الشَّخْص أَخَاهُ سونج بن بوري، فنفرت الْقُلُوب من إِسْمَاعِيل بقتل أَخِيه.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن يعلى بن عوض الْهَرَوِيّ الْوَاعِظ أَكثر من سَماع الحَدِيث، وَله ذكر بخراسان.
وفيهَا: توفّي أَبُو فليتة أَمِير مَكَّة فوليها أَبُو الْقَاسِم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم سَار شمس الْمُلُوك صَاحب دمشق وتغلب على حصن الشقيف وَأَخذه من الضَّحَّاك بن جندل رَئِيس وَادي التيم فَعظم على الفرنج وَرفعت الْهُدْنَة بَينهم وَبَين شمس الْمُلُوك.
وفيهَا: استولى عماد الدّين زنكي على قلاع الأكراد الحميدية مِنْهَا الْعقر وشوش، ثمَّ على قلاع الهكارية وكواشي.
وفيهَا: أوقع ابْن الدانشمند صَاحب ملطية بفرنج الشَّام فَقتل مِنْهُم كثيرا.
وفيهَا: اصْطلحَ الْخَلِيفَة وعماد الدّين زنكي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم مَاتَ السُّلْطَان طغرل بك بن السُّلْطَان مُحَمَّد بعد هزيمته من أَخِيه مَسْعُود، وَقد استولى على بِلَاد الْجَبَل ومولده سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فِي الْمحرم.
وَكَانَ خيرا عَاقِلا وَبلغ أَخَاهُ ذَلِك فَسَار نَحْو هَمدَان وَأَقْبَلت العساكر إِلَيْهِ فاستولى على هَمدَان وأطاعته الْبِلَاد جَمِيعًا.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قتل شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق، ومولده سنة سِتّ وَخَمْسمِائة. وَقيل: كرهت أمة ظلمه الرّعية فَوَافَقت على قَتله، وَقيل: اتهمت بشخص من أَصْحَاب أَبِيه اسْمه يُوسُف بن فَيْرُوز فخافته فسر قَتله النَّاس، وَملك بعده أَخُوهُ شهَاب الدّين مَحْمُود بن بوري، وَحلف لَهُ النَّاس.
وفيهَا: بعد قتل شمس الْمُلُوك حاصر زنكي دمشق فَلم يجد فِيهَا مطعماً فَعَاد إِلَى بِلَاده.
وفيهَا: كَانَت الْحَرْب بَين الْخَلِيفَة المسترشد وَبَين السُّلْطَان مَسْعُود فِي عَاشر رَمَضَان فَصَارَ غَالب عَسْكَر الْخَلِيفَة مَعَ مَسْعُود وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَأسر الْخَلِيفَة وَسَار مَسْعُود من هَمدَان إِلَى مراغة فِي شَوَّال لقِتَال ابْن أَخِيه دَاوُد بن مَحْمُود وَأنزل الْخَلِيفَة فِي خيمة مُنْفَرِدَة، وَاتفقَ وُصُول السُّلْطَان سنجر فَركب مَسْعُود والعساكر لتلقيه فَوَثَبت الباطنية على المسترشد فِي الْخَيْمَة فَقَتَلُوهُ ومثلوا بِهِ وجدعوا أَنفه وَأُذُنَيْهِ فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر ذِي الْقعدَة وعمره(2/38)
ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ، وَأم المسترشد أم ولد، وَكَانَ فصيحاً حسن الْخط شجاعاً.
" فبويع ابْنه الراشد بِاللَّه " وَهُوَ الثَّلَاثُونَ مِنْهُم أَبُو جَعْفَر مَنْصُور بن المسترشد فضل بن المستظهر مَعَ عهد سبق من أَبِيه وَذَلِكَ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة مِنْهَا، وَكتب مَسْعُود إِلَى بَغْدَاد بذلك فَحَضَرَ بيعَته أحد وَعِشْرُونَ من أَبنَاء الْخُلَفَاء.
وفيهَا: قتل السُّلْطَان مَسْعُود دبيس بن صَدَقَة بِظَاهِر خوي، وَكَانَ ابْنه صَدَقَة بالحلة فَلَمَّا بلغه الْخَبَر اجْتمع عَلَيْهِ عَسْكَر أَبِيه.
وفيهَا: استولى الفرنج على جَزِيرَة جربه من أَعمال إفريقية، وهرب أسر من بهَا من الْمُسلمين.
وفيهَا: صَالح الْمُسْتَنْصر بن هود الفرنج على تَسْلِيم حصن زوطه من الأندلس إِلَى صَاحب طليطلة الفرنجي.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فِيهَا: فِي ربيع الأول تسلم شهَاب الدّين مَحْمُود بن بوري صَاحب دمشق حمص وقلعتها من أَوْلَاد الْأَمِير قرجان لضجرهم من كَثْرَة تعرض زنكي إِلَيْهَا وعوضهم بتدمر، فتابع زنكي الغارات عَلَيْهَا إِلَى أَن صَالحه مَحْمُود بن بوري، فَكف زنكي حِينَئِذٍ عَنْهَا، وفيهَا سَارَتْ عَسَاكِر زنكي الدّين بحلب وحماه ومقدمهم أسوار نَائِب زنكي بحلب إِلَى الفرنج فِي نواحي اللاذقية، وأوقعوا بالفرنج وامتلأوا كسباً وأسراً وعادوا.
خلع الراشد وَولَايَة المقتفي
وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم: كَانَ الراشد قد اتّفق مَعَ زنكي وَغَيره على خلاف السُّلْطَان مَسْعُود وَطَاعَة دَاوُد بن السُّلْطَان مَحْمُود، فَجمع مَسْعُود العساكر وَحصر بَغْدَاد نيفاً وَخمسين يَوْمًا فَلم يظفر بهم، فارتحل إِلَى النهروان، ثمَّ وصل طرنطاي بسفن كَثِيرَة فَعَاد مَسْعُود إِلَى بَغْدَاد وَعبر إِلَى غربي دجلة وَاخْتلف عَسْكَر بَغْدَاد فَعَاد الْملك دَاوُد إِلَى بِلَاد أذربيجان فِي ذِي الْقعدَة، وَسَار الْخَلِيفَة الراشد مَعَ عماد الدّين زنكي إِلَى الْموصل فَسَار مَسْعُود إِلَى بَغْدَاد، وَاسْتقر بهَا فِي منتصف ذِي الْقعدَة، وَجمع الْقُضَاة والأكابر وخلع الراشد لكَونه عاهده أَن لَا يقاتله، وَمَتى خَالف فقد خلع نَفسه، فَكَانَت خلَافَة الراشد أحد عشر شهرا وَأحد عشر يَوْمًا، ثمَّ بَايع المقتفي لأمر الله مُحَمَّد بن المستظهر، والمقتفي عَم الراشد هُوَ والمسترشد ابْنا المستظهر وليا الْخلَافَة، وَكَذَا السفاح والمنصور أَخَوان، وَكَذَا الْمهْدي والرشيد أَخَوان، وَكَذَلِكَ الواثق والمتوكل.
وَأما ثَلَاثَة ولوا الْخلَافَة: فالأمين والمأمون والمعتصم أَوْلَاد الرشيد، وَكَذَا المقتفي والمقتدر والقاهر بَنو المعتضد، والراضي والمتقي والمطيع بَنو المقتدر، وَأما أَرْبَعَة ولوها: فالوليد، وَسليمَان، وَيزِيد، هِشَام بَنو عبد الْملك لَا يعرف غَيرهم، وَعمل بخلع الراشد محضراً أرْسلهُ إِلَى الْموصل.(2/39)
وَزَاد المقتفي فِي أقطاع زنكي وألقابه، وَحكم بالمحضر قَاضِي الْقُضَاة الزَّيْنَبِي بالموصل، وخطب للمقتفي فِي الْموصل فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزل الْحَافِظ وزيره بهْرَام النَّصْرَانِي الأرمني لتوليته الأرمن، ثمَّ ترهب بهْرَام، واستوزر الْحَافِظ مَكَانَهُ رضوَان بن الوكخشي، وَكَانَ أكبر الآنفين من تَوْلِيَة بهْرَام، ولقب رضوَان الْملك الْأَفْضَل فَهُوَ أول وَزِير للمصريين لقب بِالْملكِ، ثمَّ وجد الْحَافِظ على رضوَان فهرب مِنْهُ، وَفِي الآخر قَتله وَلم يستوزر بعده.
وفيهَا: نَازل زنكي حمص وَبهَا صَاحبهَا معِين الدّين أنز أقطعه إِيَّاهَا مَحْمُود بن بوري فَإِن أنز مَمْلُوك جده فَمَا ظفر بهَا زنكي فارتحل عَنْهَا فِي الْعشْرين من شَوَّال إِلَى بعرين وحصرالفرنج بقلعتها، وَجمع الفرنج وجاؤوه ليدفعوه عَنْهَا، فَاقْتَتلُوا شَدِيدا فَانْهَزَمَ الفرنج وَدخل كثير من مُلُوكهمْ الهاربين إِلَى حصن بارين، فعاود زنكي الْحصار لَهُم فطلبوا الْأمان فقرر عَلَيْهِم تَسْلِيم الْحصن، وَخمسين ألف دِينَار يحملونها إِلَيْهِ فَأَجَابُوا فَأَطْلَقَهُمْ وتسلم الْحصن وَالذَّهَب.
وَكَانَ زنكي فِي مُدَّة مقَامه على بارين قد فتح المعرة وكفرطاب أخذهما من الفرنج وَحضر أهل المعرة وطلبوا تَسْلِيم أملاكهم الَّتِي كَانَ قد أَخَذتهَا الفرنج، فَطلب كتب أملاكهم فَذكرُوا أَنَّهَا عدمت فكشف من ديوَان حلب على الْخراج وَأَفْرج عَن كل ملك كَانَ عَلَيْهِ الْخراج لأَصْحَابه.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان أَن الفرنج ملكوا معرة النُّعْمَان فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة، واستمرت بأيدي الفرنج إِلَى أَن فتحهَا عماد الدّين زنكي بن أقسنقر سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَمن على أَهله بأملاكهم والتفاوت بَين التاريخين يسير لكنه مُخْتَلف، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم ملك زنكي حصن المجدل من صَاحب دمشق وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وحاصر حمص ثمَّ رَحل عَنْهَا إِلَى سلميه لنزول الرّوم على حلب كَمَا سَيَأْتِي.
ثمَّ عَاد ونازل حمص فتسلم الْمَدِينَة والقلعة وَأرْسل زنكي وخطب أم شهَاب الدّين مَحْمُود صَاحب دمشق وَتَزَوجهَا وَهِي زمرد خاتون بنت جاولي الَّتِي قتلت ابْنهَا إِسْمَاعِيل وَهِي الَّتِي بنت الْمدرسَة المطلة على وَادي الشقرا ظَاهر دمشق، وحملت إِلَيْهِ فِي رَمَضَان تزَوجهَا طَمَعا فِي دمشق فَمَا خَابَ أمله أعرض عَنْهَا.
قلت: وعوقبت بِالْحَاجةِ إِلَى أَن تزوجت بباقلاني فَكَانَ إِذا غضب عَلَيْهَا لطمها فَتَقول لَهُ: لَو عَرفتنِي مَا لطمتني، وَالله أعلم.(2/40)
فعل ملك الرّوم بِالشَّام
خرج ملك الرّوم من بِلَاده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فاشتغل بِقِتَال الأرمن وَصَاحب أنطاكية وَغَيره.
وَفِي هَذِه السّنة وصل إِلَى الشَّام وحاصر بزاعة وملكها بالأمان وَهِي بَين حلب ومنبج فِي نصف الطَّرِيق فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَجَب، ثمَّ غدر بِأَهْلِهَا فَقتل وسبى وَأسر، وَتَنصر قاضيها وَنَحْو أَرْبَعمِائَة نفس خوفًا من الْقَتْل، ثمَّ رَحل عَنْهَا بعد عشرَة أَيَّام بِمن مَعَه من الفرنج إِلَى حلب وَنزل على قونق وَجرى بَينه وَبَين أهل حلب قتال كثير فَقتل من الرّوم بطرِيق عَظِيم فعادوا خاسرين وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام رحلوا إِلَى الأثارب وملكوها وَتركُوا بهَا سَبَايَا بزاعة، وَعِنْدهم من الرّوم من يحفظهم، وَسَار ملك الرّوم بمجموعة نَحْو شيزر فَخرج أسوار نَائِب زنكي بحلب بِمن عِنْده وأوقع بالروم فِي الأثارب وقتلهم واستفلت أسرى بزاعة وسباياها، وَنصب ملك الرّوم على شيرز ثَمَانِيَة عشر منجنيقاً فاستنجد صَاحب شيزر أَبُو العساكر سُلْطَان بن عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ الْكِنَانِي زنكي فَسَار زنكي وَنزل على العَاصِي بَين حماة وشيزر، فَكَانَ زنكي كل يَوْم يركب فِي عسكره ويشرفون على الرّوم، وَيُرْسل السَّرَايَا فَيَأْخُذُونَ كل مَا ظفروا بِهِ مِنْهُم إِلَى أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ رحلوا عَنْهَا خائبين، وتبعهم زنكي فظفر بِكَثِير من المتخلفين مِنْهُم. وَفِيه يَقُول مُسلم بن خضر بن قسيم الْحَمَوِيّ:
(بعزمك أَيهَا الْملك الْعَظِيم ... تذل لَك الصعاب وتستقيم)
(ألم تَرَ أَن كلب الرّوم لما ... تبين أَنه الْملك الرَّحِيم)
(وَقد نزل الزَّمَان على رِضَاهُ ... ودان لخطبه الْخطب الجسيم)
(فحين رميته بك عَن خَمِيس ... تَيَقّن فَوت مَا أَمْسَى يروم)
(كَأَنَّك فِي العجاج شهَاب نور ... توقد وَهُوَ شَيْطَان رجيم)
(أَرَادَ بَقَاء مهجته فولى ... وَلَيْسَ سوى الْحمام لَهُ حميم)
مقتل الراشد
ثمَّ أَن الراشد بعد خلعه وذهابه مَعَ زنكي إِلَى الْموصل سَار إِلَى مراغة، وَاتفقَ مَعَ الْملك دَاوُد بن مَحْمُود وملوك تِلْكَ الْأَطْرَاف على قتال السُّلْطَان مَسْعُود رَجَاء الْعود إِلَى الْخلَافَة، فَسَار إِلَيْهِم مَسْعُود واقتتلوا فَانْهَزَمَ دَاوُد وَغَيره، وَبَقِي مَسْعُود وَحده لاشتغال أَصْحَابه بِالْكَسْبِ فَحمل عَلَيْهِ الأميران يوزا بِهِ وَعبد الرَّحْمَن طغايرك، فَانْهَزَمَ مَسْعُود مِنْهُمَا، وَقبض يوزا بِهِ على جمَاعَة من أمرائه وعَلى صَدَقَة بن دبيس صَاحب الْحلَّة ثمَّ قَتلهمْ أجميعن، والراشد إِذْ ذَاك بهمدان، وَسَار الْملك دَاوُد إِلَى فَارس، وَبَقِي الراشد وَحده فَسَار إِلَى أصفهان، فَفِي الْخَامِس وَالْعِشْرين وثب عَلَيْهِ نفر من الخراسانية الَّذين مَعَه فَقَتَلُوهُ وَهُوَ(2/41)
يُرِيد القيلولة وَهُوَ من أثر مرض، وَدفن بشهرستان وجلسوا لعزائه فِي بَغْدَاد يَوْمًا وَاحِدًا.
وفيهَا: ملك تمرتاش صَاحب ماردين قلعة الهناخ من ديار بكر من آخر مُلُوك بني مَرْوَان.
وفيهَا: قتل السُّلْطَان مَسْعُود البخشي شحنة بَغْدَاد.
وفيهَا: زلزل الشَّام وَالْعراق وَغَيره فَهَلَك خلق بالخراب والردم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وخسمائة: فِيهَا فِي الْمحرم سَار سنجر بجموعه إِلَى خوارزم شاه أتسز بن مُحَمَّد أنوش تكين فتقاتلا بخوارزم، فَانْهَزَمَ أتسز خوارزم شاه، وَاسْتولى سنجر على خوارزم واستناب بهَا وَعَاد إِلَى مرو فِي جُمَادَى الآخر مِنْهَا وَبعد عوده استولى عَلَيْهَا أتسز.
وفيهَا: فِي شَوَّال (قتل شهَاب الدّين مَحْمُود) بن بوري بن طغتكين صَاحب دمشق قَتله على فرَاشه ثَلَاثَة من خَواص غلمانه وهربوا من القلعة فنجى أحدهم وصلب الِاثْنَان، واستدعى معِين الدّين أنز أَخَاهُ جمال الدّين مُحَمَّد بن بوري وَكَانَ صَاحب بعلبك وَملكه دمشق.
وفيهَا فِي ذِي الْقعدَة: حاصر زنكي بعلبك وَنصب عَلَيْهَا أَرْبَعَة عشر منجنيقاً ثمَّ أَمن الْمَدِينَة وتسلمها، ثمَّ أَمن القلعة وتسلمها، ثمَّ غدر بهم فَأمر بهم فصلبوا فاستقبح النَّاس ذَلِك، مِنْهُ وحذر، وَكَانَت بعلبك لمُعين الدّين أنز أعطَاهُ إِيَّاهَا جمال الدّين مُحَمَّد لما ملك دمشق، وَكَانَ أنز قد تزوج بِأم جمال الدّين مُحَمَّد صَاحب دمشق، وَله جَارِيَة يُحِبهَا فأخرجها أنز إِلَى بعلبك، فَلَمَّا ملك زنكي بعلبك تزوج تِلْكَ الْجَارِيَة وَدخل بهَا فِي حلب، وَبقيت حَتَّى قتل زنكي على قلعة جعبر فأرسلها ابْنه نور الدّين مَحْمُود بن زنكي إِلَى أنز فَكَانَت أعظم الْأَسْبَاب فِي مودتهما.
وفيهَا: توالت زلازل الشَّام وَخَربَتْ وَلَا سِيمَا فِي حلب فأنهم فارقوا بُيُوتهم إِلَى الصَّحرَاء، ودامت من رَابِع صفر إِلَى تَاسِع عشرَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر زنكي دمشق، وبذل لصَاحِبهَا جمال الدّين مُحَمَّد بعلبك وحمص فَلم يأمنوه لغدره بِأَهْل بعلبك، نزل على داريا من ثَالِث عشر ربيع الأول منازلاً لدمشق فَمَرض جمال الدّين مُحَمَّد بن بوري صَاحب دمشق وَمَات فِي ثامن شعْبَان، فَشدد زنكي الْقِتَال طَمَعا لذَلِك فَلم ينلها، وَأقَام معِين الدّين أنز فِي الْملك مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن بوري بن طغتكين، وَاسْتمرّ انز يدبر الدولة، ثمَّ رَحل زنكي وَنزل غَدا من المرج وأحرق فِي قرى المرج وَعَاد إِلَى بِلَاده.
وفيهَا: ملك زنكي شهرزور من صَاحبهَا قبجق بن أرسلان شاه التركماني، وَبَقِي قبجق من عَسْكَر زنكي.(2/42)
وفيهَا: قتلت الباطنية المقرب جوهراً من كبراء عَسْكَر سنجر وَمن جملَة إقطاعه الرّيّ وقفُوا لَهُ فِي زِيّ النِّسَاء.
وفيهَا: توفّي هبة الله بن الْحُسَيْن بن يُوسُف البديع الأصطرلابي، لَهُ فِي الْآلَات الفلكية الْيَد الطُّولى، وَله شعر جيد.
قلت مِنْهُ:
(أهدي لمجلسه الْكَرِيم وَإِنَّمَا ... أهدي لَهُ مَا حزت من نعمائه)
(كالبحر يمطره السَّحَاب وَمَاله ... فضل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من مَائه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا وصل رَسُول السُّلْطَان سنجر وَمَعَهُ بردة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والقضيب أخذا من المسترشد وأعيدا إِلَى المقتفي.
وفيهَا: ملك الإسماعيلية حصن مصياث بِالشَّام، تسلقوا على وَالِي بني منقذ وقتلوه وملكوه.
وفيهَا: توفّي الْفَتْح بن مُحَمَّد بن عبيد الله بن خاقَان قَتِيلا فِي فندق بمراكش، فَاضل فِي الْأَدَب، لَهُ قلائد العقبان أَجَاد فِيهِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا كَانَ المصاف الْعَظِيم بَين التّرْك الْكفَّار من الخطا وَبَين السُّلْطَان سنجر، فَانْهَزَمَ عَسْكَر سنجر وأسرت زَوجته، وَكَانَ خوارزم شاه مَعَ الْكفَّار لكَون سنجر قتل ابْنه، ثمَّ سَار خوارزم شاه أتسز إِلَى خُرَاسَان وَنهب أَمْوَال سنجر وَغَيرهَا، واستقرت دولة الخطا وَالتّرْك الْكفَّار بِمَا رواء النَّهر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح جَيش زنكي قلعة أشب الْعَظِيمَة من أَيدي الأكراد الهكارية وخربوها، وَبنى القلعة الْعمادِيَّة عوضهَا، وَكَانَ حصناً خراباً.
وفيهَا: حصرت فرنج الْبَحْر طرابلس الغرب ثمَّ عَادوا.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن الدانشمند صَاحب ملطية والثغر وَملك بِلَاده الْملك مَسْعُود بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب قونية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا كَانَ الصُّلْح بَين السُّلْطَان مَسْعُود وزنكي.
وفيهَا: فتح زنكي طنزه وأسعرد وحيزان وحصن الدوق وحصن مطليس وحصن باتسية وحصن ذِي القرنين وَأخذ من يَد الفرنج حملين والموزر وتل موزر وَغَيرهَا من حصون جوسلين.
وفيهَا: حصر السُّلْطَان سنجر أتسز بخوارزم، فأطاعه أتسز، فَعَاد عَنهُ سنجر.
وفيهَا: ملك زنكي عانة.(2/43)
وفيهَا: قتل دَاوُد بن السُّلْطَان مَحْمُود بن ملك شاه غيلَة وَلم يعرف قَاتله.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عمر بن مُحَمَّد بن عمر الْخَوَارِزْمِيّ، الزَّمَخْشَرِيّ، ومولده فِي رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، وزمخشر من قرى خوارزم إِمَام عصره غير مدافع متظاهر بالإعتزال، حَنَفِيّ الْمَذْهَب افْتتح كشافه فِي التَّفْسِير بِالْحَمْد لله الَّذِي خلق الْقُرْآن ثمَّ أصلح بعده بِالْحَمْد لله الَّذِي أنزل الْقُرْآن، وَله الْمفصل فِي النَّحْو، وَكم لَهُ من كتاب قدم بَغْدَاد وناظر بهَا وجاور بِمَكَّة سِنِين فَسُمي جَار الله.
وَمن شعره يرثي شَيْخه أَبَا مُضر منصوراً:
(وقائلة مَا هَذِه الدُّرَر الَّتِي ... تساقط من عَيْنَيْك سمطين)
(فَقلت لَهَا الدّرّ الَّذِي كَانَ قد حَشا ... أَبُو مُضر أُذُنِي تساقط من عَيْني)
وَله:
(فَإنَّا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم وَالله يَجْزِي من اقْتصر)
(مليح وَلَكِن عِنْده كل جفوة ... وَلم أر فِي الدُّنْيَا صفاء بِلَا كدر)
قلت: وَقد أذكرني هَذَا بَيْتَيْنِ لي وهما:
(سل الله رَبك من فَضله ... إِذا عرضت حَاجَة مقلقة)
(وَلَا تقصد التّرْك فِي حَاجَة ... فأعينهم أعين ضيقَة)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح زنكي الرها من الفرنج بِالسَّيْفِ بعد حِصَار نَحْو شهر وسروج وَسَائِر مَا بيد الفرنج شَرْقي الْفُرَات، وحاصر البيرة ثمَّ رَحل عَنْهَا بِسَبَب قتل نَائِبه بالموصل نصير الدّين جقر، وَسبب قَتله أَن ألب أرسلان بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد السلجوقي كَانَ عِنْد زنكي، وَكَانَ زنكي مُتَوَلِّيًا هَذِه الْبِلَاد الَّتِي بيد الْملك ألب أرسلان وأتابكه وَلذَلِك قيل الأتابك زنكي، وَكَانَ جقر يقوم بوظائف خدمَة ألب أرسلان بالموصل فَحسن بعض المناحيس لألب أرسلان حَتَّى قتل جقر طَمَعا فِي أَخذ الْبِلَاد من زنكي، فاجتمعت كبراء دولة زنكي، وأمسكوا ألب أرسلان فَترك زنكي البيرة لذَلِك وخشي الفرنج بالبيرة من عوده فسلموها إِلَى نجم الدّين صَاحب ماردين وَصَارَت للْمُسلمين.
وفيهَا: خرج أسطول الفرنج من صقلية إِلَى سَاحل إفريقية فملكوا مَدِينَة برسك قتلا وسبياً.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا هرب عَليّ بن دبيس بن صَدَقَة من السُّلْطَان مَسْعُود فاستولى على الْحلَّة وتقوى.
وفيهَا: اعتقل الْخَلِيفَة المقتفي أَخَاهُ أَبَا طَالب وَغَيره من أَقَاربه.(2/44)
وفيهَا: ملك الفرنج شنترين وماجه ومارده وأشبونه والمعاقل الْمُجَاورَة لَهَا من الأندلس.
وفيهَا: توفّي مُجَاهِد الدّين بهروز الْخصي الْأَبْيَض، حكم بالعراق نيفاً وَثَلَاثِينَ سنة.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور موهوب بن أَحْمد الجواليقي اللّغَوِيّ ومولده ذُو الْحجَّة سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة أَخذ عَن التبريزي وَأم بالمقتفي، كَانَ محققاً يفكر، ثمَّ يَقُول، وَكم قَالَ: لَا أَدْرِي؛ أَخذ عَنهُ الْكِنْدِيّ وَأَبُو الْبَقَاء، وَعبد الْوَهَّاب بن سكنبة.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن بَقِي الأندلسي الْقُرْطُبِيّ الشَّاعِر، لَهُ الموشحات البديعة.
وَمن شعره:
(يَا أفتك النَّاس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً مَتى كَانَ فِيك الصاب وَالْعَسَل)
(فِي صحن خدك وَهُوَ الشَّمْس طالعة ... ورد يزينك فِيهِ الراح والخجل)
(إِيمَان حبك فِي قلبِي يجدده ... من خدك الْكتب أَو من لحظك الرُّسُل)
(إِن كنت تجْهَل إِنِّي عبد مملكة ... مرني بِمَا شِئْت آتيه وأمتثل)
(لَو اطَّلَعت على قلبِي وجدت بِهِ ... من فعل عَيْنَيْك جرحا لَيْسَ يندمل)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر الفرنج طرابلس الغرب، وَفِي ثَالِث يَوْم أَرَادَت طَائِفَة من أَهلهَا تأمير رجل من الملثمين طَائِفَة تقدم بني مطروح فَاقْتَتلُوا فخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة وصعدوا بالسلاليم وملكوها فِي الْمحرم وسفكوا ثمَّ أمنُوا من بَقِي وتراجع ناسها وَحسن حَالهَا.
وفيهَا: حصر زنكي قلعة جعبر وصاحبها عَليّ بن مَالك بن سَالم بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ، وَحصر عسكره قلعة فنك جَوَاز جَزِيرَة ابْن عمر وصاحبها حسام الدولة البشنوي، وَلما طَال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مَعَ حسان البعلبكي الَّذِي كَانَ صَاحب منبج يَقُول لصَاحب قلعة جعبر: من يخلصك مني؟ فَقَالَ لحسان: يخلصني مِنْهُ الَّذِي خلصك من مَالك بن بهْرَام بن أرتق وَكَانَ مَالك قد حصر منبج فَجَاءَهُ سهم فَقتله فَرجع حسان إِلَى زنكي وَلم يُخبرهُ بذلك، وَاسْتمرّ زنكي منازلاً لقلعة جعبر فَوَثَبَ عَلَيْهِ جمَاعَة من مماليكه فَقَتَلُوهُ فِي خَامِس ربيع الآخر مِنْهَا لَيْلًا وهربوا إِلَى قلعة جعبر فَأعْلم أهل القلعة الْعَسْكَر بقتْله فَدخل أَصْحَابه إِلَيْهِ وَبِه رَمق، وَكَانَ عماد الدّين زنكي أسمر حسنا مليح الْعَينَيْنِ وخطه الشيب وَجَاوَزَ السِّتين، وَدفن بالرقة؛ ملك الْموصل وَمَا مَعهَا وَالشَّام خلا دمشق وَكَانَت الْأَعْدَاء مُحِيطَة بمملكته وَهُوَ ينتصف مِنْهُم فَأخذ ابْنه نور الدّين مَحْمُود الْخَاتم من يَده وَهُوَ قَتِيل، وَسَار فَملك حلب وَكَانَ صُحْبَة زنكي ألب أرسلان السلجوقي فَركب يَوْم قتل زنكي وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر فَحسن لَهُ بعض أَصْحَاب زنكي الْأكل وَالشرب وَسَمَاع اللَّهْو فَسَار ألب أرسلان إِلَى الرقة وانعكف على ذَلِك وَأرْسل أكَابِر(2/45)
دولة زنكي إِلَى سيف الدّين غَازِي بن زنكي يعلمونه بِالْحَال وَهُوَ بشهرزور، فَسَار وَملك الْموصل وبلادها، ثمَّ تحرّك ألب أرسلان فحبسه غَازِي بالموصل.
قلت: كَانَ أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير يعير ابْن القيسراني بِأَنَّهُ مَا صحب أحد إِلَّا نكب فغنى مغن عِنْد زنكي وَهُوَ على قلعة جعبر قَول الشَّاعِر:
(ويلي فِي المعرض الغضبان إِذْ نقل ... الواشي إِلَيْهِ حَدِيثا كُله زور)
(سلمت فازور يزوي قَوس حَاجِبه ... كأنني كأس خمر وَهُوَ مخمور)
فاستحسنها زنكي، وَسَأَلَ لمن هِيَ، فَقيل: لِابْنِ مُنِير، فَطلب من حلب، فليلة وصل ابْن مُنِير قتل زنكي، فَقَالَ ابْن القيسراني: هَذَا بِجَمِيعِ مَا كنت تبكتني بِهِ، وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل عبد الْمُؤمن بن عَليّ جَيْشًا فَملك من جَزِيرَة الأندلس مَا فِيهَا من بِلَاد الْمُسلمين.
وفيهَا: بعد قتل زنكي قصد صَاحب دمشق مجير الدّين أبق حصن بعلبك وحصره وَبِه نجم الدّين أَيُّوب بن ساري مستخفياً، فخاف أَن أَوْلَاد زنكي لَا يُمكنهُم سرعَة إنجاده، فَسلم القلعة إِلَيْهِ على أقطاع وَمَال وقرى، وانتقل أَيُّوب فسكن دمشق.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا دخل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب حلب بِلَاد الفرنج فَفتح مِنْهَا ارْتَاحَ بِالسَّيْفِ وحصن ماموله وكفرفوث وكفرلاثا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا جهز رجاز الفرنجي صَاحب صقلية مِائَتَيْنِ وَخمسين شينياً رجَالًا وسلاحاً مقدمهم جرجي فأشرفوا على المهدية وَبهَا الْحسن بن عَليّ بن يحيى بن تَمِيم بن الْمعز باديس صَاحب إفريقية، وَكَانَ الغلاء عَظِيما، وَقد أكل بعض النَّاس بَعْضًا من سنة سبع وَثَلَاثِينَ، فاتفق الْحسن بن عَليّ وأكابر الْبَلَد على أَن يرحلوا من المهدية بِمَا خف حمله وَالرِّيح يمْنَع الأسطول من الْوُصُول.
ثمَّ دخل الفرنج المهدية ثُلثي النَّهَار بِلَا مَانع وَلَيْسَ بهَا مِمَّن عزم على الْخُرُوج أحد، وَدخل جرجي قصر الْإِمَارَة فَوَجَدَهُ مَمْلُوء الخزائن ذخائر وغرائب وحظايا الْحسن بن عَليّ، وَسَار الْأَمِير حسن بأَهْله فَأَقَامَ عِنْد بعض أُمَرَاء الْعَرَب، كَانَ يحسن إِلَيْهِ وَخَافَ من الطَّرِيق فانقبض عَن الْمسير إِلَى الْخَلِيفَة بِمصْر، وَسَار إِلَى ملك بجاية يحيى بن الْعَزِيز فَوكل يحيى بِهِ وبأولاده من يمنعهُم من التَّصَرُّف وَلم يجْتَمع يحيى بهم وأنزلهم فِي جزائر بني مزغنان إِلَى أَن ملك عبد الْمُؤمن بجاية سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَجَمِيع ممالك بني حَمَّاد فَأحْسن إِلَى الْأَمِير حسن إِلَى أَن فتح المهدية فَأَقَامَ فِيهَا والياً من جِهَته وَأمره أَن يرجع إِلَى رأى الْأَمِير حسن، وَكَانَ عدَّة من ملك من بني باديس من أريزي إِلَى الْحسن تِسْعَة مُلُوك، ثمَّ بذل جرجي الْأمان لأهل المهدية فتراجعوا من شدَّة الْجُوع.
وفيهَا: سَار ملك الألمان من وَرَاء الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَحصر دمشق فِي جمع عَظِيم(2/46)
وصاحبها مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن بوري بن طغتكين وَالْحكم إِنَّمَا هُوَ لمُعين الدّين أنز مَمْلُوك جده طغتكين.
وَفِي سادس ربيع الأول زحفوا على دمشق وَنزل ملك الألمان بالميدان الْأَخْضَر، وَسَار سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل لينجد دمشق وَمَعَهُ أَخُوهُ نور الدّين بعسكره فَلَمَّا وصلوا حمص فت ذَلِك فِي أعضاد الفرنج وَأرْسل أنز إِلَى فرنج الشَّام يبْذل لَهُم قلعة بانياس فتخلوا عَن الألمان فخافت الألمان فرحلوا عَن دمشق إِلَى بِلَادهمْ وَسلم أنز قلعة بانياس إِلَى الفرنج حَسْبَمَا شَرط.
وفيهَا: هزم الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود الفرنج عِنْد يغري فَقتل وَأسر وَأرْسل من الأسرى إِلَى أَخِيه سيف الدّين صَاحب الْموصل.
وفيهَا: ملك الفرنج طرطوشة وقلاعها وحصون لارده من الأندلس.
وفيهَا: عَم الغلاء الْمَشَارِق وَالْمغْرب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول قتل نور الدولة شاهنشاه بن أَيُّوب أَخُو صَلَاح الدّين لِأَبَوَيْهِ قَتله الفرنج فِي المصاف فِي منازلتهم لدمشق وَهُوَ أَبُو المظفر عمر صَاحب حماة وَأَبُو فرخ شاه صَاحب بعلبك.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي سيف الدّين غَازِي ابْن زنكي صَاحب الْموصل وولايته ثَلَاث سِنِين وَشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ولد سنة خَمْسمِائَة، وَخلف ابْنا أحسن نور الدّين تَرْبِيَته، وَتُوفِّي شَابًّا، وانقرض بِمَوْتِهِ عقب غَازِي، وَكَانَ غَازِي حسن الصُّورَة كَرِيمًا يصنع لعسكره كل يَوْم طَعَاما بكرَة وعشياً. وَهُوَ أول من حمل على رَأسه السنجق فِي ركُوبه، وَأمر الْجند أَن يركبُوا بِالسُّيُوفِ فِي أوساطهم، والدبوس تَحت ركبهمْ.
وَلما توفّي غَازِي كَانَ أَخُوهُ قطب الدّين مودود بن زنكي مُقيما بالموصل، فاتفق الْوَزير جمال الدّين وأمير الجيوش زين الدّين على تَمْلِيكه فحلفاه وحلفا لَهُ، واطاعته بِلَاد أَخِيه غَازِي.
ثمَّ تزوج الخاتون بنت تمرتاش صَاحب ماردين، مَاتَ عَنْهَا أَخُوهُ غَازِي قبل الدُّخُول وَهِي أم أَوْلَاد قطب الدّين.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة (توفّي الْحَافِظ) الدّين الله بن الْأَمِير أبي الْقَاسِم بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر وخلافته عشرُون سنة إِلَّا خَمْسَة أشهر، وعمره نَحْو سبع وَسبعين، وَمَا ولي مِنْهُم من لَيْسَ أَبوهُ خَليفَة غير الْحَافِظ والعاضد.
وبويع بعده ابْنه الظافر بِأَمْر الله أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ عبد الْمجِيد، واستوزر ابْن مصال وَبَقِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَحضر من الْإسْكَنْدَريَّة الْعَادِل بن السلار فَأرْسل الْعَادِل ربيبه بن أبي الْفتُوح بن يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس إِلَى ابْن مصال وَقد خرج فِي(2/47)
طلب بعض المفسدين فَقتله الربيب وَعَاد فاستقر الْعَادِل فِي الوزارة وَلم يكن للظافر الْخَلِيفَة مَعَه حكم إِلَى أَن قَتله ربيبه عَبَّاس الْمَذْكُور وَتَوَلَّى الوزارة.
وَكَانَ أَبُو الْفتُوح وَالِد عَبَّاس قد فَارق أَخَاهُ عَليّ بن يحيى صَاحب إفريقية وَتُوفِّي بِمصْر فَتزَوج الْعَادِل بن السلار أم الْعَبَّاس وَهُوَ مَعهَا صَغِير فَأحْسن تَرْبِيَته ثمَّ جازاه بقتْله وَسَيَأْتِي ذكره.
وفيهَا: حصر الْعَادِل نور الدّين حصن حارم فَجمع الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وقاتله فَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل الْبُرْنُس.
قلت: وَفِي قتل الْبُرْنُس وَحمل رَأسه إِلَى حلب، وَأسر أَصْحَابه يَقُول ابْن مُنِير الطرابلسي:
(أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وَعلا الْهدى وتبلجت قسماته)
(وانتاش دين مُحَمَّد محموده ... من بعد مَا علت دَمًا عشراته)
(ردَّتْ على الْإِسْلَام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته)
(صدم الصَّلِيب على صلابة عوده ... فتفرقت أَيدي سبا خشباته)
(وَسَقَى الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... بِالروحِ مِمَّا قد جنت غدراته)
(فانقاد فِي خطم الْمنية انفه ... يَوْم الْحطيم وأقصرت نزواته)
(فجلوته تبْكي الأصادق نحبه ... بِدَم إِذا ضحِكت لَهُ شماته)
(تمشي الْقَنَاة بِرَأْسِهِ وَهُوَ الَّذِي ... نظمت مدَار النيرين قناته)
وَالله أعلم.
وَملك بعد الْبُرْنُس ابْنه بيمند وَهُوَ طِفْل، وَتَزَوَّجت أمه بِرَجُل آخر وَتسَمى بالبرنس.
ثمَّ أَن نور الدّين غزاهم غَزْوَة أُخْرَى فَهَزَمَهُمْ وَقتل وَأسر، وَأسر الْبُرْنُس الثَّانِي زوج أم بيمند فَتمكن بيمند فِي ملك أنطاكية.
وفيهَا: كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة.
وفيهَا: توفّي معِين الدّين أنز نَائِب صَاحب دمشق، وَإِلَيْهِ ينْسب قصر معِين الدّين بالغور. وفيهَا: توفّي أَبُو المظفر يحيى بن هُبَيْرَة وَزِير الْخَلِيفَة المقتفي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع ربيع الآخر كَانَ قبل ذَلِك صَاحب ديوَان الزِّمَام.
وفيهَا: توفّي القَاضِي نَاصح الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَاضِي تستر وأرجان من أَعمالهَا.
وَمن شعره الْفَائِق:
(وَلما بلوت النَّاس أطلب عِنْدهم ... أَخا ثِقَة عِنْد اعْتِرَاض الشدائد)(2/48)
(فَلم أر فِيمَا سَاءَنِي غير شامت ... وَلم أر فِيمَا سرني غير حَاسِد)
وَله:
(أعيناي كفا عَن فُؤَادِي فَإِنَّهُ ... من الْبَغي سعى اثْنَيْنِ فِي قتل وَاحِد)
قلت: كَانَ يَنُوب عَن الْقُضَاة تَارَة بتستر، وَتارَة بعسكر مكرم وَفِي ذَلِك يَقُول:
(وَمن النوائب انني ... فِي مثل هَذَا الشّغل نَائِب)
(وَمن الْعَجَائِب أَن لي ... صبرا على هذي الْعَجَائِب)
وأرجان تخفف راؤها وتشدد. وَله، ويروي للغزي مِمَّا يقْرَأ طرداً وعكساً.
(مودته تدوم لكل هول ... وَهل كل مودته تدوم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض السبتي بمراكش، ومولده بسبته سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، أحد الْأَئِمَّة الْحفاظ الْمُحدثين الأدباء، وتآليفه وأشعاره شاهدة بذلك.
وَله: الْإِكْمَال شرح مُسلم. ومشارق الْأَنْوَار فِي غَرِيب الحَدِيث.
قلت: وَله الشِّفَاء استقضى بسبتة طَويلا فَحَمدَ، ثمَّ ولي غرناطة فَلم تطل مدَّته.
وَمن شعره:
(انْظُر إِلَى الزَّرْع وجاماته ... تحكي وَقد ماست أَمَام الرِّيَاح)
(كَتِيبَة خضراء مهزومة ... شقائق النُّعْمَان فِيهَا جراح)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم أخذت الْعَرَب الْحجَّاج بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فَلم يسلم مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل.
وفيهَا: حصر نور الدّين قلعة أفامية وتسلمها من الفرنج وحصنها بِالرِّجَالِ والذخائر.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير الطرابلسي:
(أنشرت يَا مَحْمُود مِلَّة أَحْمد ... من بعد مَا شَمل البلى آثارها)
(أدْركْت ثأرك فِي الْبُغَاة وَكنت ... يَا مُخْتَار أمة أَحْمد مختارها)
وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر الأذفونش صَاحب طليطلة قرطبة ثَلَاثَة أشهر وَلم يملكهَا.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن دبيس بن صَدَقَة صَاحب الْحلَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: وفيهَا من الله تَعَالَى على نور الدّين بأسر جوسلين، وَكَانَ من أَشْجَع الفرنج، وَهزمَ نور الدّين مرّة، وَأسر وَقتل فِي أَصْحَابه حَتَّى أَخذ سلَاح نور الدّين وأرسله إِلَى مَسْعُود بن فلج أرسلان صَاحب قونية وآقسرا، وَقَالَ: هَذَا سلَاح زوج ابْنَتك، وسآتيك بعده بِمَا هُوَ أعظم مِنْهُ، فبذل نور الدّين الوعود فِيهِ، فَأسرهُ(2/49)
التركمان فصانعهم على مَال كثير فَأَجَابُوهُ إِلَى إِطْلَاقه إِذا أحضر المَال، فَبلغ الْخَبَر ابْن الداية نَائِب حلب فسير عسكراً فكبسول التركمان وأحضروه إِلَى نور الدّين فَرَآهُ من أعظم الْفتُوح، وَأُصِيب بِهِ دين الصَّلِيب كَافَّة.
قلت:
(لهجوا سِنِين بجوسلين فَإِنَّهُ ... قد كَانَ علجاً عَالِيا فِي كفره)
(مَا وَحده أسروه إِذا أسروه بل ... أَسرُّوا الصَّلِيب بأسره فِي أسره)
وَالله أعلم.
ثمَّ سَار نور الدّين بعد أسره وَملك قلاعه وبلاده وَهِي تل بَاشر وعينتاب ودلوك وعزاز وتل خَالِد وقورس الراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وَكفر سود وَكفر لاثا ومرعش ونهر الْجَوْز فِي مُدَّة يسيرَة، وَبَقِي كلما فتح موضعا حصنه رجَالًا وذخائر.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير لنُور الدّين:
(طلعت عَلَيْك بجوسلين ذَرِيعَة ... لَا سحل أَنْشَأَهَا وَلَا امرار)
(مَا زلت تنعم ثمَّ يكفر عاتياً ... وَالله يهدم مَا بنى الْكفَّار)
(حَتَّى أتاح لِقَوْمِهِ مَا جَرّه ... لثمود من عقر الفصيل قدار)
وبذل جوسلين لنُور الدّين فِي فدائه أَمْوَالًا لَا تحصى فَاسْتَشَارَ أمراءه فَلم يوافقوا على إِطْلَاقه فخالفهم وتسلم المَال واطلقه فَمَاتَ قبل أَن يخرج من الشَّام وانتفع الْمُسلمُونَ بِالْمَالِ وعد ذَلِك من كرامات نور الدّين، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك عبد الْمُؤمن بجاية وَأخذ من يحيى بن الْعَزِيز آخر مُلُوك بني حَمَّاد جَمِيع ممالكهم، وَكَانَ يحيى مُولَعا بالصيد وَاللَّهْو فَانْهَزَمَ وتحصن بقلعة قسطنطينة من بِلَاد بجاية، ثمَّ أَمنه عبد الْمُؤمن وأرسله إِلَى بِلَاد الْمغرب وأجرى عَلَيْهِ شَيْئا كثيرا.
وَقد ذكرنَا فِي تَارِيخ القيروان: أَن ملك عبد الْمُؤمن تونس وإفريقية سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: فِي أول رَجَب توفّي السُّلْطَان مَسْعُود بهمذان ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة فِي ذِي الْقعدَة، وَمَات مَعَه سَعَادَة الْبَيْت السلجوقي كَانَ مزاحا كَرِيمًا عفيفاً، وعهد إِلَى ابْن أَخِيه ملك شاه بن مَحْمُود فَخَطب لَهُ، وَكَانَ المتغلب على المملكة الْأَمِير خَاص بك، أَصله تركماني ثمَّ قبض هَذَا على ملك شاه وسجنه وأحضر أَخَاهُ مُحَمَّد بن مَحْمُود من خوزستان، فَتَوَلّى وَجلسَ على السرير، وَنوى خَاص بك إِمْسَاكه وَالْخطْبَة لنَفسِهِ فبدره مُحَمَّد ثَانِي يَوْم صوله فَقتله وَقتل زنكي الخزينة دَار وَألقى برأسيهما فَتفرق أصحابهما.
وفيهَا: جمعت الفرنج وقاتلت نور الدّين وَهُوَ محاصر دلوك فَعظم الْقِتَال وَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل فيهم وَأسر ثمَّ ملك دلوك.(2/50)
وَمِمَّا مدح بِهِ فِي ذَلِك:
(أعدت بعصرك هَذَا الْجَدِيد ... فتوح النَّبِي وأعصارها)
(وَفِي تل بَاشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها)
(وَإِن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أَخْبَارهَا)
قلت: وَهَذَا من قَول ابْن مُنِير أَيْضا وَهِي قصيدة طَوِيلَة وَالله أعلم.
ظُهُور الْمُلُوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكين
أول الغورية مُحَمَّد بن الْحُسَيْن صاهر بهْرَام شاه بن مَسْعُود صَاحب عزنة من آل سبكتكين ثمَّ قَتله بهْرَام شاه خشيَة من غدره، وَقد جَاءَهُ يظْهر الطَّاعَة ويبطن الْغدر فولى بعده ملك الغورية أَخُوهُ سورى وَسَار إِلَى غزنة فِي طلب ثأر أَخِيه وَقَاتل بهْرَام شاه فظفر بِهِ وَقَتله أَيْضا.
ثمَّ ملك أخوهما عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن، وَسَار إِلَى غزنة فَانْهَزَمَ عَنْهَا بهْرَام شاه فَاسْتَوَى عَلَيْهَا عَلَاء الدّين الْحُسَيْن وَأقَام بغزنة أَخَاهُ سيف الدّين شاه، وَرجع إِلَى الْغَوْر فكاتب أهل غزنة بهْرَام شاه فقاتل سيف الدّين الغوري فظفر بِسيف الدّين فَقتله وَملك بهْرَام شاه غزنة، ثمَّ توفّي بهْرَام شاه.
وَملك ابْنه خسرو شاه وتجهز عَلَاء الدّين ملك الغورية إِلَى غزنة سنة خمسين وَخَمْسمِائة فَلَمَّا قاربها سَار صَاحبهَا خسرو شاه إِلَى لهاور، وَملك عَلَاء الدّين الْحُسَيْن غزنة، ونهبها ثَلَاثَة أَيَّام، وتلقب بالسلطان الْمُعظم، وَحمل الجنز على عَادَة السلاطين السلجوقية، ثمَّ اسْتعْمل على غزنة ابْني أَخِيه سَام وهما غياث الدّين مُحَمَّد وشهاب الدّين مُحَمَّد، ثمَّ جرى بَينهمَا وَبَين عَمهمَا عَلَاء الدّين الْحُسَيْن حَرْب أسرا فِيهِ عَمهمَا وأطلقاه وأجلساه على التخت ووقفا فِي خدمته، وَزوج ابْنَته من غياث الدّين وولاه عَهده، وَمَات عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن سنة سِتّ وَخمسين فَملك غياث الدّين مُحَمَّد بن سَام وخطب لنَفسِهِ فِي الْغَوْر وغزنة.
ثمَّ استولى الغز على غزنة خمس عشرَة سنة، ثمَّ أرسل أَخَاهُ شهَاب الدّين وَهزمَ الغز، وَقتل كثيرا وَاسْتولى على غزنة وَمَا بجوارها مثل كرمان وسنوران وَمَاء السَّنَد، وَقصد لَهَا وروبها خسرو شاه بن بهْرَام شاه فملكها شهَاب الدّين سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة بعد حِصَار، وَأمن خسرو شاه فَحَضَرَ فَأكْرمه، وَبلغ غياث الدّين ذَلِك فَطلب من شهَاب الدّين خسرو شاه فَأمره بالتوجه إِلَيْهِ، فَقَالَ خسرو شاه: أَنا مَا أعرف أَخَاك فطيب خاطره وأرسله، وَأرْسل ابْن خسرو شاه أَيْضا مَعَه مَعَ عَسْكَر يحفظونهما فرفعهما غياث الدّين إِلَى بعض القلاع وَلم يرهما، فَكَانَ آخر الْعَهْد بهما وخسرو شاه بن بهْرَام شاه بن مَسْعُود بن إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين هُوَ آخر مُلُوك آل سبكتكين، ابْتِدَاؤُهَا سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة، وملكوا مِائَتي سنة وَثَلَاث عشرَة سنة تَقْرِيبًا، فانقراض دولتهم سنة ثَمَان(2/51)
وَسبعين وَخَمْسمِائة، كَانُوا من أحسن الْمُلُوك سيرة، وَلما اسْتَقر ملك الغورية باللهاور كتب غياث الدّين إِلَى أَخِيه شهَاب الدّين بِالْخطْبَةِ لَهُ بالسلطنة وتلقب بِمعين الْإِسْلَام وقسيم أَمِير الْمُؤمنِينَ.
ثمَّ اجْتمع شهَاب الدّين بأَخيه غياث الدّين وسارا إِلَى خُرَاسَان وحصرا هراة وَسلم غياث الدّين بالأمان، ثمَّ سارا إِلَى فوشنج فملكها، ثمَّ عادا فملكا بادغيس، وكالين وأبيورد، ثمَّ رَجَعَ غياث الدّين إِلَى بَلْدَة فَيْرُوز كوه وشهاب الدّين إِلَى غزنة، ثمَّ قصد شهَاب الدّين الْهِنْد وَفتح مَدِينَة آجرة، ثمَّ عَاد ثمَّ قصد الْهِنْد فذلل صعبها وَفتح وَبلغ مَا لم يبلغهُ ملك من الْمُسلمين، فَاقْتَحَمت مُلُوك الهنود وَاجْتمعت وقاتلوه قتالاً عَظِيما، فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وجرح شهَاب الدّين واستخفى بَين الْقَتْلَى، ثمَّ اجْتمع أَصْحَابه وَحَمَلُوهُ إِلَى مَدِينَة آجرة وَاجْتمعت عساكره وجاءه مدد أَخِيه غياث الدّين، ثمَّ اجْتمعت الهنود وتنازل الْجَمْعَانِ وَبَينهمَا نهر فكبس الْمُسلمُونَ الهنود وتمت هزيمتهم فَقتل من الْهِنْد مَا يفوق الْحصْر، وَقتلت ملكتهم، وَتمكن شهَاب الدّين بعد هَذِه الْوَقْعَة من الْهِنْد فأقطع مَمْلُوكه قطب الدّين أيبك مَدِينَة دهلي من كراسي ممالكهم فَأرْسل أيبك عسكراً مقدمه مُحَمَّد بن بختيار فملكوا مَوَاضِع لم يصلها مُسلم قبله حَتَّى قاربوا الصين.
وفيهَا: توفّي حسام الدّين تمرتاش بن إيلغازي صَاحب ماردين، وميافارقين، وولايته نَيف وَثَلَاثُونَ سنة، وَولى بعده ابْنه نجم الدّين البي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا انهزم السُّلْطَان سنجر من الأتراك الغز من الْمُسلمين؛ كَانُوا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا ملكه الْخَطَأ أخرجوهم فأقاموا بنواحي بَلخ طَويلا، ثمَّ قَاتلهم قماج مقطع بَلخ ليخرجهم عَنهُ فهزموا قماج وتبعوه يقتلُون وَيَأْسِرُونَ، واسترقوا النِّسَاء والأطفال، وخربوا الْمدَارِس وَقتلُوا الْفُقَهَاء وَوصل قماج مُنْهَزِمًا إِلَى سنجر فَسَار إِلَيْهِم فِي مائَة ألف فَارس فَأرْسل الغز يَعْتَذِرُونَ عَمَّا وَقع، وبذلوا كثيرا ليكف عَنْهُم فَأبى وقصدهم واقتتلوا فانهزمت عَسَاكِر سنجر وَقتل قماج وَأسر السُّلْطَان سنجر وَجَمَاعَة من أمرائه.
فَأَما سنجر فَلَمَّا أسروه اجْتمع الغز وقبلوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَقَالُوا نَحن عبيدك وَبَقِي مَعَهم شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة، ودخلوا مَعَه إِلَى مرو كرْسِي خُرَاسَان فطلبها مِنْهُ بختيار إقطاعاً وَهُوَ أكبر أُمَرَاء الغز، فَقَالَ سنجر: هَذِه دَار الْملك وَلَا يجوز أَن تكون إقطاعاً لأحد فضحكوا مِنْهُ وحبق لَهُ بختيار بفمه فَنزل سنجر عَن سَرِير الْملك وَدخل خانقاه مرو وَتَابَ عَن الْملك، وَاسْتولى الغز على الْبِلَاد فنهبوا نيسابور وَقتلُوا الْكِبَار وَالصغَار والقضاة وَالْعُلَمَاء والصلحاء بِتِلْكَ الْبِلَاد فَقتل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الأرسابندي وَالْقَاضِي عَليّ بن مَسْعُود وَالشَّيْخ محيي الدّين مُحَمَّد بن يحيى الشَّافِعِي؛ لم يكن فِي زَمَانه مثله رحْلَة الْمشرق وَالْمغْرب وَغَيرهم، وَمَا سلم من النهب غير هراة ودهستان لحصانتهما.(2/52)
ثمَّ اجْتمع عَسْكَر سنجر على مَمْلُوكه آي بِهِ الْمُؤَيد فاستولى الْمُؤَيد على نيسابور وطوس ونساو أبيورد وشهرستان والدامغان وأزاح الغز عَنْهَا، وَاسْتولى على الرّيّ مَمْلُوك آخر لسنجر اسْمه إيتاخ، وهادى الْمُلُوك، واستقرت قدمه، وَعظم شَأْنه.
وفيهَا: قتل الْعَادِل بَين السلار وَزِير الظافر قَتله ربيبه عَبَّاس كَمَا تقدم.
وفيهَا: كَانَ بَين عبد الْمُؤمن وَبَين الْعَرَب حَرْب نصر فِيهَا عبد الْمُؤمن.
وفيهَا: مَاتَ رجار الفرنجي ملك صقلية بالخوانيق وعمره نَحْو ثَمَانِينَ، وَملكه نَحْو عشْرين.
وَملك بعده ابْنه غليالم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بغزنة بهْرَام شاه، وَولي ابْنه خسروشاه، وَقد تقدم.
وفيهَا: اخْتلفت الْأَهْوَاء فِي مصر بقتل الْعَادِل، فَتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها من المصريين.
قلت: وفيهَا بِدِمَشْق توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صفير بن داغر الْمَعْرُوف بِابْن القيسراني من قيسارية الشَّام الخالدي من الشُّعَرَاء الأدباء المجيدين، وَله علم بالهيئة، وَسمع مِنْهُ الحافظان أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر، وَأَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو الْمَعَالِي الخطيري وَبَينه وَبَين ابْن مُنِير وقائع ونوادر وَله حِين بلغه أَن ابْن مُنِير هجاه:
(ابْن مُنِير هجوت مني ... حبرًا أَفَادَ الورى صَوَابه)
(وَلم تضيق بِذَاكَ صَدْرِي ... لِأَن لي أُسْوَة بالصحابة)
وَمَا أحسن قَوْله:
(هَذَا الَّذِي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن)
وَقَوله:
(وأرشف خمره والكأس ثغر ... وأقطف ورده والغصن قد)
(وَكم بالغور من ثَمَرَات در ... جناها بعد قرب الدَّار بعد)
(وَمن عقد ينافس فِيهِ ثغر ... وَمن ثغر ينافس فِيهِ عقد)
(ورمان وتفاح حلاه ... لعين المجتني نهد وخد)
واجتاز بالمعرة فَكتب عِنْد قبر أبي الْعَلَاء:
(نزلت فزرت قبر أبي الْعَلَاء ... فَلم أر من قرى غير الْبكاء)
(أَلا يَا قبر أحمدكم جلال ... تضمنه ثراك وَكم ذكاء)
وفيهَا: أَعنِي فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير بن مُفْلِح الأطرابلسي بحلب، كَانَ أَبوهُ يُغني فِي الْأَسْوَاق، وَنَشَأ هُوَ وَحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم، وَتعلم اللُّغَة وَالْأَدب، وَقَالَ الشّعْر، وَقدم دمشق، وَكَانَ رَافِضِيًّا هجاء خَبِيث اللِّسَان،(2/53)
وسجنه بوري لذَلِك، وعزم على قطع لِسَانه ثمَّ شفع فِيهِ فنفاه، وَله فِي حَبِيبه ابْن العفريت:
(لَا تَخَالُّوا خَاله فِي خَدّه ... قطره من صبغ جفن نطفت)
(تِلْكَ من نَار فُؤَادِي جذوة ... فِيهِ ساخت وانطفت ثمَّ طفت)
وَالله أعلم.
وفيهَا: نهبت مراكش صقلية تنيس بالديار المصرية.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن أَحْمد الشهرستاني الْمُتَكَلّم الْأَشْعَرِيّ الْفَقِيه. وَله نِهَايَة الْأَقْدَام فِي علم الْكَلَام والملل والنحل والمناهج تَلْخِيص الْأَقْسَام لمذاهب الْأَنَام.
ولد بشهرستان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَدخل بَغْدَاد سنة عشر وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي بهَا، وشهرستان اسْم لثلاث مدن: الأولى شهرستان خُرَاسَان وَهُوَ مِنْهَا بناها عبد الله بن طَاهِر أَمِير خُرَاسَان، الثَّانِيَة شهرستان بِأَرْض فَارس، الثَّالِثَة مَدِينَة جُوَيْن بأصفهان بَينهَا وَبَين الْيَهُودِيَّة مَدِينَة أصفهان نَحْو ميل، وَمعنى هَذِه الْكَلِمَة مَدِينَة النَّاحِيَة بالعجمي شهر الْمَدِينَة، واستان النَّاحِيَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم قتل الظافر بِاللَّه أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ الْعلوِي، قَتله وزيره عَبَّاس الصنهاجي أحب الظافر ابْنه فَحسن مؤيد الدولة اسامة بن منقذ لعباس قَتله، ونخاه على ابْنه فَدَعَا ابْنه الظافر إِلَى بَيته وقتلاه وَلم يسلم مِمَّن مَعَه إِلَّا خَادِم صَغِير فَأعْلم أهل الْقصر بذلك، ثمَّ اتهمَ عَبَّاس يُوسُف وَجِبْرِيل أخوي الظافر فَقتله وقتلهما.
ثمَّ حمل عَبَّاس الفائز بنصر الله أَبَا الْقَاسِم عِيسَى بن الظافر ثَانِي يَوْم قتل الظافر على كتفه وَأَجْلسهُ على السرير وعمره خمس سِنِين، وَبَايع لَهُ النَّاس وَأخذ عَبَّاس من الْقصر مَالا لَا يُحْصى وجواهر نفيسة، فثارت الْجند والسودان عَلَيْهِ، وَأرْسل أهل الْقصر يستغيثون بطلائع بن زربك وَالِي منية بن خصيب؛ وَكَانَ شهماً فَجمع وَقصد عباسا فهرب مِنْهُ عَبَّاس إِلَى نَحْو الشَّام بِمَا مَعَه من الْأَمْوَال والتحف الَّتِي لَا يُوجد مثلهَا فَقتله الفرنج فِي الطَّرِيق وَأخذُوا مَا مَعَه وأسروا ابْنه نصرا وَكَانَ قد اسْتَقر طلائع بن زربك بعد عَبَّاس فِي الوزارة ولقب بِالْملكِ الصَّالح فَأرْسل الصَّالح بن زربك إِلَى الفرنج وبذل لَهُم مَالا وأحضر نصر بن عَبَّاس إِلَى الْقصر فَقتل وصلب على بَاب زويلة.
وَأما أُسَامَة بن منقذ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ عَبَّاس فَلَمَّا قتل هرب أُسَامَة إِلَى الشَّام، وأباد الصَّالح بن زربك الْأَعْيَان قتلا وهربا.
وفيهَا: حصر المقتفي لأمر الله الْخَلِيفَة بعساكر بَغْدَاد تكريت، وَنصب منجانيق فَلم يظفر بهَا.(2/54)
وفيهَا: تغلب الفرنج بِنَاحِيَة دمشق بعد ملكهم عسقلان حَتَّى استعرضوا كل مَمْلُوك وَجَارِيَة بِدِمَشْق من النَّصَارَى، فأطلقوا مِنْهُم كل من أَرَادَ الْخَلَاص قهرا فخشي نور الدّين أَن يملكُوا دمشق، فاستمال أَهلهَا فِي الْبَاطِن، ثمَّ حاصرها فَفتح لَهُ الْبَاب الشَّرْقِي، فَملك الْمَدِينَة وَحصر مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن بوري بن طغتكين فِي القلعة وبذل لَهُ أقطاعاً من جُمْلَتهَا حمص، فَسلم إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ عوض حمص بالس فَلم يرضها، وَسَار عَنْهَا وَأقَام بِبَغْدَاد وَبنى دَارا قرب النظامية وسكنها حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: أَو الَّتِي بعْدهَا ملك نور الدّين قلعة تل بَاشر من الفرنج.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخَمْسمِائة " فِيهَا حصر الْخَلِيفَة المقتفي دقوقاً وبلغه حَرَكَة عَسْكَر الْموصل إِلَيْهِ فَرَحل عَنْهَا.
وفيهَا: هجم الغز نيسابور بِالسَّيْفِ، وَقيل كَانَ مَعَهم سنجر وَله من السلطنة اسْمهَا يدّخر طَعَام وَقت إِلَى وَقت لتقصيرهم فِي حَقه.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا لم تبْق من إفريقية مَعَ الفرنج سوى المهدية وسوسه.
وفيهَا: قبض زين الدّين عَليّ كوجل نَائِب قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل على الْملك سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملك شاه السلجوقي، وَكَانَ سُلَيْمَان قد قدم بَغْدَاد، وخطب لَهُ بالسلطنة هَذِه السّنة، وقلده المقتفي وخلع عَلَيْهِ وَخرج بعسكر الْخَلِيفَة ليملك بِلَاد الْجَبَل، فاقتتل هُوَ وَابْن عَمه السُّلْطَان مُحَمَّد بن مَحْمُود بن ملك شاه، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَان شاه يُرِيد بَغْدَاد فَمر على شهر زور فَأسرهُ عَليّ كوجل بعسكر الْموصل، وحبسه بقلعة الْموصل مكرماً حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ سنة خمس وَخمسين.
وفيهَا: تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة توفّي خوارزم شاه أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين قلج فَاسْتعْمل شَدِيد الْحَرَارَة فَهَلَك، ومولده سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَملك بعده ابْنه أرسلان.
وفيهَا توفّي الْملك مَسْعُود: بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قتلمش بن أرسلان بن سلجوق صَاحب قونيه وَالروم، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان.
وفيهَا: فِي رَمَضَان هرب سنجر السُّلْطَان من أَمِير الغز إِلَى قلعة ترمذ ثمَّ إِلَى جيحون وَوصل دَار ملكه بمرو فمدة أسره من سادس جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين إِلَى رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: يابع عبد الْمُؤمن لوَلَده مُحَمَّد بن بِولَايَة الْعَهْد وَكَانَت لأبي حَفْص عمر من أَصْحَاب ابْن تومرت من أكبر الْمُوَحِّدين، فَأجَاب إِلَى خلع نَفسه وَولَايَة ابْن عبد الْمُؤمن.
وفيهَا: اسْتعْمل عبد الْمُؤمن ابْنه عبد الله على بجاية، وَابْنه عمر على تلمسان، وَابْنه(2/55)
عليا على فاس، وَابْنه أَبَا سعيد على سبته والجزيرة الخضراء ومالقه وَكَذَلِكَ غَيرهم.
وفيهَا: سَار الْملك مُحَمَّد بن مَحْمُود السلجوقي من هَمدَان بعساكر وَحصر بَغْدَاد، وحصن المقتفي دَار الْخلَافَة واعتد للحصار وَاشْتَدَّ الْأَمر على أهل بَغْدَاد، فَبلغ مُحَمَّدًا أَن أَخَاهُ ملك شاه وايل دكر صَاحب بِلَاد أران وَمَعَهُ الْملك أرسلان بن طغرل بك بن مُحَمَّد وايل دكر، كَانَ متزوجاً بِأم أرسلان، قد دخلُوا هَمدَان، فَرَحل الْملك مُحَمَّد عَن بَغْدَاد نحوهم فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: احترقت بَغْدَاد حَتَّى دَار الْخلَافَة وَغَيرهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن بن الْخلّ شيخ الشَّافِعِيَّة فِي بَغْدَاد من أَصْحَاب الشَّاشِي عَالم عَامل، وَتُوفِّي ابْن الْآمِدِيّ الشَّاعِر من النّيل فِي طبقَة الْغَزِّي والأرجاني، وعمره فَوق التسعين.
وفيهَا: قتل فِي الْحمام مظفر بن حَمَّاد صَاحب البطيحة، وتولاها ابْنه.
وفيهَا: توفّي الوأواء الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور.
وفيهَا: توفّي أَبُو جَعْفَر بن مُحَمَّد البُخَارِيّ بإسفراين عَالم بالفلسفة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة:
أَخْبَار بني منقذ والزلازل
فِيهَا: فِي رَجَب زلزل الشَّام فَخرجت حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد، وطرابلس وأنطاكية وَغَيرهَا من مجاوراتها، وَوَقعت الأسوار والقلاع، فَقَامَ نور الدّين أتم قيام وتدارك بالعمارة، وأغار على الفرنج ليشغلهم عَن الْإِسْلَام، وَهلك مَا لَا يُحْصى حَتَّى أَن معلم كتاب بحماه فَارق الْمكتب وَجَاءَت الزلزلة فَسقط الْمكتب على الصّبيان فَلم يحضر أحد يسْأَله عَن صبي، وَكَانَ بعض أُمَرَاء نور الدّين بِالْقربِ من شيزر فَصَعدَ إِلَيْهَا خربة وتسلمها نور الدّين وَعمر أسوارها، وَكَانَ بَنو منقذ الكنانيين يتوارثونها من أَيَّام صَالح بن مرداس؛ قَالَه ابْن الْأَثِير، وَقَالَ ابْن خلكان وَابْن أبي الدَّم: استولى بَنو منقذ على شيزر سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة أَخذهَا من الرّوم عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، وَكتب إِلَى بَغْدَاد كتابي من حَضْرَة شيزر رحمهمَا الله تَعَالَى وَقد رَزَقَنِي الله عز وَجل من الِاسْتِيلَاء على هَذَا الْعقل الْعَظِيم مَا لم يتأت لمخلوق فِي هَذَا الزَّمَان، وَإِذا عرف الْأَمر على حَقِيقَته علم أَنِّي هاروت هَذِه الْأمة وَسليمَان الْجِنّ والمردة، وأنني أفرق بَين الْمَرْء وَزَوجته واستزل الْقَمَر من مَحَله أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري نظرت إِلَى هَذَا الْحصن فَرَأَيْت أمرا يذهل الْأَلْبَاب يسع ثَلَاثَة آلَاف رجل بالأهل وَالْمَال، ويمسكه خمس نسْوَة فعمدت إِلَى تل بَينه وَبَين حصن الرّوم يعرف بالجراص، وَيُسمى هَذَا التل تل الجسر فعمرته حصناً وجمعت فِيهِ أَهلِي وعشيرتي ونفرت ونفرة على حصن الجراص فَأَخَذته بِالسَّيْفِ من الرّوم وَمَعَ ذَلِك فَلَمَّا أخذت من بِهِ من الرّوم أَحْسَنت إِلَيْهِم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بِصَوْت(2/56)
الْأَذَان، فَرَأى أهل شيزر فعلي ذَلِك فأنسوا بِي وَوصل إِلَيّ مِنْهُم قريب نصفهم فبالغت فِي إكرامهم وَوصل إِلَيْهِم مُسلم بن قُرَيْش الْعقيلِيّ فَقتل من أهل شيزر نَحْو عشْرين رجلا فَلَمَّا انْصَرف مُسلم عَنْهُم سلمُوا الْحصن إِلَيّ وَكَانَ مَا قَالَه ابْن الْأَثِير أولى لِأَن حماه وشيزر فتحتا على يَد أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنهُ.
وَاسْتمرّ الشَّام للْمُسلمين إِلَى حُدُود سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة فَملك الفرنج غَالب الشَّام لقِتَال بعض مُلُوك الْمُسلمين بَعْضًا، وَلم يذكر ملكهم لشيزر، قَالَ ابْن الْأَثِير: فَلَمَّا انْتهى ملك شيزر إِلَى نصر بن عَليّ بن نصر بن منقذ، اسْتمرّ فِيهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَعند مَوته اسْتخْلف أَخَاهُ مرشد بن عَليّ على حصن شيزر فَقَالَ مرشد: وَالله لأوليته ولأخرجن من الدُّنْيَا كَمَا دَخَلتهَا، ومرشد وَالِد مؤيد الدولة أُسَامَة فولاها نصر أَخَاهُ الصَّغِير سُلْطَان بن عَليّ وَاسْتمرّ مرشد مَعَ أَخِيه سُلْطَان على أجمل صُحْبَة مُدَّة، وَكَانَ لمرشد أَوْلَاد نجباء وَلَيْسَ لسلطان ولد فَلَمَّا جَاءَ لسلطان أَوْلَاد خشِي عَلَيْهِم من أَوْلَاد أَخِيه مرشد وسعى بَينهمَا فَتغير كل مِنْهُمَا على الآخر، فَكتب سُلْطَان إِلَى مرشد يعاتبه وَكَانَ مرشد شَاعِرًا فَأَجَابَهُ:
(شكت هجرنا والذنب فِي ذَاك ذنبها ... فيا عجبا من ظَالِم جَاءَ شاكياً)
(وطاوعت الواشين فِي وطالما ... عصيت عذولاً فِي هَواهَا وواشياً)
(وَمَال بهاتيه الْجمال إِلَى القلى ... وهيهات إِن أَمْسَى لَهَا الدَّهْر قاليا)
(وَلما أَتَانِي من قريضك جَوْهَر ... جمعت الْمعَانِي فِيهِ والمعاليا)
(وَكنت هجرت الشّعْر حينا لِأَنَّهُ ... تولى برغمي حِين ولى شبابيا)
(وَقلت أخي يرْعَى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا)
(فَمَا لَك لما أَن حَنى الدَّهْر صعدتي ... وثلم مني صَارِمًا كَانَ مَاضِيا)
(تنكرت حَتَّى صَار برك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائياً)
(على أنني مَا حلت عَمَّا عهدته ... وَلَا غيرت هذي السنون وداديا)
وتماسك الْأَمر بَينهمَا إِلَى أَن توفّي مرشد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، فأظهر سُلْطَان التَّغَيُّر على أَوْلَاد مرشد وجاهرهم بالعداوة ففارقوا شيزر، وَقصد أَكْثَرهم نور الدّين وَشَكوا إِلَيْهِ عمهم فَغَاظَهُ ذَلِك وَلم يُمكنهُ قَصده لاشتغاله بالفرنج وبقى سُلْطَان كَذَلِك إِلَى أَن توفّي، وَولي أَوْلَاده فَلَمَّا خربَتْ القلعة بالزلزلة فِي هَذِه السّنة لم ينج من بني منقذ بهَا أحد فَإِن صَاحبهَا مِنْهُم ختن وَلَده ودعا النَّاس وَجَمِيع بني منقذ إِلَى دَاره فَأسْقطت الزلزلة الدَّار عَلَيْهِم فهلكوا عَن آخِرهم إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم طلب بَاب الدَّار فرفسه حصان بِالْبَابِ لصَاحب شيزر مِنْهُم فَقتله.
قلت:
(إِذا مَا قضى الله أمرا فَمن ... يرد الْقَضَاء الَّذِي ينفذ)(2/57)
(عجبت لشيزر إِذْ زلزلت ... فَمَا لبني منقذ منقذ)
وَقد أذكرني هَذَا شَيْئا وَهُوَ أَن القَاضِي فَخر الدّين عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ قَاضِي الْقُضَاة بحلب، كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى ولاني الحكم بشيرز فَلَمَّا دَخَلتهَا صرعتني بِزَفْرَةٍ هوائها، وَأرْسلت إِلَى الوخم على فَتْرَة من مَائِهَا، وزارتني الْحمى غبا حَتَّى ازددت للْمَوْت حبا، فَكتبت إِلَيْهِ عاتباً عَلَيْهِ:
(أَبَا باعثي أَقْْضِي بشيزر مَا الَّذِي ... أردْت قضي أشغالهم أم قضي نحبي)
(حكيت بهَا الناعور حَالا لأنني ... بَكَيْت عَليّ جسمي وَردت على قلبِي)
وكتبت إِلَى ابْنه كَمَال الدّين مُحَمَّد:
(قيل لي شيزر نَار ... وَبهَا القَاضِي مخلد)
(قلت لَا أمكث فِيهَا ... أَنا من حزب مُحَمَّد)
فَلَمَّا وقف على ذَلِك أعفاني مِنْهَا وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ريبع الآخر توفّي السُّلْطَان سنجر السلجوقي بالقولنج ثمَّ الإسهال، كَانَ مهيباً كَرِيمًا، وَلما وصل خَبره إِلَى بَغْدَاد قطعت خطبَته واستخلف سنجر على خُرَاسَان الْملك مَحْمُود بن مُحَمَّد بن بغداخان ابْن أُخْت سنجر فَأَقَامَ خَائفًا من الغز.
وفيهَا: استولى أَبُو سعيد عبد الْمُؤمن على غرناطة من الملثمين وانقرضت دولة الملثمين وَلم تبْق لَهُم غير جَزِيرَة ميورقة، ثمَّ فتح أَبُو سعيد المرية من الفرنج بعد ملكهم لَهَا عشر سِنِين.
وفيهَا: أَخذ نور الدّين بعلبك من ضحاك البقاعي، ولاه إِيَّاهَا صَاحب دمشق.
وفيهَا: قلع الْخَلِيفَة المقتفي بَاب الْكَعْبَة وَعمل عوضه بَابا مصفحاً بِالْفِضَّةِ المذهبة، وَعمل لنَفسِهِ من الْبَاب تابوتاً يدْفن فِيهِ.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد الخجندي رَئِيس الشَّافِعِيَّة بأصبهان مقدم عِنْد السلاطين.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا قصد ملك شاه بن مَحْمُود السلجوقي قُم وقاشان ونهبهما، وَكَانَ أَخُوهُ السُّلْطَان مُحَمَّد بعد رحيله عَن حِصَار بَغْدَاد قد مرض طَويلا فَأرْسل إِلَى أَخِيه ملك شاه أَن يكف عَن النهب، ويجعله ولي عَهده فَلم يقبل ملك شاه ذَلِك، ثمَّ سَار ملك شاه إِلَى خوزستان وَأَخذهَا من صَاحبهَا شملة التركماني.
وفيهَا: توفّي بميافارقين معِين الدّين أَبُو الْفضل يحيى بن سَلامَة بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْخَطِيب الحصكفي، ومولده بطنزة.
وَمن شعره:
(وخليع بت أعذله ... وَيرى عذلي من الْعَبَث)(2/58)
(قلت إِن الْخمر مخبثة ... قَالَ حاشاها من الْخبث)
(قلت فالأرفاث تتبعها ... قَالَ طيب الْعَيْش فِي الرَّفَث)
(قلت مِنْهَا الْقَيْء قَالَ أجل ... شرفت عَن مخرج الْحَدث)
(وسأسلوهما فَقلت مَتى ... قَالَ عِنْد الْكَوْن فِي الجدث)
قلت: نَشأ بحصن كيفا، وَقَرَأَ الْأَدَب على التبريزي بِبَغْدَاد وأجاد فِي الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي، ثمَّ ولي خطابة ميافارقين، وَكَانَ إِلَيْهِ أَمر الْفَتْوَى واشتغل عَلَيْهِ النَّاس قَالَ فِيهِ الْعِمَاد الْأَصْفَهَانِي فِي الخريدة، كَانَ عَلامَة الزَّمَان فِي علمه، ومعري الأَصْل فِي نثره ونظمه.
أنْشد لَهُ بَعضهم خَمْسَة أَبْيَات كالخمسة السيارات وَهِي:
(أَشْكُو إِلَى الله من نارين وَاحِدَة ... فِي وجنتيه وَأُخْرَى مِنْهُ فِي كَبِدِي)
(وَمن سقامين سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل فِي جَسَدِي)
(وَمن نمومين دمعي حِين أذكرهُ ... يذيع سري وواش مِنْهُ بالرصد)
(وَمن ضعيفين صبري حِين أذكرهُ ... ووده وَيَرَاهُ النَّاس طوع يَدي)
(مهفهف رق حَتَّى قلت من عجب ... أخصره خنصري أم جلده جلدي)
وَمن مليح شعره مغنياً:
(ومسمع غناءه ... يُبدل بالفقر الْغنى)
(أبصرته فَلم تخب ... فراستي لما دنا)
(وَقلت من ذَا وَجهه ... كَيفَ يكون محسناً)
(ورمت أَن أروج ... الظَّن بِهِ ممتحناً)
(فَقلت من بَينهم ... هَات أخي غن لنا)
(فاشتال مِنْهُ حَاجِب ... وحاجب مِنْهُ انحنى)
(وامتلأ الْمجْلس من ... فِيهِ غثاء منتناً)
(وَصَاح صَوتا مُنْكرا ... يخرج عَن حد الْبَنَّا)
(فَذا يسد أَنفه ... وَذَا يسد الأذنا)
(وَمِنْهُم جمَاعَة ... تستر عَنهُ الأعينا)
(فَقلت يَا قوم اسمعوا ... أما الْمُغنِي أَو أَنا)
(وَحين ولى شخصه ... قَرَأت فيهم مُعْلنا)
(الْحَمد لله الَّذِي ... أذهب عَنَّا الحزنا)
وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي هجو مغن وهما:
(غنى لنا يَوْم ... فَمَاتَ بدار رفاقي)
(يَا ليتنا فِي حجاز ... إِذا شدا فِي الْعرَاق)(2/59)
وبيتين لي أَيْضا فِي مدح مغن وهما:
(ومغن إِن شداكم منشداً ... أعذب الغي وأغوى العذبا)
(كالصبا هبت بأغصان الصِّبَا ... تطرب الْحَيّ وتحيي الطربا)
وَالله أعلم.
ذكر فتح المهدية
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة: وفيهَا: نَازل عبد الْمُؤمن المهدية وَأَخذهَا من الفرنج يَوْم عَاشُورَاء سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَملك جَمِيع إفريقية وَأعَاد إِلَيْهَا الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحبهَا أَولا ورحل إِلَى الْمغرب.
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملك شاه السلجوقي فِي ذِي الْحجَّة بالسل بِبَاب هَمدَان، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَكَانَ كَرِيمًا عَاقِلا، وَلما حَضَره الْمَوْت أودع ابْنه الصَّغِير عِنْد أقسنقر الأحمديلي علما أَن العساكر لَا تطيع مثله فَرَحل بِهِ إِلَى بَلَده مراغة، وَلما مَاتَ طلبت طَائِفَة من الْأُمَرَاء تمْلِيك أَخِيه ملك شاه وَطلبت طَائِفَة سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملك شاه الَّذِي كَانَ معتقلاً بالموصل وهم الْأَكْثَر وَطلبت طَائِفَة أرسلان بن طغرل بك الَّذِي مَعَ ايل دكر وَسَار أَخُوهُ ملك شاه إِلَى أَصْبَهَان فملكها.
وفيهَا: مرض نور الدّين بن زنكي مَرضا أرجف لَهُ بِمَوْتِهِ بقلعة حلب فَحَضَرَ أَخُوهُ أَمِير ميران قلعة حلب وَسَار شيركوه من حمص ليستولي على دمشق وَبهَا أَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب، فَأنْكر أَيُّوب ذَلِك وَقَالَ: أهلكتنا وَأَشَارَ على شيركوه فَعَاد إِلَى حلب مجداً وَجلسَ نور الدّين فِي شباك فَرَآهُ النَّاس فَتَفَرَّقُوا عَن أَخِيه أَمِير ميران واستقام الْحَال.
وفيهَا: أَزَال عَليّ بن مهْدي ملك بني نجاح كَمَا مر وَعلي من قَرْيَة العنيزة من سواحل زييد، كَانَ أَبوهُ مهْدي صَالحا، وَنَشَأ عَليّ كأبيه متمسكاً بالصلاح، حج وتعرف بالعراقيين، ثمَّ صَار واعظاً عَالما بالتفسير، حَافِظًا يتحدث فِي شَيْء من أَحْوَاله المستقبلات فَيصدق فمالت إِلَيْهِ الْقُلُوب، واستفحل أمره، فَسَار وَأقَام بالجبال إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ عَاد إِلَى أملاكه وَكَانَ يَقُول فِي وعظه: دنا الْوَقْت أزف الْأَمر كأنكم بِمَا أَقُول لكم وَقد رَأَيْتُمُوهُ عيَانًا. ثمَّ عَاد إِلَى حصن الشّرف بالجبال لبطن من خولان فأطاعوه وَسَمَّاهُمْ الْأَنْصَار وسمى من صعد مَعَه من تهَامَة الْمُهَاجِرين، وَأقَام سبا على خولان والتويتي على الْمُهَاجِرين وسمى كلا مِنْهُمَا شيخ الْإِسْلَام وجعلهما نقيبين على الطَّائِفَتَيْنِ لَا يخطبه غَيرهمَا وهما يوصلان كَلَامه إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَلَام الطَّائِفَتَيْنِ وحوائجهما إِلَيْهِ، وَشن الغارات حَتَّى أخلى الْبَوَادِي وَقطع الْحَرْث والقوافل، وَاسْتمرّ يحاصر زبيد حَتَّى قتل فاتك بن مُحَمَّد آخر مُلُوك بني نجاح، قَتله عُبَيْدَة وَجرى بَين ابْن مهْدي وَعبيد فاتك حروب كَثِيرَة، وَآخِرهَا أَنه انتصر(2/60)
وَاسْتقر فِي دَار الْملك بزبيد يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر رَجَب من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَبَقِي فِي الْملك شَهْرَيْن وَأحد عشر يَوْمًا، وَمَات فِي شَوَّال فَملك الْيمن ابْنه مهْدي ثمَّ ابْنه عبد النَّبِي بن مهْدي، ثمَّ خرجت المملكة عَن عبد النَّبِي الْمَذْكُور إِلَى أَخِيه عبد الله ثمَّ عَادَتْ إِلَى عبد النَّبِي وَاسْتمرّ إِلَى أَن فتح الْيمن توران شاه بن أَيُّوب من مصر سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَأسر عبد النَّبِي وَهُوَ آخِرهم.
وَكَانَ مَذْهَب عَليّ بن مهْدي التَّكْفِير بِالْمَعَاصِي، وَقتل من يُخَالف اعْتِقَاده من أهل الْقبْلَة واستباحة وَطْء نِسَائِهِم، واسترقاق ذَرَارِيهمْ وَقتل من شرب الْخمر وَسمع الْغناء. وَكَانَ حَنَفِيّ الْفُرُوع، وَأَصْحَابه يَعْتَقِدُونَ فِيهِ فَوق مَا يَعْتَقِدهُ النَّاس فِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة:
ذكر مسير سُلَيْمَان شاه إِلَى هَمدَان وَقَتله
لما مَاتَ مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه أرْسلت الْأُمَرَاء وطلبوا عَمه سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وَكَانَ قد اعتقل بالموصل مكرماً فجهزه قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل بجهاز يَلِيق بالسلطنة، وَسَار مَعَه زين الدّين عَليّ كجك بعسكر الْموصل إِلَى هَمدَان وَأَقْبَلت العساكر إِلَيْهِم، وَكَانَ عِنْد سُلَيْمَان تهور وإدمان شرب حَتَّى فِي رَمَضَان فَأَهْمَلَهُ الْعَسْكَر وصاروا لَا يحْضرُون بَابه، وَكَانَ قد رد الْأُمُور إِلَى شرف الدّين كردبازو من مَشَايِخ الخدام السلجوقية وَعِنْده دين وتدبير، فَشرب سُلَيْمَان يَوْمًا بالكشك ظَاهر هَمدَان فَحَضَرَ كردبازو ولامه فكشف بعض مساخر سُلَيْمَان لَهُ سوأته فحقد كردبازو وَعمل لَهُ دَعْوَة عَظِيمَة فِي دَاره وَقَبضه فِيهَا وحبسه مُدَّة ثمَّ أرسل إِلَيْهِ من خنقه، وَقيل سمه فَلَمَّا مَاتَ سَار إيلدكر فِي عشْرين ألفا وَمَعَهُ أرسلان شاه بن طغرل بك بن مُحَمَّد بن ملكشاه بن ألب أرسلان وَوصل هَمدَان فَلَقِيَهُ كردبازو وأنزله فِي دَار المملكة، وخطب لَهُ بالسلطنة وَكَانَ لأيلدكر من أم أرسلان شاه أَوْلَاد مِنْهُم البهلوان مُحَمَّد وقزل أرسلان عُثْمَان فبقى أيلدكر أتابك أرسلان والبهلوان أَخُو أرسلان لامه حَاجِبه، وَهَذَا أيلدكر كَانَ قد اشْتَرَاهُ السُّلْطَان مَسْعُود ثمَّ أقطعه أران من بِلَاد أذربيجان فَعظم، وَلما خطب لأرسلان شاه فِي تِلْكَ الْبِلَاد طلب ايلدكر أَن يخْطب لَهُ أَيْضا بِبَغْدَاد على عَادَة السلجوقية فَلم يجب إِلَى ذَلِك.
وفيهَا: توفّي الفائز بنصر الله أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن إِسْمَاعِيل الظافر خَليفَة مصر، وخلافته سِتّ سِنِين وَنَحْو شَهْرَيْن، ولي وعمره خمس سِنِين، وَلما مَاتَ دخل الصَّالح بن زريك الْقصر وَسَأَلَ عَمَّن يصلح فأحضر لَهُ مِنْهُم إِنْسَان كَبِير السن فَقَالَ بعض أَصْحَاب الصَّالح لَهُ: لَا يكون عَبَّاس أحزم مِنْك حَيْثُ اخْتَار الصَّغِير فأحضر العاضد لدين الله أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْأَمِير يُوسُف بن الْحَافِظ مراهقاً، وَبَايع لَهُ وزوجه الصَّالح ابْنَته وَنقل مَعهَا مَا لَا سمع بِمثلِهِ.(2/61)
وفيهَا: ثَانِي ربيع الأول (توفّي المقتفي) لأمر الله الْخَلِيفَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المستظهر بعلة التراقي، ومولده ثَانِي ربيع الآخر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَأمه أم ولد، وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَسِتَّة عشرَة يَوْمًا، وَكَانَ حسن السِّيرَة، أَقَامَ حشمة الدولة العباسية وَقطع عَنْهَا طمع السلاطين بذل الْأَمْوَال لأَصْحَاب الْأَخْبَار حَتَّى كَانَ لَا يفوتهُ شَيْء.
" بُويِعَ ابْنه " يُوسُف المستنجد بِاللَّه الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم، وَأمه طَاوس أم ولد، وَبَايَعَهُ أَهله وأقاربه، فَمنهمْ عَمه أَبُو طَالب وَأَخُوهُ أَبُو جَعْفَر بن المقتفي، وَكَانَ أكبر من المستنجد، ثمَّ بَايعه الْوَزير ابْن هُبَيْرَة، وقاضي الْقُضَاة وَغَيرهم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي خسروشاه بن بهْرَام شاه صَاحب غزنة وَكَانَ عادلاً، وَملك بعده ابْنه ملكشاه، وَقيل توفّي خسروشاه فِي حبس غياث الدّين الغوري، وَأَنه آخر مُلُوك بني سبكتكين حَسْبَمَا مر سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
وفيهَا: توفّي ملكشاه بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسموماً.
وفيهَا: حج أَسد الدّين شيركوه بن شادي مقدم جَيش نور الدّين مَحْمُود بن زنكي.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر توفّي عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن ملك الْغَوْر، وَكَانَ عادلاً.
وَملك بعده ابْن أَخِيه غياث الدّين مُحَمَّد كَمَا مر سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: تقدم الْمُؤَيد آي بِهِ بإمساك أَعْيَان نيسابور كَانُوا رُؤَسَاء للحرامية، وَأخذ الْمُؤَيد يقتل المفسدين فخربت نيسابور حَتَّى مَسْجِد عقيل مجمع الْعلمَاء والكتب الْوَقْف وَسبع عشرَة مدرسة شافعية، وأحرق وَنهب عدَّة من خَزَائِن الْكتب، وَأمر بإصلاح سور الشاذياخ، وسكنها هُوَ وَالنَّاس، فَلم يبْق بنيسابور أحد.
بنى الشاذياخ عبد الله بن طَاهِر أَمِير خُرَاسَان لِلْمَأْمُونِ ثمَّ خرجت ثمَّ جددت أَيَّام ألب أرسلان السلجوقي ثمَّ تشعثت حَتَّى أصلحها آي بِهِ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان (قتل الْملك الصَّالح) طلائع بن زريك الأرمني وَزِير العاضد الْعلوِي جهزت عَلَيْهِ عمَّة العاضد من قَتله وَهُوَ دَاخل الْقصر بالسكاكين وَحمل إِلَى بَيته جريحاً، وعتب على العاضد فتبرأ وَحلف وَأرْسل عمته إِلَيْهِ فَقَتلهَا، وَسَأَلَ من العاضد تَوْلِيَة ابْنه زريك، فولاه الوزارة ولقبه الْعَادِل.
وللصالح طلائع شعر حسن، فَمِنْهُ فِي الْفَخر:
(أَبى الله إِلَّا أَن يدين لنا الدَّهْر ... ويخدمنا فِي ملكنا الْعِزّ والنصر)
(علمنَا بِأَن المَال تفنى ألوفه ... وَيبقى لنا من بعده الْأجر وَالذكر)(2/62)
(خلطنا الندى بالبأس حَتَّى كأننا ... سَحَاب لَدَيْهِ الْبَرْق والرعد والقطر)
وفيهَا: ملك عِيسَى بن قَاسم بن أبي هَاشم مَكَّة، وَكَانَ أميرها قَاسم بن أبي فليته بن قَاسم فصادر المجاورين واعيان مَكَّة وهرب، فَلَمَّا وصل الْحَاج رتب أَمِير الْحَاج مَكَانَهُ عَمه عِيسَى الْمَذْكُور، ثمَّ جمع قَاسم وَقصد عِيسَى فَرَحل عِيسَى عَنْهَا فملكها قَاسم فكاتب الْعَرَب عِيسَى فَقدم إِلَيْهِم وهرب قَاسم إِلَى جبل أبي قبيس فَسقط عَن فرسه فَقتله أَصْحَاب عِيسَى فَغسله عِيسَى وَدَفنه بالمعلاة عِنْد أَبِيه أبي فليتة واستقرت مَكَّة لعيسى.
وفيهَا: عبر عبد الْمُؤمن الْمجَاز إِلَى الأندلس وَبنى على جبل طَارق مَدِينَة حَصِينَة أَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ عَاد إِلَى مراكش.
وفيهَا: ملك قرا أرسلان صَاحب حصن كيفا قلعة شَاتَان من الأكراد وخربها وأضاف عَملهَا إِلَى حصن طَالب.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا نَازل نور الدّين حارم، وَبهَا الفرنج وَعَاد لم يملكهَا.
وفيهَا: سَار الكرج فِي جمع عَظِيم وملكوا أردوين ونهبوها فَجمع أيلدكر صَاحب أذربيجان وغزاهم.
وفيهَا: وَقع قتال بَين صَاحب مَكَّة وأمير الْحَاج فَرَحل الْحَاج وَلم يقدر بَعضهم على الطّواف.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَكَانَ مِمَّن حج وَلم يطف جدته أم أَبِيه فوصلت بلادها على إحرامها فاستفتت الشَّيْخ أَبَا الْقَاسِم بن البرزي فَأفْتى أَنَّهَا إِذا دَامَت على مَا بَقِي من إحرامها إِلَى قَابل وطافت كمل حَجهَا، ثمَّ تفدي وتتحل ثمَّ تحرم إحراماً ثَانِيًا وتقف بِعَرَفَات وتكمل مَنَاسِك الْحَج فَتَصِير لَهَا حجَّة ثَانِيَة فَفعلت كَمَا قَالَ فتم حَجهَا الأول وَالثَّانِي.
وفيهَا: مَاتَ الكيا الصباحي صَاحب ألموت الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقَامَ ابْنه مقَامه فأظهر التَّوْبَة.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي الشَّيْخ عدي بن مُسَافر الزَّاهِد بِبَلَد الهكارية من أَعمال الْموصل، أَصله من بلد بعلبك وانتقل إِلَى الْموصل، وَتَبعهُ أهل السوَاد وَالْجِبَال وأحسنوا بِهِ الظَّن.
قلت: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام نور الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن جرير بن معضاد بن فضل اللَّخْمِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي كِتَابه بهجة الْأَسْرَار ومعدن الْأَنْوَار إِن شيخ الْإِسْلَام محيي الدّين عبد الْقَادِر الجيلي كَانَ يُنَوّه بِذكر عدي ويثني عَلَيْهِ كثيرا وَشهد لَهُ بالسلطنة وَقَالَ: لَو كَانَت النُّبُوَّة تنَال بالمجاهدة لنالها عدي بن مُسَافر.
وَعَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله البطايحي قَالَ: كَانَ الشَّيْخ عدي إِذا سجد سمع لمخه(2/63)
فِي رَأسه صَوت كصوت وَقع الْحَصَاة فِي الْقرعَة الْيَابِسَة من شدَّة المجاهدة وَأقَام فِي أول أمره فِي المفازات وَالْجِبَال والصحاري مُجَردا وسائحاً يَأْخُذ نَفسه بأنواع المجاهدات، وَكَانَت الْجبَال تألفه والهوام وَالسِّبَاع تألفه فِيهَا وَهُوَ أحد من تصدر لتربية المريدين الصَّادِقين بِبِلَاد الشرق، وانْتهى إِلَيْهِ تسليكهم وكشف مشكلات أَحْوَالهم، وَغسل تَاج العارفين أَبَا الْوَفَاء رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَهُوَ شَاب.
وَعَن الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن كَامِل الْحُسَيْنِي البيساني قَالَ: سَمِعت الشَّيْخ الْعَارِف أَبَا مُحَمَّد شاورالسيني الْمحلي بهَا يَقُول: صنع الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد وَلِيمَة ودعا إِلَيْهَا جَمِيع مَشَايِخ الْعرَاق وعلمائها فَحَضَرُوا كلهم إِلَّا الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عديا وَالشَّيْخ أَحْمد بن الرِّفَاعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِم، فَلَمَّا انْصَرف النَّاس قَالَ الْوَزير للخليفة: إِن الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عديا وَالشَّيْخ أَحْمد لم يحضروا؟ فَقَالَ الْخَلِيفَة: فَكَأَن لم يحضر إِذن أحد، ثمَّ أَمر حَاجِبه أَن يَأْتِي الشَّيْخ عبد الْقَادِر فيدعوه وَأَن يبطق إِلَى جبل الهكار وَإِلَى أم عُبَيْدَة ليحضر الشَّيْخ عديا وَالشَّيْخ أَحْمد قَالَ: فَقَالَ لي الشَّيْخ عبد الْقَادِر قبل أَن يقوم الْحَاجِب من مجْلِس الْخَلِيفَة وَقبل أَن تسطر البطاقات: يَا شاور اذْهَبْ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي بِظَاهِر بَاب الحلبة تَجِد فِيهِ الشَّيْخ عدي بن مُسَافر وَمَعَهُ اثْنَان فادعهم إِلَيّ ثمَّ اذْهَبْ إِلَى مَقْبرَة الشونيزي تَجِد فِيهَا الشَّيْخ أَحْمد بن الرِّفَاعِي وَمَعَهُ اثْنَان فادعهم إِلَيّ، قَالَ: فَذَهَبت إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي بِظَاهِر الحلبة فَوجدت الشَّيْخ عديا وَمَعَهُ اثْنَان، فَقلت: يَا سَيِّدي أجب الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة، وَقَامُوا فَذَهَبت مَعَهم فَقَالَ لي الشَّيْخ عدي: يَا شاور الا تذْهب إِلَى الشَّيْخ أَحْمد كَمَا امرك الشَّيْخ؟ قلت بلَى فَأتيت مَقْبرَة الشونيزي فَوجدت الشَّيْخ أَحْمد وَمَعَهُ اثْنَان فَقلت: يَا سَيِّدي أجب الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة، وَقَامُوا فتوافى الشَّيْخَانِ فِي بَاب رِبَاط الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَقت الْمغرب فَقَامَ إِلَيْهِم الشَّيْخ وتلقاهم فَمَا لَبِثُوا غير يسير حَتَّى جَاءَ الْحَاجِب إِلَى الشَّيْخ فوافاهما عِنْده فأسرع إِلَى الْخَلِيفَة وَأخْبرهُ باجتماعهم، فَكتب الْخَلِيفَة إِلَيْهِم بِخَطِّهِ يسألهم الْحُضُور وَبعث إِلَيْهِم وَلَده وحاجبه فَأَجَابُوهُ وذهبوا، وَأَمرَنِي الشَّيْخ بِالْمَسِيرِ مَعَه، فَلَمَّا كُنَّا بالشط إِذا الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَتَلقاهُ الْمَشَايِخ وَسَار مَعَهم فَأتى بِنَا إِلَى دَار حَسَنَة وَإِذا الْخَلِيفَة فِيهَا قَائِم مشدود الْوسط وَمَعَهُ خادمان وَلَيْسَ فِي الدَّار سواهُم، فَتَلقاهُمْ الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُم: يَا سادة إِن الْمُلُوك إِذا اجتازوا برعاياهم بسطوا لَهُم الْحَرِير ليطؤه، وَوضع لَهُم ذيله وسألهم أَن يمشوا عَلَيْهِ فَفَعَلُوا، وانْتهى بِنَا إِلَى سماط مُهَيَّأ فجلسوا وأكلوا وأكلنا مَعَهم، ثمَّ خَرجُوا وَأتوا إِلَى زِيَارَة قبر الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت لَيْلَة شَدِيدَة الظلمَة فَجعل الشَّيْخ عبد الْقَادِر كلما مر بِحجر أَو خَشَبَة أَو جِدَار أَو قبر أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ فيضيء كضوء الْقَمَر ويمشون فِي نوره إِلَى أَن يَنْتَهِي ضوءه فيشير الشَّيْخ إِلَى آخر فيضيء وَمَا زَالُوا يَمْشُونَ فِي النُّور وَلَيْسَ فيهم من يتَقَدَّم الشَّيْخ عبد الْقَادِر إِلَى قبر الإِمَام أَحْمد، فَدخل الْمَشَايِخ الْأَرْبَعَة يزورون ووقفنا على بَاب المزار حَتَّى خَرجُوا فَلَمَّا أَرَادوا ان يتفرقوا قَالَ الشَّيْخ عدي(2/64)
للشَّيْخ عبد الْقَادِر: أوصني، قَالَ: أوصيك بِالْكتاب وَالسّنة ثمَّ تفَرقُوا.
وَعَن خَادِم الشَّيْخ عدي قَالَ: خدمته سبع سِنِين، وَشهِدت لَهُ خارقات إِحْدَاهمَا إِنِّي صببت على يَدَيْهِ يَوْمًا مَاء فَقَالَ لي: مَا تُرِيدُ؟ فَقلت أُرِيد تِلَاوَة الْقُرْآن فَإِنِّي لَا أحفظ مِنْهُ سوى الْفَاتِحَة وَسورَة الْإِخْلَاص وَحفظه عَليّ عسير جدا فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي فَحفِظت الْقُرْآن كُله فِي وقتي، وَقلت لَهُ يَوْمًا: يَا سَيِّدي أَرِنِي شَيْئا من المغيبات فَأَعْطَانِي منديله وَقَالَ: ضَعْهُ على وَجهك فَوَضَعته، ثمَّ قَالَ لي: ارفعه فَرَفَعته فَرَأَيْت الْمَلَائِكَة الْكَاتِبين وَرَأَيْت مَا يسطرونه من أَعمال الْخَلَائق فأقمت على هَذِه الْحَالة ثَلَاثَة أَيَّام فتكدر عَليّ عيشي فاستغثت إِلَيْهِ، فَوضع ذَلِك المنديل على وَجْهي ثمَّ رفعته فاستتر عني ذَلِك الْأَمر كُله.
قَالَ: وَوصف لي يَوْمًا الشَّيْخ عقيلاً المنبجي وَهُوَ شيخ الشَّيْخ عدي فأطنب فِي ذكره. فَقلت: يَا سَيِّدي هَل لَك ان ترينيه فَأَعْطَانِي مرْآة وَأَمرَنِي أَن انْظُر فِيهَا فَنَظَرت شخصي ثمَّ توارى عني شخصي وَظهر لي شخص أرَاهُ وَلَا يخفي عني من وَجهه شَيْء فَقَالَ لي الشَّيْخ عدي: تأدب فَإِنَّهُ الشَّيْخ عقيل ودمت سَاعَة طَوِيلَة أنظرهُ كَذَلِك ثمَّ توارى عني وَظهر لي شخصي.
وَهُوَ الشَّيْخ شرف الدّين أَبُو الْفَضَائِل عدي بن مُسَافر بن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى بن مَرْوَان بن الْحسن بن مَرْوَان بن الحكم بن مَرْوَان الْأمَوِي.
وَفِي هَذَا الْكتاب الْمَذْكُور أَن أَصله من حوران، وَأَنه توفّي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة بلاكش.
وَكَانَ فَقِيها عَالما فصيحاً رَحْمَة الله عَلَيْهِ وعلينا، بِهِ ولعمري مَا أنصف الْمُؤلف فِي تَرْجَمته، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي صفر وزر شاور للعاضد الْعلوِي كَانَ يخْدم الصَّالح طلائع بن زريك فولاه الصَّعِيد ثمَّ عَزله الْوَزير الْعَادِل بن الصَّالح بن زريك فَجمع شاور جموعه وقصده فهرب وطرده وأمسكه وَقَتله وانقرضت بِهِ دولة بني زريك.
وَفِيه يَقُول عمَارَة اليمني:
(ولت ليَالِي بني زريك وانصرمت ... والمدح وَالشُّكْر فيهم غير منصرم)
(كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وَعَاد لَهُم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد وَلم يقم)
ووزر شاور وتلقب بأمير الجيوش وَأخذ أَمْوَال بني زريك، ثمَّ جمع الضرغام ونازعه فِي الوزارة فِي رَمَضَان، فَانْهَزَمَ شاور واستنجد بِنور الدّين، وَتمكن ضرغام وَقتل كثيرا من أُمَرَاء المصريين، فضعفت الدولة بذلك حَتَّى خرجت الْبِلَاد من أَيْديهم.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة توفّي عبد الؤمن بن عَليّ فِي سلا وَأخْبر عِنْد مَوته أَن ابْنه(2/65)
مُحَمَّدًا لَا يصلح وَأَن ابْنه يُوسُف يصلح فقدموه وَبَايَعُوهُ وَولَايَة عبد الْمُؤمن ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَكسر، وَكَانَ سائسا سفاكاً للدم على الذَّنب الصَّغِير مُعظما للدّين وَالصَّلَاة وَجمع النَّاس على فروع مَالك وأصول الْأَشْعَرِيّ.
وفيهَا: ملك الْمُؤَيد آي بِهِ قومس فَأرْسل إِلَيْهِ أرسلان بن طغرل بك خلعة وألوية فَلبس الْمُؤَيد الْخلْع وخطب لَهُ فِي بِلَاده.
وفيهَا: كبس الفرنج نور الدّين فِي البقيعة تَحت حصن الأكراد فَركب نور الدّين فرسا وَفِي رجله الشَّجَّة فقطعها كردِي فنجا نور الدّين وَقتل الْكرْدِي فَوقف على مخلفيه الْوُقُوف وَسَار إِلَى بحيرة حمص وتلاحقه الْمُسلمُونَ.
وفيهَا: أجلى المستنجد بني أَسد أهل الْحلَّة المزيدية فَقتل مِنْهُم وهرب الْبَاقُونَ وتشتتوا لفسادهم وسلمت بِلَادهمْ إِلَى ابْن مَعْرُوف.
وفيهَا: توفّي سديد الدولة مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن إِبْرَاهِيم بن الْأَنْبَارِي كَاتب إنْشَاء الْخلَافَة، فَاضل أديب عمره نَحْو تسعين.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا بذل شاور الهارب من ضرغام لنُور الدّين ثلث أَمْوَال مصر بعد رزق جندها أَن أَعَادَهُ إِلَى الوزارة فَأرْسل مَعَه أَسد الدّين شيركوه بن شاذي فِي عَسْكَر فوصل مصر وَهزمَ عَسْكَر ضرغام عِنْد قبر السيدة نفيسة، وَعَاد شاور وزيراً للعاضد ثمَّ لم يقم شاور لنُور الدّين بِشَيْء من شَرطه، فَسَار أَسد الدّين وَاسْتولى على بلبيس والشرقية، فاستنجد شاور بالفرنج مَعَ عَسْكَر مصر، وحصروا شيركوه ببلبيس ثَلَاثَة أشهر، وَبلغ الفرنج حَرَكَة نور الدّين، وَأَخذه حارم فصالحوا شيركوه، فَرجع إِلَى الشَّام بعسكره سالما.
وفيهَا: فِي رَمَضَان فتح نور الدّين قلعة حارم من الفرنج؛ وَقَاتلهمْ فانتصر، وَقتل وَأسر، وَمِمَّنْ أسر الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية، والقومس صَاحب طرابلس.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة فتح نور الدّين بانياس من الفرنج: كَانَت بيدهم من سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي جمال الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور الْأَصْبَهَانِيّ وَزِير مودود بن زنكي صَاحب الْموصل فِي شعْبَان مَقْبُوضا عَلَيْهِ من جِهَة مخدومة من سنة ثَمَان وَخمسين، وَكَانَ قد تعاهد الْوَزير وشيركوه أَن من مَاتَ مِنْهُمَا نَقله الآخر إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، فنقله شيركوه، ورتب من يقْرَأ الْقُرْآن عِنْد شيله وحطه وَنُودِيَ فِي كل بلد نزلوه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلما أَرَادوا الصَّلَاة عَلَيْهِ بالحلة صعد شَاب على مَوضِع موتفع وَأنْشد:
(سرى نعشه فَوق الرّقاب وطالماً ... سرى جوده فَوق الركاب ونائله)
(يمر على الْوَادي فتثني رماله ... عَلَيْهِ وبالنادي فتثني أرامله)(2/66)
وطيف بِهِ حول الْكَعْبَة وَدفن بِالْمَدِينَةِ فِي رِبَاط بناه لنَفسِهِ وَبَين قَبره وقبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْو خَمْسَة عشر ذِرَاعا.
وجمال الدّين هَذَا هُوَ الَّذِي جدد مَسْجِد الْخيف بمنى، وَبنى الْحجر بِجَانِب الْكَعْبَة وزخرف الْكَعْبَة وبذل جملَة طائلة لصَاحب مَكَّة وللمقتفي حَتَّى مكنه من ذَلِك، وَبنى الْمَسْجِد الَّذِي على عَرَفَات وَعمل الدرج إِلَيْهِ وَعمل بِعَرَفَات مصانع المَاء، وَبنى سوراً على الْمَدِينَة، وَبنى على دجلة جِسْرًا عِنْد جَزِيرَة ابْن عمر بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد، والرصاص، والكلس، فَقبض قبل أَن يفرغ، وَبنى الرَّبْط وَغَيرهَا.
وفيهَا: توفّي نصر بن خلف ملك سجستان وعمره فَوق الْمِائَة وملكة ثَمَانُون سنة، وَملك بعده ابْنه أَبُو الْفَتْح أَحْمد.
وفيهَا: توفّي الإِمَام عمر الْخَوَارِزْمِيّ خطيب بَلخ ومفتيها وَالْقَاضِي أَبُو بكر المحمودي ذُو التصانيف، وَله مقامات فارسية.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي شاه مازندران رستم بن عَليّ بن شهريار بن قَارن، وَملك بعده ابْنه عَلَاء الدّين الْحسن.
وفيهَا: ملك الْمُؤَيد آي بِهِ هراة.
وفيهَا: كَانَ بَين قلج أرسلان بن مَسْعُود صَاحب قونية وَغَيرهَا وَبَين باغي أرسلان بن الدانشمند صَاحب ملطية حروب انهزم فِيهَا قلج أرسلان وَاتفقَ موت باغي أرسلان فِي تِلْكَ الْمدَّة فَملك ملطية ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الدانشمند وَاسْتولى ذُو النُّون بن مُحَمَّد بن الدانشمند على قيسارية.
وَملك شاهان شاه بن مَسْعُود أَخُو قلج أرسلان مَدِينَة أنكورية، واصطلحوا على ذَلِك.
وفيهَا: توفّي عون الدّين بن هُبَيْرَة الْوَزير واسْمه يحيى بن مُحَمَّد بن المظفر، وَدفن بمدرسته الحنبلية بِبَاب الْبَصْرَة، كَانَ يعظمه المقتفي، وَلما مَاتَ قبض على أَوْلَاده وَأَهله.
قلت: هَذَا مُشكل، فالمقتفي توفّي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، والوزير توفّي هَذِه السّنة وَإِن كَانَ الْوَزير هُوَ الَّذِي قبض على أَوْلَاد المقتفي وَأَهله فَأَيْنَ النَّقْل بِهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عمر بن عِكْرِمَة بن البرزي الشَّافِعِي تلميذ الكيا أوحد فِي الْفِقْه من جَزِيرَة ابْن عمر.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله بن التلميذ وَقد ناهز الْمِائَة، كَانَ طَبِيب الْخلَافَة حظي عِنْد المقتفي حاذقاً أديباً عَالما مُصِيب الْفِكر قسيساً لِلنَّصَارَى يتعجب مِنْهُ الْفُضَلَاء كَيفَ حرم الْإِسْلَام، وَكَانَ بَينه وَبَين أبي البركات هبة الله بن ملكان الْحَكِيم تنافس على الْعَادة، وَكَانَ أَبُو البركات يَهُودِيّا فَأسلم شَيخا وجذم فتداوى وبرأ مِنْهُ، لَكِن عمي، وَكَانَ متكبراً وَابْن التلميذ متواضع فَعمل ابْن التلميذ فِيهِ.
(لنا صديق يَهُودِيّ حماقته ... إِذا تكلم تبدو فِيهِ من فِيهِ)(2/67)
(يتيه وَالْكَلب أَعلَى مِنْهُ منزلَة ... كَأَنَّهُ بعد لم يخرج من التيه)
وَلابْن التلميذ أَيْضا:
(يَا من رماني عَن قَوس فرقته ... بِسَهْم هجر على تلافيه)
(ارْض لمن غَابَ عَنْك غيبته ... فَذَاك ذَنْب عِقَابه فِيهِ)
وَله أقراباذين وحواشي كليات القانون وَشَيْخه فِي الطِّبّ أَبُو الْحسن هبة الله بن سعيد صَاحب الْمُغنِي فِي الطِّبّ وَصَاحب الْإِقْنَاع.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر توفّي الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن أبي صَالح الجيلي بِبَغْدَاد ومولده سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ حنبلي الْمَذْهَب.
قلت: هُوَ الشَّيْخ محيي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن أبي صَالح مُوسَى جنكي دوست بن أبي عبد الله بن يحيى الزَّاهِد بن مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُوسَى بن عبد الله بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض المجل بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم سبط أبي عبد الله الصومعي ينْسب إِلَى جيل بِكَسْر الْجِيم بِلَاد مُتَفَرِّقَة وَرَاء طبرستان، وَيُقَال لَهَا أَيْضا جيلان وَكيل وكيلان والصومعي الْمَذْكُور من جلة مَشَايِخ جيلان، لَهُ الْأَحْوَال والكرامات، وَأمه أم الْخَيْر أمة الْجِيَاد فَاطِمَة بنت أبي عبد الله الصومعي، لَهَا أَحْوَال وكرامات، قَالَت غير مرّة: لما وضعت ابْني عبد الْقَادِر كَانَ لَا يرضع ثدييه فِي نَهَار رَمَضَان، وغم على النَّاس هِلَال رَمَضَان فأتوني وسألوني عَنهُ فَقلت: لم يلتقم الْيَوْم ثدياً، ثمَّ اتَّضَح أَن ذَلِك الْيَوْم كَانَ من رَمَضَان.
وَقَوله فِي النّسَب الجون: هُوَ لقب لمُوسَى، وَكَانَ آدم اللَّوْن، وَله تَقول أمة هِنْد بنت أبي عُبَيْدَة:
(إِنَّك أَن تكون جوناً انزعا ... أَجْدَر أَن تَضُرهُمْ أَو تنفعا)
وحملت بِهِ وَهِي ابْنة سِتِّينَ سنة، وَيُقَال: لَا تحمل لستين سنة إِلَّا قرشية وَلَا لخمسين إِلَّا عَرَبِيَّة وَأم ابْنه عبد الله أم سَلمَة بنت مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم، والمحض لقب لعبد الله بِمَعْنى الْخَالِص لِأَن أَبَاهُ الْحسن بن الْحسن بن عَليّ وَأمه فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن بن عَليّ فنسبه من أَبَوَيْهِ خَالص لسلامته من الموَالِي وانتهائه إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه، والمجل بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم من الإجلال اسْم مفعول من أجللته.
وَفَاطِمَة: هَذِه خلف عَلَيْهَا بعد الْحسن ابْن الْحسن.
عبد الله الْمطرف: بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان وَولد لَهُ مُحَمَّد الديباج لقب بِهِ لحسنه، ولقب أَبوهُ بالمطرف لجماله، وَأم الْمطرف حَفْصَة بنت عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم.
والمطرف بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء من أطرفته بِكَذَا، وَكَانَ الشَّيْخ نحيف الْبدن ربع(2/68)
الْقَامَة عريض الصَّدْر واللحية طويلها أسمر مقرون الحاجبين حفياً ذَا صَوت جَهورِي، كَانَ يجلس لوعظه رجلَانِ وَثَلَاثَة، ثمَّ تسامعوا وازدحموا فَجَلَسَ فِي الْمصلى بِبَاب الحلبة ثمَّ ضَاقَ بهم الوسع فَحمل الْكُرْسِيّ إِلَى خَارج الْبَلَد وَجعل فِي الْمصلى وَجَاء النَّاس على الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وَالْجمال يقفون بمدار الْمجْلس كالسور، وَكَانَ يحضر مَجْلِسه نَحْو من سبعين ألفا، وَأَن الْأَوْلِيَاء وَالْمَلَائِكَة ليزدحمون فِي مَجْلِسه، وَمن لَا يرى فِيهِ أَكثر مِمَّن يرى.
وَعَن الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أبي نصر بن عمر الْبَغْدَادِيّ المشاه الصحراوي قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: استدعيت الجان مرّة بالعزائم وأبطأت عَليّ إجابتهم أَكثر من عادتي ثمَّ أَتَوْنِي وَقَالُوا لي: لَا تعد تستدعينا إِذا كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يتَكَلَّم على النَّاس، فَقلت: وَلم؟ قَالُوا بالحضرة، قلت وَأَنْتُم أَيْضا؟ قَالُوا: إِن ازدحامنا بمجلسه أَشد من ازدحام الْإِنْس، وَإِن منا طوائف كَثِيرَة أسلمت وتابت على يَدَيْهِ.
وَعَن أبي الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن الْحَنْبَلِيّ العكبري قَالَ: سَمِعت يحيى بن نجاح الأديب يَقُول: قلت فِي نَفسِي أُرِيد أحصي كم يقص الشَّيْخ عبد الْقَادِر شعرًا من الثَّوَاب فِي مجْلِس وعظه، فَحَضَرت الْمجْلس وَمَعِي خيط فَكلما قصّ شعرًا عقدت عقدَة تَحت ثِيَابِي فِي الْخَيط وَأَنا فِي آخر النَّاس وَإِذا بِهِ يَقُول: أَنا أحل وَأَنت تعقد.
وَعَن الْخضر الْحُسَيْنِي الْموصِلِي أَن الشَّيْخ كَانَ يتَكَلَّم فِي أول مَجْلِسه بأنواع الْعُلُوم وَكَانَ إِذا صعد الْكُرْسِيّ لَا يبصق أحد وَلَا يتمخط وَلَا يَتَنَحْنَح وَلَا يتَكَلَّم وَلَا يقوم هَيْبَة لَهُ إِلَى وسط الْمجْلس فَيَقُول الشَّيْخ مضى القال وعطفاً بِالْحَال فيضطرب النَّاس اضطراباً شَدِيدا ويتداخلهم الْحَال والوجد، وَكَانَ يعد من كراماته أَن أقْصَى النَّاس فِي مَجْلِسه يسمع صَوته كَمَا يسمعهُ أَدْنَاهُم مِنْهُ على كثرتهم، وَكَانَ يتَكَلَّم على خواطر أهل الْمجْلس ويواجههم بالكشف.
وَكَانَ النَّاس يضعون أَيْديهم فِي مَجْلِسه فَتَقَع على رجال بَينهم يدركونهم باللمس وَلَا يرونهم ويسمعون وَقت كَلَامه فِي الفضاء حسا وصياحاً، وَرُبمَا سمعُوا وجبة سَاقِطَة من الجو إِلَى أَرض الْمجْلس وَذَلِكَ رجال الْغَيْب وَغَيرهم.
وَعَن الْحَافِظ أبي زرْعَة طَاهِر بن مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي الرَّازِيّ قَالَ: حضرت مجْلِس الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي بِبَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة فَسَمعته يَقُول: إِنَّمَا كَلَامي على رجال يحْضرُون مجلسي من وَرَاء جبل قَاف أَقْدَامهم فِي الْهَوَاء وَقُلُوبهمْ فِي حَضْرَة الْقُدس، تكَاد قلانسهم وطواقيهم تحترق من شدَّة شوقهم إِلَى رَبهم عز وَجل، وَكَانَ ابْنه عبد الرَّزَّاق إِذْ ذَاك جَالِسا على الْمِنْبَر تَحت رجل أَبِيه فَرفع رَأسه إِلَى الْهَوَاء فشخص سَاعَة ثمَّ غشى عَلَيْهِ واحترقت طاقيته وزيقه فَنزل الشَّيْخ وأطفأها، وَقَالَ: وَأَنت أَيْضا يَا عبد الرَّزَّاق مِنْهُم، وَقَالَ: فَسَأَلت عبد الرَّزَّاق مَا أغشاه؟ فَقَالَ: لما نظرت إِلَى الْهَوَاء رَأَيْت(2/69)
رجَالًا واقفين مطرقين منصتين لكَلَامه وَقد ملأوا الْأُفق وَفِي لباسهم وثيابهم النَّار، وَمِنْهُم من يصبح ويعد فِي الْهَوَاء وَمِنْهُم من يسْقط إِلَى أَرض الْمجْلس وَمِنْهُم من يرعد فِي مَكَانَهُ وَكَانَ يكْتب مَا يَقُول فِي مَجْلِسه أَرْبَعمِائَة محبرة عَالم وَغَيره، قَالَه فِي بهجة الْأَسْرَار.
وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ كثيرا مَا يخطو فِي الْهَوَاء فِي مَجْلِسه على رُؤُوس النَّاس خطوَات ثمَّ يرجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَكم مَاتَ فِي مَجْلِسه من رجل، وَكَانَ يحضرهُ مثل الشَّيْخ بغابن بطو وَالشَّيْخ أبي سعد القيلوني وَالشَّيْخ عَليّ بن الهبتي وَالشَّيْخ نجيب الدّين عبد الْقَادِر السهروردي وَالشَّيْخ أبي حَكِيم بن دِينَار وَالشَّيْخ ماجد الْكرْدِي وَالشَّيْخ مطر الباذراني وَالْقَاضِي أبي يعلى مُحَمَّد بن الْفراء وَالْقَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن الدَّامغَانِي وَالْإِمَام أبي الْفَتْح بن المنى.
وَكَانَ الشَّيْخ عدي بن مُسَافر غير مرّة يخرج من زاويته بلاكش إِلَى الْجَبَل ويدير دارة بعكازة ويدخلها وَيَقُول: من أَرَادَ أَن يسمع كَلَام الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَلْيدْخلْ هَذِه الدارة فيدخلها أكَابِر أَصْحَابه ويسمعون كَلَامه وَرُبمَا كتب بَعضهم مَا يسمعهُ، وأرخ ذَلِك الْيَوْم وَيَأْتِي بَغْدَاد ويقابل مَا كتبه بِمَا كتبه أهل بَغْدَاد من كَلَام الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم فيتفقان.
وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يَقُول: فِي الْوَقْت الَّذِي يدْخل فِيهِ الشَّيْخ عدي الدارة لأهل مَجْلِسه عبر الشَّيْخ عدي بن مُسَافر فِيكُم.
وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ الفرنتي: رَأَيْت أَرْبَعَة من الْمَشَايِخ يتصرفون فِي قُبُورهم كتصرف الْأَحْيَاء: الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ مَعْرُوف الْكَرْخِي وَالشَّيْخ عقيل المنبجي وَالشَّيْخ حَيَاة بن قيس رَضِي الله عَنْهُم.
وَقدم رضى الله عَنهُ بَغْدَاد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَقَرَأَ الْقُرْآن وأتقنه، وتفقه على كثيرين مذهبا وَخِلَافًا وأصولاً، وَسمع الحَدِيث من خلق أكَابِر، وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي تلميذ أبي الْعَلَاء المعري وَصَحب الشَّيْخ الْعَارِف أَبَا الْخَيْر قدوة الْمُحَقِّقين حماداً الدياس وَأخذ عَنهُ علم الطَّرِيقَة وَأخذ الْخِرْقَة الشَّرِيفَة من يَد القَاضِي أبي سعد المخرمي، وَلَقي جمَاعَة من أَعْيَان زهاد الزَّمَان وَعُظَمَاء العارفين بالعجم وَالْعراق.
وَلَقَد كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية الْحَنْبَلِيّ رَحمَه الله يَقُول: كرامات الشَّيْخ عِنْد الْقَادِر ثَابِتَة بالتواتر، والمؤلف رَحمَه الله قصر فِي تَرْجَمته وَأطَال القَوْل فِي ذكر من قد لَا يعبأ الله بِهِ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا عَاد شيركوه بألفي فَارس إِلَى الديار المصرية من عِنْد نور الدّين فاستولى على الجيزة فاستنجد شاور بالفرنج والتقوا عَليّ الإيوان فَهَزَمَهُمْ شيركوه.
ثمَّ ملك الْإسْكَنْدَريَّة وَجعل فِيهَا ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف وَاجْتمعَ عَسْكَر مصر والفرنج وحصروا صَلَاح الدّين بالإسكندرية ثَلَاثَة أشهر، فَسَار شيركوه إِلَيْهِم فَصَالحهُمْ على(2/70)
تَسْلِيم الْإسْكَنْدَريَّة إِلَيْهِم ويحملون لَهُ مَالا فَعَاد عَنْهُم واصطلح الفرنج والمصريون على شحنة للفرنج بِالْقَاهِرَةِ، وَتَكون أَبْوَابهَا بيد فرسانهم، وَلَهُم من دخل مصر كل سنة مائَة ألف دِينَار.
وفيهَا: فتح نور الدّين صافيتا والعريمة.
وفيهَا: عصى غَازِي بن حسان صَاحب منبج على نور الدّين فسير إِلَيْهِ عسكراً فحصروه وَأخذ مِنْهُ منبج وأقطعها لقطب الدّين نيال أخي غَازِي الْمَذْكُور، إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي فَخر الدّين قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق صَاحب حصن كيفا، وَملك بعده ابْنه نور الدّين مَحْمُود.
قلت: وفيهَا تَقْرِيبًا توفّي الشَّيْخ ماجد الْكرْدِي بجبل حمرين من الْعرَاق، وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال فاخرة، تخرج بِصُحْبَتِهِ أَعْيَان، وَقصد من كل أفق وَمَكَان.
وَمن كَلَامه: الصمت عبَادَة من غير عناء، وزينة من غير حلي وهيبة من غير سُلْطَان وحصن من غير سور، وراحة الْكَاتِبين، وغنية من الِاعْتِذَار وَكفى بِالْمَرْءِ علما أَن يخْشَى الله تَعَالَى، وَكفى بِهِ جهلا أَن يعجب بِنَفسِهِ، وَالْعجب فضل حمق يُغطي بِهِ صَاحبه عُيُوب نَفسه، فَلم يدر أَيْن يذهب بِهِ فَصَرفهُ إِلَى الْكبر وَمَا خلق الله سُبْحَانَهُ من عَجِيبَة إِلَّا ونقشها فِي صُورَة الْآدَمِيّ، وَلَا أوجد أمرا غَرِيبا إِلَّا وسلكه فِيهَا، وَلَا أبرز سرا إِلَّا وَجعل فِيهِ مِفْتَاح علمه، فَهُوَ نُسْخَة مختصرة من الْعَالم.
وَعَن الشَّيْخ ذِي الكرامات مَكَارِم القوساني ذِي الشُّهْرَة الْعَظِيمَة بقوسان، قَالَ: جَاءَ رجل من أَصْحَابنَا إِلَى الشَّيْخ ماجد الْكرْدِي مودعاً حَاجا فِي غير أشهر الْحَج على قدم التَّجْرِيد بِلَا زَاد وَلَا رَفِيق، فَأخْرج لَهُ الشَّيْخ ماجد ركوته وَقَالَ: هَذَا مَاء إِن أردْت الْوضُوء وَلبن إِن عطشت وَسَوِيق إِن جعت، فَوجدَ مِنْهَا الرجل كل مَا قَالَه الشَّيْخ سفرا وَإِقَامَة بالحجاز ورجوعاً إِلَى الْعرَاق، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فَارق زين الدّين عَليّ كجك بن بكتكين نَائِب مودود بن زنكي مخدومه، وَاسْتقر فِي أربل إقطاعه وَاقْتصر عَلَيْهَا لعماه وطرشه.
وفيهَا: توفّي عبد الْكَرِيم أَبُو سعد مُحَمَّد بن الْمَنْصُور بن أبي بكر المظفر السَّمْعَانِيّ الْفَقِيه الْمروزِي الشَّافِعِي مكثر من سَماع الحَدِيث، سَافر فِي طلبه إِلَى بِلَاد يطول ذكرهَا، تزيد شُيُوخه على أَرْبَعَة آلَاف، وَله كتاب الْأَنْسَاب ثَمَانِيَة مجلدات، وذيل تَارِيخ مرو.
وَكَانَ ابْن الْجَوْزِيّ يَقُول: إِنَّه كَانَ يَأْخُذ الشَّيْخ بِبَغْدَاد ويغربه إِلَى مَا فَوق نهر عِيسَى، وَيَقُول: حَدثنِي فلَان بِمَا وَرَاء النَّهر وَهَذَا بَارِد فَأَي حَاجَة للسمعاني إِلَى هَذَا التَّدْلِيس، وَقد سَافر إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وذنبه عِنْد ابْن الْجَوْزِيّ أَنه شَافِعِيّ، فَابْن الْجَوْزِيّ لم يبْق على أحد غير الْحَنَابِلَة.(2/71)
ومولده السَّمْعَانِيّ فِي شعْبَان سنة سِتّ وَخَمْسمِائة، وَهُوَ إِمَام ابْن إِمَام ابْن إِمَام أَبُو إِمَام، فَإِن ابْنه أَبَا المظفر عبد الرَّحِيم كَانَ رحْلَة أَيْضا، ونسبته أَيْضا إِلَى سمْعَان بطن من تَمِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك نور الدّين قلعة جعبر من صَاحبهَا شهَاب الدّين مَالك بن عَليّ بن مَالك بن سَالم بن مَالك بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ، كَانَت بِأَيْدِيهِم من أَيَّام السُّلْطَان ملك شاه وَلم يقدر نور الدّين عَلَيْهَا إِلَّا بعد أَن أسرت بَنو كلاب صَاحبهَا فَاسْتَحْضرهُ واجتهد بِهِ على تَسْلِيمهَا فَأبى فَأرْسل عَسْكَر مقدمه فَخر الدّين مَسْعُود بن أبي عَليّ الزَّعْفَرَانِي وَردفهُ بعسكر مقدمه مجد الدّين أبي بكر بن الداية رَضِيع نور الدّين وحصروها فَمَا نالوها وَفِي الآخر عوضه عَنْهَا سروج وأعمالها والملوحة وَعشْرين ألف دِينَار مُعجلَة، وناب فِي بزاعة وتسلمها.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي ببلدة زريدان من أَعمال نهر الْملك وَقد زَاد على مائَة وَعشْرين سنة وقبره بهَا يزار.
وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأفعال خارقة، وَهُوَ أحد من تذكر عَنهُ القطبية وَأحد الْأَرْبَعَة الَّذين تسميهم مَشَايِخ الْعرَاق البروة على معنى أَنهم يبرؤن الأكمة والأبرص وهم الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي، وَالشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَالشَّيْخ بَقَاء بن بطو، وَالشَّيْخ أَبُو سعد القليوبي.
وَكَانَ قد اعترى الصمم الشَّيْخ مُحَمَّد الْخياط الْوَاعِظ الْبَغْدَادِيّ وَجرى ذكر البروة فَقَالَ: اللَّهُمَّ بحرمتهم عاف سَمْعِي فَزَالَ صممه فِي الْحَال، قَالَ أَبُو الْفرج الصرصري وَأَنا رَأَيْته أَصمّ، ورأيته يسمع التناجي، وألبس أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَبَا بكر بن هوار فِي الْيَوْم خرقتين ثوبا وطاقية، فَاسْتَيْقَظَ فوجدهما عَلَيْهِ وأعطاهما لمريده الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الشنبكي وأعطاهما الشنبكي لمريده تَاج العارفين أبي الْوَفَاء وأعطاهما تَاج العارفين لمريده الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي وأعطاهما ابْن الهيتي لمريده الشَّيْخ عَليّ بن إِدْرِيس، ثمَّ فقدتا من بعده، وَابْن الهيتي الَّذِي أَتَاهُ الْخطاب يَا ملكي تصرف فِي ملكي.
وَقَالَ عبد الْقَادِر: كل من دخل بَغْدَاد من الْأَوْلِيَاء من عَالم الْغَيْب، أَو الشَّهَادَة، فَهُوَ فِي ضيافتنا وَنحن فِي ضِيَافَة الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَكَانَ يتَمَثَّل بِهَذِهِ الأبيات:
(إِن رحت أطلبه لَا يَنْقَضِي سَفَرِي ... أَو جِئْت أحضرهُ أوحشت فِي الْحَضَر)
(فَمَا أرَاهُ وَلَا يَنْفَكّ عَن نَظَرِي ... وَفِي ضميري وَلَا أَلْقَاهُ فِي عمري)
(فليتني غبت عَن جسمي بِرُؤْيَتِهِ ... وَعَن فُؤَادِي وَعَن سَمْعِي وَعَن بَصرِي)
وَفِي بهجة الْأَسْرَار أَنه قَالَ: لَو دنت نملة دهماء فِي لَيْلَة ظلماء على صَخْرَة سَوْدَاء من جبل قَاف وَلم يعلمني بهَا رَبِّي مِنْهُ إِلَيّ بِلَا وَاسِطَة، ويطلعني عَلَيْهَا عيَانًا لتفطرت مرارتي.
وَركب مرّة دَابَّته وأتى بَلْدَة من أَعمال نهر الْملك وَنزل عِنْد رجل فاحتفل بِهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: إذبح هَذِه الدَّجَاجَة وَهَذِه وَهَذِه فَفعل فَخرج من بطونها حبات ذهب، وَكَانَت أُخْته(2/72)
قد فقدت عنبرية من ذهب فاتهمها أَهلهَا وهموا بقتلها تِلْكَ اللَّيْلَة، فَقَالَ: إِن الله أطلعني على مَا فِي نفوسكم واستأذنت رَبِّي فِي أَن أكشف لكم عَن هَذِه الْقَضِيَّة، وأنفذكم من الهلكة، فَأذن لي، وكراماته كَثِيرَة مَشْهُورَة وَالله أعلم.
ذكر ملك شيركوه مصر، وَقتل شاور وبتداء الدولة الأيوبية
فِيهَا: فِي ربيع الأول سَار أَسد الدّين شيركوه بن شاذي بالعسكر النوري إِلَى مصر وَكَانَ قد أرسل العاضد الْخَلِيفَة يستغيث بِنور الدّين، وَأرْسل فِي الْكتب شُعُور النِّسَاء لِأَن الفرنج ملكوا بلبيس قتلا وسبياً ونهباً، وحصروا الْقَاهِرَة فِي عَاشر صفر، وأحرق شاور مصر لِئَلَّا يملكهَا الفرنج، وَأمر أَهلهَا بالانتقال إِلَى الْقَاهِرَة، وَبقيت النَّار تحرقها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دِينَار.
وَمِمَّنْ أرسل نور الدّين مَعَ شيركوه إِلَى مصر ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف كَارِهًا أحب نور الدّين مسيره.
وَفِيه: ذهَاب الْملك من بَيته وَكره صَلَاح الدّين الْمسير.
وَفِيه: ملكه وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم، وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم.
وَمن جملَة مَا أعْطى نور الدّين شيركوه لهَذِهِ الْحَرَكَة مِائَتي ألف دِينَار سوى الثِّيَاب وَالدَّوَاب وَالسِّلَاح وأنفقت فِي الْعَسْكَر، فَلَمَّا قَارب شيركوه مصر رَحل عَنْهَا الفرنج إِلَى بِلَادهمْ وَوصل الْقَاهِرَة فِي رَابِع ربيع الآخر وَاجْتمعَ بالعاضد، وخلع عَلَيْهِ وَعَاد إِلَى خيامه، وأجرى على شيركوه الإقامات وماطله شاور فِيمَا كَانَ بذل لنُور الدّين من تَقْرِير الال وإفراد ثلث المَال وَصَارَ يعده ويمنيه ويركب إِلَيْهِ وعزم على عمل دَعْوَة يقبض فِيهَا على شيركوه فَمَنعه ابْنه الْكَامِل بن شاور، فعزم الْعَسْكَر النوري على الفتك بشاور وَلَا سِيمَا صَلَاح الدّين، وجرد بك، فنهاهم شيركوه عَنهُ.
وَاتفقَ أَن شاور ركب إِلَى شيركوه على عَادَته فَلم يجده وَكَانَ قد مضى لزيارة قبر الإِمَام الشَّافِعِي فَسَار صَلَاح الدّين وجرد بك مَعَ شاور إِلَى شيركوه ووثب صَلَاح الدّين وجرد بك وَمن مَعَهُمَا على شاور وألقوه إِلَى اأرض وأمسكوه فِي سَابِع ربيع الآخر فهرب أَصْحَابه، ثمَّ لم يُمكن شيركوه إِلَّا إتْمَام ذَلِك وَبلغ العاضد ذَلِك فَطلب مِنْهُ إرْسَال رَأس شاور فَقتله وَأرْسل إِلَى العاضد بِرَأْسِهِ ثمَّ دخل شيركوه الْقصر فَخلع عَلَيْهِ العاضد خلع الوزارة، ولقبه الْملك الْمَنْصُور أَمِير الجيوش، وَكتب منشوره بالإنشاء الفاضلي، وَكتب العاضد بِخَطِّهِ على طرته هَذَا عهد لم يعْهَد لوزير بِمثلِهِ فتقلد أَمَانَة رآك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَهلا لحملها وخد كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِقُوَّة واسحب ذيل الفخار بِأَن اعتزت خدمتك إِلَى نبوة النُّبُوَّة.(2/73)
وَفِيه يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من قصيدة أرسلها من الشَّام إِلَيْهِ:
(بالجد أدْركْت مَا أدْركْت لَا اللّعب ... كم رَاحَة جنيت من دوحة التَّعَب)
(يَا شيركوه بن شاذي الْملك دَعْوَة من ... نَادَى فَعرف خير ابْن بِخَير أَب)
(تمل من ملك مصر رُتْبَة قصرت ... عَنْهَا الْمُلُوك فطالت سَائِر الرتب)
وَفِي شيركوه وَقتل شاور يَقُول عرقلة الدِّمَشْقِي:
(لقد فَازَ بِالْملكِ الْعَقِيم خَليفَة ... لَهُ شيركوه العاضدي وَزِير)
(هُوَ الْأسد الضاري الَّذِي جلّ خطبه ... وشاور كلب للرِّجَال عقور)
(طَغى وبغى حَتَّى لقد قَالَ صَحبه ... على مثلهَا كَانَ العنيز يَدُور)
(فَلَا رحم الرَّحْمَن تربة قَبره ... وَلَا زَالَ فِيهَا مُنكر وَنَكِير)
وَأما الْكَامِل بن شاور فَلَمَّا قتل أَبوهُ دخل الْقصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وَلما بلغ شيركوه الأمنية أَتَتْهُ الْمنية فَتوفي يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، فولايته شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام.
شيركوه وَأَيوب
ابْنا شاذي من بلد دوين من الأكراد الروادية قصدا الْعرَاق وخدما بهروز شحنة السلجوقية بِبَغْدَاد.
وَكَانَ أَيُّوب أكبر من شيركوه فَجعله بهروز مستحفظاً على قلعة تكريت وَلما كسر عَسْكَر الْخَلِيفَة زنكي وَمر على تكريت خدماه، ثمَّ قتل شيركوه إنْسَانا بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بزنكي فأقطعهما إقطاعات جليلة ثمَّ جعل أَيُّوب مستحفظاً لقلعة بعلبك لما فتحهَا، وَلما حاصره عَسْكَر دمشق بعد موت زنكي سلمهَا إِلَيْهِم على إقطاع كثير شرطوه لَهُ، وَبَقِي أَيُّوب من أكبر أُمَرَاء دمشق وَبَقِي شيركوه بعد زنكي مَعَ نور الدّين، وأقطعه حمص والرحبة وَقدمه على الْعَسْكَر لشجاعته.
وَلما أَرَادَ نور الدّين ملك دمشق أَمر شيركوه فكاتب أَخَاهُ أَيُّوب فساعد على ذَلِك، وبقيا مَعَ نور الدّين إِلَى أَن أرسل شيركوه إِلَى مصر مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى ملكهَا.
وَلما توفّي شيركوه طلب جمَاعَة من الْأُمَرَاء النورية التَّقَدُّم على الْعَسْكَر، وَولَايَة الوزارة العاضدية مِنْهُم عز الدولة الياروقي، وقطب الدّين نيال بن حسان المنبجي، وَسيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدّين مَحْمُود الحارمي خَال صَلَاح الدّين فأحضر العاضد صَلَاح الدّين وولاه الوزارة، ولقبه بِالْملكِ النَّاصِر فَلم يطعه المذكورون.
وَكَانَ مَعَ صَلَاح الدّين الْفَقِيه عِيسَى الهكاري فاستمال إِلَى صَلَاح الدّين المشطوب والحارمي، وَقَالَ للحارمي: هَذَا ابْن أختك وَملكه لَك، وَكَذَا فعل بالباقين فمالوا إِلَيْهِ إِلَّا(2/74)
الياروقي قَالَ: أَنا لَا أخدم يُوسُف وَعَاد إِلَى نور الدّين بِالشَّام وَثَبت قدم صَلَاح الدّين على أَنه نَائِب نور الدّين.
وَكَانَ نور الدّين يُكَاتب صَلَاح الدّين بالأمير الأسفهسلار وعلامته على رَأس الْكتاب تَعَظُّمًا عَن أَن يكْتب اسْمه.
وَكَانَ لَا يفرده بِكِتَاب بل إِلَى الْأَمِير صَلَاح الدّين وكافة الْأُمَرَاء بالديار المصرية يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا.
ثمَّ أرسل صَلَاح الدّين يطْلب من نور الدّين أَبَاهُ أَيُّوب وَأَهله فأرسلهم فَأَعْطَاهُمْ بِمصْر الإقطاعات وَتمكن من الْبِلَاد وَضعف أَمر العاضد وهجر صَلَاح الدّين الشّرْب وَاللَّهْو، وتقمص الْجد.
قَالَ ابْن الْأَثِير: رَأَيْت كثيرا مِمَّن ابْتَدَأَ الْملك يتنقل الْملك إِلَى غير عقبه، تغلب مُعَاوِيَة وَملك فانتقل إِلَى بني مَرْوَان بعده وَملك السفاح فانتقل إِلَى عقب أَخِيه الْمَنْصُور وَملك نصر بن أَحْمد الساماني فانتقل إِلَى أَخِيه إِسْمَاعِيل وعقبه، ثمَّ ملك عماد الدولة بن بويه فانتقل إِلَى عقب أَخِيه ركن الدولة.
ثمَّ ملك طغرل بك السلجوقي فانتقل إِلَى عقب أَخِيه دَاوُد، ثمَّ ملك شيركوه فانتقل إِلَى ابْن أَخِيه، ثمَّ لم يبْق فِي عقب صَلَاح الدّين بل انْتقل إِلَى أَخِيه الْعَادِل وعقبه، وَلم يبْق لأَوْلَاد صَلَاح الدّين غير حلب وَسبب ذَلِك كَثْرَة قتل من يتَوَلَّى أَولا، وَأَخذه الْملك وعيون أَهله وَقُلُوبهمْ مُتَعَلقَة بِهِ فَيحرم عقبه، ثمَّ أَن صَلَاح الدّين قتل مؤتمن الْخلَافَة، وَكَانَ مقدم السودَان حفاظ الْقصر فَجرى بَينه وَبينهمْ بَين القصرين وقْعَة عَظِيمَة انهزم فِيهَا السودَان وتبعهم صَلَاح الدّين فأجلاهم قتلا وتشريداً، وَحكم على الْقصر وَأقَام فِيهِ بهاء الدّين قُرَّة قوش الْأَسدي الْخصي الْأَبْيَض وَبَقِي لَا يجْرِي فِي الْقصر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا بِأَمْر صَلَاح الدّين.
وفيهَا: كسر إيلدكز إينانج صَاحب الرّيّ، وأطمع إيلدكز غلْمَان إينانج فِي الإقطاعات إِن قَتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ فَلم يَفِ لَهُم وَلحق بَعضهم وَهُوَ الْقَائِل بخوارزم شاه فصلبه لخيانته أستاذه.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الفارقي أحد الزهاد ذَوي الكرامات الْمُتَكَلِّمين على الخواطر وَكَلَامه مَجْمُوع مَشْهُور.
وفيهَا: توفّي ياروق أرسلان مقدم كَبِير تركماني عَظِيم الْخلقَة سكن بِظَاهِر حلب وعمائر أَتْبَاعه بِظَاهِر قونق يعرف بالياروقية.
قلت وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو عمر وَعُثْمَان بن مَرْزُوق بن حميد بن سَلامَة الْقرشِي الْحَنْبَلِيّ بِمصْر، وَدفن بالقرافة شَرْقي قبر الشَّافِعِي وقبره مَعْرُوف أفتى بِمصْر، ودرس وناظر وَخرج وأملى وقصده الطّلبَة.
وَله كرامات ظَاهِرَة، وَمن كَلَامه الطَّرِيق إِلَى معرفَة الله تَعَالَى وَصِفَاته الْفِكر وَالِاعْتِبَار(2/75)
بِحكمِهِ وآياته، وَلَا سَبِيل للألباب إِلَى معرفَة كنه ذَاته وَلَو تناهت الحكم الإلهية فِي حد الْعُقُول، أَو انحصرت الْقُدْرَة الربانية فِي دَرك الْعُلُوم لَكَانَ ذَلِك تقصيراً فِي الْحِكْمَة ونقصاً فِي الْقُدْرَة وَلَكِن احْتَجَبت أسرار الْأَزَل عَن الْعُقُول كَمَا استنرت سبحات الْجلَال عَن الْأَبْصَار، فقد رَجَعَ معنى الْوَصْف فِي الْوَصْف، وعمى الْفَهم عَن الدَّرك، وَدَار الْملك فِي الْملك، وانْتهى الْمَخْلُوق إِلَى مثله وَأسْندَ الطّلب إِلَى شكله، وخشعت الْأَصْوَات للرحمن، فَلَا تسمع إِلَّا همسا، فَجَمِيع الْمَخْلُوقَات من الذّرة إِلَى الْعَرْش سبل مُتَّصِلَة إِلَى مَعْرفَته، وحجج بَالِغَة على أزليته، والكون جَمِيعه ألسن ناطقة بوحدانيته، وَالْعلم كُله كتاب يقْرَأ حُرُوف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم.
قيل: أَنه كَانَ من أوتاد مصر، وَزَاد النّيل سنة زِيَادَة عَظِيمَة وَخيف الْغَرق فاستغاث النَّاس بِهِ فَأتى إِلَى شاطئ النّيل وَتَوَضَّأ مِنْهُ فنقص فِي الْحَال نَحْو ذراعين وَنزل حَتَّى زرع النَّاس فِي الْيَوْم الثَّانِي، وَلم يطلع النّيل سنة وغلا السّعر وَفَاتَ أَكثر وَقت الزَّرْع وَخيف الْهَلَاك فَتَوَضَّأ فِي شاطئ النّيل بإبريق كَانَ مَعَ خادمه فَزَاد النّيل فِي ذَلِك الْيَوْم، وَتَتَابَعَتْ زِيَادَته حَتَّى انْتهى إِلَى حَده وبورك فِي زرع تِلْكَ السّنة ببركة الشَّيْخ.
وَكَانَ يطوى لَهُ الْبعيد، وكراماته مَجْمُوعَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر الفرنج دمياط، وَكَانَت مشحونة بِالرِّجَالِ والذخائر من جِهَة صَلَاح الدّين خمسين يَوْمًا، وأغار نور الدّين على بِلَادهمْ فرحلوا وَمَا ظفروا بهَا، قَالَ صَلَاح الدّين: مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل إِلَيّ مُدَّة مقَام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا.
وفيهَا: حاصر نور الدّين الكرك ثمَّ رَحل عَنْهَا.
وفيهَا: زلزل الشَّام عَظِيما فاشتغل كل من الْمُسلمين والفرنج بعمارة مَا خرب عَن الْحَرْب.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل بالحمى المحرقة وعمره أَرْبَعُونَ تَقْرِيبًا، وَملكه إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصف.
وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَصرف أَرْبَاب الدولة الْملك عَن ابْنه عماد الدّين زنكي بن مودود إِلَى سيف الدّين غَازِي بن مودود وَهُوَ الْأَصْغَر فَسَار زنكي إِلَى عَمه نور الدّين مستنصراً بِهِ.
وفيهَا: توفّي طغرل بك بن قاروت بك صَاحب كرمان، وَملك بعده ابْنه بهْرَام شاه ونزعه أَخُوهُ أرسلان شاه فاتفق موت أرسلان شاه.
وفيهَا: توفّي مجد الدّين أَبُو بكر بن الداية رَضِيع نور الدّين مقطع حلب وحارم وقلعة جعبر فَأقر نور الدّين أَخَاهُ عليا على ذَلِك.(2/76)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن طغرل بحماة مكابداً للفقر، وَله سلوان المطاع، وَكتاب نجباء الْأَبْنَاء، وَشرح مقامات الحريري، ومولده بصقلية، قلت: وَله ينبوع الْحَيَاة فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم، وَله خير الْبشر بِخَير الْبشر وَغير ذَلِك وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي تَاسِع ربيع الآخر توفّي المستنجد بِاللَّه أَبُو المظفر يُوسُف بن المقتفي بن المستظهر بِاللَّه، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وَخَمْسمِائة.
كَانَ أسمر، تَامّ الْقَامَة، طَوِيل اللِّحْيَة، مرض وخشية أستاذ دَاره عضد الدولة أَبُو الْفرج ابْن رَئِيس الرؤساء، وقطب الدّين قيماز، فوصف لَهُ الطَّبِيب دُخُول الْحمام بإشارتهما ليهلك، فَدَخلَهَا وأغلق الْبَاب فَمَاتَ وأحضر عضد الدولة وقطب الدّين.
المستضيء بِأَمْر الله: وَهُوَ الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم ابْن المستنجد، وشرطا عَلَيْهِ أَن يكون عضد الدولة وزيراً، وَابْنه كَمَال الدّين أستاذ الدَّار وقطب الدّين أَمِير الْعَسْكَر فأجابهم فَبَايعُوهُ يَوْم موت أَبِيه بيعَة خَاصَّة وَفِي غده بيعَة عَامَّة وَكَانَ حسن السِّيرَة أطلق كثيرا من المكوس وشدد على المفسدين، واسْمه الْحسن وكنيته أَبُو مُحَمَّد وَلم ينل الْخلَافَة من اسْمه الْحسن غير الْحسن بن عَليّ والمستضيء.
وفيهَا: انتزع نور الدّين الْموصل من غَازِي ابْن أَخِيه وقررها وَأطلق مكوسها ثمَّ وَهبهَا لسيف الدّين غَازِي وَأعْطى زنكي بن مودود سنجار.
وفيهَا: غزا صَلَاح الدّين الفرنج قرب عسقلان وَعَاد إِلَى مصر ثمَّ حصر أيله بحراً وَبرا وَهِي على سَاحل الْبَحْر الشَّرْقِي، وَفتحهَا من الفرنج فِي ربيع الآخر، واستباح أَهلهَا وَمَا فِيهَا.
وَعَاد صَلَاح الدّين وَهدم دَار الشّحْنَة وَتسَمى دَار المعونة بِمصْر وبناها مدرسة للشَّافِعِيَّة، وَبنى دَار الْعدْل مدرسة للشَّافِعِيَّة، وعزل الْقُضَاة الشِّيعَة، ورتب قَضَاء شافعية، وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة.
وَكَذَلِكَ اشْترى تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي صَلَاح الدّين منَازِل الْعِزّ وبناها مدرسة للشَّافِعِيَّة.
وفيهَا: توفّي القَاضِي ابْن الْجلَال من أَعْيَان كتاب المصريين صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء بهَا.
ذكر الْخطْبَة العباسية بِمصْر وانقراض الدولة العلوية
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ خَمْسمِائَة: وفيهَا فِي ثَانِي جُمُعَة من الْمحرم قطعت خطْبَة العاضد لدين الله أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْأَمِير يُوسُف بن الْحَافِظ لدين الله أبي الميمون عبد الْمجِيد بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي تَمِيم معد بن الظَّاهِر لإعزاز دين الله(2/77)
أبي الْحسن عَليّ بن الْحَاكِم بِأَمْر الله أبي عَليّ مَنْصُور بن الْعَزِيز بِاللَّه أبي مَنْصُور نزار بن الْمعز لدين الله أبي تَمِيم بن الْمَنْصُور بِاللَّه أبي الظَّاهِر إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم بِأَمْر الله أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْمهْدي بِاللَّه أبي مُحَمَّد عبيد الله أول الْخُلَفَاء العلويين من هَذَا الْبَيْت.
وَسبب ذَلِك: أَن نور الدّين أرسل إِلَى صَلَاح الدّين يَأْمُرهُ حتما جزما بِقطع الْخطْبَة العلوية وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية فَرَاجعه خوف الْفِتْنَة، فأصر نور الدّين وَمرض العاضد فَأمر صَلَاح الدّين بِالْخطْبَةِ للمستضيء وَقطع خطْبَة العاضد فَلم ينتطح فِيهِ عنزان، فَاشْتَدَّ مرض العاضد وَلم يُعلمهُ بذلك أحد من أَهله فَتوفي فِي يَوْم عَاشُورَاء وَلم يعلم بِقطع خطبَته، فَجَلَسَ صَلَاح الدّين للعزاء وَاسْتولى على قصر الْخلَافَة وعَلى نفائسه وتحفه وَكتبه وَمَا لَا يُحْصى، فَمِنْهُ جبل باقوت وَزنه سَبْعَة عشر درهما، وَكَانَ بِالْقصرِ طبل للقولنج إِذا ضرب بِهِ الْإِنْسَان حبق فَكسر بِلَا علم، وَنقل أهل العاضد إِلَى مَوضِع من الْقصر ووكل بهم من يحفظهم وَتصرف فِي العبيد وَالْإِمَاء بيعا وعتقا وَهبة. وَكَانَ العاضد فِي الْمَرَض قد طلب صَلَاح الدّين فظنها خديعة فَلم يمض إِلَيْهِ، فَلَمَّا توفّي نَدم لتخلفه عَنهُ وَجَمِيع من خطب لَهُ بالخلافة مِنْهُم أَرْبَعَة عشر الْمهْدي والقائم والمنصور والمعز والعزيز وَالْحَاكِم وَالظَّاهِر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد، ومدتهم من ظُهُور الْمهْدي بسجلماسة فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَن توفّي العاضد فِي هَذِه السّنة مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة تَقْرِيبًا. وَلما وصل خبر الْخطْبَة العباسية بِمصْر إِلَى بَغْدَاد ضربت البشائر أَيَّامًا وسيرت الْخلْع مَعَ عماد الدّين صندل من خَواص الدولة المقتفوية إِلَى نور الدّين وَصَلَاح الدّين والخطباء، ووسيرت الْأَعْلَام السود.
وَكَانَ العاضد قد رأى فِي مَنَامه أَن عقرباً خرجت من مَسْجِد بِمصْر مَعْرُوف بالعاضد ولدغته فَاسْتَيْقَظَ واستدعى معبراً فَعبر لَهُ بأذى يصله من شخص بِالْمَسْجِدِ فَتقدم بإحضار من فِيهِ فأحضر شخص صوفي اسْمه نجم الدّين الخوبشاني فاستخبره العاضد عَن مُقَدّمَة وَسبب مقَامه بِالْمَسْجِدِ فَأخْبرهُ بِالصَّحِيحِ فِي ذَلِك، وَرَآهُ العاضد أَضْعَف من أَن يَنَالهُ بمكروه فوصله بِمَال وَقَالَ لَهُ: ادْع لنا يَا شيخ وَأمره بالإنصراف، فَلَمَّا أَرَادَ صَلَاح الدّين إِزَالَة الدولة العلوية وَالْقَبْض عَلَيْهِم كَانَ نجم الدّين الخوبشاني من جملَة من بَالغ بالإفتاء بمساويهم وسلب الْإِيمَان عَنْهُم فَصحت الرُّؤْيَا.
وفيهَا: جرى بَين نور الدّين وَصَلَاح الدّين الوحشة بَاطِنا فَإِن صَلَاح الدّين نَازل الشوبك وَهِي للفرنج، ثمَّ رَحل خوفًا أَن يَأْخُذهُ فَلم يبْق لنُور الدّين مَا يعوقه عَن مصر، وَبلغ ذَلِك نور الدّين فكتمه وَجمع صَلَاح الدّين بِمصْر أَقَاربه وأكابره، وَقَالَ: بَلغنِي أَن نور الدّين يقصدنا فَمَا الرَّأْي؟ فَقَالَ تَقِيّ الدّين عمر ابْن أَخِيه: نقاتله، فَأنْكر نجم الدّين أَيُّوب أبوهم ذَلِك، وَقَالَ: أَنا والدكم لَو رَأَيْت نور الدّين نزلت وَقبلت الأَرْض بَين يَدَيْهِ أكتب إِلَيْهِ(2/78)
لَو جَاءَنِي من عنْدك إِنْسَان وَاحِد وربط المنديل فِي عنقِي وجرني إِلَيْك سارعت إِلَى ذَلِك وانفضوا، ثمَّ خلا أَيُّوب بِأَبِيهِ وَقَالَ: لَو قصدنا نور الدّين أَنا كنت أول من يمنعهُ ويقاتله، وَلَكِن إِذا أظهرنَا ذَلِك يتْرك نور الدّين جَمِيع مَا هُوَ فِيهِ ويقصدنا وَلَا نَدْرِي مَا يكون من ذَلِك، وَإِذا أظهرنَا لَهُ الطَّاعَة تَمَادى الْوَقْت بِمَا يحصل بِهِ الْكِفَايَة من عِنْد الله فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير مُحَمَّد بن مردبيس صَاحب شَرْقي الأندلس: مرسيه وبلنسيه وَغَيرهمَا، فَسلم أَوْلَاده بِلَاده ليوسف بن عبد الْمُؤمن فسر بذلك وَتزَوج أختهم وأجزل لَهُم وَكَانَ قد قصدهم فِي مائَة ألف فكفي الْقِتَال.
وفيهَا: عبر الخطا نهر جيحون، فَسَار خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد بن أنوشتكين إِلَى لِقَائِه، فَرجع خوارزم شاه لمرضه، وَأرْسل عسكراً فَقَاتلُوا الخطا فَانْهَزَمَ عَسْكَر خوارزم شاه وَأسر مقدمهم وَرجع الخطا إِلَى بِلَادهمْ.
وفيهَا: اتخذ نور الدّين الْحمام الهوادي المناسيب لتصل الْأَخْبَار إِلَيْهِ فِي يَوْمه.
وفيهَا: عزل المستضئ وزيره عضد الدولة ابْن رَئِيس الرؤوساء مكْرها من جِهَة قيماز.
وفيهَا: مَاتَ يحيى بن سعدون الْأَزْدِيّ الأندلسي الْقُرْطُبِيّ إِمَام فِي الْقِرَاءَة والنحو وَغَيره بالموصل.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد بن الخشاب الْبَغْدَادِيّ، تضلع من الْأَدَب والنحو وَالتَّفْسِير والْحَدِيث قَلِيل الاكتراث بالمأكل والملبس.
وفيهَا: توفّي نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن عَليّ بن عبد النُّور ابْن قلاقس الشَّاعِر الإسكندري فِي مدح القَاضِي الْفَاضِل وَفِي كَثْرَة أَسْفَاره يَقُول:
(وَالنَّاس كثر وَلَكِن لَا يقدر لي ... الْأَمر افقة الملاح وَالْحَادِي)
قلت: وَمَا أحسن قَول ابْن عنين فِي كَثْرَة أَسْفَاره فِي الْمشرق:
(أشقق قلب الشرق حَتَّى كأنني ... أفتش فِي سودائه عَن سنا الْفجْر)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد أنوشتكين، وَقد عَاد من قتال الخطا مَرِيضا.
وَملك بعده ابْنه الصَّغِير سُلْطَان شاه مَحْمُود بتدبير والدته، وَلما بلغ ابْنه الْكَبِير عَلَاء الدّين تكش وَهُوَ مُقيم فِي اقطاعه خبر ذَلِك استنجد بالخطا وطرد سُلْطَان شاه، واستنجد سُلْطَان شاه بملوك الْأَطْرَاف، وطرد تكش، وَكَانَ الْحَرْب بَينهم سجالا حَتَّى مَاتَ سُلْطَان شاه سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَاسْتقر تكش فِي ملك خوارزم.(2/79)
وَفِي تِلْكَ الحروب قتل الْمُؤَيد آي بِهِ، قَتله تكش صبرا، وَملك بعده طغان شاه بن الْمُؤَيد آي بِهِ.
وفيهَا: سَار شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب من مصر إِلَى النّوبَة للتغلب عَلَيْهَا فَلم تعجبه فغنم وَعَاد.
وفيهَا: توفّي شمس الدّين إيلدكز بهمدان.
وَملك بعده مُحَمَّد البهلوان، وَكَانَ إيلدكز مَمْلُوكا للكمال السميرمي وَزِير مَحْمُود، فَلَمَّا ولي مَسْعُود كبره حَتَّى ملك أذربيجان وأصبهان والري، وَكَانَ عسكره خمسين ألفا وخطب فِي بِلَاده بالسلطنه لأرسلان طغرل بك اسْما، وَكَانَ حسن السِّيرَة.
وفيهَا: سَار طَائِفَة من التّرْك من مصر مَعَ قراقوش مَمْلُوك تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه إِلَى إفريقية، وحاصروا طرابلس الغرب ثمَّ فتحهَا قراقوش، وَملك كثيرا من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: غزا يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِلَاد الفرنج بالأندلس.
وفيهَا: استولى نور الدّين على مرعش وبهسنا ومرزبان وسيواس من بِلَاد قلج أرسلان فَأرْسل يستعطفه فَقَالَ نور الدّين: لَا أرْضى حَتَّى ترد ملطية على ذِي النُّون بن الدانشمند فبذل لَهُ سيواس مصالحة عَنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ نور الدّين أَخذ قلج أرسلان سيواس من ابْن الدانشمند.
وفيهَا: حصر صَلَاح الدّين الكرك وواعد نور الدّين بالاجتماع عَلَيْهَا فَلَمَّا قَارب نور الدّين الكرك خافه صَلَاح الدّين، فَعَاد إِلَى مصر وَأرْسل تحفاً إِلَى نور الدّين وَاعْتذر بِمَرَض أَبِيه وَالْخَوْف من ذهَاب مصر لَو مَاتَ فعذره نور الدّين ظَاهرا وَوجد صَلَاح الدّين أَبَاهُ قد مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَن فرس نفرت بِهِ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو نزار حسن بن أبي الْحسن صافي بن عبد الله بن نزار النَّحْوِيّ ملك النُّحَاة وَقد ناهز الثَّمَانِينَ، كَانَ معجباً بِنَفسِهِ يسْخط على من يخاطبه بِغَيْر ذَلِك.
قَرَأَ الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي والأصولين وَالْخلاف، وبرع فِي النَّحْو وسافر إِلَى خُرَاسَان وكرمان وغزته واستوطن دمشق.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة:
ملك توران شاه الْيمن
أَرَادَ صَلَاح الدّين تَحْصِيل مملكة غير مصر بِحَيْثُ إِن قَاتلهم نور الدّين وَهَزَمَهُمْ التجأوا إِلَى تِلْكَ المملكة فَجهز أَخَاهُ شمس الدولة توران شاه فِي هَذِه السّنة بعسكر إِلَى الْيمن فَجرى بَينه وَبَين عبد النَّبِي الْمُقدم ذكره قتال فَانْهَزَمَ عبد النَّبِي وَملك توران شاه زبيدا وَأسر عبد النَّبِي.(2/80)
وَملك عدن وَأسر صَاحبهَا ياسراً، وَاسْتولى على الْيمن وأموال عبد النَّبِي وياسر، وَصَارَت الْيمن لصلاح الدّين.
وفيهَا: وَفِي رَمَضَان صلب صَلَاح الدّين جمَاعَة قصدُوا الْوُثُوب عَلَيْهِ وإعادة الدولة العلوية مِنْهُم عبد الصَّمد الْكَاتِب وَالْقَاضِي العويرس وداعي الدعاة وَعمارَة بن عَليّ اليمني الْفَقِيه الشَّاعِر.
وَمن شعره فِي أَحْوَال المصريين:
(رميت يَا دهر كف الْمجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلى بالعطل)
(لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتها فِي أكْرم الدول)
(يَا عاذلي فِي هوى أَبنَاء فَاطِمَة ... لَك الْمَلَامَة إِن قصرت فِي عذلي)
(تالله زرساحة القصرين وابك معي ... عَلَيْهِمَا لَا على صفّين والجمل)
(وَقل لأهلهما وَالله مَا التحمت ... فِيكُم جروحي وَلَا قرحي بمنديل)
(مَاذَا ترى كَانَت الإفرنج فاعلة ... فِي نسل آل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ)
(وَقد حصلتم عَلَيْهَا وَاسم جدكم ... مُحَمَّد وأبوكم خير منتعل)
(مَرَرْت بِالْقصرِ والأركان خَالِيَة ... من الْوُفُود وَكَانَت قبْلَة الْقبل)
(وَالله لَا فَازَ يَوْم الْحَشْر مبغضكم ... وَلَا نجا من عَذَاب النَّار غير ولي)
(أئمتي وهداتي والذخيرة لي ... إِذا ارتهنت بِمَا قدمت من عَمَلي)
وَله فيهم:
(غصبت أُميَّة إِرْث آل مُحَمَّد ... سفها وشنت غَارة الشنان)
(وغدت تخَالف فِي الْخلَافَة أَهلهَا ... وتقابل الْبُرْهَان بالبهتان)
(لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النِّفَاق وغارب الْعدوان)
(وقعودهم فِي رُتْبَة نبوية ... لم يبنها لَهُم أَبُو سُفْيَان)
(حَتَّى أضافوا بعد ذَلِك أَنهم ... أخذُوا بثأر الْكفْر فِي الْإِيمَان)
(فَأنى زِيَاد فِي الْقَبِيح زِيَادَة ... تركت يزِيد يزِيد فِي النُّقْصَان)
وفيهَا: توفّي الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن عماد الدّين زنكي بن أقسنقر صَاحب الشَّام وديار الجزيرة وَغير ذَلِك وَيَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر شَوَّال بالخوانيق بقلعة دمشق.
كَانَ أسمر طَوِيل الْقَامَة، لَيْسَ لَهُ لحية إِلَّا فِي حنكه، حسن الصُّورَة، متسع الْملك، خطب لَهُ بالحرمين واليمن ومصر، ومولده سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة، وَكَانَ من الزّهْد وَالْعِبَادَة على قدم عَظِيم، يُصَلِّي كثيرا من اللَّيْل، عادلاً كاسمه، كَمَا قيل:
(جمع الشجَاعَة والخشوع لرَبه ... مَا أحسن الْمِحْرَاب فِي الْمِحْرَاب)
قلت: وَفِي نور الدّين يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير:(2/81)
(عقد الْحق ألسن المدعينا ... أَنْت خير الْمُلُوك دنيا ودينا)
(بسط الرزق فِي البسيطة ... كَفاك فكلتا يَديك تلقي يَمِينا)
(فيد تحسم النوائب عَنَّا ... وَيَد تقسم الرغائب فِينَا)
وَالله أعلم.
وَكَانَ عَارِفًا بالفقه على مَذْهَب أبي حنيفَة وَلَيْسَ عِنْده تعصب، بنى أسوار مدن الشَّام مثل دمشق وحمص وحماه وحلب وشيرز وبعلبك وَغَيرهَا لما هدمتها الزلازل، وَبنى الْمدَارِس الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والمشاهد والرباطات، وَلَا يحْتَمل هَذَا الْمُخْتَصر ذكر فضائله.
وَلما توفّي قَامَ ابْنه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بِالْملكِ بعده، وعمره إِحْدَى عشرَة سنة، وَحلف لَهُ الْعَسْكَر بِدِمَشْق وَأقَام بهَا وأطاعه صَلَاح الدّين، وخطب لَهُ بِمصْر، وَضرب السِّكَّة باسمه، ودبر دولته الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك الْمَعْرُوف بِابْن الْمُقدم. وَبلغ موت نور الدّين سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي، فَسَار من الْموصل وَملك الْبِلَاد الجزرية.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا اجْتمع على رجل من أهل الصَّعِيد يُقَال لَهُ الْكَنْز جمع كثير، وَأظْهر الْخلاف على صَلَاح الدّين فَأرْسل إِلَيْهِ صَلَاح الدّين عسكراً، فَاقْتَتلُوا فَقتل الْكَنْز وَجَمَاعَة وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وفيهَا سلخ ربيع الأول.
ملك صَلَاح الدّين دمشق وحمص وحماه
وَسَببه أَن شمس الدّين ابْن الداية أرسل سعد الدّين كمشتكين يَسْتَدْعِي الْملك الصَّالح بن نور الدّين إِلَى حلب فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك، وَلما اسْتَقر بحلب وَتمكن كمشتكين قبض على ابْن الداية وَإِخْوَته، وعَلى الرئيس ابْن الخشاب وَإِخْوَته، واستبد كمشتكين بتدبير الْملك الصَّالح فخافه الْأُمَرَاء بِدِمَشْق فاستدعوا صَلَاح الدّين ليملكوه عَلَيْهِم فوصل إِلَيْهِم فِي جَرِيدَة سَبْعمِائة فَارس فالتقاه الْعَسْكَر وخدموه وَنزل بدار وَالِده أَيُّوب الْمَعْرُوفَة بدار العقيقي، وعصت عَلَيْهِ القلعة وفيهَا الْخَادِم ريحَان من جِهَة الصَّالح فاستماله فَسلم إِلَيْهِ القلعة فصعدها وَأخذ مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَقرر الْأُمُور واستخلف بهَا أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين، وَسَار إِلَى حمص مستهل جُمَادَى الأولى، وَكَانَت حمص وحماه وقلعة بارين وسلمية وتل خَالِد والرها فِي أقطاع فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي، فَلَمَّا مَاتَ نور الدّين لم يُمكن مَسْعُود الْمقَام بحماه وحمص لسوء سيرته مَعَ النَّاس.
وَكَانَت هَذِه الْبِلَاد لَهُ ولنور الدّين فِي قلاعها نواب حكمهَا إِلَيْهِم إِلَّا بارين فَإِن قلعتها كَانَت لَهُ، وَنزل صَلَاح الدّين على حمص فِي حادي عشر جُمَادَى الأولى وَملك الْمَدِينَة وعصت عَلَيْهِ القلعة فَترك من يضيق عَلَيْهَا ورحل إِلَى حماه فَملك مدينتها مستهل جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة.
وَكَانَت بقلعتها الْأَمِير عز الدّين جرد بك النوري فَامْتنعَ فِي القلعة، فَذكر لَهُ صَلَاح(2/82)
الدّين إِن غَرَضه حفظ بِلَاد الصَّالح عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِبه وقصده من جرد بك الْمسير إِلَى حلب فِي رِسَالَة فاستحلفه جرد بك على ذَلِك.
وَسَار برسالة صَلَاح الدّين إِلَى حلب واستخلف بقلعة حماه أَخَاهُ فَلَمَّا وصل جرد بك إِلَى حلب سجنه كمشتكين وَبلغ ذَلِك أَخَاهُ فَسلم قلعة حماة إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ حصر حلب وَبهَا الصُّلْح بن نور الدّين فقاتله عَن حلب وصده وَأرْسل كمشتكين إِلَى سِنَان مقدم الإسماعيلية أَمْوَالًا ليقتلوا صَلَاح الدّين فَوَثَبَ عَلَيْهِ جمَاعَة فَقتلُوا دونه، وَفِي مستهل رَجَب رَحل عَن حلب لنزول الفرنج على حمص، وَنزل صَلَاح الدّين على حماه ثامن رَجَب وَقصد حمص، فَرَحل الفرنج عَنْهَا وَحصر قلعتها، وملكها فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان.
ثمَّ ملك بعلبك فَأرْسل الْملك الصَّالح إِلَى ابْن عَمه سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل يستنجده فَجهز جَيْشًا صَحبه أَخِيه عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَقدم على الْجَيْش عز الدّين مَحْمُود سلفندر أكبر أمرائه، وَطلب أَخَاهُ الْأَكْبَر زنكي صَاحب سنجار لينجده أَيْضا، فَامْتنعَ مصانعة لصلاح الدّين فبذل صَلَاح الدّين فحصره غَازِي بسنجار، ووصلت النجدة إِلَى حلب وَسَارُوا هم وعسكر حلب إِلَى صَلَاح الدّين فبذل صَلَاح الدّين لَهُم وحمص وحماه لتبقى لَهُ دمشق ليَكُون فِيهَا نَائِبا للصالح فَأَبَوا وَسَارُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتلُوا عِنْد قُرُون حماه، فانكسر عَسْكَر الْموصل وحلب، وغنم صَلَاح الدّين وَعَسْكَره أَمْوَالهم وتبعهم حَتَّى حصرهم بحلب، وَحِينَئِذٍ قطع خطْبَة الْملك الصَّالح منع سكته واستبد بالسلطنة فأرسلوا إِلَيْهِ على أَن يكون لَهُ مَا بِيَدِهِ من الشَّام، وللصالح مَا بقى بِيَدِهِ مِنْهُ، فَفعل وَرجع عَنْهُم فِي شَوَّال مِنْهَا.
وَفِي الْعشْر الأول من شَوَّال ملك صَلَاح الدّين قلعة بارين من صَاحبهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي النوري.
وفيهَا: ملك البهلوان بن إيلدكز تبريز من ابْن أقسنقر الأحمديلي.
وفيهَا: مَاتَ سملة التركماني صَاحب خوز ستان وَملك ابْنه.
وفيهَا: وَقع بَين الْخَلِيفَة وَبَين قيماز مقدم عسكره فتْنَة فنهب دَار قيماز وهرب إِلَى الْحلَّة ثمَّ إِلَى الْموصل فعطش فَمَاتَ هُوَ وَأكْثر أَصْحَابه قبل وصولهم الْموصل فَحمل وَدفن بِظَاهِر بَاب الْعِمَادِيّ، وَلما هرب قيماز خلع الْخَلِيفَة على عضد الدّين الْوَزير واستوزره.
قلت: وفيهَا تَقْرِيبًا توفّي الشَّيْخ قضيب البان الْموصِلِي بالموصل وَهُوَ أحد الْأَوْلِيَاء الْمَشْهُورين والنبلاء الْمَذْكُورين، لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال فاخرة. عَن الشَّيْخ أبي الْحسن على الفريثي قَالَ: دخلت على قضيب البان بِبَيْت لَهُ بالموصل فرأيته ملْء الْبَيْت، ثمَّ عدت إِلَيْهِ فرأيته فِي زَاوِيَة الْبَيْت على قدر العصفور، فَخرجت ثمَّ عدت إِلَيْهِ فرأيته كحالة الْمُعْتَاد، فَقلت: يَا سَيِّدي أَخْبرنِي مَا الْحَالة الأولى وَمَا الْحَالة الثَّانِيَة؟ فَقَالَ: يَا عَليّ أَو رأيتهما؟ قلت: نعم قَالَ: لَا بُد أَن تعمى، أما الْحَالة الأولى: فَكَانَ عِنْدِي بالجمال، وَأما الْحَالة الثَّانِيَة فَكنت عِنْد بالجلال، وكف بصر الشَّيْخ الفريثي قبل مَوته بِيَسِير.
وَعَن أبي مُحَمَّد المارديني مَا خلاصته: أَن شَارِح التَّنْبِيه كَمَال الدّين ابْن يُونُس وَقع(2/83)
فِي قضيب البان بمدرسة الْموصل، فَدخل عَلَيْهِم قضيب البان فَبُهِتُوا وَقَالَ: يَا ابْن يُونُس أَنْت تعلم كل مَا يُعلمهُ الله تَعَالَى؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنِّي أَنا من الْعلم الَّذِي لَا تعلمه أَنْت، فَلم يدر ابْن يُونُس مَا يَقُول، فَتَبِعَهُ المارديني فَأخذ من الْأَزِقَّة سبع كسر فَأتى بَاب عَجُوز فَقَالَت: يَا قضيب البان أَبْطَأت علينا فناولها الْكسر وَانْصَرف وأتى بَاب الْموصل وَهُوَ مغلق فانفتح لَهُ فَخرج والمارديني خَلفه وَمَشى يَسِيرا وَإِذا نهر يجْرِي عِنْده شَجَرَة فَخلع ثِيَابه واغتسل فِيهِ وَلَيْسَ ثيابًا معلقَة على الشَّجَرَة وَصلى إِلَى الْفجْر، وَغلب على المارديني النّوم إِلَى أَن أيقظه حر الشَّمْس وَهُوَ بصحراء مقفرة خَالِيَة، فتحير فَمر بِهِ ركب فَأَتَاهُم وسألهم وَقَالَ أَنا من الْموصل وَخرجت مِنْهَا اللَّيْلَة وَقت الْعشَاء فأنكروا أمره وَقَالُوا: مَا نَدْرِي أَيْن يكون الْموصل؟ فاستخبره شيخ مِنْهُم مَا قصَّته، فَأخْبرهُ فَقَالَ لَا يقدر على ردك إِلَى الْموصل إِلَّا الَّذِي جَاءَ بك إِلَى هُنَا، يَا أخي أَنْت بِبِلَاد الْمغرب وَبَيْنك وَبَين الْموصل سِتَّة أشهر، وَسَارُوا فجَاء قضيب البان لَيْلًا وَفعل كفعلة الأول وَعند الْفجْر نزع تِلْكَ الثِّيَاب وَلبس ثِيَابه.
قَالَ المارديني: وَسَار وتبعته ثمَّ لم نَلْبَث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى جِئْنَا الْموصل، فَالْتَفت إِلَيّ وعرك أُذُنِي وَقَالَ: لَا تعد إِلَى مثلهَا، وَإِيَّاك وإفشاء الْأَسْرَار، وعزم قَاضِي الْموصل أَن يَقُول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاج قضيب البان من الْموصل فِي سره، قَالَ: فَرَأَيْت قضيب البان مُقبلا على هَيئته الْمَعْرُوفَة فَمشى خطْوَة وَإِذا هُوَ عَليّ هَيْئَة كردِي ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة بدوي، ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة فَقِيه بِصُورَة غير الصُّور الْمُتَقَدّمَة، وَقَالَ لي: يَا قَاضِي هَذِه أَربع صور رأيتهن فَمن هُوَ قضيب البان مِنْهُنَّ حَتَّى تَقول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاجه فَلم أتمالك أَن اكببت على يَدَيْهِ أقبلهما وَأَسْتَغْفِر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي عَاشر شَوَّال استنجد غَازِي بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل بِصَاحِب حصن كيفا وَصَاحب ماردين واقتتلوا مَعَ صَلَاح الدّين فكسرهم وَوصل غَازِي الْموصل مرغوباً وَقصد بعض القلاع فثبته وزيره وَأخذ صَلَاح الدّين أثقالهم وَحصر بزاعة ثمَّ تسلمها وَفتح منبج عنْوَة وَأسر صَاحبهَا نيال بن حسان، وَكَانَ شَدِيد البغض لصلاح الدّين وَأخذ موجوده ثمَّ أطلقهُ فأقطعه غَازِي الرقة.
ثمَّ نَازل صَلَاح الدّين عزازاً وتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة فَوَثَبَ إسماعيلي عَلَيْهِ فجرحه فِي رَأسه، فَقبض صَلَاح الدّين يَدي الْإِسْمَاعِيلِيّ وبقى يضْرب بالسكين فَلَا يُؤثر حَتَّى قتل الْإِسْمَاعِيلِيّ.
ووثب ثَان وثالث فقتلا فذعر وَعرض جنده وَأبْعد من أنكرهُ مِنْهُم، ثمَّ نَازل حلب منتصف ذِي الْحجَّة وحصرها وَبهَا الصَّالح بن نور الدّين وَانْقَضَت هَذِه السّنة وَهُوَ محاصرها، فسألوا صَلَاح الدّين فِي الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وأخرجوا إِلَيْهِ بِنْتا صَغِيرَة لنُور الدّين فأكرمها وَأَعْطَاهَا كثيرا، وعلموها أَن تطلب قلعة عزاز فسلمها إِلَيْهِم ورحل عَن حلب فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.(2/84)
وفيهَا: سَار أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ طاشتكين وَأمره الْخَلِيفَة بعزل صَاحب مَكَّة مكثر بن عِيسَى فَقَاتلهُمْ فَانْهَزَمَ مكثر وَأقَام أَخَاهُ دَاوُد مَكَانَهُ بِمَكَّة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قدم شمس الدّين توران شاه بن أَيُّوب من الْيمن إِلَى الشَّام وَكتب إِلَى أَخِيه صَلَاح الدّين أبياتاً من شعر ابْن المنجم الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة المعري الأَصْل وَهُوَ نَشأ الْملك أبي الْحسن عَليّ بن مفرج وَهِي:
(وإلي صَلَاح الدّين أَشْكُو أنني ... من بعده مضني الجوانح مولع)
(جزعاً لبعد الدَّار عَنهُ وَلم أكن ... لَوْلَا هَوَاهُ لبعد دَار أجزع)
(ولأركبن إِلَيْهِ متن عزائمي ... ويخب بِي ركب الغرام ويوسع)
(ولأسرين اللَّيْل لَا يسري بِهِ ... طيف الخيال وَلَا البروق اللمع)
(وأقد من إِلَيْهِ قلبِي مخبرا ... إِنِّي بجسمي عَن قريب أتبع)
(حَتَّى أشاهد مِنْهُ أسعد طلعة ... من أفقها صبح السَّعَادَة يطلع)
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي نور الدّين من أَعْيَان الشَّافِعِيَّة والمحدثين لَهُ تَارِيخ دمشق ثَمَانُون مجلداً فِيهِ غرائب، وَولد سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
قلت: وَمن شعره وَلَا باس بِهِ.
(إِلَّا إِن الحَدِيث أجل علم ... وأشرفه الْأَحَادِيث العوالي)
(وأنفع كل نوع مِنْهُ عِنْدِي ... وَأحسنه الْفَوَائِد فِي الأمالي)
(وَإنَّك لن ترى للْعلم شَيْئا ... تحَققه كأفواه الرِّجَال)
(فَكُن يَا صَاح ذَا حرص عَلَيْهِ ... وخذه عَن الرِّجَال بِلَا ملال)
(وَلَا تَأْخُذهُ من صحف فترمى ... من التَّصْحِيف بالداء العضال)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا نهب وَخرب وأحرق صَلَاح الدّين بلد الإسماعيلية وَحصر قلعة مصيات فَسَأَلَهُ شهَاب الدّين الجارمي صَاحب حماه خَال صَلَاح الدّين الصفح عَنْهُم بسؤال سِنَان فَرَحل عَنْهُم إِلَى مصر وَكَانَ بعيد عهد بهَا وَقد قرر الشَّام فَأمر بِبِنَاء السُّور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة على جبل المقطم، ودور ذَلِك تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألف ذِرَاع وثلاثمائة ذِرَاع بالذراع القاسمي وَلم يزل الْعَمَل فِيهِ حَتَّى مَاتَ صَلَاح الدّين.
وفيهَا: بنى صَلَاح الدّين الْمدرسَة على قبر الإِمَام الشَّافِعِي بالقرافة بِمصْر والمارستان بِالْقَاهِرَةِ.
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري قَاضِي الشَّام
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا وصل صَلَاح الدّين إِلَى عسقلان فِي(2/85)
جُمَادَى الأولى، وَشن الغارات على الفرنج فطلعت الفرنج وَهُوَ فِي بعض الْعَسْكَر فَقَاتلهُمْ أَشد قتال فَقتل أَحْمد بن تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بعد أثر جيد فِي الفرنج، وقاربت حملات الفرنج السُّلْطَان فَانْهَزَمَ إِلَى مصر على الْبَريَّة وَمَعَهُ من سلم فَلَقوا مشقة وعطشاً، وَهلك دَوَاب كَثِيرَة، وَأسر الفرنج الْعَسْكَر المتفرق فِي الإغارة، وَأسر الْفَقِيه عِيسَى من أكبر أَصْحَاب صَلَاح الدّين، فافتداه بعد سِنِين بستين ألف دِينَار، وَكتب بِخَط يَده إِلَى أَخِيه توران شاه بِدِمَشْق يذكر لَهُ ذَلِك، وَفِي أَوله:
(ذكرتك والخطى يخْطر بَيْننَا ... وَقد نهلت منا المثقفة السمر)
وَيَقُول فِيهِ:
(لقد أَشْرَفنَا الْهَلَاك غير مر ... وَمَا ثبتَتْ إِلَّا وَفِي نَفسهَا أَمر)
وفيهَا: حصر الفرنج حماه طَمَعا بهزيمة صَلَاح الدّين وَبعده وَبهَا شهَاب الدّين الحارمي خَال صَلَاح الدّين مَرِيضا، وهجموا بعض أطرافها، وكادوا يملكونها، فجد الْمُسلمُونَ فِي الْقِتَال ثمَّ رحلوا عَنْهَا إِلَى حارم فَمَاتَ صَاحب حماه وَمَات ابْن لَهُ جميل قبله بِثَلَاثَة أَيَّام.
وفيهَا: قبض الْملك الصَّالح على كمشتكين متغلباً على الْأَمر، وَكَانَت لَهُ حارم، فعذب كمشتكين وَأَصْحَابه فِيهَا يرونه ليسلموا قلعة حارم فأصروا على الِامْتِنَاع حَتَّى مَاتَ من الْعَذَاب وَوصل الفرنج من حِصَار حماه، وحصروا حارم أَرْبَعَة أشهر، فداراهم الصَّالح بِمَال فرحلوا عَنْهَا بعد بُلُوغ أَهلهَا الْجهد، ثمَّ أرسل الْملك الصَّالح عسكراً حصروها وتسلموها، فاستناب بقلعتها سرخك مَمْلُوك أَبِيه.
وفيهَا: فِي الْمحرم خطب للسُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان بن طغرل بك بن مُحَمَّد بن ملك شاه، الْمُقِيم بِبِلَاد إيلدكز، وَكَانَ أَبوهُ أرسلان الْمُقدم ذكره قد توفّي.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة عبر عضد الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن هبة الله وَزِير الْخَلِيفَة دجلة عَازِمًا على الْحَج فَقتله الإسماعيلية وَحمل مجروحاً إِلَى منزله فَمَاتَ ومولده سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي صَدَقَة بن الْحُسَيْن الْحداد الَّذِي ذيل تَارِيخ ابْن الزَّعْفَرَانِي بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل صَلَاح الدّين إِلَى شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم ليسلم بعلبك إِلَى توران شاه حَسْبَمَا سَأَلَهُ، فعصى بهَا، فَأرْسل صَلَاح الدّين، وحصره طَويلا، ثمَّ عوض عَنْهَا وَسلمهَا إِلَى توران شاه.
وفيهَا: كَانَ غلاء، وَتَبعهُ وباء، وفيهَا: سير صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِلَى حماه، وَابْن عَمه مُحَمَّد بن شيركوه إِلَى حمص فاستقرا بهما. وفيهَا: توفّي سعد بن مُحَمَّد بن سعد الحيص بيص الشَّاعِر.(2/86)
وَللَّه قَوْله:
(لَا تلمني فِي شقائي بالعلا ... وغد الْعَيْش لربات الحجال)
(سيف عز زانه رونقه ... فَهُوَ بالطبع غَنِي عَن صقال)
قلت: تفقه بِالريِّ وَتكلم فِي المخلاف، وَغلب عَلَيْهِ الْأَدَب وَأخذ النَّاس عَنهُ أدباً وفضلاً كثيرا، وَكَانَ يلبس زِيّ الْعَرَب ويتقلده شيفاً، وَفِيه تيه فَعمل فِيهِ أَبُو الْقَاسِم بن أبي
الْفضل:
(كم تبارى وَكم تطول ... طرطوراً وَمَا فِيك شَعْرَة من تَمِيم)
(فَكل الضَّب واقرط الحنظل ... الْيَابِس واشرب مَا شِئْت بَوْل الظليم)
(لَيْسَ ذَا وَجه من بضيف وَلَا يقرى ... وَلَا يدْفع الْأَذَى عَن حَرِيم)
فإجابه:
(لَا تضع من عَظِيم قدر وَإِن ... كنت مشار إِلَيْهِ بالتعظيم)
(ولع الْخمر بالعقول رمى ... الْخمر بتنجيسها وبالتحريم)
(فالشريف الْكَرِيم ينحط قدرا ... بالتجري على الشريف الْكَرِيم)
وَعمل فِيهِ خطيب الحويزة الْبُحَيْرِي:
(لسنا وحقك حيص بيص ... من الأعارب فِي الصميم)
(وَلَقَد كذبت على بحير ... كَمَا كذبت على تَمِيم)
وَكتب الحيص بيص إِلَى الْوَزير ابْن هُبَيْرَة وَقد طلب مِنْهُ أَن يحضر مائدته فِي شهر رَمَضَان:
(صن مَنْكِبي عَن زحام إِن نصبت لَهُ ... تمكن الطعْن من عَقْلِي وَمن خلقي)
(وَإِن رضيت بِهِ فالذل منقصة ... وَكم تكلفته عمدا وَلم أطق)
(وهبه بعض عطاياك الَّتِي سلفت ... فالجود بالعز فَوق الْجُود بالورق)
(وَإِن توهم قوم أَنه حمق ... فطالما شبه التوقير بالحمق)
وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَت شهدة بنت أَحْمد بن عمر الأبري سَمِعت من السراج وطراد وقاربت مائَة سنة وَسمع عَلَيْهَا خلق لعلو إسنادها.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح صَلَاح الدّين حصناً كَانَ بناه الفرنج عِنْد بانياس وَبَيت يَعْقُوب.
وَفِيه يَقُول بهاء الدّين عَليّ بن الساعاتي الدِّمَشْقِي:
(أتسكن أوطان النَّبِيين عصبَة ... تمين لَدَى إيمَانهَا وَهِي تحلف)
(نصحتكم والنصح للدّين وَاجِب ... ذَروا بَيت يَعْقُوب فقد جَاءَ يُوسُف)(2/87)
وفيهَا: كَانَ حصن رعبان بيد شمس الدّين بن الْمُقدم فطمع فِيهِ قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم فَأرْسل نَحْو عشْرين الْفَا ليحصروه فَسَار إِلَيْهِم تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه فِي ألف فَارس فَهَزَمَهُمْ.
وفيهَا: ثَانِي ذِي الْقعدَة توفّي المستضىء بِأَمْر الله الْحسن بن المستنجد وَأمه أم ولد أرمنية، وخلافته نَحْو تسع سِنِين وَسَبْعَة أشهر، ومولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، وَكَانَ حسن السِّيرَة، حكم فِي دولته الظهير أَبُو بكر بن الْعَطَّار بعد قتل الْوَزير عضد الدّين، فَأخذ ابْن الْعَطَّار بعده الْبيعَة لِابْنِهِ النَّاصِر لدين الله وَهُوَ الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم فَحكم أستاذ الدَّار مجد الدّين أَبُو الْفضل فَقبض فِي سَابِع ذِي الْقعدَة على ظهير الدّين بن الْعَطَّار وَنقل إِلَى التَّاج وَأخرج مَيتا على رَأس حمال لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة، فألقته الْعَامَّة عَن رَأس الْحمال، وسحب بِحَبل فِي ذكره، وَوَضَعُوا فِي يَده مغرفة، مغموسة فِي الْعذرَة وَيَقُولُونَ: وَقع لنا يَا مَوْلَانَا هَذَا. مَعَ حسن سيرته وعفته عَن أَمْوَالهم، ثمَّ خلص وَدفن.
قلت:
(إِذا نلْت العلى رَاع الرعايا ... فَإِن الْقَوْم أَعدَاء الْمَعَالِي)
(يرَوْنَ علا الْفَتى ذَنبا عَظِيما ... وَإِن أمنوه فِي نفس وَمَال)
وَالله أعلم.
وفيهَا: عوض صَلَاح الدّين أَخَاهُ توران شاه بالإسكندرية عَن بعلبك حسب سُؤَاله. وأقطع بعلبك لفرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وَأقَام توران شاه بالإسكندرية وَبهَا مَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ثَالِث صفر توفّي سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل والجزيرة بالسل وعمره نَحْو ثَلَاثِينَ وولايته عشر سِنِين وَكسر، وَكَانَ مليح الثِّيَاب أَبيض عَاقِلا عادلاً عفيفاً غيوراً وَأوصى بِالْملكِ إِلَى أَخِيه مَسْعُود، وَأعْطى ابْنه سنجر شاه بن غَازِي الجزيرة وقلاعها وَكَانَ مُدبر الدولة مُجَاهِد الدّين قيماز.
وفيهَا: وصل صَلَاح الدّين رعبان فَصَالحه قلج أرسلان صَاحب الرّوم، فَرجع عَنهُ وَشن الغارات على بِلَاد ابْن لبون الأرمني، فَصَالحه على مَال وَأسرى.
وفيهَا: توفّي توران شاه بالإسكندرية، وَكَانَ لَهُ مَعَ الْإسْكَنْدَريَّة أَكثر الْيمن، مَاتَ وَعَلِيهِ مِائَتَا ألف دِينَار غير مَا كَانَ يحمل إِلَيْهِ من الْيمن، وَدخل الْإسْكَنْدَريَّة لسخائه، فَقضى صَلَاح الدّين دينه لما عَاد إِلَى مصر فِي شعْبَان مِنْهَا، واستخلف صَلَاح الدّين بِالشَّام ابْن أَخِيه فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب بعلبك.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزم الْبُرْنُس صَاحب الكرك على(2/88)
الْمسير إِلَى الْمَدِينَة حرسها الله تَعَالَى فَأَغَارَ مرخشاه على بِلَاده وَأقَام مُقَابِله فَفرق الْبُرْنُس جموعه وثنى عزمه.
قلت:
(قصد الْبُرْنُس مكيدة عظمت ... فانحاز عَنْهَا خاسراً خاسى)
(أيخاف خير الْخلق من أحد ... وَالله يعصمه من النَّاس)
وَالله أعلم.
وفيهَا: استولى عَسْكَر صَلَاح الدّين على الْيمن لاخْتِلَاف نائبي توران شاه فِيهِ بعد مَوته، وهما عز الدّين عُثْمَان بن الزنجبيلي بعدن، وحطان بن كَامِل بن منقذ بزبيد.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب حلب، وعمره نَحْو تسع عشرَة سنة بالقولنج وصف لَهُ الْخمر فَمَاتَ وَلم يَسْتَعْمِلهُ وَلم يعرف لَهُ شَيْء مِمَّا يتعاطاه الشبَّان.
وَكَانَ حَلِيمًا عفيف الْفرج وَالْيَد وَاللِّسَان، ملازماً لأمور الدّين وَأوصى بِملك حلب إِلَى ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل فَسَار إِلَيْهَا بعد موت الصَّالح وَمَعَهُ قيماز، وَاسْتقر فِي ملكهَا، فكاتبه أَخُوهُ زنكي صَاحب سنجار أَن يُعْطِيهِ حلب وَيَأْخُذ سنجار، وَأَشَارَ قيماز بذلك، فَأجَاب وَعَاد مَسْعُود إِلَى الْموصل.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي أَبُو البركات عِنْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي سعد النَّحْوِيّ بن الْأَنْبَارِي.
لَهُ فِي النَّحْو تصانيف حَسَنَة، كَانَ فَقِيها.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي خَامِس الْمحرم قصد صَلَاح الدّين الشَّام، وَخرج الْأَعْيَان لوداعه، وَقَالَ: كل فِي فِرَاقه شَيْئا، فَأَنْشد معلم لبَعض أَوْلَاده:
(تمتّع من شميم عرار نجد ... فَمَا بعد العشية من عرار)
فتطير السُّلْطَان وتنكد الْحَاضِرُونَ فَلم يعد صَلَاح الدّين إِلَى مصر مَعَ طول الْمدَّة، وأغار صَلَاح الدّين فِي طَرِيقه على الفرنج وغنم وَوصل دمشق فِي حادي عشر صفر وَاجْتمعَ الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طَرِيقه لما سَار فانتهز فرخشاه الفرصة وَفتح بعسكر الشَّام الشقيف وأغار على مَا يجاوره.
وفيهَا: سير السُّلْطَان أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين إِلَى الْيمن وَبهَا حطَّان بن منقذ الْكِنَانِي وَعز الدّين عُثْمَان الزنجبيلي عادا إِلَى ولايتهما لوفاة نَائِب صَلَاح الدّين الَّذِي عزلهما، فتحصن حطَّان فِي قلعة فأنزله طغتكين بتلطف، وَأحسن صحبته، ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَأخذ مَاله، وَمن جملَته سَبْعُونَ غلافاً زردية مَمْلُوءَة ذَهَبا عينا، ثمَّ سجنه فِي قلعة، فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.(2/89)
وَأما الزنجبيلي فهرب نَحْو الشَّام وَأرْسل أَمْوَاله فِي الْبَحْر فصادفتهم مراكب فِيهَا أَصْحَاب ظغتكين فَأَخَذُوهَا وصفت الْيمن لسيف الْإِسْلَام طغتكين، وفيهَا نزل صَلَاح الدّين قرب طبرية، وَشن الغارات على مثل بيسان وجينين والغور من بِلَاد الفرنج فغنم وَقتل، ثمَّ عَاد إِلَى دمشق، ثمَّ حصر بيروت وأغار ثمَّ عَاد ثمَّ عبر الْفُرَات من البيرة فَصَارَ مَعَه مظفر الدّين كوك بوري بن عَليّ بن بكتكين صَاحب حران.
واستمال صَلَاح الدّين مُلُوك الْأَطْرَاف فَصَارَ مَعَه نور الدّين مُحَمَّد بن قَرَأَ أرسلان صَاحب حصن كيفا، وحاصر الرها وملكها وَسلمهَا إِلَى كوك بوري ثمَّ أَخذ الرقة من نيال بن حسان المنبجي، فَسَار نيال إِلَى مَسْعُود صَاحب الْموصل ثمَّ ملك صَلَاح الدّين قرقيسيا وماكسين وعرابان والخابور جَمِيعًا، ثمَّ ملك نَصِيبين ثمَّ قلعتها وأقطعها لأبي الهيجاء السمين، ثمَّ حصر الْموصل وَبهَا صَاحبهَا عز الدّين مَسْعُود وَمُجاهد الدّين قيماز، وَقد شحنت رجَالًا وسلاحاً وَأقَام منجنيقاً فأقاموا من دَاخل تِسْعَة مجانيق وضايقها، وَنزل السُّلْطَان قبالة بَاب كِنْدَة وَصَاحب حصن كيفا على بَاب الجسر وبوري عَليّ بَاب الْعِمَادِيّ فِي رَجَب مِنْهَا، وَجرى الْقِتَال فَرَأى فِي الْأَمر طولا، فَرَحل وحاصر سنجار وملكها، واستناب بهَا سعد الدّين بن معِين الدّين أنز من أحسن الْأُمَرَاء صُورَة وَمعنى، ثمَّ قصد حران وعزل فِي طَرِيقه أَبَا الهيجاء السمين عَن نَصِيبين.
وفيهَا: سير الْبُرْنُس صَاحب الكرك أسطولاً فِي بَحر أَيْلَة فرْقَتَيْن فرقة حصرت حصن أيله، وَفرْقَة نَحْو عيذاب يفسدون فِي السواحل بَغْتَة، وَلم يعْهَد بِهَذَا الْبَحْر فرنج قطّ، فعمر الْعَادِل أَبُو بكر نَائِب النَّاصِر بِمصْر أسطولاً فِي بَحر عيذاب، وأرسله مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ الْحَاجِب مُتَوَلِّي الأسطول بِمصْر فأوقع لُؤْلُؤ بمحاصري أَيْلَة فَقتل وَأسر، ثمَّ طلب الْفرْقَة الثَّانِيَة وَقد عزموا على دُخُول الْمَدِينَة وَمَكَّة حرسهما الله تَعَالَى فَبلغ رابغ فأدركهم بساحل الْحَوْرَاء وَقَاتلهمْ أَشد قتال فَقتل أَكْثَرهم وَأسر البَاقِينَ وَأرْسل بَعضهم إِلَى منى لينحروا بهَا وَعَاد بالباقين فَقتلُوا عَن آخِرهم بِمصْر.
قلت:
(لقد طمع الْبُرْنُس بمستحيل ... فجر لِقَوْمِهِ سفك الدِّمَاء)
(وَلَو ترك النَّبِي بِلَا دفاع ... لدافع عَنهُ أَمْلَاك السَّمَاء)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عز الدّين فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب بعلبك وَكَانَ شجاعاً شَاعِرًا وَبلغ صَلَاح الدّين وَهُوَ بالجزيرة مَوته، فَأرْسل شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم ليَكُون بِدِمَشْق وَأقر بعلبك على بهْرَام شاه بن فرخشاه.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن الرِّفَاعِي من سَواد وَاسِط، وَكَانَ صَالحا ذَا قبُول عَظِيم عِنْد النَّاس، وَله من التلامذة مَا لَا يُحْصى.(2/90)
قلت: وَمن كَلَامه لَو تكلم الرجل فِي الذَّات وَالصِّفَات، كَانَ سُكُوته أفضل وَلَو خطى من قَاف إِلَى قَاف كَانَ جُلُوسه أفضل، وَلَو أكل مَلأ الْبَيْت طَعَاما ثمَّ تنفس عَلَيْهِ فأحرقه، كَانَ جوعه أفضل.
قَالَ ابْن خلكان: كَانَ الشَّيْخ أَحْمد فَقِيها شافعياً، أَصله من الْمغرب، ولأتباعه أَحْوَال عَجِيبَة من أكل الْحَيَّات وَهِي حَيَّة وَالنُّزُول إِلَى التنانير وَهِي تتضرم بالنَّار فيطفؤنها.
وَيُقَال: إِنَّهُم فِي بِلَادهمْ يركبون الْأسود وَلم يعقب وَإِنَّمَا الْعقب لِأَخِيهِ وكراماته مَشْهُورَة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي بقرطبة خلف بن عبد الْملك بن مَسْعُود بن بشكوال الخزرجي الْأنْصَارِيّ من عُلَمَاء الأندلس، لَهُ تصانيف مفيدة، ومولده سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق قطب الدّين مَسْعُود بن مُحَمَّد بن مَسْعُود النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الشَّافِعِي، إِمَام فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة صنف عقيدة لصلاح الدّين فاقرأها أَوْلَاده الصغار.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك صَلَاح الدّين آمد وَسلمهَا إِلَى نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق صَاحب حصن كيفا، ثمَّ ملك تل خَالِد من عمل حلب، ثمَّ عينتاب سلمهَا إِلَيْهِ صَاحبهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد أَخُو الشَّيْخ إِسْمَاعِيل النوري فأقره عَلَيْهَا وَبَقِي مَعَه وَمن أمرائه وتسلم بعد المحاصرة حلب من زنكي فِي صفر، وعوضه عَنْهَا بسنجار ونصيبين، والخابور والرقة وسروج.
وَكَانَ زنكي قد ضجر من اقتراحات أُمَرَاء حلب عَلَيْهِ فناداه السفلة بحلب: يَا حمَار بِعْت حلب بسنجار.
وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق: أَن مُحي الدّين بن الزكي قَاضِي دمشق مدح السُّلْطَان بقصيدة مِنْهَا:
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب)
فَفتح الْقُدس فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة.
وَمِمَّنْ قتل على حِصَار حلب تَاج الدّين بوري أَخُو السُّلْطَان الْأَصْغَر وَعمل عماد الدّين زنكي للسُّلْطَان دَعْوَة حافلة فَبينا هُوَ فِيهَا إِذْ أسره شخص بِمَوْت أَخِيه بوري فَأمر بتجهيزه سرا وَلم يظْهر ذَلِك لِئَلَّا ينكد عَلَيْهِم وَكَانَ يَقُول مَا وَقعت حلب علينا رخيصة بِمَوْت بوري، ووثب أهل قلعة حارم على سرخك نَائِب الصَّالح بهَا، وقبضوا عَلَيْهِ وسلموها للسُّلْطَان بعد امْتِنَاعه عَن التَّسْلِيم ومكاتبة الفرنج، وَقرر صَلَاح الدّين بِلَاد حلب وأقطع عزازاً لِسُلَيْمَان بن حيدر.
وفيهَا: قبض مَسْعُود صَاحب الْموصل على قيماز نَائِبه.
وفيهَا قرر السُّلْطَان ابْنه الْملك الظَّاهِر غَازِي بحلب، ثمَّ سَار وتجهز من دمشق(2/91)
فَأحرق بيسان، وَشن الإغارات على تِلْكَ النواحي، وَأرْسل إِلَى نَائِبه أَخِيه الْعَادِل بِمصْر أَن يلاقيه إِلَى الكرك، فاجتمعا عَلَيْهَا وحصراها، ثمَّ رحلا عَنْهَا، وَأرْسل ابْن أَخِيه المظفر عمر نَائِبا إِلَى مصر مَوضِع الْعَادِل، وَوصل دمشق وَأعْطى الْعَادِل حلب وقلعتها وأعمالها فِي رَمَضَان مِنْهَا، وأحضر الظَّاهِر مِنْهَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي مُحَمَّد بن بختيار بن عبد الله الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالأبله.
وفيهَا: توفّي شاهر بن سكمان بن ظهير الدّين إِبْرَاهِيم بن سكمان القطبي صَاحب خلاط وعمره أَربع وَسِتُّونَ سنة وملكها بعده بكتمر مَمْلُوك أَبِيه صَاحب ميافارقين اخْتَارَهُ أَكثر أهل خلاط وكاتبوه فَحَضَرَ وَملك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فِيهَا: سَار أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فِي جمع عَظِيم وَحصر شنترين وَمرض فَمَاتَ فِي ربيع الأول وَحمل إِلَى أشبيلية وَمُدَّة ملكه اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وشهور، استقام ملكه لتدبيره الْجيد، وبويع بعده ابْنه يَعْقُوب، وكنيته أَبُو يُوسُف يَوْم وَفَاة أَبِيه لقربهم من الْعَدو، فَأَقَامَ راية الْجِهَاد.
وفيهَا: غزا صَلَاح الدّين الكرك، وأحضر عَسَاكِر مصر مَعَه، وَملك ربضها، فَاجْتمع الفرنج وقصدوه، فَخرج عَنْهَا بالعسكر ليتلقاهم فَوَجَدَهُمْ فِي وعر، فَسَار وأحرق نابلس، وَنهب تِلْكَ النواحي، وَأسر وَقتل وسبى فَأكْثر ثمَّ اسْتَنْفَذَ مَا فِي سبصطية الَّتِي بهَا مشْهد زَكَرِيَّا من أسرى الْمُسلمين ثمَّ سَار إِلَى جينين ثمَّ إِلَى دمشق.
وفيهَا: مَاتَ قطب الدّين إيلغازي بن نجم الدّين البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صَاحب ماردين، وَقَامَ بعده ابْنه حسام الدّين بولق أرسلان وَكَانَ هُوَ وأخوته صغَارًا وَدبره مَمْلُوك أَبِيه نظام الدّين البقش حَتَّى كبر وَكَانَ بِهِ هوج فَمَاتَ بولق وَأقَام البقش بعده أَخَاهُ الْأَصْغَر نَاصِر الدّين أرتق أرسلان بن إيلغازي صُورَة، وَكَانَ لُؤْلُؤ مَمْلُوك البقش قد تغلب عَلَيْهِ إِلَى سنة إِحْدَى وسِتمِائَة فَمَرض البقش وَأَتَاهُ نَاصِر الدّين يعودهُ، فَلَمَّا خرج خرج مَعَه لُؤْلُؤ فَقتله نَاصِر الدّين بسكين، ثمَّ عَاد إِلَى البقش فَقتله وَهُوَ مَرِيض وَاسْتقر بماردين بِلَا مُنَازع.
وفيهَا: توفّي شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد أَحْمد سَار برسالة الْخَلِيفَة وَمَعَهُ شهَاب الدّين بشير ليصلحا بَين صَلَاح الدّين وَبَين عز الدّين مَسْعُود صَاحب الْموصل، فَلم يَنْتَظِم حَالهمَا ومرضا بِدِمَشْق، ثمَّ سارا إِلَى الْعرَاق فِي الْحر، فَمَاتَ بشير فِي السبخة، وَمَات شيخ الشُّيُوخ فِي الرحبة، وَدفن بمشهد البوق، وَكَانَ أوحد عصره، جمع بَين رياسة الدّين وَالدُّنْيَا.
وفيهَا: فِي الْمحرم أطلق مَسْعُود صَاحب الْموصل مُجَاهِد الدّين قيماز من الْحَبْس وَأحسن إِلَيْهِ.(2/92)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر السُّلْطَان الْموصل ثَانِيًا فَأرْسل إِلَيْهِ عز الدّين مَسْعُود والدته وَابْنَة عَمه نور الدّين وَجَمَاعَة من النِّسَاء يطْلبُونَ مِنْهُ ترك الْموصل وَمَا بِأَيْدِيهِم فردهم واستقبح مِنْهُ ذَلِك، وحاصرها، وبلغه وَفَاة شاه أرمن صَاحب خلاط فِي ربيع الآخر مِنْهَا، فَسَار إِلَيْهَا باستدعاء أَهلهَا ليملكها.
وفيهَا: توفّي نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد صَاحب الْحصن وآمد، وَملك بعده إبنه قطب الدّين سقمان صَغِيرا وَدبره القوام بن سماقا الأسعدي، وَحضر سقمان إِلَى صَلَاح الدّين وَهُوَ عَليّ ميافارقين فأقره وَأقَام مَعَه أَمِيرا من أَصْحَاب أبي سقمان وحاصر ميافارقين وَكَانَت لصَاحب ماردين المتوفي، وَبهَا من يحفظها من جِهَة شَاة أرمن صَاحب خلاط المتوفي، وملكها صَلَاح الدّين فِي جُمَادَى الأولى ثمَّ رَجَعَ عَن قصد خلاط إِلَى الْموصل فَجَاءَتْهُ رسل مَسْعُود فِي الصُّلْح، وَاتفقَ مرض السُّلْطَان فَسَار من كفر زمار عَائِدًا إِلَى حران، فلحقته رسل الْموصل بالإجابة إِلَى مَا طلب وَهُوَ أَن تسلم إِلَيْهِ شهرزور وأعمالها وَولَايَة الْقرى بل وَمَا وَرَاء الزاب، ويخطب لَهُ وتضرب لَهُ السِّكَّة باسمه، وتسلم السُّلْطَان ذَلِك وَتمّ الصُّلْح وَوصل إِلَى حران مَرِيضا حَتَّى أيس مِنْهُ ثمَّ عوفي وَعَاد إِلَى دمشق فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: لَيْلَة عيد الْأَضْحَى شرب بحمص صَاحبهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فَأصْبح مَيتا، قيل دس السُّلْطَان عَلَيْهِ سما لمكاتبته أهل دمشق فِي مَرضه وَأقر السُّلْطَان مَوْضِعه إبنه شيركوه وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الْمَدِينِيّ إِمَام فِي الْحِفْظ والمعرفة مؤلف فِي عُلُوم الحَدِيث لَهُ المغيث تَكْمِلَة غريبي الْهَرَوِيّ واستدرك عَلَيْهِ ومولده سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة.
قلت: وفيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الشَّيْخ حَيَاة بن قيس الْحَرَّانِي وَهُوَ أحد الْأَرْبَعَة الَّذين يتصرفون فِي قُبُورهم كتصرف الْأَحْيَاء وَقد تقدم ذكرهم جَاءَهُ الشَّيْخ رغيب الرَّحبِي زَائِرًا فوافاه بعد الصُّبْح جَالِسا وَبَين يَدَيْهِ معزى لَهُ فَسلم عَلَيْهِ وَجلسَ على دكة بإزائه وَبَينهمَا أَكثر من عشرَة أَذْرع فَلم يكلمهُ فَقَالَ فِي نَفسه جِئْت إِلَيْهِ من الرحبة، واشتغل عني بمعزى فَقَالَ: يَا رغيب قد أمرت أَن أعطب فِيك شَيْئا بِسَبَب إعتراضك فاختر إِمَّا من ظاهرك وَإِمَّا من باطنك فَقَالَ لَا يَا سَيِّدي بل من ظاهري فَمد الشَّيْخ حَيَاة إصبعه يَسِيرا فسالت عين الشَّيْخ رغيب على خُذْهُ فَقَامَ وَقبل الأَرْض وَعَاد إِلَى الرحبة ثمَّ رَأَوْهُ بعد سِنِين بِمَكَّة صَحِيح الْعَينَيْنِ فَسَأَلَ فَقَالَ: كنت فِي فِي سَماع ببلدنا وَفِيه رجل من مريدي الشَّيْخ حَيَاة فَوضع يَده على عَيْني فَردَّتْ صَحِيحَة كَمَا ترى وَلما أَشَارَ الشَّيْخ بإصبعه إِلَى عَيْني وسالت على خدي انفتحت فِي قلبِي عين شاهدت بهَا أسراراً، وَقد زَادَت عجائب من آيَات الله تَعَالَى وَبنى بِنَجْرَان مَسْجِدا وَحضر الشَّيْخ رغيب قبلته فنازعه المهندس فِي الْقبْلَة، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: انْظُر ترى(2/93)
الْكَعْبَة بإزائك فَنظر فَإِذا الْكَعْبَة لَيْسَ بَينه وَبَينهَا شَيْء يَحْجُبهُ فَخر مغشياً عَلَيْهِ.
وَمن كَلَامه: قيمَة القشور بلبابها وَقِيمَة الْقُصُور ببنائها وَقِيمَة الرِّجَال بألبابها، وَعز العبيد بأربابها وفخر الْأَحِبَّة بأحبابها.
وَمن إنشاده:
(وَإِذا الرِّيَاح مَعَ الْعشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيوراً)
(وأمتن ذَا بِوُجُود وجد دَائِم ... وأقمن ذَا وكشفن عَنهُ ستوراً)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا أحضر السُّلْطَان ابْنه الْأَفْضَل من مصر وأقطعه دمشق، ثمَّ استدعى تَقِيّ الدّين من مصر وزاده على حماه منبج والمعرة وَكفر طَابَ وميارفارقين، وَجعل الْعَادِل والعزيز عُثْمَان ابْنه بِمصْر، وأقطع الْعَادِل عوض حلب حران والرها.
وفيهَا: فِي أَولهَا توفّي البهلوان مُحَمَّد بن إيلدكز صَاحب الْجَبَل وهمدان والري وأصبهان وأذربيجان وَغَيرهَا، وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَملك بعده أَخُوهُ عُثْمَان قزل أرسلان، وَكَانَ السُّلْطَان طغرل بك السلجوقي مَعَ البهلوان، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخطْبَة، فَتمكن بِمَوْتِهِ، وَاسْتولى على بعض الْبِلَاد، وَجَرت بَينه وَبَين قزل حروب.
وفيهَا: غدر الْبُرْنُس صَاحب الكرك وَأسر قافلة من الْمُسلمين فطلبهم السُّلْطَان بِحكم الْهُدْنَة فَأبى فَنَذر السُّلْطَان قَتله بِيَدِهِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْوَحْش بري بن عبد الْجَبَّار بن بري الْمصْرِيّ بِمصْر، إِمَام فِي اللُّغَة والنحو، قَرَأَ عَلَيْهِ الْجُزُولِيّ وَغَيره، ومولده بِمصْر سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا ضايق السُّلْطَان الكرك خوفًا على الْحجَّاج من الْبُرْنُس وأغار بعض عسكره على بلد عكا وغنموا، ثمَّ حصر مَدِينَة طبرية وَفتحهَا بِالسَّيْفِ وَكَانَت للقومس صَاحب طرابلس، وَكَانَ مهادن السُّلْطَان فَاجْتمع إِلَى الفرنج للحرب.
وقْعَة حطين
وَلما فتحت طبرية اجْتمعت مُلُوك الفرنج فَارِسًا وراجلاً وَسَارُوا إِلَى السُّلْطَان فَركب إِلَيْهِم من عِنْد طبرية لخمس بَقينَ من ربيع الآخر، والتقى الْجَمْعَانِ، وَرَأى القرمس شدَّة الْأَمر فَحمل على من قدامه، وَهُنَاكَ تَقِيّ الدّين صَاحب حماه فَفرج لَهُ وَعطف عَلَيْهِم، فنجى القومس إِلَى طرابلس وَمَات بعد قَلِيل غيظاً وَنصر الله الْمُسلمين، وَأَحْدَقُوا بالفرنج وأبادوهم قتلا وأسراً، وَأسر ملكهم الْكَبِير، والبرنس أرباط صَاحب الكرك وَصَاحب جبيل(2/94)
وَابْن الهنفري ومقدم الداوية وَجَمَاعَة من الاسبتارية، وَمَا أصيبوا مُنْذُ خَرجُوا إِلَى الشَّام سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بِمِثْلِهَا، وَلما انْقَضى المصاف جلس السُّلْطَان فِي خيمته وأجلس ملك الفرنج إِلَى جَانِبه وَقد اشْتَدَّ عطشه فَسَقَاهُ السُّلْطَان مَاء مثلوجاً، فسقى مِنْهُ الْبُرْنُس صَاحب الكرك، فَقَالَ السُّلْطَان: إِن هَذَا الملعون لم يشرب بإذني فَيكون أَمَانًا لَهُ ثمَّ ذكر السُّلْطَان الْبُرْنُس بِقَصْدِهِ الْحَرَمَيْنِ الشريفين، وَقَامَ السُّلْطَان بِنَفسِهِ فَضرب عُنُقه فارتعد ملك الفرنج فسكنه السُّلْطَان.
ثمَّ عَاد وَفتح قلعة طبرية بالأمان وعكا بالأمان، وَفتح عسكره الناصرة، وقيسارية وهيفا وصفورية وفعليثا والغولة وَغَيرهَا بِالسَّيْفِ، ونابلس وقلعتها بالأمان، وَفتح الْعَادِل بعد ذَلِك يافا عنْوَة.
ثمَّ فتح السُّلْطَان تبنين بالأمان، وتسلم صيدا خَالِيَة، ثمَّ بيروت بعد حِصَار فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى بالأمان، وَكَانَ من جملَة الأسرى صَاحب جبيل، فبذل جبيلاً فَأطلق، وَكَانَ عدوا شَدِيدا على الْمُسلمين وَمَا حمدت عَاقِبَة إِطْلَاقه.
وفيهَا: حضر المركيس فِي سفينة إِلَى عكا وَهِي للْمُسلمين وَلم يعلم بذلك وَاتفقَ عدم هبوب الْهَوَاء فراسل الْملك الْأَفْضَل بعكا مرَارًا ينْتَظر هبوب الرّيح، إِلَى أَن هبت فأقلع إِلَى صور، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الفرنج الَّذين بهَا، وَملك صور، وَكَانَ وُصُول المركيس إِلَى صور وَإِطْلَاق الفرنج الَّذين أَخذ السُّلْطَان بِلَادهمْ بالأمان وَحَملهمْ إِلَى صور من أعظم أَسبَاب الضَّرَر وَقُوَّة الفرنج ورواح عكا، ثمَّ حاصر السُّلْطَان عسقلان أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وتسلمها بالأمان سلخ جُمَادَى الْآخِرَة، ثمَّ فتح عسكره الرملة والداروم وغزة وَبَيت لحم وَبَيت جِبْرِيل والنطرون وَغَيرهَا، ثمَّ نَازل السُّلْطَان الْقُدس وَبِه من النَّصَارَى عدد لَا يُحْصى، وضايقه بالنقابين وَاشْتَدَّ الْقِتَال وعلق السُّور وَطلب الفرنج الْأمان، فَقَالَ: آخذها مثل مَا أخذت من الْمُسلمين بِالسَّيْفِ فعاودوه فَأجَاب بِشَرْط أَن يُؤَدِّي كل رجل عشرَة دَنَانِير، وكل امْرَأَة خَمْسَة، وكل طِفْل دينارين، وَمن عجز أسر، وتسلم الْمَدِينَة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب.
قلت: قَالَ ابْن خلكان وَلَيْلَته لَيْلَة الْمِعْرَاج الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن وَشهد فَتحه كثير من أَرْبَاب الْخرق والزهد وَالْعُلَمَاء من مصر وَالشَّام بِحَيْثُ لم يتَخَلَّف مِنْهُم أحد، وَالله أعلم.
وَرفعت الْأَعْلَام الإسلامية على أسواره، ورتب على أبوابه من يقبض المَال الْمَشْرُوط، فخان المرتبون وَلم يحملوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل.
وَكَانَ على رَأس قبَّة الصَّخْرَة صَلِيب كَبِير مَذْهَب فَقلع فَضَجَّ الْمُسلمُونَ فَرحا وسروراً، وضج الْكفَّار حزنا وثبوراً.(2/95)
وَكَانَ الفرنج قد عمِلُوا فِي غربي الْمَسْجِد الْأَقْصَى هرياً ومستراحاً فأزيل ذَلِك وأعيد إِلَى التبجيل والتعظيم.
وَكَانَ السُّلْطَان نور الدّين مَحْمُود قد عمل منبراً بحلب وتعب عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا لأجل الْقُدس فأحضر السُّلْطَان الْمِنْبَر للجامع الْأَقْصَى، وَأقَام بعد فَتحه بِظَاهِرِهِ إِلَى الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان ورتب أَحْوَاله وَتقدم بِعَمَل الرَّبْط والمدارس الشَّافِعِيَّة.
قلت: وَصليت فِيهِ الْجُمُعَة يَوْم فَتحه، وخطب يَوْمئِذٍ بِالنَّاسِ القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن عبد الْعَزِيز بن أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنْهُم الْقرشِي الْمَعْرُوف بِابْن الزكي قَاضِي دمشق، خطب بِالْخطْبَةِ البديعة من تصنيفه الْمَعْرُوفَة بالقدسية.
وَكتب لَهُ القَاضِي الْفَاضِل إِلَى الإِمَام النَّاصِر لدين الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المستضيء رِسَالَة تَتَضَمَّن الْفتُوح طَوِيلَة.
مِنْهَا: وَقد صَارَت أُمُور الْإِسْلَام إِلَى أحسن مصائرها، وأسست عقائد أَهله على أحسن بصائرها، وتقلص ظلّ الْكَافِر الْمَبْسُوط وَصدق الله أهل دينه، فَلَمَّا وَقع الشَّرْط وَقع الْمَشْرُوط وَكَانَ الدّين غَرِيبا فَهُوَ الْآن فِي وَطنه، والفوز معروضاً، فقد بذلت الْأَنْفس فِي ثمنه، واسترد الْمُسلمُونَ تراثاً كَانَ عَنْهُم آبقاً وظفروا يقظة بِمَا لم يصدقُوا أَنهم يظفرون بِهِ طبقًا على النأي طَارِقًا واستقرت على الْأَعْلَى أَقْدَامهم، وخفقت على الْأَقْصَى أعلامهم وتلاقت على الصَّخْرَة قبلهم وشفيت بهَا وَإِن كَانَت صَخْرَة كَمَا يشفى بِالْمَاءِ غليلهم.
وَلما قدم الدّين عَلَيْهَا عرف سويداء قلبه، وهنى كفؤها الْحجر الْأسود بَيت عصمتها من الْكَافِر بحزبه.
وَكَانَ الْخَادِم لَا يسْعَى سَعْيه إِلَّا لهَذِهِ العظمة، وَلَا يقاسي تِلْكَ الْبُؤْس إِلَّا رَجَاء هَذِه النِّعْمَة.
وأقيمت الْخطْبَة يَوْم الْجمع فَكَادَتْ السَّمَوَات يتفطرن للسُّجُود لَا للوجوم وَالْكَوَاكِب مِنْهَا تنثر للطرب لَا للرجوم، وَرفعت إِلَى الله كلمة التَّوْحِيد وَكَانَت طريقها مسدودة، وطهرت قُبُور الْأَنْبِيَاء، وَكَانَت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الْخمس، وَكَانَ التَّثْلِيث يقعدها، وجهرت الْأَلْسِنَة بِاللَّه أكبر، وَكَانَ سحر الْكفْر يعقدها وَالله أعلم.
ثمَّ أَن السُّلْطَان رَحمَه الله حاصر صور تَاسِع رَمَضَان وَطلب الأسطول فوصل إِلَيْهِ فِي عشر شوان، فكبسهم الفرنج فِي الشواني، وَأخذُوا خمس شوان وَلم يسلم من الْمُسلمين إِلَّا من سبح وَطَالَ حصارها، فَرَحل عَنْهَا فِي آخر شَوَّال أول كانون وَأقَام بعكا، وَأعْطى العساكر الدستور فقصدوا أوطانهم، وَبَقِي بحلقته فِي عكا وَأرْسل فَفتح هونين بالأمان.(2/96)
وفيهَا: سَار شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم أَمِيرا على الْحَج ليجمع بَين الْغُزَاة وزيارة الْقُدس والخليل وَالْحج فِي سنة فَوقف بِعَرَفَات، أَرَادَ طاشتكين أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ مَنعه من الْإِفَاضَة قبله، فاتفقوا مَعَ الشاميين فَقتل بَينهم جمَاعَة وَابْن الْمُقدم يمْنَع جماعته من الْقِتَال وَلَو مكنهم لَا نتصفوا فجرح وَمَات شَهِيدا وَدفن بمقبرة الْمُعَلَّى رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان شاه السلجوقي كثيرا من الْبِلَاد، وَأرْسل قزل بن إيلدكز إِلَى الْخَلِيفَة يستنجده ويخوفه عَاقِبَة أَمر طغرل بك.
وفيهَا: غزا شهَاب الدّين الغوري الْهِنْد.
وفيهَا: قتل الْخَلِيفَة النَّاصِر أستاذ دَاره مجد الدّين أَبَا الْفضل بن الصاحب وَلم يكن للخليفة مَعَه حكم، وَظهر لَهُ أَمْوَال عَظِيمَة أخذت كلهَا.
وفيهَا: استوزر الْخَلِيفَة النَّاصِر أَبَا المطهر عبيد الله بن يُونُس ولقبه جلال الدّين، وَمَشى أَرْبَاب الدولة فِي ركابه حَتَّى قَاضِي الْقُضَاة، وَكَانَ يمشي وَيَقُول: لعن الله طول الْعُمر.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي ولي الْقَضَاء للمقتفي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا شَتَّى السُّلْطَان بعكا، ثمَّ سَار وَجعل قيماز النجمي يحاصر كَوْكَب، وَدخل دمشق ففرح النَّاس بِهِ وَسَار فِي نصف ربيع الأول وَنزل على بحيرة قدس، وَثمّ نزل تَحت حصن الأكراد ثمَّ أنطرسوس فَوَجَدَهَا خَالِيَة ثمَّ مرقية كَذَلِك، ثمَّ نزل تَحت المرقب فَوَجَدَهُ لَا يرام فوصل جبلة فِي ثامن جُمَادَى الأولى، وتسلمها جعل فِيهَا سَابق الدّين عُثْمَان بن الداية يحفظها، ثمَّ حصر قلعتي اللاذقية وملكها وَسلمهَا إِلَى ابْن أَخِيه المظفر تَقِيّ الدّين عمر فحصنها ثمَّ حاصر صهيون وتسلمها بالأمان وَسلمهَا إِلَى الْأَمِير منكورس صَاحب أبي قبيس من أَصْحَابه.
ثمَّ ملك عسكره بلاطنس خَالِيا من الفرنج وحصن الْعِيد وحصن الجماهرتين ثمَّ سَار السُّلْطَان عَن صهيون ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة وَحصر الشغر وبكاس خَالِيَة.
وتسلم الشغر بالأمان سادس جُمَادَى الْآخِرَة، وَحصر ابْنه الظَّاهِر غَازِي سرمينية وَأنزل أَهلهَا على قطيعة، وَهدم الْحصن فعفى أَثَره، واطلق من هَذِه الْحُصُون أسرى الْمُسلمين وَأَعْطَاهُمْ كسْوَة وَنَفَقَة.
ثمَّ ملك السُّلْطَان برزية زحفاً بِالسَّيْفِ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى وسبى وَأسر وَقتل، وَحكى ابْن الْأَثِير هَذَا كُله عَن مُشَاهدَة، ثمَّ نزل السُّلْطَان جسر الْحَدِيد أَيَّامًا.
ثمَّ حاصر دير بساك وأمنهم بثيابهم فَقَط، وتسلمها تَاسِع عشر رَجَب ثمَّ تسلم بغراس بالأمان مثل دير بساك، وَأرْسل بيمند صَاحب أنطاكية يطْلب مِنْهُ الْهُدْنَة وَيُطلق كل أَسِير عِنْده(2/97)
فَأَجَابَهُ وَصَالَحَهُ ثَمَانِيَة أشهر، ثمَّ دخل السُّلْطَان حلب ثَالِث شعْبَان، وَثمّ دخل دمشق وَأعْطى زنكي بن مودود دستوراً وَغَيره من المشارقة، وزار السُّلْطَان فِي طَرِيقه من حلب قبر عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ بدير سمْعَان من النقيرة، وزار الشَّيْخ الصَّالح أَبَا زَكَرِيَّا المغربي الْمُقِيم هُنَاكَ، وَله كرامات، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان أَبُو فليته قَاسم بن مهنى الْحُسَيْنِي صَاحب مَدِينَة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَحضر مَعَه فتوحاته، وَكَانَ يرجع إِلَى قَوْله تبركاُ بِصُحْبَتِهِ، وَدخل السُّلْطَان دمشق فِي رَمَضَان الْمُعظم، فأشير عَلَيْهِ بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فَقَالَ: إِن الْعُمر قصير، وَالْأَجَل غير مَأْمُون، وَكَانَ لما سَار إِلَى الشمَال قد ترك على الكرك وَغَيرهَا من يحصرها وَأَخُوهُ بِتِلْكَ الْجِهَات يُبَاشر ذَلِك فتسلم الكرك بالأمان والشوبك، وَمَا بِتِلْكَ الْجِهَات من الْبِلَاد، ثمَّ سَار من دمشق فحصر صفد، وتسلمها بالأمان ثمَّ كَوْكَب وَعَلَيْهَا قيماز النجمي فتسلمها بالأمان فِي منتصف ذِي الْقعدَة، سير أَهلهَا إِلَى صور وَمَا كَانَ مصلحَة ثمَّ عيد الْأَضْحَى بالقدس ثمَّ أَقَامَ بعكا إِلَى سلخ السّنة.
وفيهَا: أرسل قزل بن إيلدكز يستنجد الإِمَام النَّاصِر على طغرل بك السلجوقي ويحذره عاقبته، فَأرْسل الْخَلِيفَة عسكراً إِلَيْهِ والتقوا ثامن ربيع الأول مِنْهَا قرب هَمدَان فانكسر عَسْكَر الْخَلِيفَة وغنم طغرل بك مِنْهُم وَأسر مقدم الْعَسْكَر جلال الدّين عبيد الله وَزِير الْخَلِيفَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب ابْن التعاويذي الشَّاعِر، وَله وَقد صودرت جمَاعَة من الْكتاب بِبَغْدَاد من قصيدة:
(يَا قَاصِدا بَغْدَاد جز عَن بَلْدَة ... للجور فِيهَا زخرة وعباب)
(إِن كنت طَالب حَاجَة فَارْجِع فقد ... سدت على الراجي بهَا الْأَبْوَاب)
(وَالنَّاس قد قَامَت قيامتهم فَلَا ... أَنْسَاب بَينهم وَلَا أَسبَاب)
(والمرء يُسلمهُ أَبوهُ وعرسه ... ويخونه الْقُرَبَاء والأحباب)
(لَا شَافِع تغني شَفَاعَته وَلَا ... جَان لَهُ مِمَّا جناه متاب)
(شهدُوا معادهم فَعَاد مُصدقا ... من كَانَ قبل ببعثه يرتاب)
(حشر وميزان وَعرض جرائد ... وصحائف منشورة وحساب)
(مَا فاتهم من يَوْم مَا وعدوا بِهِ ... فِي الْحَشْر إِلَّا رَاحِم وهاب)
قلت وَمَا أحسن قَوْله:
(مَا لإنسانيتي شَاهد ... عِنْدِي سوى أَنِّي فِي خسر)
وَكتب إِلَى صَاحبه الْعِمَاد الْأَصْفَهَانِي رِسَالَة وقصيدة يطْلب مِنْهُ فَرْوَة مِنْهَا قد كلف مكارمه وَإِن لم يكن للجود عَلَيْهَا كلفه وأتحفه بِمَا وَجهه إِلَيْهِ من أمله وَهُوَ لعمر الله تحفه إهداء فَرْوَة دمشقية سَرِيَّة نقية يلين لمسها ويزين لبسهَا، دباغتها نظيفة وخياطتها لَطِيفَة طَوِيلَة(2/98)
كَطُولِهِ سابغه كأنعمه حَالية كذكرها جميلَة كَفِعْلِهِ وَاسِعَة كصدره نقية كعرضه رفيعة كقدره.
وَأول القصيدة:
(بِأبي من ذبت فِي الْحبّ لَهُ شوقاً وصبوة ... )
وَالله أعلم.
ومولده ابْن التعاويذي سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا نزل السُّلْطَان بمرج عُيُون وَحضر إِلَيْهِ صَاحب شقيف أريون فخادعه ثمَّ أمْسكهُ وحبسه فِي دمشق.
حِصَار عكا
اجْتمع بصور أهل الْبِلَاد الَّتِي أَخذهَا السُّلْطَان بالأمان فَكثر جمعهم حَتَّى صَارُوا لَا يُحصونَ، وَأَرْسلُوا إِلَى الْبَحْر يَبْكُونَ ويستنجدون وصوروا صُورَة الْمَسِيح وَصُورَة عَرَبِيّ يضْرب الْمَسِيح وَقد أدماه، وَقَالُوا هَذَا نَبِي الْعَرَب يضْرب الْمَسِيح فَخرجت النِّسَاء من بُيُوتهنَّ وَوصل فِي الْبَحْر إفرنج لَا يُحصونَ كَثْرَة، ونازلوا عكا فِي منتصف رَجَب مِنْهَا وَأَحَاطُوا بهَا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وَلم يبْق للْمُسلمين إِلَيْهَا طَرِيق فَسَار السُّلْطَان وقاربهم وَقَاتلهمْ فِي مستهل شعْبَان وَبَاتُوا على ذَلِك، وَأَصْبحُوا، فَحمل تَقِيّ الدّين صَاحب حماه من ميمنة السُّلْطَان فأزالهم عَن موقفهم والتصق بالسور، وَانْفَتح الطَّرِيق إِلَى الْمَدِينَة يدْخل الْمُسلمُونَ وَيخرجُونَ وَأدْخل السُّلْطَان إِلَى عكا عسكراً نجدة مِنْهُم أَبُو الهيجاء السمين، وعاودوا الْقِتَال وراوحوه إِلَى الْعشْرين من شعْبَان، ثمَّ كَانَت الْوَقْعَة الْعَظِيمَة، وَحمل الفرنج على الْقلب فأزالوه وَقتلُوا حَتَّى بلغُوا خيمة السُّلْطَان، وانحاز السُّلْطَان إِلَى جَانب وانضاف إِلَيْهِ جمَاعَة، وَانْقطع مدد الفرنج، وَاشْتَغلُوا بِقِتَال الميمنة فَحمل السُّلْطَان الَّذين خرقوا الْقلب وانعطف عَلَيْهِم الْعَسْكَر فأفنوهم، فَكَانَت قتلاهم نَحْو عشرَة آلَاف إفرنجي، وَوصل المنهزمون من الْمُسلمين إِلَى طبرية وَإِلَى دمشق، وجافت الأَرْض بعد هَذِه الْوَقْعَة، وَمرض السُّلْطَان، وَحدث لَهُ قولنج، فانتقل من ذَلِك الْموضع، ورحل عَن عكا رَابِع عشر رَمَضَان إِلَى الخروبة فانبسط الفرنج فِي تِلْكَ الأَرْض وتمكنوا من عكا، وَوصل اسطول الْمُسلمين فِي الْبَحْر مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ فَأخذ بطسة كَبِيرَة للفرنج، فَقَوِيت الْقُلُوب وَدخل بهَا عكا وَوصل الْعَادِل بعسكر مصر فازدادت الْقُلُوب قُوَّة.
وفيهَا: توفّي بالخروبة الفقية عِيسَى من أَعْيَان عَسْكَر السُّلْطَان؛ فَقِيه جندي شُجَاع من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي الْقَاسِم البرزي.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن فَايِد موفق الدّين الإربلي الشَّاعِر من أعلم النَّاس بالعروض والعربية وَنقد الشّعْر وَحل كتاب إقليدس، وَهُوَ شيخ أبي البركات بن المستوفي صَاحب تَارِيخ إربل، أَقَامَ بِشَهْر زور، ثمَّ بِدِمَشْق، ومدح صَلَاح الدّين، ومدح زين الدّين يُوسُف صَاحب إربل بقوله من قصيدة:(2/99)
(رب دَار بالحمى طَال بلادها ... عكف الركب عَلَيْهَا فبكاها)
(كَانَ لي فِيهَا زمَان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها)
(قل لجيران مواثيقهم ... كلما احكمثها رثت قواها)
(كنت مشغوفاً بكم إِذْ كُنْتُم ... شَجرا لَا يبلغ الطير ذراها)
(فَإِذا مَا طمع أغري بكم ... عرض الْيَأْس لنَفْسي فثناها)
(فصبابات الْهوى أَولهَا ... طمع النَّفس وَهَذَا مُنْتَهَاهَا)
(لَا تظنوا لي إِلَيْكُم رَجْعَة ... كشف التجريب عَن عَيْني غطاها)
(إِن زين الدّين أولاني يدا ... لم تدع لي رَغْبَة فِيمَا سواهَا)
وَكَانَ أَبوهُ يتجر فِي اللآلىء من مغاص الْبَحْرين.
وفيهَا: توفّي مَحْمُود بن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي صَاحب الطَّرِيقَة فِي الْخلاف لَهُ التعليقة فِي الْخلاف عُمْدَة وَمن لم يدرس مِنْهَا فلقصوره عَنْهَا، وَكَانَ متفنناً واعظاً حسنا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي صفر عَاد السُّلْطَان عَن الخروبة إِلَى قتال الفرنج على عكا، وَقد عمِلُوا قرب سورها ثَلَاثَة أبرجة طولهَا سِتُّونَ ذِرَاعا، خشبها من جزائر الْبَحْر عملوها طَبَقَات مشحونة رجَالًا وسلاحاً، ولبسوها الْجُلُود والطين وبالخل خوف النَّار فَأحرق الْمُسلمُونَ البرج الأول بِمن فِيهِ ثمَّ الثَّانِي وَالثَّالِث، فانبسطت نفوس الْمُسلمين بعد الكآبة وَجَاءَت العساكر الإسلامية من الْبِلَاد، وَخرج الْملك الألمان من وَرَاء الْقُسْطَنْطِينِيَّة بِمِائَة ألف مقَاتل فأيس الْمُسلمُونَ من الشَّام فَسلط على الألمان الغلاء والوباء فَهَلَك أَكْثَرهم فِي الطَّرِيق، وَنزل ملكهم يغْتَسل فِي نهر بِبَلَد الأرمن فعرق وَأَقَامُوا ابْنه مقَامه فرجه مِنْهُم طَائِفَة وَطَائِفَة اخْتَارَتْ أَخا الْملك وَرَجَعُوا أَيْضا، وَوصل مَعَ ابْن ملك الألمان إِلَى عكا تَقْديرا ألف فَارس وَكفى الله شرهم، وَبَقِي السُّلْطَان والفرنج يتناوشون الْقِتَال إِلَى الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، فَخرجت الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الْعَادِل عَن مَوْضِعه، وَمَعَهُ عَسْكَر مصر، فعطف الْمُسلمُونَ وَقتلُوا من الفرنج خلقا، فعادوا إِلَى خنادقهم، وَانْقطع السُّلْطَان لغص حصل لَهُ، ولولاه لكَانَتْ الفيصلة.
وفيهَا: لما قوي الشتَاء وَالرِّيح أرْسلت الفرنج المحاصرة لعكا مراكبهم إِلَى صور خوف الرّيح، فانفتحت الطَّرِيق إِلَى عكا فِي الْبَحْر، وَأرْسل السُّلْطَان الْبَدَل إِلَيْهَا لَكِن الخارجون مِنْهَا أَضْعَاف الداخلين فَوَقع تَفْرِيط.
وفيهَا: فِي ثامن شَوَّال توفّي زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين على كوجك صَاحب إربل، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان بعسكره، فأقطع أَخَاهُ مظفر الدّين كوك بوري إربل، وأضاف إِلَيْهِ شهرزور وأعمالها، وارتجع مَا كَانَ بيد مظفر الدّين وَهُوَ حران والرها، وَسَار مظفر الدّين إِلَى إربل وملكها.(2/100)
وفيهَا: حصر الْخَلِيفَة النَّاصِر حَدِيثَة عانة وَفتحهَا.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مَا كَانَ بيد مظفر الدّين وَهُوَ حران والرها وسميساط والموزر الْملك المظفر تَقِيّ الدّين عمر زِيَادَة على ميافارقين وحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس وبكراييل.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة:
ذكر اسْتِيلَاء الفرنج على عكا
وَاسْتمرّ حِصَار الفرنج عكا إِلَى هَذِه السّنة وَأَحَاطُوا بهَا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وخندقوا عَلَيْهِم فَلم يتَمَكَّن السُّلْطَان من الْوُصُول إِلَيْهِم فَكَانُوا محاصرين وكالمحصورين فَإِن السُّلْطَان خارجهم. وَاشْتَدَّ حصارهم لعكا، وَطَالَ وَضعف من بهَا عَن حفظهَا وَعجز السُّلْطَان عَن الدّفع عَنْهَا، فَخرج الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن المشطوب، وَطلب الْأمان من الفرنج على مَال وَأسرى يقومُونَ بِهِ للفرنج فأجابوهم وصعدت أَعْلَام الفرنج على عكا يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، واستولوا على الْبَلَد بِمَا فِيهِ، وحبسوا الْمُسلمين فِي أَمَاكِن، وَقَالُوا: إِنَّمَا نحبسهم ليقوموا بِالْمَالِ والأسرى وصليب الصلبوت، وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان بذلك، فَحصل مَا أمكن من ذَلِك، وَطلب إِطْلَاق الْمُسلمين فَأَبَوا، فَعلم غدرهم، وَاسْتمرّ أسرى الْمُسلمين بهَا، ثمَّ قتل الفرنج من الْمُسلمين خلقا، وحبسوا البَاقِينَ، وقرروا أمرهَا، ورحلوا نَحْو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون مِنْهُم، ثمَّ سَارُوا إِلَى أرسوف فَوَقع مصَاف أزالوا فِيهِ الْمُسلمين عَن موقفهم، ووصلوا إِلَى السُّوق فَقتلُوا من السوقية كثيرا، ثمَّ ملكوا يافا خَالِيَة من الْمُسلمين، وَسَار السُّلْطَان فخرب عسقلان لِئَلَّا يكون مثل عكا، ودكها إِلَى الأَرْض، وَثَانِي رَمَضَان رَحل عَنْهَا إِلَى الرملة، فخرب حصنها، وَخرب كَنِيسَة لد وَسَار إِلَى الْقُدس وَقرر أمره وَعَاد إِلَى مخيمه بالنطرون ثامن رَمَضَان، وتراسل الفرنج وَالسُّلْطَان فِي الصُّلْح على أَن يتَزَوَّج الْعَادِل أُخْت ملك الإنكلنار، وَيكون لَهُ الْقُدس ولزوجته عكا فَأنْكر القسيسون ذَلِك إِلَّا إِن ينتصر الْعَادِل، فَلم يتَّفق حَال.
ثمَّ رَحل الفرنج من يافا إِلَى الرملة ثَالِث ذِي الْقعدَة، وَصَارَ يَقع كل يَوْم بَين الْمُسلمين وَبينهمْ مناوشات، ولقوا من ذَلِك شدَّة شَدِيدَة، وَأَقْبل الشتَاء وحالت الأوحال وضجرت العساكر، فَأَعْطَاهُمْ الدستور وَسَار إِلَى الْقُدس لسبع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَنزل دَاخل الْبَلَد وحصنه وعمره وَنقل الْحِجَارَة بِنَفسِهِ ليقتدى بِهِ فَكَانَ كَذَلِك.
وَفَاة الْملك المظفر
كَانَ المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب سَار إِلَى الْبِلَاد المرتجعة من كوك بوري وَرَاء الْفُرَات فامتد إِلَى مجاوريه، وَاسْتولى على الشويدا وجاني والتقى مَعَ يكتمر صَاحب خلاط فَكَسرهُ وحصره فِيهَا، وتملك مُعظم الْبِلَاد، ثمَّ نَازل ملازكرد وَهِي ليكتمر(2/101)
وَفِي صحبته ابْنه الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر فَعرض للمظفر مرض وتزايد حَتَّى توفّي يَوْم الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان مِنْهَا فأخفى الْمَنْصُور وَفَاته وَوصل بِهِ حماه وَدَفنه بظاهرها، وَبنى إِلَى جَانب تربته مدرسة مَشْهُورَة.
وَكَانَ للمظفر بَأْس وأدب وَشعر حسن، وَتُوفِّي لَيْلَة وَفَاته حسام الدّين مُحَمَّد بن لاجين، وَأمه سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب أُخْت السُّلْطَان.
ثمَّ قرر السُّلْطَان للمنصور حماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وأقطع الْبِلَاد الشرقية لِأَخِيهِ الْعَادِل، وَنزل الْعَادِل عَن إقطاعه بِالشَّام خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقا وَنصف خاصه بِمصْر، وَالْتزم كل سنة ألف غرارة من الصَّلْت والبلقا للقدس.
وفيهَا: فِي شعْبَان قتل عُثْمَان قزل أرسلان بن إيلدكز، وَكَانَ قد تغلب واعتقل السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان، ثمَّ تعصب على الشَّافِعِيَّة بأصبهان وصلب من أعيانهم جمَاعَة، وَعَاد إِلَى هَمدَان، وخطب لنَفسِهِ فَقتله على فرَاشه من لم يعرف.
وفيهَا: قدم معز الدّين قَيْصر شاه بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم إِلَى صَلَاح الدّين، وَسَببه أَن أَبَاهُ فرق مَمْلَكَته على أَوْلَاده وَأعْطى ابْنه هَذَا ملطية فألزم بعض إخْوَته أَبَاهُ باسترجاع ملطية فخاف من ذَلِك والتجأ إِلَى السُّلْطَان فَأكْرمه وزوجه بنت أَخِيه الْعَادِل وَعَاد معز الدّين إِلَى ملطية فَتمكن.
وفيهَا: قتل أَبُو الْفَتْح يحيى بن حَنش بن أميرك شهَاب الدّين السهروردي الفيلسوف بقلعة حلب، أَمر بخنقه الظَّاهِر غَازِي بِأَمْر وَالِده، قَرَأَ الأصولين وَالْحكمَة على مجد الدّين الجيلي شيخ الإِمَام فَخر الدّين.
وَكَانَ علمه أَكثر من عقله، فَأفْتى بِإِبَاحَة دَمه لسوء مذْهبه، وشدد عَلَيْهِ زين الدّين ومجد الدّين ابْنا جهبل.
قَالَ السَّيِّد الْآمِدِيّ: قَالَ لي السهروري: لَا بُد أَن أملك الأَرْض رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأبي شربت مَاء الْبَحْر فَقلت: لَعَلَّه اشتهار علمك.
وعاش ثمانياً وَثَلَاثِينَ سنة، وَله فِي الْحِكْمَة التلويحات والتنقيحات والمشارع والمطارحات والهياكل وَحِكْمَة الْإِشْرَاق، وَنسب إِلَى السيمياء.
وَمن شعره:
(أبدا تحن إِلَيْكُم الْأَرْوَاح ... ووصالكم ريحانها والراح)
(وَقُلُوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وَإِلَى لذيذ لقائكم ترتاح)
(وارحمتنا للعاشقين تكلفوا ... ستر الْمحبَّة والهوى فضاح)
(وَإِذا هم كتموا تحدث عَنْهُم ... عِنْد الوشاة المدمع السحاح)
(لَا ذَنْب للعشاق إِن غلب الْهوى ... كتمانهم فنما الغرام وباحوا)(2/102)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا شرع الفرنج فِي عمَارَة عسقلان وَالسُّلْطَان بالقدس.
وفيهَا: قتلت الباطنية المركيس صَاحب صور فِي زِيّ الرهبان.
عقد الْهُدْنَة مَعَ الفرنج
وَسبب ذَلِك أَن ملك الإنكلتار مرض طَويلا وَطَالَ عَلَيْهِ ذَلِك فكاتب الْعَادِل يسْأَله السَّعْي فِي الصُّلْح فَأبى السُّلْطَان ثمَّ أجَاب لضجر العساكر فتهادنوا ثامن عشر شعْبَان وتحالفوا ثَانِي وَعشْرين شعْبَان فَلم يحلف ملك الإنكلتار بل أعْطى يَده وَعَاهد وَاعْتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وَحلف الكندهري ابْن أَخِيه وخليفته فِي السَّاحِل وَعُظَمَاء الفرنج، وَوصل ابْن الهنفري وباليان والمقدمون وَأخذُوا يَد السُّلْطَان واستحلفوا الْعَادِل أَخَاهُ، وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر ابنيه والمنصور والمجاهد شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه صَاحب حمص، والأمجد بهْرَام شاه بن فرخ شاه صَاحب بعلبك، وَبدر الدّين دلدرم الياروقي صَاحب تل بَاشر، وَالسَّابِق عُثْمَان بن الداية صَاحب شيزر، وسيق الدّين على بن المشطوب وَغَيرهم من المقدمين الْكِبَار، وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا أيلول الْمُوَافق لحادي وَعشْرين شعْبَان على أَن يسْتَقرّ للفرنج يافا وقيسارية وحيفا وعكا وَتَكون عسقلان خراباً.
وَأدْخل السُّلْطَان بِلَاد الإسماعيلية فِي هدنته وَأدْخل الفرنج صَاحب أنطاكية وطرابلس فِي هدنتهم وتناصفوا لد والرملة.
ثمَّ تفقد السُّلْطَان الْقُدس وَأمر بتشييد أسواره، وَزَاد وقف مدرسته بالقدس، وتعرف قبل الْإِسْلَام بصند حنة قيل فِيهَا قبر حنة أم مَرْيَم، ثمَّ صَارَت فِي الْإِسْلَام دَار علم.
ثمَّ ملك الفرنج الْقُدس سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وأعادوها كَنِيسَة كَمَا كَانَت، ثمَّ أَعَادَهَا السُّلْطَان مدرسة وَولى القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد تدريسها ووقفها وعزم على الْحَج، ثمَّ خشِي غدر الفرنج عَن الْقُدس لخمس مضين من شَوَّال إِلَى نابلس، ثمَّ إِلَى بيسان، ثمَّ بَات بقلعة كَوْكَب، ثمَّ إِلَى طبرية ولقيه بهَا الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الْأَسدي، وَقد خلص من الْأسر بعكا ثمَّ لحق بِمصْر ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى بيروت فَجَاءَهُ بيمند صَاحب أنطاكية حادي عشر شَوَّال فَأكْرمه وفارقه فِي الْغَد وَدخل السُّلْطَان دمشق لخمس بَقينَ من شَوَّال، وَفَرح بِهِ النَّاس بعد غيبَة أَربع سِنِين، وَعدل وَأحسن وَأعْطى العساكر الدستور فودعه ابْنه الظَّاهِر وداعاً لَا لِقَاء بعده فِي الدُّنْيَا، وَسَار إِلَى حلب وبقى عِنْده بِدِمَشْق ابْنه الْأَفْضَل وَالْقَاضِي والفاضل.
وَيَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال مِنْهَا توفّي الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن المشطوب بنابلس إقطاعه فَوقف السُّلْطَان ثلث نابلس على مصَالح الْقُدس وأقطع الْبَاقِي لعماد الدّين أَحْمد بن المتوفي ولأميرين مَعَه.(2/103)
وفيهَا: فِي منتصف شعْبَان توفّي السُّلْطَان قلج أرسلان بن مَسْعُود السلجوقي صَاحب الرّوم، وَملك سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة، كَانَ مهيباً عادلاً عَارِفًا، وَولي كل وَاحِد من بَينه الْعشْرَة قطراً من الرّوم وأكبرهم قطب الدّين ملك شاه، وَتُوفِّي بعد أَبِيه، فاستقر كيسخرو بن قلج أرسلان فِي ملك قونيه وَأثبت أَنه ولي عهد أَبِيه.
ثمَّ أَن ركن الدّين سُلَيْمَان أَخا كيخسرو قوي فَأخذ مِنْهُ قونية فهرب كيخسرو إِلَى الشَّام مستنجداً بِالْملكِ الظَّاهِر صَاحب حلب.
ثمَّ مَاتَ ركن الدّين سُلَيْمَان سنة سِتّمائَة، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان، فَرجع كيخسرو وَملك الرّوم جَمِيعًا إِلَى أَن قتل.
وَملك بعده: ابْنه عز الدّين كيكاوس ثمَّ توفّي كيكاوس وَملك بعده السُّلْطَان عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو.
وَتُوفِّي عَلَاء الدّين سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَملك بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين وكسره التتر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وتضعضع حِينَئِذٍ ملك السلاطين السلجوقية بالروم.
ثمَّ مَاتَ غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقرض بِمَوْتِهِ ملكهم فِي الْحَقِيقَة إِذْ لم يكن لمن بعدهمْ مِنْهُم سوى الِاسْم، وَخلف كيخسرو ابْنَيْنِ هما ركن الدّين وَعز الدّين فملكا مَعًا مديدة، ثمَّ انْفَرد ركن الدّين بالسلطنة، وهرب عز الدّين إِلَى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدّين معِين الدّين البرواتاه، والبلاد فِي الْحَقِيقَة للتتر ثمَّ قتل البرواتاه ركن الدّين وَأقَام ابْنا لركن الدّين يخْطب لَهُ صُورَة:
وفيهَا: غزا شهَاب الدّين الغوري الْهِنْد فغنم وَقتل مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: خرج السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان من الْحَبْس بعد قتل قزل أرسلان بن إيلدكز.
وفيهَا: توفّي رَاشد الدّين سِنَان بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد أَبُو الْحسن صَاحب دَعْوَة الإسماعيلية بقلاع الشَّام وَأَصله من الْبَصْرَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر توفّي السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَحضر وَفَاته القَاضِي الْفَاضِل، وَوصل القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد بعد وَفَاته، وغسله الدولعي خطيب دمشق، وَأخرج بعد ظهر الْأَرْبَعَاء فِي تَابُوت مسجى بِثَوْب وكفنه الْفَاضِل من جِهَة حل، وَصلى عَلَيْهِ النَّاس وَغشيَ النَّاس لمَوْته حزن لَا يُوصف وبكاء لَا تمكن حكايته، وَدفن بقلعة دمشق فِي الدَّار الَّتِي مرض بهَا، وَكَانَ الْأَفْضَل عَليّ قد حلف لَهُ قبل وَفَاة وَالِده عِنْد شده مَرضه وَجلسَ للعزاء فِي القلعة، وَكتب(2/104)
بوفاته إِلَى أَخِيه الْعَزِيز بِمصْر وَإِلَى عَمه الْعَادِل أبي بكر بالكرك وَإِلَى أَخِيه الظَّاهِر غَازِي بحلب.
قلت: وَكتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى الْملك الظَّاهِر غَازِي (بطاقة) بديعة فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يذهل فِيهَا الْإِنْسَان عَن نَفسه مضمونها لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم.
كتبت إِلَى مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه، وَجعل فِي الْخلف فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة، وَقد زلزل الْمُسلمُونَ زلزالاً شَدِيدا وَقد حفرت الدُّمُوع المحاجر، وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر، وَقد ودعت أَبَاك ومخدومي وداعاً لَا يلاقي بعده، وَقبلت وَجهه عني وعنك وأسلمته إِلَى الله تَعَالَى مغلوب الْحِيلَة ضَعِيف الْقُوَّة رَاضِيا عَن الله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وبالباب من الْجنُود المجندة والأسلحة المغمدة مَا لم يدْفع الْبلَاء وَلَا ملك يرد الْقَضَاء وتدمع الْعين، ويخشع الْقلب، وَلَا نقُول إِلَّا مَا يرضى الرب وَإِنَّا عَلَيْك لَمَحْزُونُونَ.
يَا يُوسُف: وَأما الْوَصَايَا فَمَا نحتاج إِلَيْهَا، والآراء فقد شغلني الْمُصَاب عَنْهَا، وَأما لائح الْأَمر فَإِنَّهُ إِن وَقع الِاتِّفَاق فَمَا عدمتم إِلَّا شخصه الْكَرِيم وَإِن كَانَ غَيره، فالمصائب الْمُسْتَقْبلَة أهونها مَوته وَهُوَ الهول الْعَظِيم وَالسَّلَام، وَالله أعلم.
ثمَّ أَن الْملك الْأَفْضَل عمل تربة قرب الْجَامِع كَانَت دَارا لرجل صَالح وَنقل إِلَيْهَا السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَمَشى الْأَفْضَل بَين يَدي تابوته وَأخرج من بَاب القلعة على دَار الحَدِيث إِلَى بَاب الْبَرِيد وَأدْخل الْجَامِع وَوضع قُدَّام النسْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدّين بن الزكي، ثمَّ دفن وَجلسَ الْأَفْضَل فِي الْجَامِع ثَلَاثَة أَيَّام للعزاء، وأنفقت سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب أُخْت السُّلْطَان فِي هَذِه التَّوْبَة أَمْوَالًا عَظِيمَة.
ومولد صَلَاح الدّين بتكريت سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فعمره تَقْرِيبًا سبع وَخَمْسُونَ، وَملكه للديار المصرية نَحْو أَربع وَعشْرين سنة، وَملكه للشام نَحْو تسع عشرَة سنة، وَخلف سَبْعَة عشر ابْنا وبنتاً وَاحِدَة وأكبرهم الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ ولد بِمصْر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، والعزيز عُثْمَان أَصْغَر مِنْهُ بِنَحْوِ سنتَيْن، وَالظَّاهِر أَصْغَر مِنْهُمَا، وَبقيت الْبِنْت حَتَّى تزَوجهَا ابْن عَمها الْكَامِل صَاحب مصر، وَلم يخلف السُّلْطَان فِي خزانته غير سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما، وجرم وَاحِد صوري وَلم يتْرك دَارا وَلَا عقارا أطلق فِي مقَامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش اثْنَي عشر ألف رَأس غير ثمن مَا أُصِيب فِي الْقِتَال، وَلم يُؤَخر صَلَاة عَن وَقتهَا وَلَا صلى إِلَّا فِي جمَاعَة.
وَكَانَ متوكلاً على الله لَا يفضل فِي عزمه يَوْمًا على يَوْم، كثير سَماع الحَدِيث قَرَأَ فِي الْفِقْه مُخْتَصر سليم الرَّازِيّ.
وَكَانَ صبوراً كثير التغافل عَن ذنُوب أَصْحَابه، يسمع مَا يكره وَلَا يعلم بِهِ أحدا رمى(2/105)
بعض مماليكه بَعْضًا بسر موزة فأخطأته وأخطأت السُّلْطَان، وَوَقعت قَرِيبا مِنْهُ فَالْتَفت إِلَى الْجِهَة الْأُخْرَى تغافلاً عَنْهَا.
وَكَانَ طَاهِر الْمجْلس طَاهِر اللِّسَان، وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب: مَاتَ بِمَوْت الرِّجَال وَفَاتَ بفواته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي وانقطعت الأرزاق وادلهمت الْآفَاق وفجع الزَّمَان بواحده وسلطانه، ورزء الْإِسْلَام بمشيد أَرْكَانه وَاسْتقر فِي ملك دمشق ومضافاتها ابْنه الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ، وبمصر الْملك الْعَزِيز عماد الدّين عُثْمَان، وبحلب الْملك الظَّاهِر غَازِي، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب، وبحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم الْملك الْمَنْصُور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر، وببعلبك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شادي، وببصرى الْملك الظافر بن صَلَاح الدّين وَهُوَ فِي خدمَة أَخِيه الْأَفْضَل.
وَأما أُمَرَاء الدولة فشيزر وَأَبُو قبيس بيد سَابق الدّين عُثْمَان بن الداية، وصهيون وبرزبه بيد نَاصِر الدّين منكورس بن حمَار تكين، وتل بَاشر بيد بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدّين ياروق، وعجلون وكوكب بيد عز الدّين أُسَامَة، بارين وكفرطاب وأفامية بيد عز الدّين إِبْرَاهِيم بن شمس الدّين الْمُقدم.
وَالْأَفْضَل هُوَ أكبر أَوْلَاد السُّلْطَان وَهُوَ الْمَعْهُود إِلَيْهِ بالسلطنة، واستوزر ضِيَاء الدّين نصر الله بن مُحَمَّد بن الْأَثِير مُصَنف الْمثل السائر، وَهُوَ أَخُو عز الدّين بن الْأَثِير مؤلف الْكَامِل فِي التَّارِيخ فَحسن للأفضل طرد أُمَرَاء أَبِيه ففارقوه إِلَى أَخَوَيْهِ الْعَزِيز، وَالظَّاهِر قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب: وَتفرد الْوَزير بوزره، وَمد الْجَزرِي فِي جزره، وَحسنت الْأُمَرَاء للعزيز. الِانْفِرَاد بالسلطنة، ووقعوا فِي أَخِيه الْأَفْضَل، فَمَال إِلَى ذَلِك، وحصلت الوحشة بَين الْأَخَوَيْنِ.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان قدم الْعَادِل من الكرك وَأقَام بِدِمَشْق وَظِيفَة العزاء على أَخِيه ثمَّ توجه إِلَى بِلَاده الَّتِي وَرَاء الْفُرَات.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان كَاتب مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب الْموصل جِيرَانه الْمُلُوك يستنجدهم، وَاتفقَ مَعَ أَخِيه زنكي صَاحب سنجار وَسَار إِلَى جِهَة حران وَغَيرهَا فَلحقه إسهال فَترك الْعَسْكَر مَعَ أَخِيه زنكي وَعَاد إِلَى الْموصل وَصَحبه قيماز فخلف مَسْعُود الْعَسْكَر لِابْنِهِ أرسلان شاه، وَزَاد بِهِ الْمَرَض فَتوفي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من هَذِه السّنة، فَبين وَفَاته ووفاة السُّلْطَان نصف سنة، وَمُدَّة ملكه الْموصل ثَلَاث عشرَة سنة وَنصفا.
وَكَانَ خيرا محسناً أسمر مليح الْوَجْه خَفِيف العارضين يشبه جده عماد الدّين زنكي وَاسْتقر ابْنه فِي ملك الْموصل بتدبير قيماز.(2/106)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى قتل سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط بَينه وَبَين موت السُّلْطَان شَهْرَان.
وَكَانَ قد شمت بالسلطان ودق البشائر، وتلقب بالسلطان الْمُعظم صَلَاح الدّين وقلب اسْمه بكتمر إِلَى عبد الْعَزِيز، فَمَا أمْهل وَهُوَ من مماليك ظهير الدّين شاه أرمن.
وَكَانَ لَهُ خوشداش اسْمه هزار ديناري، تزوج بنت بكتمر عينا خاتون وجهز على بكتمر من قَتله طَمَعا فِي الْملك وَحصل لَهُ فَإِنَّهُ ملك خلاط وأعمالها، وَاسم هزار ديناري أقسنقر، ولقبه بدر الدّين، واعتقل ابْن بكتمر، وَابْنه السباعي الْعُمر بقلعة أرزاش تموش، وَاسْتمرّ فِي مملكة خلاط إِلَى أَن مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: شَتَّى شهَاب الدّين الغوري فِي يرشاوور، وجهز مَمْلُوكه ايبك إِلَى الْهِنْد فَفتح وغنم.
وفيهَا: توفّي سُلْطَان شاه بن أرسلان شاه بن أتسز بن مُحَمَّد بن انوشتكين وَكَانَ قد ملك مرو وخراسان فَانْفَرد أَخُوهُ تكش بالمملكة.
وفيهَا: مَاتَ دَاوُد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن أبي هَاشم أَمِير مَكَّة، وَمَا زَالَت مَكَّة لَهُ تَارَة، ولأخيه مكثر تَارَة حَتَّى مَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَخَمْسمِائة:
قتل طغرل بك وَملك خوارزم شاه الرّيّ
كَانَ طغرل بك بن أرسلان السلجوقي قد حَبسه قزل أرسلان بن إيلدكز، وَخرج من بَاب الْحَبْس سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَملك هَمدَان وَغَيرهَا وَجرى حَرْب بَينه وَبَين مظفر الدّين أزبك بن البهلوان مُحَمَّد بن إيلدكز، وَقيل بل هُوَ قطلغ إينانج أَخُو أزبك، فَانْهَزَمَ ابْن البهلوان ثمَّ استنجد بخوارزم شاه عَلَاء الدّين تكش وَخَافَ مِنْهُ فَلم يجْتَمع بخوارزم شاه، فَسَار خوارزم شاه تكش وَملك الرّيّ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَبلغ تكش أَن أَخَاهُ سُلْطَان شاه قصد خوارزم فَصَالح طغرل بك السلجوقي، وَعَاد إِلَى خوارزم، وَبَقِي الْأَمر كَذَلِك حَتَّى مَاتَ سُلْطَان شاه سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فتسلم تكش مملكة أَخِيه سُلْطَان شاه وخزائنه، وَولي مُحَمَّد بن تكش نيسابور، وملكشاه بن تكش الْأَكْبَر مرو.
وَفِي سنة تسعين حَارب تكش طغرل بك بِالْقربِ من الرّيّ وَحمل طغرل بك بِنَفسِهِ فَقتل فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من هَذِه السّنة، وَأرْسل تكش رَأسه إِلَى بَغْدَاد، وَسَار فَملك هَمدَان وَتلك الْبِلَاد، وَسلم بَعْضهَا إِلَى ابْن البهلوان وأقطع بَعْضهَا لمماليكه وَرجع إِلَى خوارزم.
وطغرل بك هَذَا هُوَ آخر مُلُوك الْعَجم السلجوقية، وَأول من أَزَال دولة بني بويه مِنْهُم طغرل بك بن مِيكَائِيل بن سلجوق ثمَّ ابْن أَخِيه ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل، ثمَّ ابْنه(2/107)
ملكشاه بن ألب أرسلان ثمَّ ابْنه مَحْمُود بن ملكشاه وَكَانَ طفْلا تدبره أمه ترْكَان خاتون، وَمَات مَحْمُود وَهُوَ ابْن سبع سِنِين.
وَملك أَخُوهُ بركيا روق بن ملك شاه ثمَّ أَخُوهُ مُحَمَّد بن ملك شاه ثمَّ ابْنه مَحْمُود بن مُحَمَّد ثمَّ ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد الْمَذْكُور مُدَّة يسيرَة، ثمَّ عَمه طغرل بك بن مُحَمَّد ثمَّ أَخُوهُ مَسْعُود بن مُحَمَّد ثمَّ ابْن أَخِيه ملكشاه بن مَحْمُود بن مُحَمَّد أَيَّامًا، ثمَّ أَخُوهُ مُحَمَّد بن مَحْمُود، وَبعد مُحَمَّد الْمَذْكُور اخْتلفُوا فَقَامَ من بني سلجوق ثَلَاثَة أحدهم ملشكاه بن مَحْمُود أَخُو مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَالثَّانِي سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن السُّلْطَان ملكشاه؛ وَهُوَ عَم مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَالثَّالِث أرسلان شاه بن طغرل بك بن مُحَمَّد بن السُّلْطَان ملكشاه.
وَكَانَ إيلدكز متزوجاً أم أرسلان شاه فقوي عَلَيْهَا سُلَيْمَان شاه وَاسْتقر فِي هَمدَان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ قتل سُلَيْمَان شاه، وَكَذَلِكَ سم ملكشاه بن مَحْمُود الْمَذْكُور، وَمَات بأصبهان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وَانْفَرَدَ بالسلطنة أرسلان شاه بن طغرل بك ربيب إيلدكز، ثمَّ ملك بعده ابْنه طغرل بك بن أرسلان شاه بن طغرل بك الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة وَجرى لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ حَتَّى قَتله تكش سنة تسعين وَخَمْسمِائة، وانقرضت دولتهم من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: أرسل الإِمَام النَّاصِر عسكراً مَعَ وزيره مؤيد الدّين مُحَمَّد بن القصاب إِلَى خوزستان بِلَاد ابْن شملة، وَقد مَاتَ ابْن شملة، وَاخْتلفت أَوْلَاده، فَملك عَسْكَر الْخَلِيفَة تستر سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَغَيرهَا، وقلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج وَغَيرهَا من القلاع والحصون، وأنفذوا ابْني شملة إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: حصر الْعَزِيز الْأَفْضَل أَخَاهُ بِدِمَشْق، فجَاء الْعَادِل وَالظَّاهِر والمنصور وَأَصْلحُوا بَينهمَا، وَرجع الْعَزِيز إِلَى مصر وكل إِلَى مَوْضِعه، وَأَقْبل الْأَفْضَل بِدِمَشْق على الشّرْب وَاللَّهْو، وفوض أَمر المملكة إِلَى رَأْي وزيره ضِيَاء الدّين بن الْأَثِير فدبرها بِرَأْيهِ الْفَاسِد، ثمَّ تَابَ الْأَفْضَل وواظب الصَّلَوَات وَشرع فِي نسخ مصحف بِيَدِهِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: سَار ابْن القصاب بعد ملك خوزستان فَملك هَمدَان وَغَيرهَا من الْعَجم وَأخذ يستولي على الْبَلَد للخليفة فَتوفي فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: غزا ملك الْمغرب يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الفرنج بالأندلس وَهَزَمَهُمْ من مصَاف عَظِيم وَقتل وغنم مَا يفوق الْحصْر.
وفيهَا: استولى سيف الدّين طغرل بك مَمْلُوك الْخَلِيفَة على أَصْبَهَان.(2/108)
وفيهَا: قدم مماليك البهلوان عَلَيْهِم مَمْلُوكا اسْمه ككجا فَعظم ككجا وَاسْتولى على الرّيّ وهمدان.
وفيهَا: عَاد الْعَزِيز عُثْمَان صَاحب مصر إِلَى منازلة أَخِيه الْأَفْضَل وَنزل الْغَوْر من أَرض سَواد دمشق، ففارقه بعض الْأُمَرَاء الأَسدِية فبادر الْعَزِيز مصر بِمن بَقِي مَعَه.
وَكَانَ الْأَفْضَل قد استنجد بِعَمِّهِ الْعَادِل فَلَمَّا عَاد الْعَزِيز سَار الْأَفْضَل والعادل والأسدية المذكورون طَالِبين مصر فِي أثر الْعَزِيز حَتَّى نزلُوا بلبيس، وَقصد الْأَفْضَل مصر فَمَنعه عَمه الْعَادِل وَقَالَ: مصر لَك مَتى شِئْت.
وَكَاتب الْعَزِيز بَاطِنا وَأمره بإرسال القَاضِي الْفَاضِل للصلح، وَكَانَ الْفَاضِل قد اعتزلهم لفساد أَحْوَالهم فَسَأَلَهُ الْعَزِيز حَتَّى توجه فَاجْتمع بالعادل وأصلحا بَينهمَا وَأقَام الْعَادِل بِمصْر عبد الْعَزِيز ابْن أَخِيه ليقرر مَمْلَكَته وَعَاد الْأَفْضَل إِلَى دمشق.
وفيهَا: هزم يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الفرنج بالأندلس فِي حروب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح شهَاب الدّين الغوري قلعة بهنكر الْعَظِيمَة بالأمان، وَصَالح أهل قلعة كواكير وَبَينهمَا خَمْسَة أَيَّام على مَال ثمَّ غنم وَأسر وَعَاد إِلَى غزنة.
وفيهَا: قتل سنقر الطَّوِيل شحنة أَصْبَهَان للخليفة صدر الدّين بن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد الخجندي رَئِيس الشَّافِعِيَّة بأصبهان، وَهُوَ الَّذِي سلمهَا إِلَى الْخَلِيفَة لوحشة بَينهمَا.
انتزاع دمشق من الْأَفْضَل
بلغ الْعَادِل بِمصْر والعزيز اضْطِرَاب أُمُور الْأَفْضَل فسارا من مصر إِلَيْهِ فَأرْسل إِلَيْهِمَا فلك الدّين أحد أمْرَأَته أَخا الْعَادِل لأمه فَأكْرمه الْعَادِل وَأظْهر الْإِجَابَة إِلَى مَا طلب وسارا وَنزلا على دمشق، وَقد حصنها الْأَفْضَل فكاتبه بعض الْأُمَرَاء من دَاخل فِي تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فزحف الْعَادِل والعزيز ضحى الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا، فَدخل الْعَزِيز من بَاب الْفرج والعادل من بَاب توما فَسلم الْأَفْضَل القلعة وانتقل مِنْهَا وَأخرج وزيره ضِيَاء الدّين بن الْأَثِير فِي صندوق خوفًا عَلَيْهِ، وَكَانَ الظافر خضر بن صَلَاح الدّين صَاحب بصرى معاضداً للأفضل فَأخذت مِنْهُ بصرى فَأَقَامَ عِنْد الظَّاهِر بحلب وَأعْطى الْأَفْضَل صرخد فاستوطنها، وَدخل الْعَزِيز دمشق يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع شعْبَان.
ثمَّ سلمهَا إِلَى عَمه الْعَادِل ورحل الْعَزِيز مِنْهَا تَاسِع شعْبَان، فمدة ملك الْأَفْضَل لدمشق ثَلَاث سِنِين وَشهر، وَأبقى الْعَادِل السِّكَّة وَالْخطْبَة للعزيز، وَكتب الْأَفْضَل من صرخد إِلَى الإِمَام النَّاصِر يشكو عَمه أَبَا بكر وأخاه الْعَزِيز عُثْمَان وَأول الْكتاب:
(مولَايَ إِن أَبَا بكر وَصَاحبه ... عُثْمَان قد أخذا بِالسَّيْفِ حق عَليّ)
(فَانْظُر لي حَظّ هَذَا الِاسْم كَيفَ لقى ... من الْأَوَاخِر مَا لَاقَى من الأول)(2/109)
فَكتب الإِمَام النَّاصِر جَوَابه:
(وافى كتابك يَا ابْن يُوسُف مُعْلنا ... بِالصّدقِ يخبر أَن أصلك طَاهِر)
(فاصبر فَإِن غَدا عَلَيْهِ حسابهم ... وَابْشَرْ فناصرك الإِمَام النَّاصِر)
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم المغربي بقنا من صَعِيد مصر، وَله كرامات خارقة، وأنفاس صَادِقَة، أطنب صَاحب بهجة الْأَسْرَار فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ نفعنا الله بِهِ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي ملكشاه بن تكش بنيسابور؛ جعل أَبوهُ لَهُ الحكم فِي تِلْكَ الْبِلَاد، وولاه عَهده، وَخلف ملكشاه ابْنا اسْمه هندوخان فَجعل تكش فِيهَا عوضه ابْنه الآخر قطب الدّين مُحَمَّد وَهُوَ الَّذِي ملك بعد أَبِيه، وَغير لقبه إِلَى عَلَاء الدّين، وَكَانَ بَين ملك شاه وَمُحَمّد عَدَاوَة مستحكمة.
وفيهَا: توفّي سيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين بن أَيُّوب صَاحب الْيمن فَحَضَرَ ابْنه الْملك الْمعز إِسْمَاعِيل من السرين فَملك بِلَاده. وَكَانَ سيف الْإِسْلَام يضيق على التُّجَّار بِالْبيعِ وَالشِّرَاء حَتَّى جمع مَا لَا يُحْصى.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب سنجار والرقة والخابور، كَانَ يحب التَّوَاضُع وَالْعدْل وَالْعلم، وَعِنْده شح، وَملك بعد ابْنه قطب الدّين مُحَمَّد وَدبره مُجَاهِد الدّين برنقش مَمْلُوك أَبِيه.
وفيهَا: استولى نور الدّين أرسلان شاه بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل على نَصِيبين من ابْن عَمه قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي فاستنجد مُحَمَّد بالعادل، فَسَار الْعَادِل إِلَى الجزيرة، فَعَاد أرسلان شاه عَن نَصِيبين إِلَى الْموصل فتسلم قطب الدّين مُحَمَّد نَصِيبين.
وفيهَا: حاصر خوارزم شاه تكش بخارا وملكها من الخطا، وَكَانَ أَعور فَأخذ أهل بخاراً كَلْبا أَعور فِي مُدَّة الْحصار وألبسوه قبَاء وَقَالُوا للخوارزمية: هَذَا سلطانكم. ورموه بالمنجنيق إِلَيْهِم فَلم يؤاخذهم بذلك.
وفيهَا: استولى الفرنج على قلعة بيروت فَنزل الْعَادِل تل العجول وأتته نجدة مصر وسنقر الْكَبِير صَاحب الْقُدس وَمَيْمُون القصري صَاحب نابلس، فَملك الْعَادِل يافا بِالسَّيْفِ، وَقتل الْمُقَاتلَة، وَهَذَا ثَالِث فتح لَهَا ونازلت الفرنج تبنين فَأرْسل الْعَادِل إِلَى الْعَزِيز صَاحب مصر فجَاء بِنَفسِهِ وبباقي عسكره، وَاجْتمعَ بالعادل على تبنين فَرَجَعت الفرنج إِلَى صور خائبين.
ثمَّ عَاد الْعَزِيز إِلَى مصر وَترك غَالب الْعَسْكَر مَعَ عَمه، وَجعل إِلَيْهِ الْحَرْب وَالصُّلْح، ومده فِي هَذِه الْمدَّة سنقر الْكَبِير، فَجعل الْعَزِيز أَمر الْقُدس إِلَى صارم الدّين قتلغ مَمْلُوك(2/110)
فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وَفِي عود الْعَزِيز إِلَى مصر يَقُول القَاضِي ابْن سنا الْملك قصيدته الَّتِي مِنْهَا:
(قدمت بالنصر بالمغنم ... كَذَا قدوم الْملك الْمُقدم)
(قَمِيصك الْمَوْرُوث عَن يُوسُف ... مَا جَاءَ إِلَّا اصدقاً فِي الدَّم)
(أغثت تبنين وخلصتها ... فريسة من مَا ضغى ضيغم)
(شنشنة تعرف من يُوسُف ... فِي النَّصْر لَا تعرف من أخزم)
(مقدمه صَار جمادي بِهِ ... كَمثل ذِي الْحجَّة ذَا موسم)
ثمَّ طاول الْعَادِل الفرنج فطلبوا الْهُدْنَة ثَلَاث سِنِين وَعَاد الْعَادِل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى ماردين، وحصرها وصاحبها بولق أرسلان من بني أرتق، وَالْحكم كُله إِلَى مَمْلُوك أَبِيه البقش.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين هزار ديناري فاستولى على خلاط بعده خشداشه قتلغ؛ أرمني الأَصْل من سناشة، ثمَّ قتل بعد سَبْعَة أَيَّام، وأحضر مُحَمَّد بن بكتمر من القلعة الَّتِي اعتقل بهَا وَهِي أزراش.
ولقب الْملك الْمَنْصُور وَملك خلاط وَقَامَ بتدبيره شُجَاع الدّين قتلغ الدواتدار القفجاقي، وَاسْتمرّ مُحَمَّد بن بكتمر إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة فَقبض على أتابكه قتلغ وقلته، فاتفق عز الدّين بلبان مَمْلُوك شاهر من مَعَ الْعَسْكَر وخنقوا مُحَمَّد بن بكتمر ورموه من القلعة، وَقَالُوا: وَقع. وَاسْتمرّ بلبان فِي ملك خلاط، وَقَتله قبل سنة بعض أَصْحَاب طغرل بك بن قلج أرسلان صَاحب ارزن، وَقصد طغرل بك تسلم خلاط فَلم يجبهُ أَهلهَا وعصوا فَعَاد إِلَى أرزن.
ثمَّ وصل الْملك الأوحد أَيُّوب بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَملك خلاط نَحْو ثَمَان سِنِين.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم توفّي الْملك الْعَزِيز عماد الدّين عُثْمَان بن النَّاصِر تقطر فِي الصَّيْد خلف ذِئْب وحم فَعَاد إِلَى القاهر وَمَات باليرقان والقرحة، وَمُدَّة ملكه سِتّ سِنِين إِلَّا شهرا وعمره سبع وَعِشْرُونَ وَكسر.
وَكَانَ سَمحا محسناً، وَأقَام فَخر الدّين جهاركس فِي الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز، وَأَشَارَ القَاضِي الْفَاضِل بِتَمْلِيك الْأَفْضَل وَهُوَ بصرخد فاستدعوه وَخرج الْمَنْصُور بن الْعَزِيز لتلقيه، فترجل لَهُ الْأَفْضَل عَمه، وَلما وصل الْأَفْضَل إِلَى بلبيس تَلقاهُ الْعَسْكَر فتنكر مِنْهُ فَخر الدّين جهاركس، وَسَار فِي عدَّة من الْعَسْكَر إِلَى الشَّام وكاتبوا الْعَادِل وَهُوَ محاصر ماردين، وَأرْسل الظَّاهِر إِلَى أَخِيه الْأَفْضَل يُشِير عَلَيْهِ بِأخذ دمشق من عَمه الْعَادِل لاشتغاله بماردين فقصد دمشق، وَبلغ الْعَادِل ذَلِك فَترك على حِصَار ماردين ابْنه الْكَامِل وَسبق(2/111)
الْأَفْضَل، وَدخل دمشق قبل الْأَفْضَل بيومين، وَنزل عَلَيْهَا الْأَفْضَل ثَالِث عشر شعْبَان مِنْهَا، وزحف من الْغَد وهجمها بعض عسكره فوصل بَاب الْبَرِيد وَلم يمدهُمْ الْعَسْكَر فأخرجوا ثمَّ تجَادل الْعَسْكَر فَتَأَخر الْأَفْضَل إِلَى ذيل عقبَة الْكسْوَة ثمَّ وصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِر فَعَاد وحاصرها، وَقل الْقُوت بِدِمَشْق وأشرف على ملك دمشق وعزم الْعَادِل على تَسْلِيمهَا لَوْلَا اخْتِلَاف الْأَفْضَل وَالظَّاهِر، وَخرجت السّنة وهم كَذَلِك، ثمَّ كَانَ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: حاصر الْمَنْصُور صَاحب حماه بارين وَبهَا نواب عز الدّين إِبْرَاهِيم بن شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم.
وَكَانَ ابْن الْمُقدم محصوراً مَعَ الْعَادِل بِدِمَشْق، وَنصب الْمَنْصُور عَلَيْهَا المنجانيق، وجرح فِي الزَّحْف، وَفتحهَا فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَأَصْلَحهَا وَعَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن صَاحب الْمغرب والأندلس فِي سلا، وولايته خمس عشرَة سنة تظاهر بالظاهرية، وتلقب بالمنصور، وعاش ثمانياً وَأَرْبَعين سنة.
وَأقَام بعده ابْنه مُحَمَّد، وتلقب بالناصر، ومولد مُحَمَّد سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَعبد الْمُؤمن وَبَنوهُ تسموا بأمير الْمُؤمنِينَ.
وفيهَا: رَحل عَسْكَر الْعَادِل مَعَ ابْنه الْكَامِل عَن حِصَار ماردين.
وفيهَا: كَانَت فتْنَة عَظِيمَة فِي عَسْكَر غياث الدّين ملك الغورية وَهُوَ بفيروزكوه سَببهَا أَن فخرالدين الرَّازِيّ كَانَ قدم إِلَى غياث الدّين فَبَالغ فِي إكرامه، وَبنى لَهُ مدرسة بهراة، فَعظم ذَلِك على الكرامية وهم كَثِيرُونَ بهراة وخم مجسمون مشبهون.
وَكَانَ الغورية كرامية فكرهوا فَخر الدّين لمناقضته مَذْهَبهم وَحَضَرت الكرامية من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة بفيروزكوه عِنْد غياث الدّين للمناظرة وَحضر الرَّازِيّ وَالْقَاضِي عبد الْمجِيد بن عمر بن الْقدْوَة وَهُوَ من الكرامية الهيصمية، وَمحله عَظِيم لعلمه وزهده.
وَتكلم الرَّازِيّ فَاعْترضَ عَلَيْهِ ابْن الْقدْوَة، وَطَالَ الْكَلَام، فَقَامَ غياث الدّين فاستطال الرَّازِيّ على ابْن الْقدْوَة وَشَتمه، وَابْن الْقُدْرَة يَقُول لَا يفعل مَوْلَانَا لَا وأخذك الله، فصعب على الْملك ضِيَاء الدّين ابْن عَم غياث الدّين وصهره وشكى من الرَّازِيّ إِلَى غياث الدّين، وذمه وَنسبه إِلَى التفلسف والزندقة فَلم يصغ غياث الدّين إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَد وعظ النَّاس ابْن عَم ابْن الْقدْوَة بالجامع وَقَالَ بعد حمد الله وَالصَّلَاة على نبيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول، أَيهَا النَّاس: إِنَّا لَا نقُول إِلَّا مَا صَحَّ عندنَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأما علم أرسطو وكفريات ابْن سينا وفلسفة الفارابي فَلَا نعلمها فلأي حَال يشْتم بالْأَمْس شيخ من شُيُوخ الْإِسْلَام يذب عَن دين الله وَسنة نبيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَبكى وَبكى الكرامية، فثار النَّاس(2/112)
وامتلأ الْبَلَد فتْنَة فسكنوا ووعدوا بِإِخْرَاج الرَّازِيّ فَأَعَادَ السُّلْطَان الرَّازِيّ إِلَى هراة.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي مُجَاهِد الدّين قيماز بالموصل، وَكَانَ إِلَيْهِ الْأَمر فِي دولة أرسلان صَاحب الْموصل، وَكَانَ عَاقِلا، أديباً حنفياً فَاضلا بني جَوَامِع وربطاً ومدارس.
وفيهَا: صَار غياث الدّين ملك الغورية شافعياً وَكَانَ كرامياً.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الْملك بن زهر الأشبيلي طَبِيب أديب جده زهر - بِضَم الزَّاي - وَزِير فيلسوف، وَتُوفِّي زهر بقرطبة سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَقيل فِي ابْن زهر:
(قل للوبا أَنْت وَابْن زهر ... قد جزتما الْحَد فِي النكاية)
(ترفقا بالورى قَلِيلا ... فِي وَاحِد مِنْكُمَا كِفَايَة)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر محاصران لدمشق وَاتفقَ وُقُوع الْخلف بَينهمَا بِسَبَب مَمْلُوك للظَّاهِر اسْمه أيبك يُحِبهُ ففقد فَأرْسل الْعَادِل يَقُول للظَّاهِر: إِن مَحْمُود بن السكرِي أفسد مملوكك وَحمله إِلَى أَخِيك الْأَفْضَل فَظهر الْمَمْلُوك عِنْد ابْن السكرِي فَتغير على أَخِيه الْأَفْضَل وَترك الْقِتَال وَظهر فشل الْعَسْكَر فَتَأَخر الْأَفْضَل وَالظَّاهِر عَن دمشق إِلَى مرج الصفر، ثمَّ سَار الْأَفْضَل إِلَى مصر وَالظَّاهِر إِلَى حلب، فتبع الْعَادِل من دمشق أثر الْأَفْضَل إِلَى مصر فَخرج الْأَفْضَل إِلَيْهِ وَقد تفرق أَكثر عسكره فِي الْبِلَاد للربيع، واقتتلا فَانْهَزَمَ الْأَفْضَل إِلَى الْقَاهِرَة، ونازله ثَمَانِيَة أَيَّام فسلمها الْأَفْضَل على أَن يعوض عَنْهَا ميافارقين وحانى وسميساط فَأَجَابَهُ وَلم يَفِ لَهُ بذلك، وَدخل الْعَادِل الْقَاهِرَة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر مِنْهَا.
ثمَّ سَافر الْأَفْضَل إِلَى صرخد، وَأقَام الْعَادِل بِمصْر على أَنه أتابك الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز مديدة، ثمَّ اسْتَقل بالسلطنة فَأرْسل إِلَيْهِ الْمَنْصُور صَاحب حماه يعْتَذر عَمَّا وَقع مِنْهُ بِسَبَب أَخذ بارين من ابْن الْمُقدم وَنزل لِابْنِ الْمُقدم عَن منبج، وقلعة نجم عوضا عَن بارين. وَكَاتب الظَّاهِر عَمه الْعَادِل وَصَالَحَهُ، وخطب لَهُ بحلب وَضرب السِّكَّة باسمه وَالْتزم الظَّاهِر بِخَمْسِمِائَة فَارس فِي خدمَة الْعَادِل كلما خرج إِلَى البيكار.
وفيهَا: قصر النّيل فَلم يبلغ أَرْبَعَة عشر ذِرَاعا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم فِي سَابِع عشر ربيع الآخر، وَقيل أَن مولده سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة.
قلت: وَهُوَ مجير الدّين عبد الرَّحِيم بن القَاضِي الْأَشْرَف بهاء الدّين أبي الْمجد عَليّ ابْن القَاضِي السعيد أبي مُحَمَّد الْحسن الْعَسْقَلَانِي المولده؛ ذُو الْعلم وَالْبَيَان واللسن وَاللِّسَان والقريحة الوقادة والبصيرة النفاذة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة، كَانَ وَزِير صَلَاح(2/113)
الدّين وتمسكن عِنْده، وَله من رِسَالَة فِي قلعة: هَذِه القلعة عِقَاب فِي عِقَاب، وَنجم فِي سَحَاب، وَهَامة لَهَا الغمامة عِمَامَة، وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال لَهَا قلامة.
وَله رِسَالَة لَطِيفَة يشفع لخطيب عيذاب فِي تَوليته خطابة الكرك وَهِي: أدام الله سُلْطَان الْملك النَّاصِر، وثبته وَتقبل عمله بِقبُول صَالح وأثبته، وَأخذ عدوة قَائِلا أَو يبته، وأرغم أَنفه بِسَيْفِهِ، وكبته خدمَة الْمَمْلُوك هَذِه وَارِدَة على يَد خطيب عيذاب.
وَلما نبا بِهِ الْمنزل عَنْهَا وَقل عَلَيْهِ الْمرْفق فِيهَا وَمِنْهَا وَسمع بِهَذِهِ الفتوحات الَّتِي طبق الأَرْض ذكرهَا، وَوَجَب على أَهلهَا شكرها، هَاجر من هجير عيذاب وملحها سارياً فِي لَيْلَة أمل كلهَا نَهَار فَلَا يسْأَل عَن صبحها.
وَقد رغب فِي خطابة الكرك وَهُوَ خطيب، وتوسل بالمملوك فِي هَذَا الملتمس وَهُوَ قريب، وَنزع من مصر إِلَى الشَّام، وَمن عيذاب إِلَى الكرك وَهَذَا عَجِيب والفقر سائق عنيف وَالْمَذْكُور عائل ضَعِيف ولطف الله بالخلق مَوْجُود ومولانا لطيف وَمن شعره عِنْد الْفُرَات مَعَ صَلَاح الدّين:
(بِاللَّه قل للنيل عَن أنني ... لم أَرض عَنهُ بالفرات بديلاً)
(وسل الْفُؤَاد فَإِنَّهُ لي شَاهد ... إِن كَانَ جفني بالدموع بَخِيلًا)
(يَا قلب كم خلقت ثمَّ بثينة ... فأعيذ صبرك أَن يكون جميلاً)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين صَاحب خوارزم وَبَعض خُرَاسَان والري وَغَيرهَا من الْبِلَاد الجبلية بشهرستان، وَولي بعده ابْنه مُحَمَّد، وتقلب بعلاء الدّين بعد قطب الدّين.
وَكَانَ تكش عادلاً فَقِيها حنفياً أصولياً، وَبلغ غياث الدّين الغوري مَوته، فَترك ضرب النّوبَة ثَلَاثَة أَيَّام وَجلسَ للعزاء مَعَ مَا كَانَ بَينهمَا من الْعَدَاوَة بِخِلَاف مَا فعل بكتمر من الشماتة بصلاح الدّين، وهرب ابْن أخي مُحَمَّد هندوخان بن ملك شاه إِلَى غياث الدّين ملك الغورية يستنصره على عَمه، فَأكْرمه ووعده النَّصْر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: وبمصر الْعَادِل وَابْنه الْكَامِل نَائِبه بهَا.
وَقد وجد الْملك الظَّاهِر فِي تحصين حلب خوفًا من عَمه الْعَادِل وبدمشق الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل نَائِب أَبِيه بهَا وبالشرف الفائز إِبْرَاهِيم بن الْعَادِل، وبميافارقين الأوحد نجم الدّين أَيُّوب بن الْعَادِل.
وفيهَا: توفّي عز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْمُقدم، وَصَارَت منبج وقلعة نجم وأفامية وكفرطاب بعده لِأَخِيهِ شمس الدّين عبد الْملك فحصر الظَّاهِر منبج، وملكها وَأنزل عبد(2/114)
الْملك من قلعتها بالأمان واعتقله، ثمَّ حضر قلعة نجم وملكها فِي آخر رَجَب مِنْهَا، وَأرْسل إِلَى الْمَنْصُور بحماه يبْذل لَهُ منبج، وقلعة نجم على أَن يصير مَعَه على الْعَادِل فَاعْتَذر بحلفه للعادل، فَسَار الظَّاهِر إِلَى المعرة وأقطع بلادها وَاسْتولى على كفر طَابَ وأفامية، وَكَانَت لِابْنِ الْمُقدم وأحضر عبد الْملك بن الْمُقدم وضربه قُدَّام نَائِبه قراقوش بافامية ليسلمها فَضرب قراقوش النقارات بالقلعة لِئَلَّا يسمع أهل الْبَلَد صراخه، وخاب الظَّاهِر فَرَحل عَنْهَا إِلَى حماه وحاصرها وجرح ثمَّ صَالح الْمَنْصُور على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار صورية وَسَار فنازل دمشق وَبهَا الْمُعظم بن الْعَادِل وَمَعَ الظَّاهِر أَخُوهُ الْأَفْضَل وَمَيْمُون القصري صَاحب نابلس وَغَيره، فَخرج الْعَادِل بعساكر مصر وَأقَام بنابلس وَلم يَجْسُر على قتالهما وَتعلق النقابون بسور دمشق فَاخْتلف الظَّاهِر وَالْأَفْضَل على من يملك دمشق مِنْهَا وتخلى الْأَفْضَل عَن الْقِتَال فتخلت الْأُمَرَاء لتخليه فَرَحل الظَّاهِر عَن دمشق فِي أول محرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَسَار الْأَفْضَل إِلَى حمص.
وفيهَا: أَي سنة سبع وَتِسْعين توفّي عماد الدّين الْكَاتِب مُحَمَّد بن عبد الله بن حَامِد الاصفهاني فَاضل فِي الْفِقْه وَالْأَدب والتاريخ وَالنّظم والنثر كتب لنُور الدّين ولصلاح الدّين، وَله الْبَرْق الشَّامي وخريدة الْقصر وَغَيرهمَا، ومولده سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة، فعمره نَيف وَسَبْعُونَ سنة.
قلت: وَبَينه وَبَين القَاضِي الْفَاضِل محاورات، لقِيه يَوْمًا رَاكِبًا فَقَالَ لَهُ: سر فَلَا كبا بك الْفرس. فَقَالَ الْفَاضِل: دَامَ علا الْعِمَاد - وَهَذَا يقْرَأ طرداً وعكساً - واجتمعا يَوْمًا فِي موكب السُّلْطَان وَقد سد الْغُبَار الفضاء فَأَنْشد الْعِمَاد:
(أما الْغُبَار فَإِنَّهُ ... مِمَّا أثارته السنابك)
(والجو مِنْهُ مظلم ... لَكِن أنارته السنابك)
(يَا دهر لي عبد الرَّحِيم ... فلست أخْشَى مس نابك)
وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَكَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ عَائِد ينشد:
(أَنا ضيف بربعكم ... أَيْن أَيْن المضيف)
(أنكرتني وُجُوهكُم ... مَاتَ من كنت أعرف)
وَالله أعلم.
وفيهَا: استولى غياث الدّين ملك الغورية على مَا كَانَ لخوارزم شاه بخراسان وَلما ملك غياث الدّين مرو سلمهَا إِلَى هندوخان بن ملك شاه بن خوارزم شاه تكش الَّذِي هرب من عَمه إِلَيْهِ وَلما اسْتَقَرَّتْ سرخس وطوس ونيسابور وَغَيرهَا لغياث الدّين عَاد إِلَى بِلَاده، وَكَانَ مَعَه أَخُوهُ شهَاب الدّين فَعَاد إِلَى الْهِنْد فَفتح وغنم وَفتح نهر والة الْعَظِيمَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان ملك ركن الدّين سُلَيْمَان بن قلج أرسلان ملطية وَكَانَت لِأَخِيهِ معز الدّين قَيْصر شاه، ثمَّ سَار ركن الدّين إِلَى أرزن الرّوم وَكَانَت لمُحَمد بن صلتق وَهُوَ(2/115)
من بَيت قديم ملكوا أرزن الرّوم من مُدَّة طَوِيلَة فطلع صَاحبهَا ليصالحه فَقبض عَلَيْهِ وَأخذ الْبَلَد مِنْهُ وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا آخر مُلُوك بَيته.
وفيهَا: توفّي سقمان بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق صَاحب آمد وحصن كيفا سقط من سطح فَمَاتَ بهَا فاستولى مَمْلُوكه ولي عَهده أياس على بِلَاده، فكاتب الأكابر أَخَاهُ مَحْمُودًا وَكَانَ قد أبعده إِلَى حصن مَنْصُور بغضاً فِيهِ فَحَضَرَ وَملك بِلَاد أَخِيه سقمان.
وفيهَا: كَانَ نقص النّيل فغلت مصر شَدِيدا كثيرا.
وفيهَا: هدمت الزلزلة بالجزيرة والسواحل وَالشَّام مدناً كَثِيرَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن الْجَوْزِيّ الْحَنْبَلِيّ الْوَاعِظ وتصانيفه مَشْهُورَة ومولده سنة عشر وَخَمْسمِائة.
قلت: ابْن الْجَوْزِيّ عبد الرَّحْمَن بن أبي الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبيد الله بن عبد الله بن حَمَّاد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْجَوْزِيّ بن عبد الله بن الْقَاسِم بن النَّضر بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق؛ الْفَقِيه الْوَاعِظ الملقب جمال الدّين عَلامَة وقته فِي الحَدِيث والوعظ، لَهُ زَاد الْمسير فِي علم التَّفْسِير، وَله فِي الحَدِيث تصانيف، وَله المنتظم فِي تَارِيخ الْمُلُوك والأمم، وَله الموضوعات وَغَيرهَا، وَقيل أَنه جمعت الكراريس الَّتِي كتبهَا وحسبت مُدَّة عمره فقسمت الكراريس على الْمدَّة فَكَانَ مَا خص كل يَوْم تِسْعَة كراريس، وَهَذَا شَيْء عَظِيم لَا يكَاد يقبله الْعقل، وجمعت براية أقلامه الَّتِي كتب بهَا الحَدِيث فَكَانَت شَيْئا كثيرا، وَأوصى أَن يسخن بِهِ مَاء غسله فَكفى وَفضل.
وَمن شعره:
(عذيري من فتيةبالعراق ... قُلُوبهم بالجفا قلب)
(يرَوْنَ العجيب كَلَام الْغَرِيب ... وَقَول الْقَرِيب فَلَا يعجب)
(ميازيبهم إِن تندت بِخَير ... إِلَى غير جيرانهم تقلب)
(وَعذرهمْ عِنْد توبيخهم ... مغنية الْحَيّ لَا تطرب)
سَأَلَهُ السّنة والشيعة من أفضل الْأمة بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبُو بكر أَو عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا؟ فَقَالَ: أفضلهما من كَانَت ابْنَته تَحْتَهُ فأرضى الطَّائِفَتَيْنِ وينتسب إِلَى مشرعة الْجَوْز من محَال بَغْدَاد وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا خرب الظَّاهِر قلعة منبج خوفًا من انتزاعها مِنْهُ، وأقطعها عماد الدّين أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن المشطوب.
قلت: وَكَانَ ذَلِك بِوَاسِطَة وزيره بمنبج الْبُرْهَان بن أبي شيبَة، وَعمل مَوضِع القلعة(2/116)
مارستاناً وحمامين متلاصقين وخان سَبِيل فَقَالَ أهل منبج عَنهُ: هتك الْحَرِيم وصان الْحمير، وَالله أعلم.
وفيهَا: وصل الْعَادِل حماه من دمشق فَقَامَ الْمَنْصُور بكلفه كلهَا وَبلغ الظَّاهِر بحلب أَن قَصده محاصرته فلاطفه وَأهْدى إِلَيْهِ، فَوَقع الصُّلْح وانتزعت مُفْردَة المعرة مِنْهُ وَهِي عشرُون ضَيْعَة مُعينَة من بلد المعرة، واستقرت للمنصور وَأخذت مِنْهُ أَيْضا قلعة نجم وسلمت إِلَى الْأَفْضَل، وَكَانَ لَهُ سروج وسميساط وَسلم الْعَادِل حران وَمَا مَعهَا لوَلَده الْأَشْرَف مُوسَى وسيره إِلَى الشرق، وَكَانَ بميافارقين الأوحد بن الْعَادِل، وبقلعة جعبر الْملك الْحَافِظ نور الدّين أرسلان شاه بن الْعَادِل، ثمَّ عَاد الْعَادِل وَأقَام بِدِمَشْق، وَقد انتظم لَهُ ملك الشَّام والشرق ومصر خطْبَة وسكة وَحكما.
وفيهَا: اسْترْجع خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش الْبِلَاد الَّتِي أَخذهَا الغورية من خُرَاسَان.
وفيهَا: توفّي هبة الله بن عَليّ بن مَسْعُود المنستيري - بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون - ومنستير بليدَة بإفريقية وَلم يكن فِي عصره فِي دَرَجَته فِي علو الْإِسْنَاد ثمَّ إِبْرَاهِيم الْأَسدي وَقصد من الْآفَاق لعلو إِسْنَاده قدم جده من منستير إِلَى بوصير فَعرف هبة الله بالبوصيري ومولده سنة سِتّ وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: والعادل بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي ملك الدّين سُلْطَان أَخُو الْعَادِل لأمه وتنسب إِلَيْهِ الْمدرسَة الفلكية بِدِمَشْق.
الْحَوَادِث بِالْيمن
كَانَ قد تملك الْيمن الْمعز إِسْمَاعِيل سيف الْإِسْلَام بن طغتكين بن أَيُّوب، وَكَانَ مخبطاً فَادّعى أَنه قرشي أموي وَلبس الخضرة وخطب لنَفسِهِ بالخلافة فقاتلته جمَاعَة من مماليك أَبِيه فانتصر، ثمَّ قَتَلُوهُ وَأَقَامُوا أَخَاهُ النَّاصِر صَغِيرا وَقَامَ بأتابكيته سيف الدّين سنقر مَمْلُوك أَبِيه.
ثمَّ مَاتَ سنقر بعد أَربع سِنِين، وَتزَوج الْأَمِير غَازِي بن جِبْرِيل أم النَّاصِر وَقَامَ بأتابكيته، ثمَّ سم النَّاصِر فِي فقاع وتملك الْيمن، ثمَّ قَتله جمَاعَة من الْعَرَب لقَتله النَّاصِر وخلت الْيمن عَن سُلْطَان فتغلبت أم النَّاصِر على زبيد وجمعت الْأَمْوَال إنتظاراً لوصول بعض بني أَيُّوب لتتزوج بِهِ وتملكه الْبِلَاد.
وَكَانَ للمظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب ولد اسْمه سعد الدّين شاهنشاه، وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه تمتكين فَخرج سُلَيْمَان بن شاهنشاه بن عمر فَقِيرا وَأرْسلت أم النَّاصِر بعض غلمانها إِلَى مَكَّة فِي موسم الْحَاج ليأتيها بأخبار مصر وَالشَّام فَوجدَ سُلَيْمَان فَأحْضرهُ إِلَى الْيمن فخلعت عَلَيْهِ، وملكته الْيمن، فَمَلَأ الْيمن جوراً وأطرحها وَلم يرعها، وَكتب إِلَى(2/117)
السُّلْطَان الْعَادِل عَم جده كتابا أَوله: إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فاستقل عقله، ثمَّ كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: حاصر الْملك الْأَشْرَف صَاحب ماردين بِأَمْر أَبِيه الْعَادِل ثمَّ صَالح الظَّاهِر بَينهمَا على أَن يحمل صَاحب ماردين مائَة ألف وَخمسين ألف دِينَار وعَلى السِّكَّة وَالْخطْبَة لَهُ ويجيبه مَتى طلبه.
وفيهَا: سَار الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز من مصر بِوَالِديهِ وَأَهله فَأَقَامَ بحلب عَنهُ عَمه الظَّاهِر بعد أَن أخرجه الْعَادِل من مصر.
وفيهَا: رابط الْمَنْصُور ببارين الفرنج وأنجده صَاحب بعلبك وَصَاحب حمص، وَاتَّفَقُوا فِي ثَالِث رَمَضَان فَانْهَزَمَ الفرنج فَقتل فيهم وَأسر، وَفِيه يَقُول بهاء الدّين أسعد بن يحيى السنجاري:
(مَا لَذَّة الْعَيْش إِلَّا صَوت معمعة ... ينَال فِيهَا المنى بالبيض والأسل)
(يَا أَيهَا الْملك الْمَنْصُور نصح فَتى ... لم يلوه عَن وَفَاء كَثْرَة العذل)
(اعزم فَلَا تتْرك الدُّنْيَا بِلَا ملك ... وجد فالملك مُحْتَاج إِلَى رجل)
ثمَّ اجْتمع الفرنج من حصن الأكراد والمرقب والسواحل والتقوا مَعَ الْملك الْمَنْصُور ببارين أَيْضا ثَانِيًا فانهزمت الفرنج هزيمَة شنيعة وَأسر فيهم وَقتل، وَفِيه يَقُول سَالم بن سَعَادَة الْحِمصِي:
(أَمر اللواحظ أَن تفوق أسهماً ... ريم برامة مَا رنا حَتَّى رما)
(فتانة بِالسحرِ بل قتالة ... مَا جَار قاضيهن حَتَّى حكما)
(أَصبَحت فِيهَا مغرماً بِمُحَمد ... لما غَدا بالأريحية مغرما)
وَمِنْهَا:
(وشننت منتقماً بساحل بحرها ... جَيْشًا حكى الْبَحْر الخضم عرمرما)
(أسدلت فِي الأفاق من هبواته ... لَيْلًا وأطلعت الأسنة أنجماً)
وفيهَا: ولد الْملك المظفر تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد صَاحب حماه من ملكة خاتون بنت الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَسمي عمر ثمَّ سمي مَحْمُودًا، ولد بقلعة حماه ظهر الثُّلَاثَاء رَابِع عشر رَمَضَان.
قلت: وفيهَا ماجت النُّجُوم بِبَغْدَاد، وتطايرت شبه الْجَرَاد، ودام ذَلِك إِلَى الْفجْر، وضج الْخلق بالابتهال إِلَى الله تَعَالَى؛ ذكره الذَّهَبِيّ، وَالله أعلم.
وفيهَا: انتزع الْعَادِل من الْأَفْضَل رَأس عين وسروج وقلعة نجم وَترك لَهُ سميساط فَقَط، فتوجهت أم الْأَفْضَل؛ وَمن حماه توجه مَعهَا القَاضِي زين الدّين بن هندي لتشفع فِي الْأَفْضَل عِنْد الْعَادِل فَعَادَت خائبة. قَالَ فِي الْكَامِل: عُوقِبَ الْبَيْت الصلاحي بِمَا فعله صَلَاح الدّين لما خرجت إِلَيْهِ نسَاء بَيت الأتابك وفيهن بنت نور الدّين يشفعن فِي إبْقَاء الْموصل(2/118)
على عز الدّين مَسْعُود فخيبهن ثمَّ نَدم، فَجرى للأفضل بن صَلَاح الدّين مَعَ عَمه مثله، وَهَذِه بِتِلْكَ فَأَقَامَ الْأَفْضَل بسميساط، وَقطع خطْبَة عَمه الْعَادِل، وخطب للسُّلْطَان سُلَيْمَان بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب الرّوم.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي غياث الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن سَام بن الْحُسَيْن الغوري صَاحب غزنة وَغَيرهَا.
وَكَانَ أَخُوهُ شهَاب الدّين بطوس عَازِمًا على قصد خوارزم، وَلم يحسن شهَاب الدّين الْخلَافَة على مَحْمُود ابْن أَخِيه الَّذِي تلقب غياث الدّين بلقب أَبِيه وَلَا على غَيره من أَهله وَقبض على زَوْجَة أَخِيه غياث الدّين، وَكَانَت مغنية وضربها وصادرها وَلم تنهزم لغياث الدّين راية قطّ مَعَ الدهاء وَحسن العقيدة والخط، وَنسخ مصاحف بِخَطِّهِ لمدارسه وَصَارَ شافعياً.
وفيهَا: استولى الكرج على دوين من أذربيجان نهباً وقتلاً فوبخت الْأُمَرَاء أَبَا بكر بن البهلوان صَاحب أذربيجان على تَشَاغُله عَنْهَا بالشرب فَلم يلْتَفت.
وفيهَا: توفيت زمرد أم الإِمَام النَّاصِر وَكَانَت كَثِيرَة الْمَعْرُوف.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْقرشِي فِي السَّادِس من ذِي الْحجَّة وَدفن بجبانة ماملا ظَاهر بَيت الْمُقَدّس ومولده قريب من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بالأندلس، وَله كرامات خارقة وأنفاس صَادِقَة.
وَمن كَلَامه: من لم يراع حُقُوق الإخوان بترك حُقُوقه حرم بركَة الصُّحْبَة.
وَمِنْه: من لم يكن لَهُ مقَام فِي التَّوَكُّل كَانَ نَاقِصا فِي توحيده.
وَمِنْه: من ملك الْأَشْيَاء وَلم تملكه تصرف فِيهَا بالخلافة واسترقها بِالْحُرِّيَّةِ.
وَمِنْه: من عَلامَة الْوَلِيّ إِذا طَال عمره كثر عمله، وَإِذا كثر فقره زَاد سخاؤه، وَإِذا زَاد علمه كثر تواضعه.
وَمِنْه: الْفقر سر لَا يُعلمهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاء وَبَعض الصديقين.
وَمِنْه: من صدق بِهَذَا الْأَمر فَهُوَ ولي، وَمن أدْرك مِنْهُ مقَاما أَو نَالَ مِنْهُ حَالا فَهُوَ بدل.
عبر يَوْمًا على عَرصَة الْعِنَب فاتصل بِهِ أَنِين بعض الْأَحْمَال فَوقف وزايد فِي الْحمل وَدفع فِيهِ إِنْسَان أَكثر من قِيمَته، وَكَانَ يعصر الْخمر فَاشْتَرَاهُ الشَّيْخ وَدفع ثَوْبه فِي قِيمَته فسكن أنينه ومناقبه مَجْمُوعَة مَشْهُورَة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّمائَة: والعادل بِدِمَشْق.
وفيهَا: هادن صَاحب حماه الفرنج.
وفيهَا: نَازل ابْن الأون ملك الأرمن أنطاكية فَتحَرك الظَّاهِر بحلب إِلَى حارم فَرَحل اللعين على عقبه.(2/119)
وفيهَا: خطب قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي بن مودود صَاحب سنجار للعادل ببلاده فصعب على ابْن عَمه أرسلان شاه بن مَسْعُود صَاحب الْموصل فاستولى على نَصِيبين وَهِي لقطب الدّين، فاسنتجد بالأشرف بن الْعَادِل فَسَار إِلَيْهِ وَاجْتمعَ مَعَه أَخُوهُ الْملك الأوحد صَاحب ميافارقين، والتقوا ببوشره، فَانْهَزَمَ صَاحب الْموصل وَدخل الْموصل بأَرْبعَة أنفس فَقَط، وَهَذِه الْوَقْعَة أول سَعَادَة الْأَشْرَف بن الْعَادِل فَلم تنهزم راية لَهُ بعْدهَا، واستقرت بِلَاد قطب الدّين عَلَيْهِ واصطلحوا أول سنة إِحْدَى وسِتمِائَة.
وفيهَا: قصد الفرنج بَيت الْمُقَدّس فَأَقَامَ الْعَادِل قبالتهم بِالطورِ إِلَى آخر السّنة.
وفيهَا: استولت الفرنج على قسطنطينية وَكَانَت بيد الرّوم من قديم ثمَّ استعادتها الرّوم من الفرنج سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة.
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان ركن الدّين سُلَيْمَان بن قلج أرسلان بن مَسْعُود السلجوقي سُلْطَان الرّوم وغدر بأَخيه صَاحب أنكورية - وَهِي أنقرة - قبل مَرضه بِخَمْسَة أَيَّام، وَكَانَ يحسن إِلَى الفلاسفة ويقدمهم، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان صَغِيرا فَم يستثبت أمره فَكَانَ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: كسر ملك الغورية شهَاب الدّين خوارزم شاه بن تكش فأنجدته الخطا فَهزمَ شهَاب الدّين، وشاع قتل شهَاب الدّين فاختلفت مَمْلَكَته ثمَّ ظهر وَوصل غزنة، فاستقرت الْأَحْوَال.
وفيهَا: قتل ككجا مَمْلُوك البهلوان ملك الرّيّ وهمدان والجبل، قَتله خوشداشه أيدغمش مَمْلُوكا لبهلوان وتملك مَوْضِعه وَأقَام أيدغمش ابْن استاذه أزبك بن البهلوان فِي الْملك صُورَة، وَالْحكم لأيدغمش.
وفيهَا: استولى رجل اسْمه مَحْمُود بن مُحَمَّد الْحِمْيَرِي على ظفار ومرباط وَغَيرهمَا من حضر موت.
وفيهَا: استولى أسطول الفرنج على فوة من ديار مصر فنهبوها خَمْسَة أَيَّام.
وفيهَا: زلزلت مصر وَالشَّام والجزيرة وَالروم وصقلية وقبرس وَالْعراق وَخَربَتْ صور.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وسِتمِائَة: فِيهَا هادن الْعَادِل الفرنج وَسلم إِلَيْهِم يافا، وَنزل عَن مناصفات لد والرملة، وَأعْطى العساكر دستوراً وَسَار إِلَى مصر وَأقَام بدار الوزارة.
وفيهَا: أغارت الفرنج ووصلوا إِلَى الرقيطا قرب حماه فامتلأوا كسباً وأسروا شهَاب الدّين بن البلاغي، وَكَانَ فَقِيها شجاعاً تولى بر حماه مرّة وسلمية أُخْرَى فهرب من طرابلس وَتعلق بجبال بعلبك وَوصل إِلَى حماه ثمَّ وَقعت الْهُدْنَة بَين الْمَنْصُور صَاحب حماه وَبَين الفرنج.
وفيهَا: بعد الْهُدْنَة توجه الْمَنْصُور إِلَى مصر مستشعراً من الْعَادِل فَأكْرمه شهوراً وخلع عَلَيْهِ وَعَاد.(2/120)
وفيهَا: ملك السُّلْطَان غياث الدّين كيخسرو بن قلج أرسلان بِلَاد الرّوم، وَكَانَ لما تغلب أَخُوهُ ركن الدّين سُلَيْمَان على الْبِلَاد هرب كيخسرو إِلَى الظَّاهِر بحلب، ثمَّ سَار إِلَى قسطنطينية فاكرمه صَاحبهَا وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ سُلَيْمَان، وَتَوَلَّى ابْنه أرسلان، فَجَاءَهُ كيخسرو وأزال ابْن أَخِيه وَملك وَاسْتقر وفيهَا كَانَت الْحَرْب بَين الْأَمِير قَتَادَة الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة حرسها الله تَعَالَى وَبَين الْأَمِير سَالم بن قَاسم أَمِير الْمَدِينَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام سجالاً.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة: والعادل بِمصْر.
ذكر قتل شهَاب الدّين ملك الغورية
وفيهَا: فِي أول شعْبَان قتل شهَاب الدّين أَبُو المظفر مُحَمَّد بن سَام بن الْحُسَيْن الغوري ملك غزنة وَبَعض خُرَاسَان بعد عوده من لهاوور بمنزل يُقَال لَهُ دميك قبل الْعشَاء وثب عَلَيْهِ فِي خركاهه جمَاعَة وَقد تفرق النَّاس لأماكنهم فَقَتَلُوهُ بالسكاكين قيل إسماعيلية وَقيل من الكوكر من الْجبَال - كَانَ قد فتك فيهم ثمَّ قتل الحرس أُولَئِكَ، وَكَانَ غازياً عادلاً، ثمَّ سَار صَاحب باميان بهاء الدّين سَام بن شمس الدّين مُحَمَّد بن مَسْعُود عَم غياث الدّين وشهاب الدّين ليتملك غزنة فَمَاتَ بهاء الدّين فِي الطَّرِيق فعهد إِلَى ابْنه عَلَاء الدّين مُحَمَّد، فَدَخلَهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ جلال الدّين وتملكها فَسَار تَاج الدّين يلدز مقطع كرمان مَمْلُوك غياث الدّين وَهزمَ عَن غزنة عَلَاء الدّين مُحَمَّدًا وأخاه جلال الدّين وَاسْتولى يلذر عَلَيْهَا فَسَار عَلَاء الدّين وجلال الدّين ابْنا بهاء الدّين سَام إِلَى باميان وجمعا وعادا إِلَى غزنة وانتصرا وهزما يلدز إِلَى كرمان وَاسْتقر عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن سَام وَمَعَهُ بعض الْعَسْكَر فِي ملك غزنة، وَعَاد أَخُوهُ جلال الدّين بباقي الْعَسْكَر إِلَى باميان، ثمَّ إِن يلدز بلغه ذَلِك فَجمع من كرمان وَغَيرهَا وَسَار إِلَى غزنة، فاستنجد عَلَاء الدّين أَخَاهُ جلال الدّين وَحصر يلدز غزنة وَبهَا عَلَاء الدّين، وَسَار جلال الدّين فَلَمَّا قَارب غزنة لقِيه يلدز واقتتلا فَانْهَزَمَ عَسْكَر جلال الدّين وَأخذ أَسِيرًا فَأكْرمه يلدز واحترمه، وَعَاد فَحَضَرَ عَلَاء الدّين بغزنة وَعِنْده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان وتسلم غزنة.
وَأما غياث الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد ملك الغورية فَإِنَّهُ لما قتل عَمه شهَاب الدّين كَانَ فِي بست فَسَار وتملك فيروزكوه وَجلسَ فِي دست أَبِيه وتلقب بألقابه فَأحْسن وَعدل، وَلما اسْتَقر يلدز بغزنة وَأسر جلال الدّين وعلاء الدّين كتب إِلَى غياث الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد بن سَام بن الْحُسَيْن بِالْفَتْح وَأرْسل إِلَيْهِ الْأَعْلَام وَبَعض الأسرى.
وفيهَا: توفّي مجير الدّين طاشتكين أَمِير الْحَاج وَكَانَ قد ولاه الْخَلِيفَة خوزستان وَكَانَ خيرا صَالحا وَكَانَ يتشيع تشيعاً حسنا.(2/121)
وفيهَا: تزوج أَبُو بكر بن البهلوان بنت ملك الكرج لاشتغاله باللهو عَن التَّدْبِير فَكف الكرج عَنهُ لذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وسِتمِائَة: فِيهَا نَازل الْعَادِل فِي طَرِيقه إِلَى الشَّام عكا فَصَالحه أَهلهَا على إِطْلَاق الأسرى، ثمَّ وصل دمشق ثمَّ سَار وَنزل بِظَاهِر حمص على بحيرة قدس، وَجَاءَت العساكر من الْجِهَات، وَلما خرج رَمَضَان سَار ونازل حصن الأكراد وَفتح برج أعناز وَأخذ مِنْهُ سِلَاحا ومالاً وَخَمْسمِائة رجل ثمَّ نصب على طرابلس المجانيق، وعاث الْعَسْكَر فِي بلادها وَقطع قناتها، وَعَاد فِي آخر ذِي الْحجَّة إِلَى بحيرة قدس.
وفيهَا: أرسل غياث الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد ملك الغورية يستميل يلدز مَمْلُوك أَبِيه المستولي على غزنة فَلم يجبهُ يلدز وَطلب يلدز من غياث الدّين أَن يعتقهُ فأحضر الشُّهُود وَأعْتقهُ وَأرْسل مَعَ عتاقته هَدِيَّة عَظِيمَة، وَكَذَلِكَ أعتق أيبك المستولي على الْهِنْد وَأهْدى لَهُ فَقبل كل مِنْهُمَا ذَلِك، وخطب لَهُ أيبك ببلاده من الْهِنْد دون يلدز وَخرج بعض العساكر عَن طَاعَة يلدز لعدم طَاعَته لغياث الدّين.
وفيهَا: فِي ثَالِث شعْبَان ملك غياث الدّين كيخسرو صَاحب الرّوم أنطالية - بِاللَّامِ - مَدِينَة للروم على سَاحل الْبَحْر.
وفيهَا: قبض عَسْكَر خلاط على صَاحبهَا ابْن بكتمر لكَونه قبض على أتابكه قتلغ، وملكوا بلبان مَمْلُوك شاهرمن بن سقمان صَاحب خلاط كَمَا مر سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وسِتمِائَة: والعادل على بحيرة قدس، ثمَّ هادن صَاحب طرابلس وَنزل إِلَى دمشق.
وفيهَا: ملك الأوحد أَيُّوب بن الْعَادِل خلاط من بلبان كَمَا مر سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَسَار الأوحد من ميافارقين وَملك موش، ثمَّ قَاتله بلبان فَانْهَزَمَ بلبان واستنجد بمغيث الدّين طغرل بك شاه بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب أرزن الرّوم فهزما الأوحد، ثمَّ غدر طغرل بك شاه ببلبان فَقتله ليملك بِلَاده فَلم يسلمُوا إِلَيْهِ خلاط وَلَا مناز كرد فَرجع إِلَى بِلَاده، وَكَاتب أهل خلاط الأوحد فَسَار إِلَيْهِم وملكها وبلادها بعد يأسه مِنْهَا، وَاسْتقر فِيهَا، وَلما اسْتَقر الْعَادِل بِدِمَشْق وصل إِلَيْهِ التشريف من الإِمَام النَّاصِر صُحْبَة الشَّيْخ شهَاب بن السهروردي فَبَالغ الْملك الْعَادِل فِي إكرام الشَّيْخ وتلقاه إِلَى القيصر وَوصل من صَاحِبي حماه وحلب ذهب لينشر على الْعَادِل إِذا لبس الخلعة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً والخلعة جُبَّة أطلس أسود بطراز مَذْهَب وعمامة سَوْدَاء بطراز مَذْهَب وطوق ذهب مجوهر يطوق بِهِ، وَسيف قرَابه ملبس ذَهَبا يُقَلّد بِهِ، وحصان أَشهب بركاب ذهب وَنشر على رَأسه علم أسود مَكْتُوب فِيهِ بالبياض اسْم الْخَلِيفَة، ثمَّ خلع رَسُول الْخَلِيفَة على كل وَاحِد من الْملك الْأَشْرَف والمعظم ابْني الْعَادِل وعَلى الْوَزير صفي الدّين بن شكر، وقرىء تَقْلِيده بالبلاد الَّتِي(2/122)
تَحت حكمه، وخوطب الْملك الْعَادِل فِيهِ شاهنشاه ملك الْمُلُوك خَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ توجه الشَّيْخ شهَاب بِالْبرِّ إِلَى مصر، فَفعل نَظِير مَا فعل بِدِمَشْق من الاحتفال، ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى بَغْدَاد مكرماً مُعظما.
وفيهَا: اهتم الْعَادِل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كلا من أهل بَيته ببرج مِنْهَا.
وفيهَا: كاتبت مُلُوك مَا وَرَاء النَّهر مثل ملك سَمَرْقَنْد وَملك بخارا خوارزم شاه يَشكونَ مَا يلقونه من الخطا ويبذلون لَهُ السِّكَّة وَالْخطْبَة فِي بِلَادهمْ إِن دفع الخطا فَعبر عَلَاء الدّين مُحَمَّد خوارزم شاه بن تكش نهر جيحون وَقَاتل الخطا دفعات وَالْحَرب سِجَال، وَاتفقَ فِي بعض الوقعات أَن عَسْكَر خوارزم انهزم وَأسر خوارزم شاه وَأسر مَعَه شخص اسْمه فلَان بن شهَاب الدّين مَسْعُود وَلم يعرفهما الخطائي الَّذِي أسرهما، فَقَالَ ابْن مَسْعُود لخوارزم شاه: دع الْملك وَقل إِنَّك غلامي واخدمني لتخلص فَفعل ذَلِك وَشرع بخدمه حَتَّى فِي نزع خفه فَسَأَلَ الخطائي ابْن مَسْعُود من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان فَقَالَ: لَوْلَا أَخَاف من الخطا أطلقتك، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: أخْشَى أَن يَنْقَطِع خبري عَن أَهلِي وأشتهي أَن يعلمُوا بحياتي حَتَّى لَا يتقاسموا مَالِي، وأشتهي أبْعث بغلامي هَذَا مَعَ رَسُولك ليصدقوه، فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَرَاح خوارزم شاه مَعَ ذَلِك الشَّخْص حَتَّى قرب من خوارزم، فَرجع الخطائي وَاسْتقر خوارزم شاه فِي ملكه، وتراجع إِلَيْهِ عسكره.
قلت: لقد كتم خوارزم شاه سره فكتم وخدم من هُوَ دونه، فخدم وأذل نَفسه فعز ودقق الْحِيلَة فِي المحز، شعر:
(ملك ويخدم سوقه ... عقلا ومكراً مفرطاً)
(لَوْلَا أَتبَاع صَوَابه ... مَا فَازَ من أسر الخطا)
وَالله أعلم.
وَكَانَ أَخُوهُ عَليّ شاه بن تكش نَائِبه بخراسان، فَلَمَّا بلغه عدم أَخِيه مَعَ الْخَطَأ طلب السلطنة وَجَرت بخراسان فتن، فَلَمَّا عَاد خوارزم شاه خَافَ أَخُوهُ عَليّ شاه فلحق بغياث الدّين مَحْمُود ملك الغورية فَأكْرمه وَجعله عِنْده بفيروزكوه.
قتل غياث الدّين مَحْمُود وَعلي شاه: وَلما بلغ خوارزم شاه فعل أَخِيه أرسل عسكراً لقِتَال غياث الدّين مَحْمُود الغوري إِلَى فيروزكوه ومقدمهم أَمِير ملك فَأرْسل مَحْمُود يبْذل الطَّاعَة فَأَمنهُ أَمِير ملك فَخرج إِلَيْهِ مَحْمُود وَمَعَهُ عَليّ شاه فَقبض عَلَيْهِمَا وَكتب إِلَى خوارزم شاه بذلك، فَأمره بِقَتْلِهِمَا فَقَتَلَهُمَا فِي يَوْم وَاحِد، واستقامت خُرَاسَان كلهَا لخوارزم شاه وَذَلِكَ فِي سنة خمس وسِتمِائَة.
ومحمود هَذَا آخر مُلُوك الغورية، كَانَ كَرِيمًا عادلاً ودولتهم من أحسن الدول، ثمَّ أَن خوارزم شاه عبر النَّهر إِلَى الخطا، وَكَانَت التتر وَرَاء الخطا فِي حُدُود الصين، وَكَانَ ملكهم(2/123)
حِينَئِذٍ يُقَال لَهُ كشلي خَان وَبَينه وَبَين الخطا عَدَاوَة متحكمة فَأرْسل كل وَاحِد من كشلي خَان وَمن الخطا يسْأَل خوارزم شاه أَن يكون مَعَه على خَصمه فأجابهما بالمغلطة ينْتَظر مَا يكون مِنْهُمَا فَلَمَّا وَقع بَين كشلي خَان والخطا انتصر كشلي خَان وَقتل فيهم، وفتك فيهم أَيْضا خوارزم شاه فَلم يبْق من الخظا إِلَّا مستسلم أَو معتصم بالجبال.
ثمَّ دخلت سنة خمس وسِتمِائَة: والعادل وولداه الْأَشْرَف والمعظم بِدِمَشْق.
وفيهَا: توجه الْأَشْرَف مُوسَى بن الْعَادِل من دمشق إِلَى بِلَاده الشرقية وتلقاه بحلب صَاحبهَا الْملك الظَّاهِر وأنزله بالقلعة، وَبَالغ فِي إكرامه وإقاماته، وَقدم لَهُ من التحف والنقد وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْخلْع لَهُ ولأصحابه شَيْئا فرطا، ثمَّ سَار الْأَشْرَف إِلَى بِلَاده.
وفيهَا: أجْرى الْملك الظَّاهِر الْقَنَاة من جيلان إِلَى حلب بأموال عَظِيمَة وَبَقِي الْبَلَد يجْرِي المَاء فِيهِ.
وفيهَا: وصل غياث الدّين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب الرّوم إِلَى مرعش لقصد بِلَاد ابْن الأون الأرمني وأنجده الظَّاهِر فعاث كيخسرو فِي بِلَاد الأرمن وَنهب وَفتح حصن قرقوس.
وفيهَا: قتل معز الدّين سنجر شاه بن غَازِي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر؛ كَانَ ظَالِما قتالاً قطاعاً للأنوف والألسنة والآذان واللحى، وتعدى ظلمه إِلَى أَوْلَاده وحريمه وَحبس ابنيه مَحْمُودًا ومودوداً فِي قلعة وَحبس ابْنه غازياً بدار فِي الْمَدِينَة وبالدار هوَام فاصطاد غَازِي حَيَّة مِنْهَا وأرسلها إِلَى أَبِيه فِي منديل ليرق لَهُ فازداد قسوة، فاحتال غَازِي حَتَّى هرب وَله شخص يَخْدمه فقرر مَعَه أَن يُسَافر وَيظْهر إِنَّه غَازِي بن معز الدّين سنجر شاه ليأمنه أَبوهُ، فَمضى ذَلِك الشَّخْص إِلَى الْموصل فَأعْطى شَيْئا وسافر مِنْهَا واتصل الْخَبَر بسنجر شاه فاطمأن وتوصل غَازِي حَتَّى دخل دَار أَبِيه واختفى عِنْد بعض سراري أَبِيه وَعلم بِهِ جمَاعَة مِنْهُم وكتموه بغضاً فِي سنجر شاه فَشرب سنجر شاه يَوْمًا بِظَاهِر الْبَلَد واقترح على المغنين الْأَشْعَار الفراقية وَهُوَ يبكي، وَدخل دَاره سَكرَان إِلَى المحضية الَّتِي ابْنه مختف عِنْدهَا، وَدخل الخلا فهجم عَلَيْهِ ابْنه غَازِي فَضَربهُ بسكين أَربع عشر ضَرْبَة وذبحه وَتَركه وَدخل الْحمام وَقعد يلْعَب مَعَ الْجَوَارِي، فَلَو قدر الله أَنه أحضر الْجند واستحلفهم لوقته لتم أمره، وَلَكِن اطْمَأَن فَجمع أستاذ الدَّار النَّاس وهجم على غَازِي فَقتله وَحلف الْعَسْكَر لِأَخِيهِ مَحْمُود بن سنجر شاه، وتلقب معز الدّين بلقب أَبِيه، وَوصل معز الدّين مَحْمُود وَاسْتقر بالجزيرة وغرق جواري أَبِيه فِي دجلة ثمَّ قتل أَخَاهُ مودوداً.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار الْعَادِل من دمشق إِلَى حران وَوصل إِلَى بهَا الْملك الصَّالح مَحْمُود بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان الأرتقي صَاحب آمد، وحصن كيفا وَسَار الْعَادِل فنازل سنجار وَبهَا صَاحبهَا قطب الدّين مُحَمَّد بن عماد الدّين زنكي بن مودود بن(2/124)
زنكي فحاصرها طَويلا، وخامرت العساكر عَلَيْهِ وَنقض الظَّاهِر صَاحب حلب الصُّلْح مَعَه، فَرَحل عَن سنجار إِلَى حران وَاسْتولى على نَصِيبين والخابور.
وفيهَا: توفّي الْملك الْمُؤَيد نجم الدّين مَسْعُود بن صَلَاح الدّين.
وفيهَا: توفّي الإِمَام فَخر الدّين مُحَمَّد بن عمر خطيب الرّيّ ابْن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ التَّيْمِيّ الْبكْرِيّ الطبرستاني الأَصْل الرَّازِيّ المولد الْفَقِيه الشَّافِعِي، صَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة، ومولده سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَمَعَ فضائله كَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْوَعْظ بالعربي وبالعجمي، ويلحقه فِيهِ وجد وبكاء، وَكَانَ أوحد فِي المعقولات وَالْأُصُول، قصد الْكَمَال السَّمْعَانِيّ، ثمَّ عَاد إِلَى الرّيّ إِلَى الْمجد الجيلي واشتغل عَلَيْهِمَا وسافر إِلَى خوارزم وَمَا وَرَاء النَّهر، وَجَرت الْفِتْنَة الَّتِي ذكرت واتصل بشهاب الدّين الغوري صَاحب غزنة وَحصل لَهُ مِنْهُ مَال طائل ثمَّ حظي فِي خُرَاسَان عِنْد السُّلْطَان خوارزم شاه بن تكش، وشدت إِلَيْهِ الرّحال وقصده ابْن عنين ومدحه بقصائد.
وَمن شعره فَخر الدّين:
(نِهَايَة إقدام الْعُقُول عقال ... وَأكْثر سعي الْعَالمين ضلال)
(وأرواحنا فِي وَحْشَة من جسومنا ... وَحَاصِل دُنْيَانَا أَذَى ووبال)
(وَلم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أَن جَمعنَا فِيهِ قيل وَقَالُوا)
(وَكم قد رَأينَا من رجال ودولة ... فبادوا جَمِيعًا مُسْرِعين وزالوا)
(وَكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فبادوا وَالْجِبَال جبال)
وفيهَا: فِي سلخ ذِي الْحجَّة توفّي مجد الدّين أَبُو السعادات الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْمَعْرُوف بِابْن الْأَثِير أَخُو غز الدّين عَليّ مؤلف الْكَامِل فِي التَّارِيخ، وَكَانَ عَالما بالفقه والأصولين والنحو والْحَدِيث واللغة وكتابته مفلقة ومولده سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي الْمجد الْمُطَرز النَّحْوِيّ الْخَوَارِزْمِيّ، لَهُ فِي النَّحْو تصانيف حَسَنَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الْعَادِل من الْبِلَاد الشرقية إِلَى دمشق.
وفيهَا: حصر الكرج الْملك الأوحد بن الْملك الْعَادِل بخلاط وَشرب ملك الكرج فَحسن لَهُ السكر التَّقَدُّم إِلَى خلاط فِي عشْرين فَارِسًا وَخرج الْمُسلمُونَ إِلَيْهِ فتقطر وَأسر فَرد على الأوحد عدَّة قلاع وبذل خَمْسَة آلَاف أَسِيرًا وَمِائَة ألف دِينَار وهادن ثَلَاثِينَ سنة وَشرط تَزْوِيج ابْنَته من الأوحد وَأطلق.
وفيهَا: توفّي نور الدّين أرسلان شاه بن عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل فِي آخر رَجَب بِمَرَض طَوِيل، وَملك سبع عشرَة سنة وَأحد عشر شهرا.(2/125)
وَكَانَ أسمر حسن الْوَجْه قد أسْرع إِلَيْهِ الشيب، شَدِيد الهيبة، قَلِيل الصَّبْر، وَملك بعده ابْنه الْملك القاهر عز الدّين مَسْعُود وَهُوَ ابْن عشر سِنِين وَدبره بدر الدّين لُؤْلُؤ مَمْلُوك أَبِيه وأستاذ دَاره، وَهُوَ الَّذِي ملك الْموصل، ولأرسلان شاه ولد آخر أَصْغَر من القاهر اسْمه زنكي ملكه أَبوهُ قلعتي الْعقر وسوس قرب الْموصل.
وفيهَا: وَردت رسل الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله إِلَى مُلُوك الْأَطْرَاف أَن يشْربُوا لَهُ كأس الفتوة، ويلبسوا لَهَا سراويلها وَأَن ينتسبوا إِلَيْهِ فِي رمي البندق ويجعلوه قدوتهم فِيهِ
قلت: وَكَانَ بعض الْفُضَلَاء قد استفتى فِي هَذِه الفتوة بِمصْر وَالشَّام، وَأخذ بتحريمها خطوط الْعلمَاء الْأَعْلَام، فَمنهمْ من أجَاب على جاري الْعَادة وَمِنْهُم من أجَاب بنثر أبدعه ونظم أجاده وأحضرها بعد ذَلِك إِلَيّ فامتنعت من الْكِتَابَة عَلَيْهَا لقصوري فألح عَليّ فَكتبت مَا صورته:
أما بعد: حمداً لله الَّذِي من اتبع مَا أنزلهُ قبل وَمن خَالف كِتَابه وَسنة نبيه خذل، وَالصَّلَاة على رَسُوله مُحَمَّد الَّذِي شَرِيعَته هِيَ الفتوة حَقًا، وطريقته هِيَ الْمُرُوءَة صدقا، وعَلى آله أهل الرأفة والإشفاق وَصَحبه الْمَأْخُوذ عَنْهُم مَكَارِم الْأَخْلَاق فقد غاضني حَتَّى هاضني وأحنقني حَتَّى خنقني مَا أحدثه أهل الْجَهْل والابتداع، وَسكت عَنهُ الْعلمَاء حَتَّى شاع فِي الرعاع وذاع، وَهِي الْبِدْعَة الَّتِي يجب إخفاء رسمها، والمنكرة الْمَعْرُوفَة بالفتوة وَهِي ضد اسْمهَا، وَكَيف لَا وَقد عكف عَلَيْهَا أَتبَاع الضَّلَالَة ودعا إِلَيْهَا الحمقى وَأهل البطالة يجمعُونَ لَهَا الجموع والأنباط، ويحضرها المرد وَأهل اللواط، فَمنهمْ من يتصابى على سنة وَمِنْهُم من يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم قوم إِذا الشَّرّ أبدى ناجذيه طاروا إِلَيْهِ وَإِن تنحنح ذُو سطوة أجابوه بسكين وقرؤا التكاثر عَلَيْهِ إِن اضمرت كلمة الْحق ظَهَرُوا وَإِن بني علم الْإِيمَان على الْفَتْح استتروا مَا أحقهم بِنَفْي الْجِنْس وَمَا أولاهم بِالْكَسْرِ وجعلهم كأمس.
شعر:
(جنائز مَجْمُوعَة ... بعهم كَبيع الْمُفلس)
(لَا قبض فِي صرفهم ... مَا هم خِيَار الْمجْلس)
كَبِيرهمْ العَاصِي يزِيد تيها على ابْن الْفُرَات وَهُوَ عِنْد الشَّرِيعَة صَغِير ويتصدر - فيهم بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير يلْبِسهُمْ لِبَاس شَرّ ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير، ويشد التكة بِيَدِهِ وَرُبمَا حل بِهِ عقيدة الْغَيْر خُصُوصا إِذا كَانَ اللابس نقي خد فَتلك راية فَرح الْجَمَاعَة وَالطَّرِيق إِلَى مَا قد يُوجب الْحَد ويسقيهم مَاء لَهُ بالملح مزاج بئس الشَّرَاب، وَلَو كَانَ عذباً فراتاً فَكيف وَهُوَ ملح أجاج يشقيهم بِمَا يسقيهم ويطغيهم بِمَا يعطيهم فيضلون بالبدعة جمعا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا ويمد لَهُم خوانًا يجمع فَاسِقًا، وخواناً جمع ثمنه من الششم والأنزروت والقرعة والقمار وَضرب التخوت والزبل والكنس والحجامة والدبغ والحوك والنجامة، وَمن الزفورية والطرقية وَسَائِر الْحَرْف الدنية بعدا لَهَا من بِدعَة سفلى(2/126)
وَطَرِيقَة غير مثلى جمعهَا لكَونه لَا يعقل غير سَالم، وفاعلها وَإِن كَانَ فَاعِلا مجرور على وَجهه بِالْأَمر الْجَازِم مَا سمعنَا بِمِثْلِهَا فِي أمة وَلَا ساعد عَلَيْهَا أحد من الْأَئِمَّة.
شعر:
(وَمَا كفى مَا أَتَوْهُ ... من الضلال الْجَلِيّ)
(حَتَّى أضافوه جهلا ... إِلَى الإِمَام عَليّ)
أقسم بِاللَّه أغْلظ يَمِين إِن مبيحها يكذب وَيَمِين، الشَّيْطَان بغروره دلاه فَاشْترط شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، فوقوف كَبِيرهمْ لعِلَّة لَا لله، ودعوته إِلَى الْبَاطِل فِي الْجُمْلَة حَيا كميت كَاذِبًا على آل الْبَيْت.
شعر:
(لَيْسَ الْفَتى كل الْفَتى عندنَا ... إِلَّا الَّذِي يُنْهِي عَن الْفُحْش)
(يَأْتِي إِلَى الْإِسْلَام من بَابه ... وَيتبع الْحق بِلَا غش)
لَيْسَ الْفَتى من ضرب بالسكين وَالسيف، الْفَتى من أطْعم الْمِسْكِين والضيف، لَيْسَ الْفَتى من عصب لأَصْحَابه وعشرائه، الْفَتى من جعل الْحق بَين عَيْنَيْهِ وَالْبَاطِل من وَرَائه، لَيْسَ الْفَتى من أَقَامَ الشنائع وَشهر على الْأمة السِّلَاح، الْفَتى من دقق الذرائع وسهر فِي جمع الْكَلِمَة والإصلاح، لَيْسَ الْفَتى من كَانَ من أهل اللياط، الْفَتى من أَخذ بالورع وَالِاحْتِيَاط، لَيْسَ الْفَتى من قَالَ بِالشَّاهِدِ، الْفَتى من يُحَاسب نَفسه ويجاهد فَإِن قَالَ أحدهم أَنا أَقْْضِي دين الْمَدِين وأجبر المكسور وأعين الْمِسْكِين وأحمل الثّقل وَأطلق الْمَحْبُوس وأفك المعتقل قُلْنَا خصصت بِهِ رفاقك وعشائرك وَتركت بَقِيَّة النَّاس وَرَاءَك، وَلَو سلم فقد أهملت وَاجِب الْمَنْدُوب وَأَنت بكذبك على عَليّ بن أبي طَالب مَطْلُوب.
شعر:
(كذبت على آل النَّبِي بجرأة ... ورحت لأفعال الْحَرَام موجها)
(وأبديت مَعْرُوفا تضمن مُنْكرا ... كمطعمة الْأَيْتَام من كد فرجهَا)
فَإِن احْتج للفتوة بأخذها عَن الْخَلِيفَة قُلْنَا: إِن صَحَّ فبدعة أحدثت كتقبيل العتبة الشَّرِيفَة، وَإِنَّمَا يَصح الِاقْتِدَاء بالخلفاء الرَّاشِدين الَّذين أَخذ عَنْهُم أَئِمَّة الدّين فَلَا تحرم نَفسك الْجنَّة بمخالفة الْكتاب وَالسّنة، وَتب إِلَى رَبك من هَذِه الْجَهَالَة فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة.
أتزعم أَن الْإِسْلَام نَاقص وَهَذِه تَتِمَّة وَالله سُبْحَانَهُ قد أكمل لنا ديننَا وَأتم علينا النِّعْمَة.
فَالْوَاجِب علينا أَن تزجر وتهجر وَالْمُنكر عَلَيْك يُؤجر، والراضي بِهَذِهِ الْبِدْعَة كفاعلها أعاننا الله على إِزَالَة أزلها وَإِبْطَال باطلها، فَإِنَّهَا طَريقَة مذمومة وفعلة مُحرمَة مَسْمُومَة، كم أفتى بتحريمها عَالم، وكما قَالَ بضعفها ولي، وَلَو صحت عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لكَانَتْ فِي الْقُوَّة كجلمود صَخْر حطه السَّيْل من علا وَلَوْلَا خوف التَّطْوِيل لذكرت مَا عَلَيْهَا من دَلِيل(2/127)
سَمَّاهَا بعض شياطين الْإِنْس فتوة قصر الله عمره فَلَا حول وأضعفه فَلَا قُوَّة، وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار الْعَادِل من مقَامه بِدِمَشْق إِلَى مصر.
وفيهَا: توفّي فَخر الدّين جهاركس كَبِير الصلاحية.
وفيهَا: توفّي الْملك الأوحد أَيُّوب بن الْعَادِل فَسَار أَخُوهُ الْأَشْرَف وَملك خلاط على مَا بِيَدِهِ من الشرق فَعظم ولقب شاهرمن.
وفيهَا: وَقتل غياث الدّين كيخسرو صَاحب الرّوم قَتله ملك الأشكري وَملك بعده ابْنه كيكاوس كَمَا مر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وسِتمِائَة: فِيهَا قبض الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل على عز الدّين أُسَامَة صَاحب قلعتي كَوْكَب وعجلون بِأَمْر أَبِيه وحبسه فِي الكرك إِلَى أَن مَاتَ بهَا، وتسلم الحصنين من غلْمَان أُسَامَة بحصار، وَخَربَتْ كَوْكَب، وَعفى أَثَرهَا، وانقرضت الصلاحية بأسامة هَذَا، وَملك الْمُعظم بِلَاد جهاركس وَهِي بانياس وَمَا مَعهَا لِأَخِيهِ شقيقه الْعَزِيز بن الْعَادِل، وَأعْطى صرخد مَمْلُوكه أيبك المعظمي.
وفيهَا: عَاد الْعَادِل إِلَى الشَّام وَأعْطى ابْنه المظفر غَازِي الرها مَعَ ميافارقين.
وفيهَا: أرسل الظَّاهِر القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد فاستعطف الْعَادِل وخطب ابْنَته ضيفة خاتون للظَّاهِر فَزَوجهَا مِنْهُ وتصافيا.
وفيهَا أظهر الكيا جلال الدّين حسن صَاحب الألموت من ولد الصَّباح شَعَائِر الْإِسْلَام وَكتب بِهِ إِلَى قلاع الإسماعيلية بالعجم وَالشَّام.
وفيهَا: توفّي أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن يُونُس بن مَنْعَة الْفَقِيه الشَّافِعِي بالموصل وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا حسن الْأَخْلَاق.
قلت: وَله الْمُحِيط فِي الْجمع بَين الْمُهَذّب والوسيط وَشرح الْوَجِيز، وعقيدة وتعليقة فِي الْخلاف لم تتمّ، وَولي خطابة الْموصل مَعَ تدريس العزية والنورية والزينية والنقشية والعلائية، وَولي قَضَاء الْموصل ثمَّ انْفَصل عَنهُ وَتقدم عِنْد نور الدّين أرسلان شاه، وَسَار عَنهُ رَسُولا إِلَى بَغْدَاد مَرَّات وَإِلَى الْعَادِل، وناظر فِي ديوَان الْخلَافَة فِي شِرَاء الْكَافِر العَبْد الْمُسلم سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَنقل نور الدّين الْمَذْكُور من مَذْهَب أبي حنيفَة إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَيْسَ فِي بَيت أتابك شَافِعِيّ سواهُ مَعَ كثرتهم وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي السعيد هبة الله بن جَعْفَر بن سنا الْملك السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ فَاضل متنعم وافر السَّعَادَة، وَله نظم فائق مدح توران شاه أَخا السُّلْطَان صَلَاح الدّين بقصيدة مطْلعهَا:
(تقنعت لَكِن بالحبيب المعمم ... وَفَارَقت لَكِن كل عَيْش مذمم)
فهجن هَذَا المطلع وعيب.(2/128)
وَله:
(لَا الْغُصْن يحكيك وَلَا الجؤذر ... حسنك مِمَّا أَكْثرُوا أَكثر)
(يَا باسماً أهْدى لنا ثغره ... عقدا وَلَكِن كُله جَوْهَر)
(قَالَ لي اللاحي أما تستمع ... فَقلت يَا لاحي أما تبصر)
قلت: وَأخذ الحَدِيث عَن السلَفِي، وَاخْتصرَ كتاب الْحَيَوَان للجاحظ وَسَماهُ روح الْحَيَوَان، وَله ديوَان شعر، وديوان موشحات سَمَّاهُ دَار الطّراز ورسائل. وَمَا أحسن قَوْله:
(وَلَو أبْصر النظام جَوْهَر ثغرها ... لما شكّ فِيهَا أَنه الْجَوْهَر الْفَرد)
(وَمن قَالَ أَن الخيزرانة قدها ... فَقولُوا لَهُ إياك أَن يسمع الْقد)
وَله من رِسَالَة فِي نقص النّيل بديعة: وَأما أَمر المَاء فَإِنَّهُ نضبت مشارعه وتقطعت أَصَابِعه وَتيَمّم العمود لصَلَاة الاسْتِسْقَاء، وهم المقياس من الضعْف بالاستلقاء، وَبلغ القَاضِي السعيد عَن أبي المكارم هبة الله بن وَزِير بن مقلد الْكَاتِب الشَّاعِر أَنه هجاه فَأحْضرهُ وأدبه وَشَتمه، فَكتب إِلَيْهِ نشو الْملك أَبُو الْحسن عَليّ بن مفرج المعري الأَصْل، الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة، الْمَعْرُوف بِابْن المنجم الشَّاعِر الْمَشْهُور:
(قل للسعيد أدام الله نعْمَته ... صديقنا ابْن وَزِير كَيفَ تظلمه)
(صفعته إِذْ غَدا يهجوك منتقماً ... فَكيف من بعد هَذَا ظللت تشتمه)
(هجو بهجو وَهَذَا الصفع فِيهِ رَبًّا ... وَالشَّرْع مَا يَقْتَضِيهِ بل يحرمه)
(فَإِن تقل مَا لهجو عِنْده ألم ... فالصفع وَالله أَيْضا لَيْسَ يؤلمه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وسِتمِائَة: فِيهَا فِي الْمحرم عقد الْملك الظَّاهِر على ضيفة خاتون بنت الْعَادِل، وَالصَّدَاق خَمْسُونَ ألف دِينَار، واحتفل الظَّاهِر لملتقاها بالنفائس. وفيهَا: عمر الْعَادِل قلعة الطّور
وفيهَا: حاصر طغرل بك شاه صَاحب أرزن ابْن أَخِيه سُلْطَان الرّوم كيكاوس بسيواس فاستنجد بالأشرف فخاف طغرل بك ورحل عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة عشر وسِتمِائَة: فِيهَا قتل كيكاوس عَمه طغرل بك شاه وَأخذ بِلَاده، وَذبح أَكثر أمرائه، وَقصد أَخِيه عَلَاء الدّين كيقباد فشفعوا فِيهِ فعفى عَنهُ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي بحلب فَارس الدّين مَيْمُون القصري آخر الْأُمَرَاء الصلاحية، ينتسب إِلَى قصر الْخُلَفَاء بِمصْر أَخذه مِنْهُ صَلَاح الدّين.
وفيهَا: ولد للظَّاهِر من ضيفة خاتون بنت الْعَادِل ابْنه الْعَزِيز غياث الدّين مُحَمَّد.
وفيهَا: قتل منكلي من البهلوانية أيدغمش الْغَالِب على مملكة هَمدَان وَالْجِبَال، مَمْلُوك البهلوان أَيْضا هرب مِنْهُ أيدغمش إِلَى الْخَلِيفَة ثمَّ عَاد فَقتله وَملك مَكَانَهُ.(2/129)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي ملك الْمغرب النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وتملكه نَحْو سِتّ عشرَة سنة.
كَانَ أسيل الخد دَائِم الإطراق كثير الصمت للثغة لِسَانه، وَملك بعده ابْنه الْمُسْتَنْصر أَبُو يَعْقُوب يُوسُف.
وفيهَا: وَقيل فِي الَّتِي قبلهَا توفّي عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن خروف النَّحْوِيّ الأندلسي الأشبيلي شرح كتاب سِيبَوَيْهٍ وجمل الزجاجي فأجاد.
قلت: وَتخرج على أبي طَاهِر النَّحْوِيّ الأندلسي، الْمَعْرُوف بالخدر، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عِيسَى بن عبد الْعَزِيز الْجُزُولِيّ بمراكش إِمَام فِي النَّحْو لَهُ فِيهِ مُقَدّمَة القانون أَتَى فِيهَا بالعجائب، واعتنى بهَا فضلاء، وَكلهَا رموز، يعْتَرف أَكثر الْفُضَلَاء بالقصور عَنْهَا، قدم مصر على ابْن بري النَّحْوِيّ، ثمَّ عَاد إِلَى الْمغرب، ونسبته إِلَى جزولة بِضَم الْجِيم بطن من البربر وَتسَمى كزولة أَيْضا، وَشرح مقدمته فأغرب وَأفَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي دلدرم بن ياروق صَاحب تل بَاشر فوليها ابْنه فتح الدّين.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر الْهَرَوِيّ وتربته مَعْرُوفَة بحلب، كَانَ لَهُ يَد فِي الشعبذة والسيمياء والحيل، وَتقدم عِنْد الظَّاهِر وَدَار أَكثر المعمورة.
قلت: وَله كتاب الإشارات فِي معرفَة الزيارات والخطب الهروية، وَبنى تربته على قدر الْكَعْبَة شرفها الله تَعَالَى وَهِي فِي مدرسة بناها لَهُ الظَّاهِر وَقد كتب الشَّيْخ على بَاب كل بَيت مِنْهَا مَا يَلِيق بِهِ حَتَّى كتب على بَاب الميضأة بَيت المَال فِي بَيت المَاء، وَالله أعلم.
وفيهَا: أسرت التركمان ملك الأشكري قَاتل غياث الدّين كيخسرو فَحمل إِلَى ابْنه كيكاوس فبذل فِي نَفسه أَمْوَالًا وَسلم إِلَى كيكاوس قلاعاً وبلاداً لم تَملكهَا الْمُسلمُونَ قطّ.
وفيهَا: عَاد الْعَادِل من الشَّام إِلَى مصر.
وفيهَا: توفّي ركن الدّين عبد السَّلَام بن عبد الْوَهَّاب بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي بِبَغْدَاد، وَكَانَ قد أتهم بالفلسفة فاعتقل ثمَّ شفع فِيهِ وَالِده فَأخْرج وَعَاد إِلَى ولاياته حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي عبد الْعَزِيز بن مَحْمُود بن الأخصر وَله سبع وَثَمَانُونَ سنة من فضلاء الْمُحدثين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا بعث الْكَامِل بن الْعَادِل ابْنه الْملك المسعود يُوسُف الْمَعْرُوف بأقسيس إِلَى الْيمن فِي جَيش فاستولى على الْيمن وظفر بِسُلَيْمَان الَّذِي أطرح زَوجته الَّتِي ملكته وَبعث بِهِ إِلَى مصر فَأجرى لَهُ الْكَامِل مَا يقوم بِهِ إِلَى أَن خرج فَقتل شَهِيدا فِي المنصورة.(2/130)
وفيهَا: توفّي الْأَمِير عَليّ بن الإِمَام النَّاصِر فأحزن أَبَاهُ ورثته الشُّعَرَاء.
وفيهَا: قصدت العساكر من بَغْدَاد وَغَيرهَا منكلي صَاحب هَمدَان وأصبهان والري فَانْهَزَمَ وَقتل فِي ساوه، وَتَوَلَّى بعده أغملش أحد المماليك البهلوانية أَيْضا.
وفيهَا: فِي شعْبَان ملك خوارزم شاه بن تكش غزنة من يلدز الْمُقدم ذكره فهرب يلدز إِلَى لهاوور من الْهِنْد وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ سَار عَن لهاوور ليستولي على بعض الْهِنْد الدَّاخِل تَحت حكم قطب الدّين أيبك خشداشه فاقتتلا فَقتل يلدز، وَكَانَ محسنا إِلَى الرّعية. وفيهَا: توفّي الْوَجِيه الْمُبَارك بن أبي الْأَزْهَر سعيد بن الدهان النَّحْوِيّ الضَّرِير قَرَأَ على ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره، كَانَ حنبلياً فَصَارَ حنفياً ثمَّ شافعياً فَقَالَ فِيهِ أَبُو البركات زيد التكريتي:
(أَلا مبلغ عني الْوَجِيه رِسَالَة ... وَإِن كَانَ لَا تجدي إِلَيْهِ الرسائل)
(تمذهبت للنعمان بعد ابْن حَنْبَل ... وفارقته إِذْ أعوزتك المآكل)
(وَمَا اخْتَرْت رَأْي الشَّافِعِي تديناً ... ولكنما تهوى الَّذِي هُوَ حَاصِل)
(وَعَما قَلِيل أَنْت لَا شكّ صائر ... إِلَى مَالك فافطن لما أَنا قَائِل)
قلت: وَهَذَا غير ابْن الدهان الْمَعْرُوف بالحمصي، فَذَلِك أَبُو الْفرج عبد الله بن أسعد بن عَليّ بن عِيسَى المنعوت بالمهذب بن الدهان الْفَقِيه الشَّاعِر الَّذِي من شعره السائر:
(يضحى يجانبني مجانبة العدا ... ويبيت وَهُوَ إِلَى الصَّباح نديم)
(ويمر بِي يخْشَى الوشاة وَلَفظه ... شتم وملء جفونه تَسْلِيم)
وَتُوفِّي بحمص سنة إِحْدَى وَهُوَ الْأَصَح، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا فِي ثَالِث عشر جمادي الْآخِرَة توفّي الْملك الظَّاهِر غَازِي، وعمره أَربع وَأَرْبَعُونَ سنة وَكسر، وَملكه لحلب من حِين وَهبهَا لَهُ أَبوهُ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة، كَانَ مقدما على سفك الدِّمَاء، ثمَّ أقصر عَنهُ.
وَملك بعده ابْنه الصَّغِير الْملك الْعَزِيز بِعَهْد من أَبِيه وعمره سنتَانِ وَأشهر ودبر أُمُوره شهَاب الدّين طغرل بك الْخَادِم فَأحْسن السياسة، وَكَانَ عمره الصَّالح أَحْمد أخي الْعَزِيز اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وَأوصى الظَّاهِر لَهُ بِالْملكِ بعد الْعَزِيز وَأخرج الظافر المشمر قبل مَوته إِلَى إقطاعه كفر سود، وَعلم الدّين قَيْصر الظَّاهِرِيّ إِلَى حارم نَائِبا.
وفيهَا: توفّي تَاج الدّين زيد بن الْحسن بن زيد الْكِنْدِيّ النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ، وَله الْإِسْنَاد العالي فِي الحَدِيث والفنون، انْتقل إِلَى دمشق وَهُوَ بغدادي المولد والمنشأ.
قلت: كتب إِلَيْهِ أَبُو شُجَاع الدهان الفرضي:
(يَا زيد زادك رَبِّي من مواهبه ... نعمى يقصر عَن إِدْرَاكهَا الأمل)(2/131)
(لَا غير الله حَالا قد حباك بهَا ... مَا دَار بَين النُّحَاة الْحَال وَالْبدل)
(النَّحْو أَنْت أَحَق الْعَالمين بِهِ ... أَلَيْسَ بِاسْمِك فِيهِ يضْرب الْمثل)
وامتدحه الشَّيْخ علم الدّين السخاوي بقوله:
(لم يكن فِي عصر عَمْرو مثله ... وَكَذَا الْكِنْدِيّ فِي آخرعصر)
(فهما زيد وَعَمْرو إِنَّمَا ... بنى النَّحْو على زيد وَعَمْرو)
وَمن شعر أبي الْيمن زيد الْكِنْدِيّ الْمَذْكُور:
(دع المنجم يكبو فِي ضلالته ... إِن ادّعى علم مَا يجْرِي بِهِ الْفلك)
(تفرد الله بِالْعلمِ الْقَدِيم فَلَا ... الْإِنْسَان يشركهُ فِيهِ وَلَا الْملك)
(أعد للرزق من إشراكه شركا ... لبئست الخلتان الشّرك والشرك)
ومولده سنة عشْرين وَخَمْسمِائة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة: والعادل بِمصْر وَقد وصل الفرنج من الْبَحْر إِلَى عكا فِي جمع عَظِيم فجَاء الْعَادِل إِلَى نابلس واندفع قدامهم إِلَى عقبَة أفِيق لكثرتهم فوصلت غارتهم إِلَى نوى من السوَاد وانبثوا فَقتلُوا وغنموا عَظِيما وعادوا إِلَى مرج عكا، والعادل بمرج الصفر، وحصروا الطّور ثمَّ رحلوا عَنهُ وَخرجت السّنة وهم بعكا.
وفيهَا: سَار خوارزم شاه عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن تكش فَملك بِلَاد الْجَبَل وَغَيرهَا.
فَمِنْهَا: ساوه وقزوين وزنجان وأبهر وهمدان وأصبهان وقم وقاشان، وأطاعه أزبك بن البهلوان صَاحب أذربيجان وأران، وخطب لَهُ وَسَار ليدْخل بَغْدَاد فكاد الثَّلج يُهْلِكهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى خُرَاسَان، وَقطع مِنْهَا خطْبَة الإِمَام النَّاصِر سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة، وَكَذَلِكَ قطعت خطْبَة الإِمَام النَّاصِر فِيمَا وَرَاء النَّهر.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة: والعادل بمرج الصفر والفرنج بعكا، ثمَّ سَار الفرنج إِلَى دمياط فَنزل كَامِل بن الْعَادِل من مصر إِلَى قبالتهم مُدَّة أَرْبَعَة أشهر، ثمَّ اجْتمعت عَسَاكِر الشَّام وَغَيرهَا عِنْد الْكَامِل فَأخذ فِي قتال الفرنج ودفعهم عَن دمياط.
وفيهَا: توفّي الْملك القاهر عز الدّين مَسْعُود بن أرسلان شاه بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب الْموصل لثلاث بَقينَ من ربيع الأول وَملكه سبع سِنِين وَتِسْعَة أشهر، وانقرض بِمَوْتِهِ ملكهم، وَله إبنان أكبرهما أرسلان شاه وعمره نَحْو عشر سِنِين، فأوصى بِالْملكِ لَهُ بتدبير مَمْلُوكه بدر الدّين لُؤْلُؤ فَجعل بدر الدّين لُؤْلُؤ السِّكَّة وَالْخطْبَة للمذكور ودبر المملكة أحسن تَدْبِير.
ذكر قصد ملك الرّوم حلب
لما جلس الْعَزِيز وَهُوَ طِفْل فِي مملكه حلب استدعى كيكاوس صَاحب الرّوم الْملك الْأَفْضَل صَاحب سميساط واتفقا أَن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إِلَى الْأَفْضَل ثمَّ يفتح الْبِلَاد.(2/132)
الشرقية الَّتِي بيد الْأَشْرَف بن الْعَادِل ويتسلمها كيكاوس وَسَار إِلَى حلب وَوصل رعبان وَسلمهَا إِلَى الْأَفْضَل فمالت إِلَيْهِ قُلُوب أهل الْبِلَاد لذَلِك ثمَّ فتح تل بَاشر وَبهَا ابْن دلدرم وَأَخذهَا كيكاوس لنَفسِهِ، فَتغير خاطر الْأَفْضَل وَأهل الْبِلَاد لذَلِك، وَوصل الْأَشْرَف بن الْعَادِل إِلَى حلب للدَّفْع عَنْهَا، وَوصل إِلَيْهِ بهَا الْأَمِير مَانع بن جديثة أَمِير الْعَرَب فِي جمع عَظِيم.
وَكَانَ كيكاوس قد تسلم منبج لنَفسِهِ وَنزل الْأَشْرَف بجموعه وَادي بزاعة وَانْقطع بعض عكسره مَعَ مُقَدّمَة عَسْكَر كيكاوس، وانهزمت مُقَدّمَة عَسْكَر كيكاوس وَأسر بَعْضهَا، وَبلغ ذَلِك كيكاوس بمنبج فولى مُنْهَزِمًا، وَتَبعهُ الْأَشْرَف يتخطف أَطْرَافهم، ثمَّ اسْترْجع الْأَشْرَف تل بَاشر ورعبان وَغَيرهمَا، وَتوجه الْأَفْضَل إِلَى سميساط وَلم يطْلب بعْدهَا ملكا، وَعَاد الْأَشْرَف إِلَى حلب وَقد بلغه وَفَاة أَبِيه.
ذكر وَفَاة الْملك الْعَادِل
كَانَ بمرج الصفر وَأرْسل الْعَسْكَر إِلَى ابْنه الْكَامِل بِمصْر، ثمَّ نزل بفالقين عِنْد عقبَة أفِيق، فَمَرض وَتُوفِّي بهَا فِي سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، ومولده سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة فعمره خمس وَسَبْعُونَ، وَملكه لدمشق ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة، ولمصر تسع عشرَة سنة.
كَانَ يقظاً عَاقِلا حَلِيمًا مَاكِرًا صبوراً، واتسع ملكه وَكثر أَوْلَاده وَرَأى فيهم مَا لَا رَآهُ ملك فِي أَوْلَاده، وَقد أَجَاد شرف الدّين بن عنين حَيْثُ يَقُول فِيهِ:
(مَاذَا على طيف الْأَحِبَّة لَو سرى ... وَعَلَيْهِم لَو سامحوني بالكرا)
وَمِنْهَا:
(الْعَادِل الْملك الَّذِي أسماؤه ... فِي كل نَاحيَة تشرف منبرا)
(مَا فِي أبي بكر لمعتقد الْهدى ... شكّ يريب بِأَنَّهُ خير الورى)
(بَين الْمُلُوك الغابرين وَبَينه ... فِي الْفضل مَا بَين الثريا وَالثَّرَى)
(نسخت خلائقه الحميدة مَا أَتَى ... فِي الْكتب عَن كسْرَى الْمُلُوك وقيصرا)
(لَا تسمعن بِحَدِيث ملك غَيره ... يرْوى فَكل الصَّيْد فِي جَوف الفرا)
(وَله الْمُلُوك بِكُل أَرض مِنْهُم ... ملك يجر إِلَى الأعادي عسكرا)
(من كل وضاح الجبين تخاله ... بَدْرًا فَإِن شهد الوغى فغضنفرا)
وَخلف الْعَادِل سِتَّة عشر ابْنا وَمَات وَالْكل غائبون، ثمَّ حضر ابْنه الْمُعظم عِيسَى من نابلس وكتم مَوته وَأَعَادَهُ فِي محفة إِلَى دمشق واحتوى على جواهره وسلاحه وخيله وَغَيرهَا، فِي دمشق أظهر مَوته وَحلف النَّاس وَجلسَ للعزاء وَكتب إِلَى الْمُلُوك بِمَوْتِهِ.
وَكَانَ فِي خزانَة الْعَادِل لما توفّي سَبْعمِائة ألف دِينَار، وَبلغ الْكَامِل موت أَبِيه وَهُوَ فِي قتال الفرنج، فاختلفت العساكر عَلَيْهِ فَتَأَخر عَن مَنْزِلَته وطمعت الفرنج ونهبت بعض الأثقال، وعزم عماد الدّين أَحْمد بن سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب.(2/133)
وَكَانَ مقدما عَظِيما فِي الأكراد الهكارية على خلع الْكَامِل وَاخْتلف الْعَسْكَر حَتَّى عزم الْكَامِل عَن اللحوق بِالْيمن وَبلغ ذَلِك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل فَسَار من الشَّام إِلَيْهِ، وَنفى ابْن المشطوب من الْعَسْكَر إِلَى الشَّام فانتظم أَمر الْكَامِل وقوى الفرنج مضايقة دمياط وَضعف أَهلهَا لفتنة ابْن المشطوب.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن نصر بن هَارُون النَّحْوِيّ الْحلِيّ الملقب بِالْحجَّةِ قَرَأَ على ابْن الخشاب وَغَيره.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد وَقيل أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد العميدي الْحَنَفِيّ السَّمرقَنْدِي الملقب ركن الدّين إِمَام فِي الْخلاف خُصُوصا الجست وطريقته فِيهِ مَشْهُورَة، وَشَرحهَا جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي شمس الدّين أَحْمد بن خَلِيل بن سَعَادَة الْجُوَيْنِيّ الشَّافِعِي قَاضِي دمشق وَبدر الدّين الطَّوِيل المراغي، وللعميدي أَيْضا الْإِرْشَاد واشتغل عَلَيْهِ خلق مِنْهُم نظام الدّين أَحْمد بن مَحْمُود بن أَحْمد الْحَنَفِيّ الحصيري الَّذِي قَتله التتر أول خُرُوجهمْ سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة: والأشراف بِظَاهِر حلب يدبر جندها وأقطاعها، والكامل بِمصْر يُقَاتل الفرنج وهم محدقون بدمياط، وَكتب الْكَامِل متواترة إِلَى إخْوَته بالنجدة لَهُ.
وفيهَا: توفّي نور الدّين أرسلان شاه بن القاهر مَسْعُود بن أرسلان شاه بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وَكَانَ بِهِ قُرُوح، وَلَا يزَال مَرِيضا فَأَقَامَ بدر الدّين بعده أَخَاهُ نَاصِر الدّين مَحْمُود بن القاهر وعمره نَحْو ثَلَاث سِنِين وَهُوَ آخر من خطب لَهُ من بَيتهمْ بالسلطنة وَأَبوهُ آخر من اسْتَقل مِنْهُم بِالْملكِ ثمَّ مَاتَ هَذَا الصَّبِي بعد مُدَّة، واستقل بدر الدّين لُؤْلُؤ بِالْملكِ ومدت مدَّته فِي السَّعَادَة إِلَى أَن توفّي بالموصل بعد أَخذ التتر بَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي صَاحب سنجار قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر فملكها بعده ابْنه عماد الدّين شاهنشاه شهوراً ثمَّ وثب عَلَيْهِ أَخُوهُ مَحْمُود فذبحه وَملك سنجار، ومحمود هَذَا آخر من ملك سنجار مِنْهُم.
وفيهَا: خرب الْمُعظم أسوار الْقُدس، وَكَانَت قد حصنت إِلَى الْغَايَة رأى تغلب الفرنج على دمياط وقوتهم وخشي على الْقُدس، وانتقل من الْقُدس عَالم عَظِيم لما خرب.
وفيهَا: هجم الفرنج دمياط وَقتلُوا وأسروا من بهَا، وَجعلُوا الْجَامِع كَنِيسَة وطمعوا فِي الديار المصرية، فَحِينَئِذٍ بنى الْملك الْكَامِل المنصورة عِنْد مفترق الْبَحْرين الْآخِذ أَحدهمَا إِلَى دمياط، وَالْآخر إِلَى أشمون طناج ونزلها بعساكره.
وفيهَا: كَانَ ظُهُور التتر وفتكهم فِي الْمُسلمين وَلم ينكب الْمُسلمُونَ بأعظم مِمَّا نكبوا فِيهَا، فَمن ذَلِك مُصِيبَة دمياط وَمِنْه ظُهُور التتر وتملكهم فِي الْمدَّة الْقَرِيبَة أَكثر بِلَاد الْإِسْلَام وَسَفك دِمَائِهِمْ، وَسبي حريمهم وذراريهم، ومنذ ظهر الْإِسْلَام مَا فَجعلُوا بِمِثْلِهَا.(2/134)
وفيهَا: خَرجُوا على عَلَاء الدّين مُحَمَّد خوارزم شاه بن تكش، وعبروا نهر سيحون وَمَعَهُمْ ملكهم جنكيز خَان لَعنه الله فاستولى على بخارا رَابِع ذِي الْحجَّة بالأمان، وحاصروا القلعة وملكوا وَقتلُوا كل من بهَا ثمَّ قتلوا أهل الْبَلَد عَن آخِرهم.
وَاعْلَم أَن مملكة الصين متسعة دورها سِتَّة أشهر وانقسمت قَدِيما سِتَّة أَجزَاء كل جُزْء مسيرَة شهر يَتَوَلَّاهُ خَان وَهُوَ بلغتهم الْملك نِيَابَة عَن خَانَهُمْ الْأَعْظَم وَكَانَ خَانَهُمْ الْكَبِير الَّذِي عاصر خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش يُسمى الطرخان ورث الْخَانِية كَابِرًا عَن كَابر بل كَافِرًا عَن كَافِر وَمن عَادَة خَانَهُمْ الْأَعْظَم الْإِقَامَة بطوغاج وَهِي وَاسِطَة الصين، وَكَانَ من زمرتهم فِي عصر الْمَذْكُور شخص يُسمى دوشي خَان أحد خانات الْأَجْزَاء السِّتَّة وَكَانَ متزوجاً عمَّة جنكيز خَان اللعين وقبيلة جنكيزخان اللعين هِيَ الْمَعْرُوفَة بقبيلة التمرجي سكان البراري ومشتاهم يُسمى أرغون وهم المشهورون بَين التّرْك بِالشَّرِّ والغدر لم تَرَ مُلُوك الصين إرخاء عنانهم لفسادهم وطغيانهم، فاتفق أَن دوشي خَان زوج عمَّة جنكيزخان مَاتَ فزار جنكيز خَان عمته معزيا لَهَا، وَكَانَ الخانان المجاوران لعمل دوشي خَان يُسمى أَحدهمَا كشلو خَان وَالْآخر فلَان خَان، وَكَانَا يليان مَا يتاخم أَعمال دوشي خَان المتوفي من الْجِهَتَيْنِ فَأرْسلت امْرَأَة دوشي خَان إِلَى كشلي خَان والخان الآخر ينعي إِلَيْهَا زَوجهَا دوشي خَان وَإنَّهُ لم يخلف ولدا، وَأَنه كَانَ حسن الْجوَار لَهما وَأَن ابْن أَخِيهَا جنكيز خَان إِن أقيم مقَامه، يحذو حَذْو المتوفي فِي معاضدتهما فأجابا إِلَى ذَلِك، وَتَوَلَّى جنكيز خَان مَا كَانَ لدوشي خَان من الْأُمُور بمعاضدة الخانين الْمَذْكُورين فَلَمَّا انهى الْأَمر إِلَى الخان الْأَعْظَم الطرخان أنكر تَوْلِيَة جنكيز خَان واستحقره وَأنكر على الخانين اللَّذين فعلا ذَلِك فخلعوا طَاعَة الطرخان وانضم إِلَيْهِم عَشَائِرهمْ وقاتلوا الطرخان فهزموه وتمكنوا من بِلَاده، ثمَّ صَالحهمْ وأبقوه على بعض بِلَاده واشترك جنكيز خَان والخانان الْآخرَانِ فِي الْأَمر، فَمَاتَ الْوَاحِد واستقل جنكيز خَان وكشلو خَان بِالْأَمر، ثمَّ مَاتَ كشلو خَان وَقَامَ ابْنه وَتسَمى كشلو خَان أَيْضا مقَامه فاستضعفه جنكيز خَان لصغره وأخل بالقواعد الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين أَبِيه ففارقه كشلو خَان لذَلِك وعاداه فَجرد جنكيز خَان جَيْشًا مَعَ وَلَده دوشي خَان وَسَار فقاتل كشلو خَان، فَانْهَزَمَ كشلو خَان وَتَبعهُ دوشي خَان وَقَتله وَعَاد بِرَأْسِهِ إِلَى جنكيز خَان فَانْفَرد جنكيز خَان بالمملكة.
ثمَّ إِن جنكيز خَان راسل خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش فِي الصُّلْح فَلم يَنْتَظِم فَجمع عساكره وَقَاتل خوارزم شاه مُحَمَّد فَانْهَزَمَ خوارزم شاه وَاسْتولى جنكيز خَان على بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر، ثمَّ تبع خوارزم شاه وَهُوَ هارب بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخل بَحر طبرستان ثمَّ استولى جنكيز خَان على الْبِلَاد ثمَّ كَانَ من هَذَا وَهَذَا مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: حلف الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه النَّاس لوَلَده الْملك المظفر مَحْمُود وَجعله ولي عَهده، وجرد مِنْهُ عسكراً والطواشي مرشداً والمنصوري نجدة للكامل بِمصْر فَأكْرمه الْكَامِل وأنزله فِي الميمنة منزلَة أَبِيه وجده فِي الْأَيَّام الناصرية، وَبعد توجه المظفر(2/135)
مَاتَت والدته ملكة خاتون بنت الْملك الْعَادِل، فَلبس الْمَنْصُور الْحداد على زَوجته.
قَالَ ابْن وَاصل: رَأَيْته وَأَنا ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة يَوْمئِذٍ، وَقد لبس ثوبا أَزْرَق، وعمامة زرقاء، وَفِي ذَلِك يَقُول حسام الدّين خشتر بن الجندي الْكرْدِي قصيدة مِنْهَا:
(الطّرف فِي لجة وَالْقلب فِي سعر ... لَهُ دُخان زفير طَار بالشرر)
وَمِنْهَا فِي لبس الْمَنْصُور الْحداد عَلَيْهَا:
(مَا كنت أعلم أَن الشَّمْس قد غربت ... حَتَّى رَأَيْت الدجى ملقى على الْقَمَر)
(لَو كَانَ من مَاتَ يفدى قبلهَا لفدى ... أم المظفر آلَاف من الْبشر)
وفيهَا: توفّي الْملك الْغَالِب عز الدّين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم بالسل، وَملك بعده أَخُوهُ كيقباد وَكَانَ قد حَبسه أَخُوهُ كيكاوس فَأخْرجهُ الْجند وملكوه.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن بن عبد الله العكبري الضَّرِير النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ الحاسب الْحَنْبَلِيّ صحب ابْن الخشاب وَغَيره.
قلت: لقبه محب الدّين، وَتُوفِّي بِبَغْدَاد، ومولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، اشْتهر اسْمه وَبعد صيته وَهُوَ حَيّ شرح إِيضَاح الْفَارِسِي وديوان المتنبي ومقامات الحريري والخطب النباتية ولمع ابْن جني ومفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَله إِعْرَاب الْقُرْآن الْعَظِيم وإعراب الحَدِيث وإعراب شعر الحماسة وَغَيرهَا وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن الْقَاسِم بن عَليّ بن الْحسن الدِّمَشْقِي الْحَافِظ بن الْحَافِظ بن الْحَافِظ الْمَعْرُوف بِابْن عَسَاكِر أَكثر من سَماع الحَدِيث بخراسان وَعَاد إِلَى بَغْدَاد وجرحته الحرامية فِي الطَّرِيق، وَدخل بَغْدَاد جريحاً وَمَات بهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة: ودمياط للفرنج والكامل مرابط بالمنصورة والأشرف فِي حران، وَقد أقطع عماد الدّين أَحْمد بن المشطوب رَأس عين فَجمع ابْن المشطوب جمعا، وَخرج على الْأَشْرَف وَحسن لصَاحب سنجار مَحْمُود بن قطب الدّين الْخُرُوج عَن طَاعَة الْأَشْرَف أَيْضا فحصره بدر الدّين لُؤْلُؤ بتل أعفر، وَأَخذه بالأمان ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَأعلم الْأَشْرَف بِقَبْضِهِ على ابْن المشطوب فسر بذلك وَاسْتمرّ ابْن المشطوب فِي الْحَبْس، ثمَّ سَار الْأَشْرَف فاستولى على دنيسر وَقصد سنجار فَأَتَتْهُ رسل صَاحبهَا مَحْمُود بن قطب ليعطيه الرقة عوض سنجار فَسلم إِلَى الْأَشْرَف الرقة وَسلم إِلَى مَحْمُود الرقة، وَكَانَ ذَلِك لسعادة الْأَشْرَف فَإِن أَبَاهُ الْعَادِل نَازل سنجار بِجمع عَظِيم طَويلا فَمَا ملكهَا وملكها الْأَشْرَف بِأَهْوَن سعي، ثمَّ سَار الْأَشْرَف فوصل الْموصل فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً.
وَكتب إِلَى مظفر الدّين صَاحب إربل ليعيد صهره عماد الدّين زنكي على بدر الدّين لُؤْلُؤ القلاع الَّتِي استولى عَلَيْهَا فَأَعَادَهَا إِلَى الْعمادِيَّة، وَاسْتقر الصُّلْح بَين الْأَشْرَف وَبَين مظفر(2/136)
الدّين كوكبوري صَاحب إربل، وعماد الدّين زنكي بن أرسلان شاه صَاحب الْعقر وسوس والعمادية، وَبدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل ثمَّ عَاد الْأَشْرَف إِلَى سنجار فِي أَوَائِل رَمَضَان وَسلم بدر الدّين لُؤْلُؤ قلعة بلعفر إِلَى الْأَشْرَف، وَنقل الْأَشْرَف ابْن المشطوب مُقَيّدا إِلَى جب فِي حران حَتَّى مَاتَ سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة وَلَقي بغي خُرُوجه مرّة بعد أُخْرَى.
وفيهَا: توفّي الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بقلعة حماه فِي ذِي الْقعدَة بالحمى، وورم الدِّمَاغ وَكَانَ شجاعاً يحب الْعلمَاء، وَورد إِلَيْهِ مِنْهُم جمَاعَة مثل السَّيْف الْآمِدِيّ، وصنف لَهُ مصنفات مثل الْمِضْمَار فِي التَّارِيخ وطبقات الشُّعَرَاء، وَبنى الجسر بحماه خَارج بَاب حمص، وَكَانَ لَهُ بعد أَبِيه حماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم، وَلما فتح بارين من يَد ابْن الْمُقدم ألزمهُ عَمه الْعَادِل بردهَا عَلَيْهِ فَعوضهُ بمنبج وقلعة نجم لقرب بارين مِنْهُ، وَله شعر وَله مَعَ الفرنج حروب رَحمَه الله تَعَالَى.
ذكر اسْتِيلَاء الْملك النَّاصِر على حماه
لما مَاتَ الْمَنْصُور كَانَ ابْنه المظفر الْمَعْهُود إِلَيْهِ بالسلطنة عِنْد خَاله الْكَامِل بالديار المصرية مُقَابل الفرنج وَابْنه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قلج أرسلان عِنْد خَاله الْمُعظم صَاحب دمشق وَهُوَ بالسَّاحل فِي الْجِهَاد. وَقد فتح قيسارية وهدمها، ونازل عثليث، فاتفق بحماه زين الدّين بن فريج الْوَزير والكبراء، واستدعوا النَّاصِر للينه وَشدَّة بَأْس المظفر فَمَنعه الْمُعظم من التَّوَجُّه إِلَّا بتقرير مَال عَلَيْهِ فِي كل سنة قيل سَبْعمِائة ألف دِرْهَم فَحلف لَهُ على ذَلِك وَأطْلقهُ فَقدم حماه فاستحلفه مستدعوه على مَا أَرَادوا وأصعدوه القلعة ثمَّ ركب مِنْهَا بالصناجق السُّلْطَانِيَّة وعمره سبع عشرَة سنة، وَبلغ أَخَاهُ المظفر ذَلِك فَاسْتَأْذن الْملك الْكَامِل فِي الْمُضِيّ إِلَى حماه واثقاً بالأيمان الَّتِي فِي أَعْنَاقهم، فَأذن لَهُ وَسَار حَتَّى وصل الْغَوْر فَوجدَ خَاله الْمُعظم صَاحب دمشق هُنَاكَ فَأخْبرهُ أَن أَخَاهُ الْملك النَّاصِر ملك حماه ويخشى عَلَيْهِ أَن يعتقله، فَقدم دمشق وَأقَام بداره الْمَعْرُوفَة بالزنجيلي، وَكتب الْمُعظم والمظفر إِلَى أكَابِر حماه فِي تَسْلِيمهَا إِلَى المظفر، فَمَا أجابوا، فقصد المظفر مصر فأقطعه الْكَامِل إقطاعاً بِمصْر إِلَى أَن كَانَ مَا سَيذكرُ.
اسْتِيلَاء الْملك المظفر غَازِي بن الْعَادِل على خلاط وميافارقين
كَانَ قد اسْتَقر بيد المظفر الْمَذْكُور الرها وسروج، وَكَانَت خلاط وميافارقين بيد الْأَشْرَف وَلَيْسَ لَهُ ولد فَجعل أَخَاهُ المظفر غازياً ولي عَهده وَأَعْطَاهُ خلاط وميافارقين وبلادها وَهِي إقليم عَظِيم يضاهي ديار مصر، وَأخذ الْأَشْرَف مِنْهُ الرها وسروج.
وفيهَا: توفّي بالموصل شيخ الشُّيُوخ بِمصْر وَالشَّام صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن حموية فَقِيه فَاضل من بَيت كَبِير بخراسان، وَخلف أَرْبَعَة بَنِينَ عرفُوا بأولاد الشَّيْخ تقدمُوا عِنْد الْكَامِل، وَسَنذكر بعض خبرهم، توجه صدر الدّين رَسُولا إِلَى بدر الدّين لُؤْلُؤ فَمَاتَ هُنَاكَ.(2/137)
مسير التتر إِلَى خوارزم شاه وهزيمته وَمَوته
لما ملك التتر سَمَرْقَنْد أرسل جنكيز خَان عشْرين ألف فَارس فِي أثر خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش وَهَذِه الطَّائِفَة تسميها التتر المغربة لِأَنَّهَا سَارَتْ نَحْو غرب خُرَاسَان فوصلوا إِلَى مَوضِع يُسمى بنج آف، وعبروا نهر جيحون وصاروا مَعَ خوارزم شاه فِي بر وَاحِد، وَلم يشْعر خوارزم شاه إِلَّا والتتر مَعَه، فَتفرق عسكره إيدي سبا ورحل خوارزم شاه لَا يلوي على شَيْء فِي نفر من خواصه، وَوصل نيسابور والتتر فِي أَثَره، وَوصل مازندران وهم فِي أَثَره، وَسَار من مازندران إِلَى مرسى من بَحر طبرستان يعرف بأسكون، وَله هُنَاكَ قلعة فِي الْبَحْر، فَعبر هُوَ وَأَصْحَابه إِلَيْهَا، ووقف التتر على سَاحل الْبَحْر وَأَيِسُوا من لحاقه.
ثمَّ توفّي خوارزم شاه بِهَذِهِ القلعة وَهُوَ عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين تكش بن أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين غرشه مُدَّة ملكه إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وشهوراً.
واتسع ملكه من حد الْعرَاق إِلَى تركستان وَبَعض الْهِنْد وبلاد غزنة كلهَا وسجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الْجَبَل وخراسان وَبَعض فَارس وَكَانَ عَالما بالفقه وَالْأُصُول وَغَيرهمَا، صبوراً على التَّعَب وَالسير، وَلما أيس التتر مِنْهُ عَادوا ففتحوا مازندران وَقتلُوا أَهلهَا، ثمَّ فعلوا فِي الرّيّ وهمدان كَذَلِك ثمَّ مراغة فِي صفر سنة ثَمَانِي عشرَة وسِتمِائَة، ثمَّ استولوا على خُرَاسَان، ونازلوا خوارزم وَقَاتلهمْ أَهلهَا مُدَّة أَشد قتال ثمَّ فتحوها.
وَكَانَ لَهَا سد فِي نهر جيحون ففتحوه وغرق المَاء خوارزم وَقتلُوا أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَالْعُلَمَاء والصلحاء والعباد والزهاد، وخربوا الْجَوَامِع، وأحرقوا الْمَصَاحِف وَسبوا الذَّرَارِي، وفعلوا مَا لم يسمع بِمثلِهِ وَلَا قبل الْإِسْلَام، فَإِن بخْتنصر مَا فعل ببني إِسْرَائِيل بعض هَذَا فَإِن كل مَدِينَة من المدن الَّتِي خربوا أوسع من الْقُدس بِكَثِير، وكل أمة قتلوا من الْمُسلمين أَضْعَاف بني إِسْرَائِيل الَّذين قَتلهمْ بخْتنصر.
وَلما فرغ التتر من خُرَاسَان عَادوا إِلَى ملكهم فَجهز جَيْشًا كثيفاً إِلَى غزته وَبهَا جلال الدّين بن عَلَاء الدّين مُحَمَّد خوارزم شاه الْمَذْكُور مَالِكًا لَهَا وَقد اجْتمع إِلَيْهِ جموع من عَسَاكِر أَبِيه قيل سِتُّونَ ألفا، وَكَانَ عدَّة الَّذين سَارُوا إِلَيْهِم من التتر اثْنَي عشر ألفا فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فانهزمت التتر وتبعهم الْمُسلمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ كَيفَ شاؤوا. ثمَّ أرسل جنكيز خَان عسكراً أَكثر من الأول مَعَ بعض أَوْلَاده ووصلوا إِلَى كابل، وقاتلوهم فانهزمت التتر ثَانِيًا وَقتل الْمُسلمُونَ وَمِنْهُم وغنموا شَيْئا كثيرا وَكَانَ فِي عَسْكَر جلال الدّين أَمِير كَبِير مِقْدَام هُوَ الَّذِي كسر التتر اسْمه بغراق فَوَقع بَينه وَبَين أَمِير كَبِير اسْمه ملك خَان صَاحب هراء لَهُ نسب فِي بَيت خوارزم شاه فتْنَة بِسَبَب الْكتب، قتل فِيهَا أَخُو بغراق فَغَضب بغراق وَفَارق جلال الدّين وَسَار إِلَى الْهِنْد وَتَبعهُ ثَلَاثُونَ ألف فَارس، ولحقه جلال الدّين واستعطفه فَلم يرجع فضعف عَسْكَر جلال الدّين لذَلِك.(2/138)
ثمَّ وصل جنكيز خَان بِنَفسِهِ فِي جيوشه فَلم يكن لجلال الدّين بِهِ قدرَة بعد مسير بغراق وجيشه فقصد جلال الدّين الْهِنْد، وَتَبعهُ جنكيز خَان حَتَّى أدْركهُ على نهر السَّنَد وَلم يلْحق جلال الدّين وَمن مَعَه أَن يعبروا النَّهر فاضطروا إِلَى الْقِتَال فقاتلوهم قتالاً لم يسمع بِمثلِهِ، وصبر الْفَرِيقَانِ ثمَّ تَأَخّر كل مِنْهُمَا عَن الآخر فَعبر جلال الدّين النَّهر إِلَى جِهَة الْهِنْد.
وَعَاد جنكيز خَان فاستولى على غزنة قتلا ونهباً، وَكَانَ قد سَار من التتر فرقة عَظِيمَة إِلَى القفجاق فقاتلوهم وهزموهم.
واستولوا على مَدِينَة القفجاق الْعُظْمَى وَتسَمى سوادق، وَكَذَلِكَ فعلوا بِقوم يُقَال لَهُم الكزى بِلَادهمْ قرب دربند شرْوَان، ثمَّ سَار التتر إِلَى الروس، وانضم إِلَى الروس القفجاق، وقاتلوهم قتالا عَظِيما، فانتصر التتر وشردوهم قتلا وهرباً فِي الْبِلَاد.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي رَضِي الدّين الْمُؤَيد بن مُحَمَّد بن عَليّ الطوسي الأَصْل النَّيْسَابُورِي الدَّار الْمُحدث أَعلَى الْمُتَأَخِّرين إِسْنَادًا، سمع مُسلما من الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل الفراوي، الْمُتَوفَّى سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، قَرَأَ الفراوي الْأُصُول على إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَسمع مُسلما على عبد الْغفار الْفَارِسِي الإِمَام فِي الحَدِيث، المتوفي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة، ومولد رَضِي الدّين الْمُؤَيد سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة ظنا.
عود دمياط إِلَى الْمُسلمين
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا تقدم الفرنج إِلَى جِهَة مصر ووصلوا المنصورة وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ برا وبحراً، وَسَار الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل صَاحب دمشق إِلَى أَخِيه الْأَشْرَف ببلاده الشرقية، وَطلب مِنْهُ الْمسير إِلَى أخيهما الْكَامِل فَجمع الْأَشْرَف عساكره واستصحب عَسْكَر حلب واستصحب النَّاصِر صَاحب حماه خَائفًا على حماه الْكَامِل أَن يسلم حماه إِلَى المظفر فَحلف الْأَشْرَف للناصر أَنه لَا يُمكن الْكَامِل مِنْهُ، واستصحب أَيْضا الأمجد صَاحب بعلبك والمجاهد شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه صَاحب حمص، وَسَار الْمُعظم بعسكر دمشق ووصلوا إِلَى الْكَامِل وَهُوَ فِي قتال الفرنج على المنصورة فَركب وتلقاهم وَأكْرمهمْ وقويت نفوس الْمُسلمين، وَضعف الفرنج مِمَّا شاهدوه من كَثْرَة عَسَاكِر الْإِسْلَام وتحملهم.
وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ ورسل الْملك الْكَامِل وَإِخْوَته مترددة إِلَى الفرنج فِي الصُّلْح وبذل لَهُم الْمُسلمُونَ تَسْلِيم الْقُدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وَجَمِيع مَا فَتحه صَلَاح الدّين من السَّاحِل إِلَى الكرك والشوبك على أَن يصالحوا ويسلموا دمياط فَأَبَوا ذَلِك وطلبوا ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار عوضا عَن تخريب سور الْقُدس، وَقَالُوا: لَا بُد من تَسْلِيم الكرك والشوبك، وَبينا الْأَمر مُتَرَدّد فِي الصُّلْح والفرنج ممتنعون إِذْ عبر جمَاعَة من عَسْكَر الْمُسلمين فِي بَحر الْمحلة إِلَى الأَرْض الَّتِي عَلَيْهَا الفرنج من دمياط، فَحَفَرُوا حُفْرَة عَظِيمَة من النّيل فِي قُوَّة زِيَادَته والفرنج لَا خبْرَة لَهُم بِأَمْر النّيل، فَركب المَاء تِلْكَ الأَرْض وَصَارَ(2/139)
حَائِلا بَين الفرنج ودمياط وَانْقطع عَنْهُم المدد والميرة فهلكوا جوعا فطلبوا الْأمان على أَن ينزلُوا عَن جَمِيع مَا بذله الْمُسلمُونَ لَهُم وَعَن دمياط ويعقدوا الصُّلْح، وَكَانَ فيهم نَحْو عشْرين ملكا كبارًا فاختلفت الآراء بَين يَدي الْملك الْكَامِل فيهم، فبعضهم قَالَ: لَا نؤمنهم ونأخذهم ونتسلم بهم مَا بَقِي بِأَيْدِيهِم من السَّاحِل مثل عكا وَغَيرهَا، ثمَّ اتَّفقُوا على أمانهم لطول مُدَّة البيكار، وضجر الْعَسْكَر من ثَلَاث سِنِين وشهور لَهُم فِي الْقِتَال فأجابهم الْعَادِل إِلَى ذَلِك، فَطلب الفرنج رهينة، فَبعث الْكَامِل ابْنه الصَّالح أَيُّوب وعمره خمس عشرَة سنة إِلَى الفرنج، وَحضر رهينة من الفرنج ملك عكا ونائب البابا صَاحب رُومِية الْكُبْرَى، وكندريس، وَغَيرهم من الْمُلُوك، وَذَلِكَ سَابِع رَجَب مِنْهَا.
واستحضر الْكَامِل مُلُوك الفرنج الْمَذْكُورين، وَجلسَ مَجْلِسا عَظِيما ووقف إخْوَته وَأهل بَيته بَين يَدَيْهِ، وتسلم دمياط فِي تَاسِع عشر رَجَب مِنْهَا وَقد حصنها الفرنج إِلَى غَايَة، وولاها السُّلْطَان شُجَاع الدّين جِلْدك مَمْلُوك المظفر تَقِيّ الدّين عمر وَدخل دمياط فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وهنأه الشُّعَرَاء.
ثمَّ توجه إِلَى الْقَاهِرَة وَأذن للملوك فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ، فَتوجه الْأَشْرَف إِلَى الشرق وانتزع الرقة من صَاحبهَا، وَقيل اسْمه عمر بن قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر قَاتل أَخِيه، وَلَقي بغيه لكَونه قتل أَخَاهُ وَأخذ مِنْهُ سنجار كَمَا مر.
ثمَّ أَقَامَ الْأَشْرَف بالرقة وَورد إِلَيْهِ النَّاصِر صَاحب حماه مُدَّة وَعَاد.
وفيهَا: توفّي صَاحب آمد وحصن كيفا الْملك الصَّالح نَاصِر الدّين مَحْمُود بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق بالقولنج، وَقَامَ بعده ابْنه الْملك المسعود الَّذِي أَخذ مِنْهُ الْكَامِل آمد، وَكَانَ قَبِيح السِّيرَة وَقيل توفّي سنة تسع عشرَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة خنق قَتَادَة بن إِدْرِيس الحسني أَمِير مَكَّة وعمره نَحْو تسعين. كَانَ فِي الأول محسناً واتسعت ولَايَته، ثمَّ جدد الْمَظَالِم والمكوس وَصُورَة أمره أَنه كَانَ مَرِيضا، فَأرْسل عسكراً مَعَ أَخِيه وَمَعَ ابْنه الْحسن بن قَتَادَة للاستيلاء على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَوَثَبَ الْحسن بن قَتَادَة على عَمه فَقتله فِي الطَّرِيق وَعَاد إِلَى أَبِيه بِمَكَّة فخنقه.
وَكَانَ لَهُ أَخ نَائِب بقلعة يَنْبع عَن أَبِيه فَاسْتَحْضرهُ وَقَتله أَيْضا، وارتكب من قَتلهمْ أمرا عَظِيما، وَاسْتقر فِي ملك مَكَّة، وَمن شعر قَتَادَة وَقد طلبه أَمِير الْحَاج ليحضر فَامْتنعَ:
(ولي كف ضرغام أصُول ببطشها ... وأشري بهَا بَين الورى وأبيع)
(تظل مُلُوك الأَرْض تلثم ظهرهَا ... وَفِي وَسطهَا للمجدبين ربيع)
(أأجعلها تَحت الرحا ثمَّ أَبْتَغِي ... خلاصاً لَهَا إِنِّي إذاَ لرقيع)
(وَمَا أَنا إِلَّا الْمسك فِي كل بَلْدَة ... يضوع وَأما عنْدكُمْ فيضيع)(2/140)
وفيهَا: توفّي جلال الدّين صَاحب الألموت مقدم الإسماعيلية، وَولي بعده عَلَاء الدّين مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا اسْتَقل بدر الدّين لُؤْلُؤ بِملك الْموصل، وَتُوفِّي الطِّفْل الَّذِي نَصبه وَهُوَ نَاصِر الدّين مَحْمُود بن القاهر مَسْعُود، وَتسَمى لُؤْلُؤ بِالْملكِ الرَّحِيم، وعاضده الْأَشْرَف بن الْعَادِل، وَقلع لُؤْلُؤ الْبَيْت الأتابكي بِالْكُلِّيَّةِ، وَملك الْموصل نيفاً وَأَرْبَعين سنة سوى تحكمه أَيَّام أستاذه أرسلان شاه وَابْنه القاهر.
وفيهَا: سَار الْأَشْرَف وَأقَام عِنْد أَخِيه بِمصْر متنزهاً إِلَى أَن خرجت السّنة.
وفيهَا: فوض الأتابك طغرل بك الْخَادِم مُدبر حلب إِلَى الْملك الصَّالح أَحْمد بن الظَّاهِر أَمر الثغر وبكاس والروج ومعرة نصر بن فَسَار الصَّالح وَاسْتولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: قصد الْمُعظم صَاحب دمشق حماه لِأَن صَاحبهَا النَّاصِر لم يَفِ لَهُ بِمَا الْتَزمهُ من المَال، وَجرى بَينهمَا قتال ثمَّ رَحل الْمُعظم فاستولى عَليّ سلمية وحواصلها، وَولى عَلَيْهَا ثمَّ توجه إِلَى المعرة فَفعل كَذَلِك ثمَّ عَاد فَأَقَامَ بسلمية حَتَّى خرجت هَذِه السّنة على قصد منازلة حماه.
وفيهَا: حج من الْيمن الْملك المسعود يُوسُف أتسز وَهُوَ اسْم تركي، والعامة تسميه أقسيس، ووقف بِعَرَفَة، وَتَقَدَّمت أَعْلَام الْخَلِيفَة النَّاصِر لترفع على الْجَبَل فَمنع المسعود من ذَلِك، وَقدم أَعْلَام أَبِيه الْكَامِل على أَعْلَام الْخَلِيفَة فَلم يقدروا على مَنعه، ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن، وَبلغ الْخَلِيفَة ذَلِك فَأرْسل يعتب على الْكَامِل، فَاعْتَذر فَقبل عذره، وَأقَام الْملك المسعود بِالْيمن يَسِيرا، ثمَّ عَاد ليستولي على مَكَّة فقاتله حسن بن قَتَادَة فانتصر المسعود واستمرت مَكَّة لَهُ وَولي بهَا وَعَاد إِلَى الْيمن.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ يُونُس بن يُوسُف بن مساعد بالقنية من أَعمال دَارا وَقد ناهز السّبْعين، وَكَانَ رجلا صَالحا وَله كرامات.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا رَحل الْمُعظم عَن سلمية بِأَمْر الْملك الْكَامِل صَاحب مصر والأشرف وَهُوَ عِنْد أَخِيه الْكَامِل بِمصْر بعد، وَرجعت المعرة وسلمية للناصر.
ثمَّ اتّفق الْكَامِل والأشرف وسلما سلمية إِلَى أَخِيه المظفر مَحْمُود بن الْملك الْمَنْصُور فَأرْسل المظفر إِلَيْهَا وَهُوَ بِمصْر نَائِبا من جِهَته حسام الدّين أَبَا عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ المزباني، ثمَّ وصل الْأَشْرَف من مصر إِلَى حلب وَمَعَهُ خلعة وصناجق سلطانية من الْكَامِل، وأركب الْملك الْعَزِيز فِي دست السلطنة، وعمره عشر سِنِين، وَأرْسل الْأَشْرَف مِنْهَا عسكراً هدموا قلعة اللاذقية إِلَى الأَرْض.
(شَيْء من أَحْوَال غياث الدّين) : أخي جلال الدّين ابْني خوارزم شاه مُحَمَّد كَانَ لجلال الدّين أَخ يُقَال لَهُ غياث الدّين تيرشاه صَاحب كرمان، فَلَمَّا توجه جلال الدّين إِلَى(2/141)
الْهِنْد حَسْبَمَا مر سنة سبع عشرَة تغلب غياث الدّين على الرّيّ وأصفهان وهمذان وَغَيرهَا من عراق الْعَجم، وَهِي بِلَاد الْجَبَل، فَخرج عَلَيْهِ خَاله طغان طابسني أكبر أمرائه، فاقتتلا فَانْهَزَمَ طغان طابسني وَأقَام غياث الدّين ببلاده منصوراً.
حَادِثَة غَرِيبَة
مَاتَ ملك الكرج فملكوا امْرَأَة بقيت من بَيت الْملك وَأرْسل مغيث الدّين طغرل بك شاه السلجوقي صَاحب أرزن الرّوم يخطبها فَأَبَوا إِلَّا أَن يتنصر فَأمر وَلَده فَسَار إِلَى الكرج فَتَنَصَّرَ وَتَزَوجهَا، وَكَانَت تهوى مَمْلُوكا لَهَا وتكاشر ابْن طغرل بك شاه فَدخل فِي وَقت فَوجدَ الْمَمْلُوك مَعهَا فِي الْفراش فَلم يصبر وَأنكر عَلَيْهَا فاعتقلت زَوجهَا فِي بعض القلاع، ثمَّ أحضرت رجلَيْنِ وَصفا لَهَا بالْحسنِ فَتزوّجت أَحدهمَا ثمَّ فارقته وأحضرت مُسلما من كنجة وهويته وَسَأَلته التنصر لتتزوج بِهِ فَلم يجبها.
وفيهَا: توفّي يُوسُف الْمُسْتَنْصر ملك الْمغرب بن مُحَمَّد النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بعد أَن وَهن ملكه بانهماكه فِي اللَّذَّات وَلم يخلف ولدا فأقيم عَم أَبِيه عبد الْوَاحِد بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن، ولقب المستضيء، وَكَانَ قد صَار فَقِيرا بمراكش، وقاسى الدَّهْر فتنعم فِي المآكل والملابس من غير شرب خمر فَخلع بعد تِسْعَة أشهر وَقتل.
وَملك بعده ابْن أَخِيه عبد الله بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وتلقب بالعادل.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا وصل التتر إِلَى قرب تبريز، وَأَرْسلُوا إِلَى أزبك بن البهلوان يَقُولُونَ لَهُ: إِن كنت فِي طاعتنا فَأرْسل من عنْدك من الخوارزمية إِلَيْنَا، فَقتل بعض الخوارزمية، وَأرْسل البَاقِينَ إِلَيْهِم مَعَ تقدمة فكفوا عَن بِلَاده وَرَجَعُوا إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا: استولى غياث الدّين تيرشاه أَخُو بِلَال الدّين بن خوارزم شاه على غَالب مملكة فَارس من صَاحبهَا الأتابك سعد بن زنكي، وَأقَام غياث الدّين بشيراز كرْسِي مملكة فَارس وَلم يبْق مَعَ الأتابك غير الْحُصُون المنيعة ثمَّ اصطلحا على أَن يكون لهَذَا بعض فَارس، وَلِهَذَا بَعْضهَا.
عصيان المظفر غَازِي بن الْعَادِل على أَخِيه الْأَشْرَف
كَانَ الْأَشْرَف قد أعْطى أَخَاهُ المظفر خلاط وَهِي إقليم أرمينية مملكة عَظِيمَة وَكَانَ بَين الْمُعظم عِيسَى وَبَين أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف وَحْشَة لترحيله عَن سلمية، وَقطع أطماعه عَن حماه، فَحسن الْمُعظم لِأَخِيهِ المظفر صَاحب خلاط الْعِصْيَان على الْأَشْرَف فعصى.
وَكَانَ قد اتّفق مَعَ الْمُعظم والمظفر غَازِي صَاحب إربل مظفر الدّين كوكبوري بن زين(2/142)
الدّين على كجك، وَكَانَ بدر الدّين لُؤْلُؤ منتمياً إِلَى الْأَشْرَف فحصر مظفر الدّين صَاحب إربل صَاحب الْموصل عشرَة أَيَّام فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا ليشتغل الْأَشْرَف عَن قصد أَخِيه بخلاط ثمَّ رَحل عَن الْموصل لحصانتها فَلم يلْتَفت الْأَشْرَف إِلَى محاصرة الْموصل، وَسَار فحصر المظفر فَسلمت إِلَيْهِ مَدِينَة خلاط وانحصر المظفر فِي قلعتها وَنزل لَيْلًا إِلَى أَخِيه الْأَشْرَف معتذراً فَقبل عذره وَعفى عَنهُ وَأمره على ميافارقين واستعاد بَاقِي الْبِلَاد مِنْهُ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة قلت: فِيهَا فِي سَابِع رَجَب توفّي زكي الدّين أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن عبد الْوَاحِد بن رَوَاحَة الْحَمَوِيّ، وَقيل سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، وَهُوَ منشىء المدرستين الرواحيتين، بِدِمَشْق وحلب وَدفن بِدِمَشْق بمقابر الصُّوفِيَّة وَالله أعلم.
وفيهَا: قدم جلال الدّين من الْهِنْد بعد هربه من جنكيز خَان إِلَى كرمان، ثمَّ إِلَى أَصْبَهَان، وَاسْتولى على عراق الْعَجم، ثمَّ سَار وانتزع فَارس من أَخِيه غياث الدّين وأعادها إِلَى صَاحبهَا أتابك سعد وغياث الدّين مُطِيع لِأَخِيهِ جلال الدّين، ثمَّ استولى على خوزستان، وَكَانَت للخليفة النَّاصِر، ثمَّ قدم إِلَى بعقوبا فاستعدت بَغْدَاد للحصار، ونهبت الخوارزمية الْبِلَاد وامتلأوا مَغَانِم، وقوى جلال الدّين وَعَسْكَره الخوارزمية، ثمَّ قَارب إربل فَصَالحه صَاحبهَا مظفر الدّين، ثمَّ سَار فاستولى على تبريز كرْسِي مملكة أذربيجان وهرب صَاحبهَا مظفر الدّين أزبك بن البهلوان بن إيلدكز، وَكَانَ مَشْغُولًا بالشرب فهرب أزبك إِلَى كنجة من بِلَاد أران قريب من برذعة ومتاخمة الكرج.
واستفحل أَمر جلال الدّين بِملك أذربيجان، وَقَاتل الكرج وَهَزَمَهُمْ وتبعهم يقتل فيهم، وَاتفقَ أَنه ثَبت عِنْد قَاضِي تبريز طَلَاق أزبك بن البهلوان بنت السُّلْطَان طغرل بك آخر السلجوقية، فَتَزَوجهَا جلال الدّين، وَفتح عسكره كنجة، وهرب مظفر الدّين أزبك بن مُحَمَّد البهلوان من كنجة إِلَى قلعة هُنَاكَ ثمَّ هلك.
وفيهَا توفّي الْملك الْأَفْضَل: وَله سميساط فَقَط فَجْأَة وعمره سبع وَخَمْسُونَ وَكَانَ فَاضلا عادلاً شَاعِرًا لَكِن قَلِيل الْحَظ. وَفِي ذَلِك يَقُول:
(يَا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل)
(هَا فاختضب بسواد حظي مرّة ... وَلَك الْأمان بِأَنَّهُ لَا ينصل)
وَلما أخذت مِنْهُ دمشق كتب إِلَى صَاحب لَهُ:
(أَي صديق سَأَلت عَنهُ فَفِي ... الذل وَتَحْت الخمول فِي الوطن)
(وَأي ضد سَأَلت حَالَته ... سَمِعت مَا لَا تحبه أُذُنِي)
قلت: قد أذكرني هَذَا قولي:
(قَالَ بعض النَّاس إِنِّي ... فَاضل فِي الْعلم خامل)(2/143)
(وَكَذَا الْفَاضِل مثلي ... عِنْد قسم الرزق فَاضل)
وَقَوْلِي:
(لَا تحرصن على فضل وَلَا أدب ... فقد يضر الْفَتى علم وَتَحْقِيق)
(وَاحْذَرْ تعد من العقال بَينهم ... فَإِن كَانَ قَلِيل الْعقل مَرْزُوق)
(والحظ أَنْفَع من خطّ تزوقه ... فَمَا يُفِيد قَلِيل الْحَظ تزويق)
(وَالْعلم يحْسب من رزق الْفَتى وَله ... بِكُل متسع فِي الْفضل تضييق)
(أهل الْفَضَائِل والآداب قد كسدوا ... والجاهلون فقد قَامَت لَهُم سوق)
(وَالنَّاس أَعدَاء من سَارَتْ فضائله ... فَإِن تعمق قَالُوا عَنهُ زنديق)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الإِمَام النَّاصِر لدين الله وخلافته سبع وَأَرْبَعُونَ سنة، وَعمي فِي آخر عمره، وَمَات بالدوسنطارية وعمره نَحْو سبعين سنة، وَكَانَ يتشيع وهمته إِلَى البندق والطيور والفتوة، وَقيل أَنه هُوَ الَّذِي كَاتب التتر ليشتغل بهم خوارزم شاه عَن الْعرَاق.
" وبويع ابْنه الظَّاهِر " بِأَمْر الله أَبُو نصر مُحَمَّد وَهُوَ الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم وَعدل وأزال المكوس وَأطلق الحبوس وَظهر للنَّاس بِخِلَاف أَبِيه، وَلم تطل مدَّته غير تِسْعَة اشهر.
قلت: كَانَ جميل الصُّورَة أَبيض بحمرة شَدِيد القوى فِيهِ دين وعقل قيل لَهُ أَلا تتفسح وتتنزه فَقَالَ من فتح بعد الْعَصْر أيش يكْسب، وَكَانَ يَقُول الْجمع شغل النجار أَنْتُم إِلَى إِمَام فعال أحْوج مِنْكُم إِلَى إِمَام قَوَّال اتركوني افْعَل الْخَيْر فكم بقيت أعيش، وَقد فرق لَيْلَة الْعِيد فِي الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ مائَة ألف دِينَار، قَالَ ابْن الْأَثِير: لقد أظهر من الْعدْل وَالْإِحْسَان مَا أَحْيَا بِهِ سنة العمرين، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا نَازل الْمُعظم عِيسَى صَاحب دمشق حمص، ثمَّ رَحل عَنْهَا لِكَثْرَة موت الْخَيل، وَورد عَلَيْهِ الْأَشْرَف أَخُوهُ من الشرق طَالبا للصلح فَأكْرمه ظَاهرا وأسره بَاطِنا، وَأقَام عِنْده حَتَّى انْقَضتْ هَذِه السّنة.
وفيهَا: فتح السُّلْطَان جلال الدّين تفليس من الكرج ونازل خلاط فطال الْقِتَال وَبهَا نَائِب الْأَشْرَف الْحَاجِب حسام الدّين على الْموصل وَذَلِكَ فِي عشْرين ذِي الْعقْدَة ورحل عَنْهَا لسبع بَقينَ من ذِي الْحجَّة لِكَثْرَة الثَّلج.
وفيهَا: فِي رَابِع عشر رَجَب توفّي الْخَلِيفَة الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله كَانَ أَبوهُ شِيعِيًّا وَكَانَ هُوَ سنياً، كَانَ أَبوهُ جماعاً وَكَانَ هُوَ باذلاً، كَانَ أَبوهُ طَوِيل الْمدَّة وَكَانَ هُوَ قصير الْمدَّة، كَانَ لِأَبِيهِ صنجة زَائِدَة لقبض المَال فَخرج توقيع الظَّاهِر بإبطالها وأوله: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون} .
" وَتَوَلَّى الْخلَافَة بعده ابْنه الْأَكْبَر الْمُسْتَنْصر بِاللَّه " أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَهُوَ السَّادِس(2/144)
وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم، فَعدل وَأحسن كأبيه، وَكَانَ لَهُ أَخ شُجَاع عَاشَ حَتَّى قَتله التتر بَغْدَاد.
قلت: وفيهَا مَاتَ إِمَام الدّين عبد الْكَرِيم مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ الْقزْوِينِي مُصَنف الشَّرْح الْكَبِير وَالصَّغِير على الْوَجِيز وَالْمُحَرر ومصنف التذنيب على الشرحين، وَكَانَ مَعَ براعته فِي الْعُلُوم صَالحا زاهداً ذَا أَحْوَال وكرامات وعَلى شَرحه الْكَبِير الْيَوْم اعْتِمَاد الْمُفْتِينَ والحكام فِي الدُّنْيَا.
وفيهَا: فتح عَسْكَر عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم حصن مَنْصُور وحصن الكخنا وَكَانَا لصَاحب آمد.
وفيهَا: فِي نصف ذِي الْحجَّة نَازل جلال الدّين خلاط وَهِي للأشرف، وَبهَا نَائِبه الْحَاجة الْمَذْكُور منازلته الثَّانِيَة وأدركه الْبرد فَرَحل عَنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة: والأشرف كالأسير مَعَ الْمُعظم أَخِيه، ثمَّ حلف للمعظم أَن يعاضده على أخيهما الْكَامِل وعَلى صَاحِبي حماه وحمص فَأَطْلقهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَة بعد عشر أشهر، فَلَمَّا اسْتَقر الْأَشْرَف فِي بِلَاده تَأَول أيمانه الَّتِي حَلفهَا للمعظم بِأَنَّهَا يَمِين مكره، هَذَا والمعظم مُوَافق لجلال الدّين خوارزم شاه على حَرْب أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف، وَلما تحقق الْكَامِل اعتضاد أَخِيه الْمُعظم لجلال الدّين خَافَ من ذَلِك، وَكتب إِلَى الإينروز ملك الفرنج أَن يقدم إِلَى عكا ليشغل الْمُعظم عَمَّا هُوَ فِيهِ، ووعده بالقدس، فَسَار الاينروز إِلَى عكا، وَبلغ ذَلِك الْمُعظم، فكاتب الْأَشْرَف واستعطفه.
وفيهَا: انتزع الأتابك طغرل بك الشغر وبكاس من الصَّالح أَحْمد بن الظَّاهِر وعوضه عَنْهَا بعينتاب والراوندان.
وفيهَا: سَار الْحَاجِب حسام الدّين عَليّ نَائِب الْأَشْرَف بخلاط بعساكر الْأَشْرَف إِلَى بِلَاد جلال الدّين وَاسْتولى على خوي وسلماس ونقجوان.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بقلعة دمشق بالدوسنطاريا، وعمره تسع وَأَرْبَعُونَ، وَملكه دمشق تسع سِنِين وشهور.
وَكَانَ شجاعاً قَلِيل التَّكَلُّف يركب بِلَا صناجق غَالِبا بكلوته صفراء بِلَا شاش، ويخترق الْأَسْوَاق بِلَا مطرق بَين يَدَيْهِ حَتَّى صَار من فعل أمرا بِلَا تكلّف يُقَال فعله بالمعظمي.
وَعرف النَّحْو على الْكِنْدِيّ، وَالْفِقْه، على جمال الدّين الخضيري، وَكَانَ حنفياً متعصباً لمذهبه، وَكَانَ أهل بَيته شافعية سواهُ، وَولي بعده ابْنه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد ودبر ملكه عز الدّين أيبك المعظمي، وَكَانَ لأيبك صرخد وأعمالها.(2/145)
وَفَاة ملك الْمغرب وَمَا كَانَ بعده
فِيهَا خلع الْعَادِل عبد الله بن يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَفِي أَيَّامه كَانَت الْوَقْعَة مَعَ الفرنج الَّتِي هدت قَوَاعِد الْإِسْلَام بالأندلس، وَبعد خلعه خنق وَنهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه.
وَملك بعده يحيى بن مُحَمَّد النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن عبد الْمُؤمن وَمَا خطّ عذاره، فَبلغ يحيى أَن إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور أَخا الْعَادِل عبد الله أَقَامَ بأشبيلية وتلقب بالمأمون، فثارت جمَاعَة من مراكش وانضم إِلَيْهِم الْعَرَب ووثبوا على يحيى بن النَّاصِر فهرب إِلَى الْجَبَل ثمَّ قتل.
وخطب لِلْمَأْمُونِ إِدْرِيس بمراكش وَاسْتقر فِي الْخلَافَة ببر الأندلس وبر العدوة ثمَّ خرج عَلَيْهِ بشرق الأندلس المتَوَكل بن هود، وَاسْتولى على الأندلس فَسَار إِدْرِيس من أشبيلية وَعبر الْبَحْر إِلَى مراكش، وَخرجت الأندلس حِينَئِذٍ عَن بني عبد الْمُؤمن.
ثمَّ تتبع إِدْرِيس الخارجين على من تقدمه، فسفك دِمَاءَهُمْ حَتَّى سمي حجاج الْمغرب.
وَكَانَ أصولياً فروعياً ناظماً ناثراً، عمل رِسَالَة طَوِيلَة أفْصح فِيهَا بتكذيب مهديهم ابْن تومرت وضلاله وَأسْقط اسْمه من على المنابر.
ثمَّ ثار على إِدْرِيس أَخُوهُ بسبته فَسَار وحصره بهَا ثمَّ بلغه أَن بعض أَوْلَاد النصار بن يَعْقُوب الْمَنْصُور دخل مراكش فَرَحل إِلَى مراكش فَمَاتَ إِدْرِيس بَين سبتة ومراكش. وَملك بعده ابْنه عبد الْوَاحِد وتلقب بالرشيد، ثمَّ توفّي غريقاً فِي صهريج بستانه بِحَضْرَة مراكش سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة، وَكَانَ قد أعَاد اسْم الْمهْدي.
وَملك بعده أَخُوهُ عَليّ بن إِدْرِيس وتلقب بالمعتضد، وَكَانَ أسود مدحوضاً عِنْد أَبِيه سجنه وقتا وَقدم عَلَيْهِ أَخَاهُ الصَّغِير عبد الْوَاحِد وَاسْتمرّ المعتضد إِلَى أَن قتل فِي صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وَملك بعده أَبُو حَفْص عمر بن أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف فِي ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وتلقب بالمرتضى فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَدخل الواثق أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس الْمَعْرُوف بِأبي دبوس مراكش وهرب المرتضى إِلَى أزمور من نواحي مراكش، فَقبض وَقتل فِي الْعشْر الآخر من ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فِي مَوضِع يُسمى كتامة عَن مراكش ثَلَاثَة أَيَّام، وَأقَام أَبُو دبوس ثَلَاث سِنِين، وَقتل فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فِي الحروب بَينه وَبَين مُلُوك تلمسان بني مرين.
وانقرضت دولة بني عبد الْمُؤمن وَاسْتولى بَنو مرين على ملكهم وَاخْتلف فِي أبي دبوس فَقيل هُوَ إِدْرِيس نَفسه بن عبد الله بن يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن، وَقيل هُوَ ابْن إِدْرِيس الْمَأْمُون.(2/146)
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا عاود التتر بِلَاد جلال الدّين خوارزم شاه وَجَرت بَينهم حروب ظفر التتر فِي أَكْثَرهَا.
وفيهَا: قدم الإمبراطور فردريك إِلَى عكا بجموعه أرسل الْكَامِل فَخر الدّين بن الشَّيْخ يستدعيه إِلَى الشَّام بِسَبَب أَخِيه الْمُعظم فوصل وَقد مَاتَ الْمُعظم فنشب بِهِ الْكَامِل، وَاسْتولى على صيدا وَكَانَت مُنَاصَفَة، وَعمر سورها الخراب وَمعنى الإمبراطور بالفرنجية ملك الْأُمَرَاء
وَكَانَ صَاحب جَزِيرَة صقلية وَمن الْبر الطَّوِيل بِلَاد انبولية والأنبردية، وَكَانَ إفرنجياً فَاضلا محباً للحكمة والمنطق مائلاً إِلَى الْمُسلمين لِأَن منشأه بِجَزِيرَة صقلية وغالبها مُسلمُونَ.
وجاءه القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل رَسُولا من الْملك الظَّاهِر بيبرس وَرَأى تِلْكَ الْبِلَاد، وَمَا زَالَت الرُّسُل بَين الْكَامِل والإمبراطور حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: بعد فرَاغ جلال الدّين من التتر نهب بِلَاد خلاط وَقتل وَخرب.
وفيهَا: خَافَ غياث الدّين تير شاه أَخَاهُ جلال الدّين ففارقه إِلَى الإسماعيلية.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا بلغ النَّاصِر دَاوُد وَهُوَ مُقيم بنابلس اتِّفَاق أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف على أَخذ دمشق مِنْهُ، وَكَانَ قد أخرجه الْأَشْرَف إِلَى نابلس ليشفع فِيهِ عِنْد الْكَامِل، فَرَحل النَّاصِر دَاوُد إِلَى دمشق وَكَانَ قد لحقه عَمه الْأَشْرَف بالغور ووصاه بِطَاعَة الْكَامِل فَلم يلْتَفت النَّاصِر دَاوُد إِلَى ذَلِك، وَسَار الْأَشْرَف فِي أَثَره وحصره بِدِمَشْق والكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، وَلما لم يجد الْكَامِل بدا من المهادنة سلم الْقُدس إِلَى الإمبراطور على أَن يسْتَمر سوره خراباً، وَلَا يتَعَرَّض إِلَى قبَّة الصَّخْرَة وَلَا الْجَامِع الْأَقْصَى وَيكون الْحَاكِم فِي الرساتيق إِلَى وَالِي الْمُسلمين، وَتَكون لَهُم الْقرى على الطَّرِيق من عكا إِلَى الْقُدس فَقَط.
فَأخذ النَّاصِر دَاوُد وَهُوَ بِدِمَشْق محصوراً فِي التشنيع على عَمه بذلك وَكَانَ بِدِمَشْق شمس الدّين يُوسُف سبط أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَكَانَ واعظاً وَله قبُول فَأمره النَّاصِر فَعمل مجْلِس وعظ ذكر فِيهِ فضل بَيت الْمُقَدّس ومصيبة الْمُسلمين بِتَسْلِيمِهِ إِلَى الفرنج.
وَأنْشد قصيدة دعبل الْخُزَاعِيّ مِنْهَا:
(مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة ... ومنزل وَحي مقفر العرصات)
فارتفع بكاء النَّاس وضجيجهم، وَسلم الْكَامِل الْقُدس إِلَى الفرنج وَسَار إِلَى دمشق يحاصر ابْن أَخِيه فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا، وَاشْتَدَّ الْحصار على دمشق وَوصل رَسُول الْملك الْعَزِيز صَاحب حلب يخْطب بنت الْكَامِل فَزَوجهُ ابْنَته فَاطِمَة خاتون من السَّوْدَاء أم وَلَده أبي بكر الْعَادِل بن الْكَامِل.(2/147)
ثمَّ استولى الْكَامِل على دمشق وَعوض النَّاصِر دَاوُد عَنْهَا بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وَأخذ الْكَامِل لنَفسِهِ الْبِلَاد الشرقية الَّتِي عينت للناصر وَهِي حران والرها وَغَيرهمَا الَّتِي كَانَت بيد الْأَشْرَف، وَأَعْطَاهُ دمشق.
وفيهَا: توفّي الْملك المسعود بن الْكَامِل بن الْعَادِل الْمَعْرُوف بأقسيس صَاحب الْيمن مرض بهَا، وَسَار إِلَى مَكَّة وَهِي لَهُ، فَمَاتَ وَدفن بالمعلاة وعمره سِتّ وَعِشْرُونَ سنة، وَملكه أَربع عشرَة سنة، وَبلغ ذَلِك أَبَاهُ وَهُوَ محاصر دمشق فَجَلَسَ للعزاء وَترك المسعود ابْنا صَغِيرا اسْمه يُوسُف بَقِي حَتَّى مَاتَ فِي سلطنة عَمه الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر وَترك ابْنه مُوسَى ولقب بالأشرف وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهُ التّرْك فِي ملك مصر بعد قتل الْمُعظم بن الصَّالح بن الْكَامِل كَمَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: أرسل الْأَشْرَف مَمْلُوكه الْأَمِير عز الدّين أيبك الأشرفي إِلَى خلاط فَقبض على عَليّ الْحَاجِب على الْموصل وَقَتله، وَهَذَا الْحَاجِب حسام الدّين عَليّ بنى الخان الَّذِي بَين حران ونصيبين والخان الَّذِي بَين حمص ودمشق الْمَعْرُوف بخان بربخ الْعَطش وهرب للحاجب مَمْلُوك لما قتل وَلحق بِجلَال الدّين فَلَمَّا ملك جلال الدّين خلاط سلم أَبِيك إِلَيْهِ فَقتله بأستاذه.
ذكر ملك المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد لحماه
وَلما سلم الْكَامِل دمشق إِلَى الْأَشْرَف أَخِيه قدم إِلَى سلمية، ونازل عسكره حماه وَبهَا الْملك النَّاصِر قلج أرسلان فَأرْسل النَّاصِر يَقُول لشيركوه وَهُوَ على حماه أَيْضا: إِنِّي أُرِيد أَن أخرج إِلَيْك بِاللَّيْلِ لتحضرني عِنْد السُّلْطَان الْملك الْكَامِل وَخرج إِلَى شيركوه فِي رَمَضَان مِنْهَا فَمضى بِهِ إِلَى الْكَامِل سلمية فشتمه وَأمر باعتقاله وأسره، فَكتب النَّاصِر علامته إِلَى نوابه بحماه ليسلموها إِلَى عَسْكَر الْكَامِل، فَامْتنعَ من ذَلِك الطواشيان مُرْسل وَبشير المنصوريان.
وَكَانَ الْمعز أَخُو النَّاصِر الْمَذْكُورَة بقلعة حماه فملكوه وَقَالُوا: لَا نسلم حماه لغير أَوْلَاد تَقِيّ الدّين، فَأرْسل الْكَامِل يَقُول للمظفر بن الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه اتّفق مَعَ غلْمَان أيبك وتسلم حماه فراسلهم المظفر فحلفوه لَهُم وحلفوا لَهُ وواعدوه أَن يحضر بجماعته خَاصَّة وَقت السحر، فَفعل ففتحوا لَهُ بَاب النَّصْر فَدخل المظفر وَمضى إِلَى دَار الْوَزير الْمَعْرُوفَة بدار الأكرم دَاخل بَاب المغار وَهِي الْآن مدرسة تعرف بالخاتونية وقفتها مؤنسة خاتون بنت الْملك المظفر الْمَذْكُور، وهنىء بِالْملكِ وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر رَمَضَان مِنْهَا، وَمُدَّة النَّاصِر قلج أرسلان بحماه نَحْو تسع سِنِين وَصعد المظفر فِي الثَّالِث إِلَى القلعة وعمره يَوْمئِذٍ نَحْو سبع وَعشْرين سنة، وَأَخُوهُ النَّاصِر أَصْغَر مِنْهُ بِسنة، وفوض المظفر أَمر حماه إِلَى سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ الميزباني، وَكَانَ يَقُول لَهُ: أشتهي أَن أَرَاك صَاحب حماه وأكون بِعَين وَاحِدَة فأصيبت عينه عَليّ حِصَار حماة فحظى عِنْد المظفر لذَلِك ولحسن(2/148)
تَدْبيره، ثمَّ أنتزع الْكَامِل مِنْهُ سلمية لشيركوه صَاحب حمص حَسْبَمَا وَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق من قبل.
ثمَّ أعْطى المظفر أَخَاهُ النَّاصِر بارين وقلعتها بِأَمْر الْعَادِل، وَاقْتصر المظفر على حماه والمعرة.
وَفِيه يَقُول الشَّيْخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد المحسن الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي:
(تناهى إِلَيْك الْمجد وَاشْتَدَّ كَاهِله ... وَحل بك الراجي فحطت رواحله)
(ترحلت عَن مصر فأمحل ربعهَا ... وَلما حللت الشَّام روض مَا حلّه)
(وعزت حماه فِي حمى أَنْت ليثه ... بصولته يحمى كُلَيْب ووائله)
(وَقد طَال مَا ظلت بتدبير أهوج ... يُجيب مرجيه وَيحرم سائله)
ثمَّ أَن الْكَامِل رَحل عَن سلمية إِلَى الْبِلَاد الشرقية فَنظر فِي مصالحها فَلحقه المظفر من حماه وَهُوَ بالشرق.
وَعقد لَهُ الْكَامِل هُنَاكَ على ابْنَته غزته خاتون شَقِيقَة الْملك المسعود صَاحب الْيمن وَالِدَة الْمَنْصُور صَاحب حماه، وأخيه الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ ابْني المظفر مَحْمُود.
ثمَّ عَاد الْملك إِلَى حماه، وَكَانَ صَاحبه الزكي القوصي أنْشدهُ بِمصْر متمنياً لَهُ ملك حماه وَبنت خَاله الْملك الْكَامِل:
(مَتى أَرَاك كَمَا أَهْوى وَأَنت وَمن ... تهوى كأنكما روحان فِي بدن)
(هُنَاكَ أنْشد والأقدار مصغية ... هنيت بِالْملكِ والأحباب والوطن)
فَقَالَ الْملك المظفر: إِن صَار ذَلِك يَا زكي أَعطيتك ألف دِينَار مصرية، وَلما ملك حماه أعطَاهُ مَا وعده بِهِ، ثمَّ لما قرر الْكَامِل الْبِلَاد الشرقية عَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: أرسل الْملك الْأَشْرَف أَخَاهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل وَهُوَ صَاحب بصرى بعسكر فنازل بعلبك وَبهَا صَاحبهَا الأمجد بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وَاسْتمرّ الْحصار عَلَيْهِ.
وفيهَا: حاصر جلال الدّين ملك الخوارزمية خلاط، وَبهَا أيبك نَائِب الْأَشْرَف إِلَى أَن خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا شرع شيركوه صَاحب حمص فِي عمَارَة قلعة شميميس بِإِذن الْكَامِل على كره من المظفر صَاحب حماه.
وفيهَا: سلم الأمجد بعلبك إِلَى الْأَشْرَف لطول الْحصار، وعوضه بالزبداني وقصير دمشق شمالها وَغَيره، فَتوجه الْأَشْرَف إِلَى دَاره دَاخل بَاب النَّصْر بِدِمَشْق وَهِي الْيَوْم دَار السَّعَادَة.(2/149)
ثمَّ إِن الأمجد حبس مَمْلُوكا لَهُ فِي مرقد عِنْده بهَا وَلعب بالنرد قُدَّام المرقد فَفتح الْمَمْلُوك الْبَاب وَضرب أستاذه بِسيف فَقتله ثمَّ ألْقى نَفسه من سطحها فَمَاتَ، وَدفن الأمجد بمدرسة وَالِده عَليّ الشّرف ملك بعلبك تِسْعَة وَأَرْبَعين سنة، والأمجد أشعر بني أَيُّوب وشعره مَشْهُور.
وفيهَا: بعد طول المحاصرة هجم جلال الدّين خلاط بِالسَّيْفِ، وَفعل أَفعَال التتر قتلا واسترقاقاً ونهباً، ثمَّ قبض على نائبها أيبك، وَقتل حَسْبَمَا تقدم.
كسرة جلال الدّين
وَبعد كائنة خلاط اتّفق كيقباد بن كينحسرو صَاحب الرّوم والأشرف بن الْعَادِل واجتمعا بسيواس وَسَار إِلَى جِهَة خلاط والتقى الْجَمْعَانِ فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا فَانْهَزَمَ جلال الدّين والخوارزمية وَهلك غالبهم قتلا وتردياً من جبال فِي طريقهم.
وقويت التتر بعْدهَا على جلال الدّين، وارتجع الْأَشْرَف خلاط خراباً، ثمَّ تحالف الْأَشْرَف وكيقباد وتصالحا على مَا بأيديهما.
وفيهَا: استولى الْملك المظفر غَازِي بن الْعَادِل على ارزن من ديار بكر غير ارزن الرّوم من صَاحبهَا حسام الدّين من بَيت قديم فِي الْملك يعْرفُونَ بِبَيْت الأحدب، وَهِي لَهُم من أَيَّام ملكشاه السلجوقي وعوضه بحاني.
وفيهَا: جمع الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماه فكسرهم المظفر صَاحبهَا عِنْد قَرْيَة أفيون بَين حماه وبارين وَعَاد المظفر مظفراً.
وفيهَا: ولد الْملك النَّاصِر يُوسُف بن الْملك الْعَزِيز صَاحب حلب.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا عَادَتْ التتر فسفكت فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَخَربَتْ مَعَ ضعف جلال الدّين لسوء سيرته، وَلم يتْرك لَهُ من مُلُوك الْأَطْرَاف صديقا، وَفَسَد عقله بِمَوْت مَمْلُوك يُحِبهُ، واستصحب الْمَمْلُوك مَيتا وَكَانَ يُرْسل لَهُ الطَّعَام وَلَا يتجاسر أحد أَن يتَكَلَّم لَهُ بِمَوْتِهِ، فَخرج بعض الْأُمَرَاء عَن طَاعَته فضعف أمره لذَلِك، ولكسرته من الْملك الْأَشْرَف، فتمكنت التتر من الْبِلَاد واستولوا على مراغة ثَانِيًا.
فَسَار جلال الدّين يُرِيد الْخَلِيفَة وملوك الْأَطْرَاف ليعضدوه على التتر ويخوفهم عَاقِبَة أَمرهم، فَلم يشْعر وَهُوَ بِالْقربِ من آمد إِلَّا وَقد كبسوه لَيْلًا وخالطوا مخيمه فهرب جلال الدّين وَقتل كَمَا سَيَأْتِي، فتمكنت التتر وَسَاقُوا حَتَّى وصلوا فِي هَذِه السّنة إِلَى الْفُرَات، واضطرب الشَّام، وشنوا الغارات فِي ديار بكر قتلا وتخريباً.
تَلْخِيص من تَارِيخ جلال الدّين
لشهاب الدّين مُحَمَّد المنشي النسوي، وَكَانَ النسوي مَعَ جلال الدّين إِلَى أَن كبسه التتر وَذَلِكَ أَن خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش اتَّسع ملكه وَقسم الْبِلَاد بَين أَوْلَاده الْأَرْبَعَة،(2/150)
أكبرهم جلال الدّين منكبري ملكه غزنة وباميان والغور وبست وبكيا باد وزوز ميرداور وَمَا يَليهَا من الْهِنْد.
وَملك قطب الدّين أزلاغ شاه خوارزم وخراسان ومازندران وَجعله ولي عَهده، ثمَّ عَزله عَن ولَايَة الْعَهْد وفوضها إِلَى جلال الدّين.
وَملك غياث الدّين تيرشاه كرمان وكيش ومكران، وَملك ركن الدّين غورشاه تختي الْعرَاق.
وَكَانَ أحْسنهم خلقا وخلقاً، قَتله التتر بعد موت أَبِيه، وَضرب لكل مِنْهُم النوب الْخمس فِي أَوْقَات الصَّلَاة على عَادَة السلجوقية.
وَانْفَرَدَ الشَّيْخ بنوبة ذِي القرنين تضرب وَقت طُلُوع الشَّمْس وغروبها، وَكَانَت سبعا وَعشْرين دبدابة من الذَّهَب مرصعة بأنواع الْجَوَاهِر وَكَذَلِكَ بَاقِي آلَات النوبتية، وَجعل سَبْعَة وَعشْرين ملكا يضربونها فِي أول يَوْم فرغت من أكَابِر الْمُلُوك أَوْلَاد السلاطين مِنْهُم ابْن طغرل بك وأرسلان السلجوقي وَأَوْلَاد غياث الدّين صَاحب الْغَوْر وَالْملك عَلَاء الدّين صَاحب باميان وَالْملك تَاج الدّين صَاحب بَلخ وَابْنه الْملك الْأَعْظَم صَاحب ترمذ، وَالْملك سنجر صَاحب بخارا وأشباههم، وَأم خوارزم شاه مُحَمَّد ترْكَان خاتون من قَبيلَة بياروت من فروع تمك بنت ملك مِنْهُم تزَوجهَا تكش بن أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين غرشه فَلَمَّا صَار الْملك إِلَى وَلَده مُحَمَّد بن تكش قدم إِلَى والدته ترْكَان خاتون قبائل تمك من التّرْك فَعظم شَأْن ابْنهَا السُّلْطَان مُحَمَّد بهم، وتحكمت هِيَ بسببهم، فلهَا فِي كل إقليم نَاحيَة جليلة.
وَكَانَ لَهَا رَأْي وهيبة، تنتصف للمظلوم، جسورة على الْقَتْل يقدم من توقيعها وتوقيع ابْنهَا أحدثهما تَارِيخا وطغرى تواقيعها (عصمَة الدُّنْيَا وَالدّين الغ ترْكَان ملكة نسَاء الْعَالمين) وعلامتها اعتصمت بِاللَّه وَحده تجودها بقلم غليظ، ثمَّ لما هرب خوارزم شاه مُحَمَّد من التتر بِمَا وَرَاء النَّهر عبر جيحون، ثمَّ سَار إِلَى خُرَاسَان والتتر تتبعه، وَوصل إِلَى عراق الْعَجم، وَنزل عِنْد بسطَام وأحضر عشرَة صناديق جَوَاهِر، وَقَالَ عَن صندوقين مِنْهَا إِن بهما جَوَاهِر تَسَاوِي خراج الأَرْض بجملتها، وَحملهَا إِلَى قلعة أردهن هِيَ أحصن قلاع الأَرْض، وَأخذ خطّ النَّائِب بهَا بوصولها مختومة، فَلَمَّا استولى جنكيز خَان على تِلْكَ الْبِلَاد حملت إِلَيْهِ الصناديق بختومها.
ثمَّ إِن التتر أدركوا مُحَمَّدًا الْمَذْكُور فَركب فِي الْمركب ولحقه التتر ورموه بالنشاب ونجى مِنْهُم.
وَقد حصل لَهُ مرض ذَات الْجنب وَأقَام بِجَزِيرَة فِي الْبَحْر طريداً فريداً لَا يملك طارفاً وَلَا تليداً.
قلت:
(وَفَارق الْمِسْكِين أوطانه ... وَملكه ممتحناً بِالْمرضِ)(2/151)
(وَكم حوى من جَوْهَر مثمن ... فَمَا فدا الْجَوْهَر هَذَا الْعرض)
وَالله أعلم.
وَصَارَ مَرضه يزْدَاد، وَكَانَ فِي أهل مَا زندان أَن أُنَاسًا يَتَقَرَّبُون إِلَيْهِ بِمَا يشتهيه فاشتهى عِنْده فرسا يرْعَى حول خيمة صَغِيرَة قد ضربت لَهُ فأهدى إِلَيْهِ فرس أصفر.
وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ ألف جشار من الْخَيل، وَصَارَ إِذا أهْدى إِلَيْهِ أحد شَيْئا وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال فِي الجزيرة يُطلق لَهُ شَيْئا، وَلم يكن مَعَه من يكْتب التواقيع فَيكْتب ذَلِك الْمهْدي توقيعه بِنَفسِهِ، وَيُعْطِي مثل السكين والمنديل عَلامَة بِإِطْلَاق الْبِلَاد وَالْأَمْوَال.
فَلَمَّا تولى ابْنه جلال الدّين أمضى ذَلِك كُله، ثمَّ مَاتَ السطان مُحَمَّد بالجزيرة على تِلْكَ الْحَالة فَغسله شمس الدّين مَحْمُود بن بَلَاغ الجاوش ومقرب الدّين مقدم الفراشين وكفن فِي قَمِيصه لعدم كفن وَدفن بالجزيرة سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة بعد أَن كَانَ بَابه مزدحم مُلُوك الأَرْض، وَكَانَت حَاشِيَته ملوكاً طستداره وركبداره وسلحداره وجنداره وَغَيرهم وَفِي أعلامهم عَلَامَات وظائفهم.
وَكَانَ سماطه مُعظما مفخماً، وَتفرد فِي الحشمة عَن الْمُلُوك بأَشْيَاء لَا يُشَارك فِيهَا، ثمَّ سَار جلال الدّين بعد موت أَبِيه السُّلْطَان مُحَمَّد من الجزيرة إِلَى خوارزم ثمَّ هرب من التتر وَلحق بغزنة وَجرى بَينه وَبَين التتر من الْقِتَال مَا تقدم ذكره، وَسَار إِلَيْهِ جنكيز خَان فهرب جلال الدّين من غزنة إِلَى الْهِنْد فَلحقه جنكيز خَان على مَاء السَّنَد وتصافا صَبِيحَة الْأَرْبَعَاء لثمان خلون من شَوَّال سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة، وَنصر جلال الدّين أَولا، ثمَّ كسر وَحَال بَينهمَا اللَّيْل، وَولى جلال الدّين مُنْهَزِمًا، وَأسر ابْنه وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، وَقتل بَين يَدي جنكيزخان صبرا، وَلما عَاد جلال الدّين إِلَى حافة مَاء السَّنَد كسيراً رآى والدته وَأم ابْنه وَحرمه يصحن بِاللَّه عَلَيْك اقتلنا وخلصنا من الْأسر فَأمر بِهن فغرقن وَهَذِه من عجائب البلايا ونوادر الرزايا.
قلت:
(من ملك الدُّنْيَا ودانت لَهُ ... فالجهل كل الْجَهْل أَن يحسدا)
(بقد مَا ترفع أَصْحَابهَا ... تحطهم فَالرَّأْي قرب المدا)
(ويلي على المغري بعليائها ... سيضحك الْيَوْم ويبكي غَدا)
(تعطيه كالمشفق لَكِنَّهَا ... تبطش فِي الْأَخْذ كبطش العدا)
(مُبْتَدأ حُلْو لمن ذاقه ... وَلَكِن انْظُر خبر المبتدا)
(غدارة خوانة أَهلهَا ... مَا زهد الزهاد فِيهَا سدى)
وَالله أعلم.
ثمَّ أَن جلال الدّين وَعَسْكَره اقتحموا ذَلِك النَّهر الْعَظِيم فنجى مِنْهُم إِلَى ذَلِك الْبر نَحْو أَرْبَعَة آلَاف رجل حُفَاة عُرَاة، وَرمى الموج جلال الدّين مَعَ ثَلَاثَة من خواصه إِلَى مَوضِع(2/152)
بعيد، ولقوه بعد ثَلَاثَة أَيَّام فاعتدوا مقدمه عيداً وظنوا أَنهم أنشأوا خلقا جَدِيدا.
ثمَّ جرى بَين جلال الدّين وَبَين أهل تِلْكَ الْبِلَاد وقائع انتصر هُوَ فِيهَا، وَوصل إِلَى لهاوور من الْهِنْد، وَلما عزم على الْعود إِلَى جِهَة الْعرَاق استناب بهلوان أزبك على مَا يملكهُ من بِلَاد الْهِنْد، واستناب مَعَه حسن فرات، ولقبه وفا ملك وَفِي سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة طردوفاً ملك بهلوان أزبك، وَاسْتولى على بِلَاده وَوصل جلال الدّين إِلَى كرمان سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة وقاسى وَهُوَ وَعَسْكَره فِي البراري القاطعة بَين كرمان والهند شَدَائِد، وَوصل مَعَه أَرْبَعَة آلَاف رجل بَعضهم ركاب أبقار وَبَعْضهمْ ركاب حمير.
ثمَّ سَار جلال الدّين إِلَى خوزستان وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ على أذربيجان ثمَّ على كنجة وَسَائِر بِلَاد أران، ثمَّ نقل أَبَاهُ من الجزيرة إِلَى قلعة أردهن وَدَفنه بهَا، وَلما استولى التتر على هَذِه القلعة نبشوه وأحرقوه وَهَذَا فعلهم فِي كل ملك عرفُوا قَبره فَإِنَّهُم أحرقوا عِظَام مَحْمُود بن سبكتكين بغزنة.
ثمَّ ذكر اسْتِيلَاء جلال الدّين على خلاط وَغَيره ذَلِك، ثمَّ ذكر نُزُوله على جسر قرب آمد وإرساله يستنجد الْأَشْرَف بن الْعَادِل فَلم ينجده وعزم جلال الدّين على الْمسير إِلَى أَصْبَهَان، ثمَّ انثنى عزمه، وَبَات بمنزله، وَشرب تِلْكَ اللَّيْلَة، وسكر سكرا اصحاه مِنْهُ النَّدَم، وأوجد لَهُ الْعَدَم وأحاط التتر بِهِ وبعسكره مصبحين.
(فمساهم وبسطهم حَرِير ... وصبحهم وبسطهم تُرَاب)
(وَمن فِي كَفه مِنْهُم قناة ... كمن فِي كَفه مِنْهُم خضاب)
وأحاطت التتر بخركاه جلال الدّين وَهُوَ نَائِم سَكرَان فَحمل أزخان وكشف التتر عَن الخركاه وَدخل بعض الْخَواص وَأخذ بيد جلال الدّين وَأخرجه وَعَلِيهِ طاقية بَيْضَاء فأركبه الْفرس وسَاق أزخان مَعَ جلال الدّين، وَتَبعهُ التتر فَقَالَ جلال الدّين لأزخان: انْفَرد عني بِحَيْثُ يشْتَغل التتر بتتبع سوادك، وَكَانَ ذَلِك خطأ مِنْهُ فَإِن أزخان تبعه نَحْو أَرْبَعَة آلَاف من الْعَسْكَر وقصدوا أَصْبَهَان وَاسْتولى عَلَيْهَا مُدَّة، وَلما انْفَرد جلال الدّين عَن أزخان سَار إِلَى باشورة آمد فَمَا مكنوه من الدُّخُول فَسَار إِلَى قَرْيَة من قرى ميافارقين طَالبا شهَاب الدّين بن الْملك الْعَادِل صَاحب ميافارقين.
ثمَّ لحقه التتر فِي تِلْكَ الْقرْيَة فهرب جلال الدّين إِلَى جبل هُنَاكَ أكراد يتخطفون النَّاس فَأَخَذُوهُ وشلحوه وَأَرَادُوا قَتله فَقَالَ جلال الدّين لأَحَدهم: إِنِّي أَنا السُّلْطَان فاستبقني أجعلك ملكا، فَجعله الْكرْدِي عِنْد امْرَأَته وَمضى إِلَى الْجَبَل، فَحَضَرَ كردِي مَعَه حَرْبَة، وَقَالَ للْمَرْأَة: لم لَا تقتلون هَذَا الْخَوَارِزْمِيّ؟ فَقَالَت الْمَرْأَة: قد أَمنه زَوجي، فَقَالَ الْكرْدِي إِنَّه السُّلْطَان، وَقد قتل لي أَخا بخلاط خيرا مِنْهُ، وضربه بالحربة فَقتله.
وَكَانَ أسمر قَصِيرا تركي الشارة والعبارة وَيتَكَلَّم أَيْضا بِالْفَارِسِيَّةِ، كَاتب الْخَلِيفَة بِمَا كَاتبه أَبوهُ، فَكَانَ يكْتب خادمه المطواع منكرتي وكاتبه بعد أَخذ خلاط بِعَبْدِهِ، وَكَانَ يُخَاطب(2/153)
بخداوند عَالم، أَي صَاحب الْعَالم، ومقتله منتصف شَوَّال سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة.
وفيهَا: انْتهى التَّارِيخ الْكَامِل لعز الدّين عَليّ بن الْأَثِير الْمُؤلف من هبوط آدم توفّي عز الدّين سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بالموصل مُنْقَطِعًا فِي بَيته للتوفر على الْعلم، ومولده بِجَزِيرَة ابْن عمر ونسبت الجزيرة إِلَى عبد الْعَزِيز بن عمر من أهل برقعيد من أَعمال الْموصل لِأَنَّهُ بنى مدينتها.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي بِالْقَاهِرَةِ أَبُو الْحسن يحيى بن معطي بن عبد النُّور الزواوي الْحَنَفِيّ النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ، سكن دمشق طَويلا، وَله الألفية والفصول وَغَيرهمَا، ومولده سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، ونسبته إِلَى زواوة قَبيلَة بِظَاهِر بجاية من أَعمال إفريقية.
قلت: ألفيته الْمَذْكُورَة كَمَا قلت فِي ديباجة شرحها الَّذِي سميته ضوء الدرة شاهدة لناظمها بِإِصَابَة الصَّوَاب والتفنن فِي الْآدَاب، حَتَّى كَانَ سِيبَوَيْهٍ ذَا الْأَعْرَاب قَالَ لَهُ: يَا يحيى خُذ الْكتاب، وَرَأَيْت الشُّرَّاح يخطؤنه فِي قَوْله فِي آخرهَا.
(وفْق مُرَاد الْمُنْتَهى والمنشأة ... فِي الْخمس وَالتسْعين والخمسمائة)
وَهَذَا لَا يجوز لإضافة الْمعرفَة إِلَى النكرَة ثمَّ وجد فِي نُسْخَة قُرِئت عَلَيْهِ وَالْخمس الْمِائَة، وَهَذَا صَوَاب وَلما حج وعاين الْكَعْبَة أنْشد:
(وَلما تبدى لي من السجف جَانب ... ومقلة ليلى من وَرَاء نقابها)
(بعثت رَسُول الدمع بيني وَبَينهَا ... لتأذن فِي قربي وتقبيل بَابهَا)
(فَمَا أَذِنت إِلَّا بإيماض برقها ... وَلَا سمحت إِلَّا بلثم ترابها)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة: والكامل والأشرف بِمصْر، والمظفر بحماه، والعزيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بحلب، والتتر قد ملكوا الْعَجم كُله والخليفة الْمُسْتَنْصر بالعراق.
ثمَّ اجْتمع مَعَ الْكَامِل مُلُوك أهل بَيته فِي جمع عَظِيم وَسَار حصر آمد وتسلمها من الْملك المسعود بن الصَّالح مَحْمُود بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق لسوء سيرته وتعرضه إِلَى حَرِيم النَّاس وَمُحَمّد بن قرا أرسلان هُوَ الَّذِي ملكه صَلَاح الدّين آمد بعد نَزعهَا من ابْن بيسان، وتسلم الْكَامِل أَيْضا من المسعود حُصَيْن كيفا وَهِي غَايَة فِي الحصانة، واقطع المسعود بِمصْر إقطاعاً جَلِيلًا، وَأحسن إِلَيْهِ ثمَّ بَدَت مِنْهُ أُمُور اعتقله الْكَامِل بِسَبَبِهَا.
وَلما مَاتَ الْكَامِل خرج من الاعتقال، ثمَّ اتَّصل بالتتر فَقَتَلُوهُ وَجعل الْكَامِل فِي مملكة آمد ابْنه الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وَمَعَهُ شمس الدّين صَوَاب العادلي وَلما خرج الْكَامِل من مصر خرجت مَعَه ابنتاه فَاطِمَة خاتون زوج الْعَزِيز صَاحب حلب، وغازية خاتون زوج المظفر صَاحب حماه وحلب كل وَاحِدَة إِلَى بَعْلهَا.
وفيهَا: ظنا توفّي عَليّ بن رَسُول وَاسْتقر مَكَانَهُ ابْنه عمر.(2/154)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: رَجَعَ الْكَامِل من الشرق إِلَى مصر وَرجع كل ملك إِلَى بَلَده.
اسْتِيلَاء الْعَزِيز بن الظَّاهِر على شيزر
كَانَت شيزر شهَاب الدّين يُوسُف بن مَسْعُود بن عُثْمَان بن الداية وَعُثْمَان هَذَا وَإِخْوَته من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين بن زنكي.
ثمَّ اعتقل الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين سَابق الدّين عُثْمَان الْمَذْكُور وشمس الدّين أَخَاهُ، فَجعل صَلَاح الدّين ذَلِك حجَّة لقصد الشَّام وانتزاعه من الصَّالح، فاتصل أَوْلَاد الداية بِخِدْمَة صَلَاح الدّين أُمَرَاء، وَأقر صَلَاح الدّين عُثْمَان على أقطاعه سيزر وزاده أَبَا قبيس لما قتل صَاحبهَا خمار دُكَيْن.
ثمَّ ملك شيزر بعده ابْنه مَسْعُود بن عُثْمَان حَتَّى مَاتَ وَصَارَت لِابْنِهِ شهَاب الدّين يُوسُف إِلَى هَذِه السّنة، فَسَار الْعَزِيز بِأَمْر الْكَامِل وحاصرها وساعده المظفر صَاحب حماه، فسلمها شهَاب الدّين إِلَى الْعَزِيز، وَنزل إِلَيْهِ وهنأه يحيى بن خَالِد القيسراني بقوله:
(يَا مَالِكًا عَم أهل الأَرْض نائلة ... وَخص إحسانه الداني مَعَ القَاضِي)
(لما رَأَتْ شيزر آيَات نصرك فِي ... أرجائها أَلْقَت العَاصِي إِلَى العَاصِي)
قلت:
(وحاصرها الْعَزِيز حِصَار فتح ... وَعز بِأَخْذِهِ الْحصن المنيعا)
(وظنوا بالعزيز الْعَجز عَنْهَا ... فجَاء إِلَيْهِ عاصيها مُطيعًا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر المظفر صَاحب حماه أَخَاهُ النَّاصِر ببارين بِأَمْر الْعَادِل خوفًا من أَن يُسَلِّمهَا للفرنج لضَعْفه عَنْهُم، وانتزعها مِنْهُ وأكرمه وَسَأَلَهُ الْإِقَامَة عِنْده بحماه، فَامْتنعَ وَسَار إِلَى مصر فأقطعه الْكَامِل إقطاعاً جَلِيلًا، وَأطلق لَهُ أَمْلَاك جده بِدِمَشْق ثمَّ بدا مِنْهُ كَلَام فاعتقله الْكَامِل إِلَى أَن مَاتَ النَّاصِر قلج أرسلان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة قبل موت الْكَامِل بأيام.
وفيهَا: توفّي مظفر الدّين كوكبوري بن زين الدّين عَليّ كجك وَلم يكن لَهُ ولد، فوصى ببلاده للخليفة الْمُسْتَنْصر فتسلمها بعده، وَكَانَ عسوفاً فِي اسْتِخْرَاج المَال، ويحتفل بمولده النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَينْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال الجليلة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي شهَاب الدّين طغرل بك الأتابك بحلب.
قلت: وَله أوقاف مبرورة وواقعته مَعَ الشَّيْخ نَبهَان بن غيار الحبريني العَبْد الصَّالح مَشْهُورَة، وَالله أعلم.(2/155)
وفيهَا: تعرض كيقباذ صَاحب الرّوم إِلَى بِلَاد خلاط فقصده الْملك الْكَامِل بعساكره من مصر، وَنزل على النَّهر الْأَزْرَق فِي حُدُود بِلَاد الرّوم وَقد ضربت فِي عسكره سِتَّة عشر دهليزاً لسِتَّة عشر ملكا فِي خدمته، مِنْهُم إخْوَته الْأَرْبَعَة: الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب دمشق، والمظفر غَازِي صَاحب ميافارقين، والحافظ أرسلان شاه صَاحب قلعة جعبر، والصالح إِسْمَاعِيل، والمعظم توران شاه بن صَلَاح الدّين مقدما على عَسْكَر حلب أرْسلهُ ابْن أَخِيه الْعَزِيز، والزاهر دَاوُد بن صَلَاح الدّين صَاحب البيرة، وَأَخُوهُ الْأَفْضَل مُوسَى صَاحب سميساط ملكهَا بعد أَخِيه الْأَفْضَل عَليّ، والمظفر صَاحب حماه، والصالح أَحْمد صَاحب عينتاب ابْن الظَّاهِر، وَصَاحب حلب والناصر دَاوُد صَاحب الكرك بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل، والمجاهد شيركوه صَاحب حمص بن مُحَمَّد بن شيركوه، وَلم يتَمَكَّن السُّلْطَان من دُخُول الرّوم من جِهَة النَّهر الْأَزْرَق لحفظ رجال كيقباذ الدربندات وَأرْسل السُّلْطَان بعض الْعَسْكَر إِلَى حصن مَنْصُور من بِلَاد كيقباذ فهزموه فَقطع السُّلْطَان الْفُرَات وَسَار إِلَى السويدا، وَقدم جاليشه نَحْو الفين وَخَمْسمِائة فَارس مَعَ المظفر صَاحب حماه فَسَار المظفر بهم إِلَى خرت برت، وَسَار كيقباذ ملك الرّوم إِلَيْهِم واقتتلوا فَانْهَزَمَ الجاليش المذكورون، وانحصر المظفر صَاحب حماه فِي خرت برت فِي جمَاعَة، وجد كيقباذ فِي حصارهم والكامل بالسويدا، وَقد أحس بمخامرة الْمُلُوك الَّذين مَعَه وتقاعدهم، فَإِن شيركوه صَاحب حمص سعى إِلَيْهِم وَقَالَ إِن السُّلْطَان ذكر إِنَّه مَتى ملك الرّوم فرقه على مُلُوك بَيته، وينفرد بِملك الشَّام ومصر ففسدت نياتهم لذَلِك فأحجم الْكَامِل عَن كيقباذ ودام الْحصار على المظفر فَطلب الْأمان فَأَمنهُ كيقباذ وأكرمه وخلع عَلَيْهِ وتسلم خرت وبرت من صَاحبهَا من الارتفيه، وَأطلق كيقباذ المظفر بعد يَوْمَيْنِ وَسَار من عِنْده لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة مِنْهَا إِلَى الْكَامِل بالسويدا من بلد آمد ففرح بِهِ وطلق الْكَامِل ابْنَته من النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك لقُوَّة الوحشة مِنْهُ.
وفيهَا تمّ بِنَاء قلعة المعرة وَكَانَ سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ المزباني قد أَشَارَ على الْملك المظفر صَاحب حماه ببنائها وشحنها بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح وَلم يكن ذَلِك مصلحَة للحمويين، فَإِن الحلبيين حاصروها بعد، وأخذوها وَخَربَتْ المعرة بِسَبَبِهَا.
وفيهَا: توفّي سيف الدّين الْآمِدِيّ عَليّ بن أبي عَليّ بن مُحَمَّد بن سَالم التغلبي وَكَانَ حنبلياً وَصَارَ شافعياً، وبرع فِي العقليات وصنف فِيهَا وَفِي أصُول الْفِقْه وَالدّين مصنفات، وتصدر بِمصْر فِي الْجَامِع والمدرسة الملاصقة لتربة الشَّافِعِي وَحصل عَلَيْهِ تحامل وَكتب محْضر بانحلال عقيدته وبالفلسفة وأحضروه لبَعض الْفُضَلَاء ليكتب خطه أُسْوَة الْجَمَاعَة فَكتب:
(حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
فاستتر الْآمِدِيّ، ثمَّ قدم حماه ثمَّ قدم دمشق وَبهَا توفّي، ومولده سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة.(2/156)
وفيهَا: توفّي الصّلاح الإربلي فَاضل شَاعِر محظي عِنْد الْملكَيْنِ الْكَامِل والأشرف ابْني الْعَادِل.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الْكَامِل من الشرق إِلَى مصر وكل ملك إِلَى بَلَده للتخاذل الَّذِي تقدم.
وفيهَا: توفّي الْملك الزَّاهِر دَاوُد صَاحب البيرة بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين مرض فِي الْعَسْكَر وَحمل إِلَى البيرة وَتُوفِّي بهَا، وملكها بعده ابْن أَخِيه الْملك الْعَزِيز صَاحب حلب والزاهر شَقِيق الظَّاهِر صَاحب حلب.
وفيهَا: توفّي القَاضِي بهاء الدّين يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم بن شَدَّاد، وَلَيْسَ فِي آبَائِهِ شَدَّاد، وَقد يكون فِي نسب أمه، فاشتهر بِهِ أَصله من الْموصل.
وَكَانَ قَاضِي عَسْكَر صَلَاح الدّين، وَتُوفِّي صَلَاح الدّين وَعمر القَاضِي نَحْو خمسين سنة، ونال عِنْد أَوْلَاد صَلَاح الدّين وَعند الأتابك طغرل بك منزلَة قل أَن تنَال، وَصَارَ قَاضِي حلب، وأقطعه الْعَزِيز فِي السّنة مَا يزِيد على مائَة ألف دِرْهَم، وَكَانَ فَاضلا دينا.
قلت: وَعمر بحلب دَار حَدِيث ومدرسة متلاصقتين، وَجعل تربته بَينهمَا، فَقَالَ بعض النَّاس: هَذِه تربة بَين روضتين، وَرَجا أَن تشمله بركَة الْعلم مَيتا كَمَا شملته حَيا وَأَن يكون فِي قَبره من سَماع الحَدِيث وَالْفِقْه بَين الرّيّ والريا.
(رُبمَا أنعش الْمُحب عيان ... من بعيد أَو زورة من خيال)
(أَو حَدِيث وَإِن أُرِيد سواهُ ... فسماع الحَدِيث نوع وصال)
وَالله أعلم.
وفيهَا: ولد الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْملك المظفر صَاحب حماه فِي يَوْم الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ربيع الأول وَقد قدم المظفر من خدمَة الْملك الْكَامِل قبله بيومين فَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد مهنئاً بقدوم الْوَالِد وَالْولد فِي قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(غَدا الْملك محروس الذرى وَالْقَوَاعِد ... بأشرف مَوْلُود لأشرف وَالِد)
(حبينا بِهِ يَوْم الْخَمِيس كَأَنَّهُ ... خَمِيس بدا للنَّاس فِي شخص وَاحِد)
(وسميته باسم النَّبِي مُحَمَّد ... وجديه فاستوفى جَمِيع المحامد)
اسْم جديه الْكَامِل مُحَمَّد وَالِد والدته، والمنصور صَاحب حماه وَالِد وَالِده وَمِنْهَا:
(كَأَنِّي بِهِ فِي غَزَّة الْملك جَالِسا ... وَقد سَاد فِي أَوْصَافه كل سائد)
(ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد)
(أَلا أَيهَا الْملك المظفر دَعْوَتِي ... سيورى بهَا زندي ويشتد ساعدي)
(هَنِيئًا لَك الْملك الَّذِي بقدومه ... ترحل عَنَّا كل هم معاود)
وفيهَا: حصر كيقباذ صَاحب الرّوم حران والرها، وملكهما من الْملك الْكَامِل بعد عوده.(2/157)
وفيهَا: توفّي بِالْقَاهِرَةِ الْقَاسِم بن عمر بن الْحَمَوِيّ الْمصْرِيّ الدَّار ابْن الفارض، وَله أشعار جَيِّدَة، مِنْهَا التائية على طَريقَة التصوف نَحْو سِتّمائَة بَيت.
قلت وفيهَا: توفّي الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عموية وَهُوَ عبد الله بن سعد بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن سعد بن النَّضر بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَانَ شَيخا صَالحا ورعاً فَقِيها شافعياً كثير الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة والرياضة وَتخرج عَلَيْهِ خلق كثير من الصُّوفِيَّة فِي المجاهدة وَالْخلْوَة، مِنْهُم شَيخنَا الْعَارِف ذُو الْفَضَائِل والكرامات تَاج الدّين جَعْفَر بن مَحْمُود بن سيف السراج الْحلَبِي، وَسَيَأْتِي ذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
صحب الشَّيْخ شهَاب الدّين عَمه أَبَا النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمويه التَّيْمِيّ الْبكْرِيّ وَأخذ عَنهُ التصوف والوعظ، وَالشَّيْخ محيي الدّين عبد الْقَادِر بن أبي صَلَاح الجيلي وَانْحَدَرَ إِلَى الْبَصْرَة إِلَى الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن عبدون وَرَأى غَيره من الشُّيُوخ.
وَقَرَأَ الْفِقْه وَالْخلاف وَالْأَدب، وَصَارَ شيخ الشُّيُوخ بِبَغْدَاد، وَكَانَ لَهُ فِي الْوَعْظ نفس مبارك، أنْشد يَوْمًا على الْكُرْسِيّ وَإِن كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر قد أنْشد ذَلِك قبله:
(لَا تَسْقِنِي وحدي فَمَا عودتني ... إِنِّي أشح بهَا على جلاسي)
(أَنْت الْكَرِيم وَلَا يَلِيق تكرما ... أَن يعبر الندماء دور الكاس)
فتواجد النَّاس لذَلِك وَقطعت شُعُور كَثِيرَة وَتَابَ جمع كثير، وَله تآليف حَسَنَة مِنْهَا عوارف المعارف.
وَمن شعره:
(تصرمت وَحْشَة اللَّيَالِي ... وَأَقْبَلت دولة الْوِصَال)
(وَصَارَ بالوصل لي حسوداً ... من كَانَ فِي هجركم رثي لي)
(وحقكم بعد إِذْ حصلتم ... بِكُل مَا فَاتَ لَا أُبَالِي)
(تقاصرت عَنْكُم قُلُوب ... فيا لَهُ مورداً حلالي)
(عَليّ مَا للورى حرَام ... وحبكم فِي الحشا جلالي)
(تشربت أعظمي هواكم ... فَمَا لغير الْهوى وَمَالِي)
(وَمَا على عادم أجاجا ... وَعِنْده أعين الزلَال)
قَالَ ابْن خلكان: حكى لي من حضر مَجْلِسه ذَلِك كُله، قَالَ: وَرَأَيْت جمَاعَة مِمَّن حَضَرُوا مَجْلِسه وقعدوا فِي حَضرته وتسليكه كجاري عادي الصُّوفِيَّة وَكَانُوا يحكون غرائب مَا يجْرِي لَهُم من الْأَحْوَال وَمَا يطْرَأ عَلَيْهِم من الخارقات، وَكَانَ كثير الْحَج وَرُبمَا جاور فِي بعض حججه.
وَكَانَ مَشَايِخ عصره يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ من الْبِلَاد فَتَاوَى يسألونه عَن شَيْء من أَحْوَالهم، كتب إِلَيْهِ بَعضهم: يَا سَيِّدي إِن تركت الْعَمَل أخلدت إِلَى البطالة وَإِن عملت داخلني الْعجب.(2/158)
فَكتب جَوَابه اعْمَلْ واستغفر الله تَعَالَى من الْعجب وَله من هَذَا شَيْء كثير وكراماته مَجْمُوعَة.
وَأما عَمه الشَّيْخ أَبُو النجيب عبد القاهر فَكَانَ شيخ وقته بالعراق، ولد بسهرورد سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة تَقْرِيبًا، وَقدم بَغْدَاد وتفقه بالنظامية على اِسْعَدْ الميهني وَغَيره.
ثمَّ سلك طَرِيق الصُّوفِيَّة وَانْقطع عَن النَّاس مُدَّة مديدة، وبذل الْجهد فِي الْعَمَل، ثمَّ رَجَعَ ودعا النَّاس إِلَى الله فَرجع بِسَبَبِهِ خلق كثير إِلَى الله تَعَالَى، وَبنى رِبَاطًا على الشط من الْجَانِب الغربي بِبَغْدَاد، وسكنه جمَاعَة من أَصْحَابه، ثمَّ ندب إِلَى التدريس بالنظامية سنة خَمْسَة وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فِي الْمحرم فَأجَاب وَظَهَرت بركته على تلامذته، ثمَّ تَركهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَقدم الْموصل مجتازاً إِلَى الْقُدس سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَعقد بالجامع الْعَتِيق مجَالِس الْوَعْظ، ثمَّ وصل دمشق وَلم يتَّفق لَهُ الزِّيَارَة لانفساخ الْهُدْنَة مَعَ الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَأكْرم الْعَادِل نور الدّين مورده وَعقد بِدِمَشْق مجْلِس الْوَعْظ، وَعَاد إِلَى بَغْدَاد، وَتُوفِّي بهَا يَوْم الْجُمُعَة وَقت الْعَصْر سَابِع عشر جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وكراماته مَشْهُورَة مَجْمُوعَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار النَّاصِر دَاوُد من الكرك إِلَى بَغْدَاد إِلَى الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر خوفًا من عَمه الْكَامِل وَقدم لَهُ تحفاً وجواهر نفيسة فَأكْرمه الْمُسْتَنْصر وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه.
وَكَانَ يظنّ أَن الْخَلِيفَة يستحضره فِي الْمَلأ، كَمَا استحضر مظفر الدّين صَاحب إربل، والح فِي ذَلِك فَلم يجبهُ، فمدح الْمُسْتَنْصر بِقَصْدِهِ وَعرض بذلك مِنْهَا:
(فَأَنت الإِمَام الْعدْل والمعرق الَّذِي ... بِهِ شرفت أنسابه ومناصبه)
(أيحسن فِي شرع الْمَعَالِي ودينها ... وَأَنت الَّذِي تعزى إِلَيْك مذاهبه)
(بِأَنِّي أخوض الدو والدو مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه)
(وَقد رصد الْأَعْدَاء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه)
(وتسمح لي بِالْمَالِ والجاه بغيتي ... وَمَا الجاه إِلَّا بعض مَا أَنْت واهبه)
(ويأتيك غَيْرِي من بِلَاد قريبَة ... لَهُ الْأَمْن فِيهَا صَاحب لَا يجانبه)
(فَيلقى دنواً مِنْك لم ألق مثله ... ويحظى وَمَا أحظى بِمَا أَنَّك طَالبه)
(وَينظر من لألاء قدسك نظرة ... فَيرجع والنور الإمامي صَاحبه)
(وَلَو كَانَ يعلوني بِنَفس ورتبة ... وَصدق وَلَاء لست فِيهِ أصاقبه)
(لَكُنْت أسلي النَّفس عَمَّا أرومه ... وَكنت أذود الْعين عَمَّا أراقبه)
(وَلكنه مثلي وَلَو قلت إِنَّنِي ... أَزِيد عَلَيْهِ لم يعب ذَاك عائبه)
(وَمَا أَنا مِمَّن يمْلَأ المَال عينه ... وَلَا بسوى التَّقْرِيب تقضي مآربه)
وَكَانَ الْخَلِيفَة متوقفاً عَن استحضاره رِعَايَة للْملك الْكَامِل فَجمع بَين المصلحتين واستحضره لَيْلًا ثمَّ عَاد إِلَى الكرك.(2/159)
وفيهَا سَار الْكَامِل من مصر واسترجع حران والرها من يَد كيقباذ، وَأرْسل نواب كيقباذ مقيدين إِلَى مصر، فاستقبح ذَلِك مِنْهُ ثمَّ قدم دمشق وَأقَام عِنْد أَخِيه الْأَشْرَف حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: توفّي شرف الدّين مُحَمَّد بن نصر بن عنين الزرعي شَاعِر مفلق، هجاء لَهُ مقراض الْأَعْرَاض مَا سلم بِدِمَشْق مِنْهُ كَبِير، ونفاه صَلَاح الدّين إِلَى الْيمن فمدح صَاحبهَا طغتكين بن أَيُّوب فَحصل لَهُ مِنْهُ أَمْوَال إتجر بهَا إِلَى مصر وصاحبها الْعَزِيز عُثْمَان بن صَلَاح الدّين وَأخذت بهَا زَكَاة تِجَارَته فَقَالَ:
(مَا كل من يُسمى بالعزيز لَهَا ... أَهلا وَلَا كل برق سحبه غدق)
(بَين العزيزين بون فِي فعالهما ... هذاك يعْطى وَهَذَا يَأْخُذ الصَّدَقَة)
قلت: وَطَاف ابْن عنين بِلَاد الشَّام وَالْعراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان وغزنة وخوارزم وَمَا وَرَاء النَّهر واليمن والهند.
وَكتب من الْهِنْد إِلَى أَخِيه بِدِمَشْق هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، وَالثَّانِي مِنْهُمَا لأبي الْعَلَاء المعري:
(سامحت كتبك فِي القطيعة عَالما ... أَن الصَّحِيفَة لم تَجِد من حَامِل)
(وعذرت طيفك فِي الْجفَاء لِأَنَّهُ ... يسري فَيُصْبِح دُوننَا بمراحل)
وَمَات صَلَاح الدّين وَملك الْعَادِل دمشق فِي عيبته فَقدم دمشق وَكتب إِلَى الْعَادِل يَسْتَأْذِنهُ فِي دُخُولهَا:
(مَاذَا على طيف الْأَحِبَّة لَو سرى ... وَعَلَيْهِم لَو سامحوني بالكرى)
وَوصف منتزهات دمشق ثمَّ قَالَ:
(فارقتها لَا عَن رضى وهجرتها ... لَا عَن قلى ورحلت لَا متحيرا)
(أسعى لرزق فِي الْبِلَاد مشتت ... وَمن الْعَجَائِب أَن يكون مقتراً)
(وأصون وَجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متستراً)
(أَشْكُو إِلَيْك نوى تَمَادى عمرها ... حَتَّى حسبت الْيَوْم مِنْهَا أشهراً)
(لَا عيشتي تصفو وَلَا رسم الْهوى ... يعْفُو وَلَا جفني يصافحه الْكرَى)
(وَمن الْعَجَائِب أَن يقتل بظلكم ... كل الورى ونبذت وحدي بالعرا)
وَولي الوزارة بِدِمَشْق فِي آخر دولة الْمُعظم، وَمُدَّة ولَايَة ابْنه النَّاصِر وَلما ملكهَا الْأَشْرَف انْفَصل وَلم يُبَاشر بعْدهَا خدمَة، وَدفن بِمَسْجِد أنشأه بِأَرْض المزة بِكَسْر الْمِيم، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الْكَامِل إِلَى مصر.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْملك الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بحلب وعمره ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وشهور وَملك بعده ابْنه النَّاصِر يُوسُف، وعمره نَحْو سبع سِنِين، وَدبره شمس الدّين لُؤْلُؤ وَعز الدّين عمر بن مجلى وجمال الدولة اقبال الخاتوني والمرجع إِلَى أم الْعَزِيز ضيفة خاتون بنت الْعَادِل.(2/160)
وفيهَا توفّي كيقباذ: عَلَاء الدّين بن كيخسرو صَاحب الرّوم وَملك بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق.
وفيهَا: دخل النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك مصر، وَصَارَ مَعَ الْكَامِل على مُلُوك الشَّام فجدد عقده على ابْنَته مطلقته عَاشُورَاء، وأركبه بصناجق سلطانية، ووعده بِدِمَشْق، وَحمل الْعَادِل أَبُو بكر بن الْكَامِل الغاشية بَين يَدَيْهِ وَبَالغ فِي إكرامه.
وفيهَا: حاصر توران شاه عَم الْعَزِيز بعسكر حلب بغراس وَقد عمرتها الداودية بعد تخريب صَلَاح الدّين لَهَا، ثمَّ رحلوا عَنْهَا بِسَبَب الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية، ثمَّ أغار الفرنج على ربض دير ساك وَهُوَ بحلب، وَقَاتلهمْ الْعَسْكَر، فانكسر الفرنج وَأسر وَقتل فيهم، وَعَاد الْعَسْكَر بالأسرى والرؤوس وَكَانَت وقْعَة عَظِيمَة.
وفيهَا: استخدم الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل وَهُوَ بالشرق يَنُوب عَن أَبِيه الخوارزمية عَسْكَر جلال الدّين منكرتي فَإِنَّهُم بعد قتل جلال الدّين خدموا كيقباذ وَفِيهِمْ مقدمون مثل بَركت خَان وكشلو خَان وصارو خَان وفرخ خَان ويزدي خَان، فَلَمَّا تولى كيخسرو بن كيقباذ قبض على كَبِيرهمْ بَركت خَان ففارقه الخوارزمية وَسَارُوا عَن الرّوم ونهبوا مَا على طريقهم فاستمالهم الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بن الْكَامِل واستخدمهم بِإِذن أَبِيه.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك الْأَشْرَف مظفر الدّين مُوسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بالذرب فِي الْمحرم، وَملك دمشق أَخُوهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل بِعَهْد مِنْهُ، وَمُدَّة ملكه ثَمَان سِنِين وشهور لم ينهزم قطّ، وَاتفقَ لَهُ أَشْيَاء خارقة لِلْعَقْلِ فِي السَّعَادَة.
وَكَانَ سخياً حسن العقيدة وَبنى بِدِمَشْق قصوراً ومنتزهات حَسَنَة وأقلع لما مرض عَن اللَّذَّات والأغاني، وَأَقْبل على الإستغفار وَدفن بتربته بِجَانِب الْجَامِع وَترك بِنْتا وَاحِدَة تزَوجهَا الْملك الْجواد يُونُس بن مودود بن الْملك الْعَادِل، وَبلغ الْكَامِل بِمصْر وَفَاة أَخِيه الْأَشْرَف فَسَار إِلَى دمشق وَمَعَهُ النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك والناصر لَا يشك أَن الْكَامِل يُعْطِيهِ دمشق لما تقرر بَينهمَا، واستعد الصَّالح إِسْمَاعِيل للحصار وأنجد من حلب وحمص، ونازل الْكَامِل دمشق فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وأحرق الصَّالح بالتفاطين مَا بالعقيبة من خانات وأسواق وَغَيرهَا، وَوصل من حمص نجدة رجالة خَمْسُونَ رجلا فظفر بهم الْكَامِل وشنقهم بَين الْبَسَاتِين، وَأرْسل للمظفر صَاحب حماه توقيعاً بسلمية لانتمائه إِلَيْهِ.
وَسلم الصَّالح دمشق إِلَى أَخِيه الْكَامِل لإحدى عشرَة بقيت من جُمَادَى الأولى وتعوض عَنْهَا بعلبك وَالْبِقَاع مُضَافا إِلَى بصرى.
ثمَّ لم يلبث الْكَامِل غير أَيَّام وَمرض بالزكام فَدخل الْحمام وصب مَاء شَدِيدَة الْحَرَارَة فاندفعت النزلة إِلَى معدته فتورمت وَنَهَاهُ الْأَطِبَّاء عَن الْقَيْء فتقيأ فَمَاتَ لوقته وعمره نَحْو(2/161)
سِتِّينَ سنة لتسْع بَقينَ من رَجَب مِنْهَا، وَحكم بِمصْر نَائِبا وملكاً نَحْو أَرْبَعِينَ سنة.
وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَة حكم فِي الشَّام نَائِبا نَحْو عشْرين وملكاً نَحْو عشْرين، وَكَانَ مهيباً مُدبرا يُبَاشر بِنَفسِهِ، واستوزر أول ملكه وَزِير أَبِيه صفي الدّين بن شكر وَمَات فَلم يستوزر أحدا بعده، وَأكْثر سَماع الحَدِيث.
وَبني للشَّيْخ عمر بن دحْيَة دَار الحَدِيث بَين القصرين فِي الْجَانِب الغربي، ونفق عِنْده الْأَدَب وَالْعلم، وامتحن الْفُضَلَاء بمسائل غربية.
وَكَانَ الْأَمِير فَخر الدّين وَإِخْوَته عماد الدّين وَكَمَال الدّين ومعين الدّين من أكَابِر دولته فَإِنَّهُم حازوا فَضِيلَة السَّيْف والقلم يُبَاشر أحدهم التدريس ويتقدم على الْجَيْش، ثمَّ اتّفق الْأُمَرَاء على تَحْلِيف الْعَسْكَر للْملك الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل وَهُوَ حِينَئِذٍ نَائِب أَبِيه بِمصْر، فَحلف لَهُ الْعَسْكَر وَأَقَامُوا فِي دمشق الْجواد بن يُونُس بن مودود بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب نَائِبا عَن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل وهدد الْأُمَرَاء النَّاصِر دَاوُد حَتَّى رَحل إِلَى الكرك.
وَبلغ شيركوه صَاحب حمص وَفَاة الْكَامِل، وَكَانَ الْكَامِل على نِيَّة قِتَاله، فلعب بالكرة بِخِلَاف الْعَادة وَهُوَ فِي عشر التسعين وحزن المظفر بحماه لذَلِك عَظِيما وارتجع صَاحب حمص سلمية من المظفر، وَقطع قناتها عَن حماه فيبست بساتينها ثمَّ عزم على قطع النَّهر عَن حماه فسد مخرجه من بحيرة قدس بِظَاهِر حمص فبطلت نواعير حماه والطواحين، وَذهب مَاء العَاصِي فِي أَوديَة بجوانب الْبحيرَة، ثمَّ لما لم يجد المَاء مسلكاً هدم السد وَجرى كَمَا كَانَ.
وَبلغ الحلبيين موت الْكَامِل فجهزوا عسكراً لنزع المعرة من يَد المظفر وحاصروا قلعتها وملكوها، وَخرج عَسْكَر المعرة حِينَئِذٍ إِلَى حلب، ثمَّ سَار عَسْكَر حلب ومقدمهم الْمُعظم توران شاه بن صَلَاح الدّين إِلَى حماه وحاصروها حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: عقد عقد غياث الدّين كيخسرو بن كيقباذ سُلْطَان الرّوم على غَازِيَة خاتون بنت الْعَزِيز صَاحب حلب وَهِي صَغِيرَة وَقبل عَن كيخسرو قَاضِي دوقات، ثمَّ عقد عقد الْملك النَّاصِر يُوسُف بن الْعَزِيز صَاحب حلب على ملكة خاتون أُخْت كيخسرو وَأم ملكة خاتون بنت الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، وزجها الْمُعظم عِيسَى صَاحب دمشق بكيقباذ، وخطب لغياث الدّين كيخسرو بحلب.
وفيهَا: خرجت الخوارزمية عَن طَاعَة الصَّالح أَيُّوب بعد موت أَبِيه الْكَامِل ونهبوا الْبِلَاد.
وفيهَا: حاصر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل بسنجار فبذل الصَّالح للخوارزمية حران والرها، فعادوا إِلَى طَاعَته وتقاتلوا فَانْهَزَمَ لُؤْلُؤ هزيمَة قبيحة، وغنم عَسْكَر الصَّالح مِنْهُم شَيْئا كثيرا.(2/162)
وفيهَا: جرى بَين النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك وَبَين الْملك الْجواد يُونُس المستولي على دمشق قتال بَين جَنِين ونابلس، فانتصر الْجواد وَقَوي بِهَذِهِ الْوَقْعَة وَتمكن من دمشق وَنهب عَسْكَر النَّاصِر وأثقاله.
وَفِي آخرهَا: ولد وَالِد الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بن المظفر صَاحب حماه.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا رَحل عَسْكَر حلب عَن حِصَار حماه بعد مولد الْملك الْأَفْضَل، بعد طول الْحصار أَذِنت لَهُ ضيفة خاتون صَاحِبَة حلب بنت الْعَادِل بالرحيل عَنْهَا فرحلوا، واستمرت المعرة للحلبيين، وسلمية لصَاحب حمص، فهدم المظفر قلعة بارين إِلَى الأَرْض خوفًا من خُرُوجهَا عَنهُ.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة استولى الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل على دمشق وأعمالها، وَعوض الْجواد عَنْهَا سنجار والرقة وعانة، وَسَببه أَن الْعَادِل بن الْكَامِل صَاحب مصر أرسل إِلَى الْجواد عماد الدّين بن الشَّيْخ لينزع دمشق مِنْهُ ويعوضه أقطاعاً بِمصْر، فسلمها الْجواد إِلَى الصَّالح وجهز على ابْن الشَّيْخ من وقف لَهُ بقصه وضربه بسكين فَقتله، وَوصل مَعَ الصَّالح إِلَى دمشق المظفر صَاحب حماه يعاضده، وَكَانَ لاقاه فِي أثْنَاء الطَّرِيق، وَاسْتقر الصَّالح فِي ملك دمشق وَسَار الْجواد فتسلم الْبِلَاد الشرقية.
ثمَّ وَردت إِلَى الصَّالح كتب المصريين يستدعونه ليملكها، وَسَأَلَهُ المظفر أَخذ حمص من شيركوه فبرز إِلَى الثَّنية.
وَكَانَ قد نازلت الخوارزمية وَصَاحب حماه حمص فَفرق شيركوه أَمْوَالًا فِي الخوارزمية فقصدوا الشرق وَتركُوا حمص.
ورحل صَاحب حماه إِلَى حماه، ثمَّ عَاد الصَّالح طَالبا مصر فوصل إِلَيْهِ بخربة اللُّصُوص عَسْكَر مجهز من مصر، وَلما خرج الصَّالح من دمشق استناب فِيهَا ابْنه الْملك المغيث فتح الدّين عمر وَبَقِي الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب بعلبك يجامل الصَّالح ابْن أَخِيه وَيعْمل بَاطِنا على دمشق.
وَكَانَ النَّاصِر صَاحب الكرك قد سَار إِلَى مصر، وَاتفقَ مَعَه الْعَادِل بن الْكَامِل على قتال الصَّالح أَيُّوب، وَوصل فِي هَذِه السّنة محيي الدّين بن ابْن الْجَوْزِيّ رَسُول الْخَلِيفَة ليصلح بَين الْأَخَوَيْنِ الْعَادِل بِمصْر، والصالح بِدِمَشْق وَهُوَ الَّذِي حضر ليصلح بَين الْكَامِل والأشرف، فاتفق أَنه مَاتَ فِي حُضُوره فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة أَرْبَعَة من السلاطين العظماء، وهم الْكَامِل صَاحب مصر، وَأَخُوهُ الْأَشْرَف صَاحب دمشق، والعزيز صَاحب حلب وكيقباذ صَاحب الرّوم فَقَالَ فِي ذَلِك ابْن المسجف أحد شعراء دمشق:
(يَا إِمَام الْهدى أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور ... من لَهُ الفخار الأثيل)
(مَا جرى من رَسُولك الْآن محيي ... الدّين فِي هَذِه الْبِلَاد قَلِيل)(2/163)
(جَاءَ وَالْأَرْض بالسلاطين تزهو ... وَغدا والديار مِنْهُم طلول)
(أقفر الرّوم وَالشَّام ومصر ... أَفَهَذَا مغسل أم رَسُول)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي صفر سَار الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب بعلبك وشيركوه صَاحب حمص، وهاجما دمشق وحصرا قلعتها وتسلمها الصَّالح إِسْمَاعِيل، وَقبض على المغيث فتح الدّين عمر بن الصَّالح أَيُّوب، وَكَانَ الصَّالح أَيُّوب بنابلس لقصد ملك مصر وبلغه سعي عَمه إِسْمَاعِيل فِي الْبَاطِن، وَكَانَ للصالح أَيُّوب طَبِيب يَثِق بِهِ يُقَال لَهُ الْحَكِيم سعد الدّين الدِّمَشْقِي فَأرْسل مَعَه الصَّالح أَيُّوب إِلَى بعلبك قفص حمام نابلس ليطالعه بأخبار الصَّالح صَاحب بعلبك، فَاسْتَحْضر صَاحب بعلبك الْحَكِيم وأكرمه، وسرق الْحمام الَّتِي لنابلس، وَجعل موضعهَا حمام بعلبك فَصَارَ الطَّبِيب يكْتب أَن عمك إِسْمَاعِيل فِي قصد دمشق ويبطق فيقعد الطَّائِر ببعلبك فَيَأْخُذ إِسْمَاعِيل البطاقة ويزور على الْحَكِيم أَن عمك إِسْمَاعِيل قد جمع ليعاضدك وَهُوَ وَاصل إِلَيْك ويسرحه على حمام نابلس فيعتمد الصَّالح أَيُّوب على بطاقة الْحَكِيم وَيتْرك مَا يسمع من أَخْبَار غَيره.
وَاتفقَ أَن المظفر صَاحب حماه علم سعي الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب بعلبك فِي أَخذ دمشق مَعَ خلوها عَن حَافظ، فَجهز نَائِبه سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ فِي عَسْكَر من حماه وَغَيرهَا وسلاحاً ومالاً ليحفظ دمشق لصَاحِبهَا.
وَأظْهر الْملك المظفر وَابْن أبي عَليّ أَنَّهُمَا قد اخْتَصمَا وَأَن ابْن أبي عَليّ قد غضب وَفَارق صَاحب حماه لِأَنَّهُ يُرِيد تَسْلِيم حماه للفرنج لِئَلَّا يمنعهُ شيركوه فَفطن شيركوه للحيلة، وَلما وصل ابْن أبي عَليّ إِلَى بحيرة حمص استدعى شيركوه ابْن أبي عَليّ وَأَصْحَابه ليضيفهم.
ثمَّ قبض على ابْن أبي عَليّ وَمن حضر الضِّيَافَة من أَصْحَابه وعذبهم واستصفى كل مَا مَعَهم، وَمَات ابْن أبي عَليّ وَغَيره فِي حَبسه بحمص فضعف المظفر بحماه لذَلِك كثيرا.
وَأما الصَّالح أَيُّوب فَلَمَّا بلغه قصد عَمه إِسْمَاعِيل دمشق رَحل من نابلس إِلَى الْغَوْر فَبَلغهُ اسْتِيلَاء عَمه على قلعة دمشق واعتقال وَلَده المغيث عمر ففسدت نيات عسكره عَلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا فَلم يبْق عِنْد الصَّالح أَيُّوب بالغور غير ممالكيه وأستاذ دَاره حسام الدّين أبي عَليّ فَقدم الصَّالح أَيُّوب نابلس بِمن بَقِي مَعَه، وَبلغ النَّاصِر دَاوُد ذَلِك.
وَكَانَ قد وصل من مصر إِلَى الكرك فَنزل بعسكره وَأمْسك الصَّالح أَيُّوب واعتقله بهَا، وَأمر بكفايته فَتفرق عَنهُ أَصْحَابه إِلَّا نَفرا يَسِيرا.
ثمَّ أرسل أَخُو الصَّالح الْملك الْعَادِل أَبُو بكر صَاحب مصر يَطْلُبهُ من النَّاصِر دَاوُد فَأتى فتهدده الْعَادِل بِأخذ بِلَاده فَمَا أَفَادَ.
وفيهَا: بعد اعتقال الصَّالح بالكرك قصد النَّاصِر دَاوُد الْقُدس وَقد عمر الفرنج قلعتها بعد موت الْملك الْكَامِل فحاصرها وَفتحهَا وَخرب القلعة وبرج دَاوُد الَّذِي لم يخرب لما خرب الْقُدس أَولا.(2/164)
وفيهَا: توفّي الْمُجَاهِد شيركوه صَاحب حمص بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شادي ملك حمص وعمره نَحْو سِتّ وَخمسين سنة، وَكَانَ عسوفاً وملكها بعده ابْنه الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: أَخذ لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل سنجار من الْجواد يُونُس بن مودود بن الْملك الْعَادِل.
وفيهَا: أخرج النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك ابْن عَمه الصَّالح أَيُّوب من الْحَبْس وجاءته مماليكه وكاتبه إِلَيْهَا زُهَيْر وتحالفا فِي قبَّة الصَّخْرَة أَن مصر للصالح ودمشق والشرق للناصر دَاوُد.
وَلما تملك الصَّالح لم يَفِ للناصر بذلك، وَتَأَول بِالْإِكْرَاهِ فِي يَمِينه ثمَّ قدم غَزَّة وَعظم على الْعَادِل بِمصْر وعَلى والدته ظُهُور أَمر أَخِيه الصَّالح وَنزل على بلبيس لقصد النَّاصِر دَاوُد والصالح أَخِيه فَأرْسل إِلَى عَمه الصَّالح إِسْمَاعِيل المستولي على دمشق أَن يقصدهما من جِهَة الشَّام فَنزل الصَّالح إِسْمَاعِيل بعسكر دمشق الْغَوْر فَبينا النَّاصِر دَاوُد والصالح أَيُّوب فِي شدَّة من عسكرين قد أحاطا بهما إِذْ ركبت جمَاعَة من المماليك الأشرفية وَقَدَّمَهُمْ أيبك الأسمر وَأَحَاطُوا بدهليز الْعَادِل أبي بكر ابْن الْكَامِل واعتقلوه فِي خيمة صَغِيرَة واستدعوا الصَّالح أَيُّوب فَأَتَاهُ فَرح عَظِيم، وَقدم الصَّالح أَيُّوب والناصر دَاوُد إِلَى قلعة الْجَبَل بكرَة الْأَحَد لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وزينت للصالح الْبِلَاد وَعظم بِهِ سرُور المظفر بحماه لِأَنَّهُ كَانَ معتقلاً بالكرك والمظفر يخْطب لَهُ، وَحصل عِنْد كل من الصَّالح أَيُّوب والناصر دَاوُد استشعار من الآخر وخشي النَّاصِر دَاوُد من الْقَبْض عَلَيْهِ فَطلب دستوراً وَتوجه إِلَى بِلَاده الكرك وَغَيرهَا.
وفيهَا: وَقيل سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ توفّي صَاحب ماردين نَاصِر الدّين أرتق أرسلان بن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيل غَازِي بن أرتق الملقب بِالْملكِ الْمَنْصُور، وَملك بعده ابْنه الْملك السعيد نجم الدّين غَازِي حَتَّى توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة ظنا.
ثمَّ ملك بعده فِي السّنة الْمَذْكُورَة ابْنه الْملك المظفر قَرَأَ أرسلان بن غَازِي وَتُوفِّي المظفر هَذَا سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة ظنا.
وَملك بعده ابْنه الْأَكْبَر شمس الدّين دَاوُد تِسْعَة أشهر، ثمَّ توفّي وَملك بعده أَخُوهُ الْملك الْمَنْصُور نجم الدّين غَازِي بن قَرَأَ أرسلان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة ظنا، وَسَنذكر وَفَاته إِن شَاءَ الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسَبْعمائة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا قبض الصَّالح أَيُّوب وَقد اسْتَقر بِملك مصر عَليّ أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية وعَلى غَيره مِمَّن قبض على أَخِيه وحبسهم وَأَنْشَأَ مماليكه وَشرع فِي بِنَاء قلعة الجيزة مسكنا لَهُ.
وفيهَا: نزل الْملك الْحَافِظ أرسلان شاه بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب عَن قلعة جعبر وبالس لأخته ضيفة خاتون صَاحِبَة حلب وعوضته عزاز وَغَيرهَا لِأَنَّهُ فلج وخشي من أَوْلَاده وَطلب الْقرب من حلب ليأمنهم.
وفيهَا: كثر فَسَاد الخوارزمية بعد مُفَارقَة الصَّالح أَيُّوب الشرق، وقاربوا حلب فَقَاتلهُمْ(2/165)
عَسْكَر حلب مَعَ الْمُعظم توران شاه فَانْهَزَمَ الحلبيون هزيمَة قبيحة، وَقتل مِنْهُم خلق مِنْهُم الصَّالح بن الْأَفْضَل بن صَلَاح الدّين وَأسر الْملك الْمُعظم مقدم الْجَيْش وَغَيره وَقتلُوا بَعضهم ليفدي الْبَاقُونَ أنفسهم، ثمَّ نزلُوا جيلان ونهبوا فِي بِلَاد حلب، وَوَقع الجفيل إِلَى حلب وارتكبت الخوارزمية من الزِّنَى وَالْفَوَاحِش وَالْقَتْل مَا ارْتَكَبهُ التتر ثمَّ سَارُوا إِلَى منبج وهجموها بِالسَّيْفِ يَوْم الْخَمِيس لتسْع بَقينَ من ربيع الأول مِنْهَا، وفتكوا قتلا ونهباً وفاحشة وخربوا بلد حلب وعادوا إِلَى بِلَادهمْ حران وَمَا مَعهَا، ثمَّ أَنهم عبروا الْفُرَات من الرقة إِلَى الحبول إِلَى تل أعرن إِلَى سرمين إِلَى المعرة وهم ينهبون، وجفل مِنْهُم النَّاس وَسَار صَاحب حمص الْملك الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن شيركوه بعسكر من عَسْكَر الصَّالح بِدِمَشْق نجدة لحلب وقصدوا هم والحلبيون الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية تنهب حَتَّى نازلوا شيزر وَنزل عَسْكَر حلب على تل سُلْطَان.
ثمَّ قصد الخوارزمية جِهَة حماه بِلَا نهب لانتماء المظفر بهَا إِلَى الصَّالح أَيُّوب ثمَّ سَارُوا إِلَى سلمية، ثمَّ الرصافة يقصدون الرقة.
وَسَار عَسْكَر حلب من تل سُلْطَان إِلَيْهِم ولحقتهم الْعَرَب فَتركت الخوارزمية المكاسب والأسرى، ووصلوا إِلَى الْفُرَات فِي أَوَاخِر شعْبَان مِنْهَا ولحقهم الحلبيون وَصَاحب حمص قَاطع صفّين، فَعمل الخوارزمية ستائر وقاتلوا إِلَى اللَّيْل فعبروا الْفُرَات إِلَى حران فَسَار الحلبيون إِلَى البيرة وعبروا الْفُرَات وقصدوهم فَاقْتَتلُوا قرب الرها لتسْع بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا، فَانْهَزَمَ الخوارزمية وتبعهم الْمُسلمُونَ قتلا وأسراً حَتَّى حَال اللَّيْل.
ثمَّ سَار الْمُسلمُونَ فاستولوا على حران، وهرب الخوارزمية إِلَى بلد عانة، وبادر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل إِلَى نَصِيبين ودارا وهما للخوارزمية، فاستولى عَلَيْهِمَا وخلص من بهما من الأسرى وَمِنْهُم الْملك الْمُعظم توران شاه بن النَّاصِر صَلَاح الدّين أَسِيرًا من حِين كسرة الحلبيين فَحَمله لُؤْلُؤ إِلَى الْموصل وَقدم لَهُ تحفاً وَبعث بِهِ إِلَى عَسْكَر حلب.
وَاسْتولى عَسْكَر حلب على الرقة وسروج والرها وَرَأس عين وَمَا مَعهَا، وَاسْتولى صَاحب حمص الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم على بلد الخابور، ثمَّ سَار عَسْكَر حلب وَوصل إِلَيْهِم نجدة من الرّوم وحاصروا الْملك الْمُعظم بن الْملك الصَّالح بآمد وتسلموها مِنْهُ وَتركُوا لَهُ حصن كيفا وقلعة الْهَيْثَم، وَلم يزل ذَلِك بِيَدِهِ حَتَّى توفّي أَبوهُ الصَّالح أَيُّوب بِمصْر، وَسَار إِلَيْهَا الْمُعظم الْمَذْكُور، وَبَقِي ابْن الْمُعظم الْملك الموحد عبد الله بن الْمُعظم توران شاه بن الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب مَالِكًا لحصن كيفا إِلَى أَيَّام التتر وطالت مدَّته بهَا.
وفيهَا: هلك الْجواد يُونُس بن مودود بن الْعَادِل، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فَبَاعَ عانة من الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر، وحاصر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل سنجار، وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي غيبَة يُونُس عَنْهَا، وَلم يبْق بيد يُونُس من الْبِلَاد شَيْء فَسَار على(2/166)
الْبَريَّة إِلَى غَزَّة وَأرْسل إِلَى الْملك الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر يسْأَله فِي الْمصير إِلَيْهِ فَأبى فَدخل إِلَى عكا وَأقَام مَعَ الفرنج فَأرْسل الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق حِينَئِذٍ، وبذل للفرنج مَالا، وتسلم مِنْهُم الْجواد واعتقله ثمَّ خنقه.
وفيهَا: ولى الصَّالح أَيُّوب الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام الْقَضَاء بِمصْر وَالْوَجْه القبلي كرها، كَانَ أَولا بِدِمَشْق وَسلم الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق صفد والشقيف إِلَى الفرنج ليعضدوه على ابْن أَخِيه صَاحب مصر، فشنع الشَّيْخ عز الدّين على الصَّالح إِسْمَاعِيل لذَلِك. وَكَذَلِكَ الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وخافا من الصَّالح فقصد عز الدّين مصر وَولي الْقَضَاء كرها، وَقصد ابْن الْحَاجِب الكرك ونظم لصَاحِبهَا النَّاصِر دَاوُد مقدمته فِي النَّحْو ثمَّ سَافر من الكرك إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا اتّفقت الخوارزمية مَعَ صَاحب ميافارقين المظفر غَازِي بن الْعَادِل.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْملك الْحَافِظ نور الدّين أرسلان شاه بن الْعَادِل بن أَيُّوب بعزاز فَإِنَّهُ تعوض بهَا عَن قلعة جعبر وَنقل إِلَى حلب فَدفن فِي الفردوس وتسلم نواب النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب عزاز وقلعتها وأعمالها.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الْعَلامَة كَمَال الدّين مُوسَى بن يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة بن مَالك الْفَقِيه الشَّافِعِي.
وَكَانَ يشْتَغل فِي مَذْهَب أبي حنيفَة، وَيحل لَهُم الْجَامِع الْكَبِير، وأتقن الْمنطق والطبيعي والإلهي والرياضي والمجسطي وإقليدس والموسيقي والحساب بأنواعه، وَقَرَأَ أهل الذِّمَّة عَلَيْهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، واعترفوا أَنهم لَا يَجدونَ من يشرحها لَهُم مثله.
وَقَرَأَ كتاب سِيبَوَيْهٍ والمفصل وَغَيرهمَا، وأتقن التَّفْسِير والْحَدِيث وَقدم الشَّيْخ أثير الدّين الْأَبْهَرِيّ واسْمه الْمفضل بن عمر بن الْمفضل إِلَى الْموصل واشتغل على الشَّيْخ كَمَال الدّين الْمَذْكُور.
وَكَانَ الْأَبْهَرِيّ حِينَئِذٍ إِمَامًا فِي الْعُلُوم، وَيَأْخُذ الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ وَيقْرَأ عَلَيْهِ سِنِين عديدة، وتصانيف الْأَبْهَرِيّ إِذْ ذَاك يشْتَغل فِيهَا النَّاس، وَقصد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح الْفَقِيه الشَّافِعِي الشَّيْخ كَمَال الدّين وَسَأَلَهُ أَن يقرئه الْمنطق سرا، فقرأه عَلَيْهِ مُدَّة وَلَا يفهمهُ، فَقَالَ ابْن يُونُس: يَا فَقِيه الْمصلحَة عِنْدِي أَن تتْرك الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ لِأَن النَّاس يَعْتَقِدُونَ فِيك الْخَيْر وهم ينسبون كل من اشْتغل بِهَذَا الْفَنّ إِلَى فَسَاد الإعتقاد، فكأنك تفْسد عقائدهم فِيك، وَلَا يَصح لَك من هَذَا الْفَنّ شَيْء، فَترك قِرَاءَته ولغلبة الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة على كَمَال الدّين إتهم فِي دينه وَهَذِه الْعَادة، وَكَانَت تعتريه غَفلَة لاستيلاء الفكرة عَلَيْهِ فَعمل فِيهِ بَعضهم.(2/167)
(أجدك أَن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وَأصْبح مؤنسي)
(وعاطيته صهباء من فِيهِ مزجها ... كرقة شعري أَو كَدين ابْن يُونُس)
ومولده فِي صفر سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة بالموصل وَبهَا توفّي.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة: كَانَ بَين الخوارزمية وَمَعَهُمْ المظفر غَازِي صَاحب ميافارقين وَبَين عَسْكَر حلب وَمَعَهُمْ الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم صَاحب حمص مصَاف قرب الخابور عِنْد المجدل لثلاث بَقينَ من صفر، فَانْهَزَمَ المظفر والخوارزمية وَنهب الحلبيون مِنْهُم كثيرا ووطاقاتهم ونساءهم، وَنزل الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم فِي خيمة المظفر غَازِي واحتوى على خزانته ووطاقه، وَعَاد الحلبيون وَصَاحب حمص إِلَى حلب فِي مستهل جُمَادَى الأولى منصورين.
وفيهَا: فِي لَيْلَة الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بالقرحة والحمى ودفنت بقلعة حلب، ومولدها سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بقلعة حلب لما كَانَت حلب لأَبِيهَا الْعَادِل قبل أَن ينتزعها مِنْهُ أَخُوهُ صَلَاح الدّين ويعطيها ابْنه الظَّاهِر، وَلما ولدت كَانَ عِنْد أَبِيهَا ضيف فسماها ضيفة خاتون، وَعَاشَتْ نَحْو تسع وَخمسين سنة.
وَكَانَ الظَّاهِر غَازِي وَقد تزوج قبلهَا أُخْتهَا غازنه، وملكت ضيفة خاتون حلب بعد ابْنهَا الْعَزِيز، وأحسنت التَّدْبِير نَحْو سِتّ سِنِين، وَلما توفيت كَانَ عمر ابْن ابْنهَا النَّاصِر يُوسُف بن الْعَزِيز نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة فَأشْهد عَلَيْهِ أَنه بلغ وَملك حلب ومضافاتها والمرجع إِلَى إقبال الْأسود الْخصي الخاتوني.
وفيهَا توفّي الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بن الظَّاهِر مُحَمَّد بن النَّاصِر أَحْمد بكرَة الْجُمُعَة لعشر خلون من جُمَادَى الْآخِرَة وَمُدَّة خِلَافَته سبع عشرَة سنة إِلَّا شهرا.
وَكَانَ عادلاً وَبنى بِبَغْدَاد الْمدرسَة المستنصرية على شط دجلة من الْجَانِب الشَّرْقِي مِمَّا يَلِي دَار الْخلَافَة بأوقاف جليلة على أَنْوَاع الْبر، وقلد الْخلَافَة بعده ابْنه عبد الله المستعصم بِاللَّه أَبُو أَحْمد وَهُوَ السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم، وَآخرهمْ بِبَغْدَاد، وَحسن لَهُ كبراء دولته قطع الأجناد، وَجمع المَال ومداراة التتر فَقطع أَكثر العساكر:
قلت:
(وخانه الْفَاجِر ابْن العلقمي إِلَى ... أَن بدل الدولة الغراء تبديلاً)
(وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ ... ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: سَارَتْ نجدة من حلب مَعَ نَاصح الدّين الْفَارِسِي إِلَى صَاحب الرّوم كيخسرو بن كيقباذ واجتمعوا مَعَه وقاتلوا التتر فانتصرت التتر وَقتلُوا وأسروا مِنْهُم خلقا، وتحكمت التتر فِي الْبِلَاد واستولوا على خلاط وآمد وهرب صَاحب الرّوم إِلَى معقل، ثمَّ دخل فِي طَاعَة التتر إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة،(2/168)
وَترك ابنيه الصغيرين ركن الدّين وَعز الدّين، ثمَّ هرب عز الدّين إِلَى قسطنطينية وَبَقِي ركن الدّين ملكا يُطِيع التتر وَتَحْت حكمهم وَالْحَاكِم البرواناه معِين الدّين سُلَيْمَان. والبرواناه بالعجمي الْحَاجِب ثمَّ قتل البرواناه ركن الدّين وَأقَام فِي الْملك ابْنا لَهُ صَغِيرا.
وفيهَا: تراسل الصالحان أَيُّوب صَاحب مصر، وَإِسْمَاعِيل صَاحب دمشق فِي الصُّلْح وَأَن يُطلق الصَّالح إِسْمَاعِيل المغيث فتح الدّين عمر بن الْملك الصَّالح أَيُّوب وحسام الدّين أَبَا عَليّ الهدباني وَكَانَا معتقلين عِنْد الصَّالح إِسْمَاعِيل فَأطلق حسام الدّين ابْن أبي عَليّ وجهزه إِلَى مصر، وَاسْتمرّ المغيث فِي الاعتقال وَاتفقَ الصَّالح إِسْمَاعِيل مَعَ النَّاصِر دَاوُد، واعتضدا بالفرنج، وسلما إِلَيْهِم طبرية وعسقلان فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما إِلَيْهِم أَيْضا الْقُدس بِمَا فِيهِ من المزارات.
قَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل: ومررت إِذْ ذَاك بالقدس وَقد جعلُوا على الصَّخْرَة قناني الْخمر للقربان.
قلت: وَفِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين قتل قَاضِي دمشق الرقيع الجيلي أهلك سرا لقلَّة دينه ولأخذه أَمْوَال النَّاس بالتزوير أَقَامَ شُهُود زور وأناساً يدعونَ على الرجل المتمول الْمبلغ من المَال فينكر وَيحلف فيحضر الْمُدَّعِي شُهُوده الكذبة فَيلْزمهُ بِالْمَالِ فَيَصِيح ويستغيث فَيَقُول الجيلي: اخْرُج على رِضَاء غريمك، وعامل الْوَزير على ذَلِك حَتَّى خرب ديار النَّاس إِلَى أَن قصمه الله تَعَالَى، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا وصلت الخوارزمية إِلَى غَزَّة باستدعاء الصَّالح أَيُّوب ليعضدوه على عَمه الصَّالح إِسْمَاعِيل وَسَارُوا على حارم والروج إِلَى أَطْرَاف بِلَاد دمشق حَتَّى وصلوا غَزَّة، وَوصل إِلَيْهِم عدَّة كَثِيرَة من العساكر المصرية مَعَ ركن الدّين بيبرس مَمْلُوك الْملك الصَّالح أَيُّوب وَهُوَ الَّذِي دخل مَعَه الْحَبْس فِي الكرك، وَأرْسل الصَّالح إِسْمَاعِيل عَسْكَر دمشق مَعَ الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن شيركوه صَاحب حمص، وَسَار صَاحب حمص جَرِيدَة وَدخل عكا واستدعى الفرنج على مَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَوَعدهمْ بِجُزْء من بِلَاد مصر فَخرجت الفرنج بالفارس والراجل واجتمعوا أَيْضا بِصَاحِب حمص وعسكر دمشق والكرك وَلم يحضر النَّاصِر دَاوُد ذَلِك، والتقى الْجَمْعَانِ بِظَاهِر غَزَّة فولى عَسْكَر دمشق وَصَاحب حمص والفرنج منهزمين، وتبعهم عَسْكَر مصر والخوارزمية يقتلُون، وَاسْتولى الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر على غَزَّة والسواحل والقدس.
ووصلت الأسرى والرؤوس إِلَى مصر، ثمَّ أرسل صَاحب مصر بَاقِي عسكره مَعَ معِين الدّين بن الشَّيْخ فَاجْتمع عَلَيْهِ من بِالشَّام من عَسْكَر مصر والخوارزمية وحاصروا دمشق بهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل وَصَاحب حمص إِبْرَاهِيم، وَخرجت السّنة وهم محاصروها.
وفيهَا: توفّي الْملك المظفر صَاحب حماه تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب يَوْم السبت ثامن جُمَادَى الأولى(2/169)
وَملك حماه خمس عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام مرض مِنْهَا بالفالج سنتَيْن وكسراً، وعاش ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة.
وَكَانَ شهماً فطناً يحب الْعلم وَأَهله استخدم الشَّيْخ علم الدّين قَيْصر الْمَعْرُوف بتعاسيف المهندس الْفَاضِل فِي الرياضي فَبنى لَهُ أبراجاً بحماه وطاحوناً على العَاصِي، وَعمل لَهُ كرة من الْخشب مدهونة رسم فِيهَا جَمِيع الْكَوَاكِب المرصودة، قَالَ ابْن وَاصل: وساعدته على عَملهَا.
وَملك بعد المظفر ابْنه الْملك الْمَنْصُور وَعمرَة عشر سِنِين وَشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا، وَقَامَ بتدبيره سيف الدّين طغرل بك المظفري، وشاركه شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد والطواشي مرشد والوزير بهاء الدّين بن التَّاج والمرجع إِلَى وَالِدَة الْمَنْصُور غازنة خاتون بنت الْكَامِل.
وفيهَا: توفّي الْملك المغيث عمر فِي حبس الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق فَاشْتَدَّ وَالِده الصَّالح أَيُّوب على الصَّالح إِسْمَاعِيل حنقاً.
وفيهَا: توفّي المظفر غَازِي بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب ميافارقين وَملك بعده ابْنه الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد.
وفيهَا: توجه الشَّيْخ تَاج الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن نصر الله من بني المغيزل رَسُولا إِلَى الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد بتقدمة من الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه.
وفيهَا: توفّي القَاضِي شهَاب الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن عبد الْمُنعم بن عَليّ بن مُحَمَّد الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن أبي الدَّم قَاضِي حماه توجه رَسُولا إِلَى بَغْدَاد فَمَرض بالمعرة وَعَاد مَرِيضا فَمَاتَ بحماه، وَهُوَ مؤلف التَّارِيخ الْكَبِير المظفري وَغَيره.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا سير الصَّالح إِسْمَاعِيل وزيره الْغَالِب على راية أَمِين الدولة، كَانَ سامرياً وَأسلم إِلَى الْخَلِيفَة ليشفع فِي الصُّلْح بَينه وَبَين ابْن أَخِيه فَأبى الْخَلِيفَة ذَلِك.
وفيهَا: تسلم عَسْكَر الصَّالح أَيُّوب ومقدمهم معِين الدّين بن الشَّيْخ دمشق من الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل، وَكَانَ محصوراً مَعَه بهَا إِبْرَاهِيم بن شيركوه صَاحب حمص فَسلم دمشق لتستقر بيد إِسْمَاعِيل بعلبك وَبصرى والسواد وتستقر بيد صَاحب حمص حمص وَمَا مَعهَا فأجابهما ابْن الشَّيْخ إِلَى ذَلِك، وَوصل إِلَى دمشق حسام الدّين بن أبي عَليّ بِمن مَعَه من عَسْكَر مصر، وَبعد تَسْلِيمهَا توفّي بهَا ابْن الشَّيْخ، وَبَقِي حسام الدّين بن أبي عَليّ نائبها للصالح أَيُّوب.
وَكَانَ الخوارزمية يطْعمُون أَن يحصل لَهُم بِفَتْح دمشق إقطاعات تكفيهم، فَلَمَّا لم يحصل لَهُم ذَلِك صَارُوا مَعَ الصَّالح إِسْمَاعِيل وانضم إِلَيْهِم النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك(2/170)
وَسَارُوا وحصروا دمشق فقاسى أَهلهَا من الغلاء مَا لم يسمع بِمثلِهِ وحفظها حسام الدّين بن أبي عَليّ أتم حفظ وَخرجت السّنة وَالْأَمر كَذَلِك.
وفيهَا: قصد التتر بَغْدَاد فَخرجت عَسَاكِر بَغْدَاد للقائهم، فَانْهَزَمَ التتر لَيْلًا.
وفيهَا: توفيت ربيعَة خاتون أُخْت السُّلْطَان صَلَاح الدّين بدار العقيقي بِدِمَشْق جَاوَزت الثَّمَانِينَ، وَبنت مدرسة حنبلية بجبل الصالحية.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان " ابْن الصّلاح " الْفَقِيه الْمُحدث.
قلت: وَكَانَ رَحمَه الله مُسَدّد الْفَتَاوَى، وَكرر على الْمُهَذّب كُله وَهُوَ أَمْرَد وَتَوَلَّى الْإِعَادَة لعماد الدّين بن يُونُس بالموصل.
ثمَّ حصل علم الحَدِيث بخراسان ثمَّ تولى تدريس الناصرية بالقدس، ثمَّ تولى الرواحية بِدِمَشْق، وَبنى الْأَشْرَف بن الْعَادِل بن أَيُّوب دَار الحَدِيث بِدِمَشْق وولاه تدريسها، ثمَّ تولى تدريس مدرسة سِتّ الشَّام زمرد خاتون بنت أَيُّوب شَقِيقَة شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب دَاخل الْبَلَد قبلي البيمارستان النوري، وَهِي الَّتِي بنت الْمدرسَة الْأُخْرَى ظَاهر دمشق وَبهَا قبرها وقبر أَخِيهَا الْمَذْكُور وَزوجهَا نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص.
وَله: مَنَاسِك الْحَج وإشكالات على الْوَسِيط، وَجمع بعض أَصْحَابه فَتَاوِيهِ وَدفن بمقابر الصُّوفِيَّة خَارج بَاب النَّصْر بِدِمَشْق.
وَتُوفِّي أَبوهُ صَلَاح الدّين، وَكَانَ من جلة مَشَايِخ الأكراد الْمشَار إِلَيْهِم فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان عشر وسِتمِائَة بحلب وَدفن بالجبيل، وَتَوَلَّى بحلب تدريس الأَسدِية المنسوبة إِلَى أَسد الدّين شيركوه بن شاذي، واشتغل بِبَغْدَاد على شرف الدّين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي علم الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله السخاوي لَهُ الْمفضل فِي شرح الْمفصل وسفر السَّعَادَة وسفير الإفادة فِيهِ مشكلات نحوية وأبيات مَعَاني ولغة وعربية، وَله شرح الشاطبية.
قلت: قَرَأَ الشاطبية على ناظمها، قَالَ القَاضِي شمس الدّين بن خلكان: وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم، قَالَ: ورأيته بِدِمَشْق وَالنَّاس يزدحمون عَلَيْهِ فِي الْجَامِع للْقِرَاءَة وَلَا يَصح لوَاحِد نوبَة إِلَّا بعد زمَان، ورأيته مرَارًا وَهُوَ رَاكب بَهِيمَة يصعد إِلَى جبل الصالحية وَحَوله إثنان وَثَلَاثَة وكل وَاحِد يقْرَأ ميعاده فِي مَوضِع غير الآخر وَالْكل فِي دفْعَة وَاحِدَة وَهُوَ يرد على الْجَمِيع، وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَقد نَيف على التسعين وَلما احْتضرَ أنْشد لنَفسِهِ:
(قَالُوا غَدا نأتي ديار الْحمى ... ونترك الركب بمغناهم)(2/171)
(وكل من كَانَ مُطيعًا لَهُم ... أصبح مَسْرُورا بلقياهم)
(قلت فلي ذَنْب فَمَا حيلتي ... بِأَيّ وَجه أتلقاهم)
(قَالُوا أَلَيْسَ الْعَفو من شَأْنهمْ ... لَا سِيمَا عَمَّن ترجاهم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: بحلب توفّي الشَّيْخ موفق الدّين أَبُو الْبَقَاء يعِيش بن مُحَمَّد ابْن عَليّ الْموصِلِي الْحلَبِي المولد والمنشأ النَّحْوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ، كَانَ ظريفاً محاضراً شرح الْمفصل غَايَة وَله غَيره، ومولده فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَدفن بالْمقَام.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: كسر الخوارزمية على الْقصب.
وفيهَا: اتّفق الحلبيون وَصَاحب حمص الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم وَسَارُوا مَعَ الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل وقصدوا الخوارزمية والصالح إِسْمَاعِيل والناصر دَاوُد وهم محاصرون لدمشق، فرحلت الخوارزمية عَنْهَا إِلَى الحلبيين وَصَاحب حمص والتقوا على الْقصب فَانْهَزَمَ الخوارزمية هزيمَة تشتتوا بعْدهَا، وَقتل مقدمهم حسام الدّين بركَة خَان وَحمل رَأسه إِلَى حلب، وَلحق كشلوخان فِي طَائِفَة مِنْهُم بالتتر وخدم مِنْهُم جمَاعَة فِي الشَّام مُتَفَرّقين وَكفى الله النَّاس شرهم، وَبلغ ذَلِك الصَّالح أَيُّوب بِمصْر فدق البشائر وَرَضي عَن صَاحب حمص.
وَسَار الصَّالح إِسْمَاعِيل إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب واستجار بِهِ فَأرْسل الصَّالح أَيُّوب يَطْلُبهُ فَمَا سلمه إِلَيْهِ، وَلما جرى ذَلِك نَازل حسام الدّين بن أبي عَليّ بِمن عِنْده من عَسْكَر دمشق بعلبك وَبهَا أَوْلَاد الصَّالح إِسْمَاعِيل وتسلمها بالأمان، وَأرْسل أَوْلَاد الصَّالح إِسْمَاعِيل فاعتقلهم الصَّالح أَيُّوب بِمصْر، وَكَذَلِكَ اعتقل أَمِين الدولة وَزِير الصَّالح إِسْمَاعِيل وأستاذ دَاره نَاصِر الدّين يغمور وزينت الْقَاهِرَة ومصر لفتح بعلبك، وَاتفقَ فِي هَذِه الْأَيَّام وَفَاة صَاحب عجلون سيف الدّين قلج فتسلم الصَّالح أَيُّوب عجلون أَيْضا.
ثمَّ أرسل الْملك الصَّالح عسكراً مَعَ الْأَمِير فَخر الدّين يُوسُف بن الشَّيْخ، وَكَانَ فَخر الدّين قد اعتقله الْعَادِل أَبُو بكر بن الْكَامِل، وَلما ملك الصَّالح أَيُّوب أطلقهُ ولازم بَيته مُدَّة، ثمَّ قدمه فِي هَذِه السّنة، وجهزه إِلَى حَرْب النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك، فاستولى على جَمِيع بِلَاد النَّاصِر، وَولي عَلَيْهَا، وحاصر الكرك، وَخرب ضياعها، وأضعف النَّاصِر عَظِيما بِحَيْثُ لم يبْق لَهُ سوى الكرك.
وفيهَا: حبس الصَّالح أَيُّوب مَمْلُوكه بيبرس صَاحبه فِي اعتقاله بالكرك لميل بيبرس إِلَى الخوارزمية وَإِلَى النَّاصِر دَاوُد ولكونه صَار مَعَهم لما جرده إِلَى غَزَّة كَمَا تقدم، فَأرْسل أستاذه الصَّالح أَيُّوب إِلَيْهِ واستماله فوصل إِلَيْهِ فاعتقله، فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
وفيهَا: أرسل الْملك الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم صَاحب حمص وَطلب دستوراً من الصَّالح أَيُّوب ليصل إِلَى خدمته.
وَكَانَ قد حصل لإِبْرَاهِيم سل وَسَار على تِلْكَ الْحَالة من حمص قَاصِدا مصر وَقَوي بِهِ(2/172)
الْمَرَض بِدِمَشْق فَتوفي بهَا، وَنقل فَدفن بحمص، وملكها بعده ابْنه الْأَشْرَف مظفر الدّين مُوسَى.
وفيهَا: بعد فتح دمشق وبعلبك استدعى الصَّالح أَيُّوب حسام الدّين بن أبي عَليّ إِلَى مصر، وَأرْسل مَوْضِعه نَائِبا بِدِمَشْق الْأَمِير جمال الدّين بن مطروح، وَلما وصل ابْن أبي عَليّ إِلَى مصر استنابه الْملك الصَّالح بهَا، وَسَار إِلَى دمشق، ثمَّ إِلَى بعلبك ثمَّ عَاد إِلَى دمشق، وَوصل إِلَيْهِ الْمَنْصُور صَاحب حماه، والأشرف مُوسَى صَاحب حمص فأكرمهما، وعادا وَاسْتمرّ هُوَ بِالشَّام حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: توفّي عماد الدّين دَاوُد بن موسك بالكرك، وَكَانَ جَامعا لمكارم الْأَخْلَاق.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الصَّالح أَيُّوب إِلَى مصر وفيهَا فتح فَخر الدّين بن الشَّيْخ قلعتي عسقلان وطبرية والصالح بِالشَّام بعد محاصرتهما مُدَّة وَكُنَّا قد ذكرنَا تسليمهما إِلَى الفرنج سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فعمروهما وملكوهما إِلَى هَذِه السّنة.
وفيهَا: سلم الْأَشْرَف صَاحب حمص سميميس للصالح أَيُّوب.
وفيهَا: توفّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن السُّلْطَان الْكَامِل بِالْحَبْسِ وَأمه السِّت السودا تعرف ببنت الْفَقِيه نصر كَانَ مسجوناً مُنْذُ قبض عَلَيْهِ ببلبيس فمقامه بالسجن نَحْو ثَمَان سِنِين، وعمره نَحْو ثَلَاثِينَ، وَترك ابْنه فتح الدّين عمر الْملك المغيث ملك الكرك فِيمَا بعد ثمَّ قَتله الظَّاهِر بيبرس.
وفيهَا: أحضرت عَائِشَة خاتون بنت الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر صَاحب حلب إِلَى زَوجهَا الْمَنْصُور صَاحب حماه وَمَعَهَا أمهَا فَاطِمَة خاتون بنت الْكَامِل بن الْعَادِل فِي رَمَضَان واحتفل للقائها.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ الحريري أَبُو مُحَمَّد بن أبي الْحسن بن مَنْصُور، وَقدم دمشق وَهُوَ حدث، وربى يَتِيما، وبرع فِي صَنْعَة الْمروزِي حَتَّى عمل قبَاء بِلَا خياطَة ورفو
ثمَّ تزهد وصدرت عَنهُ أَحْوَال وكشف، فَقَالَ أَكثر عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان: هَذَا كشف شيطاني.
وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وَلَا سِيمَا عِنْد الْأَحْدَاث مَا وَقع نظره على أحد مِنْهُم وَلَو كَانَ ابْن أَمِير أَو غَيره إِلَّا وَمَال إِلَيْهِ وَأحسن ظَنّه بِهِ، وَبلغ الْعلمَاء عَنهُ كَلِمَات صعبة مثل قَوْله: لَو دخل مريدي بلد الرّوم، وَتنصرُوا كل لحم الْخِنْزِير، وَشرب الْخمر كَانَ فِي شغلي، وَقَوله: لَو ذبحت بيَدي سبعين نَبيا مَا اعتقدت أَنِّي مُخطئ.
وَقَوله نظماً:
(أَمْرَد يقدم مداسي ... أخير من رضوَان)(2/173)
(وَربع قحبة عِنْدِي ... أحسن من الأكوان)
وَقَوله:
(كم يتعبني بصبحة الأجساد ... كم يسهرني بلذة الميعاد)
(جد لي بمدامة تقَوِّي رمقي ... وَالْجنَّة جد بهَا على الزهاد)
فَرفع الْعلمَاء أمره إِلَى السُّلْطَان فَلم يقدم على قَتله بل سجنه مرّة بعد أُخْرَى ثمَّ أطلق، وَكَانَ الرجل خراب الظَّاهِر والسرائر عِنْد الله تَعَالَى، وَله مكاشفات وأحوال ومحبون وَهُوَ، إِلَى الْآن بَين قوم منكرين عَلَيْهِ وَقوم مائلين إِلَيْهِ والتوقف هُنَا أسلم، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عَلَاء الدّين قرا سنقر الساقي مَمْلُوك الْعَادِل بن أَيُّوب وَصَارَت ممالكيه بِالْوَلَاءِ للصالح أَيُّوب، وَمِنْهُم سيف الدّين قلاوون ملك مصر وَالشَّام.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالشلوبيني بإشبيلية نحوي فَاضل شرح الجزولية، وَفِيه مَعَ فَضله بله وغفلة، ويكنى أَبَا عَليّ وشلوبين حصن منيع بالأندلس من سواحل غرناطة على بَحر الرّوم؛ قَالَه ابْن سعيد فِي الْمغرب فِي أَخْبَار الْمغرب.
وَقَول ابْن خلكان: الشلوبين الْأَبْيَض الْأَشْقَر بلغتهم وهم إِذْ لم يقف على الْمغرب، وَكَانَ الشلوبيني عِنْدهم فِي طبقَة الْفَارِسِي.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا سلم الْأَشْرَف مُوسَى حمص إِلَى عَسْكَر النَّاصِر صَاحب حلب بعد حِصَار وتعوض بتل بَاشر على مَا بِيَدِهِ من تدمر والرحبة فغاظ ذَلِك نجم الدّين أَيُّوب وَقدم إِلَى دمشق مَرِيضا، وَأرْسل عسكراً إِلَى حمص فحوصرت بالمجانيق، ثمَّ بلغه وُصُول الفرنج إِلَى جِهَة دمياط، وَوصل نجم الدّين الباذراني رَسُول الْخَلِيفَة بِالصُّلْحِ بَين الصَّالح والحلبيين وَأَن تَسْتَقِر حمص للحلبيين، فَأجَاب الصَّالح إِلَى ذَلِك واستناب بِدِمَشْق جمال الدّين بن يغمور وعزل ابْن مطروح ورحل الصَّالح فِي محفة من دمشق.
وفيهَا: فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عمر بن أبي بكر بن يُونُس الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاجِب كَانَ وَالِده كردياً حجب للأمير عز الدّين موسك الصلاحي، وَقَرَأَ ابْنه الْمَذْكُور فِي صغره بِالْقَاهِرَةِ الْقُرْآن ثمَّ الْفِقْه على مَذْهَب مَالك والعربية، وبرع ثمَّ درس بِجَامِع دمشق وأكب الْخلق عَلَيْهِ بالاشتغال، ثمَّ قدم الْقَاهِرَة ثمَّ الْإسْكَنْدَريَّة فَتوفي بهَا، ومولده أَوَاخِر سنة سبعين وَخَمْسمِائة بأسنا من الصَّعِيد.
وَكَانَ متفنناً وَغلب عَلَيْهِ النَّحْو وأصول الْفِقْه ومختصراته الثَّلَاثَة فِي النَّحْو والتصريف وَالْأُصُول، وَقد طبق ذكرهَا الْبِلَاد، وَلَا سِيمَا الْعَجم، ومصنفاته كَثِيرَة.
قلت: قَالَ القَاضِي شمس الدّين بن خلكان رَحمَه الله تَعَالَى: وَجَاءَنِي - يَعْنِي بِالْقَاهِرَةِ - مرَارًا بِسَبَب أَدَاء شَهَادَات وَسَأَلته عَن مَسْأَلَة اعْتِرَاض الشَّرْط على الشَّرْط فِي قَوْلهم إِن أكلت إِن شربت فَأَنت طَالِق لم تعين تَقْدِيم الشّرْب على الْأكل حَتَّى لَو أكلت ثمَّ شربت لَا تطلق.(2/174)
وَسَأَلته عَن بَيت أبي الطّيب:
(لقد تصبرت حَتَّى لات مصطبر ... فَالْآن أقحم حَتَّى لات مقتحم)
لم جر مصطبر ومقتحم ولات لَيست من أدوات الْجَرّ فَأحْسن الْجَواب عَنْهُمَا وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت مَا قَالَه انْتهى كَلَامه.
أما الْمَسْأَلَة الأولى فَإِنَّمَا تعين فِيهَا تَقْدِيم الثَّانِي على الأول لِأَن الشَّرْط قد دخل على الشَّرْط فَتعلق الأول بِالثَّانِي والتعيلق يقبل التَّعْلِيق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم} إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم تَقْدِيره إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم فَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم، وَأفْتى الْقفال بِاشْتِرَاط تَقْدِيم الْمَذْكُور أَولا، فَإِن قدمت الثَّانِي لم تطلق، وَمَال الإِمَام إِلَى أَنه لَا يشْتَرط التَّرْتِيب، وَيتَعَلَّق الطَّلَاق بحصولهما كَيفَ كَانَ، وَلَا شكّ أَن بَين الْآيَة وَبَين الصُّورَة الْفِقْهِيَّة فرقا وَفِيه بحث وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
وَلَو قَالَ: أردْت الْعَطف وحذفت حرفه ومرادي إِن أكلت وَإِن شربت فَأَنت طَالِق.
وَقبل ذَلِك مِنْهُ فَلَا يشْتَرط تَقْدِيم الثَّانِي على الأول بل تطلق بهما كَيفَ وَقعا إِلَّا عِنْد من يرى أَن الْوَاو للتَّرْتِيب وَحذف حرف الْعَطف جَائِز نظماً ونثراً، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدق رجل من ديناره من درهمه من صَاع بره من صَاع تمره.
وروى أَبُو زيد: أكلت خَبرا لَحْمًا تَمرا.
قَالَ الشَّاعِر:
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا ... يغْرس الود فِي فؤاد الْكَرِيم)
وَأما بَيت أبي الطّيب فمصطبر ومقتحم مجروران قيل بِمن الْمقدرَة وَهُوَ بعيد وَقيل جراً بحتى وَتَكون لات لمُجَرّد النَّفْي على حد قَوْلهم: سَافَرت بِلَا زَاد قَالَه بعض نحاة الْعَصْر، وَلَو قيل إِنَّه مجرور على تَقْدِير حَتَّى لات حِين مصطبر ولات حِين مقتحم فَيكون الْمُضَاف وَهُوَ حِين كَأَنَّهُ ثَابت لم أر فِيهِ بعدا، وَقُرِئَ: ولات حِين مناص بالخفض.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(طلبُوا صلحنا ولات أران ... فأجبنا أَن لَيْسَ حِين بَقَاء)
وَقَالَ:
(فلتعرفن شمائلا محمودة ... ولتندمن ولات سَاعَة مندم)
وَفِي شرح التسهيل أَن ذَلِك وَجه على وَجْهَيْن، الأول أَن لات بِمَعْنى غير وَصفا لمَحْذُوف كَأَنَّهُ قيل فَنَادوا حينا غير حِين مناص، ورد هَذَا التَّأْوِيل بِلُزُوم زِيَادَة الْوَاو فَلَا فَائِدَة لَهَا حِينَئِذٍ، الثَّانِي أَن الكسرة كسرة بِنَاء مَقْطُوعَة عَن مُضَاف وَمَا بعد لات يقطع عَن الْإِضَافَة فيبنى، وَالتَّقْدِير ولات حِين مناصهم، وَالْإِضَافَة إِلَى المناص كَأَنَّهَا إِضَافَة إِلَى الْحِين لِأَنَّهُ مَعَه كشيء وَاحِد كَأَنَّهُ قَالَ: ولات حِين هم، ثمَّ حذف الضَّمِير من مناص فَكَأَنَّهُ حذف من الْحِين فتضمنه الْحِين وَهَذَا بعيد جدا، انْتهى مُلَخصا.(2/175)
قلت: وَمَا أقرب التأويلات السَّابِقَة لَو كَانَت مسطورة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عز الدّين أيبك المعظمي فِي محبسه بِالْقَاهِرَةِ أَخذ أستاذه الْمُعظم صرخد من صَاحبهَا ابْن قراجا وَأَعْطَاهَا لَهُ، وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة حَبسه بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى مَاتَ، وَدفن بِمصْر، ثمَّ نقل إِلَى تربة أَنْشَأَهَا بِدِمَشْق بالشرق الْأَعْلَى.
قلت: وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة توفّي ابْن البيطار الطَّبِيب البارع ضِيَاء الدّين عبد الله بن أَحْمد المالقي صَاحب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة انْتَهَت إِلَيْهِ معرفَة تَحْقِيق النَّبَات وَصِفَاته وأماكنه ومنافعه، وَله اتِّصَال بِخِدْمَة الْملك الْكَامِل ثمَّ ابْنه الصَّالح وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا فِي صفر ملكت الفرنج دمياط خَالِيَة مفتحة الْأَبْوَاب بِلَا قتال، وَكَانَ قد شحنها الصَّالح بالذخائر وَجعل فِيهَا بني كنَانَة الشجعان فَهَرَبُوا مِنْهَا خوفًا من برنس إفرنسيس وَمَعَهُ خَمْسُونَ ألف مقَاتل إفرنجي، ثمَّ شنق الصَّالح بني كنَانَة عَن آخِرهم، وَنزل المنصورة لخمس بَقينَ من صفر وَهُوَ مَرِيض السل، والبرنس بلغتهم الْملك، وإفرنسيس أمة عَظِيمَة من أُمَم الفرنج.
وفيهَا: استجار النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب الكرك بالناصر صَاحب حلب لما ضَاقَ أمره، وَأرْسل من حلب إِلَى الْخَلِيفَة أودع عِنْده جوهراَ يُسَاوِي مائَة ألف دِينَار إِذا بيع بالهوان وَوصل خطّ الْخَلِيفَة المستعصم بِتَسْلِيمِهِ، فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ لما وَقع من الْحَوَادِث، واستناب على الكرك ابْنه الْمُعظم عِيسَى، فَغَضب ابناه الأكبران الأمجد حسن وَالظَّاهِر شاذي لذَلِك، وَبعد سفر أَبِيهِمَا قبضا على أخيهما عِيسَى وسلما الكرك إِلَى الصَّالح أَيُّوب وَهُوَ بالمنصورة بإقطاع رضياه، فسر الصَّالح بذلك لحقده على صَاحبهَا.
وفيهَا توفّي الْملك الصَّالح: أَيُّوب بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فِي شعْبَان، وَملكه لمصر تسع سِنِين وَكسر، وعمره نَحْو أَرْبَعِينَ، وَكَانَ مهيباً طَاهِر اللِّسَان والذيل، لَا يُخَاطب إِلَّا جَوَابا يكْتب بِيَدِهِ على الْقَصَص، وَيخرج للموقعين.
وَكَانَ أَكثر الْأُمَرَاء مماليكه، ورتب جمَاعَة من المماليك التّرْك حول دهليزه وَسَمَّاهُمْ البحرية، وَبنى قلعة الجزيرة وَبنى الصالحية بَلْدَة بالسائح وَبنى بهَا قصوراً للتصيد وَبنى قصر الْكَبْش عَظِيما بَين مصر والقاهرة، وَأمه ورد المنى جَارِيَة سَوْدَاء وَتُوفِّي ابْنه فتح الدّين عمر فِي حبس الصَّالح إِسْمَاعِيل.
وَتُوفِّي ابْنه الآخر قبله وَلم يخلف إِلَّا ابْنه الْمُعظم توران شاه بحصن كيفا وَمَا أوصى الصَّالح بِالْملكِ لأحد، فَلَمَّا توفّي أحضرت شَجَرَة الدّرّ جَارِيَته فَخر الدّين ابْن الشَّيْخ والطواشي محسناً وعرفتهما بِمَوْتِهِ وكتموا ذَلِك خوف الفرنج وجمعت شَجَرَة الدّرّ الْأُمَرَاء، وَقَالَت: السُّلْطَان يَأْمُركُمْ أَن تحلفُوا لَهُ، ثمَّ من بعده لِابْنِهِ الْمُعظم الْمُقِيم بحصن كيفا وَلابْن الشَّيْخ بالأتابكية.(2/176)
وكتبت إِلَى حسام الدّين أبي عَليّ النَّائِب بِمصْر كَذَلِك فحلفتهم وَغَيرهم بِمصْر والقاهرة على ذَلِك فِي شعْبَان مِنْهَا، وَكَانَ الْخَادِم السُّهيْلي يكْتب لَهَا المراسيم وَعَلَيْهَا عَلامَة الصَّالح فَلَا يشك أحد إِنَّهَا علامته.
ثمَّ استدعى فَخر الدّين بن الشَّيْخ الْمُعظم من حصن كيفا فشاع موت الصَّالح وَلَكِن لَا يَجْسُر أحد على التفوه بِهِ، وَتقدم الفرنج عَن دمياط إِلَى المنصورة فجرت وقْعَة فِي مستهل رَمَضَان اسْتشْهد فِيهَا كبار من الْمُسلمين، وَنزلت الفرنج شَرّ مساح ثمَّ قربوا ثمَّ كبسوا الْمُسلمين على المنصورة بكرَة الثُّلَاثَاء لخمس من ذِي الْقعدَة، وَكَانَ ابْن الشَّيْخ وَهُوَ فَخر الدّين يُوسُف بن صدر الدّين حمويه فِي حمام المنصورة فَركب مسرعاً فصادفه جمَاعَة من الفرنج فَقَتَلُوهُ فَعَاشَ سعيداً وَمَات شَهِيدا ثمَّ حمل الْمُسلمُونَ وَالتّرْك البحرية فهزموا الفرنج.
وَأما الْمُعظم فوصل من حصنه إِلَى دمشق فِي رَمَضَان مِنْهَا وَعِيد بهَا وَوصل إِلَى المنصورة لتسْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، ثمَّ اشْتَدَّ الْقِتَال برا وبحراً بَين الفرنج وَالْمُسْلِمين وَأخذُوا من الفرنج اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مركبا تِسْعَة شواني فضعف الفرنج وبذلوا دمياط ليعطوا الْقُدس وَبَعض السواحل فَمَا أجِيبُوا إِلَى ذَلِك.
وفيهَا: تقَاتل لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل، وعسكر النَّاصِر صَاحب حلب بِظَاهِر نَصِيبين، فانهزمت المواصلة وَنهب الحلبيون أثقال لُؤْلُؤ وخيامه وَأخذُوا نَصِيبين من لُؤْلُؤ، ثمَّ تسلموا دَارا وخربوها بعد حِصَار ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ تسلموا قرقيسياً وعادوا.
قلت: وفيهَا بحلب توفّي شهَاب الدّين مُحَمَّد المنشي النسوي صَاحب تَارِيخ جلال الدّين بن خوارزم شاه وَكَاتب انشائه اتَّصل بعد قَتله بالمظفر غَازِي صَاحب ميافارقين وخدمه ونادمه ثمَّ تغير غَازِي عَلَيْهِ واستحال كعادة استحالاته فتلطف حَتَّى خرج من اعتقاله، واتصل ببركة خَان كَبِير الخوارزمية فَعرف لَهُ حَقه وموضعه من جلال الدّين وَسلم إِلَيْهِ بِلَاده فَبسط الْعدْل.
وَكَانَ بركَة خَان فِي غَايَة من الْجَوْدَة وَأَصْحَابه غشمة، فَلَمَّا قتل بركَة خَان شكره النَّاس أجمع غير الحلبيين فأمروه وأحسنوا إِلَيْهِ، وَتوجه رَسُولا عَنْهُم مَرَّات إِلَى التتر فعظموه على سَائِر الرُّسُل لمكانه من جلال الدّين وحصلت لَهُ ثروة ضخمة وَتقدم عِنْد النَّاصِر صَاحب حلب وَلم يزل بحلب حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَانَ كثير الْمُرُوءَة عذب الْأَلْفَاظ حَلِيمًا، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَلَاء:
(فَذَلِك الشَّيْخ عَالما والفتى كرماً ... تلفيه أَزْهَر بالنعتين منعوتاً)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فِيهَا فِي الثَّالِث من الْمحرم رَحل الفرنج عَن مقاتلة الْمُسلمين بالمنصورة إِلَى دمياط لفناء أَزْوَادهم وَقطع الْمُسلمين المدد من دمياط عَنْهُم، وَركب الْمُسلمُونَ أكتافهم وَعند الصَّباح خالطوهم وبذلوا السَّيْف فَقتلُوا من الفرنج ثَلَاثِينَ ألفا، وانحاز برنس إفرنسيس وَمن مَعَه من الْمُلُوك إِلَى بلد هُنَاكَ، وطلبوا الْأمان(2/177)
فَأَمنَهُمْ الطواشي محسن الصَّالِحِي ثمَّ احتيط عَلَيْهِم وأحضروا إِلَى المنصورة
وَقيد برنس إفرنسيس وَجعل فِي دَار كَانَ ينزلها كَاتب الْإِنْشَاء فَخر الدّين بن لُقْمَان، ووكل بِهِ الطواشي صبيح المعظمي، وَلما جرى ذَلِك رَحل الْملك الْمُعظم بالعساكر من الْمَنْصُور، وَنزل بفارسكور، وَنصب لَهُ بهَا برج خشب.
وفيهَا: يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلة بقيت من الْمحرم قتل الْملك الْمُعظم بن الصَّالح بن الْكَامِل بن الْعَادِل بن أَيُّوب فَإِنَّهُ أطرح جَانب أُمَرَاء أَبِيه ومماليكه، وبلغهم تهديده وَاعْتمد على من وصل مَعَه من حصن كيفا، وَكَانُوا أطرافاً فَهَجَمُوا عَلَيْهِ وَأول من ضربه ركن الدّين بيبرس الَّذِي صَار سُلْطَانا فهرب الْمُعظم إِلَى البرج الْخشب فَأَحْرقُوهُ فَطلب الْبَحْر ليركب حراقنه فحالوا بَينه وَبَينهَا بالنشاب فَطرح نَفسه فِي الْبَحْر فأدركوه واتموا قَتله نَهَار الْإِثْنَيْنِ.
فمدة ملكه لمصر شَهْرَان وَأَيَّام ثمَّ حلفوا لشَجَرَة الدّرّ زَوْجَة الصَّالح وأقاموها فِي الْملك، وخطب لَهَا وَضربت باسمها السِّكَّة، وَكَانَ نقش السِّكَّة المستعصمية الصالحية ملكة الْمُسلمين وَالِدَة الْملك الْمَنْصُور خَلِيل يعنون بخليل ابْنهَا الَّذِي مَاتَ صَغِيرا، وعلامتها على المناشير والتواقيع وَالِدَة خَلِيل، وأقيم عز الدّين أيبك الجاشنكير الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالتركماني أتابك الْعَسْكَر.
ثمَّ أَن برنس إفرنسيس تقدم إِلَى نوابه فَسَلمُوا دمياط إِلَى الْمُسلمين وأصعد إِلَيْهَا الْعلم السلطاني يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث صفر مِنْهَا، وَأطلق برنس إفرنسيس وَركب الْبَحْر بِمن سلم مَعَه فِي غَد الْجُمُعَة الْمَذْكُورَة وأقلعوا إِلَى عكا، وَفِي ذَلِك يَقُول جمال الدّين بن مطروح:
(قل للفرنسيس إِذا جِئْته ... مقَال صدق عَن قؤول نصيح)
(أتيت مصر تبتغي ملكهَا ... تحسب أَن الزمر يَا طبل ريح)
(وكل اصحابك أوردتهم ... بِحسن تدبيرك بطن الضريح)
(خَمْسُونَ ألفا لَا يرى مِنْهُم ... غير قَتِيل أَو أَسِير جريح)
(وَقل لَهُم إِن اضمروا عودة ... لأخذ ثأر أَو لقصد صَحِيح)
(دَار ابْن لُقْمَان على حَالهَا ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
قلت: وَقد تذكرت بِهَذَا الْبَيْت الْأَخير إنْسَانا هوى طواشياً لآخر فعاشر المخدوم ليصل إِلَى الْخَادِم فَقلت فِيهِ:
(يَا زيد مَا عاشرت عمرا سدى ... لَكِن طواشيه صبيح مليح)
(مَوْلَاهُ قيد لَك عَن وَصله ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
وَذكرت بِهَذَا أَيْضا شَيْئا آخر وَذَلِكَ أَنِّي تعجبت من شهرة الْبَيْتَيْنِ الَّذين مَا أحكمهما بانيهما وَلَا اعتنى بمعانيهما وَمَعَ رداءة السبك سارا وحظهما يَقُول: قفا نضحك من قفا نبك.
وهما:
(مقامات الْغَرِيب بِكُل أَرض ... كبنيان الْقُصُور على الثلوج)(2/178)
(فذاب الثَّلج وانهدم البنايا ... وَقد عزم الْغَرِيب على الْخُرُوج)
فخلصتهما من ذل مقامات الْغَرِيب بكر أَرض وَأوقدت عَلَيْهِمَا فكري، فذاب الثَّلج وانهدم البنايا الْمُسْتَحقَّة للنقض وَجعلت لَهما اسْما فِي الْأَسْمَاء ونقلتهما من كَثَافَة الأَرْض إِلَى الطافة السَّمَاء.
فَقلت:
(مليح ردفه والساق مِنْهُ ... كبنيان الْقُصُور على الثلوج)
(خُذُوا من خَدّه القاني نَصِيبا ... فقد عزم الْغَرِيب على الْخُرُوج)
وَكَذَلِكَ تعجبت لاشتهار المثلين العاميين اللَّذين طبقًا الْآفَاق مَعَ ركتهما بالِاتِّفَاقِ، وهما قَول الْعَامَّة: حسبت أَن فِي السفرة جبنا، وَقَوْلهمْ: فعلت كَذَا على عَيْنك يَا تَاجر، فأفرغت الْجُبْن فِي قالب الْحسن.
فَقلت:
(جَاءَنَا ملتثماً مكتتماً ... فدعوناه لأكل وعجبنا)
(مد فِي السفرة كفا ترفاً ... فحسبنا أَن فِي السفرة جبنا)
وملأت عين التَّاجِر بالجواهر فَقلت:
(وتاجر شاهدت عشاقه ... وَالْحَرب فِيمَا بَينهم ثَائِر)
(قَالَ علام اقْتَتَلُوا هَكَذَا ... قلت على عَيْنك يَا تَاجر)
وَالله أعلم.
ثمَّ رحلت العساكر عَن دمياط فَدَخَلُوا إِلَى الْقَاهِرَة تَاسِع صفر، وَأرْسل المصريون إِلَى الْأُمَرَاء الَّذين بِدِمَشْق ليوافقوهم على مَا قدمنَا فَأَبَوا، وَكَانَ الْملك السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل صَاحب الصبيبة قد سلمهَا إِلَى الصَّالح أَيُّوب وَلما جرى ذَلِك استعادها، وَلما بلغ ذَلِك بدر الدّين الصوابي الصَّالِحِي نَائِب الكرك والشوبك أخرج من حبس الشوبك الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل بن الْعَادِل بن أَيُّوب، وَكَانَ قد حَبسه بهَا الْمُعظم توران شاه لما وصل إِلَى مصر، وتملك المغيث القلعتين الكرك والنشوبك، وَقَامَ الصوابي فِي خدمته أتم قيام.
اسْتِيلَاء النَّاصِر صَاحب حلب على دمشق
لما أَبَت أُمَرَاء دمشق مَا ذكرنَا كَاتب الْأُمَرَاء القيمرية بهَا النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب بن الْعَزِيز بن الظَّاهِر بن صَلَاح الدّين، فَسَار إِلَيْهِم، وَملك دمشق لثمان من ربيع الآخر مِنْهَا، وخلع على جمال الدّين يغمور وعَلى القيمرية واعتقل جمَاعَة من الْأُمَرَاء الصالحية، وعصت بعلبك وعجلون وشميميس مديدة ثمَّ سلمت إِلَيْهِ وَبلغ ذَلِك مصر فقبضوا على من بهَا من القيمرية وكل من اتهمَ بالميل إِلَى الحلبيين، ثمَّ أَن كبراء دولة مصر(2/179)
سلطنوا عز الدّين أيبك التركماني الجاشنكير الصَّالِحِي خشيَة من فَسَاد الْحَال بتملك الْمَرْأَة، وَركب بالصناجق السُّلْطَانِيَّة والغاشية بَين يَدَيْهِ آخر ربيع الآخر مِنْهَا.
ولقب بالمعز وَبَطلَت السِّكَّة وَالْخطْبَة الَّتِي باسم شَجَرَة الدّرّ، ثمَّ رَأَوْا أَنه لَا بُد من إِقَامَة شخص من بني أَيُّوب فِي السلطنة فاتفقوا على إِقَامَة الْأَشْرَف مُوسَى بن يُوسُف بن يُوسُف صَاحب الْيمن الْمَعْرُوف بأقسيس بن الْكَامِل بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَجعلُوا ايبك التركماني أتابكة.
وأجلس الْأَشْرَف أقسيس فِي دست الْملك: والأشراف فِي خدمته يَوْم الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الأولى مِنْهَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ بغزة جمَاعَة من عَسْكَر مصر مقدمهم خَاص ترك فَسَار إِلَيْهِم عَسْكَر دمشق فاندفعوا عَن غَزَّة إِلَى الصالحية بالسائح واتقفوا على طَاعَة المغيث صَاحب الكرك.
وخطبوا لَهُ بالصالحية يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، وَلما جرى ذَلِك نَادَى كبراء الدولة بِمصْر والقاهرة أَن الْبِلَاد للخليفة المستعصم، ثمَّ جددت الْأَيْمَان للأشرف ولأتابكه أيبك.
وَفِي خَامِس رَجَب رَحل فَارس الدّين أقطاي الصَّالِحِي الجمدار إِلَى جِهَة غَزَّة بألفي فَارس فَانْدفع بَين يَدَيْهِ من بهَا من جِهَة النَّاصِر.
وفيهَا: هدم سور دمياط فِي أَوَاخِر شعْبَان لما قاسوا بهَا من شدَّة بعد أُخْرَى، وبنوا بقربها فِي الْبر المنشية وأسوار دمياط الَّتِي هدمت من عمَارَة المتَوَكل الْخَلِيفَة العباسي.
وفيهَا: مستهل شعْبَان قبض النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب ودمشق على النَّاصِر دَاوُد الَّذِي كَانَ صَاحب الكرك واعتقله بحمص لِأَشْيَاء بلغته فخافه.
وفيهَا: سَار الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْعَزِيز بعساكره من دمشق وَمَعَهُ من مُلُوك بَيته الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل بن أَيُّوب والأشرف مُوسَى صَاحب حمص، وَله حِينَئِذٍ تل بَاشر والرحبة وتدمر، والمعظم توران شاه بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين وأخو الْمُعظم نصْرَة الدّين والأمجد حسن وَالظَّاهِر شاذي ابْنا النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل بن أَيُّوب، وتقي الدّين عَبَّاس بن الْعَادِل بن أَيُّوب ومقدم الْجَيْش شمس الدّين لُؤْلُؤ الأميني الأرمني وَإِلَيْهِ تَدْبِير المملكة سَارُوا من دمشق يَوْم الْأَحَد منتصف رَمَضَان، فاهتم المصريون لقتالهم وبرزوا إِلَى السائح وَتركُوا الْأَشْرَف الْمُسَمّى بالسلطان بقلعة الْجَبَل وَأَفْرج أيبك التركماني حِينَئِذٍ عَن الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم والسعيد عبد الْملك ابْني الصَّالح إِسْمَاعِيل المعتقلين من اسْتِيلَاء الصَّالح أَيُّوب على بعلبك، وخلع عَلَيْهِمَا ليتوهم النَّاصِر يُوسُف صَاحب دمشق وحلب من أَبِيهِمَا.
والتقى المصريون والشاميون قرب العباسية يَوْم الْخَمِيس عَاشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا فانكسر أَولا عَسْكَر مصر فخامر جمَاعَة من المماليك التّرْك العزيزية على النَّاصِر صَاحب دمشق،(2/180)
وَثَبت الْمعز أيبك التركماني فِي قَلِيل من البحرية وانضاف إِلَيْهِ جمَاعَة من العزيزية مماليك وَالِد النَّاصِر.
وَلما انْكَسَرَ المصريون وتبعهم الشاميون وَلم يشكوا فِي النَّصْر بَقِي النَّاصِر تَحت الصناجق فِي جمَاعَة يسيرَة من المتعممين لَا يَتَحَرَّك من مَوْضِعه، فَحمل عَلَيْهِ الْمعز التركماني بِمن مَعَه فَانْهَزَمَ النَّاصِر طَالب الشَّام، ثمَّ حمل أيبك التركماني على عَسْكَر شمس الدّين لُؤْلُؤ فَهَزَمَهُمْ وَأسر شمس الدّين لُؤْلُؤ، وَضرب عُنُقه بَين يَدَيْهِ وعنق الْأَمِير ضِيَاء الدّين القيمري، وَأسر يَوْمئِذٍ الصَّالح إِسْمَاعِيل والأشرف صَاحب حمص والمعظم توران شاه بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بن أَيُّوب وَأَخُوهُ نصْرَة الدّين، وَوصل عَسْكَر الْملك النَّاصِر فِي أثر المنهزمين إِلَى العباسية وضربوا بهَا دهليز الْملك النَّاصِر وَلَا يَشكونَ أَن الْهَزِيمَة تمت على المصريين، فَلَمَّا بَلغهُمْ هرب الْملك النَّاصِر اخْتلفت آراؤهم، فَأَشَارَ بَعضهم بِدُخُول الْقَاهِرَة وتملكها وَلَو قدر ذَلِك لم يبْق مَعَ أيبك التركماني من يقاتلهم بِهِ، وَكَانَ هرب فَإِن غَالب المصريين وصلوا الصَّعِيد وَأَشَارَ بَعضهم بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّام، وَكَانَ مَعَهم تَاج الْمُلُوك بن الْمُعظم جريحاً، وَكَانَت الْوَقْعَة يَوْم الْخَمِيس، وَوصل المنهزمون من المصريين إِلَى الْقَاهِرَة فِي غَد الْوَقْعَة فَلم يشك أهل مصر فِي ملك النَّاصِر لمصر.
وخطب لَهُ يَوْم الْجُمُعَة الْمَذْكُورَة بقلعة الْجَبَل بِمصْر، وَأما الْقَاهِرَة فَلم يخْطب بهَا ذَلِك الْيَوْم لأحد.
ثمَّ وَردت إِلَيْهِم الْبُشْرَى بنصر البحرية وَدخل أيبك التركماني والبحرية الْقَاهِرَة يَوْم السبت ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة وَمَعَهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل تَحت الِاحْتِيَاط وَغَيره من المعتقلين فحبسوا بقلعة الْجَبَل، وعقب ذَلِك أخرج أيبك التركماني أَمِين الدولة وَزِير الصَّالح إِسْمَاعِيل، وأستاذ دَاره يغموراً من الاعتقال وشنقهما على بَاب قلعة الْجَبَل رَابِع عشر ذِي الْقعدَة، وَفِي السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ: هجم جمَاعَة على الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل بن أَيُّوب وَهُوَ يمص قصب سكر وأخرجوه فَقَتَلُوهُ بالقرافة وَدفن هُنَاكَ وعمره نَحْو خمسين وَأمه حظية رُومِية.
وفيهَا: بعد ذَلِك أرسل فَارس الدّين اقطاي بِثَلَاثَة آلَاف فَارس فاستولى على غَزَّة ثمَّ عَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: وثب على الْمَنْصُور عمر صَاحب الْيمن مماليكه فَقَتَلُوهُ وَهُوَ عمر بن عَليّ بن رَسُول.
كَانَ أَبوهُ أستاذ دَار الْملك المسعود بن السُّلْطَان الْكَامِل، وَلما قصد المسعود الشَّام وَمَات بِمَكَّة إستناب الْمَذْكُور فاستقر نَائِبا بِالْيمن لبني أَيُّوب وَرهن إخْوَته بِمصْر لِئَلَّا يتغلب على الْيمن، وَاسْتمرّ نَائِبا بهَا حَتَّى مَاتَ قبل سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَاسْتولى على الْيمن بعده ابْنه عمر نَائِبا فَأرْسل من مصر أَعْمَامه ليعزلوه ويكونوا مَوْضِعه، فَقَتلهُمْ واستقل بِملك(2/181)
الْيمن، وتلقب بالمنصور واستكثر من المماليك التّرْك فَقَتَلُوهُ وَملك بعده ابْنه يُوسُف وتلقب بالمظفر وَصفا لَهُ الْيمن طَويلا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي الصاحب جمال الدّين يحيى بن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن حَمْزَة بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن مطروح، تقدم عِنْد الصَّالح أَيُّوب وَتَوَلَّى لَهُ وَهُوَ بالشرق نظر الْجَيْش ثمَّ اسْتَعْملهُ على دمشق ثمَّ عَزله بيغمور، وَكَانَ فَاضلا فِي النّظم والنثر.
وَله:
(عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غُصْن رطيب بالنسيم قد اغتذى)
(نشوان مَا شرب المدام وَإِنَّمَا ... أَمْسَى بِخَمْر رضابه متنبذا)
(جَاءَ العذول يلومني من بعد مَا ... أَخذ الغرام عَليّ فِيهِ مأخذا)
(لَا أرعوي لَا أَنْتَهِي لَا أنثني ... عَن حبه فليهذ فِيهِ من هذى)
(إِن عِشْت عِشْت على الغرام وَإِن أمت ... وجدا بِهِ وصبابة يَا حبذا)
قلت وَمَا أحسن مَا ضمن بَيت المتنبي وَهُوَ:
(تذكرت مَا بَين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق)
فَقَالَ:
(إِذا مَا سقاني رِيقه وَهُوَ باسم ... تذكرت مَا بَين العذيب وبارق)
(ويذكرني من قده ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق)
وَذكرت بِهَذَا مَا كنت ضمنته من أَبْيَات مَشْهُورَة للمتنبي (فَقلت) :
(بروحي وَمَالِي عَادل الْقد ظَالِم ... وَلَكِن مغنوماً نجى مِنْهُ غَانِم)
(إِذا مَا رايت الطّرف مِنْهُ وقده ... تَقول كَأَن السَّيْف للرمح شائم)
(عزائم سحر فِي ذَوي الْعَزْم طرفه ... على قدر أهل الْعَزْم تَأتي العزائم)
(نقاسي عَظِيما فِي هَوَاهُ فَلم نرع ... وتصغر فِي عين الْعَظِيم العظائم)
(فسل عَن دمي فِيهِ وَعَن فيض أدمعي ... لتعرف أَي الساقيين الغمائم)
(لَئِن شبه العشاق خديه جنَّة ... فموج المنايا حولهَا متلاطم)
وَكَذَلِكَ ضمنت بَيْتا وَاحِدًا انتسب إِلَى عَليّ " رَضِي الله عَنهُ " فَقلت:
(فيا سائلي عَن مذهبي أَن مذهبي ... وَلَاء بِهِ حب الصَّحَابَة يمزج)
(فَمن رام تقويمي فَإِنِّي مقوم ... وَمن رام تعويجي فَأَنِّي معوج)
وَكَذَلِكَ ضمنت غَالب قصيدة أبي الْعَلَاء فِي تهنئة بِرُجُوع من غزَاة بِلَاد سيس وَفتح قلعة النقير سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة على وَجه امتحان القريحة لَا فِي معِين، فَمِنْهَا قولي:
(جهادك مَقْبُول وعامك قَابل ... أَلا فِي سَبِيل الْمجد مَا أَنْت فَاعل)
(إِذا حل مَوْلَانَا بِأَرْض يحلهَا ... عفاف وإقدام وحزم ونائل)(2/182)
(وَإِن لَاحَ فِي القرطاس أسود خطه ... يَقُول الدجى يَا صبح لونك حَائِل)
(لأقلامك السمر العوالي تواضعت ... وهابتك فِي أغمادهن المناصل)
(نزلتم على الْحصن المنيع جنابه ... فَلَيْسَ يُبَالِي من يغول الغوائل)
(نصبتم عَلَيْهِ للحصار حبائلا ... كَمَا نصبت للفرقدين الحبائل)
(وزلزلتموه خيفة ومهابة ... فأثقل رضوى دون مَا هُوَ حَامِل)
(أَلا أَن جَيْشًا للنقير فاتحاً ... لآت بِمَا لم تستطعه الْأَوَائِل)
(فكم أنْشد التكفور يَا حصن لَا تبل ... وَلَو نظرت شرراً إِلَيْك الْقَبَائِل)
(فَقَالَ لَهُ اسْكُتْ مَا رَأَيْت الَّذِي أرى ... وأيسر هجري أنني عَنْك راحل)
(فَأصْبح من جور الْحَصَا كَأَنَّهُ ... أَخُو سقطة أَو ضالع مُتَحَامِل)
(رميتم حجار المنجنيق عَلَيْهِم ... ففاخرت الشهب الْحَصَا والجنادل)
(حِجَارَة سجيل لَهَا الْبَدْر خَائِف ... على نَفسه والنجم فِي الغرب مائل)
(وعدتم وللفتح الْمُبين تباشر ... وَقد حطمت فِي الدراعين العوامل)
(وفل قتال الْمُشْركين سُيُوفكُمْ ... فَمَا السَّيْف إِلَّا غمده والحمائل)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن مُسَافر الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمقري الْمَعْرُوف بتعاسيف إِمَام فِي الرياضيات، اشْتغل بِمصْر وَالشَّام، ثمَّ بالموصل على الشَّيْخ كَمَال الدّين مُوسَى بن يُونُس وَقَرَأَ عَلَيْهِ الموسيقى ثمَّ عَاد وَتُوفِّي بِدِمَشْق فِي رَجَب، ومولده سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة بأصفون من شَرْقي صَعِيد مصر.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ تَاج الدّين جَعْفَر بن مَحْمُود بن سيف الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالسراج صَاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة فِي الْعشْر الآخر من شعْبَان بحلب وَدفن بمقابر الصَّالِحين وقبر الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي الْحداد وَالشَّيْخ جَعْفَر الْمَذْكُور وَالشَّيْخ أبي الْحُسَيْن النوري متقاربات ظَاهِرَة تزار، صحب الشَّيْخ جَعْفَر الْمَذْكُور الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي.
وروى عَنهُ عوارف المعارف، وَتخرج بِهِ خلق من أَعْيَان الصلحاء مثل الشَّيْخ مهنى بن كَوْكَب الفوعي، وَمثل شَيخنَا عَيْش بن عِيسَى بن عَليّ السرجاوي وَغَيرهم، وربى المريدين على عَادَة الصُّوفِيَّة.
وَكَانَ يكاشفهم بالأحوال فِي خلواتهم، وَيحل مَا أشكل عَلَيْهِم، وَرجع بِسَبَبِهِ خلق كثير إِلَى الله فِي جبل السماق وبلد سرمين وَالْبَاب وبزاعة وحلب وَغَيرهَا، وَقرب الْعَهْد بِهِ وبمن لَقينَا من أَصْحَابه، وشهرة كراماته عِنْدهم تغني عَن ذكرهَا، وَكَانَ لَهُ رَحْمَة الله عَلَيْهِ مريدون أعزة عَلَيْهِ بالبارة، فَكَانَ إِذا رأى البارة من بعيد ينشد:
(وأحبها وَأحب منزلهَا الَّذِي ... نزلت بِهِ وَأحب أهل الْمنزل)(2/183)
وَحكي عَنهُ أَنه جاور فِي مغارة بالْكفْر الملاصق للبارة، وَكَانَ بالمغارة جب فَكَانَ كلما ختم ختمة ألْقى فِي الْجب حَصَاة حَتَّى طم الْجب بالحصى ومحاسنه وزهده وكراماته مَشْهُورَة بَين أَصْحَابه وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وسِتمِائَة: فَلم يَقع مَا يصلح للتأريخ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا اسْتَقر الصُّلْح بَين النَّاصِر صَاحب الشَّام وَبَين البحرية بِمصْر على أَن للمصريين إِلَى النَّهر الْأَزْرَق، وللناصر مَا وَرَاءه، وحضره الباذراني من جِهَة الْخَلِيفَة.
وفيهَا: قطع ايبك التركماني خبر حسام الدّين بن أبي عَليّ الهذياني، فخدم النَّاصِر بِدِمَشْق.
وفيهَا: أفرج النَّاصِر يُوسُف عَن النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم الَّذِي كَانَ صَاحب الكرك من اعتقاله بقلعة حمص بشفاعة الْخَلِيفَة وَأمره أَن لَا يسكن فِي بِلَاده وَطلب بَغْدَاد فَمَا مكن من وصولها ومنعوه وديعته الْجَوْهَر، وَكتب النَّاصِر يُوسُف إِلَى مُلُوك الْأَطْرَاف أَن لَا يأووه وَلَا يميروه فَبَقيَ فِي جِهَات عانة والحديثة وَضَاقَتْ بِهِ الْحَال بِمن مَعَه، وانضم إِلَيْهِ جمَاعَة من غزنة يرحلون وينزلون جَمِيعًا، وَلما قوي الْحر وَلم يبْق بِالْبرِّ عشب قصدُوا أزوار الْفُرَات يقاسون بق اللَّيْل وهواجر النَّهَار وَمَعَهُ أَوْلَاده.
ولابنه الظَّاهِر شاذي فَهد يصيد فِي النَّهَار مَا يزِيد على عشرَة غزلان ويمضي لَهُ ولأصحابه أَيَّام لَا يطْعمُون غير لُحُوم الغزلان.
وَاتفقَ أَن الْأَشْرَف صَاحب تل بَاشر وتدمر والرحبة أرسل إِلَى النَّاصِر مركبين موسوقين دَقِيقًا وشعيراً، فهدده صَاحب دمشق على ذَلِك، ثمَّ أَن النَّاصِر قصد مَكَانا للشرائي واستجار بِهِ فرتب لَهُ دون كِفَايَته وَأذن لَهُ فِي نزُول الأنبار - ثَلَاثَة أَيَّام عَن بَغْدَاد - والناصر دَاوُد مَعَ ذَلِك يتَضَرَّع إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم فَلَا يجِيبه وَيطْلب وديعته فيماطل عَنْهَا، وَمُدَّة مقَامه فِي البراري ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ شفع فِيهِ الْخَلِيفَة عِنْد الْملك النَّاصِر فَأذن بعوده إِلَى دمشق ورتب لَهُ مائَة ألف على بحيرة أفامية وَغَيرهَا يحصل مِنْهَا دون ثَلَاثِينَ ألفا.
وفيهَا: وصلت الْأَخْبَار من مَكَّة أَن نَارا ظَهرت من عدن وَبَعض جبالها تظهر فِي اللَّيْل وَلها فِي النَّهَار دُخان عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة:
دولة الحفصيين مُلُوك تونس: ذكرت فِي هَذِه السّنة لِأَنَّهَا كالمتوسطة لمُدَّة ملكهم نَقله الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى من الشَّيْخ الْفَاضِل ركن الدّين بن قويع التّونسِيّ قَالَ: الحفصيون أَوَّلهمْ أَبُو حَفْص عمر بن محيي الهتتاني، وهتتانة بتائين مثناتين فَوق قَبيلَة من المصامدة يَزْعمُونَ أَنهم قرشيون من بني عدي بن كَعْب رَهْط عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَأَبُو(2/184)
حَفْص من أكبر أَصْحَاب ابْن تومرت بعد عبد الْمُؤمن.
وَتَوَلَّى عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص إفريقية نِيَابَة عَن بني عبد الْمُؤمن فِي سنة ثَلَاث وسِتمِائَة، وَمَات سلخ ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة، فَتَوَلّى أَبُو الْعَلَاء من بني عبد الْمُؤمن ثمَّ توفّي فَعَادَت إفريقية إِلَى ولَايَة الحفصيين.
وَتَوَلَّى مِنْهُم عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن ذِي حَفْص سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، وكما تولى ولى أَخَاهُ أَبَا زَكَرِيَّا يحيى بن قابس وأخاه أَبَا إِبْرَاهِيم إِسْحَاق بِلَاد الجريد، ثمَّ خرج على عبد الله وَهُوَ على قابس أَصْحَابه ورجموه وطردوه وولوا مَوْضِعه أَبَا زَكَرِيَّا بن عبد الْوَاحِد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة فنقم بَنو عبد الْمُؤمن على أبي زَكَرِيَّاء ذَلِك فأسقط أَبُو زَكَرِيَّاء اسْم عبد الْمُؤمن من الْخطْبَة وَبَقِي اسْم الْمهْدي، وتملك إفريقية.
وخطب لنَفسِهِ بالأمير المرتضى واتسعت مَمْلَكَته، وَفتح تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط بِلَاد الجريد والزاب، وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى توفّي على يوفة سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وَله بتونس أبنية شامخة، وَكَانَ عَالما بالأدب، وَخلف أَرْبَعَة بَنِينَ وهم: أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وَأَبُو حَفْص عمر وَأَبُو بكر، وكنيته أَبُو يحيى وَخلف أَخَوَيْهِ أَبَا إِبْرَاهِيم إِسْحَاق وَمُحَمّد اللحياني الصَّالح الزَّاهِد.
ثمَّ تولى بعده ابْنه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء، ثمَّ خلعه عَمه أَبُو إِبْرَاهِيم وَبَايع لِأَخِيهِ اللحياني على كره مِنْهُ، فَجمع المخلوع أَصْحَابه يَوْم خلعه وَقتل عميه وَملك وتلقب، وخطب لنَفسِهِ بالمستنصر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْأُمَرَاء الرَّاشِدين.
وَفِي أَيَّامه سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وصل الفرنسيس إِلَى إفريقية، وكادت تُؤْخَذ فأماته الله وتفرق جمعه، وَفِي أَيَّامه خافه أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم فهرب ثمَّ أَقَامَ بتلمسان، وَتُوفِّي الْمُسْتَنْصر فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة فَملك ابْنه يحيى وتلقب بالواثق بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ.
وَكَانَ ضَعِيف الرَّأْي تغلب عَلَيْهِ عَمه أَبُو إِسْحَاق فَخلع الواثق نَفسه، وَملك أَبُو إِسْحَاق فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة، وخطب لنَفسِهِ بالأمير الْمُجَاهِد، وَترك زِيّ الحفصيين إِلَى زِيّ زناتة وَعَكَفَ على الشّرْب وَفرق المملكة على أَوْلَاده فذبحوا الواثق المخلوع وابنيه الْفضل وَالطّيب.
وَسلم للواثق ابْن صَغِير يلقب أَبَا عصيدة عملت أمة عصيدة وأهدتها للجيران فلقب بذلك.
ثمَّ ظهر إِنْسَان ادّعى أَنه الْفضل بن الواثق الَّذِي ذبح مَعَ أَبِيه وَجمع وَقصد أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وقهره فهرب إِلَى بجاية وَبهَا ابْنه أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز فَترك أَبُو فَارس أَبَاهُ ببجاية وَسَار بإخوته وَجمعه إِلَى الدعى بتونس، والتقى الْجَمْعَانِ فَانْهَزَمَ عَسْكَر بجاية، وَقتل أَبُو(2/185)
فَارس وَثَلَاثَة من إخْوَته، وَنَجَا لَهُ أَخ اسْمه يحيى وَعَمه أَبُو حَفْص عمر.
ثمَّ أرسل الدعي من قتل ببجاية أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وجاءه بِرَأْسِهِ ثمَّ تحدث النَّاس بِأَنَّهُ دعِي، وَاجْتمعَ الْعَرَب على عمر بن أبي زَكَرِيَّاء بعد هربه من المعركة فقصد الدعي ثَانِيًا بتونس وقهره، واستتر الدعي ثمَّ أحضر واعترف بنسبه، وَضربت عُنُقه، والدعي أَحْمد بن مَرْوَان بن أبي عمار من بجاية، كَانَ أَبوهُ يتجر إِلَى بِلَاد السودَان.
وَكَانَ على الدعي بعض شبه من الْفضل بن الواثق فَشهد لَهُ نصير الْأسود، وَكَانَ خصيصاً بالواثق المخلوع أَنه الْفضل وَجمع عَلَيْهِ الْعَرَب حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا ذكر، وَكَانَ يخْطب للدعي بالأمام الْمَنْصُور بِاللَّه وَلما اسْتَقر أَبُو حَفْص تلقب بالمستنصر بِاللَّه وَهُوَ الْمُسْتَنْصر الثَّانِي، وَسَار ابْن أَخِيه يحيى بن إِبْرَاهِيم الَّذِي سلم من المعركة إِلَى بجاية فملكها، وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ.
وَتُوفِّي الْمُسْتَنْصر الثَّانِي سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة، وَبَايع فِي مَرضه لِابْنِهِ الصَّغِير، ثمَّ وعظه الْفُقَهَاء لصِغَر ابْنه فَأبْطل بيعَته، وأخرح ولد الواثق المخلوع الَّذِي كَانَ صَغِيرا وَسلم من الذّبْح الملقب بِأبي عصيدة، وبويع صَبِيحَة موت أبي حَفْص الْمُسْتَنْصر، وَاسم أبي عصيدة أَبُو عبد الله مُحَمَّد وتقلب بالمستنصر أَيْضا وَتُوفِّي فِي أَيَّامه صَاحب بجاية الْمُنْتَخب يحيى بن إِبْرَاهِيم بن أبي زَكَرِيَّاء، وَملك بجاية بعده ابْنه خَالِد بن يحيى، وَبَقِي أَبُو عصيدة كَذَلِك حَتَّى توفّي سنة تسع وَسَبْعمائة، فَملك بعده من الحفصيين أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب ابْن تومرت، وَأقَام فِي الْملك ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا.
ثمَّ وصل خَالِد بن الْمُنْتَخب صَاحب بجاية، وَدخل تونس وَقتل أَبَا بكر سنة تسع وَسَبْعمائة، وَلما جرى ذَلِك كَانَ زَكَرِيَّاء اللحياني بِمصْر فَسَار مَعَ عَسْكَر السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى طرابلس الغرب، وَبَايَعَهُ الْعَرَب وَسَار إِلَى تونس فَخلع خَالِد بن الْمُنْتَخب وَحبس، ثمَّ قتل قصاصا بِأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن الْمُقدم الذّكر. وَملك اللحياني إفريقية وَهُوَ أَبُو يحيى زَكَرِيَّاء بن أَحْمد بن مُحَمَّد الزَّاهِد اللحياني بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب ابْن تومرت، ثمَّ تحرّك على اللحياني أَخُو خَالِد وَهُوَ أَبُو بكر بن يحيى الْمُنْتَخب، فهرب اللحياني وَأقَام بالإسكندرية وَملك أَبُو بكر الْمَذْكُور تونس وَمَا مَعهَا خلا طرابلس والمهدية فَإِنَّهُ بعد هرب اللحياني بَايع ابْنه مُحَمَّد بن اللحياني لنَفسِهِ وَقَاتل أَبَا بكر فَهَزَمَهُ أَبُو بكر، وَاسْتقر مُحَمَّد بن اللحياني بالمهدية وَله مَعهَا طرابلس.
وَكَانَ اسْتِيلَاء أبي بكر وهرب اللحياني سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة، ثمَّ وَردت على اللحياني بالإسكندرية مكاتبات من تونس فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة يذكرُونَ فِيهَا أَن أَبَا بكر مستملك تونس قد هرب وَترك الْبِلَاد وَأَنَّهُمْ قد أَجمعُوا على طَاعَة اللحياني، وَبَايَعُوا نَائِبه مُحَمَّد بن أبي بكر من الحفصيين وَهُوَ صهر زَكَرِيَّا اللحياني وهم فِي(2/186)
انْتِظَار وُصُول اللحياني إِلَى مَمْلَكَته، ولعمري لقد صَارَت مملكة إفريقية مملكة يهرب مِنْهَا لضَعْفه باستيلاء الْعَرَب.
وفيهَا: قتل الْمعز أيبك التركماني خشداشة أقطاي الجمدار بالتجهيز عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يمنعهُ من الإستقلال بالسلطنة.
وَكَانَ الِاسْم للأشرف مُوسَى بن يُوسُف بن يُوسُف بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فاستقل الْمعز التركماني بالسلطنة، وأبطل الْأَشْرَف مُوسَى وَبعث بِهِ إِلَى عماته القطبيات، ومُوسَى آخر من خطب لَهُ من بَيت أَيُّوب بِمصْر، وَفِي هَذِه السّنة انْقَضتْ دولتهم من الديار المصرية، وَلما علمت البحرية بقتل أقطاي هربوا من مصر إِلَى النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام، وأطعموه فِي مصر فَرَحل من دمشق وَنزل عمنَا من الْغَوْر وَأرْسل إِلَى غَزَّة عسكراً وبرز الْمعز صَاحب مصر إِلَى العباسية، وَخرجت السّنة وهم على ذَلِك.
وفيهَا: ولى الْمَنْصُور صَاحب حماه قَضَاء حماه القَاضِي شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْبَارِزِيّ بعد عزل المحبي حَمْزَة بن مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا مَشى نجم الدّين الباذراني فِي الصُّلْح بَين المصريين والشاميين على أَن للناصر الشَّام إِلَى الْعَريش وَالْحَد بِئْر العَاصِي وَهُوَ مَا بَين الْوَارِدَة والعريش، وللمعز أيبك الديار المصرية وَرجع كل إِلَى بَلَده.
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا تزوج الْمعز أيبك شَجَرَة الدّرّ أم خَلِيل.
وفيهَا: طلب الْملك النَّاصِر دَاوُد من الْملك النَّاصِر يُوسُف دستوراً إِلَى الْعرَاق ليطلب من الْخَلِيفَة الجوهرالذي أودعهُ فَأذن لَهُ فَسَار إِلَى كربلا ثمَّ إِلَى الْحَج، وَلما رأى قبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تعلق فِي أَسْتَار الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَقَالَ: اشْهَدُوا أَن هَذَا مقَامي من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخِلا عَلَيْهِ، مستشفعاً بِهِ إِلَى ابْن عَمه المستعصم فِي أَن يرد عَليّ وديعتي، فارتفع بكاء النَّاس، وَكتب بِصُورَة مَا جرى مشروح، وَدفع إِلَى أَمِير الْحَاج فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة، وَتوجه النَّاصِر دَاوُد مَعَ الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَأقَام بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فِيهَا: توفّي كيخسرو صَاحب بِلَاد الرّوم، وَقَامَ بعده ابناه الصغيران عز الدّين كيكاوس وركن الدّين قلج أرسلان، وفيهَا توجه كَمَال الدّين بن العديم رَسُولا من النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم تقدمة جليلة، وَطلب خلعة لمخدومه، وَوصل شمس الدّين سنقر الْأَقْرَع من مماليك المظفر غَازِي صَاحب ميافارقين من جِهَة الْمعز أيبك صَاحب مصر إِلَى بَغْدَاد بتقدمة جليلة، وسعى فِي تَعْطِيل خلعة النَّاصِر فحار الْخَلِيفَة، ثمَّ أحضر سكيناً من اليشم كَبِيرَة، وَقَالَ الْخَلِيفَة للوزير: أعْط هَذِه السكين رَسُول صَاحب الشَّام عَلامَة مني أَن لَهُ خلعة عِنْدِي فِي وَقت آخر وَأما فِي هَذَا الْوَقْت فَلَا يمكنني فَعَاد كَمَال الدّين بن العديم بالسكين بِلَا خلعة.
وفيهَا: حُوسِبَ النَّاصِر دَاوُد على مَا وَصله من الْخَلِيفَة المستعصم من مضيف مثل(2/187)
اللَّحْم وَالْخبْز والحطب وَالشعِير والتبن، وَثمن عَلَيْهِ غَالِبا وَأعْطى شَيْئا نزراً وألزم فَوضع خطه بِبَرَاءَة الْخَلِيفَة من وديعته الْجَوْهَر، وَعَاد فَنزل بصالحيه دمشق.
وفيهَا: ثَالِث شَوَّال توفّي سيف الدّين طغرل بك مَمْلُوك المظفر صَاحب حماه زَوْجَة المظفر أُخْته ودبر حماه بعده حَتَّى توفّي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الأول قتل الْملك الْمعز أيبك التركماني الجاشنكير الصَّالِحِي قتلته زَوجته شَجَرَة الدّرّ الَّتِي كَانَت زَوْجَة أستاذه الْملك الصَّالح، وخطب لَهَا بالسلطنة بلغَهَا أَنه خطب ابْنة بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل فجهزت عَلَيْهِ الْجَوْجَرِيّ والخدام فِي الْحمام، وَأرْسلت تِلْكَ اللَّيْلَة أصْبع أيبك الْمعز وخاتمه إِلَى الْأَمِير عز الدّين الْحلَبِي الْكَبِير فَلم يَجْسُر على الْقيام بِالْأَمر وحمتها المماليك الصالحية من الْقَتْل، وأقيم نور الدّين عَليّ بن الْملك الْمعز، ولقب بالمنصور، وعمره خمس عشرَة سنة ونقلت شَجَرَة الدّرّ إِلَى البرج الْأَحْمَر وصلبوا الخدام القاتلين، وهرب سنجر الْجَوْجَرِيّ مَمْلُوك الطواشي محسن، ثمَّ صلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدّين بن حناء لكَونه وَزِير شَجَرَة الدّرّ وَأخذ خطه بستين ألف دِينَار.
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ربيع الآخر اتّفق مماليك الْمعز أيبك، مثل سيف الدّين قطز وسنجر الغتمي وبهادر وقبضوا على علم الدّين سنجر الْحلَبِي أتابك الْمَنْصُور عَليّ بن الْمعز أيبك ورتبوا فِي الأتابكية أقطاي المستعرب الصَّالِحِي، وَفِي سادس عشر ربيع الآخر مِنْهَا قتلت شَجَرَة الدّرّ وألقيت خَارج البرج فَحملت إِلَى تربَتهَا فدفنت وَبعد أَيَّام خنق شرف الدّين الفائزي.
وفيهَا: استوحش النَّاصِر من البحرية ونزحهم عَن دمشق فقدموا غَزَّة وانتموا إِلَى الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إِلَى غَزَّة، وبرزوا إِلَى العباسية، وَنَفر من البحرية جمَاعَة إِلَى الْقَاهِرَة مِنْهُم عز الدّين الْأَثْرَم فأكرموه وأفرجوا عَن أملاكه وَأرْسل صَاحب الشَّام عسكراً فِي أَثَرهم فكبسته البحرية ونالوا مِنْهُ.
ثمَّ انْكَسَرت البحرية فَانْهَزَمُوا إِلَى البلقاء وَإِلَى زغر ملتجئين إِلَى المغيث صَاحب الكرك فأنفق فيهم أَمْوَالًا وأطمعوه فِي مصر فجهزهم بِمَا احتاجوا وقصدوا مصر فَخرج عَسَاكِر مصر لقتالهم، والتقى المصريون مَعَ البحرية وعسكر المغيث بكرَة السبت منتصف ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَانْهَزَمَ عَسْكَر المغيث والبحرية، وَمِنْهُم بيبرس البندقدار الْمُسَمّى بعد بِالْملكِ الظَّاهِر إِلَى جِهَة الكرك.
وفيهَا: وصل من الْخَلِيفَة الطوق والتقليد إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف بن الْعَزِيز.
وفيهَا: استجار النَّاصِر دَاوُد بِنَجْم الدّين الباذراني فصحبه إِلَى قرقيسيا وأخره ليشاور عَلَيْهِ فَلم يُؤْذونَ لَهُ وَطَالَ مقَامه فسافر إِلَى الْبَريَّة وَقصد تيه بني إِسْرَائِيل وَأقَام مَعَ عرب تِلْكَ الْبِلَاد.(2/188)
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا ظَهرت نَار بِالْحرَّةِ عِنْد مَدِينَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَت تضيء بِاللَّيْلِ من مَسَافَة بعيدَة جدا. ولعلها النَّار الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَلَامَات السَّاعَة؟ فَقَالَ نَار تظهر بالحجاز تضيء لَهَا أَعْنَاق الأبل ببصرى.
قلت: وَلم يكن لَهَا حر على عظمها وَشدَّة ضوئها، ودامت أَيَّامًا وتواتر شَأْن هَذِه النَّار، ونظمت الشُّعَرَاء عِنْد ظُهُور هَذِه النَّار مدائح فِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فمما نظم المشد سيف الدّين عمر بن قزل يُخَاطب بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(وَلما نفى عني الكرا خبر الَّتِي ... أَضَاءَت بِأحد ثمَّ رضوى ويذبل)
(ولاح سناها من جبال قُرَيْظَة ... لسكان تيماً فاللوى فالعقيقل)
(وأخبرت عَنْهَا فِي زَمَانك منذراً ... بِيَوْم عبوس قمطرير مطول)
(ستظهر نَار بالحجاز مضيئة ... لأعناق عيس نَحْو بصرى لمجتلى)
(فَكَانَت كَمَا قد قلت حَقًا بِلَا مرا ... صدقت وَكم كذبت كل معطل)
(لَهَا شرر كالبرق لَكِن شهيقها ... فكالرعد عِنْد السَّامع المتأمل)
(وَأصْبح وَجه الشَّمْس كالليل كاسفاً ... وَبدر الدجى فِي ظلمَة لَيْسَ ينجلي)
(وأبدت من الْآيَات كل عَجِيبَة ... وزلزلت الأرضون أَي تزلزل)
(جزعت فَقَامَ النَّاس حَولي وَأَقْبلُوا ... يَقُولُونَ لَا تهْلك أسي وَتحمل)
(طفى النَّار نور من ضريحك سَاطِع ... فَعَادَت سَلاما لَا تضر بمصطلي)
وَهِي طَوِيلَة، وَالله أعلم.
ثمَّ اتّفق الخدم بحرم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقع مِنْهُم فِي بعض اللَّيَالِي تَفْرِيط، فاشتعلت النَّار فِي الْمَسْجِد الشريف، واحترقت سقوفه وتألم النَّاس لذَلِك.
قلت: وَكَانَ أصل هَذَا الْحَرِيق من مسرجة قيم، وَقلت فِي ذَلِك:
(وَالنَّار أَيْضا من جنود نَبينَا ... لم تأت إِلَّا بِالَّذِي يخْتَار)
(متغلبون يزخرفون بسحتهم ... حرم النَّبِي فطهرته النَّار)
ذكر اسْتِيلَاء التتر على بَغْدَاد
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا قصد هولاكو ملك التتر بَغْدَاد، وملكها فِي الْعشْرين من الْمحرم، وَقتل الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه وَسَببه أَن وَزِير الْخَلِيفَة مؤيد الدّين بن العلقمي، كَانَ رَافِضِيًّا وَأهل الكرخ روافض فَافْتتنَ السّنيَّة والشيعة بِبَغْدَاد كعادتهم فَأمر أَبُو بكر ابْن الْخَلِيفَة ركن الدّين الدواتدار الْعَسْكَر فنهبوا الكرخ وركبوا من النِّسَاء الْفَوَاحِش فَعظم ذَلِك على الْوَزير ابْن العلقمي، وَكَاتب التتر وأطعمهم فِي بَغْدَاد وطمع الْخَبيث الغوي فِي إِقَامَة خَليفَة علوي.
قلت: وَكتب ابْن العلقمي إِلَى وَزِير إربل يطلعه على ذَلِك برسالة مِنْهَا: إِنَّه قد نهب(2/189)
الكرخ المكرم، وَقد ديس الْبسَاط النَّبَوِيّ الْمُعظم وَقد نهبت العترة العلوية، واستؤسرت الْعِصَابَة الهاشمية، وَقد حسن التَّمْثِيل بقول شخص من غزيه:
(أُمُور تضحك السُّفَهَاء مِنْهَا ... ويبكي من عواقبها اللبيب)
وَقد عزموا على نهب الْحلَّة والنيل بل سَوَّلت لَهُم أنفسهم أمرا فَصَبر جميل.
(أرى تَحت الرماد وميض نَار ... ويوشك أَن يكون لَهَا ضرام)
(فَإِن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جئث وهام)
(فَقلت من التَّعَجُّب لَيْت شعري ... أأيقاظ أُميَّة أم نيام)
وَمِنْهَا:
(وَزِير رَضِي من حكمه وانتقامه ... بطي رقاع حشوها النّظم والنثر)
(كَمَا تسجع الورقاء وَهِي حمامة ... وَلَيْسَ لَهَا نهي يطاع وَلَا أَمر)
فلنأتيهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجهم مِنْهَا أَذِلَّة وهم صاغرون.
(ووديعة من سر آل مُحَمَّد ... أودعتها إِن كنت من أمنائها)
(فَإِذا رَأَيْت الكوكبين تقارنا ... فِي الجدي عِنْد صباحها ومسائها)
(فهناك يُؤْخَذ ثأر آل مُحَمَّد ... وطلابها بِالتّرْكِ من أعدائها)
وَكن لما أَقُول بالمرصاد وَتَأَول أول النَّجْم واحرص وَالله أعلم.
وَكَانَ عَسْكَر بَغْدَاد مائَة ألف فَارس، فَحسن ابْن العلقمي وَأَمْثَاله للمستعصم قطعهم ليحمل إِلَى التتر متحصل إقطاعاتهم فَصَارَ عَسْكَر بَغْدَاد دون عشْرين ألفا فَأرْسل ابْن العلقمي إِلَى التتر أَخَاهُ يستدعيهم فَسَارُوا قَاصِدين بَغْدَاد فِي جحفل عَظِيم.
قلت: أَرَادَ ابْن العلقمي نصْرَة الشِّيعَة فنصر عَلَيْهِم وحاول الدّفع عَنْهُم فَدفع إِلَيْهِم، وسعى وَلَكِن فِي فسادهم، وعاضد وَلَكِن على سبي حريمهم وَأَوْلَادهمْ، وَجَاء بجيوش سلبت عَنهُ النِّعْمَة ونكبت الإِمَام وَالْأمة، وسفكت دِمَاء الشِّيعَة وَالسّنة، وخلدت عَلَيْهِ الْعَار واللعنة.
(وأتى الخائن الْخَبيث بمغل ... طبق الأَرْض بغيهم تطبيقاً)
(هَكَذَا ينصر الجهول أَخَاهُ ... وَمن الْبر مَا يكون عقوقاً)
وَالله أعلم.
وَخرج عَسْكَر الْخَلِيفَة لقتالهم ومقدمهم ركن الدّين الدواتدار واقتتلوا على مرحلَتَيْنِ من بَغْدَاد قتالاً شَدِيدا، فَانْهَزَمَ عَسْكَر الْخَلِيفَة وَدخل بَعضهم بَغْدَاد وَسَار بَعضهم إِلَى جِهَة الشَّام وَنزل هولاكو على بَغْدَاد من الْجَانِب الشَّرْقِي، وَنزل الْمُقدم تاجو بالجانب الغربي على الْقرْيَة قبالة دَار الْخلَافَة.
وَخرج ابْن العلقمي إِلَى هولاكو فتوثق مِنْهُ لنَفسِهِ، وَعَاد إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم(2/190)
وَقَالَ: إِن هولاكو يبقيك فِي الْخلَافَة كَمَا فعل بسُلْطَان الرّوم وَيُرِيد أَن يُزَوّج ابْنَته من ابْنك أبي بكر، وَحسن لَهُ الْخُرُوج إِلَى هولاكو فَخرج إِلَيْهِ المستعصم فِي جمع من أكَابِر أَصْحَابه فَأنْزل فِي خيمة، ثمَّ استدعى ابْن العلقمي الْفُقَهَاء والأماثل، فَاجْتمع هُنَاكَ جَمِيع سَادَات بَغْدَاد والمدرسين، وَمِنْهُم ملك الْأُمَرَاء ركن الدّين الدوايدار والمستنصري أحد الشجعان واستاذ دَار الْخلَافَة الْعَلامَة محيي الدّين بن الْجَوْزِيّ وَأَوْلَاده.
وَكَذَلِكَ صَار يخرج إِلَى التتر طَائِفَة بعد طَائِفَة موهماً لَهُم أَنهم يحْضرُون عقد ابْن الْخَلِيفَة على بنت هولاكو، فَلَمَّا تكاملوا قَتلهمْ التتر عَن آخِرهم ثمَّ مدوا الجسر وعدي تاجو وَمن مَعَه وبذلوا السَّيْف فِي بَغْدَاد وهجموا دَار الْخلَافَة وَقتلُوا كل من كَانَ فِيهَا من الْأَشْرَاف، وَلم يسلم إِلَّا من كَانَ صَغِيرا فَأخذ أَسِيرًا ودام الْقَتْل والنهب فِي بَغْدَاد أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَمِمَّنْ اسْتشْهد بِبَغْدَاد الْعَلامَة الشَّيْخ يحيى بن يُوسُف الصرصري الضَّرِير الشَّاعِر ثمَّ نُودي بالأمان، وَأما الْخَلِيفَة وَابْنه أَبَا بكر أَيْضا قتلا خنقاً، وَقيل وضعا فِي عدل ورفسا حَتَّى مَاتَا وَقيل غرقا فِي دجلة وَهُوَ المستعصم عبد الله أَبُو أَحْمد بن الْمُسْتَنْصر أبي جَعْفَر بن مَنْصُور بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن الإِمَام النَّاصِر أَحْمد، وَكَانَ حسن الدّيانَة لكنه ضَعِيف الرَّأْي وَغلب عَلَيْهِ ابْن العلقمي وأمراء دولته وَختم لَهُ بِخَير وَمُدَّة خِلَافَته نَحْو سِتّ عشرَة سنة، وَهُوَ آخر الْخُلَفَاء بِبَغْدَاد من بني الْعَبَّاس وَابْتِدَاء دولتهم سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا للسفاح بالخلافة وَقتل فِيهَا مَرْوَان الْحمار آخر خلفاء بني أُميَّة فمدة خلافتهم خَمْسمِائَة سنة وَأَرْبع وَعِشْرُونَ سنة وهم سَبْعَة وَثَلَاثُونَ خَليفَة.
قلت: وَبَقِي الْوَقْت بعد ذَلِك بِلَا خَليفَة ثَلَاث سِنِين، قَالَ ابْن وَاصل: أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ أَنه وقف على كتاب عَتيق فِيهِ مَا صورته إِن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب بلغ بعض خلفاء بني أُميَّة عَنهُ أَنه يَقُول: إِن الْخلَافَة تصير إِلَى وَلَده فَأمر الْأمَوِي بعلي بن عبد الله فَحمل على جمل وطيف بِهِ وَضرب، وَكَانَ يُقَال عِنْد ضربه هَذَا جَزَاء من يفتري وَيَقُول إِن الْخلَافَة تكون فِي وَلَده، فَكَانَ عَليّ بن عبد الله يَقُول: أَي وَالله لتكونن الْخلَافَة فِي وَلَدي وَلَا تزَال فيهم حَتَّى يَأْتِيهم العلج من خُرَاسَان فينتزعها مِنْهُم فَكَانَ كَمَا قَالَ والعلج الْمَذْكُور هولاكو.
قلت: قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه إِن عليا رَضِي الله عَنهُ افْتقدَ عبد الله بن الْعَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَقت صَلَاة الظّهْر فَقَالَ لأَصْحَابه: مَا بَال أبي الْعَبَّاس لم يحضر الظّهْر فَقَالُوا: ولد لَهُ مَوْلُود فَلَمَّا صلى عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ امضوا بِنَا إِلَيْهِ فاتاه فهنأه فَقَالَ: شكرت الْوَاهِب وبورك لَك فِي الْمَوْهُوب مَا سميته؟ فَقَالَ: أَو يجوز أَن أُسَمِّيهِ حَتَّى تسميه فَأمر بِهِ فَأخْرج إِلَيْهِ فَأَخذه فحنكه ودعا لَهُ ثمَّ رده إِلَيْهِ، وَقَالَ: خُذ إِلَيْك أَبَا الْأَمْلَاك قد سميته عليا، وكنيته أَبَا الْحسن وَدخل عَليّ يَوْمًا على هِشَام بن عبد الْملك وَمَعَهُ ابْنا ابْنه(2/191)
السفاح والمنصور ابْنا مُحَمَّد بن عَليّ الْمَذْكُور فأوسع لَهُ على سَرِيره وَسَأَلَهُ عَن حَاجته فَقَالَ: ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم عَليّ دين، فَأمر بقضائها، فَقَالَ لَهُ: وتستوصي بِابْني هذَيْن خيرا فَفعل فشكره وَقَالَ: وصلتك رحم فَلَمَّا ولى عَليّ قَالَ هِشَام لأَصْحَابه: إِن الشَّيْخ قد اخْتَلَّ وأسن وخلط فَصَارَ يَقُول: إِن هَذَا الْأَمر سينقل إِلَى وَلَده فَسَمعهُ عَليّ فَقَالَ: وَالله لَيَكُونن ذَلِك وليملكن هَذَانِ.
وَكَانَ عَظِيم الْمحل عِنْد أهل الْحجاز، كَانَ إِذا قدم مَكَّة حَاجا أَو مُعْتَمِرًا، عطلت قُرَيْش مجالسها فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وهجرت مَوَاضِع حلقها ولزمت مَجْلِسه إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً لَهُ فَإِن قعد قعدوا وَإِن نَهَضَ نهضوا وَإِن مَشى مَشوا جَمِيعًا خَلفه وَحَوله وَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يخرج من الْحرم، وَكَانَ إِذا طَاف كَأَنَّمَا النَّاس حوله مشَاة وَهُوَ رَاكب من طوله.
وَكَانَ مَعَ هَذَا الطول إِلَى منْكب أَبِيه عبد الله، وَكَانَ عبد الله إِلَى منْكب أَبِيه الْعَبَّاس، وَكَانَ الْعَبَّاس إِلَى منْكب ابيه عبد الْمطلب، نظرت عَجُوز إِلَى عَليّ وَهُوَ يطوف فَقَالَت: من هَذَا الَّذِي فرع النَّاس فرع بِالْعينِ الْمُهْملَة - أَي علا عَلَيْهِم - فَقيل عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس، فَقلت: لَا إِلَه إِلَّا الله إِن النَّاس ليرذلون عهدي بِالْعَبَّاسِ يطوف بِهَذَا الْبَيْت كَأَنَّهُ فسطاط أَبيض، وَذكر هَذَا كُله الْمبرد فِي " الْكَامِل ".
وَذكر أَن الْعَبَّاس كَانَ عَظِيم الصَّوْت وجاءتهم مرّة غازة وَقت الصَّباح فصاح واصباحاه فَلم تسمعه حَامِل فِي الْحَيّ إِلَّا وضعت، وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار المغيث بن الْعَادِل بن الْكَامِل من الكرك، وَقد انضمت إِلَيْهِ البحرية إِلَى مصر فِي دست السلطنة فقاتله عَسَاكِر مصر ومماليك الْمعز أيبك وأكبرهم قطز الَّذِي ملك مصر والغنمي وبهادر فَانْهَزَمَ المغيث إِلَى الكرك فِي أَسْوَأ حَال ونهبت أثقاله ودهليزه.
وفيهَا: فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى توفّي الْملك النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بِظَاهِر دمشق بقرية البويضا، ومولده سنة ثَلَاث وسِتمِائَة فعمره نَحْو ثَلَاث وَخمسين سنة وَكُنَّا ذكرنَا أَنه توجه إِلَى تيه بني إِسْرَائِيل فَأرْسل المغيث صَاحب الكرك وأحضره إِلَى بلد الشوبك، وَأمر بِحَفر مطمورة لَهُ، وَبَقِي النَّاصِر ممسكاً والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فِيهَا فَطَلَبه المستعصم من بَغْدَاد ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر فَأَخذه رَسُول الْخَلِيفَة قبل أَن تتمّ المطمورة، وَسَار بِهِ إِلَى جِهَة دمشق فَبَلغهُ اسْتِيلَاء التتر على بَغْدَاد وَقتل الْخَلِيفَة فَتَركه الرَّسُول وَمضى فَسَار دَاوُد إِلَى البويضا وَلحق النَّاس طاعون فَمَاتَ مِنْهُ.
فَخرج النَّاصِر يُوسُف صَاحب دمشق إِلَى البويضا وَأظْهر الْحزن عَلَيْهِ وَنَقله إِلَى الصالحية فدفنه بتربة وَالِده الْمُعظم، وَكَانَ النَّاصِر دَاوُد فَاضلا فِي النّظم والنثر، وَقَرَأَ العقليات على شمس الدّين عبد الحميد الخسرو شاهي تلميذ الرَّازِيّ وَمن شعره النَّاصِر دَاوُد:(2/192)
(عُيُون عَن السحر الْمُبين تبين ... لَهَا عِنْد تَحْرِيك الْقُلُوب سُكُون)
(تصول ببيض وَهِي سود فرندها ... ذبول فتور والجفون جفون)
(إِذا مَا رَأَتْ قلباً خلياً من الْهوى ... تَقول لَهُ كن مغرماً فَيكون)
وَمِنْه:
(وَمن الْعَجَائِب أَن قَلْبك لم يلن ... لي وَالْحَدِيد ألانه دَاوُد)
وَكتب إِلَى ابْن عبد السَّلَام وَقد أغارت الفرنج على نابلس فِي أَيَّام الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر:
(أيا لَيْت أُمِّي أيم طول عمرها ... فَلم يقضها رَبِّي لمولى وَلَا بعل)
(وَيَا ليتها لما قَضَاهَا لسَيِّد ... لَبِيب أريب طيب الْفَرْع وَالْأَصْل)
(قَضَاهَا من اللَّاتِي خُلِقْنَ عواقراً ... فَمَا بشرت يَوْمًا بأنثى وَلَا فَحل)
(وَيَا ليتها لما غَدَتْ بِي حَامِلا ... أُصِيبَت بِمَا اجتنت عَلَيْهِ من الْحمل)
(وَيَا لَيْتَني لما ولدت وأصبحت ... تشد إِلَيّ الشذقميات بالرحل)
(لحقت بأسلافي فَكنت ضجيعهم ... وَلم أر فِي الْإِسْلَام مَا فِيهِ من خل)
قلت: وَذكرت بِهَذَا قولي وَقد رَأَيْت دَار وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى بالمعرة بعد وَفَاته وَهُوَ:
(ترى عدوا دَعَا علينا ... بدعوة صادفت نفاذا)
(خلت ديار الحبيب مِنْهُ ... يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا)
وَقَوْلِي:
(دَهْرنَا أضحى ضنينا ... باللقا حَتَّى ضنينا)
(يَا ديار الْخَيْر عودي ... واجمعينا اجمعينا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفيت الصاحبة غَازِيَة خاتون بنت السُّلْطَان الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بقلعة حماه.
ولدت من المظفر مَحْمُود ثَلَاث بَنِينَ، مَاتَ عمر مِنْهُم صَغِيرا وَبَقِي الْمَنْصُور مُحَمَّد وَالْأَفْضَل عَليّ وَالِد الْمُؤلف رحمهمَا الله تَعَالَى وَثَلَاث بَنَات، توفيت الْكُبْرَى مِنْهُنَّ ملكة خاتون قبل والدتها بِقَلِيل، وَتوفيت الصُّغْرَى دنيا خاتون بعد أَخِيهَا الْمَنْصُور، وَكَانَ عِنْد الصاحبة زهد وَعبادَة، وحفظت الْملك لابنها الْمَنْصُور حَتَّى كبر.
وفيهَا: بعد بَغْدَاد قصد التتر ميافارقين وصاحبها الْكَامِل مُحَمَّد بن المظفر غَازِي بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، فَصَبر أهل ميافارقين مَعَ الْكَامِل على الْجُوع حَتَّى كَانَ مَا سَيذكرُ، الْكَامِل وَهَذَا ملكهَا بعد أَبِيه سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وفيهَا: اشْتَدَّ الوباء بِالشَّام وخصوصاً بِدِمَشْق حَتَّى عز مغسلو الْمَوْتَى.(2/193)
وفيهَا: أرسل النَّاصِر يُوسُف صَاحب دمشق ابْنه الْعَزِيز مُحَمَّدًا وَمَعَهُ زين الدّين الحافظي من عقربا من بلد دمشق بتقادم إِلَى هولاكو عَجزا عَن ملتقاه.
وفيهَا: توفّي الصاحب بهاء الدّين زُهَيْر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى المهلبي كَاتب إنْشَاء الصَّالح أَيُّوب ومولده بوادي نَخْلَة من مَكَّة حرسها الله تَعَالَى سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة.
وَفِي آخر عمره انْكَشَفَ حَاله حَتَّى بَاعَ موجوده، وَأقَام فِي بَيته بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى توفّي بالوباء الْعَام رَابِع ذِي الْقعدَة مِنْهَا، وَدفن بالقرافة الصُّغْرَى، وَكَانَ غزير الْمُرُوءَة فَاضلا حسن النّظم، وَله وزن مخترع لَا يُخرجهُ الْعرُوض وَهُوَ:
(يَا من لعبت بِهِ شُمُول ... مَا ألطف هَذِه الشَّمَائِل)
(مولَايَ بِحَق لي بِأَنِّي ... عَن حبك فِي الْهوى أقَاتل)
(هَا عَبدك وَاقِفًا ذليلاً ... بِالْبَابِ يمد كف سَائل)
(من وصلك بِالْقَلِيلِ يرضى ... والطل من الحبيب وابل)
قلت: وَله
(بروحي من أسميها بستي ... فتنظرني النُّحَاة بِعَين مقت)
(يرَوْنَ بأنني قد قلت لحناً ... وَكَيف وأنني لزهير وقتي)
(وَلَكِن غادة ملكت جهاتي ... فَلم أَلحن إِذا مَا قلت ستي)
وَله:
(يَا رَوْضَة الْحسن صلي ... فَمَا عَلَيْك ضير)
(فَهَل رَأَيْت رَوْضَة ... لَيْسَ بهَا زُهَيْر)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ زكي الدّين عبد الْعَظِيم بن عبد الْقوي الْمُنْذِرِيّ شيخ دَار الحَدِيث إِمَام مَشْهُور.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ شمس الدّين يُوسُف سبط جمال الدّين بن الْجَوْزِيّ واعظ فَاضل، لَهُ مرْآة الزَّمَان تَارِيخ جَامع.
قلت: وَله تذكرة الْخَواص من الْأمة فِي ذكر مَنَاقِب الائمة، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي سيف الدّين عَليّ بن سَابق الدّين قزل الْمَعْرُوف بالمشد كَانَ أَمِيرا مقدما فِي دولة النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام، وَله شعر حسن مِنْهُ:
(باكر كؤوس المدام واشرب ... واستجل وَجه الحبيب واطرب)
(وَلَا تخف للهموم دَاء ... فَهِيَ دَوَاء لَهُ مجرب)
(من يَد سَاق لَهُ رضاب ... كالشهد لَكِن جناه أعذاب)(2/194)
قلت وَمن شعره بَيت كل كلمة لَا تستحيل بالإنعكاس وَهُوَ:
(ليل أَضَاء هلاله ... أَنِّي يضيء بكوكب)
وَقدم من اسْمه عَليّ للسُّلْطَان ترياق الْفَارُوق فَأَنْشد:
(قل للروافض كفوا ... وَقدمُوا الصديقا)
(فقد رَأينَا عليا ... يقدم الفاروقا)
وَالله أعلم.
فِيهَا: كَانَ بَين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وَبَين عَسْكَر النَّاصِر يُوسُف ومقدمهم مجير الدّين بن أبي زَكَرِيَّا مصَاف بِظَاهِر غَزَّة انهزم فِيهِ عَسْكَر النَّاصِر يُوسُف وَأسر مجير الدّين فقري البحرية وعاثوا.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ الزَّاهِد أَبُو الْحسن الشاذلي، وَله عِبَارَات فِي التصوف مشكلة رد عَلَيْهَا ابْن تَيْمِية.
وَكَانَ الشاذلي نفعنا الله ببركته نزيل الْإسْكَنْدَريَّة والعلامة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي بالإسكندرية وتصانيفه مَشْهُورَة.
وفيهَا: توفّي شيخ الْقُرَّاء بالموصل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد شعلة الْموصِلِي وَله نَيف وَثَلَاثُونَ سنة، ومقرئ حلب الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حسن الْفَارِسِي، والوزير المتبر مؤيد الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن العلقمي الرافضي قرر مَعَ هولاكو أموراً فانعكست عَلَيْهِ وعض يَده ندماً وَصَارَ يركب إكديشاً فنادته عَجُوز يَا ابْن العلقمي هَكَذَا كنت تركت فِي أَيَّام المستعصم ووبخه هولاكو آخرا فَمَاتَ غما وغبناً لَا رَحمَه الله، وَمَات ابْنه بعده. وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا سَار عز الدّين كيكاوس وركن الدّين قلج أرسلان ابْنا كيخسرو بن كيقباذ إِلَى خدمَة هولاكو وَأَقَامَا مَعَه مُدَّة وعادا.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل المتلقب بِالْملكِ الرَّحِيم وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ.
وَملك بعده ابْنه الصَّالح، وَملك سنجار ابْنه عَلَاء الدّين، وَكَانَ لُؤْلُؤ قد صانع هولاكو وَحمل إِلَيْهِ الْأَمْوَال وَوصل إِلَى خدمته بعد أَخذ بَغْدَاد بِبِلَاد أذربيجان وَمَعَهُ الشريف الْعلوِي ابْن صلايا فَقيل أَن لؤلؤاً سعى بِهِ إِلَى هولاكو فَقتل الشريف وَلما عَاد قَلِيلا وَمَات.
قَامَ لُؤْلُؤ بِأُمُور أستاذه أرسلان شاه بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، ودبر وَلَده القاهر، وَلما توفّي انْفَرد لُؤْلُؤ بتدبير المملكة، وَأقَام وَلَدي القاهر الصغيرين وأحداً بعد الآخر، واستبد بِملك الْموصل وبلادهما ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة تَقْرِيبًا وَمَا طرق بِآفَة وَلَا اخْتَلَّ لَهُ نظام حَتَّى مَاتَ.(2/195)
قلت ويعجبني قَول بَعضهم فِيهِ:
(لَا مَا عجبي من لُؤْلُؤ فِي بَحر ... لَكِن عجبي من أبحر فِي لُؤْلُؤ)
وَالله أعلم.
وفيهَا: لما كسرت البحرية عَسْكَر النَّاصِر يُوسُف سَار من دمشق بِنَفسِهِ فِي عسكره وَمَعَهُ الْمَنْصُور صَاحب حماه إِلَى جِهَة الكرك وَأقَام على بركَة زيزاً محاصراً للمغيث صَاحب الكرك لحمايته للبحرية.
وجاءته رسل المغيث والقطبية بنت الْملك الْمفضل قطب الدّين بن الْملك الْعَادِل يسترضونه عَن المغيث فَلم يجب إِلَّا بِشَرْط أَن يقبض المغيث عَليّ من عِنْده من البحرية، وَعلم بذلك ركن الدّين بيبرس البندقداري فهرب فِي جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف فَأحْسن إِلَيْهِم وَقبض المغيث على من بَقِي عِنْده من البحرية، وَمن جُمْلَتهمْ سنقر الْأَشْقَر وشكر وبرامق وأرسلهم على الْجمال إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف فَبعث بهم إِلَى حلب فاعتقلهم بهَا ثمَّ عَاد إِلَى دمشق بعد شَهْرَيْن.
وَفِي أواخرها خلع سيف الدّين قطز ابْن أستاذه الْمَنْصُور نور الدّين عَليّ بن الْمعز أيبك من السلطنة وَعلم الدّين الغتمي وَسيف الدّين بهادر من كبار المعزية غائبان فِي رمي البندق فانتهز الفرصة فِي غيبتهما وَفعل ذَلِك وَلما قدما قبض قطز عَلَيْهِمَا أَيْضا، وتملك الديار المصرية وتلقب بالمظفر.
وَكَانَ رَسُول النَّاصِر يُوسُف كَمَال الدّين بن العديم قد قدم إِلَى مصر أَيَّام الْمَنْصُور عَليّ بن أيبك مستنجداً على التتر، فاتفق خلعه وَولَايَة قطز بِحَضْرَة كَمَال الدّين فَأَعَادَ قطز جَوَاب النَّاصِر أَنه ينجده وَلَا يقْعد عَن نصرته.
وفيهَا: فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من لَيْلَة الْأَحَد خَامِس عشر الْمحرم ثَانِي عشر كانون الثَّانِي ولد مَحْمُود بن الْملك الْمَنْصُور بن المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب، ولقب بِالْملكِ المظفر، وَأمه عَائِشَة خاتون بنت الْعَزِيز مُحَمَّد صَاحب حلب بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وهنأ شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز الْمَنْصُور بقصيدة مِنْهَا:
(أبشر على رغم العدى والحسد ... بِأَجل مَوْلُود وَأكْرم مولد)
(بِالنعْمَةِ الغراء بل بالدولة ... الزهراء بل بالمخفر المتجدد)
(وافاك بَدْرًا كَامِلا فِي لَيْلَة ... طلعت عَلَيْك نجومها بالأسعد)
(مَا بَين مَحْمُود المظفر أسفرت ... عَنهُ مَا بَين الْعَزِيز مُحَمَّد)
قصد هولاكو الشَّام
فِيهَا قدم هولاكو إِلَى الْبِلَاد الَّتِي شَرْقي الْفُرَات ونازل حران وملكها وَاسْتولى على(2/196)
الْبِلَاد الجزرية وَأرْسل ابْنه سموط إِلَى الشَّام فوصل إِلَى ظَاهر حلب فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة مِنْهَا، وَالْحَاكِم فِي حلب الْملك الْمُعظم توران شاه بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين نَائِبا عَن ابْن أَخِيه النَّاصِر يُوسُف، فَخرج الْمُعظم وعسكر حلب إِلَيْهِم وأكمن لَهُم التتر فِي بابلي وتقاتلوا عِنْد يانقوسا فَانْدفع التتر قدامهم حَتَّى خَرجُوا عَن الْبَلَد وعادوا عَلَيْهِم والتتر يقتلُون فيهم حَتَّى دخلُوا الْبَلَد واختنق فِي أَبْوَاب الْبَلَد خلق من المنهزمين ثمَّ رَحل التتر فتسلموا عزاز بالأمان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة: وَبلغ النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام ذَلِك فبرز إِلَى بَرزَة فِي أَوَاخِر السّنة الْمَاضِيَة وجفل النَّاس من التتر وجاءه من حماه الْمَنْصُور صَاحبهَا، وَنزل مَعَه ببرزة وَمَعَ النَّاصِر بيبرس البندقداري من حِين هرب إِلَيْهِ من الكرك وَاجْتمعَ على بَرزَة أُمَم من العساكر والجفال وَلما دخلت هَذِه السّنة وَهُوَ ببرزة وبلغه أَن جمَاعَة من مماليكه عزموا على قَتله هرب النَّاصِر من الدهليز إِلَى قلعة دمشق وهرب أُولَئِكَ المماليك إِلَى جِهَة غَزَّة، وَكَذَلِكَ سَار بيبرس البندقداري إِلَى جِهَة غَزَّة، وأشاع المماليك الناصرية أَنهم لم يقصدوا قَتله، وَإِنَّمَا قصدُوا الْقَبْض عَلَيْهِ وسلطنة أَخِيه الظَّاهِر غَازِي بن الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين لشهامته، فهرب الظَّاهِر خوفًا من أَخِيه النَّاصِر وَهُوَ شقيقه، وأمهما أم ولد تركية.
وَوصل الظَّاهِر غَازِي إِلَى غَزَّة وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من بهَا من الْعَسْكَر وَأَقَامُوا سُلْطَانا، وَكَاتب بيبرس البندقداري المظفر قطز صَاحب مصر فَأَمنهُ ووعده الْوَعْد الْجَمِيل، فَقدم بيبرس مصر فِي جمَاعَة فَأقبل عَلَيْهِ قطز وأنزله بدار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها.
وفيهَا: يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر استولت التتر على حلب وَذَلِكَ أَن هولاكو عبر الْفُرَات ونازلها وَأرْسل إِلَى الْمُعظم توران شاه نائبها يَقُول لَهُ: إِنَّكُم تضعفون عَن لِقَاء المغول وَنحن قصدنا الْملك النَّاصِر والعساكر فاجعلوا لنا عنْدكُمْ بحلب شحنة وبالقلعة شحنة ونتوجه إِلَى الْعَسْكَر فَإِن كسرناه كَانَت الْبِلَاد لنا وتكونون قد حقنتم دِمَاء الْمُسلمين وَإِن كسرونا كُنْتُم مخيرين فِي الشحنتين طرداً وقتلاً، فَقَالَ الْمُعظم: مَا لكم عندنَا إِلَّا السَّيْف، وَكَانَ رَسُول هولاكو إِلَيْهِم صَاحب أرزن الرّوم فتعجب من هَذَا الْجَواب وتألم لما علم من هَلَاك أهل حلب بِسَبَب ذَلِك وأحاط التتر بحلب ثَانِي صفر، وهجم التتر فِي غَد ذَلِك الْيَوْم وَقتل من الْمُسلمين خلق مِنْهُم أَسد الدّين بن الزَّاهِر بن صَلَاح الدّين.
واشتدت مضايقة التتر لحلب وهجموها من عِنْد حمام حمدَان فِي ذيل قلعة الشريف فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر، ويذلوا السَّيْف وَصعد إِلَى القلعة خلق ودام الْقَتْل والنهب من الْأَحَد إِلَى الْجُمُعَة رَابِع عشر صفر فَنَادَى هولاكو بالأمان وَلم يسلم من أهل حلب إِلَّا من التجأ إِلَى دَار شهَاب الدّين بن عمرون وَدَار نجم الدّين أخي مزدلين وَدَار البازيار وَدَار علم الدّين قَيْصر الْموصِلِي والخانقاه الَّتِي فِيهَا زين الدّين الصُّوفِي وكنيسة الْيَهُود وَذَلِكَ لفرمانات(2/197)
بِأَيْدِيهِم سلم بِهن فِي هَذِه الْأَمَاكِن مَا يزِيد على خمسين ألف نفس، وحاصروا القلعة وَبهَا الْملك الْمُعظم وَمن التجأ إِلَيْهَا من الْعَسْكَر وَكَانَ مَا سَيذكرُ.
وَأما حماه: فَكَانَ الطواشي مرشد قد تَأَخّر بهَا فَلَمَّا فتحت حلب توجه إِلَى الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه بِدِمَشْق وَوصل كبراء حماه إِلَى حلب بمفاتيح حماه وَحملُوهَا إِلَى هولاكو فَأَمنَهُمْ وَأرْسل إِلَيْهِم شحنة أعجمياً ذكر أَنه من ذُرِّيَّة خَالِد بن الْوَلِيد اسْمه خسروشاه، وَكَانَ بقلعة حماه مُجَاهِد الدّين قيماز أَمِير جندار فَسلم إِلَيْهِ القلعة وَدخل فِي طَاعَة التتر وَبلغ النَّاصِر بِدِمَشْق أَخذ حلب فَرَحل بِمن بَقِي مَعَه من العساكر إِلَى الديار المصرية وَمَعَهُ الْمَنْصُور صَاحب حماه.
وَفِي غَزَّة انْضَمَّ إِلَى النَّاصِر مماليكه الَّذين أَرَادوا قَتله وَأَخُوهُ الظَّاهِر غَازِي وَبعد مسير النَّاصِر عَن نابلس وَصلهَا التتر وكبسوا الْأَمِير مجير الدّين بن أبي زَكَرِيَّاء والأمير عَليّ بن شُجَاع فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر وَقتلُوا الأميرين الْمَذْكُورين، وَبلغ ذَلِك النَّاصِر فَرَحل إِلَى الْعَريش وَأرْسل القَاضِي برهَان الدّين بن الْخضر إِلَى المظفر قطز صَاحب مصر يطْلب مِنْهُ المعاضدة، وَوصل النَّاصِر والمنصور قطية فجرت بهَا فتْنَة بَين التركمان والأكراد الشهرزورية، وَنهب الجفال، ورحلت العساكر والمنصور صَاحب حماه إِلَى مصر، وَتَأَخر الْملك النَّاصِر فِي جمَاعَة يسيرَة فِي قطية مِنْهُم أَخُوهُ الظَّاهِر والصالح بن شيركوه صَاحب حمص وشهاب الدّين القيمري لخوف النَّاصِر أَن يقبض عَلَيْهِ قطز.
ثمَّ سَار النَّاصِر بِمن تَأَخّر مَعَه من قطية إِلَى تيه بني إِسْرَائِيل، وَلما وصلت العساكر إِلَى مصر تلقاهم قطز بالصالحية وَطيب قُلُوبهم وَأرْسل إِلَى الْمَنْصُور صَاحب حماه صنجقاً وَدخل الْقَاهِرَة، واستولت التتر على دمشق وَسَائِر الشَّام إِلَى غَزَّة وشحنوا فِي الْبِلَاد.
وَأما قلعة حلب: فَوَثَبَ جمَاعَة من أَهلهَا فِي مُدَّة الْحصار على صفي الدّين بن طزر رَئِيس حلب وعَلى نجم الدّين أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن القَاضِي نجم الدّين بن أبي عصرون فَقَتَلُوهُمَا اتهاماً بمواطأة التتر، ودام الْحصار شهرا، ثمَّ سلمت بالأمان يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر ربيع الأول، وَسلم هولاكو البحرية الَّذين حَبسهم النَّاصِر بهَا، وَمِنْهُم شكر وسنقر الْأَشْقَر إِلَى سُلْطَان جق بن أكَابِر القفجاق هرب من التتر لما غلبت على القفجاق، وَقدم إِلَى حلب فَأحْسن إِلَيْهِ الْملك النَّاصِر فَلم تطب لَهُ فَعَاد إِلَى التتر.
وَأما الْعَوام والغرباء فنزلوا إِلَى أَمَاكِن الْحمى الْمَذْكُورَة، وَأمر هولاكو أَن يمْضِي كل من سلم إِلَى دَاره وَملكه وَلَا يُعَارض، وَجعل النَّائِب بحلب عماد الدّين الْقزْوِينِي وَوصل إِلَى هولاكو على حلب الْأَشْرَف مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن شيركوه صَاحب حمص.
وَكَانَ قد انْفَرد عَن النَّاصِر لما توجه إِلَى جِهَة مصر فَأكْرمه وَأعَاد هولاكو عَلَيْهِ حمص، وَكَانَ قد أَخذهَا مِنْهُ النَّاصِر صَاحب حلب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وعوضه تل بَاشر وَوصل إِلَى هولاكو أَيْضا بحلب مجير الدّين يحيى بن قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين(2/198)
مُحَمَّد بن أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الزكي من دمشق، فَأقبل عَلَيْهِ هولاكو وولاه قَضَاء الشَّام، وخلع عَلَيْهِ خلعة مذهبَة، وَكتب تَقْلِيده، وَاسْتقر فِي الْقَضَاء.
قلت: فعتب عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَغرب عَن وَطنه إِلَى الصَّعِيد، ثمَّ توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَالله أعلم.
ثمَّ رَحل هولاكو إِلَى حارم فامتنعوا أَن يسلموها لغير فَخر الدّين وَالِي قلعة حلب فأحضر وسلمت إِلَيْهِ، فَغَضب هولاكو بهم فَقتلُوا عَن آخِرهم وسبى النِّسَاء، ثمَّ عَاد هولاكو إِلَى الشرق وَأمر عماد الدّين الْقزْوِينِي بالرحيل إِلَى بَغْدَاد وَجعل مَكَانَهُ بحلب أعجمياً، وَأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وسور الْمَدِينَة فخربت، وَخرب الْأَشْرَف مُوسَى سور قلعة حماه بِأَمْر هولاكو وأحرق زرد خانتها وبيعت الْكتب الَّتِي بدار السلطنة بقلعة حماه بأبخس الْأَثْمَان وَلم يخرب سور مَدِينَة حماه لِأَن إِبْرَاهِيم بن الإفرنجية ضَامِن الْجِهَة المفردة بحماه بذل لخسروشاه شحنتها جملَة كَثِيرَة، وَقَالَ الفرنج: قريب منا بحصن الأكراد، فأعفى سور الْمَدِينَة.
قلت: وَأَخْبرنِي وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى أَنه رأى شحنة التتر على قلعة المعرة وَقد سخر الْعَوام فِي تخريب سورها، وَفِي ذَلِك يَقُول بعض العريين تضميناً لبَعض قصيدة المتنبي:
(رفقا عَلَيْهَا قلعة مَنْعَة ... يَهْدِمهَا من هُوَ حزبها)
(فغاية المفرط فِي سلمهَا ... كغاية المفرط فِي حربها)
(تحثنا فِي هدمها أعجم ... وَنحن مكروبون من كربها)
(تبخل أَيْدِينَا بأرواحنا ... وتشتكي منا إِلَى رَبهَا)
(فَهَذِهِ الْأَرْوَاح من جوها ... وَهَذِه الْأَجْسَام من تربها)
(لما رأوها أسرفت فِي العلى ... كَانَ علاها مُنْتَهى ذنبها)
وَالله أعلم.
وَأمر هولاكو الْأَشْرَف بخراب قلعة حمص فخرب مِنْهَا الْيَسِير لكَونهَا لَهُ، وَأما دمشق فملكوا الْمَدِينَة بالأمان فَمَا نهبوا وَلَا قتلوا، وعصت قلعتها فنصبوا عَلَيْهَا المجانيق، ثمَّ تسلموها بالأمان منتصف جُمَادَى الأولى مِنْهَا ونهبوا مَا فِيهَا وخربوا سور القلعة وأحرقوا آلاتها وزرد خانتها ثمَّ نازلوا قلعة بعلبك.
وفيهَا: استولت التتر على ميافارقين بعد الْحصار سنتَيْن حَتَّى فنى أَهلهَا وَزَادَهُمْ وصاحبها الْكَامِل مُحَمَّد بن المظفر غَازِي بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب مصابر ثَابت حَتَّى ضعف من عِنْده عَن الْقِتَال فاستولوا عَلَيْهَا وقتلوه وطافوا بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَاد بالمغاني والطبول، وعلق رَأسه فِي شبكة بسور بَاب الفراديس إِلَى أَن عَادَتْ دمشق إِلَى الْمُسلمين فَدفن بمشهد الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ دَاخل بَاب الفراديس، وَفِيه يَقُول شهَاب الدّين بن أبي شامة:(2/199)
(ابْن غَازِي غزى وجاهد قوما ... اثخنوا فِي الْعرَاق والمشرقين)
(ظَاهرا عَالِيا وَمَات شَهِيدا ... بعد صَبر عَلَيْهِم عَاميْنِ)
(لم يشنه إِذْ طيف بِالرَّأْسِ مِنْهُ ... وَله أُسْوَة بِرَأْس الْحُسَيْن)
ثمَّ واروا فِي مشْهد الرَّأْس ذَاك الرَّأْس فاستعجبوا من الْحَالين.
وَأما الْملك النَّاصِر يُوسُف: فَلَمَّا انْفَرد عَن الْعَسْكَر بقطية وَسَار إِلَى التيه حَار وعزم على التَّوَجُّه إِلَى الْحجاز فَحسن لَهُ طبر دَاره حُسَيْن الْكرْدِي قصد هولاكو فاغتر بقوله وَترك بركَة زيزا وَسَار حُسَيْن الْكرْدِي إِلَى كتبغا نَائِب هولاكو وعرفه بِموضع الْملك النَّاصِر فَأرْسل إِلَيْهِ وَقبض عَلَيْهِ وأحضره إِلَى عجلون وَكَانَت عاصية بعد فَأمر الْملك النَّاصِر فسلموها إِلَيْهِم فهدموها، وَكُنَّا ذكرنَا حِصَار بعلبك فتسلموها قبيل عجلون وخربوا قلعتها.
وَكَانَ بالصبيبة صَاحبهَا الْملك السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل فَسلم الصبيبة إِلَيْهِم وَصَارَ الْملك السعيد مَعَهم وأعلن بِالْفِسْقِ والفجور وَسَفك دِمَاء الْمُسلمين، وَأما الْملك النَّاصِر فَبعث بِهِ كتبغا إِلَى هولاكو فوصل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى حماه وَبهَا الْأَشْرَف صَاحب حمص فَخرج إِلَى لِقَائِه هُوَ وخسروشاه النَّائِب بحماه ثمَّ سَار إِلَى حلب فَلَمَّا عاينها وَمَا حل بهَا وبأهلها تضَاعف تألمه وَأنْشد:
(يعز علينا أَن نرى ربعكم يبْلى ... وَكَانَت بِهِ آيَات حسنكم تتلى)
ثمَّ وصل الأردو فَأقبل عَلَيْهِ هولاكو ووعده برده إِلَى مَمْلَكَته وَكَانَ مِنْهُ مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي نصف شعْبَان أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق وواليها، وضربوا أعناقهما بداريا.
واشتهر بِدِمَشْق خُرُوج العساكر من مصر فأوقعوا بالنصارى وَكَانُوا قد استطالوا بدق النواقيس وَإِدْخَال الْخمر إِلَى الْجَامِع، ونهبهم الْمُسلمُونَ فِي سَابِع عشر رَمَضَان مِنْهَا، وخربوا كَنِيسَة مَرْيَم، وَكَانَت عَظِيمَة فِي جَانب دمشق الَّذِي فَتحه خَالِد رَضِي الله عَنهُ بِالسَّيْفِ فَبَقيت بيد الْمُسلمين.
وَكَانَ ملاصق الْجَامِع كَنِيسَة من الْجَانِب الَّذِي فَتحه أَبُو عُبَيْدَة رَضِي الله عَنهُ بالأمان فَبَقيت بيد النَّصَارَى، فَلَمَّا ولي الْوَلِيد بن عبد الْملك خرب الْكَنِيسَة الملاصقة للجامع وأضافها إِلَيْهِ وَلم يعوض النَّصَارَى عَنْهَا، فَلَمَّا ولى عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ عوضهم عَنْهَا بكنيسة مَرْيَم فعمروها عَظِيما حَتَّى كَانَ مِنْهَا مَا ذكرنَا.
وفيهَا: كَانَت هزيمَة التتر يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان على عين جالوت، وَذَلِكَ أَن العساكر الإسلامية لما اجْتمعت بِمصْر سَار بهم الْملك المظفر قطز مَمْلُوك الْمعز أيبك لقِتَال التتر وَمَعَهُ الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل أَخُوهُ فِي أَوَائِل رَمَضَان، وَبلغ ذَلِك كتبغا نَائِب هولاكو على الشَّام فَجمع من بِالشَّام من التتر وَسَار إِلَى قتال الْمُسلمين وَمَعَهُ(2/200)
صَاحب الصبيبة السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل بن أَيُّوب والتقوا فِي الْغَوْر يَوْم الْجُمُعَة فانهزمت التتر هزيمَة قبيحة وأخذتهم سيوف الْمُسلمين وَقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابْنه، وَتعلق من سلم مِنْهُم برؤوس الْجبَال وتبعهم الْمُسلمُونَ فأفنوهم وهرب من سلم إِلَى الشرق، وجرد قطز بيبرس البندقداري فِي أَثَرهم فَتَبِعهُمْ إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد.
وَكَانَ أَيْضا صُحْبَة التتر الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب حمص ففارقهم وأمنه قطز وَأقرهُ على حمص ومضافاتها.
وَأما صَاحب الصبيبة فأحضر أَسِيرًا بَين يَدي قطز فَضربت عُنُقه لما اعْتمد من السفك وَالْفِسْق، وَأحسن قطز إِلَى الْمَنْصُور صَاحب حماه، وزاده على حماه وبارين المعرة وَكَانَت بيد الحلبيين من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَأخذ سلمية مِنْهُ وَأَعْطَاهَا أَمِير الْعَرَب.
وَأتم المظفر قطز السّير بالعساكر وصحبته الْمَنْصُور صَاحب حماه إِلَى دمشق وتضاعف شكر الْعَالم لله تَعَالَى على هَذَا النَّصْر الْعَظِيم من بعد الْيَأْس من النُّصْرَة على التتر لاستيلائهم على مُعظم بِلَاد الْإِسْلَام وَلِأَنَّهُم مَا قصدُوا إقليماً إِلَّا فتحوه وَلَا عسكراً إِلَّا هزموه، وَيَوْم دُخُوله دمشق شنق جمَاعَة من المنتسبين إِلَى التتر مِنْهُم حُسَيْن الطبردار موقع الْملك النَّاصِر فِي أَيدي التتر، وَفِي هَذَا النَّصْر وقدوم قطز إِلَى الشَّام يَقُول بَعضهم:
(هلك الْكفْر فِي الشَّام جَمِيعًا ... واستجد الْإِسْلَام بعد دحوضه)
(بالمليك المظفر الْملك الأورع ... سيف الْإِسْلَام عِنْد نهوضه)
(ملك جَاءَنَا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه)
(أوجب الله شكر ذَاك علينا ... دَائِما مثل واجباب فروضه)
وَوصل الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل إِلَى حماه وَقبض الْمَنْصُور على جمَاعَة بحماه كَانُوا مَعَ التتر وهنأه شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين بذلك فَقَالَ:
(رعت العدا فضمنت تل عروشها ... ولقيتها فَأخذت تل جيوشها)
(فقت الْمُلُوك ببذل مَا تحويه إِذْ ... ختمت خزائنها على منقوشها)
(فطويت عَن مصر فسيح مراحل ... مَا بَين بركتها وَبَين عريشها)
(حَتَّى حفظت على الْعباد بلادها ... من رومها الْأَقْصَى إِلَى أحبوشها)
(فرشت حماه لوطء نعلك خدها ... فوطئت عين الشَّمْس من مفروشها)
(وَضربت سكتها الَّتِي أخلصتها ... عَمَّا يشوب النَّقْد من مغشوشها)
(وَكَذَا المعرة إِذْ ملكت قيادها ... دهشت سُرُورًا سَار فِي مدهوشها)
(طربت برجعتها إِلَيْك كَأَنَّمَا ... سكرت بخمرة حاسها أَو حيشها)
قلت: وَهَذَا الْبَيْت يُشِير بِهِ ناظمه إِلَى قَول الْأَمِير أبي الْفَتْح بن أبي حَصِينَة المعري:
(من خندريس حناكها أَو حاسها ... )
وَهُوَ من قصيدة هائلة مَشْهُورَة مدح بهَا ثَابت بن ثمال بن صَالح بن مرداس، أَولهَا:(2/201)
(لَو أَن دَارا أخْبرت عَن ناسها ... لسألت رامة عَن ظباء كناسها)
(بل كَيفَ تخبر دمنة مَا عِنْدهَا ... علم بوحشتها وَلَا إيناسها)
(ممحوة العرصات يشغلها البلى ... عَن ساحبات الريط فَوق دهاسها)
وَمِنْهَا:
(وزمان لَهو بالمعرة مونق ... بشياتها وبجانبي هرماسها)
(أَيَّام قلت لذِي الْمَوَدَّة اسْقِنِي ... من خندريس حناكها أَو حاسها)
(حَمْرَاء تغنينا بساطع لَوْنهَا ... فِي اللَّيْلَة الظلماء عَن نبراسها)
(وكأنما حبب المزاج إِذا طفا ... در ترصع فِي جَوَانِب طاسها)
(رقت فَمَا أَدْرِي أكأس زجاجها ... فِي جسمها أم جسمها فِي كاسها)
(وكأنما زرحونة جَاءَت بهَا ... سقيت مذاب التبر عِنْد غراسها)
(فَأَتَت مشعشعة كجذوة قابس ... راعت أكف الْقَوْم عِنْد مساسها)
(لله أَيَّام الصِّبَا وَنَعِيمهَا ... وزمان جدَّتهَا ولين مراسها)
(مَا لي تعيب الْبيض بيض مفارقي ... وسبيلها تصبو إِلَى أجناسها)
(نور الصَّباح إِذا الدجنة أظلمت ... أبهى وَأحسن من دجى أغلاسها)
(إِن الْهوى دنس النُّفُوس فليتني ... طهرت هذي النَّفس من أدناسها)
(ومطامع الدُّنْيَا تذل وَلَا أرى ... شَيْئا أعز لمهجة من باسها)
(من عف لم يذمم وَمن تبع الْخَنَا ... لم تخله التَّبعَات من أوكاسها)
(زين خصالك بالسماح وَلَا ترد ... دنيا تراك وَأَنت بعض خساسها)
(وَإِذا بنيت من الْأُمُور بنية ... فَاجْعَلْ فعال الْخَيْر بَدو أساسها)
(وَمَتى رَأَيْت يَد أمرئ ممدودة ... تبغي مواساة الْجَمِيل فواسها)
(خير الأكف الفاخرات بجودها ... كف تجود وَلَو على إفلاسها)
(تلقى المذمة مِثْلَمَا تقلى العدى ... فَيكون بذل المَال خير تراسها)
وَمِنْهَا:
(أما نزار كلهَا فكريمة ... لَكِن أكرمها بَنو مرداسها)
وَالله أعلم. وَكَانَ خسروشاه قد سَافر من حماه لما بلغه كَسره التتر، ثمَّ جهز المظفر قطز عسكراً لحفظ حلب.
ورتب شمس الدّين أقوش البرلي العزيزي أَمِيرا بالسواحل وغزة، ورتب مَعَه جمَاعَة من العزيزية، والبرلي كَانَ مَمْلُوك الْعَزِيز صَاحب حلب، وَسَار فِي جملَة العزيزية مَعَ ابْنه لملك النَّاصِر يُوسُف إِلَى قتال المصريين، وخامر البرلي وَجَمَاعَة من العزيزية على ابْن استاذهم النَّاصِر إِلَى أيبك التركماني صَاحب مصر.(2/202)
ثمَّ قصدُوا اغتيال أيبك التركماني فَعلم وَقبض على بَعضهم، وهرب بَعضهم وَكَانَ البرلي من جملَة من سلم وهرب إِلَى الشَّام، فَلَمَّا وصل إِلَى النَّاصِر اعتقله بقلعة عجلون، فَلَمَّا توجه الْملك النَّاصِر بالعساكر إِلَى الْغَوْر مندفعاً من بَين يَدي التتر أخرج البرلي من حبس عجلون وَطيب قلبه، فَلَمَّا هرب النَّاصِر من قطية دخل البرلي مَعَ العساكر إِلَى مصر فَأكْرمه قطز، وولاه السواحل وغزة.
وَلما اسْتَقر بِدِمَشْق على مَا ذَكرْنَاهُ وَكَانَ مقرّ البرلي لما تولى هَذِه الْأَعْمَال بنابلس تَارَة وببيت حبرون أُخْرَى. ثمَّ أَن قطز استناب بِدِمَشْق علم الدّين سنجر الْحلَبِي أتابك عَليّ بن الْمعز أيبك واستناب بحلب الْملك السعيد بن بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل كَانَ وصل إِلَى النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام، وَدخل مَعَ العساكر مصر ففوض إِلَيْهِ قطز حلب وَسَببه أَن أَخَاهُ الصَّالح بن لُؤْلُؤ صَار صَاحب الْموصل حِينَئِذٍ فقصد معاضدتهما على أجناد التتر، وَسَار السعيد بحلب سيرة رَدِيئَة، وتحيل على أَخذ أَمْوَال النَّاس وَلما قرر قطز أَمر الشَّام سَار من دمشق إِلَى جِهَة مصر.
وَكَانَ قد اتّفق بيبرس البندقداري الصَّالِحِي مَعَ أنص مَمْلُوك نجم الدّين الرُّومِي الصَّالِحِي والهاروني وَعلم الدّين طغان أوغلي على قتل المظفر قطز وَسَارُوا مَعَه يتوقعون الفرصة.
فَلَمَّا وصل إِلَى القطية بِطرف الرمل وَبَينه وَبَين الصالحية مرحلة، وَقد سبق الدهليز، والعسكر إِلَى الصالحية قَامَت أرنب بَين يَدَيْهِ فساق وَسَاقُوا عَلَيْهَا وأبعدوا فَتقدم إِلَيْهِ أنص، وشفع عِنْد قطز فِي إِنْسَان فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك فَأَهوى ليقبل يَده وَقبض عَلَيْهَا، فَحمل عَلَيْهِ بيبرس البندقداري وضربه بِالسَّيْفِ واجتمعوا عَلَيْهِ ورموه عَن فرسه، ثمَّ قَتَلُوهُ بالنشاب فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فمدة ملكه أحد عشر شهرا وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا.
ثمَّ سَار بيبرس وَأُولَئِكَ حَتَّى وصلوا الدهليز بالصالحية، وَعند الدهليز نَائِب السلطنة فَارس الدّين أقطاي المستعرب الَّذِي كَانَ أتابك عَليّ بن الْمعز أيبك وَأقرهُ قطز على نِيَابَة السلطنة فَسَأَلَهُمْ أقطاي المستعرب وَقَالَ: من قَتله مِنْكُم؟ فَقَالَ لَهُ بيبرس: أَنا، فَقَالَ أقطاي: ياخوندا جلس فِي مرتبَة السلطنة فَجَلَسَ واستدعيت العساكر للتحليف فَحَلَفُوا لَهُ يَوْم قتل قطز سَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، وتلقب بِالْملكِ الْقَاهِرَة، ثمَّ غَيره إِلَى الظَّاهِر، بلغه أَن القاهر لقب غير مبارك لم تطل مُدَّة من تلقب بِهِ.
وَكَانَ الظَّاهِر قد سَأَلَ قطز نِيَابَة حلب فَلم يجبهُ إِلَيْهَا ليَكُون مَا قدره الله تَعَالَى، وَبعد التَّحْلِيف سَاق الظَّاهِر فِي جمَاعَة وَسبق الْعَسْكَر إِلَى قلعة الْجَبَل ففتحت لَهُ ودخلها وَاسْتقر ملكه.
وَكَانَ قد زينت مصر والقاهرة لقدوم قطز، فاستمرت الزِّينَة لسلطنة الظَّاهِر.(2/203)
وفيهَا: فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من ذِي الْقعدَة شرع علم الدّين سنجر الْحلَبِي نَائِب دمشق فِي تَجْدِيد عمَارَة قلعة دمشق، وَعمل فِيهَا حَتَّى النِّسَاء وَشر النَّاس بهَا.
سلطنة الْحلَبِي بِدِمَشْق
كَانَ قطز قد استناب علم الدّين سنجر الْحلَبِي بِدِمَشْق، فَلَمَّا تملك الظَّاهِر حلف الْحلَبِي النَّاس لنَفسِهِ فِي الْعشْر الأول من ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
وتلقب بِالْملكِ الْمُجَاهِد، وَجعل السِّكَّة وَالْخطْبَة باسمه وَكَاتب الْمَنْصُور بحماه فِي ذَلِك فَقَالَ: أَنا مَعَ من ملك مصر.
قبض الْملك السعيد وعود التتر
وفيهَا اجْتمع الْأُمَرَاء على السعيد بن بدر الدّين لُؤْلُؤ بحلب وقبضوا عَلَيْهِ لسوء سيرته وَلِأَنَّهُ خالفهم فِي تجهيز سَابق الدّين أَمِير مجْلِس الناصري فِي جمَاعَة قَليلَة إِلَى لِقَاء التتر لما سَارُوا إِلَى البيرة.
وَكَانَ السعيد قد برز إِلَى بابلي وَلم يَجدوا بخزائنه طائلاً، فهددوه بِالْعَذَابِ إِن لم يقر بِمَالِه فنبش من تَحت أَشجَار بجوار بابلي جملَة قيل خَمْسُونَ ألف دِينَار مصرية ففرقت فِي أُمَرَاء الْعَسْكَر واعتقلوه بالثغر، وَقدمُوا عَلَيْهِم حسام الدّين الجوكندار العزيزي.
ثمَّ سَارَتْ التتر إِلَى حلب فَانْدفع حسام الدّين والعسكر بَين أَيْديهم إِلَى جِهَة حماه، وَملك التتر حلب فِي آخر هَذِه السّنة وأخرجوا أَهلهَا إِلَى قرنيبا وَاسْمهَا مقرّ الْأَنْبِيَاء، وجمعوهم بهَا وأفنوا غالبهم قتلا.
وَوصل حسام الدّين الجوكندار وَمن مَعَه حماه، فأضافهم الْمَنْصُور على وَجل مِنْهُم، ثمَّ سَارُوا إِلَى حمص، فَلَمَّا قَارب التتر حماه خرج الأخوان الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل والأمير مبارز الدّين وَبَاقِي الْعَسْكَر، واجتمعوا بحمص مَعَ العساكر إِلَى أَن خرجت هَذِه السّنة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة: فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس الْمحرم مِنْهَا انْكَسَرَ التتر على حمص وَذَلِكَ إِن التتر قدمُوا فِي آخر السّنة الْمَاضِيَة وَاجْتمعَ العزيزية والناصرية والمنصور صَاحب حماه، والأشرف صَاحب حمص، وسارت التتر إِلَيْهِم والتقوا بِظَاهِر حمص والتتر أَكثر بِكَثِير، فَانْهَزَمَ التتر وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ مِنْهُم كَيفَ شَاءُوا.
وَوصل الْمَنْصُور بعْدهَا إِلَى حماه، وانضم من سلم من التتر إِلَى بَاقِي جَمَاعَتهمْ قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماه يَوْمًا ثمَّ رحلوا، وَبعد رحيلهم رَحل الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل مِنْهَا إِلَى دمشق، وَكَذَلِكَ الْأَشْرَف صَاحب حمص، وَأما حسام الدّين الجوكندار العزيزي فَلم يدْخل دمشق وَسَار إِلَى مصر، وَأقَام صَاحب حماه وَصَاحب حمص بِدِمَشْق فِي دورهما.
وَأما التتر فَسَارُوا عَن حماه إِلَى أفامية، وَكَانَ سيف الدّين الدبيلي الأشرفي قد وصل(2/204)
إِلَى أفامية فَأَقَامَ بقلعتها وَشرع يُغير على التتر فتوجهوا إِلَى الشرق.
وفيهَا: جهز الْملك الظَّاهِر بيبرس صَاحب مصر عسكراً مَعَ أستاذه عَلَاء الدّين إيدكين البندقدار لقِتَال علم الدّين سنجر الْحلَبِي المستولي على دمشق فَخرج الْحلَبِي لقتالهم، وَكَانَ صاحبا حماه وحمص مقيمين بِدِمَشْق لم يطيعا الْحلَبِي لاضطراب أمره، واقتتلوا بِظَاهِر دمشق فِي ثَالِث عشر صفر مِنْهَا فَانْهَزَمَ الْحلَبِي وَأَصْحَابه وَدخل القلعة وهرب لَيْلًا إِلَى جِهَة بعلبك فتبعوه وقبضوا عَلَيْهِ وَحمل إِلَى مصر فاعتقل ثمَّ أطلق.
وأقيمت الْخطْبَة بِالشَّام كُله للظَّاهِر وَاسْتقر البندقدار بِدِمَشْق لتدبير أمورها ثمَّ عَاد صاحبا حماه وحمص إِلَى بلديهما.
وفيهَا: ورد على البندقدار بِدِمَشْق مرسوم الظَّاهِر بِالْقَبْضِ على بهاء الدّين بغدي الأشرفي وعَلى شمس الدّين أقوش التركي وَغَيرهمَا من العزيزية والناصرية فَقبض إيدكين البندقدار على بغدي فاجتمعت العزيزية والناصرية إِلَى البرلي، وَخَرجُوا من دمشق لَيْلًا على حمية ونزلوا بالمرج، وَكَانَ قطز قد ولى البرلي غَزَّة والسواحل، فَلَمَّا جهز الظَّاهِر أستاذه إِلَى قتال الْحلَبِي أَمر البرلي بالانضمام إِلَيْهِ، فَسَار البرلي مَعَ النبدقدار وَأقَام بِدِمَشْق فَلَمَّا قبض على بغدي خرج البرلي وَأرْسل إيدكين يطيب قلبه وَيحلف لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، وَسَار إِلَى حمص ليوافقه الْأَشْرَف مُوسَى على الْعِصْيَان فَأبى ثمَّ إِلَى حماه ليوافقه صَاحبهَا فَأبى فَأحرق البرلي زرع بيدر الْعشْر، وَسَار إِلَى شيزر، ثمَّ إِلَى جِهَة حلب.
وَكَانَ إيدكين قد جهز عسكراً صُحْبَة فَخر الدّين الْحِمصِي للكشف عَن البيرة فَإِن التتر نازلوها، فَلَمَّا قدم البرلي إِلَى حلب كَانَ بهَا فَخر الدّين الْحِمصِي، فَقَالَ لَهُ البرلي: نَحن فِي طَاعَة الْملك الظَّاهِر فتمضي إِلَى السُّلْطَان وتسأله أَن أكون أَنا وَمن معي مقيمين بِهَذَا الطّرف تَحت طَاعَته وَلَا يكلفني وَطْء بساطه.
فَسَار الْحِمصِي إِلَى جِهَة مصر ليؤدي هَذِه الرسَالَة فَتمكن البرلي واحتاط على مَا بحلب من الحواصل، واستبد بِالْأَمر وَجمع الْعَرَب والتركمان واستعد لقِتَال عَسْكَر مصر، وَلَقي فَخر الدّين الْحِمصِي فِي الرمل جمال الدّين المحمدي الصَّالِحِي مُتَوَجها بِمن مَعَه من عَسْكَر مصر لقِتَال البرلي وإمساكه، فَأرْسل الْحِمصِي يعرف الظَّاهِر بِمَا طلبه البرلي فَأنْكر الظَّاهِر على فَخر الدّين وَأرْسل يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ مَعَ المحمدي إِلَى قتال البرلي فَعَاد من وقته.
ثمَّ رَضِي الظَّاهِر على علم الدّين سنجر الْحلَبِي وجهزه وَرَاء المحمدي فِي جمع من الْعَسْكَر ثمَّ أردفه بعز الدّين الدمياطي فِي جمع وَسَارُوا جَمِيعهم وطردوا البرلي عَن حلب وَانْقَضَت السّنة وَالْأَمر على ذَلِك.
وفيهَا: ورد الْخَبَر بقتل الْملك النَّاصِر يُوسُف بن الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب، وَعقد عزاؤه بِجَامِع دمشق فِي سَابِع جُمَادَى الأولى وَذَلِكَ أَنه لما بلغ هولاكو كسرة عسكره بِعَين جالوت وَقتل كتبغا، ثمَّ كَسره عسكره على(2/205)
حمص ثَانِيًا غضب وأحضر الْملك النَّاصِر وأخاه الظَّاهِر غازياً، وَقَالَ: أَنْت قلت إِن عَسْكَر الشَّام فِي طَاعَتك فغررت بِي وَقتلت المغول فَقَالَ الْملك النَّاصِر: لَو كنت بِالشَّام مَا ضرب أحد فِي وَجه عسكرك بِالسَّيْفِ وَمن يكون بِبِلَاد تبريز كَيفَ يحكم على من بِالشَّام؟ ففوق هولاكو سَهْما وضربه بِهِ، فَقَالَ الْملك النَّاصِر: يَا خوند الصنيعة فَنَهَاهُ أَخُوهُ الظَّاهِر وَقَالَ قد حضرت ثمَّ رَمَاه بِسَهْم ثَان فَقتله.
ثمَّ قتلوا الظَّاهِر أَخا النَّاصِر والصالح ابْن صَاحب حمص وَمن مَعَهم واستبقوا ابْن الْملك النَّاصِر لصغره وَطَالَ مكثه عِنْدهم مكرماً ثمَّ مَاتَ.
وَكَانَ قد زَاد ملك النَّاصِر على ملك أَبِيه وجده فَإِنَّهُ ملك حران والرها والرقة وَرَأس عين وَمَا مَعَ ذَلِك وحمص ثمَّ دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إِلَى غَزَّة، وَكسر عَسَاكِر مصر، وخطب لَهُ بِمصْر وقلعة الْجَبَل كَمَا مر كَانَ يذبح فِي مطبخه كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَأس غنم وسماطه فِي غَايَة التجمل، وَتجَاوز بِهِ حلمه إِلَى قطع المفسدين الطرقات بِحَيْثُ لَا يُسَافر النَّاس إِلَّا برفقه من الْعَسْكَر، وطمع الْعَرَب والتركمان فِي أَيَّامه، وكبست الحرامية الدّور، وَيَقُول عَن الْقَاتِل الْحَيّ خير من الْمَيِّت ويطلقه، فَأدى ذَلِك إِلَى فَسَاد كَبِير، وَكَانَ لَهُ أدب وَشعر، وَله فَمن ذَلِك.
(فوَاللَّه لَو قطعت قلبِي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دَمًا صرفا)
(وَلما زادني إِلَّا هوى ومحبة ... وَلَا اتَّخذت روحي سواك لَهَا إلفا)
وَبنى مدرسته الناصرية بِدِمَشْق - قرب الْجَامِع بوقف جليل، وَبنى بالصالحية تربة بجمل مستكثرة فَدفن فِيهَا كرمون بعض أُمَرَاء التتر، وَكَانَت منية النَّاصِر بِبِلَاد الْعَجم، ومولده سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة فعمره نَحْو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة.
وفيهَا: فِي رَجَب قدم مصر جمَاعَة من الْعَرَب وَمَعَهُمْ شخص أسود اللَّوْن اسْمه أَحْمد زَعَمُوا أَنه ابْن الإِمَام الظَّاهِر بِاللَّه بن الإِمَام النَّاصِر، وَأَنه خرج من دَار الْخلَافَة بِبَغْدَاد لما ملكهَا التتر فعقد الْملك الظَّاهِر لَهُ مَجْلِسا حَضَره الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَالْقَاضِي تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن خلف الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز فَشهد أُولَئِكَ الْعَرَب أَن هَذَا هُوَ ابْن الظَّاهِر مُحَمَّد بن الإِمَام النَّاصِر فَيكون عَم المستعصم، وَأقَام القَاضِي جمَاعَة من الشُّهُود، وسمعوا شَهَادَات الْعَرَب ثمَّ شهدُوا بِالنّسَبِ بِحكم الاستفاضة، فَأثْبت القَاضِي تَاج الدّين نسب أَحْمد الْمَذْكُور. قلت: إِذا صرح الشَّاهِد بِأَن مُسْتَند شَهَادَته الاستفاضة لم يعْمل القَاضِي بقوله على الصَّحِيح وَإِن لم يُصَرح بهَا سَمِعت شَهَادَته وَإِن كَانَت الاستفاضة مستندة، فَكَأَن الشُّهُود لم يصرحوا فِي شَهَادَتهم بِأَن مستندها فِي أَمر الْخَلِيفَة إِنَّمَا هُوَ الاستفاضة وَالله أعلم.
ولقب الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبَا الْقَاسِم أَحْمد بن الظَّاهِر بِاللَّه مُحَمَّد، وَبَايَعَهُ الْملك الظَّاهِر(2/206)
وَالنَّاس بالخلافة، وَعمل لَهُ الظَّاهِر آلَات الْخلَافَة حَتَّى الدهليز واستخدم لَهُ عسكراً وَغرم على تجهيز قيل ألف ألف دِينَار.
وَكَانَت الْعَامَّة تلقب الْخَلِيفَة الْمَذْكُور بالذراتيتي، وبرز الظَّاهِر والخليفة الْأسود الْمَذْكُور فِي رَمَضَان مِنْهَا وتوجها إِلَى دمشق وَنزل الظَّاهِر بالقلعة والخليفة بجبل الصالحية، وحول الْخَلِيفَة أمراؤه وأجناده.
ثمَّ جهز الْخَلِيفَة بعسكره إِلَى جِهَة بَغْدَاد رَجَاء أَن تعود بَغْدَاد إِلَيْهِم ويجتمع عَلَيْهِ النَّاس، وودعه الظَّاهِر ووصاه بالتأني فِي الْأُمُور.
وَعَاد الظَّاهِر إِلَى مصر ووصلت إِلَيْهِ كتب الْخَلِيفَة، وَأَنه استولى على عانة والحديثة، وَولى عَلَيْهِمَا وَأَن كتب أهل الْعرَاق وصلته يستحثونه على الْوُصُول إِلَيْهِم، ثمَّ قبل أَن يصل إِلَى بَغْدَاد وصلت إِلَيْهِ التتر وَقتلُوا الْخَلِيفَة وغالب أَصْحَابه ونهبوا مَا مَعَهم.
وفيهَا: لما سَار الظَّاهِر إِلَى الشَّام صحب مَعَه من مصر القَاضِي شمس الدّين أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن خلكان فعزل عَن قَضَاء دمشق نجم الدّين بن صدر الدّين بن سني الدولة، وَكَانَ قطز قد عزل المحبي بن الزكي الَّذِي ولاه هولاكو الْقَضَاء، وَولى ابْن سني الدولة فَعَزله الظَّاهِر وَولى شمس الدّين بن خلكان.
وفيهَا: قدم أَوْلَاد لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل وهم: الصَّالح إِسْمَاعِيل ثمَّ الْمُجَاهِد إِسْحَاق صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر، ثمَّ المظفر عَليّ صَاحب سنجار فأقطعهم الظَّاهِر الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية، واستمروا فِي رغد عَيْش طول مُدَّة الظَّاهِر.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر وَردت الْأَخْبَار من نَاحيَة عكا أَن سبع جزائر من الْبَحْر خسف بهَا وبأهلها، وَلبس أهل عكا السوَاد وَبكوا وَاسْتَغْفرُوا من الذُّنُوب بزعمهم.
وفيهَا: بِأَمْر الظَّاهِر تسلم بدر الدّين الأيدمري الشوبك من المغيث صَاحب الكرك سلخ ذِي الْحجَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي نصف رَجَب وَردت جمَاعَة من مماليك الْخَلِيفَة المستعصم البغاددة، وَكَانُوا قد تَأَخَّرُوا بالعراق بعد قتل الْخَلِيفَة واستيلاء التتر على بَغْدَاد ومقدمهم شمس الدّين سلار، فعين لَهُم الظَّاهِر الإقطاعات وَأكْرمهمْ.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل عماد الدّين بن مظفر الدّين صَاحب صهيون رَسُولا من أَخِيه سيف الدّين صَاحب صهيون إِلَى الظَّاهِر بهدية جليلة فقبلها وَأحسن إِلَيْهِ.
وفيهَا: جهز الظَّاهِر شمس الدّين سنقر الرُّومِي بعسكر إِلَى حلب فَعَادَت بِهِ إِلَى الصّلاح وَأمنت، ثمَّ تقدم الظَّاهِر إِلَيْهِم وَإِلَى صَاحب حماه وحمص الْمَنْصُور والأشرف مُوسَى بالإغارة على أنطاكية وبلادها فَسَارُوا ونهبوا بلادها وضايقوها، ثمَّ عَادوا فَتوجه المصريون إِلَى مصر بِأَكْثَرَ من ثَلَاثمِائَة أَسِير فقابلهم الظَّاهِر بالانعام.(2/207)
وفيهَا: لما أخذت من البرلي حلب، وَلم يبْق لَهُ غير البيرة سَار إِلَى الظَّاهِر مُطيعًا، فَكتب إِلَى النواب بالإقامات لَهُ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ حَتَّى وصل مصر ثَانِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا فَأكْرمه السُّلْطَان وَأَعْطَاهُ وألح على السُّلْطَان حَتَّى قبل مِنْهُ البيرة، وَلم يزل مَعَ الظَّاهِر حَتَّى تغير عَلَيْهِ، وَقَبضه فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة قبض الظَّاهِر على نَائِبه بِدِمَشْق عَلَاء الدّين طبوس الوزيري لأمور كرهها مِنْهُ، وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس سنة وشهراً، وولايته بِدِمَشْق سنة وَشهر، وَخرج من دمشق خلق هرباً من ظلمه، ثمَّ اسْتعْمل على دمشق جمال الدّين أقوش التجِيبِي الصَّالِحِي.
وفيهَا: أَوَاخِر ذِي الْحجَّة جلس الْملك الظَّاهِر مَجْلِسا عَاما، وأحضر شخصا كَانَ قدم إِلَى الديار المصرية سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة من نسل الْعَبَّاس اسْمه أَحْمد بعد أَن أثبت نسبه.
" وَبَايَعَهُ بالخلافة " وَالْقَضَاء والأمراء أَيْضا، ولقب الْحَاكِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَالْمَشْهُور عِنْد نسابه مصر أَنه أَحْمد بن الْحسن بن أبي بكر بن الْأَمِير أبي عَليّ القتبي بن الْأَمِير حسن بن الراشد بن المسترشد بن المستظهر، وَأما العباسيون السلمانيون فِي درج نسبهم الثَّابِت فَقَالُوا: هُوَ أَحْمد بن أبي عَليّ بن أبي بكر أَحْمد بن الإِمَام المسترشد الْفضل بن المستظهر وَلما جرى ذَلِك ترك الْمَذْكُور فِي برج محترزاً عَلَيْهِ، وَلم يتْرك لَهُ غير الدُّعَاء فِي الْخطْبَة.
وفيهَا: بِمصْر توفّي الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام الدِّمَشْقِي الإِمَام فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، وَله مصنفات جليلة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الصاحب كَمَال الدّين عمر بن أَحْمد بن هبة الله بن العديم، فَاضل كَبِير الْقدر، انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة أَصْحَاب أبي حنيفَة وَله تَارِيخ حلب وَغَيره، جفل إِلَى مصر من التتر، وَلما عَاد وَرَأى أَحْوَال حلب قَالَ قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(هُوَ الدَّهْر مَا تبنيه كَفاك بهدم ... وَإِن رمت إنصافاً لَدَيْهِ فتظلم)
(أباد مُلُوك الْفرس جمعا وقيصراً ... وأصمت لَدَى فرسانها مِنْهُ أسْهم)
(وأفنى بني أَيُّوب مَعَ كثر جمعهم ... وَمَا مِنْهُم إِلَّا مليك مُعظم)
(وَملك بني الْعَبَّاس زَالَ وَلم يدع ... لَهُم أثرا من بعدهمْ وهم هم)
(وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ... تباس بأفواه الْمُلُوك وتلثم)
(وَعَن حلب مَا شِئْت قل من عجائب ... أحل بهَا يَا صَاح إِن كَانَت تعلم)
(فيا لَك من يَوْم شَدِيد لغامه ... وَقد أَصبَحت فِيهِ الْمَسَاجِد تهدم)
(وَقد درست تِلْكَ الْمدَارِس وارتمت ... مصاحفها فَوق الثرى وَهِي ضخم)
(ولكنما لله فِي ذَا مَشِيئَة ... فيفعل فِينَا مَا يَشَاء وَيحكم)
قلت: رَأَيْت مقَامه مرصعة وَضعهَا الشَّيْخ جمال الدّين عمر بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن(2/208)
الرسمني، وَذكر فِيهَا وقْعَة حلب، ولعلها من أحسن مَا قيل فِي ذَلِك.
فَمِنْهَا: هَذَا وَقد نزلت فنون الْبلَاء بِالشَّام وهملت عُيُون العناء كالغمام وَصَارَ وشام الْإِسْلَام كالوشام وعرام الْأَنَام فِي غرام، وخفيت آثَار المآثر، ودرست وطفئت أنوار المنابر وطمست، وحلبت الْعُيُون ماءها على حلب وسكبت الجفون دماءها من الصبب، والتف عَلَيْهَا الختل والاختلال، واحتف بهَا الْقَتْل والوبال، واختطف من أعيانها عرائس الشموس والأقمار، واقتطف من أَغْصَانهَا نفائس النُّفُوس والأعمار، فَستر سفور السرُور وَنشر ستور الشرور، وتخربت الدّور والقصور، ونحرت الْحور فِي النحور، وَجَرت عيونها على أعيانها وهمت جفونها على شبانها بدموع جرت نجيعاً لفظوع طرت سَرِيعا، ونمى الطغيان والغش فِي رَوْضَة الشَّام، وسما الْعدوان فِي عش بَيْضَة الْإِسْلَام، وَرفعت الصلبان على الْمَسَاجِد، وَوضعت الْأَدْيَان والمعابد حَتَّى بَكَى على الْوُجُود الجلمد وشكى إِلَى المعبود السرمد.
وَلما تعظم الْعَدو وتكبر وَتقدم بالعتو وتجبر وَبسط سَيْفه على الْخَافِقين، وَهَبَطَ خَوفه على المشرقين أطلع الله طلائع اللِّوَاء المظفر وأبدع مطالع السناء الأنور وخفقت الرَّايَات والبنود وشرقت الْآيَات والسعود بانجذاب الْكفَّار إِلَى كنعان، وانسحاب الْفجار إِلَى الهوان وَهِي طَوِيلَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِي حادي عشر ربيع الأول مِنْهَا سَار الظَّاهِر بيبرس إِلَى الشَّام فلاقته وَالِدَة المغيث عمر صَاحب الكرك بغزة، وتوثقت مِنْهُ لابنها بالأيمان، ثمَّ تَوَجَّهت إِلَى الكرك وصحبتها شرف الدّين الجاكي المهمندار يحمل الإقامات إِلَى طرقات المغيث، وَوصل الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب حمص إِلَى الظَّاهِر بِالطورِ فَأكْرمه. وفيهَا: قتل الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب الكرك، وَسَببه أَن المغيث - قيل: تعرض إِلَى امْرَأَة الظَّاهِر كرها لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إِلَى النَّاصِر يُوسُف وهرب الظَّاهِر وَبقيت امْرَأَته فِي الكرك، وغره الظَّاهِر بالإكرام والاستدعاء حَتَّى كتب إِلَيْهِ أَن الْمَمْلُوك ينشد فِي قدوم مَوْلَانَا:
(خليلي هَل أبصرتما أَو سمعتما ... بِأَفْضَل من مولى تمشى إِلَى عبد)
وَسَار المغيث وَوصل ميسَان فَتَلقاهُ الظَّاهِر بعساكره فِي أَوَاخِر جمادي الأولى مِنْهَا وَمنعه من الترحل وسَاق إِلَى جَانِبه وَقد تغير وَجه الظَّاهِر وَلما قَارب الدهليز أنزلهُ فِي خيمه وَقبض عَلَيْهِ وأرسله معتقلاً إِلَى مصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وَقيل حمل إِلَى إمرأة الظَّاهِر بقلعة الْجَبَل فَقتله جواريها بالقباقيب.
ثمَّ قبض على أَصْحَابه وَمِنْهُم شرف الدّين بن مزهر نَاظر خزانته ثمَّ أفرج عَنْهُم، وَلما قبض عَلَيْهِ أحضر الْفُقَهَاء والقضاة ووقفهم على مكاتبات التتر أجوبة وَأثبت بذلك مشروحاً على الْحُكَّام، وأقطع ابْنه الْملك الْعَزِيز بن المغيث إقطاعاً وَأحسن إِلَيْهِ.(2/209)
ثمَّ جهز الظَّاهِر بدر الدّين بيسرى الشَّمْس، وَعز الدّين أستاذ الدَّار فتسلما الكرك فِي ثَالِث وَعشْرين جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، ثمَّ سَار إِلَيْهَا الظَّاهِر ورتبها وَعَاد.
وفيهَا: لما كَانَ الظَّاهِر على الطّور أرسل عسكراً هدموا كَنِيسَة الناصرة وَهِي أكبر مَوَاطِن عبادات النَّصَارَى وَدينهمْ مِنْهَا خرج وأغاروا على عكا وبلادها وعادوا ثمَّ أغار السُّلْطَان بِنَفسِهِ ثَانِيًا وَهدم برجاً خَارج عكا وَلما وصل مصر وَاسْتقر قبض على الرَّشِيدِيّ ثمَّ الدمياطي والبرلي.
وفيهَا: بعد عود الْأَشْرَف مُوسَى بن الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن الْمُجَاهِد شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شاذي من مصر إِلَى حمص، توفّي بهَا، وَصَارَت حمص للظَّاهِر فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا، والأشرف هَذَا آخر مُلُوك حمص من بَيت شيركوه.
وَملك حمص مِنْهُم خَمْسَة: أَوَّلهمْ شيركوه بن شاذي ملكه إِيَّاهَا نور الدّين الشَّهِيد ثمَّ ابْنه مُحَمَّد بن شيركوه وتلقب بالمجاهد ثمَّ ابْنه إِبْرَاهِيم بن شيركوه وتلقب بالمنصور ثمَّ ابْنه مُوسَى بن إِبْرَاهِيم وتلقب بالأشرف.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا قبض الأشكري صَاحب قسطنطينية على عز الدّين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ صَاحب بِلَاد الرّوم فَإِنَّهُ هرب إِلَيْهِ لما تغلب أَخُوهُ ركن الدّين قلج أرسلان عَلَيْهِ وأكرمه الأشكري وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء والجند مُدَّة، ثمَّ عزمت جماعته على قتل الأشكري والتغلب على الْقُسْطَنْطِينِيَّة، وَبلغ ذَلِك الأشكري فاعتقل كيكاوس فِي قلعة وكحل جماعته.
وفيهَا: فِي ثامن رَمَضَان توفّي شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد المحسن الْأنْصَارِيّ بحماه، ومولده جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَكَانَ دينا. فَاضلا مقدما عِنْد الْمُلُوك، وَله النثر وَالنّظم وَالْعقل الوافر وَلما مَاتَت غازنة بنت الْكَامِل استشعر ابْنهَا الْأَفْضَل عَليّ بن المظفر مَحْمُود من أَخِيه الْمَنْصُور صَاحب حماه وعزم على الرحيل عَن حماه فَعرفهُ الشَّيْخ شرف الدّين كَيفَ يسْلك مَعَ أَخِيه الْمَنْصُور وقبح عِنْد الْمَنْصُور مُفَارقَة أَخِيه وَمَا برح بَينهمَا حَتَّى تصافيا، وَله وَقد كَانَ مَعَ النَّاصِر يُوسُف مرّة بعمان:
(أفدي حبيباً مُنْذُ واجهته ... عَن وَجه بدر التم أغناني)
(فِي وَجهه خالان لولاها ... مَا بت مفتوناً بعمان)
وَاسْتشْهدَ لقَوْله بعمان وَلم يقل بعمين بقول الشَّاعِر:
(فَأَطْرَقَ أطراق الشجاع وَلَو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما)
وشواهد ذَلِك كَثِيرَة وَتقدم مثله.
قلت: وفيهَا توفّي الْوَلِيّ الْقدْوَة الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم بن مَنْصُور القباري بالإسكندرية، وخطيب الشَّام عماد الدّين عبد الْكَرِيم القَاضِي جمال الدّين بن الحرستاني ابْن خمس(2/210)
وَثَمَانِينَ سنة، ومحدث مصر رشيد الدّين يحيى بن عَليّ الْقرشِي الْعَطَّار الْمصْرِيّ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فتح الظَّاهِر قيسارية الشَّام بعد مضايقة سِتَّة أَيَّام فِي جُمَادَى الأولى وهدمها، ثمَّ فتح أرسوف فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا.
قلت: وفيهَا جدد بِمصْر الْقُضَاة الْأَرْبَعَة من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة لأجل توقف تَاج الدّين بن بنت الْأَعَز عَن تَنْفِيذ كثير من القضايا فتعطلت الْأُمُور، ثمَّ فعل بِدِمَشْق كَذَلِك فِي الْعَام الْقَابِل.
وفيهَا: حجب الْخَلِيفَة من الِاجْتِمَاع بِالنَّاسِ بقلعة الْجَبَل وابتدئ بعمارة مَسْجِد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ففرغ فِي أَربع سِنِين وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي تَاسِع عشر ربيع الآخر هلك هولاكو بن طلو بن جنكيزخان وَترك خَمْسَة عشر ابْنا.
وَملك بعده ابْنه أبغاً الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد أَبِيه وَهِي أقليم خُرَاسَان وكرسيه نيسابور وإقليم عراق الْعَجم وتعرف بِبِلَاد الْجَبَل وكرسيه أصفهان وإقليم عراق الْعَرَب وكرسيه بَغْدَاد وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز، وإقليم خوزستان وكرسيه تستر وتسميها الْعَامَّة ششتر، وإقليم فَارس وكرسيه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيه الْموصل وإقليم الرّوم وكرسيه قونية وَغَيرهَا مِمَّا لَيْسَ فِي الشُّهْرَة مثل هَذِه الأقاليم الْعَظِيمَة وَمُدَّة ملك هولاكو عشر سِنِين.
قلت: مَاتَ هولاكو على دينه بعلة الصرع وبنوا على قَبره قبَّة بقلعة تَلا وَفِي تَارِيخ الذَّهَبِيّ أَنه هلك سنة أَربع وَسِتِّينَ وَالله أعلم.
وفيهَا: أَو تلوها أمسك الظَّاهِر زامل بن عَليّ أَمِير الْعَرَب بمكاتبة عِيسَى بن مهنا فِيهِ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان استولى نَائِب الرحبة على قرقيسيا وَهِي حصن الزبا على خلاف فِيهِ.
وفيهَا: قبض الظَّاهِر على سنقر الرُّومِي.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِمصْر بدر الدّين يُوسُف بن حسن بن عَليّ السنجاوي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا خرج الظَّاهِر من مصر وجهز عسكراً فتحُوا القليعات وحلبا وعرقا وَنزل الظَّاهِر على صفد ثامن من شعْبَان وضايقها وجاءه عَلَيْهَا الْمَنْصُور صَاحب حماه وَكثر الْقَتْل والجراح وَفتحهَا بالأمان فِي تَاسِع عشر شعْبَان ثمَّ قتل أَهلهَا الفرنج عَن آخِرهم.
وفيهَا: بعد صفد دخل الظَّاهِر دمشق وجرد عسكراً ضخماً مقدمهم الْمَنْصُور صَاحب حماه إِلَى بِلَاد الأرمن وملكهم إِذْ ذَاك هيتوم بن قسطنطين بن باسيل قد حصن الدربندات بالرجالة والمجانيق وَجعل عَلَيْهَا عسكره مَعَ ابنيه فأفناهم العساكر قتلا وأسراً، وَقتل أحد(2/211)
ابْني صَاحب سيس، وَأسر الآخر وَهُوَ ليفون وفتحوا العامودين وَقتلُوا أَهلهَا وعادوا وَقد امتلأوا غَنَائِم فَتَلقاهُمْ الظَّاهِر إِلَى أفامية وَعَاد إِلَى مصر فتقطر بِهِ فرسه عِنْد بركَة زيزا وانكسرت فَخذه وَحمل فِي محفة.
وفيهَا: وَقد سَار الظَّاهِر ليلقى عساكره نزل قارا وَنهب أَهلهَا وَقتل كبارهم فَإِنَّهُم كَانُوا نَصَارَى يبيعون الْمُسلمين من الفرنج خُفْيَة، وَأخذت صبيانهم مماليك، وتربوا بَين التّرْك بالديار المصرية فَصَارَ مِنْهُم أجناد وأمراء.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا قدم الْمَنْصُور صَاحب حماه إسكندرية للتفرج بِأَمْر الظَّاهِر ففرشت بَين يَدي فرسه الشقق، واحترم وَأكْرم وَعَاد إِلَى مصر ثمَّ إِلَى حماه.
وفيهَا: توجه الظَّاهِر إِلَى الشَّام فَنظر فِي مصَالح صفد وَأقَام بِدِمَشْق خَمْسَة أَيَّام وَقَوي الإرجاف بالتتر ثمَّ عَادوا فَعَاد.
وفيهَا: مَاتَ بركَة بن صائن خَان بن دوشي خَان بن جنكيزخان أعظم مُلُوك التتر وكرسيه مَدِينَة سراي، وَكَانَ قد نزل إِلَى دين الْإِسْلَام.
وَملك بعده ابْن عَمه منكو تمر بن طغان بن ناطو بن دوشي خَان بن جنكيزخان.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِي مستهل جمادي الْآخِرَة مِنْهَا توجه الْملك الظَّاهِر بيبرس إِلَى الشَّام وَفتح يافا فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الشَّهْر من الفرنج ثمَّ سَار ونازل أنطاكية مستهل رَمَضَان وزحف فملكها بِالسَّيْفِ يَوْم السبت رَابِع رَمَضَان مِنْهَا قتلا وسبياً، وغنموا مِنْهَا عَظِيما، وَكَانَت للبرنس بيمند وَله مَعهَا طرابلس وَكَانَ بطرابلس لما فتحت أنطاكية.
وفيهَا: فِي ثَالِث عشر رَمَضَان ملك الظَّاهِر بغراس خَالِيَة للخوف مِنْهُ، وقواها وَجعلهَا من الْحُصُون الإسلامية، وَكَانَ صَلَاح الدّين فتحهَا وخربها، ثمَّ عمرها الفرنج بعده، ثمَّ حاصرها الحلبيون ورحلوا بعد أَن أشرفوا على فتحهَا.
وفيهَا: فِي شَوَّال صَالح الظَّاهِر هينوم صَاحب سيس على أَن يحضر سنقر الْأَشْقَر المأسور من قلعة حلب عِنْد التتر من حِين ملكهَا هولاكو وَيسلم بهثنى ودير بساك ومرزيان ورعيان وسيح الْحَدِيد وَيُطلق الظَّاهِر لَهُ ابْنه ليفون وَتمّ ذَلِك كُله وَعَاد الظَّاهِر إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا خرج الظَّاهِر وخيم على خربة اللُّصُوص ثمَّ قدم مصر بَغْتَة وَمَا علم النَّائِب بِمصْر وَلَا غَيره بذلك حَتَّى صَار بَينهم، ثمَّ عَاد إِلَى الشَّام.
وفيهَا: تسلم الظَّاهِر بلاطنس من عز الدّين عُثْمَان صَاحب صهيون.
وفيهَا: حج الْملك الظَّاهِر ورحل من الشوبك فِي حادي عشر ذِي الْقعدَة فوصل مَكَّة شرفها الله فِي خَامِس ذِي الْحجَّة، وَوصل إِلَى الكرك سلخ ذِي الْحجَّة.(2/212)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا توجه الْملك الظَّاهِر بيبرس من الكرك مستهل الْمحرم وَقد عَاد من الْحَج فوصل دمشق بَغْتَة، وَتوجه من يَوْمه فوصل حماه خَامِس الْمحرم، وَتوجه لساعته إِلَى حلب وَلم تشعر بِهِ الْعَسْكَر إِلَّا وَهُوَ فِي الموكب مَعَهم وَعَاد إِلَى دمشق ثَالِث عشر الْمحرم ثمَّ توجه إِلَى الْقُدس ثمَّ وصل الْقَاهِرَة ثَالِث صفر مِنْهَا.
وفيهَا: عَاد الظَّاهِر إِلَى الشَّام وأغار على عكا وَدخل دمشق وحماه.
وفيهَا: فِي رَجَب تسلم عَسْكَر الظَّاهِر مصياف من الإسماعيلية.
وفيهَا: جهز منكوتمر جَيْشًا من التتر فوصلوا قسطنطينية، وعاثوا فِي بلادها ومروا بالقلعة الَّتِي حبس بهَا كيكاوس صَاحب الرّوم من سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَحَمله التتر بأَهْله إِلَى منكوتمر فَأكْرمه وزوجه ابْنَته وَأقَام مَعَه حَتَّى توفّي كيكاوس سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة فَسَار ابْنه مَسْعُود وَملك الرّوم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِيهَا حصر الظَّاهِر حصن الأكراد وَملكه بالأمان فِي رَابِع وَعشْرين شعْبَان، ثمَّ نَازل حصن عكار فِي سَابِع عشر رَمَضَان وجد فِي قِتَاله، وَملكه بالأمان فِي سلخ رَمَضَان وَعِيد عَلَيْهِ، وَفِيه يَقُول مُحي الدّين بن عبد الظَّاهِر:
(يَا مليك الأَرْض بِشِرَاك ... فقد نلْت الْإِرَادَة)
(إِن عكار يَقِينا ... هُوَ عكا وَزِيَادَة)
قلت: ونقلت أَنا هَذَا الْمَعْنى إِلَى ذمّ سُكْنى البيرة فَقلت:
(إِنَّمَا البيرة بير ... رحلتي مِنْهَا سَعَادَة)
(قيل والبيرة بير ... قلت بير وَزِيَادَة)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي شَوَّال تسلم الظَّاهِر قلعة العليفة وبلادها من الإسماعيلية.
وفيهَا: قدم الظَّاهِر دمشق ونازل فِي ثَانِي ذِي الْقعدَة حصن الْقرن وتسلمه بالأمان وهدمه وَعَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: جهز الظَّاهِر مَا يزِيد على عشرَة شواني لغزة وقبرص، فتكسرت فِي مرسى النمسون وأسرهم الفرنج، فَعمل السُّلْطَان فِي مُدَّة يسيرَة شواني ضعف مَا عدم.
وفيهَا: توفّي هيتوم صَاحب سيس وَملك ابْنه ليفون طليق الظَّاهِر.
وفيهَا: قبض الظَّاهِر على عز الدّين تغان وعَلى المحمدي وَغَيرهمَا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن الْبَارِزِيّ قَاضِي حماه والطواشي شُجَاع الدّين مرشد الْخَادِم المنصوري، وَكَانَ كثير الْمَعْرُوف كَانَ الظَّاهِر يعْتَمد عَلَيْهِ ويستشيره ودبر حماه مُدَّة.
قلت: وفيهَا أَعنِي سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، مَاتَ بِمَكَّة قطب الدّين عبد الْحق بن(2/213)
سبعين المرسي الصُّوفِي الفيلسوف من الْقَائِلين بوحدة الْوُجُود، وَله تصانيف وَأَتْبَاع وَأَبُو الْحسن بن عُصْفُور الأشبيلي النَّحْوِيّ صَاحب التصانيف مِنْهَا المقرب وشرحا الْجمل للزجاجي والممتع فِي التصريف وَهُوَ بديع فِي فنه، وَكَانَ يخضب رَأسه ولحيته بِالْحِنَّاءِ.
وَله فِي ذَلِك:
(لما تدنست بالتفريط فِي كبري ... ورحت مغرى بِشرب الراح واللمس)
(رَأَيْت أَن خضاب الشيب أسترلي ... إِن الْبيَاض قَلِيل الْحمل للدنس)
ثمَّ دخلت سنة سبعين وسِتمِائَة: فِيهَا توجه الظَّاهِر إِلَى الشَّام وعزل جمال الدّين أقوش النجيبي نَائِب دمشق وولاها عَلَاء الدّين إيدكين الفخري الْأُسْتَاذ دَار مستهل ربيع الأول، ثمَّ قدم حمص ثمَّ حصن الأكراد ثمَّ دمشق.
وفيهَا: وَالظَّاهِر بِدِمَشْق أغارت التتر على عينتاب وعَلى الروج وقسطون إِلَى قرب أفامية وعادوا واستدعى الظَّاهِر عسكراً من مصر وَتوجه بهم إِلَى حلب ثمَّ قدم مصر ثَالِث وَعشْرين جُمَادَى الأولى.
وفيهَا: فِي شَوَّال عَاد الظَّاهِر من مصر إِلَى الشَّام.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الظَّاهِر إِلَى مصر جَرِيدَة فَأَقَامَ بقلعة الْجَبَل نصف شهر، وَثمّ عَاد إِلَى الشَّام فوصل دمشق ثَالِث صفر.
وفيهَا: توفّي سيف الدّين أَحْمد بن مظفر الدّين عُثْمَان بن منكيرس صَاحب صهيون فَسلم ولداه سَابق الدّين وفخر الدّين صهيون إِلَى الظَّاهِر فأكرمهما وَأعْطى سَابق الدّين إمرة طبلخانات.
وفيهَا: نَازل التتر البيرة ونصبوا المجانيق وضايقوها فَسَار إِلَيْهِم الظَّاهِر وَأَرَادَ عبور الْفُرَات إِلَى بر البيرة فقاتله التتر على المخاصة فاقتحم الْفُرَات وَهزمَ التتر فرحلوا عَن البيرة وتركو آلَات الْحصار فَصَارَت للْمُسلمين، ثمَّ عَاد الظَّاهِر فوصل مصر فِي خَامِس وَعشْرين جُمَادَى الْآخِرَة.
وفيهَا: أخرج الدمياطي من الاعتقال.
وفيهَا: تسلمت نواب الظَّاهِر مَا تَأَخّر من حصون الإسماعيلية وَهِي الْكَهْف والمنيقة والقدموس.
قلت: وفيهَا توفّي الْعَلامَة تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُونُس الْموصِلِي صَاحب التَّعْجِيز بِبَغْدَاد، وَكَمَال الدّين أَحْمد بن الدحمسي بِالْهِنْدِ، والمحدث شمس الدّين بن هامل الْحَرَّانِي، والحافظ شرف الدّين يُوسُف بن النابلسي وَالله أعلم.
وفيهَا: اعتقل الظَّاهِر الشَّيْخ خضر الْعَدْوى بعد رفعته عِنْده ونفوذ أمره بِالشَّام ومصر واعتقله بقلعة الْجَبَل فِي قاعة مكرما حَتَّى مَاتَ.(2/214)
قلت: وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(لم يحبس الشَّيْخ خضر بعد منقصة ... مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْب إِلَى أحد)
(لكنه كَانَ كالسلطان منزلَة ... وَهل رأى النَّاس سلطانين فِي بلد)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا ملك يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن حمامة المريني مَدِينَة سبتة وقبيلة بني مرين يُقَال لَهَا حمامة من قبائل الْعَرَب بالمغرب كَانَ مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة أول أَمرهم أَنهم خَرجُوا عَن طَاعَة بني عبد الْمُؤمن لما اخْتَلَّ أَمرهم، وملكوا فاس مِنْهُم سنة بضع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَأول من أشتهر مِنْهُم أَبُو بكر بن عبد الْحق المريني، وَبعد ملكه فاس سَار إِلَى جِهَة مراكش وضايق بني عبد الْمُؤمن حَتَّى توفّي أَبُو بكر الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة.
وَملك بعده أَخُوهُ يَعْقُوب وَملك مراكش من أبي دوس، وَاسْتمرّ حَتَّى ملك سبتة هَذِه السّنة.
وَملك بعده ابْنه يُوسُف، وكنيته أَبُو يَعْقُوب، وَاسْتمرّ حَتَّى قتل سنة سِتّ وَسَبْعمائة.
وفيهَا: وصل الْملك الظَّاهِر بعساكره إِلَى دمشق.
وفيهَا: عَاد عمر بن مخلول أحد أُمَرَاء الْعَرَب إِلَى الْحَبْس بعجلون، كَانَ الظَّاهِر حَبسه بهَا مُقَيّدا فهرب إِلَى التتر ثمَّ أَمنه الظَّاهِر على أَن يعود، وَيَضَع الْقَيْد فِي رجله كَمَا كَانَ فَفعل فعفى عَنهُ.
وفيهَا: قويت أَخْبَار التتر وجفل النَّاس.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بِدِمَشْق فِي الجفلة ولد الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بدار الزنجيلي.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك الطَّائِي الجياني النَّحْوِيّ وعمره اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة، وَله فِي النَّحْو واللغة مصنفات كَثِيرَة مَشْهُورَة.
قلت: مِنْهَا تسهيل الْفَوَائِد وَفِيه نَحْو كثير وَشَرحه وَمَات وَلم يكمل شَرحه وكمله الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان المغربي نزيل مصر وَمِنْهَا الْعُمْدَة وَهِي جَيِّدَة لَكِنَّهَا تنقص أبواباً، وَشَرحهَا المُصَنّف فأجاد، وَمِنْهَا الْخُلَاصَة الألفية فِي النَّحْو أَيْضا، وَشَرحهَا ابْنه الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد شرطا حسنا، وَكَانَ يَقُول على مَا بَلغنِي مَا زَالَ وَالِدي يخبط حَتَّى نظم الْخُلَاصَة.
وَمِنْهَا قصيدة فِي الْقرَاءَات على طَريقَة الشاطبي وَلم تشتهر، وَمِنْهَا كتاب المثلث فِي اللُّغَة وَيدل على اطلَاع عَظِيم، ثمَّ نظمه نظماً حسنا، وَله غير ذَلِك، وَأَخْبرنِي شَيخنَا قَاضِي(2/215)
الْقَضَاء شرف الدّين هبة الله بن الْبَارِزِيّ قَالَ: نظم الشَّيْخ جمال الدّين الْخُلَاصَة الألفية بحماه عندنَا يرسم اشتغالي فِيهَا، وَكنت شَابًّا وخدمته وَلَقَد رَأَيْت بركَة خدمتي لَهُ.
ويحكى أَن الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الرَّحْمَن الْفَزارِيّ الْعَالم الْمَشْهُور تأسف يَوْم موت ابْن مَالك تأسفاً كثيرا فَقيل لَهُ: أَكَانَ الشَّيْخ جمال الدّين فِي النَّحْو مثلك فِي الْفِقْه، فَقَالَ: وَالله مَا أنصفتموه كَانَ فِي النَّحْو مثل الشَّافِعِي فِي الْفِقْه وَيُقَال أَن الشَّيْخ جمال الدّين اجْتمعت فِيهِ أضداد فَإِنَّهُ كَانَ مغربياً سخياً حسن الْخلق وأديباً دينا حسن الْوَجْه، وَرَأَيْت بِخَط القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن بهْرَام الدِّمَشْقِي قَاضِي قُضَاة حلب، كَانَ رَحمَه الله مَا صورته أَنْشدني الشَّيْخ عبد الصَّمد الأندلسي قَالَ أَنْشدني الشَّيْخ جمال الدّين بن مَالك:
(نضر نضير نضار زبرج ثَمَر ... عسيجد زخرف عقيان الذَّهَب)
(والتبر مالم يذب وأشركوا ذَهَبا ... وَفِضة فِي سبيك هَكَذَا الْعَرَب)
وأنشدني أَيْضا من إنشاده:
(أَنا أيا وبلى روى صبا وَصلى ... سوى قرت قصرت وَمد من فتحا)
(واقصراضا وسحاصلا غراوعما ... قذا وَمد الَّذِي بالكسرة افتتحا)
(قربى ورعبى وعلياً أقصر لضمكها ... وَافْتَحْ وَمد ونعمى هَكَذَا وضحا)
وَالله أعلم. وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي الْأَمِير مبارز الدّين أقوش المنصوري مَمْلُوك الْمَنْصُور صَاحب حماه وَكَانَ شجاعا عَاقِلا قبجاقي الْجِنْس.
وفيهَا: ثامن عشر ذِي الْحجَّة توفّي النصير الطوسي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحسن خدم صَاحب الألموت، ثمَّ خدم هولاكو وحظي عِنْده وَعمل لَهُ رصداً بمراغة وزيجاً، وَله أقليدس يتَضَمَّن اخْتِلَاف الأوضاع ومجسطي وَتَذْكِرَة فِي الْهَيْئَة، شرح الإشارات، وَأجَاب عَن غَالب إيرادات فَخر الدّين الرَّازِيّ عَلَيْهَا، ومولده جُمَادَى الأولى سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَدفن فِي مشْهد مُوسَى الْجواد.
قلت: وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة مَاتَ صَاحب الأندلس السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن الْأَحْمَر، وَكَانَ مؤيداً لم تكسر لَهُ راية قطّ مبدأ ظُهُوره من قَرْيَة أرجونة وانتزع الْملك من ابْن هود وولايته اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة وَملك بعده ابْنه مُحَمَّد.
وفيهَا: مَاتَ بالروم الصَّدْر القنوي وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا دخل الظَّاهِر بِلَاد سيس بالعساكر وغنم وَعَاد إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا نازلت التتر البيرة ومقدمهم أقطاي فَتوجه(2/216)
الظَّاهِر وَكَانَ بِدِمَشْق إِلَى جِهَتهَا فَرَحل التتر عَنْهَا وبلغه ذَلِك وَهُوَ بالقطيفة فَأَتمَّ السّير إِلَى حلب ثمَّ عَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: بعد وُصُول الظَّاهِر إِلَى مصر جهز جَيْشًا مَعَ أقسنقر الفارقاني وَعز الدّين أيبك الأفرم إِلَى النّوبَة فغنموا وَقتلُوا وعادوا.
وفيهَا: تزوج الْملك السعيد بركَة بن الظَّاهِر بيبرس غازنة خاتون بنت نَائِبه الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الصَّالِحِي.
قلت: وَأَنْشَأَ الْكَاتِب ابْن عبد الظَّاهِر يَقُول فِي نعتها وأعز من يتجمل بهَا الْعُقُود، وَكَيف لَا وَهِي الدرة الألفية وَالله أعلم.
وَفِي أواخرها: عَاد الظَّاهِر إِلَى الشَّام.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة: فِي الْمحرم مِنْهَا وصل الظَّاهِر دمشق فَإِنَّهُ خرج من مصر فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَسبعين وَسَار إِلَى جِهَة حلب لتلقي الْأُمَرَاء الروميين الوافدين وهم بفجار وبهادر وَلَده وَأحمد بن بهادر وَغَيرهم وَأكْرمهمْ وَعَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: عَاد الظَّاهِر بعساكره إِلَى الشَّام، وَوصل حلب ثمَّ النَّهر الْأَزْرَق ثمَّ سَار إِلَى إبلستين فوصلها فِي ذِي الْحجَّة وَبهَا جمع هم نقاوة المغول مقدمهم تناون والتقى بهَا الْجَمْعَانِ يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَانْهَزَمَ التتر وأخذتهم سيوف الْمُسلمين، وَقتل تناون وغالب كبرائهم وَأسر مِنْهُم كثير وصاروا أُمَرَاء مِنْهُم سيف الدّين قبجق وَسيف الدّين سلار.
ثمَّ سَار الظَّاهِر وَاسْتولى على قيسارية وَالْحَاكِم بالروم يَوْمئِذٍ معِين الدّين سُلَيْمَان البرواناه وَكَانَ يُكَاتب الظَّاهِر فِي الْبَاطِن فَظن الظَّاهِر أَنه يحضر إِلَيْهِ بقيسارية حَسْبَمَا اتفقَا عَلَيْهِ فَلم يحضر لما أَرَادَهُ الله من هَلَاكه.
وَأقَام الظَّاهِر بقيسارية سَبْعَة أَيَّام ينتظره، وخطب لَهُ على منابرها ثمَّ رَحل عَنْهَا ثَانِي وَعشْرين ذِي الْقعدَة، وَحصل للعسكر شدَّة لنفاد الْقُوت والعليق، وعدمت غَالب خيولهم، ووصلوا إِلَى عمق حارم وَأَقَامُوا فِيهِ شهرا، وَلما بلغ أبغا بن هولاكو ذَلِك سَاق فِي جموع المغول إِلَى الإبلستين، وَشَاهد عسكره صرعى وَلم ير من عَسْكَر الرّوم قَتِيلا فنهب الرّوم وَقتل كثيرا، ثمَّ سَار إِلَى الأردوا وصحبته البرواناه، وَقَتله وَقتل نيفاً وَثَلَاثِينَ من خواصه، والبرواناه بالعجمي الْحَاجِب، وَكَانَ داهية حازماً.
وفيهَا: مَاتَ الشهَاب مُحَمَّد بن يُوسُف بن زَائِدَة التلعفري الشَّاعِر قلت: ويعجبني قَول التعفري، وَلَا أَدْرِي هُوَ هَذَا التلعفري أَو الَّذِي قبله:
(وَإِذا الثَّنية أشرقت وشممت من ... أرجائها أرجا كنشر عبير)
(سل هضبها الْمَنْصُوب أَيْن حَدِيثهَا ... الْمَرْفُوع عَن ذيل الصِّبَا الْمَجْرُور)(2/217)
وَهُوَ غَايَة فِي الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ الْمَنْصُوب وَهُوَ مَنْصُوب وَالْمَرْفُوع وَهُوَ مَرْفُوع وَالْمَجْرُور وَهُوَ مجرور، وَقد ذكرت بِهِ قولي وَإِن كنت لم ألحق بغباره:
(وأغيد يسألني ... مَا الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر)
(مثلهمَا لي مسرعاً ... فَقلت أَنْت الْقَمَر)
وَقَوْلِي:
(قلت لنحوي إِذا عرضا ... لَهُ بأوقاف الرِّضَا أعرضا)
(يَا حَيْثُ لَو أصبح بَاب الرضى ... كَيفَ لما كنت كأمس مضى)
وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ الشَّيْخ خضر مَحْبُوسًا مكرماً قلت: وَكَانَ الشَّيْخ خضر يكاشف وَرمي بأَشْيَاء وَأَرَادَ السُّلْطَان قَتله فَقَالَ: أَنا بيني وَبَيْنك فِي الْمَوْت شَيْء يسير فَوَجَمَ لَهَا السُّلْطَان وحبسه إِلَى أَن مَاتَ وَالله أعلم.
وفيهَا: رَحل الظَّاهِر من العمق إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا وصل الظَّاهِر دمشق وَنزل بِالْقصرِ الأبلق وَكَانَ رَحل من عمق حارم.
وفيهَا: يَوْم الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم توفّي السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر أَبُو الْفَتْح بيبرس الصَّالِحِي النجمي بِدِمَشْق وَقت الزَّوَال عقب وُصُوله من الرّوم وَاخْتلف فِي سَبَب مَوته قبل أَن الْقَمَر كسف كُله وشاع أَنه لمَوْت جليل الْقدر فَأَرَادَ الظَّاهِر تَأْوِيله بِغَيْرِهِ فاستدعى بالقاهر من ولد النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى وسقاه قمزاً مسموماً ثمَّ شرب الظَّاهِر نَاسِيا بذلك النهاء فَمَاتَ القاهر عقيب ذَلِك، وحصلت للظَّاهِر حمى محرقة.
قلت: وَهَذَا لَا يثبت فقد كَانَ الْملك الظَّاهِر رَحمَه الله على قدم من الدّيانَة، وَكَانَ ملازماً للخمس فِي أَوْقَاتهَا، وألزم حَاشِيَته بهَا، وَحكي عَنهُ أَنه مَا شرب خمرًا قطّ وَمنع كل مُنكر، وَكَانَ يحصل من الْمُنكر بِمصْر كل يَوْم ألف دِينَار فأبطله، وَلما حج رُؤِيَ بِبَاب الْكَعْبَة محرما يَأْخُذ بأيدي ضعفاء الرّعية ليصعدوا وَعمل الستور الديباج للكعبة وللحجرة النَّبَوِيَّة، وخطب كرة الْمجد إِسْمَاعِيل الوَاسِطِيّ وَالسُّلْطَان حَاضر فَقَالَ فِي الْخطْبَة: أَيهَا السُّلْطَان إِنَّك لن تدعى يَوْم الْقِيَامَة بأيها السُّلْطَان لَكِن تدعى بِاسْمِك وكل مِنْهُم يَوْمئِذٍ يسْأَل عَن نَفسه إِلَّا أَنْت فأنك تسْأَل عَن رعاياك فَاجْعَلْ كَبِيرهمْ أَبَا وأوسطهم أَخا وصغيرهم ولدا، فاستعذب وعظه وأجزل عطاءه.
وَكَانَ لَهُ فِي السّنة عشرَة آلَاف أردب تفرق فِي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين ووقف على جِهَات عدَّة، واستن سنَن العمرين وَنصب للنَّاس خَليفَة وَفتح أنطاكية وبغراس والقصير وحصن الأكراد وحصن عكار والقرين وصافيتا ومرقية، وَأمنت لهيبته السبل، وَكَانَ إِذا جرى عِنْده ذكر أبغا يسألهم الْكَفّ عَنهُ لِئَلَّا ينْقل إِلَيْهِ وَيَكْفِيك فعله بالتتر بِعَين جالوت وخوضته إِلَيْهِم(2/218)
المرات فَشكر الله سَعْيه، وَلما توفّي كتم مَمْلُوكه نَائِبه بدر الدّين تتليك الخزينة دَار مَوته وصيره بقلعة دمشق حَتَّى تهيأت تربته قرب جَامع دمشق فدفنه بهَا ورحل النَّائِب بالعساكر والمحفة مظْهرا أَن الظَّاهِر مَرِيض فِيهَا وسارا إِلَى مصر.
وَكَانَ الظَّاهِر قد حلف الْعَسْكَر لِابْنِهِ السعيد بركَة وَجعله ولي عَهده فوصل الخزينة دَار بالعسكر والخزائن إِلَى السعيد بقلعة الْجَبَل وَعند ذَلِك أظهر موت السُّلْطَان وَجلسَ الْملك السعيد للعزاء، وَاسْتقر فِي السلطنة، وَمُدَّة ملك الظَّاهِر نَحْو سبع عشرَة سنة وشهران وَعشرَة أَيَّام. وَكَانَ مهيباً شجاعاً عَاقِلا قبجاقي الْجِنْس أسمر أَزْرَق الْعَينَيْنِ جَهورِي الصَّوْت أحضر هُوَ ومملوك آخر بحماه ليشتريهما الْمَنْصُور فَلم يعجباه وأرسله إِلَى إيدكين البندقدار الصَّالِحِي وَهُوَ معتقل بقلعة حماه من جِهَة الْملك الصَّالح فَاشْتَرَاهُ ثمَّ أفرج الصَّالح عَن البندقدار وَبَقِي الظَّاهِر مَعَ أستاذه حَتَّى أَخذه مِنْهُ الْملك الصَّالح.
وَاسْتقر السعيد بركَة فِي ملك مصر وَالشَّام فِي أَوَائِل ربيع الأول مِنْهَا ونائبه بدر الدّين تتليك الخزينة دَار كَمَا كَانَ مَعَ وَالِده والأمور منتظمة فَلم تطل أَيَّام تتليك وَمَات عَن قريب قيل: حتف أَنفه، وَقيل: سم وتول النِّيَابَة شمس الدّين الفارقاني، ثمَّ أَرَادَ السعيد تَقْدِيم الأصاغر، وَقبض على سنقر الْأَشْقَر والبيش، ثمَّ أطلقهما عَن قريب ففسدت نيات الأكابر عَلَيْهِ.
قلت: وفيهَا توفّي شيخ الْإِسْلَام الْعَالم الرباني الزَّاهِد محيي الدّين يحيى بن شرف بن مري النواوي وَله خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَنصف، وَله سيرة مُفْردَة فِي علومه وتصانيفه وينه ويقينه وورعه وزهده وقناعته باليسير وتعبده وتهجده وخوفه من الله تَعَالَى ولي مشيخة دَار الحَدِيث بِدِمَشْق وَكَانَ لَا يتَنَاوَل من معلومها شَيْئا وقبره ظَاهر يزار بنوى.
قلت:
(لقِيت خيرا يَا نوى ... وحرست من ألم النَّوَى)
(فَلَقَد نَشأ بك زاهد ... فِي الْعلم أخْلص مَا نوى)
(وعَلى عداهُ فَضله ... فضل الْحُبُوب على النَّوَى)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا سَار السعيد بركَة إِلَى الشَّام وَوصل دمشق بالعساكر وجرد الْعَسْكَر صُحْبَة الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الصَّالِحِي وجرد صَاحب حماه فَشُنُّوا الإغارة على بِلَاد سيس، وغنموا وَقدمُوا دمشق وَلم يدخلوها فاستعطفهم السعيد فَلم يلووا عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا على خلعه وَأَتمُّوا السّير فَركب السعيد وسبقهم إِلَى مصر وَنزل بقلعة الْجَبَل وسارت العساكر فِي أَثَره وَخرجت السّنة وَالْأَمر كَذَلِك.
وفيهَا: توفّي عز الدّين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ السلجوقي عِنْد منكوتمر ملك التتر بِمَدِينَة سراي، وَتقدم ذكره وَأَرَادَ منكوتمر أَن يُزَوّج ابْنه مسعوداً بِزَوْجَة ابْنه كيكاوس،(2/219)
فهرب واتصل بِبِلَاد الرّوم فَحمل إِلَى أبغا فَأكْرمه وَأَعْطَاهُ سيواس وأرزن الرّوم وأرزنكان، ثمَّ جعلت سلطنة الرّوم باسم مَسْعُود، وَاسْتمرّ إِلَى قريب سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وافتقر وانكشف حَاله، فَقيل أَنه تنَاول سما لِكَثْرَة الدُّيُون ومطالبة التتر، وَهُوَ آخر من سمي بالروم سُلْطَانا من السلجوقية.
قلت: وَفِي سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة توفّي الصاحب قَاضِي الْقُضَاة مجد الدّين عبد الرَّحْمَن بن عمر بن العديم الْحَنَفِيّ عَارِف بِالْمذهبِ وَالْأَدب، مبالغ فِي التجمل مَعَ دين تَامّ وَتعبد وصيانة وتواضع للصالحين وَنجم الدّين مُحَمَّد بن سوار بن إِسْرَائِيل صَاحب " الحريري روح الْمشَاهد وَرَيْحَانَة المجامع " وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا وصلت العساكر الْخَارِجَة عَن طَاعَة بركَة الْمَذْكُور إِلَى مصر وحصروه بقلعة الْجَبَل، وخامر عَلَيْهِ لاجين الزيني وَغَيره، وهربوا مِنْهُ إِلَى الْعَسْكَر وَاحِدًا بعد وَاحِد فأجابهم إِلَى الإنخلاع وَرَضي بالكرك، وَسَار فِي ربيع الأول مِنْهَا وتسلمها بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال الْعَظِيمَة وَاتفقَ بدر الدّين بيسري الشمسي وآيتمش السَّعْدِيّ وبكتاش الفخري، وَأَقَامُوا بدر الدّين سلامش بن بيبرس ولقبوه الْملك الْعَادِل وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وَكسر، وخطب لَهُ وَضربت السِّكَّة باسمه فِي ربيع الأول وَصَارَ الْأَمِير سيف الدّين قلاوون أتابك الْعَسْكَر وجهز قلاوون سنقر الْأَشْقَر إِلَى دمشق نَائِبا بِالشَّام، وَكَانَ الْعَسْكَر لما خالفوا السعيد بركَة قبضوا على عز الدّين أيدمر نَائِب دمشق ومدبرها بعد أقوش الشمسي فَلَمَّا قدم سنقر الْأَشْقَر إِلَى دمشق استناب أقوش الشمسي بحلب وَاسْتمرّ الْحَال كَذَلِك مُدَّة يسيرَة.
وفيهَا: يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب تسلطن الْملك الْمَنْصُور قلاوون الصَّالِحِي بعد خلع الصَّبِي سلامش.
وفيهَا: فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة تسلطن سنقر الْأَشْقَر بِدِمَشْق وَحلف من عِنْده من الْأُمَرَاء والعسكر وتلقب بِالْملكِ الْكَامِل.
وفيهَا: توفّي الْملك السعيد بركَة بن الظَّاهِر بيبرس بالكرك بعد وُصُوله إِلَيْهَا بِيَسِير تقطر بِهِ الْفرس فِي لعب الكرة فَحم، ثمَّ مَاتَ وَحمل فَدفن عِنْد أَبِيه بِدِمَشْق فَأَقَامَ أهل الكرك مَوْضِعه أَخَاهُ نجم الدّين خضرًا ولقبوا الْملك المسعود وَاسْتقر بالكرك.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة: فِيهَا فِي تَاسِع صفر انْكَسَرَ سنقر الْأَشْقَر وَذَلِكَ أَن الْملك الْمَنْصُور قلاوون جهز عَسَاكِر مصر مَعَ علم الدّين سنجر الْحلَبِي الَّذِي كَانَ تسلطن بِدِمَشْق بعد قتل قطز وَمَعَ بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وَبدر الدّين الأيدمري وَعز الدّين الأفرم، وبرز سنقر الْأَشْقَر بعساكر دمشق وَالشَّام إِلَى ظَاهر دمشق والتقى الْجَمْعَانِ فِي تَاسِع صفر الْمَذْكُور فَانْهَزَمَ الشاميون وَنهب المصريون أثقالهم.
وَكَانَ السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون قد جعل مَمْلُوكه حسام الدّين لاجين السلحدار(2/220)
نَائِبا بقلعة دمشق فَقبض عَلَيْهِ سنقر الْأَشْقَر لما تملك فَلَمَّا هرب أفرج عَنهُ وَأَفْرج أَيْضا عَن بيبرس الجالق الَّذِي لم يحلف لَهُ.
وَكتب الْحلَبِي إِلَى السُّلْطَان بالنصر وَاسْتقر حسام الدّين لاجين المنصوري نَائِبا بِالشَّام، وهرب سنقر الْأَشْقَر إِلَى الرحبة.
وَكَاتب أبغا بن هولاكو وأطعمه فِي الْبِلَاد، وَكَانَ عِيسَى بن مهنا ملك الْعَرَب مَعَ سنقر الْأَشْقَر وَقَاتل مَعَه وَوَافَقَهُ فِي الْكِتَابَة إِلَى أبغا، ثمَّ سَار سنقر الْأَشْقَر من الرحبة فاستولى على صهيون وبرزنة وبلاطنس والشغر وبكاس وعكار وشيزر وأفامية وَصَارَ ذَلِك لَهُ.
وفيهَا: توفّي أقوش الشمسي نَائِب حلب، وَولي مَوْضِعه الباشغردي سنجر.
وفيهَا: قويت أَخْبَار وُصُول التتر.
وفيهَا: جعل السُّلْطَان الْمَنْصُور قلاوون ابْنه الْملك الصَّالح عَلَاء الدّين عليا ولي عَهده وسلطنه وَركب بشعار السلطنة.
وفيهَا: وصل السُّلْطَان الْمَنْصُور إِلَى غَزَّة وَقد وصل التتر إِلَى حلب فعاثوا ثمَّ عَادوا فَعَاد السُّلْطَان إِلَى مصر فِي جمادي الآخر مِنْهَا.
وفيهَا: اسْتَأْذن سيف الدّين بلبان الطباخي المنصوري نَائِب حصن الأكراد فِي الإغارة على بلد المرقب والفرنج فِيهِ لما اعتمدوه من الْفساد لما وصلت التتر إِلَى حلب وَجمع عَسَاكِر الْحُصُون وَسَار إِلَى المرقب فاتفق هرب الْمُسلمين فَأسر مِنْهُم الفرنج وَقتلُوا جمَاعَة.
وفيهَا: فِي مستهل ذِي الْحجَّة عَاد السُّلْطَان الْمَنْصُور قلاوون إِلَى الشَّام.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة: وَالسُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون بِالرَّوْحَاءِ، ثمَّ سَار إِلَى بيسان فَقبض على جمَاعَة من الظَّاهِرِيَّة وأعدم كوندك وإيدغمس الحكيمي وبيبرس الرَّشِيدِيّ ثمَّ دخل دمشق وَأرْسل عسكراً إِلَى شيرز وَهِي لسنقر الْأَشْقَر وَجرى بَينهم مناوشة. ثمَّ احْتَاجَ السُّلْطَان إِلَى مصالحته لقُوَّة إِخْبَار التتر على أَن يسلم شيزر ويتسلم سنقر الْأَشْقَر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا مِنْهُ وحلفا على ذَلِك.
وفيهَا: فِي رَجَب كَانَ المصاف الْعَظِيم بَين الْمُسلمين والتتر بِظَاهِر حمص فنصر الله الْمُسلمين بعد أَن أيقنوا بالبوار وَذَلِكَ أَن أبغا جمع وَطلب الشَّام، ثمَّ سَار إِلَى الرحبة وسير جيوشه إِلَى الشَّام وَقدم عَلَيْهِ أَخَاهُ منكوتمر بن هولاكو، وَسَارُوا إِلَى حمص وَسَار السُّلْطَان النصور إِلَى حمص أَيْضا.
وجاءه سنقر الْأَشْقَر من صهيون والمنصور صَاحب حماه، وَوصل سنقر الْأَشْقَر وَمَعَهُ أيتمش السَّعْدِيّ والحاج أزدمر وَعلم الدّين الدواتداري وَجَمَاعَة من الظَّاهِرِيَّة، والتقى الْفَرِيقَانِ بِظَاهِر حمص فِي رَابِعَة الْخَمِيس رَابِع عشر رَجَب فهزمت ميمنة الْمُسلمين وقلبهم(2/221)
من قبالتهم من التتر وركبوا قفاهم يقتلُون فيهم، وَكَانَ منكوتمر قبالة الْقلب فَانْهَزَمَ وانكشفت ميسرَة الْمُسلمين وَتمّ ببعضهم الْهَزِيمَة إِلَى دمشق وسَاق التتر فِي أثر المنهزمين حَتَّى وصلوا إِلَى تَحت حمص وَقتلُوا من السوقية وغلمان الْعَسْكَر والعوام خلقا كثيرا، ثمَّ علمُوا بهزيمة جيشهم، فَانْهَزَمُوا وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ.
وَكَانَ التتر نَحْو ثَمَانِينَ ألفا مِنْهُم مغول خَمْسُونَ ألفا وَالْبَاقُونَ كرج وأرمن وعجم وَغَيرهم.
وَبَلغت الكسرة أبغا وَهُوَ محاصر الرحبة فَرَحل على عقبه مُنْهَزِمًا وزينت الْبِلَاد لهَذَا الْفَتْح الْعَظِيم، ثمَّ أعْطى السُّلْطَان الدستور للعساكر الشمالية فَرجع صَاحب حماه إِلَى حماه وسنقر الاشقر وجماعته إِلَى صهيون وعسكر حلب إِلَيْهَا وَالسُّلْطَان بالأسرى والرؤوس إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى مصر.
قلت: وَقيل أَن الْحَاج أزدمر سَاق وَحرق التتر إِلَى مقدمهم منكوتمر وطعنه فَرَمَاهُ وَاسْتشْهدَ أزدمر ثمَّ مَاتَ منكوتمر من تِلْكَ الطعنة، وَكَانَت سَبَب كسرة التتر وَالله أعلم.
وفيهَا: عِنْد استقراره قدمت هَدِيَّة صَاحب الْيمن المظفر شمس الدّين يُوسُف بن عمر بن عَليّ بن رَسُول فقبلها السُّلْطَان، وَكَانَت عودا وعنبرا وصينيا ورماح قِنَا وَغير ذَلِك، وَكتب لَهُ أَمَانًا صَدره: هَذَا أَمَان الله تَعَالَى وأمان سيدنَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأماننا لأخينا السُّلْطَان الْملك المظفر شمس الدّين يُوسُف بن عمر صَاحب الْيمن إننا رَاعُونَ لَهُ ولأولاده، مسالمون من سالمهم، معادون من عاداهم وَنَحْو ذَلِك، وَأرْسل إِلَيْهِ هَدِيَّة من أسلاب التتر وخيلهم.
وفيهَا: مَاتَ منكوتمر بن هولاكو بن طلو بن جنكيزخان بِجَزِيرَة ابْن عمر مكموداً من كَسرته وَكَانَ مَوته خَاتِمَة الْفَتْح.
وفيهَا: بعراق الْعَجم توفّي عَلَاء الدّين عَطاء ملك بن مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ كَانَ صَاحب الدِّيوَان بِبَغْدَاد فنسبه أبغا إِلَى مواطأة الْمُسلمين وَقبض عَلَيْهِ وَأخذ أَمْوَاله وَكَانَ صَدرا فَاضلا، وَله شعر حسن.
فَمِنْهُ:
(أبادية الْأَعْرَاب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي)
(وَأهْلك يَا نجل الْعُيُون فإنني ... جننت بِهَذَا النَّاظر المتضايق)
وَولي بَغْدَاد بعده ابْن أَخِيه هَارُون بن مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ.
قلت: وَفِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة مَاتَ بالموصل الإِمَام شيخ الْوَقْت موفق الدّين أَحْمد بن يُوسُف الكواشي الزَّاهِد الْمُفَسّر وَله تسعون سنة وَشَيخ مصر وقاضيها تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن رزين الْحَمَوِيّ، وَله سبع وَسَبْعُونَ سنة ومحدث دمشق جمال الدّين(2/222)
مُحَمَّد بن عَليّ الصَّابُونِي، وَله سِتّ وَسَبْعُونَ سنة، ومسند الْعرَاق أَبُو سعد مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن أبي الدُّنْيَا الْبَغْدَادِيّ، وَله إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا استناب السُّلْطَان مَمْلُوكه شمس الدّين قره سنقر الجوكندار بحلب.
وفيهَا: فِي الْمحرم مَاتَ أبغا بن هولاكو مسموماً بِبِلَاد هَمدَان، وَملك نَحْو سبع عشرَة سنة وَكسر وَترك ابْنَيْنِ أرغون وكيخنو.
وَملك بعده أَخُوهُ أَحْمد بن هولاكو واسْمه بكدار وَأظْهر الْإِسْلَام وَتسَمى بِأَحْمَد سُلْطَان، ووصلت رسله إِلَى السُّلْطَان وَكَبِيرهمْ الشَّيْخ المتفنن الشَّيْخ قطب الدّين الشِّيرَازِيّ وَكَانَ إِذْ ذَاك قَاضِي سيواس فاحترز عَلَيْهِم السُّلْطَان وَلم يُمكن أحدا من الإجتماع بهم ومضمون رسالتهم إِعْلَام السُّلْطَان بِإِسْلَام أَحْمد وَطلب الصُّلْح فَلم يَنْتَظِم وعادت الرُّسُل بِالْجَوَابِ.
وفيهَا: مَاتَ منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خَان بن جنكيز خَان ملك التتر بالبلاد الشمالية، وَملك بعده أَخُوهُ تدان منكو وَجلسَ على كرْسِي الْملك بسراي.
وفيهَا: عقد عقد الْملك الصَّالح عَليّ بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون على بنت سيف الدّين بكية ثمَّ تزوج أَخُوهُ الْملك الْأَشْرَف أُخْتهَا الْأُخْرَى وَكَانَ بكية بالإسكندرية معتقلاً فَأخْرج لذَلِك وَأكْرم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي شمس الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن خلكان الْبَرْمَكِي، وَكَانَ فَاضلا عَالما تولى الْقَضَاء بِمصْر وَالشَّام، وَله مصنفات جليلة مثل وفيات الْأَعْيَان فِي التَّارِيخ وَغَيرهَا، ومولده يَوْم الْخَمِيس بعد الْعَصْر حادي عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وسِتمِائَة بإربل بمدرسة سلطانها مظفر الدّين صَاحب إربل.
قلت: وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة توفّي السُّلْطَان تلمسان غمراسن بن عبد الواد الْبَرْبَرِي الْمَوْصُوف بالشجاعة بَقِي فِي الْملك سِتِّينَ عَاما وَهُوَ الَّذِي قتل الْملك السعيد بن أبي الْعلَا صَاحب الْمغرب وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِي أوائلها قدم الْمَنْصُور صَاحب حماه وَأَخُوهُ الْأَفْضَل عَليّ على السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور بِمصْر فَأنْزل صَاحب حماه بالكبش وأركبه بالصناجق السُّلْطَانِيَّة والجفتا والغاشية وَسَأَلَهُ عَن حَوَائِجه فَقَالَ: حَاجَتي أَن أعفى من هَذَا اللقب فَإِنَّهُ مَا بَقِي يصلح أَن ألقب بِالْملكِ الْمَنْصُور، وَقد صَار هَذَا لقب مَوْلَانَا السُّلْطَان الْأَعْظَم، فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بِأَنِّي مَا تلقبت بِهَذَا اللقب إِلَّا لمحبتي فِيك وَلَو كَانَ لقبك غير ذَلِك تلقبت بِهِ فشيء قد فعلته محبَّة لاسمك كَيفَ أمكن من تَغْيِيره وطلع السُّلْطَان بالعسكر الْمصْرِيّ لحفر الخليج الَّذِي بالبحيرة وَصَاحب حماه فِي خدمته إِلَى الحفير وَأَعْطَاهُ الدستور فَعَاد مكرماً مغموراً بالصدقات السُّلْطَانِيَّة.(2/223)
وفيهَا: رمى السُّلْطَان الْملك الصَّالح عَليّ بن السُّلْطَان بجعاً بِجِهَة العباسية بالبندق وأرسله للْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه فَقبله وسر بذلك وَأرْسل لَهُ تقدمة جليلة.
وفيهَا: خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عَمه نكدار أَحْمد سُلْطَان وَسَار إِلَيْهِ واقتتلا فَانْهَزَمَ أرغون وأسره أَحْمد، وَكَانَت المغول قد تَغَيَّرت على أَحْمد لإسلامه وإلزامهم بِالْإِسْلَامِ وَأَيْضًا سَأَلته الخوانين إِطْلَاق أرغون فَأبى فاتفقوا على قتل أَحْمد وأطلقوا أرغون من اعتقاله وكبسوا الناق نَائِب أَحْمد فَقَتَلُوهُ ثمَّ قصدُوا الأردو فأحس بهم أَحْمد فَركب وهرب فتبعوه وقتلوه فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَمَا سَيَأْتِي وملكوا أرغون بن أبغا بن هولاكو وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى.
وفيهَا: ولى أرغون سعد الدولة الْيَهُودِيّ ومكنه، وَكَانَ كثير المَال وَلم يَشن إِلَّا بِدِينِهِ وَقيل أسلم قبل قَتله.
وفيهَا: قرر أرغون ابنيه قازان وخربنده بخراسان وَجعل أتابكهما نورود.
وفيهَا: مَاتَ الأشكري صَاحب قسطنطينية واسْمه ميخائيل وَملك بعده ابْنه ماندر وسكوس وتلقب بالدوقس.
وفيهَا: تسلم عَسْكَر حلب الكحنا بمكاتبة حكامها لقره سنقر، وَصَارَت من أعظم الثغور نفعا.
وفيهَا: فِي رَجَب قدم السُّلْطَان دمشق سَار من مصر فِي جُمَادَى الْآخِرَة.
وفيهَا: كَانَ السَّيْل بِدِمَشْق فِي الْعشْر الأول من شعْبَان وَالسُّلْطَان بِدِمَشْق وَأخذ العمارات واقتلع الْأَشْجَار وَأهْلك خلقا وخيلاً وجمالاً وخياماً لَا تحصى، وعقيبه توجه السُّلْطَان إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا عاود السُّلْطَان دمشق وجاءه الْمَنْصُور صَاحب حماه ثمَّ عَاد.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي السُّلْطَان الْمَنْصُور صَاحب حماه مُحَمَّد بن الْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن المظفر عمر بن شاهنشاه وَأعْتق مماليكه قبل مَوته وَتَابَ تَوْبَة نصُوحًا وَكتب يسْأَل السُّلْطَان فِي إِقْرَار ابْنه المظفر فِي مَمْلَكَته وَاشْتَدَّ مَرضه حَتَّى مَاتَ حادي عشر شَوَّال، ومولده يَوْم الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة فعمره إِحْدَى وَخَمْسُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا، وَملك حماه إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة وَخَمْسَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام، وَكَانَ أكبر أمانيه أَن يعِيش إِلَى أَن يسمع جَوَاب السُّلْطَان فِي أَمر ابْنه المظفر فَمَاتَ قبله وَوصل الْجَواب بعده بِسِتَّة أَيَّام.
وَمِنْه: بعد الْبَسْمَلَة الْمَمْلُوك قلاوون أعز الله أنصار الْمقَام العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري وَلَا عَدمه الْإِسْلَام وَلَا فقدته السيوف والأقلام.(2/224)
وَمِنْه: وَأما الْإِشَارَة الْكَرِيمَة إِلَى مَا ذكره من حُقُوق يُوجِبهَا الْإِقْرَار وعهود أمنت بدورها من السرَار وَنحن بِحَمْد الله فعندنا تِلْكَ العهود ملحوظة، وَتلك المودات مَحْفُوظَة فالمولى يعِيش قرير الْعين فَمَا ثمَّ إِلَّا مَا يسره من إِقَامَة وَلَده مقَامه لَا يحول وَلَا يَزُول وَلَا يرى على ذَلِك ذلة وَلَا ذُهُول وَيكون طيب النَّفس مستديم الْأنس بِصدق الْعَهْد الْقَدِيم وَبِكُل مَا يُؤثر من خير مُقيم.
وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور فطناً ذكياً مَقْبُولًا حَلِيمًا حَتَّى أَن الْملك الظَّاهِر قدم مرّة حماه وَنزل بدار المبارز فَرفع فِي الْمَنْصُور عدَّة قصَص من حماه فَجمعت فِي منديل وحملت إِلَى صَاحب حماه بِأَمْر الظَّاهِر فتهدد بعض الْجَمَاعَة رافعيها فأحرقها الْمَنْصُور وَلم يقف على شَيْء مِنْهَا لِئَلَّا يتَغَيَّر خاطره على رافعيها.
وَلما بلغ السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون وَفَاة الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه ولى الْملك المظفر مُحَمَّد بن الْمَنْصُور مُحَمَّد حماه على قَاعِدَته وَأرْسل إِلَيْهِ وَإِلَى عَمه الْملك الْأَفْضَل وَإِلَى أَوْلَاده التشاريف ومكاتبة إِلَى المظفر بعد الْبَسْمَلَة الْمَمْلُوك قلاوون أعز الله نصْرَة الْمقَام العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري التقوي، وَنزع عَنهُ الْبَأْس وَألبسهُ حلل السعد المجلوة على أعين النَّاس وَهُوَ يخْدم خدمَة بولاء أثمرت غصونه وزهت أفنانه وفنونه.
وَمِنْهَا: وَقد سيرنا الْمجْلس السَّامِي جمال الدّين أقوش الْموصِلِي الْحَاجِب وأصحبناه من الملبوس الشريف مَا يُغير بِهِ لِبَاس الْحزن ويتجلى فِي مطلعه ضِيَاء وَجهه الْحسن، وتنجلي بذلك غيوم تِلْكَ الغموم، وَأَرْسَلْنَا أَيْضا صحبته مَا يلْبسهُ هُوَ وذووه كَمَا يَبْدُو الْبَدْر بَين النُّجُوم، وَآخره كتب فِي عشْرين شَوَّال سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة.
قلت: وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ جَاءَت الزِّيَادَة الْكُبْرَى بِدِمَشْق لَيْلًا وارتفع المَال على جسر بَاب الْفرج قامة، وَكَانَ السُّلْطَان بالقلعة وَذهب من أَمْوَال الْعَسْكَر حول بردى مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: مَاتَ قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة وفاضلها الْعَلامَة نَاصِر الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُنِير الحذامي الْمَالِكِي صَاحب التصانيف وَله ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة.
وفيهَا: مَاتَ أَمِير الْعَرَب عِيسَى بن مهنا وقاضي الْقُضَاة بِدِمَشْق عز الدّين مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن الصَّائِغ الشَّافِعِي وَله خمس وَخَمْسُونَ سنة وَكَانَ من قُضَاة الْعدْل رَحمَه الله تَعَالَى وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي صفر ركب السُّلْطَان الْملك المظفر صَاحب حماه بشعار السلطنة بِدِمَشْق وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْمَنْصُور قلاوون وصل فِي أَوَاخِر الْمحرم إِلَى دمشق بعسكره وجاءه المظفر وَالْأَفْضَل من حماه فأكرمهما وَأرْسل إِلَى المظفر ثَالِث يَوْم وُصُوله التَّقْلِيد بحماه والمعرة وبارين والتشريف وشعار السلطنة فَركب المظفر(2/225)
بشعار السلطنة والغاشية السُّلْطَانِيَّة، وَسَار مَعَه الْأُمَرَاء ومقدمو العساكر من دَاره الحافظة دَاخل بَاب الفراديس إِلَى أَن وصل قلعة دمشق ومشت الْأُمَرَاء فِي خدمته وَدخل إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأكْرمه وَأَجْلسهُ إِلَى جَانِبه على الطراحة وَقَالَ: أَنْت وَلَدي أعز من الْملك الصَّالح عِنْدِي فَتوجه إِلَى بلادك وتأهب لهَذِهِ الْغُزَاة الْمُبَارَكَة فَأنْتم من بَيت مبارك مَا حضرتم فِي مَكَان إِلَّا وَكَانَ النَّصْر مَعكُمْ، فَعَاد المظفر وَعَمه إِلَى حماه، وتأهبا للمسير إِلَى خدمَة السُّلْطَان ثَانِيًا.
وفيهَا: نَازل السُّلْطَان الْمَنْصُور بعد وُصُوله دمشق حصن المرقب فِي أَوَائِل ربيع الأول وَهُوَ حصن الاستبار عَجِيب فِي الْعُلُوّ والحصانة لم يطْمع أحد من الْمُلُوك الماضين فِيهِ، ونصبت عَلَيْهِ المجانيق وحضره الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى وعمره نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهُوَ أول قتال رَآهُ وَكَانَ مَعَ وَالِده وَلما تمسكنت النقوب طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ رَغْبَة فِي بَقَاء عِمَارَته وحملوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ غير السِّلَاح وصعدت إِلَيْهِ الصناجق السُّلْطَانِيَّة وتسلمه فِي ثامنة نَهَار الْجُمُعَة تَاسِع عشر ربيع الأول مِنْهَا وَأخذ مِنْهُ الثأر من بَيت الاستبار ومحيت آيَة اللَّيْل بِآيَة النَّهَار وَألْحق أَهله بمأمنهم ثمَّ عَاد إِلَى أَن نزل بحيرة حمص وَهِي بحيرة قدس.
وفيهَا: ولد مَوْلَانَا السُّلْطَان الْأَعْظَم الْملك النَّاصِر: نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون وَأمه بنت سكتاي بن قراجن بن جنعان وسكتاي ورد إِلَى مصر هُوَ وَأَخُوهُ قرمشي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة صُحْبَة بنجار الرُّومِي فِي دولة الظَّاهِر.
وَتزَوج السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون ابْنة سكتاي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد موت أَبِيهَا بِولَايَة عَمها قرمشي وَبشر بِهِ وَالِده على بحيرة حمص، وَقد عَاد من فتح المرقب.
وفيهَا: عَاد السُّلْطَان إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار حسام الدّين طرنطاي بعسكر من مصر بِأَمْر السُّلْطَان فحاصر الكرك وتسلمها بالأمان وَعَاد وصحبته صَاحب الكرك جمال الدّين خضر وَبدر الدّين سلامش ابْن الْملك الظَّاهِر فأكرمهما السُّلْطَان، ثمَّ بلغه مَا كرهه عَنْهُمَا فاعتقلهما حَتَّى توفّي، فَنقل خضر وسلامش إِلَى قسطنطينية.
وفيهَا: سَار السُّلْطَان فقرر أُمُور الكرك ثمَّ عَاد.
وفيهَا: توفّي ركن الدّين أباجي الْحَاجِب.
قلت: وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة توفّي الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد الْبكْرِيّ الشريشي شيخ الناصرية وَله أَربع وَثَمَانُونَ سنة وسلطان مراكش وفاس أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني.
وَكَانَ شجاعاً خرج على أبي دبوس فَقتله أَبُو يُوسُف، فاستولى على الْمغرب ودولته عشرُون سنة.(2/226)
وَقَامَ بعده ابْنه وقاضي الْقُضَاة بهاء الدّين يُوسُف بن قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين يحيى بن الزكي الْقرشِي الدِّمَشْقِي وَله خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا حاصر حسام الدّين طرنطاي نَائِب السلطنة صهيون بعد فتح الكرك فِي آخر السّنة الْمَاضِيَة وضايق صهيون بالحصار والمجانيق ثمَّ تسلمها بالأمان من سنقر الْأَشْقَر وَحلف لَهُ، ثمَّ سَار إِلَى اللاذقية وفيهَا برج للفرنج يُحِيط بِهِ الْبَحْر فَعمل طَرِيقا إِلَيْهِ وحاصره وتسلمه بالأمان وهدمه وَلما عَاد سنقر الْأَشْقَر صُحْبَة طرنطاي إِلَى مصر أكْرمه السُّلْطَان إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان فَكَانَ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي بن جنكيز خَان عَن مملكة التتر بالبلاد الشمالية متزهداً مُنْقَطِعًا إِلَى الصلحاء وَأَشَارَ أَن يملكُوا ابْن أَخِيه تَلا بغاين منكو بن طغان.
وفيهَا: أرسل السُّلْطَان عسكراً مَعَ علم الدّين سنجر المسروري الْخياط مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة إِلَى النّوبَة فغزوا وغنموا وعادوا.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين تتليك الأيدمري.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك الصَّالح عَلَاء الدّين عَليّ بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون بالدوسنطاريا، وَكَانَ ولي عهد أَبِيه وَترك ابْنا اسْمه مُوسَى.
قلت: وفيهَا توفّي بِمصْر الزَّاهِد الْقدْوَة الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن معضاد الجعبري وَله ثَمَان وَثَمَانُونَ سنة وَشَيخ الْأَطِبَّاء عَلَاء الدّين عَليّ بن أبي الْجَزْم بن النفيس الْقرشِي الدِّمَشْقِي بِمصْر صَاحب التصانيف طَبِيب فَقِيه أصولي مُحدث نحوي منطقي وقف أملاكه وَكتبه على المارستان المنصوري وَالشَّيْخ برهَان الدّين النَّسَفِيّ شيخ الفلسفة بِبَغْدَاد واسْمه مُحَمَّد بن مُحَمَّد فِي عشر التسعين وَالشَّيْخ ياسين المغربي الْحجام الْأسود.
وَكَانَ جرائحياً على بَاب الْجَابِيَة وَله كشف، وَكَانَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله يزوره ويتلمذ لَهُ وَالله أعلم كل ذَلِك فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي أول ربيع الآخر فتحت طرابلس الشَّام وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان سَار من مصر ونازلها يَوْم الْجُمُعَة مستهل ربيع وَالْبَحْر مُحِيط بغالبها، وَنصب المجانيق وجد وَشد حَتَّى فتحهَا يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الآخر مِنْهَا بِالسَّيْفِ وهرب أَهلهَا إِلَى المينا فنجى أقلهم فِي المراكب وَقتل غَالب رجالها وسبيت ذَرَارِيهمْ وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهَا عَظِيما وَحضر ذَلِك الْمُؤلف رَحمَه الله مَعَ الْأَفْضَل وَالِده والمظفر عَمه، ثمَّ دكها السُّلْطَان إِلَى الأَرْض، وَكَانَ فِي الْبَحْر قَرِيبا مِنْهَا كَنِيسَة فِي جَزِيرَة تسمة كَنِيسَة سنطماس وَبَينهَا وَبَين طرابلس المينا، وهرب من طرابلس إِلَيْهَا عَالم عَظِيم من الفرنج، فاقتحم الْعَسْكَر الْبَحْر بِالْخَيْلِ سبْحَة إِلَيْهَا، وَقتلُوا من بهَا من الرِّجَال وَسبوا الصغار وَالنِّسَاء وَالْمَال، ثمَّ هدمت أَيْضا وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مصر وَكَانَت الفرنج قد استولت على طرابلس(2/227)
سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة فَلَبثت الفرنج مائَة سنة وخمساً وَثَمَانِينَ سنة وشهوراً.
وفيهَا: مَاتَ قتلاي قان بن طلو بن جنكيز خَان ملك التتر بالصين وَهُوَ أكبر الْخَانَات وَالْحَاكِم على كرْسِي مملكة جنكيز خَان، وَكَانَ قد طَالَتْ مدَّته وَجلسَ بعده ابْنه شهون.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي سادس ذِي الْقعدَة توفّي السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون الصَّالِحِي وَذَلِكَ أَنه خرج بالعساكر بنية غَزْو عكا وبرز إِلَى مَسْجِد التيرز فابتدأ مَرضه فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شَوَّال بعد نُزُوله بالدهليز بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور وتزايد حَتَّى توفّي يَوْم السبت سادس ذِي الْقعدَة مِنْهَا بالدهليز.
وَكَانَ ملكه يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة فمدة ملكه نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام وَترك ابْنَيْنِ هما الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل وَالسُّلْطَان الْأَعْظَم الْملك النَّاصِر نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين مُحَمَّد وَكَانَ رَحمَه الله مهيباً حَلِيمًا قَلِيل سفك الدِّمَاء، فتح المرقب وطرابلس الَّتِي لم يَجْسُر مثل صَلَاح الدّين وَغَيره على التَّعَرُّض إِلَيْهِمَا لحصانتهما، وَكسر التتر على حمص وهم جمع عَظِيم.
وَجلسَ فِي الْملك بعده ابْنه السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل فِي سَابِع ذِي الْقعدَة صَبِيحَة ثَانِي موت وَالِده وَلما اسْتَقر قبض على حسام الدّين طرنطاي نَائِب السلطنة يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ واستناب بدر الدّين بيدرا واستوزر شمس الدّين بن السلعوس.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وسِتمِائَة: فِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة فتحت عكا، وَذَلِكَ أَن الْملك الْأَشْرَف نازلها بالعساكر الإسلامية فِي أول جُمَادَى الأولى وجر إِلَيْهَا المجانيق مِنْهُ جَمِيع الْحُصُون، مِنْهَا: المنجنيق المنصوري من حصن الأكراد حمل مائَة عجلة، وَخص الْمُؤلف رَحمَه الله من عجلة وَهُوَ إِذْ ذَاك أَمِير عشرَة وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا الْقِتَال وغالب أَبْوَابهَا مفتحة يُقَاتلُون فِيهَا.
وَكَانَ الحمويون بِرَأْس الميمنة على عَادَتهم فَكَانُوا على جَانب الْبَحْر وَالْبَحْر عَن يمينهم إِذا واجهوا عكا فَكَانَ يجضر إِلَيْهِم مراكب مقبية بالخشب الملبس جُلُود الجواميس ويرميهم الفرنج مِنْهَا بالنشاب والجروح والقتال من قدامهم من جِهَة الْمَدِينَة وَعَن يمينهم من الْبَحْر وأحضروا بطسة فِيهَا منجنيق يرْمى على الحمويين فَهبت ريح شالته وحطته فانحطم المنجنيق وَلم يعد، وكبس الفرنج الْعَسْكَر لَيْلًا فهزموا اليزك واتصلوا بالخيام وتعلقوا بالأطناب وتكاثر عَلَيْهِم العساكر فَانْهَزَمُوا إِلَى الْبَلَد وَقتل مِنْهُم جمَاعَة وشدوا وضايقوا حَتَّى فتحهَا الله تَعَالَى يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة بِالسَّيْفِ وهرب جمَاعَة من أَهلهَا فِي المراكب، وداخل الْبَلَد أبرجة عاصية بِمَنْزِلَة القلاع تحصن بهَا عَالم من الفرنج فاستنزلوا وَضربت أَعْنَاقهم عَن آخِرهم وَقتل الْمُسلمُونَ من عكا وغنموا مَا يفوت الْحصْر، ثمَّ هدمت(2/228)
ودكت دكاً وَالْعجب أَن الفرنج أخذوها من صَلَاح الدّين يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَقتلُوا من بهَا فَفَتحهَا صَلَاح الدّين الْأَشْرَف يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة، فاتفق اليومان ولقب السلطانين وَرغب الفرنج لفتح عكا فأخلوا صيدا وبيروت وتسلمهما الشجاعي وصور وعثليث وأنطرطوس وَخَربَتْ عَن آخرهَا وتكاملت بذلك جَمِيع الْبِلَاد الساحلية لِلْإِسْلَامِ، وطهر الشَّام من الفرنج بعد أَن كَانُوا قد أشرفوا على ملك دمشق وَملك مصر، ثمَّ دخل الْأَشْرَف دمشق وَعَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: وَالسُّلْطَان على عكا سعى علم الدّين سنجر الْحَمَوِيّ أَبُو خرص بَين السُّلْطَان وَبَين حسام الدّين لاجين نَائِب السلطنة بِدِمَشْق، فخاف لاجين وَنوى الْهَرَب، فقبضن عَلَيْهِ السُّلْطَان وعَلى أبي خرص وقيدهما وأرسلهما فحبسا.
وفيهَا: ولي السُّلْطَان علم الدّين سنجر الشجاعي نِيَابَة السلطنة بِالشَّام مَوضِع لاجين.
وفيهَا: فِي ربيع الأول مَاتَ أرغون ملك التتر بن أبغا بن هولاكو وَمُدَّة ملكه نَحْو سبع سِنِين.
وَملك بعده أَخُوهُ كيختو وَترك أرغون وَلدين هما قازان وخربنده وَكَانَا بخراسان، وَلما تولى كيختو أفحش فِي الْفسق واللواط بأبناء المغول، ففسدت نياتهم لَهُ.
وفيهَا: قتل تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن ياطوخان بن دوسي خَان بن جنكيز خَان قَتله نغية بن مغل بن ططر بن دوسي خَان بن جنكيز خَان وَأقَام نغية بعده طقطغا بن منكوتمر بن طغان أَخا تَلا بغا ورتب نغية أخوة طقطغا مَعَه وهم برلك وصراي بغاوتدان.
وَفِي: أوائلها تكملت عمَارَة قلعة حلب شرع قَرَأَ سنقر فِيهَا فِي أَيَّام السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور فتمت فِي أَيَّام الْأَشْرَف، وَكتب عَلَيْهِ اسْمه، وَكَانَت خراباً من سنة هولاكو سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة فلبثها على التخريب نَحْو ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة بالتقريب.
قلت: وفيهَا أطلق أسرى بيروت وَكَانُوا سِتّمائَة، وَأذن للخليفة الْحَاكِم بِأَمْر الله أبي الْعَبَّاس بالركوب، وَبَايَعَهُ السُّلْطَان فصلى الْحَاكِم بالسلطان الْجُمُعَة، وخطب بقلعة الْجَبَل، وَذكر فِي خطبَته تَوليته للسُّلْطَان أَمر الْأمة وحض على فتح بَغْدَاد.
وَمَات: الشَّيْخ الْعَلامَة تَاج الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْفَزارِيّ الشَّافِعِي الفركاح وَله سِتّ وَسِتُّونَ وَكسر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا سَار من مصر الْأَشْرَف بعساكره المصرية ثمَّ الشامية وتلقاه الأخوان المظفر صَاحب حماه وَالْأَفْضَل إِلَى دمشق وسبقاه إِلَى حماه وَضرب دهليزه عِنْد ساقية سلمية، وَعمل لَهُ المظفر ضِيَافَة عَظِيمَة وفرش بَين يَدي فرسه وَنزل السُّلْطَان بالميدان ثمَّ دخل دَار المظفر بحماه ثمَّ دخل الْحمام وَخرج وَجلسَ على جَانب العَاصِي، ثمَّ توجه إِلَى الطيارة الْحَمْرَاء على سور بَاب النقفي، ثمَّ توجه والأخوان(2/229)
المظفر وَالْأَفْضَل فِي خدمته إِلَى المشهد، ثمَّ إِلَى الْحمام والزرقا بالبرية فصاد كثيرا.
وَأما العساكر فسارت على السِّكَّة إِلَى حلب وَوصل السُّلْطَان إِلَى حلب وَتوجه مِنْهَا إِلَى قلعة الرّوم ونازلها فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وضايقها وَشهد الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى ذَلِك، وَنصب المجانيق ودام الْحصار حَتَّى فتحت بِالسَّيْفِ يَوْم السبت حادي عشر رَجَب مِنْهَا وَقتل أَهلهَا وَنهب ذَرَارِيهمْ، واعتصم كتبا غيلوس خَليفَة الأرمن الْمُقِيم بهَا وَغَيره فِي القلعة، ثمَّ طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ على أَرْوَاحهم خَاصَّة وَأَن يَكُونُوا أسرى عَن آخِرهم.
ورتب السُّلْطَان الشجاعي علم الدّين سنجر لتحصينها وإصلاحها وَعَاد فصَام وَعِيد بِدِمَشْق وَسَار إِلَى مصر.
قلت: وفيهَا مَاتَ صَاحب ماردين الْملك المظفر قره أرسلان بن إيلغازي ودولته ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَله ذكاء ونباهة وَالله أعلم.
وفيهَا: هرب حسام الدّين لاجين الَّذِي كَانَ نَائِب دمشق لما وصل السُّلْطَان عَائِدًا من قلعة الرّوم، وَكَانَ قد اعتقله على حِصَار عكا، ثمَّ أفرج عَنهُ فِي أَوَائِل هَذِه السّنة وَعَاد مَعَ السُّلْطَان من قلعة الرّوم إِلَى دمشق، فاستوحش فهرب إِلَى الْعَرَب فقبضوه وأحضروه إِلَى السُّلْطَان فَبعث بِهِ فحبس فِي قلعة الْجَبَل.
وفيهَا: استناب السُّلْطَان بِدِمَشْق عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ وعزل الشجاعي.
وفيهَا: عِنْد عوده من قلعة الرّوم عزل بحلب نائبها قره سنقر المنصوري وَصَحبه مَعَه وولاها سيف الدّين بلبان الطباخي، وَكَانَ نَائِب الفتوحات ومقامه بحصن الأكراد فولى بهَا مَكَانَهُ طغرل بك الإيغاني ثمَّ عَزله بعد مُدَّة وولاها عز الدّين أيبك الخزينة دَار المنصوري وَلما وصل مصر قبض على سنقر الْأَشْقَر وجرمك وَكَانَ قبض طقصو بِدِمَشْق فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
قلت: وفيهَا الْملك الْأَشْرَف نَازل على معرة النُّعْمَان مُتَوَجها إِلَى قلعة الرّوم كَانَ مولدِي، وَاتفقَ أَن أهل المعرة رفعوا قصصاً إِلَى السُّلْطَان الْأَشْرَف يسألونه إبِْطَال الخمارة بهَا فَأمر بإبطالها وَخَربَتْ فِي تِلْكَ السَّاعَة أحسن الله الْعَاقِبَة وَختم بِخَير آمين وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا طلب الْملك الْأَشْرَف المظفر صَاحب حماه وَالْملك الْأَفْضَل عليا إِلَى مصر على الْبَرِيد فوصلا مصر ثامن يَوْم خروجهما وجلين فأنعم عَلَيْهِمَا، ثمَّ سَار وهما صحبته على الهجين إِلَى جِهَة الكرك والعساكر سائرة على الطَّرِيق إِلَى دمشق، ثمَّ قدم دمشق ثمَّ سَار على الْبَريَّة متصيداً وَوصل الفرقلس وَهُوَ جفار فِي طرف حمص مشرقاً فَحَضَرَ إِلَيْهِ هُنَاكَ مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب وَأَخُوهُ مُحَمَّد وَفضل ومُوسَى بن مهنا فَقبض على الْجَمِيع وأرسلهم فحبسوا بِمصْر فِي قلعة الْجَبَل وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مصر.(2/230)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة سَار الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بن المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب من حلب إِلَى دمشق، وَتُوفِّي بهَا فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة مِنْهَا، ومولده أَوَاخِر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَسبب مسيرَة أَن الْأَفْضَل أعجب الْأَشْرَف خبرته فِي الفهود وَالصَّيْد وهم على الكرك، فَلَمَّا سَار المظفر وَالْأَفْضَل إِلَى حلب وَمَعَهَا بعض الْعَسْكَر الْمصْرِيّ لإرهاب الْعَدو بِأَمْر الْأَشْرَف وصل مرسوم الْملك الْأَشْرَف بِطَلَب الْأَفْضَل ليصبه فِي الصَّيْد، فَسَار وَلم يستصحب أحدا من أَوْلَاده، وَكَانُوا ثَلَاثَة مجردين بحلب مَعَ المظفر فَمَرض وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَنقل إِلَى حماه واشتمل المظفر على أَوْلَاده وَأحسن إِلَيْهِم.
وفيهَا: أفرج الْملك الْأَشْرَف عَن بدر الدّين البيسري بعد اعتقال نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة، وَعَن حسام الدّين لاجين المنصوري.
وفيهَا: أَعْطَيْت العساكر الدستور، وَأعْطى الْملك المظفر صَاحب حماه ابْن عمَّة الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى إمرة طبلخانات وَأَرْبَعين فَارِسًا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا فِي أَوَائِل الْمحرم قتل الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون وَذَلِكَ أَنه وصل إِلَى تروجة للصَّيْد وَنصب الدهليز عَلَيْهَا وَركب فِي نفر يسير فقصده مماليك أَبِيه وهم بيدرا نَائِب السلطنة ولاجين الَّذِي عَزله عَن نِيَابَة دمشق وقرا سنقر الَّذِي عَزله من حلب وبهادر رَأس النّوبَة وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء، وَلما قاربوا السُّلْطَان أرسل إِلَيْهِم كرد أَمِير آخور ليكشف خبرهم فأمسكوه وخاضوا المخاضة ووصلوا إِلَى السُّلْطَان فَأول من ضربه بِالسَّيْفِ بيدرا ثمَّ لاجين حَتَّى فَارق وتركوه على الأَرْض فَحَمله أيدمر الفخري وَالِي تروجة إِلَى الْقَاهِرَة فَدفن فِي تربته رَحمَه الله تَعَالَى، ثمَّ اتّفق القاتلون لَهُ على سلطنة بيدرا وتقلب بالقاهر.
وَسَار ليملك قلعة الْجَبَل فانضم مماليك الْأَشْرَف إِلَى زين الدّين كتبغا المنصوري وركبوا أثر بيدرا وَمن مَعَه فلحقوهم على الطرانة فِي نصف الْمحرم مِنْهَا واقتتلوا وَانْهَزَمَ بيدرا وَأَصْحَابه وتقرفوا فتبعوا بيدرا وقتلوه وَرفعُوا رَأسه على رمح واختفى لاجين وقرا سنقر.
وَوصل زين الدّين كتبغا والمماليك السُّلْطَانِيَّة إِلَى قلعة الْجَبَل ونائبها علم الدّين سنجر الشجاعي، فاتفقوا على سلطنة مَوْلَانَا السُّلْطَان الْأَعْظَم الْملك النَّاصِر بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور فَأَجْلَسُوهُ على سَرِير الْملك فِي بَاقِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم مِنْهَا، وتقرر كتبغا نَائِبا والشجاعي وزيراً وركن الدّين بيبرس الْبُرْجِي الجاشنكير أستاذ الدَّار وتتبعوا غُرَمَاء الْملك الْأَشْرَف فظفروا ببهادر رَأس النّوبَة وأقوش الْموصِلِي الْحَاجِب فَضربت رقابهما وأحرقت جثثهما.
ثمَّ ظفروا بطرنطاي الساقي والناق ونغية وأروس السلحدارية وَمُحَمّد خواجا والطنبغا الجمدار وأقسنقر الحسامي فاعتقوا بخزانة البنود أَيَّامًا ثمَّ قطعت أَيْديهم وأرجلهم وصلبوا(2/231)
على الْجمال وطيف بهم وأيديهم معلقَة فِي أَعْنَاقهم جَزَاء بِمَا كسبوا ثمَّ وَقع قجقار الساقي فشنق.
قلت: وفيهَا مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شهَاب الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَحْمد بن الْخَلِيل الخويي الشَّافِعِي وَله سبع وَسِتُّونَ سنة، كَانَ رَحمَه الله أحد الْأَعْلَام وَالله أعلم.
وفيهَا: قبض كتبغا والشجاعي على شمس الدّين مُحَمَّد بن السلعوس وَزِير الْملك الْأَشْرَف، وَتَوَلَّى عُقُوبَته الشجاعي، فاستصفى مَاله وَقَتله وَكَانَ مُتَمَكنًا عِنْد الْأَشْرَف وأحضر أَهله وأقاربه من دمشق إِلَى مصر لما تمكن إِلَّا وَاحِدًا اسْتمرّ بِدِمَشْق وَكتب إِلَيْهِ:
(تنبه يَا وَزِير الأَرْض وَاعْلَم ... بأنك قد وطِئت على الأفاعي)
(وَكن بِاللَّه معتصماً فَأَنِّي ... أَخَاف عَلَيْك من نهش الشجاعي)
(قلت) وَذكرت بِهَذَا قولي:
(صديق لي بلي بِحَكِيم سوء ... كَذَا السلعوس يبْلى بالشجاعي)
(فجس وَقَالَ حمى مَعَ صداع ... فَقُلْنَا يَا حَكِيم بِلَا صداع)
وَالله أعلم.
وفيهَا: قتل كتبغا النَّائِب الشجاعي الْوَزير وطيف بِرَأْسِهِ وفيهَا ظهر حسام الدّين لاجين وقرا سنقر المنصوري من الاستتار وَأخذ لَهما خشداشهما كتبغا الْأمان من السُّلْطَان وأقطع لَهما وأعز جَانبهَا.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة: يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع الْمحرم مِنْهَا جلس زين الدّين كتبغا المنصوري على سَرِير الْملك، وتلقب بالعادل، واستحلف النَّاس، وخطب لَهُ بِمصْر وَالشَّام، وَضرب السِّكَّة باسمه وَجعل حسام الدّين لاجين نَائِبه.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قتل كيختو بن أبغا بن هولاكو ملك بعد موت أرغون فِي ربيع الأول سنة تسعين وسِتمِائَة فملكه نَحْو أَربع سِنِين أفحش كيختو بِالْفِسْقِ واللواط فاتفق الْملك مَعَ ابْن عَمه بيدو بن طرغبة بن هولاكو على قَتله وهرب فتبعوه بسلاسلار من أَعمال موغان وقتلوه بهَا.
وَملك بعده ابْن عَمه يَبْدُو وَجلسَ على السرير فِي جمادي الأولى مِنْهَا وَبلغ قازان بخراسان ذَلِك فَجمع نيروز على قازان من أطاعه من المغول وَأهل تِلْكَ الْبِلَاد وَسَار إِلَى قتال بيدو وَسَار بيدو إِلَيْهِ فَلَمَّا تقاربوا علم قازان أَنه لَا طَاقَة لَهُ ببيدو فراسله واصطلحا وَعَاد قازان إِلَى خُرَاسَان وَأمر بيدو نيروز أتابك قازان أَن يُقيم عِنْده خوفًا من أَن تَجْتَمِع المغول على قازان ثَانِيًا، وَأخذ نيروز يفْسد المغول على بيدو فِي الْبَاطِن، واستوثق مِنْهُم وَكتب إِلَى قازان يَأْمُرهُ بالحركة فَتحَرك وَبلغ ذَلِك بيدو فَتحدث مَعَ نيروز فِيهِ، فَقَالَ نيروز: أَرْسلنِي إِلَى قازان لأفرق جمعه وأرسله إِلَيْك مربوطاً، فاستحلفه وأرسله، فَسَار نيروز إِلَى قازان وأعلمه(2/232)
بِمن مَعَه من المغول، وَعمد نيروز إِلَى قدر فِي جولق وربطه وأرسله إِلَى بيدو، وَقَالَ: وفيت بيميني ربطت قازان وبعثته إِلَيْك، وقازان اسْم الْقدر بالتتري، فَجمع بيدو عساكره والتقى الْجَمْعَانِ بنواحي هَمدَان فَصَارَ أَصْحَاب بيدو مَعَ قازان، فهرب بيدو وأدركه عَسْكَر قازان عَن قريب بنواحي هَمدَان وقتلوه فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا فملكه نَحْو ثَمَانِينَ أشهر.
وَاسْتقر قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو فِي المملكة فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا، وَجعل نيروز أتابكة ورتب أَخَاهُ خربندة بن أرغون بخراسان.
قلت: وفيهَا أسلم قازان ملك التتر وتلفظ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِإِشَارَة نَائِبه نيروز ونثر الذَّهَب على الْخلق، وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً.
ثمَّ لقنه نيروز شَيْئا من الْقُرْآن، وَدخل رَمَضَان فصامه، وفشى الْإِسْلَام فِي التتر.
وفيهَا: توفّي خطيب دمشق شرف الدّين أَحْمد بن أَحْمد الْمَقْدِسِي وَقد نَيف على السّبْعين. كَانَ من كبار الْمُفْتِينَ حسن الْخط، وَشَيخ الْمَشَايِخ عز الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الوَاسِطِيّ الفاروثي الْمقري الْمُفَسّر الْوَاعِظ الْخَطِيب فِي ذِي الْحجَّة بواسط وَله ثَمَانُون سنة، وَشَيخ الْحرم الْحَافِظ الْفَقِيه محب الدّين أَحْمد بن عبد الله الطَّبَرِيّ مُصَنف الْأَحْكَام وَله تسع وَسَبْعُونَ سنة، وسلطان إفريقية الْمُسْتَنْصر بِاللَّه عمر بن يحيى بن عبد الْوَاحِد الهنتائي وَملكه إِحْدَى عشرَة سنة وَالشَّيْخ الصَّالح أَبُو الرِّجَال المنيني صَاحب الكشوف وَالْأَحْوَال عَن نَيف وَثَمَانِينَ سنة، وَكَانَ لَهُ عَظمَة فِي النُّفُوس، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي صَاحب الْيمن الْملك المظفر شمس الدّين يُوسُف بن الْملك الْمَنْصُور عمر بن عَليّ بن رَسُول التركماني بقلعة تعز فملكه نَحْو سبع وَأَرْبَعين سنة وَملك بعده أكبر أبنائه الْأَشْرَف عمر، وعمره لما تملك سَبْعُونَ سنة، وَكَانَ الْمُؤَيد دَاوُد بن يُوسُف عِنْد موت وَالِده بالشحر كَانَ أَبوهُ قد أعطَاهُ إِيَّاهَا وأبعده إِلَيْهَا، وَلما بلغه موت وَالِده تحرّك، وَسَار فاستولى على عدن فَأرْسل أَخُوهُ الْأَشْرَف عسكراً قَاتلُوهُ فكسروا الْمُؤَيد دَاوُد وأحضروه أَسِيرًا فاعتقله الْأَشْرَف وَأقَام الْأَشْرَف فِي الْملك عشْرين شهرا وَتُوفِّي فَأخْرج الْمُؤَيد من الاعتقال وَملك الْيمن إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة.
وفيهَا: أرسل الْعَادِل كتبغا وَقبض على خوشداشة عز الدّين أيبك الخزينة دَار، وعزله عَن الْحُصُون والسواحل بِالشَّام، ثمَّ أفرج عَنهُ. واستناب مَوْضِعه عز الدّين أيبك الْموصِلِي.
وفيهَا: قصر النّيل عَظِيما وَتَبعهُ غلاء وأعقبه وباء وفناء عَظِيم.
وفيهَا: فِي أوائلها لما ملك كتبغا أفرج عَن مهنا بن عِيسَى وأخويه وأعادهم إِلَى مَنْزِلَتهمْ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا قدم من التتر نَحْو عشرَة آلَاف وافدين خوفًا من قازان ومقدمهم طرغية من أكبر المغول زَوجته بنت منكوتمر بن هولاكو الَّذِي(2/233)
انْكَسَرَ جَيْشه على حمص، وَيُسمى هَؤُلَاءِ الوافدين العويراتبة، كَانَ طرغية اتّفق مَعَ بيدو على قتل كيختو بن أبغا فَلَمَّا ملك قازان قصد قتل طرغية أخذا بثأر عَمه كيختو فهرب مِنْهُ وَأكْرمهمْ الْعَادِل كتبغا وأنزلهم بالسَّاحل قرب قاقون وأدر عَلَيْهِم الأرزاق وأحضر كبراءهم إِلَى مصر وأقطعهم جَلِيلًا وخلع عَلَيْهِم وَقَدَّمَهُمْ على غَيرهم.
وفيهَا: فِي شَوَّال خرج الْعَادِل كتبغا من مصر وَوصل دمشق ثمَّ حمص ثمَّ جوسيه متصيداً.
وَكَانَ قد اشْتَرَاهَا خراباً وعمرها فرآها وَعَاد إِلَى دمشق وعزل عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ عَن نِيَابَة الشَّام وَولى مَوْضِعه سيف الدّين غرلو مَمْلُوك الْعَادِل كتبغا وَخرجت السّنة والعادل بِدِمَشْق.
قلت: وفيهَا توفّي قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن بن قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن بنت الْأَعَز بِمصْر كهلاً، وَشَيخ الْحَنَفِيَّة الصاحب الْعَلامَة محيي الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن النّحاس الْأَسدي الْحلَبِي بالمزة، وَله إِحْدَى وَثَمَانُونَ سنة، وَشَيخ الْحَنَابِلَة الْعَلامَة زين الدّين المنجا بن عُثْمَان بن المنجا التنوخي المعري، وَله أَربع وَسِتُّونَ سنة، والزاهد الشَّيْخ شرف الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عمر الأرزوي التونيني بِبَيْت لهيا، كَانَ مَقْصُودا بالزيارة والتبرك وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِي أوائلها سَار كتبغا من دمشق إِلَى مصر فَلَمَّا اسْتَقر بدهليزه على نهر العوجاء وتفرق مماليكه وَغَيرهم إِلَى خيامهم ركب حسام الدّين لاجين المنصوري نَائِبه بصنجق ونقارة وانضم إِلَيْهِ البيسري وقرا سنقر وقبجق المنصوريان والحاج بهادر الظَّاهِرِيّ وَغَيرهم وبغتوا الْعَادِل الظّهْر فِي دهليزه فَمَا لحق يجمع أَصْحَابه وَركب فِي نفر قَلِيل فَحمل عَلَيْهِ نَائِبه لاجين وَقتل بكتوت الْأَزْرَق وبتخاص أكبر المماليك العادلية فهرب الْعَادِل إِلَى دمشق لِأَن فِيهَا مَمْلُوكه غرلو فَتَلقاهُ غرلو وَدخل قلعة دمشق وتأهب لقِتَال لاجين فَلم يُوَافقهُ عَسْكَر دمشق فَخلع نَفسه وَقعد بقلعة دمشق وَأرْسل يطْلب من لاجين الْأمان وموضعاً يؤويه فَأعْطَاهُ صرخد، فاستقر الْعَادِل بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا سَيذكرُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما لاجين فَلَمَّا هزم الْعَادِل نزل بدهليزه على نهر العوجاء وَشرط عَلَيْهِ الْأُمَرَاء الَّذين وافقوه شُرُوطًا التزمها.
مِنْهَا: أَن لَا ينْفَرد عَنْهُم بِرَأْي وَلَا يُسَلط مماليكه عَلَيْهِم كَمَا فعل كتبغا وَحلف لَهُم ثمَّ حلفوا لَهُ وَبَايَعُوهُ بالسلطنة.
وتلقب بِالْملكِ الْمَنْصُور حسام الدّين لاجين فِي الْمحرم مِنْهَا، ثمَّ وصل العساكر إِلَى مصر، وَاسْتقر بقلعة الْجَبَل، وَجعل سيف الدّين قبجق المنصوري نَائِب الشَّام.(2/234)
وفيهَا: أرسل الْمَنْصُور لاجين الْملك النَّاصِر من القاعة الَّتِي كَانَ فِيهَا بقلعة الْجَبَل إِلَى الكرك وَسَار مَعَه سلار حَتَّى أدخلهُ إِلَيْهَا وَعَاد إِلَى لاجين.
وفيهَا: أفرج لاجين عَن بيبرس الجاشنكير وعدة أُمَرَاء قبض عَلَيْهِم الْعَادِل لما ملك.
وفيهَا: أعْطى الْمَنْصُور لاجين جمَاعَة من مماليكه إمرة طبلخانات مثل منكوتمر وأيدغدي شقير وبهادر المعزى.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا جرد الْملك الْمَنْصُور لاجين جَيْشًا كثيفاً مَعَ بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح وَعلم الدّين سنجر الدواتداري وشمس الدّين كريته ولاجين الرُّومِي الْمَعْرُوف بالحسام أستاذ دَار فَسَارُوا إِلَى الشَّام ورسم بمسير عَسَاكِر الشَّام، فَسَار البكي الظَّاهِرِيّ نَائِب صفد ثمَّ سيف الدّين قبجق نَائِب الشَّام، وَأقَام قبجق بِبَعْض العساكر بحمص، وَسَار المظفر صَاحب حماه وَوصل المذكورون حلب يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث وَعشْرين جمادي الْآخِرَة سَابِع نيسان، ثمَّ سَارُوا إِلَى بِلَاد سيس فَعبر صَاحب حماه والدواتداري من دربندمري وَالْبَاقُونَ من بغراس، واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات فِي أواسط رَجَب وكبسوا وغنموا وعادوا إِلَى مرج أنطاكية فِي حادي وَعشْرين رَجَب، وَسَار صَاحب حماه إِلَى جِهَة حماه، وَوصل قصطون فورد مرسوم لاجين باجتماع العساكر بحلب ودخولهم إِلَى سيس ثَانِيًا.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: فعدنا إِلَى حلب ثمَّ إِلَى بِلَاد سيس ونزلنا على حموص يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَمَضَان مِنْهَا، وَأقَام أَمِير سلَاح وَصَاحب حماه وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِمَا من عَسْكَر دمشق على حموص وحصرناها وَنزل بَاقِي الْعَسْكَر أَسْفَل مِنْهَا فِي الْوَطْأَة، وأشتد على الْعَالم الْكثير الَّذين بهَا الْعَطش، فَهَلَك غالبهم، فَلَمَّا اشْتَدَّ بهم الْحَال أخرجُوا فِي السَّابِع عشر من نزولنا نَحْو ألف وَمِائَتَيْنِ من النِّسَاء والأطفال فاقتسمهم الْعَسْكَر وَاسْتمرّ الْحَال كَذَلِك حَتَّى كَانَ مَا يذكر.
فتح حموص وَغَيرهَا
تقدم فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة أسر ليفون بن هيتوم لما دخل الْعَسْكَر صُحْبَة الْمَنْصُور صَاحب حماه فِي أَيَّام الظَّاهِر بيبرس، وَكَيف فدَاه أَبوهُ، وَملك ليفون بعد أَبِيه مُدَّة، وَمَات عَن بَنِينَ أكبرهم هيتوم بن تروس ثمَّ سنباط ثمَّ دندين ثمَّ أوشين، فَلَمَّا مَاتَ ليفون ملك ابْنه الْأَكْبَر هيتوم مُدَّة فَجمع أَخُوهُ سنباط ووثب عَلَيْهِ وَقَبضه وسمله فعميت عينه الْوَاحِدَة.
وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس وَقبض على تروس ثمَّ قَتله وَخلف تروس ابْنا صَغِيرا، وَاسْتقر سنباط فِي الْملك، وَاتفقَ دُخُول الْعَسْكَر ومنازلة حموص فِي أَيَّام سنباط فضاقت على الأرمن الأَرْض لِكَثْرَة مَا غنم مِنْهُم، وَقتل ونسبوا ذَلِك إِلَى سوء تَدْبِير سنباط وَعدم مصانعته الْمُسلمين.(2/235)
وقصدوا إِقَامَة أَخِيه دندين وَالْقَبْض على سنباط، فهرب إِلَى جِهَة قسطنطينية وتملك دندين وَتسَمى كسيندين أَيْضا، وبذل للعساكر الطَّاعَة والإجابة إِلَى مرسوم سُلْطَان الْإِسْلَام وَأَنه نَائِبه، فتسلموا مِنْهُ كل مَا هُوَ جنوبي نهر جيحان من الْحُصُون والبلاد، وَمِنْهَا: حموص وتل حمدون وكويرا والنفير وَحجر شغلان وسرفند كار ومرعش وَكلهَا حصون منيعة مَا ترام.
وَكَذَلِكَ سلم غَيرهَا من الْبِلَاد، وَكَانَ تَسْلِيم حموص فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر شَوَّال مِنْهَا، وَأمر لاجين باستمرار عمَارَة هَذِه الْبِلَاد وَمَا كَانَ مصلحَة فَإِن الأرمن ملكوها سنة قازان، وَولى عَلَيْهَا لاجين نَائِبا ثمَّ عَزله، وولاها سيف الدّين اسندمر مَعَ عَسْكَر فَأَقَامَ بتل حمدون وعادت العساكر إِلَى حلب تَاسِع ذِي الْقعدَة عَاشر آب مِنْهَا فورد مرسوم لاجين إِلَى سيف الدّين بلبان الطباخي بِالْقَبْضِ على جمَاعَة من أُمَرَاء الْعَسْكَر وَعَلمُوا ذَلِك وقبجق على حمص مستشعر من لاجين فهرب من حلب فَارس الدّين البكي نَائِب صفد وبكتمر السلحدار وبوزلار وعزاز إِلَى حمص، وَاتَّفَقُوا مَعَ قبجق على الْعِصْيَان.
(وَفِي أوائلها) : قبل تَجْرِيد الْعَسْكَر قبض لاجين على نَائِبه، وَاسْتقر واعتقله، واستناب مَمْلُوكه منكوتمر الحسامي، فتكبر وتحامق بِمَا غير بِهِ الخواطر على أستاذه.
وَكَذَلِكَ قبض لاجين على البيسري وَعز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ والحاج بهادر أَمِير حَاجِب وَغَيرهم.
وفيهَا: اتهمَ قازان أتابكه نيروز بمكاتبة الْمُسلمين وَقَتله، ورتب مَوْضِعه قطلو شاه.
وفيهَا: وَفد سلامش وَهُوَ مقدم ثَمَان من المغول؛ كَانَ بالروم وبلغه أَن قازان يُرِيد قَتله فَأكْرمه لاجين وأنجده بعسكر مقدمهم سيف الدّين بكتمر الجلمي وطمع سلامش باجتماع أهل الرّوم عَلَيْهِ وَسَارُوا حَتَّى جاوزوا بلد سيس فَخرجت التتر واقتتلوا فَقتل الجلمي وَجَمَاعَة من الْعَسْكَر وهرب الْبَاقُونَ واعتصم سلامش فِي قلعة هُنَاكَ ثمَّ استتر لَهُ قازان وَقَتله شَرّ قتلة.
وفيهَا: اتّفق لاجين ونائبه منكوتمر وراكا الإقطاعات بالبلاد المصرية، وَفرقت المثالات فقبلها أَرْبَابهَا طَوْعًا وَكرها.
وفيهَا: توفّي عز الدّين أيبك الْموصِلِي نَائِب الفتوحات، وولاها سيف الدّين كرد أَمِير آخور.
وفيهَا: فِي آخر ذِي الْقعدَة هرب قبجق والبكي وبكتمر السلحدار وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من حمص وسَاق خَلفهم أيدغدي شقير مَمْلُوك لاجين من حلب فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر المجردين ليقطعوا عَلَيْهِم الطَّرِيق ففاتوهم وعبروا الْفُرَات واتصلوا بقازان وَأكْرمهمْ حَتَّى كَانَ مَا سَيذكرُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(2/236)
وفيهَا: عَاد الْمَنْصُور صَاحب حماه من حلب إِلَى حماه بِأَمْر لاجين واستمرت العساكر بحلب حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: فِي ثامن وَعشْرين شَوَّال توفّي القَاضِي بحماه جمال الدّين مُحَمَّد بن سَالم بن وَاصل الشَّافِعِي، ومولده سنة أَربع وسِتمِائَة، كَانَ مبرزاً فِي عُلُوم كَثِيرَة مثل الْمنطق والهندسة والأصولين والهيئة والتاريخ.
وَله مفرج الكروب فِي إِخْبَار بني أَيُّوب، وَله الأنبروزية فِي الْمنطق صنفها للأنبروز ملك الفرنج صَاحب صقلية لما أرْسلهُ إِلَيْهِ الْملك الظَّاهِر بيبرس وَاخْتصرَ الأغاني اختصارا حسنا وَله غير ذَلِك.
وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمُؤلف شَرحه لعروض ابْن الْحَاجِب، وَكَانَ يعرض على القَاضِي مَا لم يحله من أشكال كتاب إقليدس ويستفيد مِنْهُ وَصحح عَلَيْهِ أَسمَاء من لَهُ تَرْجَمَة فِي كتاب الأغاني.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: قَالَ القَاضِي جمال الدّين الْمَذْكُور ووالد الإمبراطور الَّذِي رَأَيْته اسْمه فردريك كَانَ مصافياً للْملك الْكَامِل، وَمَات سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وَملك صقلية وَغَيرهَا من الْبر الطَّوِيل بعده ابْنه كرا ثمَّ مَاتَ كرا وَملك أَخُوهُ منفريذا وكل من ملك مِنْهُم يُسمى إمبراطوراً وَمَعْنَاهُ بالفرنجية ملك الْأُمَرَاء قَالَ: وَلما وصلت إِلَيْهِ أَقمت عِنْده فِي مَدِينَة من الْبر الطَّوِيل الْمُتَّصِل بالأندلس من مَدَائِن أنبولية.
وَكَانَ يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس وبالقرب من الْبَلَد الَّذِي كنت فِيهِ مَدِينَة لَو حارة كلهَا مُسلمُونَ من جَزِيرَة صقلية يعلن فِيهَا بشعار الْإِسْلَام وَالْأَذَان، وأكبر أَصْحَاب الإمبراطور منفريذا مُسلمُونَ ويعلن فِي مُعَسْكَره بِالْأَذَانِ وَالصَّلَاة وَبَين ذَلِك الْبَلَد وَبَين رُومِية خَمْسَة أَيَّام.
قَالَ: وَبعد تَوَجُّهِي من عِنْده اتّفق البابا خَليفَة الفرنج ورندافرنس على قِتَاله، وَكَانَ البابا قد حرمه لميل الإمبرطور إِلَى الْمُسلمين.
وَكَذَلِكَ كَانَ أَخُوهُ وَأَبوهُ محرمين لميلهم إِلَى الْمُسلمين، قَالَ: وَحكى لي أَن مرتبَة الإمبراطور كَانَت قبل فردريك لوالده وَلما مَاتَ كَانَ فردريك شَابًّا وطمع فِي الإمبراطورية جمَاعَة من مُلُوك الفرنج.
وَكَانَ فردريك شَابًّا مَاكِرًا وجنسه من الألمانية، فَاجْتمع بِكُل وَاحِد من الْمُلُوك الطامعين فِي الإمبراطورية بِانْفِرَادِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أصلح لهَذِهِ الْمرتبَة فَإِذا اجْتَمَعنَا عِنْد البابا فَقل يَنْبَغِي أَن يتقلد الحَدِيث فِي هَذَا الْأَمر ابْن الإمبراطور المتوفي وَمن رَضِي بِهِ فَأَنا رَاض بِهِ فَإِن البابا إِذا رد الِاخْتِيَار إِلَيّ اخْتَرْتُك وقصدي أنتمي إِلَيْك فاعتقدوا صَدَقَة فِي ذَلِك فَلَمَّا اجْتَمعُوا عِنْد البابا برومية قَالَ البابا للملوك: مَا تُرِيدُونَ وَمن هُوَ الأحق بِهَذِهِ الْمرتبَة؟ وَوضع تَاج الْملك بَين أَيْديهم فَكل مِنْهُم قَالَ: حكمت فردريك فِي ذَلِك فَإِنَّهُ ولد الإمبراطور فَقَامَ(2/237)
فردريك وَقَالَ أَنا أَحَق بتاج أبي ومرتبته وَالْجَمَاعَة قد رَضوا بِي، وَوضع التَّاج على رَأسه فأبلسوا كلهم وَخرج مسرعاً وَقد حصل جمَاعَة من الألمانية الشجعان راكبين، وَسَار بهم على حمية إِلَى بِلَاده.
وَاسْتمرّ منفريذا بن فردريك فِي مَمْلَكَته حَتَّى قَصده البابا ورندافرنس بجموعهما فقاتلوه وهزموه وقبضوا عَلَيْهِ وَأمر البابا فذبح منفريذا وَملك بِلَاده بعده رندافرنس سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ظنا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فِيهَا: قتل الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين لاجين: وثب عَلَيْهِ مماليك صبيان اصطفاهم لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشر ربيع الآخر أول اللَّيْل فَقَتَلُوهُ وَهُوَ يلْعَب بالشطرنج، وَأول ضَارب لَهُ بِالسَّيْفِ كرجي وقصدوا قتل مَمْلُوكه نائبة منكوتمر فأجاره سيف الدّين طغجي الأشرفي مقدم القاتلين، وحبسه فِي الْجب، ثمَّ أخرجه كرجي وَذبح على رَأس الْجب وَعند الصُّبْح جلس طغجي فِي مضع النِّيَابَة وَأمر وَنهى.
وَهُنَاكَ أُمَرَاء أكبر مِنْهُ مثل الحسام استاذ دَار وسلار وبيبرس الجاشنكير فاتفقوا على الوقيعة بطغجي وإعادة ملك مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الْمُقِيم بالكرك وَاتفقَ بعد ذَلِك وُصُول الْعَسْكَر المجردين على حلب أَمِير سلَاح وَغَيره، وَأَشَارَ الْأُمَرَاء على طغجي بتلقي أَمِير سلَاح فَامْتنعَ وعاودوه فَأجَاب وَركب من قلعة الْجَبَل واستناب بهَا كرجي قَاتل لاجين فَلَمَّا اجْتمع الْأُمَرَاء لتلقي أَمِير سلَاح تحدثُوا فِي قتل الصّبيان السُّلْطَان وأنكروا مثل ذَلِك ونسبوا ذَلِك إِلَى طغجي وحطوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فهرب وأدركوه فَقَتَلُوهُ وقصدوا كرجي بقلعة الْجَبَل فهرب وتبعوه فَقَتَلُوهُ فِي ربيع الآخر مِنْهَا، وَمُدَّة ملك لاجين سنتَانِ وَثَلَاثَة أشهر.
وفيهَا: عَاد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون إِلَى مَمْلَكَته فَإِنَّهُ بعد مَا ذكرنَا اتّفقت الْأُمَرَاء على ذَلِك، فَتوجه سيف الدّين آل ملك وَعلم الدّين الجاولي إِلَى الكرك وحضرا فِي خدمته وَصعد قلعة الْجَبَل وَاسْتقر على سَرِير ملكه يَوْم السبت رَابِع عشر جمادي الأولى مِنْهَا وَهِي سلطنته الثَّانِيَة، واستناب سلار وَجعل بيبرس الجاشنكير استاذ الدَّار وبكتمر الجوكندار أَمِير خزينة دَار وجمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام وأفرجوا عَن قرا سنقر من الاعتقال بعد نَحْو سنة وشهرين ثمَّ بعثوا بِهِ إِلَى الصبيبة وجهز تَقْلِيد صَاحب حماه المظفر على عَادَته فِي جمادي الأولى مِنْهَا.
وفيهَا: فِي رَمَضَان الْمُوَافق لحزيران جرد المظفر عَسْكَر حماه إِلَى حلب لتحرك التتر إِلَى الشَّام، وَورد كتاب بلبان الطباخي بتراخي الْأَخْبَار فعادوا من المعرة إِلَى حماه، ثمَّ ورد كِتَابه بطلبهم فاعيدوا يَوْم وصولهم سَابِع عشر رَمَضَان وحزيران.
وفيهَا: يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة توفّي السُّلْطَان الْملك المظفر صَاحب حماه وَتقدم مولده، فعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَعشرَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام، وَملك حماه خمس عشرَة سنة وشهراً وَيَوْما، قصد جبل علارور المطل على قسطون فِي شدَّة الْحر ليرمي النسْر(2/238)
من طوير الْوَاجِب، وَعمل كوخاً وَقتل حمارا وانتظر نزُول النسْر على جيفته وَهُوَ بالكوخ، فاتفق نزُول النسْر وَلم يقدر لَهُ رميه، وأنتنت الجيفة فَمَرض، وَمرض الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى.
وَاتفقَ حُضُور الْأَمِير صارم الدّين أزبك المنصوري من التَّجْرِيد بحلب لمَرض زَوجته فلحق السُّلْطَان قبل وَفَاته.
وَاشْتَدَّ بالمظفر الْمَرَض بحمى محرقة حَتَّى توفّي فِي التَّارِيخ رَحمَه الله تَعَالَى، وَحضر بعد وَفَاته إِلَى حماه من حلب أَخُو الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى أَسد الدّين عمر وَبدر الدّين حسن ابْنا الْملك الْأَفْضَل، وَاخْتلفُوا فِيمَن يكون صَاحب حماه فَلم يَنْتَظِم فِي ذَلِك حَال.
ثمَّ إِن قرا سنقر وَهُوَ بالصبية تضور إِلَى الْحُكَّام بِمصْر من الْمقَام بالصبيبة وَقد اتّفق موت صَاحب حماه فَأعْطى قرا سنقر النِّيَابَة بحماه وَوَصلهَا فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَنزل بدار المظفر صَاحب حماه.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى: وَأخذ من تَرِكَة صَاحب حماه وَمنا أَشْيَاء كَثِيرَة حَتَّى أجحف بِنَا، ووصلت المناشير من مصر باستمرارنا، وغيرنا على مَا بِأَيْدِينَا.
وفيهَا: أرسل بلبان الطباخي عسكراً نهبوا ربض ماردين حَتَّى الْجَامِع وَعمِلُوا الْأَعْمَال الشنيعة الَّتِي احْتج بهَا قازان فِي قصد الشَّام.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين بيسري فِي محبسه من حِين حَبسه لاجين.
وفيهَا: سَار مَوْلَانَا السُّلْطَان بعساكر مصر، فَأَقَامَ بِبِلَاد غَزَّة حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: توفّي شمس الدّين كريته أحد المقدمين الَّذين دخلُوا بلد سبس وفتحوا مَا ذَكرْنَاهُ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا سَار قازان بن أرغون بجموع عَظِيمَة من مغول وكرج ومزندة وَغَيرهم، وَعبر الْفُرَات وَسَار إِلَى حلب ثمَّ إِلَى حماه، ثمَّ نزل وَادي مجمع المروج وَسَار مَوْلَانَا السُّلْطَان بالعساكر وَنزل ظَاهر حمص ثمَّ سَارُوا إِلَى جِهَة الْمجمع.
وَكَانَ سلار والجاشنكير هما المتغلبين على المملكة فطمع الْأُمَرَاء وَلم يكملوا عدَّة جندهم، الْتَقَوْا الْعَصْر من نَهَار الْأَرْبَعَاء سَابِع وَعشْرين ربيع الأول مِنْهَا الْمُوَافق لثالث وَعشْرين كانون الأول قرب مجمع المروج شَرْقي حمص على نصف مرحلة مِنْهَا فَوَلَّتْ ميمنة الْمُسلمين ثمَّ الميسرة وَثَبت الْقلب واحتاطت بِهِ التتر وَجرى قتال عَظِيم وَتَأَخر السُّلْطَان إِلَى جِهَة حمص حَتَّى أدْركهُ اللَّيْل، وتمت الْهَزِيمَة بالعساكر الإسلامية إِلَى مصر وتبعهم التتر واستولوا على دمشق وَسَاقُوا إِلَى غَزَّة والقدس وبلاد الكرك وغنموا من الجفال شَيْئا عَظِيما.(2/239)
ذكر المتجددات بعد الكسرة
كَانَ قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مَعَ قازان مُنْذُ هربوا فَلَمَّا استولى قازان على دمشق أَخذ قبجق لأَهْلهَا ولغيرهم الْأمان من قازان، وَأمر قازان فحوصرت قلعتها والنائب بهَا سيف الدّين أرحواش المنصوري فَصَبر واجتهد وأحرق الدّور والمدارس الَّتِي تَحت القلعة وَدَار السَّعَادَة وأماكن جليلة، وَلما وصل عَسْكَر مصر أنفقت فيهم أَمْوَال جليلة وتأبهوا بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح.
وَأقَام قازان بمرج الزنبقية ثمَّ عَاد إِلَى الشرق، وَقرر فِي دمشق قبجق فِي عدَّة من المغول، فَلَمَّا بلغ العساكر بِمصْر عود قازان خَرجُوا من مصر فِي الْعشْر الأول من رَجَب مِنْهَا، وَخرج السُّلْطَان إِلَى الصالحية ثمَّ اتَّفقُوا على مقَام السُّلْطَان بالديار المصرية ومسير سلار بيبرس بالعساكر إِلَى الشَّام.
وَكَانَ قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا الْمُسلمين فِي الْبَاطِن وصاروا مَعَهم، فَلَمَّا خرجت العساكر هرب قبجق وَمن مَعَه وفارقوا التتر إِلَى جِهَة مصر، وَبلغ ذَلِك التتر المجردين بِدِمَشْق فقصدوا الْبِلَاد الشرقية، وَوصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إِلَى السُّلْطَان بِمصْر فَأحْسن إِلَيْهِم وَوصل سلار والجاشنكير إِلَى دمشق ورتبا فِي نِيَابَة الشَّام الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم على عَادَته ورتبا قرا سنقر بحلب بعد عزل بلبان الطباخي عَنْهَا وإعطائه إقطاعاً بِمصْر ورتباً قطلو بك فِي نِيَابَة السَّاحِل عوض سيف الدّين كرد فَإِنَّهُ اسْتشْهد فِي الْوَقْعَة، ورتبا فِي حماه زين الدّين كتبغا المخلوع الَّذِي كَانَ أعطي صرخد حَتَّى استولى قازان على الشَّام، ثمَّ سَار إِلَى مصر والتتر بِالشَّام.
ثمَّ سَار مَعَ سلار والجاشنكير إِلَى الشَّام فرتباه فِي نِيَابَة حماه فوصل كتبغا حماه فِي رَابِع وَعشْرين شعْبَان مِنْهَا وَأقَام بدار صَاحب حماه المظفر، وَعَاد سلار والجاشنكير إِلَى مصر. وفيهَا: والتتر بِالشَّام استولى على حماه عُثْمَان السبتاري من رجالة القلعة بهَا وَحكم فِي الْبَلَد والقلعة، واستباح الْحَرِيم وأموال أهل حماه وَسَفك دم جمَاعَة مِنْهُم الْفَارِس إرلند مشد حماه وَبَعض أهل الْبَاب الغربي وشارك عُثْمَان فِي الحكم رَفِيقه إِسْمَاعِيل ثمَّ غدر بِهِ فَقتله.
وَانْفَرَدَ عُثْمَان بِحكم حماه، وَقيل أَنه تلقب بِالْملكِ الرَّحِيم وَبَقِي إِلَى أَن طلعت العساكر الإسلامية من مصر وَأَرْسلُوا الصارم أزبك الْحَمَوِيّ إِلَى حماه يكون فِيهَا إِلَى أَن يصل كتبغا فعصى عُثْمَان بالقلعة ثمَّ تخلى عَنهُ أَصْحَابه وَأمْسك واعتقل، وَكَانَ من خزينة دارية قرا سنقر فَلَمَّا وصل قرا سنقر إِلَى حماه مُتَوَجها إِلَى حلب أطلق عُثْمَان وشكى إِلَيْهِ وَهُوَ بتل صفرون أهل حماه مَا فعل عُثْمَان فيهم، فارتشى قرا سنقر من عُثْمَان مَا حصله(2/240)
وَصَحبه إِلَى حلب وَمَا مكن مِنْهُ أحدا بعد أَن حكم القَاضِي بسفك دم عُثْمَان، وَبَقِي عِنْد قرا سنقر مكرماً إِلَى أَن هرب قرا سنقر إِلَى التتر فاختفى عُثْمَان.
فَلَمَّا ملك الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى حماه تتبع عُثْمَان وَطَلَبه من نَائِب الشَّام الْمقر السيفي يُنكر فأمسكه من بِلَاد عجلون وَأَصله من بلد الشوبك وأرسله إِلَيْهِ معتقلاً فَضرب عُنُقه فِي سوق الْخَيل بِحَضْرَة الْعَسْكَر رَابِع عشر شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة.
وفيهَا: لما وصل قازان إِلَى الشَّام طمع الأرمن فِي الْبِلَاد الَّتِي فتحهَا الْمُسلمُونَ مِنْهُم، وَعجز الْمُسلمُونَ عَن حفظهَا فاحتلها الرجالة والعسكر فارتجعها الأرمن وَهِي حموص وتل حمدون وكويرة وسرفند كار والنقير وَغَيرهَا وَلم يسلم مِنْهَا للْمُسلمين غير حجر شغلان.
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا لما ملك دندين بلد الأرمن أفرج عَن أَخِيه هيتوم وَجعله الْملك وَهُوَ بَين يَدَيْهِ، وهيتوم أَعور من حِين سمله أَخُوهُ سنباط وَبعد مُدَّة غدر هيتوم بدندين وجازاه أقبح جَزَاء وَقصد إِمْسَاكه فهرب إِلَى قسطنطينية، وَلما اسْتَقر هيتوم فِي مملكة سيس كَانَ لِأَخِيهِ تروس الَّذِي قَتله سنباط ابْن صَغِير فَأَقَامَ هيتوم هَذَا الصَّغِير ابْن تروس ملكا وَصَارَ أتابكا للصَّغِير وبقيا كَذَلِك حَتَّى قَتلهمَا يرلغي مقدم المغول بالروم.
ثمَّ دخلت سنة سَبْعمِائة فِيهَا: عَادَتْ التتر إِلَى الشَّام وعبروا الْفُرَات فِي ربيع الآخر، وخلت بِلَاد حلب وَسَار قرا سنقر بعسكر حلب إِلَى حماه، وبرز كتبغا وعسكر حماه إِلَى ظَاهر حماه فِي ثَانِي وَعشْرين ربيع الآخر مِنْهَا سادس كانون الأول ووصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بحماه وأقامت التتر بِبِلَاد يبرين وسرمين والمعرة وَغَيرهَا ينهبون وَيقْتلُونَ.
وَوصل السُّلْطَان بالعساكر إِلَى العوجاء واشتدت الأمطار والوحل حَتَّى انْقَطَعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكرعن الْمقَام على تِلْكَ الْحَال فَعَاد السُّلْطَان إِلَى الديار المصرية، وتنقلت التتر بِبِلَاد حلب نَحْو ثَلَاثَة أشهر ورد الله التتر على أَعْقَابهم بقدرته إِلَى بِلَادهمْ، وعدوا الْفُرَات فِي أَوَاخِر جمادي الْآخِرَة مِنْهَا الْمُوَافق لأوائل آذار، وَعَاد قرا سنقر بعسكر حلب إِلَيْهَا وتراجعت الجفال.
وفيهَا: لما وَردت الْأَخْبَار بِعُود التتر إِلَى الشَّام إستخرج من غَالب الإغنياء بِمصْر وَالشَّام ثلث أَمْوَالهم لاستخدام الْمُقَاتلَة.
وفيهَا: لما خرجت العساكر من مصر توفّي سيف الدّين بلبان الطباخي وَدفن بِأَرْض الرملة وَورثه السُّلْطَان بِالْوَلَاءِ.
وَقلت: وَكَانَ شهماً وأنكى فِي التتر لما انْكَسَرَ الْمُسلمُونَ سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَالله أعلم.
وفيهَا: عزل كراي المنصوري عَن السواحل وَصَارَ بِدِمَشْق أكبر الْأُمَرَاء وَولى السواحل أسندمر الكرجي.(2/241)
وفيهَا: ألزمت الْيَهُود بِلبْس العمائم الصفر، وَالنَّصَارَى العمائم الزرق، والسامرة الْحمر.
وفيهَا: وصلت رسل قازان برسالة مضمونها الْوَعيد والتهديد فَأَعَادُوا الْجَواب كَذَلِك.
وفيهَا: ولي البكي الظَّاهِرِيّ الَّذِي عَاد من تقفيزه نِيَابَة حمص، وَأعْطِي قبجق الشوبك إقطاعاً وَأقَام بهَا.
وفيهَا: قتل جكا بن بغنة أَخَاهُ تكا.
وفيهَا: جرى بَين جكا ونائبه طيفور قتال، فانتصر طيفور ثمَّ استنجد طيفور بطقطغا فهرب جكا إِلَى الأولاق قوم بِتِلْكَ الْبِلَاد لصهر بَينه وَبينهمْ فغدر بِهِ ملك الأولاق واعتقله بقلعة طربو ثمَّ قَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى القرم وَصَارَت مملكة بغنة لطقطغا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة: فِيهَا توفّي " الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله " أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد، " قلت ": وَدفن عِنْد السيدة نفيسة، وَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة مَشْهُودَة حضرها عَامَّة الدولة وَالنَّاس، وَلم يركب أحد، وخلافته أَرْبَعُونَ سنة وَأشهر وَالله أعلم، وَقرر فِي الْخلَافَة بعده ابْنه أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان المستكفي بِاللَّه.
وفيهَا: جرد من مصر بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وأيبك الخزينة دَار بالعساكر فوصلوا حماه وَورد الْأَمر إِلَى كتبغا نَائِب حماه أَن يسير بهم إِلَى بِلَاد سيس فَخرج فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال والعساكر صحبته ودخلوا حلب مستهل ذِي الْقعدَة، ورحلوا ثَالِثَة ودخلوا دربند بغراس سَابِع ذِي الْقعدَة، وانتشروا فِي بِلَاد سيس فأحرقوا الزَّرْع ونهبوا ونزلوا على سيس وزحفوا عَلَيْهَا. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: وأخذنا من سفح قلعتها شَيْئا كثيرا من جفال الأرمن وعدنا ووصلنا حلب تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا وَدخل زين الدّين كتبغا حماه فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر وَقد ابْتَدَأَ بِهِ الْمَرَض.
وفيهَا: مَاتَ قبجي بن اردنو بن دوشي خَان بن جنكيز خَان صَاحب غزنة وباميان وَغَيرهمَا، وَترك بنيه بَيَان وكبلك وطقتمر وبغاتمر ومنغطاي وحاصي، فَاخْتَلَفُوا بعده واقتتلوا، ثمَّ انتصر بَيَان بن قبجي، وَاسْتقر فِي ملك غزنة.
وفيهَا: توفّي صَاحب مَكَّة أَبُو نمى مُحَمَّد بن أبي سعد بن عَليّ بن قَتَادَة بن إِدْرِيس بن مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن عِيسَى بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم، وَاخْتلف بنوه وهم رميثة وحميضة وَأَبُو الْغَيْث وعطيفة، فتغلب رميثة وحميضة على مَكَّة شرفها الله تَعَالَى.
ثمَّ قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة فِي هَذِه السّنة لما حج وتولاها أَبُو الْغَيْث، وَبعد سِنِين أطلق رميثة وحميضة فغلبا على مَكَّة وهرب عَنْهَا أَبُو الْغَيْث، ثمَّ اقتتل رميثة وحميضة، فانتصر حميضة وَاسْتقر فِي مَكَّة، ثمَّ كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.(2/242)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا (فتحت جَزِيرَة أرواد) فِي بَحر الرّوم قبالة أنظرسوس قَرِيبا من السَّاحِل اجْتمع فِيهَا كثير من الفرنج وبنوا فِيهَا سوراً تحَصَّنُوا وصاروا يطلعون مِنْهَا ويقطعون الطَّرِيق على المترددين فِي ذَلِك السَّاحِل والنائب بالسَّاحل إِذْ ذَاك استدمر الكرجي فَسَأَلَهُ إرْسَال أسطول إِلَيْهَا فعمرت الشواني وسارت إِلَيْهَا من الديار المصرية فِي بَحر الرّوم ووصلتها فِي الْمحرم، وَجرى قتال شَدِيد وَنصر الله الْمُسلمين وملكوا الجزيرة وَقتلُوا وأسروا جَمِيع أَهلهَا وخربوا أسوارها وعادوا بالأسرى والمغنم.
وفيهَا: عَادَتْ التتر إِلَى قصد الشَّام ونزلوا أزوار الْفُرَات مُدَّة وَسَار مِنْهُم نَحْو عشرَة آلَاف وأغاروا على القرينين ونواحيها، وَكَانَت العساكر قد اجْتمعت بحماه عِنْد كتبغا نائبها وَهُوَ مَرِيض من عوده من سيس مسترخى الْأَعْضَاء فَأرْسل كتبغا جمَاعَة من الْعَسْكَر إِلَى التتر الَّذين أَغَارُوا على القرينين وَمِنْهُم اسندمر نَائِب السَّاحِل وَجَمَاعَة من عَسْكَر حلب وحماه، وَمِنْهُم الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي سَابِع شعْبَان مِنْهَا.
وَاتَّفَقُوا مَعَ التتر على الكوم قريب عرض يَوْم السبت عَاشر شعْبَان سلخ آذار وصبر الْفَرِيقَانِ ثمَّ انهزم التتر وترجل مِنْهُم جمَاعَة كَثِيرَة وأحاط الْمُسلمُونَ بهم بعد فرَاغ الْوَقْعَة وبذلوا لَهُم الْأمان فَلم يقبلُوا وقاتلوا بالنشاب وَعمِلُوا السُّرُوج ستائر وناوشهم الْعَسْكَر الْقِتَال من الضُّحَى إِلَى انفراك الظّهْر ثمَّ حملُوا فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم وَكَانَ هَذَا عنوان النَّصْر الثَّانِي، وعادوا منصورين فوصلوا حماه يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر شعْبَان ثَانِي نيسان.
وفيهَا: بعد كسرة التتر على الكوم سَارَتْ جموع التتر الْعَظِيمَة صُحْبَة قطلو شاه نَائِب قازان ووصلوا حماه واندفع كتبغا فِي محفة والعساكر الَّذين كَانُوا بحماه بَين أَيْديهم، وَأخر الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى لكشف التتر فوصل التتر حماه يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان وشاهدهم الْمُؤلف بِظَاهِر حماه فَسَار وَأعلم كتبغا على القطيفة بِالْحَال، فسارت العساكر الإسلامية إِلَى دمشق ووصلت أَوَائِل المصريين صُحْبَة بيبرس الجاشنكير وَاجْتمعت بمرج الزنبقية ظَاهر دمشق ثمَّ سَارُوا إِلَى مرج الصفر لما قاربهم التتر، وَانْتَظرُوا وُصُول السُّلْطَان وَعبر التتر على دمشق طَالِبين للعسكر ووصلوا إِلَيْهِم عِنْد شقحب بِطرف مرج الصفر وَسَاعَة وُصُول التتر إِلَى الْجَيْش وصل السُّلْطَان بباقي العساكر والتقى الْجَمْعَانِ بعد الْعَصْر نَهَار السبت ثَانِي رَمَضَان مِنْهَا فِي الْعشْرين من نيسان وَاشْتَدَّ الْقِتَال وتكردست التتر على الميمنة اسْتشْهد من الْمُسلمين خلق مِنْهُم رَأس الميمنة الحسام أستاذ الدَّار، وَكَانَ بِرَأْس الميمنة أَيْضا قبجق فَانْدفع هُوَ وَبَاقِي الميمنة بَين أَيدي التتر وَأنزل الله نَصره على الْقلب والميسرة، فهزموا التتر وَكثر الْقَتْل فيهم فولى بعض التتر مَعَ توليه منهزمين، وَتَأَخر بَعضهم مَعَ جوبان، وَحَال اللَّيْل بَين الْفَرِيقَيْنِ فَنزل التتر على جبل بِطرف مرج الصفر وأوقدوا النيرَان وأحاط الْمُسلمُونَ بهم.
وَعند الصَّباح ابتدر التتر الْهَرَب من الْجَبَل وتبعهم الْمُسلمُونَ فَقتلُوا مِنْهُم مقتلة(2/243)
عَظِيمَة، وتوحل فِي موحلة فِي طريقهم عَالم عَظِيم مِنْهُم، فَأسر بَعضهم وَقتل بَعضهم، وسَاق سلار فِي جمع كثير فِي أسرهم إِلَى القرينين، ووصلوا الْفُرَات وَهُوَ فِي غَايَة الزِّيَادَة فَالَّذِي عبر هلك، وَسَارُوا على جَانب الْفُرَات إِلَى جِهَة بَغْدَاد فَانْقَطع أَكْثَرهم وَمَات جوعا على شاطئ الْفُرَات وَأخذت الْعَرَب مِنْهُم خلقا وَهَذِه بِتِلْكَ وعادت العساكر إِلَى أماكنها.
وفيهَا: لَيْلَة الْجُمُعَة عَاشر ذِي الْحجَّة توفّي زين الدّين " كتبغا " نَائِب حماه من مماليك السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين قلاوون الصَّالِحِي رقي حَتَّى تسلطن وتلقب بالعادل وَملك مصر وَالشَّام سنة أَربع وَتِسْعين، ثمَّ خلع وَأعْطِي صرخد سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة وَجرى لَهُ مَا قدمْنَاهُ عَاد من مرج الصفر إِلَى حماه وَتُوفِّي بعد مُدَّة يسيرَة.
وجهز الْمُؤلف رَحمَه الله يلْتَمس من السُّلْطَان ملك حماه كأهله فَوجدَ قاصده الْأَمر قد فَاتَ وقررت لقبجق الْمُقِيم بالشوبك ووعد الْمُؤلف بحماه وَحصل الِاعْتِذَار بوصول قاصده بعد انْفِصَال الْأَمر فِيهَا.
وفيهَا: توفّي فَارس الدّين البلي الظَّاهِرِيّ النَّائِب بحمص.
وفيهَا: توفّي القَاضِي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بالديار المصرية إِمَام فَاضل زاهد متقشف، وَولي مَوْضِعه القَاضِي بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الْحَمَوِيّ.
قلت: وَمَا أحسن قَول ابْن دَقِيق الْعِيد:
(أَتعبت نَفسك بَين ذلة كَادِح ... طلب الْحَيَاة وَبَين حرص مُؤَمل)
(وأضعت عمرك لَا مَسَرَّة ماجن ... حصلت فِيهِ وَلَا وقار مُجمل)
(وَتركت حَظّ النَّفس فِي الدُّنْيَا وَفِي ... الْأُخْرَى ورحت عَن الْجَمِيع بمعزل)
وَقَوله:
(كم لَيْلَة فِيك وصلنا السرى ... لَا نَعْرِف الغمض وَلَا نستريح)
(وَاخْتلف الْأَصْحَاب مَاذَا الَّذِي ... يزِيل عَنْهُم تعباً أَو يرِيح)
(فَقيل تعريسهم سَاعَة ... وَقيل بل ذكراك وَهُوَ الصَّحِيح)
وَقَوله:
(وكافات الشتَاء تعد سبعا ... وَمَالِي طَاقَة بلقاء سبع)
(إِذا ظَفرت بكاف الْكيس كفى ... فَذَلِك مُفْرد يَأْتِي بِجمع)
وَالله أعلم.
وفيهَا: زلزلت الْبِلَاد فانهدم بعض سور قلعة حماه وَغَيرهَا، وَمَات تَحت ردمها بالديار المصرية خلق كثير، وَخَربَتْ من أسوار الْإسْكَنْدَريَّة سِتا وَأَرْبَعين بَدَنَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة: فِيهَا توفّي " قازان " بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن(2/244)
طلو من جنكيز خَان بنواحي الرّيّ فِي أَوَاخِر السّنة وَملك سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فملكه نَحْو ثَمَان سِنِين وَعشرَة أشهر، غمه كسر عسكره فَلحقه حمى حادة وَمَات مكموداً.
وَملك بعده أَخُوهُ خربنده وَجلسَ فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة، وتلقب الجايتو سُلْطَان.
قدوم قبجق إِلَى حماه
لما أعْطى قبجق حماه ارتجعت مِنْهُ الشوبك وَكَانَ مُقيما بهَا، وَدخل حماه صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر، وَنزل بدار الْملك المظفر واستقرت قدمه بحماه.
وفيهَا: يَوْم الْأَحَد خَامِس جمادي الأولى توفيت عَمه الْمُؤلف رحمهمَا الله تَعَالَى مؤنسة خاتون بنت الْملك المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب وَأمّهَا غازنة خاتون بنت السُّلْطَان الْملك الْكَامِل، ومولد مؤنسة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة.
عملت بحماه الْمدرسَة الخاتونية بوقف جليل، وَهِي آخر من بَقِي من أَوْلَاد الْملك المظفر.
قلت: وفيهَا فِي الْمحرم توفّي الإِمَام الْقدْوَة الزَّاهِد ولي الله الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الرقي بِدِمَشْق، وَكَانَت جنَازَته مَشْهُورَة وَحمل على الرؤوس وعاش بضعاً وَخمسين.
كَانَ صَابِرًا على مر الْعَيْش، عَارِفًا بالتفسير والْحَدِيث والأصلين، حسن الْعبارَة، وَله خطب وأشعار فِي الزّهْد، ومولده بالرقة سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وفيهَا: توفّي فِي صفر خطيب دمشق شيخ دَار الحَدِيث زين الدّين عبد الله بن مَرْوَان الفارقي وَله سَبْعُونَ سنة وَالله أعلم.
وفيهَا: خلا غَالب الإصطبلات لمَوْت الْخَيل.
وفيهَا: توجه الْمُؤلف رَحمَه الله لحجة الْإِسْلَام وَحج من مصر سلار وَكثير من الْأُمَرَاء وقفُوا الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء احْتِيَاطًا.
وَفِي أواخرها: جرد عَسْكَر مصر وقبجق وقرا سنقر بعسكره حماه وحلب إِلَى بِلَاد سيس، وفتحوا تل حمدون بالأمان وهدموها، وَكَانَ الْمُؤلف بالحجاز.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل من الْمغرب كثير صحبتهم رَسُول أبي يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب المريني ملك الْمغرب إِلَى مصر بهدية عَظِيمَة خيل وبغال نَحْو خَمْسمِائَة بسروج ولجم ملبسة بِالذَّهَب الْمصْرِيّ.
وفيهَا: وصل إِلَى مصر صَاحب دنقلة أياي الْأسود بهدية عَظِيمَة رَقِيق وهجن وأبقار ونمور وشب وسباذج، وَطلب نجدة من السُّلْطَان فَجرد مَعَه عسكراً مقدمهم طقصبا نَائِب قوص.(2/245)
وفيهَا: أُعِيد رميثة وحميضة ابْنا أبي نمى إِلَى ملك مَكَّة.
وفيهَا: توفّي جماز بن شيحة صَاحب الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وملكها بعده ابْنه مَنْصُور.
وفيهَا: وصل الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى حماه فِي عَاشر صفر من الْحَج بعد زِيَارَة الْقُدس الشريف والخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا أرسل قرا سنقر نَائِب حلب مَعَ مَمْلُوكه قشتمر عسكراً إِلَى سيس.
وَكَانَ قشتمر ضَعِيف الْعقل مشتغلاً بِالْخمرِ فاستهان بالعدو فَجمع صَاحب سيس سنباط من الأرمن والفرنج والتتر ووصلوا إِلَى غَزَّة وقاتلوهم قرب إِيَاس فَانْهَزَمَ الحلبيون يبتدرون الطَّرِيق وَقتل مِنْهُم وَأسر غالبهم واختفى من سلم فِي تِلْكَ الْجبَال وَلم يصل إِلَى حلب مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل عُرَاة رجالة.
وفيهَا: قطع خبر بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح لكبره.
وفيهَا: أفرج عَن الْحَاج بهادر الظَّاهِرِيّ اعتقله لاجين.
قلت: وفيهَا فِي شَوَّال توفّي خطيب دمشق ومحدثها الشَّيْخ شرف الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع أَخُو الفركاح الْفَزارِيّ وَالله أعلم.
وفيهَا: عصى أهل كيلان فَسَار قطلوشاه نَائِب خربنده لقتالهم، فكبسوه وقتلوه وَجَمَاعَة من المغول.
وفيهَا: أحاطت عَسَاكِر الشَّام بجبال الظنينين المنيعة، وَكَانُوا عصاة مارقين، وترجلوا عَن الْخَيل وصعدوا فِي تِلْكَ الْجبَال من كل جَانب، وَقتلُوا وأسروا جَمِيع من بهَا من النصيرية والظنينين، وَأمنت الطّرق بعدهمْ وَكَانُوا يتخطفون الْمُسلمين ويبيعونهم من الْكفَّار، وَكَانَ الَّذِي أفتى بذلك ابْن تَيْمِية وَتوجه مَعَ الْعَسْكَر.
وفيهَا: استدعي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية من دمشق إِلَى مصر وَعقد لَهُ مجْلِس واعتقل بِمَا نسب إِلَيْهِ من التجسيم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسَبْعمائة: ذكر من ملك فِيهَا من بني مرين، فِيهَا: قتل أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن حمامة المريني ملك الْمغرب وَهُوَ محاصر تلمسان من سِنِين كَثِيرَة فَلم يبْق عِنْدهم قوت شهر فَفرج الله عَنْهُم بقتْله، وَذَلِكَ أَنه اتهمَ وزيره بحرمه، واتهم زمامه عنبراً بمواطأة الْوَزير على ذَلِك وَأمر بِقَتْلِهِمَا، ومروا بعنبر على الخدام فَقَالَ لَهُم: قد أَمر بقتلي، وسيقتلكم كلكُمْ بعدِي، فهجم بعض الخدام بسكين على أبي يَعْقُوب وَقد خضب لحيته بحناء ونام على قَفاهُ فَضَربهُ فِي جَوْفه وهرب وأغلق الْبَاب عَلَيْهِ فصاحت إمرأة بخدمه فلحقوه وَبِه رَمق فأوصى إِلَى ابْنه أبي سَالم وَمَات.
وَلما جلس سَالم قَصده ابْن عَمه أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد(2/246)
الْحق، وَقيل أَن أَبَا ثَابت هُوَ عَامر بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي يَعْقُوب فَيكون ابْن أخي أبي سَالم لَا ابْن عَمه.
وانضم مَعَ أبي ثَابت يحيى بن يَعْقُوب عَم أبي سَالم فهرب أَبُو سَالم مِنْهُمَا فأرسلا من تبعه وَقَتله وَجَاء بِرَأْسِهِ.
وَملك أَبُو ثَابت منتصف هَذِه السّنة وَأمر بقتل الْخَادِم قَاتل عَمه فَقتل ثمَّ قتل الخدام بأسرهم وألقوا فِي النَّار وأباد كل خَادِم فِي مَمْلَكَته.
ثمَّ وثب أَبُو ثَابت على عَمه يحيى فَقتله ثَانِي يَوْم استقراره ثمَّ سَار إِلَى فاس وَأرْسل مستحفظاً من بني عَمه اسْمه يُوسُف بن أبي عباد إِلَى مراكش ثمَّ خلع يُوسُف الْمَذْكُور طَاعَة أبي ثَابت عَامر الْمَذْكُور وَكَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح بَين قطع خَبره ووفاته أَرْبَعَة أشهر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسَبْعمائة: فِي أواخرها بطنجة توفّي أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله بن يُوسُف أبي يَعْقُوب بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن حمامة ملك الغرب وَملكه سنة وكسرا. وَملك بعده ابْن عَمه عَليّ بن يُوسُف ثمَّ خلعه الْوَزير وَجَمَاعَة بعد يَوْمَيْنِ، وملكوا سُلَيْمَان بن عبد الله بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو، فَأعْطى وَأنْفق، وَأطلق المكوس واعتقل عَليّ بن يُوسُف المخلوع بطنجة، وَاسْتقر ملكه.
وفيهَا: قتل يرلغي أحد مقدمي المغول المقيمين بِبِلَاد الرّوم صَاحب سيس هيتوم بن ليفون بن هيتوم بعد أَن ذبح ابْن أَخِيه بروس الصَّغِير على صَدره وَملك بعده أوسين أَخُو هيتوم وَمضى الناق أَخُو هيتوم صُحْبَة يرلغي إِلَى خربنده وشكاه فَأمر خربنده يرلغي فَقتل بِالسَّيْفِ.
قلت: وفيهَا فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر جمادي الأولى توفّي شَيخنَا الْعَارِف الْقُدْرَة ذُو الكرامات عبس بن عِيسَى بن عَليّ بن علوان السرحاوي العليمي وفيهَا نزل كراي المنصوري عَن إقطاعه وَعَن الإمرة وَبَقِي بطالاً حَتَّى أقطعه السُّلْطَان فِيمَا بعد واستنابه بِدِمَشْق.
وفيهَا: توفّي ركن الدّين بيبرس العجمي الصَّالِحِي الجالق آخر البحرية وَقد أسن.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسَبْعمائة: فِيهَا يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان خرج السُّلْطَان من مصر مُتَوَجها إِلَى الْحجاز الشريف وَمَعَهُ أُمَرَاء مِنْهُم عز الدّين أيدمر الخطيري وحسام الدّين قرا لاجين وَسيف الدّين آل ملك وَعِيد بالصالحية، ثمَّ سَار وَوصل الكرك عَاشر شَوَّال ونائبها جمال الدّين أقوش الأشرفي، فاحتفل بسماط وَعبر السُّلْطَان على جسر القلعة والأمراء ماشون بَين يَدَيْهِ والمماليك حول فرسه وَخَلفه فَسقط بهم جسر القلعة(2/247)
وَقد حصلت يَد فرس السُّلْطَان وَهُوَ رَاكِبه دَاخل عتبَة الْبَاب، وأحس الْفرس بِسُقُوط الجسر فأسرع حَتَّى كَاد يدوس الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ وَسقط من مماليك السُّلْطَان خَمْسَة وَثَلَاثُونَ وَغَيرهم من أهل الكرك وَلم يهْلك غير مَمْلُوك وَاحِد لَيْسَ من الْخَواص، وَنزل فِي الْوَقْت السُّلْطَان عِنْد الْبَاب وأحضر الجنوبات والحبال وَرفعُوا الَّذين سقطوا وداووهم فصلحوا قَرِيبا وسعادة السُّلْطَان وَللَّه الْحَمد خارقة للعوائد فَإِن هَذَا الجسر يُقَارب ارتفاعه خمسين ذِرَاعا.
وَلما اسْتَقر السُّلْطَان بالكرك أَمر أقوش نائبها والأمراء الَّذين حَضَرُوا مَعَه بِالْمَسِيرِ إِلَى مصر واعلمهم إِنَّه جعل الْحجاز وَسِيلَة إِلَى الْمقَام بالكرك وَسَببه اسْتِيلَاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة وَالْأَمْوَال ومحاصرتهما لَهُ بالقلعة وَغير ذَلِك ووصلت الْأُمَرَاء مصر وأعلموا من بهَا بذلك فاتفقوا على سلطنة بيبرس ونيابة سلار كَمَا كَانَ وَركب بيبرس بشعار السلطنة إِلَى الإيوان الْكَبِير بقلة قلعة الْجَبَل وَجلسَ على سَرِير الْملك يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال مِنْهَا وتلقب بالمظفر ركن الدّين بيبرس المنصوري وَأرْسل إِلَى الشَّام خلف النواب.
وفيهَا: ملكت الاستبار جَزِيرَة رودس من الأشكري صَاحب قسطنطينية، فصعب على التُّجَّار الْوُصُول فِي الْبَحْر إِلَى هَذِه الْبِلَاد لمنع الاستبار من يصل بِلَاد الْإِسْلَام.
وفيهَا: مَاتَ الْأَمِير خضر بن الْملك الظَّاهِر بيبرس بِبَاب القنطرة جهزه الْأَشْرَف وأخاه إِلَى قسطنطينية فَبَقيَ مُدَّة وَتُوفِّي سلامش هُنَاكَ ثمَّ عَاد خضر وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى توفّي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل من مصر جمال الدّين أقوش الْموصِلِي قتال السَّبع مَمْلُوك لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل ولاجين الجاشنكير الزيرتاج فِي ألفي فَارس من مصر وجرد قبجق الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى فِي جمَاعَة من عَسْكَر حماه فَدَخَلُوا حلب يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر ربيع الآخر الْخَامِس وَالْعِشْرين من أيلول، وَكَانَ النَّائِب بحلب قرا سنقر، وَوصل الْحَاج بهادر الظَّاهِرِيّ فِي جمَاعَة من عَسْكَر دمشق فاستمال قرا سنقر النَّاس إِلَى طَاعَة مَوْلَانَا السُّلْطَان بَاطِنا وَأخذ يقبح عِنْدهم طَاعَة الْملك المظفر بيبرس.
وفيهَا: سَار جمَاعَة من المماليك على حمية إِلَى الكرك وأعلموا السُّلْطَان بِمَا النَّاس عَلَيْهِ من طَاعَته ومحبته فَأَعَادَ خطبَته بالكرك، ووصلته مكاتبات عَسْكَر دمشق يستدعونه، وَكَذَلِكَ مكاتبات حلب فَسَار بِمن مَعَه من الكرك فِي جمادي الْآخِرَة مِنْهَا، وَوصل إِلَى حمان قَرْيَة قربية من رَأس المَال فَعمل أقوش الأفرم عَلَيْهِ وَأرْسل قرا بغا مَمْلُوك قرا سنقر إِلَيْهِ برسالة كذب عَن قرا سنقر وَكَانَ قرا بغا قد وصل إِلَى الأفرم بمكتابة تتَعَلَّق بِهِ خَاصَّة فَأرْسلهُ الأفرم إِلَى السُّلْطَان فَسَار من دمشق ولاقى السُّلْطَان بحماه وأنهى إِلَى السُّلْطَان مَا حمله الأفرم من الْكَذِب الْمُقْتَضِي رُجُوع السُّلْطَان فَظَنهُ السُّلْطَان حَقًا وَرجع إِلَى الكرك فاستدعته العساكر ثَانِيًا وانحلت دولة بيبرس وجوهر بِالْخِلَافِ، وَبلغ ذَلِك العساكر المقيمين بحلب فَسَارُوا بِغَيْر دستور.(2/248)
وَسَار الْمُؤلف بِمن مَعَه من عَسْكَر حماه بعدهمْ وَلما تحقق السُّلْطَان صدق الطَّاعَة خرج من الكرك ثَانِيًا وسَاق وَخرجت عَسَاكِر دمشق لطاعته وَتَلَقَّتْهُ وهرب الأفرم نَائِب دمشق وَوصل السُّلْطَان دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر شعْبَان مِنْهَا الْمُوَافق لعشرين كانون وهيئت لَهُ قلعة دمشق فَلم ينزل بهَا وَنزل بِالْقصرِ الأبلق وَأرْسل الأفرم يطْلب الْأمان من السُّلْطَان فَأَمنهُ وَقدم إِلَى طَاعَته، وَسَار قبجق من حماه بالعسكر الْحَمَوِيّ واسندمر بعسكر السَّاحِل ووصلوا دمشق وَقدم الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى تقدمة مِنْهَا مَمْلُوكه طقز تمر فقبلها ووعده بحماه وَوصل قبلهم بكتمو أَمِير جندار من صفد، وَلما تكاملت العساكر الشامية عِنْد السُّلْطَان أحضر إِلَى دمشق حواصل الكرك وَأنْفق فِي الْعَسْكَر وَسَار بهم من دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع رَمَضَان عَاشر شباط، وَبلغ بيبرس نَائِبه سلار ذَلِك فجردا عسكراً ضخماً مَعَ برلغي وَغَيره فَسَارُوا إِلَى الصالحية واقاموا بهَا وبرلغي من أكبر أَصْحَاب بيبرس وَكَانَ الشَّاعِر أَرَادَهُ بقوله:
(فَكَانَ الَّذِي استنصحت أول خائن ... وَكَانَ الَّذِي استصفيت من أعظم العدى)
وَسَار السُّلْطَان بالعساكر والفصل شتاء وَالْخَوْف شَدِيد من الأمطار والوحل فَقدر الله الصحو والدفء حَتَّى وصلوا غَزَّة يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر رَمَضَان فَقدم إِلَى طَاعَته عَسْكَر مصر شَيْئا فَشَيْئًا برلغي وَغَيره بعدة كَثِيرَة من الْعَسْكَر ثمَّ تَتَابَعَت الأطلاب من الْأُمَرَاء والمماليك والأجناد يقبلُونَ الأَرْض ويسيرون صحبته وَلما تحقق بيبرس ذَلِك خلع نَفسه من السلطنة، وَأرْسل بيبرس الدواتدارا وبهادر يطْلب الْأمان وَأَن يُعْطِيهِ أما الكرك أَو حماه أَو صهيون وَأَن يكون مَعَه من مماليكه ثَلَاثمِائَة فَأُجِيب إِلَى مائَة مَمْلُوك وَإِلَى صهيون، وهرب الجاشنكير من قلعة الْجَبَل إِلَى جِهَة الصَّعِيد، وَخرج سلار إِلَى طَاعَة السُّلْطَان، وتلقاه يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان قَاطع بركَة الْحجَّاج وَقبل الأَرْض وَضرب للسُّلْطَان الدهليز بِالْبركَةِ فِي النَّهَار الْمَذْكُور، وَأقَام بهَا يَوْم الثُّلَاثَاء سلخ رَمَضَان وَعِيد يَوْم الْأَرْبَعَاء بِالْبركَةِ، ورحل السُّلْطَان فِي نَهَاره والعساكر المصرية والشامية فِي خدمته وعَلى رَأسه الجتر وَوصل وَصعد قلعة الْجَبَل وَاسْتقر على سَرِير ملكه بعد الْعَصْر من نَهَار الْأَرْبَعَاء مستهل شَوَّال مِنْهَا رَابِع آذار وَهِي سلطنته الثَّالِثَة.
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث شَوَّال الثَّالِث من وُصُول السُّلْطَان سَار سلار من قلعة الْجَبَل إِلَى الشوبك أنعم بهَا عَلَيْهِ وَقطع خَبره من الديار المصرية واستناب السُّلْطَان قبجق بحلب وارتجع مِنْهُ حماه، وَسَار قبجق من مصر يَوْم الْخَمِيس تَاسِع شَوَّال، ورسم لعسكر حماه بِالْمَسِيرِ مَعَه، وَاعْتذر السُّلْطَان للمؤلف رَحمَه الله بِأَنَّهُ إِنَّمَا أخر تَمْلِيكه حماه لمهمات وإشغال تعوقه وَأَنه لَا بُد من إنجاز وعده فَعَاد مَعَ قبجق إِلَى الشَّام، ثمَّ رسم السُّلْطَان للافرم بصرخد فَسَار إِلَيْهَا واستناب قرا سنقر بِالشَّام وَالْحج بهادر الظَّاهِرِيّ بحماه، ثمَّ ارتجعها مِنْهُ وَقَررهُ بنيابة الفتوحات والحصون بعد عزل اسندمر عَنْهَا.
وَكَانَ قد حصل بَين الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى وَبَين اسندمر عَدَاوَة مستحكمة لميله إِلَى(2/249)
أَخِيه الْأَمِير بدر الدّين حسن، وَقصد ان يعدل بحماه عَنهُ إِلَيْهِ فَلم يُوَافقهُ السُّلْطَان على ذَلِك، فَلَمَّا رأى أَن السُّلْطَان يُعْطي الْمُؤلف تغمده الله برحمته حماه طلبَهَا اسندمر لنَفسِهِ فَمَا أمكن السُّلْطَان مَنعه مِنْهَا، فرسم لَهُ بحماه، وَتَأَخر حُضُوره لأمور اقْتَضَت ذَلِك.
واستناب السُّلْطَان سيف الدّين بكتمر الجوكندار بالديار المصرية وَلما هرب بيبرس الجاشنكير أَخذ مَعَه أَمْوَالًا وخيولاً وَتوجه إِلَى جِهَة الصَّعِيد، وَلما اسْتَقر السُّلْطَان أرسل فارتجع مِنْهُ مَا أَخذ من الخزائن بِغَيْر حق.
ثمَّ قصد بيبرس الْمسير إِلَى صهيون فبرز من أطفيح إِلَى السويس وَسَار إِلَى الصالحية ثمَّ إِلَى العنصر قرب الداروم وَوصل إِلَى قرا سنقر وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى نِيَابَة الشَّام المرسوم بِالْقَبْضِ على بيبرس فَركب قرا سنقر وكبسه وَقبض عَلَيْهِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور وَعَاد بِهِ إِلَى الحظارة فوصل من عِنْد السُّلْطَان اسندمر الكرجي وتسلمه وَعَاد قرا سنقر إِلَى الشَّام وأوصل اسندمر بيبرس إِلَى قلعة الْجَبَل واعتقل يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وَمُدَّة ملكه أحد عشر شهرا.
(تفاني الرِّجَال على حبها ... وَمَا يحصلون على طائل)
(قلت) : وَأما سلار فَاشْتَدَّ خَوفه ووجله بالشوبك فنزح إِلَى الْبَريَّة ثمَّ خذل وَأرْسل يطْلب أَمَانًا ليقيم بالقدس فَأُجِيب وَسَاقه حتفه إِلَى الْقَاهِرَة فَأحْضرهُ السُّلْطَان وعاتبه ثمَّ اعتقل وَمنع من الزَّاد حَتَّى مَاتَ جوعا وَفِي أهرائه نَحْو مِائَتي ألف أردب، وَقيل وجد وَقد أكل خفه، وَكَانَ من التتار العويرامية وَمَات فِي جمادي الأولى سنة عشر وَسَبْعمائة، ووقفت على مسودة بِمَا وجد فِي دَاره من صناديق ضمنهَا جَوَاهِر وفصوص مَاس ولآلىء كبار ومصاغ وعقود وقناطير مقنطرة ذَهَبا وَفِضة وسروج مزركشة وأقمشة وَعدد وخيل وجمال وَغير ذَلِك مِمَّا يفوت الْحصْر وَالله أعلم.
وفيهَا: غلب بَيَان بن قبجي على مملكة أَخِيه كتلك وَاتفقَ موت كتلك عقيب ذَلِك فاستنجد ابْنه قشتمر وطرد عَمه ببان وَاسْتقر فِي ملك أَبِيه كتلك، وَقيل أَن الَّذِي طرد ببان هُوَ أَخُوهُ منغطاي بن قبجي.
وفيهَا: وَردت الْأَخْبَار أَن الفرنج قصدُوا نصر بن مُحَمَّد بن الْأَحْمَر ملك غرناطة بالأندلس فاستنجد بِسُلَيْمَان المريني صَاحب مراكش واقتتلوا قرب غرناطة فَقتل من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم ثمَّ هزم الله الفرنج.
وفيهَا: تزوج خربنده ملك التتر بنت الْملك الْمَنْصُور غَازِي بن قرا أرسلان صَاحب ماردين وحملت إِلَى الأردو.
قلت: وَهَذَا آخر مَا وقف عَلَيْهِ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى فِيمَا علمت، وَمن هُنَا شرعت فِي التذييل عَلَيْهِ فَقلت: وفيهَا أعَاد السُّلْطَان قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة(2/250)
الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ إِلَى الْقَضَاء بِدِمَشْق وخلع عَلَيْهِ وَكَانَ قد عَزله الجاشنكير من نَحْو ثَلَاثَة أشهر بشهاب الدّين بن الْحَافِظ.
وفيهَا: هَاجَتْ القيسية واليمانية بحوران على عَادَتهم وحشدوا وَبَلغت المقتلة قرب السويدا نَحْو ألف نفس. وفيهَا: توفّي شمس الدّين سنقر الأعسر من أَعْيَان الْأُمَرَاء ذَوي السطوة ولي الشد بِالشَّام والوزارة بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل أسندمر إِلَى حماه نَائِبا عَلَيْهَا وعَلى المعرة وَتعرض إِلَى أَمْوَال النَّاس.
وفيهَا: صرف ابْن جمَاعَة عَن قَضَاء الديار المصرية، وَولي مَكَانَهُ جمال الدّين الزرعي، وَصرف شمس الدّين السرُوجِي، وَطلب القَاضِي شمس الدّين بن الحريري فولي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالديار المصرية فَتوفي السرُوجِي الْمَذْكُور بعد أَيَّام قَليلَة.
وفيهَا: مَاتَ بطرابلس نائبها الْحَاج بهادر الْحَمَوِيّ وَقد كبر وَمَات بحلب نائبها سيف الدّين قبجق المنصوري بالإسهال وَنقل إِلَى تربته بحماه ثمَّ نَاب بحلب أسندمر فَسَار فِي حلب بسترته فِي حماه.
وفيهَا: استناب السُّلْطَان بحماه عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْملك الْأَفْضَل عَليّ بن المظفر مَحْمُود صَاحب حماه.
قلت:
(وفاز الْمُؤَيد فِي يَوْمه ... بِمَا كَانَ يرجوه فِي أمسه)
(وَكم قد شكى الحيف من دهره ... فأنصفه الدَّهْر من نَفسه)
وفيهَا: تحول الأفرم من صرخد إِلَى نِيَابَة طرابلس.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي بتبريز الشَّيْخ قطب الدّين مَحْمُود بن مَسْعُود الشِّيرَازِيّ صَاحب التصانيف وَهُوَ فِي عشر الثَّمَانِينَ، كَانَ غزير الْعلم وَاسع الصَّدْر، حسن الْأَخْلَاق وجيهاً عِنْد التتر وَغَيرهم.
قلت:
(لقد عدم الْإِسْلَام حبرًا مبرزاً ... كريم السجايا فِيهِ مَعَ بعده قرب)
(عجبت وَقد دارت رَحا الْعلم بعده ... وَهل للرحا دور وَقد عدم القطب)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة: فِي أَولهَا نقل قرا سنقر من دمشق إِلَى نِيَابَة حلب وَولي نِيَابَة دمشق كراي المنصوري.
وَكَانَ شَيخنَا صدر الدّين بن الْوَكِيل قد انْتقل من دمشق إِلَى حلب خوفًا من قرا سنقر فَلَمَّا وصل قرا سنقر إِلَى الْعين الْمُبَارَكَة بِالْقربِ من حلب خرجنَا مَعَ الشَّيْخ للقاء قرا سنقر(2/251)
فَأقبل عَلَيْهِ، وشكى إِلَى صدر الدّين من الدماشقة، فَقَالَ صدر الدّين: أَنا رجل لست من دمشق وَإِنَّمَا أَنا من أهل الْمغرب وهنأه الشَّيْخ صدر الدّين بقصيدة جَيِّدَة أَولهَا:
(هَب النسيم فَعَاشَ من نفحاته ... وسرى سمير الْبَرْق فِي لمحاته)
(يطوي إِلَى حلب الفلا والشوق ... كل رِدَائه والوجد بعض حداته)
(مَا لَاحَ برق بالعواصم سَاطِع ... إِلَّا حَكَاهُ الْقلب فِي خفقاته)
(حَيا الحيا حَيا بمنعرج اللوى ... بانوا فَبَان الصَّبْر عَن باناته)
(حيوا على الْوَادي فأحيوا مَيتا ... مضنى قَتِيل ظبائه وظباته)
(يَا سعد ساعدني وَكن لي مخبرا ... فَالْخَبَر عز عَن الكئيب بِذَاتِهِ)
(هاتيك للساري تشب على الغضا ... أم ذَاك نور لَاحَ فِي مشكاته)
(أم هَذِه حلب بنائبها أشرقت ... شمس الممالك من سما بصفاته)
(شمس سما فَوق السماك مَحَله ... وسبى سناه الْبَدْر فِي هالاته)
(بِالسَّيْفِ والقلم ارْتقى فمضاء ذَا ... لعداته وَمضى ذَا لعداته)
(مَا الْبَحْر من نظرائه وكفاته ... بل ذَاك من وكفاته وكفاته)
(فالعلم بَين بَيَانه وبنانه ... والحلم من أدواته ودواته)
(وَحَدِيث كل الْجُود عِنْد مُسْند ... متواتر قد صَحَّ عِنْد وَرُوَاته)
(يروي فيروي كل ظمآن الحشا ... فَالنَّاس بَين رُوَاته وَرُوَاته)
(يَا مَالك الْأُمَرَاء بل يَا شمسهم ... يَا من أَضَاء الْكَوْن من بهجاته)
(قد كَانَ فِي حلب وَفِي سكانها ... شَرق إِلَيْك يشب فِي لفحاته)
(يبكي لغيبتك السَّحَاب وروضها ... يَرْجُو اللقا فافتر ثغر نَبَاته)
(وتمايلت أَغْصَانهَا طَربا وَقد ... غنى الْحمام ورن فِي باناته)
(وأتيتها بِالْعَدْلِ تشرق ربعهَا ... وتزيل ظلما زَاد فِي ظلماته)
(فتباشرت سكانها وربوعها ... ودعوا لمَالِكهَا على عوداته)
(النَّاصِر الْمَالِك الَّذِي خجل الحيا ... من جوده وَاللَّيْث من سطواته)
(إسكندر الدُّنْيَا وكسرى عصره ... لَو عَاشَ تبع مَاتَ من تبعاته)
(من اطد الدُّنْيَا وَسكن بِيَدِهَا ... أَو ضم بَيت الْملك بعد شتاته)
(تشتاقه بَغْدَاد وَهِي عروسه ... خطبَته واشتاقت إِلَى خطباته)
(فَالله ينصره ويحرس ملكه ... ويمتع الدُّنْيَا بطول حَيَاته)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر أُعِيد ابْن جمَاعَة إِلَى قَضَاء الديار المصرية وتقرر المزرعي المصروف قَضَاء الْعَسْكَر.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عزل كراي عَن نِيَابَة دمشق وَقيد وَحبس هُوَ وقطلو بك نَائِب صفد بالكرك وَقبض قبلهمَا على أسندمر من حلب، وسجن بالكرك وَفَرح النَّاس بنكبته فَرحا شَدِيدا ثمَّ نَاب بِدِمَشْق جمال الدّين أقوش الأشرفي الَّذِي يعرف بنائب الكرك.(2/252)
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ البارع قَاضِي الْقَضَاء سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد الْحَارِثِيّ الْحَنْبَلِيّ بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ وَعشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا تسحب من دمشق عز الدّين الزردكاش وبلبان الدِّمَشْقِي وأمير ثَالِث إِلَى الأفرم نَائِب طرابلس ثمَّ ساقوا بمماليكهم إِلَى قرا سنقر المنصوري وَكَانَ قد سبقهمْ وَأقَام بالبرية فِي ذمام مهنا بن عِيسَى ملك الْعَرَب فاحتيط على أَمْوَالهم وأملاكم ثمَّ عبروا الْفُرَات إِلَى خربنده ملك التتر فاحترمهم وَأَقْبل عَلَيْهِم.
وفيهَا: مَاتَ صَاحب ماردين الْملك الْمَنْصُور غَازِي بن المظفر قرا أرسلان الأرتقي فِي عشر السّبْعين ودولته نَحْو عشْرين سنة.
ملك بعده ابْنه عَليّ، فَعَاشَ بعده سَبْعَة عشرَة يَوْمًا وَمَات، فَملك أَخُوهُ الْملك الصَّالح.
وفيهَا: أمسك من حمص نائبها بيبرس العلائي، وَمن دمشق بيبرس الْمَجْنُون وبيبرس التاجي وطوغان وَسيف الدّين كشلي والبرواني وحبسوا بالكرك وَأمْسك بِمصْر جمَاعَة.
وفيهَا: فِي ربيع الأول طلب إِلَى مصر أقوش الكركي نَائِب دمشق.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم ملك أُمَرَاء سيف الدّين تنكز الناصري نَائِبا بِالشَّام وَحضر يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الْأمَوِي وأوقد لَهُ الشمع، وَولي نِيَابَة مصر بعده سيف الدّين أرغون الدواتدار الناصري.
وفيهَا: فِي أَوَائِل رَمَضَان قويت أراجيف مَجِيء التتر وأجفل النَّاس ونازل خربنده بجيوشه الرحبة فحاصروها ثَلَاثُونَ يَوْمًا ورموها بالمجانيق وَأخذُوا فِي النقوب، ثمَّ أَشَارَ رشيد الدولة على خربنده بِالْعَفو عَن أَهلهَا وَأَشَارَ عَلَيْهِم بالنزول إِلَى خدمَة الْملك فَنزل قاضيها وَجَمَاعَة وأهدوا لخربنده خَمْسَة أَفْرَاس وَعشرَة أباليج سكر، فحلفهم على الطَّاعَة لَهُ ورحل عَنْهُم.
واما أهل الشَّام فجفلوا من كل جَانب لتأخر الجيوش المنصورة عَنْهُم يَسِيرا لأجل ربيع خيلهم، ثمَّ جَاءَت الْأَخْبَار فِي آخر رَمَضَان برحيل التتر وَحصل الْأَمْن وَضربت البشائر وَأما السُّلْطَان فَأَنَّهُ عيد سَار فوصل دمشق فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال، وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَنزل بالقلعة ثمَّ بِالْقصرِ وَصلى الْجُمُعَة وَعمل دَار الْعدْل بِحُضُور الْقُضَاة وَكثر الدُّعَاء لَهُ، وَفِي ذِي الْعقْدَة توجه السُّلْطَان إِلَى الْحَج.
وفيهَا: مَاتَ طقطقاي ملك القفجاق وَله ثَلَاثُونَ سنة وَجلسَ على السرير وَهُوَ ابْن سبع سِنِين مَاتَ كَافِرًا يعبد الْأَصْنَام، وَكَانَ يحب أهل الْخَيْر من كل مِلَّة ويرجح الْمُسلمين وَيُحب الْحُكَمَاء وجيوشه كَثِيرَة جدا وَقع بَينه وَبَين أَعدَاء لَهُ حَرْب فَجرد من كل عشرَة وأحداً فبلغت عدَّة المجردين مِائَتي ألف فَارس وَخمسين ألف فَارس.(2/253)
وَكَانَ لَهُ ابْن بديع الْحسن، وَنوى إِن ملك الْبِلَاد أَن لَا يتْرك فِي مَمْلَكَته غير الْإِسْلَام فَمَاتَ فِي حَيَاة وَالِده وَترك ولدا وعهد إِلَيْهِ جده فَلم يتم أمره، وَملك بعده أزبك خَان ابْن أَخِيه وَهُوَ شَاب مُسلم شُجَاع متسع المملكة مسيرتها سِتَّة أشهر لَكِن مدائنها قَليلَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل السُّلْطَان من الْحجاز فِي حادي عشر الْمحرم وَصلى بِجَامِع دمشق جمعتين ثمَّ سَار إِلَى مصر.
وفيهَا: كَانَ روك اقطاعات الجيوش المنصورة.
وفيهَا: توفّي بحلب المعمر عَلَاء الدّين بيبرس التركي العديمي، وَقد نَيف على السّبْعين.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة: فِي رَجَب مِنْهَا توفّي بحلب نائبها سيف الدّين سودى، وَكَانَ مشكور السِّيرَة وَدفن بالْمقَام وبنيت عَلَيْهِ تربة ورتب عَلَيْهِ قراء وَمَا يَلِيق بِهِ.
وَفِيه: توفّي بهاء الدّين عَليّ بن أبي سوَادَة صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء بحلب وَله نظم ونثر متوسط وينسب إِلَى التَّشَيُّع.
وَفِيه: توفّي محيي الدّين مُحَمَّد بن أبي حَامِد بن الْمُهَذّب المعري نَاظر بَيت المَال بحلب فَجْأَة وبيتهم بالمعرة بَيت كَبِير خرج مِنْهُم فضلاء وقراء وعلماء ومؤرخون وشعراء، وَكَانَ جدهم الْمُهَذّب بن مُحَمَّد بَدَلا من الأبدال فِيمَا يذكر.
وفيهَا: ولى بحلب بعد سودى الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا الصَّالِحِي الْحَاجِب، فانتفعت بِهِ حلب وبلادها، وَعمر جَامعه بالميدان الْأسود، وَنقل إِلَيْهِ أعمدة عَظِيمَة من قورس، وعمرت بِسَبَب هَذَا الْجَامِع أَمَاكِن كَثِيرَة حوله.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بِمصْر شيخ الْحَنَفِيَّة رشيد الدّين إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان بن الْمعلم وَقد كَانَ عرض عَلَيْهِ قَضَاء دمشق فَامْتنعَ. قلت:
(أَقْسَمت بِاللَّه لقد كَانَ فِي ... ترك الرشيد الحكم رَأس سديد)
(ففاز من حجر عَظِيم وَهل ... يرضى بِضَرْب الْحجر وَهُوَ الرشيد)
وفيهَا: قدم سُلْطَان جيلان شمس الدّين دوباح ليحج فَمَاتَ بقباقب من نَاحيَة تدمر وَنقل فَدفن بقاسيون، وعملت لَهُ تربة حَسَنَة وعاش أَرْبعا وَخمسين سنة، وَهُوَ الَّذِي رمى خطلو شاهبسهم فَقتله وَانْهَزَمَ التتر وَهلك خطلو شاه على كفره وَهُوَ مقدم الْعَدو فِي ملحمة شقحب.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا سَار ملك الْأُمَرَاء سيف الدّين تنكز بِجَيْش دمشق وتقدمه سِتَّة آلَاف من عَسْكَر مصر إِلَى حلب ثمَّ سَار من حلب لغزو ملطية فصبحوها يَوْم الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم وَإِذا أهل ملطية قد تهيؤا للحصار وَالدَّفْع(2/254)
عَن أنفسهم فَلَمَّا عاينوا كَثْرَة الجيوش المحمدية خرج القَاضِي والوالي فِي جمَاعَة يطْلبُونَ الْأمان على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَأَمنَهُمْ ملك الْأُمَرَاء دون النَّصَارَى.
ثمَّ دخل الْعَسْكَر ملطية، وَقتلُوا بهَا خلقا من النَّصَارَى، وَسبوا ونهبوا، وتعدى الْأَذَى من أوباش الْجَيْش إِلَى الْمُسلمين، ثمَّ إلقيت فِيهَا النَّار وَخرب من سورها، ثمَّ سَارُوا بعد ثَلَاث بالغنائم، وَقَطعُوا الدربند، وَضربت البشائر وزينت الْبِلَاد.
وفيهَا: فِي الْمحرم مَاتَ بالموصل عَالم تِلْكَ الأَرْض السَّيِّد ركن الدّين حسن بن مُحَمَّد بن شرفشاه الْحُسَيْنِي الإستراباذي صَاحب التصانيف وَكَانَ ابْن سبعين سنة.
وفيهَا: فِي شعْبَان سَار شطر جَيش حلب لحصار قلعة عرقينة من أَعمال آمد فتسلموها بالأمان بِلَا كلفة، وَقتلُوا بهَا طَائِفَة، وسلخ أَخُو مندوه وعلق على القلعة وأغار الْعَسْكَر على قوى الأرمن والأكراد وَرَجَعُوا سَالِمين بالمكاسب.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وَكنت مُقيما بِدِمَشْق توفّي فَجْأَة قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ وَله ثَمَان وَثَمَانُونَ سنة، وَكَانَ مُسْند الشَّام فِي وقته، حسن الْوَجْه مَحْبُوب الشكل طيب الأَصْل رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي سادس جمادي الْآخِرَة توفّي بهاء الدّين عبد السَّيِّد كَانَ ديان الْيَهُود بِدِمَشْق فَأسلم هُوَ وَأَوْلَاده وَحسن إِسْلَامه.
قلت:
(وَعمر إِسْلَامه بَيته ... وَخرب أَبْيَات أخصامه)
(وأحزن ذَلِك حزانهم ... وأفرح مُوسَى باسلامه)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا تكملت تَفْرِقَة المثالات بالإقطاعات بعد الروك وأبطل السُّلْطَان بعض المكوس بالديار المصرية.
وفيهَا: فِي ثَانِي عشر الْمحرم توفّي الشَّيْخ نَاصِر الدّين أَبُو بكر الْمَعْرُوف بِابْن السلار فَاضل شَاعِر حسن الْعبارَة من بَيت إِمَارَة.
وفيهَا: فِي سادس عشر صفر قرئَ تَقْلِيد الإِمَام الزَّاهِد قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم بِقَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق بعد وَفَاة القَاضِي تَقِيّ الدّين بِنصْف شهر واستناب شرف الدّين بن الْحَافِظ الْمَقْدِسِي.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم الْأَمِير فضل بن عِيسَى أَخُو مهنا إِلَى دمشق وَمَعَهُ مرسوم ان يكون عوضا عَن أَخِيه مهنا فِي إمرة الْعَرَب بِسَبَب دُخُول مهنا مَعَ قرا سنقر إِلَى بِلَاد التتر.
وفيهَا: فِي آخر ربيع الآخر بَاشر قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين بن صصري مشيخة الشُّيُوخ بِدِمَشْق عِنْد الصُّوفِيَّة بالسميساطية اخْتَارَهُ الصُّوفِيَّة وسألوا تَوليته عَلَيْهِم.(2/255)
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي الشَّيْخ الإِمَام محب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن تَقِيّ الدّين أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن مجد الدّين عَليّ بن وهب الْمَعْرُوف بِابْن دَقِيق الْعِيد بِالْقَاهِرَةِ، وَدفن عِنْد وَالِده بالقرافة وَهُوَ زوج ابْنه الإِمَام الْحَاكِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفيت وَالِدَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية، وَهِي سِتّ النعم بنت عَبدُوس الحرانية، ولدت تِسْعَة بَنِينَ وَلم ترزق بِنْتا وَكَانَت صَالِحَة خيرة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصل بكتمر الْحَاجِب منعماً عَلَيْهِ بعد السجْن وَتوجه إِلَى نِيَابَة صفد وَنقل قَاضِي صفد حسام الدّين القرمي إِلَى قَضَاء طرابلس وَتَوَلَّى قَضَاء صفد شرف الدّين بن جلال الدّين النهاوندي.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصلت الْأَخْبَار " بِمَوْت خربنده " واسْمه خربنده مُحَمَّد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، ملك الْعرَاق وخراسان وعراق الْعَجم وَالروم وأذربيجان والبلاد الأراثية وديار بكر، وَجَاوَزَ الثَّلَاثِينَ من الْعُمر، وَكَانَ مغرى بالهو وَالْكَرم والعمارة، أَقَامَ سنة فِي أول ملكه سنياً ثمَّ ترفض إِلَى أَن مَاتَ وَجَرت فتن فِي بِلَاده بِسَبَب ذَلِك وَدفن فِي مدينته الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَانِيَّة الغياثية.
وفيهَا: فِي ذِي الْعقْدَة أَيْضا توفّي بِدِمَشْق نجم الدّين بن البصيص الْمُقدم فِي الْكِتَابَة كتب النَّاس نَحْو خمسين سنة وَله شهر وأخلاق حميدة.
وفيهَا: وصلت الْأَخْبَار باستقرار أبي سعيد بن خربنده فِي مملكة وَالِده وعمره إِحْدَى عشرَة سنة ران أَرْبَاب دولتهم مصادرون مطلوبون بالأموال، وَأَن خربنده سم وَقتل جمَاعَة مِمَّن اتهمَ بذلك من الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَتَوَلَّى تَدْبِير الدولة والجيوش الْأَمِير جوبان، وَاسْتمرّ فِي الوزارة عَليّ شاه التبريزي وَوصل الْخَبَر فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور أَن الْأَمِير حميضة بن أبي نمى الحسني الْمَكِّيّ كَانَ قد لحق بخربنده وَأقَام فِي بِلَاده أشهراً وَطلب مِنْهُ جَيْشًا يَغْزُو بهم مَكَّة وساعده جمَاعَة من الرافضة على ذَلِك فجهزوا لَهُ جَيْشًا من خُرَاسَان واهتموا بذلك فَقدر الله موت خربنده وَبَطل ذَلِك وَفَرح الْمُسلمُونَ بِمَوْتِهِ وبإهانة ... فِي بِلَاده، وعادت الْخطب يذكر الشَّيْخَيْنِ ... فَلَقَد كَانَ أهل السّنة بِهِ فِي غم شَدِيد، وَجَرت فتن وحروب بِسَبَب ذَلِك بأصفهان وبغداد وإربل وَغَيرهَا.
ثمَّ أَن مُحَمَّد بن عِيسَى أَخا مهنا وَقع على حميضة فقهره وَأخذ مَا مَعَه من الْأَمْوَال والأغنام وَغَيرهَا، ودشر حميضة وَمن كَانَ مَعَه من أَعْيَان دولة التتر وَكَانَ مُحَمَّد بن عِيسَى بِبِلَاد التتر خَارِجا عَن طَاعَة السُّلْطَان فابيض وَجهه بِهَذِهِ الْوَاقِعَة وَحضر فَأكْرمه السُّلْطَان.
وفيهَا: فِي أواخرها توفّي شَيخنَا صدر الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين عُثْمَان وَكيل بَيت المَال العثماني بِالْقَاهِرَةِ شيخ الْفُنُون والعلوم وبحر المنثور والمنظوم كَانَ حسن الشكل وافر الْفضل وَمَعَ فضائله التَّامَّة قَرِيبا إِلَى الْعَامَّة، إِن تكلم فِي الْفِقْه فبحر زاخر أَو فِي الطِّبّ فطبيب ماهر أَو فِي النَّحْو أَحْيَا سِيبَوَيْهٍ، أَو فِي الحَدِيث فالمعول عَلَيْهِ أَو فِي الْأُصُول فَهُوَ(2/256)
الإِمَام أَو فِي الْأَدَب فالحارث بن همام، أَو فِي الْجد أسَال المدامع أَو الْهزْل أذهل السَّامع حفظ المقامات فِي مُدَّة قَصِيرَة وديوان المتنبي فِي أَيَّام يسيرَة، وحرص على الْعلم وتعب وخلط جدا بلعب، ثمَّ هجر الأوطان واتصل بالسلطان وأكب فِي آخر عمره على تَحْقِيق الْعُلُوم وَتَعْلِيمهَا والأعمال بخواتيمهما، وَله موشحات مأثورة وأشعار مَشْهُورَة.
مِنْهَا:
(أَعنِي على مَا دهاني أَعنِي ... فَإِنِّي بليت بِظَبْيٍ أغن)
(جنى إِذْ جنيت جنا وجنتيه ... فباللحظ يجني وباللحظ أجني)
(إِذا قلت ثغرك صن باللثام ... يَقُول سيحميه صارم جفني)
(وَإِن قلت قد عَاد سيف الجفون ... كليلاً يَقُول عِذَارَيْ مني)
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ الختني الشَّافِعِي الْمُحدث الصَّالح، كَانَ كثير الِاشْتِغَال والفضيلة رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر شرع فِي عمَارَة جَامع ظَاهر دمشق خَارج بَاب النَّصْر قبالة حكر السماق بمرسوم السُّلْطَان وَحضر الْقُضَاة لتحرير قبلته.
وفيهَا: فِي صفر كَانَ سيل ببعلبك خرب سور الْبَلَد وحائط الْجَامِع وَذَلِكَ مَعَ رعد عَظِيم، وَخرب فَوق ثلث الْبَلَد وَعدم تَحت الرَّدْم خلق كثير وَعظم النّدب والعويل فِي أقطار الْبَلَد وَمن لطف الله تَعَالَى مَجِيئه نَهَارا، وَوجد الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ عَليّ الحريري غريقاً فِي الْجَامِع مَعَ خلق وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما وَلَقَد أخبر الثقاة أَنه نزل من السَّمَاء عَمُود عَظِيم من نَار أَوَائِل السَّيْل ورؤي من الدُّخان وَسمع من الصرخان فِي الأكوان أَمر عَظِيم كَاد يشق الْقُلُوب.
قلت:
(سيل طَغى فِي بعلبك وراعد ... ولهيب نَار ثار للتعذيب)
(فلئن تركب ثمَّ مازج سورها ... فلبعلبك المزج فِي التَّرْكِيب)
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْفَقِيه الْمقري شهَاب الدّين أَحْمد الرُّومِي أَمَام الْحَنَفِيَّة بِجَامِع دمشق بنى على الشّرف زَاوِيَة حَسَنَة نزهة، وَكَانَ فِيهِ حسن تلقي وأعانة للضعيف.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة خلص بهادر من سجن الكرك وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة مكرماً ففرح النَّاس بِهِ فَإِنَّهُ كثير الصَّدقَات وافر الْعقل.
وَفِيه: توفّي بدر الدّين أَبُو الْقَاسِم أَخُو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية، وَكَانَ فَقِيها سَاكِنا قَلِيل الشَّرّ رَحمَه الله تَعَالَى.
وَفِيه: توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق جمال الدّين أَبُو عبد الله الزواوي الْمَالِكِي.
وفيهَا: أبطلت الْخُمُور وَالْفَوَاحِش بالسواحل وأبطلت مكوس كَثِيرَة ففرح الْمُسلمُونَ بذلك وتوفرت الْأَدْعِيَة للسُّلْطَان أعز الله نَصره.(2/257)
وفيهَا: رسم السُّلْطَان أَن يعمر بِبِلَاد النصيرية فِي كل قَرْيَة مَسْجِدا ويمنعوا من الْخطاب.
وفيهَا: اجْتمع إِلَى ماردين قفل كَبِير تجار وجفال من الغلا وقصدوا الشَّام فَلَمَّا وصلوا إِلَى خَان التَّاجِر أدركتهم فرقة من التتر من أُمَرَاء سوتاي النَّائِب بديار بكر إِلَى حُدُود الْعرَاق وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِم بحجج وصاروا كلما أَمْسكُوا مِنْهُم جمَاعَة أبعدوا بهم وقتلوهم فَأكْثر الْبَاقُونَ الصُّرَاخ فَمَال التتر عَلَيْهِم بالنشاب حَتَّى قتلوا الْجَمِيع وَبَقِي من أَوْلَاد الجفال نَحْو سبعين صَبيا فَقَالُوا: من يقتل هَؤُلَاءِ منا فَقَتلهُمْ تترى وَأَعْطوهُ عَن كل صبي دِينَارا وَبلغ الْقَتْلَى تِسْعمائَة رجال وَنسَاء وصبيان وتألم النَّاس لذَلِك، ثمَّ أَن سوتاي أمسك من الحرامية وحبسهم وأوصل بعض المَال إِلَى مستحقيه بعد غَرَامَة مَا بَين النّصْف إِلَى الثُّلُث.
وفيهَا: خرج جمَاعَة من النصيرية عَن الطَّاعَة وَأَقَامُوا شخصا زَعَمُوا أَنه الْمهْدي وقاتلوا الْمُسلمين وَادعوا أَنهم كفرة فكسرهم عَسْكَر الْمُسلمين وَقتل مقدمهم وخلقاً مِنْهُم ومزقهم الله كل ممزق فَللَّه الْحَمد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا كَانَ بديار بكر والموصل وإربل وماردين والجزيرة وميافارقين غلاء وجلاء حَتَّى بِيعَتْ الْأَوْلَاد وأكلت الْميتَة، وَكَانَ الشَّخْص إِذا امْتنع من شِرَاء أَوْلَاد الْمُسلمين تجْعَل الْمَرْأَة نَفسهَا نَصْرَانِيَّة ليرغب فِي الشِّرَاء نسْأَل الله الْعَافِيَة ونعوذ بِاللَّه من الْجُوع فَإِنَّهُ بئس الضجيع ونزح من إربل جمَاعَة إِلَى جِهَة مراغة فأهلكهم الثَّلج فِي الطَّرِيق وَكَانَ سَبَب الغلاء جَرَادًا وَعدم الْمَطَر سنتَيْن وجور التتر لمَوْت خربنده وَتغَير الدول والغارات، فسبحان الفعال لما يُرِيد.
وفيهَا: فِي صفر وصل كريم الدّين إِلَى دمشق وَأمر بِبِنَاء جَامع بالقبيبات وَتوجه إِلَى الْقُدس وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَشرع فِي بِنَاء الْجَامِع.
فِيهِ: ثارت ريح عَاصِفَة من جِهَة الْبَحْر على بيُوت التركمان عِنْد قَرْيَة المعيصرة من الجون من عمر طرابلس فتكونت عموداً أغبر صُورَة تنين مُتَّصِل بالسحاب فَمَا تركت شَيْئا من الْبيُوت والأثاث وأهلكت جمَاعَة وخطفت جملين وَارْتَفَعت بهما فِي الجو مِقْدَار عشرَة أرماح وطوت الرّيح قدور النّحاس والصاجات وَصَارَت قطعا، وَكَانَ إِلَى جانبهم عرب فخطفت لَهُم أَرْبَعَة أجمال إِلَى الجو فتقطعت الْجمال قطعا، وأهلكت دَوَاب كَثِيرَة، وَوَقع بعْدهَا مطر برد كبار الْبردَة ثَلَاث أَوَاقٍ ودونها كأشطاف الْحِجَارَة مِنْهَا مثلث ومربع وَأصَاب ذَلِك أَرْبعا وَعشْرين قَوِيَّة، وَكتب بذلك محْضر وَثَبت عِنْد قَاضِي طرابلس فنسأل الله الْعَافِيَة.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة الْعَالم بَقِيَّة السّلف مُحَمَّد بن أبي بكر بن قوام البالسي بزاويته بالصالحية.
قلت: وَمن الله عَليّ بزيارته حَيا ثمَّ بعد وَفَاته أَخْبرنِي الشَّيْخ الْمقري الصَّالح مُحَمَّد بن شامة السَّاكِن بِالْبَابِ قَالَ: صَحِبت الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور من دمشق قَاصِدين بَاب(2/258)
بزاعا فَلَمَّا كُنَّا تَحت جبل لبنان وَقد انقطعنا عَن الرّفْقَة قَلِيلا قلت للشَّيْخ: يَا سَيِّدي يَقُولُونَ إِن فِي هَذَا الْجَبَل أَوْلِيَاء لله تَعَالَى؟ فَقَالَ: نعم فَقلت يَا سَيِّدي لَو أريتني مِنْهُم أحدا؟ وَإِذا رجل فِي الْهَوَاء أسمع صَوته وَلَا أرى شخصه يَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا شيخ مُحَمَّد فَرد الشَّيْخ عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ نظر إِلَيّ وَقَالَ: سَمِعت فَقلت: نعم ثمَّ سَأَلته عَن شكله؟ فَقَالَ: قد خطّ عذاره وَأَخْبرنِي غير وَاحِد من أهل الْبَاب مِمَّن أصدقه أَن الشَّيْخ لما قدم إِلَى الْبَاب وَدخل على الْجَبانَة قَالَ لمن مَعَه هَذَا رجل قد قَامَ إِلَيّ من قَبره وَعَلِيهِ جُبَّة صوف وَله سِتّ أَصَابِع على كل كف فَسَأَلته الْجَمَاعَة أَن يُرِيهم قَبره فَمَال بهم إِلَى قبر وَقَالَ: هَذَا ففحصوا عَن صَاحب الْقَبْر فَإِذا هُوَ كَمَا وصف، وَأخْبر من رَآهُ حَيا أَنه كَانَ لَهُ سِتّ أَصَابِع على كل كف.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ورد مرسوم السُّلْطَان بِمَنْع الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية من الْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة الْحلف بِالطَّلَاق وَعقد لذَلِك مجْلِس وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَد.
قلت: وَبعد هَذَا الْمَنْع والنداء أحضر إِلَيّ رجل فَتْوَى من مضمونها إِنَّه إِذا طلق الرجل امْرَأَته ثَلَاثًا جملَة بِكَلِمَة أَو بِكَلِمَات فِي طهر أَو أطهار قبل أَن يرتجعها أَو تقضي الْعدة فَهَذَا فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء أظهرهمَا أَنه لَا يلْزمه إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة وَلَو طَلقهَا الطَّلقَة بعد أَن يرجعها أَو يَتَزَوَّجهَا بِعقد جَدِيد وَكَانَ الطَّلَاق مُبَاحا فَإِنَّهُ يلْزمه، وَكَذَلِكَ الطَّلقَة الثَّالِثَة إِذا كَانَت بعد رَجْعَة أَو عقد جَدِيد وَهِي مُبَاحَة فَأَنَّهَا تلْزمهُ وَلَا تحل لَهُ بعد ذَلِك إِلَّا بِنِكَاح شَرْعِي لَا بِنِكَاح تَحْلِيل وَالله أعلم. وَقد كتب الشَّيْخ بِخَطِّهِ تَحت ذَلِك مَا صورته: هَذَا مَنْقُول من كَلَامي، كتبه أَحْمد بن تَيْمِية، وَله فِي الطَّلَاق رخص غير هَذِه أَيْضا لَا يلْتَفت الْعلمَاء إِلَيْهَا وَلَا يعرجون عَلَيْهَا.
وفيهَا: قتل رشيد الدولة طَبِيب خربنده اتهمه جوبان بِأَنَّهُ غش خربنده فِي المداواة وَقطع رَأسه إِلَى تبريز وأحرقت جثته واستأصلوا أملاكه وأمواله وجواهره، وَاخْتلف فِي طويته فَقَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين الأفضلي التريزي: قتل الرشيد أعظم من قتل مائَة ألف من النَّصَارَى، وَقَالَ قَاضِي الرحبة رَأَيْت مِنْهُ شَفَقَة على أهل الرحبة: وسعياً فِي حقن دِمَائِهِمْ يَعْنِي أَيَّام حصارها وَإِنَّمَا كَانَ يتبع أعداءه صالحين كَانُوا أَو فسقة.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد بَقِيَّة السّلف أَبُو الْوَلِيد إِمَام الْمَالِكِيَّة، وَفِي آخر الشَّهْر ورد الْخَبَر أَنه كَانَ بِظَاهِر حمص سيل خرب حَائِط الميدان وَبَعض خَان السَّبِيل.
وفيهَا: فِي شعْبَان شرع فِي بِنَاء الْجَامِع ظَاهر بَاب الشَّرْقِي أَمر بعمارته الصاحب شمس الدّين غبريال نَاظر دمشق.
وَفِيه: أُقِيمَت الْجُمُعَة بالجامع الَّذِي أَمر نَائِب الشَّام ببنائه خَارج بَاب النَّصْر وخطب فِيهِ الشَّيْخ كريم الدّين الفجقيري.
وَفِيه: أَيْضا كمل بِنَاء الْجَامِع بالقبيات، وخطب فِيهِ الشَّيْخ شمس الدّين بن الرزين.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ مجد الدّين التّونسِيّ الأصولي الْمقري النَّحْوِيّ بِدِمَشْق.(2/259)
وفيهَا: نهي المنجمون بِدِمَشْق أَن يكتبوا على التقاويم النجومية أحاكماً.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة فِيهَا فِي صفر استسقى بِالنَّاسِ وخطبهم القَاضِي الصَّالح صدر الدّين سُلَيْمَان الْجَعْفَرِي وَخرج النَّائِب والأمراء والعالم خاضعين وتبركوا بِهِ فسقوا ثَانِي يَوْم.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة نصر المنبجي بالحسينية، وَكَانَت لَهُ عبادات كَثِيرَة وَصَلَاة ذكر وَحج ومجاورة وأوقات مُعينَة نَحْو نصف السّنة لَا يجْتَمع فِيهَا بِأحد، وَكَانَ لَا يخرج من زاويته إِلَّا لصَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة، وَسمع الحَدِيث وَقَرَأَ الْقُرْآن بالروايات وتفقه وقصده الْعلمَاء والوزراء والأمراء رَحمَه الله.
وفيهَا: فِي رَجَب اخْتلف التتر وَقتل مِنْهُم نَحْو ثَلَاثِينَ ألفا وَأكْثر حَتَّى كَاد يَزُول ملكهم واستحالوا على مقدم جيوشهم جوبان نَائِب السلطنة لأبي سعيد وكرهوا نيابته.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا ركب الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماه بشعار السُّلْطَان على حماه وبلادها وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً.
وفيهَا: فِي ثَالِث الْمحرم توفيت والدتي رَحمهَا الله تَعَالَى وَكَانَت من الصَّالِحَات، جدها ولي الله الشَّيْخ نصير من رجال شط الْفُرَات وينتسب إِلَى أويس الْقَرنِي رَضِي الله عَنهُ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر عقد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر على بنت الْملك الَّتِي حملت إِلَيْهِ من بِلَاد القفجاق، وفيهَا عانت عَسَاكِر الْمُسلمين فِي بِلَاد سيس سَبْعَة عشر يَوْمًا، وَقَطعُوا الْأَشْجَار وحرقوا وغرق من عَسْكَر الشَّام فِي نهر جهان نَحْو ألف فَارس.
وفيهَا: نفي فحليس الْعَرَب مهنا وَأَوْلَاده وَمن مَعَهم من الشَّام، وَمنعُوا الْميرَة.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر بن حرز الله الإربدي، وَوَقع عقب الْجِنَازَة مطر كثير فِي وسط حزيران.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة قتل الْأَمِير عز الدّين حميضة بن الْأَمِير الشريف أبي نمى صَاحب مَكَّة، وَكَانَ قد خرج عَن طَاعَة السُّلْطَان، وَولى السُّلْطَان بِمَكَّة أَخَاهُ سيف الدّين عطيفة.
وفيهَا: توجه قرطاي نَائِب طرابلس وعسكر من مصر إِلَى بِلَاد الأرمن وَكَانُوا فَوق عشْرين ألفا وغرق جمَاعَة بجهان وَأَرْبَعَة أُمَرَاء وحاصروا سيس وأحرقوا دَار الْملك وَقَطعُوا الْأَشْجَار وعاثوا بِالْمصِّيصَةِ وخربوا أسوار أدنة، وعاثوا بطرسوس وأخرقوا الزروع وَرَجَعُوا فَلم يعْدم مِنْهُم بجهان سوى شخص وَاحِد، وَعند جهان بَلغهُمْ موت صَاحب سيس وَهُوَ الَّذِي تملك بعد وَالِده الَّذِي حضر إِلَى دمشق سنة قازان ووصلوا حلب وَسَاقُوا خلف مهنا وَأَوْلَاده وَأَتْبَاعه وأمرائه وعدتهم اثْنَان وَسَبْعُونَ أَمِيرا ووصلوا إِلَى عانة والحديثة وعادوا،(2/260)
وَبعد ذَلِك دخل الحلبيون إِلَى بلد الأرمن مَرَّات وغنموا، وَفِي الْمرة الرَّابِعَة كمن لَهُم الفرنج والأرمن وَخَرجُوا عَلَيْهِم فَقتلُوا من الْمُسلمين وأسروا.
وفيهَا: وصل كتاب إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ إِلَى دمشق بغزوة عَظِيمَة وَقعت فِي الْمغرب فِي الْعَام الْمَاضِي وَذَلِكَ أَن جَيْشًا من الرّوم يعسر إحصاؤه وَيبعد استقصاؤه حشد عَلَيْهِم وَأَقْبل إِلَيْهِم، وناهيك من جَيش اشْتَمَل على خَمْسَة وَعشْرين سُلْطَانا ووصلوا إِلَى غرناطة قَرِيبا من جبل البيرة فملأوا الْبَسِيط وَالله من ورائهم مُحِيط، وَلما استقروا هُنَاكَ أَيقَن الْمُسلمُونَ بِالْهَلَاكِ، ثمَّ أغارت سَرِيَّة من الْجَيْش على ضَيْعَة فَخرج إِلَيْهِم جملَة من فرسَان الأندلس الرُّمَاة ومنعوهم وتبعوهم اللَّيْل كُله فاستأصلوهم بِالْقَتْلِ والأسر، وَكَانَ ذَلِك أول النَّصْر، وَأصْبح النَّاس يَوْم الِاثْنَيْنِ الْمُبَارك على الْمُسلمين وعزموا على الْخُرُوج لأعداء الله يَوْم عيدهم وَكَانَ الرَّابِع وَالْعِشْرين من حزيران فَلَو علم وَزِير سلطانهم بذلك حذرهم غضب السُّلْطَان عَلَيْهِم بالتشعيث عَلَيْهِ فِي عيده فَنزل الْمُسلمُونَ عَن خيلهم متضرعين إِلَى الله عالية أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ والضجيج.
وَعند ذَلِك ركب الرّوم جمعا ومالوا على الْمُسلمين مَيْلَة شنعاء فَمَا رَاع الْمُسلمين بِحَمْد الله حَالهم {وَإِذ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب} فَلَمَّا رأى أَعدَاء الله الْمُسلمين قد ثبتوا توقفوا وبهتوا وَخرج من الْفَرِيقَيْنِ فرسَان ثمَّ مَال الْمُسلمُونَ على أَعدَاء الله يقتلُون فيهم كَيفَ شاؤا من السَّاعَة السَّابِعَة إِلَى الْغُرُوب، وَفِي اللَّيْل ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض وهرب بَعضهم من بعض وَغَابَ الْمُسلمُونَ فِي تقتيلهم ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ داموا شهرا ينتهبونهم بِالْقَتْلِ والأسر، وَخرج أهل غرناطة إِلَيْهِم فغنموا مَا لَا يُحْصى وأسروا الجم الْغَفِير من رجال وَنسَاء وَأَوْلَاد وَبَقِي الْمُسلمُونَ يجيؤن مَوَاضِع الْجَيْش نَحوا من عشرَة أَيَّام ويحمدون الله على هَذَا النَّصْر الَّذِي مَا طمعوا بِبَعْضِه وحزر الحذاق عدَّة الْقَتْلَى بِخَمْسِينَ ألفا أَو سِتِّينَ ألفا، ووقعوا فِي وَاد فَقتل مِنْهُم مثل ذَلِك ومزقوا كل ممزق، وَوجد الْمُلُوك الْخَمْسَة وَالْعشْرُونَ وَمِنْهُم الْملك الْكَبِير مقتولين بالمحلة فلعب النَّاس بجيفهم وعلقوا على بَاب غرناطة، وَكَانَ قوت الأسرى الَّذين أَسرُّوا مِنْهُم كل يَوْم بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، وَزعم النَّاس أَن الْفَيْء من الذَّهَب وَالْفِضَّة كَانَ سبعين قِنْطَارًا، وَأما الدَّوَابّ وَالْعدَد فشيء لَا يُوصف، وَبَقِي البيع فِي الْأُسَارَى وَالدَّوَاب سِتَّة أشهر ومل النَّاس من طول البيع وَجُمْلَة فرسَان الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم أَلفَانِ وَخَمْسمِائة فَارس لم يستشهد مِنْهُم سوى أحد عشر رجلا فَلَا يجزع جَيش من قلَّة وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله.
وفيهَا: وَقع بالديار المصرية مرض كثير قل أَن سلمت مِنْهُ دَار وغلت الْأَدْوِيَة وَكَانَ الْمَوْت قَلِيلا.
وفيهَا: فِي رَجَب عقد لِابْنِ تَيْمِية بِدِمَشْق مجْلِس بدار السَّعَادَة وعاتبوه بِمَسْأَلَة الطَّلَاق وحبسوه بالقلعة.(2/261)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الشَّيْخ الأديب شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سِبَاع الصَّائِغ، كَانَ فَاضلا يقرى الْأَدَب فِي دكانة، شرح الدريدية جيدا وَشرح ملحمة الْإِعْرَاب وقصيدة ابْن الْحَاجِب فِي الْعرُوض، وَله قصيدة تائية ألفا بَيت ذكر فِيهَا الْعُلُوم والصنائع.
وَمَا أحسن قَوْله:
(يَا ذَا الَّذِي لولاه مَا حركت ... يَد الْهوى من باطني سَاكِنا)
(رفقا بقلب لم يزل خافقاً ... وَأَنت مَا زلت بِهِ سَاكِنا)
وفيهَا: أمسك علم الدّين الجاولي بغزة وَحمل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ قد تهَيَّأ لِلْحَجِّ وهيأ طَعَاما كثيرا وَغَيره.
وَفِيه: أريقت الْخُمُور فِي خَنْدَق قلعة الْمَدِينَة السُّلْطَانِيَّة وأحرقت الظروف وَذَلِكَ أَنه وَقع ثمَّ برد كبار وزن الْبردَة ثَمَانِيَة عشرَة درهما مواشي وأعقبه سيل مخوف فَسَأَلَ أَبُو سعيد الْفُقَهَاء عَن سَببه فَقَالُوا من الظُّلم وَالْفَوَاحِش فَأبْطل الحانات فِي مَمْلَكَته وأبطل مسك الْغلَّة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين عمر بن العديم وَدفن بالْمقَام، وَنقل ابْنه قَاضِي الْقُضَاة نَاصِر الدّين مُحَمَّد من قَضَاء حماه إِلَى حلب عوضا عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا أهْدى أَبُو سعيد إِلَى السُّلْطَان صناديق ودقيقاً وجمالاً وتحفاً.
وفيهَا: أخرج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية من القلعة بعد الْعَصْر بمرسوم السُّلْطَان وَمُدَّة إِقَامَته فِي القلعة خَمْسَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا.
وفيهَا: فِي شهر ربيع الآخر حفر السُّلْطَان حفيراً قرب بَحر النّيل، وَكَانَ جواره كَنِيسَة فَأَرَادَ هدمها فَلَمَّا شرعوا فِي هدمها قَامَ الصَّوْت فِي الْقَاهِرَة ومصر بهدم الْكَنَائِس فَلم يبْق بِمصْر والقاهرة كَنِيسَة حَتَّى حاصروها، مِنْهَا مَا هدم، وَمِنْهَا مَا نهب وَمِنْهَا مَا لم يصلوا إِلَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان، واستفتى الْقُضَاة فأفتوه بتعزيزهم فَأخذ جمَاعَة من الْحَبْس فشنق وَقطع أيديا وخزم حَتَّى سكنوا، واختفى النَّصَارَى أَيَّامًا، وَجرى ذَلِك فِي الفيوم وأحرقوا الْأَمْوَات المدفونين فِي كنائسها.
وَفِيه: أمسك سيف الدّين جوبان أحد أُمَرَاء دمشق وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة لسوء مُرَاجعَته للنائب وَعُوتِبَ بِالْقَاهِرَةِ وَأعْطِي خَبرا يَلِيق بِهِ.
وَفِيه: وَقع بِالْقَاهِرَةِ حريق عَظِيم أتلف أملاكاً وأتعب النَّاس حَتَّى أطفئ ثمَّ فِي الْغَد وَقع حريق أعظم مِنْهُ فِي وضع آخر وَقرب من دَار كريم الدّين فَنزل الْأُمَرَاء والنائب من القلعة خوفًا على دَار كريم الدّين لكَونهَا خزانَة الْمُسلمين وأحرقوا بهَا حَتَّى أطفئت وتوالى الْحَرِيق بِالْقَاهِرَةِ وتحير السُّلْطَان والرعية لَهُ، وتتبع ذَلِك فَقيل: أَنه وجد بعض النَّصَارَى وَمَعَهُ آلَة الْحَرِيق كالنفط وَغَيره، فَأخذُوا وعرضوا على السُّلْطَان فَذكر بَعضهم أَن القسيسين(2/262)
اتَّفقُوا على هَذَا بِسَبَب مَا حصل من التَّعَرُّض إِلَى كنائسهم وَأَنَّهُمْ رتبوا أَرْبَعِينَ نفسا من النَّصَارَى يلقون النَّار فِي بيُوت المسليمن ومساجدهم فَحرق بَعضهم.
ثمَّ أَن جمعا قصدُوا كريم الدّين وهجموا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ فهرب مِنْهُم فَأمْسك السُّلْطَان جمَاعَة من الْمُسلمين وَقطع أَيدي أَرْبَعَة وَقيد جمَاعَة، ثمَّ نُودي على النَّصَارَى أَن يخرجُوا بالثياب الزرق والعمائم الزرق وَأَن يَجْعَل الجرس فِي أَعْنَاقهم فِي الْحمام ويركبوا عرضا وَلَا يستخدموا فِي ديوَان، فَعِنْدَ ذَلِك خف الإحراق بعد أَن كَانَ أمرا عَظِيما، وَكم سقط بِهِ دَار وَكم خرج مِنْهُ حَرِيم مكشفات حَتَّى قنت النَّاس لَهُ فِي الصَّلَوَات، وَأَعدُّوا الدنان مملؤءة مَاء فِي الْأَسْوَاق فَالله يهْلك أَعدَاء الْإِسْلَام.
وَأخْبر ابْن الأيدمري أَن لَهُ ربعا وَقعت فِيهِ النَّار تسعا وَعشْرين مرّة، وَنسب ذَلِك إِلَى النَّصَارَى فَأمْسك مِنْهُم جمَاعَة فأقروا بذلك فَأحرق مِنْهُم خَمْسَة وَضرب عنق سادس وَأسلم مِنْهُم جمَاعَة، وَسَار كل نَصْرَانِيّ يظْهر بِالْقَاهِرَةِ يضْرب وَرُبمَا قتل والحريق لم يَنْقَطِع بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة أمسك نصرانيان من الْغُرَمَاء وصلباً وسمرا وطيف بهما على جملين بِالْقَاهِرَةِ ومصر.
قلت:
(عدمتكم نَصَارَى مصر كفوا ... فكم آذيتمونا من طَرِيق)
(حريق النَّار قد عجلتموه ... فأجلنا لكم نَار الْحَرِيق)
وفيهَا: فِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة ورد كتاب من بَغْدَاد مؤرخ بالحادي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، وَفِيه إِنَّه جرى بِبَغْدَاد شَيْء مَا جرى من زمَان الْخَلِيفَة إِلَى الْآن وَذَلِكَ أَنهم خربوا البازار من أَوله إِلَى آخِره وَمَا يعلم مَا غرموا عَلَيْهِ إِلَّا الله تَعَالَى مَا تركُوا بِالْبَلَدِ خاطئة إِلَّا توبوها وزوجوها وارقوا الشَّرَاب وَمنعُوا النَّاس من الْعصير وَنُودِيَ أَن من تخلف عِنْده شَيْء من الشَّرَاب حل مَاله وَدَمه للسُّلْطَان فطلع بعد ذَلِك عِنْد شخص جرة فَقَتَلُوهُ، وَعند آخر جرتان فَقطعُوا رَأسه وَعَلمُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى بالعلائم وَأسلم جمَاعَة، وَفِي كل يَوْم جُمُعَة يسلم جمع وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي تَاسِع عشْرين رَجَب خربَتْ الْكَنِيسَة الْمَعْرُوفَة بالقرايين من الْيَهُود بِدِمَشْق، واجتهد الْمُسلمُونَ فِي هدمها وَالْيَهُود فِي إبقائها، وَأثبت الْيَهُود عِنْد بعض الْقُضَاة أَنَّهَا قديمَة، وَأثبت الْمُسلمُونَ أَنَّهَا محدثة وتألم الْمُسلمُونَ فَأَعَانَ الله وَأذن بهدمها، وَكَانَ مبدؤها بَيْتا صَغِيرا فوسعت وَكَانَت فِي دَاخل درب الفواخير غَالب أهل الْيَهُود.
وفيهَا: فِي رَمَضَان أُقِيمَت الْجُمُعَة بالجامع الكريمي بالقابون، وحضرها الْقُضَاة الْأَرْبَعَة.
وفيهَا: أغار نَائِب الرّوم تمرتاش بن جوبان على بِلَاد سيس فخرب وَحرق وَنهب(2/263)
وَنقل من خطب بدر الدّين العزازي أَن كلبة ولدت بِالْقَاهِرَةِ فِي هَذِه السّنة ثَلَاثِينَ جرواً وَأَنَّهَا أحضرت بَين يَدي السُّلْطَان فَعجب مِنْهَا وَسَأَلَ المنجمين عَن ذَلِك فَلم يكن عِنْدهم علم من ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر جَاءَت الْبُشْرَى بِفَتْح آياس وَبعدهَا نصب المنجنيق على حصنها الأطلس الَّذِي فِي الْبَحْر فَلَمَّا رأى الأرمن ذَلِك نقلوا أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ فِي المراكب وعملت الأكلال وَمَشى النَّاس عَلَيْهَا، وَكَانَ طول الجسر الَّذِي عمل بالأكلال ثَلَاثمِائَة ذِرَاع وَكَانَت ثَلَاثَة أبرجة فِي الْبَحْر الأطلس والشمعة والآياس فَلَمَّا تعرضوا لسب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألْقى الله فِي قُلُوبهم الرعب وَهَزَمَهُمْ.
قلت:
(مَا ذكرُوا الْمُصْطَفى بِسوء ... إِلَّا وسيق البلا إِلَيْهِم)
(فحبه رَحْمَة علينا ... وسبه نقمة عَلَيْهِم)
وقاسى الْعَسْكَر فِي هدم الأبراج مشقة فَإِنَّهَا كَانَت مكلبة بحديد ورصاص وَعرض السُّور ذِرَاعا بالنجاري، ونقبت الأبراج من أَسْفَل وعلقت بالأخشاب وَأُلْقِي عَلَيْهَا الْحَطب وَحب الْقطن وَالزَّيْت وأحرقت فتساقطت جَمِيعهَا، ثمَّ نصب على جهان عشرَة مراكب وَعبر الْجند وَغَيرهم عَلَيْهَا فَقتلُوا من الأرمن طَائِفَة كَثِيرَة وأسروا جمَاعَة وأحضر من الْقَتْلَى نَحْو مِائَتي رَأس رموا عِنْد بَاب قلعة كبرا ثمَّ تَفَرَّقت الإغارات فِي بلد سيس وعادوا سَالِمين.
وفيهَا: فِي شعْبَان عقد عقد الْأَمِير أبي بكر بن أرغون النَّائِب على ابْنة السُّلْطَان، وختن يَوْمئِذٍ جمَاعَة من أَوْلَاد الْأُمَرَاء بِحُضُور السُّلْطَان وَمد سماطاً عَظِيما ونثر عَلَيْهِم مَال كثير.
وَفِيه: ورد كتاب من الْقَاهِرَة أَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر نَصره الله أبطل مكس الْمَأْكُول بِمَكَّة زَادهَا الله شرفاً، وَعوض عطيفة صَاحب مَكَّة بِثُلثي بلد دمامين من صَعِيد مصر.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي شمس الدّين مُحَمَّد المغربي وَهُوَ الَّذِي بنى بالصنمين خَانا للسبيل وَحصل للنَّاس بِهِ نفع عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَحْمد بن صصرى الشَّافِعِي التغلبي بِدِمَشْق فَجْأَة ببستانه بِالسَّهْمِ، كَانَ رَحمَه الله وجزاه عَنَّا خيرا سريع الْحِفْظ حُلْو اللَّفْظ عَليّ الهمة وافر النِّعْمَة يبْذل فِي إعزاز الشَّرْع نفائس مَاله، وَيُقَاتل عَن أَصْحَابه ويذب عَن عماله وَكَانَ بِدِمَشْق فِي زَمَانه من الْعلمَاء رُؤُوس، فَكَانَ يكاثر
بِسُرْعَة حفظه وذكائه ويشيد الدُّرُوس، وَلَقَد كَانَ يعم بإحسانه الْآفَاق حَتَّى قيل مَاتَ بِمَوْتِهِ مَكَارِم الْأَخْلَاق.
قلت:
(مَاتَ وَالله ابْن صصرى ... رحم الله ابْن صصرى)(2/264)
(مَاتَ جود وسخاء ... وَعَطَاء كَانَ غمراً)
(مَاتَ صدر الشَّام لَكِن ... لايهاب الْمَوْت صَدرا)
(كَانَ بالعافين برا ... وَلمن يرجوه بحراً)
وَفِيه: قتل الشَّيْخ الصَّالح النَّحْوِيّ ضِيَاء الدّين عبد الله الصُّوفِي تَحت القلعة ظَاهر الْقَاهِرَة وَذَلِكَ أَنه صعد إِلَى القلعة بِسيف مَشْهُور فَضرب بِهِ وَجه نَصْرَانِيّ بالقلعة فَدخل بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَظَنهُ جاسوساً فَضربت عُنُقه غَلطا رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي شهَاب الدّين أَحْمد بن قطينة الزرعي التَّاجِر الْمَشْهُور بلغت زَكَاة مَاله سنة قازان خَمْسَة وَعشْرين ألفا وَالله أعلم بِمَا تجدّد لَهُ بعد ذَلِك.
وَفِيه: تولى القَاضِي جمال الدّين إِبْرَاهِيم الْأَذْرَعِيّ قَضَاء دمشق عوضا عَن ابْن صصرى.
وَفِيه: ورد الْخَبَر بِالْقَبْضِ على كريم الدّين وَكيل السُّلْطَان والحوطة على أَمْوَاله وأملاكه، كَانَ قد بلغ من الترقي والسعادة وَالتَّصَرُّف فِي المملكة مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَبنى جَوَامِع وَله على النَّاس مَكَارِم.
ولعمري مَا أنصف فِيهِ الْقَائِل:
(اللّعب بالدينين يقبح بالفتى ... والرأي صدق الْقلب وَالتَّسْلِيم)
(هَذَا كريم الدّين لَوْلَا نَصره ... دين النَّصَارَى مَاتَ وَهُوَ كريم)
ثمَّ وصل الْخَبَر بِالْقَبْضِ على كريم الدّين الصَّغِير نَاظر الدَّوَاوِين وَأخذ أَمْوَاله فأظهرت الْعَامَّة السرُور بذلك ودعوا للسُّلْطَان.
وَفِيه: تولى أَمِين الْملك الوزارة بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ مُقيما بالقدس، فسر النَّاس بِهِ.
وفيهَا: فِي يَوْم الْجُمُعَة منتصف شهر رَمَضَان الْمُعظم توفّي وَالِدي بالمعرة وَحكى لي من حضر غسله أَنه رَحمَه الله لما أَجْلِس على المغتسل وَارْتَفَعت عَنهُ الْأَيْدِي جلس على المغتسل مُسْتقِلّا سَاعَة وفاحت رَائِحَة طيبَة ظَاهِرَة جدا فتواجد الْحَاضِرُونَ وَعَلَيْهِم الْبكاء، نسبته رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ من ولد عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْفَقِيه شرف الدّين مُحَمَّد بن سعد الدّين سعد الله فِي وَادي بني سَالم، وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة، وَصلى عَلَيْهِ بالروضة الشَّرِيفَة، وَدفن بِالبَقِيعِ شَرْقي قبَّة عقيل بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ فَقِيها صَالحا، تفقه على ابْن تَيْمِية وخدمه وَتوجه مَعَه إِلَى الديار المصرية.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي ربيع الأول مِنْهَا حمل كريم الدّين الَّذِي كَانَ وَكيل السُّلْطَان من الْقُدس إِلَى الديار المصرية فحبس وَأخذت بَقِيَّة أَمْوَاله وذخائره وَحمل إِلَى الصَّعِيد إِلَى قوص.(2/265)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر ورد مرسوم السُّلْطَان بِإِطْلَاق مكس الْغلَّة بالبلاد الشامية.
وَفِيه: عزل القَاضِي جمال الدّين إِبْرَاهِيم الْأَذْرَعِيّ عَن الحكم بِدِمَشْق، وَعرض على شَيخنَا برهَان الدّين بن الشَّيْخ تَاج الدّين الْفَزارِيّ فَامْتنعَ.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة بَاشر القَاضِي جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي الحكم بِدِمَشْق.
وَفِيه: رسم السُّلْطَان لِلْأُمَرَاءِ والأجناد بِحَفر خليج من رَأس الخور إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى سرياقوس بِسَبَب مَا أنشأه السُّلْطَان من الْبُسْتَان وَالْقصر بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور وَأنْفق عَلَيْهِ مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: فِي أول رَجَب قدم الْملك شرف الدّين مُوسَى بن أبي بكر ملك التكرور لِلْحَجِّ وصحبته أَكثر من عشرَة آلَاف تكروري، ومملكته متسعة، قيل سعتها ثَلَاث سِنِين، وَتَحْت يَده أَرْبَعَة عشر ملكا، وَحضر بَين يَدي السُّلْطَان لتقبيل يَده فَأمر بتقبيل الأَرْض فَامْتنعَ فأكره عَليّ ذَلِك وَلم يُمكن من الْجُلُوس وَبعث إِلَى السُّلْطَان نَحوا من أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَإِلَى النَّاس عشرَة آلَاف دِينَار، وَلما خرج من عِنْد السُّلْطَان قدم لَهُ حصان أَشهب وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية وهيأ لَهُ السُّلْطَان من الهجن والآلات لِلْحَجِّ أَشْيَاء كَثِيرَة، وَكَذَلِكَ نَائِب السلطنة وَأنزل بالقرافة الْكُبْرَى.
وفيهَا: فِي تَاسِع عشر شهر رَجَب توفّي قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الشَّافِعِي الخليلي قَاضِي حلب بهَا، وَدفن فِي الْمقَام وبنيت عَلَيْهِ بِمَالِه تربة بوقف أَمر بهَا السُّلْطَان لعدم الْوَارِث لَهُ.
كَانَ رَحمَه الله حسن السمت طَوِيل الصمت، عقله أَكثر من علمه، صافياً جاهه، مُسَددًا فِي حكمه، حج مرَارًا، ونظم فِي مدح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشعاراً، وَمَا أرق قَوْله:
(لَا تسْأَل يَا حبيب قلبِي ... مَا تمّ عَليّ فِي هواكا)
(الْعرض فقد صلوت عَنهُ ... وَالنَّفس جَعلتهَا فداكا)
وَقَوله دو بَيت:
(يَا عصر شَبَابِي المفدي أَرَأَيْت ... مَا أسْرع مَا بَعدت عني ونأيت)
(قد كنت مساعدي على كَيْت وَكَيْت ... وَالْيَوْم فَلَو أَبْصرت حَالي لبكيت)
سَأَلَهُ بعض الْجَمَاعَة عَن قَوْله: كَيْت وَكَيْت مَا هُوَ؟ فَقَالَ ضَاحِكا وَالله بالوالي مَا أقوله لَك، وَكَانَ ينشد من شعر وَالِده قَاضِي الْخَلِيل بَيْتَيْنِ بديعين هما:
(وعد الْغُصْن بِأَن يَحْكِي تثنيه فأخلف ... وَأَرَادَ الْبَدْر أَن يَحْكِي سناه فتكلف)
وَسُئِلَ رَحمَه الله عَن كرامات الْأَوْلِيَاء من خرق العوائد كالمشي فِي الْهَوَاء وَمَا أشبه ذَلِك أَحَق هِيَ؟(2/266)
فَأجَاب بِخَطِّهِ: كرامات الصَّالِحين حق أُؤْمِن بذلك من صميم قلبِي وأعتقده اعتقاداً جَازِمًا بِتَوْفِيق الله وهدايته وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأمة المكرمة سلفا وخلفاً، ومصنفات الْأَئِمَّة الْأَعْلَام الموثوق بنقلهم، المرجوع إِلَى قلولهم مشحونة بذلك، ودلائله من الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة النَّبَوِيَّة كَثِيرَة، وَمن لَهُ صُحْبَة مَعَ الْقَوْم يرى من عجائب أَحْوَالهم وغرائب أَقْوَالهم وأفعالهم بِحَسب استعداد مَا يثلج سويداء فُؤَاده.
وَلَقَد من الله عَليّ بِصُحْبَة بَعضهم فعاينت من الكرامات فِي أَقْوَاله وأفعاله شَيْئا كثيرا مَعَ فرط قصوري وبعدي عَن هَذَا الْمقَام، فيا خيبة مُنكر ذَلِك وَيَا بعده عَن أقصد المسالك، وأنى يرى ضوء الشَّمْس فَاقِد الْبَصَر أَو يُشَاهد الْأَعْشَى نور الْقَمَر فَمَا فِي صَلَاح مُنكر ذَلِك مطمع، فليصور نَفسه بَين يَدَيْهِ وليكبر عَلَيْهَا أَربع، كتبه عبد الله بن مُحَمَّد الشَّافِعِي.
وفيهَا: فِي شعْبَان وَفِي النّيل ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة عشر إصبعاً وغرقت الأقصاب والسواقي وانهدم من الْبَسَاتِين والدور كثير وَوصل كتاب الشَّيْخ أبي بكر الرحي أَن للديار المصرية مائَة وَثَلَاثِينَ سنة وَمَا بلغ النّيل الْحَد الَّذِي بلغ هَذِه السّنة وَأَنه ثَبت على الْبِلَاد ثَلَاثَة أشهر وَنصفا.
وَفِيه: استناب القَاضِي جلال الدّين الْقزْوِينِي فِي الحكم عِنْد بِدِمَشْق الْعَلامَة جمال الدّين يُوسُف بن جملَة وفخر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ.
وَفِيه: وصل الْبَرِيد إِلَى دمشق بتقليد كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن الزملكاني بِقَضَاء الْقُضَاة بحلب وأعمالها فَامْتنعَ وَسَأَلَ نَائِب السُّلْطَان الْمُرَاجَعَة فِي أمره فَأجَاب سُؤَاله فَعَاد الْجَواب بإمضاء الْولَايَة وامتثال مرسوم السُّلْطَان فتجهز إِلَى حلب مكرماً، وَوصل إِلَى حلب فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة، ثمَّ عمل درساً بِالْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّة الَّتِي تَحت القلعة فأجاد وَأفَاد بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ، ومدح يَوْمئِذٍ بمدائح، وعظمه الحلبيون وهابوه وأحبوه فِي أول أمره ثمَّ تغير ذَلِك.
قلت:
(طَالب الدُّنْيَا معنى ... باعوجاج واستقامة)
(أمرنَا فِيهَا عَجِيب ... نسْأَل الله السَّلامَة)
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الشَّيْخ شرف الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين أَحْمد بن المنجا الْحَنْبَلِيّ الْمَذْهَب الدِّمَشْقِي المنشأ المعري الأَصْل أفتى ودرس وَصَحب ابْن تَيْمِية زَمَانا وَأقَام بِمصْر لما حبس ابْن تَيْمِية وَعَاد مَعَه.
وَفِيه: وصل كريم الدّين الصَّغِير إِلَى دمشق على نظر الدَّوَاوِين عوضا عَن الصاحب شمس الدّين غبريال. وَفِيه: توفّي كريم الدّين هبة الله المتشرف بِالْإِسْلَامِ بأسوان وجد مشنوقاً بعمامته.(2/267)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصلت هَدَايَا عَظِيمَة وتحف إِلَى السُّلْطَان من ملك التتر.
وفيهَا: ناول جوبان نَائِب السلطنة عَن أبي سعيد الْأَمِير مُحَمَّد حُسَيْنًا قدحاً ليشربه فَلَمَّا صَار فِي يَده وجده خمرًا فَامْتنعَ من شربه، فَقَالَ جوبان: إِن لم تشربه تُؤدِّي ثَلَاثِينَ تومانا من الذَّهَب، فَقَالَ: أَنا أؤدي ذَلِك فرسم عَلَيْهِ بالمبلغ فَمضى إِلَى الْأَمِير يُلَبِّي وَهُوَ ذُو مَال طائل فعامله على ذَلِك بِرِبْح عشرَة تومانات وَكتب عَلَيْهِ حجَّة فَلَمَّا علم جوبان ذَلِك أحضر مُحَمَّدًا حُسَيْنًا وَقَالَ: تغرم أَرْبَعِينَ توماناً من الذَّهَب وَلَا تشرب قدح خمر قَالَ: نعم فأعجبه ذَلِك وخلع عَلَيْهِ ملبوسه جَمِيعه ومزق الْحجَّة وقربه.
قلت:
(فَازَ حُسَيْنًا بالثنا والهنا ... بصبره عَن قدح الْخمر)
(بلَى فَعُوفِيَ وَاتَّقَى فارتقى ... وَهَذِه عَاقِبَة الصَّبْر)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الشَّيْخ الإِمَام بَقِيَّة السّلف عَلَاء الدّين بن الْمُوفق إِبْرَاهِيم بن دَاوُد بن الْعَطَّار بدار الحَدِيث النورية بِدِمَشْق، تفقه على الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ وخدمه وَعرف بِصُحْبَتِهِ، ثمَّ أَنه مرض بالفالج حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وَقع بِالْقَاهِرَةِ مطر كثير قل أَن يَقع مثله، وَجَاء سيل إِلَى النّيل فَتغير وَزَاد أَربع أَصَابِع.
وَفِيه: وَقع الْغَرق بِبَغْدَاد ودام أَرْبَعَة أَيَّام وَزَاد الشط عَظِيما وغرق دائر الْبَلَد وَمنع النَّاس من الْخُرُوج من الْبَلَد وانحصروا وَلم يبْق حَاكم وَلَا قَاض وَلَا كَبِير وَلَا صَغِير إِلَّا نقل التُّرَاب وساعد فِي عمل السكور لمنع المَاء عَن الْبَلَد وَبقيت بَغْدَاد كلهَا جَزِيرَة فِي وسط المَاء وَدخل المَاء إِلَى الخَنْدَق وغرق كل شَيْء حول الْبَلَد وَخَربَتْ أَمَاكِن كَثِيرَة وَجَمِيع الترب والبساتين والدكاكين والمصلى وَوَقعت مدرسة الجعفرية ومدرسة عبيد الله وغرقت خزانَة الْكتب الَّتِي بهَا وَكَانَت تَسَاوِي أَكثر من عشرَة آلَاف دِينَار، وَصَارَ الرجل إِذا وقف على سور الْبَلَد لَا يرى مد الْبَصَر إِلَّا سَمَاء وَمَاء وغرق خلق وَاشْتَدَّ الْخطب وَامْتنع النّوم من الضجات وَخَوف الْغَرق، وَدَار النَّاس فِي الْأَسْوَاق مكشفة رؤوسهم وعمائهم فِي رقابهم والربعة الشَّرِيفَة على رؤوسهم وهم يَتلون ويستغيثون ويودع بَعضهم بَعْضًا خَائِفين وجلين أَن يخرق المَاء من الخَنْدَق مِقْدَار خرم إبرة فيهلكون، وغلت الأسعار لذَلِك أَيَّامًا.
وَمن الْعجب أَن مَقْبرَة الإِمَام أَحْمد تهدمت قبورها وَلم يتَغَيَّر قبر الإِمَام أَحْمد وَسلم من الْغَرق واشتهر ذَلِك واستفاض.
ثمَّ ورد كتاب أَن المَاء حمل خشباً عَظِيما وزنت مِنْهُ خَشَبَة فَكَانَت سِتّمائَة رَطْل بالبغدادي، وَجَاء على الْخشب حيات كبار خَلقهنَّ غَرِيب مِنْهَا مَا قتل وَمِنْهَا مَا صعد فِي النّخل وَالشَّجر وَمن الْحَيَّات كثير ميت وَلما نضب المَاء نبت الأَرْض صُورَة بطيخ شكله(2/268)
على قدر الْخِيَار وَفِي طعمه فجوجة وَأَشْيَاء أخر من النَّبَات غَرِيبَة الشكل وَمَا يُحْصى مَا خرب من الْجَانِبَيْنِ إِلَّا الله تَعَالَى.
وفيهَا: أفتى قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن الزملكاني بِتَحْرِيم الِاجْتِمَاع بمشهد روحين ودير الزربة وأشباههما، وَمَعَ من شدّ الرّحال إِلَيْهِ وَنُودِيَ بذلك فِي المملكة الحلبية فَإِنَّهُ كَانَ يشْتَمل على مُنكرَات وبدع وعملت فِي تَحْرِيم ذَلِك المقامة المشهدية وَهِي طَوِيلَة ومشهورة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة فتح السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الخانقاه الَّتِي أَنْشَأَهَا جوَار الْقصر الَّذِي انشأه بسرياقوس وحضره الصُّوفِيَّة والقضاة ومشايخ الْبَلَد، وَسمع السُّلْطَان هُنَاكَ على القَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة عشْرين حَدِيثا من تساعياته بِقِرَاءَة وَلَده عز الدّين عبد الْعَزِيز وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية وأكرمه وَعمل السُّلْطَان فِي الخانقاه الْمَذْكُورَة وَلِيمَة عَظِيمَة ورتب فِيهَا الشَّيْخ مجد الدّين الأقصراوي وصوفية وخلع على قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين وعَلى جمَاعَة من الشُّيُوخ وَفرق من الذَّهَب وَالْفِضَّة على الْمَشَايِخ نَحْو ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بحلب الشَّيْخ علم الدّين طَلْحَة بن يُوسُف كَانَ رَحمَه الله فَاضلا فِي النَّحْو والتصريف والقراءات، حسن الْوَجْه والخلق وَالصَّوْت مشاركاً فِي عُلُوم، وَكَانَ إِلَيْهِ تدريس الْمدرسَة الرواحية بحلب.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي ربيع الأول مِنْهَا ضربت رَقَبَة نَاصِر بن الهيتي بسوق الْخَيل ظَاهر دمشق بِحكم القَاضِي الْمَالِكِي بِكُفْرِهِ وزندقته وتلاعبه بدين الْإِسْلَام صحب النَّجْم بن خلكان المحلول عَن دين الْإِسْلَام الْمُفطر فِي رَمَضَان الشَّارِب الْخمر عِنْد أهل الْكتاب حفظ ابْن الهيتي فِي أول أمره التَّنْبِيه وَالْقُرْآن، فانسلخ من ذَلِك وهرب من الدماشقة سِنِين، ثمَّ حضر إِلَى حلب وَبهَا القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني رَحمَه الله تَعَالَى.
وَكَانَ القَاضِي الْمَذْكُور قد رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي نَومه كَأَن عقرباً رَأسه أسود ولون جسده عسلياً يدب على كم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء نقيب الحكم بدر الدّين مُحَمَّد بن نجم الدّين إِسْحَاق وأزاح الْعَقْرَب عَن كم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأصْبح القَاضِي كَمَال الدّين متحيراً متخوفاً من ذَلِك، ثمَّ أَن ابْن الهيتمي فِي الْيَقَظَة جَاءَ إِلَى بَاب القَاضِي وَاسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُول فَأذن لَهُ فَلَمَّا وَقع نظر القَاضِي عَلَيْهِ وعرفه وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بك إِلَيّ يَا كَافِر وَنظر إِلَى لِبَاسه فَإِذا على رَأسه مئزر صوف أسود وَهُوَ لابس دلفاً عسلياً فَلَمَّا سمع النَّقِيب الْمَذْكُور قَول القَاضِي لَهُ يَا كَافِر أَخَذته زَمعَة وَوجد وَحمل ابْن الهيتي بِلَا أَمر من القَاضِي وأودعه السجْن بالخندق الَّذِي للقلعة وَهَذَا الْمَنَام من الْآيَات العجيبة، ثمَّ أَن القَاضِي جهزه إِلَى دمشق محترزاً عَلَيْهِ فَضربت عُنُقه وَالْحَمْد لله على إعزاز الدّين.
وَفِيه: توفّي جمال الدّين حسن بن المطهر الْحلَبِي بالحلة من شُيُوخ الشِّيعَة وَلما(2/269)
ترفض خربنده أحضر إِلَيْهِ وَأكْرم وَجعل لَهُ أرزاقاً كَثِيرَة بلغت مصنفاته فِي الْأُصُول وَفقه الإمامية والمنطق مائَة وَعشْرين مجلداً.
وَفِيه: شاع بِدِمَشْق أَن الشَّمْس تكسف بعد الظّهْر فِي السَّاعَة السَّابِعَة من يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الآخر، وَذكروا أَن ذَلِك فِي جَمِيع التقاويم، وَأَن هَذَا حِسَاب لَا يخرم فتهيأ النَّاس للصَّلَاة فَلم تكسف فانكسف المنجمون لذَلِك وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى قتل الراهب توماً وَكَانَ أسلم وَصَارَ عِنْده حرص على الدّين وَلكنه ارْتَدَّ إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَسبق عَلَيْهِ الشَّقَاء فِي أم الْكتاب، نسْأَل الله الْوَفَاة على الْإِسْلَام.
وفيهَا: فِي شعْبَان اعتقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية بقلعة دمشق مكرماً رَاكِبًا وَفِي خدمته مشد الْأَوْقَاف والحاجب ابْن الخطير وأخليت لَهُ قاعة ورتب لَهُ مَا يقوم بكفايته، ورسم السُّلْطَان بِمَنْعه من الْفتيا وَسبب ذَلِك فتيا وجدت بِخَطِّهِ فِي الْمَنْع من السّفر وَمن أَعمال الْمطِي إِلَى زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَحبس جمَاعَة من أَصْحَابه وعزر جمَاعَة ثمَّ أطْلقُوا سوى شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر إِمَام الجوزية فَإِنَّهُ حبس بالقلعة أَيْضا.
وَفِيه: وَردت الْأَخْبَار إِلَى الشَّام أَنه أجريت عين باران إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ قد شرعوا فِيهَا من أول السّنة وَالْمَاء الْيَوْم بِمَكَّة مثل الْمَدِينَة الضَّعِيف وَالْقَوِي فِيهِ سَوَاء بِحَمْد الله تَعَالَى.
قلت:
(هَل لي إِلَى مَكَّة من عودة ... فأبلغ السؤل وأقضي الدُّيُون)
(غير عَجِيب جري عين بهَا ... فقد جرت شوقاً إِلَيْهَا الْعُيُون)
وَفِيه: أبطل السَّيِّد عطيفة مقَام الزيدية، وَأخرج إِمَام الزيدية إخراجاً عنيفاً، ونادى بِالْعَدْلِ فِي الْبِلَاد بمرسوم السُّلْطَان، فسر الْمُسلمُونَ بذلك عَظِيما.
وفيهَا: ورد كتاب من بَغْدَاد إِلَى شمس الدّين بن منتاب بِدِمَشْق يتَضَمَّن أَن خياطاً مضى إِلَى الرِّبَاط الَّذِي عمره مُحَمَّد أغا وَقَالَ للصوفية اربطوا سراويلي واختموا وارصدوني فَإِنِّي أُرِيد أعمل أربعينية لَا أَذُوق فِيهَا شَيْئا وَلَا أبول وَلَا أتغوط، فختم سراويله بعض نواب مُحَمَّد أغا وَغَيره عدَّة ختوم وَأقَام بَينهم أحد وَأَرْبَعين يَوْمًا.
ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سعد الدّين وَقَالَ لَهُ: أما أحملك إِلَيّ بَيْتِي وأقم عِنْدِي عشرَة أَيَّام أخر، فَقَالَ لَهُ الْخياط: وَإِن شِئْت صبرت أَرْبَعِينَ أُخْرَى فَحَمله سعد الدّين الْمَذْكُور إِلَى دَاره وقفل عَلَيْهِ الْبَاب وَأخذ الْمِفْتَاح وَدخل عَلَيْهِ بعد سِتَّة أَيَّام فَإِذا الْخياط جَالس شبعان رَيَّان كَأَنَّهُ أَسد فتعجب من ذَلِك، وَكَانَ مَعَ سعد الدّين جمَاعَة من الْعلمَاء تكلمُوا مَعَ الْخياط فوجدوه خَالِيا من الْعُلُوم، وَقَالَ: أَنا لَا أحفظ الْقُرْآن وَلَكِن فِي هَذِه السَّاعَة إنشق الْحَائِط وَخرج لي مِنْهُ(2/270)
رجلَانِ ومعهما أَربع رمانات فَأَكَلتهَا، فَقيل لَهُ: فالغائط كَيفَ تفعل بِهِ فاختلط فِي الْجَواب فَتَرَكُوهُ.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم الْحَنْبَلِيّ الصَّالِحِي بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَدفن بِالبَقِيعِ جوَار قبَّة عقيل رَضِي الله عَنهُ مرض وَخَافَ أَن يَمُوت دون الْمَدِينَة فَأعْطَاهُ الله مناه حج ثَلَاث مَرَّات قبل ذَلِك، وَمُدَّة ولَايَته إِحْدَى عشرَة سنة عمر الْأَوْقَاف، وَقدم الْمُسْتَحقّين وَلم يغر لبسه وَلَا هَيئته وَلَا اتخذ مركوباً، كَانَ يدْخل من الصالحية إِلَى دمشق مَاشِيا، وَلم يضف إِلَى نَفسه مدرسة وَلَا نظرا بِمَعْلُوم ومناقبه كَثِيرَة رَحمَه الله تَعَالَى.
قلت:
(بَاشر بِالْعَدْلِ والسكينة ... والسيرة الْبرة الأمينة)
(وَمن يَعش مثل عَيْش هَذَا ... يستأهل الْمَوْت بِالْمَدِينَةِ)
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين عبد الْوَهَّاب بن قَاضِي شُهْبَة الْفَقِيه النَّحْوِيّ، كَانَ متقللاً وانتفع النَّاس بالاشتغال عَلَيْهِ، وَكَانَ يعْتَكف شهر رَمَضَان بِكَمَالِهِ فِي الْجَامِع رَحمَه الله.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي آخر الْمحرم مِنْهَا طلب ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا الصَّالِحِي النَّائِب بحلب إِلَى الديار المصرية.
وفيهَا: فِي صفر وصل الْأَمِير سيف الدّين أرغون الناصري إِلَى حلب نَائِبا بهَا وَكَانَ حج من الديار المصرية هُوَ وَأَتْبَاعه وَزَوْجَة ابْنه بنت السُّلْطَان فحين وصل إِلَى الْقَاهِرَة رسم لَهُ بنيابة حلب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول بَاشر الحكم بِدِمَشْق قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين الْحَنْبَلِيّ عوضا عَن ابْن مُسلم، وباشر التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الجوزبة.
وَفِيه: حاصر الْأَمِير ودي بن جماز الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة سَبْعَة أَيَّام ودخلوها وأحرقوا بَاب السويقة.
وفيهَا: فِي ربيع الْآخِرَة قدم نَائِب الشَّام من مصر إِلَى دمشق وصحبته الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا الفخري أَمِيرا بِدِمَشْق.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح الأطغاني بحلب أفتى زَمَانا وناب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الحلكاني بحلب، وَكَانَ متواضعاً حسن الِاعْتِقَاد مشاركاً فِي عُلُوم جمة رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بَاشر القَاضِي برهَان الدّين الزرعي الْحَنْبَلِيّ الحكم نِيَابَة عَن قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين الْحَنْبَلِيّ.
وفيهَا: فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى توفّي الشَّيْخ الإِمَام شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد(2/271)
عبد الله بن عبد الْحَلِيم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ أَخُو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَحضر جنَازَته عَالم عَظِيم، ومولده فِي حادي عشر الْمحرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران، ومناقبه جمة وعلومه كَثِيرَة، بارع فِي فنون عديدة من الْفِقْه والنحو وَالْأُصُول حسن الْعبارَة قوي فِي دينه مليح الْبَحْث صَحِيح الذِّهْن مستحضر لتراجم السّلف عَالم بالتواريخ ملازم لأنواع الْخَيْر وَتَعْلِيم الْعلم عَارِف بِالْحِسَابِ زاهد شرِيف النَّفس قَانِع بِالْقَلِيلِ شُجَاع مِقْدَام مُجَاهِد، كَانَ يخرج من بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى المسجاد المهجورة، وَلَا يجلس فِي مَكَان معِين.
وَفِيه: انتزاع القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني كَنِيسَة الْيَهُود الْمُجَاورَة للمدرسة العصرونية بحلب وبنيت بهَا مأذنة وَسميت الناصرية وَكتب بذلك مكاتيب وشق على الْيَهُود ذَلِك فِي أقطار الأَرْض وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توجه إِلَى مصر قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْحَاكِم والخطيب بِدِمَشْق وباشر الحكم بالديار المصرية مَعَ تدريس الصالحية والناصرية وَدَار الحَدِيث الكاملية عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الْحَمَوِيّ فَإِنَّهُ استعفى من الْقَضَاء لكبر سنة وَضَعفه فَأُجِيب إِلَى ذَلِك ورتب لَهُ كل شهر ألف دِرْهَم وَعشرَة أرادب قَمح.
وَفِيه: رسم بقتل الْكلاب بالديار المصرية.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين من الْقَاهِرَة إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا الخطابة بالجامع الْأمَوِي بِدِمَشْق، وتدريس الْمدرسَة الشامية الجوانية.
وَفِيه: عمل عرس الْأَمِير سيف الدّين قوصون على بنت السُّلْطَان وَيطول شرح ذَلِك.
وَفِيه: بالإسنكدرية جرت مخاصمة بَين مُسلم وإفرنجي فَضَربهُ بالمداس فعظمت الْفِتْنَة وَركب النَّائِب بهَا وأغلق بَاب الْبَلَد من الْعَصْر إِلَى بعض اللَّيْل وحصلت مقتلة وزحم النَّائِب وأحرق بَاب السُّلْطَان وَيُسمى بَاب الْيَهُود، وَوَقع بعض نهب فِي دور يلوذ أَهلهَا بالنائب فَكتب إِلَى السُّلْطَان بِمَا وَقع فَغَضب السُّلْطَان وَأمر بِالسَّيْفِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة وهدها إِلَى الْبَحْر وَأخذ من التُّجَّار أَمْوَالًا عَظِيمَة ووسط نَحْو ثَلَاثِينَ رجلا وَقت صَلَاة الْجُمُعَة، ثمَّ عزل النَّائِب بعد ضربه وإهانته، وَقتل نَاس من الْفُقَهَاء والمدرسين الصَّالِحين لِأَن بَعضهم خرج وَقت الْفِتْنَة يستغيثون فِي الشوارع إنكاراً لذَلِك.
وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك حَتَّى قدم تَاج الدّين أَبُو إِسْحَاق وَكيل السُّلْطَان فسكن الْبَلَد، وَكَانُوا ممنوعين من الْخُرُوج وَالدُّخُول وَكَانَ سَبَب غضب السُّلْطَان أَنه ظن أَن الْبَاب الَّذِي أحرق هُوَ بَاب الْحَبْس الَّذِي فِيهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك، وَمن يَوْمئِذٍ صَار لَا يُولى بهَا إِلَّا قَاض شَافِعِيّ، وَكتب أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الطرابلسي كتابا من الْإسْكَنْدَريَّة يَقُول(2/272)
فِيهِ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فِيمَا أصَاب الْمُسلمين بثغر الْإسْكَنْدَريَّة من الإحراق وَالضَّرْب وَأخذ الْأَمْوَال وَسَفك الدِّمَاء، فَالله يعظم لنا وَلكم الْأجر.
قلت:
(تبَارك الله ذُو الْجلَال لقد ... أدهش عَقْلِي زَمَاننَا الْفَاسِد)
(مصادرات جرت وَسَفك دَمًا ... وَأَصلهَا ضرب كَافِر وَاحِد)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين عَليّ بن الْوَكِيل الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق، كَانَ كَبِير الْقدر صَاحب أَمْلَاك وثروة مكثراً من الْفِقْه وَمن ملح الْأَخْبَار ونكت الْأَشْعَار.
وَفِيه: طلب من حلب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن الزملكاني على الْبَرِيد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان ليولى الْقَضَاء بِالشَّام، فَتوفي بِمَدِينَة بلبيس وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَدفن بالقرافة.
كَانَ رَحمَه الله غزير الْعلم كثير الْفُنُون مُسَدّد الفتاوي دَقِيق الذِّهْن صَحِيح الْبَحْث حسن الْخلق جميل الْوَجْه طيب الصَّوْت بعيد الصيت جيد الْخط سخي النَّفس صَحِيح الِاعْتِقَاد بليغ النّظم والنثر.
وَلَقَد رَأَيْت كبار مَشَايِخنَا لَا يعدلُونَ بِهِ عَالما فِي زَمَانه وَلَا يُشبههُ عِنْدهم أحد من أقرانه:
(أَفِي الرَّأْي يشبه أم فِي السخاء ... أم فِي الشجَاعَة أم فِي الْأَدَب)
(فلسنا نرى بعده مثله ... فيا ليته مَا تولى حلب)
سُئِلَ رَحمَه الله تَعَالَى مَا الدَّلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا يجوز أَن تكون قَاضِيا فَأجَاب الدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} لِأَن من هُوَ فِي الْخِصَام لنَفسِهِ غير مُبين لَا يصلح لفصل خصومات غَيره بطرِيق الأولى، ووقفت لَهُ على مُكَاتبَة إِلَى شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين هبة الله بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ يطْلب مِنْهُ التَّيْسِير الَّذِي وَضعه على الْحَاوِي، أَولهَا:
(يَا وَاحِد الْعَصْر ثَانِي الشَّمْس فِي شرف ... وثالث العمرين السالفين هدى)
(تيسيرك الشَّامِل الْحَاوِي الْبَسِيط لَهُ ... نِهَايَة لم تنلها غَايَة أبدا)
(مُحَرر خص بِالْفَتْح الْعَزِيز فَفِي ... تهذيبه الْمَقْصد الْأَسْنَى لمن رشدا)
(وَقد سمت همتي أَن اصطفيه لَهَا ... وَإِن أعلمهُ الأهلين والولدا)
(فانعم بِهِ نُسْخَة صحت مُقَابلَة ... ولاح نورك فِي أَثْنَائِهَا وبدا)
وَلما وقف شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْمَذْكُور على هَذِه الْمُكَاتبَة سر بهَا، وجهز لَهُ نُسْخَة بالتيسير الْمَطْلُوب، وَقَالَ سُبْحَانَ الله لقد كَانَ الشَّيْخ كَمَال الدّين أكبر المنكرين عَليّ فِي الاعتناء بالحاوي الصَّغِير ثمَّ لم ينتبه لقدوه إِلَّا وَقد صرت فِيهِ إِمَامًا.
فَائِدَة: رَأَيْت بعض النَّاس اعْترض على الشَّيْخ كَمَال الدّين فِي هَذَا النّظم فِي قَوْله:(2/273)
ثَانِي الشَّمْس بِكَوْن الْيَاء من ثَانِي وَهُوَ مُنَادِي مُضَاف من حَقه النصب وَفِي قَوْله: أَن اصطفيه لَهَا بِسُكُون الْيَاء أَيْضا، وَمن حَقه النصب بِأَن وَفِي قَوْله فانعم بِهِ نُسْخَة بوصل الْهمزَة وَمن حَقّهَا الْقطع لِأَنَّهُ فعل رباعي، وَهَذَا لقلَّة اطلَاع هَذَا الْمُعْتَرض على غَرِيب الْعَرَبيَّة فَإِن مثل ذَلِك كُله جَائِز فِي ضَرُورَة الشّعْر شَاهد الأول قَول الشَّاعِر:
(يَا دَار هِنْد عفت إِلَّا أَنا فِيهَا
(وَقَول الْعَرَب أعْط الْقوس باريها))
وَشَاهد الثَّانِي قَول الشَّاعِر:
(حَتَّى لقد عفت أَن أرويه فِي الْكتب ... )
وَشَاهد الثَّالِث (قَول) الشَّاعِر:
(أَلا ابلغ حاتماً وَأَبا عَليّ ... بِأَن عوَانَة الضبعِي فرا)
وفيهَا: وصل فَخر الدّين عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ إِلَى حلب مُتَوَلِّيًا قَضَاء الْقُضَاة بهَا بعد الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني رَحمَه الله وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان وصل إِلَى دمشق مائَة وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا من بِلَاد الفرنج وَذَلِكَ أَن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين أشهد عَلَيْهِ أَنه جعل لكل من يحضر أَسِيرًا مبلغا عينه، وَكتب بذلك مَكْتُوبًا وَعرف الفرنج ذَلِك فَجعلُوا الأسرى من تجاراتهم وأحضروهم فأعطوا من وقف الأسرى سِتِّينَ ألف دِرْهَم وأطلقوا الأسرى بِحَمْد الله تَعَالَى.
وفيهَا: وَفِي ذِي الْقعدَة تولى الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف القونوي الشَّافِعِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق المحروسة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قرئَ مرسوم سلطاني بِجَامِع دمشق بالتوصية بالأوقاف وإيصالها إِلَى مستحقيها وعمارتها، وَاتِّبَاع شُرُوط واقفيها والتأكيد فِي ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا بني فِي وسط الْمَسْعَى طَهَارَة فِيهَا بركَة وَبنى الجوبان نَائِب ملك التتر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة حَماما حسنا.
وفيهَا: فِي صفر وصل إِلَى الشَّام نَائِب الرّوم تمرتاش بن الجوبان، وَتَلَقَّتْهُ النواب وَهُوَ شَاب حسن، وَذَلِكَ أَن أَبَا سعيد لما قتل أَخَاهُ دمشق خواجه فِي شَوَّال من الْعَام الْمَاضِي أَرَادَ والدهما الجوبان محاربة أبي سعيد فَلم يتَّفق لَهُ ذَلِك فهرب تمرتاش بحشمه وأمواله وَلما وصل إِلَى الديار المصرية أَمر السُّلْطَان بإكرامه واحترامه.
وَفِيه: وصل المَاء إِلَى الْقُدس بعد عمل طَرِيقه فِي سِتَّة أشهر.
وفيهَا: فِي ربيع الأول جدد سطح الْكَعْبَة الشَّرِيفَة وأبوابها وبنيت طَهَارَة مِمَّا يَلِي بَاب بني شيبَة، وأجريت عين مَاء أُخْرَى تعرف بِعَين جبل بَقِيَّة مِمَّا يَلِي حراء على مجْرى الْعين الجوبانية، ووصلت إِلَى مَكَّة أنْفق عَلَيْهَا قدر يسير نَحْو خَمْسَة آلَاف دِرْهَم.(2/274)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى كَانَ حريق عَظِيم بِدِمَشْق فِي سوق الفرانين والقيسارية الجديدة وَالْمَسْجِد وَذهب للنَّاس أَمْوَال عَظِيمَة.
وفيهَا: فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين بن الحريري الْحَنَفِيّ بالسكتة، ولي قَضَاء دمشق سِنِين ثمَّ صرف ثمَّ طلب إِلَى مصر فولي الْقَضَاء بهَا، وَكَانَت لَهُ همة عالية وناموس وهيبة وسطوة على الْأُمَرَاء والمتجوهين وأوراد رَحمَه الله تَعَالَى، وَولي مَكَانَهُ الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن قَاضِي حصن الأكراد وأكرمه السُّلْطَان وسر بِهِ.
وَفِيه: توفّي بالقدس شَيخنَا الْعَلامَة شهَاب الدّين أَحْمد بن جبارَة المرداوي الْحَنْبَلِيّ الزَّاهِد الْفَقِيه الأصولي الْمقري النَّحْوِيّ أَقَامَ رَحمَه الله بِمصْر دهراً وجاور بِمَكَّة، ثمَّ قدم دمشق واشتغل النَّاس عَلَيْهِ بهَا مُدَّة، ثمَّ أَقَامَ بحلب وَاشْتَغَلْنَا عَلَيْهِ ثمَّ بالقدس. وَكَانَ صَالحا صَادِقا زاهداً قانعاً، وَله مصنفات مِنْهَا شرح الشاطبية أَربع مجلدات.
وفيهَا: فِي شعْبَان قبض على تمرتاش بن جوبان ثمَّ مَاتَ فِي شَوَّال.
وفيهَا: فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة توفّي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُفْتِي شهَاب الدّين عبد الْحَلِيم بن شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ معتقلاً بقلعة دمشق وَغسل وكفن وَأخرج وَصلى عَلَيْهِ أَولا بالقلعة الشَّيْخ مُحَمَّد بن تَمام، ثمَّ بِجَامِع دمشق بعد الظّهْر وَأخرج من بَاب الْفرج وَاشْتَدَّ الزحام فِي سوق الْخَيل، وَتقدم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة هُنَاكَ أَخُوهُ، وَألقى النَّاس عَلَيْهِم مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وتراص النَّاس تَحت نعشه، وحزرت النِّسَاء بِخَمْسَة عشر ألفا، وَأما الرِّجَال فَقيل: كَانُوا مِائَتي ألف وَكثر الْبكاء عَلَيْهِ وختمت لَهُ عدَّة ختم وَتردد النَّاس إِلَى زِيَارَة قَبره أَيَّامًا، ورؤيت لَهُ منامات صَالِحَة ورثاء جمَاعَة.
قلت: ورثيته أَنا بمرثية على حرف الطَّاء فشاعت واشتهرت وطلبها مني الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء من الْبِلَاد وَهِي:
(عثا فِي عرضه قوم سلاط ... لَهُم من نثر جوهره الْتِقَاط)
(تَقِيّ الدّين أَحْمد خير حبر ... خروف المعضلات بِهِ تخاط)
(توفّي وَهُوَ مَحْبُوس فريد ... وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الدُّنْيَا انبساط)
(وَلَو حَضَرُوهُ حِين قضى لألفوا ... مَلَائِكَة النَّعيم بِهِ أحاطوا)
(قضى نحباً وَلَيْسَ لَهُ قرين ... وَلَا لنظيره لف القماط)
(فَتى فِي علمه أضحى فريداً ... وَحل المشكلات بِهِ يناط)
(وَكَانَ إِلَى النقى يَدْعُو البرايا ... وَيُنْهِي فرقة فسقوا ولاطوا)
(وَكَانَ الْجِنّ تفرق من سطاء ... بوعظ للقلوب هُوَ السِّيَاط)
(فيا لله مَا قد ضم لحد ... وَيَا لله مَا غطى البلاط)(2/275)
(هم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا)
(وَكَانُوا عَن طرائفه كسَالَى ... وَلَكِن فِي أَذَاهُ لَهُم نشاط)
(وَحبس الدّرّ فِي الأصداف فَخر ... وَعند الشَّيْخ بالسجن اغتباط)
(بآل الْهَاشِمِي لَهُ اقْتِدَاء ... فقد ذاقوا الْمنون وَلم يواطوا)
(بَنو تَيْمِية كَانُوا فبانوا ... نُجُوم الْعلم أدْركهَا انهباط)
(وَلَكِن يَا ندامة حابسيه ... فَشك الشّرك كَانَ بِهِ يماط)
(وَيَا فَرح الْيَهُود بِمَا فَعلْتُمْ ... فَإِن الضِّدّ يُعجبهُ الخباط)
(ألم يَك فِيكُم رجل رشيد ... يرى سجن الإِمَام فيستشاط)
(إِمَام لَا ولَايَة كَانَ يَرْجُو ... وَلَا وقف عَلَيْهِ وَلَا رِبَاط)
(وَلَا جاراكم فِي كسب مَال ... وَلم يعْهَد لَهُ بكم اخْتِلَاط)
(فَفِيمَ سجنتموه وغظتموه ... أما لجزا أذيته اشْتِرَاط)
(وسجن الشَّيْخ لَا يرضاه مثلي ... فَفِيهِ لقدر مثلكُمْ انحطاط)
(أما وَالله لَوْلَا كتم سري ... وَخَوف الشَّرّ لانحل الرِّبَاط)
(وَكنت أَقُول مَا عِنْد وَلَكِن ... بِأَهْل الْعلم مَا حسن اشتطاط)
(فَمَا أحد إِلَى الْإِنْصَاف يَدْعُو ... وكل فِي هَوَاهُ لَهُ انخراط)
(سَيظْهر قصدكم يَا حابسيه ... وننبئكم إِذا نصب الصِّرَاط)
(فها هُوَ مَاتَ عَنْكُم وَاسْتَرَحْتُمْ ... فعاطوا مَا أردتم أَن أتعاطوا)
(وحلوا واعقدوا من غير رد ... عَلَيْكُم وانطوى ذَاك الْبسَاط)
وَكنت اجْتمعت بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى بِدِمَشْق سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة بمسجده بالقصاعين وبحثت بَين يَدَيْهِ فِي فقه وَتَفْسِير وَنَحْو فأعجبه كَلَامي وَقبل وَجْهي واني لأرجو بركَة ذَلِك، وَحكى لي عَن واقعته الْمَشْهُورَة فِي جبل كسروان وسهرت عِنْده لَيْلَة فَرَأَيْت من فتوته ومروءته ومحبته لأهل الْعلم وَلَا سِيمَا الغرباء مِنْهُم أمرا كثيرا، وَصليت خَلفه التَّرَاوِيح فِي رَمَضَان فَرَأَيْت على قِرَاءَته خشوعا وَرَأَيْت على صلَاته رقة حَاشِيَة تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب.
مولده رَحمَه الله ورحمنا بِهِ بحران يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، هَاجر وَالِده بِهِ وبأخوته إِلَى الشَّام من جور التتر، وعنى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بِالْحَدِيثِ، وَنسخ جملَة وَتعلم الْخط والحساب فِي الْمكتب وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ أقبل على الْفِقْه وَقَرَأَ أَيَّامًا فِي الْعَرَبيَّة على ابْن عبد القوى، ثمَّ فهمها وَأخذ يتَأَمَّل كتاب سِيبَوَيْهٍ حَتَّى فهمه، وبرع فِي النَّحْو وَأَقْبل على التَّفْسِير إقبالاً كلياً حَتَّى سبق فِيهِ، وَأحكم أصُول الْفِقْه كل هَذَا وَهُوَ ابْن بضع عشرَة سنة فانبهر الْفُضَلَاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وَقُوَّة حافظته وإدراكه، وَنَشَأ فِي تصون تَامّ وعفاف وَتعبد واقتصاد فِي الملبس والمأكل.
وَكَانَ يحضر الْمدَارِس والمحافل فِي صغره فيناظر ويفحم الْكِبَار وَيَأْتِي بِمَا يتحيرون(2/276)
مِنْهُ، وَأفْتى وَله أقل من تسع عشرَة سنة، وَشرع فِي الْجمع والتأليف وَمَات وَالِده وَله إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَبعد صيته فِي الْعَالم فطبق ذكره الْآفَاق وَأخذ فِي تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز أَيَّام الْجمع على كرْسِي من حفظه فَكَانَ يُورد الْمجْلس وَلَا يتلعثم، وَكَذَلِكَ الدَّرْس بتؤدة وَصَوت جَهورِي فصيح يَقُول فِي الْمجْلس أَزِيد من كراسين، وَيكْتب على الْفَتْوَى فِي الْحَال عدَّة أوصال بِخَط سريع فِي غَايَة التَّعْلِيق والإغلاق.
قَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني علم الشَّافِعِيَّة فِي خطّ كتبه فِي حق ابْن تَيْمِية كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يغْرف غير ذَلِك الْفَنّ، وَحكم بِأَن لَا يعرفهُ أحد مثله، وَكَانَت الْفُقَهَاء من سَائِر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا فِي مذاهبهم مِنْهُ أَشْيَاء، قَالَ: وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فِي علم من الْعُلُوم سَوَاء كَانَ عُلُوم الشَّرْع أَو غَيرهَا إِلَّا فاق فِيهِ أَهله، وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا، انْتهى كَلَامه.
وَكَانَت لَهُ خبْرَة تَامَّة بِالرِّجَالِ وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم وَمَعْرِفَة بفنون الحَدِيث وبالعالي والنازل وَالصَّحِيح والسقيم مَعَ حفظه لمتونه الَّذِي انْفَرد بِهِ وَهُوَ عَجِيب فِي استحضاره واستخراج الْحجَج مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي عزوه إِلَى الْكتب السِّتَّة والمسند بِحَيْثُ تصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال كل حَدِيث لَا يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله غير أَنه يغترف فِيهِ من بَحر وَغَيره من الْأَئِمَّة يَغْتَرِفُونَ من السواقي.
وَأما التَّفْسِير فَسلم إِلَيْهِ، وَله فِي استحضار الْآيَات للإستدلال قُوَّة عَجِيبَة ولفرط إِمَامَته فِي التَّفْسِير وعظمة اطِّلَاعه بَين خطأ كثيرا من أَقْوَال الْمُفَسّرين، وَيكْتب فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من التَّفْسِير أَو من الْفِقْه أَو من الْأَصْلَيْنِ أَو من الرَّد على الفلاسفة والأوائل نَحوا من أَرْبَعَة كراريس، قَالَ وَمَا يبعد أَن تصانيفه إِلَى الْآن تبلغ خَمْسمِائَة مُجَلد.
وَله فِي غير مَسْأَلَة مُصَنف مُفْرد كَمَسْأَلَة التَّحْلِيل وَغَيرهَا، وَله مُصَنف فِي الرَّد على ابْن مطهر الْعَالم الْحلِيّ فِي ثَلَاث مجلدات كبار وتصنيف فِي الرَّد على تأسيس التَّقْدِيس للرازي فِي سبع مجلدات، وَكتاب فِي الرَّد على الْمنطق وَكتاب فِي الْمُوَافقَة بَين المقعول وَالْمَنْقُول فِي مجلدين وَقد جمع أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ سِتّ مجلدات كبار.
وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قل أَن يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَقد خَالف الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل مَعْرُوفَة، وصنف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة.
وَله مُصَنف سَمَّاهُ السياسة الشَّرْعِيَّة فِي إصْلَاح الرَّاعِي والرعية، وَكتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وَبَقِي عدَّة سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين بل بِمَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ عِنْده، وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة والطريقة السلفية، وَاحْتج لَهَا ببراهين ومقدمات وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا، وأطبق عِبَارَات أحجم عَنْهَا الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وهابوا وجسر هُوَ عَلَيْهَا حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق(2/277)
من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال وَجرى بَينه وَبينهمْ حملات حربية ووقعات شامية ومصرية، كَانَ مُعظما لحرمات الله دَائِم الابتهال كثير الِاسْتِعَانَة قوي التَّوَكُّل ثَابت الجأش، لَهُ أوراد وأذكار يديمها، وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه بشجاعته تضرب الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال وَلَقَد أَقَامَهُ الله فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَاجْتمعَ بِالْملكِ مرَّتَيْنِ وبخطلو شاه وبولان، وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول.
قَالَ القَاضِي المنشى شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فضل الله فِي تَرْجَمته: جلس الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود غازان حَيْثُ تجم الْأسد فِي آجامها وَتسقط الْقُلُوب دواخل أجسامها وتجد النَّار فتوراً فِي ضرمها وَالسُّيُوف فرقا فِي قرمها خوفًا من ذَلِك السَّبع المغتال والنمرود الْمُحْتَال وَالْأَجَل الَّذِي لَا يدْفع بحيلة محتال فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدره وواجهه وَدَرَأَ فِي نَحره وَطلب مِنْهُ الدُّعَاء فَرفع يَدَيْهِ ودعا دُعَاء منصف أَكْثَره عَلَيْهِ وغازان يُؤمن على دُعَائِهِ، وَكتب ابْن الزملكاني على بعض تصانيف ابْن تَيْمِية هَذِه الأبيات
(مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر)
(هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الْعَصْر)
(هُوَ آيَة فِي الْخلق ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر)
وَلما سَافر ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة سنة سَبْعمِائة وحض على الْجِهَاد رتب لَهُ مُرَتّب فِي كل يَوْم وَهُوَ دِينَار وتحفه وجاءته بقجة قماش فَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد: لما أجتمعت بِابْن تَيْمِية رَأَيْت رجلا كل الْعُلُوم بَين عَيْنَيْهِ يَأْخُذ مَا يُرِيد ويدع مَا يُرِيد وَحضر عِنْده شيخ النُّحَاة أَبُو حَيَّان وَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله.
وَقَالَ فِيهِ على البديهة أبياتاً مِنْهَا:
(قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر)
(فأظهر الْحق إِذْ آثاره درست ... وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر)
(كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها ... أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر)
وَلما جَاءَ السُّلْطَان إِلَى شقحب والخليفة لأقاهما إِلَى قرن الْحرَّة وَجعل يثبتهما فَلَمَّا رأى السُّلْطَان كَثْرَة التتر قَالَ: يَا خَالِد بن الْوَلِيد، قَالَ: قل يَا مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين، وَقَالَ للسُّلْطَان: اثْبتْ فَأَنت مَنْصُور فَقَالَ لَهُ بعض الْأُمَرَاء: قل إِن شَاءَ الله فَقَالَ: إِن شَاءَ الله تَحْقِيقا لَا تَعْلِيقا، فَكَانَ كَمَا قَالَ، انْتهى مُلَخصا.
وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن وَالْمقَام لحلفت إِنِّي مَا(2/278)
رَأَيْت بعيني مثله وَلَا رأى هُوَ مثل نَفسه فِي الْعَالم، وَكَانَ فِيهِ قلَّة مداراة وَعدم تؤدة غَالِبا وَلم يكن من رجال الدول وَلَا يسْلك مَعَهم تِلْكَ النواميس وأعان أعداءه على نَفسه بِدُخُولِهِ فِي مسَائِل كبار لَا حتملها عقول أَبنَاء زَمَاننَا وَلَا علومهم كَمَسْأَلَة التَّكْفِير فِي الْحلف بِالطَّلَاق وَمَسْأَلَة أَن الطَّلَاق بِالثلَاثِ لَا يَقع إِلَّا بِوَاحِدَة وَأَن الطَّلَاق فِي الْحيض لَا يَقع وساس نَفسه سياسة عَجِيبَة فحبس مَرَّات بِمصْر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد بِرَأْيهِ وَعَسَى أَن يكون ذَلِك كَفَّارَة لَهُ، وَكم وَقع فِي صَعب بِقُوَّة نَفسه وخلصه الله.
وَله نظم وسط وَلم يتَزَوَّج وَلَا تسرى وَلَا كَانَ لَهُ من الْعُلُوم إِلَّا شَيْء قَلِيل وَكَانَ أَخُوهُ يقوم بمصالحة، وَكَانَ لَا يطْلب مِنْهُم غداء وَلَا عشَاء غَالِبا وَمَا كَانَت الدُّنْيَا مِنْهُ على بَال.
وَكَانَ يَقُول فِي كثير من أَحْوَال الْمَشَايِخ إِنَّهَا شيطانية أَو نفسانية فَينْظر فِي مُتَابعَة الشَّيْخ الْكتاب وَالسّنة فَإِن كَانَ كَذَلِك فحاله صَحِيح وكشفه رحماني غَالِبا وَمَا هُوَ بالمعصوم، وَله فِي ذَلِك عدَّة تصانيف تبلغ مجلدات من أعجب الْعجب، وَكم عوفي من الصراع الجني إِنْسَان بِمُجَرَّد تهديده للجني، وَجَرت لَهُ فِي ذَلِك فُصُول وَلم يفعل أَكثر من أَن يَتْلُو آيَات وَيَقُول: إِن لم تَنْقَطِع عَن هَذَا المصروع وَإِلَّا علمنَا مَعَك حكم الشَّرْع وَإِلَّا عَملنَا مَعَك مَا يُرْضِي الله وَرَسُوله، وَفِي آخر الْأَمر ظفروا لَهُ بِمَسْأَلَة السّفر لزيارة قُبُور النَّبِيين وَأَن السّفر وَشد الرّحال لذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَعَ اعترافه بِأَن الزِّيَارَة بِلَا شدّ رَحل قربَة فشنعوا عَلَيْهِ بهَا، وَكتب فِيهَا جمَاعَة بِأَنَّهُ يلْزم من مَنعه شَائِبَة تنقيص للنبوة فيكفر بذلك.
وَأفْتى عدَّة بِأَنَّهُ مُخطئ بذلك خطأ الْمُجْتَهدين المغفور لَهُم وَوَافَقَهُ جمَاعَة وَكَبرت الْقَضِيَّة فأعيد إِلَى قاعة بالقلعة فَبَقيَ بضعَة وَعشْرين شهرا، وَآل الْأَمر إِلَى أَن منع من الْكِتَابَة والمطالعة وَمَا تركُوا عِنْده كراساً وَلَا دَوَاة، وَبَقِي أشهراً على ذَلِك، فَأقبل على التِّلَاوَة والتهجد وَالْعِبَادَة حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين فَلم يفجأ النَّاس إِلَّا نعيه وَمَا علمُوا بمرضه فازدحم الْخلق عِنْد بَاب القلعة وبالجامع زحمة صَلَاة الْجُمُعَة وأرجح، وشيعه الْخلق من أَرْبَعَة أَبْوَاب الْبَلَد وَحمل على الرؤوس وعاش سبعا وَسِتِّينَ سنة وأشهراً، وَكَانَ أسود الرَّأْس قَلِيل شيب اللِّحْيَة ربعَة جَهورِي الصَّوْت أَبيض أعين.
قلت: تنقص مرّة بعض النَّاس من ابْن تَيْمِية عِنْد قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين بن الزملكاني وَهُوَ بحلب وَأَنا حَاضر فَقَالَ كَمَال الدّين: وَمن يكون مثل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي زهده وَصَبره وشجاعته وَكَرمه وعلومه، وَالله لَوْلَا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب.
وَهَذِه نبذة من تَرْجَمَة الشَّيْخ مختصرة أَكْثَرهَا من الدرة اليتيمية فِي السِّيرَة التيمية للْإِمَام الْحَافِظ شمس الدّين مُحَمَّد الذَّهَبِيّ وَالله أعلم.
وفيهَا: اشْتهر موت الْأَمِير شمس الدّين قرا سنقر الجوكندار المنصوري بَاشر النِّيَابَة(2/279)
بِمصْر وبدمشق وبحلب، وَعمر جَوَامِع ومساجد، وَكَانَ ذَا فهم ودهاء وهرب إِلَى التتر فَأَقَامَ عِنْدهم محتماً، وأقطعوه مراغة وَجَاوَزَ التسعين.
وفيهَا: مَاتَ الْأَمِير سيف الدّين أيجية الأبوبكري وَكَانَ فِيهِ خير.
وفيهَا: أخرج من سجن قلعة دمشق الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر الزرعي إِمَام الجوزية بِشَرْط أَن لَا يدْخل فِي فَتْوَى.
وفيهَا: يَوْم عَرَفَة أخرج علم الدّين الجاولي من الْحَبْس.
وفيهَا: جَاءَ سيل عَظِيم على عجلون خرب سوق التُّجَّار والمارستان والدباغة وَبَعض الْجَامِع، وَهلك جمَاعَة وعدمت أَمْوَال قدرت بِمِائَتي ألف وَسبعين ألفا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا توجه القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله إِلَى مصر وَكتب السِّرّ للسُّلْطَان لفالج أصَاب كَاتب السِّرّ عَلَاء الدّين بن الْأَثِير المعري الأَصْل، وَكتب السِّرّ بِدِمَشْق القَاضِي شرف الدّين بن الشهَاب مَحْمُود.
وفيهَا: حضر مَعَ الركب الْعِرَاقِيّ فِي تَابُوت جوبان وَولده، وَأَرَادُوا دفنهما فِي الجوبانية غربي الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَهِي فِي غَايَة الْحسن فَأخر دفنهما حَتَّى يَأْتِي مرسوم السُّلْطَان بذلك.
وفيهَا: فِي الْمحرم مَاتَ بِمصْر الْمُفْتِي الزَّاهِد نجم الدّين مُحَمَّد بن عقيل البالسي الشَّافِعِي، نَاب عَن ابْن دَقِيق الْعِيد وَولي قَضَاء دمياط، وَكَانَ من عُلَمَاء مصر.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ عَامل بَيت المَال بِدِمَشْق، وَكَانَ أَولا سامرياً اسْمه نَفِيس فَسُمي مُحَمَّدًا، وَحفظ الْقُرْآن، وَكَانَ يقْرَأ فِي السَّبع بِالْحَائِطِ الشمالي.
وَفِيه: مَاتَ الْفَقِيه الصَّالح شهَاب الدّين أَحْمد بن هِلَال الزرعي الْحَنْبَلِيّ وَالِد القَاضِي برهَان الدّين بِدِمَشْق.
وَفِيه: كمل ترخيم الْحَائِط القبلي بِجَامِع دمشق وزخرفته.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْأَمِير قطلبك الرُّومِي بِدِمَشْق وَكَانَ حاجباً وَهُوَ الَّذِي ولي عمَارَة قناة الْقُدس.
وَفِيه: ظهر بِالْقَاهِرَةِ ابْن سَالم والمخدوم وَلَهُمَا أَتبَاع حرامية كَانُوا يخطفون العمائم فأمسكوا وسم بَعضهم. وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم أَوْلَاد قرا سنقر المنصوري دمشق وأعطوا أملاكهم بهَا وَأمر كَبِيرهمْ عَلَاء الدّين بهَا.
وَفِيه: مَاتَ الصَّدْر الْكَبِير نجم الدّين عَليّ بن هِلَال الْأَزْدِيّ بِدِمَشْق كتب الطباق فَأكْثر وَأوصى أَن يكْتب على قَبره {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله}(2/280)
وَفِيه دفن جوبان وَابْنه بِالبَقِيعِ وَلم يمكنا من الدّفن فِي الجوبانية.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي شَيخنَا الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع الْفَزارِيّ بالباذرانية وَدفن عقيب الْجُمُعَة بِالْبَابِ الصَّغِير وشيعه الْخلق، ومولده ربيع الأول سنة سِتِّينَ درس بالباذرانية، وَله حَلقَة بالجامع جمع بَين حسن الْخلق وَالْكَرم وَقَضَاء الْحُقُوق ولين العريكة والصيانة والديانة، وَعرضت عَلَيْهِ بالمناصب الْكِبَار وألح عَلَيْهِ فِيهَا كالقضاء والخطابة بِدِمَشْق فتمنع.
وساد فِي معرفَة الْمَذْهَب وَله تأليف فِي الْفَرَائِض، وَله تعليقة على التَّنْبِيه نَحْو عشْرين مجلداً تنبئ عَن اطلَاع عَظِيم وَتَحْقِيق.
وَله يَد فِي الْأُصُول وَلَا سِيمَا مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَفِي الْمنطق وَكَانَ كثير الدّيانَة والورع والتقشف، أفتى فِي شبيبته وَنزل عَن الخطابة بعد أَن وَليهَا، وتصدى للاشتغال وَالْفَتْوَى، وَكَانَ متحرزاً فِي نَقله وفتاويه يقف مَعَ النَّقْل فِي الْفَتَاوَى تديناً متقللاً من الدُّنْيَا رَحمَه الله تَعَالَى.
قَالَ لي يَوْمًا قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب الشَّافِعِي أحسن الله عاقبته: لقد تصدى الشَّيْخ تَاج الدّين وَولده برهَان الدّين لنفع هَذِه الْأمة ثَمَانِينَ سنة.
قلت:
(قد كَانَ أعظمهم زهداً وأرفعهم ... مجداً وأسهرهم فِي الْعلم أجفاناً)
(مَا أودع الله من فضل لوالده ... إِلَّا وَنحن نرَاهُ فِي ابْنه الآنا)
(إِنِّي لأصغر نَفسِي لَازِما أدبي ... من أَن أقيم على الْبُرْهَان برهاناً)
وَفِيه: مَاتَ بِدِمَشْق شيخ الْحَنَابِلَة مجد الدّين إِسْمَاعِيل الْحَرَّانِي ومولده سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بحران.
كَانَ يقرئ الْكَافِي وَالْمقنع، ويحفظ أَحَادِيث الْأَحْكَام بلفظها معزوة، يُقَال أَنه قَرَأَ الْمقنع مائَة مرّة.
وَكَانَ خيرا لَا يغتاب أحدا وَلَا يخالط وَلَا يتَكَلَّف فِي ملبس وَلَا تودد، وَمن كَلَامه: مَا وَقع فِي قلبِي الترفع على أحد فَإِنِّي خَبِير بنفسي وَلست أعرف أَحْوَال النَّاس.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ بِمصْر الْعَالم البارع معِين الدّين هبة الله بن حشيش نَاظر الْجَيْش فَاضل ذكي أديب حسن المحاضرة كثير الِاشْتِغَال عَارِف بِالْحِسَابِ متواضع.
وَفِيه: تولى شهَاب الدّين أَحْمد بن جهيل تدريس الباذرانية مَوضِع شَيخنَا برهَان الدّين.
وَفِيه: توفّي الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب بن جلال الدّين عبد الْكَرِيم بِمَدِينَة حماه، وَدفن بتربة اسندمر بَاشر نظر المماليك بِدِمَشْق وحجابة الدِّيوَان بحلب وَنظر الْجَيْش بهَا(2/281)
وَنظر طرابلس وَغير ذَلِك، وَكَانَ وَاسع الصَّدْر كثير المكارم رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الشَّيْخ عبد الله أيبك الموله عَتيق الحريري فَجْأَة بِالْقَاهِرَةِ وشيعه خلائق كَانَ لَا يكلم أحدا وَلَا يستر عَوْرَته وَيَأْكُل فِي رَمَضَان.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ حسام الدّين الْخَوَارِزْمِيّ حَاجِب الشَّام، وَكَانَ شَيخا مهيباً يُرْسل إِلَى الْمغرب وَدفن بتربته بالقبيبات.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي قَاضِي الْقُضَاة شيخ الشُّيُوخ عَلَاء الدّين عَليّ بن يُوسُف التبريزي ثمَّ القونوي الشَّافِعِي وَدفن بسفح قاسيون كَانَ مَحْمُود السِّيرَة فِي قَضَائِهِ متفنناً ومحاسنة جمة وتواضعه وآدابه وافرة وطاب الثَّنَاء عَلَيْهِ وَشرح الْحَاوِي فِي مجلدات، وَلما بلغ السُّلْطَان وَفَاته تعجب وَقَالَ: سُبْحَانَ الله الْعَظِيم كَانَ القَاضِي بدر الدّين ابْن جمَاعَة عمره قَاضِيا وَمَات صوفياً وَكَانَ القونوي عمره صوفياً وَمَات قَاضِيا.
قلت:
(إِن رمت تذكر فِي زَمَانك عَالِيا ... متواضعاً فابدأ بِذكر القونوي)
(ولي الْقَضَاء وَصَارَ شيخ شيوخهم ... وَالْقلب مِنْهُ على التصوف منطوي)
(زادوه تَعْظِيمًا فَزَاد تواضعاً ... الله أكبر هَكَذَا الْبشر السنوي)
وَفِيه: رسم ملك الْأُمَرَاء سيف الدّين تنكز بتوسعة الطّرق بِدِمَشْق كسوق السِّلَاح وَبَاب الْبَرِيد وسوق مَسْجِد الْقصب وخارج بَاب الْجَابِيَة وَأصْلح قنى دمشق وَخَربَتْ أَمْلَاك النَّاس وخسرت عَلَيْهَا أَمْوَال حَتَّى عَادَتْ.
قلت فَقيل فِي ذَلِك:
(يَا جلق الفيحاء لَا تفرحي ... بِمَا جرى من سَعَة الطّرق)
(قد كَانَ فِي طرقك ضيق وَقد ... أصبح مَنْقُولًا إِلَى الرزق)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الصاحب الْكَبِير عز الدّين حَمْزَة بن عَليّ بن القلانسي الدِّمَشْقِي وَدفن بتربتهم بالصالحية ولي الوزارة، وَكَانَ رَئِيس زَمَانه بِدِمَشْق.
وَفِيه: أخرجت كلاب دمشق وألقيت فِي الخَنْدَق وَفصل بَين الْإِنَاث والذكور بحائط لِئَلَّا تتوالد قيل كَانَت خَمْسَة آلَاف كلب.
قلت: لَا يغتر أحد بقول النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة يكره قتل الْكَلْب الَّذِي لَيْسَ بعقور كَرَاهَة تَنْزِيه فَإِن المصنفين مصرحون بِالتَّحْرِيمِ حَتَّى النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْأَمر بقتل الْكلاب مَنْسُوخ، وَقد صَحَّ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر بقتل الْكلاب مرّة، ثمَّ صَحَّ أَنه نهى عَن قَتلهَا، قَالَ: وَاسْتقر الشَّرْع عَلَيْهِ على التَّفْصِيل الْمَعْرُوف فَأمر بقتل الْأسود إِلَيْهِم، وَكَانَ هَذَا فِي الإبتداء وَهُوَ الْآن مَنْسُوخ، هَذَا كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَا مزِيد على تَحْقِيقه وَالله أعلم.(2/282)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ بن الْأَثِير كَانَ كَاتب السِّرّ بِمصْر ثمَّ فلج وَانْقطع فولي مَكَانَهُ القَاضِي مُحي الدّين بن فضل الله.
وَفِيه: مَاتَ الشَّيْخ فتح الدّين بن قرناص الْحَمَوِيّ ولي نظر جَامع حماه، وَله نظم.
وَفِيه: قدم قَاضِي الْقُضَاة علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر الأخناني صُحْبَة نَائِب الشَّام عوضا عَن القونوي.
فِيهِ: توفّي الْوَزير الزَّاهِد الْعَالم أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْوَزير الْأَزْدِيّ الغرناطي بِالْقَاهِرَةِ قَافِلًا من الْحَج بلغ من الجاه بِبَلَدِهِ إِلَى أَنه كَانَ يولي فِي الْملك ويعزل، وَكَانَ ورعاً شرِيف النَّفس عَاقِلا أوصى أَن تبَاع ثِيَابه وَكتبه وَيتَصَدَّق بهَا.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ بِدِمَشْق سيف الدّين بهادر المنصوري بداره شيعه النَّائِب والأعيان.
وَفِيه: مَاتَ مُسْند الْعَصْر شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي طَالب الصَّالِحِي الحجار ابْن شحنة الصالحية توفّي بعد السماع عَلَيْهِ بِنَحْوِ من ساعتين كَانَ ذَا دين وهمة وعقل وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي الثَّبَات وَعدم النعاس، وحصلت لَهُ للرواية خلع ودراهم وَذهب وإكرام، وشيعه الْخلق والقضاة وَنزل النَّاس بِمَوْتِهِ دَرَجَة.
وَفِيه: توفّي قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين عُثْمَان بن كَمَال الدّين مُحَمَّد ابْن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ الْجُهَنِيّ قَاضِي حلب فَجْأَة بعد أَن تَوَضَّأ وَجلسَ بِمَجْلِس الحكم ينْتَظر إِقَامَة الْعَصْر، حج غير مرّة، وَكَانَ يعرف الْحَاوِي فِي الْفِقْه وَشَرحه فِي سِتّ مجلدات، وَكَانَ يعرف الحاجبية والتصريف، وَكَانَ فِيهِ دين وصداقة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَفِيه فِي ربيع الآخر: تولى قَضَاء الْقَضَاء بحلب القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب نقل من طرابلس وَولي طرابلس بعده شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عِيسَى البعلي سَار من دمشق إِلَيْهَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى أنشأ الْأَمِير الْعَالم سيف الدّين مغلطاي النَّاصِر مدرسة حنفية بِالْقَاهِرَةِ ومكتب أَيْتَام.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ الْأَمِير الْعَالم سيف الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن صَلَاح الدّين بن صَاحب الكرك بِالْجَبَلِ وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا.
وَفِيه: وصل الْخَبَر بعافية السُّلْطَان من كسر يَده فزينت دمشق وخلع على الْأُمَرَاء والأطباء.
وَفِيه: مَاتَ بِمَكَّة قاضيها الإِمَام نجم الدّين أَبُو حَامِد.
وَفِيه: مَاتَ الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الهدمة، وَله كرامات وشهرة.
وَفِيه: حضرت رسل الفرنج يطْلبُونَ بعض الْبِلَاد فَقَالَ السُّلْطَان: لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا يقتلُون أَعْنَاقكُم ثمَّ سفروا.(2/283)
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَت زَوْجَة تنكز وَعمل لَهَا تربة حَسَنَة قرب بَاب الخوصين ورباطاً.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ قَاضِي طرابلس شمس الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين عِيسَى الشَّافِعِي البعلي، وَكَانَ صَاحب فنون.
قلت:
(لقد عَاشَ دهراً يخْدم الْعلم جهده ... وَكَانَ قَلِيل الْمثل فِي الْعلم والود)
(فَلَمَّا تولى الحكم مَا عَاشَ طائلاً ... فَمَا هنئ ابْن الْمجد وَالله بالمجد)
وَفِيه: أنشأ الْأَمِير سيف الدّين قوصون الناصري جَامعا عِنْد جَامع طولون عِنْد دَار قتال السَّبع، فَخَطب بِهِ أول يَوْم قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين بِحُضُور السُّلْطَان، وَقرر لخطابته القَاضِي فَخر الدّين مُحَمَّد بن شَاكر.
وفيهَا: فِي شَوَّال مَاتَ رَئِيس الكحالين نور الدّين عَليّ بِمصْر.
وَفِيه: احترقت الْكَنِيسَة الْمُعَلقَة بِمصْر وَبقيت كوماً.
وَفِيه: قدم رَسُول صَاحب الْيمن بهدية فقيد وسجن لِأَن صَاحب الْهِنْد بعث إِلَى السُّلْطَان بِهَدَايَا فَأَخذهَا صَاحب الْيمن وَقتل بعض من كَانَ مَعهَا وَحبس بَعضهم.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ الْأَمِير عَلَاء الدّين قلبرس بن الْأَمِير عَلَاء الدّين طبرس بِدِمَشْق بِالسَّهْمِ وَكَانَ مقدم ألف، وَله مَعْرُوف وَخلف أَمْوَالًا، وَمَات الْأَمِير سيف الدّين كوليجار بالمحمدي.
وفيهَا: بِدِمَشْق فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ المعمر الْمسند زين الدّين أَيُّوب بن نعْمَة، وَكَانَت لحيته شَعرَات يسيرَة، وَكَانَ كحالاً وَمَات بهَا أَيْضا الصَّالح الزَّاهِد الشَّيْخ حسن الْمُؤَذّن بالمأذنة بالشرقية بالجامع، وَكَانَ مجاوراً بِهِ وَمَات بدر الدّين مُحَمَّد بن الْمُوفق إِبْرَاهِيم بن دواد بن الْعَطَّار أَخُو الشَّيْخ عَلَاء الدّين ببستانه وَصَلَاح الدّين يُوسُف بن شيخ السلامية صهر الصاحب وشيعه الْخلق وفجع بِهِ أَبَوَاهُ، وَكَانَ شَابًّا متميزا من أَبنَاء الدُّنْيَا المتنعمين.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِيهَا: وَردت كتب الْحجَّاج بِمَا جرى بِمَكَّة شرفها الله تَعَالَى حول الْبَيْت من ثورة عبيد مَكَّة سَاعَة الْجُمُعَة بالوفد من النهب والجراحة، وَقتل جمَاعَة من الْحجَّاج، وَقتل أَمِير مصري وَهُوَ أيدمر أَمِير جندار وَابْنه، وَلما بلغ السُّلْطَان ذَلِك غضب وجرد جَيْشًا من مصر وَالشَّام للانتقام من فاعلي ذَلِك.
وفيهَا: فِي الْمحرم أَيْضا مَاتَ الْأَمِير الْكَبِير شهَاب الدّين طغان بن مقدم الجيوش سنقر الْأَشْقَر وَدفن بالقرافة جَاوز السِّتين، وَكَانَ حسن الشكل، وَمَات الصَّالح كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الشَّيْخ تَاج الدّين الْقُسْطَلَانِيّ بِمصْر سمع ابْن الدهان وَابْن علاق والنجيب وَحدث، وَكَانَ صوفياً.(2/284)
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة الْحَنْبَلِيّ بِدِمَشْق بالدير ومولده فِي ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ سمع من الشَّيْخ وَابْن النجارية وَأبي بكر الْهَرَوِيّ وَطَائِفَة، وَأَجَازَ لَهُ ابْن عبد الدَّائِم، وَكَانَ عَاقِلا ولي الْقَضَاء بعد ابْن مُسلم وَحج ثَلَاث مَرَّات.
وَمَاتَتْ: أم الْحسن فَاطِمَة بنت الشَّيْخ علم الدّين البرزالي سَمِعت الْكثير من خلق وَحدثت وكتبت ربعَة وَأَحْكَام ابْن تَيْمِية وَالصَّحِيح وحجت وَكَانَت تجتهد يَوْم الْحمام أَن لَا تدخل حَتَّى تصلي الظّهْر وتحرص فِي الْخُرُوج لإدراك الْعَصْر رَحمهَا الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر أَيْضا وصل نهر الساجور إِلَى نهر قويق وانصبا إِلَى حلب بعد غَرَامَة أَمْوَال عَظِيمَة، وتعب من الْعَسْكَر والرعايا بتولية الْأَمِير فَخر الدّين طمان.
وفيهَا: فِي ربيع الأول مَاتَ بحلب الْأَمِير سيف الدّين أرغون الناصري نائبها، وَخرجت جنَازَته بِلَا تَابُوت وعَلى النعش كسَاء بالفقيري من غير ندب وَلَا نياحة وَلَا قطع شعر وَلَا لبس جلّ وَلَا تَحْويل سرج حَسْبَمَا أوصى بِهِ وَدفن بسوق الْخَيل تَحت القلعة وعملت عَلَيْهِ تربة حَسَنَة وَلم يَجْعَل على قَبره سقف وَلَا حجرَة بل التُّرَاب لَا غير.
وَكَانَ متقناً لحفظ الْقُرْآن مواظباً على التلاوت، عِنْده فقه وَعلم، وَيرد أَحْكَام النَّاس إِلَى الشَّرْع الشريف حَتَّى كَانَ بعض الْجُهَّال يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، وَكتب صَحِيح البُخَارِيّ بِخَطِّهِ بعد مَا سَمعه من الْحجاز، واقتنى كبتاً نفيسة وَكَانَ عَاقِلا وَفِيه ديانَة رَحمَه الله.
وفيهَا: فِي صفر أَيْضا ولي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق الشَّيْخ شرف الدّين بن الْحَافِظ واستناب ابْن أَخِيه القَاضِي تَقِيّ الدّين عبد الله بن أَحْمد وَمَات القَاضِي الْفَقِيه الأديب ضِيَاء الدّين عَليّ بن سليم بن ربيعَة الْأَذْرَعِيّ الشَّافِعِي بالرملة نَاب عَن القَاضِي عز الدّين بن الصَّائِغ وناب بِدِمَشْق عَن القونوي، ونظم التَّنْبِيه فِي الْفِقْه فِي سِتَّة عشر الف بَيت وشعره كثير.
وَمَات: الرئيس زين الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد بن النصيبي بحلب سمع من شيخ الشُّيُوخ عز الدّين مُسْند الْعشْرَة وَحدث قَارب الثَّمَانِينَ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر مَاتَ الْأَمِير سيف الدّين طرشي الناصري بِمصْر أَمِير مائَة حج غير مرّة، وَفِيه ديانَة، وَمَات الشَّيْخ عَلَاء الدّين بن صَاحب الجزيرة الْملك الْمُجَاهِد إِسْحَاق بن صَاحب الْموصل لُؤْلُؤ بِمصْر سمع جُزْء بن عَرَفَة من النجيب الوجمعة من ابْن علاق.
وَكَانَ جندياً لَهُ ميرة وَمَات بحلب نور الدّين حسن بن الشَّيْخ الْمقري جمال الدّين الفاضلي، روى عَن زَيْنَب بنت مكي، وَكَانَ كَاتبا بحلب، وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر البرواني بِمصْر فَجْأَة، كَانَ أَمِير خمسين من الشجعان، وَمَات الصَّالح الْمسند شرف الدّين أَحْمد بن عبد المحسن بن الرّفْعَة الْعَدوي سمع وَحدث وَمَات لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع وَعشْرين(2/285)
ربيع الآخر، وَمَات بدر الدّين مُحَمَّد بن ناهض أَمَام الفردوس بحلب سمع عوالي الغيلانيات الْكَبِير على القطب ابْن عصرون وَحدث وَله نظم، وَمَات رَئِيس المؤذنين بِجَامِع الْحَاكِم نجم الدّين أَيُّوب بن عَليّ الصُّوفِي وَكَانَ بارعاً فِي فنه، لَهُ أوضاع عَجِيبَة وآلات غَرِيبَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عَاد الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا إِلَى نِيَابَة حلب وَفَرح النَّاس بِهِ وأظهروا السرُور.
وفيهَا: حضر بِمَكَّة الْأَمِير رميثة بن أبي نمى الحسني وَقُرِئَ تَقْلِيده، وَلبس الخلعة بِولَايَة مَكَّة، وَحلف مقدم الْعَسْكَر الَّذين وصلوا إِلَيْهِ والأمراء لَهُ بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة، وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَكَانَ وُصُول الْجَيْش إِلَى مَكَّة سَابِع عشر ربيع الآخر.
وَفِيه: مَاتَ الإِمَام الْوَرع موفق الدّين أَبُو الْفَتْح الْجَعْفَرِي الْمَالِكِي وشيعه خلق إِلَى القرافة، وقارب السّبْعين وَلم يحدث، وَمَات الْعدْل المعمر برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الْكَرِيم الْعَنْبَري، بَاشر الصَّدقَات والأيتام والمساجد، وَهُوَ خَال ابْن الزملكاني، وَمَات القَاضِي تَاج الدّين بن النظام الْمَالِكِي بِالْقَاهِرَةِ، وَمَات " أَبُو دبوس " المغربي بِمصْر قيل أَنه ولي مملكة قابس ثمَّ أخذت مِنْهُ فترح فَأعْطِي إقطاعاً فِي الْحلقَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ القَاضِي التَّاج أَبُو إِسْحَاق عبد الْوَهَّاب بن عبد الْكَرِيم وَكيل السُّلْطَان وناظر الْخَواص بِمصْر.
وَفِيه: وصل إِلَى دمشق الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى مَكَّة ومقدمهم الجي بغا غَابُوا خَمْسَة أشهر سوى أَرْبَعَة أَيَّام وَأَقَامُوا بِمَكَّة شهرا وَيَوْما وَحصل بهم الرعب فِي قُلُوب الْعَرَب وهرب من بَين أَيْديهم عظيفة والأشراف بأهلهم وثقلهم، وَعوض عَن عطيفة بأَخيه رميثة وَقرر مَكَانَهُ.
وَمَات الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي العادلي الدواتدار بِمصْر، وَكَانَ دينا وَله سَماع، وَمَات الْمجد بن اللفنية نَاظر الدَّوَاوِين بِالْقَاهِرَةِ، وَمَات الرئيس تَاج الدّين بن الدماملي كَبِير الكرامية بِمصْر قيل ترك مائَة ألف دِينَار وَوصل الْحَاج عمر بن جَامع السلَامِي إِلَى دمشق من إصْلَاح عين تَبُوك جمع لَهَا من التُّجَّار دون عشْرين ألفا وأحكمت.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بِمصْر الْعَلامَة فَخر الدّين عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم التركماني سمع من الأبرقوهي وَشرح الْجَامِع الْكَبِير وألقاه فِي المنصورية دروساً، وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق.
فصيحاً ودرس بهَا بعده ابْنه.
وَمَات: بِمصْر القَاضِي جمال الدّين بن عمر البوزنجي الْمَالِكِي معيد المنصورية.
وفيهَا: فِي شعْبَان كَانَ بِدِمَشْق ريح عَاصِفَة حطمت الْأَشْجَار، ثمَّ وَقع فِي تاسعه برد عَظِيم قدر البندق.(2/286)
وَفِيه: جَاءَ من الكرك الْملك أَحْمد بن مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر وختن بعد ذَلِك بأيام وأنفذ إِلَى الكرك أَخ لَهُ اسْمه إِبْرَاهِيم.
وَمَات سيف الدّين قشتمر الطباخي الناصري بِمصْر كهلاً تفقه لأبي حنيفَة، وَكَانَ دينا، وأحدثت بِالْمَدْرَسَةِ المعزية على شاطئ النّيل الْخطْبَة وخطب عز الدّين عبد الرَّحِيم بن الْفُرَات حَنَفِيّ رتب ذَلِك سيف الدّين طقز دمر أَمِير الْجَيْش.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قدم دمشق الْعَلامَة تَاج الدّين عمر بن عَليّ اللَّخْمِيّ بن الْفَاكِهَانِيّ الْمَالِكِي من الْإسْكَنْدَريَّة لزيارة الْقُدس وَالْحج فَحدث بِبَعْض تصانيفه، وَسمع الشِّفَاء وجامع التِّرْمِذِيّ من ابْن طرخان وصنف جُزْءا فِي أَن عمل المولد فِي ربيع الأول بِدعَة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ الصاحب تَقِيّ الدّين بن السلعوس بِالْقَاهِرَةِ فَجْأَة حج وَسمع من القارون.
وَمَات القَاضِي جمال الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن القلانسي التَّمِيمِي، ودرس بالأمينية والظاهرية وَعمل الْإِنْشَاء بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْأَمِير نجم الدّين البطاحي ولي أستاذ دارية السلطنة، وَمَات أَمِين الدّين بن البض، أنْفق أَمْوَالًا فِي بِنَاء خَان المزيرب وَفِي بِنَاء مَسْجِد الذُّبَاب والمأذنة قيل أنْفق فِي وُجُوه الْبر مِائَتي ألف وَخمسين ألفا وَمَات بِدِمَشْق الْأَمِير ركن الدّين عمر بن بهادر، وَكَانَ مليح الشكل وَجَاء التَّقْلِيد بمناصب جمال الدّين بن القلانسي لِأَخِيهِ.
ثمَّ دخلت سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْكَبِير العابد الْمقري أَبُو عبد الرَّحْمَن بن أبي مُحَمَّد بن سُلْطَان القرامزي الْحَنْبَلِيّ بجوبر وَدفن بتربة لَهُ جوَار قبَّة القلندرية بِدِمَشْق.
وَكَانَ مَشْهُورا بالمشيخة يتَرَدَّد إِلَيْهِ النَّاس سمع من ابْن أبي الْيُسْر وَابْن عَسَاكِر وَحدث بِدِمَشْق ومصر، وَقَرَأَ بالروايات على الشَّيْخ حسن الصّقليّ.
وَمَات الْأَمِير الْكَبِير علم الدّين الدميثري ولي نِيَابَة قلعة دمشق مُدَّة وَحصل بحمص سيل عَظِيم هلك بِهِ خلائق وَمَات بحمام تنكز بهَا نَحْو مِائَتي إمرأة وصغير وصغيرة وَجَمَاعَة رجال دخلُوا ليخلصوا النِّسَاء وَهلك بعض المتفرجين بالجزيرة وانهدمت دَار المستوفي وَهلك ابْنه وصاروا يخرجُون الْمَوْتَى من بواليع الْحمام والقمين وَكَانَ بالحمام عروس فَلهَذَا كثر النِّسَاء بالحمام، وَمَات بِمصْر الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي وزر بِمصْر وَحج بالمصريين.
وَمَات: السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل بن الْملك الْأَفْضَل على صَاحب حماه، وَله تصانيف حَسَنَة مَشْهُورَة مِنْهَا أصل هَذَا الْكتاب ونظم الْحَاوِي وَشَرحه شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين بن الْبَارِزِيّ شرحاً حسنا، وَله كتاب تَقْوِيم الْبلدَانِ وَهُوَ حسن فِي بَابه، تسلطن بحماه فِي أول سنة عشْرين بعد نيابتها رَحمَه الله تَعَالَى.(2/287)
وَكَانَ سخياً محباً للْعلم وَالْعُلَمَاء، متقناً يعرف علوماً، وَلَقَد رَأَيْت جمَاعَة من ذَوي الْفضل يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ فِي الْمُلُوك بعد الْمَأْمُون أفضل مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الجزيرة شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن نصر الشَّافِعِي، وَكَانَ لَهُ تعالق بالدولة ومكاتبة من بَلَده، ثمَّ تحول إِلَى دمشق.
وَفِيه: تملك حماه " السُّلْطَان الْملك الْأَفْضَل " نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْملك الْمُؤَيد على قَاعِدَة أَبِيه وَهُوَ ابْن عشْرين سنة.
وفيهَا فِي ربيع الأول مَاتَ بِالْقَاهِرَةِ القَاضِي الإِمَام الْمُحدث تَاج الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْغفار بن مُحَمَّد بن عبد الْكَافِي بن عوض السَّعْدِيّ سعد خدام الشَّافِعِي، ولد سنة خمسين وسِتمِائَة تفقه وَقَرَأَ النَّحْر على الْأمين الْمحلي وَسمع من ابْن عزوة وَابْن عَلان وَجَمَاعَة وارتحل فلقي بالثغر عُثْمَان بن عَوْف وَعمل مُعْجَمه فِي ثَلَاث مجلدات، وَأَجَازَ لَهُ ابْن عبد الدَّائِم، وروى الْكثير وَخرج أَرْبَعِينَ تساعيات وَأَرْبَعين مسلسلات.
وَكَانَ حسن الْخط والضبط متقناً، ولي مشيخة الحَدِيث بالصاحبية وَأفْتى، وَذكر أَنه كتب بِخَطِّهِ أَزِيد من خَمْسمِائَة مُجَلد، وَمَات بِدِمَشْق الْعَلامَة رَضِي الدّين إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان الرُّومِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالمنطقي بِدِمَشْق بالنورية، وَكَانَ دينا متواضعاً محسناً إِلَى تلامذته حج سبع مَرَّات، وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين طنبغا السلحدار عمل نِيَابَة حمص ثمَّ نِيَابَة غَزَّة وَبهَا مَاتَ وَحج بالشاميين سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة.
وَمَات بِمَكَّة خطيبها الإِمَام بهاء الدّين مُحَمَّد بن الْخَطِيب تَقِيّ الدّين عبد الله بن الشَّيْخ الْمُحب الطَّبَرِيّ لَهُ نظم ونثر وخطب، وَفِيه كرم ومروءة وفصاحة وخطب بعده أَخُوهُ التَّاج عَليّ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر ركب بشعار السلطنة الْملك الْأَفْضَل الْحَمَوِيّ بِالْقَاهِرَةِ وَبَين يَدَيْهِ الغاشية، ونشرت العصائب السُّلْطَانِيَّة والخليفية على رَأسه وَبَين يَدَيْهِ الْحجاب وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وفرسه بِالرَّقَبَةِ بالشبابة وَصعد القلعة هَكَذَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الإِمَام شرف الدّين حسن بن الْحَافِظ أبي مُوسَى بن الْحَافِظ الْكَبِير عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ فَجْأَة، كَانَ شَيخا مُبَارَكًا.
وَمَات فَخر الدّين عَليّ بن سُلَيْمَان طَالب بن كثيرات بِدِمَشْق وَمَات بالإسكندرية الصَّالح الْقدْوَة الشَّيْخ ياقوت الحبشي الإسكندري الشاذلي، وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة، وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ، كَانَ من أَصْحَاب أبي الْعَبَّاس المرسي.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الإِمَام الصَّالح عز الدّين عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ الْعِزّ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي عمر الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ سمع أَبَاهُ وَابْن عبد الدَّائِم وَجَمَاعَة، وَكَانَ خيرا بشوشاً رَأْسا فِي الْفَرَائِض.(2/288)
وَمَات بِدِمَشْق الناصح مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن قَاسم الدِّمَشْقِي النَّقِيب الجنائزي، كَانَ خَبِيرا بألقاب النَّاس يحصل الدَّرَاهِم وَالْخلْع ويتقيه النَّاس عفى الله عَنهُ.
وَمَات بِمصْر فَخر الدّين بن مُحَمَّد بن فضل الله كَاتب المماليك نَاظر الجيوش المصرية، كَانَ لَهُ بر وَعَدَمه النَّاس وَعرفُوا قدره بوفاته فَإِنَّهُ كَانَ يُشِير على السُّلْطَان بالخيرات وَيرد عَن النَّاس أموراً معظمات.
قلت:
(وَكم أُمُور حدثت بعده ... حَتَّى بَكت حزنا عَلَيْهِ الرتوت)
(لَو لم يمت مَا عرفُوا قدره ... مَا يعرف الْإِنْسَان حَتَّى يَمُوت)
سمع من ابْن الأبرقوهي واحتيط على حواصله وَمَات شيخ الْقُرَّاء شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحي بن أبي الحزم سبط السلعوس النابلسي ثمَّ الدِّمَشْقِي ببستانه بِبَيْت لهيا، وَكَانَ سَاكِنا وقوراً.
وَمَات بِمصْر الْأَمِير سيف الدّين إيجية الدواتدار الناصرية الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كهلاً، وَولي المنصب بعده الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد، ثمَّ عزل بعد مُدَّة.
وفيهَا: فِي شعْبَان كَانَ عرس الْملك مُحَمَّد بن السُّلْطَان على زَوجته بنت بكتمر الساقي وسوارها ألف ألف دِينَار مصرية، وَذبح خيل وجمال وبقر وغنم وأوز ودجاج فَوق عشْرين ألف رَأس وَحمل لَهُ ألف قِنْطَار شمع وَعقد لَهُ ثَمَانِيَة عشر ألف قِنْطَار حلوى سكرية وَأنْفق على هَذَا الْعرس أَشْيَاء لَا تحصى.
وَمَات: بِالْقَاهِرَةِ جمال الدّين مُحَمَّد بن بدر الدّين مُحَمَّد بن جمال الدّين مُحَمَّد بن مَالك الطَّائِي الجياني بلغ الْخمسين، وَسمع من ابْن النجاري جرأ خرجه لَهُ عَمه، وَله نظم جيد وَله يحدث.
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين ساطي صهر سلار من الْعُقَلَاء وَفِيه ديانَة وَله حُرْمَة وافرة وَمَات بِدِمَشْق أَمِين الدّين سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّبِيب تلميذ الْعِمَاد الدنيسري كَانَ سعيداً فِي علاجه وَحصل أَمْوَالًا.
قلت:
(مَاتَ سُلَيْمَان الطَّبِيب الَّذِي ... أعده النَّاس لسوء المزاج)
(لم يفده طب وَلم يغنه ... علم وَلم يَنْفَعهُ حسن العلاج)
كَانَ مقدما على المداواة ودرس بالدخوارية مُدَّة وعاش نَحْو سبعين سنة.
وَفِيه: طَغى مَاء الْفُرَات وارتفع وَوصل إِلَى الرحبة وَتَلفت زروع، وانكسر السكر بدير بسير كسرا ذرعه اثْنَان وَسَبْعُونَ ذِرَاعا وَحصل تألم عَظِيم وَعمِلُوا السكر فَلَمَّا قَارب الْفَرَاغ انْكَسَرَ مِنْهُ جَانب وغلت الأسعار بِهَذَا السَّبَب وتعب النَّاس بصعوبة هَذَا الْعَمَل.(2/289)
وفيهَا: فِي رَمَضَان أَمر بِدِمَشْق الْأَمِير عَليّ بن نَائِب دمشق سيف الدّين تنكز وَلبس الخلعة عِنْد قبر نور الدّين الشَّهِيد الْمَشْهُور بإجابة الدُّعَاء عِنْده، وَمَشى الْأُمَرَاء فِي خدمته إِلَى العتبة السُّلْطَانِيَّة فقبلها.
وَفِيه: نقل من دمشق إِلَى كِتَابَة السِّرّ بالأبواب السُّلْطَانِيَّة القَاضِي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ شهَاب الدّين مَحْمُود، وَنقل إِلَى دمشق القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله وَولده وَمَات بِدِمَشْق فَجْأَة الْأَمِير سيف الدّين بلبان العنقاوي الزراق السَّاكِن بالسبعة، وَقد جَاوز السّبْعين من أُمَرَاء الْأَرْبَعين وَمَات شيخ الْقُرَّاء ذُو الْفُنُون برهَان الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عمر الجعبري الشَّافِعِي بالخليل ومولده سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة، وتصانيفه كَثِيرَة إشتغل بِبَغْدَاد، وَقَرَأَ التَّعْجِيز على مُصَنفه بالموصل وَأقَام شَيخا أَرْبَعِينَ سنة.
وَمَات: بِمصْر الْأَمِير سيف الدّين سلامش الظَّاهِرِيّ أَمِير خمسين وَقد قَارب التسعين، وَكَانَ دينا صَالحا.
وفيهَا: فِي شَوَّال توجه السُّلْطَان لِلْحَجِّ بأَهْله ومعظم أمرائه فِي حشمة عَظِيمَة، وَمَات الإِمَام شهَاب الدّين أَبُو أَحْمد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَسْكَر الْمَالِكِي مدرس المستنصرية بِبَغْدَاد وَله مصنفات فِي الْفِقْه، وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق ولد فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين بِبَاب الأزج.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ بن الأخنائي بالعادلية بِدِمَشْق وَدفن بسفح قاسيون، كَانَ من شُهُود الخزانة بِمصْر ثمَّ جعل حَاكما بالإسكندرية ثمَّ بِدِمَشْق وَكتب الحكم لِابْنِ دَقِيق الْعِيد ولازم الدمياطي مُدَّة وَسمع من أبي بكر بن الْأنمَاطِي وَجَمَاعَة ومولده عَاشر رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
وَكَانَ عفيفاً فَاضلا عَاقِلا نزهاً متديناً محباً للْحَدِيث وَالْعلم، شرح بعض كتاب البُخَارِيّ.
وَفِيه: وَفِي النّيل قبل النيروز بِثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا وَبلغ أحد عشر من تِسْعَة عشر وَهَذَا لم يعْهَد من سِتِّينَ سنة وغرق أَمَاكِن وأتلف للنَّاس من الْقصب مَا يزِيد على ألف ألف دِينَار وَثَبت على الْبِلَاد أَرْبَعَة أشهر.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ قطب الدّين مُوسَى بن أَحْمد بن حسان ابْن الشَّيْخ السلامية.
وَكَانَ نَاظر الْجَيْش الشَّامي وَمرَّة الْمصْرِيّ، وَدفن بتربة أَنْشَأَهَا بِجنب جَامع الأفرم وعاش اثْنَتَيْنِ وَسبعين ورثاه عَلَاء الدّين بن غَانِم.
وَمَات الشَّيْخ الصَّالح الْمقري شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّجْم أبي تغلب بن أَحْمد بن أبي تغلب الفاروثي وَيعرف بالمربي، جَاوز الثَّمَانِينَ، كَانَ معلما فِي صَنْعَة الأقباع ويقرئ(2/290)
صبيانه وَيَتْلُو كثيرا، قَرَأَ بالسبع على الْكَمَال الْمحلي قَدِيما، وَمَات الْعَلامَة الْخَطِيب جمال الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد بن مظفر بن حَمَّاد الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي خطيب جَامع حماه كَانَ عَالما دينا سمع جُزْء الْأنْصَارِيّ من مؤهل البالسي والمقدار الْقَيْسِي وَحدث واشتغل وَأفْتى، وَكَانَ على قدم من الْعَادة والإفادة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَمَات الْعَلامَة شمس الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن قَاضِي الْقُضَاة الْحَافِظ سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد الْحَارِثِيّ بِالْقَاهِرَةِ تصدر للأقراء وَحج مَرَّات وجاور وَسمع من الْعِزّ الْحَرَّانِي وَجَمَاعَة.
وَكَانَ ذَا تعبد وتصون وجلالة، قَرَأَ النَّحْو على ابْن النّحاس وَالْأُصُول على ابْن دَقِيق الْعِيد، ومولده سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة، وَولي بعده تدريس المنصورية قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين.
وَمَات كَبِير الْأُمَرَاء سيف الدّين بكتمر الناصري الساقي بعد قَضَاء حجه وَابْنه الْأَمِير أَحْمد أَيْضا وَخلف مَا لَا يُحْصى كَثْرَة، مَاتَا بعيون الْقصب بطرِيق مَكَّة ونقلا إِلَى تربَتهَا بالقرافة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم أطلق الصاحب شمس الدّين غبريال بعد مصادرة كَثِيرَة.
وَمَات بِدِمَشْق نقيب الْأَشْرَاف شرف الدّين عدنان الْحُسَيْنِي ولي النقابة على الْأَشْرَاف بعد موت أَبِيه وَاسْتمرّ بهَا تسع عشرَة سنة وهم بَيت تشيع.
وفيهَا: فِي صفر وصل الْخَبَر بِمَوْت مُحدث بَغْدَاد تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن عَليّ بن مَحْمُود بن مقبل الدقوقي كَانَ يحضر مَجْلِسه خلق كثير لفصاحته وَحسن آدابه، وَله نظم وَولى مشيخة المستنصرية وَحدث عَن الشَّيْخ عبد الصَّمد وَجَمَاعَة وَكَانَ يعظ وَحمل نعشه على الرؤس وَمَا خلف درهما.
وَفِيه: قدم أَمِين الْملك عبد الله الصاحب على نظر دمشق وَهُوَ سبط السديد الشَّاعِر.
وَمَات: بِدِمَشْق الشَّيْخ كَمَال الدّين عمر بن إلْيَاس المراغي، كَانَ عَالما عابداً سمع منهاج الْبَيْضَاوِيّ من مُصَنفه.
وفيهَا: فِي ربيع الأول ولي الْقَضَاء بِدِمَشْق الْعَلامَة جمال الدّين يُوسُف بن جملَة بعد الأخنائي.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توجه القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله وَابْنه إِلَى الْبَاب الشريف وتحول إِلَى مَوْضِعه بِدِمَشْق القَاضِي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود وَولي نقابة الْأَشْرَاف بِدِمَشْق عماد الدّين مُوسَى بن عدنان، وَفِي خَامِس عشر شعْبَان من سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة دخل الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ القندشي إِلَى حلب شاداً على المملكة وعَلى يَده تَذَاكر وصادر المباشرين وَغَيرهم.(2/291)
وَمِنْهُم النَّقِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة الْحُسَيْنِي وَالْقَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان نَاظر الْجَيْش وناظر الدّين مُحَمَّد بن قرناص عَامل الْجَيْش وَعَمه المحبي عبد الْقَادِر عَامل المحلولات والحاج وَإِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن العزازي والحاج عَليّ بن السقا وَغَيرهم، وَاشْتَدَّ بِهِ الْخطب وانزعج بِهِ النَّاس كلهم حَتَّى البريؤن وقنت النَّاس فِي الصَّلَوَات وَقلت فِي ذَلِك:
(قلبِي لعمر الله مَعْلُول ... بِمَا جرى للنَّاس مَعَ لولو)
(يَا رب قد شرد عَنَّا الْكرَى ... سيف على الْعَالم مسلول)
(وَمَا لهَذَا السَّيْف من مغمد ... سواك يَا من لطفه السول)
كَانَ لُؤْلُؤ هَذَا مَمْلُوكا لقندش ضَامِن المكوس بحلب ثمَّ ضمن هُوَ بعد أستاذه الْمَذْكُور ثمَّ صَار ضَامِن الْعداد ثمَّ صَار أَمِير عشرَة، ثمَّ أَمِير طبلخانات ثمَّ صَار مِنْهُ مَا صَار ثمَّ أَنه عزل وَنقل إِلَى مصر وأراح الله أهل حلب مِنْهُ فَعمل بِمصْر أقبح من عمله بحلب وَتمكن وعاقب حَتَّى نسَاء مخدرات وصادر خلقا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ عز الْقُضَاة فَخر الدّين بن الْمُنِير الْمَالِكِي من الْعلمَاء ذَوي النّظم والنثر، وَألف تَفْسِيرا وأرجوزة فِي السَّبع، وَمَات قَاضِي المجدل بدر الدّين مُحَمَّد بن تَاج الدّين الجعبري.
وَمَات قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الْكِنَانِي الْحَمَوِيّ بِمصْر لَهُ معرفَة بفنون وعدة مصنفات حسن الْمَجْمُوع كَانَ ينطوي على دين وَتعبد وتصون وتصوف وعقل ووقار وجلالة وتواضع، درس بِدِمَشْق ثمَّ ولي قَضَاء الْقُدس ثمَّ قَضَاء الديار المصرية ثمَّ قَضَاء الشَّام ثمَّ قَضَاء مصر، وَولي مشيخة الحَدِيث بالكاملية ومشيخة الشُّيُوخ وحمدت سيرته ورزق الْقبُول من الْخَاص وَالْعَام وَحج مَرَّات وتنزه عَن مَعْلُوم الْقَضَاء لغناه مُدَّة وَقل سَمعه فِي الآخر قَلِيلا فعزل نَفسه ومحاسنه كَثِيرَة.
وَمن شعره:
(لم أطلب الْعلم للدنيا الَّتِي ابْتَغَيْت ... من المناصب أَو للجاه وَالْمَال)
(لَكِن مُتَابعَة الأسلاف فِيهِ كَمَا ... كَانُوا فَقدر مَا قد كَانَ من حَالي)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ الرئيس تَاج الدّين طالوت بن نصير الدّين بن الْوَجِيه بن سُوَيْد بِدِمَشْق حدث عَن عمر القواس، وعاش خمسين سنة وَهُوَ سبط الصاحب جمال الدّين بن صصرى، وَكَانَ فِيهِ دين وبر وَله أَمْوَال، وَمَات الْعَلامَة مفتي الْمُسلمين شهَاب بن أَحْمد بن جهبل الشَّافِعِي بِدِمَشْق، درس بالصلاحية، وَولي مشيخة الظَّاهِرِيَّة ثمَّ تدريس الباذرانية، وَله محَاسِن وفضائل وَمَات الْأَمِير علم الدّين طرقشي المشد بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة تَاج الدّين بن مَحْمُود الفارقي بِدِمَشْق عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سنة، وَكَانَ عابداً عَاقِلا فَقِيها عفيف النَّفس كَبِير الْقدر، ملازماً للجامع(2/292)
عالج الصّرْف مُدَّة، ثمَّ ترك وأتجر فِي البضائع وَحدث عَن عمر بن القواس وَغَيره، وَمَات صاحبنا الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن بدر حسن بن المرواني إِلَى نَائِب بعلبك، ثمَّ وَالِي الْبر بِدِمَشْق، وَكَانَ فِيهِ دين كثير التِّلَاوَة محباً للفضل والفضلاء، ولي وَالِده النِّيَابَة بقصير أنطاكية طَويلا وَبهَا مَاتَ.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ الْخَطِيب بالجامع الْأَزْهَر عَلَاء الدّين بن عبد المحسن بن قَاضِي الْعَسْكَر الْمدرس بالظاهرية والأشرفية بالديار المصرية.
وَفِيه: دخل القَاضِي تَاج الدّين مُحَمَّد بن الزين حلب مُتَوَلِّيًا كِتَابَة السِّرّ وَلبس الخلعة وباشر وَأَبَان عَن تعفف عَن هَدَايَا النَّاس.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ بِدِمَشْق الْأَمِير عَلَاء الدّين أوران الْحَاجِب وَكَانَ ينطوي على ظلم من أَوْلَاد الأكراد.
وَمَات: بحماه زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن الْبَارِزِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْوَلِيّ، كَانَ وَكيل بَيت المَال بهَا، وَبنى بهَا جَامعا وَكَانَت لَهُ مكانة مُرُوءَة ومنزلة عِنْد صَاحب حماه.
وَمَات مُسْند الشَّام المعمر تَاج الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُحدث تَقِيّ الدّين إِدْرِيس، كَانَ فِيهِ خير وديانة.
وَمَات: بحماه شيخ الشُّيُوخ فَخر الدّين عبد الله بن التَّاج كَانَ صواماً عابداً ذَا سكينَة سمع من وَالِده.
وَمَات الإِمَام المؤرخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب الشَّافِعِي بِالْقَاهِرَةِ، وَله تَارِيخ فِي ثَلَاثِينَ مجلداً كَانَ ينْسَخ فِي الْيَوْم ثَلَاثَة كراريس وفضيلته تَامَّة عَاشَ خمسين سنة.
وَمَات الإِمَام جمال الدّين حُسَيْن بن مَحْمُود الربعِي البالسي بِالْقَاهِرَةِ قَرَأَ بالروايات، وَكَانَ شيخ الْقُرَّاء، وَله وظائف كَثِيرَة أَو بالشجاعي ثمَّ أم بالسلطان نيفاً وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ عَالما كثير التَّهَجُّد.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة أَخذ حَاجِب الْعَرَب بِدِمَشْق عَليّ بن مقلد فَضرب وَحبس وَأخذ مَاله وَقطع لِسَانه وعزل نَاصِر الدّين الدواتدار وَضرب وصودر وأخد مِنْهُ مَال جزيل وَأبْعد إِلَى الْقُدس ثمَّ قطع لِسَان ابْن مقلد مرّة ثَانِيَة فَمَاتَ آخر الْيَوْم.
قلت:
(أوصيك فَإِن قبلت مني ... أفلحت ونلت مَا تحب)
(لَا تدن من الْمُلُوك يَوْمًا ... فالبعد من الْمُلُوك قرب)
وَمَات: بحلب أَمِين الدّين عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه الشَّافِعِي المواقيتي سبط الْأَبْهَرِيّ، وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي الرياضي وَالْوَقْت والعمليات ومشاركة فِي فنون، وَكَانَ عِنْده لعب فنفق عِنْد(2/293)
الْملك الْمُؤَيد بحماه، وَتقدم ثمَّ بعده تَأَخّر وتحول إِلَى حلب وَمَات بهَا.
قلت: وَأهل حماه يطعنون فِي عقيدته ويعجبني بيتان الثَّانِي مِنْهُمَا مضمن لَا لِكَوْنِهِمَا فِيهِ فَإِن سَرِيرَته عِنْد الله بل لحسن صناعتهما وهما:
(إِلَى حلب خُذ عَن حماه رِسَالَة ... أَرَاك قبلت الْأَبْهَرِيّ المنجما)
(فَقولِي لَهُ ارحل لَا تقيمن عندنَا ... وَإِلَّا فَكُن فِي السِّرّ والجهر مُسلما)
وَمَات: الزَّاهِد الْوَلِيّ أَبُو الْحسن الوسطي العابد محرما ببدر قيل أَنه حج، وَله ثَمَان عشرَة سنة، ثمَّ لَازم الْحَج، وجاور مَرَّات، وَكَانَ عَظِيم الْقدر منقبضاً عَن النَّاس.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْأَمِير الْكَبِير مغلطاي، كَانَ مقدم ألف بِدِمَشْق وَمَاتَتْ الشيخة المسندة الجليلة أم مُحَمَّد أَسمَاء بنت مُحَمَّد بن صصري أُخْت قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين سَمِعت وَحدثت وَكَانَت مباركة كَثِيرَة الْبر وحجت مَرَّات، وَكَانَت تتلو فِي الْمُصحف وتتعبد.
قلت:
(كَذَلِك فلتكن أُخْت ابْن صصري ... تفوق على النِّسَاء صبي وشيبا)
(طراز الْقَوْم انثى مثل هذي ... وَمَا التَّأْنِيث لاسم الشَّمْس عَيْبا)
وَمَات أَيْضا بِدِمَشْق عز الدّين إِبْرَاهِيم بن القواس بالعقيبة، ووقف دَاره مدرسة وَأمْسك حَاجِب مصر سيف الدّين الماس أَخُوهُ قُرَّة تمر وَوجد لَهما مَال عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي أول الْمحرم مِنْهَا أفرج عَن الْأَمِير بدر الدّين القرماني والأمير سيف الدّين إِسْلَام وأخيه وخلع عَلَيْهِم.
وَتُوفِّي بالقدس خَطِيبه وقاضيه الشَّيْخ عماد الدّين عمر النابلسي.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان الْأَذْرَعِيّ الشَّافِعِي، ويكنى أَبَا دَاوُد أَيْضا بالسكتة، ولي الْقَضَاء بِمصْر ثمَّ بِالشَّام مُدَّة، وَكَانَ عَلَيْهِ سكينَة ووقار، وأحضر نَاصِر الدّين الدواتدار إِلَى مخدومه سيف الدّين تنكز فَضرب وأهين وكمل عَلَيْهِ مَال يقوم بِهِ وحصلت صعقة أتلفت الكروم والخضروات بغوطة دمشق.
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين صلعنة الناصري، وَكَانَ دينا يبْدَأ النَّاس بِالسَّلَامِ فِي الطرقات.
وَمَات بطرابلس نائبها الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي المنصوري من كبار الْأُمَرَاء، حج وَأنْفق كثيرا فِي سبل الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى.
وَمَات: بحماه قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَبُو الْقَاسِم عمر بن الصاحب كَمَال الدّين الْعقيلِيّ الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن العديم، وَكَانَ لَهُ فنون وأدب وَخط وَشعر ومروءة غزيرة، وعصبية لم تحفظ عَلَيْهِ أَنه شتم أحدا مُدَّة ولَايَته وَلَا خيب قاصده.(2/294)
قلت:
(قد كَانَ نجم الدّين شمساً أشرقت ... بحماه للداني بهَا وَالْقَاضِي)
(عدمت ضِيَاء ابْن العديم فأنشدت ... مَاتَ الْمُطِيع فيا هَلَاك العَاصِي)
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْأَمِير سيف الدّين طرنا الناصري أَمِير مائَة ألف مقدم بِدِمَشْق.
وَمَات: جمال الدّين فرج بن شمس الدّين قرا سنقر المنصوري ورسم تنكز نَائِب السلطنة بعمارة بَاب توما وإصلاحه فعمر عمَارَة حَسَنَة وَرفع نَحْو عشرَة أَذْرع ووسع وجدد بَابه.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر وصل جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك إِلَى طرابلس نَائِبا بهَا عوضا عَن طرطاي رَحمَه الله تَعَالَى، وَوصل سيل إِلَى ظَاهر دمشق هدم بعض المساكن وَخَافَ النَّاس مِنْهُ، ثمَّ نقص يَوْمه ولطف الله تَعَالَى.
وَتوفيت أم الْخَيْر خَدِيجَة المدعوة ضوء الصَّباح، وَكَانَت تكْتب تخطها فِي الإجازات ودفنت بالقرافة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي الْفَاضِل بدر الدّين مُحَمَّد بن شرف الدّين أبي بكر الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن السمين بحماه، وَكَانَ أَبوهُ من فصحاء الْقُرَّاء رحمهمَا الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي بحلب شرف الدّين أَبُو طَالب عبد الرَّحْمَن بن القَاضِي عماد الدّين بن العجمي سمع الشمايل على وَالِده وَحدث وَأقَام مَعَ وَالِده بِمَكَّة فِي صباه أَربع سِنِين.
وَكَانَ شَيخا مُحْتَرما من أَعْيَان الْعُدُول وَعِنْده سَلامَة صدر رَحمَه الله تَعَالَى. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن الصَّيْمَرِيّ بن وَاقِف المارستان بالصالحية.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل كتاب من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة يذكر فِيهِ أَن وَادي العقيق سَالَ من صفر وَإِلَى الْآن، وَدخل السَّيْل قبَّة حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وَبَقِي النَّاس عشْرين يَوْمًا مَا يصلونَ إِلَى الْقبَّة وَأخذ نخلا كثيرا وَخرب أَمَاكِن، وَمَات الْأَمِير عز الدّين نقيب العساكر المصرية وَدفن بالقرافة، وَمَات الْأمين نَاصِر الدّين بن سُوَيْد التكريتي سمع على جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن طبرزد وَحدث وَكَانَ لَهُ بر وصدقات وَحج مَرَّات وجاور بِمَكَّة، وَمَات الشَّيْخ الْعَالم الرباني الزَّاهِد بَقِيَّة السّلف نجم الدّين اللَّخْمِيّ (القبائي) الْحَنْبَلِيّ بحماه وَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة وَحمل على الرؤوس سمع مُسْند الدَّارمِيّ وَحدث.
وَكَانَ فَاضلا فَقِيها فرضياً جليل الْقدر وفضائله وتقلله من الدُّنْيَا وزهده مَعْرُوف نفعنا الله ببركته والقباب الْمَنْسُوب إِلَيْهَا قَرْيَة من قرى أشوم الرُّمَّان مُتَّصِلَة بثغر دمياط.
قلت: وَقدم مرّة إِلَى الفوعة وأنابها فَسَأَلَنِي عَن الأكدرية إِذا كَانَ بدل الْأُخْت خُنْثَى(2/295)
فأجبت أَنَّهَا بِتَقْدِير الْأُنُوثَة تصح من سَبْعَة وَعشْرين وَبِتَقْدِير الذُّكُورَة تصح من سِتّ وَالْأُنُوثَة تضر الزَّوْج وَالأُم، والذكورة تضر الْجد وَالْأُخْت وَبَين الْمَسْأَلَتَيْنِ مُوَافقَة بِالثُّلثِ فَيضْرب ثلث السَّبْعَة وَالْعِشْرين وَهُوَ تِسْعَة فِي السِّتَّة تبلغ أَرْبَعَة وَخمسين وَمِنْهَا تصح المسألتان المزوج ثَمَانِيَة عشر وَالأُم اثْنَي عشر وللجد تِسْعَة وَلَا يصرف إِلَى الْخُنْثَى شَيْء وَالْمَوْقُوف خَمْسَة عشر وَفِي طريقها طول لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه فأعجب الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى ذَلِك.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ فَجْأَة الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن سيد النَّاس الْيَعْمرِي أَخذ علم الحَدِيث عَن ابْن دَقِيق الْعِيد والدمياطي وَكَانَ أحد الأذكياء الْحفاظ لَهُ النّظم والنثر والبلاغة والتصانيف المتقنة وَكَانَ شيخ الظَّاهِرِيَّة وخطيب جَامع الخَنْدَق.
وفيهَا: يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان انْفَصل القَاضِي جمال الدّين يُوسُف بن جملَة الحجي الشَّافِعِي من قَضَاء دمشق وَعقد لَهُ مجْلِس عِنْد نَائِب السلطنة تنكز وَحكم بعزله لكَونه غزر الشَّيْخ الظهير الرُّومِي فجاوز فِي تعزيره الْحَد ورسم على القَاضِي الْمَذْكُور بالعذراوية، ثمَّ نقل إِلَى القلعة فَأن القَاضِي الْمَالِكِي حكم بحبسه وطولع السُّلْطَان بذلك فَأمر بتنفيذه.
قلت: وأعجب بعض النَّاس حَبسه أَولا، ثمَّ رَجَعَ النَّاس إِلَى أنفسهم فأكبروا مثل ذَلِك.
وَمِمَّا (قلت) فِيهِ:
(دمشق لَا زَالَ ربعهَا خضر ... بعدلها الْيَوْم يضْرب الْمثل)
(فضا من المكس مُطلق فَرح ... فِيهَا وقاضي الْقُضَاة معتقل)
وَنفي الشَّيْخ الظهير إِلَى بِلَاد الْمشرق، وَكَانَت مُدَّة ولَايَة القَاضِي الْمَذْكُور سنة وَنصفا سوى أَيَّام فَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَن حادثه القَاضِي وحبسه بالقلعة بقيامه على ابْن تَيْمِية جَزَاء وفَاقا.
وَمَات الشَّيْخ سيف الدّين يحيى بن أَحْمد بن أبي نصر مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي بحماه.
وَكَانَ شهماً سخياً رَحمَه الله تَعَالَى، وَفِي منتصف الشَّهْر وجد بِالْقَاهِرَةِ يَهُودِيّ مَعَ مسلمة من بَنَات التّرْك فرجم الْيَهُودِيّ وَأحرقهُ وَأخذ مَاله كُله، وَكَانَ متمولاً وحبست الْمَرْأَة.
قلت:
(هَذَا تعدى طوره ... فناله مَا ناله)
(فأعدموه عرضه ... وروحه وَمَاله)(2/296)
وَحكى لي عدل أَنه أَخذ مِنْهُ ألف ألف دِرْهَم وَثَلَاث صواني زمرد.
وعزل الْأَمِير سيف الدّين بلبان عَن ثغر دمياط وَأخذ مِنْهُ مَال وَحبس.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الصاحب شمس الدّين غبريال وَكَانَ قد أَخذ مِنْهُ ألفا ألف دِرْهَم، وَكَانَ حسن التَّدْبِير فِي الدنيويات وَأسلم سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة هُوَ وَأمين الْملك مَعًا.
وَفِيه: بِالْقَاهِرَةِ خصي عبد أسود كَانَ يتَعَرَّض إِلَى أَوْلَاد النَّاس فَمَاتَ.
قلت:
(يُعجبنِي وَفَاة من ... فِيهِ فَسَاد وأذى)
(لَا حبذا حَيَاته ... وَإِن يمت فحبذا)
وَمَات الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَصْفَهَانِي الْمَعْرُوف بِابْن العجمي الْحَنَفِيّ، كَانَ مدرساً بالإقبالية وَحدث بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة، ودرس أَيْضا بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وَحدث بِدِمَشْق وَكَانَ فَاضلا وَجمع منسكاً على الْمذَاهب.
وَمَات الشَّيْخ الزَّاهِد نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشّرف صَالح بحماه أَقَامَ أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة لَا يَأْكُل الْفَاكِهَة وَلَا اللَّحْم، وَكَانَ ملازماً للصَّوْم لَا يقبل من أحد شَيْئا.
قلت:
(زرته مرَّتَيْنِ وَالْحَمْد لله ... فعاينت خير تِلْكَ الزِّيَارَة)
(كَانَ فِيهِ تواضع وَسُكُون ... وَصَلَاح باد وَحسن عبارَة)
وَفِيه: كتب بِدِمَشْق محْضر بِأَن الصاحب غبريال كَانَ احتاط على بَيت المَال وَاشْترى أملاكاً ووقفها وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك فَشهد بذلك جمَاعَة مِنْهُم ابْن الشِّيرَازِيّ وَابْن أَخِيه عماد الدّين وَابْن مراجل وَأثبت عِنْد برهَان الدّين الرزمي ونفذه وَامْتنع الْمُحْتَسب عز الدّين بن القلانسي من الشَّهَادَة بذلك فرسم عَلَيْهِ وعزل من الْحِسْبَة.
قلت:
(فديت أمرا قد راقب الله ربه ... وأفسد دُنْيَاهُ لإِصْلَاح دينه)
(وعزل الْفَتى فِي الله أكبر منصب ... يَقِيه الَّذِي يخْشَى بِحسن يقينه)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة تولى قَضَاء قُضَاة الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عبد الله بن الْحُسَيْن، درس وَأفْتى قَدِيما وضاهى الْكِبَار وتنقلت بِهِ الْأَحْوَال وَهُوَ على مَا فِيهِ غزير الْمُرُوءَة سخي النَّفس متطلع إِلَى قَضَاء حوائج النَّاس، وَاسْتمرّ قَاضِيا إِلَى أَن كَانَ مَا سَيذكرُ.
توجه مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب إِلَى طَاعَة السُّلْطَان بعد النفرة الْعَظِيمَة عَنهُ سِنِين وَمَعَهُ صَاحب حماه الْملك الْأَفْضَل فَأقبل السُّلْطَان على مهنا وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه مائَة وَسِتِّينَ خلعة ورسم لَهُ بِمَال كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة والقماش وأقطعه عدَّة قرى وَعَاد إِلَى أَهله مكرماً.(2/297)
وفيهَا مَاتَ: المجود الأديب بدر الدّين حسن بن عَليّ بن عدنان الحمداني ابْن الْمُحدث.
وفيهَا: أَظن فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ القَاضِي مجد الدّين حرمي بن قَاسم الفاقوسي لشافعي وَكيل بَيت المَال ومدرس قبَّة الشَّافِعِي.
وَكَانَ معمراً وألزمت النَّصَارَى وَالْيَهُود بِبَغْدَاد بالغيار ثمَّ نقضت كنائسهم ودياراتهم وَأسلم مِنْهُم وَمن أعيانهم خلق كثير مِنْهُم سديد الدولة وَكَانَ ركنا للْيَهُود عمر فِي زمن يَهُودِيَّته مدفناً لَهُ خسر عَلَيْهِ مَالا طائلاً فخرب مَعَ الْكَنَائِس وَجعل بعض الْكَنَائِس معبدًا للْمُسلمين، وَشرع فِي عمَارَة جَامع بدرب دِينَار، وَكَانَت بيعَة كَبِيرَة جدا واشتهر عَن جمَاعَة من الْعَوام فِي قَرْيَة بتي بالعراق أَنهم دخلُوا على مَرِيض مِنْهُم فَجعل يَصِيح أَخَذَنِي المغول خلصوني مِنْهُم وَكرر ذَلِك فاختلس من بَينهم حَيا فَكَانَ آخر عَهدهم بِهِ.
وَكَانَ الرجل من فُقَهَاء الْقرْيَة يتَوَلَّى عُقُود أنكحتهم إِن فِي ذَلِك لعبرة، وَأطلق بِبَغْدَاد مكس الْغَزل وَضَمان الْخمر والفاحشة وَأعْطيت الْمَوَارِيث لِذَوي الْأَرْحَام دون بَيت المَال وخفف كثير من المكوس وَللَّه الْحَمد.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا رجح حسام الدّين مهنا من مصر مكرماً.
وَمَات الْأَمِير بدر الدّين كيكلدي عَتيق شمس الدّين الأعسر بِدِمَشْق وَخلف أَوْلَادًا وأملاكاً.
وَمَات الْأَمِير بكتمر الحسامي بِمصْر، جدد جَامع قلعة مصر.
وَمَات الْملك الْعَزِيز بن الْملك المغيث بن السُّلْطَان الْملك الْعَادِل بن الْكَامِل كتب الْكثير وَعمر.
وفيهَا: فِي صفر وصل إِلَى دمشق كَاتب السِّرّ القَاضِي جمال الدّين عبد الله بن القَاضِي كَمَال الدّين بن الْأَثِير صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء بَدَلا عَن شرف الدّين حفيد الشهَاب مَحْمُود.
وَمَات شيخ المؤذنين وأنداهم صَوتا برهَان الدّين إِبْرَاهِيم الواني سمع من ابْن عبد الدَّائِم وَجَمَاعَة وَحدث.
وَمَات: بِدِمَشْق الْمسند المعمر بدر الدّين عبد الله بن أبي الْعَيْش الشَّاهِد وَقد جَاوز التسعين سمع من مسكي بن قيس بن عَلان، وَكَانَ يطْلب على السماع وَتفرد بأَشْيَاء.
وَمَات: بِدِمَشْق تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن بن الفويرة الْحَنَفِيّ.
وفيهَا: فِي صفر أَمر السُّلْطَان بتسمير رجل سَاحر اسْمه إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: فِي ربيع الأول مَاتَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن غَانِم بالقدس، وَكَانَ لَهُ مَكَارِم، ونظم(2/298)
وَمَات الْمُحدث أَمِين الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الواني روى عَن الشّرف ابْن عَسَاكِر وَغَيره، وَكَانَ ذَا همة ورحلة وَحج ومجاورة وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة وطاب الثَّنَاء عَلَيْهِ.
وَمَات نظام الدّين حسن ابْن عَم الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني وَقد جَاوز الْخمسين، وَكَانَ مليح الشكل لطيف الْكَلَام نَاظرا بديوان الْبر.
وَمَات كَبِير المجودين وَدين الْخَطِيب بهاء الدّين مَحْمُود بن خطيب بعلبك السّلمِيّ بِالْعقبَةِ، وتأسف النَّاس عَلَيْهِ لدينِهِ وتواضعه وَحسن شكله وبراعة خطه وعفته وتصونه كتب عَلَيْهِ خلق، وَكتب صَحِيح البُخَارِيّ بِخَطِّهِ. وَعمر الْأَمِير حَمْزَة بِدِمَشْق حَماما عِنْد القنوات وأدير فِيهِ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ جزناً وأوجر كل يَوْم بِأَرْبَعِينَ درهما، وَعظم حَمْزَة وَأَقْبل عَلَيْهِ تنكز بعد الدواتدار، ثمَّ طَغى وتجبر وظلم وَعظم الْخطب بِهِ فَضَربهُ تنكز وحبسه، وَنقل إِلَى القلعة ثمَّ حبس بِحَبْس بَاب الصَّغِير، ثمَّ أطلق أَيَّامًا وصودر، ثمَّ أهلك سرا بالبقاع قيل غرق وَقطع لِسَانه من أَصله وَهُوَ الَّذِي أتلف أَمر الدواتدار وَابْن مقلد وَابْن جملَة، وَله حكايات فِي ظلمه وَرفع فِيهِ يَوْم أمسك تِسْعمائَة قصَّة وبولغ فِي ضربه وَرمي بالبندق فِي جسده وَمَا رق عَلَيْهِ أحد.
قلت:
(لَو تفطن العاتي الْمَظْلُوم لحاله ... لبكى عَلَيْهَا فَهِيَ بئس الْحَال)
(يَكْفِيهِ شُؤْم وَفَاته وقبيح مَا ... يثنى عَلَيْهِ وَبعد ذَا أهوال)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي الْفَقِير الصَّالح اللَّازِم لمجالس الحَدِيث أَبُو بكر بن هَارُون الشَّيْبَانِيّ الْجَزرِي، روى عَن ابْن النخاري.
وَقدم عَليّ نِيَابَة طرابلس سيف الدّين طينال الناصري عوضا عَن أقوش الكركي، وَحبس الكركي بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ عَلَاء الدّين عَليّ بن السلعوس التنوخي وَقد بَاشر صحابة الدِّيوَان بِدِمَشْق، ثمَّ ترك واحتيط بِمصْر على دَار الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب الحسامي ونبشت فَأخذ مِنْهَا شَيْء عَظِيم. وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ مشد دَار الطّراز سيف الدّين عَليّ بن عمر بن قزل سبط الْملك الْحَافِظ ووقف على كرْسِي وسيع بالجامع.
وَمَات: ببعلبك الْفَقِيه أَبُو طَاهِر سمع من التَّاج عبد الْخَالِق وعدة وَكتب وَحدث وَعمل ستر ديباج منقوش على الْمُصحف العثماني بِدِمَشْق بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم وَخَمْسمِائة.
قلت:
(ستروا المكرم بالحرير وستره ... بالدر والياقوت غير كثير)
(ستروه وَهُوَ من الغواية سترنا ... عجي لهَذَا السَّاتِر المستور)(2/299)
وَمَات فَجْأَة التَّاجِر عَلَاء الدّين عَليّ السنجاري بِالْقَاهِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي أنشأ دَار الْقُرْآن بياب الناطفانيين.
قلت:
(مَا مَاتَ من هذي صِفَاته ... فوفاة ذَا عِنْدِي حَيَاته)
(إِن مَاتَ هَذَا صُورَة ... أحيته معنى سالفاته)
وَمَات بِمصْر الْوَاعِظ شمس الدّين حُسَيْن وَهُوَ آخر أَصْحَاب الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ سمع من جمَاعَة، وَكَانَ عَالما حسن الشكل.
وَمَات الْفَاضِل الأديب زكي الدّين الْمَأْمُون الْحِمْيَرِي الْمصْرِيّ الْمَالِكِي بِمصْر ولي نظر الكرك والشوبك وَعمر نَحْو تسعين سنة. وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الْفَقِيه مُحَمَّد بن محيي الدّين مُحَمَّد بن القَاضِي شمس الدّين بن الزكي العثماني شَابًّا درس مُدَّة بِدِمَشْق.
وَمَات الْحَافِظ قطب الدّين الْكَلْبِيّ بالحسينية حفظ الألفية والشاطبية وَسمع من القَاضِي شمس الدّين بن الْعِمَاد وَغَيره، وَحج مَرَّات وصنف وَكَانَ كيساً حسن الْأَخْلَاق مطرحاً للتكلف طَاهِر اللِّسَان مضبوط الْأَوْقَات شرح مُعظم البُخَارِيّ وَعمل تَارِيخا لمصر لم يتمه، ودرس الحَدِيث بِجَامِع الْحَاكِم، وَخلف تِسْعَة أَوْلَاد، وَدفن عِنْد خَاله الشَّيْخ نصر المنبجي
وَفِيه: أخرج السُّلْطَان من حبس الْإسْكَنْدَريَّة ثَلَاثَة عشر نَفرا مِنْهُم تمر الساقي الَّذِي نَاب طرابلس وبيبرس الْحَاجِب وخلع على الْجَمِيع.
وَفِيه: طلب قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة فَخر الدّين بن سكين وعزل بِسَبَب إفرنجي.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ الْمُفْتِي بدر الدّين مُحَمَّد بن الفويرة الْحَنَفِيّ سمع وَحدث.
وَمَات: القَاضِي زين الدّين عبد الْكَافِي بن عَليّ بن تَمام روى عَن الْأنمَاطِي وَأخذ عَنهُ ابْن رَافع وَغَيره.
وَمَات عز الدّين يُوسُف الْحَنَفِيّ بِمصْر حدث عَن إِبْرَاهِيم وناب فِي الحكم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ صاحبنا شمس الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف التدمري خطيب حمص، كَانَ يُفْتِي ويدرس، وَتَوَلَّى قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة الْعِمَاد مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصُّوفِي.
وفيهَا: فِي شَوَّال قدم عَسْكَر حلب والنائب من غزَاة بلد سيس، وَقد خربوا فِي بلد أدنة وطرسوس وأحرقوا الزروع واستقاوا الْمَوَاشِي وَأتوا بمائتين وَأَرْبَعين أَسِيرًا، وَمَا عدم من الْمُسلمين سوى شخص وَاحِد غرق فِي النَّهر وَكَانَ الْعَسْكَر عشرَة آلَاف سوى من تَبِعَهُمْ فَلَمَّا علم أهل أياس بذلك أحاطوا بِمن عِنْدهم من الْمُسلمين التُّجَّار وَغَيرهم وحبسوهم فِي خَان ثمَّ أحرقوه فَقل من نجى فعلوا ذَلِك بِنَحْوِ ألفي رجل من التُّجَّار البغاددة وَغَيرهم فِي يَوْم عيد الْفطر فَللَّه الْأَمر، وَاحْتَرَقَ فِي حماه مِائَتَان وَخَمْسُونَ حانوتاً، وَذَهَبت الْأَمْوَال واهتم الْملك بعمارة ذَلِك، وَكَانَ الْحَرِيق عِنْد الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.(2/300)
وَذكر أَن شخصا رأى مَلَائِكَة يسوقون النَّار فَجعل يُنَادي أَمْسكُوا يَا عباد الله لَا تُرْسِلُوا فَقَالُوا: بِهَذَا أمرنَا، ثمَّ أَن الرجل توفّي لساعته، وناب بِدِمَشْق فِي الْقَضَاء شهَاب الدّين أَحْمد بن شرف الزرعي الشَّافِعِي قَاضِي حصن الأكراد، وَورد الْخَبَر بحريق أنطاكية قبل رُجُوع الْعَسْكَر فَلم يبْق بهَا إِلَّا قَلِيل وَلم يعلم سَبَب ذَلِك.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفيت زَيْنَب بنت الْخَطِيب يحيى بن الإِمَام عز الدّين بن عبد السَّلَام السّلمِيّ سَمِعت من جمَاعَة، وَكَانَ فِيهَا عبَادَة وَخير وَحدثت.
وَمَات الطَّبِيب جمال الدّين عبد الله بن عبد السَّيِّد وَدفن فِي قبر أعده لنَفسِهِ، وَكَانَ من أطباء المارستان النوري بِدِمَشْق، وَأسلم مَعَ وَالِده الذبان سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة.
وَمَات حسام الدّين مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب وحزن عَلَيْهِ آله وَأَقَامُوا مأتماً بليغاً ولبسوا السوَاد أناف على الثَّمَانِينَ، وَله مَعْرُوف من ذَلِك مارستان جيد بسرمين وَلَقَد أحسن بِرُجُوعِهِ إِلَى طَاعَة سُلْطَان الْإِسْلَام قبل وَفَاته، وَكَانَت وَفَاته بِالْقربِ من سلمية.
وَمَات الْمُحدث الرئيس الْعَام شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن طرخان الْحَنْبَلِيّ سمع من ابْن عبد الدَّائِم وَغَيره، وَكَانَ بديع الْخط وَكتب الطباق، وَله نظم.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْفَقِيه الزَّاهِد شرف الدّين فضل بن عِيسَى بن قنديل العجلوني الْحَنْبَلِيّ بالمسمارية، كَانَ لَهُ اشْتِغَال وَفهم وَيَد فِي التَّعْبِير، وتعفف وَقُوَّة نفس، عرض عَلَيْهِ حزن الْمُصحف العثماني فَامْتنعَ رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: وصل الْأَمِير سيف الدّين أَبُو بكر الباشري إِلَى حلب وَصَحب مَعَه مِنْهَا الرِّجَال والصناع وَتوجه إِلَى قلعة جعبر وَشرع فِي عمارتها وَكَانَت خراباً من زمن هولاكو وَهِي من أمنح القلاع تسبب فِي عمارتها الْأَمِير سيف الدّين تنكز نَائِب الشَّام وَلحق المملكة الحلبية وَغَيرهَا بِسَبَب عمارتها ونفوذ مَاء الْفُرَات إِلَى أَسْفَل مِنْهَا كلفة كَثِيرَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم بَاشر السَّيِّد النَّقِيب الشريف بدر الدّين مُحَمَّد بن السَّيِّد شمس الدّين بن زهرَة الْحُسَيْنِي وكَالَة بَيت المَال بحلب مَكَان شَيخنَا القَاضِي فَخر الدّين أبي عمر وَعُثْمَان بن الْخَطِيب زين الدّين عَليّ الجبريني.
وفيهَا: فِي الْمحرم نزل نَائِب الشَّام الْأَمِير سيف الدّين تنكز بعسكر الشَّام إِلَى قلعة جعبر وتفقدها وَقرر قواعدها وتصيد حولهَا، ثمَّ رَحل فَنزل بمرج بزاعا، وَمد لَهُ نَائِب حلب الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا بِهِ سماطاً ثمَّ سَافر إِلَى جِهَة دمشق.
وفيهَا: فِي صفر طلب من الْبِلَاد الحلبية رجال للْعَمَل فِي نهر قلعة جعبر ورسم أَن يخرج من كل قَرْيَة نصف أَهلهَا وجلا كثير من الضّيَاع بِسَبَب ذَلِك ثمَّ طلب من أسواق حلب أَيْضا رجال واستخرجت أَمْوَال وَتوجه النَّائِب بحلب إِلَى قلعة جعبر بِمن حصل من الرِّجَال وهم نَحْو عشْرين ألفا.(2/301)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة وصل الْبَرِيد إِلَى حلب بعزل القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن بدر الدّين أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن النَّقِيب عَن الْقَضَاء بالمملكة الحلبية وبتولية شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين أبي عَمْرو عُثْمَان بن خطيب جبرين مَكَانَهُ وَلبس الخلعة وَحكم من سَاعَته واستعفيته من مُبَاشرَة الحكم بِالْبرِّ فِي الْحَال فأعفاني وَكَذَلِكَ أخي بعد مُدَّة فَأَنْشَدته ارتجالاً:
(جنبتني وَأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مُخْتَلفين)
(يَا حَيّ عالمنا لقد أنصفتنا ... فلك التَّصَرُّف فِي دم الْأَخَوَيْنِ)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توجه الْأَمِير عز الدّين أزدمر النوري نَائِب بهسني لمحاصرة قلعة درنده بِمن عِنْده من الْأُمَرَاء والتركمان وَفتحت بالأمان فِي منتصف الْمحرم سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة.
وفيهَا: أَعنِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الْعَارِف الزَّاهِد مهنا بن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الْقدْوَة مهنا الفوعي بالفوعة فِي خَامِس عشر شَوَّال ورثيته بقصيدة أَولهَا:
(أسأَل الفوعة الشَّدِيدَة حزنا ... عَن مهنا هَيْهَات أَيْن مهنا)
(أَيْن من كَانَ أبهج النَّاس وَجها ... فَهُوَ أسمى من البدور وأسنى)
وَمِنْهَا:
(أَيْن شَيْخي وقدوتي وصديقي ... وحبيبي وكل مَا أَتَمَنَّى)
(كَيفَ لَا يعظم الْمُصَاب لصدر ... نَحن مِنْهُ مَوَدَّة وَهُوَ منا)
(جعفري السلوك والوضع حَتَّى ... قَالَ عبس عَنهُ مهنا مهنا)
(أَي قلب بِهِ وَلَو كَانَ صخراً ... لَيْسَ يحْكى الخنساء نوحًا وحزناً)
(أذكرتنا وَفَاته بِأَبِيهِ ... وأخيه أَيَّام كَانُوا وَكُنَّا)
وَهِي طَوِيلَة كَانَ جده مهنا الْكَبِير من عباد الْأمة وَترك أكل اللَّحْم زَمَانا طَويلا لما رأى من اخْتِلَاط الْحَيَوَانَات فِي أَيَّام هولاكو لعنة الله وَكَانَ قومه على غير السّنة فهدى الله الشَّيْخ مهنا من بَينهم وَأقَام مَعَ التركمان رَاعيا ببرية حران فبورك للتركمان فِي مَوَاشِيهمْ ببركته، وَعرفُوا بركته وَحصل لَهُ نصيب من الشَّيْخ حَيَاة بن قيس بحران وَهُوَ فِي قَبره، وَجَرت لَهُ مَعَه كرامات فَرجع مهنا إِلَى الفوعة وَصَحب شَيخنَا تَاج الدّين جعفرا السراج الْحلَبِي وتلمذ لَهُ وانتفع بِهِ وَصَرفه مهنا فِي مَاله وَخَلفه على لسجادة بعد وَفَاته ودعا إِلَى الله تَعَالَى، وَجَرت لَهُ وقائع مَعَ أَهله وقاسى مَعَهم شَدَائِد وَبعد صيته وَقصد بالزيارة من الْبعد وجارو بِمَكَّة شرفها الله تَعَالَى سِنِين ثمَّ بِالْمَدِينَةِ على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَجَرت لَهُ هُنَاكَ كرامات مَشْهُورَة بَين أَصْحَابه وَغَيرهم مِنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد عَلَيْهِ السَّلَام من الْحُجْرَة وَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام يَا مهنا، ثمَّ عَاد إِلَى الفوعة وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْمحرم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة.(2/302)
وَجلسَ بعده على سجادته ابْنه الشَّيْخ إِبْرَاهِيم فَسَار أحسن سير ودعا إِلَى الله تَعَالَى على قَاعِدَة وَالِده وَرجع من أهل بلد سرمين خلق إِلَى السّنة وقاسى من أَهله شَدَائِد وَسَببه قتل ملك الْأُمَرَاء بحلب يَوْمئِذٍ سيف الدّين قبجق الشَّيْخ الزنديق منصوراً من تار وَجَرت بِسَبَب قَتله فتن فِي بلد سرمين، وَلم يزل الشَّيْخ إِبْرَاهِيم على أحسن سيرة وأصدق سريرة إِلَى أَن توفّي إِلَى رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة.
وَجلسَ بعده على سجادته ابْنه الشَّيْخ الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الْقدْوَة مهنا فَسَار أحسن سير وقاسى من الشِّيعَة غبوناً وَلم يزل على أحسن طَريقَة إِلَى أَن توفّي إِلَى رَحمَه الله تَعَالَى فِي ثامن صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَجلسَ بعده على السجادة أَخُوهُ لِأَبَوَيْهِ الشَّيْخ الصَّالح مهنا بن إِبْرَاهِيم بن مهنا إِلَى أَن توفّي فِي خَامِس عشر شَوَّال سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة كَمَا مر، وتأسف النَّاس لمَوْته فَإِنَّهُ كَانَ كثير الْعِبَادَة حسن الطَّرِيقَة عَارِفًا.
وَجلسَ بعده على السجادة أَخُوهُ لِأَبِيهِ الشَّيْخ حسن، وَكَانَ شَيخنَا عبس يحب مهنا هَذَا محبَّة عَظِيمَة ويعظمه وَيَقُول عَنهُ: مهنا مهنا يَعْنِي أَنه يشبه فِي الصّلاح وَالْخَيْر جده وهم الْيَوْم وَللَّه الْحَمد بالفوعة جمَاعَة كَثِيرَة وَكلهمْ على خير وديانة، وَقد أجزل الله عَلَيْهِم الْمِنَّة وجعلهم بِتِلْكَ الأَرْض ملْجأ لأهل السّنة وَلَو ذكرت تفاصيل سيرة الشَّيْخ مهنا الْكَبِير وَأَوْلَاده وَأَصْحَابه وكراماتهم لطال القَوْل وَالله تَعَالَى أعلم.
وفيهَا: مَاتَ القان أَبُو سعيد بن خزبنده بن أرغون بن أبغا بن هولاكو صَاحب الشرق، وَدفن بِالْمَدِينَةِ السُّلْطَانِيَّة وَله بضع وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَت دولته عشْرين سنة، وَكَانَ فِيهِ دين وعقل وَعدل، وَكتب خطا مَنْسُوبا وأجاد ضرب الْعود، باشتغال التتر بوفاته تمَكنا من عمَارَة قلعة جعبر بعد أَن كَانَت هِيَ وبلدها دَائِرَة من أَيَّام هولاكو فَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق الإمامان مدرس الناصرية كَمَال الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن الشِّيرَازِيّ وَله سِتّ وَسِتُّونَ سنة وَقد ذكر لقَضَاء دمشق ومدرس الأمينية قَاضِي الْعَسْكَر عَلَاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن القلانسي وَله ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وناظر الخزانة عز الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الْعقيلِيّ بن القلانسي الْمُحْتَسب بهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي الْأَمِير الشَّاب الْحسن جمال الدّين خضر بن ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا بحلب وَدفن بالْمقَام ثمَّ عمل لَهُ وَالِده تربة حَسَنَة عِنْد جَامِعَة خَارج حلب وَنقل إِلَيْهَا وَكَانَ حسن السِّيرَة لَيْسَ من إعجاب أَوْلَاد النواب فِي شَيْء. (وَمِمَّا قلت فِيهِ تضميناً)
(أيبست أَفْئِدَة بالحزن يَا خضر ... فالدمع يسقيك إِن لم يسقك الْمَطَر)
(مِنْهَا خلقت فَلم يسمع زَمَانك أَن ... يشين حسنك فِيهِ الشيب وَالْكبر)
(فَإِن رددت فَمَا فِي الرَّد منقصة ... عَلَيْك قد رد مُوسَى قبل وَالْخضر)(2/303)
وَإِن كَانَ يتَضَمَّن هَذَا التَّضْمِين القَوْل بِمَوْت الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام.
وَفِيه: بَاشر تَاج الدّين مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم أَخُو الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب نظر الجيوش المنصورة بحلب فَمَا هنى بذلك واعترته الْأَمْرَاض حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله فِي سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة.
قلت:
(مَا الدَّهْر إِلَّا عجب فَاعْتبر ... أسرار تصريفاته واعجب)
(كم باذل فِي منصب مَاله ... مَاتَ وَمَا هنى بالمنصب)
وباشر مَكَانَهُ فِي شعْبَان مِنْهَا القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان.
وفيهَا: فِي رَمَضَان الْمُعظم وصل إِلَى حلب من مصر عَسْكَر حسن الْهَيْئَة مقدمه الْحَاج أرقطاي وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر عبد الله وعسكر من حماه مقدمه الْأَمِير صارم الدّين أزبك والمقدم على الْكل ملك الْأُمَرَاء بحلب عَلَاء الدّين الطنبغا ورحل بهم إِلَى بِلَاد الأرمن فِي ثَانِي شَوَّال مِنْهَا وَنزل على ميناء أياس وحاصرها ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ قدم رَسُول الأرمن من دمشق وَمَعَهُ كتاب نَائِب الشَّام بالكف عَنْهُم على أَن يسلمُوا الْبِلَاد والقلاع الَّتِي شَرْقي نهر جهان فتسلموا مِنْهُم ذَلِك وَهُوَ ملك كَبِير وبلاد كَثِيرَة كالمصيصة وكويرا والهارونية وسرفندكار وأياس وباناس وبخيمة والنقير الَّتِي تقدم ذكر تخريبها وَغير ذَلِك، فخرب الْمُسلمُونَ برج أياس الَّذِي فِي الْبَحْر، واسنتابوا بالبلاد الْمَذْكُورَة نواباً، وعادوا فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَالْحَمْد لله.
قلت: وَهَذَا فتح اشْتَمَل على فتوح ترك ملك الأرمن جسداً بِلَا روح خَائفًا على مَا بَقِي بِيَدِهِ على الْإِطْلَاق وَكَيف لَا وَمن خَصَائِص ديننَا سرَايَة الْأَعْنَاق فيا لَهُ فتحا كسر صلب الصَّلِيب وَقطع يَد الزنار وَحكم على كَبِير أناسهم المزمل فِي بجاده بالخفض على الْجوَار وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير العابد الزَّاهِد صارم الدّين أزبك المنصوري الْحَمَوِيّ بِمَنْزِلَة نزلها مَعَ الْعَسْكَر عِنْد أياس، وَحمل إِلَى حماه فَدفن بتربته كَانَ من المعمرين فِي الْإِمَارَة وَمن ذَوي الْعِبَادَة وَالْمَعْرُوف وَبنى خَانا للسبيل بمعرة النُّعْمَان شرقيها، وَعمل عِنْد مَسْجِدا وسبيلاً للْمَاء وَله غير ذَلِك رَحمَه الله ذكر لي جمَاعَة بحلب وَهُوَ مُسَافر إِلَى بِلَاد الأرمن إِنَّه رُؤِيَ لَهُ بحماه مَنَام يدل على مَوته فِي الْجِهَاد وَحمله إِلَى حماه وَحَوله الْمَلَائِكَة.
قلت: وَلَقَد تجمل لهَذَا الْجِهَاد وَتحمل وتكلف لمهمه وتكفل حَتَّى كَأَنَّهُ توهم فَتْرَة سلاحه عَن الكفاح فرسم أَن تحد السيوف وتعتقل الرماح فلاح على حركاته الْفَلاح وسيحمد سراه عِنْد الصَّباح وَالله أعلم.
وفيهَا: وقف الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد الدواتدار دَاره النفيسة بحلب الْمَعْرُوف أَولا بدار ابْن العديم مدرسة على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَشرط أَن يكون(2/304)
القَاضِي الشَّافِعِي وَالْقَاضِي الْحَنَفِيّ بحلب مدرسيها، وَذَلِكَ عِنْد عوده من بلد سيس صُحْبَة الْعَسْكَر متصرفاً إِلَى منزله بطرابلس.
قلت: وَلَقَد كَانَت الدَّار الْمَذْكُورَة باكية لعدم بني العديم فَصَارَت راضية بِالْحَدِيثِ عَن الْقَدِيم نزع الله عَنْهَا لِبَاس الْبَأْس ولحزن وعوضها بحلة يُوسُف عَن شقة الْكَفَن فكمل رخامها وذهبها وَجعل ثمال الْيَتَامَى عصمَة للأرامل مكتبها وكملها بالفروع الموصلة وَالْأُصُول المفرغة وجمله بالمرابع المذهبة والمذاهب الْأَرْبَعَة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كتبهَا صَلَاح الدُّنْيَا فِي ديوَان صَلَاح الدّين إِلَى يَوْم الْعرض وتلا لِسَان حسنها اليوسفي، وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض، وَلما وقف الْأَمِير صَلَاح الدّين الْمَذْكُور على هَذِه التَّرْجَمَة تهلل وَجهه، وَقَالَ: مَا مَعْنَاهُ يَا ليتك زدتنا من هَذَا.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الْكَبِير الشهير المتزهد مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمجد المرشدي بقريته من عمل مصر لَهُ أَحْوَال وَطَعَام يتَجَاوَز الْوَصْف وَيُقَال أَنه كَانَ مخدوماً قيل أَنه انفق فِي ثَلَاث لَيَال مَا يُسَاوِي خَمْسَة وَعشْرين ألفا رَحمَه الله تَعَالَى ونفعنا بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين مُحَمَّد بن قرناص دخل بِلَاد سيس لكشف الفتوحات الجهانية فَتوفي هُنَاكَ رَحمَه الله تَعَالَى وَدفن بتربة هُنَاكَ للْمُسلمين.
وفيهَا: فِي صفر توفّي بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الدقاق الدِّمَشْقِي نَاظر الْوَقْف بحلب.
وَفِي أَيَّام نظره فتح الْبَاب المسدود الَّذِي بالجامع بحلب شَرق الْمِحْرَاب الْكَبِير لِأَنَّهُ سمع أَن بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور رأٍس زَكَرِيَّا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم فارتاب فِي ذَلِك فأقدم على فتح الْبَاب الْمَذْكُور بعد أَن نهي عَن ذَلِك فَوجدَ بَابا عَلَيْهِ تأزير رُخَام أَبيض، وَوجد فِي ذَلِك تَابُوت رُخَام أَبيض فَوْقه رخامة تبيضاء مربعة فَرفعت الرخامة عَن التابوت فَإِذا فِيهَا بعض جمجمة فهرب الْحَاضِرُونَ هَيْبَة لَهَا، ثمَّ رد التابوت وَعَلِيهِ غطاؤه إِلَى مَوْضِعه وسد عَلَيْهِ الْبَاب وَوضعت خزانَة الْمُصحف الْعَزِيز على الْبَاب، وَمَا أنجح النَّاظر الْمَذْكُور بعد هَذِه الْحَرَكَة وابتلي بالصرع إِلَى أَن عض لِسَانه فَقَطعه وَمَات، نسْأَل الله أَن يلهمنا حسن الْأَدَب.
وفيهَا: فِي أَوَاخِر ربيع الأول قدم إِلَى حلب الْعَلامَة القَاضِي فَخر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن كَاتب قطلوبك واحتفل بِهِ الحلبيون وَحصل لنا فِي الْبَحْث مَعَه فَوَائِد مِنْهَا قَوْلهم إِذا طلب الشَّافِعِي من القَاضِي الْحَنَفِيّ شُفْعَة الْجَار لم يمْنَع على الصَّحِيح لِأَن حكم الْحَاكِم يرفع الْخلاف قَالَ وَهَذَا مُشكل فَإِن حم الْحَاكِم ينفذ ظَاهرا بِدَلِيل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من نَار " وَأما كَون القَاضِي لَا ينْقض هَذَا الحكم فَتلك سياسة حكمِيَّة.(2/305)
وَمِنْهَا قَوْلهم يقْضِي الشَّافِعِي الصَّلَاة إِذا اقْتدى بالحنفي علم أَنه ترك وَاجِبا كالبسملة يَعْنِي على الصَّحِيح وَلَا يقْضِي الْمُقْتَدِي بحنفي افتصد وَلم يتَوَضَّأ قَالَ: وَهَذَا مُشكل فَإِن الْحَنَفِيّ إِذا افتصد وَلم يتَوَضَّأ وَصلى فَهُوَ متلاعب على اعْتِقَاده فَيَنْبَغِي أَن يقْضِي الشَّافِعِي الْمُقْتَدِي بِهِ وَإِذا ترك الْبَسْمَلَة فَصلَاته صَحِيحَة عِنْده فَيَنْبَغِي أَن لَا يقْضِي الشَّافِعِي الْمُقْتَدِي بِهِ وَفِيه نظر.
وَمِنْهَا قَوْلهم فِي الصَدَاق أَن قيمَة النّصْف غير نصف الْقيمَة هَذَا مَعْرُوف وَلكنه قَالَ قَول الرَّافِعِيّ وَغَيره أَن الزَّوْج فِي مسَائِل التشطير يغمها نصف الْقيمَة النّصْف مُشكل.
وَكَانُوا بِدِمَشْق لَا يساعدونني على استشكاله حَتَّى رَأَيْته لإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَذَلِكَ لِأَن الْقيمَة خلف لما تلف وَإِنَّمَا يسْتَحق نصف الصَدَاق فليغرمها قيمَة النّصْف لَا نصف الْقيمَة.
وَمِنْهَا: أَنه ذكر أَن الشَّيْخ صدر الدّين لما قدم من مصر قَالَ: لقد سَأَلَني ابْن دَقِيق الْعِيد عَن مَسْأَلَة أسهرته لَيْلَتَيْنِ وَصورتهَا رجل قَالَ لزوجته: إِن طننت بِي كَذَا فَأَنت طَالِق، فظنت بِهِ ذَلِك قَالُوا: تطلق، وَمَعْلُوم أَن الظني لَا ينْتج قَطْعِيا فَكيف أنتج هُنَا الْقطعِي؟ قَالَ الْعَلامَة فَخر الدّين: وَكنت يَوْمئِذٍ صَبيا فَقلت لَيْسَ هَذَا من ذَلِك فَإِن الْمَعْنى إِن حصل لَك الظَّن بِكَذَا فَأَنت طَالِق والحصول قَطْعِيّ فينتج قَطْعِيا، فَقَالَ صدر الدّين بِهَذَا أَجَبْته.
وَمِنْهَا: قَوْلهم إِذا ادّعى على امْرَأَة فِي حبالة رجل أَنَّهَا زَوجته فَقَالَت: " طلقتني تجْعَل زَوجته وَيحلف أَنه لم يُطلق رآى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَا يرَاهُ شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين بن الْبَارِزِيّ وَهُوَ أَن المُرَاد بذلك امْرَأَة مُبْهمَة الْحَال.
وَمِنْهَا: إِنَّمَا انْعَقَد السّلم بِجَمِيعِ أَلْفَاظ البيع وَلم ينْعَقد البيع بِلَفْظ السّلم لِأَن البيع يَشْمَل بيع الْأَعْيَان وَبيع مَا فِي الذِّمَّة، فَصدق البيع عَلَيْهِمَا صدق الْحَيَوَان على الْإِنْسَان وَالْفرس، فَإِذا الْحَيَوَان جنس لهذين النَّوْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ البيع جنس لهذين النَّوْعَيْنِ بِخِلَاف السّلم فَإِنَّهُ بيع مَا فِي الذِّمَّة فَلَا يصدق على بيع الْعين كالنوع لَا يصدق على الْجِنْس وَلذَلِك تسمعهم يَقُولُونَ الْجِنْس يصدق على النَّوْع وَلَا عكس.
وَمِنْهَا: قَوْلهم يسْجد للسَّهْو بِنَقْل ركن ذكري إِن أُرِيد بِهِ أَنه ترك الْفَاتِحَة مثلا فِي الْقيام وَقرأَهَا فِي التَّشَهُّد سَهوا فَهَذَا يطْرَح غير المنظوم وَإِن فعل ذَلِك عمدا بطلت صلَاته وَإِن أُرِيد غير ذَلِك فَمَا صورته؟
فَأجَاب: إِن صُورَة الْمَسْأَلَة أَن يقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الْقيام ثمَّ يَقْرَأها فِي التَّشَهُّد مثلا فَوَافَقَ ذَلِك جَوَابنَا فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَنهم قَالُوا خمس رَضعَات تحرم بِشَرْط كَون اللَّبن المحلوب فِي خمس مَرَّات على الصَّحِيح، ثمَّ ذكرُوا قَطْرَة اللَّبن تقع فِي الْحبّ وَهَذَا تنَاقض فَقَالَ لَا تنَاقض فَالْمُرَاد بقطرة اللَّبن فِي الْحبّ إِذا وَقعت تَتِمَّة لما قبلهَا وَهَذَا حسن مُهِمّ فَإِن شَيخنَا لفراره من مثل ذَلِك شَرط أَن يكون اللَّبن المغلوب بِمَا شيب بِهِ قدرا يُمكن أَن يسْقِي مِنْهُ خمس دفعات لَو(2/306)
انْفَرد عَن الخليط، وَلَا شكّ أَن هَذَا قَول ضَعِيف وَالصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ إِن هَذَا لَا يشْتَرط والناقض ينْدَفع بِمَا تقدم من جَوَاب الْعَلامَة فَخر الدّين.
وفيهَا: وَأَظنهُ فِي ربيع الآخر ورد الْخَبَر إِلَى حلب بِأَن نَائِب الشَّام تنكز قبض على علم الدّين كَاتب السِّرّ القبطي الأَصْل بِدِمَشْق، وَولى مَوْضِعه القَاضِي شهَاب الدّين يحيى بن القَاضِي عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن القيسراني الخالدي وعذب النَّائِب الْعلم الْمَذْكُور وعاقبه وصادره وَبَينه وَبَين الْعَلامَة فَخر الدّين الْمصْرِيّ قرَابَة فَلحقه شؤمه ولفحه سمومه وسافر من حلب خَائفًا من نَائِب الشَّام فَلَمَّا وصل دمشق رسم عَلَيْهِ مُدَّة وعزل عَن مدارسه وجهاته ثمَّ فك الترسيم عَنهُ وَبعد موت تنكز عَادَتْ إِلَيْهِ جهاته وَحسنت حَاله وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي رَجَب ورد الْخَبَر بوفاة القَاضِي شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عبد الله قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي بِدِمَشْق صدمت بغلته بِهِ حَائِطا فَمَاتَ بعد أَيَّام وَخلق النَّاس مَوضِع الصدمة من ذَلِك الْحَائِط بالخلوق وَمن لطف الله بِهِ أَن السُّلْطَان عَزله بِمصْر يَوْم مَوته بِدِمَشْق، وعزل القَاضِي جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي عَن قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِمصْر وَنَقله إِلَى الْقَضَاء بِالشَّام مَوضِع ابْن الْمجد ورسم بمصادرة ابْن الْمجد فَلَمَّا مَاتَ صودر أَهله وَكَانَ ابْن الْمجد فِيهِ خير وَشر ودهاء ومروءة.
قلت:
(لَا ييأس مخلط ... من رَحمَه الله الْعَفو)
(دَلِيل هَذَا قَوْله ... وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا)
وَولي بعد جلال الدّين قَضَاء الديار المصرية قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَأحسن السِّيرَة وعزل القَاضِي برهَان الدّين بن عبد الْحق أَيْضا عَن قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالديار المصرية وَولى مَكَانَهُ القَاضِي حسام الدّين الغوري قَاضِي الْقُضَاة بِبَغْدَاد كَانَ الْوَافِد إِلَى مصر عقيب الْفِتَن الكائنة بالمشرق لمَوْت أبي سعيد.
وفيهَا: فِي رَجَب أَيْضا بَاشر القَاضِي بهاء الدّين حسن بن القَاضِي جمال الدّين سلمَان بن رَيَّان مَكَان وَالِده نظر الجيوش بحلب فِي حَيَاة وَالِده وبسعيه لَهُ.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بحلب فَاضل الْحَنَفِيَّة بهَا الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد ابْن الْبُرْهَان إِبْرَاهِيم بن دَاوُد ولى قَضَاء عزاز ثمَّ نِيَابَة الْقَضَاء بحلب مُدَّة ثمَّ انْقَطع إِلَى الْعلم وَله مصنفات وَولي إبنه دَاوُد جهاته.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي القَاضِي مُحي الدّين يحيى بن فضل الله كَاتب السِّرّ بِمصْر وَقد ناف على التسعين وَله نظم ونثر.
وفيهَا: أخرج الْخَلِيفَة أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان المستكفي بِاللَّه من مَكَانَهُ بِمصْر عنفاً إِلَى قوص، وَقلت فِي ذَلِك مضمناً من القصيدة الْمَشْهُورَة لأبي الْعَلَاء بَيْتا وَبَعض بَيت:
(أخرجوكم إِلَى الصَّعِيد لعذر ... غير مجد فِي ملتي واعتقادي)(2/307)
(لَا يغيركم الصَّعِيد وَكُونُوا ... فِي مثل السيوف فِي الأغماد)
وفيهَا: فِي رَمَضَان أَيْضا ورد الْخَبَر إِلَى حلب بوفاة الْعَلامَة زين الدّين مُحَمَّد بن أخي الشَّيْخ صدر الدّين بن الْوَكِيل الْمَعْرُوف بِابْن المرحل من أكَابِر الْفُقَهَاء المفننين المدرسين الْأَعْيَان المتأهلين للْقَضَاء بِدِمَشْق.
(أدينه تندب أم سمته ... أم عقله الوافر أم علمه)
(فاق على الأقران فِي جده ... فَمن رَآهُ خَاله عَمه)
وَتَوَلَّى تدريس الشامية البرانية مَكَانَهُ القَاضِي جمال الدّين يُوسُف بن جملَة فَمَاتَ ابْن جملَة قيل أَنه مَا ألْقى فِيهَا إِلَّا درساً أَو درسين لاشتغاله بِالْمرضِ، وولاها بعده القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب بعد أَن نزل عَن العادلية.
وفيهَا: فِي ثَالِث شَوَّال ورد الْخَبَر بوفاة الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام زين الدّين مُحَمَّد بن الْكِنَانِي علم الشَّافِعِيَّة بِمصْر وَصلى عَلَيْهِ بحلب صَلَاة الْغَائِب، كَانَ مقدما فِي الْفِقْه وَالْأُصُول مُعظما فِي المحافل متضلعاً من الْمَنْقُول وَلَوْلَا إنجذابه عَن عُلَمَاء عصره وتيهه على فضلاء دهره لبكي على فَقده أعلامهم وَكسرت لَهُ محابرهم وأقلامهم وَلَكِن طول لِسَانه عَلَيْهِم هون فَقده لديهم.
(قلت: فجعت بكثبانها مصر ... فبمثله لَا يسمح الدَّهْر)
(يَا زين مذْهبه كفى أسفا ... أَن الصُّدُور بموتك انسروا)
(مَا كَانَ من بَأْس لَو أَنَّك ... بالعلماء برأيها الْبَحْر)
وفيهَا: فِي شَوَّال أَيْضا رسم ملك الْأُمَرَاء بحلب الطنبغا بتوسيع الطّرق الَّتِي فِي الْأَسْوَاق إقتداء بنائب الشَّام تنكز فِيمَا فعله فِي أسواق دمشق كَمَا مر، ولعمري قد توقعت عَزله عَن حلب لما فعل ذَلِك فَقلت حِينَئِذٍ:
(رأى حَلبًا بَلَدا داثراً ... فَزَاد لإصلاحها وحرصه)
(وقاد الجيوش لفتح الْبِلَاد ... ودق لقهر العدى فحصه)
(وَمَا بعد هَذَا سوى عَزله ... إِذا تمّ أَمر بدى نَقصه)
وفيهَا: فِي عَاشر شَوَّال ورد الْخَبَر بوفاة الْفَاضِل الْمُفْتِي الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي بارين الشَّافِعِي بحماه.
كَانَ عَارِفًا بالحاوي الصَّغِير وَيعرف نَحوا وأصولاً وَعِنْده ديانَة وتقشف وبيني وَبَينه صُحْبَة قديمَة فِي الِاشْتِغَال على شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين بن الْبَارِزِيّ وسافر مرّة إِلَى الْيمن رَحمَه الله ونفعنا ببركته (قلت) :
(فَجمعت حماة ببدرها بل صدرها ... بل بحرها بل حبرها الغواص)
(الله أكبر كَيفَ حَال مَدِينَة ... مَاتَ الْمُطِيع بهَا وَيبقى العَاصِي)(2/308)
وَفِيه: ولى قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماه جمال الدّين عبد الله بن القَاضِي نجم الدّين عمر بن العديم شَابًّا أَمر بعد عزل القَاضِي تَقِيّ الدّين بن الْحَكِيم فَإِن صَاحب حماه آثر أَن لَا يَنْقَطِع هَذَا الْأَمر من هَذَا الْبَيْت بحماه لما حصل لأهل حماه من التأسف على وَالِده القَاضِي نجم الدّين وفضائله وعفته وَحسن سيرته رَحمَه الله تَعَالَى وجهز قَاضِي الْقُضَاة نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين عمر بن العديم صاحبنا شهَاب الدّين أَحْمد بن المُهَاجر إِلَى حماه نَائِبا عَن القَاضِي جمال الدّين الْمَذْكُور إِلَى حِين يسْتَقلّ بِالْأَحْكَامِ وخلع صَاحب حماه عَلَيْهِمَا فِي يَوْم وَاحِد.
وَفِيه: ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير سيف الدّين أَبَا بكر النابيري قدم من الديار المصرية على ولَايَة بر دمشق.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي بِدِمَشْق الْعَلامَة القَاضِي جمال الدّين يُوسُف بن جملَة الشَّافِعِي معزولا عَن الحكم من سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة، كَانَ جم الْفَضَائِل غزير الْمَادَّة صَحِيح الإعتقاد عِنْده صداقة فِي الْأَحْكَام وَتَقْدِيم للمستحقين وَكَانَ قد عطف عَلَيْهِ النَّائِب وولاه تدريس مدارس بِدِمَشْق.
قلت:
(بَكت الْمجَالِس والمدارس جملَة ... لَك يَا ابْن جملَة حِين فاجأك الردى)
(فاصعد إِلَى درج العلى واسعد فَمن ... خدم الْعُلُوم جَزَاؤُهُ أَن يصعدا)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي شَيْخي المحسن إِلَيّ ومعلمي المتفضل على قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن قاضى الْقُضَاة نجم الدّين أبي مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْمُسلم ابْن هبة الله بن حسان بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن أَحْمد بالبارزي الْجُهَنِيّ الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي علم الْأَئِمَّة وعلامة الْأمة تعين عَلَيْهِ الْقَضَاء بحماه فَقبله، وتورع لذَلِك عَن مَعْلُوم الحكم من بَيت المَال فَمَا أكله بل فرش خَدّه لخدمة النَّاس وَوَضعه وَلم يتَّخذ عمره درة وَلَا مهما زاولا مقرعة وَلَا عزّر أحد بِضَرْب وَلَا إخراق وَلَا أسقط شَاهدا على الْإِطْلَاق، هَذَا مَعَ نُفُوذ أَحْكَامه وَقبُول كَلَامه والمهابة الوافرة وَالْجَلالَة الظَّاهِرَة وَالْوَجْه الْبَهِي الْأَبْيَض المشرب بحمرة واللحية الْحَسَنَة الَّتِي تملأ صَدره والقامة التَّامَّة والمكارم الْعَامَّة والمحبة الْعَظِيمَة للصالحين والتواضع الزَّائِد للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، أفنى شبيبته فِي الْمُجَاهِد والتقشف والأوراد، وَأنْفق كهولته فِي تَحْقِيق الْعُلُوم والإرشاد، وَقضى شيخوخته فِي تضنيف الْكتب الْجِيَاد وخطب مَرَّات لقَضَاء الديار المصرية فَأبى وقنع بمصره، وَاجْتمعَ لَهُ من الْكتب مَا لم يجْتَمع لأهل عصره، كف بَصَره فِي آخر عمره فولى ابْن ابْنه مَكَانَهُ، وتفرغ للعلوم والتصوف والديانة وَصَارَ كلما علت سنه لطف فكره وجاد ذهنه وشدت الرّحال إِلَيْهِ وَصَارَ الْمعول فِي الْفَتَاوَى عَلَيْهِ واشتهرت مصنفاته فِي حَيَاته بِخِلَاف الْعَادة، ورزق فِي تصانيفه وتآليفه السَّعَادَة.(2/309)
فَمِنْهَا: فِي التَّفْسِير كتاب الْبُسْتَان فِي تَفْسِير الْقُرْآن مجلدان، وَكتاب روضات جنَّات المحبين اثنى عشر مجلداً.
وَمِنْهَا: فِي الحَدِيث كتاب الْمُجْتَبى مُخْتَصر جَامع الْأُصُول وَكتاب المحتبى وَكتاب الوفا فِي أَحَادِيث الْمُصْطَفى، وَكتاب الْمُجَرّد من السَّنَد وَكتاب المنضد شرح المجر أَربع مجلدات.
وَمِنْهَا: فِي الْفِقْه كتاب شرح الْحَاوِي الْمُسَمّى بِإِظْهَار الْفَتَاوَى من اعوار الْحَاوِي، وَكتاب تيسير الْفَتَاوَى من تَحْرِير الْحَاوِي وهما أشهر تصانيفه، وَكتاب شرح نظم الْحَاوِي أَربع مجلدات، وَكتاب الْمُغنِي مُخْتَصر التَّنْبِيه وَكتاب تَمْيِيز التَّعْجِيز.
وَمِنْهَا: فِي غير ذَلِك كتاب تَوْثِيق عرى الْأَيْمَان فِي تَفْضِيل حبيب الرَّحْمَن والسرعة فِي قراءات السَّبْعَة والدراية لأحكام الرِّعَايَة للمحاسبي وَغير ذَلِك حَدثنِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة قَالَ رَأَيْت الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ بعد مَوته فِي الْمَنَام فَقلت لَهُ: مَا تخْتَار فِي صَوْم الدَّهْر؟ فَقَالَ فِيهِ اثنى عشر قولا للْعُلَمَاء فَظهر لشَيْخِنَا أَن الْأَمر كَمَا قَالَ وَإِن لم تكن الْأَقْوَال مَجْمُوعَة فِي كتاب وَاحِد وَذَلِكَ أَن فِي صَوْم الدَّهْر فِي حق من لم ينذر وَلم يتَضَرَّر بِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال الِاسْتِحْبَاب هُوَ إختيار الْغَزالِيّ وَأكْثر الْأَصْحَاب وَالْكَرَاهَة وَهُوَ إختيار الْبَغَوِيّ صَاحب التَّهْذِيب وَالْإِبَاحَة وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي لِأَنَّهُ قَالَ لَا بَأْس بِهِ، وَالتَّحْرِيم وَهُوَ إختيار أهل الظَّاهِر حملا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَن صَامَ الدَّهْر لَا صَامَ وَلَا أفطر على أَنه دُعَاء عَلَيْهِ وَفِي حق من نذور وَلم يتَضَرَّر خَمْسَة أَقْوَال الْوُجُوب وَهُوَ إختيار أَكثر الأصاحب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم وَفِي حق من يتَضَرَّر بِأَن تفوته السّنَن أَو الِاجْتِمَاع بالأهل ثَلَاثَة أَقْوَال التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة وَلَا يَجِيء الْوُجُوب وَلَا الإستحباب فَهَذِهِ إثنى عشر قولا فِي صَوْم الدَّهْر وَهَذَا الْمَنَام من كرامات الشَّيْخ مُحي الدّين وَالْقَاضِي شرف الدّين رَضِي الله عَنْهُمَا وَالله أعلم.
وَأَخْبرنِي حِين أجازني أَنه أَخذ الْفِقْه من طَرِيق الْعِرَاقِيّين عَن وَالِده وجده أبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم وَهُوَ عَن القَاضِي عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْحَمَوِيّ عَن القاشي أبي سعد بن أبي عصرون الْموصِلِي عَن القَاضِي أبي عَليّ الفارقي عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ عَن أبي الْحسن الماسرجسي عَن أبي الْحسن الْمروزِي وَمن طَرِيق الخراسانيين عَن جده الْمَذْكُور عَن الشَّيْخ فَخر الدّين عبد الرحمان بن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي عَن الشَّيْخ قطب الدّين مَسْعُود النَّيْسَابُورِي عَن عمر ابْن سهل الدَّامغَانِي عَن حجَّة الْإِسْلَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ عَن وَالِده أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ عَن الإِمَام أبي بكر الْقفال الْمروزِي عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي الْمَذْكُور عَن القَاضِي أبي الْعَبَّاس بن شُرَيْح عَن أبي الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن أبي إِسْمَاعِيل الْمُزنِيّ وَالربيع الْمرَادِي كِلَاهُمَا عَن الإِمَام الْأَعْظَم أبي عبد الله مُحَمَّد بن أدريس الشَّافِعِي وَهُوَ أَخذ عَن إِمَام حرم(2/310)
الله مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن ابْن جريح عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَعَن إِمَام حرم سَوَّلَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم عَن نَبينَا سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه أفضل صلواته عدد معلوماته، وَله نظم قَلِيل فَمِنْهُ مَا كتب بِهِ إِلَى صَاحب حماه يَدعُوهُ إِلَى وَلِيمَة:
(طَعَام الْعرس مَنْدُوب إِلَيْهِ ... وَبَعض النَّاس صرح بِالْوُجُوب)
(فجبرا بالتناول مِنْهُ جَريا ... على الْمَعْهُود فِي جبر الْقُلُوب)
وَمن نثره الَّذِي يقْرَأ طرداً وعسكاً قَوْله:
سور حماه بربها محروس.
وَلما بَلغنِي خبر وَفَاته كتبت كتابا إِلَى ابْنه القَاضِي نجم الدّين عبد الرَّحِيم بن القَاضِي شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْمَذْكُور.
صورته: وَينْهى أَنه بلغ الْمَمْلُوك وَفَاة الحبر الراسخ بل انهداد الطود الشامخ وَزَوَال الْجَبَل الباذخ الَّذِي بكته السَّمَاء وَالْأَرْض وقابلت فِيهِ الْمَكْرُوه بالندب وَذَلِكَ فرض فشرقت أجفان الْمَمْلُوك بالدموع وَاحْتَرَقَ قلبه بَين الضلوع، وساواه فِي الْحزن الصَّادِر الْوَارِد وَاجْتمعت الْقُلُوب لما تمّ لمأتم وَاحِد فالعلوم تبكيه والمحاسن تعزى فِيهِ وَالْحكم ينعاه وَالْبر يتفداه والأقلام تمشي على الرؤس لفقده والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده، وَلما صلي عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة صَلَاة الْغَائِب بحلب اشْتَدَّ الضجيج وارتفع النشيج وعلت الْأَصْوَات فَلَا خَاص إِلَّا حزن قلبه وَلَا عَام إِلَّا طَار لبه فَإِنَّهُ مثاب زلزل الأَرْض وَهدم الْكَرم الْمَحْض وسلب الْأَبدَان قواها وَمنع عُيُون الْأَعْيَان كراها، وَلَكِن عزى النَّاس لفقده كَون مَوْلَانَا الْخَلِيفَة من بعده فَإِنَّهُ بِحَمْد الله خلف عَظِيم لسلف كريم، وَهُوَ أولى من قَابل هَذَا الفادح القادح بالرضى وَسلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ فِيمَا قضى فَإِنَّهُ سُبْحَانَ يحيى مَا كَانَت الْحَيَاة أصلح وَيُمِيت إِذا كَانَت الْوَفَاة أروح.
وَقد نظم الْمَمْلُوك فِيهِ مرثية أعجزه عَن تحريرها اضطرام صَدره وَحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وَهَا هِيَ:
(برغمي أَن بَيتكُمْ يضام ... وَيبعد عَنْكُم القَاضِي الإِمَام)
(سراج للعلوم إضاء دهراً ... على الدُّنْيَا لغيبته ظلام)
(تعطلت المكارم والمعالي ... وَمَات الْعلم وارتفع الطغام)
(عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شَيْخي نظام)
(وأرثيه رثاء مُسْتَقِيمًا ... ويمكنني القوافي وَالْكَلَام)
(وَلَو أنصفنه لقضيت نحبي ... فَفِي عنقِي لَهُ نعم جسام)
(حَشا أُذُنِي درا ساقطته ... عيوني يَوْم حم لَهُ الْحمام)
(لقد لؤم الْحمام فَإِن رَضِينَا ... بِمَا يجنى فَنحْن إِذا لئام)(2/311)
(أَلا يَا عامنا لَا كنت عَاما ... فمثلك مَا مضى فِي الدَّهْر عَام)
(أتفجعنا بكناني مصر ... وَكَانَ بِهِ لساكنها اعتصام)
(وتفتك بِابْن جملَة فِي دمشق ... وبعلوها لمصرعه القتام)
(وَكَانَ ابْن المرحل حِين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشَّام)
(وَحبر حماة تَجْعَلهُ ختاماً ... أذاب قُلُوبنَا هَذَا الختام)
(وَلما قَامَ ناعيه استطارت ... عقول النَّاس واضطرب الْأَنَام)
(وَلَو يبْقى سلونا من سواهُ ... فَإِن بِمَوْتِهِ مَاتَ الْكِرَام)
(أألهو بعدهمْ وَأقر عينا ... حَلَال اللَّهْو بعدهمْ حرَام)
(فيا قَاضِي الْقُضَاة دُعَاء صب ... برغمي أَن يغيرك الرغام)
(وَيَا شرف الْفَتَاوَى والدعاوى ... على الدُّنْيَا لغيبتك السَّلَام)
(وَيَا ابْن الْبَارِزِيّ إِذا بَرَزْنَا ... بِثَوْب الْحزن فِيك فَلَا نلام)
(سقى قبراً حللت بِهِ غمام ... من الأجفان إِن بخل الْغَمَام)
(إِلَى من ترحل الطلاب يَوْمًا ... وَهل يُرْجَى لذِي نقص تَمام)
(وَمن للمشكلات وللفتاوى ... وَفضل الْأَمْرَانِ عظم الْخِصَام)
(وَكَانَ خَليفَة فِي كل فن ... وعينا للخليفة لَا تنام)
(أَلا يَا بَابه لَا زَالَت قصدا ... لأهل الْعلم يغشاك الزحام)
(فَإِن حفيد شيخ الْعَصْر بَاقٍ ... يقل بِهِ على الدَّهْر الملام)
(أنجم الدّين مثلك من تسلى ... إِذا فدحت من النوب الْعِظَام)
(وَفِي بقياك عَن ماضٍ عزاء ... قيامك بعده نعم الْقيام)
(إِذا ولى لبيتكم إِمَام ... عديم الْمثل يخلفه إِمَام)
(وَفِي خير الْأَنَام لكم عزاء ... وَلَيْسَ لساكن الدُّنْيَا دوَام)
(أَنا تلميذ بَيتكُمْ قَدِيما ... بكم فخري إِذا افتخر الْأَنَام)
(وَإِن كُنْتُم بِخَير كنت فِيهِ ... ويرضيني رضاكم وَالسَّلَام)
(لكم مني الدُّعَاء بِكُل أَرض ... وَنشر الذّكر مَا ناح الْحمام)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي بِمصْر شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين عُثْمَان بن زين الدّين عَليّ بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن خطيب جبرين قَاضِي حلب وَابْنه كَمَال الدّين مُحَمَّد وَذَلِكَ أَن الشناعات كثرت عَلَيْهِ فَطَلَبه السُّلْطَان على الْبَرِيد إِلَيْهِ فَحَضَرَ عِنْده وَقد طَار لبه وَخرج وَقد انْقَطع قلبه وتمرض بِمصْر مُدَّة وأراحه الله بِالْمَوْتِ من تِلْكَ الشدَّة وَحسب المنايا أَن يكن أمانياً وَلَقَد كَانَ رَحمَه الله فَاضلا فِي الْفِقْه وَالْأُصُول والنحو والتصريف والقراءآت مشاركاً فِي الْمنطق وَالْبَيَان وَغَيرهمَا، وَله الشَّرْح الشَّامِل الصَّغِير وَيدل حلّه إِيَّاه على ذكاء مفرط، وَله شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب فِي الْأُصُول وَشرح البديع لِابْنِ الساعاتي فِي الْأُصُول أَيْضا وفرائض نظم وفرائض نثر ومجموع صَغِير فِي اللُّغَة(2/312)
وَغير ذَلِك، كَانَ رَحمَه الله سريع الْغَضَب سريع الرضى كثير الذّكر لله تَعَالَى.
قلت:
(من هُوَ فَخر الدّين عُثْمَان فِي ... مراحم الله وإحسانه)
(مَاتَ غَرِيبا خَائفًا نازحاً ... عَن أنس أهليه وأوطانه)
(وَبَعض هذي فِيهِ مَا يرتجى ... لَهُ بِهِ رَحْمَة ديانه)
(فَقل لشانيه ترفق فَفِي ... شَأْنك مَا يُغْنِيك عَن شَأْنه)
وَرَأَيْت مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ هَذِه الْكَلِمَات وَكنت سَمعتهَا من لَفظه قبل ذَلِك وَهِي الِالْتِفَات إِلَى الْأَسْبَاب شرك فِي التَّوْحِيد والإعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي الشَّرْع ومحو الْأَسْبَاب أَن تكون أسباباً نقص فِي الْعقل فَمن جعل السَّبَب مُوجبا فقد أَخطَأ وَمن محاه وَلم يَجْعَل لَهُ أثرا فقد أَخطَأ وَمن جعل السَّبَب سَببا والمسبب هُوَ الْفَاعِل فقد أصَاب، ومولده رَحمَه الله بِمصْر فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
وفيهَا: فِي الْعشْر الْأَوْسَط من ربيع الآخر توفّي السَّيِّد الشريف بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة الْحُسَيْنِي نقيب الْأَشْرَاف وَكيل بَيت المَال بحلب وَمن الِاتِّفَاق إِنَّه مَاتَ يَوْم وُرُود الْخَبَر بعزل ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا عَن نِيَابَة حلب وَكَانَ بَينهمَا شَحْنَاء فِي الْبَاطِن.
قلت:
(قد كَانَ كل مِنْهُمَا ... يَرْجُو شفا أضغانه)
(فَصَارَ كل وَاحِد ... مشتغلاً بشانه)
كَانَ السَّيِّد رَحمَه الله حسن الشكل وافر النِّعْمَة مُعظما عِنْد النَّاس شهماً ذكياً، وجده الشريف أَبُو إِبْرَاهِيم هُوَ ممدوح أبي الْعَلَاء المعري كتب إِلَى أبي الْعَلَاء القصيدة الَّتِي أَولهَا:
(غير مستحصل وصال الغواني ... بعد سِتِّينَ حجَّة وثماني)
وَمِنْهَا:
(كل علم مفرق فِي البرايا ... جمعته معرة النُّعْمَان)
فَأَجَابَهُ أَبُو الْعَلَاء بالقصيدة الَّتِي أَولهَا:
(عللاني فَإِن بيض الْأَمَانِي ... فنيت والظلام لَيْسَ بفاني)
وَمِنْهَا:
(يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قصر عَنْك ... الشّعْر لما وصفت بِالْقُرْآنِ)
وفيهَا: فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الأولى قدم الْأَمِير سيف الدّين طرغاي إِلَى حلب نَائِبا بهَا وسر النَّاس بقدومه وأظهروا الزِّينَة وصحبته القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن العطب كَاتب السِّرّ مَكَان تَاج الدّين بن الزين خضر المتوجه إِلَى مصر صُحْبَة الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا، وَكَانَ رنك الْمُنْفَصِل جوكانين ورنك الْمُتَّصِل خونجا فَقَالَ بعض النَّاس فِي ذَلِك:(2/313)
(كم أَتَى الدَّهْر بطرد ... وبعكس وببدع)
(رَاح عَنَّا رنك ضرب ... وأتانا رنك بلع)
وفيهَا: فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى ورد الْخَبَر إِلَى حلب بوفاة قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي قَاضِي دمشق بهَا كَانَ رَحمَه الله إمامأً فِي علم الْمعَانِي وَالْبَيَان لَهُ فِيهِ مصنفات جَامِعَة متقنة وَله يَد فِي الأصولين وَيحل الْحَاوِي.
وَكَانَ كَبِير الْقدر وَاسع الصَّدْر ولي أَولا خطابة دمشق ثمَّ قضاءها ثمَّ قَضَاء مصر ثمَّ قَضَاء دمشق حَتَّى مَاتَ بهَا سامحه الله تَعَالَى، وَبَلغنِي أَن بَينه وَبَين الإِمَام الرَّافِعِيّ قرَابَة وَقرب الْعَهْد بسيرته يُغني عَن الإطالة، وَبنى على النّيل دَارا قيل بِمَا يزِيد على ألف ألف دِرْهَم فَأخذت مِنْهُ، ثمَّ أخرج إِلَى دمشق قَاضِيا كَمَا تقدم.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ورد الْخَبَر إِلَى حلب بوفاة الشَّيْخ بدر الدّين أبي الْيُسْر مُحَمَّد بن القَاضِي عز الدّين مُحَمَّد بن الصَّائِغ الدِّمَشْقِي بهَا كَانَ نفعنا الله بِهِ عَالما فَاضلا متقللاً من الدُّنْيَا زاهداً جَاءَتْهُ الخلعة والتقليد بِقَضَاء دمشق فَامْتنعَ أتم امْتنَاع واستعفى بِصدق إِلَى أَن أعفى فَمن يَوْمئِذٍ حسن ظن النَّاس بِهِ وفطن أهل الْقَلَم وَأهل السَّيْف لجلالة قدره
قلت:
(مَا قَضَاء الشَّام إِلَّا شرف ... وَلمن يتْركهُ أَعلَى شرف)
(يَا أَبَا الْيُسْر لقد أذكرنا ... فعلك المشكور أَفعَال السّلف)
وَفِيه: ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا وصل من مصر إِلَى غَزَّة نَائِبا بهَا فسبحان من يرفع وَيَضَع أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر جرت بَينه وَبَين نَائِب الشَّام الْأَمِير سيف الدّين تنكز شَحْنَاء اقْتَضَت نقلته من حلب وتوليته بعْدهَا غَزَّة فَإِن نَائِب الشَّام مُتَمَكن عِنْد السُّلْطَان رفيع الْمنزلَة.
وفيهَا: فِي أَوَائِل رَجَب توفّي بمعرة النُّعْمَان ابْن شَيخنَا العابد إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن عبد السَّلَام.
وَكَانَ من عباد الْأمة وَيعرف الشاطبية والقراءات، وَله يَد طولى فِي التَّفْسِير وزهادته مَشْهُورَة، كَانَ أَولا يحترف بالنساجة ثمَّ تَركهَا وَأَقْبل على الْعِبَادَة وَالصِّيَام وَالْقِيَام وَنسخ كتب الرَّقَائِق وَغَيرهَا فَأكْثر ووقف كتبه على زَوَايَا وأماكن وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّيْخ الْقدْوَة مهنا الفوعي نفعنا الله ببركتهما، وَكَانَ دَاعيا إِلَى السّنة بِتِلْكَ الْبِلَاد وَتُوفِّي بعده بأيام الشّرف حُسَيْن بن دَاوُد بن يَعْقُوب الفوعي بالفوعة، وَكَانَ دَاعيا إِلَى التَّشَيُّع بِتِلْكَ الْبِلَاد.
قلت:
(وَقَامَ لنصر مذْهبه عَظِيما ... وحدد ظفره وَأطَال نابه)
(تبَارك من أراح الدّين مِنْهُ ... وخلص مِنْهُ أَعْرَاض الصَّحَابَة)
وَفِيه: ورد الْخَبَر بوفاة الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن المُهَاجر(2/314)
الْحَنَفِيّ بحماه نَائِبا عَن قاضيها جمال الدّين عبد الله بن العديم حَسْبَمَا تقدم ذكره.
كَانَ فَاضلا فِي النَّحْو وَالْعرُوض، وَله نظم حسن ولهج فِي آخر وقته بمدائح الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَفِيه: ورد الْخَبَر إِلَى حلب أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَليّ بن السُّبْكِيّ تولى قَضَاء الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق المحروسة بعد أَن حدث الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن القَاضِي جلال الدّين نَفسه بذلك وَجزم بِهِ وَقبل الهناء فَقَالَ فِيهِ بعض أهل دمشق:
(قد سبك السُّبْكِيّ قلب الْخَطِيب ... فعيشه من بعْدهَا مَا يطيب)
وَفِيه " طلب القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان عَليّ البردي من حلب إِلَى دمشق لمباشرة نظر الجيوش بِالشَّام وَاسْتمرّ بِدِمَشْق إِلَى أَن نكب تنكز كَمَا سَيَأْتِي فعزل بالتاج إِسْحَاق ثمَّ حضر إِلَى حلب وَأقَام بداره بالْمقَام.
وفيهَا: فِي شعْبَان قدم الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف الدواتدار شادا بالمملكة الحلبية.
وفيهَا: فِي رَمَضَان ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير سيف الدّين أَبَا بكر البانيري بَاشر النِّيَابَة بقلعة الرحبة، وَهُوَ الَّذِي كَانَ تولى تَجْدِيد عمَارَة جعبر كَمَا تقدم فَقَالَ فِيهِ بعض النَّاس:
(يَا باذلاً فِي جعبر جهده ... مَا خيب السُّلْطَان مسعاكاً)
(عوضك الرحبة عَن ضيق مَا ... قاسيت قد أفرحنا ذاكاً)
(فضاجع البق وناموسها ... لَوْلَا ضجيعاك لزرناكا)
وَفِيه: شرع نَائِب الشَّام تنكز فِي الرُّجُوع من متصيدة بالمملكة الحلبية وَكَانَ قد حضر إِلَيْهَا فِي شعْبَان وَمَعَهُ صَاحب حماه الْملك الْأَفْضَل وحريم وحظايا وحشم وحمام وَلحق الفلاحين والرعية بذلك كلفة وضرر كَبِير وَاجْتمعَ نَائِب الشَّام وَصَاحب حماه على إِعَادَة بدر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن الحمص رامي البندق الْمَشْهُور إِلَى مَنْزِلَته من الرماية بعد أَن كَانَ قد أسقط على عَادَتهم وأسقطوا من كَانَ أسْقطه، وَاجْتمعت أَنا بِابْن الحمص الْمَذْكُور بحلب فَسَأَلته أَن يريني شَيْئا من حذفة فِي البندق فَرمى إِلَى حَائِط فَكتب عَلَيْهِ بالبندق مَا صورته مُحَمَّد بن عَليّ بِخَط جيد ثمَّ أَمر غُلَامه فَصَارَ الْغُلَام يَرْمِي بندقاً إِلَى الجو وَهُوَ يتلقاه فَيُصِيبهُ فِي سرعَة على التوالي فجَاء من ذَلِك بالعجب العجيب.
وَفِيه: نَادَى مُنَاد فِي جَامع حلب وأسواقها وقدامه شاد الْوَقْف بدر الدّين يتليك الأسندمري من أُمَرَاء العشرات بِمَا صورته معاشر الْفُقَهَاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب وظائف الدّين قد برز المرسوم العالي أَن كل من انْقَطع مِنْكُم عَن وظيفته وغمز عَلَيْهِ يستأهل مَا يجْرِي عَلَيْهِ، فَانْكَسَرت لذَلِك قُلُوب الْخَاص وَالْعَام وَعظم بِهِ تألم الْأَنَام وَظهر مشد الْوَقْف الْمَذْكُور عَن بغض وعناد لأهل الْعلم وَالدّين فَوَقع مِنْهُ يَوْم عيد الْفطر كلمة قبيحة أَقَامَت عَلَيْهِ النَّاس أَجْمَعِينَ وَعقد لَهُ بدار الْعدْل يَوْم الْعِيد مجْلِس مشهود وأفتينا بتجديد(2/315)
إِسْلَامه وعزله وضربه وَهُوَ مَمْدُود وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْمَلأ جَزَاء وفَاقا، وقطعنا أَن لُحُوم الْعلمَاء مَسْمُومَة اتِّفَاقًا وَلَوْلَا شَفَاعَة الشَّافِعِي فِيهِ لدخل نَار مَالك بِمَا خرج من فِيهِ، وَلَو كَانَ برا لما خَاص هَذَا الْبَحْر ولجمع قلبه ومذبحه بَين الْفطر والنحر وَبِالْجُمْلَةِ فقد ذاق مرَارَة الْقَهْر والقسر فَإِن نداءه الَّذِي انْكَسَرَ بِهِ الْقلب بِهِ الْكسر.
وفيهَا: فِي تَاسِع شَوَّال وصل إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عمر بن شرف الدّين مُحَمَّد بن البلفيائي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي وباشر الحكم من يَوْمه وَخرج النَّائِب والأكابر لتلقيه وسر بِهِ النَّاس لما سمعُوا من ديانته بعد شغور المنصب نَحْو عشرَة أشهر من حَاكم شَافِعِيّ.
وفيهَا: حج الْأَمِير سيف الدّين بشتك الناصري من مصر وَأنْفق فِي الْحَج أَمْوَالًا عَظِيمَة، وَكَانَ صحبته على مَا بلغنَا سِتّمائَة راوية وَتكلم النَّاس فِي الْقَبْض عَلَيْهِ عِنْد عوده بِمَدِينَة الكرك فَمَا أمكن ذَلِك وَدخل مصر وَصعد القلعة فَتَلقاهُ السُّلْطَان بِالْحُسْنَى.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم ورد الْخَبَر بوفاة الشَّيْخ علم الدّين أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن يُوسُف البرز إِلَى الْمُحدث الدِّمَشْقِي بخليص مرِيدا لِلْحَجِّ رَحمَه الله تَعَالَى.
كَانَ حسن الْأَخْلَاق كثير الموافاة للنَّاس محبوباً إِلَيْهِم، وَله تصانيف فِي الحَدِيث والتاريخ والشروط، وَكَانَ حسن الْأَدَاء كثير الْبكاء فِي حَال قِرَاءَة الحَدِيث فصيحاً رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي الْمحرم بلغنَا شنق ابْن الْمُؤَيد شرف الدّين أبي بكر الْوَاعِظ الْمُحْتَسب نَائِب الْوكَالَة باللاذقية خَافُوا بطرابلس من طول لِسَانه واتصاله بأعيان المصريين وَقَامَت عَلَيْهِ بَيِّنَة بِأَلْفَاظ تَقْتَضِي إنحلال العقيدة، فحملوا عبد الْعَزِيز الْمَالِكِي قَاضِي القدموس على الحكم بقتْله، وشارك فِي واقعته القَاضِي جلال الدّين عبد الْحق الْمَالِكِي قَاضِي اللاذقية فتعب القاضيان بجريرته وقاسياً شَدَائِد.
وفيهَا: فِي صفر وَردت الْبشَارَة بِقَبض الْملك النَّاصِر على النشو شرف الدّين القبطي الأَصْل، وَإنَّهُ وأخاه رزق الله تَحت الْعقُوبَة، ثمَّ قتل أَخُوهُ نَفسه وَأوقدت لهلاكهما الشموع بِالْقَاهِرَةِ، كَانَ النشو قد قهر أهل الْقَاهِرَة وَبَالغ فِي الطرح والمصادرة، فعظمت بِهِ الْمُصِيبَة وَقتل خلقا تَحت الْعقُوبَة فَأتى النَّاس فِي هَلَاكه بيُوت الْمَسْأَلَة من أَبْوَابهَا، وَبنت الْأَوْتَاد نظم الدَّعْوَات على أَسبَابهَا وطلبوا لبحر ظلمه المديد من الله خبْنا وبتراً فدارت الدَّوَائِر عَلَيْهِ بِهَذِهِ الفاصلة الْكُبْرَى.
قلت:
(النشو لَا عدل وَلَا معرفَة ... قد آن للأقدار أَن تصرفه)(2/316)
(من أتلف النَّاس وَأَمْوَالهمْ ... يحِق للسُّلْطَان أَن يتلفه)
وَفِيه: قدم الْأَمِير المكاص الغشوم المشوم (لُؤْلُؤ القندشي) إِلَى حلب منفياً من مصر بِلَا إقطاع.
وَفِيه: عزل قَاضِي الْقُضَاة بحلب زين الدّين عمر البلفيائي عَنْهَا لوحشه جرت بَينه وَبَين طرغاي نَائِب حلب فكاتب فِيهِ فعزل وَهُوَ فَقِيه كَبِير متقصد فِي المأكل والملبس.
قلت:
(كَانَ وَالله عفيفاً نزهاً ... وَله عرض عريض مَا اتهمَ)
(وَهُوَ لَا يدْرِي مداراة الورى ... ومداردا الورى أَمر مُهِمّ)
وفيهَا: فِي ربيع الأول عزل الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد الدواتدار عَن الشد على المَال وَالْوَقْف بحلب وَنقل إِلَى طرابلس ضَاقَ طرغاي من جيرته فَعمل عَلَيْهِ، وَكَانَ قد عزم على تَحْرِير الْأَوْقَاف بحلب فَمَا قدر.
قلت:
(لقد قَالَت لنا حلب مقَالا ... وَقد عزم المشد على الرواح)
(إِذا عَم الْفساد جَمِيع وقفي ... فَكيف أكون قَابِلَة الصّلاح)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ولي القَاضِي برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب بذل لطوغاي نائبها مَالا، فكاتب فِي ولَايَته وَهُوَ أول من بذل فِي زَمَاننَا على الْقَضَاء بحلب، وَكَانَ الْقُضَاة قبله يخطبون ويعطون من بَيت المَال حَتَّى يلوا وَلذَلِك لم يُصَادف رَاحَة فِي ولَايَته.
ويعجبني قَول الْقَائِل:
(فلَان لَا تحزن إِذا ... نكبت واعرف مَا السَّبَب)
(فَمَا تولى حَاكم ... بِفِضَّة إِلَّا ذهب)
وفيهَا: توفّي طقتمر الخازن نَائِب قلعة حلب، كَانَت تصدر مِنْهُ فِي الدّين أَلْفَاظ مُنكرَة وَاشْترى قبل وَفَاته دَارا عِنْد مدرسة الشاذبخت وَعمل فِيهَا تصاوير وَكثر الطعْن عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا
قلت:
(مَا حل فِيهَا زحل ... إِلَّا لنحس المُشْتَرِي)
(فانعدمت صورته ... من شُؤْم تِلْكَ الصُّور)
وَخلف مَالا طائلاً.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الْخَلِيفَة أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان المستكفي بِاللَّه فِي قوص، وَقد تقدم إِنَّه أخرج إِلَى الصَّعِيد سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وخلافته تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَللَّه قولي على لِسَانه مثلي يعِيش بِالْمَوْتِ ويبلغ المنى بالفوت إِلَى كم لَهُم العيشة الرّطبَة ولي مُجَرّد الْخطْبَة فَلهم الْملك الصَّرِيح ولسليمان الرّيح.(2/317)
(أَحْمد الله الَّذِي جنبني ... كلف الْملك وأمراً صعباً)
(لم أجد للْملك مَاء صافياً ... فَتَيَمَّمت صَعِيدا طيبا)
وفيهَا: بعد موت المستكفي بوبع بالخلافة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن أَخ المستكفي.
وفيهَا: كَانَ الْحَرِيق بِدِمَشْق وَذَهَبت فِيهِ أَمْوَال ونفوس واحترقت المنارة الشرقية والدهشة وقيسارية القواسين وتكرر وأقرت طَائِفَة من النَّصَارَى بِدِمَشْق بِفِعْلِهِ فصلب تنكز مِنْهُم أحد عشر رجلا ثمَّ وسطوا بعد أَن أَخذ مِنْهُم ألف ألف دِرْهَم وَأسلم نَاس مِنْهُم وبيعت بنت الملين بِمَال كثير فاشتراها تنكز وعملت المقامة الدمشقية فِي هَذَا الْمَعْنى، وسميتها صفو الرَّحِيق فِي وصف الْحَرِيق، وختمتها بِقَوْلِي:
(وعادت دمشق فَوق مَا كَانَ حسنها ... وأمست عروساً فِي جمال مُجَدد)
(وَقَالَت لأهل الْكفْر موتوا بغيطكم ... فَمَا أَنا إِلَّا للنَّبِي مُحَمَّد)
(وَلَا تَذكرُوا عِنْدِي معابد دينكُمْ ... فَمَا قصبات السَّبق إِلَّا لمعبد)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة بَاشر القَاضِي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب كِتَابَة السِّرّ بحلب وسررنا بِهِ.
وَفِيه قبض على تنكز نَائِب الشَّام وَأهْلك بِمصْر رسم السُّلْطَان لطشتمر حمص أَخْضَر وَكَانَ نَائِبا بصفد أَن يَأْتِيهِ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَيقبض عَلَيْهِ وَمَا أشبه تمكنه عِنْد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَّا بِجَعْفَر عِنْد الرشيد والرشيد أضمر إهلاك جَعْفَر سِتّ سِنِين حَتَّى قَتله وَالْملك النَّاصِر أضمر إهلاك تنكز عشر سِنِين وَهُوَ يخوله ويعظمه وينعم عَلَيْهِ وَفِي قلبه لَهُ مَا فِيهِ حَتَّى قبض عَلَيْهِ.
وَكَانَ تنكز عَظِيم السطو شَدِيد الْغَضَب قتل خلقا مِنْهُم عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن مزروع الفوعي نَائِب فحليس بِدِمَشْق وَعلي بن مقلد حَاجِب الْعَرَب والأمير حَمْزَة رَمَاه بالبندق ثمَّ أهلكه سرا وَغَيرهم.
وَله بِدِمَشْق والقدس وَغَيرهمَا آثَار حَسَنَة وأوقاف، وَقتل أَكثر الْكلاب بِدِمَشْق ثمَّ حبس الْبَاقِي، وَحَال بَين أناثها وذكورها، وَلما استوحش من السُّلْطَان عزم على نكثه من جِهَة التتر وَأخذ السُّلْطَان من أَمْوَاله مَا يفوت الْحصْر، زعم بَعضهم أَنه يُقَارب مَال قَارون وَكَانَ قبل ذَلِك قد تبرم من نقيق الضفادع فأخرجها من المَاء، فَقَالَ بعض النَّاس فِيهِ:
(تنكر تنكز بِدِمَشْق تيهاً ... وَذَلِكَ قد يدل على الذّهاب)
(وَقَالُوا للضفادع ألف بشرى ... بميتته فَقلت وللكلاب)
" تولى دمشق بعده الطنبغا " الْحَاجِب الصَّالِحِي، كَانَ تنكز قد سعى عَلَيْهِ حَتَّى نقل من نِيَابَة حلب إِلَى نِيَابَة غَزَّة فأورثه الله أرضه ودياره.
وفيهَا: بعد حاديثة تنكز عُوقِبَ أَمِين الْملك عبد الله الصاحب بِدِمَشْق، واستصفى مَاله وَمَات تَحت الْعقُوبَة، قبْطِي الأَصْل، وَكَانَ فِيهِ خير وَشر ووزر بِمصْر ثَلَاث مَرَّات.
وَفِيه يَقُول صاحبنا الشَّيْخ جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ:(2/318)
(لله كم حَال أمرئ مقتر ... قضيت فِي الْقُدس بتنفيسه)
(كم دِرْهَم ولي وَلكنه ... قد أَخذ الْأجر على كيسه)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا:
(رَوَت عَنْك أَخْبَار الْمَعَالِي محَاسِن ... كفت بِلِسَان الْحَال عَن لسن الْحَمد)
(فوجهك عَن بشر وكفك عَن عطا ... وخلقك عَن سهل ورأيك عَن سعد)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم وسط بِدِمَشْق (طغية وجنغية) من أَصْحَاب تنكز وَكَانَا ظالمين.
وفيهَا: عزل طرغاي، عَن حلب وَكَانَ على طمعه يُصَلِّي وَيَتْلُو كثيرا.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمام زاهد الْوَقْت بِدِمَشْق.
وَتُوفِّي الْملك أنوك بن الْملك النَّاصِر وَكَانَ عَظِيم الشكل.
وفيهَا: ضربت رَقَبَة عُثْمَان الزنديق بِدِمَشْق على الألحاد والباجر بَقِيَّة سمع مِنْهُ من الزندقة مَا لم يسمع من غَيره لَعنه الله.
وَتُوفِّي الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْملك الأوحد، وَكَانَ من أكَابِر أُمَرَاء دمشق وَمن بقايا أجواد بني شيركوه، وَكَانَ تنكز على شممه بِدِمَشْق ينزل إِلَى ضيافته كل سنة فينفق على ضِيَافَة تنكز نَحْو سِتِّينَ ألف دِرْهَم.
وفيهَا توفّي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن الْملك الْمَنْصُور قلاوون الصَّالِحِي رَحمَه الله تَعَالَى وَله سِتُّونَ سنة بعد أَن خطب لَهُ بِبَغْدَاد وَالْعراق وديار بكر والموصل وَالروم، وَضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم هُنَاكَ باسمه كَمَا يضْرب لَهُ بِالشَّام ومصر، وَحج مَرَّات وَحصل لقلوب النَّاس بوفاته ألم عَظِيم فَإِنَّهُ أبطل مكوساً، وَكَانَ يستحيي أَن يخيب قاصديه، وأيامه أَمن وسكينة وَبنى جَوَامِع وَغَيرهَا لَوْلَا تسليط لُؤْلُؤ والنشو على النَّاس فِي آخر وقته وعهد لوَلَده السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أبي بكر فَجَلَسَ على الْكُرْسِيّ قبل موت وَالِده، وَضربت لَهُ البشائر فِي الْبِلَاد.
ولي من تهنئة وتعزية فِي ذَلِك.
(مَا أَسَاءَ الدَّهْر حَتَّى أحسنا ... رق فاستدرك حزنا بهنا)
(بَيْنَمَا البأساء غمت من هُنَا ... وَإِذا النعماء عَمت من هُنَا)
(فَبِحَق أَن يُسمى محزنا ... وبصدق حِين يدعى محسنا)
(فلئن أوحشنا بدر السما ... فَلَقَد آنسنا شمس السنا)
(علما أبدله من علم ... ظَاهر الْأَعْرَاب مَرْفُوع الْبَنَّا)
(فجزى الله بِخَير من نأى ... وَوُقِيَ من كل ضير من دنا)
أجل وَالله لقد الدَّهْر وَأحسن وأهزل وأسمن وأحزن وسر وعق وبر إِذْ أصبح الْملك وَبَاعه بفقد النَّاصِر قَاصِر قد ضعف أَرْكَانه وَمَات سُلْطَانه فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر فأمسى(2/319)
بِحَمْد الله وَقد مَلأ الْقُصُور بالمنصور سُرُورًا وأطاعه الدَّهْر وَأَهله فَلَا يسرف فِي الْقَتْل إِنَّه كَانَ منصوراً.
وفيهَا: ورد إِلَى حلب زَائِرًا صاحبنا (التَّاج الْيَمَانِيّ) عبد الْبَاقِي بن عبد الْمجِيد بن عبد الله النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ الْكَاتِب الْعَرُوضِي الشَّاعِر المنشي وَجَرت مَعَه بحوث مِنْهَا مَسْأَلَة نفيسة وَهِي مَا لَو قَالَ لَهُ عِنْدِي اثنى عشر درهما وسدساً كم يلْزمه؟ فاستبهمت هَذِه الْمَسْأَلَة على الْجَمَاعَة فيسر الله لي حلهَا فَقلت: يلْزمه سَبْعَة دَرَاهِم إِذْ الْمَعْنى اثنى عشر درهما وأسداساً فَيكون النّصْف دَرَاهِم وَهِي سِتَّة دَرَاهِم وَالنّصف أسداساً وَهِي سِتَّة أَسْدَاس بدرهم فَهَذِهِ سَبْعَة، وَلَو قَالَ اثْنَي عشر درهما وربعاً لزمَه سَبْعَة وَنصف، وَلَو قَالَ اثْنَي عشر درهما وَثلثا لزمَه ثَمَانِيَة أَو وَنصفا فتسعة وَهَكَذَا.
وَمِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ قَوْله:
(تجنب أَن تذم بك اللَّيَالِي ... وحاول أَن يذم لَك الزَّمَان)
(وَلَا تحفل إِذا كلمت ذاتاً ... أصبت الْعِزّ أم حصل الهوان)
وَقَوله:
(بخلت لواحظ من أَتَانَا مُقبلا ... بسلامها ورموزهن سَلام)
(فعذرت نرجس مقليته لِأَنَّهَا ... تخشى العذار فَإِنَّهُ نمام)
وفيهَا: نقل طشتمر حمص أَخْضَر من نِيَابَة صفد إِلَى نِيَابَة حلب.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب الْفِيل والزرافة جهزهما الْملك النَّاصِر قبل وَفَاته لصَاحب ماردين.
وفيهَا: فتح الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الزراق وَمَعَهُ بعض عَسْكَر حلب قلعة خندروس من الرّوم كَانَت عاصية وَبهَا أرمن وتتر يقطعون الطرقات.
وفيهَا: صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على الشَّيْخ عز الدّين عبد الْمُؤمن بن قطب الدّين عبد الرَّحْمَن بن العجمي الْحلَبِي توفّي بِمصْر، وَكَانَ عِنْده تزهد وَكتب الْمَنْسُوب.
وفيهَا: توفّي بأياس نائبها الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الغزى، تقدّمت لَهُ نكاية فِي الأرمن وَنقل إِلَى تربته بحلب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا بَايع السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أَبُو بكر بن الْملك النَّاصِر (الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله) أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن المستكفي بِاللَّه أبي الرّبيع سُلَيْمَان، كَانَ قد عهد إِلَيْهِ وَالِده بالخلافة فَلم يُبَايع فِي حَيَاة الْملك النَّاصِر فَلَمَّا ولى الْمَنْصُور بَايعه وَجلسَ مَعَه على كرْسِي الْملك وَبَايَعَهُ الْقُضَاة وَغَيرهم.
وفيهَا: فِي صفر توفّي شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ جمال الدّين يُوسُف بن الزكي عبد(2/320)
الرَّحْمَن بن الْمزي الدِّمَشْقِي بهَا مُنْقَطع القرين فِي معرفَة أَسمَاء الرِّجَال مشاركاً فِي عُلُوم، وَتَوَلَّى مشيخة دَار الحَدِيث بعده قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ.
وفيهَا: فِي صفر خلع السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أَبُو بكر بن الْملك احْتج عَلَيْهِ قوصون الناصري ولي نعْمَة أَبِيه بحجج وَنسب إِلَيْهِ أموراً وَأخرجه إِلَى قوص إِلَى الدَّار الَّتِي أخرج الْملك النَّاصِر وَالِده الْخَلِيفَة المستكفي إِلَيْهَا جَزَاء وفَاقا، ثمَّ أَمر قوصون وَالِي قوص بهَا وَأقَام فِي الْملك أَخَاهُ الْملك الْأَشْرَف كجك وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين.
فَقلت فِي ذَلِك:
(سلطاننا الْيَوْم طِفْل والأكابر فِي ... خلف وَبينهمْ الشَّيْطَان قد نزغا)
(وَكَيف يطْمع من مسته مظْلمَة ... أَن يبلغ السؤل وَالسُّلْطَان مَا بلغا)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الآخر جهز قوصون مَعَ الْأَمِير قطلبغا الفخري والناصري عسكراً لحصار السُّلْطَان أَحْمد بن الْملك النَّاصِر بالكرك، وَسَار الطنبغا نَائِب دمشق والحاج أرقطاي نَائِب طرابلس باشارة قوصون إِلَى قتال طشتمر بحلب لكَون طشتمر أنكر على قوصون مَا اعْتَمدهُ فِي حق أَخِيه الْمَنْصُور أبي بكر وَنهب الطنبغا بحلب مَال طشتمر وهرب طشتمر إِلَى الرّوم وأجتمع بِصَاحِب الرّوم ارتنا ثمَّ أَن الفخري عَاد عَن الكرك إِلَى دمشق بعد محاصرة أَحْمد بهَا أَيَّامًا وَبعد أَن استمال النَّاصِر أَحْمد الفخري فَبَايعهُ وَلما وصل الفخري إِلَى دمشق بَايع للناصر من بَقِي من عَسْكَر دمشق الْمُتَأَخِّرين عَن الْمُضِيّ إِلَى حلب صُحْبَة الطنبغا هَذَا كُله والطنبغا وَمن مَعَه بالمملكة الحلبية، ثمَّ سَار الفخري إِلَى ثنية الْعقَاب وَأخذ من مخزن الْأَيْتَام بِدِمَشْق أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، وَكَانَ الطنبغا قد اسْتَدَانَ مِنْهُ مِائَتي ألف دِرْهَم، وَهُوَ الَّذِي فتح هَذَا الْبَاب.
وَلما بلغ الطنبغا مَا جرى بِدِمَشْق رَجَعَ على عقبه فَلَمَّا قرب من دمشق أرسل الفخري إِلَيْهِ الْقُضَاة وَطلب الْكَفّ عَن الْقِتَال فِي رَجَب فَقَوِيت نفس الطنبغا وَأبي ذَلِك وَطَالَ الْأَمر على الْعَسْكَر فَلَمَّا تقاربوا بَعضهم من بعض لحقت ميسرَة الطنبغا بالفخري ثمَّ الميمنة وَبَقِي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وَابْن الأبي بكر فِي قَلِيل من الْعَسْكَر فهرب الطنبغا وَهَؤُلَاء إِلَى جِهَة مصر فَجهز الفخري وَأعلم النَّاصِر بالكرك، وخطب للناصر أَحْمد بِدِمَشْق وغزة والقدس فَلَمَّا وصل الطنبغا مصر وَهُوَ قوي النَّفس بقوصون قدر الله سُبْحَانَهُ تغير أَمر قوصون وَكَانَ قد غلب على الْأَمر لصِغَر الْأَشْرَف.
فاتفق إيدغمش الناصري أَمِير آخور ويلبغا الناصري وَغَيرهمَا وقبضوا على قوصون ونهبت دياره واختطفت الحرافيش وَغَيرهم من دياره وخزائنه من الذَّهَب وَالْفِضَّة والجواهر والزركش والحشر والسروج والآلات مَا لَا يُحْصى لِأَن قوصون كَانَ قد انتقى عُيُون ذخائر بَيت المَال وَاسْتغْنى من دَار قوصون خلق كثير وَقتل على ذَلِك خلق وَأَرْسلُوا قوصون إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَأهْلك بهَا وقضوا على الطنبغا وحبسوه بِمصْر وَلما بلغ طشتمر بالروم مَا جرى(2/321)
رَجَعَ من الرّوم إِلَى دمشق فَتَلقاهُ الفخري والقضاة ثمَّ رَحل الفخري وطشتمر إِلَى مصر بِمن مَعَهُمَا.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان سَافر الْملك النَّاصِر أَحْمد من الكرك فوصل مصر وَعمل أعزية لوالده وأخيه وَأمر بتسمير وَالِي قوص لقَتله الْمَنْصُور.
وخلع الْأَشْرَف كجك الصَّغِير وَجلسَ النَّاصِر على الْكُرْسِيّ هُوَ والخليفة، وَعقد بيعَته قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ، ثمَّ أعدم الطنبغا والمرقبي؟
وفيهَا: كسر حسن بن تمرتاش بن جوبان من التتر طغاي بن سوتاي فِي الشرق وَتَبعهُ إِلَى بلد قلعة الرّوم فاستشعر النَّاس لذَلِك.
وفيهَا: عزل الْملك الْأَفْضَل مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماه والمعرة وبارين وبلادهن وَنقل إِلَى دمشق من جهلة أمرائها تَغَيَّرت سيرة الْأَفْضَل حَتَّى مَاتَ وَقطعت أَشجَار بستانه وَظهر فِي اللَّيْل من بعض أعقاب أَشجَار الْبُسْتَان الَّتِي قطعت نور فَمَا أَفْلح بعد ذَلِك.
" وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه " بعده مَمْلُوك أَبِيه سيف الدّين طقز تمر.
وفيهَا: عزل عَن قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماه القَاضِي جمال الدّين عبد الله بن القَاضِي نجم الدّين العديم، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ القَاضِي تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن الحكم.
وفيهَا: أهلك طاجار الدواتدار وَكَانَ مُسْرِفًا على نَفسه.
وفيهَا: توفّي الْأَفْضَل صَاحب حماه معزولا، وَنقل إِلَى تربته بحماه فَخرج نائبها للقاء تابوته وحزن عَلَيْهِ وَحلف أَنه مَا تولى حماه إِلَّا رَجَاء أَن يردهَا إِلَى الْأَفْضَل مُكَافَأَة لاحسان أَبِيه.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى (توفّي القَاضِي برهَان الدّين) إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب، وَكَانَ متعففاً وَيعرف فَرَائض رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى أَيْضا (عُوقِبَ لُؤْلُؤ القندشي) بدار الْعدْل بحلب حَتَّى مَاتَ واستصفى مَاله وشمت بِهِ النَّاس.
قلت:
(ألؤلؤ قد طلمت النَّاس لَكِن ... بِقدر طلوعك اتّفق النُّزُول)
(كَبرت فَكنت فِي تَاج فَلَمَّا ... صغرت سحقت سنة كل لولو)
وفيهَا: توفّي الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن الْحَاج أبي بكر أحد الإمراء بحلب، كَانَ من رجال الدِّينَا، وَله مارستان بطرابلس وأرتفع بِهِ الدَّهْر وانخفض وَدفن بتربة فِي جَامع أنشأه بحلب بِبَاب اتطاكية.
وفيهَا: توفّي الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن القَاضِي جلال الدّين الْقزْوِينِي خطيب دمشق، وَتَوَلَّى السُّبْكِيّ الخطابة وَجرى بَينه وَبَين تَاج الدّين عبد الرَّحِيم أخي الْخَطِيب المتوفي.(2/322)
وقائع، وَفِي آخر الْأَمر تعصبت الدماشقة مَعَ تَاج الدّين فاستمر خَطِيبًا.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ بن عُثْمَان الزرعي الْمَعْرُوف بالقرع إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة ولاه الطاغية الفخري بالبذل فَاجْتمع النَّاس وحملوا الْمُصحف وتضرروا من ولَايَة مثله فَرفعت يَده عَن الحكم فسافر أَيَّامًا ثمَّ عَاد بكتب فَمَا التفتوا إِلَيْهَا فسافر إِلَى مصر وحلب خَالِيَة عَن قَاض شَافِعِيّ.
وفيهَا: فِي شَوَّال عَم الشَّام ومصر جَراد عَظِيم وَكَانَ أَذَاهُ قَلِيلا.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إيدغمش الناصري إِلَى حلب نَائِبا بهَا فِي حشمة عَظِيمَة وَأحسن وَعدل وخلع كثير من النَّاس وَأقَام بحلب إِلَى صفر ثمَّ نقل إِلَى نِيَابَة دمشق وتأسف الحلبيون لانتقاله عَنْهُم.
قلت:
(يعرف من تقبله أَرْضنَا ... من لزم الْأَوْسَط من فعله)
(لَا تقبل المسرف فِي جوره ... كلا وَلَا المسرف فِي عدله)
وَنقل: طقزتمر من حماه إِلَى حلب مَكَان إيدغمش ودخلها فِي عشرى صفر، وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه مَكَانَهُ الْأَمِير الْعَالم علم الدّين الجاولي، ثمَّ نقل الجاولي إِلَى نِيَابَة غَزَّة، وَولي نِيَابَة حماه مَكَان آل ملك، ثمَّ بعد الطنبغا المارداني كل هَذَا فِي مُدَّة يسيرَة وَجرى فِي هَذِه السّنة من تقلبات الْمُلُوك والنواب واضطرابهم مَا لم يجر فِي مئات من السنين.
قلت: ...
(عجائب عامنا عظمت وجلت ... أعاماً كَانَ أم مِائَتَيْنِ عَاما)
(تصول على الْمُلُوك صيال قَاض ... قَلِيل الدّين فِي مَال الْيَتَامَى)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب القَاضِي حسام الدّين الغوري قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِمصْر الْوَافِد إِلَيْهَا من قَضَاء بَغْدَاد منفياً من الْقَاهِرَة لما اعتقده فِي الْأَحْكَام ولمعاضدته لقوصون ولسوء سيرته فَإِنَّهُ قَاضِي تتر.
ولي بيتان فِي ذمّ حمام هما:
(حمامكم فِي كل أَوْصَافه ... يشبه شخصا غير مَذْكُور)
(شَدِيد برد وسخ موحش ... قَلِيل مَاء فَاقِد النُّور)
فغيرهما بعض النَّاس فَجعل الْبَيْت الأول كَذَا:
(حمامكم فِي كل أَوْصَافه ... يشبه وَجه الْحَاكِم الغوري)
وتمته بِالْبَيْتِ الثَّانِي على حَاله.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة سَافر السُّلْطَان النَّاصِر أَحْمد إِلَى الكرك وَأخذ من ذخائر بَيت المَال بِمصْر مَا لَا يُحْصى وَصَحب طشتمر والفخري مقيدين فَقَتَلَهُمَا بالكرك قتلة شنيعة(2/323)
وَيطول الشَّرْح فِي وصف جرْأَة الفخري وإقدامه على الْفَوَاحِش حَتَّى فِي رَمَضَان ومصادرته للنَّاس حَتَّى أَنه جهز من صادر أهل حلب فأراح الله الْعَالم مِنْهُ، وحصن النَّاصِر الكرك وأتخذها مقَاما لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم انْقَلب عَسْكَر الشَّام على الْملك النَّاصِر أَحْمد وَهُوَ بالكرك وكاتبوا إِلَى مصر (فَخلع النَّاصِر وأجلس أَخُوهُ السُّلْطَان الْملك إِسْمَاعِيل) على الْكُرْسِيّ بقلعة الْجَبَل واستناب إِلَى ملك.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر حوصر السُّلْطَان أَحْمد بالكرك، وَاحْتج عَلَيْهِ أَخُوهُ الصَّالح بِمَا أَخذ من أَمْوَال بَيت المَال وَحصل بنواحي الكرك غلاء لذَلِك.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي نَائِب دمشق إيدغمش وَدفن بالقبيبات، وَيُقَال أَن دمشق لم يمت بهَا من قديم الزَّمَان إِلَى الْآن نَائِب سواهُ، وتولاها مَكَانَهُ طقز تمر نَائِب حلب.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا المارداني نَائِبا إِلَى حلب.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان توفّي الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الْبَاقِي الْيَمَانِيّ الأديب وَقد أناف على السِّتين وَتقدم ذكر وفوده إِلَى حلب رَحمَه الله تَعَالَى وزر بِالْيمن وتنقلت بِهِ الْأَحْوَال، وَله نظم ونثر كثير وتصانيف.
وفيهَا: فِي شَوَّال خرج الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الأحمدي من مصر بعسكر لحصار الكرك وَكَذَلِكَ من دمشق فحاصروا النَّاصِر بهَا بالنفظ والمجانيق وَبلغ الْخَبَر أُوقِيَّة بدرهم وغلت دمشق لذَلِك حَتَّى أكلُوا خبز الشّعير.
وفيهَا: وصل عَلَاء الدّين القرع إِلَى حلب قَاضِيا للشَّافِعِيَّة وَأول درس أَلْقَاهُ بِالْمَدْرَسَةِ قَالَ فِيهِ: كتاب الطَّهَارَة بَاب الميات فأبدل الْهَاء بِالتَّاءِ فَقلت أَنا للحاضرين: لَو كَانَ بَاب الميات لما وصل القرع إِلَيْهِ وَلكنه بَاب الألوف ثمَّ قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عُنُقه مَكَان فِي عقبه فَقلت أَنا: لَا وَالله وَلكنهَا فِي عنق الَّذِي ولاه، فاشتهرت عني هَاتَانِ التنديدتان فِي الْآفَاق.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر عزل الْأَمِير سُلَيْمَان بن مهنا بن عِيسَى عَن إِمَارَة الْعَرَب وولاها مَكَانَهُ الْأَمِير عِيسَى بن فضل بن عِيسَى وَذَلِكَ بعد الْقَبْض على فياض بن مهنا بِمصْر، وَكَانَ سُلَيْمَان قد ظلم وصادر أهل سرمين وربط بعض النِّسَاء فِي الزناجير وهجم عبيده على المخدرات فأغاثهم الله فِي وسط الشدَّة ثمَّ أُعِيد بعد مُدَّة قريبَة إِلَى الْإِمَارَة.
وفيهَا: توفّي بحلب الْأَمِير الطاعن خَفِي السن سيف الدّين يلبصطي التركماني الأَصْل رَأس الميمنة بهَا، وَكَانَ قَلِيل الْأَذَى مَجْمُوع الخاطر.
وفيهَا: توفّي بحلب طنبغا حجى كَانَ جهزه الفخري إِلَيْهَا نَائِبا عَنهُ فِي أَيَّام خُرُوجه(2/324)
بِدِمَشْق، وَهُوَ الَّذِي جبى أَمْوَالًا من أهل حلب وَحملهَا إِلَى الفخري وَأخذ لنَفسِهِ بَعْضهَا وباء بإثم ذَلِك.
وفيهَا: توفّي بحلب الشَّيْخ كَمَال الدّين المهمازي، كَانَ لَهُ قبُول عِنْد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ووقف عَلَيْهِ حمام السُّلْطَان بحلب وَسلم إِلَيْهِ تربة ابْن قرا سنقر بهَا، وَكَانَ عِنْده تصون ومروءة.
قلت:
(لوفاة الْكَمَال فِي الْعَجم وَهن ... فَلَقَد أَكْثرُوا عَلَيْهِ التعازي)
(قل لَهُم لَو يكون فِيكُم جواد ... كَانَ فِي غنية عَن المهمازي)
وفيهَا: فِي رَجَب اعتقل القرع بقلعة حلب معزولا، ثمَّ فك عَنهُ الترسيم وسافر إِلَى جِهَة مصر. وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بطرابلس نائبها ملك تمر الْحِجَازِي ووليها مَكَانَهُ طرغاي وَفِيه تولى نِيَابَة حماه يلبغا التجباوي.
وفيهَا: فِي شعْبَان وصل القَاضِي بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن الخشاب على قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب فَأحْسن السِّيرَة.
وفيهَا: توفّي بحلب الْحَاج عَليّ بن معتوق الدبيسري وَهُوَ الَّذِي عمر الْجَامِع بِطرف بانقوسا وَدفن بتربته بِجَانِب الْجَامِع.
وفيهَا: توفّي بهادر التُّمُرْتَاشِيّ بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ بعد وَفَاة الْملك النَّاصِر من الْأُمَرَاء الغالبين على الْأَمر.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا أغارت التركمان مَرَّات على بِلَاد سيس فَقتلُوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل بِمَا فتكت الأرمن بِبِلَاد قرمان.
وفيهَا: فِي شهر صفر توفّي الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا المارداني نَائِب حلب، وَدفن خَارج بَاب الْمقَام، وَله بِمصْر جَامع عَظِيم، وَكَانَ شَابًّا حسنا عَاقِلا ذَا سكينَة.
وفيهَا: مزقنا كتاب فصوص الحكم بِالْمَدْرَسَةِ العصروينة بحلب عقيب الدَّرْس وغسلناه وَهُوَ من تصانيف ابْن عَرَبِيّ تَنْبِيها على تَحْرِيم قنيته ومطالعته.
قلت فِيهِ:
(هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة فِي نَفسهَا)
(أَنا قد قَرَأت نقوشها ... فصوابها فِي عكسها)
وفيهَا: توفّي بحلب الْأَمِير سيف الدّين بهادر الْمَعْرُوف بحلاوة أحد الْأُمَرَاء بهَا، وَله أثر عَظِيم فِي الْقَبْض على تنكز، وَكَانَ عِنْده ظلم وتوعد أهل حلب بشر كَبِير فأراحهم الله مِنْهُ.(2/325)
قلت:
(حلاوة مر فَمَا ... أملحه أَن يدفنا)
(إِلَى البلى مسيرًا ... وَفِي الثرى مكفنا)
وفيهَا: فِي صفر بلغنَا أَنه توفّي الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن المرحل النَّحْوِيّ الْحَرَّانِي الأَصْل الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة، كَانَ متضلعاً من الْعَرَبيَّة وَعِنْده تواضع وديانة، نقلت لَهُ مرّة وَهُوَ بحلب أَن أَبَا الْعَبَّاس ثعلباً أجَاز الضَّم فِي الْمُنَادِي الْمُضَاف والشبيه بِهِ الصَّالِحين للألف وَاللَّام فاستغرب ذَلِك وَأنْكرهُ جدا، ثمَّ طالع كتبه فَرَآهُ كَمَا نقلت، فاستحيا من إِنْكَار ذَلِك مَعَ دَعْوَاهُ كَثْرَة الِاطِّلَاع.
فَقلت:
(من بعد يَوْمك هَذَا ... لَا تنقل النَّقْل تغلب)
(لَو أَنَّك ابْن خروف ... مَا كنت عِنْدِي كثعلب)
وفيهَا: فِي ربيع الأول وصل يلبغا التجباوي إِلَى حلب نَائِبا وَهُوَ شَاب حسن، كَانَ الْملك النَّاصِر يمِيل إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مرّة أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، وَمرَّة مائَة فرس مسومة وغالب مَال تنكز، وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه مَكَانَهُ سيف الدّين طقز تمر الأحمدي وَعِنْده عقل وَعدل وَعند يلبغا عفاف عَن مَال الرّعية وسطوة وَحسن أَخْلَاق فِي الْخلْوَة.
وَفِيه: سَافر قَاضِي الْقُضَاة بحلب بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن الخشاب إِلَى مصر ذَاهِبًا بِنَفسِهِ عَن مُسَاوَاة القرع وَذَلِكَ حِين بلغه تطلب القرع بحلب، ولاين الخشاب يَد طولى فِي الْأَحْكَام وفن الْقَضَاء متوسط الْفِقْه.
وَفِيه: توفّي سُلَيْمَان بن مهنا أَمِير الْعَرَب، وَفَرح أهل إقطاعه بوفاته وَالْقَاضِي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي كَانَت السِّرّ وَكيل بَيت المَال بِدِمَشْق توفّي بالقدس الشريف، كتب السِّرّ بِالْقَاهِرَةِ للْملك النَّاصِر مُحَمَّد أَولا.
وَفِيه: وصل عسكران من حماه وطرابلس للدخول إِلَى بِلَاد سيس لتمرد صَاحبهَا كندا صطبل الفرنجي ولمنعه الْحمل ومقدم عَسْكَر طرابلس الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف الداوندار أَنْشدني بحلب فِي سفرته هَذِه الْبَيْتَيْنِ للْإِمَام الشَّافِعِي قيل أَنَّهُمَا تنفعان لحفظ الْبَصَر:
(يَا ناظري بِيَعْقُوب أُعِيذكُمَا ... بِمَا استعاذ بِهِ إِذْ خانه الْبَصَر)
(قَمِيص يُوسُف أَلْقَاهُ على بَصرِي ... بشير يُوسُف فَاذْهَبْ أَيهَا الضَّرَر)
فأنشدت بَيْتَيْنِ لي ينفعان إِن شَاءَ الله تَعَالَى لحفظ النَّفس وَالدّين والأهل وَالْمَال، وهما:
(أمررت كفا سبحت فِيهَا الْحَصَى ... وروت الركب بِمَاء طَاهِر)
(على معاشي ومعادي وعَلى ... ذريتي وباطني وظاهري)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عَاد الْعَسْكَر المجهز إِلَى بلد سيس وَمَا ظفروا بطائل وَكَانُوا(2/326)
قد أشرفوا على أَخذ أُذُنه وفيهَا خلق عَظِيم وأموال عَظِيمَة وجفال من الأرمن فتبرطل أقسنقر مقدم عَسْكَر حلب من الأرمن وثبط الْجَيْش عَن فتحهَا، وَاحْتج بِأَن السُّلْطَان مَا رسم بأخذها، وَتُوفِّي اقسنقر الْمَذْكُور بعد مُدَّة يسيرَة بحلب مذموماً وَأبي الله أَن يتوفاه بِبِلَاد سيس مغازياً.
وفيهَا: نقلت جثة تنكز من ديار مصر إِلَى تربته بِدِمَشْق وتلقاها النَّاس لَيْلًا بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا لَهُ وَوَقع بِدِمَشْق عقيب ذَلِك مطر فعدوا ذَلِك من بركَة الْقدوم بجثته.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي بِدِمَشْق الإِمَام الْعَلامَة شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي، كَانَ بحراً زاخراً فِي الْعلم.
وَفِيه: قتل الزنديق إِبْرَاهِيم بن يُوسُف المقصاتي بِدِمَشْق لسبه الصَّحَابَة وقذفه عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم ووقوعه فِي حق جِبْرِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وفيهَا: فِي الْعشْرين من شهر رَجَب توفّي بجبرين الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشَّيْخ نَبهَان كَانَ لَهُ الْقبُول التَّام عِنْد الْخَاص وَالْعَام، وناهيك أَن طشتمر حمص أَخْضَر على قُوَّة نَفسه وشممه وقف على زاويته بجبرين حِصَّة من قَرْيَة حريثان لَهَا مغل جيد وَبِالْجُمْلَةِ فَكَأَنَّمَا مَاتَت بِمَوْتِهِ مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَكَاد الشَّام يَخْلُو من الْمَشْهُورين على الاطلاق.
قلت:
(وَكنت إِذا قابلت جبرين زَائِرًا ... يكون لقلبي بالمقابلة الْجَبْر)
(كَأَن بني نَبهَان يَوْم وَفَاته ... نُجُوم سَمَاء خر من بَينهَا الْبَدْر)
زرته قبل وَفَاته رَحمَه الله فحكي لي قَالَ: حضرت عِنْد الشَّيْخ عبس السرجاوي وَأَنا شَاب وَهُوَ لَا يعرفنِي فحين رَآنِي دَمَعَتْ عينه وَقَالَ: مرْحَبًا بشعار نَبهَان. (وَأنْشد) :
(وَمَا أَنْت إِلَّا من سليمى لأنني ... أرى شبها مِنْهَا عَلَيْك يلوح)
وَحكى لي مرّة أُخْرَى قَالَ: حضرت بالفوعة غسل الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ مهنا لما مَاتَ وقرأنا عِنْده سُورَة الْبَقَرَة وَهُوَ يغسل فَلَمَّا وصلنا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} رفعنَا أَيْدِينَا للدُّعَاء فَرفع الشَّيْخ إِبْرَاهِيم يَدَيْهِ مَعنا للدُّعَاء وَهُوَ ميت على المغتسل ومحاسن الشَّيْخ مُحَمَّد وتلقيه للنَّاس وتواضعه ومناقبه ومكاشفاته كَثِيرَة مَشْهُورَة رَحمَه الله ورحمنا بِهِ آمين.
وفيهَا: فِي منتصف شعْبَان (وَقعت الزلزلة) الْعَظِيمَة وَخَربَتْ بحلب بلادها أَمَاكِن وَلَا سِيمَا منبج فَإِنَّهَا أقلت ساكنها وأزالت محاسنها وَكَذَلِكَ قلعة الراواندان وعملت أَنا فِي ذَلِك " رِسَالَة " أَولهَا نَعُوذ بِاللَّه من شَرّ مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا، ونستعينه فِي طيب الْإِقَامَة بهَا وَحسن الرحلة عَنْهَا، نعم نستعيذ بِاللَّه ونستعين من سم هَذِه السّنة فَهِيَ أم أَرْبَعَة وَأَرْبَعين وختمتها بِقَوْلِي:
(منبج أَهلهَا حكوا دود قَز ... عِنْدهم تجْعَل الْبيُوت قبوراً)(2/327)
(رب نعمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت حنة وَحَرِيرًا)
وَالله أعلم.
وَصَارَت الزلازل تعاود حلب وَغَيرهَا سنة وَبَعض أُخْرَى، وَفِي الحَدِيث أَن كَثْرَة الزلازل من أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: توفّي طرغاي نَائِب طرابلس.
وَفِيه: بلغنَا أَن أرتنا صَاحب الرّوم كسر سُلَيْمَان خَان ملك التتر قَصده بالتتار إِلَى الرّوم فانكسر كسرة شنيعة، ثمَّ بلغنَا أَن الشَّيْخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل وَهَذَا من سَعَادَة الْإِسْلَام فَإِن الْمَذْكُور كَانَ فَاسد النِّيَّة لكَون الْملك النَّاصِر مُحَمَّد قتل أَبَاهُ وَأخذ مَاله كَمَا تقدم.
وفيهَا: قطع خبز فياض بن مهنا بن عِيسَى فَقطع الطّرق وَنهب.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة نور الدّين مُحَمَّد بن الصَّائِغ على قَضَاء الشَّافِعِيَّة وَهُوَ قَاض عفيف حسن السِّيرَة عَابِد.
وفيهَا: فِي شَوَّال حاصر يلبغا النَّائِب بحلب زين الدّين قراجا بن دلغادر التركماني بجبل الدلْدل وَهُوَ عسر إِلَى جَانب جيحان فاعتصم مِنْهُ بِالْجَبَلِ وَقتل فِي الْعَسْكَر وَأسر وجرح وَمَا نالوا مِنْهُ طائلا فَكبر قدره بذلك واشتهر اسْمه وَعظم على النَّاس شَره، وَكَانَت هَذِه حَرَكَة رَدِيئَة من يلبغا.
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين عمر بن شهَاب الدّين مُحَمَّد بن العجمي الْحلَبِي، كَانَ قد تفنن وَعرف أصولاً وفقهاً، وَبحث على شرح الشافية الكافية فِي النَّحْو مرّة وَبَعض أُخْرَى، وَدفن ببستانه رَحمَه الله، وَمَا خرج من بني العجمي مثله.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي صفر حوصرت الكرك ونقبت وَأخذ الْملك النَّاصِر أَحْمد وَحمل إِلَى أَخِيه الْملك الصَّالح بِمصْر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
وفيهَا: وصل إِلَى بن دلغادر أَمَان من السُّلْطَان وَأَفْرج عَن حريمه وَكن بحلب وَاسْتقر فِي الابلستين.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر بلغنَا وَفَاة الشَّيْخ أثير الدّين " أبي حَيَّان " النَّحْوِيّ المغربي بِالْقَاهِرَةِ، كَانَ بحراً زاخراً فِي النَّحْو وَهُوَ فِيهِ ظاهري، وَكَانَ يستهزئ بالفضلاء من أهل الْقَاهِرَة ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول عَن نَفسه أَنا أَبُو حيات بِالتَّاءِ يَعْنِي بذلك تلاميذه.
وَله مصنفات جليلة مِنْهَا تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم وَشرح التسهيل وارتشاف الضَّرْب من أَلْسِنَة الْعَرَب مُجَلد كَبِير جَامع، ومختصرات فِي النَّحْو، وَله نظم لَيْسَ على قدر فضيلته.
فَمن أحْسنه قَوْله:(2/328)
(وقابلني فِي الدَّرْس أَبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمي الردى)
(فَذا هز من عطفيه رمحاً مثقفاً ... وَذَا سل من جفنيه عضباً مهندا)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي بحلب الْحَاج مُحَمَّد بن سلمَان الْحلَبِي الْعَزْم، كَانَ عِنْده ديانَة وإيثار وَله مَعَ المصروعين وقائع وعجائب.
وَفِيه: توفّي بطرابلس الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد الدواتدار أحد الْأُمَرَاء بطرابلس وَهُوَ وَاقِف الْمدرسَة الصلاحية بحلب كَمَا تقدم وَكَانَ من أكمل الْأُمَرَاء ذكياً فطنا مُعظما لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حسن الخظ، وَله نظم، كَانَ كَاتبا ثمَّ صَار داوندار قبجق بحماه ثمَّ شاد الدَّوَاوِين بحلب ثمَّ حاجباً بهَا ثمَّ دواتدار الْملك النَّاصِر ثمَّ نَائِبا بالإسكندرية ثمَّ أَمِيرا بحلب وشاد المَال وَالْوَقْف ثمَّ أَمِيرا بطرابلس رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي شعْبَان بلغنَا وَفَاة الشَّيْخ نجم الدّين القحفيزي بِدِمَشْق، فَاضل فِي الْعَرَبيَّة والأصلين ظريف حسن الْأَخْلَاق، وَمن ذَلِك أَنه أنْشد مرّة قَول الشَّاعِر:
(أيا نخلتي سلمى ... إِلَخ)
فَقَالَ لَهُ بعض التلاميذ: يَا سَيِّدي وَمَا تَيْس المَاء؟ فَقَالَ الشَّيْخ إِن شِئْت أَن تنظره فَانْظُر فِي الخابية تره.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْحَنَفِيّ الأطروش.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدعدي الزراق أتابك عَسْكَر حلب مسناً وَله سَماع وَحكى لي أَنه حر الأَصْل من أَوْلَاد الْمُسلمين وَهُوَ فاتح قلعة خندروس كَمَا تقدم، وَتُوفِّي كندغدي الْعمريّ نَائِب البيرة مسناً عزل عَنْهَا قبل مَوته بأيام وعزموا على الْكَشْف عَلَيْهِ فستره الله بالوفاة ببركة محبته للْعُلَمَاء والفقراء وَسيف الدّين بلبان جركس نَائِب قلعة الْمُسلمين طَال مقَامه بهَا وَخلف مَالا كثيرا لبيت المَال.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان اتّفق سيل عَظِيم بطرابلس هلك فِيهِ خلق مِنْهُم ابْنا القَاضِي تَاج الدّين مُحَمَّد بن البارنباري كَاتب سرها، وَكَانَ أحد الِابْنَيْنِ الغريقين نَاظر الْجَيْش والاخر موقع الدست ورق النَّاس لأَبِيهَا فَقلت وَفِيه تضمين واهتدام:
(وارحمتاه لَهُ فَإِن مصابه ... بِابْن يبرحه فَكيف ابْنَانِ)
(مَا أنصفته الحادثان رمينه ... بمود عين وَمَا لَهُ قلبان)
وَزَاد نهر حماه وغرق دوراً كَثِيرَة وَلَطم العَاصِي خرطلة شيزر فَأَخذهَا وَتَلفت بساتين الْبَلَد لذَلِك وَيحْتَاج إِعَادَتهَا إِلَى كلفة كَبِيرَة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي بِدِمَشْق القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب الشَّافِعِي وَتَوَلَّى تدريس الشامية مكانة تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ ثمَّ تولاها السُّبْكِيّ بِنَفسِهِ خوفًا عَلَيْهَا، وَكَانَ ابْن النَّقِيب بَقِيَّة النَّاس وَمن أهل الإيثار وَأقَام حُرْمَة المنصب لما كَانَ(2/329)
قَاضِي حلب، فَقِيها كَبِيرا مُحدثا أصولياً متواضعاً مَعَ الضُّعَفَاء شَدِيدا على النواب.
قَالَ رَحمَه الله: دخلت وَأَنا صبي اشْتغل على الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ فَقَالَ لي: أَهلا بقاضي الْقُضَاة فَنَظَرت فَلم أجد عِنْده أحدا غَيْرِي فَقَالَ: اجْلِسْ يَا مدرس الشامية وَهَذَا من جملَة كشف الشَّيْخ محيي الدّين وَابْن النَّقِيب حكى هَذَا بحلب قبل تَوليته الشامية وَحكى لي يَوْمًا وَإِن كنت قد وقفت عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع من الْكتب أَنه رفع إِلَى أبي يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا مُسلم قتل فَحكم عَلَيْهِ بالقود فَأَتَاهُ رجل برقعة أَلْقَاهَا إِلَيْهِ فِيهَا:
(يَا قَاتل الْمُسلم بالكافر ... جرت وَمَا الْعَادِل كالجائر)
(يَا من بِبَغْدَاد وأعمالها ... من عُلَمَاء النَّاس أَو شَاعِر)
(استرجعوا وابكوا على دينكُمْ ... واصطبروا فالأجر للصابر)
فَبلغ الرشيد ذَلِك فَقَالَ لأبي يُوسُف تدارك هَذَا الْأَمر بحيلة لِئَلَّا تكون فتْنَة فطالب أَبُو يُوسُف أَصْحَاب الدَّم بِبَيِّنَة على صِحَة الذِّمَّة وثبوتها فَلم يَأْتُوا بهَا، فأسقط الْقود، وَحكى لنا يَوْمًا فِي بعض دروسه بحلب أَن مَسْأَلَة ألقيت على المدرسين وَالْفُقَهَاء بِدِمَشْق فَمَا حلهَا إِلَّا عَامل الْمدرسَة وَهِي رجل صلى الْخمس بِخَمْسَة وضوءات، وَبعد ذَلِك علم أَنه ترك مسح الرَّأْس فِي أحد الوضوءات فَتَوَضَّأ خمس وضوءات وَصلى الْخمس، ثمَّ تَيَقّن أَيْضا أَنه ترك مسح الرَّأْس فِي أحد الوضوءات.
الْجَواب: يتَوَضَّأ وَيُصلي الْعشَاء فَيخرج عَن الْعهْدَة بِيَقِين لِأَن الصَّلَاة المتروكة الْمسْح أَولا إِن كَانَت الْعشَاء فقد صحت الصَّلَوَات الْأَرْبَع قبلهَا، وَهَذِه الْعشَاء الْمَأْمُور بِفِعْلِهَا خَاتِمَة الْخمس وَإِن كَانَت غير الْعشَاء، فالعشاء الأولى والصلوات الْخمس الْمُعَادَة وَالْعشَاء الثَّالِثَة صَحِيحَة وغايته ترك مسح فِي تَجْدِيد وضوء لهَذَا يجب أَن يشْتَرط عدم الْحَدث إِلَى أَن يُصَلِّي الْخمس ثَانِيًا.
قلت: التَّحْقِيق أَن الْوضُوء ثَانِيًا كل يُغْنِيه عَنهُ مسح الرَّأْس وَغسل الرجلَيْن لِأَن الشَّرْط أَنه لم يحدث إِلَى أَن يُصَلِّي الْخمس ثَانِيًا وَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي للعجيب أَن يَقُول لَهُ: إِن كنت لم تحدث إِلَى الْآن فامسح رَأسك واغسل رجليك وصل الْعشَاء إِذْ الْجَدِيد عدم وجوب التَّتَابُع وَإِن كنت مُحدثا الْآن فَلَا بُد من الْوضُوء كَمَا قَالَ.
وفيهَا: اسْترْجع السُّلْطَان الْملك الصَّالح مَا بَاعه الْملك الْمُؤَيد وَابْنه الْأَفْضَل بحماه والمعرة وبلادهما من أَمْلَاك بَيت المَال وَهُوَ بأموال عَظِيمَة وَكَانَ غَالب الْملك قد طرح على النَّاس غصبا وَقد اشْتريت بِهِ تقادم إِلَى الْملك النَّاصِر فَقَالَ بعض المعربين فِي ذَلِك:
(طرحوا علينا الْملك طرح مصَادر ... ثمَّ استردوده بِلَا أَثمَان)
(وَإِذا يَد السُّلْطَان طَالَتْ واعتدت ... فيد الْإِلَه على يَد السُّلْطَان)
وكأنما كاشف هَذَا الْقَائِل فَإِن مُدَّة السُّلْطَان لم تطل بعد ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ مقتتلون من جين مَاتَ القان(2/330)
أَبُو سعيد وبلاد الشرق والعجم فِي غلاء وَنهب وجور بِسَبَب الْخلف من حِين وَفَاته إِلَى هَذِه السّنة.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي السُّلْطَان الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بوجع المفاصل والقولنج.
وَكَانَ فِيهِ ديانَة، وَيقْرَأ الْقُرْآن، وَفِي آخر يَوْم مَوته جلس مَكَانَهُ أَخُوهُ السُّلْطَان الْملك الْكَامِل شعْبَان، وَأخرج آل ملك نَائِب أَخِيه إِلَى نِيَابَة صفد وقماري إِلَى نِيَابَة طرابلس.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر نقل يلبغا الناصري من نِيَابَة حلب إِلَى نِيَابَة دمشق مَكَان طقز تمر، وسافر طقز تمر إِلَى مصر بعد الْمُبَالغَة فِي امْتِنَاعه من النقلَة من دمشق فَمَا أُجِيب إِلَى ذَلِك، وَتُوفِّي طقز تمر بِمصْر بعد مُدَّة يسيرَة وَكَانَ عِنْده ديانَة.
وَفِيه: وصل الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي إِلَى حلب نَائِبا وأبطل الْخُمُور والفجور بعد اشتهارها، وَرفع عَن الْقرى الطرح وَكَثِيرًا من الْمَظَالِم وَرخّص السّعر وسررنا بِهِ.
وفيهَا: عزل سيف بن فضل بن عِيسَى عَن إِمَارَة الْعَرَب ووليها أَحْمد بن مهنا وأعيد إقطاع فياض بن مهنا إِلَيْهِ وَرَضي عَنهُ واستعيد من أَيدي الْعَرَب من الإقطاعات وَالْملك شَيْء كثير وَجعل خَاصّا لبيت المَال.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على القَاضِي عز الدّين بن المنجا الْحَنْبَلِيّ قَاضِي دمشق وَهُوَ معري الأَصْل.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل القَاضِي بهاء الدّين حسن بن جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان إِلَى حلب نَاظرا على الْجَيْش على عَادَته عوضا عَن القَاضِي بدر الدّين مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي، ثمَّ مَا مضى شهر حَتَّى أُعِيد بدر الدّين عوضا عَن بهاء الدّين، وَهَكَذَا صَارَت المناصب كلهَا بحلب قَصِيرَة الْمدَّة كَثِيرَة الكلفة.
قلت:
(سَاكِني مصر أَيْن ذَاك التأني ... والتأني وَمَا لكم عَنهُ عذر)
(يخسر الشَّخْص مَاله ويقاسي ... تَعب الدَّهْر وَالْولَايَة شهر)
وفيهَا: كتب على بَاب قلعة حلب وَغَيرهَا من القلاع نقراً فِي الْحجر مَا مضمونه مُسَامَحَة الْجند بِمَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم لبيت المَال بعد وَفَاة الجندي والأمير وَذَلِكَ أحد عشر يَوْمًا وَبَعض يَوْم فِي كل سنة وَهَذَا الْقدر هُوَ التَّفَاوُت بَين السّنة الشمسية والقمرية وَهَذِه مُسَامَحَة بِمَال عَظِيم.
وفيهَا: قتلت الأرمن ملكهَا كند اصطبل الفرنجي كَانَ علجاً لَا يُدَارِي الْمُسلمين فخربت بِلَادهمْ وملكوا مَكَانَهُ.(2/331)
وفيهَا: فِي أواخرها ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة وَهِي من أمنع قلاع سيس مِمَّا يَلِي الرّوم وَقتلُوا رجالها وَسبوا النِّسَاء والأطفال، فبادر صَاحب سيس الْجَدِيد لاستنقاذها فصادفه ابْن دلغادر فأوقع بالأرمن وَقتل مِنْهُم خلقا وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ.
قلت:
(صَاحب سيس الْجَدِيد نَادَى ... كابان عِنْدِي عديل روحي)
(قُلْنَا تأهب لغير هَذَا ... فَذا فتوح على الْفتُوح)
وَبعد فتحهَا قصد النَّائِب بحلب أَن يَسْتَنِيب فِيهَا من جِهَة السُّلْطَان فعتا ابْن دلغادر عَن ذَلِك فجهزوا عسكراً لهدمها ثمَّ أَخَذتهَا الأرمن مِنْهُ بشؤم مُخَالفَته لوَلِيّ الْأَمر وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قبض على قماري الناصري نَائِب طرابلس وعَلى آل ملك نَائِب صفد، وَولي طرابلس بيدمر البدري، وصفد أرغون الناصري.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ كَمَا كَانُوا.
وفيهَا: فِي الْمحرم طلب الْحَاج أرقطاي نَائِب حلب إِلَى مصر، وتكن فِي مصر وارتفع شَأْنه وَصَارَ رَأس مشورة مَكَان حسنكلي بن البابا فَإِنَّهُ توفّي قبل ذَلِك بأيام.
وَفِيه: أقبل إِلَى حلب وبلادها من جِهَة الشرق جَراد عَظِيم فَكَانَ أَذَاهُ قَلِيلا بِحَمْد الله.
قلت:
(رجل جَراد صدها ... عَن الْفساد الصَّمد)
(فكم وَكم للطفه ... فِي هَذِه الرجل يَد)
وفيهَا: فِي ربيع الأول وصل إِلَى حلب الْأَمِير سيف الدّين طقتمر الأحمدي نَائِبا نقل إِلَيْهَا من حماه مَكَانَهُ أسندمر الْعمريّ. وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى سَافر القَاضِي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب وَولي كِتَابه السِّرّ بِدِمَشْق وَتَوَلَّى كِتَابَة السِّرّ بحلب مَكَانَهُ القَاضِي جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بلغنَا أَن نَائِب الشَّام يلبغا خرج إِلَى ظَاهر دمشق خوفًا من الْقَبْض عَلَيْهِ وشق الْعَصَا وعاضد أُمَرَاء مصر حَتَّى خلع السُّلْطَان الْملك الْكَامِل شعْبَان وأجلسوا مَكَانَهُ أَخَاهُ السُّلْطَان الْملك المظفر أَمِير حَاج وسلموا إِلَيْهِ أَخَاهُ الْكَامِل فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وناب عَن المظفر بِمصْر الْحَاج أرقطاي المنصوري، وَلما تمّ هَذَا الْأَمر تصدق يلبغا فِي المملكة الحلبية وَغَيرهَا بِمَال كثير ذهب وَفِضة شكرا لله تَعَالَى، وَكَانَ هَذَا الْملك الْكَامِل سيء التَّصَرُّف يولي المناصب غير أَهلهَا بالبذل ويعزلهم عَن قريب ببذل غَيرهم، وَكَانَ يَقُول عَن نَفسه: أَنا ثعبان لَا شعْبَان.(2/332)
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بحلب الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي الأسندمري من مقدمي الألوف أَمِير عفيف الذيل متصون.
وفيهَا: فِي مستهل رَجَب سَافر طقتمر الأحمدي نَائِب حلب إِلَى الديار المصرية وَسَببه وَحْشَة بَينه وَبَين نَائِب الشَّام فَإِنَّهُ مَا ساعده على خلع الْكَامِل وَحفظ أيمانه.
وفيهَا: وَقع الوباء بِبِلَاد أزبك وخلت قرى ومدن من النَّاس، ثمَّ اتَّصل الوباء بالقرم حَتَّى صَار يخرج مِنْهَا فِي الْيَوْم ألف جَنَازَة أَو نَحْو ذَلِك حكى لي ذَلِك من أَثِق بِهِ من التُّجَّار، ثمَّ اتَّصل الوباء بالروم وَهلك مِنْهُم خلق وَأَخْبرنِي تَاجر من أهل بلدنا قدم من تِلْكَ الْبِلَاد أَن قَاضِي القرم قَالَ: أحصينا من مَاتَ بالوباء فَكَانُوا خَمْسَة وَثَمَانِينَ ألفا غير من لَا نعرفه، والوباء الْيَوْم بقبرس والغلاء الْعَظِيم أَيْضا.
وفيهَا: فِي شعْبَان وصل إِلَى حلب الْأَمِير سيف الدّين (بيدمر البدري) نقل إِلَيْهَا من طرابلس وَولي طرابلس مَكَانَهُ، والبدري هَذَا عِنْده حِدة وَفِيه بدرة وَيكْتب على كثير من الْقَصَص بِخَطِّهِ وَهُوَ خطّ قوي.
وفيهَا: توفّي بطرابلس قاضيها شهَاب الدّين أَحْمد بن شرف الزرعي، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد اللَّطِيف الْحَمَوِيّ.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة صدرت بحلب وَاقعَة غَرِيبَة وَهِي أَن بِنْتا بكرا من أَوْلَاد أَوْلَاد عَمْرو التيزيني كرهت زَوجهَا ابْن المقصوص فلقنت كلمة الْكفْر لينفسخ نِكَاحهَا قبل الدُّخُول فقالتها وَهِي لَا تعلم مَعْنَاهَا فأحضرها البدري بدار الْعدْل بحلب وَأمر فَقطعت أذناها وشعرها وعلق ذَلِك فِي عُنُقهَا وشق أنفها وطيف بهَا على دَابَّة بحلب وبتيزين وَهِي من أجمل الْبَنَات وأحياهن فشق ذَلِك على النَّاس وَعمل النِّسَاء عَلَيْهَا عزاء فِي كل نَاحيَة بحلب حَتَّى نسَاء الْيَهُود وَأنْكرت الْقُلُوب قبح ذَلِك، وَمَا أَفْلح البدري بعْدهَا.
قلت:
(وضج النَّاس من بدر مُنِير ... يطوف مشرعاً بَين الرِّجَال)
(ذكرت وَلَا سَوَاء بهَا السبايا ... وَقد طافوا بِهن على الْجمال)
وَفِيه: ورد الْبَرِيد بتوليه السَّيِّد عَلَاء الدّين عَليّ بن زهرَة الْحُسَيْنِي نقابة الْأَشْرَاف بحلب مَكَان ابْن عَمه الْأَمِير شمس الدّين حسن بن السَّيِّد بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة وَأعْطِي هَذَا إِمَارَة طلخانات بحلب.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ.
وفيهَا: فِي ثَالِث الْمحرم وصل إِلَى حلب القَاضِي شهَاب الدّين بن أَحْمد بن الريَاحي على قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب، وَهُوَ أول مالكي استقضى بحلب وَلَا بُد لَهَا من قَاض حنبلي(2/333)
بعد مُدَّة لتكمل بِهِ الْعدة أُسْوَة بِمصْر ودمشق، وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا تجدّد بطرابلس قَاض حَنَفِيّ مَعَ الشَّافِعِي.
وفيهَا: فِي الْمحرم صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على القَاضِي شرف الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن ظافر الْهَمدَانِي الْمَالِكِي قَاضِي الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وَقد أناف على الثَّمَانِينَ، كَانَ دينا خيرا متجملاً فِي الملبس وَهُوَ الَّذِي عاضد تنكز على نكبة قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين يُوسُف بن جملَة وَهَا هم قد الْتَقَوْا عِنْد الله تَعَالَى.
وَفِيه: ظهر بَين منبج وَالْبَاب جَراد عَظِيم صَغِير من بزر السّنة الْمَاضِيَة فَخرج عكسر من حلب وَخلق من فلاحي النواحي الحلبية نَحْو أَرْبَعَة آلَاف نفس لقَتله وَدَفنه وَقَامَت عِنْدهم أسواق وصرفت عَلَيْهِم من الرّعية أَمْوَال، وَهَذِه سنة ابْتَدَأَ بهَا الطنبغا الْحَاجِب من قبلهم.
قلت:
(قصد الشَّام جَراد ... سنّ للغلات سنا)
(فتصالحنا عَلَيْهِ ... وحفرنا ودفنا)
وفيهَا: فِي الْمحرم سَافر الْأَمِير نَاصِر الدّين بن المحسني بعكسر من حلب لتسكين فتْنَة بِبَلَد شيرز بَين الْعَرَب والأكراد قتل فِيهَا من الأكراد نَحْو خَمْسمِائَة نفس ونهبت أَمْوَال ودواب.
وفيهَا: فِي الْمحرم عزمت الأرمن على نكبة لأياس فأوقع بهم أَمِير أياس حسام الدّين مَحْمُود بن دَاوُد الشَّيْبَانِيّ وَقتل من الأرمن خلقا وَأسر خلقا وأحضرت الرؤوس والأسرى إِلَى حلب فِي يَوْم مشهود فَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: منتصف ربيع الأول سَافر بيدمر البدري نَائِب حلب إِلَى مصر معزولاً أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا اعْتَمدهُ فِي حق الْبِنْت من تيزين الْمُقدم ذكرهَا وَنَدم على ذَلِك حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم.
وَفِيه: وصل إِلَى حلب نائبها أرغون شاه الناصري فِي حشمة عَظِيمَة نقل إِلَيْهَا من صفد.
وَفِيه: قطعت الطّرق وأخيفت السبل بِسَبَب الْفِتْنَة بَين الْعَرَب لخُرُوج إمرة الْعَرَب عَن أَحْمد بن مهنا إِلَى سيف بن فضل بن عِيسَى.
قلت:
(نُرِيد لأهل مصر كل خير ... وقصدهم لنا حتف وحيف)
(وَهل يسمو لأهل الشَّام رمح ... إِذا استولى على العربان سيف)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم على كركر ولختا وَمَا يَليهَا عصافير كالجراد الْمُنْتَشِر فَتَنَازَعَ النَّاس إِلَى شيل الغلات بدارا وَهَذَا مِمَّا لم يسمع بِمثلِهِ.
وَفِيه: وصل تَقْلِيد القَاضِي شرف الدّين مُوسَى بن فياض الْحَنْبَلِيّ بِقَضَاء الْحَنَابِلَة(2/334)
بحلب فَصَارَ الْقُضَاة أَرْبَعَة، وَلما بلغ بعض الظرفاء أَن حلب تجدّد بهَا قاضيان مالكي وحنبلي أنْشد قَول الحريري فِي الملحة:
(ثمَّ كلا النَّوْعَيْنِ جَاءَ فَضله ... مُنْكرا بعد تَمام الْجُمْلَة)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى هرب يلبغا من دمشق بأمواله وذخائره الَّتِي تكَاد تفوت الْحصْر خشيَة من الْقَبْض عَلَيْهِ، وَقصد الْبر فخافه الدَّلِيل وخذله أَصْحَابه وتناوبته العربان من كل جَانب وألزمه أَصْحَابه قهرا بِقصد حماه ملقياً للسلاح فَلَقِيَهُ نَائِب حماه مستشعراً مِنْهُ وَأدْخلهُ حماه ثمَّ حضر من تسلمه من جِهَة السُّلْطَان وَسَارُوا بِهِ إِلَى جِهَة مصر فَقَتَلُوهُ بقاقون وَدفن بهَا وَهَذَا من لطف الله بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَو دخل بِلَاد التتار أتعب النَّاس ورسم السُّلْطَان بإكمال جَامِعَة الَّذِي أنشأه بِدِمَشْق وَأطلق لَهُ مَا وَقفه عَلَيْهِ وَهُوَ جَامع حسن بوقف كثير، وَكَانَ يلبغا خيرا للنَّاس من حَاشِيَته بِكَثِير.
وَكَانَ عفيفاً عَن أَمْوَال الرّعية، وَمَا علمنَا أَن أحدا من التّرْك ببلادنا حصل لَهُ مَا حصل ليلبغا، جمع شَمله بِأَبِيهِ وَأمه وأخوته وكل مِنْهُم أَمِير إِلَى أَن قضى نحبه رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة نقل أرغون شاه من نِيَابَة حلب إِلَى نِيَابَة دمشق فسافر عَاشر الشَّهْر، وبلغنا أَن وسط فِي طَرِيقه مُسلمين وَهَذَا أرغون شاه فِي غَايَة السطوة مقدم على سفك الدَّم بِلَا تثبت، قتل بحلب خلقا ووسط وَسمر وَقطع بدوياً سبع قطع بِمُجَرَّد الظَّن بِحَضْرَتِهِ، وَغَضب على فرس لَهُ قيمَة كَثِيرَة مرح بالعلافة فَضَربهُ حَتَّى سقط ثمَّ قَامَ فَضَربهُ حَتَّى سقط وَهَكَذَا مَرَّات حَتَّى عجز عَن الْقيام فَبكى الْحَاضِرُونَ على هَذَا الْفرس.
فَقيل لَهُ:
(عقلت طرفك حَتَّى ... أظهرت للنَّاس عقلك)
(لَا كَانَ دهر يولي ... على بني النَّاس مثلك)
وَفِيه: اقتتل سيف بن فضل أَمِير الْعَرَب وَأَتْبَاعه أَحْمد وفياض فِي جمع عَظِيم قرب سلمية فانكسر سيف ونهبت جماله وَمَاله ونجى بعد اللتيا واللتي فِي عشْرين فَارِسًا،، وَجرى على بلد المعرة وحماه وَغَيرهَا فِي هَذِه السّنة بل فِي هَذَا الشَّهْر من الْعَرَب أَصْحَاب سيف وَأحمد وفيض من النهب وَقطع الطّرق، ورعى الكروم والزروع والقطن والمقائي مَا لَا يُوصف.
وَفِيه: انْكَسَرَ الْملك الأستر بن تمر تاش بِبِلَاد الشرق كسرة شنيعة ثمَّ شربوا من نهر مَسْمُوم فَمَاتَ أَكْثَرهم ومزقهم الله كل ممزق، وَكَانَ هَذَا الْمَذْكُور رَدِيء النِّيَّة موتوراً فذاق وبال أمره.
وفيهَا: فِي أواخرها وصل إِلَى حلب نَائِبا فَخر الدّين أياز نقل إِلَيْهَا من صفد.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قتل السُّلْطَان الْملك المظفر أَمِير حَاج بن الْملك النَّاصِر بن قلاوون بِمصْر وأقيم مَكَانَهُ أَخُوهُ السُّلْطَان الْمَالِك النَّاصِر حسن كَانَ الْملك المظفر قد أعدم أَخَاهُ الْأَشْرَف كجك وفتك بالأمراء وَقتل من أعيانهم نَحْو أَرْبَعِينَ أَمِيرا مثل بيدمر البدري نَائِب حلب ويلبغا نَائِب الشَّام(2/335)
وطقتمر النجمي الدواتدار وأقسنقر الَّذِي كَانَ نَائِب طرابلس، ثمَّ صَار الْغَالِب على الْأَمر بِمصْر أرغون العلائي والكتمر الْحِجَازِي وتتمش عبد الْغَنِيّ أَمِير مائَة مقدم ألف وشجاع الدبن غرلو وَهُوَ أظلمهم وَنجم الدّين مَحْمُود بن شروين وَزِير بَغْدَاد ثمَّ وَزِير مصر وَهُوَ أجودهم وَأَكْثَرهم برا ومعروفاً، وَحكي لنا ان النُّور شوهد على قَبره بغزة وَكَانَ المظفر قد رسم لعبد أسود صُورَة بِأَن يَأْخُذ على كل رَأس غنم تبَاع بحلب وحماه ودمشق نصف دِرْهَم، فَيوم وُصُول الْأسود إِلَى حلب وصل الْخَبَر بقتل السُّلْطَان فسر النَّاس بخيبة الْأسود.
وفيهَا: فِي شَوَّال طلب السُّلْطَان فَخر الدّين أياز نَائِب حلب إِلَى مصر وخافت الْأُمَرَاء أَن يهرب فَرَكبُوا من أول اللَّيْل وَأَحَاطُوا بِهِ فَخرج من دَار الْعدْل وَسلم نَفسه إِلَيْهِم فأودعوه القلعة، ثمَّ حمل إِلَى مصر فحبس وَهُوَ أحد الساعين فِي نكبة يلبغا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ من الجركس وهم أضداد لجنس التتر بِمصْر، وَكَانَ المظفر قد مَال عَن جنس التتر إِلَى الجركس وَنَحْوهم فَكَانَ ذَلِك أحد ذنُوبه عِنْدهم فَانْظُر إِلَى هَذِه الدول الْقصار الَّتِي مَا سمع بِمِثْلِهَا فِي الْأَعْصَار.
قلت:
(هذي أُمُور عِظَام ... من بَعْضهَا الْقلب ذائب)
(مَا حَال قطر يَلِيهِ ... فِي كل شَهْرَيْن نَائِب)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب الْحَاج أرقطاي نَائِبا بعد أَن خطبوه إِلَى السلطنة وَالْجُلُوس على الْكُرْسِيّ بِمصْر فَأبى وخطبوا قبله إِلَى ذَلِك الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله فَامْتنعَ كل هَذَا خوفًا من الْقَتْل فَلَمَّا جلس الْملك النَّاصِر حسن على الْكُرْسِيّ طلب الْحَاج أرقطاري مِنْهُ نِيَابَة حلب فَأُجِيب وأعفى النَّاس من زِينَة الْأَسْوَاق بحلب لِأَنَّهَا تَكَرَّرت حَتَّى سمجت.
قلت:
(فكم ملك جَاءَ وَكم نَائِب ... يَا زِينَة الْأَسْوَاق حَتَّى مَتى)
(قد كرروا الزِّينَة حَتَّى اللحى ... مَا بقيت تلْحق أَن تنبتا)
وَفِيه: بلغنَا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن المريني صَاحب الْمغرب انْتقل من الغرب الجواني من قَاس إِلَى مَدِينَة تونس وَهِي أقرب إِلَيْنَا من فاس بِثَلَاثَة أشهر وَذَلِكَ بعد موت ملكهَا أبي بكر من الحفصيين بالفالج وَبعد ان أَجْلِس أَبُو الْحسن ابْنه على الْكُرْسِيّ بالغرب الجواني وَقد أوجس المصريون من ذَلِك خيفة فَإِن بعض الْأُمَرَاء المصريين الأذكياء أَخْبرنِي أَن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد كَانَ يَقُول: رَأَيْت فِي بعض الْمَلَاحِم أَن المغاربة تملك مصر وتبيع أَوْلَاد التّرْك فِي سويقه مَازِن وَهَذَا السُّلْطَان أَبُو الْحسن ملك عَالم مُجَاهِد عَادل، كتب من مُدَّة قريبَة بخطة ثَلَاثَة مصاحف ووقفها على الْحَرَمَيْنِ وعَلى حرم الْقُدس وجهز مَعهَا عشرَة آلَاف دِينَار اشْترى بهَا أملاكاً بِالشَّام ووقفت على الْقُرَّاء والخزنة للمصاحف الْمَذْكُورَة، ووقفت على نُسْخَة توقيع بمساحة الْأَوْقَاف الْمَذْكُورَة بمؤن وكلف وأحكار أنشأه صاحبنا الشَّيْخ جمال الدّين بن نَبَاته الْمصْرِيّ أحد الموقعين الْآن بِدِمَشْق أَوله الْحَمد لله الَّذِي أرهف لعزائم الْمُوَحِّدين غرباً وأطلعهم بهممهم حَتَّى فِي مطالع الغرب شهباً، وَعرف بَين قُلُوب الْمُؤمنِينَ(2/336)
حَتَّى كَانَ الْبعد قرباً، وَكَانَ القلبان قلباً وأيد بولاء هَذَا الْبَيْت الناصري مُلُوك الأَرْض وَعبيد الْحق سلما وحرباً وعضد بِبَقَائِهِ كل ملك إِذا نزل الْبر أَنْبَتَهُ يَوْم الكفاح أسلاً وَيَوْم السماح عشباً وَإِذا ركب الْبَحْر لنهب الْأَعْدَاء كَانَ وَرَاءَهُمْ ملك يَأْخُذ كل سفينة غصبا وَإِذا بعث هداياه المتنوعة كَانَت عراباً تصْحَب عربا ورياضاً تسحب سحباً.
وَإِذا وقف أوقاف الْبر سَمِعت الْآفَاق من خطّ يَده قُرْآنًا عجبا واهتزت بذكراه عجبا.
وفيهَا: وَذُو الْوَلَاء قريب وَإِن نأت دَاره ودان بالمحبة وَإِن شط شط بحره ومزاره وَهُوَ بأخباره النيرة مَحْبُوب كالجنة قبل أَن ترى مَوْصُوف كوصف الْمشَاهد وَإِن حَالَتْ عَن الأكتحال بطلعته أَمْيَال السرى وَلما كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن سر الله بِبَقَائِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وسره بِمَا كتب من اسْمه فِي أَصْحَاب الْيَمين {وَمَا أَدْرَاك مَا أَصْحَاب الْيَمين} هُوَ الَّذِي مد الْيَمين بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات الشَّرِيفَة فنصر الله حزبه بِمَا سطر من أحزابها وَمد الرماح أرشية فاشتقت من قُلُوب الْأَعْدَاء قليباً والأقلام أروية فشفت ضعف البصائر وحسبك بِالذكر الْحَكِيم طَبِيبا.
وفيهَا: ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي.
وفيهَا: وَأمر بترتيب خَزَنَة وقراء على مطالع أفقها ووقف أوقافها تجرى أَقْلَام الْحَسَنَات فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا، وَحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الشَّمْس إِلَى مشرقها، وَرغب فِي الْمُسَامحَة على تِلْكَ الْأَمْلَاك من أحكار ومؤونات وأوضاع ديوانية وضع بهَا خطّ الْمُسَامحَة فِي دواوين الْحَسَنَات المسطرات فَأُجِيب على الْبعد داعيه وقوبل بالإسعاف والإسعاد وَقفه ومساعيه، وختمها بقوله: وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الْجِهَات بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف، وينفع الْجَالِس مكن وُلَاة الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف.
وَفِيه: صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على الشَّيْخ شمس الدّين بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان بن قايماز الذَّهَبِيّ الدِّمَشْقِي مُنْقَطع القرين فِي معرفَة أَسمَاء الرِّجَال مُحدث كَبِير ومؤرخ من مصنفاته كتاب تَارِيخ الْإِسْلَام وَكتاب الْمَوْت وَمَا بعده وَغير ذَلِك، وكف بَصَره فِي آخر عمره.
ومولده سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة، واستعجل قبل مَوته فترجم فِي تواريخه الْأَحْيَاء الْمَشْهُورين بِدِمَشْق وَغَيرهَا، وَاعْتمد فِي ذكر سير النَّاس على أحدث يَجْتَمعُونَ بِهِ وَكَانَ فِي أنفسهم من النَّاس فآذى بِهَذَا السَّبَب فِي مصنفاته أَعْرَاض خلق من الْمَشْهُورين.
وفيهَا: كَانَ الغلاء بِمصْر ودمشق وحلب وبلادهن، وَالْأَمر بِدِمَشْق أَشد حَتَّى انكشفت فِيهِ أَحْوَال خلق، وجلى كَثِيرُونَ مِنْهَا إِلَى حلب وَغَيرهَا.
وَأَخْبرنِي بعض بني تَيْمِية أَن الغرارة وصلت بِدِمَشْق إِلَى ثَلَاثمِائَة، وَبيع الْبيض كل خمس بيضات بدرهم، وَاللَّحم رَطْل بِخَمْسَة وَأكْثر، وَالزَّيْت رَطْل بِسِتَّة أَو سَبْعَة.(2/337)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قيد الْأَمر شهَاب الدّين أَحْمد بن الْحَاج مغلطاي القرا سنقري وَحمل إِلَى دمشق فسجن بالقلعة.
وَكَانَ مشد الْوَقْف بحلب وحاجباً، وَكَانَ قبل هَذِه الْحَادِثَة قد سعى فِي بعض الْقُضَاة وَقصد لَهُ إهانة بدار الْعدْل فَسلم الله القَاضِي، وَأُصِيب السَّاعِي الْمَذْكُور، وَرُبمَا كَانَ طلبه من مصر يَوْم سَعْيه فِي القَاضِي ثمَّ خلص بعد ذَلِك وأعيد إِلَى حلب وَصلح حَاله.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق ابْن علوي أوصى بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم تفرق صَدَقَة وبمائتي ألف وَخمسين ألفا تشتري بهَا أَمْلَاك وَتوقف على الْبر فَاجْتمع خلق من الحرافيش والضعفاء لتفريق الثَّلَاثِينَ ألفا ونهبوا خبْزًا من قُدَّام الخبازين فَقطع أرغون شاه نَائِب دمشق مِنْهُم أَيدي خلق وَسمر خلقا بِسَبَب ذَلِك فَخرج مِنْهُم خلق من دمشق وَتَفَرَّقُوا بِبِلَاد الشمَال.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة ضرب نيروز بالنُّون نَائِب قلعة الْمُسلمين قاضيها برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مَمْدُود واعتقله ظلما وتجبراً، فَبعد أَيَّام قَليلَة طلب النَّائِب إِلَى مصر معزولاً، ويغلب على ظَنِّي أَنه طلب يَوْم تعرضه للْقَاضِي فسبحان رب الأَرْض وَالسَّمَاء الَّذِي لَا يهمل من استطال على الْعلمَاء.
قلت:
(قلت لأهل الجاه مهما ... رمتم عزا وَطَاعَة)
(لَا تهينوا أهل علم ... فَإِذا هم سم سَاعَة)
وَفِيه: فِي الْعشْر الْأَوْسَط من آذار وَقع بحلب وبلادها ثلج عَظِيم، وتكرر أغاث الله بِهِ الْبِلَاد، واطمأنت بِهِ قُلُوب الْعباد، وَجَاء عقيب غلاء أسعار وَقلة أمطار.
قلت:
(ثلج بآذار أم الكافور فِي ... مزاجه ولونه والمطعم)
(لولاه سَالَتْ بالغلا دماؤنا ... من عَادَة الكافور إمْسَاك الدَّم)
وفيهَا جَاءَت ريح عَظِيمَة قلعت أشجاراً كَثِيرَة، وَكَانَت مراكب للفرنج قد لججت للوثوب على سواحل الْمُسلمين فغرقت بِهَذِهِ الرّيح، وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال.
قلت:
(قل للفرنج تأدبوا وتجنبوا ... فالريح جند نَبينَا إِجْمَاعًا)
(إِن قلعت فِي الْبر أشجاراً فكم ... فِي الْبَحْر يَوْمًا شجرت أقلاعاً)
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الْحَاج إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن العزازي بعزاز، كَانَ لَهُ منزلَة عِنْد الطنبغا الْحَاجِب نَائِب حلب، وَبنى بعزاز مدرسة حَسَنَة، وسَاق إِلَيْهَا الْقَنَاة الحلوة وانتفع الْجَامِع وَكثير من الْمَسَاجِد بِهَذِهِ الْقَنَاة، وَله آثَار حَسَنَة غير ذَلِك رَحمَه الله تَعَالَى.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: وقراجا بن لغادر التركماني وجمائعه قد شغبوا واستطالوا ونهبوا، وَتسَمى بِالْملكِ القاهر وَأَبَان عَن فجور وحمق ظَاهر وَدَلاهُ بغروره(2/338)
الشَّيْطَان حَتَّى طلب من صَاحب سيس الْحمل الَّذِي يحمل إِلَى السُّلْطَان.
وفيهَا: فِي شهر رَجَب وصل الوباء إِلَى حلب كفانا الله شَره، وَهَذَا الوباء قيل لنا أَنه ابْتَدَأَ من الظُّلُمَات من خمس عشرَة سنة مُتَقَدّمَة على تَارِيخه وعملت فِيهِ رِسَالَة سميتها النبأ عَن الوباء.
فَمِنْهَا: اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد وَسلم ونجنا بجاهه من طغيان الطَّاعُون وَسلم الطَّاعُون روع وأمات وابتدأ خَبره من الظُّلُمَات فواها لَهُ من زائر من خمس عشرَة سنة دائر مَا صين عَنهُ الصين وَلَا منع مِنْهُ حصن حُصَيْن سل هنديا فِي الْهِنْد وَاشْتَدَّ على السَّنَد وَقبض بكفيه وَشَبك على بِلَاد أزبك وَكم قَصم من ظهر فِيمَا وَرَاء النَّهر، ثمَّ ارْتَفع وَنجم وهجم على الْعَجم وأوسع الخطا إِلَى أَرض الخطا وقرم القرم وَرمى الرّوم بجمر مضطرم وجر الجرائر إِلَى قبرص والجزائر ثمَّ قهر خلقا بِالْقَاهِرَةِ وتنبهت عينه لمصر فأذاهم بالساهرة وأسكن حَرَكَة الْإسْكَنْدَريَّة فَعمل شغل الْفُقَرَاء مَعَ الحريرية.
(إسكندرية ذَا الوبا ... سبع يمد إِلَيْك ضبعه)
(صبرا لقسمته الَّتِي ... تركت من السّبْعين سبعه)
ثمَّ تيَمّم الصَّعِيد الطّيب وأبرق على برقة مِنْهُ صيب، ثمَّ غزى غَزَّة وهز عسقلان هزة، وعك إِلَى عكا، وَاسْتشْهدَ بالقدس، وزكى فلحق من الهاربين الْأَقْصَى بقلب كالصخرة، وَلَوْلَا فتح بَاب الرَّحْمَة لقامت الْقِيَامَة فِي مرّة، ثمَّ طوى المراحل وَنوى أَن يلْحق السَّاحِل، فصاد صيدا، وبغت بيروت كيداً، ثمَّ سدد الرشق إِلَى جِهَة دمشق، فتربع ثمَّ وتميد وفتك كل يَوْم بِأَلف وأزيد فَأَقل الْكَثْرَة وَقتل خلقا ببثرة.
وَمِنْهَا:
(أصلح الله دمشقاً ... وحماها عَن مسبه)
(نَفسهَا خست إِلَى أَن ... تقتل النَّفس بحبه)
ثمَّ أَمر المزة وبرز إِلَى بَرزَة وَركب تركيب مزج على بعلبك وَأنْشد فِي قارة قفانبك وَرمى حمص بجلل وصرفها مَعَ علمه أَن فِيهَا ثَلَاث علل ثمَّ طلق الكنه فِي حماه فبردت أَطْرَاف عاصيها من حماه:
(يَا أَيهَا الطَّاعُون أَن حماه من ... خير الْبِلَاد وَمن أعز حصونها)
(لَا كنت حِين شممتها فسممتها ... ولتمت فاها آخِذا بقرونها)
ثمَّ دخل معرة النُّعْمَان فَقَالَ لَهَا: أَنْت مني فِي أَمَان، حماه تكفيك فَلَا حَاجَة لي فِيك.
(رأى المعرة عينا زانها حور ... لَكِن حاجبها بالجور مقرون)
(مَاذَا الَّذِي يصنع الطَّاعُون فِي بلد ... فِي كل يَوْم لَهُ بالظلم طاعون)
ثمَّ سرى إِلَى سرمين والفوعة فشعث على السّنة والشيعة، فسن للسّنة اسنته شرعا(2/339)
وشيع فِي منَازِل الشِّيعَة مصرعاً، ثمَّ أنطى أنطاكية بعض نصيب ورحل عَنْهَا حَيَاء من نسيانه ذكرى حبيب، ثمَّ قَالَ لشيرز وحارم لَا تخافا مني فأنتما من قبل وَمن بعد فِي غنى عني، فالأمكنة الردية تصح فِي الْأَزْمِنَة الوبية ثمَّ أذلّ عزاز وكلزة وَأصْبح فِي بيوتهما الْحَارِث، وَلَا أغْنى ابْن حلزة وَأخذ من أهل الْبَاب أهل الْأَلْبَاب وباشر تل بَاشر وَذَلِكَ دلوك وحاشر وَقصد الوهاد والتلاع وَقلع خلقا من القلاع ثمَّ طلب حلب وَلكنه مَا غلب.
وَمِنْهَا: وَمن الأقدار أَنه يتبع أهل الدَّار، فَمَتَى بَصق أحد مِنْهُم دَمًا تحققوا كلهم عدماً ثمَّ يسكن لباصق الأجداث بعد لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث.
(سَأَلت بارئ النسم ... فِي دفع طاعون صدم)
(فَمن أحس بلع دم ... فقد أحس بِالْعدمِ)
وَمِنْهَا:
(حلب وَالله يَكْفِي ... شَرها أَرض مشقة)
(أَصبَحت حَيَّة سوء ... تقتل النَّاس ببزقة)
فَلَقَد كثرت فِيهَا أرزاق الجنائزية فَلَا رزقوا، وعاشوا بِهَذَا الْمَوْسِم وعرقوا من الْحمل، فَلَا عاشوا وَلَا عرقوا، فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون.
(إسودت الشَّهْبَاء فِي ... عَيْني من وهم وغش)
(كَادَت بَنو نعش بهَا ... أَن يلْحقُوا ببنات نعش)
وَمِمَّا أغضب الْإِسْلَام وَأوجب الآلام أَن أهل سيس الملاعين مسرورون لبلادنا بالطاعون.
(سكان سيس يسرهم مَا ساءنا ... وَكَذَا العوائد من عَدو الدّين)
(فَالله يَنْقُلهُ إِلَيْهِم عَاجلا ... ليمزق الطاغوت بالطاعون)
وَمِنْهَا: فَإِن قَالَ قَائِل هُوَ يعدي ويبيد قلت: بل الله يُبْدِي وَيُعِيد، فَإِن جادل الْكَاذِب فِي دَعْوَى الْعَدْوى وَتَأَول قُلْنَا فقد قَالَ الصَّادِق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمن أعدى الأول استرسل ثعبانه وانساب " وَسمي طاعون الْأَنْسَاب وَهُوَ سادس طاعون وَقع فِي الْإِسْلَام، وَعِنْدِي أَنه الموتان الَّذِي أنذر بِهِ نَبينَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ وَكَانَ:
(أعوذ بِاللَّه رَبِّي من شَرّ طاعون النّسَب ... باروده المستعلي قد طَار فِي الأقطار)
(دولاب دهاشاته ساعي لصارخ مارثي ... وَلَا فدا بذخيره فتاشه الطبار)
(يدْخل إِلَى الدَّار يحلف مَا أخرج إِلَّا بِأَهْلِهَا ... معي كتاب القَاضِي بِكُل من فِي الدَّار)
وَفِي هَذَا كِفَايَة فَفِي الرسَالَة طول.
وفيهَا: أسقط القَاضِي الْمَالِكِي الريَاحي بحلب تِسْعَة من الشُّهُود ضَرْبَة وَاحِدَة فاستهجن مِنْهُ ذَلِك وأعيدوا إِلَى عدالتهم ووظائفهم.
وفيهَا: قتل بحلب زنديقان أعجميان كَانَا مقيمين بدلوك.(2/340)
وفيهَا: بلغنَا وَفَاة القَاضِي زين الدّين عمر البلفيائي بصفد بالوباء وَالشَّيْخ نَاصِر الدّين الْعَطَّار بطرابلس بالوباء، وَهُوَ وَاقِف الْجَامِع الْمَعْرُوف بِهِ بهَا، وفيهَا توفّي القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان الطَّائِي بحلب مُنْقَطِعًا تَارِكًا للخدم ملازماً للتلاوة.
وفيهَا: بلغنَا أَن أرغون شاه وسط بِدِمَشْق كثيرا من الْكلاب.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير أَحْمد بن مهنا أَمِير الْعَرَب وفت ذَلِك فِي أعضاد آل مهنا، وَتوجه أَخُوهُ فياض الغشوم الْقَاطِع للطرق الظَّالِم للرعية إِلَى مصر ليتولى الْإِمَارَة على الْعَرَب مَكَان أَخِيه أَحْمد فَأُجِيب إِلَى ذَلِك فَشكى عَلَيْهِ رجل شرِيف أَنه قطع عَلَيْهِ الطَّرِيق وَأخذ مَاله وَتعرض إِلَى حريمه فرسم السُّلْطَان بإنصافه مِنْهُ فَأَغْلَظ فياض فِي القَوْل طَمَعا بصغر سنّ السُّلْطَان فقبضوا عَلَيْهِ قبضا شنيعاً.
وفيهَا: فِي سلخ شَوَّال توفّي قَاضِي الْقُضَاة نور الدّين مُحَمَّد بن الصَّائِغ بحلب، وَكَانَ صَالحا عفيفاً دينا لم يكسر قلب أحد وَلكنه لخيرته طمع قُضَاة السوء فِي المناصب وَصَارَ المناحيس يطلعون إِلَى مصر ويتولون الْقَضَاء فِي النواحي بالبذل وَحصل بذلك وَهن فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
قلت:
(مُرِيد قضا بَلْدَة ... لَهُ حلب قَاعِدَة)
(فَيطلع فِي أَلفه ... وَينزل فِي وَاحِدَة)
وَكَانَ رَحمَه الله من أكبر أَصْحَاب ابْن تَيْمِية، وَكَانَ حَامِل رايته فِي وقْعَة الكسروان الْمَشْهُورَة.
وفيهَا: فِي عَاشر ذِي الْقعدَة توفّي بحلب صاحبنا الشَّيْخ الصَّالح زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن هبة الله الْعمريّ بِإِمَام الزجاجية من أهل الْقُرْآن وَالْفِقْه والْحَدِيث، عزب مُنْقَطع عَن النَّاس، كَانَ لَهُ بحلب دويرات وقفهن على بني عَمه.
وَظهر لَهُ بعد مَوته كرامات، مِنْهَا: أَنه لما وضع فِي الْجَامِع ليصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر ظهر من جنَازَته نور شَاهده الْحَاضِرُونَ، وَلما حمل لم يجد حاملوه عَلَيْهِم مِنْهُ ثقلاً حَتَّى كَأَنَّهُ مَحْمُول عَنْهُم فتعجبوا لذَلِك.
وَلما دفن وَجَلَسْنَا نَقْرَأ عِنْده سُورَة الْأَنْعَام شممنا من قَبره رَائِحَة طيبَة تغلب رَائِحَة الْمسك والعنبر، وتكرر ذَلِك فتواجد النَّاس وَبكوا وغلبتهم الْعبْرَة، وَله محَاسِن كَثِيرَة رَحمَه الله ورحمنا بِهِ آمين، ومكاشفات مَعْرُوفَة عِنْد أَصْحَابه.
وَفِي الْعشْر الْأَوْسَط مِنْهُ توفّي (أخي الشَّقِيق) وشيخي الشفيق القَاضِي جمال الدّين يُوسُف، ترك فِي آخر عمره الحكم وَأَقْبل على التدريس والإفتاء، وَكَانَ من كَثْرَة الْفِقْه وَالْكَرم وسعة النَّفس وسلامة الصَّدْر بِالْمحل الرفيع رَحمَه الله تَعَالَى، وَدفن بمقابر الصَّالِحين قبلي الْمقَام بحلب.(2/341)
قلت:
(أَخ أبقى ببذل المَال ذكرا ... وَإِن لاموه فِيهِ ووبخوه)
(أَزَال فِرَاقه لذات عيشي ... وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ)
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ عَليّ بن الشَّيْخ مُحَمَّد بن الْقدْوَة نَبهَان الجبريني، بجبرين، وَجلسَ على السجادة ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد الصُّوفِي، كَانَ الشَّيْخ عَليّ بحراً فِي الْكَرم رَحمَه الله ورحمنا بهم آمين.
وَفِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة ورد الْبَرِيد من مصر بتوليه قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين عبد القاهر بن أبي السفاح قَضَاء الشَّافِعِيَّة بالمملكة الحلبية وسررنا بذلك وَللَّه الْحَمد.
وَفِيه: ظهر بمنبج على قبر النَّبِي مَتى وقبر حَنْظَلَة بن خويلد أخي خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَهَذَانِ القبران بمشهد النُّور خَارج منبج وعَلى قبر الشَّيْخ عقيل المنبجي وعَلى قبر الشَّيْخ ينبوب وهما دَاخل منبج، وعَلى قبر الشَّيْخ عَليّ وعَلى مشْهد المسيحات شمَالي منبج أنوار عَظِيمَة، وَصَارَت الْأَنْوَار تنْتَقل من قبر بَعضهم وتجتمع وتتراكم ودام ذَلِك إِلَى ربع اللَّيْل حَتَّى انبهر لذَلِك أهل منبج وَكتب قاضيهم بذلك محضراً وجهزه إِلَى دَار الْعدْل بحلب، ثمَّ أَخْبرنِي القَاضِي بمشاهدة ذَلِك أكَابِر وأعيان من أهل منبج أَيْضا، وَهَؤُلَاء السَّادة هم خفراء الشَّام وَنَرْجُو من الله تَعَالَى ارْتِفَاع هَذَا الوباء الَّذِي كَاد يفني الْعَالم ببركتهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قلت:
(إشفعوا يَا رجال منبج فِينَا ... لارْتِفَاع الوبا عَن الْبلدَانِ)
(نزل النُّور فِي الظلام عَلَيْكُم ... إِن هَذَا يزِيد فِي الْإِيمَان)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة بلغنَا وَفَاة القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله الْعمريّ بِدِمَشْق بالطاعون مَنْزِلَته فِي الْإِنْشَاء مَعْرُوفَة وفضيلته فِي النّظم والنثر مَوْصُوفَة كتب السّير للسُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بِالْقَاهِرَةِ بعد أَبِيه محيي الدّين، ثمَّ عزل بأَخيه القَاضِي عَلَاء الدّين، وَكتب السِّرّ بِدِمَشْق ثمَّ عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف حَتَّى مَاتَ عَن نعْمَة وافرة دخل رَحمَه الله قبل وَفَاته بِمدَّة معرة النُّعْمَان فَنزل بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أنشأتها ففرح لي بهَا وَأنْشد فِيهِ بَيْتَيْنِ أرسلهما إِلَيّ بِخَطِّهِ وهما:
(وَفِي بلد المعرة دَار علم ... بني الوردي مِنْهَا كل مجد)
(هِيَ الوردية الْحَلْوَاء حسنا ... وَمَاء الْبِئْر مِنْهَا مَاء ورد)
فأجبته بِقَوْلِي:
(أمولانا شهَاب الدّين إِنِّي ... حمدت الله إِذْ بك تمّ مجدي)
(جَمِيع النَّاس عنْدكُمْ نزُول ... وَأَنت جبرتني وَنزلت عِنْدِي)
هَذَا آخر مَا وجد من التَّارِيخ لمؤلفه الشَّيْخ زين الدّين عمر ابْن الوردي رَحمَه الله تَعَالَى.(2/342)