(بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم)
الْحَمد لله المتفرد بِالْبَقَاءِ والقدم، المنزه عَن الفناء والعدم، وصلواته على رَسُوله مُحَمَّد خير بريته، وعَلى آله وَصَحبه وأزواجه وَذريته " وَبعد ":
فَيَقُول الْفَقِير الْمُعْتَرف بالتقصير عمر بن مظفر بن عمر بن مُحَمَّد بن أبي الفوارس الوردي المعري الشَّافِعِي - أنجح اللَّهِ مسعاه وَأصْلح لَهُ أَمر آخرته ودنياه -: إِنِّي رَأَيْت " الْمُخْتَصر فِي أَخْبَار الْبشر " تأليف مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماه - قدس اللَّهِ سره وَأكْرم مثواه - من الْكتب الَّتِي لَا يَقع مثلهَا، وَلَا يسع جهلها، فَإِنَّهُ اخْتَارَهُ من التواريخ الَّتِي لَا تَجْتَمِع إِلَّا للملوك، ونظمه فِي سلوك الْحسن بِحسن السلوك، فانجلى كالعروس الَّتِي حسنها الْمغرب، وجمالها الْكَامِل، وثغرها العقد، وضراتها الدول المنقطعة، وخيالها لَذَّة الأحلام، ولفظها المنتظم، وخدها ابْن أبي الدَّم، ومحبتها تجارب الْأُمَم، وحسبادها بَنو إِسْرَائِيل، ونظرها مفرج الكروب، ودلالها وفيات الْأَعْيَان، وَوَصلهَا الأغاني، وقربها مروج الذَّهَب، وعطرها من الْيمن، وَذكرهَا مجاوز فِي الْمشرق أصفهان، وَفِي الْمغرب القيروان، وفصاحتها الْبَيَان، ووجهها مرْآة الزَّمَان. رُتْبَة رَحمَه اللَّهِ ترتيبا رفع بِهِ إِسْمَاعِيل الْقَوَاعِد من الْبَيْت الأيوبي وشيد، وَضَمنَهُ كنوزا وَهل يعجز عَن الْكُنُوز من هُوَ ملك مؤيد، فاختصرته فِي نَحْو ثُلثَيْهِ اختصارا زَاده حسنا، وكفل بوجازة اللَّفْظ وَكَمَال الْمَعْنى أَقمت بِهِ إعرابه، وذللت صعابه، ونمقته بَيَانا، وألحقته أعيانا، وكللت حلته بجواهر، وكملت روضته بأزاهر، وأودعته شَيْئا من نظمي ونثري ورجوت دَعْوَة صَالِحَة عِنْد ذكري، وحذفت مِنْهُ مَا حذفه أسلم، وَقلت فِي أول مَا زِدْته قلت، وَفِي آخِره وَالله أعلم، وسأذيله إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى من سنة تسع وَسَبْعمائة الَّتِي وقف الْمُؤلف عَلَيْهَا إِلَى هَذِه السّنة الْمُبَارَكَة الَّتِي صرنا إِلَيْهَا وسميته: " تَتِمَّة الْمُخْتَصر فِي أَخْبَار الْبشر " وَمن اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسأَل حسن النِّيَّة وبلوغ الأمنية.
اعْلَم أَن التواريخ الْقَدِيمَة فِي هَذَا الْكتاب مؤلفة على مُقَدّمَة وَخَمْسَة فُصُول، والتواريخ الإسلامية مرتبَة على السنين.
أما الْمُقدمَة فتتضمن ثَلَاثَة أُمُور:
الْأَمر الأول: إِن اخْتِلَاف المؤرخين كثير جدا كَقَوْل ابْن الْأَثِير فِي الْكَامِل ولادَة الْمَسِيح بعد خمس وَسِتِّينَ سنة للإسكندر عِنْد الْمَجُوس وَبعد ثلثمِائة وَثَلَاث سِنِين للإسكندر عِنْد النَّصَارَى، وَهَذَا تفَاوت فَاحش. وكقول أبي معشر وكوشيار وَغَيرهمَا من المنجمين بَين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(1/3)
الطوفان وَالْهجْرَة ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعمائة وَخمْس وَعِشْرُونَ سنة وَهَذَا فِي الزيج المأموني وَغَيره، وَقَول المؤرخين بَينهمَا ثَلَاث آلَاف وَتِسْعمِائَة وَأَرْبع وَسَبْعُونَ سنة فالتفاوت بَينهمَا 249 سنة، وَسبب هَذَا الِاخْتِلَاف أَن من هبوط آدم إِلَى وَفَاة مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يعلم إِلَّا من التَّوْرَاة، والتوراة مُخْتَلفَة على ثَلَاثَة نسخ - كَمَا سَيَأْتِي - وَمَا بَين وَفَاة مُوسَى إِلَى ابْتِدَاء ملك بخْتنصر يعلم من المنجمين؛ قَالَ أَبُو عِيسَى: وَيعلم من قرانات زحل والمشترى فِي المثلثات، وهم أَيْضا مُخْتَلفُونَ فِي ذَلِك، وَيعلم أَيْضا من سفر قُضَاة بني إِسْرَائِيل وَهُوَ أَيْضا غير مُحَصل، وَأما مَا يُؤْخَذ عَن المؤرخين قبل الْإِسْلَام فمضطرب أَيْضا فَإِنَّهُم أَرخُوا بابتداء ملك كل ملك مِنْهُم فكثرت ابتداءات تواريخهم؛ قَالَ حَمْزَة الْأَصْفَهَانِي: وفسدت تواريخهم بِسَبَب ذَلِك فَسَادًا لَا مطمع فِي إِصْلَاحه مَعَ بعد الْعَهْد وَتغَير اللُّغَات وَعدم الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي هَذَا الْفَنّ فَتعذر التَّحْقِيق.
الْأَمر الثَّانِي: (إِن نسخ التَّوْرَاة ثَلَاث: السامرية والعبرانية واليونانية، فالسامرية تنبىء أَن من هبوط آدم إِلَى الطوفان ألفا وثلثمائة وَسبع سِنِين، وَكَانَ الطوفان لستمائة خلت من عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وعاش آدم عَلَيْهِ السَّلَام تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة بِاتِّفَاق. فَيكون نوح على حكم هَذِه التَّوْرَاة اِدَّرَكَ من عمر آدم فَوق مِائَتي سنة فنوح قد أدْرك جَمِيع أبائه إِلَى آدم وَهَذَا مُنكر، وتنبىء هَذِه النُّسْخَة أَن من انْقِضَاء الطوفان إِلَى ولادَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام تِسْعمائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَأَن من ولادَة إِبْرَاهِيم إِلَى وَفَاة مُوسَى خَمْسمِائَة وخمسا وَأَرْبَعين سنة، فَمن آدم إِلَى وَفَاة مُوسَى حِينَئِذٍ ألفا وَسَبْعمائة وتسع وَثَمَانُونَ سنة.
وَفِيمَا بَين وَفَاة مُوسَى وَالْهجْرَة مذهبان: أَحدهمَا للمؤرخين، وَالثَّانِي للمنجمين فَإِذا ضممنا إِلَى ذَلِك مَا بَين وَفَاة مُوسَى وَالْهجْرَة وَكَانَ بَين هبوط آدم وَبَين الْهِجْرَة على حكم اخْتِيَار المؤرخين وَحكم توراة السامرة خَمْسَة آلَاف وَمِائَة وَسبع وَثَلَاثُونَ سنة، وَينْقص اخْتِيَار المنجمين عَن هَذِه الْجُمْلَة مِائَتَيْنِ وتسعا وَأَرْبَعين سنة، فقد ظهر فَسَاد هَذِه التَّوْرَاة من كَونهَا تَقْتَضِي إِدْرَاك نوح آدم وعيشه مَعَه الْمدَّة الطَّوِيلَة.
وَأما التَّوْرَاة العبرانية: ففاسدة أَيْضا، لِأَنَّهَا تنبىء ان بَين هبوط آدم والطوفان ألفا وَخَمْسمِائة سنة وستا وَخمسين سنة، وَبَين الطوفان وَبَين ولادَة إِبْرَاهِيم مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ سنة، وعاش نوح بعد الطوفان ثلثمِائة وَخمسين سنة بِاتِّفَاق، فأنبأت التَّوْرَاة العبرانية أَن نوحًا أدْرك من عمر إِبْرَاهِيم ثمانيا وَخمسين سنة وَهَذَا مُنكر، فنوح لم يدْرك إِبْرَاهِيم وَلَا يجوز ذَلِك لِأَن قوم هود أمة نجمت بعد قوم نوح، وَأمة صَالح نجمت بعد أمة هود، وَإِبْرَاهِيم وَأمته بعد أمة صَالح بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى - يخبر عَن هود فِيمَا يعظ بِهِ قومه وهم قوم عَاد -: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بسطة} ، وَكَذَلِكَ أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَن صَالح فِيمَا يعظ بِهِ قومه وهم ثَمُود ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/4)
-: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض تتخدون من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا} . فَظهر فَسَاد هَذِه التَّوْرَاة العبرانية بذلك وَهِي الَّتِي بأيدي الْيَهُود إِلَى زَمَاننَا وَعَلَيْهَا اعتمادهم، ولنستوف مَا تبنىء بِهِ من جملَة سني الْعَالم فقد تقدم أَنَّهَا تنبىء أَن بَين هبوط آدم والطوفان ألفا وَخَمْسمِائة وستا وَخمسين سنة وَبَين الطوفان وولادة إِبْرَاهِيم مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ سنة، وَبَين ولادَة إِبْرَاهِيم ووفاة مُوسَى خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة بِاتِّفَاق، وَفِيمَا بَين وَفَاة مُوسَى وَالْهجْرَة المذهبان الْمَذْكُورَان، فعلى اخْتِيَار المؤرخين وَمُقْتَضى العبرانية يكون بَين آدم وَالْهجْرَة أَرْبَعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة، وتنقص على اخْتِيَار المنجمين من هَذِه الْجُمْلَة مِائَتَان وتسع وَأَرْبَعُونَ سنة، فَيكون من آدم إِلَى الْهِجْرَة على ذَلِك أَرْبَعَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ سنة، وَجُمْلَة سني هَذِه التَّوْرَاة تنقص عَن التَّوْرَاة اليونانية الَّتِي عَلَيْهَا الْعَمَل ألفا وَأَرْبَعمِائَة وخمسا وَسبعين سنة، وَهَذِه الْجُمْلَة هِيَ الْقدر الَّذِي نَقصه الْيَهُود من الْمَاضِي من سني الْعَالم، فنقصوا من قبل الطوفان سِتّمائَة وستا وَثَمَانِينَ سنة، وَمن بعد الطوفان سَبْعمِائة وتسعا وَثَمَانِينَ سنة الْجُمْلَة ألف وَأَرْبَعمِائَة وَخمْس وَسَبْعُونَ سنة.
وَصُورَة مَا اعْتمد الْيَهُود فِي ذَلِك: أَنهم نقلوا من عمر كل وَاحِد من آدم وبنيه مائَة سنة من قبل مِيلَاد ابْنه إِلَى مَا بعد الميلاد فَلم يتَغَيَّر جملَة عمر ذَلِك الشَّخْص ونقصت مُدَّة الزَّمَان، فَإِن آدم لما صَار لَهُ مِائَتَان وَثَلَاثُونَ سنة ولد لَهُ شِيث وعاش آدم تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة بِاتِّفَاق، فَأخذ الْيَهُود مائَة سنة من عمر آدم قبل أَن يُولد لَهُ شِيث وجعلوها بعد مولد شِيث فَلم يتَغَيَّر جملَة عمر آدم وجعلوه أَنه ولد لَهُ شِيث لمضي مائَة وَثَلَاثِينَ سنة من عمره، وَكَذَا اعتمدوا فِي كل من بعده فنقص من سني الْعَالم الْقدر الْمَذْكُور. قَالُوا: وَالَّذِي دَعَا الْيَهُود إِلَى ذَلِك أَن التَّوْرَاة وَغَيرهَا من كتب بني إِسْرَائِيل بشرت بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه يَجِيء فِي أَوَاخِر الزَّمَان وَكَانَ مَجِيء الْمَسِيح فِي الْألف السَّادِس فَلَمَّا نقلوا ذَلِك صَار الْمَسِيح فِي أول الْألف الْخَامِس، فَيكون مَجِيء الْمَسِيح فِي توَسط الزَّمَان لَا فِي أواخره بِنَاء على أَن عمر الزَّمَان جَمِيعه سَبْعَة آلَاف سنة.
وَأما التَّوْرَاة اليونانية: فاختارها محققو المؤرخين وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْإِنْكَار على الْمَاضِي من عمر الزَّمَان، وَهِي توراة نقلهَا اثْنَان وَسَبْعُونَ حبرًا قبل ولادَة الْمَسِيح بقريب ثلثمِائة سنة لبطليموس اليوناني بعد الْإِسْكَنْدَر ببطليموس وَاحِد، وَسَنذكر صُورَة نقلهَا إِلَى اليونانية فِي أَوَاخِر بني إِسْرَائِيل، فَلذَلِك اعتمدت دون غَيرهَا. وأنبأت هَذِه التَّوْرَاة اليونانية أَن بَين هبوط آدم وَبَين الطوفان أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ واثنتين وَأَرْبَعين سنة، وَبَين الطوفان - وَكَانَ لستمائة سنة مَضَت من عمر نوح - وَبَين مولد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ألفا وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة، وَبَين مولد إِبْرَاهِيم ووفاة مُوسَى خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة بِاتِّفَاق نسخ التَّوْرَاة جَمِيعهَا، وَبَين وَفَاة مُوسَى وَابْتِدَاء ملك بخْتنصر تِسْعمائَة وثمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/5)
وَسَبْعُونَ سنة ومائتان وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَأما مَا بَين ابْتِدَاء ملك بخْتنصر وَبَين الْهِجْرَة فألف وثلثمائة وتسع وَسِتُّونَ سنة وَمِائَة وَسَبْعَة عشر يَوْمًا وَلَيْسَ فِيهِ خلاف، لِأَن بطليموس أثْبته فِي المجسطي وأرخ بِهِ رصده، فَيكون بَين الْهِجْرَة وَبَين هبوط آدم سِتَّة آلَاف سنة ومائتان وست عشرَة سنة وَهَذَا الْمُخْتَار وَعَلِيهِ بني هَذَا الْكتاب. وَأما اخْتِيَار المنجمين الَّذِي أثبتوه فِي الزيجات بَين وَفَاة مُوسَى وَبُخْتنَصَّرَ فينقص عَمَّا ذكرنَا مِائَتَيْنِ وتسعا وَأَرْبَعين سنة.
الْأَمر الثَّالِث: فِي جدول يتَضَمَّن مَا بَين التواريخ الْمَشْهُورَة من المدد فَإِذا أردْت معرفَة مَا بَين أَي تاريخين مِنْهَا فَادْخُلْ فِي الْجَدْوَل إِلَى الْبَيْت الَّذِي يَلْتَقِيَانِ فِيهِ فَمَا فِيهِ من الْعدَد فَهُوَ مَا بَينهمَا، وَاعْلَم أَن محققي المنجمين والمؤرخين اخْتلفُوا فِيمَا بَين وَفَاة مُوسَى وَبَين ابْتِدَاء ملك بخْتنصر: فَذهب أَبُو عِيسَى والمحققون من المؤرخين إِلَى أَنه تِسْعمائَة وثمان وَسَبْعُونَ سنة ومائتان وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهُوَ الْمُخْتَار لهَذَا الْجَدْوَل وَجعلت الْأَيَّام الْمَذْكُورَة على سَبِيل الْجَبْر سنة فَصَارَ الْمُثبت فِي الْجَدْوَل تِسْعمائَة وتسعا وَسبعين سنة. وَقَالَ أَبُو معشر وكوشيار وَغَيرهمَا من المنجمين فِي الزيجة: بَينهمَا سَبْعمِائة وَعِشْرُونَ سنة، وَهَذَا ينقص عَن ذَلِك مِائَتَيْنِ وتسعا وَأَرْبَعين سنة، وَإِذا أنقص مَا بَين وَفَاة مُوسَى وَبُخْتنَصَّرَ الْمدَّة الْمَذْكُورَة نقص مَا بَين الطوفان وَالْهجْرَة قطعا، فَلذَلِك تَجِد فِي الزيج المأموني وَغَيره أَن بَين الطوفان وَالْهجْرَة ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعمائة وخمسا وَعشْرين سنة، وَبَين الطوفان وَالْهجْرَة فِي هَذَا الْكتاب والجدول ثَلَاثَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَأَرْبع وَسَبْعُونَ سنة، فَيكون مَا فِي الْجَدْوَل أَزِيد مِمَّا فِي الزيجات بمائتين وتسع وَأَرْبَعين سنة فاعلمه لِئَلَّا تتوهم أَن الزيجة هِيَ الصَّحِيحَة وَأَن هَذَا الْكتاب غلط فَإِن الْأَمر فِيهِ على مَا ذكره، وَأما بِمُقْتَضى سفر قُضَاة بني إِسْرَائِيل وسفر مُلُوكهمْ إِذا جَمعنَا مدد وَلَا يَأْتهمْ فَبين وَفَاة مُوسَى وَملك بخْتنصر بِمُقْتَضى ذَلِك اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ وَتِسْعمِائَة سنة، وَمن بخْتنصر إِلَى الْهِجْرَة لم يخْتَلف فِيهِ لإِثْبَات بطليموس إِيَّاه فِي المجسطي؛ وتاريخ فيلبس مَشْهُور وَقد أرخ بِهِ بطليموس فِي المجسطي غَالب أرصاده وَتَرَكْنَاهُ اخْتِصَار ولنقدمه على تَارِيخ الْإِسْكَنْدَر باثنتي عشرَة سنة فَإِذا زِدْت على تَارِيخ الْإِسْكَنْدَر اثْنَتَيْ عشرَة سنة خرج تَارِيخ فيلبس، وَبَين ملك أردشير بن بابك وَبَين الْإِسْكَنْدَر 512 سنة تَقْرِيبًا، وَبَينه وَبَين الْهِجْرَة أَرْبَعمِائَة وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة تَرَكْنَاهُ للاختصار؛ انْتهى الْكَلَام فِي الْمُقدمَة، وَهَذَا الْجَدْوَل: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/6)
1
- بَين / هبوط آدم / الطوفان / مولد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل / وَفَاة مُوسَى / ابْتِدَاء ملك بخت نصر / غَلَبَة اسكندر على دَارا / غَلَبَة اغسطس على قلوبطرا / مولد الْمَسِيح / دقلطيانوس / الْهِجْرَة.
2
- هبوط آدم / - / 2242 / 3323 / 3868 / 4847 / 5281 / 5563 / 5584 / 5867 / 6216.
3
- الطوفان / 2242 / - / 1081 / 1626 / 2605 / 3039 / 3321 / 3342 / 3634 / 3974.
4
- مولد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل / 3323 / 1081 / - / 545 / 1524 / 1948 / 2240 / 2261 / 2553 / 2893.
5
- وَفَاة مُوسَى / 3868 / 1626 / 545 / _ / 979 / 1413 / 1695 / 1716 / 2008 / 2348.
6
- ابْتِدَاء ملك بخت نصر / 4847 / 2605 / 1524 / 979 / _ / 435 / 717 / 738 / 1031 / 1379.
7
- غَلَبَة اسكندر على دَارا / 5281 / 3039 / 1958 / 1413 / 435 / - / 282 / 303 / 595 / 934
8
- غَلَبَة اغسطس / 5563 / 3321 / 2240 / 695 / 717 / 282 / - / 21 / 313 / 652.
9
- مولد الْمَسِيح / 5584 / 3342 / 2261 / 1716 / 738 313 / - / 21 / - / 282 / 631.
10
- دقلطيانوس / 5876 / 3634 / 2553 / 2008 / 1031 / 595 / 313 / 282 / - / 339.
11
- الْهِجْرَة / 6216 / 3974 / 2893 / 2348 / 1369 / 934 / 652 / 631 / 339 / -. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/7)
وَأما الْفُصُول الْخَمْسَة:
فَالْأول: فِي عَمُود التواريخ الْقَدِيمَة وَذكر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وحكام بني إِسْرَائِيل.
وَالثَّانِي: فِي ذكر مُلُوك الْفرس وَمن يَلِيق إِيرَاده مَعَهم.
وَالثَّالِث: فِي الفراعنة، وملوك اليونان، وملوك الرّوم، والقياصرة.
وَالرَّابِع: فِي ذكر مُلُوك الْعَرَب.
وَالْخَامِس: فِي ذكر أُمَم الْعَالم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/8)
(الْفَصْل الأول)
(فِي عَمُود التواريخ الْقَدِيمَة وَذكر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على التَّرْتِيب)
(آدم وبنيه إِلَى نوح)
من الْكَامِل لِابْنِ الْأَثِير عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض مِنْهُم الْأسود والأحمر والأبيض وَبَين ذَلِك، وَمِنْهُم السهل والحزن وَبَين ذَلِك.
آدم: أَي من أَدِيم الأَرْض، خلق اللَّهِ جسده وَتَركه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَقيل أَرْبَعِينَ سنة ملقى بِغَيْر روح وَقَالَ الْمَلَائِكَة: {إِذا نفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين، فَلَمَّا نفخ فِيهِ الرّوح سجد لَهُ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس أبي واستكبروا وَكَانَ من الْكَافرين} كبرا وحسدا، فأوقع اللَّهِ على إِبْلِيس اللَّعْنَة والأياس من رَحمته وَجعله شَيْطَانا رجيما وَأخرجه من الْجنَّة، بعد أَن كَانَ ملكا على سَمَاء الدُّنْيَا وَالْأَرْض، وخازنا من خزان الْجنَّة. وأسكن آدم الْجنَّة، ثمَّ خلق من ضلع آدم حَوَّاء زَوجته وَسميت حَوَّاء: لِأَنَّهَا خلقت من شَيْء حَيّ، فَقَالَ اللَّهِ: {يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} .
ثمَّ أَن إِبْلِيس أَرَادَ دُخُول الْجنَّة ليوسوس لآدَم، فَمَنعه الخزنة، فَعرض نَفسه على دَوَاب الأَرْض أَن تحمله حَتَّى يدْخل الْجنَّة ليكلم آدم وَزَوجته، فَأبى الْجَمِيع ذَلِك إِلَّا الْحَيَّة فأدخلته الْجنَّة بَين نابيها، وَكَانَت الْحَيَّة على غير شكلها الْآن، فوسوس لآدَم وَزَوجته وَحسن عِنْدهم الْأكل من الشَّجَرَة الَّتِي نهاهما اللَّهِ عَنْهَا - وَهِي الْحِنْطَة - وَقدر عِنْدهمَا أَنَّهُمَا إِن أكلا مِنْهَا خلدا وَلم يموتا. فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوآتهما، فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} آدم وحواء وإبليس والحية، وأهبطهم اللَّهِ من الْجنَّة إِلَى الأَرْض، وسلب آدم وحواء كل مَا كَانَا فِيهِ من النِّعْمَة والكرامة.
وَلما هَبَط آدم إِلَى الأَرْض كَانَ لَهُ ولدان هابيل وقابيل وَيُسمى قابيل قاين أَيْضا، فَقرب كل من هابيل وقابيل قربانا، وَكَانَ قرْبَان هابيل خيرا من قرْبَان قابيل، فَتقبل قرْبَان هابيل وَلم يتَقَبَّل قرْبَان قابيل، فحسده على ذَلِك، وَقتل قابيل هابيل، وَقيل: بل كَانَ لقابيل أُخْت توأم، وَكَانَت أحسن من توأم هابيل، وَأَرَادَ آدم أَن يُزَوّج توأم قابيل بهابيل وتوأم هابيل بقابيل، فَلم يطب لقابيل ذَلِك، وَأخذ قابيل توأمه وهرب بهَا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/9)
وَبعد قتل هابيل ولد لآدَم شِيث لمضي مِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة سنة من عمر آدم، وَهُوَ وَصِيّ آدم، وَتَفْسِير شِيث: هبة اللَّهِ، وَإِلَى شِيث يَنْتَهِي أَنْسَاب بني آدم كلهم.
وَلما صَار لشيث مِائَتَان وَخمْس سِنِين ولد لَهُ أنوش لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ سنة من عمر آدم، قَالَت الصابئة: ولد لشيث ابْن آخر اسْمه صابىء وَإِلَيْهِ تنْسب الصائبة وَلما صَار لأنوش مائَة وَتسْعُونَ سنة ولد لَهُ قينان لمضي سِتّمائَة وَخمْس وَعشْرين سنة من عمر آدم. .
وَلما صَار لقينان مائَة وَسَبْعُونَ سنة ولد لَهُ مهلابيل لمضي سَبْعمِائة وَخمْس وَتِسْعين سنة من عمر آدم.
وَلما مضى لمهلاييل مائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ سنة توفّي آدم لمضي تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة من عمره هُوَ جملَة عمره. عَن ابْن الْجَوْزِيّ: أَن آدم عِنْد مَوته بلغ وَلَده وَولد وَلَده أَرْبَعِينَ ألفا. وَلما صَار لمهلاييل مائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ يزدْ - بالزاي الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْملَة.
وَلما صَار ليزد مائَة وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ حنوخ - بِمُهْملَة وبنون ومعجمة -. ولمضي عشْرين سنة من عمر حنوخ توفّي شِيث وعمره تِسْعمائَة واثنتا عشرَة سنة، وَكَانَت وَفَاة شِيث لمضي ألف وَمِائَة واثنتين وَأَرْبَعين لهبوط آدم، وَاسم شِيث عِنْد الصابئة عاديمون.
وَلما صَار لحنوخ مائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ متوشلح - بمثناة فَوق، وَقيل: مُثَلّثَة وَآخره مُهْملَة -.
وَلما مضى من عمر متوشلح ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة توفّي أنوش بن شِيث، وَكَانَ عمر أنوش لما توفّي تِسْعمائَة وَخمسين سنة.
وَلما صَار لمتوشلح مائَة وَسبع وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ لامخ وَيُقَال: لامك ولمك أَيْضا. وَلما مضى إِحْدَى وَسِتُّونَ سنة من عمر لامخ توفّي قينان بن أنوش وعمره تِسْعمائَة وَعشر سِنِين.
وَلما صَار للامخ مائَة وثمان وَثَمَانُونَ سنة ولد لَهُ نوح بعد مُضِيّ ألف وسِتمِائَة واثنتين وَأَرْبَعين سنة من هبوط آدم. وَلما مضى من عمر نوح أَربع وَثَلَاثُونَ سنة توفّي مهلابيل بن قينان، وَعمر مهلاييل لما توفّي ثَمَانمِائَة وَخمْس وَتسْعُونَ سنة. وَلما مضى من عمر نوح مِائَتَان وست وَسِتُّونَ سنة توفّي يزدْ بن مهلابيل وعمره تِسْعمائَة وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة.
وَأما حنوخ - وَهُوَ إِدْرِيس - فَرفع لما بلغ ثَلَاثمِائَة وخمسا وَسِتِّينَ سنة إِلَى السَّمَاء لمضي ثَلَاث عشرَة سنة من عمر لامخ قبل ولادَة نوح بِمِائَة وَخمْس وَسبعين سنة ونبأ اللَّهِ إِدْرِيس وانكشفت لَهُ الْأَسْرَار السماوية، وَله صحف مِنْهَا: لَا ترموا أَن تحيطوا بِاللَّه خبْرَة فَإِنَّهُ أعظم وَأَعْلَى أَن يُدْرِكهُ بِظَنّ المخلوقون إِلَّا من آثره. ومتوشلح بن حنوخ توفّي لمضي سِتّمائَة سنة من عمر نوح عِنْد ابْتِدَاء مَجِيء الطوفان، وَعمر متوشلح لما توفّي تِسْعمائَة وتسع وَسِتُّونَ سنة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/10)
وَلما صَار لنوح خَمْسمِائَة سنة ولد لَهُ سَام وَحَام وَيَافث، ولمضي سِتّمائَة من عمر نوح كَانَ الطوفان لمضي أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ واثنتين وَأَرْبَعين سنة من هبوط آدم.
(ذكر نوح وَولده)
من الْكَامِل، أرسل نوح إِلَى قومه، وَكَانُوا أهل أوثان على الْأَصَح بِدَلِيل: {لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تَذَرُون ودا وَلَا سواعا} الْآيَة، وَصَارَ نوح يَدعُوهُم وَلَا يلتفتون، ويخنقونه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ فَإِذا أَفَاق قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ، وَبَقِي لَا يَأْتِي قرن مِنْهُم إِلَّا أَخبث من الَّذِي قبله، وَكم ضربوه حَتَّى ظنُّوا مَوته فيفيق ويغتسل وَيقبل يَدعُوهُم.
فَلَمَّا طَال عَلَيْهِ شكا إِلَى اللَّهِ فَأوحى إِلَيْهِ: " أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن " فَلَمَّا يئس مِنْهُم دَعَا عَلَيْهِم {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} . فَأوحى اللَّهِ إِلَيْهِ أَن يصنع السَّفِينَة، وصاروا يسخرون مِنْهُ وَيَقُولُونَ: يَا نوح قد صرت نجارا بعد النُّبُوَّة، صنعها من خشب الساج.
فَلَمَّا فار التَّنور - وَكَانَ هُوَ الْآيَة بَين نوح وَبَين ربه عز وَجل - حمل نوح من أمره اللَّهِ بِحمْلِهِ وَمِنْهُم أَوْلَاده سَام وَحَام وَيَافث وَنِسَاؤُهُمْ، وَقيل: حمل أَيْضا سِتَّة أناسي، وَقيل: ثَمَانِينَ رجلا أحدهم جرهم كلهم من بني شِيث، ثمَّ أَدخل مَا أمره اللَّهِ من الدَّوَابّ، وتخلف عَن نوح ابْنه يام كَافِرًا. وارتفع المَاء وطما. {وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال} وَعلا المَاء على رُؤُوس الْجبَال خَمْسَة عشر ذِرَاعا فَهَلَك مَا على وَجه الأَرْض من حَيَوَان ونبات، وبينما أرسل المَاء وغاض سِتَّة أشهر وَعشر لَيَال، وَقيل: كَانَ ركُوب نوح فِي السَّفِينَة لعشر لَيَال مَضَت من رَجَب لعشر خلت من آب، وَخرج من السَّفِينَة يَوْم عَاشُورَاء من الْمحرم، واستقرت على الجودي من أَرض الْموصل.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْمَجُوس لَا يعترفون بالطوفان، وَبَعْضهمْ يزْعم أَنه كَانَ بإقليم بابل وَمَا قرب مِنْهُ وَأَن مسَاكِن ولد جيومرث كَانَت بالمشرق فَلم تصلهم، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأُمَم المشرقية من الْهِنْد وَالْفرس والصين لَا يعترفون بالطوفان وَبَعض الْفرس يَقُول: لم يعم وَلم يَتَعَدَّ عقبَة حلوان.
وَالصَّحِيح: أَن جمع أهل الأَرْض من ولد نوح لقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ} . فَجَمِيع النَّاس من ولد سَام وَحَام وَيَافث أَوْلَاد نوح، فسام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَحَام أَبُو السودَان، وَيَافث أَبُو التّرْك. ويأجوج وَمَأْجُوج والفرنج والقبط من ولد قوط بن حام، وَولد لحام أَيْضا ماريغ ولماريغ كنعان، وَبَنُو كنعان كَانُوا أَصْحَاب الشَّام حَتَّى غزتهم بَنو إِسْرَائِيل نَقله ابْن سعد.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: بَنو كنعان من ولد سَام، ولسام أَوْلَاد مِنْهُم: لاوذ وللاوذ فَارس، وجرجان، وطسم، وعمليق أَبُو العماليق وَمِنْهُم الْجَبَابِرَة بِالشَّام والفراعنة بِمصْر، وسكنت بَنو طسم الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين، وَمن ولد سَام أَيْضا أرم بن سَام، ولأرم أَوْلَاد مِنْهُم جاثر، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/11)
وَمن ولد جاثر ثَمُود وجديس، وَولد لأرم أَيْضا عوض، وَمن عوض عَاد وَكَانَ كَلَام ولد أرم الْعَرَبيَّة، وسكنت بَنو عَاد الرمل إِلَى حَضرمَوْت، وسكنت ثَمُود الْحجر بَين الْحجاز وَالشَّام.
عدنا إِلَى ذكر من على عَمُود النّسَب من نوح إِلَى إِبْرَاهِيم: ولد لنوح سَام وَحَام وَيَافث لمضي خَمْسمِائَة سنة، والطوفان لستمائة من عمره.
وَولد لسام أرفخشذ لمضي مائَة وَسِتِّينَ من عمر سَام بعد الطوفان بِسنتَيْنِ.
وَلما بلغ أرفخشذ مائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ قينان، فولادة قينان تكون لمضي مائَة وَسبع وَثَلَاثِينَ سنة للطوفان.
وَلما بلغ قينان مائَة وتسعا وَثَلَاثِينَ ولد لَهُ شالخ، فَتكون ولادَة شالخ لمضي مِائَتَيْنِ وست وَسبعين من الطوفان. وَلما مَضَت سنة ثلثمِائة وَخمسين للطوفان توفّي نوح وعمره تِسْعمائَة وَخَمْسُونَ سنة، فوفاة نوح لمضي أَربع وَسبعين من عمر شالخ.
وَلما بلغ شالخ مائَة وَثَلَاثِينَ سنة لمضي أَرْبَعمِائَة وست سِنِين للطوفان ولد لَهُ غابر.
وَلما بلغ غابر مائَة وأربعا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ فالغ لمضي خَمْسمِائَة وَأَرْبَعين للطوفان. ثمَّ ولد لفالغ أرغو ولفالغ مائَة وَثَلَاثُونَ سنة.
وَعند مولد أرغو تبلبلت الألسن، وَقسمت الأَرْض. وتفرق بَنو نوح، وَذَلِكَ لمضي سِتّمائَة وَسبعين للطوفان.
وَلما صَار لأرغو مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ ولد لَهُ ساروغ - واسْمه فِي التَّوْرَاة سرُور - وَذَلِكَ لمضي ثَمَانمِائَة وَسِتِّينَ للطوفان.
وَلما صَار لساروغ مائَة وَثَلَاثُونَ سنة ولد لَهُ ناخور لمضي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة للطوفان.
وَلما صَار لناخور تسع وَسَبْعُونَ سنة ولد لَهُ تارخ لمضي ألف وَإِحْدَى عشرَة سنة للطوفان.
وَلما صَار لتاريخ سَبْعُونَ سنة ولد لَهُ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمضي ألف وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ للطوفان.
جملَة أَعمار الْمَذْكُورين: عَاشَ سَام سِتّمائَة، فَتكون وَفَاته بعد وَفَاة نوح بِمِائَة وَخمسين سنة. وعاش أرفخشذ أَرْبَعمِائَة وخمسا وَسِتِّينَ. وقينان أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ. وشالخ أَرْبَعمِائَة وَسِتِّينَ. وغابر أَرْبَعمِائَة وأربعا وَسِتِّينَ. وفالغ ثلثمِائة وتسعا وَثَلَاثِينَ سنة. وأرغو ثلثمِائة وتسعا وَثَلَاثِينَ. وساروغ ثلثمِائة وَثَلَاثِينَ. وناخور مِائَتَيْنِ وثمان سِنِين. وتارخ مِائَتَيْنِ وَخمْس سِنِين.
سَبَب تبلبل الْأَلْسِنَة: قَالَ أَبُو عِيسَى: اجْتمع بَنو نوح الناشئون بعد الطوفان على بِنَاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/12)
حصن خوفًا من الطوفان ثَانِيًا وَقَالُوا: نَبْنِي صرحا شامخا يبلغ السَّمَاء، فَجعلُوا لَهُ اثْنَيْنِ وَسبعين برجا على كل برج كَبِير مِنْهُم يستحث على الْعَمَل، فانتقم اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُم وبلبلهم إِلَى لُغَات شَتَّى، وَلم يوافقهم غابر على ذَلِك وَاسْتمرّ على طَاعَة اللَّهِ، فبقاه اللَّهِ على اللُّغَة العبرانية. وَلما افترق بَنو نوح صَار لولد سَام الْعرَاق وَفَارِس وَمَا يَلِي كَذَا إِلَى الْهِنْد، ولولد حام الْجنُوب مِمَّا يَلِي مصر على النّيل ومغربا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى، ولولد يافث مَا يَلِي بَحر الخزر ومشرقا إِلَى جِهَة الصين، وَكَانَت شعوب أَوْلَاد نوح عِنْد تبلبل الْأَلْسِنَة اثْنَيْنِ وَسبعين شعبًا.
(ذكر هود وَصَالح)
نبيان أرسلا بعد نوح وَقبل إِبْرَاهِيم، وَقيل: إِن هودا هُوَ غابر بن شالخ. أرسل اللَّهِ هودا إِلَى عَاد أهل أصنام ثَلَاثَة، وَكَانَت عَاد وَثَمُود جبارين طوَالًا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بسطة} . ودعا هود قوم عَاد فَلم يُؤمن مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل،، فَأهْلك اللَّهِ الَّذين لم يُؤمنُوا برِيح سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما أَي دَائِما، فَلم تدع من عَاد أحدا حَتَّى هلك غير هود وَالْمُؤمنِينَ مَعَه فَإِنَّهُم اعتزلوا فِي حَظِيرَة. وَبَقِي هود كَذَلِك حَتَّى مَاتَ وقبره بحضرموت، وَقيل بِحجر مَكَّة.
قيل: من قوم عَاد لُقْمَان غير الْحَكِيم الَّذِي على عهد دَاوُد، وَحصل لعاد قبل هلاكهم جَدب فأرسلوا جمَاعَة مِنْهُم إِلَى مَكَّة يستسقون لَهُم، مِنْهُم لُقْمَان. فَلَمَّا هَلَكت عَاد بَقِي لُقْمَان بِالْحرم، فَقَالَ لَهُ اللَّهِ تَعَالَى: اختر وَلَا سَبِيل إِلَى الخلود، فَقَالَ: يَا رب أَعْطِنِي عمر سَبْعَة أنسر. فَكَانَ يَأْخُذ الفرخ الذّكر حِين يخرج من بيضته حَتَّى مَاتَ أَخذ غَيره، وعاش كل نسر ثَمَانِينَ سنة، وَاسم النسْر السَّابِع لبد، فَلَمَّا مَاتَ لبد مَاتَ لُقْمَان مَعَه. وَقد كثر ذكر هَذَا نظما ونثرا.
وَأرْسل اللَّهِ صَالحا إِلَى ثَمُود، وَهُوَ صَالح بن عبيد بن آسَف بن ماشخ بن عبيد بن جاثر بن ثَمُود، فَدَعَا صَالح قوم ثَمُود - كَانُوا بِالْحجرِ - إِلَى التَّوْحِيد فَلم يُؤمنُوا بِهِ إِلَّا قَلِيل مستضعفون، ثمَّ أَن كفارهم عاهدوه على أَنه إِن أَتَى بِمَا يقترحونه آمنُوا، فاقترحوا أَن يخرج من صَخْرَة مُعينَة نَاقَة ,
فَسَأَلَ صَالح اللَّهِ، فَأخْرج نَاقَة، وَولدت فصيلا. فَلم يُؤمنُوا، وَفِي الآخر عقروها، فأهلكوا بعد ثَلَاثَة أَيَّام بصيحة من السَّمَاء فِيهَا صَوت كل صَاعِقَة، فتقطعت قُلُوبهم فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين؛ وَسَار صَالح إِلَى فلسطين، ثمَّ إِلَى الْحجاز يعبد اللَّهِ حَتَّى مَاتَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة.
(ذكر إِبْرَاهِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
هُوَ إِبْرَاهِيم بن تارخ - وَهُوَ آزر - بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/13)
شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح، وَأسْقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عَمُود النّسَب قيل: لِأَنَّهُ كَانَ ساحرا فَقَالُوا: شالخ بن أرفخشذ وبالحقيقة هُوَ شالخ بن قينان بن أرفخشذ. ولد إِبْرَاهِيم بالأهواز، وَقيل: بِبَابِل - وَهِي الْعرَاق -، وَكَانَ آزر أَبوهُ يصنع الْأَصْنَام ويعطيها إِبْرَاهِيم ليبيعها فَيَقُول: من يَشْتَرِي مَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ.
وَلما أَمر إِبْرَاهِيم بِدُعَاء قومه إِلَى التَّوْحِيد دَعَا أَبَاهُ فَلم يجبهُ، ودعا قومه فاتصل أمره بنمروذ بن كوش ملك تِلْكَ الْبِلَاد، وَكَانَ نمروذ عَاملا على سَواد الْعرَاق وَمَا اتَّصل بِهِ للضحاك، وَقيل: كَانَ مُسْتقِلّا. فَرمى نمروذ إِبْرَاهِيم فِي نَار عَظِيمَة فَكَانَت النَّار عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَخرج من النَّار بعد أَيَّام، وآمن بِهِ رجال من قومه على خوف من نمروذ، وَآمَنت بِهِ زَوجته سارة بنت عَمه هاران.
ثمَّ أَن إِبْرَاهِيم وَمن آمن مَعَه وأباه - على كفره - هَاجرُوا إِلَى حران مُدَّة؛ ثمَّ سَار إِبْرَاهِيم إِلَى مصر وصاحبها فِرْعَوْن، قيل: اسْمه سِنَان بن علوان، وَقيل: طوليس، فَذكر جمال سارة لفرعون، فأحضرها وَسَأَلَ إِبْرَاهِيم عَنْهَا، فَقَالَ: هَذِه أُخْتِي - يَعْنِي فِي الْإِسْلَام فهم فِرْعَوْن بهَا فأيبس اللَّهِ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، فَلَمَّا تخلى عَنْهَا أطلق، ثمَّ هم بهَا فَجرى لَهُ ذَلِك، فَأطلق سارة وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لهَذِهِ أَن تخْدم نَفسهَا فَوَهَبَهَا هَاجر جَارِيَة، فَجَاءَت بهَا إِلَى إِبْرَاهِيم.
ثمَّ سَار إِبْرَاهِيم من مصر إِلَى الشَّام وَأقَام بَين الرملة وإيليا، وَكَانَت سارة لَا تَلد فَوهبت إِبْرَاهِيم هَاجر فَولدت مِنْهُ إِسْمَاعِيل - وَمَعْنَاهُ بالعبراني: مُطِيع اللَّهِ - لمضي سِتّ وَثَمَانِينَ من عمر إِبْرَاهِيم، فحزنت سارة لذَلِك فَوَهَبَهَا اللَّهِ إِسْحَاق، وَلدته سارة بنت تسعين سنة.
وَغَارَتْ سارة من هَاجر وَابْنهَا وَقَالَت: ابْن الْأمة لَا يَرث مَعَ ابْني، وَطلبت من إِبْرَاهِيم إخراجهما عَنْهَا. فَسَار بهما إِلَى الْحجاز وتركهما بِمَكَّة، وَتزَوج إِسْمَاعِيل بِمَكَّة امْرَأَة من جرهم، وَمَاتَتْ أمة بِمَكَّة، وَقدم إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم وبنيا الْكَعْبَة - الْبَيْت الْحَرَام -، ثمَّ أمره الله بِذبح وَلَده، وَقيل: إِسْحَاق: وَقيل: إِسْمَاعِيل، وفداه اللَّهِ بكبش. وَكَانَ إِبْرَاهِيم فِي آخر أَيَّام بيوراسب الضَّحَّاك، وَسَيذكر مَعَ الْفرس فِي أول ملك أفريدون، والنمروذ عَامله.
ولإبراهيم أَخَوان هاران وناخور ابْنا آزر، فهاران أولد لوطا، وأولد ناخور تبويل، وأولد تبويل لَا بَان، وأولد لَا بَان ليا وراحيل زَوْجَتي يَعْقُوب.
وَمن زعم أَن الذَّبِيح إِسْحَاق يَقُول: مَوضِع الذّبْح بِالشَّام على ميلين من إيليا - وَهِي بَيت الْمُقَدّس -، وَمن زعم أَنه إِسْمَاعِيل يَقُول: كَانَ بِمَكَّة.
وَاخْتلف فِي الْأُمُور الَّتِي ابتلى اللَّهِ إِبْرَاهِيم بهَا قيل: هِيَ هجرته عَن وَطنه والختان وَذبح ابْنه، وَقيل غير ذَلِك. وَفِي أَيَّام إِبْرَاهِيم توفيت سارة بعد هَاجر وَفِيه خلاف وَتزَوج بعد سارة امْرَأَة من الكنعانيين ولدت من إِبْرَاهِيم سِتَّة، فجملة أَوْلَاده ثَمَانِيَة بِإِسْمَاعِيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/14)
وَإِسْحَاق وَفِيه خلاف. وَتقدم أَن إِبْرَاهِيم ولد لمضي ألف وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ من الطوفان.
وَلما صَار لإِبْرَاهِيم مائَة سنة ولد لَهُ إِسْحَاق وَلما صَار لإسحاق سِتُّونَ سنة ولد لَهُ يَعْقُوب. وَلما صَار ليعقوب سِتّ وَثَمَانُونَ ولد لَهُ لاوى. وَلما صَار للاوى سِتّ وَأَرْبَعُونَ ولد لَهُ قاهاث. وَلما صَار لقاهاث ثَلَاث وَسِتُّونَ ولد لَهُ عمرَان. وَلما صَار لعمران سَبْعُونَ ولد لَهُ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فولادة مُوسَى لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعشْرين من مولد إِبْرَاهِيم، وعاش مُوسَى مائَة وَعشْرين فَبين. ولادَة إِبْرَاهِيم ووفاة مُوسَى خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة.
جملَة أعمارهم: عَاشَ إِبْرَاهِيم مائَة وخمسا وَسبعين، وَإِسْحَاق مائَة وَثَمَانِينَ وَيَعْقُوب مائَة وَسبعا وَأَرْبَعين، ولاوى مائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ؛ وقاهات مائَة وَسبعا وَعشْرين، وَعمْرَان مائَة وستا وَثَلَاثِينَ. وَمَات إِبْرَاهِيم ولإسحاق خمس وَسَبْعُونَ، وَمَات إِسْحَاق وليعقوب مائَة وَعِشْرُونَ، وَمَات يَعْقُوب وللاوى سِتُّونَ، ولاوي ولقاهاث إِحْدَى وَثَمَانُونَ، وقاهاث ولعمران أَربع وَسِتُّونَ، وَعمْرَان ولموسى سِتّ وَسِتُّونَ سنة بِنَاء على أَن جملَة عمر عمرَان مائَة وست وَثَلَاثُونَ.
وَاخْتلف فِي معنى الصُّحُف الْمنزلَة على إِبْرَاهِيم، فَعَن أبي ذَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا أَمْثَال مِنْهَا: أَيهَا الْمُسَلط الْمَغْرُور إِنِّي لم أَبْعَثك لِتجمع الدُّنْيَا بَعْضهَا على بعض وَلَكِن بَعَثْتُك لِترد عني دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنِّي لَا أردهَا وَلَو كَانَت من كَافِر، وعَلى الْعَاقِل أَن يكون بَصيرًا بِزَمَانِهِ، مُقبلا على شانه حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمن عد كَلَامه من عمله قل كَلَامه إِلَّا فِيمَا يعنيه.
وَإِبْرَاهِيم أول من اختتن، وأضاف الضَّيْف، وَلبس السَّرَاوِيل
وَلُوط ابْن أخي إِبْرَاهِيم أَبوهُ هاران بن آزر وَهُوَ تارخ، وَبَاقِي النّسَب مر مَعَ إِبْرَاهِيم. آمن لوط بِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم وَهَاجَر مَعَه إِلَى مصر، وَعَاد إِلَى الشَّام وأرسله اللَّهِ إِلَى أهل سدوم - أهل كفر وفاحشة - دعاهم ونهاهم فَلم يلتفتوا، وَكَانُوا يأْتونَ الرِّجَال ويقطعون السَّبِيل ويأتون فِي ناديهم الْمُنكر، كَانَ قطعهم الطَّرِيق إمساكهم الْمُسَافِر واللواط بِهِ.
فَلَمَّا طَال على لوط تماديهم سَأَلَ اللَّهِ النُّصْرَة، فَأرْسل اللَّهِ الْمَلَائِكَة لقلب سدوم وقراها الْخمس، وَكَانَ بسدوم أَرْبَعمِائَة ألف، وقراها: صبغة وعمره وأذمى وصيويم وبالع. وأعلمت الْمَلَائِكَة إِبْرَاهِيم بِمَا أمروا بِهِ من الْخَسْف بِقوم لوط، فَسَأَلَ إِبْرَاهِيم جِبْرِيل فيهم وَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت إِن كَانَ فيهم خَمْسُونَ من الْمُسلمين؟ فَقَالَ جِبْرِيل: إِن كَانَ فيهم خَمْسُونَ لَا نعذبهم. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَأَرْبَعُونَ؟ قَالَ: وَأَرْبَعُونَ. قَالَ: وَثَلَاثُونَ؟ قَالَ: وَثَلَاثُونَ. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَعشرَة؟ قَالَ جِبْرِيل: وَعشرَة. فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِن هُنَاكَ لوطا؟ فَقَالَ جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة: نَحن أعلم بِمن فِيهَا.
فَلَمَّا وصلت الْمَلَائِكَة إِلَى لوط هم قومه أَن يلوطوا بهم، فأعماهم جِبْرِيل بجناحه وَقَالَت الْمَلَائِكَة للوط، " نَحن رسل رَبك فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد ". فَلَمَّا خرج لوط بأَهْله قَالَ للْمَلَائكَة: أهلكوهم السَّاعَة، فَقَالُوا: لم نؤمر إِلَّا بالصبح ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/15)
أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب. فَلَمَّا كَانَ الصُّبْح قلبت الْمَلَائِكَة سدوم وقراها الْخمس بِمن فِيهَا، وَسمعت امْرَأَة لوط الهدة فَقَالَت: واقوماه! فأدركها حجر فَقَتلهَا. وأمطر اللَّهِ الْحِجَارَة على من لم يكن بالقرى فأهلكهم.
وَولد إِسْمَاعِيل ولإبراهيم سِتّ وَثَمَانُونَ سنة، وَلما صَار لإسماعيل ثَلَاث عشرَة سنة تطهر هُوَ وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم. وَلما صَار لإِبْرَاهِيم مائَة سنة وَولد لَهُ إِسْحَاق أخرج إِسْمَاعِيل وَأمه إِلَى مَكَّة، وَسكن مَكَّة مَعَ إِسْمَاعِيل قبائل جرهم كَانُوا قبله بِالْقربِ من مَكَّة فاختلطوا بِهِ، وَتزَوج مِنْهُم ورزق من الجرهمية اثْنَي عشر ولدا.
وَلما أَخذ إِبْرَاهِيم فِي بِنَاء بَيت اللَّهِ وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة بِأَمْر اللَّهِ كَانَا كلما بنيا قَالَا: رَبنَا تقبل منا أَنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم. وَكَانَ وقُوف إِبْرَاهِيم على حجر وَهُوَ يَبْنِي وَذَلِكَ الْموضع مقَام إِبْرَاهِيم. وَاسْتمرّ الْبَيْت على مَا بناه حَتَّى هدمته قُرَيْش سنة خمس وَثَلَاثِينَ من مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِنَاء إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة بعد مَا مضى مائَة سنة من عمره، فَبين ذَلِك وَبَين الْهِجْرَة أَلفَانِ وَسَبْعمائة وَثَلَاث وَتسْعُونَ سنة تَقْرِيبًا.
وَأرْسل اللَّهِ إِسْمَاعِيل إِلَى قبائل الْيمن وَإِلَى العماليق، وَزوج إِسْمَاعِيل ابْنَته من ابْن أَخِيه الْعيص بن إِسْحَاق، وعاش إِسْمَاعِيل مائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ سنة، وَمَات بِمَكَّة، وَدفن عِنْد قبر أمه بِالْحجرِ، ووفاة إِسْمَاعِيل بعد وَفَاة إِبْرَاهِيم بثمان وَأَرْبَعين سنة.
ثمَّ أَن إِسْحَاق تزوج ابْنة عَمه فَولدت لَهُ الْعيص وَيَعْقُوب، وَيُقَال ليعقوب إِسْرَائِيل، وأولد الْعيص زَوجته بنت عَمه إِسْمَاعِيل أَوْلَادًا، ونكح يَعْقُوب ليا بنت لابان بن ثبويل بن ناخور بن آزر وَالِد إِبْرَاهِيم فَولدت ليا روبيل أكبر أَوْلَاد يَعْقُوب، ثمَّ شَمْعُون ولاوى ويهوذا، ثمَّ تزوج يَعْقُوب عَلَيْهَا أُخْتهَا راحيل فَولدت لَهُ يُوسُف وبنيامين، وَكَذَلِكَ ولد ليعقوب من سريتين لَهُ سِتَّة أَوْلَاد فَكَانَ بَنو يَعْقُوب اثْنَا عشر هم آبَاء الأسباط، وَأقَام إِسْحَاق بِالشَّام حَتَّى توفّي ابْن مائَة وَثَمَانِينَ، وَدفن عِنْد أَبِيه إِبْرَاهِيم صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِم.
أَسمَاء آبَاء الأسباط الإثني عشر: روبيل، ثمَّ شَمْعُون، ثمَّ لاوى، ثمَّ يهوذا، ثمَّ يساخر، ثمَّ زيولون، ثمَّ يُوسُف، ثمَّ بنيامين، ثمَّ دَان، ثمَّ تفتالي، ثمَّ كاذ، ثمَّ أَشَارَ.
(ذكر أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام)
قد عد من أمة الرّوم لِأَنَّهُ من ولد الْعيص، هُوَ أَيُّوب بن موص بن رازح بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَزَوْجَة أَيُّوب رَحْمَة.
وَكَانَ لأيوب البثنة من أَعمال دمشق ملكا وأموالا عَظِيمَة، فابتلي بذهاب الْأَمْوَال وبالفقر وَهُوَ على عِبَادَته وشكره، ثمَّ ابْتُلِيَ فِي جسده حَتَّى تجذم ودود مرميا على مزبلة لَا تطاق رَائِحَته، وَرَحْمَة تخدمه صابرة عَلَيْهِ، فتراءى لَهَا إِبْلِيس وأراها مَا ذهب لَهُم وَقَالَ: اسجدي لي لأرد مَا لكم إِلَيْكُم. فاستأذنت أَيُّوب فَغَضب وَحلف ليضربنها مائَة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/16)
ثمَّ عافاه اللَّهِ ورزقه، ورد إِلَى امْرَأَته شبابها وحسنها وَولدت لأيوب سِتَّة وَعشْرين ذكرا. ثمَّ أمره اللَّهِ أَن يَأْخُذ عرجونا من النّخل فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فَيضْرب بِهِ زَوجته ليبر فِي يَمِينه، فَفعل. وَكَانَ أَيُّوب نَبيا فِي عهد يَعْقُوب فِي قَول بَعضهم، وَذكر أَن أَيُّوب عَاشَ ثَلَاثًا وَتِسْعين. وَمن ولد أَيُّوب ابْنه بشر بَعثه اللَّهِ بعد أَيُّوب وَسَماهُ ذَا الكفل، وَكَانَ مقَامه بِالشَّام.
(ذكر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام)
وَولد ليعقوب يُوسُف وليعقوب إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة، وفارقه وعمره ثَمَانِي عشر سنة، وافترقا إِحْدَى وَعشْرين سنة، واجتمعا بِمصْر وَعمر يَعْقُوب مائَة وَثَلَاثُونَ سنة، وبقيا مُجْتَمعين سبع عشرَة سنة، فعمر يُوسُف لما توفّي يَعْقُوب سِتّ وَخَمْسُونَ سنة، وعاش يُوسُف مائَة وَعشر سِنِين، فمولد يُوسُف لمضي مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَخمسين من مولد إِبْرَاهِيم، ووفاته لمضي ثلثمِائة وَإِحْدَى وَسِتِّينَ من مولد إِبْرَاهِيم، وَتَكون وَفَاة يُوسُف قبل مولد مُوسَى بِأَرْبَع وَسِتِّينَ سنة محققا.
وحسدت يُوسُف إخْوَته لحسنه وَحب أَبِيه لَهُ، وألقوه فِي الْجب وَفِيه مَاء وصخرة فآوى إِلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام، وَأخرجه السيارة من الْجب وأخذوه مَعَهم، وَجَاء أَخُوهُ يهوذا إِلَيْهِ بِطَعَام فَلم يجده، ثمَّ رَآهُ عِنْد السيارة، فَأخْبر يهوذا إخْوَته فأتوهم وَقَالُوا: هَذَا عَبدنَا أبق منا، وخافهم يُوسُف فَلم يذكر حَاله، فاشتروه من إخْوَته بِثمن بخس - قيل: عشرُون، وَقيل: أَرْبَعُونَ درهما - وذهبوا بِهِ إِلَى مصر فَبَاعَهُ استاذه من الْعَزِيز الَّذِي على خَزَائِن مصر، وَفرْعَوْن مصر حِينَئِذٍ الريان بن الْوَلِيد من العماليق من ولد عملاق بن سَام بن نوح.
وَلما اشْترى الْعَزِيز يُوسُف هويته امْرَأَته راعيل وراودته عَن نَفسهَا، فَأبى وهرب مِنْهَا، وَلَحِقتهُ من خَلفه وأمسكته بِقَمِيصِهِ فأنقد قَمِيصه، وَوصل أَمرهمَا إِلَى زَوجهَا الْعَزِيز وَابْن عَمها تينان، فَظهر لَهما بَرَاءَة يُوسُف وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي راودته، ثمَّ مَا زَالَت تَشْكُو من يُوسُف إِلَى زَوجهَا وَتقول: أَنه يَقُول للنَّاس أَنِّي راودته عَن نَفسه، وَقد فضحني. حَتَّى حَبسه زَوجهَا سبع سِنِين، ثمَّ أخرجه فِرْعَوْن مصر بِسَبَب تَعْبِيره الرُّؤْيَا.
وَلما مَاتَ الْعَزِيز الَّذِي اشْترى يُوسُف جعل فِرْعَوْن يُوسُف مَوْضِعه على خزائنه كلهَا وَجعل الْقَضَاء إِلَيْهِ وَحكمه نَافِذا، ودعا يُوسُف فِرْعَوْن الريان الْمَذْكُور إِلَى الْإِيمَان، فَآمن. وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن مَاتَ الريان.
وَملك مصر بعده قَابُوس بن مُصعب من العمالقة أَيْضا وَلم يُؤمن. وَتُوفِّي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فِي ملكه بعد أَن وصل إِلَيْهِ أَبوهُ يَعْقُوب وَإِخْوَته جَمِيعهم من أَرض كنعان وَهِي الشَّام بِسَبَب الْمحل، وَاجْتمعَ شملهم سبع عشرَة سنة.
وَمَات يَعْقُوب وَأوصى إِلَى يُوسُف بدفنه مَعَ أَبِيه إِسْحَاق، فَسَار بِهِ وَدَفنه فِي الشَّام عِنْد أَبِيه، وَعَاد إِلَى مصر وَبهَا توفّي وَدفن؛ حَتَّى كَانَ من مُوسَى وَفرْعَوْن مَا كَانَ، فَلَمَّا سَار مُوسَى من مصر ببني إِسْرَائِيل إِلَى التيه نبش يُوسُف وَحمله مَعَه فِي التيه حَتَّى مَاتَ مُوسَى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/17)
فَلَمَّا قدم يُوشَع ببني إِسْرَائِيل إِلَى الشَّام دَفنه بِالْقربِ من نابلس، وَقيل: عِنْد الْخَلِيل.
ثمَّ بعث اللَّهِ شعيبا عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَصْحَاب الأيكة وَأهل مَدين، قيل: شُعَيْب من ولد إِبْرَاهِيم، وَقيل: من ولد من آمن بإبراهيم. والأيكة: شجر ملتف، فَلم يُؤمنُوا، فأهلكوا بسحابة أمْطرت نَارا يَوْم الظلة، وَأهْلك أهل مَدين بالزلزلة.
ثمَّ أرسل اللَّهِ مُوسَى بن عمرَان بن قاهاث بن لاوى بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم نَبيا بشريعة بني إِسْرَائِيل، وَلما ولد كَانَ فِرْعَوْن مصر الْوَلِيد قد أَمر بقتل الْأَطْفَال، فخافت عَلَيْهِ أمه، وَألقى اللَّهِ تَعَالَى فِي قبلهَا أَن تلقيه فِي النّيل، فَجَعَلته فِي تَابُوت وألقته، والتقطته آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وربته وَكبر.
فَبينا هُوَ يمشي فِي بعض الْأَيَّام إِذْ وجد إِسْرَائِيلِيًّا وقبطيا يختصمان، فَوَكَزَ القبطي فَقضى عَلَيْهِ. ثمَّ اشْتهر ذَلِك، وَخَافَ من فِرْعَوْن فهرب نَحْو مَدين واتصل بشعيب وزوجه ابْنَته صفورة، وَأقَام يرْعَى غنم شُعَيْب عشر سِنِين.
ثمَّ سَار مُوسَى بأَهْله فِي زمن الشتَاء، وَأَخْطَأ الطَّرِيق وَامْرَأَته حَامِل، فَأَخذهَا الطلق فِي لَيْلَة شَاتِيَة، فَأخْرج زنده ليقدح فَلم تظهر لَهُ نَار وأعيا مِمَّا يقْدَح، فَقَالَ لأَهله: امكثوا {إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم بشهاب قبس لَعَلَّكُمْ تصطلون} . فَلَمَّا دنا مِنْهَا رأى نورا من السَّمَاء إِلَى شَجَرَة عَظِيمَة من العوسج وَقيل: من الْعنَّاب، فتحير مُوسَى وَخَافَ وَرجع، فنودى مِنْهَا، وَلما سمع الصَّوْت استأنس وَعَاد. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من جَانب الْوَادي الْأَيْمن من الشَّجَرَة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنا اللَّهِ رب الْعَالمين. وَلما رأى تِلْكَ الهيبة علم أَنه ربه فخفق قلبه وكل لِسَانه وضعفت منته، ثمَّ شدّ اللَّهِ قلبه، وَلما عَاد عقله نُودي: {فاخلع نعليك إِنَّك بالواد الْمُقَدّس} . وَجعل اللَّهِ عَصَاهُ وَيَده آيَتَيْنِ.
ثمَّ أقبل إِلَى أَهله وَسَار بهم نَحْو مصر حَتَّى أَتَاهُم لَيْلًا، وَاجْتمعَ بِهِ هَارُون وَسَأَلَهُ من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا مُوسَى، فتعارفا واعتنقا. ثمَّ قَالَ مُوسَى: يَا هَارُون أَن اللَّهِ تَعَالَى أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن فَانْطَلق معي إِلَيْهِ. فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة. فَانْطَلقَا إِلَيْهِ، وَأرَاهُ مُوسَى عَصَاهُ ثعبانا فاغرا فَاه.
قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكَشَّاف: كَانَ ثعبانا ذكرا أشعر فاغرا فَاه بَين لحييْهِ ثَمَانُون ذِرَاعا، وضع لحيه الْأَسْفَل على الأَرْض ولحيه الْأَعْلَى على سور الْقصر ثمَّ توجه نَحْو فِرْعَوْن ليأخذه، فَوَثَبَ فِرْعَوْن من سَرِيره وهرب وأحدث وَلم يكن أحدث قبل ذَلِك، وَحمل على النَّاس فانهمزموا وَمَات مِنْهُم خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا فَقتل بَعضهم بَعْضًا، وَدخل فِرْعَوْن الْبَيْت وَصَاح: يَا مُوسَى خُذْهُ وَأَنا أُؤْمِن بك وَأرْسل مَعَك بني إِسْرَائِيل، فَأَخذه مُوسَى، فَعَاد عَصا وَالله أعلم. ثمَّ أَدخل يَده فِي جيبه، وأخرجها وَهِي بَيْضَاء لَهَا نور تكل مِنْهُ الْأَبْصَار، فَلم يسْتَطع فِرْعَوْن النّظر إِلَيْهَا، ثمَّ ردهَا إِلَى جيبه، وأخرجها فَإِذا هِيَ على لَوْنهَا الأول.
ثمَّ أحضر لَهما فِرْعَوْن السَّحَرَة وَعمِلُوا الْحَيَّات، وَألقى مُوسَى عَصَاهُ فتلقفت ذَلِك وآمن بِهِ السَّحَرَة، فَقَتلهُمْ فِرْعَوْن عَن آخِرهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/18)
ثمَّ أَرَاهُم الْآيَات من الْقمل والضفادع وصيروة المَاء دَمًا، فَلم يُؤمن فِرْعَوْن وَلَا أَصْحَابه. وَآخر الْحَال أطلق فِرْعَوْن لبني إِسْرَائِيل مَعَ مُوسَى، ثمَّ نَدم فلحقهم بعسكره عِنْد بَحر القلزم، فَضرب مُوسَى بعصاه الْبَحْر، فانشق وَدخل فِيهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيل، وتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده، فانطبق الْبَحْر على فِرْعَوْن وَجُنُوده وغرقوا عَن آخِرهم.
وَمن معجزات مُوسَى قصَّته مَعَ قَارون ابْن عَم مُوسَى، رزقه الله مَالا عَظِيما قيل: إِن مَفَاتِيح خزائنه كَانَت حمل أَرْبَعِينَ بغلا، وَبنى دَارا صفحها بِالذَّهَب وأبوابها ذهب، فتكبر قَارون بِمَالِه على مُوسَى، وَاتفقَ مَعَ بني إِسْرَائِيل عَن الْخُرُوج عَن طَاعَته وَجعل لبغي - أَي قحبة - جعلا على أَن تقذف مُوسَى بِنَفسِهَا، ثمَّ أَتَى مُوسَى وَقَالَ: إِن قَوْمك قد اجْتَمعُوا، فَخرج إِلَيْهِم مُوسَى وَقَالَ: من سرق قطعناه، وَمن افترى جلدناه، وَمن زنى رجمناه، فَقَالَ لَهُ قَارون: وَإِن كنت أَنْت؟ قَالَ مُوسَى: نعم، وَإِن كنت أَنا. قَالَ: فَإِن بني إِسْرَائِيل يَزْعمُونَ أَنَّك فجرت بفلانة، قَالَ مُوسَى: فادعوها، فَإِن قَالَت فَهُوَ كَمَا قَالَت. فَلَمَّا جَاءَت قَالَ لَهَا مُوسَى: أَقْسَمت عَلَيْك بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة إِلَّا صدقت {أَنا فعلت بك مَا يَقُول هَؤُلَاءِ؟ قَالَت: لَا كذبُوا، وَلَكِن جعلُوا لي جعلا على أَن أقذفك؛ فَأُوحي اللَّهِ إِلَى مُوسَى: مر الأَرْض بِمَا شِئْت تطعك، فَقَالَ: يَا أَرض خُذِيهِمْ، فَجعل قَارون يَقُول: يَا مُوسَى ارْحَمْنِي، ومُوسَى يَقُول: يَا أَرض خُذِيهِمْ، فابتلعتهم الأَرْض، ثمَّ خسف بهم وبدار قَارون.
وَلما هلك فِرْعَوْن وحنوده قصد مُوسَى الْمسير ببني إِسْرَائِيل إِلَى مَدِينَة الجبارين - أرِيحَا - فَقَالَ بَنو إِسْرَائِيل: (يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين. وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . فَغَضب مُوسَى ودعا عَلَيْهِم فَقَالَ: {رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين} . فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض} . فبقوا فِي التيه، وَأنزل اللَّهِ عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى.
ثمَّ أوحى إِلَى مُوسَى: إِنِّي متوف هَارُون، فأت بِهِ إِلَى جبل كَذَا. فَانْطَلقَا نَحوه، فَإِذا هما بسرير فَنَامَا عَلَيْهِ، وَأخذ هَارُون الْمَوْت وَرفع إِلَى السَّمَاء، وَرجع مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل فَقَالُوا لَهُ: أَنْت قتلت هَارُون لحبنا إِيَّاه، فَقَالَ: وَيحكم أفتروني أقتل أخي} فَلَمَّا أَكْثرُوا عَلَيْهِ سَأَلَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأنْزل السرير وَعَلِيهِ هَارُون، وَقَالَ لَهُم: إِنِّي مت وَلم يقتلني مُوسَى.
ثمَّ توفّي مُوسَى، وَاخْتلف فِي صُورَة وَفَاته، قيل: كَانَ هُوَ ويوشع يمشيان فظهرت غمامة سَوْدَاء فخافها يُوشَع واعتنق مُوسَى، فأنسل مُوسَى من قماشه، وَبَقِي يُوشَع معتنق الثِّيَاب، وَعدم مُوسَى، وأتى يُوشَع بالقماش إِلَى بني إِسْرَائِيل فَقَالُوا: أَنْت قتلت مُوسَى ووكلوا بِهِ، فَسَأَلَ اللَّهِ أَن يبين بَرَاءَته فَرَأى كل رجل كَانَ موكلا على يُوشَع فِي مَنَامه أَن يُوشَع لم يقتل مُوسَى فَإنَّا رفعناه إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ. وَقيل: بل تنبأ يُوشَع وأوحي إِلَيْهِ، وَبَقِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/19)
مُوسَى يسْأَله فَلم يُخبرهُ، فَعظم ذَلِك على مُوسَى وَسَأَلَ الْمَوْت فَمَاتَ، وَقيل غير ذَلِك. توفّي فِي التيه فِي سَابِع آذار لمضي ألف وسِتمِائَة وست وَعشْرين من الطوفان فِي أَيَّام منوجهر الْملك، مَاتَ بعد هَارُون أَخِيه بِأحد عشر شهرا، وَهَارُون كَانَ أكبر مِنْهُ بِثَلَاث سِنِين.
ومولد مُوسَى لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعشْرين من مولد إِبْرَاهِيم، وَبَين وَفَاة إِبْرَاهِيم ومولد مُوسَى مِائَتَان وَخَمْسُونَ سنة، وَولد مُوسَى لمضي ألف وَخَمْسمِائة وست سِنِين من الطوفان، وَكَانَ عمره لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ثَمَانِينَ سنة، وَأقَام فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة، فَيكون عمره مائَة وَعشْرين سنة.
وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل قبل ان يخرجهم مُوسَى تَحت حكم فَرَاعِنَة مصر رعية لَهُم، وَكَانُوا على بقايا من دينهم الَّذِي شَرعه يَعْقُوب ويوسف، وَأول قدومهم إِلَى مصر لمضي تسع وَثَلَاثِينَ سنة من عمر يُوسُف، فأقاموا فِي مصر بَقِيَّة عمر يُوسُف وَهُوَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ، لِأَن عمر يُوسُف مائَة وَعشر سِنِين فَإِذا نقصنا مِنْهَا تسعا وَثَلَاثِينَ بَقِي إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَأَقَامُوا أَيْضا مُدَّة مَا بَين وَفَاة يُوسُف ومولد مُوسَى وَهُوَ أَربع وَسِتُّونَ سنة، وَأَقَامُوا أَيْضا ثَمَانِينَ سنة من عمر مُوسَى حَتَّى خرج بهم، فجملة مقَام بني إِسْرَائِيل بِمصْر حَتَّى أخرجهم مُوسَى مِائَتَيْنِ وَخمْس عشرَة سنة.
(ذكر حكام بني إِسْرَائِيل ثمَّ مُلُوكهمْ)
لما مَاتَ مُوسَى لم يتَمَلَّك على بني إِسْرَائِيل ملك بل سد حكامهم مسد الْمُلُوك إِلَى قيام طالوت فَكَانَ أول مُلُوكهمْ - كَمَا سترى -. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَهَذَا الْفَصْل - فِي حكام بني إِسْرَائِيل وملوكهم - قد كثر الْغَلَط فِيهِ لبعد عَهده ولكونه باللغة بالعبرانية، فتعسر النُّطْق بألفاظه على الصِّحَّة والتواريخ فِي هَذَا الْفَنّ مُخْتَلفَة، وَأما فِي أَسمَاء الْحُكَّام، وَأما فِي عَددهمْ، وَأما فِي مدد استيلائهم. ولليهود الْكتب الْأَرْبَعَة وَالْعشْرُونَ وَهِي عِنْدهم متواترة قديمَة وَلم تعرب إِلَى الْآن، فأحضرت مِنْهَا سَفَرِي قُضَاة بني إِسْرَائِيل وملوكها وأحضرت عَارِفًا بالعبرانية والعربية وَتركته يقْرؤهَا، وأحضرت بهَا ثَلَاث نسخ وكتبت مِنْهَا مَا ظهر عِنْدِي صِحَّته وضبطت الْأَسْمَاء حسب الطَّاقَة.
يُوشَع: لما مَاتَ مُوسَى قَامَ بتدبير بني إِسْرَائِيل يُوشَع بن نون بن البشاماع بن عمهود بن بغدان بن ياحن بن شالخ بن راشف بن رافح بن يريعا ين إفرائيم بن يُوسُف بن يَعْقُوب، وَأقَام بهم فِي التيه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ ارتحل بهم إِلَى الشَّرِيعَة بالغور - واسْمه الْأُرْدُن - فِي عَاشر نيسان من سنة وَفَاة مُوسَى، فَلم يجد سَبِيلا للعبور، فَأمر يُوشَع حاملي صندوق الشَّهَادَة الَّذِي فِيهِ الألواح بِأَن ينزلُوا إِلَى حافة الشَّرِيعَة، فوقفت حَتَّى انكشفت أرْضهَا وَعبر بَنو إِسْرَائِيل ثمَّ عَادَتْ الشَّرِيعَة كَمَا كَانَت، وَنزل يُوشَع بهم على أرِيحَا محاصرا لَهَا، وَفِي كل يَوْم يَدُور حولهَا مرّة وَاحِدَة إِلَى السَّابِع أَمر بني إِسْرَائِيل أَن يطوفوا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/20)
حول أرِيحَا سبع مَرَّات وَأَن يصوتوا بالقرون، فعندما فعلوا هَبَطت الأسوار ورسخت وتساوت الْخَنَادِق بهَا وَدخل بَنو إِسْرَائِيل أرِيحَا بِالسَّيْفِ وَقتلُوا أَهلهَا.
وَبعدهَا سَار إِلَى نابلس إِلَى الْمَكَان الَّذِي بيع فِيهِ يُوسُف فَدفن عِظَام يُوسُف هُنَاكَ. وَكَانَ مُوسَى قد استخرج يُوسُف من نيل مصر واستصحبه إِلَى التيه، وَبَقِي مَعَهم أَرْبَعِينَ سنة، وتسلمه يُوشَع إِلَى أَن دَفنه فَرَاغه من أرِيحَا. وَملك يُوشَع الشَّام وَفرق فِيهِ عماله، ودبر بني إِسْرَائِيل نَحْو ثَمَان وَعشْرين سنة.
ثمَّ توفّي يُوشَع وَدفن فِي كفر حارس وَله من الْعُمر مائَة وَعشر سِنِين. وَفِي تَارِيخ ابْن سعيد المغربي: أَن يُوشَع مدفون فِي المعرة، فَلَا أعلم أنقل ذَلِك أم أثْبته على مَا هُوَ مَشْهُور الْآن. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: فَكَانَت وَفَاة يُوشَع سنة ثَمَان وَعشْرين لوفاة مُوسَى.
وَبعد يُوشَع قَامَ بتدبيرهم (فينحاس) بن الْعيزَار بن هَارُون بن عمرَان وكالب بن يوقنا، وَكَانَ فينحاس هُوَ الإِمَام وَهُوَ من سبط يهوذا. وَكَانَ كالب يحكم بَينهم، وَكَانَ أَمرهمَا فِي بني إِسْرَائِيل ضَعِيفا، دَامَ بَنو إِسْرَائِيل كَذَلِك سبع عشرَة سنة.
ثمَّ طغوا فَسلط اللَّهِ عَلَيْهِم " كوشيان " ملك الجزيرة - قيل: قبرس - وَقيل: كَانَ ملك الأرمن، وَهُوَ من ولد الْعيص بن إِسْحَاق. فاستولى على بني إِسْرَائِيل واستعبدهم ثَمَان سِنِين، فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ لكالب أَخ من أمه اسْمه عثنئال بن قياز فَأَقَامَ كالب أَخَاهُ عثنئال على بني إِسْرَائِيل، فَكَانَ خلاص بني إِسْرَائِيل من كوشيان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن كوشيان حكم عَلَيْهِم ثَمَان سِنِين.
فينحاس - بفاء ثمَّ مثناة تَحت مُهْملَة، ثمَّ نون سَاكِنة، ثمَّ حاء مُهْملَة، ثمَّ ألف مُهْملَة وسين مُهْملَة -.
ثمَّ قَامَ بعد كوشيان " عثنئال " بن قياز من سبط يهوذا وأزال قطيعة صَاحب الجزيرة عَن بني إِسْرَائِيل وَأصْلح حَالهم، وَكَانَ صَالحا دبر أَمرهم أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين لوفاة مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. عثنئال - بِعَين مُهْملَة وثاء مُثَلّثَة سَاكِنة وَنون مَكْسُورَة ومثناة تَحت مَهْمُوزَة وَألف وَلَام -.
وَبعده أَكثر بَنو إِسْرَائِيل الْمعاصِي وعبدوا الْأَصْنَام فَسلط عَلَيْهِم " عغلون " ملك ماب من ولد لوط، واستعبدهم فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وبقوا تَحت مضايقته ثَمَان عشرَة سنة، فَيكون خلاصهم مِنْهُ فِي أَوَاخِر عشر وَمِائَة. عغلون - بِعَين مَفْتُوحَة مُهْملَة وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَضم اللَّام وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون.
ثمَّ أَقَامَ اللَّهِ لَهُم " أهوذ " من سبط بنيامين، فَكف عَنْهُم أذيه عغلون ومضايقته، ودبرهم ثَمَانِينَ سنة، فَتكون وَفَاة أهوذ فِي أَوَاخِر سنة تسعين وَمِائَة لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام - أهوذ على وزن أقوم وذالة مُعْجمَة _ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(1/21)
وَلما مَاتَ أهوذ قَامَ بتدبيرهم " شمكار " بن عنوث دون سنة، فَتكون ولَايَة شمكار ووفاته سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة لوفاة مُوسَى. شمكار - بإهمال الرَّاء بِوَزْن صمصام -.
ثمَّ طغوا فأسلمهم اللَّهِ إِلَى نابين ملك الشَّام فاستبعدهم عشْرين سنة حَتَّى خلصوا مِنْهُ فَيكون خلاصهم مِنْهُ فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. ثمَّ قَامَ فيهم " باراق " بن أبي نعم من سبط تفتالي، وَامْرَأَة اسْمهَا دبورا فقهقرا بَابَيْنِ ودبرا بني إِسْرَائِيل أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون انْقِضَاء مدتهما أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. باراق - بموحدة تَحت وَألف وَرَاء مُهْملَة وَألف وقاف.
ثمَّ أرتكبوا الْمعاصِي بِغَيْر مُدبر لَهُم مِنْهُم سبع سِنِين، وَاسْتولى عَلَيْهِم أعداؤهم من مَدين تِلْكَ الْمدَّة، فَيكون آخر مُدَّة هَذِه الفترة فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ من وَفَاة مُوسَى، فاستغاثوا فَأَقَامَ اللَّهِ فيهم " لذعون " بن نواش فَقتل أعداءهم وأقأم دينهم أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. لذعون - بذال منقوطة وَعين مُهْملَة بِوَزْن مَنْصُور - ... ... .
ثمَّ قَامَ فيهم بعده ابْنه " أبيمالخ " ثَلَاث سِنِين، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أبيمالخ - بِهَمْزَة وباء مُوَحدَة تَحت ومثناة تَحت وَمِيم وَألف وَلَام وخاء مُعْجمَة - ... ... ... ...
ثمَّ قَامَ بعده فيهم " يؤائير " الجرشِي من سبط ششوخر اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة، فَتكون وَفَاته لمضي ثلثمِائة وَثَلَاث وَعشْرين من وَفَاة مُوسَى. يؤائير - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وهمزة مَفْتُوحَة وَألف ثمَّ همزَة مَكْسُورَة وياء مثناة وَرَاء مُهْملَة - ... .
ثمَّ ارتكبوا الْمعاصِي فَسلط عليم بَنو عمون من ولد لوط، وملكهم أمونيطو فاستولى عَلَيْهِم ثَمَانِي عشرَة سنة حَتَّى خلصوا مِنْهُ، فَتكون انْقِضَاء مدَّته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمائة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ اسْتَغَاثُوا إِلَى اللَّهِ فَأَقَامَ فيهم " يفتح " الجرشِي من سبط منشا، فكفاهم شَرّ بني عمون وَقتل من بني عمون كثيرا ودبرهم سِتّ سِنِين، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاثمِائَة وَسبع وَأَرْبَعين. يفتح - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وَسُكُون الْفَاء وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق وحاء مُهْملَة - ... ... ...
وَقَامَ فيهم بعده " أبصن " من سبط يهوذا سبع سِنِين، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَخمسين وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أبصن - بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ نون - ... . . وَبعده دبرهم " أيلون " من سبط زيولون عشر سِنِين، فوفاته فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أيلون - بِهَمْزَة ممدودة مُهْملَة وَضم اللَّام وواو وَنون - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/22)
وَبعده دبرهم " عبدون " بن هِلَال من سبط أفرائيم بن يُوسُف ثَمَان سِنِين فوفاته سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة لوفاة مُوسَى. عبدون - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ودالة مُهْملَة بِوَزْن مَنْصُور.
ثمَّ اخطأوا وعصوا، فَسلط عَلَيْهِم اهل فلسطين واستولوا عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة فَيكون آخر اسْتِيلَاء أهل فلسطين عَلَيْهِم فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى. فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ فَأَقَامَ فيهم " شمشون " بن مانوخ من سبط دوف، وَكَانَ لشمشون قُوَّة عَظِيمَة يعرف بشمشون الْجَبَّار، فدافع أهل فلسطين ودبر ملك بني إِسْرَائِيل عشْرين سنة، ثمَّ غَلبه أهل فلسطين وأسروه ودخلوا بِهِ كنيستهم وَكَانَت مركبة على أعمدة، فَأمْسك العواميد وحركها بِقُوَّة حَتَّى وَقعت الْكَنِيسَة فَقتلته وَمن فِيهَا من فلسطين من كبارهم، فانقضاء مُدَّة تَدْبِير شمشون فِي أَوَاخِر سنة اثنيتين وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى. وشمشون - بشينين معجمتين بِوَزْن مَنْصُور - ... ...
ثمَّ كَانَت فَتْرَة وصاروا بِغَيْر مُدبر عشر سِنِين، فانقضاء الفترة فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ قَامَ فيهم " غالى " الكاهن، عبد صَالح من ولد أثنامور بن هَارُون بن عمرَان، وَمعنى الكاهن: الإِمَام. فدبرهم أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ عمره لما ولي ثمانيا وَخمسين سنة، فمدة عمره ثَمَان وَتسْعُونَ سنة، فِي أول سنة من ولَايَته ولد شمويل النَّبِي بقرية سيلو على بَاب الْقُدس، وَفِي الثَّالِثَة وَالْعِشْرين من ولَايَة غالي ولد دَاوُد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، فوفاة غالي فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ دبر بني إِسْرَائِيل " شمويل " النَّبِي، وتنبأ بعد الْأَرْبَعين عِنْد وَفَاة غالي إِحْدَى عشرَة سنة، ومنتهى هَذِه الإحدى عشرَة سنة هِيَ آخر سنى حكام بني إِسْرَائِيل وقضاتهم، فكلهم كَانُوا بِمَنْزِلَة الْقُضَاة وسدوا مسد مُلُوكهمْ. وَبعد تَدْبِير شمويل إِحْدَى عشرَة سنة قَامَ لَهُم مُلُوك - كَمَا سنذكر -، فَتكون انْقِضَاء سني حكامهم فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ حضر بَنو إِسْرَائِيل إِلَى شمويل وسألوه أَن يُقيم فيهم ملكا، فَأَقَامَ فيهم " شاول "، وَهُوَ طالوت بن قيس من سبط بنيامين، وَكَانَ رَاعيا، وَقيل: سقاءا، وَقيل دباغا، فَملك سنتَيْن واقتتل هُوَ وجالوت - وجالوت من جبابرة الكنعانيين وَكَانَ ملكه بجهات فلسطين كَانَ من الشدَّة وَطول الْقَامَة بمَكَان عَظِيم -، فَلَمَّا برز لِلْقِتَالِ لم يقدم عَلَيْهِ أحد، فَذكر شمويل عَلامَة قَاتل جالوت فَاعْتبر طالوت عسكره فَلم يكن فيهم من يُوَافق الْعَلامَة، وَكَانَ دَاوُد أَصْغَر بني أَبِيه رَاعيا فِي غنم أَبِيه وَإِخْوَته فَطَلَبه طالوت واعتبره شمويل بالعلامة، وَهِي دهن كَانَ يستدير على رَأس من يكون فِيهِ السِّرّ، وأحضر أَيْضا تنور حَدِيد وَقَالَ: الَّذِي يقتل جالوت يكون ملْء هَذَا التَّنور. فَلَمَّا اعْتبر دَاوُد مَلأ التَّنور واستدار الدّهن على رَأسه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/23)
فتحققت الْعَلامَة، فَأمره طالوت بمبارزة جالوت. فبارزه وَقتل دَاوُد جالوت وعمره إِذْ ذَاك ثَلَاثُونَ سنة ,.
ثمَّ مَاتَ شمويل فدفنه بَنو إِسْرَائِيل فِي اللَّيْل وناحوا عَلَيْهِ، وَكَانَ عمره اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَمَال النَّاس إِلَى دَاوُد حبا، فحسده طالوت وَقصد قَتله مرّة بعد أُخْرَى، فهرب دَاوُد مِنْهُ وَاحْترز على نَفسه. ثمَّ نَدم طالوت على قصد قَتله وَمَا وَقع مِنْهُ وَأَرَادَ تَكْفِير ذنُوبه بِمَوْتِهِ فِي الْغُزَاة، وَقصد الفلسطينيين وَقَاتلهمْ حَتَّى قتل هُوَ وَأَوْلَاده، فموت طالوت فِي أَوَاخِر سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
وَبعد قَتله افْتَرَقت الأسباط فَملك على أحد عشر سبطا " أيش يوشت " بن طالوت ثَلَاث سِنِين.
وَانْفَرَدَ سبط يهوذا وَملك عَلَيْهِم " دَاوُد " بن بيشا بن عوفيذ بن بوعر بن سَلمُون بن نحشوف بن عمينندوب بن رم بن مصرون بن بارص بن يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام، وحزن دَاوُد على طالوت وَلعن مَوضِع مصرعه. وَكَانَ مقَام دَاوُد بحبرون، فَلَمَّا استوثق لَهُ الْملك وأطاعه كل الأسباط لثمان وَثَلَاثِينَ سنة من عمر دَاوُد انْتقل إِلَى الْقُدس، ثمَّ فتح فِي الشَّام كثيرا، ثمَّ أَرض فلسطين وبلد عمان وماب وحلب ونصيبين وبلاد الأرمن وَغير ذَلِك، وَلما أوقع دَاوُد بِصَاحِب حلب وَعَسْكَره - وَكَانَ صَاحب حماه إِذْ ذَاك اسْمه ثاعو وَكَانَ معاديا لصَاحب حلب - فَأرْسل صَاحب حماه ثاعو وزيره بِالسَّلَامِ وَالدُّعَاء والهدايا إِلَى دَاوُد فَرحا بقتل صَاحب حلب.
وَلما صَار لداود ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة وَهِي السّنة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ من ملكه كَانَت قصَّته مَعَ أوريا وَزَوجته وَهِي مَشْهُورَة. وَفِي سِتِّينَ من عمر دَاوُد خرج عَلَيْهِ ابْنه أبشولوم بن دَاوُد فَقتل وَملك دَاوُد أَرْبَعِينَ سنة وَلما صَار لَهُ سَبْعُونَ سنة توفّي، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى، وَأوصى بِالْملكِ لِسُلَيْمَان، وأوصاه بعمارة بَيت الْمُقَدّس وَعين لذَلِك عدَّة بيُوت تحتوي على جمل من الذَّهَب.
وَملك بعده " سُلَيْمَان " وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة، وآتاه اللَّهِ من الْحِكْمَة وَالْملك مَا أخبر بِهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز. وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه فِي أيار وَهِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى ابْتَدَأَ سُلَيْمَان بعمارة بَيت الْمُقَدّس، وَأقَام فِي عِمَارَته لَهُ سبع سِنِين، وَفرغ مِنْهُ فِي الْحَادِيَة عشر من ملكه، فالفراغ من عِمَارَته فِي أَوَاخِر سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى، وَكَانَ ارْتِفَاع الْبَيْت الَّذِي عمره سُلَيْمَان ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَطوله سِتِّينَ فِي عرض عشْرين ذِرَاعا، وَعمل خَارج الْبَيْت سورا محيطا بِهِ امتداده خَمْسمِائَة فِي خَمْسمِائَة، ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَار ملكه بالقدس واجتهد وشيدها وفرغها فِي ثَلَاث عشرَة سنة وانتهت فِي الرَّابِعَة وَالْعِشْرين من ملكه. وَفِي الْخَامِسَة وَالْعِشْرين من ملكه جَاءَتْهُ بلقيس ملكه الْيمن وَمن مَعهَا، وأطاعه مُلُوك الأَرْض وحملوا إِلَيْهِ النفائس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/24)
وَتُوفِّي وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة، وَمُدَّة ملكه أَرْبَعُونَ سنة، فوفاته فِي أَوَاخِر خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى.
وَملك بعده ابْنه " رحبعم " وَكَانَ رَدِيء الشكل شنيع المنظر، فأظهر الصلابة على بني إِسْرَائِيل وَقَالَ لَهُم: أَنا خنصري أغْلظ من ظهر أبي وَمهما كُنْتُم تخشون من أبي فَإِنِّي أعاقبكم بأشد مِنْهُ، فَخرج عَن طَاعَته عشرَة أَسْبَاط وَلم يبْق مَعَه غير سبطي يهوذا وبنيامين. وَملك على الْعشْرَة " بريعم " عبد سُلَيْمَان وَكَانَ كَافِرًا فَاسِقًا. وَاسْتقر لولد دَاوُد الْملك على السبطين فَقَط وعَلى بَيت الْمُقَدّس.
وَصَارَ للأسباط الْعشْرَة مُلُوك تعرف بملوك الأسباط نَحْو مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ ولد سُلَيْمَان فِي بني إِسْرَائِيل بِمَنْزِلَة الْخُلَفَاء فِينَا وملوك الأسباط مثل الْخَوَارِج. ولنقدم ذكر بني دَاوُد إِلَى حِين اجْتمعت لَهُم المملكة على جَمِيع الأسباط، ثمَّ نذْكر مُلُوك الأسباط مُتَتَابعين فَنَقُول:
اسْتمرّ رحبعم ملكا للسبطين إِلَى دُخُول السّنة الْخَامِسَة من ملكه فغزاه فِيهَا فِرْعَوْن مصر - واسْمه شيشاق - وَنهب المَال المخلف عَن سُلَيْمَان، وَزَاد رحبعم فِي عمَارَة بَيت لحم وغزة وصور وَغَيرهَا، وجدد أَيْلَة، وَولد لَهُ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ ابْنا سوى الْبَنَات، وَملك سبع عشرَة سنة، وعاش إِحْدَى وَأَرْبَعين، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى. رحبعم: بالراء وَضم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء وَضم الْعين.
وَملك بعده على قَاعِدَته ابْنه " أفيسا " - بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْفَاء العبرانية - ثَلَاث سِنِين فوفاته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى.
وَملك بعده ابْنه " إيشا " أحدى وَأَرْبَعين سنة، خرج عَلَيْهِ عَدو - قيل: من الْحَبَشَة، وَقيل: من الْهِنْد - فَهَزَمَهُ اللَّهِ بَين يَدي إيشا. فوفاته فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ بعده ابْنه " يهوشافاط " خمْسا وَعشْرين سنة، وعمره لما ملك خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَ صَالحا معتنيا بعلمائهم. وَخرج عَلَيْهِ عَدو من ولد الْعيص فِي جمع عَظِيم، فَافْتتنَ أعداؤه حَتَّى انمحقوا فغنمهم، وَاسْتمرّ ملكا خمْسا وَعشْرين سنة وَتُوفِّي، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
ثمَّ ملك ابْنه " يهورام " - بِالْمُثَنَّاةِ تَحت - بن يهوشافاط، وعمره إِذْ ذَاك اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ وَملك ثَمَانِي سِنِين فوفاته سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
ثمَّ ملك ابْنه " أحزياهو " وعمره لما ملك اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ وَملك سنتَيْن فوفاته فِي اواخر سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة والحاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وَبعده فَتْرَة سبع سِنِين بِغَيْر ملك حكمت فِيهَا سَاحِرَة أَصْلهَا من جواري سُلَيْمَان اسْمهَا عثلياهو أفنت بني دَاوُد سوى طِفْل اسْمه يواش بن أحزيو أخفوه عَنْهَا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/25)
ثمَّ ملك بعْدهَا " يواش " ابْن سبع سِنِين وَفِي السّنة الثَّالِثَة وَالْعِشْرين من ملكه رمم بَيت الْمُقَدّس وَملك أَرْبَعِينَ سنة فوفاته فِي اواخر سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة ويواش بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت وشين مُعْجمَة.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " أمصياهو " بِسُكُون الصَّاد وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين وَملك تسعا وَعشْرين سنة وَقيل خمس عشرَة وَقتل فموته فِي أَوَاخِر سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ ملك بعده " عزياهو " وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة ملك اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وبرص وتنغصت أَيَّامه عَلَيْهِ وتغلب عَلَيْهِ ابْنه يوثم فوفاة عزياهو فِي أَوَاخِر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة لوفاة مُوسَى وَهُوَ بِضَم الْعين وَتَشْديد الزَّاي.
ثمَّ ملك بعده بنه " يوثم " وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة ملك سِتّ عشرَة سنة فوفاته سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة " يوثم " بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ فتح الْمُثَلَّثَة قيل كَانَ يُونُس فِي أَيَّامه.
وَملك بعد وَفَاته ابْنه " آخر " بِمد الْهمزَة الْمُهْملَة وَبِالْحَاءِ وَالزَّاي وَهُوَ ابْن عشْرين وَملك سِتّ عشرَة سنة وَفِي الرَّابِعَة من ملكه قَصده رصين ملك دمشق و " أشعيا " النَّبِي كَانَ فِي أَيَّامه فبشر آخر بِصَرْف رصين عَنهُ بِغَيْر حَرْب فوفاة آخر فِي أَوَاخِر إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة.
وَملك بعده ابْنه " حزقيا " بِكَسْر الْحَاء وَالْقَاف وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت وَكَانَ صَالحا مظفرا ولدخول السّنة السَّادِسَة من ملكه انقرضت دولة الْخَوَارِج مُلُوك الأسباط وَتقدم ذكرهم ولنذكرهم الْآن مُخْتَصرا إِلَى حِين انْتَهوا فِي السَّادِسَة من ملك حزقيا وَهَؤُلَاء خَرجُوا بعد سُلَيْمَان على رحبعم ابْنه سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة وانقرضوا سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة فمدة ملكهم مِائَتَان وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سنة وعدتهم سَبْعَة عشر ملكا وهم يربعم ونودب وتعشو وإيلا وزمرا وتبنى وعمرى وأحوب وأحزيو وياهولرام ويهوناحان ويواش ويربعهم وَآخر ويقحو ويافح وهوشاع.
عدنا إِلَى ذكرحزقيا ملك وَهُوَ ابْن عشْرين فرغ عمره قبل مَوته بِخمْس عشرَة سنة فزاده اللَّهِ خمس عشرَة وَأمره أَن يتَزَوَّج وَأخْبرهُ بذلك نَبِي فِي زَمَانه وقصده سنحاريب ملك الجزيرة فخذل وَفتن عسكره فَرجع وَقَتله ابْنَانِ من أَوْلَاده فِي نِينَوَى ثمَّ هربا إِلَى جبال الْموصل ثمَّ إِلَى الْقُدس فَآمَنا بحزقيا واسمهما أرزمالح وسراصر وَملك بعد سنحاريب ابْنه أسرحدون وَكَانَ أشعيا النَّبِي قد أخبر بني إِسْرَائِيل أَن اللَّهِ يَكفهمْ سنحاريب بِغَيْر قتال وَعظم حزقيا وهادنه الْمُلُوك وَتُوفِّي فِي أَوَاخِر سنة سِتِّينَ وَثَمَانمِائَة.
وَملك بعده ابْنه " منشا " وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة فطغى وَفسق اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وغزاه صَاحب الجزيرة ثمَّ تَابَ تَوْبَة نصُوحًا حَتَّى مَاتَ وَملكه خمس وَخَمْسُونَ سنة فوفاته فِي أَوَاخِر سنة تِسْعمائَة وَخمْس عشرَة سنة. منشا بميم وَنون مَفْتُوحَة وشين مُعْجمَة مُشَدّدَة.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " آمون " بِهَمْزَة مُهْملَة سنتَيْن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/26)
ثمَّ بعده ابْنه " يوشيا " بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت وَسُكُون الْوَاو وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت.
ثمَّ بعده ابْنه " يهوياخين " ثَلَاثَة أشهر فغزاه فِرْعَوْن مصر - أَظُنهُ الْأَعْرَج - وأسره إِلَى مصر فَمَاتَ بهَا.
وَملك بعد أسره أَخُوهُ " يهوياقيم " وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه تولى بخْتنصر على بابل وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى، وَذَلِكَ على حكم مَا اجْتمع لنا من مدد ولايات بني إِسْرَائِيل وفتراتهم أما مَا اخْتَارَهُ المؤرخون فَهُوَ: أَن من وَفَاة مُوسَى إِلَى ابْتِدَاء ملك بخْتنصر تِسْعمائَة وثمانيا وَسبعين سنة وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِية وَأَرْبَعين يَوْمًا وَهُوَ يزِيد على مَا اجْتمع لنا من من المدد الْمَذْكُورَة فَوق سِتّ وَعشْرين سنة وَهُوَ تفَاوت قريب، وَكَانَ هَذَا النَّقْص إِنَّمَا حصل من إِسْقَاط الْيَهُود كسور المدد الْمَذْكُورَة إِذْ يبعد أَن يملك الشَّخْص عشْرين سنة أَو تسع عشرَة سنة مثلا بِلَا أشهر وَأَيَّام مَعهَا ولنؤرخ بِولَايَة بخْتنصر مَا بعْدهَا.
كَانَ ابْتِدَاء ولَايَة " بخْتنصر " فِي سنة تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى وَفِي السّنة الأولى من ولَايَة بخْتنصر فتح نِينَوَى - مَدِينَة قبالة الْموصل - وَقتل أَهلهَا وخربها وَفِي الرَّابِعَة وَهِي السَّابِعَة من ملك يهوياقيم سَار بخْتنصر إِلَى الشَّام وغزا بني إِسْرَائِيل فأطاعه يهوياقيم فأبقاه على ملكه؛ أطاعه ثَلَاث سِنِين ثمَّ عصى عَلَيْهِ فَأرْسل لإمساكه وأحضر فَمَاتَ فِي الطَّرِيق خوفًا فمدة يهوياقيم نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وانقضاؤها فِي أَوَائِل سنة ثَمَان لابتداء ملك بخْتنصر. ويهوياقيم مثنى الياءات تَحت.
وَلما أَخذ اسْتخْلف ابْنه " يخينو " فَأَقَامَ مائَة يَوْم ثمَّ أرسل بخْتنصر فَأَخذه إِلَى بابل وَهُوَ بِفَتْح الْمُثَنَّاة تَحت وَفتح الْخَاء وَسُكُون النُّون وَضم الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ وَاو وَأخذ بخْتنصر مَعَه جمَاعَة من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل مِنْهُم دانيال وحزقيل النَّبِي من نسل هَارُون وسجن يخنيو إِلَى أَن مَاتَ بخْتنصر.
وَلما أمْسكهُ نصب عَمه " صدقيا " وَاسْتمرّ فِي طَاعَته وَكَانَ أرمياء النَّبِي يعظ صدقيا وَبني إِسْرَائِيل ويهددهم ببختنصر وَلَا يلتفتون وَفِي التَّاسِعَة من ملك صدقيا عصى على بخْتنصر فَنزل بخْتنصر بالجيوش على تارين ورفنية وَبعث بالجيش مَعَ وزيره نبوزراذون بِفَتْح النُّون وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الزَّاي وَالرَّاء وبالذال الْمُعْجَمَة إِلَى حِصَار صدقيا بالقدس فحاصره سنتَيْن وَنصفا أَولهَا عَاشر تموز من التَّاسِعَة لملك صدقيا وَأخذ بعد حِصَار تِلْكَ الْمدَّة الْقُدس بِالسَّيْفِ وَأسر صدقيا وخلقا من بني إِسْرَائِيل وأحرق الْقُدس وَهدم الْبَيْت الَّذِي بناه سُلَيْمَان وَأحرقهُ وأباد بني إِسْرَائِيل قتلا وتشريدا فَكَانَ مُدَّة ملك صدقيا نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وَهُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل.
وَأما من تولى مِنْهُم بعد إِعَادَة عمَارَة بَيت الْمُقَدّس كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرياسة بِبَيْت الْمُقَدّس لَا غير فَيكون انْقِضَاء ملك بني إِسْرَائِيل وخراب بَيت الْمُقَدّس على يَد بخْتنصر سنة عشْرين من ولَايَة بخْتنصر تَقْرِيبًا وَهِي التَّاسِعَة وَالتِّسْعُونَ بعد التسْعمائَة لوفاة ... ... . . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/27)
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي أَيْضا سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة مَضَت من عمَارَة بَيت الْمُقَدّس وَهِي مُدَّة لبثه على الْعِمَارَة وَاسْتمرّ بَيت الْمُقَدّس خرابا سبعين سنة ثمَّ عمر كَمَا سَيَأْتِي، وَإِلَى هُنَا انْتهى نقلنا من كتب الْيَهُود الْمَعْرُوفَة بالأربعة وَالْعِشْرين المتواترة عِنْدهم.
" وَمن تجارب الْأُمَم " لِابْنِ مسكوية: لما غزا بخْتنصر الْقُدس وَخَرَّبَهُ وأباد بني إِسْرَائِيل أَقَامَ مِنْهُم جمَاعَة عِنْد فِرْعَوْن مصر هربا مِنْهُ فطلبهم من فِرْعَوْن مصر وَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدِي. فَلم يسلمهم فِرْعَوْن وَقَالَ، لَيْسُوا بعبيدك وَإِنَّمَا هم أَحْرَار: فقصد بخْتنصر مصر وهرب مِنْهُم جمَاعَة أَيْضا إِلَى الْحجاز وَأَقَامُوا مَعَ الْعَرَب - من كتاب أبي عِيسَى - ثمَّ بعد ذَلِك قصد بخْتنصر صور وحاصرها فَأرْسل أَهلهَا أَمْوَالهم فِي الْبَحْر فَأرْسل اللَّهِ على السفن ريحًا فغرقت وَملك صور بِالسَّيْفِ وَقتل صَاحبهَا وَلم يجد فِيهَا كسبا طائلا ثمَّ سَار بخْتنصر إِلَى مصر وَقَاتل فِرْعَوْن الْأَعْرَج فانتصر بخْتنصر عَلَيْهِ وَقَتله وصلبه وَحَازَ ذخائر مصر وسبى قبط مصر وَغَيرهم وَصَارَت مصر خرابا أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ غزا الْمغرب وَعَاد إِلَى بِلَاده بِبَابِل وَسَنذكر أَخْبَار بخْتنصر ووفاته مَعَ الْفرس إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
" وَأما بَيت الْمُقَدّس " فعمر بعد لبثه على التخريب سبعين سنة عمره بعض مُلُوك الْفرس واسْمه عِنْد الْيَهُود كيرش فَقيل هُوَ دَارا بن بهمن وَقيل هُوَ بهمن وَهُوَ الْأَصَح يشْهد بِصِحَّتِهِ كتاب أشيعا كَمَا سنذكر عِنْد ذكر أزدشير بهمن الْمَذْكُور مَعَ مُلُوك الْفرس فتراجعت إِلَى الْقُدس بَنو إِسْرَائِيل وَكَانَت عِمَارَته فِي أول سنة تسعين لابتداء ولَايَة بخْتنصر.
وَمن جملَة العائدين إِلَى الْمُقَدّس " عُزَيْر " عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ بالعراق وَقدم مَعَه أَلفَانِ أَو يزِيدُونَ من بني إِسْرَائِيل الْعلمَاء وَغَيرهم وترتب مَعَ عُزَيْر بالقدس مائَة وَعِشْرُونَ شَيخا من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَكَانَت التَّوْرَاة قد عدمت مِنْهُم إِذْ ذَاك فمثلها اللَّهِ فِي صدر العزير ووضعها لبني إِسْرَائِيل يعرفونها بحلالها وحرامها فَأَحبُّوهُ وَأصْلح أَمرهم وَمن كتب الْيَهُود أَن العزير لبث يدبر بني إِسْرَائِيل فِي الْقُدس حَتَّى توفّي بعد أَرْبَعِينَ سنة لعمارة بَيت الْمُقَدّس فَتكون وَفَاة العزير سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة لابتداء ولَايَة بخْتنصر واسْمه بالعبراني عزرا من ولد فينحاس بن العزر بن هَارُون بن عمرَان.
وَمِنْهَا أَن الَّذِي تولى رياستهم بعده شَمْعُون الصّديق من نسل هَارُون أَيْضا، وَمن كتاب أبي عِيسَى أَنهم لما تراجعوا إِلَى الْقُدس صَار حكامهم مِنْهُم تَحت حكم الْفرس حَتَّى ظهر الْإِسْكَنْدَر فِي سنة أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ لولاية بخْتنصر، وغلبت اليونان على الْفرس فَدخل بَنو إِسْرَائِيل حِينَئِذٍ تَحت حكم اليونان وَأَقَامُوا ولاتهم مِنْهُم أَيْضا.
وَكَانَ يُقَال للمتولي عَلَيْهِم " هيرذوش " وَقيل هرذوش واستمروا كَذَلِك حَتَّى خرب بَيت الْمُقَدّس الخراب الثَّانِي وتشتت مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل كَمَا سَيذكرُ.
عدنا إِلَى ذكر من كَانَ من الْأَنْبِيَاء فِي أَيَّام بني إِسْرَائِيل ذكر " يُونُس " ابْن مَتى عَلَيْهِ السَّلَام، مَتى أمه. وَلم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير عِيسَى وَيُونُس عَلَيْهِمَا السَّلَام قيل أَن يُونُس من ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/28)
بني إِسْرَائِيل وَأَنه من سبط بنيامين وَقيل بعث يُونُس فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى أهل نِينَوَى قبالة الْموصل بَينهمَا دجلة فنهاهم عَن الْأَصْنَام وأوعدهم بِالْعَذَابِ فِي يَوْم مَعْلُوم إِن لم يتوبوا وَضمن ذَلِك عَن ربه عز وَجل فَلَمَّا أظلهم الْعَذَاب آمنُوا فكشفه اللَّهِ عَنْهُم وَجَاء يُونُس لذَلِك الْيَوْم فَلم ير الْعَذَاب حل وَلَا علم بإيمَانهمْ فَذهب مغاضبا.
قَالَ ابْن سعيد: وَدخل فِي سفينة بدجلة فوقفت السَّفِينَة فَقَالَ رئيسها: فِيكُم من لَهُ ذَنْب، وتساهموا على من يلقونه فِي الْبَحْر فَوَقَعت المساهمة على يُونُس فَرَمَوْهُ فالتقمه الْحُوت وَسَار بِهِ إِلَى الإبلة وَكَانَ من شَأْنه مَا أخبر اللَّهِ بِهِ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم.
ذكر " أرميا " تقدم أَن أرميا كَانَ فِي أَيَّام صدقيا وَبَقِي أرميا يَأْمر بني إِسْرَائِيل بِالتَّوْبَةِ ويتهددهم ببختنصر فَلَمَّا لم يرجِعوا فارقهم أرميا واختفى حَتَّى غزاهم بخْتنصر وَخرب الْقُدس كَمَا مر. قَالَ ابْن سعيد: أوحى اللَّهِ إِلَى أرميا أَنِّي عَامر بَيت الْمُقَدّس فَاخْرُج إِلَيْهَا فَخرج إِلَى الْقُدس وَهِي خراب فَقَالَ فِي نَفسه سُبْحَانَ اللَّهِ أَمرنِي اللَّهِ أَن انْزِلْ هَذِه الْبَلدة وَأَخْبرنِي أَنه عامرها فَمَتَى يعمرها وَمَتى يُحْيِيهَا اللَّهِ بعد مَوتهَا فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَاره وسلة فِيهَا طَعَام وَكَانَ من قصَّته كَمَا قَالَ اللَّهِ {أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على عروشها قَالَ أَنِّي يحيى هَذِه اللَّهِ بعد مَوتهَا فأماته اللَّهِ مائَة عَام ثمَّ بَعثه} الْآيَة. وَقيل صَاحب هَذِه الْقِصَّة العزير وَالأَصَح أَنه أرميا.
ذكر " نقل التَّوْرَاة " وَغَيرهَا من العبرانية إِلَى اللُّغَة اليونانية من كتاب أبي عِيسَى لما ملك الْإِسْكَنْدَر وَعظم ملك اليونان وقهروا الْفرس أطاعهم بَنو إِسْرَائِيل وَغَيرهم وتولت مُلُوك اليونان بعد الْإِسْكَنْدَر وَكَانَ يُقَال لكل وَاحِد مِنْهُم بطليموس وَذَلِكَ أَن الْإِسْكَنْدَر مَاتَ فَملك بعده بطليموس بن لاغوس ابْن عشْرين سنة ثمَّ ملك بعده بطليموس محب أَخِيه فَوجدَ نَحْو ثَلَاثِينَ ألف أَسِير من الْيَهُود فَأعْتقهُمْ وَأمرهمْ بالعودة إِلَى بِلَادهمْ ففرح بَنو إِسْرَائِيل بذلك وَأرْسل رَسُولا إِلَى بني إِسْرَائِيل المقيمين بالقدس وَطلب مِنْهُم أَن يرسلوا إِلَيْهِ عدَّة من عُلَمَائهمْ لنقل التَّوْرَاة وَغَيرهَا إِلَى اللُّغَة اليونانية فسارعوا إِلَى أمره وازدحموا على الرواح إِلَيْهِ ثمَّ اتَّفقُوا أَن يبعثوا من كل سبط من أسباطهم سِتَّة نفر فبلغوا اثْنَيْنِ وَسبعين رجلا فَلَمَّا وصلوا إِلَى بطليموس أحسن قراهم وصيرهم سِتا وَثَلَاثِينَ فرقة وَخَالف بَين أسباطهم وَأمرهمْ فترجموا لَهُ سِتا وَثَلَاثِينَ نُسْخَة بِالتَّوْرَاةِ وقابل بطليموس بَعْضهَا بِبَعْض فَوَجَدَهَا مستوية لم فترجموا لَهُ سِتا وَثَلَاثِينَ نُسْخَة بِالتَّوْرَاةِ وقابل بطليموس بَعْضهَا بِبَعْض فَوَجَدَهَا مستوية لم تخْتَلف اخْتِلَافا يعْتد بِهِ وَفرق النّسخ الْمَذْكُورَة فِي بِلَاده، وَبعد فراغهم من التَّرْجَمَة وصلهم وجهزهم إِلَى بلدهم وَسَأَلَهُ المذكورون نُسْخَة من تِلْكَ النّسخ فأسعفهم بنسخة وعادوا بهَا إِلَى بَيت الْمُقَدّس.
فنسخة التَّوْرَاة المنقولة لبطليموس حِينَئِذٍ أصح التَّوْرَاة وأثبتها وَقد تقدم ذكرهَا وَذكر نُسْخَة الْيَهُود ونسخة السامرة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/29)
(ذكر زَكَرِيَّا وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام)
قَالَ ابْن سعيد فِي كِتَابه: زَكَرِيَّا من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد نَبِي مَذْكُور فِي الْقُرْآن كَانَ نجارا وَهُوَ الَّذِي كفل مَرْيَم أم عِيسَى وَكَانَت مَرْيَم بنت عمرَان بن ماثان من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد وَأم مَرْيَم اسْمهَا حنه وَكَانَ زَكَرِيَّا متزوجا أُخْت حنه وَاسْمهَا إيساع فَكَانَت زوج زَكَرِيَّا خَالَة مَرْيَم وَلذَلِك كفل مَرْيَم فَلَمَّا كَبرت بنى لَهَا زَكَرِيَّا غرفَة فِي الْمَسْجِد وانقطعت فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ لَا يدْخل على مَرْيَم غير زَكَرِيَّا وَأرْسل اللَّهِ جِبْرِيل فبشر زَكَرِيَّا بيحيي مُصدقا بِكَلِمَة من اللَّهِ يَعْنِي عِيسَى ابْن مَرْيَم ثمَّ أرسل جِبْرِيل وَنفخ فِي جيب مَرْيَم فَحملت بِعِيسَى وَكَانَت قد حملت خَالَتهَا إساع بِيَحْيَى وَولد يحيى قبل الْمَسِيح بِسِتَّة أشهر ثمَّ ولدت مَرْيَم عِيسَى وَعلمت الْيَهُود ولادَة مَرْيَم لعيسى من غير بعل فاتهموا بهَا زَكَرِيَّا فهرب واختفى فِي شَجَرَة عَظِيمَة فَقطعُوا الشَّجَرَة وَقَطعُوا زَكَرِيَّا مَعهَا وَكَانَ عمره نَحْو مائَة سنة. ولد الْمَسِيح لمضي ثلثمِائة وَثَلَاث سِنِين للإسكندر.
وَقتل زَكَرِيَّا بعد وِلَادَته فَيكون مقتل زَكَرِيَّا بعده بِقَلِيل " وَيحيى " ابْنه نبىء صَغِيرا ودعا إِلَى عبَادَة اللَّهِ تَعَالَى وَلبس الشّعْر واجتهد حَتَّى نحل وَكَانَ عِيسَى قد حرم نِكَاح بنت الْأَخ وَكَانَ لهردوس الْحَاكِم على بني إِسْرَائِيل بنت أَخ أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا حَسْبَمَا هُوَ جَائِز فِي دين الْيَهُود فَنَهَاهُ يحيى فطلبت أم الْبِنْت من هردوس قتل يحيى فَامْتنعَ فعاودته هِيَ وَالْبِنْت وألحت فَأمر بِيَحْيَى فذبح لديهما قبل رفع الْمَسِيح بِمدَّة يسيرَة لِأَن عِيسَى ابْتَدَأَ بالدعوة وَله ثَلَاثُونَ سنة وَلما أمره اللَّهِ ان يَدْعُو النَّاس إِلَى دين النَّصَارَى غمسه يحيى فِي نهر الْأُرْدُن ولعيسى نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَخرج من الغمس وابتدأ بالدعوة وَجَمِيع مَا لبث الْمَسِيح بعد ذَلِك ثَلَاث سِنِين فذبح يحيى كَانَ بعد مُضِيّ ثَلَاثِينَ سنة من عمر عِيسَى وَقيل رَفعه وَرفع عِيسَى بعد نبوته بِثَلَاث سِنِين وَالنَّصَارَى تسمي يحيى يوحنا المعمدان لكَونه عمد الْمَسِيح.
(ذكر عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام)
مَرْيَم أمهَا حنه زوج عمرَان كَانَت حنه لَا تَلد واشتهت الْوَلَد فدعَتْ ونذرت إِن رزقت ولدا جعلته من سدنة بَيت الْمُقَدّس فَحملت حنه وَهلك زَوجهَا عمرَان وَهِي حَامِل فَولدت بِنْتا سمتها مَرْيَم مَعْنَاهُ العابدة ثمَّ حملتها وَأَتَتْ بهَا الْمَسْجِد ووضعتها عِنْد الْأَخْبَار وَقَالَت دونكم هَذِه الْمَنْذُورَة فتنافسوا فِيهَا لِأَنَّهَا بنت عمرَان وَكَانَ من أئمتهم فَقَالَ زَكَرِيَّا أَنا أَحَق بهَا لِأَن خَالَتهَا زَوْجَتي فَأخذ زَكَرِيَّا وَضمّهَا إِلَى إيساع خَالَتهَا وَكَانَ مَا قدمْنَاهُ، وَولدت مَرْيَم عِيسَى فِي بَيت لحم سنة أَربع وثلثمائة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
{فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا} وَأخذُوا الْحِجَارَة ليرجموها فَتكلم عِيسَى وَهُوَ فِي المهد مُعَلّقا فِي منكبها {قَالَ إِنِّي عبد اللَّهِ آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا} فَلَمَّا سمعُوا كَلَام ابْنهَا تركوها ثمَّ أَخَذته مَرْيَم وسارت بِهِ إِلَى مصر مَعَ ابْن عَمها يُوسُف النجار بن يَعْقُوب بن ماثان وَكَانَ نجارا حكيما وَيَزْعُم بَعضهم أَن يُوسُف كَانَ تزوج مَرْيَم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/30)
لَكِن لم يقربهَا وَهُوَ أول من أنكر حملهَا ثمَّ تحقق براءتها وَسَار مَعهَا إِلَى مصر وَأَقَامَا هُنَاكَ اثْنَتَيْ عشرَة سنة.
ثمَّ عَاد عِيسَى وَأمه إِلَى الشَّام وَنزلا الناصرة وَبهَا سميت النَّصَارَى أَقَامَ بهَا حَتَّى بلغ ثَلَاثِينَ سنة فَأرْسل.
من كتاب أبي عِيسَى: لما صَار لَهُ ثَلَاثُونَ سَار إِلَى الْأُرْدُن وَهُوَ شَرِيعَة الْغَوْر فاعتمد وابتدأ بالدعوة ولستة أَيَّام خلت من كانون الثَّانِي لمضي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلثمائة للإسكندر، وَأظْهر عِيسَى المعجزات فأحيا عازر بعد ثَلَاثَة أَيَّام من مَوته وَجعل من الطين طيرا قيل هُوَ الخفاش وَأَبْرَأ الأكمة والأبرص وَمَشى على المَاء وَأنزل اللَّهِ عَلَيْهِ الْمَائِدَة وَأوحى إِلَيْهِ الْإِنْجِيل.
من كتاب ابْن سعيد المغربي: لبس عِيسَى الصُّوف وَالشعر وَأكل من نَبَات الأَرْض، وَرُبمَا تقوت من غزل أمه والحواريون الَّذين اتَّبعُوهُ اثْنَا عشر وهم: شَمْعُون الصَّفَا وشمعون القناني وَيَعْقُوب بن زندي وَيَعْقُوب بن حلقي وقولوس ومارقوس وأندراوس وتمريلا ويوحنا ولوقا وتوما وَمَتى، وَهَؤُلَاء هم سَأَلُوهُ نزُول الْمَائِدَة فَسَأَلَ ربه فأنزلها سفرة حَمْرَاء مغطاة بمنديل فِيهَا سَمَكَة مشوية وحولها الْبُقُول مَا خلا الكراث وَعند رَأسهَا الْملح وَعند ذنبها خل وَمَعَهَا خَمْسَة أرغفة على بَعْضهَا زيتون وعَلى بَاقِيهَا رمان وتمر فَأكل مِنْهَا خلق كثير وَلم تنقص وَلم يَأْكُل مِنْهَا ذُو عاهة إِلَّا برأَ كَانَت تنزل يَوْمًا وتغيب يَوْمًا أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
قَالَ ابْن سعيد: وَلما أعلم اللَّهِ الْمَسِيح أَنه خَارج من الدُّنْيَا جزع من ذَلِك فَدَعَا الحواريين وصنع لَهُم طَعَاما وَقَالَ لَهُم احضروني اللَّيْلَة فَإِن بِي إِلَيْكُم حَاجَة فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِاللَّيْلِ عشاهم وَقَامَ يخدمهم فَلَمَّا فرغوا من الطَّعَام أَخذ يغسل أَيْديهم ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذَلِك فَقَالَ: من رد عَليّ شَيْئا مِمَّا أصنع فَلَيْسَ مني فَتَرَكُوهُ حَتَّى إِذا فرغ قَالَ: إِنَّمَا فعلت ذَلِك ليَكُون لكم إسوة بِي فِي خدمَة بَعْضكُم بَعْضًا وَأما حَاجَتي إِلَيْكُم فَإِن تجتهدوا لي فِي الدُّعَاء إِلَى اللَّهِ أَن يُؤَخر أَجلي فَلَمَّا أَرَادوا ذَلِك ألْقى اللَّهِ عَلَيْهِم النّوم حَتَّى لم يستطيعوا الدُّعَاء وَجعل الْمَسِيح يوقظهم ويؤنبهم فَلَا يزدادون إِلَّا نوما وتكاسلا وأعلموه أَنهم مغلوبون عَن ذَلِك فَقَالَ الْمَسِيح: سُبْحَانَ اللَّهِ يذهب بالراعي فتتفرق الْغنم.
ثمَّ قَالَ لَهُم: الْحق أَقُول لكم ليكفرن بِي أحدكُم قبل أَن يَصِيح الديك وليبيعني أحدكُم بدارهم يسيرَة ويأكلن ثمني، وَكَانَت الْيَهُود قد جدت فِي طلبه فَحَضَرَ بعض الحواريين إِلَى هرودس الْحَاكِم على الْيَهُود وَإِلَى جمَاعَة من الْيَهُود وَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لي إِذا دللتكم على الْمَسِيح، فَجعلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ درهما فَأَخذهَا ودلهم عَلَيْهِ فَرفع اللَّهِ تَعَالَى الْمَسِيح إِلَيْهِ وَألقى شبهه على الَّذِي دلهم عَلَيْهِ وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مَوته قبل رَفعه فَقيل رفع وَلم يمت وَقيل توفاه اللَّهِ ثَلَاث سَاعَات وَقيل سبع سَاعَات ثمَّ أَحْيَاهُ وَتَأَول قَائِل هَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنِّي متوفيك} وربط الْيَهُود الشَّخْص الْمُشبه بِهِ وقادوه بِحَبل وَيَقُولُونَ لَهُ أَنْت كنت تحيي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/31)
الْمَوْتَى أَفلا تخلص نَفسك من هَذَا الْحَبل ويبصقون فِي وَجهه ويلقون عَلَيْهِ الشوك وصلبوه على الْخشب سِتّ سَاعَات.
ثمَّ استوهبه يُوسُف النجار من الْحَاكِم الَّذِي كَانَ على الْيَهُود واسْمه فيلاطون ولقبه هردوس وَدَفنه يُوسُف فِي قبر كَانَ يُوسُف قد أعده لنَفسِهِ.
وَأنزل اللَّهِ الْمَسِيح من السَّمَاء إِلَى أمه مَرْيَم وَهِي تبْكي فَقَالَ لَهَا: إِن اللَّهِ رفعني إِلَيْهِ وَلم يُصِبْنِي إِلَّا الْخَيْر وأمرها فَجمعت لَهُ الحواريين فبثهم فِي الأَرْض رسلًا عَن اللَّهِ وَأمرهمْ أَن يبلغُوا عَنهُ مَا أمره اللَّهِ بِهِ ثمَّ رَفعه اللَّهِ إِلَيْهِ وتفرق الحواريون حَيْثُ أَمرهم وَكَانَ رَفعه لمضي ثلثمِائة وست وَثَلَاثِينَ سنة من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا.
قَالَ الشهرستاني: ثمَّ أَن أَرْبَعَة من الحواريين مَتى ولوقا وبرقس ويوحنا اجْتَمعُوا وَجمع كل وَاحِد مِنْهُم إنجيلا، وخاتمة إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ: إِنِّي أرسلتكم إِلَى الْأُمَم كَمَا أَرْسلنِي أبي إِلَيْكُم فاذهبوا وَادعوا الْأُمَم باسم الْأَب والإبن وروح الْقُدس.
قلت: تَعَالَى اللَّهِ عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَكَانَ بَين رفع الْمَسِيح ومولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة تَقْرِيبًا وَكَانَت ولادَة الْمَسِيح أَيْضا لمضي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة من أول ملك أغسطس ولمضي إِحْدَى وَعشْرين سنة من غلبته على قلوبطرا لِأَن أغسطس لمضي اثْنَتَيْ عشرَة سنة من ملكه سَار من رُومِية وَملك ديار مصر وَقتل قلوابطرا ملكه اليونان وَبعد إِحْدَى وَعشْرين سنة من غلبته على قلوبطرا ولد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَقيل غير ذَلِك لَكِن هَذَا الْأَقْوَى، وَمُدَّة ملك أغسطس ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ سنة وعاش الْمَسِيح إِلَى أَن رفع ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وَثَلَاثَة سنة وَثَلَاثَة أشهر فَيكون رفع الْمَسِيح بعد موت أغسطس بِثَلَاث وَعشْرين سنة فِي أَوَاخِر السّنة من ملك غانيوس وَسَنذكر أمة عِيسَى النَّصَارَى مَعَ بَاقِي الْأُمَم فِي الْفَصْل الْخَامِس.
وَمَرْيَم أم عِيسَى عاشت نَحْو ثَلَاث وَخمسين سنة حملت بالمسيح وَلها ثَلَاث عشرَة سنة وَعَاشَتْ مجتمعه مَعَه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وكسرا وَبقيت بعد رَفعه سِتّ سِنِين.
وَاعْلَم أَنه لما ظهر الْمَسِيح أَرَادَ هردوس قَتله وَاسم هردوس فيلاطوس فَرفع وَجرى مَا تقدم ذكره وَكَانَ عمر الْمَسِيح عِنْد موت أغسطس عشر سِنِين تَقْرِيبًا وَرَفعه بعد موت أغسطس بِنَحْوِ ثَلَاث وَعشْرين سنة وَالَّذِي ملك بعد أغسطس طيباريوس اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ غانيوس أَربع سِنِين ثمَّ فلوذيوس أَربع عشرَة سنة ثمَّ يارون ثَلَاث عشرَة سنة.
ثمَّ ملك آخر قيل اسْمه أوشاسبانوس وَقيل أسفسيشوس عشر سِنِين.
ثمَّ ملك بعده طيطوس، وَفِي السّنة الأولى من ملكه قصد بَيت الْمُقَدّس وأوقع باليهود وقتلهم وأسرهم عَن آخِرهم إِلَّا من اختفى وَنهب الْقُدس وأحرق الهيكل واحرق كتبهمْ وخلا الْقُدس من بني إِسْرَائِيل كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَلم تعد لَهُم بعد ذَلِك رياسة وَلَا حكم وَذَلِكَ بعد رفع الْمَسِيح بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سنة فخرب بَيت الْمُقَدّس ثَانِيًا وتشتت الْيَهُود التشتت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/32)
الَّذِي لم يعودوا بعده لأربعين سنة من رفع الْمَسِيح ولثلثمائة وست وَسبعين من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر ولثمانمائة وَإِحْدَى عشرَة لابتداء ملك بخْتنصر فَلبث بَيت الْمُقَدّس على عِمَارَته الأولى كَذَلِك إِلَى أَن خربه بخْتنصر أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثًا وَخمسين سنة ثمَّ لبث على التخريب سبعين سنة ثمَّ عمر ولبث على عِمَارَته الثَّانِيَة إِلَى حِين خربه طيطوس التخريب الثَّانِي سَبْعمِائة وَإِحْدَى وَعشْرين سنة، وَفِي العزيزي لِلْحسنِ بن أَحْمد المهلبي فِي المسالك والممالك أَن بَيت الْمُقَدّس بعد أَن خربه طيطوس ثَانِيًا كَمَا مر تراجع إِلَى الْعِمَارَة قَلِيلا قَلِيلا وترمم وَاسْتمرّ عَامِرًا وَهِي عِمَارَته الثَّالِثَة حَتَّى سَارَتْ هيلانة أم قسطنطين إِلَى الْقُدس فِي طلب خَشَبَة الْمَسِيح الَّتِي زعم النَّصَارَى صلب الْمَسِيح عَلَيْهَا.
وَلما وصلت إِلَى الْقُدس بنت كَنِيسَة قمامة على الْقَبْر الَّذِي زعم النَّصَارَى أَنه قبر عِيسَى وَخَربَتْ هيكل بَيت الْمُقَدّس وَأمرت أَن تلقى فِيهِ قمامات الْبَلَد وزبالته فَصَارَ مَوضِع الصَّخْرَة مزبلة.
وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى قدم عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَفتح الْقُدس فدله بَعضهم على مَوضِع الهيكل فنظفه عمر من الزبائل وَبنى بِهِ مَسْجِدا إِلَى أَن تولى الْوَلِيد بن عبد الْملك فهدم الْمَسْجِد وَبنى على الأساس الْقَدِيم الْمَسْجِد الْأَقْصَى وقبة الصَّخْرَة وَبنى هُنَاكَ قبابا أَيْضا سمى بَعْضهَا قبَّة الْمِيزَان وَبَعضهَا قبَّة الْمِعْرَاج وَبَعضهَا قبَّة السلسلة وَالْأَمر على ذَلِك إِلَى يَوْمنَا هَذَا.
وخلاصة مَا ذكر أَن هيكل بَيت الْمُقَدّس عمره سُلَيْمَان وَبَقِي حَتَّى خربه بخْتنصر أَولا ثمَّ عمره كورش ثَانِيًا وَبَقِي حَتَّى خربه طيطوس ثَانِيًا ثمَّ تراجع للعمارة قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى خربته هيلانة أم قسطنطين ثَالِثا ثمَّ عمره عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ رَابِعا ثمَّ خرب وعمره الْوَلِيد خَامِس عمَارَة وَهِي إِلَى الْآن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/33)
(الْفَصْل الثَّانِي)
(فِي ذكر مُلُوك الْفرس)
كَانُوا أعظم مُلُوك الأَرْض قَدِيما وترتيبهم لَا يماثلهم غَيرهم فِيهِ وهم أَربع طَبَقَات
طبقَة أولى: يُقَال لَهَا الفيشدادية لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ فيشداد وَمَعْنَاهُ أول سيرة الْعدْل وهم تِسْعَة أوشهنج وطهمورث وجمشيذ وبيوراسب وَهُوَ الضَّحَّاك وأفريدون بن القيان ومنوجهر وأفراسياب وكرشاسب وزو، هذهه طبقَة قديمَة.
وطبقة ثَانِيَة: يُقَال لَهُم الكيانية أَي فِي أول أسمائهم لَفْظَة كي للتنزيه مَعْنَاهَا الروحاني وَقيل الْجَبَّار وهم تِسْعَة أَيْضا كيقباذ وكيكاوس وكيخسرو وكيلهراسب وكيشاسف وكي أزدشير بهمن وهماي بنت أزدشير بهمن ودارا الأول ودارا الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي قَتله الْإِسْكَنْدَر وَاسْتولى على ملكه.
وطبقة ثَالِثَة: وهم بعض مُلُوك الطوائف وَيُقَال لَهُم الأشغانية وعدتهم أحد عشر: أشغا بن أشغان وَيُقَال أَشك بن أشكان وشابور بن أشغان وأورمز بن أشغان وبيزن الأشغاني وجودرز الأشغاني ونرسي الأشغاني وهرمز الأشغاني وخسروا الأشغاني وبلاش الأشغاني وأردوان الْأَصْغَر الأشغاني.
وطبقة رَابِعَة: وهم الأكاسرة لِأَن كل وَاحِد يُقَال لَهُ كسْرَى وَيُقَال لَهُم الساسانية نِسْبَة إِلَى جدهم ساسان.
وَملك مِنْهُم عدَّة من النِّسَاء بعد الْهِجْرَة وَاسْتولى عَلَيْهِم غَيرهم من الْفرس وأولهم أزدشير بابك وَآخرهمْ يزدجرد قتل أَيَّام عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
الطَّبَقَة الأولى: الفيشدادية: أوشهنج أول من رتب الْملك وَوضع الْخراج ملكه بعد الطوفان بِمِائَتي سنة وَقيل كَانُوا قبل الطوفان وَكَذَا تَقول الْفرس وَيُنْكِرُونَ الطوفان ويزعمون أَن ملك مُلُوكهمْ لم يَنْقَطِع وَلم يشْتَهر بعد أوشهنج غير طهمورث وَبَينه وَبَين أوشهنج عدَّة آبَاء وسلك سيرة جده وَهُوَ أول من كتب بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَبعده " جمشيذ " بجيم مَفْتُوحَة وشين منقوطة ومثناة تَحت وذال منقوطة أَخُو طهمورث لِأَبَوَيْهِ؛ وجم: الْقَمَر، وشيذ: الشعاع أَي شُعَاع الْقَمَر، وَكَذَلِكَ يسمون خورشيذ أَي شُعَاع الشَّمْس؛ فخور اسْم الشَّمْس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/34)
جمشيذ ملك الأقاليم السَّبْعَة وَزَاد فِي صَلَاح السِّيرَة وأحدث النيروز عيدا يتنعمون فِيهِ وَوضع لكل أَمر من الْأُمُور خَاتمًا مَخْصُوصًا فَكتب على خَاتم الْحَرْب الرِّفْق والمداراة وعَلى خَاتم الْخراج الْعدْل والعمارة وعَلى خَاتم الْبَرِيد وَالرسل الصدْق وَالْأَمَانَة وعَلى خَاتم الْمَظَالِم السياسة والانتصاف، وَبقيت رسوم تِلْكَ الْخَوَاتِم حَتَّى محاها الْإِسْلَام ثمَّ بدل سيرته بالتكبر والجبرية على وزرائه وقواده وآثر اللَّذَّات فَتَبِعَهُ بيوراسب حَتَّى قَتله بِالْمِنْشَارِ.
ثمَّ ملك " بيوراسب " الضَّحَّاك وَيُقَال لَهُ الدهاك مَعْنَاهُ عشر آفَات فعرب فَقيل الضَّحَّاك سَار بالعنف والفجور وَالْقَتْل والمكس وَاللَّهْو وَكَانَ على مَنْكِبَيْه سلعتان يحركهما إِذا شَاءَ فَادّعى أَنَّهُمَا حيتان تهويلا.
وَلما أَشْتَدّ جوره ظهر بأصفهان " كابي " قتل لَهُ الضَّحَّاك ابْنَيْنِ فَأخذ كابي عَصا وعلق بطرفها جرابا وَيُقَال كَانَ حدادا وَالَّذِي علقه قطع الحداة وحض النَّاس على مجاهدة بيوراسب واستفحل أمره وَبَقِي ذَلِك الْعلم عِنْد الْفرس ورصعوه بالجواهر وسموه " درفش كابيان ".
فهرب بيوراسب وَأبي كابى أَن يتَمَلَّك لكَونه لَيْسَ من بَيت الْملك وَأمرهمْ فملكوا أفريدون بن القيان من أَوْلَاد جمشيذ واحتوى على منَازِل بيوراسب وأمواله وأسره بدماوند وَقَتله وَكَانَ النَّبِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَاخِر أَيَّام الضَّحَّاك وَلذَلِك زعم قوم أَنه نمروذ أَو أَن نمروذ عَامل من عماله وَيَزْعُم كل من الْفرس والسريان وَالْعرب أَن الضَّحَّاك مِنْهُم.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم فِي أول ملك أفريدون وَقيل هُوَ ذُو القرنين وَسَار فِي النَّاس بِأَحْسَن سيرة ورد مظالم الضَّحَّاك وَكَانَ لأفريدون ثَلَاثَة أَوْلَاد فقسم الأَرْض بَينهم أَثلَاثًا:
أحدهم " إيرج " جعل لَهُ الْعرَاق والهند والحجاز وَجعله صَاحب التَّاج والسرير وولاه على أَخَوَيْهِ.
وَالثَّانِي " سلم " جعل لَهُ الرّوم وديار مصر وَالْمغْرب.
وَالثَّالِث " طوج " جعل لَهُ الصين وَالتّرْك والمشرق جَمِيعه وَلما مَاتَ أفريدون وثب طوج وَسلم على إيرج فقتلاه واقتسما بِلَاده وملكا الأَرْض وَنَشَأ لإيرج ابْنه منوجهر حقد على عميه وتغلب على ملك أَبِيه وتقوى وَسَار نَحْو التّرْك فَقتل طوج ثمَّ قتل سلم عميه وَأدْركَ ثأر أَبِيه مِنْهُمَا.
ثمَّ نَشأ من ولد طوج ابْنه " أفراسياب " حشد وَحَارب منوهجر بن إيرج وحاصره بطبرستان ثمَّ اصطلحا وَجعلا نهر بَلخ حدا بَينهمَا وَفِي أَيَّام منوجهر ظهر مُوسَى وَذكروا أَن فِرْعَوْن مُوسَى وَهُوَ الْوَلِيد بن الريان كَانَ عَاملا لمنوجهر فتغلب أفراسياب على ملك فَارس وأفسد وَخرب.
ثمَّ ظهر " زو " بن طهماسب من أَوْلَاد منوجهر فطرد أفراسياب إِلَى بِلَاد التّرْك بعد حروب وَأحسن السِّيرَة وَعمر وَأصْلح واستخرج للسواد نهر الزاب وَبنى على حافتيه مَدِينَة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/35)
وَكَانَ وزيره كرشاسف من أَوْلَاد طوج بن أفريدون وَقيل اشْتَركَا فِي الْملك.
ذكر الطَّبَقَة الثَّانِيَة وهم الكيانية: ملك بعد هَلَاك كرشاسف كيقباذ بن زو واشبه أَبَاهُ فِي الْخَيْر وَعمارَة الْبِلَاد.
ثمَّ هلك وَملك بعده " كيكاوس " بن كينية بن كيقباذ الْمَذْكُور فَشدد على أعدائه وَقتل خلقا من عُظَمَاء الْبِلَاد وَله ابْن اسْمه سياوش بسين مُهْملَة وَالْأُخْرَى منقوطة كَانَ فِي نِهَايَة الْجمال سلمه أَبوهُ إِلَى رستم الشَّديد نَائِب مملكة سجستان فرباه كَمَا يَنْبَغِي وأتى بِهِ إِلَى وَالِده كيكاوس وَهُوَ فِي نِهَايَة الْأَدَب والفروسية ففرح بِهِ وولاه مَمْلَكَته.
وَكَانَ لكيكاوس زَوْجَة مبدعة الْحسن فهويت سياوش وأعلمته فَامْتنعَ وراجعته حَتَّى طاوعها وتعاشقا شَدِيدا مبرحا وَفِي الآخر علم كيكاوس بذلك فَمنع ابْنه من الدَّار وضربها وحبسها ثمَّ أرضاها فَأرْسلت مَعَ بعض الخصيان إِلَى سياوش تَقول إِن عاهدتني أَن تتَزَوَّج بِي قتلت أَبَاك فَعرف الْخصي كيكاوس بذلك فحبسها وَمنع سياوش من الدُّخُول إِلَيْهِ فَسَأَلَ سياوش رستما الَّذِي رباه أَن يشفع إِلَيْهِ أَن يُرْسِلهُ إِلَى حَرْب أفراسياب ملك التّرْك فَأرْسلهُ مَعَ جَيش فَصَالحه أفراسياب على مَا أَرَادَ وَأرْسل إِلَى أَبِيه يُعلمهُ بذلك فَأنْكر عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بُد من الْحَرْب فَلم يُمكن سياوش الْغدر بأفراسياب وَلَا الرُّجُوع إِلَى وَالِده لما ذكر فهرب سياوش إِلَى أفراسياب فَأكْرمه وزوجه ابْنَته ثمَّ أَن أَوْلَاد أفراسياب أغروا والدهم بقتل سياوش وخوفوه عاقبته فَقتله وَبنت أفراسياب حُبْلَى مِنْهُ فَأَرَادَ أَبوهَا قَتلهَا ثمَّ تَركهَا فَولدت ابْنا وَسمع كيكاوس بذلك فَقتل زَوجته لكَون ذَلِك بِسَبَبِهَا وَأرْسل شطارا فِي زِيّ التُّجَّار بِالْمَالِ فسرقوا لَهُ ابْن سياوش وَزَوجته وَاسم الْوَلَد كيخسرو ثمَّ أَن كيكاوس قرر الْملك لِابْنِ ابْنه كيخسرو.
وَهلك وَاسْتمرّ " كيخسروا " ملكا وَقَوي فقصد جده أَبَا أمه أفراسياب طَالبا ثأر أَبِيه سياوش وَجَرت حروب وَفِي الآخر ظفر كيخسروا بأفراسياب وَأَوْلَاده وَعَسْكَره فَقَتلهُمْ وَنهب الْأَمْوَال وَلما أَخذ ثَأْره وَاسْتقر ملكه تزهد وَخرج عَن الدُّنْيَا فَسَأَلَهُ وُجُوه الدولة أَن يعين من يختاره ملكا وَكَانَ لهراسف حَاضرا وَهُوَ من مرازبته فَجعله وَصِيّه وَأَقْبل النَّاس عَلَيْهِ وفقد كيخسرو، مُدَّة ملك كيخسرو سِتُّونَ سنة.
وَلما ملك " لهراسف " وَيُقَال هُوَ ابْن أخي كيكاوس اتخذ سريرا ذَهَبا مرصعا بالجواهر وينبت لَهُ بخراسان بَلخ وسكنها لقِتَال التّرْك.
وَفِي زمن لهراسف كَانَ " بخْتنصر " جعله لهراسف أصيهبدا على الْعرَاق والأهواز وَالروم وَغَرْبِيٌّ دجلة فَأتى دمشق وَصَالَحَهُ أَهلهَا وَصَالَحَهُ بَنو إِسْرَائِيل بالقدس ثمَّ غدروا بِهِ فَقتل وَخرب الْقُدس وارتكب مَا تقدم ذكره فِي مصر وَالْمغْرب وفلسطين والأردن وَحصل مَعَ بخْتنصر من بني إِسْرَائِيل دانيال النَّبِي وَغَيره من أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء وَحمل إِلَى لهراسف من الْمغرب وَالشَّام والقدس أَمْوَالًا عَظِيمَة وَاخْتلف المؤرخون فِي بخْتنصر فَقيل كَانَ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَقيل كَانَ نَائِبا للْفرس وَالأَصَح أَنه كَانَ نَائِب لهراسف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/36)
وغزا بخْتنصر الْعَرَب وَكَانَ فِي زمن معد بن عدنان فقصده طوائف من الْعَرَب مسالمين فَأحْسن إِلَيْهِم وأنزلهم شاطىء الْفُرَات وبنوا مَوضِع معسكرهم وسموه الأنبار
" رُؤْيا بخْتنصر " وَفِي كتب الْيَهُود والمؤرخين من الْمُسلمين أَن بخْتنصر رأى فِي نَومه صنما رَأسه من ذهب وصدره وذراعاه من فضَّة وبطنه وفخذاه من نُحَاس وساقاه وَقَدمَاهُ من حَدِيد وأصابع قديمَة بَعْضهَا حَدِيد وَبَعضهَا خزف وَأَن حِجَارَة انْقَطَعت من جبل من غير يَد قاطعه لَهَا وصكت الصَّنَم فاندق الْحَدِيد والنحاس وَغَيره وَصَارَ جَمِيع ذَلِك مثل الْغُبَار وألوت بِهِ ريح عَاصِفَة ثمَّ صَارَت الْحِجَارَة الَّتِي صكت الصَّنَم جبلا عَظِيما امْتَلَأت مِنْهُ الأَرْض كلهَا فَقَالَ بخْتنصر لَا أصدق تَعْبِير مَا رَأَيْته إِلَّا مِمَّن يُخْبِرنِي بِمَا رَأَيْت وكتم بخْتنصر ذَلِك وَسَأَلَ الْعلمَاء والسحرة والكهنة عَن ذَلِك فَلم يطق أحدا أَن ينبئه بذلك حَتَّى سَأَلَ دانيال فنبأه دانيال بِصُورَة رُؤْيَاهُ كَمَا رَآهُ بخْتنصر وَلم يخل مِنْهَا بِشَيْء
ثمَّ عبرها لَهُ دانيال فَقَالَ الرَّأْس ملكك وَأَنت بَين الْمُلُوك بِمَنْزِلَة رَأس الصَّنَم الذَّهَب وَالَّذِي يقوم بعْدك دُونك بِمَنْزِلَة الْفضة من الذَّهَب ثمَّ يكون كل مُتَأَخّر أقل مِمَّن قبله مثل مَا أَن النّحاس دون الْفضة وَالْحَدِيد دون النّحاس وَأما الْأَصَابِع الَّتِي بَعْضهَا حَدِيد وَبَعضهَا خزف فَإِن المملكة تصير آخر الْوَقْت مختلطة مُخْتَلفَة بَعْضهَا قوي وَبَعضهَا ضَعِيف.
ثمَّ أَن اللَّهِ تَعَالَى يُقيم بعد ذَلِك مملكة لَا تبيد إِلَى آخر الدَّهْر هَذَا تَعْبِير رُؤْيَاك فَخر بخْتنصر سَاجِدا لدانيال وَأمر لَهُ بِالْخلْعِ وَأَن يقرب لَهُ القرابين قيل تولى بخْتنصر سبعا وَخمسين سنة وشهرا وَثَمَانِية أَيَّام وَتَفْسِير بخْتنصر بِالْعَرَبِيَّةِ عُطَارِد هُوَ ينْطق سمي بذلك لتقريبه الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء وحبه الْعلم.
وَلما هلك ولي ملك الْفرس بعد بخْتنصر ابْنه أولاق سنة وَاحِدَة وَقتل ثمَّ ابْنه بلطشاصر سنتَيْن وَجلسَ للشراب واحتفل وَجمع فِي مجْلِس عمله ألف نفس من أَصْحَابه وَجعل فِيهِ من آنِية الذَّهَب مَا يفوق الْحصْر فَرَأى على ضوء الشمع يَد إِنْسَان تكْتب على الْحَائِط فَتغير بلطشاصر واضطرب واصطكت ركبتاه فَدَعَا دانيال وَأخْبرهُ بذلك فَقَالَ إِنَّك لما عظمت الذَّهَب وَالْفِضَّة والخشب وَالْحَدِيد وَلَيْسَ فِيهَا مَا ينصرك وَلم تعظم الْإِلَه الَّذِي بِيَدِهِ نسمتك وروحك وَجَمِيع تصاريف أَمرك أرسل كف يَد كتبت مَا مَعْنَاهُ اكشف واعر أَي أَن مملكتك كشفت وعريت وَجعلت لأهل فَارس فَقتل بلطشاصر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَبِه انقرضت دولة بني بخْتنصر، عدنا إِلَى سِيَاق ملك لهراسف.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " كي كشتاسف " ويزعمون أَنه بَاقٍ فِي كمنكد وَهُوَ بنى مَدِينَة نسا وَظهر فِي أَيَّامه " زرادشت " بزاي وَرَاء والشين منقوطة سَاكِنة وَهُوَ صَاحب كتاب الْمَجُوس وَتوقف كشتاسف عَن الدُّخُول فِي دينه ثمَّ صدقه وَدخل فِيهِ وَبَين كشتاسف وَبَين أرجاسف ملك التّرْك حروب عَظِيمَة وقتلى كَثِيرُونَ بِسَبَب زرادشت وَدخُول كشتاسف فِي دينه وانتصر كشتاسف على أرجاسف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/37)
ثمَّ أَن كشتاسف تنسك وَانْقطع لِلْعِبَادَةِ فِي جبل طميذر ولقراءة كتاب زرادشت ثمَّ فقدوا سفندريار بن كشتاسف هلك فِي حَيَاة أَبِيه.
وَخلف ولدا اسْمه " أزدشير بهمن " فَملك حَتَّى ملك الأقاليم السَّبْعَة. من كتاب أبي عِيسَى: أزدشير بهمن اسْمه بالعبرانية كورش هُوَ الَّذِي أَمر بعمارة بَيت الْمُقَدّس وعود بني إِسْرَائِيل إِلَيْهِ وَلَا دَلِيل على أَن أزدشير هُوَ كورش أقوى من كَلَام أشعيا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
فَإِنَّهُ يَقُول فِي الْفَصْل الثَّانِي وَالْعِشْرين من كِتَابه حِكَايَة عَن اللَّهِ تَعَالَى أَنا الْقَائِل لكورش دَاعِي الَّذِي يتمم جَمِيع محياتي وَيَقُول لأورشلم عودي مَبْنِيَّة ولهيلكها كن مزخرفا مزينا هَكَذَا قَالَ الرب لمسيحه كورش الَّذِي أَخذ بِيَمِينِهِ لتدبير الْأُمَم وتنحني لَك ظُهُور الْمُلُوك سائرا بِفَتْح الْأَبْوَاب أُمَامَة فَلَا تغلق وأسير أَنا قدامك وأسهل لَك الوعور وأكسر أَبْوَاب النّحاس وأحبوك بالذخائر الَّتِي فِي الظُّلُمَات وَلم يكن أحد فِي ذَلِك الزَّمَان بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي ذكرهَا أشيعا أَعنِي ملك الأأقاليم وَالْحكم على الْأُمَم وَغير ذَلِك مِمَّا ذكره غير أزدشير بهمن فَتعين أَن يكون هُوَ كورش وَكَانَ أزدشير كَرِيمًا متواضعا علامته على كتبه من أزدشير بهمن عبد اللَّهِ وخادم اللَّهِ والسائس لأمركم.
وغزا رُومِية فِي ألف ألف مقَاتل وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن هلك وَمعنى بهمن الْحسن النِّيَّة وَكَانَ بهمن متزوجا بابنته هماي على رَأْي الْمَجُوس فَتوفي بهمن وَهِي حَامِل مِنْهُ بدارا وَأوصى بهمن أَن يعْقد التَّاج على مَا فِي بَطنهَا وَيخرج ابْنه ساسان من الْملك وساست هماي الْملك بعده وَلحق ساسن بأصطخر وتزهد وَاتخذ غنما يرعاها بِنَفسِهِ وَهَذَا ساسان أَبُو الأكاسرة ثمَّ وضعت هماي ولدا سمته دَارا ابْنهَا وأخوها.
وَلما اشْتَدَّ سلمت إِلَيْهِ الْملك وعزلت نَفسهَا فضبط دَارا وساس وَولد لَهُ ابْن سَمَّاهُ دَارا ابْن دَارا ثمَّ هلك وَولي " دَارا " بن دَارا وَكَانَ حقودا ظَالِما فنفرت عَنهُ الْقُلُوب.
وَفِي زمَان دَارا تملك الْإِسْكَنْدَر الْمَشْهُور ابْن فيلقوس فَعرف سيرة دَارا ونفرة الْقُلُوب عَنهُ فَسَار نَحوه بجيشه فلحق بِهِ كثير من أَصْحَاب دَارا واقتتتلا ثمَّ وثب بعض أَصْحَاب دَارا على دَارا فَقَتَلُوهُ وَأتوا إِلَى الْإِسْكَنْدَر فَقَتلهُمْ عَن آخِرهم وَصَارَ ملك دَارا إِلَى الْإِسْكَنْدَر.
" كَانَ الْإِسْكَنْدَر " بن فيلقوس أَبوهُ أحد مُلُوك اليونان وَكَانُوا طوائف فَلَمَّا ملك الْإِسْكَنْدَر غزاهم وَجمع ملكهم ثمَّ غزا دَارا الْمَذْكُور ثمَّ الْهِنْد وَتَنَاول أَطْرَاف الصين ثمَّ انْصَرف إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ بناها فَهَلَك بِنَاحِيَة السوَاد وَقيل بشهرروذ وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة فَحمل فِي تَابُوت ذهب إِلَى أمه وَكَانَ ملكه نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَاجْتمعَ بعده ملك الرّوم وَكَانَ مُتَفَرقًا وافترق ملك فَارس وَكَانَ مجتمعا.
مرض الْإِسْكَنْدَر بالخوانيق وَقيل بالسم وَهُوَ صَاحب أرسطاطاليس وتلميذه وأرسطو الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ قتل الْفرس وَأَن يولي أكابرهم وَمن يصلح للْملك كل وَاحِد بِرَأْسِهِ مملكة ليحصل بَينهم التباغض وَلَا يجتمعوا على أحد فَفعل فَصَارَ مِنْهُم مُلُوك الطوائف وَكَانَ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/38)
الْإِسْكَنْدَر أشقر أَزْرَق وَكَانَ اليونان قبله طوائف فَأول مَا تملك غزاهم وَقتل مُلُوكهمْ وَاجْتمعَ لَهُ جَمِيع مملكة اليونان وَلما اجْتمع لَهُ مملكة الْمغرب بنى الْإسْكَنْدَريَّة وَسَار يُرِيد الشرق وقتال دَارا وَمر فِي طَرِيقه على بَيت الْمُقَدّس وَأكْرم بني إِسْرَائِيل.
ثمَّ سَار إِلَى فَارس وَاسْتولى على ملك الْفرس وَقتل دَارا كَمَا مر وَقيل إِنَّه انْصَرف من الْمشرق إِلَى جِهَة الشمَال وَبنى السد على يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالصَّحِيح أَن الْإِسْكَنْدَر الْمَذْكُور لم يكن مِنْهُ ذَلِك بل ذُو القرنين الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن وَهُوَ ملك قديم على زمن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل قيل أَنه أفريدون وَقيل غَيره وَغلط من ظن أَن باني السد هُوَ الْإِسْكَنْدَر الرُّومِي وَلذَلِك استفاض على الْأَلْسِنَة أَن لقب الْإِسْكَنْدَر ذُو القرنين وَهَذَا أَيْضا غلط فَإِن لَفظه ذُو عَرَبِيَّة مَحْضَة وَذُو القرنين من ألقاب الْعَرَب وملوك الْيمن وَكَانَ مِنْهُم ذُو جَدب وَذُو كلاع وَذُو نواس وَذُو شناتر وَذُو القرنين الصعب بن الرائش وَاسم الرائش الْحَارِث بن ذِي سدد بن عَاد بن الماطاط بن سبا. وَقيل إِن ذَا القرنين الصعب هُوَ الَّذِي مكن اللَّهِ لَهُ فِي الأَرْض وَبنى السد.
وَمِمَّا نَقله ابْن سعيد المغربي أَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا سُئِلَ عَن ذِي القرنين الَّذِي ذكره اللَّهِ فِي كِتَابه فَقَالَ هُوَ من حمير وَهَذَا مِمَّا يُقَوي أَنه الصعب الْمَذْكُور لِأَنَّهُ كَانَ ملكا عَظِيما من ولد حمير وَلما مَاتَ الْإِسْكَنْدَر عرض الْملك على ابْنه فَأبى وتنسك فانقسمت ممالك الْإِسْكَنْدَر بَين مُلُوك الطوائف وَبَين مُلُوك اليونان كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْل الثَّانِي وَبَين غَيرهم.
(ذكر مُلُوك الطوائف)
أَشَارَ أرسطاطاليس على الْإِسْكَنْدَر بِمَا تقدم من تَوْلِيَة الْمُلُوك فِي الْفرس قصد التباغض والتشاحن فَملك من كبار الْفرس عشْرين ملكا عَلَيْهِم وهم المسمون مُلُوك الطوائف واستمروا خَمْسمِائَة سنة واثنتي عشرَة سنة حَتَّى قَامَ أزدشير بن بابك فَجمع ملك الْفرس وَكَانَت عدَّة مُلُوك الطوائف تزيد على تسعين ملكا وَلم تؤرخ فِي مُبْتَدأ أَمرهم أَسمَاؤُهُم وَلَا مدد ملكهم فَإِنَّهُم مُلُوك صغَار فِي الْأَطْرَاف وَعظم بعد الْإِسْكَنْدَر ملك اليونان فَكَانَ الحكم لَهُم فَلذَلِك ذكرُوا بعد الْإِسْكَنْدَر فِي التواريخ دون مُلُوك الطوائف وَبَقِي الْأَمر كَذَلِك حَتَّى اشتهرت الْمُلُوك الأشغانية من بَين مُلُوك الطوائف.
(ذكر الطَّبَقَة الثَّالِثَة من الْفرس)
ذكر الطَّبَقَة الثَّالِثَة: وهم الأشغانية أول من اشْتهر مِنْهُم " أشغا بن أشغان " ملك لمضي مِائَتَيْنِ وست وَأَرْبَعين لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر وَملك أشغا عشر سِنِين فانقضاء ملكه لمضي مِائَتَيْنِ وست وَخمسين سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " شَابُور " بن أشغان سِتِّينَ سنة ومولد الْمَسِيح سنة بضع وَأَرْبَعين خلت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/39)
من ملك شَابُور وانقضاء ملك شَابُور لمضي ثلثمِائة وست عشرَة سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " جور " بن أشغان وَقيل جودرز عشرَة سِنِين وَهلك لمضي ثلثمِائة وست وَعشْرين سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك " بيزن " الأشغاني إِحْدَى وَعشْرين سنة وَهلك لمضي ثلثمِائة وَسبع وَأَرْبَعين. ثمَّ ملك " يزجرد " الأشغاني تسع عشرَة سنة وَهلك لمضي ثلثمِائة وست وَسِتِّينَ. ثمَّ ملك " نرسي " الأشغاني أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ يَوْم ملك أَنِّي ومحب مكرم من أنفذ أَمْرِي وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة وست سِنِين.
ثمَّ ملك " هُرْمُز " الأشغاني تسع عشرَة سنة وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعشْرين سنة وَقَالَ يَوْم ملك يَا معشر النَّاس اجتنبوا الذُّنُوب كَيْلا تذلوا بالمعاذير.
ثمَّ ملك بعده " أردوان " الأشغاني اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة وَسبع وَثَلَاثِينَ سنة.
ثمَّ ملك " خسروا " الأشغاني أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ يَوْم ملك لتسطع نَارِي مَا دَامَت مضطرمة وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة وَسبع وَسبعين سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " بلاش " الأشغاني أَرْبعا وَعشْرين سنة وَهلك لمضي خَمْسمِائَة وَسنة.
ثمَّ ملك بعده " أردوان " الْأَصْغَر وَظهر أَمر أزدشير بن بابك وَقيل أردوان الْمَذْكُور وَغَيره من الأردوانيين وَاجْتمعَ لَهُ ملك جَمِيع الطوائف فَيكون انْقِضَاء ملك أردوان لمضي خَمْسمِائَة واثنتي عشرَة سنة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر وَيكون ملكه إِحْدَى عشرَة سنة وَقيل ملك أردوان ثَلَاث عشرَة سنة.
(ذكر الطَّبَقَة الرَّابِعَة وهم الأكاسرة الساسانية)
وأولهم أزدشير بن بابك وَهُوَ من ولد ساسان بن أزدشير بهمن وأزدشير بابك فِي أول ملكه أحد مُلُوك الطوائف تغلب على الأردوانيين لمضي تِسْعمائَة وَأَرْبَعين لابتداء ولَايَة بخْتنصر ولمضي خَمْسمِائَة واثنتي عشرَة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا وَهِي مُدَّة مُلُوك الطوائف فَبين قيام أزدشير وَبَين الْهِجْرَة أَرْبَعمِائَة وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ ورصد بطليموس قبل أزدشير بِسبع وَسبعين سنه وَهَذِه مُدَّة يُمكن أَن يعيشها بطليموس أَو غالبها فَلَيْسَ بطليموس عَن أزدشير بِبَعِيد وَجَمِيع الأكاسرة الَّذين آخِرهم يزدجرد بن شهريار من ولد أزدشير قتل الأردوانييين جَمِيعًا وَضبط الْملك وَكَانَ حازما وَكتب لِابْنِهِ سَابُور عهدا ليَكُون لَهُ وَلمن بعده من أهل بَيته يتَضَمَّن حكما وناموسا وَملك أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر فموته فِي آخر سنة خَمْسمِائَة وَسبع وَعشْرين لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " سَابُور " إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ جميلا حازما ظهر فِي أَيَّامه " ماني الزنديق " وَادّعى النُّبُوَّة وَتَبعهُ خلق سموا المانوية، وَلما مضى من ملك سَابُور ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/40)
إِحْدَى عشرَة سنة فتح نَصِيبين من الرّوم وتوغل فِي بِلَادهمْ وهم على عبَادَة الْأَصْنَام قبل تنصرهم وافتتح من الشَّام بلادا عنْوَة وَقتل أَهلهَا وَسَار نَحْو رُومِية فصانعه ملك الرّوم عرديانوس واعتنى سَابُور بِجمع كتب الفلسفة لليونانيين ونقلها إِلَى الفارسية وَقيل فِي زَمَانه استخرج الْعود وَمَات لمضي أَرْبَعَة أشهر من سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " هُرْمُز " سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ عَظِيم الْخلق قَوِيا يلقب البطل مَاتَ فِي أَوَاخِر سنة خَمْسمِائَة وَسِتِّينَ للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن هُرْمُز ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر فَأحْسن ورفق وَمَات سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ شهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن بهْرَام سبع عشرَة سنة فموته فِي أول سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن بهْرَام أَربع سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر فَعدل وساس وَمَات سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " نرسي " بن بهْرَام تسع سِنِين فموته سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك ابْنه " هُرْمُز " بن نرسي تسع سِنِين فهلاكه لمضي سَبْعَة أشهر من سنة ثَلَاث وسِتمِائَة وَخلف حملا فعقدوا التَّاج على رَأس الْحمل فولد وسموه وَهُوَ " سَابُور " وَاشْتَدَّ ونجب من صباه بلغَة ازدحام النَّاس على الجسر على دجلة بِالْمَدَائِنِ فَعمل إِلَى جَانب الجسر جِسْرًا آخر ليَكُون هَذَا للداخلين وَذَاكَ للخارجين وَفِي صباه طمع الْعَرَب فِي بِلَاده وخربوا فَلَمَّا بلغ سِتّ عشرَة سنة انتخب من عسكره عدَّة وَسَار بهم إِلَى الْعَرَب وَقتل من وجد مِنْهُم وَوصل الحسا والقطيف وَشرع يقتل وَلَا يفادي وَورد المشقر وَبِه أنَاس من تَمِيم وَبكر بن وَائِل وَعبد الْقَيْس فسفك مَا لَا يُحْصى وَسَار إِلَى الْيَمَامَة وَسَفك وَمَا مر بِمَاء للْعَرَب إِلَّا غوره وَلَا بِئْر إِلَّا طمها.
ثمَّ عطف على ديار بكر وَرَبِيعَة فِيمَا بَين فَارس وَالروم وَصَارَ ينْزع أكتاف الْعَرَب فَسمى سَابُور ذَا الأكتاف. ثمَّ غزا الرّوم وَقتل وسبى ثمَّ هادنه قسطنطين ملك الرّوم حَتَّى توفّي قسطنطين سنة خمس وَأَرْبَعين مَضَت من ملك سَابُور وملكت بَنو قسطنطين وهلكوا فِي مُدَّة ملك سَابُور.
ثمَّ ملك على الرّوم كليانوس وارتد إِلَى الْأَصْنَام وَقتل النَّصَارَى وَخرب الْكَنَائِس وأحرق الْإِنْجِيل وَسَار لقِتَال سَابُور وَمَعَهُ الْعَرَب أَيْضا لفعل سَابُور بهم ثمَّ اقتتل كليانوس وسابور فَانْهَزَمَ سَابُور وَقتلت الرّوم مِنْهُم وَاسْتولى كليانوس على مَدِينَة سَابُور وَهِي طيسفون الْمَعْرُوفَة بِالْمَدَائِنِ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/41)
ثمَّ استنجد سَابُور بالملوك المجاورين لبلاده وَرفع كليانوس على طيسفون وَاسْتمرّ كليانوس مُقيما بِبِلَاد الْفرس وسعى سَابُور فِي الصُّلْح فَبَيْنَمَا كليانوس فِي فسطاطه إِذْ أَصَابَهُ سهم غرب فِي فُؤَاده فَقتل فهال الرّوم فقد ملكهم فِي بِلَاد عدوهم فقصدوا يونيانوس مقدم جَيش كليانوس وَكَانَ يسر النَّصْرَانِيَّة وَلم يرْتَد إِلَى الْأَصْنَام مَعَه وسألوه أَن يتَمَلَّك عَلَيْهِم فَأبى يونيانوس وَقَالَ لَا أتملك على قوم يخالفونني فِي الدّين فعادوا إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَادعوا أَنهم إِنَّمَا عبدُوا الْأَصْنَام خوفًا وتقية فَملك يونيانوس وَصَالح سَابُور وَسَار إِلَيْهِ فِي جمع من أَصْحَابه واجتمعا واعتنقا وانتظمت الْمَوَدَّة بَينهمَا وَعَاد بالروم إِلَى بِلَاده وَاسْتمرّ سَابُور على ملكه حَتَّى مَاتَ بعد اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة هِيَ مُدَّة ملكه وَمُدَّة عمره فموت سَابُور لمضي سَبْعَة أشهر من سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " أزدشير " بن هُرْمُز أَربع سِنِين أوصى سَابُور لَهُ بذلك لصِغَر ابْن سَابُور وَمَات سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " سَابُور " بن سَابُور ذِي الأكتاف خمس سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر فَأحْسن السِّيرَة وَمَات بِسُقُوط فسطاطه عَلَيْهِ فموته لمضي أحد عشر شهرا من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " بهْرَام " بن سَابُور ذِي الأكتاف إِحْدَى عشرَة سنة ويدعى كرمان شاه فَأحْسن إِلَى أَن قَتله بعض الْفرس بِسَهْم لمضي أحد عشر شهرا من سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " يزدجرد " بن بهْرَام بن سَابُور ويلقب بالأثيم وبالخشن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَكَانَ كلقبه فعسف وَسَفك وصبروا عَلَيْهِ وطالت أَيَّامه وَهُوَ يزْدَاد جورا فَهَلَك برفسة فرس لمضي أَرْبَعَة أشهر من سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ لَهُ ولدا اسْمه بهْرَام جور أسلمه أَبوهُ إِلَى الْمُنْذر ملك الْعَرَب ليربيه بِظهْر الْحيرَة فَنَشَأَ هُنَاكَ وَقدم على أَبِيه قبل هَلَاكه وبهرام جور فِي غَايَة الْأَدَب والفروسية فأهابه أَبوهُ فَطلب الْعود إِلَى الْعَرَب فَأمره بذلك وَمَات أَبوهُ وَهُوَ عِنْد الْمُنْذر فَاجْتمع الْفرس على تمْلِيك غير ولد يزدجرد لما قاسوا مِنْهُ وَأَيْضًا لتخلق بهْرَام جور بأخلاق الْعَرَب ونشأته فيهم فَوَلوا شخصا يُسمى كسْرَى من ولد أزدشير وَبلغ ذَلِك بهْرَام جور فانتصر بالمنذر وَابْنه النُّعْمَان.
وتملك " بهْرَام جور " مَوضِع أَبِيه ويحكى عَنهُ فرط فِي الْقُوَّة وَهلك بالتوحل فِي سبخَة بِسَبَب طرد صيد وَعدم وَكَانَ ملكه ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَأحد عشر شهرا فَيكون هَلَاكه لمضي ثَلَاثَة أشهر من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك ابْنه " يزدجرد " بن بهْرَام جور ثَمَانِي عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر وقمع الْأَعْدَاء وَعمر الْبِلَاد ثمَّ هلك لمضي سَبْعَة أشهر من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَخلف ابْنَيْنِ هُرْمُز وفيروز. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/42)
فتملك " هُرْمُز " سبع سِنِين وظلم واحتجب وهرب أَخُوهُ فَيْرُوز مِنْهُ إِلَى الهياطلة وَرَاء خُرَاسَان وَهِي طخارستان واستعان بملكهم على أَخِيه هُرْمُز فأنجده واقتتلا فِي الرّيّ فظفر فَيْرُوز بأَخيه هُرْمُز فسجنه وأمهما وَاحِدَة فانقضاء ملك هُرْمُز فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة للإسكندر.
ثمَّ ملك " فَيْرُوز " بن يزدجرد بن بهْرَام جور سبعا وَعشْرين سنة فَأحْسن وَحصل فِي أَيَّامه غلاء وقحط وغور الْأَعْين ويبس النَّبَات وهلاك الْوَحْش مُدَّة سبع سِنِين ثمَّ أغاثهم اللَّهِ تَعَالَى وَحسن الْحَال وَملك الهياطلة حِينَئِذٍ اسْمه الأخشنواز وَوَقع بَينه وَبَين فَيْرُوز بِسَبَب ابْن فَيْرُوز خطب بنت الأخشنواز فَلم يُزَوجهُ فَسَار فَيْرُوز إِلَى الهياطلة وَذكر لَهُم ذنوبا مِنْهَا أَنهم يأْتونَ الذكران وَلم يظفر مِنْهُم بِشَيْء وتردى فَيْرُوز فِي خَنْدَق عمله الهياطلة وغطس فَوَقع فِيهِ وَجَمَاعَة فهلكوا واحتوى أخشنواز على جَمِيع مَا كَانَ فِي مُعَسْكَره فَيكون هَلَاك فَيْرُوز فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك ابْنه " بلاش " أَربع سِنِين فَأحْسن وَمَات سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " قباذ " بن فَيْرُوز ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة وَفِي أَيَّامه ظهر " مزدك " الزنديق وَادّعى النُّبُوَّة وَأمر بالتساوي فِي الْأَمْوَال والاشتراك فِي النِّسَاء لأَنهم أخوة لابوين آدم وحواء، وَدخل قباذ فِي دينه فَهَلَك النَّاس وَعظم عَلَيْهِم ذَلِك وخلعوا قباذا، وولوا أَخَاهُ جاماسف بن فَيْرُوز وَلحق قباذ بالهياطلة فنجدوه وَسَار بهم وبعسكر خُرَاسَان وانتصر على أَخِيه جاماسف وحبسه حَتَّى مَاتَ قباذ سنة أَرْبَعِينَ وَثَمَانمِائَة لمضي سَبْعَة أشهر من السّنة.
ثمَّ ملك بعد قباذ ابْنه أنوشروان: صَغِيرا ثمانيا وَأَرْبَعين سنة وَلما اسْتَقل بِالْملكِ وَجلسَ على السرير قَالَ لخواصه إِنِّي عَاهَدت اللَّهِ إِن صَار الْملك إِلَيّ على أَمريْن أَحدهمَا أَنِّي أُعِيد آل الْمُنْذر إِلَى الْحيرَة وَأطْرد الْحَارِث عَنْهَا وَأما الْأَمر الثَّانِي فَهُوَ قتل المزدكية الَّذين قد أباحوا نسَاء النَّاس وَأَمْوَالهمْ وجعلوهم مشتركين فِي ذَلِك بِحَيْثُ لَا يخْتَص أحد بِامْرَأَة وَلَا بِمَال حَتَّى اخْتَلَط أَجنَاس اللؤماء بعناصر الكرماء وتسهل سَبِيل العاهرات إِلَى قَضَاء شهواتهن واتصلت السفلة إِلَى النِّسَاء الكرائم الَّتِي مَا كَانَ أَمْثَال أُولَئِكَ يتجاسرون أَن يملؤا عيونهم مِنْهُنَّ إِذا رأوهن فِي طَرِيق، فَقَالَ مزدك وَهُوَ بِجَانِب السرير: هَل تَسْتَطِيع أَن تقتل النَّاس جَمِيعًا هَذَا فَسَاد فِي الأَرْض وَالله قد ولاك لتصلح لَا لتفسد فَقَالَ أنوشروان يَا ابْن الخبيثة أَتَذكر وَقد سَأَلت قباذ أَن يَأْذَن لَك فِي الْمبيت عِنْد أُمِّي فَإِذن لَك ومضيت نَحْو حُجْرَتهَا فلحقت بك وَقبلت رجلك وَإِن نَتن جواربك مازال فِي أنفي مُنْذُ ذَلِك إِلَى الْآن وَسَأَلْتُك حَتَّى وهبتها إِلَيّ وَرجعت.
قَالَ نعم فَأمر بِهِ فَقتل وأحرقت جيفته ونادى بِإِبَاحَة دِمَاء المزدكية والمانوية أَيْضا فَقتل مِنْهُم خلق كثير وَثَبت الْمَجُوسِيَّة الْقَدِيمَة وَكتب بذلك إِلَى أَصْحَاب الولايات وهجر الملاذ وقوى جنده بالأسلحة وَعمر الْبِلَاد واسترد كثيرا من الْأَطْرَاف إِلَيْهِ كالسند والزحج وزابلستان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/43)
وطخارستان وَبنى الْحُصُون وَقسم أَمْوَال المزدكية على الْفُقَرَاء ورد الْأَمْوَال الَّتِي لَهَا أَصْحَاب إِلَى أَصْحَابهَا وَألْحق كل مَوْلُود اخْتلف فِيهِ بالشبه وَإِن كَانَ ولد للمزدكية المقتولة جعله عبد الزَّوْج الْمَرْأَة الَّتِي حبلت بِهِ من المزدكية وَأمر بِكُل امْرَأَة غلبت على نَفسهَا أَن تُعْطِي من مَال المزدكي الَّذِي غلبها مهر مثلهَا وَأمر بنساء المعروفين اللَّاتِي مَاتَ من يقوم عَلَيْهِنَّ أَو تَبرأ مِنْهُنَّ أهلهن لفرط الْغيرَة والإنفة أَن يجمعهن فِي مَوضِع أفرده لَهُنَّ وأجرى عَلَيْهِنَّ الْمُؤْنَة وَأمر أَن يزوجن من مَال كسْرَى وَكَذَلِكَ فعل بالبنات اللَّاتِي لم يُوجد لَهُنَّ أَب، وَأما البنون الَّذين لم يُوجد لَهُم أَب فأضافهم إِلَى مماليكه.
ورد الْمُنْذر إِلَى الْحيرَة وطرد الْحَارِث عَنْهَا وأطاعه قَيْصر وَفتح الرها مَدِينَة هِرقل ثمَّ الْإسْكَنْدَريَّة وغزا الخزر وَتوجه إِلَى عدن فسكن هُنَاكَ نَاحيَة من الْبَحْر بَين جبلين بالصخور وَعمد الْحَدِيد ثمَّ طَالب الهياطلة بِدَم فَيْرُوز وكبس بِلَادهمْ وَقتل ملكهم وخلقا من أَصْحَابه وَتجَاوز بَلخ وَمَا وَرَاءَهَا وَعَاد إِلَى الْمَدَائِن وَأرْسل جَيْشًا إِلَى الْيمن وَقدم عَلَيْهِم وهرز فَقتلُوا الْحَبَشَة المستولين عَلَيْهَا وَأعَاد ملك آبَاء سيف بن ذِي يزن عَلَيْهِ بعد قتل ملك الْحَبَشَة مَسْرُوق بن أَبْرَهَة الأشرم الَّذِي جَاءَ بالفيل إِلَى الْكَعْبَة وغزا براحان وَبنى بَاب الْأَبْوَاب وَفِي زَمَانه ولد عبد اللَّهِ أَبُو النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَرْبَع وَعشْرين سنة من ملكه وَلذَلِك ولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعِينَ من ملكه وَتُوفِّي أنوشروان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة للإسكندر لمضي سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " هُرْمُز " فَعدل وَأخذ للأدنى من الشريف وَبَالغ فِي ذَلِك حَتَّى أبغضته خواصه وَأقَام على بنيه ومحبيه وأفرط فِي التَّشْدِيد بِالْعَدْلِ وَوضع صندوقا فِي أَعْلَاهُ خرق وَأمر أَن يلقِي المتظلم قصَّته فِيهِ والصندوق بختمه قصد بذلك وُصُول الشكاوى إِلَيْهِ بسهولة.
ثمَّ طلب أَن يعلم بالظلامات سَاعَة فساعة فَاتخذ سلسلة وخرق لَهَا فِي دَاره مَوضِع جُلُوسه وَقت خلوته وَجعل فِيهَا جرسا ليحركها المنظلم فيحضره وينصفه من ظالمه.
ثمَّ خرج عَلَيْهِ أَعدَاء مِنْهُم شابه ملك التّرْك وَملك الرّوم وَالْعرب فَأرْسل عسكراً إِلَى ملك التّرْك مقدمهم بهْرَام جوبين بن بهْرَام خشنش من أهل الرّيّ فَقتل شابه وَنهب عسكره وطردهم فَقَامَ ابْن شابه مقَام أَبِيه وَصَالح بهْرَام جوبين.
ثمَّ أَمر هُرْمُز بهْرَام جوبين بغزو التّرْك فِي بِلَادهمْ فَلم ير بهْرَام جوبين ذَلِك مصلحَة وَخَافَ من مُخَالفَة هُرْمُز فاتفق بهْرَام وَعَسْكَره وخلعوا طَاعَة هُرْمُز فأنفذ هُرْمُز لَهُم عسكرا فَصَارَ أَكْثَرهم مَعَ بهْرَام جوبين بعد قتال.
وَكَانَ برويز بن هُرْمُز مطرودا عَن أَبِيه إِلَى أذربيجان فَبَلغهُ اتِّفَاق الأكابر على خلع أَبِيه وخشي من اسْتِيلَاء بهْرَام جوبين على الْملك فقصد برويز أَبَاهُ ووثب خالا برويز على هُرْمُز وأمسكاه وسملا عَيْنَيْهِ وَلبس برويز التَّاج.
وَمن أول ملك هُرْمُز إِلَى اسْتِقْرَار ابْنه برويز نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَنصف سنة فَإِن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/44)
هُرْمُز بَقِي معتقلا مُدَّة مديدة ثمَّ خنق وَجلسَ برويز على السرير وَخَالفهُ بهْرَام جوبين أظهر انتصاره لهرمز وشنع على برويز بقتل أَبِيه وسمل عَيْنَيْهِ وتراسلا إِلَى أَن تغلب بهْرَام جوبين وخشي برويز أَن يُقيم أَبَاهُ الْأَعْمَى صُورَة ويستولي على الْملك فَقتل أَبَاهُ وَلحق برويز بِملك الرّوم مستنجدا بِهِ.
وَوصل " بهْرَام جوبين " وتوج وَقعد على السرير وَقَالَ إِنَّنِي وَإِن كنت لم أكن من بَيت الْملك فَإِن اللَّهِ تَعَالَى ملكني الْيَوْم وَالْملك بِيَدِهِ يملكهُ من يَشَاء وَتزَوج برويز مَرْيَم بنت ملك الرّوم وأنجده بِثَمَانِينَ ألف فَارس فقاتل بهْرَام جوبين وَلحق ببرويز كثير من الْفرس فهرب بهْرَام جوبين إِلَى خُرَاسَان ثمَّ إِلَى التّرْك.
ثمَّ تملك " برويز " وَأكْرم عَسْكَر الرّوم وأعادهم إِلَى ملكهم واستقرار برويز فِي الْملك فِي أثْنَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعمِائَة للإسكندر.
وَملك برويز ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة وَلما اسْتَقر غزا الرّوم وَسَببه أَن ملك الرّوم أَبَا زَوجته هلك فطرد الرّوم ابْنه وَأَقَامُوا غَيره فحاربهم برويز وكسرهم ووصلت خيله الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَجمع أَمْوَالًا لم تَجْتَمِع لغيره وَتزَوج شيرين الْمُغنيَة وَبنى لَهَا قصر شيرين بَين حلوان وخانقين وَكَانَ لَهُ ثَمَانِيَة عشر ابْنا أكبرهم شهريار وَمِنْهُم شيرويه ملك بعده وَأم شيرويه مَرْيَم بنت ملك الرّوم.
ثمَّ عتا برويز وظلم وأنهى إِلَيْهِ زَاذَان فروخ مُتَوَلِّي الْحَبْس أَنه اجْتمع فِي الْحَبْس سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف رجل وَضَاقَتْ عَلَيْهِم الحبوس وأنتنوا وَطلب مِنْهُ ان يُعَاقب من يسْتَحق مِنْهُم وَيقطع من يسْتَحق ويفرج عَنْهُم فَقَالَ برويز بل اقتلهم جَمِيعهم واقطع رؤوسهم وَاجْعَلْهَا قُدَّام دَار المملكة فَاعْتَذر زَاذَان فروخ واستعفى فَقَالَ إِن لم تقتلهم الْيَوْم قتلتك قبلهم وَشَتمه وَأخرجه فَأعْلم زَاذَان فروخ المحبوسين بذلك فضجوا فَقَالَ إِن أفرجت عَنْكُم تَأْخُذُوا بِأَيْدِيكُمْ مَا تجدونه فِي الْأَسْوَاق من آلَات وأخشاب وتكبسوا كسْرَى فِي دَاره بَغْتَة فَحَلَفُوا على ذَلِك وَلم يشْعر كسْرَى برويز إِلَّا بالغلبة.
وعجزت حَاشِيَته تِلْكَ السَّاعَة عَن الرَّد عَنهُ فاختفى مِنْهُم بِجَانِب بُسْتَان بِالدَّار يعرف بباغ الْهِنْد فأخرجوه إِلَى زَاذَان فروخ فحبسه فِي دَار رجل اسْمه مارسفيد وَقَيده بِقَيْد ووكل بِهِ وَمضى إِلَى عقر بابل.
فجَاء وَمَعَهُ " شيرويه " بن برويز وَأَجْلسهُ على السرير فأطاعه الْخَاص وَالْعَام فراسله أَبوهُ وقرعه فَقَالَ شيرويه لَا تعجب إِن أَنا قتلتك فإنني أقتدي بك فِي سملك عَيْني أَبِيك هُرْمُز وَقَتله وَلَو لم تفعل ذَلِك مَعَ أَبِيك مَا أقدم عَلَيْك ولدك بِمثل ذَلِك وَأرْسل شيرويه إِلَيْهِ من لَهُ عَلَيْهِ ثأر فَقتله ولمضي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة وَخَمْسَة أشهر عشر يَوْمًا من ملك برويز هَاجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وَهلك برويز لمضي خمس سِنِين وَسِتَّة أشهر وَخَمْسَة عشر يَوْمًا لِلْهِجْرَةِ لِأَن من السّنة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعِينَ من ملك أنوشروان وَهِي سنة مولد ... ... ... ... ... ... ... ...(1/45)
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى نصف السّنة الثَّالِثَة وَالثَّلَاثِينَ من ملك برويز وَهِي عَام الْهِجْرَة ثَلَاثًا وَخمسين سنة.
بَيَانه أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولد فِي السّنة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعِينَ من ملك أنوشروان وَهَاجَر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين سنة فَيكون لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبع سِنِين فِي أَيَّام أنوشروان واثنتا عشر سنة فِي أَيَّام هُرْمُز بن أنوشروان وَسنة وَنصف تَقْرِيبًا فِي الفترة الَّتِي كَانَت بَين إمْسَاك هُرْمُز واستقرار ابْنه برويز وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة وَنصف تَقْرِيبًا من ملك برويز ومجموع ذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ وعَلى ذَلِك فَتكون السّنة الثَّالِثَة وَالثَّلَاثُونَ من ملك برويز هِيَ السّنة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ وَتِسْعمِائَة للإسكندر تَقْرِيبًا.
وَكَانَت مُدَّة ملك برويز ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة فَيكون هَلَاك برويز فِي سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك شيرويه وَكَانَ رَدِيء المزاج كثير الْأَمْرَاض صَغِير الْخلق وَإِخْوَته السَّبْعَة عشر كَأَنَّهُمْ عوالي الرماح كملوا خلقا وخلقا وأدبا فَقتل الْجَمِيع ثمَّ نَدم وسقم وجزع وَلم يلتذ بعدهمْ بِشَيْء وَحرم النّوم وَبكى لَيْلًا وَنَهَارًا وَرمى التَّاج وَهلك على تِلْكَ الْحَال وَمُدَّة ملكه ثَمَانِيَة أشهر.
ثمَّ ملك أزدشير بن شيرويه بن برويز قيل كَانَ ابْن سبع سِنِين وحضنه مهزخنشنش فَأحْسن السياسة ثمَّ قتل وَمُدَّة ملكه سنة وَسِتَّة أشهر.
ثمَّ ملك " شهريراز " وَكَانَ من مقدمي الْفرس مُقيما فِي مُقَابلَة الرّوم فِي عَسْكَر عَظِيم وإقطاعه الشَّام وبلغه ملك أزدشير وصغره فَأقبل وهجم طيسفون لَيْلًا بعد قتال وَقتل مهزخشنش، وَقتل أدزشير وَلبس التَّاج وَجلسَ على السرير وَلَيْسَ من بَيت الْملك وَلما جلس على السرير مَنعه وجع بَطْنه عَن الْقيام إِلَى الْخَلَاء فَدَعَا بطشت وستارة وتبرز بَين يَدي السرير فتطير النَّاس من ذَلِك.
وَكَانَ من سنة الْفرس إِذا ركب الْملك أَن تقف حرسه صفّين لَهُ وَعَلَيْهِم الدروع وَالْبيض وبأيديهم السيوف مَشْهُورَة والرماح فَإِذا حاذاهم وضع كل مِنْهُم ترسه على قربوس سَرْجه ثمَّ وضع جَبهته عَلَيْهِ كَهَيئَةِ السُّجُود ثمَّ يرفعون رؤوسهم ويسيرون من جَانِبي الْملك وَركب شهريزار فَوقف لَهُ فروخ وأخواه فِي جملَة الحرس فَلَمَّا حاذاهم طعنوه ثَلَاثَتهمْ فألقوه عَن فرسه وحملت عُظَمَاء الْفرس على اصحابه فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وشدوا فِي رجل شهريراز حبلا وجره إقبالا وإدبارا لكَونه تعرض للْملك وَلَيْسَ من بَيته.
ثمَّ ملكوا " بوران " بنت كسْرَى برويز فأحسنت وَردت خَشَبَة الصَّلِيب على ملك الرّوم فَعظم موقعها عِنْده وأطاعها فِيمَا كلفته وملكت سنة وَأَرْبَعَة أشهر.
ثمَّ هَلَكت فَملك " خشنشده " من بني عَم كسْرَى برويز فَلم يدبر الْملك وَكَانَ ملكه أقل من شهر وَقتل.(1/46)
ثمَّ ملكت " أرزمي دخت " بنت كسْرَى برويز فعدلت وأحسنت وَكَانَ أعظم الْفرس حِينَئِذٍ فَرح هُرْمُز أصيهبدا خُرَاسَان وَكَانَت أرزمي دخت من أجمل النِّسَاء فَخَطَبَهَا هَذَا فامتنعت ثمَّ أَجَابَتْهُ إِلَى الِاجْتِمَاع بِهِ فِي اللَّيْل ليقضي وطره مِنْهَا فَحَضَرَ بالشمع وَالطّيب فَأمرت حرسها فَقتلته وَكَانَ رستم بن فرخ هُرْمُز وَهُوَ الَّذِي تولى قتال الْمُسلمين فِيمَا بعد قد جعله أَبوهُ نَائِبه على خُرَاسَان لما توجه بِسَبَب أرزمي دخت فَلَمَّا قتلته جمع جمعا وقصدها فَقَتلهَا بثأر أَبِيه وَكَانَ ملكهَا سِتَّة أشهر فَاخْتلف الْفرس فِيمَن يولون فَلم يَجدوا غير رجل من عقب أزدشير بن بابك اسْمه " كسْرَى " بن مهزخشنش.
فملكوه فَلم يلق بِهِ الْملك فَقَتَلُوهُ بعد أَيَّام وَلم يَجدوا من بَيت الْملك أحد إِلَّا رجلا اسْمه " فَيْرُوز " بن حستان يزْعم أَنه من نسل أنوشروان فملكوه فَكبر رَأسه عَن التَّاج فَقَالَ مَا أضيق هَذَا التَّاج فتطيروا من افْتِتَاح كَلَامه بالضيق وقتلوه.
ثمَّ ملك " فرخ زادخسرو " من ولد أنوشروان سِتَّة أشهر وقتلوه، ثمَّ ملك يزدجر بن شهريار بن برويز بن هُرْمُز بن أنوشروان بن قباذ بن فَيْرُوز بن يزدجرد بن بهْرَام جور بن يزدجرد بن بهْرَام بن سَابُور ذِي الأكتاف بن هُرْمُز بن نرسي بن بهْرَام بن بهْرَام خر بن هُرْمُز ابْن سَابُور بن أزدشير بن بابك.
وَكَانَ يزدجرد مختفيا بأصطخر لما قتل أَبوهُ مَعَ إخْوَته حِين قَتلهمْ أخوهم شيرويه وَكَانَ ملك يزدجرد الْمَذْكُور كالخيال بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملك آبَائِهِ يدبر الوزراء ملكه وضعفت مملكة فَارس واجترأ عَلَيْهِم أعداؤهم وغزا الْمُسلمُونَ بِلَادهمْ بعد أَن مضى من ملكه ثَلَاث وَأَرْبع سِنِين وعمره إِلَى أَن قتل بمرو عشرُون سنة قتل فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ لِلْهِجْرَةِ وَهُوَ آخِرهم وَزَالَ ملكهم بِالْإِسْلَامِ إِلَى الْأَبَد، فَهَذَا تَرْتِيب مُلُوك الْفرس من أوشهنج إِلَى يزدجرد من تجارب الْأُمَم لِابْنِ مسكويه، وَمن كتاب أبي عِيسَى.(1/47)
(الْفَصْل الثَّالِث)
(فِي ذكر فَرَاعِنَة مصر ثمَّ مُلُوك اليونان ثمَّ الرّوم)
الفراعنة مُلُوك القبط بِمصْر كَانَ أهل مصر أهل ملك عَظِيم فِي الدهور الخالية أخلاطا مَا بَين قبْطِي ويوناني وعمليقي إِلَّا أَن جمهورهم قبط وَأكْثر مُلُوكهَا الغرباء وَكَانُوا صابئة يعْبدُونَ الْأَصْنَام وَصَارَ بعد الطوفان بِمصْر عُلَمَاء بضروب من الْعُلُوم وخاصة الطلسمات والنيرنجات والكيمياء وَكَانَت مَدِينَة منف كرْسِي الْملك على اثْنَي عشر ميلًا من الْفسْطَاط.
وَأول مُلُوكهَا بعد الطوفان " مصر " بن حام بن نوح نزل منف هُوَ وَثَلَاثُونَ من وَلَده وَأَهله.
وملكها بعده ابْنه " مصر " وَسميت الْبِلَاد بِهِ لطول مدَّته.
ثمَّ بعده ابْنه " فَقَط " بن مصر، وَبعده ملك أَخُوهُ " أتريب " بن مصر، وأتريب باني مَدِينَة عين شمس وَبهَا الْآثَار الْعَظِيمَة.
ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ " صا " وَبِه سميت مَدِينَة صا وَهِي خراب على النّيل من أَسْفَله.
ثمَّ ملك بعده " تدراس " ثمَّ " ابْنه ماليق " ثمَّ ابْنه " حرابا " بن ماليق ثمَّ كلكلي بن حرابا وَكَانَ ذَا حِكْمَة أول من جمد الزئبق وسبك الزّجاج ثمَّ بعده " حريبا " بن ماليق كَافِرًا.
ثمَّ ملك بعده " طونيس " فِرْعَوْن إِبْرَاهِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ وهب سارة هَاجر كَانَ يسكن الفرما ثمَّ ملكت بعده أُخْته " جورساق " ثمَّ بعْدهَا " زلفا " بنت مامون سمع عمالقة الشَّام بضعفها فغزوها وملكوا مصر وَصَارَت الدولة للعمالقة وَالَّذِي أَخذ مِنْهَا الْملك " الْوَلِيد بن دبيع العملاقي " عَابِد الْبَقَرَة قَتله أَسد فِي صَيْده وَقيل هُوَ أول من تسمى بفرعون.
وَملك بعده ابْنه " الريان " فِرْعَوْن يُوسُف وَنزل بِعَين شمس ثمَّ ابْنه " دارم " وَفِي زَمَانه توفّي يُوسُف وتجبر دارم وَكفر شَدِيدا فأغرقه اللَّهِ بِسَبَب ريح عَاصِفَة بِالْقربِ من حلوان.
ثمَّ ملك بعده " كاسم " بن معدان العمليقي وَقصد هدم الهرمين فَقَالَ حكماء مصر إِن خراج مصر لَا يَفِي بهدمهما وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا قبران لنبيين عظيمين وهما شِيث بن آدم وهرمس فَأمْسك عَن هدمهما.
ثمَّ ملك بعده " الْوَلِيد " بن مُصعب فِرْعَوْن مُوسَى قيل من العمالقة وَهُوَ الْأَظْهر وَقيل هُوَ فِرْعَوْن يُوسُف وَعمر إِلَى أَيَّام مُوسَى وَقيل هُوَ من القبط كَانَ صَاحب شرطة كاسم العملاقي فكثرت الأقباط فملكوا الْوَلِيد بعد كاسم وانقرضت حِينَئِذٍ دولة العمالقة من مصر(1/48)
وَادّعى الْوَلِيد الربوبية وعظمت دولته وعمرت أَرض مصر فِي أَيَّامه وَأكْثر النَّاس من التصنيف فِي سيرته، وَفِي مُنَاجَاة مُوسَى يَا رب لم أطلت عمر عَدوك فِرْعَوْن مَعَ ادعائه مَا انْفَرَدت بِهِ من الربوبية وَجحد نِعْمَتك فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى أمهلته لِأَن فِيهِ خَصْلَتَيْنِ من خلال الْإِيمَان الْجُود وَالْحيَاء، وهامان وَزِير فِرْعَوْن حفر لفرعون خليج السردوسي سَأَلَهُ أهل كل قَرْيَة أَن يجريه إِلَيْهِم ويعطوه مَالا فَكَانَ يَأْتِي بِهِ إِلَى الْقرْيَة نَحْو الْمشرق ثمَّ يردهُ إِلَى الْقرْيَة من نَحْو الْمغرب وَكَذَلِكَ فِي الْجنُوب وَالشمَال فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك نَحْو مائَة ألف دِينَار وَحملهَا إِلَى فِرْعَوْن فَقَالَ فِرْعَوْن وَيحك إِنَّه يَنْبَغِي للسَّيِّد أَن يعْطف على عبيده وَلَا يطْمع فِيمَا فِي أَيْديهم ورد على أهل كل قَرْيَة مَا أَخذ مِنْهُم وَأخْبر المنجمون بِظُهُور مُوسَى وَزَوَال ملكه على يَده فَأخذ فِي قتل الْأَطْفَال حَتَّى قتل تسعين ألفا وَسلم اللَّهِ نبيه مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ بِأَن التقطته آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وحمته مِنْهُ وتزعم الْيَهُود أَن بنت فِرْعَوْن هِيَ الَّتِي التقطته لَا زَوجته وَالأَصَح أَنَّهَا زَوجته كَمَا نطق الْقُرْآن وَلما أظهر الْآيَات لفرعون وَسلم إِلَيْهِ بني إِسْرَائِيل وَسَار بهم نَدم ولحقهم عِنْد بَحر القلزم فَضرب مُوسَى بعصاه الْبَحْر فَصَارَ فِيهِ اثْنَا عشر طَرِيقا لكل سبط طَرِيق فَتَبِعَهُ فِرْعَوْن وَجُنُوده فغرق هُوَ وَجُنُوده وَذَلِكَ لمضي ثَمَانِينَ سنة من عمر مُوسَى.
وَكَانَ قد تملك قبل ولادَة مُوسَى، وَلذَلِك قتل الْأَطْفَال فِي أَيَّام ولادَة مُوسَى فمدة ملك فِرْعَوْن تزيد على ثَمَانِينَ سنة قطعا.
وَلما هلك فِرْعَوْن ملكت القبط بعده " دلوكة " الْمَشْهُورَة بالعجوز من بَنَات مُلُوك القبط انْتهى السحر إِلَيْهَا وعمرت حَتَّى عرفت بالعجوز وصنعت على أهل مصر من أول أرْضهَا فِي حد أسوان إِلَى آخر سورا مُتَّصِلا، ثمَّ ملك مصر بعد دلوكة صبي من أَبنَاء أكَابِر القبط اسْمه " دركون " بن بلطوس.
ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ " لقاش " ثمَّ أَخُوهُ " مرينا " ثمَّ ملك بعده " استمادس " ثمَّ بلطوس بن مكاكيل " ثمَّ ملك بعده بَوْله " وَهَذَا غزا رحبعم بن سُلَيْمَان بن دَاوُد كَمَا تقدم، وَفِي كتب الْيَهُود إِن فِرْعَوْن الَّذِي غزا بني إِسْرَائِيل أَيَّام رجبعم اسْمه شيشاق وَهُوَ الْأَصَح ثمَّ لم يشْتَهر بعد شيشاق غير فِرْعَوْن الْأَعْرَج الَّذِي غزاه بخْتنصر وصلبه وَبَين رحبعم اسْمه شيشاق وَهُوَ الْأَصَح ثمَّ لم يشْتَهر بعد شيشاق غير فِرْعَوْن الْأَعْرَج الَّذِي غزاه بخْتنصر وصلبه وَبَين رحبعم وَبُخْتنَصَّرَ فَوق أَرْبَعمِائَة سنة وَكَانَ شيشاق على أَيَّام رحبعم فشيشاق قبل فِرْعَوْن الْأَعْرَج بِأَكْثَرَ من أَرْبَعمِائَة سنة.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَلم تصح أَسمَاء فَرَاعِنَة هَذِه الْمدَّة الَّتِي بَين شيشاق والأعرج وَلما قتل بخْتنصر فِرْعَوْن الْمَذْكُور وأباد أَهلهَا بقيت مصر أَرْبَعِينَ سنة خرابا.
قَالَ ابْن سعيد: وَصَارَت مصر وَالشَّام من حِين غَزَاهُمَا بخْتنصر تَحت ولَايَته حَتَّى مَاتَ وتوالت الْوُلَاة من جِهَة بخْتنصر على مصر وَالشَّام حَتَّى انقرضت دولة أَوْلَاده فتوالت على مصر وُلَاة الْفرس.
فَكَانَ مِنْهُم " كثرحوش " الْفَارِسِي باني قصر الشمع وَبعده " طخارست " الطَّوِيل وَفِي(1/49)
أَيَّامه كَانَ أبقراط الْحَكِيم، وتوالت بعده نواب الْفرس إِلَى أَن غلب الْإِسْكَنْدَر على الْفرس.
(ذكر مُلُوك اليونان)
أول من اشْتهر مِنْهُم " فيلبس " أَبُو الْإِسْكَنْدَر مقرّ ملكه كَانَ بمقدونية مَدِينَة حكماء اليونان على جَانب الخليج القسطنطيني من شرقيه وملوك اليونان طوائف لم يشْتَهر مِنْهُم غير فيلبس وَكَانَ يُؤَدِّي الأتاوة للْفرس ولمامات ملك ابْنه " الْإِسْكَنْدَر " ثَلَاث عشرَة سنة وَمَات فِي أَوَاخِر السّنة السَّابِعَة من غلبته على دَارا ملك الْفرس وَقد تقدم ذكره مَعَ مُلُوك الْفرس وانقسمت بعده الممالك فَملك بعض الشَّام وَالْعراق انطياحس.
وَملك مقدونية أَخُو الْإِسْكَنْدَر " فيلبس " باسم أَبِيه وَملك بِلَاد الْعَجم مُلُوك الطوائف الَّذين رتبهم الْإِسْكَنْدَر وَملك مصر وَبَعض الشَّام وَالْمغْرب البطالسة مُلُوك اليونان كل مِنْهُم يُسمى بطليموس مَعْنَاهُ أَسد الْحَرْب وعدتهم أعنى الَّذين بعد الْإِسْكَنْدَر مِنْهُم ثَلَاثَة عشر ملكا آخِرهم الملكة قلوبطرا بنت بطليموس وزالت مملكتهم بِملك أغسطس الرُّومِي وَصَارَت الدولة للروم وَمُدَّة ملك اليونان مِائَتَان وَخمْس وَسَبْعُونَ سنة، وَكَانَ بَين غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على ملك فَارس وَبَين غَلَبَة أغسطس مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سنة وَبَقِي الْإِسْكَنْدَر بعد غلبته على دَارا نَحْو سبع سِنِين وَإِذا نقصنا سبعا من مِائَتَيْنِ واثنتين وَثَمَانِينَ بَقِي من موت الْإِسْكَنْدَر إِلَى غَلَبَة أغسطس مِائَتَان وَخمْس وَسَبْعُونَ سنة هِيَ مُدَّة ملك البطالسة.
وَأول البطالسة بعد الْإِسْكَنْدَر بطليموس " شيشوس " بن لاغوس المنطقي ملك عشْرين سنة فَيكون موت ابْن لاغوس الْمَذْكُور لسبع وَعشْرين سنة مَضَت من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، ثمَّ ملك بعده بطليموس الثَّانِي واسْمه " فيلوذفوس " مَعْنَاهُ محب أَخِيه ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة ونقلت لَهُ التوارة وَأعْتق الْيَهُود الَّذين وجدهم أسرى كَمَا تقدم فموت هَذَا لخمس وَسِتِّينَ مَضَت من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
وَملك بعده بطليموس الثَّالِث واسْمه " أرواخيطس " خمْسا وَعشْرين سنة وَأدّى لَهُ ملك الشَّام الأتاوة فَيكون مَوته لتسعين مَضَت من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، ثمَّ بطليموس الرَّابِع واسْمه " فيلوبطور " مَعْنَاهُ محب أَبِيه ملك سبع عشرَة سنة فَيكون مَوته لمضي مائَة وَسبع سِنِين من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، ثمَّ الْخَامِس واسْمه " أفنفيوس " ملك أَرْبعا وَعشْرين سنة فموته لمِائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، ثمَّ السَّادِس واسْمه " فيلوميطور " أَي محب أمه ملك خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة فموته لمضي مائَة وست وَسِتِّينَ لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، ثمَّ السَّابِع واسْمه " أرواخيطس " الثَّانِي تسعا وَعشْرين سنة فموته لمضي مائَة وَخمْس وَتِسْعين للإسكندر، ثمَّ بطليموس الثَّامِن واسْمه " سواطيرا " سِتّ عشرَة سنة فموته لمضي مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى عشرَة للإسكندر، ثمَّ بطليموس التَّاسِع واسْمه " شيديريطس " سبع سِنِين فموته لمضي مِائَتَيْنِ وَعشْرين للإسكندر، ثمَّ الْعَاشِر واسْمه " إسكندروس " ثَلَاث سِنِين فموته لمضي مِائَتَيْنِ وَثَلَاث وَعشْرين للإسكندر، ثمَّ الْحَادِي عشر واسْمه " فيلوذفوس " آخر ثَمَانِي سِنِين فموته(1/50)
لمضي مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ، ثمَّ الثَّانِي عشر واسْمه " ديثوسيوس " تسعا وَعشْرين سنة فموته لمضي مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة للإسكندر.
ثمَّ ملكت قلوبطرا الثَّالِثَة عشر اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وغلبها " أغسطس " على الْملك فقتلت نَفسهَا وانقرض ملك اليونان وانتقلت المملكة إِلَى الرّوم بني الْأَصْفَر فموت قلوبطرا وَغَلَبَة أغسطس كَانَت لمضي مِائَتَيْنِ واثنتين وَثَمَانِينَ سنة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
(ذكر مُلُوك الرّوم)
أَوَّلهمْ روملس ورومانارس فَبنى رُومِية ثمَّ قتل روملس أَخَاهُ رومانا وَملك بعده ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة وَحده وَاتخذ برومية ملعبا عجيبا ثمَّ ملك بعده مُلُوك لم يشتهروا، وَمن الْكَامِل: كَانَ مقرّ ملكهم رُومِية الْكُبْرَى قبل غلبتهم على اليونان وَكَانَ الرّوم يدينون بالصابئية وَلَهُم أصنام على أَسمَاء الْكَوَاكِب السَّبْعَة يعبدونها وَأول من اشْتهر من مُلُوكهمْ غاليوس ثمَّ ملك بعده يوليوس، ثمَّ أغشطش وشيناه معجمتان وعرب فصارتا سينين لقبه قَيْصر مَعْنَاهُ شقّ عَنهُ مَاتَت أمه فشق بَطنهَا وَأخرج ولقب بِهِ مُلُوك الرّوم بعده، وَخرج أغسطس فِي السّنة الثَّانِيَة عشر من ملكه من رُومِية بعساكر فِي الْبر وَالْبَحْر وَسَار إِلَى مصر وَاسْتولى على ملك اليونان وَكَانَت قلوابطرا هِيَ الملكة فِي اليونان ومقامها الْإسْكَنْدَريَّة فاضمحل بأغسطس ذكر اليونان ودخلوا فِي الرّوم وأطاعه بَنو إِسْرَائِيل كَمَا كَانُوا أطاعوا البطالسة فولى على يهود بَيت الْمُقَدّس واليا مِنْهُم يلقب هردوس كَمَا مر وَغَلَبَة أغسطس على مصر وَقتل قلوبطرا لمضي مِائَتَيْنِ واثنتين وَثَمَانِينَ سنة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر، وَمُدَّة ملك أغسطس ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ سنة مِنْهَا اثْنَتَا عشرَة سنة قبل غلبته على اليونان وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة من غلبته إِلَى وَفَاته وَمَوْت أغسطس لمضي ثلثمِائة وَثَلَاث عشرَة سنة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
ثمَّ ملك بعد أغسطس " طيباريوس " فِي أول سنة ثلثمِائة وَأَرْبع عشرَة للإسكندر اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَبنى طبرية بِالشَّام - مُشْتَقَّة من اسْمه - وَمَات لمضي ثلثمِائة وَخمْس وَثَلَاثِينَ للإسكندر.
ثمَّ " غانيوس " أَربع سِنِين ولمضي السّنة الأولى من ملكه رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَيكون رَفعه لمضي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة للإسكندر، وَمَات غانيوس لمضي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " قلوذبوس " أَربع عشرَة سنة من القانون وَفِي أَيَّام قلوذبوس كَانَ شَمْعُون السَّاحر برومية وَفِي مُدَّة ملكه حبس شَمْعُون الصَّفَا ثمَّ خلص وَسَار إِلَى أنطاكية ودعا إِلَى النَّصْرَانِيَّة ثمَّ سَار إِلَى رُومِية ودعاهم فأجابته زَوْجَة الْملك وَمَات قلوذبوس لمضي ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " قَارون " من قانون أبي الريحان النيروني: أَنه ملك ثَلَاث عشرَة سنة(1/51)
وَقتل فِي آخر ملكه بطرس وبولص برومية وصلبهما منكسين وَمَات فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة للإسكندر.
وَملك بعده " ساسيانوس " عشرَة سِنِين فموته فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة، ثمَّ ملك بعده " طيطوس " من القانون: ملك سبع سِنِين فغزا الْيَهُود وأسرهم وباعهم وَخرب بَيت الْمُقَدّس وأحرق الهيكل كَمَا تقدم مَاتَ فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلثمائة للإسكندر.
ثمَّ " دومطيثوس " من القانون: ملك خمس عشرَة سنة وَتبع النَّصَارَى وَالْيَهُود وَأمر بِقَتْلِهِم وَكَانَ دينه وَدين غَيره من الرّوم عبَادَة الْأَصْنَام وَمَات فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة للإسكندر.
ثمَّ " بارواس " ملك سنة وَمَات فِي أَوَاخِر سبع وَتِسْعين وثلثمائة للإسكندر، ثمَّ " طراناموس " وَقيل غراطيانوس تسع عشرَة سنة وَقيل تسعا وَعشْرين فموته فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ " أذريانوس " إِحْدَى وَعشْرين سنة وَكَانَ فِي أَيَّامه بطليموس صَاحب المجسطي من ولد فلوذيوس وَلِهَذَا قيل لَهُ الفلوذي وخدم أذريانوس لمضي ثَمَان عشرَة سنة من ملكه وَمَات فِي أَوَاخِر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك " أنطونسوس " ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَأخذ أرصاد بطليموس صَاحب المجسطي فِي السّنة الثَّالِثَة من ملكه وَمَات فِي أَوَاخِر سنة اثنيتين وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " مرقوس " وَقيل قومودس تسع عشرَة وَفِي أَيَّامه أظهر ابْن ديصان مقَالَته بالاثنين كَانَ ديصان أسقفا بالرها وَنسب إِلَى نهر اسْمه ديصان بِبَاب الرها وَمَات مرقوس فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " قوموذوش " ثَلَاث عشرَة سنة وخنق نَفسه فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر.
وَفِي الْكَامِل لِأَن جالينوس كَانَ فِي أَيَّام قومودوس وَقد أدْرك جالينوس بطليموس وَكَانَ دين النَّصَارَى قد ظهر فِي أَيَّامه وَذكرهمْ جالينوس فِي كِتَابه فِي جَوَامِع كتاب أفلاطون فِي سياسة المدن فَقَالَ: إِن جُمْهُور النَّاس لَا يُمكنهُم أَن يفهموا سِيَاقَة الْأَقَاوِيل البرهانية وَلذَلِك صَارُوا مُحْتَاجين إِلَى رموز يَنْتَفِعُونَ بهَا يَعْنِي بالرموز الْأَخْبَار عَن الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الدَّار الْآخِرَة من ذَلِك أَنا نرى الْآن الْقَوْم الَّذين يدعونَ نَصَارَى إِنَّمَا أخذُوا إِيمَانهم عَن الرموز وَقد تظهر مِنْهُم أَفعَال مثل من يفلسف بِالْحَقِيقَةِ وَذَاكَ أَن عدم جزعهم من الْمَوْت أَمر قد نرَاهُ كلنا وَكَذَلِكَ أَيْضا عفافهم عَن اسْتِعْمَال الْجِمَاع فَإِن مِنْهُم قوما رجَالًا وَنسَاء أَيْضا قد أَقَامُوا جَمِيع أَيَّام حياتهم ممتنعين عَن الْجِمَاع وَمِنْهُم قوم قد بلغ من ضبطهم لأَنْفُسِهِمْ فِي التَّدْبِير وَشدَّة حرصهم على الْعدْل أَن صَارُوا غير مقصرين عَن الَّذين يتفلسفون بِالْحَقِيقَةِ انْتهى كَلَام جالينوس.
ثمَّ ملك بعد قومودوس " قوطنحوس " سِتَّة أشهر وَقتل فِي رحبة الْقصر منتصف سنة(1/52)
خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ " سيوارس " ثَمَانِي عشرَة سنة وَفِي أَيَّامه بحثت الأساقفة عَن أَمر الفصح وَأَصْلحُوا رَأس الصَّوْم وَمَات منتصف سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ ملك أنطينسوس الثَّانِي أَربع سِنِين وَقتل بَين حران والرها منتصف سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة.
ثمَّ " الإسكندروس " ثَلَاث عشرَة سنة وَمَوته منتصف سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ " مكسيمينوس " ثَلَاث سِنِين فَشدد فِي قتل النَّصَارَى وَمَات منتصف سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة للإسكندر.
ثمَّ ملك " عورديانوس " سِتّ سِنِين وَقتل فِي حُدُود فَارس فِي منتصف سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة للإسكندر ثمَّ " دقيوس " وَيُقَال دقيانوس سنة وَاحِدَة بنصر الْملك الَّذِي قبله فَقتله دقيوس وَأعَاد عبَادَة الْأَصْنَام وَدين الصابئين وتتبع النَّصَارَى يقتلهُمْ وَمِنْه هرب الْفتية أَصْحَاب الْكَهْف وَكَانُوا سَبْعَة وناموا وَالله أعلم بِمَا لَبِثُوا وَمَات فِي منتصف سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة.
ثمَّ ملك " غانيوس " ثَلَاث سِنِين وَمَات منتصف سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة ثمَّ " غلينوس وولريانوس " خمس عشرَة سنة.
وَمن الْكَامِل أَن ولريانوس وَقيل اسْمه ولوسينوس انْفَرد بِالْملكِ بعد سنتَيْن من اشتراكهما فَيكون موت الْمَذْكُور منتصف سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة ثمَّ " فلوذيوس " سنة فموته منتصف سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة ثمَّ " أذرفلينوس " وَقيل أورلينانوس سِتّ سِنِين وَمَات بصاعقة فِي منتصف سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ " فرويوس " سبع سِنِين وَهلك منتصف سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة ثمَّ " دقلطيانوس " إِحْدَى وَعشْرين سنة ولثلاث عشرَة سنة مَضَت من ملكه عَصَاهُ أهل مصر والإسكندرية فَسَار إِلَيْهِم من رُومِية وأنكى فيهم وَهُوَ آخر عَبدة الْأَصْنَام من مُلُوك الرّوم وَتنصرُوا بعده وَمَات منتصف سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ ملك قسطنطين المظفر إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة ولثلاث مَضَت انْتقل من رُومِية إِلَى قسطنطينية وَبنى سورها وَتَنصر وَكَانَ اسْمهَا قبله البربطية وَزَعَمت النَّصَارَى أَنه بعد سِتّ سِنِين خلت من ملك قسطنطين ظهر لَهُ فِي السَّمَاء شبه الصَّلِيب، فَأمر بالنصرانية ولعشرين مَضَت من ملكه اجْتمع أَلفَانِ وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ أسقفا ثمَّ اخْتَار مِنْهُم ثلثمِائة وَثَمَانِية عشر فحرموا أربوس الإسكندري لكَونه يَقُول إِن الْمَسِيح مَخْلُوق وَاتفقَ الأساقفة لَدَى قسطنطين وَوَضَعُوا شرائع النَّصْرَانِيَّة بعد أَن لم تكن وَكَانَ رَئِيس هَذِه البطارقة بطرِيق الْإسْكَنْدَريَّة وَفِي إِحْدَى عشرَة سنة من ملكه سَارَتْ أمه وَاسْمهَا هيلانة إِلَى الْقُدس وأخرجت خَشَبَة الصلبوت وأقامت لذَلِك عيدا يُسمى عيد الصَّلِيب وَبنى قسطنطين وَأمه عدَّة كنائس مِنْهَا قمامة بالقدس وكنيسة حمص وكنيسة الرها وَمَات منتصف سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة فانقسمت مَمْلَكَته بَين بنيه الثَّلَاثَة وَكَانَ الْحَاكِم عَلَيْهِم مِنْهُم " قسطس " أَرْبعا وَعشْرين سنة وَمَات منتصف سنة خمسين وسِتمِائَة ثمَّ خرج الْملك عَن بني قسطنطين.(1/53)
وَملك " لليانوس " وارتد إِلَى عبَادَة الْأَصْنَام وقهر سَابُور ذَا الأكتاف وَقتل فِي أَرض الْفرس بِسَهْم غرب كَمَا تقدم وَكَانَت مدَّته سنتَيْن وَهلك - أَعنِي لليانوس - سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة.
ثمَّ ملك " يونيانوس " سنة وَأعَاد النَّصْرَانِيَّة وَلما ملك على الرّوم وهم بِأَرْض الْفرس اصْطلحَ مَعَ سَابُور وَعَاد إِلَى بِلَاده وَمَات فِي منتصف سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة ثمَّ ملك " والياطنوس " أَربع عشرَة سنة وَمَات منتصف سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ ملك " أنونيانوس " ثَلَاث سِنِين فموته منتصف سنة سبعين وسِتمِائَة.
ثمَّ " حرطيانوس " ثَلَاث سِنِين فموته منتصف سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة، ثمَّ " ثاودوسيوس " الْكَبِير تسعا وَأَرْبَعين سنة فموته منتصف سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة للإسكندر، ثمَّ " أرفادنوس " بقسنطينية وشريكه " أونورنوس " برومية ثَلَاث عشرَة سنة فموتهما فِي منتصف سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة، ثمَّ " ثاودوسيوس الثَّانِي " عشْرين سنة وَفِي أَيَّامه غزت فَارس الرّوم وانتبه أَصْحَاب الْكَهْف، وَمَوته فِي منتصف سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَفِي مُدَّة ملكه كَانَ الْمجمع الثَّالِث فِي أفسيس وَاجْتمعَ مِائَتَا أَسْقُف وحرموا نسطورس صَاحب الْمَذْهَب بطركا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ لقَوْله إِن الْمَسِيح جوهران جَوْهَر لاهوتي وجوهر ناسوتي وأقنومان لاهوتي وناسوتي وَقيل ملك هَذَا اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين سنة.
وَملك بعده " مرقيانوس " سبع سِنِين ولسنة خلت بنى دير مارون بحمص وَفِي أَيَّامه لعن نسطورس وَنفي وَمَات مرقيانوس فِي منتصف سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ ملك بعده " والنطيس " سنة فموته منتصف سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ " لاون الْكَبِير " سبع عشرَة سنة وَفِي أَيَّامه كثر الْخَسْف فِي أنطاكية بالزلازل وَمَوته منتصف سنة ثَمَانِينَ وَسَبْعمائة ثمَّ " ربنوث " ثَمَانِي عشرَة سنة وَمَات منتصف سنة ثَمَان وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك " أسطيفنوس " سبعا وَعشْرين سنة فعمر سور مَدِينَة حماه فِي أول سنة من ملكه وفرغت عمارتها فِي سنتَيْن ولعشر خلت من ملكه جَاءَ الْجَرَاد والجوع ولاثنتي عشرَة غزا قواد الْفرس آمد وحاصروها وخربوها وَمَات اسطيفنوس فِي منتصف سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة.
ثمَّ ملك بعده " قسطينوس " تسع سِنِين وَمَات منتصف سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة، ثمَّ ملك " قسطينوس الثَّانِي " ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة واحترب فِي أَيَّامه الْفرس وَالروم وَفِي الثَّامِنَة من ملكه كَانَ بَينهم مصَاف على شط الْفُرَات قتل مِنْهُم خلق وغرق من الرّوم فِي الْفُرَات خلق وَمَات فِي منتصف اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة.
ثمَّ ملك " قسطينوس " آخر أَربع عشرَة سنة ولسبع من ملكه غزا ملك الْفرس الشَّام وأحرق فامية وَمَات منتصف سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة.
ثمَّ ملك " طبرنوس " الأول ثَلَاث سِنِين فَمَاتَ فِي منتصف سنة تسع وَثَمَانِينَ(1/54)
وَثَمَانمِائَة، ثمَّ ملك " طبرنوس الثَّانِي " أَربع سِنِين فموته منتصف ثَلَاث وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة، ثمَّ ملك " مارقوس " ثَمَان سِنِين فهلاكه منتصف سنة إِحْدَى وَتِسْعمِائَة، ثمَّ ملك " مرقوس الثَّانِي " اثْنَتَيْ عشرَة سنة فموته منتصف ثَلَاث عشرَة وَتِسْعمِائَة، ثمَّ ملك " قوقاس " ثَمَان سِنِين فموته منتصف إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة.
ثمَّ ملك " هِرقل " واسْمه بالروم أرقليس وَكَانَت الْهِجْرَة فِي السّنة الثَّانِيَة عشرَة من ملكه لمضي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا وَلَكِن قد سبق فِي الْجَدْوَل أَن بَين الْهِجْرَة وَغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر تِسْعمائَة وأربعا وَثَلَاثِينَ سنة فَيكون التَّفَاوُت بَين ذَلِك وَبَين مَا ذكر الْآن سنة وَاحِدَة وَهِي تفَاوت يسير.(1/55)
(الْفَصْل الرَّابِع)
(فِي مُلُوك الْعَرَب قبل الْإِسْلَام)
مَا يتَعَلَّق بقبائل الْعَرَب وأنسابهم سَنذكرُهُ مَعَ ذكر أمة الْعَرَب، فِي الْفَصْل الْخَامِس من كتاب أبي سعيد إِن بعد تبلبل الألسن وتفرق بني نوح أول من نزل الْيمن " قحطان " بن عَابِر بن شالح وقحطان أول من ملك أَرض الْيمن وَلبس التَّاج ثمَّ مَاتَ.
فَملك بعده ابْنه " يعرب " أول من نطق بِالْعَرَبِيَّةِ على مَا ذكر، ثمَّ ملك ابْنه " يشجب " ثمَّ ابْنه " عبد شمس " فَأكْثر الْغَزْو فِي الأقطار فَسُمي سبا وَهُوَ الَّذِي بنى السد بِأَرْض مأرب وفجر إِلَيْهِ سبعين نَهرا وسَاق إِلَيْهِ السُّيُول من أمد بعيد وَبنى مأرب وَعرفت بِمَدِينَة سبا وَقيل مأرب لقب لمن يَلِي الْيمن وَقل مأرب قصر الْملك وَالْمَدينَة سبا وَخلف سبا عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم حمير وَعَمْرو وكهلان وأشعر وَغَيرهم كَمَا سَيَأْتِي، وَملك بعده ابْنه " حمير " فَأخْرج ثمودا من الْيمن إِلَى الْحجاز.
ثمَّ ملك ابْنه " وَائِل " بن حمير، ثمَّ ابْنه " سكسك " ثمَّ ابْنه " يعفر "، ثمَّ وثب على ملك الْيمن " ذورياش " عَامر بن باران بن عَوْف بن حمير ثمَّ نَهَضَ من بني وَائِل " النُّعْمَان " بن يعفر بن السكسك بن وَائِل بن حمير وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس وطرد عَامر بن باران عَن الْملك واستقل النُّعْمَان ولقب النُّعْمَان بالمعافر لقَوْله:
(إِذا أَنْت عافرت الْأُمُور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول)
المقاول لَفظه جمع وهم الَّذين يلون الْجِهَات الْكِبَار من الْيمن ثمَّ ملك ابْنه " أسمح " ثمَّ " شَدَّاد " بن عَاد بن الماطاط بن سبا وَجمع الْملك وغزا الْبِلَاد إِلَى أقْصَى الغرب وَبنى الْمَدَائِن والمصانع وَأبقى الْآثَار الْعَظِيمَة.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " لُقْمَان " بن عَاد، ثمَّ أَخُوهُ " ذُو شدد " بن عَاد، ثمَّ ابْنه " الْحَارِث " الرائش بن ذِي شدد وَقيل الْحَارِث الرائش الْمَذْكُور هُوَ ابْن قيس بن صَيْفِي بن سبا الْأَصْغَر وَهُوَ تبع الأول، ثمَّ ابْنه " ذُو القرنين " الصعب، ثمَّ ابْنه " ذُو الْمنَار أَبْرَهَة " ثمَّ ابْنه " أفريقش "، ثمَّ أَخُوهُ " ذُو الأذعار " عَمْرو بن ذِي الْمنَار، ثمَّ ملك " شُرَحْبِيل " بن عَمْرو بن غَالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن وَائِل بن حمير فَإِن حمير كرهت ذَا الأذعار فخلعت طَاعَته وملكت عَلَيْهَا شُرَحْبِيل وَجرى بَينهمَا حَرْب واستقل شُرَحْبِيل بِالْملكِ وَبعده ابْنه " الهدهاد " ثمَّ ابْنَته بلقيس بنت الهدهاد زوج سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ عَمها " ناشر(1/56)
النعم " بن شُرَحْبِيل وَقيل ناشر النعم اسْمه مَالك بن عَمْرو بن يعفر بن عَمْرو من ولد المنتاب بن زيد الْحِمْيَرِي.
ثمَّ ملك بعده " شمر يرعش " بن ناشر النعم وَقيل شمر بن أفريقش بن أَبْرَهَة بن ذِي الْمنَار، ثمَّ ابْنه " أَبُو مَالك " بن شمر، ثمَّ ملك عمرَان بن عَامر الْأَزْدِيّ هُوَ " عمرَان " بن عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبا وانتقل الْملك حِينَئِذٍ من ولد حمير بن سبا إِلَى ولد أَخِيه كهلان بن سبا وَكَانَ عمرَان كَاهِنًا.
ثمَّ ملك بعده " مزيقيا " عَمْرو بن عَامر الْأَزْدِيّ قيل لَهُ مزيقيا لِأَنَّهُ كَانَ يلبس كل يَوْم حلَّة فَإِذا أَرَادَ الدُّخُول إِلَى مَجْلِسه رمى بهَا فمزقت لِئَلَّا يجد أحد وقيها مَا يلْبسهُ بعده.
من تَارِيخ حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ أَن الَّذِي ملك بعد أبي مَالك بن شمر قبل عمرَان الْأَزْدِيّ ابْنه " الأقرن " بن أبي مَالك.
ثمَّ ملك " ذُو حبشان " بن الأقرن وأوقع بطسم وجديس ثمَّ أَخُوهُ " تبع " بن الأقرن، ثمَّ ابْنه " كلبكرب " بن تبع، ثمَّ ملك " أَبُو كرب أسعد " تبع الْأَوْسَط وَقتل، ثمَّ ابْنه " حسان " بن تبع وَقتل قَتله أَبِيه، ثمَّ قَتله أَخُوهُ " عَمْرو " بن تبع وَملك بعده وتواترت بِعَمْرو الأسقام فَكَانَ يمْضِي إِلَى الْخَلَاء على نعش فَسُمي ذَا الأعواد.
ثمَّ ملك بعده " عبد كلال " بن ذِي الأعواد، ثمَّ " تبع " بن حسان بن كليكرب وَهُوَ تبع الْأَصْغَر، ثمَّ ابْن أَخِيه " الْحَارِث " بن عَمْرو وتهود الْحَارِث، ثمَّ ملك " مرْثَد " بن كلال، ثمَّ تفرق بعده ملك حمير وَالَّذِي اشْتهر بعده أَنه ملك " وكيعة " بن مرْثَد، ثمَّ " أَبْرَهَة " بن الصَّباح، ثمَّ صهْبَان بن مجرب، ثمَّ " عَمْرو بن تبع "، ثمَّ " ذُو شناتر "، ثمَّ " ذُو نواس " وَكَانَ من لَا يتهود أَلْقَاهُ فِي أخدُود مضطرم فَسُمي صَاحب الْأُخْدُود، ثمَّ " ذُو جدن " آخر مُلُوك حمير وَمُدَّة ملكهم على مَا قيل أَلفَانِ وَعِشْرُونَ سنة.
" قَالَ صَاحب تواريخ الْأُمَم " لَيْسَ فِي التواريخ أسقم من تواريخ مُلُوك حمير لما يذكر فِيهِ من كَثْرَة عدد سنيهم مَعَ قلَّة عدد مُلُوكهمْ فَإِنَّهُم يَزْعمُونَ أَن مُلُوكهمْ سِتَّة وَعِشْرُونَ ملكا ملكوا فِي مُدَّة أَلفَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ ملك الْيمن بعدهمْ من الْحَبَشَة وَمن الْفرس ثَمَانِيَة ثمَّ صَارَت الْيمن لِلْإِسْلَامِ.
ثمَّ ملك الْيمن بعد ذِي جدن من الْحَبَشَة " أرباط "، ثمَّ " أَبْرَهَة الأشرم " صَاحب الْفِيل ثمَّ " بكسوم "، ثمَّ مَسْرُوق بن أَبْرَهَة وَهُوَ آخر من ملك الْيمن من الْحَبَشَة ثمَّ عَاد الْيمن إِلَى حمير وملكها " سيف بن ذِي يزن الْحِمْيَرِي " أنجده كسْرَى أنوشروان بِجَيْش من الْعَجم مقدمه وهرز فطرد الْحَبَشَة وَقرر سَيْفا بِالْيمن فَجَلَسَ سيف يَوْمًا يشرب فِي غمدان وَهُوَ قصر لأجداده بِالْيمن فامتدحه الْعَرَب بالأشعار مِنْهَا قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت، يصف تغرب سيف وقصده قَيْصر ثمَّ كسْرَى ونجدته لَهُ:(1/57)
(لَا تقصد النَّاس إِلَّا كَابْن ذِي يزن ... إِذْ خيم الْبَحْر للأعداء أحوالا)
(وافى هِرقل وَقد سَالَتْ نعامته ... فَلم تَجِد عِنْده النَّصْر الَّذِي سالا)
(ثمَّ انتحى نَحْو كسْرَى بعد عاشرة ... من السنين نهبن النَّفس والمالا)
(حَتَّى أَتَى ببني الْأَحْرَار يقدمهم ... تخالهم فَوق متن الأَرْض أجبالا)
(لله دِرْهَم من فتية صَبَرُوا ... مَا أَن رَأَيْت لَهُم فِي النَّاس أَمْثَالًا)
(بيض مرازبة غلب أساورة ... أَسد تربب فِي الغيضات أشبالا)
(فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفعا ... بِرَأْس غمد إِن دَارا مِنْك محلالا)
(تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن ... شيبا بِمَاء فعادا بعد أبوالا)
وَاصْطفى سيف جمَاعَة من الحبشان خَاصَّة لَهُ فاغتالوه وقتلوه فَأرْسل كسْرَى عَاملا على الْيمن واستمرت عُمَّال كسْرَى على الْيمن إِلَى آخِرهم وَهُوَ باذان الَّذِي كَانَ على عهد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأسلم، ثمَّ صَارَت الْيمن لِلْإِسْلَامِ.
(ذكر مُلُوك الْعَرَب فِي غير الْيمن)
أول ملك من الْعَرَب بِأَرْض الجزيرة " مَالك " بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد اللَّهِ بن وهران بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن مَالك بن النَّضر بن الأزد من ولد كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان كَانَ ملك مَالك فِي أَيَّام مُلُوك الطوائف قبل الأكاسرة.
ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ " عَمْرو " بن فهم، ثمَّ ابْن أَخِيه " جذيمة " بن مَالك؛ كَانَ بِهِ برص فَقَالُوا جذيمة الأبرص فَقَالُوا جذيمة الأبرش كِنَايَة عَنهُ وَعظم شَأْنه وَأُخْته رقاش هويت عدي بن نصر بن ربيعَة من أياد وهويها وَكَانَ جذيمة اصْطنع عديا وَسلم إِلَيْهِ مجْلِس شرابه فاتفقت مَعَه أَن يخطبها من أَخِيهَا جذيمة حَال سكره فَفعل وَأذن لَهُ جذيمة فَدخل عدي برقاش فَلَمَّا أصبح جذيمة وَعلم بذلك عظم عَلَيْهِ فهرب عدي وَقيل ظفر بِهِ جذيمة فَقتله وحبلت رقاش من عدي فَقَالَ لَهَا جذيمة:
(خبريني رقاش لَا تكذبِينِي ... أبحر زَنَيْت أم بهجين)
(أم بِعَبْد فَأَنت أهل لعبد ... أم بِدُونِ فَأَنت أهل لدوّنَ)
فَقَالَت: بل من خِيَار الْعَرَب وَجَاءَت بِولد سمته عمرا وربته وزينته وألبسته طوقا وَفَرح بِهِ جذيمة ثمَّ عدم الْغُلَام وتزعم الْعَرَب أَن الْجِنّ اختطفته ثمَّ وجده شخصان مَالك وَعقيل فأحضراه لَهُ فجعلهما منادمين لَهُ مَا بقوا وَالْعرب تضرب الْمثل بندماني جذيمة وَفِي أَيَّام جذيمة ملك الجزيرة وأعالي الْفُرَات ومشارف الشَّام رجل من العمالقة اسْمه عَمْرو بن الظرب بن حسان وحاربة جذيمة وانتصر جذيمة عَلَيْهِ وَقَتله.
ولعمرو بنت اسْمهَا نائلة وتدعى " الزباء " ملكت بعده وَبنت على الْفُرَات مدينتين(1/58)
متقابلتين وَأخذت فِي الْحِيلَة على جذيمة وَأَطْعَمته بِنَفسِهَا حَتَّى اغْترَّ وَقدم إِلَيْهَا فَقتلته وَأخذت بثأر أَبِيهَا.
(ذكر ابْتِدَاء ملك اللخميين)
مُلُوك الْحيرَة هم المتاذرة بَنو عدي بن نصر بن ربيعَة من ولد لخم بن عدي بن عَمْرو ابْن سبا وَلما قتل جذيمة ملك بعده ابْن أُخْته رقاش " عَمْرو " بن عدي بن نصر بن ربيعَة.
وَكَانَ لجذيمة عبد يُقَال لَهُ قصير فاتفق مَعَه عَمْرو على جدع أنف قصير وضربه بالسياط وَحضر قصير على تِلْكَ الْحَالة إِلَى الزباء فِي صُورَة مغاضب لعَمْرو فأمنت إِلَيْهِ الزباء وَصَارَ يتجر لَهَا وَيَأْخُذ قصير المَال من مَوْلَاهُ ويحضره إِلَيْهَا موهما لَهَا أَنه كسب متجرها مَرَّات حَتَّى أَتَى بقافلة نَحْو ألف جمل عَلَيْهَا صناديق مقفلة من دَاخل فِيهَا أبطال فارتابت الزباء مِنْهَا وَقَالَت:
(مَا للجمال سَيرهَا وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا)
(أم صرفانا بَارِدًا صهيدا ... أم الرِّجَال جثما قعُودا)
فَلَمَّا دخلُوا حصنها خَرجُوا من الصناديق وَأخذُوا الْمَدِينَة عنْوَة وَقتلُوا الزباء وَأخذ قصير بثأر جذيمة مَوْلَاهُ؛ قلت: هُوَ قصير بن سعد اللَّخْمِيّ صَاحب جذيمة وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب الأذكياء أَنه ابْن عَم جذيمة وَفِي صِحَاح الْجَوْهَرِي أَنه صَاحب جذيمة فَفِي قَوْله أَنه عبد لَهُ فِيهِ نظر وَضرب بجذع قصير أَنفه الْمثل الْمَشْهُور وَالله أعلم. وَطَالَ ملك عَمْرو وَمَات.
وَملك بعد ابْنه " امْرُؤ الْقَيْس " بن عَمْرو وَيُقَال لَهُ البداء أَي الأول، ثمَّ ملك بعد ابْنه " عَمْرو " فِي أَيَّام سَابُور ذِي الأكتاف، ثمَّ ملك " أَوْس " بن قلام العمليقي ثمَّ ملك آخر من العماليق، ثمَّ رَجَعَ الْملك إِلَى بني عَمْرو بن عدي بن نصر بن ربيعَة اللخميين الْمَذْكُورين وَملك مِنْهُم " امْرُؤ الْقَيْس " من ولد عَمْرو بن امرىء الْقَيْس وَيعرف هَذَا الثَّانِي بالمحرق لِأَنَّهُ أول من عاقب بالنَّار.
ثمَّ ملك ابْنه " النُّعْمَان " الْأَعْوَر باني الخورنق والسدير ملك ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ تزهد وَخرج من الْملك فِي زمن بهْرَام جور بن يزدجرد ذكره عدي بن زيد فِي قصيدته الْمَشْهُورَة بقوله:
(وتدبر رب الخورنق ... إِذْ أشرف يَوْمًا وللهدى تفكير)
(سره مَاله وَكَثْرَة مَا ... يملك وَالْبَحْر معرض والسدير)
(فارعوى قلبه فَقَالَ وَمَا ... غِبْطَة حَيّ إِلَى الْمَمَات يصير)
وَملك بعده ابْنه الْمُنْذر بن النُّعْمَان وانْتهى ملكه فِي زمن فَيْرُوز بن يزدجرد، ثمَّ ملك ابْنه الْأسود وانتصر على غَسَّان عرب الشَّام وَأسر عدَّة من مُلُوكهمْ وَأَرَادَ الْأسود بن الْمُنْذر أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ لَهُ ابْن عَم يُقَال لَهُ أَبُو أذينة قد قتل لَهُ آل غَسَّان أَخا فِي بعض الوقائع(1/59)
فَقَالَ أَبُو أذينة فِي ذَلِك قصيدته الْمَشْهُورَة يغري الْأسود بِقَتْلِهِم مِنْهَا:
(مَا كل يَوْم ينَال الْمَرْء مَا طلبا ... وَلَا يسوغه الْمِقْدَار مَا وهبا)
(وأحزم النَّاس من أَن فرْصَة عرضت ... لم يَجْعَل السَّبَب الْمَوْصُول مقتضبا)
(وأنصف النَّاس فِي كل المواطن من ... سقى المعادين بالكأس الَّذِي شربا)
(وَلَيْسَ بظلمهم من رَاح يَضْرِبهُمْ ... بِحَدّ سيف بِهِ من قبلهم ضربا)
(وَالْعَفو إِلَّا عَن الْأَكفاء مكرمَة ... من قَالَ غير الَّذِي قد قلته كذبا)
(قتلت عمرا وتستبقي يزيدا لقد ... رَأَيْت رَأيا يجر الويل والحربا)
(لَا تقطعن ذَنْب الأفعى وترسلها ... إِن كنت شهما فَألْحق رَأسهَا الذنبا)
(هم جردوا السَّيْف فاجعلهم لَهُ جزرا ... وأوقدوا النَّار فاجعلهم لَهَا حطبا)
(إِن تعف عَنْهُم يَقُول النَّاس كلهم ... لم يعف حلما وَلَكِن عَفوه رهبا)
(هم أهيلة غَسَّان ومجدهم ... عَال فَإِن حاولوا ملكا فَلَا عجبا)
(وعرضوا بِفِدَاء واصفين لنا ... خيلا وإبلا تروق الْعَجم والعربا)
(أيحلبون دَمًا منا ونحلبهم ... رسلًا لقد شرفونا فِي الَّذِي حَلبًا)
(علام نقبل مِنْهُم فديَة وهم ... لَا فضَّة قبلوا منا وَلَا ذَهَبا)
وانْتهى ملك الْأسود فِي زمن فَيْرُوز، ثمَّ ملك أَخُوهُ " الْمُنْذر " بن الْمُنْذر بن النُّعْمَان. الْأَعْوَر، ثمَّ ملك " عَلْقَمَة " الذميلي وذميل بطن من لخم، ثمَّ ملك امْرُؤ الْقَيْس بن النُّعْمَان بن المحرق بن امرىء الْقَيْس المحرق قَاتل سنمار باني قصر امرىء الْقَيْس وَفِيه يَقُول المتلمس:
(جزاني أَبُو لخم على ذَات بَيْننَا ... جَزَاء سنمار وَمَا كَانَ ذَا ذَنْب)
ثمَّ ملك ابْنه " الْمُنْذر " بن امرىء الْقَيْس وَأم الْمُنْذر مَاء السَّمَاء فاشتهر بِأُمِّهِ وَهِي ماوية كَانَت جميلَة وأبوها عَوْف بن جشم وطرد كسْرَى قباذ الْمُنْذر عَن ملك الْحيرَة وَملك مَوْضِعه " الْحَارِث " بن عَمْرو بن حجر الْكِنْدِيّ لموافقة الْحَارِث لقباذ على دين مزدك وَلم يُوَافقهُ الْمُنْذر وَأَعَادَهُ كسْرَى أنوشروان لما ملك إِلَى ملك الْحيرَة كَمَا تقدم.
ثمَّ ملك بعد الْمُنْذر " عَمْرو " مضرط الْحِجَارَة وَهُوَ ابْن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وامه هِنْد وَيعرف بِعَمْرو هِنْد ولثمان سِنِين مَضَت من ملكه كَانَ مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ " الْمُنْذر " بن الْمُنْذر ثمَّ ابْنه " النُّعْمَان بن الْمُنْذر " بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وكنيته أَبُو قَابُوس وَهُوَ الَّذِي تنصر وَأمه سلمى بنت وَائِل بن عَطِيَّة الصَّائِغ من أهل فدك وَملك اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَقَتله كسْرَى برويز وَسبب قَتله وقْعَة ذِي قار بَين الْفرس والرعب.
ثمَّ انْتقل ملك الْحيرَة بعد النُّعْمَان عَن اللخميين إِلَى " أياس " بن قبيصَة الطَّائِي ولستة أشهر من ملك أياس بعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَملك بعد أياس " زادويه " بن ماهان الْهَمدَانِي، ثمَّ عَاد الْملك إِلَى اللخميين فَملك بعد زادويه " " الْمُنْذر " بن النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن الْمُنْذر بن مَاء(1/60)
السَّمَاء وسمته الْعَرَب الْمَغْرُور وَاسْتمرّ مَالِكًا للحيرة إِلَى أَن قدم إِلَيْهَا خَالِد بن الْوَلِيد وَاسْتولى عَلَيْهَا والمناذرة إِلَى نصر بن ربيعَة عُمَّال الأكاسرة على عرب الْعرَاق كَمَا كَانَ مُلُوك غَسَّان عمالا للقياصرة على عرب الشَّام.
(ذكر مُلُوك غَسَّان)
عُمَّال القياصرة على عرب الشَّام أصلهم من الْيمن من بني أَزْد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبا تفَرقُوا من الْيمن بسيل العرم ونزلوا على مَاء بِالشَّام يُقَال لَهُ غَسَّان فنسبوا إِلَيْهِ وَكَانَ قبلهم بِالشَّام الْعَرَب الضجاعة من سليح بِفَتْح السِّين وَآخره حاء مُهْملَة فأخرجت غَسَّان سليحا وَقتلُوا مُلُوكهمْ وصاروا موضعهم.
وَأول مُلُوك غَسَّان " جَفْنَة " بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن مزيقيا وَابْتِدَاء ملك غَسَّان قبل الْإِسْلَام بأزيد من أَرْبَعمِائَة سنة وَلما قتل جَفْنَة مُلُوك سليح دَانَتْ لَهُ قضاعة وَمن بِالشَّام من الرّوم وَبني بِالشَّام مصانع ثمَّ هلك وَملك ابْنه " عَمْرو " وَبنى بِالشَّام ديورا مِنْهَا دير جال ودير أَيُّوب ودير هِنْد.
ثمَّ ملك ابْنه " ثَعْلَبَة " وَبنى صرح الغدير فِي أَطْرَاف حوران مِمَّا يَلِي البلقاء، ثمَّ ملك ابْنه الْحَارِث ثمَّ " جبلة " بن الْحَارِث وَبنى القناطر وأذرح والقسطل، ثمَّ ملك " الْحَارِث " بن جبلة وَسكن البلقاء وَبنى بهَا الحفير ومصنعه.
ثمَّ ملك ابْنه " الْمُنْذر " الْأَكْبَر بن الْحَارِث بن جبلة بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن جنفة الأول، ثمَّ هلك الْمُنْذر وَملك بعده أَخُوهُ النُّعْمَان بن الْحَارِث، ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ جبلة بن الْحَارِث، ثمَّ ملك بعدهمْ أخوهم الْأَيْهَم بن الْحَارِث وَبنى دير ضخم ودير النُّبُوَّة، ثمَّ ملك أخوهم عَمْرو بن الْحَارِث.
ثمَّ ملك جَفْنَة الْأَصْغَر بن الْمُنْذر الْأَكْبَر وأحرق الْحيرَة فَسُمي وَلَده آل محرق، ثمَّ ملك أَخُوهُ النُّعْمَان الْأَصْغَر بن الْمُنْذر الْأَكْبَر، ثمَّ النُّعْمَان بن عَمْرو بن الْمُنْذر وَبنى قصر السويدا وَلم يكن عَمْرو أَبُو النُّعْمَان الْمَذْكُور ملكا، وَفِي عَمْرو يَقُول النَّابِغَة الذبياني::
(عَليّ لعَمْرو نعْمَة بعد نعْمَة ... لوالده لَيست بِذَات عقارب)
ثمَّ ملك بععد النُّعْمَان الْمَذْكُور ابْنه جبلة وَهُوَ الَّذِي قَاتل الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَكَانَ جبلة ينزل بصفين، ثمَّ ملك النُّعْمَان بن الْأَيْهَم بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة، ثمَّ أَخُوهُ الْحَارِث، ثمَّ الْأَيْهَم، ثمَّ ابْنه النُّعْمَان بن الْحَارِث وَأصْلح صهاريج الرصافة وَكَانَ قد خربها بعض مُلُوك الْحيرَة اللخميين، ثمَّ ابْنه الْمُنْذر بن النُّعْمَان، ثمَّ أَخُوهُ عَمْرو بن النُّعْمَان، ثمَّ أخوهما حجر بن النُّعْمَان ثمَّ ابْنه الْحَارِث بن حجر، ثمَّ ملك ابْنه جبلة بن الْحَارِث، ثمَّ ابْنه الْحَارِث بن جبلة، ثمَّ ابْنه النُّعْمَان بن الْحَارِث وكنيته أَبُو كرب ولقبه قطام، ثمَّ الْأَيْهَم بن جبلة بن الْحَارِث صَاحب تدمر وَكَانَ عَامله يُسمى الْقَيْن بن خسر وَبنى لَهُ بالبرية قصرا(1/61)
عَظِيما ومصانع وَكَأَنَّهُ قصر برقع، ثمَّ أَخُوهُ الْمُنْذر بن جبلة، ثمَّ أخوهما شُرَحْبِيل بن جبلة، ثمَّ أخوهم عَمْرو بن جبلة، ثمَّ ابْن أَخِيه جبلة بن الْحَارِث بن جبلة، ثمَّ ملك بعده " جبلة " بن الْأَيْهَم بن جبلة وَهُوَ آخر مُلُوك غَسَّان أسلم فِي خِلَافه عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ ثمَّ عَاد إِلَى الرّوم وَتَنصر، سَيَأْتِي ذكره. وَاخْتلف فِي مُدَّة ملك الغسانية فَقيل أَرْبَعمِائَة وَقيل سِتّمائَة وَقيل بَين ذَلِك.
(ذكر مُلُوك جرهم)
هم صنفان: جرهم الأولى فِي عهد عَاد فبادوا ودرسوا، وجرهم الثَّانِيَة من ولد جرهم بن قحطان، وجرهم أَخُو يعرب بن قحطان ملك " يعرب " الْيمن وَملك أَخُوهُ " جرهم " الْحجاز ثمَّ ابْنه عبد ياليل، ثمَّ ابْنه جرهم، ثمَّ ابْنه عبد المدان، ثمَّ ابْنه نفيلة، ثمَّ ابْنه عبد الْمَسِيح، ثمَّ ابْنه مضاض، ثمَّ ابْنه عَمْرو، ثمَّ أَخُوهُ الْحَارِث بن مضاض، ثمَّ ابْنه عَمْرو، ثمَّ أَخُوهُ بشر بن الْحَارِث، ثمَّ مضاض بن عَمْرو بن مضاض. وجرهم هم الَّذين اتَّصل بهم إِسْمَاعِيل وَتزَوج مِنْهُم.
(ذكر مُلُوك كِنْدَة)
أَوَّلهمْ حجر آكل المرار بن عَمْرو من ولد كِنْدَة وَاسم كِنْدَة ثَوْر بن عفير بن الْحَارِث من ولد زيد بن كهلان بن سبا كَانَت كِنْدَة بِغَيْر ملك فَأكل الْقوي الضعْف فَملك حجر وسدد وساس فَأحْسن وانتزع من اللخميين مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم من أَرض بكر بن وَائِل قَالَت عَنهُ امراته كَأَنَّهُ جمل قد أكل المرار بغضا لَهُ فغلب عَلَيْهِ لقبا، ثمَّ ملك بعده ابْنه " عَمْرو " ولقب عَمْرو بالقسور لِأَنَّهُ اقْتصر على ملك أَبِيه.
ثمَّ ملك ابْنه " الْحَارِث " فقوي ملكه وَوَافَقَ كسْرَى قباذ على الزندقة المزدكية فطرد قباذ الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء كَمَا تقدم فَلَمَّا أعَاد أنوشروان الْمُنْذر إِلَى ملك الْحيرَة وطرد الْحَارِث وهرب تَبعته تغلب فظفروا بأمواله وبأربعين نفسا من بني حجر آكل المرار مِنْهُم اثْنَان من ولد الْحَارِث فَقَتلهُمْ الْمُنْذر جَمِيعًا فِي ديار بني مرين وَفِي ذَلِك يَقُول امْرُؤ الْقَيْس بن حجر ابْن الْحَارِث:
(فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وابنا بالملوك مصفدينا)
(مُلُوك من بني حجر بن عَمْرو ... يساقون العشية يقتلونا)
(فَلَو فِي يَوْم معركة أصيبوا ... وَلَكِن فِي ديار بني مرينا)
(وَلم تغسل جماجمهم بِغسْل ... وَلَكِن فِي الدِّمَاء مرملينا)
(تظل الطير عاكفة عَلَيْهِم ... وتنتزع الحواجب والعيونا)
وهرب الْحَارِث إِلَى ديار كلب وَبَقِي بهَا حَتَّى عدم وَاخْتلف فِي صُورَة عَدمه وَكَانَ قد ملك ابْنه " حجرا " على بني أَسد وَبني خُزَيْمَة بن مدركة وَملك بَاقِي بنيه على قبائل الْعَرَب، فابنه شُرَحْبِيل على بكر بن وَائِل وَابْنه معدي كرب ويلقب غلفًا لتغليف رَأسه بالطيب على(1/62)
قيس عيلان وَابْنه سَلمَة على تغلب والنمر، وَحجر هَذَا أَبُو امرىء الْقَيْس الشَّاعِر تماسك أمره فِي بني أَسد مُدَّة ثمَّ تنكروا عَلَيْهِ فقهرهم وأنكى فأطاعوه ثمَّ قَتَلُوهُ غيلَة وَفِيه يَقُول امْرُؤ الْقَيْس ابْنه أبياتا مِنْهَا:
(بَنو أَسد قتلوا رَبهم ... أَلا كل شَيْء سواهُ جلل)
وَلما سمع بقتل أَبِيه بدمون مَوضِع بِالْيمن قَالَ:
(تطاول اللَّيْل علينا دمون ... دمون أَنا معشر يمانون)
ثمَّ استنجد امْرُؤ الْقَيْس ببكر وتغلب على بني أَسد فَهَرَبُوا مِنْهُ ثمَّ تخاذلت عَنهُ بكر وتغلب ونطلبه الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء فتفرقت جموع امرىء الْقَيْس خوفًا وَخَافَ امْرُؤ الْقَيْس أَيْضا من الْمُنْذر فتنقل إِلَى قبائل الْعَرَب يتدخل عَلَيْهِم حَتَّى قصد السموأل بن عاديا الْيَهُودِيّ فَأكْرمه وَأقَام عِنْده مَا شَاءَ اللَّهِ ثمَّ قصد قَيْصر ملك الرّوم مستنجدا وأودع أدراعه عِنْد السموأل وَمر على حماة وشيزر، قلت: وَمر أَيْضا على بادف ذَات التل وَقَالَ فِي سيرة قصيدته الْمَشْهُورَة مِنْهَا:
(سما لَك الشوق بعد مَا كَانَ أقصرا ... )
وَمِنْهَا
(نقطع أَسبَاب اللبانة والهوى ... عَشِيَّة جاورنا حماة وشيزرا)
وَمِنْهَا:
(بَكَى صَاحِبي لما رأى الدَّرْب دونه ... وأيقن أَنا لاحقان بقيصرا)
(فَقلت لَهُ لَا تبك عَيْنك إِنَّمَا ... نحاول ملكا أَو نموت فنعذرا)
وَكَانَ بِهِ قرحَة طَالَتْ بِهِ وفيهَا يَقُول:
(وبدلت قرحا داميا بعد صِحَة ... لَعَلَّ منايانا تحولن أبؤسا)
فَمَاتَ امْرُؤ الْقَيْس بعد عوده عَن قَيْصر بالروم عِنْد جبل عسيب وَهُنَاكَ قَالَ:
(أجارتنا أَن الخطوب تنوب ... وَأَنِّي مُقيم مَا أَقَامَ عسيب)
وَقيل سمه ملك الرّوم وَلَيْسَ بِشَيْء وَلما مَاتَ امْرُؤ الْقَيْس سَار الْحَارِث بن ابي شمر الغساني إِلَى السموأل وطالبه بأدراع امرىء الْقَيْس وَهِي مائَة وبماله عِنْده وَكَانَ الْحَارِث قد أسر ابْن السموأل فَامْتنعَ السموأل من تَسْلِيم ذَلِك إِلَى الْحَارِث فَقَالَ الْحَارِث: أما أَن تسلم الأدراع وَإِمَّا قتلت ابْنك فَأبى السموأل من تَسْلِيمهَا فَقتل ابْنه قدامه فَقَالَ السموأل أبياتا مِنْهَا:
(وفيت بأدرع الْكِنْدِيّ إِنِّي ... إِذا مَا ذمّ أَقوام وفيت)
(وَأوصى عاديا يَوْمًا بِأَن لَا ... يهدم يَا سموأل مَا بنيت)
وَذكر الْأَعْشَى هَذِه الْحَادِثَة فَقَالَ:
(كن سموأل إِذا طَاف الْهمام بِهِ ... فِي جحفل كسواد اللَّيْل جرار)
(فَشك غير طَوِيل ثمَّ قَالَ لَهُ ... اقْتُل أسيرك إِنِّي مَانع جاري)(1/63)
(ذكر عدَّة من مُلُوك الْعَرَب مُتَفَرّقين)
فَمنهمْ " عَمْرو " بن لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد من ولد كهلان بن سبأ هَذَا عَمْرو ملك الْحجاز كَبِير الذّكر فِي الْجَاهِلِيَّة وَإِلَيْهِ تنْسب خُزَاعَة فَيَقُولُونَ إِنَّهُم من ولد كَعْب بن عَمْرو الْمَذْكُور وَهُوَ أول من جعل الْأَصْنَام على الْكَعْبَة وعبدها فأطاعه الْعَرَب وعبدوها حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام لِأَنَّهُ رأى بالبلقاء من الشَّام قوما يعْبدُونَ الْأَصْنَام وَقَالُوا لَهُ هَذِه أَرْبَاب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية نستنصر بهَا فَتَنَصَّرَ ونستسقي بهَا فنسقى ونستشفي فنشفى فأعجبه ذَلِك فَطلب مِنْهُم صنما فَأَعْطوهُ هُبل فنقله إِلَى مَكَّة وَجعله على الْكَعْبَة واستصحب أَيْضا أساف ونائلة صنمين ودعا إِلَى تَعْظِيم الْأَصْنَام فَأَجَابُوهُ.
وَقَالَ الشهرستاني: كَانَ ذَلِك فِي أَيَّام سَابُور وَهُوَ غلط فعمرو وَعبادَة الْأَصْنَام قبل ذَلِك وسابور قبل الْإِسْلَام بِنَحْوِ أَرْبَعمِائَة سنة إِن كَانَ سَابُور بن أزدشير بن بابك وَإِن كَانَ سَابُور ذَا الأكتاف فأبعد عَن الصَّوَاب فَإِنَّهُ بعد سَابُور الأول بِكَثِير وَمن مُلُوك الْعَرَب " زُهَيْر " بن جناب بن هُبل بن عبد اللَّهِ بن كنَانَة بن بكر بن عَوْف بن عذرة الْكَلْبِيّ سمي زُهَيْر الكاهن لصِحَّة رَأْيه وَعمر وغزا كثيرا وَاجْتمعت عَلَيْهِ قضاعة فغزا بهم غطفان بِسَبَب أَن بني بغيض بن ريث بن غطفان بنوا حرما مثل حرم مَكَّة وَولي سدانته مِنْهُم بَنو مرّة بن عَوْف فَغَاظَهُ بِنَاؤُه فغزاهم وظفر وأبطل حرمهم وَأخذ أَمْوَالهم ورد نِسَائِهِم عَلَيْهِم وَفِي ذَلِك يَقُول:
(وَلَوْلَا الْفضل منا مَا رجعتم ... إِلَى عذراء شيمتها الْحيَاء)
وَكَانَ زُهَيْر قد اجْتمع بأبرهة صَاحب الْفِيل فَأكْرمه وَأمره على بكر وتغلب ابْني وَائِل وَاسْتمرّ زُهَيْر أَمِيرا عَلَيْهِم حَتَّى خَرجُوا عَن طَاعَته فغزاهم أَيْضا وَقتل فيهم وغزا بني الْقَيْن وَيطول شرح حروبه مَعَهم وَكَانَ الظفر لَهُ وأسن وَشرب خمرًا صرفا فَمَاتَ وَمِمَّنْ قَتله الصّرْف عَمْرو بن كُلْثُوم التغلبي وَأَبُو عَامر ملاعب الأسنة العامري وَمن مُلُوك الْعَرَب " كُلَيْب " بن ربيعَة بن الْحَارِث بن نصر بن جشم بن بكر بن حبيب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب بن وَائِل وَوَائِل هُوَ ابْن قاسط بن هنب بن أقْصَى بن دعمي بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة الْفرس بن نزار بن معد بن عدنان وَاسم كُلَيْب وَائِل ولقب كليبا.
ملك على بني معد وَقَاتل جموع الْيمن وَهَزَمَهُمْ وَعمر زَمَانا، ثمَّ زها وبغى على قومه وَحمى عَلَيْهِم مواقع السَّحَاب فَلَا يرْعَى حماه وَيَقُول وَحش أَرض كَذَا فِي جواري فَلَا يصاد وَلَا ترد إبل مَعَ إبِله وَلَا يُوقد نَار مَعَ ناره حَتَّى قَتله " جساس " بن مرّة بن ذهل بن شَيبَان وشيبان من بني بكر بن وَائِل.
(سَبَب مقتل كُلَيْب)
إِن رجلا من جرم نزل على خَالَة جساس وَهِي البسوس بنت منقذ التميمة وللجرمي نَاقَة اسْمهَا سراب فَوَجَدَهَا كُلَيْب ترعى فِي حماه فخرم ضرْعهَا بِسَهْم فَصَرَخَ صَاحبهَا بالذل(1/64)
فصاحت البسوس وأذلاه بِسَبَب نزيلها فانتصر جساس لخالته وَقصد كليبا وَهُوَ مُنْفَرد فِي حماه فَقتله بِالرُّمْحِ فَقَامَ أَخُوهُ " مهلهل " بن ربيعَة وَجمع تغلب وَجرى بَين تغلب وَبني بكر وقائع أَولهَا يَوْم عنيزة كَانُوا فِي الْقِتَال على السوَاء ثمَّ اقْتَتَلُوا على مَاء اسْمه " النهى " وَكَانَ رَئِيس تغلب مهلهلا وَرَئِيس بني شَيبَان بن بكر الْحَارِث بن مرّة أَخا جساس فانتصرت تغلب ثمَّ اقْتَتَلُوا " بالذنائب " وَهِي أعظم وقعاتهم فانتصر مهلهل وَبَنُو تغلب وَقتل من بكر مقتلة عَظِيمَة وَمن بني شَيبَان جمَاعَة مِنْهُم شُرَحْبِيل بن همام بن مرّة وَهُوَ ابْن أخي جساس وشرحبيل جد معن بن زَائِدَة وَقتل أَخُو جساس الْحَارِث بن مرّة وَكَذَلِكَ قتل جمَاعَة من رُؤَسَاء بكر.
ثمَّ الْتَقَوْا يَوْم " واردات " فظفرت تغلب أَيْضا وَكثر الْقَتْل فِي بكر وَقتل همام أَخُو جساس لِأَبَوَيْهِ وَجعلت تغلب تطلب جساسا فألحقه أَبوهُ بأخواله بِالشَّام سرا مَعَ نفر قَلِيل وَبلغ مهلهلا الْخَبَر فَأرْسل إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ فَارِسًا فأدركوه فَاقْتَتلُوا فَلم يسلم من أَصْحَاب مهلهل غير رجلَيْنِ وَلَا من أَصْحَاب جساس غير رجلَيْنِ وجرح جساس جرحا مَاتَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قتل مهلهل أَيْضا بجير بن الْحَارِث الْبكْرِيّ وَلما قَتله مهلهل قَالَ بؤ بشسع نعل كُلَيْب فَقَالَ الْحَارِث أَبُو بجير أبياته الْمَشْهُورَة وَمِنْهَا:
(قربا مربط النعمامة فين ... شَاب رَأْسِي وأنكرتني رجالي)
(لم أكن من جناتها علم الله ... وَإِنِّي بحرها الْيَوْم صالي)
النعامة فرسه ودامت الْحَرْب بَين بني وَائِل الْمَذْكُورين أَرْبَعِينَ سنة وَلما قتل جساس أرسل أَبوهُ مرّة يَقُول لمهلهل قد أدْركْت ثأرك وَقتلت جساسا فَاكْفُفْ عَن الْحَرْب ودع اللجاج والإسراف فَلم يرجع مهلهل عَن الْقِتَال وَلما طَالَتْ الْحَرْب وَأدْركت تغلب مَا أَرَادَتْهُ من بكر أجابوهم إِلَى الْكَفّ عَن الْقِتَال وَعدم مهلهل.
من مُلُوك الْعَرَب " زُهَيْر " بن جذيمة بن رَوَاحَة بن ربيعَة بن مَازِن بن الْحَارِث بن فظيعة بن عبس وَالِد الْملك قيس بن الْعَبْسِي كَانَ لزهير أتاوة على هوَازن يَأْخُذهَا كل سنة بسوق عكاظ أَيَّام الْمَوْسِم بالحجاز فحقدوا عَلَيْهِ لذَلِك واحترب زُهَيْر وعامر فاتفقت هوَازن مَعَ خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب وَبني عَامر على حَرْب زُهَيْر واقتتلوا فاعتنق زُهَيْر وخَالِد فَقتل زُهَيْر بِالْقربِ من أَرض هوزان فَحَمله بنوه مَيتا إِلَى بِلَادهمْ وَفِي ذَلِك يَقُول ورقة بن زُهَيْر لخَالِد أبياتا مِنْهَا:
(فطر خَالِدا إِن كنت تَسْتَطِيع طيرة ... وَلَا تبقين إِلَّا وقلبك حاذر)
(أتتك المنايا إِن بقيت بضربة ... تفارق مِنْهَا الْعَيْش وَالْمَوْت حَاضر)
فخاف خَالِد من قتل زُهَيْر وَسَار إِلَى النُّعْمَان بن امرىء الْقَيْس اللَّخْمِيّ ملك الْحيرَة واستجار بِهِ وَكَانَ زُهَيْر سيد غطفان فَانْتدبَ مِنْهُم " الْحَارِث " بن ظَالِم المري وَقدم إِلَى(1/65)
النُّعْمَان فِي معنى حَاجَة لَهُ وَكَانَ النُّعْمَان قد ضرب لخَالِد قبَّة فَلَمَّا جن اللَّيْل دخل الْحَارِث إِلَى خَالِد وَقَتله فِي الْقبَّة غيلَة وهرب وَسلم.
ثمَّ جمع " الْأَحْوَص " بن جَعْفَر أَخُو خَالِد بني عَامر وَطلب الْحَارِث المري وَكَذَلِكَ أَخذ النُّعْمَان فِي طلبه لقتل جَاره وَجَرت لذَلِك حروب طَوِيلَة آخرهَا يَوْم شعب جبلة كَمَا سَيَأْتِي، وَمن مُلُوك الْعَرَب " الْملك قيس " بن زُهَيْر الْعَبْسِي الْمَذْكُور جمع لقِتَال بني عَامر أخذا بثأر أَبِيه زُهَيْر ثمَّ نزل بالحجاز وفاخر قُريْشًا ثمَّ رَحل وَنزل على بني بدر الْفَزارِيّ الذبياني على حُذَيْفَة بن بدر وَكَانَ قيس قد اشْترى من الْحجاز حصانه وفرسه وهما " داحس والغبراء " وَقيل الغبراء بنت داحس اسْتَوْلدهَا قيس من داحس وَكَانَ لِحُذَيْفَة بن بدر فرسَان الخطار والحنفاء وَقصد أَن يسابق بَينهمَا وَبَين داحس والغبراء فكره قيس السباق فَأبى حُذَيْفَة إِلَّا ذَلِك فأجروا الْأَرْبَعَة بِذَات الآصاد وَكَانَ الميدان مائَة غلوة والغلوة رمية سهم أبعد مَا يُمكن وَالرَّهْن مائَة بعير فَسبق داحس سبقا بَينا وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ حُذَيْفَة قد أكمن فِي طَرِيق الْخَيل من يعْتَرض داحسا إِن جَاءَ سَابِقًا فاعترضه الكمين وضربه على وَجهه فَتَأَخر داحس وَسبق الغبراء الخطار والحنفاء فَأنْكر حُذَيْفَة ذَلِك كُله وَادّعى السَّبق فَوَقع الْخلف بَين بني بدر وَبني قيس.
وَكَانَ بَين الرّبيع بن زِيَاد وَبَين قيس خلف بِسَبَب درع اغتصبها الرّبيع من قيس وَكَانَ الرّبيع يسوؤه اتِّفَاق بني بدر مَعَ قيس فسره ذَلِك وَاشْتَدَّ الْأَمر فَقتل قيس بدية بن حُذَيْفَة وَكَانَ ملك أَخُو قيس نازلا فِي بني ذبيان فَبَلغهُمْ قتل بدية فَقتلُوا مَالِكًا غيلَة فَعظم على الرّبيع بن زِيَاد مقتل مَالك وَعطف على قيس وانتصر لَهُ وللربيع أَبْيَات فِي مقتل مَالك مِنْهَا:
(من كَانَ مَسْرُورا بمقتل مَالك ... فليأت نسوتنا بِوَجْه نَهَار)
(يجد النِّسَاء حواسرا يندبنه ... ويقمن قبل تبلج الأسحار)
ثمَّ اجْتمع قيس وَالربيع وتعانقا وَقَالَ قيس للربيع إِنَّه لم يهرب مِنْك من لَجأ إِلَيْك وَلم يسْتَغْن عَنْك من اسْتَعَانَ بك وَاجْتمعَ إِلَيْهِمَا بَنو عبس وَاجْتمعَ إِلَى بني بدر فَزَارَة وذبيان، واشتدت الْحَرْب الْمَعْرُوفَة بِحَرب داحس فَاقْتَتلُوا أَولا فَقتل عَوْف بن بدر وانهزمت فَزَارَة بعد قتل ذريع فيهم، ثمَّ اقْتَتَلُوا ثَانِيًا فنصرت عبس أَيْضا وَقتل الْحَارِث بن بدر وطالت الحروب وَآخِرهَا هزيمَة فَزَارَة فَانْفَرد حُذَيْفَة وَحمل أَخُوهُ وَجَمَاعَة وقصدوا " حفر الهباءة " فلحقهم بَنو عبس وَفِيهِمْ قيس وَالربيع بن زِيَاد وعنترة وحالوا بَينهم وَبَين خيلهم وَقتلُوا جميلا وَحُذَيْفَة وَأَكْثَرت الشُّعَرَاء فِي ذَلِك وَظَهَرت فِي هَذِه الحروب شجاعة عنترة بن شَدَّاد.
فَلَمَّا قويت فَزَارَة دخلت بَنو عبس على كثير من أَحيَاء الْعَرَب فَلم يطلّ لَهُم مقَام عِنْد أحد وَآخر قصدت عبس الصُّلْح مَعَ فَزَارَة، وَتمّ الصُّلْح، وَقيل لما اصْطَلحُوا لم يسر قيس مَعَهم بل انْفَرد وَتَنصر وساح وترهب بعمان زَمَانا وَقيل تزوج فِي النهرين لما انْفَرد وَولد لَهُ فضَالة وَبَقِي فضَالة حَتَّى قدم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقعدَ لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على من مَعَه من(1/66)
قومه وَكَانُوا تِسْعَة وَهُوَ عاشرهم وَبَين مُلُوك الْعَرَب وقائع مَشْهُورَة:
مِنْهَا: يَوْم خزاز تقَاتل فِيهِ بَنو ربيعَة بن نزار وَهُوَ ربيعَة الْفرس وقبائل الْيمن وَكَانَت الدائرة على الْيمن وَقيل كَانَ كُلَيْب وَائِل قَائِد بني ربيعَة، وخزاز جبل بَين الْبَصْرَة إِلَى مَكَّة.
وَمِنْهَا: أَيَّام بني وَائِل بِسَبَب قتل كُلَيْب كَانَت بَين مهلهل قَائِد تغلب وَبَين أبي جساس قَائِد بكر فأولها " يَوْم عنيزة " تكافؤا فِيهِ، ثمَّ يَوْم " وردات " نصرت تغلب، ثمَّ " يَوْم الحنو " لبكر، ثمَّ " يَوْم الفضيات " لتغلب حَتَّى كَادَت بكر تبيد، ثمَّ " يَوْم أقضة " وَيُقَال يَوْم التَّحَالُف قتل من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ أَيَّام بَينهم لم تشتد كهذه.
وَمن أَيَّام الْعَرَب " يَوْم عين أباغ " بَين غَسَّان ولخم وَكَانَ قَائِد غَسَّان الْحَارِث الَّذِي طلب أَدْرَاع امرىء الْقَيْس وَقيل غَيره، وقائد لخم الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَقتل الْمُنْذر هَذَا الْيَوْم وانهزمت لخم وتبعتهم غَسَّان إِلَى الْحيرَة وَأَكْثرُوا فيهم الْقَتْل، وَعين أباغ بِموضع يُسمى ذَات الْخِيَار.
وَمِنْهَا: " يَوْم مرج حليمة " بَين غَسَّان ولخم أَيْضا وَكَانَ عَظِيما حجب غباره الشَّمْس وَظَهَرت الْكَوَاكِب فِي خلاف جِهَة الْغُبَار وَاخْتلف فِي النَّصْر لمن كَانَ مِنْهُم.
وَمِنْهَا " يَوْم الْكلاب الأول " كَانَ بَين الْأَخَوَيْنِ شُرَحْبِيل وَسَلَمَة ابْني الْحَارِث بن عَمْرو الْكِنْدِيّ كَانَ مَعَ شُرَحْبِيل وَهُوَ الْأَكْبَر بكر وَائِل وَغَيرهم وَمَعَ سَلمَة تغلب وَائِل وَغَيرهم وَالْكلاب مَوضِع بَين الْبَصْرَة والكوفة وبذل كل وَاحِد من الْأَخَوَيْنِ فِي رَأس أَخِيه مائَة من الْإِبِل وَاشْتَدَّ الْقِتَال فانتصر سَلمَة وَقتل شُرَحْبِيل وَحمل رَأسه إِلَى سَلمَة.
وَمِنْهَا: " يَوْم أوارة " جبل كَانَ بَين الْمُنْذر بن امرىء الْقَيْس ملك الْحيرَة وَبَين بكر وَائِل بِسَبَب اجْتِمَاع بكر على سَلمَة بن الْحَارِث وظفر الْمُنْذر ببكر وَأقسم أَن لَا يزَال يذبحهم حَتَّى يسيل دمهم من رَأس أوارة إِلَى حضيضة فجمد الدَّم فسكب عَلَيْهِ مَاء حَتَّى سَالَ وبر قسمه.
وَمِنْهَا: " يَوْم رحرحان " وَهُوَ وَاد، وَذَلِكَ أَن الْحَارِث بن ظَالِم السّري ثمَّ الذبياني لما قتل خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب قَاتل زُهَيْر كَمَا تقدم وهرب من النُّعْمَان ملك الْحيرَة لقَتله خَالِدا جَاره فَلم يجر الْحَارِث أحد خوفًا من النُّعْمَان إِلَّا معبد بن زُرَارَة فَلم يُوَافقهُ قومه بَنو تَمِيم وَوَافَقَهُمْ مِنْهُم بَنو ماويه وَبَنُو دارم وَبلغ الْأَحْوَص أَخا خَالِد ذَلِك فَسَار إِلَيْهِم واقتتلوا فَانْهَزَمَ بَنو تَمِيم وَأسر معبد وَقصد أَخُوهُ لَقِيط بن زُرَارَة فكه فَلم يقدر وعذبوا معبدًا حَتَّى مَاتَ.
وَمِنْهَا: " يَوْم شعب جبلة " يَوْم عَظِيم، فَإِنَّهُ لما انْقَضتْ وقْعَة رحرحان استنجد لَقِيط بن زُرَارَة بذبيان فنجدته، وتجمعت لَهُ تَمِيم - غير بني سعد - وَخرجت مَعَه بَنو أَسد وَسَار بهم لَقِيط إِلَى بني عَامر وَعَبس لثأر معبد أَخِيه فأدخلت عبس وَبَنُو عَامر أَمْوَالهم فِي شعب جبلة، وجبلة هضبة حَمْرَاء بَين الشريف والشرف، وهما ماءان فحضرهم لَقِيط(1/67)
فَخَرجُوا عَلَيْهِ من الشّعب وكسروا جموعه وقتلوه وأسروا أَخا لَقِيط حاجبا وَفِي ذَلِك يَقُول جرير:
(وَيَوْم الشّعب قد تركُوا لقيطا ... كَأَن عَلَيْهِ حلَّة أرجوان)
(وكبل حَاجِب بِالشَّام حولا ... فَحكم ذَا الرقيبة وَهُوَ عان)
وَكثر أَيْضا فِيهِ الْقَتْلَى من بني ذبيان وَتَمِيم وَأسد فَأَكْثَرت الْعَرَب المراثي فِيهِ وَهُوَ بعد شعب رحرحان بِسنة يَوْم الشّعب فِي عَام مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمِنْهَا: يَوْم " ذِي قار " فِي سنة أَرْبَعِينَ من مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقيل عَام وقْعَة بدر وَذَلِكَ أَن كسْرَى برويز غضب على النُّعْمَان بن الْمُنْذر وحبسه فَهَلَك فِي الْحَبْس وَكَانَ النُّعْمَان قد أودع حلقته - وَهِي السِّلَاح والدروع - عِنْد هانىء بن مَسْعُود الْبكْرِيّ فَأرْسل برويز يطْلبهَا مِنْهُ فَقَالَ: هَذِه أَمَانَة، وَالْحر لَا يسلم أَمَانَته، فَاسْتَشَارَ برويز أياس بن قبيصَة الطَّائِي الَّذِي ملكه برويز الْحيرَة مَوضِع النُّعْمَان فَأَشَارَ أياس بالتغافل عَن هانىء لِيَطمَئِن فيدرك فَقَالَ برويز: إِنَّه من أخوالك وَلَا تألوه نصحا فَبعث برويز الهرمزان فِي أَلفَيْنِ من الْأَعَاجِم وَألف من بهرا فَبلغ بكر وَائِل فنزلوا بِبَطن ذِي قار فوصلت الْأَعَاجِم واقتتلوا سَاعَة فانهزمت الْأَعَاجِم قبيحا وَأكْثر الشُّعَرَاء من ذكره.(1/68)
(الْفَصْل الْخَامِس)
(فِي ذكر الْأُمَم)
الْأمة الْجَمَاعَة لَفظه وَاحِد وَمَعْنَاهُ جمع وكل جنس من الْحَيَوَان أمة، وَفِي الحَدِيث " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها ".
(أمة السريان وَالصَّابِئِينَ)
السريان أقدم الْأُمَم وبالسرياني تكلم آدم وَبَنوهُ وملتهم مِلَّة الصابئين ويذكرون أَنهم أخذُوا دينهم عَن شِيث وَإِدْرِيس وَلَهُم كتاب يسمونه صحف شِيث فِيهِ محَاسِن أَخْلَاق كالصدق والشجاعة والتعصب للغريب وَاجْتنَاب الرذائل، قلت: وَرَأَيْت صحيفتين من صحف الصابئين وَلكنهَا عَن إِدْرِيس الأولى مِنْهُمَا صحيفَة الصَّلَاة.
فَمِنْهَا: أَنْت الأزلي الَّذِي ترتبط بِهِ الرياسات رب جَمِيع المكونات المعقولات والمحسوسات رَئِيس البرايا وراعى العوالم رب الْمَلَائِكَة ورؤساء الْمَلَائِكَة مِنْك تنزلت الْعُقُول إِلَى مدبري الأَرْض لِأَنَّك السَّبَب الأول أحاطت قدرتك بِالْكُلِّ وَأَنت الوحدانية الَّتِي لَا تحد وَلَا تدْرك مُدبر سلاطين السَّمَاء وينابيع النُّور الدائمة الإنارة أَنْت ملك الْمُلُوك الْآمِر بالخيرات كلهَا الْمُتَقَدّم لكل شَيْء بِالْوَحْي وَالْإِشَارَة مِنْك تنبث الْمَخْلُوقَات وبرمزك يَنْتَظِم الْعَالم بأسره ومنك النُّور وَأَنت الْعلَّة الْقَدِيمَة السَّابِقَة لكل شَيْء نَسْأَلك أَن تزكي نفوسنا وتوفقها لاسْتِحْقَاق نِعْمَتك الْآن وَفِي كل أَوَان إِلَى الْأَبَد يَا ظَاهرا متعاليا عَن كل دنس أحلل عقالنا وَعَافنَا من كل مرض وَبدل أحزاننا أفراحا بك نعتصم ومنك نَخَاف نَسْأَلك أَن توفقنا لتمجيد عظمتك الَّتِي يشار إِلَيْهَا وَلَا ينْطق بهَا مِنْك الْكل وَبِك يَسْتَنِير الْكل وَأَنت رَجَاء الْعَالمين ومعين النَّاس أَجْمَعِينَ. وَفِي هَذِه الصَّحِيفَة عبارَة فلسفية لَا يجوز فِي ديننَا إِطْلَاقهَا على الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيق بجلاله.
وَالثَّانيَِة " صحيفَة الناموس " فَمِنْهَا: لَا يجرين أحد مِنْكُم فِي مُعَاملَة أَخِيه إِلَى مَا يكره أَن يُعَامل بِمثلِهِ وَإِيَّاكُم والتفاخر وَالتَّكَاثُر لَا تحلفُوا بِاللَّه كاذبين وَلَا تهجموا على اللَّهِ بِالْيَمِينِ واعتمدوا الصدْق حَتَّى يكون نعم من قَوْلكُم نعم، وَلَا لَا وتورعوا فِي تَحْلِيف الْكَاذِبين بِاللَّه جلّ ذكره فَإِنَّكُم تشركونهم فِي الْإِثْم إِذا علمْتُم مِنْهُم الْحِنْث، وَليكن الْأسر فِي نفوسكم إِن تكلوهم إِلَى اللَّهِ عَالم السرائر فحسبكم بِهِ من حَاكم يعدل وناطق يفصل لَا تلهجوا بهجر الْكَلَام وَسُوء الْمقَال وَلَا تتتفاوضوا الأضاليل والأباطيل وَلَا تكثروا الْهزْل والضحك والهمز(1/69)
واللمز لَا تبدر مِنْكُم عِنْد الْغَضَب كلمة الْفُحْش فَإِنَّهَا ترديكم الْعَار والمنقصة وتلحق بكم الْعَيْب والهجنة وتجر عَلَيْكُم المآثم والعقوبة. من كظم غيظه وَقيد لَفظه ونظف مَنْطِقه وطهر نَفسه فقد غلب الشَّرّ كُله استشعروا الْحِكْمَة وابتغوا الدّيانَة وعودوا نفوسكم الْوَقار والسكينة وتحلوا بالآداب الْحَسَنَة الجميلة ترووا فِي أُمُوركُم وَلَا تعجلوا وَلَا سِيمَا فِي مجازاة الْمُسِيء إِن تكن من أحدكُم فرطة وارتكب مُنكرَة فليقلع عَنْهَا وَلَا تحمله السَّلامَة مِنْهَا على المعاودة لَهَا فَإِنَّهَا إِن سترت عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يفتضح بهَا على رُؤُوس الأشهاد يَوْم الدّين وهما طويلتان وَالله أعلم.
وللصابئين عبادات مِنْهَا سبع صلوَات مِنْهُنَّ خمس توَافق صلواتنا وَالسَّادِسَة الضُّحَى وَالسَّابِعَة فِي تَمام السَّاعَة السَّادِسَة من اللَّيْل ولصلاتهم نِيَّة وَلَا يخلطها الْمُصَلِّي بِشَيْء من غَيرهَا وَلَهُم الصَّلَاة على الْمَيِّت بِلَا رُكُوع وَلَا سُجُود وَيَصُومُونَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَإِن نقص الْهلَال صَامُوا تسعا وَعشْرين يراعون فِي فطرهم وصومهم الْهلَال بِحَيْثُ يكون الْفطر وَقد دخلت الشَّمْس للْحَمْل وَيَصُومُونَ من ربع اللَّيْل الآخر إِلَى غرُوب قرص الشَّمْس وَلَهُم أعياد عِنْد نزُول الْكَوَاكِب الْخَمْسَة الْمُتَحَيِّرَة بيُوت أَشْرَافهَا، والمتحيرة: زحل وَالْمُشْتَرِي والمريخ والزهرة وَعُطَارِد، ويعظمون بَيت مَكَّة وبظاهر حران مَكَان يحجونه وَيَقُولُونَ إِن أهرام مصر أَحدهمَا قبر شِيث بن آدم، وَالْآخر قبر إِدْرِيس وَهُوَ خنوخ، وَالْآخر قبر صابىء بن إِدْرِيس الَّذِي ينتسبون إِلَيْهِ، ويعظمون يَوْم دُخُول الشَّمْس الْحمل فيتزينون ويتهادون فِيهِ، قَالَ ابْن حزم: الدّين الَّذِي انتحلوه أقدم الْأَدْيَان على وَجه الدَّهْر وَالْغَالِب على الدُّنْيَا إِلَى أَن أَحْدَثُوا فِيهِ الْحَوَادِث فَبعث اللَّهِ إِلَيْهِم إِبْرَاهِيم خَلِيله عَلَيْهِ السَّلَام بِالدّينِ الَّذِي نَحن عَلَيْهِ الْآن.
قَالَ الشهرستاني: والصابئون يقابلون الحنيفية، ومدار مَذْهَبهم التعصب للروحانيين كَمَا أَن مدَار مَذْهَب الحنفاء التعصب للبشر الجسمانيين.
(أمة القبط)
من ولد حام أهل ملك بديار مصر وَاخْتَلَطَ بهم طوائف من اليونان والعماليق وَالروم وَغَيرهم وَذَلِكَ لِكَثْرَة من ملك عَلَيْهِم من الغرباء وَكَانُوا سالفا صابئة ذَوي هياكل وأصنام وَمِنْهُم عُلَمَاء بالفلسفة وخاصة الطلسمات والنيرنجات والمرائي المحرقة والكيمياء وَدَار ملكهم منف ولقبت مُلُوكهمْ بالفراعنة، وَقد تقدم هَذَا.
(أمة الْفرس)
بِفَارِس وَمِنْهَا كرمان والأهواز وأقاليم، وَمَا دون جيحون مِنْهَا يُسمى إيران وَهِي أَرض الْفرس وَمَا وَرَاء جيحون يُسمى توران وَهِي أَرض التّرْك قيل الْفرس من ولد فَارس بن أرم بن سَام وَقيل من ولد يافث وهم يَقُولُونَ من ولد كيومرث وَهُوَ عِنْدهم الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ النَّسْل مثل آدم عندنَا ويذكرون أَن الْملك فيهم من كيومرث وَهُوَ آدم إِلَى غَلَبَة الْإِسْلَام خلا تقطع فِي مدد يسيرَة مثل تغلب الضَّحَّاك وأفراسياب التركي وملوكهم عِنْد الْأُمَم أعظم مُلُوك(1/70)
الْعَالم بعقول وافرة وأحلام راجحة وترتيب المملكة كَانُوا لَا يولون سَاقِطا الْبَيْت وفرقهم كَثِيرَة مِنْهُم الديلم سكان الْجبَال وَمِنْهُم الجيل يسكنون الْوَطْأَة لجبال الديلم وأرضهم سَاحل بَحر طبرستان وَمِنْهُم الكرد بجبال شهرزور وَقيل الكرد من الْعَرَب ثمَّ تنبطوا وَقيل هم أَعْرَاب الْعَجم.
وللفرس مِلَّة قديمَة يُقَال للدائنين بهَا الكيومرثية أثبتوا إِلَهًا قَدِيما سموهُ يَزْدَان وإلها مخلوقا من الظلمَة سموهُ أهرمن، ويزدان عِنْدهم اللَّهِ تَعَالَى وأهرمن إِبْلِيس أصل دينهم مَبْنِيّ على تَعْظِيم النُّور وَهُوَ يَزْدَان والتحرز من الظلمَة وَهُوَ أهرمن وَلما عظموا النُّور عبدُوا النَّار وَكَانُوا على ذَلِك حَتَّى ظهر زرادشت فِي أَيَّام كشتاسف ملك الْفرس وَدخل كشتاسف وَالْفرس فِي دين زرادشت وَذكر لَهُم كتابا زعم أَن اللَّهِ أنزلهُ عَلَيْهِ وَهُوَ من قَرْيَة من قرى أذربيجان وَلَهُم فِي خلق زرادشت وولادته كَلَام لَا يُفِيد.
وَقَالَ زرادشت بالباري سُبْحَانَهُ وَأَنه خَالق النُّور والظلمة وَأَنه وَاحِد لَا شريك لَهُ وَأَن الْخَيْر وَالشَّر إِنَّمَا حصل من امتزاج النُّور بالظلمة وَلَو لم يمتزجا لما كَانَ وجود الْعَالم وَلَا يزَال المزاج حَتَّى يغلب النُّور الظلمَة ثمَّ يتَخَلَّص الْخَيْر إِلَى عالمه وَالشَّر إِلَى عالمه وقبلة زرادشت إِلَى الْمشرق حَيْثُ ملطع الْأَنْوَار.
وللفرس أعياد ورسوم فَمِنْهَا " النوروز " وَهُوَ الْيَوْم الأول من فروردين ماه واسْمه يَوْم جَدِيد لكَونه غرَّة الْحول لجديد وَبعده أَيَّام خَمْسَة كلهَا أعياد، وَمن أعيادهم " التيركان " وَهُوَ ثَالِث عشر من تيرماه وَلما وَافق اسْم الْيَوْم الثَّالِث عشر اسْم شهره صَار ذَلِك الْيَوْم عيدا وَهَكَذَا كل مُوَافق اسْمه اسْم شهره، وَمِنْهَا " المهرجان " وَهُوَ سادس عشر مهرماه وَفِيه زَعَمُوا أَن أفريدون ظفر بالساحر الضَّحَّاك بيوراسب وحبسه بجبل دماوند.
وَمِنْهَا " الفروردجان " وَهُوَ الْأَيَّام الْخَمْسَة الْأَخِيرَة من آبان ماه تصنع الْمَجُوس فِيهَا الْأَطْعِمَة والأشربة لأرواح موتاهم على زعمهم.
وَمِنْهَا: " ركُوب الكوسج " كَانَ يَأْتِي فِي أول الرّبيع كوسج رَاكب حمارا قَابض على غراب ويتروح بمروحة ويودع الشتَاء وَله ضريبة وَمَتى وجد بعد ذَلِك الْيَوْم ضرب.
وَمِنْهَا: " السدق " وَهُوَ عَاشر بهمن ماه وَلَيْلَته توقد فِيهَا النيرَان وَيشْرب حولهَا وَمِنْهَا: " الكنبهارات " أَقسَام مُخْتَلفَة لأيام السّنة فِي أول كل قسم مِنْهَا خَمْسَة أَيَّام هِيَ الكنبهارات؛ زعم زرادشت أَن فِي كل يَوْم مِنْهَا خلق اللَّهِ نوعا من الخليقة من سَمَاء وَأَرْض وَمَاء ونبات وحيوان وَأنس وجن فتم خلق الْعَالم فِي سِتَّة أَيَّام.
(أمة اليونان)
نجموا من رجل اسْمه اللن ولد سنة أَربع وَسبعين لمولد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ أوميرس الشَّاعِر اليوناني مَوْجُودا فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام(1/71)
وَهُوَ تَارِيخ ظُهُور أمة اليونان كَانُوا أهل شعر وفصاحة.
ثمَّ صَارَت فيهم الفلسفة زمَان بخْتنصر؛ قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا مَنْقُول من كتاب كورس اليوناني الَّذِي رد فِيهِ على للبان الَّذِي نَاقض الْإِنْجِيل.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَنقل الشهرستاني أَن أييد فَلَيْسَ كَانَ فِي زمن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وفيثاغورس فِي زمن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وهما من فلاسفة اليونان فَقَوْل أبي عِيسَى إِن الفلسفة ظَهرت من اليونان زمن بخْتنصر غير مُطَابق لهَذَا فَإِن بخْتنصر بعد سُلَيْمَان بِأَكْثَرَ من أَرْبَعمِائَة سنة.
من كتاب ابْن سعيد أَن بِلَاد اليونان كَانَت على الخليج القسطنطيني من شرقية وغربيه إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وَالْبَحْر القسطنطيني خليج بَين بَحر الرّوم وَبَين بَحر القرم واسْمه قَدِيما بَحر نيطش بِكَسْر النُّون وياء مثناة تَحت سَاكِنة وطاء مُهْملَة وشين مُعْجمَة؛ قَالَ: واليونان فرقتان فرقة يُقَال لَهُم " الإغريقيون " وهم الأول وَفرْقَة يُقَال لَهُم اللطينيون قيل اليونان من ولد يافث وَقيل من جملَة الرّوم من ولد صوفر بن الْعيص بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَانَت مُلُوكهمْ أعظم الْمُلُوك حَتَّى غلبت عَلَيْهِم الرّوم كَمَا تقدم فِي ذكر أغسطس.
وَكَانَت بِلَادهمْ فِي الرّبع الشمالي المغربي يتوسطها الخليج القسطنطيني وَجَمِيع الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة مَأْخُوذَة عَنْهُم كالمنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية يسمون الرياضي جومطريا يشْتَمل على الْهَيْئَة والهندسة والحساب واللحون والإيقاع وَغير ذَلِك، وَكَانَ الْعَالم بذلك يُسمى فليسوفا تَفْسِيره محب الْحِكْمَة فيلو محب وسوفا الْحِكْمَة.
فَمن فلاسفتهم " بالس " العملطي زمن بخْتنصر وَمِنْهُم " أبيدقلس وفيثاغورس " فِي زمن دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام، وفيثاغورس من كبار الْحُكَمَاء زعم أَنه سمع حفيف الْفلك وَوصل إِلَى مقَام الْملك، وَقَالَ مَا سَمِعت شَيْئا ألذ من حركات الأفلاك وَلَا رَأَيْت أبهى من صورتهَا.
وَمِنْهُم " أبقراط الْحَكِيم " الْمَشْهُور نجم سنة مائَة وست وَتِسْعين لبختنصر فَيكون أبقراط قبل الْهِجْرَة بِأَلف وَمِائَة وبضع وَسبعين سنة.
وَمِنْهُم " سقراط " قَالَ الشهرستاني: كَانَ فضالا زاهدا وَاعْتَزل فِي غَار بِالْجَبَلِ وَنهى عَن الشّرك والأوثان فألجأت الْعَامَّة الْملك إِلَى حَبسه ثمَّ سمه فَمَاتَ.
وَمِنْهُم " أفلاطون " تلميذ سقراط جلس بعده على كرسيه.
وَمِنْهُم " أرسطاطاليس " تلميذ أفلاطون فِي زمن الْإِسْكَنْدَر، وَبَين الْإِسْكَنْدَر وَالْهجْرَة تِسْعمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ سنة فأفلاطون قبل ذَلِك بِيَسِير وسقراط قبل أفلاطون بِيَسِير فَيكون بَين سقراط وَالْهجْرَة نَحْو ألف سنة وَبَين أفلاطون وَالْهجْرَة أقل من ذَلِك.
وَمِنْهُم " طيماوس " من مَشَايِخ أفلاطون. وَأما أرسطا طاليس فَهُوَ الْمُقدم الْمَشْهُور(1/72)
والحكيم الْمُطلق لما بلغ أرسطو سبع عشرَة سلمه أَبوهُ إِلَى أفلاطون فَمَكثَ نيفا وَعشْرين سنة وَصَارَ حكيما مبرزا يشْتَغل عَلَيْهِ والإسكندر من تلاميذ أرسطوا تعلم عَلَيْهِ خمس سِنِين ونال من الفلسفة مَا لم ينل سَائِر تلاميذ أرسطو وَلما لحق أَبَاهُ فيلبس مرض الْمَوْت أَخذ ابْنه الْإِسْكَنْدَر من أرسطو وعهد إِلَيْهِ بِالْملكِ.
وَمِنْهُم " برقليس " بعد أرسطو صنف كتابا فِيهِ سيثة فِي قدم الْعَالم.
وَمِنْهُم " الْإِسْكَنْدَر " الأفروديسي بعد أرسطو من كبار الْحُكَمَاء.
وَمن تَارِيخ ابْن القفطي وَزِير حلب. قَالَ: وَمِنْهُم " طيموخارس " رياضي يوناني عَالم بهيئة الْفلك رصد الْكَوَاكِب وَذكره بطليموس فِي المجسطي قبل بطليموس بأربعمائة وَعشْرين سنة. وَمِنْهُم " فرقوريوس " من صور بِالشَّام على الْبَحْر الرُّومِي بعد جالينوس الَّذِي سَيذكرُ عَالم بِكَلَام أرسطو فسر كتبه لما شكا النَّاس من غموضها.
وَمِنْهُم " فلوطيس " يوناني شرح كتب أرسطو وَنقل من تصانيفه من الرومية إِلَى السريانية وَلَا نعلم أَن شَيْئا مِنْهَا خرج إِلَى الْعَرَبيَّة.
وَمِنْهُم " فولس " الأجانيطي القوابلي نِسْبَة إِلَى جمع قَابِلَة خَبِير بطب النِّسَاء يسْأَله القوابل عَن حوادث النِّسَاء عقيب الْولادَة هُوَ بعد جالينوس أَقَامَ بالإسكندرية.
وَمِنْهُم " لسون " المتعصب لفلسفة أفلاطون، وَمِنْهُم " مقسطراطيس " يوناني شرح كتب أرسطو وَخرجت إِلَى الْعَرَبيَّة.
وَمِنْهُم " منطر " الإسكندري إِمَام فِي علم الْفلك وَاجْتمعَ هُوَ وأفطيمن بالإسكندرية ورصدا وحققا قبل بطليموس بِنَحْوِ خَمْسمِائَة سنة وَإِحْدَى وَسبعين
وَمِنْهُم " مورطس " وَيُقَال مورشطس يوناني لَهُ رياضة وتخيل صنف كتابا للأرغن - آلَة تسمع على سِتِّينَ ميلًا.
وَمِنْهُم " مغنس " من حمص تلميذ أبقراط لَهُ ذكر فِي زَمَانه وتصانيف ككتاب الْبَوْل وَغَيره.
وَمِنْهُم " مثروديطوس " ركب المعجون وَسَماهُ باسمه وجرب الْأَدْوِيَة وامتحن قواها فِي أشخاص استحقوا الْقَتْل فَمِنْهَا مَا وَافق لدغة الرتيلا وَمِنْهَا مَا وَافق لدغة الْعَقْرَب وَكَذَلِكَ غير ذَلِك، انْتهى كَلَام ابْن القفطي. وَأما بطليموس وجالينوس فمتأخران عَن زمن اليونان هما فِي زمن الرّوم متقاربا الزَّمن وجالينوس مُتَأَخّر بِقَلِيل؛ قَالَ ابْن الْأَثِير: أدْرك جالينوس زمن بطليموس مُصَنف المجسطي الْمَذْكُور فِي زمن أنطونينوس وَمَات أنطونينوس سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر وَبَين رصد بطليموس ورصد الْمَأْمُون سِتّمائَة وَتسْعُونَ سنة ورصد الْمَأْمُون بعد مِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ ورصد بطليموس أَرْبَعمِائَة وَتسْعُونَ سنة بالتقريب(1/73)
وجالينوس فِي أَيَّام قوموذوس الْملك وَمَوْت قوموذوس سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة للإسكندر فَبين جالينوس وَالْهجْرَة أَكثر من أَرْبَعمِائَة سنة بِقَلِيل.
وَمن حكماء اليونان " إقليدس " صَاحب كتاب الاستعصاب الْمُسَمّى باسمه فِي زمن البطالسة فَلم يكن بعد أرسطو بِبَعِيد وَهُوَ جَامع كتاب إقليدس ومحرره لَا مخترعه.
وَمِنْهُم " أبرخس " رياضي زهدي نقل بطليموس عَنهُ فِي المجسطي، وَبَين رصد أبرخس ورصد بطليموس مِائَتَان وَخمْس وَثَمَانُونَ سنة فارسية تَقْرِيبًا.
(أمة الْيَهُود)
تقدم ذكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر بني إِسْرَائِيل وَإِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام ولإسرائيل اثْنَا عشر ابْنا روبيل ثمَّ شَمْعُون ثمَّ لاوى ثمَّ يهوذا ثمَّ إيشاخر ثمَّ زيولون ثمَّ يُوسُف ثمَّ بنيامين ثمَّ دَان ثمَّ نفتالي ثمَّ كاذا ثمَّ أَشَارَ.
وَمِنْهُم أَسْبَاط بني إِسْرَائِيل جَمِيع بني إِسْرَائِيل أَوْلَاد الاثْنَي عشر سبطا، وَالْيَهُود أَعم من بني إِسْرَائِيل إِذْ من الْعَرَب وَالروم وَالْفرس وَغَيرهم من تهود وَلَيْسوا من بني إِسْرَائِيل، وَغير بني إِسْرَائِيل دخيل فِي ملتهم، يُقَال: هاد الرجل إِذا رَجَعَ وأناب، قَالَ مُوسَى {إِنَّا هدنا إِلَيْك} فَلَزِمَ هَذَا الِاسْم الْيَهُود.
وكتابهم التَّوْرَاة مُشْتَمِلَة على أسفار فِي السّفر الأول مُبْتَدأ الْخلق ثمَّ الْأَحْكَام وَالْحُدُود وَالْأَحْوَال والقصص والمواعظ والأذكار فِي سفر سفر وَأنزل عَلَيْهِ الألواح شبه مُخْتَصر مَا فِي التَّوْرَاة قَالَ فِي خير الْبشر بِخَير الْبشر لَيْسَ فِي التَّوْرَاة ذكر الْقِيَامَة وَلَا الدَّار الْآخِرَة وَلَا فِيهَا ذكر بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار وكل جَزَاء فِيهَا إِنَّمَا هُوَ معجل فِي الدُّنْيَا فيجزون على الطَّاعَة النَّصْر على الْأَعْدَاء وَطول الْعُمر وسعة الرزق وَنَحْو ذَلِك ويجزون على الْكفْر وَالْمَعْصِيَة بِالْمَوْتِ وَمنع الْقطر والحميات وَالْحَرب وَأَن ينزل عَلَيْهِم بدل الْمَطَر الْغُبَار والظلمة وَنَحْو ذَلِك وَلَيْسَ فِيهَا ذمّ الدُّنْيَا وَلَا الزّهْد فِيهَا وَلَا وَظِيفَة صلوَات مَعْلُومَة بل الْأَمر بالبطالة والقصف وَاللَّهْو وَمِمَّا تضمنته التَّوْرَاة أَن يهوذا بن يَعْقُوب فِي زمَان نبوته زنى بأمرأة ابْنه وَأَعْطَاهَا عمَامَته وخاتمه رهنا على جدي هُوَ أُجْرَة الزِّنَى وَهُوَ لَا يعرفهَا فَأَمْسَكت برهنه عِنْدهَا وَأرْسل إِلَيْهَا بالجدي فَلم تَأْخُذهُ وَظهر حملهَا وَأخْبر يهوذا بذلك فَأمر بهَا أَن تحرق فأنفذت إِلَيْهِ بِالرَّهْنِ فَعرف يهوذا أَنه هُوَ الَّذِي زنى بهَا فَتَركهَا وَقَالَ هِيَ أصدق، وَمِمَّا تضمنته أَن روبيل بن يَعْقُوب وطىء سَرِيَّة أَبِيه وَعرف أَبوهُ، وَمِمَّا تضمنته أَن أَوْلَاد يَعْقُوب من أمته كَانُوا يزنون مَعَ نسَاء أَبِيهِم.
وَجَاء يُوسُف وَعرف أَبَاهُ بِخَبَر إخْوَته الْقَبِيح وَمِمَّا تضمنته أَن راحيل أُخْت ليا وَكَانَ الْأخْتَان المذكورتان قد جمع بَينهمَا يَعْقُوب فِي عقد نِكَاحه وَكَانَ ذَلِك حَلَالا فِي ذَلِك الزَّمَان قَالَ فأسرت راحيل من أُخْتهَا وضرتها ليا مبيت ابْن ليا وَهُوَ روبيل عِنْد راحيل ليطأها بنوبتها من يَعْقُوب ليبيت عِنْد ليا وتضمنت من ذَلِك كثيرا أضربنا عَنهُ.(1/74)
قَالَ الشهرستاني: وَالْيَهُود تَدعِي أَن الشَّرِيعَة لَا تكون إِلَّا وَاحِدَة وَهِي ابتدأت بمُوسَى وتمت بِهِ وَأما مَا كَانَ قبل مُوسَى فَإِنَّمَا كَانَ حدودا عقلية وأحكاما مصلحية وَلم يجيزوا النّسخ أصلا فَلم يجيزوا بعده شَرِيعَة أُخْرَى قَالُوا: والنسخ فِي الْأَوَامِر بداء وَلَا يجوز البداء على اللَّهِ تَعَالَى.
قلت: وكل هَذَا مَرْدُود بالأدلة المفروغ مِنْهَا فِي أصُول الْفِقْه وَالدّين فَلَا يغتر بِهِ من يقف عَلَيْهِ وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت أجوبته، وَالله اعْلَم.
وافترقت الْيَهُود فرقا كَثِيرَة " فالربانية " مِنْهُم كالمعتزلة فِينَا " والقراؤون " كالمجبرة والمشبهة فِينَا وَمن فرق الْيَهُود " العانانية " نسبوا إِلَى رجل مِنْهُم اسْمه عانان بن دَاوُد وَكَانَ رَأس جالوت وَرَأس الجالوت هُوَ اسْم الْحَاكِم على الْيَهُود بعد خراب بَيت الْمُقَدّس ثَانِيًا وَتقدم ذكر هردوس واليهم من جِهَة الْفرس ثمَّ من جِهَة اليونان ثمَّ من جِهَة أغسطس وَمن بعده من مُلُوك الرّوم ثمَّ بعد الخراب الثَّانِي تَفَرَّقت الْيَهُود فِي الْبِلَاد وَلم تعد لَهُم رياسة يعْتد بهَا وَصَارَ مِنْهُم بالعراق وَتلك النواحي جمَاعَة وَلَهُم كَبِير مِنْهُم يرجعُونَ إِلَيْهِ اسْمه رَأس الجالوت ... ... ... ... ...
فَمن مَذْهَب العانانية الْمَذْكُورين أَنهم يصدقون الْمَسِيح فِي مواعظه وإرشاداته وَيَقُولُونَ أَنه لم يُخَالف التَّوْرَاة الْبَتَّةَ بل قررها ودعا النَّاس إِلَيْهَا وَهُوَ من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل المتعبد بِالتَّوْرَاةِ إِلَّا أَنهم لَا يَقُولُونَ بنبوته وَمِنْهُم من يَدعِي أَن عِيسَى لم يدع أَنه نَبِي مُرْسل وَلَا أَنه صَاحب شَرِيعَة ناسخة لشريعة مُوسَى بل هُوَ من أَوْلِيَاء اللَّهِ تَعَالَى المخلصين وَأَن الْإِنْجِيل لَيْسَ كتابا منزلا عَلَيْهِ وَحيا من اللَّهِ بل هُوَ جَمِيع أَحْوَاله جمعه أَرْبَعَة من أَصْحَابه وَأَن الْيَهُود ظلموه أَولا حَيْثُ كذبوه وَلم يعرفوا بعد دَعْوَاهُ وقتلوه آخرا وَلم يعلمُوا مَحَله ومغزاه.
وَقد ورد فِي التَّوْرَاة ذكر المسيحان فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَهُوَ الْمَسِيح " وَأما السامرة " فَمنهمْ الدستانية وَتسَمى أَيْضا الغانية وَمِنْهُم الكوشانية والدستانية يَقُولُونَ إِنَّمَا الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الدُّنْيَا والكوشانية يقرونَ بِالآخِرَة وثوابها وعقابها.
ولليهود أعياد مِنْهَا " الفصح " خَامِس عشر من نيسانهم عيد كَبِير أول أَيَّام الفطير السَّبْعَة يحرمُونَ فِيهَا الخمير وَآخِرهَا الْحَادِي وَالْعشْرُونَ من الشَّهْر الْمَذْكُور والفصح يَدُور من ثَانِي عشر آذار إِلَى خَامِس عشر نيسان وَسَببه أَن بني إِسْرَائِيل لما تخلصوا من فِرْعَوْن وحصلوا فِي التيه اتّفق ذَلِك لَيْلَة الْخَامِس عشر من نيسان الْيَهُود وَالْقَمَر تَامّ الضَّوْء وَالزَّمَان ربيع فَأمروا بِحِفْظ هَذَا الْيَوْم وَفِي آخر هَذِه الْأَيَّام غرق فِرْعَوْن فِي بَحر الشّعب وَهُوَ القلزم.
وَلَهُم " عيد العنصرة " بعد الفطير بِخَمْسِينَ يَوْمًا فِي السَّادِس من شيون فِيهِ حضر مَشَايِخ بني إِسْرَائِيل إِلَى طور سيناء مَعَ مُوسَى مَعَ مُوسَى فَسَمِعُوا كَلَام اللَّهِ تَعَالَى من الْوَعْد والوعيد فاتخذوه عيدا.
وَمِنْهَا " عيد الحنكة " مَعْنَاهُ التَّنْظِيف وَهُوَ ثَمَانِيَة أَيَّام أَولهَا الْخَامِس وَالْعشْرُونَ من بسليو(1/75)
يسرجون فِي اللَّيْلَة الأولى سِرَاجًا وَفِي الثَّانِيَة اثْنَيْنِ وَكَذَا فِي الثَّامِنَة ثَمَانِيَة سرج وَذَلِكَ تذكار أَصْغَر ثَمَانِيَة إخْوَة قتل بعض مُلُوك اليونان فَإِنَّهُم كَانَ قد تغلب عَلَيْهِم ملك من اليونان بِبَيْت الْمُقَدّس كَانَ يفترع الْبَنَات قبل الإهداء إِلَى أَزوَاجهنَّ وَله سرداب قد أخرج مِنْهُ حبلين عَلَيْهِمَا جلجلان فَإِن احْتَاجَ إِلَى امْرَأَة حرك الْأَيْمن فَتدخل عَلَيْهِ فَإِذا فرغ مِنْهَا حرك الْأَيْسَر فيخلي سَبِيلهَا وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجل لَهُ ثَمَانِيَة بَنِينَ وَبنت وَاحِدَة تزَوجهَا إسرائيلي وطلبها فَقَالَ أَبوهَا إِن أَهْدَيْتهَا افترعها الملعون ودعا بنيه لذَلِك فأنفوا ووثب الصَّغِير مِنْهُم فَلبس ثِيَاب النِّسَاء وخبأ خنجرا وأتى بَاب الْملك على أَنه أُخْته فحرك الجرس فَأدْخل عَلَيْهِ فحين خلا بِهِ قَتله وَأخذ رَأسه وحرك الْحَبل الْأَيْسَر وَخرج فخلى سَبيله فَأَفْرَح ذَلِك بني إِسْرَائِيل واتخذوه عيدا تذكارا بالإخوة الثَّمَانِية.
وَمِنْهَا " المظال " سَبْعَة أَيَّام أَولهَا خَامِس عشر تشرين الأول يَسْتَظِلُّونَ فِيهَا بِالْخِلَافِ والقصب وَغَيره فَرِيضَة على الْمُقِيم تذكارا لإظلالهم بالغمام فِي التيه وَآخِرهَا وَهُوَ حادي عشر تشرين يُسمى " عرابا " تَفْسِيره شجر الْخلاف وعرعراب وَهُوَ الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من الْخَمِيس يُسمى " التبريك " تبطل فِيهِ الْأَعْمَال ويتبركون فِيهِ بِالتَّوْرَاةِ وَفِيه استتم نُزُولهَا بزعمهم.
وَلَيْسَ فِي صومهم فرض غير " صَوْم الكبور " عَاشر تشرينهم وَابْتِدَاء الصَّوْم من التَّاسِع قبل الْغُرُوب بِنصْف سَاعَة إِلَى بعد غرُوب الْعشَاء من الْعَاشِر بِنصْف سَاعَة تَمام خمس وَعشْرين سَاعَة وَكَذَلِكَ صياماتهم النَّوَافِل وَالسّنَن.
(أمة النَّصَارَى)
أمة الْمَسِيح، وَلِلنَّصَارَى فِي تجسد الْكَلِمَة مَذَاهِب مِنْهُم من قَالَ أشرقت على الْجَسَد إشراق النُّور على الْجِسْم المشف وَمِنْهُم من قَالَ انطبعت فِيهِ انطباع النقش فِي الشمعة وَمِنْهُم من قَالَ تدرع اللاهوت بالناسوت وَمِنْهُم من قَالَ مازجت الْكَلِمَة جَسَد الْمَسِيح ممازجة اللَّبن المَاء واتفقت النَّصَارَى أَن الْمَسِيح قَتله الْيَهُود وصلبوه وَيَقُولُونَ إِن الْمَسِيح بعد أَن قتل وصلب وَمَات عَاشَ فَرَأى شخصه شَمْعُون الصَّفَا وَكلمَة وَأوصى إِلَيْهِ ثمَّ فَارق الدُّنْيَا وَصعد السَّمَاء.
قَالَ الشهرستاني فِي الْملَل والنحل: افْتَرَقت النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة وكبارهم ثَلَاث فرق الملكانية والنسطورية واليعقوبية.
أما " الملكانية " فأصحاب ملك ظهر بالروم وَاسْتولى عَلَيْهَا فغالب الرّوم ملكانية مصرحون بالتثليث، قَالَ تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن اللَّهِ ثَالِث ثَلَاثَة} ويصرحون أَن الْمَسِيح ناسوت كلي قديم أزلي من قديم أزلي وَقد ولدت مَرْيَم إِلَهًا أزليا وَالْقَتْل والصلب وَقعا على الناسوت واللاهوت مَعًا وأطلقوا لفظ الْأُبُوَّة والبنوة على اللَّهِ تَعَالَى وتقدس، وعَلى الْمَسِيح حَقِيقَة وَذَلِكَ لما وجدوا فِي الْإِنْجِيل أَنَّك أَنْت الابْن الوحيد وَلما رووا عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ حِين كَانَ يصلب أذهب إِلَى أبي وأبيكم وحرموا أربوس لما قَالَ الْقَدِيم(1/76)
هُوَ اللَّهِ تَعَالَى والمسيح مَخْلُوق وَاجْتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِمحضر من قسطنطين ملكهم وَكَانُوا ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر رجلا وَاتَّفَقُوا على هَذِه الْكَلِمَة اعتقادا ودعوة وَذَلِكَ قَوْلهم نؤمن بِاللَّه الْوَاحِد الْأَب مَالك كل شَيْء وصانع مَا يرى وَمَا لَا يرى وبالابن الوحيد أيسوع الْمَسِيح ابْن اللَّهِ الْوَاحِد بكر الْخَلَائق كلهَا وَلَيْسَ بمصنوع إِلَه خلق من إِلَه حق من جَوْهَر أَبِيه الَّذِي بِيَدِهِ أتقنت العوالم وكل شَيْء الَّذِي من أجلنا وَأجل خلاصنا وَنزل من السَّمَاء وتجسد من روح الْقُدس وَولد من مَرْيَم البتول وصلب وَدفن ثمَّ قَامَ فِي الْيَوْم الثَّالِث وَصعد إِلَى السَّمَاء وَجلسَ عَن يَمِين أَبِيه وَهُوَ مستعد للمجيء تَارَة أُخْرَى للْقَضَاء بَين الْأَمْوَات والأحياء ونؤمن بِروح الْقُدس الْوَاحِد وروح الْحق الَّذِي يخرج من أَبِيه وبمعبودية وَاحِدَة لغفران الْخَطَايَا وبجماعة وَاحِدَة قدسية مسيحية حاثليقية وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أَبَد الآبدين هَذَا هُوَ الِاتِّفَاق الأول على هَذِه الْكَلِمَات وَوَضَعُوا شرائع النَّصَارَى وَاسم الشَّرِيعَة عِنْدهم الهيمانوت تَعَالَى اللَّهِ وتقدس عَن كفرهم.
وَأما " النسطورية " فأصحاب نسطورس هم عِنْدهم كالمعتزلة عندنَا خالفوا الملكانية فِي اتِّحَاد الْكَلِمَة فَلم يَقُولُوا بالامتزاج بل أَن الْكَلِمَة أشرقت على جَسَد الْمَسِيح كإشراق الشَّمْس على كوَّة أَو على بلور وَقَالُوا وَقع الْقَتْل على الْمَسِيح من جِهَة ناسوته لَا من جِهَة لَا هوته خلافًا للملكانية.
وَأما " اليعقوبية " فأصحاب يَعْقُوب البردعاني رَاهِب بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ قَالُوا انقلبت الْكَلِمَة لَحْمًا ودما فَصَارَ الْإِلَه هُوَ الْمَسِيح، قَالَ ابْن حزم: واليعقوبية يَقُولُونَ إِن الْمَسِيح هُوَ اللَّهِ قتل وصلب وَمَات وَإِن الْعَالم بَقِي ثَلَاثَة أَيَّام بِلَا مُدبر، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن اللَّهِ هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} .
وَمن كتاب ابْن سعيد: " البطارقة " لِلنَّصَارَى بِمَنْزِلَة الْأَئِمَّة أَصْحَاب الْمذَاهب لنا " والمطارنة " كالقضاة " والأساقفة " كالمفتين " والقسيسون " كالقراء " والجاثليق " كإمام الصَّلَاة " والشماسة " كالمؤذنين وقومة الْمَسَاجِد.
" وصلوات النَّصَارَى سبع " عِنْد الْفجْر وَالضُّحَى وَالظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَنصف اللَّيْل يقرؤون فِيهَا بالزبور الْمنزل على دَاوُد تبعا للْيَهُود فِي ذَلِك وَالسُّجُود فِي صلَاتهم غير مَحْدُود وَقد يَسْجُدُونَ فِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة خمسين سَجْدَة يُنكرُونَ الْوضُوء علينا وعَلى الْيَهُود وَيَقُولُونَ الأَصْل طَهَارَة الْقلب.
وَمن كتاب نِهَايَة الْإِدْرَاك فِي دراية الأفلاك للشيرازي: فِي الْهَيْئَة أَن لِلنَّصَارَى أعيادا وصيامات.
فَمِنْهَا " صومهم الْكَبِير " تِسْعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا أَولهَا يَوْم الأثنين أقرب اثْنَيْنِ إِلَى الِاجْتِمَاع الْكَائِن فِيمَا بَين الْيَوْم الثَّانِي من شباط إِلَى الثَّامِن من آذار فَأَي اثْنَيْنِ كَانَ أقرب إِلَيْهِ أما قبل الِاجْتِمَاع وَأما بعده فَهُوَ رَأس صومهم.(1/77)
" ولصومهم ضَابِط " أصح من هَذَا وَهُوَ أَن ينظر إِلَى الذّبْح وَهُوَ سادس كانون الثَّانِي فِي أَي شهر هُوَ من الشُّهُور الْعَرَبيَّة ثمَّ ينْتَقل إِلَى سَابِع عشري الشَّهْر الْعَرَبِيّ الَّذِي يَلِيهِ من حِين رُؤْيَة الْهلَال فَإِن كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ فَهُوَ رَأس صومهم وَإِلَّا فَأَي اثْنَيْنِ كَانَ أقرب إِلَيْهِ قبله أَو بعده فَهُوَ رَأس صومهم، وفطرهم أبدا يكون يَوْم الْأَحَد الْخمسين من هَذَا الصَّوْم وَسبب تخصيصهم هَذَا الْوَقْت بِالصَّوْمِ أَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن الْبَعْث وَالْقِيَامَة تكون فِي مثل يَوْم الفصح وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي قَامَ فِيهِ الْمَسِيح من قَبره بزعمهم.
وَمن أعيادهم " الشعانين " الْكَبِير وَهُوَ يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ من الصَّوْم وَتَفْسِير الشعانين التَّسْبِيح لِأَن الْمَسِيح دخل يَوْم الشعنينة الْمَذْكُور إِلَى الْقُدس رَاكب اتان يتبعهَا جحش فاستقبلته الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان بِأَيْدِيهِم ورق الزَّيْتُون وقرأوا بَين يَدَيْهِ التَّوْرَاة إِلَى أَن دخل بَيت الْمُقَدّس واختفى عَن الْيَهُود الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَغسل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء أَيدي أَصْحَابه الحواريين وأرجلهم ومسحها فِي ثِيَابه وَكَذَلِكَ يَفْعَله القسيسون بأصحابهم هَذَا الْيَوْم.
ثمَّ أفْصح فِي يَوْم الْخَمِيس بالخبز وَالْخمر وَصَارَ إِلَى منزل وَاحِد من أَصْحَابه ثمَّ خرج الْمَسِيح لَيْلَة الْجُمُعَة إِلَى الْجَبَل فسعى بِهِ يهوذا أحد تلامذته وارتشى عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ درهما ودلهم عَلَيْهِ وَأُلْقِي شبهه عَلَيْهِ فوضعوا على رَأسه إكليل شوك وعذبوه لَيْلَة الْجُمُعَة إِلَى الصُّبْح فصلبوا شبهه على ثَلَاث سَاعَات من يَوْم الْجُمُعَة على قَول مَتى ومرقوس ولوقا وَزعم يوحنا أَنه صلب على مُضِيّ سِتّ سَاعَات من النَّهَار الْمَذْكُور.
وَيُسمى " جُمُعَة الصلبوت " وصلب مَعَه لصان على جبل يُقَال لَهُ الجمجمة واسْمه بالعبرانية كاكلة وماتوا فِي السَّاعَة التَّاسِعَة واستوهبه يُوسُف النجار من قَائِد الْيَهُود وهريدوس فدفنه فِي قبر أعده لنَفسِهِ وَزَعَمت النَّصَارَى أَنه مكث فِي الْقَبْر لَيْلَة السبت ونهار الْأَحَد ثمَّ قَامَ صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد ينظرُونَ فِيهِ ويسمون لَيْلَة السبت بِشَارَة الْمَوْتَى بقدوم الْمَسِيح.
وَلَهُم " الْأَحَد الْجَدِيد " أول أحد بعد الْفطر يجعلونه مبدأ للأعمال وتاريخا للشروط والقبالات.
وَلَهُم " عيد السلاقا " يَوْم الْخَمِيس بعد الْفطر بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفِيه تسلق الْمَسِيح السَّمَاء من طور سيناء.
وَلَهُم " عيد القيطي قسطي " يَوْم الْأَحَد بعد السلاقا بِعشْرَة أَيَّام واسْمه مُشْتَقّ من الْخمسين بلسانهم وَفِيهِمْ تجلى الْمَسِيح لتلامذته وهم السليحيون ثمَّ تَفَرَّقت ألسنتهم وتوجهت كل فرقة إِلَى مَوضِع لغتها.
وَلَهُم " الذّبْح " سادس كانون الثَّانِي يَوْم غمس يحيى للمسيح فِي نهر الْأُرْدُن.
وَلَهُم " عيد الصَّلِيب " مَشْهُور.(1/78)
وَلَهُم " الميلاد " يَصُومُونَ قبله أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَولهَا سادس عشر تشرين الآخر وَكَانَ مِيلَاد الْمَسِيح بقرية بَيت لحم فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من كانون الأول.
وَأما " الْإِنْجِيل " فَهُوَ كتاب يتَضَمَّن أَخْبَار الْمَسِيح من وِلَادَته إِلَى خُرُوجه من هَذَا الْعَالم كتبه أَرْبَعَة من أَصْحَابه هم " مَتى " كتبه بفلسطين بالعبرانية " ومرقوس " كتبه بِبِلَاد الرّوم باللغة الرومية و " لوقا " كتبه بالإسكندرية باليونانية " ويوحنا " كتبه باليونانية أَيْضا.
وَلَهُم " صَوْم السليحيين " سِتَّة وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا أَولهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي القبطي قسطي بعد الْفطر الْكَبِير بِخَمْسِينَ يَوْمًا وَلَهُم فِيهِ خلاف.
وَلَهُم " صَوْم نِينَوَى " ثَلَاثَة أَيَّام أَولهَا يَوْم الأثنين قبل الصَّوْم الْكَبِير بِاثْنَيْنِ وَعشْرين يَوْمًا.
وَلَهُم " صَوْم العذارى " ثَلَاثَة أَيَّام أَولهَا يَوْم الأثنين تلو الذّبْح وفطره الْخَمِيس.
(أُمَم دخلت فِي النَّصْرَانِيَّة)
مِنْهَا " الرّوم " على عظم ممالكهم واتساع بِلَادهمْ نجموا من بني الْعيص بن إِسْحَاق أول ظُهُورهمْ سنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَسَارُوا إِلَى بِلَادهمْ وسكنوها.
وَمن كتاب ابْن سعيد: الرّوم بَنو الْأَصْفَر والأصفر هُوَ روم بن الْعيص بن إِسْحَاق على اُحْدُ الْأَقْوَال وَمن الْكَامِل وَغَيره أَن الرّوم كَانَت صابئة ذَوي أصنام حَتَّى تنصر قسطنطين فتنصروا.
وَمن أُمَم النَّصَارَى " الأرمن " كَانُوا بأرمينية وَقَاعِدَة مملكتها خلاط وَلما ملكناها صَارُوا فِيهَا رعية ثمَّ تغلبُوا وملكوا مناطرسوس والمصيصة وبلاد سيس، وسيس مَدِينَة بقلعة حَصِينَة هِيَ كرْسِي ملكهم فِي زَمَاننَا هَذَا.
وَمِنْهَا: الكرج: بِلَادهمْ مجاورة لبلاد خلاط إِلَى الخليج القسطنطيني وَإِلَى نَحْو الشمَال وَلَهُم جبال منيعة وقلاع حَصِينَة وَالْغَالِب عَلَيْهِم النَّصْرَانِيَّة يَلِي ملكهم الرِّجَال وَالنِّسَاء بالوراثة وهم خلق كثير فِي صلح التتار الْيَوْم.
وَمِنْهَا " الجركس " على شَرْقي بَحر نيطش فِي شظف من الْعَيْش غالبهم نَصَارَى.
وَمِنْهَا " الروس " لَهُم جزائر فِي بَحر نيطش - بَحر الْقُسْطَنْطِينِيَّة - وَلَهُم بِلَاد شمَالي الْبَحْر. وَمِنْهَا " البلغار " نِسْبَة إِلَى مَدِينَة يسكنونها شمَالي بَحر نيطش كَانَ غالبهم نَصَارَى فَأسلم بَعضهم. وَمِنْهَا " الألمان " أكبر أُمَم النَّصَارَى غربي الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى الشمَال جنودهم كَثِيرَة قصد ملكهم فِي مائَة ألف مقاتلة صَلَاح الدّين بن أَيُّوب فَهَلَك هُوَ وغالب عسكره فِي الطَّرِيق وسنذكره فِي أَخْبَار صَلَاح الدّين.(1/79)
وَمِنْهَا " البرجان " أمة بل أُمَم طاغية مثلثون بِلَادهمْ متوغلة فِي الشمَال سيرهم مُنْقَطِعَة لبعدهم عَنَّا وجفاء طباعهم.
وَمِنْهَا " الفرنج " أُمَم أصل بِلَادهمْ فرنجة وَيُقَال فرسنة جَوَاهِر الأندلس شماليها يُقَال لملكهم الفرنسيس قصد ديار مصر وَأخذ دمياط ثمَّ أسره الْمُسلمُونَ واستنقذوا دمياط مِنْهُ ومنوا عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ بعد موت الْملك الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب وَقد غلب الفرنج على مُعظم الأندلس وَلَهُم فِي بَحر الرّوم جزائر مَشْهُورَة مثل صقلية وقبرس وأقريطش.
وَمِنْهُم " الجنوية " نِسْبَة إِلَى جنوه مَدِينَة عَظِيمَة وبلادهم كَبِيرَة غربي الْقُسْطَنْطِينِيَّة على بَحر الرّوم.
وَمِنْهُم " البنادقة " مدينتهم البندقية على خليج من بَحر الرّوم تمتد نَحْو سَبْعمِائة ميل فِي جِهَة الشمَال والغرب وَهِي قريبَة من جنوه فِي الْبر بَينهمَا ثَمَانِيَة أَيَّام وَبَينهمَا فِي الْبَحْر أمد بعيد فَوق شَهْرَيْن لأَنهم يخرجُون إِلَى بَحر الرّوم شرقا ثمَّ غربا إِلَى جنوه، ورومية عَظِيمَة غربي جنوه والبندقية، وخليفتهم البابا بهَا وَهِي شمَالي الأندلس بشرق.
وَمن أُمَم النَّصَارَى " الجلالقة " جهلة جُفَاة أَشد من الفرنج يتركون ثِيَابهمْ بِلَا غسل إِلَى أَن تبلى وَيدخل أحدهم دَار الآخر بِلَا اسْتِئْذَان وهم كَالْبَهَائِمِ بِلَادهمْ كَثِيرَة شمَالي الأندلس.
وَمِنْهَا " الباشقرد " عَالم بَين الألمان وإفرنجة غالبهم نَصَارَى وَفِيهِمْ مُسلمُونَ لَهُم شراسة أَخْلَاق.
(أُمَم الْهِنْد)
فرق مِنْهُم " الباسوية " زَعَمُوا أَن لَهُم رَسُولا ملكا روحانيا نزل بِصُورَة الْبشر أَمرهم بتعظيم النَّار والتقرب إِلَيْهَا بالطيب والذبائح ونهاهم عَن الْقَتْل وَالذّبْح لغير النَّار وَسن لَهُم أَن يتوشحوا بخيط يعقدونه من مَنَاكِبهمْ الأيامن إِلَى تَحت شمائلهم وأباح الزِّنَى وَعظم الْبَقر وَأمر بِالسُّجُود لَهَا حَيْثُ رأوها.
وَمِنْهُم " الْيَهُودِيَّة " يَقُولُونَ الْأَشْيَاء كلهَا صنع الْخَالِق فَلَا يعافون شَيْئا ويتقلدون بعظام النَّاس ويمسحون رؤوسهم وأجسادهم بالرماد ويحرمون الذَّبَائِح وَالنِّكَاح وَجمع المَال.
وَمِنْهُم " عَبدة الشَّمْس " وَمِنْهُم " عَبدة الْقَمَر " وَمِنْهُم " عَبدة الْأَصْنَام " وهم معظمهم لكل طَائِفَة صنم وأشكال الْأَصْنَام مُخْتَلفَة.
وَمِنْهُم " عباد المَاء " الجهلكية يَزْعمُونَ أَن المَاء ملك وَهُوَ أصل كل شَيْء إِذا أَرَادَ الرجل عبَادَة المَاء تجرد وَستر عَوْرَته وَدخل المَاء إِلَى وَسطه وَيُقِيم ساعتين أَو أَكثر وَمَعَهُ رياحين يقطعهَا صغَارًا ويلقيها فِيهِ وَهُوَ يسبح وَيقْرَأ وَإِذا أَرَادَ الإنصراف حرك المَاء بِيَدِهِ ثمَّ نقط مِنْهُ على رَأسه وَوَجهه وَسجد وَانْصَرف.(1/80)
وَمِنْهُم " عباد النَّار " الأكنواطرية عِبَادَتهم أَن يحفروا أُخْدُودًا مربعًا ويؤججوا بِهِ النَّار ثمَّ لَا يدعونَ طَعَاما لذيذاً وَلَا ثوبا فاخرا وَلَا شرابًا لطيفا وَلَا عطرا فائحا وَلَا جوهرا نفيسا إِلَّا طرحوه فِي تِلْكَ النَّار تقربا إِلَيْهَا وحرموا إِلْقَاء النُّفُوس فِيهَا خلافًا لطائفة أُخْرَى.
وَمِنْهُم " البراهمة " أَصْحَاب فكرة وَعلم بالفلك والنجوم تخَالف طريقتهم منجمي الرّوم والعجم لِأَن أَكثر أحكامهم باتصالات الثوابت دون السيارات يعظمون أَمر الْفِكر وَيَقُولُونَ هُوَ الْمُتَوَسّط بَين المحسوس والمعقول ويجتهدون فِي صرف الْفِكر عَن المحسوسات ليتجرد الْفِكر عَن هَذَا الْعَالم ويتجلى لَهُ ذَلِك الْعَالم فَرُبمَا يخبر عَن المغيبات وَرُبمَا يُوقع الْوَهم على حَيّ فيقتله وَإِنَّمَا يصرفون الْفِكر عَن المحسوسات بالرياضية البليغة المجهدة وبتغميض أَعينهم أَيَّامًا والبراهمة لَا يَقُولُونَ بالنبوات وَلَهُم على ذَلِك شبه والهنود لَا يرَوْنَ إرْسَال الرّيح من بطونهم قبيحا والسعال أقبح عِنْدهم من إرْسَال الرّيح والجشاء.
وَمِنْهُم من يحرق نَفسه فَيَأْتِي إِلَى بَاب الْملك يَسْتَأْذِنهُ فِي ذَلِك ويلبس أَنْوَاع الْحَرِير المنقوش ويتكلل بالريحان وتضرب الطبول والصنوج بَين يَدَيْهِ ويدور كَذَلِك فِي الْأَسْوَاق وَحَوله أَهله وأقاربه ثمَّ يدنو من النَّار المؤججة لَهُ وَيَأْخُذ خنجرا يشق بِهِ جَوْفه ثمَّ يهوي بِنَفسِهِ فِي النَّار، والزنى فيهم مُبَاح ويعظمون نهر كبك وَهُوَ نهر عَظِيم فِي حُدُود الْهِنْد من الشرق إِلَى الغرب وَمِنْه نهر إِلَى بِلَاد سجستان وَهُوَ حاد الانصباب ويرغبون فِي إغراق نُفُوسهم بِهِ وَيقْتلُونَ نُفُوسهم على شطه ويتهادون مَاءَهُ كَمَا نتهادى نَحن مَاء زَمْزَم.
وللهند ممالك مِنْهَا " مملكة المايكين " من أعظم ممالكهم على بَحر اللان وَعَلِيهِ السَّنَد وَلَا يدْرك قَعْره هُوَ أول بحارهم من جِهَة الغرب وَهِي أقرب ممالكهم إِلَيْنَا وَأكْثر مَحْمُود بن سبكتكين غَزْو هَذِه وَفتح كثيرا مِنْهَا وَمن مدنها الْعِظَام لاهور على جَانِبي نهر عَظِيم مثل بَغْدَاد.
ويلي المايكين " مملكة القنوج " بلادها الْجبَال مُنْقَطِعَة عَن الْبَحْر من ملكهَا سمي بوده ونهر مهْرَان وَهُوَ نهر السَّنَد أَصله من بِلَاد القنوج وَلها أصنام يتوارثون عبادتها ويزعمون أَن لَهَا مِائَتي ألف سنة.
وتجاورها " مملكة قمار " على الْبَحْر ينْسب إِلَيْهَا الْعود وهم يحرمُونَ الزِّنَى من بَين الْهِنْد من ملكهَا سمي زهم ويحاذيه من جِهَة الْبَحْر المهراج ملك الخزر.
وَآخر ممالك الْهِنْد من جِهَة الشرق " مملكة ببارس " تلِي الصين طَوِيلَة عرضهَا عشرَة أَيَّام وجزائر بَحر الْهِنْد فِي غَايَة الْكَثْرَة وَهِي فِي الْبَحْر قبالة هَذِه الممالك.
(أمة السَّنَد)
غربي الْهِنْد وبلادهم قِسْمَانِ الأول على جَانب الْبَحْر وَهُوَ اللان من مدنه المنصورة والمولتان والدبيل والمسلمون غالبون عَلَيْهِ.(1/81)
" الثَّانِي " فِي الْبر إِلَى جَانب الْجَبَل وعر تسمى بِلَاده القشمير يُقَال لمن ملكهم زنيل وهم أهل أوثان.
(أُمَم السودَان)
هم من ولد حام وَمِنْهُم مجوس وَمِنْهُم عابدوا الْحَيَّات وَمِنْهُم أَصْحَاب أوثان وَعَن جالينوس اختصاصهم بِعشر خِصَال تفلفل الشُّعُور وخفة اللحى وانتشار المنخرين وَغلظ الشفتين وتحد الْأَسْنَان ونتن الْجلد وَسَوَاد اللَّوْن وتشقق الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَطول الذّكر وَكَثْرَة الطَّرب.
فَمن أعظم أممهم " الْحَبَش " بِلَادهمْ مُقَابلَة الْحجاز بَينهمَا الْبَحْر طَوِيلَة عريضة فِي جنوب النّوبَة وشرقيها ملكوا الْيمن قبل الْإِسْلَام كَمَا تقدم والخصيان مِنْهُم أَفْخَر الخصيان.
ويجاورهم من الْجنُوب " الزيلع " غالبهم مُسلمُونَ.
وَمن أُمَم السودَان " النّوبَة " بجوار الْحَبَشَة من الشمَال والغرب والنوبة فِي جنوب حُدُود مصر والمصريون يغزونهم كثيرا وَيُقَال إِن لُقْمَان من النّوبَة ولد بأيلة وَمِنْهُم ذُو النُّون الْمصْرِيّ وبلال بن حمامة.
وَمن أممهم " البجاوة " شديدو السوَاد عُرَاة أهل أوثان وَفِي بِلَادهمْ الذَّهَب وَأمن وَحسن مرافقة للتجار وهم فَوق الْحَبَشَة إِلَى جِهَة الْجنُوب على النّيل.
وَمن أممهم " الدمادم " على النّيل فَوق الزنج والدمادم تتر السودَان خَرجُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا وَلَهُم أوثان وأوضاع مُخْتَلفَة وَعِنْدهم الزرافات وَهُنَاكَ يفْتَرق النّيل إِلَى مصر وَإِلَى الزنج.
وَمن أممهم " الزنج " أَشَّدهم سوادا أهل بَأْس وقساوة يُحَاربُونَ راكبين للبقر وَلَهُم أوثان والنيل يَنْقَسِم فِي بِلَادهمْ عِنْد جبل الْمقسم.
وَمن أممهم " التكرور " على غربي النّيل بِلَادهمْ جنوبية غربية وببلادهم يكون الذَّهَب كفار مهملون وَمِنْهُم مُسلمُونَ.
وَمن أممهم " الكانم " أَكْثَرهم مُسلمُونَ مالكية مساكنهم على النّيل وَأما عانة فَمن أعظم مدن السودَان فِي أقْصَى جنوب الْمغرب يُسَافر التُّجَّار من سجلماسة إِلَى عانة وسجلماسة مَدِينَة بالمغرب الْأَقْصَى بعيدَة عَن الْبَحْر ويحملون فِي سفرهم المَاء فِي مفازة اثْنَي عشرَة يَوْمًا ويجلبون إِلَيْهَا التِّين وَالْملح والنحاس والودع وَلَا يجلبون مِنْهَا إِلَّا الذَّهَب الْعين.
(أمة الصين)
طول بِلَادهمْ من الْمشرق إِلَى الْمغرب شَهْرَان وعرضها من بَحر الصين فِي الْجنُوب إِلَى سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي الشمَال قيل عرضهَا أَكثر من طولهَا يشْتَمل عرضهَا على الأقاليم السَّبْعَة وَأهل الصين أحسن النَّاس سياسة وَأَكْثَرهم عدلا وأحذقهم فِي الصناعات قصار(1/82)
القدود عِظَام الرؤس مذاهبهم مُخْتَلفَة مجوس وَأهل أوثان وَأهل نيران ومدينتهم الْكُبْرَى جمدان يشقها نهرها الْأَعْظَم وهم حذاق بالنقش والتصوير يعْمل الصَّبِي مِنْهُم مَا يعجز أهل الأَرْض.
والأقصى صين الصين نِهَايَة الْعِمَارَة من جِهَة الشرق وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ غير " بَحر الْمُحِيط ومدينته الْعُظْمَى السبلى وأخبارهم مُنْقَطِعَة عَنَّا.
(بَنو كنعان)
هم أهل الشَّام سكنه سَام واسْمه فِي العبرانية بالشين الْمُعْجَمَة فَسُمي بِهِ وَقيل تشاءمت بِهِ بَنو كنعان وكنعان بن ماريع بن حام بن نوح وَهُوَ من جملَة المتفقين على بِنَاء الصرح فَلَمَّا بلبل اللَّهِ ألسنتهم فِي أَوَاخِر سنة سِتّمائَة وَسبعين للطوفان وَتَفَرَّقُوا نزل كنعان الشَّام فِي جِهَة فلسطين وتوارثها بنوه وكل ملك من كنعان لقب جالوت إِلَى أَن قتل دَاوُد جالوت آخر مُلُوكهمْ واسْمه كلباد عَن البيروني فَتفرق بَنو كنعان وَسكن مِنْهُم طَائِفَة الْمغرب وهم البربر.
وَقد اخْتلف فِي " البربر " فَقيل هم من ولد فاروق بن يبصر بن حام وهم يَزْعمُونَ أَنه من قيس عيلان وصنهاجة من البربر تزْعم أَنَّهَا من ولد أفريقش بن صَيْفِي الْحِمْيَرِي وزناتة مِنْهُم تزْعم أَنَّهَا من لخم وَالأَصَح أَنهم من ولد كنعان.
والبربر كثير جدا مِنْهُم " كتامة " بالجبال من الْمغرب الْأَوْسَط هم أَقَامُوا دولة الفاطميين مَعَ أبي عبد اللَّهِ الشيعي وَمِنْهُم " صنهاجة " وَمِنْهُم مُلُوك أفريقية بَنو بلكين بن زمري.
وَمن البربر " زناته " وَكَانَ مِنْهُم مُلُوك فاس وتلمسان وسجلماسة وَلَهُم شجاعة.
وَمن البربر " المصامدة " بجبال درن وَقَامُوا بنصر الْمهْدي بن تومرت وبهم ملك عبد الْمُؤمن وَبَنوهُ الْمغرب وانفرق من المصامدة قَبيلَة " هنتاته " وَملك مِنْهُم إفريقية وَالْمغْرب الْأَوْسَط أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص ثمَّ خطب لوَلَده أبي عبيد اللَّهِ مُحَمَّد بالخلافة وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة.
وَمن البربر " براغواطة " بتامسنا وجهات سلا على الْمُحِيط والبربر مثل الْعَرَب فِي الصَّحَارِي وَلَهُم لِسَان غير الْعَرَبِيّ، ترجع لغاتهم إِلَى أصُول وَاحِدَة وتختلف فروعها حَتَّى لَا يفهم بَعضهم من بعض.
" عَاد " وهم من ولد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح عِظَام الأجساد جبابرة نزل عَاد بحضرموت لما تبلبلت الألسن ونبيهم هود عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُم هود: أتبنون بِكُل ربع آيَة تعبثون وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين. وَتسَمى بِلَادهمْ الْأَحْقَاف مُتَّصِلَة بِالْيمن وعمان.
أول من ملك مِنْهُم " شَدَّاد " بن عَاد من بنيه جمَاعَة وأخبارهم مضطربة.
" العمالقة " من ولد عمليق بن سَام نزلُوا لما تبلبلت الألسن بِصَنْعَاء ثمَّ بِالْحرم وأهلكوا(1/83)
من قاتهلم من الْأُمَم وَكَانَ مِنْهُم جمَاعَة بِالشَّام قَاتلهم مُوسَى، ثمَّ يُوشَع عَلَيْهِمَا السَّلَام فأفناهم وَمِنْهُم فَرَاعِنَة بِمصْر وَمِنْهُم من ملك خَيْبَر ويثرب وَغَيرهمَا من الْحجاز وَأمر مُوسَى جَيْشًا بقتل العمالقة فَلم يستبق مِنْهُم سوى ابْن ملكهم فَرجع بِهِ الْجَيْش إِلَى الشَّام وَقد مَاتَ مُوسَى فَقَالَ لَهُم بَنو إِسْرَائِيل قد عصيتم وخالفتم فَلَا نأويكم فَرَجَعُوا إِلَى يثرب وخيبر وَغَيرهمَا من الْبِلَاد الَّتِي غلبوا عَلَيْهَا واستمروا حَتَّى نزلت عَلَيْهِم الْأَوْس والخزرج لما تفَرقُوا من الْيمن بِسَبَب سيل الْهَرم وَقيل إِنَّمَا سكن الْيَهُود الْحجاز لما غزاهم بخْتنصر.
(أُمَم الْعَرَب وأحوالهم قبل الْإِسْلَام)
الْعَرَب الْجَاهِلِيَّة أَصْنَاف صنف أَنْكَرُوا الْخَالِق والبعث وَقَالُوا بالطبع المحيي والدهر المفني، قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُم {وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وصنف اعْتَرَفُوا بالخالق وأنكروا الْبَعْث قَالَ تَعَالَى {أفعيينا بالخلق الأول بل هم فِي لبس من خلق جَدِيد} وصنف عبدُوا الْأَصْنَام كل صنم لقبيلة ود بدومة الجندل لكَلْب وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ولقبائل من الْيمن ونسر لذِي الكلاع بِأَرْض حمير ويعوق لهمدان وَاللات لثقيف بِالطَّائِف والعزى لقريش وَهِي كنَانَة وَمَنَاة لِلْأَوْسِ والخزرج وهبل أعظمها على ظهر الْكَعْبَة وأساف ونائلة على الصَّفَا والمروة.
وَمِنْهُم من هاد وَمِنْهُم من تنصر وَمِنْهُم صابئة تعتقد فِي أنواء الْمنَازل اعْتِقَاد المنجمين فِي السيارات حَتَّى لَا تتحرك إِلَّا بِنَوْء من الأنواء وَتقول مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَمِنْهُم عابدوا الْمَلَائِكَة وعابدوا الْجِنّ وعلومهم الْأَنْسَاب والأنواء والتواريخ وَالتَّعْبِير وَلأبي بكر الصّديق فِيهَا يَد طولى.
ووافقت الْجَاهِلِيَّة الْإِسْلَام فِي أَشْيَاء فَكَانُوا لَا ينْكحُونَ الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وأقبح مَا صَنَعُوا الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ وعابوا المتزوج بِامْرَأَة الْأَب وسموه الضيزن وحجوا الْبَيْت واعتمروا وطافوا وَسعوا ووقفوا بِكُل المواقف ورموا الْجمار وَكَانُوا يَكْسِبُونَ فِي كل ثَلَاثَة أَعْوَام شهرا ويغتسلون من الْجَنَابَة وداوموا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَفَوق الرَّأْس والسواك والاستنجاء وتقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة والختان وَقَطعُوا يَد السَّارِق الْيُمْنَى.
(أَحيَاء الْعَرَب وقبائلهم)
الْعَرَب ثَلَاثَة أَقسَام بائدة وعاربة ومستعربة فالبائدة ذهب عَنَّا تفاصيل أخبارهم لتقادم عَهدهم كعاد وَثَمُود وجرهم الأولى وَأما جرهم الثَّانِيَة فَمن ولد قطحان واتصل بهم إِسْمَاعِيل والعاربة عرب الْيمن من ولد قحطان والمستعربة من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَمن أَحيَاء البائدة على قَتلهَا " طسم وجديس " سكنا الْيَمَامَة وَكَانَ الْملك عَلَيْهِم فِي طسم أَبْرَهَة ثمَّ انْتهى الْملك من طسم إِلَى ظلوم غشوم سنّ أَن لَا تهدي بكر من جديس إِلَى بَعْلهَا حَتَّى يفترعها فأنفوا ودفنوا ودفنوا سيوفهم بالرمل وَدعوهُ إِلَى طَعَام فَلَمَّا حضر فِي(1/84)
خواصه من طسم عَمدُوا إِلَى سيوفهم وقتلوه وَقتلُوا غَالب طسم فهرب من طسم رجل وشكا إِلَى تبع قتل حسان بن أسعد واستنصر بِهِ فَسَار تبع من الْيمن وإليهم وأفنانهم فَلم يبْق لطسم وجديس ذكر.
" وَالْعرب العاربة " بَنو قحطان بن عَامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح فَمنهمْ بَنو جرهم بن قحطان سكنوا الْحجاز واتصلوا بِإِسْمَاعِيل وَتزَوج مِنْهُم وَصَارَت من وَلَده المستعربة لِأَن أَصله عبراني فَقيل لوَلَده المستعربة، وَتقدم ذكر جرهم.
وَمن العاربة " بَنو سبأ " سبأ اسْمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ولسبأ أَوْلَاد مِنْهُم حمير وكهلان وَعمْرَان وأشعر وعاملة وقبائل عرب الْيمن وملكوها التابعة من ولد سبأ وَجَمِيع تبابعة الْيمن من ولد حمير بن سبأ خلا عمرَان وأخيه مزيقيا فَإِنَّهُمَا ابْنا عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد من ولد كهلان بن سبأ وَفِي ذَلِك خلاف والتبابعة قد ذكرُوا من قبل وَهنا نذْكر أَحيَاء عرب الْيمن وقبائلهم المنسوبين إِلَى سبأ ونبدأ بِذكر بني حمير بن سبأ وَكَذَلِكَ حَتَّى نأتي على ذكر بني سبأ.
(بَنو حمير بن سبأ)
مِنْهُم التبابعة مُلُوك الْيمن المذكورون.
وَمِنْهُم " قضاعة " وَهُوَ قضاعة بن مَالك بن حمير بن سبأ وَقيل قضاعة بن مَالك بن عَمْرو بن مرّة بن زيد بن مَالك بن حمير بن سبأ كَانَ قضاعة مَالِكًا بِلَاد الشحر وقبره فِي جبل الشحر.
وَمِنْهُم " كلب " وهم بَنو كلب بن وبرة بن ثَعْلَبَة بن حلوان بن عمرَان بن الْحَارِث بن قضاعة نزل بَنو كلب فِي الْجَاهِلِيَّة الجندل وتبوك وأطراف الشَّام.
وَمن مشاهير كلب " زُهَيْر " بن جناب الْكَلْبِيّ وَمِنْهُم " زُهَيْر بن شريك " الْكَلْبِيّ الْقَائِل:
(أَلا أَصبَحت أَسمَاء فِي الْخمر تعذل ... وتزعم أَنِّي بالسفاه مُوكل)
(فَقلت لَهَا كفى عتابك نصطبح ... وَإِلَّا فبيني فالتغرب أمثل)
وَمِنْهُم " حَارِثَة " الْكَلْبِيّ بن زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصَاب زيد إسباء فِي الْجَاهِلِيَّة فَصَارَ إِلَى خَدِيجَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَهَبته رَضِي اللَّهِ عَنْهَا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن شعر حَارِثَة يبكي زيدا لما فَقده:
(بَكَيْت على زيد وَلم أدر مَا فعل ... أَحَي يُرْجَى أم أَتَى دونه الْأَجَل)
(تذكرنيه الشَّمْس عِنْد طُلُوعهَا ... وَتعرض ذاكره إِذا قَارب الطِّفْل)
(وَإِن هبت الْأَرْوَاح هيجن ذكره ... فيا طول مَا حزني عَلَيْهِ وَيَا وَجل)
ثمَّ اجْتمع بزيد أَبوهُ عِنْد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسلم فخيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَارَ على أَبِيه وَأَهله وَمن(1/85)
قضاعة " بهرا " وَمن قضاعة " جُهَيْنَة " قَبيلَة عَظِيمَة وبطون بأطراف الْحجاز الشمالي من جِهَة بَحر جدة وَمن قضاعة " بلَى " وَمن قضاعة " تنوخ ". وَبينهمْ وَبَين اللخميين مُلُوك الْحيرَة حروب، وَمن قضاعة " بَنو سليح " كَانَ لَهُم بادية بِالشَّام فأبادتهم غَسَّان وَمن قضاعة " بَنو نهد " من مشاهيرهم الصَّقْعَب بن عَمْرو النَّهْدِيّ أَبُو خَالِد رَئِيس فِي الْإِسْلَام وَمن قضاعة " بَنو عذرة " وَمِنْهُم عُرْوَة بن حرَام وَجَمِيل صَاحب بثينة.
قلت: وَقتل كثيرا مِنْهُم الْهوى حَتَّى قيل الْهوى العذري وَالله أعلم.
وَمن بطُون حمير " شعْبَان " مِنْهُم الشّعبِيّ الْفَقِيه اسْمه عَامر، وَأما " بَنو كهلان " فأحياء كَثِيرَة مشهورها سَبْعَة الأزد وطيء وذحج وهمدان وَكِنْدَة وَمُرَاد وأنمار.
" فالأزد " من ولد الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ، وَمن الأزد " الغساسنة " بَنو عمر بن مَازِن بن الأزد وَمن الأزد " الْأَوْس والخزرج " أهل يثرب والمسلمون مِنْهُم هم الْأَنْصَار رَضِي اللَّهِ عَنْهُم وَمن الأزد خُزَاعَة وبارق ودوس والعتيك وغامق.
" أما خُزَاعَة " فَمَال انخزعت عَن غَيرهَا من قبائل الْيمن الَّذين تفَرقُوا أَيدي سبأ من سيل العرم وَنزلت بطن مر قرب مَكَّة سميت خُزَاعَة وحصلت لَهُم سدانة الْبَيْت والرياسة وَلما صَالح رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة دخلت خُزَاعَة فِي عقدَة وَعَهده وَالْأَكْثَر أَن خُزَاعَة يَمَانِية وَقيل معدية وتنتسب خُزَاعَة إِلَى كَعْب بن عَمْرو بن لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد.
وَلم تنزل السدَانَة فِي خُزَاعَة حَتَّى انْتَهَت إِلَى أبي غبشان مِنْهُم فِي زمن قصي بن كلاب فَاجْتمع مَعَ قصي فِي الطَّائِف على شرب فأسكره قصي وخدعه وَاشْترى مِنْهُ مَفَاتِيح الْكَعْبَة بزق خمر وَأشْهد عَلَيْهِ وتسلم قصي المفاتيح وَأرْسل ابْنه عبد الدَّار إِلَى مَكَّة فَلَمَّا وَصلهَا رفع صَوته وَقَالَ: معاشر قُرَيْش هَذِه مَفَاتِيح بَيت أبيكم إِسْمَاعِيل قد ردهَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُم من غير عَار وَلَا ظلم وصحا أَبُو غبشان وَنَدم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم فَقيل أخس من بني غبشان حَتَّى قيل:
(باعت خُزَاعَة بَيت اللَّهِ إِذْ سكرت ... بزق خمر فبئست صَفْقَة البادي)
(باعت سدانتها بالنزر وانصرفت ... عَن الْمقَام وظل الْبَيْت والنادي)
وَجمع قصي أشتات قُرَيْش وَظهر على خُزَاعَة وأخرجها عَن مَكَّة إِلَى بطن مر وَمن خُزَاعَة " بَنو المصطلق " الَّذين غزاهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما " بارق " فَمن ولد عَمْرو بن مزيقيا الْأَزْدِيّ نزلُوا جبلا بِجَانِب الْيمن اسْمه بارق فسموا بِهِ وَمن مشاهيرهم معقر بن حَمَّاد الْبَارِقي وَله القصيدة الَّتِي مِنْهَا:
(وَأَلْقَتْ عصاها وَاسْتقر بهَا النَّوَى ... كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر)
" وَأما دوس " فَابْن عربان بن عبد اللَّهِ بن وهران بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن(1/86)
مَالك بن نصر بن الأزد سكنت بَنو دوس إِحْدَى السروات المطلة على تهَامَة وَكَانَت لَهُم دولة بأطراف الْعرَاق.
وَأول من ملك مِنْهُم مَالك بن فهم بن غنم بن دوس وَمن الدوس " أَبُو هُرَيْرَة " وَالْأَكْثَر أَن اسْمه عُمَيْر بن عَامر " وَأما العتيك وغامق " فقبيلتان مشهورتان فِي الْإِسْلَام من ولد الأزد وَمن الأزد " بَنو الجلندي " مُلُوك عمان والجلندي لقب لكل من ملك مِنْهُم عمان وَكَانَ ملك عمان قد انْتهى فِي الْإِسْلَام إِلَى جبفر وَعبد ابْني الجلندي وأسلما مَعَ أهل عمان على يَد عَمْرو بن الْعَاصِ.
(الْحَيّ الثَّانِي من بني كهلان وهم قبائل طي)
تَفَرَّقت الْيمن بسيل العرم فَنزلت طي بِنَجْد الْحجاز فِي جبلي أجأ وسلمى فعرفا بجبلي طي، وطي هُوَ ابْن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ وَمن بطُون طي جذيلة ونبهان وبولان وسلامان وهنى وسدوس بِضَم السِّين وَأما سدوس الَّتِي فِي قبائل ربيعَة بن نزار فمفتوحة السِّين وَمن سلامان بَنو بحتر وَمن هنى " أياس " بن قبيصَة ملك بعد النُّعْمَان وَمن طي " عَمْرو بن المشيح " من بني ثعل الطَّائِي وَكَانَ عَمْرو أرمى النَّاس وَفِيه يَقُول امْرُؤ الْقَيْس:
(رب رام من بنى ثعل ... مخرج كفيه من ستره)
وَمن بني ثعل الطَّائِي زيد الْخَيل سَمَّاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زيد الْخَيْر وَمن طي " حَاتِم " الْمَشْهُور بِالْكَرمِ.
" الْحَيّ الثَّالِث من بني كهلان بَنو مذْحج " وَاسم مذْحج مَالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ ومذحج بطُون مِنْهَا خولان وحبِيب وَمن حبيب " مُعَاوِيَة الْخَيْر " الحبيبي صَاحب لِوَاء مذْحج فِي حَرْب بني وَائِل وَكَانَ مَعَ تغلب وَمن مذْحج أود قَبيلَة الأفوه الأودي الشَّاعِر.
وَمن مذْحج " بَنو سعد الْعَشِيرَة " سمي بذلك لِأَنَّهُ لم يمت حَتَّى ركب مَعَه من وَلَده وَولد وَلَده ثلثمِائة رجل وَإِذا سُئِلَ عَنْهُم قَالَ هَؤُلَاءِ عشيرتي دفعا للعين وَمن بطُون سعد الْعَشِيرَة جعف وزبيد قَبيلَة " عَمْرو بن معدي كرب " وَمن بطُون مذْحج النخع وَمِنْهُم " الأشتر النَّخعِيّ " واسْمه مَالك بن الْحَارِث صَاحب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن النخع " سِنَان " بن أنس قَاتل الْحُسَيْن وَمِنْهُم " شريك " وَمن مذْحج " عنس " بالنُّون قَبيلَة " الْأسود الْكذَّاب " ادّعى النُّبُوَّة بِالْيمن، وعنس أَيْضا رَهْط عمار بن يَاسر صَاحب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
" الْحَيّ الرَّابِع من بني كهلان هَمدَان " من ولد ربيعَة بن حَيَّان بن مَالك بن زيد بن كهلان وَلَهُم صيت فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام.
" والحي الْخَامِس من بني كهلان كِنْدَة " وهم بَنو ثَوْر، وثور هُوَ كِنْدَة بن عفير بن الْحَارِث بن الْحَارِث من ولد زيد بن كهلان كند أَبَاهُ أَي كفر نعْمَته وبلاد كِنْدَة بِالْيمن تلِي(1/87)
حَضرمَوْت وَمن كِنْدَة حجر بن عدي صَاحب عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ قَتله مُعَاوِيَة صبرا وَمِنْهُم القَاضِي " شُرَيْح " وَمن بطُون كِنْدَة السكاسك والسكون بَنو أشوس بن كِنْدَة فَمن السّكُون مُعَاوِيَة بن خديج قَاتل مُحَمَّد بن أبي بكر وَمِنْهُم حُصَيْن بن نمير السكونِي الَّذِي صَار صَاحب جَيش يزِيد بن مُعَاوِيَة بعد مُسلم بن عقبَة فِي وقْعَة الْحرَّة بِظَاهِر الْمَدِينَة.
" والحي السَّادِس من بني كهلان بَنو مُرَاد " بِلَادهمْ إِلَى جَانب زبيد من جبال الْيمن إِلَيْهِ ينْسب كل مرادي من عرب الْيمن.
" والحي السَّابِع من كهلان بَنو أَنْمَار " بن كهلان ولأنمار فرعان بجيلة وخثعم وبجيلة رَهْط جرير بن عبد اللَّهِ البَجلِيّ صَاحب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيل لَهُ يُوسُف الأمه لحسنه وَفِيه قيل:
(لَوْلَا جرير هَلَكت بجيلة ... نعم الْفَتى وبئست الْقَبِيلَة)
أنْتَهى الْكَلَام فِي بني كهلان.
(ذكر عَمْرو بن سبأ)
الْقَبَائِل المنتسبة إِلَى عَمْرو بن سبأ مِنْهُم لخم بن عدي بن عَمْرو بن سبأ وَمن لخم " بَنو الدَّار " رَهْط تَمِيم الدَّارِيّ الصَّحَابِيّ وَمن لخم المناذرة مُلُوك الْحيرَة بَنو عَمْرو بن عدي بن نصر اللَّخْمِيّ وَمن قبائل المنتسبة إِلَى عَمْرو بن سبأ " جذام " أَخُو لخم وَجَمِيع جذام من ابنيه " حزَام وجشم " ابْني جذام كَانَ فِي بني حزَام الْعدَد والشرف وَمن بطُون جشم بن جذام عتيت بن أسلم وَأما " بَنو الْأَشْعر " بن سبأ فَيُقَال لَهُم الأشعريون رَهْط أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد اللَّهِ بن قيس وَأما " بَنو عاملة " فَمن الْقَبَائِل اليمانية الَّتِي خرجت إِلَى الشَّام من سيل العرم نزلُوا قرب دمشق فِي جبلهم فَمن عاملة " عدي بن الرّقاع " الشَّاعِر، انْتهى ذكر أَوْلَاد سبأ.
(ذكر الْعَرَب المستعربة)
هم من ولد إِسْمَاعِيل كَانَ عمر إِسْمَاعِيل لما أنزلهُ إِبْرَاهِيم مَعَ أمه هَاجر بِمَكَّة مَوضِع الْحجر نَحْو أَربع عشرَة سنة وَذَلِكَ لمضي مائَة سنة من عمر إِبْرَاهِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمن سُكْنى إِسْمَاعِيل مَكَّة إِلَى الْهِجْرَة أَلفَانِ وَسَبْعمائة وَثَلَاث وَتسْعُونَ سنة وَتزَوج إِسْمَاعِيل من جرهم امْرَأَة ولدت لَهُ اثْنَي عشر ذكرا.
مِنْهُم " قيدار " ودفنت هَاجر بِالْحجرِ وَابْنهَا إِسْمَاعِيل مَعهَا أَيْضا، وَاخْتلف المؤرخون فِي أَمر الْملك على الْحجاز بَين جرهم وَبَين إِسْمَاعِيل فَمن قَائِل كَانَ الْملك فِي جرهم ومفتاح الْكَعْبَة وسدانتها مَعَ بني إِسْمَاعِيل وَمن قَائِل إِن قيدار توجته أَخْوَاله جرهم وملكوه عَلَيْهِم بالحجاز وسدانة الْبَيْت الْحَرَام ومفاتيحه كَانَت فِي بني إِسْمَاعِيل بِلَا خلاف حَتَّى انْتهى ذَلِك إِلَى نابت من ولد إِسْمَاعِيل وَصَارَت السدَانَة بعدهمْ لجرهم بِدَلِيل قَول عَامر بن الْحَارِث الجرهمي:(1/88)
(وَكُنَّا وُلَاة الْبَيْت من بعد نابت ... نطوف بِذَاكَ الْبَيْت وَالْأَمر ظَاهر)
وَمِنْهَا:
(كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا ... أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر)
(بلَى نَحن كُنَّا أَهلهَا فأبادنا ... صروف اللَّيَالِي والجدود العواتر)
ثمَّ ولد لقيدار " حمل " ثمَّ لحمل " نبت " وَيُقَال نابت وَقيل نبت بن إِسْمَاعِيل ولنبت " سلامان " ولسلامان " الهميسع " وللهميسع " اليسع " ولليسع " أدد " ولادد " أد " ولأد " عدنان "،
وَقيل عدنان بن أدد ولعدنان " معد " ولمعد " نزار " ولنزار أَرْبَعَة مِنْهُم " مُضر " على عَمُود النّسَب النَّبَوِيّ وَثَلَاثَة خارجون عَن عَمُود النّسَب أَوَّلهمْ أياد أكبر من مُضر وَإِلَى أياد الْمَذْكُور يرجع كل أيادي من المعديين وفاروق أياد الْحجاز وَسَار بأَهْله إِلَى أَطْرَاف الْعرَاق فَمن بني أياد كَعْب بن أُمَامَة الأيادي ضرب بجوده الْمثل.
قلت: قَالَ الشَّاعِر:
(فَمَا كَعْب بن أُمَامَة وَابْن سعدى ... بأكرم مِنْك يَا عَمْرو الجوادا ... )
وَالله أعلم.
وَمِنْهُم " قس بن سَاعِدَة " ضرب بفصاحته الْمثل " وَالثَّانِي " من نزار ربيعَة الْفرس بن نزار ورث الْخَيل من مَال أَبِيه ولربيعة أَسد وضبيعة وَولد لأسد جديلة وعنزة وَمن جديلة وَائِل وَمن وَائِل بكر وتغلب ابْنا وَائِل فَمن تغلب ملك بني وَائِل كُلَيْب الَّذِي قَتله جساس فهاجت بِهِ حَرْب البسوس وَمن بكر بن وَائِل بَنو شَيبَان.
وَمن رِجَالهمْ مرّة وَابْنه جساس قَاتل كُلَيْب " وطرفة " بن العَبْد الشَّاعِر وَمن بكر " المرقشان " الْأَكْبَر والأصغر وَمن بكر بن وَائِل بَنو حنيفَة وَمِنْهُم " مُسَيْلمَة الْكذَّاب " وَأما عنزة بن أَسد بن ربيعَة فَمِنْهُ بَنو ربيعَة وهم أهل خَيْبَر وَمن بني عنزة " القارظان " وَأما ضبيعة بن ربيعَة فَمن وَلَده المتلمس الشَّاعِر وَمن قبائل ربيعَة النمر وسيحيم والعجل وَبَنُو عبد الْقَيْس وهم من ولد أَسد بن ربيعَة وَمن ولد ربيعَة سدوس واللهازم، وَالثَّالِث " أَنْمَار " بن نزار وَمضى إِلَى الْيمن فتناسل بنوه. ثمَّ وَحَسبُوا من الْعَرَب اليمانية، ثمَّ ولد لمضر الْمَذْكُور " إلْيَاس " على عَمُود النّسَب وَولد لَهُ خَارِجا عَنهُ " قيس عيلان " وَيُقَال قيس بن مُضر وعيلان بِالْعينِ الْمُهْملَة وَقيل إِن عيلان فرسه وَقيل كَلْبه وَقيل بل عيلان أَخُو إلْيَاس واسْمه عيلان إلْيَاس بن مُضر وَجعل اللَّهِ لقيس الْمَذْكُور من الْكَثْرَة أمرا عَظِيما.
فَمن وَلَده " قبائل هوَازن " وَمن هوَازن بَنو سعد بن بكر بن هوَازن الَّذين كَانَ فيهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رضيعا وَمن قبائل قيس " بَنو كلاب " وَصَارَ مِنْهُم أَصْحَاب حلب أَوَّلهمْ صَالح بن مرداس وَمن قيس قبائل " عقيل " مِنْهُم مُلُوك الْموصل الْمُقَلّد وقرواش وَغَيرهمَا وَمن ولد قيس بَنو عَامر وصعصعة وخفاجة وَمَا زَالَت لخفاجة أمرة الْعرَاق وَإِلَى الْآن وَمن هوزان بَنو ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوازان بن مَنْصُور بن(1/89)
عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس عيلان وَمن هوزان " جشم " بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوزان، وَمن جشم دُرَيْد بن الصمَّة وَمن قيس بكر وَبَنُو هِلَال وَثَقِيف وَاسم ثَقِيف عَمْرو بن مُنَبّه بن بكر بن هوَازن وَقيل إِن ثقيفا من أياد وَقيل من بقايا ثَمُود وهم أهل الطَّائِف.
وَمن قيس بَنو نمير وباهلة ومازن وغَطَفَان وَهُوَ ابْن سعد بن قيس عيلان وَمن قيس بَنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان وَبَين عبس وذبيان حروب داحس.
وَمن بني عبس " عنترة الْعَبْسِي " أدعاه أَبوهُ شَدَّاد بعد أَن كبر وَمن قيس أَشْجَع وهم أَيْضا من ولد غطفان وَمن قيس " قبائل سليم " وَبَنُو ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان وَمن ذبيان الْمَذْكُورين بَنو فَزَارَة فَمنهمْ حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الَّذِي يمدحه زُهَيْر بقوله:
(ترَاهُ إِذا مَا جِئْته متهللا ... كَأَنَّك تعطيه الَّذِي أَنْت سائله)
وَأسلم حصن ثمَّ نَافق وَحرب داحس بَين بني ذبيان وَبَين عبس تقدّمت وَمن ذبيان النَّابِغَة الذبياني الشَّاعِر وَمن قبائل قيس بَنو عدوان بن عَمْرو بن قيس عيلان نزلُوا الطَّائِف قبل ثَقِيف وَمِنْهُم ذُو الْأصْبع العدواني الشَّاعِر. عدنا إِلَى ذكر إلْيَاس بن مُضر ولد لإلياس مدركة على عَمُود النّسَب وَله خَارِجا عَنهُ طابخة بن إلْيَاس وَبَعْضهمْ ينْسب مدركة وطابخة إِلَى أمهما خندف وَاسْمهَا ليلى بنت حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة وَجَمِيع ولد إلْيَاس من خندف وإليها ينسبون دون أَبِيهِم فَيَقُولُونَ بَنو خندف وَلَا يذكرُونَ إلْيَاس بن مُضر وَصَارَ من طابخة الْخَارِج عَن عَمُود النّسَب قبائل مِنْهُم بَنو تَمِيم بن طابخة والرباب وَبَنُو ضبة وَبَنُو مزينة وهم بَنو عَمْرو بن أد بن طابخة نسبوا إِلَى أمّهم مزينة بنت كلب بن وبرة ثمَّ ولد لمدركة بن إلْيَاس خُزَيْمَة على عَمُود النّسَب وَولد لمدركة خَارِجا عَنهُ هُذَيْل بن مدركة وَمن هُذَيْل جَمِيع قبائل الهذليين فَمنهمْ عبد اللَّهِ بن مَسْعُود الصَّحَابِيّ وَأَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ الشَّاعِر ثمَّ ولد لخزيمة كنَانَة على عَمُود النّسَب وَله خَارِجا عَنهُ الْهون وَأسد فَمن الْهون قَبيلَة عضل أبوهم عضل بن الْهون بن خُزَيْمَة وَمِنْه الديش بن الْهون وَهُوَ أَخُو عضل وَيُقَال لقبيلتي عضل والديش الفارة وَأما اسد بن خُزَيْمَة فَمِنْهُ الكاهلية ودودان وَإِلَيْهِ يرجع كل أسدي ثمَّ ولد لكنانة النَّضر على عَمُود النّسَب وللنضر عدَّة إخْوَة لَيْسُوا على عَمُود النّسَب وهم ملكان وَعبد مَنَاة وَعَمْرو وعامر وَمَالك أَوْلَاد كنَانَة فَصَارَ من ملكان بَنو ملكان وَمن عبد مَنَاة بطُون هم بَنو غفار رَهْط أبي ذَر وَبَنُو بكر وَمن بني بكر الديل رَهْط أبي الْأسود الدؤَلِي وَمن بطُون عبد مَنَاة بَنو لَيْث وَبَنُو الْحَارِث وبنومدلج وَبَنُو ضَمرَة وَصَارَ من عَمْرو بن كنَانَة العمريون وَمن أَخِيه عَامر العامريون وَمن مَالك بن كنَانَة بَنو فراس وَمن بطُون كنَانَة الْأَحَابِيش.
وَكَانَ الْحُلَيْس بن عَمْرو رَئِيس الْأَحَابِيش نوبَة أحد وَمن لم يقف على ذَلِك إِذا سمع(1/90)
ذكر الْأَحَابِيش فِي نوبَة أحد ظن أَنهم من الْحَبَشَة وَلَيْسَ كَذَلِك بل هم عرب من بني كنَانَة فَهَؤُلَاءِ إخْوَة النَّضر بن كنَانَة وولدهم وَالنضْر قيل أَنه قُرَيْش وَالصَّحِيح أَن قُريْشًا هم بَنو فهر وَولد للنضر مَالك على عَمُود النّسَب وَلم يشْتَهر لَهُ ولد غَيره ثمَّ ولد لمَالِك فهر على عَمُود النّسَب وفهر هُوَ قُرَيْش قيل سمي قُريْشًا لِشِدَّتِهِ تَشْبِيها بالقرش دَابَّة من الْبَحْر تَأْكُل دَوَاب الْبَحْر وتقهرهم وَقيل قصي بن كلاب استولى على الْبَيْت وَجمع أشتات بني فهر فَسُمي قُريْشًا لِأَنَّهُ قِرْش بني فهر أَي جمعهم حول الْحرم فعلى هَذَا قُرَيْش بَنو فهر لَا فهر نَفسه.
وَلم يُولد لمَالِك غير فهر على عَمُود النّسَب وَولد لفهر غَالب على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ محَارب والْحَارث فَمن محَارب بَنو محَارب وَمن الْحَارِث بَنو الحلج وَمِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح أحد الْعشْرَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم ثمَّ ولد لغالب لؤَي على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ تيم الأدرم النَّاقِص الذقن وَمن تيم بَنو الأدرم ثمَّ ولد للؤي سِتَّة هم كَعْب على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ إخْوَته الْخَمْسَة وهم سعد وَخُزَيْمَة والْحَارث وعامر وَأُسَامَة أَوْلَاد لؤَي بن غَالب وَلكُل مِنْهُم ولد ينتسبون إِلَيْهِ خلا الْحَارِث مِنْهُم وَمن ولد عَامر بن لؤَي عَمْرو بن عبد ود فَارس الْعَرَب قَتله عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ثمَّ ولد كَعْب مرّة على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ هصيص وعدي فَمن هصيص بَنو جمع وَمن مشاهيرهم أُميَّة بن خلف عَدو رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَخُوهُ أبي بن خلف مثله وَمن هصيص سهم وَمن سهم عَمْرو بن الْعَاصِ وَمن عدي بن كَعْب بَنو عدي وَمِنْهُم عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَسَعِيد بن زيد من الْعشْرَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
ثمَّ ولد لمرة على عَمُود النّسَب كلاب وخارجا عَنهُ تيم ويقطه فَمن تيم بَنو تيم وَمِنْهُم أَبُو بكر الصّديق رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَطَلْحَة من الْعشْرَة وَمن يقطة بَنو مَخْزُوم نسب خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَأبي جهل بن هِشَام واسْمه عَمْرو بن هِشَام المَخْزُومِي.
ثمَّ ولد لكلاب قصي على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ زهرَة بن كلاب وَمِنْهُم بَنو زهرَة نسب " آمِنَة " أم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنسب سعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف من الْعشْرَة. كَانَ قصي عَظِيما فِي قُرَيْش ارتجع مَفَاتِيح الْكَعْبَة كَمَا مر وأثل مجدهم.
ثمَّ ولد لقصي " عبد منَاف " على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ عبد الدَّار وَعبد الْعُزَّى فَمن عبد الدَّار بَنو شيبَة الحجبة وَمن ولد عبد الدَّار النَّضر بن الْحَارِث شَدِيد الْعَدَاوَة لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَتله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم بدر وَمن ولد عبد الْعُزَّى خَدِيجَة بنت خويلد زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَولد لعبد منَاف هَاشم على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ عبد شمس وَالْمطلب وَنَوْفَل أَوْلَاد عبد منَاف فَمن عبد شمس أُميَّة وَمِنْه بَنو أُميَّة مِنْهُم عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي اللَّهِ عَنهُ بن أبي الْعَصَا بن أُميَّة بن عبد شمس، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة بن الْعَاصِ بن أُميَّة، وَعقبَة بن أبي معيط بن أبي عَمْرو بن أُميَّة، وَعتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس، وَبنت عتبَة الْمَذْكُور هِنْد أم مُعَاوِيَة وَقتل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/91)
عتبَة صبرا يَوْم بدر، وَمن عبد الْمطلب بن عبد منَاف المطلبيون وَمِنْهُم الإِمَام الشَّافِعِي وَمن نَوْفَل النوفليون.
ثمَّ ولد لهاشم " عبد الْمطلب " على عَمُود النّسَب وَلم يعلم لهاشم ولد غَيره وَولد لعبد الْمطلب " عبد اللَّهِ " على عَمُود النّسَب وخارجا عَنهُ جَمِيع أعمام النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم حَمْزَة وَالْعَبَّاس وَأَبُو طَالب وَأَبُو لَهب والغيداق وَقيل هُوَ حجل وَسَيذكر والْحَارث وحجل والمقوم وَضِرَار وَالزُّبَيْر وَقثم مَاتَ صَغِيرا وَعبد الْكَعْبَة وَقيل عبد الْكَعْبَة هُوَ الْمُقَوّم.
ثمَّ ولد لعبد اللَّهِ مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي عَام الْفِيل.
(قصَّة الْفِيل)
اعْلَم أَنه لما صَار الْملك إِلَى أَبْرَهَة بِالْيمن بنى كَنِيسَة عَظِيمَة وَقصد حج الْعَرَب إِلَيْهَا دون الْكَعْبَة فجَاء شخص وأحدث فِي الْكَنِيسَة فَغَضب أَبْرَهَة وَسَار بجيشه وبالفيل، وَقيل بِثَلَاثَة عشر فيلا لهدم الْكَعْبَة وَوصل الطَّائِف فَبعث الْأسود بن مَقْصُود إِلَى مَكَّة فساق أَمْوَال أَهلهَا لأبرهة وَأرْسل أَبْرَهَة إِلَى قُرَيْش يَقُول لست أقصد الْحَرْب بل جِئْت لأهدم الْكَعْبَة فَقَالَ عبد الْمطلب: وَالله مَا نُرِيد حربه هَذَا بَيت اللَّهِ فَإِن منع عَنهُ فَهُوَ بَيته وَحرمه وَإِن خلي بَينه وَبَينه فوَاللَّه مَا عندنَا من دفع ثمَّ انْطلق عبد الْمطلب مَعَ رَسُول أَبْرَهَة إِلَيْهِ فَقيل لَهُ هَذَا سيد قُرَيْش فَأذن لَهُ أَبْرَهَة وأكرمه وَنزل عَن سَرِيره وَجلسَ مَعَه وَسَأَلَهُ عَن حَاجته فَذكر عبد الْمطلب أباعرة الَّتِي أخذت لَهُ فَقَالَ أَبْرَهَة أَنِّي كنت أَظن أَنَّك تطلب مني أَن لَا أخرب الْكَعْبَة الَّتِي هِيَ دينك فَقَالَ عبد الْمطلب أَنا رب الأباعر فأطلبها وللبيت رب يمنعهُ فَأمر أَبْرَهَة برد أباعره عَلَيْهِ فَانْصَرف بهَا إِلَى قُرَيْش.
وَلما قَارب أَبْرَهَة مَكَّة وتهيأ لَهَا صَار كلما قبل الْفِيل مَكَّة وَكَانَ اسْمه مَحْمُودًا ينَام وَيَرْمِي بِنَفسِهِ إِلَى الأَرْض وَلم يسر فَإِذا قبلوه غير مَكَّة قَامَ يُهَرْوِل وَبينا هم كَذَلِك إِذا أرسل اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِم طيرا أبابيل أَمْثَال الخطاطيف مَعَ كل طَائِر ثَلَاثَة أَحْجَار فِي منقاره وَرجلَيْهِ يقذفهم بهَا وَهِي مثل الحمص والعدس فَلم تصب أحدا مِنْهُم إِلَّا هلك وَلَيْسَ كلهم أَصَابَت.
ثمَّ أرسل اللَّهِ تَعَالَى سيلا فألقاهم فِي الْبَحْر وَالَّذِي سلم مِنْهُم ولى هَارِبا مَعَ أَبْرَهَة إِلَى الْيمن يبتدر الطَّرِيق وتساقطوا بِكُل منهل وَأُصِيب أَبْرَهَة فِي جسده وَسَقَطت أعضاؤه وَوصل إِلَى صنعاء كَذَلِك وَمَات فَخرجت قُرَيْش إِلَى مَنَازِلهمْ وغنموا شَيْئا كثيرا وَملك بعد أَبْرَهَة ابْنه مكوم ثمَّ أَخُوهُ مَسْرُوق بن أَبْرَهَة وَمِنْه أَخذ الْعَجم الْيمن وَمن هُنَا نشرع فِي التواريخ الإسلامية.(1/92)
(مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشرف نسبه الطَّاهِر)
ولد عبد اللَّهِ بن عبد الْمطلب قبل الْفِيل بِخمْس وَعشْرين سنة وَكَانَ أَبوهُ يُحِبهُ لِأَنَّهُ كَانَ أحسن أَوْلَاده وأعفهم بَعثه أَبوهُ يمتار لَهُ فَمر بِيَثْرِب فَمَاتَ بهَا ولرسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهْرَان وَقيل كَانَ حملا وَدفن فِي دَار الْحَارِث بن إِبْرَاهِيم بن سراقَة الْعَدوي وهم أخوال عبد الْمطلب وَقيل فِي دَار النَّابِغَة ببني النجار وَتركته خَمْسَة أجمال وَجَارِيَة حبشية اسْمهَا بركَة وكنيتها أم أَيمن وهى حاضنة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما أم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهِيَ آمِنَة بنت وهب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤى بن غَالب بن فهر وَهُوَ قُرَيْش.
" قلت ": تقدم الْخلاف فِي قُرَيْش فَفِي جزمه هُنَا بِأَنَّهُ فهر مَا فِيهِ وَقد يُقَال قطع هُنَا بِأَنَّهُ الْأَصَح وَالله أعلم فَخَطب عبد الْمطلب من وهب سيد بني زهرَة ابْنَته آمنهُ لعبد اللَّهِ فَزَوجهُ بهَا فَولدت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الأثنين لعشر خلون من ربيع الأول من عَام الْفِيل وَكَانَ قدوم الْفِيل فِي منتصف الْمحرم مِنْهَا وَهِي الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ من ملك كسْرَى أنوشروان وَهِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا وَهِي سنة ألف وثلثمائة وست عشرَة لبختنصر وَفِي السَّابِع من وِلَادَته ذبح جده عبد الْمطلب عَنهُ ودعا لَهُ قُريْشًا فَلَمَّا أكلُوا قَالُوا: يَا عبد الْمطلب أَرَأَيْت ابْنك هَذَا الَّذِي أكرمتنا على وَجهه مَا سميته؟ قَالَ: سميته مُحَمَّدًا قَالُوا: فَبِمَ رغبت بِهِ عَن أَسمَاء أهل بَيته قَالَ: أردْت أَن يحمده اللَّهِ فِي السَّمَاء وَخَلفه فِي الأَرْض.
وروى الْبَيْهَقِيّ بأسناده الْمُتَّصِل بِالْعَبَّاسِ رَضِي اللَّهِ عَنهُ قَالَ: ولد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختونا مَسْرُورا فأعجب جده عبد الْمطلب وحظي عِنْده وَقَالَ: لَيَكُونن لِابْني هَذَا شَأْن، وبإسناده المنتهي إِلَى مَخْزُوم بن هانىء المَخْزُومِي عَن أَبِيه قَالَ: لما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي ولد فِيهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارتجس إيوَان كسْرَى وَسَقَطت مِنْهُ أَربع عشرَة شرافة وخمدت نَار فَارس وَلم تخمد قبل ذَلِك بِأَلف عَام، وغاصت بحيرة ساوة وَرَأى الموبذان قَاضِي الْفرس فِي مَنَامه إبِلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فِي بلادها فَلَمَّا أصبح كسْرَى أفزعه ذَلِك وَاجْتمعَ بموبذان فَقص عَلَيْهِ موبذان أَيْضا مَا رأى فَقَالَ كسْرَى: أَي شَيْء يكون هَذَا فَقَالَ المؤبذان وَكَانَ عَالما: يكون حدث من جِهَة الْعَرَب فَكتب كسْرَى إِلَى النُّعْمَان بن الْمُنْذر أما(1/93)
بعد فَوجه إِلَيّ بِرَجُل عَالم بِمَا أُرِيد أَن أسأله عَنهُ فَوجه إِلَيْهِ بِعَبْد الْمَسِيح بن عَمْرو بن حنان الغساني فَأخْبرهُ كسْرَى بِمَا كَانَ من ارتجاس الإيوان وَغَيره فَقَالَ علم ذَلِك عِنْد خَال لي يسكن مشارف الشَّام يُقَال لَهُ سطيح قَالَ كسْرَى فَاذْهَبْ إِلَيْهِ وسله وأتني بِتَأْوِيل مَا عِنْده فَسَار عبد الْمَسِيح حَتَّى قدم على سطيح وَقد أشفى على الْمَوْت فَسلم عَلَيْهِ وحياه فَلم يحر جَوَابا فَأَنْشد عبد الْمَسِيح.
(أَصمّ أم يسمع غطريف الْيمن ... أم فَإِذا فاض أم بِهِ شأو العنن)
(يَا فاصل الخطة أعيت من وَمن ... وَكَاشف الْكُرْبَة عَن وَجه الغضن)
(أَتَاك شيخ الْحَيّ من آل سنَن ... وَأمه من آل ذِئْب بن حجن)
(رَسُول قيل الْعَجم كسْرَى بالوسن ... لَا يرهب الرَّعْد وَلَا ريب الزَّمن)
(تجوب فِي الأَرْض علنداة الشجن ... ترفعني وجنا وتهوى فِي وجن)
قلت وتتمته:
(حَتَّى أَتَى عاري الجآجي والقطن ... بلغَة فِي اللَّوْح بوفاء الدمن)
(كَأَنَّمَا حثحث من حصني سكن ... )
وَالله أعلم.
فَرفع سطيح رَأسه وَقَالَ عبد الْمَسِيح على جمل مشيخ يهوي إِلَى سطيح وَقد أوفي على الضريح بَعثك ملك ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيرَان ورؤيا الموبذان وَذكرهَا يملك مِنْهُم مُلُوك وملكات على عدد الشرفات وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثمَّ قضى سطيح مَكَانَهُ ثمَّ قدم عبد الْمَسِيح على كسْرَى وَأخْبرهُ بقول سطيح فَقَالَ إِلَى أَن يملك منا أَرْبَعَة عشر ملكا تكون أُمُور هلك مِنْهُم عشرَة فِي أَربع سِنِين وَفِي العقد أَن سطيحا على زمن نزار بن معد بن عدنان وَهُوَ الَّذِي قسم الْمِيرَاث على بني نزار وَإِخْوَته.
قلت: الارتجاس الِاضْطِرَاب وَقد يكون من الصَّوْت وغاصت أَي نضبت وفاذ وفاض إِذا مَاتَ يَا فاصل أَي يَا قَاطع والخطة الْأَمر الشَّديد أعيت من أَي لم يدر مَا جِهَتهَا والغضن الْكثير الغضون وتجوب تقطع والعلنداة الشَّدِيدَة الصلبة يَعْنِي النَّاقة والوجن والوجس الغلظ من الأَرْض والجآجي جمع جؤجؤ وَهُوَ عظم الصَّدْر والقطن مأوى الْعَجز من الظّهْر واللوح شدَّة الْحر والعطش والبوغاء التُّرَاب وَالله أعلم.
(شرفه وَشرف بَيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ رَفعه إِلَى الْعَبَّاس قَالَ: قلت يَا رَسُول اللَّهِ إِن قُريْشًا إِذا الْتَقَوْا لَقِي بَعضهم بَعْضًا بالبشاشة وَإِذا لقونا لقونا بِوُجُوه لَا نعرفها فَغَضب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد ذَلِك غَضبا شَدِيدا ثمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يدْخل قلب رجل الْإِيمَان حَتَّى يحبكم للَّهِ وَلِرَسُولِهِ " وَذكر فِي مَوضِع آخر عَن ابْن عمر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّا لقعود بِفنَاء رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ مرت بِهِ امْرَأَة فَقَالَ بعض الْقَوْم: هَذِه بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: مثل(1/94)
مُحَمَّد فِي بني هَاشم مثل الريحانة فِي وسط التِّبْن فَانْطَلَقت الْمَرْأَة فَأخْبرت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرف فِي وَجهه الْغَضَب فَقَالَ: " مَا بَال أَقْوَال تبلغني عَن أَقوام أَن اللَّهِ عز وَجل خلق السَّمَوَات سبعا فَاخْتَارَ العلى مِنْهَا فأسكنها من شَاءَ من خلقه ثمَّ خلق الْخلق فَاخْتَارَ من الْخلق بني آدم وَاخْتَارَ من بني آدم الْعَرَب وَاخْتَارَ من الْعَرَب مُضر وَاخْتَارَ من مُضر قُريْشًا وَاخْتَارَ من قُرَيْش بني هَاشم واختارني من بني هَاشم ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَالَ لي جِبْرِيل قلبت الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا فَلم أجد احدا أفضل من مُحَمَّد وقلبت الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا فَلم أجد بني أَب أفضل من بني هَاشم ".
" نسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تقدم ذكر بني إِسْمَاعِيل على عَمُود النّسَب وَأما نسب نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سردا فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَنسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عدنان مُتَّفق عَلَيْهِ، وعدنان من ولد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِلَا خلاف إِنَّمَا الْخلاف فِي عدَّة الْآبَاء الَّذين بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل فعد بَعضهم بَينهمَا نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا وَبَعْضهمْ عد دون ذَلِك.
وَعَن أم سَلمَة زَوجته عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عدنان بن أدد بن زيد بن يرا بن أعراق الثرى "، فَقَالَت أم سَلمَة زيد هميسع ويرا بنت وَإِسْمَاعِيل أعراق الثرى.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: عدنان بن أدد بن الْمُقَوّم بن باحور بن تارخ بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم وَفِي شَجَرَة النّسَب للجواني النسابة وَهُوَ الْمُخْتَار عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن قيدار بن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
" رضاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أول من أرضعه بعد أمه ثويبة مولاة عَمه أبي لَهب مَعَ ابْنهَا مسروح بلبنه وَحَمْزَة عَمه وَأَبا سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي فهما أَخَوَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الرَّضَاع وَكَانَت المراضع يقدمن مَكَّة من الْبَادِيَة يطلبن أَن يرضعن الْأَطْفَال فقدمن فِي سنة شهباء وَأخذت كل وَاحِدَة طفْلا وَلم تَجِد حليمة طفْلا غَيره وَكَانَ يَتِيما مَاتَ أَبوهُ عبد اللَّهِ فَلم يرغبن فِيهِ لِأَن الْمَعْرُوف يُرْجَى من أبي الصَّبِي.
" قلت ": وَمن معالم الْإِسْلَام قَالَت حليمة بنت أبي ذُؤَيْب بن الحراث السعدية: فَذَهَبت فاحتملته إِلَى رحلي فَلَمَّا وَضعته فِي حجري أقبل على ثدياي بِمَا شَاءَ فَشرب حَتَّى رُوِيَ وَشرب أَخُوهُ حَتَّى رُوِيَ ثمَّ نَامَا وَمَا كَانَ أَي أَخُوهُ ينَام قبل ذَلِك وَقَامَ زَوجي إِلَى شارفنا وَكَانَت مَا تبض بقطرة فَنظر إِلَيْهَا فَإِذا أَنَّهَا لحافل فَحلبَ مِنْهَا حَتَّى شرب وشربت وبتنا بِخَير لَيْلَة وَقَالَ لي صَاحِبي أخذت نسمَة مباركة قلت أَرْجُو ذَلِك ثمَّ خرجنَا وَركبت أَتَانِي وَكَانَت عجفاء قَمْرَاء وحملتهما عَلَيْهَا معي وَالله لَقطعت بالركب حَتَّى أَن صواحبي(1/95)
ليقلن لي وَيحك يَا بنت أبي ذُؤَيْب أربعي علينا وَالله إِن لَهَا لشأنا ثمَّ مروا بعراف فَقَالَت النسْوَة سَلِي هَذَا فَجَاءَت حليمة إِلَيْهِ وأخبرته خَبره وَمَا قَالَت فِيهِ أمه من رؤياها فصاح يَا آل هُذَيْل اقْتُلُوهُ وآلهته ليهلكن الأَرْض وَإنَّهُ لينتظر أمرا من السَّمَاء قَالَت وقدمناه على عشرَة أعنز مَا ير من الْبَيْت هزالًا وَإِن كُنَّا لنريح الْإِبِل وَأَنَّهَا لحفل فنحلب وَنَشْرَب ونحلب شارفنا عبوقا وصبوحا وَجعل أهل الْحَاضِرَة يَقُولُونَ لرعاتهم أبلغوا حَيْثُ تبلغ غنم حليمة فيبلغون فَلَا تَأتي مَوَاشِيهمْ إِلَّا كَمَا كَانَت قبل ذَلِك وَتَروح غنم حليمة يخَاف عَلَيْهَا الحبط وَالله أعلم.
ثمَّ قدمت بِهِ مَكَّة وَهِي أحرص النَّاس على مكثه عِنْدهَا فَقَالَت لأمه آمِنَة: لَو تركت ابْني عِنْدِي حَتَّى يغلظ فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وباء مَكَّة وَلم تزل بِهِ حَتَّى تركته مَعهَا فَعَادَت بِهِ إِلَى بِلَاد بني سعد وَكَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض الْأَيَّام مَعَ أَخِيه من الرَّضَاع خَارِجا عَن الْبيُوت إِذْ أَتَى ابْن حليمة أمه يشْتَد وَقَالَ لَهَا ولأبيه ذَاك أخي الْقرشِي قد جَاءَ رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بَيَاض فأضجعاه وشقا بَطْنه وهما يسوطانه فَخرجت حليمة وَزوجهَا نَحوه فواجداه قَائِما فَقَالَا: مَا لَك يَا بني؟ قَالَ: جَاءَنِي رجلَانِ بطست من ذهب مَمْلُوء ثلجا فأضجعاني وشقا بَطْني.
قلت: تتمته ثمَّ استخرجا قلبِي فشقاه فاستخرجا مِنْهُ علقَة سَوْدَاء ثمَّ غسلا بَطْني وقلبي بذلك الثَّلج حَتَّى أنقياه، ويروى وختما عَلَيْهِ بِخَاتم من نور وَالله أعلم. فَقَالَ زوج حليمة لَهَا: قد خشيت أَن هَذَا الْغُلَام قد أُصِيب فألحقيه بأَهْله، فَقدمت بِهِ على أمه آمِنَة فَقَالَت: مَا أقدمك بِهِ وَكنت حريصة عَلَيْهِ.؟ فَقَالَت حليمة: تخوفت عَلَيْهِ الشَّيْطَان، قَالَت أمه: كلا وَالله مَا للشَّيْطَان عَلَيْهِ من سَبِيل إِن لِابْني شَأْنًا.
" وإخواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الرَّضَاع " عبد اللَّهِ وأنيسة وجذامة وَهِي الشيماء غلب ذَلِك على
اسْمهَا وأمهم حليمة وأبوهم الْحَارِث بن عبد الْعُزَّى السَّعْدِيّ قدمت حليمة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أَن تزوج خَدِيجَة وَشَكتْ الجدب فَكلم لَهَا خَدِيجَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا فأعطتها أَرْبَعِينَ شَاة ثمَّ قدمت حليمة وَزوجهَا الْحَارِث عَلَيْهِ بعد النُّبُوَّة فَأَسْلمَا، وَبَقِي مَعَ أمه آمِنَة فَلَمَّا بلغ سِتّ سِنِين توفيت أمه بالأبواء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَكَانَت قد قدمت بِهِ على أَخْوَاله بني عدي بن النجار تزيره إيَّاهُم فَمَاتَتْ وَهِي رَاجِعَة إِلَى مَكَّة وكفله جده عبد الْمطلب فَلَمَّا بلغ ثَمَان سِنِين توفّي جده عبد الْمطلب ثمَّ قَامَ بكفالته عَمه أَبُو طَالب بن عبد الْمطلب وَأَبُو طَالب شَقِيق عبد اللَّهِ، ثمَّ خرج بِهِ أَبُو طَالب فِي تِجَارَة لَهُ إِلَى الشَّام.
قلت: وَأوصى عبد الْمطلب قبل وَفَاته أَبَا طَالب بِهِ وَقَالَ فِيمَا أوصاه بِهِ:
(أوصِي أَبَا طَالب بعدِي بِذِي رحم ... مُحَمَّد وَهُوَ فِي ذَا النَّاس مَحْمُود)
(هَذَا الَّذِي تزْعم الْأَحْبَار أَن لَهُ ... أمرا سيظهره نصر وتأييد)
(فِي كتب مُوسَى وَعِيسَى مِنْهُ بَيِّنَة ... كَمَا يحدثني الْقَوْم العبابيد)(1/96)
(فاحذر عَلَيْهِ شرار النَّاس كلهم ... والحاسدين فَإِن الْخَيْر مَحْسُود)
وَالله أعلم.
فَلَمَّا وصل مَعَ عَمه إِلَى بصرى وعمره إِذْ ذَاك ثَلَاث عشرَة سنة رَآهُ بحيرا الراهب فَرَأى الغمامة تظله فَقَالَ لأبي طَالب: ارْجع بِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُود فَخرج بِهِ أَبُو طَالب بعد فَرَاغه من تِجَارَته حَتَّى أقدمه مَكَّة.
قلت: وَرَآهُ إِذن رجال من الْيَهُود فعرفوا صفته وَأَرَادُوا أَن يغتالوه وهم زرير ودريس وَتَمام فَذَهَبُوا إِلَى بحيرا فذاكروه ذَلِك ويظنون أَن بحيرا سيتابعهم على رَأْيهمْ فنهاهم أَشد النَّهْي وَقَالَ: أتجدون صفته؟ قَالُوا نعم، قَالَ: فمالكم إِلَيْهِ سَبِيل، وَقَالَ أَبُو طَالب فِي ذَلِك:
(إِن ابْن آمِنَة الْأمين مُحَمَّدًا ... عِنْدِي بِمثل منَازِل الْأَوْلَاد)
(لما تعلق بالزمام رَحمته ... والعيس قد قلصن بالأرواد)
وَمِنْهَا:
(راعيت فِيهِ قرَابَة مَوْصُولَة ... وَذكرت فِيهِ وَصِيَّة الأجداد)
(وأمرته بالسير بَين عمومة ... بيض الْوُجُوه مصالت أنجاد)
(حَتَّى إِذا مَا الْقَوْم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد)
(حبرًا فَأخْبرنَا حَدِيثا صَادِقا ... عَنهُ ورد معاشر الحساد)
(قوم بهود قد رَأَوْا مَا قدر رأى ... ظلّ الغمامة وغر الأكباد)
(ثَارُوا لقتل مُحَمَّد فنهاهم ... عَنهُ واجهد أحسن الإجهاد)
وَالله أعلم، وشب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بلغ فَكَانَ أعظم النَّاس مُرُوءَة وحلما وَأَحْسَنهمْ جَوَابا وأصدقهم حَدِيثا وأبعدهم عَن الْفُحْش حَتَّى سَمَّاهُ قومه الْأمين وَحضر مَعَ عمومته حَرْب الْفجار وعمره أَربع عشرَة سنة وَهِي حَرْب بَين قُرَيْش وَبَين هوَازن انتهكت فِيهَا هوَازن حُرْمَة الْحرم فسميت بالفجار كَانَت الكرة فِيهَا أَولا على قُرَيْش وكنانة ثمَّ انتصرت قُرَيْش.
وَبلغ خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي بن كلاب صدقه وأمانته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعرضت خَدِيجَة عَلَيْهِ سَفَره فِي تِجَارَة لَهَا إِلَى الشَّام مَعَ غلامها ميسرَة فَأجَاب وَخرج وَمَعَهُ ميسرَة حَتَّى قدم الشَّام وَبَاعَ وَاشْترى وَرجع قَافِلًا إِلَى مَكَّة بِمَال خَدِيجَة فحدثها ميسرَة بِمَا شَاهد مِنْهُ وَأَن ملكَيْنِ كَانَا يظلانه وَقت الْحر فعرضت خَدِيجَة نَفسهَا عَلَيْهِ فَتَزَوجهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيّمَا وَهِي بنت أَرْبَعِينَ سنة وَأصْدقهَا عشْرين بكرَة وَآمَنت بِهِ وَهِي أول أَزوَاجه وَلم يتَزَوَّج غَيرهَا حَتَّى مَاتَ رَضِي اللَّهِ عَنْهَا وَعَاشَتْ مَعَه بعد مبعثه عشر سِنِين وَتوفيت قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين.
(تَجْدِيد قُرَيْش عمَارَة الْكَعْبَة)
كَانَت الْكَعْبَة قَصِيرَة الْبناء فهدمتها قُرَيْش ثمَّ بنوها حَتَّى بلغ الْبُنيان الْحجر الْأسود فاختصموا فِيهِ وأرادت كل قَبيلَة رَفعه إِلَى مَوْضِعه ثمَّ اتَّفقُوا على تحكيم أول دَاخل من بَاب(1/97)
الْحرم فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول دَاخل فَقَالُوا هَذَا الْأمين وعمره إِذْ ذَاك خمس وَثَلَاثُونَ سنة فحكموه فَأَمرهمْ بِوَضْع الْحجر الْأسود فِي وسط عباءة ثمَّ أَمر كل قَبيلَة أَن يَأْخُذُوا بِطرف من العباءة حَتَّى انْتَهوا بِهِ إِلَى مَوضِع الرُّكْن فَأَخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَضعه فِي مَوْضِعه.
ثمَّ أَتموا بِنَاء الْكَعْبَة وَكَانَت تُكْسَى الْقبَاطِي ثمَّ كُسِيت البرود وَأول من كساها الديباج الْحجَّاج بن يُوسُف.
وَلما بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ سنة بَعثه اللَّهِ إِلَى الْأسود والأحمر رَسُولا نَاسِخا بِشَرِيعَتِهِ الشَّرَائِع الْمَاضِيَة فَأول مَا ابتدىء بِهِ من النُّبُوَّة الرُّؤْيَا الصادقة وحبب اللَّهِ إِلَيْهِ الْخلْوَة وَكَانَ يجاور فِي جبل حراء من كل سنة شهرا فَفِي سنة مبعثة خرج بأَهْله فِي رَمَضَان إِلَى حراء للمجاورة فِيهِ حَتَّى إِذا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي أكْرمه اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ اقْرَأ: قَالَ لَهُ فَمَا أَقرَأ قَالَ {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} إِلَى قَوْله تَعَالَى {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم}
فقرأها ثمَّ خرج إِلَى وسط الْجَبَل فَسمع صَوتا من جِهَة السَّمَاء يَا مُحَمَّد أَنْت رَسُول اللَّهِ وَأَنا جِبْرِيل فَبَقيَ وافقا فِي مَوْضِعه يُشَاهد جِبْرِيل حَتَّى انْصَرف جِبْرِيل ثمَّ انْصَرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحكى لِخَدِيجَة مَا رأى فَقَالَت: أبشر فوالذي نفس خَدِيجَة بِيَدِهِ إِنِّي لأرجو أَن تكون نَبِي هَذِه الْأمة، ثمَّ أَتَت خَدِيجَة ابْن عَمها ورقة بن نَوْفَل بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَكَانَ شَيخا كَبِيرا.
قلت: وَكَانَ ورقة قد عمي وَتَنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكتب من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالله أعلم فَلَمَّا ذكرت خَدِيجَة لورقة أَمر جِبْرِيل وَمَا رأى ميسرَة فَقَالَ ورقة: إِنَّه ليَأْتِيه الناموس الْأَكْبَر.
قلت: وَأخْبرهُ أَيْضا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى يَا لَيْتَني أكون فِيهَا جذعا حِين يخْرجك قَوْمك فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو مخرجي هم "؟ فَقَالَ ورقة: نعم لم يَأْتِ قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ أحد إِلَّا عودي وأوذي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا وَقَالَ ورقة فِي ذَلِك أبياتا مِنْهَا:
(وَوصف من خَدِيجَة بعد وصف ... فقد طَال انتظاري يَا خديجا)
(بِمَا أخْبرته من قَول قس ... من الرهبان يكره أَن يصوجا)
(بِأَن مُحَمَّدًا سيسود يَوْمًا ... ويخصم من يكون لَهُ حجيجا)
(وَيظْهر فِي الْبِلَاد ضِيَاء نور ... يُقيم بِهِ الْبَريَّة أَن تموجا)
(أَلا يَا لَيْتَني إِن كَانَ ذَا كم ... شهِدت وَكنت أَوَّلهمْ ولوجا)
(ولوجا فِي الَّذِي كرهت قُرَيْش ... وَلَو عجت بمنكبها عجيجا)
وَقَالَ أَيْضا:
(يَا للرِّجَال لصرف الْهم وَالْقدر ... وَمَا لشَيْء قَضَاهُ اللَّهِ من غير)
(حَتَّى خَدِيجَة تَدعُونِي لأخبرها ... أمرا أرَاهُ سَيَأْتِي النَّاس عَن أثر)
(فخبرتني بِأَمْر قد سَمِعت بِهِ ... فِيمَا مضى من قديم النَّاس وَالْعصر)(1/98)
(بِأَن أَحْمد يَأْتِيهِ فيخبره ... جِبْرِيل أَنَّك مَبْعُوث إِلَى الْبشر)
(فَقلت إِن الَّذِي ترجين يُنجزهُ ... لَك الْإِلَه فارجى الْخَيْر وانتظري)
(وارسليه إِلَيْنَا كي نسائله ... عَن أمره مَا يرى فِي النّوم والسهر)
(فَقَالَ حِين أَتَانَا منطقا عجبا ... يقف مِنْهُ أعالي الْجلد وَالشعر)
(إِنِّي رَأَيْت أَمِين اللَّهِ واجهني ... فِي صُورَة كملت فِي أهيب الصُّور)
(ثمَّ اسْتمرّ وَكَاد الْخَوْف يذعرني ... مِمَّا يسلم مَا حَولي من الشّجر)
وَالله أعلم، وَلما قضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جواره انْصَرف وَطَاف بِالْبَيْتِ اسبوعا ثمَّ تَوَاتر إِلَيْهِ الْوَحْي، وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح " كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا أَربع آسِيَة زَوْجَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بنت عمرَان وَخَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد ".
(أول من أسلم)
أول من أسلم خَدِيجَة وَقيل عَليّ وَهُوَ ابْن تسع وَقيل عشر وَقيل إِحْدَى عشرَة وَكَانَ قبل الْإِسْلَام فِي حجر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصَابَت قُرَيْش أزمة وَكَانَ أَبُو طَالب كثير الْعِيَال فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: " إِن أَخَاك أَبَا طَالب كثير الْعِيَال فَانْطَلق بِنَا لنأخذ من بنيه مَا نخفف عَنهُ بِهِ " فَأتيَاهُ لذَلِك فَقَالَ أَبُو طَالب: اتركا لي عقيلا واصنعا مَا شئتما، فَأخذ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا فضمه إِلَيْهِ وَأخذ الْعَبَّاس جعفرا فَلم يزل عَليّ مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَعثه اللَّهِ فَصدقهُ وَلم يزل جَعْفَر مَعَ الْعَبَّاس حَتَّى أسلم وَمن شعر عَليّ فِي سبقه:
(سبقتكم إِلَى الْإِسْلَام طرا ... غُلَاما مَا بلغت أَوَان حلمي)
وَفِي السِّيرَة أَن زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسلم بعد عَليّ اشْتَرَاهُ وَأعْتقهُ، ثمَّ أسلم بعد زيد أَبُو بكر ثمَّ عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَالزُّبَيْر بَين الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد اللَّهِ دعاهم أَبُو بكر إِلَى الْإِسْلَام وَجَاء بهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأسلموا، ثمَّ أسلم أَبُو عُبَيْدَة عَامر بن عبد اللَّهِ بن الْجراح وَعبيدَة بن الْحَارِث وَسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم عمر بن الْخطاب، وَعبد اللَّهِ بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر.
قلت: وَردت أَحَادِيث فِي أول من أسلم فَقيل أَبُو بكر وَقيل عَليّ وَقيل خَدِيجَة وَقيل زيد بن حَارِثَة وَمَا أحسن مَا جمع بَعضهم بَين الْأَحَادِيث وَهُوَ الْأَلْيَق فَإِن الْجمع وَلَو بِوَجْه أولى فَقَالَ أول من أسلم من الرِّجَال أَبُو بكر وَمن النِّسَاء خَدِيجَة وَمن الصّبيان عَليّ وَمن الموالى زيد بن الحارثة وَالله أعلم.
وَكَانَت دَعوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سرا ثَلَاث سِنِين ثمَّ أَمر بِإِظْهَار الدعْوَة وَلما نزل {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} دَعَا عليا فَقَالَ: " اصْنَع لنا صَاعا من طَعَام وَاجعَل لنا عَلَيْهِ رجل شَاة واملأ لنا عسا من لبن واجمع لي بني الْمطلب حَتَّى أكلمهم وأبلغهم مَا أمرت بِهِ " فَفعل ودعاهم وهم أَرْبَعُونَ رجلا يزِيدُونَ رجلا أَو ينقصونه فيهم أَعْمَامه أَبُو طَالب وَحَمْزَة وَالْعَبَّاس وأحضر(1/99)
عَليّ الطَّعَام فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، قَالَ عَليّ: لقد كَانَ الرجل الْوَاحِد مِنْهُم ليَأْكُل جَمِيع مَا شَبِعُوا كلهم مِنْهُ فَلَمَّا فرغوا من الْأكل وَأَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَكَلَّم بدره أَبُو لَهب إِلَى الْكَلَام فَقَالَ: أَشد مَا سحركم صَاحبكُم فَتفرق الْقَوْم وَلم يكلمهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ يَا عَليّ: " قد رَأَيْت كَيفَ سبقني هَذَا الرجل إِلَى الْكَلَام فَاصْنَعْ لنا فِي غَد كَمَا صنعت الْيَوْم واجمعهم ثَانِيًا " فَصنعَ عَليّ فِي الْغَد كَذَلِك فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا اللَّبن قَالَ لَهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أعلم إنْسَانا فِي الْعَرَب جَاءَ قومه بِأَفْضَل مِمَّا جِئتُكُمْ بِهِ قد جِئتُكُمْ بخيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد أَمرنِي الله أَن أدعوكم إِلَيْهِ فَإِنَّكُم تؤازروني على هَذَا الْأَمر " فأحجم الْقَوْم جَمِيعًا.
قَالَ عَليّ: فَقلت وَإِنِّي لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بَطنا وأحمشهم ساقا: أَنا يَا نَبِي اللَّهِ أكون وزيرك عَلَيْهِم وَذكر الحَدِيث فَقَامَ الْقَوْم يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لأبي طَالب قد سرك أَن نسْمع لابنك ونطيع وَاسْتمرّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا أمره اللَّهِ تَعَالَى لم يبعد عَنهُ قومه وَلم يردوا عَلَيْهِ حَتَّى عَابَ آلِهَتهم وَنسب قومه وآباءهم إِلَى الْكفْر والضلال فَأَجْمعُوا على عداوته إِلَّا من عصمَة اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ.
وذب عَنهُ عَمه أَبُو طَالب فجَاء أَبَا طَالب رجال من أَشْرَاف قُرَيْش مِنْهُم عتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة بن عبد منَاف وَأَبُو سُفْيَان بن أُميَّة بن عبد شمس وَأَبُو البحتري بن هِشَام بن الْحَارِث بن أَسد وَالْأسود بن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد وَأَبُو جهل وَنبيه ومنبه ابْنا الْحجَّاج السهميان وَالْعَاص بن وَائِل السَّهْمِي وَهُوَ أَبُو عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالب إِن ابْن أَخِيك قد عَابَ ديننَا وسفه أَحْلَامنَا وضلل أباءنا فانهه عَنَّا أَو خل بَيْننَا وَبَينه فردهم أَبُو طَالب ردا حسنا وَاسْتمرّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ عَلَيْهِ فَعظم عَلَيْهِم وَأتوا أَبَا طَالب ثَانِيًا وَقَالُوا: إِن لم تَنْهَهُ وَإِلَّا نازلناك وإياه حَتَّى يهْلك أحد الْفَرِيقَيْنِ فَعظم عَلَيْهِ وَقَالَ لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا ابْن أخي إِن قَوْمك قَالُوا لي كَذَا وَكَذَا فَظن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن عَمه خاذله فَقَالَ: " يَا عَم لَو وضعُوا الشَّمْس فِي يَمِيني وَالْقَمَر فِي شمَالي مَا تركت هَذَا الْأَمر ".
ثمَّ استعبر فَبكى وَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فناداه أَبُو طَالب: أقبل يَا ابْن أخي وَقل مَا أَحْبَبْت فوَاللَّه لَا أسلمك لشَيْء أبدا، فَأخذت كل قَبيلَة تعذب كل من أسلم مِنْهَا وَمنع اللَّهِ رَسُوله بِعَمِّهِ أبي طَالب.
" إِسْلَام حَمْزَة " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الصَّفَا فَمر بِهِ [إِسْنَاده صَحِيح] . أَبُو جهل بن هِشَام فشتم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يكلمهُ وَكَانَ حَمْزَة فِي القنص فَلَمَّا حضر أنبأته مولاة لعبد اللَّهِ بن جدعَان بشتم أبي جهل لِابْنِ أَخِيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَضب حَمْزَة وَقصد الْبَيْت ليطوف بِهِ وَهُوَ متوشح قوسه فَوجدَ ابْن هِشَام قَاعِدا مَعَ جمَاعَة فَضَربهُ حَمْزَة بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ ثمَّ قَالَ أتشتم مُحَمَّدًا وَأَنا على دينه فَقَامَتْ رجال من بني مَخْزُوم لينصروا أَبَا جهل فَقَالَ أَبُو جهل: دَعوه فَإِنِّي سببت ابْن أَخِيه سبا قبيحا، ودام حَمْزَة على إِسْلَامه وَعلمت قُرَيْش أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد عز وَامْتنع بِإِسْلَام حَمْزَة.(1/100)
(إِسْلَام عمر بن الْخطاب)
ابْن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى كَانَ شَدِيد الْبَأْس والعداوة للنَّبِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بعمر بن الْخطاب أَو بِأبي الحكم بن هِشَام " وَهُوَ أَبُو جهل قلت: وَفِيه قيل سَمَّاهُ معشره أَبَا حكم وَالله سَمَّاهُ أَبَا جهل وَالله أعلم. فهدى اللَّهِ تَعَالَى عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَكَانَ قد أَخذ سَيْفه وَقصد قتل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَقِيَهُ نعيم بن عبد اللَّهِ النحام فَقَالَ مَا تُرِيدُ يَا عمر فَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ نعيم لَئِن فعلت ذَلِك لم يتركك بَنو عبد منَاف تمشي على الأَرْض وَلَكِن اردع أختك وَابْن عمك سعيد بن زيد وخبابا فَإِنَّهُم قد أَسْلمُوا فقصدهم عمر وهم يَتلون سُورَة طه من صحيفَة فَسمع شَيْئا مِنْهَا وَعَلمُوا بِهِ فأخفوا الصَّحِيفَة فَسَأَلَهُمْ عَمَّا سَمعه فأنكروه فَضرب أُخْته فشجها وَقَالَ أريني مَا كُنْتُم تقرؤنه وَكَانَ عمر قَارِئًا كَاتبا فخافت على الصَّحِيفَة فعاهدها على ردهَا إِلَيْهَا فدفعتها إِلَيْهِ فقرأها وَقَالَ: مَا احسن هَذَا وأكرمه.
فطمعت فِي إِسْلَامه فَخرج إِلَيْهِ خباب وَكَانَ قد استخفى مِنْهُ فَسَأَلَهُمَا عمر عَن مَوضِع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا هُوَ بدار عِنْد الصَّفَا وَكَانَ عِنْده نَحْو أَرْبَعِينَ نفسا مَا بَين رجال وَنسَاء وهم حَمْزَة وَأَبُو بكر وَعلي رَضِي اللَّهِ عَنْهُم فقصدهم عمر متوشحا سَيْفه فَأذن لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا دخل نَهَضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخذ بمجمع رِدَائه وجبذه جبذة شَدِيدَة وَقَالَ: " مَا جَاءَ بك يَا ابْن الْخطاب أَو مَا تزَال حَتَّى تنزل بك قَارِعَة " فَقَالَ عمر: يَا رَسُول اللَّهِ جِئْت لأومن بِاللَّه وَرَسُوله فَكبر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتمّ إِسْلَام عمر، وَلما اشْتَدَّ أَذَى قُرَيْش لأَصْحَابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لمن لَيْسَ لَهُ عشيرة تحميه فِي الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة فَأول من خرج اثْنَا عشر رجلا وَأَرْبع نسْوَة مِنْهُم عُثْمَان وَمَعَهُ زَوجته رقية بنت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان بن مَظْعُون وَعبد اللَّهِ بن مَسْعُود وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وركبوا الْبَحْر إِلَى النَّجَاشِيّ فأقاموا عِنْده.
ثمَّ هَاجر جَعْفَر بن أبي طَالب وتتابع الْمُسلمُونَ وَجَمِيع من هَاجر من الْمُسلمين إِلَى الْحَبَشَة ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ رجلا سوى الصغار وَمن ولد ثمَّ فَأرْسلت قُرَيْش فِي طَلَبهمْ عبد اللَّهِ ابْن أبي ربيعَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَأرْسلت مَعَهُمَا هَدِيَّة من الْأدم للنجاشي فوصلا وطلبا من النَّجَاشِيّ الْمُهَاجِرين فَلم يجبهما ورد هديتهما فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: سلهم مَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا مَا قَالَه اللَّهِ تَعَالَى من أَنه كلمة اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء فَلم يُنكر النَّجَاشِيّ ذَلِك وَأَقَامُوا فِي جواره آمِنين ورجعا خائبين وَرَأَتْ قُرَيْش ذَلِك وَجعل الْإِسْلَام يفشو فِي الْقَبَائِل فتعاهدوا على بني هَاشم وَبني الْمطلب أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَكَتَبُوا بذلك صحيفَة وتركوها فِي جَوف الْكَعْبَة توكيدا.
وانحاز بَنو هَاشم كافرهم ومسلمهم إِلَى أبي طَالب ودخلوا مَعَه فِي شعبه وَخرج من بني هَاشم أَبُو لَهب عبد الْعُزَّى بن عبد الْمطلب إِلَى قُرَيْش مُظَاهرا لَهُم وَكَانَت امْرَأَته أم جميل بنت حَرْب أُخْت أبي سُفْيَان على رَأْيه فِي عَدَاوَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت تحمل الشوك(1/101)
فتضعه فِي طَرِيقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسماها اللَّهِ تَعَالَى حمالَة الْحَطب وَأقَام بَنو هَاشم فِي الشّعب وَمَعَهُمْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْو ثَلَاث سِنِين.
قلت: فَكَانَ بَنو هَاشم مَحْصُورين فِي الشّعب لَا يخرجُون إِلَّا من موسم إِلَى موسم وشلت يَد كَاتب الصَّحِيفَة مَنْصُور بن عِكْرِمَة الْعَبْدي حَتَّى يَبِسَتْ وَالله أعلم. وَبلغ الْمُهَاجِرين بِالْحَبَشَةِ أَن أهل مَكَّة أَسْلمُوا فَقدم مِنْهُم ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ رجلا فَلَمَّا قربوا من مَكَّة لم يَجدوا ذَلِك صَحِيحا فَدَخَلُوهَا مستخفين وَمن القادمين عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان بن مَظْعُون ثمَّ ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأبي طَالب: " يَا عَم إِن رَبِّي سلط الأرضة على صحيفَة قُرَيْش فَلم تدع فِيهَا غير أَسمَاء الله ونفت مِنْهَا الظُّلم والقطيعة " فَأعْلم أَبُو طَالب قُريْشًا بذلك وَقَالَ: إِن كَانَ صَحِيحا فَانْتَهوا عَن قطيعتنا وَإِن كَانَ كذبا دفعت إِلَيْكُم ابْن اخي فرضوا بذلك فَإِذا الْأَمر كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَزَادَهُم ذَلِك شرا فاتفق جمَاعَة من قُرَيْش وَنَقَضُوا مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ فِي الصَّحِيفَة من قطيعة بني الْمطلب. وأسري بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان فِي السّنة الثَّالِثَة عشر من النُّبُوَّة وَقيل فِي ربيع الأول وَقيل فِي رَجَب، وَهل كَانَ الْإِسْرَاء بجسده أم كَانَ رُؤْيا صَادِقَة الْجُمْهُور على انه بجسده، وَقَالَت عَائِشَة وَمُعَاوِيَة: أسرى بِرُوحِهِ.
وَقيل الْإِسْرَاء إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس جسداني وَمِنْه إِلَى السَّمَوَات السَّبع وسدرة الْمُنْتَهى روحاني.
" وَتُوفِّي أَبُو طَالب " فِي شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي اشتداد مَرضه: " يَا عَم قلها اسْتحلَّ لَك الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة " فَقَالَ أَبُو طَالب: يَا ابْن أخي لَوْلَا مَخَافَة السبة وَأَن تظن قُرَيْش إِنَّمَا قَتلهَا جزعا من الْمَوْت لقتلها وَالْمَشْهُور أَنه مَاتَ ... ... ... ... . وَقيل إِنَّه جعل يُحَرك شَفَتَيْه فأصغى إِلَيْهِ الْعَبَّاس بأذنه وَقَالَ: وَالله يَا ابْن أخي لقد قَالَ الْكَلِمَة الَّتِي أَمرته أَن يَقُول فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَمد لله الَّذِي هداك يَا عَم ".
قلت: وَقيل أَحْيَا الله لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَوَيْهِ وَعَمه فآمنوا بِهِ ثمَّ مَاتُوا وَالله اعْلَم. وَمن شعر أبي طَالب:
(وَدَعَوْتنِي وَعلمت أَنَّك صَادِق ... وَلَقَد صدقت وَكنت ثمَّ أَمينا)
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)
(وَالله لن يصلوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّد فِي التُّرَاب دَفِينا)
وعاش أَبُو طَالب بضعا وَثَمَانِينَ سنة.
" ثمَّ توفيت خَدِيجَة " رَضِي اللَّهِ عَنْهَا بعد أبي طَالب وموتهما قبل الْهِجْرَة بِنَحْوِ ثَلَاث سِنِين ونالت قُرَيْش مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بموتهما خُصُوصا أَبُو لَهب وَالْحكم بن الْعَاصِ وَعقبَة بن أبي معيط بن أُميَّة فَإِنَّهُم كَانُوا جيران النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويؤذونه فِي بَيته بِمَا يلقون عَلَيْهِ وَقت صلَاته وَفِي طَعَامه من الْأَذَى.
وَاشْتَدَّ بِهِ ذَلِك حَتَّى " سَافر إِلَى الطَّائِف " يلْتَمس من ثَقِيف النُّصْرَة ورجاء أَن يقبلُوا مَا جَاءَ بِهِ من اللَّهِ فوصل إِلَى الطَّائِف وَعمد إِلَى جمَاعَة من أَشْرَاف ثَقِيف مثل مَسْعُود وحبِيب(1/102)
ابْني عَمْرو فَجَلَسَ إِلَيْهِم ودعاهم إِلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُ وَاحِد مِنْهُم: أما وجد اللَّهِ أحدا يُرْسِلهُ غَيْرك وَقَالَ ألآخر: وَالله لَا أُكَلِّمك أبدا وَلَئِن كنت رَسُولا من اللَّهِ كَمَا تَقول لأَنْت أعظم خطرا من أَن أرد عَلَيْك الْكَلَام وَلَئِن كنت تكذب على اللَّهِ فَمَا يَنْبَغِي لي أَن اكلمك فَقَامَ وَقد يئس من خير ثَقِيف وَأغْروا بِهِ سفهاءهم وعبيدهم يَسُبُّونَهُ ويصيحون حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس وألجأوه إِلَى حَائِط وَرجع عَنهُ سفهاؤهم.
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنت رَبِّي إِلَى من تَكِلنِي إِن لم تكن عَليّ غَضبا فَلَا أُبَالِي " ثمَّ قدم مَكَّة وَقَومه أَشد عَلَيْهِ مِمَّا كَانُوا يعرض نَفسه على الْقَبَائِل فِي مواسم الْحَج يَدعُوهُم إِلَى اللَّهِ فَيَقُول: " يَا بني فلَان إِنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُم يَأْمُركُمْ أَن تعبدوا اللَّهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تخلعوا مَا يعبد من دونه وَأَن تؤمنوا بِي وتصدقوني " وَعَمه أَبُو لَهب يُنَادي إِنَّمَا يدعوكم أَن تسلخوا اللات والعزى من أَعْنَاقكُم إِلَى مَا جَاءَ بِهِ من الْبِدْعَة والضلالة فَلَا تطيعوه.
وَكَانَ أَبُو لَهب أَحول لَهُ غديرتان فَبينا هُوَ عِنْد الْعقبَة إِذْ لَقِي نَفرا من الْخَزْرَج من يثرب وَأَهْلهَا قبيلتان الْأَوْس والخزرج ثَمَانُون يجمعهُمْ أَب وَاحِد وَبَين القبيلتين حروب وهم حلف قبيلتين من الْيَهُود يُقَال لَهما قُرَيْظَة وَالنضير من نسل هَارُون بن عمرَان فَعرض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِسْلَام عَلَيْهِم وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن وهم سِتَّة فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ.
ثمَّ انصرفوا وَذكروا ذَلِك لقومهم بِيَثْرِب ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى فَشَا فيهم فَلم تبْق دَار إِلَّا وفيهَا ذكر لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَلما كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم اثْنَا عشر من الْأَنْصَار فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء قبل أَن يفْرض عَلَيْهِم الْحَرْب وبيعة النِّسَاء هِيَ أَن لَا يشركوا بِاللَّه وَلَا يسرقوا وَلَا يزنزوا وَلَا يقتلُوا أَوْلَادهم فَبعث مَعَهم مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار ليعلمهم شرائع الْإِسْلَام وَالْقُرْآن وَلما قدم الْمَدِينَة دخل بِهِ أسعد بن زُرَارَة أحد السِّتَّة الَّذين بَايعُوا رَسُول اللَّهِ فِي الْعقبَة حَائِطا لبني ظفر وَكَانَ سعد بن معَاذ سيد الْأَوْس ابْن خَالَة أسعد بن زُرَارَة.
وَكَانَ أسيد بن حضير أَيْضا سيدا فَأخذ أسيد حربته ووقف على مُصعب وأسعد فَقَالَ: مَا جَاءَ بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِن كَانَ لَكمَا بأنفسكما حَاجَة فَقَالَ لَهُ مُصعب: أَو تجْلِس فَتسمع فَجَلَسَ أسيد وأسمعه مُصعب الْقُرْآن وعرفه الْإِسْلَام فَقَالَ أسيد مَا أحسن هَذَا كَيفَ تَصْنَعُونَ إِذا أردتم الدُّخُول فِي هَذَا الدّين فَعلمه مُصعب فَأسلم وَقَالَ ورائي رجل إِن اتبعكما لم يخْتَلف عَنهُ أحد وسأرسله إلَيْكُمَا يَعْنِي سعد بن معَاذ.
ثمَّ أَخذ أسيد حربته وَانْصَرف إِلَى سعد بن معَاذ وَبعث بِهِ إِلَى مُصعب وأسعد فَلَمَّا أقبل قَالَ أسعد لمصعب جَاءَك وَالله سيد من وَرَاءه فَلَمَّا وقف عَلَيْهِمَا سعد بن معَاذ تهدد أسعد وَقَالَ لَوْلَا قرابتك مني مَا صبرت على أَن تغشانا فِي دَارنَا بِمَا نكره فَقَالَ لَهُ مُصعب أَو(1/103)
مَا تسمع فَإِن رضيت أمرا قبلته وَإِلَّا عزلنا عَنْك مَا تكره فَقَالَ أنصفت فَعرض مُصعب عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآن قَالَ فَعرفنَا وَالله فِي وَجهه الْإِسْلَام قبل أَن يتَكَلَّم.
ثمَّ قَالَ كَيفَ تَصْنَعُونَ إِذا أَنْتُم أسلمتم فعرفناه ذَلِك فَأسلم وَانْصَرف إِلَى النادي حَتَّى وقف عَلَيْهِ وَمَعَهُ أسيد بن حضير فَلَمَّا رَآهُ قومه مُقبلا قَالُوا نحلف بِاللَّه لقد رَجَعَ سعد بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي ذهب بِهِ فَقَالَ: يَا بني عبد الْأَشْهَل كَيفَ تعلمُونَ أَمْرِي فِيكُم قَالُوا سيدنَا وأفضلنا قَالَ: فَإِن كَلَام رجالكم ونسائكم عَليّ حرَام حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله فَمَا أَمْسَى فِي دَار بني عبد الْأَشْهَل أحد حَتَّى أسلم وَنزل سعد بن معَاذ وَمصْعَب فِي دَار أسعد بن زُرَارَة يدعوان إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى لم يبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وَبهَا مُسلمُونَ إِلَّا دَار بني أُميَّة بن زيد.
ثمَّ أَن مُصعب بن عُمَيْر عَاد إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ من الَّذين أَسْلمُوا ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ بَعضهم من الْأَوْس وَبَعْضهمْ من الْخَزْرَج مَعَ كفار من قَومهمْ وهم مستخفون من الْكفَّار فوصلوا مَكَّة وواعدوا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليجتمعوا بِهِ لَيْلًا فِي أَيَّام التَّشْرِيق " بِالْعقبَةِ ".
وجاءهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ الْعَبَّاس مُشْركًا متوثقا مِنْهُم لِابْنِ أَخِيه فَقَالَ الْعَبَّاس يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ علمْتُم وَقد منعناه من قَومنَا وَهُوَ فِي عز ومنعة فِي بَلَده وَأَنه قد أَبى إِلَّا الانحياز إِلَيْكُم واللحوق بكم فَإِن كُنْتُم تقفون عِنْد مَا دعوتموه إِلَيْهِ وتمنعونه مِمَّن خَالفه فَأنْتم وَمَا تحملتم من ذَلِك وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ مسلموه وخاذلوه فَمن الْآن فَدَعوهُ فَقَالُوا قد سمعنَا فَتكلم يَا رَسُول اللَّهِ وَخذ لنَفسك ولربك وَمَا احببت فَتكلم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتلا الْقُرْآن.
ثمَّ قَالَ أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَائِكُم وَأَوْلَادكُمْ وَدَار الْكَلَام بَينهم واستوثق كل فريق من الآخر ثمَّ سَأَلُوا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا إِن قتلنَا دُونك مَا لنا قَالَ الْجنَّة قَالُوا فابسط يدك فَبسط يَده فَبَايعُوهُ.
ثمَّ انصرفوا رَاجِعين إِلَى الْمَدِينَة وَأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَخَرجُوا أَرْسَالًا وَأقَام ينْتَظر أَن يَأْذَن لَهُ ربه فِي الْخُرُوج من مَكَّة وَبَقِي مَعَه أَبُو بكر الصّديق وَعلي رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا، وبيعة الْعقبَة الثَّانِيَة وَهِي هَذِه كَانَت فِي سنة ثَلَاث عشرَة من المبعث.
(ذكر الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام)
لفظ التَّارِيخ مُحدث فِي لُغَة الْعَرَب لِأَنَّهُ مُعرب من ماه روز، وَبِذَلِك جَاءَت الرِّوَايَة(1/104)
روى ابْن سُلَيْمَان عَن مَيْمُون بن مهْرَان أَن الْأَمْوَال كثرت فِي زمن عمر وَصَارَ مَا يقسم مِنْهَا غير مُؤَقّت فتعرف ذَلِك من رسوم فَاسْتَحْضر الهرمزان فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لنا حِسَاب نُسَمِّيه ماه روز - مَعْنَاهُ حِسَاب الشُّهُور - فعربوا الْكَلِمَة إِلَى مؤرخ ثمَّ جعلُوا اسْمه التَّارِيخ ثمَّ أتفقوا على أَن يكون مبدأ تَارِيخ دولة الْإِسْلَام سنة الْهِجْرَة من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وَقد تصرم من شهور هَذِه السّنة وأيامها الْمحرم وصفر وَثَمَانِية أَيَّام من ربيع الأول، فَلَمَّا عزموا على تأسيس الْهِجْرَة رجعُوا الْقَهْقَرَى ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ يَوْمًا وأرخوا من أول الْمحرم.
ثمَّ أحصوا من أول يَوْم من الْمحرم إِلَى آخر يَوْم من عمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ عشر سِنِين وشهرين، وَإِذا حسب عمره من الْهِجْرَة حَقِيقَة فَيكون تسع سِنِين وَأحد عشر شهرا واثنين وَعشْرين يَوْمًا وَهَذَا جدول يتَضَمَّن مَا بَين الْهِجْرَة وَبَين التواريخ الْقَدِيمَة الْمَشْهُورَة من السنين فَإِذا أردْت أَن تعرف مَا بَين أَي تاريخين شِئْت مِنْهَا فَانْظُر إِلَى مَا بَينهمَا وَبَين الْهِجْرَة وانقص أقلهما من اكثرهما وَمهما بَقِي فَهُوَ مَا بَينهمَا.
" مِثَاله " إِذا أردْت أَن تعرف مَا بَين مولد الْمَسِيح ومولد رَسُول اللَّهِ صلوَات اللَّهِ وَسَلَامه عَلَيْهِمَا نقصت مَا بَين مولد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين الْهِجْرَة وَهُوَ ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة وشهران وَثَمَانِية أَيَّام من سِتّمائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة يبْقى خَمْسمِائَة وثمان وَسَبْعُونَ سنة تنقص شَهْرَيْن وَثَمَانِية أَيَّام هِيَ جملَة مَا بَين المولدين الْمَذْكُورين وَكَذَلِكَ أَي تاريخين أردْت من هَذَا الْجَدْوَل:
6216 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة اليونانية وَاخْتِيَار المؤرخين.
5967 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة اليونانية وَاخْتِيَار المنجمين حَسْبَمَا أثبتوه فِي الزيجات.
4761 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة العبرانية وَاخْتِيَار المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين 249 سنة.
5137 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى السامرية وَاخْتِيَار المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين مَا ذكر وَهَذَا جَار فِي جَمِيع التواريخ الَّتِي قبل بخْتنصر.
3974 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين الطوفان وَكَانَ لستمائة مَضَت من عمر نوح وعاش بعده 350 سنة وَيَجِيء فِي تَارِيخ الطوفان المذهبان.
3725 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين الطوفان على اخْتِيَار المنجمين حَسْبَمَا قَيده أَبُو معشر وكوشيار وَغَيرهمَا فِي الزيجات والتقاويم. 3364 سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين تبلبل الْأَلْسِنَة على اخْتِيَار المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين 249 سنة حَسْبَمَا تقدم ذكره.
2893 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين مولد إِبْرَاهِيم على اخْتِيَار المؤرخين وَأما على أختيار المنجمين فينقص 249 سنة.(1/105)
2793 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبِنَاء إِبْرَاهِيم واسماعيل الْكَعْبَة وَذَلِكَ لمضي 100 سنة من عمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالتقريب.
2348 - سنة: بَين الْهِجْرَة ووفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه المذهبان وَالْمَذْكُور هُوَ اخْتِيَار المؤرخين.
1860 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَعمارَة بَيت الْمُقَدّس وَفرغ لمضي إِحْدَى عشرَة سنة من ملك سُلَيْمَان ولمضي 546 سنة لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه المذهبان.
1369 - سنة وَأَيَّام 117: بَين الْهِجْرَة وَابْتِدَاء ملك بخْتنصر وَلَيْسَ فِيهِ خلاف.
1350 - سنة: بَين الْهِجْرَة وخراب بَيت الْمُقَدّس وَكَانَ لمضي 19 سنة من ملك بخْتنصر وَبَقِي خرابا 70 سنة ثمَّ عمر وتراجعت إِلَيْهِ بَنو إِسْرَائِيل.
946 - سنة: بَين الْهِجْرَة وفيلبس قبل الْإِسْكَنْدَر باثنتي عشرَة سنة وَبَين فيلبس وأغسطس 294 ذكره بطليموس فِي المجسطي وَقد أرخ بِهِ غَالب أرصاده.
934 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على الْفرس وَقتل دَارا وَهُوَ تَارِيخ إبتداء مُلُوك الطوائف مَاتَ الْإِسْكَنْدَر بعد غلبته بِنَحْوِ 7 سِنِين فَبين مَوته وَالْهجْرَة تِسْعمائَة وَنَحْو 28 سنة.
652 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَغَلَبَة أغسطس على مصر وَقتل قلوابطرا ملكة اليونان وَكَانَ لمضي اثْنَتَيْ عشرَة سنة من ملك أغسطس وَهُوَ أَيْضا تَارِيخ انْقِرَاض اليونان.
631 - سنة: بَين الْهِجْرَة ومولد الْمَسِيح وعاش إِلَى أَن رفع ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة فَبين رَفعه وَالْهجْرَة 598 سنة.
558 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين خراب الْقُدس الثَّانِي وَكَانَ لمضي 40 سنة من رفع الْمَسِيح وَهُوَ تَارِيخ تشت الْيَهُود إِلَى الْأَبَد.
507 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَأول ملك أرديانوس.
422 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَملك أزدشير بن بابك أبي الأكاسرة وَهُوَ أَيْضا تَارِيخ انْقِرَاض مُلُوك الطوائف.
339 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَأول ملك دقلطيانوس وَهُوَ آخر عَبدة الْأَصْنَام من الْمُلُوك.
53 - سنة وشهران و 8 أَيَّام: بَين الْهِجْرَة وَبَين مولد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
13 - سنة وشهران و 8 أَيَّام: بَين الْهِجْرَة ومبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
9 - سِنِين و 11 شهرا و 22 يَوْمًا: بَين الْهِجْرَة ووفاة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(بَقِيَّة خبر الْهِجْرَة)
وَلما علمت قُرَيْش أَنه صَار لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنصار وَأَن أَصْحَابه بِمَكَّة قد لَحِقُوا بهم خَافُوا من خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة فاتفقوا أَن يَأْخُذُوا من كل قَبيلَة رجلا ليضربوه بسيوفهم ضَرْبَة وَاحِدَة فيضيع دَمه فِي الْقَبَائِل وبلغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك فَأمر عليا أَن ينَام على فرَاشه وَأَن يتشح بِبرْدِهِ الْأَخْضَر(1/106)
وَأَن يتَخَلَّف عَنهُ ليؤدي مَا كَانَ عِنْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الودائع إِلَى أَرْبَابهَا.
وَكَانَ الْكفَّار قد اجْتَمعُوا على بَابه يَرْصُدُونَهُ ليثبوا عَلَيْهِ فَأخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حفْنَة تُرَاب وتلا أول يس وَجعل ذَلِك التُّرَاب على رُؤُوس الْكفَّار فَلم يروه فَأَتَاهُم آتٍ وَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا خرج وَوضع على رؤسكم التُّرَاب، وَجعلُوا ينظرُونَ فيرون عليا عَلَيْهِ برد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولُونَ مُحَمَّد نَائِم.
وَكَذَا حَتَّى أَصْبحُوا فَقَامَ عَليّ فعرفوه وَأقَام عَليّ بِمَكَّة حَتَّى أدّى الودائع وَقصد النَّبِي إِذْ خرج من دَاره دَار أبي بكر فَأعلمهُ بِأَن اللَّهِ قد أذن بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ أَبُو بكر الصُّحْبَة يَا رَسُول اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَة فَبكى أَبُو بكر فَرحا واستأجرا عبد اللَّهِ بن أريقط وَكَانَ مُشْركًا ليدلهما على الطَّرِيق ومضيا إِلَى غَار بثور وَهُوَ جبل أَسْفَل مَكَّة فأقاما بِهِ.
ثمَّ خرجا من الْغَار بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتوجها إِلَى الْمَدِينَة ومعهما عَامر بن فهَيْرَة مولى أبي بكر وَعبد اللَّهِ بن أريقط الدَّلِيل وجدت قُرَيْش فِي طلبه وَتَبعهُ سراقَة بن جعْشم المدلجي على فرس لَهُ فَقَالَ أَبُو بكر هَذَا الطّلب لحقنا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصَاحبه أبي بكر لَا تحزن إِن اللَّهِ مَعنا، فَلَمَّا دنا سراقَة ساخت بِهِ قَوَائِم فرسه إِلَى رُكْبَتَيْهِ فِي أَرض صلبة فَنَادَى سراقَة يَا مُحَمَّد ادْع اللَّهِ أَن يخلصني وَلَك عَليّ لأعمين على من ورائي فَدَعَا لَهُ فخلص.
ثمَّ أخبرهُ سراقَة بِمَا ضمن لَهُ قومه عِنْد ظفره بِهِ وَسَأَلَ موادعته فوادعه وَكتب لَهُ بِهِ كتابا فَأَتَاهُ عَام الْفَتْح وَأسلم وَقَالَ لَهُ كَيفَ بك يَا سراقَة إِذا سورت بِسوَارِي كسْرَى برويز، قلت: فلبسهما فِي زمن عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ. وَبلغ ذَلِك أَبَا جهل فَقَالَ:
(بني مُدْلِج أَنِّي أخال سفيهكم ... سراقَة يستغوي لنصر مُحَمَّد)
(عَلَيْكُم بِهِ أَن لَا يفرق جمعكم ... فنصبح شَتَّى بعد عز وسؤدد)
فَقَالَ لَهُ سراقَة:
(أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا ... لأمر جوادي حَيْثُ ساخت قوائمه)
(علمت وَلم تشكك بِأَن مُحَمَّدًا ... رَسُول وبرهان فَمن ذَا يكاتمه)
وَقَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي اللَّهِ عَنهُ:
(وَقد زَاد نَفسِي واطمأنت وَآمَنت ... بِهِ الْيَوْم مَا لاقي جواد ابْن مُدْلِج)
(سراقَة إِذْ يَبْغِي علينا بكيده ... على أعوجي كالهراوة مدمج)
(فَقَالَ رَسُول اللَّهِ يَا رب اغنه ... فمهما تشا من مفظع الْأَمر تفرج)
(فساخت بِهِ فِي الأَرْض حَتَّى تغيبت ... حَوَافِرِهِ فِي بطن وَاد مفجع)
(فأغناه رب الْعَرْش عَنَّا ورده ... وَلَوْلَا دفاع اللَّهِ لم يتعرج)
ومروا على خَيْمَتي أم معبد الْخُزَاعِيَّة فَسَأَلُوهَا تَمرا وَلَحْمًا يشترونه فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا من ذَلِك شَيْئا فَنظر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى شَاة فِي كسر الْخَيْمَة فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَت شَاة: خلفهَا الْجهد(1/107)
عَن الْغنم قَالَ هَل بهَا من لبن قَالَت هِيَ أجهد من ذَلِك فَاسْتَأْذن أم معبد ودعا بِالشَّاة وَمسح بِيَدِهِ ضرْعهَا وسمى اللَّهِ ودعا لَهَا فِي شَاتِهَا فتفاجت عَلَيْهِ وَردت واجترت ودعا بِإِنَاء يربض الرَّهْط فَحلبَ ثمَّ سَقَاهَا حَتَّى رويت ثمَّ سقى أَصْحَابه حَتَّى رووا ثمَّ شرب آخِرهم ثمَّ حلب ثَانِيًا حَتَّى مَلأ الْإِنَاء ثمَّ غَادَرَهُ عِنْدهَا وبايعها وَارْتَحَلُوا وَأصْبح صَوت بِمَكَّة عَال لَا يَدْرُونَ من صَاحبه يَقُول:
(جزى اللَّهِ رب الْعَرْش خير جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتي أم معبد)
(هما نزلا بِالْهدى واهتديا بِهِ ... وَقد فَازَ من أَمْسَى رَفِيق مُحَمَّد)
(فَمَا حملت من نَاقَة فَوق رَحلهَا ... أبر وأوفي ذمَّة من مُحَمَّد)
(فيال قصي مَا زوى اللَّهِ عَنْكُم ... بِهِ من فعال لَا تجاري وسؤدد)
(لِيهن بني كَعْب مَكَان فَتَاتهمْ ... ومقعدها للْمُؤْمِنين بِمَرْصَد)
(سلوا أختكم عَن شَاتِهَا وإنائها ... فَإِنَّكُم إِن تسألوا الشَّاة تشهد)
(دَعَاهَا بِشَاة حَائِل فتحلبت ... بِهِ من صَرِيح ضرَّة الشَّاة مُزْبِد)
(فغادرها رهنا لَدَيْهَا لحالب ... يُرَدِّدهَا فِي مصدر ثمَّ مورد)
فَأَجَابَهُ حسان:
(لقد خَابَ قوم زَالَ عَنْهُم نَبِيّهم ... وَقدس من يسري إِلَيْهِم وَيَغْتَدِي)
(ترحل عَن قوم فضلت عُقُولهمْ ... وَحل على قوم بِنور مُجَدد)
(هدَاهُم بِهِ بعد الضَّلَالَة رَبهم ... وأرشدهم من يتبع الْحق يرشد)
(وَقد نزلت مِنْهُ على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عَلَيْهِم بِأَسْعَد)
(نَبِي يرى مَا لَا يرى النَّاس حَولهمْ ... وَيَتْلُو كتاب اللَّهِ فِي كل مشْهد)
(وَإِن قَالَ فِي يَوْم مقَالَة غَائِب ... فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْم أَو فِي ضحى الْغَد)
(لِيهن أَبَا بكر سَعَادَة جده ... بِصُحْبَتِهِ من يسْعد اللَّهِ يسْعد ... )
وَالله أعلم.
وَقدم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول سنة إِحْدَى يَوْم الأثنين الظّهْر فَنزل قبَاء على كُلْثُوم بن الْهدم وَأقَام بقباء الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس وَأسسَ مَسْجِد قبَاء الَّذِي نزل فِيهِ {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى} وَخرج من قبَاء يَوْم الْجُمُعَة فَمَا مر على دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا قَالُوا هَلُمَّ يَا رَسُول اللَّهِ إِلَى الْعدَد وَالْعدة ويعترضون نَاقَته فَيَقُول: " خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة " حَتَّى انْتَهَت إِلَى مَوضِع مَسْجده وَكَانَ مربد السهل وَسُهيْل ابْني عَمْرو يتيمين فِي حجر معَاذ بن عفراء فبركت هُنَاكَ وَوضعت جِرَانهَا فَنزل عَنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحْتمل أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَحلهَا إِلَى بَيته وَأقَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ حَتَّى بنى مَسْجده ومساكنه وَقيل بل كَانَ مَوضِع الْمَسْجِد لبني النجار وَفِيه نخل وَخرب وقبور الْمُشْركين.(1/108)
وَتزَوج عَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا: قبل الْهِجْرَة بعد وَفَاة خَدِيجَة وَدخل بهَا بعد الْهِجْرَة بِثمَانِيَة أشهر وَهِي بنت تسع وَتُوفِّي عَنْهَا وَهِي بنت ثَمَانِي عشرَة سنة.
" وآخى بَين الْمُسلمين " فَاتخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا أَخا وآخى بَين أبي بكر وخارجة بن زيد الْأنْصَارِيّ وَبَين أبي عُبَيْدَة وَسعد بن معَاذ الْأنْصَارِيّ وَبَين عمر وعتبان بن مَالك النصاري وَبَين عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ وَبَين عُثْمَان بن عَفَّان وَأَوْس بن ثَابت الْأنْصَارِيّ وَبَين طَلْحَة بن عبيد اللَّهِ وَكَعب بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَبَين سعيد بن زيد وَأبي بن كَعْب الْأنْصَارِيّ.
وَأول مَوْلُود للمهاجرين بعد الْهِجْرَة عبد اللَّهِ بن الزبير وَأول مَوْلُود للْأَنْصَار النُّعْمَان بن بشير.
(تَحْويل الْقبْلَة)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ من الْهِجْرَة: فِيهَا حولت الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة كَانَت الصَّلَاة بِمَكَّة وَبعد مقدمه إِلَى الْمَدِينَة بِثمَانِيَة عشر شهرا إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء منتصف شعْبَان فَاسْتقْبل فِي صَلَاة الظّهْر وَبلغ أهل قبَاء ذَلِك فتحولوا إِلَى جِهَة الْكَعْبَة وهم فِي الصَّلَاة.
قلت: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابه فِي منَازِل بني سَلمَة فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ من الظّهْر فِي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ إِلَى الْقُدس.
ثمَّ أَمر فِي الصَّلَاة باستقبال الْكَعْبَة وَهُوَ رَاكِع فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَاسْتَدَارَ واستدارت الصُّفُوف خَلفه فَأَتمَّ الصَّلَاة فَسُمي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ وَالله أعلم.
وَفِي شعْبَان مِنْهَا فرض صَوْم رَمَضَان.
قلت: وفيهَا فرضت صَدَقَة الْفطر، وَفِي شَوَّال مِنْهَا تزوج عَائِشَة، " وفيهَا " تزوج عَليّ فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا وَالله أعلم؛ وفيهَا أرى عبد اللَّهِ بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ صُورَة الْأَذَان فِي النّوم وَورد الْوَحْي بِهِ.
قلت: قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة: إِن السّنة الأولى فِيهَا شرع الْأَذَان وَأسلم عبد اللَّهِ بن سَلام فاعتمد ذَلِك وَالله أعلم.
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبد اللَّهِ بن جحش فِي ثَمَانِيَة أنفس إِلَى نَخْلَة بَين مَكَّة والطائف ليتعرفوا أَخْبَار قُرَيْش فَمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثْنَيْنِ وحضروا بذلك إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِي أول غنيمَة غنمها الْمُسلمُونَ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ أَيْضا فِي رَمَضَان.
(غَزْوَة بدر الْكُبْرَى)
الَّتِي أظهر اللَّهِ بهَا الدّين وَذَلِكَ أَنه قدم لقريش قفل من الشَّام مَعَ أبي سُفْيَان بن حَرْب وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رجلا فندب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس إِلَيْهِم فَبلغ أَبَا سُفْيَان فَبعث وَأعلم قُريْشًا بِمَكَّة بذلك(1/109)
فَخرج النَّاس من مَكَّة سرَاعًا وَلم يتَخَلَّف من الْأَشْرَاف غير أبي لَهب وَبعث مَكَانَهُ الْعَاصِ ابْن هِشَام وَكَانَت عدتهمْ تِسْعمائَة وَخمسين رجلا فيهم مائَة فرس وَخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْمَدِينَة لثلاث خلون من رَمَضَان مِنْهَا وَمَعَهُ ثلثمِائة وَثَلَاث عشر رجلا مِنْهُم سَبْعَة وَسَبْعُونَ من الْمُهَاجِرين وَالْبَاقُونَ أنصار وَمَا فيهم سوى فارسين الْمِقْدَاد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَقيل غير الزبير، وَكَانَت الْإِبِل سبعين يتعاقبون عَلَيْهَا فَنزل الصَّفْرَاء وجاءته الْأَخْبَار بِأَن العير قاربت بَدْرًا وَأَن الْمُشْركين خَرجُوا ليمنعوا عَنْهَا ثمَّ ارتحل وَنزل فِي بدر على ادنى مَاء من الْقَوْم وَأَشَارَ سعد بن معَاذ فَبنى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِيشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ أَبُو بكر وَأَقْبَلت قُرَيْش فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذِه قُرَيْش قد أَقبلت بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرهَا تكذب رَسُولك اللَّهُمَّ فَنَصرك الَّذِي وَعَدتنِي " وتقاربوا وبرز من الْمُشْركين عتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة والوليد بن عتبَة فَأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يبارز عُبَيْدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب عتبَة، وَحَمْزَة عَم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيبَة، وَعلي رَضِي اللَّهِ عَنهُ الْوَلِيد وَضرب كل وَاحِد من عُبَيْدَة وَعتبَة، صَاحبه وكر عَليّ وَحَمْزَة على عتبَة فقتلاه واحتملا عُبَيْدَة وَقد قطعت رجله ثمَّ مَاتَ.
وتزاحف الْقَوْم وَرَسُول اللَّهِ وَمَعَهُ أَبُو بكر على الْعَريش وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُول: " اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد فِي الأَرْض اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي " وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ فَوَضعه أَبُو بكر عَلَيْهِ وخفق رَسُول اللَّهِ ثمَّ انتبه فَقَالَ: " أبشر يَا أَبَا بكر فقد أَتَى نصر اللَّهِ ".
ثمَّ خرج من الْعَريش يحرض النَّاس على الْقِتَال وَأخذ حفْنَة من الْحَصْبَاء وَرمى بهَا قُريْشًا وَقَالَ: " شَاهَت الْوُجُوه " وَقَالَ لأَصْحَابه: " شدوا عَلَيْهِم " فَكَانَت الْهَزِيمَة وَكَانَت الْوَقْعَة صَبِيحَة الْجُمُعَة لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان وَحمل عبد اللَّهِ بن مَسْعُود رَأس أبي جهل إِلَيْهِ فَسجدَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكرا لله تَعَالَى وَقتل أَبُو جهل وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَقتل أَخُوهُ الْعَاصِ بن هِشَام وَنصر اللَّهِ نبيه بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم إِنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة} وَبلغ أَبَا لَهب بِمَكَّة مصاب بدر فَمَاتَ كمدا بعد سبع لَيَال وعدة قَتْلَى بدر الْمُشْركين سَبْعُونَ رجلا والأسرى كَذَلِك.
وَمن الْقَتْلَى أَيْضا هِشَام قَتله المحدد بن زِيَاد، وَنَوْفَل بن خويلد أَخُو خَدِيجَة وَكَانَ من شياطين قُرَيْش وَهُوَ الَّذِي قرن أَبَا بكر وَطَلْحَة بن خويلد لما أسلما فِي حَبل قَتله عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وَعُمَيْر بن عُثْمَان بن عَمْرو التَّمِيمِي قَتله عَليّ أَيْضا، ومسعود بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي قَتله حَمْزَة، وَعبد اللَّهِ بن الْمُنْذر المَخْزُومِي قَتله عَليّ، ومنبه بن الْحجَّاج السَّهْمِي قَتله أَبُو بشر الْأنْصَارِيّ، وَابْنه الْعَاصِ بن مُنَبّه قَتله عَليّ، وَأَخُوهُ نبيه بن الْحجَّاج اشْترك فِيهِ حَمْزَة وَسعد بن أبي وَقاص، وَأَبُو الْعَاصِ بن قيس السَّهْمِي قَتله عَليّ رَضِي الله عَنهُ.
وَكَانَ من جملَة الأسرى الْعَبَّاس وابنا أَخِيه عقيل بن أبي طَالب وَنَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَبعد انْقِضَاء الْقِتَال أَمر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسحب الْقَتْلَى إِلَى القليب وَكَانُوا أَرْبَعَة(1/110)
وَعشْرين من صَنَادِيد قُرَيْش وَأقَام بعرصة بدر ثَلَاث لَيَال وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين أَرْبَعَة عشر سِتَّة من الْمُهَاجِرين وَثَمَانِية أنصار وَلما وصل إِلَى الصَّفْرَاء رَاجعا من بدر أَمر عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَضرب عنق النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ من عداوته إِذْ تَلا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لقريش مَا يأتيكم مُحَمَّد إِلَّا بأساطير الْأَوَّلين.
قلت: وَلما قتل النَّضر ثمَّ أنشدته ابْنَته:
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَو سمعته مَا قتلته " وَالله أعلم، ثمَّ أَمر بِضَرْب عنق عقبَة بن أبي معيط بن أُميَّة وَكَانَ عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ قد تخلف بِالْمَدِينَةِ بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَبَب مرض زَوجته رقية بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَاتَتْ رقية فِي غيبَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمُدَّة الْغَيْبَة تِسْعَة عشر يَوْمًا.
(غَزْوَة بني قينقاع)
ثمَّ كَانَت غَزْوَة بني قينقاع، هم نقضوا مَا كَانَ بَينهم وَبَينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعَهْد فَخرج إِلَيْهِم منتصف شَوَّال مِنْهَا فَتَحَصَّنُوا فَحَاصَرَهُمْ خمس عشرَة لَيْلَة ونزلوا على حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكتفوا وَهُوَ يُرِيد قَتلهمْ فَكَلمهُ عبد اللَّهِ بن أبي سلول الخزرجي الْمُنَافِق وَكَانَ هَؤُلَاءِ حلفاء الْخَزْرَج فَأَعْرض عَنهُ فَأَعَادَ السُّؤَال فَأَعْرض عَنهُ فَأدْخل يَده فِي جيب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ يَا رَسُول اللَّهِ أحسن فَقَالَ وَيحك أَرْسلنِي فَقَالَ لَا وَالله حَتَّى تحسن فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هم لَك ثمَّ أجلاهم وغنم الْمُسلمُونَ أَمْوَالهم ثمَّ كَانَت غَزْوَة السويق.
(غَزْوَة السويق)
وَذَلِكَ أَن أَبَا سُفْيَان حلف لَا يمس الطّيب وَالنِّسَاء حَتَّى يَغْزُو مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَبَب قَتْلَى بدر فَخرج فِي مِائَتي رَاكب وَبعث قدامه رجَالًا إِلَى الْمَدِينَة فوصلوا إِلَى العريض وَقتلُوا رجَالًا من الْأَنْصَار وَبلغ ذَلِك رَسُول اللَّهِ فَركب فِي طلبه وهرب ابو سُفْيَان وَأَصْحَابه وَجعلُوا يلقون جرب السويق تَخْفِيفًا فسميت غَزْوَة السويق.
(غَزْوَة قرقرة الكدر)
ثمَّ كَانَت " غَزْوَة قرقرة الكدر " وَقيل كَانَت سنة ثَلَاث وَهِي مِمَّا يَلِي جادة الْعرَاق إِلَى مَكَّة بلغَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن بِهَذَا الْموضع جمعا من سليم وغَطَفَان فَخرج لقتالهم فَلم يجد أحدا فاستاق مَا وجد من النعم وَرجع إِلَى الْمَدِينَة.
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ مَاتَ عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي اللَّهِ عَنهُ وفيهَا الْوَقْعَة بِذِي قار بَين بكر بن وَائِل وَبَين جَيش كسْرَى برويز وَغَلَبَة الهرمزان وانهزمت الْفرس وَقتل الهرمزان.
وفيهَا هلك أُميَّة بن أبي الصَّلْت من رُؤَسَاء الْكفَّار قَرَأَ الْكتب واطلع على الْبعْثَة فَكفر حسدا لِأَنَّهُ رجا أَن يكون هُوَ الْمَبْعُوث سَافر إِلَى الشَّام وَرجع عقيب وقْعَة بدر فَمر بالقليب وَفِيه قَتْلَى بدر وَمِنْهُم عتبَة وَشَيْبَة ابْنا خَال أُميَّة فجدع أُذُنِي نَاقَته وَقَالَ قصيدة مِنْهَا:(1/111)
(أَلا بَكَيْت على الْكِرَام ... بني الْكِرَام أولي الممادح)
(كبكا الْحمام على فروع الأيك فِي الْغُصْن الجوانح ... )
(يبْكين حزني مستكينات يرحن مَعَ الروائح ... )
(أمثالهن الباكيات المعولات من النوائح ... )
(مَاذَا ببدر والعقيقل من مرازبة جحاجح ... )
(شمط وشبان بهاليل مغاوير دحادح ... )
(أَن قدر تغير بطن مَكَّة فَهِيَ موحشة الأباطح ... )
وَاسم أبي الصَّلْت عبد اللَّهِ بن ربيعَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث: فِيهَا فِي رَمَضَان ولد الْحسن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا وفيهَا قتل مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ كَعْب بن الْأَشْرَف الْيَهُودِيّ قلت: وفيهَا تزوج الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَفْصَة بنت عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَتزَوج عُثْمَان أم كُلْثُوم وَالله أعلم.
(غَزْوَة أحد)
وَكَانَت غَزْوَة أحد وَذَلِكَ أَنه اجْتمع قُرَيْش ثَلَاثَة آلَاف فيهم سَبْعمِائة دارع وَمِائَتَا فَارس قائدهم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَمَعَهُ زَوجته هِنْد بنت عتبَة وَأَرْبع عشرَة امْرَأَة يضربن بِالدُّفُوفِ ويبكين قَتْلَى بدر وَسَارُوا من مَكَّة حَتَّى نزلُوا ذَا الحليفة قبالة الْمَدِينَة يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع مضين من شَوَّال سنة ثَلَاث وَرَأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمقَام بِالْمَدِينَةِ وقتالهم بهَا وَكَذَا رأى عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق وَبَاقِي الصَّحَابَة رَأَوْا الْخُرُوج لقتالهم فَخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ألف من الصَّحَابَة وَصَارَ بَين الْمَدِينَة وَاحِد فانخذل عَنهُ ابْن أبي بن سلول فِي ثلث النَّاس وَقَالَ أطاعهم وعصاني علام نقْتل أَنْفُسنَا هَهُنَا وَرجع بِمن تبعه من أهل النِّفَاق وَنزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشّعب من أحد وَجعل ظَهره إِلَى أحد.
ثمَّ كَانَت الْوَقْعَة يَوْم السبت لسبع مضين من شَوَّال وعدة أَصْحَابه سَبْعمِائة فيهم مائَة دراع وفرسان فرس لرَسُول اللَّهِ فرس لأبي بردة ولواء رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ مُصعب بن عُمَيْر من بني عبد الدَّار وعَلى ميمنة الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد وعَلى ميسرتهم عِكْرِمَة بن أبي جهل ولواؤهم مَعَ بني عبد الدَّار وَجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرُّمَاة وهم خَمْسُونَ وَرَاءه وَلما الْتَقَوْا قَامَت هِنْد فِي النسْوَة مَعهَا وضربن بِالدُّفُوفِ خلف الرِّجَال وَهِي تَقول:
(ويها بني عبد الدَّار ... )
(ويها حماة الأدبار ... )
(ضربا بِكُل بتار ... )
وَقَاتل حَمْزَة قتالا شَدِيدا وَقتل أَرْطَاة حَامِل لِوَاء الْمُشْركين وَمر بِهِ سِبَاع بن عبد الْعُزَّى وَكَانَت أمه ختانة مَكَّة فَقَالَ حَمْزَة هَلُمَّ يَا ابْن مقطعَة البظور وضربه فَكَأَنَّمَا أَخطَأ رَأسه فَبينا هُوَ مشتغل بسباع إِذْ ضربه وَحشِي الحبشي عبد جُبَير بن مطعم بِحَرْبَة فَقتله،
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول حسان:(1/112)
(مَا لشهيد بَين أرماحكم ... شلت يدا وَحشِي من قَاتل)
وَالله أعلم.
وَقتل ابْن قمئة اللَّيْثِيّ مُصعب بن عُمَيْر حَامِل لِوَاء رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأعْطى النَّبِي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ فطمعت الرُّمَاة فِي الْغَنِيمَة وفارقوا مكانهم الَّذِي أَمرهم النَّبِي بِهِ فَأتى خَالِد مَعَ خيل الْمُشْركُونَ من خلف وَوَقع الصَّارِخ أَن مُحَمَّدًا قتل وانكشف الْمُسلمُونَ فَقتل من الْمُسلمين سَبْعُونَ وَمن الْمُشْركين اثْنَان وَعِشْرُونَ وأصابت حِجَارَة الْمُشْركين رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى وَقع وَأُصِيبَتْ رباعيته وشج وَجهه وكملت شفته وَالَّذِي أَصَابَهُ عتبَة بن ابي وَقاص أَخُو سعد وسال الدَّم على وَجهه وَهُوَ يَقُول: " كَيفَ يفلح قوم خضبوا وَجه نَبِيّهم وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى رَبهم " فَنزل قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} وَدخلت حلقتان من المغفر فِي وَجه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الشَّجَّة وَنزع أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح إِحْدَى الحلقتين من وجهة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَقَطت ثنية أبي عُبَيْدَة الْوَاحِدَة.
ثمَّ نزع الْأُخْرَى فَسَقَطت ثنيته الْأُخْرَى ومص سِنَان أَبُو أبي سعيد الْخُدْرِيّ الدَّم من وَجهه وازدرده فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مس دمي دَمه لم تصبه النَّار " وأًصابت طَلْحَة يَوْمئِذٍ ضَرْبَة فشلت يَده وَهُوَ يدافع عَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَاهر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمئِذٍ بَين درعين ومثلث هِنْد وصواحبها بالقتلى من الْمُسلمين فجدعن الآذان والأنوف واتخذن مِنْهَا قلائد وبقرت هِنْد عَن كبد حَمْزَة ولاكتها قلم تسغها وَضرب زَوجهَا أَبُو سُفْيَان برمحه شدق حَمْزَة وَصعد الْجَبَل وصرخ بِأَعْلَى صَوته الْحَرْب سِجَال يَوْم بِيَوْم بدر اعْل هُبل.
وَلما انْصَرف أَبُو سُفْيَان وَمن مَعَه نَادَى إِن مَوْعدكُمْ الْعَام الْقَابِل فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لوَاحِد قل هُوَ بَيْننَا وَبَيْنك ثمَّ سَار الْمُشْركُونَ إِلَى مَكَّة فالتمس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمْزَة فَوَجَدَهُ وَقد بقر بَطْنه وجدع أَنفه وأذناه فَقَالَ لَئِن أظهرني اللَّهِ على قُرَيْش لامثلن بِثَلَاثِينَ مِنْهُم ثمَّ قَالَ: " جَاءَنِي جِبْرِيل فَأَخْبرنِي أَن حَمْزَة مَكْتُوب فِي أهل السَّمَوَات السَّبع حَمْزَة بن عبد الْمطلب أَسد اللَّهِ وَأسد رَسُوله ".
ثمَّ أَمر بِحَمْزَة فسجي بِبرْدِهِ ثمَّ صلى عَلَيْهِ فَكبر سبعا ثمَّ أَتَى بالقتلى يوضعون إِلَى حَمْزَة فَيصَلي عَلَيْهِم وَعَلِيهِ مَعَهم حَتَّى صلى عَلَيْهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين صَلَاة. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَهَذَا دَلِيل لأبي حنيفَة فِي الصَّلَاة على الشَّهِيد خلافًا للشَّافِعِيّ
قلت: تمسك الشَّافِعِي بِمَا روى جَابر وَأنس أَنه قتل من الصَّحَابَة يَوْم أحد اثْنَان وَسَبْعُونَ قَتِيلا فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تنْزع عَنْهُم الْجُلُود وَالْفراء وَالْحَدِيد وَأَن يدفنوا بثيابهم وَدِمَائِهِمْ وَلم يغسلوا وَلم يصل عَلَيْهِم وَالله أعلم.
ثمَّ أمره بِحَمْزَة فَدفن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَاحْتمل نَاس من الْمُسلمين قتلاهم إِلَى الْمَدِينَة فدفنوهم بهَا ثمَّ نهى عَن مثله وَقَالَ ادفنوهم حَيْثُ صرعوا.(1/113)
ثمَّ دخلت سنة أَربع: فِيهَا فِي صفر قدم عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قوم من عضل والقارة وطلبوا مِنْهُ ان يبْعَث مَعَهم من يفقه قَومهمْ فِي الدّين فَبعث مَعَهم سِتَّة هم ثَابت بن أبي الْأَفْلَح وخبيب بن عدي ومرثد بن أبي مرْثَد الغنوي وخَالِد بن البكير اللَّيْثِيّ وَزيد بن الدثنة وَعبد اللَّهِ بن طَارق وَقدم عَلَيْهِم مرْثَد بن أبي مرْثَد فَلَمَّا وصلوا إِلَى المرجيح مَاء لهذيل على أَرْبَعَة عشر ميلًا من عسفان غدروا بهم وقاتلوهم فَقتل ثَلَاثَة وَأسر ثَلَاثَة وهم زيد وخبيب وَعبد اللَّهِ فَأَخَذُوهُمْ إِلَى مَكَّة فهرب طَارق فِي الطَّرِيق وَقَاتل إِلَى أَن قَتَلُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَبَاعُوا زيدا وخبيبا بِمَكَّة من قُرَيْش فَقَتَلُوهُمَا صبرا.
وفيهَا: فِي صفر قدم أَبُو برَاء عَامر بن مَالك بن جَعْفَر ملاعب الأسنة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يسلم وَلم يبعد من الْإِسْلَام وَقَالَ لَهُ لَو بعثت رجَالًا من اصحابك إِلَى أهل نجد يَدعُونَهُمْ رَجَوْت أَن يَسْتَجِيبُوا لَك فَقَالَ أَخَاف على أَصْحَابِي فَقَالَ أَبُو برَاء أَنا لَهُم جَار فَبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُنْذر بن عُمَيْر الْأنْصَارِيّ فِي أَرْبَعِينَ من خِيَار الْمُسلمين فيهم عَامر بن فهَيْرَة مولى أبي بكر فنزلوا بِئْر مَعُونَة على أَربع مراحل من الْمَدِينَة وبعثوا بكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَدو اللَّهِ عَامر بن الطُّفَيْل فَقتل الَّذِي أحضر الْكتاب وَجمع الجموع وَقصد الْمَذْكُورين فتقاتلوا وقتلم عَن آخِرهم إِلَّا كَعْب بن زيد فَبَقيَ فِيهِ رَمق وتوارى بالقتلى.
ثمَّ لحق بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتشْهدَ يَوْم الخَنْدَق وَكَانَ فِي سرح الْقَوْم عَمْرو بن امية الضمرِي وَرجل من الْأَنْصَار فرأيا الطير تحوم حول المعسكر فقصد المعسكر فَوجدَ الْقَوْم مقتولين فقاتل الأنصارى وَقتل وَأسر عَمْرو وَأعْتقهُ عَامر بن الطُّفَيْل لكَونه من مُضر وَلحق عَمْرو برَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخْبرهُ فشق عَلَيْهِ.
(غَزْوَة بني النَّضِير)
وفيهَا: غَزْوَة بني النَّضِير من الْيَهُود سَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِم وحاصرهم فِي ربيع الأول وَنزل تَحْرِيم الْخمر وَهُوَ محاصر لَهُم.
قلت: قَالَ فِي الرَّوْضَة إِن غَزْوَة بني النَّضِير سنة ثَلَاث وَإِن تَحْرِيم الْخمر بعد غَزْوَة أحد وَالله أعلم. وَلما مضى عَلَيْهِم سِتّ لَيَال سَأَلُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يجليهم على أَن لَهُم ثلث مَا حملت الْإِبِل من أَمْوَالهم إِلَّا السِّلَاح فأجابهم إِلَيْهِ فَخَرجُوا وَمَعَهُمْ الدفوف والمزامير تجلدا وَكَانَت أَمْوَالهم فَيْئا يقسمها حَيْثُ شَاءَ فَقَسمهَا على الْمُهَاجِرين دون الْأَنْصَار الأسهل بن حنيفَة وَأَبا دُجَانَة فذكرا فَأَعْطَاهُمَا مِنْهُ شَيْئا وَمضى من بني النَّضِير إِلَى خَيْبَر نَاس وَإِلَى الشَّام نَاس.
قلت: وَفِي سنة أَربع قصرت الصَّلَاة وَنزل التميم وَتزَوج أم سَلمَة وَالله أعلم.
(غَزْوَة ذَات الرّقاع)
وفيهَا: غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي جمادي الأولى قلت: فِي الرَّوْضَة أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة خمس فِي الْمحرم وَالله أعلم. سميت بذلك لأَنهم رقعوا فِيهَا راياتهم فتقارب النَّاس(1/114)
وَلم يكن بَينهم حَرْب وَفِي هَذِه الْغَزْوَة جَاءَ رجل من غطفان إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا مُحَمَّد: أُرِيد أَن أنظر إِلَى سَيْفك هَذَا وَكَانَ محلى بِفِضَّة فَدفعهُ إِلَيْهِ فاستله وهم بِهِ فَكَتبهُ اللَّهِ ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد مَا تخافني فَقَالَ لَهُ لَا مَا أَخَاف مِنْك ثمَّ رد سَيْفه إِلَيْهِ فَأنْزل اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم} وَفِي سنة أَربع فِي شعْبَان.
" غَزْوَة بدر الثَّانِيَة " خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لميعاد أبي سُفْيَان وأتى بَدْرًا ينْتَظر أَبَا سُفْيَان فَرجع أَبُو سُفْيَان إِلَى مَكَّة من أثْنَاء الطَّرِيق فَلَمَّا لم يَأْتِ انْصَرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة وفيهَا ولد الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة خمس: فِيهَا فِي شَوَّال.
(غَزْوَة الخَنْدَق)
قلت: فِي الرَّوْضَة أَنَّهَا فِي سنة أَربع على الْأَصَح وَالله أعلم، وَهِي غَزْوَة الْأَحْزَاب بلغَة تحزب قبائل الْعَرَب فحفر الخَنْدَق حول الْمَدِينَة قيل أَشَارَ بِهِ سلمَان الْفَارِسِي وَهُوَ أول مشْهد شهده مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَهَرت للنَّبِي فِي حفر الخَنْدَق معجزات.
مِنْهَا أَن كدية أَي صَخْرَة اشتدت عَلَيْهِم فَدَعَا بِمَاء وتفل فِيهِ ونضحه عَلَيْهَا فانهالت تَحت الْمساحِي.
وَمِنْهَا أَن أُخْت النُّعْمَان بن بشر الأنصارى بعثتها أمهَا بِقَلِيل تمر إِلَى أَبِيهَا وخالها عبد اللَّهِ بن رَوَاحه فمرت برَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَعَاهَا وَقَالَ هَاتِي مَا مَعَك با بنية فصبته فِي كفيه فَمَا امتلأتا ثمَّ دَعَا بِثَوْب وبدد ذَلِك التَّمْر عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لإِنْسَان: " اُصْرُخْ فِي أهل الخَنْدَق أَن هلموا إِلَى الْغَدَاء " فَجعلُوا يَأْكُلُون مِنْهُ وَجعل يزِيد حَتَّى صدر أهل الخَنْدَق عَنهُ وَأَنه يسْقط من أَطْرَاف الثَّوْب.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابر قَالَ: كَانَت عِنْدِي شويهة غير سَمِينَة فَأمرت امْرَأَتي أَن تخبز قرص شعير وَأَن تشوي تِلْكَ الشَّاة لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نعمل فِي الخَنْدَق نَهَارا وننصرف إِذا أمسينا فَلَمَّا انصرفنا من الخَنْدَق قلت يَا رَسُول اللَّهِ صنعت لَك شويهة وَمَعَهَا شَيْء من خبز الشّعير وَأَنا أحب أَن تَنْصَرِف إِلَى منزلي فَأمر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من يصْرخ فِي النَّاس مَعَه إِلَى بَيت جَابر وَأَقْبل رَسُول اللَّهِ وَالنَّاس مَعَه فَقدم لَهُ ذَلِك فبرك وسمى اللَّهِ ثمَّ أكل وتواردها النَّاس كلما صدر قوم جَاءَ قوم حَتَّى صدر أهل الخَنْدَق عَنْهَا.
وَقَالَ سلمَان الْفَارِسِي ... ... . كنت قَرِيبا من رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا أعمل فِي الخَنْدَق فتغلظ عَليّ الْموضع الَّذِي كنت أعمل فِيهِ فَلَمَّا رأى رَسُول اللَّهِ شدَّة الْمَكَان أَخذ الْمعول وَضرب بِهِ ضَرْبَة لمعت تَحت الْمعول برقة ثمَّ ضرب أُخْرَى فلمعت برقة أُخْرَى ثمَّ ضرب أُخْرَى فلمعت برقة أُخْرَى، قَالَ: فَقلت بِأبي أَنْت وَأمي مَا هَذَا الَّذِي يلمع تَحت الْمعول؟ فَقَالَ:(1/115)
" أَرَأَيْت ذَلِك يَا سلمَان " فَقلت نعم فَقَالَ: " أما الأولى فَإِن اللَّهِ فتح عَليّ بهَا الْيمن وَأما الثَّانِيَة فَإِن اللَّهِ فتح بهَا عَليّ الشَّام وَالْمغْرب وَأما الثَّالِثَة فَإِن اللَّهِ فتح بهَا عَليّ الْمشرق ".
وَفرغ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الخَنْدَق وَأَقْبَلت قُرَيْش فِي أحابيشها وَمن تبعها من كنَانَة فِي عشرَة آلَاف وَأَقْبَلت غطفان وَمن تبعها من أهل نجد وَكَانَ بَنو قُرَيْظَة وَكَبِيرهمْ كَعْب بن أَسد قد عاهدوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا زَالَ عَلَيْهِم أَصْحَابهم من الْيَهُود حَتَّى نقضوا الْعَهْد وصاروا مَعَ الْأَحْزَاب فَعظم الْخطب حَتَّى ظن الْمُؤْمِنُونَ كل الظَّن وَنجم النِّفَاق حَتَّى قَالَ معتب بن قُشَيْر: كَانَ مُحَمَّد يعدنا أَن نَأْكُل كنوز كسْرَى وَقَيْصَر وأحدنا الْيَوْم لَا يَأْمَن على نَفسه أَن يذهب إِلَى الْغَائِط، وَأقَام الْمُشْركُونَ بضعا وَعشْرين لَيْلَة وَرَسُول اللَّهِ مقابلهم وَلَيْسَ بَينهم قتال غير المراماة بِالنَّبلِ.
ثمَّ خرج عَمْرو بن ود من ولد لؤَي بن غَالب يُرِيد المبارزة فبرز إِلَيْهِ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَقَالَ عَمْرو: يَا ابْن أخي وَالله مَا أحب أَن أَقْتلك فَقَالَ عَليّ: لكني وَالله أحب أَن أَقْتلك، فحمى عَمْرو وَنزل عَن فرسه فعقره وَأَقْبل إِلَى عَليّ فتقاتلا وتجاولا وعلاهما غبرة وَسمع الْمُسلمُونَ التَّكْبِير فَعَلمُوا أَن عليا قَتله وانكشفت الغبرة وَإِذا عَليّ على صَدره يذبحه.
ثمَّ أهب اللَّهِ ريح الصِّبَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} وَكَانَ ذَلِك فِي أَيَّام شَاتِيَة فكفأت قدورهم وطرحت آنيتهم وَوَقع بَينهم الِاخْتِلَاف فرحلت قُرَيْش مَعَ ابي سُفْيَان ورحلت غطفان.
(غَزْوَة بني قُرَيْظَة)
وَأصْبح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَانْصَرف عَن الخَنْدَق رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة وَوضع الْمُسلمُونَ السِّلَاح فَأَتَاهُ جِبْرِيل الظّهْر يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بني قُرَيْظَة فَأمر مناديا يُنَادي من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يُصَلِّي الْعَصْر إِلَّا ببني قُرَيْظَة، وَقدم عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ برايته إِلَى بني قُرَيْظَة ثمَّ نزل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على بِئْر من أبارهم وتلاحق النَّاس وأتى قوم بعد الْعشَاء الْآخِرَة وَلم يصلوا الْعَصْر لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يصل أحد الْعَصْر إِلَّا ببني قُرَيْظَة فَلم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك وحاصر بني قُرَيْظَة خمْسا وَعشْرين لَيْلَة وَقذف اللَّهِ فِي قُلُوبهم الرعب فنزلوا على حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَكَانُوا حلفاء الْأَوْس فَسَأَلته الْأَوْس فيهم كَمَا أطلق بني قينقاع حلفاء الْخَزْرَج بسؤال عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول فَقَالَ: " أَلا ترْضونَ أَن يحكم فيهم سعد بن معَاذ وَهُوَ سيد الْأَوْس " قَالُوا بلَى ظنا مِنْهُم أَنه يحكم بإطلاقهم، فَأمر بإحضار سعد وَكَانَ بِهِ جرح فِي أكحله من الخَنْدَق فَحملت الْأَوْس سَعْدا على حمَار وطؤا لَهُ عَلَيْهِ بوسادة وَكَانَ جسيما.
ثمَّ أَقبلُوا بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم يَقُولُونَ لسعد يَا أَبَا عَمْرو أحسن إِلَى مواليك فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قومُوا إِلَى سيدكم " والمهاجرون يَقُولُونَ إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَنْصَار وَالْأَنْصَار يَقُولُونَ قد عَم بهَا الْمُسلمين فَقَامُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا إِن رَسُول اللَّهِ قد حكمك فِي مواليك فَقَالَ(1/116)
سعد أحكم فيهم أَن تقتل الرِّجَال وتقسم الْأَمْوَال وتسبى الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لقد حكمت فيهم بِحكم اللَّهِ من فَوق سَبْعَة أَرقعَة " ثمَّ رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة وَحبس بني قُرَيْظَة فِي بعض دور الْأَنْصَار وَأمر فحفر لَهُم خنادق ثمَّ بعث بهم فَضربت أَعْنَاقهم فِيهَا وَكَانُوا نَحْو سَبْعمِائة رجل ثمَّ قسم سَبَايَا بني قُرَيْظَة فَأخْرج الْخمس وَاصْطفى لنَفسِهِ رَيْحَانَة بنت عَمْرو فَكَانَت فِي ملكه حَتَّى مَاتَ ثمَّ انفجر جرح سعد بن معَاذ فَمَاتَ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وَاسْتشْهدَ فِي حَرْب الخَنْدَق سِتَّة مِنْهُم سعد، وَكَانَ سعد قد سَأَلَ اللَّهِ لما جرح على الخَنْدَق أَن لَا يميته حَتَّى يَغْزُو بني قُرَيْظَة لغدرهم بالعهد فاستجيب لَهُ، وغزوة بني قُرَيْظَة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا.
قلت: " وَفِي سنة خمس صلى صَلَاة الْخَوْف وَالله اعْلَم، وَأقَام بِالْمَدِينَةِ حَتَّى خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ: فِيهَا فِي جمادي الأولى خرج إِلَى بني لحيان طلبا بثأر أهل الرجيع فَتَحَصَّنُوا برؤوس الْجبَال فَنزل عسفان تخويفا لأهل مَكَّة ثمَّ عَاد.
(غَزْوَة ذِي قرد)
ثمَّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا فَأَغَارَ عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ على لقاح رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِي بِالْغَابَةِ فَخرج النَّبِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حَتَّى وصل إِلَى ذِي قرد لأَرْبَع خلون من ربيع الأول فاستنقذ بَعْضهَا وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَت غيبته خمس لَيَال. وَذُو قرد - مَوضِع على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة على طَرِيق خَيْبَر.
(غَزْوَة بني المصطلق)
كَانَت فِي شعْبَان من هَذِه السّنة وَقيل سنة خمس قلت: وَفِي سنة سِتّ كسفت الشَّمْس وَنزل الظِّهَار وَالله أعلم.
كَانَ قَائِد بني المصطلق الْحَارِث بن أبي ضرار ولقيهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَاء لَهُم يُقَال لَهُ الْمُريْسِيع واقتتلوا فَهزمَ اللَّهِ بني المصطلق فَقتل وسبى وغنم وَوَقعت جوَيْرِية بنت قائدهم الْحَارِث فِي سهم ثَابت بن قيس فكاتبته على نَفسهَا فَأدى عَنْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتَابَتهَا وَتَزَوجهَا فَقَالَ النَّاس أَصْهَار رَسُول اللَّهِ فَأعتق بتزويجه إِيَّاهَا مائَة من أهل بَيت بني المصطلق فَكَانَت عَظِيمَة الْبركَة على قَومهَا، وَفِي هَذِه الْغُزَاة قتل رجل من الْأَنْصَار رجلا من الْمُسلمين خطأ يَظُنّهُ كَافِرًا والقتيل هِشَام من بني لَيْث بن بكر.
وَكَانَ أَخُوهُ مقيس مُشْركًا فَقدم الْمَدِينَة وَأظْهر الْإِسْلَام طَالبا دِيَة أَخِيه فَأمر لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهَا وَأقَام قَلِيلا ثمَّ عدا على قَاتل أَخِيه فَقتله ثمَّ خرج إِلَى مَكَّة مُرْتَدا وَمن قَوْله لَعنه اللَّهِ:
(حللت بِهِ وتري وَأدْركت ثورتي ... وَكنت إِلَى الْأَوْثَان أول رَاجع)(1/117)
وَهُوَ مِمَّن أهْدر النَّبِي دَمه يَوْم فتح مَكَّة وَفِي هَذِه الْغَزْوَة ازْدحم جَهْجَاه الْغِفَارِيّ أجِير عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَسنَان الْجُهَنِيّ حَلِيف الْأَنْصَار على المَاء وتقاتلا فَصَرَخَ الْغِفَارِيّ يَا معشر الْمُهَاجِرين وصرخ الْجُهَنِيّ يَا معشر الْأَنْصَار فَغَضب عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق وَعِنْده رَهْط من قومه فِيهِ زيد بن أَرقم فَقَالَ أبي بن سلول أَو قد فَعَلُوهَا قد كاثرونا فِي بِلَادنَا أما وَالله لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. ثمَّ قَالَ لمن حضر من قومه هَذَا مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُم بِلَادكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ على أَمْوَالكُم لَو أَمْسَكْتُم عَنْهُم مَا بِأَيْدِيكُمْ لتحولوا عَنْكُم فَأخْبر زيد بن أَرقم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك وَعِنْده عمر بن الْخطاب فَقَالَ يَا رَسُول اللَّهِ مر بِهِ عبد اللَّهِ بن بشير فليقتله فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَيفَ يتحدث النَّاس إِذن إِن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه ".
ثمَّ أَمر بالرحيل فِي وَقت لم يكن ليرحل فِيهِ ليقطع مَا النَّاس فِيهِ فَلَقِيَهُ أسيد بن حضير وَقَالَ ": يَا رَسُول اللَّهِ رحت فِي سَاعَة لم تكن لتروح فِيهَا فَقَالَ: " أَو مَا بلغك مَا قَالَ عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول " فَقَالَ: وماذا قَالَ، فَأخْبرهُ بمقاله فَقَالَ أسيد: أَنْت وَالله تخرجه إِن شِئْت أَنْت الْعَزِيز وَهُوَ الذَّلِيل وَبلغ ابْن عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول، واسْمه أَيْضا عبد اللَّهِ، وَكَانَ حسن الْإِسْلَام مقَالَة أَبِيه فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ قتل أبي فَإِن كنت فَاعِلا فمرني فَأَنا أحمل إِلَيْك رَأسه فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بل نرفق بِهِ ونحسن صحبته ".
وَلما رَجَعَ النَّبِي من هَذِه الْغَزْوَة وَكَانَ بِبَعْض الطَّرِيق قَالَ " أهل الْإِفْك مَا قَالُوا " وهم مسطح بن أَثَاثَة بن عباد بن عبد الْمطلب وَهُوَ ابْن خَالَة أبي بكر وَحسان بن ثَابت، وَعبد اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق وَأم حَسَنَة بنت جحش فرموا عَائِشَة بالإفك مَعَ صَفْوَان بن الْمُعَطل صَاحب النَّاقة فَلَمَّا أنزل اللَّهِ براءتها جلدهمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ إِلَّا عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول فَلم يجلده، وَفِي هَذِه الْغُزَاة - أَعنِي غزَاة بني المصطلق - نزل التَّيَمُّم.
قلت: قَالَ فِي الرَّوْضَة: إِن التَّيَمُّم نزل فِي سنة أَربع كَمَا قدمت، وَالله أعلم.
(عمْرَة الْحُدَيْبِيَة)
ثمَّ خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا مُعْتَمِرًا لَا يُرِيد حَربًا بالمهاجرين وَالْأَنْصَار فِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وسَاق الْهَدْي وَأحرم بِالْعُمْرَةِ وَسَار حَتَّى وصل ثنية المرار مهبط الْحُدَيْبِيَة أَسْفَل مَكَّة وَأمر بالنزول فَقَالُوا ننزل على غير مَاء فَأعْطى رجلا سَهْما من كِنَانَته وغرزه فِي جَوف القليب فَجَاشَ حَتَّى صدر النَّاس عَنهُ فَبعثت قُرَيْش عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ سيد أهل الطَّائِف إِلَيْهِ وَقَالَ: إِن قُريْشًا لبسوا جُلُود النمور وعاهدوا اللَّهِ أَن لَا تدخل عَلَيْهِم مَكَّة عنْوَة أبدا
ثمَّ جعل عُرْوَة يتَنَاوَل لحية رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يكلمهُ، والمغيرة بن شُعْبَة وَاقِف على رَأس رَسُول اللَّهِ فَجعل يقرع يَده وَيَقُول: كف يدك عَن وَجه رَسُول اللَّهِ قبل أَن لَا ترجع إِلَيْك، فَقَالَ عُرْوَة مَا افظك وأغلظك فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَامَ عُرْوَة من عِنْده وَهُوَ يرى مَا يصنع(1/118)
أَصْحَابه لَا يتَوَضَّأ إِلَّا ابتدروا وضوءه وَلَا يبصق إِلَّا ابتدروا بصاقه وَلَا سقط من شعره شَيْء إِلَّا أَخَذُوهُ.
فَرجع إِلَى قُرَيْش وَقَالَ لَهُم: إِنِّي جِئْت كسْرَى وَقَيْصَر فِي ملكهمَا فوَاللَّه مَا رَأَيْت ملكا فِي قومه مثل مُحَمَّد فِي أَصْحَابه ثمَّ دَعَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر بن لخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ ليَبْعَثهُ إِلَى قُرَيْش يعلمهُمْ إِنَّه لم يَأْتِ لِحَرْب وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا ومعظما لهَذَا الْبَيْت فخافهم عمر لغلظته عَلَيْهِم وعداوته لَهُم فَبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى أبي سُفْيَان وأشراف قُرَيْش فعرفهم ذَلِك فَقَالُوا: إِن أحبببت أَن تَطوف بِالْبَيْتِ فَطُفْ، فَقَالَ: مَا كنت لأفعله حَتَّى يطوف رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحبسوه وَبلغ رَسُول اللَّهِ أَن عُثْمَان قتل فَقَالَ: " لَا نَبْرَح حَتَّى نُنَاجِز الْقَوْم ".
" ودعا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَيْعه الرضْوَان " تَحت الشَّجَرَة فَكَانَ يُقَال بايعهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْمَوْت وَكَانَ جَابر يَقُول: لم يُبَايِعنَا إِلَّا على أننا لَا نفر وَلَا يتَخَلَّف أحد من الْمُسلمين إِلَّا الْجد بن قيس استتر بناقته وَبَايع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعُثْمَان فِي غيبته فَضرب بِإِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى
ثمَّ أَن قُريْشًا بعثوا سُهَيْل بن عَمْرو فِي الصُّلْح فَأجَاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله أَلَسْت برَسُول اللَّهِ ولسنا بِالْمُسْلِمين قَالَ: بلَى، قَالَ: فعلام نعطي الدنية فِي ديننَا، فَقَالَ: " أَنا عبد اللَّهِ وَرَسُوله وَلنْ أُخَالِف أمره وَلنْ يضيعني " ثمَّ دَعَا عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَقَالَ: " أكتب بِسم اللله الرَّحْمَن الرَّحِيم: فَقَالَ: سُهَيْل لَا أعرف هَذَا وَلَكِن اكْتُبْ بِاسْمِك اللَّهُمَّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اكْتُبْ بِاسْمِك اللَّهُمَّ، ثمَّ قَالَ: " اكْتُبْ هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ " فَقَالَ سُهَيْل: لَو شهِدت إِنَّك رَسُول اللَّهِ لم أقاتلك وَلَكِن اكْتُبْ بِاسْمِك وَاسم أَبِيك، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اكْتُبْ هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ سُهَيْل بن عَمْرو على وضع الْحَرْب عَن النَّاس عشر سِنِين وَأَنه من احب أَن يدْخل فِي عقد مُحَمَّد وَعَهده دخل فِيهِ وَمن احب أَن يدْخل فِي عقد قُرَيْش وَعَهْدهمْ دخل فِيهِ " وَأشْهد على الْكتاب رجَالًا من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين وَكَانَ الصَّحَابَة خَرجُوا من الْمَدِينَة لَا يَشكونَ فِي فتح مَكَّة لرؤيا رَآهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فداخل النَّاس من الصُّلْح أَمر عَظِيم حَتَّى كَادُوا يهْلكُونَ.
وَلما فرغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذَلِك نحر هَدِيَّة وَحلق رَأسه فنحروا وحلقوا ويومئذ قَالَ: " يرحم اللَّهِ المحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول اللَّهِ قَالَ يرحم اللَّهِ المحلقين حَتَّى اعادوا وَأعَاد ذَلِك ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: والمقصرين " ثمَّ قفل إِلَى الْمَدِينَة وَأقَام حَتَّى خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة سبع قلت: فِيهَا تزوج أم حَبِيبَة ومَيْمُونَة وَصفِيَّة وجاءته مَارِيَة وَبغلته دُلْدُل وَقدم جَعْفَر وَأَصْحَابه من الْحَبَشَة وَأسلم أَبُو هُرَيْرَة، وَالله أعلم.
(غَزْوَة خَيْبَر)
خرج فِي منتصف الْمحرم مِنْهَا إِلَى خَيْبَر وحصرهم وَفتحهَا حصنا حصنا حصن ناعم ثمَّ حصن القموص وَأصَاب مِنْهَا سَبَايَا مِنْهُنَّ صَفِيَّة بنت كَبِيرهمْ حييّ بن أَخطب فَتَزَوجهَا(1/119)
وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا وَهُوَ من خواصه ثمَّ حصن المصعب أَكْثَرهَا طَعَاما وودكا ثمَّ الوطيح والسلالم آخر حصون خَيْبَر افتتاحا وَرُبمَا كَانَت تاخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشَّقِيقَة فيلبث الْيَوْم واليومين لَا يخرج فَلَمَّا نزل خَيْبَر أَخَذته فَأخذ أَبُو بكر الرَّايَة فقاتل قتالا شَدِيدا.
ثمَّ عمر فقاتل شَدِيدا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما وَالله لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ اللَّهِ وَرَسُوله كرارا غير فرار يَأْخُذهَا عنْوَة "، فتطاول الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار إِلَيْهَا وَكَانَ عَليّ أرمد فتفل فِي عَيْنَيْهِ فَزَالَ وجعهما ثمَّ أعطَاهُ الرَّايَة وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء وَخرج مرحب صَاحب الْحصن وَهُوَ يَقُول:
(قد علمت خَيْبَر أَنِّي مرحب ... شاكي السِّلَاح بَطل مجرب)
فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ:
(أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدره ... أكيلهم بِالسَّيْفِ كيل السندرة)
فاختلفا بضربتين فقدت ضَرْبَة عَليّ المغفر وَرَأس مرحب وَسقط وَفتحت على يَد عَليّ بعد حِصَار بضع عشرَة لَيْلَة، وَحكى أَبُو رَافع مولى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَهُودِيّا ضرب عليا فَطرح ترسه من يَده فَتَنَاول بَابا فتترس بِهِ وَقَاتل حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ ثمَّ أَلْقَاهُ، فَلَقَد رَأَيْتنِي فِي سَبْعَة نفر ثامنهم نجهد على أَن نقلب ذَلِك الْبَاب فَمَا نقلبه، وَفتحت فِي صفر وساقاهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على النّصْف من ثمارهم ويخرجهم مَتى شَاءَ وَكَذَلِكَ ساقى أهل فدك فَكَانَت خَيْبَر للْمُسلمين وفدك خَالِصَة لَهُ لِأَنَّهَا فتحت بِغَيْر إيجَاف وَلم يزل يهود خَيْبَر كَذَلِك إِلَى ان أجلاهم عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وَانْصَرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من خَيْبَر إِلَى وَادي الْقرى فحاصره وافتتحه عنْوَة وَلما وصل الْمَدِينَة قَالَ: " مَا أردي بِأَيِّهِمَا أسر بِفَتْح خَيْبَر أم بقدوم جَعْفَر ".
" وخلاصة تزَوجه بِأم حَبِيبَة " أَنَّهَا كَانَت قد هَاجَرت مَعَ زَوجهَا عبيد اللَّهِ بن جحش فَتَنَصَّرَ عبيد اللَّهِ فَكتب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى النَّجَاشِيّ يطْلب الْمُهَاجِرين ويخطبها فَزَوجهَا مِنْهُ ابْن عَمها خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بِالْحَبَشَةِ وَأصْدقهَا النَّجَاشِيّ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعمِائَة دِينَار وَبلغ أَبَاهَا أَبَا سُفْيَان فَقَالَ ذَلِك الْفَحْل الَّذِي لَا يقرع أَنفه، وكلم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُسلمين أَن يدخلُوا الَّذين حَضَرُوا من الْحَبَشَة فِي سِهَامهمْ من مغنم خَيْبَر فَفَعَلُوا، وَفِي خَيْبَر سمته الْيَهُودِيَّة فِي الشَّاة فلاك مِنْهَا قِطْعَة فَأَخْبَرته الشَّاة أَنَّهَا مَسْمُومَة فلفظها، وَقَالَ فِي مرض مَوته: " إِن أكله خَيْبَر لم تزل تعاودني وَهَذَا زمَان انْقِطَاع أَبْهَري ".
" وفيهَا بعث رسله إِلَى الْمُلُوك " يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام فَأرْسل إِلَى " كسْرَى برويز " عبد اللَّهِ بن حذافة فمزق كِتَابه فَقَالَ مزف اللَّهِ ملكه ثمَّ بِعْت كسْرَى إِلَى باذان عَامله بِالْيمن أَن ابْعَثْ إِلَيّ هَذَا الرجل الَّذِي فِي الْحجاز فَبعث باذان إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَيْنِ اسْم أَحدهمَا(1/120)
خرخرة وَكتب مَعَهُمَا يَأْمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَسِيرِ إِلَى كسْرَى فدخلا عَلَيْهِ وَقد حلقا لحاهما فكره النَّبِي النّظر إِلَيْهِمَا وَقَالَ: " ويلكما من أمركما بِهَذَا "؟ قَالَا رَبنَا - يعنيان كسْرَى - فَقَالَ: " لَكِن رَبِّي أَمرنِي أَن أعفي عَن لحيتي وأقص شاربي " فأعلماه بِمَا قدما لَهُ وَقَالا: إِن فعلت كتب فِيك باذان إِلَى كسْرَى وَإِن أَبيت فَهُوَ مهلكك.
فَأخر الْجَواب إِلَى الْغَد وأتى الْخَبَر من السَّمَاء إِلَيْهِ أَن اللَّهِ قد سلط على كسْرَى ابْنه شيرويه فَقتله فَأَخْبرهُمَا رَسُول اللَّهِ بذلك وَقَالَ: " إِن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسْرَى فقولا لباذان أسلم " فَرَجَعَا إِلَى باذان وأخبراه بذلك، وَورد كتاب شيرويه إِلَى باذان بقتل أَبِيه كسْرَى وَأَن لَا يتَعَرَّض إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم باذان هُوَ وناس من فَارس.
وَأرْسل دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ إِلَى " قَيْصر " ملك الرّوم فَأكْرمه وَوضع كتاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فَخذه ورد دحْيَة ردا جميلا، وَأرْسل حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى ملك مصر " الْمُقَوْقس " جريج بن مَتى فَأكْرمه وَأهْدى للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَربع جوَار وَقيل اثْنَتَيْنِ الْوَاحِدَة مَارِيَة أم ابْنه إِبْرَاهِيم وَأهْدى أَيْضا لَهُ البغلة دلدلا وَحِمَاره يعفورا.
وَكَانَ قد أرسل إِلَى " النَّجَاشِيّ " عَمْرو بن أُميَّة فَقبل كِتَابه وَأسلم على يَد جَعْفَر بن أبي طَالب فِي الْهِجْرَة إِلَيْهِ وَأرْسل شُجَاع بن وهب الْأَسدي إِلَى " الْحَارِث " بن أبي شمر الغساني فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابه قَالَ هَا أَنا سَائِر إِلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " باد ملكه ".
وَأرْسل سليط بن عَمْرو إِلَى " هَوْذَة " بن عَليّ ملك الْيَمَامَة النَّصْرَانِي فَقَالَ إِن جعل الْأَمر لي من بعده سرت إِلَيْهِ وَأسْلمت ونصرته وَإِلَّا قصدت حربه فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وَلَا كَرَامَة اللَّهُمَّ اكفنيه " فَمَاتَ بعد ذَلِك.
وَكَانَ قد أرسل هَوْذَة الرّحال بِالْحَاء وَقيل بِالْجِيم إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم وَقَرَأَ الْبَقَرَة وَرجع إِلَى الْيَمَامَة وارتد وَشهد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشرك مَعَه مُسَيْلمَة الْكذَّاب فِي النُّبُوَّة، وَأرْسل الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ إِلَى " الْمُنْذر " بن ساوة ملك الْبَحْرين من قبل الْفرس فَأسلم وَجَمِيع الْعَرَب بِالْبَحْرَيْنِ.
وفيهَا فِي ذِي الْقعدَة خرج مُعْتَمِرًا " عمْرَة الْقَضَاء " وسَاق مَعَه سبعين بَدَنَة وَلما قرب خرجت لَهُ قُرَيْش عَنْهَا وتحدثوا أَن مُحَمَّدًا فِي عسر وَجهد فاصطفوا لَهُ عِنْد دَار الندوة فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد اضطبع بِأَن جعل وسط رِدَائه تَحت عضده الْأَيْمن وطرفيه على عَاتِقه الْأَيْسَر ثمَّ قَالَ: " رحم اللَّهِ امْرأ أَرَاهُم الْيَوْم قُوَّة " وَرمل فِي أَرْبَعَة أَشْوَاط من الطّواف ثمَّ سعى بَين الصَّفَا والمروة وَتزَوج فِي سَفَره هَذَا مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوجه بهَا الْعَبَّاس فِي الْإِحْرَام، وَهُوَ من خواصه، ثمَّ عَاد إِلَى الْمَدِينَة.(1/121)
" ثمَّ دخلت سنة ثَمَان ": فِيهَا قدم خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَعُثْمَان بن طَلْحَة بن عبد الدَّار فأسلموا. وفيهَا فِي جمادي الأولى.
(غَزْوَة مؤته)
أول الْغَزَوَات فِي الرّوم، بعث ثَلَاثَة آلَاف وَأمر عَلَيْهِم زيد بن حَارِثَة مَوْلَاهُ، وَقَالَ " إِن أُصِيب فجعفر بن أبي طَالب وَإِن أُصِيب فعبد اللَّهِ بن رَوَاحَة "، فَقَالَ أَبُو بكر: حَسبك يَا رَسُول اللَّهِ فَإِنِّي أَتَخَوَّف أَن لاتعد أحدا إِلَّا قتل.
قلت: وَجلسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْمِنْبَر وكشف لَهُ معتركهم فَقَالَ: " أَخذ الرَّايَة زيد بن حَارِثَة حَتَّى اسْتشْهد " فصلى عَلَيْهِ وَقَالَ " اسْتَغْفرُوا لَهُ " ثمَّ قَالَ: " أَخذ الرَّايَة جَعْفَر حَتَّى اسْتشْهد " فصلى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: " اسْتَغْفرُوا لأخيكم جَعْفَر " ثمَّ قَالَ: " أَخذ الرَّايَة عبد اللَّهِ بن رَوَاحَة فاستشهد ثمَّ دخل الْجنَّة " فَأخْبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه بِقَتْلِهِم فِي السَّاعَة الَّتِي قتلوا فِيهَا، وَالله أعلم.
وَلما قتل هَؤُلَاءِ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم اتّفق الْمُسلمُونَ على خَالِد فَأخذ الرَّايَة وَكَانَت الرّوم وَالْعرب المتنصرة فِي نَحْو مائَة ألف وَرجع خَالِد بِالنَّاسِ إِلَى الْمَدِينَة، ومؤتة دون دمشق بِأَدْنَى البلقاء، وَسبب هَذِه الْغُزَاة أَنه أرسل الْحَارِث بن عُمَيْر إِلَى ملك بصرى بكتابه فَعرض لَهُ بمؤتة عَمْرو بن شُرَحْبِيل الغساني فَقتله وَلم يقتل لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَسُول غَيره، وفيهَا.
(نقض الصُّلْح وَفتح مَكَّة)
وَذَلِكَ أَن بني بكر كَانُوا فِي عقد قُرَيْش وخزاعة فِي عقد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلقي فِي هَذِه السّنة بَنو بكر خُزَاعَة فَقتلُوا مِنْهُم بإعانة بعض قُرَيْش فَانْتقضَ عَهدهم وندمت قُرَيْش فَقدم أَبُو سُفْيَان ليجدد الْعَهْد وَدخل على أم حَبِيبَة فطوت عَنهُ فرَاش النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا بنية أرغبت بِهِ عني أم رغبت بن عَنهُ، فَقَالَت: هُوَ فرَاش رَسُول اللَّهِ وَأَنت مُشْرك نجس، فَقَالَ لقد أَصَابَك بعدِي شَرّ، ثمَّ أَتَاهُ فَكَلمهُ فَلم يرد شَيْئا وأتى كبار الصَّحَابَة مثل أبي بكر وَعلي فَمَا أجاباه فَعَاد وَأخْبر قُريْشًا، وتجهز رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقصد أَن يبغت قُريْشًا بِمَكَّة من قبل أَن يعلمُوا بِهِ فَكتب حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَيْهِم مَعَ سارة مولاة بني هَاشم يعلمهُمْ بذلك فَأطلع اللَّهِ رَسُوله على ذَلِك، وَأرْسل عليا وَالزُّبَيْر وأخذا مِنْهَا الْكتاب فَقَالَ لحاطب: " مَا حملك على هَذَا " فَقَالَ: وَالله إِنِّي مُؤمن مَا بدلت وَلَا غيرت وَلَكِن لي بَين أظهرهم أهل وَولد وَلَيْسَ لي عشيرة فصانعتهم فَقَالَ عمر دَعْنِي أضْرب عُنُقه فَإِنَّهُ مُنَافِق فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَلَّ اللَّهِ قد اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم ".
ثمَّ خرج من الْمَدِينَة لعشر من رَمَضَان وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار وَطَوَائِف من الْعَرَب وَكَانَ جَيْشه عشرَة آلَاف حَتَّى قَارب مَكَّة فَركب الْعَبَّاس بغلة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَلَّه يجد رجلا يعلم قُريْشًا ليأتوا رَسُول اللَّهِ ويستأمنوه وَإِلَّا هَلَكُوا قَالَ فَسمِعت صَوت أبي سُفْيَان بن حَرْب(1/122)
وَحَكِيم بن حزَام وَبُدَيْل بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ خَرجُوا متجسسين فَقلت أَبَا حَنْظَلَة يَعْنِي أَبَا سُفْيَان فَقَالَ أَبَا الْفضل قلت: نعم قَالَ لبيْك فدَاك أبي وَأمي مَا وَرَاءَك قلت قد أَتَاكُم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عشرَة آلَاف فَقَالَ مَا تَأْمُرنِي بِهِ قلت تركب لأستأمن لَك رَسُول اللَّهِ وَإِلَّا تضرب عُنُقك.
فردفني وَجئْت بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ وَجَاءَت طريقي على عمر بن الْخطاب فَقَالَ عمر: أَبَا سُفْيَان الْحَمد لله الَّذِي أمكن مِنْك بِغَيْر عقد وَلَا عهد، ثمَّ اشْتَدَّ نَحْو رَسُول اللَّهِ، وأدركته فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ دَعْنِي أضْرب عُنُقه، وَسَأَلَهُ الْعَبَّاس فِيهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قد أمناه، وأحضره يَا عَبَّاس بِالْغَدَاةِ " فَرجع بِهِ الْعَبَّاس إِلَى منزله وجاءه بِهِ بِالْغَدَاةِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أَبَا سُفْيَان أما آن أَن تعلم أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ " قَالَ بلَى، قَالَ: " وَيحك ألم يَأن لَك أَن تعلم أَنِّي رَسُول اللَّهِ " فَقَالَ: بِأبي وَأمي أما هَذِه فَفِي النَّفس مِنْهَا شَيْء، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: وَيحك تشهد قبل أَن يضْرب عُنُقك؛ فَتشهد وَأسلم مَعَه حَكِيم بن حزَام وَبُدَيْل بن وَرْقَاء ثمَّ أَمر الْعَبَّاس أَن يذهب بِأبي سُفْيَان إِلَى مضيق الْوَادي ليشاهد جنود اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّه يحب الْفَخر فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئا يكون فِي قومه.
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وَمن دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن وَمن أغلق عَلَيْهِ بَابه فَهُوَ آمن وَمن دخل دَار حَكِيم بن حزَام فَهُوَ آمن " قَالَ الْعَبَّاس: فَخرجت بِهِ كَمَا أَمرنِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كتيبته الخضراء من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، فَقَالَ لقد أصبح ملك ابْن أَخِيك عَظِيما، فَقلت وَيحك إِنَّهَا النُّبُوَّة، فَقَالَ نعم، ثمَّ امْر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يدْخل الزبير بِبَعْض النَّاس من كداء، وَسعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج بِبَعْض النَّاس من ثنية كداء، وَأمر عليا أَن يَأْخُذ الرَّايَة مِنْهُ فَيدْخل بهَا لما بلغه من قَول سعد: الْيَوْم يَوْم الملحمة الْيَوْم تستحل الْحُرْمَة، وَأمر خَالِدا أَن يدْخل من أَسْفَل مَكَّة فِي بعض النَّاس، وَكلهمْ لم يقاتلوا نَهَاهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْقِتَال إِلَّا أَن خَالِدا لقِيه جمَاعَة من قُرَيْش فَرَمَوْهُ بِالنَّبلِ ومنعوه الدُّخُول فَقَاتلهُمْ وَقتل ثَمَانِيَة وَعشْرين مُشْركًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الم أنهه عَن الْقِتَال " فَقَالُوا إِن خَالِدا قوتل فقاتل، وَقتل اثْنَان من الْمُسلمين وَفتحت مَكَّة يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من رَمَضَان عنْوَة بِالسَّيْفِ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة فتحت صلحا.
وَلما أمكنه اللَّهِ من رِقَاب قُرَيْش قَالَ: " مَا تروني فَاعِلا بكم "؟ قَالُوا لَهُ خيرا أَخ كريم وَابْن أَخ كريم قَالَ: " فاذهبوا فَأنْتم الطُّلَقَاء " وَلما اطْمَأَن النَّاس خرج إِلَى الطّواف فَطَافَ سبعا على رَاحِلَته واستلم الرُّكْن بمحجن كَانَ فِي يَده وَدخل الْكَعْبَة وَرَأى فِيهَا الشخوص على صور الْمَلَائِكَة وَصُورَة إِبْرَاهِيم وَفِي يَده الأزلام يستقسم بهَا فَقَالَ: " قَاتلهم اللَّهِ جعلُوا شَيخنَا يستقسم بالأزلام مَا شَأْن إِبْرَاهِيم والأزلام ".
ثمَّ أَمر بِتِلْكَ الصُّور فطمست وَصلى فِي الْبَيْت.
قلت: وَكَانَ حول الْبَيْت ثلثمِائة وَسِتُّونَ صنما قد أوثقت إِلَى جِدَاره بالرصاص فَجعل(1/123)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلما مر بصنم مِنْهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقضيب فِي يَده وَيَقُول: " جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل أَن الْبَاطِل كَانَ زهوقا " فَيَقَع الصَّنَم لوجهه من غير أَن يمسهُ شَيْء، وَفِي ذَلِك يَقُول فضَالة اللَّيْثِيّ:
(لَو مَا رَأَيْت مُحَمَّدًا وَجُنُوده ... بِالْفَتْح يَوْم تكسر الْأَصْنَام)
(لرأيت نور اللَّهِ أصبح بَيْننَا ... والشرك يغشى وَجهه الإظلام)
وَالله أعلم.
وأهدر دم سِتَّة رجال وَأَرْبع نسْوَة أحدهم " عِكْرِمَة " بن أبي جهل ثمَّ استأمنت لَهُ زَوجته أم حَكِيم فَأَمنهُ وَأسلم، الثَّانِي هَبَّار بن الْأسود، وَالثَّالِث " عبد اللَّهِ " بن سعد بن أبي سرح أَخُو عُثْمَان بن عَفَّان من الرضَاعَة فَأَتَاهُ بن عُثْمَان وَسَأَلَهُ فِيهِ فَصمت طَويلا ثمَّ أَمنه فَأسلم.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا صمت ليقوم أحدكُم فيقتله " فَقَالُوا هلا أَوْمَأت إِلَيْنَا فَقَالَ " إِن الْأَنْبِيَاء لَا تكون لَهُم خَائِنَة الْأَعْين " وَكَانَ هَذَا قد أسلم قبل الْفَتْح وَكتب الْوَحْي فَكَانَ يُبدل الْقُرْآن ثمَّ أرتد وعاش إِلَى خلَافَة عُثْمَان وولاه مصر، الرَّابِع " ابْن صبَابَة " لقَتله الْأنْصَارِيّ الَّذِي قتل أَخَاهُ خطأ وارتد، الْخَامِس " عبد اللَّهِ " بن هِلَال كَانَ قد أسلم ثمَّ قتل مُسلما وارتد، السَّادِس " الْحُوَيْرِث " بن نفَيْل كَانَ يُؤْذِي رَسُول اللَّهِ ويهجوه فَقتله عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
" وَأما النِّسَاء " فإحداهن " " هِنْد " زوج أبي سُفْيَان تنكرت مَعَ نسَاء قُرَيْش وبايعته فَلَمَّا عرفهَا قَالَت: أَنا هِنْد فَاعْفُ عَمَّا سلف فَعَفَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأذن بِلَال الظّهْر على الْكَعْبَة فَقَالَت جوَيْرِية بنت أبي جهل لقد أكْرم اللَّهِ أبي حِين لم يشْهد نهيق بِلَال على ظهر الْكَعْبَة، وَقَالَ الْحَارِث بن هِشَام لَيْتَني مت قبل هَذَا، وَقَالَ خَالِد بن أسيد لقد أكْرم اللَّهِ أبي فَلم ير هَذَا الْيَوْم، فَخرج عَلَيْهِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ ذكر لَهُم مَا قَالُوهُ، فَقَالَ الْحَارِث: أشهد أَنَّك رَسُول اللَّهِ وَمَا اطلع على هَذَا أحد فَنَقُول أخْبرك.
وَمن المهدرات " سارة " حاملة كتاب حَاطِب.
(غَزْوَة خَالِد بني جذيمة)
وَبعد فتح مَكَّة بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّرَايَا حولهَا إِلَى النَّاس يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام وَلم يَأْمُرهُم بِقِتَال، وَكَانَت بَنو خُزَيْمَة قد قتلوا فِي الْجَاهِلِيَّة عوفا أباعبد الرَّحْمَن وَعم خَالِد كَانَا أَقبلَا من الْيمن، وَأخذُوا مَا مَعَهُمَا. وَكَانَ من السَّرَايَا الَّتِي بعثها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تدعوا إِلَى الْإِسْلَام سَرِيَّة مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد فَنزل على مَاء لبني خُزَيْمَة فَأَقْبَلُوا بِالسِّلَاحِ فَقَالَ لَهُم خَالِد: ضَعُوا السِّلَاح فَإِن النَّاس قد أَسْلمُوا، فوضعوه، وَأمر بهم خَالِد فكتفوا ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف فَقتل من قتل مِنْهُم، وَبلغ النَّبِي ذَلِك فَرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء حَتَّى بَان بَيَاض إبطية وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع خَالِد " ثمَّ أَمر عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ أَن يُؤَدِّي لَهُم الدِّمَاء وَالْأَمْوَال فَفعل، وَكَانَ قد فضل مَعَ عَليّ قَلِيل مَال فَدفعهُ إِلَيْهِم تطييبا لقُلُوبِهِمْ فأعجب النَّبِي ذَلِك، وَأنكر(1/124)
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف على خَالِد فعله فَقَالَ خَالِد: ثأرت أَبَاك، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: بل ثأرت عمك الْفَاكِه وَفعلت فعل الْجَاهِلِيَّة فِي الْإِسْلَام.
وَبلغ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خصامهما فَقَالَ: " يَا خَالِد دع عَنْك أَصْحَابِي فوَاللَّه لَو كَانَ لَك أحد ذَهَبا ثمَّ أنفقته فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى مَا أدْركْت غدْوَة أحدهم وَلَا روحته "، وفيهَا فِي شَوَّال غَزْوَة حنين.
(غَزْوَة حنين)
وَاد بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاث لَيَال وَلما فتحت مَكَّة تجمعت هوزان لحربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومقدمهم مَالك بن عَوْف النضري، وانضمت إِلَيْهِم ثَقِيف أهل الطَّائِف وَبَنُو سعد بن بكر الَّذِي رضع فيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَحضر بَنو جشم وَفِيهِمْ دُرَيْد بن الصمَّة وَقد جَاوز الْمِائَة لرأيه وَقَالَ رجزا:
(يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع)
وَبلغ ذَلِك رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخرج من مَكَّة لست من شَوَّال - وَكَانَ يقصر الصَّلَاة بِمَكَّة من يَوْم فتحهَا إِلَى خُرُوجه هَذَا - وَخرج مَعَه اثْنَا عشر ألفا أَلفَانِ من مَكَّة وَعشرَة آلَاف كَانَت مَعَه، وَمَعَهُ صَفْوَان بن أُميَّة لم يسلم بعد بل استمهل بِالْإِسْلَامِ شَهْرَيْن وأعاره مائَة درع وَمَعَهُ أَيْضا جمع من الْمُشْركين وانْتهى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى حنين وَالْمُشْرِكُونَ بأوطاس فَقَالَ دُرَيْد عَن أَوْطَاس: نعم مجَال الْخَيل لَا حزن ضرس وَلَا سهل دهس، وَركب بغلته الدلْدل.
وَقَالَ رجل من الْمُسلمين عَن جَيْشه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لن يغلب هَؤُلَاءِ من قلَّة، وَفِي ذَلِك نزل {وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا} والتقوا فانكشف الْمُسلمُونَ وانحاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَات الْيمن فِي نفر من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَأهل بَيتهمْ وحيئذ ظهر حقد أهل مَكَّة فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: لَا تَنْتَهِي هزيمتهم دون الْبَحْر وَكَانَت الأزلام مَعَه فِي كِنَانَته وصرخ كلدة اسْكُتْ فض اللَّهِ فَاك وَالله لِأَن يربنِي رجل من قُرَيْش أحب إِلَيّ من أَن يربنِي رجل من هوَازن. وَاسْتمرّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَابتا قلت: وَلما انهزم الصَّحَابَة يَوْم حنين قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: للْعَبَّاس " نَاد بهم " فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيفَ يبلغهم صوتي، أَو مَتى يسمعُونَ ندائي، فَقَالَ: " عَلَيْك النداء وعَلى اللَّهِ الْبَلَاغ " فناداهم الْعَبَّاس وَأَقْبلُوا يأمون الصَّوْت كَأَنَّهُمْ إبل حنت إِلَى أَوْلَادهَا، وَالله أعلم.
وتراجعوا واقتتلوا شَدِيدا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبغلته الدلْدل: " الْبَدِيِّ الْبَدِيِّ " فَوضعت بَطنهَا على الأَرْض، وَأخذ حفْنَة من تُرَاب فَرمى بهَا فِي وَجه الْمُشْركين فهزموا واتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ.
وَكَانَ فِي السَّبي الشيماء السعدية أُخْته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الرضَاعَة فأرته عَلامَة عضته فِي ظهرهَا فعرفها وَبسط لَهَا رِدَاءَهُ وزودها وردهَا إِلَى قَومهَا حَسْبَمَا سَأَلت.(1/125)
وَلما انْهَزَمت ثَقِيف من حنين إِلَى الطَّائِف سَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وحاصرهم بِالطَّائِف " نيفا وَعشْرين يَوْمًا حَتَّى بالمنجنيق، وَأمر بِقطع أعتابهم ثمَّ رَحل عَنْهُم وَنزل الْجِعِرَّانَة وَبهَا غَنَائِم هوَازن وَأَتَاهُ بعض هوَازن وسألوه فَرد عَلَيْهِم نصِيبه وَنصِيب بني عبد الْمطلب ورد النَّاس أَبْنَاءَهُم ونساءهم، ثمَّ لحق مَالك بن عَوْف مقدمهم بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم وَاسْتَعْملهُ على قومه وعَلى من أسلم من تِلْكَ الْقَبَائِل، وعدة السَّبي الَّذِي أطلقهُ سِتَّة آلَاف، ثمَّ قسم الْأَمْوَال، وعدة الْإِبِل أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَالْغنم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألفا وَالْفِضَّة أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة وَأعْطى الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم مثل أبي سُفْيَان.
قلت: ثمَّ حسن إِسْلَامه وَالله أعلم، وَمثل سهل بن عَمْرو، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل والْحَارث بن هِشَام، صَفْوَان بن أُميَّة، وَهَؤُلَاء من قُرَيْش. وَأعْطى الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي، وعيينة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الذبياني، وَمَالك بن عَوْف مقدم هوَازن، أعْطى كل وَاحِد من الْأَشْرَاف مائَة من الْإِبِل، والآخرين أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، وَأعْطى الْعَبَّاس بن مرداس أباعر لم يرضها وَقَالَ فِي ذَلِك:
(أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد ... بَين عُيَيْنَة والأقرع)
(وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس ... يَفُوقَانِ مرداس فِي مجمع)
(وَمَا كنت دون امرىء مِنْهُمَا ... وَمن تضع الْيَوْم لَا يرفع)
فَقَالَ: " إقطعوا عني لِسَانه " فَأعْطِي حَتَّى رَضِي، وَلم يُعْط الْأَنْصَار من ذَلِك شَيْئا فوجدوا فِي أنفسهم فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: " أوجدتم يَا معشر الْأَنْصَار فِي لعاعة من الدنية ألفت بهَا قوما ليسلموا ووكلتكم إِلَى إسلامكم أما ترْضونَ أَن يذهب بِالنَّاسِ بالبعير وَالشَّاء وترجعون برَسُول اللَّهِ إِلَى رحالكُمْ أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَأَة من الْأَنْصَار وَلَو سلك النَّاس شعبًا لَسَلَكْت شعب الْأَنْصَار اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَار وَأَبْنَاء الْأَنْصَار وَأَبْنَاء أَبنَاء الْأَنْصَار ".
ويومئذ قَالَ ذُو الْخوَيْصِرَة من تَمِيم لم تعدل هَذِه الْقِسْمَة وَلَا أُرِيد بهَا وَجه اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سيخرج من ضئضىء هَذَا الرجل قوم يخرجُون من الدّين كَمَا يخرج السهْم من الرَّمية لَا يُجَاوز إِيمَانهم تراقيهم " فَخرج مِنْهُ حرقوص بن زُهَيْر البَجلِيّ الْمَعْرُوف بِذِي الثدية أول من بُويِعَ من الْخَوَارِج بِالْإِمَامَةِ وَأول مارق من الدّين.
" ثمَّ اعْتَمر " وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة واستخلف على مَكَّة عتاب بن أسيد بن أبي الْعيص بن أُميَّة وَهُوَ شَاب لم يبلغ عشْرين سنة وَترك مَعَه معَاذ بن جبل يفقه النَّاس، وَحج بِالنَّاسِ هَذِه السّنة عتاب على مَا كَانَت الْعَرَب تحج. وفيهَا ولد إِبْرَاهِيم بن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وفيهَا مَاتَ حَاتِم بن عبد اللَّهِ بن الحشرج من ولد طي بن أدد، ويكنى بِأبي سفانة بنته الَّتِي أَتَت النَّبِي بعد الْبعْثَة وَشَكتْ حَالهَا، وَكَانَ شَاعِرًا مجيدا وَيضْرب بجوده الْمثل.(1/126)
قلت: وفيهَا توفيت زَيْنَب، وفيهَا غلا السّعر فَقَالُوا سعر لنا "، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع: وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ وَتَتَابَعَتْ الْوُفُود وَدخل النَّاس فِي دين اللَّهِ أَفْوَاجًا وَورد عَلَيْهِ عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ سيد ثَقِيف وَكَانَ غَائِبا عَن حِصَار الطَّائِف فَأسلم وَحسن إِسْلَامه فَقَالَ: أمضي إِلَى قومِي وأدعوهم فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهُم قاتلوك " فَكَانَ كَمَا قَالَ، ووفد كَعْب بن زُهَيْر بن أبي سلمى بعد ان أهْدر دَمه، ومدح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقصيدته الْمَشْهُورَة وَهِي.
(بَانَتْ سعاد فقلبي الْيَوْم متبول ... )
فَأعْطَاهُ بردته واشتراها مُعَاوِيَة رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي خِلَافَته من أهل كَعْب بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم ثمَّ توارثها الْخُلَفَاء حَتَّى أَخذهَا التتر.
وفيهَا فِي رَجَب أعلم النَّاس بالتجهز لغزو الرّوم، وَكَانَ إِذا أَرَادَ غزَاة ورى بغَيْرهَا إِلَّا فِي هَذِه لقُوَّة الْعَدو وَبعد الطَّرِيق والجدب وَالْحر وَالنَّاس فِي عسرة " فَسُمي جَيش الْعسرَة ". وَكَانَت الثِّمَار قد طابت فتجهزوا على كره وَأمر
الْمُسلمين بِالنَّفَقَةِ فأنفق أَبُو بكر جَمِيع مَاله وَأنْفق عُثْمَان ثلثمِائة بعير طَعَاما وَألف دِينَار فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يضر عُثْمَان مَا صنع بعد الْيَوْم " وتخلف عبد اللَّهِ بن أبي الْمُنَافِق وتخلف ثَلَاثَة من الْأَنْصَار وهم كَعْب بن ماللك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة.
واستخلف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أَهله عليا فَأَرْجَفَ بِهِ المُنَافِقُونَ وَقَالُوا مَا خَلفه إِلَّا استثقالا، فَأخذ سلاحه وَلحق بِهِ فَأخْبرهُ بِمَا قَالَه المُنَافِقُونَ فَقَالَ: " كذبُوا إِنَّمَا خلفتك لما ورائي فَارْجِع فَاخْلُفْنِي فِي أَهلِي أما ترضي أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون بن مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي " وَكَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثُونَ ألفا فَكَانَت الْخَيل عشرَة آلَاف ولقوا فِي الطَّرِيق حرا وعطشا ووصلوا الْحجر أَرض ثَمُود فنهاهم عَن مائَة ووصلوا " تَبُوك ".
فَأَقَامَ بهَا عشْرين لَيْلَة وَقدم عَلَيْهِ بهَا يوحنا صَاحب أَيْلَة فَصَالحه على الْجِزْيَة فبلغت جزيتهم ثلثمِائة دِينَار وَصَالح أهل أذرح على مائَة دِينَار فِي كل رَجَب وَأرْسل خَالِدا إِلَى أكيدر بن عبد الْملك صَاحب دومة الجندل الْكِنْدِيّ النَّصْرَانِي فَقتل أَخَاهُ وَقدم بأكيدر عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَالحه على الْجِزْيَة ثمَّ قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة فِي رَمَضَان فَاعْتَذر إِلَيْهِ الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا فَنهى عَن كَلَامهم واعتزلوا وَضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ نزلت تَوْبَتهمْ بعد خمسين لَيْلَة.
وَلما دخل الْمَدِينَة قدم عَلَيْهِ وَفد الطَّائِف فِي ثَقِيف وَأَسْلمُوا وسألوه أَن يدع اللات الَّتِي كَانُوا يعبدونها لَا يَهْدِمهَا إِلَى ثَلَاث سِنِين فأبي فنزلوا إِلَى شهر فَأبى وسألوه أَن يعفيهم من الصَّلَاة فَقَالَ: " لَا خير فِي دين لَا صَلَاة فِيهِ " فَأَجَابُوا وَأرْسل مَعَهم الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَأَبا سُفْيَان بن حَرْب فهدما اللات وَخرج نسَاء ثَقِيف حسرى يبْكين عَلَيْهَا(1/127)
وفيهَا بعث أَبَا بكر ليحج بِالنَّاسِ وَمَعَهُ عشرُون بدنه لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وثلثمائة رجل فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة أرسل عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي أَثَره وَأمره بِقِرَاءَة آيَات من أول سُورَة الْبَقَرَة على النَّاس وَأَن يُنَادي أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ بعد السّنة عُرْيَان وَلَا يحجّ مُشْرك فَعَاد أَبُو بكر وَقَالَ: يَا رَسُول الله أنزل فِي شَيْء؟ قَالَ: " لَا وَلَكِن لَا يبلغ عني إِلَّا أَنا أَو رجل مني أَلا ترْضى يَا أَبَا بكر إِنَّك كنت معي فِي الْغَار وصاحبي على الْحَوْض " قَالَ: بلَى، فَسَار أَبُو بكر أَمِيرا على الْمَوْسِم وَعلي يُؤذن بِبَرَاءَة يَوْم الْأَضْحَى وَأَن لَا يحجّ مُشْرك وَلَا يطوف عُرْيَان.
وفيهَا فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق.
قلت: وفيهَا توفيت أم كُلْثُوم وَالنَّجَاشِي، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة عشر: وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وجاءته وُفُود الْعَرَب قاطبة وَأسلم أهل الْيمن وملوك حمير، وَبعث عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى الْيمن فَقَرَأَ كِتَابه عَلَيْهِم فَأسْلمت هَمدَان كلهَا فِي يَوْم وَاحِد.
ثمَّ تتَابع أهل الْيمن على الْإِسْلَام وَكتب إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى، ثمَّ أَمر عليا بِأخذ صدقَات نَجْرَان وجزيتهم فَفعل وَعَاد فلقي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع
(ذكر حجَّة الْوَدَاع)
خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَاجا لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَاخْتلف فِي حجَّته هَل كَانَ قرانا أَو تمتعا أَو إفرادا وَالْأَظْهَر الْقرَان، حج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَقي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ محرما فَقَالَ: " حل كَمَا حل أَصْحَابك " فَقَالَ إِنِّي أَهلَلْت بِمَا أهل بِهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَقيَ على إِحْرَامه، وَنحر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْهَدْي عَنهُ، وَعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس مَنَاسِك الْحَج وَالسّنَن وَنزلت {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} .
فَبكى أَبُو بكر رَضِي اللَّهِ عَنهُ لما سَمعهَا كَأَنَّهُ استشعر أَن لَيْسَ بعد الْكَمَال إِلَّا النُّقْصَان وَأَنه قد نعيت إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفسه وخطب النَّبِي النَّاس بِعَرَفَة خطْبَة بَين فِيهَا الْأَحْكَام مِنْهَا " يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر وَإِن الزَّمَان اسْتَدَارَ كَهَيئَةِ يَوْم خلق اللَّهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِن عدَّة الشُّهُور عِنْد اللَّهِ اثْنَا عشر شهرا " وتمم حجه وَسميت حجَّة الْوَدَاع لِأَنَّهُ لم يحجّ بعْدهَا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة:
(ذكر وَفَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
أَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ بعد قدومه من حجَّة الْوَدَاع حَتَّى خرجت سنة عشر وَالْمحرم ومعظم صفر من سنة إِحْدَى عشرَة وابتدأ بِهِ مَرضه فِي أَوَاخِر صفر قيل لليلتين بَقِيَتَا مِنْهُ وَهُوَ فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش، وَكَانَ يَدُور على نِسَائِهِ حَتَّى اشْتَدَّ مَرضه فِي بَيت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث(1/128)
فَجمع نِسَاءَهُ واستأذنهن أَن يمرض فِي بَيت إِحْدَاهُنَّ فَأذن لَهُ أَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا فانتقل إِلَيْهَا.
وَكَانَ قد جهز جَيْشًا مَعَ مَوْلَاهُ أُسَامَة بن زيد وأكد فِي مسيره فِي مَرضه، وَعَن عَائِشَة قَالَت: " جَاءَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِي صداع وَأَنا أَقُول وارأساه قَالَ بل أَنا يَا عَائِشَة أَقُول وارأساه ثمَّ قَالَ مَا ضرك لَو مت قبلي فَقُمْت عَلَيْك وكفنتك وَصليت عَلَيْك ودفنتك فَقلت كَأَنِّي بك وَالله لَو فعلت ذَلِك وَرجعت إِلَى بَيْتِي تعزيت بِبَعْض نِسَائِك فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَفِي أثْنَاء مَرضه وَهُوَ فِي بَيت عَائِشَة خرج بَين الْفضل بن الْعَبَّاس وَعلي بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا حَتَّى جلس على الْمِنْبَر فَحَمدَ اللَّهِ ثمَّ قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس من كنت جلدت لَهُ ظهرا فَهَذَا ظَهْري فليستقد مني وَمن كنت شتمت لَهُ عرضا فَهَذَا عرضي فليسقد مِنْهُ وَمن أخذت لَهُ مَالا فَهَذَا مَالِي فليأخذ مِنْهُ وَلَا يخْشَى الشحناء من قبلي فَإِنَّهَا لَيست من شأني ".
ثمَّ نزل وَصلى الظّهْر ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَر فَعَاد إِلَى مقَالَته فَادّعى عَلَيْهِ رجل ثَلَاثَة دَرَاهِم فَأعْطَاهُ عوضهَا ثمَّ قَالَ: " أَلا أَن فضوح الدُّنْيَا أَهْون من فضوح الْآخِرَة " ثمَّ صلى على أَصْحَاب اُحْدُ واستغفر لَهُم ثمَّ قَالَ: " إِن عبدا خَيره اللَّهِ بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده فَاخْتَارَ مَا عِنْده " فَبكى أَبُو بكر وَقَالَ: فَدَيْنَاك بِأَنْفُسِنَا، ثمَّ أوصى بالأنصار وَلما اشْتَدَّ بِهِ وَجَعه قَالَ: " ائْتُونِي بداوة وبيضاء أكتب لكم كتابا لَا تضلون بعدِي أبدا " فتنازعوا، فَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي عِنْد نَبِي تنَازع ".
فَقَالُوا إِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهجر فَذَهَبُوا يعيدون عَلَيْهِ فَقَالَ: " دَعونِي فَمَا أَنا فِيهِ خير مِمَّا تَدعُونِي إِلَيْهِ ".
وَكَانَ فِي أَيَّام مَرضه يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَإِنَّمَا انْقَطع ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا أذن بِالصَّلَاةِ أول مَا انْقَطع قَالَ: " مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ ".
قلت: وَسَار فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا فِي مَرضه فَبَكَتْ، ثمَّ سَارهَا فَضَحكت فَلَمَّا مَاتَ أخْبرت بِأَنَّهُ قَالَ لي فِي الأولى إِنِّي ميت من وجعي هَذَا فَبَكَيْت، وَقَالَ فِي الثَّانِيَة إِنَّك أول أَهلِي لُحُوقا بِي فَضَحكت، فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَالله أعلم.
وتزايد بِهِ مَرضه حَتَّى توفّي يَوْم الأثنين ضحوة النَّهَار وَقيل نصفه، قَالَت عَائِشَة: " رَأَيْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَمُوت وَعِنْده قدح فِيهِ مَاء يدْخل يَده فِي الْقدح ثمَّ يمسح وَجهه بِالْمَاءِ ثمَّ يَقُول اللَّهُمَّ أَعنِي على سَكَرَات الْمَوْت قَالَت وَثقل فِي حجري فَذَهَبت أنظر فِي وَجهه وَإِذا بَصَره قد شخص وَهُوَ يَقُول بل الرقيف الْأَعْلَى فَلَمَّا قبض وضعت رَأسه على وسَادَة ".
ووفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول فعلى هَذِه الرِّوَايَة يَوْم وَفَاته مُوَافق ليَوْم مولده وَلما مَاتَ ارْتَدَّ أَكثر الْعَرَب إِلَّا أهل الْمَدِينَة وَمَكَّة والطائف فَلم يدخلهَا ردة.(1/129)
وَكَانَ عَامل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَكَّة عتاب بن أسيد فاستخفى خوفًا على نَفسه فارتجت مَكَّة وَكَاد أَهلهَا يرتدون فَقَامَ سُهَيْل بن عَمْرو على بَاب الْكَعْبَة وَصَاح بِقُرَيْش وَغَيرهم فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أهل مَكَّة كُنْتُم آخر من أسلم فَلَا تَكُونُوا أول من ارْتَدَّ وَالله لَيتِمَّن اللَّهِ هَذَا الْأَمر كَمَا قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَامْتنعَ أهل مَكَّة من الرِّدَّة
وَتَوَلَّى غسله عَليّ وَالْعَبَّاس وَالْفضل وَقثم ابْنا الْعَبَّاس وَأُسَامَة بن زيد وشقران مولى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ الْعَبَّاس وابناه يقلبونه وَأُسَامَة وشقران يصبَّانِ المَاء وَعلي يغسلهُ وَعَلِيهِ قَمِيصه وَهُوَ يَقُول: بِأبي أَنْت وَأمي طبت حَيا وَمَيتًا وَلم ير مِنْهُ مَا يرى من الْمَيِّت.
وكفن فِي ثَلَاثَة اثواب ثَوْبَيْنِ صحاريين وَبرد حبرَة أدرج فِيهَا إدراجا وَدفن تَحت فرَاشه الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ وحفر لَهُ أَبُو طَلْحَة الأنصارى وَنزل فِي قَبره عَليّ وَالْفضل وَقثم.
قلت: وصلوا عَلَيْهِ أفذاذا، وَالله أعلم.
وَدفن قيل يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي يَوْم وَفَاته وَقيل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء وَهُوَ الْأَصَح وَقيل بَقِي ثَلَاثًا لم يدْفن.
قلت: وسمعوا صَوتا من السَّمَاء بعد مَوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنَادي وامحمداه وَهَذِه مُصِيبَة أصيبها الْمُسلمُونَ لم يصابوا قطّ بِمِثْلِهَا كل مُصِيبَة تهون عِنْدهَا، وَالله أعلم.
(صفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
وَصفه عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير ضخم الرَّأْس كث اللِّحْيَة شثن الْكَفَّيْنِ والقدمين ضخم الكراديس مشربا وَجهه بحمرة وَقيل كَانَ أدعج الْعَينَيْنِ سبط الشّعْر سهل الْخَدين كَأَن عُنُقه إبريق فضه. وَقَالَ أنس لم يشنه اللَّهِ بالشيب
كَانَ فِي مقدم لحيته عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء وَفِي مفرق رَأسه شَعرَات بيض وَرُوِيَ أَنه كَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم وَكَانَ بَين كَتفيهِ خَاتم النُّبُوَّة وَهُوَ بضعَة نَاشِزَة حولهَا شعر مثل بَيْضَة الْحَمَامَة تشبه جسده وَقيل كَانَ لَوْنهَا أَحْمَر.
(خلقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
كَانَ أرجح النَّاس عقلا وأفضلهم رَأيا يكثر الذّكر ويقل اللَّغْو دَائِم الْبشر مطيل الصمت لين الْجَانِب سهل الْخلق، وَكَانَ عِنْده الْقَرِيب والبعيد وَالْقَوِي والضعيف فِي الْحق سَوَاء يحب الْمَسَاكِين وَلَا يحقر فَقِيرا لفقره وَلَا يهاب ملكا لملكه يؤلف قُلُوب أهل الشّرف ويؤلف أَصْحَابه وَلَا ينفرهُمْ.(1/130)
يصابر من جالسه حَتَّى يكون الرجل هُوَ المنصرف وَمَا صافحه أحد فَترك يَده حَتَّى يكون ذَلِك هُوَ الَّذِي يتْرك يَده يتفقد أَصْحَابه وَيسْأل النَّاس عَمَّا فِي النَّاس يحلب العنز وَيجْلس على الأَرْض ويخصف النَّعْل ويرقع الثَّوْب.
خرج من الدُّنْيَا وَلم يشْبع من الْخبز الشّعير، يَأْتِي على آل مُحَمَّد الشَّهْر والشهران لَا يُوقد فِي بَيت من بيوته نَار إِن هُوَ إِلَّا التَّمْر وَالْمَاء وَكَانَ يعصب على بَطْنه الْحجر من الْجُوع.
وَأَوْلَاده كلهم من خَدِيجَة إِلَّا إِبْرَاهِيم فَمن مَارِيَة ولد فِي سنة ثَمَان فِي ذِي الْحجَّة وَتُوفِّي سنة عشر، قَالَ المَسْعُودِيّ: عَاشَ سنة وَعشرَة أشهر. وَأَوْلَاده الذُّكُور من خَدِيجَة الْقَاسِم وَبِه يكنى وَالطّيب والطاهر وَعبد اللَّهِ وماتوا صغَارًا، وَالْإِنَاث أَربع فَاطِمَة زوج عَليّ، وَزَيْنَب زوج أبي الْعَاصِ وَفرق بَينهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِسْلَامِ ثمَّ ردهَا إِلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول لما أسلم، ورقية، وَأم كُلْثُوم تزوج بهما عُثْمَان مُرَتبا.
قلت: وَتُوفِّي جَمِيع أَوْلَاده فِي حَيَاته غير فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، وَالله أعلم.
(زَوْجَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
وزوجاته خمس عشرَة دخل بِثَلَاث عشرَة وَجمع بَين إِحْدَى عشرَة وَقيل دخل بِإِحْدَى عشرَة وَتُوفِّي عَن تسع غير سريته مَارِيَة وَهن عَائِشَة بنت أبي بكر، وَحَفْصَة بنت عمر، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَزَيْنَب بنت جحش، ومَيْمُونَة، وَصفِيَّة، وَجُوَيْرِية، وَأم حَبِيبَة، وَأم سَلمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
(وَكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي، وَأبي بن كَعْب وَهُوَ اول من كتب لَهُ، وَزيد بن ثَابت، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَكتب لَهُ عبد اللَّهِ بن سعيد بن أبي سرح ارْتَدَّ ثمَّ أسلم يَوْم الْفَتْح.
قلت: وعماته سِتّ أم حَكِيم، وَهِي الْبَيْضَاء، وبرة، وعاتكة، وَصفِيَّة، وأروى، وَأُميَّة.
" وسرارية " مَارِيَة، وَرَيْحَانَة بنت زيد، وَجَارِيَة وهبتها لَهُ زَوجته زَيْنَب، وَأُخْرَى أَصَابَهَا فِي السَّبي.
" ومواليه " سِتَّة وَخَمْسُونَ: أسلم ويكنى أَبَا رَافع، وأحمر ويكنى أَبَا عسيب، وَأُسَامَة بن زيد، وأفلح، وأنسه ويكنى أَبَا سرح، وأيمن بن أم أَيمن، وثوبان ويكنى أَبَا عبد اللَّهِ، وذكوان وَقيل هُوَ مهْرَان وَقيل هُوَ طهْمَان، وَرَافِع، ورباح الْأسود الْآذِن عَلَيْهِ، وَزيد بن حَارِثَة، وَزيد بن بولا، وسابق، وَسَالم، وسلمان الْفَارِسِي أَعَانَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كِتَابَته، وسليم ويكنى أَبَا كَبْشَة، وَسعد، وَأَبُو كندر، وشقران واسْمه صَالح، وضميرة بن(1/131)
أبي ضميرَة، وَعبيد اللَّهِ بن أسلم، وَعبيد بن عبد الْغفار، وفضالة الْيَمَانِيّ، وكيسان ومهران، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَهُوَ سفينة، ومدعم، وَنَافِع، ونفيع وكنيته أَبُو بكرَة، وَنبيه، وواقد، ووردان، وَهِشَام، ويسار، وَأَبُو أثيلة، وَأَبُو الْحَمْرَاء، وَأَبُو رَافع، ووالد الْبَهِي، وَأَبُو ضَمرَة، وَأَبُو عبيد واسْمه سعد، وَأَبُو مريهبة، وَأَبُو وَاقد، وكركره، ومابور، وَأَبُو لبَابَة، وَأَبُو لَقِيط، وَأَبُو هِنْد.
" ومولياته " أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة، وَأُمَيْمَة، وحيضرة، ورضوى، وَرَيْحَانَة، وسلمى، ومارية، ومَيْمُونَة بنت سعد، ومَيْمُونَة بنت أبي عسيب، وَأم ضَمرَة، وَأم عَيَّاش.
" ومراكبه " السكب أول خيله، والمرتجز اشْتَرَاهُ من الْأَعرَابِي وَشهد فِيهِ خُزَيْمَة، واللزاز أهداه الْمُقَوْقس، والظرف، والورد، والنحيف كَانَ سَرْجه من لبد وَيُقَال اللحيف، واليعسوب، وَكَانَت لَهُ النَّاقة العضباء، وَهِي الْقَصْوَاء وَهِي الجدعاء وَلم يكن بهَا غضب وَلَا جدع، وحمار يُقَال لَهُ عفير، وَالله أعلم.
" وسلاحه " سَيْفه ذُو الفقار غنمه ببدر من مُنَبّه بن الْحجَّاج السَّهْمِي وَقيل من غَيره والفقار الْحفر، وَثَلَاثَة أسياف غنمها من بني قينقاع وَقدم مَعَه إِلَى الْمَدِينَة لما هَاجر سيفان شهد بِأَحَدِهِمَا بَدْرًا ورماح وَثَلَاث قسي ودرعان وترس كَانَ فِيهِ تِمْثَال فَأصْبح وَقد أذهبه اللَّهِ.
" وغزواته " سبع وَعِشْرُونَ وَقيل أقل، قَاتل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا فِي تسع: بدر، وَأحد، والمريسيع، وَالْخَنْدَق، وَقُرَيْظَة، وخيبر، وَالْفَتْح، وحنين، والطائف؛ وَرُوِيَ أَنه قَاتل فِي بني النَّضِير، وَفِي غزَاة وَادي الْقرى مُنْصَرفه من خَيْبَر، وَفِي الغابة.
" وسراياه " سِتّ وَخَمْسُونَ سَرِيَّة وَهَذِه الْأَعْدَاد هِيَ الْمُعْتَمدَة من الْكتب الْمُعْتَمدَة قلت: " ومؤذنوه " بِلَال بن رَبَاح أَوَّلهمْ، وَعَمْرو بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَأَبُو مَحْذُورَة الجُمَحِي.
و" كَانَ يضْرب الرّقاب بَين يَدَيْهِ " عَليّ، وَابْن الزبير، وَمُحَمّد بن سَلمَة، والمقداد، وَعَاصِم بن أبي الْأَفْلَح.
" وحرسه " إِلَى أَن عصمه اللَّهِ من النَّاس سعد بن أبي وَقاص، وَسعد بن معَاذ وَعباد بن بشر، وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وذكوان بن عبد قيس، وَمُحَمّد بن مسلمة، وبلال وَالله أعلم.
(ذكر أَصْحَابه)
الْأَكْثَر على أَن الصَّحَابِيّ كل من اسْلَمْ وَرَأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَحبه وَإِن لم يرَوا وَإِن لم تطل صحبته وَقيل إِن طَالَتْ الصُّحْبَة فَهُوَ صَحَابِيّ وَقيل إِن اجْتمع الْأَمْرَانِ، وَأما عَددهمْ على القَوْل الْأَكْثَر فَروِيَ أَنه سَار عَام فتح مَكَّة فِي عشرَة آلَاف مُسلم، وَفِي حنين فِي اثْنَتَيْ عشر ألفا؛ وَفِي حجَّة الْوَدَاع فِي أَرْبَعِينَ ألفا؛ وَكَانُوا عِنْد وَفَاته مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا.(1/132)
قلت: قَالَ أَبُو زرْعَة: قبض رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن مائَة ألف وَأَرْبَعَة عشر ألفا من الصَّحَابَة مِمَّن روى عَنهُ وَسمع مِنْهُ.
" وأفضلهم الْعشْرَة " أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي، وَطَلْحَة بن عبيد اللَّهِ، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص، وَسَعِيد بن زيد، وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، والمهاجرون أفضل من الْأَنْصَار على الْإِجْمَال وَأما على التَّفْصِيل فسباق الْأَنْصَار أفضل من متأخري الْمُهَاجِرين.
وَمِنْهُم " أهل الصّفة " فُقَرَاء لَا منَازِل لَهُم وَلَا عشائر ينامون فِي الْمَسْجِد ويظلون فِيهِ، و " صفة " الْمَسْجِد مثواهم فنسبوا إِلَيْهَا كَانَ يعشي مَعَه بَعضهم وَيفرق بَعضهم على الصَّحَابَة يعشونهم، وَمن مشاهيرهم أَبُو هُرَيْرَة وواثلة بن الْأَسْقَع وَأَبُو ذَر رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وَفِي مُدَّة مَرضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل " الْأسود الْعَنسِي " عبهلة بن كَعْب وَيُقَال لَهُ ذُو الْخمار لِأَنَّهُ كَانَ يَقُول: يأتيني ذُو خمار شعبذ وَأرى الْجُهَّال الْأَعَاجِيب، وسبى بمنطقة وتنبأ كذبا وكاتبه أهل نَجْرَان وأخرجوا عَمْرو بن حزم وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وسلموهما إِلَى الْأسود، ثمَّ ملك صنعاء وَصفا لَهُ ملك الْيمن واستفحل أمره وَكَانَ خَلِيفَته فِي مذْحج عَمْرو بن معدي كرب.
فَلَمَّا بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك بعث رَسُولا إِلَى الأنبار وَأمرهمْ أَن يخاذلوا الْأسود إِمَّا غيلَة وَإِمَّا مصادمة، وَأَن يستنجدوا رجَالًا من حمير وهمدان. وَكَانَ الْأسود قد تغير على قيس بن عبد يَغُوث فَاجْتمع بِهِ جمَاعَة مِمَّن كاتبهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتحدثوا فِي قتل الْأسود فوافقهم واجتمعوا بِامْرَأَة الْأسود، وَكَانَ الْأسود قد قتل أَبَاهَا فَقَالَت: وَالله إِنَّه أبْغض النَّاس إِلَيّ وَلَكِن الحرس محيطون بقصرة فانقبوا عَلَيْهِ الْبَيْت، فواعدوها على ذَلِك ونقبوا الْبَيْت وَدخل عَلَيْهِ شخص اسْمه فَيْرُوز الديلمي فَقتل الْأسود وَاحْترز رَأسه فخار خوار الثور فابتدر الحرس فَقَالَت زَوجته: هَذَا النَّبِي يُوحى إِلَيْهِ، فَلَمَّا طلع الْفجْر أمروا الْمُؤَذّن فَقَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ وَأَن عبهلة كَذَّاب، وَكتب أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك فورد الْخَبَر من السَّمَاء إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأعلم أَصْحَابه بقتل الْأسود وَوصل الْكتاب بقتل الْأسود فِي خلَافَة أبي بكر كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى عبد اللَّهِ بن أبي بكر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيهَا النَّاس إِنِّي قد رَأَيْت لَيْلَة الْقدر ثمَّ انتزعت مني وَرَأَيْت فِي يَدي سِوَارَيْنِ من ذهب فكرهتمها فَنَفَخْتهمَا فطَارَا فَأَوَّلْتهمَا هذَيْن الْكَذَّابين صَاحب الْيَمَامَة وَصَاحب صنعاء وَلنْ تقوم السَّاعَة حَتَّى يخرج ثَلَاثُونَ دجالًا كلهم يزْعم أَنه نَبِي "، وَقتل الْأسود قبل وَفَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَوْم وَلَيْلَة وَأول خُرُوجه إِلَى أَن قتل أَرْبَعَة أشهر، وَسَيَأْتِي ذكر مُسَيْلمَة صَاحب الْيَمَامَة.(1/133)
(أَخْبَار أبي بكر الصّديق وخلافته رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
وَلما قبض اللَّهِ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عمر: من قَالَ إِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ عَلَوْت رَأسه بسيفي هَذَا وَإِنَّمَا ارْتَفع إِلَى السَّمَاء، فَقَرَأَ أَبُو بكر {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم} فَرجع الْقَوْم إِلَى قَوْله.
وَبَادرُوا " سَقِيفَة بني سَاعِدَة " فَبَايع عمر أَبَا بكر وأنثال النَّاس يبايعونه فِي الْعشْر الْأَوْسَط من ربيع الأول سنة إِحْدَى عشرَة خلا جمَاعَة من بني هَاشم، وَالزُّبَيْر، وَعتبَة بن أبي لَهب، وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ، والمقداد بن عَمْرو، وسلمان الْفَارِسِي، وَأَبُو ذَر، وعمار بن يَاسر، والبراء بن عَازِب، وَأبي بن كَعْب، وَأَبُو سُفْيَان من بني أُميَّة؛ ومالوا مَعَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم وَقَالَ فِي ذَلِك عتبَة بن أبي لَهب:
(مَا كنت أَحسب أَن الْأَمر منصرف ... عَن هَاشم ثمَّ مِنْهُم عَن أبي حسن)
(عَن أول النَّاس إِيمَانًا وسابقة ... وَاعْلَم النَّاس بِالْقُرْآنِ وَالسّنَن)
(وَآخر النَّاس عهدا بِالنَّبِيِّ وَمن ... جِبْرِيل عون لَهُ فِي الْغسْل والكفن)
(من فِيهِ مَا فيهم لَا يمترون بِهِ ... وَلَيْسَ فِي الْقَوْم مالله فِيهِ من الْحسن)
وروى الزُّهْرِيّ عَن عَائِشَة أَن عليا لم يُبَايع حَتَّى مَاتَت فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا بعد سِتَّة أشهر لمَوْت أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأرْسل عَليّ إِلَى أبي بكر فَأَتَاهُ فِي منزله فَبَايعهُ وَقَالَ عَليّ مَا نفسنا عَلَيْك مَا سَاقه اللَّهِ إِلَيْك من فضل وَخير وَلَكنَّا نرى إِن لنا فِي هَذَا الْأَمر شَيْئا فاستبددت بِهِ دُوننَا وَمَا ننكر فضلك.
وَلما اسْتخْلف أَبُو بكر كَانَ أُسَامَة بن زيد مبرزا، وَكَانَ عمر من جملَة جَيش أُسَامَة على مَا عينه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ خرج أَبُو بكر إِلَى معسكر أُسَامَة واستحضهم وشيعهم وَهُوَ ماش وَأُسَامَة رَاكب فَقَالَ أُسَامَة: يَا خَليفَة رَسُول اللَّهِ وَالله لتركبن أَو لأنزلن فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لَا تنزلن وَلَا ركبت وَمَا عَليّ أَن أغبر قدمي سَاعَة فِي سَبِيل اللَّهِ، وَلما أَرَادَ الرُّجُوع قَالَ أَبُو بكر لأسامة إِن رَأَيْت أَن تعينني بعمر فافعل، فَأذن أُسَامَة لعمر فِي الْمقَام.
وَفِي أَيَّام أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنهُ " ادَّعَت سجَاح بنت الْحَارِث بن سُوَيْد التميمة النُّبُوَّة " واتبعهما بَنو تَمِيم وأخوالها من تغلب وَغَيرهم من بني ربيعَة، وقصدت مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَلما وصلت إِلَيْهِ قصدت الِاجْتِمَاع بِهِ فَقَالَ لَهَا ابعدي أَصْحَابك فَفعلت فَضرب لَهَا قبَّة مبخرة فَقَالَت لَهُ: مَاذَا أُوحِي إِلَيْك، وَقَالَ: مَاذَا أُوحِي إِلَيْك فَكل مِنْهَا أبدى منطقا ركيكا سمجا بَارِدًا، وأنشدها شعرًا.
قلت: حذفت مَا قَالَاه وحذفت الشّعْر لقبحه وصنت هَذَا الْكتاب، وَالله أعلم. فأقامت عِنْده ثَلَاثًا ثمَّ انصرفت وَلم تزل فِي أخوالها من تغلب حَتَّى نفاهم مُعَاوِيَة عَام بُويِعَ فَأسْلمت سجَاح وَمَاتَتْ بِالْبَصْرَةِ.
وَفِي أَيَّامه أَيْضا " قتل مُسَيْلمَة الْكذَّاب " أرسل أَبُو بكر خَالِدا بِجَيْش فقاتل مُسَيْلمَة(1/134)
وَهزمَ مُسَيْلمَة وَمن مَعَه وَقَتله وَحشِي بالحربة الَّتِي قتل بهَا حَمْزَة بشركه رجل من الْأَنْصَار.
قلت: لما عزي رَسُول اللَّهِ بِحَمْزَة حِين قَتله وَحشِي بِأحد قَالَ بَعضهم ويل لوحشي من النَّار فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما حَمْزَة فَأَجله قد انْقَضى وَأما وَحشِي فَسَوف يدْرك الشّرف من بعده ". فَقَالُوا كَيفَ يَا رَسُول اللَّهِ قَالَ: " هُوَ يقتل مُسَيْلمَة الْكذَّاب " فَكَانَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
كَانَ مقَام مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ وَقدم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي وَفد بني حنيفَة فَأسلم ثمَّ ارْتَدَّ وَادّعى النُّبُوَّة اسْتِقْلَالا ثمَّ مُشَاركَة مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقتل فِي قِتَاله جمَاعَة من الْقُرَّاء من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فَلذَلِك أَمر أَبُو بكر بِاتِّفَاق من عَليّ بن أبي طَالب وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بِجمع الْقُرْآن فِي مصحف وَأحد وَترك عِنْد حَفْصَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(فَائِدَة)
قلت: قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ فِي (كتاب التِّبْيَان فِي آدَاب حَملَة الْقُرْآن) : إِن الْقُرْآن الْعَزِيز كَانَ مؤلفا فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ فِي الْمَصَاحِف الْيَوْم وَلَكِن لم يكن مجموعا فِي مصحف وَاحِد بل كَانَ مَحْفُوظًا فِي صُدُور الرِّجَال فَكَانَ طوائف من الصَّحَابَة يَحْفَظُونَهُ كُله وَطَوَائِف يحفظون أبعاضا مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ زمن أبي بكر الصّديق وَقتل كثير من حَملَة الْقُرْآن كتبه فِي مصحف وَجعله فِي بَيت حَفْصَة، وَالله أعلم.
وَلما كَانَ زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَرَأى اخْتِلَاف النَّاس فِي الْقرَاءَات كتب من ذَلِك الْمَكْتُوب الَّذِي عِنْد حَفْصَة الَّذِي أَجمعت الصَّحَابَة عَلَيْهِ مصاحف وأرسلها إِلَى الْأَمْصَار وأبطل مَا سواهَا وَذَلِكَ بِاتِّفَاق مِنْهُ وَمن عَليّ بن أبي طَالب وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وَفِي أَيَّام أبي بكر منعت بَنو يَرْبُوع الزَّكَاة وَكَبِيرهمْ مَالك بن نُوَيْرَة فَارس شَاعِر قدم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأسلم فولاه صَدَقَة قومه فَلَمَّا منع الزَّكَاة أرسل أَبُو بكر إِلَيْهِ خَالِدا فِي معنى الزَّكَاة فَقَالَ مَالك: أَنا آتِي بِالصَّلَاةِ دون الزَّكَاة، فَقَالَ خَالِد: أما علمت أَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة مَعًا لَا تقبل وَاحِدَة دون الْأُخْرَى، فَقَالَ مَالك: قد كَانَ صَاحبكُم يَقُول ذَلِك، قَالَ خَالِد: وَمَا ترَاهُ لَك صاحبا وَالله لقد هَمَمْت أَن أضْرب عُنُقك، ثمَّ تجاولا فِي الْكَلَام فَقَالَ خَالِد: إِنِّي قَاتلك، قَالَ: أَو بذلك أَمرك صَاحبك، قَالَ: وَهَذِه بعد تِلْكَ، وَكَانَ عبد اللَّهِ بن عمر وَأَبُو قَتَادَة الْأنْصَارِيّ حاضرين فَكلما خَالِدا فِي أمره فكره كَلَامهمَا فَقَالَ مَالك: يَا خَالِد ابعثنا إِلَى أبي بكر فَيكون هُوَ الَّذِي يحكم فِينَا فَقَالَ خَالِد لَا أقالني اللَّهِ إِن أقلتك وَتقدم إِلَى ضرار بن الْأَزْوَر بِضَرْب عُنُقه فَالْتَفت مَالك إِلَى زَوجته وَقَالَ لخَالِد هَذِه الَّتِي قتلتني وَكَانَت فِي غَايَة الْجمال فَقَالَ خَالِد بل اللَّهِ قَتلك برجوعك عَن الْإِسْلَام فَقَالَ مَالك أَنا على الْإِسْلَام فَقَالَ خَالِد يَا ضرار عُنُقه فَضرب عُنُقه وَجعل رَأسه أثفية وَقبض خَالِد امْرَأَته قيل(1/135)
اشْتَرَاهَا من الْفَيْء وَقيل اعْتدت بِثَلَاث حيض وَتَزَوجهَا وَقَالَ لِابْنِ عمر وَلأبي قَتَادَة احضرا النِّكَاح فأبيا، وَفِي ذَلِك يَقُول الشَّاعِر:
(أَلا قل لحي أوطؤا بالسنابك ... تطاول هَذَا اللَّيْل من بعد مَالك)
(قضى خَالِد بغيا عَلَيْهِ بعرسه ... وَكَانَ لَهُ فِيهَا هوى قبل ذَلِك)
(فَأمْضى هَوَاهُ خَالِد غير عاطف ... عنان الْهوى عَنْهَا وَلَا متمالك)
(فَأصْبح ذَا أهل وَأصْبح مَالك ... إِلَى غير أهل هَالكا فِي الهوالك)
وقبح عمر عِنْد أبي بكر فعل خَالِد فَقَالَ أَبُو بكر: إِن خَالِدا تَأَول فَأَخْطَأَ، فَقَالَ اعزله قَالَ: مَا كنت أغمد سَيْفا سَله اللَّهِ عَلَيْهِم، وَندب متمم بن نُوَيْرَة أَخَاهُ مَالِكًا بالأشعار فَمن ذَلِك قصيدة مِنْهَا:
(وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبه ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا)
(وعشنا بِخَير فِي الْحَيَاة وَقَبلنَا ... أصَاب المنايا رَهْط كسْرَى وتبعا)
(فَلَمَّا تفرقنا كَأَنِّي ومالكا ... لطول اجْتِمَاع لم نبت لَيْلَة مَعًا)
وَفِي أَيَّام أبي بكر الصّديق فتحت الْحيرَة بالأمان على الْجِزْيَة " ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسنة ثَلَاث عشرَة " وفيهَا:
" وقْعَة اليرموك " الَّتِي كَانَت سَبَب فتوح الشَّام وَكَانَت سنة ثَلَاث عشرَة، وَبلغ هِرقل وَكَانَ بحمص هزيمَة الرّوم باليرموك فَرَحل وَجعل حمص بَينه وَبَين الْمُسلمين وَلما فرغ خَالِد وَأَبُو عُبَيْدَة من اليرموك قصدا دمشق فَجمع صَاحب بصرى الجموع ثمَّ ان الرّوم طلبُوا الصُّلْح فصولحوا على كل رَأس بِدِينَار وجريب حِنْطَة.
وَاخْتلف فِي " وَفَاة أبي بكر " رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَقيل سَببهَا أَن الْيَهُودِيَّة سمته فِي أرز، وَقيل فِي حسو فَأكل هُوَ والْحَارث بن كلدة فَقَالَ الْحَارِث: أكلنَا طَعَاما مسموما سم سنة، فماتا بعد سنة، وَعَن عَائِشَة أَنه اغْتسل وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا فَحم خَمْسَة عشر يَوْمًا لَا يخرج إِلَى صَلَاة وَأمر عمر أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ وعهد بالخلافة إِلَى عمر، ثمَّ توفّي مسَاء لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة فخلافته سنتَانِ وَثَلَاثَة أشهر وَعشر لَيَال وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ، وغسلته زَوجته أَسمَاء بنت عُمَيْس وَحمل على السرير الَّذِي حمل عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصلى عَلَيْهِ عمر فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ بَين الْقَبْر والمنبر وَأوصى أَن يدْفن إِلَى جنب رَسُول اللَّهِ فحفر لَهُ وَجعل رَأسه عِنْد كَتِفي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ رَضِي اللَّهِ عَنهُ حسن الْقَامَة خَفِيف العارضين معروق الْوَجْه غائر الْعَينَيْنِ ناتئ الْجَبْهَة أجنى عاري الأشاجع يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
(خلَافَة عمر بن الْخطاب)
ابْن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى رَضِي اللَّهِ عَنهُ، بُويِعَ بالخلافة يَوْم وَفَاة أبي بكر وَقَالَ فِي أول خطبَته: يَا أَيهَا النَّاس وَالله مَا فِيكُم أحد أقوى عِنْدِي من الضَّعِيف حَتَّى آخذ الْحق لَهُ وَلَا(1/136)
أَضْعَف عِنْدِي من الْقوي حَتَّى أَخذ الْحق مِنْهُ، ثمَّ أول شَيْء أَمر بِهِ عزل خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي اللَّهِ عَنهُ عَن إمرة الْجَيْش وَولى أَبَا عُبَيْدَة رَضِي اللَّهِ عَنهُ على الْجَيْش وَالشَّام وَهُوَ أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ نَازل أَبُو عُبَيْدَة دمشق من جِهَة بَاب الْجَابِيَة، وخَالِد من جِهَة بَاب توما وَبَاب شَرْقي، وَعَمْرو بن الْعَاصِ من جِهَة أُخْرَى، وحاصروها نَحْو سبعين لَيْلَة، وَفتح خَالِد مَا يَلِيهِ بِالسَّيْفِ فَخرج أهل دمشق من الْجَانِب الآخر وبذلوا الصُّلْح لأبي عُبَيْدَة، وفتحوا لَهُ الْبَاب فَأَمنَهُمْ فَالتقى مَعَ خَالِد فِي وسط الْبَلَد وَفِي أَيَّام عمر فتح الْعرَاق.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة: فِيهَا فِي الْمحرم أَمر عمر بِبِنَاء الْبَصْرَة وَقيل سنة خمس عشرَة.
قلت: وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أخبر أَنَّهَا تكون مصرا من الْأَمْصَار فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي أَبُو قُحَافَة أَبُو أبي بكر الصّديق وعمره سبع وَتسْعُونَ سنة بعد وَفَاة ابْنه أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة: فِيهَا فتحت حمص بعد دمشق صَالحهمْ أَبُو عُبَيْدَة بعد حِصَار طَوِيل على مَا صَالح عَلَيْهِ أهل دمشق ثمَّ سَار إِلَى " حماه " وَكَانَت عَظِيمَة زمن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام وَذكرت فِي أَخْبَار دَاوُد وَسليمَان وَكَذَلِكَ كَانَت زمن اليونان وَفِي الْفتُوح وَقَبله صغرت هِيَ وشيرز وكانتا من عمل حمص وَكَانَت حمص كرْسِي هَذِه الْبِلَاد وَصَالح أهل حماه أَبَا عُبَيْدَة على الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَجعل كنيستهم الْعُظْمَى جَامعا وَهُوَ بِالسوقِ الْأَعْلَى ثمَّ جدد فِي خلَافَة الْمهْدي من بني الْعَبَّاس وَكَانَ مَكْتُوبًا على لوح مِنْهُ أَنه جدد من خراج حمص.
ثمَّ صَالح أَبُو عُبَيْدَة أهل " شيرز والمعرة " على صلح أهل حماه، وَكَانَ يُقَال لَهَا معرة حمص، ثمَّ قيل معرة النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ كَانَت مُضَافَة إِلَيْهِ مَعَ حمص فِي خلَافَة مُعَاوِيَة.
قلت: قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه إِن النُّعْمَان بن بشير تدبر المعرة فنسبت إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ فتح أَبُو عُبَيْدَة " اللاذقية " عنْوَة، وجبلة، وأنطرسوس ثمَّ نَازل " قنسرين " وَكَانَت كرْسِي مَمْلَكَته حلب، وَالْيَوْم حلب من أَعمالهَا وَبهَا جمع عَظِيم من الرّوم فتقاتلوا فانتصر الْمُسلمُونَ، ثمَّ صالحوه على صلح حمص على أَن يخربوا الْمَدِينَة فخربت ثمَّ فتح حلب وأنطاكية ومنبج ودلوك وسرمين ويبرين وعزاز وَالشَّام من هَذِه النَّاحِيَة ثمَّ فتح خَالِد مرعش وأجلاهم وخربها وَفتح حصن الْحَدث كل ذَلِك سنة خمس عشرَة وَقيل سِتّ عشرَة.
فآيس هِرقل من الشَّام وَسَار إِلَى قسطنطينية من الرها والتفت إِلَى الشَّام عِنْد مسيره وَهُوَ على نشز وَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا سوريا سَلام لَا اجْتِمَاع بعده وَلَا يعود إِلَيْك رومي بعْدهَا إِلَّا خَائفًا حَتَّى يُولد الْوَلَد المشؤوم وليته لم يُولد فَمَا أجل فعله وَأمر فتنته على الرّوم.(1/137)
ثمَّ فتحت قيسارية وصبصطية وَبهَا قبر يحيى بن زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ السَّلَام، ونابلس ولد ويافا وَتلك الْبِلَاد وَطَالَ حِصَار بَيت الْمُقَدّس واعتاص عَلَيْهِم.
قلت: وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد قَالَ لعمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ: " إِنَّك ستفتح بَيت الْمُقَدّس بِلَا قتال " فَسَار عمر إِلَى الشَّام وَفتحهَا بِلَا سيف كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أَن اسْتخْلف عمر على الْمَدِينَة عليا رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا وَالله أعلم.
وفيهَا أَي سنة خمس عشرَة وضع عمر الدَّوَاوِين وَفرض الْعَطاء للْمُسلمين وَقيل سنة عشْرين فَقيل لَهُ ابدأ بِنَفْسِك فَامْتنعَ وَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ فرض لَهُ خَمْسَة وَعشْرين ألفا ثمَّ بَدَأَ بالأقرب فَالْأَقْرَب من رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، وَفرض لمن بعدهمْ إِلَى الْحُدَيْبِيَة وبيعة الرضْوَان أَرْبَعَة أُلَّاف أَرْبَعَة آلَاف، ثمَّ لمن بعدهمْ ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف، ثمَّ لأهل الْقَادِسِيَّة وَأهل الشَّام أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ، وَلمن بعد الْقَادِسِيَّة واليرموك ألفا ألفا، ولروادفهم خَمْسمِائَة خَمْسمِائَة، ثمَّ ثلثمِائة ثلثمِائة، ثمَّ مِائَتَيْنِ وَخمسين مِائَتَيْنِ وَخمسين.
وفيهَا كَانَت وقْعَة " الْقَادِسِيَّة " تولى حَرْب الْأَعَاجِم فِيهَا سعد بن أبي وَقاص ومقدم الْعَجم رستم، ودام الْقِتَال الشَّديد أَيَّامًا الْيَوْم الأول " يَوْم أعواث " ثمَّ يَوْم " عماس " ثمَّ " لَيْلَة الهرير " تركُوا فِيهِ الْكَلَام وهر واهريرا حَتَّى أَصْبحُوا ثمَّ الظّهْر هبت ريح عاصف فَمَال الْغُبَار على الْكفَّار وانْتهى الْقَعْقَاع وَأَصْحَابه إِلَى سَرِير رستم وَقد قَامَ رستم عَنهُ واستظل ببغال عَلَيْهَا مَال وصلت من كسْرَى للنَّفَقَة فشدوا على رستم فهرب ولحقه هِلَال بن عَلْقَمَة فَأخذ بِرجلِهِ وَقَتله وَجَاء بِهِ وَطَرحه بَين أرجل البغال وَصعد السرير ونادى قتلت رستم وَرب الْكَعْبَة.
وتمت الْهَزِيمَة على الْعَجم وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى ثمَّ نزل سعد غربي دجلة على نهر شير قبالة مَدَائِن كسْرَى وَلما شَاهد إيوَان كسْرَى كبروا وَقَالُوا هَذَا كسْرَى هَذَا مَا وعد اللَّهِ وَرَسُوله.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة: وَأقَام سعد على نهر شير إِلَى أَيَّام من صفر، ثمَّ عبروا دجلة، وهرب الْفرس من الْمَدَائِن نَحْو حلوان، وَكَانَ كسْرَى يزدجرد قد قدم عِيَاله إِلَى حلوان وَخرج هُوَ وَمن مَعَه بِمَا قدرُوا عَلَيْهِ فَدخل الْمُسلمُونَ الْمَدَائِن وَقتلُوا كل من وجدوه وَنزل سعد بِالْقصرِ الْأَبْيَض وَاتخذ إيوَان كسْرَى مصلى واحتاط على أَمْوَال تخرج عَن الإحصاء، وأدركوا بغلا وَقع فِي المَاء عَلَيْهِ تَاج كسْرَى ومنطقته وَدِرْعه وَغير ذَلِك مكللا بالجوهر، واستوهب سعد مَا يخص أَصْحَابه من بِسَاط كسْرَى وَكَانَ على هَيْئَة رَوْضَة صورت فِيهِ الزهور بالجواهر على قضبان الذَّهَب وَبعث بِهِ إِلَى عمر فَقَطعه عمر وَقِسْمَة بَين الْمُسلمين فَأصَاب عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ قِطْعَة مِنْهُ فَبَاعَهَا بِعشْرين ألف دِرْهَم، وَأقَام سعد بِالْمَدَائِنِ وَبعث جَيْشًا إِلَى جلولا وَكَانَ قد اجْتمع بهَا الْفرس.
فجرت وقْعَة " جلولا " وَقتل من الْفرس مَا لَا يُحْصى فَسَار كسْرَى يزدجرد عَن حلوان(1/138)
وقصدها الْمُسلمُونَ واستولوا عَلَيْهَا ثمَّ فتحُوا تكريت والموصل ثمَّ قرقيسا وماسبذان عنْوَة.
وفيهَا قدم جبلة بن الْأَيْهَم على عمر فَتَلقاهُ الْمُسلمُونَ وَدخل فِي زِيّ حسن وَبَين بديه جنائب وَلبس أَصْحَابه الديباج.
وفيهَا حج عمر فحج مَعَه جبلة فوطىء رجل من فَزَارَة إزَاره فِي الطّواف فَلَطَمَهُ جبلة فهشم أَنفه فَشَكَاهُ الْفَزارِيّ إِلَى عمر فَقَالَ: إِمَّا أَن ترضيه وَإِمَّا أقدته مِنْك، قَالَ أتقيده مني وَأَنا ملك وَهُوَ سوقة، قَالَ: يَا جبلة إِنَّه قد جمعك وإياه الْإِسْلَام فَمَا تفضله إِلَّا بالعافية، قَالَ: وَالله لقد رَجَوْت أَن أكون فِي الْإِسْلَام أعز مني فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ عمر: هُوَ ذَاك قَالَ: إِذا أتنصر، قَالَ إِن تنصرت ضربت عُنُقك، قَالَ أخرني إِلَى غَد، قَالَ ذَلِك لَك، فهرب هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى هِرقل فتنصروا، وَأكْرمهمْ هِرقل وأقطع لَهُ، ثمَّ نَدم جبلة على فعله ذَلِك وَمضى رَسُول عمر إِلَى هِرقل وَشَاهد مَا فِيهِ جبلة من النِّعْمَة.
قلت: وَلما اجْتمع رَسُول عمر بجبلة لامه على الرِّدَّة فَقَالَ إِن كنت تضمن لي أَن يزوجني عمر ابْنَته ويوليني الْأَمر بعده رجعت، فضمن الرَّسُول التَّزْوِيج وَلم يضمن الثَّانِيَة، ثمَّ نصب مَوَائِد الذَّهَب وصحاف الْفضة فَامْتنعَ الرَّسُول مِنْهَا وَأكل فِي الخلنج وَجِيء بطساس الْفضة وأباريق الذَّهَب فَامْتنعَ الرَّسُول وَغسل يَدَيْهِ فِي الصفر، ثمَّ وضعت عشرَة كراسي مرصعة عَن يَمِينه وَعشرَة عَن شِمَاله وَجلسَ عَلَيْهَا جوَار حسان عَلَيْهِنَّ الْحلِيّ، ثمَّ طيب بِوَاسِطَة طَائِر عَجِيب الْخلقَة فَقَالَ للجواري اللَّاتِي عَن يَمِينه: بِاللَّه أضحكننا فَقُلْنَ وخفقت عيدانهن:
(لله در عِصَابَة نادمتهم ... يَوْمًا بجلق فِي الزَّمَان الأول)
(يسقون من ورد البريض عَلَيْهِم ... رَاحا تصفق بالرحيق السلسل)
(أَوْلَاد جَفْنَة حول قبر أَبِيهِم ... قبر ابْن مَارِيَة الْكَرِيم الْمفضل)
(يغشون حَتَّى مَا تهر كلابهم ... لَا يسْأَلُون عَن السوَاد الْمقبل)
(ثمَّ الأنوف كَرِيمَة أحسابهم ... بيض الْوُجُوه من الطّراز الأول)
فَقَالَ جبلة: هَذَا لحسان، ثمَّ الْتفت إِلَى اللواتي عَن يسَاره وَقَالَ: بِاللَّه أبكيننا فَقُلْنَ:
(لمن الدَّار أقفرت بمعان ... بَين أَعلَى اليرموك فالخمان)
(ذَاك مغنى لآل جَفْنَة فِي الد ... هر محلا لحادث الْأَزْمَان)
(قد أَرَانِي هُنَاكَ دهرا مكينا ... عِنْد ذِي التَّاج مقعدي ومكاني)
(ودنا الفصح فالولائد ... ينظمن سرَاعًا أَكلَة المرجان)
وَقَالَ: هَذَا لحسان ثمَّ أنشأ:
(تنصرت للإتراف من أجل لطمة ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَو سمحت بهَا ضَرَر)
(تكنفني مِنْهَا لجاج ونخوة ... وبعت لَهَا الْعين الصَّحِيحَة بالعور)
(فياليت أُمِّي لم تلدني وليتني ... رجعت إِلَى القَوْل الَّذِي قَالَ لي عمر)(1/139)
(وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بقفرة ... وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر)
ثمَّ أَن الرَّسُول أخبر عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ بذلك كُله وَبعث مَعَه جبلة خَمْسمِائَة دِينَار لحسان بن ثَابت فَقَالَ حسان:
(إِن ابْن جفن من بَقِيَّة معشر ... لم يغرهم آباؤهم باللوم)
(لم ينسني بِالشَّام إِذْ هُوَ رَبهَا ... كلا وَلَا منتصرا بالروم)
وَلَام عمر الرَّسُول هلا ضمن لَهُ الْأَمريْنِ فَإِن جبلة كفؤ لبنته وَأما ولَايَة الْأَمر فَهِيَ بيد اللَّهِ يُورثهَا من يَشَاء من عبَادَة قَالَ الرَّسُول فعدت من عِنْد عمر إِلَى جبلة لأضمن لَهُ مَا اشْترط فَوجدت النَّاس منصرفين من جنَازَته فَعلمت أَن الشَّقَاء قد غلب عَلَيْهِ فِي أم الْكتاب.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة: فِيهَا اختطت الْكُوفَة وتحول سعد إِلَيْهَا.
وفيهَا اعْتَمر عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَأقَام بِمَكَّة عشْرين لَيْلَة ووسع الْمَسْجِد الْحَرَام وَهدم منَازِل قوم أَبَوا بيعهَا وَجعل أثمانها فِي بَيت المَال وَتزَوج أم كُلْثُوم بنت عَليّ - أمهَا فَاطِمَة - رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وفيهَا وقْعَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة ولاه عمر الْبَصْرَة وَكَانَ قبالة علية الْمُغيرَة عَلَيْهِ فِيهَا أَرْبَعَة وهم: أَبُو بكرَة مولى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَخُوهُ لأمه زِيَاد بن أَبِيه، وَنَافِع بن كلدة، وشبل بن معبد، فَرفعت الرّيح الكوة عَن الْعلية فَإِذا الْمُغيرَة على أم جميل بنت الأرقم بن عَامر بن صعصعة فَكَتَبُوا إِلَى عمر بذلك، فَعَزله واستقدمه مَعَ الشُّهُود وَولى الْبَصْرَة أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَلَمَّا قدم إِلَى عمر شهد أَبُو بكرَة وَنَافِع وشبل عَلَيْهِ بالزنى وَلم يفصح زِيَاد وَقَالَ عمر قبل أَن يشْهد أرى رجلا أَرْجُو أَن لَا يفضح اللَّهِ بِهِ رجلا من اصحاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ زِيَاد: رَأَيْته جَالِسا بَين رجْلي امْرَأَة وَرَأَيْت رجلَيْنِ مرفوعتين كأذني حمَار ونفسا يَعْلُو وأستا ينبو عَن ذكر وَلَا أعرف مَا وَرَاء ذَلِك فَقَالَ عمر هَل رَأَيْت الْميل فِي المكحلة قَالَ: لَا؛ قَالَ فَهَل تعرف الْمَرْأَة لَا وَلَكِن أشبههَا، فجلد الشُّهُود الثَّلَاثَة حد الْقَذْف، وَزِيَاد أَخُو أبي بكرَة لأمه فَلم يكلمهُ أَبُو بكرَة بعْدهَا.
وفيهَا فتح الْمُسلمُونَ الأهواز من يَد الهرمزان من عُظَمَاء الْفرس وفتحوا رامهرمز وتستر ثمَّ نزل الهرمزان من القلعة على حكم عمر فَأرْسل مَعَ وَفد مِنْهُم أنس بن مَالك والأحنف بن قيس فوصلوا بِهِ الْمَدِينَة وَقد ألبسوه الديباج الْمَذْهَب وعَلى رَأسه تاجه مكللا بالياقوت فوجدوا عمر نَائِما بِالْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ حرس وَلَا حجاب فَاسْتَيْقَظَ للجبلة وَقَالَ لَهُ اللَّهِ الَّذِي أذلّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وأشباهه وَنزع مَا عَلَيْهِ وألبس ثوبا صفيفا، ثمَّ قَالَ لَهُ كَيفَ رَأَيْت عَاقِبَة الْغدر وعاقبة أَمر اللَّهِ فَقَالَ الهرمزان: نَحن وَإِيَّاكُم فِي الْجَاهِلِيَّة لما خلى اللَّهِ بيني وَبَيْنكُم غلبناكم وَلما كَانَ اللَّهِ الْآن مَعكُمْ غلبتمونا وَطلب مَاء فَأتي بِهِ وَقَالَ: أَخَاف أَن يقتلني وَأَنا أشْرب فَقَالَ عمر لَا بَأْس عَلَيْك حَتَّى تشرب فَرمى الْإِنَاء فانكسر فقصد عمر قَتله فَقَالَت(1/140)
الصَّحَابَة: إِنَّك أمنته بِقَوْلِك لَا بَأْس عَلَيْك إِلَى أَن تشرب، وَلم يشرب ذَلِك المَاء، ثمَّ أسلم وَفرض لَهُ أَلفَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِي عشرَة: فِيهَا أمحل الْحجاز فاستعان عمر الْأَمْصَار فَكَانَ مِمَّن قدم عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة بأَرْبعَة آلَاف رَاحِلَة زادا فقسم عمر حَتَّى أرخصت الْمَدِينَة وَلما اشْتَدَّ الْقَحْط استقسى بِالْعَبَّاسِ فسقوا وَأَقْبل النَّاس يتمسحون بأذيال الْعَبَّاس.
وفيهَا كَانَ طاعون عمواس بِالشَّام مَاتَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَة رَضِي اللَّهِ عَنهُ واستخلف أَبُو عُبَيْدَة " معَاذ بن جبل " فَمَاتَ بالطاعون فاستخلف عَمْرو بن الْعَاصِ، وَمَات فِي هَذَا الطَّاعُون خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا وَمكث شهرا وطمع الْعَدو وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ مثله.
وفيهَا سَار عمر إِلَى الشَّام فقسم مَوَارِيث الْمَوْتَى بِهِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فِي ذِي الْقعدَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة: وَسنة عشْرين فِيهَا فتحت مصر والإسكندرية على يَد عَمْرو بن الْعَاصِ وَالزُّبَيْر فَنزلَا عين شمس بِقرب المطرية ففتحاها وَبعث عَمْرو بن الْعَاصِ أَبْرَهَة بن الصَّباح إِلَى الفرما وَضرب عَمْرو فسطاطه مَوضِع جَامعه بِمصْر الْآن واختطت مصر وَبني الْجَامِع ثمَّ فتح الْإسْكَنْدَريَّة عنْوَة بعد قتال شَدِيد.
وفيهَا توفّي بِلَال بن رَبَاح مُؤذن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مولى أبي بكر الصّديق وَاسم أمه حمامة وَهُوَ من مولدِي الْحَبَشَة أسلم بعد إِسْلَام أبي بكر وَلم يُؤذن بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طلب من أبي بكر أَن يُرْسِلهُ فِي الْجِهَاد فَسَأَلَهُ أَبُو بكر أَن يُقيم مَعَه فَأَقَامَ، ثمَّ ولي عمر فَسَأَلَهُ ذَلِك فأبي، وَسَار إِلَى دمشق وَبهَا مَاتَ وَدفن بِبَاب الصَّغِير.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين: فِيهَا وقْعَة نهاوند مَعَ الْأَعَاجِم ومقدمهم الفرزان جمع مائَة وَخمسين ألفا وَجَرت بَينهم حروب كَثِيرَة آخرهَا كسرة الْأَعَاجِم وفناؤهم وهرب الفرزان وَوصل إِلَى ثنية هَمدَان فَوجدَ بغالا محملة عسلا عوقته، فَنزل عَن فرسه هَارِبا فِي الْجَبَل فَتَبِعَهُ الْقَعْقَاع رَاجِلا وَقَتله فَقيل إِن لله جندا من عسل.
وفيهَا فتحت الدينور والصيمرة وهمدان وأصفهان.
وفيهَا توفّي خَالِد بن الْوَلِيد وقبره قيل بِالْمَدِينَةِ وَقيل بحمص.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين: فِيهَا فتحت أذربيجان والري وجرجان وقزوين وزنجان وطبرستان.
وفيهَا صَالح عَمْرو بن الْعَاصِ أهل برقة على الْجِزْيَة ثمَّ حاصر طرابلس الغرب وَفتحهَا عنْوَة.
وفيهَا غزا الْأَحْنَف بن قيس خُرَاسَان وَحَارب يزدجرد وافتتح هراة عنْوَة ثمَّ سَار إِلَى مرو وَكتب يزدجرد إِلَى ملك التّرْك يستمده وَإِلَى ملك السَّنَد وَإِلَى ملك الصين وَانْهَزَمَ(1/141)
يزدجرد إِلَى بَلخ ثمَّ هزموه فَعبر نهر جيحون وَأبي صلح الْمُسلمين فطرده عسكره وصالحوا الْمُسلمين وبقوا بأماكنهم وَسَار يزدجرد مَعَ ملك التّرْك فِي حاشيتته وَأقَام بفرغانة زمن عمر كُله.
وفيهَا توفّي أبي بن كَعْب بن قيس من ولد مَالك بن النجار ويكنى أَبَا الْمُنْذر أَمر اللَّهِ نبيه أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَقَالَ: " اقْرَأ أمتِي أبي بعدِي "، وَقيل توفّي سنة ثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عمر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين: فِيهَا طعن أَبُو لؤلؤة فَيْرُوز عبد الْمُغيرَة بن شُعْبَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فِي خاصرته وَتَحْت سرته لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة.
قلت: وَكَانَ أَبُو لؤلؤة نَصْرَانِيّا.
" وَتُوفِّي عمر " يَوْم السبت سلخ ذِي الْحجَّة وَدفن يَوْم الْأَحَد هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَمُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام، وَدفن عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
قلت: مر يَوْمًا عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يزَال بَيْنكُم وَبَين الْفِتْنَة بَاب شَدِيد الغلق مَا دَامَ هَذَا بَين أظْهركُم فَإِذا فارقكم انْفَتح ذَلِك الْبَاب " فَكَانَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن الْفِتْنَة كلهَا نجمت بعد مَقْتَله وناحت الْجِنّ عَلَيْهِ قبل مَقْتَله بِثَلَاث فَقَالَت:
(أبعد قَتِيل بِالْمَدِينَةِ أَصبَحت ... لَهُ الأَرْض تهتز الْعضَاة بأسواق)
(جزا اللَّهِ خيرا من أَمِير وباركت ... يَد اللَّهِ فِي ذَاك الْأَدِيم الممزق)
(فَمن يسع أَو يركب جناحي نمعامة ... ليدرك مَا قَدمته الْيَوْم يسْبق)
(قضيت أمورا ثمَّ غادرت بعْدهَا ... بوائق فِي أكمامها لم تفتق)
(وَمَا كنت أخْشَى أَن تكون وَفَاته ... بكفي شقي أَزْرَق الْعين مطرق)
وَنسب بَعضهم هَذِه الأبيات إِلَى مزرد بن ضرار، وَالله اعْلَم.
وعهد بالخلافة إِلَى النَّفر الَّذين مَاتَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عَنْهُم رَاض وهم عَليّ وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بعد أَن عرضهَا على عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فأبي. وَكَانَ عمر طَوِيل الْقَامَة أَبيض أصلع أشيب وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ وَقيل سِتُّونَ وَقيل خمس وَخَمْسُونَ وفضله وعدله وزهده مَشْهُور حرس بِنَفسِهِ لَيْلَة قفلا نزلُوا بِنَاحِيَة السُّوق هُوَ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ أول من كتب التَّارِيخ وَأول من عس بِاللَّيْلِ وَأول من نهى عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأول من جمع على صَلَاة الْجِنَازَة بِأَرْبَع تَكْبِيرَات، وَكَانُوا من قبل يكبرُونَ أَرْبعا وخمسا وستا، وَأول من جمع على إِمَام يُصَلِّي التَّرَاوِيح، وَأول من ضرب بِالدرةِ وَدون الدَّوَاوِين وخطب مرّة وَعَلِيهِ إِزَار فِيهِ اثْنَتَا عشرَة رقْعَة وَمر فِي بعض حجاته بضجنان فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ الْمُعْطِي من شَاءَ مَا شَاءَ كنت أرعى إبل الْخطاب فِي هَذَا الْوَادي وَكَانَ(1/142)
فظا يرعبني إِذا عملت ويضربني إِذا قصرت وَقد أَصبَحت وَلَيْسَ بيني وَبَين اللَّهِ أحد وفضائله رَضِي اللَّهِ عَنهُ اكثر من أَن تحصر.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين: فِيهَا عقب موت عمر اجْتمع أهل الشورى وهم: عَليّ وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد اللَّهِ بن عمر رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، وَشرط عمر أَن يكون ابْنه عبد اللَّهِ شَرِيكا فِي الرَّأْي وَلَا يكون لَهُ حَظّ فِي الْخلَافَة، وَجعل الْمدَّة ثَلَاثَة أَيَّام وَقَالَ: لَا يمْضِي الْيَوْم الرَّابِع إِلَّا وَلكم أَمِير، وَإِن أختلفتم فكونوا مَعَ الَّذين مَعَهم عبد الرَّحْمَن،
(خلَافَة عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
ثمَّ بُويِعَ عُثْمَان بالخلافة لثلاث مضين من الْمحرم مِنْهَا، وَهُوَ عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف، وَأمه أروى بنت كريز بن ربيعَة. وَأقر عُثْمَان وُلَاة عمر سنة لِأَنَّهُ أوصى بذلك، ثمَّ عزل الْمُغيرَة بن شُعْبَة عَن الْكُوفَة وولاها سعد بن أبي وَقاص، ثمَّ عَزله وولاها الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط كَانَ أَخا عُثْمَان من أمه.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين: فِيهَا توفّي أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ واسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة بالربذة، وَقيل: توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ بهَا.
قلت: حكى شَيخنَا صدر الدّين بن الْوَكِيل رَحمَه اللَّهِ أَن رجلا سَأَلَ بعض السّلف بِأَن قَالَ: أعمر أخرج أَبَا ذَر؟ فَقَالَ لَهُ: كَذبُوك، وتصحيف ذَلِك أعثمان أخرج أَبَا ذَر، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين: فِيهَا عزل عُثْمَان عَمْرو بن الْعَاصِ عَن مصر وولاها عبد اللَّهِ بن سعد بن أبي سرح العامري أَخا عُثْمَان من الرضَاعَة وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أهْدر دم سعد الْمَذْكُور يَوْم الْفَتْح فشفع فِيهِ عُثْمَان فَأَطْلقهُ.
وَفِي خِلَافَته رَضِي اللَّهِ عَنهُ فتحت إفريقية بتولي ابْن أبي سرح الْمَذْكُور وَبعث بالخمس إِلَى عُثْمَان، وَلما فتحت أَمر عُثْمَان عبد اللَّهِ بن نَافِع بن الْحصين أَن يسير إِلَى جِهَة الأندلس، فغزا تِلْكَ الْجِهَة وَعَاد إِلَى إفريقية وَأقَام بهَا من قبل عُثْمَان، وَرجع عبد اللَّهِ بن سعد إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَسنة ثَمَان وَعشْرين: فِيهَا استأذنه مُعَاوِيَة فِي غَزْو الْبَحْر فَأذن لَهُ، فَجهز مُعَاوِيَة إِلَى قبرس جَيْشًا، وَسَار إِلَيْهَا أَيْضا عبد اللَّهِ بن سعد من مصر فَقَاتلُوا جَمِيعًا أَهلهَا، ثمَّ صولحوا على جِزْيَة سَبْعَة آلَاف دِينَار فِي كل سنة بعد قتل وَسبي كثير فِي قبرس.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين: فِيهَا عزل عُثْمَان أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن الْبَصْرَة وولاها ابْن خَاله عبد اللَّهِ بن عَامر بن كريز، ثمَّ عزل الْوَلِيد بن عقبَة عَن الْكُوفَة لكَونه(1/143)
شرب الْخمر وَصلى بِالْمُسْلِمين الْفجْر أَرْبعا وَهُوَ سَكرَان، ثمَّ الْتفت إِلَى النَّاس وَقَالَ: هَل ازيدكم؟ فَقَالَ ابْن مَسْعُود: مَا زلنا مَعَك فِي زِيَادَة مُنْذُ الْيَوْم. وَفِي ذَلِك يَقُول الحطيئة:
(شهد الحطيئة يَوْم يلقى ربه ... أَن الْوَلِيد أَحَق بالعذر)
(نَادَى وَقد فرغت صلَاتهم ... أأزيدكم سكرا وَمَا يدْرِي)
(فَأَبَوا أَبَا وهب وَلَو أذنوا ... لقرنت بَين الشفع وَالْوتر)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ: فِيهَا بلغ عُثْمَان مَا وَقع فِي أَمر الْقُرْآن وَأَن أهل الْعرَاق يَقُولُونَ: قراءتنا أصح لأَنا قَرَأنَا على أبي مُوسَى، وَأهل الشَّام يَقُولُونَ: قراءتنا أصح لأَنا قَرَأنَا على الْمِقْدَاد، وَكَذَلِكَ غَيرهم. فَحمل النَّاس بِاتِّفَاق الصَّحَابَة على الْمُصحف الَّذِي كتب زمن أبي بكر وأودع عِنْد حَفْصَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا وَنسخ مِنْهُ مصاحف للأمصار تولى نسخهَا بِأَمْر زيد بن ثَابت وَعبد اللَّهِ بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي، وَقَالَ عُثْمَان: إِذا اختلفتم فِي كلمة فاكتبوها بِلِسَان قُرَيْش فَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن بلسانهم.
وفيهَا سقط من عُثْمَان خَاتم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ من فضَّة فِيهِ ثَلَاثَة أسطر مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ كَانَ يتختم بِهِ وَيخْتم بِهِ الْكتب إِلَى الْمُلُوك، ثمَّ تختم بِهِ أَبُو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عُثْمَان إِلَى أَن سقط فِي بِئْر أريس.
قلت: قَالُوا: وَكَانَ أمره صافيا إِلَى سُقُوط الْخَاتم الْمَذْكُور، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ: فِيهَا هلك كسْرَى يزدجرد آخر مُلُوكهمْ قيل: قَتله أهل مرو وَقتل بنيه التّرْك وَقتل أَصْحَابه فهرب هُوَ إِلَى بَيت رجل ينْقل الأرحاء فَقتله ثمَّ قتل.
وفيهَا عَصَتْ خُرَاسَان فَفَتحهَا الْمُسلمُونَ ثَانِيًا.
وفيهَا مَاتَ أَبُو سُفْيَان بن حَرْب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن مَسْعُود بن عَاقل بن حبيب بن شمح من ولد مدركة بن إلْيَاس بن مُضر وَفِي مدركة يجْتَمع مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ أحد الْقُرَّاء عَظِيم فِي الصَّحَابَة وعدة بَعضهم فِي الْعشْرَة الْمَقْطُوع لَهُم بِالْجنَّةِ بدل أبي عُبَيْدَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ: فِيهَا تكلم جمَاعَة بِأَن عُثْمَان ولى جمَاعَة من أهل بَيته لَا يصلحون للولاية، فَكتب سعيد بن الْعَاصِ وَالِي الْكُوفَة إِلَيْهِ بذلك فَأمره عُثْمَان أَن يسير الَّذين تكلمُوا بذلك إِلَى مُعَاوِيَة بِالشَّام، فأرسلهم وَفِيهِمْ الْحَارِث بن مَالك الأشتر النَّخعِيّ وثابت بن قيس النَّخعِيّ وَجَمِيل بن زِيَاد وَزيد بن صوحان الْعَبْدي وَأَخُوهُ صعصة وجندب بن زُهَيْر وَعُرْوَة بن الْجَعْد وَعَمْرو بن الْحمق، فقدموا على مُعَاوِيَة وَجرى بَينهم كَلَام كثير وحذرهم الْفِتْنَة، فَوَثَبُوا وَأخذُوا بلحية مُعَاوِيَة ورأيه فَكتب بذلك إِلَى عُثْمَان، فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان أَن يردهم إِلَى سعيد بن الْعَاصِ فردهم إِلَى سعيد، فأطلقوا ألسنتهم فِي عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَاجْتمعَ إِلَيْهِم أهل الْكُوفَة.(1/144)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ: وفيهَا قدم سعيد إِلَى عُثْمَان وَأخْبرهُ بِمَا فعله أهل الْكُوفَة وَأَنَّهُمْ يختارون أَبَا مُوسَى، فولى عُثْمَان أَبَا مُوسَى الْكُوفَة، فخطبهم أَبُو مُوسَى وَأمرهمْ بِطَاعَة عُثْمَان فَأَجَابُوا.
وتكاتب نفر من الصَّحَابَة أَن أقدموا فالجهاد عندنَا، ونال النَّاس من عُثْمَان وَلَيْسَ أحد من الصَّحَابَة ينْهَى عَن ذَلِك وَلَا يذب إِلَّا نفر مِنْهُم: زيد بن ثَابت وَأَبُو أسيد السَّاعِدِيّ وَكَعب بن مَالك وَحسان بن ثَابت، وَمِمَّا نقموا عَلَيْهِ رد الحكم بن الْعَاصِ طريد رَسُول الله وطريد أبي بكر وَعمر، وإعطاؤه مَرْوَان بن الحكم خمس غَنَائِم إفريقية وَهُوَ مَال عَظِيم، وَفِي ذَلِك يَقُول عبد الرَّحْمَن الْكِنْدِيّ:
(سأحلف بِاللَّه جهد الْيَمين ... مَا ترك اللَّهِ أمرا سدى)
(وَلَكِن خلقت لنا فتْنَة ... لكَي نبتلي بك أَو نبتلي)
(دَعَوْت اللعين فأدنيته ... خلافًا لسنة من قد مضى)
(وَأعْطيت مَرْوَان خمس الْعباد ... ظلما لَهُم وحميت الْحمى)
وأقطع مَرْوَان فدك وَهِي صَدَقَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّتِي طلبتها فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا من أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وَلم يكن بلغَهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة " وَلم تزل فدك فِي يَد مَرْوَان حَتَّى انتزعها عمر بن عبد الْعَزِيز وردهَا صَدَقَة.
وفيهَا توفّي الْمِقْدَاد بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة، تبناه الْأسود بن عبد يَغُوث فِي الْجَاهِلِيَّة فَعرف بِهِ، وَلما نزل قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قيل: الْمِقْدَاد بن عَمْرو؛ وَمَا كَانَ يَوْم بدر صَاحب فرس فِي الْمُسلمين غير الْمِقْدَاد فِي قَول، وَشهد مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمشَاهد كلهَا وَعمر نَحْو سبعين سنة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ: فِيهَا قدمت جموع من مصر والكوفة وَالْبَصْرَة، وَكَانَ هوى المصريين مَعَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وَهوى الْكُوفِيّين مَعَ الزبير، وَهُوَ الْبَصرِيين مَعَ طَلْحَة، فَدَخَلُوا الْمَدِينَة وثاروا على عُثْمَان يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ على الْمِنْبَر وَقَاتل جمَاعَة من الْمَدِينَة عَنهُ مِنْهُم: سعد بن أبي وَقاص وَالْحسن بن عَليّ وَزيد بن ثَابت وَأَبُو هُرَيْرَة، فَأرْسل عُثْمَان يعزم عَلَيْهِم بالانصراف فانصرفوا، وَصلى عُثْمَان بعد مَا نزلت الجموع فِي الْمَسْجِد ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ منعُوهُ الصَّلَاة فصلى بِالنَّاسِ الغافقي أَمِير جمع مصر، وَلزِمَ أهل الْمَدِينَة بُيُوتهم وَعُثْمَان مَحْصُور فِي دَاره أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقيل: خمسين.
ثمَّ اتّفق عَليّ مَعَ عُثْمَان على مَا طلبه النَّاس مِنْهُ من عزل مَرْوَان عَن كِتَابَته وَعبد اللَّهِ بن أبي سرح عَن مصر فَأجَاب، وَفرق عَليّ النَّاس عَنهُ، ثمَّ اجْتمع مَرْوَان بعثمان فَرده عَن ذَلِك، وَلَكِن عزل ابْن أبي سرح عَن مصر وولاها مُحَمَّد بن أبي بكر. وَتوجه مَعَ مُحَمَّد بن أبي بكر مهاجرون وأنصار، فَبينا هم فِي الطَّرِيق وَإِذا عبد عَليّ هجين يجهده فَقَالُوا لَهُ: إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى الْعَامِل بِمصْر، قَالُوا: هَذَا عَامل مصر - يعنون مُحَمَّد بن أبي(1/145)
بكر -. قَالَ: بل الْعَامِل الآخر - يَعْنِي ابْن أبي سرح -، ففتشوه فوجدوا مَعَه كتابا مَخْتُومًا بِخَتْم عُثْمَان يَقُول: إِذا جَاءَك مُحَمَّد بن أبي بكر وَمن مَعَه بأنك مَعْزُول فَلَا تقبل واحتل لقتلهم وأبطل كِتَابهمْ وقر فِي عَمَلك. فَرجع مُحَمَّد وَمن مَعَه وجمعوا الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ على الْكتاب، وسألوا عُثْمَان عَنهُ فاعترف بالختم وَخط كَاتبه وَحلف بِاللَّه أَنه لم يَأْمر بذلك، فطلبوا مِنْهُ مَرْوَان ليسلمه إِلَيْهِم بِسَبَب ذَلِك فَامْتنعَ، فحنقوا وجدوا فِي قِتَاله، فَأَقَامَ عَليّ ابْنه الْحسن يذب عَنهُ، وَأقَام الزبير ابْنه عبد اللَّهِ، وَطَلْحَة ابْنه مُحَمَّدًا، بِحَيْثُ جرح الْحسن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وانصبغ بِالدَّمِ.
ثمَّ تسوروا على عُثْمَان من دَار بِجنب دَاره، وَنزل عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن أبي بكر فَقَتَلُوهُ صَائِما يَتْلُو فِي الْمُصحف لثمان عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمُدَّة خِلَافَته رَضِي اللَّهِ عَنهُ اثْنَتَا عشرَة سنة إِلَّا اثْنَتَيْ عشر يَوْمًا، وعمره سَبْعُونَ، وَقيل: أثنتان وَثَمَانُونَ، وَقيل: تسعون. وَمكث ثَلَاثَة أَيَّام لم يدْفن منع محاربوه من دَفنه، ثمَّ امْر عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بدفنه.
وَكَانَ معتدل الْقَامَة، حسن الْوَجْه بِوَجْهِهِ أثر جدري، عَظِيم اللِّحْيَة، أسمر اللَّوْن، أصلع، يصفر لحيته، تزوج ابْنَتي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسُمي ذَا النورين، كَاتبه مَرْوَان بن الحكم، وقاضيه زيد بن ثَابت، جهز جَيش الْعسرَة من مَاله، وَأصَاب النَّاس مجاعَة فِي غزَاة تَبُوك فَاشْترى طَعَاما يصلح الْعَسْكَر وجهز بِهِ عيرًا، فَلَمَّا وصل ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رفع يَده إِلَى السَّمَاء قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قد رضيت عَن عُثْمَان فارض عَنهُ، وَدخل يَوْمًا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجعل ثَوْبه عَلَيْهِ وَقَالَ: " كَيفَ لَا أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة ".
قلت: وَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا عُثْمَان إِن اللَّهِ عَسى أَن يلبسك قَمِيصًا فَإِن أرادك المُنَافِقُونَ على خلعة فَلَا تخلعه حَتَّى تَلقانِي يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ لَهُ يَوْمًا وَقد دخل عَلَيْهِ: " كَيفَ أَنْت يَا عُثْمَان إِذا لقيتني يَوْم الْقِيَامَة وأوداجك تشخب دَمًا فَأَقُول من فعل بك هَذَا فَتَقول بَين خاذل وَقَاتل وآمر ".
ثمَّ وَقع النَّاس بعده من الْفِتَن وَالْقَتْل فِي محذورين، وَأَقْبَلت عَلَيْهِم سحب أهواء مظْلمَة بقتل ذِي النورين، واستقبحت الْعُقَلَاء فقد صورته المستحسنة على هَذِه الصُّورَة، واستهجنت الفصحاء صرف عُثْمَان قَتِيلا من غير تناسب وَلَا ضَرُورَة وَمَا أحسن قَول كَعْب بن مَالك فِيهِ:
(وكف يَدَيْهِ ثمَّ أغلق بَابه ... وأيقن أَن اللَّهِ لَيْسَ بغافل)
(وَقَالَ لأهل الدَّار لَا تَقْتُلُوهُمْ ... عَفا اللَّهِ عَن كل امرىء لم يُقَاتل)
(فَكيف رَأَيْت اللَّهِ صب عَلَيْهِم الْعَدَاوَة ... والبغضاء بعد التواصل)
(وَكَيف رَأَيْت الْخَيْر أدبر بعده ... عَن النَّاس إدبار الرِّيَاح الحوافل)
وَالله أعلم.(1/146)
(أَخْبَار عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
وَاسم أبي طَالب: عبد منَاف بن عبد الْمطلب، وَأم عَليّ فَاطِمَة بنت أَسد بن هَاشم، فَهُوَ ابْن هاشميين؛ بُويِعَ بالخلافة يَوْم قتل عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وَلما سَأَلُوهُ الْبيعَة قَالَ: لَا حَاجَة لي فِي أَمركُم من اخترتم رضيت بِهِ وأكون وزيرا خيرا من أَن أكون أَمِيرا. فَأَبَوا إِلَّا مبايعته، فَأتى الْمَسْجِد فَبَايعُوهُ، وَقيل: بُويِعَ فِي بَيته؛ أول من بَايعه طَلْحَة وَكَانَت يَده مشلولة من أحد، فَقَالَ حبيب بن ذُؤَيْب: إِنَّا لله أول من بَدَأَ بالبيعة يَد شلاء لَا يتم هَذَا الْأَمر، وَبَايَعَهُ الزبير، قَالَ عَليّ لَهما: إِن أحببتما أَن تبَايعا بايعا وَإِن أحببتما بايعتكما، فَقَالَا: بل نُبَايِعك، وَقَالَ عَليّ لسعد بن أبي وَقاص: بَايع، فَقَالَ: حَتَّى يُبَايع النَّاس وَالله مَا عَلَيْك مني بَأْس فخلى سَبيله، وَتَأَخر أَيْضا عبد اللَّهِ بن عمر.
وبايعته الْأَنْصَار إِلَّا نَفرا قَلِيلا، مِنْهُم: حسان وَكَعب بن مَالك ومسلمة بن مخلد وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ والنعمان بن بشير وَمُحَمّد بن مسلمة وفضالة بن عبيد وَكَعب بن عجْرَة وَزيد بن ثَابت، كَانَ هَؤُلَاءِ قد ولاهم عُثْمَان على الصَّدقَات وَغَيرهم، وَلم يبايعه أَيْضا سعيد بن زيد وَعبد اللَّهِ بن سَلام وصهيب وَأُسَامَة بن زيد وَقُدَامَة بن مَظْعُون والمغيرة بن شُعْبَة وَسموا لذَلِك الْمُعْتَزلَة.
وَسَار النُّعْمَان بن بشير بِثَوْب عُثْمَان مُلَطَّخًا بِالدَّمِ إِلَى الشَّام، فَكَانَ مُعَاوِيَة يعلق قَمِيص عُثْمَان على الْمِنْبَر تحريضا على قتال عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وَقيل: بقيت الْمَدِينَة بعد عُثْمَان خمْسا والغافقي وَمن مَعَه يَلْتَمِسُونَ من يقوم بِالْأَمر، وَطَلْحَة فِي حَائِط لَهُ، وَسعد وَالزُّبَيْر قد خرجا من الْمَدِينَة، وَبَنُو أُميَّة قد هربوا، وباعد عَليّ المصريين، وَالزُّبَيْر الْكُوفِيّين، وَطَلْحَة الْبَصرِيين وَمَعَ اجْتِمَاعهم على قتل عُثْمَان كَانُوا مُخْتَلفين فِي من يَلِي غَيره حَتَّى أَتَوا عليا وَشَكوا مَا ابتلوا بِهِ وَمَا نزل بِالْإِسْلَامِ، ثمَّ يَوْم الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ صعد الْمِنْبَر واستعفى فَلم يعفوه، فَبَايعهُ أَولا طَلْحَة، ثمَّ لحق طَلْحَة وَالزُّبَيْر بعائشة بِمَكَّة.
وَكَانَ ابْن عَبَّاس بِمَكَّة لما قتل عُثْمَان، ثمَّ قدم الْمَدِينَة بعد الْبيعَة لعَلي فَوَجَدَهُ مستخليا بالمغيرة بن شُعْبَة، قَالَ: فَسَأَلته مَا قَالَ لَهُ فَقَالَ عَليّ: أَشَارَ عَليّ بِإِقْرَار مُعَاوِيَة وَغَيره من عُمَّال عُثْمَان إِلَى أَن يباعوا ويستقر الْأَمر فأبيت، ثمَّ أَتَانِي الْآن وَقَالَ: الرَّأْي مَا رَأَيْته، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّه نصحك فِي الْمرة الأولى وغشك فِي الثَّانِيَة وَإِنِّي أخْشَى أَن ينْتَقض عَلَيْك الشَّام وَأمره بِإِقْرَار مُعَاوِيَة، فَقَالَ عَليّ: وَالله لَا أعْطِيه إِلَّا السَّيْف ثمَّ تمثل:
(وَمَا ميتَة إِن متها غير عَاجز ... بِعَارٍ إِذا مَا غالت النَّفس غولها)
قَالَ: فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت رجل شُجَاع وَلست صَاحب رَأْي، فَقَالَ عَليّ: إِذا عصيتك فأطعني، فَقلت أيسر مَا لَك عِنْدِي الطَّاعَة، وَخرج الْمُغيرَة وَلحق بِمَكَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ: فِيهَا أرسل عَليّ عماله إِلَى الْبِلَاد، فَبعث إِلَى الْكُوفَة(1/147)
عمَارَة بن شهَاب من الْمُهَاجِرين، وَإِلَى الْبَصْرَة عُثْمَان بن حنيف الْأنْصَارِيّ وَإِلَى الْيمن عبيد اللَّهِ بن عَبَّاس الْمَشْهُور بالجود، وَإِلَى مصر قيس بن سعد بن عبَادَة، وَإِلَى الشَّام سهل بن حنيف الْأنْصَارِيّ ثمَّ رَجَعَ هَذَا من تَبُوك إِلَى عَليّ بِإِشَارَة من نصحه، واعتزلت عَن قيس بِمصْر فرقة، عثمانية وَقَالُوا: حَتَّى يقتل قَاتل عُثْمَان، واعتزلت عَن عُثْمَان بن حنيف بِالْبَصْرَةِ فرقة، وَلَقي طَلْحَة بن خويلد الْأَسدي الَّذِي كَانَ ادّعى النُّبُوَّة عمَارَة فَقَالَ لَهُ: إِن أهل الْكُوفَة لَا يستبدلون بأميرهم، فَرجع إِلَى عَليّ، وَمضى عبيد اللَّهِ إِلَى الْيمن، فَخرج يعلى بن مُنَبّه عَامل عُثْمَان عَلَيْهَا وَأخذ الحواصل وَلحق بِمَكَّة وَصَارَ مَعَ عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسلم إِلَيْهِم المَال.
وَطلب بِدَم عُثْمَان عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد اللَّهِ بن عَامر وَجَمَاعَة من بني أُميَّة وَسَارُوا فِي جمع عَظِيم للاستيلاء على الْبَصْرَة واكتفوا بِمُعَاوِيَة فِي أَمر الشَّام وأبى عبد اللَّهِ بن عمر عَن الْمسير مَعَهم.
وَأعْطى يعلى بن مُنَبّه عَائِشَة الْجمل الْمُسَمّى بعسكر اشْتَرَاهُ بِمِائَة دِينَار وَقيل بِثَمَانِينَ فركبته، ومروا بمَكَان اسْمه الحوأب، فنبحنهم كلابه فَقَالَت عَائِشَة: أَي مَاء هَذَا؟ قيل: هَذَا مَاء الحوأب، فصرخت وَقَالَت: إِنَّا للَّهِ وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون سَمِعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول وَعِنْده نساؤه: لَيْت شعري أيتكن ينبحها كلاب الحوأب، ثمَّ ضربت عضد بَعِيرهَا فأناخته وَقَالَت: ردوني، فأناخوا يَوْمًا وَلَيْلَة، وَقَالَ لَهَا عبد اللَّهِ بن الزبير: إِنَّه كذب - يَعْنِي لَيْسَ هَذَا مَاء الحوأب -. وَلم يزل بهَا وَهِي تمْتَنع فَقَالَ: النجا النجا فقد أدرككم عَليّ بن أبي طَالب، فارتحلوا نَحْو الْبَصْرَة واستولوا عَلَيْهَا بعد قتال مَعَ عُثْمَان بن حنيف، وَقتل من أَصْحَاب عُثْمَان بن حنيف أَرْبَعُونَ رجلا وَأمْسك فنتفت لحيته وحاجباه وسجن ثمَّ أطق.
وَسَار عَليّ إِلَى الْبَصْرَة حِين بلغه ذَلِك فِي أَرْبَعَة آلَاف من أهل الْمَدِينَة فيهم أَرْبَعمِائَة مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة وَثَمَانمِائَة من الْأَنْصَار، ورايته مَعَ ابْنه مُحَمَّد بن الحنيفة وعَلى ميمنته الْحسن، وعَلى ميسرته الْحُسَيْن، وعَلى الْخَيل عمار بن يَاسر، وعَلى الرجالة مُحَمَّد بن أبي بكر، وعَلى مقدمته عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس، ومسيره فِي ربيع الآخر مِنْهَا. وَوصل إِلَى ذِي قار فَأَتَاهُ ابْن حنيف وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بعثتني ذَا لحية وجئتك أَمْرَد، فَقَالَ: أصبت أجرا وَخيرا.
(وقْعَة الْجمل)
وَاجْتمعَ إِلَى عَليّ من الْكُوفَة جمع، وَإِلَى عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر جمع، وَسَار بَعضهم إِلَى بعض والتقوا بمَكَان يُقَال لَهُ الخريبة فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، ودعا عَليّ الزبير وَقَالَ: أَتَذكر يَوْمًا مَرَرْت مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بني غنم فَنظر إِلَيّ فَضَحكت وَضحك إِلَيّ فَقلت: لَا يدع ابْن أبي طَالب زهوه فَقَالَ لَك رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّه لَيْسَ بنزه ولتقاتلنه وَأَنت ظَالِم لَهُ فَقَالَ الزبير: اللَّهُمَّ نعم، وَلَو ذكرته مَا سرت مسيري هَذَا.(1/148)
وَانْصَرف الزبير طَالبا الْمَدِينَة فَمر بِمَاء لبني تَمِيم وَبِه الْأَحْنَف بن قيس فَقيل للأحنف وَكَانَ اعتزل الْقِتَال -: هَذَا الزبير قد أقبل، فَقَالَ: قد جمع بَين هذَيْن العارين - يَعْنِي العسكرين -، وتركهم وَأَقْبل وَفِي مَجْلِسه عَمْرو بن جرموز الْمُجَاشِعِي فَاتبع الزبير حَتَّى وجده نَائِما بوادي السبَاع فَقتله ثمَّ أقبل بِرَأْسِهِ إِلَى عَليّ، فَقَالَ عَليّ: سَمِعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: بشروا قَاتل الزبير بالنَّار. فَقَالَ عَمْرو بن جرموز:
(أتيت عليا بِرَأْس الزبير ... وَقد كنت أحسبها زلفة)
(فبشر بالنَّار قبل العيان ... فبئس الْبشَارَة والتحفة)
(وسيان عِنْدِي قتل الزبير ... وضرطة عير بِذِي الْجحْفَة)
واقتتلوا وَعَائِشَة راكبة الْجمل الْمُسَمّى عسكرا فِي هودج قد صَار كالقنفذ من النشاب، وتمت الْهَزِيمَة على أَصْحَاب عَائِشَة، وَرمى مَرْوَان بن الحكم طَلْحَة بِسَهْم فَقتله وكلهما كَانَا مَعَ عَائِشَة قيل: أخذا بثار عُثْمَان لِأَنَّهُ نسبه إِلَى الْإِعَانَة عَلَيْهِ، وَقطعت على خطام الْجمل أيد كَثِيرَة وَقتل بَينهم خلق كثير قيل: عشرَة آلَاف.
وَلما كثر الْقَتْل على خطام الْجمل قَالَ عَليّ: اعقروا الْجمل، فَضَربهُ رجل فَسقط فَبَقيت عَائِشَة فِي هودجها إِلَى اللَّيْل، وأدخلها أَخُوهَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْبَصْرَة إِلَى دَار عبد اللَّهِ خلف. وَطَاف عَليّ فصلى على أَصْحَاب الْجمل ودفنهم، وَلما رأى طَلْحَة قَتِيلا قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون لقد كنت أكره أَن أرى قُريْشًا صرعى أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(فَتى كَانَ يُدْنِيه الْغنى من صديقه ... إِذا مَا هُوَ اسْتغنى ويبعده الْفقر)
وَصلى عَلَيْهِ، وَلم ينْقل أَنه صلى على قَتْلَى الشَّام بصفين.
ثمَّ أَمر عَليّ عَائِشَة بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَة، فسارت مستهل رَجَب مِنْهُم وشيعها النَّاس، وجهزها عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِمَا احْتَاجَت إِلَيْهِ وسير مَعهَا أَوْلَاده مسيرَة يَوْم، وتوجهت إِلَى مَكَّة فأقامت لِلْحَجِّ تِلْكَ السّنة، ثمَّ رجعت إِلَى الْمَدِينَة.
وَاسْتعْمل عَليّ على الْبَصْرَة عبد اللَّهِ بن عَبَّاس ثمَّ نزل الْكُوفَة، وانتظم لَهُ الْأَمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وَفَارِس وخراسان هَذَا وَمُعَاوِيَة بِالشَّام وَأهل الشَّام مطيعون لَهُ، فَأرْسل إِلَيْهِ عَليّ جرير بن عبد اللَّهِ البَجلِيّ ليَأْخُذ الْبيعَة عَلَيْهِ، فماطله مُعَاوِيَة حَتَّى قدم عَمْرو بن الْعَاصِ من فلسطين فَوجدَ أهل الشَّام يحضون على الطّلب بِدَم عُثْمَان، فَقَالَ لَهُم عَمْرو: وَأَنْتُم على الْحق، وَاتفقَ مَعَ مُعَاوِيَة إِذا ظفر أَن يوليه مصر.
وَأَرَادَ مُعَاوِيَة استمالة قيس بن سعد بن عبَادَة عَامل مصر من جِهَة عَليّ وَكتب إِلَيْهِ بذلك فَأبى، وَكَانَ قيس من دهاة الْعَرَب مداهنا لأهل مصر لِئَلَّا ينضموا إِلَى مُعَاوِيَة، فَكتب مُعَاوِيَة كتابا على لِسَان قيس وقرأه على النَّاس موهما أَن قيسا مَعَه، وَلذَلِك لم يُقَاتل المعتزلين عَنهُ بِمصْر بقرية خربتا. وَبلغ ذَلِك عليا فعزل قيسا عَن مصر وَولى مُحَمَّد بن أبي(1/149)
بكر، وَلحق قيس بِالْمَدِينَةِ ثمَّ وصل إِلَى عَليّ فَعلم جلية أمره وَقَاتل مَعَه بصفين، ثمَّ سَار مَعَ الْحسن إِلَى أَن سلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة.
وَلما وصل مُحَمَّد بن أبي بكر إِلَى مصر واليا وصاه قيس أَن لَا يتَعَرَّض إِلَى العثمانية المعتزلين بخربتا، فَلم يقبل مُحَمَّد ذَلِك فَبعث إِلَيْهِم أَن يدخلُوا فِي بيعَة عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَأَبَوا.
(وقْعَة صفّين)
وَلما اتّفق عَمْرو مَعَ مُعَاوِيَة على حَرْب عَليّ قدم جرير بن عبد اللَّهِ البَجلِيّ على عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَأعلمهُ بذلك، فَسَار عَليّ من الْكُوفَة إِلَى جِهَة مُعَاوِيَة، وَقدم عَلَيْهِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَمن مَعَه من اهل الْبَصْرَة، فَقَالَ عَليّ:
(لأصبحن الْعَاصِ وَابْن العَاصِي ... سبعين ألفا عاقدي النواصي)
(مجنبين الْخَيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص)
وحدا بعلي نَابِغَة جعد فَقَالَ:
(قد علم المصران وَالْعراق ... أَن عليا فَحلهَا الْعتاق)
(أَبيض جحجاح لَهُ رواق ... أَن الأولى جاءوك لَا أفاقوا)
(لكم سباق وَلَهُم سباق ... قد علمت ذَلِكُم الرفاق)
وَسَار عَمْرو وَمُعَاوِيَة من دمشق بِأَهْل الشَّام إِلَى جِهَة عَليّ، وتأنى مُعَاوِيَة فِي مسيره حَتَّى اجْتمعت الجموع بصفين، وَخرجت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَالْأَمر على ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ: وَمضى الْمحرم والجيشان بصفين يتراسلون بِمَا يطول ذكره بِلَا قتال، وَفِي صفر جرت بَينهم وقعات بصفين قيل: تسعون وقْعَة، وَمُدَّة الْمقَام بهَا مائَة وَعشرَة أَيَّام، وَقتل من أهل الشَّام خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن الْعرَاق خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا مِنْهُم سِتَّة وَعِشْرُونَ رجلا من أهل بدر.
وَتقدم عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى أَصْحَابه أَن لَا يبدؤهم بِقِتَال وَلَا يقتلُوا مُدبرا وَلَا ياخذوا شَيْئا من أَمْوَالهم وَلَا يكشفوا عَورَة.
قَالَ مُعَاوِيَة: أردْت الانهزام بصفين فتذكرت قَول ابْن الأطنابة فَثَبت وَكَانَ جاهليا والأطنابة امْرَأَة وَهُوَ قَوْله:
(أَبَت لي همتي وحياء نَفسِي ... وإقدامي على البطل المشيح)
(وإعطائي على الْمَكْرُوه مَالِي ... وأخذي الْحَمد بِالثّمن الربيح)
(وَقَوْلِي كلما جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أَو تستريحي)
وَقَاتل عمار بن يَاسر مَعَ عَليّ وَقد نَيف على تسعين سنة والحربة فِي يَده وَيَده ترْعد وَقَالَ: هَذِه راية قَاتَلت بهَا مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث مَرَّات وَهَذِه الرَّابِعَة، ودعا بِمَاء ليشْرب فَجَاءَتْهُ امْرَأَة بقدح من لبن، فَشرب مِنْهُ ثمَّ قَالَ: صدق اللَّهِ وَرَسُوله.(1/150)
(الْيَوْم ألْقى الْأَحِبَّة ... مُحَمَّدًا وَحزبه)
قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن آخر رِزْقِي من الدُّنْيَا صيخة لبن - والصيخ اللَّبن الرَّقِيق الممزوج - وارتجز:
(نَحن قتلناكم على تَأْوِيله ... كَمَا قتلناكم على تَنْزِيله)
(ضربا يزِيل الْهَام عَن مقليه ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله)
وَقَاتل حَتَّى اسْتشْهد رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَفِي الصَّحِيح أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تقتل عمارا الفئة الباغية ". قيل: قَتله أَبُو عَادِية بِرُمْح، وَاحْترز آخر رَأسه وأقبلا يختصمان إِلَى عَمْرو وَمُعَاوِيَة كل مِنْهُمَا يَقُول: أَنا قتلته، فَقَالَ عَمْرو: إنَّكُمَا فِي النَّار، فَلَمَّا انصرفا قَالَ مُعَاوِيَة لعَمْرو: مَا رَأَيْت مِثْلَمَا صرفت قوما بذلوا أنفسهم دُوننَا، فَقَالَ عَمْرو: هُوَ وَالله ذَلِك وَالله إِنَّك لتعلمه ولوددت أَنِّي كنت مت قبل هَذَا بِعشْرين سنة.
وَبعد قتل عمار انتدب عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ عشْرين ألفا وَحمل بهم، فَلم يبْق لأهل الشَّام صف إِلَّا انْتقض وَعلي يَقُول:
(أقتلهم وَلَا أرى مُعَاوِيَة ... الجاحظ الْعين الْعَظِيم الخاوية)
ثمَّ نَادَى: يَا مُعَاوِيَة علام تقتل النَّاس مَا بَيْننَا هَلُمَّ أحاكمك إِلَى اللَّهِ فأينا قتل صَاحبه استقامت لَهُ الْأُمُور فَقَالَ عَمْرو: أنصفك ابْن عمك، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا أنصف إِنَّك تعلم أَنه لم يبرز إِلَيْهِ أحد إِلَّا قَتله، فَقَالَ عَمْرو: وَمَا يحسن بك ترك مبارزته، فَقَالَ مُعَاوِيَة: طمعت فِي الْأَمر بعدِي؟ .
ثمَّ تقاتلوا لَيْلَة الهرير شبهت بليلة الْقَادِسِيَّة وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى الصُّبْح، قيل: كبر على تِلْكَ اللَّيْلَة أَرْبَعمِائَة تَكْبِيرَة وَكَانَ عَادَته كلما قتل كبر، ودام إِلَى ضحى الْجُمُعَة، وَقَاتل الأشتر قتالا عَظِيما حَتَّى انْتهى إِلَى معسكرهم وأمده عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِالرِّجَالِ.
وَلما رأى عَمْرو ذَلِك قَالَ: هَلُمَّ نرفع الْمَصَاحِف على الرماح ونقول: هَذَا كتاب اللَّهِ بَيْننَا وَبَيْنكُم، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَقَالَ أهل الْعرَاق لعَلي: أَلا تجيب إِلَى كتاب اللَّهِ؟ فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: امضوا على حقكم وصدقكم فِي قتال عَدوكُمْ فَإِن عمرا وَمُعَاوِيَة وَابْن أبي معيط وَابْن أبي سرح وَالضَّحَّاك بن قيس لَيْسُوا بأصحاب دين وَلَا قُرْآن وَأَنا أعرف بهم مِنْكُم وبحكم اللَّهِ، وَالله مَا رفعوها إِلَّا خديعة ومكيدة، فَقَالُوا: لَا تَمْنَعنَا أَن ندعي إِلَى كتاب اللَّهِ فتأبي، فَقَالَ عَليّ: إِنِّي إِنَّمَا قاتلتهم ليدينوا بِحكم كتاب اللَّهِ فَإِنَّهُم قد عصوا اللَّهِ فِيمَا أَمرهم، فَقَالَ لَهُ مَسْعُود بن فدك التَّمِيمِي وَزيد بن حُصَيْن الطَّائِي فِي عِصَابَة من الَّذين صَارُوا خوارج: يَا عَليّ أجب إِلَى كتاب اللَّهِ إِذا دعيت إِلَيْهِ وَإِلَّا دفعناك برمتك إِلَى الْقَوْم ونفعل بك مَا فعلنَا بعثمان بن عَفَّان، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِن تطيعوني فَقَاتلُوا وَإِن تعصوني فافعلوا مَا بدا لكم، قَالُوا: وَابعث إِلَى الإشتر فليأتك، فَبعث إِلَيْهِ يَدعُوهُ فَقَالَ الأشتر(1/151)
للرسول: لَيْسَ هَذِه السَّاعَة الَّتِي يَنْبَغِي لَك أَن تزيلني عَن موقفي، فَرجع الرَّسُول وَأخْبرهُ بالْخبر وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَكثر الرهج من جِهَة الشتر، فَقَالُوا لعَلي: مَا نرَاك أَمرته إِلَّا بِالْقِتَالِ، فَقَالَ: هَل رَأَيْتُمُونِي ساررت الرَّسُول إِلَيْهِ أَلَيْسَ كَلمته وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ؟ قَالُوا: فأبعث إِلَيْهِ ليأتك وَإِلَّا اعتزلناك، فَرجع إِلَيْهِ الرَّسُول وأعلمه فَقَالَ: قد علمت وَالله أَن رفع الْمَصَاحِف يُوقع اخْتِلَافا وَأَنَّهَا مشورة ابْن العاهرة، وَرجع الأشتر إِلَى عَليّ وَقَالَ خدعتم فانخدعتم، وَكَانَ غَالب من نهى عَن الْقِتَال قراء.
وَلما كفوا عَن الْقِتَال سَأَلُوا مُعَاوِيَة لأي شَيْء رفعت الْمَصَاحِف؟ قَالَ: لتنصبوا حكما مِنْكُم وَحكما منا ونأخذ عَلَيْهِمَا أَن يعملا بِمَا فِي كتاب اللَّهِ ثمَّ نتبع مَا اتفقَا عَلَيْهِ، فَأجَاب الْفَرِيقَانِ إِلَى ذَلِك؛ فَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس وَهُوَ من أكبر الْخَوَارِج: إِنَّا قد رَضِينَا بِأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، فَقَالَ عَليّ: قد عصيتموني فِي أول الْأَمر فَلَا تعصوني الْآن لَا أرى أَن أولي أَبَا مُوسَى، فَقَالُوا: لَا نرضى إِلَّا بِهِ، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِنَّه قد فارقني وخذل عني النَّاس ثمَّ هرب مني حِين أمنته بعد أشهر وَلَكِن ابْن عَبَّاس أولى مِنْهُ، فَقَالُوا: ابْن عَبَّاس ابْن عَمَلك وَلَا نُرِيد إِلَّا رجلا هُوَ مِنْك وَمن مُعَاوِيَة سَوَاء، قَالَ عَليّ: فالأشتر، فَأَبَوا وَقَالُوا: وَهل أسعرها إِلَّا الأشتر.
فاضطر عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى إجابتهم وَأخرج أَبَا مُوسَى، وَأخرج مُعَاوِيَة عَمْرو بن الْعَاصِ، وَاجْتمعَ الحكمان عِنْد عَليّ وَكتب بِحُضُورِهِ: هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ، فَقَالَ عَمْرو: وَهُوَ أميركم وَأما أميرنا فَلَا؟ فَقَالَ الْأَحْنَف: لَا تمحوا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس: امح هَذَا الِاسْم، فَأجَاب عَليّ ومحاه وَقَالَ: اللَّهِ أكبر سنة بِسنة وَالله إِنِّي لكاتب رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَكتبت مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ فَقَالُوا: لست برَسُول اللَّهِ وَلَكِن اكْتُبْ بِاسْمِك وَاسم أَبِيك فَأمرنِي رَسُول اللَّهِ بمحوه فَقلت لَا أَسْتَطِيع قَالَ: فأرني فأريته فمحاه بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: إِنَّك ستدعى إِلَى مثلهَا فتجيب.
فَقَالَ عَمْرو: سُبْحَانَ اللَّهِ أتشبهنا بالكفار وَنحن مُؤمنُونَ؟ فَقَالَ عَليّ: يَا ابْن النَّابِغَة وَمَتى لم تكن للفاسقين وليا وَلِلْمُؤْمنِينَ عدوا؟ فَقَالَ عَمْرو: وَالله لَا يجمع بيني وَبَيْنك مجْلِس بعد الْيَوْم، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِنِّي لأرجو أَن يطهر اللَّهِ مجلسي مِنْك وَمن أشباهك.
وَكتب الْكتاب فَمِنْهُ: هَذَا مَا تقاضي عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قَاضِي عَليّ على أهل الْكُوفَة وَمن مَعَهم وقاضي مُعَاوِيَة على أهل الشَّام وَمن مَعَهم أَنا ننزل عِنْد حكم اللَّهِ وَكتابه نحيي مَا احيا ونميت مَا امات فَمَا وجد الحكمان فِي كتاب اللَّهِ وهما أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد اللَّهِ بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عملا بِهِ وَمَا لم يجدا فِي كتاب اللَّهِ فَالسنة العادلة وَأخذ الحكمان من عَليّ وَمُعَاوِيَة وَمن الجندين المواثيق أَنَّهُمَا أمينان على أَنفسهمَا وأهلهما وَالْأمة لَهما أنصار على الَّذِي يتقاضيان عَلَيْهِ وأجلا الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان من(1/152)
هَذِه السّنة وَإِن أحبا أَن يؤخرا ذَلِك أخراه، وَكتب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة خلت من صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ على أَن يوافي عَليّ وَمُعَاوِيَة مَوضِع الْحكمَيْنِ بدومة الجندل فِي رَمَضَان فَإِن لم يجتمعا لذَلِك اجْتمعَا من الْعَام الْمقبل بأذرح.
ثمَّ سَار عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى الْعرَاق إِلَى الْكُوفَة وَلم يدخلهَا الْخَوَارِج مَعَه بل اعتزلوا عَنهُ.
ثمَّ فِي هَذِه السّنة بعث عَليّ لِلْمِيعَادِ أَرْبَعمِائَة رجل فيهم أَبُو مُوسَى وَعبد اللَّهِ بن عَبَّاس ليُصَلِّي بهم وَلم يحضر عَليّ، وَبعث مُعَاوِيَة عَمْرو بن الْعَاصِ فِي أَرْبَعمِائَة ثمَّ جَاءَ مُعَاوِيَة واجتمعوا بأذرح، وَشهد مَعَهم عبد اللَّهِ بن عَمْرو وَعبد اللَّهِ بن الزبير والمغيرة بن شُعْبَة، والتقى الحكمان فَدَعَا عَمْرو أَبَا مُوسَى أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة، فَأبى وَقَالَ: لم أكن لأوليه وأدع الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، ودعا أَبُو مُوسَى عمرا إِلَى أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب، فَأبى عَمْرو، ثمَّ قَالَ عَمْرو: مَا ترى أَنْت؟ فَقَالَ: أرى أَن نخلع عليا وَمُعَاوِيَة ونجعل الْأَمر شُورَى بَين الْمُسلمين، فأظهر لَهُ عَمْرو أَن هَذَا هُوَ الرَّأْي.
ثمَّ أَقبلَا إِلَى النَّاس وَقد اجْتَمعُوا فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِن رَأينَا قد اتّفق على أَمر نرجو بِهِ صَلَاح هَذِه الْأمة، فَقَالَ عَمْرو: صدق تقدم فَتكلم يَا أَبَا مُوسَى، فَلَمَّا تقدم لحقه ابْن عَبَّاس وَقَالَ لَهُ: وَيحك إِنِّي أَظن أَنه خدعك إِن كنتما قد اتفقتما على أَمر فقدمه قبلك فَإِنِّي لَا آمن أَن يخالفك، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنَّا قد اتفقنا، فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِنَّا لم نر أصلح لأمر هَذِه الْأمة من أَمر قد أجمع عَلَيْهِ رَأْيِي ورأي عَمْرو وَهُوَ أَن نخلع عليا وَمُعَاوِيَة فَاسْتَقْبلُوا أَمركُم وولوا عَلَيْكُم من رَأَيْتُمُوهُ لهَذَا الْأَمر أَهلا، ثمَّ تنحى وَأَقْبل عَمْرو فَقَامَ مقَامه فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن هَذَا قد قَالَ مَا سَمِعْتُمْ وخلع صَاحبه وَأَنا أَخْلَع صَاحبه كَمَا خلعه وَأثبت صَاحِبي فَإِنَّهُ ولي عُثْمَان والطالب بدمه وأحق النَّاس بمقامه، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: مَا لَك لَا وفقك اللَّهِ غدرت وفجرت، وَركب أَبُو مُوسَى وَلحق بِمَكَّة حَيَاء، وَانْصَرف عَمْرو وَأهل الشَّام إِلَى مُعَاوِيَة فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة، وَمِنْهَا أَخذ أَمر عَليّ فِي الضعْف وَأمر مُعَاوِيَة فِي الْقُوَّة.
وَلما اعتزلت الْخَوَارِج عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ دعاهم إِلَى الْحق، فامتنعوا وَقتلُوا رسله وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، ووعظهم ونهاهم عَن الْقِتَال فتفرقت مِنْهُم جمَاعَة وَبَقِي مَعَ عبد اللَّهِ بن وهب جمَاعَة على ضلاتهم، وقاتلوا فَقتلُوا عَن أخرهم، وَقتل من أَصْحَاب عَليّ سَبْعَة أَوَّلهمْ يزِيد بن نُوَيْرَة شهد أحدا، وَرجع عَليّ إِلَى الْكُوفَة وحض النَّاس على قتال مُعَاوِيَة فتقاعدوا وَقَالُوا: نستريح ونصلح عدتنا، فَدخل لذَلِك الْكُوفَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ: فِيهَا جهز مُعَاوِيَة عمرا بعسكر إِلَى مصر وَكتب مُحَمَّد بن أبي بكر يستنجد عليا، فَأرْسل إِلَيْهِ الأشتر فسقي فِي القلزم عسلا مسموما فَمَاتَ فَقَالَ مُعَاوِيَة: إِن لله جندا من عسل.(1/153)
وَوصل عَمْرو مصر وقاتله أَصْحَاب مُحَمَّد بن أبي بكر فَهَزَمَهُمْ عَمْرو وتفرق عَن مُحَمَّد أَصْحَابه فَمشى مُحَمَّد حَتَّى انْتهى إِلَى خربة فَقبض عَلَيْهِ وَأتوا بِهِ مُعَاوِيَة بن خديج فَقتله فِي هَذِه السّنة وألقاه فِي جيفة حمَار وَأحرقهُ بالنَّار، وَدخل عَمْرو مصر وَبَايع أَهلهَا لمعاوية، وقنتت عَائِشَة فِي دبر كل صَلَاة تَدْعُو على مُعَاوِيَة وَعَمْرو بِسَبَب قتل أَخِيهَا مُحَمَّد، وجزع عَليّ لمقتله وَقَالَ: عِنْد اللَّهِ نحتسبه.
ثمَّ بَث مُعَاوِيَة سراياه على عُمَّال عَليّ، فَبعث النُّعْمَان بن بشير إِلَى عين النَّهر فنهب وَهزمَ من بهَا من أَصْحَاب عَليّ، وَبعث سُفْيَان بن عَوْف إِلَى هيت والأنبار فنهب وَرجع بِمَا بهَا من المَال إِلَى مُعَاوِيَة، وسير عبد اللَّهِ بن سعد الْفَزارِيّ إِلَى الْحجاز فَجهز عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَيْهِ خيلا فالتقوه بتيماء، فَانْهَزَمَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة وَلَحِقُوا بِالشَّام؛ كل هَذَا وَعلي يخْطب الْخطب البليغة ويجتهد على الْخُرُوج لقِتَال مُعَاوِيَة وَعَسْكَره يتقاعد عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ: وَالْأَمر كَذَلِك.
وفيهَا: بعث عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَهُوَ عَامل الْبَصْرَة زيادا إِلَى فَارس، فَأصْلح مَا اخْتَلَّ مِنْهَا بِسَبَب قتال عَليّ وَمُعَاوِيَة وضبطها حَتَّى قَالَت الْفرس: مَا رَأينَا مثل سياسة أنوشروان إِلَّا سياسة هَذَا الْعَرَبِيّ.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ: وكل وَاحِد من عَليّ وَمُعَاوِيَة يقنت وَيَدْعُو على الآخر وَأَصْحَابه.
وفيهَا: بعث مُعَاوِيَة بسر بن أَرْطَأَة فِي عَسْكَر إِلَى الْحجاز، فهرب أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عَامل عَليّ على الْمَدِينَة وَلحق بعلي، وَسَفك بسر بهما الدِّمَاء واستكره النَّاس على بيعَة مُعَاوِيَة، ثمَّ سَار إِلَى الْيمن وَقتل ألوفا، فهرب مِنْهُ عبيد اللَّهِ بن الْعَبَّاس عَامل عَليّ بِالْيمن، فَوجدَ لِعبيد اللَّهِ ابْنَيْنِ صبيين فذبحهما وأتى بعظيمة فَقَالَت أمهما عَائِشَة بنت عبد اللَّهِ بن عبد المدان تبكيهما:
(هَا من أحسن ابْني اللَّذين هما ... كالدرتين تشظى عَنْهُمَا الصدف)
(هَا من أحسن ابْني اللَّذين هما ... قلبِي وسمعي فقلبي الْيَوْم يختطف)
(من دلّ والهة حرى مدلهمة ... على صبيين ذلا إِذْ غَدا السّلف)
(خبرت بسرا وَمَا صدقت مَا زَعَمُوا ... من إفكة وَمن القَوْل الَّذِي اقترفوا)
(مقتل عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
قيل: اجْتمع ثَلَاثَة من الْخَوَارِج وهم: عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي وَعَمْرو بن بكير التَّمِيمِي والبرك بن عبد اللَّهِ التَّمِيمِي وَقيل: اسْمه الْحجَّاج، فَذكرُوا إخْوَانهمْ من المارقة المقتولين بالنهروان فَقَالُوا: لَو قتلنَا أَئِمَّة الضَّلَالَة أَرحْنَا مِنْهُم الْعباد، فَقَالَ ابْن ملجم: أَنا(1/154)
أكفيكم عليا، وَقَالَ البرك: أَنا أكفيكم مُعَاوِيَة، وَقَالَ عَمْرو بن بكير: أَنا أكفيكم عَمْرو بن الْعَاصِ: وتعاهدوا أَن لَا فرار وسحبوا سيوفا مَسْمُومَة، وتواعدوا لسبع عشرَة تمْضِي من رَمَضَان مِنْهَا.
وَاتفقَ مَعَ ابْن ملجم وردان من تيم الربَاب، وشبيب من أَشْجَع، ووثبوا على عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَقد خرج إِلَى الصَّلَاة الْغَدَاة، فَضَربهُ شبيب فَوَقع سَيْفه فِي الطاق فهرب شبيب وَنَجَا وضربه ابْن ملجم فِي جَبهته، وهرب وردان، فَأمْسك ابْن ملجم وأحضر مكتوفا بَين يَدي عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ودعا الْحسن وَالْحُسَيْن وَقَالَ: أوصيكما بتقوى اللَّهِ، وَلَا تبغيا الدُّنْيَا، وَلَا تبكيا على شَيْء زوي عنكما مِنْهَا، ثمَّ لم ينْطق إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ حَتَّى قبض.
قلت: قَالَ الإسفرايني فِي معالم الْإِسْلَام: روى عمار أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى عليا نَائِما فِي بعض الْغَزَوَات على التُّرَاب فَقَالَ: " مَا لَك يَا أَبَا تُرَاب "، ثمَّ قَالَ: " أَلا أحدثتكم بِأَشْقَى النَّاس؟ رجلَيْنِ، قُلْنَا بلَى، قَالَ: أجثم قمود وَالَّذِي يَضْرِبك بِأَعْلَى هَذِه - فَوضع يَده على قرنه - حَتَّى تبتل مِنْك هَذِه وَأخذ بلحيته، وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لعَلي: إِنَّك لَا تَمُوت حَتَّى تُؤمر فَإِذا أمرت خضبت هَذِه من هَذِه، ثمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقتلك أَشْقَى مُرَاد ".
ويروى: أَن عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ كَانَ إِذا رأى ابْن ملجم يَقُول لَهُ: يَا أشقاها مَتى تخضب هَذِه من هَذِه ثمَّ ينشد:
(أُرِيد حَيَاته وَيُرِيد قَتْلِي ... عذيرك من خيلك من مُرَاد)
وَالله أعلم.
وَأما البرك فَوَثَبَ على مُعَاوِيَة تِلْكَ اللَّيْلَة وضربه بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي ألييه فأمسكوه، فَقَالَ لمعاوية: إِنِّي أُبَشِّرك فَلَا تقتلني، فَقَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: إِن رفيقي قتل عليا هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ مُعَاوِيَة: لَعَلَّه لم يقدر عَلَيْهِ، قَالَ بلَى إِن عليا لَيْسَ مَعَه من يَحْرُسهُ، فَقتله مُعَاوِيَة.
وَأما عَمْرو بن بكير فَجَلَسَ تِلْكَ اللَّيْلَة لِابْنِ الْعَاصِ فَلم يخرج للصَّلَاة، وَأمر خَارِجَة بن أبي حَبِيبَة صَاحب شرطته أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَخرج، فَشد عَلَيْهِ عَمْرو بن بكير فَقتله وَهُوَ يَظُنّهُ ابْن الْعَاصِ، فَأَخَذُوهُ إِلَى عَمْرو فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرو، فَقَالَ: أَنا من قتلت؟ قَالُوا: خَارِجَة، فَقَالَ: أردْت عمرا، وَأَرَادَ اللَّهِ خَارِجَة.
وَلما مَاتَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ أخرج ابْن ملجم من الْحَبْس، فَقطع عبد اللَّهِ بن جَعْفَر يَده ثمَّ رجله، وكلت عَيناهُ بمسمار محمى وَقطع لِسَانه وأحرق. ولعمران بن حطَّان الْخَارِجِي كَاذِبًا مخزيا:
(يَا ضَرْبَة من ولي مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا ليبلغ من ذِي الْعَرْش رضوانا)
(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فأحسبه ... أوفى الْبَريَّة عِنْد اللَّهِ ميزانا)(1/155)
قلت: وَلأبي الطّيب الطَّبَرِيّ صَادِقا مهديا:
(يَا ضَرْبَة من شقي مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا ليهْدم لِلْإِسْلَامِ اركان)
(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فألعنه ... لذاك ألعن عمرَان بن حطانا)
ولبعضهم:
(وليتها إِذْ فدت عمرا بخارجه ... فدت عليا بِمن شَاءَت من الْبشر)
وَالله أعلم.
وَعمر عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ قيل ثَلَاث وَسِتُّونَ، وَقيل: خمس وَسِتُّونَ، وَقيل: تسع وَخَمْسُونَ. وخلافته خمس سِنِين إِلَّا ثَلَاثَة أشهر.
وقبره قيل فِيمَا يَلِي قبْلَة الْمَسْجِد بِالْكُوفَةِ، وَقيل: عِنْد قصر الْإِمَارَة، وَقيل: حوله الْحسن إِلَى الْمَدِينَة إِلَى البقيع عِنْد فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَالأَصَح الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره: أَنه بالنجف.
(صفته رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
كَانَ شَدِيد الأدمة عَظِيم الْعَينَيْنِ بطينا أصلع عَظِيم اللِّحْيَة كثير شعر الصَّدْر مائلا إِلَى الْقصر حسن الْوَجْه لَا يُغير شَيْبه كثير التبسم، كَانَ حَاجِبه مَوْلَاهُ قنبر وَصَاحب شرطته نفَيْل بن قيس الريَاحي، وقاضية شريحا، استقضاه عمر بِالْكُوفَةِ واشتهر بهَا إِلَى أَيَّام الْحجَّاج.
وَأول أَزوَاج عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَاطِمَة لم يتَزَوَّج عَلَيْهَا فِي حَيَاتهَا وَولدت لَهُ الْحسن وَالْحُسَيْن ومحسنا مَاتَ صَغِيرا وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم زَوْجَة عمر بن الْخطاب، وَبعد وَفَاة فَاطِمَة تزوج أم الْبَنِينَ بنت حزَام الْكلابِيَّة فَولدت لَهُ الْعَبَّاس وجعفرا وَعبد اللَّهِ وَعُثْمَان، قتل الْأَرْبَعَة مَعَ الْحُسَيْن وَلم يعقب مِنْهُم غير الْعَبَّاس، وَتزَوج ليلى بنت مَسْعُود بن خَالِد النَّهْشَلِي التَّمِيمِي وَولدت لَهُ عبد اللَّهِ وَأَبا بكر قتلا مَعَ الْحُسَيْن أَيْضا، وَتزَوج أَسمَاء بنت عُمَيْس وَولدت لَهُ مُحَمَّدًا الْأَصْغَر وَيحيى وَلَا عقب لَهما، وَولد لَهُ من الصهبا بنت ربيعَة الثعلبية من سبي خَالِد بِعَين النَّهر عمر ورقية، وعاش عمر الْمَذْكُور خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَحَازَ نصف مِيرَاث أَبِيه وَمَات بينبع وَله عقب. وَتزَوج عَليّ أَيْضًا أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ بن الرّبيع بن عبد شمس بن عبد منَاف وَأمّهَا زَيْنَب بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَولدت لَهُ مُحَمَّد الْأَوْسَط وَلَا عقب لَهُ. وَولد لَهُ من خوله بنت جَعْفَر الْحَنَفِيَّة مُحَمَّد الْأَكْبَر بن الْحَنَفِيَّة وَله عقب.
وَكَانَ لَهُ بَنَات من أُمَّهَات شَتَّى مِنْهُنَّ أم حسن ورملة الْكُبْرَى من ام سعيد بنت عُرْوَة، وَمن بَنَاته أم هانىء ومَيْمُونَة وَزَيْنَب الصُّغْرَى ورملة الصُّغْرَى وَأم كُلْثُوم الصُّغْرَى وَفَاطِمَة وأمامة وَخَدِيجَة وَأم الْكِرَام وَأم سَلمَة وَأم جَعْفَر وجمانة ونفيسة فبنوه الذُّكُور كلهم أَرْبَعَة عشر لم يعقب مِنْهُم إِلَّا خَمْسَة الْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَالْعَبَّاس وَعمر.(1/156)
(شَيْء من فضائله رَضِي اللَّهِ عَنهُ)
من ذَلِك: مشاهده مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَخُوهُ رَسُول اللَّهِ لَهُ، وَسبق إِسْلَامه وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر: " لَأُعْطيَن الرَّايَة رجلا يحب اللَّهِ وَرَسُوله " الحَدِيث، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أقضاكم عَليّ "
وحاكم نَصْرَانِيّا فِي درع إِلَى شُرَيْح، فَقَالَ شُرَيْح لعَلي: أَلَك بَينه؟ قَالَ: لَا، وَهُوَ يضْحك، فَأخذ النَّصْرَانِي الدرْع وَمَشى يَسِيرا، ثمَّ عَاد وَقَالَ: أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء، ثمَّ أسلم واعترف بِسُقُوط الدرْع من عَليّ، ففرح بِإِسْلَامِهِ، ووهبه الدرْع وفرسا وَشهد مَعَه الْخَوَارِج فَقتل وَحمل سلْعَته فِي يَده.
وَكَانَ يقسم مَا فِي بَيت المَال كل جُمُعَة، وَدخل مرّة بَيت المَال فَوجدَ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَقَالَ: يَا صفرا اصفري، وَيَا بيضًا ابيضي، وغري غَيْرِي لَا حَاجَة لي فِيك.
وقصده أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأمه عقيل يسترفده فَلم يجد عِنْده مَا يطْلب، فلحق بِمُعَاوِيَة وَكَانَ مَعَ مُعَاوِيَة يَوْم صفّين فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يمازحه: يَا أَبَا يزِيد أَنْت الْيَوْم مَعنا، قَالَ: وَيَوْم بدر كنت أَيْضا مَعكُمْ، وَكَانَ عقيل يَوْم بدر مَعَ الْمُشْركين هُوَ وَالْعَبَّاس.
(بيعَة الْحسن رَضِي الله عَنهُ)
وَبعد وَفَاة عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بُويِعَ الْحسن ابْنه، فَكتب إِلَيْهِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاس من مَكَّة يحضه على جِهَاد عدوه، وَكَانَ ابْن عَبَّاس قد أَخذ من الْبَصْرَة مَالا وَلحق بِمَكَّة قبل مقتل عَليّ؛ وَأول من بَايعه قيس بن سعد بن عبَادَة فَقَالَ: أبسط يدك على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله وقتال الْمُخَالفين، فَقَالَ الْحسن: على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله فَإِنَّهُمَا ثابتان، وَبَايَعَهُ النَّاس؛ وَكَانَ الْحسن يشْتَرط أَنهم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حَارَبت، فارتابوا من ذَلِك فَقَالُوا: مَا هَذَا لكم بِصَاحِب وَمَا يُرِيد الْقِتَال.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين: قيل أَن عليا تجهز قبل مَوته لقِتَال مُعَاوِيَة وَبَايع أَرْبَعِينَ ألفا على الْمَوْت فاتفق قَتله، فَلَمَّا بُويِعَ الْحسن بلغه مسير أهل الشَّام مَعَ مُعَاوِيَة لقتاله، فتجهز الْحسن فِي ذَلِك الْجَيْش وَسَار عَن الْكُوفَة فِي لِقَاء مُعَاوِيَة وَوصل الْمَدَائِن، وَجعل على مقدمته قيس بن سعد فِي اثْنَي عشر ألفا، وَقيل بل عبيد اللَّهِ بن عَبَّاس، وَجرى فِي عسكره فتْنَة، قيل نازعوا الْحسن بساطا تَحْتَهُ فَدخل الْمَقْصُورَة الْبَيْضَاء بِالْمَدَائِنِ وَنَفر قلبه من ذَلِك الْعَسْكَر، فَكتب إِلَى مُعَاوِيَة وَاشْترط شُرُوطًا إِن أَجَابَهُ إِلَيْهَا سمع وأطاع، فَأَجَابَهُ مُعَاوِيَة إِلَيْهَا؛ والشروط: أَن يُعْطِيهِ مَا فِي بَيت مَال الْكُوفَة، وخراج دَار أبجرد من فَارس، وَأَن لَا يسب عليا؛ فَلم يجب إِلَى الْكَفّ عَن السب، فَطلب أَن لَا يسب وَهُوَ يسمع، فَأَجَابَهُ وَمَا وَفِي بِهِ، وَقيل: إِنَّه وَصله بأربعمائة ألف دِرْهَم، وَلم يصله شَيْء من خراج دَار أبجرد.(1/157)
وَدخل مُعَاوِيَة الْكُوفَة وَبَايَعَهُ النَّاس، وَجَرت بَين قيس بن سعد بن عبَادَة وَعبيد اللَّهِ بن عَبَّاس، وَبَين مُعَاوِيَة مراسلات آخرهَا المبايعه بِمن مَعَهُمَا وشرطا أَن لَا يطالبا بِمَال وَلَا دم، ووفي لَهما مُعَاوِيَة، وَلحق الْحسن بِالْمَدِينَةِ وَأهل بَيته.
وَقيل سلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل فِي ربيع الآخر، وَقيل فِي جُمَادَى الأولى، وعَلى هَذَا فخلافته على القَوْل الأول خَمْسَة أشهر وَنَحْو نصف شهر وعَلى الثَّانِي سِتَّة أشهر وَكسر.
روى سفينة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تكون ملكا عَضُوضًا ". وَكَانَ آخر الثَّلَاثِينَ يَوْم خلع الْحسن نَفسه من الْخلَافَة.
وَأقَام الْحسن بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَن توفّي بهَا فِي ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين، ومولده بِالْمَدِينَةِ سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، وَهُوَ أكبر من الْحُسَيْن بِسنة وَكَانَ مطلاقا وَله خَمْسَة عشر ولدا ذكرا وثماني بَنَات، كَانَ يشبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رَأسه إِلَى سرته، وَالْحُسَيْن يشبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سرته إِلَى قدمه.
وَقيل إِن زَوجته جعدة بنت الْأَشْعَث سمته، قيل بِأَمْر مُعَاوِيَة، وَقيل بِأَمْر يزِيد أطمعها بالتزوج بهَا وَلم يَفِ؛ وَأوصى الْحسن أَن يدْفن عِنْد جده، فَمنع مَرْوَان بن الحكم وَالِي الْمَدِينَة من ذَلِك وكادت تكون فتْنَة بَين الأمويين والهاشميين، فَدفن بِالبَقِيعِ
وَبلغ مُعَاوِيَة موت الْحسن فَسجدَ، فَقَالَ بَعضهم:
(أصبح الْيَوْم ابْن هِنْد شامتا ... ظَاهرا النخوة إِذْ مَاتَ الْحسن)
(يَا ابْن هِنْد إِن تذق كأس الردى ... تَكُ فِي الدَّهْر كشيء لم يكن)
(لست بِالْبَاقِي فَلَا تشمت بِهِ ... كل حَيّ للمنايا مُرْتَهن)
فِي الصَّحِيح: ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة وأبوهما خير مِنْهُمَا ".
قلت: سُئِلَ الشَّيْخ الزَّاهِد محيي الدّين النَّوَوِيّ عَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة "، مَا مَعْنَاهُ؟ فَأجَاب بِجَوَاب مِنْهُ معنى الحَدِيث: أَن الْحسن وَالْحُسَيْن وَإِن مَاتَا شيخين فهما سيدا كل من مَاتَ شَابًّا وَدخل الْجنَّة وكل أهل الْجنَّة يكونُونَ فِي سنّ أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَلَا يلْزم كَون السَّيِّد فِي سنّ من يسودهم وَالله اعْلَم.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْحسن وَقد أَخذ بِيَدِهِ: " إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح اللَّهِ بِهِ بَين فئتين من الْمُسلمين عظيمتين ".
وَرُوِيَ: أَنه مر بالْحسنِ وَالْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وهما يلعبان فطأطأ لَهما عُنُقه وحملهما وَقَالَ: " نعم المطية مطيتهما وَنعم الراكبان هما ".(1/158)
(خلفاء بني أُميَّة)
أَرْبَعَة عشر، أَوَّلهمْ مُعَاوِيَة وَآخرهمْ مَرْوَان الْجَعْدِي، ملكوا نيفا وَتِسْعين سنة ألف شهر تَقْرِيبًا. قَالَ ابْن الْأَثِير: لما سَار الْحسن رَضِي اللَّهِ عَنهُ من الْكُوفَة عرض لَهُ رجل وَقَالَ: يَا مسود وُجُوه الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْحسن: لَا تعذلني فَإِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرِي فِي مَنَامه أَن بني أُميَّة ينزون على منبره رجلا فساءه ذَلِك، فَأنْزل اللَّهِ: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر. لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} يملكهَا بَنو أُميَّة.
(أَخْبَار مُعَاوِيَة)
وَهُوَ ابْن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي، وامه هِنْد، ويكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن، بُويِعَ يَوْم الْحكمَيْنِ، وَقيل بِبَيْت الْمُقَدّس بعد قتل عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وبويع ثَانِيًا الْبيعَة الثَّانِيَة يَوْم خلع الْحسن نَفسه وَاسْتمرّ
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسنة ثَلَاث وَأَرْبَعين: فِيهَا توفّي عَمْرو بن الْعَاصِ بن وَائِل بن هَاشم بن سعد بن سعيد بن سهم بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي الْقرشِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة من الثَّلَاثَة الهاجين لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم عَمْرو الْمَذْكُور وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَعبد اللَّهِ بن الزبعري، وَكَانَ يُجِيبهُمْ ثَلَاثَة حسان بن ثَابت وَعبد اللَّهِ بن رَوَاحَة وَكَعب بن مَالك، وَكَانَت مصر طعمة لعَمْرو بعد رزق جندها حسب شَرطه الَّذِي تقدم وَفِي ذَلِك يَقُول عَمْرو:
(معاوي لَا أُعْطِيك ديني وَلم أنل ... بِهِ مِنْك دنيا فانظرن كَيفَ تصنع)
(فَإِن تعطني مصرا فتربح بصفقة ... أخذت بهَا شَيخا يضر وينفع)
وَولى مُعَاوِيَة مصر بعد موت عَمْرو ابْنه عبد اللَّهِ ثمَّ عَزله.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين: فِيهَا استلحق مُعَاوِيَة زِيَاد بن سميَّة أمة الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ زَوجهَا بِعَبْد رومي لَهُ اسْمه عبيد فَولدت زيادا على فرَاشه وَكَانَ أَبُو سُفْيَان فِي الْجَاهِلِيَّة قد وَقع عَلَيْهَا بِالطَّائِف وَوضعت زيادا سنة الْهِجْرَة وَنَشَأ فصيحا حضر بِمحضر جمع من الصَّحَابَة فِي خلَافَة عمر فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: لَو كَانَ هَذَا الْغُلَام من قُرَيْش لساق الْعَرَب بعصاه، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لعَلي رَضِي الله عَنهُ: أَنِّي لأعرف من وَضعه فِي رحم أمه، فَقَالَ عَليّ: وَمن هُوَ يَا أَبَا سُفْيَان؟ فَقَالَ: أَنا، فَقَالَ مهلا يَا أَبَا سُفْيَان.
قلت: فَقَالَ أَبُو سُفْيَان شعرًا:
(أما وَالله لَوْلَا خوف شخص ... يراني يَا عَليّ من الأعادي)
(لأظهره سره صَخْر بن حَرْب ... وَبِمَ تكن الْمقَالة عَن زِيَاد)
(وَقد طَالَتْ مجامتلي ثقيفا ... وتركي فيهم ثَمَر الْفُؤَاد)
وَالله أعلم، وَلما لم يُصَرح زِيَاد بِشَهَادَة الزِّنَا على الْمُغيرَة كَمَا تقدم صَارَت لَهُ عِنْده يَد يعظمه(1/159)
بهَا ثمَّ اسْتعْمل عَليّ زيادا على فَارس وَلما سلم الْحسن الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة منع زِيَاد بِفَارِس الطَّاعَة فأهم مُعَاوِيَة أمره خوفًا أَن يَدْعُو إِلَى أحد من بني هَاشم فَيُعِيد الْحَرْب وَقدم الْمُغيرَة عَامل مُعَاوِيَة بِالْكُوفَةِ على مُعَاوِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فَشكى إِلَيْهِ امْتنَاع زِيَاد بِفَارِس فَتوجه الْمُغيرَة بأمانه إِلَى زِيَاد فَأحْضرهُ وَبَايع مُعَاوِيَة وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين استلحق مُعَاوِيَة زيادا وَأعظم النَّاس ذَلِك خُصُوصا بَنو أُميَّة حَتَّى قَالَ عبد الرَّحْمَن أَخُو مَرْوَان بن الحكم فِي ذَلِك:
(أَلا بلغ مُعَاوِيَة بن حَرْب ... مغلغلة عَن الرجل الْيَمَانِيّ)
(أتغضب أَن يُقَال أَبوك عف ... وترضى أَن يُقَال أَبوك زاني)
(واشهد أَن رَحِمك من زِيَاد ... كرحم الْفِيل من ولد الأتان)
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان أَن الأبيات ليزِيد بن مُفَرع، وَالله أعلم.
ثمَّ ولى مُعَاوِيَة زيادا الْبَصْرَة مَعَ خُرَاسَان وسجستان ثمَّ الْهِنْد والبحرين.
وفيهَا توفيت أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين: فِيهَا قدم زِيَاد إِلَى الْبَصْرَة فأكد الْملك لمعاوية وَتُوفِّي الْمُغيرَة سنة خمسين فأضاف مُعَاوِيَة الْكُوفَة إِلَى زِيَاد أَيْضا وَهُوَ أول من سير بَين يَدَيْهِ بالحراب والعمد وَاتخذ الحرس خَمْسمِائَة وَسَب زِيَاد عليا كَمَا كَانَت عَادَتهم فَقَامَ حجر بن عدي وأثني على عَليّ فأوثقه وجهزه إِلَى مُعَاوِيَة.
وروى ابْن الْجَوْزِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مَا مَعْنَاهُ أَنه استفظع من مُعَاوِيَة أَخذه الْخلَافَة بِلَا مُشَاورَة واستخلافه يزيدا واستلحاقه زيادا وَقَتله حجر بن عدي وَأَصْحَابه وَكَانَ حجر من أعظم النَّاس دينا قتل بعذراء ظَاهر دمشق.
وفيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد مَال أهل الشَّام إِلَيْهِ، فَقيل إِن مُعَاوِيَة دس إِلَيْهِ سما مَعَ نَصْرَانِيّ يُقَال لَهُ أَثَال.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسنة سبع وَأَرْبَعين: فِيهَا توفّي قيس بن عَاصِم بن سِنَان بن خَالِد بن منقر؛ وَفد على النَّبِي فِي بني تَمِيم فَأسلم وَكَانَ قيس مَوْصُوفا بمكارم الْأَخْلَاق.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين: فِيهَا بعث مُعَاوِيَة جَيْشًا مَعَ سُفْيَان بن عَوْف فحاصروا الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمن الْجَيْش ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَتُوفِّي هَذَا وَدفن قَرِيبا من سورها شهد أحدا وبدرا وَمَعَ عَليّ صفّين وَغَيرهَا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَسنة خمسين: فِيهَا بنيت القيروان وكملت سنة خمس وَخمسين كَانَت أجمة مشتبكة فبناها عقبَة بن نَافِع الصَّحَابِيّ عَامل مُعَاوِيَة على إفريقية وفيهَا توفّي دحْيَة بن خَليفَة بن فَرْوَة بن فضَالة الْكَلْبِيّ من كلب بن وبرة أسلم قَدِيما وَلم يشْهد بَدْرًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أشبه من رَأَيْت بِجِبْرِيل دحْيَة الْكَلْبِيّ ".(1/160)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين: فِيهَا توفّي سعيد بن زيد من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَلَاث وَخمسين: فِيهَا هلك زِيَاد بن أَبِيه فِي رَمَضَان من آكله فِي إصبعه، ومولده سنة الْهِجْرَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس وَخمسين وست وَخمسين: فِيهَا ولى مُعَاوِيَة سعيد بن عُثْمَان بن عَفَّان خُرَاسَان فَقطع جيحون إِلَى سَمَرْقَنْد والصغد، وَهزمَ الْكفَّار وَفتح ترمذ صلحا، وَقتل مَعَه قثم بن الْعَبَّاس وَدفن بسمرقند، وَمَات أَخُوهُ عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بِالطَّائِف، وَالْفضل بِالشَّام، ومعبد بأفريقية فَيُقَال لم ير قُبُور إخْوَة أبعد من قُبُور هَؤُلَاءِ.
وفيهَا بَايع مُعَاوِيَة النَّاس ليزِيد بِولَايَة عَهده وَبَايَعَهُ أهل الشَّام وَالْعراق وَأَرَادَ مَرْوَان بن الحكم عَامله بِالْمَدِينَةِ الْبيعَة لَهُ فَامْتنعَ الْحُسَيْن مِنْهَا وَعبد اللَّهِ بن عَمْرو وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَعبد اللَّهِ بن الزبير وَامْتنع النَّاس لامتناعهم، ثمَّ قدم مُعَاوِيَة الْحجاز بِأَلف فَارس وَبَايع ليزِيد أهل الْحجاز إِلَّا الْمَذْكُورين، وَقَالَ مُعَاوِيَة ليزِيد: أَنِّي مهدت لَك الْأُمُور وَلم يبْق أحد لم يُبَايِعك غير هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فَأَما عبد الرَّحْمَن فَرجل كَبِير مماته الْيَوْم أَو غَدا وَأما ابْن عمر فَإِنَّهُ رجل قد غلب عَلَيْهِ الْوَرع وَأما الْحُسَيْن فَلهُ قرَابَة فَإِن ظَفرت بِهِ فاصفح عَنهُ وَأما ابْن الزبير فَإِن ظَفرت بِهِ فَقَطعه إربا إربا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسنة ثَمَان وَخمسين: فِيهَا توفيت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأخوها عبد الرَّحْمَن.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين: فِيهَا توفّي سعيد بن الْعَاصِ ولد عَام الْهِجْرَة، وَالْعَاص قتل كَافِرًا ببدر وَكَانَ سعيد جوادا.
وفيهَا مَاتَ الحطيئة جَرْوَل بن مَالك لقب بالحطيئة لقصره أسلم ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ اسْلَمْ، وفيهَا توفّي أَبُو هُرَيْرَة.
قلت: واسْمه عبد الرَّحْمَن بن صَخْر على الْأَصَح من نَحْو ثَلَاثِينَ قولا كني بهريرة كَانَت لَهُ وَكَانَ مكثرا غير مُتَّهم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ: فِيهَا توفّي مُعَاوِيَة فِي رَجَب وخلافته تسع عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا من مبايعه الْحسن وعمره خمس وَسَبْعُونَ سنة وَقيل سَبْعُونَ وَأنْشد وَقد تجلد للعائدين:
(وتجلدي للعائدين أريهم ... أَنِّي لريب الدَّهْر لَا أتضعضع)
فَأَنْشد رجل:
(وَإِذا الْمنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تَمِيمَة لَا تَنْفَع)
خرج الضَّحَّاك بن قيس فَصَعدَ الْمِنْبَر وأثني عَلَيْهِ ثمَّ صلى عَلَيْهِ ثمَّ حضر يزِيد من قَرْيَة حوارين من عمل حمص فصلى على قَبره.(1/161)
(أَخْبَار مُعَاوِيَة)
أسلم مَعَ أَبِيه عَام الْفَتْح واستكتبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَعْملهُ عمر على الشَّام أَربع سِنِين من خِلَافَته وَأقرهُ عُثْمَان مُدَّة خِلَافَته، نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة سنة وتغلب على الشَّام مُحَاربًا عليا أَربع سِنِين، فَكَانَ أَمِيرا وملكا على الشَّام نَحْو أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ حَلِيمًا ذَا هَيْبَة يقهر حلمه غَضَبه ويغلب جوده مَنعه، حَتَّى رُوِيَ أَن أروى بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب دخلت عَلَيْهِ وَهِي عَجُوز كَبِيرَة فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا خَالَة كَيفَ أَنْت فَقَالَت: بِخَير يَا ابْن أُخْت لقد كفرت النِّعْمَة وأسأت لِابْنِ عمك الصُّحْبَة وتسميت بِغَيْر اسْمك وَأخذت غير حَقك وَكُنَّا أهل الْبَيْت أعظم النَّاس فِي هَذَا الدّين بلَاء حَتَّى قبض اللَّهِ نبيه مشكورا سَعْيه مَرْفُوعا مَنْزِلَته فَوَثَبت علينا بعده تيم وعدي وَأُميَّة فابتزونا حَقنا ووليتم علينا فَكُنَّا فِيكُم بِمَنْزِلَة بني إِسْرَائِيل فِي آل فِرْعَوْن وَكَانَ عَليّ بن ابي طَالب بعد نَبينَا بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، فَقَالَ لَهَا عَمْرو بن الْعَاصِ: كفي أيتها الْعَجُوز الضَّالة واقصري عَن قَوْلك مَعَ ذهَاب عقلك، فَقَالَت: وَأَنت يَا ابْن النَّابِغَة تَتَكَلَّم وذكرته وَأمه بشين.
فَقَالَ لَهَا: مُعَاوِيَة عَفا اللَّهِ عَمَّا سلف هَاتِي حَاجَتك، فَقَالَت: أُرِيد ألفي دِينَار لأشتري بهَا عينا فواره فِي أَرض حراره تكون لفقراء بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَألْفي دِينَار أُخْرَى أزوج بهَا فُقَرَاء بني الْحَارِث وَألْفي دِينَار أُخْرَى أستعين بهَا على شدَّة الزَّمَان فَأمر لَهَا بِسِتَّة آلَاف دِينَار وانصرفت.
وَهُوَ أول من بَايع لوَلَده وَأول من وضع الْبَرِيد وَأول من عمل الْمَقْصُورَة فِي الْمَسْجِد وَأول من خطب جَالِسا فِي قَول بَعضهم وَأنكر على عبد اللَّهِ بن جَعْفَر بن أبي طَالب سَماع الأوتار والغناء وَهُوَ رَأْي أهل الْمَدِينَة فَدخل إِلَى مُعَاوِيَة ببديح فغنى بِشعر يُحِبهُ مُعَاوِيَة وَهُوَ:
(يَا لبيني أوقدي النارا ... إِن من تهوين قد حارا)
(رب نَار بت أرمقها ... تقضم الْهِنْدِيّ والغارا)
(وَلها ظَبْي يؤججها ... عَاقد فِي الخصر زنارا)
فطرب مُعَاوِيَة وَضرب بِرجلِهِ فَقَالَ ابْن جَعْفَر: مَه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مُعَاوِيَة إِن الْكَرِيم طروب.
(أَخْبَار يزِيد بن مُعَاوِيَة)
ثَانِي خلفائهم أمه مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكَلْبِيَّة، بُويِعَ بالخلافة لما مَاتَ أَبوهُ فِي رَجَب سنة سِتِّينَ، وَأرْسل إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ بإلزام الْحُسَيْن وَعبد اللَّهِ بن الزبير وَابْن عمر بالبيعة(1/162)
فَأَما ابْن عمر فَقَالَ إِن أجمع النَّاس على بيعَته بايعته وَأما الْحُسَيْن وَابْن الزبير فلحقا بِمَكَّة وَلم يبايعا ورأسل عَامل الْمَدِينَة جَيْشًا مَعَ عَمْرو بن الزبير وَكَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لِأَخِيهِ عبد اللَّهِ بن الزبير ليقاتله فانتصر عبد اللَّهِ وَهزمَ الْجمع وَحبس أَخَاهُ عمرا حَتَّى مَاتَ فِي حَسبه. وَورد على الْحُسَيْن مكاتبات أهل الْكُوفَة بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِم ليبايعوه وَكَانَ عاملها النُّعْمَان بن بشير فَأرْسل الْحُسَيْن ابْن عَمه مُسلم بن عقيل ليأخذوا الْبيعَة عَلَيْهِم فَقيل بَايعه بهَا ثَلَاثُونَ ألفا وَقيل ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ ألفا وَبلغ يزِيد عَن النُّعْمَان بن بشير كَلَام لَا يرضيه فولى الْكُوفَة عبيد اللَّهِ بن زِيَاد وَالِي الْبَصْرَة فَقدم الْكُوفَة وَرَأى مَا النَّاس عَلَيْهِ فَخَطب وحث على طَاعَة يزِيد. ثمَّ اجْتمع إِلَى مُسلم بن عقيل من كَانَ بَايعه للحسين وحصروا عبيد اللَّهِ بن زِيَاد بقصره وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رجلا فَأَمرهمْ أَن يشرفوا من الْقصر ويمنعوا أهل الطَّاعَة ويخدلوا أهل الْمعْصِيَة، فَكَانَت الْمَرْأَة تَأتي ابْنهَا وأخاها فَتَقول انْصَرف إِن النَّاس يكفونك، فَتفرق النَّاس عَن مُسلم وَبَقِي مَعَه ثَلَاثُونَ رجلا فاستتر ونادى مُنَادِي عبيد اللَّهِ بن زِيَاد من أَتَى بِمُسلم بن عقيل فَلهُ دِيَته فَأمْسك مُسلم وأحضر إِلَيْهِ فشتمه وَشتم الْحُسَيْن وعليا وَضرب عُنُقه تِلْكَ السَّاعَة لثمان مضين من ذِي الْحجَّة مِنْهَا ورميت جثته من الْقصر.
ثمَّ جهز بِرَأْسِهِ وَرَأس صَاحبه هانىء بن عُرْوَة إِلَى يزِيد وَأخذ الْحُسَيْن فِي التَّوَجُّه من مَكَّة إِلَى الْعرَاق فَقَالَ عبد اللَّهِ بن عَبَّاس: يَا ابْن الْعم إِنِّي أَخَاف عَلَيْك أهل الْعرَاق فَإِنَّهُم قوم غدر أقِم بِهَذَا الْبَلَد فَإنَّك سيد أهل الْحجاز وَإِن أَبيت إِلَّا أَن تخرج فسر إِلَى الْيمن فَإِن بهَا شيعَة لأَبِيك وَبهَا حصون وشعاب، فَقَالَ: يَا ابْن الْعم أعلم وَالله أَنَّك نَاصح مُشفق وَلَقَد أزمعت وأجمعت فَخرج الْحُسَيْن من مَكَّة يَوْم التَّرويَة سنة سِتِّينَ فِي جمائع، وبلغه مقتل مُسلم بن عقيل فَأعْلم من مَعَه بذلك، وَقَالَ: من أحب أَن ينْصَرف فلينصرف، فَتَفَرَّقُوا عَنهُ يَمِينا وَشمَالًا.
وَلما وصل الْحُسَيْن إِلَى مَكَان اسْمه شراف وصل إِلَيْهِ الْحر صَاحب شرطة عبيد اللَّهِ بن زِيَاد فِي ألفي فَارس، وقاتلوا الْحُسَيْن فِي حر الظهيرة، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: مَا أتيت إِلَّا بكتبكم فَإِن رجعتم رجعت من هُنَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّا أمرنَا أَن لَا نُفَارِقك حَتَّى نوصلك الْكُوفَة بَين يَدي عبيد اللَّهِ، فَقَالَ الْحُسَيْن: الْمَوْت أَهْون من ذَلِك، وَمَا زَالُوا حَتَّى سَار مَعَ صَاحب شرطة ابْن زِيَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ: فِيهَا قتل الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ ورد كتاب ابْن زِيَاد يَأْمر الْحر أَن ينزل الْحُسَيْن وَمن مَعَه على غير مَاء فأنزلهم بكربلا يَوْم الْخَمِيس ثَانِي الْمحرم مِنْهَا، وَفِي الْغَد قدم من الْكُوفَة عَمْرو بن سعد بن أبي وَقاص بأَرْبعَة آلَاف فَارس أرْسلهُ ابْن زِيَاد لِحَرْب الْحُسَيْن فَسَأَلَهُ الْحُسَيْن أَن يُمكن إِمَّا من الْعود من حَيْثُ أَتَى وَإِمَّا أَن يُجهز إِلَى(1/163)
يزِيد بن مُعَاوِيَة وَإِمَّا أَن يُمكن أَن يلْحق بالثغور، فَكتب عَمْرو إِلَى ابْن زِيَاد يسْأَل أَن يُجَاب الْحُسَيْن إِلَى أحد هَذِه الْأُمُور فَقَالَ ابْن زِيَاد: لَا وَلَا كَرَامَة، وَأرْسل مَعَ شمر بن ذِي الجوشن إِلَى عَمْرو بن سعد: إِمَّا أَن تقَاتل الْحُسَيْن وتقتله وتوطىء الْخَيل جثته، وَإِمَّا أَن تَعْتَزِل وَيكون على الْجَيْش شمر فَقَالَ عَمْرو بن سعد: بل أقاتله.
ونهض عَشِيَّة الْخَمِيس تَاسِع الْمحرم مِنْهَا وَالْحُسَيْن أَمَام بَيته بعد صَلَاة الْعَصْر فَلَمَّا قرب الْجَيْش مِنْهُ سَأَلَهُمْ مَعَ أَخِيه الْعَبَّاس أَن يمهلوه إِلَى الْغَد وَأَنه يُجِيبهُمْ إِلَى مَا يختارونه فَأَجَابُوهُ فَقَالَ الْحُسَيْن لأَصْحَابه: إِنِّي قد أَذِنت لكم فَانْطَلقُوا فِي هَذَا اللَّيْل وَتَفَرَّقُوا فِي سوادكم ومدائنكم، فَقَالَ أَخُوهُ الْعَبَّاس: لَا نَفْعل ذَلِك لنبقى بعْدك لَا أرانا اللَّهِ ذَلِك أبدا، ثمَّ تكلم إخْوَته وَبَنُو أَخِيه وَبَنُو عبد اللَّهِ بن جَعْفَر نَحْو ذَلِك وَبَات الْحُسَيْن وَأَصْحَابه يصلونَ اللَّيْل كُله وَيدعونَ.
فَلَمَّا أَصْبحُوا ركب عَمْرو بن سعد فِي أَصْحَابه، وَذَلِكَ يَوْم عَاشُورَاء مِنْهَا وعبء الْحُسَيْن أَصْحَابه، وهم اثْنَان وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلا
ثمَّ حملُوا على الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى وَقت الظّهْر فصلى الْحُسَيْن وَأَصْحَابه صَلَاة الْخَوْف وَاشْتَدَّ بالحسين الْعَطش فَتقدم ليشْرب فَرمى بِسَهْم فَوَقع فِي فَمه، ونادى شمر: وَيحكم مَا تنتظرون بِالرجلِ اقْتُلُوهُ، فَضَربهُ زرْعَة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقة، وطعنه سِنَان بن أنس النَّخعِيّ بِالرُّمْحِ، فَوَقع فَنزل إِلَيْهِ فذبحه واحتز رَأسه، وَقيل بل شمر احتز رَأسه، وَجَاء بِهِ إِلَى عَمْرو بن سعد فَأمر عَمْرو جمَاعَة فوطئوا صدر الْحُسَيْن وظهره بخيولهم ثمَّ بعث بالرؤوس وَالنِّسَاء والأطفال إِلَى عبيد اللَّهِ بن زِيَاد فَجعل ابْن زِيَاد يقرع فَم الْحُسَيْن بقضيب، فَقَالَ لَهُ زيد بن أَرقم: ارْفَعْ هَذَا الْقَضِيب فوالذي لَا إِلَه غَيره لقد رَأَيْت شفتي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هَاتين الشفتين، ثمَّ بَكَى وَرُوِيَ إِنَّه قتل مَعَ الْحُسَيْن من أَوْلَاد عَليّ أَرْبَعَة هم الْعَبَّاس، وجعفر، وَمُحَمّد، وَأَبُو بكر، وَمن أَوْلَاد الْحُسَيْن أَرْبَعَة وَقتل عدَّة من اولاد عبد اللَّهِ بن جَعْفَر، وَمن أَوْلَاد عقيل ثمَّ بعث ابْن زِيَاد بالرؤوس وبالنساء والأطفال إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة فَوضع يزِيد رَأس الْحُسَيْن بَين يَدَيْهِ واستحضر النِّسَاء والأطفال.
ثمَّ أَمر النُّعْمَان بن بشير أَن يجهزهم بِمَا يصلحهم وَأَن يبْعَث مَعَهم أَمينا ويوصلهم إِلَى الْمَدِينَة وَلما وصلوا الْمَدِينَة لَقِيَهُمْ نسَاء بني هَاشم حاسرات وفيهن ابْنة عقيل بن أبي طَالب وَهِي تبْكي وَتقول:
(مَاذَا تَقولُونَ إِن قَالَ النَّبِي لكم ... مَاذَا فَعلْتُمْ وَأَنْتُم آخر الْأُمَم)
(بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُم أُسَارَى وصرعى ضرجوا بِدَم)
(مَا كَانَ هَذَا جزائي إِذْ نصحت لم ... أَن تخلفوني بِسوء فِي ذَوي رحمي)
قلت: وَمِمَّا قلت فِي ذَلِك مضمنا عجز بَيت من الحماسة.(1/164)
(أرأس السبط ينْقل والسبايا ... يُطَاف بهَا وَفَوق الأَرْض رَأس)
(وَمَا لي غير هَذَا السَّبي ذخر؟ ... وَمَا لي غير هَذَا الرَّأْس رَأس)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ قيل أَن رَأس الْحُسَيْن جهز إِلَى الْمَدِينَة وَدفن عِنْد أمه، وَقيل بِبَاب الفراديس، وَقيل أَن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رَأْسا إِلَى الْقَاهِرَة ودفنوه بهَا وبنوا لَهُ مشْهد الْحُسَيْن.
وَالصَّحِيح: أَن عمره رَضِي اللَّهِ عَنهُ وعنا بهم خمس وَخَمْسُونَ سنة وَأشهر، قيل أَنه حج خمْسا وَعشْرين حجَّة مَاشِيا، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ألف رَكْعَة.
قلت: قَالَ صَاحب معالم الْإِسْلَام: رُوِيَ عَن أنس بن الْحَارِث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن ابْني هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْن - يقتل بِأَرْض يُقَال لَهَا كربلا فَمن شهد ذَلِك مِنْكُم فلينصره "، فَخرج أنس بن الْحَارِث إِلَى كربلاء فَقتل مَعَ الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاث وَسِتِّينَ: فِيهَا اتّفق أهل الْمَدِينَة على خلع يزِيد، وأخرجوا نَائِبه عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان مِنْهَا، فَجهز يزِيد جَيْشًا مَعَ مُسلم بن عقبَة وَأمره بِقِتَال أهل الْمَدِينَة فَإِذا ظفر بهَا أَبَاحَهَا للجند ثَلَاثَة أَيَّام يسفكون فِيهَا الدِّمَاء وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَال، وَأَن يبايعهم على أَنهم خول وَعبيد ليزِيد وَإِذا فرغ يسير إِلَى مَكَّة.
فَسَار مُسلم وَنزل الْمَدِينَة من جِهَة الْحرَّة فِي عشرَة آلَاف فَارس من أهل الشَّام، وأصر أهل الْمَدِينَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَغَيرهم على قِتَاله، وَعمِلُوا خَنْدَقًا واقتتلوا فَقتل الْفضل بن الْعَبَّاس، وَرَبِيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وَجَمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْأَنْصَار، ثمَّ انهزم أهل الْمَدِينَة، واستباح مُسلم الْمَدِينَة حسب وَصِيَّة يزِيد.
وَعَن الزُّهْرِيّ أَن قَتْلَى الْحرَّة كَانُوا سَبْعمِائة من وُجُوه النَّاس من قُرَيْش والمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَعشرَة آلَاف من وُجُوه الموَالِي مِمَّن لَا يعرف.
وَكَانَت الْوَقْعَة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة مِنْهَا، ثمَّ بَايع من بَقِي من النَّاس على أَنهم خول وَعبيد ليزِيد.
وَسَار إِلَى مَكَّة وَكَانَ مَرِيضا فَمَاتَ قبل وُصُوله، واستناب فِي الْجَيْش الْحصين بن نمير السكونِي فِي الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ، فَقدم الْحصين مَكَّة وحاصر عبد اللَّهِ بن الزبير أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى جَاءَهُم الْخَبَر بِمَوْت يزِيد بعد رمي الْبَيْت الْحَرَام بالمنجنيق وإحراقه بالنَّار.
وَلما علم الْحصين بِمَوْت يزِيد قَالَ لِابْنِ الزبير: من الرَّأْي أَن نَدع دِمَاء الْقَتْلَى بَيْننَا، وَأَقْبل لأبايعك واقدم إِلَى الشَّام، فَامْتنعَ ابْن الزبير من ذَلِك، فارتحل الْحصين رَاجعا إِلَى الشَّام، ثمَّ نَدم ابْن الزبير على عدم الْمُوَافقَة، وَسَار مَعَ الْحصين من كَانَ بِالْمَدِينَةِ من بني امية إِلَى الشَّام.
وفيهَا أَي سنة أَربع وَسِتِّينَ: توفّي يزِيد بحوارين - من عمل حمص - لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة(1/165)
خلت من ربيع الأول وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة، وخلافته ثَلَاث سِنِين وَسِتَّة أشهر، وَكَانَ أَدَم جَعدًا أحور الْعين بِوَجْهِهِ أثر جدري حسن اللِّحْيَة خفيفها طَويلا، وَله عدَّة بَنِينَ وَبَنَات، أَقَامَ يزِيد مَعَ أمه مَيْسُونُ بَين أَهلهَا فِي الْبَادِيَة وتفصح وَشعر ببادية بني كلب وَسبب ذَلِك أَن مُعَاوِيَة سَمعهَا تنشد:
(للبس عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوف)
(وَبَيت تخفق الْأَرْوَاح فِيهِ ... أحب إِلَيّ من قصر منيف)
(وَبكر يتبع الأظعان صَعب ... أحب إِلَيّ من بغل زفوف)
(وكلب ينبح الأضياف دوني ... أحب إِلَيّ من هر أُلُوف)
(وخرق من بني عمي فَقير ... أحب إِلَيّ من علج عنيف)
فَقَالَ: مَا رضيتيني يَا ابْنه بَحْدَل حَتَّى جَعَلتني علجا عنيفا الحقي بأهلك، فمضت إِلَيْهِم وَيزِيد مَعهَا.
(أَخْبَار مُعَاوِيَة بن يزِيد)
وَلما توفّي يزِيد بُويِعَ ابْنه " مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة " ثَالِث خلفائهم فِي رَابِع عشر ربيع الأول مِنْهَا، كَانَ شَابًّا دينا، ولي ثَلَاثَة أشهر، وَقيل أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمَات وعمره إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة بعد أَن جمع النَّاس وَقَالَ: قد ضعفت عَن أَمركُم وَلم أجد لكم مثل عمر بن الْخطاب لأستخلفه وَلَا مثل أهل الشورى فَأنْتم أولى بأمركم فَاخْتَارُوا من احببتم، ثمَّ دخل منزله وتغيب فِيهِ حَتَّى مَاتَ، وَقيل أوصى أَن يُصَلِّي الضَّحَّاك بن قيس حَتَّى يقوم لَهُم خَليفَة.
(أَخْبَار ابْن الزبير)
وَلما مَاتَ يزِيد بن مُعَاوِيَة بُويِعَ " ابْن الزبير " بِمَكَّة، فقصد مَرْوَان بن الحكم الْمسير إِلَيْهِ من الْمَدِينَة لمبايعته، ثمَّ توجه إِلَى الشَّام مَعَ بني أُميَّة، وَقيل كتب ابْن الزبير إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ أَن لَا يتْرك بهَا أحدا من بني أُميَّة، وهرب عبيد اللَّهِ بن زِيَاد من الْبَصْرَة إِلَى الشَّام، وَبَايع أهل الْبَصْرَة ابْن الزبير وَاجْتمعت لَهُ الْعرَاق والحجاز واليمن، وَبَايَعَهُ أهل مصر، وَبَايع لَهُ فِي الشَّام سرا الضَّحَّاك بن قيس، والنعمان بن بشير بحمص، وَزفر بن الْحَارِث الْكلابِي بِقِنِّسْرِينَ، وَكَاد يتم لَهُ الْأَمر بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَ شجاعا عابدا لَكِن مَعَ بخل وَضعف رَأْي. وَأقَام مَرْوَان بن الحكم بِالشَّام فِي أَيَّام ابْن الزبير، وَاجْتمعت بَنو أُميَّة وَصَارَ النَّاس بِالشَّام فرْقَتَيْن: اليمانية مَعَ مَرْوَان، والقيسية مَعَ الضَّحَّاك بن قيس مبايعين لِابْنِ الزبير.
وَآخر ذَلِك أَن الْفَرِيقَيْنِ اقْتَتَلُوا " بمرج راهط " فِي الغوطة - إِحْدَى المنتزهات الْأَرْبَعَة - وَانْهَزَمَ الضَّحَّاك والقيسية وَقتل الضَّحَّاك وَجمع كثير من فرسَان قيس، ونادى مُنَادِي مَرْوَان: أَن لَا يتبع أحد مُنْهَزِمًا، وَدخل مَرْوَان دمشق وَنزل بدار مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس، وَتزَوج أم خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة لخوفه من خَالِد.(1/166)
وَبلغ النُّعْمَان بن بشير بحمص هزيمَة القيسية، فَخرج هَارِبا بامرأته وَأَهله، فَقَتَلُوهُ وَرَجَعُوا بِرَأْسِهِ وَأَهله إِلَى حمص.
وَبلغ زفر بن الْحَارِث بِقِنِّسْرِينَ فَخرج مِنْهَا وأتى قرقيسيا فغلب عَلَيْهَا.
واستوثق الشَّام لمروان، وَسَار فَملك مصر وَرجع إِلَى دمشق.
وفيهَا مَالَتْ حيطان الْكَعْبَة زَاد اللَّهِ شرفها من ضرب المنجنيق، فَهَدمهَا عبد اللَّهِ بن الزبير وحفر أساسها وَأدْخل الْحجر فِيهَا وأعادها كَمَا كَانَت أَولا.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ: فِيهَا خنقت أم خَالِد بن يزِيد زَوجهَا مَرْوَان بن الحكم وصاحت مَاتَ مَرْوَان فَجْأَة، لثلاث خلون من رَمَضَان، وَدفن بِدِمَشْق وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وخلافته تِسْعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا.
وَلما مَاتَ مَرْوَان بُويِعَ " عبد الْملك " ابْنه خَامِس خلفائهم فِي ثَالِث رَمَضَان مِنْهَا عقب موت أَبِيه، وَتمّ أمره بِالشَّام ومصر، وأتته الْخلَافَة وَهُوَ قَاعد يقْرَأ فِي الْمُصحف فِي حجرَة فأطبقه وَقَالَ: هَذَا آخر الْعَهْد بك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ: فِيهَا خرج الْمُخْتَار بن عبيد اللَّهِ الثَّقَفِيّ بِالْكُوفَةِ طَالبا بِدَم الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي جمع كثير، وَاسْتولى عَلَيْهَا، وَبَايَعُوهُ بهَا على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله والطلب بِدَم أهل الْبَيْت، وتجرد الْمُخْتَار لقتل قتلة الْحُسَيْن وظفر بشمر فَقتله، واحتاط بدار خولى الأصبحي صَاحب رَأس الْحُسَيْن وَقَتله وَأحرقهُ، وَقتل عَمْرو بن سعد بن أبي وَقاص صَاحب الْجَيْش، وَسعد بن عَمْرو الْمَذْكُور وَبعث برأسيهما إِلَى مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة بالحجاز فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا، ثمَّ اتخذ الْمُخْتَار كرسيا وَادّعى أَن فِيهِ سرا وَأَنه لَهُم مثل التابوت لبني إِسْرَائِيل، وَلما أرسل الْمُخْتَار بالجنود لقِتَال عبيد اللَّهِ بن زِيَاد خرج بالكرسي على بغل يحملهُ فِي الْقِتَال.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ: وفيهَا: استولى الْمُخْتَار على الْموصل وَقدم على الْجَيْش إِبْرَاهِيم بن الأشتر النَّخعِيّ فَقَاتلُوا جَيش عبيد اللَّهِ بن زِيَاد، فَقتل عبيد اللَّهِ بن زِيَاد وَانْهَزَمَ أَصْحَابه وغرق كثير مِنْهُم فِي الزاب؛ قَتله ابْن الأشتر فِي المعركة وأحرق جثته وَبعث بِرَأْسِهِ وعدة من رُؤُوس أَصْحَابه إِلَى الْمُخْتَار، وانتقم اللَّهِ للحسين بالمختار وَإِن لم تكن نِيَّة الْمُخْتَار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قلت: فِي الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَن اللَّهِ قتل بِيَحْيَى بن زَكَرِيَّا سبعين ألفا ووعدني أَن يقتل بِابْني هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْن - سبعين ألفا "، وَكَانَ كَمَا قَالَ وَالله أعلم.
وفيهَا: ولي ابْن الزبير أَخَاهُ مصعبا الْبَصْرَة، ثمَّ سَار مُصعب من الْبَصْرَة بعد أَن جَاءَ لَهُ الْمُهلب بن أبي صفرَة من خُرَاسَان بِمَال وعسكر كثير، فسارا جَمِيعًا إِلَى قتال الْمُخْتَار بِالْكُوفَةِ، فالتقاهما الْمُخْتَار بمجموعة فَهزمَ الْمُخْتَار وَأَصْحَابه بعد قتال شَدِيد، وَحصر(1/167)
الْمُخْتَار فِي قصر الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ، ودخلها مُصعب وحاصر الْمُخْتَار فقاتل الْمُخْتَار حَتَّى قتل فِي رَمَضَان مِنْهَا وعمره سبع وَسِتُّونَ، ثمَّ نزل أَصْحَابه على حكم مُصعب فَقتل الْكل وَكَانُوا سَبْعَة آلَاف.
وفيهَا - وَقيل سنة إِحْدَى وَسبعين، وَقتل تسع وَسِتِّينَ، وَقيل ثَمَان وَسِتِّينَ - توفّي بِالْكُوفَةِ الْأَحْنَف أَبُو بَحر الضَّحَّاك بن قيس بن مُعَاوِيَة بن حُصَيْن بن عبَادَة؛ يضْرب الْمثل بحلمه، سيد قومه مَوْصُوف بِالْعقلِ وَالْعلم والدهاء والذكاء؛ أدْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصْحَبهُ، ووفد على عمر فَكَانَ من كبار التَّابِعين، وَشهد مَعَ عَليّ صفّين وَلم يشْهد وقْعَة الْجمل مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ، كَانَ أحنف الرجل يطَأ على جَانبهَا الوشحي، حضر الْأَحْنَف عِنْد مُعَاوِيَة فَقَامَ شَامي خَطِيبًا وَلعن عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي آخر كَلَامه، فَقَالَ الْأَحْنَف: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الْقَائِل لَو يعلم أَن رضاك فِي لعن الْمُرْسلين للعنهم فَاتق اللَّهِ ودع عَنْك عليا فقد لَقِي ربه وأفرد فِي قَبره، وَكَانَ وَالله الميمونة نقيبتة، الْعَظِيمَة مصيبته. فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا أحنف لقد أغضيت الْعين على القذى فأيم اللَّهِ لتصعدن الْمِنْبَر ولتلعنته طَوْعًا أَو كرها، فَقَالَ الْأَحْنَف أَو تعفيني فَهُوَ خير لَك، فألح عَلَيْهِ مُعَاوِيَة، فَقَالَ الْأَحْنَف: أما وَالله لأنصفنك فِي القَوْل، قَالَ: وَمَا أَنْت قَائِل؟ قَالَ: أَحْمد اللَّهِ بِمَا هُوَ اهله وأصلي على رَسُوله وَأَقُول: أَيهَا النَّاس إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ مُعَاوِيَة أَمرنِي أَن ألعن عليا، أَلا وَأَن عليا وَمُعَاوِيَة اخْتلفَا فاقتتلا وأدعى كل مِنْهُمَا أَنه مبغي عَلَيْهِ فَإِذا دَعَوْت فَأمنُوا ثمَّ أَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن أَنْت وملائكتك ورسلك وَجَمِيع خلقك الْبَاغِي مِنْهُمَا على صَاحبه والعن الفئة الباغية اللَّهُمَّ العنهم لعنا كثيرا أمنُوا رحمكم اللَّهِ، يَا مُعَاوِيَة أقوله وَلَو كَانَ فِيهِ ذهَاب رحي، فأعفاه مُعَاوِيَة من ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن عَبَّاس رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا بِالطَّائِف فصلى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الحنيفة، كَانَ ابْن الحنيفة مُقيما بِالطَّائِف إِلَى أَن قدم الْحجَّاج بن يُوسُف الْحجاز. ومولد ابْن عَبَّاس قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، دَعَا لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه الْكتاب والتاويل "، وَكَانَ عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ يُسَمِّيه تَارَة الْبَحْر، وَتارَة الحبر، لعلومه.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ: وَمَا بعْدهَا إِلَى سنة إِحْدَى وَسبعين فِيهَا تجهز عبد الْملك إِلَى الْعرَاق، وتجهز مُصعب بن الزبير لملتقاه، وَأَقْبل الْجَمْعَانِ فتخلى الْعِرَاقِيُّونَ عَن مُصعب وَكَانُوا قد كاتبوا عبد الْملك، فقاتل مُصعب حَتَّى قتل هُوَ وَولده بدير الجاثليق عِنْد نهر دجيل فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة، كَانَ صديق عبد الْملك قبل خِلَافَته، وَتزَوج مُصعب سكينَة بنت الْحُسَيْن وَعَائِشَة بنت طَلْحَة مَعًا. ثمَّ دخل عبد الْملك الْكُوفَة وبويع واستوثق لَهُ ملك الْعِرَاقِيّين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين: فِيهَا جهز عبد الْملك الْحجَّاج بن يُوسُف فِي جَيش إِلَى مَكَّة لقِتَال عبد اللَّهِ بن الزبير، فَسَار فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وَنزل الطَّائِف وَجَرت بَينه(1/168)
وَبَين أَصْحَاب ابْن الزبير حروب وَكَانَت الكرة على أَصْحَاب ابْن الزبير، وَآخر ذَلِك أَنه حصر ابْن الزبير بِمَكَّة وَرمى الْبَيْت بالمنجنيق ودام الْحصار حَتَّى خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين: وَابْن الزبير مَحْصُور وَقَاتل حَتَّى قتل فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا بعد قتال سَبْعَة أشهر وعمره نَحْو ثَلَاث وَسبعين سنة، وَهُوَ أول مَوْلُود للمهاجرين بعد الْهِجْرَة، وخلافته تسع سِنِين، وَكَانَ كثير الْعِبَادَة مكث أَرْبَعِينَ سنة لم ينْزع ثَوْبه عَن ظَهره.
وفيهَا: بعد قَتله بُويِعَ لعبد الْملك بالحجاز واليمن.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب بعد قتل ابْن الزبير بِثَلَاثَة أشهر وعمره سبع وَثَمَانُونَ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين: فِيهَا هدم الْحجَّاج الْكَعْبَة وَأخرج الْحجر عَن الْبَيْت، وَبنى الْبَيْت على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على ذَلِك إِلَى الْآن.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين: فِيهَا ولى عبد الْملك الْحجَّاج الْعرَاق، فَسَار من الْمَدِينَة إِلَى الْكُوفَة، وَخرج فِي أَيَّامه بالعراق شبيب الْخَارِجِي وَله مَعَ الْحجَّاج حروب كَثِيرَة آخرهَا أَن جموع شبيب تَفَرَّقت، وتردى بِهِ فرسه من فَوق جسر فغرق شبيب.
وَكَذَلِكَ خرج عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث وَاسْتولى على خُرَاسَان، ثمَّ قصد الْحجَّاج وَغلب على الْكُوفَة وقويت شوكته، وَفِي ذَلِك يَقُول بعض أَصْحَابه:
(شطت نوى من دَاره بالإيوان ... إيوَان كسْرَى ذِي القوى وَالريحَان)
(من عاشق أضحى بزابلستان ... أَن ثقيفا مِنْهُم الكذابان)
(كذابها الْمَاضِي وَكَذَّاب ثَان ... إِنَّا سمونا للكفور الفتان)
(حَتَّى طَغى فِي الْكفْر بعد الْإِيمَان ... بالسيد الغطريف عبد الرَّحْمَن)
(سَار بِجمع كالدبى من قحطان ... بجحفل جم شَدِيد الْأَركان)
(فَقل لحجاج ولي الشَّيْطَان ... بثبت لجمعي مذْحج وهمدان)
(فَإِنَّهُم ساقوه كأس الذيعان ... وملحقوه بقرى ابْن مَرْوَان)
ثمَّ أمد عبد الْملك الْحجَّاج بالجيوش من الشَّام، وَآخر الْأَمر: أَن جموع عبد الرَّحْمَن تَفَرَّقت وَانْهَزَمَ إِلَى ملك التّرْك، ثمَّ تهدد الْحجَّاج ملك التّرْك بالغزو وَطَلَبه مِنْهُ، فَقبض عَلَيْهِ ملك التّرْك وعَلى أَرْبَعِينَ من أَصْحَابه وَبعث بهم إِلَى الْحجَّاج، فَألْقى عبد الرَّحْمَن فِي الطَّرِيق نَفسه من سطح فَمَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمَا بعْدهَا: إِلَى إِحْدَى وَثَمَانِينَ فِيهَا توفّي أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب (ابْن الْحَنَفِيَّة) رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ: فِيهَا توفّي الْمُهلب بن أبي صفرَة الْأَزْدِيّ من الأجواد،(1/169)
كَانَ الحجاح قد ولاه خُرَاسَان، وَمَات الْمُهلب بمروروذ واستخلف بعده ابْنه يزِيد، أحضر قبل وَفَاته لأولاده سهاما وَقَالَ: أتكسرونها مجتمعة؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أتكسرونها مُتَفَرِّقَة؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: هَكَذَا أَنْتُم.
وفيهَا: توفّي خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة من أسخياء بني أُميَّة وعقلائهم وفصحائهم
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ: فِيهَا بني الْحجَّاج وَاسِط.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسنة خمس وَثَمَانِينَ: فِيهَا توفّي عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ: فِي نصف شَوَّال مِنْهَا توفّي عبد الْملك بن مَرْوَان وعمره سِتُّونَ، وخلافته مُنْذُ قتل ابْن الزبير ثَلَاث عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر تنقص سبع لَيَال، لقب بِأبي الذُّبَاب لشدَّة الْبُخْل، ولقب لبخله برشح الْحجر، كَانَ حازما عَاقِلا عَالما دينا حَتَّى تولى، وَفِيه يَقُول الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا أَقُول فِي رجل الْحجَّاج سَيِّئَة من سيئاته.
(أَخْبَار الْوَلِيد بن عبد الْملك)
وَلما توفّي عبد الْملك بُويِعَ الْوَلِيد فِي منتصف شَوَّال مِنْهَا بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ، وأغرى بِالْبِنَاءِ، وَفِي أَيَّامه فتوحات كَثِيرَة من الأندلس وَمِمَّا وَرَاء النَّهر، وَولى الْحجَّاج خُرَاسَان مَعَ الْعِرَاقِيّين فتغلغل فِي بِلَاد التّرْك، وتغلغل مسلمة بن عبد الْملك فِي بِلَاد الرّوم فَفتح وسبى، وَفتح مُحَمَّد بن الْقَاسِم الثَّقَفِيّ بِلَاد الْهِنْد.
وفيهَا: ولى الْوَلِيد ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز الْمَدِينَة، فَقَدمهَا وَنزل فِي دَار جده مَرْوَان، ودعا عشرَة من فقهائها وهم: عُرْوَة بن الزبير، وَعبيد اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، وَأَبُو بكر بن سُلَيْمَان، وَسليمَان بن يسَار، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر، وَسَالم بن عبيد اللَّهِ بن عمر بن زيد، فَقَالَ لَهُم عمر: أُرِيد أَن لَا أقطع أمرا إِلَّا برأيكم فَمَا علمتموه من تعدِي عَامل أَو من ظلامة فعرفوني بِهِ فجزوه خيرا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وثمان وَثَمَانِينَ: فِيهَا: كتب الْوَلِيد إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز يَأْمُرهُ بهدم مَسْجِد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهدم بيُوت أَزوَاجه رَضِي اللَّهِ عَنْهُن، وَأَن يدْخل الْبيُوت فِي الْمَسْجِد بِحَيْثُ تصير مساحة الْمَسْجِد مِائَتي ذِرَاع فِي مِائَتي ذِرَاع وَأَن يضع أَثمَان الْبيُوت فِي بَيت المَال، فَأجَاب أهل الْمَدِينَة إِلَى ذَلِك وقدمت الفعلة والصناع من عِنْد الْوَلِيد لعمارة الْمَسْجِد، وتجرد لذَلِك عمر بن عبد الْعَزِيز.
وفيهَا: أَمر الْوَلِيد بِبِنَاء جَامع دمشق بأموال تجل عَن الْوَصْف.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين: فِيهَا عزل الْوَلِيد عمر بن عبد الْعَزِيز عَن الْمَدِينَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين: فِيهَا قتل الْحجَّاج سعيد بن جُبَير رَحمَه اللَّهِ لكَونه خلع الْحجَّاج وَصَارَ مَعَ عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث، أرسل سعيد إِلَى الْحجَّاج من مَكَّة فَضرب(1/170)
عُنُقه، وَكَانَ من أَعْلَام التَّابِعين، أَخذ عَن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَعبد اللَّهِ بن عمر، وَعنهُ روى الْقُرْآن أَبُو عَمْرو. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: قتل الْحجَّاج سعيد بن جُبَير وَمَا على وَجه الأَرْض أحد إِلَّا وَهُوَ مفتقر إِلَى علمه.
وفيهَا توفّي سعيد بن الْمسيب من كبار التَّابِعين وفقهائهم.
وفيهَا - وَقيل سنة خمس وَتِسْعين - توفّي عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بزين العابدين، سلم من الْقَتْل إِذْ قتل أَبوهُ لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضا على الْفراش وَكَانَ كثير الْعِبَادَة وَلِهَذَا سمي زين العابدين، وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ وَدفن بِالبَقِيعِ وعمره ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين: فِيهَا توفّي الْحجَّاج بن يُوسُف وعمره أَربع وَخَمْسُونَ، وَمُدَّة ولَايَته الْعرَاق نَحْو عشْرين سنة، كَانَ أخفش رَقِيق الصَّوْت فصيحا، قيل أحصيت قتلاه فَكَانُوا مائَة ألف وَعشْرين ألفا.
قلت: قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه اللَّهِ: لَو جَاءَت كل أمة بمنافقيها وَجِئْنَا بالحجاج لفضلناهم؛ وَسيرَته وجراءته على الدِّمَاء مَشْهُورَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين: فِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الْوَلِيد بن عبد الْملك بدير مَرْوَان، وَدفن بِدِمَشْق خَارج الْبَاب الصَّغِير، وخلافته تسع سِنِين وَسَبْعَة أشهر، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز ابْن عَمه، وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ وَسِتَّة أشهر، كَانَ سَائل الْأنف جدا وَله ثَمَانِيَة عشر ابْنا، جَاءَتْهُ الصناع لعمارة جَامع دمشق من بِلَاد الرّوم وَسَائِر بِلَاد الْإِسْلَام، وَأدْخل كَنِيسَة ماري حنا فِي جملَة الْجَامِع، كَانَت قد سلمت للروم بِسَبَب وُقُوعهَا فِي النّصْف الَّذِي أَخذ صلحا.
وَكَانَ لحانا شكا أَعْرَابِي صهره إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنك بِفَتْح النُّون؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: أعوذ بِاللَّه من الشين، فَقَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك: أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول مَا شَأْنك بِالضَّمِّ، فَقَالَ الْأَعرَابِي، ختني ظَلَمَنِي، فَقَالَ الْوَلِيد: من ختنك؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنَّمَا ختنني الْحجام وَلست أُرِيد ذَا، فَقَالَ سُلَيْمَان: أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول من ختنك بِالضَّمِّ، فَقَالَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى خَصمه.
وَكَانَ عبد الْملك فصيحا وَعرف لحن ابْنه فَقَالَ: إِنَّك يَا بني لَا تصلح للولاية على الْعَرَب وَأَنت تلحن، ووكل بِهِ من يُعلمهُ، فَخرج أَجْهَل مِمَّا دخل.
(سُلَيْمَان بن عبد الْملك)
وَلما مَاتَ الْوَلِيد بُويِعَ أَخُوهُ سُلَيْمَان بن عبد الْملك سابعهم، كَانَ بالرملة لما مَاتَ الْوَلِيد وبلغه الْخَبَر بعد سَبْعَة أَيَّام، فَقدم وَأحسن السِّيرَة ورد الْمَظَالِم.
قلت: وَأعْتق سُلَيْمَان سبعين ألفا بَين مَمْلُوك ومملوكة وكساهم، قَالَه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان. وَاتخذ ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز وزيرا.
وفيهَا: غزا مسلمة بن عبد الْملك الرّوم.(1/171)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسنة ثَمَان وَتِسْعين فِيهَا: خرج سُلَيْمَان بالجيوش وَنزل بمرج دابق، وَبعث أَخَاهُ مسلمة إِلَى قسطنطينية وَقَالَ: أقِم عَلَيْهَا تفتحها فشتى عَلَيْهَا وَزرع النَّاس بهَا الزَّرْع وأكلوه، وَأقَام مسلمة قاهرا لَهُم حَتَّى تفتحها جَاءَهُ الْخَبَر بِمَوْت أَخِيه سُلَيْمَان.
وفيهَا: فتح يزِيد بن الْمُهلب بن أبي صفرَة عَامل سُلَيْمَان على خُرَاسَان جرجان وطبرستان.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين: فِيهَا: فِي صفر توفّي سُلَيْمَان بن عبد الْملك بدابق من أَرض قنسرين مرابطا وَأَخُوهُ مسلمة منَازِل قسطنطينية، كَانَ سُلَيْمَان أسمر طَويلا جميلا بِهِ عرج حسن السِّيرَة مُغْرِي بِالنسَاء وَالْأكل، قيل أكل مرّة سبعين رمانة وجديا وست دجاجات وَكَثِيرًا من الزَّبِيب ثمَّ نَام، وانتبه فَأتوهُ بالغداء فَأكل على عَادَته.
وَقيل إِن سَبَب مَوته أَن نصراينا أَتَاهُ بدابق بزنبليين مملوءين تينا وبيضا فَأكل بيضه وتينة وَكَذَا حَتَّى فرغا، ثمَّ أَتَوْهُ بمسح وسكر فاتخم فَمَاتَ، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ غيورا أَمر بخصي المخنثين بِالْمَدِينَةِ، فخصاهم عَامله أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عمر الْأنْصَارِيّ.
وَلما اشْتَدَّ مرض سُلَيْمَان بدابق أوصى بالخلافة لعمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف ثامن خلفائهم وَأمه بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب.
(أَخْبَار عمر بن عبد الْعَزِيز)
وبويع عمر بن عبد الْعَزِيز بالخلافة أَوَائِل سنة تسع وَتِسْعين، فَأبْطل سبّ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ على المنابر وَكتب إِلَى نوابه بإبطاله، وَلما خطب يَوْم الْجُمُعَة أبدل السب فِي الْخطْبَة بقوله تَعَالَى: {إِن اللَّهِ يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي ويعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} ، فاستمر الخطباء على قراءاتها، ومدحه كثير بن عبد الرَّحْمَن الْخُزَاعِيّ فَقَالَ:
(وليت فَلم تَشْتُم عليا وَلم تخف بريا وَلم ... تتبع سجية مجرم)
(وَقلت فصدقت الَّذِي قلت بِالَّذِي ... فعلت فأضحى رَاضِيا كل مُسلم)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَة فِيهَا: توفّي عمر بن عبد الْعَزِيز لخمس بَقينَ من رَجَب بخناصرة وَدفن بدير سمْعَان، وَقيل توفّي بدير سمْعَان وَدفن بِهِ، قَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل: الظَّاهِر عِنْدِي أَن دير سمْعَان هُوَ الْمَعْرُوف الْآن بدير النقيرة من عمل معرة النُّعْمَان وَأَن قَبره هُوَ هَذَا الْمَشْهُور.
قلت: وَبِه أَقُول، فَإِنِّي رَأَيْت كتاب تَارِيخ لِابْنِ الْمُهَذّب المعري من جباة أبي الْعَلَاء يذكر فِيهِ أَن هَذَا الدَّيْر الْمَذْكُور اسْمه دير سمْعَان، وَلَقَد رَأَيْت كثيرا من أهل المعرة يَحْكِي(1/172)
عَنهُ مَا شَاهد من كراماته فِي النّوم أَو الْيَقَظَة حَتَّى لقد حكى لي من أَثِق بِهِ من أَصْحَابِي وأقاربي أَنهم زاروا قَبره مرّة ثمَّ حصل من بَعضهم على بعض بِحَضْرَتِهِ سوء أدب وتلاعب فغشيهم مَا كَادُوا يهْلكُونَ بِهِ حَتَّى أيقنوا بِالْمَوْتِ وَلَكنهُمْ بَادرُوا إِلَى الإستغفار والبكاء والندامة حَتَّى سرى عَنْهُم ذَلِك.
وزرت أَنا قَبره بالدير مرَارًا فَرَأَيْت عِنْده كتابا كَبِيرا يشْتَمل على أخباره الْحَسَنَة وَسيرَته الجميلة وفضله وعدله رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يتعجب مِنْهُ أَن الشريف الرضي رثى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن عبد الْعَزِيز بقوله:
(دير سمْعَان لَا عدتك الغوادي ... خير ميت من آل مَرْوَان ميتك)
(يَا ابْن عبد الْعَزِيز لَو بَكت الْعين ... فَتى من أُميَّة لبكيتك)
(أَنْت طهرتنا من السَّبَب والشتم ... فَلَو أمكن الْجَزَاء جزيتك)
(ولعمري لقد زكوت وَقد طبت ... وَإِن لم يطب وَلم يزك بَيْتك)
ورثى أَبَا إِسْحَاق الصابي الْكَافِر بقصيدة طنانة أَولهَا:
(أعلمت من حملُوا على الأعواد ... أَرَأَيْت كَيفَ خبا ضِيَاء الْوَادي)
فَلَا جرم قلت أَنا:
(أَقْسَمت مَا قَول الرضي بمرتضى ... فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقد يزل الْعَاقِل)
(أبمثل ذَا يرثى كفور صابىء ... وبمثل ذَا يرثى الإِمَام الْعَادِل)
وَالله أعلم.
قيل أَن بني أُميَّة خَافُوا إِن أمتدت أَيَّامه أَن يخرج الْأَمر عَنْهُم إِلَى من يصلح فَسَموهُ
وَولد بِمصْر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وخلافته سنتَانِ وَخَمْسَة أشهر، وعمره أَرْبَعُونَ سنة وَأشهر، رمحته دَابَّة وَهُوَ غُلَام فشجت وَجهه فدعي بالأشج، وَكَانَ متحريا سنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين.
(أَخْبَار يزِيد بن عبد الْملك)
وَلما مَاتَ عمر بن عبد الْعَزِيز بُويِعَ يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان بالخلافة وَهُوَ تاسعهم، وَأمه عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، عهد إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عبد الْملك بعد عمر.
وَفِي أَيَّام يزِيد هَذَا خرج يزِيد ابْن الْمُهلب بن أبي صفرَة بِجمع، فَأرْسل يزِيد بن عبد الْملك أَخَاهُ مسلمة فقاتله، وَقتل ابْن الْمُهلب وَجَمِيع آل الْمُهلب الْمَشْهُورين بِالْكَرمِ والشجاعة، وَفِيهِمْ يَقُول الشَّاعِر:
(نزلت على آل الْمُهلب شاتيا ... غَرِيبا عَن الأوطان فِي زمن الْمحل)
(فَمَا زَالَ بِي إحسانهم وافتقادهم ... وبرهم حَتَّى حسبتهم أَهلِي)(1/173)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة: فِيهَا توفّي عبيد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، وَعبيد اللَّهِ هَذَا ابْن أخي عبد اللَّهِ بن مَسْعُود الصَّحَابِيّ، وَهَؤُلَاء الْفُقَهَاء السَّبْعَة هم الَّذين انْتَشَر عَنْهُم الْعلم والفتيا حَتَّى قيل فيهم:
(أَلا كل من لَا يَقْتَدِي بأئمة ... فقسمته ضيزى عَن الْحق خَارجه)
(فَخذ هم عبيد اللَّهِ عُرْوَة قَاسم ... سعيد سُلَيْمَان أَبُو بكر خَارجه)
فعبيد اللَّهِ الْمَذْكُور من الْأَعْلَام التَّابِعين وَلَقي كثيرا من الصَّحَابَة، وَعُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام بن خويلد؛ وَأم عُرْوَة أَسمَاء بنت أبي بكر ذَات النطاقين، توفّي عُرْوَة سنة ثَلَاث وَتِسْعين، وَقيل أَربع وَتِسْعين؛ ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين، وقاسم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق من أفضل أهل زَمَانه، وَسَعِيد: هُوَ ابْن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب الْقرشِي؛ جمع بَين الحَدِيث وَالْفِقْه والزهد؛ ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر وَتُوفِّي سنة إِحْدَى، وَقيل اثْنَتَيْنِ، وَقيل: أَربع، وَقيل خمس وَتِسْعين، وَسليمَان: هُوَ ابْن يسَار مولى مَيْمُونَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - روى عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأم سَلمَة، وَتُوفِّي سنة سبع وَمِائَة، وَقيل غير ذَلِك؛ وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، وَأَبُو بكر: هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي الْقرشِي، كنيته اسْمه؛ سمي رَاهِب قُرَيْش، وَأَبوهُ أَخُو أبي جهل، وَتُوفِّي سنة أَربع وَتِسْعين؛ وَولد فِي خلَافَة عمر، وخارجه: هُوَ ابْن زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَبِيه: " أفرضكم زيد "، توفّي خَارِجَة سنة تسع وَتِسْعين، وَقيل سنة مائَة بِالْمَدِينَةِ، وَأدْركَ زمن عُثْمَان.
وَفِي زمنهم من هُوَ مثلهم وَفِي طبقتهم وَلم يذكر مَعَهم مثل سَالم بن عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب، وَغَيره، توفّي سَالم سنة سِتّ وَمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسنة أَربع وَسنة خمس وَمِائَة: فِيهَا: لخمس بَقينَ من شعْبَان توفّي يزِيد بن عبد الْملك وعمره أَرْبَعُونَ، وخلافته أَربع سِنِين وَشهر عهد بالخلافة إِلَى أَخِيه هِشَام، ثمَّ إِلَى ابْنه الْوَلِيد بن يزِيد، وَكَانَ يزِيد صَاحب لَهو وَهُوَ صَاحب حبابة وسلامة القس، وَمَاتَتْ حبابة فَمَاتَ بعْدهَا بسبعة عشر يَوْمًا، وَسميت سَلامَة القس: لِأَن عبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّهِ بن عمار سمي القس لعبادته وفقهه فَمر بمنزل أستاذ سَلامَة فَسمع غناءها فهواها وهويته واجتمعا، فَقَالَت سَلامَة: إِنِّي أحبك، فَقَالَ: وَأَنا أَيْضا، فَقَالَت: وأشتهي أَن أقبلك، فَقَالَ: وَأَنا أَيْضا، فَقَالَت: وَمَا يمنعك؟ قَالَ: تقوى اللَّهِ، وَانْصَرف، فَعرفت بذلك.
(أَخْبَار هِشَام بن عبد الْملك)
وَلما مَاتَ يزِيد بن عبد الْملك ولي هِشَام بن عبد الْملك وَهُوَ ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ وَأشهر وَهُوَ عاشرهم، كَانَ بالرصافة فَجَاءَتْهُ الْخلَافَة على الْبَرِيد فَسَار إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَة: وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة عشر وَمِائَة فِيهَا توفّي الْحسن الْبَصْرِيّ بن أبي الْحسن من أكَابِر التَّابِعين، مولده فِي خلَافَة عمر.(1/174)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن سِيرِين، أَبوهُ سِيرِين من سبي خَالِد، كَاتبه أنس بن مَالك سَيّده على مَال فَحَمله إِلَيْهِ وَعتق، لَقِي ابْن سِيرِين جمَاعَة من الصَّحَابَة وروى عَنْهُم مثل: أبي هُرَيْرَة وَعبد اللَّهِ بن الزبير، وَهُوَ من كبار التَّابِعين وَله الْيَد الطُّولى فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَة: وَسنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، فِيهَا توفّي " الباقر " مُحَمَّد بن زين العابدين عَليّ بن الْحُسَيْن، وَقيل سنة أَربع عشرَة، وَقيل سبع عشرَة، وَقيل ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة، وَقيل عَاشَ ثَلَاثًا وَسبعين وَأوصى أَن يُكفن فِي قَمِيصه الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، تبقر فِي الْعلم: أَي توسع، ومولده سنة سبع وَخمسين وَكَانَ عمره لما قتل الْحُسَيْن ثَلَاث سِنِين، توفّي بالحميمة من الشراة فَنقل إِلَى البقيع.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَة: فِيهَا، وَقيل فِي سنة عشْرين وَمِائَة توفّي نَافِع مولى عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب أَصَابَهُ عبد اللَّهِ فِي بعض غَزَوَاته وَكَانَ من كبار التَّابِعين، سمع مَوْلَاهُ وَأَبا سعيد الْخُدْرِيّ، وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَمَالك بن أنس، وَأهل الحَدِيث يَقُولُونَ: رِوَايَة الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر سلسلة الذَّهَب لجلالتهم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِي عشرَة وَسنة تسع عشرَة وَمِائَة: فِيهَا غزا الْمُسلمُونَ التّرْك فنصروا وغنموا وَقتلُوا عَظِيما وَقتلُوا خاقَان ملك التّرْك، تولى حربهم أَسد بن عبد اللَّهِ الْقَسرِي. ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو سعيد عبد الله بن كثير أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا: غزا مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان وَكَانَ على الجزيرة وأرمينية بِلَاد صَاحب السرير، فبذل لَهُ الْجِزْيَة فِي كل سنة سبعين ألف رَأس يُؤَدِّيهَا.
وفيهَا غزا مسلمة بن عبد الْملك الرّوم، فَافْتتحَ حصونا وغنم.
وفيهَا غزا نصر بن سيار مَا رواء النَّهر وَقتل ملك التّرْك، ثمَّ مضى إِلَى فرغانة فسبى كثيرا.
وفيهَا، وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة خرج زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بِالْكُوفَةِ ودعا إِلَى نَفسه وَبَايَعَهُ خلق، وَكَانَ وَالِي الْكُوفَة من جِهَة هِشَام يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فَجمع وَقَاتل زيدا فَأَصَابَهُ سهم فِي جَبهته فَأدْخل دَارا وَنزع السهْم فَمَاتَ وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وصلب يُوسُف بن عمر جثته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى هِشَام فنصب بِدِمَشْق، ودامت جثته حَتَّى مَاتَ هِشَام وَولي الْوَلِيد فأحرقت.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي إِيَاس بن مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ ذُو الفراسة والذكاء قَاضِي الْبَصْرَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز.(1/175)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن شهَاب الْقرشِي الزُّهْرِيّ - بِضَم الزَّاي - نِسْبَة إِلَى زهرَة بن كلاب بن مرّة، وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، وَهُوَ من أَعْلَام التَّابِعين رأى عشرَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ مَالك وسُفْيَان وَغَيرهمَا، وَكَانَ يضع كتبه حوله مشتغلا بهَا فَقَالَت زَوجته: وَالله لهَذِهِ الْكتب أَشد عَليّ من ثَلَاث ضرائر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي هِشَام بن عبد الْملك بالرصافة لست خلون من ربيع الأول، وخلافته تسع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَكسر، وعمره خمس وَخَمْسُونَ، مرض بالذبحة استعير من الْجِيرَان قمقم لتسخين مَاء غسله، فَإِن عياضا كَاتب الْوَلِيد ختم على موجوده، وَدفن بالرصافة وَهُوَ الَّذِي بناها وسكنها لصحتها هربا من الطَّاعُون، وَكَانَت مَدِينَة رُومِية فخربت حَتَّى بناها هِشَام وَبنى بهَا قَصْرَيْنِ وَبهَا دير مَعْرُوف، وَكَانَ أَحول بَين الْحول حازما عَاقِلا ذَا سياسة، وَله بنُون مِنْهُم مُعَاوِيَة أَبُو عبد الرَّحْمَن دخل الأندلس وملكها لما زَالَ ملك بني أُميَّة.
(أَخْبَار الْوَلِيد بن يزِيد)
وَلما مَاتَ هِشَام بُويِعَ الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك لثلاث خلون من ربيع الأول وَهُوَ حادي عشر خلفائهم، وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابه فِي الْبَريَّة فِي الْأَزْرَق خوفًا من هِشَام فِي ضيق وَسُوء حَال، فَكتب إِلَيْهِ بِمَوْت هِشَام فَحَضَرَ وَولي، وَعَكَفَ على الشّرْب والغناء وَالنِّسَاء، وَزَاد النَّاس فِي إعطائهم عشرات، ثمَّ زَاد أهل الشَّام زِيَادَة بعد العشرات عشرَة أُخْرَى وَلم يقل فِي شَيْء سَأَلَهُ لَا.
وفيهَا توفّي الْقَاسِم بن أبي برة من الْمَشْهُورين بِالْقِرَاءَةِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا سلم الْوَلِيد خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي إِلَى يُوسُف بن عمر عَامله بالعراق فَعَذَّبَهُ وَقَتله.
وفيهَا قتل الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك قَتله يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك الملقب بالناقص فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا بعد أَن ثقل على النَّاس لَهو الْوَلِيد ومجونه وشربه واجتماعه بالفساق حَتَّى رَمَوْهُ بالْكفْر واتهموه بأمهات أَوْلَاد أَبِيه، ودعا يزِيد إِلَى نَفسه، وَنَهَاهُ أَخُوهُ الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن عبد الْملك عَن ذَلِك وتهدده فأخفى الْأَمر عَنهُ.
وَكَانَ يزِيد مُقيما بالبادية لوخم دمشق، فَلَمَّا اجْتمع لَهُ أمره قصد دمشق متخفيا فِي سَبْعَة نفر وَكَانَ بَينه وَبَينهَا مسيرَة أَرْبَعَة أَيَّام وَنزل بجرود على مرحله من دمشق، ثمَّ دخل دمشق لَيْلًا وَقد بَايع لَهُ أَهلهَا، وَكَانَ عَامل الْوَلِيد على دمشق عبد الْملك بن مُحَمَّد بن الْحجَّاج ووبئت دمشق فَنزل بقرية قطنا، فَظهر حِينَئِذٍ يزِيد بِدِمَشْق وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجند وَغَيرهم، وأحضر عَامل الْوَلِيد من قطن بالأمان، ثمَّ جهز يزِيد جَيْشًا إِلَى الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك مقدمهم عبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج بن عبد الْملك.(1/176)
وَلما ظهر يزِيد بن الْوَلِيد بِدِمَشْق سَار بعض موَالِي الْوَلِيد إِلَيْهِ وأعلمه وَهُوَ بالأعذق من عمان، فَسَار الْوَلِيد حَتَّى أَتَى السَّحَرَة إِلَى قصر النُّعْمَان بن بشير، ونازله عبد الْعَزِيز وَجرى بَينهمَا قتال كثير.
وَقصد الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن عبد الْملك أَخُو يزِيد اللحوق بالوليد ونصرته على أَخِيه، فَأرْسل عبد الْعَزِيز مَنْصُور بن جُمْهُور إِلَى الْعَبَّاس فَأَخذه قهرا وأتى بِهِ إِلَى عبد الْعَزِيز فألزمه بمبايعة أَخِيه، وَنصب عبد الْعَزِيز راية وَقَالَ: هَذِه راية الْعَبَّاس قد بَايع لأمير الْمُؤمنِينَ يزِيد فَتفرق النَّاس عَن الْوَلِيد، فَركب الْوَلِيد بِمن مَعَه وَقَاتل قتالا شَدِيدا، ثمَّ انهزم عَنهُ أَصْحَابه فَدخل الْقصر وأغلقه وحاصروه ودخلوا وقتلوه لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَى يزِيد فَسجدَ شكرا وطيف بِالرَّأْسِ على رمح فِي دمشق، وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة وَكَانَ من فتيَان أُميَّة وظرفائهم.
(أَخْبَار يزِيد بن الْوَلِيد)
وَاسْتقر يزِيد " النَّاقِص " فِي الْخلَافَة يَوْمئِذٍ وَهُوَ ثَانِي عشر خلفائهم وَنقص النَّاس العشرات الَّتِي زَادهَا الْوَلِيد فلقبوه النَّاقِص، وَخَالفهُ أهل حمص وهجموا دَار أَخِيه الْعَبَّاس فنهبوا وسلبوا حرمه وَأَجْمعُوا على محاربة يزِيد بِدِمَشْق، فَجهز عسكرا قَاتلهم قَرِيبا من ثنية الْعقَاب، فَانْهَزَمَ الحمصيون وَاسْتولى عَلَيْهَا يزِيد وَأخذ الْبيعَة عَلَيْهِم.
ثمَّ وثب أهل فلسطين على عَامل يزِيد فأخرجوه وأحضروا يزِيد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك فجعلوه عَلَيْهِم، ودعا النَّاس إِلَى قتال يزِيد النَّاقِص، فَأرْسل يزِيد جَيْشًا مَعَ سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عَن صَاحبهمْ، فَلَمَّا قرب مِنْهُم الْجَيْش تفَرقُوا، وَقدم سُلَيْمَان جَيْشًا فِي أثر يزِيد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك فنهبوه، وَسَار سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك حَتَّى نزل طبرية وَبَايع بهَا ليزِيد، ثمَّ الرملة وَبَايع بهَا كَذَلِك.
ثمَّ عزل يزِيد يُوسُف بن عمر عَن الْعرَاق، وولاه مَنْصُور بن جُمْهُور وَضم إِلَيْهِ خُرَاسَان، فَامْتنعَ نصر بن سيار فِي خُرَاسَان، ثمَّ عزل يزِيد بن الْوَلِيد مَنْصُور بن جُمْهُور عَن الْعرَاق وولاه عبد اللَّهِ بن عمر بن عبد الْعَزِيز.
وفيهَا أظهر مَرْوَان بن مُحَمَّد الْخلاف ليزِيد بن الْوَلِيد.
وفيهَا توفّي يزِيد النَّاقِص لعشر بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وخلافته خَمْسَة أشهر وَاثنا عشر يَوْمًا، مَاتَ بِدِمَشْق وعمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ وَقيل ثَلَاثُونَ سنة، كَانَ أسمر طَويلا صَغِير الرَّأْس جميلا.
(إِخْبَار إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد)
وَقَامَ بِالْأَمر بعده إِبْرَاهِيم أَخُوهُ ثَالِث عشر خلفائهم، وَلم يتم لَهُ الْأَمر كَانَ يسلم عَلَيْهِ تَارَة بالخلافة وَتارَة بالإمارة فَمَكثَ أَرْبَعَة أشهر، وَقيل: سبعين يَوْمًا.(1/177)
وفيهَا: توفّي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
وفيهَا: توفّي أَبُو جَمْرَة - بِالْجِيم - صَاحب ابْن عَبَّاس.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا: سَار مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم أَمِير ديار الجزيرة إِلَى الشَّام لخلع إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد، وَاتفقَ مَعَ أهل قنسرين وَسَارُوا مَعَه، وَمَعَ أهل حمص وَسَارُوا مَعَه، وَقرب من دمشق فَبعث إِبْرَاهِيم الْجنُود لقتاله مَعَ سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك وهم مائَة وَعِشْرُونَ ألفا، ومروان فِي ثَمَانِينَ ألفا، فَاقْتَتلُوا إِلَى الْعَصْر، وَانْهَزَمَ عَسْكَر إِبْرَاهِيم وَسليمَان بن هِشَام الْمُقدم إِلَى دمشق واجتمعوا مَعَ إِبْرَاهِيم وَقتلُوا ابْني الْوَلِيد بن يزِيد وَكَانَا فِي السجْن، ثمَّ اختفى إِبْرَاهِيم، وَنهب سُلَيْمَان بن هِشَام بَيت المَال، وقسمه فِي أَصْحَابه، وَخرج من دمشق.
(أَخْبَار مَرْوَان بن مُحَمَّد)
وفيهَا: بُويِعَ بالخلافة لمروان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم رَابِع عشر خلفائهم وَآخرهمْ وَذَلِكَ بِدِمَشْق، وَلما اسْتَقر لَهُ الْأَمر عَاد إِلَى منزله بحران، وَأرْسل إِبْرَاهِيم المخلوع بن الْوَلِيد وَسليمَان بن هِشَام يستأمنان مِنْهُ فأمنهما وقدما عَلَيْهِ وَمَعَ سُلَيْمَان إخْوَته وَأهل بَيته فَبَايعُوا مَرْوَان.
وفيهَا: عصى أهل حمص على مَرْوَان، فَجَاءَهُمْ من حران وأحدق بهم ففتحوا لَهُ وأطاعوا، ثمَّ اقْتَتَلُوا فهدم بعض سورها وَقتل وصلب بعض أَهلهَا.
وجاءه الْخَبَر بِخِلَاف أهل الغوطة وَأَنَّهُمْ ولوا عَلَيْهِم ابْن خَالِد الْقَسرِي وحصروا دمشق، فَأرْسل عشرَة آلَاف فَارس مَعَ أبي الْورْد بن الْكَوْثَر وَعَمْرو بن الصَّباح وَسَارُوا من حمص وحملوا على أهل الغوطة، وَخرج من الْبَلَد عَلَيْهِم جَيش أَيْضا فَانْهَزَمَ أهل الغوطة ونهبهم الْعَسْكَر وأحرقوا المزة وقرى غَيرهَا.
ثمَّ خَالف أهل فلسطين ومقدمهم ثَابت بن نعيم، فَكتب مَرْوَان إِلَى أبي الْورْد، فَسَار إِلَيْهِ وهزمه على طبرية، ثمَّ اقْتَتَلُوا على فلسطين فَانْهَزَمَ ثَابت بن نعيم وتفرق أَصْحَابه، وَأسر ثَلَاثَة من أَوْلَاده فَبعث بهم أَبُو الْورْد إِلَى مَرْوَان.
ثمَّ سَار مَرْوَان إِلَى قرقيسيا فخلعه سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك وَاجْتمعَ إِلَيْهِ من الشَّام سَبْعُونَ ألفا وعسكر بِقِنِّسْرِينَ، وَسَار إِلَيْهِ مَرْوَان والتقوا بِأَرْض قنسرين، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَان وَعَسْكَره واتبعهم خيل مَرْوَان يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وزادت الْقَتْلَى عَن ثَلَاثِينَ ألفا.
ثمَّ وصل سُلَيْمَان إِلَى حمص وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أَهلهَا وَبَقِيَّة المنهزمين، فجَاء مَرْوَان وَهَزَمَهُمْ ثَانِيَة، وهرب سُلَيْمَان إِلَى تدمر، وَعصى أهل حمص فَحَاصَرَهُمْ مَرْوَان طَويلا، ثمَّ سلمُوا إِلَيْهِ وُلَاة سُلَيْمَان وآمنهم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن وَاسع الْأَزْدِيّ الزَّاهِد.(1/178)
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ من حلفاء عبد شمس، يكنى أَبَا بَحر، إِمَامًا فِي النَّحْو واللغة، عَابَ الفرزدق فِي شعره وَنسبه إِلَى اللّحن، فَقَالَ الفرزدق فِيهِ:
(وَلَو كَانَ عبد اللَّهِ مولى هجوته ... وَلَكِن عبد اللَّهِ مولى مواليا)
فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ: وَلَقَد لحنت أَيْضا فِي قَوْلك: مولى مواليا، بل يَنْبَغِي أَن تَقول: مولى موَالٍ.
قلت: قد يُقَال إِن حجَّة الفرزدق فِي قَوْله مولى مواليا: كَونه غير منصرف وخفة الفتحة، وَقد يُجَاب عَن الْحَضْرَمِيّ: إِن فَتْحة موَالِي نائبة عَن الْجَرّ فَكَمَا أَن الْجَرّ المنوب عَنهُ يستثقل هُنَا فَكَذَلِك الْفَتْح النَّائِب إِعْطَاء للنائب حكم المنوب عَنهُ، وَلَوْلَا خوف التَّطْوِيل لذكرت هُنَا مَا عَلَيْهِ من المباحث، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا: أرسل مَرْوَان بن مُحَمَّد يزِيد بن هُبَيْرَة إِلَى الْعرَاق لقِتَال الْخَوَارِج، وَكَانَ بخراسان نصر بن سيار والفتنة، ثمَّ قَائِمَة بِسَبَب دعاة بني الْعَبَّاس.
وفيهَا: مَاتَ عَاصِم بن أبي النجُود الْمقري - والنجود: الأتان الوحشية - ... ... ... ... ...
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا: ظَهرت دَعْوَة بني الْعَبَّاس بخراسان، وَكَانَ يخْتَلف أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي من خُرَاسَان إِلَى إِبْرَاهِيم الْمُسَمّى بِالْإِمَامِ ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَمِنْه إِلَى خُرَاسَان ليستعلم مِنْهُ إِبْرَاهِيم الْأَحْوَال.
وفيهَا: استدعى إِبْرَاهِيم أَبَا مُسلم من خُرَاسَان، فَسَار إِلَيْهِ. ثمَّ أرسل إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم أَن ابْعَثْ إِلَيّ بِمَا مَعَك من المَال مَعَ قَحْطَبَةَ وارجع إِلَى أَمْرِي ووافاه الْكتاب بقومس، فامتثل وَأرْسل المَال وَرجع، فَلَمَّا وصل مرو أظهر الدعْوَة لبني الْعَبَّاس، فَأَجَابَهُ النَّاس وَأرْسل إِلَى بِلَاد خُرَاسَان بِإِظْهَار ذَلِك بعد السَّعْي فِيهِ سرا مُدَّة طَوِيلَة، ثمَّ أظهر ذَلِك فِي هَذِه السّنة.
وَجرى بَين أبي مُسلم وَبَين نصر بن سيار أَمِير خُرَاسَان مكاتبات ومراسلات ثمَّ قتال، فَقتل أَبُو مُسلم بعض عُمَّال نصر على بعض بِلَاد خُرَاسَان وَاسْتولى على مَا بِأَيْدِيهِم.
أَبُو مُسلم: من خطرنية من سَواد الْكُوفَة، كَانَ قهرمانا لإدريس بن معقل الْعجلِيّ، ثمَّ صَار إِلَى أَن ولاه مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس الْأَمر فِي استدعاء النَّاس فِي الْبَاطِن، ثمَّ مَاتَ مُحَمَّد فولاه ابْنه إِبْرَاهِيم الإِمَام ذَلِك، ثمَّ الْأَئِمَّة من ولد مُحَمَّد.
وَلما قوي أَبُو مُسلم على نصر بن سيار كتب بذلك إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد وبكونه يَدْعُو إِلَى إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَكتب شعرًا وَهُوَ:
(أرى تَحت الرماد وميض نَار ... ويوشك أَن يكون لَهَا ضرام)
(فَإِن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام)
(فَقلت من التَّعَجُّب لَيْت شعري ... أأيقاظ أُميَّة أم نيام)
وَكَانَ مقَام إِبْرَاهِيم الإِمَام وَأَهله بالشراة من الشَّام بقرية الحميمة - بِضَم الْحَاء - عَن(1/179)
الشوبك دون يَوْم بَينهمَا وَبَين وَادي مُوسَى وَمن الشوبك قبْلَة بغرب وَتلك الْبقْعَة من الشوبك إِلَى الغرب والقبلة هِيَ الشراة. فَكتب مَرْوَان إِلَى عَامله بالبلقاء أَن يسير إِلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَذْكُور، فشده وثاقا، وَبعث بِهِ فحبسه مَرْوَان بحران حَتَّى مَاتَ إِبْرَاهِيم فِي حَبسه، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِي هَذِه السّنة دخل أَبُو مُسلم مَدِينَة مرو وَنزل فِي قصر الْإِمَارَة فِي ربيع الآخر، وهرب نصر بن سيار من مرو، ثمَّ وصل قَحْطَبَةَ من عِنْد الإِمَام إِبْرَاهِيم إِلَى أبي مُسلم وَمَعَهُ لِوَاء عقده لَهُ إِبْرَاهِيم، فَجعل أَبُو مُسلم قَحْطَبَةَ فِي مقدمته وَجعل إِلَيْهِ الْعَزْل والاستعمال وَكتب إِلَى الْجنُود بذلك.
وفيهَا: أَعنِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة - وَقيل: سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ توفّي ربيعَة الزابي بن فروخ فَقِيه الْمَدِينَة، أدْرك جمَاعَة من الصَّحَابَة وَعنهُ أَخذ مَالك الْعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى ثَلَاثِينَ: فِيهَا: مَاتَ نصر بن سيار بساوة قرب الرّيّ وعمره خمس وَثَمَانُونَ.
وفيهَا: توفّي أَبُو حُذَيْفَة وَاصل بن عَطاء الغزال المعتزلي، ومولده سنة ثَمَانِينَ، اشْتغل على الْحسن الْبَصْرِيّ ثمَّ اعتزله وَخَالفهُ فِي قَوْله فِي أَصْحَاب الْكَبَائِر من الْمُسلمين أَنهم لَيْسُوا مُؤمنين وَلَا كَافِرين بل فِي منزلَة بَين المنزلتين فَسُمي وَأَصْحَابه معتزلة، كَانَ ألثغ بالراء فتجنبها حَتَّى قيل:
(نعم تجنب لَا يَوْم الْعَطاء كَمَا ... تجنب ابْن عَطاء لثغة الرَّاء)
لَازم وَاصل الغزالين ليعرف المتعففات من النِّسَاء فَيجْعَل صدقته لَهُنَّ فَسُمي الغزال.
وفيهَا: أَعنِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ: توفّي بِالْبَصْرَةِ مَالك بن دِينَار من موَالِي بني أُسَامَة بن ثَوْر الْقرشِي الْعَالم الناسك الزَّاهِد، وَمَا أحسن مَا روى بعض الشُّعَرَاء باسم مَالك فِي ملك انتصر على أعدائه فَأسر الرِّجَال وَفرق الذَّهَب فَقَالَ:
(أعتقت من أَمْوَالهم مَا استعبدوا ... وملكت رقهم وهم أَحْرَار)
(حَتَّى غَدا من كَانَ مِنْهُم مَالِكًا ... متمنيا لَو أَنه دِينَار)
قلت: وَقد أذكرني هَذَا قولي:
(يَا من سبي شمس الضُّحَى ... بِالنورِ مَا قلبِي حَدِيد)
تورية بالسور.
(أَنا خَالِد فِي لوعة ... وجوى يشيب لَهُ الْوَلِيد)
تورية لخَالِد بن الْوَلِيد.
وَقَوْلِي أَيْضا من مقَامه فِي طَريقَة التصوف:
(كم مُنكر صَار فِيهَا مَعْرُوفا بالإيثار ... وَكم من مَالك فنى بنافيها عَن دِينَار)
وَقَوْلِي:(1/180)
(جبرت يَا عائدتي بالصلة ... فتممي الْإِحْسَان تَنْفِي الوله)
(وَهَذِه قد حسبت زوره ... لم أَنْت يَا كعبة مستجلة)
وَقَوْلِي تورية فِي الْمثل الْمَشْهُور:
(من كَانَ مردودا بِعَيْب فقد ... ردتني الغيد بعيبين)
(الرَّأْس واللحية شَابًّا مَعًا ... عاقبني الدَّهْر بشيبين)
ولي من هَذَا كثير وَلَكِن فرق بَين تِلْكَ الثريا وَهَذَا الثرى، وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: وفيهَا: سَار قَحْطَبَةَ فِي جَيش كَبِير من خُرَاسَان طَالبا يزِيد بن هُبَيْرَة أَمِير الْعرَاق من جِهَة مَرْوَان حَتَّى قطع الْفُرَات والتقيا، فَانْهَزَمَ ابْن هُبَيْرَة، وَعدم قَحْطَبَةَ، قيل: غرق، وَقيل وجد قَتِيلا، وَقَامَ بِالْأَمر الْحسن بن قَحْطَبَةَ.
(أَخْبَار أبي الْعَبَّاس السفاح)
وفيهَا: بُويِعَ أَبُو الْعَبَّاس السفاح عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بالخلافة فِي ربيع الأول وَقيل: ربيع الآخر بِالْكُوفَةِ بعد مسيره من الحمية، وَسبب مسيره من الحميمة: أَن إِبْرَاهِيم الإِمَام لما أمْسكهُ مَرْوَان نعى نَفسه إِلَى أهل بَيته وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى أهل الْكُوفَة مَعَ اخيه السفاح وبالسمع لَهُ وَالطَّاعَة، وَأوصى بالخلافة إِلَى أَخِيه السفاح.
وَسَار السفاح بِأَهْل بَيته مِنْهُم أَخُوهُ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَغَيره إِلَى الْكُوفَة فَقَدمهَا فِي صفر واستخفى، ثمَّ ظهر فِي ربيع الأول وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة وَعَزوه فِي أَخِيه إِبْرَاهِيم الإِمَام، وَدخل دَار الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر ربيع الأول مِنْهَا، ثمَّ خرج وخطب وَصلى بِالنَّاسِ، ثمَّ صعد الْمِنْبَر ثَانِيًا، وَصعد عَمه دَاوُد بن عَليّ فَقَامَ دونه وخطبا النَّاس وحضاهم على الطَّاعَة، ثمَّ نزل وَعَمه أَمَامه وَدخل قصر الْإِمَامَة وأجلس أَخَاهُ أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور فِي الْمَسْجِد يُبَايع النَّاس.
ثمَّ خرج السفاح فَعَسْكَرَ بحمام أعين واستخلف على الْكُوفَة عَمه دَاوُد، وحاجب السفاح يَوْمئِذٍ عبد اللَّهِ بن بسام.
ثمَّ بعث عَمه عبد اللَّهِ بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس إِلَى شهرزور وَأَهْلهَا مطيعون لَهُ وَبهَا من جِهَة بني الْعَبَّاس أَبُو عون عبد اللَّهِ بن يزِيد الْأَزْدِيّ، وَبعث ابْن أَخِيه عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد إِلَى الْحسن بن قَحْطَبَةَ، وَهُوَ يحاصر ابْن هُبَيْرَة بواسط، وَبعث يحيى بن جَعْفَر بن تَمام بن عَبَّاس إِلَى حميد بن قَحْطَبَةَ أخي الْحسن بِالْمَدَائِنِ، وَأقَام السفاح فِي المعسكر أشهرا، ثمَّ ارتحل فَنزل هاشمية الْكُوفَة بقصر الْإِمَارَة.
(أَخْبَار مَرْوَان إِلَى أَن قتل)
كَانَ مَرْوَان آخر خلفاء بني أُميَّة ويلقب الْجَعْدِي وحمار الجزيرة أَيْضا بحران، فَسَار يطْلب أَبَا عون عبد اللَّهِ بن يزِيد الْأَزْدِيّ المستولي على شهرزور من جِهَة بني الْعَبَّاس،(1/181)
فوصل مَرْوَان إِلَى الزاب وَنزل بِهِ وحفر عَلَيْهِ خَنْدَقًا وَكَانَ فِي مائَة ألف وَعشْرين ألفا، وَسَار أَبُو عون من شهرزور إِلَى الزاب بِمَا عِنْده من الْمَجْمُوع وأردفه السفاح بعساكر مَرَّات مَعَ مقدمين مِنْهُم سَلمَة بن مُحَمَّد وَعبد اللَّهِ الطَّائِي وَعم السفاح عبد اللَّهِ، وَلما قدم عَمه على أبي عون تحول أَبُو عون عَن سرادقة وخلاه لَهُ وَمَا فِيهِ.
ثمَّ أَن مَرْوَان عقدا جِسْرًا على الزاب وَعبر إِلَى جِهَة عبد اللَّهِ بن عَليّ، فَسَار عبد اللَّهِ إِلَى مَرْوَان وَجعل على ميمنته أَبَا عون وعَلى ميسرته الْوَلِيد بن مُعَاوِيَة وَكَانَ عَسْكَر عبد اللَّهِ عشْرين ألفا وَقيل: أقل، والتقوا وَاشْتَدَّ الْقِتَال وداخل الفشل عَسْكَر مَرْوَان واختل كل أَمر أَرَادَهُ حَتَّى انهزم وغرق من أَصْحَابه خلق مِنْهُم: إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد بن عبد الْملك المخلوع. وَكتب عبد اللَّهِ إِلَى ابْن أَخِيه السفاح بِالْفَتْح وحوى من المنهزمين أسلحة والهزيمة يَوْم السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
وَلما انهزم مَرْوَان من الزاب أَتَى الْموصل، فَسَبهُ أَهلهَا وَقَالُوا: يَا جعدي الْحَمد لله الَّذِي أَتَانَا بِأَهْل بَيت نَبينَا، فَأتى حران وَأقَام بهَا نيفا وَعشْرين يَوْمًا حَتَّى دنا مِنْهُ عَسْكَر السفاح فَحمل مَرْوَان أَهله وَانْهَزَمَ إِلَى حمص، وَقدم عبد اللَّهِ بن عَليّ حران.
ثمَّ سَار مَرْوَان من حمص وأتى دمشق، ثمَّ سَار إِلَى فلسطين.
وَكَانَ السفاح قد كتب إِلَى عَمه عبد اللَّهِ بن عَليّ بِاتِّبَاع مَرْوَان، فَسَار فِي أثر مَرْوَان إِلَى دمشق فحاصرها ودخلها عنْوَة يَوْم الْأَرْبَعَاء لخمس مضين من رَمَضَان مِنْهَا، وَأقَام بِدِمَشْق خَمْسَة عشر يَوْمًا. ثمَّ أَتَى فلسطين فورد عَلَيْهِ كتاب السفاح بإرسال أَخِيه صَالح بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس فِي طلب مَرْوَان، فَسَار صَالح فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا حَتَّى نزل نيل مصر ومروان مُنْهَزِم قدامه، وأدركه فِي كَنِيسَة بوصير من أَعمال مصر، وَانْهَزَمَ أَصْحَاب مَرْوَان، وَطعن إِنْسَان مَرْوَان بِرُمْح فَقتله، وَسبق كُوفِي كَانَ يَبِيع الرُّمَّان فاحتز رَأس مَرْوَان لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
وأحضر الرَّأْس قُدَّام صَالح بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس، فَأمر أَن ينفض فَسقط لِسَانه فَأَخَذته هرة، وارسله صَالح إِلَى أبي الْعَبَّاس وَقَالَ:
(قد فتح اللَّهِ مصرا عنْوَة لَكِن ... وَأهْلك الْفَاجِر الْجَعْدِي إِذْ ظلما)
(وَذَاكَ مقوله هُوَ يجرجره ... وَكَانَ رَبك من ذِي الْكفْر منتقما)
ثمَّ رَجَعَ صَالح إِلَى الشَّام وَخلف أَبَا عون بِمصْر وَلما وصل الرَّأْس إِلَى السفاح بِالْكُوفَةِ سجد شكرا.
وهرب عبد اللَّهِ وَعبيد اللَّهِ ابْنا مَرْوَان إِلَى الْحَبَشَة، فَقَاتلهُمْ الْحَبَشَة فَقتل عبيد اللَّهِ وَنَجَا عبد اللَّهِ فِي عدَّة مِمَّن مَعَه، وَبَقِي إِلَى خلَافَة الْمهْدي فَأَخذه نصر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث عَامل فلسطين وَبعث بِهِ إِلَى الْمهْدي.(1/182)
وحملت نسَاء مَرْوَان وَبنَاته بعد قَتله إِلَى صَالح بن عَليّ، فحملهن إِلَى حران فَلَمَّا دخلنها ورأين منَازِل مَرْوَان رفعن أصواتهن بالبكاء.
وَعمر مَرْوَان اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة، وخلافته خمس سِنِين وَعشرَة أشهر وَنصف يكنى أَبَا عبد الْملك، وَأمه أم ولد كردية، وَتعلم من الْجَعْد بن دِرْهَم مذْهبه فِي القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَالْقدر فلقب الْجَعْدِي، وَكَانَ أَبيض أسهل ضخم الهامة كث اللِّحْيَة أبيضها ربعَة شجاعا حازما إِلَّا أَن مدَّته انْقَضتْ فَلم يَنْفَعهُ حزمه.
وَدخل سديف على السفاح وَعِنْده سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك وَقد أَمنه وأكرمه فَأَنْشد:
(لَا يغرنك مَا ترى من رجال ... أَن بَين الضلوع دَاء دويا)
(فضع السَّيْف وارفع الصَّوْت حَتَّى ... لَا ترى فَوق ظهرهَا أمويا)
فَأمر السفاح بِسُلَيْمَان فَقتل:
وَدخل شبْل بن عبد اللَّهِ مولى بني هَاشم على عَم السفاح عبد اللَّهِ بن عَليّ وَقد اجْتمع عِنْده من بني أُميَّة نَحْو تسعين رجلا فَأَنْشد:
(أصبح الْملك ثَابت الأساس ... بالبهاليل من بني الْعَبَّاس)
(طلبُوا وتر هَاشم فشفوها ... بعد ميل من الزَّمَان وباس)
(لَا تقلين عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وغراس)
(ذلها أظهر التودد مِنْهَا ... وَبهَا مِنْكُم كَحَد المواسي)
(وَلَقَد سَاءَنِي وساء سوأتي ... قربهم من نمارق وكراسي)
(أنزلوها بِحَيْثُ أنزلهَا اللَّهِ ... بدار الهوان والإتعاس)
(واذكرا مصرع الْحُسَيْن وزيدا ... وقتيلا بِجَانِب المهراس)
(والقتيل الَّذِي بحران أضحى ... ثاويا بَين غربَة وتناسي)
فَأمر عبد اللَّهِ بهم فَضربُوا بالعمد حَتَّى وَقَعُوا وَبسط عَلَيْهِم الأنطاع وَمد عَلَيْهِم الطَّعَام وَأكل النَّاس الطَّعَام وهم يسمعُونَ أنينهم حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا، وَأمر عبد اللَّهِ بنبش قُبُور بني أُميَّة بِدِمَشْق، وَتبع قتل بني أُميَّة فَلم يفلت إِلَّا رَضِيع أَو من هرب إِلَى الأندلس.
وَقتل سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ جمَاعَة من بني أُميَّة وألقاهم فِي الطَّرِيق تأكلهم الْكلاب، فتشتت من بَقِي مِنْهُم وَاخْتلفُوا فِي الْبِلَاد. أَبُو الْورْد بن الْكَوْثَر وَكَانَ من أَصْحَاب مَرْوَان طَاعَة بني الْعَبَّاس فَسَار إِلَيْهِ عبد اللَّهِ عَم السفاح وَهُوَ بِقِنِّسْرِينَ فِي جمع عَظِيم فَاقْتَتلُوا شَدِيدا وَكَثُرت الْقَتْلَى، ثمَّ ثَبت أَبُو الْورْد حَتَّى قتل وَانْهَزَمَ أَصْحَابه، وجدد عَم السفاح بيعَة أهل قنسرين وَعَاد إِلَى دمشق، وَكَانَ خرج من بهَا عَن الطَّاعَة ونهبوا أهل عبد اللَّهِ عَم السفاح ثمَّ هربوا مِنْهُ، ثمَّ آمنهم.(1/183)
وفيهَا: ولى السفاح أَخَاهُ يحيى الْموصل، وَكَانَ أَهلهَا قد أخرجُوا واليها وَلما اسْتَقر يحيى بهَا قتل من أَهلهَا نَحْو أحد عشر ألفا ثمَّ أَمر بقتل نسأئهم وصبيانهم وَكَانَ مَعَ يحيى قَائِد مَعَه أَرْبَعَة آلَاف زنجي، فاستوقفت امْرَأَة من الْموصل يحيى وَقَالَت: أما تأنف للعربيات أَن ينكحهن الزنوج؟ فتأثر وَجمع الزنوج فَقَتلهُمْ عَن آخِرهم.
وفيهَا: أرسل السفاح أَخَاهُ الْمَنْصُور واليا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وَولى عَمه دَاوُد الْمَدِينَة وَمَكَّة واليمن واليمامة، وَولى ابْن أَخِيه عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس الْكُوفَة وسوادها، وَكَانَ على الشَّام عَمه عبد اللَّهِ، وعَلى مصر أَبُو عون بن يزِيد، وعَلى خُرَاسَان وَالْجِبَال أَبُو مُسلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: وفيهَا: استولى قسطنطين ملك الرّوم على ملطية وقاليقلا.
وفيهَا: ولى السفاح عَمه سُلَيْمَان الْبَصْرَة وكور دجلة والبحرين وعمان وَاسْتعْمل عَمه إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس على الأهواز.
وفيهَا: مَاتَ دَاوُد عَم السفاح بِالْمَدِينَةِ فولاها زِيَاد بن عبد اللَّهِ الْحَارِثِيّ.
وفيهَا: عزل السفاح أَخَاهُ يحيى عَن الْموصل لِكَثْرَة قَتله فيهم وَولى عَمه إِسْمَاعِيل
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: وفيهَا: تحول السفاح من مقَامه بِالْحيرَةِ إِلَى الأنبار فِي ذِي الْحجَّة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: توفّي يحيى أَخُو السفاح بِفَارِس تولاها بعد الْموصل.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: اسْتَأْذن أَبُو مُسلم السفاح فِي الْقدوم عَلَيْهِ وَفِي الْحَج فَأذن لَهُ، فحج وَحج الْمَنْصُور أَيْضا أَمِيرا للموسم.
وفيهَا: مَاتَ السفاح فِي ذِي الْحجَّة بالأنبار بالجدري وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ وخلافته من قبل مَرْوَان أَربع سِنِين، وبويع لَهُ قبل ذَلِك بِثمَانِيَة أشهر، كَانَ طَويلا أقنى أَبيض حسن الْوَجْه واللحية، صلى عَلَيْهِ عَمه عِيسَى وَدَفنه بالأنبار العتيقة، وعهد السفاح بالخلافة لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور أَخِيه ثمَّ بعده إِلَى ابْن أَخِيه عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد، فعقد الْعَهْد فِي ثوب وَختم عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى عِيسَى.
(خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور)
وَلما مَاتَ السفاح كَانَ الْمَنْصُور فِي الْحَج، فَأخذ لَهُ عِيسَى الْبيعَة على النَّاس وَأرْسل من أعلمهُ بذلك، فَبَايعهُ أَبُو مُسلم وَالنَّاس.(1/184)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: قدم الْمَنْصُور من الْحَج إِلَى الْكُوفَة فصلى بِأَهْلِهَا الْجُمُعَة وخطبهم وَسَار فَأَقَامَ بالأنبار.
وفيهَا: بَايع عَم الْمَنْصُور عبد اللَّهِ بن عَليّ لنَفسِهِ بالخلافة، وَكَانَ أَبُو مُسلم قد قدم من الْحَج مَعَ الْمَنْصُور، فَأرْسل الْمَنْصُور أَبَا مُسلم وَمَعَهُ الْجنُود لقِتَال عَمه وَهُوَ بِأَرْض نَصِيبين، فَاقْتَتلُوا مرَارًا وَجَاء أَبُو مُسلم بأنواع الخدع لقتاله، ثمَّ انهزم عبد اللَّهِ وَأَصْحَابه فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا إِلَى الْعرَاق وَاسْتولى أَبُو مُسلم على عسكره.
وفيهَا: قتل الْمَنْصُور أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي لوحشة جرت بَينهمَا، فَإِنَّهُ كتب إِلَى أبي مُسلم بعد أَن هزم عبد اللَّهِ عَمه بِالْولَايَةِ على مصر وَالشَّام وَصَرفه عَن خُرَاسَان، فَلم يجب أَبُو مُسلم إِلَى ذَلِك وَتوجه يُرِيد خُرَاسَان. وَسَار الْمَنْصُور من الأنبار إِلَى الْمَدَائِن وَكتب بِطَلَب أَبَا مُسلم فَاعْتَذر عَن الْحُضُور، وطالت بَينهمَا المراسلات.
وَفِي الآخر: قدم أَبُو مُسلم عَلَيْهِ بِالْمَدَائِنِ فِي ثَلَاثَة آلَاف وَخلف بَاقِي عسكره بحلوان، وَدخل على الْمَنْصُور وَقبل يَده وَانْصَرف، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد ترك الْمَنْصُور بعض حرسه خلف الرواق وَأمرهمْ إِذا صفق بيدَيْهِ يخرجُون وَيقْتلُونَ أَبَا مُسلم. ودعا أَبَا مُسلم، فَلَمَّا حضر أَخذ الْمَنْصُور يعدد ذنُوبه وَأَبُو مُسلم يعْتَذر عَنْهَا، ثمَّ صفق الْمَنْصُور فَخرج الحرس وَقتلُوا أَبَا مُسلم فِي شعْبَان مِنْهَا، قتل أَبُو مُسلم فِي مُدَّة دولته سِتّمائَة ألف صبرا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: وفيهَا: خرج قسطنطين ملك الرّوم إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام فَأخذ ملطية عنْوَة وَهدم سورها وَعفى عَمَّن بهَا من الْمُقَاتلَة والذرية وَمر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ نَحْو ذَلِك.
وفيهَا: وسع الْمَنْصُور الْمَسْجِد الْحَرَام.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: ابْتِدَاء الدولة الأموية بالأندلس، دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك إِلَى الأندلس هَارِبا من الْقَتْل مستخفيا كَمَا تقدم، فاستولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: ظفر الْمَنْصُور بِعَمِّهِ عبد اللَّهِ بعد استخفائه عِنْد أَخِيه سُلَيْمَان بن عَليّ من حِين هرب من أبي مُسلم، فأعدمه.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة: وفيهَا: أرسل الْمَنْصُور عبد الْوَهَّاب ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم الإِمَام وَالْحسن بن قَحْطَبَةَ فِي سبعين ألفا، فعمروا ملطية فِي سِتَّة أشهر، وَسَار إِلَيْهِم ملك الرّوم فِي مائَة ألف حَتَّى نزل نهر جيحان، فَبَلغهُ كَثْرَة الْمُسلمين فَرجع.
وفيهَا: حج الْمَنْصُور وَتوجه إِلَى الْقُدس ثمَّ الرقة وَعَاد إِلَى هاشمية الْكُوفَة.
وفيهَا: أَمر الْمَنْصُور بعمارة سور المصيصة وَبنى بهَا جَامعا وأسكنها ألف جندي وسماها المعمورة.(1/185)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة: وفيهَا: خرج على الْمَنْصُور الراوندية من أهل خُرَاسَان على مَذْهَب أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي يَقُولُونَ بالتناسخ وَأَن روح آدم فِي عُثْمَان بن نهيك وَأَن رَبهم الَّذِي يُطعمهُمْ ويسقيهم الْخَلِيفَة الْمَنْصُور، فجاؤوا إِلَى قصر الْمَنْصُور وَقَالُوا: هَذَا قصر رَبنَا، فحبس رؤساءهم وهم مِائَتَان، فَغَضب أَصْحَابهم وحملوا نعشا لتحسب جَنَازَة حَتَّى بلغُوا السجْن فكسروا بَابه وأخرجوا رؤساءهم وقصدوا الْمَنْصُور وهم سِتّمائَة، فأغلقت الْمَدِينَة وَخرج الْمَنْصُور مَاشِيا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس، وَكَانَ معن بن زَائِدَة مستخفيا فَحَضَرَ وَقَاتل هُوَ وَغَيره حَتَّى قتلت الراوندية عَن آخِرهم فأمن مَعنا وَعَفا عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأَرْبع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: حبس الْمَنْصُور من بني الْحسن أحد عشر وقيدهم.
وفيهَا: مَاتَ عبد اللَّهِ بن شبْرمَة وَعَمْرو بن عبيد المعتزلي الزَّاهِد وَعقيل بن خَالِد صَاحب الزُّهْرِيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: ظهر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْحسن وَاسْتولى على الْمَدِينَة وَتَبعهُ أَهلهَا، فَأرْسل الْمَنْصُور ابْن أَخِيه عِيسَى بن مُوسَى إِلَيْهِ، وَخَنْدَق مُحَمَّد الْمَذْكُور مَعَ خَنْدَق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأحزاب وَجرى قتال، ثمَّ قتل مُحَمَّد الْمَذْكُور وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَأَصْحَابه وَانْهَزَمَ من سلم مِنْهُم، وَأقَام عِيسَى بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا وَرجع فِي أَوَاخِر رَمَضَان يُرِيد مَكَّة مُعْتَمِرًا كَانَ مُحَمَّد سمينا أسمر شجاعا كثير الصَّوْم وَالصَّلَاة تلقب بالمهدى، وَالنَّفس الزكية.
وفيهَا: ابْتَدَأَ الْمَنْصُور بِنَاء بَغْدَاد، كره سُكْنى هاشميته لِوَقْعَة الراوندية ولجوار أهل الْكُوفَة حذرا مِنْهُم، فَاخْتَارَ مَوضِع بَغْدَاد.
وفيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم الْعلوِي بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن أَخُو مُحَمَّد " النَّفس الزكية " وَكَانَ هَارِبا مستخفيا، ودعا إِلَى بيعَة أَخِيه وَلم يبلغهُ قَتله، فَبَايعهُ جمَاعَة مِنْهُم مرّة العبشمي وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد وَعَمْرو بن سَلمَة الهُجَيْمِي وَعبد اللَّهِ بن يحيى الرقاشِي وَكثير من الْفُقَهَاء حَتَّى أحصوا أَرْبَعَة آلَاف، وَكَانَ أَمِير الْبَصْرَة سُفْيَان بن مُعَاوِيَة فتحصن لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَار الْإِمَارَة بِجَمَاعَة، فحصره إِبْرَاهِيم ثمَّ أَمنه وَدخل الْقصر، وَجَاء ليجلس على حصيرته فقلبها الرّيح فتطير النَّاس فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِنَّا لَا نتظير وَجلسَ عَلَيْهَا مَقْلُوبَة، وَأخذ من بَيت المَال ألفي ألف دِرْهَم وَفرض لأَصْحَابه خمسين خمسين، وَمضى بِنَفسِهِ إِلَى دَار زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وإليها ينْسب الزينبيون من العباسين، فَنَادَى هُنَاكَ لأهل الْبَصْرَة بالأمان.
ثمَّ أرسل من استولى على الأهواز وَأرْسل هَارُون بن سعد الْعجلِيّ فِي سَبْعَة عشر ألفا فَملك وَاسِط، وَأقَام بِالْبَصْرَةِ يفرق الْعمَّال والجيوش حَتَّى سمع بقتل أَخِيه قبل عيد الْفطر بِثَلَاثَة أَيَّام.(1/186)
ثمَّ سَار من الْبَصْرَة يُرِيد الْكُوفَة وَقد أحصى ديوانه مائَة ألف وَنزل باخمرا على سِتَّة عشر فرسخا من الْكُوفَة، وَكَانَ الْمَنْصُور قد استدعى عِيسَى بن مُوسَى من الْحجاز فَحَضَرَ وَجعله فِي جَيش قبالة إِبْرَاهِيم، فاقتتلا قتالا انهزم فِيهِ غَالب عَسْكَر عِيسَى ثمَّ تراجعوا، ثمَّ وَقعت الْهَزِيمَة على أَصْحَاب إِبْرَاهِيم وَثَبت هُوَ فِي سِتّمائَة من أَصْحَابه، فجَاء سهم فِي حلق إِبْرَاهِيم فَتنحّى وَقَالَ: أردنَا أَمر وَأَرَادَ اللَّهِ غَيره، وَاجْتمعَ أَصْحَابه وأنزلوه فَحمل عَلَيْهِم عَسْكَر عِيسَى وفرقوهم عَنهُ واحتزوا رَأسه لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَبعث بِهِ عِيسَى إِلَى مَنْصُور، وَعمر إِبْرَاهِيم ثَمَان وَأَرْبَعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: تحول الْمَنْصُور من مَدِينَة ابْن هُبَيْرَة إِلَى بَغْدَاد لتكميل عمارتها، واسشار قوما مِنْهُم خَالِد بن برمك فِي نقض إيوَان كسْرَى أَو الْمَدَائِن وَنقل ذَلِك إِلَى بَغْدَاد، فَقَالَ ابْن برمك: لَا أرى ذَلِك لِأَنَّهُ من أَعْلَام الْمُسلمين، فَقَالَ الْمَنْصُور: ملت يَا خَالِد إِلَى أَصْحَابك الْعَجم، وَأمر بِنَقْض الْقصر الْأَبْيَض فنقضت نَاحيَة مِنْهُ فَكَانَ مَا يغرمون عَلَيْهِ أَكثر من قيمَة المنقوض فَتَركه، فَقَالَ خَالِد: إِنِّي أرى أَن لَا تبطل ذَلِك لِئَلَّا يُقَال إِنَّك عجزت عَن تخريب مَا بناه غَيْرك، فَلم يلْتَفت الْمَنْصُور إِلَى ذَلِك وَترك هَدمه.
وَنقل أَبْوَاب مَدِينَة وَاسِط فَجَعلهَا على بَغْدَاد، ودور بَغْدَاد لِئَلَّا يكون بعض النَّاس أقرب إِلَى السُّلْطَان من بعض، وَبنى قصره فِي وَسطهَا وَالْجَامِع فِي جَانِبه.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: ولد الْفضل بن يحيى بن خَالِد بن برمك.
وفيهَا ولى الْمَنْصُور خَالِد بن برمك الْموصل، وَولد الْفضل قبل الرشيد بسبعة أَيَّام فأرضعته الخيزران أم الرشيد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة: وفيهَا توفّي جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، سمي الصَّادِق لصدقه، وينسب إِلَيْهِ كَلَام فِي صَنْعَة الكيمياء والزجر والفأل، ولد سنة ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَدفن بِالبَقِيعِ، وَأمه بنت الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى القَاضِي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ مُسلم بن قُتَيْبَة الْعَظِيم الْقدر بِالريِّ.
وفيهَا: مَاتَ كهمس بن الْحسن التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ.
وفيهَا: مَاتَ عِيسَى بن عمر الثفي، وَعنهُ أَخذ الْخَلِيل النَّحْو.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَمِائَة: فِيهَا: بني عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي سور قرطبة.
وفيهَا: مَاتَ جَعْفَر بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور.
وفيهَا: مَاتَ الإِمَام أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا مولى تيم اللَّهِ بن ثَعْلَبَة، وزوطا من أهل كابل وَقيل: بابل وَقيل: الأنبار، وَهُوَ الَّذِي مَسّه الرّقّ فَأعتق، وَولد لَهُ ثَابت على الْإِسْلَام. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن أبي حنيفَة: مَا مسنا رق قطّ. رُوِيَ أَن وَالِد أبي(1/187)
حنيفَة وَهُوَ صَغِير ذهب إِلَى عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِيهِ وَفِي ذُريَّته، وَقيل: هُوَ النُّعْمَان بن ثَابت بن النُّعْمَان بن الْمَرْزُبَان وَأَن جده النُّعْمَان أهْدى لعَلي يَوْم المهرجان فالوذجا، فَقَالَ لَهُ عَليّ: مهرجونا كل يَوْم.
أدْرك أَبُو حنيفَة اربعة من الصَّحَابَة وهم: انس بن مَالك وَعبد اللَّهِ بن أبي أوفى بِالْكُوفَةِ وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ بِالْمَدِينَةِ وَأَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة وَلم يلق أحدا مِنْهُم وَلَا أَخذ عَنْهُم وَإِن زعم أَصْحَابه غير ذَلِك؛ وَكَانَ عَالما عَاملا زاهدا ورعا، رواده الْمَنْصُور على الْقَضَاء فَامْتنعَ، وَكَانَ ربعَة حسن الْوَجْه وَقيل: طَويلا أحسن النَّاس منطقا.
قَالَ الشَّافِعِي: قيل لمَالِك هَل رَأَيْت أَبَا حنيفَة؟ فَقَالَ: نعم رَأَيْت رجلا لَو كَلمته فِي هَذِه السارية أَن يَجْعَلهَا ذَهَبا لقام بحجته، وَكَانَ يُصَلِّي غَالب اللَّيْل حَتَّى قيل صلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء أَرْبَعِينَ سنة، وَحفظ عَلَيْهِ أَنه ختم الْقُرْآن فِي الْموضع الَّذِي توفّي فِيهِ سَبْعَة آلَاف مرّة وعيب بقلة الْعَرَبيَّة.
قلت: وَرُوِيَ أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء الْمقري سَأَلَهُ عَن الْقَتْل بالمثقل هَل يُوجب الْقود؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: وَلَو قَتله بِحجر المنجنيق؟ فَقَالَ: وَلَو قَتله بأبا قبيس وَاعْتذر عَنهُ بِأَن هَذِه لُغَة كوفية وَهُوَ كُوفِي، وَأَيْضًا فَإِن بلحارث وبلعنبر وَمُرَاد وخثعم وَبَعض عذرة يفرون إِلَى الْألف من الْيَاء لِأَنَّهَا أخف حُرُوف الْمَدّ مثل قَوْله:
(إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا ... )
وَيَقُولُونَ: أعطات وجازات يُرِيدُونَ أَعْطَيْت وجازيت، وَقد ذكرت بذلك قولي:
(ثَقيلَة ردف قَصدهَا قتلتي بِهِ ... فَقلت لَهَا إِن تقتلي النَّفس تقتلي)
(فَقَالَت أما نعْمَان جدي ابْن ثَابت ... وَمَا من قصاص عِنْده بمثقل)
وَالله أعلم.
ولد سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة وَقيل: سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقيل: توفّي بالسجن ليلِي الْقَضَاء، وَقيل: توفّي يَوْم ولد الشَّافِعِي وَذَلِكَ فِي رَجَب من هَذِه السّنة، وَقيل: فِي جُمَادَى، وقبره بِبَغْدَاد مَشْهُور. وزوطا - بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْوَاو -.
وفيهَا: بِبَغْدَاد مَاتَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي، وَقيل: سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة، وَهُوَ ثَبت فِي الحَدِيث عِنْد الْأَكْثَر، ذكره البُخَارِيّ فِي تَارِيخه لَكِن لم يرو عَنهُ لِأَن الإِمَام مَالِكًا طعن فِيهِ وَكَذَلِكَ مُسلم لم يخرج عَنهُ إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا فِي الرَّجْم.
وفيهَا: مَاتَ مقَاتل بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْمُفَسّر.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: ولى الْمَنْصُور هِشَام بن عمر الثَّعْلَبِيّ السَّنَد مَكَان عمر بن حَفْص بن عُثْمَان بن قبيصَة بن أبي صفرَة، وَولى هَذَا إفريقية، لقب عمر بهزار مرد أَي: ألف رجل.(1/188)
وفيهَا: بني الْمَنْصُور الرصافة لِابْنِهِ الْمهْدي وَهِي من الْجَانِب الشَّرْقِي من بَغْدَاد وحول إِلَيْهَا بعض جَيْشه.
وفيهَا: هجمت الْخَوَارِج بَيت معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ بسجستان وَهُوَ عاملها فِي بست وَهُوَ يحتجم فَقَتَلُوهُ بَغْتَة، وَقَامَ بعده ابْن أَخِيه يزِيد بن مزِيد بن زَائِدَة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: غزا حميد بن قَحْطَبَةَ أَمِير خُرَاسَان كابل.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَسنة أَربع وَخمسين وَمِائَة فِيهَا: توفّي بِالْكُوفَةِ أَبُو عَمْرو واسْمه كنيته ابْن الْعَلَاء، بن عمار من ولد الْحصين التَّمِيمِي الْمَازِني الْبَصْرِيّ، ولد سنة سبعين وَقيل: ثَمَان وَسِتِّينَ، وَهُوَ أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة.
قلت: وَفِيه يَقُول الفرزدق:
(مَا زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حَتَّى أتيت أَبَا عَمْرو بن عمار)
وَسَأَلَ سُلَيْمَان عَم السفاح أَبَا عَمْرو عَن شَيْء فَصدقهُ فَلم يُعجبهُ، فَخرج أَبُو عَمْرو وَهُوَ يَقُول:
(أنفت من الذل عِنْد الْمُلُوك ... وَإِن أكرموني وَإِن قربوا)
(إِذا مَا صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بِأَن يكذبوا)
وَكَانَ يَقُول: لَا يقبل فِي الدِّيَة إِلَّا غُلَام أَبيض أَو جَارِيَة بَيْضَاء لَا أسود وَلَا سَوْدَاء لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الْجَنِين غرَّة عبد أَو أمة "، ليَكُون لقَوْله غرَّة فَائِدَة، وَهَذَا لغرابته نقلته، وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار الْمَنْصُور إِلَى الشَّام وجهز جَيْشًا إِلَى الْمغرب لقتل الْخَوَارِج.
وفيهَا: مَاتَ أشعب الطامع.
وفيهَا: مَاتَ وهيب بن الْورْد الزَّاهِد الْمَكِّيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: عمل الْمَنْصُور للكوفة وَالْبَصْرَة سورا وخندقا من أَمْوَال أَهلهَا أَرَادَ معرفَة عَددهمْ فقسم فيهم الدَّرَاهِم خَمْسَة خَمْسَة ثمَّ جبى مِنْهُم أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ بَعضهم:
(يَا لقوم مَا لَقينَا ... من أَمِير المؤمنينا)
(قسم الْخَمْسَة فِينَا ... وجبانا أربعينا)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: توفّي حَمْزَة بن حبيب بن عمَارَة الْكُوفِي الزيات أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَعند أَخذ الْكسَائي، وَكَانَ يجلب الزَّيْت إِلَى حلوان والجوز والجبن إِلَى الْكُوفَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ الْأَوْزَاعِيّ أَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن بن(1/189)
عمر بن يحمد وعمره سَبْعُونَ، كَانَ إِمَام أهل الشَّام، أجَاب فِي سبعين ألف مَسْأَلَة، سكن بيروت وقبره بقرية حنتوش على بَاب بيروت فِي قبْلَة الْمَسْجِد، وَأهل الْقرْيَة يَقُولُونَ: هُنَا قبر ينزل عَلَيْهِ النُّور وَلَا يعْرفُونَ أَنه قَبره، وينسب إِلَى أوزاع - بطن من ذِي كلاع - وَقيل: من هَمدَان، ويحمد - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة وَكسر الْمِيم.
قلت: وَرُوِيَ أَن سُفْيَان الثَّوْريّ بلغَة مقدم الْأَوْزَاعِيّ فَلَقِيَهُ إِلَى ذِي طوى فَحل بعيره عَن القطار وَوَضعه على رقبته، فَكَانَ إِذا مر بِجَمَاعَة قَالَ: الطَّرِيق للشَّيْخ. والأوزاع: قَرْيَة على طَرِيق بَاب الفراديس أَيْضا، وَقَالَ فِيهِ بَعضهم:
(جاد الحيا بِالشَّام كل عَشِيَّة ... قبرا تضمن لحده الْأَوْزَاعِيّ)
(قبرا تضمن فِيهِ طود شَرِيعَة ... سقيا لَهُ من عَالم نفاع)
(عرضت لَهُ الدُّنْيَا فَأَعْرض مقلعا ... عَنْهَا بزهد أَيّمَا إقلاع)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ الْمَنْصُور لست خلون من ذِي الْحجَّة، خرج لِلْحَجِّ وَقَالَ لِابْنِهِ الْمهْدي: إِنِّي ولدت فِي ذِي الْحجَّة وَوليت فِي ذِي الْحجَّة وَقد هجس فِي نَفسِي أَنِّي أَمُوت فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة وَهُوَ الَّذِي حداني على الْحَج، فَاتق اللَّهِ فِيمَا أَعهد إِلَيْك، ووصاه طَويلا وودعه وبكيا فَمَاتَ بِقَبْر مَيْمُونَة محرما، وعاش ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وخلافته اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَكسر، وَكَانَ أسمر نحيفا خَفِيف العارضين، ولد بالحميمة، وَدفن بِبَاب الْمصلى وَبَقِي أثر الْإِحْرَام فَدفن وَرَأسه مَكْشُوف، وَسمع وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ قَائِلا يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع، فَدَعَا الْقَائِل واستنبأه فَقَالَ: إِن أمنتني أَنْبَأتك بالأمور على جليتها وأصولها فَأَمنهُ، فَقَالَ الرجل: إِن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حَال بَين الْحق وَأَهله أَنْت، فَقَالَ: وَيحك وَكَيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء فِي قبضتي والحلو والحامض عِنْدِي؟ فَقَالَ: لِأَن اللَّهِ استرعاك على الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فَجعلت بَيْنك وَبينهمْ حِجَابا من الجص والآجر وأبوابا من الْحَدِيد وحجابا مَعَهم الأسلحة وَلم تَأمر بإيصال الْمَظْلُوم والملهوف والجائع والعاري والضعيف وَالْفَقِير وَمَا أحد إِلَّا وَله من هَذَا المَال حق، فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذين استخلصتهم لنَفسك تجبي الْأَمْوَال فَلَا تعطيها وتجمعها فَلَا تقسمها قَالُوا: هَذَا قد خَان اللَّهِ فَمَا لنا لَا نخونه، فاتفقوا على أَن لَا يصل إِلَيْك من أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيخالف أَمرهم إِلَّا أقصوه ونفوه حَتَّى من أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيخالف أَمرهم إِلَّا أقصوه ونفوه حَتَّى تسْقط مَنْزِلَته ويصغر قدره فَلَمَّا انْتَشَر ذَلِك عَنْك وعنهم هابهم النَّاس وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثمَّ فعل ذَلِك ذووا الْقُدْرَة والثروة من رعيتك لينالوا بِهِ ظلم من دونهم فامتلأت الْبِلَاد ظلما، فَإِذا صرخَ الْمَظْلُوم بَين يَديك ضرب ضربا شَدِيدا وَأَنت تنظر وَلَا تنكره؛ ثمَّ ذكره بالطفل يسْقط من بطن أمه لَا مَال لَهُ فيلطف اللَّهِ بِهِ(1/190)
حَتَّى تعظم رَغْبَة النَّاس إِلَيْهِ، وَذكره ببني أُميَّة وَمَا جَمَعُوهُ فَمَا أغْنى عَنْهُم حِين أَرَادَ اللَّهِ بهم مَا أَرَادَ. وَهَذِه خُلَاصَة الموعظة.
أَوْلَاده هم: الْمهْدي مُحَمَّد وجعفر الْأَكْبَر مَاتَ فِي حَيَاة الْمَنْصُور وَسليمَان وَعِيسَى وَيَعْقُوب وجعفر الْأَصْغَر وَصَالح الْمُسلمين، وَكَانَ الْمَنْصُور من احسن النَّاس خلقا فِي الْخلْوَة حَتَّى يخرج إِلَى النَّاس.
(أَخْبَار الْمهْدي بن الْمَنْصُور)
وَوصل إِلَى الْمهْدي الْخَبَر بالبيعة لَهُ وَهُوَ ثالثهم منتصف ذِي الْحجَّة، وَوصل القاصد من مَكَّة إِلَى بَغْدَاد فِي أحد عشر يَوْمًا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَسنة سِتِّينَ وَمِائَة: وفيهَا: رد الْمهْدي نسب آل زِيَاد إِلَى عبيد الرُّومِي فِي ثَقِيف وأخرجهم من قُرَيْش وَالْعرب وأبطل استلحاق مُعَاوِيَة
وفيهَا: حج الْمهْدي وَفرق أَمْوَالًا ووسع مَسْجِد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحمل الثَّلج إِلَى مَكَّة.
وفيهَا: مَاتَ دَاوُد الطَّائِي الزَّاهِد من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّهِ بن عتبَة المَسْعُودِيّ، والخليل بن أَحْمد الْبَصْرِيّ استاذ سِيبَوَيْهٍ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهِ: أَمر الْمهْدي باتخاذ المصانع فِي طَرِيق مَكَّة وتجديد الأميال والبرك وحفر الركايا وتقصير المنابر إِلَى مِقْدَار مِنْبَر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وفيهَا: جعل الْمهْدي يحيى بن خَالِد بن برمك مَعَ ابْنه هَارُون، وَأَبَان بن صَدَقَة مَعَ الْهَادِي.
وفيهَا: توفّي سُفْيَان الثَّوْريّ، ومولده سنة سبع وَتِسْعين. وَإِبْرَاهِيم بن أدهم بن مَنْصُور الزَّاهِد من بكر بن وَائِل، ولد ببلخ ورابط بِالشَّام، سَأَلَهُ إِبْرَاهِيم بن يسَار عَن بَدْء أمره وألح عَلَيْهِ فَقَالَ: كَانَ أبي من مُلُوك خُرَاسَان وَكَانَ قد حبب إِلَيّ الصَّيْد، فَبينا أَنا رَاكب فرسا وكلبي معي إِذْ تحركت على صيد فَسمِعت نِدَاء من ورائي: يَا إِبْرَاهِيم لَيْسَ لهَذَا خلقت وَلَا بِهَذَا أمرت، فوقفت مقشعرا أنظر يمنة ويسرة فَلم أر أحدا فَقلت: لعن اللَّهِ إِبْلِيس، ثمَّ حركت فرسي فَسمِعت من قربوس سرجي: يَا إِبْرَاهِيم لَيْسَ لهَذَا خلقت وَلَا بِهَذَا أمرت، فوقفت وَقلت: هَيْهَات جَاءَنِي النذير من رب الْعَالمين وَالله لَا عصيت رَبِّي فتوجهت إِلَى أَهلِي وَجئْت إِلَى بعض رعاء أبي فَأخذت جبته وكساه وألقيت إِلَيْهِ ثِيَابِي، ثمَّ سرت حَتَّى صرت إِلَى الْعرَاق، ثمَّ صرت إِلَى الشَّام، ثمَّ قدمت إِلَى طرطوس فاستأجرني شخص ناظورا لبستان، فَمَكثت فِي الْبُسْتَان أَيَّامًا كَثِيرَة فَلَمَّا اشتهرت اختفيت وهربت من النَّاس؛ كَانَ يَأْكُل من عمل يَده كالحصاد وَالْعَمَل فِي الطين وَحفظ الْبَسَاتِين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة: وَفِي الأَصْل هُنَا سَهْو، وَكَذَا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة سَهْو فِي الأَصْل أَيْضا.(1/191)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا: تجهز الْمهْدي لغزو الرّوم واستخلف ابْنه الْهَادِي بِبَغْدَاد، وَلما وصل إِلَى حلب بلغَة أَن بِتِلْكَ النَّاحِيَة زنادقة فَجَمعهُمْ وقتلهم وَقطع كتبهمْ وَسَار إِلَى جيحان، وجهز ابْنه هَارُون بالعسكر فتغلغل فِي الرّوم وَفتح كثيرا وَعَاد.
وفيهَا: قتل الْمقنع الْخُرَاسَانِي واسْمه عَطاء، وَكَانَ لَعنه اللَّهِ قصارا أَعور مشوها لَا يسفر عَن وَجهه وتقنع بِوَجْه ذهب، وَادّعى الربوبية وَأَن الْبَارِي تَعَالَى وتقدس حل فِي آدم ثمَّ فِي نوح ثمَّ فِي نَبِي بعد آخر حَتَّى حل فِيهِ، وَعمر قَرْيَة سَنَام وَرَاء النَّهر من رستاق كيش وتحصن بهَا وخيل بسحره للنَّاس صُورَة قمر يطلع وَيرى من مَسَافَة شَهْرَيْن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن سنا الْملك بقوله:
(إِلَيْك فَمَا بدر الْمقنع طالعا ... بأسحر من ألحاظ بدر المعمم)
وأطاعه خلق، ثمَّ اجْتمع النَّاس وحصروه فسم نِسَاءَهُ ثمَّ نَفسه فماتوا، فَدخل النَّاس قلعته وَقتلُوا أشياعه وَأَتْبَاعه.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ عِيسَى عَم الْمَنْصُور وَعمرَة ثَمَان وَسَبْعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا وصل الرشيد فِي جَيش بِأَمْر أَبِيه الْمهْدي إِلَى خليج قسطنطينية وغنم وَقتل فِي الرّوم وَعَاد.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا تحرج الْمهْدي من وزيره يَعْقُوب بن دَاوُد بن طهْمَان وَزِير نصر بن سيار قبله، كَانَ أَصْحَاب الْمهْدي يشربون عِنْده وَيَعْقُوب ينْهَى عَن ذَلِك، فسعوا فِيهِ حَتَّى حَبسه الْمهْدي، وَاسْتمرّ إِلَى أَن أخرجه الرشيد فِي خِلَافَته، وَفِي ذَلِك يَقُول بشار بن برد،
(بني أُميَّة هبوا طَال نومكم ... إِن الْخَلِيفَة يَعْقُوب بن دَاوُد)
(ضَاعَت خلافتكم يَا قوم فالتمسوا ... خَليفَة اللَّهِ بَين الناي وَالْعود)
وفيهَا: أَقَامَ الْمهْدي بريدا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة بغالا وإبلا.
وفيهَا: قتل بشار بن برد الشَّاعِر الْأَعْمَى خلقَة على الزندقة وَقد نَيف على التسعين، قيل: كَانَ يفضل النَّار على الأَرْض، ويصوب رَأْي إِبْلِيس فِي امْتِنَاعه من السُّجُود لآدَم، نسْأَل اللَّهِ الْعَافِيَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا توفّي عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس، ابْن أخي السفاح والمنصور، أوصى لَهُ السفاح بالخلافة بعد الْمَنْصُور ثمَّ خلعه الْمَنْصُور وَولى ابْنه الْمهْدي، وعاش خمْسا وَسِتِّينَ.
وفيهَا: زَاد الْمهْدي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ الْمهْدي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْمَنْصُور ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(1/192)
بماسبذان فِي الْمحرم لثمان بَقينَ مِنْهُ، وخلافته عشر سِنِين وَشهر، وعمره ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ، وَدفن تَحت شَجَرَة جوز، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه الرشيد؛ كَانَ رَحمَه اللَّهِ يجلس للمظالم وَيَقُول: أدخلُوا عَليّ الْقُضَاة فَلَو لم يكن ردي للمظالم إِلَّا للحياء مِنْهُم.
(أَخْبَار مُوسَى الْهَادِي)
وبويع للهادي مُوسَى بالخلافة يَوْم مَاتَ الْمهْدي، وَالْهَادِي رابعهم وَكَانَ مُقيما بجرجان يحارب أهل طبرستان، وَوصل الرشيد من ماسبذان إِلَى بَغْدَاد فَأخذت الْبيعَة للهادي أَيْضا، وَبلغ الْهَادِي بجرجان موت أَبِيه فَسَار على الْبَرِيد فَدخل بَغْدَاد فِي عشْرين يَوْمًا واستوزر الرّبيع.
وفيهَا: ظهر الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب بِالْمَدِينَةِ فِي جمع من أهل بَيته مِنْهُم: الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَعبد اللَّهِ بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَعبد اللَّهِ هَذَا ابْن عَاتِكَة، وَجرى بَينه وَبَين عَامل الْهَادِي على الْمَدِينَة وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب قتال، فَانْهَزَمَ عمر وَبَايع النَّاس الْحُسَيْن على كتاب اللَّهِ وَسنة نبينه المرتضى من آل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأقَام الْحُسَيْن وَأَصْحَابه يَتَجَهَّزُونَ أحد عشر يَوْمًا.
ثمَّ خَرجُوا لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَوصل الْحُسَيْن إِلَى مَكَّة، وَلحق بِهِ جمَاعَة من عبيد مَكَّة.
وَكَانَ قد حج تِلْكَ السّنة جمَاعَة من بني الْعَبَّاس وشيعتهم، مِنْهُم: سُلَيْمَان بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان بن عَليّ، وَالْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ، وانضم إِلَيْهِم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم؛ واقتتلوا بوج يَوْم التَّرويَة، فَقتل الْحُسَيْن وَانْهَزَمَ أَصْحَابه واحتز رَأسه وَجمع مَعَه من رُؤُوس أَصْحَابه ورؤوس أهل الْمَدِينَة نَحْو مائَة رَأس مِنْهَا رَأس سُلَيْمَان بن عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَاخْتَلَطَ المنهزمون بالحاج، وَوَج عَن مَكَّة إِلَى جِهَة الطَّائِف ذكره النميري فَقَالَ:
(تضوع مسكا بطن نعْمَان إِذْ مشت ... بِهِ زَيْنَب فِي نسْوَة خفرات)
(مررن بوج ثمَّ قمن عَشِيَّة ... يلبين للرحمن معتمرات)
وَفِي قتل الْمَذْكُورين بوج يَقُول بَعضهم:
(فلأبكين على الْحُسَيْن ... بعولة وعَلى الْحسن)
(وعَلى ابْن عَاتِكَة الَّذِي ... واروه لَيْسَ لَهُ كفن)
(تركُوا بوج غدْوَة ... فِي غير منزلَة الوطن)
وأفلت مِنْهُم إِدْرِيس بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، فَأتى مصر وعَلى بريدها وَاضح الشيمي مولى بني الْعَبَّاس، فَحمل إِدْرِيس على الْبَرِيد إِلَى ... ... ... ... ... ... ... ...(1/193)
الْمغرب إِلَى أَرض طنجة، وَبلغ الْهَادِي ذَلِك فَضرب عنق وَاضح، وَبَقِي إِدْرِيس هُنَاكَ حَتَّى أرسل الرشيد إِلَيْهِ الشماخ النامي مولى بني السَّيِّد فاغتاله بالسم.
وَكَانَ لإدريس حظية حُبْلَى، فَولدت ابْنا سموهُ إِدْرِيس باسم أَبِيه، وَكبر واستقل بِملك تِلْكَ الْبِلَاد.
وَحمل رَأس الْحُسَيْن وَبَاقِي الرؤوس إِلَى الْهَادِي، فَأنْكر عَلَيْهِم حمل رَأس الْحُسَيْن وَلم يعطهم جوائزهم غَضبا عَلَيْهِم، وَكَانَ الْحُسَيْن شجاعا كَرِيمًا، قدم على الْمهْدي فَأعْطَاهُ أَرْبَعِينَ ألف دِينَار ففرقها بِبَغْدَاد والكوفة، وَخرج من الْكُوفَة بفروة لَيْسَ تحتهَا قَمِيص.
وفيهَا: مَاتَ مُطِيع بن أياس الشَّاعِر. وَتُوفِّي نَافِع الْمقري بن عبد الرَّحْمَن بن أبي نعيم أحد السَّبْعَة، وروى عَنهُ ورش وقنبل، كَانُوا يرجعُونَ فِي الْمَدِينَة إِلَى قِرَاءَته، وَكَانَ محتسبا أسود شَدِيد السوَاد فِيهِ دعابة وَقَرَأَ عَلَيْهِ مَالك الْقُرْآن، وَهَذَا غير نَافِع مولى عبد اللَّهِ بن عمر الْمُحدث.
وفيهَا: مَاتَ الرّبيع بن يُونُس حَاجِب الْمَنْصُور ومولاه.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَمِائَة: فِيهَا توفّي مُوسَى الْهَادِي بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور لَيْلَة الْجُمُعَة منتصف ربيع الأول، وخلافته سنة وَثَلَاثَة أشهر، وعمره سِتّ وَعِشْرُونَ، قيل: قتلته أمه الخيزران بِأَن غم جواريها وَجهه وَهُوَ مَرِيض، وَدفن بِعَين باذا الْكُبْرَى فِي بستانه، كَانَ أَبيض طَويلا جسيما بشفته الْعليا نقص وَله سَبْعَة بَنِينَ وابنتان.
(أَخْبَار هَارُون الرشيد)
وفيهَا: بُويِعَ للرشيد هَارُون بالخلافة وَهُوَ خامسهم لَيْلَة موت أَخِيه الْهَادِي وأمهما الخيزران أم ولد، ولد بِالريِّ فِي آخر ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَصلى عَلَيْهِ الرشيد وَقصد بَغْدَاد.
وفيهَا: فِي شَوَّال ولد الْأمين مُحَمَّد بن الرشيد من زبيدة، واستوزر الرشيد يحيى بن خَالِد ومكنه
وفيهَا: عزل الرشيد الثغور كلهَا من الجزيرة وقنسرين وَجعلهَا حيزا وَاحِدًا وَسميت العواصم، وَأمر بعمارة طرطوس على يَد فرج الْخَادِم التركي ونزلها النَّاس.
وفيهَا: أَمر عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل الْأمَوِي المستولي على الأندلس بِبِنَاء جَامع قرطبة مَوضِع الْكَنِيسَة بِمِائَة ألف دِينَار.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي بقرطبة، وَيعرف بالداخل لدُخُوله بِلَاد الْمغرب، وَهُوَ: عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف فِي ربيع الآخر ولد بِأَرْض دمشق سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة وَمُدَّة ملكه بالأندلس ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَملك(1/194)
بعده ابْنه هِشَام؛ وَكَانَ عبد الرَّحْمَن أصهب خَفِيف العارضين طَويلا نحيفا أَعور، والتجأ إِلَيْهِ بَنو أُميَّة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو يزِيد رَبَاح اللَّخْمِيّ الزَّاهِد بِمَدِينَة القيروان، وَكَانَ مجاب الدعْوَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا مَاتَت الخيزران أم الرشيد، وَحج الرشيد وَأحرم من بَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَسنة خمس وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا تحرّك فِي الديلم يحيى بن عبد اللَّهِ بن حسن بن حُسَيْن بن عَليّ رضى اللَّهِ عَنْهُم.
وفيهَا: ولد إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا ظهر أَمر يحيى الحسني الْمَذْكُور بالديلم وَقَوي، فَأرْسل الرشيد الْفضل بن يحيى إِلَيْهِ، فَأحْضرهُ بالأمان،، وَيَمِين الرشيد بِخَطِّهِ، وأكرمه الرشيد وَأَعْطَاهُ، ثمَّ حَبسه حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس.
وفيهَا: هَاجَتْ الْفِتْنَة بِدِمَشْق بَين المضريين واليمانيين، وَكَانَ على دمشق عبد الصَّمد فسعى بالرؤساء فِي الصُّلْح، فَأجَاب بَنو الْقَيْن واستمهلت اليمانية، ثمَّ سَارُوا إِلَى بني الْقَيْن وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو سِتّمائَة، فاستنجدت بَنو الْقَيْن قضاعة وسليحا فَأَبَوا، فاستنجدوا قيسا فَسَارُوا مَعَهم إِلَى العواليك من أَرض البلقاء فَقتلُوا من اليمانية ثَمَانمِائَة وَكثر الْقِتَال بَينهم، ثمَّ عزل الرشيد عبد الصَّمد عَن دمشق وولاها إِبْرَاهِيم بن صَالح بن عَليّ، ودام الْقِتَال بَين الْمَذْكُورين نَحْو سنتَيْن.
وَسبب الْفِتْنَة: قطع رجل من بني الْقَيْن بطيخة من حَائِط بالبلقاء لرجل من لخم وجذام.
وفيهَا: مَاتَ الْفرج بن فضَالة، وَصَالح بن بشر الْقَارِي؛ وَكَانَ ضَعِيفا فِي الحَدِيث.
وفيهَا: مَاتَ نعيم بن ميسرَة النَّحْوِيّ الْكُوفِي.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا توفّي بِالْكُوفَةِ أَبُو عبد اللَّهِ شريك بن عبد اللَّهِ بن أبي شريك تولى الْقَضَاء أَيَّام الْمهْدي ثمَّ عَزله الْهَادِي، وَكَانَ عَالما عادلا كثير الصَّوَاب حَاضر الْجَواب، ذكر عِنْده مُعَاوِيَة بالحلم فَقَالَ: لَيْسَ بحليم من سفه الْحق وَقَاتل عليا؛ ولد ببخارى سنة خمس وَتِسْعين.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَسنة تسع وَسبعين وَمِائَة: فِيهَا توفّي مَالك بن أنس بن مَالك بن أبي عَامر بن عمر بن الْحَارِث الأصبحي من ولد ذِي الأصبح الْحَارِث بن عَوْف من ولد يعرب بن قحطان، ولد سنة خمس وَتِسْعين، أَخذ الْقِرَاءَة عَن نَافِع بن أبي نعيم وَسمع الزُّهْرِيّ، وَأخذ الْعلم عَن ربيعَة الْمرَائِي. قَالَ الشَّافِعِي: قَالَ لي مُحَمَّد بن الْحسن:(1/195)
أَيّمَا أعلم صاحبنا أم صَاحبكُم - يَعْنِي أَبَا حنيفَة ومالكا -؟ قلت: على الأنصاف: قَالَ: نعم، قلت: أنْشدك اللَّهِ من أعلم بِالْقُرْآنِ صاحبنا أم صَاحبكُم؟ قَالَ: اللَّهُمَّ صَاحبكُم، قلت: فأنشدك اللَّهِ من أعلم بِالسنةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ صَاحبكُم، قلت: فأنشدك اللَّهِ من أعلم بأقاويل أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُتَقَدِّمين صاحبنا أم صَاحبكُم؟ قَالَ: اللَّهُمَّ صَاحبكُم، قلت: فَلم يبْق إِلَّا الْقيَاس وَالْقِيَاس لَا يكون إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء.
وسعي بِالْإِمَامِ مَالك إِلَى جَعْفَر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس ابْن عَم الْمَنْصُور وَقَالُوا: إِنَّه لَا يرى الْأَيْمَان ببيعتكم هَذِه بِشَيْء لِأَن يَمِين الْمُكْره لَيست لَازِمَة، فَغَضب ودعا بِمَالك وجرده وضربه بالسياط ومدت يَده حَتَّى انخلعت كتفه وارتكب مِنْهُ أمرا عَظِيما، فَلم يزل بعد ذَلِك الضَّرْب فِي عَلَاء ورفعة، دفن بِالبَقِيعِ وَكَانَ شَدِيد الْبيَاض إِلَى الشقرة طَويلا.
قلت: قَالَ القعْنبِي: دخلت على مَالك فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَسلمت عَلَيْهِ، ثمَّ جَلَست فرأيته يبكي فَقلت: يَا أَبَا عبد اللَّهِ مَا الَّذِي يبكيك؟ فَقَالَ: يَا ابْن قعنب ومالى لَا أبْكِي وَمن أَحَق بالبكاء مني وَالله لَوَدِدْت أَنِّي ضربت بِكُل مَسْأَلَة أَفْتيت فِيهَا برأيي بِسَوْط سَوط وَقد كَانَت لي السعَة فِيمَا قد سبقت إِلَيْهِ وليتني لم أفت بِالرَّأْيِ، وَالله اعْلَم.
وفيهَا: توفّي مُسلم بن خَالِد الزنْجِي الْفَقِيه الْمَكِّيّ، صَحبه الشَّافِعِي قبل مَالك وَأخذ عَنهُ الْفِقْه، كَانَ أَبيض مشربا بحمرة وَلذَلِك قيل الزنْجِي.
وفيهَا: توفّي السَّيِّد الْحِمْيَرِي الشَّاعِر إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن يزِيد بن ربيعَة بن مفرغ الْحِمْيَرِي الشيعي وَالسَّيِّد لقبه، أَكثر من الشّعْر وَمن الوقيعة فِي الصَّحَابَة والهجو لعَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك صَاحب الأندلس، وإمارته سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام وعمره تسع وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعَة أشهر، واستخلف ابْنه الحكم فَخرج على الحكم عماه سُلَيْمَان وَعبد اللَّهِ ابْنا عبد الرَّحْمَن وَكَانَا فِي بر العدوة، فتحاربوا مُدَّة فظفر بِعَمِّهِ سُلَيْمَان فَقتله سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فخاف عَمه عبد اللَّهِ وَصَالَحَهُ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ. وَفِي اشْتِغَاله بِقِتَال عميه أخذت الفرنج مَدِينَة برشلونه سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة.
وفيهَا - أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة -: سَار جَعْفَر الْبَرْمَكِي إِلَى الشَّام فسكن الْفِتْنَة الَّتِي كَانَت فِيهِ.
وفيهَا: هدم الرشيد سور الْموصل بعصيان أَهلهَا فِي كل وَقت.
وفيهَا وَقيل: سنة سبع وَسبعين وَمِائَة: توفّي سِيبَوَيْهٍ النَّحْوِيّ واسْمه عَمْرو بن عُثْمَان بن قنبر، أعلم الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين بالنحو وَكتب النَّحْو عيلة على كِتَابه أَخذ النَّحْو عَن الْخَلِيل بن أَحْمد، وَقيل: توفّي بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَقيل: سنة ثَمَان(1/196)
وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة بِمَدِينَة ساوة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: مَاتَ بشيراز وقبره بهَا، وَكَانَ كثيرا مَا ينشد:
(إِذا بل من دَاء بِهِ ظن أَنه ... يجاوبه الدَّاء الَّذِي هُوَ قَاتله)
وسيبويه فَارسي مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: رَائِحَة التفاح لجمال صورته.
وَله مَعَ الْكسَائي الْبَحْث الْمَشْهُور فِي قَوْلك: كنت أَظن أَن الزنبور أَشد لسعا من النحلة، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: فَإِذا هُوَ هِيَ، وَقَالَ الْكسَائي: فَإِذا هُوَ إِيَّاهَا. وانتصر الْأمين بن الرشيد لمعلمه الْكسَائي وتعصبوا على سِيبَوَيْهٍ، فسافر إِلَى فَارس فَمَاتَ بقرية البيضا من قرى شيزار.
قلت: وَقيل إِن وِلَادَته بالبيضاء لَا وَفَاته، وَكَانَ فِي لِسَانه حبسة فَعلمه أبلغ من لِسَانه، وزار يَوْمًا أستاذة الْخَلِيل فَقَالَ: مرْحَبًا بزائر لَا يمل، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا غزا الرشيد الرّوم:، فَافْتتحَ حصن الصفصاف.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن المبرك الْمروزِي وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ.
وفيهَا: توفّي مَرْوَان بن أبي حَفْصَة الشَّاعِر، وَولد سنة خمس وَمِائَة.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم من ولد سعد بن خَيْثَمَة، وَسعد صَحَابِيّ أَنْصَارِي وَهُوَ سعد بن يحيى واشتهر بِأُمِّهِ، وَأَبُو يُوسُف أكبر أَصْحَاب أبي حنيفَة.
قلت: وَنَشَأ يَتِيما، وطالت على أمه صحبته لأبي حنيفَة وإعراضه عَن تعلم حِرْفَة فَحَضَرت عِنْده وعاتبته على ذَلِك، فَقَالَ: مري يَا رعناء هَا هُوَ ذَا يتَعَلَّم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فَلَمَّا كبر وَأكله عِنْد الرشيد ذكر ذَلِك لَهُ فتعجب مِنْهُ.
وَسَأَلَهُ الرشيد عَن إِمَام شَاهد رجلا يَزْنِي هَل يحده؟ قَالَ: لَا، فَسجدَ الرشيد وَقَالَ: من أَيْن قلت هَذَا؟ قَالَ: لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ادرؤا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ "، وَهَذِه شُبْهَة يسْقط الْحَد مَعهَا، قَالَ: وَأي شُبْهَة مَعَ المعاينة؟ قَالَ: لَيْسَ توجب المعاينه لذَلِك أَكثر من الْعلم بِمَا جرى وَالْحُدُود لَا تكون بِالْعلمِ، فَسجدَ مرّة أُخْرَى، وَحصل لَهُ بِهَذِهِ من الرشيد وَمن المستفتي فِيهِ وَمن أمه وجماعته مَال جزيل، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ جَعْفَر الطَّيَالِسِيّ الْمُحدث.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا توفّي مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بِبَغْدَاد فِي حبس الرشيد، حكت أُخْت سجانه السندي بن شاهك وَكَانَ تلِي خدمته أَن الكاظم كَانَ إِذا صلى الْعَتَمَة حمد اللَّهِ ومجده وَدعَاهُ إِلَى أَن يَزُول اللَّيْل، ثمَّ يقوم يُصَلِّي حَتَّى يطلع الصُّبْح فَيصَلي الصُّبْح، ثمَّ يذكر اللَّهِ حَتَّى تطلع الشَّمْس، ثمَّ يقْعد إِلَى ارْتِفَاع(1/197)
الضُّحَى، ثمَّ يرقد وَيَسْتَيْقِظ قبل الزَّوَال، ثمَّ يتَوَضَّأ وَيُصلي حَتَّى يُصَلِّي الْعَصْر، ثمَّ يذكر اللَّهِ حَتَّى يُصَلِّي الْمغرب، ثمَّ يُصَلِّي مَا بَين الْمغرب وَالْعَتَمَة، فَكَانَ هَذَا دأبه إِلَى أَن مَاتَ رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ.
سمي الكاظم: لإحسانه إِلَى من يسيء إِلَيْهِ، وَهُوَ سَابِع الْأَئِمَّة الاثنى عشر على رَأْي الإمامية، ولد سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة، وقبره عَلَيْهِ مشْهد عَظِيم بالجانب الغربي من بَغْدَاد.
قلت: وأقدمه الْمهْدي بَغْدَاد من الْمَدِينَة وحبسه فَرَأى فِي النّوم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَهُوَ يَقُول: " يَا مُحَمَّد فَهَل عسيتم إِن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم ". فانتبه لَيْلًا وأحضر مُوسَى وعانقه وَأخْبرهُ بالمنام وَقَالَ: تؤمنني أَن تخرج عَليّ وعَلى أحد من وَلَدي "، فَقَالَ: وَالله لَا فعلت ذَلِك وَلَا هُوَ من شأني، فَأعْطَاهُ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار ورده إِلَى الْمَدِينَة، وَأقَام بهَا إِلَى أَيَّام هَارُون، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي يُونُس بن حبيب النَّحْوِيّ وَقد نَيف على الْمِائَة، أَخذ الْعلم عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء وروى عَنهُ سِيبَوَيْهٍ، وَله قِيَاس فِي النَّحْو.
قلت: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: اخْتلف إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ سنة أملأ كل يَوْم ألواحي من حفظه، وَكَانَ من أهل جبل - بِفَتْح الْجِيم وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة - وَهِي على دجلة وَكَانَ لَا يحب نسبته إِلَيْهَا، فَلَقِيَهُ عميري وَقَالَ: مَا تَقول فِي جبل ينْصَرف أم لَا؟ فشتمه يُونُس خلْوَة وَأَتَاهُ الْعمريّ خلْوَة، وَأَتَاهُ العميري من الْغَد وَهُوَ جَالس للنَّاس فَقَالَ: مَا تَقول فِي جبل ينْصَرف أم لَا؟ فَقَالَ: الْجَواب مَا قلت لَك أمس، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا ولى الرشيد حمادا الْبَرْبَرِي الْيمن وَمَكَّة، وَدَاوُد بن يزِيد بن مرْثَد المهلبي السَّنَد، وَيحيى الجرشِي الْجَبَل، ومهرويه الرَّازِيّ طبرستان، وَإِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إفريقية، وَكَانَ على أَعمال الْموصل يزِيد بن مزِيد بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ عَم الْمَنْصُور عبد الصَّمد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَهُوَ بِمَنْزِلَة يزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى عبد منَاف، وَبَين مَوْتهمَا مَا يزِيد على مائَة وَعشْرين سنة.
وفيهَا: مَاتَ يزِيد بن مزِيد الشَّيْبَانِيّ ابْن أخي معن.
ثمَّ دخلت سنة وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَسنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا أوقع الرشيد بالبرامكة وَقتل جَعْفَر بن يحيى بالأنبار مستهل صفر وعمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة، وَسَببه عِنْد الْأَكْثَر: كَونه زوجه أُخْته عباسة ليحل لَهُ النّظر إِلَيْهَا وَشرط أَن لَا يقربهَا، فَوَطِئَهَا وحبلت مِنْهُ بِغُلَام، وَقيل: بل حبس الرشيد يحيى بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن رَضِي اللَّهِ عَنْهُم عِنْد جَعْفَر فَأَطْلقهُ، وَقيل عظم واشتهر أَمر البرامكة وأحبهم النَّاس، والملوك على مثل ذَلِك لَا تصبر، وَبعث بِرَأْس جَعْفَر وجيفته إِلَى بَغْدَاد وَنصب رَأسه على الجسر وَجعل جيفته قطعتين على(1/198)
الجسرين وأحاط بِيَحْيَى وَولده وَجَمِيع أنسابه واخذ جَمِيع مَا يملكونه، وَلم يتَعَرَّض لمُحَمد بن خَالِد بن برمك وَولده لبراءته عِنْده، وَمُدَّة وزارتهم سبع عشرَة سنة، وَفِي ذَلِك يَقُول الرقاشِي وَقيل: أَبُو نؤاس قصيدة مِنْهَا:
(وَقل للمنايا قد ظَفرت بِجَعْفَر ... وَلم تظفري من بعده بمسود)
(وَقل للعطايا بعد فضل تعطلي ... وَقل للرزايا كل يَوْم تجددي)
(ودونك سَيْفا برميكا مهندا ... أُصِيب بِسيف هاشمي مهند)
وَقَالَ يحيى: الدُّنْيَا دوَل، وَالْمَال عَارِية، وَلنَا بِمن قبلنَا أُسْوَة، وَفينَا لمن بَعدنَا عِبْرَة.
وفيهَا: خلع الرّوم ملكتهم زيني وملكوا بدلهَا تقفور، فَكتب إِلَى الرشيد: من تقفور ملك الرّوم إِلَى هَارُون ملك الْعَرَب، وَأما بعد: فَإِن الملكة الَّتِي كَانَت قبلي أقامتك مقَام الرخ وأقامت نَفسهَا مقَام البيدق فَحملت إِلَيْك من أموالها مَا كنت حَقِيقا بِحمْل أضعافه إِلَيْهَا لَكِن ذَلِك من ضعف النِّسَاء وحمقهن، فَإِذا قَرَأت كتابي هَذَا ارْدُدْ مَا حصل لَك من أموالها وَإِلَّا السَّيْف بَيْننَا وَبَيْنك. وَكتب الرشيد فِي ظهر الْكتاب: بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم من هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى تقفور كلب الرّوم وَقد قَرَأت كتابك يَا ابْن الْكَافِرَة وَالْجَوَاب مَا ترَاهُ لَا مَا تسمعه.
ثمَّ سَار الرشيد من يَوْمه حَتَّى نزل على هرقلة فَفتح وغنم وَخرب، فَسَأَلَهُ تقفور الْمُصَالحَة على خراج يحملهُ كل سنة فَأَجَابَهُ.
وفيهَا: توفّي الفضيل بن عِيَاض الزَّاهِد، ومولده بسمرقند.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُسلم معَاذ الهراء النَّحْوِيّ، وَعنهُ أَخذ الْكسَائي، وَولد أَيَّام يزِيد بن عبد الْملك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا توفّي الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف الشَّاعِر.
قلت: قَالَ بشار بن برد: مَا زَالَ غُلَام من بني حنيفَة - يَعْنِي الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف - يدْخل نَفسه فِينَا وَنحن نخرجهُ منا، حَتَّى قَالَ:
(يَا أَيهَا الرجل المعذب نَفسه ... أقصر فَإِن شفاءك الإقصار)
(نزف الْبكاء دموع عَيْنك فاستعر ... عينا يعينك دمعها المدرار)
(من ذَا يعيرك عينه تبْكي بهَا ... أَرَأَيْت عينا للبكاء تعار)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن حَمْزَة بن عبد اللَّهِ بن فَيْرُوز الْكسَائي أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة نحوي لغَوِيّ، دخل الْكُوفَة وأتى حَمْزَة الزيات ملتفا بكساء وَقيل: بل أحرم بكساء فَقيل الْكسَائي.
وفيهَا: سَار الرشيد إِلَى الرّيّ وَأقَام أَرْبَعَة أشهر وَرجع فِي ذِي الْحجَّة وأحرق جثة(1/199)
جَعْفَر، وَمضى إِلَى الرقة تَحَرُّزًا من أَتبَاع الأمويين مَعَ شدَّة حبه لبغداد، فَقَالَ شَاعِر:
(مَا انحنا حَتَّى ارتحلنا فَمَا نفرق ... بَين المناخ والارتحال)
(ساءلونا عَن حَالنَا إِذا قدمنَا ... فقرنا وداعهم بالسؤال)
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن الْحسن الشبياني صَاحب أبي حنيفَة أَبوهُ من حرستا من الغوطة، ولمحمد عدَّة كتب كالجامع الْكَبِير وَالْجَامِع الصَّغِير وَغَيرهمَا.
قلت: طلب الشَّافِعِي مِنْهُ كتبا فتأخرت عَنهُ، فَكتب إِلَيْهِ:
(قل للَّذي لم ترعين ... من رَآهُ مثله)
(وَمن كَانَ من رَآهُ ... قد رأى من قبله)
(الْعلم ينْهَى أَهله ... أَن يمنعوه أَهله)
(لَعَلَّه يبذله ... لأَهله لَعَلَّه)
فأنفذ الْكتب إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي الطَّبَقَات، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَمِائَة: فِيهَا سَار الرشيد فِي مائَة ألف وَخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألفا سوى المتطوعة والأتباع، وحاصر هرقلة ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَفتحهَا فِي شَوَّال وسبى أَهلهَا، وَبث العساكر فِي الرّوم ففتحوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا فَبعث تقفور بالجزية عَن رَعيته وَعَن رَأسه وَرَأس وَلَده وبطارقته.
وفيهَا: نقض أهل قبرس الْعَهْد، فغزاهم معتوق بني يحيى عَامل سواحل مصر وَالشَّام فسباهم.
وفيهَا: أسلم الْفضل بن سهل على يَد الْمَأْمُون وَكَانَ مجوسيا، وَتُوفِّي أسيد بن عَمْرو بن عَامر الْكُوفِي صَاحب أبي حنيفَة وَيحيى بن خَالِد بن برمك مَحْبُوسًا بالرقة فِي الْمحرم، وعمره سَبْعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة وَسنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا سَار الرشيد إِلَى خُرَاسَان من الرقة فَنزل بَغْدَاد، ورحل عَنْهَا إِلَى النهروان لخمس خلون من شعْبَان واستخلف على بَغْدَاد ابْنه الْأمين.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ الْفضل بن يحيى فِي حبس الرقة فِي الْمحرم، وعمره خمس وَأَرْبَعُونَ، وَكَانَ من محَاسِن الدُّنْيَا.
وفيهَا: مَاتَ الرشيد لثلاث خلون من جُمَادَى الْآخِرَة، كَانَ من بَدو سَفَره مَرِيضا فَاشْتَدَّ مَرضه بجرحان وَسَار إِلَى طوس فَمَاتَ بهَا، وَأنزل فِي قَبره قوما ختموا فِيهِ الْقُرْآن وَهُوَ فِي محفة على شَفير الْقَبْر وَيَقُول: وإسوأتا من رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغشيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق فَقَالَ للفضل بن الرّبيع يَا فضل:
(أحين دنا مَا كنت أخْشَى دنوه ... رمتني عُيُون النَّاس من كل جَانب)(1/200)
(فَأَصْبَحت مرحوما وَكنت مجسدا ... فصبرا على مَكْرُوه مر العواقب)
(سأبكي على الْوَصْل الَّذِي كَانَ بَيْننَا ... وأندب أَيَّام السرُور الذواهب)
ثمَّ مَاتَ وَصلى عَلَيْهِ صَالح، وَكَانَت خِلَافَته ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وشهرين وَثَمَانِية عشر يَوْمًا، وعمره سبع وَأَرْبَعُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام؛ كَانَ جميلا أَبيض وخطه الشيب، وَبَنوهُ: الْأمين من زبيدة، والمأمون من مراحل أم ولد، وَالقَاسِم المؤتمن، وَالقَاسِم مُحَمَّد، وَأَبُو عِيسَى مُحَمَّد، وَأَبُو يَعْقُوب، وَأَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد، وَأَبُو سلمَان مُحَمَّد، أَبُو عَليّ مُحَمَّد، وَأَبُو مُحَمَّد وَهُوَ اسْمه، وَأَبُو أَحْمد مُحَمَّد كلهم لأمهات أَوْلَاد، وَخمْس عشرَة بِنْتا؛ وَكَانَ يتَصَدَّق من صلب مَاله كل يَوْم بِأَلف دِرْهَم، وعهد بالخلافة إِلَى الْأمين وَبعده إِلَى الْمَأْمُون وَكتب بذلك عهدا وَجعله فِي الْكَعْبَة، وَجعل ابْنه الْقَاسِم المؤتمن ولي الْعَهْد بعد الْمَأْمُون وَجعل إِلَى الْمَأْمُون أَن يسْتَمر بِهِ وَأَن يعزله.
(أَخْبَار الْأمين بن الرشيد)
وَلما توفّي الرشيد بُويِعَ الْأمين سادسهم بالخلافة فِي عَسْكَر الرشيد صَبِيحَة وَفَاته وَكَانَ بمرو، فَكتب إِلَيْهِ أَخُوهُ صَالح بذلك مَعَ رَجَاء الْخَادِم وَأرْسل مَعَه خَاتم الْخَلِيفَة والبردة والقضيب. وَلما وصل بَغْدَاد بُويِعَ أَيْضا وتحول إِلَى قصر الْخلَافَة، وَجَاءَت أمه زبيدة من الرقة بخزائن الرشيد فتلقاها بالأنبار وَمَعَهُ أَعْيَان بَغْدَاد.
وفيهَا: قتل تقفور ملك الرّوم فِي حَرْب برجان، وَملكه سبع سِنِين.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا قتل شَقِيق الْبَلْخِي الزَّاهِد فِي غزَاة كولان من بِلَاد التّرْك.
وفيهَا: اخْتلف أهل حمص على عاملهم فانتقل إِلَى سليمَة، فَاسْتعْمل الْأمين مَكَانَهُ عبد اللَّهِ بن سعيد الْحَرَشِي فَقَاتلهُمْ، ثمَّ آمنهم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة: أبطل الْأمين اسْم الْمَأْمُون من الْخطْبَة، وخطب لمُوسَى بن الْأمين ولقبه النَّاطِق بِالْحَقِّ وَكَانَ طفْلا، وجهز جَيْشًا خمسين ألفا لِحَرْب الْمَأْمُون بخراسان مقدمهم عَليّ بن عِيسَى بن ماهان وَكَانَ طَاهِر بن الْحُسَيْن بِالريِّ من جِهَة الْمَأْمُون بعسكر قَلِيل، فَخلع طَاهِر بيعَة الْأمين وَبَايع لِلْمَأْمُونِ وَقَاتل عَليّ بن عِيسَى، فَقتل عَليّ بن عِيسَى وَانْهَزَمَ عسكره وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون بخراسان.
وفيهَا: توفّي أَبُو نؤاس الْحسن بن هانىء بن عبد الأول الشَّاعِر، وعمره تسع وَخَمْسُونَ سنة:
قلت: وَأول شعره وَهُوَ صبي:
(حَامِل الْهوى تَعب ... يستفزه الطَّرب)(1/201)
(إِن بَكَى يحِق لَهُ ... لَيْسَ مَا بِهِ لعب)
(تضحكين لاهية ... والمحب ينتحب)
(تعجبين من سقمي ... صحتي هِيَ الْعجب)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا أَمر الْمَأْمُون أَن يخْطب لَهُ بأَمْره الْمُؤمنِينَ لما تحقق قتل ابْن ماهان، وَعقد للفضل بن سهل على الْمشرق من جبل هَمدَان إِلَى الْبَيْت طولا وَمن بَحر فَارس إِلَى بَحر الديلم عرضا ولقبه ذَا الرياستين رياسة السَّيْف والقلم، وَولى الْحسن بن سهل ديوَان الْخراج، ثمَّ استولى طَاهِر على الأهواز ثمَّ وَاسِط ثمَّ الْمَدَائِن وَنزل صَرْصَر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا حاصر طَاهِر وهرثمة بعسكر الْمَأْمُون صحبتهما بَغْدَاد وحصروا الْأمين، وَوَقع فِيهَا النهب والحريق وَمنعُوا الْميرَة، وَاشْتَدَّ الْحَال إِلَى خروجهما.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَامل إفريقيا، فَقَامَ بعده ابْنه أَبُو الْعَبَّاس عبد اللَّهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا هجم طَاهِر بَغْدَاد بعد قتال وَأخذ الْأمين أمه وَأَوْلَاده وتحصن بالمنصورة، وتفرق عَنهُ جنده فحصر، ثمَّ خرج لَيْلًا وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وطيلسان أسود وَركب مَعَ هرثمة فِي حراقة فأحتضنه هرثمة وكبل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، ثمَّ شدوا عَلَيْهِ فغرقوها بِهِ، فشق الْأمين ثِيَابه فاستخرجه رجل من المَاء وَعَلِيهِ سَرَاوِيل وعمامة لَا غير، وَأرْسل إِلَيْهِ طَاهِر من الْعَجم من قَتله ونصبوا رَأسه على برج بِبَغْدَاد، ثمَّ أرسل بِهِ إِلَى الْمَأْمُون وَأرْسل الْبردَة والقضيب، وَصلى طَاهِر بِالنَّاسِ الْجُمُعَة وخطب لِلْمَأْمُونِ، وَكَانَ قَتله لست بَقينَ من الْمحرم وخلافته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَكسر، وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة، كَانَ سبطا أنزع صَغِير الْعَينَيْنِ أقنى جميلا طَويلا منهمكا فِي اللَّذَّات محتجبا عَن إخْوَته وَأهل بَيته، قسم الْأَمْوَال والجواهر فِي خواصه، وَعمل خمس حراقات على صُورَة الْأسد والفيل وَالْعِقَاب والحية وَالْفرس بِمَال عَظِيم، وَذكر ذَلِك أَبُو نواس فَقَالَ:
(سخر اللَّهِ للأمين مطايا ... لم تسخر لصَاحب الْمِحْرَاب)
(فَإِذا مَا ركابه سرن برا ... سَار فِي المَاء رَاكِبًا لَيْث غَابَ)
(عجب النَّاس إِذْ رأوك عَلَيْهِ ... كَيفَ لَو أبصروك فَوق الْعقَاب)
(ذَات ظفر ومنسر وجناحين ... تشق الْعباب بعد الْعباب)
(أَخْبَار الْمَأْمُون بن الرشيد)
وَلما قتل الْأمين تمكن الْمَأْمُون فِي الْمشرق وَالْمغْرب وَهُوَ سابعهم، فولى الْحسن بن سهل أَخا الْفضل بن سهل الْجبَال وَالْعراق وَفَارِس والأهواز والحجاز واليمن.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا ظهر ابْن طَبَاطَبَا الْعلوِي إِبْرَاهِيم بن(1/202)
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن عَليّ بِالْكُوفَةِ يَدْعُو إِلَى الرِّضَا من آل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايعُوهُ، ثمَّ هزم زُهَيْر بن الْمسيب الضَّبِّيّ وَكَانَ قد جهزه إِلَيْهِ الْحسن بن سهل بِعشْرَة آلَاف، ثمَّ سمه أَبُو السَّرَايَا بن مَنْصُور الْقيم بأَمْره ليستبد بِالْأَمر، ثمَّ استولى أَبُو السريا على الْبَصْرَة وواسط، وَله مَعَ عَسْكَر الْمَأْمُون وقائع.
وفيهَا: توفّي الْحُسَيْن وَالِد طَاهِر بخراسان.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن نمير الْهَمدَانِي الْكُوفِي وكنيته أَبُو هَاشم، وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير شيخ البُخَارِيّ. ثمَّ دخلت سنة مِائَتَيْنِ: فِيهَا هرب أَبُو السَّرَايَا من الْكُوفَة إِلَى إِلَى جلولا، ثمَّ أُتِي بِهِ إِلَى الْحسن بن سهل بالنهروان فَقتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون، وَبَين خُرُوجه وَقَتله عشرَة أشهر.
وفيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد الْعلوِي وَسَار إِلَى الْيمن وَاسْتولى عَلَيْهَا، وَسمي الجزار لِكَثْرَة من قتل وَسبي.
وفيهَا: أَمر الْمَأْمُون هرثمة بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّام، فخالفه وَقدم عَلَيْهِ دَالا بمناصحته، فَعمل عَلَيْهِ الْحسن بن سهل حَتَّى حبس ثمَّ قتل.
وفيهَا: أَمر الْمَأْمُون بإحصاء ولد الْعَبَّاس، فبلغوا ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألفا مَا بَين ذكر وأنثي.
وفيهَا: قتل الرّوم ملكهم أليون، وَملك عَلَيْهِم ميخائيل.
وفيهَا: توفّي مَعْرُوف الْكَرْخِي الزَّاهِد ذُو الكرامات، وَكَانَ أَبوهُ نَصْرَانِيّا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا جعل الْمَأْمُون عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم ولي عهد الْمُسلمين والخليفة بعده ولقبه الرِّضَا، وَطرح السوَاد وَاسْتعْمل الخضرة فِي اللبَاس، ثمَّ خَاضَ النَّاس فِي خلع الْمَأْمُون لأجل ذَلِك ولتولية الْحسن بن سهل.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب صَاحب إفريقية، وَتَوَلَّى أَخُوهُ زِيَادَة اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: افْتتح عبد اللَّهِ بن خردادبة وَالِي طبرستان جبال طبرستان وَأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عَنْهَا وَأسر أَبَا ليلى ملك الديلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا بُويِعَ لإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِبَغْدَاد فِي الْمحرم ولقب الْمُبَارك، وَذَلِكَ بعد أَن خلعوا الْمَأْمُون، وَاسْتولى إِبْرَاهِيم على الْكُوفَة وعسكر بِالْمَدَائِنِ، وَاسْتعْمل على الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد الْعَبَّاس بن مُوسَى الْهَادِي وعَلى الْجَانِب الشَّرْقِي إِسْحَاق بن الْهَادِي.
وفيهَا: اسْتخْلف الْمَأْمُون على خُرَاسَان غَسَّان بن عباد وَقصد الْعرَاق، وَلما وصل سرخس وثب أَرْبَعَة فَقتلُوا الْفضل بن سهل فِي الْحمام فِي شعْبَان مِنْهَا وعمره سِتُّونَ سنة.(1/203)
وَبلغ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَالْمطلب الَّذِي اخذ الْبيعَة لإِبْرَاهِيم قدوم الْمَأْمُون فتمارض الْمطلب وَرَاح إِلَى بَغْدَاد وسعى بَاطِنا فِي الْبيعَة لِلْمَأْمُونِ وخلع إِبْرَاهِيم، وَبلغ ذَلِك إِبْرَاهِيم وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ فقصد بَغْدَاد وَطلب الْمطلب فَامْتنعَ، فنهبه وَنهب دور أَهله وَلم يظفر بالمطلب.
وفيهَا: عقد الْمَأْمُون العقد على بوران بنت الْحسن بن سهل، وَزوج الْمَأْمُون بنته من عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا.
وفيهَا: توفّي يحيى بن الْمُبَارك بن الْمُغيرَة الْمقري اليزيدي صَاحب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء علم ولد يزِيد بن مَنْصُور خَال الْمهْدي فنسب إِلَيْهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عَليّ الرِّضَا فَجْأَة بطوس، وَصلى عَلَيْهِ الْمَأْمُون وَدَفنه عِنْد الرشيد، وَولد عَليّ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَهُوَ ثامن الْأَئِمَّة الانثي عشر على رَأْي الإمامية.
وفيهَا: خلع أهل بَغْدَاد إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ودعوا لِلْمَأْمُونِ، وتوارى إِبْرَاهِيم إِلَى أَن قدم المأون، وَكَانَت ولَايَة إِبْرَاهِيم سنة وَأحد عشر شهر وكسرا.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل الْمَأْمُون إِلَى هَمدَان، وَكَانَت بخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر زلازل دَامَت سبعين يَوْمًا فَخرجت الْبِلَاد وَهلك خلق.
وفيهَا: غلبت السوَاد على الْحسن بن سهل حَتَّى شدّ فِي الْحَدِيد وَكتب إِلَى الْمَأْمُون بذلك.
(دولة بني زِيَاد مُلُوك الْيمن)
وَذكرهمْ عَن آخِرهم،، إِنَّمَا لم نفرق ذَلِك ليسهل، وَذَلِكَ أَنه كَانَ شخص من بني زِيَاد بن أَبِيه اسْمه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبيد اللَّهِ بن زِيَاد مَعَ جمَاعَة من أُميَّة قد سلمهم الْمَأْمُون إِلَى الْفضل بن سهل ذِي الرياستين وَقيل: إِلَى أَخِيه الْحسن، وَبلغ الْمَأْمُون اختلال الْيمن فأنثى ابْن سهل على مُحَمَّد بن زِيَاد فَأرْسلهُ الْمَأْمُون وَمَعَهُ جمَاعَة فحج فِي هَذِه السّنة وَسَار إِلَى الْيمن وَفتح تهَامَة بعد الحروب بَينه وَبَين الْعَرَب، وَاسْتقر ابْن زِيَاد بِالْيمن وَبنى زبيد واختطها سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وهادى الْمَأْمُون مَعَ مَوْلَاهُ جَعْفَر، فَعَاد جَعْفَر وَمَعَهُ عَسْكَر ألفا فَارس من جِهَة الْمَأْمُون، فَعظم ابْن زِيَاد وَملك إقليم الْيمن بأسره وَجعل جعفرا على الْجبَال واختط بهَا مَدِينَة المديخيرة، وَإِلَى الْآن تسمى تِلْكَ الْبِلَاد مخلاف جَعْفَر، والمخلاف: عبارَة عَن الْقطر الْوَاسِع. وَبَقِي مُحَمَّد كَذَلِك حَتَّى توفّي.
ثمَّ ملك ابْنه إِبْرَاهِيم. ثمَّ ابْنه زِيَاد بن إِبْرَاهِيم وَلم يطلّ، ثمَّ أَخُوهُ أَبُو الْحَبَش(1/204)
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وطالت مدَّته وأسن، وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمائة.
وَخلف أَبُو الْحَبَش طفْلا قيل اسْمه زِيَاد تولته أُخْته هِنْد بنت أبي الْحَبَش وَتَوَلَّى مَعهَا رشد عبد أبي الْحَبَش وَبَقِي رشد على ولَايَته حَتَّى مَاتَ، فَتَوَلّى عَبده حُسَيْن بن سَلامَة بعد رشد، وسلامة الْمَذْكُورَة هِيَ أم حُسَيْن، وَنَشَأ حُسَيْن حازما عفيفا وَصَارَ وزيرا لهِنْد ولأخيها الْمَذْكُور حَتَّى مَاتَا.
ثمَّ انْتقل ملك الْيمن إِلَى طِفْل من آل زِيَاد وَقَامَت بأَمْره عمته وَعبد لحسين بن سَلامَة اسْمه مرجان.
وَكَانَ لمرجان عَبْدَانِ قد تغلبا على أُمُوره قيس ونجاح، ونجاح جد مُلُوك زبيد، فتنافس قيس ونجاح على الوزارة وَكَانَ قيس عسوفا ونجاح رؤوفا، وسيدهما مرجان يمِيل مَعَ قيس على نجاح، وعمة الطِّفْل تميل إِلَى نجاح، فَشَكا ذَلِك قيس إِلَى مَوْلَاهُ مرجان فَقبض مرجان على الْملك واسْمه إِبْرَاهِيم، وَقيل عبد اللَّهِ وعَلى عمته وسلمهما إِلَى قيس فَبنى عَلَيْهِمَا جدارا وختمه حَتَّى مَاتَا، وَإِبْرَاهِيم آخر مُلُوك الْيمن من بني زِيَاد، وَمُدَّة ملك بني زِيَاد الْيمن مِائَتَان وَأَرْبع سِنِين، وانتقل ملكهم إِلَى عبيد عبيدهم لِأَن الْملك صَار لنجاح.
وَلما قتل قيس إِبْرَاهِيم وَعَمَّته عظم ذَلِك على نجاح فاستنفر الْأسود والأحمر وَقصد قيسا فِي زبيد وَجَرت بَينهمَا حروب آخرهَا أَن قيسا قتل على بَاب زبيد وَفتحهَا نجاح فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَقَالَ نجاح لسَيِّده مرجان: مَا فعلت بمواليك وموالينا؟ قَالَ: هم فِي ذَلِك الْجِدَار، فَأخْرج نجاح إِبْرَاهِيم وَعَمَّته ميتين وَصلى عَلَيْهِمَا ودفنهما وَبنى عَلَيْهِمَا مشهدا، وَجعل نجاح سَيّده مرجان موضعهما وَوضع مَعَه جثة قيس وَبنى عَلَيْهِمَا ذَلِك الْجِدَار وتملك نجاح وَركب بالمظلة وَضرب السِّكَّة باسمه واستقل بِملك الْيمن.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا انْقَطَعت الْفِتَن بقدوم الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد ولباسه الخضرة ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ عَاد إِلَى لبس السوَاد.
وفيهَا: توفّي بِمصْر الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف، وشافع الَّذِي نسب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مترعرع وَأَبوهُ السَّائِب أسلم يَوْم بدر، فالشافعي شَقِيق رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نسبه يجْتَمع مَعَه فِي عبد منَاف بن الْمطلب، وَكَانَت زَوْجَة هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف بنت عمَّة الشفا بنت هَاشم بن عبد منَاف، فولد لَهُ مِنْهَا عبد يزِيد جد الشَّافِعِي، فالشافعي إِذن ابْن عَم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَابْن عمته لِأَن الشِّفَاء أُخْت عبد الْمطلب جد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَولد الشَّافِعِي سنة خمس وَمِائَة بغزة على الصَّحِيح، وَأخذ الْعلم من مَالك وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَسمع الحَدِيث من إِسْمَاعِيل بن علية وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ وَغَيرهم.(1/205)
قَالَ الشَّافِعِي: حفظت الْقُرْآن وَأَنا ابْن تسع سِنِين، وحفظت الْمُوَطَّأ وَأَنا ابْن عشر، وقدمت على مَالك وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة. وَقَالَ: رَأَيْت عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي مَنَامِي فَسلم عَليّ وصافحني وَجعل خَاتمه فِي إصبعي ففسر أَن مصافحته أما من الْعَذَاب وَجعله الْخَاتم فِي إصبعي أَنه سيبلغ اسْمِي مَا بلغ اسْم عَليّ فِي الْمشرق وَالْمغْرب.
وناظر الشَّافِعِي مُحَمَّد بن الْحسن بالرقة فَقَطعه الشَّافِعِي، وَكَانَ الشَّافِعِي حَافِظًا للشعر قَرَأَ عَلَيْهِ الْأَصْمَعِي ديوَان الهذليين وديوان الشنفري بِمَكَّة. وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: مَا عرفت نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه حَتَّى جالست الشَّافِعِي.
وَقدم الشَّافِعِي بَغْدَاد مرَّتَيْنِ سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وَسنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وناظر بشرا المريسي المعتزلي بهَا، وناظر حفصا الْفَرد بِمصْر، قَالَ حَفْص: الْقُرْآن مَخْلُوق وَاسْتدلَّ، فتجاريا حَتَّى كفره الشَّافِعِي وَقَالَ: إِنَّمَا خلق اللَّهِ الْخلق بكن فَإِذا كَانَت كن مخلوقة فَكَانَ مخلوقا خلق بمخلوق.
وَنظر فِي النُّجُوم وَهُوَ حدث، وَمَا نظر فِي شَيْء إِلَّا فاق فِيهِ، حبلت امْرَأَته فَحسب وَقَالَ: تَلد جَارِيَة عوراء على فرجهَا خَال أسود تَمُوت إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَولدت فَكَانَ كَمَا قَالَ، فَجعل على نَفسه أَن لَا ينظر فِيهِ بعْدهَا وَدفن الْكتب الَّتِي كَانَت عِنْده فِي النُّجُوم، وَأنكر الشَّافِعِي على أهل الْكَلَام وعَلى من يشْتَغل فِيهِ.
وَله أشعار فائقة مِنْهَا:
(وأحق خلق اللَّهِ بالهم امْرُؤ ... ذُو همة يبْلى بعيش ضيق)
وَله
(أكل الْعقَاب بِقُوَّة جيف الفلا ... وجنى الذُّبَاب الشهد وَهُوَ ضَعِيف)
قلت: وَسَأَلَ بعض مُلُوك الشَّام عَن حلية الشَّافِعِي فَلم يكن بِبَلَدِهِ من يقوم بهَا، ثمَّ بلغ ذَلِك الشَّيْخ الْعَلامَة تَقِيّ الدّين أَبَا عَمْرو وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح فَقَالَ: كَانَ رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَجَزَاء الْخَيْر طَويلا سَائل الْخَدين قَلِيل لحم الْوَجْه طَوِيل الْعُنُق طَوِيل الْقصب أسمر خَفِيف العارضين يخضب لحيته بِالْحِنَّاءِ حَمْرَاء قانية حسن الصَّوْت حسن السمت عَظِيم الْعقل حسن الْوَجْه حسن الْخلق مهيبا فصيحا من أذرب النَّاس لِسَانا إِذا أخرج لِسَانه بلغ أَنفه، وَكَانَ مسقاما مملوءا بالبوااسير، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ الْحُسَيْن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي أحد أَصْحَاب أبي حنيفَة وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان الطَّيَالِسِيّ صَاحب الْمسند، ومولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. وفيهَا: توفّي النَّضر - بالضاد الْمُعْجَمَة - بن شُمَيْل - بِضَم الشين - بن خَرشَة - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة - الْبَصْرِيّ - النَّحْوِيّ، وَلما خرج من الْبَصْرَة إِلَى خُرَاسَان طلع لوداعه نَحْو ثَلَاثَة آلَاف من الْأَعْيَان، فَقَالَ: وَالله لَو وجدت كل يَوْم كيلجة باقلاء مَا فارقتكم، فتمول وأثرى بمرو من خُرَاسَان.(1/206)
وحظي عِنْد الْخَلِيفَة الْمَأْمُون، وَقَالَ يَوْمًا الْمَأْمُون: حَدثنَا هشيم عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها كَانَ فِيهِ سداد، من عوز، وَفتح سين سداد، فَأَعَادَ النَّضر الحَدِيث وَكسر السِّين، فَاسْتَوَى الْمَأْمُون جَالِسا وَقَالَ: تلحنني يَا نضر، فَقَالَ: إِنَّمَا لحن هشيم وَكَانَ لحانا فتبع أَمِير الْمُؤمنِينَ لَفظه، قَالَ: فَمَا الْفرق بَينهمَا قَالَ: السداد بِالْفَتْح الْقَصْد فِي الدّين والسبيل، والسداد بِالْكَسْرِ الْبلْغَة وكل مَا سددت بِهِ شَيْئا فَهُوَ سداد بِكَسْر السِّين، وَأنْشد:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)
فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وَالنضْر من أَصْحَاب الْخَلِيل بن احْمَد، وَالْبَيْت لعمر بن عمر بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي اللَّهِ عَنهُ الْمَعْرُوف بالعرجي نِسْبَة إِلَى العرج عقبَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل الْمَأْمُون طَاهِر بن الْحُسَيْن على الْمشرق.
وفيهَا: توفّي يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن زيد الْبَصْرِيّ أحد الْقُرَّاء الْعشْرَة، وَله فِي الْقرَاءَات رِوَايَة مَشْهُورَة، قَرَأَ على سَلام بن سُلَيْمَان الطَّوِيل، وَسَلام على عَاصِم وَعَاصِم عَليّ أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن على عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَعلي على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الحكم بن هِشَام صَاحب الأندلس لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وَولي فِي صفر سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَبَنوهُ تِسْعَة عشر. وَقَامَ بعده ابْنه عبد الرَّحْمَن.
وفيهَا: توفّي قطرب مُحَمَّد بن المستنبر، أَخذ النَّحْو عَن سِيبَوَيْهٍ كَانَ يبكر إِلَيْهِ فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَا أَنْت إِلَّا قطرب، فلقب بِهِ.
قلت: رَأَيْت فِي كتاب قطرب أَن من الْعَرَب من يفتح همزَة أَن مَعَ اللَّام فَيَقُول: إِذا أَنِّي لبه، وَعَلِيهِ قَول الراجز:
(ألم تكن حَلَفت بِاللَّه الْعلي ... أَن مطاياك لمن خير الْمطِي)
كَأَن اللَّام مقحمة، ولغرابة هَذَا نقلته وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَمْرو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ اللّغَوِيّ.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي طَاهِر بن الْحُسَيْن فِي جمادي الأولى من الْحمى، وَقصد أَن يخلع الْمَأْمُون فَمَاتَ، وَكَانَ أَعور فلقب بِذِي اليمينين وَفِيه قيل:
(يَا ذَا اليمينين وَعين واحده ... نُقْصَان عين وَيَمِين زَائِدَة)
وفيهَا: مَاتَ الْفَقِيه الزَّاهِد بشر بن عَمْرو، وَهُوَ غير الحافي.(1/207)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عَمْرو بن وَاقد الْوَاقِدِيّ الْعَالم بالمغازي وباختلاف الْعلمَاء، ولي الْقَضَاء بالجانب الشَّرْقِي من بَغْدَاد وَكَانَ الْمَأْمُون يُبَالغ فِي إكرامه وعمره ثَمَان وَسَبْعُونَ.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن عبد الْأَعْلَى الْمَعْرُوف بِابْن كناسَة، وَهُوَ ابْن أُخْت إِبْرَاهِيم بن أدهم عَالم بِالْعَرَبِيَّةِ وَالشعر وَأَيَّام النَّاس.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن زِيَاد بن عبد اللَّهِ الديلمي الْمَعْرُوف بالفراء الْكُوفِي، أبرع الْكُوفِيّين نَحوا ولغة وأدبا، وَله كتاب الْحُدُود وَكتاب الْمعَانِي وكتابان فِي الْمُشكل وَكتاب النَّهْي وَغير ذَلِك، توفّي بطرِيق مَكَّة وعمره نَحْو ثَلَاث وَسِتِّينَ، كَانَ يفري الْكَلَام فلقب بذلك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الْفضل بن الرّبيع.
قلت: وفيهَا ورد عبد اللَّهِ بن طَاهِر بن الْحُسَيْن وَزِير الْمَأْمُون لهدم حصون الشَّام وَهدم سُورَة معرة النُّعْمَان وحصن الْكفْر وحصن حناك وَغير ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ ميخاييل ملك الرّوم، ملك تسع سِنِين، ثمَّ ابْنه بو قيل.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُبَيْدَة مُحَمَّد بن حَمْزَة اللّغَوِيّ وَكَانَ يمِيل إِلَى مقَالَة الْخَوَارِج وعمره تسع وَتسْعُونَ، وَمَعَ كَمَال فَضله كَانَ لَا يُقيم للشعر وزنا، وَله نَحْو مِائَتي مُصَنف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن إِبْرَاهِيم الإِمَام الْمَعْرُوف بِابْن عَائِشَة وبجماعة مَعَه سعوا فِي الْبيعَة لإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فحبسهم، ثمَّ صلب ابْن عَائِشَة وَهُوَ أول عباسي صلب، ثمَّ أنزل فَصلي عَلَيْهِ وكفن وَدفن.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر أمسك حارس أسود إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي متنقبا مَعَ امْرَأتَيْنِ فَأحْضرهُ إِلَى الْمَأْمُون فحبسه، ثمَّ شفع فِيهِ الْحسن بن سهل، وَقيل: بوران، وَقيل: بل الْمَأْمُون من نَفسه عَفا عَنهُ وَأطْلقهُ.
وفيهَا: دخل الْمَأْمُون ببوران بنت الْحسن بن سهل وَكَانَ أَبوهَا مُقيما بِفَم الصُّلْح فَسَار الْمَأْمُون وَدخل بهَا، ثمَّ وَنَثَرت عَلَيْهِ أم الْحسن وَالْفضل ألفا حَبَّة لُؤْلُؤ نفيسة وَأوقدت شمعة وَزنهَا أَرْبَعُونَ منا من عنبر، وَكتب الْحسن أَسمَاء ضيَاعه فِي رقاع ونثرها على القواد، وَكَانَ الْحسن تخلص من السَّوْدَاء الَّتِي ذكرنَا أَنَّهَا غلبت عَلَيْهِ فِي سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ.
قلت: وَلما خلا الْمَأْمُون ببوران حَاضَت من هَيْبَة الْخلَافَة فَقَالَت: أَتَى أَمر اللَّهِ فَلَا تستعجلوا، وحذفت الْهَاء لِئَلَّا تكون قارئة فِي الْحيض. فَفطن الْمَأْمُون لكنايتها وأعجب بهَا وَخرج فِي الْحَال وَأنْشد فِي ذَلِك:
(فَارس مَاض بحربته ... عَارِف بالطعن فِي الظُّلم)(1/208)
(كَاد أَن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بِدَم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَت علية بنت الْمهْدي ومولدها سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وَكَانَ زَوجهَا مُوسَى بن عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر الْمَأْمُون أَن يُنَادي: بَرِئت الذِّمَّة مِمَّن ذكر مُعَاوِيَة بِخَير أَو فَضله على أحد من أصجاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْعَتَاهِيَة الشَّاعِر.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْحسن سعيد بن مسْعدَة الْأَخْفَش النَّحْوِيّ الْبَصْرِيّ والخفش: صغر الْعَينَيْنِ مَعَ سوء بصرهما، أَخذ النَّحْو عَن سِيبَوَيْهٍ وَكَانَ أكبر من سِيبَوَيْهٍ، وَقَالَ: مَا وضع سِيبَوَيْهٍ شَيْئا فِي كِتَابه إِلَّا بعد أَن عرضه عَليّ. وَزَاد الْأَخْفَش فِي الْعرُوض بَحر الخبب.
قلت: الْأَخْفَش الْأَكْبَر أَبُو الْخطاب عبد الحميد النَّحْوِيّ من هجر، والأوسط صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه، والأصغر الْمُتَأَخر عَليّ بن سُلَيْمَان بن الْفضل النَّحْوِيّ توفّي سنة خمس عشرَة وَقيل سِتّ عشرَة وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي عبد الرَّزَّاق الصَّنْعَانِيّ الْمُحدث المتشيع من مَشَايِخ أَحْمد بن حَنْبَل.
قلت: وفيهَا توفّي أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى التَّيْمِيّ تيم قُرَيْش وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أظهر الْمَأْمُون القَوْل بِخلق الْقُرْآن وتفضيل عَليّ بن أبي طَالب على جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف الضَّبِّيّ من مَشَايِخ البُخَارِيّ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي إِبْرَاهِيم الْمُغنِي كُوفِي سَافر إِلَى الْموصل وَعَاد فَقيل لَهُ الْموصِلِي.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن جبلة الشَّاعِر، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن الْمُحدث الْمقري.
وفيهَا: وَقيل سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ: توفّي بِمصْر أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام بن أَيُّوب الْحِمْيَرِي وَهُوَ جَامع سيرة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَشَرحهَا السُّهيْلي وَابْن هِشَام، من مصر وَأَصله من الْبَصْرَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر والشيباني، قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري: كتب أَبُو عَمْرو شعر سبعين قَبيلَة وَكَانَ كلما كتب شعر قَبيلَة كتب مُصحفا فَكتب سبعين مُصحفا وعاش مائَة وَسِتِّينَ.
وفيهَا: توفّي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، وَله كتاب الأغاني الأول وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل الْمَأْمُون عبد اللَّهِ بن طَاهِر على خُرَاسَان.
وفيهَا: صلح حَال أبي دلف مَعَ الْمَأْمُون وَكَانَ من أَصْحَاب الْأمين.(1/209)
وفيهَا: وَقيل سنة ثَلَاث عشرَة: توفّي إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بالمغرب، وَقَامَ ابْنه مُحَمَّد بِفَارِس والبرير وَولى أَخَاهُ الْقَاسِم طنجة وأخاه عمر صنهاجة وَعمارَة وأخاه دَاوُد هوارة تاسليت وأخاه يحيى داي وَمَا والاها وَبَاقِي إخْوَته على ملك البربر.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَاصِم بن مخلد الشَّيْبَانِيّ إِمَام فِي الحَدِيث.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا وصل الْمَأْمُون إِلَى منبج ثمَّ أنطاكية ثمَّ المصيصة وطرطوس وَدخل الرّوم فَفتح حصونا وَعَاد وَتوجه إِلَى دمشق.
وفيهَا: توفّي أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي الزَّاهِد بداريا، ومكي بن إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَأَبُو زيد سعيد النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين وَأَبُو سعيد الْأَصْمَعِي اللّغَوِيّ الْبَصْرِيّ وَقيل: توفّي فِي غَيرهَا، واسْمه عبد الْملك بن قريب بن عبد الْملك بن صَالح وعمره نَحْو ثَمَان وَثَمَانِينَ، نسب إِلَى جده أصمع وَله مصنفات مِنْهَا: كتاب خلق الْإِنْسَان وَكتاب الْأَجْنَاس وَكتاب الأنواء وَكتاب الصِّفَات وَكتاب الميسر والقداح وَكتاب الْفرس وَكتاب الْإِبِل وَكتاب الشَّاء وَكتاب جَزِيرَة الْعَرَب وَكتاب النَّبَات، وَقَرِيب: بِضَم الْقَاف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح الْمَأْمُون فِي الرّوم عدَّة حصون وَقتل وسبى، ثمَّ عَاد إِلَى دمشق، ثمَّ سَار إِلَى مصر.
وفيهَا: مَاتَت أم جَعْفَر زبيدة بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا عَاد الْمَأْمُون من مصر وَدخل الرّوم وأناخ على لؤلؤة مائَة يَوْم ثمَّ رَحل عَائِدًا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا امتحن أهل الْعلم، وَذَلِكَ أَن الْمَأْمُون كتب إِلَى عَامله بِبَغْدَاد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أَن من أقرّ من الْقُضَاة وَالشُّهُود وَالْعُلَمَاء أَن الْقُرْآن مَخْلُوق خلى سَبيله وَمن أبي يُعلمهُ بِهِ فَجمع الَّذين بِبَغْدَاد مِنْهُم، وَمِنْهُم: قَاضِي الْقُضَاة بشر بن الْوَلِيد الْكِنْدِيّ وَمُقَاتِل وَأحمد بن حَنْبَل وقتيبة وَعلي بن الْجَعْد وَغَيرهم، وَقَالَ لبشر: مَا تَقول فِي الْقُرْآن؟ قَالَ: الْقُرْآن كَلَام اللَّهِ، قَالَ: لم أَسأَلك عَن هَذَا أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: اللَّهِ خَالق كل شَيْء، قَالَ: وَالْقُرْآن شَيْء؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: لَيْسَ بخالق، قَالَ: لَيْسَ عَن هَذَا أَسأَلك أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: مَا احسن غير مَا قلت لَك.
قَالَ إِسْحَاق لِلْكَاتِبِ: أكتب مَا قَالَ، ثمَّ سَأَلَ غَيره وَغَيره ويجيبون بِنَحْوِ جَوَاب بشر.
ثمَّ قَالَ لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا تَقول فِي الْقُرْآن؟ قَالَ: كَلَام اللَّهِ، قَالَ: أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: كَلَام اللَّهِ مَا أَزِيد عَلَيْهَا. ثمَّ قَالَ لَهُ: مَا معنى قَوْله سميع بَصِير؟ قَالَ أَحْمد: كَمَا وصف نَفسه، قَالَ: فَمَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي هُوَ كَمَا وصف نَفسه.
ثمَّ سَأَلَ قُتَيْبَة وَعبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد وَعبد الْمُنعم بن إِدْرِيس بن نبت ووهب بن مُنَبّه(1/210)
وَجَمَاعَة، فَأَجَابُوا أَن الْقُرْآن مجعول لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} . وَالْقُرْآن مُحدث لقَوْله: مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث. قَالَ إِسْحَاق: فالمجعول مَخْلُوق، قَالُوا: لَا نقُول مَخْلُوق لَكِن مجعول. فَكتب مقالتهم ومقالة غَيرهم إِلَى الْمَأْمُون.
فورد جَوَاب الْمَأْمُون إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: أَن يحضر قَاضِي الْقُضَاة بشر بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَإِن قَالَا بِخلق الْقُرْآن وَإِلَّا تضرب أعناقهما وَمن لم يقل سواهُمَا بِخلق الْقُرْآن يوثقه بالحديد ويحمله إِلَى الْمَأْمُون.
فَجَمعهُمْ إِسْحَاق وَعرض عَلَيْهِم مَا أَمر بِهِ الْمَأْمُون، فَقَالَ بشر وَإِبْرَاهِيم والجميع بِخلق الْقُرْآن إِلَّا أَرْبَعَة هم: أَحْمد بن حَنْبَل والقواريري وسجادة وَمُحَمّد بن نوح الْمَضْرُوب فَأَبَوا فشدهم فِي الْحَدِيد ثمَّ سَأَلَهُمْ، فأجابت سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر الإِمَام أَحْمد وَمُحَمّد بن نوح على قَوْلهمَا فوجههما إِلَى طرطوس.
ثمَّ ورد كتاب الْمَأْمُون يَقُول: بَلغنِي أَن بشر بن الْوَلِيد وَجَمَاعَة مَعَه إِنَّمَا أجابوا بِتَأْوِيل الْآيَة الْكَرِيمَة الَّتِي أنزلهَا اللَّهِ تَعَالَى فِي عمار بن يَاسر إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَقد أخطأوا التَّأْوِيل فَإِن اللَّهِ تَعَالَى عَنى بِهَذِهِ الْآيَة من كَانَ مُعْتَقدًا للْإيمَان مظْهرا للشرك، فَأَما من كَانَ مُعْتَقدًا للشرك مظْهرا للْإيمَان فَلَيْسَ هَذَا لَهُ، فأشخصهم إِلَى طرطوس ليقيموا بهَا إِلَى أَن يخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ من بِلَاد الرّوم.
فأرسلهم إِسْحَاق، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الرقة بَلغهُمْ موت الْمَأْمُون فَرَجَعُوا إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا مرض الْمَأْمُون لثلاث عشرَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة، وَذَلِكَ أَنه كَانَ جَالِسا هُوَ وآخوه المعتصم على شاطىء نهر البدندون وأرجلهما فِي المَاء وَهُوَ غَايَة الصفاء والعذوبة ذكرا طيب الرطب فوصلت بغال الْبَرِيد عَلَيْهَا الحقائف وفيهَا الألطاف، فجيء مِنْهَا بسلين فيهمَا رطب فتعجبا وشكرا اللَّهِ وأكلا مِنْهُ وشربا من المَاء فحما، وَلم يزل المعتصم مَرِيضا حَتَّى دخل الْعرَاق، وَلما مرض الْمَأْمُون أوصى إِلَى أَخِيه المعتصم بِحَضْرَة ابْنه الْعَبَّاس بتقوى اللَّهِ وَحسن سياسة الرّعية فِي كَلَام طَوِيل حسن وَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنو عمك ولد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ أحسن صحبتهم وَتجَاوز عَن مسيئهم وَلَا تغفل صلَاتهم فِي كل سنة عِنْد محلهَا.
وَتُوفِّي فَحَمله أَخُوهُ وَابْنه إِلَى طرطوس فدفناه بسلاحه بدار جلعان خَادِم الرشيد
قلت: وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(خلفوه بعرصتي طرطوس ... مِثْلَمَا خلفوا أَبَاهُ بطوس)
وَالله أعلم.
وَصلى عَلَيْهِ المعتصم، وخلافته عشرُون سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا سوى أَيَّام دعِي لَهُ بالخلافة وَأَخُوهُ الْأمين مَحْصُور بِبَغْدَاد، ومولده لِلنِّصْفِ من ربيع الأول سنة سبعين وَمِائَة وكنيته أَبُو الْعَبَّاس؛ كَانَ ربعَة أَبيض جميلا طَوِيل اللِّحْيَة دقيقها وخطه(1/211)
الشيب، وَقيل: كَانَ أسمر أقنى أعين ضيق الْجَبْهَة بخده خَال أسود؛ ضَاقَ المَال عَلَيْهِ بِدِمَشْق وَحمل إِلَيْهِ المعتصم ثَلَاثِينَ ألف ألف ألف فَاسْتَبْشَرَ بِهِ النَّاس، فَقَالَ ليحيى بن أَكْثَم: نتصرف بِالْمَالِ وَيرجع أَصْحَابنَا خائبين إِن هَذَا للؤم، فَفرق أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ألف ألف وَرجله فِي الركاب.
وَمن شعره:
(بَعَثْتُك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حَتَّى أَسَأْت بك الظنا)
(فناجيت من أَهْوى وَكنت مباعدا ... فياليت شعري عَن دنوك مَا أغْنى)
(أرى أثرا مِنْهَا بِعَيْنِك بَينا ... لقد أخذت عَيْنَاك من عينهَا حسنا)
كَانَ مائلا إِلَى العلويين ورد فدك على ولد فَاطِمَة وَسلمهَا إِلَى مُحَمَّد بن يحيى بن الْحسن بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنْهُم ليفرقها على مستحقيها من ولد فَاطِمَة، وَكَانَ الْمَأْمُون فَاضلا مشاركا فِي عُلُوم كَثِيرَة.
قلت: وَذكر الشَّيْخ أَبُو غَالب همام بن الْفضل بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: أَن قبر المؤمون كَانَ على بطانة الْمِحْرَاب بِجَامِع طرطوس فَوَقع فِي أَيَّام بسيل الْملك وَهُوَ بالدرع والبيضة وَالسيف فَذكر ذَلِك لبسيل، فَقَالَ: هَذَا ملك وَلَا يجوز أَن يُغير، فَأمر بِأخذ السَّيْف وَأَن يرد إِلَى الْموضع وَالله أعلم.
(أَخْبَار المعتصم بن الرشيد)
وبويع للمعتصم ثامنهم أبي إِسْحَاق مُحَمَّد بن هَارُون الرشيد بالخلافة بعد موت الْمَأْمُون، فشغب الْجند وَنَادَوْا باسم الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، فأحضر الْعَبَّاس فَبَايعهُ النَّاس، وَانْصَرف المعتصم إِلَى بَغْدَاد فَقَدمهَا مستهل رَمَضَان.
وفيهَا: توفّي بشر بن عتاب المريسي وَكَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا امتحن المعتصم أَحْمد بن حَنْبَل بِالْقُرْآنِ فَلم يقل بخلقه، فجلده حَتَّى غَابَ عقله وتقطع جلده وَقَيده وحبسه.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم الْفضل التَّيْمِيّ من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم، مولده سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَكَانَ شِيعِيًّا.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خرج المعتصم لبِنَاء سامراء.
وفيهَا: قبض على وزيره الْفضل بن مَرْوَان وَلم يكن للمعتصم مَعَه أَمر، وَولى مَكَانَهُ مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد الْجواد بن عَليّ بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أحد الْأَئِمَّة الإثني عشر على مَذْهَب الإمامية وَصلى عَلَيْهِ الواثق، وعمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَدفن بِبَغْدَاد عِنْد جده مُوسَى، وَمُحَمّد تَاسِع الإنثي عشر.(1/212)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي قَاضِي القيروان أَحْمد بن مُحرز الْعَالم الْعَامِل الزَّاهِد.
وفيهَا: توفّي آدم بن أبي إِيَاس الْعَسْقَلَانِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خرج نوفيل ملك الرّوم فَبلغ ريطرة وَقتل وسبى وَمثل، وَبلغ المعتصم ذَلِك وَأَن أمراة هاشمية صاحت فِي أَيدي الرّوم: وامعتصماه، فَنَهَضَ من وقته وَجمع العساكر وَسَار فِي جُمَادَى مِنْهَا، وبلغه أَن عمورية عين النَّصْرَانِيَّة وأشرف عِنْدهم من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمَا اعترضت فِي الْإِسْلَام، فتجهز بِمَا لم يعْهَد من السِّلَاح وحياض الْأدم وَغير ذَلِك وَسَار على نهر بَينه وَبَين طرطوس يَوْم وَفرق عسكره ثَلَاث فرق، فخربوا بِلَاد الرّوم وأحرقوا حَتَّى وصلوا إِلَى عمورية فنصبوا المناجيق وفتحوا بالمنجنيق ثغرة فِي السُّور وهجموها ونهبوا وَسبوا، وَأَقْبلُوا بِالسَّبْيِ والأسرى إِلَى المعتصم من كل جِهَة، وَأمر بعمورية فهدمت وأحرقت، وَبعد مقَامه خَمْسَة وَخمسين يَوْمًا ارتحل رَاجعا إِلَى الثغور.
وبلغه فِي أثْنَاء الطَّرِيق أَن الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون قد بَايع جمعا من القواد وَقصد الْوُثُوب، فَأحْضرهُ وَسلمهُ إِلَى رجل، فَلَمَّا وصل منبج طلب الطَّعَام فَأكل وَمنع المَاء حَتَّى مَاتَ بمنبج، وَأتم المعتصم سيره إِلَى سامراء.
وفيهَا توفّي ملك إفريقية زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب، وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو عقال بن إِبْرَاهِيم. ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي رَمَضَان، وَصلى عَلَيْهِ المعتصم.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام الإِمَام اللّغَوِيّ، وعمره سبع وَسِتُّونَ. قلت كَانَ أَبُو عبيد الْمَذْكُور قَاضِي طرطوس وَهُوَ مؤلف كتاب الْغَرِيب المُصَنّف وَكتاب الْأَمْثَال وَالْأَمْوَال والأنواء وَالطَّهَارَة وَغير ذَلِك. قَالَ ابْن الْمُهَذّب فِي تَارِيخه: حَدثنِي بعض أهل الْعرَاق أَنه رأى بالمقابر بِمَكَّة حجرا على قبر مَكْتُوب عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ إِذا حشرت الْأَوَّلين والآخرين فِي صَعِيد وَاحِد فَارْحَمْ أَبَا عبيد الْقَاسِم بن سَلام.
وفيهَا: صلب المعتصم الأفشين ثمَّ أحرقه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو دلف، وَعلي بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي الْمَشْهُور.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو الْهُذيْل بن مُحَمَّد بن الْهُذيْل بن عبد اللَّهِ العلاف الْبَصْرِيّ شيخ الْمُعْتَزلَة، وَزَاد عمره على مائَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو عقال الْأَغْلَب، وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس بن مُحَمَّد.(1/213)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي المعتصم أَبُو إِسْحَاق مُحَمَّد بن هَارُون لثماني عشرَة لَيْلَة مَضَت من ربيع الأول بسامراء وخلافته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر ويومان، ومولده سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وكما أَنه ثامن الْخُلَفَاء فَهُوَ الثَّامِن من ولد الْعَبَّاس وَله ثَمَانِيَة بَنِينَ وثماني بَنَات، وَكَانَ أَبيض أصهب اللِّحْيَة طويلها مربوعا مشربا بحمرة أول من أضيف إِلَى لقبه اسْم اللَّهِ تَعَالَى من الْخُلَفَاء طيب الْخلق وَإِذا غضب لَا يُبَالِي بِمَا فعل، رأى يَوْمًا وَهُوَ مُنْفَرد حمَار شيخ علق فِي الوحل وَوَقع حمله فَنزل المعتصم وخلص الْحمار وَأعْطى صَاحبه أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ ابْن أبي داؤد: تصدق المعتصم ووهب على يَدي مائَة ألف دِرْهَم.
(أَخْبَار الواثق بن المعتصم)
وبويع الواثق تاسعهم هَارُون بن المعتصم يَوْم وَفَاة أَبِيه، وَأم الواثق قَرَاطِيس أَو ولد رُومِية.
وفيهَا: هلك نوفيل ملك الرّوم، وملكت بعده امْرَأَته بدورة وَابْنهَا مِنْهُ ميخائيل.
وفيهَا: توفّي بشر بن الْحَارِث الزَّاهِد الْمَعْرُوف بالحافي فِي ربيع الأول.
ثمَّ دخلت سنة وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح الْمُسلمُونَ أَمَاكِن من جَزِيرَة صقلية وأمير صقلية مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْأَغْلَب مُقيم فِي بلزم يُجهز الجيوش فَيفتح ويغنم، وإمارته على صقلية تسع عشرَة سنة، وَتُوفِّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو تَمام حبيب بن أَوْس الطَّائِي الشَّاعِر
قلت: وقبره بالموصل، وَهُوَ جَامع الحماسة قصد الْبَصْرَة فخشي عبد الصَّمد بن الْمعدل الشَّاعِر بهَا من انصراف النَّاس عَنهُ إِلَى أبي تَمام فَكتب إِلَيْهِ:
(أَنْت بَين اثْنَتَيْنِ تبرز للنَّاس ... وكلتاهما بِوَجْه مذال)
(لست تنفك راجيا لوصال ... من حبيب أَو طَالبا لنوال)
(أَي مَاء يبْقى لوجهك قل لي ... بَين ذل الْهوى وذل السُّؤَال)
فَأَضْرب أَبُو تَمام عَن مقْصده وَرجع وَقَالَ: قد شغل هَذَا مَا يَلِيهِ فَلَا حَاجَة لنا فِيهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا صادر الواثق الْكتاب.
وفيهَا: توفّي خلف بن هِشَام الْبَزَّار الْمقري، وَالْبَزَّار: بالزاي ثمَّ الرَّاء.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر بنيسابور وَهُوَ أَمِير خُرَاسَان وعمره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ، فَأَقَامَ الواثق ابْنه طَاهِرا مَوْضِعه.
وفيهَا: خرجت الْمَجُوس من أقاصي الأندلس فِي الْبَحْر إِلَى بِلَاد الْمُسلمين وَجَرت بالأندلس وقائع انهزم فِيهَا الْمُسلمُونَ، فَلَمَّا دخلُوا حَاضِرَة أشبيلية وافاهم عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي صَاحب الأندلس والمسلمون من كل جِهَة فَانْهَزَمَ الْمَجُوس وغنم الْمُسلمُونَ أَرْبَعَة مراكب بِمَا فِيهَا، وَعَاد الْمَجُوس إِلَى بِلَادهمْ.(1/214)
وفيهَا: مَاتَ أشناس التركي بعد ابْن طَاهِر بِتِسْعَة أَيَّام.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الْمُغنِي مُخَارق، وَأَبُو يَعْقُوب بن يُوسُف بن يحيى الْبُوَيْطِيّ صَاحب الشَّافِعِي مَحْبُوسًا فِي محنة النَّاس بِالْقُرْآنِ وَلم يجب إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ مَخْلُوق وَكَانَ من الصَّالِحين، وبويط: من قرى مصر.
وفيهَا: توفّي ابْن الْأَعرَابِي مُحَمَّد بن زِيَاد الْكُوفِي اللّغَوِيّ، وَأَبوهُ عبد سندي، أَخذ الْأَدَب عَن الْمفضل الضَّبِّيّ وَله كتب مِنْهَا: كتاب النَّوَادِر وَكتاب الأنواء وتاريخ الْقَبَائِل، ولد لَيْلَة وَفَاة أَبِيه حنيفَة سنة خمسين وَمِائَة، والأعرابي: مَنْسُوب إِلَى الْأَعْرَاب، يُقَال: رجل أَعْرَابِي إِذا كَانَ بدويا وَإِن لم يكن من الْعَرَب وَرجل عربى مَنْسُوب إِلَى الْعَرَب وَإِن لم يكن بدويا، وَيُقَال: رجل أعجم وأعجمي إِذا فِي لِسَانه عجمة وَإِن كَانَ من الْعَرَب وَرجل عجمي: مَنْسُوب إِلَى الْعَجم وَإِن كَانَ فصيحا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الواثق بِاللَّه أَبُو جَعْفَر هَارُون بن المعتصم لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة بالاستسقاء أقعد فِي تنور مسخن فَوجدَ بِهِ خفَّة فعاوده وَأخرج فِي محفة فَمَاتَ فِيهَا وَدفن بالهاروني؛ نظر المنجمون فِي مولده عِنْد اشتداد مَرضه فقدروا أَنه يعِيش خمسين سنة مستأنفة فَعَاشَ عشرَة أَيَّام؛ كَانَ أَبيض مشربا بحمرة فِي عينه الْيُسْرَى نُكْتَة بَيَاض وخلافته خمس سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَكسر وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة، وَلَقَد بَالغ فِي إكرام العلويين وَفرق فِي الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا حَتَّى لم يبْق فيهمَا سَائل. وَلما بلغ أهل الْمَدِينَة مَوته كَانَت تخرج نِسَاؤُهُم إِلَى البقيع كل لَيْلَة وبندبن لفرط إحسانه، وَلَكِن أشبه أَبَاهُ المعتصم وَعَمه الْمَأْمُون فِي امتحان النَّاس بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم وألزمهم بالْقَوْل بخلقه وَأَن اللَّهِ لَا يرى فِي الْآخِرَة بالأبصار.
(أَخْبَار المتَوَكل بن المعتصم)
ثمَّ أَن كبراء الدولة ألبسوا مُحَمَّد بن الواثق قلنسوة ودراعة سَوْدَاء وَهُوَ أَمْرَد قصير وَأَرَادُوا بيعَته، فَلم يرَوا ذَلِك مصلحَة فَتَنَاظَرُوا فِيمَن يولونه، ثمَّ أحضروا المتَوَكل فَقَامَ أَحْمد ابْن أبي دؤاد وَألبسهُ الطَّوِيلَة وعممه وَقبل بَين عَيْنَيْهِ، فبويع المتَوَكل عاشرهم وَهُوَ جَعْفَر بن المعتصم يَوْم موت الواثق، وَعمر المتَوَكل يَوْمئِذٍ سِتّ وَعِشْرُونَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض المتَوَكل على مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات وصادره وحبسه وعذبه بالتنور: وَكَانَ ابْن الزيات قد عمل تنور خشب فِيهِ مسامير حَدِيد أطرافها إِلَى دَاخل تمنع من فِيهِ من الْحَرَكَة وَلَا يقدر على الْجُلُوس، وَعَذَاب بِهِ ابْن أَسْبَاط الْمصْرِيّ، فعذبوا ابْن الزيات بتنوره الْمَذْكُور.
وَكَانَ الصولي صديق ابْن الزيات فصادره بِأَلف ألف دِرْهَم، فَقَالَ الصولي:
(وَكنت أَذمّ إِلَيْك الزَّمَان ... فَأَصْبَحت مِنْك أَذمّ الزمانا)(1/215)
(وَكنت أعدك للنائبات ... فها أَنا أطلب مِنْك الأمانا)
قلت: مَا أحسن هَذَا الْبَيْت لَو أنْشد كَذَا
(وَقد كنت أطلب مِنْك المنى ... فها أَنا أطلب مِنْك الأمانا)
وفيهَا: ولى المتَوَكل ابْنه الْمُنْتَصر الْحَرَمَيْنِ واليمن والطائف.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن معِين بن عون بن زِيَاد بن بسطَام الْمُزنِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ صَاحب الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِمَام حَافظ، قيل: إِنَّه من قَرْيَة تقياي نَحْو الأنبار، وَكَانَ الإِمَام أَحْمد شَدِيد الصُّحْبَة لَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي عُلُوم الحَدِيث وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ يحيى فِيمَن روى عَن الشَّافِعِي، وَولد سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن مُبشر المعتزلي الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو خَيْثَمَة زُهَيْر الْمُحدث، وَعلي بن عبد اللَّهِ بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ الْحَافِظ إِمَام ثِقَة.
قلت: وفيهَا توفّي جد بني الْمُهَذّب بمعرة النُّعْمَان وَهُوَ أَبُو الْوَلِيد همام بن عَامر بن أبي شهَاب، وَدفن قبلي الميدان ظَاهر المعرة وَكَانَ من النبلاء الْأَغْنِيَاء، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظهر بسامراء مَحْمُود بن فرخ وَادّعى النُّبُوَّة وَأَنه ذُو القرنين وَتَبعهُ سَبْعَة وَعِشْرُونَ رجلا، فألزم أَصْحَابه أَن يصفعه كل مِنْهُم عشر صفعات ثمَّ حَبسهم وضربه حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: مَاتَ الْحسن بن سهل وعمره تسعون بدواء أفرط عَلَيْهِ الْقيام.
وفيهَا: مَاتَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي ذُو الألحان والغناء.
وفيهَا: مَاتَ سريح بن يُونُس بن سريح - بِالسِّين الْمُهْملَة.
وفيهَا: وَقيل فِي تلوها: مَاتَ عبد السَّلَام بن رغبان - بالغين المنقوطة - الشَّاعِر ديك الْجِنّ الشيعي تشيعا حسنا وعمره بضع وَتسْعُونَ، وَمن شعره الْجيد:
(وقم أَنْت فاحثث كأسها غير صاغر ... وَلَا تسق إِلَّا خمرها وعقارها)
(مشعشة من كف ظَبْي كَأَنَّمَا ... تنَاولهَا من خَدّه فأدارها)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر المتَوَكل بهدم قبر الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَهدم مَا حوله من الْمنَازل، وَكَانَ شَدِيد البغض لعَلي وَلأَهل بَيته وَكَانَ نديمه عبَادَة المخنث يكبر بَطْنه بمخده ويكشف رَأسه وَهُوَ أصلع ويرقص وَيَقُول: قد أقبل الأصلع البطين خَليفَة الْمُسلمين - يَعْنِي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ -. فَقَالَ لَهُ الْمُنْتَصر يَوْمًا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عليا ابْن عمك فَكل أَنْت لَحْمه إِذا شِئْت وَلَا تخل مثل هَذَا الْكَلْب وَأَمْثَاله يطْمع فِيهِ، فَقَالَ المتَوَكل للمغنين غنوا:
(غَار الْفَتى لِابْنِ عَمه ... رَأس الْفَتى فِي حرَامه)
وَكَانَ يُجَالس من اشْتهر ببغض عَليّ كَابْن الجهم الشَّاعِر وَأبي السمط، وَكَانَ من(1/216)
أحسن الْخُلَفَاء سيرة وَمنع القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَغطّى ذمه لعَلي على حَسَنَاته.
قلت:
(وَكم قد محى خير كَمَا انمحت ... ببغض عَليّ سيرة المتَوَكل)
(تعمق فِي عدل وَلما جنى على ... جناب عَليّ حطه السَّيْل من عَليّ)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي مَنْصُور بن الْمهْدي.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ أَمِير صقيلة، وَولي مَكَانَهُ الْعَبَّاس بن الْفضل بن يَعْقُوب بن فَزَارَة وَفتح قصر بانه دَار ملك صقلية وَغَيرهَا، وَكَانَت سرقوسة قَلبهَا دَار الْملك.
وفيهَا: توفّي حَاتِم الْأَصَم الزَّاهِد الْمَشْهُور الْبَلْخِي، خرج من امْرَأَة صَوت فأوهمها أَنه أَصمّ لِئَلَّا تخجل فَسُمي بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك صَاحب الأندلس فِي ربيع الآخر، ومولده سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة، وولايته إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَله خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ابْنا، وَملك بعده ابْنه مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مَحْمُود بن غيلَان الْمروزِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ ابْن الشَّافِعِي واسْمه مُحَمَّد وكنيته أَبُو عُثْمَان، كَانَ قَاضِي الجزيرة، وروى عَن أَبِيه وَعَن ابْن عُيَيْنَة، وَابْن الشَّافِعِي مُحَمَّد غير هَذَا مَاتَ بِمصْر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بن خَالِد بن أبي الْيَمَان الْكَلْبِيّ الْبَغْدَادِيّ صَاحب الشَّافِعِي وناقل أَقْوَاله الْقَدِيمَة عَنهُ، وَكَانَ على مَذْهَب أهل الرَّأْي حَتَّى قدم الشَّافِعِي الْعرَاق فَاتبعهُ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل بن هِلَال بن أَسد بن إِدْرِيس ينْسب إِلَى معد بن عدنان روى عَنهُ مُسلم وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ، وَكَانَ مُجْتَهدا ورعا صَدُوقًا. قَالَ الشَّافِعِي: خرجت من بَغْدَاد وَمَا خلفت بهَا أحدا أتقى وَلَا أورع وَلَا أفقه من احْمَد بن حَنْبَل.
قلت: حزر من حضر جنَازَته من الرِّجَال فَكَانُوا ثَمَانمِائَة ألف وَمن النِّسَاء سِتِّينَ ألفا، وَقيل: أسلم يَوْم مَوته عشرُون ألفا من النَّصَارَى وَالْيَهُود وَالْمَجُوس، وَحدث إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قَالَ: رَأَيْت بشر بن الْحَارِث الحافي فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ خَارج من مَسْجِد الرصافة وَفِي كمه شَيْء يَتَحَرَّك، فَقلت: مَا فعل اللَّهِ بك؟ فَقَالَ: غفر لي وأكرمني، فَقلت: مَا هَذَا الَّذِي(1/217)
فِي كمك؟ قَالَ: قدم علينا البارحة روح أَحْمد بن حَنْبَل فنثر عَلَيْهِ الدّرّ والياقوت فَهَذَا مِمَّا التقطت، قلت: مَا فعل يحيى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل قَالَ: تركتهما وَقد زارا رب الْعَالمين وَوضعت لَهما الموائد، قلت: فَلم تَأْكُل مَعَهُمَا أَنْت؟ قَالَ: قد عرف هوان الطَّعَام عَليّ وأباحني النّظر إِلَى وَجهه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَمِير إفريقية، وَولى ابْنه أَبُو إِبْرَاهِيم أَحْمد بن مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي القَاضِي يحيى بن أَكْثَم بن مُحَمَّد بن قطن من ولد أَكْثَم بن صَيْفِي التَّمِيمِي حَكِيم الْعَرَب يحيى من أَصْحَاب الشَّافِعِي بَصِير بِالْأَحْكَامِ إِمَام فِي عدَّة فنون وَكَانَ دميم الْخلق، جلس الْمَأْمُون يَوْمًا وَهُوَ مغتاظ يستاك وَيَقُول: متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعَلى عهد أبي بكر وَأَنا أنهى عَنْهُمَا وَمن أَنْت يَا جعل حَتَّى تنْهى عَمَّا فعله رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ . فأوجم الْحَاضِرُونَ حَتَّى دخل يحيى بن أَكْثَم فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَرَاك متغيرا؟ فَقَالَ يحيى: هُوَ غم لما حدث من النداء بتحليل الزِّنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: الزِّنَا؟ قَالَ: نعم الْمُتْعَة زنا، قَالَ: وَمن أَيْن قلت هَذَا؟ قَالَ: من كتاب اللَّهِ وَحَدِيث رَسُول اللَّهِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو ماملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زَوْجَة الْمُتْعَة ملك يَمِين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهِيَ الزَّوْجَة الَّتِي تَرث وتورث؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فقد صَار متجاوز هذَيْن من العادين، وَهَذَا الزُّهْرِيّ روى عَن عبد اللَّهِ وَالْحسن ابْني مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم قَالَ: أَمرنِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أنادي بالنهى فِي الْمُتْعَة وتحريمها بعد أَن كَانَ أَمر بهَا.
فَقَالَ الْمَأْمُون: أمحفوظ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ؟ قَالَ: نعم رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم مَالك رَضِي اللَّهِ عَنهُ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أسْتَغْفر اللَّهِ، وبادر إِلَى النداء بِتَحْرِيم الْمُتْعَة وَالنَّهْي عَنْهَا.
وَكَانَ ابْن أَكْثَم يتهم بالصبيان، وَقد قيل فِيهِ أشعار مِنْهَا:
(وَكُنَّا نرجي أَن نرى الْعدْل ظَاهرا ... فأعقبنا من بعد ذَاك قنوط)
(مَتى تصلح الدُّنْيَا وَيصْلح أَهلهَا ... وقاضي قُضَاة الْمُسلمين يلوط)
وَلأَحْمَد بن نعيم:
(أنطقني الدَّهْر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي)
(لَا أفلحت أمة وَحقّ لَهَا ... بطول نكس وَطول إتعاس)
(ترْضى بِيَحْيَى يكون سائسها ... وَلَيْسَ يحيى لَهَا بسواس)
(قَاض يرى الْحَد فِي الزِّنَا وَلَا ... يرى على من يلوط من باس)
(يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير وَمثل عَبَّاس)
(فَالْحَمْد لله كَيفَ قد ذهب الْعدْل ... وَقل الْوَفَاء فِي النَّاس)(1/218)
(أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط وَالرَّأْس شَرّ مَا راس)
(لَا أَحسب الْجور يَنْقَضِي وعَلى الْأمة ... وَآل من آل عَبَّاس)
وأكثم - بِالْمُثَلثَةِ والمثناة فَوق - الْعَظِيم الْبَطن والشعبان.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا سَار المتَوَكل إِلَى دمشق.
وفيهَا: مَاتَ إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن صول الصولي.
وفيهَا: مَاتَ الْحَارِث المحاسبي بن أَسد الزَّاهِد، وهجره أَحْمد بن حَنْبَل لأجل علم الْكَلَام فاختفى لتعصب الْعَامَّة لِأَحْمَد، وَلم يصل عَلَيْهِ غير أَرْبَعَة أنفس.
قلت: المحاسبي - بِضَم الْمِيم - وَهُوَ مِمَّن اجْتمع لَهُ علم الْبَاطِن وَالظَّاهِر وَله كتب فِي الْأُصُول والزهد مِنْهَا: كتاب الرِّعَايَة، ترك أَبوهُ سبعين ألف دِرْهَم فَلم يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى دِرْهَم لكَون أَبِيه قدريا، وَقَالَ: صحت الرِّوَايَة عَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه لَا يتوارث أهل ملتين وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا دخل المتَوَكل دمشق وعزم على الْمقَام بهَا وَنقل دواوين الْملك إِلَيْهَا، فَقَالَ يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي:
(أَظن الشَّام تشمت بالعراق ... إِذا عزم الإِمَام على انطلاق)
(فَإِن تدع الْعرَاق وساكنيه ... فقد تبلى المليحة بِالطَّلَاق)
ثمَّ استوبأ دمشق واستثقل ماءها، فعاود سر مرا بعد شَهْرَيْن وَعشرَة أَيَّام.
وفيهَا: نفى المتَوَكل بختيشوع إِلَى الْبَحْرين وَقبض مَاله، وَقتل أَبَا يُوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن السّكيت مُصَنف إصْلَاح الْمنطق، قَالَ: لَهُ، أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي المعتز والمؤيد أم الْحسن وَالْحُسَيْن؟ فغض ابْن السّكيت من ابنيه وَذكر من الْحسن وَالْحُسَيْن مَا هما أَهله، فداسوا بَطْنه وَحمل إِلَى دَاره فَمَاتَ، وَقيل: قَالَ: إِن قنبر خَادِم عَليّ خير مِنْك وَمن ابنيك، فَسَلُوا لِسَانه من قَفاهُ، وعمره ثَمَان وَخَمْسُونَ. والسكيت - بِكَسْر السِّين وَتَشْديد الْكَاف - كثير السُّكُوت.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا: توفّي ذُو النُّون الْمصْرِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن بن عَليّ الكرابيس صَاحب الشَّافِعِي.
قلت: وفيهَا زلزل الشَّام عَظِيما فِي شباط وَسَقَطت من ذَلِك كَنِيسَة حناك الْكَبِيرَة وَغَيرهَا، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا تحول المتَوَكل إِلَى الْجَعْفَرِي وَبَدَأَ عِمَارَته سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، كَانَ مَوْضِعه يُسمى الماخورة.
وفيهَا: توفّي دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر، ومولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَكَانَ يتشيع.(1/219)
قلت: وَمَا أحسن قَول دعبل - وَقد يرْوى لغيره:
(لَكِنَّهَا خطرات من وساوسه ... يُعْطي وَيمْنَع لَا بخلا وَلَا كرما)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل المتَوَكل بِالسُّيُوفِ فِي الْخلْوَة فِي مجْلِس شرابه بِرَأْي ابْنه الْمُنْتَصر وبغا الصَّغِير الشرابي، وَقتل مَعَه وزيره الْفَتْح بن خاقَان لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لسبع خلون من شَوَّال، وخلافته أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام، وعمره نَحْو أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ أسمر خَفِيف العارضين.
(أَخْبَار الْمُنْتَصر بن المتَوَكل)
فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة بُويِعَ الْمُنْتَصر، حضرت الْأَعْيَان بالجعفري فَأخْرج أَحْمد بن الْخَطِيب كتابا من الْمُنْتَصر أَن الْفَتْح بن خاقَان قتل المتَوَكل فَقتلته بِهِ، فَبَايعُوهُ.
قلت: وفيهَا حج أَبُو عبَادَة البحتري هربا من الْمُنْتَصر لِأَنَّهُ كَانَ يشرب مَعَ أَبِيه لما قتل فَقَالَ:
(فَلَو كَانَ سَيفي سَاعَة الْقَتْل فِي يَدي ... درى الفاتك العجلان كَيفَ أساوره)
فَلَمَّا قضي حجه وَعَاد مدح الْمُنْتَصر بقصيدة مِنْهَا:
(حجَجنَا البنية شكرا لما ... حبانا بِهِ اللَّهِ فِي الْمُنْتَصر)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَمِير صقلية، فولى النَّاس ابْنه عبد اللَّهِ ثمَّ ورد من إفريقية خفاجة بن سُفْيَان أَمِيرا فغزا وَفتح، ثمَّ اغتاله بعض أَصْحَابه فولى النَّاس ابْنه مُحَمَّدًا، ثمَّ أقره مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأَغْلَب صَاحب القيروان، وَبَقِي مُحَمَّد بن خفاجة أَمِيرا إِلَى سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ فَقتله طواشيته وهربوا فَقتلُوا.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُثْمَان بكر بن مُحَمَّد الْمَازِني الإِمَام فِي الْعَرَبيَّة.
قلت: بذل لَهُ ذمِّي مائَة دِينَار على فاقة ليقرئه كتاب سِيبَوَيْهٍ، فَامْتنعَ غيرَة للْعلم وَالْقُرْآن، فاتفق أَن جَارِيَة غنت بِحَضْرَة الواثق.
(أظلوم أَن مصابكم رجلا ... أهْدى السَّلَام تَحِيَّة ظلم)
فلحنت فِي نصب رجل فأصرت على أَن شيخها الْمَازِني لقنها إِيَّاه بِالنّصب، فَاسْتَحْضرهُ الواثق وَسَأَلَهُ أترفع رجلا من الْبَيْت الْمَذْكُور أم تنصبه؟ فَقَالَ: بل الْوَجْه النصب، لِأَن مصابكم مصدر بِمَعْنى أَصَابَتْكُم فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك: إِن ضربك زيدا ظلم بِدَلِيل أَن الْكَلَام مُعَلّق إِلَى أَن تَقول ظلم، فَأمر لَهُ الواثق بِأَلف دِينَار ورده مكرما، فَقَالَ: رددنا اللَّهِ مائَة فعوضنا ألفا. وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الْمُنْتَصر بِاللَّه مُحَمَّد بن جَعْفَر(1/220)
المتَوَكل يَوْم الْأَحَد بسامراء لخمس خلون من ربيع بالذبحة اعتل ثَلَاثَة أَيَّام وعمره خمس وَعِشْرُونَ وَسِتَّة أشهر وخلافته سِتَّة أشهر ويومان، وَكَانَ أعين أقنى قَصِيرا مهيبا عَظِيم اللَّحْم عَاقِلا منصفا، أَمن العلويين وَأمر بزيارة قبر الْحُسَيْن.
(أَخْبَار المستعين أَحْمد بن مُحَمَّد بن المعتصم)
وَلما توفّي بُويِعَ للمستعين أَحْمد بن مُحَمَّد بن المعتصم ثَانِي عشرهم لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ لست خلون من ربيع الآخر وَهُوَ ابْن ثَمَان وَعشْرين سنة ويكنى أَبَا الْعَبَّاس.
وفيهَا: ورد عَلَيْهِ خبر وَفَاة طَاهِر بن عبد اللَّهِ بن طَاهِر أَمِير خُرَاسَان فِي رَجَب، فولى ابْنه مُحَمَّد بن طَاهِر خُرَاسَان.
وفيهَا: مَاتَ بغا الْكَبِير، فولى مَكَانَهُ ابْنه مُوسَى بن بغا.
فِيهَا: شغب أهل حمص على كيدر عاملهم فأخرجوه.
وفيهَا: تحرّك يَعْقُوب بن اللَّيْث الصفار من سجستان نَحْو هراة.
وفيهَا توفّي مُحَمَّد بن الْعَلَاء الْهَمدَانِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا التقى الْمُسلمُونَ وَالروم بمرج الأسقف، وَقتل عمر بن عبد اللَّهِ الأقطع مقدم الْعَسْكَر وَكَانَ شجاعا وَانْهَزَمَ الرّوم وَقتل مِنْهُم، فَأَغَارَ الرّوم إِلَى الثغور الجزرية.
وفيهَا: شغب الْجند الشاكرية والعامة بِبَغْدَاد على الأتراك بِسَبَب استيلائهم على الْأُمُور يقتلُون من شَاءُوا من الْخُلَفَاء ويستخلفون من شَاءُوا من غير مصلحَة ثمَّ اتّفقت الْعَامَّة بسامراء وأطلقوا من فِي السجون فقتلت الأتراك من الْعَامَّة جمَاعَة حَتَّى سكنت الْفِتْنَة.
وفيهَا: قتلت الموَالِي أيامش ونهبوا دَاره، فَإِن المستعين أطلق يَد أيامش فاستولى على الْأَمْوَال.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن الجهم الشَّاعِر.
وفيهَا: توفّي أَبُو إِبْرَاهِيم أَحْمد بن الْأَغْلَب صَاحب إفريقية، وَقَامَ مَوْضِعه أَخُوهُ أَبُو مُحَمَّد زِيَادَة اللَّهِ.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظهر أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن عمر بن يحيى بن حُسَيْن بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بِالْكُوفَةِ فِي جمع وَاسْتولى على الْكُوفَة ثمَّ جهز إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن طَاهِر جَيْشًا، فَقتل يحيى وَحمل رَأسه إِلَى المستعين.
ثمَّ فِيهَا: ظهر الْحسن بن زيد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن زيد بن الْحسن بن الْحسن بطبرستان وَكثر جمعه.
وفيهَا: وثب أهل حمص على عاملهم الْفضل بن قَارن أخي مازيار فَقَتَلُوهُ، فَأرْسل(1/221)
المستعين إِلَيْهِم مُوسَى بن بغا الْكَبِير فحاربوه بَين حمص والرستن فَهَزَمَهُمْ فَافْتتحَ حمص وَقتل خلقا وأحرقها.
وفيهَا: توفّي زِيَادَة اللَّهِ من ولد الْأَغْلَب، وَملك إفريقية بعده ابْن أَخِيه أَبُو عبد اللَّهِ مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَذْكُور.
وفيهَا: مَاتَ الخليع الشَّاعِر الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل بغا الصَّغِير ووصيف باغر التركي، فشغب الْجند وحصروا المستعين فِي الْقصر بسامراء فهرب هُوَ وبغا ووصيف فِي حراقة إِلَى بَغْدَاد وَاسْتقر بهَا المستعين.
(بيعَة المعتز بن المتَوَكل)
وفيهَا: خَافت الأتراك المستعين فأخرجوا المعتز بن المتَوَكل من الْحَبْس وَبَايَعُوا المعتز بِاللَّه، فأستولى وَأنْفق فِي الْجند وَعقد لِأَخِيهِ الْمُوفق أبي أَحْمد طَلْحَة فِي سبع بَقينَ من الْمحرم وجهزه فِي خمسين ألف من التّرْك إِلَى حَرْب المستعين، وتحصن المستعين بِبَغْدَاد، ثمَّ ألزم المستعين بخلع نَفسه ومبايعته للمعتز بعد قتال شَدِيد.
وفيهَا: مَاتَ سري السَّقطِي الزَّاهِد.
قلت: هُوَ خَال الْجُنَيْد وأستاذه وتلميذ مَعْرُوف، جَاءَهُ يَوْمًا مَعْرُوف وَمَعَهُ صبي فَقَالَ لَهُ: أكس هَذَا الْيَتِيم فَكَسَاهُ، ففرح بِهِ الْمَعْرُوف وَقَالَ: بغض اللَّهِ إِلَيْك الدُّنْيَا وأراحك مِمَّا أَنْت فِيهِ، فَقَامَ من الدّكان وَفتح عَلَيْهِ كَانَ كثيرا مَا ينشد:
(إِذا مَا شَكَوْت الْحبّ قَالَت كذبتني ... فَمَا لي أرى الْأَعْضَاء مِنْك كواسيا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِي رَابِع الْمحرم يَوْم الْجُمُعَة خطب للمعتز بِاللَّه بِبَغْدَاد وبويع لَهُ بهَا، ثمَّ نقل المستعين من الرصافة إِلَى قصر الْحسن بن سهل بأَهْله وَأخذ مِنْهُ الْبردَة والقضيب والخاتم وَمنعه من مَكَّة، فَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ، ووكل بِهِ جمَاعَة وَانْحَدَرَ إِلَى وَاسِط، وَكتب إِلَى احْمَد بن طولون بقتل المستعين فَامْتنعَ ابْن طولون، وَسَار بالمستعين فِي القاطول وَسَلَمَة إِلَى الْحَاجِب سعيد بن صَالح فَضَربهُ سعيد حَتَّى مَاتَ وَحمل رَأسه إِلَى المعتز، فَأمر بدفنه، وخلافه المستعين إِلَى خلعة ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَكسر، وعمره أَربع وَعِشْرُونَ سنة.
وفيهَا: عقد لعيسى بن الشَّيْخ بن السَّلِيل من ولد جساس بن مرّة بن ذهل بن شَيبَان على الرملة فَجهز نَائِبه أَبَا المعتز إِلَيْهَا لما كَانَت فتْنَة الأتراك بالعراق تغلب ابْن الشَّيْخ على دمشق وأعمالها وَقطع مَا كَانَ يحمل من الشَّام إِلَى الْخَلِيفَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن بشار وَمُحَمّد بن الْمثنى الزَّمن البصريان من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم.(1/222)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا منع وصيف رزق الْجند أَرْبَعَة أشهر فَقَتَلُوهُ، فَجعل المعتز مَا كَانَ إِلَيْهِ إِلَى بغا الشاربي.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد طَاهِر بن الْحُسَيْن.
وفيهَا: ملك يَعْقُوب الصفار هراة وبشنج وهابه أَمِير خُرَاسَان وَغَيره.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل بغا الشرابي لَيْلًا؛ خرج لركوب الزورق فَعلم بِهِ المعتز فَأمر بقتْله فَقتل وَحمل إِلَيْهِ رَأسه.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة لخمس بَقينَ توفّي بسامراء عَليّ الملقب بالزكي وبالهادي وبالتقي أحد الْأَئِمَّة الإثني عشر على رَأْي الإمامية وَهُوَ ابْن الْجواد كَانَ قد سعي بِهِ إِلَى المتَوَكل أَن عِنْده كتبا وسلاحا، فَأرْسل إِلَيْهِ الأتراك لَيْلًا على غَفلَة فوجدوه فِي بَيت مغلق وَعَلِيهِ مدرعة شعر مُسْتَقْبل الْقبْلَة يترنم بآيَات فِي الْوَعْد والوعيد لَيْسَ بَينه وَبَين الأَرْض بِسَاط إِلَّا الرمل والحصى، فَحمل على هَيئته إِلَى المتَوَكل، والمتوكل على الشَّرَاب وَفِي يَده الكاس فأعظمه وَأَجْلسهُ بجنبه وناوله الكاس فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا خامر لحمي وَدمِي قطّ فاعفني مِنْهُ فأعفاه وَقَالَ: أَنْشدني شعرًا، فَقَالَ: إِنِّي لقَلِيل الرِّوَايَة للشعر، فَقَالَ المتَوَكل: لَا بُد من ذَلِك، فأنشده.
(باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرِّجَال فَمَا أغنتهم القلل)
(واستنزلوا بعد عز عَن معاقلهم ... فأودعوا حفرا يَا بئس مَا نزلُوا)
(ناداهم صارخ من بعد مَا قبروا ... أَيْن الْأَهِلّة والتيجان وَالْحلَل)
(أَيْن الْوُجُوه الَّتِي كَانَت منعمة ... من دونهَا تضرب الأستار والكلل)
(فأفصح الْقَبْر عَنْهُم حِين ساءلهم ... تِلْكَ الْوُجُوه عَلَيْهَا الدُّود يقتتل)
(قد طالما أكلُوا دهرا وَمَا شربوا ... فَأَصْبحُوا بعد طول الْأكل قد أكلُوا)
فَبكى المتَوَكل وَأمر بِرَفْع الشَّرَاب وَقَالَ: با أَبَا الْحسن أعليك دين؟ قَالَ: نعم أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، فَدَفعهَا إِلَيْهِ ورده إِلَى منزلَة مكرما.
ومولد عَليّ فِي رَجَب سنة أَربع عشرَة وَقيل: ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَقيل لَهُ: العسكري لِأَن سامراء يُقَال لَهَا الْعَسْكَر لسكنى الْعَسْكَر بهَا، وَكَانَت سكن عَليّ وَهُوَ عَاشر الْأَئِمَّة الإنثي عشر ووالد الْحسن العسكري، وولادة الْحسن الْمَذْكُور فِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوفِّي فِي ربيع الأول وَقيل: جُمَادَى الأولى سنة مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ بسامراء وَدفن بِجنب أَبِيه. وَالْحسن العسكري وَالِد مُحَمَّد المنتظر صَاحب السرداب، والمنتظر ثَانِي عشرهم ويلقب أَيْضا الْقَائِم وَالْمهْدِي وَالْحجّة، ومولد المنتظر سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. وتزعم الشِّيعَة أَنه دخل السرداب فِي دَار أَبِيه بسامراء وَأمه تنظر إِلَيْهِ فَلم يعد إِلَيْهَا وَكَانَ عمره تسع سِنِين حِينَئِذٍ وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَسِتِّينَ على خلاف فِيهِ.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن الرشيد وَهُوَ عَم الواثق.(1/223)
وفيهَا: ولي أَحْمد بن طولون مصر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا استولى يَعْقُوب بن اللَّيْث الصفار على كرمان، ثمَّ استولى بِالسَّيْفِ على فَارس وَدخل شيراز ونادى بالأمان وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة بِطَاعَتِهِ وبهدية جليلة مِنْهَا: عشرَة بزاة بيض وَمِائَة من الْمسك.
وفيهَا: يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث بَقينَ من رَجَب خلع المعتز بن المتَوَكل واسْمه مُحَمَّد وَقيل: الزبير، ويكنى أَبَا عبد اللَّهِ، ومولده بسامراء فِي ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأمه قبيحة أم ولد، ولليلتين خلتا من شعْبَان كَانَ ظُهُور مَوته وَذَلِكَ أَن الأتراك طلبُوا أَرْزَاقهم ونزلوا مَعَه إِلَى خمسين ألف دِينَار فَلم يكن عِنْده مَال، فاتفق الأتراك والفراعنة والمغاربة وَقَالُوا: اخْرُج إِلَيْنَا، فَاعْتَذر بِشرب دَوَاء أفرط فِي الْعَمَل وَأمر بِدُخُول بَعضهم عَلَيْهِ، فَدَخَلُوا، وجروا بِرجلِهِ إِلَى بَاب الْحُجْرَة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قَمِيصه وأقاموه فِي الشَّمْس ولطموه وَهُوَ يَتَّقِي بِيَدِهِ وَأشْهدُوا ابْن أبي الشَّوَارِب القَاضِي على خلعه وَجَمَاعَة، ثمَّ عذب وَمنع الطَّعَام وَالشرَاب ثَلَاثًا، ثمَّ أَدخل سردابا وجصص عَلَيْهِ وَدفن بسامراء مَعَ الْمُنْتَصر.
وخلافته من مبايعته بسامراء إِلَى خلعه أَربع سِنِين وَسَبْعَة أشهر إِلَّا سَبْعَة أَيَّام، وعمره أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَكَانَ أَبيض أسود الشّعْر.
(أَخْبَار مُحَمَّد الْمُهْتَدي بن الواثق)
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث بَقينَ من رَجَب مِنْهَا بُويِعَ للمهتدي مُحَمَّد بن الواثق وَهُوَ رَابِع عشرهم وكنيته أَبُو عبد اللَّهِ، وَأمه قرب الرومية.
وفيهَا: فِي رَمَضَان ظَهرت قبيحة أم المعتز بعد اختفائها لقتل ابْنهَا ونبش لَهَا ألف ألف دِينَار، وسفط قدر مكوك زمرد، وسفط كَذَلِك لُؤْلُؤ، وَقدر كمليجة ياقوت أَحْمَر لَا يُوجد مثله، وَحمل جَمِيعه إِلَى صَالح بن وصيف، فَقَالَ: قبح اللَّهِ قبيحة عرضت ابْنهَا للْقَتْل لأجل خمسين ألف دِينَار وَعِنْدهَا هَذِه الْأَمْوَال كلهَا؛ وسماها المتَوَكل قبيحة لحسنها بالضد كَمَا يُسمى الْأسود كافورا.
ثمَّ سَارَتْ إِلَى مَكَّة فَكَانَت تَدْعُو بِصَوْت عَال على صَالح بن وصيف وَتقول: هتك ستري وَقتل وَلَدي وَأخذ مَالِي وغربني عَن بلدي وَركب الْفَاحِشَة مني.
قلت: وَالله قولي فِيهِ:
(جزى ابْن وصيف مَوْلَاهُ بشر ... وَلَكِن هَذِه صفة الوصيف)
وَالله أعلم.
وفيهَا: أول خُرُوج صَاحب الزنج عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم وَنسبه فِي عبد الْقَيْس، فَجمع الزنج الَّذين كَانُوا يكسحون السباخ فِي جِهَة الْبَصْرَة وَادّعى أَنه عَليّ بن(1/224)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَعبر دجلة وَنزل الأنبار وَكَانَ مَذْكُور من قبل مُتَّصِلا بحاشية الْمُنْتَصر فِي سامراء يمدحهم ويستمنحهم بِشعرِهِ، ثمَّ شخص من سامراء سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ إِلَى الْبَحْرين فَادّعى نسبه فِي العلويين كَمَا ذكر، وَأقَام فِي الأحساء ثمَّ فِي الْبَصْرَة سنة أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، ثمَّ خرج فِي هَذِه السّنة واستفحل أمره وَبث أَصْحَابه للإغارة والنهب.
وفيهَا: توفّي خفاجة بن سُفْيَان أَمِير صقلية وَولي ابْنه مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي صَاحب الْمقَالة فِي التَّشْبِيه بِالشَّام.
قلت: كَانَ شَيخنَا الْعَلامَة صدر الدّين مُحَمَّد بن الْوَكِيل العثماني ينشد لبَعْضهِم.
(الفقة فقة أبي حنيفَة وَحده ... وَالدّين دين مُحَمَّد بن كرام)
(إِن الأولى فِي دينهم مَا استمسكوا ... بِمُحَمد بن كرام غير كرام)
ثمَّ وَقع مرّة فِي بعض الْمدَارِس بحلب نزاع فِي الرَّاء من كرام هَل هِيَ مُشَدّدَة أم مخفقة، فأنشدت أَنا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، فارتفع النزاع وَعَلمُوا أَن راءه مُخَفّفَة وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي عبد اللَّهِ بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ صَاحب الْمسند وعمره خمس وَسَبْعُونَ.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمرَان عَمْرو بن بَحر الجاحظ الْعَينَيْنِ، كثير التصانيف كثير الْهزْل نَادِر النادرة نادم الْخُلَفَاء، وَأخذ الْعلم عَن النظام الْمُتَكَلّم، وَقيد لما قتل ابْن الزيات لتَعَلُّقه بِهِ ثمَّ أطلق؛ دخل عَلَيْهِ الْمبرد فِي مَرضه فَقَالَ: كَيفَ أَنْت؟ فَقَالَ: كَيفَ يكون من نصفه مفلوج وَلَو نشر مَا أحس بِهِ، وَنصفه الْأُخَر منقرس لَو طَار بِهِ الذُّبَاب آلمه وَقد جَاوز التسعين ثمَّ أنْشد:
(أترجو أَن تكون وَأَنت شيخ ... كَمَا قد كنت أَيَّام الشَّبَاب)
(لقد كذبتك نَفسك لَيْسَ ثوب ... دريس كالجديد من الثِّيَاب)
وَقعت عَلَيْهِ مجلداته المصفوفة وَهُوَ عليل فَقتلته فِي الْمحرم مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل مُوسَى بن بغا صَالح بن وصيف.
وفيهَا: فِي منتصف رَجَب خلع الْمُهْتَدي مُحَمَّد بن هَارُون الواثق بن المعتصم وَتُوفِّي لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت مِنْهُ، فَإِنَّهُ قصد قتل مُوسَى بن بغا وَكَانَ مُوسَى معسكرا قبالة الْخَوَارِج، وَكتب إِلَى بانكيال من مقدمي التّرْك أَن يقتل مُوسَى وَيصير مَوْضِعه، فَأطلع بانكيال مُوسَى على ذَلِك واتفقا على قتل الْمُهْتَدي، وَسَار إِلَى سامراء وَدخل بانكيال إِلَى الْمُهْتَدي، فحبسه الْمُهْتَدي وَقَتله، وَركب لقِتَال مُوسَى ففارقت الأتراك الَّذين مَعَ الْمُهْتَدي عَسْكَر الْمُهْتَدي وصاروا مَعَ مُوسَى، فضعف الْمُهْتَدي وهرب وَدخل بعض الدّور، فَأمْسك وداسوا خصيبه وصفعوه فَمَاتَ، وَدفن بمقبرة الْمُنْتَصر، وخلافته أحد عشر شهرا وَنصف، وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة. وَكَانَ أسمر بطينا قَصِيرا طَوِيل اللِّحْيَة ولد بالقاطول ورعا كثير الْعِبَادَة، قصد أَن يكون فِي بني الْعَبَّاس مثل عمر بن عبد الْعَزِيز فِي بني أُميَّة.(1/225)
(أَخْبَار الْمُعْتَمد على اللَّهِ أَحْمد بن المتَوَكل)
وَلما قتل أخرجُوا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن المتَوَكل من الْحَبْس وبويع ولقب الْمُعْتَمد على اللَّهِ وَهُوَ خَامِس عشرهم، واستوزر عبيد اللَّهِ بن يحيى بن خاقَان.
وفيهَا: ملك صَاحب الزنج الإبلة عنْوَة وَقتل وأحرقها وَكَانَت مَبْنِيَّة بالساج فأسرعت النَّار فِيهَا، ثمَّ استولى على عبادان بالأمان، ثمَّ على الأهواز بِالسَّيْفِ.
وفيهَا: عزل عِيسَى بن الشَّيْخ عَن الشَّام لما ذكرنَا وَعقد لعيسى على أرمينية وَولى أماجور الشَّام، فَسَار وَاسْتولى عَلَيْهِ بعد قتال بَينه وَبَين أَصْحَاب عِيسَى وانتصر عِيسَى وَاسْتقر.
وفيهَا: توفّي الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ الْجعْفِيّ صَاحب الصَّحِيح الْمُتَّفق على الْأَخْذ مِنْهُ وَالْعَمَل بِهِ، رَحل فِي طلب الحَدِيث إِلَى الْأَمْصَار، ومولده سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة لثلاث عشرَة خلت من شَوَّال.
قَالَ البُخَارِيّ: ألهمت حفظ الحَدِيث وَأَنا فِي الْكتاب ابْن عشر سِنِين، فَلَمَّا بلغت ثَمَانِي عشرَة سنة صنفت قضايا الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأقاويلهم وصنفت كتاب التَّارِيخ إِذْ ذَاك عِنْد قبر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: وَخرجت الصَّحِيح من زهاء سِتّمائَة ألف حَدِيث وَمَا أدخلت فِيهِ إِلَّا مَا صَحَّ.
وَورد مرّة إِلَى بَغْدَاد فَعمد أهل الحَدِيث إِلَى مائَة حَدِيث فقلبوا متونها وأسانيدها وَوَضَعُوا عشرَة أنفس فأورد وَاحِد بعد الآخر الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة وَالْبُخَارِيّ يَقُول فِي كل حَدِيث مِنْهَا: لَا أعرفهُ، فَلَمَّا فرغوا قَالَ: أما الحَدِيث الأول فَهُوَ كَذَا وَأما الثَّانِي فَهُوَ كَذَا حَتَّى ذكرهَا عَن آخرهَا على حَقِيقَتهَا متونا وأسانيد.
وَوَقع بَين البُخَارِيّ وَبَين خَالِد أَمِير بُخَارى وَحْشَة، فَدس خَالِد من قَالَ: البُخَارِيّ يَقُول بِخلق الْأَفْعَال للعباد وبخلق الْقُرْآن، فتبرأ البُخَارِيّ من ذَلِك وَعظم عَلَيْهِ فارتحل وَنزل عِنْد بعض أَقَاربه بقرية خرتنك على فرسخين من سَمَرْقَنْد فَمَاتَ بهَا لَيْلَة عيد الْفطر مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخذت الزنج الْبَصْرَة وخربوها وَقتلُوا من بهَا.
وفيهَا: ملك يَعْقُوب الصفار بَلخ ثمَّ كابل، وَأرْسل إِلَى الْخَلِيفَة هَدِيَّة فِيهَا أصنام من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: قصد الْحسن بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان وملكها.
وفيهَا: قتل مُحَمَّد بن خفاجة كَمَا تقدم، وَاسْتعْمل مُحَمَّد بن أَحْمد الأغلبي على صقلية أَحْمد بن يَعْقُوب.
وفيهَا: توفّي الْعَبَّاس بن المفرج الرياشي اللّغَوِيّ.(1/226)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أرسل الْمُعْتَمد أَخَاهُ الْمُوفق أَبَا أَحْمد إِلَى قتال الزنج.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ملك يَعْقُوب الصفار نيسابور.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُوسَى بن شَاكر أحد الْإِخْوَة الثَّلَاثَة الَّذين تنْسب إِلَيْهِم حيل بني مُوسَى، وَاسم إخْوَته أَحْمد وَالْحُسَيْن خَاضُوا فِي الْعُلُوم الْقَدِيمَة وَغلب عَلَيْهِم الهندسة والحيل والموسيقى.
وَبلغ الْمَأْمُون من كتب الْأَوَائِل: إِن درو الأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف ميل، فَأَرَادَ تَحْقِيق ذَلِك فَأمر بني مُوسَى بتحريره، فسألوا عَن الْأَرَاضِي المستوية فَأخْبرُوا بصحراء سنجار ووطأة الْكُوفَة، فَأرْسل الْمَأْمُون مَعَهم جمَاعَة يَثِق بأقوالهم إِلَى صحراء سنجار، وحققوا القطب الشمالي وضربوا هُنَاكَ وتدا وربطوا فِيهِ حبلا طَويلا وَمَشوا إِلَى الْجِهَة الشمالية على الاسْتوَاء من غير انحراف حسب الْإِمْكَان، وَكلما فرغ حَبل نصبوا فِي الأَرْض وتدا وربطوا فِيهِ حبلا آخر كفعلهم الأول، حَتَّى انْتَهوا كَذَلِك إِلَى مَوضِع قد زَاد فِيهِ ارْتِفَاع القطب الشمالي الْمَذْكُور دَرَجَة مُحَققَة ومسحوا ذَلِك الْقدر فَكَانَ سِتَّة وَسِتِّينَ ميلًا وثلثي ميل.
ثمَّ وقفُوا عِنْد موقفهم الأول وربطوا فِي الوتد حبلا وَمَشوا إِلَى جِهَة الْجنُوب من غير انحراف وفعلوا مَا شرحناه حَتَّى انْتَهوا إِلَى مَوضِع قد انحط فِيهِ ارْتِفَاع القطب الشمالي دَرَجَة ومسحوا ذَلِك الْقدر فَكَانَ سِتَّة وَسِتِّينَ ميلًا وثلثي ميل، ثمَّ عَادوا إِلَى الْمَأْمُون وَأَخْبرُوهُ بذلك.
فَأَرَادَ الْمَأْمُون تَحْقِيق ذَلِك فِي مَوضِع آخر، فسيرهم إِلَى أَرض الْكُوفَة وفعلوا كَمَا فَعَلُوهُ فِي أَرض سنجار فتوافق الحسابان، ثمَّ ضربوا الأميال الْمَذْكُورَة فِي ثلثمِائة وَسِتِّينَ وَهِي درج الْفلك فَكَانَ الْحَاصِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ميل وَهُوَ دور الأَرْض، فتحقق الْمَأْمُون صِحَة مَا نَقله من كتب الْأَوَائِل.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: كَذَا نَقله ابْن خلكان وَغَيره من المؤرخين إِن الَّذِي وجد فِي أَيَّام الْمَأْمُون لحصة الدرجَة سِتَّة وَسِتُّونَ ميلًا وَثلثا ميل، وَهُوَ غير صَحِيح فَإِن ذَلِك هُوَ حِصَّة الدرجَة على رَأْي القدماء، وَأما فِي أَيَّام الْمَأْمُون فَإِنَّهُ وجد حِصَّة الدرجَة سِتَّة وَخمسين ميلًا وَقد تحقق ذَلِك فِي علم الْهَيْئَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتلت الْعَرَب منجور وَالِي حمص، وَاسْتعْمل عَلَيْهَا بكتمر.
وفيهَا: توفّي ملك بن طوق التغلبي باني الرحبة بهَا.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن(1/227)
عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم الْمَعْرُوف بالعسكري، وَقد تقدم.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن الصّباغ الزَّعْفَرَانِي الْفَقِيه وَهُوَ من اصحاب الشَّافِعِي البغداديين.
وفيهَا: توفّي حنين بن إِسْحَاق الطَّبِيب الْعَبَّادِيّ، نقل كتب اليونان إِلَى الْعَرَبيَّة عَالما بهَا وعرب كتاب إقليدس وَكتاب بطليموس المجسطي وأصلحهما والعبادي - بِكَسْر الْعين: نِسْبَة إِلَى عباد الْحيرَة عدَّة بطُون من قبائل شَتَّى نَصَارَى نزلُوا الْحيرَة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل نصر بن أَحْمد بن أَسد بن سامان حداه بن خثمان بن طغان بن نوشزد بن بهْرَام جوبين الْمَذْكُور فِي أَخْبَار كسْرَى برويز أَخَاهُ إِسْمَاعِيل على بخارا.
(ابْتِدَاء أَمر السامانيين)
كَانَ لأسد بن سامان أَرْبَعَة بَنِينَ: نوح وَأحمد وَيحيى وإلياس وَكَانَ فِي خُرَاسَان حِين استولى عَلَيْهَا الْمَأْمُون فأكرمهم المامون اربعتهم وَقَدَّمَهُمْ واستعملهم، واستخلف لما رَجَعَ إِلَى الْعرَاق فِي خُرَاسَان غَسَّان بن عباد، فولى غَسَّان أَحْمد بن أَسد فرغانة فِي سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وَيحيى بن أَسد الشاش مَعَ أسروشنه والياس بن أَسد هراة، ونوح بن أَسد سَمَرْقَنْد، وَلما تولى طَاهِر بن الْحُسَيْن خُرَاسَان أقرهم على الْأَعْمَال، ثمَّ مَاتَ نوح ثمَّ مَاتَ الياس بهراة فاستقر على عمله ابْنه مُحَمَّد.
وَكَانَ لِأَحْمَد بن أَسد سَبْعَة بَنِينَ: نصر وَيَعْقُوب وَيحيى وَأسد وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَحميد.
ثمَّ مَاتَ أَحْمد بن أَسد واستخلف ابْنه نصرا، وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد يخْدم أَخَاهُ نصرا فولاه نصر بخارا فِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ سعي بَين نصر وأخيه إِسْمَاعِيل حَتَّى فسد مَا بَينهمَا واقتتلا سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ فظفر إِسْمَاعِيل بأَخيه نصر، فَلَمَّا حمل إِلَيْهِ ترجل لَهُ إِسْمَاعِيل وَقبل يَده ورده إِلَى مَوْضِعه. وَاسْتمرّ إِسْمَاعِيل ببخارا وَكَانَ خيرا يحب أهل الْعلم، فدام ملكه وَملك أَوْلَاده وطالت أيامهم وسيذكورن.
وفيهَا: عصى أهل برقة على أَحْمد بن طولون، فَجهز جَيْشًا حاصر برقة وَفتحهَا وَقبض على جمع من رؤوسائهم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فِي جُمَادَى الأولى، وولايته عشر سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَنصف. وَتَوَلَّى إفريقية بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فَسَار إِلَى صقلية وَفتح وجاهد فِي اللَّهِ حق جهاده، وَتُوفِّي بالذرب لَيْلَة السبت لإحدى عشرَة بقيت من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ بصقلية وَحمل فِي تَابُوت إِلَى إفريقية وَدفن بالقيروان، وَكَانَت ولَايَته خمْسا وَعشْرين سنة وَكَانَ لَهُ فظنة عَظِيمَة وَتصدق بِكُل مَاله.(1/228)
وفيهَا: توفّي الْحسن بن عبد الْملك بن أبي الشَّوَارِب قَاضِي الْقُضَاة من ولد عتاب بن أسيد الَّذِي ولاه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّة، وَأسيد: بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين.
وفيهَا: توفّي أَبُو يزِيد طيفور بن عِيسَى بن سروينان البسطامي الزَّاهِد كَانَ سروينان مجوسيا فَأسلم.
قلت: وَله كرامات ومجاهدات، وَكَانَ يَقُول: وَلَو نظرتم إِلَى رجل أعطي من الكرامات حَتَّى يرْتَفع فِي الْهَوَاء فَلَا تغتروا بِهِ حَتَّى تنظروا كَيفَ تجدونه عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي وَحفظ الْحُدُود وَأَدَاء الشَّرِيعَة؛ وَكَانَ لَهُ أَخَوان زاهدان وَعلي وَالله اعْلَم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج النَّيْسَابُورِي صَاحب الصَّحِيح رَحل إِلَى الْأَمْصَار لسَمَاع الحَدِيث. قَالَ مُسلم: صنفت هَذَا الْمسند الصَّحِيح من ثلثمِائة ألف حَدِيث مسموعة. وَلما قدم البُخَارِيّ نيسابور لَازمه مُسلم، وَلما وَقعت للْبُخَارِيّ مَسْأَلَة خلق الْأَفْعَال انْقَطع النَّاس عَنهُ إِلَّا مُسلما. قَالَ مُسلم للْبُخَارِيّ يَوْمًا: دَعْنِي أقبل رجليك يَا أستاذ الأستاذين وَسيد الْمُحدثين وطبيب الحَدِيث.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أرسل الْخَبيث صَاحب الزنج جَيْشًا إِلَى جِهَة بطايح وَاسِط فَقتلُوا وَسبوا وأحرقوا.
وفيهَا: مَاتَ عمر بن شبة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا استولى يَعْقُوب الصفار على الأهواز.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ أماجور مقطع دمشق وَسَار أَحْمد بن طولون من مصر إِلَى دمشق، ثمَّ إِلَى حمص، ثمَّ إِلَى حماه، ثمَّ إِلَى حلب فَملك ذَلِك كُله، ثمَّ سَار إِلَى أنطاكية ودعا سِيمَا الطَّوِيل أَمِير أنطاكية إِلَى طَاعَته فَأبى، فقاتله وَملك أنطاكية عنْوَة وَقَاتل سِيمَا حَتَّى قتل، ثمَّ أَرَادَ الْمقَام بطرسوس فغلا سعرها فَعَاد مِنْهَا إِلَى الشَّام.
وفيهَا: خرج بالصين خارجي مَجْهُول النّسَب والإسم وَعظم جمعه وحاصر مَدِينَة خانقوا من الصين وَهِي حَصِينَة وَلها نهر عَظِيم وعالم كثير مُسلمُونَ ونصارى ويهود ومجوس وَغَيرهم فَفَتحهَا عنْوَة وَقتل مَا لَا يُحْصى وَاسْتولى على كثير من بِلَاد الصين، ثمَّ عدم الْخَارِجِي فِي حَرْب ملك الصين وَانْهَزَمَ جمعه.
وفيهَا: فرغ إِبْرَاهِيم الأغلبي من بِنَاء مَدِينَة رفادة وانتقل إِلَيْهَا وسكنها وبدئها سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: مَاتَت قبيحة أم المعتز.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو إِبْرَاهِيم الْمُزنِيّ صَاحب الشَّافِعِي
قلت: قَالَ الشَّافِعِي: الْمُزنِيّ نَاصِر مذهبي، وَلما ولي القَاضِي بكار قَضَاء مصر من بَغْدَاد وَكَانَ حَنَفِيّ الْمَذْهَب توقع الِاجْتِمَاع بالمزني مُدَّة فَلم يتَّفق، فاجتمعا يَوْمًا فِي جَنَازَة(1/229)
فَقَالَ بكار لأحد أَصْحَابه: سل الْمُزنِيّ شَيْئا حَتَّى أسمع كَلَامه، فَقَالَ ذَلِك الشَّخْص: يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث تَحْرِيم النَّبِيذ وَجَاء تَحْلِيله فَلم قدمتم التَّحْرِيم على التَّحْلِيل؟ فَقَالَ الْمُزنِيّ: لم يذهب أحد إِلَى أَن النَّبِيذ كَانَ حَرَامًا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ حلل وَوَقع الِاتِّفَاق على أَنه كَانَ حَلَالا فَهَذَا يعضد صِحَة الْأَحَادِيث بِالتَّحْرِيمِ. فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ، وَهَذَا من الْأَدِلَّة القاطعة وَكَانَ فِي غَايَة الْوَرع بلغ من احتياطه أَنه كَانَ يشرب فِي جَمِيع فُصُول السّنة فِي كوز نُحَاس، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: بَلغنِي أَنهم يستعملون السرجين فِي الكيزان وَالنَّار لَا تطهرها، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي بِمصْر يُونُس بن عبد الْأَعْلَى بن مُوسَى أحد أَصْحَاب الشَّافِعِي ومولده سنة سبعين وَمِائَة، وَكَانَ يروي للشَّافِعِيّ:
(مَا حك جِلْدك مثل ظفرك ... فتول أَنْت جَمِيع أَمرك)
(وَإِذا قصدت لحَاجَة ... فاقصد لمعترف بقدرك)
وَقَالَ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: رضَا النَّاس غَايَة لَا تدْرك فَانْظُر مَا فِيهِ صَلَاح نَفسك فِي أَمر دينك ودنياك فالزمه. وَعبد الرَّحْمَن مؤلف تَارِيخ مصر هُوَ ولد ولد يُونُس الْمَذْكُور.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِيهَا دخل الزنج النعمانية وَسبوا وأحرقوها، ثمَّ سَارُوا إِلَى جرجرايا وَدخل أهل السوَاد بَغْدَاد.
وفيهَا: مَاتَ يَعْقُوب بن اللَّيْث الصفار فِي تَاسِع عشر شَوَّال بجندي سَابُور من كور الأهواز بالقولنج وَأبي الحقنة وأحضر رَسُولا جَاءَ ليستميله من الْخَلِيفَة وَجعل عِنْده سَيْفا ورغيفا من الخشكار وبصلا، وَقَالَ للرسول: قل للخليفة: إِن مت فقد استراح مني واسترحت مِنْهُ وَإِن عوفيت فَلَيْسَ بيني وَبَينه إِلَّا هَذَا السَّيْف وَإِن كسرني وأفقرني عدت إِلَى أكل هَذَا الْخبز والبصل؛ كَانَ يَعْقُوب قد افْتتح الرخج وَقتل ملكهَا وَأسلم أَهلهَا، وَكَانَ ملكهَا يجلس على سَرِير ذهب وَيَدعِي الإلهية، عمل يَعْقُوب أَولا وَصَحب رجلا من سجستان مُتَطَوعا فِي قتال الْخَوَارِج اسْمه صَالح بن نصر الْكِنَانِي، ثمَّ هلك وَتَوَلَّى مَكَانَهُ دِرْهَم بن الْحُسَيْن فصحبه يَعْقُوب أَيْضا، وَكَانَ دِرْهَم غير ضَابِط لأمور الْعَسْكَر فَاجْتمعُوا وملكوا يَعْقُوب فَلم ينازعه دِرْهَم وقوى يَعْقُوب كَمَا تقدم.
وَقَامَ بعده أَخُوهُ عمر بن اللَّيْث وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة بِطَاعَتِهِ، فولاه الْمُوفق خُرَاسَان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان وسير إِلَيْهِ الْخلْع مَعَ الْولَايَة.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن هاني بن إِسْحَاق النَّيْسَابُورِي وَكَانَ من الأبدال.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل أهل حمص عاملهم عِيسَى الكرجي.(1/230)
وفيهَا: اشْتغل الْمُوفق بِقِتَال صَاحب الزنج مَعَ عجز الْخَلِيفَة الْمُعْتَمد واشتغاله بِغَيْر تَدْبِير المملكة، فتغلبت القواد والأتراك على الْأَمر وَقل خوفهم فَاشْتَدَّ الْأَمر على أهل بِلَاد الْخَلِيفَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا كَانَ بَين الْمُوفق أخي الْخَلِيفَة وَبَين الْخَبيث صَاحب الزنج حروب يطول شرحها، وكشف صَاحب الزنج عَن الأهواز وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ سَار الْمُوفق إِلَى مَدِينَة صَاحب الزنج وَكَانَ قد حصنها عَظِيما وسماها المختارة فَخرج إِلَيْهَا أَكثر أَهلهَا وَضعف الْبَاقُونَ عَن حفظهَا فسلموها بالأمان.
وفيهَا: ولي صقلية الْحسن بن الْعَبَّاس فَبَثَّ السَّرَايَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خَالف لُؤْلُؤ غُلَام احْمَد بن طولون على مَوْلَاهُ، وَكَانَ فِي يَد لُؤْلُؤ حمص وقنسرين وحلب وديار مُضر من الجزيرة، وَكَاتب الْمُوفق فِي الْمصير إِلَيْهِ ثمَّ سَار إِلَيْهِ.
وفيهَا: أَمر الْمُعْتَمد بلعن أَحْمد بن طولون على المنابر لكَونه قطع خطْبَة الْمُوفق وَأسْقط اسْمه من الطرر، وَإِنَّمَا أَمر الْمُعْتَمد بذلك مكْرها لِأَن هَوَاهُ كَانَ مَعَ ابْن طولون لِأَن الْمُوفق استولى على الْأَمر، وَقصد الْمُعْتَمد اللحوق بِابْن طولون بِمصْر لينجده على أَخِيه الْمُوفق لاشتغال الْمُوفق بِقِتَال الزنج، فَأمْسك إِسْحَاق بن كنداج عَامل الْموصل القواد الَّذين فِي صُحْبَة الْمُعْتَمد وأرسلهم إِلَى بَغْدَاد، وَتقدم إِلَى الْمُعْتَمد بِالْعودِ فَلم يُمكنهُ مُخَالفَته فَرجع إِلَى سامراء.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا لليلتين خلتا من صفر قتل صَاحب الزنج لَعنه اللَّهِ بعد أَن قتل غَالب أَصْحَابه وغرقوا وطيف بِرَأْسِهِ على رمح وَاشْتَدَّ فَرح النَّاس، وَرجع الْمُوفق إِلَى مَوْضِعه وَالرَّأْس بَين يَدَيْهِ وَأَتَاهُ من الزنج عَالم عَظِيم فَأَمنَهُمْ، ثمَّ بعث الرَّأْس إِلَى بَغْدَاد. وَأَيَّام الْخَبيث أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان فِي رَجَب وولايته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَكسر، وَولي مَكَانَهُ أَخُوهُ مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن طولون صَاحب مصر وَالشَّام بعد رُجُوعه من طرطوس أكل بأنطاكية لبن جاموس فَأكْثر وأصابه تخمة واتصلت حَتَّى صَار مِنْهَا ذرب حَتَّى مَاتَ، وإمارته نَحْو سِتّ وَعشْرين سنة، وَكَانَ حازما عَاقِلا بنى قلعة يافا وَلم تكن وَالْجَامِع الْمَعْرُوف بِهِ بَين مصر والقاهرة وَهُوَ عَظِيم، وَولي بعده ابْنه حمارويه.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن جَعْفَر الصَّاغَانِي، وَدَاوُد بن عَليّ الْأَصْفَهَانِي إِمَام أَصْحَاب الطَّاهِر ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ إِمَامًا مُجْتَهدا ورعا أَخذ هُوَ وَأَصْحَابه بِظَاهِر الْآثَار وَالْأَخْبَار وأعرضوا عَن التاويل، وَكَانَ لَا يرى الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة ثمَّ اضْطر إِلَيْهِ فَسَماهُ دَلِيلا، وَخَالف الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي أَحْكَام مِنْهَا: قَوْله الشّرْب خَاصَّة فِي آنِية الذَّهَب(1/231)
وَالْفِضَّة حرَام وَيجوز الْأكل والتوضي وَسَائِر الانتفاعات لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَالَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ". وَكم لَهُ مثل ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا جرت وقْعَة بَين ابْن الْمُوفق وَهُوَ المعتضد وَبَين حمارويه بن أَحْمد بن طولون صَاحب مصر آخرهَا هزيمَة المعتضد وَأَصْحَابه بَين دمشق والرملة وَانْهَزَمَ حمارويه إِلَى حُدُود مصر وَثَبت عسكره وَلم يعلمُوا بهزيمته، وَانْهَزَمَ المعتضد وَلم يعلم بهزيمة حمارويه.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس سلخ صفر وعمره نَحْو خمسين سنة وولايته أَربع وَثَلَاثُونَ سنة وَأحد عشر شهرا، وَله ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ابْنا، وبويع ابْنه الْمُنْذر بعد بِثَلَاث لَيَال.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث السجسْتانِي صَاحب كتاب السّنَن.
وفيهَا: توفّي خَالِد بن احْمَد الدوسي أَمِير خُرَاسَان، قصد الْحَج فَقبض عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فَمَاتَ فِي حَبسه، وَهُوَ أخرج البُخَارِيّ من بخارا، فَدَعَا عَلَيْهِ فَأَدْرَكته الدعْوَة.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن يزِيد بن ماجة الْقزْوِينِي مُصَنف كتاب السّنَن عَارِف بعلوم الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، رَحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام ومصر والري لطلب الحَدِيث، وَله تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم وتاريخ أحسن فِيهِ، وسننه أحسن الْكتب السِّتَّة، ومولده سنة تسع وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض الْمُوفق على ابْنه المعتضد، وَأخرجه فِي مرض الْمُوفق الَّذِي مَاتَ فِيهِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو سعيد الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ الْبكْرِيّ النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عبد الْملك بن مُحَمَّد الرقاشِي، وَعبد اللَّهِ بن مُسلم بن قُتَيْبَة صَاحب كتاب أدب الْكَاتِب.
قلت: وَعَن أبي الْعَلَاء المعري: أَن لِابْنِ قُتَيْبَة خَمْسَة وَسِتِّينَ مصنفا، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ يَعْقُوب بن سُفْيَان النَّسَائِيّ الإِمَام وَكَانَ يتشيع.
وفيهَا: مَاتَ عريب الْمُغنيَة المأمونية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا لثمان بَقينَ من صفر توفّي الْمُوفق بِاللَّه أَبُو أَحْمد طَلْحَة بن المتَوَكل بداء الْفِيل فِي رجله؛ قَالَ يَوْمًا وَقد أضجره ذَلِك: قد اشْتَمَل(1/232)
ديواني على مائَة ألف مرتزق مَا فيهم أَسْوَأ حَالا مني، وَكَانَ قد بُويِعَ لَهُ بالعهد بعد الْمُفَوض بن الْمُعْتَمد فبويع بعد مَوته لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس بن المعتضد بِولَايَة الْعَهْد بعد الْمُفَوض وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أَصْحَاب أَبِيه وجهاته.
وفيهَا: تحرّك بسواد الْكُوفَة قوم يسمون " القرامطة "، دعاهم إِلَى دينه شخص اسْمه كرمينه وَتَفْسِيره بالنبطية: حمرَة الْعين ثمَّ خفف فَقيل: قرمط، فَأَجَابَهُ من السوَاد والبادية قوم لَيْسَ لَهُم عقل وَلَا دين، وَأخرج لَهُم كتابا بعض مَا فِيهِ: بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم يَقُول الْفرج بن عُثْمَان من قَرْيَة نصرانة إِنَّه دَاعِيَة الْمَسِيح وَهُوَ عِيسَى وَهُوَ الْكَلِمَة وَهُوَ الْمهْدي وَهُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهُوَ جِبْرِيل وَإِن الْمَسِيح تصور فِي جسم إِنْسَان وَقَالَ، إِنَّك الداعية وَإنَّك النَّاقة وَإنَّك الدَّابَّة وَإنَّك يحيى بن زَكَرِيَّا وَإنَّك روح الْقُدس، وعرفه أَن الصَّلَاة أَربع رَكْعَات رَكْعَتَانِ قبل طُلُوع الشَّمْس وركعتان قبل غُرُوبهَا، وَأَن الْأَذَان فِي كل صَلَاة أَن يَقُول الْمُؤَذّن: اللَّهِ أكبر ثَلَاث مَرَّات، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ مرَّتَيْنِ أشهد أَن آدم رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن نوحًا رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن إِبْرَاهِيم رَسُول اللَّهِ أشهد ان عِيسَى رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَسُول اللَّهِ، والقبلة بَيت الْمُقَدّس.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب المعري: أَن قرمطا الْمَذْكُور أول ظُهُوره كَانَ فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَنه إِنَّمَا سمي قرمطا لِأَنَّهُ كَانَ قَصِيرا وخطوه متقاربا لقصر رجلَيْهِ، وَإِن قرمطا أظهر الزّهْد والورع وتسوق بِهِ على النَّاس مكيدة وخبثا، وَزعم القرامطة أَنهم يدعونَ إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ، انْتهى. ثمَّ صدر من القرامطة مَا لم يصدر من الْكفَّار كَمَا ستقف عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع الْمُعْتَمد ابْنه جعفرا الْمُفَوض من ولَايَة الْعَهْد وَجعل المعتضد ابْن أَخِيه ولي الْعَهْد بعده.
وفيهَا: توفّي الْمُعْتَمد على اللَّهِ أَحْمد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَجَب بِبَغْدَاد أَكثر من الشَّرَاب وَالْأكل على الشط فَمَاتَ لَيْلًا، وأحضر المعتضد الْقُضَاة والأعيان فرأوه، وَنقل إِلَى سامراء فَدفن بهَا وعمره خَمْسُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وخلافته ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وَسِتَّة أَيَّام. وَمن شعره لما تحكم على أمره أَخُوهُ الْمُوفق حَتَّى احْتَاجَ إِلَى ثلثمِائة دِينَار فَلم يجدهَا:
(أَلَيْسَ من الْعَجَائِب أَن مثلي ... يرى مَا قل مُمْتَنعا عَلَيْهِ)
(وَتُؤْخَذ باسمه الدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَمَا من ذَاك شَيْء فِي يَده)
(أَخْبَار المعتضد بِاللَّه أَحْمد)
وصبيحة وَفَاة الْمُعْتَمد بُويِعَ للمعتضد بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد سادس عشرهم ابْن الْمُوفق أبي أَحْمد طَلْحَة بن المتَوَكل.(1/233)
وفيهَا: توفّي نصر بن أَحْمد الساماني، فَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَيْهِ من الْعَمَل بِمَا وَرَاء النَّهر أَخُوهُ إِسْمَاعِيل.
وفيهَا: قدم الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن الْجَصَّاص من خمارويه بِمصْر بِهَدَايَا عَظِيمَة بِسَبَب تَزْوِيج بنت خمارويه من المعتضد.
وفيهَا: توفّي أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُورَة التِّرْمِذِيّ الضَّرِير السّلمِيّ بترمذ فِي رَجَب؛ حَافظ، من تصانيفه الْجَامِع الْكَبِير فِي الحَدِيث، وَهُوَ تلميذ البُخَارِيّ وشاركه فِي بعض شُيُوخه مثل قُتَيْبَة بن سعيد وَعلي بن حجر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الْمُفَوض جَعْفَر بن الْمُعْتَمد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا سَار المعتضد إِلَى ماردين فهرب صَاحبهمَا حمدَان وخلى ابْنه بهَا فقاتله المعتضد وَسلمهَا إِلَيْهِ.
وفيهَا: دخل طغج بن جف عَامل دمشق من قبل خمارويه من طرطوس إِلَى الرّوم فَفتح وسبى.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن أبي الدُّنْيَا صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر المعتضد بافتتاح الْخراج فِي النيروز المعتضدي رفقا بِالنَّاسِ وَهُوَ فِي حزيران عِنْد ركون الشَّمْس فِي أَوَاخِر الجوزاء.
وفيهَا: قتل خمارويه بن أَحْمد بن طولون؛ ذبحه بعض خدمه على فرَاشه فِي الْحجَّة بِدِمَشْق، نقل إِلَيْهِ أَن جواريه اتخذن طواشيه أَزْوَاجًا فخافوه وقتلوه ثمَّ قتل مِنْهُم نَيف وَعِشْرُونَ، وبويع بعده جَيش ابْنه وَكَانَ جَيش صَبيا.
وفيهَا: توفّي أَبُو حنيفَة أَحْمد بن دَاوُد الدينَوَرِي صَاحب كتاب النَّبَات، والْحَارث بن أبي أُسَامَة وَله مُسْند، وَأَبُو العينا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الضَّرِير روى عَنهُ الْأَصْمَعِي شَاعِر ذكي ظريف ذُو نَوَادِر، ومولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة وكف بَصَره وَهُوَ ابْن اربعين سنة، ولقب بِأبي العينا لِأَنَّهُ قَالَ لأبي زيد الْأنْصَارِيّ كَيفَ تصغر عينا؟ فَقَالَ: عيينا يَا أَبَا العينا، قَالَ يَوْمًا المتَوَكل: لَوْلَا أَنه ضَرِير لنادمته، فَقَالَ: إِن أعفاني من رُؤْيَة الْأَهِلّة فَإِنِّي أصلح للمنادمة.
قلت: وَمن أجوبته السريعة: أَنه شكا إِلَى عبيد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن وهب الْوَزير سوء الْحَال فَقَالَ: أَلَيْسَ قد كتبنَا إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر فِي أَمرك؟ قَالَ: نعم قد كتبت إِلَى رجل قد قصر من همته طول الْفقر وذل الْأسر - يَعْنِي أسر الزنج - ومعاناه الدَّهْر فأخفق سعيي وخابت طلبتي، فَقَالَ عبيد اللَّهِ: أَنْت اخترته، فَقَالَ: وَمَا عَليّ أَيهَا الْوَزير فِي ذَلِك وَقد اخْتَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبد اللَّهِ بن سعد بن أبي سرح كَاتبا فَرجع إِلَى الْمُشْركين مُرْتَدا، وَاخْتَارَ عَليّ بن أبي طَالب أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ حَاكما لَهُ فَحكم عَلَيْهِ.(1/234)
وَصَارَ أَبُو العينا يَوْمًا إِلَى بَاب صاعد بن مخلد فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَقيل: هُوَ مَشْغُول بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: لكل جَدِيد لَذَّة، وَكَانَ صاعد قبل الوزارة نَصْرَانِيّا، وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع طغج بن جف أَمِير دمشق جَيش بن خمارويه بِدِمَشْق، وَاخْتلف جَيش جَيش عَلَيْهِ لصباه وتقريبه الأرذال وتهديده لقواد أَبِيه فثاروا وقتلوه ونهبوا دَاره ونهبوا مصر وأحرقوا وأقعدوا أَخَاهُ هَارُون بن خمارويه فِي الْولَايَة. وَمُدَّة جَيش تِسْعَة أشهر.
وفيهَا: مَاتَ البحتري الشَّاعِر الْوَلِيد بن عبَادَة بمنبج، ومولده سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ.
قلت: الصَّوَاب أَنه أَبُو عبَادَة بن عبيد بن يحيى بن شملال بن جَابر بن مسلمة بن مسْهر بن الْحَارِث بن جشم بن أبي حَارِثَة بن جدي بن بدول بن بحتر نسب إِلَى جده بحتر، ولد بمنبج وَتخرج بهَا، ثمَّ خرج إِلَى الْعرَاق ومدح جمَاعَة من الْخُلَفَاء أَوَّلهمْ المتَوَكل، قَالَ: صرت فِي أول أَمْرِي إِلَى أبي تَمام بحمص وَعرضت عَلَيْهِ شعري فَأقبل عَليّ وَترك النَّاس وَقَالَ: كَيفَ حالك، فشكوت خلة، فَكتب إِلَى أهل معرة النُّعْمَان وَشهد لي بالحذق وشفع لي إِلَيْهِم وَقَالَ: امتدحهم فصرت إِلَيْهِم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم فَكَانَت أول مَال أصبتها ذكره ابْن خلكان فِي تَارِيخه.
وَمَا أحسن قصيدته فِي المتَوَكل الَّتِي أَولهَا:
(أُخْفِي هوى لَك فِي الضلوع وأضمر ... وألام من كمد عَلَيْك واعذر)
وَمِنْهَا:
(بِالْبرِّ صمت وَأَنت أفضل صَائِم ... وبسنة اللَّهِ الرضية تفطر)
(فانعم بِيَوْم الْفطر عينا إِنَّه ... يَوْم أغر من الزَّمَان مشهر)
(أظهرت عز الْملك فِيهِ بجحفل ... لجب يحاط الدّين فِيهِ وينصر)
وَمِنْهَا:
(فالخيل تصهل والفوارس تدعى ... وَالْبيض تلمع والأسنة تزهر)
(وَالشَّمْس طالعة توقد فِي الضُّحَى ... طورا ويطفئها العجاج الأكدر)
(حَتَّى طلعت بِنور وَجهك فانجلى ... ذَاك الدجى وأنجاب ذَاك العثير)
(وافتتتن فِيك الناظرون فأصبع ... يومي إِلَيْك بهَا وَعين تنظر)
(ذكرُوا بطلعتك النَّبِي فهللوا ... لما طلعت من الصُّفُوف وَكَبرُوا)
(حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الْمصلى لابسا ... نور الْهدى يَبْدُو عَلَيْك وَيظْهر)
(ومشيت مشْيَة خاشع متواضع ... لله لَا يزهى وَلَا يتكبر)
(فَلَو أَن مشتاقا تكلّف فَوق مَا ... فِي وَسعه لسعى إِلَيْك الْمِنْبَر)
(أيدت من فصل الْخطاب بِحكمِهِ ... تنبي عَن الْحق الْمُبين وتخبر)
(ووقفت فِي برد النَّبِي مذكرا ... بِاللَّه تنذر تَارَة وتبشر)
وَالله أعلم.(1/235)
وفيهَا: توفّي عَليّ بن الْعَبَّاس الرُّومِي الشَّاعِر.
وفيهَا: أَمر المعتضد أَن يكْتب إِلَى الأقطار يرد الْفَاضِل من سِهَام الْمَوَارِيث على ذَوي الْأَرْحَام وأبطل ديوَان الموارث.
وفيهَا: أَمر المعتضد بالسب والطعن فِي مُعَاوِيَة وَأَبِيهِ وَابْنه على المنابر، ثمَّ خشِي من استطالة العلويين فَأمْسك عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخبر المنجمون بغرق أَكثر الأقاليم بِسَبَب كَثْرَة الأمطار وَزِيَادَة الْأَنْهَار فتحفظ النَّاس، فَقلت الأمطار وَغَارَتْ الْمِيَاه واستسقوا بِبَغْدَاد مَرَّات.
وفيهَا: اخْتَلَّ حَال هَارُون بن خمارويه بن طولون بِمصْر وَاخْتلف القواد عَلَيْهِ وانحل نظام مَمْلَكَته من جِهَة طغج بن جف.
وفيهَا: توفّي إِسْحَاق بن مُوسَى الإسفرايني الْفَقِيه الشَّافِعِي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح المعتضد آمد بالأمان وَكَانَ صَاحبهَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن الشَّيْخ، ثمَّ سَار إِلَى قنسرين فتسلمها وتسلم العواصم من نواب هَارُون بن خمارويه سَأَلَهُ هَارُون ذَلِك.
وفيهَا: مَاتَ إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق من أَعْيَان الْمُحدثين بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا توفّي عَليّ بن عبد الْعَزِيز الطرسوسي راوية أبي عبيد الْقَاسِم، وَكَانَ بَين مَوْتهمَا سِتُّونَ سنة، كَمَا كَانَ بَين وَفَاة الشَّافِعِي وراويته الْمُزنِيّ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظهر بِالْبَحْرَيْنِ أَبُو سعيد الجنابي من القرامطة وَكثر جمعه، وَقتل جمَاعَة بالقطيف وبتلك الْقرى.
وفيهَا: توفّي الْمبرد أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن يزِيد إِمَام النَّحْو واللغة وَله كتاب الْكَامِل وَالرَّوْضَة والمقتضب وَغير ذَلِك، تأدب على أبي عُثْمَان وَغَيره وَأخذ عَنهُ نفطويه وَغَيره، ومولده سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، طلبه صَاحب الشرطة للمنادمة فكرة ذَلِك فألح الرَّسُول فَأدْخل فِي غلاف مزملة فارغة لتبريد المَاء فَدخل الرَّسُول فَلم يره، فَلَمَّا مضى الرَّسُول قَالَ صَاحب الدَّار وَهُوَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: الْمبرد الْمبرد، فَصَارَ لقبا عَلَيْهِ:
قلت: وَفِيه وَفِي ثَعْلَب يَقُول أَبُو بكر الغلاف:
(ذهب الْمبرد وَانْقَضَت أَيَّامه ... وليذهبن أثر الْمبرد ثَعْلَب)
(بَيت من الْآدَاب أصبح نصفه ... خربا وَبَاقِي بَيتهَا سيخرب)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا استولى إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني صَاحب مَا رواء النَّهر على خُرَاسَان بعد قتال وَأسر أَمِير خُرَاسَان وَهُوَ عَمْرو بن الصفار، ثمَّ(1/236)
أرْسلهُ إِلَى المعتضد بِبَغْدَاد فحبس عَمْرو بهَا إِلَى أَن قتل سنة تسع وَثَمَانِينَ فِي الْحَبْس.
وفيهَا: سَار مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان إِلَى خُرَاسَان وَقد سمع أسر ابْن الصفار ليستولي عَلَيْهَا، فَجرى بَينه وَبَين عَسْكَر إِسْمَاعِيل الساماني قتال ثمَّ انهزم عَسْكَر الْعلوِي وجرح جراحات ثمَّ مَاتَ الْعلوِي مِنْهَا بعد أَيَّام، وَأسر ابْنه زيد فِي الْوَقْعَة وَحمل إِلَى إِسْمَاعِيل الساماني فَأكْرمه ووسع عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحَمَّد بن زيد دينا فَاضلا شَاعِرًا حسن السِّيرَة رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ بِمَكَّة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا حفر لُؤْلُؤ وَالِي المعرة غُلَام وصيف بن صوار تكين أَمِير حمص خَنْدَقًا على معرة النُّعْمَان وحاصره جهير بن مُحَمَّد التنوخي وَبَنُو كنَانَة وَطَالَ الْقِتَال، ثمَّ انْصَرف وَلم يفتحها.
وَمن تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب - وَهُوَ خلاف مَا قدمْنَاهُ - أَن فِيهَا قتل أَبُو الْجَيْش خمارويه بن أَحْمد بن طولون قَتله خدامة على فرَاشه بِدِمَشْق بِحَضْرَة دير مران، وَكَانَت قطر الندى بنت أبي الْجَيْش قد تزَوجهَا المعتضد وزفت إِلَيْهِ مَعَ ابْن الْجَصَّاص صَاحب المعتضد، فَقَالَ المعتضد لأَصْحَابه: أكرموها بشمع العنبر، فَوجدَ فِي الخزانة أَربع شمعات عنبر فِي أَرْبَعَة أتوار فضَّة، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء جَاءَت إِلَيْهِ وقدامها أَرْبَعمِائَة وصيفة فِي يَد كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ تور ذهب أَو فضَّة وفيهَا شمعة عنبر، فَقَالَ المعتضد لأَصْحَابه: أطفئوا شمعنا واسترونا.
وَكَانَت إِذا جَاءَت إِلَى المعتضد يكرمها بطرح مخدة، فَجَاءَت يَوْمًا فَلم يطْرَح لَهَا فَقَالَت: أعظم اللَّهِ أجر أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فِي من؟ قَالَت: فِي عَبده خمارويه، قَالَ: أَو قد سَمِعت بِمَوْتِهِ؟ قَالَت: لَا وَلَكِنِّي لما رَأَيْتُك تركت إكرامي علمت أَنه قد مَاتَ أبي، وَكَانَ قد سمع بِمَوْتِهِ وكتمه عَنْهَا، فَأمر أَن تطرح لَهَا المخدة فِي كل الْأَوْقَات، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا كَانَت حَرْب بِالشَّام بَين طغج أَمِير دمشق وَبَين القرامطة.
وفيهَا: لثمان بَقينَ من ربيع الآخر توفّي المعتضد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن طَلْحَة الْمُوفق وَدفن لَيْلًا فِي دَار مُحَمَّد بن طَاهِر، ومولده فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وخلافته تسع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا، وَخلف من الذُّكُور عليا المكتفي وجعفرا المقتدر وَهَارُون وَإِحْدَى عشر بِنْتا.
وَلما حضرت المعتضد الْوَفَاة أنْشد أبياتا مِنْهَا:
(وَلَا تأمنن الدَّهْر إِنِّي أمنته ... فَلم يبْق لي خلا وَلم يرع لي حَقًا)
(قتلت صَنَادِيد الرِّجَال وَلم أدع ... عدوا وَلم أمْهل على ظَنّه خلقا)(1/237)
(وأخليت دَار الْملك من كل نَازع ... فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا)
(فَلَمَّا بلغت النَّجْم عزا ورفعة ... وَصَارَت رِقَاب الْخلق أجمع لي رقا)
(رماني الردى سَهْما فأخمد جمرتي ... فها أَنا ذَا فِي حفرتي عَاجلا ألْقى
قلت: وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ رأيتهما مكتوبين على قبر بهلوان حسان صَاحب منبج بمنبج وهما:
(لقد غفلت صروف الدَّهْر عني ... وَبت من الْحَوَادِث فِي أَمَان)
(وكدت أنال فِي الشّرف الثريا ... وَهَا أَنا فِي التُّرَاب كَمَا تراني)
وَالله أعلم.
وَكَانَ المعتضد شهما مهيبا عِنْد أَصْحَابه يكفون عَن الْمَظَالِم خوفًا مِنْهُ وَكَانَ عفيفا وَفِيه شح، حكى القَاضِي ابْن إِسْحَاق قَالَ: أطلت النّظر إِلَى أَحْدَاث روم صباح الْوُجُوه على رَأس المعتضد، فَلَمَّا قُمْت أَمرنِي بالقعود فَجَلَست، فَلَمَّا تفرق النَّاس قَالَ: يَا قَاضِي وَالله مَا حللت سراويلي على حرَام قطّ.
(أَخْبَار المكتفي بن المعتضد)
وَلما توفّي المعتضد بُويِعَ للمكتفي ابْنه وَهُوَ سَابِع عشرهم، وَكَانَ بالرقة وبلغه الْخَبَر، أَخذ الْبيعَة على من عِنْده أَيْضا وَدخل بَغْدَاد لثمان خلون من جمادي الأولى.
قلت: قَالَ ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: وَلم يل الْخلَافَة بعد عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ من اسْمه عَليّ غير المكتفي، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأغلبي وَقد ذكر من قبل، وَملك ابْنه عبد اللَّهِ.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اشتدت شَوْكَة القرامطة حَتَّى هزموا جَيش طغج أَمِير دمشق وحصروا دمشق، ثمَّ اجْتمعت عَلَيْهِم العساكر وَقتلُوا مقدمهم يحيى الْمَعْرُوف بالشيخ، فَقَامَ فِي القرامطة أَخُوهُ الْحُسَيْن وَتسَمى بِأَحْمَد وَأظْهر شامة بِوَجْهِهِ وَزعم أَنَّهَا آيَته وَكثر جمعه فَصَالحه أهل دمشق على مَال دفعوه، وَانْصَرف فغلب على حمص وخطبوا لَهُ على منابرها وَتسَمى بالمهدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وعهد إِلَى ابْن عَمه عبد اللَّهِ ولقبه المدثر وَزعم أَنه المدثر الَّذِي فِي الْقُرْآن.
ثمَّ سَار إِلَى حماه والمعرة وَغَيرهمَا وَقتل أَهلهَا حَتَّى الْأَطْفَال وَالنِّسَاء، وَأخذ سلمية بالأمان وَقتل أَهلهَا حَتَّى صبيان الْمكتب.
وَلما اشْتَدَّ أَمر القرمطي صَاحب الشامة خرج المكتفي من بَغْدَاد وَنزل الرقة وَأرْسل إِلَيْهِ الجيوش.
قلت: قَالَ ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: إِن القرمطي قتل بمعرة النُّعْمَان بضعَة عشر ألفا وَأقَام بهَا ينهب وَيحرق وَيقتل خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَالله أعلم.(1/238)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا وَاقعَة عَسَاكِر الْخَلِيفَة مَعَ صَاحب الشامة القرمطي وَأَصْحَابه بمَكَان بَينه وَبَين حماه اثْنَا عشر ميلًا لست خلون من الْمحرم، فانهزمت القرامطة وتبعهم الْعَسْكَر يَقْتُلُونَهُمْ، وهرب صَاحب الشامة وَابْن عَمه المدثر وَغُلَام رومي فأمسكوا فِي الْبَريَّة وأحضروا إِلَى المكتفي بالرقة فَسَار بهم إِلَى بَغْدَاد وقتلهم وطيف بِرَأْس صَاحب الشامة. وَمن كتاب الشريف العابد: أَن مَكَان هَذِه الْوَقْعَة هُوَ تمنع قَرْيَة فِي بلد المعرة على الطَّرِيق الآخذة من حماه إِلَى حلب.
وفيهَا: بِبَغْدَاد توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى بن زيد الْمَعْرُوف يثعلب إِمَام الْكُوفِيّين فِي النَّحْو واللغة ثِقَة حجَّة صَالح، ومولده أول سنة مِائَتَيْنِ.
قلت: قَالَ أَبُو بكر بن مُجَاهِد الْمقري: قَالَ لي ثَعْلَب: يَا أَبَا بكر اشْتغل أَصْحَاب الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ ففازوا واشتغل أَصْحَاب الحَدِيث بِالْحَدِيثِ ففازوا واشتغل أَصْحَاب الْفِقْه بالفقه ففازوا واشتغلت أَنا بزيد وَعَمْرو فليت شعري مَاذَا يكون حَالي فِي الْآخِرَة، فَانْصَرَفت من عِنْده فَرَأَيْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِلْكَ اللَّيْلَة فِي الْمَنَام فَقَالَ لي: أقرىء أَبَا الْعَبَّاس عني السَّلَام وَقل لَهُ أَنْت صَاحب الْعلم المستقيل قَالَ أَبُو عبد اللَّهِ الروذابادي العَبْد الصَّالح: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الْكَلَام بِهِ يكمل وَالْخطاب بِهِ يجمل وَأَن جَمِيع الْعُلُوم مفتقرة إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتن وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا انقرض ملك بني طولون؛ بعث المكتفي جَيْشًا مَعَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان فاستولى على دمشق، ثمَّ على مصر وصاحبها هَارُون بن خمارويه ففارقه غَالب قوادة وَلَحِقُوا بعسكر الْخَلِيفَة، وَخرج هَارُون فمين بَقِي مَعَه وَجرى بَينه وَبَين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وقعات، ثمَّ وَقع فِي عَسْكَر هَارُون خُصُومَة فَاقْتَتلُوا فَركب هَارُون لتسكينهم فزرقة مغربي بمزارق فَقتله، فَقَامَ عَمه شَيبَان بِالْأَمر وَطلب الْأمان فَأَمنهُ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، ثمَّ هرب شَيبَان لَيْلًا وَاسْتولى مُحَمَّد بن سُلَيْمَان على مصر، وَأمْسك بني طولون وَكَانُوا بضعَة عشر رجلا واستصفى مَا لَهُم وقيدهم وَحَملهمْ إِلَى بَغْدَاد وَذَلِكَ فِي صفر مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا بعد توجه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن مصر خرج الخلنجي الْخَارِجِي بِبِلَاد مصر واستفحل أمره، فَسَار إِلَيْهِ أَحْمد بن كيغلغ عَامل دمشق، فطمعت القرامطة فِي دمشق لغيبته فنهبوا فِيهَا وَقتلُوا ونهبوا طبرية ثمَّ قصدُوا جِهَة الْكُوفَة، فسير المكتفي إِلَيْهِم عسكرا مَعَ المختصين من قوادة مثل وصيف بن صوارتكين وَالْفضل بن مُوسَى بن بغا وَبشر الْخَادِم الأفشيني وراتق الْجَزرِي، واقتتلوا وتمت الْهَزِيمَة على عَسْكَر الْخَلِيفَة وَقتل مِنْهُم خلق وغنم القرامطة مِنْهُم شَيْئا كثيرا فَتَقووْا بِهِ.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الناشي الشَّاعِر، وَنصر بن أَحْمد الْحَافِظ.
وفيهَا: توفّي الزنديق ابْن الراوندي أَحْمد بن يحيى بن إِسْحَاق الْمُتَكَلّم، لَهُ فِي الْكفْر والإلحاد ومناقضة الشَّرِيعَة مصنفات مِنْهَا: قضيب الذَّهَب والدامغ والفرند والزمردة، وَقد(1/239)
أجَاب الْعلمَاء عَن معارضاته السمجة الرَّكِيكَة، وَوضع كتابا للْيَهُود وَقَالَ لَهُم: قُولُوا عَن مُوسَى بن عمرَان أَنه قَالَ لَا نَبِي بعدِي، وَقد أضربت عَن ذكر شَيْء من هذيانه ونزهت عَنهُ هَذَا الْكتاب.
قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم مَا مَعْنَاهُ: الأمل أَن اللَّهِ تَعَالَى يعذبه يَوْم الْقِيَامَة أَشد من عَذَاب إِبْلِيس لِأَن إِبْلِيس خَاطب اللَّهِ تَعَالَى بالأدب فَقَالَ: بعزتك، وَهَذَا أَسَاءَ أدبه على اللَّهِ وَسَماهُ بِمَا هَذَا الملعون جدير بِهِ، وَالْعجب أَن الْعَوام يَضْحَكُونَ لأقواله ويغفلون عَن كَونه سبّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض مصنفاته فِي عدَّة مَوَاضِع:
(أَلا يَا لَيْتَني مكنت مِنْهُ ... فَكنت فعلت فِيهِ مَا أَشَاء)
(فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْهُ وقاء)
وَالله أعلم.
وَمَات لَعنه اللَّهِ وَلعن محبه برحبة مَالك بن طوق، وَذكر أَن عمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة، وتاريخ وَفَاته عِنْد ابْن خلكان سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَقيل: سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخذت القرامطة الْحجَّاج من طَرِيق الْعرَاق وقتلوهم وهم عشرُون ألفا وَأخذُوا مِنْهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة وَكَانَ كَبِير القرامطة زكرويه، فَجهز المكتفي عسكرا قَاتلهم، فَانْهَزَمَ القرامطة وَقتل مِنْهُم خلق وَأسر اللعين زكرويه جريحا وَمَات بعد سِتَّة أَيَّام، وَقدم الْعَسْكَر بِرَأْسِهِ إِلَى بَغْدَاد وطيف بِهِ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي بسمرقند، وَله تصانيف كَثِيرَة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِي صفر توفّي إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني الْمَذْكُور، وَأرْسل المكتفي لِابْنِهِ أبي نصر أَحْمد التَّقْلِيد.
وفيهَا: لثنتي عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْقعدَة توفّي المكتفي بِاللَّه، وخلافته سِتّ سِنِين وَسِتَّة أشهر وَتِسْعَة عشر يَوْمًا وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة. كَانَ ربعَة جميلا رَقِيق السمرَة حسن الْوَجْه وَالشعر وافر اللِّحْيَة، وَأمه حجج التركية أم ولد، وَطَالَ مَرضه شهورا وَدفن بدار مُحَمَّد بن طَاهِر.
(أَخْبَار المقتدر بِاللَّه بن المعتضد)
وبويع المقتدر بِاللَّه أَبُو الْفضل جَعْفَر بن المعتضد بِاللَّه وَهُوَ ثامن عشرهم يَوْم توفّي المكتفي وعمره يَوْم بُويِعَ ثَلَاث عشرَة سنة، وَأمه شعب أم ولد.
وفيهَا: توفّي الْمُنْذر بن مُحَمَّد الْأمَوِي، فبويع يَوْم مَوته بالأندلس لثلاث عشرَة بقيت من صفر.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد بن نصر التِّرْمِذِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُحدث، روى عَن يحيى بن يزِيد الْمصْرِيّ ويوسف بن عدي وَكثير بن يحيى، وروى عَنهُ(1/240)
أَحْمد بن كَامِل الشَّافِعِي وَغَيره، ومولده سنة مِائَتَيْنِ، وَقيل: سِتّ عشر وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع المقتدر، خلعه القواد والقضاة، وبويع عبد اللَّهِ بن المعتز ولقب الراضي بِاللَّه، وَجَرت بَين المريدين لهَذَا والمريدين للمقتدر حروب آخرهَا هزيمَة ابْن المعتز واختفاؤه وتفرق أَصْحَابه ثمَّ أمسك ابْن المعتز وَحبس لَيْلَتَيْنِ وخنق وَقَالُوا: مَاتَ حتف أَنفه وأخرجوه إِلَى أَهله. وَولد ابْن المعتز لسبع بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا بتشبيهاته يضْرب الْمثل، وَأخذ عَن الْمبرد وثعلب، وَتَوَلَّى الْخلَافَة يَوْمًا وَاحِدًا فَقَالَ: قد آن للحق أَن يَتَّضِح وللباطل أَن يفتضح. وَمن بليغ قَوْله: أنفاس الْحَيّ خطاه إِلَى أَجله وَرُبمَا أورد الطمع وَلم يصدر، يشفيك من الْحَاسِد أَن يغتم وَقت سرورك.
وَكَانَ آمنا فِي سربه منعكفا على طلب الْعلم وَالشعر، قد اشْتهر عِنْد الْخُلَفَاء أَنه لم يؤهل نَفسه للخلافة، فاستراح إِلَى أَن حمله على الْخلَافَة الَّذين خذلوه بعد بيعَته. ورثاه عَليّ بن مُحَمَّد بن بسام فَقَالَ:
(لله دَرك من ملك بمضيعة ... ناهيك فِي الْعلم والآداب والحسب)
(مَا فِيهِ لَوْلَا وَلَا لَيْت فينقصه ... وَإِنَّمَا أَدْرَكته حِرْفَة الْأَدَب)
وَقيل إِنَّه كَانَ يَنْوِي للطالبيين شرا فدعوا عَلَيْهِ.
وفيهَا: فِي مستهل رَمَضَان ولي أَبُو نصر زِيَادَة اللَّهِ إفريقية، وَذَلِكَ أَن زِيَادَة اللَّهِ حَبسه أَبوهُ عبد اللَّهِ على شرب الْخمر فاتفق مَعَ ثَلَاثَة من خدم أَبِيه الصقالبة على قتل أَبِيه فَقَتَلُوهُ وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْس، فَلَمَّا تولى زِيَادَة اللَّهِ قَتلهمْ وانعكف على اللَّذَّات والمضحكين وأهمل أُمُور المملكة وَقتل من الأغالبة من قدر عَلَيْهِ من أَعْمَامه وَإِخْوَته.
وَفِي أَيَّام زِيَادَة اللَّهِ قوي أَمر أبي عبد اللَّهِ الشيعي الْقَائِم بدعوة الدولة الفاطمية بالمغرب، فَأرْسل إِلَيْهِ زِيَادَة اللَّهِ جَمِيع عسكره أَرْبَعِينَ ألفا مَعَ إِبْرَاهِيم من بني عَمه فَهَزَمَهُمْ الشيعي فضعف زِيَادَة اللَّهِ، وَجمع الْأَمْوَال فَقدم مصر وَبهَا النوشري عَاملا فَكتب النوشري بأَمْره إِلَى المقتدر.
ثمَّ سَار زِيَادَة اللَّهِ إِلَى الرقة، فَأمره المقتدر بِالْعودِ إِلَى الْمغرب لقِتَال الشيعي وَكتب إِلَى النوشري عَامله بإمداد زِيَادَة اللَّهِ بالعساكر وَالْأَمْوَال، فَقدم إِلَى مصر فَأمره النوشري بِالْخرُوجِ إِلَى الحمامات ليخرج إِلَيْهِ مَا يخْتَار من المَال وَالرِّجَال ومطلة النوشري، هَذَا وَزِيَادَة اللَّهِ ملازم للهو وَسَمَاع الْغناء وَالْخمر وَطَالَ مقَامه هُنَاكَ، فَتفرق أَصْحَابه وَمرض وَسَقَطت لحيته وأيس من النوشري، فَسَار ليقيم بالقدس فَمَاتَ وَدفن بالرملة، وَلم يبْق من بني الْأَغْلَب أحد، وَكَانَت مُدَّة ملكهم مائَة واثنتي عشرَة سنة تَقْرِيبًا. فسبحان الَّذِي لَا يَزُول ملكه.
وفيهَا: ابْتِدَاء ملك العلويين بإفريقية وانقرضت دولتهم بِمصْر، وَسَيَأْتِي أَوَّلهمْ أَبُو(1/241)
مُحَمَّد عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن مَيْمُون بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَقيل: هُوَ عبيد اللَّهِ بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الياني بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي نسبه، فَمن قَالَ بإمامته قَالَ: نسبه صَحِيح، وَمن العلويين من وَافق عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ الشريف الرضي:
(مَا مقَامي على الهوان وَعِنْدِي ... مقول صارم وأنف حمي)
(ألبس الذل فِي بِلَاد الأعادي ... وبمصر الْخَلِيفَة الْعلوِي)
(من أَبوهُ أبي ومولاه مولَايَ ... إِذا ضامني الْبعيد القصي)
(لف عرقي بِعَرَفَة سيدا النَّاس ... جَمِيعًا مُحَمَّد وَعلي)
وَقيل: نسبهم مَدْخُول، وَبَالغ قوم حَتَّى جعلُوا نسبهم فِي الْيَهُود فَقَالُوا: لم يكن اسْم الْمهْدي عبيد اللَّهِ بل كَانَ اسْمه سعيد بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ القداح بن مَيْمُون بن ديصان.
وَقيل: عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد، وَقيل فِيهِ: سعيد بن الْحُسَيْن وَأَن الْحُسَيْن الْمَذْكُور قدم سلمية فَجرى بِحَضْرَتِهِ حَدِيث النِّسَاء فوصفوا لَهُ امْرَأَة يَهُودِيّ حداد بسلمية مَاتَ زَوجهَا، فَتَزَوجهَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْمَذْكُور بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ القداح، وَكَانَ للْمَرْأَة ولد من الْيَهُودِيّ فَأَحبهُ الْحُسَيْن وأدبه، وَمَات الْحُسَيْن وَلَا ولد لَهُ فعهد إِلَى ابْن الْيَهُودِيّ الْحداد وَهُوَ الْمهْدي عبيد اللَّهِ وعرفه أسرار الدعْوَة وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَال والعلامات، فَدَعَا لَهُ الدعاة.
وَقد اخْتلف كَلَام المؤرخين وَكثر فِي قصَّة عبد اللَّهِ القداح بن مَيْمُون بن ديصان، قَالُوا: ابْن ديصان الْمَذْكُور هُوَ صَاحب كتاب الْمِيزَان فِي نصْرَة الزندقة، وَكَانَ يظْهر التَّشَيُّع لآل الْبَيْت رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، وَنَشَأ لميمون بن ديصان ولد اسْمه عبد الله القداح كَانَ يعالج الْعُيُون بالقدح، وَتعلم من أَبِيه مَيْمُون الْحِيَل وأطلعه أَبوهُ على أسرار الداعة لآل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ سَار القداح وَقَامَ ابْنه أَحْمد، وَقيل مُحَمَّد مقَامه، وَصَحبه رستم بن الْحُسَيْن بن حَوْشَب بن زَاذَان النجار من أهل الْكُوفَة، فَأرْسل احْمَد إِلَى الشِّيعَة بِالْيمن يَدْعُو إِلَى الْمهْدي من آل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَسَار رستم إِلَى الْيمن ودعا الشِّيعَة فَأَجَابُوهُ.
وَكَانَ أَبُو عبد الله الشيعي الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا من صنعاء، وَقيل: من الْكُوفَة، وَسمع بقدوم ابْن حَوْشَب إِلَى الْيمن وبدعوته، فَسَار أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي علم صنعاء إِلَى ابْن حَوْشَب وَكَانَ بعدن فصحبه واختص بِهِ وَكَانَ لأبي عبد اللَّهِ الشيعي علم ودهاء، وَكَانَ قد أرسل ابْن حَوْشَب قبل ذَلِك الدعاة إِلَى الْمغرب وَقد أَجَابَهُ أهل كتامة.
وَلما رأى ابْن حَوْشَب علم الشيعي ودهاه أرْسلهُ أرْسلهُ إِلَى الْمغرب إِلَى أهل كتامة وَأرْسل. مَعَه جملَة من المَال، فَسَار الشيعي إِلَى مَكَّة، وَلما قدم الْحَاج إِلَى مَكَّة اجْتمع بالمغاربة من أهل كتامة فَرَآهُمْ محبين إِلَى مَا يخْتَار فَسَار مَعَهم إِلَى كتامة فَقَدمهَا منتصف ربيع الأول سنة(1/242)
ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَتَاهُ الْبَرِيد من كل مَكَان وَعظم أمره وَكَانَ اسْمه عِنْدهم أَبَا عبد اللَّهِ المشرقي، وَبلغ أمره إِلَى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأغلبي أَمِير إفريقية فاحتقره.
ثمَّ مضى الشيعي إِلَى مَدِينَة تاهرت فَعظم وأتته الْقَبَائِل من كل مَكَان، وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى تولى أَبُو مُضر زِيَادَة اللَّهِ آخر بني الْأَغْلَب، وَكَانَ عَم زِيَادَة اللَّهِ وَيعرف بالأحول قبالة الشيعي يقاتله، فَلَمَّا تولى زِيَادَة اللَّهِ قتل عَمه الْأَحول فصفت الْبِلَاد للشيعي.
وَسبب اتِّصَال الْمهْدي عبيد اللَّهِ بِأبي عبد اللَّهِ الشيعي: أَن الدعاة بالمغرب كَانُوا يدعونَ إِلَى مُحَمَّد وَالِد الْمهْدي وَكَانَ بسليمة، فَلَمَّا توفّي أوصى إِلَى ابْنه عبيد اللَّهِ الْمهْدي وأطلعه على حَال الدعاة، وشاع ذَلِك فِي أَيَّام المكتفي فَطلب عبيد اللَّهِ فهرب وَهُوَ وَابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد الَّذِي ولي بعد الْمهْدي وتلقب بالقائم وتوجها نَحْو الْمغرب، وَوصل عبيد اللَّهِ الْمهْدي إِلَى مصر فِي زِيّ التُّجَّار وعامل مصر حِينَئِذٍ عِيسَى النوشري وَقد كتب إِلَيْهِ الْخَلِيفَة يتطلب عبيد اللَّهِ الْمهْدي، فجد الْمهْدي فِي الْهَرَب وَقدم طرابلس الغرب وَزِيَادَة اللَّهِ بن الْأَغْلَب يتَوَقَّع عَلَيْهِ وَقد كتب إِلَى عماله بإمساكه مَتى ظفروا بِهِ، فهرب من طرابلس وَلحق بسجلماسة فَأَقَامَ بهَا وصاحبها يَوْمئِذٍ اليسع بن مدرار فهاداه الْمهْدي على أَنه تَاجر قد قدم فوصل كتاب زِيَادَة اللَّهِ إِلَى اليسع يُعلمهُ أَن هَذَا الرجل هُوَ الَّذِي يَدْعُو أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي إِلَيْهِ فَقبض اليسع على عبيد اللَّهِ الْمهْدي وحبسه بسجلماسة.
وَلما كَانَ من قتل زِيَادَة اللَّهِ عَمه الْأَحول وهرب زِيَادَة اللَّهِ واستيلاء أبي عبد اللَّهِ الشيعي على إفريقية مَا قدمنَا ذكره سَار أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي من رقادة فِي رَمَضَان من هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة إِلَى سجلماسة واستخلف الشيعي أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس وَأَبا زاكي على إفريقية، فَلَمَّا قرب من سجلماسة خرج صَاحبهَا اليسع وقاتله فهرب اليسع لَيْلًا، وَدخل الشيعي سجلماسة وَأخرج الْمهْدي وَولده من السجْن واركبهما وَمَشى هُوَ ورؤوس الْقَبَائِل بَين أَيْدِيهِمَا وَأَبُو عبد اللَّهِ يُشِير إِلَى الْمهْدي وَيَقُول للنَّاس: هَذَا مولاكم وَهُوَ يبكي من شدَّة الْفَرح، حَتَّى وصل إِلَى فسطاطا قد نصب لَهُ، وَلما اسْتَقر الْمهْدي فِيهِ أَمر بِطَلَب اليسع صَاحب سجلماسة فَأدْرك وأحضر بَين يَدَيْهِ فَقتله.
وَأقَام الْمهْدي بسجلماسة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَار إِلَى إفريقية، وَوصل إِلَى رقادة فِي ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ فدون الدَّوَاوِين وجبى الْأَمْوَال وَبعث الْعمَّال إِلَى سَائِر بِلَاد الْمغرب، وَاسْتعْمل على جَزِيرَة صقلية الْحسن بن أَحْمد بن أبي حفرير. وَزَالَ بالمهدي ملك بني الْأَغْلَب وَملك بني مدرار أَصْحَاب مملكة سجلماسة وَآخرهمْ اليسع وَمُدَّة ملك بني مدرار مائَة وَثَلَاثُونَ سنة، وَزَالَ ملك بني رستم من تاهرت ومدته مائَة وَسِتُّونَ سنة.
وباشر الْمهْدي الْأُمُور بِنَفسِهِ، وَلم يبْق للشيعي وَلَا لِأَخِيهِ حكم والفطام صَعب، فشرع أَبُو الْعَبَّاس أَخُو الشيعي ينْدَم أَخَاهُ وَيَقُول: أخرجت الْأَمر عَنْك وَأَخُوهُ ينهاه عَن قَول مثل ذَلِك إِلَى أَن أحنقه وَذَلِكَ يبلغ الْمهْدي، حَتَّى شرع يَقُول لرؤوس الْقَبَائِل: لَيْسَ هَذَا(1/243)
الْمهْدي الَّذِي دعوناكم إِلَيْهِ، فطلبهما الْمهْدي وقتلهما فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وَقيل فِي غَيرهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَسنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد الصُّوفِي إِمَام وقته، أَخذ الْفِقْه عَن أبي ثَوْر والتصوف عَن سري السَّقطِي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض المقتدر على وزيره أبي الْحسن بن الْفُرَات ونهبه وهتك حرمه، وَولى الوزارة أَبَا عَليّ مُحَمَّد بن يحيى بن عبيد اللَّهِ بن خاقَان، وَكَانَ الخاقاني ضجورا وتحكمت عَلَيْهِ أَوْلَاده فَكل مِنْهُم يسْعَى لمن يرتشي مِنْهُ، فَكَانَ يولي الْعَمَل الْوَاحِد عدَّة من الْعمَّال فِي الْأَيَّام القليلة حَتَّى ولى الْكُوفَة فِي عشْرين يَوْمًا سَبْعَة عُمَّال فَقيل فِيهِ:
(وَزِير قد تَكَامل فِي الرقاعة ... يولي ثمَّ يعْزل بعد سَاعَة)
(إِذا أهل الرشا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ ... فَخير الْقَوْم أوفرهم بضَاعَة)
والخليفة مَعَ ذَلِك يتَصَرَّف على مُقْتَضى إِشَارَة النِّسَاء والخدام، فَخرجت الممالك وطمع الْعمَّال فِي الْأَطْرَاف.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد بن كيسَان الْعَالم بِنَحْوِ الْبَصرِيين والكوفيين، وَإِسْحَاق بن حنين الطَّبِيب.
ثمَّ دخلت سنة ثلثمِائة: فِيهَا عزل المقتدر الخاقاني عَن الوزارة وولاها عَليّ بن عِيسَى.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان صَاحب الأندلس فِي ربيع الأول، وَكَانَ أَبيض أصهب أَزْرَق ربعَة يخضب بِالسَّوَادِ وولايته خمس سِنِين وَأحد عشر شهرا، وَله أحد عشر ابْنا أحدهم مُحَمَّد الْمَقْتُول قَتله أَبوهُ الْمَذْكُور فِي حد وَهُوَ وَالِد عبد الرَّحْمَن النَّاصِر، وَلما توفّي عبد اللَّهِ ولي ابْن ابْنه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمَقْتُول وَنزل بِحَضْرَة أَعْمَامه وأعمام أَبِيه وَلم يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وثلثمائة: فِيهَا فِي جمادي الْآخِرَة قتل السَّلمَانِي أَحْمد بن إِسْمَاعِيل صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر ذبحه لَيْلًا غلمانه على سَرِيره فِي الصَّيْد وهربوا، فَحمل وَدفن ببخارا، وظفروا ببعضهم فَقَتَلُوهُمْ. وَولى بعده ابْنه أَبُو الْحسن نصر ابْن ثَمَانِي سِنِين.
وفيهَا: قتل كَبِير القرامطة أَبُو سعيد الْحسن بن بهْرَام الجنابي قَتله خَادِم لَهُ صقلي فِي الْحمام واستدعى من كبرائهم أَرْبَعَة وَاحِدًا بعد وَاحِد على لِسَان استاذه وقتلهم فَعَلمُوا بِهِ وقتلوه، وَتَوَلَّى بعده بعهده ابْنه سعيد الْأَكْبَر فغلبه أَخُوهُ الْأَصْغَر أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان، وَكَانَ أَبُو سعيد مستوليا على هجر والأحساء والقطيف وَسَائِر بِلَاد الْبَحْرين.(1/244)
وفيهَا: بعث الْمهْدي جَيْشًا مَعَ ابْنه أبي الْقَاسِم مُحَمَّد إِلَى ديار مصر فاستولى على الْإسْكَنْدَريَّة والفيوم، فَبعث إِلَيْهِم المقتدر جَيْشًا فأجلاهم، فعادوا إِلَى الْمغرب.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد اللَّهِ مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري الثَّقَفِيّ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يحيى بن مندة الْحَافِظ، لَهُ تَارِيخ أصفهان، ثِقَة من بَيت كَبِير خرج مِنْهُ عُلَمَاء.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمائة: فِيهَا قبض المقتدر على الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن الْجَصَّاص الْجَوْهَرِي وَأخذ مِنْهُ صنوفا قيمتهَا أَرْبَعَة آلَاف ألف دِينَار.
وفيهَا: أرسل الْمهْدي الْعلوِي جَيْشًا مقدمه حُبَاشَة فِي الْبَحْر فاستولى على الْإسْكَنْدَريَّة، فَأرْسل المقتدر جَيْشًا مقدمه يُونُس الْخَادِم، فَاقْتَتلُوا بَين مصر والإسكندرية أَربع مَرَّات انْهَزَمت فِيهِ المغاربة وَقتل خلق وعادوا إِلَى بِلَادهمْ.
وفيهَا: انْتهى تَارِيخ أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ.
وفيهَا وَقيل فِي السّنة قبلهَا: توفّي عَليّ بن أَحْمد بن مَنْصُور البسامي من أَعْيَان الشُّعَرَاء، كثير الهجاء هجا أَبَاهُ وَإِخْوَته وَأهل بَيته، وَله فِي الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ وَزِير المعتضد:
(قل لأبي الْقَاسِم المرزي ... قابلك الدَّهْر بالعجائب)
(مَاتَ لَك ابْن وَكَانَ زينا ... وعاش ذُو الشين والمعائب)
(حَيَاة هَذَا كموت هَذَا ... فلست تَخْلُو من المصائب)
وَله فِي المتَوَكل لما هدم قبر الْحُسَيْن:
(بِاللَّه إِن كَانَت أُميَّة قد أَتَت ... قتل ابْن بنت نبيها مَظْلُوما)
(فَلَقَد أَتَاهُ بَنو أَبِيه بِمثلِهِ ... هَذَا لعمرك قَبره مهدوما)
(أسفوا على أَن لَا يَكُونُوا شاركوا ... فِي قَتله فتتبعوه رميما)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وثلثمائة: فِيهَا اخْتَار الْمهْدي مَوضِع المهدية على السَّاحِل وَهِي جَزِيرَة مُتَّصِلَة بِالْبرِّ كَهَيئَةِ الْكَفّ مُتَّصِلَة بزند، فبناها وَجعلهَا دَار ملكه بسور مُحكم وأبواب وزن المصراع مائَة قِنْطَار وَقَالَ: الْآن أمنت على الفاطميات بحصانتها.
وفيهَا: أغارت الرّوم على الثغور الجزرية فغنموا وَسبوا.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد الرَّحْمَن أَحْمد بن عَليّ بن شُعَيْب النَّسَائِيّ صَاحب كتاب السّنَن بِمَكَّة وَدفن بَين الصَّفَا والمروة، إِمَام حَافظ مُحدث رَحل إِلَى نيسابور ثمَّ الْعرَاق ثمَّ إِلَى الشَّام ومصر وَعَاد إِلَى دمشق فامتحن فِي مُعَاوِيَة وَطلب مِنْهُ أَن يروي شَيْئا من فضائله فَقَالَ: مَا يرضى مُعَاوِيَة أَن يكون رَأْسا بِرَأْس حَتَّى يفضل، فَقيل: إِنَّه وَقع فِي حَقه مَكْرُوه فَحمل إِلَى مَكَّة.(1/245)
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي المعتزلي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وثلثمائة: فِيهَا توفّي النَّاصِر الْعلوِي صَاحب طبرستان وعمره تسع وَسَبْعُونَ وَيُسمى الأطروش، وَهُوَ الْحسن بن عَليّ بن الْحسن بن عمر بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، ملك طبرستان سنة إِحْدَى وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي يُوسُف بن الْحُسَيْن بن عَليّ الرَّازِيّ صَاحب ذِي النُّون الْمصْرِيّ وَهُوَ صَاحب قصَّة الْغَار مَعَه،
ثمَّ دخلت سنة خمس وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عُثْمَان العسكري الْمَعْرُوف بالسمان وبالمعري رَئِيس الإمامية، ادّعى أَنه الْبَاب إِلَى الإِمَام المنتظر.
وفيهَا: قدم رَسُول ملك الرّوم إِلَى بَغْدَاد، فَلَمَّا استحضر عبىء لَهُ الْعَسْكَر وصفت الدَّار بالأسلحة وأنواع الزِّينَة وَجُمْلَة الْعَسْكَر المصفوف مائَة ألف وَسِتُّونَ ألفا مَا بَين رَاكب وواقف، ووقفت الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كَذَلِك وَكَانُوا سَبْعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف خَادِم أَبيض وَثَلَاث آلَاف أسود، ووقف الْحجاب كَذَلِك وهم حِينَئِذٍ سَبْعمِائة حَاجِب، وألقيت المراكب والزبازب فِي دجلة بأعظم زِينَة، وزينت دَار الْخلَافَة فَكَانَت الستور الْمُعَلقَة عَلَيْهَا ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ ألف ستر مِنْهَا ديباج مَذْهَب اثْنَا عشر ألفا وَخَمْسمِائة وَكَانَت الْبسط اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا، وَكَانَ هُنَاكَ مائَة سبع مَعَ مائَة سِبَاع وَكَانَ فِي جملَة الزِّينَة شَجَرَة من ذهب وَفِضة تشْتَمل على ثَمَانِيَة عشر غصنا، وعَلى الأغصان والقضبان الطُّيُور والعصافير من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَكَذَلِكَ أوراق الشَّجَرَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة والأغصان تتمايل بحركات مَوْضُوعَة والطيور تصفر بحركات مرتبَة.
وَشَاهد الرَّسُول من العظمة مَا يطول شَرحه، وأحضر بَين يَدي المقتدر وَصَارَ الْوَزير يبلغ كَلَامه إِلَى الْخَلِيفَة وَيرد الْجَواب عَن الْخَلِيفَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وثلثمائة: فِيهَا جعل على شرطة بَغْدَاد يحجّ الطولوني فَجعل فِي الأرباع فُقَهَاء تعْمل أَصْحَاب الشرطة بفتواهم، فضعفت هَيْبَة السلطنة وطمعت العيارون وَأخذت ثِيَاب النَّاس فِي الطّرق وَكَثُرت الْفِتَن.
وفيهَا: جهز الْمهْدي جَيْشًا كثيفا مَعَ ابْنه الْقَائِم إِلَى مصر، فوصل الْإسْكَنْدَريَّة وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ وصل الجيزة وَملك الأشموفين وَكَثِيرًا من الصَّعِيد. وَبعث المقتدر مؤنسا الْخَادِم، وَجَرت بَينه وَبَين الْقَائِم وقعات وَوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة من جِهَة إفريقية ثَمَانُون مركبا نجدة للقائم، وَأرْسل المقتدر خَمْسَة وَعشْرين مركبا من طرطوس لقِتَال مراكب الْقَائِم، فالتقت المراكب والمراكب على رشيد واقتتلوا واقتتلت العساكر فِي الْبر، فَهزمَ عَسْكَر الْمهْدي ومراكبه وعادوا إِلَى إفريقية بعد أَن قتل مِنْهُم وَأسر.(1/246)
وفيهَا: توفّي القَاضِي مُحَمَّد بن خلف بن حبَان الضَّبِّيّ الْمَعْرُوف بِابْن وَكِيع عَالم بأخبار النَّاس، لَهُ تصانيف حَسَنَة.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن سُرَيج الْفَقِيه الشَّافِعِي من الْأَئِمَّة العظماء وَيُقَال لَهُ الباز الْأَشْهب ولي قَضَاء شيراز وَله أَرْبَعمِائَة مُصَنف، وَمِنْه أشتهر مَذْهَب الشَّافِعِي فِي الافاق حَتَّى قَالُوا فِي عصره: إِن اللَّهِ أظهر عمر بن عبد الْعَزِيز على رَأس الْمِائَة من الْهِجْرَة فأحيا كل سنة وأمات كل بِدعَة، ثمَّ من اللَّهِ على النَّاس بالشافعي على رَأس الْمِائَتَيْنِ فأظهر السّنة وأخفى الْبِدْعَة، وَمن اللَّهِ على رَأس الثلثمائة بِابْن سُرَيج فقوى كل سنة وَضعف كل بِدعَة؛ وجده سُرَيج مَشْهُور بالصلاح.
ثمَّ دخلت سنة سبع وثلثمائة: فِيهَا انقرضت دولة الأدارسة العلويين وتغلب عَلَيْهِم فضَالة بن حيوس، ثمَّ ظهر من الأدراسة حسن بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس ورام رد الدولة وَقد أخذت فِي الاختلال ودولة الْمهْدي عبيد اللَّهِ فِي الإقبال فَملك عَاميْنِ، ثمَّ لم يتم لَهُ مطلب وانقرضت دولتهم من جَمِيع الْمغرب الْأَقْصَى، وَحمل غَالب الأدارسة إِلَى الْمهْدي وَولده إِلَّا من اختفى مِنْهُم فِي الْجبَال إِلَى أَن سَار بعد الْأَرْبَعين وثلثمائة إِدْرِيس من ولد مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس فَأَعَادَ الْإِمَامَة لهَذَا الْبَيْت.
ثمَّ تغلب على بر العدوة عبد الْملك بن المصنور بن أبي عَامر وخطب فِي تِلْكَ الْبِلَاد لبني أُميَّة، ثمَّ رَجَعَ عبد الْملك إِلَى الأندلس فاضطربت دولته ببر العدوة، فتغلب بَنو أبي الْعَافِيَة الزناتيون على فاس حَتَّى ظهر يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين فاستولى على تِلْكَ الْبِلَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسنة تسع وثلثمائة: فِيهَا قتل الحلاج الْحُسَيْن بن مَنْصُور قدم من خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق ثمَّ إِلَى مَكَّة وَأقَام سنة فِي الْحجر لَا يستظل بسقف يَصُوم الدَّهْر وَيفْطر بِمَاء وَثَلَاث عضات من قرص، ثمَّ قدم بَغْدَاد متزهدا متصوفا يخرج للنَّاس من فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف، وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء، ويمد يَده فِي الْهَوَاء وَيُعِيدهَا مَمْلُوءَة دَرَاهِم أحدية يسميها دَرَاهِم الْقُدْرَة، ويخبر النَّاس بِمَا أكلوه وَمَا صنعوه فِي بُيُوتهم وَبِمَا فِي ضمائرهم فَاعْتقد قوم فِيهِ الْحُلُول.
وَاخْتلف قوم فِيهِ كالاختلاف فِي الْمَسِيح، وَقَالَ قوم: هُوَ ولي اللَّهِ، وَقيل: مشعبذ، وَقيل: سَاحر.
وَالْتمس حَامِد بن الْعَبَّاس الْوَزير من المقتدر تَسْلِيمه إِلَيْهِ، فَأمره بِتَسْلِيمِهِ فَكَانَ حَامِد يخرج الحلاج إِلَى مَجْلِسه ويستنطقه فَلَا يظْهر مِنْهُ مَا تكرههُ الشَّرِيعَة وحامد مجد فِي أمره ليَقْتُلهُ، ثمَّ رأى لَهُ كتابا حكى فِيهِ: إِن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ الْحَج وَلم يُمكنهُ أفرد من دَاره بَيْتا نظيفا من النَّجَاسَات وَلَا يدْخلهُ أحد وَإِذا حضرت أَيَّام الْحَج طَاف حوله وَفعل مَا يَفْعَله(1/247)
الْحَاج بِمَكَّة ثمَّ يجمع ثَلَاثِينَ يَتِيما وَيعْمل أَجود طَعَام يُمكنهُ ويطعمهم فِي ذَلِك الْبَيْت ويكسوهم وَيُعْطِي كل وَاحِد سَبْعَة دَرَاهِم فَيكون كمن حج.
فَأمر الْوَزير بِقِرَاءَة ذَلِك قُدَّام القَاضِي أبي عَمْرو، فَقَالَ القَاضِي للحلاج: من أَيْن لَك هَذَا؟ قَالَ: من كتاب الْإِخْلَاص لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ، فَقَالَ لَهُ القَاضِي: كذبت يَا حَلَال الدَّم قد سمعناه بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا.
فَطلب الْوَزير خطّ القَاضِي بقوله: أَنْت حَلَال الدَّم فدافعه، ثمَّ ألزمهُ الْوَزير فَكتب بِإِبَاحَة دَمه وَكتب بعده من حضر الْمجْلس، فَقَالَ الحلاج: مَا يحل لكم دمي وديني الْإِسْلَام ومذهبي السّنة ولي فِيهَا كتب مَوْجُودَة فَالله اللَّهِ فِي دمي: وَأرْسل الْوَزير الْفَتَاوَى بذلك إِلَى المقتدر واستأذنه فِي قَتله فَأذن، فَضرب ألف سَوط ثمَّ قطعت يَده ثمَّ رجله ثمَّ قتل وأحرق وَنصب رَأسه بِبَغْدَاد.
قلت: يُقَال أَن أَبَا الْعَبَّاس بن سُرَيج قَالَ عَنهُ: هَذَا رجل خَفِي عَليّ حَاله وَمَا أَقُول فِيهِ شَيْئا.
وَفِي مشكاة الْأَنْوَار للغزالي فصل طَوِيل فِي حَاله يعْتَذر فِيهِ عَمَّا صدر مِنْهُ من الْأَلْفَاظ مثل: أَنا الْحق وَمَا فِي الْجُبَّة إِلَّا اللَّهِ، وَحملهَا على محامل حَسَنَة وأولها وَقَالَ: هَذَا من شدَّة الوجد، وَجعله مثل قَول الْقَائِل.
أَنا من أَهْوى وَمن أَهْوى أَنا.
وَقَالَ السَّيِّد القطب الشَّيْخ محيي الدّين عبد الْقَادِر الجيلي رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى: عثر الحلاج قلم يكن فِي زَمَنه من يَأْخُذ بِيَدِهِ، وَلَو كنت فِي زَمَنه لأخذت بِيَدِهِ، وَفِي كَلَام الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَيْضا فِي الحلاج مَا يدل على أَنه ولي اللَّهِ وَأَن الْعلمَاء معذورون فِي أمره لتمسكهم بِظَاهِر الشَّرْع، وَذَلِكَ قَوْله رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِيهِ طَار وَاحِد من العارفين إِلَى أفق الدَّعْوَى بأجنحة أَنا الْحق رأى روض الأبدية خَالِيا من الحسيس والأنيس صفر بِغَيْر لغته تعريضا لحتفه ظهر عَلَيْهِ عِقَاب الْملك من مكمن إِن اللَّهِ لَغَنِيّ عَن الْعَالمين أنشب فِي إهابه مخلب كل نفس ذائقة الْمَوْت، قَالَ لَهُ شرع سُلَيْمَان الزَّمَان لم تَكَلَّمت بِغَيْر لغتك لم ترنمت بلحن غير مَعْهُود من مثلك ادخل الْآن إِلَى قفص وجودك ارْجع من طَرِيق عزة الْقدَم إِلَى مضيق ذلة الْحَدث قل بِلِسَان اعترافك ليسمعك أَرْبَاب الدَّعَاوَى حسب الْوَاجِد إِفْرَاد الْوَاحِد منَاط الطَّرِيق إِقَامَة وظائف حُرْمَة الشَّرْع.
وَكَانَ شَيخنَا الْعَارِف عبس السرجاوي الْجَعْفَرِي نفعنا اللَّهِ ببركته يعْتَذر عَن الحلاج وَعَن الْعلمَاء الَّذين أفتوا فِيهِ بِنَحْوِ ذَلِك، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن سهل بن عَطاء من كبار عُلَمَاء الصُّوفِيَّة ومشايخهم، وَإِبْرَاهِيم بن هَارُون الْحَرَّانِي الطَّبِيب.
ثمَّ دخلت سنة عشرَة وثلثمائة: فِيهَا توفّي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ بِبَغْدَاد،(1/248)
ومولده سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ برمل طبرستان، حَافظ للْكتاب الْعَزِيز والقراءات مُجْتَهد لم يُقَلّد أحدا فَقِيه عَارِف بأقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَله التَّارِيخ الْمَشْهُور ابْتَدَأَ فِيهِ من أول الزَّمَان إِلَى آخر سنة اثنيتين وثلثمائة وَكتاب فريد فِي التَّفْسِير وَكتب أصُول وفروع، وصنف كتابا فِيهِ اخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَلم يذكر فِيهِ أَحْمد بن حَنْبَل، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل مُحدثا، فَاشْتَدَّ ذَلِك على الْحَنَابِلَة وَكَانُوا لَا يُحصونَ كَثْرَة بِبَغْدَاد ورموه بالرفض تعصبا وتشنيعا عَلَيْهِ.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن السّري بن سهل النَّحْوِيّ ابْن السراج نِسْبَة إِلَى عمل السُّرُوج أحد الْأَئِمَّة الْمَشَاهِير، أَخذ عَن أبي الْعَبَّاس الْمبرد، وَأخذ عَنهُ أَبُو سعيد السيرافي وَعلي بن عِيسَى الرماني وَنقل عَنهُ الْجَوْهَرِي وَله مصنفات مَشْهُورَة، كَانَ يلثغ بالراء فيجعلها غينا.
قلت: وَمن شعره:
(ميزت بَين جمَالهَا وفعالها ... فَإِذا الملاحة بالخيانة لَا تفي)
(حَلَفت لنا أَن لَا تخون عُهُودنَا ... فَكَأَنَّهَا حَلَفت لنا أَن لَا تفي)
(وَالله لَا كلمتها وَلَو أَنَّهَا ... كالبدر أَو كَالشَّمْسِ أَو كالمكتفي)
وَبَلغت الأبيات إِلَى المكتفي فَقَالَ: لمن هِيَ؟ فَقيل: هِيَ لِعبيد اللَّهِ بن طَاهِر، فَأعْطَاهُ ألف دِينَار، فَكَانَ شعر ذَلِك سَببا لرزق هَذَا وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وثلثمائة: فِيهَا كبست القرامطة وأميرهم أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان بن أبي سعيد الجباني الْبَصْرَة لَيْلًا وعلوا على سورها وَقتلُوا عاملها وَأَقَامُوا بهَا سَبْعَة عشر يَوْمًا يقتلُون ويحملون الْأَمْوَال مِنْهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْجريرِي - بِضَم الْجِيم. من مشاهير مَشَايِخ الصُّوفِيَّة، وَإِبْرَاهِيم بن السّري الزّجاج صَاحب كتاب مَعَاني الْقُرْآن، وَمُحَمّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب كَانَ فِي شبابه يضْرب بِالْعودِ والتحى فَقَالَ: كل غناء يخرج من بَين شَارِب ولحية لَا يستحسن، ثمَّ درس الطِّبّ والفلسفة بعد الْأَرْبَعين وَعمر وَبلغ فِي علومه الْغَايَة حَتَّى أُشير إِلَيْهِ فِي الطِّبّ، وَله الْحَاوِي نَحْو ثَلَاثِينَ مجلدا والمنصوري نَافِع صنفه لبَعض الْمُلُوك السامانية.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وثلثمائة: فِيهَا أَخذ أَبُو طَاهِر القرمطي الْحَاج وَأَمْوَالهمْ وَهلك أَكْثَرهم جوعا وعطشا.
وفيهَا: قبض المقتدر على وزيره ابْن الْفُرَات، ثمَّ ذبح هُوَ وَابْنه المحسن وَعمر الْأَب إِحْدَى وَسَبْعُونَ سنة وَالِابْن ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، واستوزر بعده الْقَاسِم الخاقاني.
وفيهَا: سَار أَبُو طَاهِر القرمطي، فَدخل الْكُوفَة بِالسَّيْفِ وَأقَام سِتَّة أَيَّام يدْخل نَهَارا(1/249)
وَيخرج إِلَى عسكره لَيْلًا، وَحمل مَا أمكنه من الْأَمْوَال وَالثيَاب.
قلت: وفيهَا انْقَطع الْقطر إِلَّا النزر الْيَسِير وَسميت سنة الْحَبْس لانْقِطَاع الْمَطَر إِلَّا قَرْيَة تسمى كفور، وَأما قرى المعرة فَإِنَّهَا أخصبت خصبا مَا رَأَوْا مثله وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وثلثمائة: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ وعمره مائَة وسنتان، وَعلي بن مُحَمَّد بن بشار الزَّاهِد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا قلد المقتدر يُوسُف بن الْحَاج نواحي الْمشرق وَبَعثه من أذربيجان إِلَى وَاسِط لمحاربة القرامطة.
وفيهَا: استولى نصر بن أَحْمد الساماني على الرّيّ وَمرض ثمَّ سَار عَنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وثلثمائة: فِيهَا وصلت القرامطة إِلَى الْكُوفَة فَسَار إِلَيْهِم يُوسُف بن أبي الساج من وَاسِط بعسكر ضخم نَحْو أَرْبَعِينَ ألفا وَكَانَت القرامطة ألفا وَخَمْسمِائة مِنْهُم ثَمَانمِائَة راجل، فاحتقرهم ابْن أبي الساج وَقَالَ: صدرُوا الْكتب إِلَى الْخَلِيفَة بالنصر فَهَؤُلَاءِ فِي يَدي، واقتتلوا فَقدر اللَّهِ انهزام عَسْكَر الْخَلِيفَة وأسروا ابْن أبي الساج وَقَتله أَبُو طَاهِر وَاسْتولى على الْكُوفَة وَنهب.
ثمَّ جهز المقتدر إِلَى القرامطة مؤنسا الْخَادِم فِي عَسَاكِر، فَانْهَزَمَ أَكثر الْعَسْكَر قبل الْمُلْتَقى، ثمَّ الْتَقَوْا فانهزمت عَسَاكِر الْخَلِيفَة، وَوَقع الجفيل فِي بَغْدَاد خوفًا من القرامطة، ونهبوا الْبِلَاد الفراتية ثمَّ عَادوا إِلَى هجر بالغنائم.
وفيهَا: ظفر عبد الرَّحْمَن الناصري الْأمَوِي صَاحب الأندلس بِأَهْل طليطلة بعد حصارها مُدَّة لخلافهم عَلَيْهِ وَخرب كثيرا مِنْهَا.
قلت: وفيهَا استدعي عَليّ بن عِيسَى الْوَزير إِلَى بَغْدَاد من مَكَّة وَكَانَ نفي إِلَيْهَا، وَسبب نَفْيه: أَن أم مُوسَى وَفَاطِمَة قهرمانتي المقتدر قَالَتَا لَهُ: وَقع بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم للمجيبة ثِيَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ جاءتا فَقَالَتَا: وَقع بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم للمعممة، ثمَّ قَالَتَا: وَقع بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم للمزررة، فَقَالَ لَهما: أَمِير الْمُؤمنِينَ مَقْطُوع الْيَد حَتَّى لَا يقدر أَن يتزرر. ثمَّ قَالَتَا وَقع بِعشْرَة آلَاف للمبخرة، فَقَالَ: لَو أخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يَده من تَحت ثِيَابه وَأخذ المجمرة وفر على بَيت مَال الْمُسلمين عشرَة آلَاف دِرْهَم، ثمَّ قَالَ:
(إِن بَيْتا تربه ... أم مُوسَى وَفَاطِمَة)
(لجدير بِأَن ترى ... ربة الْبَيْت لاطمة)
فَبلغ ذَلِك المقتدر فنفاه إِلَى مَكَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة: فِيهَا نهبت القرامطة الرحبة وَسبوا ثمَّ نهبوا ربض الرقة، ثمَّ نازلوا سنجار ثمَّ استأمنوا فأمنوهم، ثمَّ نهبوا الْجبَال وَغَيرهَا وعادوا إِلَى هجر.
وفيهَا: عزل المقتدر عَليّ بن عِيسَى وَقبض عَلَيْهِ، وَولى الوزارة عَليّ بن مقلة.(1/250)
وفيهَا: خرج مرداويج على أستاذه أشغار بن شيرويه الَّذِي كَانَ قد استولى على جرجان قبل بِسنة بعد أَن بَايع أَكثر الْعَسْكَر فِي الْبَاطِن، فهرب أشغار فأدركه مرداويج وَقَتله، وابتدأ أَمر مرداويج فِي ملك الْبِلَاد من هَذِه السّنة فَملك قزوين ثمَّ الرّيّ وهمدان وكيلور والدينور ويزدجرد وقم وقاشان وأصفهان وجرباذقان، وَعمل لَهُ سَرِير ذهب يجلس عَلَيْهِ وتقف عسكره صُفُوفا بالبعد عَنهُ، وَلَا يخاطبه إِلَّا الْحجاب المرتبون لذَلِك، ثمَّ استولى مرداويج على طبرستان.
وفيهَا: وصل الدمستق فِي جَيش كثير من الرّوم وَحصر خلاط ثمَّ صَالحهمْ على أَن يقْلع مِنْبَر الْجَامِع وَيعْمل مَوْضِعه صليبا، فَأَجَابُوا وفعلوا ذَلِك، وَفعل ببدليس كَذَلِك والدمستق اسْم للنائب على الْبِلَاد الَّتِي شَرْقي خليج قسطنطينية.
وفيهَا توفّي يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الإِسْفِرَايِينِيّ، وَله مُسْند مخرج على صَحِيح مُسلم، وكنيته أَبُو عوَانَة الْحَافِظ، طَاف الْبِلَاد فِي طلب الحَدِيث وَسمع مُسلم بن الْحجَّاج وَغَيره.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا خلع المقتدر بِاللَّه، أنكر القواد والجند اسْتِيلَاء النِّسَاء والخدام على الْأَمْوَال وانضم إِلَى ذَلِك وَحْشَة مؤنس الْخَادِم مِنْهُ، فَحَمَلُوهُ ووالدته وخالته وخواص جواريه إِلَى دَار مؤنس واعتقل بهَا، وَأشْهدُوا عَلَيْهِ القَاضِي أَبَا عَمْرو بخلع نَفسه، ونهبت دَار الْخلَافَة، وَاسْتَخْرَجُوا من قبر فِي تربة بنتهَا أم المقتدر سِتّمائَة ألف دِينَار، وأحضروا أَخَاهُ مُحَمَّدًا المعتضد وَبَايَعُوهُ ولقبوه القاهر بِاللَّه.
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر الْمحرم ثَالِث يَوْم خلعه بكر النَّاس فملأوا دَار الْخلَافَة، وَلم يحضر مؤنس المظفر ذَلِك الْيَوْم، وَحَضَرت الرجالة المصافية بِالسِّلَاحِ يطالبون بِحَق الْبيعَة فارتفعت أَصْوَاتهم، فَخرج من عِنْد القاهر بازرك ليطيب خواطرهم فَرَأى فِي أَيْديهم السيوف مسلولة فخافهم فَرجع، وتبعوه فَقَتَلُوهُ فِي دَار الْخلَافَة وصرخوا مقتدر يَا مَنْصُور، وهجموا على القاهر فهرب واختفى وتفرق النَّاس عَنهُ وَلم يبْق بدار الْخلَافَة أحد.
ثمَّ قصدت الرجالة دَار مؤنس وطلبوا مِنْهُ المقتدر، فَأخْرجهُ وَسلمهُ إِلَيْهِم فَحَمَلُوهُ على رقابهم حَتَّى أدخلوه دَار الْخلَافَة.
ثمَّ أرسل المقتدر خلف أَخِيه القاهر بالأمان وأحضره وَقَالَ: قد علمت أَنه لَا ذَنْب لَك وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وأمنه، فَشكر إحسانه، ثمَّ حبس القاهر عِنْد أم المقتدر فأحسنت إِلَيْهِ، وَاسْتقر المقتدر خَليفَة وسكنت الْفِتْنَة، وَكَانَ إِيثَار مؤنس إِعَادَة المقتدر إِلَى الْخلَافَة وَإِنَّمَا خلعة مُوَافقَة للعسكر.
وفيهَا: وافى أَبُو طَاهِر القرمطي مَكَّة يَوْم التَّرويَة فنهب الْحَاج بهَا وقتلهم حَتَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وداخل الْكَعْبَة وَأخذ الْحجر الْأسود من الرُّكْن وَنَقله إِلَى هجر وَقتل أَمِير مَكَّة ابْن محلب وَأَصْحَابه وَقلع بَاب الْبَيْت وأصعد رجلا ليقلع الْمِيزَاب فَسقط فَمَاتَ،(1/251)
وَطرح الْقَتْلَى فِي بِئْر زَمْزَم وَدفن البَاقِينَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ قتلوا، وَأخذ كسْوَة الْبَيْت فَقَسمهَا بَين أَصْحَابه.
قلت: وَيُقَال: أَنه لما أَخذ الْحجر الْأسود قَالَ: هَذَا مغناطيس بني آدم وَهُوَ يجرهم إِلَى مَكَّة وَأَرَادَ أَن يحول الْحَج إِلَى الإحساء فَعَلَيهِ لعنة اللَّهِ، وَكَانَ يحكم التركي أَمِير بَغْدَاد وَالْعراق فبذل لَهُم فِي رد الْحجر خمسين ألف دِينَار فَمَا فعلوا، وَالله أعلم.
وفيهَا: وَقع بسببب تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {عَسى رَبك أَن يَبْعَثك مقَاما مَحْمُودًا} بِبَغْدَاد فتْنَة عَظِيمَة بَين الْحَنَابِلَة وَغَيرهم دخل فِيهَا الْجند والعامة وَقتل بَينهم كثير، قَالَ أَبُو بكر الْمروزِي الْحَنْبَلِيّ: إِن معنى ذَلِك أَن اللَّهِ تَعَالَى يقْعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَه على الْعَرْش، وَقَالَت الطَّائِفَة الْأُخْرَى: إِنَّمَا هِيَ الشَّفَاعَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَابر بن سِنَان الْحَرَّانِي الأَصْل البتاني الحاسب المنجم صَاحب الزيج الصابي لَهُ الأرصاد المتقنة، ابْتَدَأَ بالرصد سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى سنة سِتّ وثلثمائة وَأثبت الْكَوَاكِب الثابته فِي زيجه لسنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وزيجه نسختان الثَّانِيَة أَجود. والبتاني - بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَقد تكسر - نِسْبَة إِلَى بتان نَاحيَة من عمل حران.
وفيهَا: توفّي نصر بن أَحْمد بن نصر الْبَصْرِيّ الخبزرزي نِسْبَة إِلَى بيع خبز الْأرز بَاعه بمربد الْبَصْرَة، الشَّاعِر الراوية الأديب كَانَ أُمِّيا لَا يتهجى وَمن شعره:
(خليلي هَل أبصرتما أَو سمعتما ... بِأَفْضَل من مولى تمشى إِلَى عبد)
(أَتَى زائري من غير وعد وَقَالَ لي ... أَجلك من تَعْلِيق قَلْبك بالوعد)
(فَمَا زَالَ نجم الْوَصْل بيني وَبَينه ... يَدُور بأفلاك السَّعَادَة والسعد)
(فطورا على تَقْبِيل نرجس نَاظر ... وطورا على تَقْبِيل تفاحة الخد)
قلت: وَلَقَد صدق الخبزرزي فِي قَوْله:
(وَكَانَ الصّديق يزور الصّديق ... لشرب المدام وعزف الأغاني)
(فَصَارَ الصّديق يزور الصّديق ... لبث الهموم وشكوى الزَّمَان)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وثلثمائة: فِيهَا استطالت الرجالة المصافية بِإِعَادَة المقتتدر واقتتلوا هم والجند فهربت الرجالة إِلَى وَاسِط واستولوا عَلَيْهَا، فَتَبِعهُمْ مؤنس الْخَادِم وَقتل مِنْهُم وشردهم عَنْهَا.
وفيهَا: وَقيل فِي تلوها: توفّي أَبُو بكر بن الْحسن بن عَليّ بن أَحْمد بن يسَار الْمَعْرُوف بِابْن العلاف الضَّرِير النهرواني وعمره مائَة، وَهُوَ ناظم مراثي الهر الَّتِي مِنْهَا:
(يَا هر فارقتنا وَلم تعد ... وَكنت منا بمنزل الْوَلَد)
(وَكَانَ قلبِي عَلَيْك مرتعدا ... وَأَنت تنساب غير مرتعد)(1/252)
(تدخل برج الْحمام متئدا ... وتبلغ الفرخ غير متئد)
(صادوك غيظا عَلَيْك وانتقموا ... مِنْك وَزَادُوا وَمن يصد يصد)
(وَلم تزل للحمام مرتصدا ... حَتَّى سقيت الْحمام بالرصد)
(يَا من لذيذ الْفِرَاخ أوقعه ... وَيحك هلا قنعت بالغدد)
(لَا بَارك اللَّهِ فِي الطَّعَام إِذا ... كَانَ هَلَاك النُّفُوس فِي الْمعد)
(كم دخلت لقْمَة حَشا شَره ... فأخرجت روحه من الْجَسَد)
(مَا كَانَ أَغْنَاك من تسلقك البرج ... وَلَو كَانَ جنَّة الْخلد)
قيل: كَانَ لَهُ قطّ، وَقيل: رثى بهَا ابْن المعتز موريا لخوفه من المتقدر، وَقيل: هويت جَارِيَة عَليّ بن عِيسَى غُلَاما لأبي بكر بن العلاف الْمَذْكُور فَفطن بهما عَليّ بن عِيسَى فَقَتَلَهُمَا، فرثاه مَوْلَاهُ بِهَذِهِ.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا أرسل المقتدر عسكرا لقِتَال مرداويج، قالتقوا بنواحي هَمدَان فَانْهَزَمَ عَسْكَر الْخَلِيفَة، وَاسْتولى مرداويج على بِلَاد الْجَبَل جَمِيعًا وَبَلغت عساكره فِي النهب إِلَى نواحي حلوان، ثمَّ أرسل مرداويج عسكرا فَملك أصفهان.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة تأكدت الوحشة بَين مؤنس والمقتدر.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار مؤنس مغاضبا للمقتدر وَاسْتولى المقتدر على أقطاعه وأملاكه وأملاك أَصْحَابه، وَكتب إِلَى بني حمدَان أُمَرَاء الْموصل بصد مؤنس عَن الْموصل وقتاله، فَجرى بَينهم قتال فانتصر مؤنس وَاسْتولى على الْموصل وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر من كل جِهَة وَأقَام بالموصل تِسْعَة أشهر، وَسَار بالعسكر إِلَى جِهَة بَغْدَاد فَقدم تكريت، ثمَّ سَار حَتَّى نزل بِبَاب الشماسية.
وَرَأى المقتدر انعزال الْعَسْكَر عَنهُ فقصد النُّزُول إِلَى وَاسِط، ثمَّ اتّفق مَعَ من بَقِي مَعَه على قتال مؤنس ومنعوه التَّوَجُّه إِلَى وَاسِط فَخرج لقِتَال مؤنس كَارِهًا لقتاله، وَبَين يَدي المقتدر الْفُقَهَاء والقراء مَعَهم الْمَصَاحِف منشورة وَعَلَيْهَا الْبردَة فَوقف على تل، ثمَّ ألح عَلَيْهِ أَصْحَابه فَتقدم إِلَى الْقِتَال، ثمَّ انْهَزَمت أَصْحَابه ولحقهم قوم من المغاربة، فَقَالَ: وَيحكم أَنا الْخَلِيفَة، فَقَالُوا: قد عرفناك يَا سفلَة أَنْت خَليفَة إِبْلِيس، فَضَربهُ وَاحِد بِسَيْفِهِ فَسقط إِلَى الأَرْض، وَذبح المقتدر وَكَانَ عَظِيم الجثة وَرفعُوا رَأسه وهم يكبرُونَ ويلعنونه وشلحوه حَتَّى سراويله ثمَّ دفن مَوْضِعه وعفي قَبره، وجاؤوا بِالرَّأْسِ إِلَى مؤنس وَهُوَ بالراشدية وَلم يشْهد الْحَرْب فلطم وَبكى.
وَخِلَافَة المقتدر أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَسِتَّة عشر يَوْمًا، وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة.
ثمَّ أَشَارَ مؤنس بِإِقَامَة أبي الْعَبَّاس بن المقتدر، فبحث أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل النوبختي عَن حتفه بظلفه - كَمَا سَيذكرُ - وَقَالَ: هَذَا صبي، فَترك.(1/253)
(أَخْبَار القاهر بِاللَّه بن المعتضد)
وبويع القاهر بِاللَّه مُحَمَّد بن المعتضد وَهُوَ تَاسِع عشرهم لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال مِنْهَا، ثمَّ أحضر القاهر أم المقتدر وسألها عَن الْأَمْوَال فَاعْترفت بِمَا عِنْدهَا من المصاغ والثيباب فَقَط، فضربها شَدِيدا وَقد بَدَأَ بهَا الاسْتِسْقَاء، ثمَّ علقها برجلها فَحَلَفت أَنَّهَا لَا تملك غير مَا أطلعته عَلَيْهِ. واستوزر أَبَا عَليّ بن مقلة وعزل وَولى وَقبض على جمَاعَة من الْعمَّال.
وفيهَا توفّي القَاضِي أَبُو عَمْرو مُحَمَّد بن يُوسُف وَكَانَ فَاضلا، وَأَبُو الْحُسَيْن بن صَالح الْفَقِيه الشَّافِعِي العابد، وَأَبُو نعيم عبد الْملك الْفَقِيه الشَّافِعِي الْجِرْجَانِيّ الْمَعْرُوف بالأشتر الأستراباذي.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشْرين وثلثمائة: فِيهَا فِي جمادي الْآخِرَة مَاتَت شغب وَالِدَة المقتدر ودفنت فِي تربَتهَا بالرصافة.
وفيهَا: حصلت الوحشة بَين مؤنس والقاهر، أَقَامَ مؤنس يلبق حاجبا وَجعل أَمر الْخلَافَة إِلَيْهِ فضيق على القاهر، وَمنع دُخُول امْرَأَة إِلَى دَار الْخلَافَة حَتَّى يعرف من هِيَ فَإِن القاهر كَانَ قد استمال جمَاعَة فِي الْبَاطِن للقبض على يلبق ومؤنس وَاتفقَ مَعَه الساجية وطريف السنكري أكبر القواد، فَقبض القاهر على يلبق وَابْنه ومؤنس فِي أول شعْبَان مِنْهَا، لأَنهم اتَّفقُوا مَعَ ابْن مقلة على خلعه وَإِقَامَة أبي أَحْمد بن المكتفي.
وَحضر ابْن يلبق وَأظْهر أَنه يُرِيد الِاجْتِمَاع بالخليفة بسب القرامطة وَقصد الْقَبْض على القاهر وَلم يعلم ابْن يلبق بِمَا رتبه لَهُ القاهر، وَدخل فَقبض عَلَيْهِ القاهر فِي دَار الْخلَافَة. وَبلغ أَبَاهُ يلبق ذَلِك وَكَانَ مَرِيضا فَحَضَرَ إِلَى دَار الْخلَافَة بِسَبَب ذَلِك، فَقبض عَلَيْهِ أَيْضا.
ثمَّ استدعى القاهر مؤنسا فَامْتنعَ، فَحلف أَن قَصده مِنْهُ الْكَشْف عَن حَال يلبق وَابْنه فَإِن صَحَّ مَا بلغه عَنْهُمَا وَإِلَّا أطلقهما، فَحَضَرَ مؤنس فَقبض عَلَيْهِ أَيْضا وعزل ابْن مقلة واستوزر أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ، ثمَّ جد فِي طلب أَحْمد بن المكتفي فظفر بِهِ وَبنى عَلَيْهِ حَائِطا فَمَاتَ.
وشغب أَصْحَاب مؤنس وَكَانُوا أَكثر الْعَسْكَر وثاروا بِسَبَب حبس مؤنس وطلبوا إِطْلَاقه، فذبح ابْن يلبق وَوضع رَأسه فِي طست وَكَانَ قد حَبسهم مُتَفَرّقين ثمَّ أحضر الرَّأْس فِي الطست إِلَى أَبِيه فَجعل يلبق يبكي ويرسف الرَّأْس، ثمَّ قَتله القاهر وَجعل رَأسه مَعَ رَأس ابْنه وأحضرهما إِلَى مؤنس فَتشهد مؤنس وَلعن قاتلهما فَقتله أَيْضا، وطيف بالرؤؤس الثَّلَاثَة فِي بَغْدَاد وَنُودِيَ: هَذَا جَزَاء من يخون الإِمَام، ثمَّ نظفت الرؤوس وَجعلت فِي خزانَة الرؤوس على جاري عَادَتهم، ثمَّ عزل القاهر أَبَا جَعْفَر الْوَزير وَولى الحصيني الوزارة، ثمَّ قبض على طريف السنكري.(1/254)
(ابْتِدَاء دولة بني بويه)
كَانَ بويه متوسط الْحَال بَين الديلم وكنيته أَبُو شُجَاع، وَلما عظمت مملكة بني بويه اشْتهر نسبهم فَقَالُوا: بويه بن فناخسروا بن تَمام بن كوهى بن شيرزيل الْأَصْغَر بن شيركوه بن شيرزيل الْأَكْبَر بن شيران شاه بن شيرفنه بن شستان شاه بن سسن فَيْرُوز بن شيرزبل بن سناد بن بهْرَام جور الْملك بن يزدجرد الْملك وَبَاقِي النّسَب إِلَى أردشير بن بابك تقدم.
وَكَانَ لبويه ثَلَاثَة بَنِينَ وهم: عماد الدولة أَبُو الْحسن عَليّ وركن الدولة الْحسن ومعز الدولة أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد، وَكَانُوا فِي خدمَة مَا كَانَ بن كالي الديلمي وَلما ملك من الديلم أشغار بن شيرويه ومرداويج كَمَا تقدم ملك مَا كَانَ بن كالي الديلمي طبرستان وَكَانَ أَوْلَاد بويه الثَّلَاثَة من عسكره متقدمين عِنْده، فَلَمَّا استولى مرداويج على مَا كَانَ بيد مَا كَانَ بن كالي من طبرستان، سَار مَا كَانَ عَن طبرستان وَاسْتولى على الدامغان.
ثمَّ انهزم مَا كَانَ بن كالي وَعَاد إِلَى نيسابور مُنْهَزِمًا وَأَوْلَاد بويه الثَّلَاثَة مَعَه لَا يفارقونه، فَلَمَّا رَأَوْا ضعفه عَن مقاتله مرداويج قَالُوا: نَحن مَعنا جمَاعَة وَأَنت مضيق وَالأَصَح أَن نُفَارِقك لتخف مؤنتك فَإِذا صلح أَمرك عدنا إِلَيْك. فَأذن لَهُم، ففارقوه وَلَحِقُوا بمردوايج وَمَعَهُمْ جمَاعَة من قواد مَا كَانَ، فَأحْسن إِلَيْهِم مرداويج وقلد عماد الدولة عَليّ بن بويه كرج فقوى بهَا وَكثر جمعه، ثمَّ أطلق مرداويج لجَماعَة من قواده مَالا على كرج، فَلَمَّا وصلوا لقبضه أحسن إِلَيْهِم عَليّ بن بويه واستمالهم حَتَّى أوجبوا طَاعَته، وَبلغ ذَلِك مرداويج فاستوحش من ابْن بويه.
ثمَّ قصد ابْن بويه الْمَذْكُور أصفهان وَبهَا ابْن ياقوت فَاقْتَتلُوا، فَانْهَزَمَ ابْن ياقوت وَاسْتولى ابْن بويه على أصفهان وَكَانَ أَصْحَابه تِسْعمائَة وعسكر ابْن ياقوت عشرَة آلَاف، فَعظم بذلك فِي عُيُون النَّاس، وَبَقِي مرداويج يراسل ابْن بويه ويلاطفه وَابْن بويه يعْتَذر وَلَا يحضر إِلَيْهِ.
وَأقَام ابْن بويه بأصفهان شَهْرَيْن وجبى أموالها وارتحل إِلَى أرجان وَكَانَ قد هرب إِلَيْهَا أَبُو بكر بن ياقوت فَانْهَزَمَ من ابْن بويه بِغَيْر قتال، فاستولى ابْن بويه على أرجان فِي ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وثلثمائة، ثمَّ وَصَارَ ابْن بويه إِلَى التوبيدخان وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي ربيع الآخر من سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلثمائة، ثمَّ أرسل عماد الدولة أَخَاهُ ركن الدولة إِلَى كازرون وَغَيرهَا من أَعمال فَارس فاستخرج أموالها، ثمَّ كَانَ مِنْهُم مَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن دُرَيْد اللّغَوِيّ فِي شعْبَان ومولده سنة ثَلَاث وَعشْرين ومائتتين، أَخذ الْعلم عَن أبي حَاتِم السجسْتانِي وَأبي الْفضل الرياشي وَغَيرهمَا، وَله تصانيف مِنْهَا مقصورته وَكتاب الجمهرة وَكتاب الْخَيل. قَالَ ابْن شاهين: كُنَّا ندخل على ابْن دُرَيْد فنستحي مِنْهُ مِمَّا نرى من العيدان الْمُعَلقَة وَالشرَاب الْمُصَفّى، وعاش ثَلَاثًا وَتِسْعين.(1/255)
قلت: ورثاه جحظة الْبَرْمَكِي فَقَالَ:
(فقدت بِابْن دُرَيْد كل فَائِدَة ... لما غَدا ثَالِث الْأَحْجَار والترب)
(وَكنت أبْكِي لفقد الْجُود مُنْفَردا ... فصرت أبْكِي لفقد الْجُود وَالْأَدب)
وَمرض بالفالج مرَّتَيْنِ مَاتَ فِي الثاينة، وَكَانَ يتألم من دُخُول الدَّاخِل وَإِن لم يصل إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَ تِلْمِيذه أَبُو عَليّ القالي: أَظُنهُ عُوقِبَ بقوله:
(مارست من لوهوت الأفلاك من ... جَوَانِب الجو عَلَيْهِ مَا شكا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو هَاشم بن أبي عَليّ الجبائي الْمُتَكَلّم المعتزلي ومولده سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، أَخذ عَن أَبِيه واجتهد حَتَّى فاقه. قَالَ أَبُو هَاشم: كَانَ أبي أكبر مني باثنتي عشرَة سنة. وَمَات أَبُو هَاشم وَابْن دُرَيْد فِي يَوْم وَاحِد بِبَغْدَاد فَقَالَ النَّاس: الْيَوْم دفن علم الْكَلَام وَعلم اللُّغَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الْفربرِي ومولده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ صَحِيح البُخَارِيّ عَنهُ، وَكَانَ قد سَمعه من البُخَارِيّ عشرات أُلُوف، مَنْسُوب إِلَى فربر، براءين قَرْيَة ببخارا قَالَه ابْن الْأَثِير، وَقَالَ ابْن خلكان: فربر بَلْدَة على طرف جيحون.
وفيهَا: توفّي بِمصْر أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَلامَة الْأَزْدِيّ الطَّحَاوِيّ الْفَقِيه الْحَنَفِيّ انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة أَصْحَاب أبي حنيفَة بِمصْر، وَكَانَ شافعيا وَكَانَ يقْرَأ على خَاله الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: وَالله لَا جَاءَ مِنْك شَيْء، فَغَضب واشتغل على مَذْهَب أبي حنيفَة، وبرع وصنف كتبا مفيدة مِنْهَا: أَحْكَام الْقُرْآن وَاخْتِلَاف الْعلمَاء ومعاني الْآثَار وتاريخ كَبِير، وولادته سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
قلت: وَلما صنف مُخْتَصره قَالَ: رحم اللَّهِ ابا إِبْرَاهِيم - يَعْنِي الْمُزنِيّ خَاله - لَو كَانَ حَيا لكفر عَن يَمِينه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا استولى عماد الدولة بن بويه على شيزار.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى خلع القاهر لغدره بطريف السنكري، وحنثه فِي الْيَمين بالأمان للَّذين قَتلهمْ. وَكَانَ ابْن مقلة مستترا من القاهر ويغري القواد بِهِ وَيظْهر تَارَة بزِي عجمي وَتارَة بزِي مكدي، وَأعْطى منجما مائَة دِينَار ليقول للقواد: إِن عَلَيْهِم قطعا من القاهر، وَأعْطى معبر منامات مائَة دِينَار حَتَّى عبر لسيما الْقَائِد مناما كَذَلِك، فاستوحشوا من القاهر وحضروا إِلَيْهِ وَقد بَات يشرب أَكثر ليلته وَأَحْدَقُوا بِالدَّار، فَاسْتَيْقَظَ مخمورا فهرب إِلَى سطح حمام فتبعوه وأحضروه إِلَى حبس طريف السنكري فحبسوه مَكَان طريف وسلموا عَيْنَيْهِ، وأخرجوا طريفا. وخلافته سنة وَاحِدَة وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام.(1/256)
(أَخْبَار الراضي بِاللَّه أَحْمد بن المقتدر)
وَلما قبضوا على القاهر كَانَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المقتدر ووالدته محبوسين فأخرجوه واجلسوه على سَرِير القاهر وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة ولقبوه الراضي بِاللَّه، وبويع الراضي بِاللَّه يَوْم الْأَرْبَعَاء لست خلون من جُمَادَى الأولى مِنْهَا. وَأَشَارَ سِيمَا الْقَائِد بوزارة ابْن مقلة فاستوزروه، وراودوا القاهر وَهُوَ أعمى مَحْبُوس أَن يشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ فَامْتنعَ.
وفيهَا: وَفَاة الْمهْدي عبيد اللَّهِ الْعلوِي الفاطمي بالمهدية فِي ربيع الأول وأخفى وَلَده الْقَائِم ألو الْقَاسِم مُحَمَّد مَوته سنة لتدبير كَانَ لَهُ، وعاش الْمهْدي ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وولايته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ثمَّ أظهر ابْنه وَفَاته واستقرت ولَايَته.
وفيهَا: قتل مُحَمَّد بن عَليّ الشلمغاني، وشلمغان قَرْيَة بنواحي وَاسِط. وَذَلِكَ أَنه أحدث مذهبا مَدَاره على الْحُلُول والتناسخ ... ... . وَقيل: أَنه تبعه على ذَلِك الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ الَّذِي وزر للمقتدر، وَأَبُو جَعْفَر وَأَبُو عَليّ ابْنا بسطَام، وَإِبْرَاهِيم بن إبي عون، وَأحمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس.
وَكَانَ الشلمغاني وَأَصْحَابه مستترين فَظهر فِي شَوَّال مِنْهَا فأمسكه الْوَزير ابْن مقلة، فَأنْكر الشلمغاني مذْهبه وَكَانَ أَصْحَابه يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الإلهية، وأحضره الْوَزير عِنْد الراضي وَأمْسك مَعَه ابْن أبي عون وَابْن عَبدُوس، فأمروهما بصفع الشلمغاني فامتنعا فأكرها، فصفعه ابْن عَبدُوس، وَأما ابْن أبي عون فارتعدت يَده فَقبل لحية الشمغاني وَرَأسه وَقَالَ: إلهي وسيدي ورازقي، فَقَالُوا للشلمغاني: أما قلت إِنَّك لم تدع الإلهية؟ فَقَالَ: مَا ادعيتها قطّ وَمَا عَليّ من قَول ابْن أبي عون عني مثل هَذَا، ثمَّ صرفا.
وأحضر الشلمغاني مرَارًا بِحُضُور الْفُقَهَاء، وَآخر الْأَمر: أَن الْفُقَهَاء أفتوا بِإِبَاحَة دَمه، فصلب هُوَ وَابْن أبي عون فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا وأحرقا، وَفِي مذْهبه قبائح وكفريات أعرضنا عَن ذكرهَا، وأشبهوا فِي ترك الصَّلَاة وجماع الْمَحَارِم وَنَحْوهمَا النصرية.
وفيهَا: قتل إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق النوبختي، قَتله القاهر قبل أَن يخلع، والنوبختي أَشَارَ باستخلافه.
وفيهَا: فتح الدمستق ملطية بالأمان بعد حِصَار وَأخرج أَهلهَا وأوصلهم إِلَى مأمنهم فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة، وَفعل الرّوم الْأَفْعَال القبيحة بِالْمُسْلِمين وَصَارَت أَكثر الْبِلَاد فِي أَيْديهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم الْفَقِيه الْجِرْجَانِيّ الأستراباذي، وَأَبُو عَليّ مُحَمَّد الروذاري الصُّوفِي، وَأَبُو الْحُسَيْن النساج بن عبد اللَّهِ الصُّوفِي من سامراء من الأبدال، وَمُحَمّد بن عَليّ بن جَعْفَر الْكِنَانِي الصُّوفِي من أَصْحَاب الْجُنَيْد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا قتل مرداويج الديلمي كَانَ قد تجبر(1/257)
وَعمل لأَصْحَابه كراسي فضَّة ولنفسه تاجا مرصعا على صفة تَاج كسْرَى، وَفِي لَيْلَة الميلاد من هَذِه السّنة أَمر أَن تجمع الأحطاب مِثَال الْجبَال والتلال وَخرج إِلَى ظَاهر أصفهان لذَلِك، وَجمع مَا يزِيد عَن ألفي غراب ليعْمَل فِي أرجلها النفط، وَأمر بِعَمَل سماط عَظِيم فِيهِ ألف فرس وألفا رَأس بقر وَمن الْغنم والحلواء كثير، فَلَمَّا اسْتَوَى ذَلِك وَرَآهُ احتقره وَغَضب على أهل دولته فَلَمَّا انْقَضى السماط وانقادت النيرَان وَأصْبح ليدْخل أصفهان اجْتمع الْجند للْخدمَة وَكثر صَهِيل الْخَيل حول خيمته، فاغتاظ لذَلِك وَقَالَ: لمن هَذِه الْخَيل الْقَرِيبَة؟ قَالُوا: للأتراك، فَأمر أَن تُوضَع سُرُوجهَا على ظُهُور الأتراك ويدخلوا الْبَلَد كَذَلِك، فَفعل بهم فَكَانَ لَهُ منظر قَبِيح، وازداد الأتراك حنقا عَلَيْهِ.
ورحل إِلَى أصفهان وَهُوَ غَضْبَان فَأمر صَاحب حرسه أَن لَا يتبعهُ فِي ذَلِك الْيَوْم وَلم يَأْمر أحدا غير ليجمع الحرش وَدخل الْحمام، فانتهزت الأتراك الفرصة وهجموا فَقَتَلُوهُ فِي الْحمام. ومرداويج - بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف وواو ممالة وياء مثناة تَحت وجيم - فارسية مَعْنَاهَا: مُعَلّق الرِّجَال.
وفيهَا: عظم أَمر الْحَنَابِلَة على النَّاس حَتَّى كبسوا دور القواد والعامة فَإِن وجدوا نبيذا أراقوه وَإِن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آله اللَّهْو، واعترضوا فِي البيع وَالشِّرَاء وَفِي مشي الرِّجَال مَعَ الصّبيان وَنَحْو ذَلِك، فنهاهم صَاحب الشرطة عَن ذَلِك وَأمرهمْ أَن لَا يُصَلِّي مِنْهُم إِمَام إِلَّا إِذا جهر بِبسْم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَلم يفد فيهم، فَكتب الراضي توقيعا ينهاهم فِيهِ ويبوبخهم باعتقاد التَّشْبِيه، فَمِنْهُ: أَنكُمْ تَارَة تَزْعُمُونَ أَن صُورَة وُجُوهكُم القبيحة السمجة على مِثَال رب الْعَالمين وهيئتكم على هَيئته وتذكرون لَهُ الشّعْر القطط والصعود إِلَى السَّمَاء وَالنُّزُول إِلَى الدُّنْيَا وَغير ذَلِك وَآخره وأمير الْمُؤمنِينَ يقسم عَظِيما إِن لم تنتهوا ليستعملن السَّيْف فِي رِقَابكُمْ وَالنَّار فِي مَنَازِلكُمْ.
وفيهَا: تولى الأخشيد مصر، وَهُوَ مُحَمَّد بن طغج بن جف من جِهَة الراضي بِاللَّه، وَكَانَ الأخشيد قبل ذَلِك قد تولى مَدِينَة الرملة سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة من جِهَة المقتدر وَأقَام بهَا إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وثلثمائة، فوردت كتب المقتدر بولايته دمشق فَسَار إِلَيْهَا وتولاها، والمتولى حِينَئِذٍ مصر أَحْمد بن كيغلغ. فَلَمَّا تولى الراضي عزل ابْن كغليغ وولاها الأخشيد وَضم إِلَيْهِ الشَّام، فاستقر بِمصْر يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا.
وفيهَا: قتل أَبُو الْعَلَاء بن حمدَان، وَذَلِكَ أَن نَاصِر الدولة الْحسن بن عبد اللَّهِ بن حمدَان كَانَ أَمِير الْموصل وديار ربيعَة، وَكَانَ أول من تولى مِنْهُم وَالِد نَاصِر الدولة عبد اللَّهِ أَبُو الهيجاء ولاه عَلَيْهَا المكتفي وَقتل أَبُو الهيجاء بِبَغْدَاد فِي المدافعة عَن القاهر، وَلما قبض عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنه نَاصِر الدولة نَائِبا عَنهُ بالموصل اسْتمرّ بهَا إِلَى هَذِه السّنة، فضمن عَمه أَبُو الْعَلَاء بن حمدَان مَا بيد ابْن أَخِيه من ديوَان الْخَلِيفَة بِمَال يحملهُ.
وَسَار أَبُو الْعَلَاء إِلَى الْموصل فَقتله ابْن أَخِيه نَاصِر الدولة، فَأرْسل الْخَلِيفَة عسكرا مَعَ(1/258)
ابْن مقلة إِلَى قتال نَاصِر الدولة فهرب نَاصِر الدولة، فَأَقَامَ ابْن مقلة بالموصل مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد، فَعَاد نَاصِر الدولة إِلَى الْموصل وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة يسْأَله الصفح وَضمن الْموصل بِمَال يحملهُ فَأُجِيب.
وفيهَا: أرسل الْقَائِم الْعلوِي صَاحب الْمغرب جَيْشًا من إفريقية فِي الْبَحْر، فَفتح جنوة وأوقعوا بِأَهْل سردانية، وعادوا سَالِمين.
وفيهَا: استولى عماد الدّين بن أصفهان وتنازع مَعَ شمكير فِي تِلْكَ الْبِلَاد وَهِي أصفهان وهمدان وقم وقاشان وكرج والري وكنلور وقزوين وَغَيرهَا.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة شغب الْجند بِبَغْدَاد ونقبوا دَار الْوَزير فهرب هُوَ وَابْنه إِلَى الْجَانِب الغربي، ثمَّ راضياهم.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَرَفَة نفطويه النَّحْوِيّ الوَاسِطِيّ، وَله مصنفات، وَهُوَ من ولد الْمُهلب بن أبي صفرَة، ولد سنة ارْبَعْ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَفِيه يَقُول الشَّيْخ مُحَمَّد بن يزِيد بن عَليّ الْمُتَكَلّم:
(من سره أَن لَا يرى فَاسِقًا ... فليجتهد أَن لَا يرى نفطويه)
(أحرقه اللَّهِ بِنصْف اسْمه ... وصير الْبَاقِي نواحا عَلَيْهِ)
قلت: وفيهَا: عملت قبْلَة الْمَسْجِد الْجَامِع بمعرة النُّعْمَان بالرخام والفصوص والجص، عمل ذَلِك اخوان من دمشق اسْم أَحدهمَا متوكل، وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن أحرق تغفور ملك الرّوم الْجَامِع الْمَذْكُور وَأكْثر الدّور بعد أَن فتحهَا فِي سنة سبع وَخمسين وثلثمائة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا قبض الحجرية والمظفر بن ياقوت على الْوَزير ابْن مقلة بدار الْخلَافَة، وأعلموا بذلك الْخَلِيفَة فَاسْتَحْسَنَهُ، وَامْتنع عَليّ بن عِيسَى أَن يَلِي فوزروا أَخَاهُ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى، ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وولوا الوزارة أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن قَاسم الْكَرْخِي.
وفيهَا: قطع ابْن راتق حمل وَاسِط وَالْبَصْرَة، وَقطع الْبَرِيد، فَضَاقَ مَال بَغْدَاد وَعجز أَبُو جَعْفَر فعزلوه وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وَنصفا واستوزروا سُلَيْمَان بن الْحسن، وراسل الْخَلِيفَة مُحَمَّد بن راتق يستقدمه من وَاسِط واستماله خوفًا مِنْهُ ليقوم بالأمور، وقلده إِمَارَة الْجَيْش وَأمر أَن يخْطب لَهُ على الْمِنْبَر وَكَانَ ابْن راتق قد امسك الساجية قبل دُخُوله بَغْدَاد فاستوحشت الحجرية مِنْهُ.
وَبَطلَت بِابْن راتق وزارة بَغْدَاد وَنظر فِي الْأُمُور كلهَا، وتغلبت الْعمَّال على الْأَطْرَاف وَلم يبْق للخليفة غير بَغْدَاد وأعمالها وَالْحكم فِيهَا لِابْنِ راتق وَلَيْسَ للخليفة حكم.
وَأما الْأَطْرَاف: فَكَانَت الْبَصْرَة لِابْنِ راتق الْمَذْكُور، وخوزستان بيد البريدي، وَفَارِس(1/259)
بيد عماد الدولة بن بويه، وكرمان بيد عَليّ بن مُحَمَّد بن إلْيَاس، والري وأصبهان والجبل بيد ركن الدولة بن بويه ويدوشمكير بن زِيَاد أخي مرداويج يتنازعان عَلَيْهَا، والموصل وديار بكر وديار مصر وَرَبِيعَة بيد بني حمدَان ومصر وَالشَّام بيد الأخشيد مُحَمَّد بن طغج، وَالْمغْرب وإفريقية بيد الْقَائِم الْعلوِي بن الْمهْدي، والأندلس بيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْأمَوِي النَّاصِر، وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر بيد نصر بن أَحْمد الساماني، وطبرستان وجرجان بيد الديلم، والبحرين واليمامة بيد أبي طَاهِر القرمطي.
وفيهَا: استقدم مُحَمَّد بن راتق الْفضل بن جَعْفَر بن الْفُرَات عَامل خراج مصر وَالشَّام، فَقدم وَتَوَلَّى الوزارة لِابْنِ راتق والخليفة.
وفيهَا: قلد الْخَلِيفَة مُحَمَّد بن طغج مصر وأعمالها مَعَ مَا بِيَدِهِ من الشَّام بعد عزل أَحْمد بن كيغلغ.
وفيهَا: ولد عضد الدولة أَبُو شُجَاع فناخسرو بن ركن الدولة الْحسن بن بويه بأصبهان.
وفيهَا: توفّي جحظة الْبَرْمَكِي من ولد يحيى بن خَالِد بن برمك، كَانَ يعرف علوما.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُغلس الْفَقِيه الظَّاهِرِيّ صَاحب التصانيف، وَعبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْفَقِيه الشَّافِعِي النَّيْسَابُورِي ومولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ إِمَامًا وجالس الرّبيع والمزني وَيُونُس أَصْحَاب الشَّافِعِي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا أَشَارَ مُحَمَّد بن راتق على الراضي بالميسر مَعَه إِلَى وَاسِط فَفعل، وَأمْسك ابْن راتق بعض الأجناد الحجرية وَأجَاب ابْن البريدي إِلَى مَا طلب مِنْهُ فَعَاد الراضي وَابْن راتق، ثمَّ نكث أَبُو عبد اللَّهِ بن البريدي، فَأرْسل ابْن راتق عسكرا مَعَ بجكم وقاتلوه، فَانْهَزَمَ ابْن البريدي إِلَى عماد الدولة بن بويه وطمعه فِي الْعرَاق وَفِي الْخَلِيفَة.
وفيهَا: ظلم سَالم بن رَاشد عَامل صقيلة من جِهَة الْقَائِم وأساء السِّيرَة فعصت عَلَيْهِ جرجيت من صقلية وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة بذلك، فَجهز إِلَيْهِ عسكرا وحاصروا جرجيت فأنجدهم ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة ودام الْحصار إِلَى سنة تسع وَعشْرين، فَسَار بعض أَهلهَا وَنزل الْبَاقُونَ بالأمان فاخذ كبارهم فِي مركب ليقدموا على الْقَائِم، ثمَّ خرق الْمركب فَغَرقُوا.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الخزار النَّحْوِيّ مُصَنف فِي علم الْقُرْآن.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار معز الدولة بِأَمْر أَخِيه عماد الدولة بن بويه إِلَى الأهواز وَتلك الْبِلَاد فاستولى عَلَيْهَا، وَسَببه: مسير ابْن البريدي إِلَى عماد الدولة - كَمَا قُلْنَا -.
وفيهَا: فِي نصف شَوَّال قطعت يَمِين أبي عَليّ مُحَمَّد بن الْعلي بن الْحُسَيْن بن مقلة،(1/260)
وَسَببه أَنه سعى فِي الْقَبْض على ابْن راتق وَإِقَامَة بجكم مَوْضِعه، فَعلم بِهِ ابْن راتق فحبسه الراضي لأجل ابْن راتق، وَفِي الآخر قطعُوا يَده وبرأ فسعى فِي الوزارة وَشد الْقَلَم على يَده المقطوعة وَكتب وَكَانَ يَدْعُو عَلَيْهِم، فَقطع ابْن راتق لِسَانه وضيق عَلَيْهِ فِي الْحَبْس، ثمَّ لحقه الذرب من غير خَادِم يَخْدمه فقاسى شدَّة حَتَّى مَاتَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة وَدفن بدار الْخلَافَة، ثمَّ نبش وَسلم إِلَى أَهله فدفنوه فِي دَاره، ثمَّ نقل إِلَى دَار أُخْرَى.
وَالْعجب: وزارته ثَلَاث مَرَّات، للمقتدر والقاهر الراضي، وسافر ثَلَاث مَرَّات مرَّتَيْنِ إِلَى شيزار وَمرَّة فِي وزارته إِلَى الْموصل، وَدفن ثَلَاث مَرَّات.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن مقلة نواحا على يَده: خدمت بهَا الْخُلَفَاء وكتبت بهَا الْقُرْآن الْكَرِيم دفعتين تقطع كَمَا تقطع أَيدي اللُّصُوص، وَأنْشد:
(مَا سئمت الْحَيَاة وَلَكِن توثقت ... بأيمانهم فَبَانَت يَمِيني)
(بِعْت ديني لَهُم بدنياي حَتَّى ... حرموني دنياهم بعد ديني)
(وَلَقَد حطت مَا اسْتَطَعْت بجهدي ... حفظ أَرْوَاحهم فَمَا حفظوني)
(لَيْسَ بعد الْيَمين لَذَّة عَيْش ... يَا حَياتِي بَانَتْ يَمِيني فبيني)
قلت: وَبعد مَوته استعرضوا خزانَة الرؤوس وَذَلِكَ فِي آخر أَيَّام الراضي وَكَانَت قد امْتَلَأت فرموها كلهَا فِي دجلة، وَكَانَ بَعْضهَا فِي أسفاط وَبَعضهَا فِي صناديق رصاص، ووجدوا فِي الْجُمْلَة سفطا فِيهِ رَأس وَيَد ورقعة فِيهَا مَكْتُوب هَذَا رَأس أبي الْجمال، الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن وهب وَهَذِه الْيَد الَّتِي مَعَ الرَّأْس يَد الْوَزير أبي عَليّ بن مقلة وَهِي الْيَد الَّتِي وَقعت بِقطع هَذَا الرَّأْس، وَالله أعلم.
وَله أَلْفَاظ منقولة مِنْهَا: إِنِّي إِذا أَحْبَبْت تهالكت، وَإِذا أبغضت أهلكت وَإِذا رضيت آثرت، وَإِذا غضِبت أثرت، وَمِنْهَا: يُعجبنِي من يَقُول الشّعْر تأدبا لَا تكسبا، وَيتَعَاطَى الْغناء تطربا لَا تطلبا.
وَالصَّحِيح: أَن صَاحب الْخط الْمليح هُوَ أَخُوهُ أَبُو عبد اللَّهِ الْحسن بن عَليّ بن مقلة المتوفي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، وَالله أعلم.
وفيهَا: غرَّة ذِي الْقعدَة سَار بجكم من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد، وجهز ابْن راتق إِلَيْهِ عسكرا من بَغْدَاد فَهَزَمَهُمْ بجكم، فهرب ابْن راتق إِلَى عكبرا واستتر، وَدخل بجكم بَغْدَاد ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة فَجعله الراضي أَمِير الْأُمَرَاء، وَكَانَت مُدَّة ابْن راتق سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا. كَانَ بجكم مَمْلُوكا لوزير ماكان الديلمي فَأَخذه مِنْهُ، ثمَّ فَارقه وَلحق بمرداويج فَكَانَ من قَتله مرداويج، ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة ابْن راتق حَتَّى كتب على رايته الراتقي وَاسْتولى من جِهَة ابْن راتق على الأهواز وطرد ابْن البريدي، وَلما استولى ابْن بويه على الأهواز سَار بجكم إِلَى وَاسِط حَتَّى جرى مَا جرى.
قلت: وانتقم اللَّهِ تَعَالَى لِابْنِ مقلة من ابْن راتق، فَصَارَ عدوه بجكم بِحكم مَوْضِعه ثمَّ(1/261)
قتل ابْن راتق كَمَا سَيَأْتِي. وَمِمَّا قلت فِي هَذَا الْمَعْنى وَالنّصف الثَّانِي من الْبَيْت الأول للمتنبي ضمنته فَقلت:
(وَكم مقلة سحت لكف ابْن مقلة ... يدا لَا تُؤدِّي شكرها الْيَد والفم)
(بِهِ كدر الرَّحْمَن عَيْش ابْن راتق ... وَأصْبح فِي بَغْدَاد يحكم بجكم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فَسدتْ أَحْوَال القرامطة وافتتنوا واقتتلوا فاستقروا فِي هجر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار بجكم والراضي إِلَى الْموصل فهرب نَاصِر الدولة بن حمدَان، ثمَّ حمل مَالا وَاسْتقر الصُّلْح مَعَه، وَظهر ابْن راتق مَعَ جمَاعَة بِبَغْدَاد قبل وُصُول الْخَلِيفَة إِلَيْهَا فخافه الْخَلِيفَة وبجكم، ثمَّ اسْتَقر الْحَال على أَن ولوه حران والرها وقنسرين والعواصم فاستولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: عصى أُميَّة بن إِسْحَاق على عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي بشنيرين وأنجده الجلالقة وهزموا الْمُسلمين، ثمَّ الْتَقَوْا ثَانِيًا فانهزمت الجلالقة وَقتل مِنْهُم كثير، ثمَّ أَمن عبد الرَّحْمَن أُمِّيّه.
وفيهَا: توفّي عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم الرَّازِيّ صَاحب الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَعُثْمَان بن خطاب أَبُو الدُّنْيَا الْأَشَج الَّذِي يُقَال أَنه لَقِي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَله صحيفَة يروي عَنهُ وَلَا يَصح، وَقد رَوَاهَا كثير من الْمُحدثين على علم مِنْهُم بضعفها.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَعْفَر بِمَدِينَة يافا، وَله التصانيف كاعتدال الْقُلُوب وَغَيره.
وفيهَا: توفّي الكعبي المعتزلي أَبُو الْقَاسِم عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن مَحْمُود صَاحب الْمقَالة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا استولى ابْن راتق على الشَّام وطرد بَدْرًا نَائِب الأخشيد وَبلغ الْعَريش يُرِيد مصر، فَخرج إِلَيْهِ الأخشيد وَجرى قتال شَدِيد آخِره انهزام ابْن راتق إِلَى دمشق، ثمَّ جهز الأخشيد إِلَى ابْن راتق جَيْشًا مَعَ اخيه واقتتلوا فَانْهَزَمَ عَسْكَر الأخشيد وَقتل أَخُوهُ، فَأرْسل ابْن راتق يعزي الأخشيد فِي أَخِيه وَيَقُول أَنه لم يقتل بأَمْري، وَأرْسل وَلَده مُزَاحم وَقَالَ: إِن أَحْبَبْت فَاقْتُلْ وَلَدي بِهِ، فَخلع الأخشيد على مُزَاحم وَأَعَادَهُ إِلَى أَبِيه، واستقرت مصر للأخشيد وَالشَّام لِابْنِ راتق.
وفيهَا: قتل السنكري بالثغر.
وفيهَا: توفّي الكليني بالنُّون وَهُوَ من أَئِمَّة الإمامية، وَمُحَمّد بن أَحْمد شنوذ الْمقري بالشاذ من مَشَايِخ الصُّوفِيَّة.
قلت: وَمنعه ابْن مقلة من إقراء الشاذ وَكتب عَلَيْهِ بذلك سجلا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِقطع الْيَد فَقدر اللَّهِ ذَلِك، وَالله اعْلَم.(1/262)
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن الْأَنْبَارِي صَاحب كتاب الْوَقْف والابتداء ثِقَة مولده سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر أَحْمد بن عبد ربه بن حبيب الْقُرْطُبِيّ مولى هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل من الْعلمَاء المكثرين وَكتابه العقد الفريد من الْكتب النفيسة، ومولده سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: سقط ثلج عَظِيم فِي آذار، وَفِيه قَالَ الصنوبري:
(تأنق ذَا الرَّوْض فِي نسجه ... وَأغْرب آذار فِي ثلجة)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا فِي نصف ربيع الأول مَاتَ الراضي بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المقتدر بن المعتضد بالاستسقاء وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة. وَمن شعره الْجيد:
(يصفر وَجْهي إِذا تَأمله ... طرفِي فيحمر وَجهه خجلا)
(حَتَّى كَأَن الَّذِي بوجنته ... من دم قلبِي إِلَيْهِ قد نقلا)
وَله:
(كل صفو إِلَى كدر ... كل أَمن إِلَى حذر)
(أَيهَا الآمن الَّذِي ... تاه فِي لجة الْغرَر)
(ابْن من كَانَ قبلنَا ... درس الْعين والأثر)
(در در المشيب من ... واعظ ينذر الْبشر)
وَكَانَ رَحمَه اللَّهِ شَيخا يحب الأدباء والفضلاء، ونادمه سِنَان بن ثَابت الصابي الطَّبِيب، وَكَانَ الراضي أسمر خَفِيف العارضين أمه ضلوم أم ولد، وَهُوَ آخر خَليفَة لَهُ شعر يدون وَآخر خَليفَة خطب كثيرا على منبره وَإِن كَانَ غَيره خطب فنادر وَآخر خَليفَة جَالس الجلساء وَآخر خَليفَة كَانَت جرايته وخزائنه ومطابخه وأموره على تَرْتِيب الْخُلَفَاء الْمُتَقَدِّمين.
(أَخْبَار إِبْرَاهِيم المتقي لله)
وبقى الْأَمر بعده مَوْقُوفا انتظارا لقدوم أبي عبد اللَّهِ الْكُوفِي كَاتب بجكم من وَاسِط وَكَانَ بجكم أَيْضا هُنَاكَ واحتيط على دَار الْخَلِيفَة، فورد كتاب بجكم مَعَ كِتَابه الْكُوفِي يَأْمر فِيهِ أَن يجْتَمع مَعَ أبي الْقَاسِم سُلَيْمَان بن الْحسن وَزِير الراضي كل من تقلد الوزارة وَأَصْحَاب الدَّوَاوِين والعلويون والعباسيون والقضاة ووجوه الْبَلَد ويشاورهم الْكُوفِي فِيمَن ينصب خَليفَة، فاتفقوا على بيعَة المتقي لله إِبْرَاهِيم بن المقتدر بِاللَّه أبي الْفضل جَعْفَر فِي الْعشْرين من ربيع الأول، فسير الْخلْع واللواء إِلَى بجكم بواسط، وَكَانَ بجكم قبل اسْتِخْلَاف المتقي قد أرسل من أَخذ من دَار الْخلَافَة فرشا وآلات كَانَ يستحسنها، وَجعل(1/263)
سَلامَة الطولوني حَاجِب المتقي وَأقر سُلَيْمَان بن الْحسن وَزِير الراضي على اسْم الوزارة وَالتَّدْبِير كُله إِلَى الْكُوفِي كَاتب بجكم.
وفيهَا: قتل ماكان، وَكَانَ قد استولى على جرجان فقصده أحد قواده السامانية بعسكر خُرَاسَان وَهُوَ أَبُو عَليّ بن مُحَمَّد بن مظفر بن مُحْتَاج، فَهزمَ ماكان عَن جرجان فَأَقَامَ بطبرستان، ثمَّ سَار ابْن الْمُحْتَاج إِلَى الرّيّ فاستولى عَلَيْهَا وَبهَا وشمكير بن زِيَاد أَخُو مرداويج، فَأرْسل وشمكير يستنجد ماكان بن كالي من طبرستان فأنجده وَقدم إِلَيْهِ وقاتلا ابْن الْمُحْتَاج فجَاء سهم غرب فِي رَأس ماكان وَنفذ من الخوذة إِلَى جَبينه وطلع من قَفاهُ فَمَاتَ وهرب وشمكير إِلَى طبرستان وَاسْتولى ابْن الْمُحْتَاج على الرّيّ.
قلت: حَتَّى كَأَن " ماكان " مَا كَانَ وَالله أعلم.
وفيهَا: قتل بجكم، كَانَ أرسل جَيْشًا لقِتَال البريدي ثمَّ سَار من وَاسِط فِي أَثَرهم فَأخْبرهُ بنصر عسكره فقصد الرُّجُوع إِلَى وَاسِط وَجعل يتصيد فِي طَرِيقه حَتَّى بلغ نهر جور فَسمع أَن هُنَاكَ أكرادا لَهُم مَال وثروة فقصدهم فِي جمَاعَة قَليلَة وأوقع بهم فَهَرَبُوا، وَجَاء مِنْهُم صبي من خلف وَطعن بجكم فِي خاصرته بِرُمْح وَلَا يعرفهُ فَمَاتَ. وَبلغ المتقي قَتله فاستولى على دَاره وَأخذ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة أَكْثَرهَا كَانَ مَدْفُونا، وأتى البريدي الْفرج بقتل بجكم من حَيْثُ لَا يحْتَسب.
قلت:
(إِذا حمل الْفَتى هما فجهل ... فَإِن اللَّهِ يلطف بالعبيد)
(وَكم لله من فرج سريع ... نفضله على فرج البريدي)
وَالله أعلم.
وَمُدَّة أَمارَة بجكم سنتَانِ وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام.
وَقصد البريدي بَغْدَاد وَاسْتولى على ألأمر أَيَّامًا، ثمَّ أخرجته الْعَامَّة عَنْهَا لسوء سيرته، ثمَّ استولى على الْأَمر كورتكين مُدَّة قَليلَة فاستخلف ابْن راتق على الشَّام أَبَا الْحسن أَحْمد بن عَليّ بن مقَاتل وَوصل بَغْدَاد وَجرى بَينه وَبَين كورتكين قتال آخِره هزيمَة كورتكين، ثمَّ ظفر بِهِ ابْن راتق وحبسه وقلد المتقي ابْن راتق إمرة الْأُمَرَاء بِبَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي مَتى بن يُونُس الفليسوف، وبختيشوع بن يحيى الطَّبِيب.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا استولى ابْن البريدي على بَغْدَاد وهرب ابْن راتق والخليفة المتقي إِلَى جِهَة الْموصل، وَنهب ابْن البريدي بَغْدَاد وجار وعسف فرطا.
وَلما وصل المتقي وَابْن راتق تكريت كَاتبا نَاصِر الدولة بن حمدَان يستمدانه وقدما الْموصل فَخرج عَنْهَا نَاصِر الدولة إِلَى الْجَانِب الآخر، فَأرْسل المتقي إِلَيْهِ ابْنه أَبَا مَنْصُور وَابْن راتق فأكرمهما نَاصِر الدولة ونثر على الْخَلِيفَة ذَهَبا، وَلما قاما لينصرفا أَمر نَاصِر الدولة أَصْحَابه فَقتلُوا ابْن راتق، ثمَّ سَار ابْن حمدَان إِلَى المتقي فَخلع المتقي عَلَيْهِ وَجعله أَمِير(1/264)
الْأُمَرَاء وَذَلِكَ فِي مستهل شعْبَان مِنْهَا وخلع على أَخِيه أبي الْحسن عَليّ ولقبه سيف الدولة، وَكَانَ قتل ابْن راتق لسبع بَقينَ من رَجَب مِنْهَا.
وَبلغ الأخشيد بِمصْر قتل ابْن راتق فَسَار وَاسْتولى على دمشق.
ثمَّ سَار المتقي وناصر الدولة إِلَى بَغْدَاد فهرب عَنْهَا ابْن البريدي وَنهب بعض النَّاس بَعْضًا، وَكَانَ مقَام ابْن البريدي بِبَغْدَاد ثَلَاثَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا، وَدخل المتقي بَغْدَاد وَمَعَهُ بَنو حمدَان فِي جيوش كَثِيرَة فِي شَوَّال مِنْهَا، وَأصْلح نَاصِر الدولة بِبَغْدَاد الدَّنَانِير كَانَ الدِّينَار بِعشْرَة فَبيع بِثَلَاثَة عشر درهما.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْمحَامِلِي الْفَقِيه الشَّافِعِي، ومولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي بشر الْأَشْعَرِيّ، ومولده سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِبَغْدَاد، وَدفن بمشرعة الزوايا وطمس قَبره خوفًا عَلَيْهِ من الْحَنَابِلَة وَلَوْلَا السُّلْطَان لنبشوه، وَهُوَ رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ من ولد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ اشْتغل بالْكلَام مُعْتَزِلا زَمَانا، ثمَّ خَالف الْمُعْتَزلَة والمشبهة ومقالته أَمر متوسط وناظر شَيْخه الجبائي فِي وجوب الْأَصْلَح على اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنعه الْأَشْعَرِيّ وَقَالَ: مَا تَقول فِي ثَلَاثَة إخوه أحدهم كَانَ برا مُؤمنا تقيا وَالثَّانِي كَانَ كَافِرًا فَاسِقًا شقيا وَالثَّالِث كَانَ صَبيا فماتوا فَكيف حَالهم؟ فَقَالَ الجبائي: أما الزَّاهِد فَفِي الدَّرَجَات وَأما الْكَافِر فَفِي الدركات وَأما الصَّغِير فَمن أهل السّلم، فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: إِن أَرَادَ الصَّغِير أَن يذهب إِلَى دَرَجَات الزَّاهِد يُؤذن لَهُ؟ فَقَالَ الجبائي: لَا لِأَنَّهُ يُقَال لَهُ: إِن أَخَاك إِنَّمَا وصل إِلَى هَذِه الدرجَة بِسَبَب طَاعَته الْكَثِيرَة وَلَيْسَ لَك تِلْكَ الطَّاعَات، فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: فَإِن قَالَ ذَلِك الصَّغِير: التَّقْصِير لَيْسَ مني فَإنَّك مَا أبقيتني وَلَا أقدرتني على الطَّاعَة؟ فَقَالَ الجبائي: يَقُول الْبَارِي جلّ وَعلا: أعلم أَنَّك لَو بقيت لعصيت وصرت مُسْتَحقّا للعذاب الْأَلِيم فراعيت مصلحتك، فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: فَلَو قَالَ الْأَخ الْكَافِر: يَا إِلَه الْعَالمين كَمَا علمت حَاله فقد علمت حَالي فَلم راعيت مصْلحَته دوني؟ فَقَالَ الجبائي: وسوست؟ فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: مَا وسوس وَلَكِن وقف حمَار الشَّيْخ على القنطرة - يَعْنِي أَنه انْقَطع -.
ومقالة الْأَشْعَرِيّ أشهر المقالات، وَلَا مبالاة بتكفير بعض الْحَنَابِلَة لَهُ، والجبائي زوج أم ألأشعري رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى ثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار نَاصِر الدولة عَن بَغْدَاد إِلَى الْموصل وثارت الديلم ونهبت دَاره، وَكَانَ أَخُوهُ سيف الدولة بواسط فثارت عَلَيْهِ الأتراك الَّذين مَعَه وكبسوه لَيْلًا فِي شعْبَان، فهرب سيف الدولة أَبُو الْحسن عَليّ إِلَى أَخِيه نَاصِر الدولة أبي مُحَمَّد الْحسن بن عبد اللَّهِ بن حمدَان وَلحق بِهِ، ثمَّ قدم سيف الدولة إِلَى بَغْدَاد وَطلب من المتقي مَالا ليفرقه فِي الْعَسْكَر وَيمْنَع تورون والأتراك من دُخُول بَغْدَاد، فأنفذ إِلَيْهِ المتقي أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار فرقها فِي أَصْحَابه.(1/265)
وَلما وصل تورون إِلَى بَغْدَاد هرب سيف الدولة عَنْهَا، وَدخل تورون بَغْدَاد فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان هَذِه السّنة فَخلع المتقي عَلَيْهِ وَجعله أَمِير الْأُمَرَاء، وَبَقِي المتقي خَائفًا من تورون - بِضَم التَّاء - ... .
وفيهَا: توفّي السعيد نصر بن أَحْمد بن الساماني صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر بالسل وولايته ثَلَاثُونَ سنة وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة كَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا، وَتَوَلَّى بعده نوح ابْنه وَحلف لَهُ فِي شعْبَان.
وفيهَا: أرسل ملك الرّوم يطْلب من المتقي منديلا زعم أَن الْمَسِيح مسح بِهِ وَجهه فَصَارَت صُورَة وَجهه فِيهِ وَأَن هَذَا المنديل فِي بيعَة الرها وَأَنه إِن أرْسلهُ أطلق عددا كثيرا من الأسرى، فأحضر المتقي الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء واستفتاهم فِي ذَلِك فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعضهم: دَفعه إِلَيْهِم وَإِطْلَاق الأسرى أولى، وَقَالَ بَعضهم: إِن هَذَا المنديل لم يزل فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَلم يَطْلُبهُ ملك مِنْهُم فَفِي دَفعه إِلَيْهِم غَضَاضَة، وَكَانَ فِي الْجَمَاعَة عَليّ بن عِيسَى الْوَزير فَقَالَ: إِن خلاص الْمُسلمين من الْأسر والضنك أولى من حفظ هَذَا المنديل، فَأمر الْخَلِيفَة بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِم وَأرْسل من تسلم الأسرى.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الفرغاني الوصفي أستاذ أبي بكر الدقاق الْمَشْهُور.
وفيهَا: مَاتَ سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة الطَّبِيب الحاذق مَاتَ بعلة الذرب وَمَا نَفعه طبه.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار المتقي عَن بَغْدَاد خوفًا من تورون وَابْن شيرزاد إِلَى جِهَة نَاصِر الدولة بالموصل، وَانْحَدَرَ سيف الدولة يلتقي المتقي بتكريت، ثمَّ انحدر نَاصِر الدولة إِلَى تكريت أَيْضا وأصعد الْخَلِيفَة إِلَى الْموصل، ثمَّ سَار الْخَلِيفَة وَبَنُو حمدَان إِلَى الرقة فأقاموا بهَا.
وَظهر للمتقي تضجر بني حمدَان مِنْهُ وإيثارهم مُفَارقَته فَكتب إِلَى تورون ليصالحه، وَخرجت السّنة على ذَلِك.
وفيهَا: خرجت طَائِفَة من الروس فِي الْبَحْر وطلعوا من الْبَحْر فِي نهر الْكر فَانْتَهوا إِلَى مَدِينَة برذعة فاستولوا عَلَيْهَا وَقتلُوا ونهبوا وَرَجَعُوا فِي المراكب.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو طَاهِر رَئِيس القرامطة بالجدري.
وفيهَا: كَانَ بِبَغْدَاد غلاء عَظِيم.
وفيهَا: اسْتعْمل نَاصِر الدولة بن حمدَان مُحَمَّد بن عَليّ بن مقَاتل على قنسرين وحمص والعواصم، ثمَّ اسْتعْمل بعده فِيهَا أَيْضا ابْن عَمه الْحُسَيْن بن سعيد بن حمدَان.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث ثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار المتقي إِلَى بَغْدَاد وخلع كَانَ قد كتب المتقي إِلَى الأخشيد صَاحب مصر يشكو مَا هُوَ فِيهِ، فَجَاءَهُ الأخشيد من مصر إِلَى الرقة بِهَدَايَا عَظِيمَة وحرص أَن يسير مَعَه إِلَى مصر ليَكُون بَين يَدَيْهِ فَلم يفعل، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بالْمقَام(1/266)
بالرقة وخوفه من تورن فَلم يفعل، وَكَانَ قد أرسل إِلَى تورون فِي الصُّلْح فَحلف تورون للمتقي، فانحدر لأَرْبَع بَقينَ من الْمحرم إِلَى بَغْدَاد وَعَاد الأخشيد إِلَى مصر، وَلما وصل المتقي إِلَى هيت أَقَامَ بهَا وَأرْسل فجدد الْيَمين على تورون، وَجَاء تورون من بَغْدَاد لتلقيه فالتقاه بالسندية، ووكل على الْخَلِيفَة حَتَّى انزله فِي مضربه.
ثمَّ قبض تورون على المتقي وسمل عَيْنَيْهِ فأعماه، فصاح المتفي وَحرمه وخدمه فَأمر تورون بِضَرْب الدبادب لتخفي أَصْوَاتهم، وَانْحَدَرَ تورون بالمتقي إِلَى بَغْدَاد وَهُوَ أعمى، وَخِلَافَة المتقي إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر المقتدر بن المعتضد ثَلَاث سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَأمه خلوب أم ولد.
(أَخْبَار المستكفي بِاللَّه)
ثمَّ إِن تورون بَايع المستكفي بِاللَّه ثَانِي عشرهم أَبَا الْقَاسِم عبد اللَّهِ بن المكتفي بِاللَّه عَليّ بن المعتضد أَحْمد بن الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد، وأحضره إِلَى السندية وَبَايَعَهُ النَّاس يَوْم خلع المتقي فِي صفر مِنْهَا.
وفيهَا: اشتدت شَوْكَة أبي يزِيد الْخَارِجِي بالقيروان وَهزمَ الجيوش وَهُوَ من زنانة وَأَبوهُ كنداد من مَدِينَة توزر من بِلَاد قسنطينة وَأم أبي يزِيد جَارِيَة سَوْدَاء وانتشى أَبُو يزِيد بتوزر وَقَرَأَ القرىن وَسَار إِلَى تاهرت فَصَارَ على مَذْهَب النكارية يكفر أهل الْملَّة ويستبيح أَمْوَالهم ودماءهم، ودعا أهل تِلْكَ الْبِلَاد فأطاعوه وَكثر جمعه فحصر قسنطينة فِي هَذِه السّنة وَكَانَ قَصِيرا قبيحا يلبس جُبَّة صوف، ثمَّ فتح تنيسه ثمَّ شبنية وصلب عاملها ثمَّ الأريس فَأخْرج الْقَائِم جيوشا لحفظ رقادة والقيروان، فَهَزَمَهُمْ أَبُو يزِيد وَاسْتولى على تونس وعَلى القيروان ورقادة.
ثمَّ سَار أَبُو يزِيد إِلَى الْقَائِم، فَجهز الْقَائِم جَيْشًا قَاتله فَانْهَزَمَ جَيش الْقَائِم فَسَار أَبُو يزِيد وَحصر الْقَائِم بالمهدية فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وضايقها فَعدم فِيهَا الْقُوت إِلَى أَن خرجت هَذِه السّنة، ثمَّ رَحل عَن المهدية فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَار إِلَى القيروان.
وَتُوفِّي الْقَائِم وَملك ابْنه إِسْمَاعِيل الْمَنْصُور - وَسَيَأْتِي -، فَجهز الْمَنْصُور العساكر وَسَار بِنَفسِهِ إِلَى القيروان واستعادها من أبي يزِيد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وداموا على الْقِتَال إِلَى سنة خمس وَثَلَاثِينَ فَهزمَ الْمَنْصُور عَسْكَر أبي يزِيد وَسَار فِي أَثَره فِي ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ فَأدْرك أَبَا يزِيد على الْمَدِينَة باعاثة فهرب أَبُو يزِيد من مَوضِع إِلَى مَوضِع حَتَّى وصل طنبه، ثمَّ هرب إِلَى جبل البربر وَاسم ذَلِك الْجَبَل برزال والمنصور فِي أَثَره.
وَاشْتَدَّ على عَسْكَر الْمَنْصُور الْحَال حَتَّى بلغت العليقة دِينَارا فَرجع الْمَنْصُور إِلَى بِلَاد صنهاجة وَبلغ إِلَى قَرْيَة عمْرَة واتصل هُنَاكَ بالمنصور الْعلوِي الْأَمِير زيري الصنهاجي جد مُلُوك بادس فَأكْرمه الْمَنْصُور، وَمرض الْمَنْصُور هُنَاكَ شَدِيدا ثمَّ عوفي ورحل إِلَى مسيلة ثَانِي رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، وَكَانَ قد اجْتمع إِلَى أبي يزِيد جمع من البربر وَسبق(1/267)
الْمَنْصُور إِلَى مسيلة، فَلَمَّا قدم الْمَنْصُور مسيلة هرب عَنْهَا أَبُو يزِيد إِلَى جِهَة بِلَاد السودَان، ثمَّ صعد جبال كتامة وَرجع عَن قصد السودَان فَسَار الْمَنْصُور عَاشر شعْبَان إِلَيْهِ واقتتلوا فِي شعْبَان فَقتل غَالب جمَاعَة أبي يزِيد وَانْهَزَمَ، فَسَار الْمَنْصُور فِي أَثَره أول رَمَضَان فَاقْتَتلُوا أَيْضا فَانْهَزَمَ أَبُو يزِيد وَأخذت أثقاله والتجأ إِلَى قلعة كتامة المنيعة فحاصرها الْمَنْصُور وداوم الزَّحْف فملكها عنْوَة وهرب أَبُو يزِيد من القلعة من مَكَان وعر فَسقط مِنْهُ فَأخذ وَحمل إِلَى الْمَنْصُور فَسجدَ شكرا وَهَلل النَّاس وَكَبرُوا، وَبَقِي أَبُو يزِيد فِي أسره مجروحا فَمَاتَ وَذَلِكَ سلخ الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فسلخ جلده وَحشِي تبنا، وَعَاد الْمَنْصُور إِلَى المهدية فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة.
قلت: وجاءه الْعَالم كل امرىء يهني الدَّاخِل بالخارجي، وَالله اعْلَم.
وفيهَا: أَعنِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلثمائة نقل المستكفي القاهر من دَار الْخلَافَة إِلَى دَار ابْن طَاهِر، وَكَانَ قد بلغ القاهر الضّر والفقر إِلَى أَن كَانَ ملتفا بجبة قطن وَفِي رجله قبقاب خشب.
وفيهَا لما سَار المتقي عَن الرقة إِلَى بَغْدَاد وَسَار عَنْهَا الأخشيد إِلَى مصر سَار سيف الدولة أَبُو الْحسن بن أبي الهيجاء عبد اللَّهِ بن حمدَان إِلَى حلب وَبهَا يانس المؤنس فَأَخذهَا مِنْهُ سيف الدولة، ثمَّ استولى على حمص أَيْضا، ثمَّ حضر دمشق ثمَّ رَحل عَنْهَا بِسَبَب خُرُوج الأخشيد من مصر إِلَيْهِ، وجاءه الأخشيد فَالْتَقَيَا بِقِنِّسْرِينَ فَلم يظفر أحد العسكرين بِالْآخرِ وَرجع سيف الدولة إِلَى الجزيرة فَلَمَّا عَاد الأخشيد إِلَى دمشق عَاد سيف الدولة إِلَى حلب فملكها، ثمَّ قاربت الرّوم حلب فَهَزَمَهُمْ سيف الدولة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع ثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا فِي الْمحرم مَاتَ الْمُتَعَدِّي طوره الْكَاذِب فِي يَمِينه تورون بِبَغْدَاد وإمارته سنتَانِ وَأَرْبَعَة أشهر وَتِسْعَة عشر يَوْمًا، فعقد الْجند لِابْنِ شيرزاد الإمرة عَلَيْهِم وَكَانَ بهيت فَقدم بَغْدَاد مستهل صفر وَأرْسل إِلَى المستكفي فاستحلفه فَحلف لَهُ بِحَضْرَة الْقُضَاة وولاه إمرة الْأُمَرَاء.
وفيهَا: كَانَ معز الدولة بن بويه فِي الأهواز وبلغه موت تورون فَسَار حَتَّى قَارب بَغْدَاد، فاختفى المستكفي بِاللَّه وَابْن شيرزاد فَكَانَت إمارته ثَلَاثَة أشهر وأياما، وَقدم الْحسن بن مُحَمَّد المهلبي صَاحب معز الدولة بَغْدَاد وسارت الأتراك عَنْهَا إِلَى جِهَة الْموصل فَظهر المستكفي وَاجْتمعَ بالمهبلي فأظهر المستكفي السرُور بقدوم معز الدولة وأعلمه أَن استتارة إِنَّمَا لخوفه من الأتراك.
ثمَّ وصل معز الدولة بَغْدَاد ثَانِي عشر جمادي الأولى مِنْهَا وَبَايع المستكفي وخلع عَلَيْهِ ولقبه ذَلِك الْيَوْم معز الدلوة، وَأمر بِضَرْب ألقاب بني بويه على الدِّرْهَم وَالدِّينَار، وَنزل معز الدولة بدار مؤنس وَنزل أَصْحَابه فِي دور النَّاس، فلحق النَّاس من ذَلِك شدَّة عَظِيمَة، ورتب معز الدولة للمستكفي كل يَوْم خَمْسَة آلَاف دِرْهَم يستلمها كَاتبه للنَّفَقَة.
وفيهَا: خلع المستكفي بِاللَّه لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة. وَصُورَة خلعه أَن معز(1/268)
الدولة وَعَسْكَره وَالنَّاس حَضَرُوا إِلَى دَار الْخَلِيفَة بِسَبَب وُصُول رَسُول صَاحب خُرَاسَان، فأجلس الْخَلِيفَة معز الدولة على كرْسِي، ثمَّ حضر رجلَانِ من نقباء الديلم وتناولا يَد المستكفي بِاللَّه فظنهما يقبلانها، فجذباه عَن سَرِيره وَجعلا عمَامَته فِي عُنُقه ونهض معز الدولة واضطرب النَّاس وساقا المستكفي مَاشِيا إِلَى دَار معز الدولة فاعتقل بهَا ونهبت دَار الْخَلِيفَة، وَخِلَافَة المستكفي أَرْبَعَة أشهر.
(أَخْبَار الْمُطِيع بن المقتدر)
وبويع الْمُطِيع وَهُوَ ثَالِث عشرهم فِي ثَانِي عشري جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وَسلم إِلَيْهِ المستكفي فسلمة وأعماه وَبَقِي مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ، وَأمه غُصْن أم ولد. وَاسم الْمُطِيع الْمفضل بن المقتدر.
وازداد أَمر الْخلَافَة إدبارا وَلم يبْق لَهُم من الْأَمر شَيْء وتسلم نواب معز الدولة الْعرَاق بأسره، وَلم يبْق فِي يَد الْخَلِيفَة غير مَا أقطعه معز الدولة يقوم بِبَعْض حَاجته.
وفيهَا: سَار نَاصِر الدولة بن حمدَان إِلَى بَغْدَاد، وَأرْسل معز الدولة بن بويه عسكرا لقتاله فَلم يقدروا على دَفعه، وَسَار نَاصِر الدولة من سامراء عَاشر رَمَضَان إِلَى بَغْدَاد، وَأخذ معز الدولة الْمُطِيع مَعَه وَسَار إِلَى تكريت فنهبها لِأَنَّهَا لناصر الدولة وَعَاد معز الدولة بالخليفة إِلَى بَغْدَاد وَنزل بالجانب الغربي، وَنزل نَاصِر الدولة بالجانب الشَّرْقِي، وَلم يخْطب تِلْكَ الْأَيَّام للمطيع بِبَغْدَاد، وَجرى بَينهم بِبَغْدَاد قتال كثير آخِره أَن نَاصِر الدولة وَعَسْكَره انهمزموا وَاسْتولى معز الدولة على الْجَانِب الشَّرْقِي وأعيد الْخَلِيفَة إِلَى مَكَانَهُ فِي الْمحرم سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي الْقَائِم الْعلوِي أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد ابْن الْمهْدي عبد اللَّهِ صَاحب الْمغرب لثلاث عشرَة مَضَت من شَوَّال، وَقَامَ بعده ابْنه وتلقب بالمنصور بِاللَّه، وكتم موت الْقَائِم خوفًا من أبي يزِيد الْخَارِجِي، ثمَّ اتسم بالخلافة وَضبط الْملك والبلاد.
وفيهَا: مَاتَ الأخشيد بِدِمَشْق، ومولده سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وجد الأخشيد فِي دَاره ورقة فِيهَا مَكْتُوب مَا بعضه: قدرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، وَوَقع عَلَيْكُم فضيقتم، وأدرت لكم الأرزاق فنقصتم أرزاق الْعباد، واغتررتم بصفو أيامكم وَلم تَفَكَّرُوا فِي عواقبكم، وتهاونتم بسهام الأسحار وَلَا سِيمَا إِن خرجت من قُلُوب قرحتموها وأكباد أوجعتموها، أَو مَا علمْتُم أَن الدُّنْيَا لَو بقيت للعاقل مَا وصل إِلَيْهَا الْجَاهِل، فكفي بِصُحْبَة ملك يكون فِي زَوَال ملكه فرج للْعَالم، وَمن الْمحَال أَن يَمُوت المنتظرون كلهم وَيبقى المنتظر بِهِ، افعلوا مَا شِئْتُم فَإنَّا صَابِرُونَ. فَبَقيَ الأخشيد من هَذِه الورقة فِي فكر، وسافر إِلَى دمشق فَمَاتَ.
وَولي الْأَمر بعده أَبُو الْقَاسِم أنوجور - وَتَفْسِيره - مَحْمُود - وَهُوَ صَغِير وَاسْتولى على الْأَمر كافور الْخَادِم الْأسود من خدم الأخشيد، ثمَّ سَار كافور إِلَى مصر بعد موت الأخشيد،(1/269)
فَسَار سيف الدولة إِلَى دمشق وملكها وَأقَام بهَا، وَاتفقَ أَنه ركب يَوْمًا وَمَعَهُ الشريف العقيقي فَقَالَ سيف الدولة: مَا تصلح هَذِه الغوطة إِلَّا لرجل وَاحِد، فَقَالَ العقيقي: هِيَ لأقوام كَثِيرَة فَقَالَ سيف الدولة: لَو أَخَذتهَا القوانين السُّلْطَانِيَّة تبرؤوا مِنْهَا. فَأعْلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فاستدعوا كافورا فَجَاءَهُمْ وأخرجوا سيف الدولة عَنْهُم، وَرجع كافور إِلَى مصر بعد أَن ولى على دمشق بدر الأخشيدي فَأَقَامَ سنة، ثمَّ وَليهَا أَبُو المظفر بن طغج، ولسيف الدولة حلب حسب.
وفيهَا: اشْتَدَّ الغلاء وَعدم الْقُوت بِبَغْدَاد حَتَّى وجد صبي مشوي، وَكثر الْمَوْت.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عِيسَى بن الْجراح الْوَزير وَله تسعون سنة.
وفيهَا: توفّي عمر بن الْحُسَيْن الحرقي الْحَنْبَلِيّ، وَأَبُو بكر الشبلي الصُّوفِي كَانَ وَالِد الشبلي حاجبا للموفق والشبلي أَيْضا، ثمَّ تَابَ وَصَارَ أوحد زَمَانه دينا وورعا، وَكَانَ مالكيا حفظ الْمُوَطَّأ وَقَرَأَ الحَدِيث، وَقَالَ الْجُنَيْد عَنهُ: لكل قوم تَاج وتاج الْقَوْم الشبلي.
قلت: واسْمه: دلف بن حجر، وعَلى قَبره بِبَغْدَاد أَنه جَعْفَر بن يُونُس، وَمن شعره رَحمَه اللَّهِ:
(مَضَت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان فِي الأجفان يزدحمان)
(مَا أنصفتني الحاثات رمينني ... بمودعين وَلَيْسَ لي قلبان)
وَقَالَ الشبلي: رَأَيْت يَوْم الْجُمُعَة معتوها عُريَانا يَقُول: أَنا مَجْنُون اللَّهِ أَنا مَجْنُون اللَّهِ، فَقلت: لم لَا تدخل الْجَامِع وتتوارى وَتصلي، فَأَنْشد:
(يَقُولُونَ زرنا واقض وَاجِب حَقنا ... وَقد أسقطت حَالي حُقُوقهم عني)
(إِذا أبصروا حَالي فَلم يأنفوا لَهَا ... وَلم يأنفوا مِنْهَا أنفت لَهُم مني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عِيسَى وَيعرف بَابي مُوسَى الْفَقِيه الْحَنَفِيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا توفّي أَبُو بكر الصولي الْعَالم بفنون الْأَدَب وَالْأَخْبَار روى عَن ثَعْلَب وَغَيره وروى عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وتصانيفه مَشْهُورَة.
قلت: واسْمه مُحَمَّد بن يحيى بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن صولتكين وَمَعَ آدابه يضْرب بِهِ فِي الشطرنج الْمثل، وَمن اعْتقد أَنه وَاضع الشطرنج فقد غلط بل وَضعه صصه بن ذاهر الْهِنْدِيّ للْملك شهرام، وَكَانَ كسْرَى أردشير قد وضع النَّرْد وَلذَلِك قيل لَهُ: النردشير، جعله مِثَالا للدنيا وَأَهْلهَا فرتب الرقعة اثْنَي عشر بَيْتا بِعَدَد الشُّهُور وَالْقطع ثَلَاثِينَ بِعَدَد أَيَّام الشَّهْر والفصوص مثل الْقدر وتقلبه بِالنَّاسِ فافتخرت بِهِ الْفرس، فَوضع صصه الشطرنج فرجح على النَّرْد ففرح بِهِ الْملك تلهيت ومناه، فتمنى أَن يضع حَبَّة قَمح فِي الْبَيْت الأول وَلَا يزَال يضعفها حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخرهَا فمهما بلغ يُعْطِيهِ، فاحتقر الْملك ذَلِك فَحسب فَلم يكن فِي خزانته قَمح يبلغ هَذَا الْقدر.(1/270)
وَطَرِيقَة: أَن تضع فِي الْبَيْت الأول حَبَّة وَفِي الثَّانِي حبتين وَفِي الثَّالِث أَرْبعا وَفِي الرَّابِع ثمانيا وَكَذَا إِلَى آخِره كلما انْتَقَلت إِلَى بَيته ضاعفت مَا قبله وأثبته فِيهِ، فَإِذا ضاعفت الْأَعْدَاد إِلَى الْبَيْت السَّادِس عشر أثبت فِيهِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَسَبْعمائة وثمانيا وَسِتِّينَ حَبَّة فَتَقول هَذِه قدر قدح، وتضاعف الْقدح فِي الْبَيْت السَّابِع عشر وَكَذَا حَتَّى تبلغ وبية فِي الْبَيْت الْعشْرين.
ثمَّ انْتقل إِلَى الوبيات وَمِنْهَا إِلَى الأرداب وتضاعفها فتنتهي فِي بَيت الْأَرْبَعين إِلَى مائَة ألف أدرب وَأَرْبَعَة وَسبعين ألف أردب وَسَبْعمائة واثنيتن وَسِتِّينَ أردبا وثلثين فتجعل هَذِه الْجُمْلَة شونة وتضاعف الشونة إِلَى بَيت الْخمسين فَتكون الْجُمْلَة ألفا وأربعا وَعشْرين شونة فتجعل هَذِه مَدِينَة وَأي مَدِينَة بِقدر هَذِه، وتضاعف المدن حَتَّى تَنْتَهِي فِي بَيت الرَّابِع وَالسِّتِّينَ آخرهَا إِلَى سِتّ عشرَة ألف مَدِينَة وثلثمائة وَأَرْبع وَثَمَانِينَ مَدِينَة.
وَلَيْسَت مدن الدُّنْيَا أَكثر من هَذَا الْعدَد فدورة كرة الأَرْض بطرِيق الهندسة ثَمَانِيَة آلَاف فَرسَخ بِحَيْثُ لَو وَضعنَا طرف حَبل على أَي مَوضِع كَانَ من الأَرْض وأدرنا طرف الْحَبل على كرة الأَرْض حَتَّى انتهينا بالطرف الآخر إِلَى ذَلِك الْموضع من الأَرْض والتقى طرفا الْحَبل، فَإِذا مسحنا ذَلِك الْحَبل كَانَ طوله اربعة وَعشْرين ألف ميل وَهِي ثَمَانِيَة آلَاف فَرسَخ وَهُوَ قَطْعِيّ، وَتقدم فِي تَرْجَمَة بني مُوسَى وَبَعض الحذاق فِي لعب الشطرنج يفتخر بِأَن ينْقل الْفرس فِي بيُوت الرقعة فَيعم بِهِ جَمِيع بيُوت الرقعة من غير تَكْرِير.
وَقد نظمت أَرْبَعَة أَبْيَات ضابطا لذَلِك بِحِسَاب الْجمل، فَإِذا أردْت ذَلِك فضع الْفرس فِي الْبَيْت الثَّانِي مثلا من الصَّفّ الأول الَّذِي رمزه فِي النّظم با بِمَعْنى ثَانِي الأول فَإِن الْبَاء باثنيتن وَألف بِوَاحِد، ثمَّ تضع الْفرس فِي البييت الأول من الصَّفّ الثَّالِث الَّذِي رمزه فِي النّظم أج بِمَعْنى أول الثَّالِث فَإِن الْألف بِوَاحِد وَالْجِيم بِثَلَاثَة، ثمَّ تضعه فِي ثَانِي الْخَامِس الَّذِي رمزه فِي النّظم بِهِ الْبَاء بِاثْنَيْنِ وَالْهَاء بِخَمْسَة ثمَّ فِي أول السَّابِع الَّذِي رمزه أز وَهَكَذَا تجْعَل الأول من كل حرفين من النّظم للبيت والحرف الثَّانِي للصف وَمن حَيْثُ ابتدأت من الأبيات الْأَرْبَعَة حصل الْعَمَل إِذا أكملت ذَلِك فِيمَا بعد من الأول إِلَى حَيْثُ بدأت فَإِذا عرفت ذَلِك أمرت من ينْقل الْفرس فِي الرقعة وَأَنت مولى ظهرك أَو وَرَاء حجاب إِن شِئْت، وَهَذِه الأبيات وَالْعين حَشْو:
(يَا أج أزاح هززح جوزد ... حب وأدب جدد دووه دج حب أاع)
(بجاه بزدح وزاح زو حدزب ... هاوج هه جود دهب زاحج وبع)
(حازج هدو وهج ززحه ود ... هوزه حزوح دزبح أَو جزع)
(أحبوده أَب جادج بدجه اد ... ببد أجح فرس فِي كلهَا يَقع)
وَهَذِه فَوَائِد وَإِن أخرجت عَن الْمَقْصُود، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا كَانَ الغلاء الْعَظِيم بِالشَّام الَّذِي لم يسمع بِمثلِهِ وأكلت الْحمير والقطط وَالصبيان وَمَات خلق عَظِيم وَالله أعلم.(1/271)
وفيهَا: عقد الْمَنْصُور الْعلوِي ولَايَة جَزِيرَة صقلية لِلْحسنِ بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن الْكَلْبِيّ، وَاسْتمرّ يَغْزُو وَيفتح فِي جَزِيرَة صقلية حَتَّى مَاتَ الْمَنْصُور وَتَوَلَّى الْمعز فاستخلف الْحسن على صقلية ابْنه أَبَا الْحُسَيْن أَحْمد بن الْحسن فولاية الْحسن خمس سِنِين وشهران، وَسَار الْحسن عَن صقلية إِلَى إفريقية سنة اثنيتن وَأَرْبَعين وثلثمائة فَكتب بِولَايَة ابْنه أَحْمد على صقلية فاستقر أَحْمد عَلَيْهَا.
وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين وثلثمائة قدم أَحْمد بن الْحسن من صقلية وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ من وُجُوه الجزيرة على الْمعز بإفريقية فَبَايعُوا الْمعز وخلع عَلَيْهِم، ثمَّ عَاد احْمَد.
وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة ورد عَلَيْهِ بصقلية كتاب الْمعز بِأَن يحضر أَطْفَال الجزيرة ويكسوهم ويختنهم فِي الْيَوْم الَّذِي يختن فِيهِ الْمعز وَلَده، فَكتب الْأَمِير أَحْمد خَمْسَة عشر ألف طِفْل، وابتدأ أَحْمد فختن ابْنه وَإِخْوَته فِي مستهل ربيع الأول مِنْهَا، ثمَّ ختن الْخَاص وَالْعَام وخلع عَلَيْهِم. وَوصل من الْمعز مائَة ألف دِرْهَم وَخَمْسُونَ حملا من الصَّلَاة فرقت على المسجونين.
وَفِي سنة اثنيتين وَخمسين وثلثمائة أرسل الْأَمِير أَحْمد بسبي طبرسين بعد فتحهَا إِلَى الْمعز وَجُمْلَته ألف سَبْعمِائة ونيف وَسَبْعُونَ نفسا.
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة جهز الْمعز أسطولا عَظِيما، وَقدم عَلَيْهِم الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحسن وَالِد الْأَمِير أَحْمد فوصل إِلَى صقلية، وَاجْتمعت الرّوم بهَا وَجرى بَينهم قتال شَدِيد فنصر اللَّهِ الْمُسلمين وَقتل فَوق عشرَة آلَاف من الْكفَّار وغنم الْمُسلمُونَ أَمْوَالهم وسلاحهم وَمن جملَته سيف منقوش عَلَيْهِ: هَذَا سيف هندي وَزنه مائَة وَسَبْعُونَ مِثْقَالا طَال مَا ضرب بِهِ بَين يَدي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَبعث بِهِ الْحسن بن عَليّ إِلَى الْمعز وبأسرى وَسلَاح.
ثمَّ عَاد الْحسن بعد النَّصْر إِلَى قصره بصقلية وَمرض فَتوفي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة وعمره ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة.
وَفِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة استقدم الْمعز الْأَمِير أَحْمد من صقلية فَسَار مِنْهَا بأَهْله وَمَاله وَولده فَكَانَت إمارته بهَا سِتّ عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر، واستخلف مَوْضِعه يعِيش مولى أَبِيه الْحسن، فَلَمَّا وصل أَحْمد إِلَى إفريقية ولى الْمعز الجزيرة أَخا أَحْمد أَبَا الْقَاسِم نِيَابَة عَن أَخِيه.
وَفِي سنة تسع وَخمسين وثلثمائة قدم الْمعز الْأَمِير أَحْمد على الأسطول وأرسله إِلَى مصر، فوصل إِلَى طرابلس فاعتل أَحْمد وَمَات بهَا.
وَفِي سنة سِتِّينَ وثلثمائة أرسل الْمعز إِلَى أبي الْقَاسِم سجلا باستقلاله بِولَايَة صقلية وتعزيته فِي أَخِيه أَحْمد.
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة غزا أَبُو الْقَاسِم عَليّ وعدى إِلَى الأَرْض الْكَبِيرَة وَنزل(1/272)
بِموضع يعرف باترلاجة، فَرَأى عسكره قد أَكْثرُوا من جمع الْبَقر وَالْغنم فَأنْكر ذَلِك فَقَالَ: هَذَا يعوقنا عَن الْغَزْو فذبحت وَفرقت، فَسُمي ذَلِك الْموضع مناخ الْبَقر، وَشن غاراته فِي الأَرْض الْكَثِيرَة فأخرب مدنا ثمَّ عَاد منصورا، وَاسْتمرّ يَغْزُو إِلَى سنة اثنيتن وَسبعين وثلثمائة فاستشهد فِي قتال الفرنج فَقيل لَهُ: الشَّهِيد وولايته اثْنَتَا عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَأَيَّام، وَتَوَلَّى بعده ابْنه جَابر بِغَيْر ولَايَة من الْخَلِيفَة وَكَانَ سيء التَّدْبِير.
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وثلثمائة وصل إِلَى صقلية جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن أَمِيرا عَلَيْهَا من جِهَة الْعَزِيز خَليفَة مصر، فَاغْتَمَّ جَابر لذَلِك عَظِيما وَاسْتمرّ عَلَيْهَا جَعْفَر إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَسبعين وثلثمائة، فتولاها أَخُوهُ عبد اللَّهِ حَتَّى توفّي سنة تسع وَسبعين وثلثمائة، فتولاها ابْنه أَبُو الْفتُوح يُوسُف بن عبد اللَّهِ فَأحْسن وَاسْتمرّ.
وَمَات الْعَزِيز بِمصْر، وَتَوَلَّى الْحَاكِم واستوزر ابْن عَم يُوسُف حسن حسن بن عمار بن عَليّ.
وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمائة فلج يُوسُف الْمَذْكُور فتولاها فِي حَيَاته ابْنه جَعْفَر بسجل من الْحَاكِم لقب فِيهِ تَاج الدولة، ثمَّ ظلّ فَخَرجُوا عَن طَاعَته وحصروه فِي الْقصر، فَخرج وَالِده مفلوجا إِلَيْهِم فِي محفة ورد النَّاس وعزل جعفرا وَولى أَخَاهُ تأييد الدولة أَحْمد الأكحل بن يُوسُف فِي الْمحرم سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي الأكحل حَتَّى خرج عَلَيْهِ أهل صقلية وقتلوه فِي سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وولوا أَخَاهُ صمصام الدولة الْحسن، فَاخْتلف فِي أَيَّامه أهل الجزيرة وتغلبت الْخَوَارِج عَلَيْهِ وَجرى للفرنج مَا سَيذكرُ إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
قلت: وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عدا أَسد بِأَرْض الشَّام لم يسمع بِمثلِهِ كَانَ يفترس فِي بلد أنطاكية وَأَرْض حمص فِي لَيْلَة وَاحِدَة حَتَّى ظن النَّاس أَن الْأسد كلهَا عدت، ووثب على مباحي فَدس إصبعه فِي عين الْأسد فقلعها وَسلم مِنْهُ وَكَانَ يحدث بذلك فيكذب، فَلَمَّا قتلته الأكراد وجد أَعور، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا ملك معز الدولة الْموصل وَسَار عَنْهَا نَاصِر الدولة إِلَى نَصِيبين، ثمَّ تحرّك عَسْكَر خُرَاسَان على بِلَاد معز الدولة فَرَحل وَأعَاد إِلَى الْموصل نَاصِر الدولة.
قلت: وَلما جرى ذَلِك سَار سيف الدولة بن حمدَان إِلَى أَخِيه نَاصِر الدولة، وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الطّيب المتنبي:
(أَعلَى الممالك مَا يَبْنِي على الأسل ... والظعن عِنْد محبيهن كالقبل)
وفيهَا: ملك سيف الدولة حصن برزيه فأنشده المتنبي عِنْد نُزُوله بأنطاكية:
(وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بِأَن تسعدا والدمع أشفاه ساحمه)
وَهَذَا الْبَيْت مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه صعبان وَالله أعلم.(1/273)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا احْتَرَقَ حصن أفاميه وَكَانَ بيد المغاربة وَضعف فنازله الدوقس فِي ثَلَاثِينَ ألفا وحاصره سَبْعَة أشهر وأشرف على أَخذه فَدفعهُ عَنهُ صمصامة وَالِي دمشق من جِهَة المغاربة فاتفقوا فَقتل الدوقس وَقتل من عسكره اربعة عشر ألفا وَأسر مِنْهُم خلق وكسروا بعد أَن ظَهَرُوا وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ عماد الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن بويه بشيراز بقرحة الكلى وتوالي الأسقام، وَجعل ابْن أَخِيه ولي عَهده على فَارس وَهُوَ فناخسرو عضد الدولة بن ركن الدولة وَحكمه وَهُوَ حَيّ.
وَلما مَاتَ عماد الدولة اخْتلف عَسْكَر فَارس على عضد الدولة، فجَاء أَبوهُ ركن الدولة من الرّيّ وَمر بشيراز فزار قبر أَخِيه عماد الدولة بإصطخر حافيا حاسرا وَعَسْكَره كَذَلِك وَلزِمَ الْقَبْر ثَلَاثًا، ثمَّ وصل وَقرر قَوَاعِد ابْنه. وَكَانَ عماد الدولة أَمِير الْأُمَرَاء ثمَّ بعده صَار ركن الدولة أَمِير الْأُمَرَاء.
وفيهَا: مَاتَ المستكفي المخلوع أعمى مَحْبُوسًا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: قلت فِيهَا خرج بسيل ملك الرّوم فَنزل على أفامية وَجمع عِظَام الْقَتْلَى وَصلى عَلَيْهِم ودفنهم، وَفتح شيزر بالأمان لقلَّة رجالها.
وفيهَا: جَاءَ ثلج وجليد لم ير مثله حَتَّى جمد الْفُرَات وَمَشوا عَلَيْهِ وَكَانَت الْقُدُور على النَّار يجمد أَعْلَاهَا ويبس شجر الزَّيْتُون بالمعرة وَكفر طَابَ وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد الصَّيْمَرِيّ وَزِير معز الدولة، فاستوزر أَبَا مُحَمَّد الْحسن المهلبي.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فأوغل وفتك وغنم وَأخذت الرّوم عَلَيْهِ المضايق فِي عوده فَهَلَك غَالب عسكره وَمَا مَعَه وَنَجَا فِي عدد يسير.
وفيهَا: أعَاد القرامطة الْحجر الْأسود إِلَى مَكَّة، أَخَذُوهُ سنة سبع عشرَة وثلثمائة فمكثه عِنْدهم اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة.
قلت: وَلما أَخَذُوهُ ونقلوه هلك تَحْتَهُ جمال كَثِيرَة، وَلما أعادوه حمله بعير لطيف فَسلم وَهَذَا من آيَات هَذَا الْحجر الشريف، وَقبل إِعَادَته علقوه بِجَامِع الْكُوفَة ليراه النَّاس وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي أَبُو نصر مُحَمَّد بن طرخان الفارابي الفيلسوف التركي اشْتغل على أبي بشر مَتى بن يُونُس الْحَكِيم، ثمَّ اشْتغل بحران على أبي حنا الْحَكِيم النَّصْرَانِي، ثمَّ أتقن بِبَغْدَاد الفلسفة والموسيقى وَجل كتب أرسطو وَألف بِبَغْدَاد مُعظم تصانيفه، ثمَّ دخل مصر ثمَّ دمشق وَأقَام بهَا أَيَّام سيف الدولة بن حمدَان فَأكْرمه وَكَانَ على زِيّ الأتراك، وَحضر يَوْمًا بِدِمَشْق عِنْد سيف الدولة وَعِنْده فضلاؤها فَمَا زَالَ كَلَام الفارابي يَعْلُو وَكَلَامهم يسفل حَتَّى صمتوا ثمَّ أخذُوا يَكْتُبُونَ مَا يَقُول، وَكَانَ لَا يُجَالس النَّاس، وَمُدَّة مقَامه بِدِمَشْق أما عِنْد(1/274)
مُجْتَمع مَاء أَو مشتبك رياض، أجْرى سيف الدولة عَلَيْهِ كل يَوْم أَرْبَعَة دَرَاهِم فاقتصر عَلَيْهَا، وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَقد ناهز الثَّمَانِينَ وَدفن خَارج بَاب الصَّغِير.
وفيهَا: مَاتَ الزجاجي النَّحْوِيّ أَبُو بالقاسم عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق صحب إِبْرَاهِيم بن السّري الزّجاج فنسب إِلَيْهِ، وصنف الْجمل.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وثلثمائة: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن الْكَرْخِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ المعتزلي العابد، ومولده سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْمروزِي الشَّافِعِي انْتَهَت إِلَيْهِ الرياسة بالعراق بعد ابْن سريح وصنف كثيرا وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ.
قلت: وفيهَا توفّي يماك التركي غُلَام سيف الدولة وَكَانَ مقدم مماليكه وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف مَمْلُوك شِرَاء مَال، ورثاه المتنبي بقوله:
(لَا يحزن اللَّهِ الْأَمِير فإنني ... لآخذ من حالاته بِنَصِيب)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا سَار يُوسُف بن وجيه صَاحب عمان فِي الْبَحْر وَالْبر إِلَى الْبَصْرَة وحصرها وساعده القرامطة، ثمَّ أدركهم المهلبي وَزِير معز الدولة بالعساكر فرحلوا عَنْهَا.
وفيهَا: توفّي الْمَنْصُور بِاللَّه الْعلوِي أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم بِاللَّه أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْمهْدي عبيد اللَّهِ سلخ شَوَّال وخلافته سبع سِنِين وَسِتَّة عشر يَوْمًا وعمره تسع وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَ خَطِيبًا بليغا يخترع الْخطْبَة لوقته، وعهد إِلَى ابْنه أبي تَمِيم بعده بِولَايَة الْعَهْد وَهُوَ الْمعز لدين اللَّهِ فبويع يَوْم مَاتَ أَبوهُ فِي سلخ شَوَّال مِنْهَا، وَعمر الْمعز إِذْ ذَاك أَربع وَعِشْرُونَ سنة.
وفيهَا: ملك الرّوم سروج وَسبوا وغنموا وخربوا الْمَسَاجِد.
قلت: وتيع سيف الدولة الرّوم وبلغهم ذَلِك فَوَلوا رَاجِعين فَبنى حِينَئِذٍ مرعش، فَقَالَ المتنبي:
(فَدَيْنَاك من ربع وَإِن زدتنا كربا ... فَإنَّك كنت الشرق للشمس والغربا)
وَمِنْهَا:
(سراياك تترى والدمستق هارب ... وَأَصْحَابه قَتْلَى وأمواله نهبا)
(أَتَى مرعشا يستقرب الْبعد مُقبلا ... فَأَدْبَرَ إِذْ أَقبلت يستبعد القربا)
وَمِنْهَا:
(كفى عجبا أَن يعجب النَّاس أَنه ... بنى مرعشا تَبًّا لآرائهم تَبًّا)
(وَمَا الْفرق مَا بَين الْأَنَام وَبَينه ... إِذْ حذر الْمَحْذُور واستصعب الصعبا)
وَالله أعلم.(1/275)
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الصفار النَّحْوِيّ الْمُحدث من أَصْحَاب الْمبرد ثِقَة، مولده سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتين وَأَرْبَعين وثلثمائة: قلت فِيهَا أنْشد المتنبي بَين يَدي سيف الدولة قصيدته الَّتِي أَولهَا:
(لكل امرىء من دهره مَا تعودا ... وَعَاد سيف الدولة الطعْن فِي العدا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ الْأَمِير نوح الحميد بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الساماني فِي ربيع الآخر، وَتَوَلَّى سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فَأحْسن وكرمت أخلاقه، وَملك بعده ابْنه عبد الْملك.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فجرت بَينهم وقْعَة عَظِيمَة وَنصر سيف الدولة وغنم وَقتل.
قلت: أسر سيف الدولة فِي هَذِه الْوَقْعَة قسطنطين ولد الدمستق وَحمله الإبريق إِلَى بَيت المَاء وَكَانَ امرد فَخرج فَوَجَدَهُ قَائِما يبكي واعتل عِنْده فَمَاتَ، فَكتب إِلَى أَبِيه يُخبرهُ أَنه المسوح، فَقَالَ أَبُو الطّيب:
(فَلَو كَانَ يُنجي من عَليّ ترهب ... ترهبت الْأَمْلَاك مثنى وموحدا)
وفيهَا: بنى سيف الدولة الْحَدث.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَمْرو الزَّاهِد مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بِبَغْدَاد، وَحدث أَبُو الْعَلَاء المعري أَن البغداديين حدثوه بهَا أَنه لما عبرت السّنة بِأبي عَمْرو رَحمَه اللَّهِ فِي الكرخ وهم شيعَة بَغْدَاد وَحَوله التَّكْبِير والتهليل، قَالَ قَائِل: هَذَا وَالله لَا كمن دفنت لَيْلًا يَعْنِي فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام، فثار أهل الكرخ وَقتل بَينهم جمَاعَة وَطرح أَبُو عَمْرو عَن النعش وجرح جراحا كَثِيرَة، وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل معز الدولة سبكتكين فِي جَيش إِلَى شهرزور فَعَاد وَلم يفتحها.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ الْفَقِيه، وَمُحَمّد بن الْقَاسِم الْكَرْخِي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ أَبُو عَليّ بن الْمُحْتَاج صَاحب جيوش خُرَاسَان بعد أَن عَزله نوح عَنْهَا، فَخرج عَن طَاعَة نوح وَلحق بِرُكْن الدولة بن بويه وَمَات فِي خدمته.(1/276)
وفيهَا: أنشأ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي مركبا عَظِيما فِيهِ تِجَارَة إِلَى الْمشرق فلقي مركبا فِيهِ رَسُول من صقلية إِلَى الْمعز الْعلوِي وَمَعَهُ مكاتبات فَأَخذهُم بِمَا مَعَهم؛ وَبلغ ذَلِك الْمعز فَجهز أسطولا إِلَى الأندلس وَاسْتعْمل عَلَيْهِ الْحسن بن عَليّ عَامله على صقلية، فوصلوا إِلَى المرية وأحرقوا كل مَا فِي ميناها من المراكب وَأخذُوا ذَلِك الْمركب الْعَظِيم الْمَذْكُور بعد عوده من الْإِسْكَنْدَر ية وَفِيه جواري مغنيات وأمتعه لعبد الرَّحْمَن، وَظهر أسطول الْمعز إِلَى الْبر فَقتلُوا ونهبوا وَرَجَعُوا إِلَى المهدية، فَجهز عبد الرَّحْمَن أسطولا إِلَى بِلَاد إفريقية فوصلوها، فقصدهم عَسَاكِر الْمعز فَرَجَعُوا إِلَى الأندلس بعد قتال.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا سَار سيف الدولة إِلَى الرّوم فسبى وَفتح حصونا، وَعَاد إِلَى أدنة ثمَّ إِلَى حلب.
قلت: فأنشده المتنبي قصيدته الَّتِي أَولهَا:
(الرَّأْي قبل شجاعة الشجعان ... هُوَ أول وَهِي الْمحل الثَّانِي)
قَالَ ابْن جني: هَذَا الْبَيْت وَحده لَو كَانَ فِي شعر شَاعِر لجمله كُله.
وَمِنْهَا:
(لَوْلَا الْعُقُول لَكَانَ أدنى ضيغم ... أدنى إِلَى شرف من الْإِنْسَان)
وَمِنْهَا:
(لَوْلَا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لَكِن كالأجفان)
(مَا زلت تضربهم درا كَافِي الذري ... ضربا كَأَن السَّيْف فِيهِ اثْنَان)
(فرموا بِمَا يرْمونَ عَنهُ وأدبروا ... يطأون كل حنينة مرنان)
(يَغْشَاهُم مطر السَّحَاب مفصلا ... بمهند ومثقف وَسنَان)
(يَا من يقتل من أَرَادَ بِسَيْفِهِ ... أَصبَحت من قتلاك بِالْإِحْسَانِ)
(فَإِذا رَأَيْتُك حاد دُونك ناظري ... وَإِذا مدحتك حَار فِيك لساني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الزَّاهِد غُلَام ثَعْلَب الْمَعْرُوف بالمطرز لغَوِيّ مكثر صحب ثعلبا زَمَانا فَعرف بِهِ، كَانَ مضيقا عَلَيْهِ لاشتغاله بِالْعلمِ عَن الْكسْب كَانَ يلقِي تصانيفه من حفظه وأملى فِي اللُّغَة ثَلَاثِينَ ألف ورقة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ السلار بن الْمَرْزُبَان صَاحب أذربيجان، وَملك بعده ابْنه خستان فأوقع وهسودان عَم خستان بَين أَوْلَاد أَخِيه وتقاتلوا فَبلغ مُرَاده.
وفيهَا: نقص الْبَحْر ثَمَانِينَ باعا فَظهر فِيهِ جزائر وجبال.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْأمَوِي النَّيْسَابُورِي الْمَعْرُوف بالأصم عالي الْإِسْنَاد صحب الرّبيع بن سُلَيْمَان.(1/277)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا صَار أَبُو الْحسن جَوْهَر عبد الْمعز فِي رُتْبَة الوزارة وَسَار بِجَيْش كثيف إِلَى أقاصي الْمغرب، فَسَار إِلَى تاهرت ثمَّ إِلَى فاس فأغلق أَحْمد ابْن بكر أَبْوَابهَا فَلم يقدر جَوْهَر عَلَيْهَا وَمضى حَتَّى انْتهى إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط، ثمَّ عَاد وَفتح فاس عنْوَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة وكا مَعَه زيزى بن مُنَاد الصنهاجي شَرِيكه فِي الإمرة.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن البوشنجي الصُّوفِي الْمَشْهُور بنيسابور.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن مُحَمَّد ولد القَاضِي أَبُو الشَّوَارِب، وَأَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عَليّ النَّيْسَابُورِي، وَأَبُو مُحَمَّد عبد اللَّهِ الْفَارِسِي النَّحْوِيّ أَخذ عَن الْمبرد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي أَبُو بكر بن سُلَيْمَان الْحَنْبَلِيّ النجاد وعمره خمس وَتسْعُونَ، وجعفر بن مُحَمَّد الْخُلْدِيِّ الصُّوفِي من أَصْحَاب الْجُنَيْد.
وفيهَا: انْقَطع الْقطر وغلا السّعر فِي كثير من الْبِلَاد.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا صَالح أَوْلَاد الْمَرْزُبَان عمهم وهسوذان فغدر بهم وَقتل خستان وناصرا ابْني أَخِيه وأمهما.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فَفتح وأحرق وغنم وَبلغ إِلَى خرشنه فَأخذُوا فِي عوده عَلَيْهِ المضايق واستردوا الْغَنِيمَة وَأخذُوا أثقاله وَقتلُوا، وتخلص سيف الدولة فِي ثلثمِائة نفس وَكَانَ معجبا بِرَأْيهِ لَا يقبل المشورة.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول المتنبي فِيمَا أَظن:
(غَيْرِي بِأَكْثَرَ هَذَا النَّاس ينخدع ... إِن قَاتلُوا جبنوا أَو حدثوا شجعوا)
وَمِنْهَا:
(قل للدمستق إِن الْمُسلمين لكم ... خانوا الْأَمِير فجازاهم بِمَا صَنَعُوا)
(لَا تحسبوا من أسرتم كَانَ ذَا رَمق ... فَلَيْسَ يَأْكُل إِلَّا الْمَيِّت الضبع)
وَالله أعلم.
وفيهَا: أسلم من الأتراك نَحْو مِائَتي ألف خركاه.
وفيهَا: أَخذ السَّيْل حجاج مصر وأثقالهم فِي اللَّيْل فِي عدوهم فألقاهم فِي الْبَحْر.
وفيهَا: أَو قَرِيبا مِنْهَا: توفّي أَبُو الْحسن التيناتي نِسْبَة إِلَى التينات وعمره مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَله كرامات.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو جور بن الأخشيد وَولي أَخُوهُ مَكَانَهُ مصر.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وثلثمائة: فِيهَا فِي حادي عشر شَوَّال تقطر بِعَبْد الْملك بن نوح الساماني فرسه فَمَاتَ، فافتتنت خُرَاسَان بعده ووليها أَخُوهُ مَنْصُور.
قلت: كَذَا صَوَابه تقطر بِهِ الْفرس بِلَا نون وَالله أعلم.(1/278)
وفيهَا: توفّي عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس وإمارته خَمْسُونَ سنة وَنصف وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، أول من تلقب من الأمويين بالأندلس بألقاب الْخُلَفَاء فتسمى أَمِير الْمُؤمنِينَ لضعف خلائف الْعرَاق وخوطبوا قبله بالأمير وَأَبْنَاء الخلائف، وَأمه مزنة أم ولد وَولي بعد ابْنه الحكم الْمُنْتَصر. وَترك عبد الرَّحْمَن أحد عشر ابْنا.
وفيهَا: ولي قَضَاء قُضَاة بَغْدَاد أَبُو الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن أبي الشَّوَارِب وَالْتزم أَن يُؤَدِّي كل سنة مِائَتي ألف دِرْهَم، وَهُوَ أول من ضمن الْقَضَاء وَذَلِكَ فِي أَيَّام معز الدولة بن بويه، ثمَّ ضمنت الْحِسْبَة والشرطة.
قلت: وَقَالَ بعض النَّاس فِي ذَلِك:
(مذل الدولة ابْن بويه يقْضِي ... لَهُ ابْن أبي الشَّوَارِب بِالضَّمَانِ)
(تصرم ملك ذَا وَقَضَاء هَذَا ... وَصَارَت سنة طول الزَّمَان)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو شُجَاع فاتك كَانَ روميا أَخذه الأخشيد من سَيّده بالرملة فارتفع وَهُوَ رَقِيق كافور فَلَمَّا مَاتَ الأخشيد وَصَارَ كافور أتابك ابْنه أنف فاتك من ذَلِك وانتقل إِلَى الفيوم إقطاعه، ووخم فَعَاد إِلَى مصر، وَكَانَ كافور يخافه ويخدمه ومدحه المتنبي بِإِذن كافور بقصيدته الَّتِي أَولهَا:
(لَا خيل عنْدك تهديها وَلَا مَال ... فليسعد النُّطْق إِن لم يسْعد الْحَال)
(كفاتك وَدخُول الْكَاف منقصة ... كَالشَّمْسِ قلت وَمَا للشمس أَمْثَال)
وَلما توفّي فاتك رثاه المتنبي بقصيدته الَّتِي أَولهَا:
(الْحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بَينهمَا عصي طيع)
وَمِنْهَا:
(إِنِّي لأجبن من فِرَاق أحبتي ... وتحس نَفسِي بالحمام فأشجع)
(تصفو الْحَيَاة لجَاهِل أَو غافل ... عَمَّا مضى مِنْهَا وَمَا يتَوَقَّع)
(وَلمن يغالط فِي الْحَقِيقَة نَفسه ... ويسومها طلب الْمحَال فتطمع)
(أَيْن الَّذِي الهرمان من بُنْيَانه ... مَا قومه مَا يَوْمه مَا المصرع)
(تتخلف الْآثَار عَن أَصْحَابهَا ... حينا ويدركها الفناء فتتبع)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا ملك الدمستق عين زربة بالأمان فَقتلُوا وأطلقوا الْأَكْثَر.
وفيهَا: استولت الرّوم على حلب دون قلعتها وعَلى الحواضر وحصروا الْمَدِينَة وثلموا السُّور، وَقَاتل أَهلهَا الرّوم أَشد قتال فَتَأَخر الرّوم إِلَى جبل جوشن ثمَّ وَقع بَين أهل الْبَلَد نهب فَلم يبْق على السُّور اُحْدُ فهجم الرّوم الْبَلَد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السَّيْف وَسبوا بضعَة عشر ألف صبي وصبية وغنموا مَا لَا يُوصف وأحرقوا مَا بَقِي لعجزهم عَن حمله، وَأقَام(1/279)
الملعون تِسْعَة أَيَّام وَعَاد وَلم ينهب قرى حلب وَأمرهمْ بالزراعة ليعادو من قَابل فِي زَعمه، وَمَا علم بِهِ يُوسُف الدولة إِلَّا عِنْد وُصُوله فَمَا تمكن من الْجمع وَخرج فِيمَن مَعَه وَقَاتل الدمستق قبل هجم الْبَلَد فَقتل غَالب أَصْحَاب سيف الدولة وَانْهَزَمَ سيف الدولة، وظفر الدمستق بداره وَهِي خَارج الْبَلَد تسمى الدَّاريْنِ فَأخذ مِنْهَا ثلثمِائة بدرة وألفا وَأَرْبَعمِائَة بغل وَمن السِّلَاح مَا لَا يُحْصى، ثمَّ كَانَ هجم الْبَلَد بعد ذَلِك.
وفيهَا: استولى ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان.
وفيهَا: فتح الْمُسلمُونَ طبرمين وَهِي أمنع الْحُصُون بعد حِصَار سَبْعَة أشهر وَنصف.
وفيهَا: فتحت الرّوم حصن دلوك بِالسَّيْفِ، وَثَلَاث حصون مجاورة لَهُ.
وفيهَا: فِي شَوَّال أسرت الرّوم أَبَا فراس الْحَارِث بن سعيد بن حمدَان من منبج وَكَانَ مُتَقَلِّدًا لَهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن حسن النقاش الْموصِلِي صَاحب كتاب شِفَاء الصُّدُور.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا توفّي الْوَزير المهلبي أَبُو مُحَمَّد وزارته ثَلَاث عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر، وَكَانَ كَرِيمًا عَاقِلا ذَا فضل.
وفيهَا: فِي عَاشر الْمحرم أَمر معز الدولة بالنياحة واللطم وَنشر شُعُور النِّسَاء وتسويد وجوههن على الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وعجزت السّنة عَن منع ذَلِك لكَون السُّلْطَان مَعَ الشِّيعَة.
وفيهَا: عزل ابْن أبي الشَّوَارِب عَن الْقَضَاء وأبطل ضَمَانه.
وفيهَا: قتل الرّوم ملكهم وملكوا غَيره، وَصَارَ ابْن شمشقيق دمستقا. وفيهَا: فِي ثامن ذِي الْحجَّة أَمر معز الدولة بِإِظْهَار الزِّينَة لعيد غَدِير خم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا استولى معز الدولة على الْموصل ونصيبين وهرب مِنْهُ نَاصِر الدولة، ثمَّ اتفقَا وَضمن مِنْهُ الْموصل.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا حاصر تقفور ملك الرّوم المصيصة وَفتحهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ يَوْم السبت ثَالِث عشر رَجَب، ثمَّ رفع السَّيْف عَمَّن بَقِي من الْمُسلمين ونقلهم إِلَى الرّوم وَكَانُوا نَحْو مِائَتي الف، ثمَّ أَمن أهل طرسوس.
قلت: وَكَانَ فِيهَا اربعون ألف فَارس وطلع تقفور على مِنْبَر طرسوس فَقَالَ لمن حوله: أَيْن أَنا؟ فَقَالُوا: أَيهَا الْملك على مِنْبَر طرسوس، فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي على مِنْبَر بَيت الْمُقَدّس وَهَذِه كَانَت تمنعكم من ذَلِك، وَجمع مصاحف الْجَامِع وَكَانَت ألف مصحف فِي الْمِحْرَاب وطين عَلَيْهَا وَالله أعلم، وَسَار أَهلهَا عَنْهَا فِي الْبر وَالْبَحْر وجهز مَعَهم من يحيمهم إِلَى أنطاكية.
قلت: ولقيهم أهل أنطاكية بالبكاء والنحيت وَكَانَ فِي أول أهل طرسوس رجل مِنْهُم(1/280)
يقْرَأ: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَأَن اللَّهِ على نَصرهم لقدير. الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا اللَّهِ} . وَجعل جَامع طرسوس إصطبلا وأحرق الْمِنْبَر وحصن طرسوس، وتراجع بعض أَهلهَا وَتَنصر بَعضهم، ثمَّ عَاد اللعين إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة.
وفيهَا: أطَاع أهل أنطاكية المقدمين الَّذين حَضَرُوا من طرطوس وخالفوا سيف الدولة وَاسم الْمُقدم الَّذِي أطاعوه رَشِيق، فَسَار إِلَى جِهَة حلب وَقَاتل عَامل سيف الدولة قرعويه، وَكَانَ سيف الدولة بميافرقين فَأرْسل سيف الدولة عسكرا مَعَ خادمه بِشَارَة وقاتلا رشيقا فَقتل رَشِيق وهرب أَصْحَابه إِلَى أنطاكية.
قلت: وَلما عَاد سيف الدولة اجْتمع حربه ابْن الْأَهْوَازِي ودزير الديلمي الَّذِي قَامَ مقَام رَشِيق فَقتل دزير وَابْن الْأَهْوَازِي وَقتل من ولاتهما وقضاتهما وشيوخهما خلقا، وَالله أعلم.
وفيهَا: قتل أَبُو الطّيب المتنبي قَتله الْأَعْرَاب وَأخذُوا مَا مَعَه، وَهُوَ أَحْمد بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عبد الصَّمد الْكِنْدِيّ، ومولده سنة ثَلَاث وثلثمائة بِالْكُوفَةِ بمحلة تسمى كِنْدَة فنسب إِلَيْهَا لَا إِلَى الْقَبِيلَة فَإِنَّهُ جعفي الْقَبِيلَة - بِضَم الْجِيم -، وَقيل: كَانَ أَبوهُ سقاء بِالْكُوفَةِ، وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(أَي فضل لشاعر يطْلب الْفضل ... من النَّاس بكرَة وعشيا)
(عَاشَ حينا يَبِيع فِي الْكُوفَة ... المَاء وحينا يَبِيع مَاء الْمحيا)
كَانَ مطلعا على اللُّغَة لَا يسْأَل عَن شَيْء إِلَّا اسْتشْهد فِيهِ بِكَلَام الْعَرَب حَتَّى أَن أَبَا عَليّ الْفَارِسِي قَالَ لَهُ: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فَقَالَ فِي الْحَال: حجلى وظربى، قَالَ أَبُو عَليّ: فطالعت كتب اللُّغَة ثَلَاث لَيَال فَلم أجد لَهما ثَالِثا، وحسبك بِمن يَقُول فِيهِ أَبُو عَليّ هَذَا.
قلت: وحجلى جمع حجل وَهُوَ القبج، والظربي جمع ظربان بِوَزْن قطران دويبة مُنْتِنَة الرَّائِحَة، وَالله أعلم.
وشعره هُوَ النِّهَايَة ورزق فِيهِ السَّعَادَة قيل: إِنَّه ادّعى النُّبُوَّة فِي بَريَّة السماوة وَتَبعهُ خلق من بني كلب وَغَيرهم فَخرج إِلَيْهِ لُؤْلُؤ نَائِب الأخشيدية بحمص فَأسرهُ وتفرق أَصْحَابه وحبسه طَويلا، ثمَّ استتابه وَأطْلقهُ فالتحق بِسيف الدولة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، ثمَّ فَارقه إِلَى مصر سنة سِتّ وَأَرْبَعين فمدح كافورا الأخشيد، ثمَّ هجاه وفارقه سنة خمسين وَقصد عضد الدولة بِفَارِس ومدحه، ثمَّ قصد الْكُوفَة فَقتل بِقرب النعمانية من الْجَانِب الغربي من سَواد بغدا عِنْد دير العاقول.
قلت: وَلما رأى المتنبي الْغَلَبَة من الْأَعْرَاب فر فَذكره غُلَامه بقوله:
(الْخَيل وَاللَّيْل والبيداء تعرفنِي ... والطعن وَالضَّرْب والقرطاس والقلم)
فكر رَاجعا حَتَّى قتل.(1/281)
وروى الْكِنْدِيّ لَهُ بَيْتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح وليسا فِي ديوانه وهما:
(أَرْبَعِينَ مفتقر إِلَيْك نظرتني ... فأهنتني وقذفتني من حالق)
(لست الملوم أَنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بِغَيْر الْخَالِق)
وفيهَا: توفّي أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن حَاتِم بن حبَان - بِالْبَاء الْمُوَحدَة وحاؤه مَكْسُورَة - البستي صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا وصلت الرّوم إِلَى آمد وحصروها، ثمَّ انصرفوا وقاربوا نَصِيبين، ثمَّ سَارُوا ونازلوا أنطاكية طَويلا، ثمَّ رحلوا إِلَى طرطوس.
وفيهَا: وَقع بَين سيف الدولة وَبَين الرّوم الْفِدَاء، فخلص أَبَا فراس ابْن عَمه وَغَيره قلت: سَار سيف الدولة بالبطارقة الَّذين فِي أسره إِلَى الْفِدَاء ففداهم أَبَا فراس ابْن عَمه وَغُلَامه وروطاس وَجَمَاعَة من أكَابِر الحلبيين والحمصيين، وَلما لم يبْق مَعَه من أسرى الرّوم أحد اشْترى البَاقِينَ كل نفس بِاثْنَيْنِ وَسبعين دِينَارا حَتَّى نفذا مَا مَعَه من المَال فَاشْترى البَاقِينَ وَرهن عَلَيْهِم بدنته الْجَوْهَر المعدومة الْمثل، ثمَّ لما لم يبْق أحد من أسرى الْمُسلمين كَاتب تقفور ملك الرّوم على الصُّلْح وَهَذِه من محَاسِن سيف الدولة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا سَار معز الدولة إِلَى وَاسِط وجهز الجيوش إِلَى محاربة عمرَان بن شاهين صَاحب البطيحة وَانْطَلق بَطْنه فَترك الْعَسْكَر يُقَاتلُون وَعَاد إِلَى بَغْدَاد، فتزايد مَرضه فعهد إِلَى ابْنه بختيار ولقبه عز الدولة وَتَابَ وَتصدق بِأَكْثَرَ مَاله وَأعْتق مماليكه، وَتُوفِّي معز الدولة بِبَغْدَاد فِي ثَالِث عشر ربيع الأول مِنْهَا وَدفن بِبَاب التِّين فِي مَقَابِر قُرَيْش وإمارته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَأحد عشر شهرا، فاستقر عز الدولة فِي الْإِمَارَة وَكتب إِلَى الْعَسْكَر فصالحوا عمرَان بن شاهين وعادوا.
وَكَانَت يَد معز الدولة قد قطعت قبل بكرمان فِي حَرْب، وَهُوَ الَّذِي أنشأ السَّعَادَة بِبَغْدَاد لإعلام أَخِيه ركن الدولة بالأحوال سَرِيعا فَنَشَأَ فِي أَيَّامه فضل ومرعوش، وفافا السَّعَادَة فَكَانَ يسير أَحدهمَا فِي الْيَوْم نيفا وَأَرْبَعين فرسخا وَكَانَ أَحدهمَا ساعي السّنة وَالْآخر ساعي الشِّيعَة.
وأساء بختيار السِّيرَة وَلعب وعاشر النِّسَاء وَنفى كبار الديلم شَرها فِي أقطاعهم.
وفيهَا: قبض ابْن نَاصِر الدولة أَبُو تغلب على أَبِيه لكبره وَسُوء أخلاقه وتضييقه على أَوْلَاده وَأَصْحَابه ووكل بِهِ من يَخْدمه، وَخَالفهُ بعض إخْوَته فَاحْتَاجَ إِلَى مداراة بختيار ليعضده فضمن مِنْهُ الْبِلَاد بِأَلف ألف ومائتي ألف دِرْهَم.
وفيهَا: مَاتَ وشمكير بن زيار أَخُو مرداويج حمل عَلَيْهِ فِي الصَّيْد خِنْزِير مَجْرُوح فَقَامَتْ بِهِ فرسه فَسقط فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمر ابْنه بيستون. وَقيل: مَاتَ سنة سبع وَخمسين فِي الْمحرم.(1/282)
وفيهَا: مَاتَ كافور الأخشيدي الْخصي الْأسود من موَالِي مُحَمَّد بن طغج صَاحب مصر وَاسْتولى على مصر ودمشق بعد موت أَوْلَاد الأخشيد فَإِنَّهُ ملك بعد الأخشيد ابْنه أنوجور وَالْأَمر إِلَى كافور ثمَّ ابْنه الآخر عَليّ، وَتُوفِّي صَغِيرا سنة خمس وَخمسين وثلثمائة فاستقل كافور بالمملكة، كَانَ شَدِيد السوَاد اشْتَرَاهُ الأخشيد بِثمَانِيَة عشر دِينَارا. قَالَ المتنبي: كنت أَدخل على كافور أنْشدهُ وَهُوَ يضْحك إِلَى أَن أنشدته:
(وَلما صَار ود النَّاس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام)
(وصرت أَشك فِيمَن أصطفيه ... لعلمي أَنه بعض الْأَنَام)
قَالَ: فَمَا ضحك بعْدهَا فِي وَجْهي، فعجبت من فطنته. وقبره بالقرافة الصُّغْرَى.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب المعري أَن كافورا توفّي بِمصْر وَحمل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَالله أعلم.
وَكَانَ يدعى لَهُ على المنابر بِمَكَّة والحجاز جَمِيعه والديار المصرية وَالشَّام، وعمره خمس وَسِتُّونَ تَقْرِيبًا، وَولي بعده أَبُو الفوارس أَحْمد بن عَليّ بن الأخشيد وخطب لَهُ فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَخمسين وثلثمائة.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب إِنَّه تولى مصر بعد وَفَاة كافور نحرير الأخشيدي، وزحف إِلَيْهِ الْقَائِد جَوْهَر فِي عَسَاكِر الْمعز وطالت الحروب بَينهم وَقتل هَذَا نحريرا الأخشيدي سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة، وولوا بعده من الاخشيدية رجلا اسْمه تبر فغلبه جَوْهَر المغربي وَدخل مصر وملكها وَأقَام بهَا بَقِيَّة سنة ثَمَان وَخمسين وتسع وَخمسين قبل مَجِيء الْمعز، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ سيف الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن حمدَان بن حمدون الثَّعْلَبِيّ الربعِي بحلب فِي صفر وَنقل تابوته إِلَى ميافارقين، ومولده سنة ثَلَاث وثلثمائة، ومرضه بعسر الْبَوْل والفالج، وَهُوَ أول من ملك حلب من بني حمدَان أَخذهَا من أَحْمد بن سعيد الْكلابِي نَائِب الأخشيد.
وَمن شعر سيف الدولة فِي أَخِيه نَاصِر الدولة:
(وهبت لَك الْعليا وَقد كنت أَهلهَا ... وَقلت لَهُم بيني وَبَين أخي فرق)
(وَمَا كَانَ لي عَنْهَا نُكُول وَإِنَّمَا ... تجاوزت عَن حَقي فتم لَك الْحق)
(أما كنت ترْضى أَن تكون مُصَليا ... إِذا كنت أرْضى أَن يكون لَك السَّبق)
وَله:
(قد جرى فِي دمعه دَمه ... فَإلَى كم أَنْت تظلمه)
(رد عَنهُ الطّرف مِنْك فقد ... جرحته مِنْك أسهمه)
(كَيفَ يَسْتَطِيع التجلد من ... خطرات الْوَهم تؤلمه)
وَملك بِلَاد سيف الدولة بعده ابْنه أَبُو الْمَعَالِي سعد الدولة شرِيف.(1/283)
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن إلْيَاس صَاحب كرمان.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْهَيْثَم بن عبد الرَّحْمَن بن مَرْوَان بن عبد اللَّهِ بن مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم الْأمَوِي الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي صَاحب كتاب الأغاني، جده مَرْوَان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أُميَّة وَهُوَ أصبهاني الأَصْل بغدادي المنشأ روى عَن خلق، كَانَ عَالما بأيام النَّاس والأنساب وَكَانَ على أمويته متشيعا، جمع الأغاني فِي خمسين سنة وَحمله إِلَى سيف الدولة فَأعْطَاهُ ألف دِينَار وَاعْتذر، وصنف كتبا لبني أُميَّة أَصْحَاب الأندلس وسيرها إِلَيْهِم سرا وجاءه إنعامهم سرا، وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْوَزير المهلبي وَله فِيهِ مدائح، ومولده سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَسْمَاء الْكتب الَّتِي صنفها لبني أُميَّة: نسب بني عبد شمس وَأَيَّام الْعَرَب ألف وَسَبْعمائة يَوْم وجمهرة النّسَب وَنسب بني شَيبَان.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه على كرمان بعد موت صَاحبهَا عَليّ بن إلْيَاس.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قتل أَبُو فراس بن حمدَان، كَانَ مُقيما بحمص فَجرى بَينه وَبَين أبي الْمَعَالِي بن سيف الدولة وَحْشَة، وَطَلَبه أَبُو الْمَعَالِي فانحاز أَبُو فراس إِلَى صدد فَأرْسل أَبُو الْمَعَالِي عسكرا مَعَ قرعويه وَأَحْدَقُوا بِأبي فراس وَعَسْكَره فكبسوا أَبَا فراس فِي صدد وقتلوه، وَأَبُو فراس خَال أبي الْمَعَالِي وَابْن عَمه وَاسم أبي فراس الْحَارِث بن أبي الْعَلَاء سعيد بن حمدَان وَهُوَ ابْن عَم سيف الدولة وناصر الدولة، أسر بمنبج كَمَا ذكرنَا وَحمل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَأَقَامَ أَسِيرًا أَربع سِنِين وَكَانَت منبج إقطاعه، وَفِي مقلته بصدد يَقُول بَعضهم:
(وَعَلمنِي الصد من بعده ... من الْيَوْم مصرعه فِي صدد)
(فسقيا لَهَا إِذا حوت شخصه ... وبعدا لَهَا حَيْثُ فِيهَا ابتعد)
قلت: وَلما بلغ بجية أم أبي فراس قَتله قلعت عينهَا جزعا عَلَيْهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ المتقي لله إِبْرَاهِيم المقتدر فِي دَاره أعمى مخلوعا وَدفن فِيهَا.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن بنْدَار الصُّوفِي النَّيْسَابُورِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا سير الْمعز أَبُو تَمِيم معد بن إِسْمَاعِيل الْمَنْصُور الْقَائِد أَبَا الْحُسَيْن جوهرا الرُّومِي غُلَام الْمَنْصُور فِي جَيش كثيف فاستولى على الديار المصرية فَإِنَّهُ بِمَوْت كافور اخْتلفت الْأَهْوَاء، وَبلغ ذَلِك الْمعز فَجهز الْعَسْكَر فهربت العساكر الأخشيديه من جَوْهَر قبل وُصُوله وَوصل فِي سَابِع عشر شعْبَان وأقيمت الدعْوَة للمعز بالجامع الْعَتِيق فِي شَوَّال وَكَانَ الْخَطِيب أَبَا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن السميساطي.
وَفِي جُمَادَى الأولى قدم جَوْهَر إِلَى جَامع ابْن طولون وَأمر فَأذن فِيهِ بحي على خير الْعَمَل، ثمَّ بعده أذن فِي الْجَامِع الْعَتِيق بذلك وجهر فِي الصَّلَاة بِبسْم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم،(1/284)
وَشرع جَوْهَر فِي بِنَاء الْقَاهِرَة وسير جمعا كثيرا مَعَ جَعْفَر بن فلاح إِلَى الشَّام، فَبلغ الرملة وَبهَا الْحسن بن عبد اللَّهِ بن طغج وَجَرت بَينهمَا حَرْب فَأسر ابْن طغج وَغَيره وجهزهم جَوْهَر إِلَى الْمعز وَاسْتولى على تِلْكَ الْبِلَاد وجبوا أموالها، ثمَّ سَار ابْن فلاح بالعساكر إِلَى طبرية فَوجدَ أَهلهَا قد أَقَامُوا الدعْوَة للمعز قبل وُصُوله فَسَار عَنْهَا إِلَى دمشق فقاتلوه، فظفر بهم وَملك دمشق وَنهب بَعْضهَا وَأقَام الْخطْبَة للمعز لأيام خلت من الْمحرم سنة تسع وَخمسين، وَقطعت الْخطْبَة العباسية.
وَجَرت فِي أثْنَاء هَذِه السّنة بعد الْخطْبَة العلوية فتْنَة بَين أهل دمشق وجعفر بن فلاح وَوَقع بَينهم حروب وَقطعت الْخطْبَة العلوية ثمَّ استظهر ابْن فلاح واستقرت دمشق للمعز.
وفيهَا: كَاتب نَاصِر الدولة ابْنه حمدَان ليعضده فِي الْخَلَاص من قبض ابْنه أبي ثَعْلَب عَلَيْهِ، فظفر أَوْلَاده أَبُو ثَعْلَب وَأَبُو البركات وَفَاطِمَة أَوْلَاد الكردية بِالْكتاب فحبسوه فِي قلعة كواشي شهورا وَبهَا مَاتَ فِي ربيع الأول مِنْهَا، وَوَقع بَين حمدَان وَبَين إخْوَته لذَلِك حروب قتل فِيهَا حمدَان أَبَا البركات، ثمَّ قوي أَبُو ثَعْلَب فطرد حمدَان عَن بِلَاده وَاسْتولى عَلَيْهَا ولقب أبي ثَعْلَب عدَّة الدولة الغضنفر.
وفيهَا: دخل ملك الرّوم الشَّام بِلَا ممانعة أحد، وَسَار إِلَى طرابلس وَفتح قلعة عَرَفَة بِالسَّيْفِ ثمَّ أحرق حمص وَقد أخلاها أَهلهَا وأتى على السَّاحِل نهبا وتخريبا وَملك ثَمَانِيَة عشر منبرا وَأقَام بِالشَّام شَهْرَيْن وَعَاد بالأسرى وَالْأَمْوَال.
وفيهَا: استولى قرعويه غُلَام سيف الدولة على حلب وَأخرج ابْن استاذه أَبَا الْمَعَالِي شرِيف بن سيف الدولة مِنْهَا، فَأَقَامَ شرِيف عِنْد والدته بميافارقين ثمَّ أَقَامَ بحماه.
وفيهَا: طلب سَابُور بن أبي طَاهِر القرمطي من أَعْمَامه أَن يسلمُوا الْأَمر إِلَيْهِ، فحبسوه ثمَّ أخرج مَيتا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا ملك الرّوم أنطاكية بِالسَّيْفِ وَقتلُوا أَهلهَا وَسبوا وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة وملكوا الْمَدِينَة، ثمَّ اصْطَلحُوا على مَال يحملهُ قرعويه كل سنة عَن حلب وَعَن حمص وحماه والمعرة وَكفر طَابَ وأفامية وشيزر، فرحلت الرّوم وَمَعَهُمْ الرهائن على ذَلِك وَصَارَت الْبِلَاد سائبة لَا مَانع للروم عَنْهَا.
وفيهَا: طمع نقفور ملك الرّوم فِي ملك جَمِيع الشَّام وَلم يكن من بَيت المملكة وَإِنَّمَا قتل الْملك الَّذِي قبله وَتزَوج امراته يفانو وَأَرَادَ أَن يخصي أَوْلَادهَا من بَيت المَال ليقطع نسلهم ويبقي الْملك فِي نَسْله، فاتفقت أمّهم مَعَ الدمستق وأدخلته فِي جمَاعَة على زِيّ النِّسَاء إِلَى كَنِيسَة مُتَّصِلَة بدار نقفور، ونام نقفور فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقتلُوا نقفور وأراح اللَّهِ الْمُسلمين مِنْهُ، وَأقَام الدمستقق أحد الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين ملكا.
قلت: وَهُوَ بسيل بن أرمانوس، وَالْمُعْتَمد فِي هَذِه التَّرْجَمَة أَن يفانو الملكة زَوْجَة أرمانوس قتلت أرمانوس وَتَزَوَّجت نقفور الْملك، ثمَّ قتلته وَتَزَوَّجت يانس بن شمشقيق(1/285)
وولته الْملك، ثمَّ خافته على ولديها بسيل وقسطنطين ابْني أرمانوس فجهزت إِلَيْهِ وَهُوَ بِالشَّام سما فَقتلته قبل عوده إِلَى الرّوم وَوَلَّتْ ابْنهَا بسيل، وَملك بعده على الرّوم أَخُوهُ قسطنطين وَكَانَ زَمنا لِأَن دبا وثب عَلَيْهِ فأزمنه وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر أَبُو ثَعْلَب بن يُوسُف الدولة حران وَفتحهَا بالأمان وَاسْتعْمل عَلَيْهَا البرقعيدي، ثمَّ عَاد أَبُو ثَعْلَب إِلَى الْموصل.
وفيهَا: صَالح قرعويه ابْن استاذه أَبَا الْمَعَالِي وخطب لَهُ بحلب هَذَا وَأَبُو الْمَعَالِي بحمص، وخطب أَيْضا بحمص وحلب للمعز، وبمكة للمطيع، وبالمدينة للمعز، وخطب أَبُو أَحْمد الموسوي وَالِد الشريف الرضي خَارج الْمَدِينَة للمطيع.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن دَاوُد الدينَوَرِي الْمَعْرُوف بالرقى من مَشَايِخ الصُّوفِيَّة الْمَشَاهِير، وَالْقَاضِي أَبُو الْعلَا محَارب بن مُحَمَّد بن الْمُحَارب الشَّافِعِي الْفَقِيه الْمُتَكَلّم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة وصلت القرامطة إِلَى دمشق وكبسوا جَعْفَر بن فلاح نَائِب الْمعز خَارج دمشق وقتلوه وملكوا دمشق وأمنوا أَهلهَا ثمَّ ملكوا الرملة، وَاجْتمعَ إِلَيْهِم خلق من الأخشيدية فقصدوا مصر ونزلوا بِعَين شمس وَجَرت بَينهم وَبَين المغاربة وجوهر حَرْب فانتصرت القرامطة، ثمَّ انتصرت المغاربة فَعَادَت القرامطة إِلَى الشَّام وكبير القرامطة حِينَئِذٍ الْحسن بن أَحْمد بن بهْرَام.
وفيهَا: استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أَبَا الْقَاسِم بن عباد.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْقَاسِم سُلَيْمَان بن أَيُّوب الطَّبَرَانِيّ صَاحب المعاجم الثَّلَاثَة بأصفهان وعمره مائَة.
وفيهَا: توفّي السّري الرفاء الشَّاعِر الْموصِلِي بِبَغْدَاد.
قلت: هُوَ السّري بن أَحْمد بن السّري الْكِنْدِيّ أَقَامَ عِنْد سيف الدولة بحلب، ثمَّ مدح الْوَزير المهلبي، وراج شعره وَكَانَ لَا يعلم إِلَّا الشّعْر، فَمن شعره يذكر صناعته:
(قد كَانَت الإبرة فِيمَا مضى ... صائنة وَجْهي وأشعاري)
(فَأصْبح الرزق بهَا ضيقا ... كَأَنَّهُ من ثقبها جاري)
وَمن محَاسِن شعره قَوْله:
(يلقى الندى برقيق وَجه مُسْفِر ... فَإِذا التقى الْجَمْعَانِ عَاد صفيقا)
(رحب الْمنَازل مَا أَقَامَ فَإِن سرى ... فِي جحفل ترك الفضاء مضيقا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا وصلت الرّوم إِلَى الجزيرة والرها ونصيبين فغنموا وَقتلُوا، وَوصل الْمُسلمُونَ إِلَى بَغْدَاد مستصرخين فثارت الْعَامَّة وَجَرت بِبَغْدَاد فتن واستغاثوا إِلَى بختيار وَهُوَ فِي الصَّيْد، فَوَعَدَهُمْ بالغزاة وَطلب من الْمُطِيع مَالا فَقَالَ: أَنا(1/286)
لَيْسَ لي غير الْخطْبَة فَإِن أَحْبَبْتُم اعتزلت، فهدده بختيار فَبَاعَ الْخَلِيفَة قماشه وَغير ذَلِك حَتَّى حمل إِلَى بختيار أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، فقبضها بختيار وأخرجها فِي مصَالح نَفسه وَبَطلَت الغزة وشاع أَن الْخَلِيفَة صودر.
وفيهَا: فِي أَوَاخِر شَوَّال سَار الْمعز من إفريقية وَاسْتعْمل عَلَيْهَا يُوسُف بلكين بن زيزي بن مُنَاد الصنهاجي وَجعل على صقلية أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحسن وعَلى طرابلس الغرب عبد اللَّهِ بن يحلف الْكِنَانِي، واستصحب الْمعز مَعَه اهله وخزانته الْعَظِيمَة وفيهَا دَنَانِير مثل الطواحين، وَلما وصل برقة قتل مَعَه مُحَمَّد بن هانىء الشَّاعِر الأندلسي غيلَة لَا يدْرِي من قَتله وَكَانَ مجيدا، وغالى فِي مدح الْمعز حَتَّى كفر فمما قَالَه:
(مَا شِئْت لَا مَا شَاءَت الأقدار ... فاحكم فَأَنت الْوَاحِد القهار)
قلت: ابْن هانىء عِنْد المغاربة كالمتنبي عِنْد المشارقة، وَكَانَ أَبُو الْعَلَاء المعري إِذا سمع شعر ابْن هانىء يَقُول: مَا أشبهه إِلَّا برحا تطحن قرونا أَي تسمع قعقعة وَلَا طائل تحتهَا وَله:
(هَل من أعقة عالج يبرين ... أم مِنْهُمَا بقر الحدوج الْعين)
(وَلمن لَيَال مَا ذممنا عهدها ... مذ كن إِلَّا أَنَّهُنَّ شجون)
(المشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون)
وَالله أعلم.
ثمَّ سَار الْمعز حَتَّى وصل الْإسْكَنْدَريَّة فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة، واتاه أَعْيَان مصر فَلَقِيَهُمْ وَأكْرمهمْ، وَدخل الْقَاهِرَة خَامِس شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة.
قلت: وَذكر ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه أَن الْمعز ورد إِلَى مصر فِي سنة سِتِّينَ وثلثمائة، قَالَ: وَكَانَ عادلا منصفا، وَمن جملَة عدله أَن امْرَأَة الأخشيدي أودعت عِنْد يَهُودِيّ بدنه منسوجة بالدر جَعلتهَا فِي جرة نُحَاس، فَلَمَّا زَالَت المملكة عَنْهُم جَحدهَا الْيَهُودِيّ فتنازلت مَعَه إِلَى أَن يُعْطِيهَا شَيْئا قَلِيلا مِنْهَا فَلم يفعل، فَجَاءَت إِلَى الْمعز فأجلسها على كرْسِي فشكت حَالهَا مَعَ الْيَهُودِيّ فَأحْضرهُ وعاقبه بأنواع الْعقُوبَة فَلم يقر، فَلَمَّا خشِي عَلَيْهِ الْهَلَاك أَمر من يقْلع دَاره من الأساس فَوجدت الجرة فِيهَا الْبَدنَة فِي مغارة من الدَّار، فاجتهدت بالمعز أَن يَأْخُذ الْبَدنَة هَدِيَّة فَلم يفعل، وَالله أعلم.
وفيهَا: تمّ الصُّلْح بَين مَنْصُور بن نوح الساماني صَاحب خُرَاسَان وَبَين ركن الدولة بن بويه على أَن يحمل ركن الدولة إِلَيْهِ كل سنة مائَة ألف دِينَار وَخمسين ألف دِينَار، وَتزَوج مَنْصُور بابنة عضد الدولة.
وفيهَا: ملك أَبُو تغلب بن نَاصِر الدولة بن حمدَان قلعة ماردين سلمهَا إِلَيْهِ نَائِب أَخِيه حمدَان فَأخذ مَا لِأَخِيهِ فِيهَا من مَال وَسلَاح.(1/287)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا وصل الدمستق إِلَى جِهَة ميارفارقين فنهب واستهان بِالْمُسْلِمين، فَجهز أَبُو تغلب بن نَاصِر الدولة أَخَاهُ هبة اللَّهِ فِي جَيش فَكسر الدمستق وَأسر وَمرض وعالجه أَبُو تغلب فَلم يفد وَمَات مَحْبُوسًا.
وفيهَا: استوزر بختيار مُحَمَّد بن بقيه، فَعجب النَّاس لكَونه وضيعا من أوانا وَأَبوهُ زراع.
وَفِيه: حصلت الوحشة بن بختيار وَبَين أَصْحَابه من الديلم والأتراك.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا تقوى سبكتكين التركي بِبَغْدَاد وَنهب دَار بختيار وَكَانَ غَائِبا فِي الأهواز، وَرَأى سبكتكين الْمُطِيع عَاجِزا من الْمَرَض وَقد ثقل لِسَانه وَكَانَ يستر ذَلِك حَتَّى انْكَشَفَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بخلع نَفسه وولايته ابْنه الطائع فَأجَاب، وخلع الْمُطِيع نَفسه فِي نصف ذِي الْقعدَة، وخلافته تسع وَعِشْرُونَ سنة وَخمْس أشهر غير أَيَّام.
(أَخْبَار الطائع لله)
وبويع الطائع لله وَهُوَ رَابِع عشرهم أَبُو بكر عبد الْكَرِيم بن الْمفضل الْمُطِيع لله بن جَعْفَر المقتدر بن المعتضد أَحْمد.
وفيهَا: جرت حروب بَين الْمعز وَبَين القرامطة، ثمَّ انْهَزَمت القرامطة وَقتل مِنْهُم خلق كثير وَأرْسل فِي أَثَرهم عشرَة آلَاف فسارت القرامطة إِلَى الحساء والقطيف، ثمَّ أرسل الْمعز الْقَائِد ظَالِم بن مرهوب الْعقيلِيّ إِلَى دمشق فَعظم وَكَثُرت جموعه، ثمَّ وَقع بَينه وَبَين أهل دمشق فتن دَامَت إِلَى سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة وأحرق بعض دمشق.
وفيهَا: انحدر سبكتكين بالطائع والمطيع مخلوعا بالأتراك إِلَى وَاسِط فَمَاتَ الْمُطِيع بدير العاقول وَمَات سبكتكين أَيْضا فحملا إِلَى بَغْدَاد، وَقدم الأتراك عَلَيْهِم أفتكين أكبرهم، وقاربوا وَاسِط وَبهَا بختيار فَقَاتلهُمْ نَحْو خمسين يَوْمًا وَالظفر للأتراك، وَأرْسل بختيار إِلَى ابْن عَمه عضد الدولة بِفَارِس رسائل متتابعه بالإسراع إِلَيْهِ وَكتب إِلَيْهِ الْبَيْت الْمَشْهُور:
(فَإِن كنت مَأْكُولا فَكُن خير آكل ... وَإِلَّا فأدركني وَلما أمزق)
فَسَار عضد الدولة إِلَيْهِ، وَخرجت السّنة وَالْحَال كَذَلِك.
وفيهَا: انْتهى تَارِيخ ثَابت بن قُرَّة وابتداؤه من خلَافَة المقتدر سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار عضد الدولة بعساكر فَارس لما ذَكرْنَاهُ وقارب وَاسِط فَرجع أفتكين والأتراك إِلَى بَغْدَاد، وَسَار عضد الدولة من الْجَانِب الشَّرْقِي وَأمر بختيار أَن يسير من الْجَانِب الغربي وَخرجت الأتراك من بَغْدَاد وقاتلوا عضد الدولة فَهَزَمَهُمْ وَقتل مِنْهُم كثيرا فِي رَابِع عشر جُمَادَى مِنْهَا وَدخل بَغْدَاد، وَكَانُوا قد أخذُوا الْخَلِيفَة مَعَهم إِلَى وَاسِط فَرده عضد الدولة إِلَى بَغْدَاد، فوصل الْخَلِيفَة فِي الْمسَاء ثامن رَجَب مِنْهَا.(1/288)
وَلما اسْتَقر عضد الدولة بِبَغْدَاد شغبت الْجند على بختيار يطْلبُونَ أَرْزَاقهم وَلَا مَال مَعَه، فَأمره عضد الدولة فاستعفى من الإمرة عَجزا وأغلق بَابه وَصرف كِتَابه وحجابه وَأشْهد عضد الدولة عَلَيْهِ بذلك، ثمَّ قبض عضد الدولة على بختيار وَإِخْوَته فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى، وَاسْتقر عضد الدولة بِبَغْدَاد وَعظم الْخَلِيفَة وَحمل إِلَيْهِ مَالا عَظِيما.
وَكَانَ الْمَرْزُبَان بن بختيار مُتَوَلِّيًا بِالْبَصْرَةِ، وَلما بلغه قبض وَالِده كتب إِلَى ركن الدولة جده يشكو ذَلِك، فَألْقى ركن الدولة نَفسه إِلَى الأَرْض وَترك الطَّعَام حَتَّى مرض وَأنكر على عضد الدولة عَظِيما، فَأرْسل عضد الدولة يسْأَل أَبَاهُ فِي أَن يعوض بختيار بِبَعْض فَارس فَأَرَادَ ركن الدولة قتل الرَّسُول وتهدده بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِن لم يعد بختيار إِلَى ملكه، فاضطر عضد الدولة إِلَى إِخْرَاج بختيار من الْحَبْس وأعادوه إِلَى ملكه وَرجع إِلَى فَارس فِي شَوَّال مِنْهَا.
وفيهَا: أنهزم أفتكين التركي مولى معز الدولة من بختيار عِنْد قدوم عضد الدولة حَسْبَمَا ذكرنَا، وَسَار إِلَى حمص ثمَّ إِلَى دمشق وأميرها زبان الْخَادِم عَن الْمعز الْعلوِي، فاتفق أفتكين مَعَ الدماشقة وأخرجوا زبان وَقَطعُوا خطْبَة الْمعز فِي شعْبَان وولوا أفتكين، فعزم الْمعز على قِتَاله فاتفق موت الْمعز كَمَا سَيَأْتِي، وَتَوَلَّى ابْنه الْعَزِيز فَجهز الْقَائِد جوهرا فَحَضَرَ أفتكين بِدِمَشْق، فاستنجد أفتكين بالقرامطة، فَلَمَّا قربوا رَحل جَوْهَر إِلَى جِهَة مصر فَتَبِعَهُ أفتكين والقرامطة وتبعهم خلق فَلَحقُوا جوهرا قرب الرملة فَدخل عسقلان ضعفا عَنْهُم فحصروه، فعاين الْهَلَاك هُوَ وَأَصْحَابه من الْجُوع فبذل لأفتكين ليمن عَلَيْهِ ويطلقه فَرَحل أفتكين عَنهُ.
وَسَار جَوْهَر إِلَى مصر وَأعلم الْعَزِيز بِالْحَال، فَسَار الْعَزِيز بِنَفسِهِ إِلَى الشَّام وَوصل الرملة فقاتله أفتكين والقرامطة قتالا شَدِيدا فنصر الْعَزِيز وَقتل وَأسر كثيرا وَجعل لمن يحضر أفتكين مائَة ألف دِينَار، وَطلب أفتكين فِي هزيمته بَيت صَاحبه مفرج بن دَغْفَل الطَّائِي، فَأسرهُ مفرج فِي بَيته وَأعلم الْعَزِيز بِهِ، فَأعْطَاهُ الْجعل وأحضر أفتكين فَأَطْلقهُ الْعَزِيز وَأطلق أَصْحَابه وأنعم عَلَيْهِ وَصَحبه إِلَى مصر وَبَقِي عِنْده بِمصْر مُعظما حَتَّى مَاتَ بهَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا توفّي الْمعز لدين اللَّهِ أَبُو تَمِيم الْعلوِي الْحُسَيْنِي بِمصْر فِي سَابِع عشر جُمَادَى الأولى، وَولد بالمهدية حادي عشر رَمَضَان سنة تسع عشرَة وثلثمائة فعمره خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَسِتَّة أشهر تَقْرِيبًا وَكَانَ فَاضلا لَكِن كَانَ يعْمل بأقوال المنجمين وأخفى الْعَزِيز مَوته وأظهره فِي عيد النَّحْر مِنْهَا وَبَايَعَهُ النَّاس.
وفيهَا: أَو فِي تلوها فتح أَبُو الْقَاسِم بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن أَمِير صقلية مَدِينَة مسينا ثمَّ كنته وقعلة جلوى، وَبث سراياه فِي نواحي فلوريه وغنم وسبى.
وفيهَا: خطب للعزيز بِمَكَّة وَتُوفِّي ثَابت بن سِنَان بن قره الصابي.
وفيهَا: أَو فِي تلوها توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْقفال الشَّاشِي الشَّافِعِي، لم يكن وَرَاء النَّهر فِي عصره مثله، رَحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام والحجاز وَأخذ الْفِقْه(1/289)
عَن ابْن سُرَيج وروى عَن الطَّبَرِيّ، وروى عَنهُ الْحَاكِم بن مندة وَكثير، والتقريب الَّذِي ينْقل عَنهُ فِي النِّهَايَة والوسيط والبسيط، وَذكره الْغَزالِيّ فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب الرَّهْن من تصنيف الْقَاسِم بن الْقفال الْمَذْكُور لَكِن قَالَ الْغَزالِيّ: أَبُو الْقَاسِم وَهُوَ سَهْو وَهَذَا غير تقريب سليم الرَّازِيّ. والشاشي: نِسْبَة إِلَى مَدِينَة شاش وَرَاء نهر سيحون، والقفال غير أبي بكر الشَّاشِي صَاحب الْعُمْدَة والمستظهري
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي ركن الدولة الْحسن بن بويه، واستخلف على ممالكه ابْنه عضد الدولة وَعمر عضد الدولة فَوق سبعين وإمارته أَربع وَأَرْبَعين وَلَقَد أُصِيب بِهِ الدّين وَالدُّنْيَا لاستكمال خلال الْخَيْر فِيهِ، وَعقد لِابْنِهِ فَخر الدولة على هَمدَان وأعمال الْجَبَل، ولابنه مؤيد الدولة على أَصْبَهَان وجعلهما تَحت حكم عضد الدولة.
وفيهَا: سَار عضد الدولة بعد وَفَاة وَالِده إِلَى الْعرَاق، فَخرج بختيار وقاتله بالأهواز وخامر أَكثر عَسْكَر بختيار عَلَيْهِ، فَانْهَزَمَ بختيار إِلَى وَاسِط وَبعث عضد الدولة عسكرا استولى على الْبَصْرَة، ثمَّ سَار بختيار إِلَى بَغْدَاد وَسَار عضد الدولة إِلَى نواحي الْبَصْرَة وقررها، وَاسْتمرّ الْحَال كَذَلِك حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: " ابْتِدَاء دولة آل سبكتكين بغزنة " كَانَ سبكتكين من غلْمَان أبي إِسْحَاق بن التكين صَاحب جَيش غزنة السامانية وَقدمه لعقله وشجاعته، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو إِسْحَاق من غير ولد ولى الْعَسْكَر سبكتكين لكماله، فَعظم وغزا الْهِنْد على بست وقصدار.
وفيهَا مَاتَ مَنْصُور بن نوح بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن أَسد بن سامان صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر فِي نصف شَوَّال ببخارا وولايته نَحْو خمس عشرَة سنة، وَولي بعده ابْنه نوح وعمره نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة.
وفيهَا: مَاتَ قَاضِي قُضَاة الأندلس مُنْذر بن سعيد البلوطي فَقِيه خطيب شَاعِر ذُو دين متين.
وفيهَا: قبض عضد الدولة على أبي الْفَتْح بن العميد وَزِير أبي عضد الدولة وسمل إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقطع أَنفه، وَكَانَ أَبُو الْفَتْح لَيْلَة قبض قد هيأ مَجْلِسا للأنس والندماء والالات الذهبية وَالطّيب وَشَرِبُوا، وَعمل شعرًا غَنِي لَهُ بِهِ وَهُوَ:
(دَعَوْت المنى ودعوت العلى ... فَلَمَّا أجابا دَعَوْت الْقدح)
(وَقلت لأيام شرخ الشَّبَاب ... إِلَيّ فَهَذَا أَوَان الْفَرح)
(إِذا بلغ الْمَرْء آماله ... فَلَيْسَ لَهُ بعْدهَا مقترح)
فَقبض عَلَيْهِ من سحر تِلْكَ اللَّيْلَة.
وفيهَا توفّي الحكم بن عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي صَاحب الأندلس وإمارته خمس عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَسَبْعَة أشهر، كَانَ فَقِيها عَالما بالتاريخ وَغَيره، وبويع بعده ابْنه الْمُؤَيد هِشَام وَهُوَ ابْن عشر سِنِين، وَتَوَلَّى حجبه وتنفيذ أمره أَبُو عَامر(1/290)
مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن أبي عَامر مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن مزِيد الْمعَافِرِي القحطاني وتلقب أَبُو عَامر الْمَنْصُور واستبد بِالْأَمر وَمنع أحدا أَن يرى الْمُؤَيد.
وأصل أبي عَامر من الجزيرة الخضراء من الأندلس من قربَة طوشر واشتغل بالعلوم فِي قرطبة، وَكَانَ شرِيف النَّفس فَبلغ معالي الْأُمُور وَجمع الْفُضَلَاء وَبَلغت غَزَوَاته نيفا وَخمسين، وَمن نَادِر الِاتِّفَاق: إِن صاعد بن الْحسن اللّغَوِيّ أهْدى إِلَيْهِ أيلا مربوطا بِحَبل وامتدح الْمَنْصُور بِأَبْيَات وَكَانَ الْمَنْصُور قد أرسل عسكرا لغزو الفرنج وَاسم ملكهم إِذْ ذَاك غرسيه بن شاتجه، وَمن جملَة الأبيات:
(عبد نشلت بضبعة وغرسته ... فِي نعْمَة أهْدى إِلَيْك بأيل)
(سميته غرسية وبعثته ... فِي حبله ليتاح فِيهِ تفألي)
(فلئن قبلت فَتلك أَسْنَى نعْمَة ... أسدي بهَا ذِي منحة وتطول)
فأحضر الْعَسْكَر غرسية أَسِيرًا ذَلِك الْيَوْم، وَبَقِي الْمَنْصُور على مَنْزِلَته حَتَّى توفّي وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: عَاد شرِيف إِلَى ملك حلب، فَإِنَّهُ وصل إِلَى شرِيف بن سيف الدولة وَهُوَ بحماه بارقطاش مولى أَبِيه من حصن برزويه وخدمه وَعمر لَهُ حمص بعد خراب الرّوم وتقوى بكجور مولى قرعويه ونائبه وَقبض على قرعويه بحلب وحبسه بالقلعة وَاسْتولى على حلب، فكاتب أَهلهَا أَبَا الْمَعَالِي شريفا فَجَاءَهُمْ وَأنزل بكجور بالأمان وولاه حمص وَاسْتقر أَبُو الْمَعَالِي بحلب.
وفيهَا: توفّي بهستون بن وشمكير بجرجان، وَاسْتولى عَلَيْهَا وعَلى طبرستان أَخُوهُ قَابُوس.
وفيهَا: توفّي يُوسُف بن الْحسن الجبائي القرمطي صَاحب هجر ومولده سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَولى بعده سِتَّة نفر شركَة وَسموا السَّادة.
ثمَّ دخلت سنّ سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا خرج يانس بن شمشقيق ملك الرّوم فِي جيوش عَظِيمَة من النَّصْرَانِيَّة كَانَ جنَاح الجيوش فِي عِقَاب الروج والاخر فِي الغرزل من علاة معمرة النُّعْمَان وَنزل على أفاميه، ثمَّ رَحل فَفتح بعلبك وَأسر أَهلهَا وَكَانُوا تحَصَّنُوا فِي الملعب، وحاصر طرابلس ثمَّ انْصَرف عَنْهَا.
وفيهَا: مَاتَ يانس ملك الرّوم بَين اللاذقية وأنطاكية بالسم سمته زَوجته يفانو خافته على ولديها من أرمانوس قبل تقفور فَأرْسلت إِلَيْهِ سقية كَمَا تقدم.
وفيهَا: ولي الرّوم الْملك بسيل.
ثمَّ دخلت سنّ سبع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة على الْعرَاق وَغَيره، وخلع على بختيار ووعده بِأَيّ ولَايَة أَرَادَ، وَقتل عضد الدولة ابْن بَقِيَّة وَزِير بختيار وصلبه، ورثاه أَبُو الْحسن الْأَنْبَارِي بقصيدة مِنْهَا:(1/291)
(علو فِي الْحَيَاة وَفِي الْمَمَات ... بِحَق أَنْت إِحْدَى المعجزات)
(كَأَن النَّاس حولك حِين قَامُوا ... وُفُود نداك أَيَّام الصَّلَاة)
(مددت يَديك نحوهم اقتفاء ... لمدهما إِلَيْهِم فِي الهبات)
(وَلما ضَاقَ بطن الأَرْض عَن أَن ... يضم علاك من بعد الممات)
(أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عَن الأكفان ثوب السافيات)
(لعظمك فِي النُّفُوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثِقَات)
(وتشعل عنْدك النيرَان لَيْلًا ... كَذَلِك كنت أَيَّام الْحَيَاة)
ثمَّ سَار بختيار نَحْو الشَّام وَمَعَهُ حمدَان بن نَاصِر الدولة وأطعمه حمدَان فِي ملك الْموصل من أَخِيه أبي ثَعْلَب، فَأرْسل أَبُو ثَعْلَب يَقُول لبختيار: إِن سلمت إِلَيّ أخي حمدَان قَاتَلت مَعَك أَخَاك عضد الدولة، فغدر بختيار بحمدان وَسلمهُ إِلَى أَخِيه أبي ثَعْلَب فحبسه.
وَسَار أَبُو ثَعْلَب بعساكره مَعَ بختيار نَحْو عضد الدولة، فَخرج من بَغْدَاد نَحْوهمَا والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت ثامن عشر شَوَّال مِنْهَا فهزمهما عضد الدولة وَأمْسك بختيار فَقتله ثمَّ قصد الْموصل فملكها.
وهرب أَبُو ثَعْلَب إِلَى ميافارقين، فَأرْسل عضد الدولة فِي طلبه جَيْشًا إِلَى ميافارقين فهرب أَبُو ثَعْلَب إِلَى بدليس، وَتَبعهُ الْعَسْكَر فهرب نَحْو الرّوم فَلحقه الْعَسْكَر واقتتتلوا، فنصر أَبُو ثَعْلَب وَسَار إِلَى حصن زِيَاد وَيعرف الْآن بخرت برت، ثمَّ إِلَى آمد وَأقَام بهَا.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن قريعة الْبَغْدَادِيّ قَاضِي السندية وَغَيرهَا من أَعمال بَغْدَاد من عجائب الدُّنْيَا فِي سرعَة البديهة يُجيب عَن كل مَا يسْأَل عَنهُ بأفصح لفظ وأملح سجع، اخْتصَّ بِصُحْبَة الْوَزير المهلبي وَكَانَ الرؤساء يلاعبونه بالمسائل المضحكة فيجيب بِلَا توقف كتب إِلَيْهِ بَعضهم: مَا يَقُول القَاضِي وَفقه اللَّهِ فِي يَهُودِيّ زنا بنصرانية فَولدت ولدا جِسْمه للبشر وَوَجهه للبقر وَقد قبض عَلَيْهَا؟ فَكتب سَرِيعا،: هَذَا من أعدل الشُّهُود على الْيَهُود بِأَنَّهُم أشربوا الْعجل فِي صُدُورهمْ فَخرج من أيورهم وَأرى ان يناط باليهودي رَأس الْعجل ويصلب على عنق النَّصْرَانِيَّة السَّاق مَعَ الرجل ويسحبا على الأَرْض وينادي عَلَيْهِمَا: ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض وَالسَّلَام.
والسند قَرْيَة على نهر عِيسَى بَين بَغْدَاد والأنبار إِلَيْهَا سندواني فرقا بَينهَا وَبَين بِلَاد السَّنَد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا فتح أَبُو الْوَفَاء مقدم عَسْكَر عضد الدولة ميافارقين بالأمان وَسمع أَبُو ثَعْلَب بِفَتْحِهَا فَسَار عَن رمد نَحْو الرحبة ثمَّ سَار عَسْكَر عضد الدولة مَعَ أبي الْوَفَاء ففتحوا آمد وَاسْتولى عضد الدولة على ديار بكر، ثمَّ على ديار مُضر والرحبة، ثمَّ اسْتخْلف أَبُو الْوَفَاء على الْموصل وَعَاد إِلَى بَغْدَاد.
أما أَبُو ثَعْلَب فَسَار إِلَى دمشق، وَكَانَ قد تغلب على دمشق قسام وَهُوَ شخص كَانَ يَثِق(1/292)
إِلَيْهِ أفتكين ويقدمه فاستولى قسام على دمشق وَكَانَ يخْطب بهَا للعزيز صَاحب مصر، فَلَمَّا وصل أَبُو ثَعْلَب إِلَى دمشق قَاتله قسام وَمنعه من دمشق فَسَار أَبُو ثَعْلَب إِلَى طبرية.
وفيهَا توفّي القَاضِي أَبُو سعيد الْحسن بن عبد اللَّهِ السيرافي شَارِح كتاب سِيبَوَيْهٍ فَاضل فَقِيه نحوي منطقي مهندس وعمره أَربع وَثَمَانُونَ سنة، وَولي بعده أَبُو مُحَمَّد مَعْرُوف الحكم بالجانب الشَّرْقِي من بَغْدَاد.
قلت: قَرَأَ السيرافي الْقُرْآن على أبي بكر بن مُجَاهِد واللغة على ابْن دُرَيْد والنحو على ابْن السراج وَكَانَ يقرىء عدَّة فنون، وَكَانَ معتزليا وَلم يظْهر مِنْهُ شَيْء نزها عفيفا يَأْكُل من نسخ يَده، وَكَانَ كثيرا مَا ينشد:
(اسكن إِلَى سكن تسر بِهِ ... ذهب الزَّمَان وَأَنت مُنْفَرد)
(ترجو غَدا وغد كحامله ... فِي الْحَيّ لَا يَدْرُونَ مَا تَلد)
وَكَانَ بَينه وَبَين أبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب الأغاني مَا جرت الْعَادة بِهِ بَين الْفُضَلَاء من التنافس، فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْفرج:
(لست صَدرا وَلَا قَرَأت على ... صدر وَلَا علمك البكي بشافي)
(لعن اللَّهِ كل نَحْو وَشعر ... وعروض يَجِيء من سيرافي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنّ تسع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار أَبُو تغلب من طبرية حَسْبَمَا ذكرنَا إِلَى الرملة فِي الْمحرم مِنْهَا وَهُنَاكَ دَغْفَل بن مفرج الطَّائِي وَالْفضل بن قواد الْعَزِيز فِي عَسْكَر جهزه الْعَزِيز إِلَى الشَّام، فَسَارُوا لقِتَال أبي تغلب وَلَيْسَ مَعَه سوى سَبْعمِائة رجل من غلمانه وغلمان أَبِيه، فَانْهَزَمَ أَبُو تغلب وتبعوه وأسروه فَقتله دَغْفَل وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَزِيز بِمصْر، وَكَانَ مَعَه أُخْته جميلَة وَزَوجته بنت عَمه سيف الدولة فحملها بَنو عقيل إِلَى حلب وَبهَا ابْن سيف الدولة، فَترك أُخْته عِنْده وَأرْسل جميلَة بنت نَاصِر الدولة إِلَى بَغْدَاد فاعتقلت فِي حجرَة فِي دَار عضد الدولة.
وفيهَا: توفّي عمرَان بن شاهين صَاحب البطيحة فِي الْمحرم فَجْأَة، كَانَ من أهل الجامدة فجنى جنايات وَخَافَ من السُّلْطَان فهرب إِلَى البطيحة وَأقَام بَين الْقصب وَالْآجَام يَأْكُل من السّمك وطيور يتصيدها، فَاجْتمع إِلَيْهِ صيادون ولصوص فاستفحل أمره وَاتخذ لَهُ معاقل على التلال بالبطيحة وَغلب على تِلْكَ النواحي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فِي أَيَّام معز الدولة، فَأرْسل معز الدولة لقتاله عسكرا مَرَّات فَلم يظفر بِهِ وَمَات معز الدولة وَعَسْكَره محاصر عمرَان، وَتَوَلَّى بختيار فَأمر بِرُجُوع الْعَسْكَر عَنهُ، ثمَّ جرت بَينهمَا حروب فَلم يظفر بختيار بِهِ.
وَلما مَاتَ عمرَان ولي مَكَانَهُ ابْنه الْحسن، فطمع فِيهِ عضد الدولة وَأرْسل إِلَيْهِ عسكرا ثمَّ صَالحه على مَال يحملهُ لعضد الدولة كل سنة.
وفيهَا: سَار عضد الدولة إِلَى بِلَاد أَخِيه فَخر الدولة عَليّ لوحشة جرت بَينهمَا، فهرب(1/293)
مِنْهُ وَلحق بشمس الْمَعَالِي قَابُوس بن وشكمير فَأكْرمه غَايَة، وَملك عضد الدولة بِلَاد أَخِيه فَخر الدولة وَهِي هَمدَان والري وَمَا بَينهمَا، ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد حسبويه الْكرْدِي فاستولى عَلَيْهَا، وَلحق عضد الدولة فِي هَذَا السّفر صرع فكتمه وَكثر نسيانه فَلَا يذكر الشَّيْء إِلَّا بعد جهد وكتم ذَلِك أَيْضا:
قلت:
(مواعظ الدَّهْر لأبنائه ... مَا بَين مَفْهُوم ومنطوق)
(كم طامع من دهره بالصفا ... والدهر لَا يصفو لمخلوق)
وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل عضد الدولة جَيْشًا إِلَى الأكراد الهكارية من عمل الْموصل فأوقع بهم وحاصرهم، فتركوا قلاعهم ونزلوا مَعَ الْعَسْكَر إِلَى الْموصل.
وفيهَا: تزوج الطائع ابْنة عضد الدولة.
قلت: وفيهَا: زَاد سعد الدولة أَبُو الْمَعَالِي بن سيف الدولة الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل وَمُحَمّد وَعلي خير الْبشر.
وفيهَا: توفّي ثَابت بن إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي الحاذق فِي الطِّبّ.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي الأحدب المزور كتب على خطوط النَّاس فَلَا يشك الْمَكْتُوب عَنهُ أَنه خطه، وَكَانَ عضد الدولة يُوقع بِخَطِّهِ بَين الْمُلُوك الَّذين يُرِيد الْإِيقَاع بَينهم بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال.
وفيهَا: ورد على عضد الدولة من الْيمن هَدِيَّة فِيهَا قِطْعَة عنبر وَزنهَا سِتَّة وَخَمْسُونَ رطلا بالبغدادي.
وفيهَا: توفّي الْأَزْهَرِي أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأَزْهَر بن طَلْحَة اللّغَوِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي، لَهُ التَّهْذِيب عشر مجلدات وَغَيره، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة على بِلَاد جرجان وطبرستان وَأجلى عَنْهَا قَابُوس وَمَعَهُ فَخر الدولة أَخُو عضد الدولة لِأَنَّهُ طلب مِنْهُ أَخَاهُ فَلم يُسلمهُ إِلَيْهِ.
وفيهَا: قبض عضد الدولة على القَاضِي المحسن بن عَليّ التنوخي الْحَنَفِيّ وَكَانَ يُطلق لِسَانه فِي الشَّافِعِي رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ.
وفيهَا: أطلق عضد الدولة أَبَا إِسْحَاق الصابي وَكَانَ قبض عَلَيْهِ سنة سبع وَسِتِّينَ بِسَبَب أَنه كَانَ ينصح فِي المكاتبات لمخدومه بختيار.
قلت: وَهَذَا عَجِيب:
(فَلَيْسَ نصح الْفَتى لصَاحبه ... من الصِّفَات الَّتِي يذم بهَا)
وَالله أعلم.(1/294)
وفيهَا: أرسل عضد الدولة القَاضِي أَبَا بكر مُحَمَّد بن الطّيب الْأَشْعَرِيّ بن الباقلاني إِلَى ملك الرّوم فِي جَوَاب رِسَالَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْإِسْمَاعِيلِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْجِرْجَانِيّ، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمروزِي عَالم بِالْحَدِيثِ وَغَيره وروى صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْفربرِي.
قلت: وفيهَا: قبض عضد الدولة على جميلَة بنت نَاصِر الدولة بن حمدَان لما عَادَتْ من الرملة بعد قتل أَخِيهَا أبي تغلب ونادى عَلَيْهَا وَهِي على جمل: هَذِه قبيحة أُخْت أبي مغلوب، وغرقها فِي دجلة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا بعث الْعَزِيز بِاللَّه من مصر جَيْشًا مَعَ بكتكين إِلَى الشَّام فوصل فلسطين وَقد استولى عَلَيْهَا مفرج بن الْجراح فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ ابْن الْجراح ثمَّ سَار بكتكين إِلَى دمشق فقاتله قسام الْمُتَوَلِي عَلَيْهَا، فغلبه بكتكين وَملك دمشق وَأمْسك قساما وأرسله إِلَى الْعَزِيز فاستقر بِدِمَشْق وزالت مِنْهَا الْفِتَن.
وفيهَا: فِي ثامن شَوَّال توفّي عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة وَحسن بن بويه بمعاودة الصرع مرّة بعد أُخْرَى وَحمل إِلَى مشْهد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَدفن بِهِ وولايته بالعراق خمس سِنِين وَنصف وعمره سبع وَأَرْبَعُونَ، وَلما احْتضرَ لم ينْطَلق لِسَانه إِلَّا بِتِلَاوَة: {مَا أغْنى عني ماليه. هلك عني سلطانية} . وَكَانَ عَاقِلا فَاضلا سائسا مهيبا، وَبنى على مَدِينَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سورا وَله شعر مِنْهُ أَبْيَات مِنْهَا بَيت لم يفلح بعده وَهِي:
(لَيْسَ شرب الكأس إِلَّا فِي الْمَطَر ... وغناء من جوَار فِي السحر)
(غانيات سالبات للنهى ... ناعمات فِي تضاعيف الْوتر)
(عضد الدولة وَابْن ركنها ... ملك الْأَمْلَاك غلاب الْقدر)
وَكَانَ محبا لأهل الْعُلُوم فقصده الْعلمَاء وصنف لَهُ الْإِيضَاح فِي النَّحْو وَالْحجّة فِي الْقرَاءَات والملكي فِي الطِّبّ والتاجي فِي تَارِيخ الديلم وَغير ذَلِك، وَلما توفّي بَايع القواد ابْنه كاليجار المزربان على الْإِمَارَة ولقبوه صمصام الدولة، وَكَانَ أَخُوهُ شرف الدولة شيربك بكرمان وَسمع بِمَوْت أَبِيه فَسَار وَملك فَارس وَقطع خطْبَة أَخِيه صمصام الدولة.
وفيهَا: قتل أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن عمرَان بن شاهين أَخَاهُ الْحسن صَاحب البطيحة وَاسْتولى عَلَيْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق، كَانَ قد زَاده أَخُوهُ عضد الدولة على مملكة اخيهما فَخر الدولة، وعاش مؤيد الدولة ثَلَاثًا وَأَرْبَعين وَكَانَ أَخُوهُ فَخر الدولة عَليّ مَعَ قَابُوس كَمَا ذكرنَا، فَلَمَّا مَاتَ مؤيد الدولة اتّفق قواد عسكره على طَاعَة فَخر الدولة وَكَتَبُوا إِلَيْهِ، فَعَاد ملكه والْمنَّة لله بِلَا قتال وَذَلِكَ فِي رَمَضَان مِنْهَا، ووصلت إِلَى فَخر الدولة الْخلْع من الْخَلِيفَة والعهد بِالْولَايَةِ.(1/295)
وفيهَا: كتب بكجور مولى قرعويه الَّذِي قبض على قرعويه وَملك حلب ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ شرِيف بن سيف الدولة إِلَى الْعَزِيز بِمصْر يسْأَله ولَايَة دمشق فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَى بكتكين عَامله بِدِمَشْق أَن يُسَلِّمهَا إِلَى بكجور ويحضر بكتكين إِلَى مصر، فسلمها إِلَى بكجور فِي رَجَب وأساء بكجور فِيهَا السِّيرَة.
وفيهَا: اتّفق كبراء عَسْكَر عمرَان بن شاهين فَقتلُوا أَبَا الْفرج مُحَمَّد بن عمرَان لسوء سيرته وَأَقَامُوا أَبَا الْمَعَالِي بن الْحسن بن شاهين صَغِيرا يدبر أمره المظفر بن على الْحَاجِب وَهُوَ أكبر قواد جده عمرَان، ثمَّ أَزَال المظفر الْحَاجِب أَبَا الْمَعَالِي وسيره وَأمه إِلَى وَاسِط واستقل المظفر بِملك البطيحة وانقرض بَيت عمرَان بن شاهين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي يُوسُف بن بلكين بن زيزي أَمِير أفريقية وَتَوَلَّى ابْن الْمَنْصُور وَأرْسل إِلَى الْمعز هَدِيَّة عَظِيمَة قيمتهَا ألف ألف دِينَار.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا ولي أَبُو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الْكُوفَة وَهِي أول إِمَارَة بني ثمال.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْموصِلِي الْحَافِظ الْمَشْهُور.
وفيهَا: توفّي بميافارقين الْخَطِيب أَبُو يحيى عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن نَبَاته إِمَام فِي الْعُلُوم الْأَدَب مَا عمل مثل خطبه، وخطب أَيْضا بحلب وَبهَا اجْتمع بالمتنبي عِنْد سيف الدولة، وَكَانَ الْخَطِيب رجلا صَالحا رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَام فَقَالَ: مرْحَبًا يَا خطيب الخطباء كَيفَ تَقول كَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا للعيون قُرَّة وَلم يعدوا فِي الْأَحْيَاء مرّة؟ فَقَالَ الْخَطِيب تتمتها الْمعرفَة، فأدناه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتفل فِي فِيهِ، فَبَقيَ بعْدهَا ثَلَاثَة أَيَّام لم يطعم طَعَاما وَلَا يشتهيه وَيُوجد من فِيهِ مثل رَائِحَة الْمسك وَلم يَعش بعْدهَا إِلَّا يسرا، ومولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا قصدت القرامطة الْكُوفَة مَعَ نفرين من السِّتَّة الَّذين تسموا بالسادة فملكوها ونهبوا، فَجهز صمصام الدولة إِلَيْهِم جَيْشًا فَانْهَزَمَ القرامطة وَكثر الْقَتْل فيهم وانخرقت هيبتهم.
وَحكى ابْن الْأَثِير والعهدة على النَّاقِل أَنه خرج فِي هَذِه السّنة من الْبَحْر بعمان طَائِر أكبر من الْفِيل ووقف على تل هُنَاكَ وَصَاح بِصَوْت عَال ولسان فصيح: قد قرب، قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ غاص فِي الْبَحْر، فعل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام وَلم ير بعد ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا سَار شرف الدولة شيربك بن عضد الدولة من الأهواز فَملك وَاسِط، وَأَشَارَ أَصْحَاب صمصام الدولة عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْموصل أَو غَيرهَا فَأبى وَركب بخواصه وَحضر عِنْد أَخِيه شرف الدولة مستأمنا فَلَقِيَهُ وَطيب قلبه، فَلَمَّا خرج من عِنْده غدر بِهِ شرف الدولة وَقبض عَلَيْهِ وَسَار حَتَّى دخل بَغْدَاد فِي رَمَضَان(1/296)
وصمصام الدولة معتقل مَعَه، وَكَانَت إِمَارَة صمصام الدولة بِبَغْدَاد ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أعتقله بقلعة بِفَارِس.
وفيهَا: توفّي المظفر الْحَاجِب صَاحب البطيحة، ووليها ابْن أَخِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن نصر بِعَهْد من المظفر وَوصل تَقْلِيده من بَغْدَاد ولقب مهذب الدولة فَأحْسن وساس.
وفيهَا: توفّي بِبَغْدَاد أَبُو عَليّ الْحسن بن أَحْمد بن عبد الْغفار الْفَارِسِي النَّحْوِيّ صَاحب الْإِيضَاح وَقد جَاوز التسعين، وَقيل كَانَ معتزليا، ولد فِي مَدِينَة فسا واشتغل بببغداد وَأقَام مُدَّة بحلب عِنْد سيف الدولة، ثمَّ أَقَامَ بِفَارِس وَصَحب عضد الدولة وَله التَّذْكِرَة وَكتاب الْمَقْصُور والممدود وَالْحجّة فِي الْقرَاءَات والعوامل الْمِائَة والمسائل الحلبيات.
قلت: وَكَانَ أَبُو عَليّ يغبط من يَقُول الشّعْر وَقَالَ: مَا أعلم أَن لي شعرًا إِلَّا ثَلَاثَة أَبْيَات فِي الشيب وَهِي قَوْله:
(خضبت الشيب لما كَانَ عَيْبا ... وخضب الشيب أولى أَن يعابا)
(وَلم أخضب مَخَافَة هجر خل ... وَلَا عَيْبا خشيت وَلَا عتابا)
(وَلَكِن المشيب بدا ذَمِيمًا ... فصيرت الخضاب لَهُ عقَابا)
قلت: وقذ ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي الشيب وهما:
(بِاللَّه يَا معشر أَصْحَابِي ... اغتنموا فضلي وآدابي)
(فالشيب قد حل برأسي وَقد ... أقسم لَا يرحل إِلَّا بِي)
وبيتين لي أَيْضا فِيهِ وهما:
(الشيب سَوط عَذَاب ... هام النِّسَاء بقذفه)
(يَكْفِي مشيبي عَيْبا ... إِنِّي رضيت بنتفه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وثلثمائة وَسنة ثَمَان وَسبعين وثلثمائة:: فِيهَا سير الْعَزِيز عسكرا مَعَ الْقَائِد مِنْبَر الْخَادِم إِلَى دمشق ليعزل بكجور عَنْهَا ويتولاها فقاتله عِنْد داريا فَانْهَزَمَ بكجور وَدخل الْبَلَد وَطلب الْأمان فَأَمنهُ فَسَار بكجور إِلَى الرقة فاستولى عَلَيْهَا، وَأحسن مِنْبَر السِّيرَة بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي الْمحرم أهْدى الصاحب بن عباد إِلَى فَخر الدولة بن ركن الدولة حسن دِينَارا وَزنه ألف مِثْقَال مَكْتُوبًا عَلَيْهِ:
(وأحمر يَحْكِي الشَّمْس شكلا وَصُورَة ... فأوصافها مُشْتَقَّة من صِفَاته)
(فَإِن قيل دِينَار فقد صدق اسْمه ... وَإِن قيل ألف فَهُوَ بعض سماته)
(بديع وَلم يطبع على الدَّهْر مثله ... وَلَا ضربت أضرابه لسراته)
(وَصَارَ إِلَى شاهان شاه انتسابه ... على أَنه مستصغر لعفاته)(1/297)
(يخبر أَن يبْقى سنينا كوزنه ... لتستبشر الدُّنْيَا بطول حَيَاته)
وفيهَا: توفّي أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي ذُو التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا أرسل شرف الدولة مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ الْفراش فسمل عَيْني أَخِيه صمصام الدولة فِي القلعة الَّتِي حبس بهَا.
وفيهَا: فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الْملك شرف الدولة شيربك بالاستسقاء وَدفن بمشهد عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وإمارته بالعراق سنتَانِ وَثَمَانِية أشهر وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر، فاستقر مَوْضِعه أَخُوهُ أَبُو نصر بهاء الدولة واسْمه خاشاذ وخلع عَلَيْهِ الطائع وقلده السلطنة.
وفيهَا: افْتتن الأتراك والديلم واقتتلوا خَمْسَة أَيَّام وبهاء الدولة فِي راره يراسلهم فِي الصُّلْح، وَبعد اثْنَتَيْ عشر يَوْمًا صَار بهاء الدولة مَعَ الأتراك فَأجَاب الديلم إِلَى الصُّلْح، وَمِنْهَا أخذت الأتراك فِي الْقُوَّة والديلم فِي الضعْف.
وفيهَا: هرب أَبُو الْعَبَّاس الْقَادِر أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر إِلَى البطيحة فاحتمى فِيهَا، وَسَببه: أَن الْأَمِير إِسْحَاق وَالِده لما توفّي جرى بَين ابْنه أَحْمد الْمُسَمّى فِيمَا بعد بالقادر وَبَين أُخْت لَهُ مُنَازعَة على ضَيْعَة وَكَانَ الطائع قد مرض وشفي فسعت بأخيها إِلَى الطائع وَقَالَت: إِن أخي لَهُ شرع فِي طلب الْخلَافَة عِنْد مرضك فَتغير عَلَيْهِ الطائع وَأرْسل ليقبضه فهرب، فَأكْرمه مهذب الدولة صَاحب البطيحة.
وفيهَا: اسْتَأْذن أَبُو طَاهِر إِبْرَاهِيم وَأَبُو عبد اللَّهِ الْحُسَيْن ابْنا نَاصِر الدولة بن حمدَان بهاء الدولة فِي الْمسير إِلَى الْموصل وَكَانَا قبله فِي خدمَة أَخِيه شرف الدولة بن عضد الدولة فَأذن لَهما بهاء الدولة فِي ذَلِك، فسارا إِلَى الْموصل فقاتلهما الْعَامِل بهَا، وَاجْتمعَ إِلَيْهِمَا المواصلة فطردا الْعَامِل وَاسْتقر بالموصل.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْعَبَّاس السّلمِيّ النقاش من متكلمي الأشعرية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا طمع باد صَاحب ديار بكر فِي ابْني نَاصِر الدولة الْمَذْكُورين فقصدهما وَجرى بَينهم قتال قتل فِيهِ باد وَحمل رَأسه إِلَيْهِمَا وبإدخال أبي عَليّ بن مَرْوَان فَسَار أَبُو عَليّ ابْن أُخْته إِلَى حصن كيفا وَبِه زَوْجَة خَاله باد وَأَهله فَقَالَ لامْرَأَة خَاله: قد أنقذني خَالِي إِلَيْك فِي مُهِمّ، فأصعدته فأعلمها بقتل خَاله وأطمعها فِي التَّزَوُّج بهَا فوافقته على ملك الْحصن وَغَيره، وَنزل أَبُو عَليّ بن مَرْوَان وَملك بِلَاد خَاله حصنا حصنا، وَجَرت بَينه وَبَين ابْني نَاصِر الدولة حروب.
ثمَّ مضى أَبُو عَليّ بن مَرْوَان إِلَى مصر وتقلد من الْخَلِيفَة الْعَزِيز بِاللَّه الْعلوِي ولَايَة حلب وَتلك النواحي وَعَاد إِلَى مَكَانَهُ من ديار بكر، وَأقَام بِتِلْكَ الديار إِلَى أَن اتّفق بعض(1/298)
أهل آمد مَعَ شيخهم عبد الْبر فَقتلُوا أَبَا عَليّ الْمَذْكُور عِنْد خُرُوجه من بَاب الْبَلَد بالسكاكين تولى قَتله ابْن دمنة من آمد وَاسْتولى عبد الْبر شيخ آمد عَلَيْهِ وَزوج ابْن دمنة بابنته، فَوَثَبَ ابْن دمنة فَقتل عبد الْبر أَيْضا وَاسْتولى على آمد.
وَكَانَ لأبي عَليّ أَخ لقبه ممهد الدولة بن مَرْوَان، فَلَمَّا قتل أَبُو عَليّ سَار ممهد الدولة فَملك ميافارقين وَغَيرهَا من بِلَاد أَخِيه، فَعمل شروة وَهُوَ من أكَابِر الْعَسْكَر دَعْوَة لممهد الدولة وَقَتله فِيهَا، وَاسْتولى شروة على غَالب بِلَاد بني مَرْوَان وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة.
وَكَانَ ممهد الدولة قد حبس أَخَاهُ الآخر أَبَا نصر أَحْمد، وَكَانَ قد حَبسه أَيْضا أَخُوهُ أَبُو عَليّ بِسَبَب مَنَام وَهُوَ أَنه رأى أَن الشَّمْس فِي حجره وَقد أَخذهَا مِنْهُ أَخُوهُ أَبُو نصر فحبسه لذَلِك، فَلَمَّا قتل ممهد الدولة أخرج أَبُو نصر من الْحَبْس وَاسْتولى على أرزن، هَذَا كُله وأبوهم مَرْوَان بَاقٍ أعمى مُقيم بأرزن عِنْد قبر وَلَده أبي عَليّ، وَلما اسْتَقر أَبُو نصر خرجت الْبِلَاد عَن طَاعَة شروة وَاسْتولى أَبُو نصر على سَائِر بِلَاد ديار بكر ودامت أَيَّامه وَحسنت سيرته، وَبَقِي كَذَلِك من سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: ملك أَبُو الذواد الْموصل وَهُوَ مُحَمَّد بن الْمسيب بن رَافع بن الْمُقَلّد بن جَعْفَر أَمِير بني عقيل وَقتل أَبَا طَاهِر بن نَاصِر الدولة بن حمدَان وَأَوْلَاده وعدة من قواده بعد قتال بَينهمَا وَاسْتقر أَبُو الذواد بالموصل.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا قبض بهاء الدولة على الطائع لله أبي بكر عبد الْكَرِيم بن الْمفضل الْمُطِيع لله بن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل لطمع بهاء الدولة فِي مَال الطائع، وَلما أَرَادَ ذَلِك أرسل إِلَى الطائع وَسَأَلَهُ الْأذن ليجدد الْعَهْد بِهِ، فَجَلَسَ الطائع على كرْسِي وَدخل بعض الديلم على صُورَة مقبل ليده فَجَذَبَهُ عَن سَرِيره والخليفة يَقُول: إِنَّا لله وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَحمل إِلَى دَار بهاء الدولة وَأشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ، فخلافته سبع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام، وَلما تولى الْقَادِر حمل إِلَيْهِ الطائع فَبَقيَ عِنْده مكرما إِلَى أَن توفّي الطائع سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة لَيْلَة الْفطر ومولده سنة سبع عشرَة وثلثمائة، وَلم يكن للطائع فِي ولَايَته من الحكم مَا يسْتَدلّ بِهِ على حَاله.
وَكَانَ فِيمَن حضر لقبض الطائع الشريف الرضي فبادر بِالْخرُوجِ من دَار الْخلَافَة وَقَالَ فِي ذَلِك أبياتا مِنْهَا:
(أمسيت أرْحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقَارب بَين الْعِزّ والهون)
(ومنظر كَانَ بالسراء يضحكني ... يَا قرب مَا عَاد بالضراء يبكيني)
(هَيْهَات أغتر بالسلطان ثَانِيَة ... قد ضل عِنْدِي ولاج السلاطين)(1/299)
(أَخْبَار الْقَادِر بِاللَّه)
وبويع الْقَادِر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْأمين إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد وَهُوَ خَامِس عشرهم بالخلافة وخطب لَهُ ثَالِث عشر رَمَضَان، وَلما خلع الْمُطِيع كَانَ قَادر بالبطيحة كَمَا تقدم فَأرْسل إِلَيْهِ بهاء الدولة خَواص أَصْحَابه ليحضره وَخرج بهاء الدولة والأعيان لملتقاه وَدخل دَار الْخلَافَة ثَانِي عشر رَمَضَان وَلما توجه من البطيحة من عِنْد ممهد الدولة حمل إِلَيْهِ مهذب الدولة أَمْوَالًا كَثِيرَة.
وفيهَا: سَار بكجور الْمخْرج من دمشق إِلَى الرقة كَمَا ذكرنَا إِلَى قتال سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب واقتتلا شَدِيدا وهرب بكجور وَأَصْحَابه ثمَّ أسر بكجور وَحمل إِلَى سعد الدولة فَقتله وَلَقي بكجور عَاقِبَة بغية على مَوْلَاهُ، ثمَّ سَار سعد الدولة إِلَى الرقة وَبهَا أَوْلَاد بكجور وأمواله فحصرها، فاستأمنوا فَأَمنَهُمْ وَحلف أَن لَا يتَعَرَّض إِلَيْهِم وَلَا إِلَى مَالهم، وسلموا إِلَيْهِ الرقة فغدر بهم وَقبض على أَوْلَاد بكجور وَأخذ مَالهم الْكثير.
وَعَاد سعد الدولة إِلَى حلب فَلحقه فالج فِي جَانِبه الْيَمين، فأحضر الطَّبِيب وَمد إِلَيْهِ يَده الْيُسْرَى فَقَالَ الطَّبِيب: يَا مَوْلَانَا هَات الْيُمْنَى، فَقَالَ سعد الدولة: مَا تركت لي الْيَمين يَمِينا، وَمَات بعد ثَلَاثَة أَيَّام فِي هَذِه السّنة وعهد إِلَى وَلَده أبي الْفضل وَجعل مَوْلَاهُ لُؤْلُؤ يدبر أمره.
وفيهَا: نَازل بسيل ملك الرّوم حمص فَفَتحهَا ونهبها، ثمَّ نهب شيزر، ثمَّ حصر طرابلس مُدَّة وَعَاد إِلَى الرّوم.
وفيهَا: توفّي الْقَائِد جَوْهَر معزولا عَن وظيفته.
قلت: وفيهَا جَاءَت زَلْزَلَة عَظِيمَة بِدِمَشْق هدمت دورا كَثِيرَة على أَهلهَا وَسَقَطت قَرْيَة دومة وَهلك جَمِيع أَهلهَا فِيمَا ذكر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا شغب الْجند على بهاء الدولة بِسَبَب اسْتِيلَاء أبي الْحسن بن الْمعلم على الْأُمُور، فَسلم ابْن الْمعلم للجند فَقَتَلُوهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا استولى بغراخان على بخارا وَكَانَ لَهُ كاشغر وبلاد صاغون إِلَى حد الصين، فقصد بخارا وَجرى بَينه وَبَين الْأَمِير الرضى نوح بن مَنْصُور الساماني حروب انتصر فِيهَا بغراجان وَخرج نوح مستخفيا فَعبر النَّهر إِلَى أمل الشط وَأقَام نوح بهَا وَلحق بِهِ أَصْحَابه، وَصَارَ يَسْتَدْعِي أَبَا عَليّ بن سيمجور صَاحب جَيش خُرَاسَان فَلم يَأْته وَعصى عَلَيْهِ، وَمرض بغراجان فِي بخارا فَرجع إِلَى بِلَاده فَمَاتَ فِي الطَّرِيق، وَكَانَ دينا حسن السِّيرَة وبادر الْأَمِير نوح إِلَى بخارا وَاسْتقر فِي ملك آبَائِهِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا اتّفق أَبُو عَليّ بن سيمجور صَاحب جَيش خُرَاسَان وفائق على حَرْب نوح، فَكتب نوح إِلَى سبكتكين وَهُوَ بغزنة يُعلمهُ بِالْحَال وولاه(1/300)
خُرَاسَان، فَسَار سبكتكتين عَن غزنة وَمَعَهُ ابْنه مَحْمُود إِلَى نَحْو خُرَاسَان وَسَار نوح من بخارا فَاجْتمعُوا وقصدوا ابْن سيجمور وفائقا واقتتلوا بنواحي هراة، فَانْهَزَمَ ابْن سيجمور وَأَصْحَابه وتبعهم عَسْكَر نوح وسبكتكين يقتلُون، ثمَّ اسْتعْمل نوح على خُرَاسَان مَحْمُود بن سبكتكين.
وفيهَا: توفّي عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن نَافِع الصَّالح بَقِي سبعبن سنة لَا يسْتَند إِلَى شَيْء، وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى النَّحْوِيّ الرماني ومولده سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَله تَفْسِير كَبِير، وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس بن أَحْمد الْقَزاز وَكتب كثيرا وخطه حجَّة نقلا وضبطا، وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن هِلَال الْكَاتِب الصابي وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَتِسْعين سنة زمن وَضَاقَتْ أُمُوره، وَكَانَ كَاتب معز الدولة ثمَّ كتب لبختيار، وَكَانَت تصدر عَنهُ مكاتبات إِلَى عضد الدولة تؤلمه فحقد عَلَيْهِ، وَلما ملك بَغْدَاد حبس الصابي ثمَّ أطلقهُ وَأمره أَن يصنف لَهُ كتابا فِي أَخْبَار الدولة الديلمية فصنف الْكتاب التاجي.
وَنقل إِلَى عضد الدولة عَنهُ أَن رجلا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ يؤلف فِي التاجي فَسَأَلَهُ عَمَّا يفعل، فَقَالَ: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها، فحرك ذَلِك حقد عضد الدولة فَأَبْعَده وَحرمه.
جهد معز الدولة على الصابي ليسلم فَأبى، وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن، ورثاه الشريف الرضي فليم فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا رثيت فضيلته.
قلت: وَله فِي عبد لَهُ أسود كَانَ يهواه اسْمه يمن:
(قد قَالَ يمن وَهُوَ أسود للَّذي ... ببياضه استعلى علو الخاتن)
(مَا فَخر وَجهك بالبياض وَهل ترى ... إِن قد أفدت بِهِ مزِيد محَاسِن)
(وَلَو أَن مني فِيهِ خالا زانه ... وَلَو أَن مِنْهُ فِي خالا شانني)
وَله فِيهِ:
(لَك وَجه كَأَن يمناي ... خطته بِلَفْظ تمله آمالي)
(فِيهِ معنى من البدور وَلَكِن ... نفضت صبغها عَلَيْهِ اللَّيَالِي)
(لم يشنك السوَاد بل زِدْت حسنا ... إِنَّمَا يلبس السوَاد الموَالِي)
(فبمالي أفديك إِن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إِن كنت مَالِي)
وَأول مرثية الشريف الرضي فِيهِ:
(أَرَأَيْت من حملُوا على الأعواد ... أَرَأَيْت كَيفَ خبا ضِيَاء النادي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا عَاد أَبُو عَليّ بن سيمجور إِلَى خُرَاسَان وَقَاتل مَحْمُود بن سبكتكين وَأخرجه عَنْهَا، ثمَّ سَار سبكتكين وَابْنه مَحْمُود بالعساكر واقتتلوا مَعَ أبي عَليّ بطوس فهزموه، فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء عَن ابْن سيمجور:(1/301)
(عصى السُّلْطَان فابتدرت إِلَيْهِ ... رجال يقلعون أَبَا قبيس)
(وصير طوس معقلة فَكَانَت ... عَلَيْهِ طوس أشأم من طويس)
ثمَّ أَن أَبَا عَليّ طلب الْأمان من نوح فَأَمنهُ، وجاءه أَبُو عَليّ إِلَى بخارا فحبسه نوح حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس.
وفيهَا: مَاتَ الصاحب أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن عباد وَزِير فَخر الدولة عَليّ بن بويه بِالريِّ وَنقل فَدفن بأصبهان، كَانَ أوحد زَمَانه علما وتدبيرا وكرما أول من لقب بالصاحب من الوزراء صحب الْفضل بن العميد فَقيل لَهُ صَاحب ابْن العميد ثمَّ أطلق عَلَيْهِ هَذَا اللقب لما تولى الوزارة وَصَارَ علما عَلَيْهِ ثمَّ سمي بِهِ كل من ولي الوزارة وَكَانَ أَولا وزيرا لمؤيد الدولة وَبعده لفخر الدولة، وَله الْمُحِيط فِي اللُّغَة وَالْكَافِي فِي الرسائل وَكتاب الْإِمَامَة يتَضَمَّن فَضَائِل عَليّ وَصِحَّة إِمَامَة من تقدمه رَضِي اللَّهِ عَنْهُم وَكتاب الوزراء وَله النّظم الْجيد؛ ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة بأصطخر وَقيل بطالقان قزوين، وَعباد أَبوهُ وَزِير ركن الدولة، وَتُوفِّي سنة أَربع أَو خمس وَثَمَانِينَ وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر بن أَحْمد الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ إِمَام فَقِيه شَافِعِيّ حفظ كثيرا من دواوين الشُّعَرَاء مِنْهَا ديوَان السَّيِّد الْحِمْيَرِي فنسب لذَلِك إِلَى التَّشَيُّع، وَخرج من بَغْدَاد إِلَى مصر وَأقَام عِنْد أبي الْفضل جَعْفَر وَزِير كافور واستفاد مِنْهُ ثروة وعلومه كَثِيرَة وَلَا سِيمَا عُلُوم الحَدِيث ومولده فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وثلثمائة ووفاته بِبَغْدَاد، ونسبته إِلَى دَار الْقطن محلّة كَبِيرَة بِبَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد يُوسُف بن الْحسن بن عبد اللَّهِ بن الْمَرْزُبَان السيرافي الْفَاضِل ابْن الْفَاضِل كمل كتاب الْإِقْنَاع تصنيف وَالِده وَشرح أَبْيَات كتاب سِيبَوَيْهٍ وَشرح إصْلَاح الْمنطق، وسيراف فرضة فَارس وَلَيْسَ بهَا زرع وَلَا ضرع وَمَال أَهلهَا كثير وَمِنْهَا يَنْتَهِي الْإِنْسَان إِلَى حصن عمَارَة على الْبَحْر من امْنَعْ الْحُصُون وَقيل: صَاحبهَا هُوَ الجلندي الَّذِي كَانَ يَأْخُذ كل سفينة غصبا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا لليلتين بَقِيَتَا من رَمَضَان توفّي الْعَزِيز بِاللَّه بن الْمعز بن الْمَنْصُور الْعلوِي الفاطمي صَاحب مصر وعمره اثْنَان وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر برز إِلَى بلبيس لغزو الرّوم فَمَاتَ بهَا بعدة أمراض مِنْهَا القولنج وخلافته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصف ومولده بالمهدية، ولى كِتَابَته نَصْرَانِيّا اسْمه عِيسَى بن نسطورس، واستناب بِالشَّام يَهُودِيّا اسْمه مِيشَا فاستطالت النَّصَارَى وَالْيَهُود بسببهما، فَعمل أهل مصر قَرَاطِيس صُورَة امْرَأَة وَمَعَهَا قصَّة فِي طَرِيق الْعَزِيز فَأَخذهَا الْعَزِيز فَإِذا فِيهَا: بِالَّذِي أعز الْيَهُود بميشا وَالنَّصَارَى بِعِيسَى بن نسطورس وأذل الْمُسلمين بك إِلَّا كشفت عَنَّا، فَقبض على النَّصْرَانِي وصادره.
وَلما مَاتَ بُويِعَ ابْنه الْحَاكِم بِأَمْر اللَّهِ أَبُو عَليّ مَنْصُور بعده أَبِيه وعمره إِحْدَى عشرَة(1/302)
سنة، وَقَامَ بتدبير ملكه أرجوان الْخصي الْأَبْيَض خَادِم أَبِيه فضبطه إِلَى أَن كبر الْحَاكِم فَقتل أرجوان.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو ذواد بن الْمسيب أَمِير الْموصل، ووليها أَخُوهُ الْمُقَلّد.
وفيهَا: توفّي مَنْصُور بن يُوسُف بلكين بن زيزي الصنهاجي أَمِير إفريقية وَكَانَ ملكا كَرِيمًا شجاعا، ووليها ابْنه باديس.
وفيهَا: توفّي أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ بن عَطِيَّة الْمَكِّيّ صَاحب قوت الْقُلُوب صنفه وقوته إِذْ ذَاك عروق البردي، صَالح مُجْتَهد فِي الْعِبَادَة من أهل الْجبَال وَسكن مَكَّة فنسب إِلَيْهَا وَنسب إِلَيْهِ تَخْلِيط قبل مَوته وَمَات بِبَغْدَاد.
(ابْتِدَاء دولة بني حَمَّاد مُلُوك بجاية)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا ابْتِدَاء دولة بني حَمَّاد فِي بجاية فَإِن باديس بن مَنْصُور بن بلكين صَاحب إفريقية عقد فِي صفر مِنْهَا الْولَايَة لِعَمِّهِ حَمَّاد بن بلكين على أُشير فاتسعت ولَايَة حَمَّاد وَعظم وَجمع العساكر وَالْأَمْوَال.
وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة أظهر الْخلاف على ابْن أَخِيه باديس وخلعه واقتتلا فِي أول جُمَادَى سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة فَانْهَزَمَ حَمَّاد هزيمَة شنيعة بعد قتال شَدِيد بَين الْفَرِيقَيْنِ والتجأ إِلَى قلعة مغلية، ثمَّ نهب دكمه وَنقل مِنْهَا الزَّاد إِلَى مغيلة وتحصن بهَا وباديس بِقُرْبِهِ محاصر لَهُ إِلَى أَن توفّي باديس فَجْأَة نصف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء آخر ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة.
وَتَوَلَّى الْمعز بن باديس، وَاسْتمرّ حَمَّاد على الْخلف مَعَه حَتَّى اقتتلا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة عِنْد نيني مَوضِع، فَانْهَزَمَ حَمَّاد شنيعا فَلم يعد حَمَّاد إِلَى قتال بعْدهَا واصطلح مَعَ الْمعز على أَن يقْتَصر حَمَّاد على مَا بِيَدِهِ وَهُوَ عمل ابْن عَليّ وَمَا وَرَاءه من أُشير وتاهرت، وَاسْتقر للقائد ابْن حَمَّاد المسيلة وطبنة ومرسى الدَّجَاج وزواوة ومقرة ودكمة وَغَيرهَا، وَبَقِي حَمَّاد وَابْنه كَذَلِك حَتَّى مَاتَ حَمَّاد منتصف سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة.
وَاسْتقر فِي الْملك بعده ابْنه الْقَائِد حَتَّى توفّي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
فَملك بعده ابْنه محسن بن الْقَائِد فأساء وخبط وَقتل فِي أَعْمَامه، فقاتله ابْن عَمه بلكين وَملك مَوْضِعه فِي ربيع الأول سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي حَتَّى غدر ببلكين الْمَذْكُور النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد وَأخذ مِنْهُ الْملك فِي رَجَب سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.
وَاسْتقر النَّاصِر بن علناس حَتَّى توفّي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وَملك بعده ابْنه الْمَنْصُور بن النَّاصِر إِلَى أَن توفّي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
وَملك بعده ابْنه باديس بن الْمَنْصُور يَسِيرا وَتُوفِّي.
وَملك بعده أَخُوهُ الْعَزِيز بِاللَّه بن الْمَنْصُور إِلَى أَن توفّي.(1/303)
وَملك بعده ابْنه يحيى بن الْعَزِيز إِلَى أَن سَار عبد الْمُؤمن من الْمغرب الْأَقْصَى وَملك بجاية.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَآخر من ملك مِنْهُم يحيى بن الْعَزِيز بن الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد بن بلكين وانقرضت دولتهم فِي السّنة الْمَذْكُورَة، وجمعناه ليسهل.
وفيهَا: مَاتَ الرضى الْأَمِير نوح بن مَنْصُور بن نوح بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن أَسد بن سامان فِي رَجَب واختل ملكهم بِمَوْتِهِ، وَقَامَ بعده ابْنه أَبُو الْحَارِث مَنْصُور.
وفيهَا: مَاتَ سبكتكين فِي شعْبَان وَلما طَال مَرضه انْتقل من بَلخ إِلَى غزنة فَمَاتَ فِي الطَّرِيق فَنقل وَدفن بغزنة وَمُدَّة ملكه عشرُون سنة وَكَانَ خيرا عادلا وعهد إِلَى ابْنه إِسْمَاعِيل وَكَانَ مَحْمُودًا أكبر مِنْهُ فقاتله بعد سَبْعَة أشهر، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيل وانحصر فِي قلعة غزنة فأنزله مَحْمُود بالأمان وَأحسن إِلَيْهِ.
وفيهَا: توفّي فَخر الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن ركن الدولة أبي عَليّ الْحسن بن بويه بقلعة طبرك فِي شعْبَان، وملكوا بعده ابْنه مجد الدولة أَبَا طَالب رستم وعمره أَربع سِنِين ووالدته تدبر الْملك.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْوَفَاء مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن المهندس الحاسب البوزجاني ومولده فِي رَمَضَان سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة ببوزجان بَلْدَة بَين هراة ونيسابور قدم الْعرَاق.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن من ولد سُلَيْمَان بن زولاق مصري الأَصْل لَهُ فِي التَّارِيخ مصنفات وَله كتاب خطط مصر وَكتاب قُضَاة مصر.
وفيهَا: توفّي أَبُو احْمَد الْحسن بن عبد اللَّهِ بن سعيد العسكري تصانيفه كَثِيرَة فِي اللُّغَة والأمثال وَغَيرهمَا، من عَسْكَر مكرم مَدِينَة من كور الأهواز، ومولده فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وَأخذ عَن ابْن دُرَيْد وَله أَيْضا كتاب فِي الْمنطق وَكتاب الزواجر وَكتاب الْمُخْتَلف والمؤتلف وَكتاب الحكم والأمثال.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا فِي ذِي الْحجَّة قتل صمصام الدولة قَتله أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان بن عضد الدولة بن بويه لشغب الديلم عَلَيْهِ، وَعمر صمصام الدولة خمس وَثَلَاثُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وولايته بِفَارِس تسع سِنِين وَثَمَانِية أَيَّام، وَفِي تارخ ابْن أبي الدَّم أَن صمصام الدولة لما خرج من الاعتقال وَملك فِي سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة كَانَ أعمى من حِين سمل وَاسْتمرّ حَتَّى قتل فِي هَذِه السّنة وَهُوَ أعمى.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر الْحَاتِمِي إِمَام الْأَدَب واللغة وَله الرسَالَة الحاتمية فِي المتنبي، وَنسب إِلَى جده حَاتِم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا اتّفق أَعْيَان الْعَسْكَر مَعَ بكتورون وفائق وخلعوا مَنْصُور بن نوح وسمله بكتورون فأعماه وَلم يراقب اللَّهِ فِيهِ وَلَا إِحْسَان موَالِيه(1/304)
وَأَقَامُوا أَخَاهُ عبد الْملك صَغِيرا، وَمُدَّة ملك مَنْصُور سنة وَسَبْعَة أشهر، وَكتب مَحْمُود بن سبكتكين يلوم بكتورون وفائقا، وقاتلهما أَشد قتال فانهمزما وتبعهما مَحْمُود يقتل فِي عَسْكَرهمْ حَتَّى أبعد، وَاسْتولى مَحْمُود على ملك خُرَاسَان وَقطع مِنْهَا خطْبَة السامانية.
وفيهَا: انقرضت دولة السامانية، فَإِن مَحْمُود بن سبكبكين لما ملك خُرَاسَان وَقطع خطبتهم اتّفق ببخارا بكتورون وفائق مَعَ عبد الْملك بن نوح وشرعوا يجمعُونَ العساكر فاتفق موت فائق وَكَانَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فضعفت بؤوسهم بِمَوْتِهِ وَبلغ ذَلِك أيلك خَان فَسَار فِي جمع من الأتراك إِلَى بخارا وَأظْهر الْمَوَدَّة وَالْحمية لعبد الْملك فظنوه صَادِقا، وَخرج إِلَيْهِ بكتورون وَغَيره فَقبض عَلَيْهِم وَسَار حَتَّى دخل بخارا عَاشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، ثمَّ قبض على عبد الْملك بن نوح وحبسه حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس وَحبس مَعَه أَخَاهُ منصورا الَّذِي سلموه وَبَاقِي بني سامان، وانقرضت دولتهم بعد مَا انتشرت وطبقت كثيرا من الأَرْض وَكَانَت من أحسن الدول سيرة وعدلا فسبحان من لَا يَزُول ملكه، وَابْتِدَاء ولايتهم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وانقراضها فِي هَذِه السّنة.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وثلثمائة: فِيهَا وَقيل سنة خمس وَسبعين وثلثمائة توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس بن زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ إِمَام فِي عُلُوم شَتَّى وَله الْمُجْمل فِي اللُّغَة وَوضع الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة وَهِي مائَة فِي المقامة الطيبية، وَكَانَ بهمذان وَعَلِيهِ اشْتغل البديع الهمذاني.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا قتل حسام الدولة الْمُقَلّد بن الْمسيب بن رَافع بن الْمُقَلّد بن جَعْفَر بن عمر بن مهنا من ولد ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوزان الْعقيلِيّ وَكَانَ الْمُقَلّد أَعور، وَأَخُوهُ أَبُو ذواد مُحَمَّد هُوَ أول من استولى مِنْهُم على الْموصل وملكها فِي سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة حَسْبَمَا تقدم، ثمَّ ملكهَا بعده أَخُوهُ الْمُقَلّد الْمَذْكُور سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَاسْتمرّ حَتَّى قَتله هَذِه السّنة مماليكه الأتراك بالأنبار وَقد كَانَ عظم شَأْنه، وَقَامَ بعده ابْنه قرواش.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد اللَّهِ الْحُسَيْن بن الْحجَّاج الشَّاعِر بطرِيق النّيل وَنقل إِلَى بَغْدَاد مجوني خليع تولى حسبَة بَغْدَاد مُدَّة، وَهُوَ من كبار الشِّيعَة وَأوصى أَن يدْفن عِنْد مشْهد مُوسَى بن جَعْفَر وَأَن يكْتب على قَبره: " وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد ". والنيل: بَلْدَة بَين بَغْدَاد والكوفة حفر نهرها الْحجَّاج الثَّقَفِيّ ومخرجه من الْفُرَات وَسَماهُ النّيل:
قلت: وَمِمَّا رثاه بِهِ الشريف الرضي:
(نعوه على حسن ظَنِّي بِهِ ... فَللَّه مَاذَا نعى الناعيان)(1/305)
(رَضِيع وَلَاء لَهُ شُعْبَة ... من الْقلب مثل رَضِيع اللبان)
(وَمَا كنت أَحسب أَن الزَّمَان ... يفل مضَارب ذَاك اللِّسَان)
(بكيتك للشرد السائرات ... تعْتق ألفاظها بالمعان)
(ليبك الزَّمَان طَويلا عَلَيْك ... فقد كنت خفَّة روح الزَّمَان)
وَبعد مَوته رَآهُ بعض أَصْحَابه فَسَأَلَهُ عَن حَاله فأنشده:
(أفسد سوء مذهبي ... فِي الشّعْر حسن مذهبي)
(لم يرض مولَايَ عَليّ ... سبي لأَصْحَاب النَّبِي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا غزا السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين بِلَاد الْهِنْد فغنم وسبى وَأسر، وَعَاد إِلَى غزنة سالما.
وفيهَا: اقتتتل قرواش الْمُقَلّد وعسكر بهاء الدولة، فانتصر قرواش ثمَّ انْكَسَرَ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَعْفَر الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن الدقاق صَاحب الْأُصُول.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا ملك يَمِين الدولة السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين سجستان من صَاحبهَا خلف بن أَحْمد، وَبَقِي خلف فِي الجوزجان بعد ذَلِك أَربع سِنِين ثمَّ نَقله يَمِين الدولة إِلَى جردين واحتاط عَلَيْهِ هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين، كَانَ خلف مَشْهُورا بِطَلَب الْعلم وَله تَفْسِير من أكبر الْكتب.
وفيهَا: توفّي الْمَنْصُور أَبُو عَامر مُحَمَّد أَمِير الأندلس وَكَانَ قد أَكثر الضَّبْط والغزوات حَسْبَمَا تقدم وَلم يكن للمؤيد خَليفَة الأندلس مَعَه من الْأَمر شَيْء، وَتَوَلَّى بعده ابْنه مَرْوَان عبد الْملك وتلقب بالمظفر وساس وغزا سبع سِنِين فوفاته سنة أَرْبَعمِائَة، وَقَامَ بعد المظفر أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر الْمَذْكُور وتلقب بالناصر، فخلط واضطربت أُمُوره أَرْبَعَة أشهر فَخرج على الْمُؤَيد ابْن عَمه مُحَمَّد بن هِشَام كَمَا سَيَأْتِي، فَخلع هِشَام وَقتل عبد الرَّحْمَن وصلب.
وفيهَا: كثر بِبَغْدَاد المفسدون.
وفيهَا: اسْتعْمل الْحَاكِم على دمشق أَبَا مُحَمَّد الْأسود، وَلما اسْتَقر بِدِمَشْق شهر شخصا مغربيا ونادى عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاء من يحب أَبَا بكر وَعمر، ثمَّ أخرجه من دمشق.
وفيهَا: توفّي بِبَغْدَاد أَبُو الْفَتْح بن عُثْمَان بن جني النَّحْوِيّ بالموصل مُصَنف اللمع والخصائص وسر الصِّنَاعَة وَغَيرهَا.
قلت: أَبوهُ جني مَمْلُوك رومي لِسُلَيْمَان بن فَهد بن أَحْمد الْأَزْدِيّ الْموصِلِي وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بقوله:
(فَإِن أصبح بِلَا نسب ... فعلمي فِي الورى نسبي)(1/306)
(على أَنِّي أؤول إِلَى ... قروم سادة نجب)
(قياصرة إِذا نطقوا ... أرم الدَّهْر ذُو الْخطب)
(أولاك دَعَا النَّبِي لَهُم ... كفى شرفا دُعَاء نَبِي)
وَشرح ديوَان المتنبي وَكَانَ قد قَرَأَ الدِّيوَان على المتنبي، وَفِي شَرحه سَأَلَ شخص المتنبي عَن قَوْله:
(باد هَوَاك صبرت أَن لم تصبرا ... )
وَكَانَ من حَقه لم تصبر، فَقَالَ المتنبي: لَو كَانَ أَبُو الْفَتْح هَا هُنَا لأجابك، يعنيني. وَهَذَا الْألف بدل نون التوكيد الْخَفِيفَة أَصْلهَا: لم تصبرن فقلبت للْوَقْف ألفا كَقَوْل الْأَعْشَى:
(وَلَا تعبد الشَّيْطَان وَالله فاعبدا ... )
وَقيل: الْألف هُنَا للتثنية فقد يُخَاطب الْمُفْرد بذلك، فَالْأولى الاستشهاد على قلب النُّون ألفا بقول الشَّاعِر:
(فَمن يَك لم يثأر بأعراض قومه ... فَإِنِّي وَرب الراقصات لأثأرا)
إِذْ يتَعَيَّن فِي هَذِه الْألف قَلبهَا عَن نون التوكيد الْخَفِيفَة وَلَا تكون للتثنية هُنَا أصلا. وَذكر ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: أَن ابْن جني توفّي فِي سنة تسعين وثلثمائة وَهُوَ أصح لقرب عَهده بذلك وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ بِالريِّ، إِمَام فَاضل ذُو فنون، والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الْمَالِكِي فَقِيه مُحدث، وَأَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ السلَامِي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ وَله فِي عضد الدولة:
(فبشرت آمالي بِملك هُوَ الورى ... وَدَار هِيَ الدُّنْيَا وَيَوْم هُوَ المعمر)
وَله فِي الدرْع:
(يَا رب سابغة حبتني نعْمَة ... كافأتها بالسوء غير مُفند)
(أضحت تصون عَن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكل مهند)
قلت: وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي الدرْع وهما:
(زردية حلقاتها ... ترنو إِلَيْنَا بالحدق)
(فتجل لابس سردها ... عَن ذكر عنتر فِي الْخلق)
وَالله أعلم.
قلت: وفيهَا هدم لُؤْلُؤ الْكَبِير السيفي مُدبر دولة أبي الْفَضَائِل سعيد بن سعد الدولة أبي الْمَعَالِي شرِيف بن سيف الدولة بن حمدَان حصن كفر روما وحصن عَار وحصن أروح خشيَة أَن يقْصد فِيهَا، وَالله أعلم.(1/307)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا استولى أَبُو الْعَبَّاس بن وَاصل على البطيحة، وَهُوَ رجل تنقل فِي خدم النَّاس ثمَّ خدم مهذب الدولة صَاحب البطيحة فَتقدم عِنْده حَتَّى جهز مَعَه جَيْشًا، فاستولى على الْبَصْرَة وسيراف وغنم أَمْوَالًا وقويت نَفسه وخلع طَاعَة مخدومه مهذب الدولة، ثمَّ قَصده وهزمه عَن البطيحة وَاسْتولى على بِلَاد مهذب الدولة على عظمها وَنهب مَال مهذب الدولة، وَقصد مهذب الدولة بَغْدَاد فَمَا مكن من دُخُولهَا، وَهَذَا خلاف مَا اعْتَمدهُ مهذب الدولة مَعَ الْقَادِر لما هرب إِلَيْهِ فَإِن مهذب الدولة بَالغ فِي إكرام الْقَادِر.
وفيهَا: قلد بهاء الدولة الشريف أَبَا أَحْمد الموسري وَالِد الرضي نقابة العلويين بالعراق والمظالم وَقَضَاء الْقُضَاة وَكتب عَهده بذلك من شيراز ولقبه ذَا المناقب فَامْتنعَ الْخَلِيفَة من تَقْلِيده قَضَاء الْقُضَاة وأمضى مَا سواهُ.
قلت: قد تقدم فِي مَوَاضِع من هَذَا الْكتاب مَا يدل على أَن بني بويه كَانُوا من المتوغلين فِي التَّشَيُّع، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا خرج أهل البطيحة عَن طَاعَة النَّائِب الَّذِي استنابه ابْن وَاصل بهَا وَسَار هُوَ نَحْو الْبَصْرَة، فَأرْسل عميد الجيوش وَهُوَ أَمِير الْعرَاق من جِهَة بهاء الدولة عسكرا فِي السفن مَعَ مهذب الدولة إِلَى البطيحة فسر أهل الْبِلَاد بِهِ وتسلم ولايتها من جِهَة بهاء الدولة ليحمل لَهُ كل سنة خمسين ألف دِينَار واشتغل عَنهُ ابْن وَاصل بِحَرب غَيره.
وفيهَا: فتح السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين مَدِينَة بهاطبة من الْهِنْد وَهِي حَصِينَة عالية السُّور وَرَاء المولتان.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا فتح السُّلْطَان مَحْمُود المولتان وهرب مِنْهُ بيدا ملك الْهِنْد إِلَى القلعة كالنجار، فحصره حَتَّى صَالحه على مَاله وألبس ملك الْهِنْد خلعته وَشد منطقته على كره.
وفيهَا: قلد الشريف الرضي نقابة الطالبين ولقب بالرضي وَأَخُوهُ بالمرتضى فعل ذَلِك بهاء الدولة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن يحيى بن مندة الْأَصْفَهَانِي صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا: اقتتل بهاء الدولة وَأَبُو الْعَبَّاس بن وَاصل، فَانْهَزَمَ ابْن واصلب وَأسر وَحمل إِلَيْهِ فَأمر بقتْله قبل وُصُوله إِلَيْهِ وطيف بِرَأْسِهِ بخوزستان، وَقَتله بِوَاسِطَة فِي صفر.
وفيهَا: خرج على الْحَاكِم أموي من ولد هِشَام بن عبد الْملك يُسمى أَبَا ركوة يحمل(1/308)
ركوة على كتفه وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، فَكثر جمعه وَملك برقه وَهزمَ جَيْشًا جهزه إِلَيْهِ الْحَاكِم وغنم مِنْهُ وتقوى وَاسْتولى على الصَّعِيد، فأحضر الْحَاكِم عَسَاكِر الشَّام واستخدم عَسَاكِر وأرسلهم مَعَ أبي الْفضل بن عبد اللَّهِ إِلَى أبي ركوة فتقاتلوا عَظِيما، ثمَّ انْكَسَرَ أَبُو ركوة وَأسر فَقتله الْحَاكِم وصلبه وطيف بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا سَار السُّلْطَان مَحْمُود فأوغل فِي الْهِنْد وغزا وَفتح.
وفيهَا: اسْتعْملت وَالِدَة مجد الدولة بن فَخر الدولة وَكَانَ إِلَيْهَا الحكم أَبَا جَعْفَر بن شهريار الْمَعْرُوف بِابْن كاكويه على أصفهان فَعظم شَأْنه، كَانَ ابْن خَال هَذِه الْمَرْأَة، وكاكويه هُوَ الْخَال بِالْفَارِسِيَّةِ.
وفيهَا: توفّي عبد الْوَاحِد بن نصر بن مُحَمَّد الببغا الشَّاعِر.
قلت: وَمن شعره:
(يَا سادتي هَذِه روحي تودعكم ... إِذْ كَانَ لَا الصَّبْر بثنيها وَلَا الْجزع)
(قد كنت أطمع فِي روح الْحَيَاة لَهَا ... فَالْآن إِذْ بنتم لم يبْق لي طمع)
(لَا عذب اللَّهِ اللَّهِ روحي بِالْبَقَاءِ فَمَا ... أظنها بعدكم بالعيش تنْتَفع)
وَله:
(وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة فِي الجلمد)
(وَكَأن طرف الشَّمْس مطروف وَقد ... جعل الْغُبَار لَهُ مَكَان الإثمد)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي البديع أَبُو الْفضل أَحْمد بن الْحُسَيْن الهمذاني صَاحب المقامات وعَلى منوالها نسج الحريري.
قلت: وهيهات، فقد وَقع للبديع مَا لم يصل الحريري إِلَى غباره، غير أَن مقامات الحريري مجموعها أحسن فللبديع مُفْرَدَات لَا تلْحق وَقد اعْترف الحريري فِي خطبَته بفضله، وروى عَن ابْن فَارس وَسكن هراة، وَمن نثره: المَاء إِذا طَال مكثه ظهر خبثه، وَإِذا سكن مَتنه تحرّك نَتنه، وَكَذَلِكَ الصَّيف يسمج لقاؤه إِذا طَال ثواؤه، ويثقل ظله إِذا انْتهى مَحَله.
وَله من تَعْزِيَة: الْمَوْت خطب قد عظم حَتَّى هان، وَمَسّ قد خشن حَتَّى لَان، وَالدُّنْيَا قد تنكرت حَتَّى صَار الْمَوْت أخف خطوبها، وجنت حَتَّى صَار أَصْغَر ذنوبها، فَلْتنْظرْ يمنة هَل ترى إِلَّا محنة، ثمَّ أنظر يسرة هَل ترى إِلَّا حسرة.
وَمن كَلَامه: إِن أَبَا الْحسن لَو أوحشني مَا استوحشت، وَلَو استوحشت لأوحشت، وَلَو أوحشت لأفحشت، وَمن وطىء الْعَقْرَب أوجعته، وَمن قرص الْحَيَّة لسعته، وَإِذا قَالَت(1/309)
الْحَيَّة دَعْنِي فَلَا تلسعني، فَمَا سَأَلت شططا، وَهَذَا خطب لَا يَدْفَعهُ قلم رطب.
وَمِنْه: إِن وجدت الْحَال كَمَا تركت فدار الشمل جَامِعَة، وَإِن تَغَيَّرت كَمَا عهِدت فأرض اللَّهِ وَاسِعَة.
وَمِنْه: أَن الهمذاني إِذا رَضِي بِأَن يهدم وَلَا يخْدم، فَإِن الْعُبُودِيَّة لَا تعدم.
وَمِنْه: أَن رَأَيْت السَّيْل يسيل بِي فَلَا تنذرني، وَإِن رَأَيْته يغرقني فَلَا تنقذني، وَإِن عاودتني بعْدهَا بشفقاتك الْبَارِدَة رَجَعَ شُؤْم شفقتك على عنفقتك، وأعذر من أنذر وَالسَّلَام.
وَمن شعره:
(وَكَانَ يحكيك صَوت المزن منسكبا ... لَو كَانَ طلق الْمحيا يمطر الذهبا)
(والدهر لَو لم يخن وَالشَّمْس لَو نطقت ... وَاللَّيْث لَو لم يصد وَالْبَحْر لَو عذبا)
مَاتَ رَحمَه اللَّهِ بالسكتة وَعجل دَفنه فأفاق فِي الْقَبْر وَسمع صَوته بِاللَّيْلِ، ونبش عَنهُ فوجدوه قد قبض على لحيته وَمَات من هول الْقَبْر وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد الْجَوْهَرِي صَاحب الصِّحَاح، وَهُوَ من فاراب من مدن التّرْك وَتسَمى الْيَوْم أطرار، وَله خطّ مَنْسُوب عَال وَقدم نيسابور فَتوفي بهَا، وَكتابه الصِّحَاح يصف فَضله.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا قتل أَبُو عَليّ بن ثمال الخفاجي وَكَانَ الْحَاكِم الْعلوِي ولاه الرحبة ثمَّ صَارَت إِلَى صَالح بن مرداس الْكلابِي صَاحب حلب.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن يُونُس الْمصْرِيّ صاحبح الزيج الحاكمي كَبِير فِي أَربع مجلدات، ذكر أَن أَبَا الْحَاكِم أَمر بِعَمَلِهِ.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد يَمِين الدولة السُّلْطَان مَحْمُود وغزا الْهِنْد وغنم وَعَاد.
(أَخْبَار الْمُؤَيد الْأمَوِي خَليفَة الأندلس)
قد تقدم ولَايَة هِشَام الْمُؤَيد بن الحكم الْمُنْتَصر بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر مَوضِع أَبِيه وَكَانَ عمر الْمُؤَيد لما ولي الْخلَافَة سِنِين فدبر المملكة أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر والمؤيد مَحْجُوب، وَاسْتمرّ الْمُؤَيد خَليفَة إِلَى سنة وَتِسْعين وثلثمائة، فَخرج عَلَيْهِ فِيهَا مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَبَايَعَهُ النَّاس بالخلافة وَحبس الْمُؤَيد فِي قرطبة، وتلقب بالمهدي وَاسْتمرّ، فَخرج عَلَيْهِ سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر، فهرب مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار الْمَذْكُور وَاسْتولى سُلَيْمَان على الْخلَافَة فِي أَوَائِل شَوَّال من سنة أَرْبَعمِائَة.
ثمَّ جمع الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام جمعا وَقصد سُلَيْمَان بقرطبة، فهرب سُلَيْمَان وَعَاد الْمهْدي الْمَذْكُور إِلَى الْخلَافَة فِي نصف شَوَّال من سنة أَرْبَعمِائَة.
ثمَّ جمع الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام جمعا وَقصد سُلَيْمَان بقرطبة، فهرب سُلَيْمَان وَعَاد الْمهْدي الْمَذْكُور إِلَى الْخلَافَة فِي نصف شَوَّال مِنْهَا.(1/310)
ثمَّ قبض أكَابِر الْعَسْكَر على الْمهْدي الْمَذْكُور وأخرجوا الْمُؤَيد من الْحَبْس وأعادوه إِلَى الْخلَافَة سَابِع ذِي الْحجَّة مِنْهَا وأحضر الْمهْدي وَقَتله، وَاسْتمرّ الْمُؤَيد ودبر أمره وَاضح العامري ثمَّ قتل وَاضحا فكثرت عَلَيْهِ الْفِتَن.
واتفقت البربر مَعَ سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر وَحصر الْمُؤَيد بقرطبه وملكها مِنْهُ عنْوَة وَأخرج الْمُؤَيد من الْقصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وبويع سُلَيْمَان بالخلافة منتصف شَوَّال سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة وتلقب بالمستعين بِاللَّه.
قلت: وفيهَا نزل أَبُو الْعَلَاء المعري إِلَى بَغْدَاد ليقْرَأ بهَا الْعلم فَلم يُصَادف بهَا مثله، قَالَ الشَّيْخ أَبُو غَالب همام بن الْفضل بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْمُهَذّب فِي تَارِيخه: كَذَا حَدثنِي أَبُو الْعَلَاء رَحمَه اللَّهِ، وَالله أعلم.
وفيهَا: بنى أَبُو مُحَمَّد بن سهلان سورا على مشْهد عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وفيهَا: توفّي النَّقِيب أَبُو أَحْمد الموسوي وَالِد الشريف الرضي ومولده سنة أَربع وثلثمائة، وأضر فِي آخر عمره.
قلت: ورثاه الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء المعري بقصيدته الفائقة الَّتِي أَولهَا:
(أودى فليت الحادثات كفاف ... مَال المسيف وَعَنْبَر المستاف)
(الطَّاهِر الْآبَاء وَالْأَبْنَاء والآراب ... والأثواب والآلاف)
(رغت الرعود وَتلك هدة ماجد ... جبل ثوى من آل عبد منَاف)
(بخلت فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة فَقده ... سمح الْغَمَام بدمعه الذراف)
وَمِنْهَا:
(ويحق فِي رزء الْحُسَيْن تغير الْحر سين ... بله الدّرّ فِي الأصداف)
(هلا دفنتم سَيْفه فِي قَبره ... مَعَه فَذَاك لَهُ خَلِيل واف)
(إِن زَارَهُ الْمَوْتَى كساهم فِي البلى ... أَثوَاب أَبْلَج مكرم الأضياف)
(وَالله أَن يخلع عَلَيْهِم حلَّة ... يبْعَث إِلَيْهِ بِمثلِهِ أَضْعَاف)
(نبذت مَفَاتِيح الْجنان وَإِنَّمَا ... رضوَان بَين يَدَيْهِ للإتحاف)
(تكبيرتان حِيَال قبرك للفتى ... محسوبتان بِعُمْرَة وَطواف)
(لَو تقدر الْخَيل الَّتِي زايلتها ... عجفت بأيديها على الْأَعْرَاف)
(أبقيت فِينَا كوكبين سناهما ... فِي الصُّبْح والظلماء لَيْسَ بخاف)
(قدرين فِي الأرداء بل مطرين فِي ... الأجداء بل قمرين فِي الأسداف)
(ساور الرضي المرتضى وتقاسما ... باد على الْكِبْرِيَاء والأشراف)(1/311)
(أَنْتُم ذَوُو النّسَب الْقصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف)
(مَا زاغ بَيتكُمْ الرفيع وَإِنَّمَا ... بالوجد أدْركهُ خَفِي زحاف)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس النامي الشَّاعِر المصِّيصِي.
قلت: دخل أَبُو الْخطاب الحريري الشَّاعِر النَّحْوِيّ على النامي فَوجدَ رَأسه كالثغامة بَيَاضًا وَفِيه شَعْرَة وَاحِدَة سَوْدَاء فَكَلمهُ فِيهَا، فَقَالَ: نعم هَذِه بَقِيَّة شَبَابِي وَأَنا أفرح بهَا ولي فِيهَا شعر، فَقلت: أنشدنيه فأنشدني:
(رَأَيْت فِي الرَّأْس شَعْرَة بقيت ... سَوْدَاء تهوى الْعُيُون رؤيتها)
(فَقلت للبيض إِذْ تروعها ... بِاللَّه أَلا رحمت غربتها)
(فَقل لبث السَّوْدَاء فِي وَطن ... تكون فِيهِ الْبَيْضَاء ضَرَّتهَا)
وَمَا أحسن قَوْله:
(ويمضي عَلَيْك الدَّهْر فعلك للعلى ... وقولك للتقوى وكفك للرفد)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح عَليّ بن مُحَمَّد البستي الشَّاعِر.
قلت: وَمَا أحسن قَوْله:
(تحمل أَخَاك على مَا بِهِ ... فَمَا فِي استقامته مطمع)
(وَإِنِّي لَهُ خلق وَاحِد ... وَفِيه طبايعه الْأَرْبَع)
وَقَوله:
(لقد هنت من طول الْمقَام وَمن يقم ... طَويلا يهن من بعد مَا كَانَ مكرما)
(وَطول مقَام المَاء فِي مستقره ... يُغَيِّرهُ لونا وريحا ومطعما)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى أَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار أيلك خَان ملك التّرْك من سَمَرْقَنْد لقِتَال أَخِيه طغان خَان فَسقط عَلَيْهِ فِي أزوكند ثلج مَنعه فَعَاد.
وفيهَا: خطب قرواش بن الْمُقَلّد أَمِير بني عقيل للْحَاكِم بالموصل والأنبار والمداين والكوفة وَغَيرهَا، وَابْتِدَاء الْخطْبَة: الْحَمد لله الَّذِي انجلت بنوره غَمَرَات الْغَضَب، وانهدت بعظمته أَرْكَان النصب، وأطلع بقدرته شمس الْحق من الغرب. فَكتب بهاء الدولة إِلَى عميد الجيوش يَأْمُرهُ بِحَرب قرواش فَسَار إِلَيْهِ، وَأرْسل قرواش يعْتَذر وَقطع خطْبَة العلويين.
وفيهَا: احتربت بَنو مزِيد وَبَنُو دبيس، بِسَبَب أَن أَبَا الْغَنَائِم مُحَمَّد بن مزِيد كَانَ مُقيما عِنْد بني دبيس بنواحي خوزستان لمصاهرة بَينهم، فَقتل أَبُو الْغَنَائِم أحد وُجُوه بني دبيس وَلحق بأَخيه أبي الْحسن بن مزِيد، فَسَار إِلَيْهِم أَبُو الْحسن بن مزِيد واقتتلوا فَقتل أَبُو الْغَنَائِم وهرب أَخُوهُ أَبُو الْحسن.(1/312)
وفيهَا: توفّي عميد الجيوش أبي عَليّ بن أستاذ هُرْمُز أَمِير الْعَسْكَر من جِهَة بهاء الدولة بِبَغْدَاد وولايته ثَمَان سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَأَيَّام وعمره تسع وَأَرْبَعُونَ وأستاذ هُرْمُز من حجاب عضد الدولة، وَكَانَ بهاء الدولة قد أرسل عميد الجيوش لإِصْلَاح أَحْوَال بَغْدَاد وقمع المفسدين، فَلَمَّا مَاتَ ولي مَوْضِعه بِبَغْدَاد فَخر الْملك أَبَا غَالب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ أَرْبَعمِائَة:
(أَخْبَار صَالح بن مرداس وَولده)
أوردناه جملَة كَمَا فعلنَا فِي مَوَاضِع ليضبط بسهولة، قد تقدم ذكر ملك أبي الْمَعَالِي شرِيف سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدَان بحلب إِلَى أَن توفّي مفلوجا وَهُوَ ملكهَا فأقيم ابْنه أَبُو الْفَضَائِل مقَامه وَدبره لُؤْلُؤ أحد موَالِي سعد الدولة ثمَّ استولى أَبُو نصر لُؤْلُؤ على أبي الْفَضَائِل وَأخذ مِنْهُ حلب وخطب بهَا للْحَاكِم فلقبه الْحَاكِم مرتضى الدولة وَاسْتقر فِي ملك حلب، وَجرى بَينه وَبَين صَالح بن مرداس الْكلابِي وَبني كلاب وَحْشَة وحروب كَانَت بَينهم سجالا، وَكَانَ لِابْنِ لُؤْلُؤ غُلَام اسْمه فتح دزدار قلعة حلب فَجرى بَينه وَبَين أستاذه ابْن لُؤْلُؤ وَحْشَة باطنة وَعصى عَلَيْهِ بقلعة حلب وَكَاتب الْفَتْح الْحَاكِم بِمصْر، ثمَّ أَخذ من الْحَاكِم صيدا وبيروت وَسلم حلب إِلَى نواب الْحَاكِم، فَسَار ابْن لُؤْلُؤ إِلَى أنطاكية وَهِي للروم فَأَقَامَ مَعَهم.
وتنقلت حلب بأيدي نواب الْحَاكِم حَتَّى صَارَت بيد عَزِيز الْملك الحمداني إِلَى أَن قتل الْحَاكِم وَولي الظَّاهِر لإعزاز دين اللَّهِ الْعلوِي، فَتَوَلّى من جِهَة الظَّاهِر على حلب شخص يعرف بِابْن ثعبان وَولي القلعة مَوْصُوف الْخَادِم، فقصدهما صَالح بن مرداس أَمِير بني كلاب فَسلم إِلَيْهِ أهل حلب مَدِينَة حلب لسوء سيرة المصريين فيهم، وَصعد ابْن ثعبان إِلَى القلعة وحصرها صَالح فَسلمت إِلَيْهِ أَيْضا سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَاسْتقر لصالح ملك حلب وَمَا مَعهَا من بعلبك إِلَى عانة سِتّ سِنِين.
وَفِي سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة جهز الظَّاهِر الْعلوِي جَيْشًا لقِتَال صَالح وَحسان وأمير طَيء وَكَانَ حسان مستوليا على الرملة وَتلك الْبِلَاد، وَكَانَ اسْم مقدم عَسْكَر مصر أنوش تكين، فَسَار صَالح من حلب إِلَى حسان واجتمعا على الْأُرْدُن عِنْد طبرية واقتتلوا فَقتل صَالح وَولده الْأَصْغَر وأنفذ رأساهما إِلَى مصر، وَنَجَا ابْنه أَبُو كَامِل نصر بن صَالح بن مرداس وَسَار فَملك حلب وتلقب بشبل الدولة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْعلوِي صَاحب مصر، فجهزت العساكر من مصر إِلَى شبْل الدولة ومقدمهم الدزبري - بِكَسْر الدَّال - وَهُوَ أنوش تكين ولقبه الدزبري، فَاقْتَتلُوا مَعَ شبْل الدولة عِنْد حماه فِي شعْبَان سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَقتل شبْل الدولة وَملك الدزبري حلب فِي رَمَضَان مِنْهَا وَملك الشَّام جَمِيعه وَعظم شَأْنه وَكثر مَاله، وَتُوفِّي الدزبري بحلب سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة.(1/313)
وَكَانَ لصالح بن مرداس ولد بالرحبة اسْمه أَبُو علوان ثمال ولقبه معز الدولة وبلغه موت الدزبري فَسَار وتملك حلب ثمَّ قلعتها فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَاسْتمرّ إِلَى سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة، فَأرْسل إِلَيْهِ المصريون جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ ثمَّ جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ، ثمَّ صَالح ثمال المصريين وَنزل لعم عَن حلب، فجهزوا الْحسن بن عَليّ ملهم ولقبوه مكين الدولة فتسلم حلب من ثمال بن صَالح بن مرداس فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة. وَسَار ثمال إِلَى مصر وَسَار أَخُوهُ عَطِيَّة بن صَالح بن مرداس إِلَى الرحبة.
وَكَانَ لنصر بن صَالح الملقب شبْل الدولة الْمَقْتُول فِي حَرْب الدزبري ولد اسْمه مَحْمُود فكاتبه أهل حلب وعصوا ابْن ملهم، فوصل إِلَيْهِم مَحْمُود وَحصر هُوَ وَأهل حلب ابْن ملهم فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، فأنجد المصريون ابْن ملهم بعسكر فَرَحل مَحْمُود هارا، وَقبض ابْن ملهم على جمَاعَة من أهل حلب وَأخذ أَمْوَالهم، ثمَّ سَار الْعَسْكَر فِي أثر مَحْمُود فَاقْتَتلُوا فَهَزَمَهُمْ مَحْمُود وَعَاد مَحْمُود إِلَى حلب فحاصرها وَملك الْمَدِينَة والقلعة فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَأطلق ابْن ملهم ومقدم الْجَيْش وَهُوَ نَاصِر الدولة نَاصِر الدولة بن حمدَان فسارا إِلَى مصر، وَاسْتقر مَحْمُود بن شبْل الدولة نصر بن صَالح بن مرداس فِي حلب.
وَلما وصل ابْن ملهم وناصر إِلَى مصر، وَكَانَ ثمال بن صَالح بن مرداس قد سَار إِلَى مصر كَمَا ذكرنَا جهز المصريون ثمالا بِجَيْش لقِتَال ابْن أَخِيه مَحْمُود فوصل ثمال حلب وَهزمَ مَحْمُودًا، وتسلم ثمال حلب فِي ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ توفّي ثمال فِي حلب سنة أَربع وَخمسين فِي ذِي الْقعدَة. وَأوصى بحلب لِأَخِيهِ عَطِيَّة الَّذِي سَار إِلَى الرحبة، فَملك عَطِيَّة حلب فِي السّنة الْمَذْكُورَة.
وَكَانَ مَحْمُود بن شبْل الدولة لما هرب من عَمه ثمال من حلب سَار إِلَى حران فَلَمَّا مَاتَ ثمال وَملك عَطِيَّة حلب جمع مَحْمُود عسكرا وَسَار إِلَى حلب، فَهزمَ عَمه عَطِيَّة عَنْهَا إِلَى الرقة فملكها عَطِيَّة، ثمَّ أخذت الرقة من عَطِيَّة فَسَار وَأقَام بالروم بقسطنطينية حَتَّى مَاتَ بهَا.
وَملك مَحْمُود بن نصر بن صَالح حلب فِي رَمَضَان سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ استولى على ارتاج من ايدي الرّوم فِي سنة سِتِّينَ، وَتُوفِّي مَحْمُود فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة مَالِكًا لحلب بهَا. وَملك بعده ابْنه نصر، ثمَّ قَتله التركمان.
وَملك بعده أَخُوهُ سَابق بن مَحْمُود وَاسْتمرّ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَأخذ حلب مِنْهُ شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش صَاحب الْموصل على مَا سَيذكرُ.
وفيهَا أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة: كتب بِبَغْدَاد محْضر بِأَمْر الْقَادِر يتَضَمَّن الْقدح فِي نسب العلويين خلفاء مصر، وَكتب فِيهِ جمَاعَة من العلويين والقضاة والفضلاء وَأَبُو(1/314)
عبد اللَّهِ بن النُّعْمَان فَقِيه الشِّيعَة، " نُسْخَة الْمحْضر ": هَذَا مَا شهد بِهِ الشُّهُود أَن معد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد منتسب إِلَى ديصان بن سعيد الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الديصانية وَأَن هَذَا الناجم بِمصْر هُوَ مَنْصُور بن نزار الملقب بالحاكم حكم عَلَيْهِ اللَّهِ بالبوار والدمار ابْن معد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد لَا أسعده اللَّهِ، وَأَن مَا تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عَلَيْهِم لعنة اللَّهِ ولعنة اللاعنين أدعياء خوارج لَا نسب لَهُم فِي ولد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وان مَا ادعوهُ من الانتساب إِلَيْهِ زور بَاطِل، وَأَن، هَذَا الناجم فِي مصر هُوَ وسلفه كفار فساق زنادقة ملحدون معطلون وللإسلام جاحدون أباحوا الْفروج وَأَحلُّوا الْخُمُور وَسبوا الْأَنْبِيَاء وَادعوا الربوبية وَنَحْو ذَلِك وَآخره، وَكتب فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: اشْتَدَّ أَذَى خفاجة للحجاج وَقَطعُوا عَلَيْهِم الطَّرِيق.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل شمس الدّين أَبُو الْمَعَالِي قَابُوس بن وشمكير بن زِيَاد شدد على أَصْحَابه فَاجْتمعُوا وحضروه وَأَقَامُوا ابْنه منوجهر مَوْضِعه طلبوه من جرجان ثمَّ أتفق مَعَ ابيه وَانْقطع قَابُوس فِي قلعة يعبد اللَّهِ، فعاودوا منوجهر فِي قَتله فَسكت فَمَضَوْا وَأخذُوا جَمِيع مَا عِنْد قَابُوس من ملبوس فَمَاتَ بالبرد، وَكَانَ كثير الْفَضَائِل شَدِيد الْأَخْذ قَلِيل الْعَفو يدْرِي النُّجُوم وَغَيرهَا، وَمن شعره:
(قل للَّذي بصروف الدَّهْر عيرنَا ... هَل عاند الدَّهْر إِلَّا من لَهُ خطر)
(فَفِي السَّمَاء نُجُوم مَا لَهَا عدد ... وَلَيْسَ يكسف إِلَّا الشَّمْس وَالْقَمَر)
قلت: وفيهَا ورد السّجل من الْحَاكِم يَأْمر فِيهِ بِصَلَاة التَّرَاوِيح وَينْهى عَن لعن السّلف الصَّالح ويلعن فِيهِ من يلعنهم رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ الْملك التّرْك أيلك خَان، وَملك أَخُوهُ طغان خَان، وَكَانَ المتوفي خيرا دينا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ بهاء الدولة بن نصر خاشاذ بن عضد الدولة بن بويه بتتابع الصرع مثل أَبِيه وَمَات وَهُوَ ملك الْعرَاق وعمره اثْنَتَانِ وأ {بعون سنة وَتِسْعَة أشهر وَملكه أَربع وَعِشْرُونَ سنة، وَولي مَوْضِعه ابْنه سُلْطَان الدولة أَبُو شُجَاع.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني مُحَمَّد بن الطّيب بن مُحَمَّد بن جَعْفَر نَاصِر طَريقَة الْأَشْعَرِيّ ومؤيد مذْهبه، سكن بَغْدَاد وصنف الْكثير فِي علم الْكَلَام، وَنسبَة الباقلاني إِلَى بيع الباقلاء وَهِي شَاذَّة كالصنعاني.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أوغل أَيْضا السُّلْطَان مَحْمُود فِي الْهِنْد وغزا وَفتح وَعَاد إِلَى غزنة.
وفيهَا: نهبت خفاجة سَواد الْكُوفَة، فَقتل مِنْهُم الْعَسْكَر وَأسر.(1/315)
وفيهَا: توفّي أَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي من شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وعمره فَوق الثَّمَانِينَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا كَانَت الحروب بَين أبي الْحسن عَليّ بن مزِيد الْأَسدي وَبَين مُضر وَحسان ونبهان وطراد بن دبيس، ثمَّ أَن مُضر هزم أَبَا الْحسن وَاسْتولى على حلله وامواله وهرب أَبُو الْحسن إِلَى بلد النّيل.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه بن نعمب الضَّبِّيّ الطهمازي الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي إِمَام الحَدِيث فِي عصره والمؤلف فِيهِ مَا لم يسْبق إِلَيْهِ، سَافر فِي طلب الحَدِيث وَبَلغت شُيُوخه الفين وَله الصحيحان والأمالي وفضائل الشَّافِعِي، عرف أَبوهُ بالحاكم لتوليه الْقَضَاء بنيسابور.
وفيهَا: قتل بعض عَامَّة الدينور قاضيهم أَبَا الْقَاسِم يُوسُف بن أَحْمد بن كج الْفَقِيه الشَّافِعِي خوفًا مِنْهُ، وَله وَجه فِي الْمَذْهَب وصنف كثيرا وَجمع بَين رياستي الْعلم وَالدُّنْيَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي باديس بن مَنْصُور بن يُوسُف بلكين بن زيزى أَمِير أفريقية، ووليها بعده ابْنه الْمعز وعمره ثَمَان وَوصل إِلَيْهِ التَّقْلِيد وَالْخلْع من الْحَاكِم الْعلوِي ولقبه شرف الدولة والمعز حمل أهل الْمغرب على مَذْهَب مَالك وَكَانُوا قبله حنفية.
غزا سُلْطَان الدولة بن بهاء الدولة نَائِبه بالعراق فَخر الْملك أَبَا غَالب وَقَتله سلخ ربيع الأول مِنْهَا وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَمُدَّة ولَايَته بالعراق خمس سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَأَيَّام، وَوجد لَهُ ألف ألف دِينَار غير الْعرُوض وَغير مَا نهب قَبضه بالأهواز، ثمَّ استوزر أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن سهلان.
وفيهَا: توفّي الشريف الرضي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زيد العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم الْمَعْرُوف بالموسوي، ذاكرة شَيْخه السيرافي يَوْمًا وَهُوَ صبي فَقَالَ: رَأَيْت عمرا مَا عَلامَة النصب فِي عَمْرو؟ فَقَالَ الرضي: بعض عَليّ - أَشَارَ إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وبغضه لعَلي -، فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذهنه. ومولده سنة تسع وَخمسين وثلثمائة بِبَغْدَاد.
قلت: وَلَو قَالَ بدل قَوْله بغض عَليّ: خفض عَليّ، لَكَانَ أبدع، وَهُوَ أشعر الطالبيين على كَثْرَة شعرائهم المفلقين وَللَّه قَوْله:
(يَا صَاحِبي قفا لي واقضيا وطري ... وخبراني عَن نجد بأخبار)
(هَل روضت قاعة الوعساء أم مطرَت ... خميلة الطلح ذَات الشيح والغار)
(أم هَل أَبيت وَدَار دون كاظمة ... دَاري وسمار ذَاك الْحَيّ سماري)
(تضوع أَرْوَاح نجد من ثِيَابهمْ ... عِنْد الْقدوم لقرب لعهد بِالدَّار)
وَالله أعلم.(1/316)
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ إِمَام أَصْحَاب الشَّافِعِي وعمره إِحْدَى وَسِتُّونَ سنة وَأشهر، قدم بَغْدَاد سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ ثلثمِائة وَحضر مجالسه أَكثر من ثلثمِائة فَقِيه وطبق الأَرْض بالأصحاب، وَله مصنفات مِنْهَا: التعليقة الْكُبْرَى فِي الْمَذْهَب، واسفرايين بَلْدَة بنواحي نيسابور.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا يَمِين الدولة مَحْمُود الْهِنْد وَوصل إِلَى قشم وقنوج وَبلغ نهر كنك وَفتح بلادا وغنم وَعَاد إِلَى غزنة.
(ذكر انْقِرَاض الْخلَافَة الأموية من الأندلس وتفرق ممالك الأندلس)
(وأخبار الدولة العلوية بهَا)
فِي هَذِه السّنة خرج على المستعين بِاللَّه سُلَيْمَان بن الحكم الْأمَوِي خيران العامري من القواد من أَصْحَاب الْمُؤَيد وَسَار فِي جمَاعَة كَثِيرَة من الْعَامِرِيين، وَكَانَ عَليّ بن حمود الْعلوِي مستوليا على سبتة وَبَينه وَبَين الأندلس عدوة الْمجَاز، وَكَانَ أَخُوهُ الْقَاسِم بن حمود على الجزيرة الخضراء، وَلما رأى عَليّ بن مَحْمُود خُرُوج خيران على سُلَيْمَان عبر من سبتة إِلَى مالقة وَاجْتمعَ إِلَيْهِ خيران وَغَيره من الخارجين على سُلَيْمَان الْأمَوِي.
وَكَانَ أَمر هِشَام الْمُؤَيد الْخَلِيفَة الْأمَوِي قد اختفى من حِين استولى ابْن عَمه سُلَيْمَان على قرطبة فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة وَأخرج الْمُؤَيد من الْقصر فَلم يطلع للمؤيد على خبر، فَاجْتمع خيران وَغَيره إِلَى عَليّ بن حمود بالمنكب وَهِي بَين المربة ومالقة سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة وَبَايَعُوا عَليّ بن حمود الْعلوِي على طَاعَة الْمُؤَيد الْأمَوِي إِن ظهر خَبره، وَسَار إِلَى سُلَيْمَان بقرطبة واقتتلوا، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَان الْأمَوِي وَأسر وأحضر هُوَ وَأَخُوهُ وأبوهما الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر، وَكَانَ الحكم متخليا عَن الْملك لِلْعِبَادَةِ.
وَملك عَليّ بن حمود الْعلوِي قرطبة ودخلها سنة سَبْعَة وَأَرْبَعمِائَة، وَقصد القواد وَعلي بن حمود الْقصر طَمَعا فِي وجود الْمُؤَيد فَلم يقعوا بِخَبَرِهِ، فَقتل عَليّ بن حمود سُلَيْمَان وأباه وأخاه.
وَلما قدم الحكم للْقَتْل قَالَ لَهُ عَليّ بن حمود يَا شيخ قتلتم الْمُؤَيد؟ فَقَالَ: وَالله مَا قَتَلْنَاهُ وَأَنه حَيّ يرْزق، فَقتله سَرِيعا وَأظْهر موت الْمُؤَيد وَبَايع لنَفسِهِ وتلقب بالمتوكل على اللَّهِ وَقيل: النَّاصِر لدين اللَّهِ، وَهُوَ: عَليّ بن حمود بن أبي الْعَيْش مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عمر بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبيد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
ثمَّ أَن خبران خرج عَن طَاعَته لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَافقه طَمَعا فِي وجود الْمُؤَيد بقصر قرطبة وإعادته إِلَى الْخلَافَة، وَسَار خيران عَن قرطبة يطْلب أحدا من بني أُميَّة يقيمه فِي الْخلَافَة، وَبَايع أمويا ولقبه المرتضى وَهُوَ: عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن(1/317)
النَّاصِر كَانَ فِي جيان مستخفيا، وَاجْتمعَ إِلَى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور أهل شاطبة وبلنسيه وطرطوشه مخالفين على عَليّ بن حمود.
فَلم يَنْتَظِم لعبد الرَّحْمَن أَمر، وَجمع عَليّ بن حمود جموعه وقصدهم من قرطبة وبرز العساكر إِلَى ظَاهرهَا، وَدخل الْحمام ليخرج ويسير فَوَثَبَ غلمانه وقتلوه فِي الْحمام فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَأَرْبَعين سنة وولايته سنة وَتِسْعَة أشهر، فَدخلت العساكر الْبَلَد.
ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ الْقَاسِم بن حمود أكبر من عَليّ بِعشْرين سنة وتلقب بالمأمون، وَملك قرطبة وَغَيرهَا إِلَى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ سَار الْقَاسِم من قرطبة إِلَى أشبيلية، فَخرج عَلَيْهِ ابْن أَخِيه يحيى بن عَليّ بن حمود بقرطبة ودعا إِلَى نَفسه وخلع عَمه، فَأَجَابُوهُ فِي مستهل جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وتلقب يحيى بالمعتلي، وَبَقِي بقرطبة حَتَّى سَار إِلَيْهِ عَمه الْقَاسِم من أشبيلية فَخرج يحيى عَن قرطبة إِلَى مالقه والجزيرة الخضراء فاستولى عَلَيْهِمَا سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة فِي ذِي الْقعدَة وَدخل الْقَاسِم بن حمود قرطبة فِي التَّارِيخ.
وَجرى بَين أهل قرطبة وَبَين الْقَاسِم قتال وأخرجوه عَن قرطبة وَبَقِي بَينهم الْقِتَال نيفا وَخمسين يَوْمًا، ثمَّ هزموا الْقَاسِم وتفرق عَنهُ عسكره وَسَار إِلَى شريش فقصده ابْن أَخِيه يحيى وأمسكه وحبسه حَتَّى مَاتَ الْقَاسِم مَحْبُوسًا بعد موت يحيى.
وَلما جرى ذَلِك خرج أهل أشبيلية عَن طَاعَة الْقَاسِم وَابْن أَخِيه يحيى وَقدمُوا عَلَيْهِم قَاضِي أشبيلية أَبَا الْقَاسِم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عباد اللَّخْمِيّ وَبَقِي إِلَيْهِ أَمر أشبيلية، وَكَانَت ولَايَة الْقَاسِم بن مَحْمُود بقرطبة إِلَى أَن أمسك وَحبس ثَلَاثَة أَعْوَام وشهورا وَبَقِي مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقد أسن.
وَقدم أهل قرطبة عبد الرَّحْمَن بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر ولقب بالمستظهر بِاللَّه وَهُوَ أَخُو الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام وبويع فِي رَمَضَان وقتلوه فِي ذِي الْقعدَة كل ذَلِك فِي سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، فبويع بالخلافة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد اللَّهِ بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر ولقب بالمستكفي، ثمَّ خلع بعد سنة وَأَرْبَعَة أشهر فهرب وسم فِي الطَّرِيق فَمَاتَ.
ثمَّ اجْتمع أهل قرطبة على طَاعَة يحيى بن عَليّ بن حمود الْعلوِي وَكَانَ بمالقة يخْطب لَهُ بالخلافة، ثمَّ خَرجُوا عَن طَاعَته سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي يحيى كَذَلِك مُدَّة، ثمَّ سَار من مالقة إِلَى قرمونه وَأقَام بهَا محاصرا لأشبيلية، وَخرجت للْقَاضِي ابْن عباد خيل وَكَمن بَعضهم فَركب يحيى لقتالهم فَقتل فِي المعركة فِي الْمحرم سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.(1/318)
وَلما خلع أهل قرطبة طَاعَة يحيى بَايعُوا لهشام بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي ولقبوه بالمعتمد بِاللَّه سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة حَسْبَمَا ذكرنَا. وَجرى فِي أَيَّامه فتن وخلافات فِي الأندلس حَتَّى خلع هِشَام الْمَذْكُور سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وَسَار مخلوعا إِلَى سُلَيْمَان بن هود الجذامي فَأَقَامَ عِنْده حَتَّى مَاتَ هِشَام سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ أَقَامَ أهل قرطبة بعد هِشَام شخصا من ولد عبد الرَّحْمَن النَّاصِر اسْمه أُميَّة وَقَالُوا لَهُ: نخشى عَلَيْك أَن تقتل وَأَن السَّعَادَة قد ولت عَنْكُم يَا بني أُميَّة، فَقَالَ: بايعوني الْيَوْم واقتلوني غَدا فَلم يَنْتَظِم أمره واختفى فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
ثمَّ اقتسم الأندلس أَصْحَاب الْأَطْرَاف والرؤساء، فَملك قرطبة أَبُو الْحسن بن جهور من وزراء الدولة العامرية وَاسْتمرّ كَذَلِك حَتَّى مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ووليها بعده ابْنه أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد.
وَملك أشبيلية قاضيها أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عباد اللَّخْمِيّ من ولد النُّعْمَان بن الْمُنْذر.
وَلما تقسمت الأندلس شاع ظُهُور الْمُؤَيد هِشَام بن الحكم من الاختفاء وَأَنه سَار إِلَى قلعة رَبَاح فأطاعه أَهلهَا، فاستدعاه ابْن عباد إِلَى أشبيلية فَسَار إِلَيْهِ وَقَامَ بنصره وَكتب بظهوره إِلَى ممالك الأندلس، فَأجَاب أَكْثَرهم وخطبوا لَهُ وجددت بيعَته فِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وبقى الْمُؤَيد حَتَّى ولي المعتضد بن عباد فأظهر موت الْمُؤَيد، وَالصَّحِيح أَن الْمُؤَيد لم يظْهر مُنْذُ عدم من قرطبة فِي سنة ثَلَاث ورأبعمائة وَإِنَّمَا ذَلِك من تمويهات ابْن عباد.
وَأما بطليوس: فَقَامَ بهَا سَابُور الْفَتى العامري وتلقب بالمنصور، ووليها بعده أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن مسلمة بن الْأَفْطَس وتلقب بالمظفر وَأَصله من بربر مكناسة لَكِن ولد أَبوهُ بالأندلس، ووليها بعد مُحَمَّد ابْنه عمر وتلقب بالمتوكل واتسع ملكه وَقتل صبرا مَعَ ولديه الْفضل وَالْعَبَّاس عِنْد تغلب أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين على الأندلس.
وَأما طليطلة: فوليها ابْن يعِيش، ثمَّ إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن عَامر بن ذِي النُّون وتلقب بالظافر بحول اللَّهِ وَهُوَ من البربر، ووليها بعده ابْنه يحيى، ثمَّ أخذت الفرنج طليطلة مِنْهُ سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَاقْتصر هُوَ على بلنسية إِلَى أَن قَتله القَاضِي بن جحاف الْأَحْنَف.
وَأما سرقسطة والثغر الْأَعْلَى: فَكَانَت بيد مُنْذر بن يحيى، ثمَّ ابْنه يحيى ثمَّ سُلَيْمَان بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن هود الجذامي وتلقب بالمستعين بِاللَّه، ثمَّ ابْنه أَحْمد ثمَّ ابْنه عبد الْملك، ثمَّ ابْنه أَحْمد وتلقب بالمنتصر بِاللَّه وَعَلِيهِ انقرضت دولتهم على رَأس الْخَمْسمِائَةِ فَصَارَت بِلَادهمْ كلهَا للملثمين.(1/319)
وَأما طرطوشة: فوليها لَبِيب الْفَتى العامري.
وَأما بلنسيه: فَكَانَت بيد الْمَنْصُور أبي الْحُسَيْن عبد الْعَزِيز الْمعَافِرِي ثمَّ انضاف إِلَيْهِ المرية، ثمَّ ابْنه مُحَمَّد، ثمَّ غدر بِهِ صهره الْمَأْمُون بن ذِي النُّون وَأخذ الْملك سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.
وَأما السهلة: فملكها عبود بن رزين الْبَرْبَرِي. وَأما دانية والجزائر: فَصَارَت بيد الْمُوفق بن الْحُسَيْن مُجَاهِد العامري.
وَأما مرسية: فوليها بَنو طَاهِر واستقامت لعبد الرَّحْمَن مِنْهُم إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ المعتضد بن عباد، ثمَّ عصى بهَا نائبها عَلَيْهِ، ثمَّ صَار للملثمين.
وأماس المرية: فملكها خيران العامري، ثمَّ زُهَيْر العامري واتسع ملكه إِلَى شاطبة، ثمَّ قتل وَصَارَت مَمْلَكَته للمنصور بن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن الْمَنْصُور بن أبي عَامر، ثمَّ تنقلت حَتَّى صَارَت للملثمين.
وَأما مالقه: فملكها بَنو عَليّ بن حمود الْعلوِي فَلم تزل للعلويين يخْطب لَهُم فِيهَا بالخلافة إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم باديس بن حيوس صَاحب غرناطة.
وَأما غرناطة: فملكها حيوس بن ماكس الصنهاجي.
هَذِه تَفْرِقَة ممالك الأندلس.
ونظم أَبُو طَالب عبد الْجَبَّار الأندلسي من جَزِيرَة شقر أرجوزة فِي فنون من الْعُلُوم، مِنْهَا فِي التَّارِيخ قَوْله:
(لما رأى أَعْلَام أهل قرطبة ... أَن الْأُمُور عِنْدهم مضطربة)
(وعدمت شاكلة للطاعة ... اسْتعْملت آراءها الْجَمَاعَة)
(فقدموا الشَّيْخ من آل جهور ... المكتني بالحزم والتدبر)
(ثمَّ ابْنه أَبَا الْوَلِيد بعده ... وَكَانَ يحذو فِي السداد قَصده)
(فجاهرت بجورها الجهارة ... وكل قطر حل فِيهِ فاقره)
(والثغر الْأَعْلَى قَامَ فِيهِ مُنْذر ... ثمَّ ابْن هود بعد فِيمَا يذكر)
(وَابْن يعِيش ثار فِي طليطلة ... ثمَّ ابْن ذِي النُّون تصفى الْملك لَهُ)
(وَفِي بطليوس انتزي سَابُور ... وَبعده ابْن الْأَفْطَس الْمَنْصُور)
(وثار فِي حمص بَنو عباد ... وَالْكذب والفتون فِي ازدياد)
(وثار فِي غرناطة حيوس ... ثمَّ ابْنه من بعده باديس)
(وَآل معن ملكوا المرية ... بسيرة محمودة مرضيه)
(وثار فِي شَرق الْبِلَاد الفتيان ... العامريون وَمِنْهُم خيران)
(ثمَّ زُهَيْر والفتى لَبِيب ... وَمِنْهُم مُجَاهِد اللبيب)(1/320)
(سُلْطَانه رسى بمرسي دانيه ... ثمَّ غزا حَتَّى إِلَى سردانية)
(ثمَّ أَقَامَت هَذِه الصقالبه ... لِابْنِ أبي عامرهم بشاطبه)
(وَجل مَا ملكهم بلنسيه ... وثار آل طَاهِر بمرسيه)
(ويلد الْبِنْت لآل قَاسم ... وَهُوَ حَتَّى الْآن فِيهَا حَاكم)
(وَابْن رزين جَاره فِي السهله ... أمْهل أَيْضا ثمَّ كل المهله)
(ثمَّ استمرت هَذِه الطوائف ... يخلفهم من آلهم خوالف)
وفيهَا أَعنِي سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة: قتلت ... ... . بإفريقية، فَإِن باديس الْمعز ركب فِي القيروان فاجتاز بِجَمَاعَة فَقيل لَهُ: إِنَّهُم ... ... يسبون ... ... . و ... ...، فَقَالَ الْمعز: رَضِي اللَّهِ عَن ... ... و ... ... . فثار بهم النَّاس وقتلوهم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا مَاتَ طغان ملك تركستان وكاشغر، وَلما كَانَ مَرِيضا سَارَتْ جيوش الصين من التّرْك والخطا لقتاله فَدَعَا اللَّهِ أَن يعافيه ليقاتلهم ثمَّ يفعل بِهِ مَا شَاءَ فَعُوفِيَ وَسَار فكسبهم وهم زهاء ثلثمِائة ألف خركاه وَقتل مِنْهُم فَوق مِائَتي ألف رجل وَأسر نَحْو مائَة ألف وغنم مَا لَا يُحْصى وَعَاد فَمَاتَ ببلاساغون عقيب وُصُوله وَكَانَ عادلا دينا.
وَهَذَا يلْتَفت إِلَى قصَّة سعد بن معَاذ الْأنْصَارِيّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ لما جرح فِي غَزْوَة الخَنْدَق وَسَأَلَ اللَّهِ أَن يحييه إِلَى أَن يُشَاهد غَزْوَة بني قُرَيْظَة، فاندمل جرحه حَتَّى فرغ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قتل بني قُرَيْظَة وَسَبْيهمْ فَانْتقضَ جرح سعد وَمَات رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وَلما مَاتَ طغان خَان ملك أَخُوهُ أَبُو المظفر أرسلان خَان.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي مهذب الدولة صَاحب البطيحة أَبُو الْحسن عَليّ بن نصر ومولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة افتصد فورم ساعده وَاشْتَدَّ مَرضه فَوَثَبَ ابْن أُخْته أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّهِ بن بني فَقبض على أَحْمد بن مهذب الدولة فأعلمت أمه مهذب الدولة قبل مَوته فَقَالَ: أَي شَيْء أقدر أعمل وَأَنا على هَذِه الْحَال وَمَات من الْغَد.
وَولي الْأَمر أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَضرب ابْن مهذب الدولة فَمَاتَ بعد ثَلَاثَة أَيَّام من موت أَبِيه.
ثمَّ مَاتَ أَبُو مُحَمَّد بالذبحة بعد ثَلَاثَة أشهر فولى البطيحة بعده الْحُسَيْن بن بكر الشرابي من خَواص مهذب الدولة، ثمَّ قبض عَلَيْهِ سُلْطَان الدولة فِي سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة وولاها صَدَقَة بن فَارس المازياري.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن مزِيد الْأَسدي وَصَارَ الْأَمِير بعده ابْنه دبيس.
وفيهَا: طمعت الْعَامَّة فِي الديلم وَكثر العيارون والنهب بِبَغْدَاد.
وفيهَا: قدم سُلْطَان الدولة إِلَى بَغْدَاد وَضرب الطبل فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس، وَكَانَ جده عضد الدولة يَفْعَله فِي أَوْقَات ثَلَاث صلوَات.(1/321)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا يَمِين الدولة الْهِنْد على عَادَته فَقتل وغنم وَعَاد.
وفيهَا: مَاتَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْحَافِظ الْمصْرِيّ صَاحب المؤتلف والمختلف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي وثاب بن سَابق النميري صَاحب حران وَملك ابْنه شبيب.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا لثلاث بَقينَ من شَوَّال فقد الْحَاكِم بِأَمْر اللَّهِ أَبُو عَليّ مَنْصُور بن الْعَزِيز الْعلوِي صَاحب مصر خرج لَيْلًا يطوف على رسمه وَأصْبح عِنْد قبر الفقاعي وَتوجه إِلَى شَرْقي حلوان وَمَعَهُ ركابيان فَأَعَادَ أَحدهمَا مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب ليوصلهم مَا أطلق لَهُم من بَيت المَال، ثمَّ عَاد الركابي الآخر وَأخْبر أَنه خلف الْحَاكِم عِنْد الْعين والمقصبة، فَخرج جمَاعَة من أَصْحَابه ليكشفوا خَبره فوجودوا عِنْد حلوان حمَار الْحَاكِم فعادوا وَلم يشكوا فِي قَتله، وَكَانَ قد تهدد أُخْته فاتفقت مَعَ بعض القواد وجهزوا عَلَيْهِ من قَتله. وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَتِسْعَة أشهر وولايته خمس وَعِشْرُونَ سنة وَأَيَّام، وَكَانَ جوادا سفاكا للدماء تصدر عَنهُ أَفعَال متناقضة يَأْمر بالشَّيْء ثمَّ ينْهَى عَنهُ.
وَولي بعده ابْنه الظَّاهِر لإعزاز دين اللَّهِ أَبُو الْحسن عَليّ وبويع فِي السَّابِع من قبل أَبِيه وَهُوَ صبي، وجمعت عمته أُخْت الْحَاكِم سِتّ الْملك النَّاس وأحسنت ووعدت ورتبت وباشرت الْملك بِنَفسِهَا وقويت هيبتها وَعَاشَتْ بعد الْحَاكِم أَربع سِنِين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة شغبت الْجند بِبَغْدَاد على سُلْطَان الدولة، فَأَرَادَ الانحدار إِلَى وَاسِط فَقَالُوا: اجْعَل عندنَا ولدك أَو أَخَاك مشرف الدولة، فاستخلف أَخَاهُ مشرف الدولة على الْعرَاق وَسَار سُلْطَان الدولة عَن بَغْدَاد إِلَى الأهواز واستوزر فِي طَرِيقه ابْن سهلان فاستوحش مشرف الدولة من ذَلِك.
وَأرْسل سُلْطَان الدولة وزيره ابْن سهلان ليخرج أَخَاهُ مشرف الدولة من الْعرَاق، فَسَار إِلَيْهِ واقتتلا فانتصر مشرف الدولة وَأمْسك ابْن سهلان وسمله وَلما بلغ ذَلِك سُلْطَان الدولة ضعفت نَفسه وهرب إِلَى الأهواز فِي أَرْبَعمِائَة فَارس وَاسْتقر مشرف الدولة بن بهاء الدولة فِي ملك الْعرَاق وَقطعت خطْبَة سُلْطَان الدولة وخطب لمشرف الدولة فِي آخر الْمحرم سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: فِي الْموصل قبض مُعْتَد الدولة قرواش بن الْمُقَلّد على وزيره أبي الْقَاسِم المغربي ثمَّ أطلقهُ، وَقبض على سُلَيْمَان بن فَهد وَكَانَ ابْن فَهد فِي حداثته بَين يَدي الصابي بِبَغْدَاد، ثمَّ صعد الْموصل وخدم الْمُقَلّد بن الْمسيب وَالِد قرواش، ثمَّ نظر فِي ضيَاع قرواش فظلم أَهلهَا، ثمَّ سخط قرواش عَلَيْهِ وحبسه ثمَّ قَتله. وَذكره ابْن الزمكدم فِي أَبْيَات وَهِي:(1/322)
(وليل كوجه البرقعيدي مظلم ... وَبرد أغانيه وَطول قرونه)
(سريت ونومي عَن جفوني مشرد ... كعقل سُلَيْمَان بن فَهد وَدينه)
(على أولق فِيهِ الْتِفَات كَأَنَّهُ ... أَبُو جَابر فِي خبطه وجنونه)
(إِلَى أَن بدا ضوء الصَّباح كَأَنَّهُ ... سنا وَجه قرواش وضوء جَبينه)
جلس قرواش لَيْلَة للشراب فِي الشتَاء وَعِنْده البرقعيدي مُغنِي قرواش وَسليمَان بن فَهد وَأَبُو جَابر الْحَاجِب، فَأمر ابْن الزمكدم أَن يمدح قرواشا ويهجوهم بديها فَقَالَ هَذِه الأبيات
وفيهَا: اجْتمع غَرِيب بن معن ودبيس بن عَليّ بن مزِيد وأتاهم عَسْكَر من من بَغْدَاد وَجرى بَينهم وَبَين قرواش قتال، فَانْهَزَمَ قرواش وامتدت يَد نواب السُّلْطَان إِلَى أَعماله فَأرْسل يسْأَل الصفح عَنهُ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر نشأت سَحَابَة بإفريقية شَدِيدَة الْبَرْق والرعد فأمطرت حِجَارَة كَثِيرَة وأهلكت من أَصَابَت، حَكَاهُ ابْن الْأَثِير.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا مَاتَ صَدَقَة بن فَارس المازياري أَمِير البطيحة، وضمنها أَبُو نصر شيرزاد بن الْحسن بن مَرْوَان فأمنت بِهِ الطّرق.
وفيهَا توفّي عَليّ بن هِلَال " ابْن البواب " الْجيد الْخط، وَقيل: مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة، وَكَانَ عِنْده علم وقص بِجَامِع الْمَدِينَة بِبَغْدَاد وَيُسمى ابْن الستري أَيْضا لِأَن أَبَاهُ كَانَ بوابا يلازم ستر الْبَاب، وَشَيْخه فِي الْكِتَابَة مُحَمَّد بن أَسد بن عَليّ الْقَارِي الْكَاتِب الْبَزَّاز الْبَغْدَادِيّ، وَدفن ابْن البواب جوَار أَحْمد بن حَنْبَل.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بصريع الدلاء قَتِيل الغواشي ذِي الرقاعتين. وَمن مجونه قَوْله.
(من فَاتَهُ الْعلم وأخطأه الْغنى ... فَذَاك وَالْكَلب على حَال سوا)
قلت: وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء ينشده: وأحظاه الْغنى - بِالْحَاء الْمُهْملَة والظاء الْمُعْجَمَة - وَهُوَ حسن وَإِن لم يرد ذَلِك قَائِله. وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان: أَنه عَليّ بن عبد الْوَاحِد، وغالب ظَنِّي أَنه توفّي بِمصْر واجتاز بمعرة النُّعْمَان وَبهَا الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء فَطلب مِنْهُ شرابًا وَمَا يَلِيق بِهِ، فَأرْسل الشَّيْخ لَهُ نَفَقَة وَاعْتذر بِأَبْيَات مِنْهَا:
(تفهم يَا صريع الْبَين بشرى ... أَتَت من مُسْتَقل مستقيل)
(دعيت بصارع وتداركته ... مُبَالغَة فَرد إِلَى فعيل)
(كَمَا قَالُوا عليم إِذا أَرَادوا ... تناهي الْعلم فِي الله الْجَلِيل)
(قد استحييت مِنْك فَلَا تَكِلنِي ... إِلَى شَيْء سوى عذر جميل)
(وَقد أنفذت مَا حَقي عَلَيْهِ ... قَبِيح الهجو أَو شتم الرَّسُول)
(وَذَاكَ على انفرادك قوت يَوْم ... إِذا أنفقت إِنْفَاق الْبَخِيل)
(وَإِن الْوَزْن وَهُوَ أتم وزن ... يُقَام صغاه بالحرف العليل)(1/323)
(وَإِن يَك مَا بعثت بِهِ قَلِيلا ... فلي حَال أقل من الْقَلِيل)
وَالله أعلم.
وفيهَا: قَالَه عمَارَة فِي تَارِيخ الْيمن - استولى نجاح على الْيمن كَمَا مر ونجاح مولى مرجان ومرجان مولى حُسَيْن بن سَلامَة وحسين مولى رشيد ورشيد مولى بني رقاد، ولنجاح أَوْلَاد مِنْهُم: سعيد الْأَحْوَال وجياش ومعارك، وَملك نجاح الْيمن حَتَّى توفّي سنة اثنيتين وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، قيل أهْدى لَهُ الصليحي جَارِيَة جميلَة فَسَمتْهُ.
ثمَّ ملك بعد نجاح بنوه وبنوهم، وَغلب عَلَيْهِم الصليحي كَمَا سَيذكرُ فهرب بَنو نجاح إِلَى دهلك وجزائرها ثمَّ اقترفوا مِنْهَا، فَقدم جياش متنكرا إِلَى زبيد وَأخذ مِنْهَا وَدِيعَة كَانَت لَهُ ثمَّ عَاد إِلَى دهلك مُدَّة ملك الصليحي، وَقدم سعيد الْأَحْوَال إِلَى زبيد أَيْضا بعد عود أَخِيه جياش عَنْهَا واستتر بهَا، واستدعى جياشا من دهلك وبشره بِانْقِضَاء ملك الصليحي وَأَنه قد قرب أَوَانه فَجَاءَهُ جياش، وَظهر حِينَئِذٍ سعيد بزبيد وسارا فِي سبعين رجلا من زبيد فِي تَاسِع ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، وقصدا الصليحي وَكَانَ فِي الْحَج فلحقاه عِنْد أم الدهيم وبئر أم معبد وقتلاه وأخاه عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بَغْتَة فِي ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ عَسْكَر لم يشعروا إِلَّا بِقَتْلِهِمَا وحز سعيد رأسيهما، واحتاط على زَوْجَة الصليحي أَسمَاء بنت شهَاب وَعَاد إِلَى زبيد، وَكَانَ لأسماء ابْن يُسمى الْملك المكرم أَحْمد بن عَليّ الصليحي لَهُ بعض حصون الْيمن.
وَدخل سعيد بن نجاح وَأَخُوهُ جياش زبيد فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، والرأسان أَمَام هودج أَسمَاء بنت شهَاب وَأنزل أَسمَاء بدار فِي زبيد وَنصب الرأسين قبالتها، واستوثق الْأَمر بتهامة لسَعِيد.
واستمرت أَسمَاء مأسورة إِلَى سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، فَأرْسلت خُفْيَة إِلَى ابْنهَا المكرم تسترجيه فَجمع المكرم جموعا وَسَار من الْجبَال إِلَى زبيد وَقَاتل سعيدا قتالا شَدِيدا، فَانْهَزَمَ سعيد إِلَى دهلك وَاسْتولى المكرم على زبيد وَأنزل رَأس الصليحي وَرَأس أَخِيه فدفنها وَبنى عَلَيْهِمَا مشهدا، وَولى على زبيد خَاله أسعد بن شهَاب، وَمَاتَتْ أَسمَاء بعد ذَلِك بِصَنْعَاء سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ عَاد بَنو نجاح من دهلك وأخرجوا أسعد وملكوا زبيد سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ غلبهم المكرم وَملك زبيد وَقتل سعيدا سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقيل سنة ثَمَانِينَ، وَنصب رَأسه مُدَّة، وهرب جياش إِلَى الْهِنْد وَعَاد بعد سِتَّة أشهر إِلَى زبيد فملكها فِي بقايا سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة، وَكَانَ قد اشْترى من الْهِنْد جَارِيَة هندية فَولدت بزبيد ابْنه الفاتك، وَبَقِي المكرم فِي الْجبَال يَشن الغارات على بِلَاد جياش لَا يقدر على غير ذَلِك.(1/324)
وَلم يزل جياش مَالِكًا لتهامة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة فَمَاتَ فِي أواخرها، وَقيل فِي سنة خَمْسمِائَة، وَله بنُون مِنْهُم فاتك من الْهِنْدِيَّة وَمَنْصُور وَإِبْرَاهِيم.
فَتَوَلّى بعده ابْنه فاتك، وَخَالف عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم، ثمَّ مَاتَ فاتك سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة.
وَملك بعد ابْنه مَنْصُور دون الْبلُوغ، فقصده عَمه إِبْرَاهِيم وقاتله فَمَا ظفر بطائل.
وثار فِي زبيد عَم الصَّبِي عبد الْوَاحِد بن جياش وَملك زبيد، فَاجْتمع عبيد فاتك على مَنْصُور واستنجدوا وقصدوا زبيد وقهروا عبد الْوَاحِد، وَاسْتقر مَنْصُور بن فاتك فِي الْملك بزبيد.
ثمَّ ملك بعده ابْنه فاتك بن مَنْصُور.
ثمَّ ملك بعده ابْن عَمه فاتك الْأَخير بن مُحَمَّد بن فاتك بن جياش بن نجاح سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، وَاسْتقر فاتك بن مُحَمَّد فِي ملك الْيمن من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى قَتله عبيده سنة ثَلَاث وخميسين وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر مُلُوك الْيمن من بني نجاح ثمَّ ملك الْيمن عَليّ بن مهْدي وَسَيَأْتِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا كَانَ الصُّلْح بَين مشرف الدولة وأخيه سُلْطَان الدولة على أَن الْعرَاق لمشرف الدولة وكرمان وَفَارِس لسلطان الدولة.
وفيهَا: استوزر مشرف الدولة أَبَا الْحسن بن الْحسن الرخجي ولقب مؤيد الْملك، وَبنى المارستان بواسط بوقف عَظِيم، وَكَانَ يسْأَل الوزارة فَيمْتَنع حَتَّى ألزم بهَا هَذِه السّنة.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عِيسَى الشكري شَاعِر السّنة نَاقض شعراء الشِّيعَة وَأكْثر من مدح الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم فَسُمي بذلك.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد اللَّهِ بن الْمعلم فَقِيه الإمامية، ورثاه المرتضى.
قلت: وفيهَا: كسر الْحجر الْأسود كَسره رجل أعجمي أشقر أَزْرَق فَقتل مِمَّن يُشبههُ خلق عَظِيم، وَجعلت لَهُ ضبة فضَّة وَهِي بَيِّنَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا استولى عَلَاء الدولة أَبُو جَعْفَر بن كاكويه على همذان من يَد صَاحبهَا سَمَاء الدولة أبي الْحسن بن شمس الدولة من بني بويه، ثمَّ ملك الدينور أَيْضا، ثمَّ ملك سَابُور خواشت أَيْضا وقويت هيبته وَضبط الْملك.
وفيهَا: قبض مشرف الدولة على وزيره الرخجي، واستوزر أَبَا الْقَاسِم الْحُسَيْن المغربي الَّذِي كَانَ وَزِير قرواش وَكَانَ أَبوهُ من أَصْحَاب سيف الدولة بن حمدَان وَسَار إِلَى مصر فولد لَهُ أَبُو الْقَاسِم الْمَذْكُور بهَا سنة سبعين وثلثمائة، ثمَّ قتل الْحَاكِم أَبَاهُ فهرب أَبُو الْقَاسِم إِلَى الشَّام وتنقل فِي الخدم.(1/325)
وفيهَا: غزا يَمِين الدولة الْهِنْد وَعَاد غانما.
وفيهَا: توفّي القَاضِي عبد الْجَبَّار الْمُتَكَلّم المعتزلي وَقد جَاوز التسعين.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة قلت: وفيهَا قبض أَسد الدولة صَالح بن مرداس بحلب على القَاضِي أبي أُسَامَة وَدَفنه حَيا فِي القلعة فَقَالَ بَعضهم فِي ذَلِك:
(وأد الْقُضَاة أَشد من ... وأد الْبَنَات عمى وغيا)
(أدفنت قَاضِي الْمُسلمين ... بقلعة الشَّهْبَاء حَيا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي سُلْطَان الدولة أَبُو شُجَاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز وعمره اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وَأشهر، فاستولى أَخُوهُ قوام الدولة أَبُو الفوارس على مملكة فَارس، وَكَانَ أَبُو كاليجار بن سُلْطَان الدولة بالأهواز فَسَار وَقَاتل عَمه فَانْهَزَمَ عَمه، فاستولى أَبُو كاليجار على مملكة أَبِيه بِفَارِس ثمَّ أخرجه عَمه أَبُو الفوارس عَنْهَا، ثمَّ ملكهَا أَبُو كاليجار ثَانِيًا، وَهزمَ عَمه قوام الدولة وَملك شيراز وَاسْتقر فِي ملك أَبِيه.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عبد الْغفار السمسماني اللّغَوِيّ، وَكتب الْأَدَب الَّتِي عَلَيْهَا خطه مَرْغُوب فِيهَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا يَمِين الدولة الْهِنْد وأوغل وَفتح مَدِينَة الصَّنَم الْمُسَمّى بسومنات أعظم أصنام الْهِنْد يحجون إِلَيْهِ وَوَقفه فَوق عشرَة آلَاف ضَيْعَة وَكَانَ قد اجْتمع فِي بَيت الصَّنَم من الْجَوْهَر وَالذَّهَب مَا لَا يُحْصى فغنم الْكل، وَكَانَ الصَّنَم صلبا فَأوقد عَلَيْهِ حَتَّى قدر على كَسره كَانَ طوله خَمْسَة أَذْرع مِنْهَا ثَلَاثَة بارزة وذراعان فِي الْبناء، وَأخذ بعض الصَّنَم مَعَه إِلَى غزنة وَجعله عتبَة الْجَامِع.
قلت: وفيهَا توفّي بسيل ملك الرّوم بن أرمانوس وَكَانَ فِيمَا يزْعم من رَآهُ من الْمُسلمين مُسلما أَكثر إيمَانه وَحقّ مَا فِي صَدْرِي، وَقيل أَنه كَانَ يعلق على صَدره تَحت ثِيَابه مُصحفا، وَبَقِي فِي الْملك خمسين سنة وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ربيع الأولى توفّي مشرف الدولة بن بهاء الدولة وعمره ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَملكه خمس سِنِين وَخَمْسَة عشر يَوْمًا وَكَانَ عادلا.
وفيهَا قتل التهامي عَليّ بن مُحَمَّد الشَّاعِر صَاحب:
(حكم الْمنية فِي الْبَريَّة جاري ... مَا هَذِه الدُّنْيَا بدار قَرَار ...
قلت: ولي فِي وَزنهَا قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(أَتَرَى أسر بدفن بنت قَائِلا ... اللَّهِ جَارك إِن دمعي جاري)
(فبنات نعش أنجم وكمالها ... بالنعش فاطلب مثله لجواري)
(أَقْسَمت مَا كَرهُوا الْبَنَات لبخلهم ... كَرهُوا الْبَنَات كَرَاهَة الأصهار)(1/326)
وَمِنْهَا:
(يَا رب أَمْرَد كالغزال لطرفه ... حكم الْمنية فِي الْبَريَّة جاري)
(ومعذر كالمسك نبت عذاره ... وَالْخَال فَهُوَ زِيَادَة الْعَطَّار)
(وبديعة إِن لم تكن شمس الضُّحَى ... فَالْوَجْه مِنْهَا طَابع الأقمار)
(أَعرَضت إِعْرَاض التعفف عَنْهُم ... وَقطعت وصلهم وقر قراري)
(مَا ذَاك جهلا بالجمال وَإِنَّمَا ... لَيْسَ الْخَنَا من شِيمَة الْأَحْرَار)
وَلَكِن أَيْن وَأَيْنَ وشتان بَين وَبَين وَالله أعلم.
وصل التهامي الْمَذْكُور إِلَى الْقَاهِرَة متخفيا وَمَعَهُ كتب من حسان بن مفرج بن دعبل البدوي إِلَى بني قُرَّة فَعلم بِهِ وَحبس فِي خزانَة البنود ثمَّ قتل مَحْبُوسًا.
قلت: ورؤي فِي الْمَنَام بِخَير بِسَبَب قَوْله فِي قصيدة فِي ابْنه الَّذِي مَاتَ صَغِيرا:
(جَاوَرت أعدائي وجاور ربه ... شتان بَين جواره وجواري)
وَالله أعلم.
وتهامة: تطلق على مَكَّة وَلذَلِك قيل للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تهامي، وَتطلق على الْبِلَاد الَّتِي بَين الْحجاز وأطراف الْيمن.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا صادرت الأتراك بِبَغْدَاد النَّاس وطمع فِي الْعَامَّة بِمَوْت مشرف الدولة وخلو بَغْدَاد من سُلْطَان.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالقفال وعمره تسعون سنة وتصانيفه نافعة، وَتقدم ذكر الْقفال الشَّاشِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار جلال الدولة من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد استدعاه الْجند بِأَمْر الْخَلِيفَة للنهب والفتن، فَدَخلَهَا ثَالِث رَمَضَان وتلقاه الْخَلِيفَة وَاسْتقر بِبَغْدَاد ملكا.
وفيهَا: توفّي الْوَزير أَبُو الْقَاسِم المغربي وعمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة.
وفيهَا: سقط بالعراق برد وزن الْبردَة رَطْل ورطلان بالبغدادي وأصغره كالبيضة.
وفيهَا: نقضت الدَّار الَّتِي بناها عز الدولة بِبَغْدَاد وغرامتها ألف ألف دِينَار فبذل فِي حكاكة سقف مِنْهَا ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار.
وفيهَا: توفّي الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مهْرَان الإِسْفِرَايِينِيّ ركن الدّين الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُتَكَلّم الأصولي، أَخذ عَنهُ الْكَلَام عَامَّة شُيُوخ نيسابور، صنف ورد على الْمُلْحِدِينَ وَبلغ الِاجْتِهَاد لتبحره وَاخْتلف إِلَيْهِ الْقشيرِي وَأكْثر الْبَيْهَقِيّ من الرِّوَايَة عَنهُ.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم بن طَبَاطَبَا الشريف أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم(1/327)
طبابا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم نقيب الطالبيين بِمصْر، كَانَ جده ألثغ قَالَ يَوْمًا: طَبَاطَبَا يُرِيد قبا قبا. وَمن شعره:
(كَأَن نُجُوم اللَّيْل سَارَتْ نَهَارهَا ... فوافت عشَاء وَهِي أنضاء أسفار)
(وَقد خيمت كي يستريح ركابهَا ... فَلَا فلك جَار وَلَا كَوْكَب ساري)
قلت: وصل أَسد الدولة صَالح بن مرداس صَاحب حلب إِلَى معرة النُّعْمَان وَأمر بعتقال أكابرها، وَسبب ذَلِك أَن امْرَأَة صاحت فِي الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وَذكرت أَن صَاحب الماخور أَرَادَ أَن يغصبها نَفسهَا، فنفر كل من بالجامع غير الأكابر وَالْقَاضِي فهدموا الماخور وَأخذُوا خشبه ونهبوه، فَحَضَرَ صَالح واعتقلهم ثمَّ صادرهم، واستدعى صَالح الشَّيْخ أَبَا الْعَلَاء بِظَاهِر المعرة، وَمِمَّا خاطبه بِهِ مَوْلَانَا السَّيِّد الْأَجَل أَسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار الماتع اشْتَدَّ هجيرة وطاب إبراده وكالسيف الْقَاطِع لِأَن صفحه وخشن حداه: خُذ الْعَفو وامر بِالْمَعْرُوفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين، فَقَالَ: قد وهبتهم لَك أَيهَا الشَّيْخ. فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء بعد ذَلِك:
(بعثت شَفِيعًا إِلَى صَالح ... وَذَاكَ من الْقَوْم رَأْي فسد)
(فَيسمع مني سجع الْحمام ... واسمع مِنْهُ زئير الْأسد)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة توفّي قوام الدولة أَبُو الفوارس بن بهاء الدولة صَاحب كرمان، فَسَار ابْن أَخِيه أَبُو كاليجار لِابْنِ سُلْطَان الدولة صَاحب فَارس فاستولى على كرمان، صفوا عفوا.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى يَمِين الدولة مَحْمُود على الرّيّ وَقبض على مجد الدولة بن فَخر الدولة بن بويه صَاحب الرّيّ لاشتغال مجد الدولة عَن الْملك بمعاشرة النِّسَاء والكتب، فَشَكَاهُ الْجند إِلَيْهِ فَبعث عسكرا قبضوا عَلَيْهِ.
وفيهَا: قتل صَالح بن مرداس الْكلابِي صَاحب حلب كَمَا مر.
وفيهَا: توفّي منوجهر بن قَابُوس بن وشمكير بن زِيَاد وَملك ابْنه أنوشروان.
قلت: وفيهَا نَهَضَ أهل الغرب من ضيَاع معرة النُّعْمَان وأفامية وَكفر طَابَ إِلَى كفرتيل وَكَانَ أَهلهَا نَصَارَى فأرادوا قَتلهمْ، فامتنعت النَّصَارَى أَيَّامًا وَأَكْثرُوا الْقَتْلَى فِي الْمُسلمين ثمَّ رحلوا مِنْهَا سرا إِلَى بلد الرّوم فأعطوهم ضَيْعَة تعرف بنيكارين، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين فِي ربيع الآخر ومولده فِي عَاشُورَاء سنة سِتِّينَ وثلثمائة مَاتَ بالإسهال ودام بِهِ سِنِين وَكَانَ قوي النَّفس لم يضع جنبه فِي مَرضه بل اسْتندَ إِلَى مخدة وَأوصى بِالْملكِ لِابْنِهِ مُحَمَّد وَهُوَ أَصْغَر من مَسْعُود فَملك مُحَمَّد، وَكَانَ أَخُوهُ مَسْعُود بأصبهان فَسَار نَحْو أَخِيه مُحَمَّد، فأتفق(1/328)
الْكِبَار من الْعَسْكَر وقبضوا على مُحَمَّد وَحضر مَسْعُود فاستقر فِي الْملك وَأطلق أَخَاهُ وَأحسن إِلَيْهِ، ثمَّ قبض على قابضي مُحَمَّد الساعين لمسعود.
قلت: كافأهم اللَّهِ على فعلهم وَهَذِه عَاقِبَة الْغدر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتن وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى عَسْكَر السُّلْطَان مَسْعُود على التِّين ومكران.
(ذكر ملك الرّوم للرها)
كَانَ الرها لعطير من بني نمير فاستولى أَبُو نصر بن مَرْوَان صَاحب ديار بكر على حران وجهز من قتل عطيرا، فَأرْسل. صَالح بن مرداسس يشفع فِي ردهَا إِلَى ابْن عطير وَإِلَى ابْن شبْل نِصْفَيْنِ، فسلمها إِلَيْهِمَا سنة سِتّ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة واستمرت لَهما إِلَى هَذِه السّنة، فراسل ابْن عطير ملك الرّوم وَبَاعه حِصَّته من الرها بِعشْرين ألف دِينَار وعدة قرى، وَحضر الرّوم وتسلموا برج ابْن عطير فهرب أَصْحَاب ابْن شبْل وَاسْتولى الرّوم على الْبَلَد وَقتلُوا الْمُسلمين وخربوا الْمَسَاجِد.
(أَخْبَار الْقَائِم بِأَمْر اللَّهِ)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْقَادِر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ سنة وَعشرَة أشهر وخلافته إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَأشهر.
وَلما مَاتَ تولى ابْنه الْقَائِم بِأَمْر اللَّهِ سادس عشرهم أَبُو جَعْفَر عبد اللَّهِ بِعَهْد أَبِيه ومبايعته لَهُ فجددت الْبيعَة، وَأرْسل الْقَائِم أَبَا الْحسن الْمَاوَرْدِيّ إِلَى الْملك أبي كاليجار فَبَايعهُ لَهُ وخطب لَهُ ببلاده.
وفيهَا: سَارَتْ الرّوم وَمَعَهُمْ حسان بن مفرج الطَّائِي وَهُوَ مُسلم هرب إِلَيْهِم من الْأُرْدُن من عَسْكَر الظَّاهِر الْعلوِي جَاءَ مَعَ الرّوم وعَلى رَأسه علم فِيهِ صَلِيب وكبسوا أفامية وملكوا قلعتها وأسروا وغنموا وَسبوا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نهب الْجند دَار جلال الدولة وأخرجوه من بَغْدَاد وَكَتَبُوا إِلَى كاليجار يستدعونه فَتَأَخر، وَكَانَ جلال الدولة قد خرج إِلَى عكبرا، ثمَّ اتَّفقُوا وَعَاد جلال الدولة إِلَى بَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قبض مَسْعُود بن مَحْمُود على شهر نوش صَاحب ساوة وقم ونواحيها، آذَى حجاج خُرَاسَان كثيرا فَقَبضهُ عَسْكَر مَسْعُود بأَمْره وصلبه على سور ساوة.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن الْحسن الميمندي وَزِير السُّلْطَان مَحْمُود وَابْنه مَسْعُود. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى: يَنْبَغِي تَحْقِيق ذَلِك، فَإِنَّهُ ورد أَن مَحْمُودًا قتل وزيره الْمَذْكُور.(1/329)
قلت: وفيهَا أَخذ الْحَاج بتبوك وَمَات أَكْثَرهم جوعا وعطشا وَكثير من أَعْيَان حلب مِنْهُم أَحْمد بن أبي جَرَادَة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي ابْن السمال وعمره خمس وَتسْعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فتح السُّلْطَان مَسْعُود قلعة سرستي وَمَا جاورها من الْهِنْد وَهِي حَصِينَة قَصدهَا أَبوهُ مرَارًا فَلم يقدر عَلَيْهَا، فطم مَسْعُود خندقها بِالشَّجَرِ وقصب السكر وَفتحهَا قتلا وسبيا.
وفيهَا: توفّي بدران بن الْمُقَلّد صَاحب نَصِيبين فقصد وَلَده قُرَيْش عَمه قرواشا فَأقر عَلَيْهِ حَاله وَمَاله وَولَايَة نَصِيبين.
قلت: وَفِي قُرَيْش الْمَذْكُور يَقُول الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري وأنفذها إِلَيْهِ جَوَابا عَن إِحْسَان وَصله من ابْتِدَاء من قصيدة طَوِيلَة:
(أَبَت عبراته إِلَّا انهمالا ... عَشِيَّة أزمع الْحَيّ ارتحالا)
(أجدك كلما هموا بنأي ... ترقرق مَاء عَيْنك ثمَّ سالا)
(تقاضينا مواعد أم عَمْرو ... فظنت أَن تنيل وَأَن تنالا)
(وَسَار خيالها الساري إِلَيْنَا ... فَلَو علمت لعاقبت الخيالا)
وَمِنْهَا:
(إِذا وصلت ركائبنا قُريْشًا ... فقد وصلت بِنَا الْبَحْر الزلالا)
(فَتى لَو مد نَحْو الجو باعا ... وهم بِأَن ينَال الشهب نالا)
(إِذا انتسب ابْن بدران وجدنَا ... مناسبه الْعلية لَا تَعَالَى)
(تطول بهَا إِذا ذكرت معد ... وتكسب كل قيسي جمالا)
(أيا علم الْهدى نجوى محب ... يحبكم اعتقادا لَا انتحالا)
(مننت فَلم تجشمني عناءا ... وجدت فَلم تكلفني سؤالا)
(إِذا عدم الزَّمَان مسيبيا ... فساق اللَّهِ للدنيا الوبالا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا انحل أَمر الْخلَافَة والسلطنة بِبَغْدَاد وَأخذ العيارون فِي النهب بِلَا مَانع، وَالسُّلْطَان جلال الدولة لَا يمتثل لَهُ أَمر والخليفة كَذَلِك، وَقطعت الْعَرَب الطرقات.
وفيهَا: وصلت الرّوم إِلَى ولَايَة حلب فَقَاتلهُمْ صَاحبهَا شبْل الدولة نصر بن صَالح بن مرداس فَهَزَمَهُمْ وتبعهم إِلَى عزاز فَقتل وغنم.
قلت: وَكَانَ اسْم ملك الرّوم أرمانوس، وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَه ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: إِن خُرُوج أرمانوس كَانَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانُوا سِتّمائَة ألف وَخرج(1/330)
فِي شهر تموز وَمَعَهُ ملك البلغار وَملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وأسرت جمَاعَة من اولاد مُلُوكهمْ، وَفِي ذَلِك يَقُول الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري من قصيدة طَوِيلَة وأنشده إِيَّاهَا بِظَاهِر قنسرين:
(ديار الْحَيّ مقفرة يباب ... كَأَن رَسُول دمنتها كتاب)
(نأت عَنْهَا الربَاب بَات يهمى ... عَلَيْهَا بعد ساكنها الربَاب)
(تعاتبني أُمَامَة فِي التصابي ... وَكَيف بِهِ وَقد فَاتَ الشَّبَاب)
(نضا مني الصِّبَا ونضوت مِنْهُ ... كَمَا ينضو من الْكَفّ الخضاب)
وَمِنْهَا:
(إِلَى نصر وَأي فَتى كنصر ... إِذا حلت بمغناه الركاب)
(أمنتهك الصَّلِيب غَدَاة ظلت ... خطاما فيهم السمر الصلاب)
(جنودك لَا يُحِيط بِهن وصف ... وجودك لَا يحصله حِسَاب)
(وذكرك كُله ذكر جميل ... وفعلك كُله فعل عُجاب)
(وأرمانوس كَانَ أَشد بَأْسا ... وَحل بِهِ على يدك الْعَذَاب)
(أَتَاك يجر بحرا من حَدِيد ... لَهُ فِي كل نَاحيَة عباب)
(إِذا سَارَتْ كتائبه بِأَرْض ... تزلزلت الأباطح والهضاب)
(فَعَاد وَقد سلبت الْملك عَنهُ ... كَمَا سلبت عَن الْمَيِّت الثِّيَاب)
(فَمَا أدناه من خير مَجِيء ... وَلَا أقصاه عَن شَرّ ذهَاب)
(فَلَا تسمع بطنطنة الأعادي ... فَإِنَّهُم إِذا طنوا ذُبَاب)
(وَلَا ترفع لمن عاداك رَأْسا ... فَإِن اللَّيْث تنبحه الْكلاب)
وَالله أعلم.
وفيهَا: نهبت خفاجة الْكُوفَة.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن كُلَيْب الشَّاعِر وَكَانَ يهوى أسلم بن أَحْمد بن سعيد فَمَاتَ كمدا فِيهِ، وَله فِيهِ:
(وأسلمني فِي هَوَاهُ ... أسلم هَذَا الرشا)
(غزال لَهُ مقلة ... يصيد بهَا من يشا)
(وشى بَيْننَا حَاسِد ... سيسأل عَمَّا وشا)
(وَلَو شَاءَ أَن يرتشي ... على الْوَصْل روحي ارتشى)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا منتصف شعْبَان توفّي الظَّاهِر أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحَاكِم الْعلوِي بِمصْر وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ وخلافته خمس عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَأَيَّام، كَانَ لَهُ مصر وَالشَّام وإفريقية كَانَ حسن السِّيرَة منصفا، وَولي بعده ابْنه أَبُو تَمِيم(1/331)
معد ولقب بالمنتصر بِاللَّه، ومولده سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: فتح ابْن وثاب وَابْن عَطِيَّة السويداء عنْوَة بعسكر نصر الدولة بن مَرْوَان، وَكَانَ الرّوم قد أَحْدَثُوا عمارتها وَاجْتمعَ إِلَيْهَا أهل الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا.
وفيهَا: قتل يحيى الأرنسي بن عَليّ بن حمود، وَتَوَلَّى أَخُوهُ باديس وتلقب بالمتأيد بمالقه حَتَّى توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ ملك الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن عَم إِدْرِيس مُدَّة ثمَّ ترك الْملك وتزهد، فَملك بعده الْحسن بن يحيى بن عَليّ بن حمود وتلقب بالمستنصر إِلَى ان توفّي، فَملك بعده أَخُوهُ إِدْرِيس بن يحيى وتلقب بالعالي وَفَسَد تَدْبيره حَتَّى أَدخل أَوْلَاد الأراذل على حريمه، فَخلع وبويع ابْن عَمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عَليّ بن حمود وتلقب بالمهدي وسجن العالي، وَبَقِي الْمهْدي حَتَّى توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ آخر مُلُوكهمْ بِتِلْكَ الْبِلَاد وانقرضوا سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
وَفِي خلَافَة الْمهْدي قَامَ مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حمود من بني عَمه بالجزيرة الخضراء وتلقب بالمهدي أَيْضا وَاجْتمعَ البربر عَلَيْهِ ثمَّ افْتَرَقُوا فَمَاتَ بعد قَلِيل، فَقَامَ بالجزيرة الخضراء ابْنه الْقَاسِم وَهُوَ آخر مُلُوكهمْ بهَا.
وفيهَا: توفّي رَافع بن الْحُسَيْن بن معن وَكَانَ حازما شجاعا قطعت يمناه فِي عربدة شرب، وَمن شعره:
(لَهَا ريقة أسْتَغْفر اللَّهِ أَنَّهَا ... ألذ وأشهى فِي النُّفُوس من الْخمر)
(وصارم طرف لَا يزَال جفْنه ... وَلم أر سَيْفا قطّ فِي جفْنه يفري)
(فَقلت لَهَا والعيس تحدج بالضحى ... أعدي لفقدي مَا اسْتَطَعْت من الصَّبْر)
(أَلَيْسَ من الخسران أَن لياليا ... تمر بِلَا وصل وتحسب من عمري)
وفيهَا: وَقيل سنة سبع وَثَلَاثِينَ: توفّي أَبُو إِسْحَاق الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الثَّعْلَبِيّ وَيُقَال: الثعالبي، أوحد فِي التَّفْسِير وَله العرائس فِي قصَص الْأَنْبِيَاء صَحِيح النَّقْل روى عَن جمَاعَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن بن مكرم صَاحب عمان، وَولي ابْنه.
وفيهَا: توفّي مهيار الشَّاعِر كَانَ مجوسيا فَأسلم سنة أَربع وَتِسْعين وثلثمائة.
وَصَحب الشريف الرضي فَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِم بن برهَان: يَا مهيار انْتَقَلت بِإِسْلَامِك ... ... من زَاوِيَة إِلَى زَاوِيَة قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ: لِأَنَّك كنت مجوسيا فصرت تحب أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن شعره:
(نقضتم عهوده فِي أَهله ... وجرتم عَن سنَن المراسم)(1/332)
(وَقد شهدتم مقتل ابْن عَمه؟ ... خير مصل بعده وصائم)
(وَمَا اسْتحلَّ بَاغِيا أمامكم ... يزِيد بالطف من ابْن فاطم)
(وَهَا إِلَى الْيَوْم الضبا خاضبة ... من دمهم مناسر القشاعم)
قلت: وَله أَيْضا:
(إِذا استوحشت عَيْني أنست بِأَن أرى ... نَظَائِر تصبيني إِلَيْهَا وأشباها)
(وأعتنق الْغُصْن الرطيب لقدها ... وأرشف ثغر الكاس أَحْسبهُ فاها)
(دَعوه ونجدا إِنَّهَا شَأْن قلبه ... فَلَو أَن نجدا تلعة مَا تعداها)
(وهبكم منعتم أَن يَرَاهَا بِعَيْنِه ... فَهَل تمْنَعُونَ الْقلب أَن يتمناها)
وَاسم أَبِيه مرزويه وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة، انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الْحَنَفِيَّة بالعراق وَله كتاب الْقُدُور وَلَا نعلم لم نسب إِلَى الْقُدُور.
قلت: وَمَا أحسن قَول بعض الْمُتَأَخِّرين فِي مليح طباخ:
(رب طباخ مليح ... أهيف الْقد غرير)
(مالكي أصبح لَكِن ... شغلوه بالقدور)
وَهُوَ شَبيه بقوله:
(أَقُول لَهُ بيسرى وَهُوَ ضبي ... يصيد الْأسد فِيهَا أَي صيد)
(بلادك أَيْن قَالَ من السويدا ... فَقلت لصاحبي هَذَا سويدي)
وَمَعْلُوم أَن فِي قَوْله: بلادك أَيْن نظر حَيْثُ لم يقل أَيْن بلادك، لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَكَذَا فِي قَوْله: سويدي نِسْبَة إِلَى السويدا، وَالْقِيَاس سويداوي وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الرئيس أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن سينا البُخَارِيّ وَالِده من بَلخ وَسكن بخارا أَيَّام الْأَمِير نوح ثمَّ تزوج امْرَأَة بقرية أفشنة وَبهَا ولد الرئيس وَأَخُوهُ، وَختم الرئيس الْقُرْآن وَهُوَ ابْن عشر سِنِين وَقَرَأَ الْحِكْمَة على أبي عبد اللَّهِ التاتلي وَحل إقليدس والمجسطي والطب وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة، ثمَّ انْتقل من بخارا إِلَى جرجانية وَغَيرهَا وَفِي جوزجان اتَّصل بِهِ أكبر أَصْحَابه أَبُو عبد اللَّهِ الْجوزجَاني، ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة مجد الدولة بن بويه بِالريِّ، ثمَّ خدم قَابُوس بن وشمكير، ثمَّ قصد عَلَاء الدولة بن كاكويه وَتقدم عِنْده، ثمَّ مرض بالصرع والقولنج وَترك الحمية وَمضى إِلَى همذان مَرِيضا وَمَات بهَا عمره ثَمَان وَخَمْسُونَ، وكفره الْغَزالِيّ فِي كِتَابه المنقذ من الضلال، وَكفر الفارابي أَيْضا:
قلت: قَالَ فِي المنقذ من الضلال: إِن مَجْمُوع مَا غَلطا فِيهِ من الإلهيات يرجع إِلَى عشْرين أصلا يجب تكفيرهما فِي ثَلَاثَة مِنْهَا وتبديعهما فِي سَبْعَة عشر. أما الْمسَائِل الثَّلَاث فقد خالفا فِيهَا كَافَّة الإسلاميين.(1/333)
الأولى: قَالَا إِن الأجساد لَا تحْشر وَإِنَّمَا المثاب والمعاقب هِيَ الْأَرْوَاح.
الثَّانِيَة: قَوْلهمَا إِن اللَّهِ يعلم الكليات دون الجزئيات.
الثَّالِثَة: قَوْلهمَا بقدم الْعَالم، وإعتقادهما هَذَا كفر صَرِيح نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ.
قَالَ ابْن خلكان رَحمَه اللَّهِ: ثمَّ أَن ابْن سينا لما أيس من الْعَافِيَة ترك المداواة واغتسل وَتَابَ وَتصدق بِمَا مَعَه على الْفُقَرَاء ورد الْمَظَالِم على من عرفه وَأعْتق مماليكه وَجعل يخْتم فِي كل ثَلَاثَة أَيَّام ختمة ثمَّ مَاتَ بهمذان يَوْم الْجُمُعَة من رَمَضَان وَالله أعلم وَله مائَة مُصَنف.
وَقَالَ فِي الْمقَالة الأولى من الْفَنّ الْخَامِس من طبيعيات الشِّفَاء: وَقد صَحَّ عِنْدِي بالتواتر مَا كَانَ بِبِلَاد جوزجان فِي زَمَاننَا من أَمر حَدِيد ثقله يزن مائَة وَخمسين منا نزل من الْهَوَاء فنشب فِي الأَرْض ثمَّ نبا نبوة الكرة الَّتِي يَرْمِي بهَا الْحَائِط ثمَّ عَاد فنشب فِي الأَرْض وَسمع النَّاس لذَلِك صَوتا عَظِيما هائلا، فَلَمَّا تفقدوا أمره ظفروا بِهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى وَالِي جوزجان ثمَّ كَاتبه سُلْطَان خُرَاسَان مَحْمُود بن سبكتكين يرسم بإنفاذه أَو إِنْفَاذ قِطْعَة مِنْهُ، فَتعذر نَقله لثقله فحاولوا كسر قِطْعَة مِنْهُ فَمَا كَانَت الْآلَات تعْمل فِيهِ إِلَّا بِجهْد وَكَانَت كل آلَة تعْمل فِيهِ تنكسر، لكِنهمْ فصلوا مِنْهُ آخر الْأَمر شَيْئا فأنفذوه إِلَيْهِ ورام أَن يطبع مِنْهُ سَيْفا فَتعذر عَلَيْهِ، وَحكي أَن جملَة ذَلِك الْجَوْهَر كَانَ ملتئما من أَجزَاء جاورسية صغَار مستديرة الْتَصق بَعْضهَا بِبَعْض، قَالَ: وَهَذَا الْفَقِيه عبد الْوَاحِد الْجوزجَاني صَاحِبي شَاهد ذَلِك كُله.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا هادن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي الرّوم على أَن يطلقوا خَمْسَة آلَاف أَسِير ويمكنوا من عمَارَة قمامة الَّتِي خربها الْحَاكِم، وفعلوا ذَلِك.
وفيهَا: توفّي أَبُو مَنْصُور عبد الْملك بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الثعالبي النَّيْسَابُورِي صَاحب التصانيف مِنْهَا: يتيمة الدَّهْر فِي محَاسِن أهل الْعَصْر، ومولده سنة خمسين وثلثمائة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو عَليّ الْحُسَيْن الرخجي كَانَ وَزِير بني بويه، ثمَّ عطل وَتقدم الوزراء عاطلا.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو الْمجد مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان أَخُو أبي الْعَلَاء المعري، وَقدم أَبُو الْعَلَاء الشَّيْخ أَبَا صَالح مُحَمَّد بن الْمُهَذّب للصَّلَاة عَلَيْهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ الْحَافِظ، وَأَبُو الْفَتْح الْحسن بن جَعْفَر الْعلوِي أَمِير مَكَّة، وَالْفضل بن مَنْصُور بن الظريف الفارقي الْأَمِير الشَّاعِر.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك الْملك أَبُو كاليجار الْبَصْرَة.
(أَخْبَار عمان)
لما توفّي أَبُو الْقَاسِم بن مكرم صَاحب عمان ولي ابْنه أَبُو الْجَيْش وَقدم صَاحب جَيش أَبِيه عَليّ بن هطال، وَكَانَ لأبي الْجَيْش أَخ يُقَال لَهُ الْمُهَذّب يُنكر على أَخِيه قِيَامه لِابْنِ(1/334)
هطال فَعمل ابْن هطال دَعْوَة للمهذب وسقاه حَتَّى سكر فَقَالَ لَهُ ابْن هطال: إِن أخرجت أَخَاك وملكتك مَا تُعْطِينِي؟ فوعده بعظيم، فَأخذ ابْن هطال خطه بذلك وَأصْبح عرف أَخَاهُ أَن الْمُهَذّب يسْعَى فِي الْملك وَأرَاهُ خطه فَقتل أَبُو الْجَيْش الْمُهَذّب، وَبعده بِقَلِيل مَاتَ أَبُو الْجَيْش، فَطلب ابْن هطال أَخَاهُ الصَّغِير أَبَا مُحَمَّد ليجعله فِي الْملك فَلم تفعل أمه، فاستولى ابْن هطال على عمان وأساء السِّيرَة، فَبلغ ذَلِك أَبَا كاليجار فأعظمه وجهز إِلَيْهِ جَيْشًا وَخرج النَّاس عَن طَاعَته فَقتله خَادِم لَهُ وقرواش، وَاسْتقر الْأَمر لأبي مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مكرم فِي هَذِه السّنة.
وفيهَا: توفّي شيب بن وثاب النميري صَاحب الرقة وسروج وحران.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر موسكان كَاتب إنْشَاء مَسْعُود وَأَبِيهِ مَحْمُود بن سبكتكين كَاتب مفلق.
(ابْتِدَاء ملك السلجوقية وَسِيَاق أخبارهم)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وفيهَا: توطد ملك طغرلبك وأخيه دَاوُد ابْني مِيكَائِيل بن سلجوق بن دقاق وَكَانَ دقاق شهما من مقدمي الأتراك، وَنَشَأ ابْنه سلجوق وَعَلِيهِ أَمَارَات النجابة فقدمه بيغو ملك التّرْك وتقوى وَخَافَ من بيغو فَدخل بِكُل من أطاعه من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام لسعادته وسعادة وَلَده، وَأقَام بنواحي جند - بجيم مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة - بليدَة وَرَاء بخارا وَصَارَ يَغْزُو التّرْك الْكفَّار. وَكَانَ لسلجوق من الْبَنِينَ أرسلان وَمِيكَائِيل ومُوسَى، وَتُوفِّي سلجوق بجند وعمره مائَة وَسبع سِنِين، وَبَقِي أَوْلَاده على مَا كَانَ أبوهم عَلَيْهِ من غَزْو كفار التّرْك فَقتل مِيكَائِيل فِي الْغُزَاة شَهِيدا، وَخلف من الْبَنِينَ بيغو وطغرلبك وجعروبك دَاوُد.
ثمَّ نزلُوا على فرسخين من بخارا فأساء أَمِير بخارا جوارهم فالتجأوا إِلَى بغراخان ملك التركستان وَاسْتقر الْأَمر بَين طغرلبك وأخيه دَاوُد أَن لَا يجتمعا عِنْد بغراخان حذرا من غدره بهما واجتهد على اجْتِمَاعهمَا فَلم يفعلا فَقبض على طغرلبك وَأرْسل عسكرا إِلَى أَخِيه دَاوُد فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ عَسْكَر بغراخان، وَقصد دَاوُد مَوضِع أَخِيه طغرلبك وخلصه وَأَقَامَا بجند حَتَّى انْقَضتْ الدولة السامانية.
وَملك أيلك خَان بخارا فَعظم عِنْده أرسلان بن سلجوق، سَار أيلك خَان عَنْهَا وَبَقِي ببخارا عَليّ تكين وَمَعَهُ أرسلان بن سلجوق حَتَّى عبر مَحْمُود بن سبكتكين نهر جيحون وَقصد سنجاراً فهرب عَليّ تكين من بخارا وَدخل أرسلان وجماعته الْمَفَازَة والرمل، فكاتب السُّلْطَان مَحْمُود أرسلان واستماله إِلَى أَن قدم فَقبض عَلَيْهِ وَنهب خركاواته.
وَأَشَارَ أرسلان الخازن على السُّلْطَان مَحْمُود بتغريق السلجوقية جمَاعَة أرسلان فِي جيحون فأبي، فَأَشَارَ بِقطع إبهاماتهم ليبطل ورميهم بالنشاب فأبي، وعبرهم نهر جيحون وفرقهم فِي نواحي خُرَاسَان بخراج عَلَيْهِم، فجارت الْعمَّال عَلَيْهِم فانفصل مِنْهُم جمَاعَة إِلَى(1/335)
أَصْبَهَان وحاربوا عَلَاء الدولة بن كاكويه وَسَارُوا إِلَى أذربيجان.
وَهَؤُلَاء كَانُوا جمَاعَة أرسلان بن سلجوق وَصَارَ اسمهم هُنَاكَ التّرْك الغزية وَبِذَلِك سميت جمائعهم كلهَا.
وَسَار طغرلبك وأخواه دَاوُد وبيغو من خُرَاسَان إِلَى بخارا فَقتل عَسْكَر عَليّ تكين خلقا من جمائعهم، فاضطروا إِلَى الْعود إِلَى خُرَاسَان فعبروا جيحون وخيموا بِظَاهِر خوارزم سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وَاتَّفَقُوا مَعَ خوارزم شاه هردن بن الطنطاس وعاهدهم، ثمَّ غدر بهم وكبسهم فَقتل فيهم كثيرا وَنهب وسبى، فَسَارُوا عَنهُ إِلَى جِهَة مرو، فَأرْسل إِلَيْهِم مَسْعُود بن السُّلْطَان مَحْمُود جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ واقتتل الْجَيْش على الْغَنِيمَة.
ثمَّ عَادوا فوجدوا الْعَسْكَر مُخْتَلفا مقتتلا فأوقعوا بعسكر مَسْعُود وهزمزهم واستردوا مَا أَخذ لَهُم فهابتهم قُلُوب الْعَسْكَر، فاستمالهم السُّلْطَان مَسْعُود فأظهروا الطَّاعَة وَأَرْسلُوا يسألونه إِطْلَاق عمهم أرسلان الَّذِي قَبضه السُّلْطَان مَحْمُود فَأحْضرهُ مَسْعُود إِلَيْهِ ببلخ وأستقدمهم فامتنعوا فَأَعَادَ حَبسه وعادت الْحَرْب بَينهم، وهزموا عَسْكَر مَسْعُود مرّة بعد أُخْرَى وقووا واستولوا على غَالب خُرَاسَان واستنابوا فِي النواحي وخطب لطغرلبك فِي نيسابور، وَسَار دَاوُد إِلَى هراة وهربت عَسَاكِر مَسْعُود وتقدموا خُرَاسَان إِلَى غزنة.
وأعلموا مَسْعُود بتفاقم الْأَمر فقصدهم مَسْعُود بعساكره وخيوله فَكلما تَبِعَهُمْ رحلوا عَنهُ، وَطَالَ البيكار على عسكره وَقل الْقُوت، وَكَانَ لعسكر خُرَاسَان ثَلَاث سِنِين فِي البيكار، وَنزل الْعَسْكَر فِي الْحر بِمَنْزِلَة قَليلَة المَاء فافتتنوا وتخلى الْعَسْكَر عَن مَسْعُود ضجرا وَاخْتلفُوا، فَعَادَت السلجوقيه عَلَيْهِم فانهزمت عَسَاكِر مَسْعُود وَثَبت مَسْعُود فِي جمع ثمَّ انهزم وغنم السلجوقيه مَا لَا يحصر وَقسم دَاوُد ذَلِك بَين أَصْحَابه وآثر على نَفسه.
وعادت السلجوقيه فاستولوا على خُرَاسَان وخطب لَهُم على منابرها فِي آخر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَسَيَأْتِي بَاقِي خبرهم.
قبض مَسْعُود وَقَتله: وهرب مَسْعُود وَعَسْكَره من بَين أَيدي السلجوقية من خُرَاسَان فوصل غزنة فِي شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَقبض على مقدم عسكره سياوش وعَلى عدَّة من الْأُمَرَاء، وجهز ابْنه مودود إِلَى بَلخ ليرد عَنْهَا دَاوُد السلجوقي فِي سنة اثنيتن وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَسَار مَسْعُود ليشن بِبِلَاد الْهِنْد على عَادَة وَالِده وَعبر سيحون فنهب أنوشتكين أحد قواد عسكره بعض الخزائن وَاجْتمعَ إِلَيْهِ جمع، وألزم مُحَمَّدًا أَخا مَسْعُود بِالْقيامِ بِالْأَمر فَقَامَ على كره، وَبَقِي مَسْعُود فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر والتقى الْفَرِيقَانِ فِي منتصف ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ واقتتلوا شَدِيدا، فَانْهَزَمَ مَسْعُود وجماعته وتحصن مَسْعُود فِي رِبَاط فحصروه(1/336)
فَخرج إِلَيْهِم، فَأرْسلهُ أَخُوهُ مُحَمَّد إِلَى قلعة كيدي وَحمل مَعَ مَسْعُود أَهله وَأَوْلَاده وَأمر بإكرامه وصيانته.
وَلما اسْتَقر مُحَمَّد بن مَحْمُود بن سبكتكين فِي الْملك فوض أَمر دولته إِلَى وَلَده أَحْمد وَكَانَ فِيهِ خبط وهوج فَقتل عَمه مَسْعُود بن مَحْمُود فِي قلعة كيدي بِغَيْر علم أَبِيه، ثمَّ شقّ ذَلِك على أَبِيه وساءه، وَكَانَ مَسْعُود كثير الصَّدَقَة تصدق مرّة فِي رَمَضَان بِأَلف ألف دِرْهَم وَكَانَ يحسن إِلَى الْعلمَاء وصنفوا لَهُ التصانيف الْحَسَنَة، وَكَانَ عَظِيم الْملك حسن الْخط ملك أصفهان والري وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الران وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة وبلاد الْغَوْر وأطاعه أهل الْبر وَالْبَحْر.
وَلما قتل مَسْعُود كَانَ ابْنه مودود فِي حَرْب السلجوقيه بخراسان وبلغه فَعَاد مجدا إِلَى غزنة وَقَاتل عَمه مُحَمَّدًا، فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وَقبض مودود على مُحَمَّد وَابْنه أَحْمد وأنوشتكين الَّذِي نهب الخزائن وَأقَام مُحَمَّدًا، فَقَتلهُمْ وَكَانَ أنوشتكين خَصيا من بَلخ، وَقتل جَمِيع أَوْلَاد مُحَمَّد خلا عبد الرَّحِيم وَقتل كل دَاخل فِي الْقَبْض على أَبِيه، وَدخل مودود غزنة فِي ثَالِث عشرى شعْبَان مِنْهَا وَملك مودود غزنة وَأحسن وَثَبت فِي الْملك، وارسله ملك التّرْك بِمَا وَرَاء النَّهر بالانقياد والمتابعة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي عَلَاء الدولة أَبُو جَعْفَر بن شهريار الْمَعْرُوف بِابْن كاكويه كَانَ شجاعا ذَا رَأْي، وَأقَام بأصبهان بعده ابْنه ظهير الدّين أَبُو مَنْصُور فرامرز أكبر أَوْلَاده، وَسَار ابْنه كرشاسف بن عَلَاء الدولة فَأَقَامَ بهمذان وَأَخذهَا لنَفسِهِ.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان طغرلبك جرجان وطبرستان.
وفيهَا: أَمر الْمُنْتَصر الْعلوِي أهل دمشق بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة الدزبري، فقصد الدزبري حماه فعصى عَلَيْهِ أَهلهَا، فكاتب مُحَمَّد بن منقذ الكفرطابي فَحَضَرَ إِلَيْهِ فِي نَحْو ألفي رجل فاحتمى بِهِ، وَسَار إِلَى حلب وَأقَام بهَا مُدَّة، وَتُوفِّي الدزبري فِي نصف جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه النسة، واسْمه أنوشتكين ونسبته إِلَى دزبر بن رويثم الديلمي، وَفَسَد بِمَوْتِهِ الشَّام وَزَالَ النظام وَخرجت الْعَرَب بنواحي الشَّام فَخرج صَاحب الرحبة أَبُو علوان ثمال ولقبه معز الدولة بن صَالح بن مرداس إِلَى حلب فملكها.
وفيهَا: سير أَبُو كاليجار من فَارس عسكرا فَملك صحار مَدِينَة عمان.
وفيهَا: توفّي الْعَادِل أَبُو مَنْصُور بهْرَام وَزِير أبي كاليجار ومولده سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة، وَكَانَ حسن السِّيرَة وَبنى دَار الْكتب بفيروزأباد وَجعل فِيهَا سَبْعَة آلَاف مُجَلد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك السُّلْطَان طغرلبك خوارزم وَهزمَ عَنْهَا المستولي عَلَيْهَا شاه ملك بن عَليّ، وَبعدهَا استولى طغرلبك على بلد الْجَبَل فِيهَا أَيْضا.(1/337)
وفيهَا: حصلت وَحْشَة بَين جلال الدولة والخليفة الْقَائِم بِسَبَب الجوالي كَانَت الْعَادة أَن تحمل الجوالي إِلَى الْخُلَفَاء فَأَخذهَا جلال الدولة، فَأرْسل الْقَائِم إِلَيْهِ أَبَا الْحسن الْمَاوَرْدِيّ لذَلِك فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، فعزم الْقَائِم على مُفَارقَة بَغْدَاد فَلم يتم لَهُ ذَلِك.
وفيهَا: خرج بِمصْر رجل اسْمه سكين يشبه الْحَاكِم فَادّعى أَنه هُوَ، وَتَبعهُ من يعْتَقد رَجْعَة الْحَاكِم وقصدوا دَار الْخَلِيفَة، فارتاع أهل الدَّار ثمَّ ارْتَابُوا فصلبوا أَصْحَابه.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي شعْبَان توفّي جلال الدولة أَبُو طَاهِر بن بويه بِبَغْدَاد بورم كبده ومولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة بِبَغْدَاد وَملكه سِتّ عشرَة سنة وَاحِد عشر شهرا، وَكَانَ ابْنه بواسط فكاتبه الْجند فِيمَا يحملهُ إِلَيْهِم فَلم يَنْتَظِم لَهُ أَمر، فقصد نصر الدولة بن مَرْوَان وَتُوفِّي عِنْده بميافارقين سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
فَلَمَّا لم يَنْتَظِم لِابْنِ جلال الدولة أَمر كَاتب أَبُو كاليجار الْجند بِبَغْدَاد فاستقرت بَغْدَاد لأبي كاليجار بن بويه، وخطبوا لَهُ فِي صفر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فتح عَسْكَر مودود بن مَسْعُود حصونا من الْهِنْد.
وفيهَا أسلم من التّرْك خَمْسَة آلَاف خركاه وَلم يتَأَخَّر عَن الْإِسْلَام سوى الخطا والتتر وهم بنواحي الصين.
وفيهَا: ترك شرف الدولة ملك التّرْك لنَفسِهِ بِلَاد بلاساغون وكاشغر وَأعْطى أَخَاهُ أرسلان تكين كثيرا من بِلَاد التّرْك وَأعْطى أَخَاهُ بغراجان أطرار وأسبيجاب وَأعْطى عَمه طغان فرغانة بأسرها وَأعْطى عَليّ تكين بخارا وسمرقند وقنع من أَهله بِالطَّاعَةِ لَهُ.
وفيهَا: قطع الْمعز بن باديس بإفريقية خطْبَة العلويين وخطب للقائم العباسي ووصلته خلع الْقَائِم وأعلامه على طَرِيق الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي الْبَحْر.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا خطب لأبي كاليجار بِبَغْدَاد وخطب لَهُ أَبُو الشوك ببلاده بن مزِيد ببلاده وَنصر الدولة بن مَرْوَان بديار بكر، وَدخل أَبُو كاليجار بَغْدَاد فِي رَمَضَان مِنْهَا وزينت لَهُ.
وفيهَا: توفّي المرتضى أَخُو الرضي ومولده سنة خمس وَخمسين وثلثمائة وَولي نقابة العلويين بعده عدنان بن الرضي.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن الصَّيْمَرِيّ شيخ الْحَنَفِيَّة ومولده سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عَليّ الْبَصْرِيّ المعتزلي المُصَنّف.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أَخذ إِبْرَاهِيم نيال أَخُو طغرلبك هَمدَان من كرشاسف بن كاكويه والدينور من أبي الشوك والصيمرة.(1/338)
وفيهَا: توفّي أَبُو الشوك فَارس بن مُحَمَّد بن عناز بقلعة السيروان، فغدر الأكراد بِابْنِهِ سعدي وصاروا مَعَ مهلهل بن مُحَمَّد أخي أبي الشوك.
وفيهَا: قتل عِيسَى بن مُوسَى الهذباني صَاحب إربل قَتله ابْنا أَخِيه وملكا قلعلة إربل، وَبلغ أَخَاهُ سلار وَهُوَ نَازل عِنْد قرواش صَاحب الْموصل لوحشة كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه عِيسَى، فَسَار بِهِ قرواش وَملكه إربل وَعَاد قرواش إِلَى الْموصل.
وفيهَا: عَم الوباء فِي الْخَيل.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن يُوسُف المنازي وزر لأبي نصر أَحْمد بن مَرْوَان الْكرْدِي صَاحب ديار بكر وَترسل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَكَانَ من أَعْيَان الْفُضَلَاء ووقف كتبا كَثِيرَة على جَامع ميافارقين وجامع آمد، واجتاز مرّة بوادي بزاعا فأعجبه فَقَالَ فِيهِ:
(وقانا لفحة الرمضاء وَاد ... سقَاهُ مضاعف الْغَيْث العميم)
(نزلنَا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم)
(وأرشفنا على طما زلالا ... أرق من المدامة للنديم)
(يُرَاعِي الشَّمْس أَنى قابلتنا ... فيحجبها وَيَأْذَن للنسيم)
(يروع حصاه حَالية العذارى ... فتلمس جَانب العقد النظيم)
قلت: ولي فِيهِ:
(إِن وَادي الْبَاب قد أذكرني ... جنَّة المأوى فَللَّه الْعجب)
(فِيهِ دوح يحجب الشَّمْس إِذا ... قَالَ للنسمة جوزي بأدب)
(فَهِيَ تغوي عذب البان أما ... تعذب الغي كَمَا تغوي العذب)
(طيره معربة فِي لحنها ... تطرب الْحَيّ كَمَا تحيي الطَّرب)
(مرجه مبتسم مِمَّا بَكت ... سحب فِي ذيلها الطّيب انسحب)
(فِيهِ روضات أَنا صب بهَا ... مِثْلَمَا أصبح فِيهِ المَاء صب)
(نهره إِن قَابل الشَّمْس ترى ... فضَّة بَيْضَاء فِي نهر ذهب)
وَبَين الْقَوْلَيْنِ بون بعيد وَقد يُقَابل الذَّهَب بالحديد وَالله أعلم.
والمنازي - بِفَتْح الْمِيم - نِسْبَة إِلَى منازجرد بِزِيَادَة جِيم مَكْسُورَة عِنْد خرت برت غير مناز كرد من عمل خلاط، والوادي الْمَذْكُور بَين بزاعا وَالْبَاب.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك مهلهل بن مُحَمَّد بن عناز أَخُو أبي الشوك قرميسين والدينور.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّهِ بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن حيوية الْجُوَيْنِيّ وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ تفقه على أبي الطّيب سهل بن مُحَمَّد الصلعوكي وَله فِي الْمَذْهَب وَجه وَله علم بالأدب وَغَيره، وَهُوَ من بني سِنْبِسٍ بطن من طَيء.(1/339)
قلت: قَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ أَبُو صَالح الْمُؤَذّن: لما غسلت الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد ولففته فِي الْكَفَن رَأَيْت يَده الْيُمْنَى إِلَى الْإِبِط زهراء منيرة من غير سوء وَهِي تتلألأ تلألؤ الْقَمَر فتحيرت فِي نَفسِي وَقلت: هَذِه من بَرَكَات فَتَاوِيهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى عَسْكَر كاليجار على البطيحة وهرب صَاحبهَا أَبُو نصر بن الْهَيْثَم إِلَى زيرب.
وفيهَا: أكل أهل الْعرَاق الْميتَة من الغلا.
وفيهَا: توفّي الْمُطَرز عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الشَّاعِر، وَأَبُو الْخطاب الجيلي الشَّاعِر.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان بن سُلْطَان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه رَابِع جُمَادَى الأولى بِمَدِينَة جناب من كرمان سَار إِلَيْهَا لخُرُوج عَامله بهْرَام الديلمي عَن طَاعَته وعاش أَرْبَعِينَ سنة وشهورا وَملكه بالعراق أَربع سِنِين وشهران، ونهبت الأتراك الخزائن وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب من الْعَسْكَر لمَوْته، وَكَانَ مَعَه ابْنه أَبُو مَنْصُور فلاستون فَعَاد إِلَى شيزار فملكها.
وَوصل مَوته إِلَى ابْنه عبد الرَّحِيم أبي نصر خسرو فَيْرُوز بِبَغْدَاد، فاستحلف الْجند وَملك بَغْدَاد وَأرْسل إِلَى شيراز عسكرا قبض أَخَاهُ أَبَا مَنْصُور فلاستون وَأمه فِي شَوَّال مِنْهَا وخطب للْملك الرَّحِيم بشيراز، ثمَّ دخل خوزتان فَلَقِيَهُ جندها وأطاعوه حَتَّى كرشاسف بن عَلَاء الدولة صَاحب هَمدَان وَكَانَ عِنْد كاليجار لما أَخذ إِبْرَاهِيم نيال أَخُو طغرلبك هَمدَان.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غيلَان الْبَزَّار رَاوِي الْأَحَادِيث الغيلانيات أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ من أَعلَى الحَدِيث وَأحسنه.
قلت: وفيهَا كتب سيف الدولة مقلد بن كَامِل بن مرداس الْكلابِي وَهُوَ نَازل بِكفْر طَابَ فِي جمع من الْعَرَب إِلَى واليه بمعرة النُّعْمَان أبي الْمَاضِي خَليفَة ابْن جيهان أَن يخرب سور معرة النُّعْمَان ويهدمه كُله إِلَّا برج وحيده وبرج بني الحجال ومواضع قَليلَة لعناية وَقعت بهَا وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا جمع فلاستون بن أبي كاليجار جمعا بعد أَن خلص من الاعتقال وَاسْتولى على بِلَاد فَارس.
وفيهَا: جرت بَين طغرلبك وأخيه إِبْرَاهِيم نيال وَحْشَة أدَّت إِلَى قتال فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم نيال وَعصى بقلعة سرماج، فحصره طغرلبك وأنزله قهرا.
وفيهَا: أرسل ملك الرّوم إِلَى طغرلبك هَدِيَّة وَطلب المعاهدة فَأَجَابَهُ وَعمر مَسْجِد الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأقَام فِيهِ الصَّلَاة وَالْخطْبَة لطغرلبك ودان لَهُ النَّاس.
وفيهَا: أطلق طغرلبك أَخَاهُ نيال وَتَركه مَعَه
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان مودود بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة بغزنة(1/340)
وعمره تسع وَعِشْرُونَ سنة وَملك تسع سِنِين وَعشرَة أشهر، وَملك بعده عَمه عبد الرشيد بن مَحْمُود بن سبكتكين وَكَانَ فِي حبس ابْن أَخِيه ولقب شمس دين اللَّهِ سيف الدولة.
وفيهَا: ملك البساسيري كَبِير الأتراك بِبَغْدَاد الأنبار وَعدل وَأحسن وَقرر الْقَوَاعِد وَعَاد إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: ملك عَسْكَر العلويين بِمصْر حلب من يَد ثمال بن صَالح بن مرداس كَمَا تقدم.
وفيهَا: وَقعت الْفِتْنَة بِبَغْدَاد بَين ... ... . و ... ... . . وَشرع ... ... فِي بِنَاء سور يُحِيط بالكرخ ... ... ... فِي بِنَاء سور على سوق القلابين، وَأذن كل حزب بِمُقْتَضى مَذْهَبهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مَنْصُور بن جلال الدولة وَله شعر حسن.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا حاصر طغرلبك أَبَا مَنْصُور عَلَاء الدولة بن كاكويه بأصبهان طَويلا وَأَخذهَا بالأمان ودخلها فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة، وَطَابَتْ لَهُ وَنقل إِلَيْهَا مَاله بِالريِّ من سلَاح وذخائر.
وفيهَا استولى أَبُو كَامِل بركَة بن الْمُقَلّد على أَخِيه قرواش وَتصرف فِي المملكة ولقب زعيم الدولة.
وفيهَا: أرسل الْمُسْتَنْصر الْعلوِي يُنكر على الْمعز بن باديس خطبَته بإفريقية للعباسيين فَأَغْلَظ باديس فِي الْجَواب - فاتفق الْمُسْتَنْصر ووزيره الْحسن بن عَليّ اليازرودي - ويازرود من أَعمال الرملة - على إرْسَال قبيلتي زغبة ورياح من الْمغرب وجهزهم بالأموال فاستولوا على برقة، وَسَار إِلَيْهِم الْمعز فهزموه وَسَارُوا فَقطعُوا أَشجَار إفريقية وحصروا المدن وَعظم بلَاء أهل إفريقية، ثمَّ جمع الْمعز ثَلَاثِينَ ألف فَارس والتقى مَعَهم فهزموه وَدخل القيروان مهزوما، ثمَّ اهتم عَظِيما ولقيهم فهزموه ووصلت الْعَرَب إِلَى القيروان وحاصروا ونهبوا إِلَى سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فانتقل الْمعز إِلَى المهدية فِي رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة، وَنهب الْعَرَب القيروان.
وفيهَا: سَار مهلهل بن مُحَمَّد بن عناز أَخُو أبي الشوك إِلَى السُّلْطَان طغرلبك فأقره على بِلَاده وَمِنْهَا السيروان ودقوقا وشهرزور، والصامغان وَكَانَ سرخاب بن مُحَمَّد أَخُو مهلهل مَحْبُوسًا عِنْد طغرلبك فَأَطْلقهُ لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أفتتن ... . . و ... ... ... وأحرق ضريح قبر ... ... وقبر زبيدة وقبور بني بويه وَمَا حولهَا، وَقتل أهل الكرخ مدرس الْحَنَفِيَّة أَبَا سعد السَّرخسِيّ وأحرقوا دور الْفُقَهَاء واقتتل أهل بَاب الطاق وسوق يحيى والأساكفة.
وفيهَا: توفّي أَبُو كَامِل زعيم الدولة بركَة بن الْمُقَلّد بن الْمسيب بتكريت
قلت: ورثاه الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:(1/341)
(من عَظِيم الْبلَاء موت الْعَظِيم ... لَيْتَني مت قبل موت الزعيم)
(يَا جفوني سحي دَمًا أَو فحمي ... صحن خدي بعبرة كالحميم)
(بعد خرق من الْمُلُوك كريم ... مَا زمَان أودى بِهِ بكريم)
(جعفري النّصاب من صفوة الصفوة ... فِي الْفَخر والصميم الصميم)
(يَا أَبَا كَامِل برغمي أَن يشقيك ... سُكْنى التُّرَاب بعد النَّعيم)
(أوتبيت الْقُصُور خَالِيَة مِنْك ... وَمن وَجهك الوضي الوسيم)
(وانقراض الْكِرَام من شيم الدَّهْر ... وَمن عَادَة الزَّمَان اللَّئِيم)
(قد بَكت حسرة عَلَيْهِ المذاكي ... وَشَكتْ فَقده بَنَات الرسيم)
(تَشْتَكِي غيبَة الزعيم إِلَى اللَّهِ ... فتشكي إِلَى رؤوف رَحِيم)
وَالله أعلم.
وَاجْتمعَ الْعَرَب وكبراء الدولة على إِقَامَة ابْن أَخِيه قُرَيْش بن بدران الْمُقَلّد وَكَانَ بدران صَاحب نَصِيبين ثمَّ صَارَت لقريش بعده، وَكَانَ قرواش تَحت الاعتقال مُنْذُ اعتقله أَخُوهُ بركَة مَعَ الْقيام برواتبه فَلَمَّا تولى قُرَيْش نقل عَمه قرواشا إِلَى قلعة الجراحية من عمل الْموصل فاعتقله بهَا.
وفيهَا: وَقت الْعَصْر ظهر بِبَغْدَاد كَوْكَب بذؤابه، غلب على نور الشَّمْس وَسَار سيرا بطيئا ثمَّ انقض.
وفيهَا: وصل رَسُول طغرلبك إِلَى الْخَلِيفَة بالهدايا.
وفيهَا: عَاد طغرلبك عَن أَصْبَهَان إِلَى الرّيّ.
وفيهَا: توفّي كرشاف بن عَلَاء الدولة بن كاكويه بالأهواز، اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا أَبُو مَنْصُور بن أبي كاليجار.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل عبد الرشيد بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة قَتله الْحَاجِب طغرلبك طَمَعا فِي الْملك، حصره بقلعة غزنة حَتَّى سلمه أهل القلعة إِلَيْهِ فَقتله، وَتزَوج طغرلبك بنت السُّلْطَان مَسْعُود كرها، ثمَّ قَتله كبراء الدولة فرخزاد بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتين كَانَ مَحْبُوسًا فِي قلعة فأحضر وبويع لَهُ، وَقَامَ بِالْأَمر بَين يَدَيْهِ خرخيز وَكَانَ أَمِيرا على الْأَعْمَال الْهِنْدِيَّة فَقدم وتتبع غُرَمَاء عبد الرشيد فَقَتلهُمْ.
وفيهَا: مستهل رَجَب توفّي مُعْتَمد الدولة أَبُو منيع قرواش بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ صَاحب الْموصل مَحْبُوسًا بقلعة الجراحية وَحمل فَدفن بتل تَوْبَة من مَدِينَة نِينَوَى شَرْقي الْموصل، وَقيل: قَتله قُرَيْش ابْن أَخِيه، وَكَانَ قرواش عَاقِلا لكنه جمع بَين الْأُخْتَيْنِ فليم فِي ذَلِك فَقَالَ: وَأي شَيْء عندنَا حَلَال. وَله شعر حسن فَمِنْهُ:
(لله در النائبات فَإِنَّهَا ... صدأ اللئام وصيقل الْأَحْرَار)(1/342)
(مَا كنت إِلَّا زبرة فطبعتني ... سَيْفا وَأطلق صرفهن غراري)
قلت: ورثاه الْأَمِير أَبُو الْفَتْح بن أبي حَصِينَة المعري بقصيدة نفيسة مِنْهَا:
(أمثل قرواش يَذُوق الردى ... يَا صَاح مَا أوقح وَجه الْحمام)
(حاشا لذاك الْوَجْه أَن يعرف الْبُؤْس ... وَأَن يحثى عَلَيْهِ الرغام)
(وللجبين الصَّلْت أَن يسلب ... الْبَهْجَة أَو يعْدم حسن الوسام)
(يَا أَسف النَّاس على ماجد ... مَاتَ فَقَالَ النَّاس مَاتَ الْكِرَام)
(غير بعيد يَا بعيد المدى ... وَلَا ذميم يَا وَفِي الذمام)
(زلت فَلَا الْقصر بهي وَلَا ... بابك معمور كثير الزحام)
(وَلَا الْخيام الْبيض مَنْصُوبَة ... بوركت يَا ناصب تِلْكَ الْخيام)
(قبحا لدينا حطمت أَهلهَا ... وآخذتهم باكتساب الحطام)
(تَأْخُذ مَا تُعْطِي فَمَا بالنا ... نكثر فِيمَا لَا يدون الْخِصَام)
(يَا قبر قرواش سقيت الحيا ... وَلَا تعدتك غوادي الرهام)
(قضى وَلم أقض على أَثَره ... إِنِّي لمن معروفه ذُو احتشام)
(أَقُول شعرًا والجوى شاغلي ... يَا عجبا كَيفَ استقام الْكَلَام)
وَالله أعلم.
وفيهَا: قبض عِيسَى بن خَمِيس على أَخِيه أبي غشام صَاحب تكريت وسجنه بهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: زلزلت خوزستان وَغَيرهَا عَظِيما، وانفرج من ذَلِك جبل كَبِير قريب من أرجان فَظهر فِي وَسطه مَبْنِيَّة بالآجر والجص فتعجب النَّاس، وزلزلت خُرَاسَان واشتدت ببيهق وَخرب سور قصبتها وَبَقِي خرابا حَتَّى عمره نظام الْملك سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ خربه أرسلان أرغو، ثمَّ عمره مجد الْملك البلساني.
وفيهَا: افْتتن ... ... ... و ... ... . . بِبَغْدَاد، وكتبت ... ... ... على مَسَاجِدهمْ: مُحَمَّد وَعلي خير الْبشر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد أَبُو مَنْصُور فلاستون بن أبي كاليجار وَأخذ شيراز من أَخِيه أبي سعد وخطب فِيهَا لطغرلبك ولأخيه الْملك الرَّحِيم ولنفسه بعدهمَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار طغرلبك إِلَى أذربيجان وَقصد تبريز فأطاعه صَاحبهَا وهسوذان وخطب لَهُ وَحمل لَهُ مَا أرضاه وَكَذَلِكَ أَصْحَاب تِلْكَ النواحي، ثمَّ سَار إِلَى أرمينية وَقصد ملازكرد وَهِي للروم وحصرها فَلم يملكهَا، وَعبر فغزا فِي الرّوم وَنهب وَقتل وَأسر وَأثر فيهم آثَار.
وفيهَا: حصلت الوحشة بَين البساسيري وَبَين الْقَائِم.(1/343)
ثمَّ دخلت سنة سبع أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل الْأَمِير أَبُو حَرْب سُلَيْمَان بن نصر الدولة بن مَرْوَان صَاحب الجزيرة قَتله عبيد اللَّهِ بن أبي طَاهِر البشنوي الْكرْدِي غيلَة.
وفيهَا: قصد جمَاعَة من السّنة دَار الْخَلِيفَة يطْلبُونَ أَن يُؤذن لَهُم أَن يأمروا بِالْمَعْرُوفِ فَأذن لَهُم وَزَاد شرهم، ثمَّ اسْتَأْذنُوا فِي نهب دَار البساسيري وَهُوَ غَائِب بواسط فَأذن لَهُم فنهبوها وأحرقوها، وَأمر الْخَلِيفَة الْملك الرَّحِيم بإبعاد البساسيري فَفعل وَقدم الْملك الرَّحِيم من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد، وَسَار البساسيري إِلَى جِهَة دبيس بن مزِيد لمصاهرة بَينهمَا.
وفيهَا: سَار طغرلبك حَتَّى نزل حلوان فَعظم الأرجاف بِبَغْدَاد وبذل قواد بَغْدَاد لَهُ الطَّاعَة وَالْخطْبَة بِأَمْر الْخَلِيفَة فَخَطب لَهُ لثمان بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا.
ثمَّ اسْتَأْذن طغرلبك فِي دُخُول بَغْدَاد، فحلفته الرُّسُل للخليفة الْقَائِم وَالْملك الرَّحِيم فَحلف لَهما، وَدخل بَغْدَاد وَنزل بِبَاب الشماسية فنهب بعض السوقة بعض عَسْكَر طغرلبك واتصل نهب الْعَامَّة إِلَى وطاقات طغرلبك، فَركب عسكره وتقاتلوا فانهزمت الْعَامَّة، فألح طغرلبك فِي حُضُور الْملك الرَّحِيم عِنْده إِن كَانَ برئيا فألزمه الْقَائِم أَن يخرج إِلَيْهِ هُوَ وكبار القواد وهم فِي أَمَان الْخَلِيفَة فَخَرجُوا إِلَيْهِ، فَقبض طغرلبك على الْملك الرَّحِيم وعَلى القواد، فَأرْسل الْقَائِم إِلَى طغرلبك فِي أَمرهم فَشَكا من عدم حرمته وَأَمَانَة وَأطلق الْبَعْض، وَاسْتمرّ الْبَاقُونَ وَالْملك الرَّحِيم فِي الاعقتال.
الْملك الرَّحِيم هَذَا آخر مُلُوك الْعرَاق من بني بويه، وَأول من استولى مِنْهُم على الْعرَاق وبغداد معز الدولة أَحْمد بن بويه، ثمَّ ابْنه بختيار، ثمَّ ابْن عَمه عضد الدولة بن فناخسروا بن ركن الدولة حسن بن بويه، ثمَّ ابْنه صمصام الدولة أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان، ثمَّ أَخُوهُ شرف الدولة شيربك بن عضد الدولة، ثمَّ أَخُوهُ بهاء الدولة أَبُو نصر بن عضد الدولة، ثمَّ ابْنه سُلْطَان الدولة أَبُو شُجَاع بن بهاء الدولة، ثمَّ أَخُوهُ مشرف الدولة بن بهاء الدولة، ثمَّ أَخُوهُ جلال الدولة أَبُو ظَاهر بن بهاء الدولة، ثمَّ ابْن أَخِيه أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان بن سُلْطَان الدولة ابْن بهاء الدولة، ثمَّ ابْنه الْملك الرَّحِيم خسرو فَيْرُوز بن كاليجار بن سُلْطَان الدولة ابْن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وَهُوَ آخِرهم.
وفيهَا: وَقعت الْفِتْنَة بَين الشَّافِعِيَّة والحنابلة بِبَغْدَاد، أَنْكَرُوا على الشَّافِعِيَّة الْجَهْر بالبسملة والقنوت فِي الصُّبْح والترجيع فِي الْأَذَان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تزوج الْقَائِم بنت دَاوُد أخي طغرلبك.
وفيهَا: وَقعت حَرْب بَين عبيد الْمعز بن باديس وَبَين عبيد ابْنه تَمِيم بالمهدية فانتصر عبيد تَمِيم وأخرجوا عبيد الْمعز من المهدية.
(ابْتِدَاء دولة الملثمين)
الملثمون من عدَّة قبائل ينتسبون إِلَى حمير، وَأول مَسِيرهمْ من الْيمن فِي أَيَّام أبي بكر(1/344)
رَضِي اللَّهِ عَنهُ سيرهم إِلَى جِهَة الشَّام وانتقلوا إِلَى مصر، ثمَّ إِلَى الْمغرب مَعَ مُوسَى بن نصير وتوجهوا مَعَ طَارق إِلَى طنجة، وأحبوا الِانْفِرَاد فَدَخَلُوا الصَّحرَاء واستوطنوها، فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة توجه مِنْهُم جَوْهَر من قَبيلَة جدالة إِلَى إفريقية ليحج، فَلَمَّا عَاد استصحب مَعَه فَقِيها من القيروان اسْمه عبد اللَّهِ بن ياسين الكزولي ليعلم تِلْكَ الْقَبَائِل دين الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لم يبْق فيهم غير الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاة فِي بَعضهم.
فَتوجه عبد اللَّهِ بن ياسين مَعَ جَوْهَر حَتَّى أَتَيَا قَبيلَة لمتونة وَمِنْهَا يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين ودعوهم إِلَى الْعَمَل بالشريعة، فَقَالَت لمتونة: أما الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة فقريب وَأما قتل الْقَاتِل وَقطع السَّارِق ورجم الزَّانِي فَلَا نلتزمه.
فَمضى جَوْهَر وَعبد اللَّهِ بن ياسين إِلَى جدالة قَبيلَة جَوْهَر فَدَعَاهُمْ عبد اللَّهِ بن ياسين ودعا الْقَبَائِل حَولهمْ إِلَى الشَّرِيعَة فَأجَاب أَكْثَرهم وَامْتنع أقلهم، فَأمر المجيبين بِقِتَال الْمُخَالفين فجعلوه أَمِيرهمْ فَامْتنعَ وَقَالَ لجوهر: أَنْت الْأَمِير، فَقَالَ أخْشَى من تسلط قبيلتي على النَّاس فَيكون وزر ذَلِك عَليّ، ثمَّ اتفقَا على أبي بكر بن عمر رَأس قَبيلَة لمتونة فَإِنَّهُ مُطَاع، فعرضا على أبي بكر ذَلِك فَقبل وَعقد الْبيعَة وَسَماهُ ابْن ياسين أَمِير الْمُسلمين وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كل من حسن إِسْلَامه، وحرضهم عبد اللَّهِ على الْجِهَاد وَسَمَّاهُمْ المرابطين، فَقتلُوا من أهل الْبَغي وَالْفساد وَمِمَّنْ لم يجب إِلَى الشَّرِيعَة نَحْو أَلفَيْنِ، فدانت لَهُم قبائل الصَّحرَاء وقووا وتفقه مِنْهُم جمَاعَة على عبد اللَّهِ.
وَلما استبد أَبُو بكر بن عَمْرو وَعبد اللَّهِ بن ياسين بِالْأَمر دَاخل جوهرا الْحَسَد فَأخذ فِي إِفْسَاد الْأَمر فعقد لَهُ مجْلِس وَحكم عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ لكَونه شقّ الْعَصَا وَأَرَادَ محاربة أهل الْحق، فصلى جَوْهَر رَكْعَتَيْنِ وَأظْهر السرُور بِالْقَتْلِ طلبا للقاء اللَّهِ تَعَالَى فَقَتَلُوهُ.
ثمَّ جرى بَين المرابطين وَبَين أهل السوس قتال فَقتل عبد اللَّهِ بن ياسين الْفَقِيه.
ثمَّ سَار المرابطون إِلَى سجلماسة فَقَاتلُوا أَهلهَا، فانتصر المرابطون وملكوها وَقتلُوا صَاحبهَا.
وَلما ملك أَبُو بكر بن عمر سجلماسة اسْتعْمل عَلَيْهَا يُوسُف بن تاشفين اللمتوني من بني عَم أبي بكر بن عمر سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ اسْتخْلف أَبُو بكر على سجلماسة ابْن أَخِيه، وَبعث يُوسُف بن تاشفين بِجَيْش من المرابطين إِلَى السوس فَفتح على يَدَيْهِ وَكَانَ دينا حازما داهية.
وَاسْتمرّ الْأَمر كَذَلِك إِلَى ان توفّي أَبُو بكر بن عمر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فاجتمعت طوائف المرابطين وملكوا يُوسُف بن تاشفين عَلَيْهِم ولقبوه أَمِير الْمُسلمين، ثمَّ افْتتح الْمغرب حصنا حصنا وَكَانَ غالبها لزناتة، ثمَّ قصد مَوضِع مراكش وَهُوَ قاع صفصف فَبنى فِيهِ مراكش واتخذها مقرّ ملكه، وَملك الْبِلَاد الْمُتَّصِلَة بالمجاز مثل سبته وطنجة وسلا.
وَيُقَال للمرابطين: الملثمون تلثموا كالعرب فَلَمَّا ملكوا ضيقوا اللثام ليتميزوا، وَقيل: إِن قَبيلَة لمتونة أَغَارُوا على عَدو وألبسوا نِسَاءَهُمْ لبس الرِّجَال ولثموهن فقصد بعض(1/345)
اعدائهم بُيُوتهم فظنوا النِّسَاء رجَالًا لأجل اللثام فَلم يقدموا عَلَيْهِنَّ، وَاتفقَ مَجِيء رِجَالهنَّ فأوقعوا بهم، فتبركوا باللثام وسنوه فسموا الملثمين.
وفيهَا: رَحل طغرلبك عَن بَغْدَاد فِي عَاشر ذِي الْقعدَة لثقل وَطْأَة عسكره على الرّعية، أَقَامَ بِبَغْدَاد ثَلَاثَة عشر شهرا وأياما لم يلق الْخَلِيفَة فِيهَا، وَتوجه طغرلبك إِلَى نَصِيبين ثمَّ إِلَى ديار بكر وَهِي لِابْنِ مَرْوَان.
وفيهَا: توفّي أميرك الْبَيْهَقِيّ الْكَاتِب وَكَانَ من رجال الدُّنْيَا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد طغرلبك إِلَى بَغْدَاد بعد أَن استولى على الْموصل وأعمالها وَسلمهَا إِلَى اخيه إِبْرَاهِيم نيال، وَلما قَارب طغرلبك القفص تَلقاهُ كبراء بَغْدَاد مثل عميد الْملك وزيره بهَا وَرَئِيس الرؤساء وَقصد الِاجْتِمَاع بالخليفة الْقَائِم، فَجَلَسَ لَهُ الْخَلِيفَة وَعَلِيهِ الْبردَة على سَرِير عَال من الأَرْض نَحْو سَبْعَة أَذْرع وَحضر طغرلبك فِي جماعته وَحضر أَعْيَان بَغْدَاد وكبراء الْعَسْكَر وَذَلِكَ يَوْم السبت لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَقبل طغرلبك الأَرْض وَيَد الْخَلِيفَة ثمَّ جلس على كرْسِي، ثمَّ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَة مَعَ رَئِيس الرؤساء: أَن الْخَلِيفَة قد ولاك جَمِيع مَا ولاه اللَّهِ تَعَالَى من بِلَاده، ورد إِلَيْك مُرَاعَاة عبَادَة، فَاتق اللَّهِ فِيمَا ولاك، واعرف نعْمَته عَلَيْك. وخلع على طغرلبك وَأعْطى الْعَهْد، فَقبل الأَرْض وَيَد الْخَلِيفَة ثَانِيًا وَانْصَرف فَبعث إِلَى الْخَلِيفَة خمسين ألف دِينَار وَخمسين مَمْلُوكا من الأتراك بخيولهم وسلاحهم وقماشهم.
وفيهَا: قبض الْمُسْتَنْصر بِمصْر على وزيره اليازرودي الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ وَكَانَ قَاضِيا فِي الرملة حنفيا ثمَّ ولي الوزارة، وَلما قبض وجد لَهُ مكاتبات إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء أَحْمد بن عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد بن المطهر بن زِيَاد بن ربيعَة بن الْحَارِث بن ربيعَة بن أنور بن أسحم بن أَرقم بن النُّعْمَان بن عدي بن غطفان بن عَمْرو بن شُرَيْح بن جذيمة بن تيم اللَّهِ بن أَسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة المعري التنوخي، قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه: كَانَ عَلامَة عصره رَحمَه اللَّهِ قَرَأَ النَّحْو واللغة على أَبِيه بالمعرة وعَلى مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن سعد النَّحْوِيّ بحلب وَله التصانيف الْمَشْهُورَة والرسائل المأثورة وَله من النّظم لُزُوم مَا لَا يلْزم خمس مجلدات وَسقط الزند وَشَرحه بِنَفسِهِ وَسَماهُ ضوء السقط، وبلغنا أَن لَهُ كتابا سَمَّاهُ الأيك والغصون وَهُوَ الْمَعْرُوف بِالْهَمْزَةِ والردف يُقَارب مائَة جُزْء فِي الْأَدَب.
قَالَ ابْن خلكان: وَحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد الْمِائَة من كتاب الْهمزَة والردف وَقَالَ: لَا أعلم مَا كَانَ يعوزه بعد هَذَا، وَكَانَ متضلعا من فنون الْأَدَب وَأخذ عَنهُ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن المحسن التنوخي والخطيب أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى التبريزي وَغَيرهمَا.
وَكَانَت وِلَادَته يَوْم الْجُمُعَة عِنْد مغيب الشَّمْس لثلاث بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَلَاث(1/346)
وَسِتِّينَ وثلثمائة بالمعرة وَعمي من الجدري سنة سبع وَسِتِّينَ غشى يمنى عَيْنَيْهِ بَيَاض وَذَهَبت الْيُسْرَى جملَة.
وَلما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي فِي شرح شعر المتنبي وقرىء عَلَيْهِ أَخذ الْجَمَاعَة فِي وَصفه فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: كَأَنَّمَا نظر المتنبي إِلَيّ بلحظ الْغَيْب حَيْثُ يَقُول:
(أَنا الَّذِي نظر الْأَعْمَى إِلَى أدبي ... وأسمعت كلماتي من بِهِ صمم)
وَاخْتصرَ ديوَان أبي تَمام حبيب وَشَرحه وَسَماهُ ذكرى حبيب، وديوان البحتري وَسَماهُ عَبث الْوَلِيد، وديوان المتنبي وَسَماهُ معجز أَحْمد، وَتكلم على غَرِيب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غَيرهم وَمَا أَخذ عَلَيْهِم وَتَوَلَّى الِانْتِصَار لَهُم والنقد فِي بعض الْمَوَاضِع عَلَيْهِم والتوجيه فِي أَمَاكِن لحظاتهم.
وَدخل بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة، ودخلها ثَانِيًا سنة تسع وَتِسْعين وَأقَام بهَا سنة وأبعة أشهر، ثمَّ رَجَعَ إِلَى المعرة وَلزِمَ منزله وَشرع فِي التصنيف وَكَانَ يملي على بضع عشرَة محبرة فِي فنون من الْعُلُوم وَأخذ عَنهُ النَّاس وَسَار إِلَيْهِ الطّلبَة من الْآفَاق وَكَاتب الْعلمَاء والوزراء وَأهل الأقدار، وسمى نَفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولذهاب عَيْنَيْهِ، وَمكث خمْسا وَأَرْبَعين سنة لَا يَأْكُل اللَّحْم تدينا، وَعمل الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَمن شعره فِي اللُّزُوم:
(لَا تَطْلُبن بآله لَك رُتْبَة ... قلم البليغ بِغَيْر حَظّ مغزل)
(سكن السَّمَاء كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رمح وَهَذَا أعزل)
وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث وَقيل: ثَانِي ربيع الأول، وَقيل: ثَالِث عشرَة مِنْهَا وَأوصى أَن يكْتب على قَبره هَذَا الْبَيْت:
(هَذَا جناه أبي عَليّ ... وَمَا جنيت على أحد)
وَلما توفّي قرىء على قَبره سَبْعُونَ مرثية، وَمِمَّنْ رثاه تِلْمِيذه أَبُو الْحسن عَليّ بن همام بقوله:
(إِن كنت لم ترق الدِّمَاء زهادة ... فَلَقَد أرقت الْيَوْم من جفني دَمًا)
(سيرت ذكرك فِي الْبِلَاد كَأَنَّهُ ... مسك فسامعه يضمخ أَو فَمَا)
(وَأرى الحجيج إِذا أَرَادوا لَيْلَة ... ذكراك أخرج فديَة من أحرما)
هَذَا خُلَاصَة مَا قَالَه القَاضِي شمس الدّين بن خلكان فِي تَارِيخه.
قلت: وَقَول تِلْمِيذه: لم ترق الدِّمَاء زهادة، يدْفع قَول من قَالَ إِنَّه لم يرق الدِّمَاء فلسفة وَنسبه إِلَى رَأْي الْحُكَمَاء، وتلميذه أعرف بِهِ مِمَّن هُوَ غَرِيب يَرْجُمهُ بِالْغَيْبِ، وماذا على من ترك اللَّحْم وَهُوَ من أعظم الشَّهَوَات خمْسا وَأَرْبَعين سنة زهادة، وَقد قَالَ الْمَكِّيّ فِي قوت الْقُلُوب: إِبَاحَة حَلَال الدُّنْيَا حسن والزهد فِيهِ أحسن، وَلما أَتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل قبَاء بشرية من لبن مشوبة بِعَسَل وضع الْقدح من يَده وَقَالَ: " أما إِنِّي لست أحرمهُ وَلَكِن(1/347)
أتركه تواضعا لله تَعَالَى "، وَأتي عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِشَربَة من مَاء بَارِد وَعسل فِي يَوْم صَائِف فَقَالَ: اعزلوا عني حِسَابهَا. وَقد نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التنعم، وَكتب الرقَاق وَغَيرهَا مشحونة بترك السّلف الصَّالح للشهوات والملاذ الفانية رَغْبَة فِي النَّعيم الْبَاقِي.
ورثاه أَيْضا الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(الْعلم بعد أبي الْعَلَاء مضيع ... وَالْأَرْض خَالِيَة الجوانب بلقع)
(أودي وَقد مَلأ الْبِلَاد غرائبا ... تسري كَمَا تسري النُّجُوم الطّلع)
(مَا كنت أعلم وَهُوَ يودع فِي الثرى ... أَن الثرى فِيهِ الْكَوَاكِب تودع)
(جبل ظَنَنْت وَقد تزعزع رُكْنه ... أَن الْجبَال الراسيات تزعزع)
(وَعَجِبت أَن تسع المعرة قَبره ... ويضيق بطن الأَرْض عَنهُ الأوسع)
(لَو فاضت المهجات يَوْم وَفَاته ... مَا استكثرت فِيهِ فَكيف الأدمع)
(تتصرم الدُّنْيَا وَيَأْتِي بعده ... امم وَأَنت بِمثلِهِ لَا تسمع)
(لَا تجمع المَال العتيد وجد بِهِ ... من قبل تَركك كل شَيْء تجمع)
(وَإِن أستطعت فسر بسيرة أَحْمد ... تَأْمِين خديعة من يغر ويخدع)
(رفض الْحَيَاة وَمَات قبل مماته ... مُتَطَوعا بابر مَا يتَطَوَّع)
(عين تسهد للعفاف وللمتقى ... أبدا وقلب للمهيمن يخشع)
(شيم تجمله فهن لمجده ... تَاج وَلَكِن بالثناء يرصع)
(جَادَتْ ثراك أَبَا الْعَلَاء غمامة ... كندي يَديك ومزنه لَا يقْلع)
(مَا ضيع الباكي عَلَيْك دُمُوعه ... إِن الدُّمُوع على سواك تضيع)
(قصدتك طلاب الْعُلُوم وَلَا أرى ... للْعلم بَابا بعد بابك يقرع)
(مَاتَ النهى وتعطلت أَسبَابه ... وَقضى التأدب والمكارم أجمع ... )
فَانْظُر إِلَى مَا رثاه أَيْضا بِهِ هَذَا الرجل وَوَصفه بِهِ من تقاه ورفضه للحياة وَمَوته قبل الْمَوْت وتطوعه وَهُوَ أَيْضا أعلم بِهِ من الْأَجَانِب.
وَبِالْجُمْلَةِ: فقد ألف الصاحب كَمَال الدّين بن العديم رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى فِي مناقبه كتابا سَمَّاهُ كتاب الْعدْل والتحري فِي دفع الظُّلم والتجري على أبي الْعَلَاء المعري وَقَالَ فِيهِ: إِنَّه اعْتبر من ذمّ أَبَا الْعَلَاء وَمن مدحه، فَوجدَ كل من ذمه لم يره وَلَا صَحبه وَوجد من لقِيه هُوَ المادح لَهُ، وَهَذَا دَلِيل لما قلته.
وصنف بعض الْأَعْلَام فِي مناقبه كتابا وَسَماهُ دفع المعرة عَن شيخ المعرة، وَفِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ فُصُول من نَوَادِر ذكائه وإجابه دُعَائِهِ والاعتذار عَن طعن أعدائه، وَأَنا كنت أتعصب لَهُ لكَونه من المعرة، ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب اسْتغْفر واستغفري فأبغضته وازددت عَنهُ نفرة، وَنظرت لَهُ فِي كتاب لُزُوم مَا لَا يلْزم فَرَأَيْت التبري مِنْهُ أحزم، فَإِن هذَيْن الْكِتَابَيْنِ يدلان(1/348)
على أَنه كَانَ لما نظمها عَالما حائرا ومذبذبا نافرا، يقر فيهمَا أَن الْحق قد خفى عَلَيْهِ وَيَوَد لَو ظفر بِالْيَقِينِ فَأَخذه بكلتا يَدَيْهِ كَمَا قَالَ فِي مرثية أَبِيه:
(طلبت بَقينَا من جُهَيْنَة عَنْهُم ... وَلم تُخبرنِي يَا جهين سوى ظن)
(فَإِن تعهديني لَا أَزَال مسائلا ... فَإِنِّي لم أعْط الصَّحِيح فأستغني)
ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب ضوء السقط الَّذِي أملاه على الشَّيْخ أبي عبد اللَّهِ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ الَّذِي لَازم الشَّيْخ إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ أَقَامَ بحلب يروي عَنهُ كتبه، فَكَانَ هَذَا الْكتاب عِنْدِي مصلحا لفساده، موضحا لرجوعه إِلَى الْحق وَصِحَّة أعتقاده، فَإِنَّهُ كتاب يحكم بِصِحَّة إِسْلَامه مأولا، ويتلوا لمن وقف عَلَيْهِ بعد كتبه الْمُتَقَدّمَة وللآخرة خير لَك من الأولى، فَلَقَد ضمن هَذَا الْكتاب مَا يثلج الصَّدْر ويلذ السّمع ويقر الْعين وَيسر الْقلب وَيُطلق الْيَد وَيثبت الْقدَم من تَعْظِيم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير بريته، والتقرب إِلَى اللَّهِ بمدائح الْأَشْرَاف من ذُريَّته، وتبجيل الصَّحَابَة وَالرِّضَا عَنْهُم، وَالْأَدب عِنْد ذكر مَا يلتقي مِنْهُم، وإيراد محَاسِن من التَّفْسِير، وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ والإشفاق من الْيَوْم العسير وتضليل من أنكر الْمعَاد، وَالتَّرْغِيب فِي أذكار اللَّهِ والأوراد، والخضوع للشريعة المحمدية وتعظيمها، وَهُوَ خَاتمه كتبه والأعمال بخواتيمها، وَقد يعْذر من ذمه واستحل شَتمه، فَإِنَّهُ عول على مبادىء أمره وأوسط شعره، ويعذر من أحبه وَحرم سبه، فَإِنَّهُ اطلع على صَلَاح سره وَمَا صَار إِلَيْهِ فِي آخر عمره من الْإِنَابَة الَّتِي كَانَ أَهلهَا، وَالتَّوْبَة الَّتِي تجب مَا قبلهَا، وَكَانَ يَقُول رَحمَه اللَّهِ: أَنا شيخ مَكْذُوب عَلَيْهِ.
وَلَقَد أغرت بِهِ حساده وَزِير حلب فَجهز لإحضاره خمسين فَارِسًا ليَقْتُلهُ فأنزلهم أَبُو الْعَلَاء فِي مجْلِس لَهُ بالمعرة، فَاجْتمع بَنو عَمه إِلَيْهِ وتألموا لذَلِك، فَقَالَ: إِن لي رَبًّا يَمْنعنِي، ثمَّ قَالَ كلَاما مِنْهُ مَا لم يفهم وَقَالَ: الضيوف الضيوف الْوَزير الْوَزير، فَوَقع الْمجْلس على الْخمسين فَارِسًا فماتوا، وَوَقع الْحمام على الْوَزير بحلب فَمَاتَ، فَمن النَّاس من زعم أَنه قَتلهمْ بدعائه وتهجده، وَمِنْهُم من زعم أَنه قَتلهمْ بسحره ورصده.
وَوضع أَبُو طَاهِر الْحَافِظ السلَفِي كتابا فِي أخباتر أبي الْعَلَاء، وَقَالَ فِيهِ مُسْندًا عَن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ رَحمَه اللَّهِ: كتبت إِلَى أبي الْعَلَاء المعري حِين وافى بَغْدَاد وَقد كَانَ نزل فِي سويقه غَالب:
(وَمَا ذَات در لَا يحل لحالب ... تنَاوله وَاللَّحم مِنْهَا مُحَلل)
(لمن شَاءَ فِي الْحَالين حَيا وَمَيتًا ... وَمن رام شرب الدرج فَهُوَ مضلل)
(إِذا طعنت فِي السن فاللحم طيب ... وآكله عِنْد الْجَمِيع معقل)
(وخرقانها للْأَكْل فِيهَا كزازة ... فَمَا لحصيف الرَّأْي فِيهِنَّ مأكل)
(وَمَا يجتني مَعْنَاهُ إِلَّا مبرز ... عليم بأسرار الْقُلُوب مُحَصل)
فَأَجَابَنِي وأملى عَليّ الرَّسُول فِي الْحَال:(1/349)
(جوابان عَن هَذَا السُّؤَال كِلَاهُمَا ... صَوَاب وَبَعض الْقَائِلين مضلل)
(فَمن ظَنّه كرما فَلَيْسَ بكاذب ... وَمن ظَنّه نخلا فَلَيْسَ يجهل)
(لحومهما الأعناب الرطب الَّذِي ... هُوَ الْحل والدر الرَّحِيق المسلسل)
(وَلَكِن ثمار النّخل وَهِي رطيبة ... تمر وغض الْكَرم يجنى فيؤكل)
(يكلفني القَاضِي الْجَلِيل مسائلا ... هِيَ النَّجْم قدرا بل أعز وأطول)
(وَلَو لم أجب عَنْهَا لَكُنْت بجهلها ... جَدِيرًا وَلَكِن من يودك مقبل)
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: فأجبته عَنهُ وَقلت:
(أثار ضميري من يعز نَظِيره ... من النَّاس طرا سَابق الْفضل مكمل)
(وَمن قلبه كتب الْعُلُوم بأسرها ... وخاطره فِي حِدة النَّار مشعل)
(تساوى لَهُ سر الْمعَانِي وجهرها ... ومعظلها باد لَدَيْهِ مفصل)
(وَلما أثار الخبء فار معينه ... أَسِيرًا بأنواع الْبَيَان يكبل)
(وقر بِهِ من كل فهم بكشفه ... وإيضاحه حَتَّى رَآهُ الْمُغَفَّل)
(وأعجب مِنْهُ نظمه الدّرّ مسرعا ... ومرتجلا من غير مَا يتمهل)
(فَيخرج من بَحر ويسمو مَكَانَهُ ... جلالا إِلَى حَيْثُ الْكَوَاكِب تنزل)
(فهنأه اللَّهِ الْكَرِيم بفضله ... محاسنة والعمر فِيهَا مطول)
فأملى أَبُو الْعَلَاء على الرَّسُول مرتجلا:
(أَلا أَيهَا القَاضِي الَّذِي بدهاته ... سيوف على أهل الْخلاف تسلل)
(فُؤَادك معمور من الْعلم آهل ... وَجدك فِي كل الْمسَائِل مقبل)
(فَإِن كنت بَين النَّاس غير ممول ... فَأَنت من الْفَهم المصون ممول)
(إِذا أَنْت خاطبت الْخُصُوم مجادلا ... فَأَنت وهم مثل الحمائم أجدل)
(كَأَنَّك من فِي الشَّافِعِي مُخَاطب ... وَمن قلبه تملي فَمَا تتمهل)
(وكبف يرى علم ابْن إِدْرِيس دارسا ... وَأَنت بإيضاح الْهدى متكفل)
(تفضلت حَتَّى ضَاقَ ذرعي بشكر مَا ... فعلت وكفي من جوابك أجمل)
(لِأَنَّك فِي كنه الثريا فصاحة ... وَأَعْلَى وَمن يَبْغِي مَكَانك أَسْفَل)
(فعذري فِي أَنِّي أَجَبْتُك واثقا ... بِفَضْلِك وَالْإِنْسَان يسهو وَيذْهل)
(وأخطأت فِي إِنْفَاذ رقعتك الَّتِي ... هِيَ الْمجد لي مِنْهَا أخير وَأول)
(وَلَكِن عداني أَن أروم احتفاظها ... رَسُولك وَهُوَ الْفَاضِل المتفضل)
(وَمن حَقّهَا أَن يصبح الْمسك غامرا ... لَهَا وَهِي فِي أَعلَى الْمَوَاضِع تجْعَل)
(فَمن كَانَ فِي أشعاره متمثلا ... فَأَنت امْرُؤ فِي الْعلم وَالشعر أمثل)
(تجملت الدُّنْيَا بأنك فَوْقهَا ... وَمثلك حَقًا من بِهِ بتجمل)
فشهادة أبي الطّيب فِي الشَّيْخ مُقَدّمَة على شَهَادَة الْغَيْر وَحسن الظَّن وخصوصا بالعلماء(1/350)
قد دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والْحَدِيث وَهُوَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير، وَكَانَ شَيخنَا عبس حسن العقيدة فِيهِ، واعترف الطَّبَرِيّ لَهُ ومدحه يَكْفِيهِ:
(شَهَادَة الطَّبَرِيّ الحبر كَافِيَة ... أَبَا الْعَلَاء فَقل مَا شِئْت أَو فذر)
(من أغمد السَّيْف عَنهُ كَانَ فِي دعة ... وَمن نضى السَّيْف قابلناه بالطبري)
وَقَالَ لي يَوْمًا بعض أَصْحَابِي من الْأُمَرَاء ذَوي الْفَهم كَيفَ كَانَ أَبُو الْعَلَاء فِي اعْتِقَاد الْبَعْث فَأَنْشَدته قَوْله:
(فيا وطني إِن فَاتَنِي مِنْك سَابق ... من الدَّهْر فلينعم لساكنك البال)
(وَإِن أستطع فِي الْحَشْر آتِك زَائِرًا ... وهيهات لي يَوْم الْقِيَامَة أشغال)
وَبَلغنِي أَن بَعضهم زعم أَن أَبَا الْعَلَاء كَانَ يُنكر النبوات، فَهَذَا مَرْدُود بقول أبي الْعَلَاء:
(عجبت وَقد جزت الصراة رفلة ... وَمَا خضلت مِمَّا تسربلت أذيال)
(أعمت إِلَيْنَا فعال ابْن مَرْيَم ... فعلت وَهل يُعْطي النُّبُوَّة مكسال)
وَقَوله فِي شرِيف:
(يَا ابْن الَّذِي بِلِسَانِهِ وَبَيَانه ... هدى الْأَنَام وَنزل التَّنْزِيل)
(عَن فَضله نطق الْكتاب وبشرت ... بقدومه التوارة وَالْإِنْجِيل)
وَقَوله فِي الشريف أبي إِبْرَاهِيم الْعلوِي الموسوي:
(يَا ابْن مستعرض الصُّفُوف ببدر ... ومبيد الجموع من غطفان)
(أحد الْخَمْسَة الَّذين هم الْأَغْرَاض ... من كل منطق والمعاني)
(والشخوص الَّذِي خُلِقْنَ ضِيَاء ... قبل خلق المريخ وَالْمِيزَان)
(قبل أَن تخلق السَّمَاوَات ... أَو تُؤمر أفلاكهن بالدوران)
(وَافق اسْم ابْن أَحْمد اسْم ... رَسُول اللَّهِ لما توَافق المعنيان)
(يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قصر عَنْك الشّعْر ... لما وصفت بِالْقُرْآنِ)
(أشْرب الْعَالمُونَ حبك طبعا ... فَهُوَ فرض فِي سَائِر الْأَدْيَان)
وَقَوله:
(أيدفع معجزات الرُّسُل قوم ... وفيك وَفِي بديهتك اعْتِبَار)
وَقد طَالَتْ هَذِه التَّرْجَمَة فَإِنِّي رَأَيْت الْمُؤلف سامحه اللَّهِ غض من الشَّيْخ فَأَحْبَبْت أَن أنبه على ذَلِك، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي مقدم أَصْحَاب الحَدِيث بخراسان فَقِيه يعرف علوما، وأياز غُلَام مَحْمُود بن سبكتكين، وَله مَعَ مَحْمُود أَخْبَار مَشْهُورَة، وَأَبُو أَحْمد عدنان بن الرضي نقيب العلوبين.(1/351)
(ذكر الْخطْبَة بالعراق للمستنصر الْعلوِي وَمَا كَانَ إِلَى قتل البساسيري)
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: سَار إِبْرَاهِيم نيال إِلَى هَمدَان، وَسَار طغرلبك فِي أثر أَخِيه أَيْضا إِلَى هَمدَان وَتَبعهُ أتراك بَغْدَاد، فوصل البساسيري بَغْدَاد وَمَعَهُ قُرَيْش بن بدران الْعقيلِيّ فِي مِائَتي فَارس وَمَعَهُ أَرْبَعمِائَة غُلَام، وخطب البساسيري بِجَامِع الْمَنْصُور للمستنصر بِاللَّه الْعلوِي خَليفَة مصر وَأذن بحي على خير الْعَمَل، ثمَّ عبر عسكره إِلَى الزَّاهِر وخطب بِالْجمعَةِ الْأُخْرَى من وُصُوله للمصري بِجَامِع الرصافة.
وَجرى بَينه وَبَين مخالفيه حروب فِي أثْنَاء الْأُسْبُوع وَنهب البساسيري الْحَرِيم وَدخل الْبَاب النوبي، فَركب الْخَلِيفَة الْقَائِم بِالسَّوَادِ والبردة وَبِيَدِهِ سيف وعَلى رَأسه اللِّوَاء وَحَوله زمرة من العباسيين والخدم بِالسُّيُوفِ المسللة، وسرى النهب إِلَى بَاب الفردوس فَرجع الْقَائِم وَصعد المنظرة وَمَعَهُ رَئِيس الرؤساء فَقَالَ لقريش بن بدران: يَا علم الدّين أَمِير الْمُؤمنِينَ يستذم بذمامك وذمام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذمام الْعَرَب على نَفسه وَمَاله وَأَهله وَأَصْحَابه، فَأعْطى قُرَيْش مخصرته ذماما، فَنزل الْقَائِم وَرَئِيس الرؤساء إِلَى قُرَيْش وسارا مَعَه
فَأرْسل البساسيري يذكر قُريْشًا بِمَا عاهده عَلَيْهِ من الْمُشَاركَة فِي الْأَمر، ثمَّ اتفقَا على أَن يتسلم البساسيري رَئِيس الرؤساء لِأَنَّهُ عدوه.
وَبَقِي الْخَلِيفَة عِنْد قُرَيْش ونهبت دَار الْخلَافَة وحريمها أَيَّامًا، ثمَّ سلم قُرَيْش الْخَلِيفَة إِلَى ابْن عَمه مهاوش، فَسَار مهاوش والخليفة فِي هودج إِلَى حَدِيثه عانة فَنزل بهَا وَسَار أَصْحَاب الْخَلِيفَة إِلَى طغرلبك.
وَركب البساسيري يَوْم النَّحْر بألوية خَليفَة مصر وَأحسن وَلم يتعصب لمَذْهَب، وأفرد البساسيري لوالدة الْقَائِم دَارا بجاريتين وجراية، وأحضر رَئِيس الرؤساء من الْحَبْس وَقد ألبسوه طرطورا استهزاء بِهِ وطافوا بِهِ إِلَى النجمي وَهُوَ يقْرَأ: {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء} . وبصق أهل الكرخ فِي وَجهه، ثمَّ ألبس جلد ثَوْر وَجعلت قرونه على رَأسه وَفِي فكه كلابان من حَدِيد وصلب فَمَاتَ آخر النَّهَار.
وَكتب البساسيري يعلم الْعلوِي بِمصْر بِالْخطْبَةِ لَهُ، وَكَانَ وَزِير مصر ابْن أخي أبي الْقَاسِم المغربي مِمَّن هرب من البساسيري فبرد فعله وخوفه من عاقبته فَعَادَت أجوبته بعد مُدَّة بِخِلَاف مَا أمله، ثمَّ سَار البساسيري إِلَى وَاسِط وَالْبَصْرَة فملكهما.
وَأما طغرلبك: فَكَانَ قد خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم قبل هَذِه مرَارًا وَيَعْفُو عَنهُ وَفِي هَذِه السّنة خرج عَلَيْهِ فَأسرهُ طغرلبك وخنقه بِوتْر ثمَّ سَار إِلَى الْعرَاق لرد الْخَلِيفَة الْقَائِم إِلَى خِلَافَته، فَلَمَّا قَارب بَغْدَاد انحدر مِنْهَا خدم البساسيري وَأَوْلَاده فِي دجلة سنة إِحْدَى وَخمسين، وَوصل طغرلبك بَغْدَاد واستقدم مهاوشا صُحْبَة الْخَلِيفَة فَأرْسل الْخيام الْعَظِيمَة والآلات لتلقي الْقَائِم، وَوصل الْخَلِيفَة النهروان رَابِع وَعشْرين ذِي الْقعدَة، وَخرج طغرلبك(1/352)
لتلقيه وَاعْتذر لَهُ عَن تَأَخره بِقِتَال أَخِيه إِبْرَاهِيم وبوفاة أَخِيه دَاوُد بخراسان، وَسَار الْخَلِيفَة ووقف طغرلبك فِي الْبَاب النوبي مَكَان الْحَاجِب وَأخذ بلجام بغلة الْخَلِيفَة إِلَى دَاره يَوْم الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين.
ثمَّ توجه جَيش طغرلبك لقِتَال البساسيري فِي ثامن ذِي الْحجَّة، فهزمت أَصْحَاب البساسيري وَقتل البساسيري وَبعث طغرلبك بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَة فعلق وَأخذت أَمْوَال البساسيري ونساؤه وَأَوْلَاده.
والبساسيري: أَصله مَمْلُوك تركي لبهاء الدولة بن بويه واسْمه أرسلان نِسْبَة إِلَى بسا بِفَارِس الَّتِي مِنْهَا سَيّده.
وفيهَا: - أَعنِي سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة - توفّي شهَاب الدولة أَبُو الفوارس بن مَنْصُور بن الْحُسَيْن الْأَسدي صَاحب الجزيرة، وَاجْتمعت عشيرته على ابْنه صَدَقَة.
وفيهَا: توفّي الْملك الرَّحِيم أَبُو نصر خسرو فَيْرُوز آخر مُلُوك بني بويه بقلعة الرّيّ مسجونا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الثِّقَة الصَّحِيح الِاعْتِقَاد وَله مائَة وسنتان وَكَانَ صَحِيح الْحَواس والأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك وَدفن عِنْد الإِمَام أَحْمد.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن حبيب الْمَاوَرْدِيّ وَله الْحَاوِي وَغَيره وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ، أَخذ الْفِقْه عَن أبي حَامِد الإسفرايني وَغَيره، وَله تَفْسِير الْقُرْآن والنكت والعيون وَالْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وقانون الوزارة وَنسبَة الْمَاوَرْدِيّ: إِلَى بيع الماورد على غير قِيَاس.
وفيهَا: زلزل الْعرَاق والموصل سَاعَة، فخربت وأهلكت كثيرا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك فرخزاد بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة بالقولنج، وَملك بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فَأحْسن وغزا الْهِنْد وَفتح حصونا وَصَالح دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب خُرَاسَان.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي دَاوُد الْمَذْكُور أَخُو طغرلبك وعمره سَبْعُونَ سنة وَهُوَ يُقَاتل آل سبكتكين، وَملك بعده ابْنه ألب أرسلان، وَكَانَ لداود من الْبَنِينَ ألب أرسلان وياقوتي وفاروت بك وَسليمَان، فَتزَوج طغرلبك بِأم سُلَيْمَان امْرَأَة أَخِيه.
وفيهَا: قدم طغرلبك بَغْدَاد وَأعَاد الْخَلِيفَة وَقتل البساسيري كَمَا ذكرنَا.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن مَحْمُود بن إِبْرَاهِيم الزوزي الْمَنْسُوب إِلَيْهِ رِبَاط الزوزي. قبالة جَامع الْمَنْصُور بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا تسلم الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري من بَين(1/353)
يَدي الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر السّجل بتأميره وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر، فعلا قدره وَعظم شَأْنه، وَكَانَ سَبَب شهرته وتقدمه أَنه وَفد إِلَى حَضْرَة الْمُسْتَنْصر رَسُولا من قبل الْأَمِير تَاج الدولة بن مرداس سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ومدح الْمُسْتَنْصر بقوله:
(طهر الْهدى وتجمل الْإِسْلَام ... وَابْن الرَّسُول خَليفَة وَإِمَام)
(مستنصر بِاللَّه لَيْسَ يفوتهُ ... طلب وَلَا يعتاص عَنهُ مرام)
(حاط الْعباد وَبَات يسهر عينه ... وعيون سكان الْبِلَاد نيام)
(قصر الإِمَام أبي تَمِيم كعبة ... وَيَمِينه ركن لَهَا ومقام)
(لَوْلَا بَنو الزهراء مَا عرف التقي ... فِينَا وَلَا تبع الْهدى الأقوام)
(يَا آل أَحْمد ثبتَتْ أقدامكم ... وتزلزلت بعدكم الْأَقْدَام)
(لَسْتُم وغيركم سَوَاء أَنْتُم ... للدّين أَرْوَاح وهم أجسام)
(يَا آل طه حبكم وولاؤكم ... فرض وَإِن عذل الوشاة ولاموا)
وَهِي طَوِيلَة، ومدحه سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ أنْجز لَهُ وعده بالتأمير فَقَالَ فِيهِ قصيدة مِنْهَا:
(أما الإِمَام فقد وَفِي بمقاله ... صلى الْإِلَه على الإِمَام وَآله)
(لذنا بجانبه فَعم بفضله ... وببذله وبعفوه وبماله)
(لَا خلق أكْرم من معد شِيمَة ... محمودة فِي قَوْله وفعاله)
(فاقصد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَا ترى ... بؤسا وَأَنت مظلل بظلاله)
(زَاد الإِمَام على البحور بفضله ... وعَلى البدور بحسنة وجماله)
(وعَلى سَرِير الْملك من آل الْهدى ... من لَا تمر الفاحشات بِبَالِهِ)
(النَّصْر والتأييد فِي أَعْلَامه ... وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي سرباله)
(مستنصر بِاللَّه ضَاقَ زَمَانه ... عَن شُبْهَة وَنَظِيره ومثاله)
وَكَانَ الَّذِي كتب لَهُ سجل التأمير وسعى فِي مَصَالِحه ونهض فِيهِ هُوَ الشَّيْخ الْأَجَل أَبُو عَليّ صَدَقَة بن إِسْمَاعِيل بن فَهد الْكَاتِب بِحَضْرَة الْمُسْتَنْصر، فَشكر الْأَمِير أَبُو الْفَتْح سَعْيه فِي قصيدة مِنْهَا قَوْله:
(قد كَانَ صبري عيل فِي طلب العلى ... حَتَّى استندت إِلَى ابْن إسماعيلا)
(فظفرت بالخطر الْجَلِيل وَلم يزل ... يحوي الْجَلِيل من اسْتَعَانَ جَلِيلًا)
(لَوْلَا الْوَزير أَبُو عَليّ لم أجد ... أبدا إِلَى الشّرف الْعلي سَبِيلا)
(إِن كَانَ ريب الدَّهْر قبح مَا مضى ... عِنْدِي فقد صَار الْقَبِيح جميلا)
(وَأجل مَا جلّ الرِّجَال صلَاتهم ... للراغبين الْعِزّ والتبجيلا)
(الْيَوْم أدْركْت الَّذِي أَنا طَالب ... والأمس كَانَ طلابه تعليلا)
وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت من شعر الْأَمِير أبي الْفَتْح الْمَذْكُور كثيرا، فَإِنَّهُ السهل الْمُمْتَنع سَلس القياد عذب الْأَلْفَاظ حسن السبك لطيف الْمَقَاصِد عري عَن الحشو نَالَ رَحمَه اللَّهِ(1/354)
التأمير الَّذِي مَاتَ المتنبي بحسرته ورحل إِلَى كافور بِسَبَبِهِ، وَتُوفِّي الْأَمِير أَبُو الْفَتْح بسروج منتصف شعْبَان سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك مَحْمُود بن نصر بن صَالح بن مرداس حلب كَمَا مر.
قلت: وَفِي مَحْمُود هَذَا يَقُول ابْن أبي حَصِينَة من قصيدة:
(كفي ملامك فالتبريح يَكْفِينِي ... أَو جربي بعض ماألقي ولوميني)
(برمل يبرين أَصْبَحْتُم فَهَل علمت ... رمال يبرين أَن الشوق يبرين)
(أَهْوى الحسان وَخَوف الله يردعني ... عَن الْهوى والعيون النجل تغويني)
(مَا بَال أَسمَاء تلويني مواعدها ... أكل ذَات جمال ذَات تلوين)
(كَانَ الشَّبَاب إِلَى هِنْد يقربنِي ... وشاب رَأْسِي فَصَارَ الْيَوْم يقصيني)
(يَا هِنْد أَن سَواد الرَّأْس يصلح ... للدنيا وَأَن بَيَاض الرَّأْس للدّين)
(لست امْرَءًا غيبَة الْأَحْرَار من شيمي ... وَلَا النميمة من طبعي وَلَا ديني)
(دَعْنِي وحيداً أعاني الْعَيْش منفرداُ ... فبعض معرفتي فِي النَّاس تكفيني)
(مَا ضرني ودفاع الله يعصمني ... من بَات يهدمني وَالله يبنيني)
(وَمَا أُبَالِي وَصرف الدَّهْر يسخطني ... وسيب نعماك يَا ابْن السَّيْل يرضيني)
(أَبَا سَلامَة عش واسلم حَلِيف على ... وسؤدد بشعاع النَّجْم مقرون)
(أَشْقَى عداكم وأهوى أَن أدين لكم ... وللعدا دينهم فِيكُم ولي ديني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفيت وَالِدَة الْقَائِم بِاللَّه الأرمنية الأَصْل، وَاسْمهَا قطر الندى.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثَة وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْمعز بن باديس صَاحب إفريقية بِضعْف الكبد وَمُدَّة ملكه سبع وَأَرْبَعُونَ سنة، كَانَ عمره لما ملك إِحْدَى عشرَة سنة وَقيل: ثَمَان وَملك بعده ابْنه تَمِيم.
وفيهَا: توفّي قُرَيْش بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب صَاحب الْموصل ونصيبين بنصيبين، وَقَامَ بعده ابْنه شرف الدولة أَبُو المكارم مُسلم.
وفيهَا: توفّي نصر الدولة أَبُو نصر أَحْمد بن مَرْوَان الْكرْدِي صَاحب ديار بكر وعمره نَيف وَثَمَانُونَ وإمارته اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة، وتنعم بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ اشْترى بعض مغنياته بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وَملك خَمْسمِائَة سَرِيَّة وتوابعهن وَخَمْسمِائة خَادِم وآلات مجْلِس يزِيد على مِائَتي ألف دِينَار وَعلم طباخيه بِمصْر، ووزر لَهُ أَبُو الْقَاسِم المغربي وفخر الدولة بن جهير، وقصده الشُّعَرَاء وَالْعُلَمَاء، وَملك بعده ابْنه نصر ميافارقين وَابْنه الآخر سعيد آمد.
وفيهَا: توفّي شكر الْعلوِي الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة، وَمن شعره الْحسن قَوْله:(1/355)
(قوض خيامك عَن أَرض تضام بهَا ... وجانب الذل أَن الذل يجْتَنب)
(وارحل إِذا كَانَ فِي الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب فِي أوطانه حطب)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تزوج طغرلبك بنت الْخَلِيفَة الْقَائِم وَكَانَ العقد فِي شعْبَان بِظَاهِر تبريز، توكل فِي تَزْوِيجهَا عَن أَبِيهَا عميد الْملك.
وفيهَا: استوزر الْقَائِم فَخر الدولة أَبَا نصر بن جهير.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلامَة بن جَعْفَر الْقُضَاعِي الْفَقِيه الشَّافِعِي صَاحب كتاب الشهَاب وَكتاب الأنباء عَن الْأَنْبِيَاء وتواريخ الْخُلَفَاء وَكتاب خطط مصر، قضى بِمصْر عَن العلويين وأرسلوه إِلَى الرّوم، وقضاعة من حمير وَقيل: هُوَ معد بن عدنان.
قلت: وفيهَا عمر الْمُسلمُونَ حصن المرقب بساحل جبلة وباعوه للروم بِمَال عَظِيم وقبضوه، وَجَاء من الرّوم نَحْو من ثلثمِائة رجل ليتسلموه فَقتلُوا مِنْهُم وأسروا البَاقِينَ وفدوهم بِمَال كثير، وَكَانَ بَيْعه للروم حِيلَة نصبها الْمُسلمُونَ فتمت وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: جَاءَت يرقة وتبعتها صَيْحَة سقط لَهَا النَّاس لوجوههم، وَمَاتَتْ بهَا طيور كَثِيرَة بالمعرة.
وفيهَا: هم أهل معرة النُّعْمَان فِي عمل السُّور عَلَيْهَا ونصبوا عَلَيْهِ المناجيق والعجل يجر الْحِجَارَة وَالْجمال تحمل من شبيث وَغَيره، وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْمَاضِي خَليفَة بن جهان ينْفق عَلَيْهِ من مَاله وجاهه حَتَّى كمل فِي شهور سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم.
أَخْبَار الْيمن من تَارِيخ عمَارَة
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: تَكَامل الْيمن لعَلي بن القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الصليحي، وَكَانَ القَاضِي مُحَمَّد سنياً مُطَاعًا فِي رجال حزاز وهم أَرْبَعُونَ ألفا، فتعلم ابْنه على التَّشَيُّع وَأخذ أسرار الدعْوَة من عَامر بن عبد الله الرواحي الْيَمَانِيّ أكبر دعاة الْمُسْتَنْصر خَليفَة مصر وَصَارَ عَليّ بن مُحَمَّد دَلِيلا لحجاج الْيمن على طَرِيق الطَّائِف وبلاد السرو وَبَقِي كَذَلِك سِنِين.
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة ثار بستين رجلا وَصعد إِلَى رَأس مشار أَعلَى ذرْوَة من جبال حران، واستفحل أمره شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى كمل لَهُ ملك الْيمن فِي هَذِه السّنة، فولى على زبيد أسعد بن شهَاب بن عَليّ الصليحي أَخا زَوجته أَسمَاء وَابْن عَمه، وَبَقِي عَليّ مَالِكًا لليمن حَتَّى حج فقصده بَنو نجاح وقتلوه بَغْتَة هجماً فِي قَرْيَة أم الدهيم وبئر أم معبد فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّتْ التهائم لبني نجاح، وَصَنْعَاء لِأَحْمَد بن عَليّ الصليحي الْمَذْكُور الْملك المكرم.
ثمَّ جمع المكرم الْعَرَب وَقصد سعيد بن نجاح بزبيد وقاتله وهزمه إِلَى جِهَة دهلك،(1/356)
وَملك المكرم زبيد سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ ملكهَا ابْن نجاح سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ قتل المكرم سعيداً سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ ملك جياش أَخُو سعيد، وَبَقِي المكرم لَهُ صنعاء حَتَّى مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وَتَوَلَّى بعده ابْن عَمه أَبُو حمير سبأ بن أَحْمد بن المظفر بن عَليّ الصليحي فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ آخر مُلُوك الصليحيين.
وَبعده أرسل من مصر عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن نجيب الدولة سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة وَقَامَ بالدعوة والمملكة الَّتِي كَانَت بيد سبأ.
ثمَّ وصل إِلَى جبال الْيمن رَسُول خَليفَة مصر وَقبض على ابْن نجيب الدولة بعد سنة عشْرين وَخَمْسمِائة، وانتقل الْملك والدعوة إِلَى آل الزريع بن الْعَبَّاس بن المكرم وهم أهل عدن من هَمدَان بن جشم، وَبَنُو المكرم هَؤُلَاءِ يعْرفُونَ بآل الذِّئْب، وَكَانَت عدن لزريع بن الْعَبَّاس بن المكرم ولعمه مَسْعُود بن المكرم فقتلا على زبيد مَعَ الْملك الْمفضل فولي بعدهمَا ولداهما أَبُو السُّعُود بن زُرَيْع وَأَبُو المغارات بن مَسْعُود إِلَى أَن مَاتَا، وَولي بعدهمَا مُحَمَّد بن أبي الغارات، ثمَّ أَخُوهُ عَليّ، ثمَّ سبأ بن أبي السُّعُود بن زُرَيْع وَبَقِي حَتَّى توفّي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، ثمَّ تولى بعده ابْنه الْأَعَز بن سبأ وَكَانَ مقَام عَليّ بالدملوه فَمَاتَ بالسل فَملك أَخُوهُ الْمُعظم مُحَمَّد بن سبأ، ثمَّ ابْنه عمرَان بن مُحَمَّد بن سبأ، وَتُوفِّي مُحَمَّد بن سبأ فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَتُوفِّي عمرَان بن مُحَمَّد فِي شعْبَان سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَخلف عمرَان ابْنَيْنِ صغيرين مُحَمَّدًا وَأَبا السُّعُود.
وَمِمَّنْ ولي من الصليحيين الملكة الْحرَّة سيدة بنت أَحْمد بن جَعْفَر بن مُوسَى الصليحي ولدت سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة وربتها أَسمَاء بنت شهَاب، وَتَزَوجهَا ابْن أَسمَاء أَحْمد المكرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وطالت مُدَّة الْحرَّة ولاها زَوجهَا فِي حَيَاته فَقَامَتْ بِالْأَمر وَالْحَرب واشتغل هُوَ بِالْأَكْلِ وَالشرب، وَمَات زَوجهَا وَتَوَلَّى ابْن عَمه سبأ وَهِي فِي الْملك، وَمَات سبأ وَتَوَلَّى ابْن نجيب الدولة فِي أَيَّامهَا واستمرت بعده حَتَّى توفيت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة. وَمِمَّنْ كَانَ لَهُ شركَة فِي الْملك الْملك الْمفضل أَبُو البركات بن الْوَلِيد الْحِمْيَرِي صَاحب التعكر، وَكَانَ الْمفضل يحكم بَين يَدي الْحرَّة يحتجب حَتَّى لَا يُرْجَى لقاؤه ثمَّ يظْهر للقوي والضعيف حَتَّى توفّي سنة أَربع وَخَمْسمِائة.
وَملك بعده بِلَاده ومعاقله ابْنه مَنْصُور يُقَال لَهُ: الْمَنْصُور، من حِين وَفَاته إِلَى سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، فَابْتَاعَ مُحَمَّد بن سبأ بن أبي السُّعُود مِنْهُ المعاقل الَّتِي كَانَت للصليحيين بِمِائَة ألف دِينَار وعدتها ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حصناً وبلداً وَبَقِي الْمَنْصُور لنَفسِهِ حَتَّى توفّي بعد أَن ملك نَحْو ثَمَانِينَ سنة، وَسَيَأْتِي بَاقِي أَخْبَار الْيمن.(1/357)
وفيهَا: أَعنِي سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: قدم طغرلبك بَغْدَاد وَدخل بابنة الْخَلِيفَة، وثقلوا على النَّاس بِالْإِخْرَاجِ من الدّور والتعرض إِلَى الْحَرِيم.
وفيهَا: سَار طغرلبك بعد دُخُوله بابنة الْخَلِيفَة إِلَى بلد الْجَبَل فوصل إِلَى الرّيّ فَمَرض وَتُوفِّي ثامن رَمَضَان مِنْهَا وعمره سَبْعُونَ تَقْرِيبًا وَكَانَ عقيماً، واستقرت السلطنة بعده لِابْنِ أَخِيه ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق.
وفيهَا: دخل الصليحي صَاحب الْيمن مَكَّة مَالِكًا لَهَا، فَأحْسن وجلب الأقوات.
وفيهَا: زلزل الشَّام فخرب سور طرابلس.
وفيهَا: ولى الْمُسْتَنْصر بَدْرًا أَمِير الجيوش دمشق، ثمَّ ثارت الْجند ففارقها.
وفيهَا: توفّي سعيد بن نصر الدولة بن أَحْمد بن مَرْوَان صَاحب آمد وديار بكر.
قلت: وفيهَا توفّي بالمعرة أَبُو الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْفضل بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْمُهَذّب التنوخي المعري، قَرَأَ الْقُرْآن الْعَظِيم للسبعة وليعقوب الْحَضْرَمِيّ وَأبي جَعْفَر وَشَيْبَة ثَمَانِيَة وَعشْرين رِوَايَة وَلَقي شُيُوخ الْقُرَّاء بحلب وَغَيرهَا وَقَرَأَ عَلَيْهِ خلق، وَكَانَ مُفَسرًا خَطِيبًا شَاعِرًا رَحمَه الله، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قبض ألب أرسلان على عميد الْملك الْوَزير أبي نصر مَنْصُور بن مُحَمَّد الكندري وَزِير عَمه طغرلبك سعى بِهِ نظام الْملك وَزِير ألب أرسلان وَحبس فِي مرو الروذ، ثمَّ قَتله بعد سنة وَقطع رَأسه ونقلت جثته إِلَى كندر فَدفن عِنْد أَبِيه وَكَانَ عمره نيفاً وَأَرْبَعين، وَكَانَ خَصيا لِأَن طغرلبك أرْسلهُ ليخطب لَهُ امْرَأَة فَتَزَوجهَا هُوَ فخصاه.
وَكَانَ عميد الْملك كثير الوقيعة فِي الإِمَام الشَّافِعِي، خَاطب طغرلبك فِي لعن الرافضة على المنابر بخراسان فَأذن لَهُ بذلك، فَأمر بلعنهم وأضاف إِلَيْهِم الأشعرية، فَأَنف من ذَلِك أَئِمَّة خُرَاسَان مِنْهُم أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَأقَام بِمَكَّة أَربع سِنِين فَسُمي إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَمن الْعجب: أَن ذكر عميد الْملك وأنثييه دفنت بخوارزم لما خصي، وَدَمه سفح بمرو، وَجَسَده دفن بكندر، وَرَأسه إِلَّا قحفه دفن بنيسابور، وقحفه نقل إِلَى كرمان لِأَن نظام الْملك كَانَ هُنَاكَ:
قلت:
(مَا لعميد ملكهم ... من عَاصِم أَو نَافِع)
(وكل ذَا يَا مالكي ... بطعنه فِي الشَّافِعِي)
وَالله أعلم.
وفيهَا: ملك ألب أرسلان قلعة جيلان، ثمَّ حاصر عَمه بيغو فِي هراة وملكها وَأكْرم(1/358)
عَمه، ثمَّ ملك صغانيان عنْوَة وَأسر صَاحبهَا مُوسَى.
وفيهَا: أَمر ألب أرسلان بِعُود بنت الْخَلِيفَة إِلَى بَغْدَاد، وَكَانَت قد سَارَتْ إِلَى طغرلبك بِغَيْر رِضَاء الْخَلِيفَة.
وفيهَا: اقتتل ألب أرسلان وقطلومش قرب الرّيّ، فَوجدَ قطلومش مَيتا بعد هزيمَة عسكره فَبكى عَلَيْهِ ألب أرسلان لأجل الْقَرَابَة وَالرحم وَسَلاهُ نظام الْملك وَدخل ألب أرسلان الرّيّ فِي الْمحرم مِنْهَا. وقطلومش السلجوقي: هُوَ جد الْمُلُوك بقونية وأقصرا وملطية إِلَى أَيَّام التتر وَسَيَأْتِي، وَكَانَ قطلومش قد أتقن علم النُّجُوم.
وفيهَا: شاع بِبَغْدَاد وَالْعراق وخوزستان وَغَيرهَا أَن أكراداً تصيدوا فَرَأَوْا فِي الْبر خياماً سَوْدَاء فِيهَا لطم وعويل وَقَائِل يَقُول: مَاتَ سيدوك ملك الْجِنّ وَأي بلد لم يلطم أَهله قلع أَصله، فَصدق ذَلِك السفلة وَخرج رِجَالهمْ وَنِسَاؤُهُمْ يلطمون.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَجرى بالموصل كَذَلِك وَنحن بهَا سنة سِتّمائَة أصَاب النَّاس وجع الْحلق، فشاع أَن امْرَأَة من الْجِنّ اسْمهَا أم عنقود مَاتَ ابْنهَا، وَمن لَا يعْمل مأتماً أَصَابَهُ هَذَا الْمَرَض، فَكَانَ النِّسَاء والأوباش يلطمون على عنقود وَيَقُولُونَ:
(يَا أم عنقود اعذرينا ... قد مَاتَ عنقود وَمَا درينا)
وَإِلَى الْآن يَقع النَّاس فِي هَذَا الهذيان.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْقَاسِم بن عَليّ بن برهَان الْأَسدي النَّحْوِيّ الْمُتَكَلّم لَهُ اخْتِيَار فِي الْفِقْه مَشى فِي الْأَسْوَاق مَكْشُوف الرَّأْس وَلم يقبل من أحد شَيْئا؛ مَال إِلَى مَذْهَب مرجئة الْمُعْتَزلَة واعتقد أَن الْكفَّار لَا يخلدُونَ فِي النَّار، وَجَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا جَاوز ألب أرسلان جيحون إِلَى جند وصيران وهما عِنْد بخارا وقبر جده سلجوق بجند فَخرج صَاحب جند إِلَى طَاعَته فأقره على مَكَانَهُ، وَوصل إِلَى كركنج خوارزم وَسَار مِنْهَا إِلَى مرو.
وفيهَا: ابْتَدَأَ نظام الْملك بعمارة الْمدرسَة النظامية بِبَغْدَاد. قلت: وفيهَا أقطعت معرة النُّعْمَان للْملك هَارُون بن خَان ملك التّرْك فِيمَا وَرَاء نهر جيحون أَخذهَا حَربًا وخراجا، وَوصل إِلَيْهَا مَعَه ترك وَدَيْلَم وكرد وكرج نَحْو ألف رجل مَعَ حاشيتهم وأتباعهم وتعففوا فِيهَا عَن الأذية حَتَّى سقوا دوابهم المَاء بِثمنِهِ وَنزل بالمصلى، وَجعل فِي حصن المعرة بعض حجابه، وَأقَام يَسِيرا ثمَّ نقل إِلَى حلب وَعوض عَن المعرة بِمَال، قدم هَذَا إِلَى الشَّام مغاضبا لِأَبِيهِ، وَولي المعرة بعده الْأَمِير فَارس الدولة يانس الصَّالِحِي وَالله أعلم. ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أقطع ألب أرسلان شرف الدولة مُسلم بن قرواش بن بدران صَاحب الْموصل الأنبار وهيت مَعَ الْموصل.(1/359)
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عَليّ الْبَيْهَقِيّ الخسروجردي الشَّافِعِي إِمَام فِي الحَدِيث وَالْفِقْه زاهد بنيسابور وَنقل إِلَى بيهق وبيهق قرى مجتمعة على عشْرين فرسخاً من نيسابور، وَهُوَ من خسروجرد قَرْيَة من بيهق رَحل فِي طلب الحَدِيث إِلَى الْعرَاق وَالْجِبَال والحجاز، وَهُوَ أول من جمع نُصُوص الشَّافِعِي فِي عشرات مجلدات، وَمن تصانيفه السّنَن الْكَبِير وَالسّنَن الصَّغِير وَدَلَائِل النبوّة، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: مَا من شَافِعِيّ الْمَذْهَب إِلَّا وَللشَّافِعِيّ عَلَيْهِ منّة إِلَّا أَحْمد الْبَيْهَقِيّ فَإِن لَهُ على الشَّافِعِي منّة، لِأَنَّهُ كَانَ اكثر النَّاس نصرا لمَذْهَب الشَّافِعِي، وَكَانَ قانعاً من الدُّنْيَا بِالْقَلِيلِ رَحْمَة الله تَعَالَى.
وفيهَا: توفّي أَبُو يعلى مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْحسن الْفراء الْحَنْبَلِيّ وعنة انْتَشَر مَذْهَب أَحْمد، وَله كتاب الصِّفَات فِيهِ كل عَجِيبَة وَيدل على التجسيم الْمَحْض، كَانَ ابْن التَّيْمِيّ الْحَنْبَلِيّ يَقُول: لقد خرى ابو يعلى الْفراء على الْحَنَابِلَة خرية لَا يغسلهَا المَاء.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ أَبُو الْحسن عَليّ بن اسماعيل ابْن سَيّده المرسي إِمَام فِي اللُّغَة لَهُ الْمُحكم وَغَيره وَكَانَ ضريراً، توفّي بدانية من شَرق الأندلس وعمره نَحْو سِتِّينَ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة تمت النظامية وتقرّر لتدريسها الشَّيْخ ابو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَاجْتمعَ النَّاس فَتَأَخر الشَّيْخ فَإِنَّهُ سمع أَن أرْضهَا مَغْصُوبَة فدرس بهَا يُوسُف بن الصّباغ صَاحب الشَّامِل عشْرين يَوْمًا ثمَّ ألحوا على الشَّيْخ حَتَّى درّس بهَا.
قلت: وَابْن الصّباغ الْمَذْكُور هُوَ أَبُو نصر عبد السَّيِّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، وَأما كَون اسْمه يُوسُف فَلَا نعرفه وَالله أعلم.
وفيهَا: كَانَ بالبلاد سوى الرّوم غلاء عَظِيم وَمَوْت لَا سِيمَا بحلب فَإِنَّهُ مَاتَ بهَا فِي شهر رَجَب خَاصَّة زهاء أَرْبَعَة آلَاف، وَمَات جمَاعَة من ساداتها وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: زلزلت فلسطين ومصر حَتَّى طلع المَاء من رُؤُوس الْآبَار وردم عَالم عَظِيم وَزَالَ الْبَحْر عَن السحال مسيرَة يَوْم فالتقط النَّاس من أرضة، فَعَاد المَاء وَأهْلك خلقا.
قلت: وفيهَا: فتح الله على الْمُسلمين حصن أرتاح وَقد اجْتمع إِلَيْهِ من أهل النَّصْرَانِيَّة مَا حوله وَقتل من رِجَاله نَحْو ثَلَاثَة آلَاف حاصره الْملك هَارُون بن خَان خَمْسَة أشهر، وَهُوَ فتح عَظِيم فَإِن أَعماله كَانَت بِمِقْدَار أَعمال الشَّام من الْفُرَات إِلَى العَاصِي إِلَى أفامية إِلَى بَاب انطاكيا إِلَى الأثارب، وأحصى قوم بطرابلس فِي مجْلِس القَاضِي ابْن عمار أَن المفقودين من الرّوم فِي هَذِه السّنة إِلَى شهر رَمَضَان فِي الدَّرْب إِلَى أفامية قتلا وأسراً ثلثمِائة ألف، ذكره ابْن الْمُهَذّب.
وفيهَا - أَعنِي سنة سِتِّينَ -: فِي أيار جَاءَت رعدة عَظِيمَة بالمعرة غشي من صَوتهَا على كثير من الرِّجَال وَالصبيان وَالنِّسَاء، وَجَاء بعْدهَا سَحَاب عَظِيم معظمه على جبل بني عليم(1/360)
وَفِيه برد فَقلع الشّجر وَجرى مِنْهُ سيل فِي وَادي شنان الَّذِي فِيهِ الْعين فَكَانَت من الْجَبَل القبلي إِلَى الْجَبَل الشمالي وغطى شجر الْجَوْز وَأخذ صَخْرَة يعجز عَن قَلبهَا خَمْسُونَ رجلا وَمضى بهَا فَلم يعرف لَهَا ذَلِك الْوَقْت مَوضِع، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ ابو مَنْصُور عبد الْملك بن يُوسُف من أَعْيَان الزهاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا وَقعت فتْنَة بَين المغاربة والمشارقة بِدِمَشْق فَضربت دَار جوَار الْجَامِع بالنَّار فاتصلت النَّار بالجامع وعظمت فدثرت محاسنه وزالت اعماله النفيسة.
قلت: وفيهَا أَخذ ملك الرّوم حصن منبج وشحنة رجَالًا وعدّة، ثمَّ وقف على عزاز سَاعَة ثمَّ رَحل عَنْهَا , وسلط الله عَلَيْهِ وعَلى من مَعَه الغلاء والقلة وَمَات مِنْهُم خلق كثير فَرجع حافلاً.
وفيهَا: جمع قطبان أنطاكيا وقسها الْمَعْرُوف بالبخت جموعاً وطلع إِلَى حصن أشعوبا من قرى المعرة بِعَمَلِهِ عَملهَا لَهُم قوم يعْرفُونَ ببني ربيع من أهل جوزف ففتحوه وَقتلُوا وأسروا رِجَاله وواليه بنادراً التركي، فَبلغ الْخَبَر الْأَمِير عز الدولة مَحْمُود بن نَاصِر بن صَالح وَهُوَ يسير فِي ميدان حلب، فَسَار إِلَيْهِ وَلم يدْخل الْبَلَد وَمَعَهُ نَحْو خمسين ألفا من التّرْك وَالْعرب وَأَخذه من النَّصَارَى وَقتل مِنْهُم أَلفَيْنِ وَسَبْعمائة نفس، وَهَذَا الْحصن كَانَ قد عمره حُسَيْن بن كَامِل بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن الدوح الْعمريّ المرثدي الْكلابِي وَمَعَهُ جمَاعَة من المعرة وَكفر طَالب وضياعهما فِي سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وأكمل عِمَارَته فِي مُدَّة يسيرَة فتعجب النَّاس لسرعة عِمَارَته. ثمَّ فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة اقْترض عز الدولة مَحْمُود من الرّوم أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار وَرهن وَلَده نصرا عَلَيْهَا وعَلى هدم الْحصن الْمَذْكُور، فَجمع النَّاس من المعرة وَكفر طَالب على هَدمه، وَللَّه قَول من قَالَ:
(وهدّوا بِأَيْدِيهِم حصنهمْ ... وأعينهم حزنا تَدْمَع)
(عجبت لسرعة بُنْيَانه ... وَلَكِن تخريبه أسْرع)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غلت مصر حَتَّى أكل بعض النَّاس بَعْضًا ونزح من الْقدر، وَاحْتَاجَ الْمُسْتَنْصر فباغ ثَمَانِينَ ألف قِطْعَة بلور كبار وخمسا وَسبعين ألف قِطْعَة من الديباج وَأحد عشر ألف قزاغند وَعشْرين ألف سيف محلى وَوصل من ذَلِك مَعَ التُّجَّار إِلَى بَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قطع مَحْمُود بن نصر بن صَالح بن مرداس بحلب خطْبَة الْمُسْتَنْصر وخطب للقائم العباسي.(1/361)
وفيهَا: سَار ملك الرّوم أرمانوس بجموع من الرّوم والجركس والروس وَوصل ملاز كرد، فَسَار إِلَيْهِ ألب أسلان وَسَأَلَ الْهُدْنَة فَامْتنعَ ملك الرّوم فَاقْتَتلُوا، فَانْهَزَمَ الرّوم وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وَأسر أرمانوس، ثمَّ أطلقهُ ألب أرسلان على هدنة وَمَال وَأسرى.
قلت: وَحمل ألب أرسلان ملك الرّوم بازيا وَخرج يتصيد ممتهنا لَهُ بذلك، ثمَّ أعْتقهُ وجهز مَعَه جَيْشًا عَظِيما من التّرْك فَإِن الرّوم ملكوا عَلَيْهِم غَيره وَوَقعت بَين الأول وَالْآخر حروب وَالله أعلم. وفيهَا: قصد أتسزين أبق الْخَوَارِزْمِيّ من أكبر أُمَرَاء ملكشاه بن ألب أرسلان الشَّام، وَأخذ الرملة والقدس من المصريين وَحصر دمشق وَلم يملكهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد الفوراني الشَّافِعِي وَله الْإِبَانَة.
قلت: أَخذ عَن الْقفال الشَّاشِي وصنف فِي الْفُرُوع وَالْأُصُول وَالْخلاف والجدل والملل والنحل وَله فِي الْمَذْهَب الْوُجُوه الجيدة وطبق الأَرْض بالتلامذة، وَقيل: كَانَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ شَاب يحضر حلقته والفوراني لَا ينصفه لكَونه شَابًّا فَبَقيَ فِي نَفسه فَمَتَى، قَالَ فِي النِّهَايَة: وَقَالَ بعض المصنفين كَذَا وَغلظ فِي كَذَا وَنَحْوه، فمراده الفوراني - بِضَم الْفَاء - أَو القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْوَلِيد أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن غَالب بن زيدون الأندلسي الْقُرْطُبِيّ من أَبنَاء فُقَهَاء قرطبة وانتقل وخدم المعتضد بن عباد صَاحب أشبيلية ووزر لَهُ، وَمن شعره الْفَائِق:
(بيني وَبَيْنك مَا لَو شِئْت لم يضع ... سرا إِذا ذاعت الْأَسْرَار لم يذع)
(يَا بَائِعا حَظه مني وَلَو بذلت ... لي الْحَيَاة بحظي مِنْهُ لم أبع)
(يَكْفِيك أَنَّك لَو حملت قلبِي مَا ... لم تستطعه قُلُوب النَّاس يسْتَطع)
(ته أحتمل واستطل أَصْبِر وعزأهن ... وول أقبل وَقل أسمع ومرأطع)
ونونيته الْمَشْهُورَة مِنْهَا:
(تكَاد حِين تناجيكم ضمائرنا ... يقْضِي علينا الأسى لَوْلَا تأسينا)
وَله الرسَالَة الزيدونية، وَشَرحهَا الشَّيْخ جمال الدّين مُحَمَّد بن نَبَاته الْمصْرِيّ فِي مجلدين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي بِبَغْدَاد الْخَطِيب أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت الْبَغْدَادِيّ إِمَام زَمَانه، وَمِمَّنْ حمل جنَازَته الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَله تَارِيخ بَغْدَاد ينبىء عَن اطلَاع عَظِيم كَانَ من الْحفاظ المتحرين فَقِيها غلب عَلَيْهِ الحَدِيث والتاريخ، مولده فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلثمائة، وَهُوَ حَافظ الشرق وَأَبُو عمر يُوسُف بن عبد الْبر صَاحب الِاسْتِيعَاب حَافظ الغرب وَمَاتَا فِي هَذِه السّنة وَلَا عقب للخطيب وصنف أَكثر من سِتِّينَ كتابا ووقف جَمِيع كتبه.(1/362)
وَابْن عبد الْبر هَذَا هُوَ: يُوسُف بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْبر بن عَاصِم النميري الْقُرْطُبِيّ، كَانَ موفقا معانا فِي التَّأْلِيف وَتَوَلَّى قَضَاء أشبونة وسنترين وصنف لمَالِكهَا المظفر بن الْأَفْطَس كتاب بهجة الْمجَالِس فِي ثَلَاثَة أسفار فِيهِ محَاسِن تصلح للمحاضرة، مِنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى فِي مَنَامه أَنه دخل الْجنَّة وَرَأى فِيهَا عذقا مدلى فأعجبه وَقَالَ: لمن هُوَ؟ فَقيل: لأبي جهل، فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا لأبي جهل وَالْجنَّة وَالله لَا يدخلهَا أبدا، فَلَمَّا أَتَاهُ عِكْرِمَة بن أبي جهل مُسلما فَرح بِهِ وَتَأَول ذَلِك العذق عِكْرِمَة ابْنه.
وَمِنْهَا: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى كَأَن كَلْبا أبقع يلغ فِي دَمه، فَكَانَ شمر بن ذِي الجوشن قَاتل الْحُسَيْن كَانَ ابرص فتفسرت رُؤْيَاهُ بعد خمسين سنة.
وَمِنْهَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأبي بكر الصّديق: يَا أَبَا بكر رَأَيْت كَأَنِّي وَأَنت نرقى دَرَجَة فسبقتك بمرقاتين وَنصف، فَقَالَ: يَا رَسُول الله يقبضك الله إِلَى رَحمته وأعيش بعْدك سنتَيْن وَنصف.
وَمِنْهَا: أَن بعض أهل الشَّام قصّ على عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: رَأَيْت كَأَن الشَّمْس وَالْقَمَر اقتتلا وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُم فريق من النُّجُوم، فَقَالَ عمر: مَعَ أَيهمَا كنت؟ قَالَ: مَعَ الْقَمَر، قَالَ: مَعَ الْآيَة الممحوّة وَالله لَا توليت لي عملا، فَقَالَ الرَّائِي الْمَذْكُور فِي صفّين وَكَانَ مَعَه مُعَاوِيَة.
وَمِنْهَا: أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا رَأَتْ ثَلَاثَة أقمار سقطن فِي حُجْرَتهَا فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: يدْفن فِي بَيْتك ثَلَاثَة من خِيَار أهل الأَرْض، فَلَمَّا دفن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: هَذَا أحد أقمارك.
توفّي ابْن عبد الْبر بشاطبة، وَله المصنفات الجليلة كالتمهيد والاستذكار وسيرة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والاستيعاب وَغير ذَلِك.
وفيهَا: توفيت كَرِيمَة بنت أَحْمد بن مُحَمَّد المرمزية راوية صَحِيح البُخَارِيّ بِمَكَّة عالية الْإِسْنَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي رَجَب توفّي القَاضِي أَبُو طَالب بن مُحَمَّد بن عمار قَاضِي طرابلس مستولياً عَلَيْهَا، وَقَامَ بعده ابْن أَخِيه جلال الْملك أَبُو الْحسن فَأحْسن الضَّبْط.
(ذكر مقتل السُّلْطَان ألب أرسلان مُحَمَّد)
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: سَار ألب أرسلان وَعقد على جيحون جِسْرًا وعبره فِي نَيف وَعشْرين يَوْمًا بزائد عَن مِائَتي ألف فَارس، ومدّ لما عبره سماطاً فِي بَلْدَة فربر وَلها حصن فأحضر إِلَيْهِ مستحفظ الْحصن وأسمه يُوسُف الْخَوَارِزْمِيّ مَعَ غلامين يحفظانه وَكَانَ قد ارْتكب جريمة فِي أَمر الْحصن، فَأمر ألب أرسلان فَضربت لَهُ أَرْبَعَة أوتاد.(1/363)
وَقَالَ: شدوا أَطْرَافه إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ يُوسُف: يَا مخنث مثلي يقتل هَذِه القتلة، فَغَضب السُّلْطَان وَأخذ الْقوس وَقَالَ للغلامين: خلياه ورماه بِسَهْم فأخطأه وَلم يكن يُخطئ سَهْمه، فَوَثَبَ يُوسُف على السُّلْطَان بسكين فَقَامَ السُّلْطَان عَن السدة فَوَقع على وَجهه فَضَربهُ يُوسُف بالسكين، ثمَّ جرح شخصا آخر كَانَ وَاقِفًا على رَأس السُّلْطَان اسْمه سعد الدولة، فَضرب بعض الفراشين يُوسُف بمزربة على رَأسه فَقتله ثمَّ قطعته الأتراك، فَقَالَ السُّلْطَان: صعدت أمس على تل فارتجت الأَرْض تحتي من عظم الْجَيْش فَقلت فِي نَفسِي أَنا ملك الدُّنْيَا وَمَا يقدر اُحْدُ على، فعجزني الله بأضعف خلقه، وَأَنا أسْتَغْفر الله وأستقليه من ذَلِك الخاطر.
جرح فِي سادس ربيع الأول وَتُوفِّي فِي عاشره وعمره أَرْبَعُونَ سنة وشهور وَمُدَّة ملكه مذ خطب لَهُ بالسلطنة إِلَى وَفَاته تسع وَسِتَّة سِنِين وَسِتَّة أشهر وَأَيَّام، وَأوصى بالسلطنة لِابْنِهِ ملكشاه وَكَانَ مَعَه فَحلف لَهُ الْعَسْكَر وَاسْتقر فِي السلطنة، وَكَانَ المستولي على الْأَمر نظام الْملك وَزِير ألب أرسلان.
وَعَاد ملكشاه بالعسكر من وَرَاء النَّهر إِلَى خُرَاسَان فَأرْسل إِلَى بَغْدَاد والأطراف فَخَطب لَهُ فِيهَا، وَاسْتمرّ نظام الْملك وزيرا نَافِذ الْأَمر.
ثمَّ خرج عَم ملكشاه فاروت بك صَاحب كرمان عَن طَاعَته فاقتتلا، فَانْهَزَمَ فاروت بك وأسره وخنقه وَأقر كرمان على أَوْلَاده، وَلما انتصر ملكشاه كثرت أذية الْعَسْكَر ففوض الْأَمر إِلَى نظام الْملك وَحلف لَهُ وَزَاد على إقطاعه طوس وَغَيرهَا ولقبه ألقابا مِنْهَا: أتابك أَصْلهَا أطابك مَعْنَاهُ الْوَالِد الْأَمِير، فَأحْسن نظام الْملك السياسة وَالتَّدْبِير.
(أَخْبَار الْمُسْتَنْصر وَقتل نَاصِر الدولة)
كَانَت وَالِدَة الْمُسْتَنْصر بِمصْر قد استولت على الْأَمر، فضعف أَمر الدولة وَصَارَت العبيد حزبا والأتراك حزبا وَجَرت بَينهم حروب، وَكَانَ نَاصِر الدولة حفيد نَاصِر الدولة بن حمدَان من أكبر قواد مصر فاجتمعت إِلَيْهِ الأتراك وَجَرت بَينهم وَبَين العبيد وقعات، وَحصر نَاصِر الدولة مصر وَقطع الْميرَة عَنْهَا برا وبحرا فغلت الأسعار حَتَّى أخرج الْمُسْتَنْصر الْعرُوض كَمَا تقدم وَعدم المتحصل بِسَبَب انْقِطَاع السبل.
ثمَّ استولى نَاصِر الدولة على مصر وَتَفَرَّقَتْ العبيد فِي الْبِلَاد، واستبد نَاصِر الدولة بالحكم وصادر أم الْمُسْتَنْصر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار، وتفرق عَن الْمُسْتَنْصر أَوْلَاده وَأَهله. وَبلغ من إهانته للمستنصر أَنه كَانَ يجلس على حَصِير لَا يقدر على غَيرهَا.
وَنوى الْخطْبَة للقائم، فَفطن لذَلِك إيلدكز الفاتك التركي فاتفق مَعَ جمَاعَة وقصدوا دَاره، فَخرج إِلَيْهِم مطمئنا بقوته فضربوه بسيوفهم حَتَّى قَتَلُوهُ وَأخذُوا رَأسه وَقتلُوا أَخَاهُ فَخر الْعَرَب وَقتلُوا جَمِيع بني حمدَان بِمصْر.
واضطرب الْأَمر هَذِه السّنة إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فولي بِمصْر أَمِير(1/364)
الجيوش بدر الجمالي وَقتل إيلدكز والوزير ابْن كُدَيْنَة فاستقام الْأَمر.
وفيهَا: توفّي الإِمَام الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن هوزان بن عبد الْملك الْقشيرِي النَّيْسَابُورِي، لَهُ الرسَالَة وَغَيرهَا فَقِيه أصولي مُفَسّر كَاتب فضائله جمة، كَانَ لَهُ فرس يركبه نَحْو عشْرين سنة فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخ لم يَأْكُل الْفرس شَيْئا وَمَات بعد أُسْبُوع. ومولده سنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة وَهُوَ إِمَام فِي علم التصوف وَقَرَأَ أصُول الدّين على أبي بكر بن فورك وَأبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَله تَفْسِير حسن وَشعر حسن مِنْهُ:
(إِذا ساعدتك الْحَال فارقب زَوَالهَا ... فَمَا هِيَ إِلَّا مثل حلبة أشطر)
(وَإِن قصدتك الحادثات ببؤسها ... فَوسعَ لَهَا صدر التجلد واصبر)
وفيهَا: توفّي عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْفضل الْكَاتِب الْمَعْرُوف بصرّ درّ الشُّعَرَاء، لقب أَبوهُ صرّ بعر لشحه ولقب هُوَ صردر لجودة شعره كَقَوْلِه:
(نسائل عَن حميماً مَاتَ بحزوى ... وَبِأَن الرمل يعلم عَمَّا عنينا)
(فقد كشف الغطاء فَمَا نبالي ... أصرّحنا بذكرك أم كنينا)
(أَلا لله طيف مِنْك يسْعَى ... بكاسات الْكرَى زورا ومينا)
(مطيته طوال اللَّيْل جفني ... فَكيف شكا إِلَيْك وجى وأينا)
(فأمسينا كأنا مَا افترقنا ... وأصبحنا كأنا مَا الْتَقَيْنَا)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا زَادَت دجلة وغرق الْجَانِب الشَّرْقِي وَبَعض الغربي كمقبرة أَحْمد ومشهد بَاب التِّين، ونبعت البواليع وغرق خلق.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا وصل بدر الجمالي مصر من ولاتيه بساحل الشَّام، أرسل لَهُ الْمُسْتَنْصر يشكو حَاله فَركب الْبَحْر فِي خطر الشتَاء وَوصل وَقبض على الْأُمَرَاء والقواد المتغلبين وَأخذ اموالهم للمستنصر وَأقَام منار الدولة، ثمَّ أصلح أَمر الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط والصعيد وقهر المفسدين، فَعَادَت مصر أحسن مِمَّا كَانَت.
وفيهَا: لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر شعْبَان توفّي الْقَائِم بِأَمْر الله عبد الله أَبُو جَعْفَر بن الْقَادِر، مرض بالماشرا وافتصد فانفجر فصاده نَائِما فَاسْتَيْقَظَ وَقد سَقَطت قوته فَأشْهد الْوَزير جهيراً والقضاة بعهده إِلَى ابْن ابْنه عبد الله بن ذخيرة الدّين مُحَمَّد بن الْقَائِم، وَتُوفِّي وعمره سِتّ وَسَبْعُونَ وَثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام وخلافته أَربع وَأَرْبَعُونَ سنة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقيل: عمره سِتّ وَتسْعُونَ وَأشهر.
(أَخْبَار الْمُقْتَدِي بن مُحَمَّد)
وبويع الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله عبد الله الْمَذْكُور بالخلافة، وَحضر مؤيد الْملك بن نظام الْملك والوزير ابْن جهير وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَابْن الصّباغ ونقيب النُّقَبَاء كراد الزَّيْنَبِي وَالْقَاضِي أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي فَبَايعُوهُ، وَلم يكن للقائم ولد سواهُ لوفاة ذخيرة الدّين فِي حَيَاة الْقَائِم، وَكَانَ لذخيرة الدّين مُحَمَّد بن الْقَائِم جَارِيَة أرمنية اسْمهَا أرجوان فسلت مُصِيبَة الْقَائِم فِي ابْنه لخوفه من انْقِطَاع نَسْله بِكَوْنِهَا حَامِلا من ابْنه وَولدت الْمُقْتَدِي لسِتَّة أشهر من موت مُحَمَّد فسر بِهِ الْقَائِم، فَلَمَّا بلغ الْحلم جعله ولي عَهده.
وفيهَا: جمع ملكشاه ونظام الْملك جمَاعَة من المنجمين وَجعلُوا النيروز عِنْد نزُول الشَّمْس أول الْحمل، وَكَانَ من قبل عِنْد نزُول الشَّمْس نصف الْحُوت.
وفيهَا: عمل السُّلْطَان ملكشاه الرصد، وَاجْتمعَ فِي عمله فضلاء مِنْهُم: ابراهيم الختام وَأَبُو المظفر الأسفزاري وَمَيْمُون بن النجيب الوَاسِطِيّ، وَأنْفق عَلَيْهِ جملا وداراً إِلَى أَن مَاتَ السُّلْطَان سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَبَطل.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك أتسز دمشق بعد مَا تقدم ذكره وخطب للمقتدي بِاللَّه وَأذن بِأَذَان السّنة، وَلم يخْطب بعْدهَا للعلويين بِدِمَشْق.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن متويه الواحدي النَّيْسَابُورِي، لَهُ الْبَسِيط والوسيط وَالْوَجِيز فِي التَّفْسِير، وَيُقَال لَهُ المتوي نِسْبَة إِلَى جده متويه، والواحدي نِسْبَة إِلَى الْوَاحِد بن مهرَة مِنْهُ أَخذ الْغَزالِيّ أَسمَاء كتبه الثَّلَاثَة وَكَانَ أستاذاً فِي التَّفْسِير والنحو وَشرح ديوَان المتنبي أَجود شرح وَهُوَ تلميذ الثَّعْلَبِيّ، وَتُوفِّي بعد مرض طَوِيل بنيسابور.
وفيهَا: توفّي الشريف الْهَاشِمِي العباسي أَبُو جَعْفَر مَسْعُود بن عبد الْعَزِيز البياضي الشَّاعِر، وَمَا أرق قَوْله:
(كَيفَ يذوي عشب اشوا ... قي ولي طرف مطير)
(إِن يكن فِي الْعِشْق حر ... فَأَنا العَبْد الْأَسير)
(أوعلى الْحسن زَكَاة ... فَأَنا ذَاك الْفَقِير)
وَقَوله:
(يَا من لبست لبعده ثوب الضنا ... حَتَّى خفيت بِهِ عَن العواد)
(وأنست بالسهر الطَّوِيل فأنسيت ... أجفان عَيْني كَيفَ كَانَ رقادي)
(إِن كَانَ يُوسُف بالجمال مقطع ... الْأَيْدِي فَأَنت مقطع الأكباد)
لبس جده بَيَاضًا وَقد لبس العباسيون سواداً، فَقَالَ الْخَلِيفَة: من ذَلِك البياضي؟ فلقب بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا: وَقيل قبلهَا: مَاتَ مَحْمُود بن نصر بن صَالح بن مرداس الْكلابِي صَاحب حلب، وَملك بعده ابْنه نصر فمدحه ابْن حيوس بقصيدته الَّتِي مِنْهَا:
(ثَمَانِيَة لم تفترق مذ جمعتها ... فَلَا افْتَرَقت مَا افتر عَن نَاظر شفر)
(ضميرك وَالتَّقوى وجودك والغنى ... ولفظك وَالْمعْنَى وعزمك والنصر)
(تَبَاعَدت عَنْكُم حِرْفَة لَا زهادة ... وسرت إِلَيْكُم حِين مسني الضّر)(1/365)
(وأنجز لي رب السَّمَاوَات وعده الْكَرِيم ... بِأَن الْعسر يتبعهُ الْيُسْر)
(فجاد ابْن نصر لي بِأَلف تصرمت ... وَإِنِّي عليم أَن سيخلفها نصر)
(وَمَا بِي إِلَى الإلحاح والحرص حَاجَة ... وَقد عرف الْمُبْتَاع وانفصل السّعر)
وَكَانَت عَطِيَّة ابْن مَحْمُود لِابْنِ حيوس على الْمَدْح ألف دِينَار، فَقَالَ نصر: وَالله لَو قَالَ عوض سيخلفها: سيضعفها لأضعفتها لَهُ، وَأَعْطَاهُ ألف دِينَار فِي طبق فضَّة.
قلت: وَكَانَ قد اجْتمع على بَاب نصر جمَاعَة من الشُّعَرَاء وامتدحوه وتأخرت صلته عَنْهُم وَفِيهِمْ أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الزويدي المعري الشَّاعِر الْمَعْرُوف، فنظم ابْن الزويدي أبياتاً وسيرها إِلَى الْأَمِير نصر وَهِي:
(على بابك المحروس منا عِصَابَة ... مفاليس فَانْظُر فِي أُمُور المفاليس)
(وَقد متعت مِنْك الْجَمَاعَة كلهم ... بِعشر الَّذِي أَعْطيته ابْن حيوس)
(وَمَا بَيْننَا هَذَا التَّفَاوُت كُله ... وَلَكِن سعيد لَا يُقَاس بمنحوس)
فَأَعْطَاهُمْ مائَة دِينَار وَقَالَ: وَالله لَو قَالُوا بِمثل الَّذِي أَعْطيته ابْن حيوس لأعطيتهم مثله، وَالله أعلم.
وَكَانَ نصر يدمن الشّرْب فَحَمله السكر على خُرُوجه على التركمان الَّذين ملكوا أَبَاهُ حلب وهم بالحاضر فَرَمَاهُ أحدهم بِسَهْم فَقتله يَوْم عيد الْفطر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، فَملك حلب أَخُوهُ سَابق بن مَحْمُود.
وفيهَا توفّي أَبُو الْحسن طَاهِر بن أَحْمد بن بابشاذ النَّحْوِيّ الْمصْرِيّ بسقوطه من سطح جَامع عَمْرو بن الْعَاصِ.
قلت: وَرَأى يَوْمًا قطاً ينْقل الطَّعَام إِلَى قطّ أعمى فِي بَيت خراب فاتعظ بِهِ، فاستعفى من خدمَة السُّلْطَان ولازم اشْتِغَاله مَحْمُول الكلفة إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْأَصْفَهَانِي الْحَافِظ ذُو التصانيف مِنْهَا: تَارِيخ أصفهان، وبأصفهان طَائِفَة ينتمون إِلَى اعْتِقَاده يسمون العَبْد رحمانية.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك تتش بن السُّلْطَان ألب أرسلان دمشق وَسَببه: أَن أَخَاهُ ملك شاه أقطعه الشَّام وَمَا يفتتحه فَسَار تَاج الدولة تتش إِلَى حلب. وَكَانَ بدر الجمالي أَمِير جيوش مصر قد أرسل عسكراً لحصار أتسز بِدِمَشْق، فاستنجد أتسز بتتش وَهُوَ محاصر حلب فَسَار إِلَى دمشق وَلما قرب مِنْهَا رَحل عَسْكَر مصر كالمنهزمين، ثمَّ وصل إِلَى دمشق فَتَلقاهُ أتسز من قريب فَأنْكر عَلَيْهِ تَأَخره عَن لِقَائِه وَقبض على أتسز وَقَتله وَملك دمشق وَأحسن السِّيرَة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا الْملك إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين الْهِنْد، فأوغل وَفتح وَعَاد إِلَى غزنة.(1/367)
وفيهَا حضر شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش الْمسَيبِي صَاحب الْموصل حلب فتسلمها فِي سنة ثَلَاث وَسبعين، ثمَّ حصر القلعة وتسلمها وَأنزل مِنْهَا سَابِقًا ووثاباً ابْني مَحْمُود بن نصر بن صَالح.
وفيهَا توفّي نصر بن أَحْمد بن مَرْوَان صَاحب ديار بكر، وَملك بعده ابْنه مَنْصُور وَدبره ابْن الْأَنْبَارِي.
وفيهَا: توفّي أَبُو الفتيان مُحَمَّد بن سُلْطَان بن حيوس الشَّاعِر وَتقدم ذكره.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبع وَسبعين وَسنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا كَانَت فتْنَة بِبَغْدَاد بن الشَّافِعِيَّة والحنابلة.
وفيهَا: أرسل الْمُقْتَدِي صَاحب التَّنْبِيه إِلَى السُّلْطَان ملكشاه وَإِلَى نظام الْملك شاكياً من عميد الْعرَاق أبي الْفَتْح بن أبي اللَّيْث، فَأكْرم السُّلْطَان ونظام الْملك الشَّيْخ بخراسان وناظر بِحَضْرَة نظام الْملك إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَعَاد بإجابة الْخَلِيفَة وَرفع يَد ابْن العميد عَمَّا يتَعَلَّق بحاشية الْخَلِيفَة.
قلت: وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة لَيْلَة الْخَمِيس بَين العشاءين توفّي أَبُو الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خلف بن سعد بن أَيُّوب بن وَارِث الْيحصبِي الْمَالِكِي الأندلسي، ومولده يَوْم الثُّلَاثَاء النّصْف من ذِي الْقعدَة من سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة بِمَدِينَة بطليوس، وَدفن بالمرية بالرباط على صفة الْبَحْر وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو الْقَاسِم كَانَ رَحمَه الله من عُلَمَاء الأندلس وحفاظها سكن شَرْقي الأندلس ورحل إِلَى الشرق سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَنَحْوهَا فَأَقَامَ بِمَكَّة شرفها الله مَعَ أبي ذَر الْهَرَوِيّ ثَلَاثَة أَعْوَام وَحج.
ثمَّ رَحل إِلَى بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا ثَلَاثَة أَعْوَام يدرس الْفِقْه وَيقْرَأ الحَدِيث وَلَقي بهَا سَادَات من الْعلمَاء كَأبي الطّيب الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأقَام بالموصل مَعَ أبي جَعْفَر الشَّيْبَانِيّ يدرس عَلَيْهِ الْفِقْه، وَكَانَ مقَامه بالمشرق نَحْو ثَلَاثَة عشر عَاما وروى عَن الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب، وروى الْخَطِيب عَنهُ قَالَ: أَنْشدني أَبُو الْوَلِيد التاجي لنَفسِهِ:
(إِذا كنت أعلم علما يَقِينا ... بِأَن جَمِيع حَياتِي كساعه)
(فَلم لَا أكون ضنيناً بهَا ... فأجعلها فِي صَلَاح وطاعه)
صنف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا: كتاب المقتفي وَكتاب أَحْكَام الْفُصُول فِي أَحْكَام الْأُصُول وَكتاب التَّعْدِيل وَالْجرْح فِيمَن روى عَنهُ البُخَارِيّ رَحمَه الله وَغير ذَلِك، وَهُوَ أحد أَئِمَّة الْمُسلمين وَكَانَ يَقُول: سَمِعت أَبَا ذَر عمر بن أَحْمد الْهَرَوِيّ يَقُول: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة، وَكَانَ قد رَجَعَ إِلَى الأندلس وَولي الْقَضَاء هُنَاكَ، وَقيل أَنه ولي قَضَاء حلب، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر عَليّ بن الْوَزير أبي الْقَاسِم هبة الله بن مَاكُولَا مُصَنف الْإِكْمَال ومولده سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة، قَتله مماليك الأتراك بكرمان.(1/368)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الفيروزأبادي الشِّيرَازِيّ وفيروزأباد: بَلْدَة فَارس، وَقيل: هِيَ مَدِينَة جور. ومولده سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة وَقيل: سنة سِتّ وَتِسْعين، كَانَ أوحد عصره علما وزهداً وَعبادَة ولد بفيروزأباد وَبهَا نَشأ وَدخل شيراز وتفقه ثمَّ قدم الْبَصْرَة ثمَّ بَغْدَاد سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول لَهُ الْمُهَذّب وَالتَّلْخِيص والنكت والتبصرة واللمع ورؤوس الْمسَائِل، وَكَانَ فصيحاً ينظم حسنا فَمِنْهُ:
(سَأَلت النسا عَن خل وفيّ ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل)
(تمسك إِن ظَفرت بود حر ... فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل)
قلت: وَهَذَا قريب من قَول بعض النَّاس:
(أَكثر وَطْء النَّاس من شُبْهَة ... أَو من زنا والحل فيهم قَلِيل)
(فَابْن حَلَال نَادِر نَادِر ... والنادر النَّادِر كالمستحيل)
وَالله أعلم.
وللشيخ أَيْضا:
(جَاءَ الرّبيع وَحسن ورده ... وَمضى الشتَاء وقبح برده)
(فَاشْرَبْ على وَجه الحبيب ... ووجنتيه وَحسن خَدّه)
وَكَانَ مستجاب الدعْوَة مطرح التَّكَلُّف، وَلما توجه رَسُولا من الْخَلِيفَة إِلَى خُرَاسَان قَالَ: مَا دخلت بَلْدَة وَلَا قَرْيَة إِلَّا وخطيبها وقاضيها تلميذي وَمن جملَة أَصْحَابِي.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار فَخر الدولة بن جهير بعساكر ملكشاه إِلَى قتال شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش، ثمَّ سير السُّلْطَان ملكشاه إِلَى فَخر الدولة جَيْشًا آخر فيهم الْأَمِير ارتق بن أكسك وَقيل: أكسب وَالْأول أصح، جد الْمُلُوك الأرتقية، فَانْهَزَمَ شرف الدولة وانحصر فِي آمد وَنزل أرتق على آمد فحصرها، وبذل لَهُ مُسلم بن قُرَيْش مَالا جَلِيلًا ليمكنه من الْخُرُوج من آمد، فَأذن لَهُ ارتق وَخرج مُسلم مِنْهَا فِي حادي عشر ربيع الأول من هَذِه السّنة فنازل الرقة وَبعث إِلَى السُّلْطَان مَا وعده بِهِ.
ثمَّ سير السُّلْطَان عميد الدولة بن فَخر الدولة بن جهير بعسكر كثيف وسير مَعَه أقسنقر قسيم الدولة إِلَى الْموصل فاستولى عَلَيْهَا عميد الدولة، وأقسنقر هَذَا هُوَ وَالِد عماد الدّين زنكي، ثمَّ أرسل مؤيد الدولة بن نظام الْملك إِلَى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إِلَى السُّلْطَان، فَقدم شرف الدولة إِلَيْهِ وأحضره عِنْد السُّلْطَان بالبوازيج وَكَانَ قد ذهب أَمْوَاله فاقترض شرف الدولة مُسلم مَا خدم بِهِ السُّلْطَان وَقدم إِلَيْهِ خيلاً مِنْهَا. فرسه الَّذِي نجا عَلَيْهِ فِي المعركة الْمَشْهُور الْمُسَمّى بشاراً، وسابق بِهِ السُّلْطَان الْخَيل فجَاء سَابِقًا فَقَامَ السُّلْطَان إعجاباً بِهِ ورضى على مُسلم وخلع عَلَيْهِ وَأقرهُ على بِلَاده.
وفيهَا: سَار سُلَيْمَان بن قطلمش السلجوقي صَاحب قونية وأقصرا وَغَيرهمَا إِلَى(1/369)
الشَّام، وَملك أنطاكية بمخامرة الْحَاكِم فِيهَا من جِهَة النَّصَارَى وَكَانَت بيد الرّوم من سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة، فافتتحها سُلَيْمَان فِي هَذِه السّنة.
مقتل شرف الدولة وَملك أَخِيه إِبْرَاهِيم
لما ملك سُلَيْمَان بن قطلمش أنطاكية أرسل شرف الدولة مُسلم صَاحب الْموصل وحلب يطْلب مِنْهُ مَا كَانَ يحملهُ إِلَيْهِ أهل أنطاكية، فَقَالَ سُلَيْمَان: كَانَ ذَلِك على سَبِيل الْجِزْيَة وَلم يُعْطه شَيْئا فاقتتلا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَمَان وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِي طرف أَعمال أنطاكية، فَانْهَزَمَ عَسْكَر مُسلم وَقتل مُسلم فِي المعركة، وَقتل بَين يَدَيْهِ أَرْبَعمِائَة غُلَام من أَحْدَاث حلب، وَكَانَ مُسلم بن قُرَيْش أَحول واتسع ملكه وَزَاد على من تقدمه من أهل بَيته وساس ملكه بِالْعَدْلِ، وَلما قتل قصد بَنو عقيل أَخَاهُ إِبْرَاهِيم بن قُرَيْش وَهُوَ مَحْبُوس فأخرجوه وملكوه بعد حَبسه سِنِين.
وفيهَا: ولد لملكشاه ولد بسنجار فَسَماهُ أَحْمد ثمَّ غلب عَلَيْهِ سنجر لمولده بسنجار، واسْمه عِنْد التّرْك صنجر وَمَعْنَاهُ يطعن.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر عبد السَّيِّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن الصّباغ الْفَقِيه الشَّافِعِي صَاحب الشَّامِل والكامل وكفاية السَّائِل وَغَيرهَا بعد أَن أضرّ سِنِين ومولده سنة أَرْبَعمِائَة.
قلت: قَالَ ابْن خلكان: وَكتابه الشَّامِل من أَجود الْكتب وأصحها نقلا وأثبتها أَدِلَّة، وَكَانَ يقدم على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي معرفَة الْمَذْهَب وَكَانَ تقياً حجَّة صَالحا، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْقفال من شُيُوخ أَصْحَاب الشَّافِعِي، ولي الْقَضَاء بِبَاب الأزج.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك الفرنج طليطلة من الأندلس بعد أَن حاصرها الأذفونش سبع سِنِين.
وفيهَا: جَاءَت ريح عَظِيمَة سَوْدَاء كالليل بِبَغْدَاد وَقت الْعَصْر وتتابع الرَّعْد والبرق وَوَقعت عدَّة صواعق وَبَقِي النَّهَار لَيْلًا بهيماً وَسقط رمل بدل الْمَطَر وَظن النَّاس أَنَّهَا السَّاعَة ودام إِلَى الْمغرب، شَاهد ذَلِك الإِمَام أَبُو بكر الطرطوشي وَحَكَاهُ فِي أَمَالِيهِ، وَالله أعلم.
وفيهَا: ملك فَخر الدولة بن جهير آمد ثمَّ ميافارقين ثمَّ جَزِيرَة ابْن عمر بِلَاد بني مَرْوَان، أَخذهَا من مَنْصُور بن نصر بن أَحْمد بن مَرْوَان آخر مُلُوكهمْ وانقرضت مملكتهم بالجزيرة، فسبحان من لَا يَزُول ملكه.
وفيهَا: سَار أَمِير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر فحصر دمشق وفيهَا تَاج الدولة تتش، فَلم يظفر بِشَيْء فارتحل عَائِدًا.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي عبد الْملك بن عبد الله بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، ومولده فِي الْكَامِل: سنة سِتّ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَفِي تَارِيخ ابْن أبي الدَّم: سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة. إِمَام الْعلمَاء فِي وقته فَحل الْمَذْهَب وَمن تصانيفه: نِهَايَة(1/370)
الْمطلب، سَافر إِلَى بَغْدَاد ثمَّ إِلَى الْحجاز وَأقَام بِمَكَّة وَالْمَدينَة أَربع سِنِين يدرس ويفتي ويصنف وَأم فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَبِذَلِك لقب ثمَّ رَجَعَ إِلَى نيسابور وَجعل إِلَيْهِ الخطابة ومجلس الذّكر والتدريس ثَلَاثِينَ سنة وحظي عِنْد نظام الْملك، وَمن تلاميذه: الْغَزالِيّ وحسبك وَأَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ وَأَبُو الْحسن عَليّ الطَّبَرِيّ الكيالهراسي، وَادّعى إِمَام الْحَرَمَيْنِ الِاجْتِهَاد الْمُطلق لِأَن أَرْكَانه حَاصِلَة لَهُ، ثمَّ عَاد إِلَى اللَّائِق بِهِ وتقليد الإِمَام الشَّافِعِي لعلمه أَن منصب الِاجْتِهَاد قد مَضَت سنوه.
قلت: وَلما مرض حمل إِلَى قَرْيَة مَوْصُوفَة باعتدال الْهَوَاء وخفة المَاء اسْمهَا بشتقان فَمَاتَ بهَا وَنقل إِلَى نيسابور تِلْكَ اللَّيْلَة وَدفن من الْغَد فِي دَاره، ثمَّ نقل بعد سِنِين إِلَى مَقْبرَة الْحُسَيْن فَدفن بِجنب أَبِيه وَصلى عَلَيْهِ وَلَده أَبُو الْقَاسِم، فأغلقت الْأَسْوَاق يَوْم مَوته وَكسر منبره فِي الْجَامِع وَقعد النَّاس لعزائه ورثوه كثيرا، وَمِنْه:
(قُلُوب الْعَالمين على المقالي ... وَأَيَّام الورى شبه اللَّيَالِي)
(أيثمر غُصْن أهل الْعلم يَوْمًا ... وَقد مَاتَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي)
وَكَانَ تلامذته يَوْمئِذٍ نَحْو أَرْبَعمِائَة فكسروا محابرهم وأقلامهم وَأَقَامُوا كَذَلِك عَاما كاملاُ، وَالله أعلم. ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة.
مقتل سُلَيْمَان بن قطلمش
لما قتل سُلَيْمَان بن مُسلم بن قُرَيْش أرسل سُلَيْمَان بن قطلمش إِلَى ابْن الحتيتي العباسي مقدم أهل حلب يطْلب تَسْلِيمهَا، فاستمهله إِلَى أَن يُكَاتب السُّلْطَان ملكشاه، وَأرْسل ابْن الحتيتي يَسْتَدْعِي تتش صَاحب دمشق ابْن ألب أرسلان أَخا السُّلْطَان ملكشاه، فَسَار تتش إِلَى حلب وَمَعَهُ أرتق بن أكسك قد فَارق ملكشاه خوفًا من إِطْلَاق مُسلم بن قُرَيْش من آمد حَسْبَمَا مر، وَجَرت حَرْب بَين تتش وَابْن عَمه سُلَيْمَان بن قطلمش فَانْهَزَمَ عَسْكَر سُلَيْمَان وَثَبت سُلَيْمَان وَأخرج سكيناً قتل بهَا نَفسه، وَقيل قتل فِي المعركة.
وَكَانَ سُلَيْمَان بعث جثة مُسلم بن قُرَيْش على بغل ملفوفة فِي إِزَار إِلَى حلب ليسلموها إِلَيْهِ فِي السّنة الْمَاضِيَة، فَأرْسل تتش جثة سُلَيْمَان فِي هَذِه السّنة فِي إِزَار إِلَى حلب ليسلمها إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ ابْن الحتيتي بالمطاولة إِلَى أَن يرد مرسوم ملكشاه فِي أَمر حلب بِمَا يرَاهُ، فحاصر تتش حلب وملكها فَاسْتَجَارَ ابْن الحتيتي بأرتق فأجاره وَكَانَ بقلعة حلب مُنْذُ قتل مُسلم بن قُرَيْش سَالم بن مَالك بن بدران الْعقيلِيّ ابْن عَم شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش، فحاصر تتش القلعة سَبْعَة عشر يَوْمًا فَبَلغهُ وُصُول تقدمة أَخِيه السُّلْطَان ملكشاه.
تمّ بعونه تَعَالَى الْجُزْء الأول من تَارِيخ ابْن الوردي ويليه إِن شَاءَ الله الْجُزْء الثَّانِي وأوله: ذكر وُصُول ملكشاه إِلَى حلب(1/371)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
(ذكر وُصُول ملكشاه إِلَى حلب)
كَانَ ابْن الحتيتي قد كَاتب السُّلْطَان فِي أَمر حلب فَسَار إِلَيْهَا من أصفهان فِي جُمَادَى الْآخِرَة فَملك فِي طَرِيقه حران وأقطعها لمُحَمد بن شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش، وَسَار إِلَى الرها وَهِي بيد الرّوم من حِين اشتروها من ابْن عطير فحصرها وملكها، وَسَار إِلَى قلعة جعبر وَاسْمهَا الدوسرية ثمَّ عرفت بجعبر لطول ملك جعبر إِيَّاهَا وَبهَا صَاحبهَا سَابق الدّين جعبر الْقشيرِي شَيخا أعمى فأمسكه وَأمْسك ولديه، وَكَانَا يخيفان السَّبِيل، ثمَّ ملك منبج وقارب حلب فَرَحل أَخُوهُ تتش عَن حلب على الْبَريَّة إِلَى دمشق، وَوصل السُّلْطَان إِلَى حلب وتسلمها وتسلم القلعة من سَالم بن مَالك بن بدران الْعقيلِيّ على أَن يعوضه بقلعة جعبر فَسلم السُّلْطَان إِلَيْهِ قلعة جعبر وَبقيت فِي يَده وَيَد أَوْلَاده إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم نور الدّين بن زنكي وَلما نزل ملكشاه بحلب أرسل إِلَيْهِ الْأَمِير نصر بن عَليّ بن منقذ الْكِنَانِي صَاحب شيزر بِالطَّاعَةِ وَسلم إِلَيْهِ اللاذقية وَكفر طَابَ وأفامية فَترك السُّلْطَان قَصده وَأقر عَلَيْهِ شيزر وَسلم السُّلْطَان حلب إِلَى قيم الدولة أقسنقر ورحل إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي بهاء الدولة أَبُو كَامِل مَنْصُور بن دبيس بن عَليّ بن مزِيد الْأَسدي صَاحب الْحلَّة والنيل وَغَيرهمَا، وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا وَاسْتقر مَكَانَهُ ابْنه صَدَقَة ولقب سيف الدولة.
ملك يُوسُف بن تاشفين غرناطة وانقراض دولة الصناهجة
فِيهَا عدى الْبَحْر يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين من سبتة إِلَى الجزيرة الخضراء بِسَبَب اسْتِيلَاء الفرنج على بِلَاد الأندلس وَاجْتمعَ إِلَيْهِ مثل الْمُعْتَمد بن عباد وَغَيره من مُلُوك الأندلس، وقاتلوا الأذفونش جدا فَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى، وَجمع من رُؤْسهمْ تل أذنوا عَلَيْهِ، وَملك يُوسُف غرناطة من صَاحبهَا عبد الله بن بلكين بن باديس بن حيوس بن ماكس بن بلكين بن زيزى الصنهاجي، وَأول من حكم من الصناهجة فِي غرناطة زاوى بن بلكين ثمَّ تَركهَا وَعَاد إِلَى إفريقية سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة فَملك غرناطة ابْن أَخِيه حيوس بن ماكس بن بلكين إِلَى أَن توفّي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وَولي بعده ابْنه باديس إِلَى أَن توفّي، وَولي بعده ابْن أَخِيه عبد الله بن بلكين إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ يُوسُف بن تاشفين فِي هَذِه السّنة، ثمَّ عبر يُوسُف بن تاشفين الْبَحْر إِلَى سبته وَأخذ مَعَه عبد الله(2/3)
صَاحب غرناطة وأخاه غنما إِلَى مراكش فَكَانَت غرناطة أول مَا ملكه يُوسُف من الأندلس.
وفيهَا: سَار ملكشاه عَن حلب وَدخل بَغْدَاد فِي ذِي الْحجَّة وَهُوَ أول قدومه بَغْدَاد، ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد فصاد فرطا ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَاجْتمعَ بالخليفة الْمُقْتَدِي وَأقَام بهَا إِلَى صفر سنة ثَمَانِينَ وَعَاد إِلَى أصفهان.
وفيهَا: أقطع ملكشاه مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش الرحبة وأعمالها وحران وسروج والرقة والخابور، وَزَوْجَة اخته زليخا بنت ألب أرسلان.
وفيهَا: كَانَت زلازل عَظِيمَة.
وفيهَا: توفّي الشريف أَبُو نصر الزَّيْنَبِي العباسي نقيب الهاشميين مُحدث عالي الْإِسْنَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَسنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك الْمُؤَيد إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة وَكَانَ ملكه سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، كَانَ حسن السِّيرَة حازماً، وَملك بعده ابْنه مَسْعُود زوج بنت السُّلْطَان ملكشاه.
وفيهَا: جمع أقسنقر صَاحب حلب عساكره وَسَار إِلَى قلعة شيزر، وصاحبها نصر بن عَليّ بن منقذ وضيق عَلَيْهِ وَنهب الربض ثمَّ صَالحه ابْن منقذ فَعَاد عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار السُّلْطَان بجيوش لَا تحصى وَعبر جيحون إِلَى بخارا، وَملك مَا على طَرِيقه من الْبِلَاد، ثمَّ ملك بخارا ثمَّ سَمَرْقَنْد، وَأسر صَاحبهَا أَحْمد خَان وأكرمه، ثمَّ سَار إِلَى كاشغر فَبلغ إِلَى يوزكند وَأرْسل إِلَى ملك كاشغر يَأْمُرهُ بِالْخطْبَةِ وَالسِّكَّة لَهُ فَأجَاب وَحضر إِلَيْهِ فَعَظمهُ وَأَعَادَهُ إِلَى ملكه وَعَاد إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا عمرت مَنَارَة جَامع حلب: قَامَ بعملها القَاضِي أَبُو الْحسن بن الخشاب، وَكَانَ بحلب بَيت نَار قديم ثمَّ صَار أتون حمام فَبنى بحجارته المأذنة فسعى بِهِ إِلَى أقسنقر وَقيل هَذِه الْحِجَارَة لبيت المَال فَأحْضرهُ أقسنقر وحدثه فِي ذَلِك، فَقَالَ ابْن الخشاب: يَا مَوْلَانَا إِنِّي عملت بِهَذِهِ الْحِجَارَة معبدًا للْمُسلمين وكتبت عَلَيْهِ اسْمك فَإِن رسمت غرمت ثمنهَا فَأَجَابَهُ أقسنقر إِلَى إتْمَام ذَلِك وَلَا يغرم شَيْئا.
وفيهَا: توفّي عَاصِم بن مُحَمَّد الْحسن الْبَغْدَادِيّ الْكَرْخِي مطبوع كيس حسن النّظم، فَمِنْهُ:
(مَاذَا على متلون الْأَخْلَاق ... لَو زارني فأبثه أشواقي)
(وأبوح بالشكوى إِلَيْهِ تذللاً ... وأفض ختم الدمع من آماقي)
(أسر الْفُؤَاد وَلم يرق لموثق ... مَا ضره لَو من بِالْإِطْلَاقِ)(2/4)
(إِن كَانَ قد لسبت عقارب صُدْغه ... قلبِي فَإِن رضابه درياقي)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي فَخر الدولة أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جهير بالموصل فِي الْمحرم ومولده بالموصل سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلاثمائة وتنقل فخدم بركَة بن الْمُقَلّد حَتَّى قبض على أَخِيه قرواش ثمَّ وزر لمعز الدولة ثَمَان بن صَالح بن مرداس، ثمَّ وزر لنصر الدولة أَحْمد بن مَرْوَان صَاحب ديار بكر، ثمَّ لوَلَده ثمَّ وزر للخليفة بِبَغْدَاد ثمَّ صَار مَعَ السُّلْطَان ملكشاه فَأخذ لَهُ ديار بكر من بني مَرْوَان.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تولى عميد الدولة بن فَخر الدولة بن جهير وزارة الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي.
وفيهَا: ملك عَسْكَر أَمِير الْمُسلمين وأميرهم شير بن أبي بكر مرسية من صَاحبهَا أبي عبد الله بن طَاهِر ثمَّ شاطبة ودانية ثمَّ بلنسية وَقد أخلتها الفرنج وعمرها الْعَسْكَر ثمَّ حصروا أشبيلية وَبهَا صَاحبهَا الْمُعْتَمد بن عباد فملكوها أَيْضا وَأَرْسلُوا صَاحبهَا إِلَى أَمِير الْمُسلمين فحبسه بأغمات حَتَّى مَاتَ، ثمَّ ملكوا بطليوس من صَاحبهَا عمر بن الْأَفْطَس وَقتلُوا عمر بن الْأَفْطَس وابنيه الْفضل وَالْعَبَّاس صبرا وَلم يتْركُوا من مُلُوك الأندلس سوى بِلَاد بني هود فَإِن صَاحبهَا المستعين بِاللَّه كَانَ يهادي أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فرعاه لذَلِك حَتَّى أَنه أوصى ابْنه عَليّ بن يُوسُف عِنْد مَوته بترك التَّعَرُّض إِلَى بِلَاد بني هود.
وفيهَا: ملك رجاز ملك الفرنج جَمِيع بِلَاد صقلية، وَمَات رجاز قبل سنة تسعين وَتَوَلَّى ابْنه وسلك طَريقَة مُلُوك الْمُسلمين فِي الجنائب والحجاب وَغير ذَلِك، وأسكن فِي الجزيرة الفرنج مَعَ الْمُسلمين وَأكْرم الْمُسلمين وقربهم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان وصل السُّلْطَان ملكشاه إِلَى بَغْدَاد وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ تتش من دمشق وأقسنقر من حلب وَغَيرهم واحتفل هُوَ وَالنَّاس بالميلاد بِبَغْدَاد وَوصف الشُّعَرَاء تِلْكَ اللَّيْلَة فَأَكْثرُوا.
وفيهَا: أَمر ملكشاه بِعَمَل الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع السُّلْطَان بِبَغْدَاد وَعمل قبلته بهْرَام منجمه، وَغَيره من أَصْحَاب الرصد، وابتدأ وامرأؤه بِعَمَل مسَاكِن لينزلوها إِذا قَامُوا فَتَفَرَّقُوا عَن قريب قتلا وموتاً.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير أرتق بن أكسك التركماني جد أَصْحَاب ماردين مَالِكًا للقدس مُنْذُ قدم إِلَى تتش كَمَا مر واستقرت الْقُدس لِوَلَدَيْهِ إبل غَازِي وسقمان ابْني أرتق إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُمَا الْأَفْضَل أَمِير الجيوش فسارا إِلَى الشرق.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نزل أقسنقر مساعداً تتش بِأَمْر ملكشاه على حمص فَملك تتش حمص وَأمْسك صَاحبهَا خلف بن ملاعب وولديه ثمَّ ملك تتش عرقة ثمَّ أفامية.(2/5)
وفيهَا: فِي رَمَضَان بِالْقربِ من نهاوند وَقد انْصَرف نظام الْملك من عِنْد ملكشاه إِلَى خيمة حرمه وثب على نظام الْملك صبي ديلمي فِي صُورَة مستعط وضربه بسكين فَقضى عَلَيْهِ بتدبير من ملكشاه، ثمَّ قتل الصَّبِي، وَذَلِكَ بعد وَحْشَة بَين ملكشاه وَبَين نظام الْملك، فَركب السُّلْطَان وَسكن شوشة الْعَسْكَر ومولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة.
وَمَات ملكشاه بعده بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا بِبَغْدَاد، وَكَانَت أَيَّام ملكشاه أَيَّام عدل، بنى الْجَامِع الْمَذْكُور، وَعمل المصانع بطرِيق مَكَّة، وَكَانَ يتَصَدَّق بِعَدَد كل وَحش يصيده بِدِينَار.
وَأما نظام الْملك فَإِنَّهُ كَانَ من أَبنَاء الدهاقين بطوس مَاتَت أمه فَكَانَ أَبوهُ يطوف بِهِ على المراضع فيرضعنه حسبَة.
ثمَّ نَشأ وَتعلم الْعَرَبيَّة واشتغل بِالْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّة وَعلا حَتَّى وزر لطغرل بك وَلما ملك ألب أرسلان كَانَ نظام الْملك مَعَ ابْنه ملكشاه إِلَى أَن ملك ملكشاه فَبلغ مَا لم يبلغهُ وَزِير وَقرب الْعلمَاء وَبنى مدارس الْأَمْصَار وَأسْقط المكوس وَحمى الأشعرية من اللَّعْن الَّذِي أَمر بِهِ عميد الْملك الْكِنْدِيّ، وأوصافه حَسَنَة رَحمَه الله تَعَالَى.
" وَلما مَاتَ ملكشاه " أخفت زَوجته ترْكَان خاتون مَوته وَفرقت الْأَمْوَال فِي الْأُمَرَاء وسارت بهم إِلَى أصفهان واستحلفتهم لولدها مَحْمُود وعمره أَربع سِنِين وشهور، وخطب لَهُ بِبَغْدَاد وَغَيرهَا ودبر الْأَمر بَين يَديهَا تَاج الْملك وَأما أَخُوهُ بركيا روق فهرب من أصفهان خوفًا من ترْكَان خاتون وانضم إِلَيْهِ النظامية بغضاً لتاج الدولة لسعيه فِي قتل نظام الْملك فَأرْسلت عسكراً إِلَى بركيا روق النظامية فَاقْتَتلُوا قرب يزدجرد فَانْهَزَمَ عسكرها وتبعهم بركيا روق وحصرهم بأصفهان وَأخذ تَاج الْملك من عَسْكَر الخاتون أَسِيرًا وَأَرَادَ الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَقتله النظامية.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا خرج الْحُسَيْن بن نظام الْملك إِلَى بركيا روق وَهُوَ محاصر أصفهان فاستوزره ولقبه عز الْملك وفيهَا طلب تتش السلطنة بعد أَخِيه ملكشاه وَاتفقَ مَعَه أقسنقر صَاحب حلب، وخطب لَهُ ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية وبوزان صَاحب الرها وَفتح مَعَه أقسنقر نَصِيبين عنْوَة، وَملك الْموصل وقاتله إِبْرَاهِيم بن قُرَيْش أَخُو مُسلم فَأسر إِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة من أُمَرَاء الْعَرَب وقتلهم صبرا، واستناب على الْموصل عَليّ بن مُسلم بن قُرَيْش وَأمه ضيفة عمَّة تتش وَطلب الْخطْبَة لَهُ بِبَغْدَاد فتوقفوا عَنْهَا ثمَّ سَار فاستولى على ديار بكر وَسَار إِلَى أذربيجان وَكَانَ بركيا روق قد استولى على كثير مِنْهَا فَسَار بركيا روق إِلَى عَمه تتش ليمنعه فخلى أقسنقر تتش وَلحق بركيا روق فضعف تتش لذَلِك وَعَاد إِلَى الشَّام وفيهَا ملك عَسْكَر الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صور.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي رَابِع عشر الْمحرم خطب لبركيا روق بِبَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْقَاسِم فَجْأَة وعمره(2/6)
ثَمَان ثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام، وخلافته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر، وَأدْركت أمه أرجوان خِلَافَته وخلافه المستظهر بِاللَّه ابْنه، وَخِلَافَة المسترشد بِاللَّه ابْن ابْنه وَكَانَ الْمُقْتَدِي قوي النَّفس عَظِيم الهمة، وَكَانَ بركيا روق لما توفّي الْمُقْتَدِي بِبَغْدَاد فَبَايع " للمستظهر بِاللَّه " أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَهُوَ ثامن عشرهم، وعمره إِذن سِتّ عشرَة سنة وشهران.
" مقتل أقسنقر ": لما عَاد تتش من أذربيجان أَكثر الجموع وَجمع أقسنقر وأمده بركيا روق بالأمير كربغا وقاتلوا تتش عِنْد نهر سبعين قَرِيبا من تل سُلْطَان عَن حلب سِتَّة فراسخ فَصَارَ بعض عَسْكَر أقسنقر مَعَ تتش وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَثَبت أقسنقر، فَأسر فَقَالَ لَهُ تتش: لَو ظَفرت بِي مَا كنت صنعت؟ قَالَ: كنت أَقْتلك فَقتله صبرا وَسَار إِلَى حلب فملكها وَأسر بوزان وَقَتله وَأسر كربغا وأرسله إِلَى حمص وسجنه بهَا، وَاسْتولى على حران والرها ثمَّ على الْبِلَاد الجزرية وديار بكر وخلاط وَسَار إِلَى أذربيجان فملكها ثمَّ هَمدَان وَأرْسل يطْلب الْخطْبَة بِبَغْدَاد فَأُجِيب وَبلغ بركيا روق اسْتِيلَاء عَمه على أذربيجان فَسَار إِلَى إربل وَمِنْهَا إِلَى بلد سرخاب بن بدر الْكرْدِي إِلَى أَن أقرب من عَسْكَر عَمه تتش وَلم يكن مَعَ بركيا روق غير ألف رجل وَمَعَ عَمه خَمْسُونَ ألفا فكبست فرقة مِنْهُم بركيا روق فهرب إِلَى أَصْبَهَان وَكَانَت ترْكَان خاتون قد مَاتَت فَدخل أَصْبَهَان وَبهَا أَخُوهُ مَحْمُود فاحتاط عَلَيْهِ جمَاعَة من عَسْكَر مَحْمُود وَأَرَادُوا أَن يسلموه فلحق مَحْمُودًا جدري مَاتَ مِنْهُ سلخ شَوَّال مِنْهَا فَفرج الله بذلك لبركيا روق، ثمَّ جدر بركيا روق وعوفي وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر.
وفيهَا: توفّي بِمصْر أَمِير الجيوش بدر الجمالي وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ، وَقَامَ بعد فِي الرُّجُوع إِلَى قَوْله بِمصْر ابْنه الْأَفْضَل.
وفيهَا ثامن ذِي الْحجَّة توفّي " الْمُسْتَنْصر بِاللَّه " أَبُو تَمِيم معد بن أبي الْحسن عَليّ بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم وخلافته سِتُّونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وعمره سبع وَسِتُّونَ وَلَقي شَدَائِد أخرج فِيهَا أَمْوَاله إِلَّا سجادة يجلس عَلَيْهَا وَهُوَ صابر وَولي بعده ابْنه أَبُو الْقَاسِم أَحْمد المستعلي بِاللَّه.
وفيهَا: توفّي أَمِير مَكَّة مُحَمَّد بن أبي هَاشم الْحُسَيْنِي وَقد جَاوز سبعين سنة وتولاها بعده ابْنه قَاسم بن أبي هَاشم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفيت ترْكَان خاتون زَوْجَة ملكشاه وَلم يكن بَقِي مَعهَا غير قَصَبَة أَصْبَهَان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نَهَضَ القواد بسمرقند وقبضوا ملكهم أَحْمد خَان وَأَقَامُوا خصوماً ادعوا عَلَيْهِ عِنْد الْقُضَاة بالزندقة فَأنْكر فَشهد عَلَيْهِ بذلك جمع فأفتوا بقتْله فخنق وَجلسَ ابْن عَمه مَسْعُود مَكَانَهُ.
وفيهَا: سَار بركيا روق لما عوفي من الجدري بالعساكرمن أَصْبَهَان إِلَى عَمه تتش واقتتلوا قرب الرّيّ فَانْهَزَمَ عَسْكَر تتش وَثَبت هُوَ فَقتل فِي صفر مِنْهَا، واستقامت السلطنة لبركيا روق وَالله يحكم لَا معقب لحكمه.(2/7)
" فَأَما رضوَان " بن تتش فَبَلغهُ قتل أَبِيه قرب هيت مُتَوَجها للاستيلاء على الْعرَاق فَرجع إِلَى حلب وَبهَا من جِهَة وَالِده أَبُو الْقسم حسن بن عَليّ الْخَوَارِزْمِيّ، ولحقه جمَاعَة من قواد أَبِيه ثمَّ لحقه بحلب أَخُوهُ دقاق وَكَانَ حَاضرا مقتل أَبِيه وَكَانَ مَعَ رضوَان أَيْضا أَخَوَاهُ الصغيران أَبُو طَالب وبهرام وَكلهمْ مَعَ أبي الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ كالضيوف وَهُوَ المستولي على الْبَلَد، ثمَّ كبس رضوَان أَبَا الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ لَيْلًا واحتاط عَلَيْهِ وَطيب قلبه وخطب لرضوان بحلب وَكَانَ مَعَ رضوَان ياغي سِنَان بن مُحَمَّد التركماني صَاحب أنطاكية، ثمَّ سَار رضوَان بِمن مَعَه إِلَى ديار بكر للاستيلاء عَلَيْهَا وَقصد سروج فسبقه إِلَيْهَا سقمان بن أرتق وَمنع رضوَان عَنْهَا فَسَار رضوَان فاستولى على الرها وَأطلق قلعتها لياغي سِنَان الْمَذْكُور، ثمَّ اخْتلف عَسْكَر رضوَان بَين ياغي سِنَان وَجَنَاح الدولة وَكَانَ جنَاح الدولة زوج أم رضوَان من أكبر القواد فَعَاد رضوَان إِلَى حلب وَسَار ياغي سِنَان إِلَى أنطاكية وَمَعَهُ أَبُو الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ وَدخل حلب، وَأما دقاق فكاتبه ساوتكين الْخَادِم الْوَالِي بقلعة دمشق يستدعيه سرا ليملكه دمشق، فجد دقاق فِي السّير إِلَيْهِ سرا فملكه دمشق وَوصل إِلَيْهِ طغتكين فِي جمَاعَة من خَواص تتش كَانَ طغتكين مَعَ تتش فِي الْوَقْعَة وَأسر ثمَّ خلص فَأكْرمه دقاق لكَونه زوج أمه ثمَّ قتل دقاق وطغتكين ساوتكين الْخَادِم ثمَّ جَاءَهُم ياغي سِنَان من أنطاكية وَمَعَهُ أَبُو الْقَاسِم الْخَوَارِزْمِيّ فَجعله وزيراً لدقاق.
وفيهَا: توفّي الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب أشبيلة وَغَيرهَا من الأندلس مسجوناً بأغمات دخل عَلَيْهِ فِي السجْن بنوه وَبنَاته يهنونه يَوْم عيد وعَلى بَنَاته أطمار كَأَنَّهَا كسوف وَهن أقمار وأقدامهن حافية وآثار نعمتهن عَافِيَة، فَقَالَ الْمُعْتَمد:
(فِيمَا مضى كنت بالأعياد مَسْرُورا ... فجاءك الْعِيد فِي أغمات مأسوراً)
(ترى بناتك فِي الأطمار جائعة ... يغزلن للنَّاس مَا يملكن قطميراً)
(يطأن فِي الطين والأقدام حافية ... كَأَنَّهَا لم تطَأ مسكاً وكافوراً)
(قد كَانَ دهرك إِن تَأمره ممتثلاً ... فردك الدَّهْر مَنْهِيّا ومأموراً)
(من بَات بعْدك فِي ملك يسر بِهِ ... فَإِنَّمَا بَات بالأحلام مغروراً)
وَللَّه قَول أبي بكر بن اللبانة يرثيه بقصيدة مِنْهَا:
(لكل شَيْء من الْأَشْيَاء مِيقَات ... وللمنى من مناياهن غايات)
(والدهر فِي صفة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فِيهَا استحالات)
(وَنحن من لعب الشطرنج فِي يَده ... وَرُبمَا قمرت بالبيدق الشَّاة)
(من كَانَ بَين الندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات)
(رَمَاه من حَيْثُ لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات)
(لهفي على آل عباد فَإِنَّهُم ... أهلة مَا لَهَا فِي الْأُفق هالات)
(تمسكت بعرى اللَّذَّات ذاتهم ... يَا بئس مَا جنت اللَّذَّات والذات)(2/8)
(فجعت مِنْهَا بِإِخْوَان ذَوي ثِقَة ... فَأتوا وللدهر فِي الإخوان آفَات)
(واعتضت فِي آخر الصَّحرَاء طَائِفَة ... لغاتهم فِي جَمِيع الْكتب ملغاة)
يَعْنِي البربر ابْن تاشفين وَعَسْكَره.
وفيهَا: ترك الْغَزالِيّ تدريس النظامية لِأَخِيهِ وتزهد وَقصد الشَّام والقدس ثمَّ عَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الْحميدِي الأندلسي من ميورقة مُصَنف الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ ثِقَة فَاضل مولده قبل عشْرين وَأَرْبَعمِائَة سمع بالمغرب ومصر وَالشَّام وَالْعراق وَكَانَ نزهاً.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الْغَنِيّ الْمقري الضَّرِير الحضري القيرواني الشَّاعِر مدح الْمُعْتَمد وَغَيره، وَتُوفِّي بطنجة، وَله من قصيدة:
(يَا ليل الصب مَتى غده ... أقيام السَّاعَة موعده)
(رقد السَّمَاء فَأَرقهُ ... أَسف للبين يردده)
(هاروت يعنعن فن السحر ... إِلَى عَيْنَيْك ويسنده)
(وَإِذا أغمدت اللحظ قتلت ... فَكيف وَأَنت تجرده)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
ذكر ملك كربوغا الْموصل
كَانَ تتش قد حبس كربوغاً بحمص لما قتل أقسنقر وَاسْتمرّ حَتَّى أرسل بركيا روق يَأْمر رضوَان صَاحب حلب بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلقهُ وَأطلق أَخَاهُ التونتاش، وَاجْتمعَ على كروغا البطالون وَقصد نَصِيبين، وَبهَا شرف الدولة مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش فطلع مُحَمَّد إِلَى كربوغا واستحلفه ثمَّ غدر بِهِ كربوغا وَقبض عَلَيْهِ وَملك نَصِيبين وَقصد الْموصل، وَقتل فِي طَرِيقه مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش الْمُسِيء وَحصر الْموصل وَبهَا عَليّ بن مُسلم أَخُو مُحَمَّد من حِين استنابه بهَا تتش فهرب عَليّ إِلَى صدقه بن مزِيد بالحلة، وتسلم كربوغا الْموصل بعد حِصَار تِسْعَة أشهر، ثمَّ قتل كربوغاً أَخَاهُ التونتاش ثَالِث يَوْم أَخذ الْموصل، وَأحسن كربوغاً السِّيرَة فِيهَا.
وفيهَا: استولى عَسْكَر خَليفَة مصر على الْقُدس فِي شعْبَان من إيل غَازِي، وسقمان ابْني أرتق.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة مقتل أرسلان أرغون: كَانَ للسُّلْطَان ملكشاه أَخ اسْمه أرسلان أرغون فَسَار بعد موت ملكشاه وَاسْتولى على خُرَاسَان وَكَانَ مهيباً، فَدخل عَلَيْهِ غُلَام لَهُ خَالِيا فَأنْكر عَلَيْهِ تَأَخره عَن الْخدمَة، فَاعْتَذر الْغُلَام فَلم يقبل عذره فَوَثَبَ على أرسلان أرغون فَقتله بسكين فِي الْمحرم مِنْهَا فَسَار بركيا روق فاستولى على خُرَاسَان وأقيمت لَهُ الْخطْبَة وَرَاء النَّهر وَسلم خُرَاسَان إِلَى أَخِيه السُّلْطَان سنجر بن ملكشاه وَجعل وزيره أَبَا الْفَتْح عَليّ بن الْحُسَيْن الطغرائي.
" ابْتِدَاء دولة بَيت خوارزم شاه ": أَوَّلهمْ مُحَمَّد خوارزم شاه بن أنوش تكين كَانَ أنوش(2/9)
تكين مَمْلُوكا لرجل من غرشستان وَلذَلِك قيل لَهُ أنوش تكين غرشه فَاشْتَرَاهُ بلكابك أَمِير من السلجوقية فعلا أنوش تكين بِحسن طَرِيقَته وَصَارَ مقدما وَولد لَهُ خوارزم شاه، وَنَشَأ عَارِفًا أديباً، وَتقدم بالعناية الأزلية، فَلَمَّا قدم الْأَمِير داذ الحبشي إِلَى خُرَاسَان وَهُوَ من أُمَرَاء بركيا روق، كَانَ قد أرْسلهُ بركيا روق لصلاح خُرَاسَان من فتْنَة من الأتراك قتل فِيهَا نَائِب خوارزم، فسكن داذ الْفِتْنَة وَاسْتعْمل مُحَمَّد بن أنوش تكين على خوارزم ولقبه خوارزم شاه، فصرف مُحَمَّد همته إِلَى معدلة ينشرها ومكرمه يَفْعَلهَا، وَقرب أهل الْعلم وَالدّين، فَعظم ذكره وَأقرهُ السُّلْطَان سنجر على خوارزم، وَعظم عِنْده، ثمَّ ولي بعده ابْنه أتسز فَأَفَاضَ الْعدْل، وفيهَا سَار رضوَان من حلب ليَأْخُذ دمشق من ابْن أَخِيه دقاق، وَمَعَهُ ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية، وَجَنَاح الدولة فَلم ينالوا من دمشق غَرضا وارتحل رضوَان إِلَى الْقُدس فَلم يملكهَا وتراجعت عساكره فَرجع إِلَى حلب ثمَّ سَار ياغي سِنَان عَن رضوَان إِلَى دقاق، وَحسن لَهُ قصد أَخِيه رضوَان وَأخذ حلب مِنْهُ فَالْتَقَيَا على قنسرين فَانْهَزَمَ دقاق وَعَسْكَره وَعَاد رضوَان منصوراً، ثمَّ اتفقَا على أَن يخْطب لرضوان بِدِمَشْق قبل دقاق.
وفيهَا: خطب الْملك رضوَان للمستعلي بِأَمْر الله الْعلوِي بِمصْر أَربع جمع ثمَّ قطعهَا وَأعَاد الْخطْبَة العباسية خوف الْعَاقِبَة.
وفيهَا: قتلت الباطنية أرغش النظامي بِالريِّ، وَكَانَ قد عظم حَتَّى تزوج بنت ياقوتي عَم بركيا روق.
وفيهَا: قتلت الباطنية أَيْضا الْأَمِير برسق من أَصْحَاب طغرل بك أول شجنة السلجوقية بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا حصر الفرنج أنطاكية لسبعة أشهر وَظهر لياغي سِنَان شجاعة عَظِيمَة ثمَّ هجموها عنْوَة وَخرج ياغي سِنَان لَيْلًا مَرْعُوبًا فَلَمَّا أصبح ووعى على نَفسه أَخذ يتلهف على أَهله وَالْمُسْلِمين، وغشى عَلَيْهِ حَتَّى عجز عَن الرّكُوب فَتَرَكُوهُ وَمر بِهِ أرمني يقطع الْخشب فَقطع رَأسه وَحمله إِلَى الفرنج بأنطاكية، وَوضع الفرنج السَّيْف فِي أنطاكية فِي الْمُسلمين ونهبوا وَبلغ كربوغاً صَاحب الْموصل فعل الفرنج بأنطاكية فَجمع عسكره وَسَار إِلَى مرج دابق وجاءه دقاق من دمشق وطغتكين أتابك وجناج الدولة صَاحب حمص زوج أم رضوَان فَارق رضوَان وَملك حمص وَغَيرهم من الْأُمَرَاء وَالْعرب، ثمَّ حصروا أنطاكية والفرنج بهَا فطلبوا من كربوغا أَن يُطْلِقهُمْ، فَامْتنعَ ثمَّ أَسَاءَ كربوغا السِّيرَة فِيمَن اجْتمع مَعَه وتكبر فخبثت نياتهم لَهُ وضاق الْأَمر بالفرنج وَقل قوتهم فَخَرجُوا من أنطاكية وقاتلوا الْمُسلمين فهرب الْمُسلمُونَ وتقوت الفرنج بالقوت وَالسِّلَاح وَسَار الفرنج إِلَى المعرة فاستولوا عَلَيْهَا فَقتلُوا فِيهَا مَا يزِيد على مائَة ألف إِنْسَان وَسبوا وَأَقَامُوا بالمعرة أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول بعض المعربين وَمَا أحسن مَا جَاءَت تورية الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس والأحد.(2/10)
(معرة الأذكياء قد حردت ... عَنَّا وَحقّ المليحة الحرد)
(فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ كَانَ موعدهم ... فَمَا نجى من خميسهم أحد)
وَالله أعلم، ثمَّ سَارُوا فَصَالحهُمْ أهل حمص.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
ذكر ملك الفرنج بَيت الْمُقَدّس
كَانَ تتش قد أقطع بَيت الْمُقَدّس للأمير أرتق ثمَّ لِوَلَدَيْهِ إيلغازي وسقمان إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا عَسْكَر خَليفَة مصر بالأمان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَسَار سقمان وإيلغازي فَأَقَامَ سقمان بِبَلَد الرها وإيلغازي بالعراق، وَاسْتمرّ الْقُدس للمصريين إِلَى أَن حصره الفرنج نيفاً وَأَرْبَعين يَوْمًا وملكوه يَوْم الْجُمُعَة لسبع بَقينَ من شعْبَان من هَذِه السّنة، وَقتل الفرنج فِي الْمُسلمين أسبوعاً، وَقتلُوا فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَوق سبعين ألفا فيهم أَئِمَّة وعلماء وَعباد وزهاد مِمَّن جاور لشرف الْموضع، وغنموا مَا لَا يحصر وَاخْتلف الْمُلُوك السلجوقية فَتمكن الفرنج من الْبِلَاد وللمظفر الأبيوردي فِي ذَلِك شعر مِنْهُ:
(مزجنا دِمَاء بالدموع السواجم ... فَلم تبْق منا عرضة للمراجم)
(وَكَيف تنام الْعين ملْء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نَائِم)
(وَإِخْوَانكُمْ بِالشَّام يضحى مقيلهم ... ظُهُور المذاكي أَو بطُون القشاعم)
(تسومهم الرّوم الهوان وَأَنْتُم ... تجرون ذيل الْخَفْض فعل المسالم)
(وَكم من دِمَاء قد أبيحت وَمن دمي ... توارى حَيَاء حسنها بالمعاصم)
(أنرضى صَنَادِيد الأعاريب بالأذى ... وتقضى على ذَلِك كماة الْأَعَاجِم)
(فليتهم إِذْ لم يذودوا حمية ... عَن الدّين ضنوا غيرَة بالمحارم)
وفيهَا: قصد مُحَمَّد بن ملكشاه أَخَاهُ لِأَبِيهِ بركيا روق بِالريِّ فَسَار عَنهُ بركيا روق فَوجدَ مُحَمَّد بن زبيدة خاتون أم أَخِيه بركيا روق فَأخذ خطها بِمَال ثمَّ خنقها وَاجْتمعَ إِلَيْهِ هركواس شحنة بَغْدَاد وكربوغا صَاحب الْموصل، وَطلب الْخطْبَة بِبَغْدَاد فَخَطب لَهُ بهَا سَابِع عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا دخل بركيا روق بَغْدَاد وَأعَاد الْخطْبَة لَهُ فِي صفر، ثمَّ قَاتل أَخَاهُ مُحَمَّدًا رَابِع رَجَب عِنْد النَّهر الْأَبْيَض قرب هَمدَان، فَانْهَزَمَ بركيا روق وَأعَاد مُحَمَّد الْخطْبَة لَهُ بِبَغْدَاد، وَسَار بركيا روق إِلَى الرّيّ وَقصد بجماعته خُرَاسَان وَاجْتمعَ مَعَ الْأَمِير داذ واقتتل مَعَ أَخِيه سنجر فَانْهَزَمَ بركيا روق إِلَى جرجان ثمَّ دامغان.
وفيهَا: جمع ابْن الدانشمند أَي معلم التركمان وَهُوَ كمشتكين بن طيلو صَاحب ملطية وسيواس وأوقع بالفرنج قرب ملطية وَأسر ملكهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عِيسَى يحيى بن عِيسَى بن جزلة الطَّبِيب صَاحب الْمِنْهَاج فِي الْمُفْردَات كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم، ورد فِي رسَالَته على النَّصَارَى وَبَين عوار مَذْهَبهم وَأقَام(2/11)
الْحجَّة على الدّين الْحق وَذكر فِيهَا النُّصُوص من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فِي ظُهُور النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَله كتاب تَقْوِيم الْأَبدَان وَغَيره، ووقف كتبه وَجعلهَا فِي مشْهد أبي حنيفَة.
ابْتِدَاء دولة بني شاهر من مُلُوك خلاط
فِيهَا استولى سقمان القطبي التركي وَيُسمى سكمان على خلاط كَانَ مَمْلُوكا لإسماعيل صَاحب مَدِينَة مرند من أذربيجان، ولقب إِسْمَاعِيل قطب الدّين وَكَانَ من بنير سلجوق، وَلذَلِك قيل لسكمان القطبي، وَنَشَأ سكمان شهماً كَافِيا، وَكَانَت خلاط لبني مَرْوَان وظلموا واشتهر عدل سقمان، فاتفق أهل خلاط وكاتبوه فجَاء وفتحوها لَهُ وسلموها إِلَيْهَا، وَاسْتمرّ بهَا حَتَّى توفّي سنة سِتّ وَخَمْسمِائة وملكها بعده ابْنه ظهير الدّين إِبْرَاهِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: ثمَّ إِن بركيا روق بعد هزيمته الْمَذْكُورَة من إخْوَته اجْتمع عَلَيْهِ أَصْحَابه بخوزستان، ثمَّ أَتَى عَسْكَر مكرم فَكثر جمعه ثمَّ سَار إِلَى هَمدَان فلحق بِهِ الْأَمِير إياز فِي خَمْسَة آلَاف فَارس، ثمَّ قَاتل أَخَاهُ مُحَمَّدًا فِي ثَالِث جُمَادَى مِنْهَا طول النَّهَار فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وَعَسْكَره وَأسر مؤيد الْملك بن نظام الْملك وَزِير مُحَمَّد فعاقبه على فعله بوالدته، وَقَتله بِيَدِهِ. وَعمر مؤيد الْملك خَمْسُونَ سنة تَقْرِيبًا، ثمَّ سَار بركيا روق إِلَى الرّيّ، وَأما مُحَمَّد فقصد خُرَاسَان وَجمع مَعَ أَخِيه سنجر الجموع وتحالفا وقصدا بركيا روق بِالريِّ فَسَار بركيا روق إِلَى بَغْدَاد وَضَاقَتْ أَمْوَاله فَطلب من الْخَلِيفَة مَالا فَحمل إِلَيْهِ خمسين ألف دِينَار، وَمد يَده فِي مَال الرّعية وَمرض مَرضا شَدِيدا، وَأما مُحَمَّد وسنجر فاستوليا على بِلَاد أخيهما بركيا روق، ثمَّ دخلا بَغْدَاد وَهُوَ مَرِيض قد أيس مِنْهُ فَسَار إِلَى جِهَة وَاسِط وَوصل السُّلْطَان مُحَمَّد وسنجر بَغْدَاد فَشَكا إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَة المستظهر سوء سيرة بركيا روق وخطب لمُحَمد ثمَّ كَانَ مَا سَيذكرُ.
ملك ابْن عمار مَدِينَة جبلة
كَانَ القَاضِي أَبُو عبيد الله بن مَنْصُور عرف بِابْن صليحة قد استولى على جبلة وحاصره الفرنج فَأرْسل إِلَى طغتكين أتابك دقاق صَاحب دمشق يطْلب مِنْهُ من يتسلم مِنْهُ جبلة ويحفظها، فَأرْسل إِلَيْهَا طغتكين ابْنه تَاج الْملك بورى فتسلمها وأساء السِّيرَة، فكاتب أَهلهَا أَبَا عَليّ بن مُحَمَّد بن عمار صَاحب طرابلس فَأرْسل عسكراً فَاجْتمعُوا وقاتلوا بورى، فَانْهَزَمَ أَصْحَابه، وَملك ابْن عمار جبلة وَأسر بورى فَأحْسن إِلَيْهِ ابْن عمار وسيره إِلَى أَبِيه طغتكين، وَأما القَاضِي ابْن صليحة فقصد بأَهْله دمشق ثمَّ بَغْدَاد وَبهَا بركيا روق وَقد ضَاقَتْ يَده فَطلب من ابْن صليحة مَالا فَحمل إِلَيْهِ جملَة طائلة.
أَخْبَار الباطنية ... وهم الإسماعيلية
أول عظمهم بعد السُّلْطَان ملكشاه، وملكوا قلاعاً مِنْهَا قلعة أَصْبَهَان مستجدة بناها ملكشاه، وَسبب بنائها أَن كَلْبا هرب مِنْهُ فِي الصَّيْد وَمَعَهُ رَسُول الرّوم فَصَعدَ الْكَلْب إِلَى(2/12)
مَوضِع القلعة فَقَالَ الرَّسُول: لَو كَانَ هَذَا الْموضع ببلادنا لبنينا عَلَيْهِ قلعة، فبناها السُّلْطَان وتواردت عَلَيْهَا النواب حَتَّى ملكهَا الباطنية وَعظم ضررهم بِسَبَبِهَا، كَانَ يُقَال قلعة يدل عَلَيْهَا كلب وَيُشِير بهَا كَافِر لَا بُد وَأَن يكون آخرهَا إِلَى شَرّ، وملكوا قلعة ألموت فِي نواحي قزوين أرسل بعض مُلُوك الديلم عقَابا فَنزل على مَوضِع ألموت فَرَآهُ حصيناً فبناه قلعة وسماها الراموت مَعْنَاهُ بِلِسَان الديلم تَعْلِيم الْعقَاب وَذَلِكَ الْموضع وَمَا يجاوره يُسمى طالقان، وَكَانَ الْحسن بن الصَّباح شهماً مهندساً حيسوباً ساحراً، وَطَاف الْبِلَاد ثمَّ استغوى أهل ألموت وَملكه وملكوا أَيْضا قلعة طبس وقهستان ثمَّ قلعة رستمكوه قرب أبهر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قلعة خالنجان على خَمْسَة فراسخ من أصفهان، ثمَّ قلعة أردهن ملكهَا أَبُو الْفتُوح ابْن أُخْت الْحسن بن الصَّباح وملكوه قلعة كرد كوه وقلعة الطنبور وقلعة حلاوخان بَين فَارس وخوزستان، وامتدوا إِلَى اغتيال الأكابر فَعظم صيتهم وخافهم النَّاس فتتبعهم بركيا روق وَقتل كل من عرف مِنْهُم.
وفيهَا ملك الفرنج سورج من ديار الجزيرة قتلا وسبياً وأرسوف بساحل عكا وقيسارية.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا " توفّي المستعلي " بِأَمْر الله أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي خَليفَة مصر لسبع عشرَة خلت من صفر ومولده فِي الْعشْرين من شعْبَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، وخلافته سبع سِنِين وَنَحْو شَهْرَيْن، كَانَ مُدبر دولته الْأَفْضَل بن بدر الجمالي.
وبويع لِابْنِهِ الْآمِر بِأَحْكَام الله أبي عَليّ الْمَنْصُور، وعمره خمس سِنِين وَشهر وَأَيَّام، وَقَامَ بتدبير دولته الْأَفْضَل بن بدر الجمالي.
وفيهَا: تقَابل بركيا روق وَأَخُوهُ مُحَمَّد عِنْد الرّيّ فِي جُمَادَى الأول وَهُوَ المصاف الرَّابِع، فَانْهَزَمَ مُحَمَّد، ونهبت خزانته وَمضى فِي نفر يسير إِلَى أَصْبَهَان ثمَّ سَار بركيا روق فحصر مُحَمَّدًا بأصبهان، وَعدم الْقُوت بهَا إِلَى عَاشر ذِي الْحجَّة فهرب مُحَمَّد مِنْهَا مستخفياً وحرض بركيا روق على تَحْصِيله فَلم يظفر بِهِ، ثمَّ سَار بركيا روق عَن أصفهان إِلَى هَمدَان فِي ثامن عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
" وفيهَا مَاتَ كربوغا " بخوى من أذربيجان بَعثه إِلَيْهَا بركيا روق وَاسْتولى على الْموصل مُوسَى التركماني عَامل كربوغا على حصن كيفا وَكَانَ شمس الدولة جكرمش التركي صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر فقصد الْموصل وَاسْتولى على تصيبين فِي طَرِيقه فَخرج مُوسَى التركماني من الْموصل لقتاله فغدر بمُوسَى عسكره وصاروا مَعَ جكرمش، فَعَاد مُوسَى إِلَى الْموصل وحصره جكرمش بهَا طَويلا فاستعان مُوسَى بسقمان وَهُوَ فِي ديار بكر وَأَعْطَاهُ حصن كيفا فاستمر الْحصن لسقمان وَأَوْلَاده إِلَى آخر وَقت فَسَار سقمان إِلَيْهِ، فَرَحل جكرمش عَن الْموصل وَخرج مُوسَى ليلقى سقمان فَوَثَبَ على مُوسَى جمَاعَة من أَصْحَابه فَقَتَلُوهُ عِنْد قربَة(2/13)
كواثا وَدفن على تل هُنَاكَ إِلَى الْآن يعرف بتل مُوسَى، وَرجع سقمان إِلَى حصن كيفا ثمَّ عَاد جكرمش صَاحب الجزيرة إِلَى الْموصل وحصرها ثمَّ تسلمها صلحا وَأحسن السِّيرَة فِيهَا.
وفيهَا: سَار صنجيل الفرنجي فِي جمع قَلِيل وَحصر حصن ابْن عمار بطرابلس، ثمَّ صولح على مَال حملوه إِلَيْهِ، ثمَّ فتح صنجيل أنطرسوس وَقتل بهَا الْمُسلمين، ثمَّ حصر حصن الأكراد فَجمع جنَاح الدولة صَاحب حمص الْعَسْكَر ليسير إِلَيْهِ، فَوَثَبَ باطني على جنَاح الدولة بالجامع فَقتله، وَبلغ ذَلِك صنجيل، فنازل حمص وَملك أَعمالهَا.
وفيهَا: قتل الْمُؤَيد بن مُسلم بن قُرَيْش أَمِير بني عقيل، قَتله بَنو نمير عِنْد هيت.
وفيهَا: توفّي مَنْظُور بن عمَارَة الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة، وَقَامَ ابْنه مقَامه، وهم من ولد المهنا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِي جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ المصاف الْخَامِس بَين الْأَخَوَيْنِ بركيا روق وَمُحَمّد ابْني ملكشاه فَانْهَزَمَ عَسْكَر مُحَمَّد أَيْضا وَذَلِكَ على بَاب خوى، وَسَار بركيا روق إِلَى جبل كثير العشب فَأَقَامَ أَيَّامًا ثمَّ سَار إِلَى زنجان وَسَار مُحَمَّد إِلَى أرجيش على أَرْبَعِينَ فرسخاً من مَوضِع الْوَقْعَة من أَعمال خلاط ثمَّ سَار إِلَى خلاط.
وفيهَا: ملك دقاق بن تتش الرحبة وقررها وَعَاد إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى بلك بن بهْرَام بن أرتق وَهُوَ ابْن أخي سقمان وإيل غَازِي على عانة والحديثة من بني يعِيش بن عِيسَى بعد مَا ملك الفرنج مِنْهُ سروج.
وفيهَا: فِي صفر أغارت الفرنج على قلعة جعير والرقة فساقوا الْمَوَاشِي وأسروا من وجدوا، وَكَانَت الرقة وقلعة جعبر لسالم بن مَالك بن بدران سلمهَا إِلَيْهِ ملكشاه كَمَا مر لما تسلم مِنْهُ حلب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول اصْطلحَ بركيا روق وَمُحَمّد بالتراسل وحلفا على أَن لَا يذكر بركيا روق فِي بِلَاد مُحَمَّد وَأَن تكون الْمُكَاتبَة بَين وزيريهما وَلكُل مِنْهُمَا بِلَاد مُسَمَّاة ووصلت الرُّسُل إِلَى المستظهر بِالصُّلْحِ فَخَطب بِبَغْدَاد لبركيا روق وَكَانَ شحنته بِبَغْدَاد إبلغاري بن أرتق.
وفيهَا: سَار صنجيل الفرنجي من الْبَحْر وحاصر طرابلس برا وبحراً وَانْصَرف خاسئاً وحاصر جبيل وتسلمها بالأمان، ثمَّ حاصر عكا برا وبحراً وواليها زهر الدولة نبا من جِهَة خَليفَة مصر فَملك الفرنج عكا بِالسَّيْفِ بعد قتال شَدِيد، وفعلوا بِأَهْلِهَا الْأَفْعَال الشنيعة، وهرب نبا إِلَى الشَّام ثمَّ إِلَى مصر، هَذَا وملوك الشَّام مشتغلون بِقِتَال بَعضهم بَعْضًا، وقصدت الفرنج حران فَاجْتمع جكرمش وسقمان وَمَعَهُ التركمان وتحالفا والتقيا مَعَ الفرنج على نهر البلخ، فَانْهَزَمَ الفرنج وَأسر ملكهم القومص.(2/14)
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي دقاق بن تتش بن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب دمشق فَخَطب طغتكين الأتابك بِدِمَشْق لِابْنِ دقاق طِفْل عمره سنة ثمَّ قطع خطبَته وخطب ليلتاش بن تتش عَم الطِّفْل فِي ذِي الْحجَّة ثمَّ أعَاد خطْبَة الطِّفْل وَاسْتقر طغتكين فِي دمشق.
وفيهَا: سَار صَدَقَة بن مزِيد صَاحب الْحلَّة فاستولى على وَاسِط وَضمن البطيحة لمهذب الدولة بن أبي الْخَيْر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار.
وفيهَا: توفّي أَمِير الدولة أَبُو سعد بن موصلايا فَجْأَة وَقد أضرّ، وَكَانَ بليغاً خدم الْخُلَفَاء خمْسا وَسِتِّينَ سنة وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ترقى حَتَّى نَاب عَن الوزارة وَكَانَ يتَصَدَّق ووقف ملكه على وُجُوه الْبر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي السُّلْطَان بركيا روق بن ملكشاه بالسل والبواسير، سَار من أصفهان إِلَى بَغْدَاد فقوي مَرضه فِي يزدجرد، فخلف الْعَسْكَر لِابْنِهِ ملكشاه وعمره أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر، وَجعل أياز أتابكه وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاد وَتُوفِّي بيزدجرد وَنقل فَدفن بأصبهان فِي تربته وعمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَتسَمى بالسلطنة اثْنَتَيْ عشرَة سنة وأربعمة أشهر، وقاسى حروباً وَخِلَافًا ورخاء وَشدَّة، وملكاً وزواله، وَلما صفى ملكه كدره الْمَوْت، وَكَانَ كلما خطب لَهُ بِبَغْدَاد وَقع فِيهَا الغلاء، وَكَانَ كثير التجاوز، وَدخل أياز وَمَعَهُ ملكشاه بن بركيا روق بَغْدَاد سَابِع عشر ربيع الآخر مِنْهَا، وخطب لملكشاه بجوامع بَغْدَاد.
وَلما بلغ مُحَمَّدًا موت أَخِيه بركيا روق قصد بَغْدَاد وَنزل بالجانب الغربي، وَبَقِي ملكشاه وأياز بالشرقي، وَجمع أياز الْعَسْكَر لقِتَال مُحَمَّد، ثمَّ أَشَارَ على أياز وزيره بِالصُّلْحِ وَمَشى بَينهمَا وَحضر الكيا الهراس مدرس النظامية وَالْفُقَهَاء وحلفوا مُحَمَّدًا لاياز والأمراء الَّذين مَعَه، وَحضر أياز بملكشاه عِنْد مُحَمَّد فَأكْرمه وَصَارَت السلطنة لمُحَمد فِي جمادي الأولى مِنْهَا وَعمل أياز دَعْوَة عَظِيمَة فِي ثامن جمادي الْآخِرَة للسُّلْطَان مُحَمَّد فِي دَاره بِبَغْدَاد فَحَضَرَ إِلَيْهِ وَقدم لَهُ أياز أَمْوَالًا، وَفِي ثَالِث عشر جمادي الأخرة طلب السُّلْطَان أيازا ورتب لَهُ فِي الدهليز جمَاعَة فَقَتَلُوهُ وعمره فَوق أَرْبَعِينَ وَهُوَ من مماليك ملكشاه، وَكَانَ شجاعاً ذَا مُرُوءَة وَأمْسك الصفي وزيره، وَقتل فِي رَمَضَان وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ وَكَانَ من بَيت رياسة بهمدان.
" وفيهَا توفّي سقمان " بن أرتق بن أكسك بالخوانيق فِي القرينين وَحمل فِي تَابُوت فَدفن بحصن كيفا كَانَ مُتَوَجها إِلَى دمشق باستدعاء طغتكين ليجعله مُقَابل الفرنج بِحكم مرض طغتكين وَقَامَ ابْنه إِبْرَاهِيم مَوْضِعه، كَانَ لَهُ حصن كيفا وماردين أما ملكه لحصن كيفا فَتقدم، وَأما ملكه لماردين فَهُوَ أَنه وهب ماردين وأعمالها السُّلْطَان بركيا روق لإِنْسَان مغن، وَوَقع حَرْب بَين كربوغا وسقمان وَكَانَ مَعَ سقمان ابْن أَخِيه ياقوتي وعماد الدّين زنكي وَهُوَ(2/15)
إِذْ ذَاك صبي فَانْهَزَمَ سقمان وَأسر ابْن أَخِيه ياقوتي فحبسه كربوغا صَاحب الْموصل بماردين إِلَى أَن سَأَلت زَوْجَة أرتق كربوغا فِي إِطْلَاق ابْن ابْنهَا ياقوتي فَأَطْلقهُ فأعجب ياقوتي ماردين فَأرْسل يَقُول للْمُغني: إِن أَذِنت لي سكنت فِي ربض قلعتك وحميتها من المفسدين، فَأذن لَهُ بالْمقَام فِي الربض فَأَقَامَ بهَا ياقوتي وَجعل يُغير من خلاط إِلَى بَغْدَاد وَمَعَهُ حفاظ قلعة ماردين وَهُوَ يحسن إِلَيْهِم فاطمأنوا إِلَيْهِ وَسَار مرّة وَنزل مَعَه أَكْثَرهم فقبضهم وقيدهم وأتى إِلَى بَاب قلعة ماردين وَقَالَ لأهلهم: إِن سلمتم القلعة إِلَيّ وَإِلَّا ضربت أَعْنَاقهم فامتنعوا فَضرب عنق وَاحِد فسلموها إِلَيْهِ وَأقَام بهَا وَجمع جمعا وَقصد نَصِيبين ولحقه مرض أعجزه فَحمل حَتَّى ركب الْفرس وأصابه سهم فَسقط ياقوتي وَمَات مِنْهُ، ثمَّ ملك ماردين بعده أَخُوهُ على مُطيعًا لجكرمش صَاحب الْموصل واستخلف على ماردين من أَصْحَابه شخصا اسْمه عَليّ أَيْضا، فَجهز هَذَا عَليّ يَقُول لسقمان: إِن ابْن أَخِيك يُرِيد أَن يسلم ماردين إِلَى جكرمش، فَسَار سقمان وتسلم ماردين، وَعوض ابْن أَخِيه عَنْهَا بجبل جور، واستقرت ماردين وحصن كيفا لسقمان إِلَى أَن سَار إِلَى دمشق وَمَات بالقرينين فَصَارَت ماردين لِأَخِيهِ إيلغازي بن أرتق واستقرت لوَلَده إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَهُوَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة.
وفيهَا: نهبت الباطنية الْحجَّاج فِي جوَار الرّيّ، وهم حجاج الْهِنْد وَمَا وَرَاء النَّهر وخراسان وقتلوهم سحرًا.
وفيهَا: تقَاتل الْملك رضوَان بن تتش صَاحب حلب وفرنج أنطاكية عِنْد يبرين فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم وَأسر، وملكت الفرنج أرتاح.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد عَليّ بن الْحسن بن أبي صقر الشَّافِعِي، تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغلب عَلَيْهِ الشّعْر. فَمن قَوْله لما كبر:
(ابْن أبي الصَّقْر افتكر ... وَقَالَ فِي حَال الْكبر)
(وَالله لَوْلَا بولة ... تحرقني وَقت السحر)
(لما ذكرت أَن لي ... مَا بَين فَخذي ذكر)
وولادته فِي نَحْو سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار سيف الدولة صَدَقَة ابْن مزِيد من الْحلَّة فَملك الْبَصْرَة اتِّصَال بن ملاعب بِملك أفامية واستيلاء بِملك أفامية الفرنج عَلَيْهَا: كَانَ خلف بن ملاعب الْكلابِي صَاحب حمص وَأَصْحَابه يقطعون الطَّرِيق، فَعظم الضَّرَر بِهِ فَأخذ تتش صَاحب دمشق مِنْهُ حمص وتقلبت بخلف الْأَحْوَال إِلَى أَن أَقَامَ بِمصْر وَاتفقَ أَن مُتَوَلِّي أفامية من جِهَة رضوَان بن تتش صَاحب حلب كَانَ شِيعِيًّا فكاتب خلفاء مصر ليرسلوا من يسلم إِلَيْهِ أفامية فَطلب ابْن ملاعب ذَلِك فَأَرْسلُوهُ وتسلم أفامية وقلعتها، فَلَمَّا اسْتَقر خلع طَاعَة المصريين وَأقَام بهَا يقطع الطَّرِيق فاتفق قَاضِي أفامية وَجَمَاعَة مِنْهَا وكاتبوا رضوَان ليرسل جمعا يكبسون أفامية بِاللَّيْلِ ويسلموها إِلَيْهِم فَفعل رضوَان ذَلِك فأصعد القَاضِي(2/16)
وجماعته المبعوثين بالحبال إِلَى القلعة فَقتلُوا ابْن ملاعب وَبَعض أَوْلَاده وهرب الْبَعْض واستولوا على قلعة أفامية، ثمَّ سَار إِلَيْهَا الفرنج وحاصروها وملكوا الْبَلَد والقلعة، وَقتلُوا القَاضِي الْمَذْكُور.
حَال طرابلس مَعَ الفرنج
كَانَ صنجيل قد ملك جبلة ثمَّ حصر طرابلس وَبنى بقربها حصناً وَبنى تَحْتَهُ ربضاً، وَيعرف بحصن صنجيل، فَخرج الْملك أَبُو عَليّ بن عمار صَاحب طرابلس وأحرق الربض، فانهدم بعض السقوف الْمُحْتَرِقَة بصنجيل فَمَرض عشرَة أَيَّام وَمَات وَنقل إِلَى الْقُدس. قلت:
(نقلوا صنجيل من نَار إِلَى نَار تضرم ... قَبره إِن كَانَ فِي الْقُدس فَفِي وَادي جَهَنَّم)
وَالله أعلم.
ودام الْحَرْب بَين أهل طرابلس وَبَين الفرنج خمس سِنِين وصبر صَاحبهَا ابْن عمار عَظِيما وَقلت بهَا الأقوات وافتقرت الْأَغْنِيَاء.
ثمَّ دخلت سنة خَمْسمِائَة: فِيهَا توفّي يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين ملك الْمغرب والأندلس، كَانَ حسن السِّيرَة، طلب من المستظهر التَّقْلِيد فَأرْسلهُ إِلَيْهِ وَهُوَ باني مراكش، وَملك بعده ابْنه عَليّ وتلقب بأمير الْمُسلمين أَيْضا.
" وفيهَا قتل فَخر الْملك " أَبُو المظفر عَليّ بن نظام الْملك يَوْم عَاشُورَاء، وَكَانَ أكبر أَوْلَاد نظام الْملك وزر لبركيا روق ثمَّ لِأَخِيهِ سنجر وَقتل صَائِما بنيسابور وَرَأى فِي الْمَنَام الْحُسَيْن بن عَليّ يَقُول: عجل إِلَيْنَا وَليكن إفطارك عندنَا، فَقَالَ لأَصْحَابه: قد اشْتغل فكري وَلَا محيد عَن قَضَاء الله، فَقَالُوا: الصَّوَاب أَن لَا تخرج الْيَوْم فَأَقَامَ يَوْمه يُصَلِّي وَيقْرَأ وَتصدق بِشَيْء كثير وَخرج الْعَصْر يُرِيد دَار النِّسَاء فَسمع صياح متظلم شَدِيد الحرقة فَأحْضرهُ وَقَالَ: وَمَا حالك؟ فَدفع إِلَيْهِ رقْعَة فَبينا فَخر الْملك يَتَأَمَّلهَا إِذْ ضربه بسكين فَقتله وَأمْسك الباطني وَحمل إِلَى السُّلْطَان سنجر فقرره فَأقر على جمَاعَة كذبا فَقتل هُوَ وَالْجَمَاعَة.
وفيهَا: ملك صَدَقَة بن مَنْصُور بن مزِيد قلعة تكريت سلمهَا إِلَيْهِ كيقباذ بن هزارسب الديلمي، وَكَانَت لبني معن بُرْهَة ثمَّ تنقلت حَتَّى صَارَت لأقسنقر صَاحب حلب، ثمَّ لكوهر آيين ثمَّ لمجد الْملك البلاساني فولى عَلَيْهَا كيقباذ حَتَّى سلمهَا لصدقة.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مُحَمَّد جاولي سقاو والموصل والأعمال الَّتِي بيد جكرمش فَخرج جكرمش لقتاله فِي محفة مفلوجاً فَانْهَزَمَ عَسْكَر جكرمش وَأسر فِي محفته ثمَّ حصر جاولي الْموصل وَكَانَ قد أَقَامَ أَصْحَاب جكرمش زنكي بن جكرمش وَملك الْموصل وَله إِحْدَى عشرَة سنة وَطَاف جاولي بجكرمش حول الْموصل أَسِيرًا وَهُوَ يَأْمُرهُم بِتَسْلِيم الْبَلَد فَلم يقبلُوا مِنْهُ وَمَات جكرمش فِي تِلْكَ الْحَال وعمره نَحْو سِتِّينَ، وَهُوَ الَّذِي على سور(2/17)
الْموصل وحصنها، وَكَاتب أهل الْموصل قليج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلمش السلجوقي صَاحب بِلَاد الرّوم يستدعونه فقصد الْموصل فَلَمَّا وصل نَصِيبين رَحل جاولي عَن الْموصل خوفًا إِلَى الرحبة وتسلم قليج أرسلان الْموصل فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا، واستخلف ابْنه ملك شاه بهَا وعمره إِحْدَى عشرَة سنة، وَأقَام مَعَه مُدبرا، وَقصد جلولي وَكَانَ قد اجْتمع إِلَى جاولي رضوَان أَمِير حلب وَغَيره فَاقْتَتلُوا فِي عشرى ذِي الْقعدَة على الخابور وَقَاتل قليج أرسلان بِنَفسِهِ وَانْهَزَمَ عكسره فاضطر قليج أرسلان إِلَى الْهَرَب فَألْقى بِنَفسِهِ فِي الخابور فغرق وَظهر بعد أَيَّام فَدفن بالشمسانية من قرى الخابور، ثمَّ تسلم جاولي الْموصل بالأمان وَسَار ملك شاه بن قليج أرسلان إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد.
وفيهَا: حاصر السُّلْطَان مُحَمَّد قلعة الباطنية بِالْقربِ من أَصْبَهَان الَّتِي بناها ملك شاه بأشارة رَسُول الرّوم وَاسْمهَا شاه دز وَطَالَ الْحصار وَنزل بَعضهم بالأمان وَبَقِي صَاحبهَا أَحْمد بن عبد الْملك بن عطاش مَعَ جمَاعَة يسيرَة فزحف السُّلْطَان فَقتله وَقتل جمَاعَة من الباطنية وملكها وخربها.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير سرخاب بن بدر بن مهلهل بن أبي الشول الْكرْدِي، وأمواله لَا تحصى، وَقَامَ ابْنه أَبُو مَنْصُور مقَامه، وَبقيت الْإِمَارَة فيهم مائَة وَثَلَاثِينَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي رَجَب " قتل سيف الدولة صَدَقَة " بن مَنْصُور بن دبيس بن مزِيد الْأَسدي أَمِير الْعَرَب فِي مقاتلته للسُّلْطَان مُحَمَّد وَحمل رَأسه إِلَى مُحَمَّد، وَعمر صَدَقَة تسع وَخَمْسُونَ، وإمارته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة، وَقتل من أَصْحَابه فَوق ثَلَاثَة آلَاف، وَكَانَ متشيعاً وَهُوَ الَّذِي بنى الْحلَّة بالعراق، قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: تقدم ذكر الْحلَّة قبل وجود صَدَقَة فَكيف يكون هُوَ الَّذِي بناها وَكَانَ قد اتَّسع جاهه واستجار بِهِ الْكِبَار. اجْتهد فِي نصح السُّلْطَان مُحَمَّد حَتَّى جاهر بركيا روق بالعداوة، ثمَّ فسد مَا بَينه وَبَين مُحَمَّد لحماية صَدَقَة كل من خَافَ من مُحَمَّد وَمِنْهُم أَبُو دلف سرخاب بن كيخسرو صَاحب ساوة استجار بِصَدقَة، وَطَلَبه مُحَمَّد فَلم يُسلمهُ إِلَيْهِ، فقاتله مُحَمَّد، فَقتل صَدَقَة وَأسر إبنه دبيس وسرخاب.
قلت: ولصدقة صنف الشريف أَبُو يعلى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الهبارية العباسي كتاب الصادح والباغم على صفة كليلة ودمنة ألفي بَيت وأرسله إِلَيْهِ مَعَ ابْنه فَأعْطَاهُ لكل بَيت دِينَارا، وَمِنْه:
(وَضعته مخترعا مَعْنَاهُ ... لملك مَا خَابَ من رجاه)
(بَحر الندا رب الأيادي والمنن ... شمس العلى صدر الْهدى أبي الْحسن)
(الْأَسدي المزيدي صَدَقَة ... وَمن إِذا كذب مدح صدقه)
(وَلم تزل حلتهم معَاذًا ... لكل من يهرب من بغدادا)
وَهِي حَسَنَة فِي بَابهَا وتشتمل على أَمْثَال وَحكم وَالله أعلم.(2/18)
وفيهَا: توفّي تَمِيم بن الْمعز باديس صَاحب إفريقية، وَكَانَ ذكياً حَلِيمًا ينظم الشّعْر، وعاش تسعا وَسبعين سنة، وولايته سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة وَكسر، خلف مائَة ابْن وَسِتِّينَ بِنْتا.
وَملك بعده ابْنه يحيى وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة وَسِتَّة أشهر، وفيهَا توجه فَخر الْملك أَبُو عَليّ بن عماد من طرابلس إِلَى بَغْدَاد مستنفراً لما حل بطرابلس وبالشام من الفرنج، وَاجْتمعَ بالخليفة المستظهر وبالسلطان مَحْمُود فَلم يحصل مِنْهُمَا غَرَض فَعَاد وَأقَام بِدِمَشْق عِنْد طغتكين وأقطعه الزبداني وَدخل أهل طرابلس تَحت طَاعَة خَليفَة مصر وَخَرجُوا عَن ابْن عمار.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل السُّلْطَان مَحْمُود عسكراً مَعَ مودود بن الطغتكين، فحصروا الْموصل وتسلمها مودود فِي صفر، وهرب مِنْهَا جاولي إِلَى الرحبة قبل وصولهم، ثمَّ لحق بالسلطان مُحَمَّد قرب أصفهان وَمَعَهُ كنفه فَأَمنهُ.
وفيهَا: تولى مُجَاهِد الدّين بهروز شحنكية بَغْدَاد وَعمر دَار ملكهَا بِأَمْر السُّلْطَان مُحَمَّد وَأحسن إِلَى النَّاس.
وفيهَا: فِي فصح النَّصَارَى نزل بَنو منقذ من شيراز للتفرج على عيد النَّصَارَى فثار جمَاعَة باطنية وملكوا قلعة شيرز، وبادر أهل الْمَدِينَة الباشورة فأصعدتهم النِّسَاء من الطاقات وأدركتهم بَنو منقذ وقاتلوهم فَلم يسلم من الباطنية أحد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي فَجْأَة الْخَطِيب أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي إِمَام فِي اللُّغَة قَرَأَ على الشَّيْخ أبي الْعلَا المعري؛ سَافر إِلَيْهِ من تبريز، وَسمع الحَدِيث من الْفَقِيه سليم الرَّازِيّ بصور، وَمن غَيره.
وروى عَنهُ أَبُو مَنْصُور موهوب بن أَحْمد الجواليقي، وَتخرج عَلَيْهِ خلق وَشرح الحماسة وديوان المتنبي وديوان سقط الزندلابي الْعلَا، وَله إِعْرَاب الْقُرْآن فِي أَربع مجلدات، ومقدمة عزيزة الْوُجُود فِي النَّحْو، وتآليفه حَسَنَة مفيدة، وَقَرَأَ على ابْن بابشاذ بِمصْر، وَعَاد إِلَى بَغْدَاد وتوطنها حَتَّى مَاتَ، ومولده سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
قلت: وَمِمَّنْ قَرَأَ على التبريزي الْأَدَب الشَّيْخ مُحي الدّين عبد الْقَادِر الجيلي أعَاد الله علينا من بركته، فَأَبُو الْعلَا المعري شيخ عبد الْقَادِر فِي الْأَدَب وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الفوارس الْحسن بن عَليّ الخازن الْمَشْهُور بجودة الْخط، وَله شعر حسن.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة " ملك الفرنج طرابلس " حصروها برا وبحراً من أول رَمَضَان فَأرْسل خَليفَة مصر إِلَيْهَا أسطولاً فَرده الْهَوَاء ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا، فملكوها وَقتلُوا وَسبوا، وَكَانَ بعض أَهلهَا قد طلبُوا الْأمان وقصدوا دمشق قبل فتحهَا.(2/19)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر ملك الفرنج صيدا بالأمان، وفيهَا سَار فرنج أنطاكية وملكوا حصن الأثارب بِالْقربِ من حلب بِالسَّيْفِ وَقتلُوا مِنْهُ الفي رجل وأسروا البَاقِينَ. ثمَّ ملكوا زردنا فَفَعَلُوا كَذَلِك وقصدوا منبج وبالس فوجدوهما خاليتين، فعادوا وَصَالح رضوَان بحلب الفرنج على اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار يحملهَا إِلَيْهِم مَعَ خيل وَثيَاب، وبذلت أَصْحَاب الْبِلَاد للفرنج الْأَمْوَال وخافوهم وصالحهم أهل صور على سَبْعَة آلَاف دِينَار وَابْن منقذ صَاحب شيزر على أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وعَلى الْكرْدِي صَاحب حماه ألفي دِينَار.
وفيهَا: توفّي الكيا الهراسي الطَّبَرِيّ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ مولده سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة من طبرستان، وتفقه بنيسابور على إِمَام الْحَرَمَيْنِ. ثمَّ ولي تدريس نظامية بَغْدَاد، وَكَانَ حسن الصُّورَة جَهورِي الصَّوْت، والكيا بِالْفَارِسِيَّةِ الْكَبِير الْمُقدم.
وفيهَا: وَقيل سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة قصد بردويل الفرنجي مصر وأحرق الفرما وجامعها ومساجدها، وَمِنْهَا عَاد إِلَى الشَّام مَرِيضا فَهَلَك قبل وُصُوله الْعَريش، فشق أَصْحَابه بَطْنه ورموا حشوته هُنَاكَ، وَهِي ترْجم إِلَى الْيَوْم، ودفنوا جثته بقمامة، والسبخة بالرمل منسوبة إِلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ صَاحب بَيت الْمُقَدّس وعكا وعدة بِلَاد من السَّاحِل.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخَمْسمِائة: فِيهَا جهز السُّلْطَان مُحَمَّد عسكراً فِيهِ صَاحب الْموصل مودود وَغَيره لقِتَال الفرنج بِالشَّام ونزلوا على الرها فَلم يملكوها ووصلوا حلب فخافهم رضوَان وغلق الْأَبْوَاب دونهم فَسَارُوا إِلَى المعرة ثمَّ افْتَرَقُوا وَلم يحصل بهم غَرَض.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي زين الدّين حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْغَزالِيّ الطوسي اشْتغل بطوس ثمَّ على إِمَام الْحَرَمَيْنِ بنيسابور وأكرمه نظام الْملك وفوض إِلَيْهِ تدريس النظامية بِبَغْدَاد سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ترك الْكل وتزهد وَحج وَأقَام بِدِمَشْق ثمَّ بالقدس، واجتهد فِي الْعِبَادَة ثمَّ قصد مصر وَأقَام بالإسكندرية ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه بطوس، وَكتبه مَشْهُورَة مفيدة مِنْهَا الْبَسِيط والوسيط وَالْوَجِيز وَالْخُلَاصَة والمنخول والمنخل فِي علم الجدل وَغَيره، ومولده سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة وطوس مدينتان من خُرَاسَان إِحْدَاهمَا طابران وَالْأُخْرَى نوقان، وَالْغَزالِيّ نِسْبَة إِلَى الغزال والعجم كَذَلِك ينسبون إِلَى الْقصار قصاري وَإِلَى الْعَطَّار عطاري وَتَخْفِيف الزَّاي وتشديدها من الْغَزالِيّ مَشْهُور.
قلت: وَمَا أحسن قَول الْقَائِل:
(بدر تمّ أضحى بسيط غرامي ... فِيهِ يروي عَن طرفه الْغَزالِيّ)
وَالله أعلم:
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي بسيل الأرمني صَاحب بِلَاد الأرمن فقصدها صَاحب أنطاكية الفرنجي ليملكها فَمَاتَ فِي الطَّرِيق وملكها سرخال.(2/20)
وفيهَا: توفّي قراجة صَاحب حمص وَقَامَ بعده ابْنه قرجان.
وفيهَا: توفّي سقمان أَو سكمان القطبي صَاحب خلاط وَقَامَ بعده ابْنه ظهير الدّين إِبْرَاهِيم إِلَى أَن توفّي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة فتولاها أَخُوهُ أَحْمد بن سقمان عشرَة أشهر وَتُوفِّي فحكمت والدتهما اينابح خاتون بنت أركماز على وزن أقحوان، واستبدت بِالْأَمر وَمَعَهَا ولد وَلَدهَا سقمان بن إِبْرَاهِيم بن سقمان وعمره سِتّ سِنِين فقصدت إعدامه لتنفرد بالمملكة فخنقها كبراء الدولة، لسوء نِيَّتهَا فِيهِ سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة، واستقل ابْنهَا شاهر بن سقمان فِي الْملك حَتَّى توفّي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخَمْسمِائة: فِيهَا اجْتمع الْمُسلمُونَ، وَفِيهِمْ مودود صَاحب الْموصل وتميرك صَاحب سنجار وإياز بن إيلغازي وطغتكين صَاحب دمشق وَاجْتمعت الفرنج وَفِيهِمْ بغدوين صَاحب الْقُدس وجوسلين صَاحب الْجَيْش واقتلوا قرب طبرية ثَالِث عشر الْمحرم فَهزمَ الله الفرنج وَقتل مِنْهُم كثير وَدخل الْمُسلمُونَ دمشق منصورين فِي ربيع الأول وَصلى مودود وظغتكين الْجُمُعَة وخرجا يتمشيان فِي صحن الْجَامِع فَوَثَبَ باطني على مودود بن التونتكين وضربه بسكين، وَقتل الباطني وَأخذ رَأسه وَحمل مودود إِلَى دَار طغتكين وَكَانَ صَائِما واجتهدوا بِهِ أَن يفْطر فَأبى وَمَات من يَوْمه رَحمَه الله وَكَانَ خيرا عادلاً وَدفن بتربة دقاق ثمَّ نقل إِلَى بَغْدَاد فَدفن بجوار أبي حنيفَة ثمَّ نقل إِلَى أَصْبَهَان.
قلت:
(غزا وَصلى صَائِما عاكفاً ... وكمل الظَّاهِر بالباطني)
(ثَلَاث حفرات تملت بِهِ ... يَا شرف الْمسكن بالساكن)
وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي الْملك رضوَان بن تتش بن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب حلب، وملكها بعده ابْنه ألب أرسلان الْأَخْرَس، وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة قتل رضوَان قبل مَوته أَخَوَيْهِ وَكَانَ يَسْتَعِين بالباطنية فِي كثير من أُمُوره لقلَّة دينه، وَاسْتولى على أُمُور الْأَخْرَس لُؤْلُؤ الْخَادِم وَسمي أخرس لتمتمة وحبسة فِي كَلَامه وَأمه ابْنة ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية، وبمجرد ولَايَته قتلت الباطنية بحلب ونهبوا.
وفيهَا: توفّي إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الْبَيْهَقِيّ الإِمَام ابْن الإِمَام ببيهق ومولده سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الأبيوردي الأديب الْأمَوِي بأصبهان وَللَّه قَوْله:
(تنكر لي دهري وَلم يدر أنني ... أعز وأهوال الزَّمَان تهون)
(وظل يريني الْخطب كَيفَ اعتداؤه ... وَبت أريه الصَّبْر كَيفَ يكون)(2/21)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عمر وكنيته أَبُو بكر الشَّاشِي الْفَقِيه الشَّافِعِي.
تفقه بِبَغْدَاد على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وعَلى أبي نصر الصّباغ وصنف للمستظهر بِاللَّه كتاب المستظهري ومولده سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة: فِيهَا ولي السُّلْطَان مُحَمَّد أقسنقر البرسقي الْموصل لقتل مودود رَحمَه الله وَأمر الْأُمَرَاء بِالْمَسِيرِ صُحْبَة البرسقي لقِتَال الفرنج، وَجرى بَين البرسقي وإيلغازي وأرتق صَاحب ماردين قتال انتصر فِيهِ إيلغازي، ثمَّ خَافَ إيلغازي من السُّلْطَان، فاتفق بِدِمَشْق مَعَ طغتكين، وكاتبا الفرنج، واعتضدا بهم، ثمَّ عَاد إيلغازي إِلَى جِهَة بِلَاده فَلَمَّا خرج من حمص فِي جمَاعَة قَليلَة خرج قرجان بن قراجة صَاحب حمص وأسرة مُدَّة ثمَّ تحَالفا وَأطْلقهُ.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الْملك عَلَاء الدولة أَبُو سعد مَسْعُود بن إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود ابْن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزته وَملك فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَملك بعده ابْنه ارسلان شاه وَأمْسك إخْوَته إِلَّا بهْرَام شاه فَإِنَّهُ هرب واستجار بالسلطان سنجر ابْن ملك شاه صَاحب خُرَاسَان فشفع فِيهِ فَلم يقبل مِنْهُ فَسَار سنجر إِلَى غزنة واقتتلوا قتالاً عَظِيما فَانْهَزَمَ أرسلان شاه وَعَسْكَره وَاسْتولى سنر على غزته وَأخذ أَمْوَالًا وَقرر السلطنة لبهرام شاه وَأَن يخْطب للسُّلْطَان مُحَمَّد ثمَّ للْملك سنجر ثمَّ للسُّلْطَان بهْرَام شاه الْمَذْكُور ثمَّ عَاد سنجر إِلَى بِلَاده وَكَانَ أرسلان شَاة قد هرب إِلَى هندستان فَجمع جمعا وَعَاد إِلَى غزنة فاستنجد بهْرَام شاه لسنجر ثَانِيًا فَأرْسل لَهُ عسكرا فهرب أرسلان شاه بِلَا قتال وتبعوه فأمسكوه فخنقه بهْرَام شاه وَدَفنه بتربة أَبِيه بغزنة فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة، وعمره سبع وَعِشْرُونَ سنة. وفيهَا قتل تَاج الدولة ألب أرسلان الْأَخْرَس صَاحب حلب ابْن رضوَان بن تتش السلجوقي، قَتله غلمانه بقلعة حلب وَأَقَامُوا أَخَاهُ سُلْطَان شاه بتدبير لُؤْلُؤ الْخَادِم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل السُّلْطَان مُحَمَّد عسكراً ضخماً لقِتَال طغتكين صَاحب دمشق وإيلغازي صَاحب ماردين فعبروا من الرقة وقصدوا حلب فعصت عَلَيْهِم ثمَّ فتحُوا حماه عنْوَة ونهبوها ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سلموها إِلَى قرجان بن قراجة صَاحب حمص وَأقَام الْعَسْكَر بحماه وَاجْتمعَ بأفامية إيلغازي وظغتكين وملوك الفرنج صَاحب أنطاكية وَصَاحب طرابلس وَغَيرهم وَأَقَامُوا بأفامية ينتظرون تفرق الْمُسلمين فَأَقَامَ عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى الشتَاء فَتفرق الفرنج وَسَار ظغتكين إِلَى دمشق وإيلغازي إِلَى ماردين ثمَّ فتح الْمُسلمُونَ كفر طَابَ وَقتلُوا من بهَا من الفرنج وَسَارُوا إِلَى المعرة وَهِي للفرنج، ثمَّ سَارُوا إِلَى حلب فكبسهم صَاحب أنطاكية فِي الطَّرِيق فَانْهَزَمُوا وَقتلت الفرنج فِي الْمُسلمين ونهبوهم وهرب من سلم مِنْهُم إِلَى بِلَاده.(2/22)
وفيهَا: استولى الفرنج على رفنيه وَكَانَت لطغتكين ثمَّ سَار طغتكين من دمشق واسترجعها وَقتل من بهَا من الفرنج.
وفيهَا: توفّي يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس صَاحب إفريقية يَوْم عيد الْأَضْحَى فَجْأَة وَتَوَلَّى ابْنه عَليّ. وَعمر يحيى اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة وولايته ثَمَان سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَخلف ثَلَاثِينَ ولدا.
وفيهَا: دخل السُّلْطَان مُحَمَّد بَغْدَاد فجاءة طفتكين من دمشق يترضاه فَرضِي عَنهُ ورده إِلَى دمشق.
وفيهَا: أَخذ السُّلْطَان مُحَمَّد الْموصل وَمَا مَعهَا من أقسنقر البرسقي وأقطعها للأمير جيوش بك وبقى البرسقي فِي الرحبة وَهِي اقطاعه.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَخَمْسمِائة: فِيهَا مَاتَ جلولي بن سقاوو بِفَارِس ولاه إِيَّاهَا مُحَمَّد بعد أَخذ الْموصل.
وفيهَا: وَقيل سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة توفّي بمروروذ أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن مَسْعُود بن مُحَمَّد الْفراء الْبَغَوِيّ الْفَقِيه الْمُحدث الْمُفَسّر بَحر الْعُلُوم لَهُ التَّهْذِيب فِي الْفِقْه والمصابيح فِي الحَدِيث وَالْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ.
قلت: وَله شرح السّنة فِي الحَدِيث، ومعالم التَّنْزِيل فِي التَّفْسِير وَكَانَ لَا يلقى الدَّرْس إِلَّا على طَهَارَة وَالله أعلم.
وَالْفراء: نِسْبَة إِلَى عمل الْفراء، وَالْبَغوِيّ: نِسْبَة إِلَى بَلْدَة بغشور من خُرَاسَان. ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة " توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد " السلجوقي؛ ابْتِدَاء مَرضه من شعْبَان ومولده ثامن عشر شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، قطعت خطبَته مَرَّات وَلَقي مشاق وَعدل، وَأطلق المكوس فِي بِلَاده، وعهد بِالْملكِ إِلَى وَلَده مَحْمُود وعمره إِذْ ذَاك يزِيد على أَربع عشرَة سنة، وَلما عهد إِلَيْهِ اعتنقه وَقَبله وَبكى كل مِنْهُمَا وَجلسَ مَحْمُود على تخت السلطنة يَوْم مَاتَ أَبوهُ بالتاج والسوارين، وخطب لَهُ يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة.
وفيهَا قتل لُؤْلُؤ الْخَادِم مستولياً على حلب وعَلى أُمُور الْأَخْرَس بن رضوَان ثمَّ على أُمُور سُلْطَان شاه بن رضوَان سَار لُؤْلُؤ من حلب ليجتمع بسالم بن مَالك الْعقيلِيّ صَاحب قلعة جعبر وَنزل سبول فَوَثَبَ أَصْحَابه الأتراك وصاحوا أرنب أرنب وقتلوه بالنشاب ونهبوا خزانته وعادوا إِلَى حلب فاستعاد أهل حلب مِنْهُم المَال وَأقَام بأتابكية سُلْطَان شاه شمس الْخَواص يارقطاش شهر ثمَّ اجْتمعت كبراء الدولة وعزلوه وولوا أَبَا الْمَعَالِي بن الملحي الدِّمَشْقِي ثمَّ عزلوه وصادروه ثمَّ خَافُوا من الفرنج فَسَلمُوا الْبَلَد إِلَى(2/23)
إيلغازي صَاحب ماردين فَدَخلَهَا وَسلمهَا إِلَى ابْنه تمرتاش وَعَاد إيلغازي إِلَى ماردين.
وفيهَا: جَاءَ سيل غرق سنجار وخلقاً من أَهلهَا، وَهدم الْمنَازل، وَمن العجيب أَن مهداً فِيهِ طِفْل علقه السَّيْل فِيهَا بشجرة زيتون، وَنقص المَاء عَنهُ فَسلم الطِّفْل.
وفيهَا: هجم الفرنج ربض حماه وَقتلُوا فَوق الْمِائَة وعادوا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزل السُّلْطَان مَحْمُود بهروز عَن شحنكية بَغْدَاد وولاها أقسنقر البرسقي، وَسَار بهروز إِلَى تكريت وَهِي أقطاعه.
وفيهَا: سَار دبيس بن صَدَقَة إِلَى الْحلَّة بِإِذن السُّلْطَان مَحْمُود وَكَانَ اعتقله من حِين قتل أَبَاهُ فاجتمعت عَلَيْهِ الْعَرَب والأكراد.
وفيهَا: فِي سادس عشر ربيع الآخر توفّي المستظهر بِاللَّه أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله عبد الله بن الذَّخِيرَة مُحَمَّد بن الْقَائِم وعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَأَيَّام، وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا، وَمن نَادِر الِاتِّفَاق أَنه لما توفّي السُّلْطَان ألب أرسلان توفّي بعده الْقَائِم، وَلما توفّي ملك شاه توفّي بعده الْمُقْتَدِي وَلما توفّي مُحَمَّد توفّي بعده المستظهر.
قلت:
(تبع الْخَلَائق فِي الْوَفَاة مُلُوكهمْ ... فكأنهم كَانُوا على ميعاد)
وَالله أعلم.
" وبويع بعده ابْنه المسترشد بِاللَّه " وَهُوَ تَاسِع عشرهم أَبُو مَنْصُور فضل، أَخذ الْبيعَة لَهُ القَاضِي أَبُو الْحسن الدَّامغَانِي.
وفيهَا: توفّي أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَهَّاب بن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي الْمُحدث ذُو التصانيف الْحَسَنَة، وَأَبُو الْفضل أَحْمد بن مُحَمَّد الخازن أديب لَهُ شعر حسن.
وفيهَا: قتل أرسلان شاه بن مَسْعُود السبكتكيني، قَتله أَخُوهُ بهْرَام شاه بن مَسْعُود، وَملك غزته كَمَا مر.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثَة عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا قَاتل السُّلْطَان سنجر ابْن أَخِيه السُّلْطَان مَحْمُودًا بِالريِّ قرب ساوه فَانْهَزَمَ مَحْمُود وَنزل سنجر فِي خيامه ثمَّ اصطلحا على أَن يخْطب لسنجر وَبعده لمحمود وأضاف سنجر الرّيّ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَقدم مَحْمُود إِلَى عَمه سنجر بِالريِّ فَأكْرمه.
وفيهَا: قَاتل إيلغازي بن أرتق الفرنج بِأَرْض حلب عِنْد عفرين فِي نصف ربيع الأول فَهَزَمَهُمْ وَقتل مِنْهُم كثيرا، وَمِمَّنْ قتل سرخال صَاحب أنطاكية وَفتح عقيب الْوَقْعَة الأثارب وزردنا فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِيهِ:
(قل مَا تشَاء فقولك المقبول ... وَعَلَيْك بعد الْخَالِق التعويل)(2/24)
(إستبشر الْقُرْآن حِين نصرته ... وَبكى لفقد رِجَاله الْإِنْجِيل)
قلت: وَهَذَا الشّعْر لَا يُعجبنِي فَإِن إنجيل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يبكي لفقد الْكفَّار الْمُشْركين. وَمَا أحسن قَول بَعضهم فِي كسرة النَّصَارَى ونصرة الْمُسلمين:
(يبكي من الْمِنْبَر الصَّلِيب كَمَا ... يضْحك للمصحف الأناجيل)
وَيُمكن تَأْوِيل الْبَيْت الْمَذْكُور وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار جوسلين بالفرنج صَاحب تل بَاشر ليكبس بني ربيعَة بِبَلَد دمشق وأميرهم مر بن ربيعَة، وَتَأَخر جوسلين فضل عَن عسكره وأوقعوا بالعرب فنصر الله الْعَرَب وَقتلُوا من الفرنج وأسروا خلقا.
وفيهَا: أعَاد السُّلْطَان سنجر شحنة لبغداد.
وفيهَا ظهر قبر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وابنيه إِسْحَاق وَيَعْقُوب عَلَيْهِم السَّلَام بِالْقربِ من بَيت الْمُقَدّس ورآهم خلق كثير لم تبل أجسامهم وَعِنْدهم فِي المغارة قناديل من ذهب وَفِضة، قَالَه حَمْزَة بن أَسد التَّمِيمِي فِي تَارِيخه.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا اقتتل مَسْعُود ومحمود ابْنا السُّلْطَان مُحَمَّد عِنْد عقبَة إستراباذ فِي منتصف ربيع الأول وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمَ مَسْعُود وَعَسْكَره ثمَّ اختفى فِي جبل وَبعث يطْلب من مَحْمُود الْأمان فَأَمنهُ فَقدم وَخرج مَحْمُود بالعسكر لتلقيه واعتنقه وبكيا ووفى لَهُ وأكرمه ثمَّ قدم جيوش بك أتابك مَسْعُود فَأحْسن إِلَيْهِ مَحْمُود أَيْضا.
وَكَانَ دبيس بن صَدَقَة سَبَب الْخلف بَينهمَا ليعلو شَأْنه كَمَا علا أَبوهُ بالخلف بَين بركيا روق وَمُحَمّد أَخِيه، فَلَمَّا بلغ دبيساً انهزام مَسْعُود نهب وأفسد، فكاتبه مَحْمُود فَمَا الْتفت فقصده السُّلْطَان مَحْمُود، فهرب دبيس عَن الْحلَّة إِلَى إيلغازي بماردين، ثمَّ اتّفق الْحَال على إِن يرْهن أَخَاهُ منصوراً وَيعود إِلَى الْحلَّة.
وفيهَا: خرج الكرج وملكوا تفليس بِالسَّيْفِ وَقتلُوا فِي الْمُسلمين ونهبوا نهباً عَظِيما.
وفيهَا: التقى إيلغازي والتركمان الفرنج عِنْد دانيث البقل من بلد سرمين وَجرى قتال شَدِيد فَانْهَزَمَ الفرنج.
ابْتِدَاء أَمر مُحَمَّد بن يومرت وَملك عبد الْمُؤمن
كَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن يومرت الْعلوِي الْحُسَيْنِي من المصامدة من جبل السوس من الْمغرب فَرَحل فِي طلب الْعلم إِلَى الْمشرق وأتقن الأصولين وَالْفِقْه والعربية، وَاجْتمعَ بالغزالي والكيا وبالطرطوشي، ثمَّ حج وَعَاد إِلَى الْمغرب وَأخذ فِي إِنْكَار الْمُنكر وَالْأَمر بالصلوات وَغير ذَلِك، وَوصل إِلَى قَرْيَة ملاكة قرب بجاية فاتصل بِهِ عبد الْمُؤمن بن عَليّ الْكُوفِي وَنَفر من بجاية عبد الْمُؤمن وَسَار مَعَه.
وتلقب ابْن يومرت بالمهدي، وَوصل مراكش وشدد فِي النَّهْي عَن الْمُنكر وَحسنت(2/25)
الظنون بِهِ فكثرت أَتْبَاعه فَاسْتَحْضرهُ أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين فناظر بِحَضْرَتِهِ الْفُقَهَاء فقطعهم، فأشير على ابْن تاشفين بقتْله أَو تخليده فِي الْحَبْس فَأبى وَأخرجه من مراكش فَسَار الْمهْدي إِلَى أغمات وَلحق بِالْجَبَلِ فَاجْتمع عَلَيْهِ النَّاس، وَادّعى أَنه الْمهْدي الَّذِي وعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخُرُوجِهِ، فاستفحل أمره وَقَامَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ فِي عشرَة أنفس وَقَالُوا لَهُ: أَنْت الْمهْدي وَبَايَعُوهُ على ذَلِك، وتبعهم غَيرهم فَأرْسل ابْن تاشفين إِلَيْهِ جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ فَأَقْبَلت الْقَبَائِل تبايعه، وَعظم أمره واستوطن جبلا عِنْد سمليك وَرَأى فِي جموعه قوما خافهم فَقَالَ: إِن الله أَعْطَانِي نورا أعرف بِهِ أهل الْجنَّة من أهل النَّار، وَجمع النَّاس إِلَى رَأس جبل وَجعل يَقُول عَن كل من يخافه هَذَا من أهل النَّار فَيلقى من رَأس الشاهق، وَيَقُول عَمَّن لَا يخافه هَذَا من أهل الْجنَّة فَيجْعَل عَن يمينة حَتَّى قتل على مَا قيل سبعين ألفا، وَأمن على نَفسه وسمى مطيعيه الْمُوَحِّدين، وَمَا برح يَعْلُو إِلَى سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة فَجهز أَرْبَعِينَ ألفا فيهم التونشريشي وَعبد الْمُؤمن فحصروا أَمِير الْمُسلمين بمراكش عشْرين يَوْمًا ثمَّ كشف مُتَوَلِّي سجلماسة بالعساكر عَن مراكش وطلع أهل مراكش وأمير الْمُسلمين واقتتلوا فَقتل التونشريشي وَصَارَ عبد الْمُؤمن مقدم الْعَسْكَر فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فَانْهَزَمَ عبد الْمُؤمن فهرب لَيْلًا بالعسكر إِلَى الْجَبَل وَبلغ الْمهْدي وَهُوَ مَرِيض ذَلِك فَسَأَلَ عَن عبد الْمُؤمن فَقيل إِنَّه سَالم فَقَالَ الْمهْدي لم يمت أحد، وَأوصى أَصْحَابه بِاتِّبَاع عبد الْمُؤمن وعرفهم أَنه هُوَ الَّذِي يفتح الْبِلَاد وَسَماهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ مَاتَ فِي مَرضه وعمره إِحْدَى وَخَمْسُونَ سنة، وولايته عشر سِنِين.
وَعَاد عبد الْمُؤمن فَأَقَامَ فِي تنمتليك يؤلف الْقُلُوب إِلَى سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة، ثمَّ سَار عبد الْمُؤمن وَاسْتولى على الْجبَال، وَجعل عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين ابْنه تاشفين يسير فِي الوطاءة قبالة عبد الْمُؤمن.
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ سَار عَسْكَر عبد الْمُؤمن إِلَى وهران وَسَار تاشفين إِلَيْهِم وَقرب الْجَمْعَانِ فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان من هَذِه السّنة وَهِي لَيْلَة عَادَة المغاربة تعظيمها سَار تاشفين متخفياً فِي جمَاعَة يسيرَة ليزور مَكَانا على الْبَحْر فِيهِ متعبدون للتبرك وَبلغ ذَلِك عمر بن يحيى الهتنائي مقدم جَيش عبد الْمُؤمن فأحاط بتاشفين فَركب فرسه ليهرب فَسقط من جرف فَهَلَك وجهلوه على خَشَبَة وَقتل من مَعَه وتفرق عسكره، وَسَار عبد الْمُؤمن إِلَى وهران وملكها بِالسَّيْفِ وَقتل من الْمُسلمين مَا لَا يُحْصى،
ثمَّ ملك قاروت إِحْدَى مدينتي تلمسان وَجعل على أغادير الثَّانِيَة جَيْشًا فحصروها وَبَين المدينتين شوط فرس وَسَار إِلَى فاس فملكها بالأمان فِي آخر سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ورتب أمرهَا وَفتح سلا سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَفتح عسكره أغادير بعد حِصَار سنة وَقتل أَهلهَا ثمَّ نزل مراكش وَقد مَاتَ عَليّ بن يُوسُف صَاحبهَا، ثمَّ تاشفين بن عَليّ.
ثمَّ ملك أَخُوهُ إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين وَهُوَ صبي فحاصرها عبد(2/26)
الْمُؤمن أحد عشر شهرا وَفتحهَا بِالسَّيْفِ وَأمْسك الْأَمِير إِسْحَاق وأمراءه، فارتعد إِسْحَاق وَسَأَلَ الْعَفو وَهُوَ يبكي فَقَالَ لَهُ سير وَهُوَ من أكبر أُمَرَاء المرابطين: تبْكي على أَبِيك أَو أمك اصبر صَبر الرِّجَال، وبصق فِي وَجه إِسْحَاق، وَقَالَ عَن عبد الْمُؤمن: هَذَا رجل لَا يدين الله بدين، فَنَهَضَ الموحدون وَقتلُوا سيراً، وَقدم إِسْحَاق على صغر سنه وَضربت عُنُقه سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر مُلُوك المرابطين وَبِه انقرضوا وَمُدَّة ملكهم سَبْعُونَ سنة ولي مِنْهُم أَرْبَعَة يُوسُف وَابْنه عَليّ بن يُوسُف وتاشفين بن عَليّ، وَإِسْحَاق بن عَليّ واستوطن عبد الْمُؤمن مراكش وَبنى قصر مُلُوك مراكش جَامعا وزخرفة وَهدم الْجَامِع الَّذِي بناه يُوسُف بن تاشفين.
وفيهَا: أَعنِي سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة أغار جوسلين الفرنجي صَاحب الرها على العربان، والتركمان بصفين فغنم أَمْوَالًا ومواشي، ثمَّ عَاد إِلَى بزاعا فخربها.
وفيهَا: فِي جُمَادَى توفّي أَبُو سعد عبد الرَّحِيم بن عبد الْكَرِيم بن هوَازن الْقشيرِي الإِمَام ابْن الإِمَام فَجَلَسَ النَّاس لعزائه فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي الْأَمِير عَليّ بن يحيى بن تَمِيم صَاحب إفريقية فِي ربيع الآخر وإمارته خمس سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر، وَولى بعده ابْنه الْحسن وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة بِعَهْد من أَبِيه وَأقَام بتدبيره صندل الْخصي مُدَّة وَمَات ثمَّ دبر الْقَائِد أَبُو عَزِيز موفق.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مَحْمُود الْموصل وأعمالها كالجزيرة، وسنجار لأقسنقر البرسقي.
وفيهَا: قتل بِمصْر أَمِير الجيوش الْأَفْضَل بن بدر الجمالي وثب عَلَيْهِ ثَلَاثَة بسوق الصياقلة، وَقد تقدم على أَصْحَابه للغبار وضربوه بسكاكين وأدركهم أَصْحَابه فَقتلُوا الثَّلَاثَة وَحمل الْأَفْضَل إِلَى دَاره فَمَاتَ بهَا، وَنقل الْآمِر الْخَلِيفَة من دَاره الْأَمْوَال لَيْلًا وَنَهَارًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَوجد لَهُ من التحف مَا لَا يُحْصى، وَعمر الْأَفْضَل سبع وَخَمْسُونَ وولايته ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل أَن الْآمِر جهز عَلَيْهِ وَولى الْآمِر بعده أَبَا عبد الله البطائحي.
وفيهَا: عصى سُلَيْمَان بن إيلغازي بن أرتق على أَبِيه بحلب حسن لَهُ ذَلِك إِنْسَان من حماه من بني قرناص كَانَ قد قدمه إيلغازي على أهل حلب فجازاه وَبلغ إيلغازي ذَلِك فَسَار مجداً من ماردين وهجم حلب وَقطع يَدي ابْن قرناص وَرجلَيْهِ وسمل عَيْنَيْهِ فَمَاتَ وَأَرَادَ قتل ابْنه فلحقته رأفة الْوَالِد فاستبقاه وهرب سُلَيْمَان إِلَى طغتكين بِدِمَشْق، واستناب إيلغازي بحلب سُلَيْمَان ابْن أَخِيه عبد الْجَبَّار بن أرتق وَعَاد.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مَحْمُود ميافارقين لإيلغازي.
وفيهَا: كَانَ بَين بلك بن بهْرَام بن أرتق وَبَين جوسلين حَرْب أسر فِيهَا جوسلين وَابْن(2/27)
خَالَته كليام وَجَمَاعَة من فرسانه الْمَشْهُورين وبذل فِي فدَاء نَفسه أَمْوَالًا كَثِيرَة فَلم يقبلهَا بلك وسجنهم خرت برت.
وفيهَا: تضعضع الرُّكْن الْيَمَانِيّ من الْبَيْت الْحَرَام شرفه الله تَعَالَى من زَلْزَلَة وانهدم بعضه فَأصْلح.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الحريري، ولد سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة، إِمَام فِي النَّحْو واللغة وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا المقامات طبقت الأَرْض شهرة أمره بتصنيفها أنوشروان بن خَالِد بن مُحَمَّد وَزِير السُّلْطَان مَحْمُود فَإِن الحريري عمل مقَامه على وضع البديع فَأمره أنوشروان بإتمامها وَكَانَ خصيصاً بِهِ قدم بَغْدَاد وَنزل الْحَرِيم وهجاه ابْن جكينا.
فَمن قَوْله فِيهِ: وَكَانَ الحريري ينتف لحيته عَبَثا وفكرة:
(شيخ لنا من ربيعَة الْفرس ... ينتف عثنونه من الهوس)
(أنطقه الله بالمشان كَمَا ... ألْجمهُ فِي الْحَرِيم بالخرس)
والحريري، بَصرِي المولد والمنشأ من بني ربيعَة الْفرس وَخلف ابْنَيْنِ الْوَاحِد عبد الله من رُوَاة المقامات وَالثَّانِي كَانَ متفقهاً.
قلت: وَقيل أَنه وضع المقامات لجلال الدّين أبي عَليّ الْحسن بن أبي الْعشْر بن صَدَقَة وَزِير الْخَلِيفَة المسترشد كَذَا وجد بِخَط الحريري فِي ظهر كتاب المقامات وَكَانَ الحريري من أهل الْيَسَار يُقَال أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانِي عشرَة ألف نَخْلَة بمشان الْبَصْرَة وَأَصله مِنْهَا جَاءَهُ شخص يَأْخُذ عَنهُ شَيْئا فاستزرى شكل الحريري ففهم الحريري ذَلِك وَكَانَ دميماً فاستملاه فَقَالَ اكْتُبْ:
(مَا أَنْت أول سَار غره قمر ... ورائد أَعْجَبته خضرَة الدمن)
(فاختر لنَفسك غَيْرِي إِنَّنِي رجل ... مثل المعيدي فاسمع بِي وَلَا ترني)
فَخَجِلَ الرجل وَانْصَرف.
وللحريري تآليف حَسَنَة، مِنْهَا: درة الغواص فِي أَوْهَام الْخَواص، وديوان رسائل وَشعر كثير، والملحة، وَشرح الملحة، وَكنت قد التقطت من الملحة من بيُوت وشطور بيُوت مَا يُقَارب السّبْعين، وضمنتها على وَجه بديع، وسميتها " تحفة الأحباب من ملحة الْأَعْرَاب ".
فَمِنْهَا:
(يَا رسائلي عَن الْكَلَام المنتظم ... ذَاك كَلَام من هويت لَا عدم)
(فَكل مَا يَقُول فِيهِ العذل ... فَإِنَّهُ مُنكر يَا رجل)
(فِي صُدْغه لِلْحسنِ آيَات تخط ... وَقَالَ قوم أَنَّهَا اللَّام فَقَط)(2/28)
(رمانة غض مَتى يمس فرط ... إِذا ألف الْوَصْل مَتى يدرج سقط)
(بِسيف جفنيه قتلت نَفسِي ... فَإِنَّهُ مَاض بِغَيْر لبس)
(قوامه أشبه شَيْء بِالْألف ... كَمثل مَا تكتبه لَا يخْتَلف)
(لما شَكَوْت صده رثى لي ... وَأَقْبل الْغُلَام كالغزال)
(أَسْنَانه كَاللُّؤْلُؤِ المفتن ... من المفاريد لجبر الوهن)
(قبل ازدياد لامه أكابده ... ثمَّ أَتَى بعد التناهي زائده)
(أعجب لنون حاجبيه تنصر ... وَالنُّون من كل مثنى تكسر)
(خوف فِيهِ بالأمير العاذل ... وَالصُّلْح خير والأمير عَادل)
(الخد والقوام مِنْهُ فَاعل ... نَحْو جرى المَاء وجار الْعَامِل)
(أَفعاله تكسرني ذَا عجب ... وكل فعل مُتَعَدٍّ ينصب)
(يَا من رآى مِنْهُ جبيناً وَاضحا ... يَقُول قد خلت الْهلَال لائحاً)
(وَإِن ذكرت فَاعِلا منوناً ... فابدأ بِذكر حاجبين حسنا)
(فالطرف سيف قتلنَا تضمناً ... فَهُوَ كَمَا لَو كَانَ فعلا بَينا)
(أوهمته برشف ريق الثغر ... وغصت فِي الْبَحْر ابْتِغَاء الدّرّ)
(وَإِن اقمت الْوَاو فِي الْكَلَام ... من صُدْغه نابت مناب اللَّام)
(فِي قده مَا هُوَ فِي الأغصان ... على اخْتِلَاف الْوَضع والمباني)
(إِذا لمست خَدّه والنهدا ... يَقُول عِنْدِي منوان زبدا)
(أَصبَحت مِنْهُ فِي ارتقاب الْوَصْل ... وَالزَّرْع تِلْقَاء الحيا المنهل)
(مَا للصبا يَا جسم ذياك الصَّبِي ... وَقِيمَة الْفضة دون الذَّهَب)
(قلب الَّذِي يحب لَيْسَ يبغض ... وَإِن بدا بَينهمَا معترض)
(إِذا رَأَيْت عُنُقه الطويلا ... وشعره من فَوْقه محلولا)
(تَقول مَا أنقى بَيَاض العاج ... وَمَا أَشد ظلمه الدياج)
(حاشاه من عيب وَمن نُقْصَان ... أَو عاهة تحدث فِي الْأَبدَان)
(لَا تَطْلُبُوا لحسنه مضاهي ... الله الله عباد الله)
(يَا قَائِلا كَانَ مليحاً وانفصل ... كَانَ وَمَا أَنْفك الْفَتى وَلم يزل)
(عذاره الرقيم فز بلثمه ... وَلَا تغير مَا بقى عَن رسمه)
(تَقول فِيهِ خضرَة يسيرَة ... كَمَا تَقول ناره منيرة)
(يَا ليته يعْطف بالوصال ... والعطف قد يدْخل فِي الْأَفْعَال)
(قلبِي وعيني عَن سناه لَا ترد ... إِذْ مَا رأى صرفهما قطّ أحد)
(إِن قلت رشف رِيقه مَا حللا ... تفل بِلَا علم وَلَا تحس الطلا)
(عَيناهُ أفنت أَكثر العشاق ... وَهَكَذَا تصنع فِي الْبَوَاقِي)
(قلبِي الَّذِي يسكن لتسائي ... كأمس فِي الْكسر وَفِي الْبناء)(2/29)
(صورته كالبدر فَوق الْغُصْن ... فَانْظُر إِلَيْهَا نظر المستحسن)
(وخل عني يَا عذول العذلا ... وَإِن تَجِد عَيْبا فسد الخللا)
(حسبي رثى لي وألان القولا ... وَالْحَمْد لله على مَا أولى)
وَإِنَّمَا كتبت مِنْهَا هَذَا الْقدر لِأَنِّي رَأَيْت من الْفُضَلَاء، وَلَا سِيمَا من يحفظ الملحة من يستحسن هَذِه الطَّرِيقَة معترفاً بقلة البضاعة وقصور الباع فِي هَذِه الصِّنَاعَة، الله أعلم.
وفيهَا: قتل مؤيد الدّين الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد الطغرائي الْأَصْفَهَانِي المنشيء الديلِي من ولد أبي الْأسود الدؤَلِي عَالم فَاضل منشئ كَاتب شَاعِر خدم السُّلْطَان ملكشاه بن ألب أرسلان، وَتَوَلَّى ديوَان الطغرى، ثمَّ استوزره السُّلْطَان مَسْعُود، وَحَارب مَسْعُود أَخَاهُ السُّلْطَان مَحْمُود فَانْهَزَمَ مَسْعُود فَأسر الطغرائي وَقتل صبرا، وَله لامية الْعَجم:
(أَصَالَة الرَّأْي صانتني عَن الخطل ... وَحلية الْفضل زانتني لَدَى العطل)
وَللَّه قَوْله مِنْهَا:
(وَإِنَّمَا رجل الدُّنْيَا وواحدها ... من لَا يعول فِي الدُّنْيَا على رجل)
عَاشَ فَوق السِّتين وَكَانَ يمِيل إِلَى الكيمياء.
قلت: مَا كيمياء التبر من أكفائه، فَكَلَامه من كيمياء الْجَوْهَر، وَالله أعلم.
وفيهَا: بِمصْر توفّي عَليّ بن جَعْفَر بن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن القطاع النَّحْوِيّ الْعَرُوضِي، إِمَام فِي الْأَدَب واللغة، وَله مصنفات مِنْهَا: كتاب نَحْو صَعب يدل على فضل عَظِيم، ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا قتل السُّلْطَان مَحْمُود جيوش بك فِي رَمَضَان على بَاب تبريز سعى بِهِ إِلَيْهِ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفى إيلغازي بن أرتق بميافارقين، وَملك بعده ابْنه تمرتاش قلعة ماردين، وَملك ابْنه سُلَيْمَان ميافارقين، وَكَانَ بحلب ابْن أَخِيه سُلَيْمَان بن عبد الْجَبَّار بن أرتق فَحكم بهَا إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ ابْن عَمه بلك بن بهْرَام بن أرتق.
وفيهَا: أقطع مَحْمُود وَاسِط لأقسنقر البرسقي زِيَادَة على الْموصل وأعمالها فَاسْتعْمل البرسقي على وَاسِط عماد الدّين زنكي بن أقسنقر.
وفيهَا: توفّي عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد، مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ثِقَة حَافظ للْحَدِيث.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا كَانَ الْحَرْب بَين دبيس بن صَدَقَة وَبَين الْخَلِيفَة المسترشد بِاللَّه فَخرج الْخَلِيفَة بِنَفسِهِ وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمَ دبيس وَعَسْكَره وَسَار إِلَى غزيَّة من الْعَرَب فَلم يطيعوه فراح إِلَى المنتفق وَاتَّفَقُوا مَعَه وَنهب الْبَصْرَة ثمَّ صَار مَعَ فرنج الشَّام وأطعمهم فِي ملك حلب.(2/30)
وفيهَا: سلم سُلَيْمَان بن عبد الْجَبَّار بن أرتق حصن الأثارب إِلَى الفرنج ليهادنوه على حلب لعَجزه عَن مقاومتهم.
وفيهَا: سَار بلك بن بهْرَام بن أرتق فَملك حران، ثمَّ ملك حلب لعجز سُلَيْمَان ابْن عَمه عَنْهَا.
وفيهَا: استولى الفرنج على خرت برت وَكَانَ بهَا جوسلين الفرنجي وَغَيره محبوسين فخلصوهم ثمَّ استرجعها بلك وَكَانَت لَهُ مِنْهُم.
وفيهَا: توفّي قَاسم بن هَاشم الْعلوِي الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة، ووليها ابْنه أَبُو فليته.
وفيهَا: سَار طغتكين صَاحب دمشق إِلَى حمص ونهبها وَحصر صَاحبهَا قرجان بن قراجة بالقلعة ثمَّ عَاد.
وفيهَا: سَار مَحْمُود بن قراجة صَاحب حماه فهجم ربض أفاميه فَأَصَابَهُ فِي يَده سهم من القلعة فَمَاتَ من ذَلِك واستراحت حماه من ظلمه وَبلغ ذَلِك طغتكين فَأرْسل عسكراً ملك حماه وَصَارَت من بِلَاده.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْخياط الدِّمَشْقِي الشَّاعِر، وَمن شعره:
(سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند الْقُلُوب دم للحدق)
(من التّرْك مَا سَهْمه إِذْ رمى ... بأفتك من طرفه إِذْ رشق)
(وللحب مَا عز مني وَهَان ... وللحسن مَا جلّ مِنْهُ ودق)
ولد سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة بِدِمَشْق.
قلت: استماح من ابْن جيوش بحلب شَيْئا من بره لما كَانَ رَقِيق الْحَال بقوله:
(لم يبْق عِنْدِي مَا يُبَاع بِحَبَّة ... وَكَفاك مني منظري عَن مخبري)
(إِلَّا بَقِيَّة مَاء وَجه صنتها ... عَن أَن تبَاع وَأَيْنَ أَيْن المُشْتَرِي)
فَقَالَ ابْن جيوش: لَو قَالَ أَنْت نعم المُشْتَرِي لَكَانَ أحسن.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا (قتل بلك) بن بهْرَام بن أرتق صَاحب حلب وَسَببه أَنه قبض على الْأَمِير حسان البعلبكي صَاحب منبج وَسَار إِلَى منبج فَملك الْمَدِينَة وَحصر القلعة فَبينا هُوَ يُقَاتل إِذْ أَتَاهُ سهم فَقتله لَا يدْرِي من رَمَاه فَتفرق عسكره وخلص حسان صَاحب منبج وَعَاد إِلَيْهَا وملكها وَكَانَ فِي جملَة عَسْكَر بلك ابْن عَمه تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صَاحب ماردين فَحمل بلك قَتِيلا إِلَى حلب وتسلمها وَاسْتقر تمرتاش صاحباً لحلب فِي عشري ربيع الأول مِنْهَا ورتب أمرهَا وَعَاد إِلَى ماردين.
وفيهَا: ملك الفرنج صور بعد حِصَار طَوِيل، وَكَانَت لخلفاء مصر ملكوها بالأمان، وَخرج الْمُسلمُونَ مِنْهَا فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأولى بِمَا قدرُوا على حمله من أَمْوَالهم.
وفيهَا: اجْتمعت الفرنج وانضم إِلَيْهِم دبيس بن صَدَقَة وحاصروا حلب وَأخذُوا فِي(2/31)
بِنَاء بيُوت لَهُم فِي ظَاهرهَا فَعظم الْأَمر على أَهلهَا وَلم ينجدهم صَاحبهَا تمرتاش رفاهة ودعة فكاتبوا أقسنقر البرسقي صَاحب الْموصل فِي تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ، فاستقرت فِي ملك البرسقي مَعَ الْموصل وَغَيرهَا.
وفيهَا: مَاتَ الْحسن بن الصَّباح مقدم الإسماعيلية صَاحب ألموت، وَهُوَ الَّذِي أظهر بِدعَة الطَّائِفَة الإسماعيلية، قَالَ الشهرستاني: وَاسْتظْهر الْمَذْكُور بِالرِّجَالِ وتحصن بالقلاع وَكَانَ بَدْء صُعُوده على قلعة ألموت فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَهُوَ الَّذِي دَعَا النَّاس إِلَى تعْيين إِمَام صَادِق وَمنع الْعَوام من الْخَوْض فِي الْعُلُوم وَمنع الْخَواص عَن مطالعة الْكتب الْمُتَقَدّمَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك البرسقي كفرطاب من الفرنج، وَسَار إِلَى عزاز وَكَانَت لجوسلين فَاجْتمع الفرنج لقتاله واقتتلوا فَانْهَزَمَ البرسقي وَقتل مُسلمُونَ كَثِيرُونَ.
وفيهَا: مَاتَ سَالم بن مَالك بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب صَاحب قلعة جعبر وملكها بعده ابْنه مَالك.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا قتلت الباطنية أقسنقر البرسقي قسيم الدولة صَاحب الْموصل يَوْم الْجُمُعَة فِي الْجَامِع بهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاة وثب عَلَيْهِ بضعَة عشر نفسا كَانَ مَمْلُوكا تركيا شجاعاً دينا من خِيَار الْوُلَاة وَلما بلغ ابْنه عز الدّين مَسْعُود بحلب ذَلِك سَار إِلَى الْموصل فاستقر فِي ملكهَا.
وفيهَا: اجْتمع الْمُسلمُونَ وطغتكين مَعَ الفرنج فِي مرج الصفر عِنْد قَرْيَة شقحب فِي ذِي الْحجَّة، وَاشْتَدَّ الْقِتَال، فَانْهَزَمَ طغتكين والخيالة وتبعهم الفرنج، وَكَانَ مَعَه رجالة تركمان فَمَا أمكنهم الْهَرَب وَلَكنهُمْ نهبوا مخيم الفرنج، وَقتلُوا من وجدوه من الفرنج وسلموا بذلك، وَعَاد الفرنج وَرَأَوا أثقالهم قد نهبت فَانْهَزَمُوا أَيْضا.
وفيهَا: ملك الفرنج رفنية.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفتُوح أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد أَخُو الْغَزالِيّ، فَقِيه غلب عَلَيْهِ الْوَعْظ، وَله كرامات اختصر كتاب الْإِحْيَاء لِأَخِيهِ فِي مُجَلد وَسَماهُ لباب الْإِحْيَاء.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا ولي السُّلْطَان مَحْمُود شحنكية الْعرَاق عماد الدّين زنكي بن أقسنقر، مُضَافا إِلَى مَا بِيَدِهِ من ولَايَة وَاسِط.
وفيهَا: سَار السُّلْطَان مَحْمُود عَن بَغْدَاد.
وفيهَا: مَاتَ صَاحب الْموصل مَسْعُود بن أقسنقر البرسقي وَاسْتولى على الرحبة وَمرض محاصراً لَهَا، وَمَات يَوْم تَسْلِيمه الرحبة فَقَامَ بِالْأَمر مَمْلُوكه جاولي وَأقَام أَخا مَسْعُود صَغِيرا فِي الْملك فَلم يُوَافقهُ السُّلْطَان مَحْمُود على ذَلِك، وَولى على الْموصل عماد الدّين(2/32)
زنكي فَسَار زنكي من بَغْدَاد ورتب الْموصل وأقطع جاولي مَمْلُوك البرسقي الرحبة ثمَّ استولى زنكي على نَصِيبين وسنجار وحران وجزيرة ابْن عمر، وَتَوَلَّى شحنكية بَغْدَاد بعد مسير زنكي مُجَاهِد الدّين بهروز.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الفرضي الْهَمدَانِي، صَاحب التَّارِيخ.
وفيهَا: توفّي ظهير الدّين إِبْرَاهِيم بن سكمان صَاحب خلاط، وَملك بعده أَخُوهُ أَحْمد وَبَقِي عشرَة أشهر وَتُوفِّي، فحكمت وَالِدَة إِبْرَاهِيم وَأحمد إينانج خاتون بنت أركماز وأقامت ابْن ابْنهَا سكمان ابْن سِتّ سِنِين كَمَا مر.
ذكر ملك زنكي حلب
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة: كَانَت حلب للبرسقي وَبهَا وَلَده مَسْعُود فَلَمَّا قتل البرسقي اسْتخْلف مَسْعُود الْأَمِير قيماز بحلب وَسَار إِلَى الْموصل. ثمَّ اسْتخْلف على حلب قتلغ بعد قيماز فاستولى على حلب، وَبعد موت مَسْعُود على الرحبة، وأساء قتلغ بحلب السِّيرَة، وَكَانَ سُلَيْمَان بن عبد الْجَبَّار بن أرتق الَّذِي كَانَ صَاحبهَا أَولا مُقيما بحلب وَاجْتمعَ أهل حلب إِلَيْهِ وملكوه الْمَدِينَة وقتلغ فِي القلعة، وَسمع الفرنج اخْتلَافهمْ فَجَاءَهُمْ جوسلين فصانعوه بِمَال فَرَحل فَأرْسل عماد الدّين زنكي صَاحب الْموصل عكسراً مَعَ الْقَائِد قراقوش إِلَى حلب وَمَعَهُ توقيع السُّلْطَان مَحْمُود بِالشَّام فَأجَاب أهل حلب إِلَيْهِ، وَتقدم عَسْكَر زنكي إِلَى سُلَيْمَان وقتلغ بِالْمَسِيرِ إِلَى زنكي فأجابا فَلَمَّا وصلا الْموصل أصلح زنكي بَين سُلَيْمَان وقتلغ وَلم يرد وَاحِدًا مِنْهُمَا إِلَى حلب، وَسَار زنكي إِلَى حلب وَملك فِي طَرِيقه منبج وبراعة وتلقاه أهل حلب وَدخل ورتب الْأُمُور، ثمَّ كحل قتلغ فَمَاتَ، وَكَانَ ملك زنكي حلب وقلعتها فِي الْمحرم مِنْهَا.
وفيهَا: سَار السُّلْطَان سنجر من خُرَاسَان إِلَى الرّيّ وَمَعَهُ دبيس بن صَدَقَة مستجيراً بِهِ، واستدعى ابْن أَخِيه السُّلْطَان مَحْمُود فَحَضَرَ إِلَيْهِ بِالريِّ، فأجلسه مَعَه على السرير وَأمره بِالْإِحْسَانِ إِلَى دبيس وَأَعَادَهُ إِلَى بِلَاده، فامتثل وَعَاد سنجر إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ ظهير الدّين طغتكين صَاحب دمشق من مماليك تتش بن ألب أرسلان، كَانَ ظغتكين عَاقِلا خيرا وَملك دمشق بعده ابْنه تَاج الْمُلُوك بوري بعهده، وبوري أكبر أَوْلَاده.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا عاود دبيس الْعِصْيَان على السُّلْطَان والخليفة، وترددت الرُّسُل فَلم يحصل صلح فَسَار السُّلْطَان مَحْمُود إِلَى بَغْدَاد وجهز جَيْشًا كثيفاً فِي أَمر دبيس فَعبر دبيس الْبَريَّة بعد أَن نهب الْبَصْرَة وأموال الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان.
قتل الإسماعيلية وَحصر الفرنج دمشق
سَار بهْرَام الْإِسْمَاعِيلِيّ بعد قتل خَاله إِبْرَاهِيم الْأسد آبادي بِبَغْدَاد إِلَى الشَّام، ودعا(2/33)