الْملك وَحسن تَدْبيره وَضَبطه للممالك فحج سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة فَأَقَامَ الْأَمِير يشبك الدوادار الْكَبِير نَائِبا عَنهُ بِمصْر وَخرج بعد الْحَاج بِثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ أَمِير الْحَاج الْخَارِج بالمحمل الشريف خشقدم فَخرج السُّلْطَان قَاصِدا لِلْحَجِّ والزيارة ووصلت القصاد إِلَى شرِيف مَكَّة يَوْمئِذٍ جمال الدّين الشريف مُحَمَّد ابْن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان سقى الله رمسه صوب الرَّحْمَة والرضوان فتهيأ هُوَ وَالْقَاضِي إِبْرَاهِيم بن ظهيرة القَاضِي الشَّافِعِي لملاقاة السُّلْطَان فَإِن القصاد أخبروهما أَنهم فارقوه من عقبَة أَيْلَة فَأرْسل الشريف أحد قواده يسْبقهُ إِلَى ملاقاة السُّلْطَان بسماط حلوى فوصل إِلَى الْحَوْرَاء ولاقى السُّلْطَان وَمد لَهُ سماط الْحَلْوَى هُنَالك فوصل عَلَيْهِ وَأظْهر غَايَة اللطف والمجابرة وَأكل وَقسم على أمرائه وَعَسْكَره وَكَانَ سماطاً كَبِيرا جميلاً ويحكى من لطافة السُّلْطَان أَنه تنَاول شَيْئا من الْحَلْوَى وَسَأَلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَا اسْم هَذَا عنْدكُمْ فَقَالَ لَهُ الْقَائِد اسْمه كل واشكر فَقَالَ لَهُ سلم على سيدك وَقل لَهُ أكلنَا وشكرنا ثمَّ لما وصل إِلَى يَنْبع عدل إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَأَقَامَ الشريف مُحَمَّد وَمن مَعَه من الْقُضَاة والأعيان ببدر منتظرين قدوم السُّلْطَان فَلَمَّا وصل الْخَبَر بِعُود السُّلْطَان من الْمَدِينَة ركب الشريف مُحَمَّد وَمن مَعَه لملاقاته فَاجْتمعُوا بِهِ فِي مَسْجِد الصَّفْرَاء وتلاقيا على ظُهُور الْخَيل وتصافحا وَمَشى الشريف عَن يَمِينه وَالْقَاضِي إِبْرَاهِيم عَن يسَاره وَبَاقِي من مَعَهُمَا سلمُوا على السُّلْطَان من بُعْد وَمَشوا أَمَامه وَصَارَ السُّلْطَان يلاطفهما ويسألهما عَن أحوالهما ويشكر مساعيهما ويطمن خواطرهما وينصت لَهما إِذا تكلما وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن وصل السُّلْطَان إِلَى وطاقه فَرَجَعَا عَنهُ إِلَى مخيمهما وصاروا يسايرونه فِي الطَّرِيق ويبدي لَهُم وافر الأنبساط وَكَمَال النشاط وألبسهم خلعاً فاخرة مرَارًا عديدة وتقدموا إِلَى وَادي مر ورتبوا لَهُ سماطاً حافلاً وَلما كَانَ صبح يَوْم الْأَحَد مستهل ذِي الْحجَّة وصل السُّلْطَان إِلَى مخيمه بوادي مر وَوجد السماط ممدوداً فَجَلَسَ هُوَ وَمن مَعَه عَلَيْهِ وَأكل وَأطْعم وخلع على الخدام خلعاً مُتعَدِّدَة جميلَة وَوصل بَقِيَّة الْقُضَاة والخطباء والأعيان فَسَلمُوا على السُّلْطَان فانصرفوا أَمَامه وَركب السُّلْطَان هُوَ وَشَيخ الْإِسْلَام إِبْرَاهِيم بن(4/57)
ظهيرة وَولده أَبُو السُّعُود وَأَخُوهُ أَبُو البركات وأمام السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن الكركي الْحَنَفِيّ ودخلوا مَكَّة عصراً من أَعْلَاهَا وَشَيخ الْإِسْلَام هُوَ الَّذِي تقدم لتطويف السُّلْطَان وَصَارَ يلقنه الْأَدْعِيَة إِلَى أَن دخل من بَاب السَّلَام الْأَقْصَى وطلع بفرسه مِنْهُ فجفل بِهِ الْفرس فَسَقَطت عمَامَته وَاسْتمرّ مَكْشُوف الرَّأْس إِلَى أَن تقدم المهتار فشالها من الأَرْض ومسحها فناولها السلطانَ فلبسها وَكَانَ ذَلِك تأديباً لَهُ من الله تَعَالَى حَيْثُ كَانَ يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَن يَنْزِعهَا وَيدخل مَكْشُوف الرَّأْس متواضعاً وَلما وصل إِلَى العتبة الداخلية من بَاب السَّلَام الْأَدْنَى ترجل وَقَرَأَ الريس بَين يَدَيْهِ بِصَوْت جَهورِي {لقد صدق الله رَسُوله الرءيا بِاَلحَق} الْفَتْح 27 الْآيَة ثمَّ رفع يَدَيْهِ يَدْعُو للسُّلْطَان وَأمن من حوله من أهل الْأَصْوَات فَقبل الْحجر وَطَاف والريس يَدْعُو لَهُ من أَعلَى قبَّة زَمْزَم وَالنَّاس محيطون بِالطّوافِ يشاهدونه وَيدعونَ لَهُ إِلَى أَن تمّ طَوَافه وَصلى خلف الْمقَام ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا فرغ من سَعْيه عَاد إِلَى الزَّاهِر فَبَاتَ بِهِ فِي مخيمه وَركب فِي الصُّبْح فِي موكبه ولاقاه الشريف وَأَوْلَاده وَالْقَاضِي فَخلع السُّلْطَان على الشريف وَالْقَاضِي وَغَيرهمَا وَمَشوا أَمَامه فِي الموكب الْعَظِيم والأبهة الجليلة وَلم يتَخَلَّف أحد بِمَكَّة حَتَّى النِّسَاء المخدرات وَدخل مَكَّة بِهَذِهِ الصّفة إِلَى أَن وصل مدرسته فترجل لَهُ النَّاس وَسلم عَلَيْهِم وَدخل الْمدرسَة وَمد لَهُ الشريف سماطاً وَاسْتمرّ على ذَلِك تمد لَهُ صبحاً وليلاً الأسمطة الجليلة الجميلة وَمد لَهُ ثَانِي يَوْم القَاضِي إِبْرَاهِيم بن ظهيرة سماطاً بِالْمَدْرَسَةِ وَاسْتمرّ بِالْمَدْرَسَةِ مَا ظهر لأحد إِلَى أَن طلع عَرَفَة وَكَانَت الوقفة بالإثنين فَأَفَاضَ مَعَ النَّاس وَأتم حجه وَقرب أغناماً كَثِيرَة وَكَانَ يُنَاسب أَن ينْحَر شَيْئا من الْإِبِل فَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ أحد وَركب مرّة إِلَى درب الْيمن يُشَاهد مَا قدمه لَهُ الشريف مُحَمَّد من الْإِبِل وَالْخَيْل وتشكر من فضل الشريف ثمَّ سَافر ظهر يَوْم السبت لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة بعد أَن طَاف للوداع والريس يَدْعُو لَهُ على قبَّة زَمْزَم وَمَشى الْقَهْقَرِي إِلَى أَن خرج من بَاب الْحَزْوَرَة وَركب مَعَه الشريف وَأَوْلَاده وَالْقَاضِي إِبْرَاهِيم إِلَى الزَّاهِر ثمَّ ودعهم ووادعهم وسافر إِلَى مصر وَعَاد إِلَى مَمْلَكَته وَلم يخْتل شَيْء من ملكه مَعَ(4/58)
غيبته عَن تخت مصر نَحْو ثَلَاثَة أشهر وَذَلِكَ لإتقانه أَمر الْملك وتدبيره وَضَبطه وَلَقَد كَانَ وَاسِطَة عقد الشراكسة وأقربهم إِلَى قُلُوب الرّعية وأجملهم حَالا وَأَحْسَنهمْ إحسانا وأفضلهم عقل وأكملهم نبْلًا وَأَكْثَرهم فِي جِهَات الْخَيْر إيثاراً وآثاراً وأكبرهم عمائر وأوقافاً وأدواراً وأطولهم طولا وزماناً وأمكنهم ملكا وَقُوَّة وإمكاناً وَكَانَت أَيَّامه كالطراز الْمَذْهَب ودولته تنجلي كالعروس فِي حلل الْجَوْهَر وَالذَّهَب حَتَّى قدم عَلَيْهِ بريد الْأَجَل وَمَا أغْنى مَا جمعه من الْخَيل والخول وَكَانَت انْتِقَاله إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى يَوْم الْأَحَد لثلاث بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة 901 إِحْدَى وَتِسْعمِائَة وَكَانَت مُدَّة تصرفه ثَلَاثِينَ سنة إِلَّا ثَلَاثَة أشهر
(ثمَّ تولى الْملك النَّاصِر أَبُو السعادات مُحَمَّد بن السُّلْطَان قايتباي)
وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الْجُنُون والسفه وَمَا كَانَ لَهُ الْتِفَات إِلَى الْملك وَلَا تَدْبِير السلطنة بل غلب عَلَيْهِ اللَّهْو واللعب والحركات المستبشعة يحْكى عَنهُ أُمُور قبيحة مِنْهَا أَنه كَانَ إِذا سمع بِامْرَأَة حسناء هجم عَلَيْهَا وَقطع دائر فرجهَا ونظمه فِي خيط أعده لنظم فروج النِّسَاء وَمِنْهَا أَن والدته كَانَت من عقلاء النِّسَاء وأجملهن هيأت لَهُ جَارِيَة جميلَة وجمعتها بِهِ فِي بَيت مزين أعدته لَهما فَدخل بهَا وقفل الْبَاب على نَفسه وَعَلَيْهَا وربطها وَشرع يسلخ جلدهَا عَنْهَا كالجلاد وَهِي بِالْحَيَاةِ وَهِي تصرخ فَلَمَّا سمعُوا صراخها أَرَادوا الهجوم عَلَيْهِ فَمَا أمكنهم لِأَنَّهُ قفل الْبَاب من دَاخل وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن سلخها وحشا جلدهَا بالأثواب السندسية وَخرج يظْهر للنَّاس أستاذيته فِي السلخ وَأَن الجلادين يعجزون عَن كَمَاله فِي صَنعته قُبحَ هُوَ وَضعته وَمِنْهَا أَنه مر فِي موكبه بدكان حلواني وَدَار حوله أمراؤه فأقامه من دكانه وَجلسَ كَأَنَّهُ بِبيع الْحَلَاوَة وَأخذ بِيَدِهِ الْمِيزَان فَصَارَ يزن لَهُم حَتَّى جبرت الْحَلَاوَة وَكَانَ يقلي الْجُبْن المقلي بِنَفسِهِ يَبِيعهُ للجند وَيَأْمُرهُمْ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَيَأْخُذ أكياس الذَّهَب إِلَى طرف النّيل فَيَرْمِي دِينَارا فَيَقُول هَذَا قَالَ بق وَيَرْمِي الآخر فَيَقُول(4/59)
هَذَا مَا قَالَ بق ثمَّ يحضر الْأُمَرَاء الْكِبَار وَيَأْمُر بذبحهم فِي الدِّيوَان فَصَارَ الشَّخْص مِنْهُم إِذا أضجع للذبح صَوت صَوت الْغنم فيضحك ويطلقه وَكَانَت لَهُ حركات من هَذِه الخرافات مِنْهَا مَا يضْحك وَمِنْهَا مَا يبكي إِلَى أَن سقط من أعين النَّاس والعسكر وسطوا عَلَيْهِ كَمَا سَطَا بالحسام الأبتر وسلخوه من الْملك كَمَا سلخ الضعيفة بالخنجر ومزقوه كل ممزق ولعذاب الْآخِرَة أكبر وسبت قَتله أَنه من غروره خرج متخفيا مُنْفَردا من خدمه وعبيده متباعداً عَن خوله وحشمه فَتوجه يمشي وَحده إِلَى بر الجزيرة فكمن لَهُ عشرَة أنفس من مماليك أَبِيه فِي خيمة على مَمَره فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم خَرجُوا لَهُ من الْخَيْمَة فأمسكوا بلجام فرسه وضربوه بِالسُّيُوفِ إِلَى أَن قطعوه وَجَاءُوا بِهِ مقتولاً إِلَى الْقَاهِرَة ودفنوه فِي تربة أَبِيه سنة 904 أَربع وَتِسْعمِائَة وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَلَاث سِنِين
(ثمَّ تولى بعده خَاله الْملك الظَّاهِر قانصوه)
وَهُوَ خَال هَذَا الْمَقْتُول وَكَانَ أُمِّيا لَا يعرف إِلَّا بِلِسَان الشركس قريب الْعَهْد بِبَلَدِهِ لانه جلب للسطان قايتباي من بِلَاده وَهُوَ كَبِير قد وحظه الشيب وَصَارَ يرقبه بِوَاسِطَة أُخْته زَوْجَة قايتباي خوندام النَّاصِر وَلَده وَهِي الَّتِي أقامته مقَام وَلَدهَا النَّاصِر وبذلت لَهُ الْأَمْوَال والخزائن وأرادت إِقَامَته وإصلاحه وَلنْ يُصلِحَ العطارُ مَا أفسَد الدهرُ فَمَا استكملته الإيالة وَمَا أهلوه للسلطنة وَالْولَايَة فخلعوه من الْملك أَوَاخِر سنهَ 905 خمس وَتِسْعمِائَة وَكَانَت مدَّته سنة وَسَبْعَة أشهر
(ثمَّ تولى بعده السلطنة أَمِير كَبِير جانبُلاط)
وتلقب بِالْملكِ الْأَشْرَف فِي أَوَائِل سنة خمس وَتِسْعمِائَة وَلم يتهن بالسلطنة وَلَا وَافقه أحد عَلَيْهَا وخلع بعد سِتَّة أشهر(4/60)
(ثمَّ تولى مَكَانَهُ الْملك الْعَادِل طومان باي)
وَمَا اسْتكْمل يَوْمًا وَاحِدًا بل هجم عَلَيْهِ الْعَسْكَر وقتلوه فَمَا أقدم أحد على السلطنة وَكَانَت الْأُمَرَاء متوفرة وَبَعْضهمْ يُشِير إِلَى بعض فِي الْجُلُوس على تخت الْملك فاتفقوا على تَوْلِيَة قانصوه الغوري لأَنهم رَأَوْهُ سهل الْإِزَالَة أَي وَقت أَرَادوا إِزَالَته أزالوه لِأَنَّهُ كَانَ أقلهم مَالا وأضعفهم حَالا وأوهنهم قُوَّة وأشاروا أَن يتَقَدَّم فَأبى فألزموه بذلك فَقَالَ أقبل ذَلِك بِشَرْط أَن لَا تقتلوني فَإِذا أردتم خلعي من السلطنة فَأَخْبرُونِي بِمَا تُرِيدُونَ وَأَنا أوافقكم على ذَلِك وأترك لكم الْملك وأمضي حَيْثُ أُرِيد فعاهدوه على ذَلِك فَقبل
(ثمَّ تولى قانصوه الغوري السلطنة)
ولقبوه الْملك الْأَشْرَف أَبَا النَّصْر قانصوه الغوري وَذَلِكَ فِي سنة 906 سِتّ وَتِسْعمِائَة وَفَرح الْعَسْكَر بولايته لأَنهم سئموا تعدد السلاطين وَسُرْعَة تقضِّي ملكهم بل فَرح الْعَامَّة وأمنوا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فِي الْجُمْلَة وَكَانَ قانصوه الغوري كثير الدهاء ذَا رَأْي وفطنة وتيقظ إِلَّا أَنه كَانَ شَدِيد الطمع كثير الظُّلم وَالْفِسْق بَخِيلًا محباً للعمارة فَمن جملَة عِمَارَته الْجَامِع والتربة وَكَانَ فِي نِيَّته أَن يدْفن بهَا ووقف عَلَيْهَا أوقافاً كَثِيرَة وَمَا قدر لَهُ دَفنه بهَا بل ذهب تَحت سنابك الْخَيل وَمَا عرف شخصه {وَماً تدرِي نفس مَاذاً تَكسِبُ غَدا وَماً تدرِي نَفس بأَيِِّ أَرض تَموُت} لُقْمَان 34 وَله آثَار جميلَة فِي طَرِيق الْحَاج فِي عقبَة أَيْلَة ومآثر بِمَكَّة المشرفة وَغَيرهَا وَكَانَ يتنزل مَعَ الْأُمَرَاء من غير تَشْدِيد عَلَيْهِم وَلَا إِظْهَار عَظمَة وَأمر وَنهى وَذَلِكَ فِي ابْتِدَاء أمره إِلَى أَن تمكن من قوته وبأسه حكى الْعَلامَة قطب الدّين عَن شَيْخه أَحْمد بن عبد الْغفار عَن وَالِده وَكَانَ من(4/61)
أَرْبَاب الأقلام فِي ديوَان قانصوه قَالَ استشم الغوري مبادئ فتْنَة أَرَادَ الْأُمَرَاء إحداثها وَأَرَادُوا أَن يجعلوها مُقَدّمَة لخلعة من السلطنة فَلَمَّا استشعر ذَلِك مِنْهُم عمل ديواناً وَجمع فِيهِ الْأُمَرَاء والمقدمين وَأمرهمْ بِالْجُلُوسِ وَجلسَ بَينهم كأحدهم وَكَانَت عَادَة الْأُمَرَاء الْوُقُوف بَين يَدي السُّلْطَان وَلَا يَجْلِسُونَ مَعَه إِلَّا فِي السماط فَقَط فَلَمَّا جَلَسُوا وَجلسَ أَنْكَرُوا ذَلِك وَكَانُوا يتعجبون من ذَلِك وكلُّ مصغ إِلَى مَا يَقُول السُّلْطَان فَقَالَ مَا جمعتكم يَا أغوات إِلَّا لأسألكم سؤالا خطر لي وأطلب مِنْكُم جَوَابه على الْوَجْه الَّذِي تَرَوْنَهُ صَوَابا فَقَالُوا نعم فَقَالَ أَسأَلكُم عَن جمَاعَة جَاءُوا إِلَى رجل وأودعوه صرة من الدَّرَاهِم مربوطة مختومة فَقَالَ أَنا أستودع مِنْكُم هَذِه الْوَدِيعَة بِشَرْط أَن تَأْتُونِي وتطلبوا وديعتكم بِلَا نزاع معي وَلَا خُصُومَة فَأَرَادَ وديعتكم إِلَيْكُم فَقَالُوا نعم قبلنَا مِنْكُم هَذَا الشَّرْط وأودعوه ومضوا ثمَّ عَادوا إِلَيْهِ بعد مُدَّة وَقَالُوا نُرِيد الْوَدِيعَة بنزاع شَدِيد ومخاصمة ومضاربة قَوِيَّة فَقَالَ لَهُم هَذِه وديعتكم حَاضِرَة خذوها بِلَا نزاع وَلَا ضراب معي كَمَا شرطت عَلَيْكُم فَقَالُوا لَا بُد من الْمُخَاصمَة والنزاع مَعَك فَأَيهمْ على الْبَاطِل وأيهم على الْحق ففهموا مُرَاده واستعفوا مِنْهُ فَقَالَ لَهُم أَنا مَا جَلَست مَعكُمْ إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنِّي كأحدهم لَا أمتاز عَلَيْكُم بِشَيْء وَهَذِه السلطنة أسلمها لأيكم أرادها وَلَا أنازع عَلَيْهَا فَإِنَّمَا أَنا رجل من الْجند فَقبل كل مِنْهُم يَده وأذعنوا لَهُ بالسلطنة وسألوه استمراره فِيهَا وسكنت الْفِتْنَة بِهَذَا التَّدْبِير وغفلوا عَنهُ مُدَّة وَاشْتَغلُوا عَنهُ بضروريات وطالت مَعَه الْحِيَل إِلَى أَن صَار يَأْخُذ مِنْهُم وَاحِدًا بعد وَاحِد ويتغافل عَنْهُم ثمَّ يحصل حِيلَة أُخْرَى وَعلة أُخْرَى لأَحَدهم فَيَأْخذهُ بهَا ويوقع بَين الِاثْنَيْنِ وَيَأْخُذ هَذَا بِذَاكَ وَذَاكَ بذا ويدس لَهُم الدسائس من الطَّعَام والسم وَنَحْوه حَتَّى أفنى قرانصتهم ودهاتهم إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَاتخذ مماليك جدداً واستجلب جلباً وَأعد عددا وصاروا يظْلمُونَ النَّاس ويعاملون الْخلق عسفاً وغشماً وَهُوَ يغضي عَنْهُم ويتغافل فأظهروا الْفساد وأهلكوا الْعباد وَأَكْثرُوا العناد وطغوا فِي الْبِلَاد وَصَارَ يصادر النَّاس وَيَأْخُذ أَمْوَالهم بالقهر والبأس وَكَثُرت العوانية فِي أَيَّامه لِكَثْرَة مَا يصغي إِلَيْهِم وصاروا إِذا شاهدوا أحدا توسع(4/62)
فِي دُنْيَاهُ وَأظْهر التجمل فِي ملبسه ومثواه وشوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَيُرْسل إِلَيْهِ يطْلب الْقَرْض ويصفي أَمْوَاله ويسلمه إِلَى الصوباشي ليَأْخُذ مَاله وَيهْلك أهلة وَعِيَاله وَجمع هَذَا الْبَاب أَمْوَالًا عَظِيمَة وخزائن وَاسِعَة ذهب فِي آخر الْأَمر سدى وَتَفَرَّقَتْ بيد العدى وتمزقت بدداً وَأما الْمِيرَاث فَبَطل فِي أَيَّامه وَصَارَ إِذا مَاتَ أحد يَأْخُذ مَاله جَمِيعه للسلطنة وَيتْرك أَوْلَاده فُقَرَاء إِلَّا إِن اعتني بِهِ اعتناء كَبِيرا جعل لَهُ نزراً يَسِيرا من مَاله أَبِيه وَأخذ لنَفسِهِ بَاقِيه وَكثر ظلمه فِي آخر أَيَّامه فَاسْتَجَاب الله فِيهِ دُعَاء المظلومين وقُطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَحكي عَن شخص من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى مجاب الدعْوَة أَنه رأى بِمصْر فِي أَيَّام الغوري جندياً من الشراكسة أَخذ مَتَاعا من دلال وَلم يُرضِه فِي قِيمَته فَتَبِعَهُ الدَّلال يطْلب مِنْهُ حَقه وَهُوَ مُمْتَنع فَقَالَ لَهُ الدَّلال بيني وَبَيْنك شرع الله فَضَربهُ الجندي بالدبوس فشج رَأسه وَقَالَ هَذَا شرع الله فَسقط الدَّلال مغشيّاً عَلَيْهِ وَمضى الجندي بالمتاع وَمَا قدر أحد من الْمُسلمين على مَنعه من فعله قَالَ الشَّخْص فصعب عَليّ هَذَا الْحَال فَرفعت يَدي إِلَى الله تَعَالَى ودعوت الله عز وَجل على الجندي الْمَزْبُور وسلطانه وَحزبه وإخوانه وعَلى الظلمَة من أعوانه فصادف سَاعَة إِجَابَة وَقبُول واقترن السُّؤَال بِحُصُول الْمَسْئُول فَبت تِلْكَ اللَّيْلَة على طَهَارَة وَأَنا أفكر فِي أَمرهم وأحدث نَفسِي كَيفَ يَزُول ملك هَذَا السُّلْطَان الجائر وَقد مَلَأت جُنُوده الأَرْض وأنى للْمُسلمين بسُلْطَان رءوف رَحِيم عَادل كريم فَنمت فَرَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم مَلَائِكَة من السَّمَاء بِأَيْدِيهِم مكانس يكنسون الشراكسة من أَرض مصر ويلقونهم فِي بَحر النّيل فَلم يكن إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب حَتَّى وَقع ذَلِك ثمَّ إِنِّي استيقظت من نومي وَسمعت قَارِئًا يقْرَأ قَوْله تَعَالَى {فانتقمنا مِنْهُم فأغرقنهم فِي أَلِيم بِأَنَّهُم كذبُوا بئايتنا وَكَانُوا عَنْهَا غفلين} الْأَعْرَاف 136 فَعلمت أَن الله سَوف يَأْخُذهُمْ أخذا وبيلا فَمَا مضى على هَذِه الْوَقْعَة قَلِيل من الزَّمَان إِلَّا وبرز الغوري بجُنُوده وأمواله وبنوده وأثقاله وخزائنه وأنصاره وأعوانه من مصر لقِتَال السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان إِلَى حلب فجَاء الْخَبَر بعد قَلِيل بِأَنَّهُ كسر وَقتل أَكثر جُنُوده وفقد هُوَ تخت سنابك الْخَيل(4/63)
فِي مرج دابق وَكَانَ قَتله بَين الظّهْر وَالْعصر يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر رَجَب سنة 922 اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَقيل إِنَّه فقد من الْحَرْب وَأَنه عَاشَ مُدَّة بِبِلَاد الْمغرب وَقيل بل عَاشَ بِمصْر مُدَّة طَوِيلَة قَالَ شَيخنَا وَعلم بِمَا قَدمته من أَن شخصا مَاتَ بِالْقربِ من زمن الْوَقْعَة بِبَعْض مدارس مصر فَوجدَ فِي عُنُقه كيس فِيهِ ختم باسم الغوري فَقيل إِنَّه هُوَ وَكَانَت مُدَّة الغوري خمس عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَخَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا وللأشرف قانصوه الغوري مآثر جميلَة وعمائر حَسَنَة جليلة فمما عمره بِمَكَّة المشرفة بَاب إِبْرَاهِيم بِعقد كَبِير جعل علوه قصراً وَجعل فِي جَانِبه مسكنين لطيفين وبيوتاً ممتدة حول بَاب إِبْرَاهِيم ووفق الْجَمِيع على جِهَات خير وَلَا يَصح وقف ذَلِك لِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِد وَكَذَلِكَ السكنان لِأَن اكثرهما فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا أمكن الْعلمَاء أَن ينكروا عَلَيْهِ ذَلِك فِي أَيَّام سلطنته لعدم إصغائه إِلَى كَلَام أهل الشَّرْع وَبنى أَيْضا ميضأة خَارج بَاب إِبْرَاهِيم على يَمِين الْخَارِج وَقد أبطلت لِأَن روائحها تصل إِلَى الْمَسْجِد فَيَتَأَذَّى المصلون فأبطلت وأغلق بَابهَا قَرِيبا فِي سنة 980 تِسْعمائَة وَثَمَانِينَ بِأَمْر شرِيف سلطاني قلت هِيَ الْآن مَفْتُوحَة ينْتَفع بهَا الْمُسلمُونَ عامرة وَمن أَثَره التَّرْخِيم الْوَاقِع فِي الْحجر الشريف عمل بأَمْره فِي أَيَّامه واسْمه مَكْتُوب فِيهِ وَفرغ من عِمَارَته سنة 917 سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَبنى بركَة بدر وعدة خانات وآبار فِي طَرِيق الْحَاج الْمصْرِيّ وَبنى خَانا فِي عقبَة أَيْلَة والأزلم ومدرسة أَنْشَأَهَا علو سقف الجملون بِالْقَاهِرَةِ وَأَنْشَأَ مجْرى المَاء من مصر العتيقة إِلَى قلعة الْجَبَل وَمن آثاره بِنَاء سور جدة وَكَانَت العربان تهجم فِي أَيَّام الْفِتَن وتنهبها ونهبت مرَارًا أَيَّام الوقائع بَين الشريف بَرَكَات وأخيه هزاع وَبعد هزاع جازان فَأرْسل الغوري أحد أمرائه المقدمين وَهُوَ الْأَمِير حُسَيْن الْكرْدِي وجهز مَعَه عسكراً من التّرْك والمغاربة واللوند فِي خمسين غراباً لدفع ضَرَر الفرنج فِي بَحر الْهِنْد فَلَمَّا وصل إِلَى جدة بنى سورها وَهدم كثيرا من بيوتها وَأخذ حجارتها وَبنى بهَا السُّور فِي شدَّة وبأس واستخدم عَامَّة النَّاس فِي حمل الْحجر واللبِن حَتَّى التُّجَّار المعتبرين(4/64)
وَسَائِر المنتسبين وضيق على النَّاس بِحَيْثُ يحْكى أَن أحدهم تَأَخّر قَلِيلا عَن الْمَجِيء فَلَمَّا جَاءَ أَمر أَن يبْنى عَلَيْهِ فَبنِي وَاسْتمرّ قَبره جَوف الْبناء إِلَى يَوْم الْجَزَاء إِلَى غير ذَلِك من الظُّلم الشَّديد والجور العتيد وَبنى السُّور جَمِيعه فِي أقل من سنة وَكَانَ ظلوماً غشوماً أكولاً يَسْتَوْفِي الخروف مَعَ عدَّة أرغفة ونفائس لَهُ معدة وَاسْتمرّ حَاكما ب جدة إِلَى أَن تقوى بِالْمَالِ وتأثل وَجمع جُنُودا من كل صنف ثمَّ توجه إِلَى الْهِنْد سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة وَقد انْقَضتْ دولة الشراكسة بِمصْر وملكها السُّلْطَان سليم خَان فورد حكم سلطاني إِلَى شرِيف مَكَّة بَرَكَات بن مُحَمَّد بن حسن بن عجلَان بقتل الْأَمِير حُسَيْن الْكرْدِي الْمَذْكُور وَكَانَ الشريف بَرَكَات هُوَ الْمُسْتَخْرج لذَلِك الحكم لعداوة سَابِقَة بَينه وَبَين حُسَيْن الْمَذْكُور فَأخذ مُقَيّدا إِلَى جدة وربط فِي رجله حجر كَبِير وغرق فِي بَحر جدة فِي مَوضِع يُقَال لَهُ أم السّمك فأكلته الأسماك بعد أَن كَانَ يعد من الْأَمْلَاك وَلما قتل الغوري وانكسرت عساكره هرب بَقِيَّة الشراكسة من السيوف إِلَى مصر وصيروا الدوادار الْكَبِير طومان باي سُلْطَانا فَتَوَلّى وَالسُّلْطَان سليم فِي إثرهم هم فِي الْهَرَب وَهُوَ من ورائهم للطلب فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان سليم بعد أَن ملك حلب وَالشَّام وَمَا بَينهمَا من الْبِلَاد بقاصد وَكتب مَعَه كتبا يستميل بهَا خاطره ويستجلب بهَا قلبه ويعده بِكُل جميل إِن دخل فِي الطَّاعَة وكف الْقِتَال بَين الْمُسلمين فَلم يلْتَفت لشَيْء من ذَلِك بل قتل القاصد وَعين مَن يهجم فِي الْعَسْكَر والأمراء وسير من المماليك الْخَاصَّة أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة وَجمع من مَشَايِخ العربان مَا كمل بِهِ سَبْعَة آلَاف خيال وَسَارُوا جَمِيعًا إِلَى الْعَريش ثمَّ إِن السُّلْطَان سليم خَان أرسل إِلَى الْوَزير الْأَعْظَم سِنَان باشا بأَرْبعَة آلَاف خيال ليلحق من قدَّمه من الْعَسْكَر وهم أَلفَانِ عَلَيْهِم الْأَمِير مُحَمَّد بير بن عِيسَى وَقصد بتقدمتهم تمهيد الطَّرِيق فَلَمَّا خشِي عَلَيْهِم أتبعهم بالوزير الْمَذْكُور فأدركهم ب غَزَّة فَلَمَّا بلغ الشراكسة ذَلِك توقفوا عَن الْحَرْب لكِنهمْ سعوا فِي جمع النَّاس من الْقرى والنواحي فأقاموا فِي الْعَريش ثَلَاثَة أَيَّام فَجمع سِنَان باشا من مَعَه من الْأُمَرَاء والأعيان واستشارهم فِي الْمُقَاتلَة أَو الِانْتِظَار حَتَّى يرد السُّلْطَان فَأَجْمعُوا(4/65)
على الْمُقَاتلَة خشيَة من الهجوم فَفِي لَيْلَة السبت سَابِع عشري ذِي الْقعدَة الْحَرَام ركب سِنَان وَخرج من غَزَّة وَأظْهر أَنه رَاجع لجِهَة الرملة فَسَار طول ليلته وَأصْبح بِالْقربِ من خَان يُوسُف وَكَانَ بِالْقربِ مِنْهُ عَسْكَر الشراكسة فَلَمَّا رأى جانبرد الْغَزالِيّ وَكَانَ رَئِيس من تقدم من الشراكسة الْعَسْكَر العثماني هيأ عسكره وَعين الميمنة والميسرة وَكَذَلِكَ سِنَان باشا جعل على ميمنته فرهاد بِمن مَعَه وعَلى ميسرته مُحَمَّد بن عِيسَى فَلَمَّا رأى الْغَزالِيّ ذَلِك عين بعض جمَاعَة من عسكره مَعَ المشاة وَأمرهمْ أَن يقرُّوا على ساقة الْعَسْكَر أَولا فَلَمَّا رأى سِنَان باشا ذَلِك أخرج من عسكره مِقْدَار ألف خيال وماش ترمي البندق وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا خلف الْعَسْكَر وَحَوله فَلَمَّا رأى الشراكسة ذَلِك تَرَبَّصُوا وسايروا الْعَسْكَر قَلِيلا قَلِيلا ينتهزون الفرصة فَلَمَّا نزل سِنَان بِمحل الْمنزل هجم الْغَزالِيّ وَكَانَ سِنَان أَمر الينيشرية وغالب الْعَسْكَر أَن لَا يخرجُوا سِلَاحهمْ وَأَن يَكُونُوا حول ثقلهم فَلَمَّا هجم الْغَزالِيّ قابله طَائِفَة الينيشرية برمي البندق ثمَّ ركب سِنَان وتلاحق الْعَسْكَر والتحم الْقِتَال إِلَى وَقت الْغُرُوب فَانْهَزَمَ الْغَزالِيّ وَقتل غَالب الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه وَأرْسلت رُءُوسهم مَعَ من قبض عَلَيْهِ أَيْضا إِلَى السُّلْطَان سليم فسر بذلك وَذهب الْغَزالِيّ إِلَى مصر وَسَار السُّلْطَان سليم حَتَّى نزل ببركة الْحَج وتهيأ مِنْهَا لفتح قلعة مصر وَأخذ الْبِلَاد فاتفقت الشراكسة المقيمون بهَا وَغَيرهم من الْعَرَب على إِعَانَة طومان باي فبلغت عدتهمْ عشْرين ألفا فَجمع طومان باي المدافع الْكَثِيرَة وأخرجها للريدانية وقررها فِي الأَرْض وَأرْسل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَطلب من يضْرب بالمدافع فَاجْتمع عِنْده خلق كثير فَنزل بمخيمه فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك وَكَانَ قد صف عسكره ميمنة وميسرة ترك اسْتِقْبَال طومان باي وسلك طَرِيقا أُخْرَى من خلف جبل المقطم من وَرَاء عَسْكَر الشراكسة واستمرت مدافع الشراكسة مركوزة لمن يَأْتِي من أَمَام الريدانية بِلَا نفع وَلَا دفع وبادرهم برمي المدافع والبنادق واستقبلته خُيُول الْجند وفرسانها والتحم الْحَرْب وحمي الْوَطِيس حَتَّى أظلمت الدُّنْيَا وَلم تزل الشراكسة تهجم مَعَ تِلْكَ الظُّلُمَات على العساكر العثمانية الْمرة بعد الْمرة وتكر وتفر وَالْقَتْل فيهم وهم لَا يصدهم شَيْء حَتَّى قتل مِنْهُم جَانب عَظِيم من أعيانهم وَقتل من العساكر العثمانية أقل من ذَلِك(4/66)
فَانْكَسَرت الشراكسة وَلم يزل عَسْكَر السُّلْطَان خَلفهم إِلَى أَن أدخلوهم بُيُوتهم فنهبت بُيُوتهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام سلخ سنة 922 اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَفِي صبح يَوْم الْجُمُعَة غرَّة محرم الْحَرَام افْتِتَاح سنة 923 ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة أَمر السُّلْطَان فِي الْمَسْجِد والجوامع بِالْخطْبَةِ باسمه الشريف وَضرب السِّكَّة كَذَلِك باسمه وَأقَام بالعادلية ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ ارتحل وَدخل الْبِلَاد وتعدى إِلَى الجيزة وَنزل بعسكره فِيهَا فَجمع طومان باي من بَقِي من الشراكسة نَحْو سَبْعَة آلَاف وهجم على الْبِلَاد لَيْلًا وَاتفقَ مَعَه بعض الْعَرَب وَتَبعهُ خلق من أهل مصر وَقتلُوا جَمِيع من وجد فِي الْبَلَد من الْعَسْكَر العثماني وَقصد الهجوم لَيْلًا على السُّلْطَان فِي الجيزة وهيأ مراكب الْبَحْر للذهاب فَلَمَّا بلغ ذَلِك السُّلْطَان سليم خَان عين جمَاعَة على المعابر وَأمر العساكر بالتقيد وَعدم الْغَفْلَة فَلم يقدر طومان باي على الهجوم لَيْلًا وَبعث جمَاعَة وَأمرهمْ بالهجوم على مصر وكل من وجدوه من آدَمِيّ أَو بَهِيمَة قَتَلُوهُ أَو مَحل قَابل للحرق أحرقوه وأغاروا على النَّاس والمصريون يقاتلونهم من الْأَمَاكِن الحصينة بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَة وَاسْتمرّ الْحَرْب على هَذَا الأسلواب ثَلَاثَة أَيَّام فوصل السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَسَار على الْبِلَاد وَرمى المدافع على جَمِيع من لاقاه وَاشْتَدَّ الْحَرْب فِي الرميلة وَهلك خلق كثير من الْجِهَتَيْنِ ثمَّ هرب طومان باي إِلَى جَامع الشيخونية وَحَارب هُنَاكَ ضجت الرعايا بِطَلَب الْأمان وَكثر الصياح مِنْهُم فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان وَأمر بتتبع الشراكسة خَاصَّة فَلم يجد طومان باي بدّاً من الهروب فَخرج فِي نَحْو عشرَة أنفس هَارِبا لجِهَة الصَّعِيد وَقتل ذَلِك الْيَوْم مَا ينيف على أَرْبَعَة آلَاف نفس حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاء وتكدر بَحر النّيل وتعفن الْهَوَاء لذَلِك فرميت أجسامهم فِي الْبَحْر وجمعت رُءُوسهم أكواماً بعد أكوام فَعَاد السُّلْطَان لمخيمه بالجيزة وَبنى لَهُ كوشكاً عَالِيا يسكنهُ مُدَّة مقَامه بِمصْر هرباً من العفونة وَنقل إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ من أَعْيَان أُمَرَاء الشراكسة فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم على ضوء المشاعل وَقتل سِنَان باشا ذَلِك الْيَوْم فأسف عَلَيْهِ السُّلْطَان سليم وَقَالَ أَي فَائِدَة فِي مصر بِلَا يُوسُف لِأَن سِنَان لقبه يُوسُف وَفِي صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم دون ديواناً رتب فِيهِ للعساكر العطايا وَعين أَرْبَاب(4/67)
المناصب فَأرْسل إِلَيْهِ الْغَزالِيّ وَكَانَ قد هرب فِي الْوَقْعَة الأولى من الريدانية إِلَى جِهَة الصالحية فَطلب الْأمان فَلَمَّا علم السُّلْطَان أَنه لم يحضر الْوَقْعَة الَّتِي دَاخل الْبَلَد عَفا عَنهُ وَطَلَبه فجَاء نَائِبا مُسْتَغْفِرًا فأنعم عَلَيْهِ ببلدة سجاع ثمَّ أَقَامَ السُّلْطَان فِي مَحَله إِلَى ثَالِث عشري محرم وارتحل وَصعد إِلَى القلعة ثمَّ إِن طومان باي أرسل بِطَلَب الْأمان وَالْعَفو عَمَّا مضى فَقبل السُّلْطَان مِنْهُ ذَلِك واستمال خاطره وَأرْسل بجوابه وإجابته كيخية عَسْكَر أنادول مصطفى شلبي والقضاة الْأَرْبَعَة قُضَاة مصر وَكتب إِلَيْهِ بالعهد والأمان مَعَهم فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ مَنعه بعض المفسدين من الشراكسة وحرضوه على الْعِصْيَان فَقتل مصطفى شلبي الْمَذْكُور والقضاة الْأَرْبَعَة وَأظْهر عدم الانقياد وَاجْتمعَ عِنْده بَقِيَّة الشراكسة وَطَائِفَة من العربان وَقصد الْعود إِلَى مصر وتعدى على المراكب وَوصل قريب مصر حَتَّى نزل ببركة الْحَبَش فعين السُّلْطَان بعض الْأُمَرَاء والعساكر لحربه فتوجهوا لقتاله وَخرج السُّلْطَان أَيْضا بِنَفسِهِ فَنزل بِالْقربِ من النّيل فارتحل طومان باي من مَحَله وهرب فَتَبِعَهُ الْعَسْكَر منَازِل فَعلم الْأُمَرَاء أَنه لَا رَاحَة لَهُم مَا دَامَ مَوْجُودا فتركوا أثقالهم وَسعوا فِي طلبه فادركوه بَين الْإسْكَنْدَريَّة ورشيد فَحصل حَرْب عَظِيم وَقبض على جمَاعَة مِمَّن مَعَه وهرب هُوَ وَتوجه فِي طلبه بعض الْأُمَرَاء فأدركه فِي بحيرة وأحاط بِهِ وَقتل جَمِيع من مَعَه فَألْقى طومان باي نَفسه فِي الْبَحْر فَلَمَّا أشرف على الْغَرق طلب الْأمان فرموا لَهُ جبلا وَتمسك بِهِ فجروه إِلَى الْبر ومسكوه وقيدوه وَجَاءُوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان وَيُقَال إِنَّه هرب واستجار بشيخ عرب بني جذام عبد الدَّائِم ابْن مقرّ وَأَنه هرب إِلَى خياط السُّلْطَان سليم وَسلم إِلَيْهِ السُّلْطَان طوما باي ذكر هَذَا الْعَلامَة قطب الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فقصد السُّلْطَان الْعَفو عَنهُ لما رَآهُ ثمَّ تذكر جرائمه وَنقض الْعَهْد وَقتل الْقُضَاة الْأَرْبَعَة والكيخية وَعلم أَن الْفِتْنَة لَا تنام مَا دَامَ مَوْجُودا فَأمر بشنقه فشنق على بَاب زويلة فتم أَمر السُّلْطَان سليم خَان على مصر وَقد مهد القوانين وَالْقَوَاعِد وَنصب الْقُضَاة الْأَرْبَعَة على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَولى ملك الْأُمَرَاء الْأَمِير خير بك على مصر المحروسة وَولى جَان بردي الْغَزالِيّ على الشَّام وَكَانَ وعدهما بذلك وهما من خَواص أُمَرَاء الغوري وَكَانَا يكرهانه فِي الْبَاطِن ويكرههما كَذَلِك فَأرْسل لَهما السُّلْطَان الْأمان وعهد لَهما أَن يوليهما مصر(4/68)
وَالشَّام فوافقاه على ذَلِك فَلَمَّا تلاقى العسكران فرا بالميمنة والميسرة فَبَقيَ الغوري وخواص من مَعَه فِي الْقلب فغار الغوري تَحت سنابك الْخَيل ومحي كَمَا يمحى النَّهَار بِاللَّيْلِ كَمَا تقدم ذكر ذَلِك عِنْد ذكر حَرْب الغوري ومهد السُّلْطَان سليم الْأُمُور على مَا يَنْبَغِي وَسَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَعَاد إِلَى مصر ثمَّ توجه من مصر إِلَى تخت الْملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَقد تمهدت لَهُ الْبِلَاد وَعم حكمه الْعباد وَدخل أَمر الْحَرَمَيْنِ الشريفين تَحت حكمه وخطب لَهُ فيهمَا بأَمْره ورسمه وَفِي سَائِر هَذِه الأقطار واسْمه وَانْقَضَت دولة الشراكسة عَن آخرهَا وَللَّه الْبَقَاء سُبْحَانَهُ(4/69)
(الْبَاب السَّابِع)
(فِي ذكر مُلُوك آل عُثْمَان)
خلد الله سلطنتهم الْقَائِمَة إِلَى آخر الزَّمَان أصلحُ الدول بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ دولتُهم وَذَلِكَ لانقيادهم للشَّرْع وتمكنهم من رُتْبَة الْعِبَادَة كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج وَالْجهَاد وملازمة الْجَمَاعَة وَاتِّبَاع السّنة وَحسن العقيدة والشفقة على الْأمة وكشف كل كربَة وغمة وَقل أَن يُوجد جَمِيع ذَلِك فِي دولة من الدول السَّابِقَة فأصلهم ومبدأ ظُهُورهمْ وَسبب ملكهم أَن آل سلجوق لما تركُوا وطنهم من فتْنَة جنكز خَان ملك التتار وعزموا إِلَى جَانب بِلَاد الرّوم جَاءَ مَعَهم من طَائِفَة أغوز رجل اسْمَع أرطعزل يتَّصل نسبه بياقث بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ بِصُحْبَتِهِ نَحْو ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعين رجلا وَكَانَ شجاعاً ثمَّ تشمر فِي خدمَة السُّلْطَان عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي وَكَانَ يُحِبهُ السُّلْطَان عَلَاء الدّين لكَونه شجاعاً وَفتحت على يَدَيْهِ بِلَاد كَثِيرَة من بِلَاد الْكفَّار(4/70)
وَلما كَانَت سنة 697 سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة توفّي الْغَازِي أرطغرل فَكتب السُّلْطَان عَلَاء الدّين لعُثْمَان بن أرطغرل بموافقة السلطنة وَأرْسل إِلَيْهِ خلعة وسيفاً ونقارة وَخَصه بالغزو على الْكفَّار فَسَار عُثْمَان بن أرطغرل فَفتح اينه كولي ويني شهر وكوبري حِصَار وبلجك وَغير ذَلِك ثمَّ لما توفّي السُّلْطَان عَلَاء الدّين سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة اجْتمع أَكثر الْغُزَاة عِنْد عُثْمَان بن أرطغرل فتسلطن عُثْمَان الْغَازِي وَجلسَ على تخت السلطنة فِي السّنة الْمَذْكُورَة واشتغل بِالْجِهَادِ وافتتاح الْبِلَاد وَكَانَ مولده سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة دأب فِي خدمَة وَالِده فِي الْجِهَاد وتمرس بالغزو فِي سَبِيل الله وَاسْتمرّ بعد وَالِده مَعَ الْكفَّار فِي الجلاد فَرَأى السُّلْطَان عَلَاء الدّين السلجوقي جده وجهده فِي الْجِهَاد وَعلم قابليته ونجابته فِي فتح أَطْرَاف الْبِلَاد فَأكْرمه وَأمره وأمده بأنواع الْإِعَانَة والإمداد وَأرْسل الرَّايَة السُّلْطَانِيَّة والطبل وَالزمر إِلَيْهِ وَعمِلُوا نوبَة بَين يَدَيْهِ فَعِنْدَ أول سَمَاعه صَوت الطبل وَالزمر قَامَ على قَدَمَيْهِ تَعْظِيمًا لذَلِك فَصَارَ ذَلِك قانوناً لآل عُثْمَان بَاقِيا مستمراً إِلَى الْآن فَإِنَّهُم يقومُونَ على أَقْدَامهم عِنْد ضرب النّوبَة على أَبْوَابهم وَكَانَ جُلُوس السُّلْطَان عُثْمَان على تخت السلطنة عَام تسع وَتِسْعين بِتَقْدِيم التَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ وسِتمِائَة وافتتح فِيهَا كوبري حِصَار من الْكفَّار وَأمر بِصَلَاة الْجُمُعَة وخطب باسمه فَقِيه حوله من أهل الْعلم اسْمه طورسن ثمَّ افْتتح قلعة قره حِصَار ثمَّ قلعة اينه كولي ثمَّ قلعة يني شهر وافتتح قلعة يار حِصَار وَصَارَت من جملَة مَمْلَكَته فزوج وَلَده أورخان على نيلوفر خَان ابْنه صَاحب يارحصار وَاسْتمرّ فِي الْغُزَاة وَالْجهَاد وَفتح الْبِلَاد وَقتل الْكفَّار أهل العناد إِلَى أَن دَعَاهُ الله إِلَى جنته وأبدله سلطنة خيرا من سلطنته فَأجَاب دَاعِي الْحق لما دَعَاهُ وبادر إِلَى إجَابَته ولبى نداه فَعَاشَ سعيداً وَمَات حميدا إِلَى رَحْمَة الله عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة وَكَانَ للسيف والضيف كثير الْإِطْعَام فاتك الحسام كثير الْبَذْل وَاسع الْعَطاء شجاعاً مقداماً على الْأَعْدَاء مَا خلف نَقْدا وَلَا مَتَاعا إِلَّا درعاً وسيفاً يُقَاتل بهما الْأَعْدَاء الْكفَّار وَبَعض خيل وقطيعاً من الْغنم اتخذها للضيفان وأنسالها بَاقِيَة إِلَى(4/71)
الْآن ترعى حول بِلَاد بروسا أبقوها تيمناً وتبركاً وَهُوَ أول من أظهر عَظمَة هَذَا الْملك وسلك سَبِيل الْعدْل فِيهِ حَتَّى قيل فِيهِ ثَالِث العمرين وَكَانَ جميل الصُّورَة حَتَّى قيل ثَالِث القمرين وَكَانَ يحب الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل والأيتام فَيجمع أَنْوَاع الطَّعَام وأصناف الْحَلْوَى فيطبخ لَهُم بعد كل ثَلَاثَة أَيَّام سماطاً عَظِيما يَأْكُل مِنْهُ الْخَاص وَالْعَام مِمَّن ذكر وَغَيرهم وَكَانَ الْمَوْجُود لَهُ عِنْد مَوته فرس وَسيف وَدرع وَنَحْو ذَلِك من اللبَاس والفراش كَذَا قَالَه الْعَلامَة مُحَمَّد شلبي وَالِد أَحْمد شلبي النشانجي قَاضِي محكمَة مَكَّة الشَّرِيفَة سَابِقًا وَهُوَ ابْن أرطغرل بن سُلَيْمَان شاه وَكَانَ لجده سُلَيْمَان أَرْبَعَة أَوْلَاد مِنْهُم اثْنَان توجها إِلَى بِلَاد الْعَجم وهما سنقر ودندار وَتوجه إِلَى بِلَاد الرّوم اثْنَان أرطغرل وَكَون وقدما على السُّلْطَان عَلَاء الدّين السلجوقي وَكَانَ سُلْطَان بِلَاد قرمان فأكرمهما وَأذن لَهما فِي الْإِقَامَة وَصَارَ دأبهم الْجِهَاد فِي سَبِيل الله إِلَى أَن صَار أَمر أرطغرل إِلَى مَا صَار كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَخلف أرطغرل أَوْلَادًا نجباء أقواهم جأشاً السُّلْطَان عُثْمَان فاستمر إِلَى أَن توفّي سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته سِتا وَعشْرين سنة
(ثمَّ تولى السُّلْطَان أورخان الْغَازِي ابْن السُّلْطَان عُثْمَان خَان)
مولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَجلسَ على تخت السلطنة سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفتح إزنيق وبروسا وَغَيرهمَا وَأرْسل ابْنه سُلَيْمَان باشا إِلَى روم إيلي مَعَ أَرْبَعِينَ نَفرا ففتحوا قلعة ملقرة وأبسالة وبولاير ووزه وَكَانَ السُّلْطَان أورخان فاق وَالِده فِي الْجِهَاد وَفتح الْبِلَاد وبذل الِاجْتِهَاد وَهُوَ الَّذِي افْتتح بروسا فِي حَيَاة وَالِده ثمَّ جعلهَا مقرّ سلطنته واتسعت مَمْلَكَته ونفذت كَلمته وَاجْتمعت مُلُوك النَّصَارَى وَجَمِيع الْكَفَرَة على قتال العساكر السُّلْطَانِيَّة الإسلامية واجتمعوا على أَن يتعدوا من بِلَاد روميلي إِلَى جِهَة أنادول ويقاتلوا السُّلْطَان أورخان وَكَانَ لَهُ ولد نجيب اسْمه سُلَيْمَان بك فَاسْتَأْذن وَالِده فِي قِتَالهمْ فَوَقع حَرْب شَدِيد كَانَ الظفر فِيهِ لِسُلَيْمَان بك وَهُوَ أول من كتب على السِّكَّة من آل(4/72)
عُثْمَان فَكتب فِي وجهِ مُحَمَّد رَسُول الله وَفِي الْوَجْه الآخر اسْمه الشريف وَهُوَ أول من رتب طَبَقَات العساكر وسمى الطَّبَقَات الْمَذْكُورَة بأسمائها الْمَشْهُورَة وَكَانَ أول سلطنته ب بروسا وأعمالها ثمَّ ملك عدَّة من الْبِلَاد الإسلامية وغزا الْكفَّار وَفتح ممالك مُتعَدِّدَة وغنم بلاداً وأموالاً وَبنى الْجَوَامِع ومساجد ومدارس ومطبخاً للمسافرين وللمقيمين فِي غَالب الممالك الَّتِي تَحت سُلْطَانه وَعمر فِي الطرقات والمفاوز ومحال الْخَوْف والمقطعة سبلاً وخانات وقصوراً وجسوراً وأمثال ذَلِك من الْخيرَات العميمة وسلك سَبِيل الْعدْل والجود وَالْفضل وَالْإِحْسَان على نمط وَالِده المرحوم السَّاكِن بأعالي الْجنان وَتُوفِّي السُّلْطَان أورخان حميدا سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد خَان الْغَازِي خدا وندكار)
(ابْن السُّلْطَان أورخان)
وَجلسَ على سَرِير الْملك والسلطنة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِي بروسا ولي السلطنة وعمره أَربع وَثَلَاثُونَ سنة وافتتح كثيرا من الْبِلَاد مِنْهَا أدرنة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَهُوَ أول من اتخذ المماليك وَسَمَّاهُمْ ينيشري يَعْنِي الْعَسْكَر الْجَدِيد وألبسهم اللباد الْأَبْيَض المثني إِلَى خلف وسماهُ بُرْكلة بِالضَّمِّ للموحدة وَسُكُون الرَّاء ثمَّ توجه إِلَى فتح قوصوة فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا التقى الْجَمْعَانِ وانهزمت الْكفَّار ثمَّ اجْتمعت النَّصَارَى على سلطانهم أسبوت فَقَاتلهُمْ السُّلْطَان مُرَاد قتالاً عَظِيما فَقتل سلطانهم فأظهر وَاحِد من مُلُوكهمْ الطَّاعَة وَتقدم ليقبل يَد السُّلْطَان فَلَمَّا قرب أخرج خنجراً فَضرب بِهِ السُّلْطَان مرَادا فاستشهد فَصَارَ من يَوْمئِذٍ لَا يدْخل على السُّلْطَان أحد بسلاح بل يدْخل بَين رجلَيْنِ يكتنفانه وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَفِي مورد اللطافة فِيمَن ولي السلطنة والخلافة عَن السُّلْطَان مُرَاد مَا نَصه كَانَ ملكا جَلِيلًا ذَا هَيْبَة وعظمة وَشدَّة بَطش فتح الممالك الْعَظِيمَة كقلعة نكبولي وَنَحْوهَا وحاصر الفرنج برا وبحراً وضيق عَلَيْهِم المسالك فَانْتدبَ لحربه بعض مُلُوكهمْ فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ وتصاف العسكران تحاربا وتعاركا وتضاربا(4/73)
فقصد السُّلْطَان ملك الفرنج وَحمل عَلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى فتقاربا وتعاركا وتضاربا وهما على ظُهُور الْخَيل فسقطا مَعًا على الأَرْض فَانْقَلَبَ عَدو الله على السُّلْطَان وضربه بالخنجر صَادف مَقْتَله فأدركه عسكره وَاحْتَمَلُوهُ إِلَى خيمته وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ فعهد بِالْملكِ إِلَى ابْنه يلدرم بايزيد فِي التَّارِيخ الْآتِي ذكره وَمَات بعد ذَلِك سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة رَحمَه الله تَعَالَى
(ثمَّ تولى السُّلْطَان يلدرم با يزِيد ابْن السُّلْطَان مُرَاد الْغَازِي)
وَلما سمع بوفاة أَبِيه خنق أَخَاهُ يَعْقُوب شلبي واشتغل بالفتوحات فَفتح الأفلاق وقونية وآق سراي ونيكده وقيصرية وسلانيك وَغَيرهَا من الْبِلَاد ثمَّ هرب بعض الْأُمَرَاء من خدمَة السُّلْطَان يلدرم ودخلوا عِنْد تيمورلنك فحركوه وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِلَاد الرّوم فَالتقى العسكران فِي مَوضِع يُقَال جبوق أواسي فانكسر السُّلْطَان يلدرم لِكَثْرَة من مَعَ تيمور من الْعَسْكَر كالجراد الْمُنْتَشِر فَأخذ السُّلْطَان يلدرم وَحبس ثمَّ توفّي بالحمى المحرقة سنة سبع وَثَمَانمِائَة وَكَانَ ابْنه الْأَمِير مُحَمَّد أَمِير أماسية فَلَمَّا سمع بِذكر ذَلِك خرج بعسكر أماسية خلف تيمور فَأخذ جثة وَالِده بعد حَرْب شَدِيدَة وَكَانَت مُدَّة سلطنته سِتّ عشرَة سنة وتيمور وَيُقَال تيمورلنك واللنك فِي اللُّغَة الفارسية الْأَعْرَج لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ عرج كَانَ ظُهُوره فِي عَام سَبْعمِائة وَثَلَاث وَسبعين وَكَانَ تَارِيخ ذَلِك لفظ عَذَاب قَالَه الْعَلامَة السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَ أول أمره رَاعيا للغنم ثمَّ صَار أَمِير آخور لبَعض سلاطين الْعَجم فِي سَمَرْقَنْد وبخارى فتغلب على مخدومه وَلم يزل حَتَّى تفرد بالسلطان وَملك الْبِلَاد طرفا بعد طرف فِي أسْرع زمن على أعجب أسلوب وَذَلِكَ أَنه إِذا قصد محلا ورَّى بِغَيْرِهِ فيهجم على ذَلِك الْمحل وَأَهله غافلون ثمَّ يبْدَأ بقتل جَمِيع من فِيهِ من كل ذِي روح ثمَّ يتَمَلَّك الْبِلَاد وَيَأْخُذ جَمِيع مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالطَّعَام(4/74)
بِحَيْثُ خربَتْ جَمِيع الممالك الَّتِي دَخلهَا مِمَّا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا خرج إِلَى الْبِلَاد الإسلامية كبغداد وَالروم وَالشَّام وحلب كَانَ عَادَته يقتل أَعْيَان الْبِلَاد وأركان دولتها ثمَّ ينصب فِيهَا من يقوم بأمرها من جماعته فهابته أَكثر سلاطين الْإِسْلَام وملوكه وقصدوه بالهدايا والتحف اتقاء شَره ومولانا السُّلْطَان يلدرم صَاحب التَّرْجَمَة لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلم يكترث بِشَأْنِهِ لاشتغاله بالغزوات وَمَا فِيهِ سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فهجم على بِلَاد الرّوم على غرَّة وأسرع فِي السّير إِلَى الْمحل الَّذِي فِيهِ السُّلْطَان الْمشَار إِلَيْهِ قبل أَن يعلم أحد بوصوله فَمَا وسع السُّلْطَان إِلَّا مُقَابلَته لِأَن شهامته أَبَت أَن يعرض عَنهُ وَيتْرك قِتَاله فاتفق بِمُرَاد الله أَن كسر عَسْكَر السُّلْطَان الْمَذْكُور وحبسه إِلَى أَن كَانَت وَفَاته بالحمى كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَفِي عجائب الْمَقْدُور فِي أَخْبَار تيمور للْإِمَام الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي عرف بِابْن عرب شاه رَحمَه الله تَعَالَى وَمعنى يلدرم الْبَرْق فَوجه الْأَخْذ الْمَذْكُور من هَذَا اللقب سرعَة الْحَرَكَة وَقُوَّة الظُّهُور مَعَ النُّور واللمعان رَحمَه الله تَعَالَى قلت أَخْبرنِي بعض فضلاء أهل الْهِنْد أَن ملكهم الْآن وَهُوَ الْمُسَمّى أورنك زيب ابْن شاه جهان يتَّصل نسبه بتيمور هَذَا وَمِنْه إِلَى جنكزخان طاغية التتار وَيُنْكِرُونَ كَونه رَاعيا أَو خَادِمًا لبَعض مُلُوك الْعَجم فتغلب على مخدومه فِي السلطنة وَيدعونَ عراقته فِيهَا وَالله أعلم بالحقائق قلت وَذكر الإِمَام الْمَذْكُور فِي كِتَابه الْمَذْكُور وَاقعَة لتيمور مَعَ الْعَلامَة القَاضِي محب الدّين أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحلَبِي قاضيها الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة أَحْبَبْت ذكر نَصهَا لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول من عَام ثَمَان وَثَمَانمِائَة أَخذ يَعْنِي تيمور قلعه حلب بالأمان والأيمان الَّتِي لَيْسَ مَعهَا ايمان فَاسْتَحْضر علماءها وقضاتها فَحَضَرُوا إِلَيْهِ وَطلب من مَعَه من أهل الْعلم فَقَالَ لكبيرهم عِنْده وَهُوَ الْمولى عبد الْجَبَّار ابْن الْعَلامَة نعْمَان الدّين الْحَنَفِيّ قل لَهُم إِنِّي سائلهم عَن مسَائِل سَأَلت(4/75)
عَنْهَا عُلَمَاء سَمَرْقَنْد وبخارى وهراة وخراسان وَسَائِر الْبِلَاد الَّتِي افتتحتها فَلم يفصحوا الْجَواب فَلَا تَكُونُوا مثلهم وَلَا يجاوبني إِلَّا أعلمكُم وأفضلكم وليعرف مَا يتَكَلَّم بِهِ فَإِنِّي خالطت الْعلمَاء ولي بهم اخْتِصَاص وألفة ولي فِي الْعلم طلب قديم قَالَ صَاحب الْكتاب وَكَانَ يبلغنَا عَنهُ أَنه بتعنت الْعلمَاء فِي الأسئلة وَيجْعَل ذَلِك سَببا إِلَى قَتلهمْ أَو تعذيبهم قَالَ القَاضِي ابْن الشّحْنَة فَقَالَ القَاضِي شرف الدّين مُوسَى الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي هَذَا شَيخنَا ومدرس هَذِه الْبِلَاد ومفتيها مُشِيرا إِلَى سلوه وَالله الْمُسْتَعَان قَالَ فَقَالَ لي قاضيه عبد الْجَبَّار سلطاننا يَقُول إِنَّه بالْأَمْس قتل منا ومنكم فَمن الشَّهِيد قتيلنا أم قتيلكم فَوَجَمَ الْجَمِيع وَقُلْنَا فِي أَنْفُسنَا هَذَا الَّذِي كَانَ يبلغنَا عَنهُ من التعنت وَسكت الْقَوْم فَفتح الله عَليّ بِجَوَاب سريع بديع فَقلت هَذَا سُؤال سُئِلَ عَنهُ سيدنَا رَسُول الله
قَالَ لي صَاحِبي شرف الدّين الْمَذْكُور بعد أَن انْقَضتْ الْحَادِثَة وَالله الْعَظِيم لما قلت هَذَا السُّؤَال سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله
وَأَنا مُحدث زماني قلت عالمنا قد اخْتَلَّ عقله فَإِن هَذَا سُؤال لَا يُمكن الْجَواب عَنهُ فِي هَذَا الْمقَام وَوَقع فِي نفس عبد الْجَبَّار قاضيه مثل ذَلِك وَألقى إليّ تيمور سَمعه وبصره وَقَالَ لعبد الْجَبَّار يسخر من كَلَامي كَيفَ سُئِلَ رَسُول الله
عَن هَذَا وَكَيف أجَاب فَقلت جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله
فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن الرجل يُقَاتل حمية وَيُقَاتل ليُري مَكَانَهُ من الشجَاعَة فأينا الشَّهِيد فِي سَبِيل الله فَقَالَ
مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمةُ اللهِ هِيَ العُلْياً فَهُوَ الشَهِيدُ فَقَالَ تيمور لنك خوب خوب فانفتح بَاب المؤانسة فَكثر مِنْهُ السُّؤَال وَكثر مني الْجَواب وَكَانَ آخر مَا سَأَلَ أَن قَالَ مَا تَقولُونَ فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة وَيزِيد فَأسر إِلَى القَاضِي شرف الدّين أَن اعرف كَيفَ تجاوبه فَإِنَّهُ شيعي فَلم أفرغ من مساع كَلَامه إِلَّا وَقد قَالَ القَاضِي علم الدّين القفصي الْمَالِكِي كلَاما مَعْنَاهُ إِن الْكل مجتهدون فَغَضب لذَلِك غَضبا شَدِيدا وَقَالَ عَلِي عَلَى الْحق وَمُعَاوِيَة ظَالِم وَيزِيد فَاسق وَأَنْتُم حلبيون تبع لأهل دمشق وهم يزِيدُونَ قتلوا الْحُسَيْن قَالَ فَأخذت فِي ملاطفته والاعتذار عَن الْمَالِكِي بِأَنَّهُ أجَاب بِشَيْء وجده فِي(4/76)
كتاب لَا يعرف مَعْنَاهُ فَعَاد إِلَى دون مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبسط قَالَ وَلما كَانَ آخر شهر ربيع الْمَذْكُور طلبني ورفيقي القَاضِي شرف الدّين وَأعَاد السُّؤَال عَن عَليّ وَمُعَاوِيَة فَقلت لَا شكّ أَن الْحق كَانَ مَعَ عَليّ فِي نوبَته وَلَيْسَ مُعَاوِيَة من الْخُلَفَاء فَإِنَّهُ صَحَّ عَن رَسُول الله
أَنه قَالَ الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة وَقد تمت بعلي وَابْنه الْحسن فَقَالَ تيمور لنك قُل عَلِي عَلَى الْحق وَمُعَاوِيَة ظَالِم فَقلت قَالَ صَاحب الْهِدَايَة يجوز تقلد الْقَضَاء من وُلَاة الْجور فَإِن كثيرا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تقلدوا الْقَضَاء من مُعَاوِيَة وَكَانَ الْحق مَعَ عَليّ فِي نوبَته فأنس لذَلِك انْتهى من الْكتاب الْمَذْكُور مُلَخصا قلت فِي قَوْله فِي نوبَته احْتِرَاز لطيف عَن نِسْبَة التَّعَدِّي إِلَى الصّديق وتالييه كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا معشر أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَمَرَّتْ على تيمور وَلم يفْطن لذَلِك وَفِي رِوَايَة لما استولى على كثير من قلاع النَّصَارَى هرب بعض وزرائه وَحلق لحيته وحواجبه وَصَارَ فِي صُورَة قلندري وَوصل مَعَه جمَاعَة إِلَى تيمور وَشَكوا من السُّلْطَان يلدرم وحسنوا لَهُ الْوُصُول إِلَى بِلَاد الرّوم فوصل إِلَى الْبِلَاد الشامية والحلبية وَقتل من بهَا وَأسر وَنهب وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل أذربيجان وَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان فغدر بِهِ العساكر وذهبوا إِلَى تيمور ووثب هُوَ ومَن بَقِي مَعَه وَقتل وَلَده السُّلْطَان مصطفى وَاسْتمرّ يُقَاتل إِلَى أَن وصل بِسَيْفِهِ إِلَى تيمور فَألْقى عَلَيْهِ بِسَاط فَأمْسك وَتُوفِّي كَمَا تقدم ذكر ذَلِك
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان يلدرم)
وَاسْتقر فِي السلطنة سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة وَكَانَت مدَّته تسع سِنِين وافتتح عدَّة من الْحُصُون مِنْهَا بَلْدَة اسكب وآق شهر وَغَيرهمَا وَكَانَ شجاعاً مقداماً مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَله خيرات مُتعَدِّدَة مِنْهَا ب برسا جَامع عَظِيم ومدرسة علمية وتربة سلطانية وَمِنْهَا بِولَايَة مرزفون جدد وَأَنْشَأَ جامعين وحمامين وأوقافاً عديدة كَثِيرَة الْغلَّة وَقفهَا وَشرط أَن تحمل غَلَّتهَا إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين(4/77)
فَهُوَ أول من عمل الصر لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين من آل عُثْمَان أدام الله دولتهم وصولتهم وَلما تمّ أَجله الْمُسَمّى فِي أم الْكتاب دَعَاهُ ملَك الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء المستطاب فَعَاشَ سعيداً وَمضى حميدا وتحول من دَار البلى إِلَى دَار البقا {إِن إلىَ رَبك اَلرُجعى} العلق 8 وَكَانَت وَفَاته بِمَرَض الإسهال فَتكون لَهُ مرتبَة الشَّهَادَة وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد بن يلدرم)
وَجلسَ على تخت السلطنة سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَظهر فِي أَيَّامه رجل وَادّعى أَنه ابْن السُّلْطَان يلدرم واسْمه مصطفى الَّذِي فقد فِي فتْنَة تيمور فَظهر تزويره فصلبوه فِي برج قلعة أدرنة وَفتح فِي زَمَنه سمندرة ومورة ثمَّ إِنَّه بِحسن اخْتِيَاره أقعد وَلَده مُحَمَّدًا الْآتِي بعده وَاخْتَارَ التقاعد ببلدة مغنيسا مُدَّة ثمَّ قَامَت عَلَيْهِ طَائِفَة الينيشرية فأرسلوا إِلَى مغيسا وَأتوا بوالده مِنْهَا وأجلسوه ثَانِيًا على سَرِير السلطنة فَلَمَّا توفّي أَجْلِس ابْنه السُّلْطَان مُحَمَّد على تخت السلطنة وعمره ثَمَانِيَة عشر عَاما وعاش تسعا وَخمسين سنة وَكَانَ ملكا عَظِيما مُطَاعًا عين للحرمين الشريفين من خَاصَّة صدقاته ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا وللشرفاء مثلهَا فِي كل عَام وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ عَاما قَالَ ابْن تغري بردي فِي تَارِيخه لم يكن فِي زَمَانه شرقاً وَلَا غرباً مثله فِي غَزْو الْكفَّار أهلك الله على يَده الْملك قزال عَظِيم مُلُوك الفرنج فِي عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَكَانَت وقْعَة عَظِيمَة مَشْهُورَة هلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ مَا يزِيد على عشْرين ألفا كَانَت طوائف الْكفَّار اجْتَمعُوا من كل نَاحيَة فِي هَذِه الْوَقْعَة وعزموا على استئصال ثغور الْإِسْلَام خُصُوصا بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ ظهر أَن طَائِفَة الْكفَّار فَوق عدد الْمُسلمين بأضعاف مضاعفة فَلَمَّا وَقع الْحَرْب ظَهرت الْغَلَبَة على الْمُسلمين(4/78)
فَأرْسل الله تَعَالَى ريحًا عاصفاً بِتُرَاب عَظِيم على جَانب الْكفَّار فأدبروا وَركب الْمُسلمُونَ أكتافهم قتلا وأسراً وغنموا غَنَائِم جزيلة لَا حد لَهَا وَلَا عد من النُّقُود والخيول وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك ومحاسنه كَثِيرَة ومآثره شهيرة
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد خَان فاتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة ابْن مُرَاد)
مولده عَام خمسن وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة جُلُوسه أَولا بفراغ من وَالِده لَهُ فِي عَام سبع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وتقاعد وَالِده بِولَايَة مغنيسا إِلَى نَيف وَخمسين فَقَامَتْ طَائِفَة الينيشرية وَاجْتمعت على عود السُّلْطَان مُرَاد خَان لصِغَر وَلَده مُحَمَّد الْمَذْكُور فَعَاد السُّلْطَان مُرَاد مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَدْرَكته الْوَفَاة وَاسْتقر السُّلْطَان مُحَمَّد الْمَذْكُور فِي الْملك عَام وَفَاة وَالِده الْمُوَافق لسنة سِتّ وَخمسين وَثَمَانمِائَة ثمَّ إِن السُّلْطَان مُحَمَّد سلك طَرِيق الْعدْل وَأقَام نظام الْملك وَأظْهر أبهة السلطنة وَذَلِكَ جَمِيعه ببركة وَالِده ونفع مَا جمعه لَهُ من المَال وَالرِّجَال والمدن الواسعة والأمصار النافعة وهابته الْمُلُوك وَدخلت فِي طَاعَته أكَابِر الممالك وأعيانها فَملك تِسْعَة سلاطين أَرْبَعَة من الْمُسلمين وَخَمْسَة من النَّصَارَى أما الْمُسلمُونَ فسلطان ولَايَة قرمن وسلطان كرميا وسلطان النكا وسلطان اسفنديار وفتوحاته مَشْهُورَة وَكَانَ من أعظم سلاطين آل عُثْمَان وَأَقْوَاهُمْ اجْتِهَادًا لَهُ غزوات كَثِيرَة لَا تحصى من أعظمها فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْخمسين من حصارها وَهُوَ الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة وَله كرامات عَجِيبَة واَثار بديعة وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَلما افْتتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة صلى فِي أكبر كنائسها وَهِي أيا صوفية صَلَاة الْجُمُعَة وَهِي بَاقِيَة تسامي قباب السَّمَاء وتحاكي فِي الاستحكام متين الأهرام فَمَا وهت وَلَا وهنت كبرا وَلَا هرماً دَامَ سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة(4/79)
(ثمَّ تولى السُّلْطَان بايزيد ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد)
(وَجلسَ فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة وافتتح الفتوحات)
وَفِي أَيَّامه فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ أَو خمس وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ظهر من بِلَاد الْعَجم شاه إِسْمَاعِيل ابْن حيدر الصفوي وَكَانَ لَهُ ظُهُور عَجِيب وفتك فِي الْبِلَاد وَسَفك دِمَاء الْعباد فأظهر مَذْهَب الرَّفْض والإلحاد وَغير اعْتِقَاد أهل الْعَجم إِلَى الانحلال وَالْفساد بعد الصّلاح والسداد وأخرب ممالك الْعَجم وأزال من أَهلهَا حسن الِاعْتِقَاد وَالله تَعَالَى يفعل فِي ملكه مَا أَرَادَ وَتلك الْفِتْنَة بَاقِيَة إِلَى الْآن فِي جَمِيع الْبِلَاد وَظهر من أَتبَاع شاه إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور بِبِلَاد الرّوم شخص ملحد زنديق يُقَال لَهُ سُلْطَان قولي أهلك الْحَرْث والنسل وَعم بِالْفَسَادِ وَالْقَتْل فَأرْسل السُّلْطَان وزيره الْأَعْظَم على باشا بعسكر كثير إِلَى قتال هَذَا الطاغي وأمده بِجَيْش عَظِيم لقطع جاذرة هَذَا الْبَاغِي فاستشهد عَليّ باشا فِي ذَلِك الْقِتَال ووفد بأكفان شَهَادَته على الْكَبِير المتعال وانكسر الشَّيْطَان فولى الْمُفْسد التعيس وَعَسْكَره جنود إِبْلِيس وأسكن الله تِلْكَ الْفِتْنَة بعد مَا أطلقت وَكفى الله شَرّ أُولَئِكَ الأشرار بعد أَن عظمت محنتهم وعمت وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة قَاتله أَخُوهُ السُّلْطَان جم شيد فبرز السُّلْطَان بايزيد لقتاله فَهَزَمَهُ ففر إِلَى مصر ونجح زمن السُّلْطَان قايتباي وَعَاد فَأكْرمه السُّلْطَان قايتباي إِكْرَاما عَظِيما فَذهب إِلَى دوسق وَجمع طَائِفَة من الْغُزَاة وَنَازع أَخَاهُ على الْملك ثانيَاً فقاتله السُّلْطَان بايزيد فانكسر السُّلْطَان جم ثانيَاً وفر إِلَى بِلَاد النَّصَارَى فِي سنة 888 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان بايزيد أحد عبيده فِي صُورَة حلاق فاستخدمه وَأمره أَن يحلق رَأسه فحلق رَأسه بمُوسَى مَسْمُوم وهرب فِي الْحَال وَأثر السم فِي رَأسه وسرى إِلَى بدنه فَمَاتَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة وَكَانَ السُّلْطَان بايزيد ملكا جَلِيلًا عَالما عَاملا ترقى فِي مَرَاتِب الْكَمَال الجليلة وتسنم ذرى المفاخر الأثيلة جمع الله لَهُ بَين السلطنة الْعُظْمَى الظَّاهِرِيَّة والإمامة(4/80)
الْكُبْرَى الْبَاطِنَة حَتَّى نقل عَنهُ أَنه كَانَ يرى الْقبْلَة المعظمة فِي افْتِتَاح كل صَلَاة وَكَانَت أَيَّامه كَثِيرَة الْخيرَات والفتوحات وَكَانَ يُجهز إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين فِي كل عَام أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار ذَهَبا يصرف نصفهَا على فُقَهَاء مَكَّة والاَخر للمدينة وَمِمَّنْ ورد عَلَيْهِ فِي شبابه خطيب مَكَّة الشَّيْخ محيى الدّين عبد الْقَادِر بن عبد الرَّحْمَن الْعِرَاقِيّ وَالشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن العُليف شَاعِر الْبَطْحَاء وفاضلها قتالا مِنْهُ خيرا كثيرا وصنف لَهُ العليف تَارِيخا سَمَّاهُ الدّرّ المنظوم فِي مَنَاقِب السُّلْطَان بايزيد ملك الرّوم وامتدحه بقصيدة رائية طنانة أَولهَا من الطَّوِيل
(خُذُوا من ثنائِى موجبَ الحمدِ والشكرِ ... ومِنْ در لفظِى طيب النظمِ والنثْرِ)
(فيا رَاكِبًا يسري على ظَهْر ضامر ... إِلَى الرّوم يهدي نَحْوهَا طيبَ النشْرِ)
(لَك الْخَيْر إِن وافيت بروص عُجْ بهَا ... رويداً لإسطنبولَ سامية الذكْرِ)
(لدي ملك لَا يبلغُ الوضْفُ كنهَهُ ... شرِيف المساعي نَافِذ النهْيِ والأمرِ)
(إِلَى بايزيد الخَيْر وَالْملك الَّذِي ... حمى بَيْضَة الإسلامِ بالبيضِ والسمرِ)
(وجرد للدّين الحنيفيِّ صَارِمًا ... أباد بِهِ جمع الطَواغيتِ والكُفْرِ)
(وجاهدهم فِي الله حقَّ جهادِهِ ... رَجَاء لما يبقَى من الفوزِ والأجرِ)
(لَهُ همة تملا الصُّدُور وصولة ... مقسَّمة بَين المخافةِ والذكْرِ)
(أطاعَ لَهُ مَا بَيْن رومٍ وفارسٍ ... ودان لَهُ مَا بَين بُصْرى إِلَى مصرِ)
(هُوَ البحرُ إِلَّا أَنه دائمُ العطا ... وذلكَ لَا يَخْلُو من المدِّ والجزرِ)
(هُوَ البدرُ إِلَّا أَنه كَامِل الضيَا ... وَذَاكَ حليفُ النقْصِ فِي معظمِ الشهرِ)
(هُوَ الغيثُ إِلَّا أَن للغيثِ مسكةً ... وَذَا لَا يزالُ الدَّهْر ينهل بالقطرِ)
(هُوَ السيفُ إِلَّا أَن للسيفِ نبوة ... وفلاَّ وَذَا ماضي العزيمةِ فِي الأمْرِ)
(سليلُ بني عُثْمَان والقادةِ الألَى ... علا مجدهُمْ فوقَ السماكَيْنِ والنسرِ)
(ملوكٌ كرامُ الأصلِ طابَتْ فروعُهمْ ... وَهل ينسبُ الدِّينَار إِلَّا إِلَى التبرِ)
(محا أثر الكفارِ بالسيفِ فاغتدَتْ ... بِهِ حوزة الإسْلامِ ساميةَ القَدْرِ)
(فيا ملكا فاق الْمُلُوك مكارماً ... فكلٌّ إِلَى أدنى مكارمه يجرِي)
(لَئِن فقتهُمْ فِي رُتْبَة الملكِ والعلا ... فإنَّ اللَّيَالِي بَعْضهَا ليلةُ القدرِ)(4/81)
(فدتك ملوكُ الأرضِ طراَّ لِأَنَّهَا ... سراجٌ وأنتَ البدرُ فِي غرَّة الشهرِ)
(تَعاليْتَ عَنْهُم رفْعَة ومطانهً ... وذاتاً وأوصافاً تجلُّ عَن الحصرِ)
(لَك العزةُ القعساءُ والرتبةُ الَّتِي ... قواعدهَا تسمو على أبرجِ النسرِ)
(سموتَ علوَّا إِذْ دنوتَ تواضعاً ... وقمتَ بِحَق الله فِي السِّرّ والجهرِ)
(غَدَتْ بك أرضُ الرومِ تزهو ملاحةً ... وترفل فِي ثوبِ الجلالةِ والفجرِ)
(إِلَيْك ابْن عُثْمَان الَّذِي سَارَ ذكْرُهُ ... مسير ضِيَاء الشمَسِ فِي البَرَّ والبَحْرِ)
(يمينكَ تروى عَن يسارٍ ونائلٍ ... ووجهُكَ يرْوى فِي البشاشة عَن بشرِ)
(وَإِنِّي لصوَّانٌ لدرِّ قلائدي ... عَن المدحِ إِلَّا فِيك يَا مَالك العصرِ)
(فقابل رعاكَ الله شكري بمثلِهِ ... فَإنَّك للمعروف من أعظمِ الذخر)
(فَلَا زلتَ محروسَ الجنابِ مؤيداً ... من الله بالتوفيقِ والعزِّ والنصرِ)
فَأمر للعليف بعد وصولها إِلَيْهِ وفرحه بهَا بِأَلف دِينَار ذَهَبا جَائِزَة ورتب لَهُ فِي دفتر الصر لكل عَام مائَة دِينَار ذَهَبا فَصَارَت بعده لأولاده رَحِمهم الله تَعَالَى وَكَانَ للسُّلْطَان بايزيد أَوْلَاد وَلم يخلع بِالْملكِ إِلَّا لوَلَده سليم خَان ودام سُلْطَانه اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَاما إِلَى أَن مَاتَ سنة 918 تِسْعمائَة وَثَمَانِية عشر
(ثمَّ تولى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان با يزِيد)
(كاسر الْعَجم وفاتح بِلَاد الْعَرَب)
وَجلسَ فِي سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة وَفِي سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة ركب على إِسْمَاعِيل شاه الْعَجم ابْن الشَّيْخ حيدر ابْن الشَّيْخ جُنَيْد ابْن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم ابْن سُلْطَان خوجه شيخ عَليّ ابْن الشَّيْخ صدر الدّين مُوسَى ابْن الشَّيْخ صفي الدّين إِسْحَاق الأردبيلي وَإِلَيْهِ ينْسب أَوْلَاده فَيُقَال لَهُم الصفويون وَكَانَ الشَّيْخ صفي الدّين صَاحب زَاوِيَة فِي أردبيل وَله سلسلة فِي الْمَشَايِخ أَخذ عَن الشَّيْخ زاهد الكيلاني وتنتهي بوسائط إِلَى الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَحْمد الْغَزالِيّ فَرجع بالظفر الْمُبين ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة ركب على السُّلْطَان الغوري وكسره فِي مرج دابق قرب حلب وأباد ملكه وَقد مرت قصَّته(4/82)
وَمن وزرائه الأجلة بير باشا وَابْن هرسك أَحْمد وَسنَان باشا وزنبيلي وَغَيرهم مولده فِي أماسية سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَكَانَ عمره جَمِيعه أَرْبعا وَخمسين سنة وَلم تطل سلطنته لِأَنَّهُ كَانَ سفاكاً وَهَذِه عَادَة الله تَعَالَى فِي السلاطين والأمراء إِذا أَكْثرُوا من الْقَتْل وَكَانَ سُلْطَانا قهاراً ملكا جباراً يُغير زيه فِي لِبَاسه ويتجسس فِي اللَّيْل وَالنَّهَار ويطلع على الْأَخْبَار وَله عدَّة مصاحبين يدورون تَحت القلعة وَفِي الْأَسْوَاق والمحافل والجمعيات وَمهما سَمِعُوهُ ذَكرُوهُ لَهُ فَيعْمل بِمُقْتَضى مَا يسمعهُ وَله معرفَة باللسانين الرُّومِي والفارسي وَشعر رائق ونظم فائق وَرَأَيْت لَهُ بَيْتَيْنِ فِي الكوشك الَّذِي بني لَهُ لما فتح مصر وهما بالعربي بِخَطِّهِ قَوْله من الْبَسِيط
(ألمُلْكُ لِلَّهِ مَنْ يَظْفَرْ بِنَيْلِ مُنّى ... يَتْرُكْهُ قَسْرًا ويَضْمَنْ بَعْدَهُ الدَّرَكَا)
(لَوْ كَانَ لِي أَوْ لِغَيْري قَدْر أُنْمُلَةٍ ... فَوْقَ التُّرَابِ لَكَانَ الأَمْرُ مُشْتَرَكَا)
وتحتها مَا صورته كتبه سليم بذلك الْحَظ والقلم كَذَا ذكره الْعَلامَة قطب الدّين النَّهر والى عَن نَفسه فَهُوَ فَاعل رَأَيْت وسليم هَذَا هُوَ أول من ملك مصر من آل عُثْمَان سلاطين الزَّمَان أدام الله تَعَالَى دولتهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمد على ملكهم فسطاط الإجلال والكرامة فَإِنَّهُم ظلّ الله تَعَالَى الْمَمْدُود على الأَرْض والقائمون بشعائر الْإِسْلَام من السّنة وَالْفَرْض كَانَ عَظِيم الهيبة سعيد الْحَرَكَة كثير المبرات دَائِم الْأَسْفَار مستيقظاً للأمور الجليلة نظره إِلَى معالي الْأُمُور لَو انتظم فِي سلكه كل لَحْظَة أعظم الْأَمْصَار هُوَ عِنْده فِي غَايَة الاحتقار والاستصغار ويكفيه فتح مصر أم الدُّنْيَا طَابَ ثراه فِي الْجنان الْعليا ولد السُّلْطَان سليم سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَتَوَلَّى السلطنة بعد أَبِيه فِي حَيَاته بنزوله لَهُ عَن الْملك لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال وَأما سَبَب ركُوبه ومقاتلته لإسماعيل شاه فَإِن إِسْمَاعِيل هَذَا طَغى وبغى وَصَارَ يقتل من ظفر بِهِ قتلا ذريعاً وَلَا يمسك شَيْئا من الخزائن بل يفرقها فِي الْحَال على عساكره إِلَى أَن ملك تبريز وأذربيجان وبغداد وعراق الْعَجم وخراسان وَكَانَ يَدعِي الربوبية وَكَانَ عسكره يَسْجُدُونَ لَهُ وَقتل خلقا لَا يُحصونَ ينيفون(4/83)
على ألف ألف أَو يزِيدُونَ بِحَيْثُ لَا يعْهَد فِي الْإِسْلَام وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّة مِقْدَار مَا قَتله شاه إِسْمَاعِيل هَذَا وَهُوَ من مُلُوك الْعَجم الموسومين بقزل باش وَكَانَ ركُوبه عَلَيْهِ سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة فحاربهم الْحَرْب الشَّديد وانتصر عَلَيْهِم وَملك غَالب بِلَادهمْ مَعَ مزِيد قوتهم وعزتهم وَكَانَ قبل الْحَرْب كتب إِلَيْهِم كتابا فَلم يعبئوا بِهِ ثمَّ كتب إِلَيْهِم كتابا آخر أغْلظ عَلَيْهِم فِيهِ ووسمهم بالخوف والجبن عَن اللِّقَاء فاستهضهم بِهِ ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَصُورَة الْكتاب الأول ليعلم إِسْمَاعِيل بهادر أصلح الله أحوالة أَن جَمِيع أهل الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام وعلماء الدّين وَالْإِسْلَام المحبين لشريعة سيد الْأَنَام قد أفتوا بكفرك وفسادك وضلالك وعنادك لارتكابك العقائد الْفَاسِدَة والضلالات الكاسدة وَالْأَحْوَال الفظيعة والأقوال القبيحة الشنيعة وَمن اسْتحلَّ مَا حرم الله فَلَا شكّ فِي كفره فَلذَلِك نشرت الْأَعْلَام الإسلامية والرايات الدِّينِيَّة وسرتُ إِلَى بلادك لإمحاء رسمك ووجودك واضمحلال اسْمك وجنودك لَكِن لما كَانَ من سنة الدّين وَطَرِيق الْحق الْمُبين الْإِخْبَار والإعلام بالدعوة إِلَى اتِّبَاع شَرِيعَة الْإِسْلَام قبل الإلجاء بِالسَّيْفِ حِين لَا يُفِيد أَيْن وَلَا كَيفَ أرْسلت إِلَيْك مخبرا بأنك إِن أخلصت التَّوْبَة وصدقت فِي الأوبة وَرجعت عَن تِلْكَ العقائد القبيحة الفظيعة فقد فزت بالمقصد الْأَسْنَى وَلَك الْأمان مَعَ الزِّيَادَة فِي الْحسنى وَإِن لم ترجع فلتعلم أَنِّي قد سرت إِلَيْك بآيَات النَّصْر والتمكين ورايات الظفر الْمُبين عملا بقوله تَعَالَى {قتلوا الَذِين يُلونَكُم من الكفارِ} التَّوْبَة 123 لترمى بِالْعَذَابِ مجاهرة والنكال مباهرة وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى فَلم يرتدع لذَلِك فَأرْسل إِلَيْهِ بِكِتَاب ثانٍ بديع اللَّفْظ والمعاني فَلم يرتدع لفرط العتو والطغيان فَسَار إِلَيْهِ السُّلْطَان سليم فتلاقيا فِي شالدران بِقرب تبريز وَأَرَادَ أَن يُقيم بتبريز لأخذ إقليم الْعَجم جَمِيعه فَمَا أمكنه ذَلِك لِكَثْرَة الغلاء والقحط وَسبب ذَلِك أَن القوافل الَّتِي كَانَ أعدهَا السُّلْطَان سليم لِأَن تتبعه بالميرة والعليق تخلفت عَنهُ فِي مَحل الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا وَمَا وُجد فِي تبريز شَيْء من المأكولات والحبوب لِأَن إِسْمَاعِيل شاه حرقها عِنْد انكساره فَاشْتَدَّ الغلاء بِحَيْثُ بِيعَتْ العليقة بِنَحْوِ مِائَتي دِرْهَم والرغيف الْخبز بِمِائَة دِرْهَم فاضطر السُّلْطَان سليم إِلَى الْعود(4/84)
عَن تبريز إِلَى بِلَاد الرّوم وَتركهَا خاوية على عروشها ثمَّ تفحص عَن سَبَب انْقِطَاع القوافل وتأخرها عَنهُ وَقت الْحَاجة فَأخْبر أَن سَبَب ذَلِك أَن سطان مصر الغوري قانصوه كَانَ بَينه وَبَين إِسْمَاعِيل شاه محبَّة ومودة ومراسلات بِحَيْثُ كَانَ السُّلْطَان الغوري يتهم بالرفض وعقيدته سَبَب ذَلِك فَلَمَّا ظهر للسطان سليم أَن الغوري هُوَ الَّذِي أَمر بِقطع القوافل عَنْهُم صمم على قتال الغوري أَولا وَبعد استيلائه عَلَيْهِ وعَلى بِلَاده يتَوَجَّه على شاه إِسْمَاعِيل ثَانِيًا فَلَمَّا اسْتَقر ركابه فِي تخت ملكه تهَيَّأ لأخذ مصر وَإِزَالَة دولة الشراكسة عَنْهَا وَتوجه إِلَى ناحيته من جِهَة حلب فَالْتَقَيَا ب مرج دابق كَمَا تقدم ذكر ذَلِك مفصلا كَانَت مدَّته ثَمَان سِنِين وأياماً وَتُوفِّي سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة رَحمَه الله برحمته وَأَسْكَنَهُ بحابيح جنته
(ثمَّ تولى السُّلْطَان سُلَيْمَان بن سليم خَان)
(سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة)
ولد سنة تِسْعمائَة تَقْرِيبًا فَتكون سنُّه حِين التَّوْلِيَة سِتا وَعشْرين سنة سلك طَرِيق المعدلة وجادة الْإِنْصَاف وتفقد أَحْوَال الرعايا والعساكر وَرفع الظُّلم والاعتساف وَأعْرض عَن المنهيات وَله خيرات لَا تحصى مَعْرُوفَة فِي الْآفَاق وفتوحات وغزوات رفعت أهل الْإِيمَان وخفضت أَرْبَاب الشقاق والنفاق مِنْهَا انكروس ورودس وبُدِن وبلغراديج وغزوة الْعَجم وألمان وأولونية وبغداد واسطنبول والستوراغون وسكتوار آخر غَزَوَاته وَتُوفِّي فِيهَا سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَمن مشاهير الْعلمَاء فِي أَيَّام دولته الْمُفْتِي على شلبي وَكَمَال باشا زَاده وسعدي شلبي وجوي زَاده ومفتي خواجه شلبي وَأَبُو السُّعُود أَفَنْدِي صَاحب التَّفْسِير وَغَيرهم ووزراؤه بيري باشا وَإِبْرَاهِيم باشا وَإيَاس باشا ولطفي باشا وَسليمَان باشا ورستم باشا وَعلي باشا وَمُحَمّد باشا كلهم كَانُوا أَرْبَاب خيرات ومبرات افْتتح الْبلدَانِ الواسعة بالقهر وَالْحَرب وَأخذ الْكفَّار والملاحدة بالطعن(4/85)
وَالضَّرْب وأيد الدّين الحنيفي بمجده وسيفه الباتر وَأقَام الْملَّة الحنيفية وَأَحْيَا مَا لَهَا من مآثر وَنصر مَذْهَب السّنة السّنيَّة وَأظْهر شَعَائِر الْإِسْلَام البهية وردع أهل الْإِلْحَاد فَمَا لَهُم من قُوَّة وَلَا نَاصِر وَكَانَ مُجَدد دين هَذِه الْأمة المحمدية فِي هَذَا الْقرن الْعَاشِر كَمَا ورد لِكُل قَرنٍ مُجَددٌ ظَاهر وَبنى الْمدَارِس الْمَعْرُوفَة بالسليمانية للأربعة الْأَئِمَّة الْمَالِكِي ثمَّ الْحَنَفِيّ ثمَّ الشَّافِعِي ثمَّ الْحَنْبَلِيّ وَقد جعلت مدرسة دَار حَدِيث لعدم متأهل من الْحَنَابِلَة وَبسط بِسَاط الْعدْل فِي سَائِر الممالك وَفتح القلاع والحصون ومهد المسالك وَكَانَت أَيَّام سلطنته باسمة الثغور ودولته الشَّرِيفَة عرة فِي جباه الدهور وَله فتوحات عديدة مِنْهَا وَهُوَ أَولهَا رودس وَغَيرهَا مِمَّا تقدم ذكره وَمِنْهَا الأقطار اليمنية وثغورها الإسلامية وَكَانَت فِي الْقَدِيم لعدة سلاطين وملوك وَهَهُنَا أَحْبَبْت ذكر رسَالَته إِلَى الإِمَام المطهر بن شرف الدّين الحسني الدَّاعِي بقطر الْيمن لحسن تنميقها وَكَثْرَة تحقيقها ومتانة ألفاظها وإيراقها ورصانة إرعادها وإبراقها وَهِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مثالنا الشريف السلطاني وخطابنا المنيف العالي الخاقاني لَا زَالَ نَافِذا مُطَاعًا بالعون الرباني واليمن الصمداني أرسلناه إِلَى الأميري الكبيري العوني النصيري الهمامي المطهري الشريفي الحسيبي النسيبي فرع الشَّجَرَة الزكية طراز الْعِصَابَة النَّبَوِيَّة العلوية ونسل السلالة الهاشمية السّنيَّة المطهر بن شرف الدّين نخصه بِسَلام أتم وثناء أَعم ونبدي لعلمه الْكَرِيم أَنه لَا يزَال يتَّصل بمسامعنا الشَّرِيفَة إخلاصه لدينا وقيامه بِقَلْبِه وقالبه بمرضاة سلطاننا وانقياده إِلَى جانبنا وبمقتضى ذَلِك حصل شكرنا التَّام وَالثنَاء الْعَام على مناصحته ومكاتبته وَلما برز أمراؤنا الشَّرِيفَة مسابقين مُتَتَابعين مَعَ وزيرنا الْمُعظم سُلَيْمَان باشا إِلَى الْبِلَاد الْهِنْدِيَّة لفتح تِلْكَ الْجِهَات السّنيَّة إحْيَاء لسنة الْجِهَاد وَقطع دابر الْفساد وَأهل(4/86)
العناد فَاسْتَبْشَرَ بذلك كل مُسلم وَصَارَ فَرحا مَسْرُورا فَوَقع قدر الله وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا فَرجع وزيرنا الْمشَار إِلَيْهِ فَوجدَ طَائِفَة من اللوند قد تملكوا زبيد من المملكة اليمنية وَحصل مِنْهُم غَايَة المشاق بأذى الرّعية وَزَاد ظلمهم على الْعباد والبلاد وَعم ضررهم كل حَاضر وباد فتتبع آثَارهم وَقطع دابرهم واستنقذ الرعايا من أَيْديهم وَصَارَت مملكة زبيد من ممالكنا الشَّرِيفَة وَعَاد إِلَى أعتابنا المنيفة وأبرز من يَدَيْهِ مكتوبكم ومكتوب والدكم يتَضَمَّن الْإِخْلَاص لطاعة سلطاننا وأنهما صَارا من أتباعنا اللائذين بأعتابنا وبموجب ذَلِك حصل عندنَا لكم زِيَادَة الْمحبَّة الصادقة وَحسن الْمَوَدَّة وتحققنا مَا كَانَ يبلغنَا عَنهُ على أَلْسِنَة النَّاس السفار المتمرددين على أعتابنا الشَّرِيفَة من تِلْكَ الديار وبلغنا الْآن عَنْهُمَا خلاف ذَلِك وَتغَير مَا كاتبنا بِهِ فِي السَّابِق مثل غير مُطَابق وَأَنه وَقع بَينهمَا وَبَين أمرائنا وعساكر دولتنا بِتِلْكَ الْبِلَاد خُلف كَبِير ووقائع عَم ضررها الْمَأْمُور والأمير وَهَذَا عين الْخَطَأ الْمَحْض الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذهَاب الرّوح لمن عقل وَفهم {إِن الله لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَى يُغَيِروا مَا بِأَنفُسِهِم} الرَّعْد 11 فَالْآن ملكنا الشريف السَّامِي قد ملك بعون الله تَعَالَى بِسَاط الأَرْض شرقاً وغرباً وَصَارَت سلطنتنا الْقَاهِرَة كالإبريز الْمُصَفّى بعون النَّبِي الْمُصْطَفى ورقم سجل سعادتنا بآيَات النَّصْر على أهل الْعَصْر وعَلى سَائِر الْمُلُوك بإحياء سنة الْجِهَاد إِلَى يَوْم الْعرض {ذَلِكَ فَضلُ اَللهِ يُؤتيهِ مَن يَشَاء} الْجُمُعَة 4 {وَأَماً مَا ينفع النَّاس فيمكث فى الأَرْض} الرَّعْد 17 وعساكرنا المنصورة أَيْنَمَا انخرطت خرطت وأينما سَقَطت التقطت وحيثما سلكت ملكت وَأَيْنَ حلت فتكت لَا يعجزهم صَغِير وَلَا كَبِير وَلَا جليل وَلَا حقير وَلَو شِئْنَا لعينا من عساكرنا المنصورة شرذمة قَلِيلُونَ نَحْو مائَة ألف أَو يزِيدُونَ مشَاة وركباناً من الْبر وَالْبَحْر لأمرائنا ولأمرنا ممتثلون ونقوي عَددهمْ بالاستعداد ونشدهم بِالْقُوَّةِ والآلة والزاد وَنَتبع الْعَسْكَر بالعسكر ونملأ الْبر وَالْبَحْر ونلحق الْجَيْش بالجيش من كل أسود وأحمر حَتَّى يتَّصل أول عساكرنا بآخرهم وواردهم بصادرهم وَيكون أَوَّلهمْ فِي الْبِلَاد اليمانية وَآخرهمْ فِي بِلَادنَا المحمية وَلَا نحتاج نعرفكم بقدرة سلطاننا وتشييد أَرْكَان دولتنا وَتَشْديد عزمتنا فَإِن(4/87)
الْمُلُوك ذَوي التيجان وَأَصْحَاب الْقُوَّة والإمكان لَا يزالون خاضعين لهيبتنا الشَّرِيفَة قهرا عَلَيْهِم مطأطئين رُءُوسهم خشيَة مِمَّا يلْحق بهم عِنْد الْمُخَالفَة وَيصير إِلَيْهِم وَذَلِكَ مَشْهُور وَمَعْلُوم وَظَاهر لَيْسَ بمكتوم لَكِن غلب حلمنا عَلَيْهِ من تَعْجِيل النكاية إِلَيْهِ كَونه من سلالة سيد الْمُرْسلين وَمن أهل بَيت النُّبُوَّة الطاهرين ولازم على ناموس سلطنتنا الشَّرِيفَة أَن ننبه قبل اتساع الْخرق عيه ونعرفه بِمَا يحل بِهِ وَيصير إِلَيْهِ وَكَونه آوى إِلَى الْجبَال يتحصن بهَا عَن الزَّوَال وَيَزْعُم أَن ذَلِك بنجيه فَهَذَا عين الْمحَال وتدبيره تدميره على كل حَال جهل ذَلِك أم علم {لَا عَاصمَ اليوَمَ مِن أَمرِ اَللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ} هود 43 {أَين اَلمفرُ كلا لَا وَزَرَ} الْقِيَامَة 10 11 وَلَا لهارب من سلطنتنا مفر وَقد اقْتَضَت أوامرنا الشَّرِيفَة تعْيين افتخار الْأُمَرَاء الْكِرَام صَاحب الْعِزّ والاحتشام الْمُخْتَص بعناية الْملك والعلام مصطفى باشا دَامَت معدلته ونفذت كَلمته باشا على العساكر المنصورة وصحبته ثَلَاثَة آلَاف من الْجند المؤيدة بِاللَّه مشَاة ورماة حماة إِعَانَة لأمير الْأُمَرَاء الْكِرَام ذَوي الْقدر والاحترام الْمَخْصُوص بمزيد عناية الْملك العلام ازدمر باشا دَامَت معدلته وحرست نعْمَته وعينا من الْبر ألفي فَارس وهيأنا مثلهَا بعددها وعليقتها من الْبَحْر فَعرض على مسامعنا الشريف مصطفى باشا أَن أَن يُؤَخر تجهيز الْجَيْش الْمَذْكُور من الْبَحْر إِلَى حِين يتَوَجَّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَات وَينظر فِي الْأَحْوَال وَمَا عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الأقطار من الْحَال وَإِذا وَقع من أحد خلاف وَاحْتَاجَ إِلَى الْخُيُول الْمَذْكُورَة فيجهز إِلَيْنَا لطلبهم فتصل إِلَيْهِ على مَا يحب فأخرنا ذَلِك إِلَى حِين يعود الْجَواب بتحقيق الْأَخْبَار عَن الإِمَام وَولده فحال وُصُول مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ إِلَى تِلْكَ الديار واستقراره بِتِلْكَ الأقطار وَلَا بُد أَن تحضر إِلَى خدمته ممتثلاً لكلمته وتقابله بقلب منشرح وَصدر منفسح وتمشي تَحت صناجقنا الشَّرِيفَة وَتدْخل تَحت طاعتنا المنيفة وَتَكون مَعَ عساكرنا مُنْضَمًّا لأوامرنا على قلب رجل وَاحِد غير متقاعس وَلَا متقاعد فَإِن مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ باشا عساكرنا وَخَلِيفَة أمرنَا وَكَلَامه من كلامنا وَأمره من أمرنَا وَنَهْيه من نهينَا وَمن أطاعه فقد أطاعنا وَمن خَالفه فقد خَالَفنَا ونعوذ بِاللَّه من الْمُخَالفَة وَعدم الانقياد والمؤالفة فليتفكر المطهر فِي(4/88)
نَفسه قبل حُلُول رمسه وليتنبه من رقدته ويصحو من غفلته ويفيق من سكرته فَإِن فعل ذَلِك وانضم إِلَى سلطنتنا الشَّرِيفَة فقد رحم نَفسه وصان مهجته وَيرى من دولتنا العادلة غَايَة الرِّعَايَة وبلوغ الأمنية مَعَ الزِّيَادَة إِلَى حد النِّهَايَة وَأَنه إِذا دخل تَحت طاعتنا وَمَشى على الاسْتقَامَة لدينا وانضم إِلَى عساكرنا فننغم عَلَيْهِ بأمرنا الشريف بِمَا يسْتَحق بِهِ فِي مَمْلَكَته مُسْتقِلّا بِهِ من غير معَارض لَهُ فِي ذَلِك وَلَا مُنَازع لَهُ فِيمَا هُنَالك فَحَيْثُ فعلت فَأَنت من الفائزين لَا تخف وَلَا تحزن إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين وَإِن حصل وَالْعِيَاذ بِاللَّه مُخَالفَة وَاسْتمرّ على العناد والمجانفة وانهمك فِي الضلال والمكابرة والخيال فَيُصْبِح ذَنبه فِي رقبته وَيهْلك نَفسه بِيَدِهِ {وَمَا ظلمنهم وَلَكن كاَنوُا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ} النَّحْل 118 وَيدخل فِي قَول أصدق الْقَائِلين {يُخرِبوُنَ بيوُتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدي اَلمُؤمنينَ} الْحَشْر 2 وَيصير بعد الْوُجُود إِلَى الْعَدَم ويندم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم وَقد حذرنا رأفة بِهِ وتحننا عَلَيْهِ بإصدار هَذَا الْكتاب إِلَيْهِ فَإِن خَالف أتيناه بِجُنُود لَا قبل لَهُ بهَا وأخرجناه مِنْهَا ذليلاً حَقِيرًا لَا ملْجأ لَهُ من سلطنتنا إِلَّا إِلَيْهَا الَّتِي هِيَ لِمن سَالَمَهَا ظلاً ظليلاً وعَلى من خالفها عذَابا وبيلاً وَمثله لَا يدل على الصَّوَاب فليعتمد على ذَلِك وعلامتنا الشَّرِيفَة حجَّة عَلَيْهِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ الإِمَام المطهر الْجَواب وَهُوَ نور الله شمس الْإِسْلَام وأطلعها وفجر عُيُون الشَّرِيعَة وأنبعها ولألأ كواكب الدّين الحنيفي وأسطعها وَأَعْلَى منار الْملَّة الْبَيْضَاء ورفعها وزلزل جموع الظُّلم والعداوة وزعزعها وأرعد قُلُوب الْجَبَابِرَة المردة وأرعيها وَألف بَين قُلُوب الْمُسلمين وَجَمعهَا بدوام دولة مَوْلَانَا السُّلْطَان الْمُعظم الْعَظِيم ذِي الْملك الباهر القاهر الْعَقِيم الْقَاطِع بسيوف عزمه عنق كل جَبَّار أثيم الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَة والتحية وَالله يُؤْتِي من يَشَاء فَضله العميم شمس الْخلَافَة المضيئة فِي اللَّيْل البهيم ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه القويم حجَّة الله الْوَاضِحَة للحق على التَّعْمِيم أَمِينه على خلقه وخليفته الْقَائِم بِحقِّهِ بِتَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم المتسم بحماية آل الرَّسُول وَأَبْنَاء فَاطِمَة البتول سلالة النَّبِي الْكَرِيم الباسط عَلَيْهِم ظلّ عدله فَلَا ينالهم حَر الْجَحِيم فهم راتعون فِي رياض إحسانه وَلها نبت وسيم وكارعون من حِيَاض امتنانه الَّتِي لَا يشوب صفوها الدَّهْر المليم سامي(4/89)
الفخار زكي الأَصْل والنجار الفائز بحوز قصبات السَّبق فِي الْحسب الصميم الْكَاف لأكُف من تعاشى عَن الْهِدَايَة وسلك مسالك الغواية وَكَانَ لَهُ فِي العجرفة تصميم الَّذِي لَا تحصى صِفَاته بتعداد وَلَو أَن الشّجر أَقْلَام وَالْبَحْر مداد واسأل بذلك كل خَبِير عليم الخنكار الْكَبِير والخاقان الشهير سُلَيْمَان بن سليم أهدي إِلَى مقَامه نَجَائِب التَّحِيَّة وَالتَّسْلِيم وَرَحمته الطّيبَة وَبَرَكَاته الصيَّبة الموصولة بنعيم دَار النَّعيم وحرس جنابه العالي وَحرمه الْمُحْتَرَم من صروف اللَّيَالِي بِمَا حفظ بِهِ الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم فَإِنَّهُ ورد من تلقائه أَطَالَ الله للْمُسلمين فِي بَقَائِهِ مرسوم سطعت أنواره وطلعت بالمسرة شموسه وأقماره وتضاحكت فِي عرصات الْمجد كمائمه وأزهاره وَجَرت فِي جداول الْحَمد أنهاره وتحاسد على مشرفه ليل الزَّمَان ونهاره مرسوم تقر بِهِ الْعُيُون وَتصْلح بِهِ الْأَحْوَال والشئون أنشئ لله نجاره فوجدناه أشفى من الترياق وأبهى من الإثمد فِي دعجٌ الأحداق يتبلج تبلج الْبَرْق ويحلب الْخيرَات تحلب الودق يفوق اللُّؤْلُؤ الثمين منشوراً ويفضح شقائق النُّعْمَان زهوراً وَيجْعَل مَمْدُود الثَّنَاء عَلَيْهِ مَقْصُورا فتعطرت الأندية بنشره وأعلنت الألسن بِحَمْدِهِ وشكره وهب فِي الْبَوَادِي والأمصار نسيم ذكره وَدخلت النَّاس أَفْوَاجًا تَحت نَهْيه وَأمره // (من الْخَفِيف) //
(حَبَّذا مُدْرَجًا كَرِيمًا جَليْلاً ... زَانَهُ مُنْشِىءٌ كَرِيمٌ جَلِيلُ)
(لَفْظهُ الدُّرُّ فِي السُّمُوطِ وفَخْرًا ... وبِمَعْنَاهُ سَلْسَلٌ سَلْسَبِيلُ)
(وإِذَا المُدْرَجَاتُ كَانَتْ مُلُوكًا ... فَهْوَ فِيهَا وبَيْنَها إِكْلِيلُ)
(مُدْرَجٌ فِيهِ للبَهاءِ غُدو ... ومَرَاحٌ ومَسْرحٌ ومَقِيلُ)
فَللَّه در أنامل صاغته بالبلاغة وضمنته مَا يعجز عَنهُ قدامَة وَابْن المراغة فَلَو رَآهُ الْملك الضليل لطأطأ رَأسه خاضعاً أَو لبيد خر سَاجِدا وراكعاً وعرفنا مَا ذكره سُلْطَان الْأُمَم وَملك رِقَاب الْعَرَب والعجم المتسم بحماية الْحرم من الْإِحَاطَة بطاعتنا ودخولنا تَحت لوائه وأقواله وأفعاله وَالْحَمْد لله الَّذِي وفقنا لطاعته وردنا عَن السلوك فِي مُخَالفَته فَإِن لنا بكم الْحَظ الأوفر مَعَ زِيَادَة الْحسنى والنصيب الأفخر الأهنى(4/90)
وَنَرْجُو نيل الشّرف الْكَامِل الْأَكْمَل ونجح المُنَى والمطالب وبلوغ نِهَايَة الْأَمَانِي والمآرب فَمن اسستمسك بعروتكم الوثقى فَازَ بمطالبه ونال الْغَايَة القصوى من مآربه وَرفع لَهُ الدَّرَجَات السامية الْعلية وَتمّ لَهُ بذلك كل سُؤال وأمنية ويحظى بعيشة هنيَّة راضية مرضية وَهَذِه طَريقَة مَعْرُوفَة وَسنة قديمَة مألوفة لَا تميل عَن الوفا وَلَا تكدر من ذَلِك المشرب مَا صفا كَيفَ وطاعتكم من طَاعَة الْملك الْخَالِق ومعصيتكم تظلم مِنْهَا المغارب والمشارق وَنحن من مودتكم على يَقِين وَنَرْجُو أَن لَا تصفوا أذنا الْكَلَام الْفَاسِقين وَلَا تهملوا رِعَايَة الصَّالِحين الْمُتَّقِينَ وَلَا تقطعوا حق ذُرِّيَّة النَّبِي الْأمين وَأَبْنَاء عَليّ الأنزع البطين كرم الله وَجهه فِي عليين {قل لَا أسئلكم عليهِ أجرا إِلا المَوَدةَ فِي القُربى} الشورى 23 وَذَلِكَ نَص الْكتاب الْمُبين فَأنْتم أولى برعاية من أَمر الله أَن يرْعَى وَمن تقر بِهِ من عِترَةِ النَّبِي أذنا وسمعاً فكم لكم من محامد مشكورة ومفاخر مَشْهُورَة ومعاني جميلَة منثورة نؤمل أَن تشقوا بحسامها نوافج الوشاة وتردوا كيد كل كَذَّاب لَا يراقب الله وَلَا يخشاه وَالَّذِي يَنْقُلهُ إِلَيْكُم أَرْبَاب الزُّور والإفك والفجور من تَحَوَّلْنَا عَن طَاعَة السُّلْطَان الْأَعْظَم ومخالفتنا لما سبق من مودتنا وَتقدم كذب يُعلمهُ الداني والقاصي وَمن التمويه الَّذِي لناقله أَشد الاقتصاص حاشا وكلا أَن نرضى مُخَالفَة أَو نَمِيل عَن الْأَحْوَال السالفة أَو ننكر تِلْكَ المعارف العارفة نَعُوذ بِاللَّه من الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ أَو نَكُون مِمَّن تعدى الْحَد بعد الطّور وتقاعد عَن طاعتكم وَهِي مَحل السَّعْي إِلَيْهَا على الْفَوْر فنكون كمن اشْترى الضَّلَالَة بِالْهدى وتحول عَن السَّلامَة إِلَى مخاوف الردى وَآل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعرف النَّاس بِالصَّوَابِ وأعلمهم بمعاني السّنة وَالْكتاب أطِيعُوا الحَدِيث وَمن نسب إِلَيْهِم خلاف ذَلِك فَهُوَ خَبِيث نبيث فثقوا منا بالمحبة الراسخة أطنابها والمودة الشامخة قبابها وَالرِّعَايَة المفتحة أَبْوَابهَا وَالَّذِي أشرتم إِلَيْهِ فِي سامي الْخطاب وبطاقة الْكتاب من بُلُوغ مخالفتنا لعساكركم المنصورة وكتائبكم الواسعة الموفورة لَيْسَ لَهُ صِحَة وَلَا ثبات وَلَا كَانَ لنا إِلَى حربهم تعد وَلَا الْتِفَات بل قصدونا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات وجلبوا علينا(4/91)
أتراكاً وأرواماً وهتكوا أستاراً كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ وذماماً وَلَا راعوا لأوامركم الشَّرِيفَة فِينَا أحكاماً وضيقوا علينا مسالك الْمَعيشَة خلفا وأماماً ورمونا بمدافع لَا يرْمى بهَا إِلَّا الَّذين يعْبدُونَ أوثاناً وأصناماً وَنحن من الَّذين أوجب الله لَهُم احتراماً نُقِيم الشَّرَائِع ونميت الْبَدَائِع وَلم نلق أثاماً وَمن الَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياماً فدافعنا عَن أَنْفُسنَا وَأَوْلَادنَا بِمَا أمكن من الدفاع وَترك الزِّيَادَة عَنْهَا لَا يُسْتَطَاع وَنحن فِي مهَاجر يسير وَمَكَان يأوي إِلَيْهِ البائس الْفَقِير لَا ينافس من اعْتصمَ بِهِ وَاقْتصر على طَاعَة ربه وَلَو أَن عساكركم المنصورة الألوية الْمسلمَة من صروف الْأَقْضِيَة وجهوا هممهم الْعلية وعزائمهم الصلبة القوية إِلَى الْجِهَات العصية الكفرية إِذا لنالوا من الْخيرَات نيلاً عَظِيما ولسلكوا سَبِيل السَّعَادَة صراطاً مُسْتَقِيمًا وأدركوا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خيرا ونعيماً بيد أَن تشاغلوا بحربنا عَن جَمِيع الحروب وفوتوا بذلك كل غَرَض لَهُم ومطلوب وأهملوا جِهَات الْكفَّار حَتَّى سقط الْجنُوب وهبت فِي دَار الْإِسْلَام للشرك جنوب وَحين وصل المرسوم المشرف والمثال الْكَرِيم الْمُعَرّف طبنا بِهِ نفوساً وسلكنا بِهِ محلا من الْأَمْن مأنوساً ودفعنا بِهِ عَن وُجُوه الْحق ظلاماً وعبوساً وضلالاً وبوساً وخمدت نيران الْحَرْب وغلت أَيدي الطعْن وَالضَّرْب فقررنا بِمَا قررتموه كل قلب فَإِن امتثل من حوالينا من الاْمراء الأكابر لما صدر عَنْكُم من الْمَوَارِد والمصادر فَتلك الْمنية الْمَقْصُودَة والضالة المفقودة والدرة الثمينة المنقودة وَالْغنيمَة الْعَظِيمَة الشاملة الممدودة وَإِن خالفوا أوامركم المطاعة وَقَابَلُوا نواهيكم بالإضاعة فحسبهم عذابكم الوبيل وَمَا تعدونه لمن خالفكم من التنكيل وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَكُنَّا نود أَن نرسل إِلَى الْأَبْوَاب الشَّرِيفَة مَا تكن الْقُلُوب والصدور إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يلوننا قطعُوا وسدوا من التواصل أوصالاً وقعدوا لرسلنا بكرا وآصالاً وصدوهم عَن الْوُصُول إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة عَن جَمِيع الْأَبْوَاب ومنعوهم عَن مناهج الذّهاب والإياب(4/92)
فولا مَا كَانَ مِنْهُم من الْمَنْع لما نُرِيد لَكَانَ يصدر إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة فِي كل شهر بريد وَحين وصل وكيلكم الْمُعظم الباشا مصطفى إِلَى الْجِهَات اليمنية والديار الَّتِي هِيَ بِسيف قهركم محمية بسط عدله فِي أهل الْيمن وأخمد نيران الْفِتَن والمحن وَأصْلح من الْأُمُور مَا ظهر وَمَا بطن واطلع على الْحَقَائِق فِي الْمَاضِي واللاحق وَمَا نَحن عَلَيْهِ بِحَمْد الله من حسن المساعي والطرائق وكرم الْأُصُول الشَّرِيفَة والمعارق وَقد أرسل إِلَيْنَا قصاد أمجاد محبون أوداد عرفُوا جَمِيع الْأُمُور وَأَحَاطُوا بِالظَّاهِرِ مِنْهَا والمستور وَلَعَلَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُهَيِّئ قدومه إِلَى صنعا وَيحيى بِهِ اللإله دينا وَشرعا وَيقطع بِهِ دابر من خَالف أَمركُم قطعا ولعمري إِنَّه رجل عَظِيم وَذُو خطب جسيم بأرباب الدّين رءوف رَحِيم قد طابت شمائله وراقت أَوْصَافه ومخايله فَهُوَ بِكُل خير يجود وَيحمل من طاعتكم مَا يشق على غَيره ويئود فَالله يَجْعَل سَعْيه مشكوراً ويشرح بِأَعْمَالِهِ من الاسْتقَامَة قلوباً وصدورا وَيدْفَع بِعَين عنايته عَن الْأَنَام وَالْإِسْلَام شروراً ويملأ الْأَنْفس والأفئدة حبوراً إِن شَاءَ الله وسرورا وَبعد السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَمِنْهَا بَغْدَاد وأعمالها والمشاهد الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة العلوية الحسنية والموسوية الكاظمية والعلوية الرضوية وَمِنْهَا بِلَاد الْمغرب وَمَا فِيهِ من الجزائر وَكَانَت فِي الْقَدِيم جَامِعَة لعدة سلاطين بل كَانَت دَار الْخلَافَة الأموية ثمَّ العباسية ثمَّ العمرية الحفصية ثمَّ الشريفية الحسنية ثمَّ للخلافة العبيدية وَمِنْهَا الممالك الْمَعْرُوفَة بروملي وَمَا اتَّصل بهَا من بِلَاد الْكفَّار على اخْتِلَاف أنواعهم وأجناسهم مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة وَمِنْهَا مَا فتح من الممالك الإسلامية بِنَاحِيَة الْعَجم لما خرج لمقابلة قزل باش طهماسب وَمِنْهَا السّفر الْأَخير وَهِي الْغُزَاة الْعُظْمَى الَّتِي شرفه الله تَعَالَى فِيهَا بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ(4/93)
الْملك الَّذِي عَاشَ سعيداً وَمَات شَهِيدا وَهَذِه الفتوحات بعض مَا اشْتهر وَأما مَا هُوَ حقير من جِهَة أَهله أَو من قلَّة محصوله أَو مِمَّا يكون تَابعا لغيره فَذَلِك لَا يُحْصى وَلَا يحصر وَأما الْخيرَات الَّتِي فعلهَا فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين والقدس وَغَيرهَا من الْبِلَاد فَلَا يُمكن حصرها يذكر شئ مِنْهَا على سَبِيل الِاخْتِصَار نتشرف بِذكرِهِ مِنْهَا الصرة الْعَظِيمَة الرومية الْوَاصِلَة كل عَام وقدرها أحد وَثَلَاثُونَ ألفا من الدَّنَانِير الذَّهَب فِي كل عَام على الدَّوَام وَمِنْهَا عمَارَة سور الْمَدِينَة المنورة وَقدر مساحته أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع وَعرض جِدَاره ثَلَاثَة أَذْرع وارتفاعه سَبْعَة عشر ذِرَاعا وجميعه بِالْحجرِ والنورة وأبوابه سِتَّة مصفحة جَمِيعهَا بالحديد قلت الْمَعْرُوف أَن أَبْوَاب سور الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أَرْبَعَة بَاب غربي وَبَاب قبلي وَبَاب شَامي وَبَاب شَرْقي يُسمى الأول فِي عرف النَّاس بَاب الْمصْرِيّ وَالثَّانِي الْبَاب الصَّغِير وَالثَّالِث بَاب الشَّامي لنزوله عِنْده ذَهَابًا وإياباً وَالرَّابِع بَاب الْجُمُعَة فَلَعَلَّ المؤرخ عد بَاب القلعة وباباً صَغِيرا فِي أَسْفَل أكبر البروج وأعلاها يُسمى عِنْد أهل الْمَدِينَة بَاب السِّرّ فهما الْخَامِس وَالسَّادِس فَيصح الْعدَد حِينَئِذٍ وَقدر النَّفَقَة عَلَيْهِ من الذَّهَب الْجَدِيد سَبْعُونَ ألف وَمن الْحُبُوب أَرْبَعَة عشر ألف إِرْدَب حِنْطَة وفولاً وَغير ذَلِك وَذَلِكَ غير الْوَاصِل من مصر المحروسة من الْحَدِيد والخشب والرصاص والنحاس وَالْجمال وَالْحمير وَمِنْهَا محراب السَّادة الْحَنَفِيَّة بِقرب الرَّوْضَة النَّبَوِيَّة قلت وَيعرف الْيَوْم بالمحراب السُّلَيْمَانِي منقوش بالرخام الملون وَمِنْهَا تَجْدِيد عدَّة من الْمَسَاجِد النَّبَوِيَّة وَأَنْشَأَ عدَّة من القباب على من عف قَبره من أَعْيَان السلالة المحمدية وَمِنْهَا ترصيص الْقبَّة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وهلال الْقبَّة الْمَذْكُورَة أَعْلَاهُ ذهب خَالص صرف وَبَاقِيه مموه وأهلة المنابر ومنبر الْحرم النَّبَوِيّ وَمِنْهَا إنْشَاء الْجِدَار الغربي بِالْحرم النَّبَوِيّ وإنشاء مَنَارَة عَظِيمَة بِهِ(4/94)
وَمِنْهَا عدَّة شماعدين من النّحاس المطلي بِالذَّهَب بالحجرة المطهرة وإنشاء عدَّة من الرَّبْط وترميم بَعْضهَا مِمَّا يقرب عددا إِلَى الْعشْرين وَمِنْهَا شِرَاؤُهُ ديار الْعشْرَة لاتصالها بقبلي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَالْغَرَض الْأَعْظَم من ذَلِك هدمها ليذْهب عين مَا فِيهَا من المراحيض والبلاليع وَمَا فِيهِ رَائِحَة كريهة فهدمت جَمِيعهَا وَبقيت بعد هدمها وتعميرهما نافعة لكل خير تجدّد بهَا قَابِلَة للإلحاق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ وَمِنْهَا عمَارَة تكية باسم وَالِدَة السلاطين الْعِظَام يعْمل فِيهَا فِي كل يَوْم للْفُقَرَاء خبز وَطَعَام وَمِنْهَا أَنه لما بلغه احْتِيَاج المطاف الشريف إِلَى أساطين وعرضوا لَهُ أَن أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام جَمِيعهَا بالرخام وعرضوا بتعظيم ذَلِك وَكَونهَا من حجر وَاحِد أَمر أَن تجْعَل أعمدة من النّحاس فَجعلت وَقيمتهَا تعدل وَزنهَا فضَّة فِي الْقيَاس وَمِنْهَا مِنْبَر عَظِيم للبيت الْعَتِيق الْكَرِيم كَانَت النَّفَقَة عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف من الدَّنَانِير الذَّهَب الْجَدِيد خَارِجا عَمَّا حمل مَعَه من آلَات الْحَدِيد والفولاذ والرصاص والمؤن العديدة وَوصل إِلَى مَكَّة عَام سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فَقَالَ بعض عُلَمَاء مَكَّة فِيهِ تَارِيخا أبياتاً آخرهَا بَيت التَّارِيخ هُوَ // (من مجزوء الْخَفِيف) //
(لسُلَيْمَانَ مِنْبَرٌ ... شَاهِدٌ بالدُّعَا لَهُ)
وَمِنْهَا تعمير الْمدَارِس الَّتِي هى من الْعَجَائِب برسم المدرسين من الْأَرْبَعَة الْمذَاهب كَمَا تقدم ذكره ومنارة عَظِيمَة من جنسهن جنب أولَاهُنَّ وَمِنْهَا عمَارَة مهبط الْوَحْي والأماكن الشَّرِيفَة وَمِنْهَا إِجْرَاء المَاء من الْفُرَات إِلَى مشْهد الإِمَام الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى خيرات لَا تحصى وَمِنْهَا عمَارَة قبَّة عَظِيمَة على الصَّخْرَة الرفيعة الدَّرَجَات وَجعل عوض التجصيص أَلْوَاح من فخار إزنيق بأنواع النقوش وَأجل الكتابات وَمِنْهَا للمساجد الثَّلَاثَة المشرفة الْمَذْكُورَة قدر الْكِفَايَة من الْحُبُوب والمرتبات وَالْخبْز وَالطَّعَام والصلة المبرورة وَمِنْهَا بدار الْخلَافَة الْعُظْمَى قسطنطينية الْكُبْرَى إِجْرَاء عين من مسيرَة سِتَّة أَيَّام أنْفق على ذَلِك من الْأَمْوَال مَا لَا يحصره كتب وَلَا ثرثرة أَقْلَام(4/95)
وَمِنْهَا عمَارَة عَظِيمَة سلطانية جَامِعَة لِلْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّة والدنيوية بِالشَّام بِالْمحل الْمَعْرُوف بالصالحية وَمَا ذكر هُوَ من بعض خيراته السّنيَّة وَمِنْهَا وَهُوَ أعظمها إِجْرَاء عين عَرَفَات إِلَى مَكَّة وَسبب ذَلِك أَن الْعين الَّتِي كَانَت بِمَكَّة هِيَ عين حنين الَّتِي أجرتهَا زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور زَوْجَة الرشيد وَاسْمهَا أمة الْعَزِيز لِأَن جدها الْمَنْصُور كَانَ يرقصها وَهِي طفلة وَيَقُول أَنْت زبيدة فغلب على اسْمهَا وَكَانَت من أهل الْخيرَات فصرفت عَلَيْهَا خَزَائِن أَمْوَال إِلَى أَن جرت وَهِي فِي وَاد قَلِيل الأمطار بَين جبال شَوَاهِق عاليات خاليات من الْمِيَاه والنبات وَشقت لَهُ الْقَنَاة فِي الْجبَال إِلَى أَن سلك المَاء من أَرض الْحل إِلَى الْحرم وَجعلت لَهَا شحاحيذ من كل جبل يكون ذيله مَظَنَّة للْمَاء وَجعلت مِنْهُ قناة مُتَّصِلَة ومنبع هَذِه الْعين جبل شامخ من تِلْكَ الْجبَال يُقَال لَهُ طاد بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَالْألف بعْدهَا دَال مُهْملَة من جبال الثَّنية من طَرِيق الطَّائِف وَكَانَ المَاء يجْرِي إِلَى أَرض حنين تسقى بِهِ مزارع ونخل مَمْلُوكَة للنَّاس فاشترت زبيدة ذَلِك الْمحل وأبطلت تِلْكَ الْمزَارِع وَالنَّخْل فَصَارَت تِلْكَ الشحاحيذ يحصل مِنْهَا المدد لهَذِهِ الْعين وَصَارَ كل شحاذ عينا يساعد عين حنين مِنْهَا عين مشاش وَعين مَيْمُون وَعين الزَّعْفَرَان وَعين البارود وَعين الطان وَعين ثقبة كلهَا تنصب فِي ذيل عين وَيزِيد بَعْضهَا وَينْقص بِحَسب الأمطار إِلَى أَن وصلت عين حنين إِلَى مَكَّة المشرفة ثمَّ إِنَّهَا أمرت بإجراء عين وَادي نعْمَان إِلَى عَرَفَة وَهِي عين منبعها ذيل جيل كرا وَهُوَ جبل مَعْرُوف فَيصب المَاء من ذيله فِي قناة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ الأوجر من وَادي نعْمَان وَمِنْه إِلَى مَوضِع بَين جبلين شاهقين علو عَرَفَات ثمَّ مِنْهُ يجْرِي فِي الْقَنَاة إِلَى أَرض عَرَفَات ثمَّ أدارت الْقَنَاة إِلَى جبل الرَّحْمَة مَحل الْموقف الشريف وَجعلت المَاء ينصب إِلَى البرك الَّتِي فِي أَرض عَرَفَات فتملأ مَاء يشرب مِنْهُ الْحَاج يَوْم عَرَفَة ثمَّ استمرت فِي عمل الْقَنَاة إِلَى أَن خرجت من عَرَفَات إِلَى مُزْدَلِفَة ثمَّ إِلَى جبل خلف منى فِي قبلتها ثمَّ ينصب المَاء إِلَى بِئْر عَظِيمَة مطوية بالأحجار كَبِيرَة جدا تسمى بِئْر زبيدة إِلَيْهَا انْتهى عمل زبيدة فَوقف وَهِي من الْأَبْنِيَة المهولة رُبمَا يُوهم بناؤها أَنه من عمل الْجِنّ ثمَّ صَارَت عين حنين تَنْقَطِع عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة(4/96)
وَكَذَلِكَ عين عَرَفَات تَنْقَطِع عَن وصولها إِلَى مُنْتَهَاهَا لتهدم قنواتهما وتخريبهما بالسيول وَكَانَت الْخُلَفَاء والسلاطين إِذا بَلغهُمْ ذَلِك أرْسلُوا وعمروها عِنْد انتظام سلطنتهم وَقُوَّة تمكنهم فتجري تَارَة وتنقطع أُخْرَى فعمرها مظفر الدّين صَاحب إربل سنة خمس وسِتمِائَة ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي سنة سِتّمائَة وتسع وَعشْرين ثمَّ فِي سِتّمائَة وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ ثمَّ فِي سنة سِتّمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثِينَ وجد ذَلِك مَكْتُوبًا فِي حجر مَبْنِيّ فِي قرب الْموقف الشريف ثمَّ عمر عين حنين الْأَمِير جوبان نَائِب السلطنة بالعراقين سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة فأجراها إِلَى مَكَّة وَتمّ نَفعهَا فَإِنَّهُم كَانُوا فِي جهد عَظِيم لقلَّة المَاء ثمَّ عمرها شرِيف مَكَّة الشريف حسن بن عجلَان جد سَادَاتنَا الْأَشْرَاف أَشْرَاف مَكَّة وملوكها الْآن أدام الله سعادتهم مدى الزَّمَان فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة فجرت وانفجرت وَكثر الدُّعَاء لَهُ من أهل الْبِلَاد وَالْحجاج والعباد ثمَّ انْقَطَعت وَلَقي النَّاس لذَلِك شدَّة عَظِيمَة إِلَى أَن عمرها الْملك الْمُؤَيد أَبُو النَّصْر شيخ المحمودي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة ثمَّ عمرها وَعمر عين عَرَفَات السُّلْطَان قايتباي أجْرى الأولى إِلَى أَن دخلت مَكَّة وأجرى الثَّانِيَة إِلَى أَن وصلت إِلَى أَرض عَرَفَات وَذَلِكَ بمناشرة الْأَمِير يُوسُف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي فِي سنة ثَمَانمِائَة وَسبعين ثمَّ عمر عين حنين آخر مُلُوك الشراكسة قانصوه الغوري إِلَى أَن جرت وملأت برك الْحجَّاج بالمعلاة ثمَّ جرت إِلَى بازان ثمَّ إِلَى بركَة الماجن بِأَسْفَل مَكَّة ثمَّ انْقَطَعت فِي أَوَائِل الدولة العثمانية وَصَارَ أهل مَكَّة يستقون من آبار حول مَكَّة يُقَال لَهَا العسيلات علو مَكَّة وَمن آبار بأسفلها بمَكَان يُقَال لَهُ الزَّاهِر وسُمي الْآن بالجوخي فِي طَرِيق التَّنْعِيم وَكَذَلِكَ انْقَطَعت عين عَرَفَات وتهدمت قنواتها وَكَانَ الْحجَّاج يحملون المَاء إِلَى عَرَفَات من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة وَصَارَ الْفُقَرَاء من الْحجَّاج وَغَيرهم فِي يَوْم عَرَفَة لَا يطْلبُونَ إِلَّا المَاء لغلو المَاء وعزته جدا قَالَ الْعَلامَة القطب وَإِنِّي أذكر سنة تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق فِي خدمَة وَالِدي أَنِّي اشْتريت قربَة صَغِيرَة جدا يحملهَا الْإِنْسَان بإصبعيه بِدِينَار ذهب والفقراء يصيحون من الْعَطش يطْلبُونَ مَا يبل حُلُوقهمْ فِي ذَلِك الْيَوْم الشَّديد فَلَمَّا كَانَ وَقت الْوُقُوف وَالنَّاس عطاش يلهثون أمْطرت السَّمَاء وسالت السُّيُول من فضل(4/97)
الله وَالنَّاس واقفون فصاروا يشربون من السَّيْل من تَحت أَرجُلهم ويسقون دوابهم وَذَلِكَ من رَحْمَة الله ولطفه بعباده فبرزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة السليمانية بإصلاحهما وعُين لذَلِك نَاظر اسْمه مصلح الدّين مصطفى من المجاورين بِمَكَّة فبذل جهده فِي عمارتهما فجرت عين حنين إِلَى مَكَّة وَعين نعْمَان إِلَى عَرَفَات وَذَلِكَ سنة 931 إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ اشْترى النَّاظر الْمَذْكُور عبيدا سُودًا من مَال السلطنة وزوجهم بمثلهم وَجعل لَهُم جرايات وعلوفات برسم خدمَة الْعين وَإِصْلَاح قنواتها فَهِيَ خدمتهم دَائِما وهم باقون إِلَى الْآن طبقَة بعد طبقَة ثمَّ توجه النَّاظر إِلَى الْأَبْوَاب لعرض أُمُور فِي شَأْن الْعين فَأُجِيب إِلَى مَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى مصر ثمَّ ركب من بندر السويس قَاصِدا مَكَّة فغرق فِي بَحر القلزم شَهِيدا وَمَا غرق إِلَّا فِي بَحر رَحْمَة الله تَعَالَى سنة 939 تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ انْقَطَعت سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فعرضت أَحْوَال الْعُيُون لي الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة السليمانية فَالْتَفت الخاطر السلطاني وَتوجه الْعَطف العثماني إِلَى تدارك ذَلِك بِأَيّ وَجه يكون وَأمر بالفحص عَن أَحْوَال الْعُيُون فَاجْتمع قَاضِي مَكَّة يَوْمئِذٍ عبد الْبَاقِي بن عَليّ الْغَزِّي والأمير خير الدّين سنجق جدة يَوْمئِذٍ وَغَيرهمَا من الْأَعْيَان وتفحصوا وداروا وكشفوا فأجمع رَأْيهمْ أَن أقوى الْعُيُون عين عَرَفَات وطريقها ظَاهر ودبولها مَبْنِيَّة إِلَى بِئْر زبيدة وَأَن الَّذِي يغلب على الظَّن أَن دبولها من الْبِئْر إِلَى مَكَّة مَبْنِيَّة أَيْضا وَأَنَّهَا مخفية تَحت الأَرْض وَأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَنْهَا والحفر فَإِذا وجدوا من الدبل متهدماً بنوه وَإِذا وجدوا مختلاً أصلحوه فخمنوا أَنهم يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِك إِلَى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار ذَهَبا وذرعوه وقاسوه فَكَانَ من الأوجر إِلَى بطن مَكَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل وَهُوَ أَزِيد من الذِّرَاع الشَّرْعِيّ بِنَحْوِ الرّبع وَهَذَا الَّذِي طنوه من وجود دبل تَحت الأَرْض من بِئْر زبيدة إِلَى مَكَّة لم يُوجد فِي كتب التَّارِيخ وَلم يذكرهُ أحد وَإِنَّمَا أداهم إِلَى ذَلِك مُجَرّد الظَّن بِحَسب القرا ئن وعرضوا على المسامع الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة فِي أَوَائِل سنة 960 سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فَلَمَّا وصل علم ذَلِك التمست جانم سُلْطَان كَرِيمَة السُّلْطَان سُلَيْمَان أَن يَأْذَن لَهَا فِي عمل هَذَا الْخَيْر حَيْثُ كَانَت صَاحِبَة الْخَيْر أَولا أم جَعْفَر زبيدة العباسية فَنَاسَبَ أَن تكون(4/98)
هِيَ صَاحِبَة هَذَا الْخَيْر أخيراً فَاخْتَارَتْ بعد ان استطارت لهَذِهِ الْخدمَة إِبْرَاهِيم بن تعزي بردي الدفتردار وأعطته خمسين ألف دِينَار ذَهَبا زِيَادَة على مَا خمنوه فَسَار بحراً فوصل إِلَى جدة يَوْم الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنزل بوطاقه خَارج جدة من الْجِهَة الشامية وَركب من جدة إِلَى سيدنَا ومولانا الشريف مُحَمَّد أبي نمي وَكَانَ نازلاً بوادي مر فقابله بالإجلال والتعظيم وَمد لَهُ سماطاً عَظِيما ولاطفه وواكله وباسطه وجابره فَعرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْخط السلطاني وبذل الهمة وَالِاجْتِهَاد فِي إتْمَام هَذَا الْأَمر فَأجَاب الشريف أَبُو نمي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة ثمَّ ركب إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور من عِنْده مُتَوَجها إِلَى مَكَّة فلاقاه عِنْد دُخُوله مَوْلَانَا الشريف حسن بن أبي نمي وقابله بالترحيب وَالْإِكْرَام وَغَايَة الإجلال والاحترام وَاسْتمرّ مَعَه إِلَى أَن فَارقه من بَاب السَّلَام فَدخل فَطَافَ طواف الْقدوم وَكَانَ محرما بِالْحَجِّ وسعى وَعَاد إِلَى مجمع السُّلْطَان قايتباي وَهُوَ الْمحل الَّذِي عين لنزوله وَمد لَهُ من قبل الشريف حسن سماط عَظِيم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ثمَّ كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ تنظيف الْآبَار الَّتِي يَسْتَسْقِي النَّاس مِنْهَا وَإِخْرَاج ترابها وَزِيَادَة حفرهَا ليكْثر مَاؤُهَا وَحصل للنَّاس بذلك رفق عَظِيم ثمَّ توجه للكشف إِلَى أَعلَى عَرَفَات وَكثر تردده إِلَيْهَا ثمَّ أسْرع فِي الْكَشْف عَن دبول عين عَرَفَة وَضرب أوطاقه فِي الأوجر من وَادي نعْمَان علو عَرَفَات وَشرع فِي حفر فقرها وتنظيف دبولها بهمة عالية جدا وَكَانَت مماليكه القائمون فِي خدمته نَحْو أَرْبَعمِائَة مَمْلُوك فِي غَايَة الْجمال والرشاقة والحذاقة واللباقة وَكتب نَحْو ألف نفس من الْعمَّال والمهندسين والحفارين وجلب من مصر وبلاد الصَّعِيد وَالشَّام وحلب واسطنبول طوائف بعد طوائف من خدام الْعُيُون والآبار والحدادين والحجارين والبنائين وأتى بآلات الْعِمَارَة من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولاد ورصاص ونحاس وَعين لكل طَائِفَة قِطْعَة من الأَرْض تحفرها وتنظف مَا فِيهَا وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل عمله إِلَى بثر زبيدة الَّتِي انْتهى عَملهَا إِلَيْهَا وَلم يجد بعْدهَا دبلاً وَلَا أثر عمل وَلَا بقايا قناة فَضَاقَ ذرعه لذَلِك وَعلم أَن الْخطب كَبِير وَالْعَمَل كثير وَتحقّق أَن الْقدر(4/99)
الْبَاقِي من هَذَا الْعَمَل إِنَّمَا تركته زبيدة اضطراراً لَا اختبارا وَعدلت إِلَى عمل حنين وَتركت الْعَمَل من بعد الْبِئْر لصلابة الْحجر وصعوبة إِمْكَان قطعه وَطول مَسَافَة مَا يجب قطعه وَأَنه يحْتَاج من بِئْر زبيدة إِلَى دبل منقور تَحت الأَرْض فِي الْحجر الصوان طوله ألفا ذِرَاع بِذِرَاع البنائين حَتَّى يتَّصل بدبل عين حنين وَينصب فِيهِ فيصِلاَ إِلَى مَكَّة وَلَا يُمكن نقر ذَلِك الْحجر تَحت الأَرْض فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي النُّزُول إِلَى خمسين ذِرَاع فِي العمق وَصَارَ لَا يُمكن ترك ذَلِك بعد الشُّرُوع فِيهِ حفظا لناموس السلطنة فأوجد الْأَمِير إِبْرَاهِيم حِيلَة هِيَ أَن يحْفر وَجه الأَرْض إِلَى أَن يصل إِلَى الْحجر الصوان ثمَّ يُوقد عَلَيْهِ بالنَّار مِقْدَار مائَة حِمل من الْحَطب الجزل لَيْلَة كَامِلَة فِي مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع فِي عرض خَمْسَة أَذْرع من وَجه الأَرْض وَالنَّار لَا تعْمل إِلَّا فِي الْعُلُوّ وَأما السّفل فعملها فِيهِ مِقْدَار قيراطين من أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطاً من ذِرَاع فيكسر بالحديد إِلَى أَن يصل الْحجر الشَّديد فيوقد عَلَيْهِ الْحَطب الجزل لَيْلَة أُخْرَى إِلَى أَن ينزل فِي ذَلِك الْحجر مِقْدَار خمسين ذِرَاعا فِي العمق فِي عرض خَمْسَة أَذْرع إِلَى أَن يَسْتَوْفِي ألفي ذِرَاع تقطع على هَذَا الحكم وَذَلِكَ يحْتَاج إِلَى عمر نوح وَمَال قَارون وصبر أَيُّوب وَمَا رأى عَن ذَلِك محيصاً فأقدم عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ الْحَطب من جَمِيع جبال مَكَّة وَصَارَ يجلب من الْمسَافَة الْبَعِيدَة وغلا سعره وضاق النَّاس لذَلِك وتعب الْأَمِير وَذَهَبت أَمْوَاله وخدامه ومماليكه وَهُوَ يتجلد إِلَى أَن قطع من الْمسَافَة ألف ذِرَاع وَخَمْسمِائة ذِرَاع وَصَارَ كلما فرغ المصروف أرسل وَطلب فَجَاءَهُ ثمَّ مَاتَ لَهُ ولد طِفْل كَانَ خلَّفه بِمصْر احْتَرَقَ عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ مَاتَ لَهُ ولدان مراهقان ثمَّ مَاتَ أَكثر مماليكه ثمَّ مَاتَ هُوَ غَرِيبا شَهِيدا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَت جنَازَته حافلة وأسف النَّاس على فَقده لِكَثْرَة إحسانه وَدفن فِيهَا ولديه قبله ثمَّ أقيم فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة الْأَمِير قَاسم بك أَقَامَهُ سيدنَا شيخ الْإِسْلَام القَاضِي الْحُسَيْن إِلَى أَن يصل مَن تعينه السلطنة الْعلية وَفِي هَذَا الْعَام الْمَذْكُور انْتَقَلت السلطنة من السُّلْطَان سُلَيْمَان صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان فعين لهَذِهِ الْخدمَة دفتردار مصر يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بك يكمكجي زَاده وَكَانَ من أعبد السناجق فوصل إِلَى هَذِه الْخدمَة(4/100)
وبذل فِيهَا نَفسه وَمَاله وَقطع مَسَافَة وَمَا بلغ التَّمام بل وافاه الحِمام لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَدفن بالمعلاة قبالة تربة الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار على يسَار الذَّاهِب إِلَى الأبطح ثمَّ رَجَعَ فِي خدمَة الْعين الْأَمِير قَاسم سنجق جدة الْمَذْكُور آنِفا أرجعه فِيهَا القَاضِي الْحُسَيْن وَعرض ذَلِك إِلَى الْأَبْوَاب فأنهى الْأَمر باستقرار قَاسم بك فِي الْخدمَة أَمينا على مصارفها وَأَن يكون مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن نَاظرا على مَا بَقِي من عمل هَذِه الْعين إِلَى أَن يصل إِلَى عَرَفَات فاستمر قَاسم بك مباشراً لهَذِهِ الْخدمَة إِلَى أَن طرقه الْحِين فَصَارَ ثَالِثا للأميرين السَّابِقين وَصَارَ من شُهَدَاء الْعين وَذَلِكَ لليلة خلت من رَجَب الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَدفن بالمعلاة إِلَى جَانب الْأَمِير مُحَمَّد بك اليكمكجي المتوفي بِمَكَّة ثمَّ توجه مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن توجهاً تَاما إِلَى تَكْمِيل عمل مَا بَقِي من الْعين بِاعْتِبَار مَا بِيَدِهِ من النّظر وَعرض للسلطنة الشَّرِيفَة بوفاة قَاسم بك فبرزت الْأَوَامِر إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة فأقدم بهمته الْعَالِيَة أتم إقدام فساعدته السَّعَادَة والإقبال على الْإِتْمَام فكمل عَملهَا فِيهَا دون خَمْسَة أشهر بعد أَن عجزوا عَنهُ فِي قريب من عشرَة أَعْوَام فجرت عين عَرَفَات وَوصل المَاء وَهُوَ يجْرِي فِي تِلْكَ الدبول والقنوات إِلَى أَن دخل مَكَّة لعشر بَقينَ من ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم عيد أكبر عِنْد النَّاس وَعمل فِي ذَلِك الْيَوْم أسمطة بِالْأَبْطح ببستانه الْوَاسِع الأفيح جمع الأكابر والأعيان وَنصب لَهُم السرادقات والصوان وَذبح أَكثر من مائَة من الْغنم وَقدم للنَّاس على قدر طبقاتهم أَنْوَاع الموائد وَالنعَم وخلع على أَكثر من عشرَة أنفس من المعلمين والمهندسين خلعاً فاخرة وَأحسن إِلَى باقيهم بِالْحَسَنَاتِ الوافرة وَمِمَّا رَأَيْته بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي مَا نصُّه لما أكمل مَوْلَانَا وعزيزنا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين نَاظر النظار بِبَلَد الله الْأمين مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف القَاضِي الْحُسَيْن بن أَحْمد الْمَالِكِي عمَارَة عين عَرَفَات كتبت إِلَيْهِ قولى // (من مخلع الْبَسِيط) //
(أَقضَى القُضَاةِ الحسينُ أَعْنَى ... مكانَ أُمِّ القُرَي بِعَيْنه)(4/101)
(وجاءَ بالعَيْنِ بَعْدَ يَأْسٍ ... فَشكْرُهُ وَاجِبٌ لِعَيْنِهُ)
فَفتح لقبولهما كل بَاب وأعجب بِهِ غَايَة الْإِعْجَاب قلت يُمكن أَن يقْصد فِيهِ التورية فيراد بقوله لعَينه الذَّهَب ويرشحه قَوْله أغْنى إِلَى آخِره وَأَن يُرَاد بهَا المَاء الْجَارِي ويرشحه جَاءَ بِالْعينِ بعد يأس وَعِنْدِي سلبهما من لِبَاس التورية أستر وأذكى لشذى الْمَدْح وأعطر بِأَن يكون المُرَاد بِالْعينِ ذَاته وشخصه ليَكُون وجوب الشُّكْر لذاته فِي كَمَاله لَا لعَارض يَزُول بزواله ثمَّ جهز أَخْبَار هَذِه البشائر إِلَى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَإِلَى سرادقات الْحجاب الرفيع مليكَة الملكات بلقيس الزَّمَان جانم السُّلْطَان أُخْت مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان فأنعمت بالإنعامات الجزيلة والترقيات الْكَثِيرَة الجميلة على سَائِر العمالين والمباشرين والمتعاطين لهَذِهِ الْخدمَة ورقت مدرسة مَوْلَانَا القَاضِي حُسَيْن وَهِي الأولى مِمَّا يَلِي بَاب الزبادة فَصَارَت بِمِائَة عثماني واستمرت هَذِه الْعين من جملَة الْآثَار الْبَاقِيَة على صفحات اللَّيَالِي وَالْأَيَّام والأعمال الصَّالِحَات الْبَاقِيَات على تكْرَار السنين والأعوام وَمَا عِنْده سُبْحَانَهُ من تَضْعِيف الْأجر وَالثَّوَاب خير وَأبقى عِنْد أولي الْأَلْبَاب وَكَانَ جملَة النَّفَقَة خَمْسَة لكوك وَسَبْعَة آلَاف دِينَار ذَهَبا أَحْمَر جَدِيدا وَذَلِكَ غير مَا صرف على إِحْضَار أَرْبَاب الصناعات من الحدادين والحجارين والقطاعين والنجارين وَأهل الصناعات الدقيقة من الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَغير مَا صرف على خدامها وخدامهم وَقد كَانَت عمارتها فِي آخر الدولة السُّلْطَانِيَّة السليمانية وَفِي أول الدول السُّلْطَانِيَّة السليمية وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد مصطفى وَهُوَ أكبرهم توهم مِنْهُ وَالِده أمرا فَأمر بخنقه طَائِفَة من البكمان أَوَاخِر شَوَّال سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي بغية الخاطر للعلامة الكاتي وَفِي سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة أَمر السُّلْطَان سليم بقتل وَلَده مصطفى وَكَانَ ذَلِك من مكر رستم باشا الْوَزير فجَاء تَارِيخ وَفَاته مكر رستم وَقَالَ وَآخر باللغة الفارسية ظلم بِي حد در آخر شَوَّال ذكره الكاتي فِي تَارِيخه(4/102)
قلت يُرِيد أَن لفظ لَا حد لَهُ أَي لَا نِهَايَة أَي لَا مِيم فَيبقى حرفان الظَّاء وَاللَّام وهما بتسعمائة وَثَلَاثِينَ وَآخر شَوَّال اللَّام وَهِي بِثَلَاثِينَ فَيتم الْعدَد تِسْعمائَة وَسِتِّينَ وَهِي سنة وَفَاته وَهُوَ آخر شَوَّال وَهَذَا اتِّفَاق عَجِيب يروق كل أديب وطفل اسْمه مُرَاد كَذَلِك خنقه فألحقه بولده مصطفى وَولده الثَّانِي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان مَاتَ على فرَاشه مولدَه سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَولده الآخر با يزِيد بن سُلَيْمَان فَوَقَعت بَينه وَبَين أَخِيه السُّلْطَان سليم محاربات قتل فِيهَا نَحْو خمسين ألفا ثمَّ لما عجز عَن محاربة أَخِيه السُّلْطَان سليم هرب هُوَ وَأَوْلَاده الْأَرْبَعَة وهم أورخان ومحمود خَان وَعبد الله خَان وَعُثْمَان فظفر بهم السُّلْطَان سليم وَأخذ أنفاسهم بالأوتار وَمَا لَهُم من آثَار وَكَانَ لَهُ ان خَامِس طِفْل فِي بروسا فَأمر بخنقه أَيْضا فتبع وَالِده وَإِخْوَته وَمن أَوْلَاد سُلَيْمَان السُّلْطَان جهان كير كَانَ أحدب ظريفاً لطيف الرّوح خَفِيفا كَانَ يُحِبهُ وَالِده وَلم يُفَارِقهُ توفّي بأجله بِمَرَض الخناق سنة 965 خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَمِنْهُم السُّلْطَان شاه زَاده بن سُلَيْمَان توفّي بأجله سنة 967 سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وعدة غَزَوَاته الْكِبَار الْمَشْهُورَة ثَلَاث عشرَة غَزْوَة السَّادِسَة مِنْهَا غَزْوَة الْعرَاق كَانَت أَوَاخِر ذِي الْقعدَة سنة 941 إِحْدَى وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَأَنْشَأَ القَاضِي عبد اللَّطِيف بن عبد الله باكثير عِنْد وُرُود خير النُّصْرَة فِي تِلْكَ الْغَزْوَة تَارِيخا وضمه بَيْتَيْنِ هما من المتقارب
(ولَمَّا أَحَلَّتْ ظِبَانا لَنَا ... دمَ الشَّاهِ واسْتَحْكَمَتْ سَلْخَهُ)
(فَتَحْنَا العِرَاقَ وذَا الَّفْظُ مِنْ ... لَطَافَتِهِ جَاءَ تَاريْخَهُ)
وَكَانَ عبد اللَّطِيف الْمَذْكُور سَافر إِلَى الديار الرومية وَاجْتمعَ فِيهَا بالسلطان سُلَيْمَان خَان بِوَاسِطَة قَاضِي الْعَسْكَر قادري أَفَنْدِي فصادف قدومه إِلَى الرّوم توجه مَوْلَانَا السُّلْطَان إِلَى حَرْب الْعَجم ثمَّ ورد خبر النُّصْرَة كَمَا تقدم فَعمل ذَيْنك الْبَيْتَيْنِ وقدمهما إِلَى صَاحبه قَاضِي الْعَسْكَر قادري أَفَنْدِي فَبعد وُرُود السُّلْطَان من(4/103)
السّفر أشرفه على التَّارِيخ وَجمعه بقائله عبد اللَّطِيف الْمَذْكُور فنال مِنْهُ مزِيد الْإِكْرَام وأنعم عَلَيْهِ بِقَضَاء مَكَّة المشرفة وَكَانَت سلاطين مصر وَغَيرهم يعقدون وُلَاة منفردين على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَكَانَ غَالِبا لَا يُقيم النواب إِلَّا قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي وَالْبَاقُونَ يتعاطون الْأَحْكَام وَلَا يُقِيمُونَ نواباً وَاسْتمرّ القَاضِي عبد اللَّطِيف مُتَوَلِّيًا إِلَى أَن عزل بِأول قُضَاة الأورام من الْحَنَفِيَّة وَهُوَ القَاضِي صدر الدّين فورد إِلَى مَكَّة عَام ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَمن حِينَئِذٍ صَار الأفندي الْأَعْظَم يرد من الْجِهَات الرومية ويعقد لَهُ الْولَايَة من هُنَاكَ إِلَّا أَن الْقُضَاة كَانُوا يُقِيمُونَ القَاضِي الشَّافِعِي والمالكي والحنفي والحنبلي بطرِيق النِّيَابَة فَفِي زمن الأفندي ميرزا مخدوم أَقَامَ عَم جدي القَاضِي الْعَلامَة نور الدّين على زَاده ابْن مَوْلَانَا المرحوم إِسْمَاعِيل العصامي قَاضِيا شافعياً وَأقَام القَاضِي نجم الدّين الْمَالِكِي نَائِبا مالكياً وَأَرَادَ إِقَامَة حنبلي فَلم يَتَيَسَّر ذَلِك لعدم وجود حنبلي يقوم بِهَذَا الشَّأْن وَآخر من أَقَامَ ذَلِك بِمَكَّة الأفندي عبد الرَّحِيم الشعراوي عَام تَوليته لَهَا عَام خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّانِي من استقراره فِي الْملك جعل ديواناً وأنعم على الوزراء وَأمرهمْ بترك شعار الْحزن ورقى الْعَسْكَر فِي الجوامك على حسب مَرَاتِبهمْ وانتظم الْحَال وَكَانَ ملكا صَالحا يترجم بِالْولَايَةِ كثير الْخَيْر وَالْإِحْسَان للْقَاضِي والدان وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثماناً وَأَرْبَعين سنة وَهِي عديمة النظير فِيمَن مضى من هَذَا الْبَيْت الْمُنِير وَاسْتقر بهَا إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَسبعين فِي سَابِع عشر صفر وَهُوَ فِي محاصرة الْعَدو فأخفى الْوَزير مَوته وأركان الدولة وَأَرْسلُوا أوراقاً إِلَى كوتاهية لمولانا السُّلْطَان سليم وَبَين المحلين نَحْو ثَلَاثَة أشهر بسير الأثقال فَركب مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم وجد فِي السّير إِلَى بِلَاد اسطنبول ودخلها فِي ثامن ربيع الأول سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَحمل السُّلْطَان سُلَيْمَان إِلَى دَار الْخلَافَة وَدفن فِي الْمحل الَّذِي عمره فِي عِمَارَته(4/104)
الْمَذْكُور طَابَ ثراه ورثاه عَالم زَمَانه أَبُو المسعود أَفَنْدِي الْمُفْتِي بقصيدة بليغة وَهِي هَذِه // (من الْبَسِيط) //
(أَصَوْتُ صَاعِقَةٍ أَمْ نَفْخَةُ الصُّورِ ... فالأَرضُ قَدْ قُلِبَتْ مِنْ نَقْرِ نَاقُورِ)
(أَصَابَ مِنْهَا الوَرَى دَهْيَاءُ دَاهِيَةٌ ... وذَاقَ مِنْهَا البَرَايَا صَعْقَةَ الصُّورِ)
(فَهُدِّمتْ بَيْعَةُ الدُّنيا لوَقْعَتِهَا ... وانْهَدَّ مَا كَانَ مِنْ دَورٍ ومِنْ سُورِ)
(أَمْسِتْ مَعَالمُهَا بَهْمَاءَ مُقْفِرَةً ... مَا فِي المَنَازِلِ مِنْ دَوَّار دَيُّورِ)
(تَهَدَّمَتْ قُلَلُ الأَطْوَادِ وارْتَعَدَتْ ... كَأَنَّهَا قَلْبُ مَرْعُوبٍ ومَذْعُورِ)
(واغْبَرَّ نَاصِيَةُ الخَضْرَاءِ وانْكَدَرَتْ ... وَكَادَ تَمْتَلِئُ الغَبْراءُ بِالمُورِ)
(فَمِنْ كَئِيبٍ ومَلْهُوفٍ ومِنْ دَنِفٍ ... عَانٍ بِسِلْسِلَةِ الأَحْزَانِ مَأْسُورِ)
(فَيَا لَهُ مِنْ حَدِيثٍ مُوْحِشٍ نكرٍ ... يَعَافُهُ السَّمْعُ مَكرُوهٍ ومَنْفُورِ)
(تَاهَتْ عُقُولُ الورَى مِنْ هَوْلِ وَحْشَتِهِ ... فَأَصْبَحُوا مِثْلَ مَخْمُورٍ ومَسْحُورِ)
(تَقَطَّعَتْ قِطَعًا مِنْه القُلُوبُ فَلاَ ... يَكَادُ يُوجَدُ قَلْبٌ غَيْرُ مَكسُورِ)
(أَجْفَانهُمْ سُفُنٌ مَشْحُونَةٌ بِدَمٍ ... تَجْرِىِ بِبَحْرٍ مِنَ العَبراتِ مَسْجَورِ)
(أَتَى بِوَجْهِ نَهَارٍ لاَ ضِيَاءَ لَهُ ... كَأَنَّها غُرةٌ شيِبَتْ بدَيْجُورِ)
(أَمْ ذَاكَ نَعْىُ سُلَيْمَانَ الزَّمانِ ومَنْ ... مَضَتْ أَوَامِرُهُ فِي كُلٌ مَأْمُورِ)
(حَقَّا وَمَنْ مَلأَ الدُنْيَا مَهَابَتُهُ ... وسَخَّرَتْ كُلَّ جبارٍ وقيهورِ)
(مَدَارِ سَلْطَنَةِ الدُّنْياَ ومَرْكَزِهَا ... خَلِيفَةِ اللهِ فِي الآفاقِ مَذْكورِ)
(مُعْلِي مَعَالِم دِيِنِ اللهِ مُظْهِرهَا ... فِي العَالَمِينَ بِسَعْي مِنْه مَشْكورِ)
(وحُسْنِ رَأْىٍ إِلَى الخَيْرَاتِ مُنْصَرِفٍ ... وصِدْقِ عَزْمٍ عَلَى الأَلْطَافِ مَقْصُورِ)
(لآيَةِ العَدْلِ والإِحْسَانِ مُمْتَثِلٌ ... بِغَايَةِ القِسْطِ والإلطَافِ مَوْقُورِ)
(مُجَاهِدٍ فِي سَبيلِ اللهِ مُجْتَهدٍ ... مُؤَيَّدٍ مِنْ جَنَابِ القُدْسِ مَنْصُورِ)
(بلهْذَمِيِّ إِلَى الأعْدَاءِ مُنْعَطِفٍ ... ومشْرَفيِّ عَلَى الكُفَّارِ مَشْهُورِ)
(وَرايَةٍ رُفِعَتْ للمَجْدِ خَافِقَةٍ ... تَلْوِي عَلَى عَلَم بالنَّصْرِ مَنشُورِ)
(وعَسْكَرٍ مَلأَ الآفَاقَ مُحْتَشِدٍ ... مِنْ كُلِّ قُطْرٍ مِنَ الأَقْطَارِ مَحْشُورِ)
(لَهُ وَقَائعُ فِي الأَكْنَافِ شَائِعَةٌ ... أَخْبَارُهَا زُبِرَتْ فِي كُلِّ طَامُورِ)(4/105)
(يَا نَفْسُ مَا لَك فِي الدُّنْيَا مُخَلَّفَةً ... مِنْ بَعْدِ رِحْلَتِهِ مِنْ هَذِهِ الدُّورِ)
(حقٌّ على كل نفسٍ أَن تموتَ أسى ... لَكِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرٌ مَقْدُورِ)
(فَلِلْمَنَايَا مَقَادِيرٌ مُعَدَّدَهٌ ... تَأْتِي عَلى قَدَرٍ فِي اللَّوحِ مَسْطورِ)
(وَلَيْسَ فِي شَأْنِهَا للنَّاسِ مِنْ أَثَرٍ ... ومَدْخَلٍ مَا بِتَقْدِيمٍ وتَأْخِيرِ)
(يَا نَفَسُ فاتَّئِدي لاَ تَهْلِكِي أَسفًا ... فَأَنْتِ مَنْظُومَةٌ فِى سِلَّكِ مَقْدورِ)
(إذْ لَسْتِ مَأْمُورةً بالمُسْتَحِيلِ وَلاَ ... بِمَا سِوَى بَذْلِ مَجْهُودٍ ومَيْسُورٍ)
(ولاَ تَظُنِّيَهُ قَدْ مَاتَ بَلْ هُوَ ذَا ... حَيٌّ بِنَصِّ مِنَ القُرْآنِ مَزْبُورِ)
(لَهُ نَعِيمٌ وَأَرْزَاقٌ مُقَدِّرَةٌ ... تَجْرِي عَلَيْه بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْعُورِ)
(إنَّ المَنَايَا وإنْ عَمَّت مُحَرَّمَةٌ ... عَلَى شَهِيدٍ جَمِيلِ الحَالِ مَبْرُورِ)
(مُرَابطٍ فِي سَبِيلِ اللهِ مُقْتَحِمٍ ... مَعَارِكَ الحَتْفِ بِالرِّضْوَانِ مَأْجُورِ)
(مَا مَاتَ بَلْ نَالَ عَيْشًا بَاقِيًا أبدا ... عَنْ عَيْشِ فَانٍ بِكُلِّ الشَّرِّ مَعْمُورِ)
(إبْتَاعَ سَلْطَنَةَ العُقْبَى بِسَلْطَنَةِ الدْ ... دُنْيَا فَأَعْظِمْ بِرِبْحٍ غَيْرِ مَحْصُورِ)
(بَلْ حَازَ كِلتَيْهِمَا إذْ حَلَّ مَنْزِلةً ... مَنْ لَمْ يُغَايرْهُ فِي أَمْرٍِ ومَأْمُور)
(أَمَا تَرَى مُلْكَهُ المَحْمِيَّ آلَ إِلَى ... سِرٍّ سَرِىٍّ لَهُ فِي الدَّهْرِ مَشْهُورِ)
(وَلِيِّ سَلْطَنَةِ الآفَاقِ مَالِكِهَا ... بَرًّا وبَحْرًا بعَيْنِ اللُّطْفِ مَنْظُورِ)
(ظِلِّ الإِلَهِ مَلاَذِ الخَلْقِ قَاطِبَةً ... ومُلْتَجَا كُلِّ مَشْهُورٍ ومَذْكٌ ورِ)
(فَإِنَّهُ عَيْنُهُ فِي كُلِّ مَأْثَرَةٍ ... وَكُلِّ أَمْرٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ مَأْثُورِ)
(وَلاَ امْتِيَازَ وَلاَ فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا ... وَهَلْ يُمَيَّزُ بَيْن الشَّمْسِ والنُّورِ)
(سَمَيْدَع مَاجِد زَادَتْ مَهَابَتُهُ ... تَخْتَ الخلافةِ فِي عزِّ وتَيْقُورِ)
(جَدَّ الجَدِيدانِ فِي أَيَّامِ دَوْلَتِهِ ... صَارَا كَأَنَّهُمَا مِسْكٌ بِكَافُورِ)
(أَضْحَتْ بِقَبْضَتِهِ الدُّنْيَا برُمَّتِهَا ... مَا كَانَ مِنْ مجهلٍ مِنْهَا ومَعْمُورِ)
(بَدَا بِطَلْعَتِهِ والنَّاسُ فِي كَربٍ ... وسُوءِ حَالٍ مَنَ الأحْوالِ مَنْكُورِ)
(فأَصْبَحَتْ صَفَحَاتُ الأَرْضِ مُشْرِفَةً ... وعَادَ أَكْنَافُهَا نُورًا عَلَى نُورِ)
(سُبْحَانَ مَنْ مَلِكٍ حلَّتْ مَفَاخِرُهُ ... بَحْرَ البَيَانِ بِمنْظُومٍ ومَنْثُورِ)
(كأَنَّهَا ويَرَاعَ الوَاصِفِينَ لَهَا ... بَحْرٌ خَمِيسٌ إِلَى مِنْقَارِ عُصْفُورِ)
(لاَ زَالَ أَحْكَامُهُ بالعَدْلِ جَارِيةٌ ... بَيْنَ البَرِيَّةِ حَتَّى نَفْخَةِ الصورِ)(4/106)
(ثمَّ تولى السُّلْطَان سليم الثَّانِي ابْن سُلَيْمَان خَان)
(وَجلسَ على سَرِير السلطنة فِي سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة)
بُويِعَ بعد موت وَالِده فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَلَمَّا جلس على سَرِير السلطنة سَار على نمط وَالِده فِي الْعدْل والإنصاف ثمَّ بَادر فِي قيام شرائع الدّين فَبنى جَامعا عَظِيما بِأَرْبَع منائر كَامِلَة الإرتفاع ب أدرنة ومدرسة عَظِيمَة للْعلم بِعُمُومِهِ ومدرسة مفخمة برسم الْقرَاءَات وَهُوَ أول من عمر ذَلِك الْمحل الْمَذْكُور وَعمر عمَارَة برسم الطَّعَام للخاص وَالْعَام بِمَدِينَة قونية وَعمر خانات للمسافرين فِيهَا كِفَايَة النازلين بهَا مَعَ دوابهم من الطَّعَام وَالشرَاب وَأَنْشَأَ بَلْدَة كَامِلَة تعرف بقره نكار وَكَانَت خربة جَمِيعهَا فَحصل بهَا غابة النَّفْع للْمُسلمين سِيمَا الْمُسَافِرين لِأَنَّهَا كَانَت معقلاً لقطاع الطَّرِيق الكسجية وَله فتوحات عَظِيمَة من أعظمها الأقطار اليمنية لِأَنَّهَا فِي آخر الدولة السليمانية اخْتَلَّ أمرهَا وهجم أَهلهَا الطاغون على أعظم مدنها وملوكه بل سمعنَا أَنه لم يبْق فِي الحماية العثمانية إِلَّا مَدِينَة زبيد فَقَط فَلَمَّا جلس مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة على سَرِير السلطنة أَمر بالتجهيز إِلَيْهَا فعين لذَلِك وزيره الْأَكْبَر سِنَان باشا فبرز من الديار المصرية أَوَاخِر عشر السّبْعين وَتِسْعمِائَة فِي جَيش كثيف بِالْخَيْلِ المسومة والعساكر الشجعان المعظمة وَطَوَائِف من السناجق السُّلْطَانِيَّة وعدة من المدافع فَوق الْمِائَة فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة البهية عرضوا لَهَا عرضة عَظِيمَة وَأظْهر أبهة الْملك وَالسُّلْطَان قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد الْحُسَيْنِي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى الرَّوْضَة الأنيقة فِي سُلْطَان الْحجاز على الْحَقِيقَة أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه سمع كَاتب العساكر أَنهم يعلقون كل لَيْلَة أَرْبَعَة وَعشْرين ألف عليقة وَله فتوحات عَظِيمَة مِنْهَا فتح جزائر ساقس وكل جَزِيرَة فِيهَا مدن عَظِيمَة وكنائس وقلاع حَصِينَة وَعَاد على الْمُسلمين من هَذِه الفتوحات غَنَائِم وَأسرى لَا تعد وَلَا تحصى وانتفع بهَا بَيت المَال وَجَمِيع أَرْكَان الدولة وَسَائِر الرعايا انتفاعاً ظَاهرا غزير الْمَحْصُول كثير الْمَنَافِع وَأمن بذلك الصادرون والواردون بحراً وَبرا(4/107)
وَله خيرات كَثِيرَة بالحرمين الشريفين من الْأَجْزَاء القرآنية والنقود والحبوب الْمرتبَة كل عَام أُسْوَة أسلافه الْكِرَام طَابَ ثراهم بدار السَّلَام وَكَانَ مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة من طَاعَة وَالِده المرحوم المبرور السُّلْطَان سُلَيْمَان بِمحل لَا يُمكن عَنهُ التَّعْبِير بِحَيْثُ يُرَاجِعهُ فِي الْجَلِيل والحقير ويصبر فِي رِضَاهُ على مضض الدَّهْر وضيق الْعَيْش والضنك والقهر وكل مَا يبلغهُ من حَاسِد ونمام عَن وَالِده بالانتقاص والإعراض عَنهُ وَالْإِشَارَة بالسلطنة إِلَى غَيره من إخْوَته بالإعطاء وتمهيد أَحْوَال السلطنة لغيره لَا يمنعهُ ذَلِك من أَنْوَاع الْبر لوالده بالْقَوْل وَالْفِعْل وَلَا يحملهُ على العقوق خُصُوصا عَن والدته فَإِنَّهَا كَانَت تصرح بِعَدَمِ صَلَاحه للْملك وقابلية غَيره للدولة وَهُوَ على غَايَة من الصَّبْر وَتحمل الْجفَاء وَالتَّصْرِيح بالتفويض إِلَى رب السَّمَاء فَكَانَت طَاعَته لوَالِديهِ مُوجبَة لإنعام الله بِالْملكِ عَلَيْهِ فانقرضت إخْوَته وَأَعْقَابهمْ ووالدته فِي حَيَاة وَالِده طَابَ ثراه فَلَمَّا مَاتَ وَالِده كَمَا ذكرنَا شرفه الله بِالْملكِ على حَالَة هينة لم تقع لأحد من أهل هَذَا الْبَيْت أبدا ودام سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ على سَرِير ملكه وعزه فِي ثامن شهر رَمَضَان الْمُعظم قدره فِي عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فدرج عَتيق رَمَضَان تغمده الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان وَمن أعظم حَسَنَاته عمَارَة الْعين فقد تقدم أَن ابْتِدَاء الْعِمَارَة فِي أَوَاخِر دولة وَالِده السُّلْطَان سُلَيْمَان وتمامها فِي أول دولته وَقد قدمنَا ذكرهمَا ومعاناتهما وَمَا صرف على ذَلِك وَمن خيراته ابْتِدَاء عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قبل وَفَاته بِسنتَيْنِ وَإِن كَانَ تَمامهَا إِنَّمَا كَانَ فِي دولة وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن سليم كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك وَله غزوات شهيرة بِالْإِرْسَال وَهُوَ جَالس مَكَانَهُ فتح فِي أَيَّامه السعيدة جَزِيرَة قبرس بِالسِّين الْمُهْملَة لَا بالصَّاد كَمَا تَقوله الْعَامَّة ومدينة تونس الخضراء وممالك الْيمن بأسرها وَتُوفِّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَمُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وعمره الشريف ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة وَكَانَ شجاعاً كَرِيمًا مهاباً كثير الْإِحْسَان من قبل أَن يجلس على سَرِير الْملك وَبعده(4/108)
وَمن غَزَوَاته فتح تونس الغرب وحلتي الْوَادي وَفتح ممالك الْيمن واسترجاعها من أَيدي العصاة الْبُغَاة أهل الْإِلْحَاد وَمِنْهَا فتح جَزِيرَة قبرس بِسيف الْجِهَاد وَهِي جَزِيرَة على الْبَحْر الشَّامي كَثِيرَة الْقطر ومقدارها مسيرَة عشْرين يَوْمًا وَبهَا قرى ومزارع وأشجار ومعادن الزاج القبرسي وَهِي على مر الْأَيَّام رخاؤها شَامِل وَخَيرهَا كَامِل وَبهَا معادن الصفر واللادن الَّذِي يغلب الْعود فِي طيبه وَكَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ غَزَاهَا وَصَالح أَهلهَا على سَبْعَة آلَاف دِينَار فنقضوا عَلَيْهِ فغزاهم ثَانِيَة فَقتل وسبى شَيْئا كثيرا وَبَين جَزِيرَة قبرس وساحل مصر خَمْسَة أَيَّام وَبَينهَا وَبَين جَزِيرَة رودس يَوْم وَاحِد وَإِنَّمَا سميت جَزِيرَة قبرس بوثن كَانَ هُنَاكَ يُسمى قابرس وَكَانَت أم حرَام بنت ملْحَان الصحابية شهِدت غَزْوَة قبرس فَتُوُفِّيَتْ بهَا وَأهل قبرس يتبركون بقبرها وَيَقُولُونَ هَذَا قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة وَكَانَت سَأَلت رَسُول الله
أَن يَدْعُو لَهَا أَن يجلعها الله من الَّذين يركبون ثبج الْبَحْر مجاهدين فِي سَبِيل الله فَفعل وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول إِنَّا نرى هَؤُلَاءِ يَعْنِي أهل قبرس أهل عهد وَإِن عَهدهم وَقع على شَرط وَأَنه لَا يسع الْمُسلمين نقضه إِلَّا بِأَمْر يعرف بِهِ غدرهم وَرَأى عبد الْملك بن صَالح فِي حدث أحدثوه أَن ذَلِك نقض لعهدهم فَكتب إِلَى عدَّة من الْفُقَهَاء يشاورهم فِي أَمرهم مِنْهُم اللَّيْث بن سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَأجَاب كل وَاحِد بِمَا ظهر لَهُ وَقد فتحت أَيْضا فِي دولة الشراكسة فِي دولة الْملك الْأَشْرَف برسباي وَأسر ملكهَا وَذَلِكَ سنة سبع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة ثمَّ فتحت على يَد السُّلْطَان سليم خَان هَذَا الْمَذْكُور وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين كَمَا تقدم ذكر ذَلِك(4/109)
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث ابْن السُّلْطَان سليم)
(ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان)
وَجلسَ بعد وَفَاة وَالِده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَانَ مولده الشريف سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَبِذَلِك انتظم فِي سلك كَرِيمَة قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كَتَبنا فِي اَلزبور مِن بَعدِ اَلذِكِر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبادى الصلحون} الْأَنْبِيَاء 105 بِحِسَاب الْجمل لِأَن لفظ الذّكر تِسْعمائَة وَأحد وَخَمْسُونَ وَالْقَاعِدَة فِي ذَلِك مقررة فِي محلهَا ثمَّ ظهر من خَالق السَّمَوَات عنايات لَهُ وخصوصيات مِنْهَا أَنه نَشأ فِي ظلّ وَالِده وجده الْمَذْكُورين على مهاد الْعِزّ وَالسُّلْطَان فِي حِجْر الْخلَافَة راضعاً ثدي الْعلم والعرفان لم تعلم لَهُ صبوة مَعَ توفر دواعيها وَلم يتَنَاوَل شَيْئا من الْمُحرمَات بل وَلَا من المكروهات لما فِيهَا حَتَّى قَالَ أعاظم عرفاء الْعَصْر مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي هَذَا الدَّهْر وَمِنْهَا أَنه مُنْذُ ترعرع فِي شبابه صانه الله عَن الْمُحَاربَة والمخاصمة الناشئة عَن حظوظ النَّفس وَحب الرِّئَاسَة وَاسْتعْمل نَفسه فِي الْعلم وَالْعَمَل ثمَّ فِي الاستعداد للخلافة الإسلامية مَعَ كَمَال النزاهة والعفة والنفاسة وَمِنْهَا أَن طَرِيقَته فِي الملبس والمأكل وَالْمشْرَب والمركب طَريقَة الصَّالِحين والزهاد مَا عدا مَا فِيهِ خلل لنظام الْملك أَو ضَرَر للعباد وَكَانَ جُلُوسه على تخت الْخلَافَة الإسلامية فِي ثامن شهر رَمَضَان فِي الْيَوْم الَّذِي توفّي أَبوهُ فِيهِ من عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَجَلَسَ جُلُوسًا جَامعا لفضل الزَّمَان وَالْمَكَان والافتنان فِي فعل الْخيرَات والمرتبات فِي مباديه مِمَّا فعله أسلافه فِي غاياتهم مِمَّا لَا شكّ فِيهِ ومنحه الله تَعَالَى من كَثْرَة الْخراج والخزائن والعساكر مَا لم يجمعه أحد من أسلافه الأكابر فَإِذا عزم على فتح أعظم الممالك جهز شرذمة من عساكره المنصورة فَفتح كل صَعب المسالك وَمن النِّعْمَة الْعُظْمَى إتْمَام عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَانَ ترميمه فِي زمَان جده مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان ثمَّ كَانَ ابْتِدَاء هَدمه وتعميره فِي زمَان وَالِده السُّلْطَان سليم(4/110)
سنة تِسْعمائَة وَثَمَانِينَ وَتَمام التَّعْمِير فِي زَمَانه فأرخ ذَلِك جدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي بِشَطْر بَيت هُوَ قَوْله // (من الرجز) //
(تاريخُ هَدْمِ المَسْجِدِ ... فِى رَابِعِ العشْرِ بُدِي)
وَهُوَ تَارِيخ عَجِيب إِذا مَعْنَاهُ الحسابي يُؤَدِّي إِلَى تعْيين السّنة وَمَعْنَاهُ اللَّفْظِيّ يُؤَدِّي إِلَى تعْيين يَوْم البدأة وَسبب أمره الشريف بتعمير الْمَسْجِد أَن الرواق الشَّرْقِي مِنْهُ مَال إِلَى نَحْو الْكَعْبَة الشَّرِيفَة بِحَيْثُ برزت رُءُوس خشب سقفه الثَّانِي لِأَنَّهُ كَانَ مسقفاً سقفين بَينهمَا قدر ذراعين بِذِرَاع الْعَمَل عَن مَحل تركيبهما من جدر الْمَسْجِد وَذَلِكَ الْجدر هُوَ جدر مدرسة ألسلطان قايتباي وجدر مدرسة الْأَفْضَل الَّتِي هِيَ الْآن وقف عباد الله وَقدر مُفَارقَة الْخشب عَن مَوضِع تركيبه أَكثر من ذِرَاع وَمَال وَجه الرواق الشَّرْقِي إِلَى صحن الْمَسْجِد ميلًا ظَاهرا فبادر نظار الْحرم يصلحون ذَلِك الْمحل الَّذِي فَارق بتعديل خشب السّقف بأطول مِنْهُ وأعمدوا الرواق المائل إِلَى صحن الْمَسْجِد بأخشاب كبار حفر لَهَا فِي الْمَسْجِد تمسكه عَن السُّقُوط وَذَلِكَ كُله فِي دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان وَاسْتمرّ متماسكاً على هَذَا الأسلوب من أَوَاخِر دولته إِلَى صدر دولة ابْنه مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم ففحش ميل ذَلِك الرواق وَعرض على الْأَبْوَاب فبرزت الْأَوَامِر من السُّلْطَان سليم بالمبادرة إِلَى بِنَاء الْمَسْجِد جَمِيعه على وَجه الإتقان والإحكام وَأَن يَجْعَل عرض السّقف قبباً دَائِرَة بأروقة الْمَسْجِد ليؤمن تآكل الْخشب فعين لذَلِك بكلربكي مصر سَابِقًا فَخر الْأُمَرَاء الْعِظَام أَحْمد بك وأضيف إِلَيْهِ فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة فوصل الْأَمِير أَحْمد بك فِي آخر ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَت الْأَوَامِر الشَّرِيفَة وَردت أَن يكون النَّاظر على هَذِه الْعِمَارَة والمتكلم عَلَيْهَا عَن جَانب السلطنة سيدنَا ومولانا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ففرح بِهَذِهِ الْخدمَة الْفَرح التَّام وَشد نطاق حزمه على نَاطِق عزمه وَقَامَ وَحصل بَين مَوْلَانَا القَاضِي وَبَين أَحْمد بك الملاءمة والاتفاق وَبِذَلِك يحصل تَمام النجح والارتفاق فاتفق رَأْي النَّاظر والأمين والمعمار على الشُّرُوع فِي الْهدم فشرع فِيهِ رَابِع عشر ربيع الأول من سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ بتاريخ الْجد جمال الدّين العصامي وَكَانَ ابْتِدَاء الْهدم مَكَانا من بَاب السَّلَام من(4/111)
تَحت منارته إِلَى بَاب عَليّ وَمِنْه أَيْضا إِلَى بَاب بني سهم الْمَعْرُوف بِبَاب الْعمرَة وَأخذت المعاول تعْمل فِي شرفات الْمَسْجِد وطبطاب سقفه ثمَّ كشفوا عَن أساسه فوجدوه مختلاً وَكَانَ جداراً عَظِيما نازلاً فِي الأَرْض على هَيْئَة بيُوت رقْعَة الشطرنج وَكَانَ على مَوضِع التقاطع على وَجه الأَرْض قَاعِدَة تركب الأسطوانة عَلَيْهَا فشرع فِي وضع الأساس على وَجه الإتقان والإحكام بالنورة المخمرة إِلَى أَن طلع الأساس على وَجه الأَرْض وَكَانَت الأسطوانات المبنية سَابِقًا على نسق وَاحِد فِي جَمِيع الأروقة من الرخام جَمِيعهَا إِلَى أَن وَقع الْحَرِيق فِي الْجَانِب الغربي بالنَّار الناشئة من رِبَاط رَشَّتْ سنة أَربع وَثَمَانمِائَة فِي دولة الْملك النَّاصِر فرج بن برقوق من الشراكسة فَاحْتَرَقَ مِنْهُ أساطين الرخام وذابت فَأرْسل من أمرائه الْأَمِير بيسق إِلَى مَكَّة فعمر الْجَانِب الَّذِي احْتَرَقَ وأبدل من الأعمدة الرخام الْمُحْتَرِقَة أعمدة من الْحجر الصوان المنحوت وَصَارَت الجوانب الثَّلَاثَة بالأعمدة الرخام مَا عدا هَذَا الْجَانِب الغربي فَهُوَ من الْحجر الصوان المنحوت فَلَمَّا وَقع هَذَا التَّعْمِير أدخلت فِي هَذِه الْعِمَارَة العثمانية دعائم من الْحجر الشميسي الْأَصْفَر غِلَاظ بعد كل ثَلَاث دعائم من الرخام دعامة مِنْهَا لتقوى على تركيب القبب فَوْقهَا وبإدخال الدعائم الشميسي الْأَصْفَر صَارَت الأساطين كلهَا على نِسْبَة وَاحِدَة وَهِي أَن كل ثَلَاث من الرخام رابعتها وَاحِدَة من الشميسي وَذَلِكَ فِي غَالب الأروقة من الجوانب الْأَرْبَع من الْمَسْجِد الشريف كَأَنَّهَا قَائِمَة بغاية الْأَدَب حول بَيت الله المنيف وَهِي أَعلَى من ارْتِفَاع سقفها السَّابِق كَأَنَّهَا تنشد بِلِسَان حَالهَا مفتخرة على أَمْثَالهَا // (من الْكَامِل) //
(إنَّ الَّذِي سمَكَ السَّماءَ بنَى لَهَا ... بَيْتا دَعَائِمُهُ أعزُّ وأَطْوَلُ)
وَاسْتمرّ الْحَال فِي هَذِه الْعِمَارَة على هَذَا المنوال إِلَى أَن تمّ مِنْهُ الْجَانِب الشَّرْقِي والجانب الشمالي إِلَى بَاب الْعمرَة فَمَا عمر مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم أسْكنهُ الله جنَّات النَّعيم إِلَى أَن تتمّ الْعِمَارَة وَسلم ملكة الشريف السعيد إِلَى نجله السعيد صَاحب التَّرْجَمَة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد ابْن السُّلْطَان سليم خَان فبرز أمره الشريف لأمير الْعِمَارَة الشَّرِيفَة الْمشَار إِلَيْهِ أَحْمد بك الْمَذْكُور وَأَن يبْذل جهده وجده فِي الْإِتْمَام لعمارة الْمَسْجِد الْحَرَام فأعانه الله تَعَالَى على إِتْمَامهَا وأمد كَذَلِك سَائِر خدامها إِلَى أَن تمت عمَارَة الْجَانِبَيْنِ الغربي والجنوبي من الْمَسْجِد الْحَرَام بِجَمِيعِ أبوابه وأعتابه(4/112)
ودرجاته من دَاخله وخارجه وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَصَارَ الْمَسْجِد الْحَرَام نزهة المناظر وبغية للخاطر وجلاء للنواظر والخواطر بِحَيْثُ صَار مَا عمره الْخُلَفَاء العباسيون قبل ذَلِك لَا يحسن عِنْده أَن يذكر ويوصف لِأَن هَذَا الْبناء أمكن وأزين وَأَعْلَى وأشرف وَكَانَ جملَة مَا أنْفق على عِمَارَته مائَة ألف وَعشرَة آلَاف دِينَار ذَهَبا غير الْآلَات والرصاص والنحاس والخشب وأهلَّة القبب المعمولة بِمصْر المطلية بِالذَّهَب وجدد خيرات تفرد بهَا مِنْهَا مدرسة وتكية بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة ومدرسة بِمَكَّة وسبيل عَظِيم فِي بنائِهِ وفرشه وعذوبة مَائه وجدد بالروضة جملَة من الدُّرُوس العلمية بِمَعْلُوم قدره كل عَام مائَة وَخَمْسُونَ دِينَارا ذَهَبا جَدِيدا للمدرس وَمِائَة دِينَار جَدِيد للطلبة لكل وَاحِد عشرَة على الدَّوَام وحدد فِي كل عَام ألف دِينَار ذَهَبا لمِائَة نفر من الْحجَّاج يدعونَ لَهُ بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عِنْد الْبَيْت الْعَتِيق وَفِي عَام سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة شرع فِي فتح الممالك العجمية الطهماسبية وعساكره المنصورة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا من غير انْقِطَاع فملكه الله تَعَالَى أعظم تِلْكَ الْبِقَاع وَأحْصن تِلْكَ القلاع وَفِي سنة 988 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة أَمر بكتب أَسمَاء الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة بعد الله وَرَسُوله بِخَط كَبِير عَظِيم نقراً فِي جدر الْمَسْجِد الشَّرْقِي مموهاً بِالذَّهَب الصّرْف على أحسن قَاعِدَة خطّ بديع رائق قل أَن تحاكيه المهرة فِي بطُون المهارق بَين الْبَاب الْمَنْسُوب إِلَى سيدنَا عَليّ كرم الله وَجهه وَالْبَاب الْمَنْسُوب إِلَى عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلم أظفر على حَقِيقَة السَّبَب لذَلِك إِلَّا مَا يسمع من أَفْوَاه الروَاة وَلم تروه أَخْبَار الثِّقَات وَجُمْلَة عدد الأسطوانات الرخام ثَلَاثمِائَة وَأحد عشر والأسطوانات الشميسي مِائَتَان وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ وَعدد القبب مائَة وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ فِيهِ شرقية أَربع وَعِشْرُونَ وَمثلهَا غربية وشامية سِتّ وَثَلَاثُونَ وَمثلهَا جنوبية وَوَاحِدَة فِي رُكْنه من جِهَة مَنَارَة حزورة والطواجن مِائَتَان وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ طاجناً وَعدد شرفاته ألف وثلاثمائة وَثَمَانُونَ شرفة(4/113)
وَجُمْلَة أبوابه تِسْعَة عشر بَابا تفتح على تِسْعَة وَثَلَاثِينَ طاقاً كل ذَلِك مُسَمّى مَعْلُوم مشَاهد وَجعلت فِي عمَارَة الْمَسْجِد الشريف تواريخ عديدة قَالَ القطب النهروالى رَأَيْت لبَعض الْفُضَلَاء تَارِيخا لتَمام عِمَارَته وَذَلِكَ فِي سنة 984 أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فِي بَيت مُفْرد فَأَعْجَبَنِي نظمه لحسن سبكه وَاسْتِيفَاء الْمَعْنى فِيهِ فَذكر بِهِ وَهُوَ هَذَا الْبَيْت // (من الْخَفِيف) //
(جَدَّدَ المَسْجِدَ الحَرَامَ مُرَادٌ ... دَامَ سُلْطَانُهُ وطَالَ أَوَانُهْ)
قلت هَذَا الْبَيْت هُوَ لجدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي كَمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ فِي تَذكرته عزاهُ إِلَى نَفسه ولمولانا القَاضِي الْحُسَيْن تَارِيخ منثور هُوَ قَوْله أَطَالَ الله لمن أتمه عمرا وَورد تَارِيخ من الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة مَعَه حكم شرِيف برسمه على طراز بَاب سيدنَا الْعَبَّاس فِي ظَاهر الرواق فرسم هُنَالك وَهُوَ لقَاضِي الْعَسْكَر نثراً قَوْله الْحَمد لله الَّذِي أسس بُنيان الدّين المتين بِنَبِي الرَّحْمَة والرشاد وَخَصه بمزيد الْفضل والكرامة والإسعاد وَهُوَ فِيهِ بعض تَطْوِيل وَفِي آخِره نظم ثَلَاثَة أَبْيَات تَتَضَمَّن التَّارِيخ وَهِي هَذِه // (من الرمل) //
(جَدَّدَ السلطانُ مرادُ بنُ سَلِيمِ ... مَسْجِدَ البيتِ العَتِيْقِ المُحْتَرَمْ)
(سُرَّ مِنْهُ المُسْلِمُونَ كلُّهُمْ ... دَامَ منصورَ اللواءِ والعَلَمْ)
(قَالَ رُوحُ القدسِ فِي تاريخِهِ ... عَمَّرَ سُلْطَانُ مُرَادُ الحَرَمْ)
وَفِي سنة الْألف عزل مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد آغاة الينيشرية وَكَانَ ظَالِما فأرخ عَزله شَاعِر نظماً باللغة التركية مَعْنَاهُ لَو قطع السُّلْطَان رَأس الأغا وَرجله لَكَانَ لَهُ تَارِيخا عجيباً رَأس الأغا الْهمزَة من لَفظه وَرجله الْألف الْأَخِيرَة فَيبقى الْغَيْن بِأَلف هِيَ سنة عَزله وَكَانَت وَفَاة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد سنة 1003 ثَلَاث بعد الْألف وسنه الشريف يَوْم ولي ثَلَاثُونَ سنة وَمُدَّة سلطنته عشرُون سنة وَتِسْعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام(4/114)
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان مُرَاد)
(ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان ابْن السُّلْطَان خَان)
وَجلسَ سنة ثَلَاث وَألف وغزا بعسكره إِلَى غَزْوَة مجر وَحصل هُنَاكَ قتال ومَنَّ الله عَلَيْهِ بالنصر فَعَاد مؤيداً منصوراً ولي الْملك بعد وَفَاة أَبِيه وَبَدَأَ بترخيم المطاف الشريف والتجهز بِنَفسِهِ إِلَى جِهَاد الفرنج أَعدَاء الدّين وأيده الله بالنصر وَالظفر الْمُبين وَأبْدى فِي مُبَاشَرَته الْحَرْب بِنَفسِهِ مَا أبهر وأنبأ بعلو همته وَقُوَّة سجبته فَإِن ذَلِك لم يتَّفق إِلَّا نَادرا ثمَّ عَاد بالنصر التَّام إِلَى تخت مَمْلَكَته وَفِي تَارِيخ ترخيم المطاف أَبْيَات للْإِمَام عبد الْقَادِر مطْلعهَا // (من الْكَامِل) //
(يَا مَنْ يَلُوذُ بكَعْبةِ وحَطِيمِ ... وبِهَا يَطُوفُ بِخَالِصِ التَّعْظِيمِ)
وَهِي نَحْو أَرْبَعَة وَعشْرين آخرهَا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ
(قد دبَّرَ السُّلْطَانُ أيد مُلْكَهُ ... بَدْءَ المَطَافِ جَرَى بِكُلِّ نعْيمِ)
توفّي إِلَى رَحْمَة ربه سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَكَانَت مُدَّة سلطنته تسع سِنِين وَنصف شهر تغشاه الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان
(ثمَّ تولى السُّلْطَان أَحْمد ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان مُرَاد)
(ابْن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم خَان)
وَجلسَ على سَرِير الْملك سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَبنى جَامعه الْمَعْرُوف المزخرف بأنواع الزِّينَة وَقتل من كَانَ فِي أَيَّامه من الْبُغَاة والجلالية وَله خيرات عديدة وَكَانَ كثير الْخَيْر وَالْمَعْرُوف بِحَيْثُ إِنَّه جعل لأهل الْحَرَمَيْنِ وَقفا بِمصْر يجمع مغله فِي كل عَام وَيُرْسل إِلَى مَكَّة صُحْبَة الركب الْمصْرِيّ عوضا عَن مَال بندر جدة المعمورة لانقطاعه بِمُوجب عدم وُصُول المراكب الْهِنْدِيَّة فَهُوَ الْمَعْرُوف بالأحمدية وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين بعد الْألف أرسل إِلَى أَعْيَان مَكَّة المشرفة من شريفها وقضاتها وأئمتها وخطبائها كسْوَة عَظِيمَة فَلبس كل من الْمَذْكُورين مَا أرسل بِهِ إِلَيْهِ(4/115)
وَكَانَ ذَلِك أول النَّهَار تجاه الْبَيْت الشريف وَأرْسل فِي عَام عشْرين الباشا حسن المعمار لعمارة عين مَكَّة المشرفة فوصل فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من الْعَام الْمَذْكُور وَعمر الْعين وَأصْلح بعض إصلاحات كَانَت بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة جزاه الله خيرا وَمُوجب الْإِصْلَاح حُصُول تشعُب قَلِيل فِي الْجَانِب الشمالي فأصلحه بجزام حَدِيد تَحت الطّراز كالطراز مصفح بِالْفِضَّةِ مَطْلِي بِالذَّهَب وَوصل مَعَه من الديار الرومية بميزاب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ثمَّ رَكبه بمحله بعد أَن قلع الْمِيزَاب الأول وأرسله إِلَى الحضرة الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن وَقع سُقُوط الجدران فِي دولة السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد سنة تسع وَثَلَاثِينَ فَرفع ذَلِك الْإِزَار الْحَدِيد وسبك فضته متعاطو الْعِمَارَة وَلم يجْعَلُوا عوضه عَلَيْهَا لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا بعد عمارتها قلت وَكَانَ تَمام ذَلِك الْإِصْلَاح عَام أحد وَعشْرين بعد الْألف وَفِي مصلى الْجُمُعَة لوح رُخَام مُثبت فِي شاذروان الْبَيْت الشريف منقور فِيهِ ذكر ذَلِك وَفِيه وَقد جَاءَ تَارِيخه من الْقُرْآن الْعَظِيم أسس بُنْيَانه على تقوى من الله وَهُوَ حِسَاب إِحْدَى وَعشْرين وَألف وَهُوَ من عَجِيب الِاتِّفَاق وأيمنه وَكَانَت مُدَّة سلطنته أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد أَخُوهُ)
وَجلسَ على تخت الْملك سنة سبع وَعشْرين وَألف كَانَ السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد عِنْد مَوته عهد بالسلطنة لَهُ وَذَلِكَ لصِغَر سنّ السُّلْطَان عُثْمَان ابْنه فاستقر فِيهَا بعد موت أَخِيه السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد ثَلَاثَة أشهر ثمَّ دبر كزلار أغاسي الطواشي فِي خلع السُّلْطَان مصطفى وتولية السُّلْطَان عُثْمَان بن أَحْمد فَخلع مصطفى وَبَقِي فِي السَّرَايَا مخلوعاً إِلَى أَن تولى التَّوْلِيَة الثَّانِيَة كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ خلعه لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث ربيع أول من سنة 1028 ثَمَان وَعشْرين وَألف فَكَانَت مدَّته هَذِه ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام(4/116)
(ثمَّ تولى السُّلْطَان عُثْمَان بن أَحْمد خَان بن مُحَمَّد خَان)
فَهُوَ ابْن أخي السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد وَجلسَ على تخت الْملك ثَالِث ربيع الأول سنة 1028 ثَمَان وَعشْرين وَألف تولى بعد الْقَبْض على عَمه مصطفى فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَكَانَ عَالما فَاضلا شجاعاً مُطَاعًا شريفاً يَدُور بِالسَّيْفِ والسنان ويحمي بطوقه وطوعه بَيْضَة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان ثمَّ شغب الْجند على قزلار أغاسي فنفوه إِلَى مصر بعد أَن أَرَادوا قَتله وَكَانَ مقرب الحضرة السُّلْطَانِيَّة ومدبر الدولة العثمانية ثمَّ قبضوا على السُّلْطَان عُثْمَان وأحضروا عَمه مصطفى وأجلسوه على تخت السلطنة ثَانِيًا وَقتلُوا عُثْمَان وَكَانَت سنه حِين التَّوْلِيَة نَحْو عشر سِنِين وسنه عِنْد الْقَتْل نَحْو تسع عشرَة سنة وَسبب قَتله أَنه عزم على الْحَج سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وصمم على ذَلِك وَأمر بالخيام وَالْمُضَارب والوطاق أَن يضْرب ظَاهر الْقُسْطَنْطِينِيَّة فأجمع رأى أَرْبَاب دولته وأركان سلطنته على خلعه إِن لم يرجع فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وأشاروا عَلَيْهِ بِالتّرْكِ وَقَالُوا إِنَّك غزوت الفرنج وقتلتهم وسبيتهم وَفِي قُلُوبهم مِنْك أَمر عَظِيم فنخاف بعد عزمك وانفصالك عَن التخت إِلَى الْحجاز مَعَ بعد الْمسَافَة أَن تثب الفرنج على المملكة ويصعب خُرُوجهمْ مِنْهَا مَعَ أَن هَذَا لَيْسَ قانون آبَائِك وأجدادك وخوفوه بذلك فَلم يمْتَنع وصمم على الْعَزْم إِلَى الْحَج وَخرج لذَلِك وسلك أول طرق هَذِه المسالك فَكتب لَهُ الثَّوَاب وَحصل لَهُ أجر الْقَصْد فِي الْحَال والمآب قَالَ تَعَالَى {وَمَن يخرُج مِن بيتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ ورَسُوله} النِّسَاء 100 الْآيَة فَلَمَّا عرفُوا مِنْهُ التصميم قَتَلُوهُ وأعادوا عَمه السُّلْطَان مصطفى كَمَا ذكرنَا كَذَا فِي منهل الظمان لأخبار دولة آل عُثْمَان للشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد عَليّ بن عَلان وَكَانَ قَتله يَوْم الْخَمِيس سَابِع رَجَب الأصب من سنة 1031 وَفِيه يَقُول بعض أدباء الشَّام مؤرخاً // (من الوافر) //
(قضَى عُثْمَانُ سُلْطَانُ البَرَايَا ... بأَسْيَافِ العَساكِرِ والجُنُودِ)
(وَوَافَتْهُ المَنِيَّةُ فِي السَّرَايا ... مؤرَّخةً كَعُثْمَانَ الِشَّهِيْدِ)(4/117)
وَقَالَ آخر مؤرخاً أَيْضا // (من مجزوء الرمل) //
(قَدْ قَضَى عُثْمَانُ ظُلْمًا ... حِينَ خَانَتْهُ الجنُودُ)
(واللَّيَالِي أَرَّخَتْهُ ... إنَّ عثمانَ شَهِيدُ)
سنة 1031 وَمُدَّة تصرفه ثَلَاث سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد خَان)
(وَهَذِه هِيَ التَوْليَةُ الثَّانِيَة)
وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم خَامِس رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ورد الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان عُثْمَان وتولية السُّلْطَان مصطفى عَمه وَكَانَ ذَلِك فِي سَابِع رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فزينت مَكَّة سَبْعَة أَيَّام ودعي لَهُ على الْمِنْبَر الشريف الْمَكِّيّ يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ذِي الْقعدَة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة وَصلي على السُّلْطَان عُثْمَان صَلَاة الْغَائِب وقرئت لَهُ ربعَة حضرها الْأَعْيَان وَذَلِكَ بِأَمْر مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس وَاسْتمرّ إِلَى أَن خلع فِي منتصف ذِي الْقعدَة الْحَرَام من السّنة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثِينَ بعد الْألف فَكَانَت مُدَّة تصرفه فِي التَّوْلِيَة الثَّانِيَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَنصفا
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الْغَازِي ابْن أَحْمد)
(ابْن مُحَمَّد بن مُرَاد بن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم خَان)
جلس على سَرِير الْملك منصف ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف جُلُوسًا عَاما وَأخذ السَّيْف فِي يَده وَأخذ ثَأْره من الْأَعْدَاء وهم قتلة أَخِيه عُثْمَان ابْن أَحْمد وَفتح قلعة وان ثمَّ بعد سِنِين توجه بعسكر عَظِيم وَفتح بَغْدَاد وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَجعل جَمِيع من كَانَ فِيهَا من الروافض طعمة سَيْفه وَهُوَ السُّلْطَان الْقَائِم بشعائر الْإِسْلَام المتأيد بعناية الْملك العلام فَارس ميدان المنازلة إِذا حمي الْوَطِيس وَقيل هَل من مبارز ومسقي رُءُوس الأسل من صُدُور يوكد الشَّرّ فِيهَا الضَّمِير البارز ذُو الهمة الَّتِي لَو تعلّقت بالجو لاستنزلت مِنْهُ مَا تعلق بِالثُّرَيَّا والفواضل الَّتِي لَو كفت سحائب المزن لكفت الْقُلُوب ربه والشيم الَّتِي لَا(4/118)
يدانيه فِيهَا أحد والمزايا الَّتِي لَا تحصرها الْعبارَة وَلَا يستقصيها الْعد ولي بعد عَمه السُّلْطَان مصطفى فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ذكره وَورد الْخَبَر أَوَائِل ذِي الْحجَّة مِنْهَا إِلَى مصر فَخَطب لَهُ بهَا وزينت مَكَّة سَبْعَة أَيَّام وَقَامَ بِالْملكِ على وَجه السداد وَأَعْلَى ذكره على السَّبع الشداد وَكَانَت سنه حِين ولي أَربع عشرَة سنة وَفِي ذَلِك يَقُول فَخر الأدباء بكري الصراف من // (الْكَامِل) //
(لمَّا أَرَادَ اللهُ نَفْعَ عِبَادِهِ ... ولَّى مُرَادًا مُلْكَ خيرِ بِلادِهِ)
(وأَمَدَّهُِ مِنْ فَضْلِهِ بِعِنَايِةٍ ... جَعَلَتْ عِدَاهُ تَحْتَ نَعْلِ جَوَادِهِ)
(وَشَدَا لِسَانُ الحَالِ فِي تَارِيخِهِ ... بُشْرَى لَهُ قَدْ نَالَ كُلَّ مُرادِهِ)
سنة 1032 وَلم يزل قَائِما بشعار الْملك مُقيما لشعائر الْإِسْلَام مجهزاً عساكره المنصورة إِلَى افْتِتَاح الْبلدَانِ وَتوجه بِنَفسِهِ الشَّرِيفَة فِي عَام خمس وَأَرْبَعين إِلَى غَزْو الْعَجم فَافْتتحَ كثيرا من بلدانهم وافتتح بَغْدَاد عَام ثَمَان وَأَرْبَعين بعد الْألف ثمَّ رَجَعَ إِلَى تخت مَمْلَكَته اسطنبول وَأبقى على عسكره الْمَنْصُور سرداراً معينا ويحكى أَنه أرسل إِلَى مصر المحروسة درقة نَحْو إِحْدَى عشرَة طبقَة ضربهَا بِعُود فَثَبت فِيهَا وبرز أمره الشريف إِلَى العساكر المصرية بِإِخْرَاج الْعود مِنْهَا وَأَن من أخرجه يُزَاد فِي جامكيته كَذَا وَكَذَا فحاولوا إِخْرَاجه فعجزوا عَن ذَلِك ثمَّ أرسل قوساً وَمَعَهَا همايون شرِيف يُخَاطب بِهِ وَزِير مصر مضمونه أَمر العساكر والأجناد بجر هَذَا الْقوس وَزِيَادَة علوفة من يفعل ذَلِك فحاول الْعَسْكَر جَرّه فَلم يقدروا ثمَّ علقت الدرقة بالديوان الشريف العالي بِمصْر المحروسة وعلق الْقوس بِبَاب زويلة وَقد جعل بعض الأورام تَارِيخا بالتركى لسنة مجيْ الْقوس وَهِي سنة 1033 ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَترْجم بِالْعَرَبِيَّةِ بِمَا نَصه يَا سُلْطَان الْوُجُود لساعدك الْقُوَّة وَمِمَّا يدل على سعادته الْعُظْمَى توجه خاطره الشريف إِلَى أهالي الْحَرَمَيْنِ وَأمره الْمُتَوَلِي الْجِهَات خُصُوصا مصر بإجراء حبوبهم وإرسال مغلات أوقافهم فَمَا من همايون يرد مِنْهُ إِلَّا وَفِيه الْحَث على ذَلِك وَمِمَّا يدل على عناية الله بِهِ أَن كَانَت عمَارَة بَيت الله الشريف فِي زَمَنه ابْتِدَاؤُهَا(4/119)
وانتهاؤها فِي أَيَّام دولته وَقد أرخ تِلْكَ الْعِمَارَة مَوْلَانَا الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ فِي قصيدة قدمهَا إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد الْمُتَوَلِي عمَارَة الْبَيْت الشريف وَهِي نَحْو الثَّمَانِية عشر بَيْتا مطْلعهَا // (من الْخَفِيف) //
(عَادَ بَيْتُ الإِلهِ بَعْدَ انْهِدَامِهْ ... وغَدَا فَائِقًا بِحُسْنِ نِظَامِهْ)
إِلَى أَن يَقُول
(فِلهَذَا طَيْرُ المَسَرَّةِ أمْسَى ... مُنْشِدًا عِنْدَ بدئه وختامِهْ)
(حالمَا أتَمَّهُ بِمُرَادٍ ... شيد بَيْت الْإِلَه تَارِيخ عامِهْ)
وَسُجُود الْبَيْت الشريف وعمارته وَمَا يتَعَلَّق بهما مَذْكُور مُفْرد بالتصنيف لَا نطول بِذكرِهِ وسنشير إِلَى طرف من أخباره فِي دولة مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس فَإِنَّهَا مُوَافقَة لدولة السُّلْطَان مُرَاد فِي الزَّمَان الْمَذْكُور سقوطاً وَابْتِدَاء تعمير وَاسْتمرّ مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد إِلَى أَن توفّي سنة 1049 تسع وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَت مُدَّة سلطنته سبع عشرَة سنة
(ثمَّ تولى السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أَحْمد)
(أَخُو السُّلْطَان مُرَاد الْمَذْكُور قبله)
جلس على تخت الْملك سنة وَفَاة أَخِيه السُّلْطَان مُرَاد وَهِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَشرع فِي أَيَّامه فتح جَزِيرَة كريد فَفَتحهَا إِلَّا قلعة وَاحِدَة وَذَلِكَ لمتانتها غَايَة المتانة فاستمر فِي الْملك إِلَى أَن انْفَتَلَ من مدَّته سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وَثَمَانِية أشهر
(ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد خَان الْغَازِي الْمُجَاهِد)
السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن المرحوم السُّلْطَان إِبْرَاهِيم خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان أَحْمد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان فاتح مصر وَالشَّام ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان بايزيد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان(4/120)
فاتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان يلدرم بايزيد ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان أورخان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان عُثْمَان خَان الْغَازِي مولده سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَهِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا عَمه السُّلْطَان مُرَاد ابْن أَحْمد وَجلسَ على تخت السلطنة فِي شهر رَجَب الْمُبَارك من شهور سنة 1058 ثَمَان وَخمسين وَألف وعمره الشريف إِذْ ذَاك تسع سِنِين لَهُ الفتوحات الَّتِي لَا تحصى والمغازي الَّتِي لَا تستقصى أذلّ بغزواته أَعدَاء الدّين واستباح قلاعهم وَجعلهَا دَارا للْمُسلمين لم تزل أَعْلَام نَصره ظَاهِرَة وآيات سعده باهرة فَمن فتوحاته الميمونة الَّتِي لم تزل بالعز والنصر مقرونة مَدِينَة قوش آضه وأيوار وزغره ويانق وورط ويانوا وقمانيصه وقندية الَّتِي هِيَ كريد لِأَنَّهَا جَزِيرَة وقندية فِي طرفها وَكَانَ فتحهَا سنة ثَمَانِينَ أَعنِي قلعة كريد وخذل بذلك كل جَبَّار عنيد وَحصل للْمُسلمين بِهِ المسرة ولأعينهم أعظم قُرَّة وَكَانَ الْفَتْح بهَا مَعَ عقد هدنة إِلَى مُدَّة مائَة عَام وَهَذَا على مُقْتَضى مَذْهَب أبي حنيفَة النُّعْمَان لِأَن عقدهَا موكول إِلَى نظر السُّلْطَان وَأما عِنْد إمامنا الشَّافِعِي فَلَا يجوز عقدهَا فَوق أَرْبَعَة أشهر عِنْد قوتنا وَفَوق عشر سِنِين عِنْد ضعفنا ثمَّ إِنَّهُم نقضوا العقد وَنَكَثُوا الْعَهْد فَعَاد نقضهم عَلَيْهِ وَرجع وباله إِلَيْهِم وَقد أرخ الْفَتْح الْمَذْكُور الشَّيْخ عبد الْبَاقِي بن أَحْمد الشَّامي فِي أَبْيَات يَقُول آخرهَا // (من السَّرِيع) //
(وحِينَ كَرْبٌ زَالَ أَرَخْتُهُ ... نَصْرٌ من الله وفَتْحٌ قريبْ)
قلت هُوَ تَارِيخ لطيف وَحسن الْإِخْرَاج فِيهِ ألطف يسير إِلَى أَن مَدْلُول لفظ كرب الحسابي وَهُوَ مِائَتَان وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ يسْقط فَيصير الْبَاقِي تَارِيخ تِلْكَ السّنة(4/121)
وأرخه أَيْضا الشَّيْخ إِبْرَاهِيم ابْن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري الْمدنِي بِأَبْيَات أَولهَا قَوْله // (من السَّرِيع) //
(يَا مَعْشَرَ الإسْلامِ قَدْ عَمَّكُمْ ... فَضْلٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي شُكْرَكُمْ)
وَآخر قَوْله
(إنْ قيلَ مَا تاريخُ عَام أتَى ... ألْفَتْحُ والنَّصْرُ إِلَى شَهْرِكُمْ)
(فَقُلْ مُجِيبًا صَحَّ تَارِيخُهُ ... نَصْرٌ مِنَ الله وفَتْحٌ لَكُمْ)
هَذِه المدن الْكِبَار وَلَا يُحْصى مَا سواهَا من الصغار وَاسْتمرّ إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ الْجند فخلعوه وأدخلوه معتقَلاً وأخرجوا من كَانَ فِيهِ معتقِلاً أَخَاهُ مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم وسلموا عَلَيْهِ بِالْولَايَةِ وَضربت باسمه السِّكَّة وخفق فِي موكبه اللِّوَاء والراية فَهُوَ سُلْطَان زَمَاننَا الْآن أيده الله فِي المكانة والإمكان وَلم يمْكث أَن الْتفت إِلَى قتال أَعدَاء الدّين وتهيأ لغزو الْكَفَرَة الْمُلْحِدِينَ فطلبوا الْهُدْنَة أَربع سِنِين فوافقهم على ذَلِك لما اقْتَضَاهُ نظره فِي مصَالح الْمُسلمين وَكَانَت تَوليته يَوْم خلع أَخِيه وَهُوَ يَوْم السبت ثَانِي محرم الْحَرَام مفتتح سنة تسع وَتِسْعين وَألف جلّ من لَا يَزُول ملكه وَلَا يتبدل لَا إِلَه غَيره الخاتمة نسْأَل الله تَعَالَى حسنها تحتوي على ثَلَاثَة أبوب
(فِي ذكر نسب الطالبيين وَذكر الْمَشَاهِير من أَعْقَابهم)
(فِي ذكر من دَعَا مِنْهُم إِلَى الْمُبَايعَة وَذكر مَكَان دُعَائِهِ إِلَيْهَا وزمانه وَمَا جرى على كل قَائِم مِنْهُم من خَليفَة زَمَانه وتعدادهم من عَليّ بن أبي طَالب إِلَى يَوْمنَا هَذَا حَتَّى لَا تَخْلُو الأَرْض من قَائِم من آل مُحَمَّد يَدْعُو إِلَى الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم إِلَى أَن يظْهر مهديها المنتظر وَهَذَا على غير رأى الإمامية أما على رَأْيهمْ فَلَا يجوزون الْإِمَامَة لغير الاثنى عشر الإِمَام كَمَا سنذكر ذَلِك)
3 - (فِي ذكر من ولي مَكَّة المشرفة من آل أبي طَالب إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَنَقُول وَبِاللَّهِ العون)(4/122)
(الْبَاب الأول)
(فِي ذكر نسب الطالبيين وَذكر الْمَشَاهِير من أَعْقَابهم)
أما أَنْسَاب الطالبيين فأكثرها رَاجع إِلَى لاحسن وَالْحُسَيْن ابْني عَليّ بن أبي طَالب من فَاطِمَة عَلَيْهِم السَّلَام وهما سبطا الرَّسُول
وَإِلَى أخيهما مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَإِن كَانَ لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ غَيرهم من الْوَلَد إِلَّا أَن الَّذين طلبُوا الْحق فِي الْخلَافَة وتعصب لَهُم الشِّيعَة ودعوا لَهُم فِي الْجِهَات إِنَّمَا هم من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لَا من غَيرهم فَأَما الْحسن فَمن وَلَده الْحسن الْمثنى وَزيد ومنهما الْعقب الْمَشْهُود لَهُ فِي الدَّعْوَى والإمامة أما الْحسن الْمثنى فَكَانَ جَلِيلًا فَاضلا ورعاً أمه خَوْلَة بنت مَنْظُور بن رَيَّان بن سيار بن عَمْرو بن جَابر بن عقيل بن مَازِن وَكَانَت قبل الْحسن السبط تَحت مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ أحد الْعشْرَة رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم فَقتل عَنْهَا يَوْم الْجمل وَله مِنْهَا أَوْلَاد فَتَزَوجهَا الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فَسمع بذلك أَبوهَا مَنْظُور فَدخل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وركز راية سَوْدَاء عِنْد بَاب مَسْجِد رَسُول الله
فَلم يبْق قيسي إِلَّا دخل تحتهَا ثمَّ قَالَ أمثلي يفتات عَلَيْهِ فِي ابْنَته فَقَالُوا لَا فَلَمَّا رأى الْحسن ذَلِك سلم إِلَيْهِ ابْنَته فحملها فِي هودج وَخرج بهَا من الْمَدِينَة فَلَمَّا صَارَت بِالبَقِيعِ قَالَت يَا أَبَت أَيْن تذْهب بِي إِنَّه الْحسن ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهَا إِن كَانَ لَهُ فِيك حَاجَة فسيلحقنا فَلَمَّا صَارا فِي نخل الْمَدِينَة إِذا بالْحسنِ وَالْحُسَيْن وَعبد الله بن جَعْفَر قد لَحِقُوا بهم فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا فَردهَا إِلَى الْمَدِينَة وَفِي ذَلِك يَقُول جد حفيز الْعَبْسِي // (من الْبَسِيط) //
(إنَّ الندَى مِنْ بني ذُبْيَانَ قَدْ عَلِمُوا ... والجودَ فِي آلِ مَنْظورِ بنِ سَيَّارِ)
(ألماطرينَ بأَيْدِيهِمْ نَدًى ديماً ... وكلَّ غَيْثٍ مِنَ الوَسْمِيِّ مِدْرَارِ)
(تَزُورُ جارَهَمُ وَهنا هديتُهُمْ ... وَمَا نَهَاهُم لَهَا وهْنًا بزوارِ)
وَكَانَ الْحسن وَصِيّ أَبِيه وَولي صَدَقَة عَليّ بن أبي طَالب فِي عصره قَالَ فِي كتاب أَنْسَاب قُرَيْش كَانَ الْحجَّاج بن يُوسُف قَالَ لِلْحسنِ وَهُوَ(4/123)
يسايره فِي موكبه بِالْمَدِينَةِ وَالْحجاج يَوْمئِذٍ أَمِير الْمَدِينَة أَدخل عمك عمر بن عَليّ مَعَك فِي صَدَقَة عَليّ فَإِنَّهُ عمك وَبَقِيَّة أهلك فَقَالَ لَا أغير شَرط عَليّ وَلَا أَدخل فِيهَا من لم يدْخل قَالَ إِذن أدخلهُ مَعَك فنكص عَنهُ الْحسن حَتَّى غفل عَنهُ الْحجَّاج ثمَّ كَانَ وَجهه إِلَى عبد الْملك حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَوقف بِبَابِهِ يطْلب الْإِذْن فَمر بِهِ يحيى بن الحكم فَلَمَّا رَآهُ يحيى عدل إِلَيْهِ فَسلم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن مقدمه وَخَبره وتحفى بِهِ وَقَالَ لَهُ إِنِّي سأنفعك عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْنِي عبد الْملك فَدخل الْحسن على عبد الْملك فَرَحَّبَ بِهِ وَأحسن مَسْأَلته وَكَانَ الْحسن قد أسْرع إِلَيْهِ الشيب وَيحيى بن الحكم فِي الْمجْلس فَقَالَ لَهُ يحيى وَمَا يمنعهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ شيبته أماني أهل الْعرَاق كل عَام يقدم عَلَيْهِ مِنْهُم ركب يمنونه الْخلَافَة فَأقبل عَلَيْهِ الْحسن بن الْحسن فَقَالَ بئس وَالله الرفد رفدت وَلَيْسَ كَمَا قلت وَلَكنَّا أهل بَيت يسْرع إِلَيْنَا الشيب فَأقبل عَلَيْهِ عبد الْملك فَقَالَ هَلُمَّ مَا قدمت لَهُ فَأخْبرهُ بقول الْحجَّاج فَقَالَ لَهُ ذَلِك إِلَيْك اكتبوا إِلَيْهِ كتابا لَا يُجَاوِزهُ وَوَصله فَلَمَّا خرج من عِنْده لقِيه يحيى بن الحكم فَعَاتَبَهُ الْحسن على سوء محضره وَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي وَعَدتنِي فَقَالَ لَهُ إيهاً عَنْك فوَاللَّه لَا يزَال يهابك وَلَوْلَا هيبته إياك مَا قضى لَك حَاجَة وَمَا آلوتك رفدَاً وَكَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان غضب عَلَيْهِ فَكتب إِلَى هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن هِشَام ابْن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة عَامله على الْمَدِينَة وَكَانَت بنت هِشَام تَحت عبد الْملك بن مَرْوَان وَولدت لَهُ هِشَام بن عبد الْملك أَن أقِم آل عَليّ يشتمون عَليّ بن أبي طَالب وأقم آل الزبير يشتمون الزبير فَقدم كِتَابه على هِشَام فَأبى كل مِنْهُمَا ذَلِك وَكَتَبُوا وصاياهم فركبت أُخْت هِشَام إِلَيْهِ وَكَانَت جزلة عَاقِلَة فَقَالَت يَا هِشَام أتراك الَّذِي تهْلك عشيرته على يَده رَاجع أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مَا أَنا بفاعل قَالَت فَإِن كَانَ لَا بُد من ذَلِك فَمر آل عَليّ يشتمون الزبير وَآل الزبير يشتمون عليا قَالَ هَذِه أَفعَلهَا فَاسْتَبْشَرَ النَّاس بذلك وَكَانَ أَهْون عَلَيْهِم فَكَانَ أول من أقيم إِلَى جَانب المرمر الْحسن الْمَذْكُور وَكَانَ رجلا رَقِيق الْبشرَة عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ قَمِيص كتَّان(4/124)
رَقِيق فَقَالَ لَهُ هِشَام تكلم فسب الزبير فَقَالَ إِن لآل الزبير رحما أبلها بِبلَالِهَا وأربها بربابها يَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار فَقَالَ هِشَام لحرسي عِنْده اضربه فَضَربهُ سَوْطًا وَاحِدًا من فَوق قَمِيصه فخلص إِلَى جسده فشرحه حَتَّى سَأَلَ دَمه تَحت قَدَمَيْهِ فِي المرمر فَقَامَ أَبُو هَاشم عبد الله ابْن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة فَقَالَ أَنا دونه أكفيك أَيهَا الْأَمِير فنال من آل الزبير فشتمهم وَلم يحضر عَليّ بن الْحُسَيْن كَانَ مَرِيضا أَو تمارض وَلم يحضر عَامر بن عبد الله بن الزبير فهم هِشَام أَن يُرْسل إِلَيْهِ فَقيل لَهُ لَا تفعل أفتقتله فَأمْسك وَحضر من آل الزبير من كَفاهُ وَكَانَ عَامر يَقُول إِن الله لم يرفع شَيْئا فيستطيع النَّاس خفضه انْظُرُوا إِلَى مَا تصنع بَنو أُميَّة يخفضون عليا ويغرون بشتمه وَمَا يزِيدهُ الله بذلك إِلَّا رفْعَة وَكَانَت ثَابت بن عبد الله بن الزبير غَائِبا فَقدم فَقَالَ لهشام بن إِسْمَاعِيل إِنِّي لم أحضر هَذَا الْجمع فاجمع النَّاس حَتَّى آخذ بنصيبي فَقَالَ هِشَام وَمَا تُرِيدُ بذلك ولود من حضر أَنه لم يحضر فَقَالَ لتفعلن أَو لأكتبن إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ بعرضي نَفسِي عَلَيْك فَلم تفعل فَجمع لَهُ النَّاس فَقَامَ فيهم فَقَالَ {لعِنَ الذَينَ كفَرُوا مِن بَني إسرائيلَ} إِلَى {كانوُا يَفعَلوُنَ} الْمَائِدَة 78 79 لعن الله من لعن ولعنته قوارع الْقُرْآن لعن الله الْمَنْدُوب يلعنه الله بَين عَيْنَيْهِ إِلَّا شدَّة لطيم الشَّيْطَان المتناول مَا لَيْسَ لَهُ هُوَ أقصر ذِرَاعا وأضيق باعاً لعن الله الأثعل المترادف الْأَسْنَان المتوثب فِي الْفِتَن توثب الْحمار فِي الْقَيْد مُحَمَّد ابْن أبي حُذَيْفَة الرَّامِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان برءوس الأفانين ثمَّ قَالَ إِن الله رماك وَكذب لَو رَمَاه الله مَا أخطأه لعن الله الْأَعْوَر بن سَمُرَة ابْن شَرّ العضاه وألأمها مرعى وأقصرها فرعا لَعنه الله وَلعن من أَخذ حباه يعرض بِأم هِشَام بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة خلف عَلَيْهَا بعد إِسْمَاعِيل بن هِشَام وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن هُوَ الَّذِي عناه ثَابت بن عبد الله بن الزبير فَلَمَّا بلغ ثَابت هَذَا من القَوْل فِي هِشَام أَمر بِهِ إِلَى السجْن وَقَالَ مَا أَرَاك تَشْتُم إِلَّا رحم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ(4/125)
ثَابت إِنَّهُم عصاة مخالفون فَدَعْنِي حَتَّى أشفي أَمِير الْمُؤمنِينَ مِنْهُم فَلم يزل ثَابت فِي السجْن حَتَّى بلغ خَبره عبد الْملك فَكتب أَن أطلقهُ فَإِنَّمَا شتم أهل الْخلاف أَوْلَاده مُحَمَّد وَبِه كَانَ يكنى وَعبد الله وَفِيه الْبَقِيَّة وَحسن وَإِبْرَاهِيم وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم وَلما خطب الْحسن بن الْحسن إِلَى عَمه الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ لَهُ الْحُسَيْن يَابْنَ أخي قد انتظرت هَذَا مِنْك قبل الْيَوْم فَخرج بِهِ حَتَّى أدخلهُ منزله ثمَّ أخرج لَهُ ابْنَتَيْهِ فَاطِمَة وسكينة فَقَالَ اختر فَاخْتَارَ فَاطِمَة فَزَوجهُ إِيَّاهَا فَكَانَ يَقُول إِن امْرَأَة سكينَة مرذولتها لمنقطعة الْحسن وَأَتَتْ مِنْهُ بأولاده الْمَذْكُورين حسن الْمُسَمّى حسن المثلث وَعبد الله وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم مَا عدا مُحَمَّد فَإِن أمه رَملَة بنت سعيد بن زيد أحد الْعشْرَة فَلَمَّا حضرت الْوَفَاة الْحسن قَالَ لفاطمة إِنَّك امْرَأَة مَرْغُوب فِيك فَكَأَنِّي بِعَبْد الله ابْن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان قد جَاءَ على فرس مرجلاً جمته لابساً حلته يسير فِي جَانب النَّاس يتَعَرَّض لَك فَانْكِحِي من شِئْت سواهُ فَإِنِّي لَا أدع من ورائي هما غَيْرك فَقَالَت آمن من ذَلِك وأثلجته بِالْإِيمَان من الْعتْق وَالصَّدَََقَة لَا نتزوجه وَمَات الْحسن رَضِي الله عَنهُ وَخرج بِهِ فَوَافى عبد الله بن عَمْرو بِالْحَال الَّتِي وصفهَا الْحسن وَكَانَ يُقَال لعبد الله بن عَمْرو الْمطرف من حسنه فَنظر إِلَى فَاطِمَة حاسراً تضرب وَجههَا فَأرْسل إِلَيْهَا إِن لنا فِي وَجهك حَاجَة فارفقي بِهِ فاسترخت يداها وَعرف ذَلِك فِيهَا وخمرت وَجههَا فَلَمَّا جَاءَت رسله تخطبها قَالَت كَيفَ بيميني الَّتِي حَلَفت بهَا فَأرْسل إِلَيْهَا لَك مَكَان كل مَمْلُوك مملوكان وَمَكَان كل شَيْء شَيْئَانِ فعوضها عَن يَمِينهَا فنكحته وَزوجهَا بِهِ ابْنهَا عبد الله بن الْحسن وَولدت لَهُ مُحَمَّدًا الديباج وَالقَاسِم ورقية بني عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان فَكَانَ عبد الله بن الْحسن وَهُوَ أكبر أَوْلَادهَا يَقُول مَا أبغضت بغض عبد الله بن عَمْرو أحدا وَلَا أَحْبَبْت حب ابْنه مُحَمَّد أخي أحدا مَاتَ الْحسن وسنه خمس وَثَلَاثُونَ سنة فِي حَيَاة أَخِيه زيد بن الْحسن السبط وَلم يدع الْإِمَامَة وَلَا ادَّعَاهَا لَهُ أحد والعقب مِنْهُ فِي خَمْسَة أشخاص عبد الله الْمَحْض(4/126)
والكامل يلقب بهما وَسَيَأْتِي ذكره عِنْد ذكر قيام وَلَده مُحَمَّد النَّفس الزكية وَمن بَينه الْمُلُوك الأدارسة بالمغرب الْأَقْصَى وهم بَنو إِدْرِيس بن إِدْرِيس الْمَحْض وَمن عقبهم بَنو حمود مُلُوك الأندلس الدائلون بهَا من بني أُميَّة آخر دولتهم وهم بَنو حمود بن مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الله بن عمر بن إِدْرِيس وَمِنْهُم بَنو سُلَيْمَان بن عبد الله الْمَحْض الْمُلُوك بنواحي تلمسان وَمِنْهُم بَنو مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض كَانَ من عقبه مُلُوك الْيَمَامَة بَنو مُحَمَّد الأخيضر بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض وَمِنْهُم بَنو صَالح بن مُوسَى بن عبد الله الثَّانِي ويلقب بِأبي الْكِرَام بن مُوسَى الجون وهم الَّذين كَانُوا ملوكاً ب غانة من بِلَاد السودَان بالمغرب الْأَقْصَى وعقبهم هُنَالك مَعْرُوف وَمن عقبه أَيْضا الهواشم بَنو أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْأَكْبَر بن مُوسَى الثَّانِي ابْن عبد الله أبي الْكِرَام بن مُوسَى الجون كَانُوا أُمَرَاء مَكَّة بِعَهْد العبيديين وَمن عقبه بَنو قَتَادَة بن إِدْرِيس بن مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن مُوسَى بن عِيسَى بن سُلَيْمَان بن مُوسَى الجون ملكوا مَكَّة بعد الهواشم على يَد قَتَادَة أَبِيهِم هَذَا فَمنهمْ بَنو أبي نمي بن أبي سعيد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة أُمَرَاء مَكَّة إِلَى عهدنا الْآن وَالثَّانِي من أَوْلَاد الْحسن الْمثنى الْخَمْسَة دَاوُد بن الْحسن الْمثنى وَكَانَ رَضِيع جَعْفَر الصَّادِق وَكَانَ الْمَنْصُور حَبسه فَأَفلَت مِنْهُ بِالدُّعَاءِ الَّذِي علمه جَعْفَر أمه وَيعرف بِدُعَاء أم دَاوُد وَمن عقبه السليمانيون الَّذين كَانُوا بِمَكَّة وهم بَنو سُلَيْمَان بن دَاوُد وغلبهم عَلَيْهَا الهواشم آخرا وهم المسمون بآل أبي الطّيب كَمَا ذكر ذَلِك الفاسي فِي تَارِيخه شِفَاء الغرام فَسَارُوا إِلَى الْيمن فَقَامَتْ الزيدية بدعوتهم وغلبوا على بني طَبَاطَبَا ب صعدة وَالثَّالِث من أَوْلَاد الْحسن الْمثنى الْخَمْسَة حسن المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَمن عقبه قَتِيل فخ حُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن(4/127)
المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط الفخي الْخَارِج عَليّ الْهَادِي بن الرشيد وَسَيَأْتِي ذكره وَالرَّابِع من أَوْلَاد الْحسن الْمثنى إِبْرَاهِيم الْغمر بن الْحسن الْمثنى وَمن عقبه بَنو طَبَاطَبَا أبي الْأَئِمَّة ب صعدة الَّذين غلبهم عَلَيْهَا بَنو سُلَيْمَان بن دَاوُد بن الْحسن الْمثنى حِين جَاءُوا من مَكَّة ثمَّ غلبهم عَلَيْهَا بَنو الرسي وَرَجَعُوا إِلَى إمامتهم بصعدة وهم فِيهَا إِلَى عهدنا الْآن وَالْخَامِس جَعْفَر بن الْحسن الْمثنى وَكَانَ يكنى أَبَا الْحسن وَكَانَ أكبر إخْوَته سنا وَمن عقبه من بني عَليّ باغرآل حَمْزَة ويعرفون ببني الشجري مِنْهُم السَّيِّد أَبُو السعادات بن الشجري لَهُ أمالي فِي النَّحْو انقرض عقبه وَمن عقبه أَيْضا بَنو الكشيش وَآل أبي زيد لَهُم أعقاب فَهَذِهِ خَمْسَة أَسْبَاط من الْحسن الْمثنى وَأما أَخُوهُ زيد بن الْحسن السبط فكنيته أَبُو الْحُسَيْن عَاشَ تسعين سنة وَقيل خمْسا وَتِسْعين وَقيل مائَة وَكَانَ زيد قد تخلف عَن عَمه الْحُسَيْن بن عَليّ فَلم يخرج إِلَى الْعرَاق مَعَه مَاتَ زيد وَلم يدع الْإِمَامَة وَلَا ادَّعَاهَا لَهُ مُدع من الشِّيعَة والإمامة لأَوْلَاد الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ أعقب سبطاً وَاحِدًا وَهُوَ مَعَ الْخَمْسَة الأول السبط السَّادِس من ولد الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ الْحسن بن زيد ويكنى أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة من قبل أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَعمل لَهُ على غَيرهَا وَكَانَ مُظَاهرا لبني الْعَبَّاس على بني عَمه الْحسن الْمثنى وَهُوَ أول من لبس السوَاد من العلويين وَلَا عقب لزيد إِلَّا من ابْنه الْحسن هَذَا وَكَانَت لزيد بنت اسْمهَا نفيسة أُخْت لِلْحسنِ بن زيد وَهِي الَّتِي يسميها أهل مصر السِّت نفيسة ويعظمونها ويقسمون بهَا وَكَانَت زَوْجَة الْوَلِيد بن عبد الْملك وَكَانَ زيد يفد على الْوَلِيد فيقعده على السرير مَعَه ويكرمه لمَكَان ابْنَته ووهب لَهُ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار دفْعَة وَاحِدَة زعم بعض النَّاس أَن نفيسة الْمَذْكُورَة بنت الْحسن بن زيد بن الْحسن لَا أُخْت(4/128)
لَهُ وَقد كَانَت تزوجت بِإسْحَاق بن جَعْفَر الصَّادِق وَكَانَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يروي عَنْهَا وَلما مَاتَ أدخلت جنَازَته عَلَيْهَا فصلت عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ الزبير بن بكار حَدثنِي نَوْفَل بن مَيْمُون قَالَ حَدثنِي أَبُو مَالك مُحَمَّد بن مَالك بن عَليّ بن هرمة أَنه قَالَ يمدح الْحسن بن زيد بن الْحسن السبط ويعرض بِعَبْد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط وبابنيه مُحَمَّد النَّفس الزكية وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله الْمَحْض من // (الْبَسِيط) //
(إِنِّي امرؤٌ مَنْ رعَى غَيْبي رَعَيْتُ لَهُ ... غَيْبَ الذِّمامِ وَمن أنكرْتُ أنكَرَني)
(أَمَّا بَنُو هَاشِم حَوْلِي وَقَدْ رَدَعُوا ... نَبْلي الصِّيَاب الَّتِي جمَّعْتُ فِي قَرنِ)
(فَمَا بِيَثْرِبَ منْهُمْ مَنْ أُعَاتبُه ... إِلَّا عَوَائِدُ أرْجُوهُنَّ مِنْ حَسَنِ)
(وذَاكَ مَنْ يَأْتِهِ يَعْمِدْ إِلَى رَجُلٍ ... مِنْ كُلِّ صَالحَةٍ أَوْ صَالحٍ قَمِنِ)
(لاَ يُسْلِمِ الحمْدَ للُّومِ إنْ شَحطُوا ... بَلْ يَأْخُذ الْحَمد بالغالي من الثَّمَنِ)
(مَا زَالَ يَنْمى وزَالَ الله يَرْفعُهُ ... طولا عَلَى بغْضَةِ الأَعْدَاءِ والإِحَنِ)
(أَمَات فِي جَوْفِ ذِي الشَّحْنَاِء ظنَّتَه ... وكانَ دَاء لذِي الشَّحْنَاءِ والظننِ)
(إِذا بَنُو هَاشِمٍ آلَتْ بأَقْدُحِهَا ... إِلَى المفِيضِ وخَافَتْ دَوْلَةَ الغَبَنِ)
(حازتْ يَدَا حسنٍ قِدْحَيْنِ من كرمٍ ... لَمْ يُعْمَلا بِشبَا المبراةِ والسفنِ)
(لَا يَسْتَريحُ إِلَى إثمٍ وَلَا كَذِبٍ ... عندَ السُّؤالِ وَلَا يجتنُّ بالجُبَنِ)
(مَا قَالَ أَفْعَلُ أمضاهُ لِوِجْهَتِهِ ... وَما أبَى لح مَا يَأْتِي فَلَمْ يَكُنْ)
(مَا أَطْلَعْت رَأْسَهَا كَيْمَا تُهَددني ... حَصْباءُ تطرح من نَفسِي على شزنِ)
(إلاَّ ذَكَرْتُ ابنَ زَيْدٍ وهْوَ ذُو صلةٍ ... عِنْد السنينَ وعواد على الزمنِ)
(فاسلَمْ وَلَا زالَ من عَاداكَ مُحْتملا ... غيظاً وَلَا زالَ معفوراً على الذَّقَنِ)
(لم يعتب اللهُ أنفًا فِيك أرغَمَهُ ... حَتَّى تزولَ رواسي الصخْرِ من حضنِ)
(إِذا خَلوت بِهِ ناجَيْت ذَا طهرٍ ... يأوي إِلَى عقل صافي العقلِ مؤتمنِ)
(طَلْق اليدَيْنِ إِذا أضيافه طرقوا ... يشكُونَ من قُرَّة شكوى ومِنْ وَسَنِ)
(بَاتُوا يَعْدُّونَ نَجْمَ اللَّيْلِ بَيْنَهُمُ ... فِي مستجيرِ النواحي زاهق السمنِ)
(ثمَّ اغتدَوْا وهُمُ دُسم شواربهم ... وَلم يبيتوا على ضَيْحٍ من اللبنِ)
(قد جعل النَّاس حقباً نَحْو منزلِهِ ... شقا كقرنِ أثيثِ الرأسِ مدَّهنِ)(4/129)
(فهم إِلَى نائلٍ مِنْهُ ومنفعةٍ ... يعطونها سكناً تهوى إِلَى سكنِ)
(أَوْصَاك زيدٌ بأعْلى الأمْرِ منزلَة ... فَمَا أخذتَ قبيحَ الأمرِ بالحسنِ)
(خَلاَّت صدقٍ وأخلاق خُصِصْتَ بهَا ... فَلم يُضَعْن وَلم يُخلْطَن بالدرنِ)
(يلقى الأيامِن مَنْ لاقاك سانحة ... وَجه طليق وعُود غَيْر ذِي أُبنِ)
(وأنتَ من هاشمٍ حَقًا إِذا نسبوا ... فِي الْمنْكب اللينِ لافي المنكبِ الخشنِ)
(بنوكَ خَيْرُ بنيها إِن حفلت بهم ... وأنتَ خيرُهُمُ فِي اليسرِ والَّلزَنِ)
(واللهُ أَعْطَاك فضلا من عطيته ... على هَنٍ وهنٍ فِيمَا مضَى وهنِ)
قَالَ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن وجاءهم بعد ذَلِك لَا أنعم الله بك عينا يَا فَاسق أَلَسْت الَّذِي تَقول لِلْحسنِ بن زيد
(اللَّهُ أعْطَاكَ فَضْلاً مِنْ عَطِيتهِ ... عَلَى هَنٍ وَهَنٍ فِيمَا مضَى وَهَنِ)
تُرِيدُ أبي عبد الله الْمَحْض وَأخي مُحَمَّدًا النَّفس الزكية وإياي فَقَالَ ابْن هرمة وَالله مَا أردتكم بذلك قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم فَمن أردْت قَالَ قَارون وَفرْعَوْن وهامان قلت هَذَا التَّوْجِيه عَمَّا الْكَلَام فِيهِ أبعد من زمَان الْمَذْكُورين عَن زمَان نَحن فِيهِ لكنه قد حلف بِاللَّه وَالله عليم بِالنِّيَّاتِ ثمَّ قَالَ ابْن هرمة يعْتَذر إِلَى إِبْرَاهِيم الْغمر من ذَلِك ويمدحه وأباه وأخاه // (من الْبَسِيط) //
(يَا ذَا النُّبوَّةِ يَدْعُونِي ليُسْمِعَنِي ... مواعظاً من جَمِيلِ رَأْيِهِ الحَسَنِ)
(أَقْبِلْ عَلَيَّ بوَحْهٍ منْكَ أَعْرِفُهُ ... فقد فَهِمْتُ وسُدَّ السَّمْعُ للأُذُنِ)
(لَا وَالَّذِي أنتَ مِنْه رَحْمَةٌ نَزَلَتْ ... نَرجُو عَواقِبَهَا فِي غَابِرِ الزَّمَنِ)
(لَقَد أَتَيْت بِأَمْرٍ مَا أَبهْتُ لَهُ ... وَلا تَعَمَّدَهُ قَصْدى وَلَا عنني)
(إِلَّا مَقَالةَ أقوامٍ ذَوي إحَن ... وَمَا مَقَالُ ذَوِي الشَّحْنَاءِ والإحَن)
(لَمْ يُحْسنُوا الظَّنَّ إذْ ظنُّوا لِذِي حَسَبٍ ... وفِيهِمُ الغَدْرُ مَقْرُون إِلَى الظنَنِ)
(مَا غيرت وَجهه أم مقصرةٌ ... إِذا القتامُ تغشَّى أوجه الهجنِ)
(وكَيْفَ أَمْشِي مَعَ الأَقْوامِ مُعْتَدِلاً ... وَقد رَميتُ صَحِيحَ العودِ بالأُبنِ)
(وَكَيف يأْخذُ مثلي فِي تحيزِهِ ... وسط المعاشِرِ مَبْخوسًا من الثَّمَنِ)
(وَقد صَحِبْتُ وجَاوَرْتُ الرِّجَالَ فلمْ ... أمْلُلْ إِخَاءً وَلَمْ أَغْدرْ ولَمْ أَخُنِ)
(ومَا بَرِحْتُ بِحَمْدِ اللهِ فِي سَنَنٍ ... مِن صَالح العَهْدِ أُمْضيهَا إِلَى سَنَنِ)(4/130)
(يابْنَ الفَوَاطِمِ خَيْر النَّاسِ كلِّهمُ ... بَيْتًا وأولاهُمُ بالفَوْز لَا الغَبَنِ)
(إنْ لِنْتَ نَحْوِي فإنَّ الله جَابِرُنا ... وَلَا اخْتِيارَ لنا إنْ أنْتَ لَمْ تَلِنِ)
(ومَا لَبِسْتُ عنانِي فِي مساءتكُمْ ... وَلَا خَلَعْتُ لغشِّ نَحْوَكُمْ رَسَني)
(وأنتَ مِنْ هَاشِمٍ فِي سِرِّ نَبْعَتها ... وطينةٍ لم تُقَارِفْ هُجْنَةَ الطينِ)
(لَوْ رَاهنَتْ هاشمٌ عَنْ خَيْرهَا رَجُلاً ... لَكَانَ ابُوكَ الَّذِي يَخْتَصُّ بالرَّهنِ)
(واللهِ لَوْلا أَبُوكَ الخَيْرُ قَدْ نَزَلَتْ ... منِّى قَوَافٍ بأَهْلِ اللُّؤْمِ والوَهَنِ)
(تَبْرِي العِظَامَ فَتُبدي عَنْ جَنَاجِنِها ... أَخْذَ الشَّرِيحَةِ بالمبراةِ والسفنِ)
(أَنْت الجَوَادُ الَّذِي نَدْعُو فَتلْحقُنَا ... إِذا تَرَاخَى المَدى بالقرح والحصنِ)
(فَمَا أُبَالِي إِذا مَا كُنْتَ لي كنفاً ... مَنْ صدَّ أَو بَتَّ مِنْ أقْرانِهِ قَرنِي)
(ومَا أُبالي عَدْوَّ اللهِ شَاحَنني ... أَمْ زَاحَمَتْ شعفات الصُّمِّ من حضنِ)
(أنتَ المُرَجَّى لأَمْرِ النَّاس إنْ أَزِمَتْ ... جَدَّاءُ صَرمَاءُ لمْ تَصْدُرْ على لبنِ)
(يأوونَ مِنكَ إِلَى حِصْنٍ يُلاذُ بِهِ ... تأوِى إِلَيْه الطَّرادى وَاسِع العطنِ)
وأعقب الْحسن بن زيد من سَبْعَة رجال ثَلَاثَة مِنْهُم مكثرون أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم وَعلي الشريد وَأَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل وَأَرْبَعَة مقلون أَبُو الْحسن إِسْحَاق وَأَبُو الطَّاهِر زيد وَأَبُو زيد عبد الله وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم أعقب الْقَاسِم بن الْحسن وَهُوَ الْفَرْع الأول من رجلَيْنِ مُحَمَّد البطحاني وَعبد الرَّحْمَن الشجري أما مُحَمَّد البطحاني وَنسبه إِلَى بطحان بِالضَّمِّ مَوضِع بِالْمَدِينَةِ وبالفتح إِلَى الْبَطْحَاء وَكِلَاهُمَا ورد وَكَانَ فَقِيها لَهُ عقب كثير مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد البطحاني أعقب فِي بِلَاد شَتَّى وَفِيهِمْ مجانين وبله وَنقص وسفهاء من وَلَده الْوَزير أَبُو مَنْصُور نَاصِر بن مهْدي كَانَ فَاضلا تولى الوزارة بِبَغْدَاد للخليفة النَّاصِر العباسي فِي عشر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وعزل فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَنقل وَعِيَاله إِلَى دَار الْخلَافَة وَأجْرِي عَلَيْهِ النَّفَقَة إِلَى أَن مَاتَ لَيْلَة السبت لثمان خلون من جُمَادَى الأولى سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا الشريف قَتَادَة النَّابِغَة جد سَادَاتنَا وُلَاة مَكَّة المشرفة وانقرض عقبه قَالَ فِي عُمْدَة الطَّالِب كَانَ فِيهِ تجبر وتكبر فحكي أَنه وجد يَوْمًا فِي(4/131)
رقْعَة فأنكرها فَأَخذهَا فَإِذا فِيهَا من // (السَّرِيع) //
(لاَ قَاتَلَ الله يَزِيدًا وَلاَ ... مُدَّتْ يَدُ السُّوءِ إلَى نَعْلِهِ)
(لأَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَا قدرةٍ ... عَلى اجْتِثَاثِ الفَرْع مِنْ أصلِهِ)
(لَكِنَّهُ أَبْقَى لَنَا مِثلَكُمْ ... أَحْيَاءَ كَيْ يُعْذَرَ فِي فِعْلِهِ)
فاضطرب لذَلِك واجتهد أَن يعلم واضعها قلت هَذَا تجرؤ إِلَى الْغَايَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه لَكِن الابْن السوء يكْسب الْآبَاء الْكِرَام السوء وَمِنْهُم الدَّاعِي الصَّغِير بِالريِّ وطبرستان وَهُوَ الْحسن بن الْقَاسِم بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد البطحاني بن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد وَكَانَ بَين هَذَا الدَّاعِي الصَّغِير وَبَين الأطروش حروب وَقتل هَذَا الدَّاعِي سنة تسع عشرَة وثلاثمائة وَمن عقبه أَيْضا الْقَاسِم بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل أحد قواد الْحسن بن زيد وهم غيروا نعم أهل تِلْكَ الْآفَاق وأذهبوا بهجتهم وَكَانُوا سَببا لتورد الديلم دَار الْإِسْلَام بِمَا يستجيشونهم خرج مَعَهم وَمَعَ الْحُسَيْنِي مَا كانُ بن ماهان ملك الديلم وَكَانَ مرداويج وَبَنُو بويه من بعض رِجَاله وَكَانَ لَهُم من عشيرتهم قواد وَرِجَال يسمون بأسماء الديلم من أجل مرباهم بَينهم وَالله يخلق مَا يَشَاء وَأما عبد الرَّحْمَن الشجرىِ فنسبته إِلَى قَرْيَة قريبَة من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة يكنى أَبَا جَعْفَر لَهُ عقب من ثَلَاثَة عَليّ وَمُحَمّد وجعفر وَمِنْهُم بَنو المنقوب وَبَنُو أبي الْغَيْث وَبَنُو أبي نفيشة وَبَنُو شكر وَبَنُو أسود الْفَرْع الثَّانِي على الشريد بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب سمي بذلك لقُوته مَاتَ فِي حبس الْمَنْصُور وأعقب من وَلَده عبد الله ولعَبْد الله هَذَا عقب مِنْهُم السبعية وَهَذِه نِسْبَة إِلَى محلّة بِالْكُوفَةِ الْفَرْع الثَّالِث أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل ويلقب جالب الْحِجَارَة بِالْجِيم وَقيل بِالْحَاء لِشِدَّتِهِ وقوته ويلقب بالمهفهف أَيْضا أعقب من مُحَمَّد وَعلي النازوكي أما عَليّ هَذَا فَلهُ عقب مِنْهُم بَنو طرخان وَأما مُحَمَّد فأعقب من وَلَده زيد وَمِنْه مُحَمَّد الدَّاعِي وَأَخُوهُ الْحسن ملكا طبرستان فملكها أَولا الْحسن ولقب بالداعي الْكَبِير وبالداعي الأول سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ وَتُوفِّي سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَلم يعقب وَكَانَ(4/132)
جريئاً على سفك الدِّمَاء على مَا حَكَاهُ صَاحب عُمْدَة الطَّالِب الْفَرْع الرَّابِع أَبُو الْحسن إِسْحَاق بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ أَعور ويلقب بالكوكبي وَكَانَ مَعَ الرشيد قيل إِنَّه كَانَ يسْعَى بآل أبي طَالب فَكَانَ عينا للرشيد عَلَيْهِم وسعى بِجَمَاعَة من العلويين فَقتلُوا بِرَأْيهِ وَغَضب الرشيد عَلَيْهِ آخر الْأَمر فحسبه حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس قَالَ أَبُو عبد الله أولد من هَارُون وَالْحسن وَقيل إِسْحَاق لَيْسَ لَهُ ولد الْفَرْع الْخَامِس أَبُو طَاهِر زيد بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عقبه من ولد طَاهِر وَمِنْه فِي مُحَمَّد بن طَاهِر الْفَرْع السَّادِس أَبُو زيد عبد الله بن الْحُسَيْن بن زيد بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب لَهُ خَمْسَة عَليّ وَالْحسن وَمُحَمّد وَيزِيد وَإِسْحَاق لَهُم أعقاب الْفَرْع السَّابِع أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب أعقب من وَلَده إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم وأعقب إِبْرَاهِيم من الْحسن وَمُحَمّد لَهما عقب قَالَ ابْن خلدون وَمن عقب إِبْرَاهِيم بن الْحسن مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّام الْمُعْتَمد وجاهر بالمنكرات وَالْقَتْل إِلَى أَن تعطلت الْجَمَاعَات وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأما الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُوَ الْقَتِيل بالطف أَيَّام يزِيد أَوْلَاده اثْنَا عشر وَقيل أقل قتل غالبهم ب كربلاء وَلم يعقب مِنْهُم إِلَّا على زين العابدين فَقَط فَجَمِيع بني حُسَيْن ينسبون إِلَيْهِ وَهُوَ الإِمَام بعد أَبِيه الْحُسَيْن ولد بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْخَمِيس خَامِس شعْبَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ من الْهِجْرَة فِي حَيَاة جده على ابْن أبي طَالب قبل وَفَاته بِسنتَيْنِ كنيته أَبُو الْحسن وَقيل أَبُو مُحَمَّد وَقيل أَبُو بكر ألقابه زين العابدين والزكي والأمين وَذُو الثفنات وزين العابدين أشهرها صفته أسمر قصير رَقِيق معاصروه مَرْوَان وَعبد الْملك والوليد ابْنه عمره سبع وَخَمْسُونَ سنة أَقَامَ مِنْهَا مَعَ جده عَليّ بن أبي طَالب سنتَيْن وَمَعَ عَمه الْحسن بعد وَفَاة جده عشر سِنِين وَمَعَ أَبِيه بعد وَفَاة عَمه إِحْدَى وَعشْرين سنة وَبَقِي بعد(4/133)
وَفَاة أَبِيه أَرْبعا وَعشْرين سنة وَهِي مُدَّة إِمَامَته قَالَ السَّيِّد نور الدّين عَليّ السمهودي مؤرخ الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِي كِتَابه جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ كَانَت أمه سَلامَة بنت يزدجرد آخر مُلُوك الْفرس وَكَانَت لَهُ ثَلَاث بَنَات وسبين فِي زمن عمر بن الْخطاب فحصلت وَاحِدَة مِنْهُنَّ لعبد الله بن عمر بن الْخطاب فأولدها سَالم بن عبد الله بن عمر وحصلت الْأُخْرَى لمُحَمد بن أبي الصّديق فأولدها الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر وحصلت الثَّالِثَة للحسين بن عَليّ فأولدها عليا زين العابدين الْمَذْكُور فهم بَنو خَاله كَانَ زين العابدين مَعَ أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا ب كربلاء فاستبقي قيل لصِغَر سنه لأَنهم قتلوا كل من أنبت وَكَانَ قد أَمرهم عبيد الله بن زِيَاد بقتْله ثمَّ صرفه الله تَعَالَى عَنهُ وَأَشَارَ بعض الفجرة على يزِيد بقتْله أَيْضا فحماه الله مِنْهُ وَالْحَمْد لله والْمنَّة ثمَّ إِن يزِيد صَار يُكرمهُ ويعظمه وَيجْلس مَعَه وَلَا يَأْكُل إِلَّا وَهُوَ مَعَه ثمَّ بَعثه إِلَى الْمَدِينَة فَكَانَ بهَا مُحْتَرما مُعظما قَالَ ابْن عَسَاكِر ومسجده بِدِمَشْق مَعْرُوف وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ مشْهد على بِجَامِع دمشق قَالَ الإِمَام الزُّهْرِيّ مَا رَأَيْت قرشياً أفضل مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد كَانَ زين العابدين ثِقَة مأمونَاً كثير الحَدِيث عَن رَسُول الله
عَالما لم يكن فِي أهل بَيته مثله وَكَانَ إِذا تَوَضَّأ يصفر لَونه فَإِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة أرعد من الْفَزع فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَتَدْرُونَ بَين يَدي من أقوم وَلمن أُنَاجِي ويروى أَنه احْتَرَقَ الْبَيْت الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فَلَمَّا انْصَرف قيل لَهُ مَا بالك لم تَنْصَرِف حِين وَقعت النَّار فَقَالَ إِنِّي شغلت عَن هَذِه النَّار بالنَّار الْأُخْرَى وروى أَنه لما حج وَأَرَادَ أَن يُلَبِّي أرعد واصفر وخر مغشياً عَلَيْهِ فَلَمَّا سُئِلَ قَالَ إِنِّي أخْشَى إِذا قلت لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك أَن يَقُول لي لَا لبيْك وَلَا سعديك فشجعوه وَقَالُوا لَا بُد من التَّلْبِيَة فَلَمَّا لبّى غشي عَلَيْهِ حَتَّى سقط من الرَّاحِلَة وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم وَلَيْلَة ألف رَكْعَة وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ يَقُول صَدَقَة اللَّيْل تُطْفِئ غضب الرب عز وَجل وَكَانَ إِذا خرج من منزله قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَتصدق الْيَوْم وَأهب عرضي لمن يغتابني(4/134)
وَمَات لرجل ولد مُسْرِف على نَفسه فجزع عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن من وَرَاء ذَلِك لخلالاً ثَلَاثًا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وشفاعة رَسُول الله
وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَاخْتلف فِي تَارِيخ وَفَاته وَالْجُمْهُور أَنَّهَا سنة أَربع وَتِسْعين فِي أَولهَا وَأغْرب الْمَدَائِنِي فَقَالَ فِي سنة مائَة وَدفن بِالبَقِيعِ فِي الْقَبْر الَّذِي فِيهِ عَمه الْحسن ابْن عَليّ بقبة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَدفن فِي هَذَا الْقَبْر ابْنه مُحَمَّد الباقر وَابْنه جَعْفَر الصَّادِق فهم أَرْبَعَة فِي قبر وَاحِد فَأكْرم بِهِ قبراً وَيُقَال إِن رَأس الْحُسَيْن أرسل بِهِ إِلَى الْمَدِينَة فَدفن فِيهِ وَالله أعلم أَوْلَاده خَمْسَة عشر ولدا وَقيل أَكثر وَقيل أقل الْعقب مِنْهُ فِي سِتَّة أَسْبَاط فَقَط وهم مُحَمَّد الباقر وَعبد الله الباهر وَزيد الشَّهِيد وَعمر الْأَشْرَف وَالْحُسَيْن الْأَصْغَر وَعلي الْأَصْغَر السبط الأول الإِمَام بعد أَبِيه هُوَ مُحَمَّد الباقر بن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَسَيَأْتِي ذكر تَرْجَمته أَيْضا عَن ذكر الأتمة الاثْنَي عشر قَرِيبا أَوْلَاده سِتَّة الْعقب مِنْهُ فِي جَعْفَر السبط الثَّانِي عبد الله الباهر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب لقب بالباهر لجماله قَالُوا مَا حضر مَجْلِسا إِلَّا بهر جماله وَحسنه من حضر توفّي وَهُوَ ابْن سبع وَخمسين سنة يكنى أَبَا مُحَمَّد وعقبه قَلِيل أعقب من ابْنه مُحَمَّد الأرقط وَحده ويكنى مُحَمَّد هَذَا أَبَا عبد الله وَكَانَ مُحدثا وأقطعه السفاح عين خَالِد بن سعيد ويلقب بالأزرق قَالَ الْعمريّ كَانَ مجدراً فلقب بالأرقط قَالَ أَبُو نصر البُخَارِيّ من يطعن فِي الأرقط فَلَا يطعن من حَيْثُ النّسَب وَإِنَّمَا يطعن بِشَيْء آخر جرى بَينه وَبَين جَعْفَر الصَّادِق وَيُقَال إِنَّه بَصق فِي وَجه الصَّادِق فَدَعَا عَلَيْهِ فَصَارَ أرقط الْوَجْه بِهِ نمش كريه المنظر وَأما نسبه فَلَا مطْعن فِيهِ وأعقب الأرقط من إِسْمَاعِيل وَحده وَإِسْمَاعِيل من اثْنَيْنِ مُحَمَّد وَالْحُسَيْن البنفسج أما مُحَمَّد فَلهُ أَحْمد الدح وَإِسْمَاعِيل الناصب وَلَهُمَا أعقاب وَأما الْحُسَيْن فعقبه(4/135)
فِي عبد الله وَأحمد وَإِسْمَاعِيل الدح لَهُم أعقاب وَمن ولد الأرقط الْحُسَيْن الكوكبي ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الأرقط السبط الثَّالِث زيد الشَّهِيد بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن يكنى أَبَا الْحسن وَسَتَأْتِي تَرْجَمته عِنْد ذكر قِيَامه فِي الْبَاب الثَّانِي الْمَعْقُود لمن دَعَا من الْأَهْل إِلَى الْمُبَايعَة أعقب من ثَلَاثَة الْحُسَيْن ذِي الدمعة قيل لَهُ ذَلِك لِكَثْرَة بكائه وَعِيسَى موتم الأشبال وَهُوَ الَّذِي حَارب الْمَنْصُور أول خِلَافَته وَمُحَمّد وَأما ابْنه يحيى فَلم يعقب وَخرج بعد قتل أَبِيه وَسَيَأْتِي ذكره فِي الدعاة فِي الْبَاب الْمشَار إِلَيْهِ أعقب الْحُسَيْن من ثَلَاثَة يحيى وَالْحُسَيْن وَعلي وأعقب عِيسَى من أَرْبَعَة أَحْمد المختفي وَزيد وَمُحَمّد وَالْحُسَيْن عصارة وأعقب مُحَمَّد من رجل وَاحِد وَهُوَ أَبُو عبد الله جَعْفَر الشَّاعِر وأعقب الشَّاعِر من ثَلَاثَة مُحَمَّد الْخَطِيب وَأحمد مِسْكين والقائم وَلَهُم أعقاب مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد الْخَطِيب ولعلي الْمَذْكُور قَوْله // (من المتقارب) //
(وإنَّا لنُصْبِحُ أَسْيَافَنَا ... إِذَا مَا اصْطَبَحْنَا بَيَوْمٍ سَفوكِ)
(مَنَابِرهُنَّ بُطُونُ الأكُفِّ ... وأَغْمَادُهُنَّ رُءوسُ المَلُوك)
وَله أَيْضا // (من الوافر) //
(لَنَا مِنْ هَاشِمٍ هَضَبَات غُر ... مُطنَّبةٌ بِأَوْتَادِ السَّمَاءِ)
(تُطِيفُ بِنَا المَلاَئكُ كُلَّ يَوْمٍ ... ونكفلُ فِي حُجورِ الأَنْبَياءِ)
(ويَهْتَزُّ المَقَامُ لَنَا ارتِياحًا ... ويَلْقَانَا صفاه الصفاءِ)
وَمن ولد الْحُسَيْن ذِي الدمعة الْحسن بن الْحُسَيْن بن زيد وَقتل مَعَ أبي السَّرَايَا وَيحيى بن الْحُسَيْن الَّذِي كَانَ من عقبه يحيى بن عمر بن يحيى الْقَائِم بِالْكُوفَةِ أَيَّام المستعين وَسَيَأْتِي ذكره فِي الْبَاب الثَّانِي الْمَذْكُور وَعلي بن زيد بن الْحُسَيْن بن زيد قَامَ بِالْكُوفَةِ ثمَّ هرب إِلَى صَاحب الزنج بِالْبَصْرَةِ فَقتله وَأخذ جَارِيَة لَهُ كَانَ سباها من الْبَصْرَة السبط الرَّابِع عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله(4/136)
تَعَالَى عَنْهُم وَهُوَ أَخُو زيد الشَّهِيد لِأَبَوَيْهِ وأسن ويكنى أَبَا عَليّ وَقيل أَبَا جَعْفَر وَكَانَ مُحدثا فَاضلا أعقب من رجل وَاحِد وَهُوَ عَليّ الْأَصْغَر والعقب من عَليّ الْأَصْغَر هَذَا فِي ثَلَاثَة الْقَاسِم وَعمر الشجري وَأَبُو مُحَمَّد الْحسن من ابْنه عَليّ وأعقب عَليّ من ثَلَاثَة رجال أَبُو عَليّ الصُّوفِي وَأَبُو عبد الله الْحُسَيْن الشَّاعِر الْمُحدث وَأَبُو مُحَمَّد الْحسن النَّاصِر الْكَبِير الأطروش إِمَام الزيدية ملك الديلم صَاحب الْمقَالة إِلَيْهِ تنتسب الناصرية من الزيدية ورد الديلم سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ بطبرستان فَلَمَّا غلب رَافع عَلَيْهَا أَخذه فَضَربهُ ألف سَوط فطرش وَأقَام بِأَرْض الديلم يَدعُوهُم إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِلَى الْإِسْلَام أَربع عشرَة سنة وَدخل طبرستان فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وثلاثمائة فملكها ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر ويلقب بالناصر للحق وَأَسْلمُوا على يَده وَعظم أمره وَتُوفِّي ب آمل عَن سبع وَتِسْعين سنة لَهُ عقب وَعمر الشجري لَهُ عقب السبط الْخَامِس أَبُو عبد الله الْحُسَيْن الْأَصْغَر ابْن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم كَانَ عفيفاً مُحدثا عَالما توفّي سنة تسع وَخمسين وَمِائَة عَن سبع وَخمسين سنة وَدفن بِالبَقِيعِ وعقبه عَالم كثير بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام وَالْمغْرب وبلاد الْعَجم مِنْهُم أُمَرَاء الْمَدِينَة وسادات الْعرَاق وملوك الرّيّ أعقب من خَمْسَة رجال عبيد الله الْأَعْرَج وَعبد الله وَعلي وَأبي مُحَمَّد الْحسن وَسليمَان أما سُلَيْمَان بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين فأعقب من ابْنه سُلَيْمَان بن سُلَيْمَان وعقبه بالمغرب يُقَال لَهُم الفواطم وَأما أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر فعقبه من ابْنه مُحَمَّد بن الْحسن وَمِنْه من عبد الله ولعَبْد الله مُحَمَّد السليق وَعلي المرعش وعقبهما كثير بِبِلَاد الْعَجم وَأما عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر فأعقب من ثَلَاثَة عِيسَى الْكُوفِي وَأحمد جفينة ومُوسَى حمضة لَهُم أعقاب أما عبد الله بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر مَاتَ فِي حَيَاة أَبِيه فعقبه من جَعْفَر صحصح بن عبد الله وَكَانَ لَهُ عشرَة وانقرضوا ابْنَته زَيْنَب بنت عبد الله بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر(4/137)
تزَوجهَا الرشيد وفارقها لَيْلَة دُخُوله بهَا وَذَلِكَ أَنه بعث إِلَيْهَا تِلْكَ اللَّيْلَة خَادِمًا وَمَعَهُ تكة يُرِيد أَن يربطها لِئَلَّا تمْتَنع على الرشيد فَلَمَّا دنا الْخَادِم مِنْهَا ركلته برجلها فَكسرت ضعلين من أضلاعه فخافها الرشيد وَلم يدْخل بهَا وردهَا من غدها إِلَى الْحجاز وأجرى عَلَيْهَا فِي كل سنة أَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال وأدرها عَلَيْهَا بعده ابْنه الْمَأْمُون فأعقب جَعْفَر صحصح بن عبد الله بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر من ثَلَاثَة مُحَمَّد العقيقي وَإِسْمَاعِيل المنقذي وَيُقَال لولدهما المنقذيون سموا بذلك لأَنهم سكنوا دَار المنقذ بِالْمَدِينَةِ فنسبوا إِلَيْهَا وَبَنُو مُحَمَّد العقيقيون لَهُم أعقاب وتنسب إِلَيْهِم بَنو مَيْمُون وَآل الْبكْرِيّ وَآل عدنان قَالَ ابْن خلدون وَمن ولد الْحُسَيْن عبد الله العقيقي بن الْحُسَيْن كَانَ من وَلَده الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الله العقيقي فتله الْحسن بن زيد صَاحب طبرستان وَأما عبيد الله الْأَعْرَج بن الْحسن الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين فيكنى أَبَا عَليّ كَانَ فِي إِحْدَى رجلَيْهِ نقص وَفد على أبي الْعَبَّاس السفاح فأقطعه ضَيْعَة بِالْمَدَائِنِ تغل فِي السّنة ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَكَانَ عبيد الله قد تخلف عَن بيعَة مُحَمَّد النَّفس الزكية لما خرج بِالْمَدِينَةِ فَحلف مُحَمَّد إِن رَآهُ لَيَقْتُلَنهُ فَلَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ غمض مُحَمَّد إِحْدَى عَيْنَيْهِ مَخَافَة أَن يَحْنَث توفّي عبيد الله فِي حَيَاة أَبِيه عَن سبع وَثَلَاثِينَ سنة وانقسم عقبه بطوناً وأفخاذاً وعشائر أعقب من أَرْبَعَة رجال جَعْفَر الْحجَّة وَعلي الصَّالح وَمُحَمّد الجوابي وَحَمْزَة مختلس الْوَصِيَّة أما حَمْزَة مختلس الْوَصِيَّة فأعقب من ثَلَاثَة رجال مُحَمَّد وَالْحُسَيْن وَعلي وَكَانَ لَهُ عبيد الله لم يطلّ لَهُ ذيل وأعقب مُحَمَّد من رجلَيْنِ أبي عَليّ ويلقب سنَّور الله لَهُ عقب بِبِلَاد الْعَجم وَالْحُسَيْن الحرون وَكَانَ أحد الْأَبْطَال الْمَشْهُورين مَاتَ فِي حبس الْمهْدي العباسي(4/138)
وَأما الْحُسَيْن بن حَمْزَة ويكنى أَبَا الشنف لَهُ عقب من ابْنه مُحَمَّد مِنْهُم بَنو مَيْمُون وَبَنُو حَمْزَة وَأما عَليّ فأعقب عَليّ بن عَليّ وَله عقب وَقيل انقرض وَأما مُحَمَّد الجوابي بن عبيد الله الْأَعْرَج بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر وَالْجَوَاب قَرْيَة بِالْمَدِينَةِ إِلَيْهَا نسب لَهُ عقب من وَلَده الْحسن بن مُحَمَّد وَأما عَليّ الصَّالح بن عبيد الله الْأَعْرَج بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر أعقب من رجلَيْنِ عبيد الله الثَّانِي وَإِبْرَاهِيم وَلَهُمَا أعقاب مبسوطة التفاريع فِي محالها وَمن أعقاب عبيد الله الثَّانِي الْأَمِير أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد الأشتر ممدوح أبي الطّيب أَحْمد بن الْحُسَيْن المتنبي بالقصيدة الدالية الَّتِي مطْلعهَا // (من المنسرح) //
(أَهْلاً بدارٍ سباك أَغيدها ... )
وَأما جَعْفَر الْحجَّة ابْن عبيد الله الْأَعْرَج بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين فَكَانَ من أَئِمَّة الزيدية وَكَانَ لَهُ شيعَة يسمون الْحجَّة وَكَانَ الْقَاسِم الرسي بن طَبَاطَبَا يَقُول جَعْفَر بن عبيد الله إِمَام آل مُحَمَّد وَكَانَ فصيحاً وَمن عقبه الملقب بِمُسلم الَّذِي يُرِيد مصر أَيَّام كافور وَهُوَ مُحَمَّد بن عبيد الله بن طَاهِر بن يحيى الْمُحدث بن الْحسن بن جَعْفَر حجَّة الله وَابْنه طَاهِر بن مُسلم وَمن عقب طَاهِر هَذَا أُمَرَاء الْمَدِينَة إِلَى هَذَا الْعَهْد بَنو جماز بن هبة بن جماز بن مَنْصُور بن جماز بن شيحة بن هَاشم بن الْقَاسِم بن مهنا ومهنا هُوَ الْحسن بن طَاهِر بن مُسلم قَالَ ابْن خلدون هَكَذَا قَالَ المسبحي مؤرخ العبيديين وَقَالَ الْعُتْبِي مؤرخ دولة بني سبكتكين إِن مهنا هُوَ ابْن دَاوُد بن الْقَاسِم أخي مُسلم وَعم طَاهِر قلت رَأَيْت فِي جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ مَا نَصه جد أهل بَيت بني مهنا أُمَرَاء الْمَدِينَة من الْوُلَاة والمعزولين يحيى الْمُحدث ابْن الْحسن بن جَعْفَر الْحجَّة ابْن عبيد الله الْأَعْرَج بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب لِأَن مهنا الْمَذْكُور هُوَ ابْن دَاوُد بن الْقَاسِم بن عبيد الله بن طَاهِر بن يحيى الْمَذْكُور بل غَالب من بِالْمَدِينَةِ الْيَوْم من أَشْرَاف بني حُسَيْن من نَسْله وَهُوَ مؤيد لما قَالَه الْعُتْبِي لَا كَمَا ترَاهُ كَمَا قَالَ المسبحي(4/139)
وَزعم ابْن سعيد أَن بني جماز بن شيحة أُمَرَاء الْمَدِينَة من عقب عِيسَى بن زيد الشَّهِيد وَفِيه نظر وَمن ولد عبيد الله الْأَعْرَج حَمْزَة بن الْحسن بن سُلَيْمَان بن سُلَيْمَان بن حُسَيْن ملك هاز فِي أَرض الْمغرب وَملك قطيعاً بلد صنهاجة وَإِلَيْهِ ينْسب سوق حَمْزَة هُنَالك فِيمَا قَالَه ابْن حزم وَولده بهَا كثير وَعم أَبِيه الْحسن بن سُلَيْمَان من قواد الْحسن بن زيد بطبرستان السبط السَّادِس عَليّ الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يكنى أَبَا الْحسن أعقب من ابْنه الْحسن الْأَفْطَس مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ حمل وأعقب الْأَفْطَس وأنجب وَأكْثر وعقبه من خَمْسَة رجال عَليّ حروري وَعمر وَالْحُسَيْن وَالْحسن المكفوف وَعبد الله الشَّهِيد قَتِيل البرامكة وَأما الْحُسَيْن بن الْحسن الْأَفْطَس الَّذِي قَامَ بِمَكَّة أَيَّام أبي السَّرَايَا من قبل مُحَمَّد الديباج بن الصَّادِق ثمَّ دَعَا لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْغمر وَأخذ مَال الْكَعْبَة وَفِيه يطعنون لقبح سيرته وَقد تكلم فِيهِ قوم مِنْهُم الشريف أَبُو جَعْفَر بن معية الْحسنى صَاحب الْمَبْسُوط وَأَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن طَبَاطَبَا وأثبته أَكثر الْعلمَاء وَعمل شيخ الشّرف العبيدلي كتابا سَمَّاهُ الِانْتِصَار لبني فَاطِمَة الْأَبْرَار ذكر الْأَفْطَس وَولده بِصِحَّة النّسَب وذم الطاعن عَلَيْهِم قَالَ الْعمريّ وَهُوَ فِي الجرائد والمشجرات مَا دفعهم دَافع وَقَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين بن النَّقِيب لما سُئِلَ عَن الْأَفْطَس وَولده قَالَ إِن رَسُول الله
وعد أَن يفْتَرق من ذُريَّته عدد أَسْبَاط بني إِسْرَائِيل وَقد افترق من ولد الْحُسَيْن سِتَّة أَسْبَاط هم أَوْلَاد على زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب فَلَو توجه الطعْن على الْأَفْطَس لم يكن الْعلي بن عَليّ بن الْحُسَيْن عقب وَلَا يكون أَوْلَاد فَاطِمَة الزهراء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا اثْنَي عشر سبطاً قَالَ وَهَذِه حجَّة ظَاهِرَة على صِحَة نسبهم(4/140)
وَقيل إِن الْحُسَيْن بن الْحسن الْأَفْطَس كَانَ حَامِل راية مُحَمَّد النَّفس الزكية وَلم يخرج مَعَه أسمع مِنْهُ وَلَا أبْصر وَكَانَ يُقَال لَهُ رمح أبي طَالب لطَوْلِهِ وطُولِهِ وَلما قتل مُحَمَّد النَّفس الزكية اختفى الْحسن الْأَفْطَس فَلَمَّا دخل الصَّادِق الْعرَاق وَلَقي الْمَنْصُور قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتُرِيدُ أَن تسدي إِلَى رَسُول الله
يدا قَالَ نعم يَا أَبَا عبد الله قَالَ الصَّادِق تَعْفُو عَن الْحسن بن عَليّ بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن فَعَفَا عَنهُ قَالَ أَبُو نصر البُخَارِيّ فهده شَهَادَة قَاطِعَة من الصَّادِق أَنه ابْن رَسُول الله
وَعلي وَمُحَمّد ابْنا الْأَفْطَس قَتلهمَا الْمَأْمُون وَأما مُحَمَّد الباقر يكنى أَبَا جَعْفَر الْغَايَة السَّاكِن وَالْهَادِي وأشهرها الباقر لقَوْل النَّبِي
لجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ إِنَّك ستعيش حَتَّى ترى رجلا من أَوْلَادِي اسْمه اسْمِي يبقر الْعلم بقرًا فَإِذا لَقيته فأقره مني السَّلَام فَلَقِيَهُ جَابر وأقرأه السَّلَام من رَسُول الله
وَمَات جَابر بعد ذَلِك بِقَلِيل ولد بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث صفر سنة سبع وَخمسين من الْهِجْرَة قبل قتل الْحُسَيْن جده بِثَلَاث سِنِين صفته معتدل السمرَة معاصره الْوَلِيد وولداه يزِيد وَإِبْرَاهِيم عمره ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة وَقيل سِتُّونَ أَقَامَ مِنْهَا مَعَ جده الْحُسَيْن ثَلَاث سِنِين وَمَعَ ابْنه عَليّ زين العابدين ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وَقيل خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وَبَقِي بعد موت أَبِيه سبع عشرَة سنة وَهِي مُدَّة إِمَامَته يُقَال مَاتَ بالسم فِي زمن إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد بن عبد الْملك سنة عشر وَمِائَة وَقيل سنة أَربع عشرَة وَدفن بِالبَقِيعِ بالقبر الَّذِي فِيهِ أَبوهُ وَعم أَبِيه الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَوْلَاده سِتَّة أَرْبَعَة ذُكُور جَعْفَر الصَّادِق وَعبد الله الأفطح أمهما زُرَيْوَةُ بنت الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق وَإِبْرَاهِيم وَعلي وبنتان زَيْنَب وَأم سَلمَة والعقب مِنْهُ فِي جَعْفَر الصَّادِق فَقَط فَأَما عبد الله الأفطح فَكَانَت لَهُ شيعَة يدعونَ إِمَامَته مِنْهُم زُرَارَة بن أعين الْكُوفِي(4/141)
ثمَّ قَامَ بِالْمَدِينَةِ وَسَأَلَهُ عَن مسَائِل من الْفِقْه فألفاه جَاهِلا فَرجع عَن القَوْل بإمامته وانقطعت الشِّيعَة الأبطحية وَزعم ابْن حزم أَن بني عبيد مُلُوك مصر ينتسبون إِلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح وَأما الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ الْقَائِم بعد أَبِيه وَهُوَ سادس الْأَئِمَّة فيكنى أَبَا عبد الله وَقيل أَبَا إِسْمَاعِيل وَله ألقاب الْفَاضِل والطاهر وأشهرها الصَّادِق وَكَانَ يُقَال لَهُ عَمُود الشّرف صفته معتدل آدم اللَّوْن معاصره أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور أمه فُرَيْوَةُ بنت الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد كَمَا تقدم ذَلِك وَولد بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثلاث بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة وَقيل ثَلَاث وَثَمَانِينَ عمره ثَمَان وَسِتُّونَ سنة أَقَامَ مِنْهَا مَعَ جده عَليّ زين العابدين اثْنَتَيْ عشرَة سنة وأياماً وَمَعَ أَبِيه مُحَمَّد الباقر ثَلَاث عشرَة سنة وأياماً وَبَقِي بعد موت أَبِيه أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَهِي مُدَّة إِمَامَته وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْإِثْنَيْنِ منتصف رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة يُقَال مَاتَ بالسم فِي زمن الْمَنْصُور وَدفن مَعَ أَبِيه وجده وَعم جده الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَعم جد جده الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بِالبَقِيعِ بَقِيَّة الْعَبَّاس فَللَّه دره من قبر مَا أشرفه وأطهره وأكرمه وأنوره أَوْلَاده سَبْعَة وَقيل أَكثر الْعقب مِنْهُ فِي خَمْسَة رجال وهم الإِمَام مُوسَى الكاظم وَإِسْمَاعِيل وَعلي العريضي وَمُحَمّد الْمَأْمُون وَإِسْحَاق وَلَيْسَ لَهُ ابْن اسْمه نَاصِر معقب وَلَا غير معقب بِإِجْمَاع أهل النّسَب وبنواحي أهل خُرَاسَان قوم ينسبون إِلَى نَاصِر بن جَعْفَر وهم أدعياء كذابون لَا محَالة وهم هُنَاكَ يخاطبون بالشرف فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَمن أَوْلَاد جَعْفَر الصَّادِق مُحَمَّد الديباج خرج بِمَكَّة أَيَّام الْمَأْمُون وَبَايع لَهُ أهل الْحجاز بالخلافة وَحمله المعتصم لما حج وَجَاء بِهِ إِلَى الْمَأْمُون فَعَفَا عَنهُ وَمَات سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ بجرجان وَأما إِسْمَاعِيل الإِمَام ومُوسَى الكاظم فعلَيْهِمَا وعَلى بنيهما مدَار اخْتِلَاف الشِّيعَة وَكَانَ الكاظم على زِيّ الْأَعْرَاب مائلاً إِلَى السوَاد وَكَانَ الرشيد يؤثره(4/142)
ويتجافى عَن قبُول السّعَايَة فِيهِ ثمَّ حَبسه وَمن عقبه بقيه الْأَئِمَّة الاثْنَي عشر عِنْد الإمامية من لدن عَليّ بن أبي طَالب فَهُوَ أَوَّلهمْ وَقد تقدم ذكره عِنْد ذكر خِلَافَته ثمَّ ابْنه الْحسن بن عَليّ وَقد تقدم كَذَلِك وَبَيَان تَرْجَمته وتاريخ وَفَاته فِي سنة خمس وَأَرْبَعين ثمَّ أَخُوهُ الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ثمَّ ابْنه على زين العابدين ثمَّ ابْنه مُحَمَّد الباقر ثمَّ ابْنه جَعْفَر الصَّادِق وَقد ذكرت تراجم هَؤُلَاءِ وَمن عقب جَعْفَر الصَّادِق من غير الْأَئِمَّة مُحَمَّد وَعلي ابْنا الْحُسَيْن بن جَعْفَر قاما بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وسفكا الدِّمَاء وانتهبا بالأموال واستلحما آل جَعْفَر بن أبي طَالب وأقامت الْمَدِينَة شهرا لَا تُقَام فِيهَا جُمُعَة وَلَا جمَاعَة وَمن عقب إِسْمَاعِيل الإِمَام ابْن جَعْفَر الصَّادِق العبيديون خلائف القيروان ومصر بَنو عبيد الله الْمهْدي بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الصَّادِق وَقد تقدم ذكرهم وَمَا للنَّاس من الْخلاف فِي نسبهم وَهُوَ مطرح كُله وَهَذَا أصح مَا فِيهِ هَذِه عبارَة ابْن خلدون وَهُوَ مِمَّن يرجح القَوْل بِصِحَّة نسبهم وَأَنه إِلَى إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الصَّادِق كَمَا ترى وَالله أعلم بالحقائق الإِمَام السَّابِع مُوسَى الكاظم يكنى إِسْحَاق وَأَبا إِبْرَاهِيم وَهُوَ مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ألقابه الكاظم والصابر والصالح أشهرها الأول لقب بِهِ لفرط تحمله وتجاوزه عَن الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ أمه أم ولد اسْمهَا حميدة ولد بالأبواء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة يَوْم الْأَحَد لسبع لَيَال خلون من صفر سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة وأقدمه الْمهْدي بَغْدَاد ثمَّ رده إِلَى الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَيَّام الرشيد فَلَمَّا قدم الرشيد الْمَدِينَة حمله مَعَه وحبسه بِبَغْدَاد إِلَى أَن توفّي فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَفِي شَوَاهِد النُّبُوَّة مَاتَ فِي حبس الرشيد بِبَغْدَاد يَوْم الْجُمُعَة لخمس خلون من رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة فقبره بِبَغْدَاد وَيُقَال إِن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي سمه فِي رطب بِأَمْر الرشيد وَقيل لف فِي(4/143)
بِسَاط وغم حَتَّى رَحمَه الله من شَهِيد معاصره الْمهْدي وَالْهَادِي والرشيد عمره خمس وَخَمْسُونَ سنة مِنْهَا مقَامه مَعَ أَبِيه عشرُون سنة وَبَقِي بعد وَفَاة أَبِيه خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وَهِي مُدَّة إِمَامَته وَدفن فِي مَقَابِر قُرَيْش أَوْلَاده سَبْعَة وَثَلَاثُونَ ولدا بَين ذكر وَأُنْثَى الْعقب مِنْهُم فِي أَرْبَعَة عشر رجلا هم الْحسن وَالْحُسَيْن وَعلي الرِّضَا وَإِبْرَاهِيم المرتضى وَزيد النَّار وَعبد الله وَعبيد الله وَالْعَبَّاس وَحَمْزَة وجعفر وَهَارُون وَإِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل وَمُحَمّد العابد وَإِبْرَاهِيم المرتضى بن مُوسَى الكاظم هُوَ الَّذِي ولى مُحَمَّد بن طَبَاطَبَا وَأَبُو السَّرَايَا على الْيمن فَذهب إِلَيْهَا وَلم يزل بهَا أَيَّام الْمَأْمُون يسفك الدِّمَاء حَتَّى لقبه النَّاس بالجزار وَأظْهر الْإِمَامَة عِنْد مَا عهد الْمَأْمُون لِأَخِيهِ عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم ثمَّ اتهمَ الْمَأْمُون بقتْله فجَاء هُوَ وَطلب الْإِمَامَة لنَفسِهِ ثمَّ عقد الْمَأْمُون على حَرْب الفاطميين بِالْيمن لمُحَمد بن زِيَاد بن أبي سُفْيَان لما بَينهم من الْبغضَاء فأوقع بهم مرَارًا وَقتل شيعتهم وَفرق جَمَاعَتهمْ وَمن عقب إِبْرَاهِيم المرتضى هَذَا الشريف الرضى وَأَخُوهُ المرتضى وَاسم كل مِنْهُمَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الكاظم وَزيد النَّار بن مُوسَى الكاظم هُوَ الَّذِي ولاه أَبُو السَّرَايَا أَيْضا على الأهواز فَسَار إِلَى الْبَصْرَة وملكها وأحرق دور العباسيين بهَا فَسُمي زيد النَّار وَمن عقبه زيد الْجنَّة بن مُحَمَّد بن زيد بن الْحُسَيْن بن زيد النَّار من أفاضل أهل الْبَيْت وصلحائهم حمل إِلَى بَغْدَاد فِي محنة الفاطميين أَيَّام المتَوَكل وَدفع إِلَى ابْن أبي دواد يمتحنه فَشهد لَهُ وَأطْلقهُ وَمن عقب مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ بن الْحُسَيْن ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم من غير الْأَئِمَّة السَّيِّد أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابْن مُوسَى بن أَحْمد بن الْقَاسِم بن حَمْزَة بن مُوسَى الكاظم قَالَ الْعُتْبِي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى باليميني لدولة مَحْمُود بن سبكتكين وَابْنه يَمِين الدولة والعتبي صَاحب هَذَا التَّارِيخ نِسْبَة إِلَى عتبَة بن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب ابْن أُميَّة بن عبد شمس فِي تَرْجَمته السَّيِّد الْمَذْكُور أَلْفَاظه منابع الْعُلُوم وأقواله مراتع الْعُقُول ومجاله حدائق الْجد والهزل وجوامع الْكَلم الْفَصْل فَلم تبْق يتيمة(4/144)
خطاب وَلَا كَرِيمَة صَوَاب وَلَا غَزَّة حِكْمَة وَلَا درة نُكْتَة وَلَا طرفَة حِكَايَة وَلَا فقرة رِوَايَة إِلَّا هِيَ عرضة خاطره وَثَمَرَة هاجسه وَنصب تذكره وَمِثَال تصَوره لَا تصدأ صفيحة حفظه وَلَا تدرس صحيفَة ذكره وَلَا يكسف بدر معارفه وَلَا ينزف بَحر لطائفه هُوَ وَاحِد خُرَاسَان من بَين الْأَشْرَاف العلوية فِي قُوَّة الْحَال وسعة المجال واشتداد بَاعَ الْعِزّ وامتداد شُعَاع الجاه وَالْعلم الغامر وَالْأَدب الباهر وَالشعر الزَّاهِر فَمن شعره قَوْله // (من الْبَسِيط) //
(وشَادنٍ وَجْهُهُ بالحُسْنِ مَخْطُوطُ ... وَخَدُّهُ بِمدادِ الخَالِ مَنْقُرطُ)
(تَرَاهُ قَدْ جَمَعَ الضدَّيْنِ فِي قَرنٍ ... فالخِضْرُ مُخْتَصَرٌ والرِّدْفُ مَبْسوطُ)
وَقد أَكثر الشُّعَرَاء والأدباء فِي مدائحه فَمن ذَلِك قَول أبي الْفَتْح البستي // (من الْخَفِيف) //
(أَنا للسيِّدِ الشَّريفِ غُلاَمٌ ... حَيْثُ مَا كَانَ فَلْيُبَلَّغْ سَلاَمي)
(وإِذَا كُنْتُ للشَّريفِ غُلاَماً ... فَأَنَا الحُرُّ والزَّمَانُ غُلامِي)
وَقد اتّفق فِي مجْلِس السَّيِّد الْمَذْكُور وَكَانَ مجمعا للْعُلَمَاء الْفُضَلَاء والجهابذة النبلاء مناظرة بَين أبي الْفضل الهمذاني الْمَعْرُوف بالبديع وَبَين أبي بكر الْخَوَارِزْمِيّ سَببهَا مُعَارضَة الهمذاني والمجلس غاص والمصدر فِيهِ السَّيِّد أَبُو جَعْفَر الْمَذْكُور وَكَانَ الْخَوَارِزْمِيّ ينْسب البديع الهمذاني إِلَى مَذْهَب الْخَوَارِج والنواصب يُرِيد بذلك الْوَضع من قدره عِنْد السَّيِّد أبي جَعْفَر الْمَذْكُور فَقَالَ البديع هَذِه الأبيات الْخَمْسَة مُخَاطبا بهَا السَّيِّد ومبيناً لَهُ طَهَارَة اعْتِقَاده مِمَّا نسبه إِلَيْهِ الْخَوَارِزْمِيّ من النصب قلت قد خلبت خلبي واستلبت لبي بجنسها وفصلها فَكَانَت هِيَ السَّبَب لذكر التَّرْجَمَة من أَصْلهَا وَهِي // (من مجزوء الْكَامِل) //
(أَنا فِي اعتقادي للتَّسنْ ... نُنِ رافضيٌّ فِي ولائِكْ)
(فَلَئنْ شُغِلْتُ بهَؤُلاءِ ... فَلَسْتُ أَغْفُلُ عَنْ أولئِك)
(يَا عقْدَ مُنْتَظِمِ النُّبُوْوةِ ... بَيْتَ مُخْتَلِفِ الملائِكْ)
(يِاَبْنَ الفَوَاطِمِ والعَوَاتِكِ ... والتَّرائِكِ والأرائِكْ)
(أَنَا حَائِكٌ إِنْ لَمَ أكُنْ ... عَبْداً لِعَبْدِكَ وابْنُ حائِكْ)(4/145)
وَقَوله يَابْنَ الفواطم يُرِيد بِهن فَاطِمَة بنت عَمْرو المخزومية أم أبي طَالب وَعبد الله وَالزُّبَيْر بني عبد الْمطلب فَإِن هَؤُلَاءِ أشقاء أمّهم فَاطِمَة بنت عَمْرو الْمَذْكُورَة وَالثَّانيَِة فَاطِمَة بنت الْأَصَم أم خَدِيجَة بنت خويلد زوج رَسُول الله
وَالثَّالِثَة فَاطِمَة بنت أَسد أم عَليّ بن أبي طَالب وَالرَّابِعَة فَاطِمَة الزهراء بنت رَسُول الله
وَقَوله والعواتك يُرِيد بِهن عَاتِكَة بنت هِلَال بن فالح بن ذكْوَان أم عبد منَاف ابْن قصي وعاتكة بنت مرّة بن هِلَال أم هَاشم بن عبد منَاف وعاتكة بنت الأوقص ابْن هِلَال أم وهب أبي آمِنَة أم رَسُول الله
وَهَذِه العواتك كُلهنَّ من سليم وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنا ابْن العواتك من سُلَيْم وَقَوله والترائك جمع تريكه وَهِي الخوذة قَالَ الشَّاعِر البحتري // (من الْكَامِل) //
(حَصَّ التَّرِيكُ رُءُوسَهُمْ فَرُءُوسُهُمْ ... فِي مِثْلِ لأْلاَءِ التَّريكِ المُذْهَبِ)
وَأَرَادَ بالترائك أسلحة الْحَرْب جَمِيعهَا مجَازًا مُرْسلا فَكَأَنَّهُ قَالَ يَابْنَ الفواطم والعواتك وَابْن أسلحة الْحَرْب لملازمتك إِيَّاهَا وملازمة آبَائِك من قُرَيْش وَابْن الأرائك يَعْنِي ابْن الجالسين عَلَيْهَا من الْمُلُوك وَقَوله أَنا حائك إِلَى آخِره هَذِه طَريقَة للشعراء يدعونَ على أنفسهم تَأْكِيدًا وحثاً على فعل مَا يحمد أَو ترك مَا يذم فَمن ذَلِك قَول مَالك الْحَارِثِيّ بن الأشتر النَّخعِيّ من شيعَة عَليّ كرم الله تَعَالَى وَجهه وأمرائه الْمَشْهُورين // (من الْكَامِل) //
(بَقيتُ وفرى وانحرفْتُ عَنِ الْعلَا ... وَلَقِيتُ أَضْيافي بِوَجْهِ عَبُوسِ)
(إِنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِندٍ غَاَرةٌ ... لَمْ تَخْلُ يَوماً مِنْ ذَهَابِ نُفُوسِ)
والحائك من شَأْنه الرذالة والسقاطة وَقلة الْعقل فَكيف إِذا كَانَ أَبوهُ أَيْضا حائكا فَجعل الْهَمدَانِي كَونه حائكاً وَابْن حائك دُعَاء على نَفسه إِن لم يكن عبدا لعبد السَّيِّد(4/146)
الْمَذْكُور يُرِيد بذلك تَبْيِين محبته لَهُ وَصدق ولائه وإكذاب مَا رَمَاه الْخَوَارِزْمِيّ بِهِ الإِمَام على الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ ثامن الْأَئِمَّة وَالْإِمَام بعد أَبِيه يكنى أَبَا الْحسن ككنية أَبِيه ألقابه الصابر والمزكى وَالْوَلِيّ وأشهرها الرِّضَا أمه أم ولد اسْمهَا أروى ولد بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْخَامِس عشر من ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة معاصره الْأمين والمأمون عمره خَمْسَة وَخَمْسُونَ سنة مُدَّة إِمَامَته عشرُون سنة كَانَ أَولهَا فِي بَقِيَّة ملك الرشيد ثمَّ ملك وَلَده مُحَمَّد الْأمين بعده ثَلَاث سِنِين وَخَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ خلع الْأمين وَجلسَ مَكَانَهُ عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي الْمَعْرُوف بِابْن شكْلَة أَرْبَعَة عشر يَوْمًا ثمَّ أخرج الْأمين ثَانِيَة وبويع لَهُ وَبَقِي سنة وَسَبْعَة أشهر وَقَتله طَاهِر بن الْحُسَيْن ثمَّ ملك بعده الْمَأْمُون بن هَارُون الرشيد عشْرين سنة عهد الْمَأْمُون لَهُ بالخلافة وزوجه ابْنَته أم الْفضل وَدخل عَلَيْهِ دعبل الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر بمرو فَقَالَ يَابْنَ رَسُول الله إِنِّي قلت فِيكُم أهل الْبَيْت قصيدة وآليت على نَفسِي لَا أنشدها أحدا قبلك فَقَالَ لَهُ الرِّضَا هَاتِهَا فَأَنْشد // (من الطَّوِيل) //
(ذكرتُ مَحلَّ الرَّبْعِ مِنْ عَرَفَاتِ ... فأَجْرَيْتُ دَمْعَ العَيْنِ بالعَبَرَاتِ)
(وقَدْ عَزَّنِي صَبْرِي وهاجَتْ صبابتي ... رُسُومُ دِيَارٍ قَفرةٍ ةٍ وَعِرَاتِ)
(مَدَارسُ آياتٍ خلَتْ من تلاوةٍ ... وَمَنْزل وَحْىٍ مُقْفِر العَرَصَاتِ)
(لآلِ رَسُولِ اللهِ بِالخيفِ مِنَّ مِنّى ... وبَالبَيْتِ والتَّعْرِيفِ والجَمَرَاتِ)
(ديار عليِّ والحسينِ وجعفرٍ ... وحمزةَ والسجادِ ذِي الثفناتِ)
(دِيَارٌ لعَبْدِ اللهِ والفَضْلِ صِنْوِهِ ... نَجِيِّ رَسُولِ الله فِي الخَلَوَاتِ)
(مَنَازلُ كانَتْ للصَّلاَةِ وللتُّقَى ... وللصَّوْمِ والتَّطهيرِ والحَسَنَاتِ)
(مَنَازل جِبْرِيلُ الْأمين يَحُلُّهَا ... مِنَ اللهِ بالتَّسْلِيمِ والرَّحَمَاتِ)
(مَنَازِلُ وَحْي اللهِ مَعْدِن عِلمِهِ ... سَبِيل رَشادٍ وَاضِح الطُّرُقَاتِ)
(فَأًيْنَ الألى شَطَّتْ بِهِمْ غُرْبةُ النَّوَى ... فأَمْسَيْنَ فِي الأقطارِ مُفتَرِقَاتِ)(4/147)
(هُمُ آل مِيراثِ النَّبيِّ إِذا انْتَمَوا ... وهُمْ خيرُ ساداتٍ وخَيرُ حُمَاةِ)
(مَطَاعيم فِي الإِعْسَارِ فِي كُلِّ مَشْهَدٍ ... لَقِدْ شَرُفُوا بِالفَضْلِ والبَرَكَاتِ)
(أَئمةُ عَدْلٍ يُقْتَدَى بِفعَالِهِم ... وتُؤْمَنُ مِنْهُمْ زَلَّةُ العَثَرَاتِ)
(فَيَا رَبِّ زِدْ قَلْبِي هدى وبَصيرَةً ... وزِدْ حُبَّهُم يَا ربِّ فِي حَسَنَاتي)
(لَقَدْ أَمنتْ نَفْسِي بِهمْ فِي حَيَاتِها ... وإنِّي لأَرْجُو الأمْنَ بَعْدَ وَفَاتِي)
(أَلَمْ تَرَ أنِّى مذْ ثَلاثِينَ حِجَّةً ... أَروحُ وأَغْدُو دائمَ الحَسَرَاتِ)
(أَرَى فَيْئَهُم فِي غَيْرِهم مُتَقَسِّماً ... وأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيئهمْ صفرَاتِ)
(سَأَبْكِيهمُ مَا ذَرَّ فِي الأُفْقِ شَارقٌ ... ونادَى مُنَادى الخَيْرِ بالصَّلوَاتِ)
(ومَا طَلَعتْ شَمْسٌ وَحَانَ غُرُوبُها ... وبِالليلِ أبكيهمْ وبَالغدوَاتِ)
(دِيارُ رَسُولِ اللهِ أَصْبحن بَلْقَعاً ... وآلُ زِيادٍ تَسْكُنُ الحُجُرَاتِ)
(وآلُ زِيادٍ فِي القُصُورِ مَصُونَةٌ ... وآلُ رَسُولِ اللهِ فِي الفَلَوَاتِ)
(فلوْلا الَّذِي أرْجُوه فِي اليَوم أَو غَدٍ ... لَقُطِّع نَفْسِي إِثْرَهُمْ حَسَرَاتِ)
(خُرُوجُ إِمَام لَا مَحَالةَ خَارجٌ ... يَقُومُ عَلَى اسْمِ اللهِ بِالبَرِكَاتِ)
(يُمَيِّزُ فِينَاً كُلَّ حَقِّ وبَاطِلٍ ... ويَجزِى عَلَى عَلَى النَّعْمَاءِ والنَقَمَاتِ)
(فَيَا نَفْسُ طِيبى ثُمَّ يَا نَفْسُ فاصْبِرِي ... فَغَيرُ بَعِيدٍ كلُّ مَا هُوَ آتٍ)
قلت دعبل هَذَا محب لأهل الْبَيْت وَمن ذَا الَّذِي لَا يُحِبهُمْ فَمن لَا يُحِبهُمْ لَا يُحِبهُ الله وَلكنه كَانَ مُولَعا بالهجو والحط من أقدار النَّاس هجا الْخُلَفَاء وَغَيرهم هجا الْمَأْمُون بِأَبْيَات مِنْهَا // (من الْكَامِل) //
(إنِّي مِنَ القَوْمِ الذِينَ سُيُوفُهُمْ ... قَتَلَتْ أَخَاك وشَرَّفَتْكَ بِمَقْعَدِ)
(شَادُوا بحُسْنِ فعَالِهِمْ لَكَ مَنْصِباً ... واستْرْفَعُوكَ مِنَ الحَضِيضِ الأَوْهَدِ)
يُشيرُ بذلك إِلَى مَا فعله طَاهِر بن الْحُسَيْن مقدم عَسَاكِر الْمَأْمُون فَإِنَّهُ خزاعي ودعبل هَذَا خزاعي وَلما بلغ هَذَا الْمَأْمُون قَالَ تعس دعبل وَمَتى كنت خاملا فرفعني قومه وَطَالَ عمر دعبل وَكَانَ يَقُول لي خَمْسُونَ سنة أحمل خشبتي على كَتِفي أدور على من يصلبني عَلَيْهَا فَمَا أجد من يفعل ذَلِك كَانَ مولده بَين وَاسِط الْعرَاق وكور الأهواز سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة والدعبل بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة اسْم النَّاقة الشارف وَهُوَ لقبه واسْمه عَليّ بن(4/148)
رزين بن سُلَيْمَان قَالَه ابْن الْأَثِير وَاسْتشْهدَ الرِّضَا فِي أَيَّام الْمَأْمُون مسموماً بطوس فِي قَرْيَة شاه باز يَوْم الْجُمُعَة لسبع بَقينَ من رَمَضَان سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَدفن إِلَى جنب قبر الرشيد أَوْلَاده خَمْسَة الْعقب مِنْهُ فِي ابْنه الإِمَام مُحَمَّد الْجواد بن عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ التَّاسِع من الْأَئِمَّة ولد بِالْمَدِينَةِ يَوْم الْجُمُعَة لعشر خلون من رَجَب سنة تسعين وَمِائَة كنتيته أَبُو جَعْفَر ألقابة القانع والمرتضى وأشهرها الْجواد زوجه الْمَأْمُور ابْنَته أم حبيب صفته أَبيض اللَّوْن معتدل الْقَامَة معاصره الْمَأْمُون والمعتصم عمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَأشهر مَاتَ بِبَغْدَاد يَوْم الثُّلَاثَاء لخمس خلون من ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت مُدَّة إِمَامَته سبع عشرَة سنة أوائلها فِي بَقِيَّة ملك الْمَأْمُون واَخرها فِي أول ملك المعتصم قيل مسموماً وَلَكِن لم يَصح وَدفن بمقابر قُرَيْش إِلَى جنب قبر جده مُوسَى الكاظم أَوْلَاده أَرْبَعَة الْعقب مِنْهُ فِي رجلَيْنِ هما الْهَادِي ومُوسَى المبرقع فالإمام عَليّ الْهَادِي بن مُحَمَّد الْجواد بن عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق هُوَ الإِمَام بعد أَبِيه وعاشر الْأَئِمَّة أمه أم ولد اسْمهَا شهامة ويلقب بالتقي وَالْهَادِي أشهرهما الأول ولد بِالْمَدِينَةِ ثَالِث عشر رَجَب سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ مَاتَ ب سر من رأى مسموماً يَوْم الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَدفن فِي دَاره ب سر من رأى أَوْلَاده أَرْبَعَة أعقب من ثَلَاثَة أبي جَعْفَر مُحَمَّد وَأبي عبد الله جَعْفَر وَأبي مُحَمَّد الإِمَام الْحسن العسكري بن عَليّ الْهَادِي بن مُحَمَّد الْجواد بن عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم وَهُوَ الإِمَام بعد أَبِيه وحادي عشر الْأَئِمَّة أمه أم ولد اسْمهَا سوسن(4/149)
كنيته أَبُو مُحَمَّد ألقابه الْخَالِص والسراج وأشهرها العسكري ولد بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ صفته بَين السمرَة وَالْبَيَاض معاصره المعتز والمهتدي وَالْمُعْتَمد عمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة وَمُدَّة إِمَامَته سِتّ سِنِين مَاتَ فِي أَوَائِل خلَافَة الْمُعْتَمد مسموماً فِي يَوْم الْجُمُعَة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ب سر من رأى وَدفن عِنْد قبر أَبِيه الْهَادِي خلف وَلَده مُحَمَّدًا أوحده وَهُوَ الإِمَام مُحَمَّد الْمهْدي بن الْحسن العسكري بن عَليّ التقي بن مُحَمَّد الْجواد ابْن على الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ ولد يَوْم الْجُمُعَة منتصف شعْبَان سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَقيل سنة سِتّ وَهُوَ الصَّحِيح أمه أم ولد اسْمهَا أصقيل وَقيل سوسن وَقيل نرجس كنيته أَبُو الْقَاسِم ألقابه الْحجَّة وَالْخلف الصَّالح والقائم والمنتظر وَصَاحب الزَّمَان وَالْمهْدِي وَهُوَ أشهرها صفته شَاب مَرْبُوع الْقَامَة حسن الْوَجْه وَالشعر أقنى الْأنف أجلى الْجَبْهَة وَلما توفّي أَبوهُ كَانَ عمره خمس سِنِين وشيعته يَقُولُونَ إِنَّه دخل السرداب سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وعمره سبع عشرَة سنة وهم ينتظرون خُرُوجه فِي آخر الزَّمَان من السرداب وأقاويلهم فِيهِ كَثِيرَة وَالله أعلم أَي ذَلِك يكون قَالَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد السماني فِي ذكر الأبدال والأقطاب وَقد وصل إِلَى رُتْبَة القطبية مُحَمَّد الْمهْدي بن الْحسن العسكري وَهُوَ إِذا اختفى دخل فِي دَائِرَة الأبدال متدرجاً طبقَة بعد طبقَة إِلَى أَن صَار سيد الأبدال وَكَانَ القطب حِينَئِذٍ عَليّ بن الْحُسَيْن الْبَغْدَادِيّ فَلَمَّا حانت منيته صلى عَلَيْهِ(4/150)
الْمهْدي هَذَا وَدَفنه وَجلسَ مَجْلِسه وَبَقِي فِي رُتْبَة القطبية تسع عشرَة سنة وَالله أعلم وَأما مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهُوَ الْفَرْع الثَّالِث من أَوْلَاد عَليّ بن أبي طَالب لصلبه الَّذين ذكرنَا أَنْسَاب الطالبين أَكْثَرهَا رَاجع إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن وَإِلَيْهِ فَهُوَ مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب الْمَشْهُور بِابْن الْحَنَفِيَّة يكنى أَبَا الْقَاسِم روى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رخص لأمير الْمُؤمنِينَ فِي تَسْمِيَة ابْنه هَذَا وتكنيته بِأبي الْقَاسِم قَالَ فِي أَنْسَاب قُرَيْش يَقُولُونَ أمه خَوْلَة بنت جَعْفَر بن قيس بن سَلمَة بن عبد الله بن ثَعْلَبَة بن الدؤل بن حنيفَة بن لجيم وتسميه الشِّيعَة الْمهْدي حَدثنِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن قيس بن سعيد بن عقبَة الْجُهَنِيّ عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت كثيرا ينشد عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر لنَفسِهِ فِي مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة // (من الوافر) //
(أَقَرَّ الله عَيْني إذْ رَعَانِي ... أَمِينُ اللهِ يُلْطِفُ فِي السُّؤالِ)
(وأَثْنَى فِي هَوَايَ عَلَيَّ خيرا ... وساءَلَ عَنْ بَنِيَّ وَكيْفَ حَالي)
(وكَيْفَ ذَكَرْتُ شَأْنَ أَبِي خبيبٍ ... وَزَلَّةَ نَعْلِهِ عِنْدَ النِّضَالِ)
(هُوَ المَهْدِيُّ خَيَّرنَاهُ كَعْبٌ ... أَخُو الأَحْبَاِر فِي الحِقَبِ الخَوَاِليِ)
وَكَانَ كثير كيسانيا يَقُول بإمامة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَيَزْعُم أَن الْأَرْوَاح تتناَسخ ويحتج بقول الله عز وَجل {فِي أَيِ صوُرةٍ مَا شَاءَ ركبَكَ} الانفطار 8 وَيَقُول أَلا ترى أَنه يحوله فِي صُورَة بعد صُورَة فَقَالَ لَهُ عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر يَا أَبَا صَخْر مَا يثني عَلَيْك فِي هَوَاك خيرا إِلَّا من كَانَ على مثل رَأْيك وَقيل لَهُ إِنَّك تَقول خبرناه كَعْب ألقيت كَعْب الْأَحْبَار قَالَ لَا قيل فَلم قلت خبرناه كَعْب قَالَ هُوَ بالوهم وَكَانَت شيعَة مُحَمَّد يَزْعمُونَ أَنه لم يمت وَفِي ذَلِك يَقُول كثير أَيْضا // (من الوافر) //
(أَلا إنَّ الأئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ ... وُلاَةُ الحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ)(4/151)
(عَليٌّ والثَّلاثَهُ مِنْ بَنِيه ... هُمُ الأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِم خَفَاءُ)
(فَسِبْطٌ سِبْطُ إيمانٍ وبرِّ ... وسبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبِلاَءُ)
(وسِبْطٌ لاَ تَرَاه العَيْنُ حَتَّى ... يقودَ الخيلَ يَقْدُمُهَا اللِّواءُ)
(تَغَيَّبَ لاَ يُرَى عَنْهُم زَمَانًا ... برَضْوى عِنْدَهُ عَسَلٌ ومَاءُ)
وَفِي مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة يَقُول الْحِمْيَرِي // (من الوافر) //
(أَلا قُلْ لِلْوصىِّ فَدَتْكَ نَفْسِي ... أَطَلْتَ بذَلكَ الشِّعْبِ المُقَامَا)
(أَضَرَّ بِمعشرٍ وَالَوْكَ مِنَّا ... وسَمَّوْك الخليفَةَ والإمَامَا)
(وعَادَوْا فِيكَ أهْلَ الأَرْضِ طُرًّا ... مقَامك عَنْهُمُ سِتِّينَ عَامَا)
(وَما ذَاقَ ابنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ... وَلاَ وَارَت لَهُ أَرْضٌ عِظَاما)
(لَقَدْ أَمْسَى بمُورِقِ شعب رَضْوَى ... تُراجِعُهُ الملائِكَةُ الكَلامَا)
(وإَّن لَهُ بِه لمِقيل صدْقٍ ... وأَنْدِيةً تُحَدِّثُهُ كِرَامَا)
(هَدَانَا اللهُ إذْ حِرتُمْ لأمرٍ ... بِهِ وَعَلِيهِ نَلْتَمِسُ التَّمَاما)
(تَمامَ مَوَدَّةِ المَهدِيِّ حَتَّى ... تَرَوْا راياتِنَا تَتْرَى نِظَاما)
وَقَالَ أَيْضا // (من الْكَامِل) //
(يَا شِعْبَ رَضْوَى مَا لِمنْ بِكَ لاَ يُرَى ... وبِنَا إلَيْهِ مَنَ الصبابة أوْلَقُ)
(حَتَّى متَى وإلَى متَى وكَم المَدَى ... يابْنَ الوصيِّ وأنْتَ حَيٌّ تُرْزَقُ)
قَالَ المَسْعُودِيّ فِي المروج وشيعته تسمى الكيسانية وَقد تنازعوا بعد قَوْلهم بإمامته فَمنهمْ من قطع بِمَوْتِهِ وَمِنْهُم من زعم أَنه لم يمت وَأَنه حَيّ مُقيم بجبل رضوى الْمَعْرُوف بِقرب يَنْبع وَإِنَّمَا سموا الكيسانية لإضافتهم إِلَى الْمُخْتَار بن أبي عبيد وَكَانَ اسْمه كيسَان ويكنى أَبَا عَمْرو كَانَ يَدعِي أَن عَليّ بن أبي طَالب لقبه بذلك أَوْلَاد مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِنْهُم أَرْبَعَة عشر ذكرا وَقَالَ النَّقِيب تَاج الدّين أَوْلَاد مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَلِيل جدا لَيْسَ بالعراق وَلَا بالحجاز مِنْهُم أحد وَإِن كَانَ فبالكوفة وَقَالَ فِي عُمْدَة الطَّالِب بشيراز وأصفهان وقزوين وبمصر والصعيد مِنْهُم(4/152)
جمَاعَة والعقب الْمُتَّصِل الْآن من وَلَده فِي رجلَيْنِ على وجعفر قَتِيل الْحرَّة وَأما عقب ابْنه أبي هَاشم عبد الله الْأَكْبَر إِمَام الشِّيعَة الكيسانية فمنقرض وَهَذَا أَبُو هَاشم هُوَ الَّذِي أسْند وَصيته فِيمَا قَالَه الشِّيعَة إِلَى مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَأَخُوهُ عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَابْنه الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَكلهمْ ادَّعَت الشِّيعَة إمامتهم قَالَ ابْن خلدون وَخرج بِالْيَمِينِ على الْمَأْمُون وَمن ولد عَليّ بن أبي طَالب من غير هَؤُلَاءِ عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب وَمن ولد جَعْفَر بن أبي طَالب عبيد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب الْقَائِم بِفَارِس وبويع بِالْكُوفَةِ وَأَرَادَ بعض شيعَة العباسية تَحْويل الدعْوَة إِلَيْهِ فَمَنعه أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي من ذَلِك وَكَانَت لَهُ شيعَة ينتظرونه وَسَاقُوا الْخلَافَة من أبي هَاشم بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة بِالْوَصِيَّةِ وَكَانَ فَاسِقًا وَكَانَ ابْنه مُعَاوِيَة بن عبيد الله نَظِير أَبِيه فِي الشَّرّ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك(4/153)
(الْبَاب الثَّانِي)
(فِي ذكر من دَعَا مِنْهُم إِلَى الْمُبَايعَة)
وَذكر مَكَان دُعَائِهِ وزمانه وَمَا جرى على كل قَائِم من خَليفَة زَمَانه وتعدادهم من لدن عَليّ بن أبي طَالب إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَهَذَا على رَأْي غير الإمامية من الشيعهَ وهم الزيدية أما على رأى الإمامية فَلَا يجوزون الْإِمَامَة لغير الاثْنَي عشر الإِمَام الَّذين أَوَّلهمْ عَليّ بن أبي طَالب وَآخرهمْ الإِمَام مُحَمَّد الْمهْدي المنتظر وَسَيَأْتِي الدَّلِيل على تَصْحِيح جَوَازهَا لغير الاثْنَي عشر الإِمَام بل تعينه بِحَيْثُ لَا تَخْلُو الأَرْض من قَائِم من آل بَيت مُحَمَّد يهدي إِلَى الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم قد تقدم ذكر شيعَة أهل الْبَيْت لعَلي بن أبي طَالب وبنيه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمَا كَانَ من شَأْنهمْ بِالْكُوفَةِ ومؤاخذتهم الْحسن فِي تَسْلِيم الْأَمر لمعاوية واضطراب الْأَمر على زِيَاد ابْن أَبِيه بِالْكُوفَةِ من أَجلهم حَتَّى قتل المتولون كبر ذَلِك مِنْهُم حجر ابْن عدي وَأَصْحَابه ثمَّ استدعوا الْحُسَيْن بن عَليّ بعد وَفَاة مُعَاوِيَة فَكَانَ من قَتله ب كربلاء مَا هُوَ مَعْرُوف ثمَّ نَدم الشِّيعَة على قعودهم عَن مناصرته فَخَرجُوا بعد وَفَاة يزِيد وبيعة مَرْوَان وَخُرُوج عبيد الله بن زِيَاد عَن الْكُوفَة وَسموا أنفسهم التوابين وولوا عَلَيْهِم سُلَيْمَان بن صُرَد الْخُزَاعِيّ ولحقتهم جيوش ابْن زِيَاد بأطراف الشَّام فاستجموهم ثمَّ خرج الْمُخْتَار بن أبي عبيد بِالْكُوفَةِ طَالبا بِدَم الْحُسَيْن وداعيا لمُحَمد لن الْحَنَفِيَّة وَتَبعهُ على ذَلِك جموع من الشِّيعَة وَسَمَّاهُمْ شرطة الله وزحف عَلَيْهِ عبيد الله بن زِيَاد فَهَزَمَهُ الْمُخْتَار وَقَتله وَبلغ مُحَمَّد بن الحنفيه من أَحْوَال الْمُخْتَار مَا نقمه عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَصَارَ الْمُخْتَار إِلَى الدُّعَاء لعبد الله بن الزبير ثمَّ استدعي الشِّيعَة من بعد ذَلِك زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم إِلَى الْكُوفَة أَيَّام هِشَام بن عبد الْملك فَقتله صَاحب الْكُوفَة يُوسُف بن عمر وصلبه كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك عِنْد ذكر قِيَامه بالدعوة وَخرج يحيى بن زيد بالجوزجان من خُرَاسَان فَقتل وصلب لذَلِك وطلت دِمَاء أهل الْبَيْت فِي كل نَاحيَة ثمَّ اخْتلفت الشِّيعَة وانقسمت مذاهبهم فِي مصير الْإِمَامَة إِلَى العلوية وذهبوا(4/154)
طرائق مَعَ اتِّفَاقهم على تَفْضِيل عَليّ كرم الله وَجهه على جَمِيع الصَّحَابَة إِلَى الزيدية الْقَائِلين بإمامة بني فَاطِمَة لفضل عَليّ وبنيه على سَائِر الصَّحَابَة على شُرُوط يشترطونها وإمامة الشَّيْخَيْنِ عِنْدهم صَحِيحَة وَإِن كَانَ على أفضل مِنْهُمَا لأَنهم يجوزون إِمَامَة الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل وَهُوَ مَذْهَب زيد وَأَتْبَاعه المسمين بالزيدية وهم جُمْهُور الشِّيعَة وأبعدهم عَن الانحراف والغلو وَإِلَى الرافضة وَسموا رافضة قَالُوا لِأَنَّهُ لما خرج زيد الشَّهِيد بِالْكُوفَةِ وَاخْتلفت عَلَيْهِ فرقة من الشِّيعَة وناظروه فِي أَمر الشَّيْخَيْنِ وَدعوهُ إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهُمَا وأنهما ظلما عليا أنكر ذَلِك عَلَيْهِم وَامْتنع عَن الْبَرَاءَة مِنْهُمَا فَقَالُوا لَهُ وَأَنت أَيْضا لم يظلمك أحد وَلَا حق لَك فِي الْأَمر فَنحْن نرفضك فَقَالَ اذْهَبُوا فَأنْتم الرافضة فانصرفوا عَنهُ فسموا الرافضة وَأقَام مَعَه أَتْبَاعه الاخرون فسموا زيدية ثمَّ سَاق الرافضة الإمامهّ من عَليّ كرم الله وَجهه إِلَى ابْنه الْحسن ثمَّ إِلَى الْحُسَيْن ثمَّ إِلَى ابْنه زين العايدين ثمَّ إِلَى ابْنه مُحَمَّد الباقر ثمَّ إِلَى ابْنه جَعْفَر الصَّادِق كل هَؤُلَاءِ بِالْوَصِيَّةِ وهم سِتَّة أَئِمَّة لم يُخَالف فيهم أحد من الرافضة الْمَذْكُورين ثمَّ افْتَرَقُوا من هَهُنَا إِلَى فرْقَتَيْن إِلَى الاثْنَي عشرِيَّة واختصوا باسم الإمامية إِلَى هَذَا الْعَهْد ومذهبهم أَن الْإِمَامَة انْتَقَلت من جَعْفَر الصَّادِق إِلَى ابْنه مُوسَى الكاظم وَخرج دعاته بعد موت أَبِيه فَحَمله هَارُون الرشيد مَعَه من الْمَدِينَة وحبسه عِنْد عِيسَى بن جَعْفَر ثمَّ إشخاصه إِلَى بَغْدَاد وحبسه عِنْد ابْن شاهك وَيُقَال إِن يحيى بن خَالِد سمه فِي رطب فَتوفي سنة 183 ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَزعم شيعته أَن الإِمَام بعده ابْنه عَليّ الرِّضَا وَكَانَ عَظِيما فِي بني هَاشم وَكَانَت لَهُ مَعَ الْمَأْمُون صُحْبَة وزوجه ابْنَته أم الْفضل وعهد لَهُ بِالْأَمر من بعده وَقد تقدم ذكرنَا لكتاب الْعَهْد فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ عهد الْمَأْمُون لعَلي الرِّضَا بِالْأَمر سنة 201 إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ عِنْد ظُهُور الدعاة للطالبيين فِي كل نَاحيَة وَكَانَ الْمَأْمُون ب خُرَاسَان لم يدْخل الْعرَاق بعد مقتل أَخِيه الْأمين فنكر ذَلِك عَلَيْهِ شيعَة العباسيين وَبَايَعُوا لِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِبَغْدَاد فارتحل الْمَأْمُون من الْعرَاق وَعلي الرِّضَا مَعَه فَهَلَك عَليّ الرِّضَا فِي طَرِيقه(4/155)
سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَدفن ب طوس ثمَّ زَعَمُوا أَن الْأَمر بعده لِابْنِهِ مُحَمَّد التقي وَكَانَ لَهُ من الْمَأْمُون مَكَان وأصهر إِلَيْهِ فِي ابْنَته أم حبيب فأنكحه الْمَأْمُون إِيَّاهَا سنة خمس وَمِائَتَيْنِ ثمَّ هلك سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَدفن بمقابر قُرَيْش ثمَّ زَعَمُوا أَن الْأَمر من بعده إِلَى عَليّ ويلقبونه بالهادي وَمَات سنة أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وقبره ب قُم وَزعم ابْن سعيد أَن المعتز سمه ثمَّ إِلَى ابْنه الْحسن العسكري ويلقب بذلك لِأَنَّهُ ولد ب سر من رأى وَكَانَت تسمى الْعَسْكَر وَجلسَ بهَا بعد أَبِيه إِلَى أَن هلك سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَدفن إِلَى جنب أَبِيه بالمشهد وَترك حملا ولد مِنْهُ ابْنه مُحَمَّد فاعتقل وَقيل دخل السرداب بدار أَبِيه قيل مَعَ أمه وَقيل وَأمه تنظر إِلَيْهِ ففقد فَزَعَمت شيعتهم أَنه الإِمَام بعد أَبِيه ولقبوه الْمهْدي وَالْحجّة وَزَعَمُوا أَنه حَيّ لم يمت وهم الْآن ينتظرونه ووقفوا عِنْد هَذَا الِانْتِظَار وَهَذَا هُوَ الثَّانِي عشر من ولد عَليّ وَلذَلِك سموا شيعته الاثْنَي عشرِيَّة وَهَذَا الْمَذْهَب بِالْمَدِينَةِ والكرخ وَالشَّام والحلة وَالْعراق قَالَ الْعَلامَة ابْن خلدون والسرداب بالحلة وهم حَتَّى الْآن على مَا بلغنَا يصلونَ الْمغرب فَإِذا قضوا الصَّلَاة قربوا مركبا إِلَى بَاب السرداب بجهازه وحليته وَنَادَوْا بِأَصْوَات متوسطة أَيهَا الإِمَام اخْرُج إِلَيْنَا فَإِن النَّاس منتظرون والخلق حائرون وَالظُّلم عَام وَالْحق مَفْقُود فَاخْرُج إِلَيْنَا نتعرف الرَّحْمَة من الله فِي آثارك ويكررون ذَلِك إِلَى أَن تبدو النُّجُوم ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة هَكَذَا دأبهم وَرُبمَا يحتجون لِحَيَاتِهِ بِقصَّة الْخضر فسبحان عَالم الْحَقَائِق قلت ذكر غير ابْن خلدون أَن السرداب بِبَغْدَاد لَا بالحلة فَالله أعلم أيا كَانَ ذَلِك لَطِيفَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ أَصْحَابنَا النصرية بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِن شَيخنَا(4/156)
أَبَا الْفَتْح نصر بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي اجْتمع برئيس من رُؤَسَاء الشِّيعَة فَشَكا إِلَيْهِ فَسَاد الْخلق وَأَن هَذَا الْأَمر لَا يصلح إِلَّا بِخُرُوج الإِمَام المنتظر فَقَالَ لَهُ نصر فَهَل لِخُرُوجِهِ مِيقَات مَعْلُوم أم لَا فَقَالَ الشيعي نعم إِذا فسد الْخلق فَقَالَ لَهُ نصر فَلم تحبسونه عَن الْخلق قد فسد جَمِيعهم إِلَّا أَنْتُم فَلَو فسدتم لخرج فَأَسْرعُوا بِهِ وأطلقوا من سجنه وعجلوا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبنَا لتفسدوا فَيخرج فبهت الشيعي انْتهى كَذَا فِي العواصم من القواصم وَإِلَى الإسماعليية وهم الَّذين نقلوا الْخلَافَة من جَعْفَر الصَّادِق إِلَى ابْنه إِسْمَاعِيل ثمَّ ساقوها فِي عقبه فَمنهمْ من أنهى بهَا إِلَى عبيد الله الْمهْدي أحد الْخُلَفَاء العبيديين ابْن مُحَمَّد الحبيب بن جَعْفَر الْمُصدق بن مُحَمَّد المكتوم بن إِسْمَاعِيل الإِمَام بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر وهم الْفرْقَة الزاعمون أَن الإِمَام بعد جَعْفَر الصَّادِق ابْنه إِسْمَاعِيل وتوقى قبل أَبِيه وَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور طلبه فَشهد لَهُ عَامل الْمَدِينَة أَنه مَاتَ وَفَائِدَة النَّص عِنْدهم على إِسْمَاعِيل وَإِن كَانَ مَاتَ قبل أَبِيه بَقَاء الْإِمَامَة فِي وَلَده كَمَا نَص مُوسَى على هَارُون صلوَات الله وَسَلَامه على نَبينَا وَعَلَيْهِمَا وَمَات قبله وَالنَّص عِنْدهم لَا يرجع وَرَاءه لِأَن البداء على الله محَال وَيَقُولُونَ فِي ابْنه مُحَمَّد إِنَّه السَّابِع التَّام من الْأَئِمَّة الظاهرين وَهُوَ أول الْأَئِمَّة المستورين عِنْدهم الَّذين يستترون ويظهرون الدعاة وعددهم ثَلَاثَة وَلنْ تَخْلُو الأَرْض من إِمَام إِمَّا ظَاهر بِذَاتِهِ أَو مَسْتُور فَلَا بُد من ظُهُور حجَّته ودعاته وَالْأَئِمَّة يَدُور عَددهَا عِنْدهم على سَبْعَة سَبْعَة عدد الْأُسْبُوع وَالسَّمَاوَات وَالْكَوَاكِب وَأول الْأَئِمَّة المستورين عِنْدهم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور وَهُوَ مُحَمَّد المكتوم ثمَّ ابْنه جَعْفَر الْمُصدق ثمَّ ابْنه مُحَمَّد ثمَّ ابْنه عبيد الله الْمهْدي صَاحب الدولة بإفريقية جد الْخُلَفَاء العبيديين بهَا أَولا وب مصر ثَانِيًا الْمُتَقَدّم ذكرهم فِي الْبَاب الثَّالِث من الْمَقْصد الرَّابِع وَمِنْهُم من سَاقهَا إِلَى يحيى بن عبد الله بن مُحَمَّد المكتوم وَهَؤُلَاء طَائِفَة من القرامطة وَهَذَا من كذباتهم وَلَا يعرف لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل ولد اسْمه عبد الله وَمن شيعَة آل الْبَيْت الكيسانية نِسْبَة إِلَى كيسَان وَهُوَ الْمُخْتَار بن أبي عبيد يذهبون إِلَى إِمَامَة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وبنيه من بعد الْحسن الْحُسَيْن وَمن هَؤُلَاءِ(4/157)
كَانَت شيعَة بني الْعَبَّاس الْقَائِلُونَ بِوَصِيَّة أبي هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة إِلَى مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بِالْإِمَامَةِ وانتشرت هَذِه الْمذَاهب وَهِي مَذْهَب الزيدية وَمذهب الرافضة المنقسمين إِلَى الإمامية الأثنى عشرِيَّة والى الإسماعيلية وَمذهب الكيسانية وهم شيعَة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة الَّذين صَارُوا شيعَة لبني الْعَبَّاس بإيصاء أبي هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة إِلَى جدهم مُحَمَّد بن عبد الله بن الْعَبَّاس الْمَذْكُور وَكَانَ أَكثر الكيسانية بالعراق وخراسان بَين الشِّيعَة وافترق أهل كل مَذْهَب مِنْهَا إِلَى طرائق بِحَسب اخْتلَافهمْ // (من الوافر) //
(وكَلٌّ يَدَّعِى وصْلا بِليْلَى ... )
وَاعْلَم أَن سَبَب انتصاب الْأَشْرَاف للْإِمَامَة وادعائهم لَهَا مَعَ مَا يشاهدونه من النكد والشدائد وَالْقَتْل وَالْحَبْس والمكائد بعد قتل عَليّ بن أبي طَالب لما تقلد الْخلَافَة وَالْعقد عليهِ إِجْمَاع أهل بدر وَاخْتِيَار أكَابِر الصَّحَابَة وَبَايَعُوهُ عَلَانيَة نازعه فِي الْخلَافَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وتعلل بعلل كَثِيرَة لبلوغ المنى وكل مِنْهُمَا مُجْتَهد لَكِن مُعَاوِيَة مُجْتَهد مُخطئ قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ فِي قَوَاعِد العقائد وَلم يذهب لتخطئة عَليّ ذُو تَحْصِيل أصلا وَلَا شُبْهَة أَن الْحق مَعَ عَليّ وَأَن مُعَاوِيَة لَيْسَ مِمَّن يعادل أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ فضلا عَن أَن يعادل عليا وَأَيْنَ الحسام من المنجل وَأَيْنَ مُعَاوِيَة من على فَاشْتَبَهَ على الْعَامَّة أَمرهمَا وصاروا فريقين فَوَقَعت الْحَرْب بَينهمَا كَمَا قدره الله تَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن لَا يَقع فِي ملكه إِلَّا مَا أَرَادَ {لَا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئَلُون} الْأَنْبِيَاء 23 فَلَمَّا اسْتشْهد عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعد ذَلِك قَامَ الْحسن بن عَليّ بعده وَقد سبق فِي خِلَافَته تَفْصِيل ذَلِك وَذكر صلحه مَعَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فَلَمَّا سم وَمَات رَضِي الله عَنهُ قَامَ أَخُوهُ الْحُسَيْن بن عَليّ تالياً {وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدَ جَعلَنا لوَلِيِّه سلطنا} الْإِسْرَاء 33 الْآيَة وَكَانَ قِيَامه زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة فَقتل ب كربلاء عطشاناً سير عَلَيْهِ عبيد الله بن زِيَاد سَرِيَّة عَلَيْهَا عمر بن سعد بن أبي وَقاص وَكَانَ من أمره مَا شرح فِيمَا تقدم مِمَّا يجرح الْقُلُوب وَيجْرِي الْغُرُوب(4/158)
ثمَّ قَامَ من بعده عَليّ زين العابدين ثمَّ قَامَ من بعده زيد بن عَليّ فَقتل وصلب ثمَّ قَامَ وَلَده يحيى بن زيد فَقتل ثمَّ هَلُمَّ جراً فَذهب الزيدية من الشِّيعَة أَن الْقيام افْترض عَلَيْهِم لطلب الْحق وَأَن إِظْهَار الدعْوَة وَالْقِيَام بِأَمْر الإمامه للْأمة وَاجِب عَلَيْهِم وَهَذَا مَكْتُوب فِي تواريخ الزيدية وَأما الشِّيعَة الإمامية الاثنا عشرِيَّة فَلَا يجوزون الْإِمَامَة لغير الاثْنَي عشر الإِمَام الَّذين أَوَّلهمْ عَليّ واخرهم الْمهْدي مُحَمَّد المنتظر صَاحب السرداب وَدَلِيل الزيدية على تَصْحِيح جَوَازهَا لغير الْأَئِمَّة الاثنى عشر أَو تعينه وَهُوَ مَا وعدنا بِهِ سَابِقًا هُوَ مَا أخرج أَبُو إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده والدولابي فِي الذُّرِّيَّة الطاهرة أَن النبى
قَالَ إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا كتاب الله طرف بِيَدِهِ وطرف بِأَيْدِيكُمْ وَأهل بَيْتِي وَرَوَاهُ الجعابي فِي الطالبيين وَلَفظه إِن رَسُول الله
قَالَ إِنِّي مخلف فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا كتاب الله تَعَالَى طرف بيد الله وطرف بِأَيْدِيكُمْ وعترتي أهل بَيْتِي وَلنْ يفترقا حَتَّى يردا عليَّ الْحَوْض وَرَوَاهُ الْبَزَّار وَلَفظه إِنِّي مَقْبُوض وَإِنِّي قد تركت فِيكُم الثقلَيْن كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي وَإِنَّكُمْ لن تضلوا بعدهمَا وَفِي رِوَايَة وَالله(4/159)
سَائِلكُمْ كَيفَ خلفتموني فِي كِتَابه وَأهل بَيْتِي وَأخرج مُحَمَّد بن جَعْفَر الرزاز عَن أم سَلمَة أَلا إِنِّي مخلف فِيكُم كتاب رَبِّي عز وَجل وعترتي أهل بَيْتِي ثمَّ أَخذ بيد عَليّ فَرَفعهَا فَقَالَ هَذَا عَليّ مَعَ الْقُرْآن وَالْقُرْآن مَعَ عَليّ لَا يفترقان حَتَّى يردا على الْحَوْض فاسألهما مَا خلفت فيهمَا وَأخرج أَبُو سعد والملا فِي سيرته حَدِيث
اسْتَوْصُوا بِأَهْل بَيْتِي خيرا فَإِنِّي أخاصمكم عَنْهُم غَدا وَمن أكن خَصمه أخصمه وَمن أخصمه دخل النَّار قَالَ فِي جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ وَلما كَانَ كل من الْقُرْآن الْعَظِيم والعترة الطاهرة معدناً للعلوم الدِّينِيَّة والأسرار وَالْحكم النفيسة الشَّرْعِيَّة وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها أطلق عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِمَا الثقلَيْن ويرشد لذَلِك حثه على الِاقْتِدَاء والتمسك والتعلم من أهل بَيته وَلَا شكّ أَن الَّذين وَقع الْحَث على التَّمَسُّك بهم من أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ والعترة الطاهرة هم الْعلمَاء بِكِتَاب الله إِذا لَا يحث عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بالتمسك بغيرهم وهم الَّذين لَا يَقع بَينهم وَبَين الْكتاب اقتراب وَلِهَذَا قَالَ لَا تقدموها فَتَهْلكُوا وَلَا تقصرُوا عَنْهَا فَتَهْلكُوا وَقَالَ فِي طَرِيق آخر فِي عترته فَلَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَهْلكُوا وَلَا تعلموهم فهم أعلم مِنْكُم فاختصوا بمزيد الْحَث عَن غَيرهم من الْعلمَاء لما تضمنته الْأَحَادِيث فِي ذَلِك وَلِحَدِيث أَحْمد ذكر عِنْد النبى
قَضَاء قضى بِهِ على فأعجب النَّبِي
وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي جعل فِينَا الْحِكْمَة أهل الْبَيْت وكل هَذَا يفهم وجوب من يكون أَهلا للتمسك بِهِ من أهل الْبَيْت والعترة الطاهرة فِي كل زمَان وجدوا فِيهِ إِلَى قيام السَّاعَة حَتَّى يتوجهَ الْحَث الْمَذْكُور على التَّمَسُّك بِهِ(4/160)
كَمَا أَن الْكتاب الْعَزِيز كَذَلِك وَلِهَذَا كَانُوا أَمَانًا لأهل الأَرْض فَإِذا ذَهَبُوا أهل الأَرْض وَأما احتجاج الشِّيعَة لمنعهم ذَلِك بِالْحَدِيثِ يكون من أهل بَيْتِي اثْنَا عشر خَليفَة أَو كَمَا قَالَ
فَلَيْسَ لَهُم فِي ذَلِك حجَّة إِذْ مَفْهُوم الْعدَد غير مُعْتَبر دَلِيلا يبطل معنى الْحَث والتمسك إِذْ لَو لم نقل بِوُجُود ذَلِك التَّمَسُّك بِهِ لم يتعقل الْحَث على التَّمَسُّك بمعدوم وَأخرج أَبُو الْحسن بن المغازلي من طَرِيق مُوسَى بن الْقَاسِم عَن عَليّ بن جَعْفَر سَأَلت الْحسن عَن قَوْله تَعَالَى {كمشكوة فيِهاً مِصبَاح} النُّور 35 قَالَ الْمشكاة فَاطِمَة والشجرة الْمُبَارَكَة إِبْرَاهِيم لَا شرقية وَلَا غربية لَا يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة {يكَاد زيتها يضُئ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَار نوُر عَلى نوُرِ} النُّور 35 قَالَ مِنْهَا إِمَام بعد إِمَام يهدي الله لنوره من يَشَاء قَالَ يهدي لولايتنا من يَشَاء وَقَوله مِنْهَا إِمَام بعد إِمَام يَعْنِي أَئِمَّة يقْتَدى بهم فِي الدّين ويتمسك بهم فِيهِ وَيرجع إِلَيْهِم وَهَذَا أوضح دَلِيل على صِحَة إِمَامَة غَيرهم بل تعينها وَهَهُنَا نقل غَرِيب وَهُوَ إِن كَانَ لَا تعلق لَهُ بِمَا نَحن فِيهِ من وَجه فَلهُ تعلق من وَجه آخر إِذْ هُوَ فِي شَأْن العترة الطاهرة الَّذين الْكَلَام فِي شَأْنهمْ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه وَنَصه روى الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَحمَه الله سُئِلَ عَن قَوْله تَعَالَى {سَأَلَ سَائل بغذاب وَاقع} المعارج 1 فِيمَن نزلت فَقَالَ للسَّائِل سَأَلتنِي عَن مَسْأَلَة مَا سَأَلَني عَنْهَا أحد قبلك حَدثنِي أبي عَن جَعْفَر الصَّادِق عَن أَبِيه مُحَمَّد الباقر عَن آبَائِهِ عَلَيْهِم السَّلَام أَن رسوم الله
لما كَانَ بغدير خم فَنَادَى فِي النَّاس فَاجْتمعُوا فَأخذ بيد عَليّ وَقَالَ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ إِلَى آخر(4/161)
الحَدِيث فشاع ذَلِك وطار فِي الْبِلَاد فَبلغ ذَلِك الْحَارِث بن النُّعْمَان الفِهري فَأتى رَسُول الله
على نَاقَة لَهُ فَنزل بِالْأَبْطح عَن نَاقَته وأناخها فَقَالَ يَا مُحَمَّد أمرتنا عَن الله أَن نشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله فقبلناه مِنْك وأمرتنا أَن نصلي خمْسا فقبلناه مِنْك وأمرتنا بِالزَّكَاةِ فَقبلنَا وأمرتنا أَن نَصُوم شهرا فَقبلنَا وأمرتنا بِالْحَجِّ فَقبلنَا ثمَّ لم ترض بِهَذَا حَتَّى ترفع بضبعي ابْن عمك تفضله علينا وَقلت من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فَهَذَا شَيْء مِنْك أَو من الله عز وَجل فَقَالَ رَسُول الله
وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِن هَذَا من الله عز وَجل فولى الْحَارِث بن النُّعْمَان يُرِيد رَاحِلَته وَهُوَ يَقُول {اللهُمَ إِن كانَ هَذاً هُوَ اَلحَقَّ من عِندِكَ فَأَمطِر علينا حِجارَةً} الْأَنْفَال 32 الْآيَة فَمَا وصل إِلَى رَاحِلَته حَتَّى رَمَاه الله بِحجر فَسقط على هامته وَخرج من دبره فَقتله فَأنْزل الله عز وَجل {سَأَلَ سَائل بِعَذابٍ وَاقعٍ} المعارج 1 كَذَا فِي جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ فِي فضل الشرفين شرف الْعلم الْجَلِيّ وَشرف النّسَب الْعلي وَهَا أَنا أذكر من قَامَ مِنْهُم من لدن عَليّ بن أبي طَالب إِلَى زَمَاننَا الْيَوْم وَهُوَ عَام سبع وَتِسْعين وَألف فَأَقُول أَوَّلهمْ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَبعده ابناه الْحسن فِي زمن مُعَاوِيَة ثمَّ الْحُسَيْن فِي زمن يزِيد وَقد سبق ذكرهمَا بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ بعد الْحُسَيْن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب قَامَ فِي زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان ثمَّ استتر فَلَمَّا ولي الْأَمر الْوَلِيد بن عبد الْملك شدد فِي طلبه فَلم يظفر بِهِ وَكَانَ مستتراً بالحجاز فَدس إِلَيْهِ من سقَاهُ السم فَمَاتَ مسموماً وَحمل إِلَى الْمَدِينَة المنورة وَدفن بِالبَقِيعِ وَكَانَ قِيَامه سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ ووفاته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة قلت قد تقدم فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة أَن الْحسن الْمثنى لم يدع الْإِمَامَة وَلم يدعُ إِلَى مبايعة وَلم يَدعهَا لَهُ أحد فعده هَهُنَا فِي الدعاة على غير تِلْكَ الرِّوَايَة ثمَّ قَامَ بالدعوة الإِمَام زيد بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم ظهر زيد بِالْكُوفَةِ خَارِجا على هِشَام بن عبد الْملك داعياُ للْكتاب وَالسّنة وَإِلَى(4/162)
جِهَاد الظَّالِمين وَإِعْطَاء المحرومين وَالْعدْل فِي قسْمَة الْفَيْء ورد الْمَظَالِم وَنصر أهل الْبَيْت وَاخْتلف فِي سَبَب خُرُوجه فَقيل إِن يُوسُف بن عمر لما نكب خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي كتب إِلَى هِشَام أَنه شيعَة لأهل الْبَيْت وَأَنه ابْتَاعَ من زيد أَرضًا بِالْمَدِينَةِ بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَأَنه رد الأَرْض علية وَأَنه أودع زيدا وَأَصْحَابه مَالا وَكَانَ زيد قد قدم على خَالِد بالعراق هُوَ وَمُحَمّد بن عمر بن أبي طَالب وَدَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس فأجازهم وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَة فبحث هِشَام عَنْهُم وسألهم فأقروا بالجائزة وحلفوا على مَا سوى ذَلِك فصرفهم هِشَام وَبعث إِلَى يُوسُف بن عمر فقابلوا خَالِدا وَصدقهمْ وعادوا إِلَى الْمَدِينَة ونزلوا الْقَادِسِيَّة وراسل أهل الْكُوفَة زيدا فَعَاد إِلَيْهِم وَقيل سَبَب ذَلِك أَن زيدا اخْتصم مَعَ ابْن عَمه جَعْفَر بن الْحسن الْمثنى فِي وقف عَليّ ثمَّ مَاتَ جَعْفَر فخاصم أَخُوهُ عبيد الله زيدا وَكَانَا يحْضرَانِ عِنْد عَامل خَالِد فَوَقَعت بَينهمَا فِي مَجْلِسه مشاتمات وَأنكر زيد من خَالِد إطالته للخصومة وَيسمع مثل هَذَا فأغلط لَهُ زيد وَسَار إِلَى هِشَام فحجبه ثمَّ أذن لَهُ بعد حِين فحاوره طَويلا ثمَّ عرض لَهُ بِأَنَّهُ يذكر الْخلَافَة وتنقصه ثمَّ قَالَ اخْرُج قَالَ نعم ثمَّ لَا أكون إِلَّا بِحَيْثُ تكره فَسَار إِلَى الْكُوفَة وَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ بن أبي طَالب ناشدتك الله الْحق بأهلك وَلَا تأت الْكُوفَة وَذكره بفعلهم مَعَ جده وجده فَأخذ يتظلم مِمَّا وَقع بِهِ وَأَقْبل إِلَى الْكُوفَة وَأقَام بهَا مستخفياً يتنقل فِي الْمنَازل وَاخْتلفت إِلَيْهِ الشِّيعَة وَبَايَعَهُ جماعات وناس من وُجُوه أهل الْكُوفَة يذكر لَهُم دَعوته ثمَّ يَقُول أَتُبَايِعُونَ على ذَلِك فَيَقُولُونَ نعم فَيَضَع يَده على أَيْديهم وَيَقُول عَلَيْك عهد الله وميثاقه وذمته وَذمَّة نبيه لتتبعني ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَإِذا قَالَ نعم مسح يَده على يَده ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَبَايعهُ على ذَلِك خَمْسَة عشر ألفا وَأمرهمْ بالاستعداد وشاع أمره فِي النَّاس وَبلغ الْخَبَر إِلَى يُوسُف ابْن عمر فَأخْرجهُ من الْكُوفَة ولحقه الشِّيعَة بالقادسية أَو الثعلبية وعذله دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس على الرُّجُوع مَعَهم وَذكره حَال جده الْحُسَيْن فَقَالَت(4/163)
الشِّيعَة لزيد هَذَا إِنَّمَا يُرِيد الْأَمر لنَفسِهِ وَلأَهل بَيته فَرجع مَعَهم وَمضى دَاوُد إِلَى الْمَدِينَة وَلما أَتَى زيد الْكُوفَة جَاءَهُ مسلمة بن كهيل فصده عَن ذَلِك وَقَالَ أهل الْكُوفَة لَا يفون لَك وَقد كَانَ مَعَ جدك مِنْهُم أَضْعَاف من مَعَك وَلم يفوا لَهُ وَكَانَ أعز عَلَيْهِم مِنْك على هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَهُ زيد قد بايعوني وَوَجَبَت الْبيعَة فِي عنقِي وعنقهم قَالَ فتأذن لي أَن أخرج من هَذِه الْبَلَد فَلَا آمن أَن يحدث حدث وَأَنا لَا آمن نَفسِي فَخرج إِلَى الْيَمَامَة وَكتب عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى إِلَى زيد يعذله ويصده فَلم يصغ إِلَيْهِ وَتزَوج نسَاء بِالْكُوفَةِ وَكَانَ يخلف إلَيْهِنَّ وَالنَّاس يبايعونه ثمَّ أَمر أَصْحَابه يَتَجَهَّزُونَ ونمى الْخَبَر إِلَى يُوسُف بن عمر فَطَلَبه وَخَافَ زيد فتعجل الْخُرُوج وَكَانَ يُوسُف بِالْحيرَةِ وعَلى الْكُوفَة الحكم بن الصَّلْت وعَلى شرطته عمر بن عبد الرَّحْمَن وَلما علم الشِّيعَة أَن يُوسُف يبْحَث عَن زيد جَاءَ إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم فَقَالُوا لَهُ مَا تَقول فِي الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ زيد رحمهمَا الله وَغفر لَهما وَمَا سَمِعت أحدا من أهل بَيْتِي يذكرهما إِلَّا بِخَير وَغَايَة مَا أَقُول إِنَّا كُنَّا أَحَق بسُلْطَان رَسُول الله
من النَّاس فدفعونا عَنهُ وَلم يبلغ ذَلِك الْكفْر وَقد عدلا فِي النَّاس وَعَملا بِالْكتاب وَالسّنة قَالُوا فَإِذا كَانَ أُولَئِكَ لم يظلموك وَهَؤُلَاء لم يظلموك فَلم تدعونا إِلَى قِتَالهمْ فَقَالَ إِن هَؤُلَاءِ ظلمُوا الْمُسلمين أَجْمَعِينَ وَإِنَّا ندعوهم إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَأَن نحيي السّنَن ونطفىء الْبدع فَإِن أَحْبَبْتُم سعدتم وَإِن أَبَيْتُم فلست عَلَيْكُم بوكيل فَقَالُوا إذَن نرفضك فَقَالَ اذْهَبُوا فَأنْتم الرافضة ففارقوه وَنَكَثُوا بيعَته وَقَالُوا سبق الإِمَام الْحق يعنون مُحَمَّدًا الباقر وَإِن جعفراً ابْنه إمامنا بعده فَمن ذَلِك سموا بِهَذَا الِاسْم(4/164)
ثمَّ بعث يُوسُف بن عمر إِلَى الحكم بن الصَّلْت عَامل الْكُوفَة أَن يجمع أهل الْكُوفَة فِي الْمَسْجِد فَجمعُوا وطلبوا زيدا فِي دَار مُعَاوِيَة بن إِسْحَاق بن زيد بن حَارِثَة فَخرج مِنْهَا لَيْلًا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ نَاس من الشِّيعَة الَّذين بقوا مَعَه وَلم يفارقوه وهم الْفرْقَة الْمَخْصُوصَة باسم الزيدية وأشعلوا النيرَان وَنَادَوْا يَا مَنْصُور حَتَّى طلع الْفجْر وَأصْبح جَعْفَر بن أبي الْعَبَّاس فلقي اثْنَيْنِ من أَصْحَاب زيد ينادون بشعاره فَقتل وَاحِدًا وأتى بِالْآخرِ إِلَى الحكم بن الصَّلْت فَقتله وغلق أَبْوَاب الْمَسْجِد على النَّاس وَبعث إِلَى يُوسُف بن عمر بالْخبر فَسَار من الْحيرَة وَقدم الريان بن سَلمَة الأراشي فِي أَلفَيْنِ خيالة وثلاثمائة مَاشِيَة وافتقد زيد النَّاس فَقيل لَهُ إِنَّهُم بالجامع محصورون وَلم يجد مَعَه إِلَّا مِائَتَيْنِ وَعشْرين رجلا وَخرج صَاحب شرطته فِي خيل فلقي نصر بن خُزَيْمَة الْعَبْسِي من أَصْحَاب زيد ذَاهِبًا إِلَيْهِ فَحمل عَلَيْهِ نصر وَأَصْحَابه فَقَتَلُوهُ وَحمل زيد على أهل الشَّام فَهَزَمَهُمْ وانْتهى إِلَى دَار أنس بن عَمْرو الْأَزْدِيّ مِمَّن بَايعه فناداه وَلم يجبهُ وَلم يخرج إِلَيْهِ ثمَّ سَار زيد إِلَى الكناسة فَحمل على أهل الشَّام فَهَزَمَهُمْ ثمَّ دخل الْكُوفَة والريان فِي اتِّبَاعه فَلَمَّا رأى زيد خذلان النَّاس قَالَ لنصر بن خُزَيْمَة أفعلتموها حسينية فَقَالَ نصر أما أَنا فوَاللَّه لأموتن مَعَك وَإِن النَّاس بِالْمَسْجِدِ فَامْضِ بِنَا إِلَيْهِم فجَاء زيد إِلَى الْمَسْجِد يُنَادي فِي النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ فَرَمَاهُ أهل الشَّام بِالْحِجَارَةِ من فَوق الْمَسْجِد وَانْصَرفُوا عِنْد الْمسَاء وَأرْسل يُوسُف بن عمر الْعَبَّاس بن سعد الْمُزنِيّ فِي أهل الشَّام فَجَاءَهُ فِي دَار الرزق وَقد كَانَ آوى إِلَيْهَا عِنْد الْمسَاء فَلَقِيَهُ زيد وعَلى مجنيته نصر بن خُزَيْمَة وَمُعَاوِيَة بن إِسْحَاق بن زيد بن ثَابت فَاقْتَتلُوا فَحمل نصر على أَصْحَاب الْعَبَّاس فَهَزَمَهُمْ زيد وَأَصْحَابه وعبأهم يُوسُف بن عمر من الْعشي ثمَّ سرحهم فكشفهم أَصْحَاب زيد وَلم تثبت خيلهم لخيله وَبعث إِلَيْهِ يُوسُف بن عمر بالناشبة وَاشْتَدَّ الْقِتَال وَقتل مُعَاوِيَة بن زيد ثمَّ رمي زيد عِنْد الْمسَاء بِسَهْم أثْبته فَرجع أَصْحَابه وَأهل الشَّام يظنون أَنهم تحاجزوا وَلما نزل النصل من جَبهته مَاتَ فدفنوه وأجروا عَلَيْهِ المَاء وَأصْبح الحكم يَوْم الْجُمُعَة يتتبع الْجَرْحى من الدّور ودله بعض الموَالِي على قبر زيد فاستخرجه وَقطع رَأسه وَبعث بِهِ إِلَى يُوسُف بن عمر بِالْحيرَةِ فَبَعثه إِلَى هِشَام فصلبه على بَاب دمشق وَأمر يُوسُف الحكم بن الصَّلْت(4/165)
أَن يصلب جثة زيد بالكناسة وَنصر بن خُزَيْمَة وَمُعَاوِيَة بن إِسْحَاق ويحرسهم وَاسْتمرّ نَحوا من سنتَيْن أَو أَربع مصلوباً وَيذكر أَن العنكبوت نسجت على عَورَة زيد رضى الله تَعَالَى عَنهُ فَلَمَّا ولي الْوَلِيد أَمر بإحراقهم فأننا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون قلت كَانَ يُوسُف بن عمر هَذَا مُتَوَلِّي العراقين لهشام بن عبد الْملك ومروان وَهُوَ الْآمِر للْحكم بن الصَّلْت أَن يصلب جثة زيد بالكناسة مذموماً فِي عمله مخدوشاً فِي عقله متنطعا فِي حمقه حدث عَنهُ المداثنى قَالَ وزن يُوسُف بن عمر درهما فنقص حَبَّة فَكتب إِلَى صَاحب دَار الضَّرْب بالعراق فَضرب ألف سَوط وخطب فِي مَسْجِد الْكُوفَة فَتكلم إِنْسَان مَجْنُون فَقَالَ يَا أهل الْكُوفَة ألم أنهكم أَن تدخل مجانينكم الْمَسْجِد اضربوا عُنُقه فَضربت وتخلف عَنهُ يَوْمًا كَاتبه فَقَالَ لَهُ مَا حَبسك فَقَالَ اشتكيت ضرسي فَقَالَ تشتكى ضرسك وتعقد عَن الدِّيوَان فَدَعَا بالحجام وَأمره بقلع ضرسين من أَضْرَاسه وَعنهُ أَيْضا قَالَ حَدَّثَنى رَضِيع ليوسف بن عمر من بني عبس قَالَ كنت لَا أحجب عَنهُ وَلَا عَن حريمه فَدَعَا ذَات يَوْم بجوار لَهُ ثَلَاث ودعا بخصي لَهُ أسود يُقَال لَهُ خديج فَقرب إِلَيْهِ وَاحِدَة فَقَالَ لَهَا إِنِّي أُرِيد الشخوص فأخلفك أم أشخصك معي فَقَالَت صُحْبَة الْأَمِير أحب إِلَيّ وَلَكِن أَحسب أَن مقَامي وتخلفي أعفى عَلَيْهِ وأخف فَقَالَ أَحْبَبْت التَّخَلُّف للفجور اضربها يَا خديج فضربها حَتَّى أوجعها ثمَّ أمره بِأَن يَأْتِيهِ بِالْأُخْرَى فَقَالَ لَهَا إِنِّي أُرِيد الشخوص مثل قَوْله للاولى فَقَالَت وَقد رَأَتْ مَا لقِيت صاحبتها الْمُتَقَدّمَة مَا أعدل بِصُحْبَة الْأَمِير شَيْئا بل يخرجني مَعَه فَقَالَ أَحْبَبْت الْجِمَاع مَا تريدين أَن يفوتك اضربها يَا خديج فضربها حَتَّى أوجعها ثمَّ أمره أَن يَأْتِيهِ بالثالثة وَقد رَأَتْ مَا وَقع لأولتيها فَقَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لَهما فَقَالَت الْأَمِير أعلم لينْظر أخف الْأَمريْنِ عَلَيْهِ فليفعله فَقَالَ لَهَا اخْتَارِي لنَفسك فَقَالَت مَا عِنْدِي لهَذَا اخْتِيَار فليختر الْأَمِير فَقَالَ هَل فرغت أَنا الْآن من كل عَمَلي وَلم يبْق عَليّ إِلَّا أَن أخْتَار لَك أوجعها يَا خديج ضربا فَقَالَ الرجل فَكَأَنَّمَا هُوَ يضربني فِي الثَّلَاث من شدَّة غيظي عَلَيْهِ وعَلى آمره فَوَلَّتْ الْجَارِيَة وتبعها الْخصي فَلَمَّا بَعدت قَالَت الْخيرَة وَالله فِي فراقك لَا تقر عين أحد بصحبتك فَلم يفهم(4/166)
يُوسُف كَلَامهَا فَقَالَ مَا تَقول يَا خديج قَالَ قَالَت كَذَا وَكَذَا قَالَ يَابْنَ الخبيثة من أَمرك أَن تُخبرنِي يَا غُلَام خُذ السَّوْط من يَده فَارْجِع بِهِ رَأسه فَمَا زَالَ يضْربهُ حَتَّى اشتفيت مِنْهُ كَذَا فِي المحاسن والمساوى للبيهقي قلت فَانْظُر إِلَى هَؤُلَاءِ المتخلفين وَإِلَى من يولونه تَجِد الوصلة بَينهمَا قريبَة غير غَرِيبَة واستجار يحيى بن زيد بِعَبْد الْملك بن بشر بن مَرْوَان فَأَجَازَهُ حَتَّى سكن الطّلب ثمَّ سَار إِلَى خُرَاسَان فِي نفر من الزيدية فَقَامَ بالدعوة كَمَا سَيذكرُ كَانَ قَتله فِي شهر شعْبَان سنة 121 إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَقتل فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين عمره ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ سنة ثمَّ قَامَ بالدعوة ابْنه الإِمَام يحيى بن زيد بن عَليّ زين العابدين بن عَليّ بن أبي طَالب وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك بخراسان ثمَّ انْتقل إِلَى بيهق وَأظْهر دَعوته هُنَاكَ فقصدته جنود الْوَلِيد فَقَاتلهُمْ فضعف عَن الْمُقَاتلَة فَتوجه إِلَى جوزجان وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجنُود فَقَاتلُوا فَأَصَابَهُ سهم آخر نَهَار الْجُمُعَة من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة فحز رَأسه وَحمل إِلَى الْوَلِيد ابْن يزِيد وصلبت جثته على جذع عِنْد بَاب جوزجان وَبَقِي مصلوباً إِلَى أَن ظهر أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي صَاحب دَعْوَة العباسيين فأنزله من الْجذع وَصلى عَلَيْهِ وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة فَهَؤُلَاءِ فِي دولة بني أُميَّة وَأما فِي دولة العباسيين فَكَانَ زمَان عبيد الله السفاح أول من ولي مِنْهُم زمَان صلح وسداد وبرمنه بهم مَا ظهر فِي زَمَانه أحد وَلَا دَعَا دَاع وَكَانُوا شَيْئا وَاحِدًا على مَا تَقْتَضِيه الْقَرَابَة واللحمة فَلَمَّا مَاتَ السفاح وَولي أَخُوهُ الْمَنْصُور عبد الله الدوانيقي قَامَ بالدعوه مُحَمَّد الملقب بِالنَّفسِ الزكية بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَسبب ذَلِك أَنه لما صَار أَمر بني أُميَّة إِلَى الِاخْتِلَاف واضطرب أَمر مَرْوَان بن مِحمد اجْتمع أهل الْبَيْت بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة وَتَشَاوَرُوا فِيمَن يعقدون لَهُ الْخلَافَة فاتفقوا على مُحَمَّد النَّفس الزكية بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن(4/167)
السبط وَبَايَعُوهُ سرا وَسلم لَهُ جَمِيعهم وَيُقَال إِنَّه حضر هَذِه الْبيعَة أَبُو جَعْفَر عبد الله الْمَنْصُور وَبَايع فِيمَن بَايع لَهُ من أهل الْبَيْت وَأَجْمعُوا على ذَلِك لتقدمه فيهم بِمَا علمُوا لَهُ من الْفضل عَلَيْهِم وَلِهَذَا كَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله تَعَالَى يجنحان إِلَيْهِ حِين خرج من الْحجاز ويريان إِمَامَته أصح من إِمَامَة أبي جَعْفَر لانعقاد هَذِه الْبيعَة من قبل وَرُبمَا صَار إِلَيْهِ الْأَمر عِنْد الشِّيعَة بانتقال الْوَصِيَّة إِلَيْهِ من زيد بن عَليّ وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول بفضله ويجنح إِلَى حَقه فتأدت إِلَيْهِمَا المحنة بِسَبَب ذَلِك أَيَّام أبي جَعْفَر الْمَنْصُور حَتَّى ضرب مَالك على الْفتيا فِي طَلَاق الْمُكْره وَحبس أَبُو حنيفَة على الْقَضَاء وَلما حج الْمَنْصُور أَيَّام أَخِيه السفاح سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ تغيب عَنهُ مُحَمَّد هَذَا وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم وَلم يحضرا عِنْده مَعَ بني هِشَام فَسَأَلَ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ زِيَاد بن عبيد الله الْحَارِثِيّ أَنا آتِيك بهما وَكَانَ مَعَه بِمَكَّة فَرده الْمَنْصُور إِلَى الْمَدِينَة وَلما صَارَت الْخلَافَة إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور سعى عِنْده ببني حسن وَأَن مُحَمَّد ابْن عبد الله يروم الْخُرُوج وَأَن دعاته ظَهَرُوا بخراسان فَطَفِقَ يسْأَل عَن مُحَمَّد وَيخْتَص بني هَاشم بالسؤال سرا فكلهم يَقُول إِنَّك ظَهرت على طلبه بِهَذَا الْأَمر فخافك وَيحسن الْعذر عَنهُ إِلَّا الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ فَإِنَّهُ قَالَ وَالله مَا آمن وثوبه عَلَيْك فَإِنَّهُ لَا ينَام عَنْك فَكَانَ مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض يَقُول بعد هَذِه اللَّهُمَّ اطلب الْحسن بن زيد بدمائنا ثمَّ إِن الْمَنْصُور حج سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وألح على عبد الله بن حسن فِي إِحْضَار ابْنه مُحَمَّد فَاسْتَشَارَ عبد الله بن سُلَيْمَان بن عَليّ فِي إِحْضَاره فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان لَو كَانَ عافياً لعفا عَن عَمه فاستمر عبد الله على الكتمان ثمَّ اسْتعْمل الْمَنْصُور على الْمَدِينَة ريَاح بن عُثْمَان المري فِي رَمَضَان سنة أَربع وَأَرْبَعين فَقدم الْمَدِينَة وتهدد عبد الله الْمَحْض فِي إِحْضَار ابنيه مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم فَقَالَ لَهُ عبد الله إِنَّك لأزرق قيس الْمَذْبُوح فِيهَا كَمَا تذبح الشَّاة فاستشعر ذَلِك ووجم فَقَالَ لَهُ حَاجِبه أَبُو البخْترِي إِن هَذَا مَا اطلع على الْغَيْب فَقَالَ لَهُ وَالله مَا قَالَ هَذَا إِلَّا مَا سمع فَكَانَ كَذَلِك كَمَا سَيذكرُ(4/168)
ثمَّ جد ريَاح فِي طلب مُحَمَّد فَأخْبر أَنه فِي شعاب رضوى من عمل يَنْبع وَهُوَ جبل جُهَيْنَة فَبعث عَامله فِي طلبه فَأَفلَت ثمَّ إِن ريَاح حبس بني حسن وقيدهم وهم عبد الله الْمَحْض وَإِخْوَته حسن وَإِبْرَاهِيم وجعفر وَابْنه مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض وَسليمَان وَعبد الله ابْني أَخِيه دَاوُد وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق ابْني إِبْرَاهِيم بن الْحسن وَلم يحضر مَعَهم أَخُوهُ على العابد ثمَّ حضر من الْغَد وَقَالَ جئْتُك لتحبسني مَعَ قومِي فحبسه وَكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور أَن يحبس مَعَهم مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان الْمَعْرُوف بالديباجة وَكَانَ أَخا عبد الله الْمَحْض لأمه أمهما فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن وَكَانَ عَامل مصر قد عثر على عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَحْض بَعثه أَبوهُ مُحَمَّد النَّفس الزكية إِلَى مصر يَدْعُو لَهُ فَأَخذه عاملها وَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور ثمَّ إِن الْمَنْصُور حج سنة أَربع وَأَرْبَعين فَلَمَّا قضى حجه وَخرج إِلَى الرَّبذة وَجَاء ريَاح بن عُثْمَان ليودعه أمره بأشخاص بني حسن وَمن مَعَهم إِلَى الْعرَاق فَأخْرجهُمْ فِي الْقُيُود والأغلال وأركبهم فِي محامل بِغَيْر وطاء وجعفر الصَّادِق يعاينهم من وَرَاء ستر ويبكي وَجَاء مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم مَعَ أَبِيهِمَا يسايرانه مستترين بزِي الْأَعْرَاب ويستأذنانه فِي الْخُرُوج فَيَقُول لَا تعجلا حَتَّى يمكنكما وَإِن منعتما أَن تعيشا كريمين فَلَا تمنعا أَن تموتا كريمين وانتهوا بهم إِلَى الزبذة وأحضر العثماني مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان ابْن عَفَّان الْمَعْرُوف بالديباجة عِنْد الْمَنْصُور فَضَربهُ مائَة وَخمسين سَوْطًا بعد ملاحاة جرت بَينهمَا أغضبت الْمَنْصُور وَيُقَال إِن رياحاً أغرى الْمَنْصُور بِهِ وَقَالَ لَهُ إِن أهل الشَّام شيعته وَلَا يتَخَلَّف مِنْهُم عَنهُ أحد ثمَّ كتب أَبُو عون عَامل خُرَاسَان إِلَى الْمَنْصُور إِن أهل خُرَاسَان ينتظرون مُحَمَّد بن عبد الله الْمَحْض وَأَنه جفل مِنْهُم فَأمر الْمَنْصُور بقتل العثماني وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى خُرَاسَان وَبعث مَعَه من يحلف أَنه رَأس مُحَمَّد بن عبد الله الْمَحْض وَأَن أمه فَاطِمَة بنت رَسُول الله ثمَّ قدم الْمَنْصُور بهم الْكُوفَة وحبسهم بقصر ابْن هُبَيْرَة وَيُقَال إِنَّه قتل مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن حسن بنى عَلَيْهِ أسطوانة وَهُوَ حَيّ فَمَاتَ ثمَّ مَاتَ بعده عبد الله الْمَحْض ثمَّ عَليّ بن حسن وَيُقَال إِن الْمَنْصُور أَمر بهم فَقتلُوا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا سُلَيْمَان وَعبد الله ابْنا دَاوُد(4/169)
وَإِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل ابْنا إِبْرَاهِيم بن حسن وجعفر بن حسن ثمَّ إِن الْمَنْصُور أرجع رياحاً إِلَى الْمَدِينَة وَأمره بإمعان الطّلب لمُحَمد فوصلها وألح فِي طلب مُحَمَّد وَهُوَ مختف ينْتَقل فِي اختفائه من مَكَان إِلَى مَكَان وَقد أرهقه الطّلب حَتَّى تدلى فِي بِئْر وانغمس فِي مَائِهَا وَحَتَّى سقط ابْنه من جبل فتقطع وَدلّ عَلَيْهِ ريَاح بِالْمَدِينَةِ فَركب فِي طلبه فاختفى عَنهُ وَلم يره وَلما اشْتَدَّ الطّلب عَلَيْهِ أجمع على الْخُرُوج وأغراه أَصْحَابه بذلك وَجَاء الْخَبَر إِلَى ريَاح بِأَنَّهُ اللَّيْلَة خَارج وَحضر الْعَبَّاس بن عبد الله بن الْحَارِث بن الْعَبَّاس وَمُحَمّد بن عمرَان بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد قَاضِي الْمَدِينَة وَغَيرهمَا وَقَالَ لَهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ يطْلب مُحَمَّدًا شَرق الأَرْض وغربها وَهُوَ بَين أظْهركُم وَالله لَئِن خرج ليقتلنكم أَجْمَعِينَ فَأمر القَاضِي بإحضار عشيرته بني زهرَة فَجَاءُوا فِي جمع كثير وأجلسهم بِالْبَابِ ثمَّ أحضر نَفرا من العلويين فيهم جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وحسين بن عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ وَحسن بن عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ ورجالاً من قُرَيْش وبينما هم عِنْده سمعُوا التَّكْبِير وَقيل خرج مُحَمَّد فَقَالَ ابْن مُسلم بن عقبَة لرياح بن عُثْمَان أطعني وَاضْرِبْ أَعْنَاق هَؤُلَاءِ العلويين فَأبى فَأقبل مُحَمَّد النَّفس الزكية فِي مائَة وَخمسين رجلا وقصدوا السجْن وَأخرج مُحَمَّد بن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي وَابْن أَخِيه وَمن كَانَ مَعَهُمَا مَحْبُوسًا بالظلم وأتى دَار الْإِمَارَة وَهُوَ يُنَادي بالكف عَن الْقَتْل فَدَخَلُوا من بَاب الْمَقْصُورَة وقبضوا على ريَاح بن عُثْمَان عَامل الْمَدِينَة وأخيه عَبَّاس وَابْن مُسلم بن عقبَة وحبسهم ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد فَخَطب النَّاس وَذكر الْمَنْصُور بِمَا نقمه عَلَيْهِ ووعد النَّاس واستنصرهم وَاسْتعْمل على الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد بن خَالِد بن الزبير وَعلي قَضَائهَا عبد الْملك بن عبد الْمطلب بن عبد الله المَخْزُومِي وَلم يتَخَلَّف عَن مُحَمَّد ابْن الْمَحْض من وُجُوه النَّاس إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم خبيب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير واستفتى أهل الْمَدِينَة مَالِكًا فِي الْخُرُوج مَعَ مُحَمَّد وَقَالُوا فِي أعناقنا بيعَة الْمَنْصُور فَقَالَ الإِمَام مَالك إِنَّمَا بايعتم مكرهين فَتسَارع النَّاس إِلَى مُحَمَّد وَلزِمَ(4/170)
مَالك بَيته وَأرْسل مُحَمَّد الْمَذْكُور إِلَى إِسْمَاعِيل عبد الله بن جَعْفَر يَدعُوهُ إِلَى بيعَته وَكَانَ شَيخا كَبِيرا فَقَالَ أَنْت وَالله يَابْنَ أخي مقتول فَكيف أُبَايِعك فَرجع النَّاس عَنهُ قَلِيلا قَلِيلا وأسرع بَنو مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر إِلَى مُحَمَّد فَجَاءَت أختهم حمادة إِلَى عَمها إِسْمَاعِيل وَقَالَت يَا عَم إِن مَقَالَتك ثبطت النَّاس عَن مُحَمَّد وإخوتي مَعَه فأخشى أَن يقتلُوا فطردها فَيُقَال إِنَّهَا غَدَتْ عَلَيْهِ فَقتلته وَلما اسْتَوَى أَمر مُحَمَّد بن الْمَحْض الْمَذْكُور ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسْمه الْحُسَيْن بن صَخْر وَجَاء إِلَى الْمَنْصُور فِي تسع وَخَبره الْخَبَر فَقَالَ أَنْت رَأَيْته قَالَ نعم وكلمته على مِنْبَر رَسُول الله
ثمَّ تتَابع الْخَبَر وأشفق الْمَنْصُور من أمره فَاسْتَشَارَ أهل بَيته ودولته فَبعث إِلَى عَمه عبد الله وَهُوَ مَحْبُوس يستشيره فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يقْصد الْكُوفَة فَإِنَّهُم شيعَة أهل الْبَيْت فَيملك عَلَيْهِم أَمرهم ويحفها بالمسالح حَتَّى يعرف الدَّاخِل وَالْخَارِج ويستدعي سَالم بن قُتَيْبَة من الرّيّ فيحشد مَعَه كَافَّة أهل الشَّام ويبعثه وَأَن يثبت الْعَطاء فِي النَّاس فَخرج الْمَنْصُور إِلَى الْكُوفَة وَتَبعهُ عبد الله بن الرّبيع بن عبيد الله بن عبد المدان وَلما قد الْكُوفَة أرسل إِلَى بديل بن يحيى وَكَانَ السفاح يشاوره فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يشحن الأهواز بالجنود وَأَشَارَ عَلَيْهِ جَعْفَر بن حَنْظَلَة البهراني بِأَن يبْعَث الْجند إِلَى الْبَصْرَة فَلَمَّا ظهر إِبْرَاهِيم أَخُو مُحَمَّد الْمَذْكُور بِتِلْكَ النَّاحِيَة تبين وَجه إشارتهما وَقَالَ الْمَنْصُور لجَعْفَر بن حَنْظَلَة كَيفَ خفت الْبَصْرَة قَالَ لِأَن أهل الْمَدِينَة لَيْسُوا أهل حَرْب حسبهم أنفسهم وَأهل الْكُوفَة تَحت قدمك وَأهل الشَّام أَعدَاء الطالبيين وَلم يبْق إِلَّا أهل الْبَصْرَة ثمَّ إِن الْمَنْصُور كتب إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله الْمَحْض الْمَذْكُور كتاب أَمَان فَأجَاب عَنهُ بِالرَّدِّ والتعريض بِأُمُور فِي الْأَنْسَاب وَالْأَحْوَال فَأَجَابَهُ الْمَنْصُور بِمثل ذَلِك وانتصف كل مِنْهُمَا لنَفسِهِ بِمَا يَنْبَغِي الْإِعْرَاض عَنهُ مَعَ أَنَّهُمَا صَحِيحَانِ مرويان وذكرهما الْمبرد فِي كَامِله فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِمَا فليلتمسهما فِي أماكنهما ذكر جَمِيع هَذَا الْعَلامَة ابْن خلدون فِي كِتَابه الْمُسَمّى كتاب العبر وديوان الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي دولة الْعَرَب والعجم والبربر قلت قد أَحْبَبْت ذكرهمَا تجميلأ للجامع(4/171)
الْقَاصِر وتكميلاً يكون فِيهِ شِفَاء الخاطر قَالَ لِسَان الْأَدَب وترجمان الْعَرَب أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد الشهير بالمبرد فِي كِتَابه الْمُسَمّى الْكَامِل وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة اشْتَدَّ الطّلب على مُحَمَّد النَّفس الزكية خرج بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة وَبعث أَخَاهُ إِبْرَاهِيم إِلَى الْبَصْرَة دَاعيا لَهُ فغلب عَلَيْهَا وعَلى الأهواز وَفَارِس وَبعث الْحسن بن مُعَاوِيَة أَو مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة من أَوْلَاد جَعْفَر بن أبي طَالب إِلَى مَكَّة فملكها وَبعث عَاملا إِلَى الْيمن فملكه ودعا لنَفسِهِ وخطب على منبره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ يَدعِي بِالنَّفسِ الزكية وتلقب بالمهدي وَحبس ريَاح بن عُثْمَان المري عَامل الْمَدِينَة للمنصور وَبلغ الْخَبَر إِلَى الْمَنْصُور بذلك فَكتب إِلَيْهِ كتابا نَصه بعد الْبَسْمَلَة من عبد الله عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله أما بعد ف {إِنَّماً جزوا الذَّينَ يُحَارِبونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيسَعونَ فِي اَلأرَضِ فَسَاداً} إِلَى {غَفُورٌ رحِيم} الْمَائِدَة 33: 34 وَلَك ذمَّة الله وَعَهده وميثاقه وَحقّ نبيه مُحَمَّد
إِن تبتَ من قبل أَن نقدر عَلَيْك أَن أؤمنك على نَفسك وولدك وإخوتك وَمن بَايَعَك وَجَمِيع شيعتك وَأَن أُعْطِيك ألف ألف دِرْهَم وأنزلك من الْبِلَاد حَيْثُ شِئْت وأقضى لَك مَا شِئْت من الْحَاجَات وَأطلق من فِي سجني من أهل بَيْتك وشيعتك وأنصارك ثمَّ لَا أتتبع أحدا مِنْكُم بمكروه وَإِن شِئْت أَن تتوثق لنَفسك فَوجه إِلَى من يَأْخُذ لَك الْمِيثَاق والعهد والأمان إِن أَحْبَبْت وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ مُحَمَّد الْمهْدي بِكِتَاب نَصه بعد الْبَسْمَلَة من عبد الله مُحَمَّد الْمهْدي أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى عبد الله بن مُحَمَّد أما بعد {طسم تِلْكَ ءايت الْكتب المُبِينِ نَتلُوا عَلَيكَ مِن نَّباً مُوسى وَفِرعَونَ بِالْحَقِّ لقوم يُؤمنُونَ إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض} إِلَى {يحذرون} الْقَصَص 1: 6 وَأَنا أعرض عَلَيْك من الْأمان مثل الَّذِي أَعْطَيْتنِي فقد تعلم أَن الْحق حَقنا وأنكم إِنَّمَا أعطيتموه بِنَا ونهضتم فِيهِ بشيعتنا وخطبتموه بفضلنا وَإِن أَبَانَا عليا عَلَيْهِ(4/172)
السَّلَام كَانَ الْوَصِيّ وَالْإِمَام فَكيف ورثتموه دُوننَا وَنحن أَحيَاء وَقد علمْتُم أَنه لَيْسَ أحد من بني هَاشم يمت بِمثل فضلنَا وَلَا يفخر بِمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا وَإِنَّا بَنو أم رَسُول الله
فَاطِمَة بنت عَمْرو فِي الْجَاهِلِيَّة دونكم وَبَنُو ابْنَته فَاطِمَة فِي الْإِسْلَام من بَيْنكُم فَأَنا أَوسط بني هَاشم نسبا وَخَيرهمْ أما وَأَبا لم تلدني الْعَجم وَلم تعرق بِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَإِن الله عز وَجل لم يزل يخْتَار لنا فولدني من النَّبِيين أفضلهم مُحَمَّد
وَمن أَصْحَابه أقدمهم إسلاماً وأوسعهم علما وَأَكْثَرهم جهاداً عَليّ بن أبي طَالب وَمن نِسَائِهِ أفضلهن خَدِيجَة بنت خويلد أول من آمن بِاللَّه وَصلى إِلَى الْقبْلَة وَمن بَنَاته أفضلهن وسيدة نسَاء أهل الْجنَّة وَمن المولودين فِي الْإِسْلَام الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة ثمَّ قد علمت أَن هاشماً ولد عليا مرَّتَيْنِ وَأَن عبد الْمطلب ولد الْحسن مرَّتَيْنِ وَأَن رَسُول الله
ولدني مرَّتَيْنِ من قبل جدي الْحسن وَالْحُسَيْن سَيِّدي شباب أهل الْجنَّة فَمَا زَالَ الله يخْتَار لي حَتَّى اخْتَار لي فِي النَّار فولدني أرفع النَّاس دَرَجَة فِي الْجنَّة وأهون أهل النَّار عذَابا يَوْم الْقِيَامَة فَأَنا ابْن خير الْأَخْبَار وَابْن خير الأشرار وَابْن خير أهل الْجنَّة وَابْن خير أهل النَّار وَلَك عهد إِن دخلت فِي بيعتي أَن أؤمنك على نَفسك وولدك وكل مَا أصبته إِلَّا حدا من حُدُود الله تَعَالَى أَو حَقًا لمُسلم أَو معاهد فقد علمت مَا يلزمك فِي ذَلِك فَأَنا أوفى بالعهد مِنْك وَأَنت أَحْرَى بقبلول الْأمان مني إِلَيْك وَأما أمانك الَّذِي عرضت عَليّ فَأَي الْأَمَانَات هُوَ أَمَان ابْن هُبَيْرَة أم أَمَان عمك عبد الله بن عَليّ أم أَمَان أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ الْمَنْصُور بقوله بعد الْبَسْمَلَة من عبد الله عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله اْما بعد فقد أَتَانِي كتابك وَبَلغنِي كلامك فَإِذا جلّ فخرك بِالنسَاء لتضل بِهِ الجفاة والغوغاء وَلم يَجْعَل الله النِّسَاء كالعمومة وَلَا الْآبَاء كالعصبة والأولياء وَقد جعل الله الْعم أَبَا وَبَدَأَ بِهِ على الْوَلَد الْأَدْنَى فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ عَن نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَاتَّبَعت مِلَّة ءاباءى إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعقُوب} يُوسُف 38 وَلَقَد(4/173)
علمت أَن الله تبَارك وَتَعَالَى بعث مُحَمَّدًا
وعمومته أَرْبَعَة فَأَجَابَهُ اثْنَان أَحدهمَا أبي وَكفر اثْنَان أَحدهمَا أَبوك وَأما مَا ذكرت من النِّسَاء وقرابتهن فَلَو أعطين على قدَر الْأَنْسَاب وَحقّ الأحساب لَكَانَ الْخَيْر كُله لآمنة بنت وهب وَلَكِن الله يخْتَار لدينِهِ من يَشَاء من خلقه وَأما مَا ذكرت عَن فَاطِمَة بنت عَمْرو أم أبي طَالب فَإِن الله لم يهد أحدا من وَلَدهَا إِلَى الْإِسْلَام وَلَو فعل لَكَانَ عبد الله بن عبد الْمطلب أَوْلَادهم بِكُل خير فِي الْآخِرَة وَالْأولَى وأسعدهم بِدُخُول الْجنَّة وَلَكِن الله أَبى ذَلِك فَقَالَ {إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يشاءُ} الْقَصَص 56 وَأما مَا ذكرت من فَاطِمَة بنت أَسد أم عَليّ بن أبي طَالب وَفَاطِمَة أم الْحسن وَالْحُسَيْن وَأَن هاشماً ولد عليا مرَّتَيْنِ وَأَن عبد الْمطلب ولد الْحسن مرَّتَيْنِ فَخير الْأَوَّلين والآخرين رَسُول الله
لم يلده هَاشم إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَلم يلده عبد الْمطلب إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَأما مَا ذكرت من أَنَّك ابْن رَسُول الله
فَإِن الله قد أَبى ذَلِك لَهُ فَقَالَ {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النبين} الْأَحْزَاب 40 وَلَكِنَّكُمْ بَنو ابْنَته وَإِنَّهَا لقرابة قريبَة غير أَنَّهَا امْرَأَة لَا تحوز الميرات وَلَا يجوز أَن تؤم فَكيف تورث الْإِمَامَة من قبلهَا وَلَقَد طلب بهَا أَبوك من كل وَجه فأخرجها تخاصم ومرّضها سرا ودفنها لَيْلًا وأبى النَّاس إِلَّا تَقْدِيم الشَّيْخَيْنِ وَلَقَد حضر أَبوك وَفَاة رَسُول الله
فَأمر بِالصَّلَاةِ غَيره ثمَّ أَخذ النَّاس رجلا رجلا فَلم يَأْخُذُوا أَبَاك فيهم ثمَّ كَانَ فِي أَصْحَاب الشورى فَكل دَفعه عَنْهَا بَايع عبد الرَّحْمَن عُثْمَان وَقبلهَا عُثْمَان وَحَارب أَبَاك طَلْحَة وَالزُّبَيْر ودعا سَعْدا إِلَى بيعَته فأغلق بَابه دونه ثمَّ بَايع مُعَاوِيَة بعده وأفضى أَمر جدك إِلَى أَبِيك الْحسن فسلمه إِلَى مُعَاوِيَة بخرق ودراهم وَأسلم فِي يَدَيْهِ شيعته وَخرج إِلَى الْمَدِينَة وَدفع الْأَمر إِلَى غير أَهله وَأخذ مَالا من غير حلّه فَإِن كَانَ لكم فِيهَا شىء فقد يعتموه وَأما قَوْلك إِن الله أخْتَار لَك فِي الْكفْر فَجعل أَبَاك أَهْون أهل النَّار عذَابا فَلَيْسَ فِي الشَّرّ خِيَار وَلَا من عَذَاب الله هَين وَلَا يَنْبَغِي لمُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يفتخر بالنَّار وسترد فتعلم {وَسيعلَمُ اَلذينَ ظلَمُوا} الشُّعَرَاء 227 الْآيَة وَأما(4/174)
قَوْلك لم تلدني الْعَجم وَلم تعرق فِيك أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأَنَّك أَوسط بني هَاشم نسبا وَخَيرهمْ أما وَأَبا فقد رَأَيْتُك فخرت على بني هَاشم طراً وقدمت نَفسك على من هُوَ خير مِنْك أولى وَأُخْرَى وأصلاً وفصلاً فخرت على إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله
وعَلى والدِ وَلَده فَانْظُر وَيحك أَيْن تكون من الله غَدا وَمَا ولد فِينَا مَوْلُود بعد وَفَاة رَسُول الله
أفضل من عَليّ بن الْحُسَيْن وَهُوَ لأم ولد وَلَقَد كَانَ خيرا من جدك حسن بن حسن ثمَّ ابْنه مُحَمَّد بن عَليّ خير من أَبِيك عبد الله وجدته أم ولد ثمَّ ابْنه جَعْفَر الصَّادِق وَهُوَ خير مِنْك وَلَقَد علمت أَن جدك عليا حكم الْحكمَيْنِ وأعطاهما عهد الله وميثاقه على الرِّضَا بِمَا حكما بِهِ فأجمعا على خلعه ثمَّ خرج عمك الْحُسَيْن بن عَليّ فحاربه ابْن مرْجَانَة وَكَانَ النَّاس الَّذين مَعَه عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ ثمَّ أَتَوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إِلَى الشَّام ثمَّ خرج مِنْكُم غير وَاحِد فقتلتكم بَنو أُميَّة وحرقوكم بالنَّار وصلبوكم على جُذُوع النّخل حَتَّى خرجنَا عَلَيْهِم فَأَدْرَكنَا بثأركم إِذْ لم تدركوه ورفعنا أقداركم وأورثناكم أَرضهم وديارهم بعد أَن كَانُوا يلعنون أَبَاك فِي أدبار كل صَلَاة مَكْتُوبَة كَمَا تلعن الْكَفَرَة فعفناهم وكفرناهم وَبينا فَضله وأشدنا بِذكرِهِ فاتخذت ذَلِك علينا حجَّة وظننت أَنا بِمَا ذكرنَا من فضل عَليّ أَنا قدمْنَاهُ على حَمْزَة وَالْعَبَّاس وجعفر كل أُولَئِكَ مضوا سَالِمين مُسلما مِنْهُم وابتلي أَبوك بالدماء وَقد علمت أَن مآثرنا فِي الْجَاهِلِيَّة سِقَايَة الْحَاج الْأَعْظَم وَولَايَة زَمْزَم وَكَانَت للْعَبَّاس دون إخْوَته فنازعنا فيهمَا أَبوك إِلَى عمر فَقضى لنا عمر بهما وَتُوفِّي رَسُول الله
وَلَيْسَ أحد من عمومته حَيا إِلَّا الْعَبَّاس فَكَانَ وَارثه دون بني عبد الْمطلب وَطلب الْخلَافَة غير وَاحِد من بني هَاشم فَلم ينلها إِلَّا وَلَده فَاجْتمع للْعَبَّاس أَنه أَبُو رَسُول الله
خَاتم النَّبِيين وَبَنوهُ القادة الْخُلَفَاء فقد ذهب بِفضل الْقَدِيم والْحَدِيث وَلَوْلَا أَن الْعَبَّاس أخرج إِلَى بدر كرها لمات عماك طَالب وَعقيل جوعا أَو يلحسا جفان عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة فَأذْهب عَنْهُمَا الْعَار والشنار وَلَقَد جَاءَ الْإِسْلَام وَالْعَبَّاس يمون أَبَا طَالب للأزمة الَّتِي أَصَابَتْهُم ثمَّ فدى عقيلاً يَوْم بدر فقدمناكم فِي الْكفْر وفديناكم من الْأسر وورثنا دونكم خَاتم الْأَنْبِيَاء(4/175)
وحزناً شرف الْآبَاء وأدركنا من ثأركم إِذْ عجزتم عَنهُ ومنعناكم حَيْثُ لم تمنعوا أَنفسكُم وَالسَّلَام ثمَّ عقد أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور على حربه لعيسى ابْن عَمه مُوسَى بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَسَار فِي الْجنُود وَمَعَهُ مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس السفاح وَكثير بن حُصَيْن الْعَبْدي وَحميد بن قخطبة وهزار مرد وَغَيرهم وَهَؤُلَاء المذكورون كل رجل مِنْهُم مَذْكُور فِي مقاتلة ألف مَشْهُور مخبور وَقَالَ لَهُ إِن ظَفرت بِمُحَمد فأغمد سَيْفك وابذل لَهُ الْأمان وَإِن تغيب فَخدَّ أهل الْمَدِينَة بِهِ فَإِنَّهُم يعْرفُونَ مذاهبه وَمن لقيك من آل أبي طَالب فعرفني بِهِ وَمن لم يلقك فاقبض مَاله وَكَانَ جَعْفَر الصَّادِق فِيمَن تغيب فَقبض مَاله وَيُقَال إِن الْمَنْصُور لما قدم الْمَدِينَة بعد ذَلِك طلبه جَعْفَر بِالْمَالِ فَقَالَ الْمَنْصُور قَبضه مهديكم وَلما وصل عِيسَى بن مُوسَى إِلَى زيد كتب إِلَى نفر من أهل الْمَدِينَة يستدعيهم وَاسْتَشَارَ مُحَمَّد الْمهْدي أَصْحَابه فِي الْمقَام بِالْمَدِينَةِ ثمَّ فِي الخَنْدَق عَلَيْهَا فآثر ذَلِك اقْتِدَاء برَسُول الله
فحفر الخَنْدَق الَّذِي حفره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للأحزاب وَنزل عِيسَى بن مُوسَى بالأعوص وَكَانَ مُحَمَّد قد منع النَّاس من الْخُرُوج فَخَيرهمْ فَخرج كثير مِنْهُم بأهليهم إِلَى الْجبَال وَبَقِي فِي شرذمة قَليلَة ثمَّ تدارك أمره وَأمر بردهمْ فأعجزوه وَنزل عِيسَى بن مُوسَى على أَرْبَعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة وَبعث عسكراً إِلَى طَرِيق مَكَّة يعترضون مُحَمَّدًا أَن ينهزم إِلَى مَكَّة واْرسل إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَالدُّعَاء إِلَى الْكتاب وَالسّنة ويحذره عَاقِبَة الْبَغي فَقَالَ إِنَّمَا أانا رجل فَرَرْت من الْقَتْل ثمَّ نزل عِيسَى ابْن مُوسَى بالجرف لثنتي عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ ثمَّ وقف على سلع ونادى بالأمان لأهل الْمَدِينَة وَأَن يخلوا بَينه وَبَين صَاحبه فَشَتَمُوهُ فَانْصَرف وَعَاد من الْغَد وَقد فرق القواد من سَائِر جِهَات الْمَدِينَة وبرز مَعَ أَصْحَابه ورايته مَعَ عُثْمَان بن مُحَمَّد بن خَالِد بن الزبير وأبلى مُحَمَّد الْمهْدي يَوْمئِذٍ بلَاء عَظِيما وَقتل بِيَدِهِ سبعين رجلا ثمَّ أَمر عِيسَى بن مُوسَى حميد بن قَحْطَبَةَ فَتقدم فِي مائَة من الرجالة إِلَى حَائِط دون الخَنْدَق فهدمه واجتاز الخَنْدَق وقاتلوا من وَرَائه وصابرهم أَصْحَاب مُحَمَّد(4/176)
إِلَى الْعَصْر ثمَّ أَمر عِيسَى أَصْحَابه فردموا الخَنْدَق بالحقائب ونصبوا عَلَيْهِ الْأَبْوَاب وَجَازَت الْخَيل فَاقْتَتلُوا وَانْصَرف مُحَمَّد فاغتسل وتحنط ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَهُ عبد الله بن جَعْفَر لَو أتيت الْحسن بن مُعَاوِيَة يَعْنِي عَامله الَّذِي أرْسلهُ إِلَى مَكَّة فَإِن مَعَه جلّ أَصْحَابك وَلَيْسَ لَك بهؤلاء طَاقَة فَقَالَ أترك أهل الْمَدِينَة يقتتلون وَالله لَا أفعل أَو أقتل وَأَنت مني فِي سَعَة فَمشى مَعَه قَلِيلا ثمَّ رَجَعَ وافترق عَنهُ جلّ أصجابه وَبَقِي فِي ثَلَاثمِائَة أَو نَحْوهَا فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه نَحن فِي عدَّة أهل بدر ثمَّ جمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَمضى فَأحرق الدِّيوَان الَّذِي فِيهِ أَسمَاء من بَايعه وَجَاء إِلَى السجْن فَقتل ريَاح بن عُثْمَان عَامل الْمَدِينَة قبله من قبل الْمَنْصُور وأخاه عباساً وَتقدم مُحَمَّد إِلَى بطن سلع وَمَعَهُ بَنو شُجَاع من الحمس فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أَصْحَاب عِيسَى مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَصعد نفر من أَصْحَاب عِيسَى الْجَبَل فانحدروا مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَة وَرفع بعض نسْوَة آل الْعَبَّاس خماراً لَهُنَّ أسود على مَنَارَة الْمَسْجِد فَلَمَّا رَاه أَصْحَاب مُحَمَّد وهم يُقَاتلُون هربوا وَفتح بَنو غفار طَرِيقا لأَصْحَاب عِيسَى فَجَاءُوا من وَرَاء أَصْحَاب مُحَمَّد ودعا مُحَمَّد حميد بن قَحْطَبَةَ للبراز فَأبى ونادى ابْن خفير عَن أَصْحَاب مُحَمَّد بالأمان فَلم يصغ إِلَيْهِ وَكَثُرت فِيهِ الْجراحَة ثمَّ قتل وَقَاتل مُحَمَّد عَليّ شلوه يهذ النَّاس عَنهُ هَذَا حَتَّى ضرب فَسقط لركبته فطعنه ابْن قَحْطَبَةَ فِي صَدره ثمَّ أَخذ رَأسه فَأتى بِهِ عِيسَى فَبَعثه إِلَى الْمَنْصُور وَأرْسل مَعَه رُءُوس بني شُجَاع وَكَانَ قَتله منتصف رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأرْسل عِيسَى الألوية فَنصبت بِالْمَدِينَةِ بالأمان وصلب مُحَمَّد وَأَصْحَابه مَا بَين ثنية الْوَدَاع وَالْمَدينَة واستأذنت أُخْته فِي دَفنه فدفتته بِالبَقِيعِ وقبره مَشْهُور عَلَيْهِ قبَّة يزار بهَا رَحمَه الله تَعَالَى عمره اثْنَان وخسمون سنة وَقيل خمس وأريعون ثمَّ قَامَ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط وَكَانَ قِيَامه بِالْبَصْرَةِ قد أرْسلهُ أَخُوهُ مُحَمَّد النَّفس الزكية إِلَيْهَا فاستولى عَلَيْهَا فَبَلغهُ الْخَبَر بمقتل أَخِيه يَوْم الْعِيد غرَّة شهر شَوَّال سنة خمس وَأَرْبَعين فَخَطب النَّاس(4/177)
ونعاه إِلَيْهِم وَأنْشد // (من الطَّوِيل) //
(سَأَبْكِيكَ بالِبيضِ القَوَاضِبِ والقَنَا ... فَإنَّ بِهَا مَا يُدْرِكُ الطالبُ الوتْرا)
(ولَسْتُ كمَنْ يَبْكِي أَخَاهُ بعَبْرَةٍ ... يُعَصِّرها مِنْ جَفْنِ مُقْلَتِهِ عَصْرا)
فَبَايعُوهُ بِالْإِمَامَةِ وَاسْتولى على وَاسِط والأهواز وكورها وَمَا والاها من بِلَاد فَارس ونهض لقِتَال الْمَنْصُور وَكَانَ يُلَاحظ آخرته أَكثر من دُنْيَاهُ فَالتقى الْجَمْعَانِ ب باخمر من أَرض الأهواز فَجَاءَهُ سهم غرب وَحمل عَلَيْهِ جند الْمَنْصُور وحزوا رَأسه وأرسلوه إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ قَتله غرَّة ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وعمره ثَمَان وَسِتُّونَ سنة وَقيل وخسمون ثمَّ قَامَ إِبْرَاهِيم الْغمر بن الْحسن الْمثنى أَخُو عبد الله الْمَحْض بعد قتل ابْني أَخِيه مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم فعاجله الْمَنْصُور قبل أَن يستحكم أمره فَأسرهُ وحبسه مَعَ إخْوَته وَأهل بَيته وَمَات فِي الْحَبْس وَكَانَ قِيَامه آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة عمره سبع وَسِتُّونَ سنة ثمَّ قَامَ الْحسن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط فِي أَيَّام الْمَنْصُور أَيْضا وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ مستتراً وَأرْسل دعاته مِنْهَا إِلَى كل نَاحيَة فسعى بِهِ إِلَى الْمَنْصُور قر بن جلال الْأَزْدِيّ فَأعْطَاهُ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وَأرْسل رجلا مَعَه يُقَال لَهُ مرعيد النَّصْرَانِي فِي جمَاعَة من الأعوان وَكتب إِلَى عَامله بالبصره بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فِيمَا يُشِير بِهِ مرعيد فَدخل فِي زِيّ أهل الصّلاح مظْهرا للتشيع وَالْعِبَادَة وَمضى قر إِلَى الْحسن وَأخْبرهُ بقدوم رجل صَالح فِي وَصفه ثمَّ عرف قرين بَين مرعيد وَبَين شيعَة الْحسن فَرَأَوْا نُسكه وصلاحه فأنسوا بِهِ وَجعل الشِّيعَة تصف صَلَاح حَاله لِلْحسنِ حَتَّى أحب لقاءه ومرعيد مَعَ ذَلِك يحسن صلَة الْحسن بالأموال وَيُرْسل الْجِيرَان يَسْتَعِين بهم فِي أمره وَوَصفه وَكلما كتب إِلَيْهِ الْحسن كتاباُ قبله وَوَضعه على رَأسه وَعَيْنَيْهِ وَأكل خَاتمه يظْهر أَنه يُرِيد التَّبَرُّك بِهِ إِلَى أَن قَالَت لَهُ الشِّيعَة إِن الْحسن يَشْتَهِي لقاءك فَقَالَ لَهُم أخْشَى من اشتهار أَمْرِي وَلَكِن أَنا فِي حجرَة فَلَو جَاءَنِي مَعَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَى قرين رَجَوْت أَن يكون الْأَمر مَسْتُورا فأجابته الشِّيعَة إِلَى ذَلِك وَعمد مرعيد فَهَيَّأَ الْقَيْد وَالرِّجَال(4/178)
فخبأهم فِي مَجْلِسه فَلَمَّا وصل قيدوه وَحمل بساعته إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا أوصلوه إِلَيْهِ أَمر بحبسه وغيبه ثمَّ آل أمره إِلَى أَن مَاتَ بالسم فِي حَبسه سنة نَيف وَسِتِّينَ وَمِائَة ثمَّ قَامَ فِي أَيَّام الْمَنْصُور أَيْضا عبد الله الأشتر ابْن مُحَمَّد النَّفس الزكية بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ ظُهُوره بالسند لِأَنَّهُ هرب بعد قتل أَبِيه إِلَيْهِ وَبَقِي بالسند بِأَرْض كابل يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام لأَنهم كَانُوا مشتركين فَأسلم على يَده خلق كثير وَكَانَ على السَّنَد من جِهَة الْمَنْصُور هِشَام بن عَمْرو التغلبي فَوَقع بَينهمَا قتال كثير قدر خمسين وقْعَة فِي سنة وَاحِدَة وَقتل هُنَاكَ ظلما وَكَانَ قِيَامه سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقتل سنة إِحْدَى وَخمسين وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة ثمَّ قَامَ الْحسن بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط فِي الْبَصْرَة أَيَّام الْمهْدي بن الْمَنْصُور وتوارى لقلَّة أَصْحَابه إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ قَامَ عِيسَى بن زيد بن على زين العابدين فِي أَيَّام الْمهْدي فَبَايعهُ أهل الْكُوفَة وَأهل الْبَصْرَة والأهواز ووردت عَلَيْهِ بيعَة أهل الْحجاز وَهُوَ متوارٍ وَاشْتَدَّ الطّلب لَهُ من الْمَنْصُور وَأخذ النَّاس على الظنة فاستتر عِيسَى بالأهواز وَأكْثر مقَامه بهَا فِي زمن الْمَنْصُور فَلَمَّا ولي الْأَمر الْمهْدي أظهر نَفسه فَدس إِلَيْهِ الْمهْدي رجلا من أَصْحَابه قيل إِنَّه أعطَاهُ مِقْدَار مِائَتي ألف دِينَار فسمه فِي طَعَامه وَهُوَ بسواد الْكُوفَة مِمَّا يَلِي الْبَصْرَة فَمَاتَ فجر الْيَوْم الثَّالِث وَدفن سرا وَلَا يعرف قَبره وَكَانَ قِيَامه سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة ووفاته سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة عمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة ثمَّ قَامَ عَليّ بن الْعَبَّاس بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط فِي أَيَّام الْمهْدي أَيْضا بِبَغْدَاد فيايعه جمَاعَة سرا وهم بالانتقال من بَغْدَاد إِلَى غَيرهَا من الْبِلَاد ققبضه الْمهْدي قبل استحكام أمره وحبسه فَلم يزل فِي حَبسه إِلَى أَن وَفد عَلَيْهِ الْحُسَيْن بن عَليّ الفخي الْآتِي ذكره بعده فَكلم الْمهْدي فِيهِ واستوهبه مِنْهُ فوهبه لَهُ ثمَّ دس لَهُ شربة سم فَلم يزل يعْمل فِيهِ السم حَتَّى قدم الْمَدِينَة فتفسخ لَحْمه وتباينت أعضاؤه بعد دُخُول الْمَدِينَة بِثَلَاثَة أَيَّام وَمَات(4/179)
ثمَّ قَامَ الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط أَيَّام الْهَادِي بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وجده الْحسن المثلث أَخُو عبد الله الْمَحْض بُويِعَ بِالْمَدِينَةِ وخطب على منبرها وهرب عاملها فَلَمَّا اسْتَقر أمره بِالْمَدِينَةِ وَصَارَ إِلَى مَكَّة كتب الْهَادِي إِلَى مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عَليّ وَقد كَانَ قدم حَاجا من الْبَصْرَة فولاه حربه فَقتله بفخ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة بل دونهَا فتقاتلوا يَوْم التَّرويَة فَقتل الْحُسَيْن فِي أَكثر من مائَة من أَصْحَابه وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير كَانُوا بَين الْقَتْلَى إِلَى أَن جن عَلَيْهِم اللَّيْل هربوا وَدفن الْحُسَيْن وَأَصْحَابه هُنَالك وقبره مَشْهُور يزار إِلَى الْآن فِي بِنَاء على يَمِين الدَّاخِل إِلَى مَكَّة من وَادي مر وَحمل رَأسه إِلَى الْهَادِي مُوسَى بن الْمهْدي العباسي فَلم يحمد ذَلِك وَكَانَ الْحُسَيْن هَذَا شجاعاً جواداً كَرِيمًا يحْكى أَن الْمهْدي أعطَاهُ لما قدم عَلَيْهِ ألف دِينَار ففرقها فِي النَّاس بِبَغْدَاد والكوفة وَخرج لَا يملك مَا يلْبسهُ إِلَّا فَرْوَة لَيْسَ تحتهَا قَمِيص رَحمَه الله وَغفر لَهُ وَأعَاد علينا من بركاته روى أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي مقَاتل الطالبيين بِإِسْنَادِهِ إِلَى النَّبِي
قَالَ
انْتهى رَسُول الله
إِلَى فخ فصلى بِأَصْحَابِهِ ثمَّة صَلَاة الْجَنَائِز ثمَّ قَالَ تقتل هَهُنَا رجال من أهل بَيْتِي وعصابة من الْمُسلمين تنزل لَهُم أكفان وحنوط من الْجنَّة تسبق أوراحهم إِلَى الْجنَّة أجسادَهم وَكَانَ عمره حِين قتل إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة ثمَّ قَامَ يحيى بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فِي زمَان الْهَادِي أَيْضا بعد أَن نجا من وقْعَة الفخ فجال فِي الْبلدَانِ وَلم يقر بمَكَان وَآخر الْأَمر اسْتَقر بجبل الديلم وَكَانَ إِذا ذَاك فِي زمَان هَارُون الرشيد فسرح الرشيد لحربه الْفضل بن يحيى الْبَرْمَكِي فَبلغ الْفضل إِلَى الطالقان وتلطف فِي استنزال يحيى بن عبد الله من بِلَاد الديلم على أَن يشْتَرط مَا أحب وَيكْتب لَهُ الرشيد بذلك خطه فتم بَينهمَا ذَلِك وَجَاء بِهِ الْفضل فوفي لَهُ الرشيد بِكُل مَا أحبه وأجرى لَهُ أرزاقاً سنية حَسَنَة ثمَّ توجه يحيى بِإِذْنِهِ إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ استرجعه هَارُون الرشيد من الْمَدِينَة إِلَى بَغْدَاد بسعاية كَانَت فِيهِ من بعض آل الزبير فَيُقَال إِنَّه لما حلف الزبيرِي بِتِلْكَ الْيَمين الَّتِي فِيهَا الْبَرَاءَة من حول الله وقوته والالتجاء إِلَى الْحول وَالْقُوَّة وَمَات الزبيرِي بعد الثَّلَاثَة(4/180)
الْأَيَّام أطلق الرشيد يحيى وَوَصله بِمَال ثمَّ بعد ذَلِك بمديدة أظهر لَهُ ذَلِك أَنه قد صَحَّ عِنْده أَنه يطْلب النَّاس سرّاً إِلَى بيعَته فَكلم الرشيد الْفُقَهَاء فِيمَا أعطَاهُ من الْأمان فَمنهمْ من أثْبته وَمِنْهُم من نقضه ثمَّ آخر الْأَمر أرْسلهُ الى الْحَبْس فَمَاتَ بعد شهر من اعتقاله فِي الْحَبْس وَاخْتلف فِي مَوته فَقيل خنقوه وَقيل بنوا عَلَيْهِ وَقيل سموهُ وَقيل قَتَلُوهُ بِالْجُوعِ وَيُقَال أطلقهُ الْفضل بن يحيى افتئاتاً على الرشيد فَكَانَ ذَلِك سَبَب نكبة البرامكة وَالله أعلم أيا كَانَ ذَلِك قلت ذكر المَسْعُودِيّ أَن هَذِه المباهلة بِهَذِهِ الْيَمين وَقعت مَعَ الزبير نَفسه منسوبة إِلَى مُوسَى الكاظم مَعَه وَالله أعلم من أَيهمَا كَانَت كَانَ قيام يحيى سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة ثمَّ قَامَ من بعده أَخُوهُ إِدْرِيس بن عبد الله الْمَحْض وَذَلِكَ أَنه لما أفلت وَنَجَا من وَاقعَة الْحُسَيْن الفخي لحق بِمصْر إِلَى الغرب وعَلى بريد مصر يَوْمئِذٍ وَاضح مولى صَالح بن الْمَنْصُور وَيعرف بالمسكين وَكَانَ يتشيع فَعلم بشأن إِدْرِيس وَهُوَ جد الأدارسة بالمغرب وَمِنْهُم طَائِفَة بِمَكَّة أَتَوا إِلَيْهَا وَأَتَاهُ إِلَى الْمَكَان الَّذِي كَانَ بِهِ مستخفياً وَحمله على الْبَرِيد إِلَى الْمغرب وَمَعَهُ رَاشد مَوْلَاهُ فَنزل بوليلي سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَبهَا يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد أَمِير أورند من قبائل البربر وَكَبِيرهمْ فأجاره وأكرمه وَأجْمع البربر على الْقيام بدعوته وخلع الطَّاعَة العباسية وكشف القناع فَبَايعُوهُ وَقَامُوا بأَمْره وَكَانَ فيهم مجوس فَقَاتلهُمْ إِلَى أَن أَسْلمُوا وَملك الْمغرب الْأَقْصَى وَملك تلمسان سنة ثَلَاث وَسبعين وَدخلت مُلُوك زنانة أجمع فِي طَاعَته واستفحل ملكه وخافه إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب صَاحب القيروان وراسل الرشيد يُخبرهُ فَدس إِلَيْهِ الرشيد مولى من موَالِي أَبِيه الْمهْدي اسْمه سُلَيْمَان بن جرير وَيعرف بالشماخ وأنفذه بِكِتَاب إِلَى ابْن الْأَغْلَب فَأَجَازَهُ وَلحق بِإِدْرِيس مظْهرا للنزوع إِلَيْهِ فِيمَن نزع من وحدان الْعَرَب ومتبرئاً من الدولة العباسية فاختصه الإِمَام إِدْرِيس وحلا بِعَيْنِه وَكَانَ قد تأبط سما فِي سنُون فَنَاوَلَهُ إِيَّاه عِنْد شكايته من وجع سنونه فَكَانَ فِيمَا زَعَمُوا حتفه(4/181)
وَدفن ببوليلى سنة سبع وَسبعين وَمِائَة ثمَّ قَامَ بالدعوة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل الديباج بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا لقب بذلك للكنة كَانَت بِهِ صَغِيرا سَببهَا أَنه طلب يَوْمًا غُلَامه أَن يَأْتِيهِ بقباء فَلم يفهم مُرَاده فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا يُرِيد قبا قبا فلقب بِهِ حَبسه الْمهْدي وَبَقِي فِي الْحَبْس إِلَى زمَان هَارُون وَمَات فِيهِ فَظهر ابْنه مُحَمَّد هَذَا وَسبب ظُهُوره أَنه لما بعث الْمَأْمُون الْحسن بن سهل وزيره إِلَى الْعرَاق وولاه مَا كَانَ افتتحه طَاهِر بن الْحُسَيْن من الْبِلَاد والأعمال تحدث النَّاس أَن الْحسن بن سهل غلب على الْمَأْمُون واستبد عَلَيْهِ وحجبه عَن أهل بَيته وقواده فَغضِبت بَنو هَاشم ووجوه النَّاس وأجهزوا على الْحسن بن سهل وهاجت الْفِتْنَة وَكَانَ أَبُو السَّرَايَا السّري بن مَنْصُور وَيذكر أَنه من بني شَيبَان من ولد هَانِئ بن قبيصَة بن هَانِئ بن مَسْعُود وَقيل من بني تَمِيم كَانَ بالجزيرة وَطلب ففر إِلَى شَرْقي الْفُرَات وَأقَام هُنَالك يخيف السابلة ثمَّ لحق بِيَزِيد بن مزِيد بأرمينية فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا فقوده أَي جعله قائداً وَقَاتل مَعَه الخرمية وَأثر فيهم وَأخذ مِنْهُم غُلَامه الْمُسَمّى أَبَا الشوك وَمَات يزِيد بن مزِيد فَكَانَ أَبُو السَّرَايَا مَعَ وَلَده أَسد كَذَلِك فعزل أَسد فَسَار أَبُو السَّرَايَا إِلَى أَحْمد بن مزِيد وَلما بعث الْأمين أَحْمد بن مزِيد لِحَرْب هرثمة بن أعين أحد قواد الْمَأْمُون بَعثه أَحْمد طَلِيعَة إِلَى عَسْكَر هرثمة فاستماله هرثمة فَمَال إِلَيْهِ فلحق بِهِ وقصده قومه بَنو سيبان من الجزيرة فَاجْتمع إِلَيْهِ مِنْهُم أَكثر من ألفي فَارس واستخرج لَهُم الأرزاق من هرثمة بن أعين فَلَمَّا قتل الْأمين نقص هرثمة من أَرْزَاقهم فَغَضب أَبُو السَّرَايَا وَاسْتَأْذَنَ فِي الْحَج فَأذن لَهُ هرثمة وَأَعْطَاهُ عشْرين ألف دِرْهَم فصرفها فِي أَصْحَابه وَمضى وأوصاهم باتباعه فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم نَحْو مِائَتَيْنِ وَسَار بهم أَبُو السَّرَايَا إِلَى عين التَّمْر فَأخذُوا عاملها وقسموا مَاله ولقوا عَاملا آخر بِمَال موقر على ثَلَاثَة أبغال فَاقْتَسمُوهُ فَأرْسل هرثمة خَلفه فَهَزَمَهُمْ وَدخل الْبَريَّة وَلحق بِهِ من تخلف من أَصْحَابه فَكثر أَصْحَابه وَجمعه وَسَار نَحْو دقوقا وَعَلَيْهَا أَبُو ضرغامة الْعجلِيّ فِي سَبْعمِائة فَارس فَخرج وقاتله فَهَزَمَهُ أَبُو السَّرَايَا وَرجع أَبُو ضرغامة إِلَى الْقصر فحاصره أَبُو السَّرَايَا حَتَّى نزل على الْأمان وَأخذ(4/182)
أَمْوَاله وَسَار إِلَى الأنبار وَعَلَيْهَا إِبْرَاهِيم الشروني مولى الْمَنْصُور عَاملا فَقتله وَأخذ مَا فِيهَا ثمَّ عَاد إِلَيْهَا عِنْد إِدْرَاك الغلال فافتتحها ثمَّ قصد الرقة وَمر بطوق بن مَالك التغلبي واستجاشه على قيس فَأَقَامَ عِنْده أَرْبَعَة أشهر يُقَاتل قيسا بعصبية ربيعَة حَتَّى انقادت قيس إِلَى طوق بن مَالك وَسَار أَبُو السَّرَايَا إِلَى الرقة فلقي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط صَاحب التَّرْجَمَة فَدَعَاهُ إِلَى الْخُرُوج واتعدوا إِلَى الْكُوفَة فدخلاها وَبَايَعَهُ أَهلهَا على بيعَة الرِّضَا من آل مُحَمَّد وَنهب أَبُو السَّرَايَا قصر الْعَبَّاس بن مُوسَى بن عِيسَى وَأخذ مَعَه من الْأَمْوَال والجواهر مَا لَا يُحْصى وَذَلِكَ منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وَلما ملك الْكُوفَة هرع النَّاس إِلَيْهِ والأعراب من النواحي وَبَايَعُوهُ وَأرْسل أَخَاهُ أَبَا الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم إِلَى مصر وَكَانَ على الْكُوفَة سُلَيْمَان بن مَنْصُور من قبل الْحسن بن سهل فَبعث إِلَيْهِ زُهَيْر بن الْمسيب الضَّبِّيّ فِي عشرَة آلَاف فَخرج إِلَيْهِ ابْن طَبَاطَبَا وَأَبُو السَّرَايَا فهزماه واستباحا عسكره وَأصْبح مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا من الْغَد مَيتا فنصب أَبُو السَّرَايَا مَكَانَهُ غُلَاما من العلويين وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن فَنَقُول ثمَّ قَامَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَذْكُور واستبد عَلَيْهِ أَبُو السَّرَايَا وَبعث الْحسن بن سهل عيدروس بن مُحَمَّد بن خَالِد المروروذي فِي أَرْبَعَة آلَاف فَلَقِيَهُ أَبُو السَّرَايَا منتصف رَجَب وَقَتله وَلم يفلت من أَصْحَابه أحد كَانُوا بَين قَتِيل وأسير وَضرب أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِم بِالْكُوفَةِ باسمه وَبعث جبوشا إِلَى الْبَصْرَة وواسط وَولى بِالْبَصْرَةِ الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْجَعْفَرِي وعَلى مَكَّة الْحُسَيْن الْأَفْطَس بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن وَجعل إِلَيْهِ الْمَوْسِم وعَلى الْيمن مُحَمَّد أَو إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق فَسَار أَبُو السَّرَايَا إِلَى الْبَصْرَة وَأخرج ابْن سهل ففر أمامهم فَبعث الْحسن بن سهل إِلَى هرثمة يستدعيه لِحَرْب أبي السَّرَايَا وَقد كَانَ سَار إِلَى خُرَاسَان مغاضباً لَهُ فَرجع بعد امْتنَاع وَسَار إِلَى الْكُوفَة وَبعث الْحسن بن سهل إِلَى الْمَدَائِن وواسط عَليّ بن سعيد فَبلغ الْخَبَر أَبَا السَّرَايَا وَهُوَ بقصر ابْن هُبَيْرَة بِالْكُوفَةِ فَوجه جَيْشًا إِلَى(4/183)
الْمَدَائِن فملكوها فِي رَمَضَان وَتقدم فَنزل نهر صَرْصَر وعسكر هرثمة بإزائه غدْوَة وَسَار عَليّ بن سعيد فِي شَوَّال إِلَى الْمَدَائِن فَحَاصَرَهُمْ بهَا أَصْحَاب أبي السَّرَايَا فَرجع أَبُو السَّرَايَا من نهر صَرْصَر إِلَى قصر ابْن هُبَيْرَة وهرثمة فِي اتِّبَاعه ثمَّ حاصره هرثمة وَقتل جمَاعَة من أَصْحَابه فانحاز إِلَى الْكُوفَة فَوَثَبَ الطالبيون على دور العباسيين وشيعتهم فنهبوها وخربوها وأخرجوهم وَاسْتَخْرَجُوا ودائعهم عِنْد النَّاس وَأقَام هرثمة بنواحي الْكُوفَة يحاصرها واستدعي مَنْصُور بن الْمهْدي وَكَاتب رُؤَسَاء الْكُوفَة وَاشْتَدَّ الْحصار على أبي السَّرَايَا بِالْكُوفَةِ فهرب عَنْهَا فِي ثَمَانمِائَة فَارس وَمَعَهُ صَاحبه الَّذِي نَصبه وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن صَاحب التَّرْجَمَة ودخلها هرثمة منتصف محرم ابْتِدَاء سنة 200 مِائَتَيْنِ وَأقَام بهَا يَوْمًا وَولى عَلَيْهَا بعض قواده وَقصد أَبُو السَّرَايَا الْقَادِسِيَّة وَسَار مِنْهَا إِلَى السوس وَلَقي بخوزستان مَالا حمل من الأهواز فَقَسمهُ فِي أَصْحَابه وَكَانَ على الأهواز الْحسن بن عَليّ المأموني فَخرج إِلَى أبي السَّرَايَا فَهَزَمَهُ الْحسن وافترق أَصْحَاب أبي السَّرَايَا وَجَاء إِلَى منزله بِرَأْس عين زحلولا وَمَعَهُ صَاحبه الَّذِي نَصبه وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد صَاحب التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة وَغُلَامه أَبُو الشوك فظفر بهم حَمَّاد الكند غوش وَجَاء بهم إِلَى الْحسن بن سهل فِي النهروان فَقتل أَبَا السَّرَايَا وَبعث إِلَى الْمَأْمُون بِرَأْسِهِ وَبِمُحَمَّدٍ بن مُحَمَّد مَعَ الرَّأْس حَيا فحبسه الْمَأْمُون إِلَى أَن مَاتَ قيل مسموماً كَانَ قِيَامه فِي رَجَب سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَبعد موت مُحَمَّد بن مُحَمَّد هَذَا اسْتَقل كل وَاحِد من دعاته ودعا كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى نَفسه وَسَار عَليّ بن سعيد الْحَرَشِي إِلَى الْبَصْرَة فملكها من يَد زيد بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق وَكَانَ يُسمى زيد النَّار لِكَثْرَة مَا أحرق من دور العباسيين وشيعتهم فاستأمن إِلَيْهِ زيد فَأَمنهُ عَليّ وَأَخذه وَبعث المعتصم الجيوش العباسية إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن لقِتَال من بهَا من العلويين وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر لما ولاه أَبُو السَّرَايَا الْيمن سَار إِلَيْهَا وَبهَا إِسْحَاق بن مُوسَى بن عِيسَى فهرب إِسْحَاق إِلَى مَكَّة وَاسْتولى إِبْرَاهِيم على الْيمن وَكَانَ يُسمى الجزار لِكَثْرَة قَتله ثمَّ بعث رجلا من بني عقيل بن أبي طَالب إِلَى(4/184)
مَكَّة ليحج بِالنَّاسِ وَقد جَاءَ لذَلِك أَبُو إِسْحَاق فِي جمَاعَة من القواد فيهم حَمْدَوَيْه بن عَليّ بن عِيسَى بن ماهان والياً على الْيمن من قبل الْحسن بن سهل فَحُمَّ الْعقيلِيّ عَن لقائهم وَاعْترض قافلة الْكسْوَة وَالطّيب فَأَخذهَا وَنهب أَمْوَال التُّجَّار وَدخل الحُجاج إِلَى مَكَّة عُرَاة فَبعث الجلودي من القواد فصبحهم وَهَزَمَهُمْ وَأسر مِنْهُم وتنقذ كسْوَة الْكَعْبَة وطيبها وأموال التُّجَّار وَضرب الأسرى كل وَاحِد عشرَة أسواط وأطلقهم وَحج بِالنَّاسِ تِلْكَ السّنة المعتصم العباسي قبل خِلَافَته وَفِي سنة مِائَتَيْنِ وَجه الْمَأْمُون رَجَاء بن أبي الضَّحَّاك ليشخص إِلَيْهِ عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم فوصل إِلَيْهِ عَليّ الرِّضَا فولاه الْعَهْد من بعده ولقبه الرِّضَا وَضرب الدَّرَاهِم باسمه وَكتب لَهُ بالبيعة إِلَى الْآفَاق وزوجه بابنته أم الْفضل وَصُورَة كتاب الْعَهْد قد ذَكرنَاهَا فِيمَا تقدم عِنْد ذكر خلَافَة الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ قَامَ من بعده مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق وَكَانَ دَاعِيَة لمُحَمد ابْن مُحَمَّد الْمَذْكُور قبله فاستحكم أمره بِالْيمن وَكَانَ لَهُ بهَا وقائع ثمَّ انْتقل إِلَى خُرَاسَان فَقتل بهَا بجرجان بالسم ثمَّ قَامَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد بن الْحسن الْمثنى فخذلته أنصاره فتوارى بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَن مَاتَ بهَا ثمَّ قَامَ إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى فِي بِلَاد الْمغرب بعد أَبِيه واستفحل أمره ثمَّ بَقِي أَوْلَاده إِلَى الْآن أَمرهم قَائِم بالمغرب ثمَّ قَامَ الْقَاسِم الرسي بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط أَيَّام الْمَأْمُون أَيْضا وَكَانَ الْقَاسِم بِمصْر وَبث دعاته فِي الأقطار وحثوه على إِظْهَار دَعوته وَكَانَ مستتراً بِمصْر عشر سِنِين فَاشْتَدَّ طلب عبيد الله بن طَاهِر عَامل الْمَأْمُون على مصر لَهُ فانتقل إِلَى الْحجاز وَلم يزل مختفياً إِلَى أَن مَاتَ الْمَأْمُون وَولى أَخُوهُ المعتصم فَكثر طلب المعتصم لَهُ فَلم يتم أمره فاستأوى جبلا بالحجاز وَهُوَ الْمُسَمّى بالرس وتحصن بِهِ هُوَ وَأَوْلَاده وَسكن بِهِ إِلَى أَن مَاتَ فنسب إِلَيْهِ وَكَانَ يُقَال لَهُ نجم آل الرَّسُول وَكَانَ قِيَامه سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَتُوفِّي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فِي أَيَّام المتَوَكل بن المعتصم العباسي(4/185)
ثمَّ قَامَ صَاحب الطالقان مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عَليّ بن عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَت الْعَامَّة تسميه الصُّوفِي لاختياره لبس الصُّوف الْأَبْيَض وَكَانَ لَهُ وقعات من آل طَاهِر بن الْحُسَيْن أَيَّام المعتصم وَعظم أمره وَدخل بعْدهَا إِلَى نسأ وَبَقِي فِيهَا مستتراً ثمَّ أَخذ من نسأ فحبس ثمَّ هرب من الْحَبْس فَاخْتَلَفُوا فِي أمره فَقيل رَجَعَ إِلَى الطالقان وَقيل إِلَى وَاسِط فَدس المعتصم لَهُ سما فَمَاتَ بِهِ ثمَّ قَامَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن يحيى بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط قِيَامه أَيَّام الواثق بن المعتصم غلب على هراة السُّفْلى وملكها وَأَوْلَاده بعده إِلَى سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَامَ بعده مُحَمَّد بن صَالح بن عبد الله بن مُوسَى بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ظهر بسويقة قَرْيَة مَعْرُوفَة بِقرب الْمَدِينَة المنورة وَكَانَ أَبُو الساج المتولى للموسم من قبل الْخَلِيفَة المتَوَكل العباسي فِي جند كثيف فخودع مُحَمَّد بن صَالح حَتَّى لزمَه أَبُو الساج فحبس ب سر من رَأى إِلَى أَن مَاتَ فِي السجْن وَفِي زَمَانه انضوى أَكثر الْأَشْرَاف واستتروا وتوقفوا عَن إِظْهَار الدعْوَة ثمَّ قَامَ الْحسن بن زيد بن مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب غلب على طبرستان ونواحي الديلم وملكها أَرْبَعِينَ سنة وَتُوفِّي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَامَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الْحسن بن عمر بن عَليّ زين العابدين ابْن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي أبي طَالب كَانَ قِيَامه بِبِلَاد الْعَجم فِي زمَان المتَوَكل فَأسرهُ المتَوَكل أَيْضا وَقيل إِن من الطالبيين من قَامَ غير هَؤُلَاءِ فِي زمن المتَوَكل وَظهر من ظهر واستتر من استتر وَحبس من حبس وَقتل من قتل فَللَّه الْأَمر سُبْحَانَهُ ثمَّ قَامَ يحيى بن عمر بن يحيى بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين ظهر بِالْكُوفَةِ وأحبه النَّاس حبا شَدِيدا كَانَ قِيَامه فِي خلَافَة المستعين ثمَّ قَامَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين(4/186)
فَأسرهُ المستعين وحبسه وَمَات فِي الْحَبْس ثمَّ قَامَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الْحسن بن جَعْفَر بن الْحسن بن الْحسن قِيَامه فِي أَيَّام المستعين بأرمينية وَقيل بِالْكُوفَةِ فخودع وَأسر فحبس وَمَات فِي الْحَبْس سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَامَ الكوكبي أَحْمد بن عِيسَى بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين قِيَامه بِالْكُوفَةِ فِي خلَافَة الْمهْدي سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَامَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط قِيَامه فِي خلَافَة الْمُعْتَمد وَكَانَت لَهُ حروب مَعَ ابْن طولون ثمَّ قتل على بَاب أسوان وَحمل رَأسه إِلَى الْمُعْتَمد ثمَّ قَامَ الدَّاعِي مُحَمَّد بن زيد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْحسن بن زيد بن الْحسن ابْن عَليّ بن أبي طَالب سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة المعتضد وَله وقائع قتل فِي إِحْدَاهَا فِي بِلَاد جرجان ثمَّ قَامَ النَّاصِر الأطروش الْحسن بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين قِيَامه فِي الجيل والديلم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ واستفحل أمره إِلَى أَن مَاتَ فِي خلَافَة المقتدر سنة أَربع وثلاثمائة ثمَّ قَامَ الدَّاعِي الْحسن بن الْقَاسِم بن الْحسن بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم ابْن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب كَانَ قِيَامه بعد النَّاصِر قبله فِي خلَافَة الراضي بِاللَّه العباسي وَكَانَ أَوْلَاد النَّاصِر قد تملكوا بعد النَّاصِر وقاتلوا الدَّاعِي الْمَذْكُور فاستفحل أَمر الدَّاعِي وَملك طبرستان ونيسابور والري ثمَّ توفوا فصفا لَهُ الْأَمر اثْنَتَيْ عشرَة سنة ثمَّ قَامَ وَلَده الْمهْدي مُحَمَّد بن الْحسن بن الْقَاسِم بن الْحسن وَكَانَ قِيَامه أَيَّام الْمُطِيع العباسي سنة ثَلَاث وَخمسين وثلاثمائة فَملك الجيل والديلم ثمَّ توفّي سنة سِتِّينَ وثلاثمائة ثمَّ قَامَ الثائر فِي الله جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن(4/187)
عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين واستفحل أمره إِلَى أَن مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وثلاثمائة ثمَّ قَامَ وَلَده أَبُو الْحُسَيْن الْمهْدي بن جَعْفَر الثائر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن فِي خلَافَة الْقَادِر بِاللَّه العباسي وَلم تطل أَيَّامه وَمَات بالجدري ثمَّ قَامَ من بعده أَخُوهُ الْحُسَيْن بن جَعْفَر الثائر فِي أَيَّام الْقَادِر بِاللَّه أَيْضا واستقام أمره إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ قَامَ أَحْمد بن الْحُسَيْن بن هَارُون بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن هَارُون بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب قِيَامه فِي خلَافَة الْقَادِر أَيْضا سنة ثَمَانِينَ وثلاثمائة وَكَانَت لَهُ وقائع وَلم يزل على حَالَته فِي الحروب إِلَى أَن ملك طبرستان ثمَّ مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وعمره تسع وَسَبْعُونَ سنة ثمَّ قَامَ من بعده أَخُوهُ النَّاطِق بِالْحَقِّ أَبُو طَالب يحيى بن الْحُسَيْن بن هَارُون بن الْحُسَيْن قِيَامه فِي زمَان الْقَائِم بِأَمْر الله العباسي واستقام لَهُ الْأَمر إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وعمره نَيف وَثَمَانُونَ سنة ثمَّ قَامَ من بعده العقيقي عَليّ بن جَعْفَر بن الْحسن بن عبد الله بن عَليّ بن أَحْمد بن على بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين قِيَامه فِي خلَافَة الْقَائِم أَيْضا سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قَامَ مانلديم سنديم أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد الْأَعرَابِي بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين وَكَانَ على منهاج سلفه كَانَ قِيَامه بأنجاشية سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة ووفاته فِي نَيف وَعشْرين وأريعمائة ثمَّ قَامَ النَّاصِر الْحُسَيْن بن جَعْفَر بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ بن النَّاصِر الأطروش سبق ذكره فِي جِهَات الديلم ثمَّ قَامَ الْمُوفق بِاللَّه الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل بن زيد بن جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب(4/188)
ثمَّ قَامَ وَلَده المرشد بِاللَّه يحيى بن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل على منهاج سلفه ثمَّ قَامَ أَبُو طَالب يحيى بن أَحْمد بن الْآمِر أبي الْقَاسِم الْحُسَيْن بن الْمُؤَيد بِاللَّه أَحْمد بن الْحُسَيْن بن هَارُون الْمُتَقَدّم ذكره قِيَامه سنة نَيف وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة فِي خلَافَة المستظهر العباسي بِالْجَبَلِ والديلم وَكَانَ حربه مَعَ الباطنية وَكَانَ بَنو الْعَبَّاس يظهرون الْمحبَّة إِلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته سنة عشْرين وَخَمْسمِائة وَالَّذِي لم يعرف تاريخهم وزمان قيامهم الإِمَام مُحَمَّد بن أبي الْأَعرَابِي بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن عمر الْأَشْرَف بن عَليّ زين العابدين وَالْإِمَام على الْعِرَاقِيّ بن الْحُسَيْن بن عِيسَى بن زيد بن زين العابدين وَالْإِمَام أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن زين العابدين وَالْإِمَام الْهَادِي بن الْمهْدي بن الْحسن بن عبد الله بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَالْإِمَام الراضي بِاللَّه نَاصِر بن الْحُسَيْن بن زيد بن صَالح بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَالْإِمَام زيد بن صَالح بن الْحسن بن زيد بن صَالح بن الْحسن بن زيد بن صَالح ابْن عمر النَّاصِر الْمَذْكُور وَالْإِمَام عَليّ بن محسن بن أَحْمد بن عبيد الله بن الْحسن السلق بن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن الْحسن بن جَعْفَر بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَالْإِمَام الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن جَعْفَر بن عبيد الله بن السلق الْمَذْكُور وَأَخُوهُ الإِمَام الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ الْمَذْكُور وَالَّذين لم تعرف كَيْفيَّة اتِّصَال أنسابهم الإِمَام أشرف بن زيد من ذُرِّيَّة زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَالْإِمَام السَّيِّد الْأَزْرَقِيّ وَالْإِمَام أَبُو الرها الكيتمي وَهَؤُلَاء جَمِيعًا فِي جِهَات قزوين وطبرستان والجبل والديلم وجرجان والحجاز وَالْعراق وبالمغرب(4/189)
أما الَّذين ظَهَرُوا بِالْيمن خَاصَّة فأولهم الإِمَام الْهَادِي إِلَى الْحق يحيى بن الْحُسَيْن ابْن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْغمر بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب مولده ب الرس سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ قِيَامه فِي صعدة من بِلَاد الْيمن سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ فِي تَارِيخ الخزرجي قَامَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَدخل صنعاء فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة المعتضد العباسي فاجتمعت هَمدَان وَغَيرهَا من قبائل الْعَرَب فأخرجوه من صنعاء ثمَّ رَجَعَ إِلَى صعدة وَأَخذهَا وَكَانَ فِي زَمَنه قد تغلب عَليّ بن الْفضل القرمطي الْحِمْيَرِي يَنْتَهِي نسبه إِلَى سبأ الْأَصْغَر على الْيمن فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فَسَار على الْمَذْكُور بسيرة شنيعة وأعلن بالْكفْر والفجور وقهر الْعَالم وَأمرهمْ بارتكاب كل محرم ومحذور وَكَانَ عنوان كتبه إِذا أرسل إِلَى أحد من الْمُلُوك من باسط الأَرْض وداحيها ومزلزل الْجبَال ومرسيها عَليّ بن الْفضل إِلَى عَبده فلَان وَكَانَ مؤذنه يُؤذن فِي حَضرته وَأشْهد أَن على بن الْفضل رَسُول الله وَمن شعره مَا أنْشد الْخَبيث على مِنْبَر جَامع صنعاء قَوْله // (من المتقارب) //
(خُذي الدُّفَّ يَا هَذِهِ واضْرِبِي ... وغَنِّى هَزَاريكِ ثُمَّ اطْربِي)
(تَولَّى نَبِيُّ بَنِي هَاشِمٍ ... وَهَذَا نبيُّ بَنِي يَعْرُبِ)
(لِكُلِّ نَبِيِّ مَضَى شِرْعَةٌ ... وهَاتَان شرْعَةُ هَذَا النَّبِي)
(فَقَدْ حَطَّ عَنَّا فُروضَ الصَّلاةِ ... وَفَرْضَ الصِّيامِ وَلَمْ يُعْقِبِ)
(إذَا النَّاسُ صَلَّوْا فَلاَ تَنْهَضِي ... وإِن صَوَّمُوا فَكُلِي واشْرَبِي)
(وَلاَ تَطْلُبِي السَّعْىَ عِندَ الصَّفَا ... وَلاَ زَوْرَةَ القَبْرِ فِي يَثْرِبِ)
وَهَذَا كَاف فِي بَيَان مزِيد كفره فحاربه الإِمَام الْهَادِي الْمَذْكُور إِلَى أَن مَاتَ ب صعدة مسموماً سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة المقتدر بِاللَّه العباسي ثمَّ قَامَ وَلَده المرتضى مُحَمَّد بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم فِي بِلَاد صعدة فِي مَكَان أَبِيه زمن المقتدر العباسي أَيْضا فَأَقَامَ سنة وَاحِدَة ثمَّ تنحى عَن(4/190)
الْإِمَامَة فَطلب الْفُقَهَاء الزيدية أَخَاهُ أَحْمد بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم طلبوه من الرس ثمَّ توفّي مُحَمَّد سنة عشر وثلاثمائة وعمره اثْنَان وَثَلَاثُونَ سنة ثمَّ قَامَ أَخُوهُ النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن الْهَادِي يحيى بعد أَن دَعَاهُ فُقَهَاء الزيدية من الرس كَمَا ذكر وَكَانَ قِيَامه فِي خلَافَة المقتدر أَيْضا سنة إِحْدَى وثلاثمائة ووفاته فِيهَا ب صعدة سنة خمس عشرَة وثلاثمائة ثمَّ قَامَ وَلَده الْمَنْصُور يحيى بن أَحْمد النَّاصِر بن الْهَادِي يحيى بن الْحسن بن الْقَاسِم وَكَانَ مقره صعدة إِلَى أَن توفّي سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة ثمَّ قَامَ أَخُوهُ الْمُخْتَار الْقَاسِم بن أَحْمد النَّاصِر بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم كَانَ قِيَامه فِي صعدة وَقَتله فِي زبيد ثمَّ قَامَ وَلَده الْمُنْتَصر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن أَحْمد النَّاصِر وَأكْثر وقائعه مَعَ هَمدَان وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة بِالْيمن ثمَّ قَامَ الدَّاعِي يُوسُف بن الْمَنْصُور يحيى بن أَحْمد النَّاصِر بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم فعانده فُقَهَاء مذْهبه وَأَرْسلُوا الإِمَام الْقَاسِم العياني وتعارضا كَانَ قِيَامه سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة فِي خلَافَة الطائع لله العباسي مدَّته خمس وَثَلَاثُونَ سنة ثمَّ قَامَ الْمَنْصُور العياني بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا وَلما كَانَ فِي بيشة من بِلَاد رفيدة فراسله فُقَهَاء الزيدية فطلع إِلَى صعدة ثمَّ تقدم إِلَى صنعاء فضبطها وتعاقد الإِمَام يُوسُف الدَّاعِي فِي مُدَّة العياني وَكَانَ قيام العياني سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ووفاته سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وقبره فِي بَلْدَة يُقَال لَهَا العيَّان فِي طَرِيق صعدة من صنعاء ثمَّ قَامَ وَلَده الْحُسَيْن بن الْقَاسِم العياني وَكَانَ لَهُ وقائع مَعَ هَمدَان وَكَانَ قِيَامه سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة(4/191)
وَقتل فِي ريدة من البون سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة وَخلف الْحُسَيْن الْمَذْكُور ابْن أَخِيه وَيُسمى الْفَاضِل وَهُوَ الْقَاسِم بن جَعْفَر بن الْقَاسِم بن عَليّ العياني وَكَانَ بَينه وَبَين الصليحي وقعات وَلم يكن إِمَامًا ثمَّ قَامَ الإِمَام أَبُو هَاشم الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن عبد الله بن الْحُسَيْن ابْن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا وَكَانَ قِيَامه فِي قَرْيَة الناعط فَوق البون وَدخل صنعاء قِيَامه سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بقرية الناعط ثمَّ قَامَ النَّاصِر الديلمي وَهُوَ أَبُو الْفَتْح النَّاصِر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن عِيسَى ابْن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الله بن عَليّ بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب دَعَا فِي الديلم ثمَّ خرج إِلَى أَرض الْيمن فاستولى على كثير من الْبِلَاد مذْحج وهمدان وخولان وَكَانَ وُصُوله من الديلم فِي سني الثَّلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَت الْحَرْب تَدور بَينه وَبَين الصليحي فَقتله الصليحي بِنَجْد الْحَاج وقبره ب ردمان من بِلَاد عنس قبل سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قَامَ عَليّ بن زيد بن إِبْرَاهِيم الْمليح بن الْمُنْتَصر بن مُحَمَّد الْمُخْتَار قَاسم بن النَّاصِر بن الْهَادِي يحيى وَتقدم إِلَى شظب لِحَرْب بني الصليحي فَقتل فِي شظب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ قَامَ أَحْمد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن المطهر بن عَليّ بن النَّاصِر بن الْهَادِي يحيى وَولى صعدة ونجران والجوف وَصَنْعَاء وَقصد زبيد فَرجع بِغَيْر حُصُول مرامه فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة مَاتَ بحيدان من مغارب صعدة وعمره سِتّ وَسِتُّونَ سنة ثمَّ قَامَ الْمَنْصُور بِاللَّه عبد الله بن حَمْزَة بن سُلَيْمَان بن حَمْزَة بن عَليّ بن حَمْزَة بن أبي هَاشم الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا فَملك صعدة وَتقدم إِلَى صنعاء وَكَانَ يقف فِي كوكبان بعد مَا أَخْرجُوهُ من صنعاء ثمَّ خلطوا عَلَيْهِ فَمَاتَ فِيهَا قِيَامه سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ووفاته سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة(4/192)
ثمَّ قَامَ الدَّاعِي يحيى بن المحسن بن مَحْفُوظ بن مُحَمَّد بن يحيى بن يحيى بن النَّاصِر بن الْحسن بن عبد الله بن الْمُنْتَصر مُحَمَّد بن الْمُخْتَار قَاسم بن النَّاصِر أَحْمد ابْن الْهَادِي قَامَ فِي بِلَاد خولان وصعدة وَفِي مَدِينَة صعدة ولد الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْمَنْصُور فحارب الدَّاعِي مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ الْمهْدي أَحْمد بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبد الله بن الْقَاسِم بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا قَامَ فِي حصن ثلا فحاربه وَلَده الْمَنْصُور ثمَّ اتفقَا ثمَّ تعاديا فتحاربا فَقتل الإِمَام وَكَانَ قِيَامه فِي صفر سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَكَانَت هَذِه السّنة هِيَ انْتِهَاء دولة بني الْعَبَّاس بالعراق لِأَنَّهَا هِيَ السّنة الَّتِي قتل التتار فِيهَا الْخَلِيفَة المستعصم العباسي كَمَا قدمت ذَلِك مُسْتَوْفِي فِي بابهم ثمَّ قَامَ الْمَنْصُور بدر الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى السَّابِق ذكره فَقَامَ من هِجْرَة قطابر وَملك مغارب صعدة وَكَانَ بَينه وَبَين أَوْلَاد الْمَنْصُور محاربات فَقتل سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ الْمهْدي بن إِبْرَاهِيم بن تَاج الدّين أَحْمد بن بدر الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن يحيى قِيَامه سنة سبعين وسِتمِائَة أسره فحبسه الْملك المظفر الغساني فِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَمَات فِي الْحَبْس سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ المتَوَكل المطهر بن يحيى بن المرتضى بن الْقَاسِم بن المطهر بن مُحَمَّد بن المطهر بن عَليّ بن أَحْمد بن الْهَادِي قِيَامه سنة سِتّ وَسبعين وَمَات سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ وَلَده الْمهْدي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن الْقَاسِم قِيَامه سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ قَامَ السراجي يحيى بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبيد الله بن سراج الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن سراج الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن على(4/193)
ابْن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ قَامَ الْمُؤَيد يحيى بن حَمْزَة بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِدْرِيس بن جَعْفَر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب قِيَامه سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة عمره ثَمَانُون سنة ثمَّ قَامَ بعده عَليّ بن صَلَاح بن إِبْرَاهِيم بن تَاج الدّين أَحْمد بن بدر الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن يحيى ثمَّ قَامَ بعده الواثق المطهر بن مُحَمَّد بن المطهر بن يحيى ابْن المرتضى بن الْقَاسِم بن المطهر بن مُحَمَّد بن المطهر من أَوْلَاده سَابق الذّكر ثمَّ قَامَ أَحْمد بن عَليّ بن مدافع بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الديلمي سبق ذكر نسبه ثمَّ قَامَ الْمهْدي عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى بن مَنْصُور بن مفضل بن الْحجَّاج ابْن عبد الله بن عَليّ بن يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل ابْن إِبْرَاهِيم الْغمر بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب قِيَامه سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَفَاته سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة عمره تسع وَسِتُّونَ سنة ثمَّ قَامَ من بعده وَلَده النَّاصِر صَلَاح الدّين بن الْمهْدي بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ قِيَامه سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة وَفَاته سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة ثمَّ قَامَ من بعده الْمهْدي أَحْمد بن يحيى بن المرتضى بن أَحْمد بن المرتضى بن مفضل بن الْحجَّاج قِيَامه سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَفَاته سنة أَرْبَعِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ قَامَ من بعده الْهَادِي عَليّ بن الْمُؤَيد بن جِبْرِيل بن الْمُؤَيد بن أَحْمد بن يحيى بن أَحْمد بن يحيى بن يحيى سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَفَاته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ قَامَ من بعده المطهر بن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن أبي هَاشم الْحسن بن عبد الرَّحْمَن(4/194)
ابْن يحيى بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل ثمَّ قَامَ من بعده صَلَاح بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن جَعْفَر بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الْمَنْصُور بن أَحْمد بن النَّاصِر بن الْهَادِي ثمَّ قَامَ النَّاصِر بن مُحَمَّد بن النَّاصِر بن أَحْمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن المطهر بن الْقَاسِم بن المطهر بن مُحَمَّد بن المطهر بن عَليّ بن أَحْمد بن الْهَادِي ثمَّ قَامَ الْهَادِي عز الدّين بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد بن جِبْرِيل بن الْمُؤَيد بن أَحْمد بن يحيى بن أَحْمد بن يحيى بن يحيى بن النَّاصِر بن الْحسن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن النَّاصِر بن أَحْمد بن الْهَادِي يحيى قِيَامه سنة ثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة وَفَاته سنة تسع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة عمره سبع وَسِتُّونَ سنة ثمَّ قَامَ وَلَده مجد الدّين بن الْحسن بن الْحسن بن عز الدّين بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد قِيَامه سنة تسع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ قَامَ الوشلي مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن سراج الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن الْحسن بن زيد ابْن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ كَانَت دَعْوَة الإِمَام شرف الدّين يحيى بن شمس الدّين ابْن الإِمَام الْمهْدي أَحْمد ابْن يحيى بن المرتضى بن أَحْمد بن المرتضى بن الْمفضل بن الْحجَّاج بن عَليّ بن يحيى بن الْقَاسِم بن يُوسُف الدَّاعِي بن يحيى بن أَحْمد بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم حادي عشر جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَتِسْعمِائَة وَكَانَ أول ظُهُوره بجهات الْمغرب من جِهَات صنعاء وَمَا ساعدته الْقَبَائِل لقُوَّة سُلْطَان الْيمن إِذْ ذَاك عَامر بن عبد الْوَهَّاب فَلَمَّا انْقَضتْ دولته باستيلاء الشراكسة وتملكهم أَرض الْيمن كَانَت بِصَنْعَاء طَائِفَة من الشراكسة فكاتب أهل صنعاء الإِمَام شرف الدّين الْمَذْكُور وتكلفوا لَهُ بِإِدْرَاك(4/195)
ذَلِك سنة أَربع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَفِي شَوَّال قصد صنعاء فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا مَال إِلَيْهِ أَهلهَا وَأخرج من كَانَ فِيهَا من الْجند الْمصْرِيّ بالأمان وَدخل صنعاء ودانت لَهُ الْبِلَاد إِلَى أَن كَانَت وَفَاته سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان بن سليم خَان ثمَّ قَامَ الْهَادِي أَحْمد بن عز الدّين بن الْحسن بن عز الدّين بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد قِيَامه سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة ووفاته سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ قَامَ النَّاصِر الْحسن بن عَليّ بن دَاوُد بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد قِيَامه سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ قبض عَلَيْهِ الْوَزير حسن باشا سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وأرسله إِلَى الْأَبْوَاب الْعَالِيَة سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ قَامَ المتَوَكل عبد الله بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عز الدّين بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد قِيَامه سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَفَاته سنة سبع عشرَة وَألف ثمَّ قَامَ الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الرشيد بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن يحيى بن مُحَمَّد بن يُوسُف الأشل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْأَكْبَر بن الْمَنْصُور بن يحيى بن النَّاصِر بن أَحْمد بن الْهَادِي إِلَى الْحق يحيى ابْن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب نَشأ منشأ ابائه الْأَئِمَّة حَتَّى بذ بِعِلْمِهِ وبهر بجودة فهمه وَصَارَ فِي أَيَّام طلبه يشار إِلَيْهِ مَقْصُورَة خلال الْخلَافَة عَلَيْهِ كَانَت دَعوته فِي صفر الْخَيْر سنة سِتّ وَألف وَله وقائع فِي أَيَّامه مَشْهُورَة ومواطن مَعْرُوفَة مأثورة كَانَ آيَة فِي الْعُلُوم ومعجزة فِي المنظوق وَالْمَفْهُوم لَهُ التصانيف الْمَشْهُورَة وَالنّظم والنثر وَكَانَ محط رحال الأفاضل ومقصد الأكابر من كل قنة وساحل وَلم يزل قَائِما بأعياء الْخلَافَة حَتَّى توفاه الله تَعَالَى فِي شهر ربيع الأول عَام تسع وَعشْرين وَألف ثمَّ قَامَ من بعده وَلَده الإِمَام الْعَظِيم الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور(4/196)
بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَظَهَرت فضائله فِي الْبِلَاد وأذعن لفضله الْحَاضِر والباد وأوتي من الْإِحَاطَة بالعلوم وَصدق الفراسة وتنوير الْقلب وصفاء الخاطر مَا لم يُؤْت غَيره وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الفتوحات من كل وجهة وَقَامَ بنصرته أَخَوَاهُ السيدان الإمامان الْحسن وَالْحُسَيْن وأخوهما شمس الْإِسْلَام أَبُو طَالب ابْن الإِمَام الْمَنْصُور وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف استولى الإِمَام الْمُؤَيد الْمَذْكُور على جَمِيع إقليم الْيمن مَا عدا زبيد والمخا وَذَلِكَ أَن الباشا قانصوه لما توجه إِلَى الْيمن عَام تسع وَثَلَاثِينَ بعد أَن قتل الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وَولي مَسْعُود بن إِدْرِيس صَار كلما دخل قَرْيَة ظلم أَهلهَا ونهبهم أرسل إِلَى عابدين باشا وخنقه وَاسْتولى على خزائنه وعساكره وَنهب الْبَلَد وَنهب من يرد إِلَيْهِ من البنادر وَأرْسل أغربة فِي الْبَحْر يَأْخُذُونَ من ظفروا بِهِ واغتصب أَمَاكِن مأثورة وعمرها بزخارف فِي الصُّورَة فآلت أَمْوَاله إِلَى يَد العدى {وَلَا يظلم رَبُّكَ أحدا} الْكَهْف 49 والتقى عسكره مَعَ عَسْكَر الإِمَام الْمُؤَيد مُحَمَّد بن الْقَاسِم صَاحب التَّرْجَمَة وَعَلَيْهِم أَخُوهُ الإِمَام الْحُسَيْن بن الْقَاسِم وكمنوا لَهُ ثمَّ هجموا عَلَيْهِم وهم غَارونَ فَقتلُوا من عَسْكَر قانصوه أَكْثَرهم وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وتحصن هُوَ وَمن بَقِي بزبيد فتنزل عَلَيْهِ أَخُوهُ الآخر الإِمَام الْحسن بعساكره كَثِيرَة وحاصروا زبيد وَأنْفق قانصوه مَا حازه من الْأَمْوَال على عسكره ثمَّ صَارُوا يهددونه ويعزرونه لضيق أَرْزَاقهم فتعب لذَلِك وَكَاتب الإِمَام الْحسن على أَن يصل إِلَيْهِ آمنا فَأرْسل الْحسن لَهُ بالأمان فَركب هُوَ وخواصه وَأظْهر أَنه يُرِيد زِيَارَة بعض الْأَوْلِيَاء وهرب إِلَى محطة الإِمَام الْحسن فَأكْرمه وجهزه إِلَى مَكَّة فَرجع رَاضِيا من الْغَنِيمَة بالإياب لَا يملك إِلَّا مَا عَلَيْهِ من الثِّيَاب فوصل إِلَيْهَا فِي دولة مَوْلَانَا المرحوم الشريف زيد بن محسن وَمَعَهُ من أَتْبَاعه دون الْعشْرين وَنزل بحوش السُّلْطَان فِي الكوشك المطل على الْبركَة الْمَعْرُوفَة ببركة الشَّامي فَحصل من أَتْبَاعه نوع تَعدٍ إِلَى بعض الرعايا فألزمه مَوْلَانَا الشريف زيد بالرحيل من يَوْمه وأحضر لَهُ الرحلة فَلم تغرب عَلَيْهِ شمس ذَلِك الْيَوْم فِي مَكَّة وَلما تحقق عسكره فراره عَنْهُم بِتِلْكَ الْحِيلَة أَقَامُوا عَلَيْهِم أَمِيرا مِنْهُم يُقَال لَهُ مصطفى فضبط زبيد وَاسْتمرّ محاصراً فَوق سنتَيْن منتظراً المدد يَأْتِيهِ من مصر فَلم يصل إِلَيْهِ شَيْء وَلما سئم طلب الْأمان فَأعْطَاهُ الإِمَام الْأمان وجهزه بِعشْرين ألف قِرْش(4/197)
فَخرج إِلَى مَكَّة سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَمَعَهُ الْمحمل الْيَمَانِيّ السلطاني وَوضع بالقبة المبنية فِي مَحل سِقَايَة الْعَبَّاس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قلت قد رَأَيْته كثيرا ملقى فِي الْقبَّة الْمَذْكُورَة عَام سبع وَسِتِّينَ وَألف وَهُوَ أكبر من الْمحمل الْمصْرِيّ شكلاً وَمن عامئذ استبدت الْأَئِمَّة الزيدية بالممالك اليمنية وقضت مَا فِي نَفسهَا من الأمنية فهم حَتَّى الْيَوْم ولاتها حزنا وسهلا ورؤساؤها فَتى وكهلا وأخرجوا جَمِيع الأورام مِنْهَا وَكفوا أكف المتغلبين عَنْهَا بعد أَن قتلوهم الْقَتْل الذريع وتركوهم بَين سليب وصريع وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين كَانَت وَفَاة أَخِيه السَّيِّد الْحسن ابْن الإِمَام الْقَاسِم وَهُوَ وَالِد أَحْمد بن الْحسن وَكَانَ أَخُوهُ الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد صَاحب التَّرْجَمَة يقدمهُ على العساكر فِي الحروب كلهَا رَحمَه الله وَاسْتمرّ الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد إِلَى أَن حانت وَفَاته وَانْقَضَت أوقاته فِي سَابِع عشري رَجَب الْفَرد سنة أَربع وَخمسين وَألف ثمَّ قَامَ من بعده أَخُوهُ الإِمَام الشهير المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل ابْن الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الرشيد بن أَحْمد وَقد تقدم بَقِيَّة نسبه إِلَى عَليّ بن أبي طَالب فِي تَرْجَمَة وَالِده الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم كَانَت لَهُ الكرامات الظَّاهِرَة والمفاخر السائرة مَعَ الْإِحَاطَة بِجَمِيعِ الْعُلُوم وَأَقْبَلت الفتوحات إِلَيْهِ من كل أَوب وَجَاءَت إِلَيْهِ الْوُفُود من كل أَرض وَصوب أرخ ابْتِدَاء دَعوته السَّيِّد نَاصِر بن عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا فَقَالَ // (من الْخَفِيف) //
(وتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ ... عَزَّ تاريخُ دَعْوَةٍ مِنْ كَريمِ)
(آيةٌ يُعْرَفُ التَّوَكُّلُ مِنْهَا ... مَعَهُ العِزُّ للإمامِ الكريمِ)
وأرخه أَيْضا نثراً فجَاء التَّارِيخ توكلت على الله وَحده أبدا وَفِي سنة سِتّ وَخمسين جهز ابْن أَخِيه أَحْمد بن الْحسن إِلَى حَضرمَوْت فوصل إِلَى الْجوف وَاسْتولى عَلَيْهِ الْخَوْف فَرجع مكسوراً وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين استولى بدر بن عبد الله الكثيري على حَضرمَوْت وَقبض على عَمه السُّلْطَان بدر بن عَليّ وَسَببه أَنه ظلم وتعدى الْحُدُود فَأَشَارَ بعض السَّادة على بدر ابْن عبد الله بِالْقَبْضِ على عَمه فهجم عَلَيْهِ لَيْلًا وحبسه هُوَ وَأَوْلَاده(4/198)
وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ جهز الإِمَام إِسْمَاعِيل ابْن أَخِيه الإِمَام أَحْمد بن الْحسن على حَضرمَوْت ونواحيها لكَوْنهم لم يخطبوا لَهُ فَالتقى هُوَ والأمير حُسَيْن الرصاص لكَون بَلَده أقرب الْبلدَانِ إِلَى دولة الإِمَام إِسْمَاعِيل وَحصل مِنْهُم قتال فَلَمَّا عجز الإِمَام أَحْمد بن الْحسن أرسل إِلَى قَبيلَة يافع وهم قبائل كَثِيرُونَ بالأموال خُفْيَة وَطلب مِنْهُم أَن يَكُونُوا مَعَه على الرصاص وَوَعدهمْ بأَشْيَاء كَثِيرَة فاغتروا بِكَلَامِهِ وتجهزوا على الرصاص وأتوه على غرَّة وَبَقِي الرصاص بَين الإِمَام أَحْمد وَبَين قبائل يافع فأبلى بلَاء شَدِيدا حَتَّى قتل شَهِيدا وَتَوَلَّى أَخُوهُ وَأرْسل أَحْمد بن الْحسن يرهبه ويرغبه وَالْتزم لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَطْلُبهُ فَطلب أَشْيَاء كَثِيرَة فوفي لَهُ الإِمَام أَحْمد بهَا وَملك الْبِلَاد وقبيلة الرصاص مَشْهُورَة بالشجاعة وَالْكَرم والصدق وَلذَلِك كَانُوا مجللين محترمين وَاسْتولى الزيدية على غَالب حَضرمَوْت ثمَّ فِي سنة سبعين استولى على حَضرمَوْت كلهَا وَأمرهمْ أَن يزِيدُوا فِي الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل وَترك الترضي عَن الشَّيْخَيْنِ وَمنع الدفوف واليراع فِي راتب السقاف وانتهت دولة آل كثير من تِلْكَ الديار وَقد انْتهى صعُود شرف آل كثير بالسلطان عبد الله بن عمر وَفِي الْمثل إِذْ تمّ شَيْء بَدَأَ نَقصه فَإِنَّهُ لما خلع نَفسه لعبادة ربه عَن الْملك الفاني وَصَارَ إِبْرَاهِيم بن أدهم ثَانِي وَتَوَلَّى أَخُوهُ بدر الدّين بن عمر وَفِي آخر دولته ظلم وطغى فهجم عَلَيْهِ ابْن أَخِيه بدر الدّين بن عبد الله وحبسه فدانت لَهُ الْعباد وعمرت بِهِ الْبِلَاد إِلَى أَن ظلم بالعدوان وصادر السَّادة والأعيان ففوقوا إِلَيْهِ سِهَام الدُّعَاء فَقدر الله أَن كتب عَمه الْمَحْبُوس بدر بن عمر وَهُوَ بِالْحَبْسِ إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل وهون لَهُ أَمر حَضرمَوْت فَكتب الإِمَام إِسْمَاعِيل إِلَى السُّلْطَان بدر بن عبد الله بِإِخْرَاج عَمه بدر بن عمر من الْحَبْس فَأخْرجهُ ثمَّ اتَّصل بِالْإِمَامِ وَطلب مِنْهُ التَّجْهِيز على حَضرمَوْت وتكفل لَهُ بأَشْيَاء وساعده على ذَلِك الشَّيْخ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن العمودي شيخ العموديين وَكَانَ وَالِده على أَكثر وَادي دوعن فكاتبوا مَشَايِخ الْعَرَب وَأَرْسلُوا لَهُم بالأموال وَصَارَ إِلَيْهِ أَحْمد بن الْحسن فَلَمَّا التقى الجيشان انْكَسَرَ جَيش السُّلْطَان بدر وَلم يُقَاتل مَعَه إِلَّا خواصه ثمَّ انهزم منكسراً وَولى مُدبرا إِلَى جبل أَخْوَاله فَطلب الْأمان لنَفسِهِ فَأعْطِيه وَلما لم يطب لِأَحْمَد بن الْحسن الْمقَام بحضرموت أَقَامَ(4/199)
بهَا بدر بن عمر الكثيري وَرجع إِلَى عَمه الإِمَام إِسْمَاعِيل صَاحب التَّرْجَمَة ثمَّ لم يزل الإِمَام إِسْمَاعِيل قَائِما بأعباء الْإِمَامَة الْكُبْرَى إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى إِلَى رَحمته سنة 87 سبع وَثَمَانِينَ ثمَّ قَامَ بعده ابْن أَخِيه الإِمَام الشهير أَحْمد بن الْحسن ابْن الإِمَام الْقَاسِم ولقب الْمهْدي لدين الله فَقَامَ بِأَمْر الْخلَافَة أحسن قيام وانتظم بِهِ الْأَمر أتم نظام وَكَانَت حَضرته محط رحال الْعلمَاء الْأَعْلَام وَفِي أثْنَاء دَعوته دَعَا ابْن عَمه مَوْلَانَا علم الْإِسْلَام وَإِمَام عُلَمَاء الْآل الْكِرَام الْقَاسِم ابْن الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه وخطب لَهُ على سابر الشرفين والأهنوم وشهارة وظليمة ولحج وَأكْثر التهائم وَبعد أُمُور كثير يطول شرحها حصل الِاتِّفَاق على إِمَامَة الْمهْدي لدين الله هَذَا وَهُوَ أيده الله من أَعْيَان العترة كرماً وشجاعة وتفقداً للْمَسَاكِين وتعظيماً للْعُلَمَاء ومستقره شهارة المحروسة وَاسْتمرّ إِلَى أَن كَانَت وَفَاته فِي شهر جُمَادَى الْأُخْرَى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف ثمَّ قَامَ من بعده الإِمَام الْعَظِيم الْمُؤَيد بِاللَّه رب الْعَالمين مُحَمَّد الملقب بالغزى ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن مُحَمَّد بن الرشيد اتّفق على خِلَافَته رأى عُلَمَاء الْعَصْر وفضلاء الدَّهْر وغمر النَّاس برد ظلّ عدله وَسَار سيرة الْأَئِمَّة الهادين وَأمر بإحياء الْعُلُوم والمدارس مقرباً للْعُلَمَاء متعهداً لأحوال الْفُضَلَاء مُؤديا لحقوق الضُّعَفَاء مُتبعا فِي أمره وَنَهْيه لكتاب الله سُبْحَانَهُ وَسنة رَسُول
وَقَامَ من إخْوَته وَبني عَمه بنصرته عُظَمَاء كَالْإِمَامِ الْقَاسِم ابْن الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه وكأخويه الْحسن ابْن الإِمَام المتَوَكل وعَلى ابْن الإِمَام المتَوَكل وَمن بني عَمه السيدان العظيمان جمال الْإِسْلَام مُحَمَّد ابْن الإِمَام أَحْمد الْمهْدي وَشرف الْإِسْلَام الْحُسَيْن ابْن الإِمَام الْمهْدي أيدهما الله تَعَالَى وَاسْتمرّ على سَرِير الْخلَافَة وَمَا اسْتَطَاعَ أحد خِلَافه إِلَى أَن ورد إِلَيْنَا خبر وَفَاته أواسط سنة 1097 سبع وَتِسْعين وَألف ثمَّ كثر الشجار فِي كل نَاحيَة وطلبها عدَّة أشخاص فِي أَمَاكِن متناحية وَوَقعت حروب وأهوال وفنيت أَمْوَال وأبطال حَتَّى اسْتَقر عَمُود رحاها وأٍ سفر بدر ديجور رجاها عَن جمال وجودهَا الأمجد أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله مُحَمَّد بن أَحْمد(4/200)
فَهُوَ الْآن الْخَلِيفَة بِهَذَا الزَّمن فِي هَذَا الْقطر الشريف أَعنِي قطر الْيمن {إنَّ اَلأَرضَ لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده والعقبة لِلمُتقِين} الْأَعْرَاف 128 // (من مجزوء الرجز) //
(سِلْسلَةٌ مِنْ ذَهَبِ ... مَنُوطَةٌ بِالشُّهُبِ)
(أكْرِمْ بِهَا سِلْسِلَةً ... بَيْنَ وَصِيِّ ونَبِي)
(قَدْ صَانَهَا رَبُّ السَّمَا ... مِنْ شَائِبَاتِ النَّسَبِ)
وَصلى الله على من لَا نَبِي بعده خَاتم النَّبِيين وَآله الطيبين الطاهرين وَصَحبه الهداة المهتدين(4/201)
(الْبَاب الثَّالِث)
(من خَاتِمَة الْخَيْر)
(فِي ذكر من ولي مَكَّة المشرفة من آل أبي طَالب إِلَى يَوْم تَارِيخه)
(ولمع من أخبارهم ونوادر حوادث أيامهم)
مَكَّة زَادهَا الله شرفاً أشهر من أَن تعرَف أَو أَن يصفها واصف أَلا أَنَّهَا انقرض سكانها من قُرَيْش بعد الْمِائَة الثَّانِيَة بالفتن الْوَاقِعَة بالحجاز من العلوية مرّة بعد أُخْرَى فأقفرت من قُرَيْش وَلم يبْق بهَا أَلا أَتبَاع بني حسن أخلاط من النَّاس ومعظمهم موَالِي سود من الْحَبَشَة والزيلع وَكَانَ أول من وَليهَا بعد الْفَتْح المحمدي عتاب بن أسيد باستخلاف مُحَمَّد
بعد الْفَتْح حِين عزمه إِلَى غَزْوَة حنين عَام ثَمَان من الْهِجْرَة وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة ثمَّ خلفاء بني أُميَّة وعمالهم ثمَّ خلفاء بني الْعَبَّاس وتعداد عمالهم فَردا فَردا مَبْسُوط فِي التورايخ لَا حَاجَة بِنَا إِلَيْهِ وَكَانَ فِي خلال ذَلِك يتغلب بعض الطالبيين والعلويين عَلَيْهَا فَأول من وَليهَا مِنْهُم بالتغلب مُحَمَّد بن الْحسن بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب عَاملا عَلَيْهَا ومؤمرّاً من جِهَة مُحَمَّد الْمهْدي الملقب بِالنَّفسِ الزكية ابْن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب فَإِنَّهُ لما تغلب على الْمَدِينَة على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة فِي دولة الْمَنْصُور العباسي أَمر(4/202)
على مَكَّة مُحَمَّد بن الْحسن هَذَا وسيره إِلَيْهَا فَخرج إِلَيْهِ السّري بن عبد الله بن الْحَارِث بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَمِير مَكَّة من جِهَة الْمَنْصُور فتحاربا بأذاخر فَهزمَ السّري وَدخل مُحَمَّد مَكَّة فَأَقَامَ بهَا يَسِيرا فَأَتَاهُ كتاب مُحَمَّد النَّفس الزكية يُخبرهُ بمسير عِيسَى بن مُوسَى لمحاربته ويأمره بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَسَار مُحَمَّد بن الْحسن إِلَيْهِ من مَكَّة هُوَ وَالقَاسِم بن إِسْحَاق فَبَلغهُ وَهُوَ سَائِر بنواحي قديد قتل النَّفس الزكية فهرب هُوَ وَأَصْحَابه وَتَفَرَّقُوا فلحق مُحَمَّد بن الْحسن بإبراهيم بن عبد الله الْمَحْض حَتَّى قتل إِبْرَاهِيم ذكر هَذَا ابْن الْأَثِير وَرجع السّري إِلَى ولَايَة مَكَّة ثمَّ وَليهَا كَذَلِك بالتغلب سنة 169 تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة فِي دولة الْهَادِي بن الرشيد الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط وَقد تقدم خَبره فِي الْبَاب قبل هَذَا عِنْد ذكر الدعاة ثمَّ وَليهَا كَذَلِك بالتغلب الْحُسَيْن بن الْحسن الْأَفْطَس بن عَليّ الْأَصْغَر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ الْمَعْرُوف بالأفطس وَذَلِكَ فِي خلَافَة الْمَأْمُون سنة 199 تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَسَببه أَن أَبَا السَّرَايَا السّري بن مَنْصُور الشَّيْبَانِيّ دَاعِيَة ابْن طَبَاطَبَا لما تغلب على الْعرَاق ولي مَكَّة الْحُسَيْن بن الْحسن الْأَفْطَس هَذَا فَسَار إِلَى أَن وصل وَادي سرف الْمَعْرُوف فِي وقتنا الْيَوْم بالنوارية على نصف مرحلة من مَكَّة فتوقف عَن الدُّخُول إِلَى مَكَّة خشيَة من أميرها من جِهَة الْمَأْمُون وَهُوَ دَاوُد بن عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس فَلَمَّا بلغ دَاوُد تَوْجِيه أبي السَّرَايَا للحسين الْأَفْطَس فَارق مَكَّة هُوَ وَمن بهَا من شيعَة بني الْعَبَّاس فَلَمَّا بلغ الْحُسَيْن خُرُوج دَاوُد دَخلهَا لَيْلَة عَرَفَة فَطَافَ وسعى ثمَّ مَشى إِلَى عَرَفَة فَوقف لَيْلًا ثمَّ دفع إِلَى الْمزْدَلِفَة فصلى بِالنَّاسِ الصُّبْح ثمَّ دفع إِلَى منى فَلَمَّا انْقَضى الْحَج عَاد إِلَى مَكَّة فَلَمَّا كَانَ مستهل محرم الْحَرَام افْتِتَاح سنة 200 مِائَتَيْنِ نزع الْحُسَيْن الْمَذْكُور كسْوَة(4/203)
الْكَعْبَة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا من قبل الْمَأْمُون ثمَّ كساها كسوتين أنفذهما مَعَه أَبُو السَّرَايَا من قَز إِحْدَاهمَا صفراء وَالْأُخْرَى بَيْضَاء ثمَّ عمد الْأَفْطَس إِلَى خزانَة الْكَعْبَة فَأخذ جَمِيع مَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَقَسمهَا مَعَ كسْوَة الْكَعْبَة على أَصْحَابه وهرب النَّاس من مَكَّة لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ أَمْوَالهم يزْعم أَنَّهَا ودائع لبني الْعَبَّاس عِنْدهم وَلما هرب النَّاس هدم دُورهمْ فكرهه النَّاس لظلمه وطغى أَصْحَابه وبغوا وقلعوا شبابيك الْبيُوت الْحَدِيد الَّتِي على الْمَسْجِد وباعوها حَتَّى قلعوا شبابيك زَمْزَم وَلم يزل كَذَلِك على ظلمه إِلَى أَن بلغه قتل مرسله أبي السَّرَايَا سنة مِائَتَيْنِ فَلَمَّا علم بذلك وَرَأى النَّاس قد تغيرُوا عَلَيْهِ لما فعله مَعَهم من الْقَبِيح واستباحة الْأَمْوَال جَاءَ هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى مُحَمَّد بن جَعْفَر الصَّادِق الملقب بالديباجة لجمال وَجهه وسألوه الْمُبَايعَة لَهُ بالخلافة فكره ذَلِك فاستعان الْأَفْطَس عَلَيْهِ بولده عَليّ بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الصَّادِق وَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بَايعُوهُ بالخلافة وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة مِائَتَيْنِ وجمعوا النَّاس على بيعَة مُحَمَّد طَوْعًا وَكرها وَبَقِي أشهر وَلَيْسَ لَهُ من من الْأَمر شَيْء وَإِنَّمَا ذَلِك للأفطس ولابنه عَليّ بن مُحَمَّد وهما على أقبح سيرة مَعَ النَّاس ووثب الْأَفْطَس على امْرَأَة جميلَة فانتزعها قهرا من زَوجهَا وَعلي بن مُحَمَّد أَخذ ابْن قَاضِي مَكَّة وحجزه عِنْده فَلَمَّا رأى النَّاس ذَلِك اجْتَمعُوا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَقَالُوا لمُحَمد بن جَعْفَر إِن لم تحضر الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ خلعناك فأغلق بَابه خوفًا من الْعَامَّة وكلمهم من الشباك ثمَّ طلب الْأمان ليخرج يخلصهما فَأعْطى فَخرج وخلص الصَّبِي من ابْنه عَليّ وَالْمَرْأَة من الْأَفْطَس كَذَا ذكره الْأَزْرَقِيّ قلت عِنْدِي فِي صِحَة هذَيْن الأخذين نظر خُصُوصا أَخذ ابْن الديباجة ابْن قَاضِي مَكَّة فَالنَّفْس أبته كل الإباء وَالله أعلم فَلم تكن إِلَّا مُدَّة يسرة حَتَّى قدم إِسْحَاق بن مُوسَى العباسي من الْيمن فَارًّا من إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق فَنزل بالمشاش وَاجْتمعَ إِلَيْهِ جمَاعَة من أهل مَكَّة هربوا من العلويين وَاجْتمعَ الطالبيون إِلَى مُحَمَّد بن جَعْفَر الْمَذْكُور وَجمع النَّاس من الْأَعْرَاب وَغَيرهم وحفروا خَنْدَقًا وقابلهم إِسْحَاق ثمَّ كره الْقِتَال فَسَار إِلَى نَحْو الْعرَاق فَلَقِيَهُ جند أنفذهم هرثمة بن أعين قَائِد الْمَأْمُون وَكَانَ فيهم(4/204)
الجلودي وورقاء بن جميل فَقَالَا لإسحاق ارْجع مَعنا وَنحن نكفيك الْقِتَال فَرجع مَعَهُمَا ولقيهم مُحَمَّد بن جَعْفَر والطالبيون ببئر مَيْمُونَة وَقد انْضَمَّ إِلَى مُحَمَّد غوغاء مَكَّة وَسَوَاد الْبَادِيَة فَلَمَّا التقى الْفَرِيقَانِ قتل جمَاعَة ثمَّ تحاجزوا ثمَّ الْتَقَوْا من الْغَد فَانْهَزَمَ مُحَمَّد والطالبيون وَمن مَعَهم ثمَّ طلب مُحَمَّد الْأمان من الجلودي وَألا أجلة ثَلَاثَة أَيَّام فآمنه وأجله ثمَّ خرج من مَكَّة وَدخل الجلودي مَكَّة بالجيش فِي جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة 200 مِائَتَيْنِ وَتوجه الديباجة إِلَى بِلَاد جُهَيْنَة فَجمع مِنْهَا جَيْشًا وَسَار إِلَى الْمَدِينَة وَقَاتل واليها من جِهَة الْمَأْمُون وَهُوَ هَارُون بن الْمسيب فَانْهَزَمَ الديباجة أَيْضا وفقئت عينه بنشابة وَقتل من عسكره خلق كثير ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة وَطلب الْأمان من الجلودي فآمنه فَدخل مَكَّة فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة فأصعده الجلودي الْمِنْبَر والجلودي فَوْقه بمرقاتين عَلَيْهِ قبَاء أسود فَاعْتَذر مُحَمَّد بِأَنَّهُ إِنَّمَا وَافق على الْمُبَايعَة لِأَنَّهُ بلغه موت الْمَأْمُون ثمَّ قدم على الْمَأْمُون ب مرو وَاعْتذر واستعفى فَقبل عذره وَعَفا عَنهُ وأكرمه فَلم يلبث قَلِيلا حَتَّى مَاتَ فَجْأَة بجرجان فصلى عَلَيْهِ الْمَأْمُون وَنزل فِي لحده وَقَالَ هَذِه رحم قطعت مذ سِنِين وَكَانَ مَوته فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَسبب مَوته على مَا قيل أَنه جَامع وافتصد وَدخل الْحمام فِي يَوْم وَاحِد وَفِي موسم سنة 202 اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَليهَا كَذَلِك بالتغلب إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الكاظم ابْن جَعْفَر جَاءَ إِلَيْهَا من الْيمن وَعَلَيْهَا إِسْحَاق بن مُوسَى بن عِيسَى العباسي فَلَمَّا سمع بوصوله خَنْدَق عَلَيْهَا وَبنى سوراً على الْجبَال دائراً بالبنيان وَكَانَ فِي السّنة الَّتِي قبلهَا سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وصل إِلَى مَكَّة صنم من ذهب على صُورَة إِنْسَان لملك من مُلُوك الْهِنْد أرسل بِهِ إِلَى الْكَعْبَة وعَلى رَأس الصَّنَم تَاج مكلل بالجوهر والياقوت والزبرجد والصنم جَالس على سَرِير من فضَّة وعَلى السرير أَنْوَاع الْفرش من الْحَرِير والديباج فَوضع السرير عَلَيْهِ الصَّنَم فِي وسط الْمَسْعَى ثَلَاثَة أَيَّام وَمَعَهُ معرِّف لمن كَانَ لَهُ هَذَا الصَّنَم وَأَنه أسلم وَأرْسل بِهِ هَدِيَّة للكعبة فاحمدوا الله تَعَالَى أَن هداه لِلْإِسْلَامِ ثمَّ أخد أَمِير مَكَّة العباسي الْمَذْكُور ذَلِك الصَّنَم من الحجبة قهرا وضربه دَنَانِير وأنفقها على الْعَسْكَر وَحَارب إِبْرَاهِيم بن(4/205)
مُوسَى فَكسر الْأَمِير وهرب وَدخل إِبْرَاهِيم بن مُوسَى مَكَّة ثمَّ وَليهَا فِي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة المستعين بالتغلب أَيْضا إِسْمَاعِيل بن يُوسُف الأخيصر بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فهرب مِنْهَا عَامل المستعين وَهُوَ جَعْفَر بن الْفضل ابْن عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بشاشات قتل إِسْمَاعِيل الْجند الَّذين بِمَكَّة وَجَمَاعَة من أَهلهَا وَنهب منزل جَعْفَر شاشات وَغَيره وَأخذ من النَّاس نَحْو مِائَتي ألف دِينَار وَعمد إِلَى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فَأخذ كسوتها وَمَا جدد فِي خزانتها من الْأَمْوَال وَمَا كَانَ أعد من المَال لإِصْلَاح الْعين وَنهب مَكَّة وأحرق بَعْضهَا ثمَّ خرج مِنْهَا بعد مقَامه بهَا خمسين يَوْمًا فِي شهر ربيع الأول وَقصد الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فتوارى عَنهُ عاملها فظلم أَهلهَا وأخرب دُورهمْ وعطلت الْجَمَاعَة من مَسْجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَكثر من نصف شهر ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فحصر أَهلهَا حَتَّى مَاتُوا جوعا وعطشاً وَبلغ الْخبز ثَلَاث أَوَاقٍ بدرهم وَاللَّحم رَطْل بدرهم والشربة المَاء بِثَلَاثَة دَرَاهِم ولقى أهل مَكَّة مِنْهُ بلَاء شَدِيدا ثمَّ سَار إِلَى جدة فحبس عَن النَّاس الطَّعَام وَأخذ أَمْوَال التُّجَّار وَأَصْحَاب المراكب ووافى الْموقف وَالنَّاس بِعَرَفَات فَقتل من الْحجَّاج نَحوا من ألف وَمِائَة نفس فهرب الْحجَّاج وَلم يقف بِعَرَفَة أحد لَيْلًا وَلَا نَهَارا سوى إِسْمَاعِيل وَعَسْكَره ثمَّ بعد انْفِصَاله من عَرَفَة رَجَعَ إِلَى جدة ثَانِيًا وأفنى أموالها وَفعل أموراً قبيحة لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكرهَا كَذَا ذكره الْعَلامَة ابْن جَار الله وَقَبله التقى الفاسي فِي تَارِيخه شِفَاء الغرام انْتهى قلت لَا يظنّ ظان أم صُدُور هَذَا الْفِعْل وَشبهه من مثل هَؤُلَاءِ السَّادة لنَقص فِي دينهم واختلال فِي يقينهم حاشا وكلا وَإِنَّمَا ذَاك وَالله أعلم مِمَّا جرَت إِلَيْهِ الحمية والأنفة والشهامة الَّتِي تناسب أقداسهم من اسْتِيلَاء وُلَاة الْجور على مَا هم الأحقون بِهِ فيقصدون بذلك ثلم وجموعهم وتفريق جموعهم مَا أمكن لتعديهم بِأَصْل الدُّخُول فِي الْخلَافَة وَلم ينْعَقد إِذْ ذَاك إِجْمَاع على حُرْمَة الْخُرُوج على أَئِمَّة الْجور فقد(4/206)
أفتى الإِمَام أَبُو حنيفَة بِجَوَاز الْخُرُوج على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور مِنْهُم وَكَذَلِكَ الإِمَام مَالك رحمهمَا الله تَعَالَى وَإِنَّمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع على ذَلِك بعد زمنهم بِكَثِير هَذَا مَا ظهر لجامعه الْفَقِير على إِنِّي أعلم أَن هَذَا الْجَواب ينْسب إِلَى الْإِقْنَاع فَلَا يكن مِنْك أَيهَا النَّاقِد لرأس الِاعْتِرَاض إقناع وَلم يزل الْعمَّال عَلَيْهَا من بني الْعَبَّاس وشيعتهم وَالْخطْبَة بهَا لَهُم إِلَى أَن اشتغلوا بالفتن أَيَّام المستعين والمعتز وَمَا بعدهمَا فَحدثت الرِّئَاسَة فِيهَا لبني سُلَيْمَان بن دَاوُد ابْن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط
(ذكر دولة السليمانيين)
(وَمِنْهُم آل أبي الطّيب)
قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ كَبِيرهمْ آخر الْمِائَة الثَّانِيَة مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَلَيْسَ هُوَ سُلَيْمَان بن دَاوُد بن الْحسن الْمثنى لِأَن ذَاك ذكر ابْن حزم أَنه قَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّام الْمَأْمُون وَبَين العصرين نَحْو مائَة سنة فيبعد أَن يكون مُحَمَّد بن سُلَيْمَان هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْقَائِم بِالْمَدِينَةِ أَلا أَنه من وَلَده كَانَ أول من خطب لنَفسِهِ مِنْهُم بِالْإِمَامَةِ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان سنة 301 إِحْدَى وثلاثمائة أَيَّام المقتدر العباسي وخلع طَاعَة العباسية وخطب فِي الْمَوْسِم فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أعَاد الْحق إِلَى نظامه وأبرز زهر الْإِيمَان من أكمامه وكمل دَعْوَة خير الرُّسُل بأسباطه لَا ببني أَعْمَامه صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطاهرين وكف عَنْهُم ببركته إساءة الْمُعْتَدِينَ وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه إِلَى يَوْم الدّين ثمَّ انشد // (من المجتث) //
(لأَطْلُبَنَّ بِسَيْفِي ... مَا كَاَن لِلحَقِّ دَيْنَا)
(وأَسْطُوَنَّ بِقَوْمٍ ... بَغَوا وجَارُوا عَليْنَا)
(يُهْدُونَ كُلَّ بَلاَءٍ ... مِنَ العِرَاقِ إِليْنَا)
وَكَانَ يلقب بالزيدى نِسْبَة إِلَى نحلته من مَذْهَب الإمامية وبقى ركب الْعرَاق يتَعَاهَد مَكَّة إِلَى أَن اعْتَرَضَهُ أَبُو طَاهِر القرمطي سنة ثنتى عشرَة وَأسر أَبَا الهيجاء حمدَان وَالِد سيف الدولة وَجَمَاعَة مَعَه وَقتل الْحجَّاج وَترك النِّسَاء والأطفال(4/207)
بالقفر فهلكوا وَانْقطع الْحَاج من الْعرَاق بِسَبَب القرامطة ثمَّ أنفذ المقتدر سنة سبع عشرَة وثلاثمائة منصوراً الديلمي من موَالِيه فوافاه بِمَكَّة يَوْم التَّرويَة أَبُو طَاهِر القرمطي فنهب الْحَاج وقتلهم حَتَّى فِي الْكَعْبَة وَالْحرَام وطم بِئْر زَمْزَم بالقتلى وَالْحجاج يصيحون كَيفَ تقتل جيران الله ووفاده فَيَقُول لَيْسَ بجار من خَالف أوَامِر الله ونواهيه وَيَتْلُو {إِنَّمَا جزوا اَلذِّينَ يُحَارِبُونَ الله} الْمَائِدَة 33 الْآيَة وَصعد على عتبَة الْكَعْبَة يَقُول // (من الرمل) //
(أَنَا باللهِ وباللهِ أَنَا ... يَخْلُقُ الخلقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا)
وَكَانَ يخْطب لِعبيد الله الْمهْدي جد الْخُلَفَاء العبيديين نِسْبَة إِلَى عبيد الله الْمَذْكُور صَاحب إفريقية ثمَّ قلع الْحجر الْأسود وَحمله إِلَى الأحساء وَهِي مُسْتَقر ملكه والأحساء هَذِه بناها أَبُو طَاهِر بعد أَن خرب جده مَدِينَة الْبَحْرين ولنذكرهما وَإِن كَانَ ذكرهمَا اعتراضاً فِي الْبَين أما الْبَحْرين فإقليم وَاسع مَسَافَة شهر على بَحر فَارس بَين الْبَصْرَة وعُمان شرقيها بَحر فَارس وغربيها مُتَّصِل بِالْيَمَامَةِ وشماليها بِالْبَصْرَةِ وجنوبيها عمان كَثِيرَة الْمِيَاه ينبطونها على الْقَامَة والقامتين كَثِيرَة البقل والفواكه مفرطة الْحر منهالة الكثبان يغلب الرمل عَلَيْهِم فِي مساكنهم وَكَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة لعبد الْقَيْس وَبكر بن وَائِل من ربيعَة وملكها الْفرس ثمَّ صَارَت فِي صدر الْإِسْلَام لنى الْجَارُود ثمَّ ملكهَا أَبُو سعيد القرمطي بعد حِصَار ثَلَاث سِنِين واستباحها قتلا وإحراقاً وتخريباً ثمَّ بنى أَبُو طَاهِر القرمطي مَدِينَة الأحساء وتوالت دولة القرامطة فِيهَا وهم أخلاط من الْفرس وَبنى تغلب وَبنى عقيل وَبنى سليم وَكَانَ بناؤها فِي الْمِائَة الثَّالِثَة وَسميت بِهَذَا الِاسْم يعْنى الأحساء لِكَثْرَة أحساء الْمِيَاه فِي الرمال بهَا ومراعى الْإِبِل وَكَانَت للقرامطة بهَا دولة وجالوا فِي الأقطار وَالشَّام وَالْعراق ومصر والحجاز وملكوا الشَّام وعمان ثمَّ انْقَضتْ دولة القرامطة وغلبت على الْبَحْرين وَمَا والاها بَنو عَامر بن عقيل قَالَ ابْن خلدون قَالَ ابْن سعيد وَالْملك الْآن مِنْهُم فِي بنى عُصْفُور ثمَّ رَجَعَ وَقلع بَاب الْبَيْت وَحمله وأطلع رجلا لقلع الْمِيزَاب فَسقط وَمَات(4/208)
فَقَالَ اتركوه فَإِنَّهُ محروس حَتَّى يأتى صَاحبه يَعْنِي الْمهْدي المنتظر فَلَمَّا بلغ عبيد الله الْمهْدي مَا فعله كتب إِلَيْهِ مَا نَصه وَالْعجب من كتبك إِلَيْنَا ممتناً علينا بِمَا ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجبرانه بالأماكن الَّتِي لم تزل الْجَاهِلِيَّة تحرم إِرَاقَة الدِّمَاء فِيمَا وإهانة أَهلهَا ثمَّ تعديت ذَلِك فَقلعت الْحجر الَّذِي هُوَ يَمِين الله فِي أرضه يُصَافح بهَا عباده وَحَمَلته إِلَى أَرْضك ورجوت أَن نشكرك فلعنك الله ثمَّ لعنك ثمَّ لعنك السَّلَام على من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده وَفعل فِي يَوْمه مَا عمل فِيهِ حِسَاب غده فانحرفت القرامطة عَن طَاعَة العبيبديين لذَلِك ثمَّ قتل المقتدر على يَد مؤنس سنة عشْرين وثلاثمائة وَولي أَخُوهُ القاهر وَانْقطع الْحَاج من الْعرَاق بعد هَذِه السّنة إِلَى أَن كَاتب أَبُو عَليّ عمر بن يحيى الفاطمى سنة 27 سبع وَعشْرين من الْعرَاق أَبَا طَاهِر القرمطي فَأطلق السبل للْحَاج على مكس أَخذه مِنْهُم وَكَانَ أَبُو طَاهِر يعظمه لدينِهِ ويؤمله فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَأخذ المكس من الْحَاج وَلم يعْهَد مثله فِي الْإِسْلَام وخطب فِي هَذِه السّنة بِمَكَّة للراضي بن المقتدر وَفِي سنة تسع وَعشْرين وثلاثمائة لِأَخِيهِ المتقي من بعده وَلم يصل ركب الْعرَاق فِي هَذِه السّنة من القرامطة ثمَّ ولي المستكفي سنة 333 ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة على يَد توزون أَمِير الْأُمَرَاء بِبَغْدَاد فَخرج الْحَاج فِي هَذِه السّنة بمهادنة القرامطة بِعَهْد أبي طَاهِر ثمَّ خطب للمطيع ابْن المقتدر بِمَكَّة بمعز الدولة بن بويه سنة 334 أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة عِنْد مَا استولى معز الدولة على بَغْدَاد وعزل المستكفي واعتقل ثمَّ تعطل الْحَج بِسَبَب القرامطة وردوا الْحجر الْأسود سنة تسع وَثَلَاثِينَ بِأَمْر الْمَنْصُور العبيدي صَاحب إفريقية وخطابه فِي ذَلِك لأميرهم أَحْمد بن أبي سعيد ثمَّ جَاءَ الْحَاج إِلَى مَكَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة مَعَ أَمِير الْعرَاق وأمير من مصر فَوَقَعت الْحَرْب بَينهمَا على الْخطْبَة لِابْنِ بويه ملك الْعرَاق وَابْن الإخشيد ملك مصر فَانْهَزَمَ المصريون وخطب لِابْنِ بويه واتصل وُفُود الْحَاج من يَوْمئِذٍ(4/209)
فَلَمَّا كَانَت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلاثمائة جَاءَ الْحَاج من بَغْدَاد وَمن مصر كَانَ أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعلوِي فمكر بأمير مصر وَقَالَ نتفق على إِفْرَاد الْخَلِيفَة ونترك صَاحِبي وَصَاحِبك فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك ثمَّ جَاءَ الْمِنْبَر مستعداً وَأمر بِالْخطْبَةِ لمعز الدولة بن بويه فَوَجَمَ الآخر وتمت عَلَيْهِ الْحِيلَة وعاقبه أميره كافور وَيُقَال قَتله وَوَقع معز الدولة بن بويه بعد موت أَبِيه والخليفة يَوْمئِذٍ الْمُطِيع وَسَببه أَن سَابُور بن أبي طَاهِر قتل عَمه أَحْمد بن سعيد الْأَمِير القرمطي وَكَانَ مجمعا على اعْتِرَاض ركب الْعرَاق وَقطع الْخطْبَة على ابْن بويه بِمَكَّة فَلَمَّا قتل أَحْمد وَقعت الْفِتْنَة بَين أَوْلَاد أبي طَاهِر وَأَوْلَاد أَحْمد بن أبي سعيد فَأصْلح الْمُطِيع بَينهم وَقدم عَلَيْهِ الْحسن بن أَحْمد وخطب فِي الْمَوْسِم للمطيع وللحسن بعده بالإمارة وَفِي سنة 360 سِتِّينَ وثلاثمائة خلع الْحسن بن أَحْمد القرمطي طَاعَة العبيديين وخطب للمطيع وَبعث الْمُطِيع إِلَيْهِ بالرايات السود ونهض إِلَى دمشق فَقتل عاملها من جِهَة العبيديين جَعْفَر بن فلاح وخطب للمطيع ثمَّ وَقعت الْفِتْنَة بَين بني الْحسن أهل مَكَّة وَبني الْحُسَيْن أهل الْمَدِينَة وزحف أهل الْمَدِينَة مَعَ أَمِير الْمعز لدين الله العبيدي صَاحب مصر ليقيموا لَهُ الْخطْبَة بِمَكَّة فَجَاءَت القرامطة مدَدا لبني حسن بِمَكَّة فَانْهَزَمَ أهل الْمَدِينَة ثمَّ وَقعت الْفِتْنَة بَين بني الْحسن وَبني جَعْفَر وحصلت بَينهم دِمَاء وَبعث الْمعز العبيدي من أصلح بَينهم وَتحمل ديات الْقَتْلَى الفاضلة من مَال الْمعز فمذ ملك مصر بَادر جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ فَملك مَكَّة ودعا للمعز العبيدي فَكتب لَهُ الْمعز بِالْولَايَةِ ثمَّ مَاتَ جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد فوليها بعده ابْنه عِيسَى ابْن جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن على بن أَبى طَالب ودامت ولَايَته إِلَى أَن مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ثمَّ ولي بعد عِيسَى أَخُوهُ أَبُو الْفتُوح الْحسن بن جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَانَت ولَايَته سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ثمَّ جَاءَت عَسَاكِر عضد الدولة الديلمي ففر الْحسن بن جَعْفَر(4/210)
وَلما مَاتَ الْمعز العبيدي وَولى ابْنه الْعَزِيز بعث إِلَى مَكَّة أَمِيرا علوياً فَخَطب لَهُ بالحرمين وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ بعث الْعَزِيز العبيدي باديس بن زيري الصنهاجي أَمِيرا على الْحَاج وَاسْتولى لَهُ على الْحَرَمَيْنِ وَأقَام لَهُ الْخطْبَة وشغل عضد الدولة فِي الْعرَاق بِقِتَال ابْن عَمه بختيار فَبَطل ركب الْعرَاق ثمَّ عَاد فِي السّنة الَّتِي بعْدهَا وخطب لعضد الدولة أَحْمد الموسوي وانقطعت بعْدهَا خطْبَة العباسيين من مَكَّة وعادت إِلَى خلفاء مصر إِلَى حِين من الدَّهْر وَعظم شَأْن أبي الْفتُوح واتصلت إمارته فِي مَكَّة وَكتب إِلَيْهِ الْقَادِر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ ورغبه فِي الطَّاعَة ووعده باتصال الْإِمَارَة فِي بنيه فأنفذ أَبُو الْفتُوح الْكتب إِلَى الْعَزِيز العبيدي صَاحب مصر فَأرْسل إِلَيْهِ الْعَزِيز بالأموال وَالْخلْع فَقَسمهَا فِي قومه وكسا الْكَعْبَة بالبياض ثمَّ خاطبه الْقَادِر سنة تسعين وثلاثمائة فِي الْإِذْن لحاج الْعرَاق فَأَجَابَهُ على أَن الْخطْبَة للْحَاكِم صَاحب مصر العبيدي وَبعث الْحَاكِم إِلَى ابْن الْجراح أَمِير طي باعتراضهم وَكَانَ على الْحَاج الشريف الرضي أَمِيرا وَأَخُوهُ المرتضى فلاطفا ابْن الْجراح حَتَّى خلي سَبِيل الْحَاج على أَن لَا يعود قَالَ ابْن خلدون وفيهَا ولي الْمَدِينَة المشرفة وأزال عَنْهَا إمرة بني المهنا الْحُسَيْنِي ثمَّ اعْترض حَاج الْعرَاق سنة أَربع وَتِسْعين وثلاثمائة الْأَصْفَر التغلبي عِنْد ملكه الجزيرة فوعظه قارئان كَانَا فِي الركب ثمَّ اعْتَرَضَهُمْ فِي السّنة الَّتِي بعْدهَا أَعْرَاب خفاجة ونهبوهم ثمَّ كتب الْحَاكِم سنة ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى عماله بِالْبَرَاءَةِ من أبي بكر وَعمر فنكر ذَلِك أَبُو الْفتُوح وامتعض لَهُ وَخرج عَن طَاعَته بِسَبَب ذَلِك كَذَا فِي تَارِيخ الْعَلامَة ابْن خلدون وَرَأَيْت فِي شِفَاء الغرام للعلامة التقي الفاسي مَا نَصه كَانَ سَبَب عصيان أبي الْفتُوح عَن طَاعَة الْحَاكِم العبيدي أَن الْوَزير أَبَا الْقَاسِم ابْن المغربي لما قتل الْحَاكِم أَبَاهُ وأعمامه هرب من الْحَاكِم واستجار بكبير آل الْجراح أَمِير طي فَعِنْدَ ذَلِك حسن لَهُم الْوَزير مبايعة أبي الْفتُوح بالخلافة فمالوا إِلَى ذَلِك فقصد الْوَزير أَبُو الْقَاسِم أَبَا الْفتُوح وَحسن لَهُ طلب الْخلَافَة فَاعْتَذر أَبُو الْفتُوح بقلة ذَات يَده فَحسن لَهُ الْوَزير أَخذ مَا فِي الْكَعْبَة من المَال فَأَخذه مَعَ مَال عَظِيم لبَعض التُّجَّار(4/211)
بجدة وخطب لنَفسِهِ وتلقب بالراشد بِاللَّه وَبَايَعَهُ بالخلافة شُيُوخ الحسينيين وَغَيرهم بالحرمين وَخرج من مَكَّة إِلَى الرملة قَاصِدا آل الْجراح فِي جمَاعَة من بني عَمه وَألف عبد أسود وَمَعَهُ سيف زعم أَنه ذُو الفقار وقضيب زعم أَنه قضيب رَسُول الله
فَلَمَّا قرب الرملة تَلَقَّتْهُ الْعَرَب وقبلوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة وَنزل الرملة ونادى بِالْعَدْلِ وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فانزعج الْحَاكِم العبيدي وَقطع الْميرَة عَن الْحَرَمَيْنِ وَمَا وَسعه أَلا الخضوع لآل الْجراح لقُوَّة شوكتهم فاستمال حسان بن مفرج مِنْهُم وبذل لَهُ ولإخوته أمولا جزيلة فَتَخَلَّفُوا عَن أبي الْفتُوح فَعرف أَبُو الْفتُوح ذَلِك فَاسْتَجَارَ بمفرج من الْحَاكِم العبيدي فَكتب مفرج إِلَى الْحَاكِم مستشفعاً لأبي الْفتُوح فشفعه فِيهِ ورده إِلَى مَكَانَهُ من إمرة مَكَّة وراجع طَاعَة الْحَاكِم العبيدي وَقد كَانَ الْحَاكِم ولي على إمرة مَكَّة عِنْد عصيان أبي الْفتُوح أَبَا الطّيب فِي الْمدَّة الَّتِي خرج فِيهَا عَن طَاعَته وَأَبُو الطّيب هَذَا هُوَ أَبُو الطّيب بن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن أبي الفاتك بن دَاوُد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُوسَى بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن على ابْن أبي طَالب وَمن أحفاد أحفاده الْأَمِير يحيى ابْن الْأَمِير الْمُؤَيد ابْن الْأَمِير قَاسم بن غَانِم بن حَمْزَة بن وَقاص بن أبي الطّيب بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور وَذكر ابْن حزم أَبَا للطيب هَذَا وسَاق نسبه كَمَا ذكرنَا ثمَّ قَالَ كَانَ لعبد الرَّحْمَن وَالِد أبي الطّيب اثْنَان وَعِشْرُونَ ذكرا فَذكرهمْ وَذكر أَبَا الطّيب مِنْهُم ثمَّ قَالَ سكنوا كلهم أذَنة حاشا نعْمَة وَعبد الْحَكِيم وَعبد الرحميد فَإِنَّهُم سكنوا أمج بِقرب مَكَّة وَلَعَلَّ سكناهم أذَنة للخوف من أبي الْفتُوح بِسَبَب تآمر أبي الطّيب بعده بِمَكَّة حَال خُرُوج أبي الْفتُوح إِلَى آل الْجراح وَلم يحجّ من الْعرَاق فِي هَذِه السّنة أحد قَالَ ابْن السُّبْكِيّ وَلما كَانَ موسم ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة جرت فِيهِ كائنة غربية هِيَ أَن رجلا من المصريين من أَصْحَاب الْحَاكِم العبيدى اتّفق مَعَ جمَاعَة من الْحجَّاج المصريين على أَمر سوء فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ يَوْم النَّفر الأول طَاف هَذَا الرجل بِالْبَيْتِ فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْحجر الْأسود جَاءَ كَأَنَّهُ يُرِيد تقبيله فَضَربهُ بدبوس كَانَ مَعَه ثَلَاث ضربات مُتَوَالِيَات وَقَالَ إِلَى مَتى يعبد هَذَا الْحجر إِلَى مَتى(4/212)
يقبل وَلَا مُحَمَّد وَلَا عَليّ فيمنعني من ذَلِك فَإِنِّي أهدم الْيَوْم هَذَا الْبَيْت وَجعل يرتعد فاتقاه أَكثر الْحَاضِرين وتأخروا عَنهُ وَذَلِكَ أَنه كَانَ رجلا طَويلا جسيماً أَحْمَر اللَّوْن أشقر الشّعْر وعَلى بَاب الْمَسْجِد جمَاعَة من الفرسان وقُوف ليمنعوه مِمَّن أَرَادَهُ بِسوء فَتقدم إِلَيْهِ رجل من أهل الْيمن مَعَه خنجر فوجأه بِهِ وتكاثر عَلَيْهِ النَّاس فَقَتَلُوهُ وقطعوه قطعا وحرقوه وتتبعوا أَصْحَابه فَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَنهب أهل مَكَّة ركب المصريين وتعدى النهب إِلَى غَيرهم ثمَّ إِنَّه سكن الْحَال غير أَنه سقط من الْحجر ثَلَاث فلق مثل الْأَظْفَار وبدا مَا تحتهَا أسمر يضْرب إِلَى صفرَة محبباً مثل الخشخاش فَأخذ بَنو شيبَة تِلْكَ الفلق فعجنوها بالمسك واللاذن واللَّك وحشوا بهَا تِلْكَ الشقوق الَّتِي بَدَت فَاسْتَمْسك على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن وَهُوَ ظَاهر لمن تَأمله وَلما بُويِعَ الْقَائِم العباسي سنة ثِنْتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة أَمر أَن يُجهز الْحَاج فَلم يقدر لاستيلاء الْعَرَب وانحلال إمرة بني بويه ثمَّ خطب بِمَكَّة سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة للمستنصر بن الظَّاهِر العبيدي وَلما كَانَ سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة تولى أَبُو الْفتُوح الْحسن بن جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان رَئِيس مَكَّة وَبني سُلَيْمَان وَكَانَت مُدَّة إمارته ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة تمّ ولى بعده ابْنه شكر بن أبي الْفتُوح وَجَرت لَهُ مَعَ أهل الْمَدِينَة خطوب ملك فى أَثْنَائِهَا الْمَدِينَة وَجمع بَين الْحَرَمَيْنِ وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَت مدَّته ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَلم يعقب وَلَا ولد لَهُ قطّ وَقيل خلف بِنْتا هِيَ الَّتِي تزَوجهَا مُحَمَّد بن جَعْفَر أول أُمَرَاء الهواشم الْآتِي ذكرهم الْآن وَذكر ابْن حزم أَن عقب جَعْفَر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان انقرض وَأَن مَكَّة وَليهَا بعد شكر عبد كَانَ لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ وَقد انقرض عقب جَعْفَر الْمَذْكُور لِأَن ابْنه أَبَا الْفتُوح لم يكن لَهُ ولد أَلا شكر وَلم يُولد لَهُ وَصَارَ أَمر مَكَّة إِلَى عبد لَهُ انْتهى كَلَام ابْن حزم قَالَ الْعَلامَة مُحَمَّد بن جَار الله فِي تَارِيخه الْجَامِع اللَّطِيف ثمَّ ولي بعد شكر بَنو أبي الطّيب الحسنيون وهم من جمَاعَة شكر الَّذين يُقَال لَهُم السليمانيون وَلم يذكر الْعَلامَة الفاسي عدتهمْ وَأما الْعَلامَة ابْن خلدون فَلم يذكر بني أبي الطّيب(4/213)
أصلا بل ذكر بعد موت شكر اسْتِيلَاء أول أُمَرَاء الهواشم أبي هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن مُحَمَّد أبي هَاشم بن الْحسن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله أبي الْكَرم بن مُوسَى ابْن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وعَلى موت شكر انقرضت دولة بني سُلَيْمَان بِمَكَّة وَجَاءَت دولة الهواشم
(ذكر دولة الهواشم)
هَؤُلَاءِ الهواشم من ولد أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن بن الْحسن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله أبي الْكَرم بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب كَانَت بَين هَؤُلَاءِ الهواشم وَبني السليمانيين فتن مُتَّصِلَة وَلما مَاتَ شكر ذهبت الرِّئَاسَة من بني سُلَيْمَان لِأَن شكرا آخِرهم وَلم يعقب وَتقدم فيهم طراد بن أَحْمد لم يكن من بَيت الْإِمَارَة وَإِنَّمَا كَانُوا يؤملونه لإقدامه ورأيه وشجاعته وَكَانَ رَئِيس الهواشم يَوْمئِذٍ أَبُو هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْمَذْكُور وَكَانَ قد سَاد فِي الهواشم وَعظم ذكره فَاقْتَتلُوا سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بعد موت شكر فَهزمَ الهواشم بني سُلَيْمَان وطردهم عَن الْحجاز فَسَارُوا إِلَى الْيمن وَكَانَ لَهُم بِهِ ملك فاستقل بإمارة مَكَّة الْأَمِير أَبُو هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن الْمَذْكُور وخطب للمستنصر العبيدي ثمَّ ابْتَدَأَ الْحَاج من الْعرَاق سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بِنَظَر السُّلْطَان ألب أرسلان بن دَاوُد ملك السلجوقية حِين استولى على بَغْدَاد والخلافة طلب مِنْهُ الْقَائِم العباسي ذَلِك فبذل المَال وَأخذ رهائن من الْعَرَب وَحج بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِم نور الْهدى الزيني نقيب الطالبيين ثمَّ جاور فِي السّنة الَّتِي بعْدهَا واستمال الْأَمِير أَبَا هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر الْمَذْكُور عَن طَاعَة العبيديين فَخَطب لبني الْعَبَّاس سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وانقطعت ميرة مصر عَن مَكَّة فعذله أَهله عَمَّا فعل فَرد الْخطْبَة للعبيديين ثمَّ خاطبه الْقَائِم العباسي وعاتبه وبذل لَهُ الْأَمْوَال فَخَطب لَهُ سنة ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بِالْمَوْسِمِ فَقَط وَكتب إِلَى الْمُسْتَنْصر العبيدي معتذرا(4/214)
ثمَّ بعث الْقَائِم العباسي أَبَا الْغَنَائِم الزيني نقيب الْمَذْكُورين سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة أَمِيرا على الركب الْعِرَاقِيّ وَمَعَهُ عَسْكَر ضخم لأمير مَكَّة من عِنْد ألب أرسلان وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار وتوقيع بِعشْرَة آلَاف دِينَار واجتمعوا بِالْمَوْسِمِ وخطب الْأَمِير أَبُو هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر للقائم العباسي فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا أهل بَيته إِلَى الرَّأْي الْمُصِيب وَعوض بنيه لبسة الشَّبَاب بعد لبسة المشيب وأمال قُلُوبنَا إِلَى الطَّاعَة ومتابعة إِمَام الْجَمَاعَة فانحرف الْمُسْتَنْصر بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم العبيدي صَاحب مصر الْمَذْكُور عَن الهواشم وَمَال إِلَى السليمانيين وَكتب إِلَى عَليّ بن مُحَمَّد الصليحي صَاحب دعوتهم بِالْيمن أَن يعينهم على استرجاع ملكهم وينهض مَعَهم إِلَى مَكَّة فَنَهَضَ وانْتهى إِلَى المهجم وَكَانَ سعيد بن نجاح الْأَحول موتور بني الصليحي قد جَاءَ من الْهِنْد وَدخل صنعاء فثار بهَا وَاتبع الصليحي وَهُوَ فِي سبعين رجلا والصليحى فِي خَمْسَة آلَاف قبيته بالمهجم وَقَتله كَذَا فِي تَارِيخ الْعَلامَة ابْن خلدون وَرَأَيْت فِي تَارِيخ الْعَلامَة مُحَمَّد بن جَار الله بعد أَن قَالَ ثمَّ ولي بعد شكر بَنو أبي الطّيب وهم الَّذين يُقَال لَهُم السليمانيون من جمَاعَة شكر وَلم يذكر الفاسي عدتهمْ قَالَ ثمَّ ولي عَليّ بن مُحَمَّد الصليحي صَاحب الْيمن وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فِي شهر الْحجَّة وَأظْهر الْعدْل بهَا وَاسْتعْمل الْجَمِيل مَعَ أَهلهَا وَكثر الْأَمْن وَطَابَتْ قُلُوب النَّاس ورخصت الأسعار فِي أَيَّامه وَكَثُرت لَهُ الْأَدْعِيَة وكسا الْبَيْت ثوبا أَبيض ورد للبيت الْحلِيّ الَّذِي أَخذه بَنو أبي الطّيب لما ملكوا بعد شكر وَأقَام بِمَكَّة إِلَى ربيع الأول سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ ولى عَنهُ نَائِبا أَبَا هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر هَذَا وَسبب ذَلِك أَن الصليحي لما دخل مَكَّة كَانَ الْأَشْرَاف بَنو أبي الطّيب قد أبعدوا عَن مَكَّة وجمعوا عَلَيْهِ ثمَّ راسلوه بِأَن يخرج من مَكَّة وَيُؤمر بهَا من يخْتَار مِنْهُم وَكَانَ قد وَقع فِي عسكره الوباء فَمَاتَ مِنْهُم سَبْعمِائة رجل وَلم يبْق أَلا نفر يسير فَاخْتَارَ أَبَا هَاشم مُحَمَّد بن جفعر هَذَا وَهُوَ أول الهواشم وأقامه نَائِبا عَنهُ وَأمره على مَكَّة واستخدم لَهُ عسكراً وَأَعْطَاهُ(4/215)
مَالا وسلاحاً وَخمسين فرسا ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن فجَاء الْأَشْرَاف بَنو سُلَيْمَان وَمَعَهُمْ حَمْزَة بن أبي وهاص وحاربوا مُحَمَّد بن جَعْفَر فحاربهم وَلم يكن لَهُ بهم طَاقَة فَخرج هَارِبا من مَكَّة فتبعوه فكر رَاجعا وَضرب وَاحِدًا مِنْهُم ضَرْبَة قطع بهَا درعه وَجَسَده وفرسه وَوصل إِلَى الأَرْض فَرَجَعُوا عَنهُ وَكَانَ تَحْتَهُ فرس يُقَال لَهَا دَنَانِير لَا تكل وَلَا تمل وَقيل إِنَّه كَانَ صهر شكر على ابْنَته ثمَّ عَاد مُحَمَّد بن جَعْفَر إِلَى مَكَّة بعد خُرُوجه مِنْهَا فَهَذَا الَّذِي ذكره ابْن جَار الله مُخَالف لما ذكره الْعَلامَة ابْن خلدون مُخَالفَة ظَاهِرَة أما أَولا فَفِي تَارِيخه فَإِنَّهُ أَي ابْن جَار الله ذكر أَن إتْيَان الصليحي إِلَى مَكَّة وإقامته أَبَا هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر نَائِبا عَنهُ كَانَ فِي سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَأَنه دَخلهَا وَأقَام أَبَا هَاشم مُحَمَّد بن جَعْفَر أول أُمَرَاء الهواشم وَالَّذِي ذكره ابْن خلدون إِن الصليحي أمره الْمُسْتَنْصر العبيدي لما مَال عَن الهواشم إِلَى السيلمانيين بِسَبَب عدولهم بِالْخطْبَةِ عَنهُ إِلَى العباسيين أَن ينْهض مَعَ السليمانيين ويعينهم على استرجاع ملكهم وأرخ ذَلِك الْأَمر لَهُ بِسنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فَهَذَا تخَالف فِي التَّارِيخ وَأما ثَانِيًا فمخالفته من جِهَة الْمَعْنى إِذْ كَيفَ يُؤمر بِإِعَادَة السليمانيين إِلَى ملكهم وَإِزَالَة الهواشم عَن مَكَّة فيفر السليمانيون عَن مَكَّة ويرسلون لَة أقِم من تختاره منا فيقيم عَلَيْهِم أَبَا هَاشم وَهُوَ من الهواشم المغضوب عَلَيْهِم من جِهَة مرسله الْمُسْتَنْصر العبيدي وَكَيف يفر السليمانيون عَنهُ وَهُوَ آتٍ لنصرتهم وإرجاع دولتهم إِلَيْهِم من يَد الهواشم فَمَا علمت وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا فِي ذَلِك وَالله أعلم وَأَيْضًا لم يذكر ابْن خلدون أَن الصليحي دخل مَكَّة بل إِنَّه لما انْتهى إِلَى المهجم اسْم محمل هجم عَلَيْهِ سعيد بن نجاح الْأَحول فَقتله وَإِذ قد انجر الْكَلَام إِلَى ذكر الصليحي فلنذكر طرفا من خَبره ومبدأ مُنْتَهى أمره قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ الصليحي هُوَ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ الصليحي كَانَ أَبوهُ مُحَمَّد قَاضِيا بِالْيمن وَنَشَأ لَهُ هَذَا الْوَلَد فتوسم فِيهِ بعض من عِنْده علم من الْمَلَاحِم وَقَالَ لَهُ أَنْت تلِي ملك الْيمن فاشتغل على هَذَا وحوى علوماً كَثِيرَة(4/216)
وَحج بِالنَّاسِ دَلِيلا سِنِين مُتعَدِّدَة ثمَّ توَافق مَعَ جمَاعَة من أَوْلَاد رُؤَسَاء الْيمن نَحْو السِّتين وَخَرجُوا إِلَى رَأس جبل منيع بِالْيمن فَحَاصَرَهُمْ الْجند فِي عشْرين ألف مقَاتل فَلم يقدروا عَلَيْهِم ثمَّ استفحل أمره وَبنى بِرَأْس ذَلِك الْجَبَل حصناً منيعاً ثمَّ تدلى فَأخذ الْبِلَاد بَلَدا بَلَدا حَتَّى استحوذ على الْيمن كلهَا وخطب بِنَفسِهِ ودعا للخليفة الْمُسْتَنْصر العبيدي وَاسْتمرّ كَذَلِك نَحوا من ثَلَاثِينَ سنة فَلَمَّا كَانَت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة كَذَا قَالَه ابْن السُّبْكِيّ وَقَالَ ابْن خلدون سنة اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة خرج فِي طَائِفَة من الْجَيْش يُرِيد الْحَج فَلَمَّا كَانَ بالمهجم اعْتَرَضَهُ سعيد بن نجاح الْأَحْوَال صَاحب التهائم وَكَانَ الصليحي قد وتره فِي أول دولته فاعترضه سعيد هَذَا وَأَخُوهُ حناش فِي سبعين رجلا مَعَ كل رجل مِنْهُم جَرِيدَة فِي رَأسهَا مِسْمَار فَنَذر بهم الصليحي فَأرْسل سَرِيَّة فِي ألفي مقَاتل ليردوهم فَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيق فخلص إِلَيْهِ سعيد وَأَخُوهُ فِي أصحابهما وَهُوَ على غرَّة فوصلوا إِلَيْهِ وقتلوه بِسَيْفِهِ وَقتلُوا جَمِيع أَقَاربه وَكَانُوا نَحْو مائَة وَسِتِّينَ ومالوا على بَقِيَّة الْعَسْكَر فَقتلُوا وأسروا وَرَجَعُوا إِلَى الْيمن فملكوه مَعَ بِلَاد تهَامَة وَهَذَا أَمر لم يتَّفق مثله أَلا نَادرا وَكَانَ مَقْتَله عِنْد قَرْيَة يُقَال لَهَا الرهيم وبئر أم معبد وَلَيْسَت بِأم معبد السعدية قلت وَمن شعر الصليحي بيتان فِي حفظي هما // (من الْكَامِل) //
(أَنْكَحْتُ بِيضَ الِهْندِ سُمْر رِقَابِهمْ ... فَرُءُسُهُمْ دُونَ النِّثَارِ نِثَارُ)
(وكَذَا العُلاَ لَا يُسْتَبَاح نِكَاحُهَا ... إِلاَّ بِحَيْثُ تُطَلَّقُ الأَعْمَارُ)
وَلما رَجَعَ سعيد بن نجاح بِرَأْس الصليحي مَنْصُوبًا فَوق المظلة الَّتِي كَانَت يظلل بهَا فَوْقه إِذا ركب فِي جنده قَالَ فِي ذَلِك أَبُو بكر العثماني // (من الْكَامِل) //
(بَكَرَتْ مِظَلَّتُهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَرُحْ ... إلاَّ عَلَى الملكِ الأَجَلِّ سَعِيدِهَا)
(مَا كَانَ أَقْبَحَ وَجْهَهُ فِي ظِلِّها ... مَا كَانَ أحسَنَ رأْسَهُ فِي عُودِهَا)
رَجَعَ وَلما عَاد مُحَمَّد بن جَعْفَر إِلَى مَكَّة بعد خُرُوجه مِنْهَا جمع أنجاداً من الأتراك فزحف بهم إِلَى الْمَدِينَة فَأخْرج مِنْهَا بني الْحُسَيْن وَجمع بَين الْحَرَمَيْنِ ثمَّ مَاتَ الْقَائِم العباسي وَانْقطع مَا كَانَ يصل إِلَيْهِ مِنْهُ فَقطع مُحَمَّد بن جَعْفَر الْخطْبَة للعباسيين ثمَّ جَاءَ الزَّيْنَبِي من قَابل بالأموال فَأَعَادَهَا(4/217)
ثمَّ بعث الْمُقْتَدِي سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة منبراً إِلَى مَكَّة استجيد خشبه وَنقش عَلَيْهِ بِالذَّهَب اسْمه وَبعث على الْحَاج ختلغ التركي وَهُوَ أول تركي تَأمر على الْحَج وَكَانَ والياً على الْكُوفَة وقهر الْعَرَب من بني خفاجة فَبَعثه المقتدى أَمِيرا على الْحَاج فَوَقَعت الْفِتْنَة بَين الْعَسْكَر الْعِرَاقِيّ والمصري فَكسر الْمِنْبَر وأحرق ثمَّ عاود الْفِتْنَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَقطعت الْخطْبَة عَن الْمُسْتَنْصر العبيدي وأعيدت للمقتدي العباسي واتصلت إِمَارَة ختلغ على الْحَاج وَبعده خمارتكين إِلَى أَن مَاتَ السُّلْطَان ملك شاه ووزيره نظام الْملك فَانْقَطَعت الْخطْبَة للعباسيين وَبَطل الْحَاج من الْعرَاق لاخْتِلَاف مُلُوك السلجوقية وتغلب الْعَرَب وَمَات الْمُقْتَدِي العباسي خَليفَة بَغْدَاد وبويع ابْنه المستظهر وَمَات الْمُسْتَنْصر العبيدي خَليفَة مصر وبويع ابْنه المستعلي وخطب لَهُ بِمَكَّة وَاسْتمرّ هَذَا مُحَمَّد بن جَعْفَر مُتَوَلِّيًا على مَكَّة إِلَى أَن مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ أول من أعَاد الْخطْبَة العباسية بِمَكَّة بعد أَن قطعت نَحْو مائتى سنة بِسَبَب اسْتِيلَاء العبيديين على مصر والحرمين وَذكر ابْن خلدون أَن مُدَّة إمارته على مَكَّة ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة أَلا أَنه خرج مِنْهَا هَارِبا من التركمان الَّذين استولوا عَلَيْهَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة قَالَ ابْن الْأَثِير قَالَ الْعَلامَة الفاسي وَهُوَ أول من أعَاد الْخطْبَة العباسية ونال بِسَبَب ذَلِك مَالا عَظِيما من السُّلْطَان ألب أرسلان السلجوقي فَإِنَّهُ خطب لَهُ بعد الْقَائِم العباسي ثمَّ كَانَ يخْطب لِابْنِ ابْنه عبد الله الملقب الْمُقْتَدِي العباسي حينا وحيناً للمستنصر العبيدي صَاحب مصر يقدم فِي ذَلِك من تكون صلته أعظم وَلَعَلَّ ذَلِك بِسَبَب إرْسَال التركمان إِلَيْهِ ثمَّ ولى بعده ابْنه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن أبي هَاشم فَكثر اضطرابه ومهد بَنو زيد أَصْحَاب الْحلَّة طَرِيق الْحَاج من الْعرَاق فاتصل حجهم وَحج سنة ثِنْتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة نظر الْخَادِم من قبل المسترشد العباسي بركب الْعرَاق وأوصل الْخلْع وَالْأَمْوَال إِلَى مَكَّة وَأمن الِاضْطِرَاب الَّذِي وَقع فِي ولَايَته اسْتِيلَاء أصبهبذ بن سارتكين على مَكَّة فِي أَوَاخِر سنة سبع وَثَمَانِينَ فهرب مِنْهَا قَاسم بن مُحَمَّد الْمَذْكُور وَأقَام أصبهبذ بهَا إِلَى شَوَّال فَجمع قَاسم عسكراً وكبسوا(4/218)
أصبهبذ فَانْهَزَمَ إِلَى الشَّام وَدخل قَاسم مَكَّة ودامت ولَايَته عَلَيْهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَمَان عشرَة وَخَمْسمِائة وَمن شعر قَاسم يصف قومه قَوْله // (من الْكَامِل) //
(قَوْمِى إِذَا خَاضُوا العَجَاجَ حَسِبْتَهمْ ... لَيْلاً وخِلْتَ وُجُوهَهُمْ أَقْمَارَا)
(لَا يَبْخَلُونَ بِزَادِهم عَنْ جَارِهِمْ ... عَدَلَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمُ أَوْ جَارَا)
(وإِذَا الصَّرِيخُ دَعَاهُمُ لِمُلِمَّةٍ ... بَذَلُوا النُّفُوسَ وفَارقُوا الأَعْمَارَا)
(وإِذَا زِنَادُ الَحْربِ أَذْكَتْ نَارَهَا ... قَدَحُوا بِأَطْرَافِ الأَسِنَّةِ نَارَا)
وَكَانَت مدَّته ثَلَاثِينَ سنة قَالَ ابْن خلدون ثمَّ ولى بعده ابْنه فليتة وَقيل أَبُو فليتة فَافْتتحَ بِالْخطْبَةِ العباسية وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ وَوصل نظر الْخَادِم أَمِيرا إِلَى مَكَّة على الْحَاج وَمَعَهُ الْأَمْوَال وَالْخلْع ثمَّ اسْتمرّ فليتة إِلَى أَن مَاتَ سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَت مدَّته عشر سِنِين ثمَّ ولى بعده ابْنه هَاشم بن فليتة وَاسْتمرّ مُتَوَلِّيًا إِلَى أَن مَاتَ سنة تسع وَأَرْبَعين وَقيل إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ اثْنَان مُدَّة ولَايَته ثمَّ تولى بعده ابْنه قَاسم بن هَاشم بن فليتة وَالْخطْبَة للعباسيين وإمارة حَاج الْعرَاق لنظر الْخَادِم ثمَّ كَانَت فتْنَة المسترشد العباسي مَعَ السُّلْطَان مَسْعُود السلجوقي ومقتل المسترشد وتعطل ركب الْعرَاق ثمَّ حج نظر فِي السّنة بعْدهَا ثمَّ انْقَطع الركب الْعِرَاقِيّ للفتن والغلاء ثمَّ حج سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة نظر الْخَادِم وَمَات فِي طَرِيقه فولى مَكَانَهُ قيماز وَاعْتَرضهُ رعب من الْأَعْرَاب فنهب الركب واتصل حج قيماز ثمَّ صنع المقتفي الْخَلِيفَة العباسي بَابا للبيت مصفحاً أوصله نظر الْخَادِم إِلَى مَكَّة سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة وبويع المستنجد الْخَلِيفَة العباسي فَخَطب لَهُ قَاسم بن هَاشم الْأَمِير الْمَذْكُور كَمَا كَانَ يخْطب لِأَبِيهِ المقتفي ثمَّ قتل قَاسم سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وبويع المستنجد قتلته الحشيشية يُقَال كَانَ ذَلِك بِإِشَارَة صَاحب مصر هُوَ يَوْمئِذٍ العاضد العبيدي والمتغلب عَلَيْهِ(4/219)
ثمَّ ولى بعده عَمه عِيسَى بن فليتة وَحج الْعرَاق مُتَّصِل وَتُوفِّي المستنجد الْخَلِيفَة العباسي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَبعث المتسضىء بن المستنجد بركب الْعرَاق طاشتكين التركي وَانْقَضَت دولة العبيديين ووليها صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَاسْتولى على مَكَّة واليمن وخطب لَهُ بالحرمين ثمَّ مَاتَ المستضيء العباسي سنة خمس وَسبعين وبويع ابْنه النَّاصِر العباسي وخطب لَهُ بالحرمين ودامت ولَايَة عِيسَى بن فليتة على مَكَّة نصف يَوْم لِأَنَّهُ دخل مَكَّة فِي يَوْم عَاشُورَاء سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَجرى بَينه وَبَين عَسْكَر أَخِيه عِيسَى فتْنَة إِلَى الزَّوَال ثمَّ خرج ثمَّ أصلحا بعد ذَلِك ثمَّ ولى بعده ابْنه دَاوُد بن عِيسَى وَاسْتمرّ إِلَى اللَّيْلَة النّصْف من رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين فعزل وَسبب عَزله أَن أم النَّاصِر الْخَلِيفَة العباسى حجت فِي زَمَنه ثمَّ أنهت إِلَى ابْنهَا النَّاصِر عَن دَاوُد مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ من أَحْوَاله فَعَزله لذَلِك ثمَّ ولى أَخُوهُ مكثر بن عِيسَى وَاسْتمرّ إِلَى موسم هَذِه السّنة ثمَّ عزل وَجرى بَينه وَبَين أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ طاشتكين حَرْب شَدِيد فِي ذَلِك الْمَوْسِم كَانَ الظفر فِيهِ لطاشتكين وَذَلِكَ أَنه وصل الْخَبَر إِلَى مكثر أَن صُحْبَة الْحَاج الْعِرَاقِيّ عسكراً كثيرا وسلاحاً وعدداً وَأَن مَعَهم الْأَمِير قَاسم بن مهنا فَجمع مكثر الشرفاء وَالْعرب وَلم يحجّ من أهل مَكَّة أَلا الْقَلِيل وَلم يوف أَكثر الْحَاج الْمَنَاسِك وَلم يبيتوا بِمُزْدَلِفَة وَلم ينزلُوا بمنى وَلم يرموا وَإِنَّمَا رمى بَعضهم وَهُوَ سَائِر وَنزل الْحَاج يَوْم النَّحْر الأبطح فَخرج إِلَيْهِم نَاس من أهل مَكَّة فحاربوهم فِي بَقِيَّة يَوْم النَّحْر وَالْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث فَاشْتَدَّ الْقِتَال على أهل مَكَّة وَقتل من الْفَرِيقَيْنِ جمَاعَة ثمَّ هاجموا مَكَّة على مكثر فَصَعدَ إِلَى الْحصن الَّذِي بناه بأبى قبيس فَصَعِدُوا وَرَاءه فَتَركه وَسَار عَن مَكَّة فَدَخَلُوهَا وَأمر أَمِير الْحَاج بهدم الْحصن وَنهب غَالب بيُوت مَكَّة وأحرق دوراً كَثِيرَة وَمن عَجِيب مَا جرى أَن إنْسَانا زراقاً ضرب دَارا بقارورة نفط فأحرقها وَكَانَت لأيتام فَاحْتَرَقَ مَا فِيهَا ثمَّ أَخذ قَارُورَة أُخْرَى ليضْرب بهَا مَكَانا اَخر فَأَتَاهُ حجر فَأصَاب القارورة فَكَسرهَا فَاحْتَرَقَ هُوَ بهَا وَبَقِي ثَلَاثَة أَيَّام يعذب بالحريق ثمَّ مَاتَ(4/220)
وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة الْمَذْكُورَة وتسلمت مَكَّة إِلَى الْأَمِير قَاسم بن مهنا الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة وَكَانَ وصل صُحْبَة الْحَاج الْعِرَاقِيّ كَمَا سبق خَبره إِلَى مكثر لِأَنَّهُ سَافر إِلَى الْعرَاق فوليها الْأَمِير قَاسم بن مهنا الْمَذْكُور بعد انهزام مكثر فَأَقَامَ مُتَوَلِّيًا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ رأى من نَفسه الْعَجز عَن الْقيام بإمرة مَكَّة فاستعفى فَأَعَادَ الْأَمِير طاشتكين أَمِير الْحَاج الْمَذْكُور دَاوُد بن عِيسَى إِلَى إِمَارَة مَكَّة وَشرط عَلَيْهِ شُرُوطًا فِي ترك المكوس وَالْعدْل بَين الرعايا وَلم تعلم ولَايَة دَاوُد هَذِه إِلَى مَتى استمرت غير أَنه يتداول هُوَ وَأَخُوهُ مكثر إمرة مَكَّة ثمَّ انْفَرد بهَا مكثر عشر سنوات مُتَوَالِيَات آخرهَا سنة 597 سبع بِتَقْدِيم السِّين وَتِسْعين بِتَقْدِيم التَّاء وَخَمْسمِائة غير أَن فِي ولَايَته أَو فِي ولَايَة أَخِيه دَاوُد على الشَّك كَانَ مِمَّن ولي مَكَّة سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب أَخُو السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن يُوسُف بن أَيُّوب وَذَلِكَ سنة 581 إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة لِأَنَّهُ قدم مَكَّة فِي هَذِه السّنة وَمنع الْأَذَان بحي على خير الْعَمَل وَقتل جمَاعَة من العبيديين المفسدين وَضرب السِّكَّة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير باسم أَخِيه السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن يُوسُف بن أَيُّوب وفر مِنْهُ أَمِير مَكَّة مكثر أَو أَخُوهُ دَاوُد على الشَّك قلت ذكر الْعَلامَة ابْن جُبَير فِي رحلته أَنه رأى سيف الْإِسْلَام طغتكين الْمَذْكُور دَاخِلا إِلَى الْحرم الشريف قَالَ وشاهدته وَعَن يَمِينه مكثر وَعَن يسَاره قَاضِي الشَّرْع الشريف وَرَأَيْت مكثراً لابساً ثوبا أَبيض وعمامة من صوف أَبيض فَطَافَ بِالْبَيْتِ والريس يَدْعُو لَهُ إِذا أقبل من الرُّكْن الْيَمَانِيّ حَتَّى يُجَاوز مصلى جِبْرِيل موليا ثمَّ يسكت ثمَّ يَدْعُو إِذا أقبل من الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهَكَذَا فِي كل شوط فَلَمَّا فرغ من صلَاته فرش لَهُ خلف مقَام الْخَلِيل شقة من كتَّان فصلى عَلَيْهَا سنة الطّواف فاتضح بِمَا ذكره ابْن جُبَير أَن الفار هُوَ دَاوُد لَا مكثر فَانْتفى الشَّك الَّذِي ذكره ابْن جَار فِي تَارِيخه وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة أسقط السُّلْطَان صَلَاح الدّين المكس عَن الْحجَّاج إِلَى مَكَّة فِي الْبَحْر على طَرِيق عيذاب لِأَنَّهُ كَانَ الرَّسْم بِمَكَّة أَن يُؤْخَذ من حجاج الْمغرب على عدد الرُّءُوس مَا ينْسب إِلَى الضرائب والمكوس وَمن دخل مِنْهُم وَلم يفعل بِهِ ذَلِك حبس حَتَّى يفوتهُ الْوُقُوف بِعَرَفَة وَلَو كَانَ فَقِيرا لَا يملك(4/221)
شَيْئا فَرَأى السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِسْقَاط ذَلِك وَأَن يعرض عَنهُ أَمِير مَكَّة فقرر مَعَه أَنه يحمل إِلَيْهِ كل عَام ألفي دِينَار وَثَمَانِية آلَاف أردب قَمح إِلَى سَاحل جدة ووقف على ذَلِك أوقافاً وخلدها فانبسطت لذَلِك النُّفُوس وَزَاد السرُور وَزَالَ الْبُؤْس وَصَارَ يُرْسل الإنعام للمجاورين بالحرمين من الْعلمَاء والفقراء ومدحه الْعَلامَة ابْن جُبَير بقصيدة أَولهَا // (من المتقارب) //
(رَفَعْتَ مَغَارِمَ مَكْسِ الحِجَازِ ... بإنْعَامِكَ الشَّامِلِ الكَافِلِ)
ثمَّ ذكر ابْن جُبَير شَيْئا من أَخْبَار هَذَا المكس فَقَالَ إِنَّه كَانَ يُؤْخَذ من كل إِنْسَان سَبْعَة دَنَانِير مصرية وَنصف فَإِن عجز عَن ذَلِك عُوقِبَ بأنواع الْعَذَاب الْأَلِيم من تَعْلِيقه بالخصيتين وَغير ذَلِك وَكَانَت هَذِه البلية فِي مُدَّة دولة العبيديين المتخلفين بِمصْر جعلوها مَعْلُوما لأمير مَكَّة فأزالها الله تَعَالَى بعد أَن أزالهم على يَد السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَعوض أَمِير مَكَّة مَا تقدم ذكره وَضعف أَمر الهواشم وَكَانَ مكثر هُوَ آخِرهم وَكَانَ أَبُو عَزِيز قَتَادَة يناسبهم من جِهَة النِّسَاء فورث أَمرهم وَملك مَكَّة من أَيْديهم وطردهم عَنْهَا بِالسَّيْفِ وَأما مَا يسمع على الأفواه من أَن الشريف قَتَادَة إِنَّمَا دخل مَكَّة سَابِع عشر رَجَب فِي عمْرَة ابْن الزبير الَّتِي يخرج فِيهَا كل أهل مَكَّة رفيع ووضيع فَلم أطلع على أصل فِي ذَلِك وانقرضت دولتهم والبقاء لله وَحده لَا شريك لَهُ فِي ملكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
(ذكر بني قَتَادَة أُمَرَاء مَكَّة بعد الهواشم إِلَى وقتنا هَذَا)
كَانَ من ولد مُوسَى الجون الَّذين مر ذكرهم فِي بني حسن عبد الله أَبُو الْكَرم وَكَانَ لَهُ على مَا نقل نسابتهم ثَلَاثَة من الْوَلَد سُلَيْمَان وَزيد وَأحمد وَمِنْه تشعب وَلَده فَأَما زيد فولده الْيَوْم بالصفراء بنهر الحسنية وَأما أَحْمد فولده بالدهناء وَأما سُلَيْمَان فَكَانَ وَلَده مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن مُوسَى بن عِيسَى بن سُلَيْمَان بن عبد الله أبي الْكَرم وَكَانَ لمطاعن إِدْرِيس وثعلب فالثعلبية شعب بالحجار وَكَانَ لإدريس ابْنَانِ قَتَادَة النَّابِغَة وصرخة(4/222)
فَأَما صرخة فولده بينبع يعْرفُونَ بالشكرة وَأما قَتَادَة النَّابِغَة فَكَانَ يكنى أَبَا عَزِيز وَكَانَ من وَلَده عَليّ الْأَكْبَر وشقيقه حسن فَمن ولد حسن إِدْرِيس وَأحمد وَمُحَمّد وجماز وإمارة يَنْبع فِي أَعْقَابهم حَتَّى الْآن فيرجعون إِلَى إِدْرِيس بن حسن بن إِدْرِيس وَأما أَبُو عَزِيز قَتَادَة فَمن وَلَده بَنو أبي نمي أُمَرَاء مَكَّة لهَذَا الْعَهْد وَكَانَ بَنو الْحسن بن الْحسن كلهم متوطنين بنهر العلقمية من وَادي يَنْبع لعهد إِمَارَة الهواشم وَكَانُوا ظواعن بادية وَلما نَشأ فيهم قَتَادَة هَذَا جمع قومه ذَوي مطاعن وأركبهم الْخُيُول واستبد بإمارتهم وَكَانَ بوادي يَنْبع بَنو حراب من ولد عبد الله بن الْحسن بن الْحسن وَكَانَ بهَا بَنو عِيسَى بن سُلَيْمَان بن مُوسَى الجون فحاربهم بَنو مطاعن هَؤُلَاءِ وأميرهم أَبُو عَزِيز قَتَادَة فَأخْرجهُمْ وَملك يَنْبع والصفراء واستكثر من الْجند والمماليك ثمَّ استألف بني مُحَمَّد وَبني إِبْرَاهِيم وَسَار إِلَى مَكَّة فانتزعها من أيدى الهواشم وخطب للناصر العباسي كَذَا فِي تَارِيخ الْعَلامَة ابْن خلدون فوليها الشريف قَتَادَة وَهُوَ أول من وَليهَا من هَذَا الْفَخْذ الشريف قَالَ فِي الْوَسِيلَة وَسبب طمعه فِي ملك مَكَّة مَا بلغه من انهماك ولاتها الهواشم على اللَّهْو وتبسطهم فِي الظُّلم وإعراضهم عَن صونها مِمَّن يريدها بِسوء اغْتِرَارًا مِنْهُم بِمَا هم فِيهِ من الْعِزّ وَالسيف لمن عارضهم فِي مُرَادهم وَإِن كَانَ ظلما فتوحش عَلَيْهِم بذلك خواطر جمَاعَة من قوادهم وَلما عرف قَتَادَة ذَلِك مِنْهُم استمالهم إِلَيْهِ وسألهم المساعدة على مَا يرومه عَن الِاسْتِيلَاء على مَكَّة وَبَعثه على الْمسير إِلَيْهَا أَن بعض النَّاس فزع إِلَيْهِ مستغيثاً بِهِ فِي ظلامة ظلمها فوعده بالنصر وَتوجه إِلَى مَكَّة فِي جمَاعَة من قومه فَمَا شعر أهل مَكَّة أَلا وَهُوَ مَعَهم بهَا وولاتهم على مَا هم فِيهِ من اللَّهْو والانهماك فَلم تكن لَهُم بمقاومته طَاقَة فملكها(4/223)
وَقيل إِنَّه لم يَأْتِ إِلَيْهَا بِنَفسِهِ فِي ابْتِدَاء ملكه وَإِنَّمَا أرسل إِلَيْهَا ابْنه حَنْظَلَة فملكها لَهُ وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بِتَقْدِيم التَّاء فِي اللفظتين وَخرج مِنْهَا مكثر بن عِيسَى إِلَى وَادي نَخْلَة وَفِي سنة سِتّمائَة مَاتَ مكثر بنخلة وَجَاء ولد مُحَمَّد بن مكثر وَقَاتل حَنْظَلَة بن قَتَادَة عِنْد المتكا وَلم يحصل لمُحَمد ظفر وتمت الْبِلَاد لِقَتَادَة ذكر ذَلِك ابْن مَحْفُوظ وَابْن فَهد فِي إتحاف الورى بأخبار أم الْقرى قَالَ صَاحب عُمْدَة الطَّالِب فِي مَنَاقِب آل أبي طَالب وَهُوَ الْعَلامَة السَّيِّد النسيب والشريف الحسيب أَبُو جَعْفَر شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن مهنا الدَّاودِيّ الموسوي كَانَ قَتَادَة جباراً فتاكاً فِيهِ قسوة وتشدد وحزم وَكَانَ الْخَلِيفَة فِي زَمَانه النَّاصِر العباسي فاستدعى النَّاصِر الشريف قَتَادَة إِلَى بَغْدَاد ووعده ومناه فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَسَار إِلَى أَن وصل إِلَى الْعرَاق ثمَّ إِلَى المشهد الغروي فَخرج أهل بَغْدَاد لتلقيه وَكَانَ مِمَّن خرج فِي غمار النَّاس رجل درويش مَعَه أَسد مسلسل فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ الشريف قَتَادَة تطير وَقَالَ مالى ولبلد تذل فِيهَا الْأسود فَرجع من فوره إِلَى الْحجاز وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة العباسي بقوله // (من الطَّوِيل) //
(بِلاَدِى وَلَوْ جَارَتْ عليَّ مُرِيفَةٌ ... وَلَوْ أَنَّنِى أَعْرَى بِهَا وأَجُوعُ)
(وَلِى كَفُّ ضِرْغَام إِذَا مَا بَسَطْتُهَا ... بِهَا أَشْتَرِى يَوْمَ الوَغَى وأَبِيعُ)
(مُعَوّدَة لَثْمَ المُلُوكِ لِطُهْرِهَا ... وَفِى بَطْنِها للمُجْدِبِينَ رَبِيعُ)
(أَأَتْرُكُهَا تَحْتَ الرِّهَانِ وأَبْتَغِي ... بِهَا بَدَلاً إِنِّى إِذَنْ لَرَقِيعُ)
(ومَا أَنَا إِلاَّ المِسكُ فِي غَيْرِ أَرْضِكُمْ ... أَضُوعُ وَأَمَّا عِنْدَكُمْ فَأَضِيعُ)
فَلَمَّا وقف النَّاصِر العباسي على هَذِه الأبيات استشاط غَضبا وامتلأ حنقاً وحرباً وَكتب إِلَى الشريف قَتَادَة كتابا يَقُول فِيهِ أما بعد فَإِذا نزع الشتَاء جلبابه وَلبس الرّبيع أثوابه قاتلناكم بِجُنُود لَا قبل لكم بهَا ولنخرجنكم مِنْهَا أَذِلَّة وَأَنْتُم صاغرون فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب الشريف قَتَادَة ارتاع لذَلِك أَشد ارتياع وَأرْسل إِلَى بني عَمه بني الْحُسَيْن بِالْمَدِينَةِ يستنجدهم ويسألهم المعونة وَصدر الْكتاب بقوله // (من الطَّوِيل) //
(بَنِى عَمِّنَا مِنْ آلِ موسَى وَجَعْفَرٍ ... وآلِ حُسَيْنٍ كَيْفَ صَبْرُكُمُ عَنَّا)(4/224)
(بَنِى عَمِّنَا إِنَّا كَأَفْنَاِن دوْحَةٍ ... فَلاَ تَتْركُونَا يَتَّخِذْنَا الفَنَا فَنَّا)
(إِذَا مَا أَخٌ خَلَّى أَخَاهُ لآكِلٍ ... بَدَا بِأَخِيهِ الأَكْل ثُمَّ بِذَا ثَنَّى)
فَأَتَتْهُ مِنْهُم رجال النجدة ذَوُو الْعدَد وَالْعدة فَلَمَّا أَقبلت تِلْكَ الكتيبة الناصرية كسرهَا وبدد شملها وقهرها فَلَمَّا بلغ ذَلِك النَّاصِر العباسي والى عَلَيْهِ الإنعامات الْكَامِلَة وأقطعه الإقطاعات الهائلة وَذكر ابْن الْأَثِير فِي سنة إِحْدَى وسِتمِائَة كَانَ الْحَرْب بَين قَتَادَة الشريف أَمِير مَكَّة وَبَين الْأَمِير سَالم بن قَاسم الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا جمع كثير وَفِي ذَلِك يَقُول الشريف قَتَادَة // (من الطَّوِيل) //
(مَصَارِعَ آلِ الُمصْطفَى عُدْتِ مثلَ مَا ... بَدَأْتِ وَلَكِنْ صِرْتِ بَيْنَ الأَقَاِربِ)
فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا وَكَانَ الْحَرْب بِذِي الحليفة وَقد كَانَ قَتَادَة قصد الْمَدِينَة ليحصرها ويأخذها فحصرها مُدَّة مَعْلُومَة فَلَقِيَهُ سَالم بعد أَن قصد الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَصلى عِنْدهَا ودعا وَسَار إِلَى قتال قَتَادَة فَانْهَزَمَ قَتَادَة وَتَبعهُ سَالم إِلَى مَكَّة وحصرها وَأرْسل إِلَى قَتَادَة يَقُول بعد أَن حصرها الْمدَّة الْمَعْلُومَة حصر بحصر يَا ابْن عَم فَأرْسل قَتَادَة إِلَى من مَعَ سَالم فأفسدهم عَلَيْهِ فمالوا مَعَه فَلَمَّا علم بذلك سَالم رَحل عَنهُ عَائِدًا إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ إِن قَتَادَة خرج لِحَرْب ثَقِيف فَتَحَصَّنُوا فَلم يقدر عَلَيْهِم فآمنهم وَحلف فَحَضَرُوا عِنْده فَقتل مِنْهُم طَائِفَة من أكابرهم واستخلف على بِلَادهمْ نواباً من عِنْده وعضدهم بعبيد لَهُ فَلم يبْق لأهل الطَّائِف مَعَهم كلمة وَلَا حُرْمَة فَعِنْدَ ذَلِك اجْتمع أهل الطَّائِف ودفنوا سيوفهم فِي الرمل وَذَلِكَ فِي الْمجَالِس الَّتِي جرت عَادَتهم بِالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ أَصْحَاب قَتَادَة واستدعوا أَصْحَاب قَتَادَة وأوهموهم أَن ذَلِك بِسَبَب كتاب ورد عَلَيْهِم فَلَمَّا اجْتَمعُوا أخرجُوا سيوفهم وَقتلُوا أَصْحَاب قَتَادَة عَن آخِرهم وَلم يسلم مِنْهُم أَلا وَاحِد وصل إِلَى قَتَادَة وَهُوَ واله الْعقل لما شَاهد من الهول وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَذكر الميورقي أَن فِي هَذِه الْوَاقِعَة فقد كتاب رَسُول الله
لأهل الطَّائِف لما(4/225)
نهب جَيش قَتَادَة الْبِلَاد وَذكر أَبُو شامة فِي أَخْبَار سنة تسع وسِتمِائَة قَالَ فِيهَا قتل قَتَادَة صَاحب مَكَّة إِمَام الْحَنَفِيَّة وَإِمَام الشَّافِعِيَّة وَنهب اليمنيين وَذكر أَيْضا فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة نهبه الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَكَانَ أَمِير الركب عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن ياقوت نِيَابَة عَن أَبِيه وَمَعَهُ ابْن أبي فراس يدبره وَحج من الشَّام الصمصام إِسْمَاعِيل وَكَانَت ربيعَة خاتون أُخْت الْعَادِل بن أَيُّوب فِي الْحَج فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّحْر بعد رمي الْجَمْرَة وثب بعض الإسماعيلية على رجل شرِيف من بني عَم قَتَادَة أشبه النَّاس بِهِ وظنه إِيَّاه فَقتله عِنْد الْجَمْرَة وَيُقَال إِن الَّذِي قَتله كَانَ مَعَ أم جلال الدّين فثار عبيد مَكَّة عِنْد ذَلِك والأشراف وصعدوا على الجبلين بمنى وهللوا وَكَبرُوا وضربوا النَّاس بِالْحِجَارَةِ والمقاليع والنشاب ونهبوا النَّاس يَوْم الْعِيد وَاللَّيْلَة وَالْيَوْم الثَّانِي وَقتل من الْفَرِيقَيْنِ جمَاعَة فَقَالَ ابْن أبي فراس لمُحَمد بن ياقوت ارحل بِنَا إِلَى الزَّاهِر إِلَى منزلَة الشاميين فَلَمَّا حصلت الأثقال على الْجمال حمل قَتَادَة وَالْعَبِيد فَأخذُوا الْجَمِيع أَلا الْقَاتِل وَقَالَ قَتَادَة مَا كَانَ الْمَقْصُود أَلا أَنا وَالله لَا أبقيت من حَاج الْعرَاق أحدا وَكَانَت ربيعَة خاتون بالزاهر وَمَعَهَا ابْن السلاخور سياروج وحاج الشَّام فجَاء مُحَمَّد بن ياقوت أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ فَدخل خيمة ربيعَة خاتون مستجيراً بهَا وَمَعَهُ أم جلال الدّين فَبعث قَتَادَة يَطْلُبهُ فَبعثت خاتون مَعَ ابْن السلاخور إِلَى قَتَادَة تَقول لَهُ مَا ذَنْب الْمُسلمين قد قتلت الْقَاتِل وَجعلت ذَلِك وَسِيلَة إِلَى نهب الْمُسلمين واستحللت الدِّمَاء فِي الشَّهْر الْحَرَام فِي الْحرم وَقد عرفت من أَنا وَالله لَئِن لم تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ وأفعلن فجَاء ابْن السلاخور إِلَى قَتَادَة فَأخْبرهُ وخوفه عَاقِبَة مَا يروم وَقَالَ إِن فعلت غير مَا فعلت قصدك الْخَلِيفَة من بَغْدَاد وَنحن من الشَّام فَكف عَنْهُم وَطلب مائَة ألف دِينَار فَجمعُوا لَهُ ثَلَاثِينَ ألفا من أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ وَمن خاتون أم جلال الدّين وَأقَام النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام حول خيمة ربيعَة خاتون بَين جريح وقتيل ومسلوب وجائع وعريان وَيُقَال إِن قَتَادَة أَخذ من الْمَتَاع مَا قِيمَته ألف ألف دِينَار وَأذن للنَّاس فِي الدُّخُول إِلَى مَكَّة فَدخل الأصحاء الأقوياء وطافوا ومعظم النَّاس مَا دخل مَكَّة ورحلوا إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ إِنَّهُم دخلُوا إِلَى بَغْدَاد على غَايَة الْفقر والذل والهوان(4/226)
وَفِي سنة تسع وسِتمِائَة وصل من قبل الْخَلِيفَة النَّاصِر العباسي إِلَى قَتَادَة مَعَ الركب الْعِرَاقِيّ مَالٌ وخلعة وَكِسْوَة وَلم يظْهر لَهُ الْخَلِيفَة إنكاراً على مَا تقدم من نهب الْحَاج وَجعل أَمِير الْحَاج يتدرجه ويخدعه بِأَنَّهُ لم يَصح عِنْد الدِّيوَان الْعَزِيز أَلا أَن الشرفاء وأتباعهم نهبوا أَطْرَاف الْحَاج وَلَوْلَا تلافيك لهلكوا وَقَالَ لَهُ يَقُول لَك مَوْلَانَا الْوَزير وَلَيْسَ كَمَال الْخدمَة الإمامية أَلا بتقبيل العتبة وَلَا عز الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَلا بنيل هَذِه الرُّتْبَة فَقَالَ الشريف قَتَادَة سَأَنْظُرُ فِي ذَلِك ثمَّ تسمع الْجَواب وَاجْتمعَ ببني عَمه الْأَشْرَاف وعرفهم أَن ذَلِك اسْتِدْرَاج لَهُم وَله حَتَّى يتَمَكَّن من الْجَمِيع ثمَّ قَالَ لَهُم يَا بني الزهراء عزكم إِلَى آخر الدَّهْر مجاورة هَذِه البنية والاجتماع فِي بطائحها فَلَا يرغبونكم بالأموال وَالْعدة وَالْعدَد وَقد عصمكم الله وعصم أَرْضكُم بانقطاعها وَإِنَّهَا لَا تبلغ أَلا بشق الْأَنْفس ثمَّ عَاد أَبُو عَزِيز قَتَادَة إِلَى أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ وَقَالَ لَهُ اسْمَع الْجَواب ثمَّ أنْشدهُ الأبيات الْمُتَقَدّمَة فَقَالَ لَهُ أَمِير الركب الشريف يَا شرِيف حاشا الله أَن أحمل مثل هَذِه الأبيات مِنْك وَأَنت ابْن بنت رَسُول الله
والخليفة ابْن عمك وَأَنا مَمْلُوك تركي لَا أعلم من الْأُمُور الَّتِي فِي الْكتب مَا علمتَ وَلَكِنِّي قد رَأَيْت أَن هَذَا من سرف الْعَرَب الَّذين يسكنون الْبَوَادِي وترغاب قطاع الطَّرِيق وَالله لَا حملت هَذِه الأبيات عَنْك فَأَكُون قد جنيت على بَيت الله وَبني بنت نبيه وَوَاللَّه لَو وصل إِلَيْهِ مَا ذكرت لجعل سَائِر الْوُجُوه إِلَيْك وَلَكِن لي رَأْي أعرضه عَلَيْك فأصغي إِلَيْهِ أَبُو عَزِيز وَعلم أَنه رجل عَاقل قَالَ الرَّأْي أَن ترسل أحد أولادك من لَا تهتم لَهُ إِن جرى عَلَيْهِ مَا تتوقعه ومعاذ الله أَن يجْرِي عَلَيْهِ أَلا مَا تحبه وَترسل مَعَه جمَاعَة من ذَوي الْأَسْنَان والهيئات فيدخلوا مَدِينَة السَّلَام وَفِي أَيْديهم أكفانهم منشورة وَسُيُوفهمْ مسلولة ويقبلون العتبة ويتوسلون بالنبى
وبصفح أَمِير الْمُؤمنِينَ وسترى مَا يكون من الْخَيْر لَك وَلِلنَّاسِ قَالَ فشكره قَتَادَة وَوجه صحبته وَلَده رَاجع بن قَتَادَة وأشياخ الشرفاء ودخلوا بَغْدَاد على تِلْكَ الْهَيْئَة الَّتِي ذكرهَا وهم يضجون ويتضرعون ويبكون وَالنَّاس يَبْكُونَ لبكائهم فَاجْتمع الْخلق كَأَنَّهُ الْمَحْشَر ومالوا إِلَى بَاب النّوبَة من أَبْوَاب مَدِينَة الْخَلِيفَة فقبلوا هُنَالك العتبة وَبلغ الْخَيْر النَّاصِر العباسي فَعَفَا عَنْهُم وَعَن مرسلهم وأنزلوهم فِي الديار(4/227)
الواسعة وأكرموا الْكَرَامَة الَّتِي ظَهرت واشتهرت وعادوا إِلَى أبي عَزِيز بِمَا أحب فَكَانَ بعد ذَلِك يَقُول لعن الله أول رأى عِنْد الْغَضَب وَلَا عدمنا عَاقِلا ناصحاً يثبتنا عِنْده قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي التكملة كَانَ قَتَادَة الْمَذْكُور مهيباً وقوراً قوي النَّفس شجاعاً مقداماً فَاضلا لَهُ شعر تولى إمرة مَكَّة رَأَيْته بهَا يطوف بِالْبَيْتِ وَيَدْعُو بتضرع وخشوع والريس على زَمْزَم يَدْعُو لَهُ وَهُوَ كالأسد شجاعة والقطب خشوعاً وتضرعاً والبدر كمالاً وبهاء وَكَانَ مولده بوادي يَنْبع وَبِه نَشأ وَكَانَت مَمْلَكَته قد اتسعت من حُدُود الْيمن إِلَى خلف مَدِينَة النبى
وَكثر عسكره واستكثر من المماليك وخافته الْعَرَب فِي تِلْكَ الْبِلَاد خوفًا عَظِيما وَسَار فِي مَكَّة سيرة حَسَنَة وأزال عَنْهَا العبيد المفسدين وَحمى الْبِلَاد وَأحسن إِلَى الْحجَّاج وَأكْرمهمْ وَبَقِي كَذَلِك مُدَّة ثمَّ أَسَاءَ السِّيرَة وجدد المكوس وَفعل أفعالاً شنيعة وَنهب الْحجَّاج وَكَانَ يخْطب للناصر أَحْمد العباسي ابْن المستضيء ثمَّ يخْطب لنَفسِهِ بالأمير الْمَنْصُور ودام ملكه نَحْو سبع وَعشْرين سنة وَكَانَ وراثته الْملك عَن مكثر بن عِيسَى الَّذِي وَرثهُ من آبَائِهِ الهواشم وَلم يكن أَبُو عَزِيز من الهواشم أَلا من جِهَة النِّسَاء ثمَّ زَاد ظلم قَتَادَة فِي النَّاس وأذاه للحجاج من الْعِرَاقِيّين وَغَيرهم وَأظْهر التَّعَدِّي حَتَّى ضج النَّاس وفسدت نِيَّته على الْخَلِيفَة النَّاصِر العباسي فارتفعت الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَقتله الله على يَد ابْنه حسن بن قَتَادَة وَكَانَ قَتله فِي جُمَادَى الأولى هَكَذَا ذكره أَبُو شامة فِي سنة 617 سبع عشرَة وسِتمِائَة وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ بل فِي جُمَادَى الْأُخْرَى من سنة 618 ثمَّ اسْتَقر بعده فِي ملك مَكَّة ابْنه حسن بن قَتَادَة قيل قَتله خنقاً وَسبب قَتله أَن قَتَادَة جمع جموعاً وَسَار من مَكَّة يُرِيد الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَنزل(4/228)
بوادي الْفَرْع وَهُوَ مَرِيض وَبعث أَخَاهُ على الْجَيْش وَمَعَهُ ابْنه حسن هَذَا فَلَمَّا بعد وأبلغ حسن أَن عَمه قَالَ لبَعض الْجند إِن أخي قَتَادَة مَرِيض وَهُوَ ميت لَا محَالة وَطلب مِنْهُم أَن يحلفوا لَهُ ليَكُون هُوَ الْأَمِير بعده فَلَمَّا بلغ الْحسن ذَلِك أرسل إِلَى عَمه من خنقه وَخرج للنَّاس فِي الْحرم وَطلب الْأَشْرَاف ووجوه النَّاس وَقَالَ لَهُم إِن أبي اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَأَنا أحب أَن تُبَايِعُونِي فَبَايعُوهُ وحلفوا لَهُ فأحضر تابوتاً مغطى وَقَالَ هَذَا أبي مَاتَ وَكَانَ قد دَفنه لَيْلًا فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ الْإِمَارَة لحسن وَثبتت قدمه أرسل إِلَى أَخِيه وَكَانَ بينبع وَطَلَبه وَلم يُخبرهُ بِحَال أَبِيه فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَتله وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه رَاجِح كَانَت بَينهمَا مباينة أَقَامَ فِي الْأَعْرَاب هَارِبا بِظَاهِر مَكَّة حَتَّى كَانَ من أمره مَعَ آق باش أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ مَا كَانَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا وَلما بلغ قَتَادَة قتل حسن لِعَمِّهِ قَامَت قِيَامَته وَحلف ليقْتلن حسنا فَبلغ ذَلِك حسنا فَدخل على أَبِيه بعد عوده من الْمَدِينَة فَبَالغ قَتَادَة فِي ذمه وتهديده فَوَثَبَ إِلَيْهِ حسن واستعان بِغُلَام وَجَارِيَة كَانَا يخدمان أَبَاهُ فأمسكا يَدَيْهِ فَقتله خنقاً ثمَّ قَتلهمَا ليخفي سَبَب قَتله وَقيل بل قَتله سما فَهَذَا سَبَب قتل حسن أَبَاهُ قَتَادَة وَكَانَت وَفَاته كَمَا تقدم فِي جُمَادَى الْآخِرَة عَام 617 سبع عشرَة وسِتمِائَة أَو ثَمَان عشرَة وَالْأول هُوَ الَّذِي رَأَيْته أَكثر وَكَانَ قَتَادَة يَقُول أَنا أَحَق من النَّاصِر العباسي بالخلافة وَكَانَ فِي زَمَنه فِي الْمَسْجِد يُؤذن بحي على خير الْعَمَل وَمُدَّة عمره نَحْو سبعين سنة وَمُدَّة ولَايَته من سنة 599 تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة إِلَى سنة 617 سبع عشرَة وسِتمِائَة وَلما وصل الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن أَمر بنبش قبر قَتَادَة وإحراقه لما فعل من نهب اليمنيين فوجدوا فِي الْقَبْر تابوتاً لَيْسَ فِيهِ شَيْء فَعرف النَّاس بذلك أَن حسن قتل أَبَاهُ وَدفن التابوت فِي قبر آخر ليخفي قَبره على النَّاس وَكَانَ لِقَتَادَة من الْوَلَد رَاجِح وَهُوَ الْأَكْبَر الَّذِي فر إِلَى الْأَعْرَاب بِظَاهِر مَكَّة كَمَا تقدم وَحسن وعَلى الْأَكْبَر جد الْأَشْرَاف المعروفين بذوي عَليّ وعَلى الْأَصْغَر جد(4/229)
أبي نمي جد الْأَشْرَاف الَّذين كَانُوا وُلَاة خليص وهم الْآن ولاه مَكَّة أَلا ترى أَن عجلَان بن رميثة بن أبي نمي مُحَمَّد بن أبي سعد الْحسن بن عَليّ هَذَا الْأَصْغَر بن قَتَادَة وَلكُل من هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّة وأعقاب وَمِمَّا صنع الشريف قَتَادَة أَن أدَار على مَكَّة سوراً من أَعْلَاهَا ليحفظها عَمَّن يريدها بِسوء ثمَّ وَليهَا الشريف حسن بن قَتَادَة عَام سبع عشرَة وسِتمِائَة وَوَقع فِيهَا قتال بَينه وَبَين آق باش أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ وَهُوَ مَمْلُوك تركي للناصر العباسي عقد لَهُ الْولَايَة على مَكَّة وعَلى كل بلد يدخلهَا وَمعنى آق باش أَبيض الرَّأْس وَسبب الْقِتَال أَنه لما ورد آق باش الْمَذْكُور أَمِيرا تعرض رَاجِح لقطع الطَّرِيق بَين مَكَّة وعرفة فأمسكه الْأَمِير الْمَذْكُور فَأرْسل أَخُوهُ حسن إِلَى الْأَمِير موعداً لَهُ بِمَال جزيل أَن يسلم إِلَيْهِ أَخَاهُ راجحاً فَبلغ ذَلِك راجحاً فَقَالَ للأمير أَنا أُعْطِيك أَضْعَاف مَا وَعدك فأعني على ولَايَة مَكَّة فوعده بذلك فأرادا جَمِيعًا دُخُول مَكَّة فمنعهما حسن وَوَقع الْحَرْب فَصَعدَ آق باش على جبل عَرَفَة بِمَا عِنْده من المنعة فأحدقت بِهِ أَعْرَاب الشريف حسن فَقتل وعلق رَأسه فِي ميزاب الْكَعْبَة وَقيل رفع على رَأس رمح بالمسعى وَأرْسل يعْتَذر إِلَى دَار الْخلَافَة كَذَا فِي عُمْدَة الطَّالِب وَفِي موسم تِسْعَة عشرَة وسِتمِائَة وَليهَا الْملك المسعود يُوسُف من بني أَيُّوب وصل إِلَيْهَا وَكَانَ قد تفرق عَن حسن والأشراف لشحه وَلم يبْق عِنْده أَلا جمَاعَة من عشيرته وَجَاء مَعَ صَاحب الْيمن الْمَذْكُور أَخُو الشريف حسن الشريف رَاجِح بن قَتَادَة فتقاتلا بالمسعى فانكسر حسن وَفَارق مَكَّة فنهبها الْملك المسعود وراجح حَتَّى سلبوا النَّاس أَشْيَاء من على أَجْسَادهم وَولى الْملك المسعود رَاجِح بن قَتَادَة حليا وَنصف المخلاف وَأمر المسعود بنبش قبر قَتَادَة فَلم يَجدوا أَلا التابوت كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَعمل المسعود فِي مَكَّة من الْمُنْكَرَات مَا لم يُرَ مِنْهَا أَنه يطلع على قبَّة زَمْزَم وَيَرْمِي الْحمام بالبندق وَيجْلس عبيده بالمسعى فيضربون أرجل النَّاس بِالسُّيُوفِ يَقُولُونَ إِن السُّلْطَان سَكرَان نَائِم امشوا قَلِيلا قَلِيلا لِئَلَّا توقظوه كَانَت دَاره على الْمَسْعَى تسمى دَار السلطنة وَكَانَت تسمى دَار الْقَوَارِير(4/230)
قلت عثرت فِي بعض التواريخ أَن محلهَا كَانَ مَحل الْمدرسَة القايتبائية الْآن انْتهى ثمَّ خرج من مَكَّة واستناب عَلَيْهَا نور الدّين عَليّ بن رَسُول الغساني الملقب بِالْملكِ المظفر ورتب مَعَه ثَلَاثمِائَة فَارس وَولى راجحاً حليا وأعمالها ثمَّ وصل حسن بِجَيْش عَظِيم من الينبع إِلَى مَكَّة سنة عشْرين وسِتمِائَة فَخرج إِلَيْهِ أميرها عَليّ بن رَسُول الْمَذْكُور فَكَسرهُ عَليّ بن رَسُول فَتوجه إِلَى الشَّام فَلم ير بهَا وَجها وَلم يفلح بعد قتل وَالِده وَعَمه وَقد دَعَا عَلَيْهِ أَبوهُ قَتَادَة فِي قصَّة اتّفقت لَهُ نقلهَا الزنجاني وَزِير أَبِيه الشريف قَتَادَة هِيَ أَنه كَانَ الشريف قَتَادَة بِالْحرم الشريف مَعَ الْأَشْرَاف فهجم عَلَيْهِ ولد لوَلَده حسن وترامى فِي حجره مستجيراً وَإِذا بوالده حسن يشْتَد فِي إِثره حَتَّى ألْقى يَده فِي شعره وجذب الصَّبِي من حجر جده فاغتاظ الشريف قَتَادَة وَقَالَ الْحسن هَكَذَا ربيتك وَلِهَذَا ادخرتك فَقَالَ حسن ذَاك الْإِخْلَال أوجب هَذَا الإدلال فَقَالَ الشريف قَتَادَة لَيْسَ هَذَا بإدلال وَلكنه إذلال وَانْصَرف حسن بولده فَفعل فِيهِ مَا اقْتَضَاهُ عقله فَالْتَفت الشريف قَتَادَة إِلَى الْأَشْرَاف وَقَالَ لَهُم وَالله لَا أَفْلح هَذَا فَلم يمر بِهِ أَلا زمن يسير حَتَّى قتل أَبَاهُ وذاق عُقُوبَة العقوق والقطيعة ثمَّ توجه إِلَى الْعرَاق فَلم ير بهَا وَجها بل أَرَادوا قَتله بِسَبَب قَتله آق باش الناصري مَمْلُوك الْخَلِيفَة النَّاصِر العباسي فِي الْوَاقِعَة الَّتِي جرت فِي أَيَّامه بِمَكَّة زمن الْحَج فَخرج مِنْهَا خَائفًا وَلم يزل طريداً شَرِيدًا خَائفًا إِلَى أَن وصل بَغْدَاد فأدركه أَجله فِي الْجَانِب الغربي على دكة فَلَمَّا علم بِهِ غُسل وصُلي عَلَيْهِ وَحمل فَدفن فِي مشْهد مُوسَى الكاظم سامحه الله تَعَالَى هَذَا حَاصِل مَا ذكره المؤرخون فِي مصنفاتهم مفرقاً غير مُجْتَمع فِي كتاب وَلَا مُسْتَوْفِي جمعت مَا ذَكرُوهُ وسقته مجتمعاً كل حَدِيث فِي مَحَله وكل فرع إِلَى أَصله وكل نوع إِلَى جنسه وشكله وَهَذَا شاني فِي تَرْجَمَة كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ السَّادة الْأَعْلَام أذكرها كافلة للمرام بعون الْملك العلام على إِنِّي لَا أَخْلو من قَول جَاهِل خامد أَو فَاضل حَاسِد أَو مبغض جَاحد هَل زَاد على الْجمع وَمَا درى أَنه تفطير للفؤاد تقطير للدمع إِذْ تتبع ذَلِك من مظانه المتفرقات وَضم شَمل الْقِصَّة وسبكها فِي ألطف قالب من الْعبارَات يعرف قدره(4/231)
من أشرق فِي أفق الْفضل وَمَا غاض بدر تمه وَلَا يجْحَد حَقه أَلا كل عاض بظر أمه على أَن لي فِيهِ فلتوتات كَأَنَّهَا ياقوتات ينظرها بِنور الْعدْل والإنصاف زاكي السريرة ذاتاً وسمى ويتخونها من عَم بَصَره وبصيرته عَمه وعمى لَكِن الْأَعْمَال بمقاصدها وَالله عَالم بِصَحِيح النِّيَّة من فاسدها وَلم تزل مَكَّة فِي ولَايَة الْملك المسعود يُوسُف بن الْملك الْكَامِل مُحَمَّد ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب ونائبه عَلَيْهَا نور الدّين عَليّ بن رَسُول إِلَى سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة فَتوفي الْملك المسعود بعد أَن فلج ويبست يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَرَأى فِي نَفسه العبر نَعُوذ بِاللَّه من سوء قَضَاهُ وفيهَا وصل إِلَى مَكَّة جَيش من صَاحب مصر وعَلى الْجَيْش طغتكين وَمَعَهُ مِائَتَا فَارس ففر مِنْهَا نائبها نور الدّين عَليّ بن رَسُول نَائِب الْملك المسعود وَأنْفق طغتكين على أهل مَكَّة نَفَقَة جَيِّدَة وحلفهم وتوثق مِنْهُم فَلَمَّا كَانَ سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة وصل إِلَى مَكَّة جَيش صَاحب الْيمن عَليّ بن رَسُول الغسانى وصحبته السَّيِّد راحج بن قَتَادَة فنزلوا بِالْأَبْطح وحصروا مَكَّة وَأرْسل الشريف رَاجِح إِلَى أهل مَكَّة يذكرهم إِحْسَان السُّلْطَان نور الدّين أَيَّام نيابته بِمَكَّة عَن الْملك المسعود فَمَال رُؤَسَاء مَكَّة إِلَيْهِ فَلَمَّا أحس بذلك الْأَمِير طغتكين خَافَ على نَفسه فَخرج خَائفًا وَقصد وَادي نَخْلَة فَدخل رَاجِح وَمن مَعَه فوليها الشريف رَاجِح بن قَتَادَة وَكَانَ أَمِير الْجَيْش يُسمى ابْن عَبْدَانِ فَدخل إِلَى مَكَّة وَاسْتولى عَلَيْهَا وخطب للْملك الْمَنْصُور ابْن الْملك المسعود وَتوجه طغتكين إِلَى يَنْبع وَكَانَ بهَا رُتْبَة للكامل صَاحب مصر الأيوبي فَأَقَامَ هُنَاكَ وَعرف الْكَامِل بالْخبر فَجهز جَيْشًا كَبِيرا من مصر وَأمر صَاحب الينبع وَصَاحب الْمَدِينَة أَن يخرجَا مَعَ ذَلِك الْجَيْش إِذا وصل إِلَيْهِمَا ففعلا ووصلوا إِلَى مَكَّة جَمِيعًا فِي رَمَضَان وحاصروا راجحاً وَابْن عَبْدَانِ وقاتلوهما فانكسروا وَاسْتولى على مَكَّة أميرها الأول طغتكين فَقتل من اْهل مَكَّة خلقا كثيرا وأنهبت ثَلَاثَة أَيَّام وَأظْهر حقده عَلَيْهِم وأخافهم خوفًا شَدِيدا وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة جمع الشريف رَاجِح جموعا عَظِيمَة وأمده الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن بعساكر فَقدم مَكَّة وطرد طغتكين وعسكر الْملك الْكَامِل(4/232)
صَاحب مصر فَلَمَّا علم بذلك الْكَامِل جهز عسكراً فِي شَوَّال سَبْعمِائة فَارس فَلَمَّا أَن وصل الْحَاج واتضح أَمر الْعَسْكَر خرج الشريف رَاجِح من مَكَّة فَدَخلَهَا الْعَسْكَر الْمصْرِيّ من غير محاربة وطيبوا قُلُوب أَهلهَا وَعدلُوا فيهم وأحسنوا وَحج بِالنَّاسِ أَمِير يُسمى الزَّاهِد وَترك فِي مَكَّة أَمِيرا يُقَال لَهُ ابْن مجلي فِي خمسين فَارِسًا أَقَامَ بِمَكَّة فَعدل وَأحسن السِّيرَة وَفِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ جهز الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن إِلَى السَّيِّد رَاجِح عسكراً جراراً وخزانة عَظِيمَة فَنَهَضَ رَاجِح وَمن مَعَه من الْعَسْكَر ودخلوا مَكَّة وأخرجوا ابْن مجلي وَمن مَعَه فَلَمَّا أَن وصل الْحَاج سمع الشريف راحج أَن الْملك الْكَامِل حَاج على النجب لوعد بَينه وَبَين الْخَلِيفَة العباسي فَخرج رَاجِح من مَكَّة فَتغير عَلَيْهِ خاطر الْملك الْمَنْصُور فَلَمَّا رَجَعَ الْملك الْكَامِل عَاد رَاجِح إِلَى مَكَّة وَكَانَ بهَا غلاء عَظِيم سموهُ غلاء ابْن مجلي وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وصل من صَاحب مصر عَسْكَر ألف فَارس فَخرج الشريف رَاجِح إِلَى الْيمن فجهزه الْملك الْمَنْصُور بخزانة وعسكر أَيْضا وَأرْسل قناديل ذهب وَفِضة لتَعلق فِي جَوف الْكَعْبَة فَلم يقدر رَاجِح وَمن مَعَه لمقاومة الْعَسْكَر الْمصْرِيّ فَلم يدْخل فَلَمَّا سمع بهم الْعَسْكَر الْمصْرِيّ خَرجُوا إِلَيْهِم من مَكَّة فَالْتَقوا بِمحل يُقَال لَهُ الْخلف والخليف فانهزمت الْأَعْرَاب أَصْحَاب رَاجِح وَأسر أَمِير عسكره ابْن عَبْدَانِ فقيد وَأرْسل بِهِ إِلَى مصر وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة خرج السُّلْطَان نور الدّين عَليّ بن رَسُول من الْيمن قَاصِدا مَكَّة فِي ألف فَارس وَأرْسل للجند الَّذين بِمَكَّة أَن كل من جَاءَ إِلَيْهِ يُعْطِيهِ ألف دِينَار وحصاناً وَكِسْوَة فَمَال إِلَيْهِ كثير من الْجند وآثروه على مَوْلَاهُم ووفي لَهُم بِمَا وعدهم وَأرْسل إِلَى الشريف رَاجِح فَتَلقاهُ من أثْنَاء الطَّرِيق فقدمه صُحْبَة ثَلَاثمِائَة فَارس من أهل النجدة من عسكره وَأَعْطَاهُ النقارات والكئوسات وَتقدم إِلَى مَكَّة فَلَمَّا تحققت عَسَاكِر مصر وُصُول السُّلْطَان أحرقوا مَا كَانَ عِنْدهم من الأثقال والأقوات وَخَرجُوا من مَكَّة فَأرْسل الشريف رَاجِح يبشر السُّلْطَان نور الدّين بِمَا وَقع فَأحْرم بِعُمْرَة وَدخل مَكَّة فِي رَجَب وَتصدق على أهل مَكَّة بأموال جزيلة(4/233)
وَفِي ذَلِك الْعَام مَاتَ الْكَامِل صَاحب مصر فخطبوا للْملك الْمَنْصُور ابْن الْملك المسعود صَاحب الْيمن وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة أرسل صَاحب مصر الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل إِلَى مَكَّة ألف فَارس عَلَيْهِم الشريف شيحة بن قَاسم الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَلَمَّا سمع بهم رَاجِح وَمن مَعَه من عَسَاكِر الْملك الْمَنْصُور فروا إِلَى الْيمن وأخلوا مَكَّة فَدَخلَهَا شيحة وملكها ونهبها فَلَمَّا بلغ ذَلِك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن جهز السَّيِّد راجحاً بعسكر مَعَه إِلَى مَكَّة فَلَمَّا أحس بهم الْحُسَيْنِي فر هَارِبا من مَكَّة وأخلاها وَفِي موسم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة دخل من صَاحب مصر عَسْكَر إِلَى مَكَّة فَلَمَّا بلغ صَاحب الْيمن تجهز وَخرج إِلَى مَكَّة بِجَيْش كثيف فهرب المصريون وأحرقوا دَار السلطنة بِمَكَّة فَدخل السُّلْطَان نور الدّين عَليّ بن رَسُول الغساني وَصَامَ رَمَضَان وَأقَام بهَا وأبطل المكوس والجبايات والمظالم وَكتب ذَلِك فِي رخامة مربعة جعلت قبالة الْحجر الْأسود فِي حَائِط زَمْزَم وَأرْسل يطْلب أَبَا سعيد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة من يَنْبع فَلَمَّا أَتَاهُ أكْرمه وأنعم عَلَيْهِ فاستخدمه على مَكَّة وَاشْترى مِنْهُ قلعة الينبع وَأمر بخرابها لأجل أهل مصر وَأبقى عِنْده مَمْلُوكه ابْن فَيْرُوز والأمير فَخر الدّين بن السِّلَاح فَأَقَامَ ابْن السِّلَاح أَمِيرا سبع سِنِين فولى بعده الْأَمِير ابْن الْمسيب سنة خمس وَأَرْبَعين وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ولي مَكَّة الشريف أَبُو سعد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة وَذَلِكَ أَن الْملك الْمَنْصُور قبل ذَلِك لما دخل مَكَّة أَقَامَ أَبَا سعد هَذَا بوادي مر ليساعد عسكره الَّذين أَقَامُوا بِمَكَّة فَحسن مَشَايِخ الْعَرَب من زبيد وَغَيرهم لأبي سعد الْحسن بن عَليّ بن قتاده أَخذ مَكَّة والاستيلاء عَلَيْهَا والفتك بِمن فِيهَا من الْعَسْكَر اليمني وهونوا عَلَيْهِ أَمرهم وَكَانُوا فرْقَتَيْن فرقة تخرج إِلَى أَعلَى المعلاة والفرقة الْأُخْرَى تخرج إِلَى أَسْفَلهَا هَكَذَا كل يَوْم فَحمل أَبُو سعد على إِحْدَى الْفرْقَتَيْنِ فَكَسرهَا فضعفت الْأُخْرَى فَقبض على ابْن الْمسيب وَأخذ خيله وعدده ومماليكه وَاسْتولى على مَكَّة وأحضر الْأَعْيَان من أَهلهَا وَقَالَ مَا لَزِمته أَلا لتحققي خِلَافه وَنِيَّته الْخُرُوج على الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن والذهاب بِهَذَا المَال إِلَى(4/234)
الْعرَاق وَالْمَال عِنْدِي مَحْفُوظ إِلَى أَن يصل مرسوم السُّلْطَان فأسلمه إِلَيْهِ فوردت الْأَخْبَار بعد أَيَّام يسيرَة بِمَوْت الْملك الْمَنْصُور عَليّ بن رَسُول فقوي أَمر أبي سعد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة الْمَذْكُور فَخرج الشريف رَاجِح من مَكَّة لما رأى أَن ابْن أَخِيه أَبَا سعد الْحسن الْمَذْكُور استولى عَلَيْهَا وَسكن الْمحل الْمَعْرُوف بالواديين وَكَانَ الشريف الْحسن هَذَا شجاعاً جلدا كريم الْأَخْلَاق شَدِيد الْحيَاء جمع الشجَاعَة وَالْكَرم وَالْعلم وَالْعَمَل وَكَانَت أمه حبشية وَوَقع لَهُ مَعهَا أَنه حَارب بعض الْعَرَب فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ جَاءَتْهُ فِي هودجها فَقَالَت لَهُ اعْلَم أَنَّك وقفت فِي موقف إِن ظَفرت أَو قتلت قَالَت النَّاس ظفر ابْن رَسُول الله أَو قتل ابْن رَسُول الله وَإِن هربت قَالُوا هرب ابْن السَّوْدَاء فَانْظُر أى الْأَمريْنِ تحب أَن يُقَال فَقَالَ لَهَا جَزَاك الله خيرا لقد نصحت فأبلغت وَرجع فقاتل حَتَّى ظفر فَقَالَ النَّاس كَمَا قَالَت ودامت ولَايَته على الْحجاز نَحْو أَربع سِنِين وَأشهر إِلَى أَن قَتله ابْن عَمه جماز ابْن حسن بن قَتَادَة لثلاث خلون من شعْبَان سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَقيل فِي شهر رَمَضَان وَقيل فِي شَوَّال وَأَبُو سعد هَذَا هُوَ وَالِد عبد الْكَرِيم جد الْأَشْرَاف ذَوي عبد الْكَرِيم ووالد أبي نمي صَاحب مَكَّة الْآتِي ذكره كَانَ الشريف أَبُو سعد هَذَا فَاضل الْأَخْلَاق طيب الأعراق شَدِيد الْحيَاء جمع الشجَاعَة وَالْكَرم وَالْعلم وَالْعَمَل لَهُ الشّعْر الرَّائِق والنثر الْفَائِق فَمن شعره القصيدة الْمَشْهُورَة // (من المتقارب) //
(خُذُوا قَوَدِى مِنْ أسيرِ الكللْ ... )
نَسَبهَا الْعَلامَة الفاسي إِلَيْهِ وَالْمَشْهُور أَنَّهَا لِابْنِ مطروح والشهرة تساعده قَالَ أَلا أَن فِي القصيدة أبياتاً ترجح أَنَّهَا لأبى سعد لِأَن إنشاءها إِنَّمَا يَلِيق بالملوك مِنْهَا قَوْله فِيهَا // (من المتقارب) //
(وإنْ قِيلَ إِنِّى غَدّا مَيِّتٌ ... بِأَيْدِى الصَّبَابَةِ ظُلْماً فَهَلْ)
(تموتُ نفوسٌ بآجَالِها ... وَنْفِسى تَمُوتُ بِغَيْرِ الأجَلْ)
(فَلَيْتَ إِذَا مَا أَتَانِى الحِمَامُ ... يُؤَخِّرُ عَنِّى الألهُ الأجَلْ)(4/235)
(لأنِّى غيُوثٌ إِذَا الغَيْتُ مَلّ ... وَيوْمَ الِكفَاحِ أُرَوِّى الأَسَلْ)
فَيحْتَمل وَيحْتَمل وَالله أعلم قلت الِاسْتِدْلَال على أَنَّهَا لأبي سعد بِأَن فِيهَا أبياتاً لَا يَلِيق إنشاؤها أَلا بالملوك اسْتِدْلَال لَا ينْهض إِذْ كل كريم شُجَاع يسوغ لَهُ أَن يتمدح وَيَقُول عَن نَفسه ذَلِك بل صناعَة الشّعْر ومبالغاته تسوغ للشاعر القَوْل وَإِن لم يَتَّصِف بإنالة نائل وَلَا طول طائل ثمَّ وَليهَا جماز بن حسن بن قَتَادَة فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة قدم الشريف جماز هَذَا بعسكر من عِنْد النَّاصِر بن الْعَزِيز بن الظَّاهِر بيبرس ووعده أَن يخْطب لَهُ بِمَكَّة فأمده بعسكر صُحْبَة الركب الشَّامي فَتقدم أَمَام الركب وَدخل مَكَّة فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَاسْتولى على مَكَّة وَقتل ابْن عَمه أَبَا سعد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة وَحج بِالنَّاسِ ثمَّ نقض عهد النَّاصِر وَلم يخْطب لَهُ وخطب للْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن المسعود صَاحب الْيمن فَلَمَّا كَانَ آخر يَوْم من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة قدم عَمه رَاجِح بن قَتَادَة ففر مِنْهُ جماز بِلَا قتال إِلَى يَنْبع ثمَّ وَليهَا رَاجِح بن قَتَادَة وَكَانَ بِمَكَّة غلاء عَظِيم وعطش بِيعَتْ شربة المَاء بدرهم وَالشَّاة بِأَرْبَعِينَ درهما وَاسْتمرّ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة فَلَمَّا كَانَ شهر ربيع الأول مِنْهَا هجم عَلَيْهِ ابْنه غَانِم بن رَاجِح وَأخرجه من مَكَّة بِلَا قتال فوليها غَانِم بن رَاجِح فِي شهر ربيع الأول وَاسْتمرّ إِلَى شهر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ وَليهَا أَبُو نمي بن أبي سعد بن قَتَادَة وَعَمه إِدْرِيس بن حسن بن قَتَادَة وَأخرج غَانِم بن رَاجِح مِنْهَا وَأَبُو نمي هَذَا هُوَ وَالِد أبي سعد الْحسن الْمَذْكُور وَذَلِكَ أَنه فِي شَوَّال آخر السّنة الْمَذْكُورَة أغْنى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة قبل وُصُول الْحَج إِلَى مَكَّة قدم الشريف أَبُو نمي وَعَمه إِدْرِيس وأخذا مَكَّة من غَانِم بن رَاجِح بن قتال شَدِيد قتل فِيهِ من الْأَشْرَاف ثَلَاثَة فَلَمَّا كَانَ أول الْحجَّة وصل من جَانب الْملك المظفر صَاحب الْيمن عَسْكَر عَلَيْهِ(4/236)
أَمِير ابْن برطاش فبرز لَهُ الْأَشْرَاف أَبُو نمي وَإِدْرِيس وَمن مَعَهُمَا إِلَى خَارج مَكَّة وتقاتلوا بالسرحة من قوز المكاسة وَكَانَ مَعَهم الشريف جماز بن شيحة فَقتل بَين الصفين خلق كثير وَانْهَزَمَ الْأَشْرَاف وَدخل مَكَّة عَسْكَر الْملك المظفر وَفِي عَام ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة جمع الشريف أَبُو نمي مُحَمَّد بن أبي سعد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة وَعَمه الشريف حسن بن قَتَادَة جمعا عَظِيما وقصدوا مَكَّة فَدَخَلُوهَا من رُءُوس الْجبَال وتقاتلوا وسط مَكَّة هم وعسكر الْملك المظفر صَاحب الْيمن فَقتلُوا غَالب الْعَسْكَر وأسروا الْأَمِير ابْن برطاش وسفكت الدِّمَاء بِالْحرم الشريف وامتلأت الْبَلَد مِنْهُم رعْبًا بِحَيْثُ لم يصل فِي الْحرم أحد وَوَقع بَينهم فِي أَيَّام الْحَج وَبَين أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ فتْنَة درأها الله تَعَالَى بِالصُّلْحِ فَسلم الْمُسلمُونَ وفدى نَفسه ابْن برطاش الْأَمِير وَرجع من حَيْثُ جَاءَ وَفِي سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة استظهر إِدْرِيس على أبي نمي بإمرة مَكَّة ثمَّ اشْتَركَا وَفِي موسم خمس وَخمسين وسِتمِائَة لم يحجّ أحد من أهل الْحجاز وَلم ترفع راية من رايات الْمُلُوك لأحد بِمَكَّة وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة خرج أَبُو نمي إِلَى ثَقِيف وبقى إِدْرِيس بِالْبَلَدِ فهجم عَلَيْهِ أَوْلَاد حسن بن قَتَادَة إخوتة بعد أَن لزموه فوليها أَوْلَاد حسن بن قَتَادَة فِي غيبَة أبي نمي فَلَمَّا جَاءَ أخرجهم مِنْهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة بِغَيْر قتال وَكَانَت مدتهم سِتَّة أَيَّام وَفِي سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة حج الْملك المظفر يُوسُف بن الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن مَعَه المراكب تسايره فِي الْبَحْر مشحونة بالعلوفات والأطعمة وَأكْثر فِي طَرِيقه من الصَّدقَات وَفعل الْخيرَات والمبرات والشريف أَبُو نمي وَعَمه إِدْرِيس متوليين إمرة مَكَّة فَلَمَّا سمعا بِهِ خرجا خوفًا مِنْهُ فَدَخلَهَا المظفر فِي عَسَاكِر كَثِيرَة محرما خَاشِعًا حاسر الرَّأْس حَتَّى دخل المطاف ثمَّ نزل عسكره بالحجون وَلم يزل بِمَكَّة إِلَى أَن قضى مَا عَلَيْهِ من الْوُقُوف بِعَرَفَة وَبَقِيَّة الْمَنَاسِك وَلم يزل مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة يُصَلِّي الْمغرب على قبَّة زَمْزَم وخدم الْبَيْت وغسله مَعَ الخدام وصب عَلَيْهِ وكنس وكسا الْبَيْت الشريف من دَاخله وَلم يكسه ملك قبله بعد الْخُلَفَاء العباسية وَقَامَ بمصالح الْحرم وَأَهله ثمَّ أَقَامَ بِمَكَّة عشرَة أَيَّام يفرق الصَّدقَات حَتَّى(4/237)
وصلت صدقاته إِلَى كل منزل بِمَكَّة ونثر على الْكَعْبَة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَعمل للكعبة بَابا وقفلاً وودع الْبَيْت باكياً وَعَاد إِلَى بِلَاده وَفِي غَالب سلطنته كَانَ يخْطب لَهُ بِمَكَّة وَاسْتمرّ أَبُو نمي وَعَمه إِدْرِيس متوليين إمرة مَكَّة إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ ثمَّ انْفَرد بهَا أَبُو نمي وَأخرج عَمه إِدْرِيس مِنْهَا وخطب لصَاحب مصر الْملك الظَّاهِر بيبرس البندقداري وَاشْترط عَلَيْهِ السُّلْطَان أَن لَا يمْنَع زَائِرًا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَلَا يعْتَرض تَاجِرًا بظُلْم وَأَن تكون الْخطْبَة وَالدُّعَاء لَهُ وَلأبي نمي وَجعل لَهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم فِي كل سنة فَأجَاب الشريف أَبُو نمي بِقبُول هَذِه الاشتراطات فَلَمَّا ورد إِلَى السُّلْطَان من أبي نمي الْإِجَابَة بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَقبُول مَا اشْتَرَطَهُ كتب السُّلْطَان إِلَيْهِ مرسوماً بإمرة مَكَّة مُنْفَردا فَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ حج السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس على تجريدة خيل وركاب وَكَانَ قدم لَهُ مَعَ الْحَج خيلاً وحملاً ومتاعاً فِي الْمنَازل كلما أصبح فِي منزل ترك الْخَيل الأولى وَأخذ المهيئات لَهُ فارتحل إِلَى أَن وصل مَكَّة ثامن ذِي الْحجَّة آخر النَّهَار وَقد طلع النَّاس عَرَفَة وَلم يبْق فِي مَكَّة غير الشريف أبي نمي وَعَسْكَره فاستنكروا ذَلِك وَقَالُوا مَا يصل فِي هَذَا الْوَقْت أَلا من قصد إِدْرَاك الْحَج قبل فَوَاته أَو غَرِيب مَا قدم قبل ذَلِك لَا يعرف الْعَادة ورأوهم جَمِيعهم على الْخَيل البلق فَقَالُوا لَهُم من أَيْن أَنْتُم من الْعرَاق أَو من الْكُوفَة أَو من الْعَجم أَو من التّرْك فَقَالَ السُّلْطَان قُولُوا لَهُ أَلَيْسَ قد قلت لَا يجيئني أَلا على خيل بلق فقد جئْنَاك على البلق وَنحن محرمون وَهَذَا صَاحب مصر مَعَه أُمَرَاء مصر وَالشَّام وعرفوه كل أَمِير باسمه فَإِن تقتل الْجَمِيع فاقتلهم وَكَانَ الشريف أَبُو نمي قد قَالَ مثل هَذَا القَوْل فِي الْعَام الْمَاضِي فَاسْتَغْفر وَتقدم إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ الْعَفو يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان ثمَّ ركب وسعى مَعَ السُّلْطَان وَأشْهد على نَفسه أَن لَا يمكس أحدا من الْحجَّاج القادمين برا وبحراً وَيبْطل الجباية والمظالم إِلَى أَن تقوم السَّاعَة وَكتب عَلَيْهِ الْإِشْهَاد بذلك فَبَطل ذَلِك وَكَانَ فِي صَحَائِف الْملك الظَّاهِر بيبرس وَتصدق السُّلْطَان بِالْحرم وَفرق كساوي على أَهله وعلق كسْوَة الْكَعْبَة بِيَدِهِ وزار من بِمَكَّة من الصَّالِحين وَأحسن إحساناً كثيرا إِلَى الشريف أبي نمي وَكَذَلِكَ لأمير الْمَدِينَة وَكتب لأبي نمي وَإِدْرِيس(4/238)
أَن يكون حَالهمَا وَاحِدًا فِي إمرة مَكَّة فعادا شَرِيكَيْنِ ثمَّ انْفَرد إِدْرِيس بهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ قتل أَبُو نمي عَمه إِدْرِيس فِي حَرْب كَانَت بَينهمَا بخليص وَانْفَرَدَ بهَا وَذَلِكَ أَنه لما استظهر عَمه إِدْرِيس عَلَيْهِ وَأخرجه من مَكَّة وَانْفَرَدَ بالإمرة خرج أَبُو نمي هَارِبا من عَمه إِدْرِيس من مَكَّة وَوصل إِلَى يَنْبع واستنجد بصاحبها وحشد وَجمع وَقصد مَكَّة بالجيش فَالتقى هُوَ وَعَمه إِدْرِيس بخليص وتحاربا فطعن أَبُو نمي عَمه فَأَلْقَاهُ من ظهر الْفرس وَنزل واحتز رَأسه واستقل بِالْولَايَةِ مُنْفَردا وَذَلِكَ فِي سنة 669 تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَله وقائع مَشْهُورَة مَعَ مُلُوك مصر وَغَيرهم مِنْهَا فِي سنة 683 ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَكَانَت فتْنَة بَينه وَبَين وَاحِد من أَبنَاء أَخِيه لأجل مَا يُؤْخَذ من الْحَاج قيل كَانُوا يَأْخُذُونَ من حج اليمإني فِي كل جمل ثَلَاثِينَ درهما وَمن حَاج مصر على كل جمل خمسين درهما وَمَعَ هَذَا لَا يسلمُونَ من النهب والعسف فَلَمَّا حج الظَّاهِر بيبرس أزاله ثمَّ أعادوه فَأرْسل الْملك المظفر عسكراً ملكوا مَكَّة فَجمع أَبُو نمي عسكراً وَدخل إِلَى مَكَّة وَأخرج عَسْكَر الْيمن وَزَاد على الْحجَّاج فِي الجباية وَوَصله جَيش من مصر فَلَمَّا وصلوا إِلَى قرب مَكَّة قفل أَبُو نمي أَبْوَاب سور مَكَّة ومنعهم من الدُّخُول فَاجْتمع الْحجَّاج فهدموه وأحرقوا بَاب المعلاة ودخلوا مَكَّة هجماً بعد فرار أبي نمي من مَكَّة زمن الْحَج فخشي الْملك من عوده فَترك بهَا ثَلَاثَة آلَاف مَعَ نَائِب من قبله فأقاموا بهَا فاتفق أَن ألفا مِنْهُم خَرجُوا لناحية منى للتنزه فكمن لَهُم الشريف أَبُو نمي فِي خيل وَرجل بِمَسْجِد الْخيف فَلَمَّا عَادوا قَاصِدين إِلَى مَكَّة هجم عَلَيْهِم فقصد أَمِيرهمْ فَقتله ثمَّ قَالَ كل من قتل فَارِسًا فَلهُ فرسه فَعَاد أَكثر رجله خيالة ثمَّ صدقُوا الْمُحَاربَة والمجالدة مَعَه فكسروا الْألف عَن آخِرهم وانتصروا وغنموا خيولهم وسلاحهم وتفكك مِنْهُم أَفْرَاد فَلَحقُوا بالباقين بِمَكَّة وعرفوهم الْحَال وَأَن لَا طَاقَة لكم بِهِ فَهزمَ الْجَمِيع إِلَى مصر فَلَمَّا بلغ ذَلِك ملك مصر جهز جَيْشًا كثيفاً لقِتَال أبي نمي الْمَذْكُور ثمَّ عزم على الْوُصُول إِلَى مَكَّة بِنَفسِهِ فَأَتَاهُ أحد الْعلمَاء الصَّالِحين وَسَأَلَهُ عَن توجهه فَقَالَ إِنَّه لقتل الشريف أبي نمي وَأَهله فَقَالَ لَهُ ذَلِك الْعَالم إِنَّك حسنت الْعبارَة وَلَكِن النَّاس يَقُولُونَ إِنَّك ذَاهِب إِلَى حرم الله تَعَالَى وَقتل أَوْلَاد حَبِيبه رَسُول الله
فَوَقع ذَلِك من الْملك(4/239)
موقعاً وَرجع عَن عزمه ثمَّ راسل الشريف أَبَا نمي بالمراسيل والهدايا وَالْكَلَام اللين حَتَّى زَالَت الوحشة بَينهمَا وَأقرهُ على إمرة مَكَّة وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَقع بَين الشريف أبي نمي وَبَين الْحَاج فتْنَة عِنْد الثَّنية أَعنِي الشبيكة وانْتهى الْأَمر إِلَى أَن دخلُوا الْحرم ورؤي فِي الْحرم الشريف أَكثر من عشرَة آلَاف سيف وَقتل بَين الْفَرِيقَيْنِ فَوق أَرْبَعِينَ نفسا وَقتل ولد السَّيِّد أَحْمد بن عَليّ بن قَتَادَة وَأُصِيب بِسَهْم وَأما الْجَرْحى فكثيرون ونهبت أَمْوَال النَّاس وَفِي موسم إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة وَقعت بِعَرَفَة جفلة عَظِيمَة وَلزِمَ رَاجِح بن إِدْرِيس أَمِير الينبع ثمَّ عزموا بِهِ إِلَى مصر وَسلم الله الْمُسلمين وَكَانَت الوقفة بالثلاثاء وتعبت النَّاس من قلَّة المَاء فبيعت الراوية بأَرْبعَة دَنَانِير ورحل الْحَاج قبل وقته الْمُعْتَاد وَاسْتمرّ إِلَى أَن أخرجه جماز مِنْهَا ثمَّ وَليهَا جماز بن شيحة أَمِير الْمَدِينَة وغانم بن إِدْرِيس بن حسن بن قَتَادَة أَمِير الينبع الْمُبَارك وَأَخْرَجَا أَبَا نمي الْمَذْكُور مِنْهَا فِي صفر من سنة 690 تسعين وسِتمِائَة ثمَّ عَاد أَبُو نمي بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأخرجهما مِنْهَا ثمَّ وَليهَا جماز بن شيحة بمفرده عَام سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة بمعاونة أَمِير يُقَال لَهُ الحكاحكي كَانَ بِمَكَّة من قبل الْملك الْمَنْصُور قلاوون صَاحب مصر وَالشَّام وخطب لجماز بِمَكَّة المشرفة وَضربت السكه باسمه فِيهَا وَبَطل ذَلِك بعد مُدَّة يسيرَة من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ عَاد أَبُو نمي وَتفرد بهَا ودامت ولَايَته عَلَيْهَا إِلَى أَن مَاتَ عَام إِحْدَى وَسَبْعمائة فَقبل مَوته بيومين ولى ولديه حميضة ورميثة أَمر مَكَّة كَمَا سَيَأْتِي ولنذكر طرفا من محامده فَنَقُول ولى أَبُو نمي مُحَمَّد هَذَا مَكَّة نَحْو خمسين سنة مشاركاً لِأَبِيهِ وَعَمه ومنفرداً أما مشاركته لِأَبِيهِ فَكَانَت أَيَّام صباه وسنه سبع عشرَة سنة وَكَانَ يكنى أَبَا مهْدي ويلقب بِنَجْم الدّين وَسبب مشاركته لِأَبِيهِ أَبى سعد الْحسن ابْن عَليّ بن قَتَادَة أَن راجحاً بن قَتَادَة عَم وَالِده أبي سعد استنجد أَخْوَاله بني حُسَيْن بِالْمَدِينَةِ وَطلب مِنْهُم الْإِعَانَة على إِخْرَاج ابْن أَخِيه أبي سعد الْحسن بن عَليّ الْمَذْكُور وَالِد أبي نمي الْمَذْكُور من مَكَّة وَأَخذهَا مِنْهُ فَسَار مَعَه من الْمَدِينَة سَبْعمِائة فَارس من(4/240)
بني حُسَيْن وجماعتهم وَعَلَيْهِم الْأَمِير عِيسَى الملقب بالحرون فَارس بني حُسَيْن فِي زَمَانه وَكَانَ أَبُو نمي فِي الينبع فَلَمَّا بلغه خبر رَاجِح وَخُرُوجه ببني حُسَيْن مَعَه من الْمَدِينَة إِلَى قتال أَبِيه وإخراجه من مَكَّة قصد مَكَّة لنصرة أَبِيه فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا فصادف راجحاً وَعِيسَى وجماعتهم سائرين إِلَى مَكَّة لَيْسَ لَهُم خبر فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ حمل أَبُو نمي عَلَيْهِم فَمَا حملوه لَحْظَة حَتَّى ولوا هاربين إِلَى الْمَدِينَة وانتشرت عِمَامَة عِيسَى الحرون وَذهب يجرها خَلفه فَقَالَ السَّيِّد جَعْفَر الحسينى النسابة وَهُوَ لِسَان بني حسن بالعراق قصيدة يذكر فِيهَا الْوَاقِعَة ويمدح أَبَا نمي مُحَمَّد بن أبي سعد الْمَذْكُور مِنْهَا // (من الوافر) //
(أَلَمْ يَبْلُغْكَ شَأْنُ بَنِى حُسَيْنٍ ... وَفَرّهمُ وَمَا فَعَلَ الحَرُونُ)
(فَيَا لله فِعْلُ أبي نُمَيِّ ... وبعضُ البَأْسِ يُشْبِهُهُ الجُنُونُ)
(يَصُولُ بِأرْبَعِينَ عَلَى مِئَاتٍ ... وَكَمْ مِنْ كَثْرَةٍ ظَلَّتْ تَهُونُ)
وَكَانَ إِذْ ذَاك عمره سبع عشرَة سنة ثمَّ دخل مَكَّة مَسْرُورا منصورَاً فقابله أَبوهُ بالإعزاز وَالْإِكْرَام وأشركه مَعَه فِي الْملك من حِينَئِذٍ ثمَّ شَاركهُ عَمه إِدْرِيس إِلَى آخر مَا تقدم وَكَانَت لَهُ شجاعة مَشْهُورَة وخصال حميدة مَذْكُورَة قَالَ وَلَده حميضة كَانَت لأبي خمس خِصَال الْعِزّ وَالْكَرم والحلم والشجاعة وَالشعر من شعره مدحاً فِي الْمَنْصُور لاجين ملك مصر لما تسلطن بعد كتبغا سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأرْسل بهَا إِلَيْهِ وَهِي // (من الطَّوِيل) //
(أَمَا وتعادى المُقْرَبَاتِ الشَّوَازِبِ ... بفُرْسَانها فِي ضِيقِ ضَنْكِ المَقَانِبِ)
(وبِالجَحُفَلِ الجَرَّارِ أَفْرَطَ جَمْعُهُ ... كَأَسْرَابِ كُدْرِى أَو سَوَارِ قَوَارِبِ)
(وبِالزَّرَدِ الموضونِ ضمَّتْ غُضُونُهُ ... عَلَى كلِّ مَاضِى العَزْمِ حَتْف المحَارِبِ)
(وبالبَيْض والبِيضِ الرِّقَاقِ أَليَّة ... لِنَثْر عِدَاتِى حَلْفَة غَيْر كاذبِ)
(لقد نُصِرَ الإسلامُ بالمَلِكِ الذِي ... رقَى فِي سَمَاءِ الْمجد أَعْلَى المراتبِ)
(حُسَامُ الهدَى والدينِ مَنْصُورٌ الذِي ... تَرَعْرَعَ مِنْ شُمِّ المُلُوكِ أيّ الشنَاخِبِ)
(مُلُوك جِهَاتِ الأَرضِ تَعنُو لِقَهرِه ... فَمَرهُوبُهاً مِنْ سَيفِهِ أَي رَاهِبِ)
(تَفَرَّدَ بالمْلكِ العَظِيمِ فَلَمْ يَزَلْ ... لَهُ خَاضِعاً صِيدُ الملوكِ الأغالِبِ)
(مضَى كتبُغا خَوْفَ الحِمَام وَقد أتَتْ ... إِلَيْهِ أُسُودُ الخَيْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ)(4/241)
(وأَحْيَيْتَهُ بالعَفْوِ مِنكَ وزِدْتَهُ ... لِبَاسَ أَمَانٍ مِنْ عِقَابِ العَوَاقِبِ)
(وأَحَرزْتَ مُلْكَ الأرضِ بالسَّيْفِ عَنْوَةً ... وَعبدتَّ مَنْ فِي شَرْقِها والمغَاربِ)
(تَوَلَّيْتَ هَذَا الأَمْرَ فِي خَيْرِ طَالِعٍ ... لأَسْعَدِ نَجْمٍ للسَّعَادةِ ثَاقِبِ)
قلت وَالله إِنَّهَا لقصيدة فصيحة فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى صَحِيحَة وَمَا أحسن بَيتهَا الثَّانِي وتشبيهه البديع الْمعَانِي وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة رَابِع شهر صفر سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة بِتَقْدِيم السِّين وَقد أناف على السّبْعين وَوَقعت لَهُ كَرَامَة بعد مَوته ذكرهَا الْعَلامَة تَقِيّ الدّين الفاسي قَالَ لما مَاتَ أَبُو نمي مُحَمَّد بن أبي الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة امْتنع الشَّيْخ عفيف الدّين الدلاصي من الصَّلَاة عَلَيْهِ فَرَأى فِي مَنَامه تِلْكَ اللَّيْلَة السيدة فَاطِمَة ابْنة رَسُول الله
وعَلى أَبِيهَا وَعَلَيْهَا وذويها بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَالنَّاس يسلمُونَ عَلَيْهَا فجَاء الشَّيْخ ليسلم عَلَيْهَا فَأَعْرَضت عَنهُ ثَلَاث مَرَّات ثمَّ إِنَّه تحامل وسألها عَن سَبَب إعراضها عَنهُ فَقَالَت يَمُوت وَلَدي وَلم تصَل عَلَيْهِ فَاعْتَذر مِنْهَا وَتَابَ عَن مثل ذَلِك واعترف بالْخَطَأ وَله من الْوَلَد ثَلَاثُونَ ذكرا واثنتا عشرَة أُنْثَى مِنْهُم زيد الْأَكْبَر وَزيد الْأَصْغَر وَأَبُو الْغَيْث وشميلة وعطيفة ورميثة وَسيف وَأسد ومقبل وحميضة وَعبد الله ثمَّ وَليهَا بعد أبي نمي ولداه حميضة يلقب معز الدّين ورميثة يلقب أَسد الدّين فِي حَيَاته ودعي لَهما على زَمْزَم قبل وَفَاته بيومين فِي السّنة الْمَذْكُورَة سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَاسْتمرّ شَرِيكَيْنِ فِي الإمرة فَلَمَّا وصل الْحَاج وصل صحبته ثَلَاثُونَ أَمِيرا فجَاء إِلَيْهِم أَبُو الْغَيْث وعطيفة وَشَكوا إِلَيْهِم من حميضة ورميثة أَنَّهُمَا أسراهما وربطاهما واستبد بالإمرة دونهمَا وأنهما أَحَق مِنْهُمَا فَمَال الْأُمَرَاء إِلَيْهِمَا فَلَمَّا انْقَضى الْمَوْسِم أمسك الْأُمَرَاء رميثة وحميضة وأوثقوهما فِي الْحَدِيد وَذهب بهم إِلَى مصر وولوا أَبَا الْغَيْث وأخاه عطيفة فأقاما إِلَى عَام ثَلَاث وَسَبْعمائة ثمَّ عَاد كل من حميضة ورميثة إِلَى إمرة مَكَّة المشرفة عَام أَربع وَسَبْعمائة وأظهرا عدلا وأسقطا بعض المكوس ثمَّ ساءت سيرتهما فَبعث الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ابْن الْملك الْمَنْصُور قلاوون من يقبض عَلَيْهِمَا فانهزما(4/242)
ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة حج النَّاصِر ففرا مِنْهُ ثمَّ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة وصل عَسْكَر من صَاحب مصر الْمَذْكُور نَحْو ثَلَاثمِائَة فَارس وأمدهم صَاحب الْمَدِينَة بِخَمْسِمِائَة فَارس وَوصل مَعَهم أَبُو الْغَيْث فَلَمَّا سمع بهم رميثة وحميضة خرجا إِلَى حلى بن يَعْقُوب ثمَّ وَليهَا أَبُو الْغَيْث بمفرده فعزلهما بأخيهما أبي الْغَيْث مُنْفَردا وجهز مَعَه عسكراً قَوِيا فاستولى على مَكَّة أَيَّام الْمَوْسِم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ أَقَامَ الْعَسْكَر عِنْد أبي الْغَيْث شَهْرَيْن وَكَانَت مَكَّة مقحطة جدا فتعب الْجند من الغلاء وضجر أَبُو الْغَيْث من النَّفَقَة عَلَيْهِم فَكتب لَهُم خطة بالاستغناء عَنْهُم ففارقوه فَلم يلبث بعدهمْ سوى جُمُعَة حَتَّى قَصده أَخُوهُ حميضة فقاتله فَانْهَزَمَ أَبُو الْغَيْث وَقتل من أَصْحَابه جمَاعَة وفر هُوَ إِلَى أَخْوَاله هُذَيْل بوادي نَخْلَة وَأرْسل حميضة إِلَى الْملك النَّاصِر يستعطفه فَلم يرض عَنهُ وَأرْسل أَبُو الْغَيْث يستنصره فوعده بالنصر ثمَّ التقى الأخوان فِي رَابِع ذِي الْحجَّة عَام أَربع عشرَة وَسَبْعمائة فغلب حميضة أَخَاهُ أَبَا الْغَيْث فَأسرهُ ثمَّ أَمر بعد ذَلِك بعض عبيده بقتْله فَقتله بخيف بني شَدِيد ذبحا بِحَضْرَة النَّاس فهالهم ذَلِك قَالَ فِي عُمْدَة الطَّالِب إِن حميضة قتل أَخَاهُ أَبَا الْغَيْث على فرَاشه وَحمله إِلَى دَاره ثمَّ استدعى إخواته للضيافة فَاجْتمعُوا فَمَا راعهم أَلا أَبُو الْغَيْث مقتولاً فِي جَفْنَة مسلوقاً كَمَا هُوَ وَقد وضع بَين أَيْديهم وعَلى رَأس كل وَاحِد مِنْهُم غلامان أسودان من غلْمَان حميضة مَعَهم السِّلَاح فأذعنوا لَهُ بِالْملكِ قهرا ودامت لَهُ الْولَايَة على مَكَّة حَتَّى فَارقهَا فِي رَمَضَان سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة لما سمع بوصول أَخِيه رميثة ثمَّ وَليهَا رميثة مُنْفَردا مُتَوَلِّيًا إمرة مَكَّة المشرفة فِي عَسْكَر مَعَه من مصر وَذَلِكَ فِي سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة فَلَمَّا سمع حميضة فزع لذَلِك وَقبل وصولهم إِلَى مَكَّة بِسِتَّة أَيَّام أَخذ المَال من النَّقْد والبز وَهُوَ مائَة حمل وأحرق الْبَاقِي فِي الْحصن الَّذِي فِي الجديدة من وَادي مر وَقطع ألفي نَخْلَة وَكَانَ وُصُول الْعَسْكَر صُحْبَة الشريف رميثة إِلَى مَكَّة يَوْم السبت منتصف رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فأقاموا بهَا ثَلَاثَة عشر يَوْمًا ثمَّ توجهوا جَمِيعًا إِلَى الحليف وَهُوَ حصن بَينه وَبَين مَكَّة سِتَّة أَيَّام كَانَ حميضة بعد فعل مَا فعله التجأ إِلَى صَاحبه(4/243)
وصاهره لَعَلَّه يحتمى بِهِ فواقع الْعَسْكَر حميضة وَصَاحب الْحصن وَأخذُوا جَمِيع أَمْوَال حميضة وخزانته وَنهب الْحصن وأحرق وَأسر ولد حميضة ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَسلم إِلَى عَمه رميثة ثمَّ رَجَعَ الْجَيْش إِلَى مَكَّة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة واستمروا إِلَى أَن حضر الْموقف وَرَجَعُوا وَاسْتمرّ رميثة بِمَكَّة وَنَجَا حميضة بِنَفسِهِ فقصده أَخُوهُ الشريف رميثة والعسكر فحاربوه فهرب حميضة ثمَّ احتال عَلَيْهِ النَّاصِر ملك مصر واعتقله ثمَّ احتال فِي الْهَرَب وَذَلِكَ أَنه أَمر بعض غلمانه الْخَاصَّة أَن يهيىء لَهُ فرسا سَابِقًا ليهرب عَلَيْهِ فَلَمَّا تمم لَهُ ذَلِك حضر الْغُلَام إِلَى بَاب السجْن وَالْفرس مَعَه فأوقفه نَاحيَة ثمَّ دخل إِلَى سَيّده ثمَّ لبس السَّيِّد لِبَاس الْغُلَام والغلام لِبَاس السَّيِّد فَلَمَّا خرج على الموكلين لم يشكوا أَنه الْغُلَام فهرب على فرسه وَقصد الْعرَاق واستنصر بِملكه خدابنده بن أرغون بن ابغا بن هولاكو ملك التتار وَطلب مِنْهُ جَيْشًا يَغْزُو بِهِ مَكَّة فَجهز مَعَه جَيْشًا عدتهمْ عشرَة آلَاف فَارس وَأمر عَلَيْهِم السَّيِّد أَبَا طَالب الدلقندي وَأمرهمْ بِطَاعَة حميضة فَسَارُوا إِلَى الْبَصْرَة وَمِنْهَا إِلَى القطيف طَالِبين أَطْرَاف الشَّام وَأرْسل حميضة إِلَى أُمَرَاء الْعَرَب من كل نَاحيَة فَأَجَابُوهُ والتجئوا إِلَى أُمَرَاء طيىء بالبادية فَقدر الله موت السُّلْطَان خدابنده وَكتب الْوَزير رشيد الدّين الطَّبِيب إِلَى عَسْكَر المغول بالْخبر فَلم يدبروا واشتهر الْخَبَر فطمع الْعَرَب فِي عَسْكَر المغول وَنَكَثُوا الْعَهْد وثاروا وأوقدوا نَار الْحَرْب فحارب حميضة بِنَفسِهِ ودافع عَن عَسْكَر المغول دفاعاً شَدِيدا بِحَيْثُ إِن أَبَا طَالب قَالَ مَا زلت أسمع بحملات عَليّ بن أبي طَالب حَتَّى رَأَيْتهَا عيَانًا فِي حميضة بن أبي نمي وتسحب حميضة وَمَعَهُ أَبُو طَالب وَملك شاه وَمَعَهُمْ ثَلَاث وَعِشْرُونَ رَاحِلَة إِلَى أَن قرب إِلَى مَكَّة وَكتب إِلَى أَخِيه رميثة يَسْتَأْذِنهُ فِي دُخُول مَكَّة فَمَنعه أَلا بِإِذن سُلْطَان مصر وَأرْسل إِلَى مصر يسْتَأْذن لَهُ وَإِن حميضة لم يكن مَعَه أَلا فرس وَاحِد فَكتب السُّلْطَان جَوَابا لرميثة إِن حضر حميضة إِلَى الديار المصرية على عزم الْإِقَامَة بهَا قابله السُّلْطَان بالأمان وسامحه من ذنُوبه السالفة وَأما الْحجاز فَلَا يُقيم بِهِ وَكتب إِلَى أبي طَالب الدلقندي وَملك شاه بالأمان وَأرْسل عدَّة أُمَرَاء إِلَى مَكَّة لإحضار حميضة وَلَو حضر من التتار فوصلوا إِلَى مَكَّة وَأَرْسلُوا إِلَى حميضة فِي معاودة الطَّاعَة وَأَن يتَوَجَّه مَعَهم إِلَى الْأَبْوَاب فَاعْتَذر بِالْعدمِ وَطلب مَا يَسْتَعِين بِهِ(4/244)
فَأَعْطوهُ فَلَمَّا قبض المَال تغيب فعادوا إِلَى الْقَاهِرَة فِي سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة فَلَمَّا كَانَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة أَو فِي أَوَاخِر السّنة الَّتِي قبلهَا وثب على أَخِيه رميثة وَاسْتولى على مَكَّة فَخرج مِنْهَا أَخُوهُ رميثة إِلَى نَخْلَة فَقطع حميضة الْخطْبَة عَن النَّاصِر وخطب لأبي سعيد بن خدابنده ملك التتار فانزعج النَّاصِر لذَلِك وَأرْسل عسكراً لإحضار حميضة بِسَبَب مَا فعل فى مَكَّة من خطبَته لصَاحب الْعرَاق خدابنده وَأَخذه أَمْوَال التُّجَّار ومحاربته أَخَاهُ رميثة وإخراجه إِيَّاه من مَكَّة وَقد كَانَ فعل ذَلِك كُله فَلَمَّا بلغه فر من مَكَّة فَلَمَّا دَخلهَا عَسْكَر النَّاصِر وَمنعُوا العبيد من حمل السِّلَاح وَنَادَوْا بالأمان وأظهروا الْعدْل فأرسلوا فِي طلب حميضة فَإِن السُّلْطَان ألزمهم بتحصيله وَحمله إِلَى مصر وَألا يعودوا إِلَى الديار المصرية أَلا بحميضة وَأَرْسلُوا إِلَى الْعَسْكَر أَمِيرا يُقَال لَهُ بهادر الإبراهيمي كَانَ من أهل يَنْبع فَلَمَّا وصلوا توجه الإبراهيمي لمحاربة حميضة وتقاربا فَلم يقدم الإبراهيمي على مواجهته وفر حميضة فَاقْتضى رَأْي الْعَسْكَر أَن يلزموا رميثة والإبراهيمي باتهامهما أَنَّهُمَا بَاطِنا على حميضة حَتَّى فر وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِمَا رَابِع عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام بعد انْقِضَاء أَيَّام التَّشْرِيق وَأَرْسلُوا بهما تَحت الاحتفاظ إِلَى مصر فَلَمَّا وصلا مصر رسم على الشريف رميثة ثمَّ شفع فِيهِ فَأكْرمه السُّلْطَان ورتب لَهُ كل يَوْم شريحتين ذَهَبا وَكَانَ يطلع إِلَى الدِّيوَان إِلَى يَوْم من الْأَيَّام خرج إِلَى أَطْرَاف مصر وَكَانَ قد هيئت لَهُ النجب فَركب وفر فَلَمَّا علم السُّلْطَان بِهِ أرسل فِي إثره وألزم بعض مَشَايِخ الْعَرَب وَكتب إِلَى شيخ آل حَرْب يَقُول لَهُ هَذَا هرب إِلَى بلادك مُعْتَمدًا عَلَيْك وَلَا أعرفهُ أَلا مِنْك وَإِن لم تأتني بِهِ فَأَنت خصمي فَأَنت الَّذِي أعنته على الْخُرُوج فَركب شيخ آل حَرْب بالهجن السَّبق وَسَار مجداً حَتَّى أدْرك الشريف رميثة تَحت الْعقبَة وَقد اطْمَأَن فَنَامَ فَجَلَسَ عِنْد رَأسه وَقَالَ لَهُ قُم يَا أسود الْوَجْه فَقَالَ لَهُ الشريف رميثة صدقت لَو لم أكن أسود الْوَجْه مانمت حَتَّى أدركتني فَلَزِمَهُ وَدخل بِهِ إِلَى مصر فَوضع فِي السجْن الْكَبِير واحتفظ عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِ فِي شهر جُمَادَى الأولى سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة وَتوجه إِلَى مَكَّة وَكَانَ أمرهَا لِأَخِيهِ عطيفة الْآتِي ذكره على الْفَوْر وولوا على مَكَّة الشريف عطيفة(4/245)
ثمَّ وَليهَا الشريف عطيفة بن أبي نمي من الْملك النَّاصِر وأنفذ مَعَه عسكراً فبلغوها سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة وَعَلَيْهِم أميران وَأَقَامُوا عِنْده ثمَّ توجه الأميران اللَّذَان كَانَا بِمَكَّة الْعَام الماضى وَكتب الشريف عطيفة أَن القواد أَطَاعَته وَأَن الشريف حميضة عزم الْيمن وتفرق عَنهُ العربان وَبَنُو شُعَيْب الَّذين كَانُوا مَعَه جنده ورخصت الْبِلَاد وَأمنت النَّاس على أَمْوَالهم وَدِمَائِهِمْ فَلَمَّا بلغ الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون صَاحب مصر ذَلِك خرج إِلَى الْحَج تَاسِع ذِي الْقعدَة بعد الْحَاج وَوصل إِلَى مَكَّة بتواضع وانكسار وذل بِحَيْثُ إِن بعض النَّاس حسن لَهُ الطّواف رَاكِبًا كَمَا فعله
فَقَالَ وَمن أَنا حَتَّى أتشبه بالنبى
وَالله مَا أَطُوف أَلا مَعَ الْحجَّاج فَكَانُوا يدْفَعُونَ عَنهُ النَّاس وَهُوَ يَنْضَم إِلَيْهِم يَقُول لعَلي أقبل برحمة وَاحِد مِنْهُم وَأبْدى من الْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان وَالْخَيْر فِي الْحَرَمَيْنِ مَا لَا يُوصف وَسَأَلَهُ التُّجَّار وَأهل مَكَّة أَن يبْقى عِنْدهم عسكراً لِئَلَّا يرجع إِلَيْهِم حميضة فَفعل وَاتفقَ ذَلِك الْعَام أَن شخصا من أكَابِر خدام الدولة طلع إِلَى الْبَيْت ليباشر فِي الْكسْوَة وَجلسَ على طُنفِ الْبَيْت الشريف فَأنْكر النَّاس جُلُوسه وَعدم أدبه فَأَخذه النعاس فَسقط من أَعلَى الْبَيْت إِلَى المطاف فَكَانَ أعظم عِبْرَة لمن اعْتبر وعزم السُّلْطَان إِلَى مصر فَقدم حميضة من الْيمن بِجَيْش سنة عشْرين وَسَبْعمائة فَأَرَادَ دُخُول مَكَّة فَلم يظفر وانتصر عَلَيْهِ عطيفة وَمن مَعَه من الْعَسْكَر المقيمين بِمَكَّة الَّذين أبقاهم النَّاصِر فَلَمَّا ولى هَارِبا خرج مَعَه ثَلَاثَة من المماليك وَأَقَامُوا عِنْده وَكَانَ بِمَكَّة أَمِير الْعَسْكَر يُسمى بيبرس الْحَاجِب أرسل إِلَى الشريف حميضة يرغبه فى مَكَّة وَالصُّلْح وَالْحلف وَكَانَ الشريف حميضة بِقرب نَخْلَة فَقَالَ لَهُ الشريف حميضة أرسل إِلَى أحد أولادك يكون عِنْدِي رهينة فَأرْسل إِلَيْهِ الْأَمِير بهدية صُحْبَة وَلَده وَجَمَاعَة فَفِي حَال خُرُوجهمْ إِلَيْهِ جَاءَ الْخَبَر بِمَوْت الشريف حميضة وَأَنه وثب عَلَيْهِ بعض مماليكه وَهُوَ نَائِم فَقتله جَاءَ بِهَذَا الْخَبَر رجل من الْأَعْرَاب فَأنْكر الْأَمِير وُقُوع ذَلِك وَظن أَن ذَلِك مكيدة فتوقف عَن إرْسَال وَلَده والهدية فَلَمَّا كَانَ الْمسَاء طرق بَاب المعلاة بِمَكَّة فَفتح فَإِذا مَمْلُوك اسْمه استدمر وَهُوَ على حجرَة حميضة وصل إِلَى مَكَّة فَأرْسل الْأَمِير ولديه نَاصِر الدّين مُحَمَّد وشهاب الدّين أَحْمد إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة بِهَذَا الْخَبَر وجهز من توجه لإحضار سلب حميضة(4/246)
والمملوكين الباقيين فأحضر السَّلب وَأحد المملوكين وَقيل إِن الثَّالِث مَاتَ فألزم صَاحب نَخْلَة بإحضاره وتوعده إِن تَأَخّر فَأحْضرهُ وَاسْتمرّ الْأَمِير بيبرس إِلَى أَن عَاد الْجَواب بِطَلَبِهِ فَتوجه فِي شعْبَان وَوصل إِلَى مصر أَوَائِل رَمَضَان فشمله الإنعام السلطاني وَكَانَ مَعَ الشريف حميضة هَذِه المهرة عزيزة اسْمهَا جُمُعَة طلبَهَا مِنْهُ السُّلْطَان فِي السَّابِق فَلم يسمح لَهُ بهَا وَلما وصل الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أَمر بقتل الْمَمْلُوك الْقَاتِل وَهُوَ أحد مماليك ثَلَاثَة للسُّلْطَان هربوا لما كَانَ بِمَكَّة لِلْحَجِّ ووصلوا إِلَى حميضة اسْمه استدمر أخبر أَنه قتل حميضة اغتاله وَهُوَ نَائِم وفر على حجرَة حميضهْ الْمُسَمَّاة جُمُعَة الْمَشْهُورَة ثمَّ جرد سَيْفه وَإِذا بِهِ أثر الدَّم وَكَانَ ذَلِك فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشْرين وَسَبْعمائة وَذكر اليافعي أَن حميضة كَانَ يَقُول لأبي خمس فَضَائِل الشجَاعَة وَالْكَرم والحلم وَالشعر والسعادة فالشجاعة لعطيفة وَالْكَرم لأبي الْغَيْث والحلم لرميثة والسعادة لي حَتَّى لَو قصدت جبلا لدهكته وَمِمَّا قيل فِي حميضة قَول موفق الدّين الحديدى قصيدة هِيَ // (من الْخَفِيف) //
(قَدَحَ الوَجْدُ فِي فُؤَادِى زِنَادا ... مَنَعَ الجَفْنَ أنْ يَذُوقَ الرُّقَادَا)
(وفُؤَادُ الشَّجِيِّ يَوْمِ الْآل ... سَاقهُ سَائِقُ الظُّعُونِ وَقَادَا)
(بَدِّلينى بِالوَصْلِ هَجْراً وبالزوْرَة ... ِ صَدًّا وبالتَّدَانِى بِعَادَا)
(يَا مُعِيدَ الحَديثِ عُدْنِيهِ عَنْهُمْ ... مَا أَلَذَّ الَحدِيثَ عَنْهُم مُعَادا)
(هاتِ بِاللَّه يَا مُحَدِّثُ حَدِّثْ ... بِجِيَادٍ جَاد الغَمَامُ جِيَادا)
(بَلَدًا بِالشَّرِيفِ شَرَّفَهُ الله ... بِقَاعًا شيحَانُهُ وَوِهَادا)
(مَلِكٌ مِنْ قَتَاَدة مَلأَ الأَرْضَ ... نِصَالاً مَحْشُودَةً وصِعَادا)
(إِن أكُنْ فِي حميضَةٍ زِدتُّ فى الْمَدْحِ ... فَقَدْ زَادَ فِى نَوَالِى وَزَادَا)
(رَجُلٌ سَالَمَ المسالِمَ فِي الله ... ِ وفِى اللهِ للمُعَادِينَ عَادَى)
(عَادَ أبْدَى أوْلَى فَوَالَى تَعَالَى ... عَزَّ أَعْطَى سَطَا أَفَادَ أَبَادَا)
(جَادَ أغْنَى عَلاَ سَمَا جَلَّ جَلَّى ... ظُلَمَ الظُّلْمِ عَدْلُهُ سَارَ سَادَا)
(حَسَنُ السَّمْتِ لَيْسَ يَحْسُنُ أَنْ تَسْمَعَ ... إِلاَّ فِي مِثْلِهِ الإنْشَادَا)
(إِبْنِ بِنْتِ النَّبيِّ لَمَ يَجْعَلِ اللهُ ... سِوَاكُمْ لأرْضِهِ أَوْتَادَا)(4/247)
(يَا رِكَابَ الآمَالِ ويحَكِ بالنُّجْحِ ... بحصنِ الجَدِيدِ أُمِّى نِجَادا)
(يَا جَوَادَ الزَّمَانِ مَا زُرْتَ مَعْنَاهُ ... ابْتُ مِنْ عَنْدِهِ أَقُودُ جَوادَا)
(كُلُّ شِعْرٍ أَتَاكُمُ غَيْرُ شِعْرِي ... يَا أَبا زيد لَيْسَ يَسْوَى المِدَادَا)
وَقَالَ فِي الْعُمْدَة إِن السُّلْطَان النَّاصِر هُوَ الَّذِي دس عَلَيْهِ من قَتله غيلَة وَالله أعلم بالحقائق ثمَّ إِن السُّلْطَان أطلق الشريف رميثة حِينَئِذٍ من السجْن وَأحسن إِلَيْهِ وأشركه فِي إمرة مَكَّة مَعَ أَخِيه عطيفة وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَت سنة قحط لعدم الأمطار وَعدم الْوَاصِل من الْبَحْر فَتوجه الشريف عطيفة إِلَى مصر وشكا ذَلِك فرسم السُّلْطَان بِحمْل الْحبّ إِلَيْهَا ورتب لصَاحب مَكَّة كل عَام شَيْئا يحمل إِلَيْهِ من بلدين بالصعيد وألزمه أَن يسْقط المكوس الَّتِي تُؤْخَذ من مَكَّة على المأكولات الَّتِي تجلب إِلَيْهَا فَفعل ذَلِك وَفِي موسم سنة 730 ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة اتّفق أَن أهل الْعرَاق جَاءُوا بفيل عَظِيم جعلُوا محملهم عَلَيْهِ فتطير الْعَالم مِنْهُ وَقَالُوا هَذَا عَام الْفِيل ثمَّ دخلُوا بِهِ مَكَّة ووقفوا بِهِ بِعَرَفَة ثمَّ توجهوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة المشرفة فَلَمَّا وصلوا الفريش وَقدمُوا على الْبَيْدَاء أوقفهُ الله فَلم يسْتَطع الْمَشْي فضربوه ضربا مبرحاً فَلم يبرح فَلم يزَالُوا يضربونه حَتَّى مَاتَ هُنَالك وَقدر الله بعد إتْمَام الْحَج بِمَكَّة أَن سَافر أَمِير أول وَتَأَخر أَمِير الْمحمل الْمصْرِيّ الْمُسَمّى أزدمر الخازندار تَأَخّر لصَلَاة الْجُمُعَة فَلَمَّا صعد الْخَطِيب الْمِنْبَر عَبث بعض العبيد بخطف شَيْء من أَمْتعَة الْحجَّاج بِبَاب إِبْرَاهِيم فصرخت النَّاس فارتج الْمَسْجِد فَفَزعَ السَّيِّد مبارك بن عطيفة وفواده بِآلَة الْحَرْب وركبوا الْخَيل وتبعهم الشريف عطيفة فبادر ولد أَمِير الْحَاج لتخميد الْفِتْنَة فأصابته حَرْبَة فَفَزعَ وَالِده أَمِير الْحَاج أزدمر وهم بقتل الضَّارِب فأصابته حَرْبَة أُخْرَى فماتا جَمِيعًا فَاشْتَدَّ الْأَمر وَعظم وهجم بِالْخَيْلِ إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام ونهبت الْأَسْوَاق وتعب الشريف عطيفة وتحير فِي أمره وَلم يسْتَطع ردهم وَلَا قهرهم وَكَانَ حَتَّى الْحَاج نَفسه ينهب بعضه بَعْضًا فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك أَمر بقتل الْأَشْرَاف وَقطع الْأَشْجَار من وادى نَخْلَة والأودية وَأجلى نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وجهز عسكراً وَأمرهمْ أَن يقيموا بِمَكَّة وَلَا يرتحلوا حَتَّى يقضوا حَاجته فِي الْمَأْمُور فيهم بذلك وَكَانَ شخص من أهل الْعلم(4/248)
يُسمى قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْقزْوِينِي واعظاً فَقَامَ وَوعظ السُّلْطَان وَنَهَاهُ أَن يحدث فِي حرم الله أَو أَبنَاء رَسُول الله
وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا الرَّأْي أَن ترضيهم وتأخذهم بالطيب فَأرْسل إِلَيْهِم بعض الْأُمَرَاء بِدُونِ مَا كَانَ جهزه ونواه وعزل الشريف عطيفة لأَنهم اتَّهَمُوهُ بقتل الْأَمِير أزدمر الخازندار الْمَذْكُور بعد أَن دَامَ سُلْطَانه عَلَيْهَا إِلَى سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَرَضي عَن الشريف رميثة وَأَعَادَهُ لولاية مَكَّة فوليها رميثة بمفرده وولاه إمرتها مُفردا مُسْتقِلّا إِلَى عَام أَربع وَثَلَاثِينَ وَمضى عطيفة إِلَى مصر بعد عَزله وَوصل مُتَوَلِّيًا لإمرة مَكَّة شَرِيكا لرميثة ثمَّ أخرجه رميثة لَيْلَة رحيل الْحَاج من مَكَّة من هَذِه السّنة ثمَّ اشْتَركَا فِي ذِي الْحجَّة من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ثمَّ فِي رَمَضَان من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ هجم رميثة مَكَّة وَخرج مِنْهَا بعد قتل وزيره الرباع وَبَعض أَصْحَابه وَعَاد إِلَى الجديدة ثمَّ اصطلحا واشتركا فِي الإمرة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وتوجها إِلَى مصر للْملك النَّاصِر مطلوبين فعوق عطيفة فِيهَا وَلزِمَ حَتَّى مَاتَ بهَا فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين بالقبيبات ظَاهر الْقَاهِرَة وَدفن هُنَاكَ وَكَانَ مَوْصُوفا بشجاعة مفرطة رَحمَه الله تَعَالَى وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول الْعَلامَة شرف الدّين يحيى الْمَعْرُوف بالقشر المكى قصيدة مِنْهَا // (من الْكَامِل) //
(تَجرِى مَقَادِيرُ الْإِلَه بمَا تَشَا ... والدَّهْرُ قَدْ ألْقى إليكَ زِمَامُهُ)
(أللهُ أَعْطاكَ الذِى أَمَّلْتَهُ ... فَدَعِ الحَسُودَ تُمِيتُه أَوْهَامُهُ)
(مَا للسُّكُوتِ إفَادةٌ عَنْ كلِّ مَنْ ... أَمدَتْ بِه بَيْنَ الوَرَى أَجْرَامُهُ)
(هَا قَدْ قَدَرْتَ فَلاَ تَكُنْ مُتَوَانيًا ... فَالأُفْعُوَانُ قَوِيَّةٌ أَسْمَامُهُ)
(لاَ تَحْلمَنَّ عَنِ العَدُوِّ تَكَرُّمًا ... كَمْ سَيِّدٍ ضَرَّتْ بِهِ أَحْلاَمُهُ)
(لاَ تَحْقرنَّ أَخَا العَدَاوة إِنَّهُ ... كَالجَمْرِ يُوشِكُ أَنْ يَضُرَّ ضِرامُهُ)
(أَنْتَ المليكُ ابنُ المليكِ أصَاَلةً ... فَالجُودُ مِنْكُمْ وُفِّرَتْ أَقْسَامُهُ)
(أَوَ مَا عَلِمْتَ بأنَّ فِيك فَصاحةٌ ... مَا حَازها قُسٌّ ولاَ أَقْوَامُهُ)
(ليثٌ تَخَافُ الأُسْدُ مِنْ سَطَوَاتِهِ ... غيثٌ يَجُودُ عَلَى الأَنَامِ غَمَامُهُ)
(مَنْ لَيْسَ مَشْغُولَ البَنَانِ عَن النَّدى ... يَوْماً إِذا شَغَلَ اليَمِينَ حُسَامُهُ)
وَعَاد رميثة مُتَوَلِّيًا مُنْفَردا فوصل فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَلم يزل مُنْفَردا بهَا(4/249)
مُسْتقِلّا إِلَى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة كَمَا سَيَأْتِي وَوَقع فِي ولَايَة الشريف رميثة بن أبي نمي وَاقعَة وَهِي أَنه لثلاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَقعت فتْنَة بِعَرَفَة بَين الْحجَّاج المصريين وَبَين أهل مَكَّة من أهل مَكَّة من قبل الظّهْر إِلَى غرُوب الشَّمْس قتل فِيهَا جمَاعَة وَمن التّرْك سِتَّة عشر نَفرا وَمن أَتبَاع الْأَشْرَاف نَاس قَلِيل وَنَفر النَّاس من عَرَفَة قبل الْغُرُوب وسلكوا طَرِيق الْمظْلمَة وَلم يقعوا بِمُزْدَلِفَة ورحل الْحجَّاج جَمِيعهم يَوْم النَّفر ونزلوا الزَّاهِر وَلم يطوفوا خوفًا على أنفسهم وتعرف هَذِه السّنة عِنْد أهل مَكَّة بِسنة الظلمَة وَأُصِيب فى السّنة السَّيِّد مُحَمَّد بن عقبَة بن إِدْرِيس بن قَتَادَة بن إِدْرِيس بن مطاعن يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام ثمَّ فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَقع بَين أهل مَكَّة كَذَلِك وأمير الْحَاج حَرْب وَقتل جمَاعَة وَسلم الله الْأَشْرَاف وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَسلم الله الْحَج من النهب ببركة الشريف رميثة غير أَنه كَانَ غلاء عَظِيم بِيعَتْ الويبة الشّعير بدينارين والرطل البقسماط بِثَلَاثَة دَرَاهِم والويبة الدَّقِيق بِخَمْسِينَ درهما والإردب الْقَمْح بِمِائَتي دِرْهَم وَكَانَ الْحَاج الْمصْرِيّ والشامي كَبِيرا جدا وفيهَا أَعنِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة اشْترى الشريف عجلَان بن رميثة وَأَخُوهُ الشريف ثقبة بن رميثة اشتريا مَكَّة من أَبِيهِمَا رميثة بستين ألف دِرْهَم لِأَنَّهُ كبر سنا وَصَارَ أَوْلَاده كل مِنْهُم يحكم فِي الْبِلَاد بِمَا شَاءَ وَاخْتَارَ فَمَا رَضِي بذلك ملك مصر لما بلغه وَأرْسل إِلَى الشريف ثقبة وخدعه وَطَلَبه إِلَيْهِ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ بِمصْر حَبسه فَعِنْدَ مَا بلغ الشريف عجلَان حبس أَخِيه ثقبة أَخذ جلاب الْيمن جَمِيعًا فَكَانَ ذَلِك بعض أَسبَاب الغلاء وَأعَاد رميثة إِلَى إمرة مَكَّة فَعَاد وَاسْتمرّ إِلَى سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فعزل عَنْهَا بِابْنِهِ عجلَان وَكَانَ الْملك الْكَامِل ولاه ذَلِك فِي مصر فوصل مَكَّة مُتَوَلِّيًا ودخلها فِي حَيَاة أَبِيه وَتُوفِّي وَالِده رميثة فِي النّصْف من شهر ذِي الْقعدَة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الشريف رميثة سيداً جَلِيلًا فَاضلا نبيلاً شَاعِرًا كَرِيمًا حازماً حَلِيمًا وَلما تغلب ابْنه أَحْمد على الْحلَّة وأعمالها من الْعرَاق كتب إِلَيْهِ أَبوهُ رميثة قصيدة يذكر فِيهَا شرف مَكَّة وفضائلها ويذم الْعرَاق وَأَهله فَلَمَّا قتل أَحْمد وصل الْخَبَر إِلَى(4/250)
أَبِيه فَقَالَ قد علمت مُنْذُ تعرض لبلاد المغول أَنه مقتول وَانْقطع الْحَاج عَن مَكَّة خوفًا من أَبِيه رميثة وَكَانَت وَفَاة رميثة يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة كَمَا تقدم وطيف بِهِ أسبوعاً كَمَا هِيَ عَادَة أسلافه وَذَلِكَ وَقت صَلَاة الْجُمُعَة والخطيب على الْمِنْبَر فَكف حَتَّى فرغوا من الطّواف بِهِ وَكَانَ ابْنه عجلَان يطوف مَعَ الجنارة ثمَّ جعله فِي مقَام الْخَلِيل على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَدفن بالمعلاة عِنْد قبر أم الْمُؤمنِينَ السيدة خَدِيجَة بنت خويلد زوج النبى
كَانَت ولَايَته على مَكَّة سبع مَرَّات ومجموعها ثَلَاثُونَ سنة أَو أَكثر مُسْتقِلّا أَربع عشرَة سنة وَنصف سنة أَو أَزِيد وشريكاً لِأَخِيهِ حميضة فِي مرَّتَيْنِ مجموعهما نَحْو عشر سِنِين وشريكاً لِأَخِيهِ عطيفة سِتّ سِنِين أَو أَزِيد وَكَانَ يكنى أَسد الدّين ويلقب أَبَا عَرَادَة وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد أَحْمد وَسَنَد وثقبة وعجلان ومغامس رَحمَه الله تَعَالَى وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول موفق الدّين الحديدي من الْكَامِل
(باللهِ هاتِ عَنِ اللَّوَى وطُلُولِهِ ... وعَنِ الغَضَا وجَلالِهِ وحُلُولِهِ)
(أَطِلِ الحَديثَ فَإِنَّ تَقْصِيرَ الذِي ... يَلْقَى مِنَ التَّبْريحِ فى تَطْويلِهِ)
(عَلِّلْ بِذكْرِ العَامِرِيَّةِ قَلْبَهُ ... فَشِفَاءُ عِلَّةِ ذَاكَ فِي تَعْلِيلِهِ)
(وإذَا عَليِلُ الرِّيحِ أَهْدَى نَحْوَهُ ... نَشْرًا فَنَشْرُ عَلِيله بِعَليلِهِ)
(رَشَأٌ رَنَا فَرَمَى فُؤَادَ مُحبِّهِ ... عَنْ قَوْسِ حَاجِبِه بِسَهْمِ كَحِيلِهِ)
(وحَوى القُلُوبَ بِأَسْرِهَا فِى أَسْرِهِ ... وسَبَى البَهَا بِرَسيلِهِ وأسِيلِهِ)
(وَبَيَاضِهِ وسَوَادهِ وقَويهِ ... وَضَعِيفِهِ وخَفِيفهِ وثَقِيلِهِ)
(وتَفَيَّأَ الظِّلَّ الذِى ضَمِنَتْ لَهُ اْلأيَّامُ ... بَيْنَ مَبِيتِهِ ومَقِيلِهِ)
(حَطَّ الرِّحَالَ بِمَكَّةٍ وأَقَامَ فِي ... حَرَمِ الخِلاَفةِ يَعْدَ طُولِ رَحِيلِهِ)
(جَلَبَ المديحَ لمنجبِ بنِ مُحَمِّدِ إبْنِ ... نَبِيِّهِ ابْنِ وَصيِّه ابنِ بَتُولِهِ)
وَمِنْهَا
(واقرأ تحيَّتهُ البطين ومجد إِبْراهيمِهِ ... فِي صلْب إسماعيلِهِ)(4/251)
(مَا بَيْنَ شبره وبَينَ شبيرِهِ ... شرفٌ يَطُولُ لِهَاشِمٍ وعَقِيلِهِ)
(نَسَبٌ كَمُشْقِّ الشُّمُوسِ ومَفْخَر ... باعُ الكَوَاكِبَ قَاصِرٌ عَنْ طُولِهِ)
(أَمَّا الفُرُوعُ فَلَيْس مِثْلَ فُرُوعِهِ ... وكَذَا الأُصُولُ فَلَيْسَ مِثْلَ أُصُولِهِ)
(يَابْنَ المُظَلَّلِ بَالغَمَامَةِ والذِي ... قَدْ أُنْزِلَ القُرآنُ فِى تَفْضِيلِهِ)
(مَاذا عَسَى مَدْحِى وَقَدْ نَزَلَ الثَّنَا ... فِيكُمْ مِنَ الرَّحْمنِ فِي تَنْزِيلِهِ)
(فِى هَلْ أَتَاكَ وَهَلْ أَتَى وَحَدِيدِه ... حَقَّا وغَافِرِهِ وفِى تَنْزِيله)
(قَالوا مَدَحْتَ رُمَيْثَةً فَأَجَبتُهُمْ ... لَيْسَ المَديحُ يَنَالُ غَيْرَ مُنِيلِهِ)
... ولكَيْفَ لَا أُثْنِى عَلَى مَنْ عَمَّنِي ... دونَ الوَرَى مِنْ خَيْرِهِ بِجَزِيلِهِ)
(بِنُضَارِهِ وِلُجَيْنِهِ وثَوَابِهِ ... وثيابِهِ ورِكَابه وخُيُولِهِ)
هَذَا مَا وجدت وَلَا أعلم هَذَا آخرهَا أم لَهَا آخر وَهِي عَظِيمَة الشَّأْن من الْحسن فِي المبنى وَالْمعْنَى بمَكَان وللأديب أبي عَامر مَنْصُور بن عِيسَى بن سحبان الزيدي فِيهِ قصيدة أَولهَا // (من الْكَامِل) //
(مَا أَومَضَتْ سَحَرًا بُرُوقُ الأَبرقِ ... إِلاَّ شَرقْتُ بدَمْعِيَ المُتَرقْرقِ)
(صنَمٌ شُعِفْتُ بِهِ وغصْنُ شبابه ... غضٌّ وَبَرْدُ شبيبتي لم يخلَقِ)
(شقَّتْ عرى كَبِدِى شقائقُ خدِّهِ ... وبكأسِ فِتْنَتِهِ سُقِيتُ وَمَا سُقِي)
(مَا فاتَ من عُمْرٍ فِللْغِيدِ الدُّمى ... لَا أَرْشَ فِيهِ وللصَّبَابَةِ مَا بَقِى)
وَمن مديحها قَوْله // (من الْكَامِل) //
(رَجُلٌ إِذا اشْتَبَهَ الرجالُ عرفْتهُ ... بجلالِ صُورتِهِ وحسنِ المنطقِ)
(ومظفَّرُ الحملاتِ يرقصُ مِنْهُ قلبُ ... المغربِ الأَقْصَى وقلبُ المشرقِ)
(عَلَمٌ يدلُّ على كَمَالِ صفاتِهِ ... كَرَمُ الفُرُوعِ لَهُ وطيبُ المَعرقِ)
(يلقَى بوجهِ البِشْرِ طارقَ بابِهِ ... لَيْلاً ويرزقُ مِنْهُ من لم يرزقِ)
(عَزَّتْ بَنو حَسَنٍ بدَوْلته الَّتِي ... عزُّالذليلِ بهَا وأَمْنُ المفرقِ)
(هُوَ صُبْح لَيْلَتهَا وبدْرُ ظَلاَمِهَا ... ولسانُ حِكْمَتِها وصدْرُ الفيلقِ)
(لَا يتَّقَى مِنْ كُلِّ حَادِثَة بهَا ... وَبِه بِمَكْرُوهِ الحوادثِ نتَّقِي)
وَله فِي أَيْضا // (من الْخَفِيف) //(4/252)
(حَفِظَ العَهْدَ بَعدنَا أَمْ أضاعا ... وعَصَى لائتمامه أمْ أطاعا)
(ورعَى حرمةَ الجوارِ وراعَى ... أم وهَى بالفراق قلْبى وَرَاعَا)
(مَنْ يكُنْ يحمدُ الوَدَاعَ فإِنِّي ... بعد يومِ النَّوَى أذمُّ الوداعا)
(جيرتي مَا لنا حَفِظْنَا هواكُمْ ... وَغدا حبُّنا لديْكُمْ مُضَاعا)
(إنَّ مَنْ قَدَّر الفراقَ علينا ... قادرٌ أَن يقدِّرَ الإجتماعا)
(قلْ لذاتِ القناعِ هَل جئْتُ ذَنبا ... فيكِ حَتَّى أسبلْتِ دوني القناعا)
(إنَّ مَنْ أشبَعَ السوارَيْنِ يَدَّيْكِ ... لَمَجْرى الوشاح مِنْكِ أجاعا)
وَمِنْهَا // (من الْخَفِيف) //
(قل لأَهْلِ الزَّمَانِ إنى وإنْ رِيعَ ... سوَاىَ بكَيْدكُمْ مُرْتاعا)
(نحنُ فِي دولةٍ إِذا مّدَّتِ الناسُ ... إلَيْنَا شبْرًا مدَدْنا ذِرَاعا)
(طلبتْ بِي أَبَا عَرَادَة عيسٌ ... لَا تملُّ الإرقالَ والإيضاعا)
(عرستْ من رميثة بعراصٍ ... لم يزلْ نبْتُ روضها ممْرَاعا)
(نزلَتْ سوحَهُ عطاشاً جياعاً ... فَأَقَامَتْ بِهِ رواءً شِباعا)
(رَجُلٌ لَا ترَاهُ بالمالِ مفراحًا ... وَلاَ مِنْ مُلمَّة مِجْزَاعا)
(وَعَلِيهِ بِكْرُ الخلافةِ ألقَتْ ... إِذْ رَأَتْهُ رداءها والقِنَاعا)
(لَيْسَ بالنَّازلِ الوِهَاد مِنَ الأرضِ ... ولكنَّهُ يحلُّ اليفاعا)
(موقداً ناره على نَشَزِ الأرضِ ... إِذا النَّاسُ لبسوها القفاعا)
(نَمْ هَنِيئًا يَا جَاره مِلْءَ عينْيكَ ... وَلَا تخشَ نَائِبا أَن تراعا)
ثمَّ وَليهَا بعده ابْنة عجلَان بن رميثة بن أبي نمي بن مُحَمَّد بن أبي سعد الْحسن بن عَليّ بن أبي عَزِيز قَتَادَة يلقب عز الدّين ولي مَكَّة غير مرّة نَحْو ثَلَاثِينَ سنة مُنْفَردا إِلَى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين ثمَّ شَرِيكا لِأَخِيهِ ثقبة إِلَى سنة خمسين وَسَبْعمائة ولولده أَحْمد بن عجلَان وَوَقعت بَينه وَبَين أَبِيه وَإِخْوَته وَولده أَحْمد منازعات اقْتَضَت عزمه إِلَى مصر مرَارًا أَولهَا سنة موت وَالِده رميثة سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة فَوَافَقَ وُصُوله إِلَيها موت ملكهَا الْملك الصَّالح وتولية ابْنه الْكَامِل فولى الْكَامِل الشريف عجلَان مَكَّة مُنْفَردا فوصل إِلَيْهَا وقرىء مرسومه بالتولية ودعى لَهُ بعد الْمغرب بِأَعْلَى زَمْزَم على الْعَادة وَقطع(4/253)
الدُّعَاء عَن وَالِده رميثة وَذهب أَخُوهُ ثقبة إِلَى وَادي نَخْلَة وَأعْطى عجلَان أَخَاهُ مغامس أَو مُبَارَكًا الْمَكَان الَّذِي عرف بالواديين وَأظْهر الشريف عجلَان الْعدْل فِي مَكَّة وأبطل المكوس والنهب وَالْقَتْل وَخرج ربع الجبايات فَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وصل ثقبة من مصر وَبِيَدِهِ مرسوم بِنصْف الْبِلَاد وَأَن الشريف عجلَان يكون لَهُ النّصْف الآخر وَفِي سنة تسع بِتَقْدِيم التَّاء وَأَرْبَعين وصل إِلَى مَكَّة إِلَيْهِ مبارك بن عطيفة من الْيمن وهم أَن يدْخل مَكَّة فَألْقى الله فِي قلبه الرعب فَرجع وَوصل إِلَى سواكن وَمَات بهَا ثمَّ وَقع بَين الشريف عجلَان وأخيه الشريف ثقبة سنة خمسين وَسَبْعمائة فتْنَة وَكَانَ ثقبة بالجديد وعجلان بِمَكَّة فَخرج إِلَيْهِ الشريف عجلَان فَلَمَّا هم بِالْقِتَالِ مَنعه الْأَشْرَاف والقواد وَأَصْلحُوا بَينهمَا وعزم الشريف عجلَان إِلَى خيف بني شَدِيد وَدخل ثقبة مَكَّة ثمَّ عزم عجلَان إِلَى مصر وَهَذِه هِيَ السفرة الثَّانِيَة فَقطع الشريف ثقبة الدُّعَاء لِأَخِيهِ عجلَان فَلَمَّا وصل الشريف عجلَان إِلَى مصر كتب لَهُ مرسوم بإمرة مَكَّة وَأرْسل مَعَه أَمِير وَاشْترى المماليك لنَفسِهِ واستخدم حَملَة عَسْكَر وتجهز وَصَحب مَعَه حمل نشاب وقسى وَوصل إِلَى مَكَّة بِهَذَا الْجمع فعزم الشريف ثقبة وأخواه سَنَد ومغامس إِلَى الْيمن وتلقوا الْجلاب ونجلوها بحلى وَاسْتمرّ الشريف عجلَان فِي ولَايَة مَكَّة فَلَمَّا كَانَ موسم إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة وَقع بمنى قتل وَنهب من أول النَّهَار إِلَى غرُوب الشَّمْس وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْملك الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن حج فِي عَسْكَر كَبِير ووصلوا مَعَ الْأَشْرَاف السَّيِّد ثقبة وأخويه سَنَد ومغامس فَأوحى الشريف عجلَان إِلَى أُمَرَاء الْحَاج الْمصْرِيّ والشامي أَن الْملك الْمُجَاهِد نِيَّته أَن يُولى ثقبة إِذا عزمتم ويخلع كسوتكم ويكسو الْبَيْت بالكسوة الَّتِي صحبها مَعَه فأرسلوا إِلَيْهِ وعرفوه بِمَا ذكر فَأنْكر ذَلِك فَقَالُوا أعطنا ثقبة يكون رهنا عندنَا حَتَّى نَدعك تدخل فَأرْسل إِلَيْهِم بالشريف ثقبة فأجلوه وعظموه فَلَمَّا وصل وَحج هجموا عَلَيْهِ بمنى وَهُوَ نَائِم وَقد تفرق عَنهُ جماعته فنهبوا محطته وَبَعض الْحَرِيم فنجا بِنَفسِهِ إِلَى أَعلَى الْجَبَل فَلَمَّا رأى(4/254)
مَا وَقع صَاح عَلَيْهِم الْأمان إِن كَانَ لكم غَرَض بى أَنا آتيكم وَمَا فعل هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاء فسكن الْحَرْب وَنزل إِلَيْهِم فترجلوا لَهُ عَن الْخَيل وأركبوه بغلاً وذهبوا بِهِ فَمَا صفت الْمَسْأَلَة حَتَّى قتل خلق ونهبت النَّاس وألزم الْأُمَرَاء الشريف عجلَان بِحِفْظ الْحَاج غير أَن الْعَرَب وَبَعض العبيد نهبوا النَّاس مَا بَين منى وَمَكَّة وَلما وصل الْحَاج والأمراء وَادي مر فِي موسم أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة واجههم الشريف عجلَان وشكا عَلَيْهِم مَا فعله أَخُوهُ الشريف ثقبة فِي السّنة الَّتِي قبل هَذِه سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَنه أَخذ أَمْوَاله وخيله وعبيده وَقَيده فخلصه الله تَعَالَى فوعدوه بِالْولَايَةِ وطمنوا خاطره فَلَمَّا وصلوا الزَّاهِر خرج إِلَيْهِم الشريف ثقبة على الْمُعْتَاد فتكلموا مَعَه فِي الصُّلْح مَعَ أَخِيه الشريف عجلَان فَامْتنعَ فَلم يزَالُوا يلاطفونه حَتَّى دخل إِلَيْهِم فَقَالَ لَهُم الشريف ثقبة إِن كَانَ هَذَا بِأَمْر السُّلْطَان فَنعم وَإِلَّا لَا أفعل فَقبض بعض الأتراك على سيف ثقبة وَالْبَاقُونَ احتاطوا بِمن مَعَه فأنزلوهم عَن خيولهم وكبلوهم فِي الْحَدِيد هُوَ وأخويه سَنَد ومغامس وَابْن عَمه مُحَمَّد بن عطيفة وفر القواد وَالْعَبِيد ثمَّ أحضروا عجلَان وألبسوه الخلعة ودخلوا بِهِ مَكَّة وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ اثْنَان فَلَمَّا أَتموا الْحَج ذَهَبُوا بالأشراف إِلَى مصر ووضعوهم فِي الْحَبْس ودام عجلَان على ولَايَة مَكَّة مُنْفَردا مُسْتقِلّا إِلَى أَن فك ثقبة والأشراف الَّذين مَعَه وشاركه فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة وَاسْتمرّ حَتَّى عزلا بأخيهما سَنَد بن رميثة وَابْن عَمهمَا مُحَمَّد بن عطيفة ثمَّ وَليهَا سَنَد وَمُحَمّد بن عطيفة فِي سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة شَرِيكَيْنِ وَاسْتمرّ إِلَى أَوَائِل سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فَفِيهَا قدم الشريف عجلَان من مصر مُتَوَلِّيًا وأشرك أَخَاهُ ثقبة فَمَاتَ ثقبة واستقل عجلَان كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك آخر السوادة وَأخذ الشريف عجلَان وَولده أَحْمد وَذهب بهما إِلَى مصر فحبسا وجهز الْملك النَّاصِر حسن بن قلاوون عسكراً لتأييد سَنَد وَمُحَمّد بن عطيفة مقدمهم الْأَمِير بكتم المارديني وانصلح لذَلِك حَال مَكَّة حَتَّى انْقَضى الْحَج من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ قَامَت فتْنَة بَين بني حسن والعسكر الَّذِي وصل من مصر وَالشَّام للإقامة بهَا(4/255)
0 - عوض بكتم الْأَمِير وَمن مَعَه كَانَ الظفر فِيهَا للأشراف وَسبب ذَلِك أَنه أشيع بِمَكَّة أَن من نِيَّة الْعَسْكَر المقيمين بِمَكَّة الْقَبْض على شريفها الشريف سَنَد ففرت الْأَشْرَاف لما قاسوه من هَذَا الْأَمر فَإِن الشريف عجلَان وَولده أَحْمد إِلَى الْآن محبوسان بِمصْر فأشيع ذَلِك قبل قدومهم فَلَمَّا وصل الْعَسْكَر إِلَى مَكَّة أَرَادوا أَن ينزلُوا بَيْتا بالصفا للأشراف فطالبهم الشريف صاجب الْبَيْت بِالْأُجْرَةِ فضرت التركى الشريف فَقتله الرِّيف فتراكم الأتراك على الشريف فصاح لرباعته فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ جمَاعَة وَاشْتَدَّ الْأَمر فقصدت الْأَشْرَاف أجياداً فوجدوا خيلاً للترك على بَاب الصَّفَا كَانَ الْأُمَرَاء اعتمروا فهم فِي الطّواف فركبت الْأَشْرَاف تِلْكَ الْخَيل فَبلغ الْأُمَرَاء ذَلِك وهم يطوفون فَقطعُوا الطّواف وقصدوا الْمدرسَة ليحفظوها وقفلوا أَبْوَاب الْمَسْجِد الْحَرَام وتحصنوا بِهِ وَأمرُوا بهدم الظلة الَّتِي على رَأس زقاق أجياد الصَّغِير ليروا من يقدم عَلَيْهِم مِنْهُ وَكَانَ غالبهم بسطح الْمَسْجِد يَرْمِي بالنشاب وسدوا الطَّرِيق بالأخشاب لِئَلَّا يخرج عَلَيْهِم أَحْمد من أجياد الْكَبِير هَذَا خبر التّرْك وَأما بَنو حسن فَإِنَّهُم استدلوا أَيْضا على إصطبل لبَعض الْأُمَرَاء وقصدوا الْأَمِير قندس وَكَانَ نازلاً بأجياد بالزباهية فقاتلوه من خَارج ودخلوا عَلَيْهِ الدَّار فَقتلُوا جماعته وأسروه ونهبوا مَا كَانَ عِنْده جَمِيعه واستجار نساؤه بِبَيْت السَّيِّد مبارك بن رميثة وَجَاء السَّيِّد مغامس من أجياد لِيُقَاتل التّرْك الَّذين فِي الْمَسْجِد فجفلت بِهِ فرسه فَسقط فَقَتَلُوهُ وَبَقِي فِي مصرعه إِلَى الْمغرب وَأَرَادَ مُحَمَّد بن عطيفة أَن يتعصب للترك فتهدده بَنو حسن بِالْقَتْلِ وَكَانَ مُحَمَّد بن عطيفة تَأَخّر عَن نصْرَة الْعَسْكَر فَخرج خَائفًا يترقب فَدخل الشريف ثقبة مَكَّة سادس عشر ذِي الْحجَّة وشارك أَخَاهُ سنداً عوض مُحَمَّد بن عطيفة وَانْقطع عَن مُحَمَّد هَذَا فَأَرَادَ الِاجْتِمَاع بِالتّرْكِ فَلم يمكنوه لما حل بهم من خوف الْأَشْرَاف وَمَا فَعَلُوهُ بهم بِحَيْثُ إِنَّهُم باعوا بَعضهم فِي الحراج يُنَادي عَلَيْهِ الدلالون فِي الْأَسْوَاق ثمَّ ذَهَبُوا فَلم يبْق مِنْهُم أَلا أَمِير وَاحِد وَأَوْلَاده فاقترض مَا تزَود بِهِ وترحل عَن مَكَّة وفر غَالب أهل مَكَّة أَرْبَاب الْأَمْوَال خوفًا من الْأَشْرَاف أَلا أَن الله سلمهم من النهب اكتفوا بِمَا أَخَذُوهُ من أَمْوَال الأتراك(4/256)
وَتوجه مُحَمَّد بن عطيفة إِلَى مصر فَلم ير بهَا وَجها وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَمِمَّا قيل فِيهِ من الْمَدْح قَول الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالنشو قصيدة هِيَ // (من الطَّوِيل) //
(أترضَى بإِتلاْفِ المحبِّ ظلامةً ... فتأخذه بالعُنْفِ والرفقُ أليقُ)
(أعندكَ علْمٌ أَنَّهُ بكَ هائمٌ ... وأَكْبَادُهُ مِنْ لوعةِ الهجرِ تحرقُ)
(فأَحْوَالُه تُنْبِى بِمَا فِي ضميرِهِ ... إِذا لم يكُنْ للقَوْلِ مِنْهُ مصدِّقُ)
(بلَوْتُ بني الدُّنيا جَمِيعًا بأسرِهِمْ ... وَجَرَّبتُهُمْ إِن التجاربَ تصدقُ)
(فَلم أَرَ فِي ذَا العَصْرِ مثلَ محمدٍ ... إِمَامًا بِهِ الدُّنْيَا تضىء وتشرقُ)
(جواداً إِذا جَار الزَّمانُ على الورى ... يجودُ بِمَا تَحْوِى يداهُ وينفقُ)
(لقد جَلَّ عَن قدر الْمُلُوك الأُلى مَضَوا ... إِلَى الغَايِةِ القصوَى مِنَ الفضلِ يسبقُ)
(يجودُ على العَافِى ويبدِى اعتذارَه ... فَأوْرَاقُهُ بالجودِ والبذلِ تورقُ)
(لقد عَجَزَ المداحُ فِي بعضِ وصفِهِ ... عَلَيْهِم بأنواعِ المكارمِ يغدقُ)
(على أَنه واللهِ واحدُ عصرِهِ ... وَهل مثله من بعدِ ذَا العصرِ يخلقُ)
(وَمن لامني فِي مدحه فَهُوَ جاهلٌ ... فَجِيدِىَ بالإحسانِ مِنْهُ مطوَّقُ)
(وَإِن كَانَ مدحُ الغَيْرِ عندىَ سُنَّةً ... فمدحي لَهُ فرضٌ عليَّ مُحَقَّقُ)
فَلَمَّا بلغ صَاحب مصر فعل الْأَشْرَاف بِالتّرْكِ أرسل بالشريف عجلَان وَولده أَحْمد من سجن الْقَاهِرَة إِلَى سجن الْإسْكَنْدَريَّة بالبرج قلت ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض سُبْحَانَ الله هَكَذَا وَقع فِي سنة ثَمَان وَسبعين بعد الْألف لما أوقع مَوْلَانَا السَّيِّد حمود بن عبد الله بن حسن بِالتّرْكِ قَرِيبا من يَنْبع فكسرهم وبدد شملهم وقهرهم وَكَانَ قد أرسل وَلَده المرحوم السَّيِّد أَبَا الْقَاسِم بن حمود وَالسَّيِّد مُحَمَّد ابْن المرحوم السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث بن حسن إِلَى باشا مصر بهدية وقواد من الْخَيل فاحتفظ بهم أَولا فِي الْمحل الْمَعْرُوف بالسلطان قايتباي ثمَّ فِي بَيت أغاة الأنكشارية فَلَمَّا جَاءَهُم خبر جَمَاعَتهمْ وَما جَرَى عَلَيهِم من أبويهما تحركت حمية الْغَضَب على هذَيْن الشريفين فنقلا إِلَى السجْن الْكَبِير الْمُسَمّى عرق خانة سجن الدَّم فَقدر الله إطلاقهما بعد ذَلِك وَللَّه الْحَمد فَذكرت بِتِلْكَ الْوَاقِعَة هَذِه الْوَاقِعَة أَلا أَن الشريف عجلَان وَولده فكا وأعطيا إمرة مَكَّة وَهَذَانِ(4/257)
لم يعطياها وَتلك قسْمَة إلهية انْتهى وَأمر السُّلْطَان بإرسال عَسْكَر إِلَى الْحجاز يتتبعون الْأَشْرَاف وجندهم وعزلهم عَن إمرة مَكَّة وَقَالَ لَا حَاجَة لنا بهم فَلم يسْتَمر بعد هَذِه النِّيَّة أَلا أَيَّامًا حَتَّى ركب عَلَيْهِ عَسْكَر مصر عزلوه وولوا الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن الْملك المظفر فَأطلق الشريف عجلَان وولاه مَكَّة وأشرك مَعَه أَخَاهُ ثقبة بن رميثة بسؤاله لذَلِك فَلَمَّا أقبل الشريف عجلَان وَوصل إِلَى وَادي مر اجْتمع فِيهِ بثقبة عليلاً مدنفَاً فَمَاتَ ثقبة بقر ذَلِك فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة بالجديد وَحمل إِلَى مَكَّة فَدفن بالمعلاة وَكَانَ مَوْصُوفا بِالْكَرمِ والشجاعة وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول ابْن غَنَائِم من قصيدة // (من المنسرح) //
(مَا خفقَتْ فَوْقَ منكِبٍ عذَبهْ ... على فَتى كَابْن مُنْجِدٍ ثقبَهُ)
(وَلَا اعتزَى بالفَخَارِ منتسبٌ ... إِلَّا وفَاقَتْ علاهُ منتسبَهْ)
(منتخبٌ من سليلِ منتخبٍ ... مُنْتَخَبٌ من سَلِيلِ منتخبَهْ)
(كم جَبَرتْ راحتاه منكسراً ... وفَكَّ مِنْ أسْرِ عُسْرَةٍ رَقَبَهْ)
فولى الشريف عجلَان وَلَده أَحْمد عوض ثقبة وَجعل لَهُ ربع الْحَاصِل ثمَّ جعل لَهُ ربعا آخر ثمَّ فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ورد الْأَمر من صَاحب مصر على يَد الْأَمِير بهادر والأمير سُفْيَان الطولوني إِلَى شرِيف مَكَّة بِإِسْقَاط المكوس والضرائب وَعوض أَمِير مَكَّة عَن ذَلِك فِي كل سنة مائَة وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم وَألف إِرْدَب قمحاً ونقر ذَلِك فِي دعائم بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام جِهَة بَاب الزِّيَادَة وَبَاب العجلة الْمُسَمّى بَاب الباسطية أَو بَاب الصَّفَا وَهِي مَوْجُودَة إِلَى الْآن مؤرخة بِالسنةِ الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَلما عزل سَنَد وَمُحَمّد وَولي عجلَان من مصر فوصل إِلَى مَكَّة وأشرك أَخَاهُ ثقبة ثمَّ مَاتَ ثقبة فَأمر وَلَده أَحْمد بالاجتماع بالقواد ليسألهم أَن يسْأَلُوا لَهُ وَالِده أَن يشركهُ مَعَه فِي إمرة مَكَّة وَكَانُوا يخدمون سنداً فَاجْتمع بهم أَحْمد فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَعرف ذَلِك سَنَد فخاف على نَفسه فهرب إِلَى نَخْلَة وَقيل بل أَقَامَ بوادي مر بالجديد واستجار(4/258)
بِابْن أَخِيه مُحَمَّد بن عجلَان ثمَّ وَقع بَين بعض غلْمَان سَنَد وَبَين بعض غلْمَان أَحْمد شَيْء أوجب تغير خاطر أَحْمد عَلَيْهِ فَأمره بالانتقال من الْجَدِيد فانتقل إِلَى وَادي نَخْلَة ثمَّ إِلَى الطَّائِف ثمَّ إِلَى الشرق ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ إِلَى يَنْبع فوصله وَهُوَ بهَا أوراق بني حسن يأمرونه بالقدوم إِلَيْهِم ليساعدوه على ولايتها فوصل وَقصد محاربته فَلم يتم لَهُ ذَلِك فَعرض لَهُ مرض مَاتَ بِهِ سنة 763 ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة بالجديد وَاسْتولى ابْن أَخِيه عنان بن مغامس بن رميثة على خيله وسلاحه وَذهب بِهِ إِلَى الْيمن وَمِمَّا قيل فِي الشريف سَنَد بن رميثة قَول حَمْزَة بن أَبى بكر الشَّاعِر الْمَشْهُور قصيدة هِيَ // (من الطَّوِيل) //
(خَلِيليَّ إِمَّا جئتما رَبْعَ ثهمدِ ... فَلَا تَسْأَلاَهُ غَيْرَ عَنْ أم معبدِ)
(وَإِن أَنْتُمَا أبصرتما بانة الحِمَى ... ورَسْمَا لذاتِ المبسمِ المتبددِ)
(فَأَوَّلُ مَا تستنشدا عَن حلولِهِ ... وتستفهما أَخْبَارَ رَسْمٍ ومعهدِ)
(عسَى تخبر الأطلالُ عَمَّن سأَلْتُما ... بِمَا شِئْتُمَا للمستهامِ المسهَّدِ)
وَمِنْهَا // (من الطَّوِيل) //
(وَفِي سَنَدٍ أسندتُّ مدحاً منضداً ... غَرِيبَ القوافِى كالجمانِ المنضَّدِ)
(هُوَ القَيْلُ وَابْن القَيْلِ سُلْطَان مكةٍ ... وَحامِى حماها بالحسامِ المهنَّدِ)
(وصفوة آل الْمُصْطفَى طود فَخْرهم ... وبَانِى علاهُمْ فوقَ نَسْرٍ وسرددِ)
(بَنَى مَا بنَى قِدمًا أَبوهُ رميثة ... وشاد الَّذِي قَدْ شَادَ من كلِّ سؤددِ)
(وشنَّ عتاقَ الْخَيل شُعْثًا ضوامراً ... وأفنَى عَلَيْهَا كلَّ طاغٍ ومعتدِى)
(فروَّى صفاحَ البِيضِ من مُهَجِ العدَى ... وسُمْرَ القنا مهما اعتلَى ظهْرَ أجردِ)
(وأبيضَ طلق الوَجْهِ يهتزُّ للندَى ... ويُجْدِى إِذا شَحَّ الحيا كل مجتدِى)
(كريمٌ حَلِيمٌ ماجدٌ وابنُ ماجدٍ ... ظَرِيفٌ شريفٌ سيدٌ وابنُ سيدِ)
(إمامُ الهدَى بَحْرُ الندا مهلكُ العدَى ... وَبَدْرٌ بدا من آلِ بيتِ محمدِ)
(أشمُّ طويلُ الباعِ ندبٌ مُهَذَّبٌ ... أغرُّ رحيبُ الصَّدْرِ ضخْمُ المقلَّدِ)
(فدوحتُهُ بَين الوَرَى خير دوحةٍ ... ومحتده بَين الوَرَى خيرُ مَحْتِدِ)
(إليكَ جَلَبتُ المَدحَ إِذْ أنتَ كفؤُهُ ... وَإِن أَنا أجْلبْهُ لغيرِكَ يكسدِ)(4/259)
(وَمَا مدحكم أَلا عَلَيْنَا فريضَةٌ ... ومدحُ سِوَاكُم سنَّةٌ لم تؤكَّدِ)
(ثناؤُكُمُ أَثْنَى بِهِ اللهُ جهرةَ ... وأنزله وَحياً على الطْهرِ أحمدِ)
فولى الشريف عجلَان وَلَده أَحْمد عوض ثقبة وَجعل لَهُ ربع الْحَاصِل ثمَّ جعل لَهُ ربعا آخر ثمَّ ترك لَهُ الإمرة على أَن لَا يسْقط اسْمه من الْخطْبَة وَغير ذَلِك فوفى لَهُ أَحْمد بذلك حَتَّى توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسبعين وَسَبْعمائة وَكَانَ عجلَان فِي سنهَ ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة حَارب أَحْمد بن عِيسَى الحرامي صَاحب حلى بمَكَان يُقَال لَهُ فجرة فَظهر عجلَان على أَحْمد بن عِيسَى الْمَذْكُور وَكَانَ عجلَان رَحمَه الله تَعَالَى شَيخا صَالحا سعيداً اتّفق لَهُ مَا لم يتَّفق لأسلافه من السعودات فَإِنَّهُ أول من ملك بِلَاد حلى من أَهله السَّابِقين وَبنى الْحُصُون بأجياد وَأَرْض حسان والمدارس بِمَكَّة وَملك العبيد والخيول والدروع الْكَثِيرَة وَأَنْشَأَ بِمَكَّة سَبِيلا للْمَاء بالمروة واستمرت خيراته وحسناته ومدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالنشو وَغَيره وَكَانَ لَهُ جملَة من الْأَوْلَاد مِنْهُم أَحْمد وكبيش وَمُحَمّد وَعلي وَحسن وَتُوفِّي عجلَان لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ حادى عشر جُمَادَى الأولى سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة فِي جُمَادَى الأولى كَمَا تقدم آنِفا بِأَرْض الْجَدِيد وَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة وَبلغ من الْعُمر نَحْو سبعين سنة رَحمَه الله تَعَالَى وَمِمَّا مدح بِهِ الشريف عجلَان قَول الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالنشو قصيدة هِيَ // (من الْكَامِل) //
(لَوْلا الغرامُ ووجدُهُ ونحولُهُ ... مَا كُنْتَ ترحمُهُ وأنتَ عذولُهُ)
(إِن كنْتَ تنكرُهُ فَسَلْ عَن حالِهِ ... فَالحُبُّ داءٌ لَا يفيقُ عليلُهُ)
(يَا مَنْ يَلُومُ على الهَوى أهْلَ الْهوى ... دَعْ لومهُمْ فالصبْرُ ماتَ حميلُهُ)
(دعْ عَنْك من لَا خَيْرَ فِيهِ من الورى ... لَا تَمْتَدحْهُ وَفِي الأنامِ بديلُهُ)
(وامدحْ مَلِيكَ العَصْرِ وابْنَ مليكِهِ ... مَنْ شَاعَ مَا بَين الملا تفضيلُهُ)
(عجلانُ نَجْلُ رُمَيْثَة بنِ محمدٍ ... أمِنَ الَحَوادِثَ والخطوبَ نزيلُهُ)
(وَرِثَ الَمَكارِمَ كَابِرًا عَن كابرٍ ... فنوالُهُ للعالمينَ ينيلُهُ)
(مِنْ آلِ أَحْمَدَ واحدٌ فِي عصرِهِ ... فَهُوَ الشَّريفُ ابْن الشريفِ سليلُهُ)(4/260)
(مَاذَا يقولُ المدْحُ فِيهِ وَمَا عسَى ... إِذْ كَانَ يَخْدمُ جدِّكُمْ جبريلُهُ)
(أما الملوكُ فَكُلُّهُمْ مِنْ دونه ... كالبَدْرِ فِي أُفقِ السماءِ حلولُهُ)
(سلطانُ مكَّةَ والمشَاعرِ والصفا ... مَنْ لَا يَخَافُ مِنَ الزمانِ نزيلُهُ)
(لَو حاوَلَ النجْمَ العَظِيمَ لنالَهُ ... تنبيك عِنْهُ رِمَاحُهُ ونصولُهُ)
(سكنَتْ مَحَبَّبُةُ القلوبَ جميعَها ... لما تَقَارنَ سَعْدُهُ وقبولُهُ)
ثمَّ وَليهَا أَحْمد بن عجلَان قبل وَفَاة أَبِيه وَذَلِكَ بِسَبَب أَنه لما جعل لَهُ ربع الْمَحْصُول عوض عَمه ثقبة طلب أَحْمد ربعا آخر فَأَجَازَهُ لَهُ وَالِده ثمَّ إِن وَالِده لما رأى إقبال النَّاس على أَحْمد ومحبتهم لَهُ أَرَادَ إغاظته بأَخيه مُحَمَّد بن عجلَان فَأعْطَاهُ خيلاً وَدِرْعًا فَلم ينْهض مُحَمَّد لما أُرِيد مِنْهُ فَبلغ ذَلِك أَحْمد فعاتب أَبَاهُ عجلَان فَاعْتَذر لَهُ وَقَالَ لَهُ أَنا أترك لَك الْبِلَاد كلهَا فَوَقع الِاتِّفَاق على أَن أَحْمد يُعْطي أَبَاهُ عجلَان النَّقْد الَّذِي شَرط لَهُ وَأَن يكون لَهُ أَيْضا فِي كل سنة الْجُزْء الَّذِي قرر لعجلان بديار مصر فِي مُقَابلَة إِسْقَاط المكس عَمَّا يصل إِلَى مَكَّة من المأكولات وَعَن مكس الْحجَّاج من الديار المصرية والشامية الواردين بحراً وَبرا وَهُوَ مائَة ألف دِرْهَم وَسِتُّونَ ألف أردب قَمح وَأَن لَا يقطع اسْم عجلَان من الدُّعَاء فِي الْخطْبَة مُدَّة حَيَاته فالتزم أَحْمد بِجَمِيعِ ذَلِك فألح عجلَان فِي تَحْصِيل النَّقْد الْمَشْرُوط على أَحْمد استعجازاً مِنْهُ لَهُ ليَكُون سَببا لرجوع الْأَمر إِلَيْهِ فيسر الله لِأَحْمَد من أَعَانَهُ على إِحْضَار المَال فَأحْضرهُ فَلم يجد بدا من قبُوله فوفاه بِجَمِيعِ مَا الْتَزمهُ من الوعود وَاسْتمرّ أَحْمد حَتَّى مَاتَ حادي عشر شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته سِتا وَعشْرين سنة قَالَ فِي الدُّرَر الكامنة فِي أَخْبَار الْمِائَة الثَّامِنَة كَانَ أَحْمد بن عجلَان عَظِيم الأبهة وَاسع الْحُرْمَة كثير الرِّئَاسَة ملك جملَة من الْعقار وَالْعَبِيد وَعدل وقمع المفسدين ثمَّ وَليهَا الشريف مُحَمَّد بن أَحْمد بن عجلَان ثَمَان سِنِين شَرِيكا لِأَبِيهِ وَمِائَة يَوْم مُسْتقِلّا بعده ثمَّ قتل فِي مستهل ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة لما حضر لخدمة الْمحمل الْمصْرِيّ بِظَاهِر مَكَّة سَبَب ذَلِك أَن أَبَاهُ الشريف أَحْمد بن عجلَان كَانَ قد وَقع بَينه وَبَين ابْن عَمه عنان(4/261)
ابْن مغامس منافرة فسافر عنان وَمَعَهُ حسن بن ثقبة إِلَى مصر فبالغا فِي شكوى أَحْمد وسألا من السُّلْطَان برقوق أموراً أجابهم إِلَيْهَا لصدور رقة عنان فَأرْسل أَحْمد بن عجلَان بهدية سنبة صُحْبَة كبيش إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا رأى كبيش رواج عنان عِنْد السُّلْطَان مَا أمكنه أَلا أَن يلْتَزم على أَحْمد جَمِيع مَا أَرَادَهُ عنان وَمَا أَمر بِهِ السُّلْطَان خشيَة من حُصُول مكدر على أَحْمد وَعَلِيهِ فوصلوا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة فَعرف كبيش أَحْمد بِالْأَمر وَقَالَ لَهُ لابد لَك من الْمُوَافقَة على مَا رسم بِهِ السُّلْطَان لَكمَا أَو لفتك بعنان فَاخْتَارَ الثَّانِي فَاجْتمع عنان وَحسن بِأَحْمَد بعد التوثيق مِنْهُ فَمَا أجَاب لمرادهما ثمَّ فطن عنان لقصد أَحْمد فِيهِ ففر إِلَى الينبع وتلاه حسن بن ثقبة ثمَّ حسن لَهما أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ أَبُو بكر بن سنقر الجمالي الرُّجُوع إِلَى مَكَّة وَحسن لمُحَمد بن عجلَان أَن يرجع مَعَهُمَا إِلَى مَكَّة وَكَانَ قد توجه إِلَى مَكَّة مغاضباً لِأَخِيهِ أَحْمد وَضمن لَهُم الْأَمر الْمَذْكُور أَن أَحْمد يقْضِي حوائجهم إِذا وصلوا إِلَيْهِ وَرَجَعُوا فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِأَحْمَد قبض عَلَيْهِم وَضم إِلَيْهِم أَحْمد بن ثقبة وَابْنه عليا بن أَحْمد بن ثقبة وَقيد الْخَمْسَة وسجنهم بالعلقمية من أول سنة سبع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة إِلَى موسمها ثمَّ نقلهم إِلَى أجياد ثمَّ أعادهم بعد الْمَوْسِم إِلَى العلقمية فدبروا حِيلَة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا وربطوا سرراً كَانَت عِنْدهم بِثِيَاب مَعَهم وصعدوا غير مُحَمَّد بن عجلَان حَتَّى بلغُوا طَاقَة تشرف على منزل ملاصق لسجنهم فنزلوا مِنْهَا إِلَيْهِ فَفطن لَهُم بعض الساكنين فصاح عَلَيْهِم يظنهم لصوصاً فَسمع الصياح الموكلون بهم وَعرف الْأَشْرَاف تيقظ الموكلين بهم فأحجموا عَن الْخُرُوج أَلا عناناً فَإِنَّهُ أقدم وَلما بلغ إِلَى بَاب الدَّار وثب وثبة انْفَكَّ الْقَيْد بهَا عَن إِحْدَى رجلَيْهِ وَمَا شعر بِهِ أحد حِين خرج فَسَار إِلَى جِهَة سوق اللَّيْل وَمَا كَانَ غير قَلِيل حَتَّى رأى كبيشاً والعسكر يفتشون عَلَيْهِ بضوء مَعَهم فَدَنَا إِلَى مزبلة بسوق اللَّيْل وَأظْهر أَنه يَبُول فأخفاه الله عَن أَعينهم فَلَمَّا رجعُوا سَار إِلَى أَن لقِيه بعض معارفه فَعرفهُ خَبره وَسَأَلَهُ فِي تغيبه فغيبه فِي بَيت بشعب على فِي صهريج فِيهِ وَوضع على فمهم حشيشاً ودابة ليخفي مَوضِع الصهريج وَفِي الصَّباح أَتَى كبيش إِلَى ذَلِك الْبَيْت فَمَا وجده فِيهِ فَقيل لَهُ إِن فِي الْبَيْت صهريجاً فَأَعْرض عَن ذَلِك لما أَرَادَهُ الله من سَلامَة عنان ثمَّ بعث عنان إِلَى أَقَاربه من ذَوي رَاجِح وسألهم الْإِعَانَة بمركوب لَهُ وَلمن يُسَافر مَعَه فَأَجَابُوهُ وأخرجوا لَهُ(4/262)
ركائب إِلَى المعابدة وحملوا عَلَيْهَا فخاراً ليخفوا أمرهَا على من رَآهَا فَخرج عنان إِلَى المعابدة وَنزل عِنْد امْرَأَة يعرفهَا فألبسته لباسها ونمى الْخَبَر لكبيش فَأتى منزلهَا وسألها فنالت من عنان كثيرا فصدقها كبيش فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل ركب مَعَ رجلَيْنِ أَو ثَلَاثَة الرَّوَاحِل الَّتِي أعدت لَهُم فوقفت بعض رِكَابهمْ قبل وَادي مر وَمَا وصل هُوَ إِلَى خليص أَلا وَقد كلت رَاحِلَته فَسَأَلَ بعض أهل خليص عَن رَاحِلَة لبَعض أَصْحَابه بلغه أَنَّهَا بخليص فَأخْبر بوجودها فَأَخذهَا وَيُقَال إِن صَاحبهَا كَانَ إِذا خلص من عَلفهَا يَقُول لَيْث عناناً يخلص فينجو عَلَيْك فَكَانَ مَا تمناه فوصل إِلَى يَنْبع ثمَّ مِنْهَا إِلَى مصر واستجار بملكها برقوق أول مُلُوك الشراكسة بِمصْر فَأرْسل الشريف أَحْمد بن عجلَان يَطْلُبهُ فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان يَقُول وَأما مَا ذكرت من جِهَة عنان فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول {وَإِن أَحَد مِنَ اَلمُشركِينَ اَستَجَارَكَ فَأجِره} التَّوْبَة 6 فَكيف إِذا استجار بِنَا ابْن رَسُول الله
وَأمره بِإِطْلَاق الْأَشْرَاف فَامْتنعَ من ذَلِك ثمَّ قدر الله أَن الشريف أَحْمد مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة كَمَا تقدم ذكره وأقيم عوضه فِي إِمَارَة مَكَّة وَلَده مُحَمَّد هَذَا ابْن أَحْمد بن عجلَان كَانَ الْمُدبر لأمر ملكه عَمه كبيش بن عجلَان فَبعد موت أَحْمد بن عجلَان عمد كبيش إِلَى الْأَشْرَاف الْمَذْكُورين وسمل أَعينهم جَمِيعًا فتألم النَّاس لذَلِك غَايَة التألم وَلم يحصل لَهُ بعد ذَلِك رَاحَة وتوهم كبيش أَن ذَلِك يكون حسماً لمادة الشَّرّ ونجاحاً فَكَانَ للشر مفتاحاً فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك تغير خاطره على مُحَمَّد بن أَحْمد وعَلى عَمه كبيش بن عجلَان وَولى إمرة مَكَّة للسَّيِّد عنان بن مغامس وكتم ذَلِك عَن النَّاس وخادع مُحَمَّد بن أَحْمد وَعَمه كبيش بن عجلَان بإرسال الْخلْع والمراسيم وزينت مَكَّة فَلَمَّا تجهز الْحَاج خَرجُوا مَعَهم بالسيد عنان بن مغامس كآحاد النَّاس لَا يلْتَفت إِلَيْهِ إِذا حضر كل ذَلِك لما أضمروه فَلَمَّا وصل الْحَاج إِلَى الزَّاهِر بعثت أم مُحَمَّد الشَّرِيفَة فَاطِمَة بنت ثقبة إِلَى أَمِير الْحَاج شركس الخليلي أَمِير آخور بعد أَن أَهْدَت إِلَيْهِ هَدَايَا تسأله عَن حَال ابْنهَا مُحَمَّد وعنان فَذكر لَهَا أَنه لَا يعلم على ابْنهَا سوءا وَرُبمَا حلف لَهَا على ذَلِك فانشرح لذَلِك خاطرها وَحسنت لابنها الْإِقْدَام عَلَى ملاقاةِ المحملِ الْمصْرِيّ وَما زَالَت بِهِ حَتى وافقها فَخرج فِي عَسكرِهِ إِلى لِقَائِهِ على العادةِ هُوَ وَعَمه(4/263)
كبيش فَلَمَّا أَرَادَ أَن يقبل الْجمل على مَا كَانَ يَفْعَله الشراكسة مِنَ الجهلِ وثب إِلَيْهِ اثْنَان من الزعر من الْمحمل كل وَاحِد بِيَدِهِ خنجر طعناه فَمَاتَ من حِينه فعوجل بالعقوبة فِي هَذِه الْمدَّة الْيَسِيرَة إِذْ قد تقدم أَن مُدَّة ولَايَته مُسْتقِلّا مائَة يَوْم نسْأَل الله حسن الخاتمة ونعوذ بِهِ من سوء الْقَضَاء وفر عَمه كبيش إِلَى جده فتبعوه فَلم يحصلوه وألبسوا الشريف عنان بن مغامس الخلعة ودخلوا بِهِ مَكَّة فوليها عنان بن مغامس فَلَمَّا وصلوا إِلَى أجياد تلقاهم بعض أَصْحَاب الشريف مُحَمَّد من العبيد والقواد فتقاتلوا مَعَهم فَلم يَلْبَثُوا أَن ولوا هربَاً وَحَج بِالنَّاس الشرِيفُ عنان والناسُ فِي غايةِ الِاضْطِرَاب والخوفِ ثمَّ لما عزم الْحَاج أرسل عنان إِلَى كبيش عسكراً ليخرجَه من جدة ففر مِنْهَا وسامح الشريف عنان الشيبيين فَترك مَا كَانَ تَأْخُذهُ الْأَشْرَاف مِنْهُم بِالْقُوَّةِ وَهُوَ خَمْسَة آلَاف دِرْهَم فِي كل عَام وجانب من الْكسْوَة مَعَ البرقع وثوب مقَام الْخَلِيل وَجرى بَينه وَبَين كبيش فتن وجموع وَلم تصف الْبِلَاد لَهُ بِحَيْثُ إِنَّه عجز عَن إِقَامَة الْجند والأشراف فَأخذ حَاصِل السُّلْطَان وَمَا فِيهِ وَنهب جدة وأموال التُّجَّار والمراكب غير مرّة ثمَّ إِن كبيش الْمَذْكُور عَاد إِلَى جدة وَحده فنهبها وعاث عبيده فِي الطرقات فخشي عنان من كثرتهم وأشرك مَعَه فِي الإمرة ابْني عَمه أَحْمد بن ثقبة وَعقيل بن مبارك ثمَّ أَخَاهُ عَليّ بن مبارك ثمَّ دَعَا لَهُم مَعَه على الْمِنْبَر وزمزم وَظن بذلك أَن يُقَوي أمره وَلم يساعده الْقدر فبلغت أَحْوَاله إِلَى السُّلْطَان برقوق بِمصْر فعزل عنان فِي رَجَب سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة ثمَّ ولى عوضه عَليّ بن عجلَان فوليها عَليّ بن عجلَان فِي السّنة الْمَذْكُورَة بعد عزل عنان حنقاً عَلَيْهِ لما اتّفق فِي ولَايَته من اسْتِيلَاء كبيش وَجَمَاعَة عجلَان وَابْنه أَحْمد وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِمَا وَعجز عنان عَن دفعهم عَن الِاسْتِيلَاء على جدة فوصل النجاب إِلَى عنان ليسلم مَكَّة لعَلي بن عجلَان وجماعته فِي النّصْف الثَّانِي من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَأقبل عَليّ بن عجلَان فِي جموع مُتَقَدما فَمَنعهُمْ عنان وَأَصْحَابه من دُخُول مَكَّة وَامْتنع هُوَ وجماعته من آل أبي نمي من تَسْلِيم مَكَّة لآل عجلَان فتحارب الْفَرِيقَانِ بِالْقربِ من ثنية أذاخر فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة فَقتل كبيش بن(4/264)
عجلَان وَطَائِفَة من عَسْكَر عَليّ بن عجلَان فتم النصرُ لعنان وَرجع عَليّ وَمن مَعَهم إِلَى محلهم وَهُوَ الْقصر من وَادي مر وَذَلِكَ فِي سلخ شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي شهر رَمَضَان توجه عَليّ إِلَى مصر فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان وولاه إمرة مَكَّة فَأقبل صُحْبَة الْحَاج الْمصْرِيّ فِي ظلّ من ولاه وَاسْتمرّ عنان بعد خُرُوج عَليّ إِلَى الْقصر وَمن مَعَه مُقيما لم يبرح حَتَّى فَارقهَا هُوَ وَمن مَعَه عِنْد وُصُول الْحَاج الْمصْرِيّ إِلَيْهَا وصحبته عَليّ بن عجلَان الْمَذْكُور فَخرج عنان وَمن مَعَه وقصدوا الزيمة فَدَخلَهَا على وقرىء توقيعه على مقَام الْحَنَابِلَة وَحج بِالنَّاسِ وعنان مُقيم بالزيمة بوادي نَخْلَة اليمانية وَكَانَ أَصْحَابه سَبَقُوهُ إِلَيْهَا فقصدهم عَليّ بن عجلَان فِي طَائِفَة من التّرْك فوجدوهم محاربين لقافلة بجيلة فَلَمَّا أحسوا بهم هربوا وَقتل أَصْحَاب عَليّ بن عجلَان مِنْهُم مبارك بن عبد الْكَرِيم من الْأَشْرَاف وَابْن شكران من أتباعهم وعادوا إِلَى مَكَّة وَمَعَهُمْ من خيل الْأَشْرَاف خمس وَمن دروعهم ثَلَاثَة عشر درعاً ووصلت قافلة بجيلة إِلَى مَكَّة فَانْتَفع النَّاس بهَا وعادوا إِلَى مَكَّة عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام وَبعد رحيل الْحَاج نزل عنان وَأَصْحَابه الْوَادي وشاركوا عَليّ بن عجلَان فِي أَمر جدة ثمَّ سَافر عنان فِي أثْنَاء سنة تسعين وَسَبْعمائة واصطلح عَليّ بن عجلَان والأشراف وَاسْتمرّ مُتَوَلِّيًا مُنْفَردا بالإمرة إِلَى أَن شَاركهُ فِيهَا عنان فِي عَام اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَسَبْعمائة فوصل إِلَى مَكَّة فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة واصطلح مَعَ آل عجلَان وَكَانَ مَعَه القواد وَمَعَ عَليّ الْأَشْرَاف وَكَانَا غير متمكنين فِي الْقيام بمصالح الْبَلَد لمعارضة بني حسن لَهما فِي ذَلِك وَاسْتمرّ عنان شَرِيكا لعَلي بن عجلَان حَتَّى فَارق عنان مَكَّة متخوفاً من آل عجلَان حِين أَرَادوا الفتك بِهِ فِي الْمَسْعَى وَذَلِكَ فِي صفر سنة أَربع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَقطع ذكره من الْخطْبَة ثمَّ دخل مَكَّة ليتجهز مِنْهَا إِلَى مصر بعد أَن أخليت لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام من آل عجلَان وَلم يدْخل مَكَّة أَلا بعد أَن استدعي من السُّلْطَان إِلَى مصر هُوَ وَعلي فَتوجه إِلَى الديار المصرية وتلاه إِلَيْهَا الشريف عَليّ بن عجلَان بِطَلَب من الْملك الظَّاهِر برقوق كَمَا ذكر فَأَقَامَ عنان بِمصْر معزولاً مُطلقًا ثمَّ مسجوناً بقلعة الْجَبَل ثمَّ بالإسكندرية ثمَّ(4/265)
بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى مَاتَ بهَا فِي ربيع الأول سنة خمس وَثَمَانمِائَة قَالَ صَاحب نشأة السلافة وَكَانَ فِي هَذَا التَّارِيخ صَاحب مَكَّة الشريف حسن ابْن عجلَان ثمَّ ذكر سَبَب موت عنان فَقَالَ حصل لعنان مرض خطر يَقْتَضِي إبِْطَال بعض جسده فعولج من ذَلِك بإضجاعه بِمحل فِيهِ آثَار النَّار حَتَّى يخلص ذَلِك إِلَى أَعْضَائِهِ فيقويها بهَا فَفعل بِهِ ذَلِك فَكَانَ أثر النَّار الَّذِي أضجعوه عَلَيْهِ شَدِيدا فأحرقه فَمَاتَ فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور رَحمَه الله تَعَالَى وَرَأَيْت فِي تَارِيخ خلفاء الزَّمن وملوكه وَولَايَة السالكين أحسن سنَن للسَّيِّد مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحُسَيْنِي السَّمرقَنْدِي فِي تَرْجَمَة الشريف عنان بن مغامس هَذَا مَا نَصه وبقيا يَعْنِي الشريف عنان بن مغامس والشريف عَليّ بن عجلَان على ذَلِك مُدَّة بعد أَن جعلت إمرة مَكَّة بَينهمَا نِصْفَيْنِ مَا بَين وفَاق وشقاق وَكَيف يَنْتَظِم أَمر الْأَمْلَاك مَعَ الِاشْتِرَاك إِلَى أَن مَاتَ عنان قَتِيلا فِي شَوَّال سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَسبب قَتله أَن أَعْيَان الْأَشْرَاف والقواد بعد أَن قبض على جمَاعَة مِنْهُم خودع فِي ذَلِك فَأَطْلَقَهُمْ فصاروا يكلفونه مَا لَا تصل إِلَيْهِ قدرته من أَخذ الْأَمْوَال من التُّجَّار والحبوب من أهل الْوَادي والزراع فَكثر بِسَبَب ذَلِك الْهَرج والمرج وَقل الْأمان وشق على أهل مَكَّة الشَّرِيفَة قلَّة الْوَاصِل وَكَثْرَة الْخَوْف وافترقت الْكَلِمَة بَين السَّادة الْأَشْرَاف والقواد وَالْعَبِيد فَاقْتَتلُوا بِسَبَب ذَلِك وَمَات عنان بِتِلْكَ المسالك هَذِه أَلْفَاظه فِي الْكتاب الْمَذْكُور وَالله أعلم بالحقائق وَلما وصل الشريف عَليّ بن عجلَان إِلَى الديار المصرية وَقَبله عنان بن مغامس أَقَامَ عنان معزولاً مطلوقاً ثمَّ مسجوناً إِلَى آخر مَا تقدم وَأما الشريف عَليّ فَأكْرمه السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر وفوض إِلَيْهِ أَمر مَكَّة المشرفة وَأحسن إِلَيْهِ هُوَ والأمراء ثمَّ سَار إِلَى مَكَّة المشرفة فَدَخلَهَا وَقت الْمَوْسِم من السّنة الَّتِي خرج مِنْهَا فِيهَا سنة أَربع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَفِي آخر يَوْم مِنْهَا قبض على سبعين نَفرا من الأِشراف والقواد فَلم يزل يُخَادع فيهم حَتَّى أطلقهُم فَكَتَمُوا لَهُ ذَلِك وشوشوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع شَوَّال سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة بوادي مر وَهُوَ ابْن ثلاَث وَعشْرين سنة وَحمل إِلَى مَكَّة المشرفة وَدفن بهَا لَيْلًا وَكَانَ أَخُوهُ الشريف حسن قد حاصره(4/266)
بالزاهر مُدَّة أَيَّام من هَذِه السّنة ثمَّ توجه إِلَى الديار المصرية بهَا فاعتقل فِي السّنة الْمَذْكُورَة فَلَمَّا وصل الْخَبَر بوفاة أَخِيه عَليّ بن عجلَان أطلقهُ الْملك الظَّاهِر برقوق وفوض إِلَيْهِ أَمر مَكَّة وَجَمِيع الأقطار الحجازية لوفاة أَمِير مَكَّة عَليّ بن عجلَان قتلا وَجَاء الْخَبَر بولايته وَقت الْمَوْسِم وَكَانَ أَخُوهُ مُحَمَّد بن عجلَان وَعبيد أَبِيه وأخيه أَحْمد بن عجلَان قد استولوا على مَكَّة وحفظوها حَتَّى وصل إِلَيْهِم من مصر فِي رَابِع عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَمَعَهُ يلبغا الناصري وسنقر وعدة من المماليك الأتراك يزِيدُونَ على الْمِائَة أَو دونهَا وَمن الْخَيل دون الْمِائَة وَلم تتمّ السّنة حَتَّى وَقع بَين الشريف حسن وقتلة أَخِيه على وَاقعَة عَظِيمَة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الظفر فِيهَا لَهُ عَلَيْهِم بِحَيْثُ لم يقتل مِمَّن مَعَه سوى مَمْلُوك وَعبد وَقتل من الْأَشْرَاف نَحْو سَبْعَة وَمن أتباعهم نَحْو الثَّلَاثِينَ وَلم يقتل من أَصْحَاب الشريف حسن فِيمَا قيل غير مَمْلُوك وَعبد وَكَانَ مَعَه ألف رجل وَمِائَتَا رجل من التّرْك والمولدين وَالْعَبِيد وَأهل مَكَّة من الْأَعْرَاب وأجار على حلَّة الشريف مَنْصُور من النهب فَسلمت وَكَانَت الْوَقْعَة بمَكَان يُقَال لَهُ الزبارة بوادي مر قريب من أبوعروة فقصد الْأَشْرَاف جِهَة الهدة وَأقَام الشريف حسن بالجديد حَتَّى أَتَى الْمَوْسِم وَعظم بذلك أمره واستفحل بذلك قهره حَتَّى أذلّ كل من عانده وناوأه وساس الْأُمُور بجدة مَعَ التُّجَّار وراعاهم حَتَّى قدموها وَأَقَامُوا بهَا بعد أَن تركوها وَاسْتمرّ فِي زِيَادَة قدر وهيبة فِي الْقُلُوب قَالَ الْعَلامَة الفاسي فضبط الْبِلَاد وحسم مواد الْفساد وَأخذ بثأر أَخِيه يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شَوَّال من سنة ثَمَان وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَاسْتمرّ مُسْتقِلّا بِالْولَايَةِ إِلَى أَن أشرك مَعَه ابْنه السَّيِّد بَرَكَات فِي نصف الإمرة وَذَلِكَ سنة تسع وَثَمَانمِائَة وَوصل توقيعه بذلك فِي موسم هَذِه السّنة وَهُوَ مؤرخ بشعبان مِنْهَا ثمَّ سعى لِابْنِهِ السَّيِّد شهَاب الدّين أَحْمد فِي نصف الْإِمَارَة فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَولى نصف الإمرة شَرِيكا لِأَخِيهِ بَرَكَات وَولى أَبوهُمَا نِيَابَة السلطنة بِجَمِيعِ بِلَاد الْحجاز(4/267)
وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى عشرَة وَثَمَانمِائَة وَقُرِئَ توقيعهم بذلك فِي أَوَائِل النّصْف الثَّانِي من شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَصَارَ يَدعِي لَهُ ولولديه بِمَكَّة وعَلى زَمْزَم وَيَدعِي للشريف حسن بمفرده فِي الْخطْبَة بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ وَالِي الْمَدِينَة عجلَان بن نعير بن مَنْصُور بن جماز بن شيحة الْحُسَيْنِي عوض أَخِيه نابت بن نعير فَإِنَّهُ كَانَ ولي أمرهَا فِي هَذِه السّنة ثمَّ مَاتَ نابت فِي صفر من هَذِه السّنة قبل وُصُول توقيعه واستمرت الْخطْبَة باسم الشريف حسن بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة إِلَى أَن عزل عَنْهَا عجلَان بِابْن عَمه سُلَيْمَان بن هبة بن جماز بن مَنْصُور فِي موسم اثْنَي عشر وَثَمَانمِائَة وَكَانَ يقدم فِي الدُّعَاء فِي الْخطْبَة على عجلَان وَاسْتمرّ الشريف حسن وولداه إِلَى أَن عزل هُوَ وولداه فِي هَذِه السنهَ وَهِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَثَمَانمِائَة عَن إمرة مَكَّة بسعي الحساد وَنقل أهل الْفساد وَلم يظْهر لذَلِك أثر بِمَكَّة فَإِن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فرج ابْن الْملك الظَّاهِر برقوق أسرَ أَمر عزلهم لقرب الْمَوْسِم خوفًا من الْهَرج والمرج وَولى ابْن عَمه عَليّ بن مبارك بن رميثة فَلَمَّا بلغ السَّادة الْأَشْرَاف عزلهم كتموا ذَلِك عَن الْخَاص وَالْعَام فوصل أَمِير الْحَج بيشو الْمَذْكُور فِي موكب عَظِيم ونظام تَامّ وعساكر عديدة وَهُوَ على غَايَة الوجل من عدم مُقَابلَة الْأَشْرَاف وَنقص حرمتة بذلك وَحفظ أَمْوَال الْحجَّاج وحقن دِمَائِهِمْ وَكَانَ من عناية الله أَن مَوْلَانَا الشريف حسن قَابل المحامل الْكَرِيمَة على الْعَادة الْقَدِيمَة وَلبس الْخلْع السُّلْطَانِيَّة على أكمل حَال وَأطيب بَال ثمَّ قَابل الْأَمِير الْمَذْكُور خَاصَّة وأكرمه إِكْرَاما جزيلاً فانقضى زمن الْحَج على أحسن الْأَحْوَال وسافرت المحامل وَتوجه كل غَرِيب إِلَى بَلَده وَلما لم يبْق أَلا تجهيز الْأَمِير وتوديعه جهز الشريف حسن هَدِيَّة عَظِيمَة إِلَى الحضرة السُّلْطَانِيَّة صُحْبَة الْأَمِير الْمَذْكُور بعد كَمَال رعايته وعظيم الْعِنَايَة بِهِ فَبعد الْوَدَاع قَالَ لَهُ يعلم الْأَمِير أَنا قد بلغنَا أَن السُّلْطَان عزم على عزلنا تَصْدِيقًا للإنهاء الْبَاطِل الصَّادِر عَن فَسَاد كل مُفسد وَقَول كل قَائِل فَلَمَّا بلغنَا ذَلِك لم نَفْعل فعل أهل الظُّلم والجهالة الَّذين إِذا وصل إِلَيْهِم علم الْعَزْل نهبوا الْبِلَاد وَأَكْثرُوا فِي الأَرْض الْفساد فَأَجَابَهُ الْأَمِير بِأَن هَذِه بِلَادكُمْ خلفا عَن سلف ومولانا السُّلْطَان نَصره الله محب(4/268)
لكم وعلامة محبته لكم إخفاء ذَلِك وسوف تعلمُونَ صِحَة قولي بِمَا يأتيكم من جَوَاب مشرفاتكم فَلَمَّا وصل الْأَمِير إِلَى مصر المحروسة وَأخْبر السُّلْطَان بِمَا وَقع وَقدم الْهَدِيَّة والمكاتيب قَابل ذَلِك بِحسن الْقبُول ثمَّ أرسل إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن بِهَدَايَا مفخمة وتوقيعات شريفة مكرمَة فَشَكَرَه فِيهَا شكرا عَاما على مَا فعله ظَاهرا وَمَا صَبر عَلَيْهِ بَاطِنا ثمَّ صَرح باستِمرار ولديه على مَا كَانُوا عَلَيْهِ من ولَايَة مَكَّة والأقطار الحجازية جَمِيعهَا واستمروا كَذَلِك إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة فعزلوا بالشريف رميثة بن مُحَمَّد ثمَّ أُعِيد فِي عَام تسع عشرَة وَثَمَانمِائَة بعد محاربة شَدِيدَة بَينه وَبَين رميثة الْمَذْكُور من قبل الْملك الْمُؤَيد كَمَا يَأْتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا كُله ببركة الصَّبْر والتحمل وَالنَّظَر إِلَى وَجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حفظ دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ لَا سِيمَا الْحجَّاج وجيران بَيت الله الْحَرَام لَا بَرحت عناية الله شَامِلَة لحماة بَلَده الْأمين آمين وَسبَب العزلِ أَن رجلا يُسمى جَابِرا الجرشِي من أَرْبَاب الْأَمْوَال بجدة لما تَغَيرَ عَلَيْهِ الشريف حسن وصادره وَأخرجه من جدة لأَمرٍ اقْتضى ذَلِك عزم إِلَى مصر وكدر خاطر السُّلْطَان على مَوْلَانَا الشريف حسن ودبرهم فِي هَذَا الْأَمر وَأَن يولوا عَليّ بن مبارك هَذَا وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدهم بالقلعة سِنِين فولوه وَأَرْسلُوا صحبته الْأَمِير بيسق أَمِيرا على الْحَاج الْمصْرِيّ واستعد لِحَرْب الشريف حسن فَلَمَّا تحقق مَوْلَانَا الشريف حسن هَذَا الْخَبَر استعد هُوَ أَيْضا للحرب وَجمع من الْخَيل وَالرجل مَا لم يجمعه غَيره قيل كَانَ عدَّة الْخَيل سِتّمائَة وَالرجل يزِيدُونَ على خَمْسَة آلَاف وتعب النَّاس لذَلِك وَضَاقَتْ بهم مَكَّة وتعبت الخواطر وكادت الْقُلُوب أَن تبلغ الْحَنَاجِر ثمَّ رَضِي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر على الشريف حسن وَأَوْلَاده بعد توجه الْحَاج من الْقَاهِرَة فِي السّنة الْمَذْكُورَة فأعادهم إِلَى ولَايَة مَكَّة فَبعث الْأَمِير بتقليد وخلع صُحْبَة خادمه فَيْرُوز ساقي وَكتب إِلَى أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ بيسق يَأْمُرهُ بالكف عَن محاربتهم وَكَانَ تَارِيخ تَقْلِيد ولايتهم هَذِه فِي هَذِه السنهَ هِيَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَثَمَانمِائَة فِي الثَّانِي عشر من ذِي الْقعدَة الْحَرَام ودامت ولايتهم على ذَلِك إِلَى أثْنَاء(4/269)
صفر الْخَيْر سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة كَمَا سَنذكرُهُ وَقبل وُصُول الْحَج بأيام أخمد الله الْفِتْنَة بوصول الْأَمِير فَيْرُوز الطواشي الساقي الْمَذْكُور بِالْخلْعِ والمراسيم يَعْتَذِرُونَ إِلَى الشريف حسن ويطمئنونه أَن الْبِلَاد بِلَاده وسألوا فَضله أَن يَأْذَن للْحَاج فِي دُخُول مَكَّة ويعطيهم الْأمان فَإِنَّهُم لما بَلغهُمْ تهيؤه تَأَخَّرُوا وَلم يقدموا على الدُّخُول فَقَالَ الشريف حسن لَا يدخلُوا أَلا إِذا سلمُوا إِلَيْنَا جَمِيع مَا مَعَهم من السِّلَاح وآلات الْحَرْب وَإِلَّا مَا دخلوها فوافقوه على ذَلِك وَوَافَقَهُمْ على إِعَادَته إِلَيْهِم عِنْد السّفر فَدَخَلُوا مَكَّة رَابِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام وَجَاء الْأَمِير إِلَى بَيت الشريف حسن بأجياد وَسلم عَلَيْهِ وَاعْتذر قيل وَلم يحجّ الشريف حسن وَلَا أحد من أهل مَكَّة أَلا نَاس قَلِيل مخفون بِحَيْثُ أَن يَوْم النَّحْر صلوا الْعِيد بِمَكَّة وَلم يُشَاهد ذَلِك قطّ وَأصَاب الحجيج مشقة عِنْد المأزمين وَوَقع قتل وَنهب وَلَو لم يغث الحجيج أهل الْخَيل جمَاعَة الشريف حسن لذهب الْحَاج جَمِيعه وَكَذَلِكَ لَيْلَة النَّحْر بمنى وَكَانَ الْفَاعِل لذَلِك غوغاء الْأَعْرَاب وَفِي موسم خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة قتل من آل جميل جمَاعَة أهل شَرّ وَفَسَاد فَفَزعَ الْحَاج وَركب الشريف حسن بِنَفسِهِ حَتَّى أخمد الْفِتْنَة وَسلم الله الْمُسلمين وَفِي خَامِس ذِي الْحجَّة عَام سبع عشرَة وَثَمَانمِائَة وَقع بَين القواد وأمير الْحَاج وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة أَن هجم القواد بخيولهم ملبسة إِلَى مقَام الْحَنَفِيّ يطْلبُونَ الْأَمِير وكَان قد أمسك شخصا مِنْهُم يُسمى جَرَادًا وحبسه فتشفعوا بالشريف حسن إِلَيْهِ فَامْتنعَ من إِطْلَاقه فَعظم الْأَمر وَجرى الْقِتَال وسال الدَّم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَخرج الأتراك فِي إثرهم إِلَى جِهَة سوق بَاب إِبْرَاهِيم فَانْهَزَمَ القواد وَرجع الْأَمِير وَدخل الْمَسْجِد وَأدْخل خيله وَسمر أَبْوَاب الْمَسْجِد جَمِيعهَا مَا عدا أَرْبَعَة أَبْوَاب وباتت خيولهم ملابس والمشاعل تقد فِي الْمَسْجِد وغالب الحجيج بِهِ وَاجْتمعَ القواد فِي أَسْفَل مَكَّة بِمحل يُسمى الطنبداوي وانتهبت الْبيُوت والأسواق وَسلم الله الْحَاج ببركة الشريف حسن وصادف ذَلِك أَن مَكَّة فِي ذَلِك الْعَام مغلية فَأَنْشد إِذْ ذَاك بعض الأدباء وَفِيه تورية حَسَنَة // (من مجزوء الْكَامِل) //(4/270)
(وَقَعَ الغلاءُ بمكَّةٍ ... والناسُ أمْسوا فِي جمادِ)
(والخبزُ قَلَّ فَهَاهُمُ ... يتقاتَلُونَ عَلَى جَرَادِ)
وَالسَّبَب فِي إِمْسَاكه أَن أَمِير الْحَاج منع النَّاس من حمل السِّلَاح بِمَكَّة فَرَأى جَرَادًا هَذَا وَهُوَ حَامِل سلَاح فأمسكه فَوَقع مَا وَقع قلت عتو هَذَا الجيل قديم غير جَدِيد فَلَعَلَّ الشَّرّ إِن لم ينقص مِنْهُم لَا يزِيد ودامت ولَايَة الشريف حسن مَعَ ولديه بَرَكَات وَأحمد إِلَى شهر صفر من عَام ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة ثمَّ وَليهَا الشريف رميثة بن مُحَمَّد بن عجلَان بن رميثة بن أبي نمي بن أبي سعد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة تولى عشْرين فِي صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَا دخل مَكَّة وَلَا دَعَا لَهُ فِي الْخطْبَة وَلَا على زَمْزَم أَلا فِي الْعشْر الأول من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت قِرَاءَة توقيعه فِي يَوْم دُخُول مَكَّة وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة مستهل ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة فَدَعَا لَهُ الْخَطِيب ودعا لَهُ على قبَّة زَمْزَم حِين طَوَافه بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَذكر فِي توقيعه الشريف بعد التَّرْجَمَة أَنه تولى نِيَابَة السلطنة عَن عَمه حسن وإمرة مَكَّة عَن ولديه بَرَكَات بن حسن وَأحمد بن حسن وَذَلِكَ أَنه لما عزل الشريف حسن برميثة بن مُحَمَّد بن عجلَان فَارقهَا الشريف حسن إِلَى الشقان فجبا الْجلاب هُنَاكَ وَأمر أَهلهَا بِالتَّدْبِيرِ أَو الْمُضِيّ إِلَى يَنْبع ثمَّ وصل إِلَى الْجَدِيد من وَادي مر وَاسْتولى على غلال أَصْحَاب رميثة وَاسْتمرّ بالجديد إِلَى جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع عشرَة وَثَمَانمِائَة وَفِي رَجَب مِنْهَا بعث وَلَده الشريف بَرَكَات ومولاه الْقَائِد زين الدّين شكر لاستعطاف السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد فأنعم عَلَيْهِ بِولَايَة مَكَّة وَكتب لَة بذلك توقيعاً مؤرخاً من عشر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وجهز لَهُ خلعة صُحْبَة بعض الخاصكية المؤيدية والنجابة السُّلْطَانِيَّة فَانْتَهوا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي نَاحيَة جدة فِي أَوَائِل الْعشْر الْأَوْسَط من شَوَّال فقصدَ مَكةَ مُتَوَلِّيًا مُنْفَردا دون ولديه من قبل الْملك الْمُؤَيد ثمَّ شَاركهُ ابْنه السَّيِّد بَرَكَات بن حسن سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة بِإِشَارَة من الْملك المظفر ابْن الْملك الْمُؤَيد صَاحب مصر كَمَا سَيَأْتِي فَدخل مَكَّة فِي بكرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر شَوَّال من سنة تسع عشرَة وَثَمَانمِائَة وبأثر طَوَافه(4/271)
بِالْبَيْتِ قرئَ توقيعه وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الْمَذْكُور فَارق مَكَّة السَّيِّد رميثة بن مُحَمَّد وَمن مَعَه بعد حَرْب شَدِيد كَانَ بَينه وَبَين عَسْكَر عَمه الشريف حسن بالمعلاة يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور استظهر فِيهِ الشريف حسن على من عانده لأَنهم لما أَقبلُوا من الأبطح ودنوا من بَاب المعلاة أزالوا من كَانَ على الْبَاب وقربه من أَصْحَاب رميثة بِالرَّمْي بالنشاب والأحجار وَعمد بَعضهم إِلَى بَاب السُّور فدهنه وأوقد تَحْتَهُ النَّار فَاحْتَرَقَ الْبَاب حَتَّى سقط إِلَى الأَرْض وَقصد بَعضهم طرف السُّور الَّذِي يَلِي الْجَبَل الشَّامي مِمَّا يَلِي الْمقْبرَة فَدخل مِنْهُ جمَاعَة من التّرْك أَصْحَاب الشريف حسن ورقوا موضعا مرتفعاً من الْجَبَل ورموا مِنْهُ بالنشاب والأحجار من كَانَ دَاخل الدَّرْب من أَصْحَاب رميثة فتعبوا لذَلِك كثيرا ونقب بَعضهم فِي السُّور نقباً متسعاً حَتَّى اتَّصل بِالْأَرْضِ فَدخل مِنْهُ جمَاعَة من الفرسان من عَسْكَر الشريف حسن إِلَى مَكَّة ولقيهم جمَاعَة من أَصْحَاب رميثة فقاتلوهم حَتَّى أخرجوهم من السُّور وَقد حصل فِي الْفَرِيقَيْنِ جراحات وَهِي فِي أَصْحَاب رميثة أَكثر وَقصد بعض عَسْكَر الشريف حسن السُّور مِمَّا يَلِي بركَة الصارم فَنقبُوا فِيهِ نقباً متسعاً وَلم يتمكنوا من الدُّخُول مِنْهُ لأجل البرك فَإِنَّهَا مهواة فَنقبُوا موضعا آخر فَوْقه ثمَّ إِن بعض الْأَعْيَان من أَصْحَاب الشريف حسن أَجَارَ من الْقِتَال وَكَانَ الشريف حسن كَارِهًا لِلْقِتَالِ رَحْمَة مِنْهُ لمن مَعَ رميثة من القواد وَالْعمْرَة وَلَو أَرَادَ الدُّخُول إِلَى مَكَّة بِكُل عسكره من الْموضع الَّذِي دخل مِنْهُ بَعضهم لقدر على ذَلِك وَلكنه أمضى الجيرة بترك الْقِتَال وبأثر ذَلِك وصل إِلَيْهَا لما تَعب النَّاس من النهب وَالْقَتْل وَالْخَوْف جمَاعَة من الْعلمَاء والصلحاء من أهل مَكَّة والمجاورين وحملوا الْمَصَاحِف والربعات على رُءُوسهم وسألوا فضل الشريف حسن فِي كف عسكره فأجابهم إِلَى ذَلِك بِشَرْط أَن يخرج من عانده من مَكَّة المشرفة فَمضى الْفُقَهَاء إِلَيْهِم وأخبروهم بذلك فتأخروا عَنهُ إِلَى جَوف مَكَّة وَدخل الشريف حسن وَمن مَعَه السُّور وخيم حول بركتي المعلاة وَأقَام هُنَاكَ حَتَّى أصبح فَدخل مَكَّة بكرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر شَوَّال كَمَا تقدم ذكر ذَلِك آنِفا وَطلب الشريف رميثة وَأَصْحَابه(4/272)
مهلة خَمْسَة أَيَّام فأعطوها ثمَّ خَرجُوا إِلَى نَاحيَة الْيمن ثمَّ فِي عَام أَرْبَعَة وَعشْرين وَثَمَانمِائَة تسلطن الْملك المظفر ابْن الْملك الْمُؤَيد فَأرْسل توقيعاً شريفاً للشريف حسن فقرئ بِظِل زَمْزَم مَوْضُوعه أَنه فوض أَمر مَكَّة إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن الْمَذْكُور وأشرك مَعَه وَلَده بَرَكَات وَأرْسل لَهما خلعة سلطانية من خزانته ثمَّ وصل مرسوم شرِيف قرئَ بِالْحَطِيمِ بِمحضر أَفَنْدِي مَكَّة وَشَيخ حرمهَا والأعيان والصدور مضمونه على لِسَان الْملك المظفر بِأَن وَالِده الْملك الْمُؤَيد انْتقل إِلَى رَحْمَة مَوْلَاهُ وَأَنه بُويِعَ بِعَهْد من أَبِيه وموافقة من أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء والقضاة والأمراء وَأَنه جلس على سَرِير السلطنة فِي ثَانِي محرم من سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَأَن الْمَطْلُوب من مَوْلَانَا الشريف حسن وَذَوِيهِ السّمع وَالطَّاعَة وتأمين الأقطار الحجازية وَأَنه مبذول لَهُم من جَانب السلطنة الشَّرِيفَة كَمَال الرِّعَايَة وبذل الْجُود وَالعطَاء وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً ثمَّ بعد مُدَّة استمال الشريف حسن ابْن أَخِيه رميثة الْمَذْكُور وأحضره وَصفا لَهُ فَتغير عَلَيْهِ القواد وَقَامُوا بناصر ذَوي ثقبة بن أبي نمي وهم أَوْلَاد أَحْمد بن ثقبة بن رميثة وَأَوْلَاد عَليّ بن مبارك وأعلنوا بالسلطنة لثقبة بن أَحْمد بن ثقبة بن أَحْمد بن ثقبة وميلب بن عَليّ بن مبارك وَجعلُوا لكل مِنْهُمَا نواباً بجدة فَجهز الشريف حسن عَلَيْهِم فَهَرَبُوا وقصدوا مَكَّة واحتربوا هم ونائبه فِيهَا مِفْتَاح الزفتاوي فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا جمَاعَة مَعَه ثمَّ رجعُوا إِلَى الْغَد وَلما كَانَ النّصْف الثَّانِي من شَوَّال سنة عشْرين وَثَمَانمِائَة قدم من مصر وَلَده الشريف بَرَكَات بن حسن فسر بِهِ وَلما طَاف بِالْكَعْبَةِ دعى لَهُ على زَمْزَم وَصَارَ أَبوهُ الشريف حسن يتفوه لَهُ بِالْولَايَةِ وَيَقُول لبني حسن وَغَيرهم هُوَ سلطانكم وَفِي ربيع الأول من سنة إِحْدَى وَعشْرين أظهر للنَّاس أَنه تخلى عَن أَمر مَكَّة لِابْنِهِ الشريف بَرَكَات بِحَيْثُ أجلسه على المفرشة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَجلسَ هُوَ على مفرشة عِنْده فَجمع ابْنه حسن عَن طَاعَة أَبِيه لكَونه قدم أَخَاهُ بَرَكَات عَلَيْهِ فَأرْسل لَهُ أَبوهُ الشريف حسن يستعطفه فَلم يمل أَحْمد لذَلِك وَحمله جمَاعَة من المفسدين على نهب جدة فَفعل وَلم يسهل ذَلِك بِأَبِيهِ ثمَّ دخل فِي الطَّاعَة ثمَّ نكث وَمضى(4/273)
إِلَى يببع ثمَّ عَاد مَعَ الْحَاج ثمَّ رَجَعَ وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَثَمَانمِائَة سَأَلَ من الْملك الْمُؤَيد تَفْوِيض مَكَّة لِوَلَدَيْهِ بَرَكَات وَإِبْرَاهِيم وتنصل من إمرتها لضعف بدنه وميله إِلَى التخلي لِلْعِبَادَةِ وَتوجه عقب الْكتاب إِلَى صوب حلى آخر صفر وَفِي ثَانِي عشر ربيع الأول من سنة أَربع وَعشْرين وصل تشريفان لَهُ ولابنه بَرَكَات وعهد يتَضَمَّن ولايتهما لمَكَّة من الْملك المظفر أَحْمد ابْن الْملك الْمُؤَيد كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَأَرَادَ الشريف حسن أَن يُشْرك وَلَده إِبْرَاهِيم مَعَ أَخِيه بَرَكَات فَحصل تنافر بَين الْأَخَوَيْنِ فوصل إِبْرَاهِيم من جَانب الْيمن وَمَعَهُ الْأَشْرَاف وألزموا الْمُؤَذّن بِالدُّعَاءِ لَهُ فَفعل وَلم يسهل ذَلِك بأَخيه بَرَكَات وَصَارَ يخْطب لإِبْرَاهِيم مَعَ أَبِيه حسن وأخيه بَرَكَات وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين أَمر الشريف حسن بِقطع الدُّعَاء لوَلَده إِبْرَاهِيم من الْخطْبَة وَغَيرهَا لِأَنَّهُ أمره بمباينة ذَوي رَاجِح فَلم يفعل وَلم يزل الشريف حسن مستمراً فِي الْولَايَة إِلَى أَن صرف عَنْهَا هُوَ وَولده بَرَكَات سنة سبع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة بالشريف عَليّ بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي وَكَانَ ذَلِك بتفويض السُّلْطَان برسباي ملك مصر المحروسة فوليها الشريف عَليّ بن عنان الْمَذْكُور وجهز مَعَه الْملك برسباي من مصر جَيْشًا كثيفاً وخيلاً وأميراً يكون عِنْده كَمَا هُوَ الْعَادة لِأَنَّهُ عزل حسنا الْمَذْكُور بِمَوْت سُلْطَانه الَّذِي ولاه وَهُوَ الْملك المظفر ابْن الْملك الْمُؤَيد فخشي السُّلْطَان برسباي من مُخَالفَة حسن الْمَذْكُور ومحاربته لعَلي وَكَانَت تَوليته فِي سنة سبع وَعشْرين الْمَذْكُورَة فَدخل مَكَّة بِمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من الْأَشْرَاف والقواد المنسوبين لعجلان فَطَافَ والمؤذن يَدْعُو لَهُ على زَمْزَم وَقُرِئَ توقيعه بِالْحَطِيمِ على الْعَادة وَلبس الخلعة ثمَّ خرج رَاكِبًا من بَاب الصَّفَا مختلعاً فَطَافَ فِي شوارع مَكَّة المكرمة ثمَّ نزل إِلَى جدة المعمورة لأخذ مواجبه من الواصلين من الْهِنْد وترفق بهم غَايَة الترفق ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة ونادى بالأمان وَأَن كل من اخْتَار الْخدمَة من الْأَشْرَاف والقواد يَأْتِي إِلَيْنَا وَمن لَا فَلَا يُقيم عندنَا وَله منا شهر زمَان مهلة وَقيل إِنَّه استمال الشريف رميثة بن مُحَمَّد بن عجلَان الَّذِي كَانَ مُتَوَلِّيًا قبل(4/274)
للشريف حسن فوصل إِلَيْهِ فَلَزِمَهُ الْأَمِير قرقماس وَوَضعه فِي الْحَدِيد وَذهب بِهِ إِلَى مصر صُحْبَة الْحَاج فَأرْسل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة هُوَ والشريف مقبل صَاحب يَنْبع وَخَرجُوا رَابِع عشر ذِي الْحجَّة إِلَى الشريف حسن وَذَلِكَ أَن الشريف حسن لم يحدث مِنْهُ شَيْء لما عزل بالشريف عَليّ بن عنان بل لما سمع أَنه قرب من مَكَّة واصلاً إِلَيْهَا من مصر مُتَوَلِّيًا صُحْبَة الْحَاج خرج عَنْهَا هُوَ والأشراف الَّذين مَعَه والقواد وَتَنَحَّى بِنَاحِيَة قرب مَكَّة وراسل السُّلْطَان برسباي بالْكلَام اللين وعرفه أَن عَزله كَانَ بِغَيْر سَبَب فَخَرجُوا إِلَيْهِ وَأَرَادُوا أَن يهجموا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مكر بِهِ بعد التُّجَّار واستدناه فقصدوه ليظفروا بِهِ فَلم يروه بحماية الله تَعَالَى وَاسْتمرّ الشريف عَليّ بن عنان إِلَى أَن عزل عَنْهَا غرَّة ذِي الْحجَّة من عَام ثَمَان وَعشْرين وَثَمَانمِائَة بالشريف حسن فوليها الشريف حسن بِعَهْد من ملك مصر برسباي لِأَنَّهُ راسله بالْكلَام اللين وعرفه عَزله بِغَيْر سَبَب كَمَا تقدم فَرضِي عَلَيْهِ وَأعَاد إِلَى إمرة مَكَّة وَلما بلغ الشريف حسن هَذَا الْخَبَر أرسل وَلَده السَّيِّد بَرَكَات لمواجهة أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ فواجهه وَدخل هُوَ وإياه إِلَى الْمَسْجِد وَحلف لَهُ بِاللَّه تَعَالَى أَن السُّلْطَان قد رَضِي على أَبِيك الشريف حسن وَأَنه لَا يَنَالهُ مني وَلَا من السُّلْطَان سوء وَكَانَ الْحلف على الْمُلْتَزم فَعِنْدَ ذَلِك دخل الشريف حسن وواجه الْأَمِير وَأهْدى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَعْطَاهُ مِحَفةً حَج فِيهَا ثمَّ إِنَّه حج بِالنَّاسِ وَأظْهر طَاعَة السُّلْطَان برسباي وأعلن بِالدُّعَاءِ لَهُ فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى السُّلْطَان برسباي طلب حُضُور مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَيْهِ فَتوجه فِي الْمَوْسِم من السّنة الْمَذْكُورَة فَلَمَّا وصل أَمر السُّلْطَان أَن يتلقاه الْأُمَرَاء والأكابر ويمشوا بَين يَدَيْهِ وَلما حضر بَين يَدَيْهِ أنعم عَلَيْهِ بِالْخلْعِ العديدة والإنعامات المزيدة وَالْتزم الشريف حسن أَن يخْدم السُّلْطَان بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأرْسل عَبده شكر إِلَى بندر جدة ليَأْتِيه بهَا وَاسْتمرّ بِمصْر على كَمَال الحشمة ووفور النِّعْمَة فَكتب بعض أدباء مَكَّة إِلَى السُّلْطَان على لِسَان مَكَّة يذكر أَنَّهَا متشوقة إِلَى(4/275)
الشريف حسن قَوْله // (من الوافر) //
(مِنَ البلدِ المُخصَّص بالأمان ... وَكَعْبَتِهِ المشرَّفة المباني)
(تقبل كَفَّ سُلْطَانِ البرايا ... أبي النصْرِ الموفَّقِ للمَعانِي)
(برسْبَاى الَّذِي ملكَتْ يَدَاهُ ... جَمِيعَ الخَلْقِ مِنْ قاصٍ ودانِى)
(وتُنْهِى مَا بهَا من عُظْمِ شوقٍ ... إِلَى سُلْطَانِها بَدْرِ الزمانِ)
إِلَى أَن قَالَ // (من الوافر) //
(فَرُدَّ إلىَّ سلطاني سَرِيعا ... فإنِّى كَالجوادِ بِلاَ عنانِ)
فَسَمعَهَا السُّلْطَان فرسم للشريف حسن بالتوجه إِلَى مَكَّة وجهزه وبرز ثقله خَارج الديار المصرية فَاعْترضَ لَهُ الضعْف فَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَمكث بهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ توفّي بهَا سادس عشر جُمَادَى الْأُخْرَى سنة تسع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَدفن فِي حوش الْملك الْأَشْرَف برسباي الْمَذْكُور بالصحراء وقبره هُنَاكَ مَشْهُور يزار وَله وقائع مَشْهُورَة فى التورايخ مسطورة مَعَ إخْوَته وَبنى عَمه وملوك مصر والقواد وَغَيرهم وَكَانَ ذَا ثروة عَظِيمَة وحشمة وافرة جسيمة وخيرات كَثِيرَة عميمة بنى بِمَكَّة رِبَاطًا للرِّجَال ورباطاً للنِّسَاء وَبنى المارستان وَعمر أوقافه وَزَاد فِيهَا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وجدد رِبَاط رامشت عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة وَلم يل مَكَّة قبله من يدانيه فى شئ من ذَلِك وَقد مدحه كثير من شعراء مَكَّة المعتبرين مِنْهُم الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد الفاسى وَالِد تَقِيّ الدّين الفاسي مؤرخ مَكَّة وَمِنْهُم شيخ الْإِسْلَام شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر الْمقري وَكَانَ الْملك النَّاصِر أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الغساني صَاحب الْيمن تشفع إِلَى الشريف حسن بن عجلَان سنة سبع وَثَمَانمِائَة فِي ترك التشويش على مُوسَى صَاحب حلى وحثه على الْمُوَافقَة على ذَلِك القَاضِي شرف الدّين الْمَذْكُور بقصيدته النونية وَهِي قَوْله // (من الْكَامِل) //
(أحسنْتَ فِي تدبيرِ مُلْكِكَ يَا حَسَنْ ... وأَجَدتَّ فِي تحليلِ أخلاطِ الفتَنْ)
(مَا كنتَ بالنزقِ العَجُولِ إِلَى الأذَى ... عِنْد النِّزَاعِ وَلَا الضغيفِ أَخا الوَهَنْ)(4/276)
(تمسِى ورأيُكَ عَن هواكَ معوَّقٌ ... والغرُّ ملقٍ فِي يَد الأهوا الرَّسَنْ)
(داءُ الرياسةِ فِي متابَعَةِ الهوَى ... ودواؤها فِي الدفْعِ بالوجْهِ الحَسَنْ)
(وَإِذا الفتَى استَقْصَى لنصرةِ نفسِهِ ... قَلَبَ الصديقُ لحربه ظَهْرَ المجَنٌ)
(لَا تُصْغِ إِن شرٌّ دَعَا فالشرُّ إِن ... تنهضْ لَهُ يَنْهَضْ وَإِن تسكُنْ سَكَنْ)
(وسديد رأْيٍ لَا يُحَرِّكُ فتْنَة ... سَكَنَتْ وَإِن حَرَّكْنَهُ الفِتَنُ اطمأنّ)
(رَدَّ العدوَّ إِلَى الصداقةِ حكمةٌ ... صَفَّتْ من الأكدارِ عيشَ ذَوي الفِطَنْ)
(بالسيفِ والإحسانِ تُقْتَنَصُ الْعلَا ... وحصولُهَا بهما جَمِيعًا مرتهَنْ)
(لَا خيرَ فى منَنٍ وَلَا سيف بهَا ... ماضٍ وَلَا فِي السيفِ لَيْسَ لَهُ منَنْ)
(أما حلى فإنَّ خوفَكَ لم يدَعْ ... أَهلا بهَا للزائرينَ وَلَا وطَنْ)
(حلَّيْتهُم مِنْهَا وجسمُكَ وادعٌ ... فِي مكةٍ لم يُحْوِجُوكَ إِلَى ظَعَنْ)
(تركُوا لَك الأوطانَ غَيْرَ مدافعٍ ... وتعلَّقوا بذرى الشوامخِ والَقُنَنْ)
(حفظوا نفوساً بالفرارِ أطلَّها ... سيفٌ على الأرواحِ ليْسَ بمؤتَمَنْ)
(ولحفظها بالفَرِّ أكْبرُ شاهدٍ ... لَك بالعلا فِلمَ التأسُّفُ والحَزَنْ)
(فاغمدْ سيوفَكَ رَغْبَة لَا رهبةً ... مَا فِي قتيلٍ فرَّ مَرْعُوبًا سمنْ)
(واكرمْ سيوفَكَ من دِمَا طرادتها ... فالحُرُّ يكرمُ سيفَه أَن يمتَهَنْ)
(قد كَانَ لَا يرضَى يخطِّط سيفَهُ ... فِي ظهر مَنْ ولَّى أَبوك أَبُو الحَسَنْ)
(وَقد اقتدرْتَ وباقتدارِ ذَوي النهَى ... تنفلُّ أحقاد الضغائن والإحَنْ)
(موسَى هِزَبرٌ لَا يطاقُ نزالُهُ ... فِي الْحَرْب لكنْ أَيْن موسَى من حَسَنْ)
(هذاكَ فِي يَمَنٍ وَمَا سلمَتْ لَهُ ... يَمَنٌ وَذَا فِي الشامِ لم يَدَعِ اليمَنْ)
(فانظرْ إِلَى موسَى وَقد لعبَتْ بِهِ ... لما سخطْتَ عَلَيْهِ أحداثُ الزمَنْ)
(ذاقَ المرارَ لفَوْتِهِ أوطانَهُ ... فَقِهِ مرارةَ فُرْقة الرُّوحِ البَدَنْ)
(لَو شئتَ وَهُوَ عَلَيْك سَهْلٌ هينٌ ... لجمعتَ بَين الجَفْنِ مِنْهُ والوسَنْ)
(بعْ مِنْهُ مهْجَتهُ وخُذْ مَا عندَهُ ... ثمنا يكنْ مِنْك المثمِّنُ والثمَنْ)
(هذي مساوَمَةُ الفحولِ ومَنْ يبعْ ... مَا بعْتَ لم يعلَقْ بصفقته الغَبَنْ)
(جِئْنَا بحُسْنِ الظَّنِّ نَسْأَلك الرضَا ... والعَفْوَ عَنهُ فَلَا تخيِّبْ فِيك ظَنِّ)
(فالحرُّ يكرمُ سائليه يَرَى لَهُم ... فضلا كَمَا ابتداءوه بالظنِّ الْحسن)(4/277)
(ويهينُ سائله اللَّئِيم لظنِّهِ ... فِي مثله خيرا وَذَلِكَ لَا يُظَنْ)
(لَا زِلْتَ للشرفِ المخلَّد بانياً ... شرفاً ومجداً ثَابتا لِبَنى حَسَنْ)
وَلما وَقع بَين الشريف حسن بن عجلَان وَبَين الْأَمِير أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الغساني صَاحب جِهَات الْيمن الْحَرْب منع مسير الْجلاب بالحبوب إِلَى أهل الْحرم الشريف فَأَنْشَأَ السَّيِّد المرتضى قصيدة يستشفع عِنْد الْأَمِير أَحْمد فِي إِطْلَاق الْحُبُوب إِلَى أهل مَكَّة فَقبل شَفَاعَته وأطلقها وَهِي هَذِه // (من الْكَامِل) //
(عطفا على الحرمَيْن يَا ملكَ اليَمَنْ ... وتجاوزٌ ايا خيرَ أملاكِ الزمَنْ)
(وارفُقْ بأهلِ اللهِ فِي أمِّ القُرَى ... إِن لم تكُنْ أنْتَ الرفيقَ فمَنْ ومَنْ)
(إِنِّي أشيرُ عليكَ رأْىَ نصيحةٍ ... والمستشارُ من الْبَريَّة مؤتمَنْ)
(لَا تسلكَنْ فيهم طريقَةَ قاطِع ... للرحْمِ إنهُمُ هُنَاكَ كمَنْ ومَنْ)
(ألْمَنُّ منكَ وأنْتَ مَنٌّ سائلٌ ... للمسلمينَ وأنْتَ فِي المَنَّيْن مَنْ)
(أَنْت الَّذِي ورثَ المكارمَ عَن يدٍ ... وَلَك المعالمُ والعلومُ بكلِّ فَنّ)
(ولكَ السماحةُ والتقَى من أسعدٍ ... وَلَك الوجاهَةُ والعلا من ذِي يَزَنْ)
(فانظُرْ بعينِ حقيقةٍ وسماحةٍ ... تِلْكَ الأَمَاِكنَ والمساكنَ والسكَنْ)
(لَا تحملنَّكَ عزةٌ ملكيَّةٌ ... فِي حربها بخلافِ مَنْ فِيهَا سكَنْ)
(إِن الَّذِي فَعَلَ الشريفُ وَإِن جنَى ... مثلُ الحصاةِ وأنْتَ فِي عفْو حضنْ)
(من ذَا الَّذِي مَا سَاءَ قَطُّ وَمن لَهُ الحسنَى ... فقَطُّ وَمن لَهُ الْعقل الحَسَنْ)
(حسنٌ مليكٌ فِي الحجازِ معظمٌ ... فِيهَا ولكنْ أَيْن أحمدُ من حَسَنْ)
(هَذَا لَهُ يَمَنٌ وَهَذَا مَا لَهُ ... إِلَّا فضَاضَة مَا تفيضُ بِهِ عَدَنْ)
(وَلَك المدائنُ والسفائنُ كلُّها ... وَله يلمْلَم والجنوبُ إِلَى قَرَنْ)
(أطلقْ لَهُ سُفُنَ البحارِ فَإِنَّهَا ... تجرِى إِلَى البيتِ العتيقِ على سَنَنْ)
(بيتٌ لَهُ خَضَعَ الملوكُ جلالةً ... وَبِه تفاضَلَتِ الفرائضُ والسنَنْ)
(وأبوكَ أولُ كَسَاه كَمَا أتَى ... فِي مُحْكَمِ التاريخِ فِي مَلإِ اليمنِ)
(ولكمْ بِهِ آثارُ فضلٍ ظاهرٍ ... فِيمَا تظاهر من بناه وَمَا بطَنْ)
(رسم المظفَّر فِيهِ مكتوبٌ بماءِ ... الْعين أيده المؤيِّدُ بالمنَنْ)
(وعلَى منابرِهِ يشاعُ بذكْرِكُمْ ... بِالصَّوْتِ فِي الحرمِ الشريفِ إِذا ازدجَنْ)(4/278)
(أوَ لَيْسَ فِي هَذَا الدُّعَاء لأهلِهِ ... وَلمن أقامَ بِهِ الأمانُ من الفتَنْ)
(صُنْ مَكَّة الغراءَ من فِتنٍ ومِنْ ... محن فأنتَ أحقُّ من طفأ الفِتَنْ)
(وَمن المحاسِنِ فِي الكلامِ قصيدةُ الْمُقْرى ... الَّتِي جمع البديعَ بهَا وَسَنّ)
(قد قَالَ فِي أبياتها وبديعهَا ... لله ذَاك القَوْلُ من قولٍ حَسَنْ)
(داءُ الرياسةِ فِي مُتَابعَة الهَوى ... ودواؤه فِي الدفعِ بالوجْهِ الحَسَنْ)
(وإذَا الْفَتى استقصَى لنصرةِ نفسِهِ ... قَلَبَ الصديقُ لحربه ظَهْرَ المجِنْ)
(لَا تُضغ إِن شرِّ دَعَا فالشرُّ إِن ... تنهضْ لَهُ ينهضْ وَإِن تسكُنْ سَكَنْ)
(وسديدُ رأىٍ لَا يحرِّكُ فتنةٌ ... سكَنَتْ وَإِن حركْتَهُ الفتنُ اطمأنّ)
(رَدَّ العدوَّ إِلَى الصداقةِ حِكْمَة ... صفَّتْ من الأكدار عَيْشَ ذَوي الفطَنْ)
(هذي نصائحُ أبرزتْها فكرةُ الْمقْرى ... تفوقُ الدُّر لَيْسَ لَهَا ثمَنْ)
(فاقبل نصائح تتصلْ بل إِنَّهَا ... حِكَمٌ تفوقُ الدرَّ يدْخلهُ الوَهَنْ)
(أنتَ المليكُ ابنُ المليكِ وليْسَ مِنْ ... شأنِ الملوكِ الشمِّ إحمالُ الإحَنْ)
(وَترى الطبيبَ إِذا تقادم جُرْحُ من ... يدويه لاطَفَهُ وغيَّرَ بالدهنْ)
(كلٌّ لَهُ شجنٌ وَمَا لَك فِي الْعلَا ... شجَنٌ سوى الْإِصْلَاح يَالَكَ من شجنْ)
(ولأَنْتَ فِي الإسلامِ رأسٌ واحدٌ ... والرأسُ مهما اعْتَلَّ يتبعُهُ البدَنْ)
(رفقا بأهْلِ المكَّتَينِ وَرَحْمَة ... بهمُ وعطفاً شَامِلًا لبني حَسَنْ)
(وَإِذا أردتَّ لَهُ معاتبةٌ علَى ... مَا فاتَ قَلْتَ الصيفَ ضيَّعْتِ اللبَنْ)
(لَا زلتَ فِي الشَّرَفِ المعظَّم خَالِدا ... مَا غرَّدَ القُمْرِيْ الطروبُ على فَنَنْ)
وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد جملَة مِنْهُم أَبُو الْقَاسِم وَعلي وَإِبْرَاهِيم وبركات ثمَّ وَليهَا الشريف بَرَكَات بن حسن بن عجلَان وَذَلِكَ أَنه استدعاه السُّلْطَان برسباي سادس عشر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَهِي سِتَّة تسع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة فَلَمَّا قدم إِلَى مصر المحروسة أواسط ذِي الْقعدَة فوض إِلَيْهِ إمرة مَكَّة المشرفة عوضا عَن وَالِده وَقرر أَخَاهُ إِبْرَاهِيم بن حسن نَائِبا عَنهُ ثمَّ ألبسهما خلعتين عظيمتين فوصلا إِلَى مَكَّة المشرفة ودخلها بِالْخلْعِ السُّلْطَانِيَّة وَقُرِئَ توقيع مولأنا الشريف بَرَكَات بِالْحَطِيمِ على طَريقَة أسلافه الْكِرَام لَا زَالَ الْملك فيهم وَفِي عقبهم إِلَى يَوْم الْقيام(4/279)
قَالَ المقريزي فِي كتاب السلوك فِي أَخْبَار الْمُلُوك لما كَانَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر شهر رَجَب من عَام تسع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة بعث الشريف أَبُو زُهَيْر بَرَكَات ابْن حسن بن عجلَان أَمِير مَكَّة بعثاً فِيهِ يشكو عبيد أَبِيه الشريف حسن بن عجلَان من بطُون حَرْب إِحْدَى قبائل مذْحج ومنازلهم حول عسفان نزلُوا سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة وَقد أخرجهم بَنو لَام من أَعمال الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فَكثر عبثهم وَأَخذهم السابلة من الْمَارَّة إِلَى مَكَّة بالميرة وَجعل على هَذَا الْبَعْث أَخَاهُ الشريف عَليّ بن حسن بن عجلَان وَمَعَهُ من بني حسن الشريف ميلب بن عَليّ بن مبارك بن رميثة وَغَيره فِي عدَّة من النَّاس وَسَار مَعَهم الْأَمِير أرنبغا أَمِير الْخمسين المركزين بِمَكَّة من أماكنه السُّلْطَانِيَّة وصحبته مِنْهُم عشرُون مَمْلُوكا فنزلوا عسفان يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَقَطعُوا الثَّنية الَّتِي تعرف الْيَوْم بمدرج عَليّ حَتَّى أَتَوا الْقَوْم وَقد أنذروا بهم فتنحوا عَن الأَرْض وَتركُوا بهَا إبِلا مَعَ خَمْسَة رجال فَأول مَا بدءوا أَن قتلوا الْخَمْسَة رجال وَامْرَأَة حَامِلا كَانَت مَعَهم وَمَا فِي بَطنهَا أَيْضا وَاسْتَاقُوا الْإِبِل حَتَّى إِذا كَانُوا نَحْو النّصْف من الثَّنية الْمَذْكُورَة ركب الْقَوْم عَلَيْهِم الجبلين يرمونهم بالحراب وَالْحِجَارَة فَانْهَزَمَ الْأَمِير أرنبغا فِي عدَّة من المماليك وَقد قتل مِنْهُم ثَمَانِيَة وَمن أهل مَكَّة وَغَيرهم نَحْو الْأَرْبَعين وَزِيَادَة وجرح كثير مِمَّن بَقِي وغنم الْقَوْم مِنْهُم اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فرسا وَعشْرين درعاً وَمن السيوف والرماح والأسلحة والأسلاب مَا قيل إِن مبلغه ثمنا خَمْسَة آلَاف دِينَار وَأكْثر فَلَمَّا طلعت شمس يَوْم الْجُمُعَة دخل أرنبغا بِمن بَقِي مَعَه من المماليك مَكَّة وهم يَقُولُونَ قتل جَمِيع من خرج من الْعَسْكَر فَقَامَتْ عِنْد ذَلِك بِمَكَّة صرخة من جَمِيع نَوَاحِيهَا لم نر مثلهَا شناعة وَأَقْبل المنهزمون نَاسا بعد نَاس فِي عدَّة أَيَّام وَحمل الشريف ميلب يَوْم السبت ميتَاً وَمَات بعده بأيام شرِيف آخر من جِرَاحَة شوهت وَجهه كُله من أَعلَى جَبهته إِلَى أَسْفَل ذقنه فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَاسْتمرّ الشريف بَرَكَات على ولَايَة مَكَّة إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَنزل فِيهَا بأَخيه عَليّ بن حسن كَمَا سَيَأْتِي وَقيل فِي الَّتِي بعْدهَا بِموضع يُقَال لَهُ الحشافة بِالْقربِ من جدة وَأَجَازَ لَهُ فِي سنة خمس جمَاعَة من الْعلمَاء الحافظان الْعِرَاقِيّ(4/280)
والهيثمي والبرهان ابْن صديق والمراغي وَعَائِشَة بنت عبد الْهَادِي وَالشَّمْس الفرسيسي فِي آخَرين وَحدث عَنهُ البقاعي وَغَيره كَذَا فِي نظم العقيان فِي أَعْيَان الْأَعْيَان للسيوطي وَنَشَأ شرِيف الهمة حسن الْأَفْعَال جميل الْأَخْلَاق أشركه وَالِده كَمَا قُلْنَاهُ فِي إمرة مَكَّة مرَارًا وَكَانَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي جَمِيع أحوالها وَلما توفّي وَالِده ارتحل إِلَى الْقَاهِرَة بِطَلَب من السُّلْطَان برسباي وَالْتزم بِمَا على وَالِده من المَال وَاسْتقر فِي إمرة مَكَّة بمفرده وَلما وصل إِلَى مَكَّة حسنت سيرته فِي النَّاس وَعم النَّاس خَيره وَلما مَاتَ السُّلْطَان برسباي واستقل الْملك الظَّاهِر جقمق فِي مملكة مصر طلبه إِلَى الْقَاهِرَة فَامْتنعَ من التَّوَجُّه إِلَيْهِ خوفًا مِنْهُ بِسَبَب وَاقعَة وَقعت لَهُ مَعَ الظَّاهِر الْمَذْكُور لما حج وَهُوَ أَمِير فِي عَام سبع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة فَعِنْدَ ذَلِك رام السُّلْطَان أَن يولي أَخَاهُ عليا وَكَانَ عَليّ عِنْده بِالْقَاهِرَةِ لِأَنَّهُ وَقع بَينه وَبَين أَخِيه بَرَكَات منافرة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فعزم إِلَى مصر فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن ولي سنة خمس وَأَرْبَعين كَمَا سَيذكرُ فَلم يُوَافق على ذَلِك من أَرْكَان الدولة من يعْتَمد عَلَيْهِ فتوقف ثمَّ فعله فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة فولى أَخَاهُ عَليّ بن حسن بن عجلَان إمرة مَكَّة المشرفة مُنْفَردا وجهز مَعَه عسكراً فوصل الْعلم إِلَى الشريف بَرَكَات وَهُوَ بوادي الْآبَار توجه من فوره إِلَى جدة وأخلى مَكَّة المشرفة من نوابه ثمَّ وصل وَزِير الشريف عَليّ بن حسن قبله إِلَى مَكَّة وَهُوَ الْقَائِد مزروع الْعجْلَاني ودعا لأمير مَكَّة من غير تعْيين على منبرها فِي رَجَب من الْعَام الْمَذْكُور ثمَّ وصل الشريف عَليّ فَدخل مَكَّة وَلما نزل الشريف بَرَكَات إِلَى جدة استولى عَلَيْهَا فراسله الشريف عَليّ وَأَخُوهُ الشريف إِبْرَاهِيم وَمن مَعَهُمَا من الْأُمَرَاء وسألوه أَن يخرج من الْبِلَاد فَامْتنعَ أَلا من الْمُحَاربَة فَوَقَعت بَينهمَا الْحَرْب بالجديد بِالْقربِ من جدة فَكَانَت الْغَلَبَة لعَلي وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء والأتراك واستولوا على جدة وَتوجه الشريف بَرَكَات إِلَى جِهَة الْيمن هُوَ وَمن مَعَه وَاسْتمرّ عَليّ فِي إمرة مَكَّة مُدَّة قَليلَة إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ مَعَ أَخِيه إِبْرَاهِيم يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع شَوَّال سنة سِتّ(4/281)
وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وكبلا فِي الْحَدِيد وَظهر عَزله بأَخيه الشريف أبي الْقَاسِم فوليها الشريف أَبُو الْقَاسِم بن حسن بن عجلَان وَكَانَ بِالْقَاهِرَةِ فَطلب الْأُمَرَاء المقيمون بِمَكَّة وَلَده السَّيِّد زَاهِر بن أبي الْقَاسِم بن حسن بن عجلَان وألبسوه خلعة ليَكُون نَائِبا عَن أَبِيه فَقَامَ بِحِفْظ الْبِلَاد وَلَده السَّيِّد زَاهِر وَذهب بالأخوين عَليّ وَإِبْرَاهِيم إِلَى جدة وأركبا فِي جلبة إِلَى الْقَاهِرَة وتفصيل هَذِه الْوَاقِعَة هُوَ مَا ذكره الجزيري فِي تَارِيخه فَقَالَ لما كَانَت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وصل حكم من السُّلْطَان الظَّاهِر جقمق صَاحب مصر مَعَ الْأَمِير تمراز بِالْقَبْضِ على الشريفين عَليّ بن حسن بن عجلَان وأخيه إِبْرَاهِيم وتجهيزهما إِلَى مصر فَحَضَرَ الْأَمِير تمراز إِلَى مَكَّة فِي مستهل شَوَّال فَأرْسل الْأَمِير بيورلدي إِلَى الشريف عَليّ ابْن الشريف حسن أَن يحضر هُوَ وَأَخُوهُ السَّيِّد إِبْرَاهِيم للبس خلعتيهما فتخيلا من ذَلِك وَكَانَا بوادي الْآبَار ثمَّ اقْتضى رأيهما أَن يُقيم السَّيِّد إِبْرَاهِيم بوادى الْآبَار وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهِم الشريف عَليّ فوصل إِلَى مَكَّة فِي عشَاء ثَالِث شَوَّال وأتاهم فِي صباحها فَسَأَلُوهُ عَن أَخِيه السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَذكر لَهُم عَنهُ عذرا أَقَامَهُ فألبس الْأَمِير تمراز الشريف عَليّ خلعة حَمْرَاء وحياصة وَقُرِئَ مرسوم السُّلْطَان مضمونه إِنَّه بلغنَا أَن الشريف عَليّ متشوش الخاطر فليطب نفسا وليقر عينا فَإنَّا لَا نغير عَلَيْهِ شَيْئا أبدا مَا دَامَ على العهو والمواثيق وَقد بعثنَا لَهُ بخلعة ولأخيه إِبْرَاهِيم كاملية فَرو قاتم فقرت بذلك عين الشريف فلبسها وَطَاف بِالْبَيْتِ فَحسن الأتراك للشريف عَليّ أَن يُرْسل إِلَى أَخِيه إِبْرَاهِيم فيصل للبس خلعته السُّلْطَانِيَّة فاعتمد الشريف عَليّ قَوْلهم وَأرْسل إِلَى أَخِيه ثمَّ اجْتمعَا بهم فِي الْمَسْجِد فألبس الشريف إِبْرَاهِيم خلعته وَكَانَ بعض الْأُمَرَاء الأتراك اعتذر عَن حُضُوره ذَلِك الْيَوْم بِأَنَّهُ شرب مسهلاً فَحسن الْبَاقُونَ من الأتراك للشريفين أَن يعزما إِلَيْهِ من الْمَسْجِد لزيارته وَكَانَ نازلاً بمدرسة الباسطية ففعلا فَبعد أَن وصلا إِلَيْهِ مَعَ جمَاعَة الأتراك أخرج أحد الْأُمَرَاء مَكْتُوبًا من السُّلْطَان وَدفعه لذَلِك الْأَمِير الْمَزْبُور فَأعْطَاهُ لكَاتبه فعّربه ثمَّ قَرَأَهُ فَكَانَ مضمونه الْأَمر بِالْقَبْضِ على الشريف عَليّ وأخيه إِبْرَاهِيم فَقبض عَلَيْهِمَا وتفرق من كَانَ مَعَهُمَا وحصلت الغوغاء فى الْبَلَد ثمَّ استعادوا مِنْهَا مَا ألبسوهما من الْخلْع ثمَّ إِنَّهُم سفروهما إِلَى جدة وأركبوهما الْبَحْر إِلَى مصر(4/282)
انْتهى مَا قَالَه الجزيري قَالَ السخاوي فِي الذيل كَانَ الشريف عَليّ بن حسن الْمَذْكُور حسن المحاضرة كريمَاً ذَا ذوق وَفهم ونظم حَتَّى قيل إِنَّه أحذق بني حسن وأذوقهم وأفضلهم وَمن نظمه // (من الوافر) //
(وَإِن نَالَ العُلاَ قَوْمٌ بقومٍ ... رَقِيتُ عُلوَّهَا فَردا وَحِيدًا)
أَقَامَ بِمصْر بعد أَن أَخذ هُوَ وَأَخُوهُ فاستمر إِلَى أَن مَاتَ بدمياط مطعوناً مسجوناً سنة ثَلَاث وَخمسين وَثَمَانمِائَة عَن خمسٍ وَأَرْبَعين سنة ثمَّ وصل أَبُو الْقَاسِم إِلَى مَكَّة بوم السبت سَابِع عشر ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة لابساً خلعة الْولَايَة وَقُرِئَ توقيعه بِالْحَطِيمِ وَنُودِيَ لَهُ كَمَا تقدم وَاسْتمرّ الشريف أَبُو الْقَاسِم فِي ولَايَة مَكَّة إِلَى سنة ستع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة فهجم عَلَيْهِ الشريف بَرَكَات ففر الشريف أَبُو الْقَاسِم مِنْهَا وَأقَام الشريف بَرَكَات بهَا فأشيع بِمَكَّة أَوَاخِر السّنة الْمَذْكُورَة أَن السُّلْطَان أوصى أُمَرَاء الْحَاج بِالْقَبْضِ على الشريف بَرَكَات لاستيلائه على مَكَّة من أَخِيه أبي الْقَاسِم بعد النداء لَهُ وَقِرَاءَة توقيعه عِنْد الْحطيم وَكَانَ قد وصل مَعَ الْحَاج نَحْو عشْرين أَمِيرا لذَلِك فَجمع الشريف بَرَكَات الْخَيل وَالرجل وَأكْثر من الْجمع على الْعَادة وَتقدم وواجه أَمِير الْحَاج واختلع وَلَكِن لم يدْخل لأحد مِنْهُم بَيْتا كَمَا كَانَ يَقع فَلَمَّا كَانَ يَوْم عَرَفَة لما عزم الْأُمَرَاء إِلَى الصَّلَاة بِمَسْجِد نمرة وَقعت جفلة حَال بروزهم وثار غُبَار شَدِيد فَظن النَّاس أَنهم أَغَارُوا على جِهَة الشريف بَرَكَات فاختلط الْحَاج وألبست الْأَشْرَاف والقواد وَكَانَت سَاعَة مهيلة وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَسلم الله الْمُسلمين غير أَن الشريف بَرَكَات لم يقف فِي الْمحل الْمُعْتَاد فِيهِ الْوُقُوف لَهُ بل وقف وَحده وَمن مَعَه مُنْفَردا عَن الْحَاج نَاحيَة ثمَّ نزح بعد النُّزُول إِلَى منى عَن مَكَّة وَعَاد الشريف أَبُو الْقَاسِم إِلَى ولَايَته عَلَيْهَا وَاسْتمرّ الشريف بَرَكَات نازحاً عَن مَكَّة إِلَى سنة إِحْدَى وَخمسين وَثَمَانمِائَة فَلَمَّا كَانَ سَابِع عشر ربيع الأول من سنة إِحْدَى وَخمسين وصل قَاصد من مصر وَذكر أَن السُّلْطَان قد رَضِي على الشريف وَأعَاد إِلَيْهِ إمرة مَكَّة المشرفة وَسبب(4/283)
ذَلِك أَن وَلَده الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات توجه إِلَى مصر بِسَبَب السَّعْي لوَلَده الشريف بَرَكَات فِي إمرة مَكَّة وَدخل الْقَاهِرَة وَحصل لَهُ من الْملك الظَّاهِر جقمق غَايَة الْإِكْرَام وأنعم على وَالِده الشريف بإمرة مَكَّة المكرمة فَهَذا هُوَ السَّبَب فِي رضَا السُّلْطَان عَن أَبِيه ووصول القاصد بِخَبَر تَوليته مَكَّة المشرفة فَلَمَّا وصل القاصد إِلَى مَكَّة بِهَذَا الْخَبَر أَمر الشريف أَبُو الْقَاسِم أَتْبَاعه بِالْخرُوجِ من مَكَّة إِلَى وَادي البيار وَخرج وأخلى مَكَّة وَذهب إِلَى مصر فَمَاتَ فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَخُوهُ عَليّ وَفِي شهرها بالطاعون الْمَذْكُور أَيْضا وَكَانَ مَوته بِالْقَاهِرَةِ وَصلى عَلَيْهِ السُّلْطَان وَدفن على وَالِده الشريف حسن بن عجلَان بحوش الْأَشْرَف برسباي كَذَا فِي الذيل للسخاوي وَاسْتمرّ الشريف بَرَكَات فِي مَكَّة السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ استدعاه السُّلْطَان سنة إِحْدَى وَخمسين ليقدم عَلَيْهِ إِلَى الْقَاهِرَة فَمَا خَالف وَلم يمْتَنع كَمَا امْتنع أَولا وَقدم عَلَيْهِ إِلَى الْقَاهِرَة مستهل رَمَضَان فِي السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه إِلَى الرميلة وَبَالغ فِي إكرامه واحترامه وَخرج من الْقَاهِرَة عَائِدًا إِلَى مَكَّة عَاشر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة مكرماً مرعياً معاملاً بِكُل جميل وَحصل لَهُ من الْإِكْرَام مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ مِمَّا لم يَقع لأحد من أَهله قبله وَأخذ الْعلمَاء عَنهُ بِالْقَاهِرَةِ وازدحموا للْقِرَاءَة عَلَيْهِ لعلو سَنَده وسمعوا من نظمه ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة المشرفة وَكَانَ يَوْم وُصُوله يَوْمًا مشهوداً عَظِيما وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت لَيْلَة السبت أواسط شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة سنة إِحْدَى وَخمسين وَثَمَانمِائَة دخل الشريف بَرَكَات إِلَى مَكَّة محرما بِالْعُمْرَةِ فَطَافَ وسعى وَخرج إِلَى الزَّاهِر وَبَات بِهِ ثمَّ دخل مَكَّة فِي صبح الْيَوْم الْمَذْكُور لابساً التشريف وَقُرِئَ توقيعه بِالْحَطِيمِ وَطَاف وَنُودِيَ لَهُ بِالدُّعَاءِ على قبَّة زَمْزَم كعادة أسلافه الْكِرَام مُلُوك مَكَّة وَمِمَّا وَقع فِي زَمَانه أَن أَمِير الْيمن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الغساني الْمُتَقَدّم ذكره آنِفا كتب إِلَيْهِ أَن يفرغ لَهُ دور مَكَّة وَأَن يلقاه إِلَى حلى صُحْبَة قصيدة هِيَ قَوْله // (من الرمل) //
(مَنْ لصَبِّ هاجه نَشْرُ الصَّبَا ... لم يزدْهُ البَين أَلا طَرَبَا)
(وأسيرٍ كلَّما لاحَ لَهُ ... بارقُ الْقبْلَة مِنْ صَبيا صَبَا)
(ولِطَرْفٍ أرق إنسانُهُ ... دون مَنْ يَشْتَاقُهُ قد حُجِبَا)
(لم يزلْ يشتَاقُ نحلان وَإِن ... قَدُمَ العهدُ ويَهْوَى الطُّنبا)(4/284)
(مَا جرَى ذكْرُ المغإني فِي رَبًّا ... صبواتِ الشطِّ أَلا انْتَحَبَا)
(حَبَّذا صلْبُ القعيسا وطَنِي ... ولويلاتٍ بهَا مَا أَعْذَبَا)
(وَربا البيرَيْنِ مِنْ قبليِّه ... وشراب بهما مَا أعْذَبَا)
(يَا أخلاَّيَ بصبْيا واللِّوَى ... وأحبَّائى بتَيَّاكَ الرُّبَا)
(هَل لنا نَحْوَكُمُ من عودةٍ ... لِنَرَى سدْرَكُمُ والكثبا)
(فلَكَمْ خادَعْتُ قَلْبِى جاهداً ... يتسلَّى عَن هَوَاكُمْ فأَبَى)
(فاذكروا صَبًّا بِكُمْ ذَا لوعةٍ ... بَان عنْكُمْ كَارِهًا مغتصبا)
(وَإِذا عَنَّ لَهُ ذِكْرَاكمُ ... صاحَ واغتصَّ الحسا وانتحبا)
(وَإِذا مَا سَجَعَتْ قمريَّةٌ ... صَاح من فَرْطِ الأسى واحَرَبَا)
(هَائِم القَلْبِ كئيباً دنفاً ... لم يَرَ السلوانَ عَنْكُمْ مَذْهَبَا)
(أَتَرَى الحيَّ الَّذِي كَنَّا وهُمْ ... جيرة بالشَّامِ أيامَ الصِّبَا)
(ليتَ شعْرِى بَعدنَا هَل طَنَّبُوا ... بِرُبا نَحْلان بَعْدى طنبا)
(أَو تناءَتْ بهمُ عِيسُهُمُ ... أَو سَبتهمْ بَعدنَا أَيدي سَبَا)
(عجبا للدَّهْرِ مَاذَا سنَّهُ ... ولأحداثِ اللَّياليِ عَجَبَا)
(مَا طلبتُ الدَّهْرَ أَلا صعباً ... وطلبتُ السِّلْمَ إلاَّ حَرَبا)
(ولئنْ حلَّ بقلبي نُوَبٌ ... مُصْمِيَاتٌ تستهلُّ النوبا)
(وبلانِى مِنْ زماني محنٌ ... بَلَغَ الضدُّ بهَا مَا طلبا)
(فلعَمْرِى مَا بلت أَلا صفا ... وانتضَتْ أَلا حساماً خَشَبَا)
(غير لَا أنكر مَعْرُوفًا وَلَا ... عَابِس الْوَجْه إِذا الدَّهْرُ كَبَا)
(لَا وَلَا منكرث لَو أَنه ... وَهَبَ الحوباءَ فِيمَا وَهَبَا)
(وَأجل الناسِ صبرا لَو على ... غارب المكروهِ يَوْمًا ركبَا)
(إخوتِى بالشامِ بَلْ يَا سادتِي ... وأعز النَّاس أمَّا وَأَبا)
(ومَسَاعِير الوغَى من حسنٍ ... وَبَنُو الحربِ إِذا ضَاقَ القبا)
(ألشناخيبُ الذُّرَى من معشرٍ ... ألصَّنَادِيدُ الكرامُ النجبا)
(إِن قضيتُمْ من هوانا أَرَيًا ... مَا قضينَا من هواكُمْ أَرَبَا)
(أَو تناءَتْ دَارنَا عنْكُمْ وَلم ... يأتنا منْكُمْ على البُعْدِ نبا)(4/285)
(لَا تناسَوْنا وإنْ طَال المدى ... كَمْ تناءٍ بعد بُعْدِ قربا)
(فإِذا ريحٌ جنوبٌ جَنَّبَتْ ... فاسألوها كيْفَ حَال الغُرَبَا)
(فلديها من تَنَاهى لَوْعَتي ... وغرامِى مَا يحطُّ الشُّهُبَا)
(حَبَّذا لَو أننِى مِنْ دونِكُمْ ... خائضاً سُمْرَ العوالي والظُّبَا)
(وجياد الخيلِ ينثرْنَ على ... مَتَنَاتِ الدَّارعِينَ العذبا)
(ألحق الأقران شُعْثًا شُزَّبًا ... تتعاطَى بالعواليِ شزبا)
(أَيهَا الرَّائِحُ بالشَّامِ على ... قلقِ السَّير كَهَبَّاتِ الصَّبَا)
(أَو كَسَهْمٍ طارَ عَن مَحنيهِ ... ذَات زورَيْنِ إِذا مَا ركبا)
(قُلْ لمنْ كَانَ لمأذونِ القضا ... ولأحداثِ اللَّيَالِي سَبَبَا)
(وَالَّذِي أوقد نيران الغَضَا ... زِدْ على نارك يَاذَا حَطَبَا)
(واستلِبْ مَا شئْتَ عمدا فعسَى ... عَن قريبٍ أَن تحطَّ السَّلبَا)
(إِن يكنْ سَرَّكَ مَا سا فعَسَى ... كَيْ ترَى من بعدِ هَذَا عَجَبَا)
(إِن ظننْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا وَاحِدًا ... فلقدْ حَاولْتَ أمرا كذبا)
(رُبَّ صدعٍ كَانَ أعيا شعبه ... أدركَتْهُ رَحْمَةٌ فانشعبا)
(وسرورٍ بعد يأسٍ قد أتَى ... وزمانٍ بعد بُؤْسٍ أعشَبَا)
(ولكَمْ فتح منَ اللهِ أتَى ... حيثُ لَا يُدْرِكُ ساعٍ هربَا)
(فجلا همَّا وأطفا حرقاً ... وشَفَى غِلاًّ وجَلَّى كربا)
(وأعادَتْ رَحْمَة البارِى على ... مُؤْيسٍ من حالِهِ مَا ذهَبَا)
(إِن خبوني عَنْك فِي مُسْتَوْدَعٍ ... فشهابُ العزْمِ منِّى مَا خَبَا)
(أَو سلا جَفْنك لذَّاتُ الكرَى ... فَجُفُونِى والكَرَى مَا اصْطَحَبَا)
(رُبَّ ليلٍ بتُّهُ مرتقيًا ... لطلابِ الثَّأْر أَرْعَى الشهبا)
(أرقبُ النَّصْرَ سَريعًا طالعاً ... وأراعي الغَفْرَ مهما غربا)
(لنهارِ تنقطُ السُّمْر بِهِ ... فِي الوغَى مَا شكلَتْ بيض الظبا)
(وجياد الخيلِ فى معركةٍ ... مجلبات يرتكْيْنَ الغيهبا)
(فينالُ المُرتَجِى مِنْ ربِّهِ ... فِي أَعَادِيه الَّذِي قد طَلَبَا)
(وصلاةُ الله تغشَى دَائِما ... أحْمَدَ المُخْتَارَ مَا هَبَّ الصَّبَا)(4/286)
فَلَمَّا وصل الْمَكْتُوب وَالْقَصِيدَة إِلَى الشريف بَرَكَات بن حسن الْمَذْكُور تصدى لجواب أَحْمد أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور السَّيِّد الأمجد فصيح الفصحاء غفيف الدّين السَّيِّد عبد الله بن قَاسم الذروي فَكتب إِلَيْهِ هَذِه القصيدة على لِسَان الشريف بَرَكَات ابْن حسن بن عجلَان رحم الله الْجَمِيع فَقَالَ // (من الرمل) //
(بالقَنَا الخطِّىِّ والبيضِ الظبَا ... وبِخيلٍ تتبارَى سربا)
(سابحاتٍ مقرباتِ ضُمَّرٍ ... أعوجيَّاتٍ عِتَاقٍ شُزَّبا)
(بُرِّيَتْ آذانُهَا من جودةٍ ... مثلَ أقلامٍ بهَا كَمْ كُتِبَا)
(داحسياتٍ إِذا مَا طردَتْ ... فائتا مَا بَان عَنْهَا هَرَبَا)
(وَإِذا مَا انحدَرَتْ عَن طاردٍ ... سَبَقَتْ لم يَبْغِ مِنْهَا أربا)
(عُوِّدَتْ بِالْحَرْبِ حَتَّى إِنَّهَا ... لم تَزَلْ تَهْوَى الثلاقِى طَرَبَا)
(بدروعٍ سابغاتِ زُعفٍ ... شاهدَتْ أيامَ عادِ وسَبَا)
(صافيات ذَات نسجٍ محكمٍ ... وقتيرِ مثل أعيانِ الدبا)
(وببيضِ روسةٍ لامعةٍ ... نصَّهُ صانعه فانْتَصَبَا)
(وبأبطال إِذا مَا استَعَرَتْ ... نارُ حربٍ ولظاها التهبا)
(وردوها برماحِ ذُبَّلِ ... وبأسيافٍ تحزُّ العصبا)
(نحمى البَيْت وتَحمِى جدة ... وَربا حلى وأكناف قبا)
(بسيوفٍ جردَتْ من غمدٍ ... كبروقٍ يخترقْنَ الحُجُبَا)
(قُلْ لمن رامَ يناوينا ومَنْ ... رام يأْتِى بيتنا مُغْتَصِبا)
(لَا تحجَّ البيْتَ أَلا خاضعاً ... دافعاً عُشْرًا لنا ثُمَّ حُبَا)
(وَإِذا مَا حَجَّهُ ذُو عزةٍ ... ترك الأمْرَ وجا مصطحبا)
(وَإِذا مَا كَانَ رَأْسا لم يعُدْ ... عندنَا يَا صَاحِ أَلا ذَنَبَا)
(سورةُ الفيلِ لنا كافيةٌ ... أُتركِ الجَهْلَ وخَلِّ الكذبا)
(لَيْسَ بيتُ اللهِ وادِى زمعٍ ... لَا وَلَا دمت لمَنْ قد طلبا)
(إنَّ بيَتَ اللهِ بيْتٌ خصَّهُ ... مِنْهُ بالنصْرِ فَلَنْ ينغلبا)
(دونه خَيْلٌ عتاقٌ شزَّبٌ ... عسفَتْ بالدراعِينَ النجبا)
(ومليك من بني حيدرةٍ ... طابَ أجداداً وأمَّا وَأَبا)(4/287)
(بركاتُ المنتقَى من حَسَنٍ ... فارسُ الهيجا إِذا مَا انتدبا)
(ألْمُكَنَّى بالنبيِّ الهاشمِي ... جده الكاشفُ عَنَّا الكُرَبَا)
(أطولُ الناسِ فخاراً سامياً ... وأجلُّ النَّاس طراً حسبا)
(كَمْ جَنَى من عربٍ ذِي عزةٍ ... ولمالِ الضدِّ كم قد نَهَبَا)
(ولكَمْ مِنْ ملكٍ عاندَهُ ... فغدا عَن مُلْكِهِ منقلبا)
(لَو رَآهُ الموتُ فِي يَوْمِ الوغَى ... تَرَكَ الأمْرَ وحطَّ السَّلبَا)
(وَلَو أنَّ الليْثَ وافَى سطوَهُ ... نكس الرأسَ وهَزَّ الذَّنبا)
(لَا وَلَا يقرى لَحوحاً ضَيفه ... لَا وَلَا يقطَعُ حَقَّ الأدبا)
(وَإِذا مَا البَغْلُ مِنْ قُلِّ حَيًا ... رامَ سَبْقَ الخيلِ جَهْلاً تَعِبَا)
فَلَمَّا بلغه هَذَا الْجَواب تخلف عَن الْحَج وَأمر من يترصد الذروى فِي بِلَاده صَبيا فترصدوا لَهُ حَتَّى إِذا نزل السَّاحِل جازان تحيلوا عَلَيْهِ حَتَّى ركب مَعَهم فَسَارُوا بِهِ إِلَى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور فحسبه وضيق عَلَيْهِ فَأمر الشريف بَرَكَات بفدائه بِمِائَة ألف نَاقَة فَقَالَ أَحْمد الْمَذْكُور وَالله مَا أخرجه من الْحَبْس حَتَّى ينشعب هَذَا الصدع فَأَنْشَأَ قصيدة فِي الْحَبْس فَأرْسل الله تِلْكَ اللَّيْلَة مَطَرا فَأصْبح الْحجر قد انشعب بقدرة الله تَعَالَى فَأَطْلقهُ وَأحسن إِلَيْهِ وأوصله مأمنه انْتهى وَاسْتمرّ الشريف بَرَكَات إِلَى أَن توهن بالمرضِ سنة تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة فَسَأَلَ مشدجدة خاني بك الظَّاهِرِيّ أَن يُرْسل إِلَى الْملك يلْتَمس مِنْهُ للشريف بَرَكَات أَن يولي إمرة مَكَّة لوَلَده السَّيِّد مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن لِأَنَّهُ ضعيفُ الْجِسْم ضَعِيف الْحَرَكَة فَأرْسل خاني بك يسْأَل فِي ذَلِك إِلَى الْملك فقدرت وَفَاة الشريف بَرَكَات قبل وُرُود الْخَبَر وَجَاء الْجَواب بعد مَوته بِيَوْم بِولَايَة وَلَده مُحَمَّد بن بَرَكَات وَكَانَت وَفَاة الشريف بَرَكَات بن حسن بن عجلَان عصر يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر شعْبَان سنة تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة بِأَرْض خَالِد من وَادي مر وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال وَدخل بِهِ مَكَّة أثْنَاء لَيْلَة الثُّلَاثَاء وَغسل وَصلي عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بعد صَلَاة الصُّبْح وَدفن بالمعلاة وَبني عَلَيْهِ قبَّة مَوْجُودَة إِلَى الْآن ورثاه الشهَاب المنصوري بقوله // (من الْكَامِل) //
(قَالُوا قضَى بركاتُ قلْتُ يحقُّ لي ... أَن أُتْبِع العبراتِ بالزفراتِ)
(يَا ترحَةَ الأحياءِ عِنْد فراقِهِ ... وبقربِهِ يَا فرحَةَ الأمواتِ)(4/288)
(والكعبةُ الغَرَّاءُ قالَتْ قد غَدا ... لُبْسُ السوادِ عَلَيْهِ مِنْ عاداتي)
(فانظُرْ إِلَى آثارِهِ فِي مكَّةٍ ... فَرِحَابُهَا لم تَخْلُ من بَرَكَاتِ)
وَكَانَ رَحمَه الله مهيباً وقوراً شجاعاً مقداماً غضنفراً كثير الْخيرَات جزيل المبرات مَيْمُون الحركات بنى بِمَكَّة رِبَاطًا للْفُقَرَاء وَهُوَ مَوْجُود وهم بِهِ قاطنون لَهُ النثر الْفَائِق وَالنّظم الرَّائِق فَمن شعره قَوْله // (من الْبَسِيط) //
(يَا من بذكرهِمُ قد زادَ وَسْواسى ... وَقد شُغِلْتُ بهمْ عَنْ سائِرِ النَّاسِ)
(ومَن تقرَّرَ فِي قلبِي محبتُهُمْ ... وجئتُهُمْ طَائِعا أسْعَى على راسِي)
(سألتكمْ شربةً مِنْ مَا مشارِبِكُمْ ... تُغْنِى عَن الراحِ إِذْ مَا لاحَ فِي الكَاسِ)
وَاسْتمرّ فِي الْولَايَة إِلَى عَام 859 تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة وَكَانَ ملكا شهماً عَارِفًا بالأمور فِيهِ خير كثير وحلم زَائِد مَعَ حسن السياسة والشجاعة المفرطة زَائِد السكينَة وَالْوَقار وَله بِمَكَّة مآثر كَثِيرَة وَقرب نافعة مِنْهَا بِمَكَّة رِبَاط للرِّجَال وَغير ذَلِك مَاتَ بِأَرْض خَالِد من وَادي مر وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال وَغسل فِي دَاره وطيف بِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ وَلَده الشريف مُحَمَّد قبَّة وتأسف النَّاس لفقده تغمده الله برحمته وَكَانَت مُدَّة ولَايَته تسع سِنِين من سنة إِحْدَى وَخمسين إِلَى سنة تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد جملَة مِنْهُم الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان ولي مَكَّة بعد وَفَاة أَبِيه وَقد تقدم ذكر التمَاس أَبِيه ذَلِك فِي مرض مَوته وَفِي عصر يَوْم الثُّلَاثَاء فِي يَوْم دفن وَالِده وصل المرسوم بالإجابة إِلَى مَا سَأَلَ فِيهِ وَالِده وصحبة المرسوم خلعة الْولَايَة عوضا عَن أَبِيه فَلَمَّا ورد المرسوم بذلك كَانَ مُحَمَّد غَائِبا بِبِلَاد الْيمن لحفظ بعض أَمْوَال وَالِده فدعي لَهُ على زَمْزَم بعد صَلَاة الْمغرب من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة قرئَ المرسوم مُخَاطبا فِيهِ السَّيِّد بَرَكَات ومضمونه إِنَّه ورد إِلَيْنَا كتاب الْأَمِير خاني بك مشدجدة بالثناء على المخدوم وَقد بلغنَا ضعفة وتوعك جسده وَقلة حركته فَأَقَمْنَا مقَامه فِي إمرة مَكَّة(4/289)
وَلَده السَّيِّد مُحَمَّد بن بَرَكَات والمرسوم مؤرخ بسادس عشر رَجَب سنة تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة فَلَمَّا كَانَ رَابِع شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وصل كتاب من السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر أَيْضا إِلَى السَّيِّد الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات بالعزاء فِي وَالِده الشريف بَرَكَات وتوقيع باستقراره واستمراره فِي إمرة مَكَّة عوضا عَن وَالِده مؤرخ فِي أَوَائِل شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة ودام إِلَى سنة ثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ استناب وَلَده الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات ثمَّ توفّي هُوَ عَام ثَلَاث وَتِسْعمِائَة كَمَا سيأتى ذكره وَمُدَّة ولَايَته خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَمن فتوحات الشريف مُحَمَّد عَام ثَلَاث وَسبعين أَنه غزا طَائِفَة زبيد ذَوي مَالك ابْن رومي بَين خليص ورابغ وَقتل مِنْهُم سبعين رجلا وَقتل شيخهم رومي وأخاه مَالِكًا وغنم مِنْهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة من جُمْلَتهَا ثَلَاثُونَ ألف بعير وَفِي سنة سبع وَسبعين وَثَمَانمِائَة من دولته اتّفق أَن أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ منع الْحَاج الْعِرَاقِيّ من دُخُول مَكَّة وَخرج الأتراك والشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن وغالب الْعَسْكَر مُلْبسُونَ فَلَمَّا احتاطوا بالحاج الْعِرَاقِيّ أمروهم بِالدُّخُولِ إِلَى مَكَّة فَلَمَّا دخلوها أَمْسكُوا الْأَمِير والدوادار وَأخذُوا الْمحمل العراقى وزنجروهما وأركبوهما جملين ودخلوا بهما مَكَّة ثمَّ بعد الْحَج عزموا بهما إِلَى مصر وَمن بعد تِلْكَ السّنة لم يدْخل محمل من الْعرَاق إِلَى مَكَّة إِلَى الْآن وَفِي عَام إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ورد مرسوم السُّلْطَان قايتباي طَابَ ثراه بِأَن عشر الْيَمَانِيّ بَينه وَبَين الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات مُنَاصَفَة وَبِأَن لمولانا الشريف مُحَمَّد كل مَال الْمَوْتَى الَّذين لَا وَارِث لَهُم إِلَى أَن يبلغ ألف دِينَار جَدِيد فَمَا زَاد على ذَلِك كَانَ للسُّلْطَان وَبِأَن أَمْوَال الْيَتَامَى فِي حفظ أَمِير السُّلْطَان بِمَكَّة بعد أَن كَانَت فِي حفظ قَاضِي الشَّرْع الشريف وَوصل محمل من الْعرَاق فَلم يدخلُوا بِهِ إِلَى مَكَّة المشرفة وبذلوا على دُخُوله مَكَّة وطلوعه عَرَفَة مَالا جزيلاً فَلم يوافقهم على ذَلِك مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد الْمَذْكُور وفى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بنيت الْمدرسَة الأشرفية القايتبائية بِمَكَّة المشرفة(4/290)
وفيهَا غزا الشريف مُحَمَّد على جازان ونهبها وأحرق حصنها وأخرب سورها وَقتل عدَّة مستكثرة من رجالها وغنم شَيْئا كثيرا من أموالها وأٍ سر طَائِفَة عَظِيمَة من نسائها وأطفالها وَكَانَ معظمهم من الْأَشْرَاف وتبلغت العساكر من أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وَنِسَائِهِمْ بأموال كَثِيرَة وباعدهم فِي سَائِر الْأَطْرَاف قَالَ الْعَلامَة جَار الله بن فَهد الْقرشِي الْمَكِّيّ وَكَانَ ذَلِك فتحا عَظِيما أوجب جلالة مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد ورجحانه على من سلف من هَذَا الْبَيْت الْمُبَارك وخافته الْقَبَائِل وامتلأت من مهابته الصُّدُور وَفِي عَام أَربع وَثَمَانِينَ كَانَ حج مَوْلَانَا السُّلْطَان قايتباي رَحمَه الله وَصَحبه من الديار المصرية أعيانها المشهورون من الْعلمَاء والصلحاء وَأَوْلَاد الرؤساء أهل الْحل وَالْعقد وتجهز بالأوضاع السُّلْطَانِيَّة وَصَحب من الدَّوَابّ وَالْخلْع وَالْأَمْوَال مَا لَا يحصره عد وَلَا يحويه حد وَخرج لاستقباله الشريف مُحَمَّد وَولده الشريف هزاع وَالْقَاضِي إِبْرَاهِيم بن ظهيرة وَولده القَاضِي أَبُو السُّعُود وقابلوه فِي بدر فِي افْتِتَاح ذِي الْحجَّة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة على أجمل حَال من كَثْرَة العساكر وجمالتهم بِالسِّلَاحِ الْمَذْهَب وَالثيَاب الْحَرِير الفاخرة وَالْخَيْل المسومة والذخائر والركاب الملبسة بأنواع الذَّهَب والحلية النظيفة وَالسُّيُوف المسقطة وَقد تقدم شرح ذَلِك بأبسط من هَذَا عِنْد ذكر تَرْجَمَة السُّلْطَان قايتباي فِي الْبَاب السَّادِس الْمَخْصُوص بولاة الشراكسة فَلَا حَاجَة بِنَا الْآن إِلَى تكريره وَاسْتمرّ الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات على الْولَايَة وحمدت سيرته فِي الْبِلَاد وَاطْمَأَنَّ بِوُجُودِهِ الْعباد وَلم يزل فِي زِيَادَة علو وارتفاع وتوافر نعم وخيرات وساع كل ذَلِك مَعَ فعل الْخَيْر وَالْإِحْسَان والمبرات الَّتِى شَمل بهَا القاضى والدان وتكرار زِيَارَة جده الْمُصْطَفى
وَالْإِحْسَان إِلَى المجاورين بالحرمين الشريفين والمحلين المعظمين المنيفين خُصُوصا من يتوسم فِيهِ الْخَيْر وَالصَّلَاح وفَاق فِي ذَلِك من تقدمه من أسلافه الْكِرَام وَوَقع فِي أَيَّامه من الْعدْل والطمأنينة مَا لم يَقع فِيمَا تقدم من الْأَيَّام وفوض إِلَيْهِ نِيَابَة السلطنة بالأقطار الحجازية والاستنابة فِي الْمَدِينَة المنورة والينبع مِمَّن يختاره وَصرح باسمه الشريف على مِنْبَر الْمَدِينَة بعد السُّلْطَان وَقبل صَاحبهَا وَنفذ أمره فِي(4/291)
جَمِيع الأقطار الحجازية من أَعمال الينبع كنبط والحورا وَمَا فَوق ذَلِك من الشَّام إِلَى أَعمال جازان وَمَا والاها من الْيمن والبلاد الشرقية على التَّمام وَمَا حول ذَلِك من بِلَاد الْحجاز وسراتها وبجيلة وأعمالها وَانْفَرَدَ فِي ذَلِك بعلو شَأْن وتحدث بهيبته وسطوته القاصي والداني ولطالما جهز جيوشه وسراياه إِلَى من خَالف عَلَيْهِ وناوأه وظفر بهم كل الظفر واستأصل أَمْوَالهم وملكهم وقهر كقتال أهل الينبع لما لم يوافقوا على الخضوع وَأجلى الْجَمِيع من بِلَادهمْ وكفهم عَن مقاصدهم ومفاسدهم وكأهل جازان لما وَقع مِنْهُم مَا وَقع من الْعِصْيَان فَقَتلهُمْ واستبى وَملك بِلَادهمْ واجتبى وكقتل أهل زبيد وإهانتهم ثمَّ إكرامهم لما دخلُوا فى الطَّاعَة وإعانتهم وكقتل أهل حلى وَالْعَبِيد وتشريدهم كل التشريد وإخراجهم من الْبِلَاد وَالْقَبْض على أَمِيرهمْ الحرامي وَجعله مَعَ أهل الجرائم والعناد إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصِيه قلم كَاتب وَلَا ديوَان حاسب وَلَقَد كَانَ وَالله حَسَنَة من حَسَنَات الزَّمَان ومنة من الله تَعَالَى على القاصي والدان تواضعاً وأدباً وفهماً وعقلاً ومداراة واغتفاراً مَعَ حسن الشكالة ووضاءة الصُّورَة والمواظبة على الطّواف وَالْجَمَاعَة عِنْد وُصُوله إِلَى الْمحل الشريف ومزيد الْوَقار والسكون وَالْعدْل وكف جماعته عَن أَذَى الرّعية ومسايسته للتجار وَعدم الطمع والتطلع لما فِي أَيْديهم ومجاملتهم والذب عَنْهُم وَفعل الْخَيْر الَّذِي يحصل بِهِ الثَّوَاب الْعَظِيم كرباط بِمَكَّة المشرفة مَعَ مَا وَفقه عَلَيْهِ والسبل العديدة بطرِيق الْوَادي وَجدّة وآبار كَثِيرَة يحصل بهَا النَّفْع للمسافرين كَالَّذي بطرِيق الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وبجهة الْيمن وَغير ذَلِك من الْحَسَنَات وَلم تزل دولته قَائِمَة قويمة وأموره منتظمة وأحواله مُسْتَقِيمَة وَهُوَ مبجل مُعظم عِنْد الْمُلُوك لَا يخالفونه فِيمَا يخْتَار فِي جَمِيع الأقطار الحجازية ويراعون خاطره فى جيمع الْأَحْوَال المنسوبة إِلَيْهِ إِلَى أَن اخْتَارَهُ الله تَعَالَى لدار الْبَقَاء وَنَقله إِلَى دَار كرامته فانتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي شهر محرم الْحَرَام سنة ثَلَاث وَتِسْعمِائَة بوادي الْآبَار وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال إِلَى مَكَّة المشرفة وَغسل فِي بَيته وَدخل بِهِ الْمَسْجِد وطيف بِهِ أسبوعاً وَصلي عَلَيْهِ عِنْد بَاب(4/292)
الكعبهّ بعد أَن نَادَى لَهُ الريس على زَمْزَم بِصِيغَة الصَّلَاة على الْملك الْعَادِل أبي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين إِلَى غير ذَلِك من التراجم وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ وَلَده قبَّة عَظِيمَة مَوْجُودَة إِلَى الْآن وَمن جملَة خيراته سَبِيل بالنوارية وسبيل آخر أوقف على ذَلِك أوقافاً كَثِيرَة وَهِي بوادي مر شهيرة ضاعف الله ثَوَابه وَأحسن فِي العقبى مآبه وَخلف من الْأَوْلَاد سِتَّة عشر ذكرا غير الْإِنَاث مِنْهُم خميصة وجازان وهزاع وبركات وقايتباي وَعلي وراجح ثمَّ وَليهَا الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان كَانَت وِلَادَته سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة فِي ربيع الأول بِمَكَّة أمه عمْرَة بنت مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن ثقبة بن رميثة دخل الْقَاهِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَذَلِكَ بِسَبَب أَنه ورد إِلَى مَكَّة المشرفة فِي السّنة الْمَذْكُورَة مرسوم من سُلْطَان مصر بِطَلَب سُلْطَان مَكَّة المشرفة الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات عوضا عَنهُ فَأرْسل الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات وَلَده الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات عوضا عَنهُ وَمَعَهُ قَاضِي الْقُضَاة إِبْرَاهِيم بن ظهيرة وَولده القَاضِي أَبُو السُّعُود بن ظهيرة وَجَمَاعَة من أَقَاربه فَأكْرم السُّلْطَان وَمن دونه موردهما وأشركه مَعَ أَبِيه مُحَمَّد ابْن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان وَرجع متزايد الْعِزّ وَوَقع فِي أَيَّام الثمان من سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة بَين ترك أَمِير الْحَاج الأول وأمير الْمحمل قتال عِنْد بَاب بازان بالمسعى وشج فيهم جمَاعَة من الْفَرِيقَيْنِ والتحم الْقِتَال بِضَرْب السَّيْف والدبوس وَرمي النشاب ثمَّ سكنه الله بمجئ أَمِير الأول ثمَّ أحضروا الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَكتب بذلك محْضر وَفِي سنة تِسْعمائَة اتّفق أَن الْحَاج الْمصْرِيّ خرج عَلَيْهِ الْعَرَب فَأخذُوا غالبه وَكَذَلِكَ الغزاوي خَرجُوا عَلَيْهِ وَلَكِن لم يظفرهم الله بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَاج الشَّامي خَرجُوا عَلَيْهِ وأخذوه أجمع وأسروا بعض التُّجَّار وكل ذَلِك فعل بني لَام المفسدين وَلم يسمع بِمثل هَذَا الِاتِّفَاق فِي سنة وَاحِدَة وَلم يزل الشريف بَرَكَات(4/293)
يتزايد حَتَّى اسْتَقل بِالْملكِ بعد وَفَاة وَالِده الشريف مُحَمَّد سنة 903 ثَلَاث وَتِسْعمِائَة وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن قايتباي وتزايد فِي الترقي فِي الْعُلُوم والفضائل حَتَّى صَار مرجعاً فِي حل الْأُمُور المشكلات وَدفع الْعَدو كم سَافر للأعداء فَرجع مَسْرُورا وبالظفر محبوراً وَقد تَرْجمهُ الْعَلامَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن فَهد الْهَاشِمِي فِي مؤلف لَهُ سَمَّاهُ غَايَة المرام بأخبار سُلْطَان الْبَلَد الْحَرَام وسَاق نسبه فِي ديباجته وختمه بِاسْتِيفَاء أخباره وَمَا مدح بِهِ وَمُلَخَّصه أَنه سمع الحَدِيث بِالْقَاهِرَةِ فِي رحلته الأولى فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَهِي سنة ثَمَان وَسبعين وَثَمَانمِائَة على الْمسند شهَاب الدّين أَحْمد الشناوي ثلاثيات البُخَارِيّ وَحضر مجْلِس بدئه وختمه وَأَجَازَهُ من عدَّة من الْبلدَانِ جملَة من الْمَشَايِخ مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن خَلِيل التابوتي وَأَسْمَاء بنت المهراني وَأم هَانِئ الهوريني ونشوان الحنبلية وَهَاجَر المقدسية وَالْعلم صَالح البُلْقِينِيّ والسعد بن الرزي والشهاب الْحِجَازِي والبرهان البقاعي وقاسم بن الكريك وَابْن قطلوبغا الْأَمِير الأقصرائي وَأَبُو بكر بن صَدَقَة الْمَنَاوِيّ والمعز الْكِنَانِي والتقى الشمني والجلال بن الملقن وَأُخْته صَالِحَة والبهاء الْمصْرِيّ والجلال القمصي والتقى ابْن فَهد ووالده أَبُو بكر وَعمر وَأَخُوهُ عَطِيَّة وَعبد الرَّحِيم الأسيوطي وَإِبْرَاهِيم الزمزمي وَأحمد السوايطي وَالْقَاضِي عبد الْقَادِر الْمَالِكِي وَأَبُو الْفضل الْمرْجَانِي وَأَبُو الْفرج المراغي وَزَيْنَب بنت الشويكي وآسية بنت جَار الله الشَّيْبَانِيّ وَإِبْرَاهِيم ابْن قَاضِي عجلون وَأَبُو ذَر الْحلَبِي وَأحمد بن الصلف وَأَبُو السُّعُود الْعِرَاقِيّ وَأَبُو نَافِع الْأَزْهَرِي والتقى القلقشندي والشموس الْخَمْسَة الأفقهسي والقلواني والزفتاوي والسخاوي وَالشَّيْخ الْفَخر السُّيُوطِيّ والكمال إِمَام الكاملية والمحب بن الشّحْنَة وَيحيى الْمَنَاوِيّ وَخلق كثير وَخرج لَهُ الشَّيْخ الرحلة جَار الله بن عبد الْعَزِيز بن فَهد عَن أَرْبَعِينَ شَيخا من مشايخه أَرْبَعِينَ حَدِيثا فِي فضل أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ سَمَّاهَا غَايَة الْأَمَانِي والمسرات بعلو سُلْطَان الْحجاز أبي زُهَيْر بَرَكَات وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ عشرَة وَتِسْعمِائَة وَقَرَأَ على الشريف بَرَكَات بَعْضهَا بمنزله دَار السَّعَادَة من أول الْأَرْبَعين الَّتِي خرجها لَهُ إِلَى آخر الحَدِيث الثَّالِث مَعَ الْكَلَام على الحَدِيث الثَّالِث مَعَ الْكَلَام على الحَدِيث وَأَجَازَ لَهُ رِوَايَتهَا عَنهُ وَكتب لَهُ بِخَطِّهِ(4/294)
تَحت طبقَة سماعهَا مَا صورته الْحَمد لله مَا ذكر من الْقِرَاءَة وَالْإِجَازَة صَحِيح فِي تَارِيخه وَكتبه الْفَقِير بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات عَفا الله عَنهُ وَعَن وَالِديهِ وَالْمُسْلِمين أَجْمَعِينَ وَكَانَت الْقِرَاءَة الْمَذْكُورَة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة 917 سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَحصل للشريف بَرَكَات غِبْطَة عَظِيمَة بتخريج تِلْكَ الْأَحَادِيث وَأكْرم بذلك الشَّيْخ جَار الله الْمَذْكُور إِكْرَاما عَظِيما كَمَا هُوَ شَأْنه من إكرام الْعلمَاء وَأَجَازَ الشريف بَرَكَات جَار الله الْمَذْكُور فِي استدعاء كتبه إِلَيْهِ الشَّيْخ جَار الله مؤرخ بِيَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر ربيع الثَّانِي عَام خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة وَكتب لَهُ الشريف بَرَكَات بِالْإِجَازَةِ فِي السّنة الَّتِي بعْدهَا وَصُورَة مَا كتبه الشريف بَرَكَات الْحَمد لله الَّذِي نظم جَوَاهِر السّنة فِي سلك السَّنَد وَوصل من إِلَى جنابه اسْتندَ وَقطع من أعرض واستبد وخذل من كفر وَجحد أما بعد فقد أجَاز كَاتبه الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى بَرَكَات بن مُحَمَّد صَاحب مَكَّة المشرفة عَفا الله عَنهُ لمن ذكر فِي هَذَا الاستدعاء الْمُبَارك مَا يجوز لي وعنى رِوَايَته بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبر عِنْد أهل الْأَثر وأسأله أَلا ينساني من دعواته فِي خلواته وجلواته وَالْحَمْد لله وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى اله وَصَحبه وَسلم وَاسْتقر الشريف بَرَكَات فِي ولَايَة مَكَّة مُنْفَردا بعد وَفَاة أَبِيه وَكَانَت وَفَاة أَبِيه يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع ربيع الثَّانِي سنة ثَلَاث وَتِسْعمِائَة وَقُرِئَ مرسومه بِالْحَطِيمِ بِحَضْرَة كاتم السِّرّ البدري مُحَمَّد بن مزهر لوصوله بِقَصْدِهِ وَقصد أَخِيه هزاع وَأذن لَهُ فِي تَوْلِيَة الْمَدِينَة للسَّيِّد فَارس بن سامان الْحُسَيْنِي زوج أُخْته الشَّرِيفَة حزيمة وَاسْتمرّ على الْولَايَة الْمَذْكُورَة إِلَى أَن خالعه أَخُوهُ هزاع وَأحمد الْمَدْعُو جازان فِي سنة أَربع وَتِسْعمِائَة ثمَّ اصْطَلحُوا ثمَّ كَانَت الْحَرْب بَين هزاع وبركات سجالاً قَالَ الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو الضياء وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُحَمَّد الديبع الشَّيْبَانِيّ فِي كِتَابه بغية المستفيد لما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَتِسْعمِائَة بِتَقْدِيم التَّاء كَانَت وقْعَة السَّيِّد هزاع بن مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان مَعَ أَخِيه الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان وَهِي(4/295)
أول وقْعَة انْكَسَرَ فِيهَا صَاحب مَكَّة الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد الْمَذْكُور وَهزمَ فِيهَا هزيمَة عَظِيمَة وَاسْتولى الركب المصرى على خزانئه ونسائه وأمواله وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الْملك الْعَادِل طومان باى صَاحب مصر لما تولى بعد الْأَشْرَف جانبلاط طرد رجلا من أُمَرَاء جانبلاط يُقَال لَهُ قانصوه المحمدي فَخرج إِلَى مَكَّة فَلَمَّا دَخلهَا لم يلْتَفت إِلَيْهِ أحد من كبرائها لَا الشريف بَرَكَات وَلَا القَاضِي وَلَا غَيرهمَا خوفًا من السُّلْطَان طومان باي فَلَمَّا فقد طومان باي وَتَوَلَّى الْأَشْرَف قانصوه الغوري لَيْلَة عيد الْفطر من سنة سِتّ وَتِسْعمِائَة أرسل إِلَى قانصوه المحمدي إِلَى مَكَّة وَجعله نَائِب الشَّام فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ الْكتب بذلك وَهُوَ بِمَكَّة فِي أول ذِي الْقعدَة جَاءَهُ الشريف بَرَكَات وَالْقَاضِي أَبُو السُّعُود للسلام عَلَيْهِ فَلم يَأْذَن لَهما وَكَانَ فِي نَفسه عَلَيْهِمَا شَيْء لعدم التفاتهما إِلَيْهِ سَابِقًا وَكَانَ الشريف هزاع جينئذ بِمَكَّة فعامله قانصوه على أَن يَجْعَل إِلَيْهِ ولَايَة مَكَّة ويخلع أَخَاهُ بَرَكَات مِنْهَا ثمَّ أمره بِالْخرُوجِ إِلَى الينبع وَأرْسل إِلَى أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ أَن يواجه الشريف هزاع وَيُطلق المراسيم السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِ ويلبسه الْخلْع السُّلْطَانِيَّة فَفعل ذَلِك وَلبس الشريف هزاع خلعة أَخِيه بَرَكَات وألبس أَخَاهُ أَحْمد الملقب جازان خلعته الَّتِي كَانَ يلبسهَا مَعَ أَخِيه بَرَكَات وَأَقْبل مَعَ الركب الْمصْرِيّ إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ الْأَشْرَاف بَنو إِبْرَاهِيم فِي نَحْو مائَة فَارس مِنْهُم فَلَمَّا علم بذلك الشريف بَرَكَات خرج إِلَيْهِم من مَكَّة إِلَى وَادي مر والتقى الْجَمْعَانِ هُنَاكَ وتقاتلا فانكسر الشريف هزاع مَرَّات وَقتل من أَصْحَابه نَحْو الثَّلَاثِينَ وَمن الركب الْمصْرِيّ رجل وَمن الْحجَّاج نَحْو الْخَمْسَة وَنهب أَطْرَاف الْقَافِلَة فَلَمَّا رأى ذَلِك الركب الْمصْرِيّ حملُوا مَعَ الشريف هزاع على أَخِيه بَرَكَات حَملَة وَاحِدَة فانكسر جينئذ بَرَكَات وَقتل وَلَده الْمُسَمّى بِأبي الْقَاسِم فِي جمَاعَة من عسكره وَاسْتولى هزاع والركب الْمصْرِيّ على مِحَفَة الشريف بَرَكَات وَمَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالنِّسَاء والأطفال وهرب الشريف بَرَكَات إِلَى جدة فنهبها ثمَّ إِلَى حِدة فنهب أَكْثَرهَا وَدخل الشريف هزاع إِلَى مَكَّة صُحْبَة الْحَاج الْمصْرِيّ فاضطربت أَحْوَال النَّاس وَكثر النهب وَالْخَوْف فِي الطرقات وَرجع حجاج الْبَحْر من الطَّرِيق وَكَانُوا قَرِيبا من جدة وَكَانَ عذر الشريف بَرَكَات إِذا شكا النَّاس إِلَيْهِ مَا يلقون يَقُول اشكوا إِلَى سُلْطَان الْبَلَد واطلبوا مِنْهُ أمانها فقد أمنتها إِذْ كنت سُلْطَانا وَأما الْآن فَأَنا(4/296)
وَاحِد مِنْكُم فَلَمَّا اسْتَقر هزاع جَاءَتْهُ النَّاس يصطرخون من كل جَانب التُّجَّار وَغَيرهم من النَّاس وَرُبمَا سبوه فَضَاقَ خاطره وَلم يَنْتَظِم أمره فَدخل على عَمه إِبْرَاهِيم بن بَرَكَات فَشَكا إِلَيْهِ حَاله فَأمره بِالْخرُوجِ فِي صحبته فَخرج إِلَيْهَا والشريف بَرَكَات يَوْمئِذٍ مُقيم بِمَاء يُقَال لَهُ الْعد بَين جدة وحدة ثمَّ أمره بِالْوُقُوفِ بجدة وَتقدم إِلَى بَرَكَات فَقَالَ لَهُ إِن أَخَاك هزاع بجدة فِي ألفي فَارس من التّرْك وَلَا طَاقَة لنا بمقاومتهم فَإِن أَحْبَبْت تعرضت بَيْنكُمَا بهدنة يَأْمَن النَّاس فِيهَا ويحجون إِلَى عَاشر الْمحرم على أَن يعطيك أَخُوك هزاع ثَلَاثَة آلَاف أشرفي قبل يَوْم النَّحْر فَإِن فعل ذَلِك وَإِلَّا فَلَا ذمَّة لَهُ فَرضِي بذلك بَرَكَات ظنا أَن قَول عَمه إِن هزاعاً فِي ألفي فَارس حق فسكن بعض خوف النَّاس وَرجع هزاع إِلَى مَكَّة وَكَانَ الْحَج ضَعِيفا وَلم يحجّ الشريف بَرَكَات فِي هَذَا الْعَام وَسلم هزاع إِلَى أَخِيه بَرَكَات مَا الْتَزمهُ عَمه إِبْرَاهِيم من المَال وَلما عزم الركب الْمصْرِيّ علم هزاع أَنه لَا طَاقَة لَهُ بمقاومة أَخِيه بَرَكَات فَتوجه صُحْبَة الركب الشَّامي فَتَبِعَهُ الشريف بَرَكَات فحماه الركب الشَّامي مِنْهُ فَرجع بَرَكَات إِلَى مَكَّة وَأمنت النَّاس وَخرج هزاع إِلَى يَنْبع وَجمع جموعاً مِنْهَا وَعَاد لِحَرْب بَرَكَات مرّة ثَانِيَة وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد التَّاسِع من جُمَادَى الأولى عَام سبع وَتِسْعمِائَة فَالْتَقوا فِي طرف البرقاء فانكسر فِيهَا بَرَكَات أَيْضا وَهزمَ وَقتل أَخُوهُ أَبُو دعيج فِي سَبْعَة من الْأَشْرَاف من بني أبي نمي وَقتل من الأتراك الَّذين مَعَ بَرَكَات سَبْعَة وَقيل أَرْبَعَة عشر نَفرا وَكَانَ مَعَ هزاع من الْخَيل مِائَتَا فَارس وَمن الرجل ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَمَعَ بَرَكَات خَمْسمِائَة فَارس وَرجل كثير فَلَمَّا انهزم بَرَكَات توجه إِلَى الْيمن فَأَقَامَ بالليث وَوصل هزاع إِلَى ظَاهر جدة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن الشَّهْر الْمَذْكُور ونادى بالأمان وَقرر أحوالها وَجعل مُحَمَّد بن رَاجِح بن شميلة وزيره بهَا وعبداً من قواده حَاكما وَأرْسل أَخَاهُ جازان إِلَى مَكَّة ليقرر أحوالها ثمَّ لحقه إِلَيْهَا فِي عساكره ووصلت إِلَيْهِ المراسيم وَالْخلْع السُّلْطَانِيَّة من الْبَحْر من سُلْطَان مصر على يَد أَمِير يُقَال لَهُ إلْيَاس فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر الشَّهْر الْمَذْكُور فَأرْسل لَهُ الشريف هزاع بستين جملا وَثَلَاثِينَ رَاحِلَة وَأمره بالطلوع(4/297)
إِلَى مَكَّة فوصل إِلَيْهَا فَلبس الخلعة وقرئت المراسيم وَاسْتمرّ سُلْطَانا إِلَى أَن توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر رَجَب الْفَرد من السّنة الْمَذْكُورَة بوادي الْآبَار فَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء صباحاً وَلما فرغ من دَفنه تولى إمرة مَكَّة أَخُوهُ الشريف جازان بعده بمساعدة القَاضِي أبي السُّعُود بن ظهيرة وإعانته لَهُ بِنَفَقَة وَسلَاح فَلَمَّا علم بذلك بَرَكَات سَار إِلَى مَكَّة فَدَخلَهَا منتصف شعْبَان وفر مِنْهُ جازان وَلما اسْتَقر بهَا بَرَكَات جَاءَتْهُ من مصر خلع ومراسيم بالاعتذار إِلَيْهِ من مباطنة أَمِير الْحَاج لأخويه هزاع وجازان فَلبس الخلعة وَطَاف بهَا وَكَانَ قَاضِي مَكَّة أَبُو السُّعُود بن ظهيرة مباطناً لجازان فَكتب إِلَيْهِ يستحثه ويعده بالإعانة ووعده أَن يقبض لَهُ على بَرَكَات إِذا وصل جازان قرب مَكَّة وَعين لذَلِك الْقَبْض لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان فظفر الشريف بَرَكَات بِكِتَاب أَبى السُّعُود فاستدعاه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَكَانَ قد أظهر السرُور والفرح بِولَايَة بَرَكَات أوقفهُ على الْكتاب فَأنْكر ذَلِك فَقبض عَلَيْهِ فِي سَابِع رَمَضَان وَأخذ أَمْوَاله وعقاره وعذبه ثمَّ بعث بِهِ وَأَهله إِلَى جَزِيرَة القنفذة وَأمر نَائِبه عَلَيْهَا أَن يركبه سنبوقاً ويغرقه فَفعل ذَلِك بِهِ وغرق يَوْم الْأَحَد الثَّانِي من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَتِسْعمِائَة وَأَوْلَاده وَعِيَاله ينظرُونَ إِلَيْهِ ثمَّ إِن الشريف بَرَكَات توجه مَعَ الْحَاج إِلَى يَنْبع لكَون أَخِيه جازان نهب الْحَاج الشَّامي عِنْد خليص حَال قدومه إِلَى مَكَّة فحاربه مَعَ أَهلهَا سادس عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة سبع وَتِسْعمِائَة فَكسر بَرَكَات كسرة ثَالِثَة ونهبوا نهباً فَاحِشا وَقتل وَلَده إِبْرَاهِيم مَعَ جمَاعَة من عسكره وَعَاد بَرَكَات إِلَى مَكَّة مَرِيضا ثمَّ مَاتَ بهَا وَلَده السَّيِّد عجلَان ثمَّ جَاءَهُ الْخَبَر أول صفر سنة ثَمَان وَتِسْعمِائَة بمجىء أَخِيه جازان بعسكر عَظِيم وبركات مَرِيض لَا يُمكنهُ الْمُحَاربَة فَتوجه إِلَى جِهَة الْيمن وَأقَام بهَا إِلَى شهر رَجَب حَتَّى شفى وَجمع جموعاً كَثِيرَة وَعَاد لمَكَّة فلقى بهَا أَخَاهُ جازان بالمنحني فقاتله بهَا فانكسر بَرَكَات كسرة رَابِعَة وفر جمَاعَة الْأَشْرَاف آل أبي نمي إِلَى جِهَة جبل حراء لمباطنتهم لجازان فَثَبت هُوَ وَبَعض خواصه للحرب سَاعَة ثمَّ(4/298)
توجه إِلَى الْيمن أَيْضا فَتَبِعَهُ جازان بعسكره فخلفه الشريف بَرَكَات فِي خيل قَليلَة وَعَاد من غير طَرِيقه وَدخل مَكَّة فِي غيبَة جازان يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر شعْبَان ففرح بِهِ أَهلهَا لظلم أَخِيه جازان فِيهَا وبذلوا الهمة فِي مساعدته ونصرته وحفروا خنادق علو مَكَّة وأسفلها وحاربوا أعداءه من خلفهَا وَعَاد إِلَيْهِ جازان فِي صبح الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشري رَمَضَان من أَسْفَل مَكَّة من جِهَة المسفلة وحاربهم مَعَ سكانها مرّة خَامِسَة وَأظْهر لَهُ الأتراك همة عالية حَتَّى هزم جازان وتركهم وَلم يتبع مِنْهُم أحدا وَقتل جمَاعَة من الْفَرِيقَيْنِ وجرح آخَرُونَ وَتوجه جازان مُنْهَزِمًا إِلَى جِهَة حِدة وَأقَام هُوَ وَجَمَاعَة ببئر شميس وهم خائفون وجلون والعسكر يتخطفهم كل سَاعَة لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى أرْسلُوا يطْلبُونَ النجدة من أهل يَنْبع فَجَاءَهُمْ عَسْكَر كَبِير ورحلوا مَعَهم لِحَرْب مَكَّة مرّة سادسة فِي صبح يَوْم السبت رَابِع شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَجَاءُوا من شعب أذاخر والخرمانية من أَعْلَاهَا وَكَانَ الشريف بَرَكَات وَاقِفًا مَعَ خواصه خلف الخَنْدَق من بَاب المعلاة فَانْهَزَمَ عسكره من غير قتال وَثَبت هُوَ والأتراك وأذاق عداهُ الْحَرْب والعراك لشجاعته وهمته وقوته ونجدته حَتَّى زحزحهم عَن مَصَافهمْ وَكَانَ تَحْتَهُ فرس يُقَال لَهَا الجرادة وَأَنه أقحمها الخَنْدَق وَهُوَ بمفرده ففر مِنْهُ الْجَيْش باْجمعه وَهُوَ يضْرب بِالسَّيْفِ قذالهم حَتَّى أبعدوا عَنهُ قَاصِدين الينبع فذرع بعد ذَلِك عرض الخَنْدَق فَكَانَ سَبْعَة أَذْرع ثمَّ إِنَّه توجه إِلَى الْيمن فَدخل الْأَعْدَاء مَكَّة وأهانوا أَهلهَا وآذوهم لمساعدتهم الشريف بَرَكَات وحبهم لَهُ فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ وصلت تجريدة من مصر فَخرج الْأَعْدَاء هاربين فَعَاد الشريف بَرَكَات إِلَى مَكَّة ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة من عَام ثَمَان وَتِسْعمِائَة وَتوجه لملاقاة مقدم التجريدة الْمقر الْأَشْرَف قيت الرَّحبِي فواجهوه بِالطَّاعَةِ والكرامة وخلع عَلَيْهِ بالزاهر وَدخل مَعَه مَكَّة بإخوانه وَعَسْكَره وَابْن عَم أَبِيه عنقًا حَتَّى وصلوا إِلَى مدرسة الْأَشْرَف قايتباي بالمسعى فَقبض على الشريف بَرَكَات وَوضع فِي الْحَدِيد مَعَ بعض إخْوَته وَجَمَاعَة وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَحج بهم كَذَلِك ثمَّ ذهب بهم إِلَى مصر وَمر بهم على الينبع وَاتفقَ مَعَ أَهلهَا على تَوْلِيَة جازان على مَكَّة وَدخل قيت الرَّحبِي ببركات وَمن مَعَه مصر على هَذِه الصّفة فَأنْكر النَّاس عَلَيْهِم(4/299)
ذَلِك وَمَا هان ذَلِك على السُّلْطَان الغوري وتعب من ترك مكهَ فِي أَيدي العصاة وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الطّيب أَحْمد بن الْحُسَيْن العليف الْمَكِّيّ قصيدته الكافية يسلي بهَا الشريف بَرَكَات ويحثه على الصَّبْر وَهِي هَذِه // (من الطَّوِيل) //
(عزيزٌ على بيتِ النبوَّةِ والمُلْكِ ... مقامٌ على ذُلِّ المهانةِ والفَتْكِ)
(وأعظَمُ مَا يلقَى الكريمُ من الأذَى ... على النفْسِ مَا يلقى من الضيْمِ والضنْكِ)
(برَغْم الْعلَا والمجْدِ والسَّيفِ والندَى ... حَصَلْتَ أَبَا عجلانَ فِي قبضةِ التُّركِ)
(وعزَّ على العلياءِ حجلكَ أدهم ... وطوقك لَا مِنْ خَالص التبر فِي السبكِ)
(وتلكَ لعَمْرُ اللهِ أدهَى مصيبةٍ ... أصمَّ بهَا الحاكي عَن الحادثِ المحْكِي)
(عدمتُ الليالى مَا أمَرَّ صورفَهَا ... وأخلَقَهَا باللوْمِ فِي الفعلِ والتَّركِ)
(أذُلٌّ وغُلِّ بعد عِزِّ ومنعةٍ ... وأَسْرُ النَّوَى بعد الأسرَّةِ والمُلْكِ)
(لحا الله دهراً لَا يدومُ سرورُهُ ... على حَالَة إِلَّا استحالَتْ على وشْكِ)
(بنفسي أَبَا عجلانَ والفئةَ الألَى ... بنوا مجدَهُمْ بالسمهريَّةِ والبركِ)
(ونالوا المعالِى بالعوالِى فأصبحَتْ ... بهمْ بيضَةُ العلياءِ مرفوعَةَ السَّمْكِ)
(ملوكٌ رعينا الجُودَ حَولَ حماهُمُ ... خصيباً وساهمناهُمُ المالَ الشرْكِ)
(رحَلْتُم فربعُ الأنسِ مَا زَالَ موحشاً ... خلياً وستْرُ العِزِّ أصبَحَ فِي هتْكِ)
(وغادرتُم فِي الكَرْبِ جيرانَ طيبةٍ ... كَذَا جيرةُ البَطْحَاءِ وَالْحرم المكِّي)
(وأسلمتُمُ كلَّ القلوبِ إِلَى الأسَى ... فَهَذَا الورَى مَا بينَ باكٍ ومستَبْكِي)
(وَلما استقلَّتْ للمسيرِ جمالُكُمْ ... وحادى النَّوى يَشْكى إِلَيْنَا بِمَا يشكِي)
(وسرتُمْ وَسَار الجُودُ يَمْشى أمامَكُمْ ... وظلَّتْ بَنو الآمال مِنْ خلفِكُمْ تبكْي)
(وإنَّ الجبالَ الشُّمَّ والمجدَ والعُلاَ ... تَسيرُ بهَا بُزْلُ الجمالِ على وشْكِ)
(فَلَا اكتحلَتْ بالنومِ عَيْني بَعْدَكُمْ ... وَلَا ابتسمَتْ غُرُّ الثغور عَن الضحْكِ)
(وَلَا باتَ ذُو ملكٍ قريراً بملْكِهِ ... وَلَا مهجَة إِلَّا على لاعج مُنْكِي)
(فصبراً أَبَا عجلانَ للحادِثِ الَّذِي ... يَثُولُ إِلَى عُقبى السلامَةِ والفَكِّ)
(حرامٌ على العلياء تنكحُ خاطباً ... سواك وَإِن كانَتْ تَئُولُ إِلَى فركِ)
(أَرَادَ بك الحسادُ كيداً فصادفوا ... جنابكَ لَا يحْكى لكَيْدٍ وَلَا يحكِي)
(فجاءُوكَ من أبنا أبيكَ لعَجزهم ... فَلِلهِ أَرْحَام تقطعن عَن شَبكَ)(4/300)
(فهانوا عَلَيْهِم بعد ذَاك فأصبَحُوا ... يسومُونَهُم بالذلِّ والخسفِ والهَتْكِ)
(وأنتَ أَبَا عجلانَ ملْءُ عُيُونِهِمْ ... كمالاً وأَهْدَاهم إِلَى الرُّشْدِ والنُّسْكِ)
(فليْسَ لَهَا إلاك كُفْءٌ وصاحبٌ ... وَمَا زالَتِ العلياءُ مانعةَ الشركِ)
(وَلَا عَنْ رضَا مِنْهُم تركْتَ وَرُبمَا ... يكونُ ظهورُ الفضْلِ للشَّيْء بالتَّرْكِ)
(لعَمْركَ مَا ساموك خطَّةَ عاجزٍ ... توهَّمها الْجَانِي سَبِيلا إِلَى المسْكِ)
(سوَى أَن رأَوْا فيكَ الكمالَ لدِينهِمْ ... فأدوا بك الطاعاتِ فِي الحَجِّ والنُّسْكِ)
(وَمَا استَصْحَبُوا علياكَ إِلَّا ليأمنوا ... مِن الخَوْف فِى الأموالِ والخيلِ والبَرْكِ)
(وَلَو شئْتَ حكَّمْتَ المهنَّدَ والقنا ... عليهِمْ ولكنْ سِرْتَ فِي طَاعَة الملْكِ)
(لَئِن بَلَغَتْ منكَ اللَّيَالِي جَهَالَة ... فَمَا زالَتِ النكبا تهبُّ على الفُلْكِ)
(وإنْ نالتِ الأعداءُ منْكَ بزَعْمها ... فيا طالما كانَتْ بِمَا نِلْتَهُ تَحْكِي)
(ورُبَّ ابتسامٍ جاءَ من جانبِ البكا ... ورُبَّ بكاءٍ جَاءَ من جانِب الضحْكِ)
(أمَا فِي رَسُولِ اللهِ يُوسُف أسوةٌ ... لمثلِكَ مَحْبُوسًا على الظُّلْمِ والإفكِ)
(أَقَامَ جميلَ الصَّبْر فِي السجْنِ بُرْهةً ... فآلَ بِهِ الصَّبْرُ الجميلُ إِلَى المُلْكِ)
(فعما قريبٍ يورقُ العودُ بالمنى ... وتعبقُ أرجاءُ الْعلَا منكَ بالمسْكِ)
(وَتَأْتِي علىٌ رغم العدوِّ مملَّكًا ... وتظفرُ بالتقليدِ والتاجِ والزمْكِ)
(ويرجعُ بَاقِي الْعَيْش حلوٌ اكما مضَى ... وتأوي إِلَى سامِى سَرِيرِكَ والمُلْكِ)
ثمَّ إِن الغوري أطلق الشريف بَرَكَات من الغل ورتب لَهُ مَعَ جماعته النَّفَقَات وَصَارَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ الشريف بَرَكَات وَإِلَى أمرائه ففر إِلَى مَكَّة وَذَلِكَ أَوَاخِر سنة تسع وَتِسْعمِائَة فظفر فِي طَرِيقه بقاصد أعدائه مُتَوَجها إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ السَّيِّد بطاح الْحُسَيْنِي فَقتله وفاز بِمَا مَعَه من المَال والهدية وَفِي مُدَّة غيِبته بِمصْر قتل الأتراك المقيمون بِمَكَّة أَخَاهُ جازان وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ صبح يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع من شهر رَجَب سنة تسع وَتِسْعمِائَة قتل الشريف جازان بن مُحَمَّد فِي المطاف عِنْد بَاب الْكَعْبَة فِي الشوط الثَّالِث من طَوَافه قَتله جمَاعَة من الأتراك بمواطأة من أَخِيه حميضة بن مُحَمَّد وولوا أَخَاهُ حميضة فحج بِالنَّاسِ ذَلِك الْعَام ثمَّ إِن الشريف بَرَكَات واجه الْحَاج الْمصْرِيّ فِي طَرِيقه من مصر إِلَى مَكَّة هَارِبا من(4/301)
مصر كَمَا تقدم ورحل وَذَلِكَ بمواطأة الدويدار وَوصل إِلَى مَكَّة سَابِع ذِي الْحجَّة مَعَه جَيش عَظِيم من بني لَام وَأهل الشرق وَسَائِر المفسدين فَمنع النَّاس من الْوُقُوف يَوْم الْخَمِيس حَتَّى صَالحه أُمَرَاء الْحَاج على أَرْبَعَة آلَاف أشرفي يسلمونها ويخلى بَينهم وَبَين الْوُقُوف يَوْم الْجُمُعَة فَفعل ووقف النَّاس بِعَرَفَات ومزدلفة وَمنى وهرب حميضة وَدخل بَرَكَات مَكَّة ثمَّ توجه إِلَى زِيَارَة جده الْمُصْطَفى ثمَّ قصد جِهَة الشرق فَتزَوج بالشريفة غبية بَيت حميدان بن شامان الْحُسَيْنِي فَحملت مِنْهُ بالسيد الْجَلِيل ذى الْمجد الأثيل ذِي الْعِزّ والسعد أبي نمي مُحَمَّد فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى عشرَة وَتِسْعمِائَة وولدته لَيْلَة تَاسِع ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ طالعه سَعْدا أكبر ارْتَفع بولادته كل شَرّ مُنْذُ ظهر وتوالت على وَالِده البشائر وصفت مِنْهُ عَن الأكدار السرائر وَكَانَ وَالِده يمسح على ناصيته وَيَقُول كنت فِي أكدار وكروب مُتَوَالِيَة حَتَّى ظَهرت لي هَذِه الناصية وَلم يزل أَبُو نمي راقياً معارج الْمجد مستخدماً للإقبال والعز والسعد ثمَّ إِن السُّلْطَان الغوري أرسل بتفويض إمرة الْحجاز إِلَى الشريف بَرَكَات فَقدم أَخَاهُ السَّيِّد قايتباي فِي ولَايَة مَكَّة وأشرك مَعَه وَلَده عَليّ بن بَرَكَات وَكَانَ كل مِنْهُمَا يختلع وينفرد عَنْهُمَا الشريف بَرَكَات بِالدُّعَاءِ فِي خطْبَة الْجُمُعَة وَكَانَ بَينه وَبَين أَخِيه قايتباي صداقة عَظِيمَة ودامت إِلَى أَن مَاتَ السَّيِّد قايتباي يَوْم الْأَحَد حادي عشري صفر الْخَيْر عَام 918 ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة بِأَرْض حسان من وَادي مر وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال وَمَعَهُ أَخُوهُ الشريف بَرَكَات وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ وطيف بِهِ أسبوعاً كعادة أسلافه وُلَاة مَكَّة وَدفن بالمعلاة ثمَّ إِن الشريف بَرَكَات أرسل وَلَده الشريف أَبَا نمي إِلَى الْقَاهِرَة وصحبته السَّيِّد عرار بن عجل وَفِي خدمته القَاضِي صَلَاح الدّين بن ظهيرة الشَّافِعِي وَالْقَاضِي نجم الدّين بن يَعْقُوب الْمَالِكِي وَذَلِكَ فِي سنة 918 ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة وَسن السَّيِّد أبي نمي إِذْ ذَاك ثَمَان سِنِين فأكرمهم السُّلْطَان الغوري وقابلهم بِكُل جميل وَحكى عَن مزِيد حذق الشريف أبي نمي أَن السُّلْطَان الغوري وَضعه فِي حجره وَقَالَ مَا سورتك فَأَجَابَهُ إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا فأعجب الغوري ذَلِك وتفاءل بِهِ وأشركه مَعَ وَالِده الشريف بَرَكَات فِي نصف ولَايَة مَكَّة وَهُوَ بذلك السن فَصَارَ(4/302)
يخْطب لَهُ مَعَ أَبِيه على مَنَابِر الْحَرَمَيْنِ الشريفين ثمَّ حجت خوند أم السُّلْطَان الغوري وَولده النَّاصِر مُحَمَّد وصحبتهما كَاتب السِّرّ مَحْمُود بن إنجا فِي سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة فأكرمهم الشريف بَرَكَات وَقَامَ بهم أحسن قيام وطلبوا مِنْهُ السّفر مَعَهم لمجازاته وإكرامه فوافقهم على ذَلِك وَسَار مَعَهم إِلَى الْقَاهِرَة ودخلها مرّة ثَالِثَة فأنعم عَلَيْهِ الغوري بخلع سنية وإكرامات مرضية لم يسْبق إِلَى مثلهَا وَلم يُشَارِكهُ أحد فِي فَضلهَا وهنأه الشُّعَرَاء بذلك مِنْهُم العليف الْمَشْهُور بالقصيدة الْآتِي ذكرهَا بعد وبقصيدة أُخْرَى مِنْهَا قَوْله // (من الْخَفِيف) //
(أَنْتَ ربُّ القضيبِ والبُرْدِ والسيْفِ ... ورَبُّ الكُمَيْتِ والمزراقِ)
(لَو رأى المصطفَى أناسٌ عيَانًا ... حَلَفُوا أنكَ ابنُهُ بالطَّلاقِ)
(سِرْتَ نَحْو المليكِ مَعْ صاحِبِ السرْرِ ... على مَتْنِ سابحٍ سبَّاقِ)
(فَذَكرنَا مَسْرَى النبيِّ وجِبْرِيلَ ... إِلَى الحقِّ فَوق ظهرِ البُراقِ)
(فتلاقَى البحران جمعا على المَرْجِ ... فطوبَى لبَحْرك الدفاقِ)
(وبلغْتَ الذى بلغْتَ بتدبيرٍ ... من اللهِ فوقَ سبْعٍ طباقٍ)
(ثمَّ أَصبَحت فى حماك وَقد تَمْمَتْ ... بِمَا كَانَ من رضَا واتفاقِ)
وَمِنْهُم الفاضلة الأديبة ستيتة بنت القَاضِي كَمَال الدّين مَحْمُود بن شيرين القاهرية وَذكرت الإنعامات الَّتِي انْفَرد بهَا الشريف بَرَكَات فِي قصيدة دالية هِيَ قَوْلهَا // (من الطَّوِيل) //
(قِفُوا واسمعوا قولا صَحِيحا لَهُ سَنَدْ ... عَن الإشرفِ الغوريِّ مَا عَنهُ يعتمدْ)
(وَمَا نالَ مَوْلَانَا الشَّريف من العطا ... ثَمَانِيَة مَا نالَهَا قبله أحَدْ)
(فأوَّلها يدعَى لَهُ بمقامِهِ ... كَمَا يُدْعَ للسُّلْطَان هَذَا بِهِ انفردْ)
(وأسمعه القيناتِ فى وَسْطِ دارِهِ ... وذلكَ ثانِى مَا ذكرْتُ من العدَدْ)
(وثالثُهَا يوضعْ لَهُ بإزائِهِ ... لمرتبة علياءَ فى بِرِّهِ اجتهدْ)
(ورابعُها يطعمْهُ بِالْيَدِ مَا يشا ... كوالِدِ مولودٍ إِذا يُعْنَ بالولَدْ)
(وخامسها سارا فَلم ير نَعله ... تمهل حَتَّى حَامِل النَّعْل قد وَرَدْ)
(وسادسها جازَا جَمِيعًا بداره ... فأنزله بَين العساكِرِ وانْفَرَدْ)(4/303)
(وسابعُهَا فرشُ المصلَّى بيدِّه ... وصلَّوْا جَمِيعًا هَكَذَا غَايَة المَدَدْ)
(وثامنها مَا كَانَ يَوْم وداعِهِ ... وَأَكَبَّتْ أعده ووفَّاه مَا وَعَدْ)
(وَزَاد ثَلَاثًا رفْعَة لمقامِهِ ... بسنجقه والطبل والجند للبودْ)
(وَقد نَالَ هَذَا مِنْهُ بالبرِّ والتُّقَى ... وصِدْقِ مقالٍ وَالْوَفَاء لما وَعَدْ)
(وَذَلِكَ فضْلُ الله يؤتيه مَنْ يشا ... ويخسأ عَوَّاء كَذَاك ومَنْ حَسَدْ)
وَهَذِه ستيتة بنت شيرين أديبة عَجِيبَة فاضلة كَامِلَة من جملَة تلامذتها الشَّيْخ الْعَلامَة جَار الله بن فَهد الْقرشِي الظهيري وَكَانَ الشريف بَرَكَات بليغاً مصقعاً لَهُ النّظم الرَّائِق والنثر الْفَائِق فَمن نظمه قَوْله فِي الغوري فِي سفرته الثَّانِيَة إِلَى الْقَاهِرَة عَام تسع وَتِسْعمِائَة وَهُوَ قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(هَلُمُّوا معى نَحْو الصلاحِ وسارعُوا ... إِلَى جامعِ للذكْرِ والحُسِن جامعُ)
(تأسَّسَ بنياه على الخَيْرِ والتقَى ... ألسْتَ ترَاهُ بالمحاسِنِ ساطِعُ)
(أيا قانصوه اسمَعْ بحقِّكَ قصَّتي ... فإنى لِشَرْحِ الحالِ نَحْوك رافِعُ)
(بليتُ بجور مِنْ زمانٍ أمضَّني ... ومالى وَلَا فى الناسِ غَيْرَكَ نافعُ)
(وحقِّكَ مَا أفنيتُ مالى ومُهْجَتي ... سوَى لرضا السلطانِ واللهُ سامعُ)
(فَإِن يكُ قد أرضاكَ مَا قَدْ لَقيته ... فإنى بِهِ راضٍ بَلَى ثمَّ قانعُ)
(ولى أسوةٌ فِي النَّاسِ بالسَّادة الألَى ... لَكَمْ بذلوا أرواحَهُمْ ثمَّ بَايَعُوا)
ونظم الغوري موشحاً وَسَأَلَ من الشريف بَرَكَات أَن يُعَارضهُ ومطلع موشح الغوري
(يَا غزالاً بلحظِهِ يُنْشِى ... نشأَةَ الأكْوَسِ)
فَقَالَ الشريف بَرَكَات
(أكتم السِّرَّ وَيْكَ لَا تُفْشِى ... بالرَّشَا الألعسِ)
(فَهُوَ يزرى الغصونَ إذْ يمشى ... فِي الرداءِ السندسِي)
(مَا على الصبِّ فى الهوَى عَار ... إنْ تمادَى الكَمَدْ)
(إِن لى فى الغرامِ أوطار ... واصطبارى نَفَدْ)
(واللَّواحى فى لومهم جاروا ... وَأَنا أُبدى الجَلَدْ)
(رَبِّ يَا ذَا الجلالِ وَالْعرش ... كُنْ بِهِ مؤنسِي)(4/304)
(وبوصل الحبيبِ فى الْفرش ... جُدْ وَلَا تَحْبِسِ)
(يَا غزالاً بوصله تدْرك ... كلَّ مَا يستطابْ)
(غايتى فِي الغرامِ مِنْ أَمرك ... أننى مستَرَابْ)
(جُدْ لمن فى هَوَاك لَا يُشْرك ... زينبًا والربابْ)
(لم أزلْ فِي وصاله أرشي ... كى يجى مَجْلِسِي)
(هَل لهَذَا القتيلِ مِنْ أرش ... يَا مُنَى الأنفسِ)
وَكَانَ رَحمَه الله شهماً عِنْد الْوَفَاء وَحفظ العهود وإكرام الشُّعَرَاء والوفود مَعَ الْعِفَّة والصيانة وملازمة الْخَيْر والديانة وَإِظْهَار الْخيرَات ومواصلة المبرات أوقف بعض الْجِهَات على أَنْوَاع الصلات وَبنى رِبَاطًا سفل مَكَّة وَأَسْكَنَهُ الْفُقَرَاء فى حَيَاته وَأقر الله عينه بمشاركة وَلَده أبي نمي لَهُ فِي الْولَايَة كَمَا شَارك هُوَ وَالِده ثمَّ لما قدر الله تَعَالَى زَوَال دولة الغوري وأفضى ملك مصر والحرمين إِلَى مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان ملك الرّوم وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَجهه أَبوهُ الشريف بَرَكَات مرّة ثَانِيَة إِلَى مُوَاجهَة السُّلْطَان الْأَعْظَم والخاقان الأكرم السُّلْطَان سليم خَان فوصل إِلَيْهِ إِلَى الْقَاهِرَة بعد حربه للغوري وَدخل مصر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فقابله الخنكار بالعناية وَالرِّعَايَة وَأقر الشريف بَرَكَات على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْولَايَة وَأبقى أَبَا نمي على مُشَاركَة وَالِده فَعَاد أَبُو نمي قرير الْعين وَاسْتمرّ الشريف بَرَكَات مشاركاً لَهُ وَلَده أَبُو نمي حَتَّى قضى نحبه لَيْلَة الْأَرْبَعَاء رَابِع عشري ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة بِمَكَّة الشَّرِيفَة على فرَاشه ثمَّ صلي عَلَيْهِ يَوْم الْأَرْبَعَاء بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وطيف بِهِ حول الْكَعْبَة أسبوعاً كعادة أسلافه وُلَاة مَكَّة الْكِرَام وَدفن بالمعلاة وبنيت عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة وَهِي مَوْجُودَة إِلَى الْآن وَكَانَ مُدَّة ولَايَته مشاركاً لِأَبِيهِ مُحَمَّد وَولده أبي نمي وَإِخْوَته نَحْو ثَلَاث وخسمين سنة وَعمر إِحْدَى وَسبعين سنة وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد ثقبة وَأَبُو الْقَاسِم وحازم وواصل وَسَنَد وَعلي وَأَبُو نمي مُحَمَّد هَذَا الْمَذْكُور بعده وَقد تقدم فِي تَرْجَمَة وَالِده بَرَكَات أَنه ولد لَيْلَة تَاسِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة إِحْدَى(4/305)
عشرَة وَتِسْعمِائَة وَأَن أمه عبِّيَّة بنت حميدان بن شامان الحسينى وَكَانَ يكنى نجم الدّين شَارك أَبَاهُ بَرَكَات فِي ولَايَة مَكَّة كَمَا تقدم وعمره ثَمَان سِنِين ولاه الغوري وَهِي آخر ولَايَة صدرت من الشراكسة سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة ثمَّ أبقاه السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان على مُشَاركَة وَالِده سنة ثَلَاث وَعشْرين لما قدم عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ بعد حربه للغوري واستيلائه على مصر وَهِي أول ولَايَة صدرت من العثامنة ثمَّ اسْتَقل بأعباء السلطنة بعد موت أَبِيه وَكَانَ استقلاله بهَا فِي سنّ عشْرين سنة فوصلت إِلَيْهِ المراسيم السُّلْطَانِيَّة السليمانية فخمدت بولايته الْفِتَن وابتهج بِملكه وَجه الزَّمن وَلم يزل ممتعاً بمكارم الشيم متقلباً فِي صنوف النعم وَقد رزق الذُّرِّيَّة الصَّالِحَة ودانت لَهُ رِقَاب الْأُمَم وَلما كَانَ موسم خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وصل إِلَى مَكَّة الباشا سُلَيْمَان من جِهَاد الفرنج بالديار الْهِنْدِيَّة عَازِمًا إِلَى الديار الرومية فَأرْسل مَعَه الشريف أَبُو نمي وَلَده السَّيِّد أَحْمد بن أبي نمي لمواجهة السُّلْطَان سُلَيْمَان بن سليم خَان وَفِي خدمته السَّيِّد عرار بن عجل وَالْقَاضِي إِبْرَاهِيم بن ظهيرة وَالْقَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي فوصلوا الْقَاهِرَة ثمَّ توجهوا مِنْهَا إِلَى الديار الرومية فِي الْبر فوصلوا بالسلامة والعز والكرامة وَاجْتمعَ السَّيِّد أَحْمد بالسلطان سُلَيْمَان وَجلسَ على يسَاره فقابله بالإكرام وعامله بالاحترام وأشركه مَعَ وَالِده أبي نمي فِي ولَايَة مَكَّة وَذَلِكَ سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَأقَام مُدَّة متوعكاً بالروم حَتَّى فَاتَهُ الْحَج فِي ذَلِك الْعَام وَمَات السَّيِّد عرار بالطاعون ثمَّ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة عَام سبع وَأَرْبَعين قَالَ الشَّيْخ محيى الدّين عبد الْقَادِر مُحَمَّد الشهير بالجزيري فِي كِتَابه دُرَر الْفَوَائِد المنظمة فَعَاد الشريف أَحْمد إِلَى مَكَّة عَام سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ فِي غَايَة الرّفْعَة وَالْجَلالَة مُتَوَلِّيًا مَا كَانَ وَالِده يَتَوَلَّاهُ وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان سُلَيْمَان بِعلم مكمل بطبلخانة سلطانية رُومِية على أكمل هَيْئَة فاخرة فمبقتضى ذَلِك صَار الشريف فِي مَنْعَة وَحمى مِمَّن يرد إِلَى الأقطار الحجازية من أُمَرَاء الْحَاج وَغَيرهم من أكَابِر الأورام وَمن أَرَادَ الِاجْتِمَاع بِهِ من أكابرهم يَأْتِي إِلَيْهِ إِلَى بَيته وَمحل عزه مُنْفَردا وَفِي جمَاعَة قَليلَة فيقصده للسلام عَلَيْهِ وَلَا يذهب(4/306)
الشريف لأحد مِنْهُم أصلا وَتوجه قَاصِدا مَكَّة فلاقاه وَالِده أَبُو نمي فِي وَادي مر وَجعل لَهُ سماطاً عَظِيما حَضَره الْأَعْيَان ثمَّ قُرِئت مراسيمه بِمَكَّة بالعشر الأول من ربيع الأول سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وألبس الخلعة السلطانة وَطَاف بهَا وَصَارَ يَدعِي لَهُ على المنابر وسعت إِلَى أبوابه الشُّعَرَاء والأكابر وَمِمَّنْ مدحه مهنئاً للشريف أَحْمد بِالْولَايَةِ الْعَلامَة وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن عبد الله باكثير بقصيدة راتية هِيَ هَذِه // (من الطَّوِيل) //
(وفَتْ صبَّهَا بعد الجفا غادَةٌ عَذْرا ... ومذ لامَهَا قالَتْ لعلَّ لَهَا عُذْرَا)
(وزارَتْ ولكنْ بعد طولِ تشوُّقٍ ... إِلَيْهَا وَلَا لَوْمَ عَلَيْهَا وَلَا إزْرَا)
(وجاءته والأشواقُ جاذبةٌ لَهَا ... وشاكَتْهُ مَا تَلقاهُ وهْوَ بِهِ أدرَى)
(وأطفَتْ ببردِ الوصلِ حرَّ بِعَادِهِ ... فباتَ وَلَا يشكو بعاداً وَلَا حَرَّا)
(وأصبَحَ فى أهلِ الغرام منعمًا ... بمَنْ لحظُهَا يبرى وَمِنْه الضنا يبرا)
(مهاةُ فلاةٍ غادةٌ عربيَّةٌ ... عقيلةُ حَيِّ كالضَّراغِم بل أضْرَى)
(عزيزة قوم مُسْتَحِيل وصالها ... وَلَو بذل العشاق أنفسهم مهْرا)
(محجَّبة مَا إنْ تُنَالُ لناظِرٍ ... جعلْنَ لَهَا بيض الظبا والقَنَا خِدْرَا)
(ممنعة لَحْظ الحسام رقيبها ... يكلّم من يحلو لَهُ لَفظهَا المُرَّا)
(رَدَاحٌ كساهَا الحُسْنُ حُلَّته كَمَا ... بمقلتها هاروتُ قد أَودَعَ السِّحْرا)
(مهفهفةٌ كاللَّدنِ أمَّا سوارها ... فمثرٍ وَأما بندُهَا يشتكي الفَقْرَا)
(لَهَا اللهُ خودٌ حِين تخطو تخالها ... من التِّيهِ والإعجاب ثاملة سَكْرَى)
(إِذا ارتجَّ مِنْهَا الردفُ واهتزَّ قَدُّهَا ... ولاح مُحياها وأسبَلَتِ الشَّعْرا)
(رأيتَ كثيباً فَوْقه غُصْن بانةٍ ... عَلَيْهِ هلالٌ والظلامُ لَهُ سِتْرَا)
(رَنَتْ جوذرًا ماسَتْ قَضِيبًا تأرَّجَتْ ... عبيراً سطَتْ ليثاً ولكنَّها أجرا)
(بَدَت قمرًا طرْقى وقلبي منازلٌ ... لَهَا أغرقَتْ هَذَا وَذَا أجَّجَتْ جمرا)
(لَهَا كَفَلٌ كالحقْفِ يقْعد قدها ... إِذا نهضَتْ قد أَتْعَبَ العِطْفَ والخَصْرا)
(طويلةُ مجْرى العقْدِ والجيد قد حلا ... بعقْدٍ حكى فِي النّظم مبسمها الدرَّا)
(إِذا ابتسمَتْ خلْتَ الشَّتيتَ ووشمها ... لآلٍ بهَا خَفَّتْ زُمُرّدَةً خضرًا)(4/307)
(عَلَيْهَا جَرَى ظَلْمٌ يعز مذاقُهُ ... فَلم ندر ظَلْمًا ذَلِك العذبُ أم خمرًا)
(أدارَتْ على العشَّاقِ خَمْرَ عيونها ... فأضْحَوْا نشاوَى هائمين بهَا سَكْرَى)
(فَلَا تعجبوا مِنْ كَسْرِ أجفانها إذَنْ ... فبالشرعِ كاسُ الخمرِ يَسْتَوْجبُ الكَسْرا)
(كتمْتُ هَواهَا غير أنَّ محاجري ... بِمَا صنته خَطّ ابْن مقلتها سَطْرَا)
(تمنُّ على المضنَى بإرسال طيفها ... إِلَيْهِ ومَنْ ذاق الصبابة لَا يكْرَى)
(رعا الله دهراً كنْتُ سلطانَ عشقِهِ ... وكانتْ غصونُ العمْرِ يافعةً خضرًا)
(وَلما مضَى عصْرُ الشبيبة وانقضَى ... ومَرَّ وَمَا أحلاه مِنْ زمَنٍ مَرَّا)
(ونَبَّهنى مِنْ نومِ جهلي وشيبتي ... صَباحُ مشيبٍ لاحَ فِي مَفْرِقِى فَجْرَا)
(دَعَاني هَواهَا للتصَابِى فَلم أُجِبْ ... وقُلْتُ لَهُ أرهقتني فِي الهوَى عُسْرا)
(أبعد مشيبي تبْتَغِى مني الصِّبَا ... لقد جئْتَ يَا داعى الهوَى خُطَّةً نَكْرًا)
(فَمَالِي وللتَّشبيب بالغِيدِ والظِّبا ... وبالوشمة الخَضْرا وبالوجنة الحَمْرَا)
(وقلبيَ قَدْ أطلقته من يَد الهوَى ... وَكَانَ لسلطانِ الغرامِ من الأسْرَى)
(وفكْرِىَ عَن صوْغِ المديحِ فطمتُهُ ... سَوى صَوْغِ مدحي فِي ابْن فَاطِمَة الزَّهرا)
(أَبى الظفر المنصورِ أحمَدَ مَنْ رَقَى ... سماءَ المعالى وامتطى الأنجُمَ الزهْرا)
(وَمن قد علا هامَ الممالكِ مذ نشا ... ودبَّرها مِنْ قبْلِ أَن يبلغ العَشْرَا)
(ومَنْ جَرَّ من فَوق النجومِ ذيولَهُ ... فقنعتِ الجوزا وعممت النَّسْرَا)
(علا ذروةَ فِي المَجْدِ أكسَبَ فخرُهَا ... بَنِى هاشمٍ عِزَّا كسا جدّهُمْ فخرا)
(ومِنْ دوحة السبطَيْنِ أنبع غُصْنه ... وَمن نفْحة الريحانَتَيْنِ ملي عطرا)
(بِهِ افتخرَتٍْ آلُ النبيِّ وعظمَتْ ... قريشٌ وسادَتْ قَومهَا مُضَرُ الحمرا)
(وَمن حَازَ فِي سنِّ الشبيبة رُتْبَة ... مِنَ العقلِ والتدبيرِ فاقَ بهَا عُمْرَا)
(يدبِّرُ أمْرَ الملكِ مِنْهُ بهمَّةٍ ... لَهُ علَتِ السُيُّوق واعتلَتِ الغفرا)
(ويعلو سريرَ الملكِ ليثاً موقراً ... مهيباً كَمَا يَعْلُو المُطَهّمةَ الشَّقْرا)
(ويحميه رأْيٌ مِنْهُ ضاهى رماحه ... إِذا مَا حَمَتْهُ أَو ضوازمه البَتْرَا)
(شهابٌ إِذا مَا رمْتَ رَأيا وإنْ تردْ ... أَخا غارةٍ يروي القنا خلته ذمرا)
(شُجَاع ربى بَيْنَ الأسنةِ والظبا ... ومنذُ نشا أرْضى الصَّوارم والسمرا)
(إِذا جال فِي الهيجَاءِ والخيلُ تدَّعي ... فإنَّ كماةَ الحربِ تجعلهُ سِتْرا)(4/308)
(هزبرٌ تخافُ الأسْدُ منْ سطواته ... ألستَ ترَاهَا خيفة تسكُنُ القفرا)
(جوادٌ لقد أخطا الَّذِي قاسَ جودَهُ ... بسحبٍ وَهَذَا كفُّهُ يمطرُ التبرا)
(عطاياه لَا تحصَى بعدِّ وَلَا فَمٍ ... وَلَا قلمٍ بل بَعْضهَا جَلَّ أَن يُدْرَى)
(مجمعة فِيهِ مآثرُ مَنْ غَدا ... معاصره والآتِيينَ ومَنْ مَرَّا)
(شريفُ السجايا من لؤَيِّ بن غالبٍ ... محاسنه تُتْلَى وإحسانه تَتْرَى)
(وَلَا عيبَ فِيهِ غَيْر إفراطِ سؤددٍ ... وبذل نوالٍ يسترقُّ بِهِ الحرا)
(أَبى الله إِلَّا أنْ تكونَ لَهُ الْعلَا ... على كُلِّ مَنْ فِي الأرضِ مِنْ خلقه طرا)
(من المسجِدِ الميمونِ أحمدُ قد سَرَى ... إِلَى المسجدِ الأقصَى فسبحانَ مَنْ أَسْرَى)
(ويمَّم ملكَ الرومِ ممتطياً على ... نَجَائِب عز فِي الغُدُوِّ وَفِي المَسْرَى)
(وَسَار لسلطانِ البسيطةِ مَنْ لَهُ ... جميعُ ملوكِ الأرضِ خاضعة قهرا)
(مليكٌ لَهُ ملكٌ كملكِ سَمِيِّهِ ... وأكبره عَنْ أَن أفوه بِهِ ذِكْرَا)
(تكفَّل للدنيا بأرزاقِ أهْلِهَا ... فكلُّ ابْن أثنى لَا يجوعُ وَلَا يَعْرَى)
(ومدَّ على أبنائها مِنْ أمانِهِ ... رواقاً فَلَا يخشونَ بؤساً وَلَا ضُرَّا)
(وألبسهم جلبابَ عدلٍ طرازه ... لكم ذمَّتى أنْ لَا مخاف وَلَا ذُعْرَا)
(ونوَّلَ كلاًّ مَا يريدُ فَمن يردْ ... غِنًى أَو حَيَاة ذَاك رزقا وَذَا عُمرَا)
(خليفةُ عدلٍ بالإمامةِ قائمٌ ... وَإِن جلَّ ذاتاً عَنْهُمَا وَعلا قَدْرًا)
(لَهُ البسطةُ العظمَى على الخلقِ كُلّ مَنْ ... تحيطُ بِهِ الخضرا وتحملُهُ الغبرا)
(لَهُ الملكُ والكرسىُّ والتاجُ والعلا ... لَهُ الوقْتُ والأملاكُ تعنو لَهُ قَسْرَا)
(تخرُّ إِلَى الأذقانِ فِي عَتَبَاتِهِ ... سُجُودًا عَلَيْهَا لَا ثمينَ لَهُ صغرا)
(وتلثمُ حَصْبًا بابِهِ بمباسمٍ ... لَهُم شَرُفَتْ عَن كَونهَا تلثم الدُّرَّا)
(وتعتدُّهُ فخراً ومقدمُ أحمدٍ ... عَلَيْهِ مَعَ التَّعظيمِ تعتدُّهُ فخْرا)
(بِهِ هزَّتِ اسطنبولُ مِعْطَفَ تائِهِ ... وأضحَى بِهِ إيوانها باسماً ثغرا)
(وشرّفَ مِنْهَا ملْكها ومليكها ... ودَوْلتها هزَّتْ وشدَّتْ بِهِ أزرا)
(وجرَّ بِهِ إقليمها ذَيْلَ معجبٍ ... وفَاق أقاليمَ البسيطةِ إذْ جَرَّا)
(ومَعْ عِظَمِ الخنكارِ لما بدا لَهُ ... محيَّاه كادَتْ أَن تخفَّ بِهِ السِّرَّا)
(وَلما رأى نورَ النُّبُوةِ ساطعًا ... يُضىءُ لَهُ من صبْحِ غرَّته الزهْرَا)(4/309)
(وَشَاهد مِنْهُ صُورَة نَبَويَّةٌ ... جمالُ سناها يَبْهَرُ العقلَ والفِكْرا)
(ملا عينه مِنْهُ وقاراً وَهيْبَةً ... وحَمَّلها منِ نُورِ طلعته وِقْرا)
(وشرَّفها مِنْهُ بمرأَى جلالهِ ... وهيبته مرأَى النبيِّ بالاستقرا)
(وَقرَّبَهُ مِنْهُ وأدنَى محلهُ ... وأجلسَهُ من تَخْتِ سلطانِهِ الصَّدْرا)
(وبالَغَ فِي تَعْظِيمه خَافِضًا لَهُ ... جناحَ اتضاعٍ مَا أشابَ بِهِ كِبْرا)
(وَأَدْنَاهُ مِنْهُ ثمَّ حَيَّاهُ مطرقًا ... ووافاه بالبشرَى وأهْدَى لَهُ البشْرا)
(وَفيَّأَهُ مِنْ جودِهِ ظلَّ رَوْضَة ... أمانيه مِنْ أكمامها أطلعتْ زهرا)
(وأثمَرَ فِيهَا غرس رجواه مُدْنِيًا ... إِلَيْهِ قطوفاً لَا تُكَلِّفُهُ هَصْرا)
(وأينع فِيهَا غُصْن آماله كَمَا ... مطامعه مِنْهَا مزاودها شكْرا)
(وأفق رجاه عَمه سُحْب فَضله ... وأجرَى لَهُ مِنْهَا بجريته نَهْرَا)
(وَألبسهُ تشريفةً عاقداً لَهُ ... ولايةَ مُلْك من زبيدَ إِلَى مِصْرا)
(وَأَعْطَاهُ مَا الآمالُ تنفدُ دونَهُ ... وكُلُّ الأمانِى دون غَايَته حَسْرَى)
(وأكرَمَ مثواه وأحْسَنَ نزله ... وأدْخَلَهُ من ملكِهِ جنَّة خضرًا)
(هُنَا طرفه فِيهَا وأَمْرَى جنانه ... فَلِلهِ مَا أهنا وَللَّهِ مَا أمْرَى)
(بِهِ قد تسلَّى عَن حبيبٍ ومنزلٍ ... فَأصْبح لم ينشدْ قِفَا نبك من ذِكْرى)
(ولكنهُ عَن ذكْرِ والدِهِ وعنْ ... رعاياه لم يغفُلْ وَلم يستطعْ صَبْرَا)
(فحرك مِنْهُ ساكنَ الشَّوقِ باعثٌ ... يحثُّ مطايا عزمه مِنْهُ بالإغْرَا)
(فَعَاد إِلَى أوطانِهِ عودَ مُرْهَفٍ ... إِلَى غمدِهِ من بعد أَن جَاوَزَ النَّحْرا)
(وَجَاء كَمَا يرضى المَمَالِك والعلا ... وبيض الظِّبا وَالْملك والنَّهْى والأَمْرَا)
(وأصبَحَ نجاب السُّرورِ مخلقاً ... وَقد أرَّج الأرجاء مِنْ عِطْره نَشْرَا)
(وطَبَّقَتِ الأرضُ التَّهَانى لعودِهِ ... إِلَى ملكٍ يشدو لَهَا هاتِف السرَّا)
(فقلَّصه مُذْ بلَّغته دياره ... حرَام على الأكوار تعلو لَهَا الظّهْرَا)
(علينا لَهَا لَثْمُ النحورِ وفرشنا ... خدوداً لممشاها لنوفي لَهَا النذرا)
(فيابا سُلَيْمَان النَّدَى وَالَّذِي اعْتَلَى ... عَلَى صهوةِ العلياءِ مذ شَرِبَ الدرا)
(لِيَهْنِكَ مَا قُلِّدتَّ فاستَخْدِم الظبا ... وسُمْرَ القنا والسعْدَ والعِزَّ والنصرا)
(فمثلكَ لم ننظرْ مليكاً مُعظَّمًا ... تُظَلّلُهُ الخضراءُ فِي حلَّةٍ صفرا)(4/310)
(فَلَا زلْتَ سلطانَ الحجازِ وفخرَهُ ... وتاجَ بني الزهرا وغُرَّتها والغرَّا)
(فهمْ سبَبُ التقوَى وهم أنجُمُ الهدَى ... وهُمْ شرَفُ الدُّنْيَا وهُمْ سادة الأُخْرَى)
(بهم تفرجُ الغما بهم يُكْشَفُ البلا ... بهم تُرْفَعُ اللأوا بهم نَدْفَعُ الضرا)
(بهم يأمنُ الناسُ المخاوفَ فِي غدٍ ... إِذا خيف أَن تُعْطى الصَّحائِفُ باليُسْرَى)
(وهم أهلُ بيتٍ أذهَبَ الله رجْسَهُمْ ... وَطهَّرهُم من أنْ يُنِيطَ بهم وِزْررا)
(وهم نعمةُ البارى على الخَلْق إِذْ غَدَوْا ... نجاةً لَهُم لكنَّ نعْمَته الكُبْرَى)
(على خلقه فِي الأرضِ نَجْمُ الْعلَا أَبُو ... نميَّ الَّذِي قد فاق فِي عَدْلِهِ كِسْرَى)
(مليكٌ لَهُ نورُ النبوةِ هالةٌ ... مُحَيَّاهُ مِنْهَا قد أضاءَ لنا بَدْرا)
(مليكٌ لَهُ نَهْرُ الرسالةِ موردٌ ... فأكْرمْ بمورودٍ وأكْرمْ بِهِ نَهرا)
(بِهِ شرَّفَ الله الزَّمانَ وَأَهله ... وحَلَّى بِهِ الدُّنْيَا وزانَ بِهِ الأخْرَى)
(وأنطَقَ أفْوَاهَ الثَّنَاءِ بحمدِهِ ... وأجرَى لَهُ من كلِّ ناطقهِ شُكْرا)
(وتوج هاماتِ المنابرِ باسمه ... وزان بِهِ الأقْلاَمَ والطرْسَ والحِبْرَا)
(وأرسَلَ جبريلَ الأمينَ لجدِّهِ ... خديماً وَفِي أوصافِهِ أنزلَ الذكْرَا)
(فَمَاذَا عسَى فِيهِ يقالُ ومدحُهُ ... أَتَانَا بِهِ التَّنْزيلُ فى سُورة تُقْرَا)
(ومَنْ كَانَ جبرائيلُ حَامِلَ مَدْحِهِ ... ومادحه الْقُرْآن لَا يرتَضِى الشِّعْرَا)
(وَلَو نُظِّمَتْ زهر النجومِ قلائداً ... بجنْبِ علاهُ كانَ فِي حَقِّهِ هجْرَا)
(هُوَ ابنُ الألَى مدُّوا سرادقَ مَجْدِهِمْ ... وفخرهم فَوق السِّمَاكَيْنِ والنّسْرَا)
(ملوكٌ غطاريفٌ جحاجحُ نُخبةٌ ... ليوثٌ غيوثٌ سَادَةٌ قادةٌ غرَّا)
(صناديدُ صِيدٌ أوجبَ الله مدحَهُمْ ... وحسبهم إلاَّ مَوَدَّتَهُم أجْرَا)
(وهم أهلُ بيتٍ لَا صلاةَ لكُلِّ مَنْ ... يصلِّى وَلَا يجْرِي لَهُم ضمنهَا ذِكْرَا)
(وهم تَاج أَرْكَان الصَّلَاة وَذكرهمْ ... طراز على عطفي تحياته الْأُخْرَى)
(غَدا حُبُّهُمْ فرضا وطاعَتُهُمْ هُدَى ... وقُرْبهم مَنْجًى وبغضهم كُفْرَا)
(ومدحهم فخراً وَلَا سِيمَا أَبُو ... رُمَيْثَةَ مِنْهُم حُبُّهُ زَادَنِى فخرَا)
(هُوَ الملكُ المنصورُ أندى الورَى يدا ... وأغزرُهُمْ حظَّا وأوسعُهمْ صَدْرَا)
(وأرجحُهُمْ عقلا وأشرفهم أَبَا ... وأصوبُهُمْ رَأيا وأكثرُهُمْ بِرَّا)
(يفوقُ ملوكَ الأرضِ عزَّا وهمَّةً ... وبأسَا وجودا يفضحُ الليْثَ(4/311)
(يصيِّرُ حد السَّيْف كلاَّ بحلمه ... ويتركُ وردَ الماءِ مِنْ عزمِهِ جمرا)
(إِذا مَا دَهَى أمرٌ من الخَطْبِ فادحٌ ... تبيتُ بردِّ الأمْرِ مقلته سَهْرَا)
(وَلم يستَتِرْ إِلَّا بضوءِ حسامِهِ ... وَلم يستشِرْ إِلَّا الرُّدَينْيَّةَ السَّمْرَا)
(وَإِن رام أمرا فالقضاءُ مُسَاعِدٌ ... لَهُ واللَّيالى لَيْسَ تَعْصِى لَهُ أمرا)
(هُوَ البَطل المقْدَامُ فِي يومِ غارةٍ ... يقوم مقَاما يُرْعِدُ العسكَر المجرا)
(عواليه فِي نَظْمِ الكلى جَادَ صنعها ... كَمَا فِي الطّلاَ أسيافُهُ جادَتِ النثرا)
(إِذا اربدَّ تفترُّ الأَسِنَّةُ والظبا ... وتَجْرِى بُكَا عينِ النضار إِذا افترَّا)
(يَدَاهُ لنفعِ الخلقِ مملوءةٌ ندًى ... فيمناه واليسرَى بهَا اليُمْن واليسرا)
(ورُبَّ يراعٍ تشخصُ البيضُ هَيْبَة ... لسطوتِهِ والسُّمْرُ تنظُرُه شَزْرَا)
(إِذا مَا جرَى فِي الطرْس قُلْ قَدَرٌ جَرَى ... فَإِن شَاءَه خيرا وَإِن شاءه شَرَّا)
(مليكٌ إِذا حاولت ضبطَ صفاتِهِ ... فلنْ تستطعْ ضَبطًا لذاك وَلَا حَصْرَا)
(فيا با نُمَىّ الْملك وَالْملك الَّذِي ... يجلُّ عَن الألقابِ والمدحِ والإطرا)
(لقد صدَحَتْ فِي الكونِ صادحةُ الهنا ... تُغَرِّدُ فِيهِ بالمسَرَّةِ والبشرَى)
(بمَقْدَمِ مَنْ أنتجته وادخَرْتَهُ ... وليّاً لعهدِ الملكِ أَعْظِمْ بِهِ ذُخْرا)
(بمقدمه ورق البشائِر قد شَدَتْ ... وكلُّ فؤادٍ من بشائرها استرا)
(وَقد عَمَّ أقطارَ الحجازِ قدومُهُ ... سُرُورًا كَمَا عَمَّ العراقَيْنِ مَعْ بُصْرَى)
(ووافَى وكلُّ شيقٌ لِلقَائه ... كَمَا اشتاقَ حيٌّ عامَ إجدابِهِ القطرا)
(وَقد آنسَ البيتَ الشريفَ وَأَهله ... ومكَّة والركْنَ المكرمَ والحِجْرا)
(وأضحَى محيّا مكةٍ متهللاً ... سُرُورًا بمرآه وناظرُهُ قَرَّا)
(وَكَانَ لَهُ عيداً وَلكنه غَدَا ... لباغِضِهِ نحْرًا وحاسده فِطْرا)
(وخلعته الصَّفْرَاء مِنْهَا لَقَدْ رَمَوْا ... سَوَادًا وذكْرَاها ملا سمعَهُمْ وقْرا)
(بِهِ قد تحلَّتْ والمراسيمُ شُرِّفَتْ ... وَشرف مُهْديها لَهُ والذى يَقْرَا)
(فَدُمْ وليدُمْ والملكُ طوعُ يديكما ... ومدحُكُمَا يستغرقُ الحمدَ والشُّكْرا)
(وهاكَ من الدُّرِّ النضيدِ قصيدةً ... تَغَارُ قوافِى الشعْرِ مِنْ رَسْمهَا بالرَّا)
(منقَّحةَ المعنَى مُصَحَّحَة الْبَنَّا ... مهذَّبة الأَلْفَاظِ طَيِّبَةَ المقرا)
(تضوَّعَ رَيَّاها عليكَ وَلم أكُنْ ... على مِثْلِ كافورٍ أضِيعُ لَهَا نشرا)(4/313)
(لعمرِيَ لَا أرضَى القريضَ بِضَاعةً ... ويَبْخَسنِى لَو أنني قُلْتُهُ دُرَّا)
(وَمَا الشعْرُ إِلَّا دونَ قَدْرِى وَبَعض مَا ... لذاتي مِنْ فضلٍ وَلم ينضبطْ حصرا)
(وُدونَكَهَا مِسْكُ الصَّلاةِ خِتَامُهَا ... على أحمدَ المحمودِ فِي الفتْحِ والإِسْرَا)
هَذَا مَا ذكره الكثيري فِي الْوَسِيلَة وَغَيره وَقد ذكر السَّيِّد مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي ذَلِك مفصلا مَعَ زيادات وَبَعض مخالفات أَحْبَبْت ذكر جَمِيعه تتميماً للفائدة قَالَ تشرف مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن أبي نمي بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان بحماية الْحَرَمَيْنِ الشريفين بعد وَفَاة وَالِده الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات سنة ثَلَاث وَتِسْعمِائَة وَكَانَ سُلْطَان مصر يَوْمئِذٍ مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان قايتباي ثمَّ فِي جُمَادَى من الْعَام الْمَذْكُور تولى الشريف يحيى بن سبيع إمرة الينبع وَوَقعت بِمَكَّة فتْنَة عَظِيمَة بَين الشريف بَرَكَات وأخيه هزاع وارتحل هزاع مَعَ أَخِيه أَحْمد الجازاني فِي خَمْسمِائَة فَارس من ذويهما ونزلوا بالينبع وكاتبوا السُّلْطَان فِي إمرة مَكَّة بِمِائَة ألف دِينَار جَدِيد وافترقت الدولة مَعَ الْأَخَوَيْنِ فرْقَتَيْن لَكِن سعد بَرَكَات غَالب ثمَّ إِن السُّلْطَان برز أمره العالي بِتَعْيِين الْمقر الْكَرِيم البدري مُحَمَّد بن مزهر لإخماد الْفِتْنَة الْمَذْكُورَة وَفِي عَام سِتّ وَتِسْعمِائَة تسلطن الْملك قانصوه الغوري بتخت مصر فَجهز للشريف هزاع بن مُحَمَّد خلعة سنية بإمرة مَكَّة المشرفة صُحْبَة أَمِير الْحَاج فلاقاه من يَنْبع وَلبس التشاريف السُّلْطَانِيَّة وَسبق إِلَى مَكَّة لتمهيد الْبِلَاد وتطمين الْعباد فلاقاه الشريف بَرَكَات خَارج مَكَّة فاقتتلا قتالاً شَدِيدا فانكسر هزاع وَلحق بأمراء الْحَاج فأعانوه وَأَقْبلُوا بجموعهم من العساكر وَالْحجاج على الشريف بَرَكَات فولى عَن محاربتهم إِلَى جدة وَمَا يَليهَا وَنهب بعض عساكره كل مَا مروا بِهِ وَدخل الْحجَّاج مَكَّة وَمَعَهُمْ الشريف هزاع وهم على غَايَة الْخَوْف والوجل من الشريف بَرَكَات وَترك أَكثر النَّاس الْحَج خوفًا على أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وأهاليهم ثمَّ إِن الشريف بَرَكَات جمع عساكره وتوابعهم وَنزل ببدر راجياً من الله مَا حصل لجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من النَّصْر فَعَاد الْحَاج الْمصْرِيّ والشامي بعد قَضَاء الْمَنَاسِك والشريف هزاع مَعَهم حماية لَهُم فَلَمَّا قرب من بدر ولى هَارِبا إِلَى يحيى(4/313)
ابْن سبيع بالينبع فَعَاد الشريف بَرَكَات إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا وَاسْتمرّ هزاع بالينبع وَالْحَرب بَينهمَا سِجَال وَفِي عَام سبع وَتِسْعمِائَة مَاتَ الشريف هزاع فَدفن بِمَكَّة وَبعد مَوته عقد مجْلِس فِي الْحطيم صَدره القَاضِي أَبُو السُّعُود بن إِبْرَاهِيم بن ظهيرة وَفِيه الْقُضَاة والحكام والأمراء من الْعَرَب والأورام وَفِيهِمْ الشريف جازان وَمَالك بن رومي شيخ طَائِفَة زبيد وأعيان الشرفاء الْكِرَام وتفاوضوا فِيمَن يَلِيق لإمرة مَكَّة المشرفة وَطَالَ بَينهم الْكَلَام فَقَالَ مَالك بن رومي مَا أَمِير مَكَّة وسلطانها إِلَّا جازان وَمَا كَانَ هزاع إِلَّا بِهِ وبركات مَا لَهُ إِلَّا السَّيْف فَسكت الْحَاضِرُونَ جَمِيعهم طَويلا فَقَالَ القَاضِي أَبُو السُّعُود فَمن يَليهَا الْآن وَتَكون فِي وَجهه فَقَالَ مَالك الشريف جازان وَبَنُو إِبْرَاهِيم مَعَه فِي ذَلِك فَنُوديَ لجازان فِي شوارع مَكَّة بالبلاد ثمَّ كَانَ بَين الشريف بَرَكَات والشريف جازان حروب مُتعَدِّدَة ومواقف متكررة لحق ضررها الْحَاج وَاخْتلفت كلمة العربان وَخَرجُوا على الْحجَّاج ونهبوا أَمْوَالهم وَقتلُوا رِجَالهمْ فِي جَمِيع الطرقات وَسَائِر الْمنَازل وَفِي هَذَا الْعَام وَهُوَ عَام سبع وَتِسْعمِائَة رفعت الشكوى إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة بِأَن جازان استولى على مَكَّة وَمَعَهُ الشريف يحيى بن سبيع وَجمع من بني إِبْرَاهِيم وَأَنَّهُمْ صادروا من كَانَ بهَا من التُّجَّار والرؤساء وَأخذُوا من الْمولى شمس الدّين الْعَيْنِيّ خَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار وَأَن بني إِبْرَاهِيم تحكموا فِي أهل مَكَّة بالبلص وَالْفساد وَأَن يحيى ابْن سبيع هَذَا رَأس الْفِتْنَة وضجت المجاورون وعزم الْجَمِيع على الْهَرَب من مَكَّة فِي أَرْبَعِينَ مركبا أعدوها ببندر جدة فَمَنعهُمْ الشريف جازان وَوَعدهمْ بِرَفْع المكاره عَنْهُم وطمن خواطرهم وَالْتزم لَهُم أَن يُجهز مَعَ كل مُسَافر من الْحجَّاج من يوصله إِلَى مأمنه فَلم يقبلُوا مِنْهُ ذَلِك لِأَن ميلهم إِلَى الشريف بَرَكَات أَكثر وَقُلُوبهمْ محبَّة لَهُ وَذَلِكَ لعدم طمعه فِي أَمْوَالهم وكف الْأَذَى عَنْهُم بِكُل طَرِيق بِحَيْثُ يدْفع من مَاله لأهل الشَّوْكَة من العربان سكان الْبَوَادِي لأجل حماية الْحجَّاج وعطفوا على الشكوى عدَّة مكاتيب لمولانا الشريف بَرَكَات أَن يُقيم بِمَكَّة أَمِيرا لَهَا وَجَمِيع من بهَا من الْعَسْكَر والرعايا عون لَهُ على جازان عناية من الله تَعَالَى بِهِ فوصل إِلَيْهَا فَلَمَّا بلغ ذَلِك الشريف جازان أقبل مُحَاربًا للشريف بَرَكَات فاقتتلا قتالاً شَدِيدا فِي(4/314)
مَوَاقِف عديدة وَصدق مَعَ الشريف بَرَكَات من ذكر فِيمَا وعدوه بِهِ من الْإِعَانَة فَكَانَت الكسرة على جازان فهرب إِلَى الْيمن ثمَّ وصلت الْحجَّاج وَلم يكن بِمَكَّة أحد من جمَاعَة جازان غير ولد يحيى بن سبيع فَلبس الخلعة نِيَابَة عَن جازان بولايته السَّابِقَة وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف بِمَكَّة على غَايَة من الْقُوَّة والشوكة فَلم يحدث بِمَكَّة حَادِثا إجلالاً لشعائر الدّين وحقناً لدماء الْمُسلمين فَلَمَّا شَاهد ذَلِك أُمَرَاء الْحَاج ورؤساء الوفاد ألزموا الشريف بَرَكَات بالتوجه إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة لتحصل لَهُ كرامات بالإمرة وَغَيرهَا من مراداته السّنيَّة مُكَافَأَة لصنيعه الْمَذْكُور وسعيه المشكور فتوجة وَتوجه مَعَه إخْوَته قايتباي وَأَبُو الْخَيْر وعنقا فقابلهم السُّلْطَان مُقَابلَة عَظِيمَة وألبسهم خلعاً تلِيق بأحسابهم النَّبَوِيَّة الْكَرِيمَة وَاسْتمرّ على غَايَة الاحترام والاحتشام مَعَ الْكِفَايَة التَّامَّة من اللبَاس وَالشرَاب وَالطَّعَام فوردت بمحضرهم إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة كتب من نائبهم بِمَكَّة المحمية بِأَن الشريف جازان لم تسكن مَعَ ولَايَته الْفِتَن وَحصل لأهل مَكَّة من جماعته أَنْوَاع الظُّلم والجور والمحن وَبِأَن الْأَمِير بكباش مَكَّة المشرفة صَار يُؤمن الشريف جازان وَيظْهر لَهُ الشَّفَقَة والمحبة فَصَارَ يتَرَدَّد بِالْحرم الشريف وَيكثر الطّواف فاتفق أَن هجم عَلَيْهِ طَائِفَة من الأتراك المماليك وقتلوه بالمطاف ضربا بالخناجر والسكاكين ثمَّ احتزوا رَأسه وَأَن الباش الْمَذْكُور ألبس أَخَاهُ الشريف حميضة خلعة بإمرة مَكَّة لغيبة الشريف بَرَكَات عَنْهَا وَأَن النَّاس يتمنون الشريف بَرَكَات راضين عَنهُ فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى مصر بذلك توجه الشريف بَرَكَات مَعَ أَخَوَيْهِ الْمَذْكُورين من مصر إِلَى الْحجاز من غير إِذن من السُّلْطَان ثمَّ أرسل مطالعة إِلَى السُّلْطَان يذكر فِيهَا أَنه عبد لمولانا السُّلْطَان وَإِنَّمَا توجه خوفًا من الطَّاعُون فَمنع السُّلْطَان جَمِيع من كَانَ مَعَ بَرَكَات من عِيَال وَأَتْبَاع من التَّوَجُّه إِلَيْهِ ورسم عَلَيْهِم بِمصْر المحروسة فَلَمَّا كَانَ موسم عَام تسع وَتِسْعمِائَة برز أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ فِي شَوْكَة عَظِيمَة وعساكر جرارة وَزِيَادَة فِي السِّلَاح والمدافع خوفًا من الشريف بَرَكَات فَلَمَّا بلغ(4/315)
الشريف بَرَكَات الْخَبَر أرسل رَسُولا إِلَى أَمِير الْحَاج وصل إِلَيْهِ فِي عُيُون الْقصب مَعَه مكاتيب مضمونها أَن الْحَج يتَوَجَّه مَعَ سَلامَة الله تَعَالَى لَا خوف عَلَيْهِ وَأَنه فِي خدمَة السُّلْطَان بحراسة الْحَاج وتطمين سَائِر الْحجَّاج بِمَكَّة وعرفة حَتَّى يؤدوا الْمَنَاسِك جَمِيعهَا ويعلنوا بِالدُّعَاءِ لمولانا السُّلْطَان ثمَّ يعودون إِلَى أوطانهم وَأَنه باذل نَفسه وَأَوْلَاده وَإِخْوَته ورجالهم ومالهم فَلَمَّا بلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان رَضِي عَن الشريف بَرَكَات رضَا تَاما وجهز إِلَيْهِ عِيَاله وَأَتْبَاعه وَبَلغت الْأَخْبَار أهل مَكَّة فتهيئوا لِلْحَجِّ بعد عزمهم على تَركه وَكَانَت سنة هنيَّة وَأهل مَكَّة فَرِحُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فضلَة بِوُجُود الشريف بَرَكَات بَين أظهرهم على عَادَته الجميلة ثمَّ إِن الشريف حميضة قَابل الْحَاج الْمصْرِيّ مَعَ يحيى بن سبيع بالينبع وَلبس الخلعة بتولية الباش الْمَذْكُور فَبلغ ذَلِك الشريف بَرَكَات فَمَنعه من دُخُول مَكَّة وَكَانَ مَعَه طَائِفَة من بني إِبْرَاهِيم وحلفائهم فأشاروا عَلَيْهِ بِالْخرُوجِ على الْحَاج وقتالهم وَقتل جمَاعَة الشريف بَرَكَات وَأخذ أَمْوَالهم فَفَعَلُوا ذَلِك وحصلت شدَّة عَظِيمَة من النهب وَالْقَتْل ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على دُخُول مَكَّة ووقوفه مُنْفَردا بِعَرَفَة وَألا يَقع بَينهمَا حَرْب حَتَّى يَنْقَضِي زمن الْمَوْسِم وَيدْفَع حيمضة إِلَى الشريف بَرَكَات خَمْسَة آلَاف دِينَار ذَهَبا فَلَمَّا وصل بَنو إِبْرَاهِيم إِلَى مَكَّة تحركت نُفُوسهم الخبيثة وضغائنهم السَّابِقَة فنهبوا بعض دور مَكَّة وعاثوا حَتَّى فِي الْحرم الشريف فبادر الباش وَمن مَعَه لقتالهم وَقتل أَرْبَعَة من أعيانهم وَذهب الشريف حميضة مَعَ يحيى بن سبيع إِلَى الينبع وجمعوا جموعاً على نِيَّة أَخذ الْحَج وَقطع الطَّرِيق فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى السُّلْطَان رسم بِالْقَبْضِ على جَمِيع من بِمصْر من بني إِبْرَاهِيم والصيادلة المتسببين بالشوارع كالصيارف والعطارين وَنَحْوهم والإحاطة بِسَائِر أَمْوَالهم وَقَبضهَا وَأخذ مَا بِأَيْدِيهِم من السِّلَاح خُصُوصا من أَرَادَ اللحوق بِيَحْيَى بن سبيع وَمن مَعَه ثمَّ عين تجهيزة عَظِيمَة من الْأَبْطَال والشجعان وأعيان الفرسان ومقدمهم الْأَمِير خاير بك الأِشقر وَأمرهمْ بِالْقَبْضِ على جَمِيع من خرج من الطَّاعَة وَحمل من يَلِيق حمله وَقتل من يسْتَحق الْقَتْل(4/316)
فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى يحيى بن سبيع جهز قَاصِدا مَعَه عشرُون ألف دِينَار بِشَرْط إبِْطَال التجهيزة الْمَذْكُورَة وَأَن كل من بالحجاز طائع فَلَمَّا وصلت زَادَت فِي غضب السُّلْطَان فَجهز زِيَادَة على الْأَوَّلين أُمَرَاء متعددين وَصرح لَهُم أَن يفتكوا بِيَحْيَى بن سبيع وبينى إِبْرَاهِيم وبجميع من يناصرهم وَيكثر سوادهم وَأَن يمهدوا جَمِيع الأقطار الحجازية فَالْتَقوا مَعَ يحيى بن سبيع وَمَالك بن رومي والشريف حميضة وَجَمِيع بني إِبْرَاهِيم وتوابعهم غرَّة شَوَّال بالدهناء بِالْقربِ من يَنْبع وَسبق الْخَبَر إِلَى مَكَّة إِلَى مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات وَأَن جمَاعَة من بني إِبْرَاهِيم تواعدوا على تبييت العساكر السُّلْطَانِيَّة وَأَن يأتوهم لَيْلًا مُتَفَرّقين إيهاماً للكثرة وَلِأَنَّهُم لَا يعْرفُونَ الْبِلَاد والغريب أعمى فَركب الشريف بَرَكَات من فوره فَوَافَقَ وُصُوله نزُول الْعَسْكَر وَلَيْسَ عِنْد بني إِبْرَاهِيم من وُصُوله خبر فَاجْتمع من بني إِبْرَاهِيم سَبْعُونَ فَارِسًا وقصدوا مَا قصدُوا فَركب الشريف بَرَكَات سَرِيعا وفاجأهم بالدهناء وَقَاتلهمْ من الظّهْر إِلَى اللَّيْل ففر أهل الْخَيل وَوَقع الْقَتْل فِي الرجالة واقتلع مِنْهُم خيولاً وَظهر عَلَيْهِم ظهوراً هاشمياً والعساكر السُّلْطَانِيَّة ينظرُونَ إِلَى موقف مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات وشجاعته وَقُوَّة بأسه حَتَّى تحيرت عُقُولهمْ ثمَّ عزموا لقَضَاء حجهم وَأَدَاء مناسكهم وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَتِسْعمِائَة كَانَ مولد مَوْلَانَا الشريف أبي نمي بن بَرَكَات كَمَا سَيَأْتِي ذكره وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَتِسْعمِائَة حج الشَّيْخ أَجود بن زايد فِي جمع عَظِيم يُقَال إِنَّهُم يزِيدُونَ على ثَلَاثِينَ ألفا وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وَتِسْعمِائَة وصل مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات إِلَى جبل الروحاء بِالْقربِ من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَقتل مَالك بن رومي الزبيدِيّ الَّذِي كَانَ سَببا فِي نهب مَكَّة المشرفة وَقتل أَوْلَاده الثَّلَاثَة معوض وقادم وداغر وأخاه مشهون بن رومي وَطَائِفَة كَثِيرَة مِنْهُم وَمن أتباعهم من ذَوي روايا وذوى جمَاعَة وَفَرح النَّاس بِقَتْلِهِم وطيف برءوسهم فِي الْبِلَاد وَأرْسل بهَا إِلَى مصر فَنصبت على أَبْوَاب سورها وَكَانَت حجَّة هنيئة وَطَابَتْ الخواطر واطمأنت الْقُلُوب وَفِي سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة توجه السَّيِّد عرار بن عجل بهدية من مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات تشْتَمل على أقمشة نفيسة ورقيق جميل وخدام حسان وَعشْرين ألف(4/317)
دِينَار ذَهَبا وَعشْرين فرسا مسمية وَمَا يتبع ذَلِك ويناسبه وَثَلَاثَة آلَاف دِينَار للدوادار فقابله السُّلْطَان مُقَابلَة عَظِيمَة وَألبسهُ خلعة لقدومه وخلعة عِنْد تَقْدِيم الْهَدِيَّة وخلعة عِنْد الْوَدَاع وَأرْسل مَعَه هَدِيَّة عَظِيمَة للشريف وخلعاً سنية ثمَّ حلف لَهُ أيماناً مُؤَكدَة أَنِّي رَاض عَن الشريف بَرَكَات رضَا تَاما خُصُوصا لما وصلت إِلَيْنَا رُءُوس زبيد وَمن مَعَهم لِأَن فِي نَفسِي مِنْهُم حرا شَدِيدا بِمُوجب خُرُوجهمْ على الْحجَّاج وقتلهم ونهبهم الْمرة بعد الْمرة وقطعهم الطَّرِيق فِي أَيَّام سلطاني وَكسر ناموسي وَلَو لم يشف خاطري الشريف بَرَكَات من طَائِفَة زبيد بخصوصهم لَخَرَجت إِلَيْهِم بنفسي وَكتب لمولانا الشريف كتبا عَظِيمَة فِيهَا تَعْظِيم تَامّ وخاطبه بِلَفْظ مَوْلَانَا وشريفنا وفوض إِلَيْهِ أَمر الأقطار الحجازية حَتَّى يَنْبع فَلَمَّا وصل السَّيِّد عرار بِمَا مَعَه من الْهَدِيَّة وَالْخلْع وَالشُّكْر التَّام حصل لمولانا الشريف بَرَكَات السرُور التَّام ومدحته الشُّعَرَاء وَمن أعظمهم مَوْلَانَا شهَاب الدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن العليف الْمُسَمّى شَاعِر الْبَطْحَاء بقصيدة ذكر فِيهَا ظفره بزبيد وَقَتله شيخهم مَالك بن رومي وَقد أَجَاد فَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(ذرى العزِّ مَا قامَتْ عَلَيْهِ الممالكُ ... وَمَا شَيَّدتْهُ المرهفاتُ البَوَاتكُ)
(وَمَا أَعتقَتْ فِيهِ الفوارسُ فِي الوغَى ... وَمَا صافَحَتْ فِيهِ الصِّفَاحُ النَّيازكُ)
(وقتلُ العدا صبرا كَمَا شاءتِ الظبا ... ونيل المنَى والفائتُ المتداركُ)
(وَمَا المجدُ إِلَّا مَا وترت بِهِ العدَى ... فدارَتْ بهم رِيح الْحمام الحَواشكُ)
(وعزم يبيد الخَيْلَ والعيس بالسّرَى ... تكلُّ بِهِ أخفافها والسَّنابِكُ)
(لعمرُكَ مَا تغني الشَّجَاَعةُ فِي الفتَى ... إِذا الرَّأْيُ فِي تَدْبِيرها لَا يُشَاركُ)
(وَلَا يرفعُ الجودُ الجوادَ لفعلِهِ ... إِذا لم يكُنْ والطبعُ للنفسِ مالكُ)
(وَمَا لم يكنْ قطعُ الكريمِ كوصلِهِ ... وَألا فَمَا تغنِى السيوفُ البواتكُ)
(فدى لأبي عجلانَ مَنْ رام سعيَهُ ... ومِنْ دون مَا رام الحتوفُ النواهكُ)
(فتَى تردُ الآمالُ منهلَ جودِهِ ... فتصدرُ عَنهُ وهْوَ جذلانُ ضاحكُ)
(إِذا سارَ سارَ الجودُ يحْدُو ركابَهُ ... وَإِن بركَتْ عَنْ سَيرهَا فَهْوَ باركُ)
(يذودُ عَن المجدِ الأثيلِ بطاعنٍ ... لَهُ عزماتٌ فِي القلوبِ سوالكُ)
(حَمَى حوزةَ العَلياءِ مِنْهُ مهندٌ ... إِذا مَا انتضَى ماضي الغرارينِ باتكُ)(4/318)
(وَفِي التاجِ غيثٌ بالحيا متهلِّلٌ ... وَفِي الدرعِ ليثٌ والتريكة زامكُ)
(أباد العدَا فاستَدْرَكَ السَّيْف فَوته ... وَمن قبلهَا فِي الغِمْدِ لَا يتماسكُ)
(وذاقَتْ بِهِ سوء النكالِ بِمَا جَنَتْ ... فأضحَتْ ومثواها الكدَى والدكادكُ)
(شفا بالقنا حرَّ النفوسِ من العدا ... وزالَتْ بِهِ تِلْكَ الهمومُ السوادكُ)
(عزيزٌ عَلَيْهِ أَن ينامَ وَلم تَقُمْ ... بأرضِ العدا بالصافناتِ المعاركُ)
(فتَى الحربِ لَا تثنيه خودٌ عَن الوغَى ... رَدَاحٌ وَلَا تصبيه دُعْجٌ ركاركُ)
(أبَى غيرَ ظلِّ الرمحِ أَن يدْرك المنَى ... فَلَمَّا انقضَى حنَّتْ إِلَيْهِ الأرائكُ)
(وَأقسم لَا يثني عَن الحرْبِ عزمَهُ ... إِلَى أَن ترى فِيهِ الدِّمَاء سوافكُ)
(أباحَ حمَى الأعداءِ مِنْهُ بغارةٍ ... كأنَّ الضحَى فِيهَا من النقعِ حالكُ)
(يؤلّبُ مِنْ أبنا أَبِيه عِصَابَة ... كِرَام سَرَاة كالجبالِ سوامكُ)
(أَقَامُوا صُدورَ الناعجاتِ وجَنْبها ... إِلَيْهَا المَذاَكِى فِي السلاحِ شوائكُ)
(كأَنَّ مواطي الصافناتِ أهلَّةٌ ... ووَطْءَ مطاياهم بُدُورٌ فوالكُ)
(نماهم إِلَى العلياءِ والمجدِ والندَى ... أبوَّةُ صدقٍ أخلَصَتْها السبائكُ)
(مناعيرُ فِي الهيجا مساعيرُ فِي الوغَى ... إِذا نكصَتْ عَنْهَا اللئامُ الضرائكُ)
(يذبُّونَ عَن أحسابِهِمْ بسيوفهم ... إِذا ضربَتْ صفحاً لَدَيْهَا الوكاوكُ)
(ثَوَوْا فِي ظهورِ اليعملاتِ كَأَنَّمَا ... مجالسُهُمْ كيرانها والمياركُ)
(سَرَوْا لاقتناصِ المكرماتِ يذودُهُمْ ... عَن النومِ هَمٌّ بالجوانِحِ سادكُ)
(يهزونَ أشطانَ القنا فِي أكفِّهم ... كأنَّ أعاليها بروقٌ نوابكُ)
(إِذا سَار فيهم خِلْتَ بَدْرًا وأنجماً ... ثوابت فِي أفلاكها لَا دوالكُ)
(ويَقْدُمُهُمْ ماضِى العزيمةِ مقدمٌ ... على الهولِ مَيْمُون اللثام مباركُ)
(يشيح بِهِ ظامِى الفصوصِ مطهَّمٌ ... وأورق مَفْتُول الذراعَيْنِ تامكُ)
(أَبُو حَسَن السَّامِي بنَفْسٍ ووالدٍ ... وَفِي منهجِ العلياءِ والعزِّ سالكُ)
(كريمُ المساعِى صادقُ الْوَعْد مَنْ غَدا ... وليسَ لَهُ فِي المكرماتِ مشاركُ)
(وأنتَ أَبَا عجلانَ رائشُ نبلهم ... إِذا دهمَتْ تِلْكَ الخطوبُ النواهكُ)
(وكَمْ لَك أعضادٌ شدادٌ على العدا ... وأنْتَ لعلياهم سنامٌ وحاركُ)
(إِذا وعد اللهُ الفتَى مِنْهُ نصْرَة ... وعزَّا وسعداً أيدته الملائكُ)(4/319)
(أرادتْ زبيدٌ فِي جنابكَ دولة ... فضلَّتْ بهَا أوهامها والشكائكُ)
(غَوَتْ عَن طَرِيق الرشد مِنْهَا سفاهةً ... وجهلاً وغرتها ظنونٌ بواشكُ)
(مَتى كانتِ الأوغادُ ترقَى إِلَى الْعلَا ... وتسمو إِلَى عالي الأمورِ الزكازكُ)
(وتخطبُ أوشاب الشوايا مراتباً ... وتنهضٌ للحرْبِ الزبون الحواتكُ)
(طرقتهمُ وقْتَ الهجيرِ بصكَّةٍ ... عمي لَدَيْهَا فاتك العزمِ فاركُ)
(وطفْتَ عَلَيْهِم يَا همامُ بنيَّةٍ ... كَمَا طافَ بالبيتِ المعظَّم ناسكُ)
(فغادرتَهُمْ صرعَى بكلِّ تنوفةٍ ... تناوحهم ريحُ الصَّبا والروائكُ)
(تَقَاعَسَ مِنْهَا مَالك ومشهون ... وكُلّ لَدَى الهيجاء ألوى مماحكُ)
(وقامَ بهَا ميل المقرّضِ واستوَى ... وَمن قبلهَا فِي مَشْيه يتباوكُ)
(وطار بهَا خوفًا أَخُوهُ وقلَصَتْ ... خصاه وولَّى وَهُوَ حيرانُ عانكُ)
(وزين وبازان بروك وقادمٌ ... وداغر فِي البوغاءِ بئْس المباركُ)
(لعمرُكَ لَو لم تطلُب القومَ غالهم ... بسعدِكَ مِنْ دونِ الطلابِ المهالكُ)
(وأغناك عَنْ حَثِّ المطيةِ رائدٌ ... من الذُّلِّ فيهم حابل النومِ حابكُ)
(لَئِن كنْتَ عَن عمدٍ هدمْتَ عروشَهُمْ ... فَإنَّك بانيها قَدِيما وسامكُ)
(توهَّمها الروميُّ نهضةَ عاجزٍ ... وَلم يَدْرِ أَن الليْثَ بالعيرِ فاتكُ)
(جرى طرفه ملْء العنانِ إِلَى المدى ... وطرف الردى فِي جَفْنه عَنهُ ساهكُ)
(أخذْتَ علية كلَّ نَقب ثنية ... فضاقَتْ عَلَيْهِ بالرحابِ المسالكُ)
(وَمَا زالَ يجْرِي فِي هواهُ وغيه ... وأنْتَ لَهُ وسطَ العرينةِ باركُ)
(وَهَان على الأيامِ مَا هُوَ فاعلٌ ... وَعز على العلياءِ مَا أنتَ تاركُ)
(إِلَى أَن نضَتْ عَنهُ الحياةُ قناعها ... فعاجَلَهُ منْكَ الحمامُ المواشكُ)
(فجرعته كأساً أعلَّ بِمِثْلِهَا ... أَبوك أَبَاهُ فارتدَى وَهُوَ هالكُ)
(وَلم ينجِهِ منْكِ الفرارُ لحينِهِ ... فأصبَحَ مَمْلُوكا وَمن قيلُ مالكُ)
(وَكَيف وأنتَ المُعْلِمُ الفَرْدُ فِي الوغى ... ورمحكَ طعانٌ وسيفكَ باتكُ)
(قضى فِيهِ حُكْم المشرفي بعدله ... فبعداً لَهُ عَن منهجِ العدلِ نازكُ)
(كَذَا فليكُنْ عزمُ الْكَرِيم وَإِنَّمَا ... على قدرٍ عزماتِ الكرامِ المداركُ)
(فِدَاكَ أَبَا عجلانَ كلُّ مملَّكٍ ... فأنتَ سَمَاء والملوكُ حبائكُ)(4/320)
(خذِ المدْحَ مني يَا همامُ فَإِنَّمَا ... بقَدْرِ بِنَاء البيتِ تسمو المدامكُ)
(ودَعْ مَا سواى يَا كريمُ فإنني ... أَنا الشاعرُ المحكيُّ والغَيرُ حائكُ)
(ودونَكَ يَابْنَ الأكرمَيْنَ تَحِيَّة ... تفوحُ كمسكٍ أحكمته المداوكُ)
(وأخرَى حباها الله لطفاً وَرَحْمَة ... تهنِّى عليا بالشفا وتباركُ)
(وتهنا بهَا العلياءُ والسيفُ والندَى ... فكلٌّ لما قد كَانَ يشكوه ناهكُ)
(وَقد سرَّنى النصْرُ العزيزُ على العدا ... وحُكْمُ القنا والمغنَمُ المتداركُ)
(سُرُورًا بِهِ عينُ الزمانِ قريرةٌ ... وثغرُ اللَّيَالِي بالتبسُّم ضاحكُ)
(ودُمْ يَا أَبَا عجلانَ ملكا مؤيداً ... تتيه بِهِ الْعليا وتَزْهُو الممالكُ)
(وَلَا زلْتَ تَحْيَا فِي سرورٍ وغبطةٍ ... وشانِيكَ يَحْيَا فِي المذلةِ رامكُ)
وَفِي سنة سبع عشرَة عَاد الشريف رَاجِح من الْقَاهِرَة قَاصِدا أَخَاهُ الشريف بَرَكَات صُحْبَة السَّيِّد عرار بن عجل ليصالحه بشفاعة من السُّلْطَان وَمن أَخِيه السَّيِّد قايتباي فقابله مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بِالْقبُولِ واصطلحا صلحا شافياً وصارا كَنَفس وَاحِدَة إِلَى أَن مَاتَ كل مِنْهُمَا وَفِي سنة ثَمَان عشرَة توفّي السَّيِّد قايتباي وتعزى فِيهِ أَخُوهُ الشريف بَرَكَات وَتُوفِّي السُّلْطَان بايزيد ملك الرّوم وَتَوَلَّى وَلَده السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان فِي بِلَاده قبل فتح مصر وَفِي هَذَا الْعَام توجه الشريف أَبُو نمي بن بَرَكَات إِلَى مصر المحروسة صُحْبَة القَاضِي عَلَاء الدّين نَاظر الْخَواص السُّلْطَانِيَّة وَمَعَهُ من أَعْيَان مَكَّة شيخ الْإِسْلَام صَلَاح الدّين بن ظهيرة الشَّافِعِي وَشَيخ الْإِسْلَام القَاضِي نجم الدّين بن يَعْقُوب الْمَالِكِي وَولده القَاضِي مُحَمَّد وَالْقَاضِي تَاج الدّين وَجُمْلَة من أَعْيَان السَّادة وَطَائِفَة من أَعْيَان قوادهم بنظام عَظِيم وأبهة وافرة وخيول أصيلة وركائب مسمية مَعَ الملابس الفاخرة وَالسِّلَاح الْمَذْهَب والسروج والأكوار اللائقة بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان قَاصِدا منصب آبَائِهِ الْكِرَام من السُّلْطَان الغوري بتخت مصر فَلَمَّا وصلت أَخْبَار خُرُوجه من مَكَّة برزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة إِلَى رَئِيس الزَّمَان القاضى أَحْمد بن الجيعان أَن يخرج لملاقاتهم على أحسن أسلوب فَخرج إِلَيْهِ بفرس عَظِيم وسرج مغرق وكنبوش مَذْهَب وكاملية مخمل بسمور كل ذَلِك من خَاصَّة السُّلْطَان وخزائنه المحفوظة وَمَعَهُمْ مَا يَلِيق من(4/321)
الطَّعَام ثمَّ بعد قَلِيل تلقاهم أَمِير كَبِير وباش العساكر المنصورة خير بك الدوادار وَجمع عَظِيم من الْقُضَاة والمباشرين من كَاتب السِّرّ إِلَى من دونه فَلَمَّا وصلوا الْمحل الْمَعْرُوف بِالْبركَةِ ضرب لَهُم مخيم عَظِيم سلطاني وَبسطت لَهُم فرش من الخزانة العامرة جَدِيدَة ومقاعد مشركسة بِالذَّهَب الصّرْف ونصبت لَهُ وسائد سلطانية ثمَّ نزل الشريف أَبُو نمي فِي أعظم خيمة من الخيم السُّلْطَانِيَّة ثمَّ نزل كل رَئِيس من الَّذين مَعَه فِي خيمة هيئت لَهُ ثمَّ مد لَهُم سماط عَظِيم سلطاني تضرب بِهِ الْأَمْثَال ثمَّ بعد فَرَاغه مِنْهُ مد سماط الطَّارِئ من الحلاوات والعسليات وَمَا يلائم ذَلِك ثمَّ بعد فَرَاغه مد سماط الشرابات والفواكه الْمَوْجُودَة ثمَّ ركب فِي موكب عَظِيم لَا يُحْصى كَثْرَة حَتَّى دخل الْبِلَاد فى أعظم منظر وأبهى أٍ سلوب والخاصة والعامة معلنون بِالدُّعَاءِ لَهُ مظهرون الْفَرح وَالسُّرُور بملاقاته ثمَّ سَار إِلَى الْمدرسَة الأشرفية الغورية فَنزل بهَا ثمَّ مد لَهُ سماط بعد سماط كَمَا شرح وَفِي جَمِيع هَذِه الْمدَّة يُخَاطب مَوْلَانَا أركانُ الدولة ورؤساؤها بالألفاظ الملوكية مَعَ ظُهُور غَايَة الْبشر وَكَمَال الْفَرح وَنِهَايَة السرُور وعظيم الهناء وناهيك بِمَجْلِس جمع أَشْرَاف الزَّمن ورؤساء الْوَقْت وعلماء الْعَصْر وفصحاء الدَّهْر ثمَّ ركب مَوْلَانَا الشريف أَبُو نمي من الْمدرسَة الْمَذْكُورَة فِي موكب عَظِيم إِلَى الدِّيوَان وَكَانَ السُّلْطَان حِين ذَاك جَالِسا بصدر الدِّيوَان فَلَمَّا دخل مَوْلَانَا الشريف من بَاب الحوش أشرف عَلَيْهِ السُّلْطَان وَهُوَ فِي الملابس الْحَسَنَة الحسنية بالدليقين والعمامة على القبع والأنوار النَّبَوِيَّة مشرقة عَلَيْهِ والعناية الصمدانية ناظرة إِلَيْهِ تعجب من هَيئته الباهرة وامتلأت عينه بمهابته وطلعته الطاهرة فَأمر أَن ينصب لَهُ كرْسِي بمفرده فَلَمَّا دخل الدِّيوَان قَامَ لَهُ ألفا وَقبل جَبينه الشريف وَقد زَاده الله شرفاً وَأَرَادَ مَوْلَانَا تَقْبِيل يَد السُّلْطَان فَامْتنعَ السُّلْطَان من ذَلِك أدباً مَعَ الْمقَام النَّبَوِيّ والجناب الْعلوِي فغلب على ذَلِك مَوْلَانَا الشريف فَاحْتَضَنَهُ وَسلم عَلَيْهِ وقربه لجانبه وَأَقْبل عَلَيْهِ(4/322)
بالمحادثة والملايمة ثمَّ أَجْلِس من مَعَه من الْقُضَاة والأشراف وجابرهم بخطابه العذب وأنصفهم فِي الْجُلُوس غَايَة الْإِنْصَاف ثمَّ أقبل على الشريف أبي نمي وَوَضعه فِي حجره وَكَانَ سنه إِذا ذَاك ثَمَان سِنِين وَقَالَ لَهُ مَا اسْمك فَقَالَ مُحَمَّد أَبُو نمي الغوري فَحصل للغوري سرُور عَظِيم بذلك فَقَالَ لَهُ أَنْت أشطر من أَبِيك وَرَأَيْت فِي نشآت السلافة للْإِمَام عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ أَنه قَالَ لَهُ بعد وَضعه فِي حجره مَا سورتك فَقَالَ إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا وَلم تكن إِذْ ذَاك سورته هِيَ فأعجب السُّلْطَان ذَلِك وتفاءل بِهِ واستبشر قلت كِلَاهُمَا يدل على مزِيد الحذق والذكاء وَلَا عجب إِذا صدر من سلالة الْمُصْطَفى وعندى أَن الأولى وَهِي الَّتِي ذكرهَا السَّمرقَنْدِي أحذق وأذكى لعود الذكاء وأعبق ثمَّ ألبسهُ كاملية سلطانية ثَانِيَة بمسح ذهب بمقلب سمور من خَاص ذخيرته وَقَامَ السُّلْطَان ثَانِيًا لوداعه ثمَّ ركب من القلعة السُّلْطَانِيَّة إِلَى مَحل سكنه ثمَّ رتب لَهُ السماط السلطاني صباحاً وَمَسَاء مَعَ الطَّارِئ وتوابعه مَعَ الافتقادات لَهُ وَلِجَمِيعِ من مَعَه مِمَّا لم يسْبق نَظِيره فِي الدولة السُّلْطَانِيَّة الغورية ثمَّ إِن مَوْلَانَا الشريف اسْتَأْذن فى التَّوَجُّه إِلَى الأقطار الحجازية فَكتب لَهُ توقيع شرِيف جليل خُوطِبَ فِيهِ بِأَلْفَاظ التكريم والتبجيل ثمَّ وَجه إِلَيْهِ من الذَّخَائِر السُّلْطَانِيَّة سنجقاً وَأَرْبَعين مَمْلُوكا وخلعاً سنية لوالده الشريف بَرَكَات ومبغا من النَّقْد لَهُ صُورَة برسم من صرف الطَّرِيق وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الدَّقِيق والأرز وَالسمن وَالْعَسَل وَالسكر وَسَائِر زَاد الطَّرِيق وَكَذَلِكَ جَمِيع من فِي صحبته من الْأَعْيَان أنعم عَلَيْهِم بالعامات مُعجلَة ومرتبات على عَادَة أمثالهم وبرز من مصر على صُورَة جميلَة مَعَ إِظْهَار الإنعامات السُّلْطَانِيَّة وَلما وصل الْخَبَر بقدومه زينت الْبِلَاد وانشرحت صُدُور الْعباد وَخرج لملاقاته الْأَعْيَان من مَكَّة فَدَخلَهَا رافلاً فِي نعم الله تَعَالَى الَّتِي تفضل بهَا عَلَيْهِ وعَلى آبَائِهِ وأجداده فَلَا زَالَت فِي أَوْلَاده ثمَّ فِي أحفاده فَطَافَ بِالْبَيْتِ الْحَرَام ودعي لَهُ على زَمْزَم أُسْوَة آبَائِهِ الْكِرَام ثمَّ قرئَ توقيعه الْكَرِيم بِمحضر جيران بَيت الله الْحَرَام ثمَّ(4/323)
خرج إِلَى دَار السَّعَادَة فمدحته الشُّعَرَاء على عَادَة أسلافه بعدة قصائد من أعظمها قصيدة أَحْمد بن الْحُسَيْن العليف أَيْضا يهنئ أَبَاهُ بعوده إِلَى سَرِير ملكه ووصول وَلَده الشريف أبي نمي من الْقَاهِرَة سنة ثَمَان عشرَة الْمَذْكُورَة وَهِي هَذِه // (من الْخَفِيف) //
(خدَمَتْكَ الحظوظُ والأقسامُ ... وجرَتْ باختيارِكَ الأحكامُ)
(وقضَتْ بِالَّذِي تريدُ الليالِي ... واستقامَتْ لأمرِكَ الأيامُ)
(وأطاعَتْكَ المرهفاتُ المواضِي ... والمذاكِى والسمْرُ والأقلامُ)
(وكفَاكَ الْمَحْذُور أَي شريفٍ ... وحَماكَ التدبيرُ والإلهامُ)
(ووقاكَ الإلهُ مَا أضمَرَ الدَّهْرُ ... وَمَا سوَّلَتْ لَهُ الأوهامُ)
(لَا تخفْ مِنْهُ نبوةَ واهتضاماً ... عادةُ اللهِ لَا يضامُ الكرامُ)
(خصَّكَ اللهُ بالعنايةِ مِنْهُ ... وكَلاَكَ الوقارُ والإعظامُ)
(حسبُكَ اللهُ أَن يطيشَ بك ... الظنُّ وأنْ يستفزَّكَ الإيهامُ)
(لَيْسَ للملكِ غَيْر ذاتِكَ كُفْءٌ ... أنتَ للملكِ يَا همامُ نظامُ)
(لكَ فِيهِ وَلَا عَلَيْك امتنانٌ ... قدمٌ راسخٌ ومجدٌ قدامُ)
(وطدتْهُ سيوفُ آبائكَ الغُرّ ... فدانتْ لَهَا الملوكُ العظامُ)
(دون مَا يضمرُ الغبيُّ من الغَدْرِ ... جلادٌ وعْرٌ وموتٌ زؤامُ)
(يكبتُ الغيظُ حاسديك جَمِيعًا ... وتزولُ الأحقادُ والأدغامُ)
(قد بلاكَ الزمانُ حلواً وَمَرا ... فَإِذا الشّهْدُ فِيهِ داءٌ عقامُ)
(ورآاك العدوُّ هضبةَ عزِّ ... دون مرآك شامةٌ وشمامُ)
(لَو على الأمْر عارضتْكَ اللَّيَالِي ... قارعَتْهَا الأقدارُ والأحكامُ)
(لم يكنْ غَيْرُ مَا تريدُ وَلَو كَانَ ... فإنَّ الْعَزِيز مَنْ لَا يضامُ)
(لَا يقيمُ الفتَى على الضَّيْمِ مَا دَامَ ... لَهُ الرمْحُ خَادِمًا والحسامُ)
(وَإِذا أنْكَرَ الديارَ كريمٌ ... فالمطايا دليلهُنَّ الخطامُ)
(ظِلُّهُ رمحُهُ وعصمتُهُ السَّيْفُ ... ومثواهُ صهوةٌ أَو سنامُ)
(لَا يناجِى على العزيمةِ إِلَّا ... نفسَهُ والكريمُ لَا يستضامُ)
(يقطع الأمرَ دونَ كلِّ مشيرٍ ... ويناغي الردَى إِذا القومُ خامُوا)
(لَيْسَ عزًّا إلاَّ صُدُور العوالي ... والظبا والإسراج والإلجامُ)(4/324)
(هَكَذَا فلتكُنْ كرام المساعي ... وعَلى مِثْلهَا يكونُ المقامُ)
(فهنيئا أَبَا زُهَيْر بعودٍ ... لسريرِ بِهِ السرورُ دوامُ)
(مَهَّدَتْهُ لَك الخفافُ المواضِي ... وجلاه بعزمِكَ الإقدامُ)
(لم تجدّدْ لَك الْولَايَة عهدا ... أنتَ مِنْ قبلهَا مليكٌ همامُ)
(لَا أهنيكَ بل أهنِّى بك الملكَ ... فقد حزتَهُ وأنتَ غلامُ)
(أنتَ يابا زُهَيْر أعلَى محلا ... فعلام الهناءُ والإعلامُ)
(لم تَرثه كَلَالَة لَا وَلَا العهْدُ ... حديثٌ بِهِ وَلَا الإلمامُ)
(هَدَأَ الملكُ بعد طويلِ جماحٍ ... مذ تولَّيْتَ واستقامَ النظامُ)
(وكساه حلاكَ رونَقَ حسنٍ ... لم تبده الشهورُ والأعوامُ)
(لكَ فِي الملكِ سالفٌ وقديمٌ ... سادةٌ قادةٌ ملوكٌ كرامُ)
(جمعُوا البأْسَ والنَّدَا فِي أكفِّ ... يُسْتَهَلُّ الردَى بهَا والركامُ)
(تستذمُّ الملوكُ مِنْهُم فينجونَ ... وَإِن كَانَ المستذم رمامُ)
(دوَّخوا الدَّهْر والممالكَ حَتَّى ... قَعَدُوا منهمُ الْمُلُوك وَقَامُوا)
(واستباحُوا حماهُمُ وَأَقَامُوا ... ميلهم بَعْدَ عزِّهم فاستقاموا)
(كَسَبُوا العزَّ بالرقاقِ المواضِي ... ورَعُوا الناسَ والملوكُ سوامُ)
(قلدتها الْولَايَة الْبيض والسُّمْرُ ... وطَعْنٌ فذٌّ وضربٌ تُؤَامُ)
(وكماةٌ تسيرُ فِيهَا المنايا ... طائعات كَأَنَّهَا خُدَّامُ)
(من لؤىِّ بن غالبٍ كلُّ فردٍ ... منهمُ فِي اللقاءِ جيشٌ لُهَامُ)
(يُوسعُونَ الجموعَ ضربا وطعناً ... وَلَو انَّ الجموعَ سامٌ وحامُ)
(يستظلُّونَ بالرماحِ وبالبيضِ ... لَدَى الحربِ والطيورُ حيامُ)
(إِن أَصَابُوا فَمَا جَنَوْهُ جُبَارٌ ... أَو أصِيبوا فثارُهُمْ لَا ينامُ)
(كُلٌّ الوى يختالُ للموتِ عجبا ... حِين يُدعَى وثغره بَسَّامُ)
(برماحٍ تعوجُ فِي الهامِ طوراً ... وعَلى الْفَوْز فِي الصُّدُور تقامُ)
(وارِدَات إِذا مرقْنَ لطعنٍ ... قصُرَتْ دون وقعهنَّ السهامُ)
(وصفاح إِذا انتضَوْهَا لحربٍ ... كَانَ من بعضِ تابعيها الحِمامُ)
(مخلصات إِذا برزْنَ من الغِمْدِ ... كأنَّ الفرندَ فِيهَا ضرامُ)(4/325)
(مرهفات كأنهنَّ لَدَى الضَّرْبِ ... ركوعٌ وسُجَّد وقيامُ)
(وعتاق إِذا تداعوا لحَرْبٍ ... عزمَتْ قبل أَن يناطَ اللجامُ)
(غاديات إِلَى الوغَى رائحات ... يَسْتَوِي النُّورُ عِنْدهَا والظلامُ)
(قد تبرقَعْنَ بالحديدِ ولكنْ ... عاريات لباسهنَّ القَتَامُ)
(علَّمتها التجاربُ الكرَّ والفرَّ ... وكيْفَ الإقدامُ والإحجامُ)
(لم يزدْنَا البشيرُ عَمَّا علمناه ... وَلَا خامَرَ العقولَ اتهامُ)
(عمركَ الله لَو تراخَى قَلِيلا ... بشَّرتنا بسعدكَ الأحلامُ)
(أنتَ روحٌ للملكِ والغيرُ جسمٌ ... لَا تقاسُ الأرواحُ والأجسامُ)
(ذاتُكَ القطبُ للسيادةِ والآلُ ... نجومٌ وأنتَ بدرٌ تمامُ)
(وَإِذا كَانَ فِي المقاييس قربٌ ... كنتَ نورا وَمن سواك كمامُ)
(كَيفَ يسمو إِلَى معاليكَ قَوْمٌ ... سهرَتْ مقلتاك فِيهَا ونَامُوا)
(أَيْن كَانُوا أَبَا زُهَيْرَ وقَدْ ذُدتَ ... عَن الملكِ والخطوبُ عظامُ)
(حِين أدجَى ضياؤها وتوارَى ... صبحها فانجلَى بك الإظلامُ)
(كنتَ طَلاَّعَ نَقْبها والثنايا ... يومَ أنْتَ المقدَّمُ المقدامُ)
(همةٌ دونهَا الثريا وحَزْمٌ ... واعتزامٌ وسطوةٌ وانتقامُ)
(لم أقلْ مَا أقولُ جهلا ولكنْ ... يظْهر الأمرُ إِذْ يزولُ اللثامُ)
(منصبٌ جلَّ وقعه منكَ لكنْ ... أنتَ أعْلَى مكانةٌ إِذْ تسامُ)
(فاحفظِ الملكَ بالعشائِرِ وَالْمَال ... فأنتَ المجرّبُ الصمصامُ)
(وابذلِ الجهدَ يَا أَخا الخزم فِيهِ ... فالفتَى بعد بذلِهِ لَا يلامُ)
(لَيْسَ يخفَى عَلَيْك يابا زهيرٍ ... سَبَب النَّقْض فِيهِ والإبرامُ)
(وَإِذا الداءُ فِي الخوافِى تعدَّى ... لقدامَى الجناحِ مِنْهُ السقامُ)
(وَإِذا كَانَ فِي السيوفِ اضطرابٌ ... قرعَتْ حَدهَا سيوفٌ كهامُ)
(أنتَ فِي الناسِ كاسمك الْبر فيهم ... بركاتٌ على الأنامِ جسامُ)
(إِن دهراً أتيْتَ فِيهِ لدهْرٌ ... سحرٌ كُله وليلٌ تمامُ)
(أنتَ عينُ الوجودِ فِيهِ ولولاك ... تساوَى الإيجادُ والإعدامُ)
(قصرَتْ عَن مدى خطاكَ المساعِي ... حيثُ كانَتْ لَك المساعي الكرامُ)(4/326)
(وتباهَتْ بك الممالكُ فخراً ... وتهادَتْ آثارَكَ الأيامُ)
(وَتسامَيْتَ فَوق فرعِ السماكَيْنِ ... ومِنْ دون أخْمصَيْكَ النعامُ)
(جزْتَ حد الْكَمَال فِي كل وصفٍ ... قصرَتْ عَنهُ فِي الصفاتِ الأنامُ)
(كرمٌ فِي شجاعةٍ ووفاء ... وحياءٌ وحرمةٌ وذمامٌ)
(وارتفاعٌ إِلَى الْعلَا وسُمُوٌّ ... وحنوٌّ ورحمةٌ وانهضامُ)
(وارتياحٌ إِلَى الثنا وسماحٌ ... واحتفالٌ بِشَأْنِهِ واهتمامُ)
(وأيادٍ إِذا استهلَّ نداها ... يستمدُّ الْحَيَاة مِنْهَا الغمامُ)
(لَا يزيدُ الثَّنَاء فيكَ ولكنْ ... يتحلَّى إِذا ذكرت النظامُ)
(عظمَتْ ذاتك الشريفةُ عَنهُ ... ونبَتْ دون وصفِكَ الأفهامُ)
(وتعالَيْتَ أَن يحيطَ بك المدحُ ... وَفِيه براعةٌ وانسجامُ)
(لم أزلْ ظامئاً إِلَى مدْحِ علياك ... وَبِي دَائِما إِلَيْهِ أُوَامُ)
(علَّمتنى هباتك النَّظْم والنَّثْر ... وَكَيف الإنجادُ والإتهامُ)
(أتعَبَتْ فكرتى حسانُ سجاياك ... وأعيا على البليغِ الكلامُ)
(والهنا فِي أبي نُمَيّ المفدى ... والأمانِى والجمعُ والإلتئامُ)
(فرعُ غرسٍ ينمي إِلَى خير أصلٍ ... جَاءَ تال وَفِي السباقِ إمامُ)
(وابنُ ملكٍ ومنبرٍ وسريرٍ ... ومدى الغايةِ الَّتِي لَا ترامُ)
(سيدٌ أدركَ السيادَةَ طفْلا ... وَبنى المكرماتِ وَهُوَ فطامُ)
(خفقَتْ رايةُ السعادةِ والمُلْك لَهُ والبنودُ والأعلامُ)
(وَله اهتزَّ منبرٌ وسريرٌ ... وَبِه استبشَرَ الصَّفَا والمقامُ)
(لَا عجيبٌ إِنْ نَالَ وهْوَ صغيرٌ ... مَا حواه الآباءُ والأعمامُ)
(مَا على الشبل أَن يجوزَ المعالِي ... وأبوهُ الغضنفرُ الضرغامُ)
(فهنيئًا لَهُ السِّيَادَة والمجْدُ ... جَمِيعًا والعزُّ والإحترامُ)
(بَلَغْتَكَ الآمالُ فِيهِ الَّذِي رُمْتَ ... فَللَّه الحمدُ والإنعامُ)
(دمْتَ حَتَّى ترى السيادَةَ والملْكَ ... لأولادِهِ وأنتَ الزمامُ)
(خُذ مديحاً أهداه عبدٌ محبٌّ ... مَا لَهُ فِي فتَى سواكَ مرامُ)
(وَله بالثنا عليكَ وَبِالشُّكْرِ ... وبالمدحِ والدعاءِ غرامُ)(4/327)
(أَنا فى مدحِكُمْ جريرٌ وفى الحمْدِ ... جميلٌ وَفِي الهنا هَمَّامُ)
(رشتُمُ بالنوال والجودِ والفضْلِ ... جناحِى كَمَا تراشُ السهامُ)
(قِسْ ثنائي على ثناءِ سوَائِي ... تَدْرِ أَن الكلامَ مِنْهُ كلامُ)
(واقسم اللحْظَ بَيْننَا يَا أَخا الجُودِ ... فأنْتَ المهذَّبُ المقدامُ)
(لَوْ دُعِينَا إِلَى التناصُفِ فى الحُكْم ... لبذَّ الضَّعِيف منا الملامُ)
(وبقَدْرِ البليغِ والبلغ فى القَوْل ... يكُونُ الإعرابُ والإعجامُ)
(وَمن الشعرِ للعقولِ جلاءٌ ... وَمن الشعرِ للنُّهَى بِرْسَامُ)
(يفعلُ المدحُ فِي الكرامِ كَمَا تفْعل ... فِي عقلِ شاربيها المُدَامُ)
(ويفيدُ الكريمَ عزا ومجداً ... ويحطُّ الجوادَ قولٌ سخامُ)
(وَخيَار الرجالِ فى الشعْرِ من كَانَ ... لَهُ فِيهِ بسطةٌ واحتكامُ)
(فابْقَ للملكِ والممالكِ عزّاً ... وَلَك المدحُ مبدأ وختامُ)
(مَا توالَتْ عَلَيْك غُرُّ القوافي ... وتغنَّتْ على الغصونِ حمامُ)
(وعَلى المصطفَى وآلِ كرامٍ ... وصحابٍ تحيةٌ وسَلاَمُ)
وَفِي عَام عشْرين وَتِسْعمِائَة حج مُحَمَّد ولد السُّلْطَان الغوري مَعَ والدته فِي تجمل عَظِيم جدا وَخَرجُوا من مصر فِي الْجمال المزينة والأكوار المشركسة والمحاير المرصعة بِالذَّهَب ومحفة خوند فِي ثبتها ذهب مرصع بالجواهر فَخرجت لَهَا السَّادة الْأَعْيَان من أَعْيَان مَكَّة المشرفة وأركان الدولة من حِين قاربت الينبع وقابلها الشريف أَبُو نمي نِيَابَة عَن وَالِده من خليص وَمد لَهَا من الأسمطة والحلويات والفواكه أَصْنَاف مُتعَدِّدَة فِي عدَّة منَازِل وقابلها الشريف بَرَكَات من خَارج مَكَّة فَلَمَّا وصلت رَأس الرَّدْم ترجل كل من لقيها حَتَّى مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات وَأخذ بلجام مركبها إِلَى بَاب السَّلَام ثمَّ حملت محفتها على الْأَعْنَاق إِلَى الْقصر بِبَاب إِبْرَاهِيم فَلَمَّا توسطت الْمَسْجِد وَوَلدهَا بَين يَديهَا قَالَ مقدمها يَا خوند اشكري نعْمَة الله تَعَالَى فَإِن مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات حامي حمى الْحَرَمَيْنِ حَامِل المحفة الشَّرِيفَة إجلالاً وتعظيماً وَقد فرش الديباج تَحت جمال المحفة ثمَّ فرش تَحت الْأَقْدَام بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَهِي تقسم على مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بِأَن يتْرك الْحمل الْمرة بعد الْمرة فَلَمَّا وصلت الْقصر علو بَاب إِبْرَاهِيم أشارت بِأَن يكون ولد(4/328)
السُّلْطَان فِي مدرسة ملك التُّجَّار رامشت وأمير الْحَاج الْمصْرِيّ مَعَ أَرْكَان الدولة فِي خدمتها كأقل العبيد ثمَّ أَمر لَهَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بسماط عَظِيم أبهر الْعُقُول ثمَّ حمل إِلَيْهَا من الأغنام والعسلان والسمون والفواكه مَا لَا يُحْصى وَلَا يحصر ثمَّ تردد عَلَيْهَا مَوْلَانَا الشريف أَبُو نمي بِعَرَفَة وَمنى وَمَكَّة وضاعف إِلَيْهَا من فضل وَالِده الْهَدَايَا والافتقادات والأقمشة الْعَالِيَة والتحف النفيسة لِأَنَّهُ قريب الْعَهْد بموالاتها لَهُ ثمَّ سَافر مَعهَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات إِلَى مصر المحروسة فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان إقبالاً عَظِيما جدا وشكرت للخوند جميل سَعْيه وجزيل مراعاته فَوَقع ذَلِك عِنْد السُّلْطَان موقعاً عَظِيما سِيمَا حمل المحفة وَمَا فِي مَعْنَاهُ وأنعم عَلَيْهِ بإنعامات جزيلة مِنْهَا خادمان وَعِشْرُونَ مَمْلُوكا وخيول أصيلة وجمال برسم الدّرّ والنسل مِمَّا تقتنيه الْمُلُوك من كبر الجثة وَحسن المنظر وَطيب الأَصْل وغزارة اللَّبن وحلاوته وَيُقَال إِن الْإِبِل الْمَعْرُوفَة بالمصرية من تِلْكَ وجمال للْحَمْل وَعشرَة آلَاف دِينَار حِوَالَة على بندر جدة المعمورة وخلعاً سلطانية نفيسة وَأذن لَهُ فِي الْمسير إِلَى وَطنه فوصل مَكَّة المشرفة فِي شهر رَجَب من الْعَام الْمَذْكُور وزينت الْبِلَاد وصنع الْأَمِير حُسَيْن الْكرْدِي وَهُوَ من أُمَرَاء الغوري بجدة صنع للشريف ضِيَافَة هائلة وقابله هُوَ وأعيان مَكَّة من خَارِجهَا وَكَانَ يَوْم وُصُوله عِنْدهم من أعظم الأعياد وَفِي عَام اثْنَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَقعت الْمُقَاتلَة بَين السُّلْطَان الغوري وَالسُّلْطَان سليم بن بايزيد ملك الرّوم بمرج دابق خَارج حلب المحروسة وَغلب السُّلْطَان سليم الغوري وفقد فِي المعركة ثمَّ إِن السُّلْطَان سليم خَان وصل المحروسة بعد قتلة عَظِيمَة بالريدانية بَين العساكر العثمانية ونائب سَيّده السُّلْطَان الغوري طومان باي وَذَلِكَ فِي شهر ذِي الْحجَّة من الْعَام الْمَذْكُور وَلم يحجّ من مصر ركب ووصلت الْكسْوَة للكعبة الشَّرِيفَة بحراً صُحْبَة مزهر الْخَادِم ثمَّ لما اسْتَقر مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم وتوطد ملكه لمصر وأعمالها وانتظم لَهُ الْملك من دَار الْخلَافَة الإسلامية قسطنطينية إِلَى غَايَة المملكة المصرية أنهى إِلَيْهِ بعض الحساد أَن جَمِيع الْملك وَالسُّلْطَان طرازه الْأَعْظَم ملك الْحَرَمَيْنِ الشريفين(4/329)
وأعمالهما وَالدُّعَاء لمولانا على منابرهما فشرع فِي تجهيز جَيش كثيف للحرمين الشريفين وَكَانَ بِمصْر القَاضِي صَلَاح الدّين بن ظهيرة كَانَ السُّلْطَان الغوري صادره بِطَلَب عشرَة آلَاف دِينَار ذَهَبا فعجز عَنْهَا فَحَمله إِلَى مصر بالترسيم فَلَمَّا وَقع مَا شرح من تَبْدِيل الدولة وَبلغ القَاضِي الْمَذْكُور مَا عزم عَلَيْهِ مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم اجْتمع بمولانا بيري باشا الْوَزير الْأَعْظَم وعرفه عَظمَة مَوْلَانَا الشريف ومراعاته للسلطنة الشَّرِيفَة وَحسن سياسته وتدبيره وَأَن يُرسَلَ إِلَيْهِ مَكْتُوب سلطاني بِمَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْي السلطاني فاستقر الْحَال على كِتَابَة توقيع سلطاني وَكِتَابَة مراسلات من مَوْلَانَا الْوَزير الْمَذْكُور وَمن مَوْلَانَا القَاضِي صَلَاح الدّين إِلَى مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بِأَن يُقَابل التوقيع السلطاني بِالْقبُولِ وَيُرْسل وَلَده إِلَى الحضرة السُّلْطَانِيَّة السليمية بتهنئتها وتعريفها بِكَمَال الطَّاعَة والانقياد وَنِهَايَة الِامْتِثَال والمحبة والاتحاد فَوَافَقَ الشريف بَرَكَات على جَمِيع مَا ذكر وَأرْسل وَلَده الشريف أَبَا نمي نَائِبا إِلَى مصر المحمية فقابل مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان طَابَ ثراهما وعظمه تَعْظِيمًا مضاعفاً وخوله وحباه وَعَاد سالما غانماً فِي ظلّ وَالِده حامياً حَاكما ودام عزهما إِلَى أَن توفّي وَالِده مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات عَام إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا شرح مفصلا وَدفن بِمَكَّة بعد طَوَافه والنداء على زَمْزَم وقبره مَعْلُوم يزار عيه قبَّة وَالدُّعَاء عِنْده مستجاب رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة وَمِمَّا قَالَه الشهَاب أَحْمد بن الْحُسَيْن // (من الْبَسِيط) //
(ألعِزُّ تحتَ ظلالِ البيضِ والأٍ سلِ ... يومَ الطعانِ وَسبق السَّيْف للعذلِ)
(والمجدُ مَا شاد ذكرا أَو بَنَى شرفاً ... يبقَى وَمَا شدَّ ركنَ الملكِ والدولِ)
(والعزمُ مَا خَضَعَ الأعدا لهيبتِهِ ... ذُلاًّ وَمَا صَيَّرَ الأفكارَ فِي شغلِ)
(لَا تحملُ الضيمَ نفَسُ الحُرِّ لَو بلغَتْ ... مِنْهَا اللَّيَالِي بأمْرٍ غيرِ محتملِ)
(صمم إِذا سمت أمرا عزَّ مدركُهُ ... فَمَا ينالُ العُلا من كَانَ ذَا كَسَلِ)
(وانهضْ سَرِيعا إِلَى الغاياتِ محتقبًا ... فذو الغزيمةِ لَا يمشي على مَهَلِ)
(كمْ فرصةٍ عرضَتْ فِي طيها ظَفَرٌ ... فاتَتْ بتدبيرِ رأىٍ غير معتدلِ)
(مَا لم تكُنْ برداءِ العزِّ مرتدياً ... فدَعْ طِلاَبَ المعالِى عنكَ واعتَزِلِ)
(واغض الجفونَ على ذُلِّ ومسكنةٍ ... واصبرْ على الضيم صبْرَ العوْدِ واحتملِ)(4/330)
(مَا عَزَّ مَنْ باتَ والآمالُ تخدعُهُ ... على اكتسابِ العُلا والمجدِ بالحيلِ)
(وَلَا اجتنى العِزَّ إِلَّا فاتكٌ بَطَلٌ ... يَرْوِى القنا مِنْ نجيعِ الْخَيل والقللِ)
(لَيْسَ المذلَّةُ من شأنِ الْكَرِيم فدَعْ ... عَنْك الهُوَينَى وسِرْ للعزِّ فِي عَجَلِ)
(وارحَلْ عَن الدارِ لَا مستعظماً خطراً ... وَلَا مرِيدا سوى العلياءِ من بدلِ)
(وعلِّلِ النفسَ عَن إلفٍ وعنْ سَكَنٍ ... واجعلْ هَوَاك لغيرِ الأعينِ النُّجُلِ)
(إنَّ الكريمَ إِذا مَا جَدَّ فِي طلبٍ ... حثَّ المطيَّة فِي وخدٍ وَفِي رَمَلِ)
(لَا يَسْأَلَنَّ سوى الهنديِّ عارفة ... إنَّ العزيزَ لغَيْرِ السيفِ لم يَسَلِ)
(فالسيفُ أصدقُ مَا تشفى الغليل بِهِ ... وهْوَ الدواءُ من الأدواءِ والعِلَلِ)
(فاجعلْ لَهُ الحُكْم فِي أمْر تحاولُهُ ... واقطَعْ على حُكْم مَا يقْضى بِهِ وصِل)
(مرأى العُدوِّ على حالٍ يعزُّ بهَا ... دَاء على الحُرِّ لم يبرحْ وَلم يزلِ)
(لَا يدركَ الثأرَ إِلَّا كل ذِي حسبٍ ... بالسيفِ مشتملٍ بالرمحِ معتقلِ)
(مثلُ الشريفِ أبي عجلانَ مَنْ شرُفَتْ ... قناته بنجيعِ الفارسِ البطلِ)
(ألفاطميِّ الَّذِي عزَّتْ مناقبُهُ ... عَن النظائِر والأشباهِ والمثلِ)
(مَلْكٌ إِذا رايةٌ للمجْدِ قد رُفِعَتْ ... ينالها وسوَى علياًه لم يَنَلِ)
(ذُو عزمةٍ كغرارِ السيفِ ماضيةٍ ... وهمَّةٍ فِي الْعلَا تسمُو على زُحَلِ)
(يرى العواقبَ مِنْ مرآةِ فكرتِهِ ... غيباً وَيَقْضِي بحُسْنِ الرَّأْي فِي العملِ)
(حامِى الحقيقةِ فِي ورْدٍ وَفِي صَدَرٍ ... ماضِى الغريمةِ مقدامٌ على الجللِ)
(مولّى إِذا ثَوَّبَ الداعِى وَقد لقحَتْ ... حَرْبٌ يلبيه لَا مستفهماً بِهَلِ)
(يقْضِي على مهج الأعداءِ عَامله ... وسيفه فِي الطلا يرْوى من العَلَلِ)
(مِلْء المفاضة مِنْ بأسٍ وَمن كرمٍ ... وَمن حياءِ وحلمٍ غير منتحلِ)
(أمضى من الصارمِ الهندىِّ همته ... عزماً وأسْرَى إِلَى الأرواحِ من أجلِ)
(تفرَّعَتْ عَن صميمِ المجدِ دوحتُهُ ... من معدنِ الوحْى مثوى خَاتم الرسلِ)
(مَوْصُولَة برسولِ اللهِ نبعتُهُ ... أكرِمْ بفرعٍ بِذَاكَ الأَصْل متصلِ)
(مُقَابل بَين فرعَيْ دوحةٍ شرفَتْ ... بَين البتولِ وَبَين الطالبيِّ عَليّ)
(مُغنِي الرسَالَة والتنزيل معهدُهُ ... أعظمْ بذلكَ من بيتٍ وَمن نُزُلِ)
(أعز مَنْ سَبَحَتْ جردُ العتاقِ بِهِ ... وأوجَفَتْ يعملاتُ الأينقِ الذللِ)(4/331)
(فخراً وعزَّا بني الزهراءِ إِن لكُمْ ... فضلا بِهِ مَا لَهُ فِي الناسِ من مثلِ)
(يَابْنَ الملوكِ الألَى شادوا ممالَكُهْم ... بسلّةِ السَّيْف والعسالةِ الذبلِ)
(يزيدُ مَرُّ الليالى عزَّهم شرفاً ... كالعضْبِ يزدادُ إرهافاً مَعَ الأزلِ)
(تسنَّموا غاربَ الأهوالِ وامتزجوا ... مَعَ الخطوبِ امتزاجَ النومِ بالمقلِ)
(ألضاربينَ على أكنافِ مُلْكِهِمُ ... سرادقَ العزِّ من بيضٍ وَمن أسلِ)
(والسالكينَ إِلَى العلياءِ فِي نَهَجٍ ... أعيَتْ مساعيه أهلَ الأعصرِ الأوَلِ)
(سقَاهُمُ الوَحْىُ من صافي مواردِهِ ... ماءَ النبوةِ عدا لَيْسَ بالوَشلِ)
(لولاك يَا بَرَكَات الجودِ مَا اعتدلتْ ... للملكِ قائمةٌ آلَتْ إِلَى مَيَلِ)
(كم عزمةٍ لَك فِي الأعداءِ صادقةٍ ... أمضَى من الهندوانيات فِي القللِ)
(تكفلت لَك أطرافُ الرماحِ بهم ... والمرهفات وكُلٌّ بالوفاءِ مَلِى)
(فِي مأزقٍ ضيق صَوت الكماةِ بِهِ ... قرع الصوارم بالخطية الذبلِ)
(طرقتَهُ ثابتَ الأركانِ مُبْتَسِمًا ... كالليْثِ يفترُّ عَن أنيابِهِ العُصُلِ)
(هتكْتَ فِيهِ حجابَ الدارعين عَلَى ... سُمْرِ القنا غَيْرَ رعْديدٍ وَلَا وَكِلِ)
(ورُبَّ ملحمةٍ ماجَتْ بكثرتها ... صافَحتَهَا بِقِرَاعِ البيضِ والأسلِ)
(وفيلقٍ مظلمِ الأقتارِ مصطلم ... برق الأسنة يهديه إِلَى السبلِ)
(وردتَّهُ وحياضُ الموتِ مُتْرعةٌ ... طَلْقَ المحيَّا بِوَجْه مسفِرٍ جذلِ)
(ثمَّ اْنثَنَيْتَ وَقد غادرتَهُ أثرا ... وجئْتَ بالسبْى والأسرَى مَعَ النفلِ)
(وحزْتَ بالنصْر مَا ترجوه من أملٍ ... وفزْتَ مِنْهُ بسهمِ الناضلِ الخصلِ)
(عزمٌ وحزمٌ وإقدامٌ وعارضةٌ ... فِي جحفلٍ لَجِبٍ أَو مجمعٍ حفلِ)
(أوصافُ مجدِكَ فِي بأسٍ وَفِي كرمٍ ... تصرفَتْ بَين طعمِ الصابِ والعسلِ)
(كالغيثِ كالليثِ فِي حالَىْ نَدًى ورَدًى ... ترجَى وتخشى لرزقٍ أَو على أجلِ)
(تُرْوِى السيوفَ دِمَاء النَّاكِثِينَ كَمَا ... تَقْرِى الضيوفَ سديفَ الكُومِ والإبلِ)
(مثل الغضنفر فِي الهيجاءِ يَوْمَ وغًى ... وَفِي السماحةِ مثْل العارضِ الهطلِ)
(أدركْتَ بِالصبرِ مَا تَعْيَا الْمُلُوك بِهِ ... ونلْتَ بالحزم مَا يُرْبى على الأملِ)
(فِي معشرٍ مَرَقُوا فِي الدينِ وارتكَبُوا ... محارمًا آذَنَتْ بالإثمِ والزللِ)
(لما تَوَوْكَ وعَيْن السعدِ كالئة ... صَبرتَ صبرَ كريمٍ غيرِ محتفلِ)(4/332)
(وكُنْتَ كالبدرِ وارَى ضوءَ غُرَّته ... حينا وآبَ مآبَ الشمسِ فِي الحملِ)
(مَا زلْتَ تملي لَهُم والمَوْتُ ينظرهم ... شَزْرًا بطرفٍ خفيِّ غير منتقلِ)
(ورُعْبُ ذكرك يجْرِي فِي خَوَاطِرِهِمْ ... جَرْىَ السقامِ بجسْم الواهنِ الوَجِل)
(ينامُ طرفُكَ والأوهامُ تُسْهرهم ... خوفًا وتهدأَ والأفكارُ فِي جَدَلِ)
(حَتَّى إِذا أينَعَتْ للقطفِ أرؤسهُمْ ... وحانَ بالسيفِ مِنْهَا مُنْتَهى الأجلِ)
(صَدَمْتهم بخميسٍ لَو صَدَمْتَ بِهِ ... هضابَ رضوَى لعادَتْ مِنْهُ فِي خَلَلِ)
(يكادُ يسمع وَقْعَ المرهفاتِ بِهِ ... مَنْ بالخريبة ممتدُّاً إِلَى ثُؤَلِ)
(ويستنيرُ بروقاً مِنْ أسنته ... بَنو حرامَ الغواةُ النازلون حلِى)
(كم فِي جوانبِهِ للوحشِ معتركٌ ... وفوقَ حافاتِهِ للطيرِ من زجلِ)
(دَبَّتْ إِلَيْهِم مناياهم بصدمته ... دبيبَ كاسِ الطلا فِي الشارِبِ الثملِ)
(نَامُوا وَمَا نمْتَ عَن وتْرٍ تحاوله ... والقومُ فِي غفلةٍ يرعَوْنَ كالحملِ)
(مَا زلْتَ تركُضُ فِي مضمارِ غايتهم ... دليلك النصْرُ فِي حِلِّ ومرتحلِ)
(فِي مقنبٍ من عتاق الخيلِ ذِي رهَجٍ ... مدرَّعٍ برداءِ الروعِ مشتملِ)
(وفتيةٍ ألفوا حر المصاعِ بِهِ ... كَأَنَّهُمْ تحْتَ ظلِّ السمرِ فِي ظللِ)
(مالوا عَلَيْهِم بأطرافِ القنا فكَأَنْ ... وَقت الضحَى من مثار النقعِ كالطَّفَلِ)
(حَتَّى بَلَغْتَ الَّذِي حاولْتَ بُغْيَتَهُ ... فيهِمْ وجاوَزْتَ حَدَّ القولِ فِي العملِ)
(شفيْتَ نفسا رعاها اللهُ مَا بَرِحَتْ ... عزيزةَ الذاتِ مذ كانَتْ وَلم تَزَلِ)
(للهِ دَرُّكَ من طَلاَّبِ واترةٍ ... غَادَرْتَ رَبْعَ العدَى رسماً على طَلَلِ)
(تَركتهم جزراً فِي كل موحشةٍ ... للوحشِ وَالطير كالأنعامِ والثللِ)
(أذقْتَ آبَاءَهُم ثكْلَ الْبَنِينَ كَمَا ... أَيَّمْتَ منهنَّ ذَات الدلِّ والكحلِ)
(ومُذْ سفكْتَ دِمَاء من نجومهمُ ... كففْت بادا الحجا عَن بَيْضَة الكللِ)
(لما رأوك على آثَار جرَّتهم ... طاروا مطار القطا الكدري والحَجَلِ)
(وَإِنَّمَا ينزعون الْكل من خَوَرٍ ... قَوَائِم الخيلِ والأقدام من وحلِ)
(وصارَ كُلُّ زعيمٍ فِي عشيرتِهِ ... يقولُ لَا نَاقَتي فِيهَا وَلَا جَمَلِي)
(أَيْن المفرُّ وخيلُ اللهِ طالبةٌ ... والسعْدُ يغتالهم فِي السهْلِ والجبلِ)
(كفَى بسيفكَ وعظاً فِي مصارِعِهم ... لكلِّ منهزمٍ مِنْهُم ومنخَزلِ)(4/333)
(مذ عاينوا الذبْحَ فى أحلافِهِمْ نَزَعُوا ... إليكَ مِنْ وهنٍ فيهم ومِنْ وهلِ)
(لَا تُعطِهم يَا أَبَا عجلَان عارفَةً ... وَمَا يرومُونَ من وجْه وَمن قبلِ)
(وَلَا تُتَابع هجاراً فِي رعايتهم ... لَيْسَ الشجيُّ رَعَاكَ اللهِ مِثلَ خَلِي)
(لَا تحرقُ النارُ إِلَّا كَفَّ لامسها ... وَلَا أَخُو كَبِد حَرى كذى بَلَلِ)
(واذكُرْ على الْقرب مَا نالوا وَمَا فَعَلُوا ... فِي أهُلِ دارِكَ من فتكٍ وَمن غيلِ)
(واعْلَمْ سلمْتَ بِأَن القوْمَ قد حشدوا ... وليْسَ مطلبهم إلاَّكَ من رَجُلِ)
(ثَلُّوا عروشَكَ واجتاحوا حِمَاكَ بِهِ ... وجاذَبُوكَ رداءَ العزِّ فِي النزلِ)
(فاغضَبْ لنفسِكَ أودَعْ كل مكرمةٍ ... تبقَى وقوضْ خيامَ الْعِزّ وارتحلِ)
(واذُكْر أَبَا الْقَاسِم السَّامِي ومصرعَهُ ... كَذَاك مصْرعَ إبراهيمَ حينَ ولِي)
(السادَةُ القادةُ الأملاكُ من حَسُنَتْ ... بذاتهم بهْمَةُ الأيامِ والدولِ)
(لَا تجعلِ المالَ عَن أَرْوَاحهم بَدَلا ... من اللئامِ فبئْسَ المالُ من بَدَلِ)
(لَا تتركِ الحزْمَ عينا ثُمَّ تطلبه ... دينا فتقرعَ سنَّ النادمِ النكلِ)
(وَلَا تقيلنَّهُمْ باللهِ عثرتَهُمْ ... واقطَعْ عرى كل ذِي غدرٍ وَذي نغلِ)
(وَلَا يَغُرَّنكَ مِنْهُم ودُّ مبتسم ... فالخوفُ يظهرُ وُدَّ الخائنِ الدغلِ)
(يطوون أحشاءَهُمُ منكُمْ على ضمدٍ ... ويضحكُونُ لديكُمْ ضحكةَ العَلِل)
(فاشدُدْ يديكَ وَلَا ترثي لحالتهِمْ ... فطبعُهُمْ عَن خبيثِ اللؤمِ لم يحلِ)
(لَا تأمنَنْ غدرهُمْ فالذئُبُ عَادَته ... إِن ينتهزْ فرصةَ فِي غفلةٍ يَصُلِ)
(إِن تبقِ مِنْهُم مَعَ الْإِمْكَان بَاقِيَة ... نُسِبْتَ للوهنِ فِي الأمصارِ والحللِ)
(وجرِّد السيفَ لاستئصالِ شأْفَتهِمْ ... فِي كُلِّ شيخٍ وَفِي طفلٍ ومكتهلِ)
(لَا تقطعِ الرجلَ من قوم وتتركهم ... والرأْسُ مِنْهُم صحيحٌ غيرُ منجدلِ)
(فالحْلمُ زين ولكنْ يَابْنَ حيدرةٍ ... فِي غير موضعِهِ ضرْبٌ من الخَبَلِ)
(والصفْحُ عَن مجرمٍ من بعدِ مقدرةٍ ... عجزٌ ولسْتَ بِذِي عجز وَلَا مللِ)
(فِيمَ التقاضِى وَمَا بالعهْدِ من قِدَمٍ ... والجرحُ مِنْهُم طريٌّ غيرُ مندمل)
(حاشا علاك أَبَا عجلانَ من ملكٍ ... تُعْطِى الدنيةَ أَو تُؤْتى من الختلِ)
(يَأْبَى لَك العزُّ أَن تَلقاهُ معتذراً ... أَو ناهجاً فِي طريقِ اللومِ والعذلِ)
(وأنتَ من سادةٍ شُمِّ لَهُم أنَفٌ ... عَن أَن يقيموا على ضَيْمٍ وَلَا دخلِ)(4/334)
(بيضُ الوجوهِ غطاريفٌ جحاجحةٌ ... تنكَّبوا عَن طريقِ الجبنِ والبخلِ)
(أهْلُ الحمايا وأهْلُ الذبِّ مَا برحوا ... عَن الحريمِ وعِرْض غير مبتذلِ)
(جمعْتَ مَا كَانَ فيهم فيكَ مفترقاً ... من المحاسنِ بالتفصيلِ والجملِ)
(ودُونَكُمْ قولَ نصحٍ يَا بني حَسَنٍ ... يفيدُ كلَّ ذكيِّ القَلْبِ مشتعلِ)
(أنْتُم بَنو الحربِ تدعوكُمْ وتنهضُكُمْ ... أحسابُكُمْ لاقتحامِ الحادثِ الجللِ)
(شُدُّوا إِلَى حومةِ الهيجا مآزِركُمْ ... وشَمِّرُوا لطلابِ الثارِ فِي عجلِ)
(مَا بالُكُمْ ورياحُ النصرِ مقبلةٌ ... تثاقلونَ وذُلُّ الدهرِ فِي الثقلِ)
(إِن لم تديروا رحَى الهيجاء مسرعةً ... فَمَا يفيدُ صهيلُ الخيلِ فِي الشكلِ)
(عيشُوا على العزِّ أَو موتُوا على ثقةٍ ... موت الكرامِ وخَلُّوا الدَّار عَن حولِ)
(فَمَنْ يبلغُ عني غَيْرَ معتذرٍ ... يحيى بن سبعٍ مقَالا غير ذِي خَطَلِ)
(ومالكاً وابْنَ قيمازٍ وشيعَتَهُم ... وَالتَّابِعِينَ من الأوشابِ والسفلِ)
(لَا بدَّ أَن يبلغ الموتورُ غايتَهُ ... وَيشْرب الكأْسَ سَاقيهَا على عللِ)
(فالصبْرُ يحمدُ والأيامُ كافلةٌ ... عُقبى النجَاحِ ونيل السؤلِ والأملِ)
(إِن تجحدون أَبَا عجلانَ فرصَتَهُ ... فيكُمْ وَمَا كَان فِي أيامِهِ الأولِ)
(سَلُوا مَوَاضِيهِ عَنْهَا فَهْىَ تخبركُمْ ... فالسيفُ والرمُح أزكَى شاهدٍ وَولي)
(كَمْ ناشكم بالقنا فِي عُقْرِ دارِكُمُ ... حَتَّى اعتَصَمتُمْ ببذلِ الخيلِ والخولِ)
(وكَمْ سقاكُمْ غداةَ الروعِ من يدِهِ ... بالسيفِ كأْس الردَى عَلاًّ على نَهَلِ)
(وَكم أذاقكُمُ حرَّ الجلادِ بِهِ ... فِي مأقطِ الحربِ والأقدامُ لم تزلِ)
(لَوْلَا العرانينُ مِنْ أبنا أبِيهِ لَمَا ... جاوزتم الرمل من خوف وَمن فشل)
(وَلَا وطئتُمْ على ذُلِّ ومنقصةٍ ... موطئًا مَا لكُمْ فيهنَّ من قِبَلِ)
(لَيْسَ القضا بكُمُ يشفي ضمائره ... إنَّ القضاءَ مِنَ الأشباهِ والمثُلِ)
(وَإِنَّمَا طَهَّر اللهُ البلادَ بِهِ ... من مِلَّةٍ خرجِتْ عَن أشرفِ المللِ)
(وعللتهم أمانيهمِ علَى غَرَرٍ ... واللهُ فِي كُلِّ هَذَا عِلّة العللِ)
(سمتم مقَاما رفيعاً فَوْقَ رتبتكُمْ ... وَلَا يقاسُ نهيقُ العيرِ بالصهلِ)
(فَلَو رجعتُمْ إِلَيْهِ باذلينَ لَهُ ... طَوْعًا طوى كشحَهُ فِيكُم على مَلَلِ)
(وسُقْتُمُ المالَ فِي مرضاتِهِ فعسَى ... يغضى قَلِيلا ومَنْ للعور بالحولِ)(4/335)
(دُمْ ظافراً يَا أَبَا عجلانَ فِي دعةٍ ... قريرَ عينٍ بِمَا أدركْتَ من أمَلِ)
(فقدْ أقمْتَ اعوجاجَ الملكِ من أَوَدٍ ... وَصَارَ مُعْتَلًّا من كَانَ ذَا مَيَلِ)
(وخُذْ نسيجَ ثناءٍ صافياً حسنا ... يكسوكَ من وَشْيه أبهى من الحللِ)
(عروس مَدْحٍ تَهَادى فِي منصَّتها ... تجرُّ بالْحسنِ ذيلَ التيه والغزلِ)
(حلَّيتها من سجاياكَ الَّتِي شرُفَتْ ... عقودَ دُرِّ بهَا زانَتْ من العطلِ)
(يفوحُ بَين قوافيها لمُنْشِدِهَا ... من طيبِ ذكركَ عرف الْمسك فِي حللِ)
(جَلَّتْ صفاتك قدرا أَن يحيطَ بهَا ... حُسنُ الروية أَو إحسانُ مرتجلِ)
(واسلَمْ فإنَّكَ زينُ الدينِ ناصرُهُ ... وافخرْ فإنكَ تاجُ الملكِ والدولِ)
(ثمَّ الصلاةُ على المختارِ مِنْ مُضَرٍ ... محمدِ المجتبَى من سائِرِ الرسلِ)
(ثمَّ وَليهَا مَوْلَانَا الشريف أَبُو نمي)
قد سبق ذكر مَوْلَانَا وَمُلَخَّص ذَلِك أَنه تشرف بحماية الْحَرَمَيْنِ الشريفين فِي ظلّ وَالِده فِي عَام ثَمَانِيَة عشر وَتِسْعمِائَة وَاسْتمرّ وسعده فِي زِيَادَة إِلَى أَن مَاتَ وَالِده فِي عَام أحد وَثَلَاثِينَ فمدة اشتراكه مَعَ وَالِده أَرْبَعَة عشر عَاما ثمَّ تفرد بِهَذَا المنصب الْمُبَارك مَعَ زِيَادَة السُّعُود وَبسط الْعدْل والجود إِلَى أَن أنعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ بولده مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف أَحْمد بن أبي نمى فتقلد هَذَا المنصب بالتماس وَالِده من مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان بن سليم خَان وَكَانَ ذَلِك سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَمُلَخَّص ذَلِك أَنه أرْسلهُ إِلَى الْأَبْوَاب الْعَالِيَة السُّلْطَانِيَّة العثمانية وَمن الِاتِّفَاق أَن مُعظم من كَانَ مَعَ وَالِده الشريف أبي نمي حَال عزمه إِلَى مصر كَانَ مَعَ وَلَده هَذَا أَحْمد إِلَى إِسْلَام بَوْل وصحبته من الْهَدَايَا الْعَظِيمَة اللائقة بالملوك والخيول الأصائل والصقور والشواهين والأقمشة والأطياب فَلَمَّا وصل خبر قدومه عين لَهُ السُّلْطَان سُلَيْمَان من قابله على أحسن أسلوب ثمَّ أنزل فِي بيُوت السلطنة وَأمره أَن يدْخل عَلَيْهِ بالملابس الحسنية وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد جميل الصُّورَة معتدل الْقَامَة حسن اللِّحْيَة والدليقين عَلَيْهِ ناموس الشّرف المحمدي وأبهة الْملك النَّبَوِيّ فَلَمَّا دخل على السُّلْطَان قَامَ لَهُ ألفا وَلم يَقع هَذَا لأحد سواهُ ثمَّ أقبل عَلَيْهِ بالبشر التَّام وخلع عَلَيْهِ خلعاً مُتعَدِّدَة تَعْظِيمًا لشأنه وإظهاراً لرفعته(4/336)
وعناية بجنابه وَأظْهر أَن وُصُوله إِلَيْهِ من النعم المعدودة الَّتِي تفرد بهَا عَن غَيره وَكَذَلِكَ زَوْجَة مَوْلَانَا السُّلْطَان وَالِدَة السلاطين وواصلة الْمَسَاكِين قدمت لَهُ هَدَايَا عَظِيمَة وَعرفت أَرْكَان الدولة أَنه فِي مقَام أَوْلَادهَا محبَّة وحنواً ثمَّ برزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة لَهُ بِجَمِيعِ المرام وَوصل إِلَى مَكَّة المشرفة على ذَلِك النظام وامتدحه القَاضِي عبد الرَّحْمَن باكثير بالقصيدة الرائية // (من الطَّوِيل) //
(وفَتْ صبَّها بعد الجفا غادةٌ عَذْرَا ... ومُذْ لامَها قالَتْ لعلَّ لَهَا عُذْراَ)
الْمُتَقَدّم ذكرهَا ودام سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ فِي حَيَاة وَالِده الشريف أبي نمي فِي شهر رَجَب عَام سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَمِمَّا قيل فِيهِ مدحاً قَول الْوَجِيه عبد الرَّحْمَن الكثيرى الْمَذْكُور // (من الْكَامِل) //
(أَلْعِزُّ ثَاوٍ بَين مشتبِكِ القنا ... مَنْ رامه قالَتْ لَهُ السمرُ القنا)
(والنصْرُ من مخضرِّ أوراق الظبا ... غصناً بِهِ ثمرُ الوقائعِ يجتنى)
(والمجدُ فِي صهواتِ دهمٍ إِن عدَتْ ... عقدَتْ سنابكُهُنَّ نقعاً أدكَنَا)
(والفَخْرُ أَن تغشى الكتيبةَ باسماً ... ولَكَ الحمامُ من الأسنةِ قد رنا)
(والثابتُ الجأش الَّذِي يَرِدُ الوغَى ... ويَدُ المنونِ تديرُ كاساتِ الفنا)
(والحزمُ فتكُكَ بالعداةِ مطاعناً ... ومضارباً ومذففاً ومثخنَا)
(والعزمُ أَن تستسهلَ الصعْبَ الَّذِي ... لَو كَانَ لم يمكنْ بعزمِكَ أمكَنَا)
(والمكرمَاتُ أجلُّها حُسْنُ الوفا ... وأعزُّهَا الإغضاءُ عمَّنْ قد جَنَى)
(والسودَدُ المحضُ اكتسابُ مفاخرٍ ... ترتادُهَا مِنْهَا المحامدُ تبتنَى)
(وأكابِرُ العلياءِ مَنْ يولي نَدَى ... يُشْرَى بِهِ المجْدُ الأثيلُ ويقتنَى)
(والهمةُ العلياءُ تصييرُ الَّذِي ... عِنْد الورَى جللاً حَقِيرًا هَيِّنا)
(والجدُّ أَن تردَ المهالكَ راقيا ... صعْبَ المخاوفِ لن تؤمّلَ مأمنا)
(والجودُ هجرُكَ لَا فَلَيْسَ يخطُّها ... مَلَكَاك إِذْ كنْتَ الْجواد المُحْسِنا)
(والحمدُ إسداءُ الجميلِ بِلَا أَذَى ... من غير أَن تبغي الجزاءَ وتمننا)
(والفضلُ تقليدُ الرقابِ صنائعاً ... لَو لم تَرِقَّ بهَا الورَى لن تُغْبَنَا)
(والملكُ لَا يَبْنِي دعائمَ مجدِهِ ... إِلَّا السلاهبُ والقواضبُ والقنا)(4/337)
(كبنا بني ملك المَلِيك الْمُنْتَقى ... مِنْ معدنِ السبطَيْن شرف مَعْدنا)
(سلطانُ مكَّةَ أحمدُ الملكُ الَّذِي ... طَوْعٌ لقدرتِهِ المنايا والمُنَى)
(مَلِكُ الحجازِ أَبُو سُلَيْمَان الَّذِي ... فِي مفرق الْعليا تبوَّأ مسكنا)
(ملكٌ لَهُ ملكٌ ترَاهُ محوَّطًا ... بالمرهفاتِ وبالرماحِ مُحَصَّنَا)
(ملكٌ لَهُ ملكٌ تشامخَ عزُّهُ ... لَا ملكَ إِلَّا صارَ قهرا مذعنا)
(ملكٌ لَهُ ملكٌ ذراه على السها ... وأساسُهُ تحْتَ التخومِ تمكّنَا)
(ملكٌ بِهِ أُفقُ المعالِى قد أضا ... وانجابَ عَنهُ ظلامُ ظُلْمٍ أدكنا)
(ملكٌ تفرَّعَ غصنُهُ من دوحةٍ ... بالمصطفَى شرفَتْ وطابَتْ أغْصُنا)
(ملكٌ غذى بلبا الرسَالَة واعتلَى ... عَن كُلِّ مدحٍ بالصرائحِ والكنَى)
(ملكٌ لَهُ البيتُ الشريفُ ومكَّةٌ ... وَله المواقفُ والمشاعِرُ من مِنَى)
(مَاذَا عسَى فِيهِ يقالُ ومدحُهُ ... قد جَاءَ نَصًّا فِي الكتابِ مبينَا)
(ويدُ الرسالةِ أكسبَتْهُ شمائلاً ... نبويَّةً مِنْهَا علاهُ تزيَّنَا)
(وعَلى مُحَيَّاهُ أدارَتْ هَالة ... مِنْهَا سنا القمرَيْنِ يكتسبُ السنا)
(هُوَ مضغَةُ الطُّهْرِ البتولِ وأصلُهُ ... مِنْ طِينَة مِنْهَا النبيُّ تكوَّنَا)
(وبجدِّه شمسُ الشريعةِ أشرقَتْ ... ولسانها بالحَقِّ أصبَحَ مُعْلنا)
(هذي الصفاتُ الجاعلاتُ لربِّها ... من فوقِ هاماتِ المعالِى مَوْطنا)
(لم تنتجِ الدُّنْيَا لَهُ مثلا وَقد ... زانَ الممالكَ والعلا والأزمنَا)
(فاقَ الملوكَ فَمَا بَنو العباسِ أَو ... مَا غيرُهُمْ مِمَّن نأَى أَو من دنا)
(لَا مَجْدَ كَانَ لَهُم فرادَى فِي الْعلَا ... إِلَّا تملَّكَهُ وَكَانَ لَهُ قَنَا)
(ولئِنْ أَتَوْا فعلَ المكامِ مرَّة ... فَلهُ غدَتْ طبعا وأمسَتْ دَيْدَنَا)
(ملأَ القلوبَ مهابةً وملا العيونَ ... جلالة وملا المسامِعَ بالثَّنَا)
(وملت معاليه الزَّمَان وعَزَّ عَن ... مدحٍ وحَصْرُ علاهُ أعيا الألسنا)
(ربُّ الندَى مردِى العدا مُرْوِى الصَّدَا ... مُولِى الغنَى حُلْوُ الخبا رَحْبُ الفِنَا)
(أنشا بديعَ مكارمٍ ومآثرٍ ... فِيهَا تنوَّعَ مجدُهُ وتفنَّنَا)
(ولكَمْ مدارسَ فِي الْعلَا درسَتْ وَقد ... عَمَرَتْ بِهِ وَغدا حماها بَيِّنَا)
(وَلَقَد ذوى روض المواهِبِ فاغتدى ... بنوالِهِ غَضَّ الثِّمَار لمن جَنَى)(4/338)
(أغْنى الخلائِقَ مِنْ نداه فَلم تَجِدْ ... فِي دهرِهِ ذَا حاجَةٍ متَمَسْكِنَا)
(وَبِه لقد عَمَّ الورَى فنوالُهُ ... كَنْز الفقيرِ وطوقُ جيدِ من اغتنَى)
(والرزقُ والأجَلُ المقدَّرُ طوعُهُ ... وبكفه مر المنا وحلاَ الغِنَا)
(متكفِّلٌ بالأمْنِ فِي الدُّنْيَا فَمَا ... أحدٌ بهَا أَلا وعاشَ مُؤَمَّنا)
(وبرزقِ مَنْ فوقَ البسيطةِ وَالَّذِي ... تحْتَ المحيطةِ قد غَدا متضمِّنَا)
(ولَدَيْهِ لَا روضُ السماحِ تخاله ... هشمًا وَلَا نَهْر الندا مُتأَسِّنَا)
(والسحْبُ مذ رامَتْ تجارِى كَفَّهُ ... حُمَّتْ بِهِ حسداً وأسقَمَهَا الضَّنَى)
(فالغيثُ فِي جَبَهاتِها عَرَقٌ جَرَى ... لما جرَتْ وكبَتْ وأدركَهَا العَنَا)
(يحبو النَّوَالَ ويحتبي فكأنَّهُ ... بحرٌ وطودٌ قد أحلَّ وأردنا)
(فِي حلمه فاقَ ابْن قَيْسٍ بل لدَى ... إحسانِهِ ذِكْرُ الندى لن يَحْسُنَا)
(ماضيه للأعداءِ مسنوناً يرى ... وعطاؤُهُ فِي الْحَال فرضا عينا)
(يهبُ الألوفَ وَلم يَهَبهَا عنْدَما ... يلقى عَلَيْهِ لأْمَهُ والجَوشَنا)
(ويردُّ جحفلَ مَنْ يحاربه وَلَو ... ضاهَى الحَصَا عَن رَدِّهِ لَنْ يجبنا)
(بطلٌ ولكنْ لَا يطاقُ فَفِي الوغَى ... بِشَبَا العزائمِ عَن ظباهُ لَهُ غنى)
(ومتَى يصلْ تلقى الكمىَّ مجندلاً ... والذمْر خلقا بالدماءِ مكفَّنا)
(يروي الثرَى بدمٍ الفوارسِ فالقنا ... تَجْرِى عَلَيْهِم من دماهُمْ أعينا)
(تقفو الجوارحُ جيشَهُ ثِقَة بِمَا ... أَلِفُوهُ فِي نصْرٍ لَهُ متيقَّنَا)
(فَيروا بطاناً آيبين نواهلاً ... بِدَمٍ يُطَلُّ فَمَا أذلَّ وأَهْوَنَا)
(لم يَدْعُ هَذَا الدهْرَ إِلَّا جاءَهُ ... متعثراً مِنْ خَوفه لن يأمنا)
(يخشَى سطاه فَلم تحلَّ خطوبُهُ ... ساحاتِهِ وبصَرْفِهِ لن يطعنا)
(لَو خَطَّ طِرْسًا نَحوه لولائِهِ ... بالخادمِ المملوكِ كَانَ مُعَنْوَنا)
(فمتَى دعَتْكَ خطوبُهُ فالجأ لَهُ ... وبأسْمِهِ فاعْل النداءَ وأعلِنَا)
(يَا أحمدَ بْنَ أبي نُمَىِّ وَالَّذِي ... ألقَى لَهُ الدهْرُ القيادَ وأذعَنَا)
(لَو زَاد شىءٌ بعد غايتِهِ دَعَا ... كُلٌّ لملكِك أَن يزيدَ تمكُّنا)
(من رام مِثْلَكَ فِي الملوكِ فَذَاك فِي ... شَرْعِ الْمَعَالِي مُشْرِكٌ لن يؤمنا)
(فلأنَتْ ربُّ البسطةِ العظمَى على ... كُلِّ الْمُلُوك من الرشيدِ إِلَى هُنَا)(4/339)
(وأمامَ جيشِكَ رائدُ الظَّفرِ اغتدَى ... بالنصْرِ والفتحِ المبينِ مؤذِّنا)
(وبشأنِهِ النصْرُ المتينُ قد احتفَى ... بأمرِهِ الفتحُ المبينُ قد اعتنَى)
(والدهرُ ساعٍ فِي الَّذِي تهوَى فإنْ ... تَدعُوهُ أَو تَدْعُو أجابَ وأَمَّنا)
(وافاكَ تشريفُ المليكِ فكلُّ مَا ... تبغيه ثَمَّ وغيرُهُ لن يُمْكِنا)
(فليهنِكَ النصْرُ المفادُ ويهنِكُمْ ... نيلُ المرادِ بِمَا أَقَرَّ الأعينا)
(فهواتِفُ السراءِ قد صَدَحَتْ بِهِ ... وترنَّمَتْ وُرْقُ التهانِى بالهنا)
(وشدَتْ على أيكِ السرورِ حمائمٌ ... ملأتْ بشائرُهَا النواحي بالغنا)
(فَارْقَ الْعلَا ملكا فملكُكَ غابة ... بك يَا هِزَبْر الجحفَلْينِ مُحصنا)
(ورياضُهُ قد أصبَحَتْ مخضلةً ... منكُمْ وزهْرُ ثمارها حُلْوُ الجَنَى)
(والماضيانِ تكفَّلا بخلودِهِ ... وبحفظه سَعْدُ السُّعُود تضمَّنا)
(وإليكَ تبرَ مدائحٍ لَو صاغَهُ ... نطقى لغَيْرِ علاكَ أَصْبَحَ ألْكَنَا)
(ولحسنها حَسَّانُ يَغْدُو خاضعاً ... لَو رام نَظْمَ سلوكها لن يُحْسِنَا)
(طابَتْ شَذًا لما جعلْتُ ختامها ... مِسْكَ الصلاةِ تبرُّكًا وتَيَمُّنَا)
ثمَّ إِن مَوْلَانَا الشريف أَبَا نمي رَحمَه الله تَعَالَى التمس من مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان تَفْوِيض الْأَمر إِلَى وَلَده الثَّانِي صَاحب الْمقَام السَّامِي مَوْلَانَا الشريف حسن فتقلد بعد أَن أُجِيب إِلَى مُرَاده حماية الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَجدّة المعمورة وينبع وخيبر وحلى وَجَمِيع مَا شَمله اسْم الأقطار الحجازية وَذَلِكَ من خَيْبَر إِلَى أَطْرَاف حلى وأعمال جازان طولا وَمن أَعمال الينبع الْمُبَارك إِلَى حجاز ثَقِيف وَمَا اتَّصل بِهِ من أَرض نجد عرضا وَكَانَ ذَلِك سنة 961 إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فتفرد بذلك بِإِشَارَة وَالِده الشريف أبي نمي لما علم من كِفَايَته وكماله وخاطبته السلطنة الشَّرِيفَة بِالْأَلْقَابِ الهاشمية الملوكية وشاع وذاع مَا فِي مَحل ولَايَته من الْعدْل والإنصاف والأمن والطمأنينة فِي حاضرتها وباديتها وَمَا إِلَيْهَا ينْسب ويضاف وَقطع قَاطع الطَّرِيق وَأخذ حق الْمَظْلُوم من الظَّالِم وَإِن كَانَ أقرب حميم وأصدق صديق فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى الْأَبْوَاب الْعَالِيَة فوضت إِلَيْهِ كل وَاصل إِلَى الأقطار الحجازية من أَعْيَان دولتهم وكبرائهم وأركان سلطنتهم وأمرائهم حَسْبَمَا يسطر ذَلِك(4/340)
فِي المرسوم السلطاني الْوَاصِل باسم مَوْلَانَا المومأ إِلَيْهِ فِي كل عَام وَكلما طلب من جَانب السلطنة الْعليا مَطْلُوبا من معالي الْأُمُور أَو إحساناً لمن يلوذ بمقامه المبرور أُجِيب بِحُصُول المُرَاد خُصُوصا فِي سلطنة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد وَفِي سنة أَربع وَخمسين وَتِسْعمِائَة اتّفق يَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة الْحَرَام بِمَكَّة المشرفة أَن النَّاس بَيْنَمَا هم بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي وَقت السحر إِذْ رَأَوْا دخاناً صاعداً من جَانب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فبادرت الأكابر من الشريف أبي نمي وَولده ومصطفى باشا وأكابر الْحَاج يسعون إِلَى بَاب الْكَعْبَة ففتحوه بعد أَن حصل عِنْد عَامَّة النَّاس غَايَة الوجل فوجدوا نَارا فِي عقب الذرفة الْيُمْنَى ففكت الذرفة وأطفئت النَّار وأعيد الْبَاب على حَاله وَللَّه الْحَمد ذكر هَذَا الجزيري فِي تَارِيخه قلت الظَّاهِر أَن أصل تِلْكَ النَّار شرر طَائِر من مجامر البخور الَّتِي تُوضَع على عتبَة الْبَيْت الشريف وَفِي سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة لما كَانَ عيد يَوْم النَّحْر مِنْهَا وَقعت فتْنَة بمنى وتعرف عِنْد أهل مَكَّة بِالْهبةِ بَين مَوْلَانَا الشريف أبي نمي وَبَين أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ الْمُسَمّى مَحْمُود وَكَانَ الشريف أَحْمد إِذْ ذَاك قَائِما بِأَمْر المملكة عَن وَالِده يتفويض من السُّلْطَان سُلَيْمَان كَمَا تقدم ذكر ذَلِك سَبَب هَذِه الْفِتْنَة أَن السَّيِّد قايتباي كَانَ بِمصْر فَأقبل إِلَى مَكَّة من طَرِيق الْبَحْر وَكَانَت بَينه وَبَين أَمِير الْحَاج الْمَذْكُور موطأة على أَن يوليه مَكَّة فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّحْر علم الْأَمِير أَن جمَاعَة الشريف أبي نمي تفَرقُوا عَنهُ بالنزول إِلَى مَكَّة للطَّواف وَالسَّعْي فاغتنم الفرصة وَكَانَ السَّيِّد قايتباي الْمَذْكُور أرسى بجدة وَلم ينزل إِلَيْهَا فَركب الْأَمِير ليقصد الشريف فِي دَاره فَعلم الشريف بذلك فَركب وَركبت الْأَشْرَاف والقواد والجند فثارت الْفِتْنَة وَنزل الشريف إِلَى مَكَّة ثمَّ أرسل إِلَى جدة تجريدة من الْخَيل لِحَرْب السَّيِّد قايتباي فَلم تصل إِلَى جدة إِلَّا وَقد توجه مِنْهَا بحراً عَائِدًا إِلَى مصر وبموجب هَذِه الْفِتْنَة نفر الْأَمِير وَجَمِيع الْحَاج من منى يَوْم النَّفر الأول قبل الزَّوَال فَأَرَادَ بعض الْحجَّاج الْعود إِلَى منى للرمي قبل فَوَاته وَالْمَبِيت مَعَ جند صَاحب مَكَّة فَتعذر عَلَيْهِ ذَلِك لانتشار الْأَعْرَاب فِي الطّرق ورءوس الْجبَال(4/341)
ويحكى عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ أَنه كَانَ بِمَكَّة حِين الْفِتْنَة بمنى قد نزل بِقصد الطّواف وَالسَّعْي وَكَانَ فِي منزله وَعِنْده شخص يُسمى الشَّيْخ الحرفوش فحصلت للشَّيْخ مُحَمَّد الْبكْرِيّ حَالَة جلال وَاسْتمرّ دائراً فِي الْمحل الَّذِي هُوَ فِيهِ كالأسد وَهُوَ يَقُول حوش حوش يَا حرفوش كَالَّذي ينظر شَيْئا فيأمر بإمساكه ثمَّ سكت حَاله فَقَالَ الْآن وَقعت بمنى فتْنَة عَظِيمَة حشناها بِإِذن الله تَعَالَى فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَقَالَ الْعَلامَة الْخَطِيب عبد الباسط بن أَيُّوب يذكر الْوَاقِعَة وَيرْفَع فِيهَا الشكوى من مَحْمُود الْأَمِير إِلَى الخنكار الْأَعْظَم مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان فِي قصيدة هِيَ // (من الْخَفِيف) //
(يَا إِمَامًا بالعدلِ فِي الناسِ سارا ... وهماماً قد دَمَّرَ الكُفَّارا)
(ومليكاً إحسانُهُ مَلأ الأرْضَ ... وأضحَى لَهُ الصلاحُ شِعَارا)
(هَذِه قِصَّةٌ لبابكَ جاءَتْ ... من أناسٍ مِمَّا دهاهُمْ حيارى)
(فَاتْلُهَا يَا خليفةَ اللهِ فى الأَرْض ... جَمِيعًا عساكَ تأخذُ ثارا)
(نظمتْهَا قريحةٌ شاهدَتْ فِي ... عترةِ المصطفَى أموراً كِبَارا)
(هجمَتْ دُورهمْ بخيلٍ ورجلٍ ... واستباحوا عرضا ومالاً ودارا)
(ورُمُوا بالنبالِ فى حرم اللَّه ... فضَحُّوا ضغارَهُمْ والكِبَارا)
(أذكَرَتْنَا أحوالُهُمْ بحسينٍ ... ويزيدٍ وأورثَتْنَا اعْتِبَارا)
(آلُ بيتِ الرسولِ حُلَّ حماهم ... واستبيحَتْ لَهُم دماءٌ جِهارا)
(مَا استمعنا وَلَا رَأينَا كَهَذَا ... لَا رَعَى اللهُ مَنْ بِهَذَا أشارا)
(قد أَتَانَا محمودُ فى إمرةِ الحَجْجِ ... وَقد صَارَ بالأذَى أَمَّارا)
(فَرَأَيْنَا شخصا يحاكِى يزيداً ... فِي سجاياهُ فَاجِرًا جَبَّارا)
(أذَهَبَ الشرْعَ مذ أَتَانَا وَأَحْيَا ... ليزيدٍ بَينَ الورَى آثارا)
(حَكَّمَ الشيْفَ فِي أعزِّ نفوسٍ ... وسقاها كاسَ الرَّدى وأدارا)
(قَتَلَ الناسَ أظهَرَ السفْكَ ظلما ... جالَ بالسيفِ يمنةٌ ويَسَارا)
(تركَ الهدْىَ والضحايا وضحَّى ... بدماءِ الأشرافِ فِيهَا وسَارَا)
(حَرَمٌ آمِنٌ ويقتلُ فِيهِ ... عترة المصطفَى جهاراً نَهَارا)(4/342)
(إِن هَذَا أمْرٌ فظيعٌ شنيعٌ ... منكَرُ الشانِ يدهشُ الأبصارا)
(قد تركْنَا لأجلِهِ واجباتٍ ... ورفضْنَا المبيتَ والإعتمارا)
(وخشينا من اليزيديِّ قتلا ... فركبْنَا من خوفِهِ الأخطارا)
(تَرَكَ الناسُ فى منى نُسُكَ الحَجْجِ ... وخلَّوْا مبيتَهَا والجِمَارا)
(واعتراهُمْ من اليزيديِّ مَا لم ... يألفُوهُ وأُحْصِروا إحصارا)
(وَغدا الناسُ بَين قتلٍ ونهبٍ ... وَأُمُور تحيِّرُ الأفكارا)
(صَار فِيهَا العزيزُ عبدا ذليلاً ... والأرقَّاءُ أصبَحَتْ أحرارا)
(صَرَفَتْ نحوهم صروفُ الليالِي ... وجهَهَا بعد كَانَ فِيهِ استتارا)
(ورمتهم عَن قوسها بسهامٍ ... أثَّرتْ فِي القلوبِ منا انكْسارا)
(فتنةٌ أُحْدِثَتْ بأشرفِ أرضِ الله ... لَا ترتضَى بأرضِ النَّصَارَى)
(كَبَّرَ الناسُ عِنْدَمَا عاينوها ... وبحارُ الدِّما غدَتْ تَيَّارا)
(أظلم الكونُ والكواكبُ غارَتْ ... واقشعرَّتْ جلودنا اقشعرارا)
(إِن هَذَا ظلمٌ وجَوْرٌ عظيمٌ ... قاتلَ الله مَنْ عَنِ الحقِّ جارا)
(ورماه بأَسْهُمٍ صائباتٍ ... مِنْ يَد المصطفَى تريه الصَّغَارَا)
(وذُهِلْنَا من المصيبةِ حتَّى ... أذْهَب الخوفُ عقلنا والوَقَارَا)
(فتراهم بعد الأمانِ مِنَ الخَوْفِ ... سكارَى وَمَا هُمُ بسُكَارى)
(يَابْنَ عثمانَ أنْتَ عمرْتَ بالعدلِ ... الأقاليمَ بَرَّها والبِحَارا)
(أنتَ طهَّرْتَ سَائِر الأرضِ ممَّنْ ... قد تعدَّوْا واستكبروا استكْبَارا)
(أنتَ كهْفٌ للمسلمينَ حريزٌ ... وملاذٌ لمنْ يخافُ ضِرَارا)
(أنْتَ للحقِّ ناصرٌ ومعينٌ ... لكَ سيفٌ قد دمرَّ الأغيارا)
(أنتَ مَنْ أمَّ بابَ عدلك يحظَى ... بمناه ويبلُغُ الأوطارا)
(كيفَ ترضَى أَن اليزيديَّ يَأْتِي ... حَرَمَ اللهِ مُفْسِدا كَفَّارا)
(سوفَ تَأتيه غيرةٌ منكَ حَتَّى ... يتمنَّى أَن لم يُثِرْ مَا أثارا)
(فأغِثْ عِتْرةَ النبيِّ وبادرْ ... وزدِ الظالمينَ مِنْك خَسَارا)
(وأرِحْهُمْ من اليزيديِّ واجعلْ ... دَاره بالخرابِ أَرْضًا دمَارا)
(وارحمِ الناسَ إِنَّهُم قد أذيقوا ... مِنْ أَذَاهُ مَا لم تذقه الأسارَى)(4/343)
(ولكَ الأمْرُ فاقضِ مَا أنتَ قاضٍ ... فَهُوَ واللهِ يستحقُّ النارا)
(قَسَمًا بالحطيمِ والركنِ والبيتِ ... الَّذِي رَبُّهُ يقيلُ العِثَارا)
(وبِآلِ النبيِّ والصحبِ والأحزابِ ... طُرًّا والسادةِ الأخيارا)
(قد خبأنا لَهُ سهامَ اللياليِ ... وشدَدْنَا القِسيَّ والأوتارا)
(واستعنا بأعظَمِ الناسِ جاهاً ... واتخذْنَا ضريحَهُ مستجارا)
(يَا نبيَّ الهدَى أغثنا سَرِيعا ... قد أَضَرَّ العدا بِنَا إضْرَارا)
(نحنُ قومٌ بك استَجْرَنا فنِلْنَا ... بمعاليكَ رَحْمَة وجِوَارا)
(شاعَ فِي سائِرِ الجهاتِ الَّذِي قَدْ ... كَانَ فِينَا وطَبَّقَ الأقطارا)
وَكَانَ الشريف أَبُو نمى جم الْفَضَائِل حسن المشائل مَحْمُود السِّيرَة طَاهِر السريرة قطب زَمَانه بِلَا خلاف عَادل وقته فَلَا سَبِيل فِي زَمَنه إِلَى الاعتساف لَهُ النثر الرفيع الْفَائِق وَالنّظم البديع الرَّائِق وَصِفَاته حامعة شتات كل فَضِيلَة وخصاله محمودة جميلَة وَمن صِفَاته الحميدة المتوارثة لَهُ عَن آبَائِهِ الْكِرَام رِعَايَة ذَوي الْبيُوت الْقَدِيمَة وإعراضه عَن الأفاقين فَإِن ذَوي الْبيُوت كَانُوا عِنْده فِي أوج الإعزاز وَالْإِكْرَام يظْهر مناقبهم وَيسْتر مثالبهم وَكَانَ يخصهم من بَين الْأَنَام بالتحية وَالْقِيَام وَلَا يفرح غَيرهم بقيامه لَو أَنه شيخ الْإِسْلَام فَلهَذَا كَانَت الْأُمُور مضبوطة وَالْأَحْوَال بِوُجُوه الصَّوَاب منوطة فطالما التمس مِنْهُ أَعْيَان دولته الْقيام لجَماعَة لَا يكونُونَ من ذَوي الْبيُوت بعد أَن صَارُوا من أهل الْإِفْتَاء فَلم يجب التماسهم وَلم يضْبط عَلَيْهِ ذَلِك لِئَلَّا يكون النَّاس على حد سَوَاء فَمَا أجدره بقول الْقَائِل // (من الْبَسِيط) //
(للهِ درُّ أنو شروانَ مِنْ ملكٍ ... مَا كَانَ أعرفَهُ بالعَالِ والسَّفلِ)
وَلم يفته أَن جبر الخواطر مَطْلُوب بل هُوَ عَارِف بِمَا هُوَ أدق من ذَلِك مِمَّا تكنه الْقُلُوب غير أَنه علم مَا يَئُول إِلَيْهِ ذَلِك من الْفساد وتجرؤ الأنذال بمساواتهم لأكابر الْبِلَاد وترتب حُصُول الْجور فِي الْعباد فقد قيل // (من الوافر) //
(وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ ... إِذا كَانَ الكلابُ يَلغْنَ فِيهِ)(4/344)
فَهَذَا من سياسته الَّتِي يحفظ بهَا الْملك ويدوم فقد قَالَ تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُل {فَضلنا بَعضهم على بعض} الْبَقَرَة 253 الْآيَة وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أمرت أَن أنزل النَّاس مَنَازِلهمْ وَالْحكمَة فِيمَا كَانَ يصنعه الشريف تبعا لأسلافه أَن ذَوي الْبيُوت قد عرفت مَوَدَّتهمْ وإخلاصهم من عروق أسلافهم الأقدمين الثابتي الأساس وانطباعهم على صدق الْمحبَّة والوداد فَإِن الْعرق دساس فَكَانُوا جديرين بِهَذِهِ المزية وَلَو لم يكن فيهم شَيْء من الْفَضَائِل إِلَّا مَا ألف مِنْهُم وَعرف عَنْهُم من الشَّمَائِل وَأما غَيرهم لَو أَنه أعلم أهل زَمَانه فَلم تُوجد فِيهِ هَذِه المزية وَرُبمَا يكون إكرامهم سَببا لحُصُول الأذية قلت هَذَا قَول أَحْمد الْفضل نَاقِلا لَهُ عَن الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَهُوَ كَمَا ترى قَول جَائِر فى الْقَضِيَّة صارد عَن روية بزلال الْحق غير روية وطوية على الحقد والحسد مطوية وحاش لله أَن تكون صفة مَوْلَانَا الشريف ذَلِك وعادته تِلْكَ مَعَ أُولَئِكَ إِذْ كَيفَ يسوغ لمولانا إِلْغَاء صفة الْعلم مِمَّن اتّصف بهَا من الأفاضل الْأَعْلَام فَلَا يعظمه بِسَبَبِهَا كَمَا قَالَ هَذَا الشَّخْص وَلَو أَنه شيخ الإٍ سَلام وَلَا يعْتَبر إِلَّا ذَلِك الود بِفَرْض وجود المستور فِي حبات الْقُلُوب وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك علام الغيوب حماه الله من ذَلِك مَعَ علمه رَحمَه الله بِأَن الْمَرْء بأصغريه قلبه وَلسَانه فَهُوَ تَحت طي لِسَانه لَا تَحت طيلسانه وَأغْرب من هَذَا كُله قَوْله وَلَو لم يكن فيهم شَيْء من الْفَضَائِل فَمَا أحقه بقول الْقَائِل // (من الطَّوِيل) //
(إِذا كَانَ لَا عِلْمٌ لديْكَ تفيدُنَا ... وَلَا أنْتَ ذَا دِينٍ فنرجُوكَ للدِّينِ)
(وَلَا أنْتَ ممنْ يُرْتَجَى لكريهةٍ ... جعلنَا مِثَالا مثلَ شخصِكَ مِنْ طِينِ)
فَإِذا لم يكن الشَّخْص فِيهِ فَضِيلَة ذاتية والود لَا يُعلمهُ إِلَّا عَالم الْخفية لم يبْق سَبَب للإجلال وَالْإِكْرَام والتحية وَالْقِيَام إِلَّا كبر العمائم وَطول الأكمام والاعتماد على رفات الْعِظَام من الْآبَاء والأعمام وَلَا ينْهض ذَلِك عِنْد رعاع(4/345)
الْعَوام فضلا عَمَّن هُوَ لسادات الْأَنَام إِمَام أبي نمي الْهمام فَالْحق إِعْطَاء الْعلم واجبه لكل إِنْسَان كَائِنا من كَانَ ثمَّ إِن كَانَ مَعَ فَضِيلَة ذَاته لَهُ فَضِيلَة سلسلة علم وبيتوتة تكلل تَاج مجده دُرَر الْفَخر وياقوته ثمَّ أَنْت ترى قبح مَا أوردهُ وتمثل بِهِ فِي مُرَاده ووخامة شَاهده فِي استشهاده وتشبيهه نَفسه وَأَمْثَاله بالأسود وَغَيره بالكلاب وَسيد الْجَمِيع بِالْمَاءِ المورود فَأَيْنَ الذكاء والفهم لَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ كَانَ ابْتِدَاء حَادث الْمحمل الْيَمَانِيّ والمحدث لَهُ الْوَزير مصطفى باشا النشار المستولى على الْيمن من جِهَة السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَكَانَت ولَايَته لَهُ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فوصل إِلَى مَكَّة أَمِيرا على الْمحمل الْمصْرِيّ فحج ثمَّ رَجَعَ بالمحمل وَالْحجاج الْأَمِير مُرَاد بك ثمَّ توجه مصطفى إِلَى الديار اليمنية فأحدث الْيَمَانِيّ وَجعله كالمحملين وَمَعَهُ خلعة من جَانب السلطنة الشَّرِيفَة فبرز مَوْلَانَا الشريف لملاقاة الخلعة إِلَى بركَة الماجن ثمَّ وصل هُوَ والأمير والمحمل إِلَى أَن حَاذَى الشريف دَاره فَدَخلَهَا وَتوجه الْأَمِير وَنزل عِنْد سفح الْجَبَل الَّذِي على يَمِين الدَّاخِل إِلَى مَكَّة من ثنية الْحجُون وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن بطلت الخلعة والمحمل من سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَذَلِكَ مسبب عَن وُقُوع الْفِتَن القوية واشتغال الدولة العثمانية بِقِتَال أَعدَاء الله وإعلاء كَلمته الْعلية وَلَا بُد لليمن من عطفة لَيْسَ فِيهَا تؤدة وَلَا رأفة وَفِي سنة 985 خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَانَت وَفَاة السَّيِّد الأكرم السَّيِّد بَرَكَات بن أبي نمي جد ذَوي بَرَكَات الْأَقْرَب قَالَ الْعَلامَة الفهامة الشَّيْخ عَليّ الشهير بالجم دخلت على وَالِده مَوْلَانَا الشريف أبي نمي معزيا لَهُ فِيهِ فانهلت عبرته فَأَخذهَا بمنديل كَانَ فِي يَده فَأَنْشَدته ارتجالاً بَيْتَيْنِ يتضمنان تَارِيخ وَفَاته فَقلت // (من الْكَامِل) //
(يأيها الملكُ العزيزُ ومَنْ رَقَى ... هَامَ الْعلَا رَفَعَ المهيمنُ شانَهُ)
(لَا تَبْكِ مرحوماً أتَى تاريخُهُ ... بركاتُ أنزلهُ اللطيفُ جنانَهُ)
فسر بذلك وسُرًى عَنهُ بعض مَا كَانَ(4/346)
وَفِي سنة 990 تسعين وَتِسْعمِائَة ضحوة يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر مِنْهَا كَانَت وَفَاة مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف قَاضِي قُضَاة الْإِسْلَام وناظر النظار بِبَلَد الله الْحَرَام مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن بن أَحْمد الْمَالِكِي بِالطَّائِف فِي الْقرْيَة الْمُسَمَّاة بالسلامة وَوصف بالشهيد لذَلِك وعد من ألقابه الَّتِي وصف بهَا على زَمْزَم وَلما بلغ مَوته ضِدّه مرزا شلبي قَالَ سُبْحَانَ الله عَاشَ هَذِه الْمدَّة فِي مَكَّة ثمَّ لم يمت إِلَّا خَارِجهَا وأرخ ذَلِك بقوله حل عَام الْخَيْر نعود بِاللَّه من الْحَسَد وَأَهله وَوَافَقَ تَارِيخ وَفَاته فِي تَاسِع صفر من السّنة الْمَذْكُورَة لفظ تسع فِي صفر وفيهَا أَيْضا كَانَت وَفَاة الْعَلامَة الشَّيْخ قطب الدّين النَّهر والى مفتي السَّادة الْحَنَفِيَّة يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثَّانِي مِنْهَا وَقت أَذَان حزورة عِنْد الْفجْر الثَّانِي فأرخ بعض الْفُضَلَاء ذَلِك بقوله قد مَاتَ قطب الدّين أجل عُلَمَاء مَكَّة قلت قد حسبته فَوَجَدته يزِيد على سنة الْوَفَاة وَاحِدًا وَمثل ذَا يغْتَفر عِنْد المؤرخين على خلاف الرَّاجِح مِنْهُ عدم الاغتفار مُطلقًا فَيصير التَّارِيخ هَكَذَا قد مَاتَ قطب الدّين جلّ عُلَمَاء مَكَّة وَلَا شكّ أَن الْمَعْنى الأول يَزُول حِينَئِذٍ ويتحول وَمَا زَالَ مَوْلَانَا الشريف أَبُو نمي منعم البال ممتعاً بالأولاد والآل مُجْتَمع الشمل فِي سَائِر الْأَحْوَال مكفي الْأُمُور دَائِم السرُور بِقِيَام وَلَده الشريف حسن بأعباء الْملك والخلافة مظْهرا فِي الرعايا عدله وإنصافه سَالِمَة ممالكه من المخافة إِلَى أَن دَعَاهُ دَاعِي الْحق فلباه وانتقل من هَذِه الدَّار إِلَى دَار كَرَامَة مَوْلَاهُ لَيْلَة تاسوعا افْتِتَاح سنة 992 اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بِالْقربِ من وَادي البيار من جِهَة الْيمن فَحمل إِلَى مَكَّة وجهز وَصلى عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْعَصْر فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عِنْد بَاب الْكَعْبَة الأفندي مرزا مخدوم وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة مَوْجُودَة عَلَيْهَا أوقاف محدودة وتخلف وَلَده الشريف حسن لحفظ الْبِلَاد وقطعاً لدواعي الْفساد وَجعلت لَهُ ربعَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وبالتربة حضرها الشريف حسن وَإِخْوَته وَجَمِيع الْأَشْرَاف والأعيان من أهل مَكَّة والعربان قدس الله روحه وَنور ضريحه وَعمر الشريف أبي نمي ثَمَانُون سنة وَشهر وَاحِد وَيَوْم وَاحِد وَمُدَّة ولَايَته مشاركاً لِأَبِيهِ ولولديه الشريف أَحْمد والشريف حسن ومستقلاً نَحْو ثَلَاث وَسبعين سنة(4/347)
وَكَانَ رَحمَه الله صَاحب خيرات متواترة ومبرات كَثِيرَة متكاثرة أسس لأبنائه معالم الْكَرم وحثهم على شرِيف المناقب والشيم نسج بَينهم الْمَوَدَّة على منوال الصَّفَا وَحَملهمْ على الصدْق فِيمَا بيهم والوفا وَبنى بِمَكَّة رِبَاطًا للْفُقَرَاء الذُّكُور ورباطاً للنِّسَاء الشرائف وأوقف عَلَيْهِم أوقافاً إِلَى الْآن جَارِيَة فِي صحائفه وَكَانَ لَهُ جملَة من الْأَوْلَاد مِنْهُم أَحْمد وَالْحسن وثقبة وبركات وَبشير وراجح وَمَنْصُور وسرور وناصر وصالحة وشمسية وغبية وصليبة وموزة وَرَايَة وَغَيرهم قلت وَرَأَيْت نتفة لبَعض شعراء ذَلِك الزَّمَان وَلم ينسبها الْكَاتِب إِلَى شخص بِعَيْنِه وَهِي فِي الشريف أبي نمي أَحْبَبْت ذكرهَا هِيَ // (من السَّرِيع) //
(يَا فارسَ الخيلِ فهرْتَ العدا ... ألتُّرْكُ والعُرْبَانُ والتُّرْكَمَانْ)
(مَوْلَاك أعطاكَ خِصالاً بهَا ... أصبحتَ فى الناسِ فريدَ الزمانْ)
(قأنتَ فِي حلْمٍ بعيد المدى ... قَرِيب إحسانٍ وحُلْو اللسانْ)
(فَلَا تَخَفْ مِنْ بعد ذَا كربةًِ ... فَمَا قَضَاهُ اللهُ بالأمْرِ كانْ)
(فاللهُ يبقيكَ لنا آمنا ... كَمَا أذقْتَ الناسَ طَعْمَ الأمانْ)
قلت قد أبان هَذَا الشَّاعِر عَن فضاخة اللِّسَان لَا فَصَاحَته وضيق الْبَيَان لَا فساحته إِلَّا أَنه يدْخل عَن الِاعْتِرَاض فِي أَمَان بَيت الْأمان فَلَعَلَّ أَن يمحو الْإِسَاءَة الْإِحْسَان فسبحان خَالق الْإِنْسَان وَقَالَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الزمزمي مُعَارضا قصيدة ابْن خطيب داريا الَّتِي مطْلعهَا // (من السَّرِيع) //
(قُمْ عاطِنى الصهباءَ يَا مُؤْنِسِي ... )
وَكَانَ هَذَا الْإِعْرَاض بإلزام لَهُ من مَوْلَانَا الشريف أبي نمي فَقَالَ يمدحه ويهنيه بعرس ابْنه الشريف أَحْمد بن أبي نمي // (من السَّرِيع) //
(لِيَحْتَسِ الصَّهْبَاءَ من يحتَسِي ... حَسْبى لمَى مرشفِكَ الألعْسِ)
(حل فأطلقْ مِنْهُ كأْسِى وَلَا ... توحشْ بِحَبْس الكأس يَا مُؤْنِسِي)
(مِنْ طرفِكَ الوسنانِ والخَدِّ مَا ... يهزأُ بالوردِ وبالنرجسِ)
(وجهُكَ لي روضٌ جديدٌ إِذا ... أخلقَتِ الأرْضُ القبا السندسِي)(4/348)
(رنحت قَدَّا قَالَ للغصْنِ مِنْ ... عِطْفى استعِرْ لينًا ومثلي مِسِ)
(غَرِّدْ لنا واشْدُ فها أنْتَ مِنْ ... شعركَ كالشُّحْرُورِ فِي بُرْنُسِ)
(أنتَ سميري ونديمي فلِي ... فاكهةٌ من لفظِكَ الاكْيَسِ)
(ضوءُكَ فِي جنحِ الدجَى ساطعٌ ... فذكْرُ ضوء الشمْعِ مَعَه نُسِي)
(فيكَ جميعُ البسطِ يَا فَاتَنِي ... بسط إِذا خلتك فِي المجلِسِ)
(لقد صفا العَيْشُ بسفْحِ الصَّفَا ... وأحْسَنَ الصنعَ الزمانُ المُسِي)
(فعاطِنِى من فيكَ مسكية ... ينفحُ مِنْهَا الطيبُ فِي المعطسِ)
(وَاجْلُ صدا نَفسِي بأنفاسِهَا ... فَإِنَّهَا تجلُو صدا الأنفُسِ)
(لَهَا حبابٌ من ثناياك قَدْ ... حكتهُ شهبُ الفُلُكِ الأطْلَسِ)
(طَاهِرَة طِبْت وطابَتْ فَلم ... يحرمْ تعاطيها وَلم تنجسِ)
(تِلْكَ سُلافى لَسْتُ مِنْ غَيرهَا ... أرتشفُ الراحَ وَلَا أحتَسِي)
(مَا لي وللخمْرِ وشرَّابِهَا ... إياكِ يَا نفْس بهم تَأْتَسِي)
(منْ كلِّ سفسافٍ إِذا سَفَّها ... يبذي ويَهْذِى ثمَّ لَا يَنْبِسِ)
(قد نجسوا مِنْهَا فَلم يفكروا ... فى نَجِسِ الماءِ وَلم ينجسِ)
(أخبارُهَا قد دُرسَتْ بَينهم ... فِي كتُبٍ يَا ليتَ لم تُدْرَسِ)
(حديثهُمْ فُحْشٌ وجهلٌ فَلَا ... تسمعُ لَا أُفْتِ وَلَا أدرسِ)
(للهِ أوقاتٌ تقضَّتْ لنا ... معْ كلِّ شهمٍ فكِه كيسِ)
(ونحنُ فِي مجلسِ أنسٍ بِهِ ... أَبُو نميِّ صَاحب المجلسِ)
(سلطانُ أقطارِ الحجازِ الَّذِي ... بِغَيْرِهِ الأقطارُ لم تحرسِ)
(مولى لَهُ ذوقٌ وفهمٌ فَفِي ... مجلسِهِ الآدابُ لم تبخسِ)
(للفضلِ سوقٌ عِنْده نافقٌ ... لكلِّ مثرٍ مِنْهُ لم يفلسِ)
(للهِ أخلاقٌ لَهُ سمحةٌ ... تقولُ للضيفِ إدْنُ واستَأْنِسِ)
(أَيْأَسَنِى دَهْرِى فلمَّا رنا ... إِلَيْهِ قَالَ ارْجُ وَلَا تَيْأَسِ)
(ينسى الَّذِي يوليكَ مِنْ فَضله ... لكنْ ثناه شائعٌ مَا نُسِي)
(أعداؤُهُ دنسهم لؤمهُمْ ... وعرضُهُ الأبيضُ لم يدنسِ)
(إِن عدَّتِ الفرسانُ فَهْوَ الَّذِي ... يدعَى غداةَ الروع بالأفرسِ)(4/349)
(هُوَ المليكُ الممتطِى صهوةً ... من المعالِى قَطُّ لم تمسسِ)
(تدبيرُهُ الملكَ لَهُ ديْدَنٌ ... فَلم يَنَمْ عَنهُ وَلم ينعسِ)
(كُلُّ عزيزٍ ذلَّ من بأسِهِ ... وهابه الروميُّ والشركسِي)
(سلِ النصارَى عِنْد مَا قارَبُوا ... جدة عَن جدهم الأتعسِ)
(مَاذَا الَّذِي نَكَّسَ أعلامهم ... عَنْهَا نَعَمْ لولاه لم تنكسِ)
(ثمَّ انثنَوْا للهندِ والرعْبُ فِي ... قلوبهمِ سَارَ إِلَى قبرسِ)
(نُصِرْتَ بالرعبِ عَلَيْهِم وَلم ... لَا بأبيكَ المصطفَى تأتسي)
(فاستبعَدُوا الأقرَبَ واستَقْرَبُوا الأبعَدَ ... من طورهمُ الأقدسِ)
(أتَوْكَ كالبَحْرِ فصاروا لدَى ... بحركَ كالحسوةِ للمحتسِي)
(أتاهُمُ أنكَ فِي قوةٍ ... من العوالي والظبا والقِسِي)
(أعددتَّ جَيْشًا لَو بهم بحره ... أحاطَ لم يَنْجُوا من المغطسِ)
(وكلُّ طرفٍ سَابق سابح ... فِي لج بحرٍ النَّقْع لم يغطسِ)
(يفترسُ الْأسد على ظهرِهِ ... من الأعادِى كلٌ مستفرسِ)
(هُمْ كأسودِ الغابِ لكنَّها ... دونهُمُ فِي شرسِ الأنفسِ)
(من حسنٍ يَنْمُو إِلَى سَيِّدٍ ... لَهُم هِزَبْر فِي الوغَى أحمسِي)
(نجومُهُمْ دارتْ على أبلجٍ ... كبدرِ تمِّ بالسنا مكتسي)
(مِنْ دوحةٍ ثابتةٍ غضةٍ ... والأصلُ مِنْهَا طيبُ المغرسِ)
(تنمى إِلَى السبطَيْنِ مِنْ فاطمٍ ... أكرِمْ بِهِ من نسبٍ أقعسِ)
(يَا ملكا لَو قابَلَ السَّعْد من ... غرته كيوان لم ينحسِ)
(إنْ يبسَ الدهْر عَلَى أهلِهِ ... أمّوا فِناءً مِنْك لم ييبسِ)
(محسنُهُمْ تحسن فِي حقِّه ... وَإِن أساءوا لسْتَ ممنْ يُسِي)
(كنتَ لنا نجم حمى أفْقنا ... شهابُهُ من ماردٍ أشرسِ)
(يَا لَكُمَا مِنْ ملكَيْ كورةٍ ... قد كسياها أَفْخَرَ الملبسِ)
(يَا لَكمَا من فارسَيْ غارةٍ ... من خسياه فِي مغارٍ خُسِي)
(يَا لَكمَا من قائدَيْ عسكرٍ ... حديدُهُ منْ نقعه مكتسِي)
(شمساً وبدراً ينفعان الورَى ... نورهما يجلو دُجَى الحندسِ)(4/350)
(أَبُو نميِّ وابنُهُ أحمدٌ ... ألقسوريُّ الخشنُ الملمسِ)
(زُفَّتْ لَهُ غيداءُ خرعوبةٌ ... عذراءُ لم تطمثْ وَلم تمسسِ)
(ليهنِهِ هَذَا الزواجُ الَّذِي ... أبهَجَهُ بالرشأ الألعسِ)
(لَا زَالَ فِي عيشٍ لذيذٍ بهَا ... ودامَ من قَهْوتها محتسِي)
(فاحفظْ علينا الأصْلَ والفرْعَ يَا ... رب وحُطْ ملكهمَا واحرسِ)
(يَا مَنْ بِهِ الشعْرُ سما ذرْوَة ... على دراري الفلكِ الأطلسِ)
(هاكَ قريضاً أنتَ أدرَى بِمَا ... فِي سلكِهِ من جوهرٍ أنفسِ)
(أمرتَنِى أنظمُ شعرًا على ... قُمْ عاطِنى الصهباءَ يَا مُؤْنِسِي)
(فقمْتُ مرتاحاً إِلَى نظمِهِ ... وَلم أحلْ عَنهُ وَلم أخنسِ)
(فَحَبَّ هَذَا الْأَحْسَن الوَقْع من ... شِعْرِى لَدَى إصغائِكَ الأكيسِ)
(أَو لَا فعُذرى أنني عاجرٌ ... وفيكَ يُوفي خبْرَة الكيسِ)
(أنمر مِنْ مدحِكَ حَتَّى غَدا ... طَلْقُ لساني فِيهِ كالأخرسِ)
(أيُّ فصيح فِيك يَرْجُو القَضَا ... وَلم يَعُدْ كالألكَنِ المبلسِ)
(فعشْ لنا دهراً ودُمْ للعلا ... والمدْح للراح وللأكؤسِ)
(مَا دُمْت للإقبال رَأْسا وَمَا ... دامَتْ مواطيك على الأرؤُسِ)
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن باكثير وَقد اقترح عَلَيْهِ مَوْلَانَا الشريف أَبُو نمي مُعَارضَة قصيدة الطَّيِّبِيّ الخمرية الَّتِي مطْلعهَا // (من الْخَفِيف) //
(بَرَزَتْ فِي الكئوسِ كالإبريز ... )
فعارضها على الْبَحْر والقافية وَالْمعْنَى واستخلص فِي مدحه فَقَالَ وَذَلِكَ سنة 949 تسع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة // (من الْخَفِيف) //
(خَطَرَتْ فِي مثَقفٍ مهزوزِ ... كَمْ بِهِ من متيَّمٍ موكوزِ)
(ورنَتْ فانتضَتْ حساماً تحلَّى ... جفْنه من حلاوةِ التلويزِ)
(سِحْرُ هاروتِهِ يخيلُ مَاء ... ولهيباً فِي خَدّها الإبريزِي)
(وبتخييله تَبَلَّه قلبِي ... فِي هَوَاهُ وجُنَّ عَقْلِي الغريزي)
(ودموعي تَسَلْسَلَتْ فشفائي ... باللقا لَا بطلسمٍ وحروزِ)
(أَو بصهباء رِيقهَا حينَ تجلى ... للندامَى بثغرها لَا بكوزِ)(4/351)
(أَو بظلمٍ يسقى زهور أقاحٍ ... نابتٍ فِي وِشَاحها الفيروزي)
(أَو بشهدٍ من الشفاه حلاه ... لم تَشُبْهُ مرارةُ التمزيزِ)
(أَو بريقٍ من الثَّنية يُطْفِي ... من حَشا مهجتي لَظَى تمّوزِ)
(أَو بإحداقها إِذا مَا أدارَتْ ... كاسَ غنجٍ من خمرةِ التغميزِ)
(أَو بساجي لحاظها حِين تُومِي ... لوصالي بخافياتِ الرموزِ)
(أَو براح فِيهَا ارتياحٌ لروحي ... وشفاءٌ لقلبي الموخوزِ)
(آهِ لَو ساعَدَ الشبابُ عَلَيْهَا ... والليالي وَمُوجب التجويزِ)
(كُنْتُ دهقانَهَا الخبيرَ وكانَتْ ... فِئَة البسطِ فِي يديَّ وحوزِي)
(غير أنَّ الْجَوَاز عزّ ورأسى ... سابَ والدهْرُ مر قيزاً بقيزِ)
(فتحامَيْتُهَا وَإِن كَانَ أَمْرِي ... باحتساها أَمْر المبيحِ المجيزِ)
(خمرةٌ مدت الْحباب شباكاً ... لاقتناصِ اللذاتِ وقتَ النهوزِ)
(هَاتِهَا لي تَنْفِي الهمومَ وتُوفِى ... لِىَ وعدَ السرورِ بالتنجيزِ)
(هاتِها لي شَمْسًا مغيب سناها ... فِي فؤادى وبرجها قطر ميزي)
(هَاتِهَا لي روحاً من النارِ حَلَّتْ ... جِسْمَ نورٍ لظاه طب أزيزي)
(هَاتِهَا تعبدُ المجوسُ لظاها ... ليلةَ المهرجانِ والنيروزِ)
(هَاتِهَا ذَوْب عسجدٍ فِي لُجَيْنٍ ... ظفرَتْ مِنْهُ راحتي بالكنوزِ)
(هَاتِهَا قد غَنِيتُ مذ صَار خمري ... مِنْ نضارٍ أكتاله بالقفيزِ)
(هَاتِهَا لي قد ضاعَ تمييزُ عَقْلِي ... مُنْذُ هَمَّتْ من كاسها بالبروزِ)
(هَاتِهَا لي أدورُ فِي لَيْلِ سُكري ... بسراجٍ مِنْهَا على تمييزِي)
(هَاتِهَا فالتهابُهَا بند جيشٍ ... مِنْ صدا القلبِ هَمَّ بالتبريزِ)
(هَاتِهَا لي فَلَو بَدَتْ جنحَ ليلٍ ... خرقَتْ أفقَ أدمِهِ المخروزِ)
(هَاتِهَا لي صفراءَ فِي جامِ تبرٍ ... تتهادَى فِي حُلَّةِ هرموزِ)
(هَاتِهَا لي عروسَ دَنِّ تجلَّتْ ... من لآلي حبابِهَا فِي حروزِ)
(هَاتِهَا لي كالشمْسِ تجلى بكاسِ ... كضياءِ النهارِ من غيرِ ميزِ)
(هَاتِهَا لي تروي عظامِى وتسقِي ... من حشاىَ نَبَات أرضٍ جروزِ)
(هَاتِهَا لي من لَام فِيهَا إِذا مَا ... صَدَحَ الديكُ فَهُوَ فى توزيرِ)(4/352)
(هَاتِهَا لي فالعيشُ عصرُ شرابٍ ... أَو شباب يفنى بشمطا عجوزِ)
(هَاتِهَا لي فالعمر من غيرِ راحٍ ... أَو رداح يمرُّ بالتجليزِ)
(هَاتِهَا لى فلَثْمُ درّ جباب ... أَو حبيب يُغني عَن التعويزِ)
(هَاتِهَا لي صرفا ومزجاً بظلْمٍ ... بَين دُرِّ وسط اللمى مغروزِ)
(هَاتِهَا لي فليسَ بَين نداما ... ى وحُورِ الجنانِ من تمييزِ)
(هَاتِهَا لي فإنني بَين بدرٍ ... وكثيبٍ وأسْمَرٍ مهزوزِ)
(هَاتِهَا لي فإنَّ عِنْدِي هلالاً ... فَوق غصْنٍ على نقا مغروزِ)
(هَاتِهَا لى فمجلسى فِيهِ رُمَّانُ ... نهودٍ حَلَوْنَ من تمزيزِ)
(هَاتِهَا كم لَدَيَّ من حُقِّ نهدٍ ... تحتَ مسمارِ عنبرٍ ملزوزِ)
(هَاتِهَا لي وَلَو كبرتُ وأحنَتْ ... قوسَ ظَهْري سيخوخةُ التعكيزِ)
(هَاتِهَا لي وَلَو هرمْتُ وأوهَى ... حمل كاسى يديَّ من تعجيزِ)
(هَاتِهَا لي وَلَو وهَتْ قُوَّة الشّرْبِ ... فحسبي مِنْ كاسها تمزيزِي)
(هَاتِهَا لي وَلَو تدانَى حِمَامي ... وتداعَى صحبى إِلَى تجهيزِي)
(هَاتِهَا لي فمخلصي مِنْ خطاها ... فِي معادي مدح المليكِ العزيزِ)
(ذِي الْمَعَالِي أَبى نُمَيِّ تعالَى ... عَن بسيطٍ من الثنا ووجيزِ)
(ملكٌ فاق ملكُهُ ملكَ سابورَ ... وكِسْرَى وقيصرٍ وابرويزِ)
(ملكٌ لَا يزالُ كفُّ الثريا ... من معاليه آخِذا بالغروزِ)
(ملكٌ قد أبانَ للمجْدِ معنى ... كَانَ لَوْلَا علاهُ كالملغوزِ)
(ملكٌ قالتِ السما لعُلاَه ... قد خفضتي فَبِي قفي أَو فجوزِي)
(ملكٌ قَالَ دهره لليالي ... ذَا مليكٌ بمثلِهِ لَنْ تفوزِي)
(هُوَ تاجٌ لمفرقِى وطرازٌ ... مِنْهُ عِطْفى قد زينَ بالتطريزِ)
(نبويُّ الأنوارِ نورُ مُحَيَّاهُ ... يزيحُ الظلامَ من تبريزِ)
(نشرَتْ فَوْقه النبوةُ بنداً ... خافقاً بالتكريمِ والتعزيزِ)
(لَا يسامي وَلَا يُطَاولْ عُلاَهُ ... غَيْرُ فدمٍ بغيِّه منبوزِ)
(هُوَ يَبْدُو فِي خلعةِ الملكِ سَام ... والمسامي فِي بِذْلَةِ الملموزِ)
(فخرُ كلِّ الملوكِ مِنْهُ وكل ... خصَّ مِنْهُ بمفخرٍ مفروزِ)(4/353)
(يبهر العقلَ فَهُوَ فِي التخْتِ بدرٌ ... وَهُوَ ليْتٌ فِي لاذِهِ المدروزِ)
(صَار فولاذُهُ أخفَّ وأحلَى ... فَوْقه مِنْ موشياتِ الخزوزِ)
(ترجفُ البيضُ مِنْهُ والدهْرُ يُمْسِي ... فرْعًا من سطاهُ فِي تفزيزِ)
(مستجيراً بِهِ وإنْ رام فعلا ... فِي البرايا فمنْهُ كالمستجيزِ)
(بالتجاريبِ والظبا والعطايا ... منفدُ الدهرِ والعدا والركيزِ)
(تضحكُ البيضُ حِين تنظر قوسي ... جاجبَيْهِ بالغيظِ فِي تكييزِ)
(وَإِذا مَا استهلَّ تبْكي من المالِ ... عيونٌ من عسجدٍ مكنوزِ)
(فِي العطا والسطا وفى العَدْلِ والفضلِ ... وعَمْرو وَمَا ابْن عبد العزيزِ)
(ولدَى حلمه وآرا نُهَاه ... مَا ابنُ قيسٍ وَمَا نُهَى فَيْروزِ)
(ملأَ الأرضَ عدلُهُ فالرعايا ... لَو تديمُ السرى إِلَى شهروزِ)
(هم مِنَ العدلِ فِي محلِّ حصينٍ ... وَمن الأمنِ فِي مكانٍ حريزِ)
(أمنُوا فِي زمانِهِ الظلْمَ حَتَّى ... أصبَحَ الذيبُ رَاعيا للمعيزِ)
(فاطميٌّ يرد صَرْفَ اللَّيَالِي ... عزمُهُ لَو بفيلقٍ مِنْهُ غوزي)
(ويفلُّ الْخَمِيس والأُسْد فِيهِ ... كنجوم السماءِ أَو رمل قوزِ)
(أرعف السمر بالدما فَلهَذَا ... نحلَتْ من نزيفها بالنزيز)
(للطلا والكلا انتْشَار ونظْمٌ ... بظباه ولَدْنِهِ المهزوزِ)
(مِنْ سَطَا الدهرِ فَهُوَ أوفَى مجيرٍ ... ولوفْدِ الثناءِ أوفَى مجيزِ)
(من يقسه بالسحبِ يخطي وَيَغْدُو ... ساخراً بالسحابِ فِي تطنيزِ)
(هِيَ تُعْطِي مَاء وتبكِى وَهَذَا ... فِي ابتسامٍ يجودُ بالإبريزِ)
(خدمَتْهُ العلياءُ طَوْعًا وظلَّتْ ... فِي إباءٍ لغيرِهِ ونشوزِ)
(كيفَ يُوفي الثناءَ فِيهِ قريضٌ ... بعَروضٍ مقطعٍ محزوزِ)
(والكتابُ العزيزُ أثنَى عَلَيْهِ ... بثناءٍ يَعْلُو عَن الأرجوزِ)
(وَله المصطفَى دَعَا بدعاءٍ ... أمنتْهُ أُسْكُفَّةُ الإفريزِ)
(فعلى الخَلْقِ سعده لَو تجزا ... لم تجدْ غير مسعد معزوزِ)
(يَا مليكاً قد جلَّ ذاتاً وَقدرا ... عَن صريحِ الثناءِ والمرموزِ)
(فِي مراضيكَ قد سعى الدهْرُ طَوْعًا ... لَك مِنْهُ من غَيْرِ مَا تكزيزِ)(4/354)
(والتشاريفُ وُرْقُهَا بالتهاني ... لَك تَشْدُو فِي نغمةِ النيروزِ)
(وبتخليدِ ملكِكَ الفلكُ الدائر ... يَجْرِى فِي قُطْبِهِ المركوزِ)
(فَارْقَ فَرْقَ الْعليا وهاك قريضاً ... ألبَسَ الغيرَ حُلَّةَ التعجيزِ)
(واستحقَّ التصدير فِي الْمجد فاعجبْ ... لاجتماعِ التصديرِ والتعجيزِ)
(فعله فِي العقولِ فعلُ الحميَّا ... وَتَعَالَى عَن حرمةِ التحجيزِ)
(من يفته سُكْرُ الطلا يلقَ فِيهِ ... سُكْرَ من لَا بإهنة الحَدِّ جوزي)
(خَتمه الْمسك بِالصَّلَاةِ على مَنْ ... خصَّ فى فتحِهِ بنصرٍ عزيزِ)
ولمولانا الشريف أبي نمي نَفسه مُعَارضا قصيدة التلعفري الَّتِي مطْلعهَا // (من الْكَامِل) //
(سَمَحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري ... )
فَقَالَ طَابَ ثراه // (من الْكَامِل) //
(نَامَ الخلىُّ فَمَنْ لجفني الساهرِ ... إذْ باتَ سلطانُ الغرامِ مُسَامِرِي)
(جَفَتِ المضاجعُ جانبيَّ كَأَنَّمَا ... شوكُ القتادِ على الفراشِ مباشِرِي)
(وتأجَّجَتْ نارُ الغرامِ وأضرمَتْ ... بَين الجوانحِ فِي مكنِّ سرائرِي)
(وشجيتُ من ألم الفراقِ وخانني ... صَبْرِى الوقىُّ على الخطوبِ وناصِرِي)
(أُفِّ على الدُّنْيَا فَمَا مِنْ معشرٍ ... إِلَّا وأودَتْهُمْ بخطبٍ قاهرِ)
(فى كلِّ يومٍ للنوائبِ غارةٌ ... أَيدي النوائبِ هنَّ أغدرُ غادرِ)
(خلَتِ المنازلُ من أُهَيْلِ مودتي ... وهُمُ هُمُ فِي الحيِّ قُرَّة ناظرِي)
(أهلُ الصَّفَا بَين الصَّفَا وطويلعٍ ... ملقى جِيَاد وفيض أشعب عامرِ)
(يَا أهل ودِّى لَو تروني بعدكُمْ ... كغريبِ قومٍ بَين أَهلِي حائرِ)
(كَانُوا فبانوا ثُمَّ بَان تجلُّدي ... ومصيرهم لَا بُدَّ مِنْهُ لصائِرِ)
(من بَعْد جيرانِ الصَّفَا أهلِ الوفا ... سمحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري)
وَقَالَ الْعَلامَة باكثير أَيْضا يمدحه ويمدح أَوْلَاده الشريف حسن وَالسَّيِّد ثقبة وَالسَّيِّد بَرَكَات وَالسَّيِّد رَاجِح وَالسَّيِّد بشير رَحِمهم الله أَجْمَعِينَ // (من الْخَفِيف) //
(أعيونٌ رَنَوْا بهَا أم صفاحُ ... وقدودٌ ماسُوا بهَا أم رماحُ)
(وثغورٌ تلألأتْ أم بروقٌ ... وثنايا تبسَّمَتْ أم أقاحُ)(4/355)
(وبدورٌ تضئ فِي جنْحِ ليلٍ ... أم شعورٌ فِيهَا وجوهٌ صباحُ)
(وعيونٌ جفونهن سيوفٌ ... أم لحاظٌ أحداقها أقداحُ)
(وظباءٌ حلُّوا الغضا وأشبوا ... نارَهُ فِي جوانحي أم ملاحُ)
(ومهاةٌ منهنَّ قد فوقَتْ لي ... سهم قَوْسٍ من حاجبٍ أم رداحُ)
(غادةٌ عذبةُ المراشفِ لميا ... فِي لماها شهْدٌ مذابٌ وراحُ)
(لي ببردِ الرضابِ مِنْهَا اغتباقٌ ... وبظلمِ الشنيب مِنْهَا اصطباحُ)
(صاحِ مَالِي إِلَّا أبل أجاجاً ... مِنْ دموعي والثغْرُ عذبٌ قراحُ)
(طفلةٌ لحظها يتيحُ المنايا ... حينَ ترنو بِهِ عيونٌ وقاحُ)
(مدنفات تكسو المحبَّ سقاماً ... فاتكات فهنَّ كسْرَى صحاحُ)
(فِي رديني قدها ولحاظَىْ ... مقلتَيْهَا السيوفُ والأرماحُ)
(حكَتِ الغصنَ والمتيَّمُ مِنْهَا ... شابه الورْق شجوه والنواحُ)
(وَهُوَ فِي حبها الأمينُ ولكنْ ... خانه فِيهِ طرفُهَا السفاحُ)
(وَأَبُو طالبِ الْوِصَال فُؤَادِي ... قد كواه مِنْ هجرها الضَّحْضَاحُ)
(إِن تفضْ مقلتي دَمًا لَا عجيبٌ ... فحشايَ لقَدْ ملاه الجراحُ)
(عاذلى اقْصِرْ فلنْ يضرَّكَ غيٌّ ... كَانَ منِّى وَلم يفدْكَ صلاحُ)
(لذَّ فِيهَا ذًُلِّى فعندي سواءُ ... فِي هَواهَا الإفسادُ والإصلاحُ)
(إِن تثنَّتْ تريكَ غصناً وحقفاً ... وَمَسَاء من تَحْتَهُ الإصباحُ)
(ردفُهَا قَالَ للكثيبِ تأخَّرْ ... لستَ وَزْنى فلي عليكَ الرجاحُ)
(مسندات لنا اعتدالاً وجوراً ... عَن قِنَا قَدِّها العوالي الصحاحُ)
(قد قَسَتْ مهجةٌ ورقَّتْ خدوداً ... كَاد من لحظنا عَلَيْهَا انجراحُ)
(يعتريها الحيا فتخجَلُ لكنْ ... جَفْنها يَعْتَرِيه مِنْهُ انفتاحُ)
(يَا لَهَا مِنْ عقليةٍ دون مرمَى ... خدرِهَا كم غدَتْ وَمَا تستباحُ)
(طلبَتْ زورتي اختفاءً لئلاَّ ... يعتريها من الوشاةِ افتضاحُ)
(كيفَ تُخْفى زيارتِى وَهِي شمْسٌ ... والليالي ضياؤُهَا فضاحُ)
(من محيَّا أبي نميِّ أضاءَتْ ... فَهُوَ بدْرٌ وكوكبٌ وصباحُ)
(ملكٌ جوهرُ الرسالةِ تاجٌ ... لعلاه وللفخارِ وِشاحُ)(4/356)
(قد تحلَّى بِهِ وَزَانَ حُلاَهُ ... إتزارٌ بفخره واتشاحُ)
(وَبَنى فِي مفارقِ الملكِ دَارا ... طابَ فِيهَا غدوةُ والرواحُ)
(حلَّ فِيهَا مراتباً مَا لفكْرٍ ... لتمني إدراكهنَّ طماحُ)
(خدمته العلياءُ طَوْعًا وأمسَتْ ... وَلها عَن سوى علاهُ جماحُ)
(وَله همةٌ يضيقُ بهَا الدَّهْرُ ... وَفِي صَدْرِهِ لَدَيْهَا انفساحُ)
(لعلاها تعنو الدراريْ ولكنْ ... حاسداها العوَّاءُ والنّطَّاحُ)
(راحتاه للصّيدِ مِنْهَا ارتياعٌ ... مثل مَا للعفاةِ مِنْهَا امتياحُ)
(إِن يجد فالمَهَامِهُ الفيحُ بحرٌ ... أَو يجلْ فالشمامُ بيدٌ فِسَاحُ)
(حِين يحمى الْوَطِيس والبيضُ تهمي ... بالمنايا وتسلبُ الأرواحُ)
(وسعيرُ الوغَى يشبُّ جلاداً ... لزنادِ المنونِ مِنْهُ اقتداحُ)
(وأسودُ الشرا يطافُ عليهمْ ... كاس حَينٍ مزاجُهَا الأتراحُ)
(ووجوه الكماةِ والشوس فِيهِ ... قد عراها مِنَ النزالِ كلاحُ)
(يرد الْحَرْب وَهُوَ طَلْقُ الْمحيا ... ثابتُ الجأشِ بَاسِمٌ مِفْراحُ)
(ويبيدُ الجيوش والأسد فِيهِ ... زمرٌ دون عدهنَّ البطاحُ)
(وَإِذا مَا وهَى من الدهرِ خطبٌ ... أَو مُلِمٌّ من صَرْفِهِ فَدَّاحُ)
(لم يزلْ دجْنه ويجلوه إِلَّا ... رَأْيه فَهُوَ ثاقبٌ قداحُ)
(مَا ذَوُو الشور فِيهِ إِلَّا ظباه ... وقناه فَهُمْ لَهُ نصاحُ)
(ألمعيٌّ يكادُ بالحدسِ يدْرِي ... مَا بِهِ قد جَرَى القضاءُ المتاحُ)
(طوَّقَ الخَلْقَ بالعطا فثناه ... لَا لسانٌ إِلَّا بِهِ صدَّاحُ)
(ونداه فِي الخافِقَيْنِ يُلَبِّي ... صَوت منْ شفَّه عَنا واجتياحُ)
(آيةٌ موسويَّةٌ فِي يدَيْهِ ... للمعالي فِيهَا هُدًى واتضاحُ)
(فَهِيَ طوراً فِيهَا زلالٌ هني ... وَهْىَ طوراً فِيهَا سِمَامٌ صُراحُ)
(ذاتُ ظهرٍ للاستلامِ وبطنٍ ... فِيهِ للرزق والغنَى مفتاحُ)
(وسجاياه للزمانِ طرازٌ ... نَضَّدَتْهُ بدرِّهَا المداحُ)
(عَلَّمْتهمْ مديحه حينَ ضَلَّتْ ... فِي علاهُ الأفكارُ والأمداحُ)
(يَا مليكاً علَتْ حلاه فجلَّتْ ... عَن قريضٍ فِيهِ ثَنَا وامتداحُ)(4/357)
(أظهر الْملك من بنيك ملوكٌ ... هم مصابيحُ أُفقِهِ حيثُ لاحوا)
(بل تراهم ضراغماً أبرزتْهُمْ ... غابة المُلْكِ إذْ ألمَّ الكفاحُ)
(فَإِذا مَا انتضيتُمُ لضرابٍ ... أثخنوه فَهُمْ لديك صفاحُ)
(وَإِذا مَا فوَّقْتَهُمْ فسهامٌ ... صائباتٌ لمَّا تطيشُ القداحُ)
(وَإِذا مَا هززتَهُمْ لطعانٍ ... جوَّدوه فهم يَقِينا رماحُ)
(سِيمَا مَنْ غزا وجاءَ بنصْرٍ ... بالهنا فِيهِ عمَّتِ الأفراحُ)
(حسنٌ من بِهِ الممالك تزهو ... ولكلِّ مِنْهَا إِلَيْهِ ارتياحُ)
(فبه روضُهُنَّ يثمرُ عدلا ... ودُجَى الظلمِ مِنْ سَمَّاهَا يزاحُ)
(ملكٌ إِن غزا ملا الأرضَ جَيْشًا ... وَإِذا مَا سخا ملاها السماحُ)
(زَاد تشريف مَكَّةٍ حِين أمسَى ... وَهْوَ فِيهَا مليكُهَا الجحجاحُ)
(وَكَذَا طيبةُ الشريفةُ زادَتْ ... مِنْهُ طيبا فعرفها فَيَّاحُ)
(رُبَّ عزمٍ يصيرُ المَاء جمراً ... يستعيرُ المضاءَ مِنْهُ السلاحُ)
(فالقلاعُ المحصناتُ الرواسِي ... مَا لَهَا غَيْرَ عزمه فتاحُ)
(بالخميس الَّذِي تميدُ الْأَرَاضِي ... مِنْهُ يفنيه عضبُهُ البضاحُ)
(فَإِذا العادياتُ هيَّجْنَ نقعاً ... وملا الجحفَلْينِ مِنْهُ الصياحُ)
(وأدارَتْ يَد الهياجِ كئوساً ... لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْمنية راحُ)
(فتراه ثَبْتَ الجنانِ قَوِيا ... جأشه معلما عراه انشراحُ)
(وَترى القَوْمَ مِنْهُ إِمَّا قتيلٌ ... أَو صريعٌ قد أثخنته الجراحُ)
(مذ أحسَّتْ بغزوه القومُ آبوا ... ولكلِّ مِنْ رعبه ذبَّاحُ)
(واستذلُّوا وأذعنوا وأطاعوا ... ورأَوْا أَن قَتلهمْ يستباحُ)
(وأَتَوْا خِيفةً وإلاَّ لكانوا ... جيفةً مَا ترَى لَهُم أشباحُ)
(ولأمسَتْ حصونُهُمْ دارساتٍ ... دِمَنًا قد سَفَتْ عَلَيْهَا الرياحُ)
(ولأضْحَوْا قوتاً لكلِّ الضواري ... للَّذي منسر لَهُ أَو جناحُ)
(ولسالَتْ مِنْهَا الدماءُ بحوراً ... لمذاكيه كَانَ فِيهَا سباحُ)
(لكنِ العفْوُ مِنْهُ مذ كَانَ طَبْعٌ ... وَله الصفْحُ شرعةٌ وصلاحُ)
(فَعَفَا رَافعا يَد القتْلِ عنهُمْ ... وَله الخيلُ والظبا واللقاحُ)(4/358)
(فهنيئاً لَهُ بنصْرٍ وفتحٍ ... مَا لَهُ فِي الحروبِ عَنهُ براحُ)
(لم يزلْ مَالِكًا لَهُ أنتَ ظهرٌ ... وَله صنوه الكريمُ جناحُ)
(ذُو الْمَعَالِي أَبُو شهَاب المرجَّى ... مَنْ لَدَى جودهِ الغيوثُ شحاحُ)
(ثقبةُ الْملك والندا مِنْ علاهُ ... لَا يدانَى وَمَاله مستباحُ)
(لم يزلْ فِي معارجِ المَجْدِ يرقَى ... مَا لمجدٍ عَن راحَتْيهِ براحُ)
(روضةُ المكرماتِ مِنْهُ رباها ... مزهر وَهْوَ قبله صَوَّاحُ)
(رَأسُ أهلِ العطا فكعبُ الأيادي ... دونه مَا عَلَىَّ فِي ذَا جناحُ)
(أقْسَمَ الجودُ أَن تبرَّ نداه ... لم يزلْ وَهُوَ هاطلٌ سحاحُ)
(قد روى عَنهُ نافعٌ ويسارٌ ... وعطاءٌ وواصلٌ ورباحُ)
(ثَبْتَهُمْ عِنْد مَا تُثِيرُ المذاكي ... عثيراً مُمكنا عَلَيْهِ المراحُ)
(والمنايا مِنَ الأسنةِ ترنو ... وَلها ضيغَمُ الوغَى لمَّاحُ)
(يلجُ المعركَ المؤجَّج طَعنا ... من لظى الموتِ جمره لفاحُ)
(ويبيدُ الجيوشَ مِنْهُ بعضْبٍ ... فَوق غربيه للنفوسِ انسياحُ)
(لم يضارعْهُ فِي معالِيهِ إِلَّا ... غرةُ العترةِ الصميمُ الصراحُ)
(بركاتٌ إنسانُ عَيْنِ الْمَعَالِي ... منْ لقاه للآملين نجاحُ)
(قد تفَيَّا روضَىْ معالٍ ومجدٍ ... وأظلَّتْهُ مِنْهُمَا أدواحُ)
(كَفه للعفاةِ بحرٌ خضمٌّ ... لَيْسَ فِيهِ وليْسَ مِنْهُ انتزاحُ)
(ضيغَمٌ عِنْدَمَا المهنَّدُ يَغْدُو ... وَهُوَ للسفْكِ سائلٌ ملحاحُ)
(وصليلُ السيوفِ والسمْرِ تشدو ... فِي مغارٍ قد طَال مِنْهُ الصياحُ)
(يتلقَّى الهيجا بغرَّةِ وجهٍ ... زَاد مِنْهَا وقْتَ الهياجِ اتضاحُ)
(ويخوضُ الوغَى فترضى المذاكي ... عَنهُ والمرهفاتُ والأرماحُ)
(والهزبرانِ راجحٌ وبشيرٌ ... فِي محيَّاهما الهدَى والفلاحُ)
(فهما ضيغما نزالٍ وبَحْرَا ... كرمٍ فيهمَا السطا والسماحُ)
(من شذا المصطفَى وريحانَتَيْهِ ... طِيبُ ريا ثناهما النفاحُ)
(فابْقَ وَالْملك بدره فِي علاكُمْ ... كَامِل النُّور مَا أَضَاء الصباحُ)
(وهناء ثانٍ بصومِكَ مَعْ مَا ... كَانَ فِيهِ فَهْوَ الحلالُ المباحُ)(4/359)
(فعلى أجزَلِ الأجورِ صيامٌ ... وعَلى أجملِ السرورِ نكاحُ)
(ولعلياكَ عَبْدُ بابك يُنْهِي ... خَبرا ذكره لديكُمْ يُبَاح)
(لرجائي على معاليكَ وعدٌ ... عِنْد ذكرَاهُ مطمعي يرتاحُ)
(لَك فَهْمٌ وَلَيْسَ يطلبُ مني ... يَا إياسَ الذكا لَهُ إيضاحُ)
(فارْقَ فَرْقَ الْعلَا وهاكَ قريضاً ... سبكَتْ تبره القوافي الفصاحُ)
(فأعرْهُ طرفا ليشرفَ مِنْهُ ... لفظُ مبناه والمعانِى الصحاحُ)
(بشذا المسكِ من ذكِيِّ صَلَاتي ... طابَ مِنْهُ خَتْمٌ وطابَ افتتاحُ)
فَأَما الْحسن بن أبي نمي بن بَرَكَات فَكَانَ خَليفَة الْحَرَمَيْنِ شرِيف الطَّرفَيْنِ أمه الشَّرِيفَة الحسيبة السيدة النسيبة فَاطِمَة بنت بِسَاط حملت بِهِ أمه عَام وَفَاة جده بَرَكَات بن مُحَمَّد فِي عَام أحد وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ فِي نشآت السلافة وَلَقَد أَخْبرنِي الشريف حسن رَحمَه الله تَعَالَى شفاهاً أَن والدته حضرت حنوط جده الشريف بَرَكَات وَهِي حَامِل بِهِ فأثر فِيهَا عرف الكافور وَمَا زَالَت تلقى الدَّم حَتَّى خشِي على مَا فِي جوفها من الْحمل إِلَى أَن كَانَ شهر ربيع من عَام اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة أَخذهَا مَا يَأْخُذ النِّسَاء من الطلق فولدته بعد الْيَأْس وَذهب بظهوره عَن النَّاس كل بَأْس فَلَا شكّ أَنه كَانَ مَحْفُوظًا بالعناية الصمدانية حَيْثُ سبق فِي علم الله تَعَالَى جعله خَليفَة فِي الأَرْض مَالك الطول مِنْهَا وَالْعرض مصلحَة مِنْهُ للعباد عَامَّة ونعمة عَظِيمَة تَامَّة ينشر على الْعَالم لِوَاء عدله ويسبغ عَلَيْهِم جِلْبَاب كرمه وفضله وَيحيى مآثر جده الْمُصْطَفى وَيذكر بأقضيته مَا اندرس من أَخْبَار عدُول الخلفا وَيظْهر سر حكمته وخفي قدرته فى افْتِتَاح هَذَا الدّين الأقوم بِمُحَمد
وختمه بِأَهْل بَيته المخصوصين من بَين النَّاس بتولي الله تَعَالَى تطهيرهم من الأرجاس وَمَا زَالَ رَحمَه الله تَعَالَى صاعداً فِي نيرى الْمَعَالِي صادعاً قُلُوب أعدائه بالصعدات العوالي لائحة عَلَيْهِ مخايل السَّعَادَة وَهُوَ فِي مهوده طالعة من أفق السِّيَادَة كواكب مجده وسعوده متلمحاً فِيهِ خِصَال الغر الصَّيْد مترقباً مِنْهُ أَن يكون فِي البسالة صَاد الصناديد(4/360)
فَمَا برح وَهُوَ فِي حجر وَالِده مُؤديا لَهُ الْحُقُوق رَافعا أحمضه الشَّرِيفَة على هام العيوق باذلاً لَهُ الطَّاعَة ساعياً فِي مرضاته بِحَسب الِاسْتِطَاعَة ممتثلاً مَا يصدر من الْأَوَامِر المطاعة إِلَى أَن لبس أَخُوهُ أَحْمد خلعة الإيالة والإمارة فَلبس سيدنَا الخلعة الثَّانِيَة لتَكون على ولَايَة الْعَهْد بعد أَخِيه أَمارَة فاستمر كَذَلِك حَتَّى توفّي أَخُوهُ الشريف أَحْمد فرفلت إِلَيْهِ الْخلَافَة فِي جلبابها الضافي وَأوردهُ الْملك الباذخ موارد منهلها الصافي بسعي أَبِيه المرحوم الشريف أبي نمي فِي عَام 961 إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فَلبس الخلعة الأولى فَكَانَ بهَا أولى فَلم يزل مشاركاً لوالده أبي نمي فِي الْأَمر يدعى لَهُ مَعَه على رُءُوس المنابر والتوقيعات السُّلْطَانِيَّة الثعمانية إِنَّمَا ترد باسمه والتشاريف الخنكارية إِنَّمَا تصل برسمه وَلما كَانَ يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة ورد الْخَبَر إِلَى مَكَّة المشرفة بوفاة مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَكَانَ الْوَاصِل بِهِ سمندر جاشنكير السُّلْطَان سليم وَالِده أرسل إِلَى بِلَاد الْيمن لإعلام مُرَاد باشا صَاحب تعز والتهائم وَإِلَى رضوَان باشا صَاحب صنعا وَالْجِبَال وَكَانَ لليمن إِذْ ذَاك باشتان وَهَذَا الانشقاق هُوَ سَبَب الْعِصْيَان والشقاق بِأَرْض الْيمن بعد أَن كَانَ لَا يحكمها إِلَّا باشا وَاحِد من حِين فتحهَا وَلَكِن كَذَا قدر فوصل سمندر الْمَذْكُور وَاجْتمعَ بالأمير الدفتردار إِبْرَاهِيم الْمَأْمُور بعمارة عين عَرَفَة فَأخْبر بِمَوْت مَوْلَانَا السُّلْطَان فَطلب إِبْرَاهِيم الْأَمِير قَاسم بك نَائِب جدة وَأمين عمَارَة الْمدَارِس السُّلْطَانِيَّة السليمانية واتفقا على الْإِرْسَال للقائد مُحَمَّد بن عقبَة حَاكم مَوْلَانَا الشريف حسن بِمَكَّة ليخبروه بذلك فأرسلا إِلَيْهِ فوصل فَأَخْبَرَاهُ فَأرْسل الْقَائِد من وقته مورقاً إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن وَكَانَ بالخلصية وَأرْسل الآغا مُحَمَّد بن يُونُس باش التّرْك عَسْكَر مَوْلَانَا الشريف حسن مورقاً آخر فوصل المورقان إِلَى الخلصية يَوْم الْجُمُعَة فَركب مَوْلَانَا الشريف حسن وَتوجه إِلَى مَكَّة وَكَانَ الْأَمِير إِبْرَاهِيم والأمير قَاسم أرسلا مورقاً إِلَى القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي وَكَانَ بجدة فَركب وَوصل إِلَى مَكَّة يَوْم الْجُمُعَة واتفقت الآراء أَن يخْطب(4/361)
الْخَطِيب باسم السُّلْطَان سليم ابْن المرحوم السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَكَانَت نوبَة السَّيِّد أبي حَامِد النجاري فأمروه أَن يذكر فِي الْخطْبَة هَذِه الألقاب اللَّهُمَّ وجدد نصْرَة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وشيد قَوَائِم أَرْكَان الدّين المتين بِبَقَاء من جددت بِهِ أَمر الْخلَافَة الْعُظْمَى وشرفت بمقدمه تخت السلطنة وَالْملك الأسمى واخترته خير خلف عَن خير سلف وعوضت بِهِ خير عوض عَمَّن درج إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَسلف وآتيته مَا لم تؤت كثيرا من الْعَالمين ومكنته من سَرِير السلطنة والخلافة أعظم تَمْكِين وأورثته الْخلَافَة الْكُبْرَى كَابِرًا عَن كَابر وملكته الْإِمَامَة الْعُظْمَى وَالسُّلْطَان الباهر وأنرت ببراهينه من مشكاة السَّعَادَة سِرَاجًا وهاجاً وَفتحت بِهِ للرعية أَبْوَاب الْأَمْن وَالْإِيمَان فَطَفِقَ النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا السُّلْطَان الْأَعْظَم والخاقان الْأَكْبَر الأفخم مولى مُلُوك الْعَرَب والعجم مستخدم أَرْبَاب السَّيْف والقلم ملك البرين والبحرين سُلْطَان المشرقين والمغربين خاقَان الْخَافِقين والجديدين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين السُّلْطَان ابْن السُّلْطَان ابْن السُّلْطَان السُّلْطَان سليم خَان ابْن عَبدك وفقيرك المندرج إِلَى رحمتك بِقَضَائِك وتقديرك سُلْطَان سلاطين الزَّمَان خاقَان خواقين الدوران الْفَائِق بعدله عدل كسْرَى أنوشروان المنقاد إِلَى شرعك الشريف الممتثل لأوامرك النافذة وَدينك الْحق المنيف الْوَاقِف عِنْد مُرَاد الله فَلَا يتعداه الْعَامِل فى جَمِيع أُمُوره بتقوى الله المراعى الْعدْل وَالْإِحْسَان فِيمَن استرعاه الْمُجَاهِد المرابط فِي سَبِيل الله الْغَازِي الَّذِي استوعب عمره فِي الْجِهَاد كآبائه الغر الْغُزَاة الَّذِي خرج من بَيته مُهَاجرا فأدركه الْأَجَل المحتوم واصطفاه الله إِلَيْهِ وتوفاه الدَّاخِل فِي زمرة من أنزل الله فِي شَأْنهمْ بثوابه لَهُم وَرضَاهُ {وَمَن يخرُج مِن بيتِه مهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسوله ثمَ يدٌركهُ اَلموتُ فَقَد وَقع أجره على الله} النِّسَاء 100 المرحوم برحمة الله الْملك الرَّحْمَن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان أنزل الله عَلَيْهِ شآبيب الرَّحْمَة والغفران وَقدس روحه الشَّرِيفَة وحفه بِالروحِ وَالريحَان وَجعل الْملك كلمة بَاقِيَة فِي نجله السعيد وعقبه المديد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأعد لَهُ ولآبائه الْكِرَام مَا يَلِيق بكرمه من أَنْوَاع الْعِزّ والكرامة يَا رب الْعَالمين ثمَّ وصل مَوْلَانَا الشريف حسن فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ هُوَ وَأَوْلَاده وَبَعض إخْوَته(4/362)
والأشراف ذَوي مُحَمَّد وَسلم النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ أَمر بالنداء على المآذن بِالصَّلَاةِ جَامِعَة فِي غَد على السُّلْطَان سُلَيْمَان فَلَمَّا كَانَ صبح يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى حضر مَوْلَانَا الشريف حسن وَمَعَهُ السَّادة الْأَشْرَاف وَجَمِيع الْفُقَهَاء الْأَعْيَان وامتلأ الْمَسْجِد بِالنَّاسِ وَجلسَ الشريف حسن بمصلاه إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فوصل إِلَيْهِ الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار والأمير قَاسم نَائِب جدة وسمندر جاشنكير فَقَامَ لَهُم وجلسوا كلهم عَن يَمِينه ثمَّ حضر الأفندى وَجلسَ عَن يَمِين الشريف فَوق الأميرين والجاشنكير وَكَانَ على يسَار الشريف أَخُوهُ مَوْلَانَا السَّيِّد بشير وَتَحْته القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي فَبعد ارْتِفَاع الشَّمْس قدر رمح قَامُوا وتوجهوا إِلَى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ووقفوا عِنْد الْبَاب الشريف فَأَشَارَ مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن أَن يتَقَدَّم لصَلَاة الْغَائِب ونادى الريس من أَعلَى زَمْزَم بِهَذِهِ الْخطْبَة وَهِي الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب العَبْد الْفَقِير إِلَى الله الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله المرابط لإعلاء كلمة الله الَّذِي خرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله الْمُسْتَوْعب جَمِيع عمره فِي قتال أَعدَاء الله الْقَائِم بِنَفسِهِ وَمَاله وَجُنُوده لنصرة دين الله الْوَاقِف عِنْد مُرَاد ربه فَلَا يتعداه المراعي للعدل وَالْإِحْسَان فِيمَن ولي عَلَيْهِ واسترعاه الْمُعظم لشعائر بلد الله الْحَرَام الْمُؤَيد لآل النَّبِي عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمُتَّخذ ودهم ذخيرة عِنْد الله تَعَالَى فِي العقبى عملأ بقوله تَعَالَى {قل لَا أسئلكم عليهِ أجرا إِلا المَوَدةَ فِي القُربى} الشورى 23 القامع لأعداء بَيت النُّبُوَّة والرسالة والمفيض على الْحَرَمَيْنِ الشريفين مكارمه وأفضاله السُّلْطَان الْأَعْظَم سُلَيْمَان خَان أنزل الله على شآبيب الرَّحْمَة والغفران وَجعل قَبره الشريف رَوْضَة من رياض الْجنان وحف تربته الشَّرِيفَة بِالروحِ وَالريحَان ثمَّ بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة توجهوا أَجْمَعِينَ إِلَى مصلى الشريف عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة فقسمت الربعات ثمَّ دَعَا لمولانا السُّلْطَان سُلَيْمَان وَأهْدى ثَوَاب ذَلِك إِلَيْهِ ثمَّ دَعَا لمولانا السُّلْطَان سليم فعلوا ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ ختموا يَوْم الْخَمِيس منتصف الشَّهْر الْمَذْكُور وَكَانَ خُرُوج مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان لهَذِهِ الْغَزْوَة الَّتِي توفّي فِيهَا حادي عشري ذِي الْقعدَة الْحَرَام من سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة رَحمَه الله تَعَالَى(4/363)
وَاسْتمرّ مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى أَن انْتقل وَالِده الشريف أَبُو نمي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي أول عَام اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فاستقل بِالْملكِ وأعبائه وَشد أزره بِالتَّدْبِيرِ من سَائِر جهاته وأنحائه واستخدم الحزم فِي شَدَائِد الْأُمُور الشاسعة وسلك فِي محجته الطَّرِيق الْوَاضِحَة الواسعة فصير ولَايَة الْحَرَمَيْنِ خلَافَة ومهد الْقَوَاعِد السُّلْطَانِيَّة والقوانين الحسنية بِدُونِ مَخَافَة وَجلسَ على سَرِير الْملك جُلُوس مُتَمَكن وبذل الهمة فِي إصْلَاح الرعايا بِكُل وَجه مُمكن واستصحب الْإِقْدَام فِي صعائب الْأُمُور وَثَبت الْأَقْدَام فِي المواقف الَّتِي تهب لَهُ بِالْقبُولِ ولأعدائه بالدبور وَظهر بِهِ شَأْن أهل بَيت النُّبُوَّة من الشجَاعَة وَالْقُوَّة وأذكر بِمَا أبداه من شرِيف المناقب أَحْوَال جده أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب وَله الاراء السديدة والغزوات العديدة فِي المواطن الْقَرِيبَة والبعيدة يساعده فِيهَا السَّيْف وَالْقدر ويخدمه الْفَتْح وَالظفر طالما كشف بغزواته كل غمَّة وأوضح من الْخطب كل وَاقعَة مدلهمة ووطئ بحوافر خيله سباسب تضل فِيهَا الخطا وأودية لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا القطا كم فتح بعزمه حصناً صَعب المرقى واقتحم بخيله ذرْوَة لَا يصل إِلَيْهَا نظر الزرقا يتَصَرَّف فِي السعد كَأَنَّهُ عبد بَابه ويتأمر فِي الظفر كَأَنَّهُ لَازم ركابه وَله السَّرَايَا الْكَثِيرَة وَهِي عَن التَّفْصِيل غنية شهيرة لم يُؤمر فِيهَا إِلَّا أَوْلَاده النجباء وَقل مَا أَمر غَيرهم من الأقرباء وكل سراياه لَا تعود إِلَّا بالنصرة التَّامَّة وتنبئ فِي سَائِر الْآفَاق عَن البشائر الْعَامَّة وَقد بعث جمَاعَة من أَوْلَاده الْكِرَام وَمِمَّنْ بَعثه مِنْهُم فأبان عَن الْفِعْل الْحسن السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْحسن وَمِنْهُم الشريف أَبُو طَالب المصاحب للنصرة فقد أرْسلهُ وَعَاد بالظفر غير مَا مرّة وَمِنْهُم السَّيِّد مَسْعُود فَحصل بإرساله السُّعُود وَمِنْهُم السَّيِّد عقيل فنال فِي مبعثه غَايَة التأميل وَمِنْهُم السَّيِّد عبد الْمطلب فَأصْبح بتجهيزه للسؤدد مجتلب(4/364)
وَمِنْهُم الشريف عبد الله بن الْحسن فَكَانَ بعزمه إصْلَاح جِهَات الْيمن وَجَمِيع غَزَوَاته وسراياه بالنصر مقرونة وطوالع طلائعه بالحروب مَيْمُونَة مَا اتّفق لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا انكسار وَلَا ذمت لَهُ فِي عجاج معاركها إِذا ثار آثَار فَأَما الْعلمَاء فنشروا على رُءُوسهم علم المفاخر وترجوا لَدَيْهِ بالوقار وَلحق أَوَّلهمْ الآخر فخدموا خزائنه المعمورة بالتآليف الْحَسَنَة وَأتوا جنابه بالتصانيف اللطيفة فِي كل سنة وَأما الشُّعَرَاء فانتظموا فِي زَمَانه انتظام دراري الإكليل ولبسوا فِي أَيَّامه ثوب كل فَخر جميل وقصدوا جوده العميم من سَائِر الأقطار وَلَو جمع جَمِيع مدائحه لكَانَتْ أسفاراً كبارًا وَلَو قَالَ قَائِل إِنَّه يمدح فِي كل عَام بِنَحْوِ الْألف لأنصف فِي قَوْله وَمَا جازف وَلم يزل يتوالى عَلَيْهِم بره وَمَا انْفَكَّ متواترا عَلَيْهِم لطفه وعظفه وبشره يُجِيز على التَّأْلِيف بِالْألف الدِّينَار وَالْأَكْثَر وينصف الشَّخْص على التصنيف بالمبالغة فِي الثَّنَاء الأعطر وَمَا برح يترقى فِي مصاعد السعد ويتخطى بأخمصه هَامة الْمجد ناشراً راية عدله على مفرق اللَّيَالِي وَالْأَيَّام مُقَلدًا جَوَاهِر فَضله جيد الْأَنَام وَلما كَانَ سَابِع عشر محرم سنة وَاحِدَة بعد الْألف حضر مَوْلَانَا السَّيِّد مَسْعُود ابْن الشريف حسن وَهُوَ أكبر أَوْلَاده بعد السَّيِّد حُسَيْن بن الْحسن نِيَابَة عَن أَبِيه الشريف حسن بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَحضر أكَابِر الْعلمَاء والأعيان لقياس طول الْكَعْبَة من داخلها لوُرُود أَمر مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد بذلك ليعْمَل لَهَا كسْوَة فذرعت بالذراع الْحَدِيد الْمصْرِيّ فَعمِلت وَأرْسلت وَورد أَمر شرِيف مِنْهُ أَيْضا أَن يخمن مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي ترخيم المطاف الشريف فذرع المطاف الأسطى سفر المعمار والمعلم مُحَمَّد الْبُحَيْرِي المهندس فَكَانَ ذرعه مكسراً بِحِسَاب الطرح ذِرَاعا فِي ذِرَاع أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة ذِرَاع وَقَالُوا كل ذِرَاع يحْتَاج(4/365)
إِلَى أَرْبَعَة دَنَانِير يكون جملَة ذَلِك عشرَة آلَاف دِينَار وَكَانَ ذَلِك التخمين فِي تَاسِع عشري جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف ثمَّ الَّذِي تحرر عَلَيْهِ القَوْل أَن المطاف أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع صرف عَلَيْهِ عشرَة آلَاف دِينَار وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ ربيع بن السنباطى السالك على الطَّرِيقَة الجميلة والممالك لأزمة كل فَضِيلَة مدحه جمَاعَة من الْفُضَلَاء ورثاه غير وَاحِد من الأدباء مِنْهُم صَاحب الريحانة بِأَبْيَات خَمْسَة آخرهَا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ // (من الْخَفِيف) //
(قد فَقدنَا فِيهِ اصطباراً فأرِّخْ ... كلُّ صبرٍ محرم فِي ربيعِ)
ورثاه مؤرخاً الشَّيْخ حسن الشَّامي بأَرْبعَة أَبْيَات آخرهَا التَّارِيخ وَهُوَ // (من الْكَامِل) //
(وَإِذا ذكَرْتَ ربيعَ أيامٍ مضَتْ ... أرِّخْ بشوالٍ فراقَ ربيعِ)
وَفِي سنة ثَلَاث بعد الْألف لست عشرَة مَضَت من جُمَادَى الأولى توفّي مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن سليم ورثاه جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم الشهَاب أَحْمد المرحومي المغربي فَقَالَ من الطَّوِيل
(تهايل مِنْ رُكْنِ الصلاحِ مشيد ... بموتِ شهنشاه الْمُلُوك مرادِ)
(فَلم يُرَ فِي تِلْكَ الممالكِ مالكٌ ... مُرَادُ الورَى من بعد فَقْدِ مُرَادِى)
وَفِي سنة أَربع توفّي إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَشَيخ المصرين من كَانَت الْعلمَاء تكْتب عَنهُ مَا يملي مَوْلَانَا شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمْزَة الرَّمْلِيّ فاتح أقفال مشكلات الْعُلُوم ومحيى مَا اندرس مِنْهَا من الْآثَار والرسوم أستاذ الأستاذين وَوَاحِد عُلَمَاء الدّين عَلامَة الْمُحَقِّقين على الْإِطْلَاق وفهامة المدققين بالِاتِّفَاقِ ولد سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة بِمصْر المحروسة وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة جميلَة وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ الشهير بِابْن غَانِم الْمَقْدِسِي الخزرجي شمس الْعُلُوم والمعارف بدر الفهوم واللطائف قُرَّة عين أَصْحَاب أَبى حنيفَة الراقي من معارج التَّحْقِيق أعالي الرتب المنيفة تَرْجمهُ الشَّيْخ عبد الرءوف الْمَنَاوِيّ فَقَالَ شيخ الْوَقْت حَالا وعلماً وتحقيقاً وفهماً وَإِمَام الْمُحَقِّقين حَقِيقَة ورسماً وَفِي سنة سِتّ بعد الْألف تخلف مَوْلَانَا الشريف حسن بِجِهَة ركبة وَأرْسل(4/366)
أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى أَخِيه السَّيِّد ثقبة بن أبي نمي يلْتَمس مِنْهُ أَن يلبس خلعته أكبر أَوْلَاده السَّيِّد مَسْعُود بن حسن فَلَمَّا كَانَ يَوْم العرضة خرجا إِلَى المختلع لبس السَّيِّد ثقبة خلعته وَهِي الثَّانِيَة رُتْبَة همز الْفرس وَتقدم إِلَيْهَا فلبسها متقدمه ثمَّ قَالَ للداودار احفظ خلعة سيدك فَلم يلبث السَّيِّد مَسْعُود أَن توفّي غيظاً للنَّفس الأبية والشيم الهاشمية رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وبنيت على قَبره قبَّة عَظِيمَة بَاقِيَة إِلَى الْآن وَفِي سنة سبع بعد الْألف توفّي الْعَلامَة خضر بن عَطاء الله الموصلى قَالَ فِيهِ فِي الريحانة كعبة فضل مُرْتَفعَة الْمقَام تَضَمَّنت ألسن الروَاة الْتِزَامه فَللَّه ذَلِك المتضمن والالتزام أَقَامَ بِمَكَّة مَعَ بني حسن مخضر الأكناف وصنف باسم الشريف حسن كِتَابه شرح شَوَاهِد الْكَشَّاف قلت رَأَيْت بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي مَا نَصه أشرفني الْمولى خضر بن عَطاء الله على وصلٍ كتب لَهُ بِأَمْر مَوْلَانَا الشريف الْحسن بن أبي نمي صورته الْحَمد لله حسن بن أبي نمي يَا أَبَا مُحَمَّد ريحَان بن عقبَة الدويدار سلمك الله اعط الْعَلامَة الْمُفِيد الفهامة خضر أَفَنْدِي ألف ذهب جَدِيد نصف ذَلِك حفظا لأصله خَمْسمِائَة ذهب وَهِي جَائِزَة كتابي الَّذِي صنفه باسمي الله الله كتبه صبيح بن مَقْبُول بِأَمْر سيدنَا ومولانا الشريف أيده الله بتاريخ عشر جماد أول سنة 1003 وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وبخط مَوْلَانَا الشريف بِيَدِهِ الله الله يَا ريحَان فِي نجاز ذَلِك بِسُرْعَة انْتهى رحم الله الْجَمِيع وَمن شعر خضر الْمَذْكُور قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(تبدَّلْ عنِ البرشِ المبلّدِ بالطّلاَ ... فعالمُ أَهْلِ البرشِ غمْرٌ وجَاهِلُ)
(فَمَا البرشُ إنْ فتشْتَ عَن كنهِهِ سوَى ... دويهيةٌ تصفَرُّ مِنْهَا الأناملُ)
وَفِي سنة سبع بعد الْألف طلب الشريف أَبُو طَالب من أَبِيه الشريف حسن أَن(4/367)
يتَخَلَّف بالمبعوث ليلبس هُوَ الخلعة فَخرج مَعَ عَمه السَّيِّد ثقبة إِلَى المختلغ فَتقدم الشريف أَبُو طَالب وَلبس الخلعة الأولى خلعة وَالِده مُتَقَدما على عَمه ثمَّ لبس السَّيِّد ثقبة الخلعة الثَّانِيَة فَوَقع لَهُ مَا وَقع بِسَبَبِهِ لِابْنِ أَخِيه وَأورد مورده الَّذِي كرع فِيهِ فَتوفي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى حادي عشر صفر من السّنة الَّتِي بعْدهَا أَعنِي سنة ثَمَان بعد الْألف ومولانا السَّيِّد ثقبة أكبر إخْوَان الشريف حسن كَانَ مولده سنة خمس وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ رجلا عَاقِلا صبوراً متحملاً كثير الملايمة والتودد إِلَى النَّاس وَله فَضِيلَة وَشعر حسن ومفاكهة لَطِيفَة وَله من الْأَوْلَاد سِتَّة ذُكُور وَابْنَة وَاحِدَة وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف حسن يراعيه الرِّعَايَة التَّامَّة وَكَانَ لَهُ محصول كَبِير جدا من جِهَات عديدة فَلَمَّا مَاتَ قرر لكل وَاحِد من أَوْلَاده فِي كل شهر ألف أشرفي فضَّة غير المقررات السَّابِقَة وللبنت خَمْسمِائَة أشرفي وَقَالَ لَهُم إِن وَالِدي الشريف أَبَا نمي رَحمَه الله تَعَالَى لما فرغ بالسلطنة اخْتَار أَن يكون مقرره فِي كل شهر ألف أشرفي وَأَنا أَقمت لكل وَاحِد مِنْكُم ألف أشرفي عوض الْجِهَات الَّتِي كَانَت لوالدكم أَعنِي من المعشرات وخراج الْأَرَاضِي فَإِن تِلْكَ لائقة بِصَاحِب الْأَمر وَالله يلهمكم الصَّبْر ويعظم لكم الْأجر وفيهَا توفّي رَئِيس الْأَطِبَّاء دَاوُد بن عمر الْأَنْطَاكِي المتوحد بأنواع الْفَضَائِل وَالْمُنْفَرد بِمَعْرِِفَة عُلُوم الْأَوَائِل شيخ الْعُلُوم الرياضية سِيمَا الفلسفية وَعلم الْأَبدَان القسيم لعلم الْأَدْيَان فَإِنَّهُ بلغ فِيهِ الْغَايَة الَّتِي لَا تدْرك وانْتهى إِلَى الْغَايَة الَّتِي لَا تكَاد تملك لَهُ فضل لَيْسَ لأحد وَرَاءه فَضلَة وَعلم لم يحز أحد فِي عصره مثله يكَاد لقُوَّة حدسه يسْتَشف الدَّاء من وَرَاء حجابه ويناجيه بِظَاهِر علاماته وأسبابه حكى أَن الشريف حسن لما اجْتمع بِهِ أَمر بعض إخْوَته أَن يُعْطِيهِ يَده ليجس نبضه وَقَالَ لَهُ الشريف حسن جس نبضي فَأخذ يَده فَقَالَ هَذِه الْيَد لَيست يَد الْملك فَأعْطَاهُ الْأَخ الثانى يَده فَقَالَ كَذَلِك فَأعْطَاهُ الْأَخ الثَّانِي يَده فَقَالَ كَذَلِك فَأعْطَاهُ الشريف حسن يَده فحين(4/368)
جسها قبلهَا وَأخْبر كلا بِمَا هُوَ متلبس بِهِ وَحكى أَنه استدعاه لبَعض نِسَائِهِ فَلَمَّا دخل قادته جَارِيَة وَلما خرجت بِهِ قَالَ للشريف حسن إِن الْجَارِيَة لما دخلت بِي كَانَت بكرا وَلما خرجت بِي صَارَت ثَيِّبًا فَسَأَلَهُمَا الشريف وأمنها فَأَخْبَرته أَن فلَانا استفضها قهرا فَسَأَلَهُ فاعترف بذلك وَحكى الْعَلامَة شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد البابلي أَن دَاوُد الْحَكِيم الْمَذْكُور مر بِبَعْض الحارات الَّتِي يسكنهَا الضُّعَفَاء والفقراء بِمصْر فَسمع صَوت مَوْلُود حَال وِلَادَته فَقَالَ هَذَا صَوت بكري فتفحصوا عَن ذَلِك فوجدوه كَمَا قَالَ وَذَلِكَ أَن بعض البكريين تزوج ببنت فَقير خُفْيَة وَوَافَقَ حَال وِلَادَتهَا مُرُور الْمَذْكُور وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة فِي الريحانة وَغَيرهَا وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان بعد الْألف قبيل الْمغرب بِقَلِيل أَمر مَوْلَانَا الشريف حسن الشَّيْخ عبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبي أَن يكْتب إِلَى الْبَاب العالي بتوجيه الْأَمر إِلَى أكبر أَوْلَاده مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب فَبعد أَن كتب الْعرض أَشَارَ مَوْلَانَا بِتَأْخِيرِهِ إِلَى مَا بعد الْمَوْسِم ثمَّ أرسل أَوَائِل سنة تسع فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَوصل الْأَمر الشريف السلطاني أَوَاخِر السّنة الْمَذْكُورَة بِأَن يكون مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب مشاركاً لَهُ ودُعِيَ لَهما على المنابر وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام مِنْهَا أَعنِي سنة ثَمَان كَانَت عرضة الْمصْرِيّ وأمير حاجه بيري بك فَتوجه مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى العرضة هُوَ وَأَوْلَاده فَلَمَّا وصل المختلع أَشَارَ أَن يلبس خلعة الْمصْرِيّ مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب فلبسها وَقبل يَد وَالِده وَأَن الخلعة الثَّانِيَة الَّتِي كَانَ يلبسهَا أَخُوهُ السَّيِّد ثقبة بن أبي نمي تلبس لثاني أَوْلَاده السَّيِّد عبد الْمطلب بن حسن فلبسها ثمَّ جَاءَ الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَيْهِمَا فتحايوا تَحِيَّة الْإِسْلَام ثمَّ توجه الْأَمِير واستمروا موالينا واقفين إِلَى أَن وصل الْأَمِير طماس أَمِير الْحَاج الشَّامي فَلبس مَوْلَانَا الشريف حسن الخلعة الَّتِي مَعَه ودخلوا ثَلَاثَتهمْ لابسين الْخلْع وَلم يعْهَد قبل مثل ذَلِك وَسبب ذَلِك توَافق أَمِير الْمصْرِيّ والشامي فِي الْمنزل بالمختلع فِي ذَلِك الْيَوْم فألبس الشريف حسن ولديه خلعة الْمصْرِيّ وثانيتها وَأَشَارَ إِلَى أَمِير الشامى بِأَن(4/369)
يتهيأ ليعرض لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت لضيق الزَّمَان والاحتياج إِلَى العرضة لأمير الْيَمَانِيّ فِي الْيَوْم الثانى وَهَذَا تَدْبِير حَسَنٌ لِأَنَّهُ تَدْبِيرُ حَسَنٍ ثمَّ فِي الْيَوْم الثَّانِي وَهُوَ الثَّامِن من ذِي الْحجَّة توجه موالينا الْأَشْرَاف لاستقبال الْمحمل الْيَمَانِيّ فَلبس الشريف أَبُو طَالب القفطان الأول وَالسَّيِّد عبد الْمطلب القفطان الثَّانِي وأمير الْحَاج الْيَمَانِيّ الْأَمِير فرحات الشهير باليازجي وَهُوَ من أقَارِب الْوَزير حسن باشا صَاحب الْيمن فاستمر الشريف أَبُو طَالب على ذَلِك إِلَى أَن توجه وَالِده الشريف حسن وَكَانَ مُقيما بِالْمحل الْمَعْرُوف بالبردان فتوجة مِنْهُ غازياً إِلَى جِهَة نجد فِي ثامن ربيع الآخر سنة عشرَة وَألف والفريق مُقيم بالمبعوث مشمولاً بِنَظَر الشريف أبي طَالب تَحت نَهْيه وَأمره وَأمر بِضَرْب النّوبَة على بَابه السعيد وَاسْتمرّ الشريف حسن ذَاهِبًا إِلَى أَن وصل إِلَى مَحل يُسمى فاعية فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة من الزَّمَان وَلما كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة أصبح متوعكاً إِلَى أَن كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى أثْنَاء اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة فأخفى مَوته عَن الْحَرِيم والخدم وَالصغَار والحشم إِلَى أَن طلع الْفجْر فأظهر ذَلِك وَحمل فِي تختروانه الَّذِي كَانَ يركبه فِي حَيَاته على البغال وَقد حصلت عَلَامَات ذَلِك من عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء حَتَّى إِن أبناءه الَّذين كَانُوا مَعَه بذلك الْمحل أعدُّوا البغال والبراذين فِي الْمنَازل صوب مَكَّة لغَلَبَة ظنهم بِوُقُوع الْوَفَاة وَبعد الْمسَافَة عَن مَكَّة لتَكون كخيل الْبَرِيد الْمُسَمَّاة فِي عرف الأروام ولاقاً وَكَانَ ذَلِك رَأيا حسنا فَلَمَّا توفّي جدوا بِهِ فِي الْمسير فَسَارُوا يَوْم الْخَمِيس وَلَيْلَة الْجُمُعَة ويومها ووصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة فِي أَوَائِل النّصْف الثَّانِي من لَيْلَة السبت وَلَوْلَا مفارقتهم الطَّرِيق بِمُوجب الظلام والمطر والغيم وتعويق السَّيْل لَهُم فى بعض الْأَمَاكِن لأمكنهم دُخُول يَوْم الْجُمُعَة مَعَ أَن الْمسَافَة تزيد على عشرَة أَيَّام وَمَا كَانَ هَذَا التَّيْسِير إِلَّا كَرَامَة للمرحوم لسرعة وُصُوله إِلَى الْبَلَد الْحَرَام وَذهب الْخَبَر بوفاته من حينها إِلَى الشريف أَبى طَالب بِجِهَة الْمَبْعُوث فبمجرد وصل الْخَبَر إِلَيْهِ قصد مَكَّة وَخلف السَّيِّد عبد الْمطلب لحفظ المراح وَمن فِيهِ فَدَخلَهَا لَيْلَة السبت فِي أول الثُّلُث الثَّانِي(4/370)
قبل دُخُول جَنَازَة وَالِده وبمجرد وُصُول الْجِنَازَة شرع فِي التغسيل والتكفين وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قبل الْفجْر وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة بَاقِيَة إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة جمة ووالى عَلَيْهِ صيب الرضْوَان وَالرَّحْمَة مَاتَ وَله من الْعُمر تسع وَسَبْعُونَ سنة وَمُدَّة ولَايَته مشاركاً لِأَبِيهِ أبي نمي وَولده أبي طَالب ومستقلاً نَحْو خمسين سنة وفيهَا توفّي السَّيِّد عبد الْمطلب بن حسن كَانَ على غَايَة من الْكَمَال وَمن مشاهير الْأَبْطَال وَكَانَ يلبس الخلعة الثَّانِيَة فِي حَيَاة أَبِيه وَكَانَ وَالِده يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الْعِظَام ويفتخر بِهِ فِي كل محفل ومقام رَحمَه الله تَعَالَى وفيهَا توفّي القَاضِي عَليّ بن جَار الله الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ الْقرشِي انْتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام عبد الرَّحْمَن وَأَخُوهُ القَاضِي أَحْمد ابْنا عِيسَى المرشدي وَالْإِمَام عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ وَغَيرهم لَهُ تصانيف عديدة مفيدة مِنْهَا حَاشِيَة على التَّوْضِيح وحاشية على شرح إيساغوجي لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا وَتَذْكِرَة مفيدة وفتاوي لَكِنَّهَا غير مَجْمُوعَة وديوان شعر مِنْهُ قَوْله // (من السَّرِيع) //
(قُلْتُ لشهْرِ الصومِ لما دنا ... مودِّعًا منِّى وداعَ الصديقْ)
(سَلِّمْ على الموسمِ باللهِ لي ... وقُلْ لَهُ أقبِلْ فَهَذَا الطريقْ)
قلت مَا ألطف قَوْله أَقبل ... إِلَخ كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه كعقبة فِي الطَّرِيق كَانَت فَزَالَتْ وفيهَا توفّي الملا صفي الدّين بن مُحَمَّد الكيلاني الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الطَّبِيب الألمعي الأريب اللوذعي أفلاطون زَمَانه شرح خمرية سَيِّدي عمر بن الفارض شرحاً مُفِيدا جعله باسم مَوْلَانَا الشريف حسن وَأَجَازَهُ عَلَيْهِ إجازات عَظِيمَة يحْكى عَنهُ غرائب مِنْهَا أَنه مر عَلَيْهِ بِجنَازَة بعض الطرحاء فَدَعَا بِهِ وَأخذ من دكان بعض العطارين شَيْئا نفخه فِي أنف الطريح فَجَلَسَ من حِينه وعاش مُدَّة بعد ذَلِك فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت أقدامه واقفة فَعلمت أَنه حَيّ وَمِنْهَا أَن بعض التُّجَّار كَانَ يطعن فِي مَعْرفَته فَأرْسل إِلَيْهِ بعض الْفُقَرَاء بِغُصْن(4/371)
من نَبَات لَهُ رَائِحَة طيبَة فَلَمَّا شمه التَّاجِر انتفخ بَطْنه وَعجز الْأَطِبَّاء الموجودون عَن علاجه فاضطر إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة واستعطفه فَأعْطَاهُ سفوفاً من ذَلِك النَّبَات بِعَيْنِه فَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ وَمِنْهَا أَن بعض أَوْلَاد الشريف حسن أَصَابَته عِلّة فَأمر صفي الدّين الْمَذْكُور أَن تجْعَل لَهُ كوفية من عنبر فَفعلت فَزَالَتْ الْعلَّة ثمَّ أَصَابَت تِلْكَ الْعلَّة بِعَينهَا بعض الرّعية فَعمل لَهُ كوفية من ضفع الْبَقر فَعُوفِيَ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ نعم الْعلَّة وَاحِدَة لَكِن ولد الشريف نَشأ فِي الرَّائِحَة الطّيبَة فَلَو عملت لَهُ من الضفع لزادت عَلَيْهِ وَالْآخر بعكسه فداوينا كلا بِمَا يُنَاسِبه وَكَانَ يَأْمر من أَصَابَهُ مرض بِالْخرُوجِ من مَكَّة وَلَو إِلَى المنحني لِأَن هَوَاء مَكَّة فِي غَايَة الِاعْتِدَال لَكِن رَائِحَة البالوعات تفسده وَلِهَذَا بنى لَهُ هُنَاكَ بَيْتا يسكنهُ من بِهِ مرض رَحمَه الله تَعَالَى وَقد رزق مَوْلَانَا الشريف حسن من الْأَوْلَاد نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ذكرا مِنْهُم سَالم وَعلي وَأَبُو الْقَاسِم وحسين ومسعود وباز وَأَبُو طَالب وَعقيل وَعبد الْمطلب وَعبد الله وَعبد الْكَرِيم وَعبد المحسن وعدنان وَإِدْرِيس وفهد وشنبر وَعبد الْمُنعم والمرتضى وهزاع وَعبد الْعَزِيز وَعبيد الله وجود الله وبركات وقايتباى وَمُحَمّد الْحَارِث وآدَم وَمن الْإِنَاث نَحْو اثْنَتَيْنِ وَعشْرين شمسية وروضة وأرينب وصمدة وبلخشة وياقوتة وَفَاطِمَة وعزيزية وزين الحبوش وريمة وجربوعة وزين الشّرف وسلامة وكثيرة وَفَاطِمَة أَيْضا وعزيزية أَيْضا وَمنى ومزنة وحريملة وهيفاء وَرَايَة وَعزا وغيرهن آخِرهنَّ موتا ياقوتة وَمَات مِنْهُم جملَة من الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي حَيَاته وَورثه سَبْعَة عشر ذكرا وَأَرْبع عشرَة أُنْثَى ووزع مخلفه بَين أَوْلَاده مَا عدا السِّلَاح وَالْخَيْل وَالْعَبِيد فعادتهم أَنَّهَا لصَاحب الْأَمر بعده ذكر مَا منحه الله من الفراسة المقتبسة من الحضرة النَّبَوِيَّة والخلافة العلوية فَمن ذَلِك أَنه سرقت الفرضة السُّلْطَانِيَّة بجدة المحمية وَضاع مِنْهَا قماش لَهُ صُورَة وأموال كَثِيرَة وَلم يكسر بَابهَا وَلَا نقب جدارها وَلَا أثر يُحَال عَلَيْهِ فِي معرفَة(4/372)
الْمَطْلُوب والطالب بل حَبل مسدول من بعض الجوانب فَلَمَّا عرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْكَرِيمَة هَذِه الْقِصَّة الْعَظِيمَة طلب الْحَبل الْمَذْكُور ثمَّ شمه ثمَّ قَالَ هَذَا حَبل عطار ثمَّ دَفعه إِلَى ثِقَة من خُدَّامه وَأمره أَن يَدُور بِهِ على العطارين فَعرفهُ بَعضهم وَقَالَ هَذَا حَبل كَانَ عندى اشْتَرَاهُ مني فلَان ثمَّ نَقله من رجل إِلَى رجل إِلَى أَن وصل بشخص من جمَاعَة أَمِين جدة المعمورة ثمَّ وجدت السّرقَة بِعَينهَا فِي الْمحل الَّذِي ظَنّهَا فِيهِ وَمِنْهَا أَن رجلا من التُّجَّار سرق لَهُ مَال عَظِيم بِمحل معِين فَلَمَّا رفع قصَّته إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن قَالَ لَهُ هَل وجدت فِي مَحل السّرقَة شَيْئا من آثَار الْعَرَب فَقَالَ وجدت هَذِه الْعَصَا فَنظر إِلَيْهَا الشريف فَوجدَ بهَا عَلامَة فَقَالَ هَذِه الْعَصَا عَلَيْهَا عَلامَة الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة فاتفق بسعده وبركة جده حُضُور رجل من أَعْيَان هَذِه الطَّائِفَة وَبِيَدِهِ عَصا عَلَيْهَا نَظِير الْعَلامَة الْمَذْكُورَة فَعرفهُ مَوْلَانَا الشريف حسن بِالْحَال وألزمه بتحصيل المرام فَصدق الله فراسة مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ وَرجع المَال لصَاحبه وَمِنْهَا أَن رجلا تَاجِرًا عطاراً مغربيُّاً بِمَكَّة المشرفة هرب لَهُ عبد ثمَّ وجده فَطلب العَبْد البيع فَأَجَابَهُ لذَلِك سَيّده فَاشْتَرَاهُ رجل بِمَال عَظِيم ثمَّ أعْتقهُ فَبعد مُدَّة فقد التَّاجِر مَالا كثيرا من دكانه وَحَاصِله فَرفع قصَّته إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن فَأمره أَن يخفي أمره وَيتْرك ذكره ثمَّ سَأَلَ عَن مُشْتَرِي العَبْد الْمَذْكُور هَل هُوَ من أهل المَال الْكثير حَتَّى يَشْتَرِي مثل هَذَا العَبْد بِمَالِه ويعتقه وَهل سبق لَهُ عتق قبل ذَلِك فَأُجِيب بِأَنَّهُ لم يَقع مِنْهُ عتق وَلَيْسَ لَهُ مَال بل هُوَ فَقير يصرف الْفُلُوس وَظهر الْآن لَهُ نوع يسَار فَطلب الشريف العَبْد على غَفلَة ثمَّ خاطبه بِغَيْر وَاسِطَة وَعرض لَهُ بِأَنَّهُ بَلغنِي أمانتك وَأَنَّك نصحت فِي خدمَة مَوْلَاك وَأَنه قصر فِي رعايتك فطلبت البيع وَقد أصبت فِيمَا فعلته وَعرض عَلَيْهِ أَن يَجعله مقدما عِنْده ففرح العَبْد لذَلِك ثمَّ تغافل عَنهُ مُدَّة وَطَلَبه ثَانِيًا وَعرض لَهُ ببخل سَيّده وَأَنه يسْتَحق كل مَا تفعل فِيهِ ثمَّ قَالَ لَهُ بَلغنِي أَنَّك جمعت من مراجلك ثمنك وأعطيته لفُلَان يَعْنِي الْمُشْتَرى فاشتراك بِهِ وَنعم مَا فعلت فَصدق العَبْد جَمِيع مَا قَالَ لَهُ مَوْلَانَا فَأمر بحبسه بلطف وَطلب المُشْتَرِي ثمَّ قَالَ لَهُ مرادي أستخدم عبد التَّاجِر المغربي الَّذِي أَعتَقته(4/373)
فَأجَاب بشكر العَبْد وَالثنَاء عَلَيْهِ وَأَنه يَلِيق بذلك وَلم يزل يتلطف بِهِ حَتَّى أقرّ بِمَا أقرّ بِهِ العَبْد فَأمر بحبسهما مَعًا ثمَّ ضربهما ضربا شَدِيدا حَتَّى أحضر جَمِيع مَا فَقده التَّاجِر إِلَّا قَلِيلا ثمَّ أَمر بصلب العَبْد وَالْمُشْتَرِي بعد التَّعْزِير والنكال الشَّديد فصلبا فتعجب الْخَاص وَالْعَام من هَذِه الفراسة المسطورة وَمِنْهَا أَن رجلَيْنِ مصري ويمني تنَازعا فِي جَارِيَة ادّعى كل مِنْهُمَا ملكهَا من غير إِقَامَة حجَّة شَرْعِيَّة وتحير فِي أَمرهمَا سَائِر الْحُكَّام من أهل الشَّرْع وَالْعرْف فَرفعت الْقِصَّة إِلَيْهِ فَلَمَّا سمع دَعْوَى كل مِنْهُمَا وعدهما بِالنّظرِ فِي أَمرهمَا فى مجْلِس ثَان ثمَّ اختلى باليمني وَسَأَلَهُ عَن اسْم الْحبّ الْحِنْطَة فَقَالَ هُوَ الْبر ثمَّ اختلى بالمصرى وَسَأَلَهُ عَمَّا ذكر فَقَالَ هُوَ الْقَمْح ثمَّ سَأَلَ الْجَارِيَة عَن اسْم الْحبّ الْمرة بعد الْمرة فَقَالَ أم بر فَلَمَّا نطقت باللغة اليمنية قَالَ لَهَا والقمح مَا هُوَ قَالَت لَا أعرفهُ فَلَمَّا تمّ ذَلِك عنَّ لَهُ اختبار مَا منحه الله من الفراسة فأحضر الْمصْرِيّ وتلطف بِهِ ووعده بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَة فاعترف بِأَنَّهَا ملك اليمني وزالت الشُّبْهَة ببركته وَوصل الْحق إِلَى مُسْتَحقّه ذكر بعض فتوحاته بِذَاتِهِ وَأَوْلَاده الْكِرَام فِي حَيَاته أَولهَا قصَّة شمر وسببها يَوْم الفريش لَا يخفى أَن فتوحات الْمُلُوك والغزوات وَمَا لَهُم من السّير والسريات لَا يُمكن ضبط الْخَاص مِنْهَا وَالْعَام سِيمَا بساداتنا حماة الْبَيْت الْحَرَام وخصوصاً مَوْلَانَا الشريف حسن جد صَاحب هَذَا الْكتاب فَمن ذَلِك قصَّة الفريش وَهِي أَنه فِي عَام ثَلَاث وَسِتِّينَ من الْقرن الْعَاشِر كَانَ أَمِير الْمَدِينَة المنورة السَّيِّد مَانع الْحُسَيْنِي وَكَانَ من أجل الْأُمَرَاء قدرا وأرفعهم ذكرا بلغ بمصاهرة موالينا وساداتنا حماة الْحَرَمَيْنِ محلا منيفاً رفيعاً وَعزا منيعاً وشوكة قاهرة وَحُرْمَة وافرة وَكَانَت عَادَة أُمَرَاء الْمَدِينَة السَّابِقين يسلمُونَ لبني عمهم من السادات بني الْحُسَيْن ولعربان عَنَزَة وضفير وَنَحْوهم مواجب ومرتبات من الْأَمْوَال الجزيلة والحبوب والأقمشة الجليلة فَمَنعهُمْ من ذَلِك الْأَمِير مَانع اسْتِخْفَافًا بهم وَعدم مبالاة فَجمع كل من الطوائف الْمَذْكُورَة جماعته وَحضر مَعَهم فَأَما السَّادة الْأَشْرَاف آل نعير فمقدمهم الْأَمِير مَنْصُور بن مُحَمَّد أَمِير الْمَدِينَة المنورة وَابْن أميرها سَابِقًا(4/374)
وَأما السَّادة الْأَشْرَاف من آل جماز فمقدمهم أَوْلَاد مَوْلَانَا الْأَمِير جماز وَأما طَائِفَة العربان فمقدمهم الشَّيْخ الْمَعْرُوف بِأبي ذِرَاع وَغَيره من أكابرهم فَلَمَّا خرج ركب الْحَاج الْمدنِي على عَادَتهم أَوَاخِر ذِي الْقعدَة وَأَصْبحُوا بوادي الفريش صحبتهم الطوائف المذكورون فِي جمع من الْأَشْرَاف عَظِيم وَمن العربان بخيل وركاب مَعَ اللبوس والزانات وَأَحَاطُوا بالركب جَمِيعه وَكَانَ فِي الركب الأفندي الْأَعْظَم عبد الرَّحْمَن قَاضِي الْمَدِينَة المنورة والجناب العالي الْأَمِير مُحَمَّد ابْن حسن وَشَيخ الْحرم الْمدنِي وأعيان الْمَدِينَة من وُجُوه الْعَرَب وسادات بني الْحُسَيْن فَكَانَ موقفا شنيعاً ومنظراً قبيحاً وَقع فِيهِ قتل وسلب وَطعن وَضرب وَأهل الركب محرمون والطوائف الْمَذْكُورَة مجرمون وَسلم أعاظم الركب وأعيانه ثمَّ انفصلوا بعد أَن الْتزم لَهُم القَاضِي وَشَيخ الْحرم الْمَذْكُورَان بِحُصُول مواجبهم وعادتهم فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى الشريف حسن سكت على ذَلِك مطمناً خواطر الْحجَّاج حَتَّى انْقَضتْ أَيَّام الْمَنَاسِك ثمَّ أرسل سَرِيَّة من شجعان الفرسان وَأمر عَلَيْهِم السَّيِّد عجل بن عرار برسم حماية الركب الْمدنِي إِلَى وُصُوله الْمَدِينَة ثمَّ يستمرون بهَا حفظا لَهَا ولأهلها بَاطِنا وظاهراً ثمَّ بعد ذهَاب الحجيج من مَكَّة نَادَى بِالْمَسِيرِ إِلَى غَزْو الطوائف الْمَذْكُورَة فَخرج بِذَاتِهِ العزيزة فِي عَسْكَر جرار وجيش كالبحر الزخار مَا بَين سادة كرام وأعراب وأروام بالخيول الملبسة والدروع والبنادق والمدافع والشجعان الْمَشْهُورين فِي الوقائع والمجامع فَلَمَّا بَلغهُمْ أَن الْملك الْمَنْصُور الهزبر الْمَعْرُوف الْمَشْهُور قصد اللحوق بهم على كل حَال شمروا نَحْو شمر وهربوا إِلَى رُءُوس الْجبَال فقصدهم إِلَى مَنَازِلهمْ ومساكنهم وَخرب شمر الْمَذْكُور لِأَنَّهُ من أمنع مواطنهم ثمَّ قبض على أَعْيَان الطوائف الْمَذْكُورَة الَّذين شنوا الْغَارة وكبل أَشْرَافهم بالجنازير الْحَدِيد وَدخل بهم وهم أسرى بَين يَدَيْهِ مَدِينَة جده السعيد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يَوْم دُخُوله موكب عَظِيم حَضَره مَوْلَانَا الأفندي وَشَيخ الْحرم الْمَذْكُورَان أَعْلَاهُ وَأظْهر كل مِنْهُمَا حُصُول مُرَاده وبلوغ مناه وتعجبوا من دُخُول الْأَشْرَاف بالزناجير وهم من أَوْلَاد الْأُمَرَاء وتحققوا بذلك عظم مَوْلَانَا الشريف وَقُوَّة(4/375)
سُلْطَانه بمدد جده خير الورى وَكَانَ هَذَا الْغَزْو أول ظُهُور مَوْلَانَا الشريف حسن وَقُوَّة شَأْنه فِي ظلّ وَالِده الشريف أبي نمي وَأَيَّام زَمَانه وَمن ذَلِك قصَّة مضبع سَار إِلَيْهِ بِنَفسِهِ المطمئنة وَذَلِكَ فِي حُدُود عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَسَببه أنة ظهر من أهل مضبع نقض للعهود وَمُخَالفَة لشرع الْملك المعبود لِأَن مضبع الْمَذْكُور حصن منيع بِأَعْلَى وَاد وسيع وَأَهله فى نعم الله رافلون وللمنعم بهَا كافرون يمْنَعُونَ كل من وصل إِلَيْهِم وَلَو علم عصيانه لديهم وَكلما حذرهم مَوْلَانَا الشريف المخالفات تخذيرا مَا يزيدهم إِلَّا طغياناً كَبِيرا فَسَار إِلَيْهِم فِي جم غفير من السادات وأتباعهم من أَعْيَان دولته الشَّرِيفَة وأمراء مَمْلَكَته المنيفة أخبر السَّيِّد نَافِع مِنْهُم أَن العساكر الَّتِي سَار بهم يزِيدُونَ على خمسين ألفا مَا بَين رَاكب وراجل ولاحق وواصل يَمرونَ على الْجبَال فيدكونها دكاً وينزلون بالرمال فيبكونها بكاً فَلَمَّا وصلوا مضبع وجدوه جيلا رفيعاً وحصناً منيعاً لَيْسَ فِي أَخذه مطمع فأحاطوا بجهاته الْأَرْبَع ثمَّ صعدوا على اسْم الله تَعَالَى تالين {إِلَّا تنصرُوُه فَقَدْ نَصره الله} التَّوْبَة 40 فَقَاتلهُمْ قتالاً شَدِيدا أفنى فِيهِ شبَابًا وأشاب مِنْهُ وليداً حَتَّى انتصر عَلَيْهِم نصرا عَزِيزًا وَفتح الله لَهُ من حصونهم فتحا مُبينًا فَضرب الرّقاب وَأخذ الْأَمْوَال ورتب فِيهِ من يحفظه من شجعان الرِّجَال وَيُقِيم بِهِ الشَّرِيعَة المحمدية على أحسن منوال ثمَّ قصد إِلَى تخت عزه مَكَّة الغراء شرفها الله تَعَالَى بِالْكَعْبَةِ الجليلة فَمر على بجيلة وَأمرهمْ بِالْتِزَام الشَّرِيعَة المحمدية فخالفوا أوَامِر الله وأوامره الْعلية فَقَاتلهُمْ إِلَى أَن طلبُوا الْعَفو وبذلوا الْأَمْوَال فأجابهم إِلَى ذَلِك وَأخذ مِنْهُم عدَّة من دروع الْحَدِيد العراض الطوَال يُقَال إِنَّهَا قريب من خَمْسَة آلَاف نَالَ مِنْهَا السَّادة الْأَشْرَاف وَجَمِيع من حضر من سَائِر الْأَطْرَاف وَصَارَ خراجها يحمل إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة كل عَام على مر الدَّوَام وَهَذِه السّريَّة فى حكم السَّرَايَا الهاشمية إِلَى الْكفَّار من سَار فِيهَا فَلهُ أجر الْمُجَاهِد بِلَا إِنْكَار قلت ذكر الْعَلامَة الْجد جمال الدّين العصامي أَن هَذِه الْغُزَاة كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَذكر أَنه أرخها بِبَيْت كَامِل بديع هُوَ قَوْله
(صادَ الصناديدَ أعطَى المُلْكَ واجبَهُ ... حامي حِمَى بَلَدِ اللهِ الأمينُ حَسَنْ)
هَكَذَا ذكره بَيْتا مُفردا فَلم أدر أهوَ من قصيدة لَهُ أم من قِطْعَة وَهُوَ بَيت بطين الْمَعْنى رصين المبنى وَمن ذَلِك عزوة سوق الْخَمِيس وَيُسمى زهران يتَّصل بِهِ قرن ظَبْي والصفا والمخواة وجبل عَظِيم يُسمى مَلَس كَانَ من شَأْن هَذِه الْمَوَاضِع أَن سكانها لَا يورثون النِّسَاء جملَة كَافَّة خُصُوصا الْبِنْت الَّتِي منعهَا من أعظم سنَن الْجَاهِلِيَّة ومانعوها هم الْكفَّار شرعا وَمن عَادَتهم أَن يمنعوا كل من وصل إِلَيْهِم خُصُوصا العصاة لولاة الْأُمُور وَالَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ والفجور ثمَّ تكَرر مِنْهُم مَا ذكر من القبائح ونتصحهم مَوْلَانَا الشريف الْمشَار إِلَيْهِ وهددهم فَلم ينقادوا للناصح والنصائح فبرز أمره المطاع إِلَى أكبر أَوْلَاده الْكِرَام السَّيِّد الْحُسَيْن الْأسد الضرغام بدر التَّمام أَن يقصدهم فِي محالهم فَقَاتلهُمْ وَقتل أعظم رِجَالهمْ وَحَازَ نفائس أَمْوَالهم وفاز بأسر نِسَائِهِم وأطفالهم فَلَمَّا ملك الْبِلَاد والعباد وَوصل البشير بنصرته إِلَى وَالِده وجده خير وَالِد من خير أجداد برزت أوامره المطاعة أَن ينصب حَاكما شَرْعِيًّا وأميراً ليقيم نظام السّنة وَالْجَمَاعَة فتم ذَلِك على الأوضاع الشَّرْعِيَّة وَنقل خراجها إِلَى الخزائن الشَّرِيفَة الْعلية ثمَّ غزا معكال وَذَلِكَ أَنه بعد مُدَّة قريبَة برز مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى غَزْو معكال بأقصى الْبِلَاد الشرقية لأمور فَعَلُوهَا فِيهَا طعن على الدولة الإسلامية وحسبك السّنة النَّبَوِيَّة المبرورة الْفِتْنَة من هَهُنَا وَأَشَارَ إِلَى الْجِهَة الْمَذْكُورَة فَقَامَ مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ فِي ذَلِك حماية لبيضة الْإِسْلَام خُصُوصا حجاج بَيت الله الْحَرَام وزوار جده مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فوصل دَارهم وَقَاتلهمْ فِيهَا احتقاراً بهم(4/376)
وعساكر الْإِسْلَام الله تَعَالَى يحميها ويبلغها بسعده أقْصَى أمانيها فى جمع كَذَلِك يزِيدُونَ على خمسين ألفا وَطَالَ مقَامه فيهم حَتَّى استأصل أهل الدَّار رجَالًا وأمولا وكل من كَانَ إِلَيْهِم إلفاً فَتحدث أعداؤه المخذولون أَنه مَاتَ وَعَسْكَره انْكَسَرَ نَظِير مَا وَقع لجده
بِخَيْبَر فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك لأهل سوق الْخَمِيس سَوَّلَ لَهُم عَدو الله أخوهم إِبْلِيس فَقتلُوا الْحَاكِم الشَّرْعِيّ والأمير الْمَذْكُورين شقاقاً مِنْهُم فِي الدَّاريْنِ فَلَمَّا عَاد مَوْلَانَا الشريف من الشرق سالما فِي النَّفس والأهل وَالْمَال غانماً ملك معكال وَمَا قرب مِنْهُ من سَائِر الْمحَال وَدخل مَكَّة على أجمل الْأَحْوَال ومشايخهم بَين يَدَيْهِ فِي الْحَدِيد والأغلال ثمَّ أَقَامُوا فِي ظلّ نعمه مُدَّة عَام كَامِل فطلبوا من فَضله وإحسانه الشَّامِل أَن يَكُونُوا خُدَّامه فِي مَحل سلطانهم وَأَن يحملوا إِلَيْهِ مَا يرضيه كل عَام من محصول أوطانهم فأجابهم إِلَى مطلوبهم وَأمر عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عُثْمَان بن فضل حَيْثُ لم يبْق من بَيت سلطنتهم إِلَّا هَذَا النَّسْل ثمَّ عزم على غَزْو سوق الْخَمِيس لفعلهم الْمَذْكُور الخسيس فقصدهم بِنَفسِهِ الزكية افْتِتَاح سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَاجْتمع بسوحه من بادية مَكَّة المشرفة طوائف هُذَيْل وغَطَفَان وعدوان وَبني سعد وَمَا اتَّصل بهم من الْمُؤَلّفَة فَاجْتمعُوا بناديه الفسيح رحابه المنيع جَاره وأحزابه فَنظر إِلَيْهِم أَمِير دَار المضيف فَاسْتَكْثر مَا يجب لَهُم من المصاريف فَقَالَ على لسانهم لمولانا الشريف لَعَلَّ سَيِّدي يعجل بِالْمَسِيرِ فَإِن الْجَيْش كَبِير فَقَالَ لَهُ الشريف أجبهم عني بِأَنِّي أطْعم صَغِيرهمْ حَتَّى يشب وشابهم حَتَّى يشيب ثمَّ سَار بهم بعد مُدَّة فَلَمَّا وصل وَادِيهمْ وَنزل مخيمه الْمُعظم فِي ناديهم قَالَ لَهُم بعض عقلاء الرِّجَال اطْلُبُوا من مَوْلَانَا الصُّلْح فَأَجَابُوا جَوَاب أهل الْغرُور والهوس على سَبِيل التهكم اسألوا عَن الصُّلْح جبل ملس فَقبل تَمام القال صعدت الرِّجَال على الْجبَال وَعم الْقَتْل مُعظم الرِّجَال وَأسر(4/378)
النِّسَاء والأطفال ثمَّ قبض على مائَة وَسبعين من أَشْرَافهم وكبلهم فِي الْحَدِيد فِي أَعْنَاقهم وأطرافهم فأحضروا لَهُ من الدروع وَالْأَمْوَال جملا كَثِيرَة لَا يحويها الْمقَام فَأخذ ذَلِك من جملَة الْغَنَائِم وَأقَام شَرِيعَة جده سيد العوالم ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة المشرفة فَدَخلَهَا فِي شهر رَمَضَان فِي موكب عَظِيم قد أَضَاء لم يسمع بِمثلِهِ فِيمَا مضى وَبَين يَدَيْهِ الْجَمَاعَات المقبوضون كل عشرَة فِي كبل حَدِيد وشيخهم مَعَ ولديه فِي الْحَدِيد رَاكب فِي حَال غير جميل ثمَّ أَمر بِذبح أَرْبَعَة عَن الْحَاكِم كَمَا ذبحوه وَذَلِكَ بِسوء مَا فَعَلُوهُ وَمن ذَلِك فِي عَام تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة سَار إِلَى نَاحيَة الشرق مرّة ثَانِيَة لمُخَالفَة وَقعت بَينهم متناهية فِي جَيش كثيف جرار ومدافع كبار تنسف الْجبَال وتفتح الْأَمْصَار فَفتح مدناً وحصوناً تعرف بالبديع والخرج والسلمية والإمامية ومواضع فِي شوامخ الْجبَال تزيد على مَا سبق بأمثال أَمْثَال فَقَوِيت شوكته وَعز سُلْطَانه وَتحقّق عِنْد ذَوي البصائر أَنه بعناية الله تَعَالَى كل حِين يَعْلُو شَأْنه ثمَّ عين من رؤسائه من ضَبطهَا على أُمُور التزمها وَشَرطهَا فَعَاد مؤيداً منصوراً وَعلم سعده منشوراً فَأخْبرهُ بعض عيونه الَّتِي يبثها فِي الْبِلَاد لتأتيه بأخبار الْعباد أَن جمَاعَة من شَوْكَة بني خَالِد تجمعُوا وتحزبوا وَمن طريقك ترصدوا وتقربوا فِي جمع من الشجعان والأبطال حَتَّى جرائد الْخَيل وكرائم الْجمال فتدارك مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ من الحزم والعزم مَا أمكن وَقدم من قدم وَأخر من أخر وأكمن من أكمن فوافاه الْجَيْش الخالدي فَوجدَ مَوْلَانَا على غَايَة الحذر فتقابلا وتقاتلا فهرب الخالدي وانكسر فَقتل مَوْلَانَا أَكْثَرهم عددا وغنم خيلا وإبلا وعددا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الهارب وَمن خيلهم ورجلهم وإبلهم إِلَّا الذَّاهِب وَهَذِه النُّصْرَة أعظم فِي صُدُور الْأَعْدَاء شَوْكَة ونكاية وَأَعْلَى منصباً وَأجل ولَايَة وَهَذِه الْمَذْكُورَات عُيُون غَزَوَاته الشهيرة وسواها كَثِيرَة كَبِيرَة ذكرما خوله الله من فصاحة اللِّسَان وبديع الْبَيَان فِي توقيعه بالبنان وَالْحكم(4/379)
بِفضل الْخطاب والتوفيق للصَّوَاب فَمِنْهَا لفظ الْعِزَّة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فمولانا الْمشَار إِلَيْهِ وَجَمِيع سلفه الْكِرَام يتوجون بِهِ فِي توقيعاتهم الفخام وَلَا يخفى مَا فِي هَذِه اللَّفْظَة من جَوَامِع الْكَلم وَحسن الْأَدَب مَعَ ذى الْجلَال وَالْإِكْرَام وَالْعَظَمَة والإنعام وَالْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَإن العِزَّةَ للهِ جمَيعاً} النِّسَاء 139 المستوجبة لعزة كاتبها وقائلها وتواضعه مَعَ كَمَال شرفه فِي الذَّات وَالصِّفَات وَمن ذَلِك أَن جَمِيع توقيعاته يرقم فِيهَا بعد الْجَواب لفظ على الْوَجْه الشَّرْعِيّ والقانون الْمُحَرر المرعي وَهَذَا من خصوصيات مَوْلَانَا الشريف حسن الْمشَار إِلَيْهِ دَامَت رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَمن ذَلِك أَن جَمِيع مَا يرقمه من الْكَلِمَات وَلَو كثرت خَال من النقط بِحَيْثُ تتبع أهل الْخط أَكثر تحريرات مَوْلَانَا فَلم يَجدوا فِيهَا نقطة وَلَعَلَّ مُرَاده بذلك دفع الْمُمَاثلَة لخطه وَرفع المشاكلة حَتَّى يبعد عَن التزوير وَمن ذَلِك سَلَامَته من الحشو المخل والتطويل الممل وَمن ذَلِك أَن قَاضِيا من قُضَاة الْمَدِينَة الشَّرِيفَة عرض عَلَيْهِ مَكْتُوب وقف صَحِيح الْعبارَة بمحكمة الشَّرْع مضمونه أَن الْأَوْقَاف المشروحة بِهِ لَا تُؤخر إِلَّا بِشُرُوط مرعية ذكرت فِيهِ وَعين فِيهِ أموراً لَا تمكن الْإِحَاطَة بهَا إِلَّا بعد قِرَاءَة الْمَكْتُوب جَمِيعه وقراءته تحْتَاج إِلَى زمن طَوِيل فَلَمَّا وقف مَوْلَانَا الشريف حسن عَلَيْهِ قَالَ من أول نظرة هَذَا فرع من أصل يحْتَاج إِلَى اتِّصَال وَثُبُوت بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيّ فَعرض لَهُ القَاضِي الْمشَار إِلَيْهِ بِأَن مثل هَذَا يبعد تزويره وَأَن الْخصم فِي ذَلِك السَّيِّد مَانع أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَهُوَ أميركم وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف حسن مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة وَقَالَ للْقَاضِي يَا مَوْلَانَا سَيِّدي ووالدي الشريف الْكَبِير أَبُو نمي لَيْسَ عِنْدِي على وَجه الأَرْض أحب مِنْهُ وَأكْرم وَمَعَ ذَلِك وَالله الْعَظِيم وَحقّ هَذِه الْكَعْبَة المدبجة لَو ارْتكب بَاطِلا مَا وافقته عَلَيْهِ فَإِن قُلْتُمْ ثَبت عِنْدِي هَذَا الْمَكْتُوب حكمت بِمُوجبِه على الْفَوْر فَعجب القَاضِي الْمَذْكُور من فرط ذكاء مَوْلَانَا وَسُرْعَة فهمه ومتانة ديانته وتحير مِنْهُ(4/380)
واستحيا من قُوَّة مَعْرفَته بِالْمَقْصُودِ واستوائه جَالِسا ثمَّ ذكر وَالِده الْكَرِيم وَتَقْرِير محبته وطاعته لَهُ ثمَّ فسر بِعَدَمِ مُوَافَقَته على الْبَاطِل وَهَذَا من نور النُّبُوَّة بِلَا شكّ وَلَا ريب وَمن ذَلِك أَن جَمِيع مَا يرقمه للخاص وَالْعَام يبدؤه بِذكر الله تَعَالَى ويختمه بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام على جده مُحَمَّد خير الْأَنَام ثمَّ يتبع ذَلِك بقوله حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَفِي ذَلِك مَا لَا يحد من الْخَيْر وَلَا يُحْصى وَلَا يحصر وَلَا يستقصى وَيَكْفِيك أَنه من أَفعَال الْعلمَاء العاملين والصلحاء الكاملين وَمن ذَلِك مَعْرفَته للعبارة التركية وَأكْثر اللُّغَة الفارسية وَغَيرهمَا من ألسن الْبَريَّة وَلكنه لَا يكْتب بذلك وَلَا يتَكَلَّم حذرا من غلطة لِسَان أَو سبق قلم فيستعمل الترجمان فِي الْكَلَام وَكَذَلِكَ فِي المكاتيب على الدَّوَام وَمن ذَلِك أَنه إِذا اشْتَكَى عَلَيْهِ صَاحب ظلامة أَو دَعْوَى يسمع شكواه جيمعا ثمَّ يتشاغل عَنهُ ثمَّ يستعيده مَا قَالَ فَإِن اخْتَلَّ كَلَامه اختلالاً فَاحِشا اسْتدلَّ على عدم صدقه وَأَقْبل عَلَيْهِ بِوَجْه يَلِيق بِهِ وَفِي هَذَا من الْكَمَال مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَهُوَ كَونه يحفظ الْقِصَّة مَعَ طولهَا من أول سَماع ثمَّ يستنبط من مُخَالفَة ألفاظها حكما بَالِغَة يقف بِسَبَبِهَا على حَقِيقَة أَمر صَاحبهَا وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا من إلهامات إلهية مستفاده من قَوْله
الْحَاكِم ينظر بِنور الله تَعَالَى ذكر كرمه وجوده وإنعامه على وفوده خُصُوصا الْعلمَاء والصلحاء والفقراء وَالشعرَاء فَمِنْهُ عِنْد زِيَارَة جده
وَذَلِكَ أَنه فِي أول عَام ولَايَته للأقطار الحجازية أخبر من يعْتَمد على نَقله أَن عطاياه للْعُلَمَاء وَالشعرَاء فَقَط كَانَت مَا يزِيد على ألفي دِينَار ذَهَبا جَدِيدا وَمِنْه وَهِي من عطاياه الشَّرِيفَة وتفرداته وأولياته المنيفة أَنه إِذا عقد نِكَاحا لنَفسِهِ أَو أَوْلَاده يطْلب أَعْلَام الْعلمَاء وأعيان الصلحاء تبركاً بحضرتهم واغتناماً لدعوتهم فَإِذا تمّ ذَلِك العقد أَمر بِكِتَابَة أَسمَاء الْحَاضِرين ثمَّ يعين لكل مِنْهُم شَيْئا(4/381)
نَافِعًا من المَال مصلحاً للبال مَعَ تَمْيِيز أهل الْعلم وَالصَّلَاح والشرف وَالدّين والفلاح وَمن ذَلِك مَا أخبر بِهِ مَوْلَانَا الْعَالم الْعَامِل الْفَقِيه حَاتِم القَاضِي الشَّافِعِي بِنَاحِيَة صَبيا أَن فِي صحبته وصحبة غَيره عدَّة قصائد جَاءَ بهَا من الْيمن فِي مدح الشريف حسن وَأَنه أجَاز شعراء الْيمن مَعَ عدم حضورهم مَا يُجَاوز أَلفَيْنِ من الدَّنَانِير الذَّهَب الْجَدِيد وَأَن جَائِزَة كل شَاعِر يرسلها إِلَيْهِ مَعَ حَامِل قصيدته وَقَالَ هَذِه كَانَت عَادَته دَامَت سعادته وَذَلِكَ على الِاسْتِمْرَار مَعَ جَمِيع الشُّعَرَاء من سَائِر الأقطار وَمن ذَلِك مَا أخبر بِهِ بعض حَملَة الْقُرْآن الْعَظِيم المتشرفين بمدح جده الرَّسُول الْكَرِيم قَالَ حَضَرنَا بَين يَدي مَوْلَانَا الشريف حسن فِي صَبِيحَة لَيْلَة عرسه على بعض الشريفات المخدرات فِي جمع عَظِيم بِمَكَّة فقرأنا مَا تيَسّر من الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ أنشدنا مَا يسره الله من المدائح الشَّرِيفَة فوصلت إِلَى مَوْلَانَا الشريف معشرة متوسطة مَمْلُوءَة من الذَّهَب الجلالي وَاحِد بِعشْرَة من قبل عمَّة السُّلْطَان جلال الدّين أكبر فَأمر بجميعها لأهل المديح الْمَذْكُورين مَعَ كَثْرَة مَا فِيهَا وَلم ينظر إِلَيْهَا إِلَّا نظر إحاطة لأجل الْمُكَافَأَة وَقَالَ هَذَا نصيب الْجَمَاعَة رفع الله ذَاته الشَّرِيفَة الفاخرة وَجمع لَهُ بَين خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن ذَلِك أَنه زار فِي بعض الأعوام قبر جده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ عَادَة سَادَاتنَا حماة الْحَرَمَيْنِ الشريفين لما وصلوا إِلَى الزِّيَارَة يتصدقون على جيران الحضرة النَّبَوِيَّة صَدَقَة خَاصَّة تشْتَمل على أَسمَاء الْعلمَاء والحكام والصلحاء والخدام وسكان الرَّبْط والأرامل والأيتام والعساكر السُّلْطَانِيَّة الخيالة والحصارية وخدام العمائر الخاقانية وخدام الْعين الزَّرْقَاء الروية وَلكُل اسْم قدر معِين من الأشرفية الْفضة كل أشرفي عشرَة محلقة فَأمر مَوْلَانَا الشريف حسن أَن يَجْعَل مَكَان كل أشرفي فضَّة دِينَار جَدِيد ذهب ثمَّ اتّفق لمولانا زِيَارَة ثَالِثَة صرف فِيهَا أَمْوَالًا جزيلة فِي وُجُوه مُتعَدِّدَة مِنْهَا أَنه أَمر بِالصَّدَقَةِ أَن توزع على عَادَتهَا الْقَدِيمَة فَلَمَّا صرف معظمها قَالَ لَهُ(4/382)
السَّيِّد مُحَمَّد بن سعد نقيب الْأَشْرَاف بِالْمَدِينَةِ المنورة إِن فِي هَذَا الدفتر الْمُبَارك جمَاعَة كَانُوا صغَارًا فكبروا وبالعلم تقدمُوا وتصدروا فاستوجبوا من مَوْلَانَا كَمَال الْعِنَايَة ووافر الرِّعَايَة فَأجَاب جَوَابا شَامِلًا لأعلى مَرَاتِب الْفضل وَالْأَدب وَأجل مناصب السؤدد والحسب وَقَالَ إِن هَذَا الدفتر أمره لمولانا الْوَالِد الشريف أبي نمي فَيصْرف على حكمه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان ثمَّ جدد دفتراً برسم زِيَادَة الْإِحْسَان لمن ذكرنَا عاليه من عُظَمَاء السَّادة ثمَّ أنعم على أهل الدفتر الْجَدِيد بأضعاف مَا هُوَ مُقَرر فِي الدفتر السَّابِق ثمَّ برز أمره الشريف بِأَن يعْطى لكل من وصل مَعَهم من الأتباع وَأَتْبَاع الأتباع عَطاء لائقاً بمقامه الخطير عَم الْقَرِيب والبعيد والأحرار وَالْعَبِيد وَالصَّغِير وَالْكَبِير ثمَّ تصدق صَدَقَة مخفية بعد أَن مضى ثلث اللَّيْل على العميان والمرضى وَالنِّسَاء والعاجزين من الزمنى والمقعدين قصدهم بذلك إِلَى أماكنهم قيل بِنَفسِهِ الشَّرِيفَة وَقيل مَعَ من يعْتَمد عَلَيْهِ وَمن حَسَنَاته الَّتِي تفرد بهَا أَنه كَانَ فِي كل زِيَارَة عِنْد مُنْصَرفه من بَاب الْحرم النَّبَوِيّ يَأْخُذ فِي يَده الشَّرِيفَة كيساً مملوءاً من الذَّهَب وَالْفِضَّة ثمَّ يجْتَمع عَلَيْهِ فُقَرَاء الحضرة النَّبَوِيَّة وأطفالهم لما هُوَ مُقَرر مَعْلُوم عِنْدهم من إحسانه فيلاطفهم عِنْد كل مَحل فسيح ثمَّ يَقُول أنثر عَلَيْكُم من هَذَا المَال فَإِذا قَالُوا نعم نثر عَلَيْهِم من ذَلِك جملَة فيزدحمون على أَخذ ذَلِك وَهُوَ ينظر إِلَيْهِم مَعَ كَمَال السرُور والفرح وَيسْتَمر على ذَلِك مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى ينفذ جَمِيع مَا عِنْده وَاتفقَ لَهُ رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة فِي بعض زياراته المقبولة وَكَانَ يفعل مَا ذكر من نثر الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فاستوقفته امْرَأَة تَشْكُو عَلَيْهِ حَالهَا فَوقف لَهَا والمطر نَازل عَلَيْهِ من غير حَائِل وَهِي آخذة بلجام فرسه مَعَ غَايَة الازدحام يَمِينا وَشمَالًا وخلفاً وأماماً فَلم يبرح حَتَّى انْتَهَت شكواها وَتركت لجام الْفرس باختيارها وهواها فَانْظُر إِلَى هَذَا الْمقَام أَيهَا النَّاظر بِعَين الْإِنْصَاف فَمَا أَجله من مقَام وَلَا غرو فَذَلِك نفح طيب سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام(4/383)
وَمِمَّا مدح بِهِ مَوْلَانَا الشريف حسن مَا قَالَه الْعَلامَة الْفَاضِل الشَّيْخ نور الدّين عَليّ الشهير بالجم مُعَارضا لزائية الطَّيِّبِيّ وَعبد الرَّحْمَن الكثيري فَقَالَ // (من الْخَفِيف) //
(خطرَتْ فِي موشياتِ الخزوز ... وتثنَّتْ بأسمرٍ مهزوزِ)
(ونضَتْ من جفونها النعْسِ سَيْفا ... فأراقَتْ دمَ الفتَى المحروزِ)
(وأماطَتْ عَن العقيقِ فأبدَتْ ... بارقاً من وشاحِهَا الفيروزي)
(وتثنَّتْ فللحلي تناغٍ ... فِي قضيبٍ من خالصِ الإبريزِ)
(غادةٌ فِي وشاحها حينَ تبدو ... مِنْ لآلىً حُليها فِي جروزِ)
(غادةٌ تسلبُ البدورَ إِذا مَا ... سَفَرتْ عَن موشمٍ مغروزِ)
(غادةٌ قد سعَتْ بكاسِ مدامٍ ... مزجَتْه بالغنجِ والتغميزِ)
(خندريساً دفعْتُ عقلى فِيهَا ... حينَ همَّتْ من دونهَا بالبروزِ)
(لبسَتْ من حبابها تَاج دُرِّ ... فجلاها مديرها فِي خزوزِ)
(هِيَ شمسٌ يديرها بَدْرُ أفقٍ ... فوقَ لدنٍ مثقفٍ مهزوزِ)
(إِسْقِنِيهَا مزجا بظلْم لماها ... كي أداوي بهَا لظَى تمُّوزِ)
(إسقنيها ودَعْ مقالَ سفيهٍ ... قد أَطَالَ الجدالَ فِي التجويزِ)
(إسقنيها على الشروطِ فَإِنِّي ... أمرؤ لَا أقولُ بالتجليزِ)
(إسقنيها فِي روضةٍ من شقيقٍ ... طرزَتَها يدُ الحيا تطريزي)
(إسقنيها وهادلُ الورقِ يشدو ... فوقَ شاطى النهورِ بالملغوزِ)
(إسقنيها مَعْ كلِّ أحورَ أحوَى ... كاملِ الحسنِ كالقنا المركوزِ)
(إسقنيها وعنفوانُ شَبَابِي ... يافعٌ والسرورُ حَال النهوزِ)
(إسقنيها فزوج الكهل ظلما ... بعجوزٍ تمشي على عكوزِ)
(إسقنيها قديمةَ العهدِ بِكْرًا ... تَوَّجَتْهَا الملوكُ حَال البروزِ)
(إسقنيها فَمَا خلاصِىَ مِنْهَا ... غَيْر مدحِى لنجلِ طه العزيزِ)
(حسنٌ مَنْ رقَى سمو الْمَعَالِي ... فَهُوَ للفضْلِ والثنا كالمجيزِ)
(ملكٌ لَو توعَّدَ الدهْرَ يَوْمًا ... أصبحَ الدهْرُ مِنْهُ فِي تفزيزِ)
(كَفه إِن تجافتِ السحبُ غيثٌ ... وَدْقه باللجينِ والإبريزِ)
(زَاده اللهُ فِي البسيطةِ بسطاً ... وحماهُ بحفظِهِ المحروزِ)(4/384)
(ووقاه من حادثِ الدهرِ طُرًّا ... مَا تلى الذّكْر فِي الكتابِ العزيزِ)
وَقَالَ الشَّيْخ على الْمَذْكُور أَيْضا يهنيه بالظفر فِي غَزوه جبل شمر وإيقَاعه ببني لَام وَذَلِكَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة // (من الْخَفِيف) //
(كَيفَ يكفيكَ من دمِ الأبطالِ ... مَا أسالَتْ لكَ الظبا والعواليِ)
(قد بكَتْ رَحْمَة عَلَيْهِم مواضيك ... نجيعاً جرى بميم ودالِ)
(وانثنَتْ عنهمُ الرماحُ امتنانا ... بعد جازَتْ مَرَاتِب الإِعتدالِ)
(لم تزلْ ممتط لَهُم كلَّ غادٍ ... سَابق فِي النفوسِ والأموالِ)
(ذى جبينٍ مغررٍ بِالثُّرَيَّا ... وأيادٍ منعولةٍ بالهلالِ)
(وأديمٍ قد شقَّ من شقفِ الأفْق ... وعَدْوٍ كالريحِ فِي الإرسالِ)
(وحساماً يرْوى عَنِ الْمجد قولا ... أعرَبَتْهُ الرماحُ بالأفعالِ)
(أعجمي لكنْ لَهُ ترجمانٌ ... بلسانِ الطلا فصيحُ المقالِ)
(كلَّما كلّم الرُّءُوس بلفْظٍ ... صَدَقتْهُ الأعناقُ بالإنفصالِ)
(وجيادٍ جُرْدٍ تخوضُ المنايا ... لبلوغِ المنَى وحُسْنِ المآلِ)
(وليوثٍ تلقى الحتوفَ اشتياقاً ... كلقىِّ الحبيبِ حينَ الوصالِ)
(يَا مليكاً رمى الزمانَ بسهمٍ ... لم يكنْ للزمانِ مِنْهُ ببالِ)
(زعم الدهْرُ أَن يصيبَ رعاياك ... بضيمٍ حاشاك مِنْ ذَا المحالِ)
(مَا درى الدَّهْرُ أيّ قرمٍ نزال ... إِعتراه وأَىّ خصمِ جدالِ)
(مَا درى أنكَ المليكُ الذى سُدتَ ... جميعَ الْمُلُوك بالإجمالِ)
(مَا درى أنكَ الكريمُ الَّذِي قد ... خُصَّ بالمكرماتِ من ذِي الجلالِ)
(مَا دَرَى يابنَ فاطمٍ وعليِّ ... وابْنَ خَيرِ النسا وخيرِ الرجالِ)
(أنكَ الماجدُ الَّذِي عَمَّ أهلَ اْلأَرضِ ... شرقاً ومغرباً بالنوالِ)
(مَا درَى أنكَ الَّذِي لَا تلاقَى ... فِي نزالٍ وَلَا بِشُمِّ الجبالِ)
(يَسْأَمُ الْمجد والدواوين والأَقْلام ... والفَضْل والحجى والمعَالِي)
(والعوالى والمشرفيَّة والغارَات ... والخَيْل واللِّقَا والنزالِ)
(كم تخطَّتْ صَدرا وشكَّتْ فؤاداً ... وتمطَّتْ بمفرقٍ وسبالِ)
(وأسالَتْ فِي الشرق سيل نجيعٍ ... سارَ فِي الغربِ بالرواسي الثقالِ)(4/385)
(وسبَتْ حلَّة وحلَّتْ محلاَّ ... قصر البَدْر عَنهُ فِي الإتصالِ)
(مَا بَنو لَام مَا قبائلُ نجدٍ ... مَا لقاءُ الفرسانِ والأبطالِ)
(إِن هُمُ فِي لقاكَ إِلَّا شياهٌ ... بمخاليبِ الأسدِ والأشبالِ)
(جعلتهم بزاتك الشهُّب طُعْمًا ... حينَ مزَّقتهم برشقِ النبالِ)
(حِين امطرتَهُمْ سحابَ المنايا ... وبروقُ الظبا عَلَيْهِم تلالِي)
(والرزايا لخَيْلها واثبات ... فيهمُ مرعدات بالتصهالِ)
(أَيْن منهُمْ حلمٌ وصفحٌ جميلٌ ... مِنْك حاطَ الورَى بأيدي الكمالِ)
(لَو أَتَوا حَاقِنِى دماهُمْ لفازوا ... مِنْكَ بالمكرماتِ والأفضالِ)
(وغدوا فِي مسرَّةٍ وهناءٍ ... وأمانٍ من الوبا والوبالِ)
(غَيْرَ أَن الْإِلَه جَرَّدَ فيهمْ ... سيفَ قَهْرٍ ماضي المضاربِ صاليِ)
(ورماهُمْ بقهرمانِ ملوكِ اْلأرضِ ... ماضي القضا شَدِيد المحالِ)
(حسن الذَّات وَالصِّفَات عَظِيم الْمَجْدِ سامي الْعلَا شَرِيف الخصالِ)
(مخجل الْبَدْر قاهر الدَّهْر مزْرِى البحْرِ ... بالجود والنهَى والجمالِ)
(خَفَقَتْ بالسعودِ راياتُهُ البِيضُ ... فراحَتْ كالزهْرِ جنح اللَّيَالِي)
(دَامَ للدينِ ناصراً فِي نعيمٍ ... أبَدًا سرمداً بغَيْرِ زوالِ)
(مَا هَمَتْ فى العدا بروقُ مواضِيهِ ... بنصْرٍ مسترسلٍ هَطَّالِ)
(وشدَتْ مادحي عُلاَهُ وقالَتْ ... كف يَكْفِيك من دمِ الأبطالِ)
وَقَالَ أَيْضا يمدحه ويهنيه بِالْفَتْح ويعزيه بِعَمِّهِ السَّيِّد حَازِم رَحمَه الله تَعَالَى // (من الْخَفِيف) //
(آهِ مابي من جلنارِ الخدودِ ... وعذابِى مِنْهَا بذاتِ الوقودِ)
(ومصابِى مِنْ مائساتِ قدودِ ... أطلعَتْ بالبها ثمارَ النهودِ)
(كُلّ هَيْفَاءَ تَنْثَنِى بِقوامٍ ... غُصْن بَانٍ على كَثِيبِ زَرُودِ)
(ذَات ثَغْرِ كالدرِّ فِي لازوردٍ ... برضابٍ يَحْكِي ابْنة العنقودِ)
(نافح عَن مسك ذكيِّ وعطرٍ ... عنبريِّ وفاتقٍ عَن ورودِ)
(يلمعُ الْبَرْق والدراري توارى ... حينَ تفترُّ عَن شتيتِ برودِ)
(كم حلا لي فِيهِ التغزُّل مَعْ كُلْلِ ... غزالٍ وغادةٍ أملودِ)(4/386)
(حبذا دولَةُ الشبابِ وعصْرٌ ... بالتصابِى قد مَرَّ كالمطرودِ)
(زرتُهُمْ والشبابُ يشفعُ لى والعَيْشُ ... يخضرُّ مِنْهُ يانعُ عودي)
(فِي ليالٍ بسامر فِي رياضٍ ... مشرقاتٍ فِي ظلها فِي عقودِ)
(بَين آسٍ ونرجسٍ وورودٍ ... كعذارٍ وناظرٍ وخُدُودِ)
(وحمامُ الآراكِ تشدو بمَدْحِ ... الملكِ الأمجدِ الكريمِ الجدودِ)
(حَسَنُ الذاتِ والصفاتِ بدا فِي ... أفق الْمجد بَدْر هَذَا الوجودِ)
(قمرٌ أشرَقَ الْحجاز ووَجْهُ الْكونِ ... من نوره وَهُوَ فِي المهودِ)
(فظننا عِيسَى بن مَرْيَمَ قد جَاءَ ... لإصلاحِ دَهْرنا المفسودِ)
(فَهْو إِن لم يكنْ نبيًّا فإبْنُ الأنبياءِ ... الكرامِ سامي المجودِ)
(وابنُ مَنْ جَاءَ بالهدايةِ والرشْدِ ... وسَنَّ الحدودَ فِي المحدودِ)
(وابنُ مَنْ قد شَقَّ السمواتِ عزماً ... ودنا من إلهِهِ المعبودِ)
(زُرْهُ إِن شئتَ أَن تزور سُلَيْمَانَ ... جلالاً وصالحاً فِي ثمودِ)
(شَيَّدَ الدينَ بالعوالى وأضحَى ... بالمعالي كالوالِهِ المعمودِ)
(وحَمَى البيتَ والحطيمَ بيضٍ ... مسرفاتٍ تجاوزَتْ فِي الحدودِ)
(وبِخَيْلٍ سوابقٍ وجيادٍ ... سابحاتٍ تدوسُ قلْبَ الحسودِ)
(لابساتٍ من الدماءِ جلابيبَ ... تهادَى مخضباتِ الزنودِ)
(ترتمِى فِي سحابةٍ من نسورٍ ... وأُسُودٍ من جيشِهِ والجنودِ)
(وبغابٍ من القنا والعوالِى ... مرسلاتٍ لغلِّ قلبِ الحقودِ)
(قاذفاتٍ بكلِّ ظبْىٍ غرير اللَحْظِ ... لكنَّ القَلْبَ من جلمودِ)
(وبهمْ أَبيض الْمحيا مُغِير الْبَدْر ... بالتّمِّ والبها والسعودِ)
(واهبُ الخيلِ والمماليكِ والأعمارِ ... والرزْقِ للعبادِ الوفودِ)
(يختشي الدهْرُ من سطاه وَتَخْشَاهُ ... المنايا بالحادثاتِ السودِ)
(ناشراً من لوائِهِ كلَّ عدلٍ ... باسطاً فِي بساطِهِ كُلَّ جودِ)
(كتب النَّصْر فى حَوَاشِيه إِنى ... عَبْدُ رِقِّ لذَلِك المعقودِ)
(دامَ فِي رفعةٍ ونَشْرٍ وطَىِّ ... للمعالي وخافقاتِ البنودِ)
(مَا همي الغيثُ بالربا وأضا البَدْرُ ... فحاكَى لبشرِهِ المعهودِ)(4/387)
(واستهلَّتْ بالشرقِ سحْبٌ غزارٌ ... تَغْشَ شمساً ثوَتْ ببرجِ اللحودِ)
(حَازِم الملكِ سيد الشهدا مَنْ ... بلقاهُ قد زَانَ دارَ الخلودِ)
(غسلته حور الجنانِ مَعَ الوِلْدَانِ ... فِي حوضِ الكوثرِ المورودِ)
(وادرجته الاملاكُ فِي سندسىِّ ... بحنوطٍ من رحمةٍ معدودِ)
(فعزاء آل النبيِّ بحقِّ ... وهناء بالنصْرِ والتأييدِ)
(وهناء بالصومِ فِي رمضانٍ ... وهناء بالفطْرِ والتعييدِ)
(دُمْتَ للملكِ والممالكِ والخَلْقِِ ... مَدَى الدَّهْر دَائِما فِي سعودِ)
(مَا هَمَى الغيثُ حاكيًا جودَ كَفَّيْكَ ... فأبكَيْتَهُ بجودِ الجودِ)
(وَغدا طائرُ الجوانحِ مِنِّى ... بمديحِ المليكِ فى تغريدِ)
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن أبي كثير يمدحه // (من الْخَفِيف) //
(أَسْعِفِى الصَّبَّ باللقا والتلاقِى ... وانقذِيِهِ من القِلَى والتلافِى)
(وارحَمِى من يَد الهوَى أسلَمَتْهُ ... للتباريحِ مِنْ جوى وتجافِي)
(مستهاماً لَهُ التصبُّرُ أضحى ... خائناً فِي الغرامِ والدمع وافِي)
(هام فِي حُبِّ غادة لَو أعارَتْ ... نورها الشَّمْس لم تُرَعْ بانكسافِ)
(ظَلْمُهَا القرقفي يسْقِي أَقَاحًا ... أَو لآلٍ من الثنايا الرهافِ)
(حف دُرَّا بهَا زُمرُّدُ وشْم ... فتحلَّى مِنْهُ بحسنِ اكتنافِ)
(حرسَتْهُ مِنْهَا بعثال قَد ... حيثُ أمستْ معسولةَ الترشافِ)
(وَبِه قد حمَتْ دروراً لذيذاً ... ووروداً من أنملِ القطافِ)
(لَو أرتْكَ الأثيثَ فَوق المحيَّا ... وتثنِّى القوامِ فِي الأردافِ)
(شِمْتَ بَدْرًا يضئ فِي جنْحِ ليلٍ ... وقضيباً يميسُ فِي الأحقافِ)
(أيأستْنِى بقسوةِ القلْبِ لكنْ ... أطمعتني الأعطاف بالإنعطافِ)
(فَكَأَنِّي فِي الحُبِّ مَا بَين يأسٍ ... ورجاءٍ فِي موقفِ الأعرافِ)
(لم تفوقْ سَهْما من الحسنِ إِلَّا ... وحشا العاشقينَ كالأهدافِ)
(أسقمتني مِنْهَا جفونٌ ضعافٌ ... وعجيبٌ يَأْتِي الضنا مِنْ ضعافِ)
(هِيَ دائِى وأطلبُ الْبُرْء مِنْهَا ... كيْفَ داءٌ يكونُ للسقمِ شافي)(4/388)
(فاتكٌ لَحْظُهَا وَلم نَرَ عضبا ... قاتلاَ وَهُوَ مغمدٌ فى غِلافِ)
(وَبِه قد غَرَتْ فكلُّ فؤادٍ ... متلفٌ بالجراح الإذفافِ)
(كمواضي سلطانِ مكَّة لما ... ينتضيها للفتكِ والإتلافِ)
(حَسَن مَنْ لَهُ الملوكُ عبيدٌ ... كالرعايا مهشومة الآنافِ)
(ملكٌ مَا لَهُ من الخلقِ مثلٌ ... فِي الْمَعَالِي وَمَا لَهُ مِنْ مُكافي)
(ملكٌ مَنْ رَآهُ يسجدُ ذُلاًّ ... لَو رَآهُ سابُورُ ذُو الإكتافِ)
(ملكٌ لَو بِهِ البريةُ لاذوا ... لغَدَوْا مِنْهُ فِي غِنّى وكنافِ)
(ملكٌ ملكُهُ رياضُ أمانٍ ... مثمرات بالعدلِ والإنصافِ)
(ملكٌ ملكه سماءُ معالٍ ... آمنٌ بَدْرُهَا من الإنخسافِ)
(ملكٌ قد تَلا الْكتاب علينا ... فِيهِ وَصفا مِنْ أعظمِ الأوصافِ)
(فَهْوَ إبْنُ الضحَى وطه وَيَاسِين ... وطاسين وابنُ نونٍ وقافِ)
(كُلُّ ملكٍ فعينه لمعالي ... ذَاته لَا تزالُ فِي استشرافِ)
(بدرُ كلِّ الملوكِ فى أُفُقِ الملكِ ... وتاجٌ لهامة الأشرافِ)
(بحلاه بَنو الرسولِ تحلَّتْ ... وذووه وآلُ عبد منافِ)
(كلُّ مجد فَمَا لَهُ عَنْ مداه ... مانعٌ من تقاصرٍ وانكفافِ)
(فالدرارِىْ فِي الأفقِ قد فاقَهَا فِي ... شرفٍ باذحٍ وَفِي إشرافِ)
(باتفاقٍ فاق الملوكَ علوا ... وعُلا الكُلِّ مَا خلا من خلافِ)
(فسجاياه فِي الْعلَا كسجايا ... حيدرٍ جدِّهِ بغيرِ تنافِى)
(فاعلاتٌ لَهُ بيوتَ ثناءٍ ... سالماتٌ بسعده من زحافِ)
(ألمعىٌّ يدْرِي الَّذِي غَابَ عَنهُ ... بذكاءٍ يجلو لَهُ كُلَّ خافي)
(وَمَتى أسقَمَ النُّهَى كَشفُ صَعْبٍ ... فتجدْهُ يزيلُهُ كالشافي)
(كعبةٌ تقصدُ الْوُفُود حماها ... جاعلي بَابه لَهُم كالمطافِ)
(قد غَدا للحُفَاةِ فِيهِ معاذٌ ... وملاذٌ ومأمنٌ من مخافِ)
(وأنامَ الأنامَ فِي ظلِّ عدلٍ ... وارفٍ لم يزل على الخلقِ ضافي)
(وجرَى رزقُهُمْ على راحتيه ... فَهْىَ ترْضى كُلاًّ برزقٍ وافِ)
(منهلُ المكرماتِ كَانَ أجاجا ... وَبِه صارَ حالىَ الوردِ صافي)(4/389)
(ورباه الذاوِى غَدا مِنْهُ روضاً ... ذَا زهورٍ أنوارُهُ فى اختلافِ)
(فنداه قوادمُ الريحِ تَعْيَا ... عَن مجاراتِهِ وَتبقى خوافِي)
(من يقسه بالسحْبِ يخطِى فهذي ... تعطِ مَاء ودمعُهَا فِي انذرافِ)
(وَهُوَ يعطيكَ باسِمَ الثغرِ طلقاً ... وعطاياه عَسْجَدٌ بالجزافِ)
(كاتباه لم يكتُبَا لفْظَ منْع ... مُنْذُ منشاه لَا عَلَيْهِ وَلَا فِي)
(يهبُ الألْفَ ثمَّ لم يَهَبِ الألًفَ ... فكلٌّ لَدَيْهِ بالآلافِ)
(إِن يَجُدْ فالنوالُ يملا الْأَرَاضِي ... أَو يَجُلْ فالنقيعُ يملا الفيافي)
(ضيغَمٌ إِن حمي الوطيسَ فأذكَى ... جمْرَ طعنٍ مَا إِن لَهُ مِنْ طافي)
(وَرَأَيْت الكماة تسقى مداماً ... من منونٍ بأكؤسِ الأسيافِ)
(وحياضَ المنونِ تلجئ كُلاّ ... لورودٍ من صابها واغترافِ)
(خاضه جاعلُ الفؤادِ دلاصاً ... والظبا عَزمَة كحدِّ الرهافِ)
(وَبِه اختالَ لابساً بردَ بأسٍ ... خاطراً فِيهِ مُعْلِمَ الأطرافَ)
(وأباد الجيوشَ بالقتْلِ حَتَّى ... صيَّرَ السيفَ والقنا فِي رعافِ)
(ولكَمْ من جحافلٍ صرْنَ مِنْهُ ... رمماً مَا اهتَدينَ للإنصرافِ)
(وَلكم من كتائبٍ من سطاهُ ... قد تفانوْا بالخوفِ والإرجافِ)
(فَهُوَ يخشَى ويرتجي يَوْم بطشٍ ... ونوال للمعتدِى والمضافِ)
(يَا مليكاً قد جلَّ عَن كل وصفٍ ... حيثُ فِيهِ مدحٌ من الله كَافِي)
(لَو نظمنا فيكَ الدراري مديحاً ... لَا يوازِى مقدارَكُمْ ويكافي)
(دُمْ لَك الملكُ خَالِدا والعوالِى ... والمواضِى فِي عزَّةٍ وعوافي)
(والجديدانِ يخدمانِكَ طَوْعًا ... بِالَّذِي شِئْتَهُ بغيرِ خلافِ)
(والمقاديرُ فِي مراضيكَ تسعَى ... أبدا بالإسعادِ والإسعافِ)
(وصلاةٌ ختامها المسكُ تغشَى ... جَدَّكَ الظُّهْرَ سيدَ الأشرافِ)
وَكَانَ الشريف حسن رَحمَه الله استخدم فِي آخر عمره سنة ثَلَاث بعد الْألف بشخص من أَبنَاء الحضارم يُسمى عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عَتيق كَانَ عبد الله بن عَتيق تزوج بِنْتا من بَنَات الشَّيْخ مُحَمَّد جَار الله بن أَمِين الظهيري فَجَاءَت مِنْهُ بِعَبْد الرَّحْمَن هَذَا وأخيه أبي بكر فتحشر عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فِي(4/390)
الشريف حسن وَبَقِي يفهمهُ النصح فِي الْخدمَة وسحر الشريف حسن إِلَى أَن تمكن مِنْهُ غَايَة التَّمَكُّن وَبَقِي حَاله كَمَا قَالَ الشَّاعِر // (من السَّرِيع) //
(أمرُكَ مردودٌ إِلَى أمرِهِ ... وأمرُهُ ليسَ لَهُ رَدُّ)
فتسلط عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور على جَمِيع المملكة وَتصرف فِيهَا كَيفَ شَاءَ وَبَقِي كل من يَمُوت سَوَاء كَانَ من أهل الْبَلَد أَو من التُّجَّار أَو من الْحجَّاج يستأصل مَاله بِحَيْثُ لَا يتْرك لوَارِثه شَيْئا وَلَا المحلق الْفَرد فَإِذا تكلم الْوَارِث أظهر لَهُ حجَّة أَن مُوَرِثه كَانَ قد اقْترض مِنْهُ فِي الزَّمن الْفُلَانِيّ كَذَا وَكَذَا ألف دِينَار وَيَقُول هَذَا الَّذِي أَخَذته دون حَقي وَبَقِي لي كَذَا وَكَذَا وَطَرِيق كِتَابَته لهَذِهِ الْحجَّة وأمثالها على مَا بَلغنِي مِمَّن أَثِق بِهِ أَن كتبة المحكمة تَحت أمره وقهره فيأمرهم بِكِتَابَة الْحجَّة فيكتبونها وَعِنْده أَكثر من مائَة مهر للقضاة والنواب السَّابِقين فيمهرها وَيَأْمُر عبد الرَّحْمَن المحالبي أَن يكْتب إِمْضَاء القَاضِي الَّذِي قد مهر الْحجَّة بمهره وَيكْتب خَاله الشَّيْخ عَليّ بن جَار الله وَأَخُوهُ الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن جَار الله شَهَادَتهمَا وَيكْتب الشَّيْخ عَليّ أَيْضا عَلَيْهَا مَا نَصه تَأَمَّلت هَذِه الْحجَّة فَوَجَدتهَا مسددة وَيشْهد بذلك مُحَمَّد بن عبد الْمُعْطِي الظهيري وَابْن عَمه صَلَاح الدّين بن أبي السعادات الظهيري وَأحمد بن عبد الله الْحَنْبَلِيّ الظهيري وَغَيرهم ثمَّ إِنَّه يظْهر الْحجَّة ويقرأها بَين النَّاس وجميعهم يعرف أَنَّهَا زور لَا أصل لَهَا وَلَا يقدرُونَ أَن يتكلموا بِكَلِمَة وَاحِدَة خوفًا من شَره وَقُوَّة قهره وَاسْتولى بِهَذَا الأسلوب على مَا أَرَادَ كَمَا أَرَادَ وَإِذا شُكِيَ عَليّ الشريف حسن رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول هَذِه حجَّة شَرْعِيَّة وشهودها مثل هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة الأجلاء كَيفَ أردهَا فنفرت قُلُوب النَّاس من ابْن عَتيق وضجوا وضجروا وكل من أمكنه السّفر سَافر وَمَا تَأَخّر إِلَّا الْعَاجِز وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب كلما سمع شَيْئا من هَذِه الْأُمُور تألم غَايَة التألم فَأول مَا اسْتَقل بالسلطنة أرسل من الْمَبْعُوث قبل وُصُوله إِلَى مَكَّة رسله بمسك ابْن عَتيق فمسك يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر فِي سَاعَة نحوسية وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس يَوْم السبت والأحد فَلَمَّا وصل الشريف أَبُو طَالب وَتَوَلَّى أَمر وَالِده الشريف حسن وَدَفنه(4/391)
استدعي ابْن عَتيق وَسَأَلَهُ عَن أَفعاله فَقَالَ قد فعلت جَمِيع ذَلِك ثمَّ رده إِلَى الْحَبْس فَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ أَخذ ابْن عَتيق جنبية العَبْد الوصيف المرسم عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فَاسْتَيْقَظَ العَبْد وخلصها مِنْهُ فَلَمَّا أصبح الوصيف أخبر سَيّده الشريف أَبَا طَالب بذلك فجبذ جنبيته وَقَالَ لَهُ خُذ هَذِه وَقل لِابْنِ عَتيق لَا تسرق الجنبية فِي اللَّيْل هَذِه جنبيتي إِن كنت تُرِيدُ أَن تقتل نَفسك فَاقْتُلْهَا وأسرع بإرسالها إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير فَلَمَّا جَاءَ الوصيف وَقَالَ لَهُ مَا قَالَه الشريف أَبُو طَالب أَخذهَا مِنْهُ وَأدْخل مِنْهَا فِي بَطْنه نَحْو إِصْبَع ثمَّ أخرجهَا ثمَّ أَعَادَهَا وَأدْخل مِنْهَا ضعف الأول ثمَّ أخرجهَا ثمَّ أدخلها جَمِيعًا ثمَّ أخرجهَا وَقَالَ وامالى وَاسْتمرّ ذَلِك الْيَوْم إِلَى ظهر الْغَد يَوْم الثُّلَاثَاء من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة 1010 عشر وَألف فَخرجت روحه إِلَى غير رَحْمَة فقد كَانَ مرتكباً جَمِيع أَنْوَاع الْمعاصِي حَتَّى لقد بَلغنِي من جمَاعَة بِكَثْرَة أَنه كَانَ يسْجد للشمس وَأما انتهاكه للشَّرْع الشريف فشئ لَا يُوصف وَكَانَ يتبجح وَيَقُول الشَّرْع مَا نريده وَلَقَد أبطل فِي أَيَّامه عدَّة من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة كالوصايا وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَبَاعَ أُمَّهَات الْأَوْلَاد بأولادهن قَائِلا هَذِه حجَّة شَرْعِيَّة أَن فلَانا سَيِّدهَا اعْترف أَن مَاله جَمِيعه لفُلَان فوطؤها حرَام عَلَيْهِ وَالْولد ولد زنا وَكَثِيرًا مَا يَأْخُذ حجَّة الْعتْق ويمزقها ويتملك الْمَكْتُوب لَهُ الْعتْق فِيهَا حَتَّى أَنه بَقِي إِذا مَاتَ شخص من أَرْبَاب الصرور والحبوب والجهات أظهر على المتوفي فراغاً من هَذَا الأسلوب ويتناول المحلول جَمِيعه ثمَّ هُوَ يَبِيعهُ على شخص آخر فسبحان الْحَلِيم الَّذِي لَا يعجل يُمْهل وَلَا يهمل وَقد قَالَ
إِن رَبك ليملي للظالم حَتَّى إِذا أَخذه لم يكن ليفلته فقد أَخذ ابْن عَتيق على غرَّة وَقتل نَفسه وَرمى بِهِ فِي درب جدة فِي حُفْرَة صَغِيرَة بِلَا غسل وَلَا صَلَاة وَلَا كفن ورمت عَلَيْهِ الْعَامَّة الْأَحْجَار وعملت الْفُضَلَاء فِيهِ تواريخ مِنْهَا قَول بَعضهم // (من الرجز) //
(أَشْقَى النفوسِ الباغيَهْ ... إِبْنُ عَتِيق الطاغيَهْ)(4/392)
(نَارُ الجحيمِ استعْوَذَتْ ... مِنْهُ وقالَتْ ماليَهْ)
(لمَّا أتَى تاريخُهُ ... أَجِبْ لظى والهاويَهْ)
ذكر هَذَا الْعَلامَة الْخَطِيب الْمُفْتِي عبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبي وَمن خطه نقلت وَهَذَا الشَّيْخ عبد الْكَرِيم هُوَ ابْن محب الدّين أخي الشَّيْخ قطب الدّين المؤرخ النَّهر والى فَيكون ابْن أَخِيه وقطب الدّين عَمه وَأما قطب الدّين نَفسه فَلم يعقب سوى أَربع بَنَات لَا غير انْتهى وأرخت أَيْضا وقاته بِمَا لَفظه يَأْتِي من ألطاف الله مَا لَا يكون فِي البال وَلِهَذَا وَاقعَة هِيَ مَا أَخْبرنِي بِهِ بعض آل الخواجا الشهير بالكركية وَذَلِكَ أَن ابْن عَتيق كَانَ قد قصد جدة بأذية من قسم أذاياه الَّتِي كَانَ يُؤْذِي الْمُسلمين بهَا مِمَّا ذَكرْنَاهُ وأمهله فِي طلب المَال ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا خرج الخواجا من عِنْده أَتَى بَيته وَهُوَ فِي غَايَة التَّعَب والقلق فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث كَانَ الْقَبْض عَلَيْهِ من خدام الشريف أبي طَالب وَنفذ الله سُبْحَانَهُ فِيهِ حكمه وَقد ألهم الخواجا الْمَذْكُور تكْرَار قَوْله يَأْتِي من ألطاف الله مَا لَا يكون فِي البال وألزم جَمِيع أَهله بتكرارها فَفرج الله عَنهُ سُبْحَانَهُ وَكَانَت تَارِيخ وَفَاته كَمَا تقدم ذكرهَا ثمَّ وَليهَا مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب بعد وَفَاة وَالِده الشريف حسن إِذْ هُوَ ولى عَهده بعده وَظهر بالمظاهر الجميلة ووطئ بأخمصه تَاج الْمجد وأكليله واشتهر بِالْولَايَةِ الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة والمكاشفات الْوَاضِحَة الباهرة وانتشرت فِي الْآفَاق والأقطار لَهُ الكرامات الخارقة وَكَفاهُ سر الْأَسْرَار الغامضة الَّتِي دونهَا السيوف البارقة وَاسْتولى على الصَّيَاصِي المتينة الرفيعة والحصون المنيعة الصنيعة وهرعت إِلَى سيول نداه الوراد وسقيت بِسَبَب جدواه الأكباد الصواد لم تزل دولته مَحْفُوظَة وأحواله بِعَين الْعِنَايَة ملحوظة مولده رَحمَه الله تَعَالَى فِي جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فاستمر فِي الْملك إِلَى أَن كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشري جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وصل مَعَ أَذَان الْعَصْر خبر وَفَاته وَكَانَت بِمحل قرب بيشة فَحمل(4/393)
فِي التخت على البغال إِلَى أَن تقطعت وعجزت عَن السّير فَحمل فِي شبرية على بعير ووصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة ضحوة يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشري الشَّهْر الْمَذْكُور وَصلي عَلَيْهِ عِنْد بَاب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة بعد أَن فتحت ونادى عَلَيْهِ الريس من أَعلَى زَمْزَم وَحمل إِلَى المعلاة وَدفن بهَا وَجعل على قَبره قبَّة وَكَانَت وَفَاته آخر لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة وتأسف النَّاس على فَقده إِلَى الْغَايَة فَإِنَّهُ رَحمَه الله تَعَالَى كَانَ كَرِيمًا لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي أهل بَيته إِلَّا مَا يحْكى عَن أَخِيه السَّيِّد حُسَيْن بن حسن وَكَانَ مهيباً جدا يكسر من إِحْدَى عَيْنَيْهِ لَا لعِلَّة بهَا ذكر عَن جَارِيَة تصب القهوة بَين يَدَيْهِ فِي الدِّيوَان أَنَّهَا أهوت لتأْخذ الفنجان من أَمَام بعض الْحَاضِرين فحبقت فَنظر إِلَيْهَا الشريف أَبُو طَالب نظرة غضب فلاذت نَاحيَة عَن الدِّيوَان وتحاملت على غلصمتها بِيَدِهَا فكسرتها وَسَقَطت ميتَة فَللَّه مِنْهَا شهامة حركتها هَيْبَة وَمِمَّا سمع من كرمه أَنه قبل وَفَاته بأيام كَانَ وَقع من شيخ زعب جِنَايَة فحسبه فِيهَا ثمَّ أَن جمَاعَة الشَّيْخ الزعبي طلبُوا من الشريف أبي طَالب أَن يرضى عَلَيْهِ ويعطوه مَا يطيب خاطره وَاتَّفَقُوا بَينهم على مائَة فرس وَألف بعير وَكَذَا وَكَذَا من الدَّرَاهِم ثمَّ أحضروا جَمِيع ذَلِك ووصلوا بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُم أَنا مَا كَانَ مرادي إِلَّا تَأْدِيب الشَّيْخ الزعبي وَلَيْسَ غرضي فى طمع مِنْهُ والذى وصلتم بِهِ من الْخَيل وَالْإِبِل هُوَ معاد لكم وَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا وكسا الشَّيْخ الزعبي وجماعته الَّذين كَانُوا مَعَه فِي الْحَبْس بعد أَن أطلقهُم وَأمر لَهُم بنفايع جسيمة فَانْظُر إِلَى ملك كريم عَظِيم الشَّأْن وَأما إِعْطَاؤُهُ الْألف الذَّهَب وأمثالها فكثير وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَيْضا وَذَلِكَ قبل أَن يَلِي مَكَّة أَنه زار قبر جده مُحَمَّد
فَلَمَّا أَمْسَى بوادي مر هُوَ وَمن مَعَه أَضَافَهُ رجل من أهل الْوَادي يُقَال لَهُ السودانى فذبح الذَّبَائِح وَمد الموائد وقدمها ثمَّ بلغه أَن الشريف أَبَا طَالب لم يتعش من ذَلِك الطَّعَام وَلم يحضرهُ لبَعض أشغاله فَعمد السوداني الْمَذْكُور إِلَى أَربع أَو خمس من الدَّجَاج فذبحهن وطبخهن(4/394)
وقدمهن على كيلتين من الْعَيْش فِي زبدية كَبِيرَة صيني وَجَاء يحملهَا إِلَى الشريف أبي طَالب وَقَالَ يَا سَيِّدي هَذَا عشَاء عَبدك اجبر خاطره جبر الله خاطرك فَغسل الشريف يَده وَأكل من تِلْكَ الزبدية لقيمات ودعا لَهُ ثمَّ دخل مَكَّة فَلَمَّا اسْتَقل بِالْولَايَةِ على مَكَّة وَفد عَلَيْهِ السوداني بعد سنة وَقبل يَده فَقَالَ لَهُ الشريف أَبُو طَالب الزبدية الَّتِي تعشينا فِيهَا عنْدك تعيش فَقَالَ لَهُ نعم يَا سَيِّدي مَوْجُودَة فَقَالَ اذْهَبْ فائتني بهَا فَذهب إِلَى وَادي مر وأتى بهَا فَأمر لَهُ فملئت لَهُ ذَهَبا أَحْمَر كيل الزَّبِيب رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه حَدثهُ من شَاهد مجامر العنبر موقدة تسير مَعَ نعشه من الْبَيْت إِلَى فرَاغ الدّفن نَحْو ثَلَاثَة عشر مجمرا تعج فى الطَّرِيق والأسواق عجيج اللبان وَمِمَّا قيل فِي مدحه قَول الْعَلامَة الْمُفِيد البارع الْمجِيد مَوْلَانَا وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن عِيسَى بن مرشد الْحَنَفِيّ مادحه وشارحاً غَزَوَاته المقرونة بالنصر وَالظفر ومتخلصاً إِلَى مدح وَالِده الشريف الْحسن بن أبي نمي فَقَالَ // (من الْكَامِل) //
(نَقْعُ العجاجِ لَدَى هياجِ العثْيرِ ... أَذْكَى لدينا من دُخَانِ العنبرِ)
(وصليلُ تجريدِ الحسامِ ووقعُهُ ... فِي الهامِ أشدَى نَغمَة من جؤذرِ)
(وسنا الأسنة لامعاً فِي قسطلٍ ... أسنَى وأسمى من محياً مسفرِ)
(وتسربل فِي سابغاتِ مسردٍ ... أزهَى علينا من سدوسٍ أخضرِ)
(وكذاكَ صهوةُ سَابِحٍ ومطهّمٍ ... أشهَى إِلَيْنَا مِنْ أريكةِ أحوَرِ)
(ولقا الكميِّ مدرعاً فِي مغفرٍ ... كلقا الغريرِ بمقْنعٍ وبمخمرِ)
(ألفَتْ أسنتنا الْوُرُود بمنهلٍ ... علقَتْ بِهِ علقَ النجيعِ الأحمرِ)
(وسيوفنا هجرَتْ جوَار غُمُودها ... شوقاً لهامة كُلِّ أصيَدَ أصعَرِ)
(فتخالُهَا لمَّا تجرَّد عِنْد مَا ... هاجَ القتامُ بوارقاً بكنهورِ)
(وصَهِيل جُرْد الخيلِ خيل كَأَنَّهُ ... رَعْدٌ يزمجرُ فِي الجدا المثعنجرِ)
(ودَمُ العدى متقاطرًا متدفقًا ... كالويلِ كالسيلِ الجرافِ الحورِ)
(ورءوسُهُمْ تجْرِي بِهِ كجنادِلٍ ... قذفَتْ بهَا موج السيولِ المقمرِ)
(غشيَتْهُمُ فِي العامِ منا فرقَةٌ ... تركَتْ فريقهم كسَبْسب أقفرِ)(4/395)
(أودَتْهُمُ قتلا وأطبقَهُمْ إِلَى ... أَن حطَّمَ الخطىُّ ظهرَ المدبرِ)
(تركَتْ صحاريهم مَوَائِد ضمنَتْ ... أشلاء كُلّ مسود وغضنفرٍ)
(ودعَتْ ضيوف الوَحْش تقريها بِمَا ... أقرى المهنَّد والوشيج السمهرِى)
(فأجابَهُ مِنْ كُلِّ غيل زمرةٌ ... تحدو منارَ عملَّسٍ أَو قسورِ)
(وأظلها ظلل نشاط سحابه المركُوم ... أَجْنِحَة البزاةِ الأنسرِ)
(فبراثنُ الآسادِ تضبثُ فِي الكلا ... ومخالبُ العقبانِ تنشبُ فِي المَرِى)
(شكَرَتْ صنيعَ المشرفيةِ والقنا ... إذْ لم تضفها الهبرُ غير مهبّرِ)
(فغدَتْ قُبُورهم بطونَ الوحشِ مِنْهَا ... يبعثُونَ إِذا دعوا للمحشَرِ)
(وخلَتْ دِيَارهمْ وأقوَى ربعُهُمْ ... وسرى السرىُّ مشمرا عَن شمرِ)
(أنفَتْ من استقصاءِ قتلِ شريدِهِمُ ... كَيْمَا يخبر قَائِلا عَن مخبرِ)
(فثنَتْ أَعِنَّة خَيْلنَا أجيادنا ... عَنْ قتلِ كُلِّ مزند وحَزَوَّرِ)
(حَتَّى إِذا حَان القطافُ ليانعٍ ... من أرؤسٍ تركَتْ ولمَّا تؤترِ)
(عصفَتْ بهم ريحُ المنونِ فألقحَتْ ... وتحركَتْ بزعازعٍ من صرصرِ)
(فدعَتْ سراة كماتنا لقطافها ... بأناملِ القصْبِ الأصمِّ الأسمرِ)
(فتجهزَتْ لحصادها فِي فيلقٍ ... لَو يسبحُونَ بزاخرٍ لم يزخرِ)
(مَلأ تتوقُ إِلَى الكفاحِ نفوسُهُمْ ... توقانها للقا الرداحِ المعصرِ)
(يغشون أبطال الوطيسِ بواسماً ... كالليْثِ أنْ يلق الفريسة يكشرِ)
(وتخالهم فَوْقَ الجيادِ لوابساً ... سدا تموجُ بالحديدِ الأخضرِ)
(فَإِذا هُمُ ازدحموا بجزعٍ وانثنوا ... أورَى زنادُ دروعهم نَارا ترِى)
(جيشٌ طلائعه الأوابدُ إِن تصخْ ... لوجيبِهِ من قيدِ شهرِ تنفرِ)
(بقتادة الملكِ المشيحِ كَأَنَّهُ ... بينَ العوالِى ضيغَمٌ فِي مزأرِ)
(ملكٌ تدرَّعَ بالبسالةِ فاغتنَى ... يَوْم الوغَى عَنْ سابغٍ وَسَنوَّرِ)
(ملكٌ تتوَّجَ بالمهابةِ فاكتفي ... عِنْد الطعانِ لفرقه عَن مغفرِ)
(ملكٌ إِذا مَا جالَ يَوْمَ كريهةٍ ... لم تلق غَيْرَ مجدَّلٍ ومغفَّرِ)
(ملكٌ يجهّزُ من جحافلِ رأيِهِ ... قبل الوقيعةِ جحفلاً لم ينظرِ)
(ملكٌ تُسنم ذروةَ المجدِ الَّتِي ... مِنْ دونهَا المريخُ بل والمشترِى)(4/396)
(ملكٌ تذكرنا مواقعُ عضبِهِ ... فِي الهامِ وقعةَ جدِّهِ فِي خيبرِ)
(ملكٌ إِذا مَا جادَ حدث مُسْندًا ... عَن جودِهِ جودُ الغمامِ الممطرِ)
(ملكٌ سما عَن أَن أُصَرِّحَ باسمه ... لسموِّهِ عَن كُلِّ وصفٍ مشعرِ)
(ملكٌ قفا سنَنًا سنياً سنه ... للمجْدِ وَالِده الزكي العنصرِ)
(ألأَشرفُ الشهْمُ الَّذِي خضَعَتْ لَهُ ... شُمُّ الأنوفِ وكلُّ جحجاحٍ سَرِى)
(ألأَفضلُ السنَدُ الَّذِي بجنابه ... لاذَ الغطارفَة الألَى من حميرِ)
(ألأكملُ الندْبُ الَّذِي أوصافُهُ ... أنسَتْ سما الوضاحِ وابْن المنذرِ)
(ألأكرمُ المفضالُ مِنْ إحسانه ... أربَى على كسْرَى الملوكِ وقيصرِ)
(ذُو الهمَّةِ الْعليا الَّذِي قد نَالَ مَا ... عَنهُ تقصِّرُ همةُ الإسكندرِ)
(شرفاً تقاعَسَتِ الثوابتُ دونه ... لَو لم تُمدَّ بنوره لم تُزهرِ)
(هَبْهَا بمنطقةِ البروجِ مقرُّها ... أمناهِز هَذَا بُنُوَّةَ حيدرِ)
(كلا فكيْفَ بِمن حواها جَامعا ... نسبا سما بأبوَّةِ المدثرِ)
(أعظِمْ بهَا من نسبةٍ نبويةٍ ... علويَّةٍ تنمى لأصلٍ أطهرِ)
(قد شرفَتْ بدءاً بأشرفِ مرسلٍ ... وَنِهَايَة بالسيِّدِ الحسنِ السَّرِى)
(فَخر الخلائفِ دُرَّة التاجِ الَّذِي ... بسواه هَامُ ذَوِى العُلاَ لم يفخرِ)
(بَشَرٌ ولكنْ فِي صفاتِ ملائكٍ ... جُليَتْ لنا أخلاقُهُ فاستَبْصِرِ)
(لم تلقه يومَىْ عطا ووغىً سَوى ... طَلْق المحيَّا فِي حلا المتبشرِ)
(يلقى العفاةَ وقَدْ تلألأ وجهُهُ ... بسنا السرورِ وذاكَ أنضَرُ منظرِ)
(يعفُو عَن الذنبِ العظيمٍ مجازياً ... جانيه بالحسنَى كأنْ لم يوزرِ)
(يَا سيِّدَ الساداتِ دونَكً مِدْحَةً ... نفحَتْ بعرفٍ مِنْ نداكَ معطَّرِ)
(قد فصِّلَتْ بلآلىء المدحِ الَّتِي ... وقَفَ ابنُ أوسٍ دونهَا والبحتُرِى)
(وَافَتْكَ ترفُلُ فِي برودِ بلاغةٍ ... وبراعةٍ لبرودِ صَنْعَا تزدرِي)
(صاغَتْ حلاها فكرةٌ قد زانها ... شَمَمُ الإباءِ من امتداحِ مقصِّرِ)
(مَا شانها نَطْمُ القريض تكسُّبًا ... لَوْلَا مقامُكَ ذُو الْعلَا لم تشعرِ)
(مَا شانها إِلَّا اكتسابُ فضائلٍ ... تغنيه عَن شَرَفِ العظامِ النُّخَّرِ)
(فوردتُ منهَلَها الروىَّ فَلم أجدْ ... أحدا فنلْتُ صفاه غَيْرَ مكدرِ)(4/397)
(فَنَهَلْتُ مِنْهُ وعلَّنى بنميرِهِ ... ولبثْتُ وارده ولمَّا أَصْدُرِ)
(وطَفِقْتُ فِيهِ غائصًا للآلىء ... فِي غَيْرِ نظمِ مديحِكُمْ لم تنثرِ)
(لَا تدعُنِى الْعليا رضيعَ لبانِهَا ... إِن كنْتُ فِي تِلْكَ المقالَةِ مفترِي)
(خُذْهَا عقيلَةَ كسْرِ خدرِ فصاحةٍ ... سفرتْ نقاباً عَن محيا مسفرِ)
(جمعت فصاحةَ منطقِ الاعرابِ مَعْ ... حْسْنِ البيانِ ورقَّة المستحضرِ)
(لَو شامَهَا قُسٌّ لما سُمِعَتْ لَهُ ... بعكاظَ يَوْمًا خطبةٌ فِي منبرِ)
(شرفَتْ على مَا عارضَتْهُ بمدْحِ مَنْ ... أضحى القريضُ بِهِ كعقْدٍ جوهرِى)
(فاستَجْلِهَا وافَتْ تهنِّى بِالَّذِي ... نفحَتْ بشائره بمسْكٍ أذفرِ)
(نصرٌ تهزُّ بنوده ريحَ الصِّبَا ... خفقَتْ على هامِ الأشمِّ الحزمري)
(هُوَ نجلُكَ المنصورُ دامَ مؤيداً ... بك أَيْنَمَا يَلْقَ العزيمةَ بظفرِ)
(لازلْتُما فى ظِلِّ مجدٍ باذجٍ ... وجنودِ مُلْكِكُمُ ملوكُ الأعصرِ)
(مستمسكينَ بِهَدْىِ جدِّكم الَّذِي ... بالرعْبِ ينصرُ مِنْ مَسَافَة أشهرِ)
(أهْدى الإلهُ صلاتَهُ وسلامَهُ ... لجنابِهِ فِي طَىِّ نشرِ العبهرِ)
(ولآلِهِ وصحابِهِ والتابعِينَ ... لَهُم بإحسانٍ ليومِ المحشرِ)
(مَا استنشَقَ الأبطالُ فِي يوْمِ الوغى ... نَقْعَ العجاجِ لَدَى هياجِ العِثْيَرِ)
وَقَالَ الإِمَام عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ مادحاً أَبَاهُ ومتخلصاً إِلَى مدحه // (من الْكَامِل) //
(قد أقبلتْ ريحُ الْقبُول بعثيرِ ... نفح الْقَبَائِل نفحة مِنْ عنبرِ)
(فتأرجَتْ أرجاءُ مكَّةَ إِذْ رُوِي ... خَبَر الوقائعِ فِي المجامع عَنْ بَرِي)
(إِذْ ضمخَتْ أَيدي الكماةِ بنَقْعِهِ ... وبمسها الْعود الرطيب السَّمْهرى)
(فتمايَلَتْ عذباتُهُمْ بِشمَالِهِ ... لَا بالشمولِ وَلَا العبيرِ الأذفرِ)
(هزَّتهم نَحْو الصِّبَا ريحُ الصّبَا ... والغَيْر هز بكلِّ نكبا صرصرِ)
(هم فتيةٌ لَا يطربُونَ حياتَهُمْ ... إِلَّا بحربٍ أَو برحبٍ مقفرِ)
(جوبُ المهامِهِ صَارَ منقبةً لَهُم ... أبدا وَهَذَا شانُ كلِّ غضنفرِ)
(مِنْ كُلِّ أصيدَ لَا يرى متلفتاً ... لثباته بَين العديدِ الاكثرِ)
(شهم عَلَنْدَى بالوشيجِ موشح ... لَا بالوثيجِ إِذا دعى فِي المحضرِ)(4/398)
(هُوَ فى المفرِّ كَمُشْمَخِرِّ راسخٍ ... ولدى المكرِّ ترَاهُ كالمُسْحَنْفِرِ)
(لله قومٌ مَا جَنَوْا برماحهم ... إِلَّا رُءُوسًا أينعَتْ من مثمرِ)
(كلا وَلَا نهلَتْ عطاشُ سيوفهم ... إِلَّا مِنَ العَلَقِ النجيع الأحمرِ)
(قومٌ سواهُم بالسريرِ مجرَّدٌ ... وهُمُ سراةٌ فَوق جردٍ ضُمَّرِ)
(ألفوا الدروعَ مدى الزمانِ غلائلاً ... أغنتْهُمُ عَن لبسِ كلِّ معصفرِ)
(لَا يهتدونَ بجحفَلٍ من قسطلٍ ... إِلَّا بقدْحِ جيادِهِمْ فِي المحجرِ)
(فهمُ كبَحْرٍ من حديدٍ مائرٍ ... عِنْد المسيرِ وتحتَهُمْ نارٌ ترِى)
(حتَّى إِذا دخلَ النزالُ وهاجتِ الأبطالُ ... فِي الهيجا هياجَ مزمجرِ)
(وبدَتْ زماخرُ كلِّ صنديدٍ إِذا ... مدَّ السواعد كَانَ قدماً زمخري)
(يَدْعُو النزالَ إِلَى نزالِ مسعرٍ ... لَهب الوغَى مِنْهُ بأعسَر مسعرِ)
(لاقاه غطريفٌ عَلَيْهِ سيطرٌ ... لَا يرتجي إِلَّا لقَاءَ عَشَنْزَرِى)
(يلقى الكريهةَ فاغراً مُتَبَسِّمًا ... يخطو بمشيَةِ أرعَنٍ متبخترِ)
(ويجرُّ عُجْبًا ذيلَ فاضتِهِ الَّتِي ... شملَتْهُ بَين مزرّدٍ ومزرّرِ)
(يلقى المنونَ لِقا المُنَى بمهنَّدٍ ... لَا ينتضي إِلَّا بكَفِّ مقذحرِ)
(دبَّتْ على متنيْهِ فِي حالِ المضا ... نملُ المنايا دبهَا فِي المحشرِ)
(عافَ الجفير فَلَا مقرَّ لَهُ سوَى ... هامِ الشجاعِ الْمُقدم المتهورِ)
(ظلم النفوسِ لظلمها ممزوجة ... بدَمِ النياطِ بغربِ ذَا الغضْبِ الفرِي)
(ففرندُهُ مَا زَالَ وهْوَ مدبجٌ ... من أبيضٍ فِي أسودٍ فِي أحمرِ)
(لصليلهِ فِي الهامِ فعلُ الصلِّ فى الملسوبِ ... مسلوب الفؤادِ المسهرِ)
(قسما بِهِ إِن السيوفَ حديدَةٌ ... لَوْلَا يدُ الحسنِ المليكِ القسورِي)
(ألسيدُ الجَحْجَاحُ أَفْضَلُ مَنْ بِهِ ... وبرأيه ظهَرَتْ نجابةُ حيْدَرِ)
(ألباسلُ الصنديدُ من فرجَتْ لَهُ ... فِي مأزقٍ خطيَّة لم تقصرِ)
(قد أنهلتهَا كفُّه نَحْر العِدَا ... فانْهَلَّ غَيث نجيعه المثْعَنْجِرِ)
(سُمْرٌ عَوَالٍ للرُّدَيْنِ نماؤها ... تروى بِهِ علل الورُود المصدرِ)
(قسما بهَا إِن العواليَ خوطَةٌ ... لَوْلَا يمينُ ابْن النبىِّ الأفخرِ)
(ألباسلُ الشهْمُ الأشمُّ المرتقِي ... مَا قصَّرَتْ عَنهُ عزائمُ قيصرِ)(4/399)
(وتكسَّرَتْ آراءُ كِسرَى دونه ... فِي وتْرِ سيفٍ إِذْ حماه بعسكَرِ)
(فَعُلاَ ابْن طه ليْسَ يبرحُ وَاضحا ... وَبِه يُرَى الوضاح شِبْهَ مقصِّرِ)
(جَلَّ الأشمُّ ابنُ العرانينِ الألَى ... عَنْ أَن يقاسَ بِمثلِهِ ابنُ المنذرِ)
(ثَبْتٌ إِذا نُوَبُ الزَّمَان تقاذفَتْ ... لَا بالغبىِّ بهَا وَلَا المستَنْكرِ)
(مَا ظَنَّ أمرا سَابِقًا أَو لاحقاً ... إِلَّا رمَى عَن قوسِ غَيْبٍ موترِ)
(أَو لَو يعادى الصَّخْر لانفلق الصَّفَا ... خَوْفًا فمنْ ذَا بَعْدَ هَذَا يجتري)
(صُغرَى عزائمِهِ إِذا جابَ الفَلاَ ... تنحطُّ عَنْهَا همةُ الإسكندرِ)
(لم يُلْفِ فِي حالَيْ رضاهُ وبطشِهِ ... أبدا سوَى متبسِّمٍ ومكشِّر)
(كملَتْ بسالتُهُ فأنجَبَ سيداً ... قرَّتْ بِهِ عينُ الشريفِ حَزَوَّرِ)
(ليثٌ مخالبُهُ الأسنةُ والظبا ... يغتالُ قلبَ الفارسِ المثعنجرِ)
(ليثٌ صهيلُ الخيلِ أشهَى عِنْده ... من صوتِ مزمارٍ ورنَّةِ مِزْهَرِ)
(ليثٌ يرى الصهواتِ أنعَمَ من علا ... ظَهْر الأريكةِ أَو تُسنم منبرِ)
(ليثٌ أَشَارَ عَلَيْهِ والدُهُ ضحى ... لغزاةِ قومٍ شَمَّروا من شمّرِ)
(فاقتادَ ظُهرًا جيشَهُ متوجِّهًا ... لَا بالونىِّ المبطىِء المستَخْبِرِ)
(وَأَبُو علىِّ بينهمم متأوداً ... عِنْد الكفاحِ تأوُّد المستبشرِ)
(أَلنصْرُ فِي أعلامِهِ والسعْدُ فِي ... إقدامِهِ والرعبُ مدَّة أشهرِ)
(وبوجهِهِ نورُ النبوةِ ساطعٌ ... يُغْنِيه عَن ظَهْرِ الطرازِ الأخضرِ)
(يلقى العدُوَّ مشهراً بعلامةٍ ... والغيرُ إنْ لاقَى فَغير مشهّرِ)
(يأيها المولَى الإمامُ المرتضَى ... أنتَ الخليفةُ وارثُ المدَّثِّرِ)
(قد قمتَ فِينَا منذرًا ولربِّكَ الأعْلَى ... نراكَ سموتَ كلَّ مكبرِ)
(وثيابٌ كَ الْحسنى غدوْتَ مطهراً ... وهجرْتَ رُجْزًا لَا أقولُ لَك اهْجُرِ)
(ومنحتَنَا منناً تطوِّقُ جيدنَا ... عقيانُهَا لَا منَّة المستكثرِ)
(يَا بن الخلائفِ من قريشٍ هَذِه ... عُرَرُ الخلائقِ من أبيكَ الأطهرِ)
(أوتيتَهَا قبذلْتَ واجبَ حقِّها ... وحميتَها من أصعَرٍ أَو أصغرِ)
(وَالله قد أعطَاكَ مَا لَمْ يعطِهِ ... مَنْ قد مضَى فاحمَدْ إلهَكَ واشكُرِ)
ثمَّ وَليهَا الشريف إِدْرِيس بن الْحسن وَذَلِكَ أَنه كَانَ الْمُعْتَاد فِي قَوَاعِد بني حسن(4/400)
أَن يكون من يتفقون عَلَيْهِ ويختارونه هُوَ صَاحب الْأَمر فَاجْتمع حِينَئِذٍ الْأَشْرَاف جَمِيعهم وأعملوا رَأْيهمْ السديد وَحمد غب ذَلِك صينعهم فَاخْتَارُوا مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس بن الْحسن فولوه وأكبروه ورتبوه فِي الْولَايَة وصدروه وأشركوا مَعَه فِي الدُّعَاء على المنابر ابْن أَخِيه مَوْلَانَا الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن وأشركوا مَعَه أَخَاهُ السَّيِّد فهيد بن الْحسن فِي ربع مَا يتَحَصَّل من الأقطار الحجازية وَكَتَبُوا بذلك محضراً إِلَى الرّوم ثمَّ وصل الْجَواب كَذَلِك فاستمروا فَلَمَّا كَانَ يَوْم سَابِع ذى الْحجَّة الْحَرَام من سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف كَانَت عرضة المصرى وأميره الْأَمِير حُسَيْن الشهير بدَلِي حُسَيْن وَوصل مَعَه بِثَلَاث خلع لبس مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس الخلعة الأولى الْكُبْرَى وَهِي بِفَرْوٍ سمور تحتهَا خلعة مُنْفَصِلَة كالبطانة وَهَاتَانِ الخلعتان عَن خلعة وَاحِدَة وَلبس الشريف محسن خلعة بِلَا فرو وَلبس السَّيِّد فهيد خلعة كَذَلِك بِغَيْر فرو ووقف الشريف إِدْرِيس فِي المختلع إِلَى أَن توجه الْأَمِير حُسَيْن ثمَّ جَاءَ أَمِير الشَّامي وَهُوَ الْأَمِير طهماس فَنزع الشريف إِدْرِيس خلعة الفرو وَلبس خلعة الشَّامي وَهِي بِفَرْوٍ أَيْضا وَلبس الشريف محسن وَلبس السَّيِّد فهيد خلعتيهما وَكِلَاهُمَا بِغَيْر فرو وَكَانَت عرضة رائقة لم يحصل فِيهَا مُخَالفَة وأخلف الله الظنون الْمُخَالفَة وَفِي سلخ جُمَادَى الأولى من سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وصل من مصر هجان وَمُلَخَّص أوراقه أَن الشَّيْخ مُحَمَّد زين العابدين بن مُحَمَّد الْبكْرِيّ مَاتَ فَجْأَة فِي القلعة فِي مجْلِس صَاحب مصر الْوَزير إِبْرَاهِيم باشا وَذَلِكَ بعد أَن تعشى عِنْده وَدخل مَعَه إِلَى الْخلْوَة وَشرع فِي قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب فَسقط على وَجهه فحركوه فوجدوه مَيتا رضى الله عَنهُ وَكَانَت وَفَاته فى ثامن عشر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي آخر ربيع الثَّانِي مِنْهَا اجْتمعت عَسَاكِر مصر وَقتلت صَاحب مصر إِبْرَاهِيم باشا وَقتلت مَعَه مُحَمَّد بن خسرو وَلم تقتل سواهُمَا مَعَ أَنه كَانَ حَاضرا عِنْده جملَة من الْأُمَرَاء وقاضي مصر وَغَيره من الأكابر وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَيْضا دخل مصر باشا جَدِيد لَهَا اسْمه مُحَمَّد باشا وَهُوَ خَادِم قرجي الْجِنْس وَاسْتمرّ إِلَى ثَانِي ربيع الأول من سنة أَربع عشرَة بعد الْألف فعزل بالوزير حسن باشا الْوَاصِل من الْيمن(4/401)
وَفِي شهر الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَقعت فتْنَة بِمَكَّة بَين الأتراك النازلين بالمعلاة وَبَين عبيد الشريف فَركب حَاكم مَكَّة يَوْمئِذٍ الْقَائِد رَاشد بن فايز فَلَمَّا أَن كَانَ بِرَأْس الْمُدَّعِي أَصَابَهُ سهم لَا يعلم من أَيْن جَاءَ فَوَقع فِي نَحره فَكَانَ فِيهِ نَحره وَكَانَ من بعض الدّور النَّازِل بهَا بعض التّرْك فَحمل قَتِيلا وفيهَا توفّي الشَّيْخ الملا عَليّ الْقَارِي بن سُلْطَان بن مُحَمَّد الْهَرَوِيّ الْحَنَفِيّ الْجَامِع للعلوم الْعَقْلِيَّة والنقلية والمتضلع من السّنة النَّبَوِيَّة أحد جَمَاهِير الْأَعْلَام ومشاهير أولي الْحِفْظ والأفهام ولد بهراة ورحل إِلَى مَكَّة وتديرها أَخذ عَن خَاتِمَة الْمُحَقِّقين الْعَلامَة ابْن حجر الهيثمى وَشرح الْمشكاة والمشائل والوترية والجزرية وَله شرح على نخبة الْفِكر وَشرح على الشفا وَشرح على الشاطبية ولخص الْقَامُوس وَسَماهُ الناموس وَله الأثمار الجنية فِي أَسمَاء الْحَنَفِيَّة وَله غير ذَلِك لكنه امتحن بالاعتراض على الْأَئِمَّة لاسيما الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَاعْترض على الإِمَام مَالك فِي إرْسَال يَدَيْهِ وَلِهَذَا تَجِد مؤلفاته لَيْسَ عَلَيْهَا نور الْعلم وَمن ثمَّ نهى عَن مطالعتها كثير من الْعلمَاء والأولياء وَفِي سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف توفّي السَّيِّد صبغة الله بن روح الله الْحُسَيْنِي قطب مدَار الراسخين فِي الْعلم وَالْعَمَل الفحول وقلب أهل الإشارات والإلهام والوصول جبل عَرَفَات الْعرْفَان وحبل مستعصم رجال الْعَطف والحنان صَحبه الجم الْغَفِير وانتفع بِهِ الْجمع الْكثير أوفرهم حظاً مَوْلَانَا السَّيِّد مرزا كَمَا أَشَارَ هُوَ إِلَى ذَلِك فِي بعض مصنفاته بَيَانا ورمزاً وَكَذَلِكَ مَوْلَانَا السَّيِّد أسعد الْبَلْخِي وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوي توفّي بِطيبَة المنورة وَدفن بِالبَقِيعِ وقبره ظَاهر يزار رَحمَه الله رَحْمَة الْأَبْرَار وفيهَا ورد الْأَمر من مَوْلَانَا السُّلْطَان الْأَعْظَم أَحْمد خَان بترميم المقامات الْأَرْبَعَة بِالْحرم الشريف على يَد شيخ الْحرم حسن بن مُرَاد الرُّومِي فرممت على أحسن وَجه وأتقنه وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعد الْألف توفّي السَّيِّد فهيد بن الْحسن بعد أَن شَارك أَخَاهُ الشريف إِدْرِيس وَابْن أَخِيه الشريف محسن بِالربعِ فِي جَمِيع الأقطار الحجازية الدَّاخِلَة تَحت حكم صَاحب مَكَّة المشرفة البهية فكثرت أَتْبَاعه من السَّادة الْأَشْرَاف(4/402)
والحسنان والعسكر بِحَيْثُ صَار موكبه يضاهي موكب الْملك وَإِذا جلس وقفت التّرْك يَمِينا وَشمَالًا وَاتخذ جبالية للبندق نَحْو مِائَتَيْنِ أَو أَكثر وَلم يحفظ أَتْبَاعه وعبيده عَن النهب وَالسَّرِقَة فَكثر ضررهم على النَّاس وَشد قوسه على مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس وإخائه واستل صارم الصرامة عَلَيْهِ فِي شدته ورخائه والشريف متورع عَن فتح بَاب المصارمة وصدع مَا لَا يلتئم بالجبر والملايمة فَلَمَّا زَاد كَمَا تَقوله الْعَامَّة المَاء على الدَّقِيق وَلَو حَظّ مَا حَقه التفخيم بالترقيق وَأخذ فهيد بِجَانِب أكمل الدّين القطبي وَأَرَادَ أَن يلْبسهُ قفطان لإفتاء قبل أَن يحرم ويلبي ووقف الشريف إِدْرِيس ذَلِك الْموقف واعتنق السمهري تعانقاً يثنى ولواء الْخَمِيس العرمرم يرعب ويرجف وَأقسم لَا يلبس القفطان إِلَّا وَقد ورد السنان نَحره فَقَالَ فهيد وَلَو خربَتْ الْبِلَاد فَقَالَ إِدْرِيس وَلَو خربَتْ قبل سجره فَعِنْدَ ذَلِك تراجعا إِلَى النَّهْي وفكرا فِي المبدا والمنتهى وعادا وَفِي قلب كل مِنْهُمَا وَقد وَأخذ مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس من ذَلِك فِي حل مَا مضى مَعَ فهيد من الْعَهْد خُصُوصا لما صمم القطبي وَرجع الْأَمِير وَلم يَجْعَل التفكر فِي عواقب الْأُمُور أصدق سمير وَدخل مَعَه إِلَى الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة وَلبس الخلعة الموصوفة وتجاهه من جمَاعَة الْأَمِير اثْنَان من الأساكفة أَرْبَاب التشهير وشق الشَّارِع الْأَعْظَم حَتَّى انْتهى إِلَى سويقة وصهيل خيله يسمع من كل شباك وطويقة كل ذَلِك عناد لسَيِّده ومولاه وكفران لمن خوله هَذِه النِّعْمَة وَأَوْلَاده فأضمر حِينَئِذٍ الشريف إِدْرِيس الحقد على أكمل الدّين كَذَا فِي سلافة الْعَصْر والأرج المسكي وَلما أَرَادَ الله انْقِضَاء مُدَّة فهيد وفراغ دولته تغير عَلَيْهِ فِي الْبَاطِن أَخُوهُ الشريف إِدْرِيس وَأرْسل لِابْنِ أَخِيه الشريف محسن بن حُسَيْن وَكَانَ إِذْ ذَاك بِالْيمن بِأَن يَأْتِي بِجَمِيعِ من مَعَه من الْأَشْرَاف والقواد وَالْعرب فَحَضَرَ وَمَعَهُ أَمِير حلى مُحَمَّد بن بَرَكَات الحرامى ونودى بِمَكَّة بِأَن الْبِلَاد لله وللسطان وللشريف إِدْرِيس والشريف محسن وخلع السَّيِّد فهيد من الذّكر وَمنع من الرّبع وَجعل مَا كَانَ لفهيد من ربع(4/403)
مغل الأقطار الحجازية لِابْنِ أَخِيه الشريف محسن وَلم يخْطب للسَّيِّد فهيد وخطب لمولانا الشريف إِدْرِيس أَولا ولمولانا الشريف محسن بعده ثَانِيًا كل هَذَا وفهيد فِي مَكَّة فِي بَيته وجموعه وافرة وعدته وعدده المتكاثرة فاستعد أَصْحَابه لِلْقِتَالِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ أعيانهم بِالْحَرْبِ فَامْتنعَ من ذَلِك وَطلب من الشريف إِدْرِيس شهر زمَان ليتأهب لِلْخُرُوجِ من مَكَّة بعد أَن طلب أَن يُمكن من سُكْنى مَكَّة بِغَيْر ربع فَامْتنعَ الشريف إِدْرِيس إِلَّا أَن يتَوَجَّه إِلَى حَيْثُ أَرَادَ من الْأَمَاكِن والبلاد فَخرج من مَكَّة سنة تسع عشرَة وَألف فانضم إِلَى بعض أكَابِر الْحَاج الْمصْرِيّ وَسَار إِلَى مصر وتاريخ قدومه فِي شهر صفر قدومكم خير سنة عشْرين وَألف ثمَّ مِنْهَا إِلَى الديار الرومية وَاجْتمعَ بسُلْطَان الرّوم فَيُقَال إِنَّه أنعم عَلَيْهِ بإمرة مَكَّة فعاجلته الْمنية قبل الأمنية كَذَا فِي تَارِيخ ابْن جَار الله وأرخ وَفَاته الأديب إِبْرَاهِيم بن يُوسُف المهتار بِأَبْيَات فَقَالَ // (من الرمل) //
(مَا وُقُوفِي بطلولٍ ودِمَنْ ... غيَّرَتْ سُكَّانها أَيدي الزمَنْ)
(لىَ شُغْلٌ عَنْ بُكَائِي رسْمَهَا ... وسؤالي قَفْرَهَا بعد السكَنْ)
(بِالَّذِي أُسْمِعْتُهُ مِن خبرٍ ... حَرَمَ العينَ لَذَاذَاتِ الوَسَنْ)
(نَعْيَ ذِي المجدِ الكريمِ المرتجَى ... حاوي الْعليا فهيد ذُو المِنَنْ)
(فارج الكربِ وماضِى الغربِ فى الحَرْبِ ... غيثُ الجدبِ ذُو الفعلِ الحَسَنْ)
(مَنْ أبَتْ همتُه إِلَّا الْعلَا ... ومراقِى عزِّها خَيْر ظعنْ)
(وَاصل الرّوم فوافاه الردَى ... فِي بلادٍ باعدَتْ عَنهُ الوطَنْ)
(ليتَ شعْرى أيُّ أيدٍ غيبَتْ ... فِي الثرى شخصَكَ مِن بَعدِ الكفَنْ)
(هَل درَتْ مَا غَيَّبته من حِجًى ... ومعالٍ ونوالٍ فِي قَرَنْ)
(إِن تحجبْتَ بأطباقِ الثرَى ... فأياديكَ بشامٍ ويَمَنْ)
(لكَ ذكْرٌ بالثنا لَا ينقضِي ... صَار كالفَرْضِ على أهل السنَنْ)
(رَحِمَ الرحمنُ مثوَى جدثٍ ... هُوَ فِي كلِّ فؤادٍ كالشجَنْ)
(وَسَقَى الله تُرَابا ضمَّهُ ... صيِّبُ الرضوانِ مَا غيثٌ هَتَنْ)
(قيلَ لي هلْ قلْتَ تَارِيخا لَهُ ... بارعاً تُمليه أربابُ الفِطَنْ)
(قلتُ والخدُّ روٍ مِن أدمعِي ... والحشا بالكَرْبِ صَاد فِي حَزَنْ)(4/404)
(نصْف بيتٍ قد أَتَى تَارِيخه ... ماتَ بالروُّمِ فهيدُ بْنُ الحَسَنْ)
وَفِي هَذِه السّنة كَانَت وَفَاة أكمل الدّين القطبي شَهِيدا بالأعاضيد اسْم مَحل بِهِ نخل ومزارع بَين الطَّائِف والمبعوث والمبعوث إِلَيْهِ أقرب والشريف إِدْرِيس إِذا ذَاك بالمبعوث وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا وَقعت قتلة بَين الجبالية وَبَين الحسنان والقائد جَوْهَر قباني حَاكم مَكَّة تعصبت الحسنان والقواد للقائد جَوْهَر فتحاربوا أَجْمَعِينَ على أَقْدَامهم بِخَط القشاشيين إِلَى الصَّفَا وَكَانَ الظفر للحسنان والقواد وَقتل بعض الجبالية وَفِي أَوَائِل الْعشْرين من ذِي الْحجَّة الْحَرَام من سنة عشْرين بعد الْألف وصل من الديار الرومية الباشا حسن المعمار بميزاب الْكَعْبَة المشرفة أرسل بِهِ السُّلْطَان أَحْمد ابْن مُحَمَّد خَان وَأمره أَن يَجْعَل لَهَا إزاراً من حَدِيد فَوْقه مثله من الْفضة المطلية بِالذَّهَب فبرز أَمر صَاحب مَكَّة مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس بن الْحسن إِلَى أكَابِر مَكَّة وعلمائها بِأَن يلْقوا الباشا حسن من الْحجُون ويمشوا أَمَام الْمِيزَاب فامتثلوا الْأَمر وبرزوا وَكَانَ ذَلِك فِي آخر النَّهَار فَدخل الْمِيزَاب إِلَى مَكَّة من الْحجُون وأمامه بعض طوائف الْأَذْكَار وهم يذكرُونَ الله تَعَالَى فَبعد إتْمَام مَنَاسِك ذَلِك الْعَام وقفول الْحجَّاج إِلَى بِلَادهمْ توجه إِلَى عمَارَة الْعين وَكَانَ مَأْمُورا بذلك وصحبته أَمْوَال من جَانب السلطنة فاتفق عمل ذَلِك وأتمه ثمَّ إِنَّه ركب ميزاب الْكَعْبَة بعد قلع ميزابها وَأرْسل إِلَى الحضرة السُّلْطَانِيَّة وَجعل الْإِزَار الْمَأْمُور بِهِ على الْكَعْبَة وَاسْتمرّ الْإِزَار عَلَيْهَا إِلَى أَن اتّفق سُقُوط بعض الجدران فِي دولة الشريف مَسْعُود ابْن إِدْرِيس عَام تسع وَثَلَاثِينَ بعد الْألف كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيله وَقد تقدم ذكر بعض ذَلِك فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد خَان فِي الْبَاب الْمَعْقُود لدولة العثامنة أدامهم الله وأدام بهم الدُّنْيَا آمِنَة وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعد الْألف وصل الْوَزير حاجي مُحَمَّد باشا مُنْفَصِلا عَن وزارة الْيمن وَكَانَ دُخُوله إِلَى مَكَّة غرَّة شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَصَامَ رَمَضَان وَتصدق وَفعل أفعالاً عديدة من الْخيرَات وَكَانَ وصل مَعَه فِي مركبه الْوَاصِل بحراً فيل صَغِير أَرَادَ أَن يهديه إِلَى الحضرة السُّلْطَانِيَّة العثمانية ثمَّ إِن هَذَا(4/405)
الْفِيل اسْتمرّ بجدة أَياماً فجَاء الْخَبَر بِمَوْت السُّلْطَان عُثْمَان بن أَحْمد خَان ثمَّ انتقَل حاجي مُحَمَّد الْمَذْكُور لَيْلَة سَابِع عشري شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن ضحى صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة بالمعلاة وبنيت عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم وَوَقع سنة وُصُول الْفِيل غلاء شَدِيد بِمَكَّة قَالَ فِيهَا الْعَلامَة مَوْلَانَا عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ تَارِيخا وَهُوَ على غير الأبحر المتداولة وَنَصه
(حَرَّمَ الله حِلَّ ساحتِهِ ... قَدم الْفِيل ضَلَّ عَن رُشْدِهْ)
(كثر الهَمّ يَا فَتَى أَرِّخْ ... سَنَةُ الفيلِ همها يشدهْ)
وَفِي عَام ثَلَاث وَعشْرين بعد الْألف فِي شهر محرم الْحَرَام مِنْهَا وَقع مطر عَظِيم وَفِيه برد كبار كل بردة مِنْهُ قدر شربة المَاء بل أكبر وَفِي سنة أَربع وَعشْرين توفّي الأديب برهَان الدّين بن مُحَمَّد بن مشعل العبدلي السالمي الْمَكِّيّ كَانَ شَاعِرًا ماهراً لَهُ قصائد طَوِيلَة يمتدح بهَا الشريف الْحسن بن أبي نمي وَغَيره فَمن شعره فِي مليح يهواه وَهُوَ يهوى الراح قَوْله // (من مجزوء الْكَامِل) //
(شَمْس الطلا بَدْرِى غَدا ... لم يَصْحُ مِنْ تعليلها)
(فالراحُ قتلةُ قاتلىِ ... وَأَنا قتيلُ قِتيلِهَا)
توفّي بِالطَّائِف مجاوزاً السّبْعين وفيهَا توفّي الشَّيْخ نور الدّين الزيَادي شَافِعِيّ زَمَانه القطب الْعَارِف بِاللَّه فِي أَوَانه قَالَ فِي الريحانة حضرت دروسه زَمَانا طَويلا وَهُوَ كَمَا قلت فِيهِ // (من الوافر) //
(لنورِ الدّين فضْلٌ لَيْسَ يَخْفَى ... تضىءُ بِهِ الليالِى المدلهمَّهُ)
(يريدُ الحاسدونَ ليطفئُوهُ ... ويأبى الله إِلَّا أَن يُتِمَّهْ)
وَله حاشيه على شرح الْمنْهَج وَأخذ عَنهُ كَثِيرُونَ وَفِي سنة خمس وَعشْرين وَألف لليلتين بَقِيَتَا من شعْبَان مِنْهَا ورد الْأَمر السلطاني من حَضْرَة السُّلْطَان أَحْمد على يَد الباشا حسن أَفَنْدِي بِعَمَل شباك نُحَاس فِي بِئْر زَمْزَم ليمنع كل مَا يسْقط فِيهَا من آدَمِيّ وَغَيره فَجعل على قدر تدوير فَم الْبِئْر وَجعل لَهُ سِتّ سلاسل وربطتَ بالحديد الدائر على فمها وَصَارَ المَاء فَوق الشباك نَحْو ثُلثي قامة(4/406)
وفيهَا توفّي الشريف حَازِم بن رَاجِح بن أبي نمي الحسني كَانَ من أكَابِر السَّادة وأعيانهم يرجعُونَ فِي الْمُهِمَّات إِلَى رَأْيه السعيد وتدبيره الحميد بلغ من الحزم منتهاه وطابق اسْمه مُسَمَّاهُ وَقد كَانَ رَحل مَعَ وَالِده رَاجِح بن أبي نمي إِلَى مصر حِين عزم إِلَيْهَا منافراً لِأَخِيهِ الشريف ثمَّ بعد انْتِقَال وَالِده رَاجِح الْمَذْكُور بِمصْر رَجَعَ إِلَى مَكَّة فَأكْرمه عَمه الشريف حسن وَاعْتذر حَازِم عَن عزمه مَعَ وَالِده بِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ خلاف وَالِده فَقبل عَمه الشريف حسن عذره قَالَه فِي الْجَوَاهِر والدرر وفيهَا توفّي السَّيِّد سَالم بن مُحَمَّد السنهوري الْمَالِكِي الْمصْرِيّ أدْرك ناصراً اللَّقَّانِيّ وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الغيطي وَغَيره وتفنن فِي الْعُلُوم وَمهر فِي الْفِقْه حتىّ صَار مُعْتَمد الْمَالِكِيَّة فِي عصره لَهُ تَعْلِيق على مُخْتَصر خَلِيل وَقد كَانَ للشريف إِدْرِيس من العبيد المولدين وَمن الرَّقِيق الجلب مَا يزِيد على الأربعمائة وَمن المقاديم من الْعَرَب جمَاعَة وَكَانُوا فِي أَشَر وبَطَر وتِيهٍ وعَسَر وتجمل ظَاهر يتخيل الْوَاحِد مِنْهُم نَفسه الْملك القاهر وَكَانَ من خُدَّامه وَزِير مَكَّة الْقَائِد أَحْمد بن يُونُس وَإِن كَانَ وَلَاؤُه لِذَوي بَرَكَات فَلَمَّا كَانَ النّصْف الْأَخير من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وَقعت فتْنَة سَببهَا أَن الْقَائِد أَحْمد بن يُونُس وَهُوَ الْوَزير على مَكَّة من قبل مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس وَكَانَ وَزِير مَوْلَانَا الشريف محسن الْقَائِد ياقوت بن سُلَيْمَان وَكَانَ مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْمطلب نَائِبا فِي مَكَّة عَن عَمه الشريف إِدْرِيس لغيبته فى الشرق كَانَ قد استفحل أمره وَعظم حَتَّى صَارَت الْأُمُور كلهَا منوطة بِرَأْيهِ وتدبيره موكولة إِلَى تَقْدِيمه وتأخيره فتوافق مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس ومولانا الشريف محسن فَأرْسل مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد يَأْمُرهُ بِأخذ الْمهْر وَهُوَ مهر الْعرُوض من الْقَائِد أَحْمد وَكَذَلِكَ أرسل مَوْلَانَا الشريف محسن إِلَى الْقَائِد ياقوت بن سُلَيْمَان بِأخذ مهره مِنْهُ فَفعل كل مَا أَمر بِهِ وَكَانَ الْأَخْذ الْمَذْكُور فِي صَبِيحَة عَاشر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَحِينَئِذٍ شاع فِي الْبَلَد عزل أَحْمد بن يُونُس وَأرْسل مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس إِلَى الْقَائِد ريحَان بن(4/407)
سَالم حَاكم مَكَّة يَأْمُرهُ بالوصول إِلَيْهِ إِلَى الشرق فَقدم إِلَيْهِ فقلده منصب الوزارة فوصل إِلَى مَكَّة فِي الشَّهْر الْمَذْكُور وَوصل الْخَبَر إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْمطلب بِأَن الْقَائِد أَحْمد بن يُونُس يُرِيد الرّكُوب عَلَيْك وَقد اجْتمع عِنْده الْعدَد وَالْعدَد وَوصل الْخَبَر إِلَى الْقَائِد أَحْمد بذلك أَيْضا فَركب كل مِنْهُمَا بعد أَن ألبس ووقف عِنْد بَاب دَاره ثمَّ انجلى الْأَمر وَظهر أَن مَا أخبر بِهِ كل مِنْهُمَا لَيْسَ لَهُ أصل فَأرْسل مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْمطلب إِلَى مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس ومولانا الشريف محسن بذلك فَلَمَّا كَانَ الْعشْر الْأَخير عزم الْقَائِد أَحْمد إِلَى مَوْلَانَا الشريف بالمبعوث وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ الشريف من مَحَله الأول فَأَقَامَ الْقَائِد أَحْمد هُنَاكَ فجَاء الْأَمر إِلَى مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بِأخذ أَمْوَال الْقَائِد من دَاره وكل مَا حوله وَأَن يحفظ على ذَلِك فَلَمَّا أَن كَانَت لَيْلَة الْعِيد حصلت حَرَكَة من آخر اللَّيْل عِنْد بَيت السَّيِّد مُحَمَّد وتفريق سلَاح وأدراع فَنزل إِلَى الْمَسْجِد وَصلى صَلَاة الْعِيد فَقَط وبرز من الْمَسْجِد قبل الْخطْبَة وعزم بالجيش إِلَى الْبُسْتَان بُسْتَان ابْن يُونُس فختم على أَمْوَاله كلهَا وَأمر أَن ينزل الْبَعْض مِنْهَا إِلَى الْبَلَد وَاسْتمرّ هُوَ إِلَى بعد صَلَاة الظّهْر وَنزل والجيش مَعَه بعد أَن ختم على بَقِيَّة الْأَمْوَال وَقبض على جمَاعَة من المنسوبين إِلَى أَحْمد وحبسهم بعد أَن ختم على بُيُوتهم ثمَّ فكوا بعد وُصُول مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس إِلَّا إِبْرَاهِيم بن أَمِين كَاتب أَحْمد وَأعظم المقربين إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لم يزل مسجوناً إِلَى أَن قضى الله عَلَيْهِ فِي السجْن وَأما أَحْمد فَإِنَّهُ اسْتمرّ بالمبعوث فثارت بِسَبَبِهِ فِي ثَانِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة بَين ذَوي حسن وَذَوي بَرَكَات فتْنَة أدَّت إِلَى الإدراع والإلباس ثمَّ رَحل إِلَى كلاخ فَأَقَامَ بهَا ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى جِهَة الشَّام فَلَمَّا أَن كَانَ فِي أثْنَاء الطَّرِيق رَجَعَ فوصل إِلَى مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس وَهُوَ بالشرق فِي السّنة الْمَذْكُورَة فسجنه وكبله بالحديد ثمَّ قَتله فِي السّنة الْمَذْكُورَة أَيْضا فِي مَحل يُقَال لَهُ وَادي النَّار وَدفن هُنَاكَ فسبحان الفعال لما يَشَاء وَقد كَانَ هَذَا الْوَزير فِي قُوَّة من المَال وَالرِّجَال قد اشْتغل بِالْحَال وَلم يفكر فِي الْمَآل وَسَار صيته فِي الْآفَاق وَأكْثر الدخل وَأَقل الْإِنْفَاق وَكَانَ ذَا تَدْبِير لأحواله حَتَّى جَاوز الْحُدُود فَوَقع بِهِ مَا قَضَاهُ الْملك المعبود اللَّهُمَّ عَافِيَة غير عَافِيَة ورأفة مِنْك(4/408)
وافية كَافِيَة كَذَا فِي الأرج المسكي وَفِي سنة سبع وَعشْرين فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا قلع الشباك النّحاس الَّذِي عمل لبئر زَمْزَم الأفندي السَّيِّد مُحَمَّد بن مصطفى الفناري لما قيل لَهُ إِن مَاء زَمْزَم تغير طعمه بِسَبَب ذَلِك الشباك وَأَن الدَّلْو إِذا وَقع رُبمَا أمْسكهُ أَن يصعد وَفِي سنة تسع بِتَقْدِيم التَّاء وَعشْرين وَألف فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى مِنْهَا توفّي السَّيِّد مَنْصُور بن أبي نمي بِمَكَّة وخطب لَهُ على زَمْزَم بعد مَوته وَهُوَ آخر أَوْلَاد الشريف أبي نمي موتا وسنه نَحْو سبعين سنة وَرَأى أَوْلَاد أَوْلَاد أَوْلَاد أَوْلَاد أبي نمي وَدفن بالمعلاة وَكَانَت جنَازَته حافلة وفيهَا غزا الشريف محسن بن الْحُسَيْن بجيلة ونواحيها وَفِي يَوْم الْأَحَد ثامن عشري الشَّهْر الْمَذْكُور من السّنة الْمَذْكُورَة وَقع فِي الْمَسْجِد الْحَرَام طراد عَجِيب بِسَبَب أَن جبلياً أَرَادَ الطّواف فأودع سَيْفه عِنْد رجل هندي فَمر بِهِ رجل تركي فابتدر الْهِنْدِيّ السَّيْف وَقتل التركي فثار النَّاس على الْهِنْدِيّ فطردهم إِلَى بَاب الصَّفَا فتكاثر النَّاس على الْهِنْدِيّ ورموه بِالْحِجَارَةِ فطردهم ثمَّ أحاطوا بِهِ وضربه رجل عِنْد زَمْزَم بإبريق فزلق بالبلاط وطاح فَضرب بجنبية وَمَات التركي والهندي وَفِي لَيْلَة الْأَحَد الرَّابِعَة وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا توفّي السَّيِّد منجد بن رَاجِح ابْن أبي نمي بالمبعوث وَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة وَكَانَ من أَعْيَان أَشْرَاف مَكَّة يُوصف بِالْكَرمِ وَفِي رَجَب مِنْهَا توفّي السَّيِّد قَتَادَة بن ثقبة بن أبي نمي وَدفن بالمعلاة وفيهَا أَو الَّتِي بعْدهَا توفّي الْعَلامَة عبد الرءوف الْمَنَاوِيّ شَارِح الْجَامِع الصَّغِير شرحين وَله تَرْتِيب الشهَاب وَشَرحه وَشرح أدب الْقَضَاء وطبقات الصُّوفِيَّة والأرغام وَغير ذَلِك رَحمَه الله تَعَالَى وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف توغل مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس وَابْن أَخِيه مَوْلَانَا الشريف محسن فِي الشرق ووصلا بالفريق إِلَى قرب الأحساء واجتمعا بذوي عبد الْمطلب وَكَانُوا فِي الْعَام الْمَاضِي نافروا عمهم الشريف إِدْرِيس فَقَامَ الشريف محسن فِي موافقتهم لعمهم فتم ذَلِك وَطَابَتْ نُفُوسهم وَوصل الشريفان بفريقهما(4/409)
إِلَى الأحساء وَضربت خيامهم قبالة الْبَاب القبلي من سور الأحساء وَأكْرمهمْ صَاحبهَا عَليّ باشا الْكَرَامَة التَّامَّة وَأَقَامُوا نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام وَلم يتَّفق لأحد من أَشْرَاف مَكَّة المتولين من القتاديين وُصُول الأحساء كَمَا اتّفق لهذين الشريفين وفيهَا فِي ثَالِث ربيع الثَّانِي دخل الشاه بَغْدَاد وَأَخذهَا من يَد المتغلب عَلَيْهَا من باشوات السلاطين بني عُثْمَان وَسبب ذَلِك أَن رجلا من عسكرها يُسمى بكر تغلب عَلَيْهَا وانبسطت يَده على مملكتها حَتَّى صَار إِذا جَاءَ الباشا السلطاني العثماني مُتَوَلِّيًا عَلَيْهَا لَا ينفذ من حكمه إِلَّا مَا نفذه بكر الْمَذْكُور وَغلب على بكر أَيْضا وَلَده مُحَمَّد وَلكُل فِرْعَوْن مُوسَى فوصل إِلَيْهَا وَزِير اسْمه أَحْمد حَافظ بِجَيْش كَبِير فَلَمَّا رأى بكر ذَلِك أغلق أَبْوَاب بَغْدَاد وَأرْسل إِلَى الشاه ليمكنه من الْبِلَاد وَتبقى لَهُ رقبته وَمَاله فَأتى الشاه بعسكره فَلَمَّا رأى أَحْمد حَافظ قُوَّة الشاه أرسل الخلعة والتأمين لبكر ثمَّ انْصَرف رَاجعا وَلم يزل الشاه فِي ذَلِك الْمَكَان وَأعْطى مُحَمَّد بن بكر العهود بِأَن يَجعله نَائِب الْبِلَاد ويؤمنه كَمَا طلب على رقبته وَمَاله فَفتح الْبَاب بَاب السِّرّ فَدخل عَسْكَر الشاه وأظهروا أَنْوَاع الطغيان وَقتلُوا بكرا وَجَمِيع أَهله شَرّ قتلة وَقتلُوا أهل السّنة جَمِيعهم ثمَّ خرج الشاه مِنْهَا وَأقَام فِيهَا خَانا من خاناته فَأرْسل سُلْطَان الرّوم العثماني وزراء مَعَهم الجيوش الجرارة لأخذها فَلم يحصل من أحد فتحُها حَتَّى قدر الله تَعَالَى فتحهَا على يَد السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد خَان كَمَا سَيَأْتِي ذكره فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وفيهَا توفّي السَّيِّد دخيل الله بن ثقبة بن أبي نمي فِي بيشة وَدفن بهَا وَكَانَ من أجلاء الْأَشْرَاف ورءوسهم وَذَوي الرَّأْي مِنْهُم وفيهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع رَمَضَان مِنْهَا مَاتَ السَّيِّد أَبُو نمي بن عبد الْكَرِيم بن حسن ابْن أبي نمي بالمبعوث وَحمل إِلَى مَكَّة وفيهَا لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثامن رَمَضَان الْمَذْكُور دخل حيدر باشا مُتَوَلِّيًا الْيمن فنصب دكة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فصلى عَلَيْهَا فَأنْكر عَلَيْهِ الملا مُحَمَّد مكي فروخ ورماه بِالْحِجَارَةِ فَتَبِعَهُ الْعَامَّة فَأمر بلزمه فَلَزِمَ وَقَالَ لَا بُد من ضربه خَمْسمِائَة ثمَّ طلبه وَلم يضْربهُ وَجمع فِيهَا الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ونائب المحكمة وَأثبت أَنه مَا فعل ذَلِك إِلَّا لعذر وَكتب ذَلِك فِي السّجل(4/410)
وفيهَا يَوْم عيد الْفطر كَانَت وَفَاة الإِمَام عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ وَهُوَ الإِمَام الَّذِي تصدر فِي محراب الْعلم والإمامة وتسنم صهوة جموح الْفضل وَملك زمامه من رفع للعلوم أرفع رايه وَجمع بَين الرِّوَايَة والدراية فَأصْبح وَهُوَ كاسر الوساده بَين الْأَئِمَّة والساده يشنف المسامع بفرائد كَلَامه ويبهج النواظر بِمَا تدبجه أنامل أقلامه إِذا انفهقت بشقاشق قالِهِ لَهاتُهُ ثَبت حق إفصاح الْكَلَام وَبَطلَت ترهاته إِلَى نسب فِي صميم الشّرف عريق وَحسب غُصْن مجده بالمعالي وريق وَبَيت لم لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِمَام وخطيب وأديب فَنَنُ فضلِهِ فِي رياض الْأَدَب رطْب والطبريون سادة من غير الْفضل بريئون وَهَذَا الإِمَام وَاسِطَة عِقدهم ورابطة عقدهم ومحيي آثَارهم والآخذ من الدَّهْر بثأرهم صنَّف وَألف وَسبق وَمَا تخلف أما الْأَدَب فرَوضه الممطور وحَوضه الراوية مِنْهُ السطور كَانَت لَهُ عدَّة من المصنفات مِنْهَا شرح الدريدية الْمُسَمّى بِالْآيَاتِ الْمَقْصُورَة على الأبيات الْمَقْصُورَة وَحسن السريرة فِي حسن السِّيرَة وَشرح بديعيته الَّتِي على منوال بديعية ابْن حجَّة الْمُسَمّى على الْحجَّة بِتَأْخِير أبي بكر بن حجَّة ونشآت السلافة بمنشآت الْخلَافَة وَشرح قِطْعَة من ديوَان المتنبي سَمَّاهُ الْكَلم الطّيب على كَلَام أبي الطّيب وَله عدَّة رسائل وَغير ذَلِك من حواش وتعليقات وإنشاء ومكاتبات تهيج البلابل وَتحقّق لَوْلَا أَنَّهَا حَلَال سحر بابل أم بالمسليمن فِي الْمقَام بِبَلَد الله الْأمين واتصل بِقرب سُلْطَان مَكَّة ونواحيها وحامي جهاتها وضواحيها مَوْلَانَا الشريف حسن بن أبي نمي فحصلت لَهُ من جنابه الْعَظِيم مكانة أَي مكانة وزادت علوه رفْعَة وأعلت مَكَانَهُ بِحَيْثُ حَملته على تأليف غَالب مؤلفاته الْمَذْكُورَة برسمه وَجعلهَا خدمَة لخزانته المعمورة متوجة بلقبه واسْمه أثمرت عزا فِيهِ يتنافس الْمُتَنَافسُونَ وأينعت مجداً يُقَال فِيهِ لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ هطلت على غرائسها سحائب الإنعامات الحسنية ونشرت على(4/411)
دوحاتها خلع الإجلال السّنيَّة وَلما وصل إِلَيْهِ بشرح الدريدية وَقَرَأَ ديباجته لَدَى حَضرته الْعلية وَذكر لَهُ أَنه أنشأ بَيْتَيْنِ هما تَارِيخ تَمام تأليفه وجعلهما على لِسَان الْكتاب وَأرَاهُ إيَّاهُمَا تنَاول الشريف حسن الْكتاب بِيَدِهِ الشَّرِيفَة وَقَرَأَ الْبَيْتَيْنِ وهما // (من مجزوء) // الرجز
(أرَّخَنِى مؤلّفي ... ببيتِ شعْرٍ مَا ذهَبْ)
(أحمدُ جود مَاجِد ... أجازني أَلْف ذَهَبْ)
فَتَبَسَّمَ مَوْلَانَا الشريف وَوضع الْكتاب فِي حجره وَوضع يَده الشَّرِيفَة على رَأسه وَقَالَ على الرَّأْس وَالْعين وَالله إِن ذَلِك نزر يسير فِي مُقَابلَته وَإِنِّي أَحْمد الله تَعَالَى الَّذِي أوجد مثلك فِي زمني ثمَّ لما كَانَت أَيَّام وَفَاته ووصلت مطايا عمره إِلَى غَايَة مَحَله وميقاته وَذَلِكَ فِي زمن مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس بن حسن كَانَ سَببه الْمُقدر فِي كِتَابه المسطر أَنه انتابت خطْبَة الْعِيد أحد ولديه وَكَانَت أول خطْبَة حصلت لَدَيْهِ فتهيأ للْقِيَام بأدائها وأرهف عضب لِسَانه لإبدائها فَمَنعه بعض أُمَرَاء الأروام الواردين إِلَى مَكَّة تِلْكَ الأعوام يُسمى حيدر باشا وَرغب فِي أَن يكون حَنَفِيّ الْمَذْهَب وأخاف من تعرض لَهُ وَأمره وأرهب فَضَاقَ بِالْإِمَامِ نجده ووهده وَجهد فِي إِزَالَة الْمَانِع فَلم يجد جهده لِأَن مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت بِالْبَلَدِ فَلَمَّا لم يحصل إِلَّا على الْيَأْس وَلم يلق لضنا دائه من آس صعد كرسيه وتنفس الصعدا فَفَاضَتْ نَفسه لوقته كمدا وَألقى على كرسيه جسداً وقدمت جنَازَته ذَلِك الْيَوْم للصَّلَاة عَلَيْهِ والخطيب على الْمِنْبَر نَاظر إِلَيْهِ وَقيل إِنَّه مَاتَ مسموماً وَكَانَت وِلَادَته سنة سِتّ وَسبعين وستعمائة وأرخت بِمَا نَصه أشرف المدرسين رَحمَه الله تَعَالَى وَلما بلغ الشريف إِدْرِيس وَفَاته بذلك تَعب تعباً شَدِيدا لما كَانَ للْإِمَام عبد الْقَادِر عِنْده من الْمحبَّة فَدخل مَكَّة رَابِع شَوَّال وَمَعَهُ الشريف محسن وَجمع الْأَشْرَاف والقواد فِي موكب عَظِيم وأكرمهما حيدر باشا غَايَة الْإِكْرَام قطلبا مِنْهُ التَّوَجُّه إِلَى الْيمن وأحضر لَهُ مَا يَحْتَاجهُ من إبل وَغَيرهَا(4/412)
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف قبيل الظّهْر من يَوْم الْأَحَد سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَقع مطر عَظِيم سَالَتْ مِنْهُ أَوديَة مَكَّة وامتلأ مِنْهُ الْمَسْجِد الْحَرَام وَعلا المَاء حَتَّى حَاذَى الْحجر الْأسود فَقَالَ الشَّيْخ مَحْمُود الحناوي تَارِيخا فِي ذَلِك وَهُوَ من الْحسن بمَكَان // (من السَّرِيع) //
(قد جَاءَنَا سَيْلٌ مِنَ الله فِي ... جُمَادىَ الآخر يَا ذَا النَّظَرْ)
(فى مسجدِ الله الحرامِ الَّذِي ... سعَتْ إِلَى علياًه كُلُّ البَشَرْ)
(سيلٌ عظيمٌ مَا رُئِى مثلُهُ ... تَارِيخه ألماءُ حَاذَى الحَجَرْ)
وفيهَا توفّي الشَّيْخ الأمجد شهَاب الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عَلان فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من شعْبَان مِنْهَا الصديقي الشَّافِعِي وَدفن بالمعلاة بِالْقربِ من قبر السيدة خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ كَانَ إِمَام التصوف فِي زَمَانه وأوحد علومه وعرفانه وفيهَا فِي شعْبَان توفّي السَّيِّد الْجَلِيل الرئيس النَّبِيل أَبُو الْقَاسِم بن بشير بن أبي نمي فِي الشرق وَحمل إِلَى مَكَّة وخطب لَهُ على زَمْزَم كعادة أسلافه ثمَّ توفّي فِيهِ أَيْضا أَخُوهُ السَّيِّد بَرَكَات بن بشير بِمَكَّة فَجْأَة بعد موت أَبى الْقَاسِم بأَرْبعَة أَيَّام ثمَّ توفّي فِيهِ أَيْضا السَّيِّد عَليّ بن أبي طَالب بن حسن بِمَكَّة وخطب لَهُ على زَمْزَم وَاسْتمرّ الشريف شَرِيكا لِعَمِّهِ الشريف إِدْرِيس على صدق الْكَلِمَة والنصح فِي الألفة بِالْخدمَةِ والمساعدة فِي الْأَحْوَال والمعاضدة لَهُ فِي المؤيدات الثقال إِلَى أَن اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد وَمن إِلَيْهِم الْمرجع من قبل وَمن بعد من بني عَمه السَّادة الْأَشْرَاف الذابين عَن حمى هَذِه الأكناف وَالْعُلَمَاء والصلحاء وأعيان سكان الْبَطْحَاء فَرفعُوا الشريف إِدْرِيس عَن ولَايَة الْحجاز ومنعوه من أَن تكون لَهُ علاقَة فِي ذَلِك الْمجَاز ووسدوا الْأَمر إِلَى السَّيِّد الشريف المحسن ووكلوا الْحَال إِلَيْهِ فِي حفظ هَذَا الموطن فأشيع فِي الْبَلَد يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث محرم الْحَرَام من سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف أَن السَّادة الْأَشْرَاف قد أَقَامُوا الشريف محسن مُسْتقِلّا بِالْأَمر فَحصل بَين الشريف إِدْرِيس وَبَينه بِسَبَب ذَلِك مَا يُوجب المنافرة وَحصل اضْطِرَاب عَظِيم فِي الْبَلَد وحركة كَبِيرَة وَقسمت آلَات الْحَرْب من الْجَانِبَيْنِ(4/413)
فَلَمَّا كَانَت صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس رَابِع محرم الْحَرَام من السّنة المذكورهَ ألبس كل من الشريفين بِمن مَعَهُمَا من العساكر والجنود ووقف على بَاب دَاره فبرز من جمَاعَة مَوْلَانَا الشريف محسن شرذمة من جَانب عقد مَوْلَانَا السَّيِّد بشير وبنية النداء بِالْبَلَدِ لمولانا الشريف محسن اسْتِقْلَالا بمفرده فَقبل وصولهم العقد رَمَتْهُمْ الجبالية المرصدون فِي مدرسة السَّيِّد العيدروس بالبندق وَقتل من الْجَمَاعَة الْمَذْكُورين بالبندق مَوْلَانَا السَّيِّد سُلَيْمَان بن عجلَان بن ثقبة والقائد مرجان بن زين العابدين وَزِير مَوْلَانَا الشريف محسن فَرجع الْبَاقُونَ وَفِي ضحى هَذَا الْيَوْم ركب مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن عبد الْمطلب وَمَعَهُ رَحل والمنادي بَين يَدَيْهِ يُنَادي بالبلاد للشريف محسن وَلم يزل هَذَا الِاضْطِرَاب بِالْبَلَدِ ذَلِك الْيَوْم جَمِيعه وَمن ألطاف الله تَعَالَى أَن الْجَمَاعَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قَائِمَة ذَلِك الْيَوْم والأسواق مَوْجُودَة فِيهَا الأقوات لم يحصل تغير أصلا فِي ذَلِك الْيَوْم فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس محرم الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة وَقع الصُّلْح بَين الشريفين على أَن يسْتَقلّ مَوْلَانَا الشريف محسن بِالْبَلَدِ وَيكون الْكَفّ عَن الْمُحَاربَة سِتَّة أشهر مِنْهَا ثَلَاثَة يكون مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس فِيهَا بِالْبَلَدِ وَثَلَاثَة بِالْبرِّ فاتفق الْحَال على ذَلِك ودعا الْخَطِيب لمولانا الشريف محسن بمفرده يَوْم الْجُمُعَة كَذَا نَقله المرحوم الإِمَام على ابْن المرحوم الْعَلامَة الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ فِي تَارِيخه وَالَّذِي نَقله غَيره من الثِّقَات أَن مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس لما ضويق وأجلبت عَلَيْهِ السَّادة الْأَشْرَاف وَمن مَعَهم أرسل الشريف إِدْرِيس إِلَى الشريف محسن والسادة الَّذين مَعَه فَطلب مهلة شَهْرَيْن فِي الْبَلَد وَأَرْبَعَة أشهر خَارِجهَا ليتأهب للسَّفر إِلَى حَيْثُ شَاءَ فَأعْطَاهُ الشريف محسن ذَلِك وَشرط عَلَيْهِ أَن لَا يحدث شَيْئا من المخالفات فاستمر عَلَيْهِ شهر محرم وصفر فَمَرض فِيهِ حَتَّى خيف عَلَيْهِ وَفِي لَيْلَة المولد الشريف خرج من مَكَّة وَكَانَ قد أضعفه الْمَرَض فَمَا طَاف للوداع إِلَّا فِي محفة وَخرج من مَكَّة كَذَلِك كَذَا فِي كتاب عُقُود الْجَوَاهِر والدرر فِي أهل الْقرن الْحَادِي عشر للسَّيِّد مُحَمَّد الشلى وَلما خرج الشريف إِدْرِيس توجه إِلَى جِهَة الشرق(4/414)
وَلما كَانَ غرَّة رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ورد خبر وَفَاة إِدْرِيس إِلَى مَكَّة فِي نواحى جبل شمر وَدفن بِمحل يُسمى ياطب مِنْهَا وَمن الِاتِّفَاق أَن حِسَاب ياطب بالجمل اثْنَان وَعِشْرُونَ سنة عدد مُدَّة ولَايَته مجبورة وَكَانَ يكنى أَبَا عون وَولد فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأمه هيا بنت أَحْمد بن حميضة ابْن مُحَمَّد بن بَرَكَات وَكَانَت وَفَاته رَابِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت مُدَّة ولَايَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَنصفا رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول مَوْلَانَا القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي وَهُوَ // (من الطَّوِيل) //
(زها بكَ دستُ الملكِ والتاج والعقْدُ ... غداةَ إِلَيْك الحلُّ أصبَحَ والعَقْدُ)
(مُطاعًا بعطفِ الله بعد رسولِهِ ... أولى الأمرِ فالعاصِى لأمرِكَ مزتدُّ)
(أَبَا شرفٍ إِدْرِيس منتخبَ الْعلَا ... أَبى الشرَفُ الوضاحُ غيرَكَ والمجْدُ)
(لقد طلبَتْ شمْسُ الْخلَافَة بدرَهَا ... فقارَنها فِي الأوْجِ والطالعُ السعدُ)
(قنصْتَ العلاَ بالزاعبيةِ والنهَى ... هما شركاها لَا الأمانِيُّ والوعْدُ)
(وقمتَ بعبءٍ آدَ غيرَكَ حملُهُ ... منال المهاري ليْسَ تُدْرِكهُ الربْدُ)
(وشرفْتَ دسْتَ الملكِ حِين حللته ... ومرقاتُكَ المرقالُ والفَرَسُ النهدُ)
(فكنْتَ بِهِ إدريسَ إدريسَ إِذْ رَقَى ... مَكَانا عليا خصّه الصمَدُ الفرْدُ)
(وكنْتَ وَلم تُفْتَنْ سليمانَ إِذْ دَعَا ... فأوتيتَ مَا لَا يَنْبَغِي لفتى بَعْدُ)
(وَمَا لم ينله غيرُ آبائكَ الأُلَى ... ربوعُ الندا شادُوا وزَنْدَ الْعلَا شَدُّوا)
(ملوكٌ هم الأنيابُ للملكِ والسِّوَى ... اذا نُسبوا كَانُوا الزوائدَ إِذْ عُدُّوا)
(تولَّوْا وأفضَى ملكهُمْ لمحجَّبٍ ... تصادم تِيجَان الْمُلُوك إِذا يَبْدُو)
(تأخَّر عصراً فاستزادَكَ فِي الْعلَا ... كَمَا ازدادَ بالتأخيرِ مَا ترقُمُ الهنْدُ)
(وأصَبَحَ عطلاً جِيدُ مَنْ رام عقدهَا ... سواهُ وأضحَى يستضىءُ بِهِ العقْدُ)
(تفردَ طود الْملك بالمجدِ جَامعا ... مزاياه فَهْوَ الجامعُ العلَمُ الفردُ)
(رأى إِن عدته خلَّة مِنْهُ خلَّة ... فصيره قصراً عَلَيْهِ فَلَا يَعْدُو)
(فيا ملكا بالفضْلِ أذعَنَ ضِدُّهُ ... وَمَا الفضْلُ إِلَّا مَا أقرَّ بِهِ الضِّدُّ)
(بكَ الدسْتُ يزهو يَوْم سِلْمِكَ والندَى ... يومَ الوغَى يزهو بك السرْجُ والسرْدُ)(4/415)
(وَمَا زلْتَ فِي حالَيْكَ سلْمٍ وضدِّهِ ... عليكَ رِوَاقُ المجدِ يرفعُ وَالبَنْدُ)
(فيشقى بكَ الجإني ويسعدُ مخفقٌ ... ويأمنُ مطرودٌ وترهبُكَ الأُسْدُ)
(إِذا بيَّتَ الأعداءُ أمرا تضاءلَتْ ... لَدَى خطبِهِ الآراءُ واسْتَتَرَ الرشْدُ)
(وترتَ قويمَ الفكْرِ قوساً لوترهم ... وأنفذْتَ سهْمَ الرأْى لَيْسَ لَهُ رَدُّ)
(وحكَّمْتَ فيهم قَاضِيا غيْرَ مغمدٍ ... هُوَ العزْمُ لم يكهم لَهُ أبدا حَدُّ)
(وقدتَّ من القودِ الجيادِ مقانبًا ... إِذْ طلبَتْ يدنو بتقريبها البُعْدُ)
(وغَلَّ إِلَى الأعناقِ أَيْدِىَ بطشهم ... مِن الرعْبِ جيشٌ لَيْسَ تكبو لَهُ جردُ)
(فأحياهُمُ فى الأرضِ موتَى كَأَنَّهَا ... عليهِمْ وَقد ضاقَتْ بِمَا رَحُبَتْ لَحْدُ)
(سجايا أبي لَا يجارُ طريدُهُ ... وَلَا رَاع يَوْمًا جَار غفوته طرْدُ)
(مليكٌ هُوَ الطودُ الأشَمُّ للائذٍ ... هُوَ البطَلُ المطعانُ والأسد الوردُ)
(جوادٌ لَهُ فِي المالِ صولةُ ثائرٍ ... تحكم فِي الْجَانِي وأحفَظَهُ الحقْدُ)
(طوَتْ نَحوه بالوفْدِ كل تنوفةٍ ... بخات بخد الأرْضِ من وخدها خَدُّ)
(وجاد فَلم يفقدْ مراماً بجودِهِ ... فقلْ عوضا عَن جاد قد فقد العقْدُ)
(هُوَ البحْرُ عذبٌ للموالي وللعدَى ... عذابٌ لَهُم مِنْ لجه الجزرُ والمَدُّ)
(هُوَ الغيثُ يهْمِى للْوَلِيّ وليه ... فينبتُ إِلَّا أنَّ منبته الحمْدُ)
(ويعدو العدَى وسمى هامى ربابه ... وتبلغهم مِنْهُ الصواعقُ والرعْدُ)
(أَخا الجودِ قد قلدتَّ جِيدى ودُونَ مَا ... تقلدتُّ أعناقُ المطامعِ تنقَدُّ)
(وأمطيتَنِى مِنْ كاهلِ العزِّ مركبا ... تريني ذكاً كالغورِ صهوتُهُ النجْدُ)
(فقمْتُ خَطِيبًا فِي المحافلِ بالثنا ... وبالشكْرِ أتلو ذَا وذاكَ بِهِ أشدُو)
(ينافسنِى قوْمٌ شأوْتُ وقَصَّروا ... وَمَا كضليع ضالع خَلفه يعْدُو)
(ويبخسُ مِنْهُم دُرَّ نظمِى زعانفٌ ... فواعجباً مِنْ أينَ للنقَدِ النَّقْدُ)
(سماءُ سِماتِ الفضلِ لَفْظِي نجمها ... وَلم يُخْفِهِ ألاَّ تَرَى ضوءَهُ الرُّمْدُ)
(وَإِنِّي لما خولْت أهلٌ وَلم أكُنْ ... كقولِ حسودٍ إِنَّمَا أسعَدَ الجدُّ)
(ولستُ مُدلاًّ حِين أسمو وإِن يكُنْ ... هُوَ الفخْرُ يَوْم الفخْرِ والشرف العِدُّ)
(وَلَكِن بنفسي والعبودية الَّتِي ... بهَا شَرَفُ الْآبَاء من قبلُ والجدُّ)
(وإنِّى لأرجُو منْكَ مَا نَالَ مَنْ مَضَى ... وَلَا عجَبٌ إنْ عَزَّ بالسيدِ العَبْدُ)(4/416)
(بقيتَ بقاءَ الدهْرِ فِينَا مؤملاً ... بك التاجُ يزهو والغلائلُ والبُرْدُ)
وَقَول الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى // (من الْكَامِل) //
(مالِى وللغيدِ الغوانِى النُّعَّسِ ... ولريمِ رامةَ والغزالِ الألعسِ)
(ولبانةِ الجرعاءِ فِي شَرْقي الغضا ... ولسَجْعِ ورقِ الأيْكِ عِنْد تأَنُّسِ)
(ولنظْم عقيانِ القريضِ ونثْرِهِ ... مِنْ كُلِّ أَنْفَسِ جَوْهَرٍ فِي أَنْفسِ)
(وأَنَا اَّلذِى قَذَفَ الزَّمَان بِجَاحِظٍ ... مِنْ عَيْنِهِ بِي مغضباً وَهْوَ المُسِي)
(ورمَى بأسهمه مقاتِليَ الَّتِي ... بَعُدَتْ عَلَيْهِ فحطَّ عالي مجلسِي)
(وَإِذا قنى مِنْ صَبْرِ مُرِّ قضائِهِ ... كأساً برغْمى أَن أكونَ المحتَسِي)
(هُوَ دُمَّلُ الليلِ الَّذِي لم يندملْ ... إِلَّا بصَبْرِ مؤمِّلٍ لم ييأَسِ)
(صابرتُهُ حَتَّى ظفرتُ بفجْرِهِ ... وحصلْتُ مِنْهُ على شفاءِ الأنفسِ)
(بضياءِ صبْحِ العدلِ من إدريسَ مَنْ ... أهْدى الضيا فمحا ظلامَ مغلِّسِ)
(ألسيد الحامي الذمارَ بهمةٍ ... تسمو على الفلكِ الأثيرِ الأطلسِ)
(أولى وأوَّل باسلٍ تَخِذَ العجاجَةَ ... درعهُ يَوْمَ الوغَى كالبرنسِ)
(لم يكترثْ بمهمةٍ وبكفِّه ... عِنْد اللقا صُمُّ الردَينى الأخرسِ)
(والنُّطْقُ مِنْهُ الطعنَةُ النْجلاءُ فِي النْجلاء ... من عينِ العَدُوِّ الأشوسِ)
(وَإِذا انتضى الهندىَّ خرَّتْ أرؤسٌ ... ودَّتْ بقطْعٍ أَنَّهَا لم ترؤسِ)
(دَلَّ المنيةَ حِين ضَلَّتْ سبلها ... فبه اهتدَتْ لفؤادِ كلِّ مترسِ)
(بِيَمِين أروَعَ يضربُ البطَلَ المُدَرْرَعَ ... نَافِذا مِنْهُ لقطْع العضرسِ)
(كالبَرْقِ فِي الظلماءِ من نقعِ الوغَى ... يروي سنا لكنْ بخَطْفِ الأرؤسِ)
(فرذاذُهُ العلَقُ النجيعُ وسَحُّهُ الززلق ... الفجيعُ من الطلا المتبجسِ)
(لله مَا أمضاهُ عنْدَ توحُّشٍ ... وأمضَّهُ فى الوهْمِ عندَ تأنُّسِ)
(والسيفُ بالكَفِّ الَّتِي كفَّتْ أَذَى ... لَا بالحديدِ وطبعه المتيبسِ)
(لَوْلَا يدا إدريسَ مَا خطَّتْ بهَا ... فِي الهامِ شَكْل مخمس ومسدّسِ)
(هَذَا المليكُ ابنُ المليكِ ابْنِ المليكِ ... ابْنِ المليكِ ابنِ المليكِ الأرأسِ)
(زاكي الأرومةِ مِنْ هيولي هاشمٍ ... عالي النجارِ من النبيِّ الأقدسِ)
(ذُو الهمة الْعليا الَّتِي مِنْ دونهَا ... زُحَلٌ فَمَا بَاقِي الجوارِى الكُنَّسِ)(4/417)
(هُوَ فى النُّهَى سَحْبَانُ وائلَ والذكاءِ ... إياسُ والجَدْوَى ابنُ مامَةَ واحْبِسِ)
(كملَتْ فضائله فَلَو مسَّ الورى ... أذيالُهُ لرأيْتَ كُلاًّ مكتسي)
(يأيها الملكُ الرفيعُ مقامُهُ ... فوقَ الثوابتِ فِي الرفيعِ الأقعسِ)
(لكَ عِلْمُ إدريسٍ ودينُ محمدٍ ... وَعلا سليمانٍ وحكمةُ هرمسِ)
(فافخَر على الأملاكِ مِنْ صنعا إِلَى ... صِينٍ ومِنْ شرقٍ لمغربِ تونسِ)
(بِالله أنْتَ فثقْ بِهِ لَا بالورَى ... مِنْ آدميِّ فِي الوجودِ وَلَو نسِى)
(وإليكَهَا عذراءَ فِكْرٍ عانس ... من بعدِ عهدكَ فهْىَ بكْرُ العُنَّسِ)
(عَرَبِيَّة غنيتْ بوصفِكَ واقتنَتْ ... حُرَّ البديعِ فَمَا أتَتْ بمجنّسِ)
(ذكرتْ عهوداً بالحمى فتلفعَتْ ... خجلاً ووافَتْ فِي رداءٍ سندسي)
(تختالُ فِيهِ إِلَى المليكِ وتنتضِي ... بيضَ المدائحِ من قرابِ الحندسِ)
(فاقبلْ وقابلها بطَلْقِ جبينك الْمأنوسِ ... لَا لاقاهُ قطْب تعبُّسِ)
(وانظرْ إِلَى حالِى فأنْتَ خبيرها ... قدماً وقدِّرْ بالوفاءِ وهندسِ)
(واسلم على طولِ الزمانِ ممتعاً ... بثناءِ كُلِّ مفوهٍ ومدرسِ)
ثمَّ وَليهَا مَوْلَانَا الشريف محسن فَقَامَ بِالْأَمر أحسن قيام وَضبط الْبِلَاد والعباد بالضبط التَّام وآمن السبل والطرق وانتظم فِي سلك طَاعَته سَائِر الْفرق العاصية فِي الْفرق ثمَّ إِنَّهُم فِي الْعشْر الأول من محرم الْحَرَام عرضوا إِلَى الْبَاب العالي وأنهوا إِلَى الجناب الغالي حَضْرَة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد خَان تغمده الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان طَالِبين إجابتهم إِلَى هَذَا المُرَاد وتقليد الْمشَار إِلَيْهِ إيالة هَذِه الْبِلَاد فَإِن بذلك تنتظم الْأُمُور وَيتم أَمر الْآمِر والمأمور وتنصلح الْأَحْوَال وتتضح طرق الْحق على أوضح منوال وَكَانَ الذَّاهِب بِالْعرضِ الأغا مُحَمَّد بن بهْرَام وطلع مَوْلَانَا الشريف إِلَى الْمَبْعُوث فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وصل الأغا(4/418)
مُحَمَّد بن بهرامَ إِلَى بلد الله الْحَرَام فَتلقى مَا جَاءَ بِهِ الْأَعْيَان واستقبلوه إِلَى الزَّاهِر إجلالاً لما صَحبه من الْبَرَاءَة السُّلْطَانِيَّة ثمَّ دخل من ثنية كدا الْمَشْهُورَة بالحجون دُخُول أُمَرَاء الْحَاج عِنْد وصولهم إِذْ يحجون وَقد امْتَلَأت بالخلائق الشوارع وَصَارَ كل أحد إِلَى استقباله يُسَارع فَدخل والتشاريف مَحْمُولَة على أَيدي حامليها فوصل إِلَى دَار السَّعَادَة وَدخل فِيهَا فأفيضت عَلَيْهِ وعَلى الأغا مصطفى بن حيدر الترجمان مضلعتان تمييزاً لَهما على سَائِر من كَانَ مَعَهُمَا من جمَاعَة الترجمان ثمَّ عَاد إِلَى منزلهما مختلعين وَطَابَتْ مِنْهُمَا النَّفس وقرت بهما الْعين هَذَا ومولانا الشريف مُقيم بالمبعوث السعيد لِاسْتِيفَاء الصّيام بِهِ وَإِقَامَة شعار الْعِيد فَبعد أَن مَضَت أَيَّام الصّيام وطلع هِلَال الْعِيد من الْخيام تهَيَّأ مَوْلَانَا الشريف للوصول إِلَى الْبَلَد الْحَرَام لتلقى الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة وَالْخلْع السّنيَّة بالإجلال والاحترام فوصل بِجَمِيعِ من مَعَه من السَّادة الْأَشْرَاف مَا عدا من خَلفهم مِنْهُم بالفريق لحفظ تِلْكَ الْأَطْرَاف فَدخل فِي موكب عَظِيم ومهيع كريم وَدخل من بَاب السَّلَام إِلَى الْبَيْت الْحَرَام فَقبل يَمِين الله فِي أرضه وَأدّى بذلك وَاجِب فَرْضه ثمَّ عَاد فَجَلَسَ فِي فنَاء جِدَار زَمْزَم مُقَابل الْبَيْت الشريف وأحدق بِهِ السَّادة الْأَشْرَاف والأعيان ثمَّ قدمت لَهُ الْبَرَاءَة والنامة الْعَظِيمَة الشَّأْن فَقَامَ على قَدَمَيْهِ إجلالاً ووضعها على رَأسه الشريف اعتناءً بشأنها واحتفالاً فقرئت فِي ذَلِك الْمحْضر وَالْجمع الْأَكْبَر وَكَانَ الْقَارئ لَهَا الْعَلامَة الْمُفْتِي عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي وَبعد أَن تمت الْقِرَاءَة تقلد مَوْلَانَا الشريف بِالسَّيْفِ المجوهر وَلبس التشريف الْأَزْهَر وأفاض فِي ذَلِك الْمَكَان جملا من القفطان على كل من لَهُ علاقَة فِي هَذَا الشان(4/419)
ثمَّ دخل الْبَيْت الشريف بغالب من مَعَه من الْأَشْرَاف ثمَّ بعد بروزه اسْتَلم الْحجر وَطَاف والريس يَدْعُو لَهُ من أَعلَى قبَّة زَمْزَم كَمَا هُوَ عَادَة الأسلاف ثمَّ ذهب إِلَى منزله السعيد وَجَاء للتهنئة كل ذِي شَأْن مجيد ثمَّ أفيضت عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْمَكَان الخلعة الثَّانِيَة الْوَاصِلَة من وَزِير مصر ذِي الشان فَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمًا مشهوداً وَمن أَيَّام الأعياد معدوداً وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا توفّي السَّيِّد إِبْرَاهِيم ابْن بَرَكَات ابْن أبي نمي كَانَ من أجلاء أَشْرَاف مَكَّة وَرُؤَسَائِهِمْ وأغنيائهم جمع من الضّيَاع وَالْعَقار وَالْإِبِل والخميل وَالنعَم شَيْئا كثيرا جدا تغمده الله برحمته آمين وَلما كَانَ آخر صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وصل إِلَى جدة الْوَزير أَحْمد باشا مُتَوَلِّيًا الْجِهَات اليمنية فَلَمَّا وصل إِلَى محاذاة جدة بِحَيْثُ يَرَاهَا انْكَسَرَ مركبه وغرقت جَمِيع أَمْوَاله فتعب لذَلِك وَنزل إِلَى جدة وَأرْسل إِلَى مَوْلَانَا الشريف محسن بهدية ثمَّ نزل إِلَيْهِ مَوْلَانَا الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي الْمُفْتِي الْحَنَفِيّ بمكاتيب من مَوْلَانَا الشريف محسن فَأَقَامَ عِنْده أَيَّامًا ثمَّ إِن الباشا أَحْمد طلب من مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا الشريف محسن الْإِعَانَة فشرعوا فِي تَدْبِير مَا يرسلون بِهِ إِلَيْهِ وَطلب غواصين لإِخْرَاج مَاله وأثاثه فغاصوا وَلم يخرجُوا شَيْئا فتخيل الباشا أَنهم مأمورون بذلك ثمَّ تنكر وَتغَير وسجن الْقَائِد راجحا بن ملحم الدويدار حَاكم جدة والأغا مُحَمَّد ابْن بهْرَام الشريفي أحد خدام مَوْلَانَا الشريف وَكَانَ أرْسلهُ مَوْلَانَا الشريف إِلَى جدة بمكاتيب إِلَى الباشا فَأرْسل مَوْلَانَا الشريف الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن قره باش الْوَاعِظ الرُّومِي إِلَى جدة لينْظر فِي هَذَا الْأَمر فَلم ينْتج شَيْئا فَلَمَّا أَن كَانَت غرَّة شهر ربيع الأول من السنه الْمَذْكُورَة وصل الْخَبَر بِأَن الباشا صلب راجحاً الدويدار وَكَانَ السَّيِّد أَحْمد بن عبد الْمطلب نزل إِلَى جدة إِلَيْهِ لما سمع بِهِ فَنزل على حمَار فَقَالَت لَهُ الأقدار وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار وَكَانَ(4/420)
فِي هَذِه الْمدَّة يتَرَدَّد إِلَيْهِ فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى مَكَّة بذلك حصل اضْطِرَاب وَقيل وَقَالَ فَبعد مُدَّة يسيرَة وصل خبر وَفَاة الباشا أَحْمد وَأَن السَّيِّد أَحْمد استمال عسكره وَاسْتولى على جدة وأموالها وَأَن جدة نُودي فِيهَا لمولانا الشريف محسن ففرح النَّاس بذلك كثيرا فَفِي ثَانِي يَوْم الْخَبَر ورد الْخَبَر بِأَن الْأَمر عَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَن السَّيِّد أَحْمد نُودي لَهُ فِي جدهَ وَمنع النَّاس من الدُّخُول وَالْخُرُوج فبرز مَوْلَانَا الشريف محسن بعساكره وَجُنُوده وَنزل ب ومخ اسْم مَاء أَو جبل بِقرب جدة من جِهَة الشَّام وَوَقعت هُنَاكَ فتْنَة أَن الأتراك خَرجُوا من جدة لأخذ إبل ترعى فِي تِلْكَ الْجِهَات فوصل الْخَبَر إِلَى مَوْلَانَا الشريف محسن فَركب وَركب مَعَه السَّادة الْأَشْرَاف والأجناد فَوَقَعت ملحمة عَظِيمَة قتل فِيهَا من الأتراك فَوق الْخمسين وَقتل فِيهَا من الْأَشْرَاف مَوْلَانَا السَّيِّد ظفر بن سرُور بن أبي نمي ومولانا السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم بن جازان وَغَيرهمَا ثمَّ بعد مُدَّة وصل مَوْلَانَا الشريف محسن إِلَى الْبَلَد وَأقَام بهَا وَجعل هُنَاكَ رُتْبَة وَأقَام على الرُّتْبَة مَوْلَانَا السَّيِّد قايتباي بن سعيد بن بَرَكَات فَلَمَّا أَن كَانَ آخر شعْبَان وصل الْخَبَر بِأَن السَّيِّد أَحْمد بن عبد الْمطلب خرج هُوَ والعساكر مَعَه إِلَى جِهَة مَكَّة وَلم يزل يسير أَيَّامًا عديدة وَكَانَ وُصُوله على جِهَة وَادي مر فَلَمَّا كَانَ يَوْم سادس عشر رَمَضَان وصل الْخَبَر أَنهم قاربوا مَكَّة فبرز مَوْلَانَا الشريف محسن هُوَ والسادة الْأَشْرَاف والأجناد وَالْعَبِيد والصروخ فِي جمع لَا يُحْصِيه إِلَّا خالقه وَكَانَ خُرُوجه لذَلِك بعد صَلَاة عشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع عشر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَالْتَقوا بِالْقربِ من التَّنْعِيم فَوَقَعت معركة فتوحدت تِلْكَ الجموع وَلم يبْق لَهُم همة إقدام إِلَّا على الرُّجُوع فأطلقت المدافع وَضربت البنادق ووضح الناصح والمماذق فَتوجه مَوْلَانَا الشريف محسن وَمَعَهُ ابْنه الشريف زيد وَبَعض السَّادة الْأَشْرَاف إِلَى الحسينية ثمَّ إِلَى جِهَة الشرق نَحْو بيشة فَجمع جَيْشًا كَبِيرا من العربان وَقصد الإغارة على التّرْك المقيمين بِالطَّائِف فَلم يتَّفق لَهُ ذَلِك ثمَّ سَافر إِلَى مَدِينَة صنعاء الْيمن فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن توفّي عَام ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف سادس(4/421)
رَمَضَان بهَا بظاهرها وَحمل إِلَيْهَا وَدفن بهَا فِي قبَّة عالية عَلَيْهَا قوام وخدام بِمَعْلُوم يصل إِلَيْهِم من مَوْلَانَا المورحوم زيد ثمَّ من بعده من بنيه الْأَمْلَاك بدور الأفلاك كَانَت وِلَادَته فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِمَكَّة المشرفة نَشأ فى كَفَالَة أَبِيه وجده وَكَانَ جده الشريف حسن يُنَوّه بِقَدرِهِ ويقدمه لنباهته ونجابته وَظُهُور آثَار الرِّئَاسَة عَلَيْهِ فِي صغره وَكَانَ يقدمهُ فِي الحروب فَيرجع مظفراً منصوراً وعدوه مخذولاً مقهوراً جبل على مَكَارِم الْأَخْلَاق وطار صيته فِي الْآفَاق وَلما تولى عَمه أَبُو طَالب إِمَارَة مَكَّة أحله مَحل وَلَده وَنزل منزلَة أفلاذ كبده إِلَى أَن مَاتَ أَبُو طَالب فشارك عَمه إِدْرِيس فِي إمرة مَكَّة وَلبس الخلعة الثَّانِيَة ودعى لَهُ فِي الْخطْبَة وَعقد لَهُ لِوَاء الْإِمَارَة وَضربت النّوبَة الرومية فِي بَيته لمشاركته فِي الإمرة ووردت التشاريف السُّلْطَانِيَّة برسمه وَأَتَتْ المراسيم الخاقانية إِلَيْهِ مَعَ عَمه وَاسْتمرّ شَرِيكا فِي الرّبع إِلَى أَن أذن لَهُ بالاستقلال بِولَايَة الْحجاز فَجرى بَينه وَبَين عَمه حَال أدّى إِلَى قِيَامه عَلَيْهِ وَتَابعه جَمِيع الْأَشْرَاف على ذَلِك فَخلع عَمه إِدْرِيس عَن ولايهّ مَكَّة وَاسْتقر فِي الْأَمر يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس من شهر الْمحرم الْحَرَام افْتِتَاح سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف كَمَا تقدم ذكر ذَلِك آنِفا وَكَانَ رَحمَه الله من النباهة والسؤدد والرئاسة وَالْكَرم والبأس والسياسة بِالْمحل الأرفع إِلَّا أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أمرا هيأ أَسبَابه فَمَا تَنْفَع ذوى الْعُقُول عُقُولهمْ وَلَيْسَ لَهَا مَعَ إِرَادَته سُبْحَانَهُ إِصَابَة وَكَانَت مُدَّة ولَايَته ثَلَاث سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَنصف رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وَغفر لَهُ ولأسلافه الأكرمين مغْفرَة جَامِعَة وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول مَوْلَانَا القَاضِي تَاج الدّين بن أَحْمد الْمَالِكِي رَحمَه الله تَعَالَى // (من الْبَسِيط) //
(لقدْ جرى بالذِى تختارُهُ القدَرُ ... فمُرْ بَما شئْتَ إِن الدهْرَ مؤتمرُ)
(وضرَّ من شئتَ وانفَعْ من تشاءُ فَفِي ... أكفِّكَ الواكفاتِ النفْعُ والضرَرُ)(4/422)
(والدهْرُ مِنْ جيشكَ المنصورِ قائدُهُ ... ألْقى يَدَ السلْمِ خَوْفًا وَهُوَ يعتذرُ)
(فاغفِرْ جنيَّتَهُ العظمَى لتوبَتِهِ ... إنَّ العظيمَ عَظِيم الذنْبِ يغتفرُ)
(وَقد أتَى مقلعاً عَن جرمِهِ ملكا ... يَسْطُو انتقاماً ويعفُو وهوَ معتذرُ)
(ذَا هيبةٍ رابَ ريب الدَّهْر فانقلَبَتْ ... تغزو عداهُ صُرُوفُ الدهرِ والغِيَرُ)
(وسطوة تتركُ الآسادَ واجمةً ... لم ينجُ مِنْ رُعْبها نابٌ وَلَا ظُفُرُ)
(بِهِ تبلَّجَ صبْحُ الملكِ وابتسمَتْ ... ثغورُهُ ودياجي الخطْب تعتكِرُ)
(وأصبحَ الدسْتُ معموراً وكافلُهُ ... ملك بِهِ أضحَتِ الأملاكُ تفتخرُ)
(أخبارُهُ صغرتْ أخبارهم عظما ... كَمَا برؤيتِهِ يستصغرُ الخبرُ)
(ليثٌ إِذا خطَّ سطراً نصل قاضبه ... مالَتْ لتعجمه الخطِّيةُ السمُرُ)
(كَأَنَّهُ لاعبٌ يَرْمِي الرءوسَ بِهِ ... بالصولجانِ فتلْكَ الأرؤسُ الأكرُ)
(مَا كَرَّ بعد ورودِ الحربِ قطُّ وهَلْ ... يكرُّ من لَيْسَ عَن وِرْدٍ لَهُ صَدَرُ)
(وَلم يفرَّ وهَلْ يدنو الْفِرَار فَتى ... بالعزْمِ مُدَّرعٌ بالنصْرِ معتجرُ)
(فَتى لَهُ جيشُ عزمٍ قد أحاطَ مِنَ السْسِتِّ ... الجهاتِ بِهِ التأييدُ والظفَرُ)
(ينمى إِلَى دوحةٍ للملْكِ زاكيةٍ ... قد طابَ عُنْصُرُهَا والفرْعُ والثمرُ)
(أَغَرُّ ثَبْتُ الجنانِ الفارسُ البطلُ الليْثُ ... الهمامُ الشجَاعُ الصارمُ الذَّكَرُ)
(ألقائدُ الخيلَ إنْ رامَتْ مدى وضعتْ ... فِي خَطْوها يَدهَا حيْثُ انْتهى البَصَرُ)
(مِنْ كُلِّ أدهَمَ يكسى مِنْ دَمٍ حُلَلاً ... كَأَنَّهُ بلظَى الهيجَاءِ يستعرُ)
(وكل أشهَبَ محجولٍ قوائمُهُ ... أغر أَبْلجَ مَا فِي بَاعه قِصَرُ)
(وكل طرفٍ يدكُّ الصخْرَ حافرُهُ ... وطئا تطاير من صدماته الشرَرُ)
(كَأَنَّمَا تطلبُ الأقدامُ أيديها ... فَلَا تقرُّ وَلم يلحقْ لَهَا أَثَرُ)
(تخالُ تصهالَهَا رعدًا يزمجرُ فِي ... سحابِ نقعٍ مُثَار برقُهُ البترُ)
(مهذبات إِذا نَار الوغَى استعرَتْ ... لَا بالعنانِ وَلَا بالشكْلِ تنحجرُ)
(عليهمُ الأسْدُ فُرْسَانًا مصورةً ... تطيعُهُمْ كيفَ مَا شَاءُوا وتنزجرُ)
(وكل أصْيَدَ مرِّ الْحَد ذِي جَلَدٍ ... مَا مسَّهُ سأمٌ فِيهَا وَلَا ضَجَرُ)
(مِنْ كُلِّ شهمٍ شديدِ البطشِ منصلِتٍ ... كالسهْمِ إِذْ ثارَتِ الهيجاءُ يبتدرُ)
(وكُلِّ ذِي لمةٍ سوداءَ حالكةٍ ... كالليلِ فِي جنحِهِ قد أشرَقَ القمَرُ)(4/423)
(قوم إِذا الْتَأَمُوا كانُوا الأهلَّةَ والأقمار ... إِن سفروا والأسْدَ إِن زأروا)
(كَأَنَّهُمْ والصَّبَا تسرِى بنَشْرِهِمُ ... فِي محكَمِ الزردِ الأكمامُ والزهرُ)
(بهم حوى الفَخْرَ أبناءُ الرسولِ كَمَا ... بِهِ على العُرْبِ فخراً قد حوتْ مُضَرُ)
(يسوسُهُمُ صادقُ الآراءِ فطنتُهُ ... تقضي بِمَا هُوَ آتٍ قبلُ والْفِكَرُ)
(متوجٌ هُوَ فيهم مثلهم شرفاً ... فِي قومِهِمْ وهُمُ فِي قَومهمْ غُرَرُ)
(إِذا بدا بَينهم فِي موكبٍ تره ... كَأَنَّهُ البدْرُ دارَتْ حوله الزهرُ)
(لَو أَن مِنْ بعد طه مُرْسلا نزلَتْ ... عَلَيْهِ فِي وصفِهِ الآياتُ والسوَرُ)
(صِفَات أروَعَ لَا تحصَى محامدُهُ ... وَلَيْسَ يحصُرُهَا قولٌ فتنحصرُ)
(وَكَيف يحصرُ بالألفاظِ قولُ فتَىً ... مطولُ القولِ فِي مَعْنَاهُ مختصرُ)
(سمحُ الأكفِّ كريمٌ عَمَّ نائله ... معطي الجزيلِ ابْتِدَاء وَهُوَ يعتذرُ)
(كَأَنَّمَا كَفُّهُ تهمى بنائلِهِ ... غمائمٌ بولِي الجودِ تنهمرُ)
(أَو دوحة غَضَّة الأغصانِ دانية ... قطوفُهَا بنسيمِ العرفِ تنهصرُ)
(يَلْقَى النضارَ لَدَيْهِ المعتفون قِرًى ... كَأَنَّمَا لقِرَاهُمْ تنحرُ البدرُ)
(دَعَاهُ يَا محسناً لما تفرسَ مِنْ ... مرآهُ والدُهُ الْإِحْسَان ينتشرُ)
(فجَاء مصداقُ كُلِّ اسمٍ لصاحبِهِ ... مِنْهُ نصيبٌ بِمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ)
(فيا أَبَا الجودِ يَا جَمَّ المواهبِ يَا ... أَخا الندَى مفخَرَ الأقوامِ إِن فَخَروا)
(يابَنْ الحسينِ لقد وافَتْكَ واصلةٌ ... عذراءُ قد فاتَ مِنْهَا غيرَكَ النَّظَرُ)
(لم ترضَ غَيْرك كفوا والصداقُ لَهَا ... صدقُ القبولِ فَمَا لي غيرَهُ وَطَرُ)
(فلستُ مِمَّن يقولُ الشعْرَ مبتغياً ... بِهِ افتخاراً وَمَا بالشعْرِ يفتخرُ)
(سَلْنِى وسَلْ عنىَ الأقوامَ مختبراً ... لَا يعرفُ المرءُ إِلَّا حِين يختبرُ)
(عمري ولولاكَ يَا حامي الذمارِ لما ... صُغْتُ المدائحَ أبديها وأبتكرُ)
(فسرِّحِ الطرفَ فِيهَا رَوْضَة أنفًا ... غَنَّاءَ يقصرُ يحْكى نظمها الدُّرَرُ)
وَمِمَّا قيل فِيهِ أَيْضا قَول الْعَلامَة الْقدْوَة الْمُفِيد الفهامة مَوْلَانَا الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي رَحمَه الله تَعَالَى // (من الْكَامِل) //
(لَا والنواعمِ مِنْ جواري العينِ ... مَا احتجْتُ فِي حملِ الهوَى لمعينِ)
(وَبِمَا لَهُنَّ علىَّ مِنْ خّلْعِ العذارِ ... إِذا سفرْنَ بطرةٍ وجبينِ)(4/424)
(ولعبْنَ بالألباب عِنْد تمايسٍ ... بمعاطفٍ تزرى الغصُونَ بلينِ)
(أَنا ذَلِك الصبُّ الَّذِي قِدْمًا صبا ... بصبا الصِّبَا وَإِلَى الغرامِ حَنِينِى)
(غيثُ السحائبِ مدمعى وهَوَى لظَى ... نفسى ورعْدُ الصاعقاتِ أنيني)
(يبرينىَ النجديُّ من ألم النَّوَى ... ويذيلني بردا ظبا يبرينِ)
(ويعلُّنى الوجدان أعذَبَ موردٍ ... ويعلُّنى السلوانُ عَنهُ سلوني)
(لَا يعذلُ المشتاقَ إِلَّا مثلُهُ ... هيهاتَ ذَلِك فَهُوَ بئْس قرينِى)
(مَا مرَّ بِي فِي العشقِ إِلَّا مَا حلا ... لفؤادِ كلِّ مولَّه وحزينِ)
(شرْعُ الهوَى فرضِى وحُسْنُ تهتُّكى ... نَفْلِى ومدْحِى محسناً مِنْ ديني)
(إبنُ الحسينِ أَبُو الحُسَيْنِ أَخُو التقَى ... من لَيْسَ يرضى فِي الْعلَا بالدونِ)
(عالي الجنابِ إِذا انتحَى وَإِذا انتخَى ... سهْل الحجابِ بغاب لَيْث عرينِ)
(ذُو هيبةٍ حلَّتْ قلوبَ عداته ... لَو أَنهم حَلُّوا أقاصي الصينِ)
(من عزمِهِ ساحَ الحديدُ وسالَ إِذْ ... سلَّتْ فحاكى السيح من سيحونِ)
(يروي الأسنةَ والشوازبَ من دَمِ الأعداءِ ... لَا يَرْضَى لَهَا بمعينِ)
(وَيرى المُنَى نزعَ النُّفُوس بِمَا بهَا ... مِنْ كُلِّ غلِّ فِي الصدورِ كمينِ)
(ألله مَا أعلَى مرامي ظنِّهِ ... طبق القضا فِي شأنِ كل ظنينِ)
(وأحسَّهُ بالأمْرِ قبل وقوعِهِ ... وخطورِهِ فِي عَالم التكوينِ)
(يرضيكَ إنْ هزَّ القنا بِشمَالِهِ ... وَإِذا انتضَى سيف القنا بيمينِ)
(فيريكَ لمْعَ البرقِ فِي ظُلَمِ الحشا ... سيل العقيقِ ومدهق الزرجونِ)
(ثملَتْ بِهِ عللاً رءوسُ رماحِهِ ... فبدَتْ معربدةَ بقطْعِ وتينِ)
(وصحَتْ فأنهلَهَا الظهورَ فحطَّمَتْ ... أضلاعَ كلِّ مجدلٍ وطعينِ)
(وَبهَا حمى أُمَّ القرَى فدعِ الْقرى ... متسفلاً فِي الإرتقا بمئينِ)
(مَنْ ذَا يقاومه إِذا اشْتَدَّ الوغَى ... إِلَّا فتَىً يَرْجُو لقاءَ منونِ)
(هَذَا التقىُّ الطاهرُ الذيل الَّذِي ... يسمو بعرضٍ فِي الأنامِ مصونِ)
(مولى الجميلِ وباذلُ الفضلِ الجزيلِ ... وكاشفُ الخطبِ الجليلِ لحينِ)
(حكتِ السحائبُ كفَّهُ فبكَتْ على ... مَا فاتَهُ من سَحِّهِ بهتونِ)
(قسما بِهِ لم يحكِهِ فِي جودِهِ ... إِلَّا الذى أضمرْتُ طَىَّ يمينى)(4/425)
(فهُمُ هُمُ بيتُ النبوةِ والحجا ... وَالْبر أربابُ التقى والدينَ)
(إنْ تلقه لم تلْقَ إِلَّا محسناً ... من محسنٍ من محسنٍ بضمينِ)
(واعقدْ يَمِينك إِنَّه مِنْ عقدهم ... عين القلادةِ فصلَتْ بثمينِ)
(من رام عزَّا فلينخْ برحابه ... أملاً فيذهبَ عَنهُ ذُلُّ الهونِ)
(مَا سامَ مرعَى خصبِهِ متضائلٌ ... إِلَّا تبدَّلَ غثُّهُ بسمينِ)
(يابنَ النبىِّ إليكَهَا نونيةً ... بالكافِ قدَّرَهَا القضا والنونِ)
(وَافَتْكَ كالطاووس تزهو عزة ... مذْ ذُبِّجَتْ بغلائلِ التلوينِ)
(خُذ فألها الحسَنَ الجميلَ وقولَهَا ... كُنْ كيفَ شئْتَ بغايةِ التمكينِ)
(فالطرْسُ مِنْهَا أخضَرٌ والسطْرُ فِيهِ ... أسودٌ يستلُّ بيضَ جفونِى)
(أثنَتْ عَلَيْك ببعضِ حقكَ فاغتفرْ ... تَقْصِيرهَا فِي المدْحِ لَا التحسينِ)
(لَا زلْتَ فِي أوجِ السعادةِ راقياً ... بدوامِ عِزِّ فِي الفخارِ مكينِ)
وَدخل الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب مَكَّة ضحَى الْيَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان والمنادي بَين يَدَيْهِ وَكَانَ دُخُوله من الْحجُون فاضطربت الأفكار وتعبت النَّاس وَأول مَا بَدَأَ بِهِ دُخُول الْمَسْجِد من بَاب السَّلَام وَفتحت لَهُ الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فَدَخلَهَا ثمَّ عزم إِلَى الْمحل الَّذِي أَرَادَ السُّكْنَى بِهِ فَنَقُول ثمَّ وَليهَا الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب بن حسن بن أبي نمي بتولية الْوَزير أَحْمد باشا إِيَّاه كَمَا تقدم ذكر ذَلِك فَوَقع من الْعَسْكَر الَّذين كَانُوا متوجهين مَعَ الباشا الْمَذْكُور إِلَى جِهَة الْيمن تسلط على بيُوت النَّاس لما فِي نُفُوسهم على أهل مَكَّة فَأدى ذَلِك إِلَى القيل والقال وَحصل لَهُم مِنْهُم الْخَوْف الْعَظِيم فَكَانَ ذَلِك لما أَرَادَ الله سَببا لمُخَالفَة الْقَبَائِل وتخطفهم فِي الطّرق لمن مر بهم من الْأَعْرَاب وَغَيرهم وَقبض على المرحوم مفتى الخنفية الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي وحبسه مضيقاً عَلَيْهِ لأمر نقمه مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ موسم السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف قدم الْحَاج الْمصْرِيّ وأميره قانصوه باشا وَكَانَ بَين قانصوه هَذَا وَبَين الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن مَوَدَّة أكيدة ومكاتبات سَابِقَة(4/426)
فَلَمَّا صعد الحجيج عَرَفَة أَتَى حَرِيم الشَّيْخ إِلَى مخيم قانصوه متشفعات بِهِ إِلَى الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب فِي إِطْلَاق الشَّيْخ فرق لَهُنَّ رقة عَظِيمَة وَتوجه مُتَوَجها إِلَى الشريف أَحْمد يَوْم عَرَفَة فَلم يوجهه وَلم يؤيسه فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة النَّحْر توفّي الشَّيْخ رَحمَه الله شَهِيدا فَكَانَ ذَلِك مَعَ قَضَاء الله تَعَالَى سَببا لوُقُوع مَا وَقع مِنْهُ فِي الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وفيهَا ظهر يَوْم الْخَمِيس ثامن عشري ربيع الثَّانِي توفّي مَوْلَانَا السَّيِّد الْجَلِيل ذُو الْمجد الأثيل خَاتِمَة الْمُحَقِّقين شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين شمس المعارف والعلوم ترجمان الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم الْمُتَّفق على إِمَامَته وَالْمجْمَع على ورعه وجلالته إِنْسَان عين الْعلمَاء العاملين أستاذ الْأَئِمَّة المدققين صدر المدرسين الْعِظَام مفتي بلد الله الْحَرَام مَوْلَانَا الْوَلِيّ القطب الْعَارِف بربه الفائض عَلَيْهِ مدرار الْفَيْض الإلهي مَعَ كَسبه مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف حاوى مرتبتى الْعلم وَالْعَمَل والبالغ فيهمَا أوج غَايَة الأمل الْجَامِع إِلَى شرف النّسَب الْعلي شرف الْعلم الْجَلِيّ مَوْلَانَا السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ الْحُسَيْنِي الشَّافِعِي بِمَكَّة المشرفة أَخذ عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والعلامة ابْن قَاسم والملا عبد الله السندي والملا عَليّ بن إِسْمَاعِيل العصامي وَالْقَاضِي عَليّ بن جَار الله وَالشَّيْخ عبد الرَّحِيم الأحسائي وَالسَّيِّد مير بادشاه والملا نصر الله وَغَيرهم وَأخذ عَنهُ شَيخنَا الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر بن الْجمال وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الله باقشير وَشَيخنَا الإِمَام زين العابدين بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد النعم الطَّائِفِي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن كريشة السقاف وَالسَّيِّد صَادِق باد شاه مفتي الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم رَحمَه الله وَأعَاد علينا وعَلى المسليمن من بركاته وَقد اخْتلفت الْأَقْوَال فِي سَبَب قَتله الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي فَقيل تَعْرِيض الشَّيْخ الْمَذْكُور بالشريف حِين خطْبَة عقده الَّتِي خطب بهَا فِي زواج سلطانة ابْنة عَليّ شهَاب وَكَانَ الشريف أَحْمد طلب التَّزَوُّج بهَا فَلم يُزَوجهُ فَعرض الشَّيْخ بذلك حَيْثُ قَالَ فِي مُبْتَدأ الْخطْبَة الْمَذْكُورَة الْحَمد لله الَّذِي أعز سُلْطَانه ودحض شَيْطَانه وَقيل إِنَّه جَاءَ إِلَى الشريف الْمَذْكُور عِنْد موت أَخِيه السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْمطلب معزيا لابساً صُوفًا أَبيض(4/427)
وَقيل إِن الشريف أَحْمد حِين استولى على مَكَّة وطلع إِلَى دَار السَّعَادَة على فرش الشريف محسن وجد تَحت طرف الْمرتبَة فتياً من الشَّيْخ الْمَذْكُور بتسميتهم بغاة جائرين ظالمين وبوجوب قِتَالهمْ بِخَطِّهِ الْمَعْرُوف واسْمه الْمَوْصُوف وَالله تَعَالَى أعلم أياً كَانَ ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة وأرخت بِمَا نَصه شرف المدرسين وفيهَا أَيْضا كَانَت وَفَاة جدي الْعَلامَة الشَّيْخ عبد الْملك بن جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل صدر الدّين ابْن الْعَلامَة الْمُحَقق إِبْرَاهِيم عِصَام الدّين الشَّافِعِي الْمَكِّيّ الشهير بالعصامي المقلب بخاتمة الْمُحَقِّقين وَإِمَام الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية وخاتمة عُلَمَاء الْعُلُوم الأدبية وَعلم الْأَئِمَّة الْأَعْلَام بَحر الْعُلُوم المتلاطمة بِالْفَضْلِ أمواجه وطود المعارف الراسخ الناتجة لَدَيْهِ أَفْرَاده وأزواجه عَلامَة الْبشر فِي الْقرن الْحَادِي عشر والرحلة الَّتِي ضربت إِلَيْهِ أكباد الْإِبِل والقبلة الَّتِي فطر كل قلب على حبها وجُبل جمع فنون الْعلم فانعقد عَلَيْهِ الْإِجْمَاع وَتفرد بصنوف الْفضل فبهر النواظر والأسماع فَمَا من فن إِلَّا وَله فِيهِ الْقدح المعلّى والمورد العذب الْمحلى إِن قَالَ لم يدع مقَالا لقَائِل أَو طَال لم يَأْتِ غَيره بطائل مولده كَانَ بِمَكَّة سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة كَانَ تَارِيخه نعم الْمَوْلُود ذَا وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن وَالِده وَعَن الشَّيْخ الْعَلامَة عبد الرءوف الْمَكِّيّ وَعَن خَاتِمَة الْمُحَقِّقين الشهَاب أَحْمد بن قَاسم الْعَبَّادِيّ والعلامة أَحْمد بن عواد الْمصْرِيّ والخطيب عبد الرَّحْمَن ابْن الْخَطِيب الشربينى وَأَجَازَهُ بمروياته بِإِجَازَة بِخَطِّهِ سنة تسع بعد الْألف وَعَن غَيرهم وَعنهُ مَوْلَانَا الشَّيْخ مُحَمَّد عَليّ بن عَلان الصديقي وَالسَّيِّد صَادِق بادشاه ومولانا الشَّيْخ عبد الله باقشير الْحَضْرَمِيّ ومولانا الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر بن الْجمال الْأنْصَارِيّ ومولانا القَاضِي تَاج الدّين بن أَحْمد الْمَالِكِي ومولانا الْخَطِيب أَحْمد ابْن عبد الله الْبري الْمدنِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطَّائِفِي وَخلق ولازم الْأُمَرَاء والتدريس فِي كل علم نَفِيس وجدد مغنى الْعلم الدريس واشتغل(4/428)
بالتصنيف والتأليف وتخلى عَن كل أنيس وأليف حَتَّى بلغت مؤلفاته السِّتين بَين شرح مُفِيد وَمتْن متين مِنْهَا شرح الشذور سَمَّاهُ شِفَاء الصُّدُور وَشرح على الْقطر وَشرح على الشَّمَائِل وحاشية على شرح التَّحْرِير وَشرح على الألفية النحوية لم يتمه وَشرح على الزنجاني وحاشية على شرح لقطر لمصنفه وَشرح على إيساغوجي وَشرح الخزرجية وَشرح على استعارات السَّمرقَنْدِي وَغير ذَلِك من المصنفات الْمَشْهُورَة تبلغ الْعدة الْمَذْكُورَة إِلَى زهد وورع وَصَلَاح أشرق نورها فِي أسرة وَجهه ولاح وبيته وَبَين عُلَمَاء عصره مكاتبات كَثِيرَة وأسئلات سطر عَلَيْهَا أجوباته المنيرة وَكَانَت وَفَاته بِطيبَة وَدفن ببقيع الْغَرْقَد رَحمَه الله وَأعَاد علينا من بركاته آمين وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ فِي صفر مِنْهَا وَقع فِي أَعمال مصوع زَلْزَلَة شَدِيدَة ثمَّ تصاعدت إِلَى بر العبيد وَمَا زَالَت تعْمل إِلَى الأجمدة وفقدت بلد بِمن فِيهَا فَلَا يعلم أخسف بهَا أم رفعت إِلَى السَّمَاء وَلم تزل الزلازل تعْمل فيهم حَتَّى انسد بِالْحِجَارَةِ النَّازِلَة عَنْهَا مَا بَين جبلين ويرون لَهب النَّار وجرَى الدَّم على وَجه الأَرْض بعد نبعه مِنْهَا كجري المَاء وَاسْتمرّ بهم هَذَا الْأَمر إِلَى بعد ذِي الْحجَّة ثمَّ ارْتَفَعت عَنْهُم الزلزلة وَجرى الدَّم وَذهب أَثَره عَن الأَرْض غير أَنه بَقِي فِيهِ أثر النَّار نَهَارا ولهبها لَيْلًا فسبحان الفعال لما يُرِيد وفيهَا فِي رَمَضَان مِنْهَا كَانَت وَفَاة الشريف محسن بن حُسَيْن وَقد ذَكرنَاهَا مَعَ مَا يتبعهَا آنِفا ثمَّ اسْتمرّ الشريف أَحْمد فِي الْولَايَة إِلَى أَن حج بِالنَّاسِ حجَّة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف فجَاء للحجاج أَمِير مُنْفَرد وَجَاء قانصوه باشا مُتَوَجها لفتح الْيمن صحبته العساكر وعدتها ثَلَاثُونَ ألفا وَضرب وطاقه فِي أَسْفَل مَكَّة وَكَانَت بَين الشريف مَسْعُود ابْن الشريف إِدْرِيس وَبَين الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب ممالأة ومواطأة قبل نُزُوله إِلَى جدة مضمونها إِنِّي لَا أُرِيد الْملك لنَفْسي إِنَّمَا أريده لَك أَو هُوَ بَيْننَا فخذل عني مَا اسْتَطَعْت من آل أبي نمي وثبطهم وَحل عزائمهم ووعده بذلك فَفعل مَا فعل وَحصل بِهِ على الشريف محسن مَا حصل وَللَّه الْأَمر(4/429)
فَلَمَّا نزل إِلَى جدة تقمصها لنَفسِهِ وَلم يَفِ لمسعود بِبَعْض مَا بَينهمَا بل أَرَادَ قَتله ففر إِلَى قانصوه والتجأ وَصدر قانصوه على الشريف أَحْمد مَمْلُوء بالوجاء فَلَمَّا أقبل قانصوه قَاصِدا لليمن لاقاه الشريف مَسْعُود من يَنْبع أَو الخور وَجَاء مَعَه مختفياً وَلم يزل بِهِ مختفيا وواجه فِي الْمَجِيء الأول الشريف أَحْمد قانصوه ورد عَلَيْهِ تَحِيَّة الْقدوم ثمَّ عزم على محاربة قانصوه فازداد قانصوه عَلَيْهِ حنقاً على حنق وَشرع يستميل عَسْكَر الشريف أَحْمد فأطاعوه فَخَرجُوا من مَكَّة ثمَّ خيم قانصوه بالزاهر وَلما أَن قَضَت الْحجَّاج مناسكهم وذهبوا إِلَى أوطانهم تخلف قانصوه بوطاقه أَسْفَل مَكَّة فَلَمَّا تحرّك للسَّفر قدم ثقله وَلم يبْق إِلَّا وطاقه وخيام العساكر فَأَشَارَ قانصوه إِلَى شخص يتعاطى خدمته من أَبنَاء الطّواف يُسمى مُحَمَّد المياس أَن يحسن للشريف أَحْمد الْوُصُول إِلَى قانصوه للوداع فَفعل وَذهب إِلَى الشريف وَحسن لَهُ ذَلِك يَوْم السبت رَابِع شهر صفر فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْأَحَد خَامِس الشَّهْر الْمَذْكُور من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف ركب الشريف أَحْمد إِلَيْهِ وصحبته من الْأَشْرَاف شبير بن بشير بن أبي نمي وَمُحَمّد بن حسن بن ضبعان وراجح بن أبي سعد وَمن أعوانه وزيره مقبل الهجالي وَأحمد البشوتي مُتَوَلِّي بَيت المَال وفليقل فَلم يزَالُوا يدْخلُونَ فِي الصيوان من بَاب إِلَى بَاب يمْنَع عِنْد كل بَاب طَائِفَة من أَتْبَاعه حَتَّى دخلُوا فتحادثا مَلِيًّا ثمَّ نصبا رقْعَة الشطرنج فَلَمَّا كَانَت السَّاعَة الْخَامِسَة من اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة قبض على الْجَمِيع فَتوفي الشريف أَحْمد شَهِيدا إِلَى رَحْمَة مَوْلَاهُ وَقتل الهجالي وفليقل وصلب البشوتي وَأطلق الْأَشْرَاف فتحركت عساكره فأظهره لَهُم وَنشر البيرق ونودى الْمُطِيع للسطان يقف تَحِيَّة فوقفت العساكر تَحِيَّة وخلع على الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس فسبحان من لَا يَزُول ملكه وَلَا يتَغَيَّر سُبْحَانَهُ ثمَّ حمل الشريف أَحْمد وأتى بِهِ من طَرِيق الْحجُون فَدفن بالمعلاة رَحمَه الله من شَهِيد كَذَا ذكره فِي الْجَوَاهِر والدرر فِي أهل الْقرن الْحَادِي عشر وَقد كَانَ الشريف أَحْمد لَيْث آل أبي نمي أديباً فَاضلا نبيها مهيباً // (من المنسرح) //
(تَعْرِفُ مِنْ عينه تجابَتَهُ ... كَأَنَّهُ بالذكَاءِ مكتَحِلُ)(4/430)
أَخذ الْعَهْد وَالطَّرِيق على عدَّة مَشَايِخ من أَجلهم الشَّيْخ أَحْمد الشناوي وَهُوَ الْمُبَاشر لَهُ بِولَايَة مَكَّة لكنه قَالَ على الشَّهَادَة يَا أَحْمد قَالَ على الشَّهَادَة فَكَانَ كثيرا مَا يكنى عَنْهَا بِطُلُوع الشَّمْس وعاقب بعد الْولَايَة كثيرا مِمَّن كَانَ قبلُ استبعدها عَنهُ وسخر مِنْهُ وَكَانَ لَهُ أخدان وجلساء قبل الْولَايَة وَبعدهَا فَحصل لَهُم الأذية بعد قَتله من قانصوه بوشاية هَذَا الشَّخْص الْمُسَمّى بالمياس مِنْهُم السَّيِّد الأكرم مَوْلَانَا السَّيِّد سَالم ابْن السَّيِّد أَحْمد شيحان ومولانا الشَّيْخ أَحْمد الفشاشى ومولانا الشَّيْخ مُحَمَّد الْقُدسِي خَليفَة سَيِّدي أَحْمد البدوي فحبس الْجَمِيع وَثقل عَلَيْهِم حَتَّى افْتَدَوْا أنفسهم بِمَال جزيل كَانَ ذَلِك بوشاية المياس أذاقه الله كل باس يَوْم يَقُول النَّاس وَكَانَ للشريف أَحْمد زوجان من القنا الطَّوِيل جدا بسنان مَذْهَب تَحْتَهُ أُكرة من الْفضة المطلية يحمل كل وَاحِد رجل يمشي على قَدَمَيْهِ إِذا سَار فِي موكبه يسيران أَمَامه قَرِيبا مِنْهُ يصوبانهما ويصعدانهما بحركة لَطِيفَة التصعيد والتصويب على سَوَاء وَرُبمَا كَانَ فيمها جلاجل وَهَذَا يفعل إِلَى الْآن أَمَام إِمَام الْيمن إِذا سَار فِي الموكب انْتهى قلت وَهَذَا كَانَ لَهُ وجود فِي زمَان الْخُلَفَاء العباسيين فَلَيْسَ أهل الْيمن أول مبتدعيه وَقد ذكره شعراء الدولة العباسية فِي قصائدهم فِي الْخُلَفَاء قَالَ القَاضِي نَاصح الدّين أَبُو بكر أَحْمد الأرجانى من قصيدة يمدح بهَا الْوَزير أنو شرْوَان وَزِير الْخَلِيفَة المسترشد بن المستظهر بِاللَّه العباسي قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(وألوية منهنَّ صقران أوفيا ... عَلَى علمي رمحيْنِ فارتَبَآكا)
(ولَيْسَ سوى النسرين مِنْ أفقيهما ... لحبهما نَيْل الْعلَا تَبِعاكَا)
وَكَانَ إِذا سَار بِاللَّيْلِ لَا يُوقد بَين يَدَيْهِ إِلَّا الشمع الموكبي بَدَلا عَن المشاعل وَكَانَ دُخُوله مَكَّة متملكاً لَهَا وإجفال الشريف محسن صَاحب مَكَّة وَبنى عَمه عَنْهَا ضحى يَوْم الْأَحَد السَّابِع عشر من شهر رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف فَكَانَ رَحمَه الله يتبجح وَيَقُول فتحت مَكَّة بِالسَّيْفِ كَمَا فتحهَا رَسُول الله
ودخلتها فِي مثل الْيَوْم الَّذِي دخل فِيهِ
قلت أما قَوْله فتحتها فَالْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا لم تفتح عَنوة وَإِنَّمَا(4/431)
فتحت صلحا وَمَا وَقع من خَالِد بن الْوَلِيد رضى الله عَنهُ فَإِنَّهُ نووش بعض قتال مَعَ الْأَحَابِيش وعبدان أهل مَكَّة فِي أَسْفَلهَا وَقد نَهَاهُ
عَن الْقِتَال وَلكنه لما قوتل قَاتل وَهَذِه هِيَ شُبْهَة الْقَائِل بِأَنَّهَا فتحت عنْوَة وَقد علمت بَيَانهَا وَكَذَلِكَ قَوْله ودخلتها إِلَخ فَإِنَّهُ لم يدخلهَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي سَابِع عشر رَمَضَان وَإِنَّمَا دَخلهَا يَوْم ثامن عشرَة بِغَيْر خلاف تغمده الله برحمته آمين وَمِمَّا رَأَيْته لصَاحبه إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الشهير بالمهتار قَوْله // (من الْخَفِيف) //
(سنة السبعِ والثلاثينَ بعد الألْفِ ... جاءَتْ بِمَا بِهِ ينفر الطَّبْعْ)
(دخَلَ السبْعُ مكةَ الله بالجنْدِ ... وَلَا شَكَّ أَنَّهَا سنة السَّبْعْ)
وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول الأديب الأريب إِبْرَاهِيم بن يُوسُف المهتار سامحه الله تَعَالَى // (من الرجز) //
(قَضَّى وَلم يقضِ الَّذِي مِنْهُ يجبْ ... صَبٌّ إِذا مَا يَدعه الشوقُ يُجبْ)
(أشجاه تغريدُ حماماتِ اللوَى ... وهْنًا على البانِ فغنَّى فطَرِبْ)
(ذكَّرتُهُ ليالياً مواضياً ... بالشِّعْبِ مِنْ قبلِ الخليطِ ينشعبْ)
(إذْ عامرٌ بساكنِيهِ عامرٌ ... ظباؤُهُ ترعَى بمرعاه الخَصِبْ)
(وَإِذ بِهِ الغيدُ بدَتْ سوانحاً ... تجرُّ من ذيل الصِّبَا بُردًا قشبْ)
(مِنْ كُلِّ هيفاءِ القوامِ اذا انشنَتْ ... تكادُ مِنْ لينٍ بِهِ أَن تنقضبْ)
(تبدو بوجْهٍ مسفرٍ من غيهبٍ ... مِنْ شعْرها إِلَى بنى بدَرْ انتسبْ)
(مَنْ الرعابيبِ اللواتى خَلَّفَتْ ... ربْعَ اصطبارِى مثل مغناه الخَرِبْ)
(فَمَا وُقُوفِي بالطلولِ بعدهمْ ... أبكى بهَا والحىُّ عَنْهَا مغتربْ)
(سقيا سقى الله الْعباد معهداً ... بعامر إنْ ضنَّ دمعي المنسكبْ)
(ذَاك الَّذِي بِهِ الظُّبَا تحمِى الظبا ... فكَمْ بِهِ مثلي أسيرٌ مكتئبْ)
(لله أيامٌ بِهِ تصرمَتْ ... وكأسُ صفوٍ فِي لياليها شُرِبْ)
(بفتية تراضعوا ثديًا من اْلآدابِ ... كُلٌّ للغرامِ منجذبْ)
(يوشون شعرًا كالرياضِ بَينهم ... طويلُهُ يمد لفظ المقتضبْ)(4/432)
(لم ينشدوا إِلَّا شجانِى لفظهُمْ ... مَا الشعْرُ إِلَّا مَا شجا قلْبَ الْمُحب)
(كلُّ أخي صبابةٍ وعارفٍ ... يوجدُ فَردا قبل ألاَّ يصطحبْ)
(بتْنَا بهَا كلٌّ شكا غرامَهُ ... من الَّذِي يهوَى بقلْبٍ ملتهبْ)
(والليلُ قد تستَّرَتْ نحومه ... بسحبها والبدْرُ فِيهَا محتجبْ)
(والمزنُ تبْكي لابتسامِ البرْقِ أَو ... من غضبٍ لأحمدَ بْنِ المطلبْ)
(ألأرْوَعُ الشَّهْمُ الكَرِيمُ الجدُّ رَبْ ... بُ الْجدِّ حاوي المَجْد عَنْ أهل اللعبْ)
(ألفارسُ الْخَيل إِذا الشرُّ بدا ... مَعْ عمرٍ والكرارِ أَو معدى كربْ)
(مملي العيونِ هَيْبَة إِذا مشَى ... مجلي القلوبِ رهبةً إِذا ركبْ)
(هُوَ الكريمُ ابنُ الكريمِ مَنْ لَهُ ... ذيلٌ على هامِ السماكِ منسحبْ)
(مِنْ معشرٍ هُمُ السراةُ فِي الورَى ... كُلٌّ إِلَى آلِ النبيِّ منتسبْ)
(مُرْوِى الظبا من الصّدَا إِذا سَطَا ... مُزْرِى الحيا يَوْم الندَى إِذا يهبْ)
وَلم يُوجد من هَذِه القصيدة إِلَّا مَا رَأَيْته ثمَّ إِنَّه مدحه أَيْضا وأشرك مَعَه أَخَاهُ مُحَمَّدًا بِإِشَارَة بعد وقْعَة الْبَقَرَة وَقد ظَهرت شجاعتهما فَقَالَ // (من الْكَامِل) //
(إِن كَانَ تسآلُ الديارِ كَمَا يجبْ ... يُجدِى فَلِمْ بسؤالها قلبِي يجبْ)
(مَا نافعي إنْ أشكُ بَثَّ صبابتي ... لرسومها والحيُّ مِنْهَا مغتربْ)
(يَا أَحْمَدٌ ومحمدٌ وثقَتْ يَدي ... نِعْمَ الرجا أبناءُ عبد المطلبْ)
(ألسابقين إِلَى الوغَى بعزائمٍ ... تذكى شواظاً كالصوارمِ ملتهبْ)
(سل عَنْهُمَا بيضَ الصفاحِ ولهذم السسُمْرِ ... الرماحِ وجحفَل الجيشِ اللجبْ)
(هلْ شاهدوا إِلَّا هما وهما هما ... دَعْ عنتَرَ الكرارَ أَو معدى كربْ)
(سدتمْ ملوكَ الخافقَيْنِ أما ترَى ... من كَانَ يَبْغِي شأوَ غايتِكُمْ غُلِبْ)
(إِن كَانَ من يَرْجُو الشفا بدمائِهِمْ ... فدماءُ أعبدكُمْ شفاءٌ للكَلِبْ)
ثمَّ وَليهَا الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس وَاسْتمرّ فِي ولايتها وَكَانَت مَكَّة فِي زَمَنه ربيعاً مريعاً سخاء ورخاء تهب بهَا ريَاح الْأَمْن وَالْعدْل صبا ورخاء لم يَقع فى الْوُجُود شئ فِي زَمَنه من الأكدار وَلَا يُؤثر من الْأَخْبَار إِلَّا كل خبر سَار مَا عدا مَا قدره الله تَعَالَى من سُقُوط الْبَيْت الشريف فى زَمَانه فجدده سُلْطَان الْعَالم الْقَائِم بِحِفْظ الدّين وتشييد أَرْكَانه(4/433)
وَسبب ذَلِك أَنه يَوْم كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر رَمَضَان من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف نشأت على مَكَّة وأقطارها سَحَابَة غربية مدلهمة الإهاب حالكة الجلباب فَلم تزل تَجْتَمِع إِلَى وَقت الزَّوَال فأبرقت وأرعدت وأرخت عزاليها وأغدقت واستمرت تهطل ساعتين ودرجتين فَأقبل السَّيْل من سَائِر النواحي وثلم السد الَّذِي يَلِي جبل حراء الْمُسَمّى جبل النُّور ثلمة كَبِيرَة وَعلا عَلَيْهِ فَدخل الْمَسْجِد وسَاق مَا وجد على طَرِيقه من جمال وَرِجَال وَمَال وأحمال وَغير ذَلِك وأخرب الدّور واستخرج مَا فِيهَا من الأثاث وَغَيره وأهدم عَلَيْهَا فَامْتَلَأَ الْمَسْجِد الْحَرَام مَاء حَتَّى أَنه دخل المَاء إِلَيْهِ من جِهَة بَاب الزِّيَادَة وَزَاد حَتَّى اعتلى على بَاب الْكَعْبَة ذراعين عمل وَأهْلك الرِّجَال والأطفال وكل من وجد فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَكثر الهالكين الْأَطْفَال الَّذين يقرءُون الْقُرْآن مَعَ فقهائهم فَتعلق بَعضهم بالأماكن المرتفعة وارتفع على بعض السلَاسِل الحرمية فوصل المَاء إِلَيْهِم وَأهْلك الْجَمِيع وَكَانَ من هلك بِهِ من بني آدم خَمْسمِائَة وَمن الْحَيَوَان كثير فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَحمل جَمِيع مَا فِي الْمَسْجِد من خَزَائِن ومصاحف وقناديل وَبسط وَغير ذَلِك ثمَّ بَات الْمَطَر يهطل إِلَى نصف اللَّيْل فَلَمَّا كَانَ آخر سَاعَة قبيل الْغُرُوب من يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور سقط جَانب الْحجر بِكَسْر بِكَسْر الْحَاء من الْبَيْت الشريف فَسقط جَمِيع مَا يناه الْحجَّاج مِنْهَا فَكَانَ بَقَاء الْبَيْت نَحْو ألف سنة من الْآيَات الجلية فَإِن الْبناء المربع الَّذِي تمر بِهِ الرِّيَاح لَا يبْقى عَادَة نَحْو ثَمَانِينَ سنة وَمن الْجَانِب الشَّرْقِي إِلَى حد الْبَاب وَمن الْجِدَار الغربي نَحْو النّصْف أَيْضا وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد فَقَالَ فِي ذَلِك المهتار هَذِه القصيدة // (من الْبَسِيط) //
(ماجتْ قواعدُ بيتِ الله واضطربَتْ ... واهتزَّتِ الأرضُ من أقطارها وربتْ)
(وأمسَتِ الكعبةُ الغراءُ ساقطةَ ... فَمَا أشكُّ بأنَّ الساعةَ اقتربَتْ)
(فأىُّ خطْبٍ بِهِ أحشاؤنا انصدَعَتْ ... وأيُّ هولٍ بِهِ ألبابُنَا انسلَبَتْ)
وجميعها على هَذِه الركة تركتهَا اسْتِحْسَانًا وأنفت من ذكرهَا استهجاناً قَالَ المرحوم الْعَلامَة الإِمَام عَليّ بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ يعنيه وَقد نظم بعض المتطفلين على الْأَدَب قصَّة السَّيْل الْمَذْكُور مَعَ قصَّة مَا وَقع بعده فِي أَبْيَات تنفر عَنْهَا المسامع لركاكتها وقبحها واستهجان الطباع السليمة لَهَا يُشِير بذلك إِلَى هَذِه(4/434)
القصيدة الَّتِي مطْلعهَا ماجت وَلَقَد صدق فِيمَا قَالَ رَحمَه الله نعم قَوْله فِي تَارِيخ هدم الْبَيْت بالسيل الْمَذْكُور // (من الْخَفِيف) //
(هدّمَ الْبَيْت أَمر رَبِّ تغشَّاهُ ... بسيلٍ لم يحوِ غرقاه ضبط)
(فِي نهارِ الخميسِ عشرينَ شعبانَ ... قبيلَ الغروبِ مِنْ عَام لغط)
لَا بَأْس بِهِ وَقَالَ الإِمَام فضل بن عبد الله الطَّبَرِيّ مؤرخاً لذَلِك // (من مجزوء الرجز) //
(سُئلْتُ عَنْ سيلٍ أتَى ... والبيتُ عَنهُ قد سقَطْ)
(متَى أَتَى قلتُ لهُمْ ... مَجِيئُهُ كَانَ غَلَطْ)
وَله تَارِيخ آخر من أَبْيَات رقي إِلَى قفل بيتَ الله وتتمة المصراع حِين هجم وَقَالَ القاضى الأحسائى من المجتث
(منْ بعْد إخراجِ ترك ... وقَتْلِ مَنْ ملّكَتْهُ)
(للبيت هدَّتْ سيولٌ ... تاريخُهَا دَخَلَتْهُ)
فَوَقع الضجيج الْعَام والانزعاج التَّام فِي قُلُوب الْأَنَام فبرز مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود من دَاره إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام وَحضر مَعَه السَّادة الْأَشْرَاف وفاتح الْبَيْت الشريف وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الشيبي وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والصلحاء وَكَانَ جلوسهم بمقام الْحَنَفِيّ وجلوس الشريف على نفس الْمِحْرَاب كَمَا أَخْبرنِي من رَآهُ كَذَلِك فبرز أَمر الشريف مَسْعُود بإيقاد الشموع الكائنة فِي حَاصِل الْمَسْجِد الْحَرَام فأوقدت وَأمر فاتح الْبَيْت أَن يدْخل الْكَعْبَة وَيخرج الْقَنَادِيل الَّتِي بهَا خشيَة عَلَيْهَا من الضّيَاع وَأَن يرفع الْمِيزَاب الشريف أَيْضا فعين الشَّيْخ شخصا من خدام الْكَعْبَة لذَلِك لكَونه فِي أثر مرض يمنعهُ من الْحَرَكَة التَّامَّة فَدخل ذَلِك الْخَادِم وَمَعَهُ جمَاعَة وأتى شيخ الوقادين بالمحط وأخرجوا الْقَنَادِيل ووضعوها فِي مخزن فاتح الْبَيْت وَختم على المخزن الْمَذْكُور مَوْلَانَا الشريف وقاضي الشَّرْع ونائب الْحرم الشريف ثمَّ انْصَرف النَّاس إِلَى دُورهمْ فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة حادى عشرى الْمَذْكُور وصل الشريف مَسْعُود وَمَعَهُ السَّادة والأعيان بعد النداء الْعَام بتعاطي هَذِه الْخدمَة وشرعوا فِي إِزَالَة الطين الْكَائِن بالمطاف فشمر الشريف مَسْعُود عَن أكمامه وَأخذ مكتلاً وَحمل فِيهِ من الطين(4/435)
وَفعل النَّاس كَذَلِك فجزى الله الْجَمِيع خيرا وأثابهم على فعلهم فَمَا كَانَ بأسرع من تنظيف المطاف وَمَا حوله فباشر الخطيِب الْجُمُعَة وَأقَام شعارها ثمَّ شرعوا فِي رفع الْأَحْجَار فَمِنْهَا مَا جَعَلُوهُ خلف مقَام الْحَنَفِيّ وَمِنْهَا عِنْد ممشى بَاب السَّلَام بِالْقربِ من الْمِنْبَر ثمَّ إِن الشريف جهز قَاصِدا من مَكَّة وَمَعَهُ السَّيِّد عَليّ بن هيزع لتعريف باشا مصر المحروسة ووزير جهاتها المأنوسة بِهَذَا الْخَبَر ليعرضه على الحضرة الخنكارية وصحبتهم مكاتيب مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود ومحاضر من الْأَعْيَان وفتاوي الْعلمَاء فعزم القاصد الْمَذْكُور من مَكَّة أَوَاخِر شعْبَان ثمَّ إِن الشريف برز أمره العالي إِلَى المهندسين والفعلة بتنظيف بَاطِن الْكَعْبَة مِمَّا وَقع فِيهَا من الْأَحْجَار وَالتُّرَاب فنظفت ثمَّ إِن الشريف أرسل إِلَى جدة لتَحْصِيل خشب يَجْعَل على الْكَعْبَة لسترها إِلَى أَن يشرعوا فِي الْعِمَارَة فوصل الْخشب آخر رَمَضَان فستروا جَمِيع مَا سقط مِنْهَا وَجعلُوا بَابا لطيفاً من خشب فِي الْجِهَة الشرقية فَلَمَّا كَانَ شهر شَوَّال جعل الشريف ثوبا أَخْضَر وَألبسهُ الْكَعْبَة الشَّرِيفَة بعد أَن حضر بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام ثمَّ بعد إلباسه دخل الْكَعْبَة وَصلى بهَا ثمَّ برز فَطَافَ والريس يَدْعُو لَهُ على قبَّة زَمْزَم كعادة أسلافه وَكَانَ الإلباس الْمَذْكُور سَابِع شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما أَن كَانَ خَامِس عشر شَوَّال وصل القاصد من مصر المحروسة وَأخْبر بوصول الأغا رضوَان المعمار معينا للعمارة وَكَانَ وُصُوله مَعَه إِلَّا أَنه تَأَخّر عَن ذَلِك الْيَوْم فَدخل فِي الْيَوْم الثَّانِي يَوْم سادس عشر شَوَّال وَنزل بالجوخي ثمَّ دخل مَكَّة يَوْم سَابِع عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وصحبته نامة سلطانية وخلعة للشريف مَسْعُود فألبسه إِيَّاهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام يَوْم السبت سَابِع عشر شَوَّال بعد اجْتِمَاع السَّادة وَالْفُقَهَاء والأعيان وقرئت النامة وَالْأَحْكَام الباشوية ثمَّ شرع الْأَمِير رضوَان فِي تنظيف الْمَسْجِد الْحَرَام فأكمل ذَلِك وفرشه بالحصى وَلم يرد الْحجَّاج إِلَّا وَقد تمّ جَمِيع ذَلِك ثمَّ لما كَانَ يَوْم الْأَحَد سادس عشري شهر ربيع الثَّانِي من عَام أَرْبَعِينَ وَألف وصل إِلَى مَكَّة السَّيِّد مُحَمَّد أَفَنْدِي مُتَوَلِّيًا قَضَاء الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ومعيناً لعمارة الْكَعْبَة(4/436)
المشرفة وَكَانَ وُصُوله إِلَى بندر جدة بحراً وصحبته نامة سلطانية وخلعة عثمانية من الحضرة الشَّرِيفَة المرادية باسم مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود فقرئت النامة بِالْحَطِيمِ بعد حُضُور قَاضِي مَكَّة وَشَيخ حرمهَا ومولانا السَّيِّد عبد الْكَرِيم ابْن السَّيِّد الشريف إِدْرِيس نِيَابَة عَن أَخِيه مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود وحملت الخلعة صُحْبَة السَّيِّد عبد الْكَرِيم وَالسَّيِّد مُحَمَّد أَفَنْدِي والأمير رضوَان والأجناد إِلَى مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود فلبسها ببستانه بالمعابدة لكَونه مُقيما فِيهِ لتوعك مزاجه الْكَرِيم فاستمر مَرِيضا بِمَرَض الدق إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء عشري ربيع الثَّانِي سنة أَرْبَعِينَ وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنة وَثَلَاثَة أشهر إِلَّا أَرْبَعَة أَيَّام رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة وَضبط الْأَمِير رضوَان الْبَلَد ضبطاً حسنا وَأمر الْمُنَادِي بالنداء أَن الْبَلَد بلد السُّلْطَان وَمَا زَاد على ذَلِك دفعا للفتنة فَجَاءَت الْأَشْرَاف وسألوه عَن المعيَّن لِلْأَمْرِ فَأبى أَن يُعينهُ وَأمرهمْ بتجهيز الشريف مَسْعُود فَنزل بِهِ الْأَشْرَاف وَقت الضحوة إِلَى مَكَّة على محفة البغال وَغسل وَصلى عَلَيْهِ عِنْد الْكَعْبَة قَاضِي الشَّرْع مَوْلَانَا الْعَلامَة حُسَيْن أَفَنْدِي وخطب عَلَيْهِ خطْبَة أبكت الْعُيُون وأنكت الْقُلُوب وَدفن عِنْد أم الْمُؤمنِينَ السيدة خَدِيجَة بَيت خويلد وَمِمَّا قيل فِيهِ من الشّعْر قَول العلامهَ القَاضِي أَحْمد بن عِيسَى المرشدي // (من الْبَسِيط) //
(عوجا قَلِيلا كَذَا عَن أيمنِ الواديِ ... واستوقفا العيسَ لَا يحدُو بهَا الحادِى)
(وعرِّجَا بى علَى ربعٍ صحبْتُ بِهِ ... شرخَ الشبيبةِ فِي أكنافِ أجيادِ)
(واستعطفا جيرةً بالشعْبِ قد نزلُوا ... أَعلَى الكثيبِ فَهُمْ غيي وإرشادِى)
(وسائلاً عَنْ فؤادِى تبلُغَا أملي ... إِنَّ التعلل يشفي غُلَّةَ الصادي)
(واستشفعا تشفَعَا نسألْكُمُ فعسَى ... يقدِّرِ الله إسعافي وإسْعَادى)
(وأجملا بى وحُطَّا عَنْ قلوصكما ... فِي سوحِ مُرْدِى الأعادي الضيغمِ العادِى)
(مسعودُ عَيْن الْعلَا المسعودُ طالعُهُ ... قَلْبُ الكتيبةِ صَدْرُ الحَفْل والنادي)
(رأسُ الملوكِ وعينُ الملكِ ساعده ... زَنْدُ الْمَعَالِي جَبِينُ الجَحْفَلِ البَادى)
(شهمُ السراةِ الألى سارَتْ عوارفُهُمْ ... شرفًا وغرباً بأغوارٍ وأنجادِ)
(نرد غمار العُلاَ فِي سوحِهِ ونرحْ ... أَيدي الركائبِ من وخدٍ وإسآدِ)(4/437)
(فَلَا مناخ لنا فِي غير ساحتِهِ ... وَجُود كفيه فِيهَا رائحٌ غادي)
(يعشوشبُ العشْبُ فِي أكناف عقوتِهِ ... يَا حبذا العشْبُ فِي الدُّنْيَا لمرتادِ)
(ونجتني ثمرَ الآمالِ يانعةً ... من روضِ معروفِهِ من قبلِ ميعادِ)
(فأىُّ سوحٍ يرجَّى بعد ساحته ... وأىُّ قصْدٍ لمقصودٍ وقصادِ)
(ليهنِ ذَا الْملك أَن ألبسْت حلته ... تُحْيى مآثرَ آباءٍ وأجدادِ)
(لبستها فكسَوْتَ الفخرَ ملبسها ... مشَهَّرا يبهرُ المصبوغَ بالجادِ)
(علوتَ بَيْتا ففاخرْتَ النجومَ عُلاً ... والشهبَ فخراً بأسبابٍ وأوتادِ)
(ولحت بَدْرًا بأفقِ الملكِ تحسدُهُ ... شمسُ النهارِ وَهَذَا حَرُّها بَادِي)
(وصنْتَ مكةَ إِذْ طهَّرْتَ حوزتها ... مِنْ ثلةٍ أهلِ تثليث وإلحادِ)
(قد غرَّ بَعْضهُمُ الإمهالُ يحسبه ... عفوا فعادوا لإتلافٍ وإفسادِ)
(فذدتهُمْ عَن حمى البيتِ الحرامِ وهُمْ ... من السلاسلِ فِي أطواقِ أجياد)
(كأنهمْ عِنْد رفعِ الزندِ أيديهمْ ... يدعونَ حُبًّا لمولانا بإمدادِ)
(وَمَا ارعوَوْا فشهرْتَ السَّيف محتسباً ... يَا بردَ حَرِّهم فِي حَرِّ أكبادِ)
(غادرتهُمْ جزراً من كلِّ منجدلٍ ... كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصادِ)
(وأثمَرَ السدْرُ من أَجْسَادهم ثمراً ... حلواً بأفواهِ أجداثٍ وأنجادِ)
(سعيْتَ سعياً جنياً مِنْ خمائله ... نورُ الأمانِ لأرواحٍ بأجسادِ)
(فكَمْ بمكَّةَ من داعٍ ومبتهلٍ ... وَمن محبِّ وَمن مثنٍ ومِنْ فادي)
(وعادَ كل قصيِّ مصلحاً وغدَتْ ... أيامُنَا بالهنا أيامَ أعيادِ)
(نَفى لذيذَ الكرَى عَنْهُم تذكُّرُهُمْ ... وَكَانَ مِنْ قبل صعبًا غير منقادِ)
(من كل أبيضَ قد صَلَّتْ مضاربه ... لما ترقَّى خَطِيبًا منبرَ الهادِى)
(وقادَ كلَّ قصىِّ ذله مهلا ... مهملاً كل معوج ومنآدِ)
(وكل أسمر نظام الكُلَى وَله ... إِلَى العدَى طفرة النَّظَّام ميادِ)
(وصانَ وسمك فِي جأشٍ يخالطُهُ ... عنْ رَبِّ عزِّ تنضَّاهُ بأَحشادِ)
(أسكنْتَ قلبهمُ رعْبًا تذكُّرُهُ ... ينسى الشفوق الموَالِي ذِكْر أولادِ)
(أقبلتهم كُلّ مرقالٍ وسابحةٍ ... يسرعْنَ عدوا إِلَى الأعدا بأطوادِ)(4/438)
(مِنْ كُلِّ شهمٍ إِلَى العلياءِ منتسبٍ ... بسادةٍ قادةٍ للخيلِ أجوادِ)
(فهاكَ يابْنَ رسولِ الله مِدْحَةَ مَنْ ... أورَتْ قريحته من بعدِ إخمادِ)
(فأحكَمَتْ فيكَ نظماً كُله غُرَرٌ ... مَا أحرزَتْ مثله أقيالُ بغدادِ)
(أضحَتْ قوافيه والإحسانُ يشرَحُهَا ... روضَ بديعٍ لإرصادٍ بمرصادِ)
(ترويه عنِّى الثريا وَهْىَ هازئةٌ ... بالأصمعىِّ وَمَا يروي وحمادِ)
(وتستحثُّ مطايا الزُّهْر إِن ركدَتْ ... كَأَنَّهَا إبلٌ يَحْدُو بهَا الحادِى)
(وتوقظ الركبَ ميلًا من خمارِ كرىً ... وَاللَّيْل مِنْ طولِ تدآبِ السرَى هادِى)
(أتتْكَ تشفَعُ إذلالاً لمنشئِهَا ... فاقبَلْ تذللَهَا يَا نَسْلَ أمجادِ)
(وأسْبِل الصفْحَ سترا إِن بدا خَللٌ ... تهتك بِهِ سِتْرَ أعدائي وحُسَّادى)
(وقلْ تقرَّبْ إِلَيْنَا تستعزَّ بِنَا ... مَا حقُّ مثلكَ أَن يقصى بإبعادِ)
(لازلْتَ يَا عزَّ أهلِ البيتِ فِي دَعَةٍ ... تحفُّ مِنْهُم بأنصارٍ وأنجادِ)
(مسعودُ جَدُّ سعيد الفأل طالعه ... سعدُ السعودِ وملقى كلِّ إسعادِ)
(بحقِّ طه وسبطَيهِ وأُمِّهما ... والمرتضَى والمثنَّى الطهْر والهادِى)
(صلَّى عَلَيْهِم إلهُ العرْشِ مَا سجَعَتْ ... قمْريةٌ أَو شدا فِي مكَّةٍ شادي)
وَقَالَ مَوْلَانَا القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي فِيهِ أَيْضا وقدمت هِيَ والتى قبلهَا فِي يَوْم وَاحِد يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف // (من الْبَسِيط) //
(غُذِيتُ دَرَّ التصابِى قبلَ ميلادي ... فَلَا تَرُمْ يَا عذولي فِيهِ إرشادِى)
(غَىُّ التصابي رشادي والعذابُ بِهِ ... عَذْبٌ لدىَّ كبردِ الماءِ للصادِى)
(وعاذلُ الصبِّ فِي شرعِ الهوَى حرجٌ ... يرومُ تبديلَ إصلاحٍ بإفسادِ)
(ليتَ العذولَ حوَى قلبِي فيعذرَنِى ... أولَيْتَ قلْبَ عذولي بَين أكبادِى)
(لَو شامَ بَرْقَ الثنايا والتَّثَنِّى من ... تلْكَ القدودِ انثنَى عطفٌ الإسعادِ)
(وَلَو رأَى هادياً للجيدِ كَانَ درَى ... أَن اشتقاقَ الهدَى من ذَلِك الْهَادِي)
(كم باتَ عقدا عَلَيْهِ ساعدي ويَدِي ... نطاق مجتمعي المخفي والبادي)
(إِذْ أعيُنُ العِينِ لَا تنفكُّ ظامئةً ... لِوِرْدِ ماءِ شَبَابِي دُونَ أندادي)
(فيا زمَانَ الصِّبَا حُيِّيتَ من زمنٍ ... أوقاتُهُ لم نُرع فِيهَا بأنكادِ)
(وَيَا أحبتَنَا روَّى معاهِدَكُمْ ... من العهادِ هتونٌ رائحٌ غادِى)(4/439)
(معاهداً كُنَّ مصطافى ومرتَبَعِى ... فكَمْ بهَا طَال بل كَمْ طابَ تردادي)
(يَا رائحينَ وقلْبى إِثْر ظعنِهِمُ ... ونازحينَ وهُمْ ذكرِى وأورادِى)
(إِن تَطْلُبُوا شرْحَ مَا أَيدي النَّوَى صَنَعَتْ ... بمغرمٍ حِلْفِ إيحاشٍ وإيحادِ)
(فقابلوا الريحَ إِذْ هبَّتْ شآميةً ... تروي حَدِيثي لكُمْ موصولَ إسنادِ)
(وَالَهْفَ نَفسِي على مغنًى بِهِ سلفَتْ ... ساعاتُ أنسٍ لنا كانتْ كأعيادِ)
(كَأَنَّهَا وأدامَ الله مشبِهَهَا ... أيامُ دولةِ صدْرِ الدستِ والنادِى)
(ذُو الجودِ مسعودٌ المسعودُ طالعُهُ ... لَا زالَ فِي برْجِ إقبالٍ وإسعادِ)
(عادَتْ بدولتِهِ الأيامُ مشرقةً ... تهزُّ مختالةَ أعطافَ مَيَّادِ)
(وقلدَ الملكَ لما أَن تقلده ... فخراً على مَرِّ أزمانٍ وآبادِ)
(وقامَ بِاللَّه فِي تدبيرِهِ فغدا ... موفقاً حالَ إصدارٍ وإيرادِ)
(حق لَك الحمدُ بعد الله مفترضٌ ... فِي كُلِّ آونةٍ من كلِّ حَمَّادِ)
(أنقذتهم مِنْ يدِ الأعداءِ متخذاً ... عِنْد الإلهِ يدا فيهمْ بأنجادِ)
(داركْتهُمْ سُهَّدًا رمقي فعادَ لَهُمْ ... غمضٌ لجفنٍ وأرواحٌ لأجسادِ)
(بُشْرَاكَ يَا دهْرُ حَاز الملكَ كافلُهُ ... بشراكَ يَا دهْرُ أُخْرَى بِشْرُهَا بادِى)
(عادَتْ نجومُ بني الزهراءِ لَا أفلَتْ ... بعودةِ الدولةِ الزهْرَا لمعتادِ)
(واخضَلَّ روضُ الأمانِى حينَ أصبحَتِ الأجوادُ ... عقدا على جَيَّاد جَيَّادِ)
(وأصبَحَ الدينُ وَالدُّنْيَا وأهلُهُمَا ... فِي حفْظِ ملكٍ لظلِّ العدلِ مدادِ)
(يبيحُ هامَ الأعادي مِنْ صوارمه ... مَا استحصدَتْ بالتقاضي كل حَصَّادِ)
(شَهْمٌ أيادي أياديه ونائله ... على الورَى أصبحَتْ أطواقَ أجيادِ)
(يَمْضِى مؤمِّلُ جدوى راحَتيهِ إِلَى ... طَلْقِ الْمحيا كريمِ الكَفِّ جوادِ)
(بذل الرغائب لَا يعتدُّهُ كرماً ... مَا لم يكُنْ غير مسبوقٍ بميعادِ)
(والعَفْوُ عَن قدرةٍ أشهَى لمهجتِهِ ... صينَتْ وأشفى من استيفاءِ إيعادِ)
(مآثِرٌ كالدرارِى رفْعَة وسنىً ... وَكَثْرَة فهْىَ لَا تحصَى بتعدادِ)
(تسمو مناقبَ مَنْ كُلَّ الكمالِ حوَى ... وأنْتَ ذَلِك عَن حَصْرٍ بأعدادِ)
(فأنْتَ من معشرٍ إِن غارةٌ عرضَتْ ... خفوا إِلَيْهَا وَفِي النادِى كأطوادِ)
(كم هجمةٍ لكَ والأبطالُ محجمةٌ ... ووقفةٍ أوقفَتْ ليثَ الشرَى العادِى)(4/440)
(بكلِّ أبيضَ مقصودٍ لمضطهدٍ ... وللمرائرِ والمرانِ قصَّادِ)
(فَخْرَ الملوكِ الألى فَخْرُ الزَّمَان بهمْ ... دُمْ حائزًا مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ)
(وليهنِ خلته أَن رحْتَ لَابسهَا ... إذْ أصبَحَتْ خير أثوابٍ وأبرادِ)
(واسْتَجل أبكارَ أفكارٍ مخدرة ... قد طالَ تَعْنِيسها من فَقْدِ أندادِ)
(كَمْ رُدَّ خُطَّابها حَتَّى رأتْكَ وقَدْ ... أمَّتْكَ خاطبةٌ يَا نسْلَ أمجادِ)
(أفرغت فِي قالبِ الألفاظِ جوهَرَهَا ... سبكاً بذهْنِ وَرِيِّ الزندِ وقادِ)
(وصاغَهَا فِي معاليكُمْ وأخلَصَهَا ... وُدّ ضميرىَ فِيهِ عَدْلُ إشهادِ)
(يَحْدُو بهَا العِيسَ حاديها إِذا زَحَرَتْ ... من طولِ وخْدٍ وإرقالٍ وإِرشادِ)
(كَأَنَّمَا الراحُ بالألبابِ لاعبةٌ ... إِذا شدا بَيْنَ سُمَّارٍ بهَا شادِي)
(بفضلها فضلاءُ العصْرِ شاهدة ... والفضْلُ مَا كَانَ عَن تسليمِ أضدادِ)
(فَلَو غَدَتْ من حبيبٍ فِي مسامعِهِ ... أَو الصفى استحالا بَعْضَ حسادي)
(واستنزلا عَن مطايا القَوْلِ رحْلهُمَا ... واستوقَفَا العيسَ لَا يحدُو بهَا الحادِى)
(وحَسْبُهَا فِي التسامِى والتقدُّمِ فِي ... عَدِّ المفاخرِ إِذْ تَغْدُو لتعدادِ)
(تقريظُهَا عِنْد مَا جاءَتْ معاَرضةً ... عُوجَا قَلِيلا كَذَا عَن أَيْمَنِ الْوَادي)
نَشأ الشريف مَسْعُود فِي كَفَالَة وَالِده الشريف إِدْرِيس صَاحب مَكَّة وَوَقعت لَهُ حروب مَعَ ابْن عَمه الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن كَانَ الظفر فِيهَا لمحسن أَولهَا سنة سبع وَثَلَاثِينَ فِي ربيع الأول مِنْهَا وَفِي بَعْضهَا أرسل الشريف محسن وَلَده مُحَمَّد فظفر وَاسْتولى على مَسْعُود وَأَخذه أخذا شَدِيدا وَقتل فِي المعركة السَّيِّد حميضة بن عبد الْكَرِيم بن حسن وهَاشِم بن شنبر بن حسن ثمَّ دخل الشريف مَسْعُود مَكَّة بِرِضا من الشريف محسن بكفالة الْأَشْرَاف أَنه لَا يسْعَى فِي خلاف لَا بقول وَلَا بِفعل رحم الله الْجَمِيع رَحْمَة وَاسِعَة ثمَّ وَليهَا الشريف عبد الله بن حسن أكبر آل أبي نمي إِذْ ذَاك مُلُوك الْبَلَد الْحَرَام ومدينة جدهم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعَاهُ رضوَان وَالسَّيِّد مُحَمَّد الْمعِين للعمارة وقاضي مَكَّة وَشَيخ حرمهَا فَحَضَرَ وَمَعَهُ من أَوْلَاده السَّيِّد مُحَمَّد وَالسَّيِّد حُسَيْن وَكَانَ قد تخلف عَن الْجِنَازَة لذَلِك فَلَمَّا حضر مَوْلَانَا الشريف عبد الله سَأَلَ(4/441)
مِنْهُ الْأَمِير رضوَان لبس خلعة شرافة الْبَلَد الْحَرَام فَامْتنعَ من قبُول ذَلِك فألزموه بذلك حَقنا لدماء الْعَالم وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى رَضِي فألبسه الْأَمِير القفطان وَحصل بولايته الْأَمْن والأمان وَكَانَ الِاجْتِمَاع لذَلِك فى السَّبِيل المسنوب لمُحَمد بن مزهر كَاتب السِّرّ الْكَائِن فِي جِهَة الصَّفَا الْمَعْرُوف علوه فِي زَمَاننَا بسكن الشَّيْخ عَليّ الأيوبي رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة حضر بِالْحَطِيمِ مَوْلَانَا الشريف عبد الله بن حسن والساده الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء فدار بَينهم الْكَلَام فِي بَقِيَّة الجدران والجدار الْيَمَانِيّ فاتفقوا على الإشراف عَلَيْهِ أَولا فَدخل الشريف عبد الله وَالْجَمَاعَة إِلَى الْكَعْبَة وأشرفوا على بَقِيَّة الجدران وَنصب المهندسون الْمِيزَان فِي الْجِدَار الْيَمَانِيّ فوجدوه خَارِجا عَن الْمِيزَان نَحوا من ربع ذِرَاع ثمَّ برزوا من الْكَعْبَة وجلسوا فِي الْحطيم فَاقْتضى رَأْيهمْ أَن يهدم بَقِيَّة الجدارين الشَّرْقِي والغربي ثمَّ ينظر فِي الْجِدَار الْيَمَانِيّ فَإِن زَاد فِي الْميل هدم وَإِلَّا فَلَا وانفض الْجَمِيع على ذَلِك ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ رفع سُؤال إِلَى عُلَمَاء مَكَّة هَل بجوز هدم الْجِدَار الْيَمَانِيّ إِذا شهد المهندسون بوهنه وسقوطه إِن لم يهدم فَأَجَابُوا بِالْجَوَازِ فاعتمد الْوُلَاة على ذَلِك فتعاطوا الْعِمَارَة وَشرع المهندسون فِي هدم بَقِيَّة الجدران وَكَانَ ابْتِدَاء الْهدم فِي يَوْم الْعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَرْبَعِينَ وَألف ثمَّ لم يزَالُوا كَذَلِك إِلَى أَن أَتموا الْهدم وشرعوا فِي الْبناء وَحضر فِي أثْنَاء الْعِمَارَة مَوْلَانَا الشريف عبد الله وَحمل مكتلاً فِيهِ نورة وَفعل فعله جمَاعَة من الْحَاضِرين فَلَمَّا أَن كَانَ غرَّة شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة سنة أَرْبَعِينَ وَألف رفعت الأستار الَّتِي حول الْبَيْت الشريف وتكامل بِنَاء الجدران كلهَا وَفِي ثَالِث شعْبَان يَوْم الْخَمِيس ركب الْمِيزَاب وَبعد النّصْف من شعْبَان شرعوا فِي تنظيف الْكَعْبَة المشرفة وَفِي يَوْم الْجُمُعَة غرَّة شهر رَمَضَان ألبست الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ثوبها وَللَّه الْحَمد وَالشُّكْر وَفِي ذَلِك يَقُول القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي مؤرخاً لعمارتها وممتدحاً لمعمرها مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان بن أَحْمد خَان // (من الطَّوِيل) //(4/442)
(هَنِيئًا لملكٍ خصَّهُ الله واجتَبَى ... وصدَّاهُ للبيتِ العتيقِ بجدِّهِ)
(بَنَى البيتَ بعد ابنِ الزبيرِ وَلم يَفُرْ ... سواهُ بِهَذَا الفَخْرِ لَا زالَ سعدُهُ)
(مليكٌ أقامَ الله أيامَ ملكِهِ ... وَلَا زالَ خفاقاً مدى الدهْرِ يندُهُ)
(مليكٌ ملوكُ الأرضِ طرَّا عبيدُهُ ... تدينُ لَهُ شرقاً وغرباً وجندُهُ)
(مليكٌ حباه الله فخراً وسؤدداً ... وصيتاً مداه لَا ينالُ وحدُّهُ)
(بتعميرِهِ بيتَ الْإِلَه على يَدَي ... مَنِ اختارَهُ ربُّ الورى دَامَ رشدُهُ)
(قَدُونَكَ تَارِيِخًا لِعَامِ بِنَائِهِ ... وَفيًّا بِضَبْطِ الْعَامِ حِينَ تَعُدُّهُ)
(مرادٌ بني بيتَ الإلهِ وزادَهُ ... سناءً بهَا يَزْهَى بِهِ زِيد مجْدُهُ)
وَله تَارِيخ نثر هُوَ قَوْله أسس بُنْيَانه على تقوى من الله وَهدى ولإبراهيم المهتار قَوْله // (من المتدارك) //
(قَدْ قيلَ تُرَى مَن يعمرُ بيتَ ... الله ومَنْ يَهْدى لِرَشادْ)
(فأجبتُ بتاريخٍ نَظْمًا ... هَا أَعْمَرَ بيتَ اللهِ مُرَادْ)
قلت يحسن أَن يُقَابل هَذَا الشّعْر بقول الْقَائِل // (من المتدارك) //
(شعر عظم ماثل لكم ... حجر ضخم ترب ورمادْ)
وَاسْتمرّ مَوْلَانَا الشريف عبد الله بن حسن مُتَوَلِّيًا إِلَى أَن حج بِالنَّاسِ موسم سنة أَرْبَعِينَ بعد الْألف ثمَّ اسْتهلّ هِلَال محرم افْتِتَاح سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف فَأخذ مِنْهَا شهر محرم ثمَّ بدا لَهُ خلع نَفسه من ولَايَة مَكَّة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة غرَّة صفر من السّنة الْمَذْكُورَة قلد إمرة مَكَّة لوَلَده الشريف مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن ولمولانا الشريف زيد بن محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن وَكَانَ قد استدعاه قبل ذَلِك من نواحي الْيمن لأنهُ فر إِلَى تِلْكَ الْجِهَة زمن ولَايَة مَسْعُود مَكَّة لما كَانَ من مَوْلَانَا الشريف محسن إِلَى أَبِيه إِدْرِيس أَولا ثمَّ إِلَيْهِ نَفسه مِنْهُ ثَانِيًا فَنُوديَ بالبلاد لَهما وتخلى الشريف عبد الله بن حسن للتوجه إِلَى عبَادَة ربه إِلَى أَن أَتَاهُ الْأَمر المحتوم بِأَمْر الْحَيّ القيوم لَيْلَة الْجُمُعَة عَاشر جُمَادَى الْأُخْرَى من النسة الْمَذْكُورَة فَكَانَت مُدَّة ولَايَته تِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام فاستمر الشريفان مُحَمَّد بن عبد الله وَزيد بن محسن يدعى لَهما على المنابر والبلاد بهما قارَّة وَالْأَحْوَال طيبَة سارة إِلَى أَن كَانَ الْعشْر الأول من شعْبَان الْمُعظم(4/443)
من السّنة الْمَذْكُورَة وصلت أَخْبَار من جِهَة الْيمن بِأَن عسكراً خَرجُوا على الْوَزير قانصوه وَأَن نيتهم الْوُصُول إِلَى مَكَّة المشرفة وَكَانَ ذَلِك شَائِعا على الْأَلْسِنَة ثمَّ ورد مُورق من القنفدة بِخَبَر وصولهم إِلَيْهَا وَمَعَهُ مكاتيب إِلَى مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد ومولانا الشريف زيد ومصطفى بك الصنجق الْمُقِيم بِمَكَّة أَو طراقاً من أغاني الْعَسْكَر الْمَذْكُور مَحْمُود وَعلي بك ومضمون مكاتيبهم أننا نُرِيد مصر ونريد الْإِقَامَة بِمَكَّة أَيَّامًا لنتهيأ للسَّفر فَأبى عَلَيْهِم صَاحب مَكَّة خوفًا من الْفِتْنَة وَالْفساد وَدفن بعض آبار كَانَت فِي طريقهم فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَيْهِم أجمع رآيهم على دُخُول مَكَّة قهرا واستعدوا لذَلِك بعد أَن كتبت الْأَجْوِبَة بِالْمَنْعِ فَحصل فِي الْبَلَد قيل وَقَالَ واضطراب شَدِيد فَلَمَّا أَن كَانَ يَوْم الْجُمُعَة عشري شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة بعد الْعَصْر وَهِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف توجه مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد والشريف زيد والسادة الْأَشْرَاف والأعراب إِلَى جِهَة بركَة الماجن وقوز المكاسة لِأَنَّهُ بَلغهُمْ أَن الأتراك قاربوا السعدية وبرز مَعَهم الصنجق مصطفى بك بعد أَن طلب من الشريف مُحَمَّد خيلاً لمن مَعَه فَتوهم من ذَلِك وَمنعه من الْخَيل فبرز مَعَه بعسكره وَجُنُوده فَلَمَّا أَن كَانَ ضحى يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشري شعْبَان الْمَذْكُور وَقع اللِّقَاء بِالْقربِ من وَادي البيار بَين السَّادة الْأَشْرَاف وَبَين الأتراك فحصلت ملحمة عَظِيمَة وقتال شَدِيد وَقتل مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن صَاحب مَكَّة وَقتل مَعَه من السَّادة الْأَشْرَاف جمَاعَة مِنْهُم مَوْلَانَا السَّيِّد الْجَلِيل أَحْمد بن حراز ومولانا السَّيِّد حُسَيْن ابْن مغامس ومولانا السَّيِّد سعيد بن رَاشد وَخلق آخَرُونَ وَأُصِيبَتْ يَد مَوْلَانَا السَّيِّد هزاع بن مُحَمَّد الْحَارِث فَقطعت وَلم تنفصل فَدخل بهَا كَذَلِك إِلَى مَكَّة وَمر على جِهَة سوق اللَّيْل قَائِلا عُذْري إِلَيْكُم يَا أهل مَكَّة مَا تَرَوْنَهُ وَتوجه بَقِيَّة الْأَشْرَاف إِلَى وَادي مر فَبعد تَمام الْوَقْعَة دخل الأتراك وَنُودِيَ بِالْبَلَدِ للشريف نامي بن عبد الْمطلب بن حسن وَكَانَ دُخُولهمْ من جِهَة بركَة الماجن فتعب النَّاس أَشد التَّعَب وَحصل الْخَوْف الشَّديد وتسلطت هَذِه العساكر على النَّاس وأتعبوهم وأهلكوهم فسقاً ونهباً وظلماً وشرباً وتقطعت الطّرق وعصت الْأَعْرَاب وَحمل الشريف مُحَمَّد بن(4/444)
عبد الله فِي عصر ذَلِك الْيَوْم وَدفن بالمعلاة فِي مَقَابِر آبَائِهِ وأجداده بعد أَن قَاتل قتال من لَا يخَاف الْمَوْت وَكَانَت مُدَّة ولايتهما سَبْعَة أشهر إِلَّا سِتَّة أَيَّام وَكَانَ خُرُوج الشريف مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى لِقَاء هَؤُلَاءِ الأتراك فِي مثل سُقُوط الْبَيْت الشريف فِي الْيَوْم والساعة فَإِنَّهُ كَانَ يَوْم عشْرين من شعْبَان بعد الْعَصْر من سنة تسع وَثَلَاثِينَ بعد الْألف وَخُرُوج الشريف الْمَذْكُور لذَلِك فِي يَوْم عشْرين من شعْبَان بعد الْعَصْر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف فَبين سُقُوط الْبَيْت الشريف وَخُرُوج السَّيِّد الشريف سنتَانِ بِغَيْر زِيَادَة فَللَّه هَذَا الِاتِّفَاق ثمَّ وَليهَا الشريف نامي بن عبد الْمطلب وَتوجه مَوْلَانَا الشريف زيد إِلَى وَادي مر بعد أَن دخل مَكَّة وَمَعَهُ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث وَمَرا على بَيت الشريف نامي بن عبد الْمطلب فَدَعَاهُ مَوْلَانَا الشريف زيد فَخرج إِلَيْهِ فناوشه بعض كَلَام فَقَالَ السَّيِّد أَحْمد لَيْسَ الْوَقْت وَقت كَلَام وَكَانَ من جملَة مَا قَالَه لَهُ مَوْلَانَا الشريف زيد // (من المتقارب //)
(تُجَازَى الرجالُ بأفعالِهَا ... خيرا بخَيْرٍ وشراً بشَرّ)
فَالله الله بِالْحَرِيمِ أَو مَا يقرب من هَذَا الْكَلَام ثمَّ سَار إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَكتب عرُوضا بالتعريف بالواقع وأرسلها إِلَى باشا مصر صُحْبَة السَّيِّد عَليّ بن هيزع حِوَالَة مَكَّة بِمصْر وَلما وصل الْخَبَر لصَاحب مصر أرسل إِلَيْهِم سَبْعَة صناجق وَأرْسل بخلعة سلطانية لمولانا المرحوم الشريف زيد بن محسن مَعَ الأغا مُحَمَّد أَرض رومي وَجَمَاعَة من خواصه وبلغهم أَن الشريف زيد بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلُوا إِلَيْهَا وخلعوا عَلَيْهِ بِملك الْحجاز فِي الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَتوجه إِلَى الْعَسْكَر وَأتوا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة وَوصل خبر ذَلِك إِلَى مَكَّة وَتحقّق فاضطربت حِينَئِذٍ آراء العساكر الجلالية اليمنية فَمن قَائِل نخرج وَمن قَائِل نُقَاتِل ثمَّ وصل الْخَبَر بِأَن العساكر المصرية وصلت عسفان فَاقْتضى رَأْي عَسْكَر الْيمن أَن يرسلوا من يكْشف لَهُم الْخَبَر فأرسلوا جمَاعَة فوصلوا إِلَى وَادي مر والعساكر المصرية قد أَقبلت فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّة وأخبروا من بهَا بذلك فأظهروا حَرَكَة الرحيل عَنْهَا فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس ذِي الْحجَّة خَرجُوا كلهم وَمَعَهُمْ مَوْلَانَا الشريف نامي وَأَخُوهُ السَّيِّد السَّيِّد وَالسَّيِّد عبد الْعَزِيز إِدْرِيس وَلم يبْق مِنْهُم أحد وَكَانَ(4/445)
بروزهم وَقت أَذَان الْعَصْر فَلَمَّا أَن حاذوا بَاب النبى
الْمُسَمّى الْآن بَاب الحريريين قَالَ الْمُؤَذّن الله أكبر فَسقط بيرق مَحْمُود مِنْهُم فَكَانَ سُقُوطه فألاً عَلَيْهِم ثمَّ سَارُوا فنزلوا عِنْد جبل حراء وَبَاتُوا فَلَمَّا كَانَ أثْنَاء اللَّيْل سرى السَّيِّد عبد الْعَزِيز بن إِدْرِيس على نجيبة لَهُ أعدت خلف الْجَبَل فَقعدَ عَلَيْهَا وَتوجه إِلَى يَنْبع فنجا فَلَمَّا أَسْفر الصُّبْح وَلم يجدوه فَعَلمُوا أَنه اختلس نَفسه فَزَاد احتفاظهم على الشريف نامي وأخيه السَّيِّد وأمست مَكَّة بعد خُرُوجهمْ خَالِيَة وَكَانَ بهَا مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف أَحْمد بن قَتَادَة بن ثقبة فَنَادَى فِي الْبَلَد إِن الْبِلَاد بِلَاد الله وَالسُّلْطَان مُرَاد وعس الْبَلَد تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ لما كَانَ شروق يَوْم الْخَمِيس سادس ذِي الْحجَّة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة دخل مَوْلَانَا الشريف زيد بن محسن بِمن مَعَه من الصناجق وَكَانَ نُزُوله بدار السَّعَادَة ثمَّ نزل وَقت الضُّحَى من ذَلِك الْيَوْم إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام فَجَلَسَ فِي السَّبِيل الَّذِي بِجَانِب زَمْزَم وَمَعَهُ الْأَمِير عَليّ الفقاري أحد الصناجق الواصلين ثمَّ خرج مَوْلَانَا الشريف من السَّبِيل الْمَذْكُور وَطَاف بِالْبَيْتِ أسبوعاً والريس يَدْعُو لَهُ على قبَّة زَمْزَم ثمَّ خرج الْمُنَادِي يُنَادي بِأَن الْبِلَاد بِلَاد الله وبلاد مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد ومولانا الشريف زيد بن محسن ثمَّ طلب بعض الصناجق الْخُرُوج إِلَى الجلالية لقرب إدراكهم فَقَالَ لَهُ مَوْلَانَا الشريف زيد الرَّأْي أَن نحج وتحج الْأمة وتفلح ثمَّ نلحقهم فَيقرب الله بعيدهم وَلَا يفوتون فحج مَوْلَانَا الشريف تِلْكَ السّنة بِالنَّاسِ وأزال الله بِهِ عَن أهل مَكَّة بل عَن قطر الْحجاز كل باس وَبعد أَن أتم مَوْلَانَا الشريف الْمَنَاسِك وصل إِلَى مَكَّة بعض العساكر اليمنية بشفاعة إِبْرَاهِيم باشا أَمِير الْحَاج الشَّامي فِي تِلْكَ السّنة وَلما كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي محرم الْحَرَام افْتِتَاح سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف عقد مجْلِس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام عِنْد مقَام الْمَالِكِي حضر فِيهِ مَوْلَانَا الشريف زيد وغالب الصناجق وغالب السَّادة الْأَشْرَاف والسادة الْفُقَهَاء وتفاوضوا فِي أَمر الْعَسْكَر الْيَمَانِيّ فاتفق الْحَال على أَنهم يعزمون إِلَيْهِم فبرزوا ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُمْ مَوْلَانَا الشريف زيد وجماعته فأدركوهم فِي مَحل يُقَال لَهُ تربة فحاصروهم ثمَّ وَقع(4/446)
الْقِتَال بَينهم بالبندق فَاسْتَمْسك عَليّ بك لنَفسِهِ من الصناجق على أَن يسلم من الْقَتْل وَالْتزم لَهُم بمحمود بك فقبلوا ذَلِك وأمسكوا مَحْمُود بحيلة دبروها ثمَّ رجعُوا فَدَخَلُوا مَكَّة المشرفة فِي أول يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر محرم الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُمْ مَحْمُود بك أحد أغاتي الْعَسْكَر اليمني فعذب بأنواع الْعَذَاب وطيف بِهِ على جمل فِي شوارع مَكَّة عاري الْجَسَد إِلَّا سَاتِر عَوْرَته وَمد بَاعه بعصا وربطت يَدَاهُ عَلَيْهَا عورضت من خَلفه وَشقت عضداه وذراعاه وغرز فِيهَا مصطفة خرق الزَّيْت الموقدة ووكل بِتِلْكَ الْعَصَا من يضْربهَا من خلف حينا بعد حِين فيتناثر سقطها على جسده وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى ثمَّ علق بكلاب أَدخل فِي رَأس ذِرَاع يَده الْيُمْنَى ثمَّ أَدخل تَحت عصب عقب رجله الْيُسْرَى وَدفع إِلَى شَجَرَة جميز عِنْد بَاب المعلاة فَمَكثَ كَذَلِك نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام حيُّا يسب ويفحش وَيفجر إِلَى أَن مَاتَ فَأنْزل وَأخذ إِلَى شُعْبَة العفاريت فَأحرق ثَمَّ وَأما الأغا الآخر عَليّ بك فَلم يحصل عَلَيْهِ سوء أصلا وَذَلِكَ لتدبيره تِلْكَ الْحِيلَة على مَحْمُود ولحسن سلوكه حَال دُخُوله مَكَّة مَعَ بعض حَرِيم لمولانا الشريف زيد فَإِنَّهُ آمنهم ووصلهم بِخَير وَكَانَ يتَرَدَّد إلَيْهِنَّ ويتفقد أحوالهن ويبشرهن فَكَانَ ذَلِك سَببا لسلامته وخلوصه مِمَّا وَقع لرفيقه ثمَّ لما كَانَ أَوَاخِر شهر محرم افْتِتَاح السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ مجمع كَبِير أَمَام بَاب مدرسة السُّلْطَان قايتباي حضر فِيهِ الصناجق والأمراء والقضاة ثمَّ جئ بالمرحوم مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف نامي بن عبد الْمطلب وأخيه مَوْلَانَا السَّيِّد السَّيِّد بن عبد الْمطلب فاستفتيت الْعلمَاء فيهمَا فَأَجَابُوا بِحكم الله تَعَالَى فَذهب بهما فِي شرذمة من الْعَسْكَر إِلَى أَعلَى الرَّدْم فتوفيا شهيدين رحمهمَا الله رَحْمَة وَاسِعَة وَغفر لَهما مغْفرَة جَامِعَة آمين وَكَانَت مُدَّة ولَايَته على مَكَّة مائَة يَوْم وَيَوْم وَهِي عدد حُرُوف اسْمه نامي لِأَنَّهُ دَخلهَا يَوْم خمس وَعشْرين من شعْبَان من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين بعد الْألف وَخرج مِنْهَا عصر الْيَوْم الْخَامِس من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة كَمَا تقدم وَتلك الْمدَّة مائَة يَوْم وَيَوْم وَفِي ذَلِك يقْول المهتار // (من الطَّوِيل) //(4/447)
(تأمَّلْ لدنياكَ الَّتِي بصُرُوفها ... أبادَتْ عُلاَ ملْكٍ تأطد سامِى)
(بدا فأضا ثُمَّ اغتدَى الحَقُّ فانقضَى ... فمدَّةُ نامي عدَّة احْرُف نامِى)
كَذَا ذكره الطبرى فِي تَارِيخه الْمُسَمّى بالأرج المسكى فِي التَّارِيخ الْمَكِّيّ فَليُرَاجع قلت وَقد حكى المقريزي نَظِير ذَلِك فِي السَّابِق وَهُوَ أَن الْعَزِيز بن برسباي أحد مُلُوك الشراكسة بِمصْر خلع يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَكَانَت ولَايَته فى ذى الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة فَكَانَت مدَّته أَرْبَعَة وَتِسْعين يَوْمًا بعدة حُرُوف عَزِيز أَرْبَعَة وَتِسْعين وَقد تقدم ذَلِك فِي تَرْجَمته إِلَّا إِنِّي عبرت عَن الْأَرْبَعَة وَالتسْعين بِقَوْلِي ثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام الْمَعْنى وَاحِد وَفِي هَذِه السّنة لم يذهب الْمحمل من مَكَّة إِلَّا فِي الْعشْر الأول من شهر صفر واستقل مَوْلَانَا الشريف زيد بِالْملكِ مُنْفَردا فِي الأقطار الحجازية كَافَّة وسعودات الأقدار بِهِ حافة واستنزل أَرْبَاب الْحُصُون الشامخة وَاسْتولى على القلاع الراسخة وَملك الْبِلَاد الْبَعِيدَة الْمنَازل واستخدم الْعِزّ وَالظفر والإقبال وتوالت عَلَيْهِ الْخلْع والتشاريف السُّلْطَانِيَّة وقرت بِمَا يهواه المناشير العثمانية وملأ قُلُوب أعدائه خوفًا ورعباً ورقى فِي معارج الْمعز مرتقى صعباً وعطر بثنائه شرقاً وغرباً وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف أَو الَّتِي قبلهَا توفّي الْعَلامَة الشَّيْخ أَحْمد الْمقري الْمَالِكِي التلمساني الأَصْل والمولد والفارسي الدَّار والمنشأ نزيل الْقَاهِرَة الْعَلامَة الْحَافِظ الْمسند رحْلَة الدُّنْيَا شهَاب علم روض فَضله نضير مَا لَهُ فِي سَعَة الْحِفْظ شَبيه وَلَا نَظِير وفيهَا أَو فِي الَّتِي بعْدهَا توفّي السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود ابْن سُلْطَان مَكَّة الشريف حسن بن أبي نمي كَانَ أديباً فَاضلا من أَبنَاء الْمُلُوك النجباء يحب الْعلمَاء وَأهل الْخَيْر ويجالسهم كَرِيمًا وشعره فِي غَايَة الْحسن والرقة وَله فطنة تدْرك رقة الرقة وَلما وَقعت بَين القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي وَبَين غرس الدّين الْمدنِي المنافرة الشَّدِيدَة جمع بَينهمَا وَأصْلح مَا كَانَ مِنْهُمَا(4/448)
وَله ديوَان كُله غرر كل سلك مِنْهُ لَا تذكر مَعَه الدُّرَر فَهُوَ نَابِغَة بني حسن وباقعة الفصاحة واللسن الساحب ذيل البلاغة على سحبان والسائر بأقواله الركْبَان أحد السَّادة الَّذين رووا حَدِيث السِّيَادَة برا عَن بر والساسة الَّذين تفتقت لَهُم ريح الجلاد بعنبر فاقتطفوا نوار الشّرف من روض الْحسب الأنضر وجنوا ثَمَر الوقائع يانعاً بالنصر من ورق الْحَدِيد الْأَخْضَر لم يزل يقدر من نيل الْملك مَا لم يَفِ بِهِ عَدده وعُدده وَلم يمده من الْقَضَاء وَالزَّمَان مَدده ومُدده فاقتحم لطلبه بحراً وَبرا وقلد للملوك جِيداً ونحراً فَلم يسعفه أحد وَلم يساعد وَإِذا عظم الْمَطْلُوب قل المساعد دخل إِلَى شهارة من بِلَاد الْيمن فِي أحد الجمادين فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وامتدح بهَا إمامها مُحَمَّد بن الْقَاسِم بقصيدة رَاح بهَا ثغر مديحه ضَاحِكا باسم وَطلب مِنْهُ فِيهَا مساعدته على تَخْلِيص مَكَّة المشرفة لَهُ وإبلاغه من تحليه بولايتها أمله وَكَانَ ملكهَا إِذْ ذَاك الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وَأَشَارَ فِي بعض أبياته إِلَيْهِ وَطعن فِيهَا بسنان بَيَانه عَلَيْهِ وَهِي // (من الطَّوِيل) //
(سلُوا عَن دمى ذاتَ الخلاخلِ والعقدِ ... بِمَاذَا استحلَّتْ أخْذَ روحي على عَمْدِ)
(فإنْ أمنَتْ ألاَّ تقادَ بِمَا جنَتْ ... فقد قيلَ إِن الحرَّ يقتل بالعبْدِ)
(وَإِن أخَذتها دونَ كلي فإنني ... جليدٌ ومضعوفُ العزائمِ بالصَّدِّ)
(خذا قبْلَة مِنْهَا تديه فَإِنَّهُ ... قتيلٌ ولكنْ لَيْسَ يلحدُ فِي لحدِ)
(صريعٌ بسهمِ اللحظِ والبينِ لم تزلْ ... مقسمةَ أجزاه فِي القرْبِ والبعدِ)
(أَخُو لوعةٍ لَو أَن أيْسَرَ بَعْضهَا ... بصَلْدٍ لَكَانَ العِهْنُ أقوَى من الصلْدِ)
(ومُرَّا على الوادِى الَّذِي قد تفاوَحَتْ ... جوانبه عرفا بِمَا ضاعَ عَنْ هنْدِ)
(وعوجا رقابَ العيسِ فِيهَا عَشِيَّة ... لنبكي بهَا عصراً تولى على نَجْدِ)
(ونقضِى لباناتِ الصبَا بمحلَّةٍ ... بوجنةِ وَجْهِ الدهرِ كالخالِ فِي الخَدِّ)
(زمَان وَوجه الدهْرِ طلقٌ وقدُّهُ ... نضيرٌ وثغْرُ الوصلِ يفترُّ عَن عقدِ)
(أجرُّ بِهِ ذيل الخلاعةِ رافلاً ... وأركض خيلَ الغىِّ فِي حلبةِ الرشدِ)
(وأمرحُ فِي شرخ الشبابِ وحاسِدِي ... يدعدعُ لي أَن أكبُ يَوْمًا على وعدِ)(4/449)
(فللهِ أيامٌ وربعٌ تصرمَتْ ... لياليهما عنِّى وعوضَنِى وخدِى)
(فأصبحْتُ فِي جيشٍ من الحبِّ أرعن ... على أنني فِي نهجِهِ مفردٌ وحدِى)
(أعضُّ بِهِ كفي وأقرعُ بالحيا ... لسانِى وَمَا يُغني فتيلاً وَلَا يجدِى)
(وَأَنْدُبُ أَيَّامًا عَلَى غيضةِ الغَضَا ... وَغَيْظِى بِهَا غَيْظ اْلأَسِيرِ عَلَى الْقَدِّ)
(فحيَّا الحَيَا دَارا بنجدٍ وَأُخْتهَا ... معطَّلة بالغورِ والعَلَم الفردِ)
(ومنعرج بالجزْعِ هَل ماتَ رسمُهُ ... فأحييهِ بالتأبينِ أمْ هُوْ عَلَى عَهْدى)
(فثمَّ بِهِ قلبٌ فَقِيدٌ حبسنَهُ ... عيونُ المها بَين الأجارعِ والرندِ)
(ولكنَّها لم تَدْرِ أنَّ مُحَمَّدًا ... طلوبٌ لنا لَو كانَ فِي مربضِ الأسدِ)
(إمامٌ شأَى فِي الفخرِ أهلَ زمانِهِ ... فأنْسَى وأعْيَا فِيهِ للقَبْلِ والبَعْدِ)
(يُنَادى أَمِير الؤمنينَ لِأَنَّهُ ... تقمَّصَهَا إِرْثا عَن الأبِ والجَدِّ)
(وغيثٌ إِذا مَا النوءُ خوَّتْ رعودُهُ ... فراحاتُهُ فِي المحْلِ تغني عَن الرعْدِ)
(وضرغامُ حرْبٍ حِين تَنْصَلِتُ الظبا ... وينقصمُ المران فِي السرْدِ والسردِ)
(إِذا انكسَرَ الهنديُّ فِي رأسِ قرنِهِ ... فَمن عرضِهِ عضبٌ أَحَدُّ من الهندِي)
(أَخُو صبوةٍ بالمكرُماتِ فَلم تَزَلْ ... بمنظره فِي أشرَفِ الزمَنِ الرغْدِ)
(فبدْرٌ لمستجْلٍ ووَرْدٌ لمجتَنٍ ... وغيثٌ لمستجدٍ وليثٌ لمستَعْدِى)
(وأيامُهُ بيضٌ وخضْرٌ بجودِهِ ... ألاَ إنَّهَا مِنْ عدله زَمَنْ الوردِ)
(فَإِن يكُ بالإفضالِ والبأسِ والتقَى ... وربٌ الثنا والحِلْم والعِلْم والزهدِ)
(دَعِى بأميرِ المؤمنينَ محمدٍ ... خليفتنا الْمهْدي هَذَا هُوَ المَهْدِى)
(محكِّمُ سيفِ الحقِّ فِي كلِّ ملحدٍ ... ومَرجعُ أهلِ العقلِ فِي الحلِّ والعقدِ)
(وطَلاَّبُ وِتْرِ الدِّينِ فِي كلِّ مأزقٍ ... وَلم ينتصف فِي المالِ والنفسِ والولدِ)
(شكَتْهُ المطايا والفيافي لكثْر مَا ... يطأهَا ويمطاها إِلَيْهِ مِنَ الوفدِ)
(وَلَو أَنه خَلَّى شهارة سائراً ... لسارَ إِلَيْهِ القاصدُونَ إِلَى السَّدِّ)
(ولولاهُ لم يُشْهَرْ حسامٌ وَلم يثرْ ... قتامٌ وَلم يُسْفرْ ظلامٌ لمستهدى)
(وَلم يقصدِ الوفَّادُ عَنهُ لسيِّد ... فطعْنَ بهم هيماءَ للعينِ والصفدِ)
(وَلم تفتخر إِلَّا بِمَا عافَ سادةٌ ... غداةَ افتخارٍ فِي ندىِّ منَ المجْدِ)
(فَفِي الذهْنِ والآراءِ قيسٌ وعتبةٌ ... وفى الجودِ والهيجاءِ جودٌ وَذُو لبْدِ)(4/450)
(فَلَو لامَسَتْ يومَ الرغائبِ كفَّهُ ... يدا مادرٍ كانتْ لَهَا بالندَى تُعْدِى)
(فيا ليتَ شعْرِى مَنْ كليبٌ وحِاتمٌ ... على أَنهم مَا إنْ لَهُم فِيهِ من نِدِّ)
(فيابنَ رسولِ الله جئتُكَ شاكياً ... لأعداءِ دينِ الله فِي الهزْلِ والجِدِّ)
(زعانفةٌ لَا ينكرُونَ قبيحةً ... وَلم يختشوا فِي الفسْقِ من قَاهِرٍ فردِ)
(وَلَا مِنْ أميرِ المؤمنينَ محمَّدٍ ... حَلِيف الوغَى فِي الله والسيفِ والحمدِ)
(وحامِى ذمارِ المجدِ إنْ ضاعَ سوحُهُ ... وَلَو أَنه بَيْنَ الأساودِ والأسدِ)
(خطيبٌ إِذا مَا قامَ فِي رأسِ منبرٍ ... وخَطْبٌ عَلَى ظهْرِ المطهَّمةِ الجرْدِ)
(فيا لَكَ من حبرٍ ليَوْم مجَادِلٍ ... وذمر يُسَمَّى فِي المجالد بالجلْدِ)
(فليثٌ وغيثٌ فِي قراعٍ وَفِي ندَى ... وسعدٌ ونحسٌ للْوَلِيّ وللضِّدِّ)
(وخذْهَا عروساً ذاتَ دلِّ تزفُّها ... من الشكْرِ أجنادٌ فَللَّه من جُنْدِ)
(مفوفةً دبجْتُهَا بمديحِ مَنْ ... تضوعُ بذكراه على المسْكِ والنَّدِّ)
(لدينٍ وجاهٍ ذَا ارتفاعٍ ونجدةٍ ... أعيشُ بهَا لَا للمعايشِِ والنقدِ)
(وَإِنِّي من القومِ الَّذين وليدُهُمْ ... ترجِّيهِ إنهاءُ المطالبِ فِي المهدِ)
(أَعَزُّ ملوكِ الأرضِ فرعا ومحتداً ... وأوفى الكرامِ الغُرِّ فِي العقدِ والوعدِ)
(إِذا عُدِّدَتْ للصِّيدِ بعضُ محاسنٍ ... فأحسابُهُمْ فِي المجدِ تربو على العَدِّ)
(بأفنيةٍ خضرٍ وسودٍ مراجلٍ ... وألويةٍ حمرٍ وألسنةٍ لُدِّ)
(وأوجهُهُمْ للبيضِ والسمْرِ فِي الورى ... وأيديهمُ فِي الحرْبِ للضربِ والشكْدِ)
(وَلم يُخلقوا إِلَّا لكشْفِ مُلِمَّةٍ ... غشا خطبُهَا أهلَ البسيطةِ بالربدِ)
(فقمْ يابنَ عِزِّ الدينِ لَو كنْتَ وَاحِدًا ... فأنْتَ بحمدِ الله غَانٍ عَن الحشْدِ)
(وأنَّى وأنتَ الليثُ واللدنُ غابه ... وأِشبالُكَ الفرسانُ تعدو على الجردِ)
(وحولَكَ صِيدٌ من علىِّ غطارفٌ ... هم الناسُ فِي الهيجاءِ والحَسَب العدِّ)
(وخيلٌ إِذا صاحَ الصريخُ توردَتْ ... وُرُود القطا نَحْو الصياحِ إِلَى الورْدِ)
(وحظُّكَ يُبْدِي كلَّ يَوْم عجائباً ... بهَا يقهَرُ الأيامَ فِي الجزر والمدِّ)
(فَلَو شئتَ أَن تصطاد ليثاً بأرنَبٍ ... لجد لَهُ إِذْ زاحم الجدّ للجدِّ)
(فَمَا العذْرُ فِي التأخيرِ والسُّمْر والظبا ... تقاضاه يَوْمًا فِي التهائِمِ والنجْدِ)
(أغثْ مكَّةً وانهَض فأنْتَ مؤيَّدٌ ... مِنَ الله بالفتحِ المعوّضِ والجدِّ)(4/451)
(وقدِّمْ أَخا وُدِّ وأخِّرْ مبغضاً ... يساورُ طَعنا فِي المؤيَّدِ وَالْمهْدِي)
(ويطعنُ فِي كُلِّ الأئمَّةِ مُعْلنا ... ويرضى عَنِ ابنِ العاصِ والنجْلِ من هِنْدِ)
(وكانَ لَهُم يومَ القيامةِ ثَالِثا ... وَفِي هذِهِ ثانٍ لأوَّلِ مَنْ يُردى)
(ودمْتَ مدى الأيامِ للدِّينِ والعلا ... وبذْلِ اللها والأخْذِ فِي الله والرَّدِّ)
وَلم يحصل مِنْهُ على نائل إِلَّا مَا أجَازه بِهِ من فواضل فَعَاد إِلَى مَكَّة المشرفة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَأقَام بهَا سنتَيْن ثمَّ توجه أَوسط شهر ربيع الثَّانِي من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف إِلَى الديار الرومية قَاصِدا ملكهَا السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد خَان فورد عَلَيْهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَاجْتمعَ بِهِ وامتدحه بقصيدة فريدة سَأَلَهُ فِيهَا تَوْلِيَة مَكَّة المشرفة وأنشده إِيَّاهَا فِي أَوَاخِر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهِي // (من الوافر) //
(أَلا هُبِّى فقَدْ بكَرَ النداما ... وَمَج المزج من ظلمِ النداما)
(وهينمت الْقبُول فضَاعَ نَشْرٌ ... روى عَن شيخِ نَجْدٍ والخزاما)
(وَقد وضَعَتْ عذارى المزن طفْلا ... بمَهْدِ الروضِ تغذوهُ النعاما)
(فَهُبِّى وامزُجى خمرًا بظلْمٍ ... لتُحْيى مَا أمَتى يَا أُمَامَا)
(ومُنِّى بالحياةِ على أناسٍ ... بشربِ الراحِ صرْعَى والطّلاَما)
(فكَمْ خفر الفوارسُ من وطيسٍ ... فَتى منا وَمَا خَفَرَ الذماما)
(وكَمْ جدنا على قُلِّ بوفرٍ ... وأعطينا عَلَى جَدْبٍ هجاما)
(وكَم يومٍ ضربنا الخيلَ فِيهِ ... على أَعْقَابها خَلْفًا أماما)
(فنحنُ بَنو الفواطِمِ من قريشٍ ... وقادات الهواشمِ لَا هِشَاما)
(نردُّ الوافدين بكلِّ خيرٍ ... ونثني البيضَ حمراً والعلامَا)
(برانا الله للدنيا سنَاءً ... وللأخرَى إِذا قامَتْ سَنَاما)
(وخصَّ بفضله من أَمَّ مِنَّا ... مليكاً كَانَ سابُورَ الهماما)
(فَتَى الهيجا مُرَاد الحقِّ مَنْ لم ... يخَفْ فِيهِ للائمةٍ مَلاَما)
(محش الحرْبِ إنْ طارَتْ شَعاعًا ... نفوسٌ عِنْدهَا قَلَّ المحاما)
(وغيْثٌ قَطْرُهُ وَرِقٌ وتبرٌ ... إِذا طارَتْ بِهِ المحْل الركاما)
(فيُفنى سيفهُ حرْب وشيكاً ... ويثني سبيه موتا زُؤَاما)(4/452)
(وفِى شفَتيهِ آجالٌ ورزقٌ ... بهَا أَمن الصَّواعِق والسّمَاما)
(يقودُهُ الْمُلُوك الصِّيد مجراً ... فيمنحُهُ الخوامِعَ والرّخَاما)
(وَإِن وفدوه أغنَاهُمْ وأقنَى ... وأجلَسَهُمْ على العَلْيَا قِياما)
(مليكُ الأرضِ والأملاكِ طُرًّا ... وابْنُ مليكِهَا يَمَنًا وشَاما)
(ويجْرى من دَمِ الأعداءِ بحراً ... وَلَا قَوَدٌ عَلَيْهِ وَلَا أَثَاما)
(ومسقي الجنِّ والأملاكِ غيظاً ... ومُرْدِى القومِ إذْ يروي الحساما)
(تسنَّمَ غاربَ الدُّنْيَا فريداً ... وجَدَّ السيرَ إذْ بَاتُوا نياما)
(إِذا شملَتْ عنايته لئيماً ... شأَى بفخارِهِ القَوْمَ الكراما)
(تعاظَمَ وصفُهُ عَن وصفِ شِعْرى ... كَذَا مرماه يسمُو أَن يُرَامَى)
(وَيكبر أنْ يعانِدَهُ عنيدٌ ... فيرميه ويعظمُ أنْ يُرَامَا)
(ترفَّعَ كمه عَنْ لثمِ ملكٍ ... وتلثمه الضعائفُ واليَتَامَى)
(وينطقُ عِنْده لَسِنٌ ضعيفٌ ... وَلَا يسطيعُ جبارٌ سَلاما)
(أَخُو هِممٍ وَلم تعلقْ يَدَاهُ ... بغانيةٍ وَلَا ضَمَّتْ مداما)
(أغرُّ سميدعٌ ضخْمُ المساعِى ... يُسَكِّنُ فِي مغارمِهِ السهاما)
(وخادمُ قَبْرِ طه بالمواضي ... ودِين الله والبَيْت الحراما)
(فيا مَلِكَ الملوكِ وَلَا أُبَالِي ... وَلَا عذرا أسوقُ وَلَا احتشاما)
(أنفتُ بأنني أُنْزِلْكَ فيهم ... بمنزلةِ الرجالِ مِنَ الأيامَى)
(إِلَى جدْوَاكَ كلفنا المطايا ... دَوْمًا لَا نفارقُهَا دَوَاما)
(وَجُبْنَا يابْنَ عثمانَ الموامي ... إِلَى أَن صِرْنَ من هزلٍ هياما)
(وذُقْنَا الشهْدَ فِي مغنى الترجِّى ... وذُقُنَا الصبْرَ من جوعٍ طَعَاما)
(صلِينَا من سمومِ القيظِ نَارا ... يكونُ بنورِكَ العالِى سَلاما)
(وخُضْنَا البحْرَ من يلْجٍ إِلَى أَن ... حَسِبْنَاهُ على البيدا ركاما)
(نؤمُّ رحابَكَ الفيحَ اشتياقاً ... ونأمُلُ فِيك آمالاً جِسَاما)
(ومَنْ قَصَدَ الكريمَ غَدا أَمِيرا ... على مَا فِي يَديه وَلنْ يُضاما)
(وحاشا بَحْركَ الْفَيَّاض إِنَّا ... نردُّ بغُلَّةٍ عنْهُ حياما)
(وَقد وافاك عبدٌ مستميحٌ ... ندا كفَّيْكَ والشِّيَمَ الكراما)(4/453)
(فقد نَزَلَ ابنُ ذِي يزن طريداً ... على كِسْرَى فأنزله شمَاما)
(أتَى فَردا فَعَاد يَجُرُّ جَيْشًا ... كسا الآكامَ خيلاً والرغاما)
(بِهِ استبقَى جميلَ الذكْر دهراً ... وأنْتَ أجلُّ من كسرَى مقَاما)
(وسيفٌ لَو سما دُونِى لأنِّى ... عِصَامِىٌّ وأسموه عِصَاما)
(بفاطمةٍ وإبنَيْهَا وطه ... وحيدَرَةَ الَّذِي أشْفَى العقاما)
(عليهمْ رحمةٌ تهدِى سَلاما ... تكونُ لنَشْرها مسكاً ختاما)
(وَلَا عَجَبٌ إِذا مَا جاك عافٍ ... فعادَ يقودُ ذُو الجبِّ لهاما)
(فخذْ بيَدي وسَمِّينى محلا ... يقربُ مِنْك فِيهِ لَنْ يُسَاما)
(وهبْ لي مَنْصبِى لتنالَ أجْرِى ... وشُكْرى مَا حييتُ لَهُ دواما)
(فقد لَعِبَتْ ببيتِ الله حَقًا ... زعانفُ يستحلُّونَ الحراما)
(فعَنْ ذَا ليسَ مَسْئولاً غَدَاة ... سِوَاكَ إِذا الورَى بقيَتْ قيَاما)
(وَفِي أملِى بِأَن يجزيكَ عَنِّى ... شفيعٌ عَفوه يُطْفى الأُوَامَا)
(وفكَّ أَسيرَ أسْر لَيْسَ يرضى ... بِأَن يوطا وإنْ حفي الملاما)
(رحِيما لينًا فَظًّا غليظاً ... على الأعداءِ لنْ يرضى اهتضاما)
(عريقٌ فِي مودَّتِكُمْ نصوحٌ ... وَقُوعٌ إِن غشا خطبٌ وقاما)
(فَقل سَلْ تعطَ أعطاكَ الَّذِي لم ... يَخَفْ نقصا وَلم يخْشَ انتقاما)
(مدى الأيامِ تخفضُ ذَا اعوجاجٍ ... وترفَعُ من أطاعَكَ واستقاما)
(ودُمْ فِي راد عمرِكَ والأعادِى ... تمنى فِي مضاجِعِهَا الحمامَا)
فَأَجَابَهُ إِلَى ملتمسه وَمرَاده وأرعاه من مقْصده أخصب مُرَاده وَلَكِن مُدت إِلَيْهِ يَد الهلك قبل نيل الْملك قيل إِنَّه سُم فِي ختمة قُرْآن أَتَى إِلَيْهِ بهَا بعض الْأَشْخَاص فِي هَيْئَة درويش مهديها إِلَيْهِ فَلَمَّا قبلهَا اختلس الدرويش نَفسه فَلَمَّا قبلهَا السَّيِّد أَحْمد سقط فوه فَكَانَ ذَلِك سَبَب مَوته رَحمَه الله تَعَالَى وَمن أحاسن شعره قصيدة سينية تشوق كل إِنْسَان وَتدْخل على الْقُلُوب من الآذان بِغَيْر اسْتِئْذَان مطْلعهَا // (من الْخَفِيف) //
(حثَّ قبلَ الصباحِ تجْب كُئُوسى ... )(4/454)
وَسَتَأْتِي وَكَذَلِكَ قصيدة يمدح بهَا بني عَمه مُلُوك الْحجاز آل قَتَادَة وَهِي نبذة من أخباره وشجونه تدل على فَضله ولآلىء مكنونه وَهِي // (من السَّرِيع)
(حنَّتْ فأبكَتْ ذَا شجونٍ حنونْ ... وغنَّتِ الورقا بِأَعْلَى الغُصُونْ)
(وشَقَّ بُرْدَ الليلِ برقٌ فَمَا ... ظننته إِلَّا حسامَ الجفونْ)
(كَأَنَّهُ مذ شَقَّ قلْبَ الدجَى ... جبينُ ليلَى فِي دياجِى الْقُرُون)
(فقمْتُ كالهادِلِ فِي سجوِهِ ... لم أدْرِ مَا بِي فَرَحٌ أم جنونْ)
(وأرسَلَ الدَّمْعُ تجيعًا على ... خَدِّى فَيجْرِي أعيناً من عيونْ)
(لم أرَ نؤياً لَا وَلَا مجثماً ... وموقداً اْو عَلَمًا فِي دمونْ)
(إِلَّا وباتَ الناعمُ الفرشِ لي ... شوكاً وميعاسُ الروابي حُزُونْ)
(فالبرْقُ يُوحى فِي الدجَى رعدةً ... والوُرْقُ من شعْرى تجيدُ اللحونْ)
(عهدي بهَا كانَتْ كناسَ الظبا ... ومرتَعَ الأسدِ حماةِ الظعونْ)
(كلُّ طويلِ الباعِ رجَبْ الفِنَا ... تصدُقُ للوُفَّادِ فِيهِ الظنونْ)
(ليوثُ برقٍ خيسُهَا مأزقٌ ... أنيابُهَا فوقَ المذاكِى قرونْ)
(حتَّى غَدا مِنْ بعدهمْ ربْعُهَا ... مفتأداً جارتْ عَلَيْهِ السنونْ)
(كَأَنَّهُ جسمِى وإنْ لم يكنْ ... جسمي فوهماً أَو خيالاً يكونْ)
(وقفتُ فِيهِ والأسَى والنوَى ... يستلبانِ الصبْرِ سلْبَ المنونْ)
(ألله لي من مهجةٍ مزقَتْ ... ومقلةٍ عبرَى ونَفْسٍ ونونْ)
(تحنُّ للشِّعْبِ وأوطانِهِ ... مهما سرَى برقٌ بليلٍ دجونْ)
(وفتيةٍ منْ آلِ طه لَهْمْ ... فِي الحربِ أبكارٌ مزايا وعونْ)
(مبتذلُ الساحاتِ فِي قُطْرهم ... للخائِفِ الْجَانِي أعز الحصونْ)
(وكلُّهم يومَ الوغَى سيِّدٌ ... للضدِّ خباطٌ بلبد ظنونْ)
(يحمدُهُ السارونَ إنْ أدلجوا ... وَيَقْتَضِي النادِى بِهِ السامِرُونْ)
(لَا يَنْتَهِي الجارُونَ مِنْهُ إِلَى ... شَاْوٍ وَلَا يعسفُهُ الجائرونْ)
(فيانسيماتِ الصِّبَا عَرِّجى ... بهمْ وبثِّى غامضاتِ الشجونْ)
(وحاذِرِى أَن تصحبي لوعَتِى ... واستَصْحِبِى بَثِّى لكَىْ يفهمونْ)
(وبلِّغيهم حالَ من لم يزلْ ... حليفَ أشجانٍ كثيرَ الشئونْ)(4/455)
(يستخبر الريحَ بأنفاسِهِ ... ويسألُ البرقَ بدمعٍ هتونْ)
(فَشَأْنه يخبرُ عَن شأنِهِ ... بِدمْعِهِ إِن يسْأَل السائلونْ)
(ناءٍ عَن الأهلِ ضَعِيف الأسَى ... أَبعد مَا فَارق قَلْب شطونْ)
(يحفظُ للزملِ عهودَ الوفا ... وَإِن طَلَبْتَ الخونَ مِنْهُ يخونْ)
(وأنْتَ يَا سارى بشام النقا ... وحَادِىَ الظعْنِ بذاتِ الرعونْ)
(عَرِّضْ بذكَرى لَا شَجَاكَ النوَى ... لعلَّهم بِي بعد ذَا يذكرونْ)
(وقُلْ لَهُم وَالله لَو أبعدَتْ ... أخبارُكُمْ إِنِّي كَمَا تعهدونْ)
(نسيتُمُ صَبًّا غَدا دمعُهُ ... مِنْ بعدكُمْ صبَّاً قريحَ الجفونْ)
(وَهْوَ وماضِى العيشِ مَا ساعَةٌ ... فِيهَا تناسى جدكم والمجونْ)
وَهَذِه السينية الْمُتَقَدّم ذكرهَا الفائح عطرها لمولانا السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود بن حسن بن أبي نمي تغمده الله برحمته // (من الْخَفِيف) //
(حُثَّ قبل الصَّبَاحِ نجب كُئْوسى ... فَهْىَ تجْرِي مجْرَى الغِذَا فى النفوسِ)
(وانتخِبْهَا بكرا فقدْ ثَوَّبَ الداعِى ... إِلَيْهَا مِنْ حانة القِسِّيسِ)
(بنتُ كَرْمٍ إِن تَرْقِ ملسوعَ راحٍ ... وَهُوَ جلس لم يَرْتَضِى بالجلوسِ)
(كشفَتْ غيهَبَ الخمارِ وَلَو ترشَحُ ... رمساً ردَّتْ بقا المرموسِ)
(غرسَتْهَا بينَ الحدائقِ والنوروز ... والشَّطِّ كفُّ بطلبموسِ)
(فَتَلقَّى أم المسرإت طلقاً ... والندامَى بِمهْر كيسٍ وكيسِ)
(أطلق النَّدَّ والكبا الرطْبَ واستجْلِ ... عروساً لَا عِطْرَ بعد عروسِ)
(عانساً فِي الدنانِ عذراءَ لم تطمت ... من عهد جرهم وجديسِ)
(نارُ أنسٍ يعشو الكليمُ ويصبو ... لِفِناهَا بالذُّلِّ والتقديسِ)
(خرقَتْ حلَّة الجمانِ وأبدَتْ ... مستطير الصباحِ فِي الحنديسِ)
(زعَمَ الجاهلونَ فِيهَا بأنْ قَدْ ... عَصَرَتْها قِدمًا يدا عبدوسِ)
(وهْىَ من لُطْفها كشَكٍّ نَفَاهُ ... صادقُ القولِ عِنْد ذِي تسويسِ)
(فأدرْهَا فِي كاسها دونَ خَدَّيْكَ ... وفوقَ الشقيقِ من خندريسِ)
(واسْقِ بالخيرِ لي الندامَى لتبدو ... قدرةُ الله فِي المقامِ النفيسِ)
(لتَرَى أنجماً بفلْكٍ وبدراً ... فوقَ غصنٍ يختالُ بَين شموسِ)(4/456)
(ولكلٍّ إربٌ وَمَا أَنا بالرائى ... شريفًا فى جَنْبِ وَجه خسيسِ)
(وخرود بجامِهَا وطلاَها ... وَلماهَا والخد ينجاب بُوسِى)
(إِن حكينا بالثغْرِ والخدِّ مَا فى الجِيدِ ... قُلْنَا ظُلمًا وَمَا فِي الكُئُوسِ)
(تتلظَّى غيظاً وتَبْسِمُ توبيخًا ... لنا فِي القياسِ بعد المقيسِ)
(لم أكنْ قبلهَا أصدِّقُ أَن الرْرَاحَ ... ظَلْمٌ فِي لؤلؤٍ مغروسِ)
(ظبيةٌ رخوةُ العريكةِ تغتالُ ... أسُودَ الشرَى بِدَهْىٍ شَموسِ)
(لبسَتْ من غلائلِ الحسْنِ بُرْدًا ... مِنْهُ كلُّ الْعُقُول فِي تلبيسِ)
(تتهادَى عجبا فتستقبحُ الروضَ ... أنيقاً لجودَةِ التجنيسِ)
(لَو رَآهَا تختالُ تيهاً أبُوهَا ... لخشينا عَلَيْهِ دِين المجُوسِ)
(كُلُّ حلْوٍ مِنْهَا استجَدَّ رسيساً ... وقديمي فِيهَا استَمَرَّ نسيسِى)
(تركَتْنِى نِضْوًا على نضوِ رسمٍ ... فِيهِ دمعي خلي وسُهْدِى جليسي)
(موحشاً مِنْ هنيدةٍ بعد أَن كانَ ... حَقِيقا بالمربَعِ المأنوسِ)
(طالَ مَا قْلتُ للغدافِرِ واللَّيْثُ ... بِهِ قد ألقَى عَصا السيرِ هيسِى)
(لنقضِّى فِيهِ حقوقاً وتبكِى ... فِيهِ وُرْقُ الحمَى وثُكْل العيسِ)
(ونرجِّى الآمالَ تبْعَث الِّريحَ ... أريجاً من معهدٍ مطلوسِ)
(فرعَى الله بالأجارعِ عصراً ... وبدوراً غصونُهَا فِي طموسِ)
(حيثُ جو الشبابِ سَحْوٌ وبحْرُ اللهوِ ... رَهْوٌ لم ألْقَ فِيهِ بروسِى)
(ومحلاً بَين الأباطحِ والقبْبة ... مِنْ طيبَةٍ بِسُوحِ الرَّئِيسِ)
(أَحْمَدُ الخُلْقِ أحمدُ الخَلْقِ فى اللهْ ... غِيَاثُ المَنْجُودِ والمَبْلُوسِ)
(شافعُ الأمةِ الَّتِي جاءَ فِيهَا ... كنتُمُ من مهيمنٍ قدوسِ)
(أولُ الأنبياءِ والخاتمُ العاصِمُ ... من هولِ صليمٍ دربيسِ)
(يتقى حيدَرٌ وحمزةُ والفاروقُ ... فِيهِ إِذْ جاشَ قِدْرُ الوطيسِ)
(وَكَذَا فِي المعادِ عيسَى وإسحاقُ ... وموسَى الكليمُ معْ إدريسِ)
(وَبِه يسألونَ إِذْ صدم الهول ... تجليه فِي الزمانِ العبوسِ)
(وهُمُ الفائزونَ لكنْ لما طَمْمَ ... عَلَى الخلقِ من عذابٍ بئيسِ)
(مهطعينَ الْأَعْنَاق فى مَوْقِفِ الرهبة ... لم يستمعْ لَهُم من نبيسِ)(4/457)
(فينادى سَلْ تُعْطَ واشفَعْ أيا خيْرَ ... شفيعٍِ فِي مسمهرِّ ضَبيسِ)
(أريحىٌّ بِقَصْدِهِ تأنفُ الأخمَصُ ... مص أَن تحتذى شَوَاة الرءوسِ)
(نَقَلَ الذِّكْرَ للجوامعِ وَالْأَحْكَام ... بعد الأزلامِ والناقوسِ)
(تَرَكَ الذئْبَ والغضنْفَرَ والشَّاة ... جَمِيعًا من خوفِ غبِّ الفريسِ)
(أَيَّدَ الدينَ بالذوابلِ والشُّوسِ ... المذاكِى تعدُو وبيض شوسِ)
(كل ذمر فِي السلْمِ هَين وفى الحربِ ... أبي يشقُّ أنفَ الخميسَ)
(كعلىٍّ وحمزةَ البِشْرِ إِن بَدَّلَ ... بِشْر الوجوهِ بالتعبيسِ)
(بيهسىْ غابةِ الوشيجِ وطودَىْ ... مفخرٍ فِي مؤثلٍ قُدْمُوسِ)
(بهما والبَتُولِ والآلِ والبطَيْنِ ... والمخبتين بالتغليسِ)
(ألإمامين بالنصوصِ الشهيدَيْنِ ... البريئيْنِ من صدَى التدنيسِ)
(فرقدَىْ هالةِ الرياسةٍ وابنَىْ ... مدحضي بالقواضب التبخيسِ)
(مَا رعَى فيهمَا رَئِيس ربى الفِدْيةِ ... إِلَّا فضْلاً عَن المرءوسِ)
(وبمَنْ قامَ فى مقامِكَ يستسقَى ... بِهِ والمحلَّقِ الدعيسِ)
(وبخِلَّيْكَ صاحبيْكَ ضجيعَيْكَ ... ظهيَرْيكَ فِي الرخا والبوسِ)
(ذَا رفيقٌ فِي الغارِ ردْفٌ وَذَا تنرفرُ ... من حِسِّهِ رقى إبليسِ)
(وبتلو الإثْنيْنِ جَامع أشتاتِ ... المثانِى بالرسْمِ والتدريسِ)
(لم يُراقَبْ للهدْى والجيشِ من غيْرِ ... فسوقٍ أتَى وَلَا تدليسِ)
(أدركَ ادْرِكْ ذَا غربةٍ وانفرادٍ ... وسهادٍ ومدمعٍ مبجوسِ)
(قد لقى من حصائِدِ النفْسِ مَا لاقَى ... كليبٌ فِيهَا غداةَ البَسُوسِ)
(ألوحَا ألوحَا فِدّى لكَ ملهوفٌ ... يناديكَ من ورا طرطوسِ)
(يَا نَبِيَّاهُ يَا وليَّاهُ يَا جَدَّاهُ ... يَا غَوْثَ ضارعٍ موطوسِ)
(أنتَ إنْ أعضَلَ العضالُ وأعيا ... كُلّ آسٍ دواه جالينوسِى)
(وَإِذا مَا الخنَاقُ ضاقَ فَلم أرجُ ... لكربي إلاَّك للتنفيسِ)
(ولقدْ جرد الْعُقُول إلَى أنْ ... لبسْت منْهُ بزَّة المخموسِ)
(وبجدواكَ يقلبُ السعد فى الأزمةِ ... سَعْدا تحديق عَيْن النحوسِ)
(يَا خفيري إِذا ارتهنْتُ وَمَا لي ... غَيْرُ كسبِى فِي مضجَعِى من أنيسِ)(4/458)
(أبظُلْمِ الحوبا أقصِّرُ عَن شأوِ ... جُدُودى وأنْتَ أصْلُ غروسي)
(حاشَ لله أَن يقصِّرَ مَنْ أَفْعَمَ ... فيكُمْ مدحاً بطونَ الطروسِ)
(فارتبطْهَا من الجيادِ الَّتِى تَسْبقُ ... خَيْلَ الوليدِ وابْنِ سديسِ)
(وأجزْنِى بردا من الأمنِ مَا حيك ... بصنعا حسنا وَلَا تِنِّيسِ)
(وأغثني دنيا وأخرَى بمرآكَ ... ليهدا رَوْعِى ويقوَى رسيسِى)
(واجلُ طرفِي بنظرةٍ تذهبُ اللىّ ... وتُسْدِى فِي الحىِّ نِيرَ مروسي)
(إِن أرحْ مُطلقًا من الذنْبِ فالتقريضُ ... وقفٌ مسلسلُ التجنيسِ)
(أَو تناسى بِهِ فناي وحقِّى ... فعلَى الْحَظ دَعْوَة المبخوسِ)
(إِنَّمَا أنْتَ آصفٌ ونجاتي ... منكَ أدنى إِلَيْهِ من بلقيسِ)
(لَو تشفعْتَ فِي سَبًا لَعَلِمْنَا ... أنَّهمْ فائزونَ بالمحسوسِ)
(فعليكَ الصلاةُ مَا هَجَّرَ الركْبُ ... وحثَّ القِلاَص للتعريسِ)
(وعَلى آلِكَ الكرامِ وأصحا ... بِكَ مَا روضَةٌ زهَتْ بالغروسِ)
(وأضاءَ الصبَاحُ من بعد ليلٍ ... واستسرَّتْ عروسُهُ بعروسِ)
وفيهَا أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف توفّي شيخ مَشَايِخنَا الشَّيْخ الْعَلامَة برهَان الدّين أَبُو الأمداد إِبْرَاهِيم بن حسن بن عَليّ اللَّقَّانِيّ خَاتِمَة الْمُحَقِّقين وَسيد الْفُقَهَاء والمتكلمين إِمَام الْأَئِمَّة وموضح المشكلات المدلهمة أَخذ عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والعلامة ابْن قَاسم العبادى وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم العلقمي أخي الشَّيْخ شمس الدّين شَارِح الْجَامِع الصَّغِير الشَّرْح الْمُسَمّى بالكوكب الْمُنِير وَالشَّيْخ نور الدّين الزيادى وَالشَّيْخ أَبى بكر الشنواني وَغَيرهم وَله كرامات خارقة ومكاشفات صَادِقَة أَخذ عَنهُ طَرِيق الْقَوْم خلق كثير وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعقلية والفنون الأدبية شَيخنَا الْعَلامَة مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلي وَالشَّيْخ عَليّ بن عَليّ الشبراملسي وَولده إِبْرَاهِيم وَغَيرهم رَحمَه الله تَعَالَى وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف يَوْم الْجُمُعَة ثامن رَجَب مِنْهَا توفّي الشريف عَظِيم الشَّأْن مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد شَيْخَانِ باعبود الْعلوِي ولد بالمخا كَانَ رَحمَه الله من أكَابِر الْمَشَايِخ الصَّالِحين والأولياء الكاملين وَاسْتمرّ على الْحَالة المرضية إِلَى أَن وافته(4/459)
الْمنية وَقدم على رب الْبَريَّة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور ببندر جدة وَحمله وَلَده السَّيِّد سَالم من جدة إِلَى مَكَّة وَوصل بِهِ لَيْلَة السبت وَدفن صبح الْيَوْم الْمَذْكُور على أَبِيه وأخيه فِي حوطة آل با علوي ولولده مَوْلَانَا السَّيِّد سَالم بن أَحْمد شيحان مؤرخاً وَفَاة أَبِيه الْمَذْكُور بعد أَن رَآهُ فِي مَنَامه قَوْله // (من الْكَامِل) //
(شاهدتُّ فِي عامِ الوفاةِ بليلةٍ ... غَرَّاءَ أَحْمد قَائِلا نَفسِي أحمدي)
(أُسْكِنْتَ جناتِ النعيمِ ونِعْمَ هِيَ ... نُزُلاً فتاريخُ الوفاةِ تخلَّدِى)
وفيهَا توفّي بَين العصرين سَابِع عشري رَجَب الشَّيْخ الأمجد الأوحد شهَاب الدّين أَحْمد ابْن أبي الْفَتْح الْحكمِي أَخذ عَنهُ شَيخنَا الْعَلامَة الشَّيْخ عَليّ بن الْجمال الْأنْصَارِيّ الْمَكِّيّ وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الله ابْن الشَّيْخ سعيد باقشير وَغَيرهمَا وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة كَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ فِي عشر الْخمسين نفعنا الله بِهِ آمين وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين فجر الثُّلَاثَاء ثامن ذِي الْعقْدَة مِنْهَا توفّي السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْهَادِي بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين محتد الْجَلالَة والفخامة مُفْرد الْمقَالة والشهامة الْعَالم الْعَامِل بِلَا زعامة الحاتم على ناظره الْقطع لَهُ بِالْفَضْلِ السّني والكرامة الْوَلِيّ لله بِلَا ريب وَلَا نزاع الملزم نَفسه النفيسة الطَّاعَة لَهُ عز وَجل والحضور لَدَيْهِ والانقطاع ولد ب تريم واستوطن مَكَّة ولازم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَغَيرهمَا وَاسْتمرّ بِمَكَّة إِلَى أَن انْتقل بهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَدفن بحوطة السَّادة بني علوي وفيهَا توفّي الشَّيْخ يُوسُف بن مُحَمَّد البُلْقِينِيّ بَقِيَّة الجيل الْجَلِيل الَّذِي سلف ونخبة الحائزين بِالْعلمِ السِّيَادَة والشرف رَئِيس الْقُرَّاء المجيدين جليس الْفُقَرَاء إِلَى الله المنقطعين إِذا قَرَأَ الْقُرْآن الْمجِيد رتله ترتيلاً وحبره تحبيرا وَإِذا حَار بالنعمان اللبيب فِي مُشكل متشابهه قيل لَهُ اسْأَل بِهِ خَبِيرا رَحمَه الله تَعَالَى وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف ضحوة يَوْم الْأَحَد تَاسِع ذِي الْقعدَة الْحَرَام توفّي مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا إِمَام أهل الْعرْفَان ذُو السِّرّ الباهر والبرهان من مزايا مفاخرة فقد الْحصْر وبذكر مناقبه يتجمل الزَّمَان والدهر أوحد الْأَئِمَّة المعتبرين أولي التَّمْكِين مرشد الطالبين ومربي السالكين الْعَالم الْعَامِل والأستاذ الْكَامِل طَاهِر الْجنان وَاللِّسَان والأركان مَوْلَانَا السَّيِّد سَالم مَوْلَانَا السَّيِّد سَالم بن أَحْمد شيحان وفن فِي عصر ذَلِك الْيَوْم على وَالِده وجده بالمعالاة وتاريخ وَفَاته صَار إِلَى رَحْمَة الله وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة عَظِيمَة جليلة - رَحمَه الله تَعَالَى - وفيهَا لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة توفّي السَّيِّد نعْمَة الله بن عبد الله بن محيي الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْقَادِر الجيلاني أحد أكَابِر الْأَوْلِيَاء الَّذين نالوا الوفا والكرامة الْغَنِيّ بِكَمَال فَضله عَن إِشَارَة أَو عَلامَة سَطَعَ نور كمالاته فأخجل النيرين وأشرقت صِفَاته المضيئة فِي الْخَافِقين وتواترت كراماته فِي سَائِر الْآفَاق وَوَقع على ولَايَته الِاتِّفَاق اشْتهر فَلَا يحْتَاج إِلَى إطناب فِي الصِّفَات بِمَا خصّه مَوْلَاهُ من أَنْوَاع الكمالات ولد بِالْهِنْدِ وَوصل إِلَى مَكَّة سنة أَرْبَعَة عشر وَألف وجاور بهَا ولازم الصمت وَالْمَسْجِد سِنِين ثمَّ سكن شعب عَامر وَتزَوج وأولد أَوْلَادًا نجباء أجلاء ثمَّ مرض وَأوصى أَن يدْفن بمحله بشعب عَامر الْمَذْكُور فَدفن بِهِ وَكَانَت الحُمى من أقل خُدَّامه يرسلها إِلَى من شَاءَ أَي مُدَّة شَاءَ ويرفعها مَتى شَاءَ بِإِذن الله تَعَالَى مدحه الأجلاء ورثوه بعدة قصائد مِنْهُم مَوْلَانَا وَشَيخنَا الشَّيْخ عَليّ بن الْجمال والأديب البارع أَحْمد الْفضل الكثيري وَغَيرهمَا وفيهَا فِي موسمها يَوْم الْجُمُعَة عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام وَقعت فتْنَة كَانَ ابْتِدَاؤُهَا قبل صَلَاة الْجُمُعَة سَببهَا أَن عبدا لبَعض السَّادة الْأَشْرَاف ورد بفرس سَيّده الششمة الْمَعْرُوفَة بالبزابيز فَوَقع هُنَاكَ بَين العَبْد الْمَذْكُور وَبَين شخص من عَسْكَر مصر تزاحم وتدافع فَضرب الجندي العَبْد فَضَربهُ العَبْد وجرحه فَلَزِمَهُ الجندي مَعَ جماعته فَانْتدبَ جمَاعَة العبيد ففكوا العَبْد فثارت الْفِتْنَة وَلم يكن لصَاحب مَكَّة وَلَا للأمير علم بذلك فَاجْتمع الجندي مَعَ جماعته بمدرسة السُّلْطَان قايتباي واحتمع عَسْكَر صَاحب مَكَّة مَعَ العبيد عِنْد منزله فَأقبل كل من الْفَرِيقَيْنِ على الآخر فَأرْسل الشريف جمَاعَة لرد عسكره ونهيهم تسكيناً للفتنة وبرز أَمِير الْحَاج من الْمدرسَة وَبِيَدِهِ عَصا لرد عسكره كَذَلِك وَسَار على قَدَمَيْهِ فَلَمَّا وصل إِلَى قريب من بَاب على أَبْوَاب الْمَسْجِد الْحَرَام سمع صَوت البندق فَرجع وَدخل من بَاب الحريريين وَدخل الْمدرسَة من بَابهَا الْكَائِن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ نزل من جِهَة المعلاة نم كَانَ بهَا من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَمَعَهُمْ المدافع فَجعلُوا وَاحِدًا مِنْهَا عِنْد الششمة الْمَذْكُورَة وواحداً عِنْد بَاب الْمدرسَة القايتبائية فَاشْتَدَّ الكرب على أهل مَكَّة وَأرْسل فِي أثْنَاء ذَلِك مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ رضوَان بك مُشِيرا عَلَيْهِ بِمَنْع الْعَسْكَر الْمصْرِيّ جماعته وَكَذَا أرسل إِلَى أَمِير الْحَاج الشَّامي الْأَمِير مُحَمَّد بك بن فروخ وَقتل من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ والعسكر الشريفي أشخاص بالبنادق وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك حَتَّى أجنَّهم اللَّيْل فانكف الْفَرِيقَانِ وَركب بعض خدام الشريف رَحمَه الله تَعَالَى بِأَمْر مِنْهُ وَمَعَهُ المناداى بالأمان وَأمسى النَّاس فِي أَمر مريج فَلَمَّا كَانَت صَبِيحَة يَوْم السبت سعى أَمِير الْحَاج الشَّامي الْأَمِير مُحَمَّد بك الْمَذْكُور بَين الشريف وَبَين أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ بِالصُّلْحِ فتعافيا فَنَادَى قبل صَلَاة الظّهْر من ذَلِك الْيَوْم مناديان أَحدهمَا من أَمِير الْمصْرِيّ وَالثَّانِي من الشَّامي بالأمان للحجاج وَأهل الْبَلَد وَقدم الْمصْرِيّ خُرُوجه من مَكَّة فِي هَذَا الْعَام على خلاف الْعَادة فبرز فِي يَوْم الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف قدم شعْبَان أَفَنْدِي إِلَى الْمَدِينَة المنورة وَمَعَهُ حجر من الماس محفوف بأحجار مختلعة مكفوف بصفائح الذَّهَب وَالْفِضَّة وَهَذَا الْحجر من آثَار صدر الدولة العثمانية مصطفى باشا سلحدار فَوضع ذَلِك الْحجر تَحت الحجرين اللَّذين وضعهما السُّلْطَان أَحْمد خَان وأنعم على أهل الْمَدِينَة بِالصَّدَقَةِ الجليلة وَفِي ذَلِك يَوْم السَّيِّد مُحَمَّد كبريت مادحا مؤرخا // (من الْخَفِيف) //
(زار خيرَ الأنامِ خَيْرُ همامٍ ... قد تَسًمَّى شعبانَ وَهُوَ ربيعُ)
(عمَّ جيرانَ أَحْمد بنوالٍ ... دُونَ ذاكَ النوالِ خصْبَ مريعُ)
(جاءَ بالجوهَرِ الثمينِ لطه ... مِنْ وزيرٍ هوَ الجنابُ المنيعُ)
(مصطفى المجدِ والندَى والمعالِي ... وسلحدارُ نعْمَة لَا تضيع)
(يَا لَهُ جَوْهَر التسامي وسامَى ... بمقامٍ فِيهِ الثناءُ يضوعُ)
(عِنْد وجْهِ النَّبِي قد وضعُوهُ ... فغدا وهوَ مشرق ولموعُ)
(كَانَ هَذَا فِي عامِ سبعٍ وألفٍ ... وتمامُ النظام فِيهِ بديع)
قلت هَذَا فِي التَّارِيخ لطف إِدْخَال فِي قَوْله وَتَمام النّظم فِيهِ لِأَنَّهُ يُشِير بذلك إِلَى الْمِيم من لفظ النظام وَهِي بِأَرْبَعِينَ فبذلك تمّ حِسَاب سبع وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ إهداء ذَيْنك الحجرين الْأَوَّلين من حَضْرَة مَوْلَانَا السُّلْطَان أَحْمد خَان مَعَ لوح من فضَّة كَبِير مَكْتُوب فِيهِ آيَات قرانية فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف مركب على الشباك القبلى أَمَام المواجهة الزائر وَفِي اللَّوْح أَبْيَات آخرهَا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ لوح السُّلْطَان أَحْمد أهداه حُبّاً خَالِصا وفيهَا توفّي الْعَلامَة القَاضِي أَحْمد بن عِيسَى المرشدي الْعمريّ الْحَنَفِيّ شهَاب الْفضل الثاقب الشهير الماثر والمناقب من سَطَعَ فِي سَمَاء الْأَدَب نوره وتفتق فِي رياضه زهره ونوره فامتد البلاغة بَاعه وشق على من رام أَن يشق غباره اتِّبَاعه لَا تلين قناة فَضله لغامز وَلَا يلمز اْدبه المبرأ من الْعَيْب لامز
كَانَ تولى الْقَضَاء بِمَكَّة المشرفة فنال بِهِ مَا أمله مِمَّا طمح بَصَره إِلَيْهِ واستشرفه
وَلما حصل أَخُوهُ فِي قَبْضَة الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وَمنى مِنْهُ بذلك الفادح الَّذِي قهر بِهِ وَغلب حصل هُوَ أَيْضا فِي قَبْضَة الْقَبْض والأسر وَأَرْدَفَ مَعَه على ذَلِك الأدهم بالقسر حَتَّى جرع أَخُوهُ بذلك الكاس وأنعم عَلَيْهِ بالخلاص بعد الياس
فرَاش الدَّهْر حَاله وَأعَاد مِنْهَا مَا غَيره وأحاله
وَلم يزل فارغ البال من شواغل البلبال إِلَى أَن انْقَضتْ أَيَّامه ووافاه حمامه
فَكَانَت وَفَاته لخمس خلون من ذِي الْحجَّة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة
وَاتفقَ تَارِيخ وَفَاته صدر الْبَيْت الْمَشْهُور
(من شَاءَ بعْدك فليمت ... ... ... .)
وَله نظم بديع ونثر يفوق أزهار الرّبيع
وَمن نظمه القصيدة الدالية أمتدح فِيهَا شرِيف مَكَّة الشريف مَسْعُود بن حسن مطْلعهَا من // (الْبَسِيط) //
(عوجا قَلِيلا كَذَا عَن أيمنِ الواديِ ... واستوقفا العيس لَا يَحْدُو بهَا الْحَادِي)
مِنْهَا قَوْله
(راًسُ الملوكِ يَمِين الملكِ ساعده ... زَنْدُ الْمَعَالِي جَبِينُ الجَحْفَلِ البادي)
وَمِنْهَا
(وصان وَسْمك فِي حاش مُخَالطَة ... عَنْ رب غَزْو تنضاه بأحشاد)
وَهِي فصيحة بليغة تقدم ذكرهَا
وَله قصيدة فِي السَّيِّد شهوان بن مَسْعُود مطْلعهَا من // (الْبَسِيط) //
(فيروزَجٌ أم وسامُ الغادةِ الرودِ ... يَبْدُو على سِلْك در فِيهِ منضودِ وَمِنْهَا قَوْله فِي المخلص
(صهباءُ تفعلُ فِي الألبابِ سَوْرَتها ... فعلَ السخاءِ بشهوان بْنِ مسعودِ)
وَله مَا كتبه على شَدَّاد مطيّة الشريف زيد بن محسن رحمهمَا الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله من // (مجزوء الْكَامِل) //
(أفقُ الشدادِ بدَت بِهِ ... شَمسُ الخلافةِ والهلالْ)
(ومِنَ العجائِب جمعُهُ ... لَيْثَ الشرافةِ والغزالْ)
\ وَله غير ذَلِك من غير ذَلِك رَحمَه الله تَعَالَى
ثمَّ دخل سنة تسع وَأَرْبَعين بعد الْألف فِي أَثْنَائِهَا أقبل من الديار الرومية بشير أغا الحبشي الطواشي مَعَه أوَامِر بِمُطلق التَّصَرُّف وخطوط سلطانية بِمَا يُرِيد من التعرف والتحرف فَلَمَّا بلغ الينبع ورد إِلَيْهِ الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد خَان سُلْطَان الزَّمَان ففاح الْخَبَر بينبع ثمَّ كتمه ليتم لَهُ تَنْفِيذ مَا أَرَادَ وَقد كَانَ مَوْلَانَا الشريف زيد هيأ وَاخْتَارَ لبشير أغا عدَّة أَمَاكِن فِي الْمدَارِس والبيوت وَأمر بفرشها وَكَانَ من نِيَّته مواجهته إِلَى مر وَأرْسل بعض خُدَّامه غلى يَنْبع ليرى مَا مَعَ بشير من الْخَيل والرحل وَالنَّاس فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا سمع هَذَا الْخَبَر وتحققه فَرجع مسرعاً مجداً بِهِ إِلَى مَوْلَانَا الشريف زيد فَلَمَّا تحقق مَوْلَانَا الشريف صِحَة ذَلِك مر بتحويل الْفرش الَّتِي فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن وغلق بَعْضهَا فَلَمَّا قَارب بشير مَكَّة خرج إِلَيْهِ مَوْلَانَا الشريف ولاقاه فِي الجوخي مَحل ملاقاة أُمَرَاء الْحَج إِذا وصلوا فَلَمَّا أَن لاقاه وقابله وَفِي بَال بشير أَن الْخَبَر لم يبلغهُ وَأَن يتم لَهُ مَا أَرَادَ من تَنْفِيذ مَا شَاءَ على غشاش وغفلة ثمَّ بعد ذَلِك لَا يضرّهُ ظُهُور الْخَبَر فَلَمَّا تدانيا همز مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى فرسه مقدما على بشير مناكباً لَهُ قَائِلا الله رحمت أيله سُلْطَان مُرَاد وَمسح على عَيْنَيْهِ بالمنديل باكياً أَو متباكياً فسُقط فِي يَد بشير وَدخل كالأسير
وَهَذَا من جملَة سعودات الشريف ذِي الْقدر المنيف
وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف رَحمَه الله قد رأى فِي الْمَنَام كَأَن شخصا ينشده هَذَا الْبَيْت من // (الطَّوِيل) //
(كَأَن لم يكُنْ أمرٌ وَإِن كانَ كَائِن ... لكانَ بِهِ أمرٌ نفى ذَلِك الأَمْرُ)
فانتبه رَحمَه الله وَكتبه بِالسِّوَاكِ على رمل فِي صحن نُحَاس خشيَة النسْيَان وَكَانَت هَذِه الرُّؤْيَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي أَسْفر صباحها عَن وُرُود هَذَا الْخَبَر
وَاسْتمرّ بشير إِلَى آخر السّنة وَحج وَتوجه صُحْبَة الْحَاج حَيْثُ جَاءَ. فَمن اللطاف الْخفية لمولانا بِمَا أَوْلَاده وَكم وَكفى بِاللَّه
وَقد نظم السَّيِّد مُحَمَّد انسي المغربي قصيدة يمدح بهَا مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله ذكر فِيهَا قصَّة بشير وَأورد فِيهَا الْبَيْت الْمَذْكُور وَهِي هَذِه من // (الطَّوِيل) //
(سلو آل نُعمٍ بَعدنَا أَيهَا السفرُ ... أعندهُمُ عِلم بِمَا صَنَعَ الدهْرُ)
(تصدى لشتِّ الشملِ بيني وَبَينهَا ... فمنزلي البَطْحا ومنزلُها القَصْرُ)
(رَآنِي ونعمى لاهيَينِ فغالَنا ... فَشلت يدُ الدهرِ الخئُونِ وَلَا عُذرُ)
(فوَاللَّه مَا مكر الْعَدو كمكرِهِ ... وَلَكِن مكراً صاغه فَهُوَ المكْرُ)
(فقولاً لأحداثِ اللَّيَالِي تمهلي ... ويأيهذا الدهْرُ موعدُكَ الحشرُ)
(سَلام على ذاكَ الزمانِ وطيبهِ ... وعيشٍ مضَى فِيهِ وَمَا نبَتَ الشعْرُ)
(وتلكَ الرياضُ الباسماتُ كَأَن فِي ... عواتقها من سندسٍ حُلل خُضرُ)
(تنضَّد فِيهَا الأقحوانُ ونَرْجِس ... كأعْيُنِ نُعم إِذْ يقابلها الثغْرُ)
(كَأَن غُصُونَ الوردِ قُضبُ زبرجدِ ... تخالُ من الياقوتِ أَعْلَامه الحمْر)
(إِذا خَطَرَت فِي الروضِ نُعم عَشِيَّة ... تَفاًوَحَ من فضلاتِ أردانها العطرُ)
(وَإِن سحبَت أذيالها خِلتَ حَيَّة ... إِلَى الماءِ تسعَى مَا لأخمصِها إثرُ)
(كساها الجمالُ اليوسفي ملابساً ... فأهوَنُ ملبوس لَهَا التيهُ والكِبْرُ)
(فكم تخجلُ الأغصانُ مِنْهَا إِذا انثنَت ... وتُغضي حَيَاء من لواحظها البترُ)
(لَهَا طرة تكسو الظلامَ دياجياً ... على غرَّةٍ إِن أسفرَتْ طَلَعَ الفَجْرُ)
(وصحنان خد أشرقا فَكَأَنَّمَا ... مصابيحُ رهبانٍ أضاءَ بهَا الدَّيْرُ)
(وجيدٍ من البِلورِ أبيضَ ناعمٍ ... كعنق غزال قد تكنفها الذعر)
(ونحرٍ يقولُ الدرُ إِن بِهِ غِنىً ... عَن الحلى لَكِن مِثْقَال فند بِهِ الصَّبْر)
(وحقان من كالكافورتَينِ علاهما ... من الند مِثْقَال فند بِهِ الصبرُ)
(رويدَكَ يَا كافورُ إِن قُلُوبنَا ... ضعافٌ وَمَا كُل الْبِلَاد هِيَ المِصرُ)
(تبدى بقدٍّ باسقاً متأوداً ... على نقو من رمل يطوف بِهِ نهرُ)
(يكادُ يقدُّ الخصْر منْ هَيَفٍ بِهِ ... روادفها لَوْلَا الثقافَةُ والهَصْرُ)
(لَهَا بَشَرٌ مثلُ الحريرِ ومنطق ... رخيمُ الحواشِي لَا هراءٌ وَلَا نَزْرُ)
(رأتني سقيماً ناحلاً والهاً بهَا ... فَأَذنت لَهَا عوذ أناملها العَشرُ)
(إِذا كنتَ مطبوباً فَلَا زلْتَ هَكَذَا ... وانْ كنت مسحوراً فَلَا برِئ السحرُ)
(فقلتُ لَهَا وَالله يَا ابنَةَ مالكِ ... لما شفني إِلَّا القطيعةُ والهَجْرُ)
(رَمَتنى العيونُ البابلياتُ أسهماً ... فأقصدني مِنْهَا سهامُكُمُ الحمْرُ)
(فقالتْ وألقَت فِي الحشا من كَلَامهَا ... تأجج نَار أنتَ من ملكنا حُرُ)
(فوَاللَّه مَا أنسَى وَقد بكرَت لنا ... بإبريقها تسعَى بِهِ القينةُ البكرُ)
(تدورُ بكاساتِ العُقارِ كأنجُمٍ ... إِذا طلعَتْ من بُرجها أَفَلَ البدرُ)
(نداماىَ نُعمٌ والربابُ وزينبْ ... ثلاثُ شخوصٍ بَيْننَا النظمُ والنثرُ)
(على الناىِ والعودِ الرخيمِ وقهوةٍ ... يذكِّرها دنيا بأقدامنا الْعَصْر)
(فتقتص من ألبابنا ورءوسنا ... فَلم ندر هَل ذَاك النعاس أم السكر)
(مُعتقة من عهدِ عادِ وجرهمٍ ... ومودعها الأدنان لقمانُ والنسْرُ)
(مشعشعةً صفراً كَأَن حبابَها ... على فُرُشٍ مِنْ عسجدٍ نثر الدرُ)
(إِذا فرغَت من كأسِ نعم وأختِها ... تشابه من ثغريهما الرِّيق وَالْخمر)
(خلا أَن ريق الثغر أشفى لمهجتي ... إِذا ذاقه قلبِي الشجِي خَمَدَ الجمرُ)
(وأنفَعُ درياقٍ لمن قَتَلَ الهوَى ... فماتَ ارتشاف الثغر إِن سمح الثغر)
(بِهَذَا عرفنَا الفَرقَ مَا بَين كأسِها ... وَبَين مُدامِ الظلمِ إِن أشكَلَ الأمرُ)
(فوَاللَّه مَا أسلو هَواهَا على النوَى ... بلَى إِن سلا بذل النوَى الْملك القسرُ)
(أَبُو حسنٍ زيدُ المحاسن والعُلاَ ... لَهُ دونَ أملاكِ الورَى المجدُ والفخرُ)
(إِذا مَا مشَى بَين الصفوفِ تزلزلَت ... لهيبته الْأَقْيَال والعسكر المجر)
(وترجف ذَات الصدع خوفًا لبأسِهِ ... فتندك أطوادُ الممالِكِ والقفْرُ)
(فَلَو قَالَ الْبَحْر المحيطِ ائتِ طَائِعا ... أَتَاهُ بإذنِ الله فِي السَّاعَة البحْرُ)
(تظل ملوكُ الأرضِ خاشعةَ لَهُ ... وَمَا خشعَتْ إِلَّا وَفِي نَفْسها أمْرُ)
(كريم مَتى تنزلْ بأعتابِ دارِهِ ... تَجِد ملكا يزهو بِهِ النهْيُ والأمْرُ)
(تجدْ ملكا يُغني الوفودَ وينجز الوعود ... وَأدنى بذله الدهم والشقرُ)
(على جودِهِ من وجهِهِ ولسانِهِ ... دليلانِ للوفدِ البشاشةُ والبِشْرُ)
(فَمَا أحنفٌ حلماً وَمَا حَاتِم ندى ... وَمَا عنتر يَوْم الحقيقةِ أَو عَمْرُو)
(هُوَ الملكُ الضحاكُ يومَ نزاله ... إِذا مَا الجَبانُ الْوَجْه قطبه الكرُ)
(لقد قرَ طرف الملكِ مِنْهُ لِأَنَّهُ ... لَدَيْهِ النوال الحلو وَالْغَضَب المر)
(حَيَاة وَمر للموالي وللعدَى ... لقد جمعا فِي كَفهِ الجبْرُ والكسْرُ)
(أنِخ عِنْده يَا طالبَ الرزقِ إِن مَا ... حواه أنوشِرواًن فِي عينه نَزرُ)
(وَلَا تُصغِ للعذالِ أذنا وَإِن وَفَوْا ... بإحسانهم مِنْهُ فَمَا العَبْدُ والحرُ)
(وَهل يَسْتَوِي عَذبٌ فراتٌ مروّقٌ ... وملحٌ أجاجٌ لَا وَلَا التبْنُ والتبرُ)
(فَلَو سَمِعت أذن العداة بمجده ... مزاياه لَا ستحيت ولكنْ بهَا وقْرُ)
(فَمَا قَدَرُوا زيدَ الْعلَا حق قدره ... وماذا عليهِم يَا تُرَى لَهُم الخسْرُ)
(مليكٌ إِلَيْهِ الانتهاءُ فقيصرٌ ... يقصرُ عَنهُ بل وكسرى بِهِ كَسْرُ)
(مليكٌ لَهُ عندَ الإلهِ مكانةٌ ... تبوأها من قبلِهِ الياسُ والخِضْرُ)
(مليك لَهُ سرٌ خفيٌّ كَأَنَّمَا ... يناجيه فِي الغيبِ ابنُ دَاوُد والجفر)
(فَإِن كذبَتْ أعداءُ زيد فحسبُهُ ... من الشاهدِ المقبولِ قصتُهُ البكرُ)
(ليَالِي إِن جَاءَ الخَصِيُُّ وَأَكْثرُوا ... أقاويلَ غيٍّ ضاقَ ذرعاً بهَا الصدرُ)
(فأيقظَهُ من نومِهِ بعد هجعةٍ ... من الليلِ بيْتٌ زَاد فخراً بِهِ الشعرُ)
(كَأَن لم يكُن أَمر وَإِن كانَ كَائِن ... لكانَ بِهِ أمرٌ نفى ذَلِك الأمرُ)
(وَفِي طيِّ هَذَا عبرةٌ لأولى النهَى ... وذكرَى لمن كانَتْ لَهُ فطنةٌ تَعرُو)
(فيا زيدُ قل للحاسدِينَ تحنَّطوا ... بغيظِكُمُ إِن لم يطع \ يعكم الصبرُ)
(فمجدي كَمَا قد تعلمونَ مؤثل ... وكل حَماًمِ الْبر يفرسه الصقْرُ)
(من القومِ أربابِ المكارمِ والعلا ... ميامينُ فِي أيديهِمُ اليُسرُ والعُسرُ)
(مساميحُ فِي اللأوا مصابيحُ فِي الوغَى ... تصالح فِي مغناهم الخيْرُ وَالشَّر)
(أسنتهُم فِي كُل شرقٍ ومغربٍ ... إِذا وردَت زرق وَإِن صدرَتْ حُمرُ)
(مساعيرُ حَرْب والقنا متشاجر ... وَيَوْم الندَى تبدو جحاجحة غُرُ)
(بني حسنِ لَا أبعدَ الله دارَكُم ... وَلَا زالَ منهلاً بأرجائِها القطرُ)
(وَلَا زالَ صدْرُ الملكِ منشرحاً بكُم ... فعنكُم ولاةَ البيتِ ينشرحُ الصدرُ)
(وصَلى على المختارِ والآلِ ربُّنا ... وسَلمَ مَا لاحَ السماكان والغفرُ)
وَفِي سنة خمسين وَألف يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر جُمَادَى الأولى توفّي الشَّيْخ تَاج الدّين زَكَرِيَّا بن سُلْطَان النقشبندي بِمَكَّة وَدفن صبح الْخَمِيس فِي رباطه الشهبر برباط تَاج فِي سفح جبل قعقيعان وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة
أَخذ عَنهُ الشَّيْخ الأمجد أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عَلان وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الله وَأَخُوهُ الشَّيْخ مُحَمَّد ابْنا الشَّيْخ سعيد باقشير
وفيهَا توفّي الْجمال مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَكِيم الْملك بالديار الْهِنْدِيَّة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف لَيْلَة الْخَمِيس ثَانِي عشر صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ فتح الله النّحاس الْحلَبِي الشَّاعِر الْمجِيد والأديب الفريد الَّذِي شاع ذكره وشعره وذاع وَجمع بَين الْإِسْرَاع والإبداع
كَانَ من فحول الشُّعَرَاء فِي عصره وفريد النثر وَالنّظم فِي دهره
ورزق حظوة عِنْد أَهله وقبولا يعْهَد مثله لمثله لكنه كَانَ ذَا تعاظم فِي نَفسه وتكبر على جنسه وَلم يسعفه دهره كعادته فِي الأدباء فَأَدْرَكته حِرْفَة الْأَدَب وناداه لِسَان حَاله لَا تعجب فَإِنِّي أَبُو الْعجب
مولده بحلب فِي حُدُود الْألف وَصَحب الْمَشَايِخ الْكِبَار وَحج وزار
وَأقَام بِالْمَدِينَةِ على مشرفها الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى أَن أدْركهُ بهَا الْحمام فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَدفن بِالبَقِيعِ
وَقد عَنى بِجمع مَا تيَسّر من شعره مَوْلَانَا الْعَلامَة الفهامة برهَان الدّين الشَّيْخ إِبْرَاهِيم ابْن المرحوم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن الخياري الْمدنِي فَجَمعه فِي ديوَان لطيف وَمن بديع شعره قَوْله مادحاً النَّبِي
من // (الْبَسِيط) //
(وتذكر السفحَ فانهلتْ سوافحه ... وليسَ يخفاكَ مَا تُخفي جوانحُهُ)
وَفِي هَذِه القصيدة بَيت يجفل مِنْهُ الطَّبْع الذكي وَيَوَد أَن يكون عِنْد فهمه بليداً أَي بليد وَإِن كَانَ هُوَ عِنْد أدباء الْعَصْر بَيت القصيد وَهُوَ قَوْله من // (الْبَسِيط) //
(وَمَا أقولُ إِذا مَا جئتُ أمدحُ من ... جبريلُ خادمُهُ وَالله مادحُه)
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف أنشأ مَوْلَانَا الشريف زيد بن محسن سَبِيلا وحنفية بِمَكَّة المشرفة
فَقَالَ مَوْلَانَا القَاضِي تَاج الدّين مؤرخاً لعمارتهما من // (السَّرِيع) //
(لله تأسيس نما خيرُهُ ... وفازَ بالتطهيرِ مَنْ أَمَّ لَهْ)
(بِهِ سَبِيل وحنفية ... وسلسبيلْ فارتشفْ سلسلَهْ)
(لَهُ نبا فِي الفيضِ مهما روى ... حَدِيثه أورى بِمَا سلسلَهْ)
(سالَت عطاياه لُجيناً فمَنْ ... رامَ نداه نالَ مَا أمَّلَهْ)
(وحيثُ لم تكتفِ سُؤاله ... فَلَا يكف الْبَذْل إِذْ أرسَلَهْ)
(لِأَن من أسَّسَ بنيانَهُ ... غيثُ الورى فِي السنةِ الممحله)
(مَن نفسُهُ يومَ عطاه ترَى ... إِن وهب الدُّنْيَا فقد قَلَّ لهْ)
(توَّجَهُ الله بتاجِ زها ... بجوهرِ المجدِ الَّذِي كَلَلَهْ)
(وَالله من وافرِ إحسانِهِ ... أجرَى لَهُ الأجْرَ الَّذِي أجزَله)
(فإنْ تسل عَن ضبطِ تاريخِهِ ... فخذْ جَوَابا يوضحُ المسألَهْ)
(أسَّسَه سلطانُ أم القُرَى ... زيد يدومُ الْعِزّ والسعد لَهْ)
وَلما كَانَ أَوَائِل سنة سبع وَخمسين طلع الصنجق الْكَبِير صَاحب جدة الْمُسَمّى مصطفى بك غلى وَادي الطَّائِف المأنوس لزيارة الحبر سيدنَا عبد الله بن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا وطلع بعده الأغا المكرم بشير أغا غُلَام المرحوم مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان بن أَحْمد خَان وَهَذَا من مَجِيئه الثَّانِي سنة سِتّ وَخمسين بعد الْألف مُتَوَلِّيًا مشيخة الْحرم النَّبَوِيّ فَأَقَامَ مَا شَاءَ الله أَن يُقيم ثمَّ لما أَن كَانَ نازلاً إِلَى مَكَّة طالعاً فِي الْمحل الْمَعْرُوف بالنقب الْأَحْمَر وَجه جبل كِرَاء مِمَّا يَلِي الطَّائِف وَقد تَفَرَّقت عساكره خلفا وأماماً وَلم يبْق مَعَه سوى السائس وحامل كوز المَاء اعْتَرَضَهُ رجل عَرَبِيّ كَانَ يتعهده بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ يُقَال لَهُ الْجَعْفَرِي فَضَربهُ وَهُوَ متجرد للْإِحْرَام(4/460)
بسكين الْعَرَب أنفذها إِلَى أحشائه وَذهب وَلم يدر مَحَله قيل إِن السائس أَرَادَ ضرب الْقَاتِل فَوَقع السَّيْف فِي مُؤخر الحصان فقمص فَسقط عَنهُ الصنجق فلاحقت العساكر فَلم يلبث إِلَّا نَحْو ساعتين وَتُوفِّي شَهِيدا إِلَى رَحْمَة الله وَكَانَ قَتله يَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْأُخْرَى من السّنة الْمَذْكُورَة وَدخل بِهِ مَكَّة فِي التخت قَتِيلا غرَّة رَجَب مِنْهَا فَجهز وَدفن فى المعلاة أَمَام قبَّة السيدة خَدِيجَة زوج النبى
وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف رَحمَه الله تَعَالَى سنتها قد توجه إِلَى جِهَة الشرق فأبعد حَتَّى وصل قَرِيبا من الخرج وَكَانَ الْقَائِم مقَامه لحفظ مَكَّة مَوْلَانَا السَّيِّد إِبْرَاهِيم ابْن الشريف مُحَمَّد ابْن الشريف عبد الله بن حسن فاستدنى السَّيِّد إِبْرَاهِيم غَالب عَسْكَر الصنجق وأنزلهم فِي مَحل يسعهم بأجياد وأجرى عَلَيْهِم الجوامك والأرزاق وَأمر السَّيِّد الْمَذْكُور كيخية الْعَسْكَر دلاور أغا بالنزول إِلَى جدة لحفظ البندر فَامْتنعَ أَشد الِامْتِنَاع ثمَّ لما كَانَ بعد لَيَال عديدة نزل بعد هزيع من اللَّيْل قَاصِدا جدة خلسة فشعر بِهِ السَّيِّد إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وأرصد لَهُ جمَاعَة فأمسكوه وَأتوا بِهِ فحبسه ثمَّ اختلس بعض الْعَسْكَر نَفسه وَذهب إِلَى بشير أغا بشير أغا بِالطَّائِف وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فَأقبل بشير إِلَى مَكَّة وَنزل بمدرسة الأغا بهْرَام بالمسعى فتردد السَّيِّد إِبْرَاهِيم فِي الْوُصُول إِلَيْهِ وَعَدَمه لاخْتِلَاف المشير ثمَّ جزم وعزم إِلَيْهِ فَتَلقاهُ بِمَا هُوَ الْوَاجِب ثمَّ قَالَ لَهُ لما اسْتَقر الْمجْلس لِمَ حبستم دلاور آغا فَقَالَ السَّيِّد إِبْرَاهِيم حبسناه خشيَة من إضراره وإفساده فإننا قد ألزمناه مرَارًا بالنزول إِلَى جدة فَامْتنعَ فارتينا بنزوله خُفْيَة فَقَالَ بشير أطلقهُ فَقَالَ لَا أطلقهُ حَتَّى يصل مَوْلَانَا الشريف زيد ثمَّ قَامَ السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي نزل بشير أغا إِلَى الأفندي واستدعوا مَوْلَانَا السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَحكم عَلَيْهِ الأفندي بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلقهُ ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عزم السَّيِّد إِبْرَاهِيم والقائد رشيد حَاكم مَكَّة إِلَى نَحْو بركَة الماجن للتنزه فاستجر بشير أغا الْعَسْكَر وَوَعدهمْ فحملوا أثقالهم وأدخلوها من بَاب الْمَسْجِد وَخَرجُوا بهَا من بَاب ابْن عَتيق ثمَّ خَرجُوا بعد الْعَصْر حازبين مارين على دَار السَّعَادَة ثمَّ على السُّوق ثمَّ على سويقة إِلَى أَن وصلوا بَيت بشير أغا وَكَانَ نازلا(4/470)
بالباسطية فوصل الْخَبَر للسَّيِّد إِبْرَاهِيم فوصل إِلَى الْبَلَد وَقَالَ لبشير آغا مَا هَذَا الْفِعْل فَقَالَ بشير فِي جَوَابه نعم عَسْكَر السُّلْطَان لَهُم فِي التربية سِنِين تأخذهم فِي خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ فِي عَسْكَرهمْ شخص اسْمه جاووش كثير الْفساد وَشرب الْخمر والتعدي فَأمر السَّيِّد إِبْرَاهِيم بقتْله أَيْنَمَا وجد فَوجدَ سَكرَان على الطَّرِيق فتناوله عَسْكَر الشريف فقطعوه فثارت الْفِتْنَة وترامى العسكران بالرصاص وَقتل شخص من النَّاس خلف مقَام الْمَالِكِي وَقتل كخية بشير أغا وَلم يزل مطروحاً عِنْد بَاب ابْن عَتيق إِلَى اللَّيْل من دَاخل الْمَسْجِد حَتَّى رَفعه بعض أهل الْخَيْر ثمَّ سعى القَاضِي أَحْمد كرباش وَغَيره بِالصُّلْحِ والمكافة وَألا يصل إِلَيْنَا مِنْكُم أحد وَنحن كَذَلِك مَا عدا ثَلَاثَة أشخاص مُعينين من جمَاعَة بشير لقَضَاء حَوَائِجه من السُّوق وسكنت الْفِتْنَة وَذكر لي من أدْرك ذَلِك أَن مَوْلَانَا الشريف زيدا رَحمَه الله تَعَالَى اسْتحْسنَ جَمِيع مَا فعله السَّيِّد إِبْرَاهِيم مَا عدا قَتله للجاووش فَإِنَّهُ لامه عَلَيْهِ فرحم الله الجيمع برحمته الواسعة وَاتفقَ فِي مُدَّة وُقُوع الشنآن بَين بشير أغا وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد أَن قَرَأَ فِي صَلَاة الْمغرب بعض أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة بِسُورَة الْفِيل ثمَّ قَرَأَ فِي صَلَاة الصُّبْح سُورَة وَالْفَجْر وَكَانَ بشير يحضر صَلَاة الْجَمَاعَة فَلَمَّا فرغ من صَلَاة الصُّبْح قَالَ لرجل من أهل مَكَّة كَانَ يألفه انْظُر أهل مَكَّة يرجمونا بِالْقُرْآنِ لموجب قِرَاءَة الإِمَام الْمَذْكُور فِي الْمغرب بِسُورَة الْفِيل فَإِن فِيهَا ذكر أَصْحَاب الْفِيل {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أَبابيل} الْفِيل 3 إِلَى آخر السُّورَة وَفِي الصُّبْح بِسُورَة الْفجْر وفيهَا ذكر عَاد {اَلذَينَ طَغَوا فى الْبَلَد فأكَثَرُوا فِيها اَلفَسادَ فَصَب عَلَيْهِم رَبُكَ سَوط عذابٍ} الْفجْر (11: 13) الْآيَات فَبلغ قَوْله الإِمَام الْمَذْكُور وَهُوَ لم يخْطر لَهُ شئ من ذَلِك ببال وَلَا علِق مِنْهُ بحبال فارتاع لذَلِك وارتاب ولبث الْبَيْت وزرر الْبَاب وَمكث على ذَلِك أَيَّامًا وَتمنى أَن لم يكن إِمَامًا وَهُوَ اتِّفَاق فِيهِ إِيهَام لَكِنَّهَا رمية من غير رام لطف الله بِنَا وَبِه ثمَّ عزم مَوْلَانَا الشريف رَحمَه الله فِي عَام تسع وَخمسين إِلَى زِيَارَة جده
فَكَانَ دُخُوله يَوْم الْخَمِيس ثامن شهر شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بالقاضية خَارج(4/471)
السُّور ثمَّ فِي فجر الْيَوْم الْعَاشِر من الشَّهْر الْمَذْكُور نزل الأفندي زفر قَاضِي الْمَدِينَة الشَّرِيفَة رَاكِبًا وَمَعَهُ ثَلَاثَة من الخدم فَلَمَّا كَانَ عِنْد الدفتردارية وثب عَلَيْهِ شخص فَضَربهُ بِالْحَدِّ فى ظَهره أنفدها من صَدره فأكب على قربوس الْفرس وَلم تزل دَاخِلَة بِهِ إِلَى محراب السَّيِّد عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَإِمَام الشَّافِعِيَّة قَائِم يُصَلِّي الْفجْر فَقَامَ بعض النَّاس إِلَيْهِ وأنزلوه بآخر رَمق وَهُوَ يَقُول يَا رَسُول الله يَا رَسُول الله وَوضع أَمَام الْوَجْه الشريف وَبعد لَحْظَة قضى عَلَيْهِ فحشدت عَسَاكِر الْمَدِينَة وَاجْتمعت وأغلقت أَبْوَاب سور الْمَدِينَة وَتَفَرَّقَتْ فِي متارسه ووجهوا المدافع إِلَى جِهَة مَوْلَانَا الشريف زيد وَنَادَوْا اخْرُج عَنَّا الْآن وبدا مِنْهُم مَا هُوَ وَصفهم فَبعث إِلَيْهِم الشريف أكَابِر جماعته وأكابر عَسْكَر مصر فَحَلَفُوا لَهُم بِأَن لَا علم للشريف بذلك وَلَا شُعُور ولوَّموهم على ذَلِك خطابا من تَحت السُّور فتراجعوا وَفتح بَاب السُّور فَفِي الْيَوْم الثَّانِي استدعي وُجُوههم لينْظر فِي حَال قتلة الأفندي ويبحث عَنْهُم فَأتوا إِلَيْهِ فَلم يزل يمسكهم وَاحِدًا وَاحِدًا وحبسهم مديدة ثمَّ وَقعت فِي بَعضهم شَفَاعَة ففك وَذهب بالباقين وهم نَحْو تِسْعَة أنفس فَأمر بإبقائهم فى يَنْبع فاستمروا إِلَى مجئ الْحَاج فاستشفعوا بأمير الْحَاج فَأتى بهم مستشفعاً فيهم فشفعه مَوْلَانَا الشريف ثمَّ لما نزل بعد الْحَج الصنجق غيطاس أَمِير جدة من مَكَّة إِلَى جدة مغاضباً لمولانا الشريف زيد نزلُوا مَعَه وَكَتَبُوا أنفسهم فِي دفتر عسكره وَسبب غَضَبه النَّاشِئ عَنهُ الْحِرَابَة الْآتِي ذكرهَا فِي سنة سِتِّينَ وَألف أُمُور مِنْهَا أَنه ورد إِلَى مَكَّة بعض تجار من الصعايدة وشخص أعجمي يُسمى أَسد خَان جَاءُوا من جِهَة الْيمن بِتِجَارَة ونزلوا من الْبَحْر إِلَى بندر القنفدة ووصلوا إِلَى مَكَّة برا وَلم يدخلُوا بندر جدة فَلَمَّا أَن دخلُوا إِلَى مَكَّة وَكَانَ غيطاس بِمَكَّة قد وصل لِلْحَجِّ فاحتال على الصعيدي وحبسه وَكَانَ الصعيدي ملتجئاً إِلَى المرحوم السَّيِّد هَاشم بن عبد الله فَلَزِمَ السَّيِّد عَليّ الشريف زيد فِي إِطْلَاقه فوعده ثمَّ إِنَّه أَخَذته الحمية فَركب إِلَى الشريف ثَانِيًا ثمَّ نزل من عِنْده قَاصِدا لبيت الصنجق غيطاس لفك الرجل فَنَادَى مَوْلَانَا الشريف قَائِما من الروشن ردوا الرجل فَمضى فَلَمَّا أقبل على الْبَيْت لم يُقَابل إِلَّا بِالرجلِ الْمَحْبُوس مُنْطَلقًا فَرجع بِهِ(4/472)
4 - وَقيل إِن حبس غيطاس للصعيدي إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب دين عَلَيْهِ شكا فِيهِ على غيطاس وَمِنْهَا مجابذة الشريف زيد لَهُ لما جعل القرش الْحجر بِخَمْسَة وَأَرْبَعين ديواني فِي صرور أهل مَكَّة بِزِيَادَة خَمْسَة على الْأَرْبَعين الْمُعْتَادَة وَمِنْهَا إيحاء أُولَئِكَ النَّفر من عَسْكَر الْمَدِينَة ونسبتهم قتل الأفندي إِلَيْهِ وَمِنْهَا تردد السَّيِّد عبد الْعَزِيز ابْن الشريف إِدْرِيس إِلَيْهِ ومواطأته ووعده إسعافه بِمَا أَبى الله إِلَّا خِلَافه فَقبل أَن يَنْقَضِي الْحَج نزل غيطاس إِلَى جدة وَوصل إِلَيْهِ السَّيِّد عبد الْعَزِيز الْمَذْكُور فوصل الْخَبَر بعد قَلِيل إِلَى مَكَّة بتولية غيطاس للسَّيِّد عبد الْعَزِيز مَكَّة وَنُودِيَ لَهُ بالبلاد وَأقَام حَاكما فِيهَا نَاصِر بن سعيد عَتيق مصطفى السيوري وَظن أَنَّهَا تكون وَأَقْبل غيطاس وَمَعَهُ السَّيِّد الْمَذْكُور بِمن مَعَه وَمن لمَّ عَلَيْهِ من لفق عَسْكَر الْمَدِينَة وَخرج عَلَيْهِ مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَ اللِّقَاء يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر جُمَادَى الْأُخْرَى من سنة السِّتين وَألف فَوق التَّنْعِيم وَكَانَ فِي الميمنة مُتَقَدما مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث بجماعته وَمن يَلِيهِ وَكَانَ فِي الميسرة كَذَلِك مُتَقَدما قَلِيلا مَوْلَانَا المورحوم السَّيِّد مبارك بن شنبر بجماعته وَمن يَلِيهِ ومولانا الشريف زيد بِمن مَعَه فِي الْقلب والصروخ مَلَأت السهل والوعر وتراموا بالرصاص والمدافع وَكلما هم الْأَشْرَاف بالحملة يَقُول لَهُم مَوْلَانَا الشريف مَعكُمْ مَعكُمْ كِنَايَة عَن التلبث والتاني وارتفع النَّهَار وحميت الشَّمْس فركض من الْأَشْرَاف جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد وبير بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَالسَّيِّد بشير ابْن سُلَيْمَان وَالسَّيِّد أَبُو الْقَاسِم فأصيب السَّيِّد زبير بالبندق فَسقط بَين الجمعين وَأُصِيب جمَاعَة من الْجَانِبَيْنِ وَحين اشْتَدَّ الْحَال أَتَى مَوْلَانَا السَّيِّد عبد الْعَزِيز إِلَى جمع السَّيِّد الْمُبَارك بن شنبر دَاخِلا عَلَيْهِ طَالبا للأمان ولغيطاس وَمن مَعَه فعزم بِهِ السَّيِّد مبارك إِلَى مَوْلَانَا الشريف فَأَمنهُ وَوَقع الصُّلْح ونصبت للشريف حيمة فَنزل بهَا يستظل وَسَأَلَ السَّيِّد عبد الْعَزِيز من الشريف من يُوصل غيطاس إِلَى مأمنه لِأَنَّهُ أشْفق من نهبة العربان لَهُ فأصحبه الشريف خمسين شخصا من الْعَسْكَر فَذهب إِلَى جدة(4/473)
رَاجعا وَجَاء عَزله فَذهب إِلَى يَنْبع وواجهه الْحَاج بهَا وَمكث إِلَى عود الْحَاج من مَكَّة إِلَيْهَا وَتوجه مَعَهم إِلَى مصر وَتوجه مَعَه السَّيِّد عبد الْعَزِيز ابْن الشريف إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع فاستمر غيطاس بِمصْر سنهَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَجَاء فِي موسمها أَمِير الْمحمل الْمصْرِيّ فَتوهم مِنْهُ مَوْلَانَا الشريف زيد وَلما خرج للخلعة على الْعَادة لم يكن بَينهمَا مناكبة على الْمُعْتَاد بل مد لَهُ الشريف يَده الشَّرِيفَة فصافحه وَمن عامئذ تركت مناكبة شرِيف مَكَّة لأمراء الحجيج وَلم يَقع مِنْهُ شئ من المضار وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَأما مَوْلَانَا السَّيِّد عبد الْعَزِيز فَأَقَامَ بِمصْر نَحْو سنتَيْن ثمَّ جَاءَ خبر وَفَاته فِي السّنة الثَّالِثَة شَهِيدا بالطاعون رَحمَه الله وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ عمرت قبَّة الفراشين فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَقَالَ مَوْلَانَا القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي مؤرخاً عمارتها وممتدحاً معمرها // (من الرجز) //
(أُنْظُرْ لحسنِ قبةٍ جدَّدها ... مؤسساً فَخْرُ الملوكِ الأمجدُ)
(وقُلْ إِذا أَرّختَ عَاما كانَ فِي ... أثنائِهِ بناؤُهُ المشيَّدُ)
(عمرها سلطانُنَا محمَّدُ ... ألملكُ السَّامِي العلىُّ الأوحَدُ)
وَإِن أردْت تاريخها بِاعْتِبَار تَمام الْبناء كُله فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ فَقل الْمَالِك بِزِيَادَة الْألف وَلما أَرَادوا الشُّرُوع فِي الْعَمَل حملُوا الْمُؤْنَة على الْحمير وأدخلوها من بَاب البغلة وَيعرف هَذَا الْبَاب قَدِيما بِبَاب بني سُفْيَان بن عبد الْأسد كَذَا قَالَه الْأَزْرَقِيّ وَعرف الفاسي هَذَا الْبَاب بِبَاب البغلة قَالَ وَلم أدر مَا سَبَب هَذِه الشُّهْرَة قَالَ الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد عَليّ بن عَلان لَعَلَّ سَببهَا أَن بغلته
ربطت أَو وقفت ثمه فِي بعض الْأَوْقَات وَالله أعلم وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف أصَاب شاهجهان سُلْطَان الديار الْهِنْدِيَّة فالج عطله عَن الْحَرَكَة وَحصل بَين أَوْلَاده حروب كَثِيرَة وَلما أَرَادَ الله بِالْهِنْدِ خيرا وإحساناً وَقدر ظُهُور الْعدْل فيهم كرماً وامتناناً أظهر فِي حافتيها شموس السلطنة بِلَا ريب وأنار فِي سَمَاء سلطنتها أنوار أورنك زيب وطوى بِسَاط إخوانه ومزق وَحرق بِنَار المظلومين لباسهم وخرق وَقتل أَخَاهُ دَارا شكور واقتلعه هُوَ وَأَصْحَابه من ملك الحبور وأسكنهم دارسات الْقُبُور وَكَانَ دَارا شكور ذَا ذوق وفطنة بهية وصفات مستحسنة رضية إِلَّا أَنه فِي آخر عمره صَارَت سيرته ذميمة وأحدث مظالم وخيمة(4/474)
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من شَوَّال مِنْهَا توفّي مَوْلَانَا السَّيِّد عمار بن بَرَكَات بن جَعْفَر بن أبي نمي فِي الديار الْهِنْدِيَّة رَحمَه الله تَعَالَى وفيهَا أَوَاخِر شهر رَمَضَان توفّي بالقرية الْمُسَمَّاة بالآبار من بَلْدَة الطَّائِف الحميدة الْآثَار وَدفن فِي سوح ضريح الحبر ابْن عَبَّاس طيب الأنفاس مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا الْعَلامَة الْعُمْدَة الصَّدْر الفهامة القَاضِي عِصَام الدّين بن عَليّ زَاده العصامي نتيجة الْفُضَلَاء الْكِرَام وسلالة الْعلمَاء الْأَعْلَام الرَّاوِي حَدِيث الْمجد عَن أسلافه الأماثل وَالْحَاوِي محَاسِن سلسلة آبَائِهِ الْفُضَلَاء الَّتِي لم يفصلها بِحَمْد الله جَاهِل والرافع عماد بَيتهمْ والمجيب منادى صيتهم وصوتهم بَيت فضل لم ينشأ بِهِ إِلَّا قَاض وخطيب فنن فَضله فِي رياض الْمَعَالِي رطيب ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَأخذ الْعلم عَن وَالِده وَعَن مَوْلَانَا السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَعَن ابْن عَمه مَوْلَانَا الشَّيْخ عبد الْملك بن جمال الدّين العصامي وَغَيرهم ولازم الإقراء والتدريس على الدَّوَام فِي الْمَسْجِد الْحَرَام على طَريقَة الْعلمَاء الكاملين وَالْأَئِمَّة الواصلين وَخلف ابْنَيْنِ نجيبين كَامِلين هما مَوْلَانَا القَاضِي عَليّ ومولانا المرحوم القَاضِي مُحَمَّد انْتقل مُحَمَّد بعد سنوات عَن ابْنَيْنِ نجيبين أَيْضا وتصدر مَوْلَانَا القَاضِي على مَكَانَهُ للإقراء والإفادات وَهُوَ كآبائه على طَرِيق خير وَصَلَاح قد أشرق نورهما عَلَى محياه ولاح أَطَالَ الله بَقَاءَهُ للدّين ونفع بِعُلُومِهِ الْمُسلمين آمين وَفِي سنة سبعين حصل غلاء بِمَكَّة وصلت فِيهِ كيلة الْحبّ إِلَى سَبْعَة عشر محلقاً فَأَشَارَ شَيخنَا الْعَلامَة مُحَمَّد البابلي على مَوْلَانَا الشريف زيد بِإِبْطَال التسعير فَأطلق مناديه بذلك وَأَن كل من عِنْده حب أَو مَا يقتات بِهِ يَبِيعهُ بِسعْر الله فأظهر كل من عِنْده الْحبّ وجلب من سَائِر الْبلدَانِ حَتَّى كثر وَرخّص السّعر وَسبب الغلاء كَثْرَة الْجَرَاد بِأَرْض الْحجاز واليمن وأعقبه الدبا فَأكل جَمِيع الْأَشْجَار والزراعات وطبق بعض الأدباء تَارِيخا على قَوْله غلاء وبلاء نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُمَا وَمن كل مخوف(4/475)
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين عمرت زَمْزَم وَالْبناء الَّذِي عَلَيْهَا مَا عدا الْجِهَة الْقبلية وأدير بَاب المصعد إِلَى قبتها إِلَى الْجِهَة الجنوبية فأرخ ذَلِك قَاضِي مَكَّة عامئذ وَهُوَ بعض الأروام الْوَاصِل مِنْهُم كل عَام جَدِيد قَاض جَدِيد بِأَبْيَات بالتركية آخرهَا بَيت التَّارِيخ بِالْعَرَبِيَّةِ هُوَ
(قلتُ تاريخُهُ بلفظٍ حَلٍ ... قَدْ بنى الزمزمَ محمَّدُ خَانْ)
وَهِي أَبْيَات دون عشرَة منقورة فِي حجر على بَاب زَمْزَم إِلَى الْآن فسبحان الْحَكِيم وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف يَوْم السبت بعد الظّهْر سَابِع شعْبَان مِنْهَا حصل مطر سَالَ مِنْهُ سيل كَبِير مَلأ الْمَسْجِد وغرق فِيهِ نَحْو سِتَّة أنفس فتصدى مَوْلَانَا الشريف زيد لتنظيفه ونادى فِي النَّاس وَحضر بِنَفسِهِ وَكَذَلِكَ صنجق جدة الْأَمِير سُلَيْمَان بك وَهُوَ يَوْمئِذٍ شيخ الْحرم الْمَكِّيّ وقائم على عمَارَة المقامات وترميم المشاعر وَعمل الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء والخطباء والمدرسون بِأَيْدِيهِم بعد أَن عمل مَوْلَانَا الشريف زيد بِيَدِهِ وبذل هُوَ والسنجق مَالا جزيلاً وأعمل الهمة فِي ذَلِك فتم تنظيفه من سَائِر جهاته فِي سَبْعَة أَيَّام وَللَّه الْحَمد وَالشُّكْر وَقَالَ صاحبنا المرحوم مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد ابْن المرحوم مَوْلَانَا السَّيِّد أبي بكر بن سَالم ابْن شَيْخَانِ مؤرخاً دُخُول السَّيْل // (من الْخَفِيف) //
(قهقَهَ الرعدُ عِنْدَمَا ابتسَمَ البَرْقُ ... فأبكَى الغَمَام قَطْر المياهِ)
(وأذابا قلوبَنَا الخوفُ والرعْبُ ... فويلٌ لغافلِ القَلْب ساهِى)
(وأتانا طوفانُ نوحٍ وبالمَوْتِ ... قَطعنَا لَوْلَا جنابُ الإلهِ)
(إِن تقُلْ أَوْضِحُوا فسابعُ شعبانَ ... وسبْت ليومِ سِتّ مُضَاهِى)
(أَو تردْ عَامه المهيلَ فأرِّخْ ... باتَ سيلٌ يطوفُ بالبيْتِ دَاهِى)
وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَألف عمرت المقامات الْأَرْبَعَة مقَام الْخَلِيل وَبَاقِي الثَّلَاثَة وطلاء جَمِيع قباب الْمَسْجِد بالنورة ظَاهرا وَبَاطنا ورممت جَمِيع المشاعر بِعَرَفَات مَسْجِد إِبْرَاهِيم وقبة جبل الرَّحْمَة والمشعر بِمُزْدَلِفَة وَمَسْجِد الْخيف بمنى وأعلام الجمرات وحدود الْحرم وَفِي سنة سِتّ وَسبعين خرج مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى بِلَاد جُهَيْنَة(4/476)
لطلب ثأر السَّيِّد مساعد استجره وَالِد مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا المُصَنّف هَذَا الْكتاب برسمه المشرف بلقبه الشريف واسْمه متع الله بحياته مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد غَالب بن مُحَمَّد ولي الدَّم الْأَدْنَى فَتوجه بِجَمِيعِ من مَعَه من السَّادة الْأَشْرَاف وأتباعهم وعساكره وعساكر مصر رُتْبَة مَكَّة إِلَيْهِم وَأقَام ببدر وَتوجه مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد حمود بن عبد الله إِلَى زِيَارَة جده
وَكنت زَائِرًا مَعَه فِي كنف جنابه على خيله وركابه وفيهَا كَانَ وُرُود الأغا عماد أَفَنْدِي الرُّومِي فاتجه بِهِ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود فِي الطَّرِيق وَذَلِكَ أَنه لما وصلنا إِلَى الْخيف الْمنزل الْمَعْرُوف وجدنَا مخيمه بهَا فَمَال إِلَيْهِ السَّيِّد حمود مَعَ بعض أَوْلَاده وَبني إخْوَته وَبني عَمه ودخلوا عَلَيْهِ فَقَامَ ساعياً حافياً من بُعد فَكَانَ أول اجتماعه بِهِ هُنَاكَ فَجَلَسَ عِنْده حينا من الزَّمَان ثمَّ خرج وَتوجه للزيارة ثمَّ لما رَجَعَ وجد مَوْلَانَا الشريف زيد مُقيما ببدر فَنزل بمحشوش اسْم مَاء قرب بدر ثمَّ توجها مَعًا إِلَى حرابة جُهَيْنَة وَكَانَ المرحوم السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم ابْن السَّيِّد حمود هُوَ الْقَائِم مقَام مَوْلَانَا الشريف زيد بِمَكَّة المشرفة عامئذ وَكَانَت الأمطار قد كثرت بالحجاز فرخصت الأسعار جدا حَتَّى يبع الإردب الْقَمْح بِثَلَاثَة حُرُوف عددي والمن والجبن بمحلقين والألبان واللحوم والخيرات كَثِيرَة وَمثل مَكَّة فِي هَذَا مَا حولهَا من الأقطار وَللَّه الْحَمد وَالشُّكْر ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَألف كَانَ هلالها بالأحد فِي فجر لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثالثه كَانَت وَفَاة سُلْطَان الْحَرَمَيْنِ ونواحيهما والمالىء بعدله وأمنه دانيهما وقاصيهما مَوْلَانَا المرحوم الشريف زيد ابْن الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن فَصَعدت روحه إِلَى معالم الْعَرْش والكرسي وأفيض عَلَيْهِ من الرضْوَان سابغ الرّوح الْقُدسِي كَانَ رَحمَه الله متخلقاً بالأخلاق المحمدية متصفاً بِالصِّفَاتِ الكمالية كَانَ كثير الْحلم وَالصَّبْر والشفقة على الرّعية بِحَيْثُ يسمع بأذنيه مِنْهُم الأسية وَيَعْفُو ويصفح تأسياً بجده خير الْبَريَّة وَلم يضْبط عَلَيْهِ أَنه قتل شخصا بِغَيْر حق فِي هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة المرضية وَكَانَ الأقطار والرعية فِي زَمَنه آمِنَة مطمئنة فِي عيشة هنيَّة وَهُوَ حقيق بِأَن يلقب مهْدي الزَّمَان رَحمَه الله تَعَالَى وَأَسْكَنَهُ فسيح الْجنان(4/477)
كَانَ وِلَادَته رَحمَه الله تَعَالَى وَأعَاد على الْمُسلمين من بركانه بعد مُضِيّ دَرَجَتَيْنِ من شروق شمس يَوْم الْإِثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر شعْبَان الْمُعظم سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف ببلدة بيشة من أَعمال الشرق قلت قد أَخْبرنِي مَوْلَانَا الْخَطِيب الْعَلامَة اللبيب تتيجة الْفُضَلَاء وَعين الْأَعْيَان النبلاء برهَان الدّين الْخَطِيب وَالْإِمَام بمسجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِبْرَاهِيم ابْن الْعَلامَة الفهامة وَاحِد عصره بِلَا خلاف ونسيج وَحده كلمة ائتلاف مَوْلَانَا المرحوم الْخَطِيب أَحْمد بن عبد الله الشهير بالبري نقلا عَن وَالِده الْمَذْكُور أَنه حضر فِي مجْلِس مَوْلَانَا المرحوم الشريف زيد بعض متعاطي علم الرمل فَضرب تخته ثمَّ قَالَ لمولانا الشريف زيد رَحمَه الله قد دلّ الرمل الصَّحِيح على أَنه كَانَ وَقت علوق والدتك بنطفتك عِنْد الزَّوَال فِي شهر رَمَضَان فِي عَام خَمْسَة عشر بعد الْألف فاستغرب مَوْلَانَا الشريف ذَلِك لمَكَان شهر الصَّوْم ثمَّ إِنَّه سَأَلَ والدته عَن هَذَا الْمَعْنى فأجابت نعم كَانَ سَيِّدي أَبوك غازياً فِي شهر رَمَضَان لبَعض الْعَرَب فجَاء بعد أَن أدْرك من النَّصْر والنجح الأرب وَكَانَ وُصُوله فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي ذكره هَذَا الرجل فَوَقع عَليّ فأدركت الْحمل بك من حيني هَكَذَا أَخْبرنِي حفظه الله تَعَالَى نقلا عَن وَالِده الْخَطِيب أَحْمد الْبري الْمَذْكُور فعلى هَذَا تكون مُدَّة حمل مَوْلَانَا الشريف زيد زَادَت على تِسْعَة أشهر وَلَا مَانع من ذَلِك فَإِن أقْصَى مُدَّة الْحمل عِنْد السَّادة الْحَنَفِيَّة سنتَانِ وَعند السَّادة الشَّافِعِيَّة أَربع سِنِين وَقد اتّفق مكث الْحمل تِلْكَ الْمدَّة لأشخاص كَثِيرَة وَكَانَت مُدَّة ولَايَته خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وشهراً وأياماً رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة وَغفر لَهُ مغْفرَة جَامِعَة آمين وَلما مَاتَ وَقعت بِمَكَّة رجة عَظِيمَة فِي التَّوْلِيَة على الْمُسلمين وفيمن يقوم مقَامه بَين وَلَده الشريف سعد وَبَين السَّيِّد حمود بن عبد الله وَقَامَ كل من الرجلَيْن أَشد قيام وَجمع الجموع وبذل المَال وتحصنوا فِي الْبيُوت والمنائر وانضم الْأَشْرَاف جَمِيعهم إِلَى السَّيِّد حمود وَلم يبْق مَعَ الشريف سعد إِلَّا السَّيِّد مبارك بن مُحَمَّد الْحَارِث وَالسَّيِّد رَاجِح بن قايتباي وَالسَّيِّد عبد الْمطلب بن مُحَمَّد وَالسَّيِّد مُضر ابْن المرتضى وَالسَّيِّد الْحُسَيْن بن يحيى وَالسَّيِّد فَارس بن بَرَكَات وَالسَّيِّد مُحَمَّد(4/478)
ابْن أَحْمد بن عَليّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُنَادِي وَكَانَ فِي مَكَّة رجل عَظِيم الشَّأْن قد ورد فِي الْعَام الَّذِي قبل هَذَا الْعَام وَهُوَ عَام سِتّ وَسبعين ورد سنجقا ل جدة وشيخاً لحرم مَكَّة وَهُوَ عماد أَفَنْدِي الْمُتَقَدّم الذّكر أنفًا فَردُّوا الْأَمر إِلَيْهِ وأحضر خلعة عِنْده وَالرسل تسْعَى من الشريف سعد إِلَيْهِ إِلَى الضحوة فاتفق الرَّأْي أَن يُلبسوا الخلعة الشريف سعد فَأَخذهَا من تَحت ركبته شخص من أكَابِر عَسْكَر مصر يُقَال لَهُ المسلماني وَذهب بهَا إِلَى الشريف سعد فلبسها فِي بَيته من غير وعد قلت وَكَانَ مجْلِس عماد أغا فِي الْمَسْجِد فِي دكة عِنْد بَاب رِبَاط الداودية وَقد كنت إِذْ ذَاك وَاقِفًا أنظر فَبعد أَن أخذت الخلعة قيل لَهُ إِن ابْن الشريف زيد مُحَمَّد يحيى هُوَ الْمولى وَقد أَخذ لَهُ وَالِده أمرا سلطانياً بذلك فَقَالَ لمن أَخذ الخلعة قُولُوا للشريف سعد بِشَرْط أَنَّك قَائِم مقَام قَائِم مقَام هَكَذَا سمع أُذُنِي فَبعد أَن ذَهَبُوا بهَا وَمَشوا قَلِيلا دخل الْمَسْجِد من بَاب بني سهم الْمُسَمّى بِبَاب الْعمرَة جمَاعَة من الْأَشْرَاف مِنْهُم مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله وَالسَّيِّد مبارك بن الْفضل بن مَسْعُود وَعبد الله بن أَحْمد وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن حراز وَغَيره فِي نَحْو ثَمَانِيَة عشرَة أشخاص فوقفوا على عماد وَرَأَوا جمَاعَة للأتراك بيدهم الخلعة قد قاربوا بَاب الْمَسْجِد النَّافِذ إِلَى بَيت الشريف فَقَالَ لَهُم عماد نَحن ألبسنا الشريف سعد بِشَرْط أَنه قَائِم مقَام أَخِيه مُحَمَّد يحيى لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِم بعد أَبِيه المرحوم زيد بِأَمْر سلطاني فَلم يردوا عَلَيْهِ خطابا ثمَّ إِنَّهُم رجعُوا من الْبَاب الَّذِي دخلُوا مِنْهُ ثمَّ إِنِّي أَحْبَبْت الْإِحَاطَة التَّامَّة بالْخبر وَذَهَبت إِلَى منزل مَوْلَانَا السَّيِّد حمود فَإِذا الْخُيُول على الْبَاب وَإِذا الْمجْلس وَالْبركَة غاصان بالسادة الْأَشْرَاف فَلم أستقر فِي الْمجْلس إِلَّا وَالسَّيِّد حمود رَحمَه الله خَارِجا من مَحل الْحَرِيم معتماً عِمَامَة زرقاء عَلَيْهِ صوف عودي فَخرج إِلَى الْبركَة وَجلسَ لَحْظَة خَفِيفَة وَقَامَ عَامِدًا للنزول إِلَى مَوْلَاهُ المرحوم الشريف زيد وغسله ومعاناة تَجْهِيزه وَدَفنه وَمَعَهُ نَحْو ثَلَاثَة أشخاص من بني عَمه لَا أذكرهم الْآن فَلَمَّا كَانَ فِي أثْنَاء الدرج نازلاً إِذا السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث لاقاه طالعاً فمذ(4/479)
رَآهُ السَّيِّد حمود وقف وَقَالَ لَا قطع الله هَذِه الزائلة وَكَانَ جَوَاب السَّيِّد أَحْمد سمع أُذُنِي قَوْله إِذا جاءتك الرِّجَال كن زبرة فَرجع مَعَه ثمَّ جهز مَوْلَانَا الشريف زيد وَأخرج إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام بعد صَلَاة الظّهْر وَخرج مَعَه اثْنَان من الْأَشْرَاف أَحدهمَا وَلَده السَّيِّد حسن بن زيد وَالْآخر من أَوْلَاد عَمه وَأما بَاقِي الْعَسْكَر والأتباع فَلم يخرج مِنْهُم إِلَّا النزر الْيَسِير لاشتغالهم بِمَا هم فِيهِ وطلعوا بِهِ إِلَى المعلاة وَدفن فِي قبَّة المرحوم مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب فِي جَانِبه إِلَى جِهَة الْقبْلَة وَكَانَ لَهُ مشْهد عَظِيم وَخرج مَعَه أهل مَكَّة وَبكى عَلَيْهِ الصَّغِير قبل الْكَبِير وَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم أعظم مُصِيبَة على الْمُسلمين وَلَكِن نرْجِع إِلَى قَول رب الْعَالمين {الَّذين إِذا أصبتهم قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رجعون أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوت مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ اَلمُهتَدُونَ} الْبَقَرَة 157 وَمِمَّا قيل فِي تَارِيخ وَفَاته قَول أخينا الْفَاضِل الأريب الشَّيْخ أَحْمد بن قَاسم الخلي وَهُوَ تَارِيخ عَظِيم عَجِيب هُوَ قَوْله من الْخَفِيف
(ماتَ كهفُ الورَى مليكُ ملوكِ اْلأَرْضِ ... مَنْ لَمْ يَزَلْ مَدَى الدَّهْرِ مُحْسِنْ)
(فالمعاني قالَتْ لنا أرِّخُوهُ ... قد ثَوَى فِي الجنانِ زيدُ بْنُ محْسِنْ)
ولمولانا قَاضِي الْمُسلمين بِبَلَد الله الْأمين الإِمَام الْعَلامَة الْقدْوَة الفهامة مَوْلَانَا القاضى عبد المحسن ابْن مَوْلَانَا الشَّيْخ سَالم القلعي مؤرخاً لوفاته قَوْله من الْكَامِل
(يَا أهلَ مكَّةَ إنَّ سيدنَا الَّذِي ... مَلَكَ الحجازَ وكانَ فِيهِ الأرشَدُ)
(رَبُّ السماحةِ والشجاعةِ والحيا ... والحلْمِ وصفاه التقَى والسؤددُ)
(لَقِىَ الإلهَ فَكَانَ تاريخِى لَهُ ... زيدُ بن محسِن فِي الجنانِ مخلَّدُ)
وَمِمَّا قيل فِيهِ قَول الشَّيْخ مُحَمَّد بن حَكِيم الْملك رَحمَه الله تَعَالَى راثياً أَبَاهُ الشريف محسن ومادحاً لَهُ من الْبَسِيط
(صوادحُ البانِ وهْنًا شجوُهَا بادِى ... فمَنْ عذيرُ فَتى فى فَتِّ أكبادِ)
(سبٌّ إِذا غنَّتِ الورقاءُ أرَّقه ... تذكيرُهَا نغماتِ الشادِنِ الشادِى)
(فباتَ يرعفُ من عينَيْه تحسبُهُ ... يزبرجُ المدمَعَ الوكَّافَ بالجادي)(4/480)
(جافى المضاجعَ إلْف السهدِ ساورَهُ ... سُمُّ الأساودِ أَو أنيابُ آسادِ)
(لَهُ إِذا الليلُ واراه نشيجُ شَجٍ ... وجذوةٌ فِي حشاهُ ذاتُ إيقادِ)
(سمَّاره حينَ يضنيهِ توحُّشُهُ ... فيشرئبُّ إِلَى تأنيسِ عُوَّادِ)
(وجْدٌ وهمٌّ وأحزانٌ وبرحُ جوىً ... ولوعةٌ تتلظَّى والأسَى سادِى)
(أضناهُ تفريقُ شملٍ ظلَّ مجتمعا ... وضَنَّ بالعودِ دهْرٌ خطبه عادِى)
(فالعمرُ مَا بَين ضرِّ يَنْقَضِي وضناً ... والدهْرُ مَا بَين إيعادٍ وإبعادِ)
(لَا وصْل سلمى وَذَات الْخَال يرقُبُهُ ... وَلَا يؤمّلُ من سعدَى لإسعادِ)
(أشجَى فؤادىَ واستوهَى قوى جلدي ... أقوَى ملاعب بَين النصْبِ والوادِى)
(عفَّتْ محاسنهَا الأيامُ فاندرسَتْ ... واستبدلَتْ وَحْشَة من أُنْسُهَا البادِى)
(وعطَّلَتْهَا الرزايا وَهِي حاليةٌ ... بساكنيها وورَّادٍ وروَّادِ)
(وعاث صرفُ الليالِى فِي مَعَالمها ... فَمَا يجيبُ الصدَى فِيهَا سوى الصادِى)
(دوارج المور مارَتْ فِي معاهدها ... فغادَرَتها عَفا الساحاتِ والنادِى)
(وناعبُ البينِ نَادَى بالشتاتِ بهَا ... فأهلُهَا بَين أغوارٍ وأنجادِ)
(وصوحَتْ بالبلا أطلالُهَا وخلَتْ ... رحابها الفيحُ من هِنْدٍ وَمن هادِى)
(أضحَتْ قفاراً تجرُّ الراسياتِ بهَا ... ريحُ جنوبٍ وَشَمل ذيلها الخادِى)
(كَأَنَّهَا لم تكُنْ يَوْمًا لبيض مَهًا ... مراتعاً قد خلَتْ فيهنَّ من هادِى)
(وَلم تظلَّ مغانيها بغانيةٍ ... تغنى إِذا مَا روى مِنْ بَدْرها رادِى)
(وَلَا عطا بَينهَا رِيم وَلَا طلقٌ ... بهَا بدورُ دُجًى فِي بُرْجِ منطادِ)
(وَلَا تثنَّتْ بهَا لمياءُ ساحبة ... ذيل النَّعيم دلالاً بَين أندادِ)
(فارقْتُهَا فكإني لم أظَلَّ بهَا ... فِي ظِلٌ عيشٍ يجلى عذْرَ حسادِ)
(أجني قطوفَ فكاهاتٍ محاضرةٍ ... طوراً وطوراً أُنَاجِي زينةَ الْهَادِي)
(هيفاءُ يزرِى إِذا ماسَتْ تمايلها ... بأملَدٍ من غصونِ البانِ مَيَّادِ)
(بجانِبِ الجيدِ يهوى القرْط مرتعداً ... مهواهُ حد سحيق فَوق أكبادِ)
(شفاتها بَين حُرِّ الدّرّ قد خزنَتْ ... ذخيرة النحْلِ ممزوجاً بهَا الجادِى)
(إِذا نضَتْ عَن محياها النقابَ صَبَا ... مستهتراً كُلُّ سَجَّادٍ وعَبَّادِ)
(وَإِن تجلَّتْ فَفِيمَا قد جلَتْهُ دُجًى ... لنا بِهِ فِي الدآدي أيُّما هادِى)(4/481)
(وميضُ برقِ ثناياها إِذا ابتسمَتْ ... بعارضِ الدمعِ من مهجورها حادِى)
(وناظرانِ لَهَا يرتدُّ طرفُهُمَا ... مهما رنَتْ عَن قتيلٍ مَا لَهُ وادِى)
(وصبحُ غُرَّتها فِي ليلِ طُرَّتها ... يوماىَ من وَصْلها أَو هجرها العادِى)
(تلكَ الربوعُ الَّتِي كانَتْ ملاعبها ... أخنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخنَى على عَادِ)
(إِلَى مراتعِ غزلانِ الصريمِ بهَا ... يحنُّ قلبِي المعنَّى مَا شدا شادِى)
(بعدا لدهْرٍ رماني بالفراقِ بهَا ... وَلَا سقَى كنفيه الرائحُ الغادى)
(عَمْرِى لقد عظمَتْ تِلْكَ الفوداحُ منْ ... خطوبِهِ وتعدَّتْ حدّ تعدادِ)
(فقدْ نسيتُ وأنستْنِى بوائقه ... تِلْكَ الَّتِي دهدهَتْ أصلاد أطوادِ)
(مصارعٌ لبني الزهرا وأحمدَ قَدْ ... أذكرْنَ فخا ومَنْ أردى بهَا الهادِى)
(لفقدِهِمْ وعَلى المطلولِ مِنْ دمهم ... تبكِى السماءُ بدمْعٍ رائحٍ غادِى)
(وشَقَّ جيبَ الغمامِ البرْقُ من حزنٍ ... عليهمُ لَا علىَ أبناءِ عبَّادِ)
(كَانُوا كعقْد لجيدِ المجدِ مذْ فرطَتْ ... من ذَاك واسطةٌ أودى بتبدادِ)
(وهْوَ المليكُ الَّذِي للملكِ كَانَ حِمًى ... مذْ ماسَ من بُردِهِ فِي خيرِ أبرادِ)
(كانتْ لجيرانِ بيتِ الله دولتُهُ ... مهادَ أمْنٍ لسرحِ الخوفِ ذوادِ)
(وَكَانَ طوداً بدَسْتِ الْملك مُحْتَبِيًا ... ولاقتناصِ الْمَعَالِي أَي نهادِ)
(ثوَى بصَنْعَا فيا لله مَا اشتملَتْ ... عَلَيْهِ من مجدِهِ فِي ضيقِ ألحادِ)
(فقد حويتِ بِهِ صنعاءُ من شرفٍ ... كَمَا حوَتْ صعدةٌ بالسيد الهادِى)
(فحبذا أنتِ يَا صنعاءُ من بلدٍ ... وَلَا تغشى زياداً وكْف رعَّادِ)
(مصابُهُ كَانَ رزءاً لَا يوازنُهُ ... رزءٌ ومفتاح أرزاءِ وأسبادِ)
(وَكَانَ رَأْسا على الأشرافِ مُنْذُ هوَى ... تتابعوا إثْرَهُ عَن شبهِ ميعادِ)
(كهفُ المضافِ إِذا مَا أزمةٌ أزمَتْ ... من خطبِ نائبةٍ للمتنِ هدادِ)
(كهفُ المضافِ إِذا مَا أمحلَتْ سنةٌ ... يضنُّ فِي محْلها الطائىُّ بالزادِ)
(كهفُ المضافِ إِذا كَرَّ الْجِيَاد لَدَى ... حَرّ الجلادِ أثار النقْعَ بالوادي)
(كهفُ المضافِ متَى مَا يستباحُ حمى ... لفقدِ حامٍ بورد الكَرِّ عوادِ)
(كهفُ المضافِ إِذا الْجَلِيّ بِهِ نزلَتْ ... وَلم تجدْ كاشفاً مِنْهَا بمرصادِ)
(كهفُ المضافِ إِذا حلُّ المغارم فِي ... نيلِ العلاَ أثقل الْأَعْنَاق كالطادِ)(4/482)
(كهفُ المضافِ إِذا نَادَى الصريخُ ولَمْ ... يجدْ لَهُ مصرخاً كالغيثِ للصادِى)
(كهفُ المضافِ إِذا الدهْرُ العسوفُ سَطَا ... بضيْمِ جارٍ لنيلِ العِزِّ معتادِ)
(بل لهْفَ نَفْسِ ذَوي الآمالِ قاطبةَ ... عليهمُ خيْر مرتادٍ لمرتادِ)
(كانتْ بهم تزدهِى فِي السلْمِ أنديةٌ ... وَفِي الوغَى كُلُّ قدادٍ وميَّادِ)
(على الأرائِكِ أقمارٌ تضىءُ ومِنْ ... تحتِ الترائِكِ آسادٌ لمستادِ)
(تشكُو عداهُمْ إِذا شاكى ... شكٌ القنا مَا صفا مِنْ نسخِ زرادِ)
(إِلَى النحورِ وَمَا تحوي الصدورُ وَمَا ... وارَتْهُ فِي جُنْحها ظلماتُ جسادِ)
(جَناجنًا فُلُقًا تَحْوِى جَآ جِئُوهَا ... مِمَّا يقصِّدُ فِيهَا كل قَصَّادِ)
(بادوا فبادَ من الدُّنْيَا بأجْمعِهَا ... من كانَ فكَّاك أصفادٍ بأصفادِ)
(وَقد ذوَتْ زهرةُ الدُّنْيَا لفقدِهِمُ ... وأُلْبسَتْ بعْدهَا أثوابَ إحدادِ)
(واجتثَّ غرس الْأَمَانِي من فجيعَتِهِمْ ... وأنشدَ الدهْرُ تقنيطاً لروادِ)
(يَا ضيفُ أقفَرَ بيتُ المكرماتِ فخذْ ... فِي ضمِّ رحلكَ واجْمعْ فضلةَ الزادِ)
(يَا قلبُ لَا تيأَسَنْ من هولِ مصرعِهِمْ ... وعَزِّ نفسكَ فِي بؤسٍ وإِنكادِ)
(بمَنْ غَدا خلفا يَا جبَّذا خلفٌ ... فِي الملكِ من خيرِ آباءٍ وأجدادِ)
(بحائزٍ إرثَهُمْ حاوي مفاخِرِهم ... عَمَّا حوَى الألْفُ من آحادِ أعدادِ)
(وذاكَ زيدٌ أدامَ الله دولتَهُ ... وزادَهُ مِنْهُ تأييداً بأعدادِ)
(سما بِهِ النسَبُ الوضَّاحُ حيثُ غَدا ... طريقُهُ جَامعا أشتاتَ أتلادِ)
(لقد حوَى من رفيعاتِ المكارِمِ مَا ... يَكْفِي لمفخَرِ أجداد وأحفادِ)
(أَلَيْسَ قد نَالَ ملكا فِي شبيبتِهِ ... مَا ناله مَنْ سعَى أعمارَ آمادِ)
(أليْسَ فِي وهَجِ الهيجا مواقفُهُ ... مشكورةً بَين أعداءٍ وأضدادِ)
(أَلَيْسَ أصبَحَ بِالتَّنْعِيمِ سابحُهُ ... لج المنايا ليحمي قُلَّ أجنادِ)
(أليْسَ نبئتَ يَوْم الليثِ أنَّ لَهُ ... وثباتِ ليثٍ يزجّى ذودَ نقادِ)
(أليْسَ يومَ العطا تحكِى أناملهُ ... خلجانَ بحْرٍ بفيضِ التبرِ مدادِ)
(أليْسَ قد راحَ فِي تأسيسِ دولتِهِ ... منْ جده الْمُصْطَفى رمْز بإرشادِ)
(دامَتْ معاليه والنعمَى يذال لَهُ ... مصونها وَهْوَ ملحوظٌ بإسعادِ)(4/483)
(مَا لاحَ برقٌ وَمَا ناحَتْ على فَنَنٍ ... صوادحُ البانِ وَهنا شجوها بادِى)
وَمِمَّا قيل فِيهِ أَيْضا قَول الإِمَام الْفضل بن عبد الله الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي // (من الْبَسِيط) //
(يَا مىُّ حَيا الحيا أَحْيَا محياكِ ... هَلاَّ بأعتاب عتبي فَاهَ لي فاكِ)
(مَنْ لي إليكِ وَقد أودَى صدودكِ بِي ... وَلَا تزالينَ طَوْعًا لي أفَّاكِ)
(يَا هَذِه لم أزَلْ من بُعْدِهَا وَدُنُوّ ... السقْمِ من بعْدهَا موثوق أشراكِ)
(تيهي أطيلي التجنِّى والجفاء وَمَا ... أردتِّ فاقضِيهِ بِي فالحسْنُ ولاكِ)
(رفقا رويداً كإني بالعذولِ علَى ... تطاولِ الصدِّ فِي ذَا الصبِّ عزاكِ)
(إِن لم يعز عزا عَيْني وقَدْ حُظِرَتْ ... مرآكِ فليَهْنِ قلبى وهْوَ مرعاكِ)
(حسبِى دَلِيلا على شوقِى المبِّرحِ بِي ... أنِّى لَثَمْتُ عذولي حينَ سَمَّاكِ)
(والجفْنُ فِي أرقٍ والقلْبُ فِي حرقٍ ... والعينُ فِي غرقٍ إنسانُهَا باكى)
(يَا مهجةَ الصبِّ غير الصبْرِ ِليس وقَدْ ... حنَّتْ بِمَا قد لاقَيْت عينَاكِ)
(وَيَا عذولِى لُمِ اكْفُفِ اضْلُل اهْدِ تَرَفَّقْ ... لِجِّ دَعْ أَوْجِبِ اطْلاَقِى وإمساكِى)
(وَيَا أسيرةَ حجليها أرَى سَرَفًا ... لُبْسَ الحلى وَقد منّعْت مرآكِ)
(عطفا علَى حالِ مَنْ لَا يَبْتَغِي بَدَلا ... ولبْسَ يشفيه مِنْ مشفيه إلاكِ)
(وأجملي الودَّ واخَشَىْ عدْلَ ذى الشَّرَفِ المؤيَد ... العزِّ مولاىَ ومولاكِ)
(زيدُ بن محسِنَ سلطانُ الأنامِ إمامُ ... الحضرتَيْنِ أمانُ الخائفِ الباكى)
(كهفُ الضيوفِ وثَلاَّمُ الصفوفِ ... وَمَنَّاحُ الصنوفِ وَفَاء دون تَشْكَاكِ)
(وباسلٌ لَو رأَى شزراً على حنقٍ ... للموْتِ مَا اخترم المَشْكُوّ والشاكي)
(ألقاسمُ الجودَ فِي سامٍ وَذي ضعةٍ ... كواسم الْجُود فِي نبْتٍ وأشواكِ)
(يُلقى فَيلقى بفَضْلٍ غير محتجبٍ ... وشأو شانٍ علا فِي غَيْرِ إدراكِ)
(وَنُهْبَة لَو رأى الضلال صُورتها ... لأصْبَحُوا بَين أخيارٍ ونُسَّاكِ)
(يهتزُّ للعَفْوِ من حلمٍ وَلَا طرب الْمثموُل ... من شمْسِ شماسٍ وبتراكِ)
(مهذَّبٌ رَأْيه والعزْمُ ناصرُهُ ... أغناه عَنْ أزرِ أعرابٍ وأتراكِ)
(وَذي سَطَا كمْ تشاكَى بأسَهُ شاكي ... فِي الملتقَى وتحامَى بَطْشَهُ شاكى)
(ثبْتُ الجنانِ إِذا كَانَ الخميسُ وغا ... كَأَنَّهُ بَين ظِلِّ الضالِ والراكِ)(4/484)
(كم أضحَكَ السْيفَ من باكٍ يجدِّلُهُ ... والزحْف مَا بَين مفْتَاكٍ وفَتَّاكِ)
(ومَنْ يكنْ ذَا خليلِ غير صارمِهِ ... والعزم يوشكُ أَن يفجا بأضراكِ)
(وَذي كعوبٍ لَهُ من طولِ حامِلِهِ ... طولٌ بمجتمعِ الجَنْبَيْنِ شكاكِ)
(مُخَاطب بلسانٍ ناطقٍ بعجائبِ ... المنايا بديهاً يَا لَهُ حاكي)
(هُوَ المليكُ الذى أسْنَى الممالك والأزْمَان ... مِنْ بعدِ إسناءٍ وإحلاكِ)
(وطَبَّقَ الأرضَ عدلا والضواحىَ ... فالضِّدَانِ فِي أمرِهِ المَنْكى والناكي)
(ونادَتِ الغُبُر الخضراء لَو عقَلَتْ ... غيظاً بِهِ ضرَّتى أبعدتِّ مرماكِ)
(وذكْرُهُ أرَّجُ الأرجاءَ شاسعةٌ ... فَطِيبُ رِيحِ الصِّبَا مِنْ عَرْفه الزاكِى)
(يَا نفْسَ آمِلِهِ بُشْرَاكِ بشراكِ ... وَلَو قضيْت بإذنِ الله أحياكِ)
(أَو رمْتِ أجناد عُدْم أَو نويْتِ بِمَا ... أعياكِ محمله أغنَى وأقنَاكِ)
(أوْرَدَ أَمْسَك حَالا أَو مُضِى غدٍ ... بسعده كَانَ مَا تبغين يلقاكِ)
(وَيَا سيادتَهُ مِنْ أَن يطاولها ... مثلٌ وإياه حاشاهُ وحاشَاكِ)
(ودولَة فِي حياةِ العمْرِ غرتُهَا ... مَا الدهْرُ حَتَّى انْقِضَاء الدهْرِ ينساكِ)
(وَيَا ليالِيهِ قد دامَتْ بسؤددِهِ ... من أينَ للملكِ شرواه وشرواكِ)
(وَيَا أيادِى أيادِيهِ السنيَّة لَا ... ينفكُّ حسنكِ مَقْرُونا بحسناكِ)
(لَو كَانَ فى عَصْرِهِ بعد النبوةِ مبعوثٌ ... لَكَانَ بِلَا دفعٍ وإشراكِ)
(لَو طُرِّزَتْ باسمه الراياتُ مَا حذرَتْ ... أصحابُها غلبا أَو حطم دهاكِ)
(وقالتِ العينُ لَو ترنو إِلَيْهِ بهَا ... سناه يَا أرْضُ عني كَانَ أغناكِ)
(وَلَو تقدّّم عهدا كَانَ ممتدحَ الآياتِ ... فِي طَىِّ منشوراتِ إصكاكِ)
(فالحمدُ بعدُ لَهُ والحمْدُ قبلُ لمَنْ ... حبا الأنامَ سريَّاً أَصله الزاكِى)
(لَا زالَ واقِىَ مَنْ والَى ولاذَ بِهِ ... وقْعَ الخطوبِ بعزِّ مِنْهُ فَتَّاكِ)
(يَابْنَ الأُلى للعُلاَ شادوا منيعَ حِمى ... يحجه كُلّ كفافٍ وفكَّاكِ)
(بالمجدِ سادوا وداسُوا هامَ شانِئِهِمْ ... وَسيف عزمٍ لروح القرنِ سفاكِ)
(قد ذاد فِي شرفِ البطحاءِ أنكَ فِي ... جِيرَانهَا خيْرُ فَعَّالٍ وتَرَّاكِ)
(مولى الْجَمِيل ومنجاةُ الدخيلِ ومنحاةُ ... الخذيلِ سرى بِعَين أملاكِ)(4/485)
(كافِيَّةٌ بُسِطَتْ وزنا وقافيَةً ... تلوحُ كالدُّرِّ أَو ياقوتِ أسلاكِ)
(يقولُ لَو خالها الحِلِّىُّ خاطره ... حلاك يَا مَنْ صَنِيع الْفضل حلاّكِ)
(وباعَ قيراطه الْبُرْهَان منبخساً ... يزيفه فِي انتقادٍ كُلُّ حَكَّاكِ)
(وقالَ واسمك يَا ذَا العِزِّ واسطها ... لطلعةِ البَدْرِ أَن لَا بَدْرَ إلاكِ)
(تبغِى القبولَ وقَدْ جاءَتْ مُعَارضَة ... أَمْثَال كفى وفكِّى قيد أسراكِ)
ثمَّ وَليهَا الشريف سعد ابْن الشريف زيد ابْن الشريف محسن بن حُسَيْن بن حسن وَلبس الخلعة ونادي مناديه فِي الْبِلَاد يسمعهُ الْحَاضِر والباد وَالنَّاس حوله لَهُم ضجيج كالرعد الْبِلَاد بِلَاد الله وبلاد السُّلْطَان وبلاد الشريف سعد وانجلت البصائر والأبصار ذهبت الْحيرَة وَرَبك يفعل مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة وَقد أرخ صاحبنا وعزيزنا الشَّيْخ الأكرم الشَّيْخ أَحْمد بن قَاسم الخلي جُلُوسه فَقَالَ وَفِيه لطف إِدْخَال بديع // (من مخلَع الْبَسِيط) //
(قامَ بأمْرِ البلادِ سعدٌ ... أيَّدَ رَبُّ السماءِ مُلْكَهْ)
(بغايةِ المجدِ أرِّخُوهُ ... قد نِلْتَ بالسيفِ أمْرَ مَكَّهْ)
ولمولانا المرحوم الإِمَام فضل ابْن الإِمَام عبد الله الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك قَوْله // (من مخلع الْبَسِيط) //
(قَالُوا لنا اليَوْمَ ماتَ زيدٌ ... والناسُ تخشى وقوعَ عَرْكَهْ)
(والقومُ يسَّاءلونَ هَذَا ... قَالَ لذا منْ يرومُ ملْكَهْ)
(فقلتُ والقيلُ قد تناهَى ... والخلْقُ فِي ضَجَّةٍ ورَبْكَهْ)
(بَيْتا صَحِيحا لَهُم جَوَابا ... مُؤَرِّخا فِيهِ رُمْتُ سَبْكَهْ)
(يبايعوهُ يملِّكُوهُ ... سعْدُ بن زيدٍ شريفُ مَكَّهْ)
ولأخينا المرحوم القَاضِي أَحْمد ابْن القَاضِي مرشد الدّين الْعمريّ الْحَنَفِيّ قَوْله مؤرخاً // (من مجزوء الْكَامِل) //
(شمسُ الخلافةِ أشرَقَتْ ... وبدا منيراً سَعْدُهَا)
(مذ حازَهَا الشرَفُ الَّذِي ... بِعُلاَهُ زُيِّنَ عِقْدُهَا)
(سعدُ الَّذِي تاريخُهُ ... خَيْرُ الملوكِ سعيدها)
وَكَانَ مَعَ الشريف زيد مملوكان أَحدهمَا تركي الْجِنْس اسْمه ذُو الفقار وَالْآخر(4/486)
حبشِي اسْمه بِلَال أما الأول فَكَانَ عِنْد مَوْلَانَا الشريف من زمَان حَتَّى كبر وَصَارَ شَيخا للعسكر اللهام فَقَامَ عَلَيْهِم أحسن قيام وَكَانَ ذَا هَيْبَة وَرَأى سديد صَاحب قُوَّة وبأس شَدِيد فَدَعَاهُ مَوْلَانَا الشريف فِي بعض السَّاعَات إِلَيْهِ وأوصاه على بنيه وعولته رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَلَمَّا انْتقل الشريف إِلَى دَار الْآخِرَة امتثل مَوْلَاهُ أوامره وَقَامَ على قَدَمَيْهِ وشمر وكشف عَن ساعديه وَشد المئزر ورتب العساكر فِي الْمدَارِس بلصق الْمَسْجِد الْحَرَام الْمَعْمُور ووزعهم على المنائر والدور وَوضع المدافع على رُءُوس المنافذ والطرقات وَضبط قانون الْحِرَابَة من سَائِر الْجِهَات هَذَا ومولانا السَّيِّد حمود لم يبرح من بَيته مَعَ بني عَمه وشيعته ونار الْفِتْنَة قَائِمَة أَشد قيام قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسَلام ثمَّ بعد ذَلِك جلس مَوْلَانَا الشريف سعد للتهنئة وَالسُّرُور وتأطد لَهُ الْملك بفأل اسْمه والحبور ودعا مَشَايِخ الْعَرَب وَأهل الدَّرك وألزم كلا بجهته وَلم يَقع وَللَّه الْحَمد بِمَكَّة المشرفة شئ من النهب أَو الْقَتْل أَو الْخَوْف {فَليَعبُدُوا رَب هَذا البيتِ اَلَذِي أَطعَمَهُم مِن جوُع وءامنهم مِن خَوْفِ} قُرَيْش 3 4 وَمن لطف الله سُبْحَانَهُ أَن كَانَ انْتِقَال مَوْلَانَا الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى بعد انْقِضَاء الْحَج وَتوجه كل إِلَى بَلَده وَكَانَ بِمَكَّة المشرفة يَوْمئِذٍ بعض تجار من حجاج الشَّام تخلفوا عَن أَمِيرهمْ وَقد جرت الْعَادة بذلك أَنهم يُقِيمُونَ مُدَّة لقَضَاء حوائجهم بعده ثمَّ يتوجهون ويجتمعون بِهِ فِي الْمَدِينَة المنورة فَلَمَّا أَرَادوا السّفر طلبُوا من مَوْلَانَا الشريف سعد حفظه الله تَعَالَى أَن يَأْمر من يوصلهم الْمَدِينَة خوفًا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فأجابهم إِلَى ذَلِك كَانَ الله لَهُ وَأرْسل مَعَهم السَّيِّد فَارس ابْن المرحوم بَرَكَات بن حسن وَمَعَهُمْ جمع من الْعَسْكَر فأوصلوهم الْمَدِينَة الشَّرِيفَة سَالِمين وَللَّه الْحَمد والْمنَّة ثمَّ أَمر حَاكم الطَّائِف وَكَانَ بِمَكَّة جمع من أهل الطَّائِف من الْحجَّاج قد أحْصرُوا عَن أَوْلَادهم وَأَمْوَالهمْ وَلم يُمكنهُم التَّوَجُّه شَفَقَة فَجهز جمَاعَة من الْعَسْكَر صُحْبَة(4/487)
الْحَاكِم الْمَذْكُور فَسَارُوا بهم من ليلهم فوصلوا إِلَى الطَّائِف من طَرِيق يعرج ونادى مناديه فِي الْبِلَاد من سَاعَته وَلما وصل الْخَبَر بوفاة الشريف زيد رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى الطَّائِف قبل وُصُول الْحَاكِم اضْطَرَبَتْ الْبِلَاد اضطراباً شَدِيدا وعزل السُّوق وكل أغلق بَابه وَنزع ثِيَابه وَدفن أَسبَابه إِلَى أَن وصل الْحَاكِم فاطمأنت حِينَئِذٍ الخواطر من البوادى والحواضر وَكَانَ إِذْ ذَاك مَوْلَانَا السَّيِّد زين العابدين بن عبد الله بن حسن بِالطَّائِف وَأَوْلَاده وَأَتْبَاعه فَلَمَّا وصل هَذَا الْخَبَر ركبُوا الْجِيَاد وداروا الْبِلَاد ونأدوا بالأمان فخمدت بذلك دَاعِيَة الْبَغي والطغيان وطمنوا النَّاس وَأمرُوهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى السُّوق وَبسط الدكاكين فَفَعَلُوا وامتثلوا وحمدوا رَبهم وشكروا وَكَانَ وُصُول الْحَاكِم آخر ذَلِك النَّهَار وَلما كَانَ يَوْم الرَّابِع من انْتِقَال مَوْلَانَا الشريف وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة أَرَادَ الْخَطِيب أَن يخْطب فَوقف عَن الْخطْبَة لسَبَب من الْأَسْبَاب يدريه أولو الْأَلْبَاب فصلى النَّاس الظّهْر وَأما مَكَّة فَخَطب الْخَطِيب بهَا ودعا للشريف سعد بالنصر والتأييد وَالنَّاس فِي عَيْش رغيد وَفِي هَذَا الْوَقْت وَقع طراد فى جِهَة المشناة قَرِيبا من وادى وَج بَين قبيلتين قُرَيْش والحمدة من ثَقِيف وَاسْتمرّ إِلَى وَقت الْعَصْر وَحصل بَينهمَا بعض جراحات وَكَانَ بِمَكَّة المشرفة يَوْمئِذٍ جمَاعَة من الْأَعْرَاب أهل خيل وركاب لما بَلغهُمْ موت الشريف زيد رَحمَه الله انْطَلقُوا على رُءُوسهم إِلَى الْبِلَاد وكل من وجدوه فِي طريقهم أَخَذُوهُ بالظلم والعناد وَأَكْثرُوا فِي الأَرْض الْفساد إِن رَبك لبالمرصاد وَمَا كَانَ من طَرِيق الْحجاز فَوَقع فِيهَا الْخَوْف والنهب وَالْقَتْل وَالضَّرْب وكل من ظفر بِصَاحِبِهِ أَخذه وَأهل الْقرى تَرفعُوا عَن الطرقات واجتمعوا فِي بعض الْجِهَات خوفًا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وَفِي الْيَوْم الثَّالِث من موت مَوْلَانَا الشريف سامحه الله تَعَالَى وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس وَقع اضْطِرَاب كَبِير من بعد الظّهْر إِلَى بعد الْعَصْر بَين مَوْلَانَا الشريف سعد ومولانا السَّيِّد حمود وكل مِنْهُمَا جمع جيوشه وتحصنوا فِي الْبيُوت والمنائر وركبوا جمَاعَة السَّيِّد حمود فى الضلع الذى خلف بَيته والجبل الْمَعْرُوف بجبل عمر وتراموا بالرصاص من بعد وَلم تحصل مُوَاجهَة ثمَّ إِنَّهُم اسْتمرّ بهم الْحَال وكل يَوْم يُصْبِحُونَ فِي قيل وَقَالَ وكل من الشريفين واثب على قَدَمَيْهِ كسبع(4/488)
الصيال سُبْحَانَ الله يُؤْتِي الْملك من يَشَاء وَهُوَ الْكَبِير المعتال فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث عشر من يَوْم الْوَفَاة وَقع الِاتِّفَاق بَين مَوْلَانَا الشريف سعد ومولانا السَّيِّد حمود على قدر مَعْلُوم من الْمَعْلُوم وعينت جهاته وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما عندنَا أَيهَا النَّاس وَحصل بذلك الْأَمْن وارتفع الْبَأْس وَأمر مَوْلَانَا الشريف بالزينة ثَلَاثَة أَيَّام وَظهر السرُور وزالت الحزون وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون وَكتب محْضر من الشريف سعد عَلَيْهِ خطوط الْأَعْيَان من الأفندي وَشَيخ الْحرم والمفتي وأعيان الْبِلَاد على مَرَاتِبهمْ وعساكر مصر كَذَلِك وَذهب بِهِ بِلَال أغا إِلَى مصر المحروسة فأوصله باشا مصر وَمَعَهُ مَكْتُوب آخر من عَبده إِلَى الْأَبْوَاب الْعلية فَلَمَّا وصل فتح وَقُرِئَ فِي سَاعَة مباركة طالعها سعد السُّعُود ثمَّ أَمر برد الْجَواب على مَا يسر الخواطر والألباب {واللهُ يَرزقُ مَن يشاءُ بِغَيْرِ حِساب} الْبَقَرَة 212 وَلذَلِك كتب مَوْلَانَا السَّيِّد حمود محضراً لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا خطوط السَّادة الْأَشْرَاف فَأرْسلهُ صُحْبَة رجل مصري يُسمى الشَّيْخ عِيسَى فَقدر الله أَنه مَاتَ عقب دُخُوله مصر بيومين فوجدوا الْعرض فِي تركته وَلم يصل مقْصده وَكَذَلِكَ كتب عرضا مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد يحيى بن زيد من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَكَانَ بهَا وَوضع أَعْيَان الْمَدِينَة خطوطهم عَلَيْهِ وَالْتزم بِأَرْبَعِينَ ألف دِينَار للوزير الْأَعْظَم قلت قد كَانَ أخرج مَوْلَانَا الشريف لوَلَده السَّيِّد مُحَمَّد يحيى أمرا سلطانياً بِولَايَة مَكَّة فَلم يتَمَكَّن من إِنْفَاذه خشيَة مَا يَتَرَتَّب على ذَلِك من الْمَفَاسِد وَعدم الرِّضَا من بَقِيَّة أَوْلَاده وَبنى عَمه وَكَانَ فِي كل سنة غَالِبا لم يحجّ مَعَه إِلَّا اثْنَان من أَوْلَاده هما حسن وَمُحَمّد يحيى وَكَانَ السَّيِّد مُحَمَّد يحيى بِالْمَدِينَةِ فَطَلَبه لِلْحَجِّ فِي ذَلِك الْعَام وَهُوَ عَام سِتّ وَسبعين فَامْتنعَ لأمر يُريدهُ الله فَقَالَ مَوْلَانَا الشريف زيد عِنْد امْتِنَاعه {إنَكَ لَا تَهدي من أَحببت} الْقَصَص 56 وَكَانَ الشريف سعد ابتعد نَحْو الشرق فجَاء وتقرب من وَالِده وَحج مَعَه ذَلِك الْعَام وَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَالْكل فعل الله سُبْحَانَهُ وَأنْشد لِسَان الْحَال عَن الشريف سعد فِيمَا قصد وَأم // (من الْكَامِل) //
(وَإِذا السَّعَادَة لاحظتك عيونها ... نم)
وَاسْتمرّ النَّاس منتظرين لوُرُود الْخَبَر السلطاني والتشريف الخاقاني نَحْو سِتَّة(4/489)
أشهر وَفِي كل شهر يَأْتِي المبشر من مصر المحروسة بِتمَام الْأَمر لمولانا الشريف سعد ويلبس خلعة الْبشَارَة وَفِي ذَلِك إِشَارَة لأهل الْإِشَارَة وَلما كَانَ يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر جُمَادَى الْآخِرَة حصل بَين بعض الْعَسْكَر وَالْعَبِيد شنآن بالمعلاة فتراموا بِالْحِجَارَةِ وسلت السيوف وَلم يَقع بَينهم قتال وَكَانَ هُنَاكَ بعض أَوْلَاد الشريف حفظهم الله تَعَالَى فَقَامُوا بَينهم وَأَصْلحُوا الْقَضِيَّة ثمَّ دخل علينا شهر رَجَب الْأَصَم فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة رَابِع الشَّهْر عِنْد الْغُرُوب حصل بَين مَوْلَانَا الشريف سعد وَبَين جمَاعَة السَّيِّد حمود شنآن كَبِير وَصَاح الصائح فِي الْعَسْكَر فَاجْتمعُوا وكل وَاحِد مِنْهُمَا جمع جموعه وتزبروا وتحصنوا فِي الْبيُوت وَالْجِبَال وتراموا بالبندق لَيْلَتَيْنِ بيوميهما على الشاخص والخيال وَلم يفقد من كل طَائِفَة إِلَّا رجل أَو رجلَانِ وَمَات من الرّعية شخصان خطأ من غير قصد وكل ذَلِك مَعَ فرَاغ الْآجَال فَلَمَّا كَانَ وَقت الضُّحَى وَقع الصُّلْح بَينهم ونادى الْمُنَادِي بالأمان فأمنت النَّاس وَاسْتَبْشَرُوا وحمدوا رَبهم وشكروا ثمَّ إِنَّه اسْتمرّ الْحَال هَكَذَا إِلَى الْيَوْم الثَّانِي وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور فَجَاءَت البشري بالتحقيق بِأَن الْأَمر قد برز لمولانا الشريف سعد فَلَمَّا كَانَ صبح يَوْم الْجُمُعَة سادس عشري رَجَب الْمَذْكُور دخل رَسُول مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان نَصره الله وأيد بِهِ الْإِسْلَام إِلَى مَكَّة المشرفة حرسها الله تَعَالَى بِالْبَيْتِ الْحَرَام فِي موكب عَظِيم وَمَعَهُ خلعة نفيسة من مَوْلَانَا السُّلْطَان وَمُصَلَّاهُ الَّذِي يصلى عَلَيْهِ ومكتوبان مَعَه من هُنَالك بِأَن الْأَمر لَهُ من غير شريك وَلَا مُنَازع فِي ذَلِك فَدَخَلُوا بهَا من بَاب السَّلَام إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام فلبسها فِي الحضرة الشَّرِيفَة تجاه بَيت الله وَالْمقَام بِحَضْرَة السَّادة الْكِرَام وَالْعُلَمَاء الْأَعْلَام وجيوش الْإِسْلَام مَا بَين خَاص وعام ثمَّ قرئَ المرسوم السلطاني وَفِيه غَايَة التَّعْظِيم والإجلال وَنشر محَاسِن لمولانا الشريف سعد أعزه الله بجاه جده الْأمين وَالْوَصِيَّة على الرّعية وَالْقِيَام بمصالحهم وأمان الزوار وَالْحجاج والمعتمرين وَهُوَ مُفند مستبين مُحَرر مؤيد بِنَصّ {إِنَّا فتحنا لَكَ فَتحاً مُبينا ليغَفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تأخرَ} الْفَتْح 1 2 وَمَعَ ذَلِك كَانَ(4/490)
لَفظه عذباً وجيزاً مبشراً بِنَصّ {ويُتِمَ نِعمَتَهُ عليكَ وَيهديَكَ صِرَاطاً مستَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصراً عَزيزا} الْفَتْح 2 3 ثمَّ إِنَّه توجه إِلَى الْبَيْت الشريف ووقف بِالْبَابِ وَالْتزم بالملتزم والأعتاب وَذهب إِلَى دَار السَّعَادَة وَجلسَ للتهنئة مَسْرُورا وَكَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطوراً وَنُودِيَ بالزينة سبع لَيَال بعد أَن كَانَ النَّاس فِي حَالَة مخوفة فِي ذَلِك الْيَوْم فاطمأن البال وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَلما لبس الخلعة وَاسْتقر لَهُ الْأَمر وسرى عَنهُ مَا كَانَ يجده من الكيد والقهر وَبدل الله الْعسر باليسر وأيده بالنصر مدحه الْفُضَلَاء بقصائد مجيدة وأشعار بأمطار سَمَاء الأفكار مجيدة وَكنت مِمَّن تشرف بالانتظام فى سلك نظامهم النَّضِير عوده اللامع فِي أفق الْمَعَالِي مزايا ممدوحهم وسعوده فَقلت من بَحر الطَّوِيل من الْعرُوض المقبوضة وَالضَّرْب التَّام والقافية من الْمُتَوَاتر قولي // (من الطَّوِيل) //
(سقَى الغَيْثُ ذَيَّاكَ الأُبَيْرِقَ والسقْطَا ... فأنْبَتَ فِي أرجائِهِ الرنْدَ والأرْطَا)
(وحَيَّا رُبا تلكَ المعاهدِ فاكتسَتْ ... رياضٌ لَهَا من نسْجِ إبرته بَسْطَا)
(معاهدُ لمياء البديد تعطَّرَتْ ... ومائِثُ ميثاها بِمَا تسحَبُ المِرْطَا)
(لَهَا بَشَرٌ كالماءِ إِذْ قَلْبها صفا ... وناظرُهَا كالسيْفِ لكنه أسطَى)
(إِذا مَا دجا ليلٌ حكى ليلَ جَوْرها ... وإنْ لاحَ نجمُ الأفقِ سمنا بِهِ القرْطَا)
(رداحٌ إِذا لاحَتْ فكالشمْسِ أَو رنَتْ ... فكالظَّبْىِ أَو ماسَتْ ترى الحلَّ والرَّبطَا)
(أراشَتْ لأحشائِى رواشقَ مُقْلِةٍ ... ترَى نبلها يُصْمِى الفؤادَ إِذا أخْطَا)
(هىَ السِّحْرُ إِلَّا أَنه سرّ خالقٍ ... عَلَيْهِ يصيرُ الحبرُ مِنْ رقِّها أوْطَا)
(لَهَا سلْكُ دُرِّ ضمنَ خاتمٍ عسجدٍ ... طلى لعسًا يَا حسنَ حتْمٍ حوى سِمْطا)
(وجيدٌ أعارَ الريم حسنَ التفاتِهِ ... فَلَا صَيد فِيهِ لَا تَرَاهُ وَلَا لعْطَا)
(ومهضمُ كشحٍ مخمص الغورِ رقةً ... لَهُ جَسَدِى من بعضِ أسقامِهِ أعطَى)
(كَمَا قد أنالَ الجسْم فَتْرَة جَفْنها ... نحولاً فكافاها عَلَى وَفقه المعطَى)
(رهينة خدْرٍ يكسبُ الحلى حُسْنها ... جمالاً وَلَوْلَا ذاكَ للشَّيْنِ مَا غطَّى)(4/491)
(كأنْ قد براها الله حسنا كَمَا تشا ... فيا طولَ ذاكَ الحسْنِ فِي القامِةِ الوسْطَى)
(سَقَاهَا ومرباها سُحُوحٌ مِنَ الحيا ... ورَوَّى على أكنافها الأثل والخمْطا)
(فيا شَوْقَ أحشائِى للحظَةِ لَحْظها ... وَإِنِّي بهَا إذْ قد نأتْ دارها شَحْطَا)
(بلَى قد نأتْ عني وَلَا بَيْنَ بَيْننَا ... وبُدِّلْتُ مِنْ عين الرضَا بالجفا سخْطَا)
(كذلكَ أخلاقُ الغوانِى ومَنْ يرمْ ... بهنَّ الوفا كالمبتغِى فِي الأضا قرْطَا)
(ومَنْ لم يذُدْ ذَوْدَ التصابِى وسربه ... قصارَاهُ فِيهِ أَن يذلَّ وينحَطَّا)
(ويمسي صريعَ العينِ لَا ناصرٌ لَهُ ... سوَى عَبْرة يَرْوِى تفجُّرُهَا سطَّا)
(نعَمْ لَو نحا فِي كلِّ أمرٍ يئودُهُ ... مليكَ الورَى سعد بن زيد لما شطَّا)
(مليكٌ لَهُ من طينةِ المجْدِ جوهرٌ ... بِهِ ازدانَتِ الدُّنْيَا وقدْمًا هِيَ الشمْطَا)
(شريفُ الْعلَا والذاتِ والوصْفِ منتمٍ ... إِلَى خَيْرِ أصلٍ طابَ فِي قنسه ربْطَا)
(مليكٌ رقا فِي قنةِ المجدِ رتبَةً ... تجلُّ سواهَا أَن يقاسَ بهَا هبْطَا)
(شريفٌ أتيحَتْ فِيهِ أسرارُ والِدٍ ... هُوَ القطْبُ لَا ريباً بذاكَ وَلَا غمطا)
(مليكُ بلادِ الله سعد الْعلَا ومَنْ ... يشابه أَبَاهُ فِي علاهُ فَمَا أخْطَا)
(طويلُ الْبَنَّا رحْبُ القنا منهلُ الْغِنَا ... مزيلُ العنا مولى المنا باللُّهَا سفْطَا)
(عريضُ الجدا غوْثُ الندا موردُ الندا ... حمامُ العِدَى مردِى الردَا للهُدَى فرطَا)
(فيا ابنَ رسولِ الله وابْنَ وصيِّهِ ... ودرةَ عقْدٍ أنْتَ أنْتَ لَهُ وسْطَا)
(لقد حطْتَ أكنافَ الخلافةِ عَزمَة ... وقمْتَ بهَا حفظا وشَيدَّتها ضبْطَا)
(وأيدتَّهَا بالحزْمِ والرأْىِ حينئذْ ... ثبتَّ جنَانًا لَا فزوعاً وَلَا قنْطَا)
(فأنسيتَنَا حزْنًا وَلم نَنْسَ من مضَى ... تغشَّتْ شآبيبُ الرضَا رمْسَهُ همطَا)
(أَبى الله إِلَّا أَن تحلَّ محلَّهُ ... بمرتبةٍ عزت لغيرك أنْ تمطَى)
(فوافَاكَ بالتأييدِ مَا كَانَ كامناً ... مِنَ الأَزَلِ العُلْوِىِّ ينتظرُ الشرْطَا)
(فَمَا خطَّ تقليداً على الطرسِ كاتبٌ ... ولكنْ قضاءُ الله من قبلِهِ خَطَّا)
(إِذا أبرمَتْ فِي سابقِ العلْمِ لامرئٍ ... عنايته استغنَى الْعَشِيرَة والرهْطَا)
(ولكنَّنى أرجُو منَ الله جمعَهُمْ ... على خيرِ حالٍ مَا رجاه بمستْبطَا)
(فطأ فِي الْعلَا فالسعْدُ وطأ لاسمِهِ ... أَشَارَ لذا بحْرُ الطويلِ رَوِىّ الطَّا)
(إليكَ ابنَ خَيْرِ الناسِ عذراءَ مِدْحَة ... غَذَتْهَا القوافي لَا سنادٌ وَلَا إِيطا)(4/492)
(أتاكَ بهَا فكِرى الكليلُ ومَهْرُهَا ... قَبُولُكَهَا منِّى وحَسْبى بِهِ إعْطَا)
(سأملأُ ديوانِى بمدحِكَ مِدْحَة ... لشعرِىَ كَىْ يستوجبَ الحمْدَ والغبطا)
(فدُمْ وابْقَ واسلَمْ لَا برحْتَ مؤيداً ... على العزِّ مهما أنْ تحاوله تعطَى)
(وَلَا زلْتَ محفوظَ الجنابِ عزيزَهُ ... رعاياكَ لَا تخشَى اهتضاماً وَلَا قَنْطَا)
(مدى الدَّهرِ مَا طابَ القَرِيضُ بمدحِكُمْ ... فأخجَلَ مسكَ الختْمِ والند والقُسْطَا)
وَلما تمّ أَمر الصُّلْح بَين الشريف سعد وَبَين السَّيِّد حمود واستقرت الْبِلَاد وَأَهْلهَا لِأَن استقرارهم باستقراره وتعبهم بتعبه وَهُوَ مَعَهم كالرأس مَعَ الْجَسَد وكالمضغة وَهِي الْقلب كَمَا ورد جَاءَهُ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى بَيته مُوَافقا لَهُ فِيمَا يُحِبهُ ويهواه هُوَ وَأَتْبَاعه يهنونه ويباركون لَهُ فِيمَا منحه الله وَأَعْطَاهُ وَصَارَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ بكرَة وَعَشِيَّة مظْهرا لَهُ الود والصداقة مليناً لَهُ القَوْل من غير تَعب وَلَا حَمَاقَة وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة يَطْلُبهُ مَا كَانَ وَزِيَادَة وَلم يُخَالِفهُ مَوْلَانَا الشريف فِي قَول وَلَا فعل بل يجِيبه إِلَى مَا أَرَادَهُ أدام الله نعمه عَلَيْهِ وإمداده بِحَيْثُ أَن الرّعية نسبت هَذِه الْمُوَافقَة مِنْهُ إِلَى أثر عمل من الْأَعْمَال من الحركات والسكنات لَكِن إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَفِي هَذِه الْمدَّة كَانَ بِمَكَّة المشرفة غلاء فِي الطَّعَام كالحب وَنَحْوه فِي شعْبَان ورمضان وشوال وَاشْتَدَّ فِي آخر الْوَقْت وَعدم من الْأَسْوَاق ووصلت الكيلة الْحبّ إِلَى خسمة عشر محلقاً والرز كَذَلِك وَفِي أول ذِي الْقعدَة حصل الْفرج بِدُخُول المراكب المصرية وَزَالَ التَّعَب عَن الْمُسلمين ببركة قدوم الْحجَّاج الوافدين ثمَّ إِنَّه حصل تنافر بَين مَوْلَانَا الشريف سعد وَالسَّيِّد حمود من جِهَة عدم الْوَفَاء بالمعلوم الَّذِي لَهُ مَعَ مَا فِي خاطره من التَّعَب فدعته الأنفة إِلَى الْخُرُوج لهَذَا السَّبَب فبرز يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن ذى الْقعدَة الْحَرَام من سنة سبع وَسبعين وَألف وَأقَام بالزاهر مُدَّة وَهُوَ من الغيظ فِي أعظم شدَّة فبرزت إِلَيْهِ لموادعته واستغرقت الْيَوْم أجمع فِي محادثته فَكَانَ من جملَة كَلَامه جَوَابا لقولي لَعَلَّ مَوْلَانَا حفظه الله يتداركه الله بسعة فِيهَا حُصُول المنا فيكفيكم الله بِسَبَبِهَا تَعب الجلا والعنا مَا أرى إِلَّا أَن بَيت الشريف قَتَادَة المستشهد بِهِ فِي سَابق الزَّمَان قد قَارب مصداقه فِي هَذَا الأوان يُشِير إِلَى قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(مصارعَ آلِ الُمصطفَى عُدتِّ مِثْلَ مَا ... بدأْتِ ولكنْ صِرْتِ بَين الأقاربِ)(4/493)
فَقلت الله يقدر بِخَير ويكفيكم كل ضيم وضير وَلم تزل الرُّسُل بَينهمَا تسْعَى فِي حسم مَادَّة الشقاق وَلم يتَّفق الْحَال إِلَّا على عدم الِاتِّفَاق فَتوجه إِلَى وَادي مر وَأقَام بِمن مَعَه من السَّادة الْأَشْرَاف والأتباع وَالْعَبِيد وسبورهم تصل إِلَى مَكَّة أَسْفَلهَا وأعلاها يدلجون بِاللَّيْلِ إِذا يغشى وَيصلونَ الشَّمْس وَضُحَاهَا وَأخذُوا فرسا من مربطها لبَعض خدام الشريف أَسْفَل الْبَلَد وذهبوا وَلم يذهب إِلَيْهِم أحد كل ذَلِك استحثاث مِنْهُم لِلْخُرُوجِ إِلَى البرَاز والمنازلة والظهور عَن الْعمرَان الَّتِي لَا تطول فِيهَا تِلَاوَة سُورَة المجادلة والشريف سعد حفظه الله لم يستخفه الطيش وَلم ينفذ إِلَيْهِم خاء خيل وَلَا جِيم جَيش وَأَقْبل جمَاعَة من الشَّام وَمن مَدِينَة الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فصدهم الْخَوْف عَن الدُّخُول لما هم قاصدون إِلَيْهِ ومكثوا أَيَّامًا بقرية من الْقرى وَحصل لَهُم من التَّعَب مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ حَتَّى وصل إِلَيْهِم الْحَاج المصرى فَدَخَلُوا مَعَه مَكَّة المشرفة وَلم يزل الشريف سعد متع الله بحياته ولسان حَاله يَتْلُو فِي المبدأ والمعاد {وأفوِضُ أَمرِي إِلَى الله إِن اَللهَ بَصِير بِالعِبادِ} غَافِر 44 وَأما مَوْلَانَا السَّيِّد حمود رَحمَه الله فَإِنَّهُ لما كَانَ يَوْم السبت رَابِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة قدم على الْحَاج الْمصْرِيّ والأمير عَلَيْهِ أزبك بك فَركب إِلَيْهِ هُوَ وَمن مَعَه من السَّادة الْأَشْرَاف والأتباع وَالْعَبِيد فعقدت الْأَشْرَاف من أَنْفسهَا طوقاً عَليّ وطاق الْأَمِير وَعَسْكَره وَلم يدْخل إِلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَة أشخاص مَوْلَانَا السَّيِّد حمود ومولانا السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث ومولانا السَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان فأنهوا إِلَيْهِ حَالهم وَعدم الْوَفَاء من الشريف سعد فِيمَا الْتزم لَهُم من معاليمهم ومجانيهم وأننا أَيهَا الْأَمِير لَا نَدع أحدا يحجّ إِلَّا إِن أَخذنَا مَا هُوَ لنا وَكَانَ قدره مائَة ألف أشرفي فالتزم للسَّيِّد حمود أَن ينقده الشريف قبل الصعُود خمسين ألفا مِنْهَا فَقبل مَوْلَانَا السَّيِّد حمود الْتِزَامه وخلي سَبيله وَمن مَعَه فَلَمَّا دخل الْأَمِير مَكَّة يَوْم خَامِس ذِي الْحجَّة الْحَرَام خرج إِلَيْهِ الشريف سعد إِلَى المختلع فَلبس الخلعة الْمُعْتَادَة على الْعَادة ثمَّ كَلمه الْأَمِير فِيمَا الْتَزمهُ للسَّيِّد حمود وَمن مَعَه فصَدق الْتِزَامه وَأسلم خَادِم مَوْلَانَا السَّيِّد حمود الْخمسين الْألف قبل الصعُود من السَّيِّد إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بإحالة من مَوْلَانَا الشريف حفظه الله تَعَالَى(4/494)
ثمَّ لما دخل أَمِير الشَّامي فِي سَابِع ذِي الْحجَّة توجه مَوْلَانَا الشريف إِلَيْهِ كَذَلِك وَلبس الخلعة الْمُعْتَادَة على الْعَادة ثمَّ فِي الْيَوْم الثَّامِن توجه إِلَى عَرَفَة وَفِي الثَّانِي من أَيَّام منى لبس الخلعة الْمُعْتَادَة وَفِي الْيَوْم الثَّالِث نفر النَّاس إِلَى مَكَّة المشرفة وهم آمنون مستبشرون وَأما أهل مَكَّة وَمن حَولهمْ من الْقرى فَلم يحجّ مِنْهُم فِي هَذَا الْعَام إِلَّا الْقَلِيل وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاب لما وَقع بهم من التَّعَب والكدر وَالْخَوْف وَالضَّرَر كل شئ بِقَضَاء وقدَر ثمَّ لما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ عشْرين ذِي الْحجَّة الْحَرَام وصل مَكَّة مَوْلَانَا السَّيِّد حمود وَمَعَهُ السَّيِّد عبد الْمعِين بن نَاصِر بن عبد الْمُنعم بن حسن وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن عبد الله بن حسن وَالسَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان بن مُوسَى بن بَرَكَات بن أبي نمي وَالسَّيِّد مبارك وَنَافِع ابْنا السَّيِّد نَاصِر بن عبد الْمُنعم فِي نَحْو تِسْعَة أشخاص وَمن العبيد نَحْو خَمْسَة وَسِتِّينَ عبدا وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن أَمِير الْحَاج وكبار العساكر قصدُوا الصُّلْح بَينه وَبَين مَوْلَانَا الشريف وَتردد الرُّسُل بَينهم وَبَينه يطلبونه لذَلِك وألزموه بمحاضر من جمَاعَة الأفندي الْأَعْظَم وصلوا إِلَيْهِ إِلَى وَادي مر فجَاء وَحضر عِنْد مَوْلَانَا الأفندي وَحضر الْأُمَرَاء ووجوه أَرْكَان الدولة وعماد أغا وأكابر العساكر فَأرْسل مَوْلَانَا الشريف سعد بِلَال أغا وَكيلا عَنهُ فِي الْخُصُومَة وَالدَّعْوَى فاغتاظ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود من ذَلِك وَأَرَادَ الفتك بِهِ فِي ذَلِك الْمجْلس فَذهب مسرعاً فَزعًا فَأرْسل الشريف أَخَاهُ السَّيِّد مُحَمَّد يحيى وَكيلا عَنهُ وتطالبا على يَد الْحَاكِم الشَّرْعِيّ وَطَالَ الْمجْلس وَلم يَقع بَينهمَا اتِّفَاق ثمَّ ادعِي عَلَيْهِ بِمَا أَخذ من طَرِيق جدة من الْأَمْوَال فَلم يثبت عَلَيْهِ وَجه شَرْعِي فِي ذَلِك وَطلب مَوْلَانَا السَّيِّد حمود أَن يتَوَجَّه إِلَى الديار المصرية وَيرْفَع أمره إِلَى الحضرة السُّلْطَانِيَّة فأذنوا لَهُ وَاتفقَ الْحَال على ذَلِك ثمَّ إِنَّه لما توجه الْحَج الشَّامي وَسَائِر الْحجَّاج توجه مَعَهم حَتَّى وصل إِلَى بدر فَتخلف عَنْهُم وَأقَام فِيهَا مُدَّة وَلما دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَألف توجه مَوْلَانَا السَّيِّد حمود من بدر إِلَى يَنْبع فِي شهر صفر مِنْهَا وَأرْسل وَلَده السَّيِّد المرحوم أَبَا الْقَاسِم بن حمود وَأرْسل(4/495)
مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن الْحَارِث وَلَده السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد ومعهما السَّيِّد غَالب بن زامل بن عبد لله بن حسن وَجَمَاعَة من ذَوي عنقاء السَّيِّد بشير وَمُحَمّد وظافر بني وَاضح وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن عنقاء وَولده وَأرْسل مَعَهُمَا قوداً هَدِيَّة إِلَى باشا مصر الْمُسَمّى عمر باشا نَحْو سِتَّة أَفْرَاس مِنْهُنَّ البغيلة والهدبا والكحيلة فَسَارُوا إِلَى أَن بلغُوا الْحَوْرَاء الْمنزلَة الْمَعْرُوفَة فلاقاهم قَاصد من إِبْرَاهِيم باشا الْمُتَوَلِي بعد صرف عمر باشا بمكاتيب متضمنة لِلْأَمْرِ بالإصلاح والاتفاق على نهج النجاح فَرجع السَّيِّد غَالب بن زامل صُحْبَة القاصد إِلَى مَكَّة لينْظر مَا يتم عَلَيْهِ الْحَال فتنقطع مَادَّة القيل والقال وَتسقط كلفة الارتحال فَأَقَامَ الْقود وَمن مَعَه بالحوراء نَحوا من خَمْسَة عشر يَوْمًا ينتظرون الْفرج بعد الشدَّة فَلم يصل إِلَيْهِم خبر بعد هَذِه الْمدَّة فَلَمَّا لم يصلهم خبر سَارُوا إِلَى مصر فَدَخَلُوهَا لَيْلَة عيد المولد وَقدمُوا مكاتيبهم والقود لإِبْرَاهِيم باشا فأكرمهم وأعظمهم وأضافهم واحترمهم فاستمر الْحَال كَذَلِك إِلَى شهر جُمَادَى الْآخِرَة وَلم يرجع ذَلِك القاصد من مَكَّة إِلَى مصر فأشيع بهَا أَن السَّادة الْأَشْرَاف قَتَلُوهُ فَحصل الْهَرج والمرج وَجَاءَت الأكاذيب فوجاً بعد فَوْج فَأَشَارَ بعض الأشقياء عَلَى الباشا بإمساك السيدين أَبَا الْقَاسِم ومحمداً فَأمر بنقلهم من محلهم الأول وَهُوَ قايتباي إِلَى بَيت يُوسُف بك وَقد كَانَ وصل السَّيِّد مُحَمَّد يحيى إِلَى مَكَّة أَوَاخِر سنة سبع وَسبعين وَتقدم أَنه هُوَ الَّذِي كَانَ وَكيلا عَن أَخِيه الشريف سعد فِي الدَّعْوَى على السَّيِّد حمود لما حضر بِمَجْلِس أَفَنْدِي الشَّرْع فِي موسم السّنة الْمَذْكُورَة فاستمر مَعَه إِلَى عقب ذهَاب الْحَج ثمَّ طلب من أَخِيه الشريف سعد أَن يَجْعَل لَهُ ربع محصول الْبِلَاد وينادى لَهُ بِهِ فَامْتنعَ الشريف من ذَلِك فَغَضب وبرز من مَكَّة مُتَوَجها إِلَى السَّيِّد حمود وَأقَام بالزاهر مُدَّة ثمَّ إِن هَذَا الْخَبَر بلغ مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن زيد وَكَانَ بالشرق فجَاء مسرعاً ولحقه قبل أَن يتَوَجَّه وأرضاه بجملة من المَال فَلم يرض إِلَّا بالمشاركة بِالربعِ وبالنداء فِي الْحَال وَتوجه وَلحق بالسيد حمود وَاتفقَ مَعَه وَلما لم يحصل اتِّفَاق بَين مَوْلَانَا الشريف سعد وَبَين مَوْلَانَا السَّيِّد حمود بعد وُصُول القاصد للإصلاح أرسل مَوْلَانَا الشريف سعد إِلَى الديار المصرية وَإِلَى مَوْلَانَا السُّلْطَان ذَا(4/496)
خبْرَة بِمَا جرى وَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ أرسل مَوْلَانَا السَّيِّد حمود رَحمَه الله تَعَالَى وَعرف وَأقَام كل مِنْهُمَا يُعلل ويعسى ويتشوف وبرز مَوْلَانَا الشريف سعد إِلَى الزَّاهِر فِي موكب عَظِيم وَأقَام ينْتَظر فرج الْمولى الْكَرِيم وَكَانَ بروزه يَوْم عشْرين من ربيع الأول من سنة ثَمَان وَسبعين وفيهَا أَعنِي سنة ثَمَان وَسبعين ظفر بِالْبَلَدِ الْمَعْرُوفَة بالقنفذة بِرَجُل يتعاطى السِّكَّة خُفْيَة وَهُوَ مِمَّن يتسمى بِالْقضَاءِ فيسمى القَاضِي عبد الْوَاحِد فَضرب ضربا مبرحاً وحلقت لحيته وأتى بِهِ مَكَّة مكتوفاً مجرحاً ثمَّ أطلق فَذهب إِلَى الْحجاز الْأَعْلَى وَكَانَ أَمر الله هُوَ الْأَعْلَى ولنرجع إِلَى ذكر السيدين الْمَذْكُورين فَنَقُول لما نقلا إِلَى بَيت يُوسُف بك الْمَذْكُور أَقَامُوا عِنْده أَيَّامًا ثمَّ أَمر الباشا إِبْرَاهِيم بتجهيز تجريدة خَمْسمِائَة عَلَيْهَا السنجق يُوسُف بك الْمَذْكُور فنقلوا بعد عزمه إِلَى بَيت أغاة الأنكشارية واحتفظ بهما احتفاظاً تعظم بِهِ البلية وَمنعُوا الْخَارِج والداخل وَلم يقرب مِنْهُمَا صديق وَلَا خل وسارت التجريدة الْمَذْكُورَة وَهِي نَحْو ألف بالخدم وَخَمْسمِائة وَأكْثر مَعَهم الْحجَّاج والتجار والخدام والأرقاء والأجراء وَلما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشري جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وصل الْخَبَر بتجهيز مدد من الْعَسْكَر نَحْو خَمْسمِائَة أَو يزِيدُونَ وَمَعَهُمْ مستلم جدة المعمورة وعزل عماد أغا عَن مشيخة الْحرم رفيع القُنة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وفيهَا وصل مَوْلَانَا السَّيِّد سعيد بن شنبر بن الْحسن من بيشة مُتَوَجها إِلَى مَوْلَانَا السَّيِّد حمود وجماعته بالينبع فوصل إِلَيْهِ وَحضر مَعَه الْحِرَابَة الْآتِي ذكرهَا وَكَانَ آخرا وَفَاته بِتِلْكَ الْبَلدة رَحمَه الله برحمته الوسعة وَغفر لَهُ مغْفرَة جَامِعَة وَفِي هَذِه الْمدَّة أَيْضا وَقع فِي طَرِيق الطَّائِف أَن جمَاعَة الحمارة المترددين بَين مَكَّة والطائف من طَرِيق كرا بأموال النَّاس وأمتعتهم نزل عَلَيْهِم جمع من عرب الشرق فَأَخَذُوهُمْ وربطوهم وساقوهم وضربوهم وانتهبوهم ثمَّ سَارُوا بهم إِلَى قرب الْمَبْعُوث ثمَّ أطلقوهم بعد يَوْمَيْنِ عرايا مسلبين مجرحين مضربين(4/497)
وفيهَا فِي السَّادِس عشر من شهر رَجَب وصل المبشر من جدة يخبر بوصول رَسُول من الباشا مَعَه خلعة ومرسوم وَفِي لَيْلَة السَّابِع عشر مِنْهُ رَجَعَ مَوْلَانَا الشريف سعد إِلَى دَاره السعيدة فَلَمَّا كَانَ الصَّباح توجه الْعَسْكَر بأجمعهم إِلَى ملاقة رَسُول الباشا فَدَخَلُوا بِهِ فِي موكب عَظِيم إِلَى بَيت مَوْلَانَا الشريف وَلبس الخلعة وَقُرِئَ المرسوم بِحَضْرَة عَسْكَر السُّلْطَان والسادة الْأَعْيَان وَفِيه مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ من التَّعْظِيم والتمجيد وَحصل لمولانا بِهِ غَايَة السرُور وللرعية كَمَال الْفَرح والحبور وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر رَجَب الْفَرد الْحَرَام وصل إِلَيْنَا خبر من نَحْو الشَّام حَارِث فِيهِ الْعُقُول والأفهام بواقعة يَنْبع وَمَا جرى فِيهَا من الْأَحْكَام بِتَقْدِير الْملك العلام أَن التجريدة الَّتِي جهزت من مصر أوقع بهم السَّيِّد حمود فِي جَيش لهام من أهل يَنْبع وجهينة وعنزة وخاص وعام فَأَخَذُوهُمْ عَن آخِرهم وقتلوهم وسلبوا أَمْوَالهم وَأسرُوهُمْ وَلم يسلم مِنْهُم إِلَّا نَحْو الْمِائَة وَكَانَ مَعَهم مَال جزيل فَذهب شذر مذر بعد أَن تفرق أَصْحَابه شغر بغر وأمسكوا كَبِيرهمْ السنجق يُوسُف بك وَكَانَ من الْقَتْلَى من السَّادة الْأَشْرَاف خَمْسَة أشخاص هم السَّيِّد شبير بن أَحْمد بن عبد الله وَالسَّيِّد سرُور بن حُسَيْن بن عبد الله وَالسَّيِّد إلْيَاس بن عبد الْمُنعم بن حسن وشخص من ذوى عنقاء يُسمى السَّيِّد زين العابدين بن نَاصِر تغمدهم الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان وأسكنهم أَعلَى فراديس الْجنان // (من الطَّوِيل) //
(وقَتْلى أيادي الخيلِ بَيْنَ وجوهِهِمْ ... فخيرُ المنايا مَا يكُونُ مِنَ القَتْلِ)
وانتهبت الْأَعْرَاب الأجمال بالأحمال ثمَّ أَمر مَوْلَانَا السَّيِّد حمود بِجمع حَرِيم السنجق وحريم غَيره فِي مخيم كَبِير وأجرى عَلَيْهِم المصروف والقوت وَقدر الله للسنجق فِي تِلْكَ الأَرْض أَن يَمُوت وَكَانَ اللِّقَاء يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر رَجَب من سنة ثَمَان وَسبعين الْمَذْكُورَة وَقد كَانَ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود أرسل إِلَى الْعَسْكَر قبل قدومهم عَلَيْهِ أَن لَيْسَ لكم طَرِيق علينا إِن لم يكن السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم وَالسَّيِّد مُحَمَّد مَعكُمْ فَأَشَارَ بعض كبار الْعَسْكَر على يُوسُف بك الْمَذْكُور بالعدول عَن هَذَا الطَّرِيق وسلوك طَرِيق خَالِيَة عَن التعويق فَأَجَابَهُ السنجق بِفساد رَأْيه وَلم يمتثل وَكَانَ أَمر الله شَيْئا قد فعل(4/498)
وزوار الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الَّذين خَرجُوا على النّصْف من رَجَب لما كَانُوا فِي الطَّرِيق وهم ذاهبون بَلغهُمْ خبر الْعَسْكَر وَمَا وَقع لَهُم فاضطربوا وأشكل عَلَيْهِم الْأَمر وترددوا بَين أَن يرجِعوا إِلَى مأمنهم أَو يتوجهوا إِلَى مقصدهم فَردُّوا الْأَمر إِلَى سيد الْقَافِلَة وكبيرها مَوْلَانَا الشَّيْخ عِيسَى بن مُحَمَّد المغربي الثعالبي وَكَانَ مُتَوَجها مَعَهم فَأَشَارَ عَلَيْهِم بالتوجه من طَرِيق القاحة وَهِي مَعْرُوفَة وَكَانَ سَابِقًا يسلكها الْأَولونَ وفيهَا عمائر وآثار بِنَاء وعيون إِلَّا أَنَّهَا هجرت الْآن فسلكوا بالأمان تِلْكَ الأنحاء وتلقاهم شيخ الْعَرَب وسلطانها الْقَائِم بِخِدْمَة الْحَرَمَيْنِ مُنْذُ أزمان الشهَاب أَحْمد بن رَحْمَة بن مُضيان وَتوجه بهم إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فسلكوها آمِنين وَخَرجُوا على النازية قَرِيبا من الروحاء ثمَّ إِنَّه خرج بهم وأوصلهم إِلَى حَيْثُ لاقاهم وَرَجَعُوا سَالِمين أَوْلَادهم وأخراهم غير أَن بعض الزوار لما وصلوا قرب الْمَدِينَة قَرِيبا من الْمحل الْمُسَمّى مفرح تقدمُوا عَن الْقَافِلَة وَقد جرت الْعَادة بذلك فَرحا وشوقاً إِلَى مَا هُنَالك فَنزل عَلَيْهِم السراق فَأخذُوا مَا مَعَهم فِي تِلْكَ الفجاج وَحصل لَهُم جراحات وشجاج وَأهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة لما بَلغهُمْ مَا وَقع للعسكر وَقع عِنْدهم الِاضْطِرَاب الشَّديد والتعب الَّذِي مَا عَلَيْهِ من مزِيد وانقطعت عَنْهُم سبل الْوَارِد وغلا السّعر فِي المقتات بل لم يجده وَاجِد وَأما أهل مصر فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم الْخَبَر التهبت نيران الْغَضَب فِي أحشائهم فَظهر مِنْهَا بِوُجُوهِهِمْ الشرر فَقتلُوا من ظفروا بِهِ من أَتبَاع السَّيِّد أبي الْقَاسِم وَالسَّيِّد مُحَمَّد وتتبعوهم فِي الْأَمَاكِن اللواتي استخفوا فِيهَا وَنَادَوْا فِي الْبِلَاد بالوعيد الشَّديد لمن ستر خبية أحد مِنْهُم تخذيرا وتنبيهاً وَأمر بالسيدين الْمَذْكُورين إِلَى حبس الدَّم الْمُسَمّى فِي عرفهم عرق خانة وَالْأَمر لله سُبْحَانَهُ بعد أَن طلب الباشا من الْعلمَاء الْفَتْوَى بِجَوَاز قَتلهمْ فَلم يفتوه فَأمر باعتقالهما لما كَانَ والداهما وَبَنُو عَمهمَا اقترفوه وأورثه ذَلِك غيظاً وقهراً أنسياه كَرِيمَة {وَلا تزُر وازِرَةٌ وزرَ أُخْرَى} الاسراء 15 فاستمر إِلَى أَن عزل شَيْطَان إِبْرَاهِيم باشا عَام ثَمَانِينَ وَدخل مصر حُسَيْن باشا الْمَعْرُوف بِابْن جَان بلاط مُتَوَلِّيًا لَهَا فَمَا غفل عَن شَأْنهمَا وَلَا لَهَا بل(4/499)
سَأَلَ عَن سَبَب حبسهما والداعي إِلَيْهِ وكشف الله عَن بصر بصيرته بِمَا أَفَاضَ من نور الْحق عَلَيْهِ فَأخْبر بِمَا وَقع بالعسكر من أبويهما فَقَالَ هَل كَانَ الْوَاقِع قبل وصولهما أَو بعده فَقيل لَهُ بعده بِمدَّة فَقَالَ لَا ينْسب شئ من ذَلِك إِلَيْهِمَا وَلَا يعد ذَنْب أُولَئِكَ عَلَيْهِمَا وَأمر بإخراجهما واستدناهما وأكرمهما وَأقَام لَهما الْمُقَرّر كل يَوْم وَشهر وخيرهما بَين الْإِقَامَة وَالْعود إِلَى الدَّار وَالْمقر وأنزلهما فِي بَيت نقيب الْأَشْرَاف ووالى عَلَيْهِمَا الإنعام والألطاف فَلَمَّا كَانَ شهر رَمَضَان سنة ثَمَانِينَ استدعاهما ذَات لَيْلَة النَّقِيب إِلَى الْإِفْطَار عِنْده وَأعد من فاخر الْأَطْعِمَة عدَّة فَذهب السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم إِلَيْهِ مَعَ جملَة من الأحباب وَأما السَّيِّد مُحَمَّد فَلم يذهب إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ توهم واستراب ثمَّ لما كَانَت اللَّيْلَة الثَّانِيَة دعاهما أَيْضا واستنكر عدم وُصُول السَّيِّد مُحَمَّد إِلَيْهِ فِي اللَّيْلَة الأولى وكلف من الْأَطْعِمَة مَا أظهر بِهِ الْيَد الطُّولى وردد الرسائل إِلَيْهِ تترى مرّة بعد أُخْرَى فقوي الريب عِنْد السَّيِّد مُحَمَّد وَتمكن وَتحقّق ظنا أَن عمل الْبَاطِن مبطن فَامْتنعَ وَاعْتذر بِبَعْض الْأَعْذَار وَذهب إِلَيْهِ السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم وَكفى فِي التَّحَرُّز سور الأقدار ثمَّ خرج السَّيِّد مُحَمَّد على ركائب أعدت لَهُ فِي جمَاعَة وَهُوَ شَدِيد الْعَزْم والمُنة حَتَّى وصل إِلَى مَكَّة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَأما السَّيِّد المرحوم أَبُو الْقَاسِم ابْن السَّيِّد حمود فاستمر إِلَى أَن أَتَاهُ قَضَاهُ الله بالأجل المحتوم ففاز بِالشَّهَادَةِ من وَجْهَيْن الغربة والطاعون المشئوم فِي شهر شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله برحمته وآواه سرح جنته وَفِي هَذَا الْعَام وَقع من عَسْكَر الْمَدِينَة وعامتهم الْقيام على أَفَنْدِي الشَّرْع لحَال اقْتضى الْقيام على مَا زعموه فرجموه أَو كَادُوا أَن يرجموه ثمَّ تعدوا فزادوا فِي العتو والطغيان وانتهكوا حُرْمَة سيد ولد عدنان حَتَّى أَن بَعضهم سحب السِّلَاح فِي الْحرم وَلم يرقب حُرْمَة سيد الْأُمَم وَكَذَلِكَ هجموا على بَيت نَائِبه الشريف(4/500)
وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وَلم يراعوا من هُوَ منتسب إِلَيْهِ وَحصل أَيْضا لأهل الطَّائِف فِي هَذَا الْعَام تَعب وجوع وَخَوف حَتَّى خشِي كل مِنْهُم تلافه وَاجْتمعت عَلَيْهِم الْكَلِمَات الثَّلَاث برد وجوع ومخافة ووصلت كيلة الْحبّ إِلَى خمسين محلقاً وَغَيرهَا قريب مِنْهَا وَفِي شهر رَجَب الْمَذْكُور من سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَقع بطرِيق الطَّائِف بالقرية الْمَعْرُوفَة بالسيل أَن كَانَت أحمال متوجهة إِلَى الطَّائِف مُشْتَمِلَة على أرز وَسمن وتمر وبن وقماش وَغير ذَلِك تدخل فِي عشْرين بَعِيرًا نزل عَلَيْهِم بعض الْأَعْرَاب من عتيبة أهل الْبَادِيَة فَلم يبقوا مِنْهُم بَاقِيَة وَحصل بَينهم وَبَين أهل السَّيْل قتال فَقتل من أهل الْقرْيَة وَاحِد وَحصل فِي باقيهم جراحات وأخرب الْقَوْم الْبِلَاد اللَّهُمَّ عَلَيْك بِكُل بَاغ ذِي عناد وَكَذَلِكَ اجْتمع طَائِفَة من هَذِه الفئة الباغية والعصبة الطاغية وداروا فِي أَطْرَاف مَكَّة ونواحيهْا يتخطفون النَّاس ويؤذون الْمُسلمين فويل لَهُم من مَالك يَوْم الدّين وَكَذَلِكَ أهل مَكَّة كَانُوا فِي شدَّة وَغَلَاء وَجهد وبلاء طحنوا الفول والحمص وجعلوه خبْزًا فَلم يجز إِلَّا بعض الْإِجْزَاء وَبلغ ثمن الإردب الْقَمْح أَرْبَعِينَ دِينَارا إِلَى خمسين بل عدم بِالْكُلِّيَّةِ وَوزن الْخبز الَّذِي يُبَاع فِي السُّوق بمحلق جَاءَ وَزنه أُوقِيَّة وكل شئ خرج فِي ثمنه عَن معتاده وَلَكِن لطف الله سَار فِي عباده وَمن ظن انفكاك لطفه عَن قدره فَإِنَّمَا ذَاك لقُصُور نظره وَفِي يَوْم الْأَحَد سادس رَمَضَان مِنْهَا اجْتمع الرّعية وتوجهوا إِلَى مَوْلَانَا الشريف وَرفعُوا أَصْوَاتهم بَين يَدَيْهِ يَشكونَ النَّاظر والمحتسب عَلَيْهِ فَأمر بإحضارهما وَحكم بعزلهما وحبسهما لتواتر الْخَبَر عِنْده بظلمهما وبأكلهما الرشا وَسُبْحَان الله يفعل مَا يشا وَفِي هَذِه الْمدَّة وصلت قافلة من مَدِينَة الرَّسُول مَعَهم مَال جزيل فَلَمَّا كَانُوا بالقرية الْمُسَمَّاة مستورة أقبل عَلَيْهِم أَقوام فَأخذُوا جَمِيع مَا مَعَهم قيل إِنَّه يدْخل فِي خمسين ألف وَالله أعلم وَفِي ثامن عشر رَمَضَان الْمَذْكُور وصل إِلَى وَادي مر وَإِلَى جَدة ونواحيهما جملَة(4/501)
من قَبيلَة عتيبة عرب الشرق أهل الْفساد والطغيان فِي مائَة مردوفة وَقيل مِائَتَيْنِ فَأخذُوا مَا وجدوا وَانْصَرفُوا قابلهم الله بِمَا اقترفوا فَلَمَّا بلغ مَوْلَانَا الشريف سعد خبرهم أرسل فِي طَلَبهمْ جمعا من الْأَشْرَاف والعسكر عَلَيْهِم اْخوه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد فَأخذ فِي أَثَرهم عدَّة لَيَال وَبلغ من الظفر بهم أعظم منال فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَمَضَان وصل مَكَّة مُبشر من عِنْده بِأَنَّهُ ظفر بهم وَأَخذهم وقتلهم وَحصل مِنْهُم مَال كَبِير خذلهم الله تَعَالَى وأذل مِنْهُم الْكَبِير وَالصَّغِير وَفِي اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة أَيْضا جَاءَ مُبشر من جِهَة مصر بتوجه الْعَسْكَر والمراكب بِالطَّعَامِ لأهل بلد الله الْحَرَام وفيهَا أَيْضا ظهر عَمُود من نور نَحْو الغرب مهيل طَوِيل وغلظه كَطُولِهِ غلظ أعظم النخيل وَحصل بِهِ خوف ورعب للْمُسلمين وَهُوَ من الْآيَات للمعتبرين وَظهر فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة لكنه فِي الطول أَكثر بِحَيْثُ إِنَّه امْتَدَّ إِلَى ثلث السَّمَاء ثمَّ إِنَّه صَار يضعف نوره ويتقهقر إِلَى لَيْلَة الثَّامِن من شَوَّال لم يظْهر لَهُ نور بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا أثر وَالله أعلم بِحَقِيقَة ذَلِك وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَنَافِع والمضار نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ اللطف فِيمَا جرت بِهِ الأقدار وَفِي آخر الشَّهْر وصلت جلاب من الْيمن وسواكن ففرقت على أهل السُّوق وَفَرح بذلك النَّاس وتباشرت بنزول السّعر وَفِي الِاثْنَيْنِ كَانَت السَّمَاء معلولة وَلم يظْهر الْهلَال فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء ثبتَتْ الرُّؤْيَة عِنْد حَاكم الشَّرْع بِشَهَادَة جمع من عدُول الْمُسلمين وَثَبت الْفطر وتواتر الْخَبَر بعد ذَلِك بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَفِي لَيْلَة ثَالِث شَوَّال تباشرت النَّاس بوصول المراكب وتواجدت الْحُبُوب فِي الْأَسْوَاق وَكم لله على النَّاس من نعم على الْإِطْلَاق ثمَّ عقب ذَلِك أَن اشْتَدَّ الْأَمر على الْمُسلمين وَرجع إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ إِن غَالب الْفُقَرَاء والضعفاء يكون الْوَاحِد مِنْهُم مَاشِيا فيطيح فَيَمُوت وَمِنْهُم من يكون جَالِسا فتهفت روحه وَقد شوهد ذَلِك وَصَارَ الْفُقَرَاء يَجْتَمعُونَ فِي المذبح ويتلقون(4/502)
الدِّمَاء ليأكلوها وَذكر أَن بجدة كَانُوا يدورون على الطَّعَام فِي السُّوق فَلَا يجدونه وَأَرْسلُوا إِلَى مَكَّة يطلبونه مَعَ أَن جدة مَمْلُوءَة من الطَّعَام لكنه فِي أَيدي التُّجَّار بل الْفجار كَمَا قَالَه سيد الْأَبْرَار للمحتكرين اللَّهُمَّ عَلَيْك بهم وبجميع المفسدين وَأما أهل مَكَّة المشرفة فقد اجْتمع عِنْدهم فِي هَذَا الْعَام من الْأُمَم مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ لِأَن الجدب والقحط عَام فِي أَرض الْحجاز ونواحيها وكل من اشْتَدَّ بِهِ الْحَال صَار يَأْتِيهَا هَارِبا من بَلَده إِلَى بَيت الله الْعَتِيق يأتونه من كل فج عميق وحلت الْميتَة والبسس وَالْكلاب بعد أَن بيع مَا يملك من أثاث الْبَيْت وَالثيَاب وَصَارَ الْفُقَرَاء يهجمون على الْبيُوت فتعب مِنْهُم النَّاس وصاروا يغلقون الْأَبْوَاب وَفِي هَذَا الشَّهْر اتّفق أَن جَارِيَة لبَعض الْأَعْرَاب يعْرفُونَ بالمشارية دخلت يَوْمًا بَيْتا فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا امْرَأَة عجوزاً وَهِي من جمَاعَة عَسْكَر مصر فخنفتها فقتلتها وَرَآهَا بعض الْجِيرَان فَدَخَلُوا عَلَيْهَا وأمسكوها ودعوا ابْن بنتهَا فجَاء مَعَ جمَاعَة الْعَسْكَر فَأَخَذُوهَا وطلعوا بهَا إِلَى مَوْلَانَا الشريف فَلم يُثبتوا وحبسوها عِنْدهم يَوْمَيْنِ وَفِي الْيَوْم الثَّالِث عصبوا على قَتلهَا فَقَتَلُوهَا يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشري شَوَّال عِنْد الششمة الْمَعْرُوفَة بالبزابيز قلت وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت صَاحِبَة لِابْنِ بنتهَا وَكَانَت المقتولة تنهاه عَنْهَا وتحذره مِنْهَا فظنت أَنَّهَا بقتلها يَخْلُو لَهَا وَجه صَاحبهَا فَكَانَ هُوَ الْقَاتِل لَهَا وَالله أعلم أيا كَانَ ذَلِك وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشري شَوَّال الْمَذْكُور وصل خبر من جدة بوصول جمَاعَة من الْعَسْكَر الرُّتْبَة بحراً وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء دخلُوا مَكَّة المشرفة وأخبروا بِخُرُوج الْعَسْكَر من مصر وهم يدْخلُونَ فِي ثَلَاثَة آلَاف وبتجهيز المراكب لأهل الْحَرَمَيْنِ وللعسكر وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة غرَّة ذِي الْقعدَة كَانَ حريق بِأَعْلَى مَكَّة بالمعابدة وَفِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة كَانَ أَيْضا حريق بشعب عَامر بِالْقربِ من ضريح وَالِد سَيِّدي أَحْمد البدوي نفعنا الله بِهِ وَفِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة انقض نجم كَبِير مهيل نَحْو الشرق وَفِي لَيْلَة الْخَامِس مِنْهُ(4/503)
احْتَرَقَ سوق المعلاة جَمِيعه وَفِي الْيَوْم السَّابِع وصل مُبشر بوصول مركب هندي بِالْقربِ من جدة المعمورة وَوصل مِنْهُ جمَاعَة وَفَرح الْمُسلمُونَ ثمَّ بعده بِنَحْوِ يَوْمَيْنِ دخل مركب من بنقالة وَفِيه خير كثير وَفِي الأول هَدِيَّة سنية لمولانا الشريف ألهمه الله الْعدْل فِي الرّعية وَهَذِه من أعظم السعودات وأيمن الاتفاقات وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي ذِي الْقعدَة الْحَرَام برز عَسْكَر الشريف لما بلغه تحرّك السَّيِّد حمود لنهب يَنْبع فَجهز من مَكَّة نَحْو الْمِائَتَيْنِ عَلَيْهِم بِلَال أغا ليقيموا بينبع الْبَحْر أرسلهم رُتْبَة فاتجهت هَذِه الرُّتْبَة بعسكر التجريدة بواسط لَيْلًا وردهَا مَعَه مقدم التجريدة مُحَمَّد جاوش إِلَى بدر ثمَّ أقبل بِمن مَعَه إِلَى مَكَّة وَأَقْبل مَعَه بِلَال أغا وَذَهَبت الرُّتْبَة إِلَى يَنْبع الْبَحْر فأقامت بِهِ إِلَى وُصُول مَوْلَانَا الشريف سعد مَعَ الْحَاج الْمصْرِيّ وعسكر التجريدة وَفِي هَذِه الْمدَّة اشْتَدَّ الْحَال على أهل مَكَّة حَتَّى أَن غالبهم بَاعَ حوائج بَيته وثيابه وَلم يبْق لَهُ شئ وَصَارَ يسْأَل النَّاس وَمِنْهُم من بَاعَ أَوْلَاده وَمِنْهُم من رمى بهم وَاتفقَ لبَعض أَصْحَابنَا رَحمَه الله تَعَالَى أَنه اشْترى بِنْتا من أَبِيهَا بحرفين وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور أصبح عماد أغا من جدة بعد أَن كَانَ توجه بحراً إِلَى مصر وَوصل الطّور وَرجع لأمر من الْأُمُور وَالله أعلم بِمَا تكن الصُّدُور وَفِي سَابِع عشري الشَّهْر الْمَذْكُور دخلت عشرَة مراكب جدة بالسلامة وَهَذِه أعظم كَرَامَة وفيهَا الْعَسْكَر وَالْحجاج وَالطَّعَام وجرايات أهل مَكَّة وَخير كثير وَذَلِكَ من لطف الله على الْأَنَام وَفِي أول ذِي الْحجَّة الْحَرَام دخل حجاج الْبَحْر مَكَّة المشرفة وَمَعَهُمْ الْعَسْكَر من جدة المعمورة وَحصل بدخولهم فرج كَبِير للْمُسلمين وَدخل فِي الْيَوْم الرَّابِع مِنْهُ الْحَاج الْمصْرِيّ وصحبته خلعة من مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان وخلعة أُخْرَى من الباشا كِلَاهُمَا لمولانا الشريف سعد أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وَفِي الْيَوْم الْخَامِس دخل الْمحمل الْمصْرِيّ وَكَانَ الْحجَّاج فِي هَذَا الْعَام قليلين فَخرج جمع يسير وَخرج قبلهم الْعَسْكَر المعينون للتجريدة فتلاقوا قبل يَنْبع بيومين(4/504)
أَو ثَلَاثَة ودخلوا سَوَاء وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا نَحْو خَمْسَة أَو سِتَّة وهم يكاتبون السَّيِّد حمود ويعرفونه وَهُوَ يُرْسل الْجَواب وَالْكَلَام الشَّديد فحملوا عَلَيْهِ وَأَقْبلُوا فوجدوا الْخيام قفراً والمزار بعيد ثمَّ إِنَّهُم عقدوا بَينهم شُورَى فاتفق الرَّأْي أَن بَعضهم يُقيم لحفظ الْبَلَد وَالْبَعْض الآخر يحجّ وهم الْأَكْثَرُونَ ثمَّ إِنَّه توجه الْعَسْكَر وَمَعَهُمْ سنجقان وَالثَّالِث مُحَمَّد جاوش وَهُوَ رَئِيس الْعَسْكَر وَكَبِيرهمْ وَشَيخ الْحرم وسنجق جدة المعمورة فَدَخَلُوا مَكَّة فِي موكب عَظِيم يَوْم سبع من ذِي الْحجَّة وَفِي الْعَسْكَر اثْنَا عشر كاشفاً تَحت كل كاشف جمَاعَة وَمَعَهُ نقارة مَضْرُوبَة على رَأسه كَمَا هُوَ عَادَة أهل مصر وَفِي الْيَوْم الثَّامِن دخل الْحَاج الشَّامي واليماني وَالْمَدَنِي وَفِيه طلعوا إِلَى عَرَفَات وَأما أهل الْعرَاق وَأهل نجد وَأهل الْحجاز وَسَائِر الْعَرَب لم يحجوا لما حصل لَهُم من التَّعَب والجوع وَالْخَوْف الْمَذْهَب للهجوع وَفِي هَذَا الْعَام جَاءَ الْحجَّاج بِدَرَاهِم محلقة فَاسِدَة مطيرة كاسدة وأخربوا بهَا مُعَاملَة الْبِلَاد بِحَيْثُ إِن كل ثَلَاثَة مِنْهَا بدرهم من الْجِيَاد من حَيْثُ الْقدر وَالْقيمَة فَصَارَ كل يردهَا فغلت الأسعار وَأمْسك كل على مَا عِنْده من الطَّعَام وَهَلَكت الرّعية وَوَقعت الْفِتْنَة بَين الْمُسلمين بِسَبَبِهَا وَبلغ ثمن الشريفي الْأَحْمَر إِلَى ثَلَاثَة وَنصف وَإِلَى أَرْبَعَة إِلَّا ربع والقرش بِخَمْسَة وَسبعين قلت هَذَا فِي تِلْكَ السّنة وَأما الْيَوْم فَهُوَ بسبعة حُرُوف وَنصف انْتهى وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر ذِي الْحجَّة طلع مُحَمَّد جاوش إِلَى المعلاة فِي موكب عَظِيم وَلبس خلعة جَاءَتْهُ من حَضْرَة الباشا وَفِي حَال توجهه قتل سِتَّة أشخاص من أَتبَاع السَّيِّد حمود وأتى بهم من يَنْبع مفرقين اثْنَان بالمسعى وَاثْنَانِ بالمدعي وَاثْنَانِ عِنْد بَاب المعلاة وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام توجه الْحَاج الْمصْرِيّ والعسكر ومولانا الشريف سعد أعزه الله إِلَى يَنْبع نَحْو السَّيِّد حمود وَأقَام أَخَاهُ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد مقَامه على مَكَّة المشرفة وَكَانَ يَوْم بروزهم شَدِيد الْحَرَارَة وتحركت فِيهِ السمُوم بالشوب وَهلك بِسَبَبِهِ جمع كَبِير من الْحجَّاج وَالدَّوَاب(4/505)
وَذَلِكَ بِلَا شكّ زِيَادَة فِي الْأجر وَالثَّوَاب وَكَانَت الوقفة فِي هَذَا الْعَام بالإثنين من غير شكّ وَلَا خلاف بَين اثْنَيْنِ ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين فِي يَوْم الثُّلَاثَاء غرَّة محرم الْحَرَام مِنْهَا خرج الْمحمل الشَّامي ثمَّ إِن الْعَسْكَر ومولانا الشريف لما توجهوا إِلَى يَنْبع ضربوا شُورَى فِي أَنهم يُقِيمُونَ هُنَاكَ أَو يتوجهون خلف السَّيِّد حمود أَو يرجعُونَ إِلَى مصر فاتفق الرَّأْي أَنهم يذهبون إِلَى مصر وَأقَام مَوْلَانَا الشريف وَمن مَعَه من الْجَيْش وَمُحَمّد جاوش وَأمْسك مَوْلَانَا الشريف جمَاعَة من المفسدين الَّذين كَانُوا فِي الْحِرَابَة قتلوا فِي عَسْكَر السنجق يُوسُف وَالْحجاج وَأخذُوا أَمْوَالهم وَغَيرهم من العربان وحبسهم فِي السجْن وكبلهم بالقيود والأغلال وغرمهم مَا نهبوه من تِلْكَ الْأَمْوَال وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس صفر من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة تسع وَسبعين برز مَوْلَانَا الشريف أَحْمد أَسبَابه وَعَسْكَره إِلَى جِهَة الْمَبْعُوث لإِصْلَاح تِلْكَ الْجِهَات والطرقات أصلح الله شئونه فِي السكنات والحركات وَفِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي ربيع الآخر وَقع حريق وَقت الْعَصْر كَبِير فِي شعب أجياد وَرَاء جبل أبي قبيس وَسلم الله الْمُسلمين وَفِي رَابِع عشر من جُمَادَى الأولى ورد علينا خبر من الشَّام بوصول خلعة من الباشا لمولانا الشريف سعد أسعده الله تَعَالَى وأسبغ عَلَيْهِ نعمه ووالى وَأَنه لبسهَا يَوْم أَربع مِنْهُ وَمَعَهَا مَكْتُوب بتفويض أَمر الْحَرَمَيْنِ الشريفين ونواحيهما إِلَيْهِ من غير شريك ثمَّ إِنَّه أَمر بقتل أَرْبَعَة من المفسدين وبهدم السُّور الَّذِي يتحصنون فِيهِ فهدموه حجرا حجرا بِأَيْدِيهِم وَكَذَلِكَ أَمر بِإِقَامَة الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة بناديهم وَفِي هَذَا الشَّهْر تَوَاتر الْخَبَر من جِهَة أَرض الْيمن باشتداد الجدب والقحط فِيهَا كالقنفذة وصبيا والتهائم ونواحيها وفى بعض الْأَيَّام بالقنفذة وجدوا فِي دَار امْرَأَة حجامة رجلَيْنِ مقتولين أَحدهمَا مَأْكُول وَالْآخر شرعت فِي أكله وأعضاء أَطْفَال مِنْهَا طرى وَمِنْهَا يَابِس فَأَمْسَكت وغرقت فِي الْبَحْر وَقيل وضعت على الجزيرة الَّتِي أَمَام القنفذة وسط الْبَحْر ففقدت صَبِيحَة لَيْلَة الْوَضع(4/506)
وَأما أهل الطَّائِف فَلَحقُوا شدَّة عَظِيمَة بلغت الكيلة الحماط ثَلَاثِينَ محلق غير مَوْجُودَة فَمَا بالك بغَيْرهَا وَمَا صَار أحد يخبز عيشه فى الْقرن لأَنهم يخطفونه من شدَّة الْجُوع ويهربون بل يخبزونه فِي الْبيُوت ويستترون هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَهُ قدرَة نسْأَل الله أَن يمن علينا بنظرة أما الْفَقِير فَمَا أكله غير الْجُلُود وَالْعِظَام والدماء الْميتَة وَلم يَجْسُر أحد يمشي وَحده إِن أحوجه الْأَمر إِلَى الْخُرُوج تسلح وَقَرَأَ حزبه وورده وَكَذَلِكَ أهل الْحجاز الْأَعْلَى هربوا من بِلَادهمْ وتركوها وغالب أهل الْقرى والبادية جَاءُوا إِلَى مَكَّة هاربين وَإِلَى رب الْبَيْت ملتجئين وخاضعين وهم يصيحون الْجُوع الْجُوع ويتضرعون وَفِي الطرقات يتصرعون وَفِي يَوْم عشْرين من هَذَا الشَّهْر أَمر نَائِب الشريف مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد بشير ابْن سُلَيْمَان على مَكَّة لِأَنَّهُ أنابه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد عِنْد خُرُوجه إِلَى جِهَة الْمَبْعُوث أَمر بشنق رجل من الْأَعْرَاب فشنق عِنْد الششمة الْمَعْرُوفَة بالبزابيز وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَنه هُوَ وَرجل آخر قتلا رجلا من أَبنَاء الطّواف فِي طَرِيق جدة ومثلا بِهِ وأخذا مَا مَعَه فَأمْسك أَحدهمَا وهرب الآخر وَفِي أول هَذَا الشَّهْر أخبر الثِّقَة عَن جمَاعَة ثِقَات أَنهم وجدوا فِي يَوْم من الْأَيَّام حَيَوَانا يشبه الضبع بِأَعْلَى مَكَّة نَحْو المنحنى فَقدم على حمَار فَرَآهُ بعض النَّاس فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وذهبوا خَلفه فَدخل بعض الْبيُوت وَوجد امْرَأَة فجرحها فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وقتلوه وَلم يعرفوا مَا هُوَ فَسَموهُ الغول وَفِي يَوْم الْأَحَد ثامن عشري الشَّهْر الْمَذْكُور كسفت الشَّمْس بعد اصفرار من غير سَواد نَحْو ساعتين وَلما كَانَ أول جُمَادَى الْأُخْرَى اشْتَدَّ الْبلَاء بِالْمُسْلِمين والفقراء وَالْمَسَاكِين فَعِنْدَ ذَلِك قذف الله تَعَالَى فِي قُلُوب بعض عباده الرَّحْمَة والشفقة فَاجْتمعُوا على أَمر هُوَ أَنهم يجْعَلُونَ شَيْئا من حطام على أهل الْقُدْرَة والطاقة ليَكُون لَهُم ذخيرة عِنْد الله يَوْم الْحَسْرَة والفاقة وهم ثَلَاثَة مِنْهُم الِاثْنَان العالمان العاملان مَوْلَانَا الشَّيْخ عِيسَى ابْن مُحَمَّد المغربي الثعالبي الْجَعْفَرِي ومولانا الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَالثَّالِث قطب الْوُجُود وَالزَّمَان ذُو السِّرّ والبرهان الْوَلِيّ الصَّالح صَاحب القَوْل الرَّاجِح(4/507)
مَوْلَانَا السَّيِّد عبد الرَّحْمَن المغربي الشهير بالمحجوب ثمَّ إِنَّه انتدب لخدمة الْفُقَرَاء وَالْقِيَام بمصالحهم بعض الإخوان من أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح ونادى مناديهم بِلِسَان الْحَال يَا عباد الله حَيّ على الْفَلاح فابتدروا وتقدموا إِلَى حَضْرَة مَوْلَانَا الْقَائِم مقَام وَهُوَ السَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان فأجابهم بالتحية وَالْإِكْرَام وَأَعْطَاهُمْ مَا قدر عَلَيْهِ طَمَعا فِي دَار السَّلَام ثمَّ توجهوا إِلَى كبراء الْبِلَاد فَأعْطِي كل بِقدر مَا قسمه الله وَأَرَادَ وَكتب مَوْلَانَا الشَّيْخ إِلَى مَوْلَانَا الشريف سعد وَكتب أَيْضا إِلَى أَخِيه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد فأجابا وأمرا خدامهما وأتباعهما بشئ من الْبر مِقْدَاره عَظِيم ليَكُون لَهما ذخيرة عِنْد رب الْعَالمين إِذْ هُوَ صلَة للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فَلَمَّا اجْتمع من الدَّرَاهِم وَالطَّعَام مَا فِيهِ الْبركَة رَأَوْا أَن يَجْعَلُوهُ دشيشة مَعَ دشيشة السُّلْطَان مرَّتَيْنِ أول النَّهَار واَخره على الدَّوَام وَالْقدر الَّذِي يطْبخ فِي الْوَقْتَيْنِ أَرْبَعَة أرادب وشئ وَكَانَ فتحهَا فِي خَامِس جُمَادَى الْأُخْرَى من سنة التسع وَالسبْعين فَحصل بهَا نفع كَبِير للْمُسلمين وَالْفَقِير فجزى الله المتصدقين والعاملين عَلَيْهَا والقائمين بهَا أفضل الْجَزَاء ورضى عَنْهُم أحسن الرِّضَا وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ورد خبر وَفَاة المرحوم مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن السَّيِّد عَليّ بن باز بن حسن من الْيمن رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة وَفِي لَيْلَة سَابِع عشر رَمَضَان حصلت رَحْمَة من السَّمَاء علينا وعَلى أَطْرَاف مَكَّة فَحصل بهَا فرج كَبِير وسرور للْمُسلمين كثير وَفِي ثَالِث شَوَّال وجدت بنت مراهق مقتولة فِي بعض الْأَزِقَّة قَرِيبا من سوق العطارين وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن عَلَيْهَا بعض حلي فَقَتلهَا قاتلها لذَلِك وَفِي الْيَوْم الرَّابِع انْتَقَلت امْرَأَة ودفنت ثمَّ أصبح أَوْلَادهَا يزورونها وَكَانَ يَوْم جُمُعَة فوجدوا قبرها منبوشاً وَإِذا كفنها قد سرق فخافوا وتشوشوا تشوشاً شَدِيدا فتركوها وَجَاءُوا يسْأَلُون عَن الحكم الشَّرْعِيّ هَل تكفن ثَانِيًا أم لَا فأجيبوا بِمَا ذكره الْعلمَاء الْأَعْلَام أَن الْمَيِّت إِذا سرق كَفنه يُكفن ثَانِيًا مَا لم يتفسخ ويتفرق اللَّحْم عَن الْعِظَام(4/508)
وَوَقع من بعض السوقة المفسدين أَنه تكلم مَعَ الدولة فِي مظْلمَة يحدثها على الْمُسلمين وَجعل على نَفسه شَيْئا من الدَّرَاهِم ليأخذها من إخوانه الْمُؤمنِينَ ويتقرب بهَا إِلَى الْجَحِيم ويتباعد عَن جنَّة النَّعيم فَبلغ ذَلِك حَاكم الشريف الْقَائِد أَحْمد بن جَوْهَر كَانَ الله لَهُ فِي عونه فَضَربهُ حَتَّى بلغ بِهِ الْهَلَاك ثمَّ حَبسه فشفع فِيهِ فَأخْرج مَحْمُولا إِلَى بَيته وشاع أمره وَظهر وَأقَام ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الرَّابِع أَخذه الْقَضَاء وَالْقدر وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشري ذِي الْقعدَة بعد طُلُوع الشَّمْس بساعتين وَقع أَمر مهيل هُوَ أَنه ظهر من عين الشَّمْس أَو بِالْقربِ مِنْهَا ضوء هائل كالنجم ثمَّ إِنَّه استطال وامتد إِلَى جِهَة الْمغرب وَحصل لمن رَآهُ حَال بدئه غشاوة على بَصَره وارتعدت فرائصه وانزعجت مِنْهُ الْقُلُوب وَهُوَ مُشْتَمل على زرقة وصفرة وَحُمرَة ثمَّ إِنَّه ذهب طرفاه وبقى الْوسط واتسع فِي الْعرض فَخرج مِنْهُ صَوت كالرعد وَلم يكن فِي السَّمَاء غيم وَلَا سَحَاب وَظن بعض النَّاس أَنه صَوت مدفع وَاسْتمرّ سَاعَة وَفِيه عِبْرَة لأولى الْأَلْبَاب ثمَّ اضمحل الْبَاقِي من ذَلِك الشعاع إِلَى سَحَاب ثمَّ إِن النَّاس كثر كَلَامهم فِي ذَلِك وَقَالُوا لَا بُد لهَذَا من شَأْن عَظِيم حَيْثُ إِنَّهُم لم يرَوا مثل ذَلِك وَلم يسمعوا بِمثلِهِ فِي الزَّمن الْقَدِيم وَحكى بعض النَّاس أَنه ذكر هَذِه الْحَادِثَة فِي جمع وتحدث بهَا وَإِنَّهُم قَالُوا لم يُشَاهد مثلهَا فِي ماضي الزَّمَان وَكَانَ فيهم رجل أكبر مِنْهُم سنا فَقَالَ أَنا شاهدت مثل ذَلِك وَأعظم مِنْهُ كنت فِي الْخيف فَوق الصَّفْرَاء مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَمَعِي جمَاعَة فسرنا بعد شدّ الْأَحْمَال إِلَى الروحاء فَلَمَّا كُنَّا بملاوي الْخيف وَكَانَ الْوَقْت بعد الْمغرب فَإِذا السَّمَاء انفرجت وَخرج مِنْهَا ضوء سَاطِع مَلأ الْوَادي وتساقط مِنْهُ شهب حَتَّى أيقنا بِالْهَلَاكِ فِي تِلْكَ الْبَوَادِي واستغثنا بالرسول وتشهدنا وتشفعنا بِمن نَحوه قصدنا ثمَّ ذهب واضمحل وبقى شئ من الضَّوْء فِي ذَلِك الْمحل فَخرج مِنْهُ صَوت مهيل كالرعد فظننا أَن الْجبَال تساقطت فاستغثنا وتشهدنا كَذَلِك ثمَّ ذهب واضمحل فسرنا سويعة فَإِذا هُوَ قد وَقع مرّة ثَانِيَة وَكُنَّا كلما وصلنا قَرْيَة نسْأَل أَهلهَا عَمَّا رَأينَا فَيَقُولُونَ رَأينَا مَا رَأَيْتُمْ وشاهدناه وَكَانَ عَاما فِي سَائِر الأقطار فسبحان الله الْفَاعِل الْمُخْتَار(4/509)
ثمَّ سألناه عَن مُدَّة هَذِه الْوَاقِعَة فَقَالَ لَهَا الْآن سِتّ وَعِشْرُونَ سنة بِهَذِهِ السّنة فَقُلْنَا لَهُ كَيفَ كَانَ عَاقبَتهَا فَقَالَ لم نر إِلَّا الْخَيْر والسلامة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة انْتهى وَفِي هَذَا الْيَوْم بِعَيْنِه وَهُوَ الْحَادِي وَالْعشْرُونَ من شهر ذِي الْقعدَة الْحَرَام من سنة تسع وَسبعين وَألف بني الشَّيْخ الْعَلامَة الْعَامِل الْعَارِف الْكَامِل مَوْلَانَا الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان المغربي فِي صحن الْمَسْجِد الْحَرَام بعض أَحْجَار ليضع فَوْقهَا حجرا كَبِيرا مَكْتُوب فِيهِ شاخصان من حَدِيد يُسْتَفَاد مِنْهُ بالظل مَا مضى وَمَا بقى من النَّهَار بالتماس جمَاعَة من الْمُسلمين وليكون نَفعه عَاما للْأمة أَجْمَعِينَ فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ جمَاعَة من الجهلة مِمَّن لَا خلاق لَهُم إِن هَذِه الْحَادِثَة الَّتِي وَقعت فِي السَّمَاء بِسَبَب هَذِه الْوَاقِعَة الَّتِي فِي الأَرْض لِأَنَّهُمَا كَانَتَا فِي يَوْم وَاحِد فِي سَاعَة وَاحِدَة فَكَانَ النَّاس فِي شَأْنهَا حيارى وَقَالَ بَعضهم إِن هَذِه صومعة النَّصَارَى وَكثر مِنْهُم القال والقيل فاستعان بِاللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم وتلا {حَسبُناً الله وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ} آل عمرَان 173 فَرفع الْأَمر إِلَى سيد الْجَمِيع مَوْلَانَا الشريف سعد لَا زَالَ من المسعدين فَأمر بوضعها على رغم آناف الْمُعْتَدِينَ وَذَلِكَ قبل وضع الْحجر الَّذِي فِيهِ الْكِتَابَة فجَاء إِلَيْهِ الْمعلم ليضعه فَوق سطح ذَلِك الْبناء فجَاء رَسُول من حَاكم الشَّرْع الشريف وَمنعه فَتوجه إِلَيْهِ الْمعلم فَقَالَ لَهُ لَا تفعل حَتَّى نكتب فِي ذَلِك سؤالا إِلَى الْمُفْتى فَكتب فَأجَاب إِنَّه إِذا كَانَت فِيهِ مصلحَة أَو مَنْفَعَة جَازَ وَضعه بِاتِّفَاق عُلَمَاء الْإِسْلَام وَهَذَا القَوْل من الْحَاكِم الشَّرْعِيّ إِنَّمَا هُوَ بوسوسة بعض الحسدة اللئام وَنَظِير هَذَا الْحجر مَوْجُود فِي مَسْجِد النَّبِي عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي غَيره من الْمَسَاجِد الْكِرَام ثمَّ إِنَّهُم كتبُوا لَهُ مَكْتُوبًا وَفِيه كَلَام لَا يَلِيق بالْمقَام فتعب الشَّيْخ من ذَلِك وَطلب من الْحَاكِم الشَّرْعِيّ أَن يجمع بَينه وَبَين خَصمه فَلم يفعل وَجَاء إِلَى بَيت الشَّيْخ وَاعْتذر وَأمر بِوَضْع الْحجر فَوضع فِي الْيَوْم الثَّانِي وَاسْتمرّ وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشري ذِي الْقعدَة دخل مَوْلَانَا الشريف سعد مَكَّة المشرفة فَحل بهَا السُّعُود فِي موكب عَظِيم خَفَقت بِهِ البنود ودعا لَهُ الْمُسلمُونَ بالنصر(4/510)
وَالظفر والتأييد حفظه الله تَعَالَى وَفِي يَوْم السبت سادس عشري الشَّهْر الْمَذْكُور دخل جدة مركب من الشَّام وغراب بِهِ مستلم جده وصحبته مكاتيب مضمونها عزل القَاضِي ونائب الْمَسْجِد الْحَرَام وَفِي لَيْلَة الْأَحَد سَابِع عشري الشَّهْر الْمَذْكُور دخل مَكَّة مَوْلَانَا الشريف أَحْمد ابْن الشريف زيد فِي موكب عَظِيم هُوَ بِهِ حقيق وَكَانَ فِي جِهَة الشرق وَدخل شهر ذِي الْحجَّة الْحَرَام اختتام سنة تسع وَسبعين كَانَ أَوله بالخميس فَلَمَّا كَانَ يَوْم الرَّابِع مِنْهُ وصل رَسُول من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة يخبر بِأَن صُحْبَة الْحَاج الشَّامي رجلا عَظِيم الشَّأْن يُسمى حسن باشا بِيَدِهِ أوَامِر من مَوْلَانَا السُّلْطَان يحكم فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين ويتبصر فيهمَا نِيَابَة عَن خَليفَة الزَّمَان فَلَمَّا كَانَ قرب الْمَدِينَة الشَّرِيفَة برزت لَهُ عساكرها وكبراؤها فتلقوه بِالْقبُولِ فَدخل فِي موكب عَظِيم وَتوجه إِلَى حَضْرَة الرَّسُول وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى وُصُول هَذَا الرجل أَن أهل الْمَدِينَة أرْسلُوا جمَاعَة مِنْهُم وَمَعَهُمْ مكاتيب إِلَى الحضرة العليةِ يرفعون إِلَيْهِ من مَوْلَانَا الشريف سعد وَأَتْبَاعه فِيهَا الشكية فَأرْسل هَذَا الرجل ليجري الْحق إِلَى معالمه وينصف الْمَظْلُوم من ظالمه فَلَمَّا اسْتَقر بِالْمَدِينَةِ البهية بِالْمَدْرَسَةِ القايتبائية اجْتمع إِلَيْهِ أهل الْمَدِينَة وَشَكوا إِلَيْهِ الْجور والشطط وَالْحَال الفظيع وَالْأَمر الفرط وسلطوه على جمَاعَة من أَعْيَان الْبَلَد مِمَّن ينتمون إِلَى الشريف سعد ذى الْقدر الخطير فأحضورا فِي حَالَة شنيعة من الإهانة والصفح والسحب وأنواع التَّعْزِير ثمَّ وضعُوا فِي السجْن بعد أَن كبلوا بالحديد وَكَانَ لَهُم عِنْده بِالْقَتْلِ تهديد وَمنع الْخَطِيب من ذكر مَوْلَانَا الشريف سعد بِالدُّعَاءِ على الْمِنْبَر وأذاع عَلَيْهِ فِي بلد جده هَذَا الْمُنكر فَلَمَّا بلغ ذَلِك مَوْلَانَا الشريف تَعب من هَذَا الْفِعْل وَأخذ مِنْهُ الحذر وفوض أمره إِلَى من بِيَدِهِ الْقَضَاء وَالْقدر وَلما برز من المدينهْ مُتَوَجها إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق صَار مناديه يُنَادي فِي الطَّرِيق(4/511)
وَفِي الْيَوْم السَّادِس دخل الْحَاج الْمصْرِيّ مَكَّة وَلبس مَوْلَانَا خلعته الْمُعْتَادَة من قديم الزَّمَان وَدخل فِي الْيَوْم الَّذِي قبله الْحجَّاج بِأَمَان وَفِي الْيَوْم السَّادِس أَيْضا دخل الْحَاج الشَّامي ثمَّ بعد الظّهْر بَين الصَّلَاتَيْنِ دخل الباشا حسن الْمَذْكُور فِي موكب عَظِيم بالآلاى والطبول والزمور وَهُوَ رَاكب فِي تخته إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب السَّلَام فَنزل وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَفِي الْيَوْم السَّابِع دخل الْمحمل الشَّامي وَلبس مَوْلَانَا خلعته الْمُعْتَادَة بعد أَن خرج فِي ذَلِك الموكب السَّامِي وَكَانَ فِي الْعَادة أَن يقسم بعض الصَّدقَات لأهالي مَكَّة قبل الصعُود فبها يَنْتَفِعُونَ وَمِنْهَا يحجون فَمنع من ذَلِك فَلَزِمَ عَن مَنعه الْقعُود وتلوا {إِنا للهِ وَإِنَّا إليهِ رَاجِعوُنَ} الْبَقَرَة 156 وَكَذَلِكَ مَوْلَانَا الشريف تَعب من أَحْوَاله السَّابِقَة وَقَالَ لَا أحج فِي هَذَا الْعَام إِن لم يظْهر مَا بِيَدِهِ من الْأَوَامِر فننظرها كَاذِبَة أم صَادِقَة وَأرْسل بذلك إِلَيْهِ وَإِلَى الْأُمَرَاء وشدد فِي الْكَلَام وَوَقع فِي الْبِلَاد اضْطِرَاب وانزعاج وعزلت الْأَسْوَاق وغلقت الْأَبْوَاب وخلت الطّرق والفجاج وَجمع مَوْلَانَا الشريف جَيْشه وَقَامَ على قَدَمَيْهِ وشمر ولسان الْحَال ينْطق الله أكبر الله أكبر ثمَّ إِن الْأُمَرَاء وكبار العساكر وأركان الدولة أَتَوا إِلَى مَوْلَانَا الشريف وقبلوا يَدَيْهِ وخضعوا رُءُوسهم وأنصتوا لَدَيْهِ وَقَالُوا أَنْت الأَصْل وَإِن لم تحج فَإِن الْأمة لَا يحجون والتزموا لَهُ بالعهود والمواثيق أَنه لَا يَقع خلاف وكل مَا تريده يكون فَعِنْدَ ذَلِك نَادَى مناديه فِي الْبِلَاد بالأمان والاطمئنان وَأَن النَّاس يحجون آمِنين من السوء والعدوان وَأما أهل الْمَدِينَة فتركوا الْحَج خوفًا على أنفسهم من جريرة مَا فَعَلُوهُ من الآثام والأوزار وَأما الْأَعْرَاب وَأهل الْبَوَادِي فَمنهمْ من ترك الْحَج لخوف الطَّرِيق الْمُوجب للإضرار وَمِنْهُم من توجه لِلْحَجِّ فَبَلغهُمْ فى أثْنَاء الطَّرِيق وُصُول الباشا وَمن مَعَه وَمَا مَعَه من الْأَخْبَار فَرَجَعُوا إِلَى أَهَالِيهمْ ثمَّ إِن مَوْلَانَا الشريف صعد إِلَى عَرَفَات وَلم يحصل شئ من المخالفات وَكَانَت الوقفة بِالْجمعَةِ وَفِي هَذَا الشَّهْر لم يَقع بَين مَوْلَانَا الشريف وَبَين حسن باشا اتِّفَاق إِلَّا أَنه أوصل الْفُقَرَاء حُقُوقهم وكل يَوْم يحْضرُون بَين يَدَيْهِ مَعَ الإهانة من عسكره فَمن النَّاس من يَدْعُو لَهُ وَأَكْثَرهم يدعونَ عَلَيْهِ(4/512)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَألف كَانَ هلالها بالسبت فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي مِنْهُ سعى جمَاعَة بَينهمَا بِالصُّلْحِ مِنْهُم أَمِير الْمحمل الشَّامي الْأَمِير عساف ابْن الْأَمِير مُحَمَّد فروخ وَكَانَ الِاجْتِمَاع بَينهم بعد الْعَصْر من الْيَوْم الْمَذْكُور بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام خلف مقَام الْحَنَفِيّ بِحَضْرَة الْخَاص وَالْعَام ثمَّ تفَرقا وَرجع كل مِنْهُمَا إِلَى بَيته بالحبور وَأرْسل كل مِنْهُمَا نوبَته إِلَى بَيت الآخر فدقت الطبول والزمور وَكَانَت سَاعَة مباركة سر بهَا الْكِبَار وَالصغَار فِيهَا إِشْعَار بِحُصُول الْوِفَاق وصفاء الأكدار وَأرْسل كل مِنْهُمَا هَدِيَّة سنية وَالله أعلم بِمَا اشْتَمَلت مِنْهُمَا النِّيَّة وَفِي الْيَوْم الثَّامِن من محرم افْتِتَاح سنة ثَمَانِينَ وَألف توجه بعد الْعَصْر مَوْلَانَا الشريف سعد وَأَخُوهُ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد إِلَى حَضْرَة الباشا حسن فقابلهما بالتحية وَالْإِكْرَام وجلسا عِنْده سَاعَة فِي أنس وصفاء وَتعطف فِي الْكَلَام فَلَمَّا أَرَادَا الْقيام ألبس كلا مِنْهُمَا ثوبا نفيساً يَلِيق بهما وَقَامَ لَهما وَمَشى على الْأَقْدَام وخرجا من عِنْده إِلَى الْبَيْت السعيد وقبلا الْحجر الْأسود السعيد وسألا من فضل الله الْمَزِيد وَفِي الْيَوْم الْعَاشِر من الشَّهْر الْمَذْكُور أَرَادَ الباشا السّفر إِلَى جدة المعمورة فَلَمَّا كَانَ بعد الْعَصْر توجه إِلَى حَضْرَة مَوْلَانَا الشريف سعد حفظه الله تَعَالَى بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم وَمكث عِنْده سَاعَة من الزَّمَان وَلم يذقْ عِنْده شَيْئا زعم أَنه صَائِم طلبا للغفران ثمَّ إِن مَوْلَانَا الشريف أَمر بِتَقْدِيم فرس مسرجة محلآة تَسَاوِي سِتّمائَة دِينَار اللَّهُمَّ ألف بَين قُلُوب عِبَادك كَمَا ألفت بَين الثَّلج وَالنَّار ثمَّ إِنَّه لما نزل إِلَى جدة حكم وتكبر وطغى وتجبر وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع أول من السّنة الْمَذْكُورَة نهب عَسْكَر الشريف السُّوق وَأخذُوا مِنْهُ مَا وجدوه من عَيْش وتمر وَلحم وَسمن وأفسدوا فِي تِلْكَ الأفنية وطلعوا إِلَى قهوة النّخل وَزَعَمُوا أَن فعلهم إِنَّمَا هُوَ للْحَاجة الملجئة من تَأَخّر الجامكية الشريفية وَأَقَامُوا بهَا تِلْكَ اللَّيْلَة ويومها على تِلْكَ العصبية ثمَّ نزلُوا إِلَى أَسْفَل مَكَّة وَأَرَادُوا التَّوَجُّه إِلَى نَحْو الْيمن فَتوجه إِلَيْهِم ابْن الشريف زيد مَوْلَانَا السَّيِّد حسن وصحبته الشَّيْخ أَبُو بكر العرابي وَشَيخ الْعَسْكَر والتزموا(4/513)
لَهُم مَا أَرَادوا فَرَجَعُوا إِلَى الْبَلَد فأعطوهم مَا كَانَ لَهُم وَزَادُوا وَفِي لَيْلَة الْخَامِس من شهر ربيع الأول من سنة ثَمَانِينَ وَألف دخل مَكَّة مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد مُحَمَّد يحيى ابْن المرحوم الشريف زيد أسكنهما الله فِي الْجنان الْقُصُور وَحصل بِدُخُولِهِ الهناء وَالسُّرُور فَلَمَّا أصبح الصُّبْح تكلم الْعَسْكَر الَّذين هم بِمَكَّة مقيمون فِي دُخُوله الْبَلَد وَهُوَ من الْجَمَاعَة الَّذين هم الناهبون القاتلون فأجابهم مَوْلَانَا الشريف بِأَن عِنْده مَكْتُوبًا من حَضْرَة الباشا بِأَنَّهُ يصطلح مَعَ بني عَمه فَأخْرجهُ لَهُم وقرأه عَلَيْهِم وسجله عِنْد قَاضِي الْمُسلمين فَسَكَتُوا وَرَجَعُوا وَفِي لَيْلَة الْخَمِيس عَاشر الشَّهْر ثَالِث عشر ربيع الآخر قتل بعض الأتراك زَوجته خنقاً طَمَعا فِي مَالهَا واعتصب لَهُ جمَاعَة وطلبوا الْبَيِّنَة عَلَيْهِ فَلم تقم فخلي سَبيله وَفِي الْيَوْم الْخَامِس عشر مِنْهُ قتل عبد أسود عَتيق لبَعض الْعَرَب رجلا من جماعته كَذَلِك لدنياه وَذَلِكَ عِنْد بِئْر طوئ فبئش مَا نوى وَأمْسك فَأقر فشنق فِي الْيَوْم الثَّانِي فِي مشنق مَحْمُود الْأَعْوَر وَفِي هَذَا الشَّهْر أَو الَّذِي قبله نفى مَوْلَانَا الشريف رجلَيْنِ إِلَى بَلْدَة بيشة أَحدهمَا من أَوْلَاده مَكَّة وَالْآخر من أَشْرَاف الأزبك المجاورين انْتقل هَذَا إِلَى رَحْمَة الله مَوْلَاهُ وَبَقِي الآخر إِذْ أبقاه الله وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَقع بَين عَسْكَر الشريف شنآن وافترقوا فرْقَتَيْن وتقاتلوا ساعتين وَحصل فيهم جراحات وأسفرت عَن سلامات وَكَانَ آغاتهم قد طلع إِلَى المعلاة لزيارة قبر مَوْلَاهُ فأرسلوا لَهُ رَسُولا وَنزل إِلَيْهِم قبل حُضُوره مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن زيد حفظه الله فَفرق جمعهم وأطفأ نارهم وَألف بَينهم وَقبل أعذارهم وَفِي هَذَا الشَّهْر توجه مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن زيد إِلَى قَبيلَة بني سعد فِي جمع يسير وهم فِي مَنْعَة وشاهق خطير وَأَرَادَ قِتَالهمْ لخروجهم عَن الطَّاعَة وَأظْهر كل مِنْهُم تمرده وامتناعه فَأرْسل وَعرف أَخَاهُ مَوْلَانَا الشريف سعد فَجمع جمعا وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ والذهاب(4/514)
فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ وصل الْخَبَر إِلَيْهِ بِأَنَّهُ وَقع الصُّلْح على المَال لتسلم الرّقاب وَدخل جُمَادَى الْأُخْرَى وَكَانَ بالأحد وَفِي الْيَوْم الثَّالِث مِنْهُ آخر النَّهَار انْتقل الْأَخ الْأَعَز المرحوم شهَاب الدّين القَاضِي أَحْمد ابْن القَاضِي مرشد المرشدي الْحَنَفِيّ الْعمريّ رَحمَه الله تَعَالَى وفى يَوْم الْجُمُعَة سادس الشَّهْر ضرب سروا الْعَسْكَر نَاظر السُّوق وأهانه وَمكث النَّاظر الْمَذْكُور أَيَّامًا لَا يخرج من بَيته بِسَبَب جرح رجله من الضَّرْب وَسَببه طلب السردار من النَّاظر أَن يزِيد لَهُ فِي السّعر ليبيع هُوَ وجماعته مَا عِنْدهم من الطَّعَام المحتكر فَمنع من الزِّيَادَة فحقد عَلَيْهِ لذَلِك وتسبب لَهُ بِسَبَب من الْأَسْبَاب حَتَّى بلغ من ضربه مَا يُقَابل بِهِ يَوْم الْحساب وَأما حسن باشا لما وصل جدة دخل بَيته وأغلق بَابه وأجلس أعوانه وحجابه وَجعل حَاكما يحكم على الْمُسلمين حكم الظَّالِمين فَمن جملَة حكم ذَلِك الْحَاكِم على مَا قيل أَنه جعل على كل ميت شَيْئا كَمَا فعل فِرْعَوْن فِيمَن قبله من الْأَوَّلين وتفرق جنده فِي الْبِلَاد إِذْ تأمروها وَكثر أذاهم فِيهَا وَمَا عمروها بِحَيْثُ إِنَّهُم يدْخلُونَ السُّوق وَيَأْخُذُونَ الطَّعَام وَغَيره قهرا من غير رضَا وَإِذا توجه الْمَظْلُوم إِلَى الباشا لم يقدر عَلَيْهِ وَلَا هُنَاكَ أحد يلتجأ إِلَيْهِ وَإِن رفعوا الْأَمر إِلَى حاكمه ضَربهمْ وَأمر بحبسهم وَلم ينْقض لَهُم أرب وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ قَوْله إِلَّا بَرى جدي بري زيدى عرب فَمن النَّاس من أمسك بَيته وَمِنْهُم من فر وهرب وَمِنْهُم من رفع هَذَا إِلَى مَوْلَاهُ فارج الكرب ليكشف هَذِه المحنة وَيهْلك من كَانَ السَّبَب وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَجَب الْحَرَام دخل سُلْطَان من سلاطين الأعجام وَقد كَانَ أرسل لَهُ مَوْلَانَا الشريف سعد إِلَى جدة رسله يهنونه بالسلامة ويبلغونه التَّحِيَّة والكرامة وصحبتهم خمس أَو سِتّ من التخوت وَتوجه إِلَيْهِ مفتي الْإِسْلَام والخطيب بِبَلَد الله الْحَرَام القَاضِي إِمَام الدّين ابْن القَاضِي أَحْمد المرشدي ولاقاه من نَحْو مرحلة وقابله بالتحية وَالْإِكْرَام وَجَاء مَعَه وَدخل بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام من بَاب السَّلَام وَأرْسل مَوْلَانَا الشريف إِلَيْهِ هَدِيَّة سنية وأنزله فِي بَيت من بيُوت آبَائِهِ الأسلاف الزكية(4/515)
ثمَّ بعد ذَلِك أرسل السُّلْطَان الْمَذْكُور لحضرة مَوْلَانَا الشريف مُقَابلا لما أهداه لَهُ من الإنعام مَالا جزيلاً من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَكَذَلِكَ جَاءَ من سُلْطَان الْهِنْد مَال عَظِيم فِي هَذِه الْأَيَّام فَذهب الضّيق والتعب من الْقُلُوب والأجسام وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشري رَجَب الْمَذْكُور انْتقل بالوفاة إِلَى رَحْمَة مَوْلَاهُ مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا ومأوانا وسندنا شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خَاتِمَة الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين خَادِم حَدِيث سيد الْمُرْسلين الْجَامِع بَين الْأُصُول وَالْفُرُوع الْحَافِظ لكل متن ومجموع الْحَائِز فضيلتي الْعلم وَالنّسب الْحَائِز طرفِي الْكَمَال الغريزي والمكتسب رَئِيس الْعُلُوم العبقري جَار الله أَبُو مهْدي عِيسَى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الثعالبي الْجَعْفَرِي الْهَاشِمِي نسبا الْمَالِكِي مذهبا المغربي منشأ ومولداً الحرمي وطناً ومحتداً إِمَام الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَعلم المغربين والمشرقين جَامع أشتات الْعُلُوم النقلية ومبرز خفايا لطائف الآراء الْعَقْلِيَّة محيى رسوم الرِّوَايَة بعد مَا عفت آثارها ومشيد مبانيها بعد مَا انهار منارها وسالك مسالك أَئِمَّة السلوك وَمَالك ملاك أمره فِي مجانبة كل مليك ومملوك ولد بِبَلَدِهِ وَنَشَأ بهَا على اشْتِغَال عَظِيم بالعلوم النافعة وَأخذ عَن عدَّة مَشَايِخ فِي عُلُوم عديدة قلت هُوَ شَيْخي الَّذِي تخرجت بِهِ فِي عدَّة من الْفُنُون إتقاناً عقائداً وأصولاً ونحواً وصرفاً ومنطقاً وبياناً تغمده الله برضوانه وأحله فسيح جنانه آمين وَفِي الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب الْمَذْكُور آخر النَّهَار وَقع بَين عَسْكَر الْمَدِينَة وَبَين الْعَرَب قتال زاغت فِيهِ الْأَبْصَار وَكَانَ من الْعَصْر إِلَى وَقت الاصفرار فَلَمَّا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار تفرق الْجَمْعَانِ وَبَات عَسْكَر الْمَدِينَة فى غَايَة التنبه والاحتذار طول ليلهم بالبندق إِلَى وَقت الأسحار وَكَانَ الْقَتْلَى من الْعَرَب نَحْو خَمْسَة عشر رجلا فَلَمَّا أصبح الصَّباح ونادى مُنَادِي الْفَلاح حفروا لَهُم حُفْرَة نَحْو السَّبِيل ودفنوهم بهَا وَقتل من أهل الْمَدِينَة حران وعبدان بذلك تَوَاتر الخبرعن غير وَاحِد من الإخوان وَهَؤُلَاء الْعَرَب من قَبيلَة تعرف بِحَرب وَلم نعلم حَرْب هَذَا جدهم لمن ينْسب وَإِلَى أَي جيل يحْسب وهم جمع كَبِير يشْتَمل على قريب من خمسين فخذاً كل فَخذ يشْتَمل على جمَاعَة لَهُم جد خَاص وَعَلَيْهِم الدَّرك فِي حفظ الطَّرِيق من عسفان(4/516)
إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَالشَّيْخ الَّذِي جماعهم عَلَيْهِ وانتماؤهم إِلَيْهِ كَانَ يُسمى أَحْمد بن رَحْمَة أَفَاضَ الله عَلَيْهِ الرَّحْمَة وَلما أقبل اللَّيْل مَنعهم شيخهم الْمَذْكُور عَن الْقِتَال وردهم إِلَى الْمحل الْمُسَمّى بِذِي الحليفة شرعا وبأبيار عَليّ عرفا ثمَّ أرسل لَهُ كَبِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة بِالطَّلَبِ والأمان فَتوجه إِلَيْهِم وَمَعَهُ جمع من العربان فَجعل الْفَرِيقَانِ يختصمان وَيَدعِي كل مِنْهُمَا على الآخر بالبدء بالعدوان على يَد الأفندي وَشَيخ الْحرم والأعيان فأصلحوا بَينهمَا وَانْقطع النزاع عَنْهُمَا وألبس الشَّيْخ خلعة نفيسة وألبس بعض خواصه جوخاً على أَن مَا مضى لَا يُعَاد بذلك وَقع الِاتِّفَاق والأمان وَنَادَوْا على الْقَافِلَة بالرحيل مَعَ التعزيز والتبجيل ثمَّ دخل شهر شعْبَان الْمُعظم وَكَانَ بالأربعاء وَفِي خامسه وصل رَسُول من باشا مصر المحروسة إِلَى حَضْرَة مَوْلَانَا الشريف يبشره بالنصرة المأنوسة لمولانا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان أيده الله بالسعد المديد على أهل الشّرك والطغيان أَرْبَاب مالطة وكريد فألبسه مَوْلَانَا الشريف خلعة ثمينة ونادى مناديه سبع لَيَال بالزينة وَذَلِكَ على الْقَوَاعِد الْقَدِيمَة وحصلت بذلك للمسليمن بشرى عَظِيمَة وَمُدَّة محاصرة أهل الْإِسْلَام للكفرة الْمُشْركين اللئام نَحْو ثَلَاثِينَ من الأعوام ثمَّ إِن الْكَفَرَة جعلُوا للْمُسلمين مَالا عَظِيما حَالا ومؤجلاً يأخذونه مِنْهُم كل عَام بالتمام وَأَن لَا يتَعَرَّضُوا للْمُسلمين بِحَال من الْأَحْوَال لَا فِي الْأَسْفَار وَلَا فِي دَار الْمقَام والمدة الَّتِي اتَّفقُوا عَلَيْهَا نَحْو مائَة من الأعوام على ذَلِك وَقع الصُّلْح والاتفاق وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الشقاق فَرَجَعُوا إِلَى أوطانهم بالخيرات والإنعام وَلَهُم فِي الْآخِرَة دَار السَّلَام وَمِمَّا يتَعَلَّق برَسُول الباشا أَنه جَاءَ بعزل أَفَنْدِي الشَّرْع وبتولية القَاضِي عبد المحسن القلعي نِيَابَة الْقَضَاء عَن الأفندي المستجد وبعزل مفتي الْحَنَفِيَّة القَاضِي إِمَام الدّين المرشدي وتولية الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بيري زَاده مقَامه إِذْ لَهُ هُنَاكَ مُسْتَند وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشري شعْبَان الْمَذْكُور من سنة ثَمَانِينَ وَألف ورد خبر وقْعَة مَوْلَانَا السَّيِّد حمود مَعَ ظفير الْقَبِيلَة الْمَعْرُوفَة بِنَجْد وَكَانَ فِيهَا عدَّة وقعات(4/517)
وقْعَة قفاز مَعَ عَنزة ووقعة بني حُسَيْن ووقعة هتيم العوازم ووقعة مطير وَغَيرهم وَسبب وقْعَة ظفير أَنه انْضَمَّ إِلَى جهامة مَوْلَانَا السَّيِّد حمود قَبيلَة من ظفير يُقَال لَهُم الصمدة ثمَّ انْضَمَّ إِلَيْهِ شيخهم الْأَكْبَر مَعَ جماعته الأدنين وعصبته الأقوين وَكَانَ محباً للسَّيِّد حمود بِمَنْزِلَة الْعين للْإنْسَان وَالْإِنْسَان للعين وَهُوَ ذُو شهامة وصرامة يعرف بِابْن مرشد سَلامَة فَوَقع من جماعته جرم اقْتضى أَن يؤاخذوا بِمَا هُوَ الْمُعْتَاد الْمَنوِي عَلَيْهِم فِي مثله وَهُوَ أَخذ الشعْثَاء والنعامة وَفِي خِيَار أَوَائِل الأباعر وَخيَار تواليها فَلم يرْضوا بذلك وَقَالُوا هُوَ جور وحيف وَلَيْسَ عندنَا دون ذَلِك إِلَّا حد السَّيْف فَأَشَارَ سَلامَة الْمَذْكُور إِلَى مَوْلَانَا السَّيِّد حمود وَقَالَ لَهُ اربطني ولستَ فِي ذَلِك بمُلام فوَاللَّه لتأخذن مَا تُرِيدُ على التَّمام فَقَالَ كلا وَالله لَا ربطتك ونخوة آبَائِي الْكِرَام وَكَيف ذَاك وَفِي بَطْنك من عيشي طَعَام وَكفى بِهِ الْتِزَام ولزام فَذهب سَلامَة إِلَى قومه وَقد تهيئوا لِلْقِتَالِ والنضال والعدوان وتهيأ كَذَلِك مَوْلَانَا السَّيِّد حمود وَمن مَعَه من بني عَمه وَمن الصمدة وعَدوان فانخزلت الطَّائِفَة من الصمدة وَوَلَّتْ نَاحيَة نَاجِية وانكفأ الْجَمْعَانِ بَعضهم على بعض وَاخْتَلَطَ الفرسان فَلم يبن الطول من الْعرض وَقتل من السَّادة الْأَشْرَاف مَوْلَانَا السَّيِّد زين العابدين بن عبد الله ومولانا السَّيِّد أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الله وَالسَّيِّد شنبر بن أَحْمد بن عبد الله وَصوب مَوْلَانَا السَّيِّد ظفير ابْن السَّيِّد زامل بن عبد الله أصاويب وَكَذَلِكَ صوب مَوْلَانَا السَّيِّد باز بن هَاشم بن عبد الله إِلَّا أَن الله سُبْحَانَهُ منَّ بالعافية عَلَيْهِمَا وَللَّه الْحَمد ثمَّ إِن السَّيِّد غَالب بن زامل صبحهمْ بعد مُدَيدة فحلم عَن سِتِّينَ لحية مِنْهُم وَلم يشف عَن وَاحِد من الْقَتْلَى كبده وَلم تزل مَعَهم ظفير فِي قتل وطراد إِلَى أَن أصلح بَينهم مَوْلَانَا المرحوم الشريف أَحْمد بن زيد كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك فِي مَحَله وَفِي تَاسِع عشري رَمَضَان وَقعت بِمَكَّة صَاعِقَة جِهَة الشبيكة قتلت رجلا وَاحِدًا وَفِي رَابِع عشر شَوَّال بلغنَا أَن الباشا حسن اْظهر بويوردي وقرأه على الأتراك بِأَن محصول جدة لَهُ يصرفهُ فِي عمَارَة الْمَسْجِد وَغَيره فتعب مِنْهُ مَوْلَانَا الشريف سعد(4/518)
وَأرْسل لَهُ وَنَهَاهُ عَن ذَلِك فَلم يرجع وَفعل فعل القسوس فَقَامَتْ بَينهمَا النُّفُوس وَنزل السَّيِّد مُحَمَّد بن يعلى فِي خيل وَرجل وخدام وواجهه فقابله بالتحية وَالْإِكْرَام وَكَانَ بَينه وَبَين مَوْلَانَا الشريف مباينة وظنن فتعب النَّاس من ذَلِك لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْفِتَن وَلَكِن كفى الله الْمخوف وَدفع وَلم يحصل شئ من المكاره وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشري الشَّهْر الْمَذْكُور وصل ثَلَاثَة من الْأَعْرَاب بِخَبَر سَار للْمُسلمين بِأَن صَاحب جدة مَعْزُول فأخلع عَلَيْهِم مَوْلَانَا الشريف أدام الله لَهُ النَّصْر والتمكين وَدخل شهر ذِي الْحجَّة الْحَرَام اختتام سنة ثَمَانِينَ وَكَانَ بالإثنين وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس الشَّهْر وصل مبشران أَحدهمَا من أَتبَاع مَوْلَانَا الشريف مِمَّن يتلَقَّى عَن الْحَج الْأَخْبَار وَالْآخر من أَتبَاع عماد أغا وَمن الْحجَّاج وَالزُّوَّارِ يبشران بوصول قفطان لمولانا الشريف من حَضْرَة مَوْلَانَا السُّلْطَان وَفِي الْيَوْم السَّادِس دخل الْحجَّاج مَكَّة المشرفة وَوصل القفطان والمكتوب فَلبس وَقُرِئَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بَين زَمْزَم وَالْمقَام بِحَضْرَة الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ مِمَّن حج فِي الْعَام جمَاعَة من الْأَعْيَان أَرْكَان دولة آل عُثْمَان أَخُو الْوَزير وَعَمه وَابْن أَخِيه وَأمه فَتوجه إِلَيْهِم مَوْلَانَا الشريف حَال الْقدوم لسلام التَّحِيَّة وَأرْسل لَهُم بهدية سنية وَبعد نزولهم إِلَى منى توجه إِلَيْهِم وَنَصّ جَمِيع مَا جرى لَهُ من حسن باشا عَلَيْهِم فأرسلوا إِلَيْهِ فَحَضَرَ وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وزجروه فانزجر وَفِي الِاجْتِمَاع بِهِ مرّة ثَانِيَة جمعُوا بَينه وَبَين مَوْلَانَا الشريف وَأَصْلحُوا بَينهمَا الْحَال وَالْحَمْد لله على كل حَال وَكَانَت الوقفة بالثلاثاء وَفِي خَامِس عشري ذِي الْحجَّة الْمَذْكُورَة انْتقل الْأَخ الصَّالح رضى بن حسن الطَّاهِر ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف فِي ثَالِث محرم الْحَرَام يَوْم الْجُمُعَة رَحل الْمحمل الشَّامي وَفِي سادسه انْتقل مَوْلَانَا المرحوم الشَّيْخ عبد الْكَبِير بن مُحَمَّد المتَوَكل وَهُوَ من بَيت سلف صَالح رَحمَه الله تَعَالَى ووالدى وَالْمُسْلِمين(4/519)
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر الشَّهْر الْمَذْكُور نُودي لمولانا وَسَيِّدنَا الشريف أَحْمد ابْن المرحوم مَوْلَانَا الشريف زيد فِي الْبِلَاد بِالربعِ وَأمر الْخَطِيب يَدْعُو لَهُ عَلَى الْمِنْبَر مَعَ أَخِيه دَامَ مجدهما وَكَانَ النداء قبيل الصَّلَاة فِي الْيَوْم الْمَذْكُور وَبعد صَلَاة عصر ذَلِك الْيَوْم أرسل إِلَيْهِ الباشا حسن جمَاعَة نوبَته فَضربت فِي بَيته فَأرْسل إِلَيْهِم فَوق مَا كَانُوا يطمعون فَخَرجُوا وهم يتشكرون وَكَذَا فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث على مَا مضى عَلَيْهِ الْأَولونَ وَفِي ثَانِي يَوْم جلس للتهنئة والمباركة وألبس الْخَطِيب ثوبا نفيساً وَأنْفق فِي ذَلِك الْيَوْم مَالا على الأتباع والفقراء تبشيراً وتأنيساً وَكَانَ قدومه على الْمُسلمين بِكُل خير وَمِمَّا اتّفق فِي هَذَا الْعَام أَن رجلا من قَبيلَة النفعة يُسمى عُمَيْر ويكنى بِأبي شويمة قتل جمَاعَة مِنْهُم اثْنَان من ثَقِيف من قَبيلَة تسمى الحمَدَة وَلَهُمَا إخْوَة وبنوعم فَكَانُوا فِي طلبه يتجسسون الْأَخْبَار فَدخل فِي هَذِه السّنة بلدَهم وَجَاء رَاكِبًا جَوَاده ووقف إِلَى قبَّة الحبر وزار ثمَّ دخل إِلَى السُّوق فَرَآهُ بعض أقَارِب الْقَتِيل فصاح بِهِ وضربه ضَرْبَة ادَّرَقها ثمَّ ضرب فرسه فَقطع عرقوبها فحركها فَلم تطاوعه للفرار فَسقط إِلَى الأَرْض فَلحقه وَقد صدمه الْجِدَار فَضَربهُ ثَالِثَة على أم رَأسه فشقه فبرك عَلَيْهِ وَأَرَادَ ذبحه فَمَنعه الْحَاضِرُونَ ثمَّ قَامَ نَحْو الْخَلَاء وَهُوَ فى سَكَرَات الْمَوْت فصاح الصائح الحقوا غريمكم قبل الْفَوْت فتلاحقه الرِّجَال يرمونه بِالْحِجَارَةِ والنضال حَتَّى سكن أنينه وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة يَوْم الْخَمِيس رَابِع ربيع آخر ثمَّ إِن أَوْلَاد عُمَيْر الْمَذْكُور صاحوا فى عشيرتهم وذويهم واستشاروهم على قتلة أَبِيهِم فَأَتَاهُم بَنو سعد وعتيبة وَجمع من العربان ثمَّ اجْتَمعُوا وتهيئوا لِلْقِتَالِ وَحصل فِي الطَّائِف القيل والقال فاجتمعت ثَقِيف واستنصروا حلفاءهم لما بَلغهُمْ وُصُول الْقَوْم إِلَى لية ونواحيها وبالقرب من الْقَوْم قبيلتان من ثَقِيف بَنو مُحَمَّد وثمالة فتوجهوا نَحْو الْقَوْم فَأخذ الْقَوْم ينهزمون إِلَى أَن وصلوا إِلَى عباسة بالخداع مِنْهُم والاحتيال وَهَؤُلَاء الْبَعْض مِنْهُم وَالْبَعْض الآخر كمن واختفى وَرَاء الْجبَال حَتَّى توسطت ثَقِيف فَإِذا الْقَوْم منعطفون عَلَيْهِم والكمين خَارج إِلَيْهِم فاحتاطوا بهم فَقتلُوا الرِّجَال وَأخذُوا الْأَمْوَال وأمسكوا جمَاعَة عِنْدهم مأسورين وهرب باقيهم ثمَّ إِن الْقَوْم نزلُوا إِلَى الْقرْيَة وأخربوها وَأخذُوا الْحُبُوب وَقَطعُوا الثِّمَار وأحرقوا(4/520)
بعض الدَّوَابّ بالنَّار وَكَانَ بالقرية أَوْلَاد الشريف وحاكم الشريف فارسلوا إِلَيْهِ فعرفوه فَفِي صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة وصل من مَكَّة نَحْو الْمِائَة من الْعَسْكَر أرسلهم مَوْلَانَا الشريف لحفظ الْبَلَد وحراستها وَفِي الْيَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور لبس مَوْلَانَا الشريف سعد خلعة النَّصْر والتأييد بِالْأَبْطح جَاءَتْهُ من صَاحب مصر المحروسة بعون الله الْعَزِيز الحميد وَكَانَ مُتَوَجها إِلَى الشرق لإطفاء نَار فتن المفسدين والعتاة المتمردين وَدخل شهر جُمَادَى الأولى وَتوجه مَوْلَانَا الشريف إِلَى الْمَبْعُوث وَوصل فِي سَابِع عشره إِلَيْهِ أيده الله تجاه جده خير مَبْعُوث وَأرْسل قبائل الْعَرَب فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فنصفهم وأنصفهم وَلَو شَاءَ كشف عَنْهُم من السّتْر قناعه لَكِنَّهَا غير شِيمَة جده صَاحب الشَّفَاعَة ثمَّ وصل مِنْهُ إِلَى الطَّائِف وَفِي هَذَا الْعَام وَقع الصُّلْح بَين مَوْلَانَا الشريف وَالسَّيِّد حمود فَكَانَ وُصُول مَوْلَانَا السَّيِّد حمود رَحمَه الله إِلَى مَوْلَانَا الشريف سعد بِالطَّائِف فلاقاه ملاقاة الابْن الْبَار لِأَبِيهِ وَألبسهُ فِي الْحَال فَرْوَة السمور وَطيب خاطره بِكُل مَا يرضيه ثمَّ بعد يَوْم وَالَّذِي يَلِيهِ عقد مَعَه الْمُبَايعَة على مُحكم الأساس فِي ضريح الحبر ابْن عَبَّاس وَلم يدْخل مَكَّة مَعَه بل تخلف فِي مخاليفها وَكَانَ بِهِ للْمُسلمين أعظم أَسبَاب تأليفها وَفِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وصل رَسُول من باشا مصر وَمَعَهُ مَكْتُوب من مَوْلَانَا السُّلْطَان وَمَعَهُ خلعتان وَاحِدَة مِنْهُمَا لمولانا الشريف سعد وَالْأُخْرَى لمولانا الشريف أَحْمد حرسهما الله تَعَالَى وَكَانَا غائبين فِي أَرض الْحجاز لإِصْلَاح الْبِلَاد وقمع أهل الظُّلم والعِناد فَاجْتمع الْعَسْكَر الَّذين بِمَكَّة ليلاقوا رَسُول مَوْلَانَا السُّلْطَان بالتبجيل والإعظام وليدخلوا بِهِ على مَا جرت بِهِ الْقَوَاعِد فَأتوا بِهِ من أَعلَى مَكَّة وأدخلوه من بَاب السَّلَام وَوَضَعُوا الخلعتين فِي مقَام الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَدخل شهر رَمَضَان وَكَانَ بالثلاثاء وَلما كَانَت لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ دخل مَوْلَانَا الشريف سعد مَكَّة فِي موكب عَظِيم تَمام وَمكث يَوْمه وَالَّذِي يَلِيهِ ثمَّ نزل الْيَوْم الثَّالِث إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام وَلبس الخلعة الشَّرِيفَة بَين زَمْزَم وَالْمقَام بِحَضْرَة(4/521)
السَّادة الْأَعْلَام وعساكر الْإِسْلَام وَقُرِئَ المرسوم السلطاني وَفِيه مَالا مزِيد عَلَيْهِ من التبجيل والإعظام وَكَذَلِكَ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد لبس خلعته فِي هَذَا الْيَوْم وَذَلِكَ أَنه طلب من أَخِيه بعد النداء لَهُ بِالربعِ وَالدُّعَاء على الْمِنْبَر أَن يُرْسل إِلَى الحضرة الْعلية وَيعرف بذلك لتصل إِلَيْهِ الخلعة فِي كل عَام وتقرر فَأرْسل وَعرف بذلك فِي مَكْتُوب فَجَاءَهُ الْجَواب على وفْق الْمَطْلُوب وَقد سبقهما إِلَى مثل هَذَا الْآبَاء والجدود وَفضل الله لَيْسَ بمحدود وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشري الشَّهْر الْمَذْكُور دخل شخص أعجمي الْمَسْجِد الْحَرَام والخطيب قَائِم على الْمِنْبَر يعظ الْأَنَام فَتقدم نَحْو الْخَطِيب وصرخ صرخة أزعجه بهَا وأشغل جنانه وَالسيف فِي يَده سليل جمع عَلَيْهِ كَفه وبنانه فَأَوْمأ نَحوه بِالسَّيْفِ وقرقر وَقَالَ أَنا الْمهْدي الله أكبر فدافع عَن الْخَطِيب بعض الْحَاضِرين بِالسِّلَاحِ وَالْحجر وَمنعه مِنْهُ وَحجر وَحصل مِنْهُ جراحات لعدة أشخاص فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وضربوه وطرحوه إِلَى الأَرْض وقتلوه ثمَّ إِنَّهُم أخذُوا بِرجلِهِ والى خَارج بَاب السَّلَام سحبوه فَلَمَّا قضيت الصَّلَاة رجعُوا إِلَيْهِ فَأخذُوا بِرجلِهِ وصاروا يجرونه مَعَ الضَّرْب والإهانة والحياة فِيهِ بَاقِيَة فويل لَهُم من الله سُبْحَانَهُ إِلَى أَن وصلوا بِهِ المعلاة وأحرقوه هُنَاكَ بِالْقربِ من بركَة المصى وَهَذَا أَمر عَظِيم تحار فِيهِ الأفكار كَون الْمُسلم يهان هَذِه الإهانة وَيقتل بِغَيْر مُوجب ثمَّ يحرق بالنَّار نَعُوذ بِاللَّه من مكر الله وَدخل شهر الْحجَّة وَكَانَ بالسبت دخل الْحجَّاج يَوْم الخاسم والأمير والمحمل يَوْم السَّادِس وَلبس مَوْلَانَا الشريف سعد والشريف أَحْمد خلعتيهما مَعَ الْمصْرِيّ والشامي وَهَذِه أول خلعة لبسهَا مَوْلَانَا الشريف أَحْمد فِي هَذَا الموكب ثمَّ حجا بِالنَّاسِ وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام منى بعد انتصاف النَّهَار نفر الباشا حسن إِلَى مَكَّة وَإِلَى رمي الْجمار فِي موكب عَظِيم تشخص عِنْده الْأَبْصَار والجند محدقون بِهِ إحداق الهالات بالأقمار فَلَمَّا كَانَ وَاقِفًا عِنْد الْعقبَة لرمي الْجَمْرَة رَمَاه ثَلَاثَة رجال بِثَلَاث بَنَادِق فَخر على وَجهه إِلَى التُّرَاب فَتَلقاهُ جنده ورفعوه إِلَى التخت وتحيروا فِيمَا نزل بهم من هَذَا(4/522)
الْمُصَاب بِهَذَا المُصاب ونزلوا بِهِ إِلَى مَكَّة فِي ذل وانكسار وصاروا يقتلُون من لاقوه من النَّاس من غير اخْتِيَار فوصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة وَأَغْلقُوا عَلَيْهِ الدَّار وتحصنوا فِي الْبيُوت وَدخل جمع مِنْهُم الْمَسْجِد بِالسِّلَاحِ وَالنَّار ورموا فِيهِ البندق نَحْو بَيت مَوْلَانَا الشريف سعد وهتكوا حُرْمَة بَيت الله ذى الأستار ووجهوا المدافع فِي الْأَرْبَع الْجِهَات واحترس نِهَايَة الاحتراسات ثمَّ إِن مَوْلَانَا الشريف سعد توجه بعسكره إِلَى مَكَّة خَلفه بعد حِين ملبسين مدرعين وَأما الْحجَّاج فَمنهمْ من نفر إِلَى مَكَّة وَأدْخل أَسبَابه وَمِنْهُم من لم ينفر وَجمع أَهله وَمَاله وأغلق بَابه وَلما نزل الْحجَّاج إِلَى مَكَّة واستقروا بهَا مَكَثُوا خَمْسَة أَيَّام وَأكْثر مضطربين وَفِي كل يَوْم تراهم رافعين لأسبابهم وواضعين وكبراء الْحجَّاج والأمراء يسعون بَينهمَا فِي جمع الشتات وَسبب الِاضْطِرَاب أَنه قطع على مَوْلَانَا الشريف اسْتِحْقَاقه من ناصفة جدة فطالبه بهَا فَامْتنعَ وتجبر وتنكر وتنمر فَوَثَبَ عَلَيْهِ مَوْلَانَا الشريف فِي طلب حَقه وَجمع جَيْشه وَكبر فَعِنْدَ ذَلِك أصلح الله الْأَحْوَال وَاتفقَ الْأَمر على إِعْطَاء شئ من المَال وَكَانَ قدره ثَلَاثِينَ ألف قِرْش ثمَّ استعفوا مَوْلَانَا الشريف سعد من الثُّلُث وَأعْطِي عشْرين ألف ريال فَسلمت لمولانا الشريف أعزه الله بجاه النَّبِي والآل ثمَّ لما توجه الْحَاج الْمصْرِيّ يَوْم سَابِع عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام الْمَذْكُور توجه مَعَه حسن باشا ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ اتّفق أَنه لما رَحل حسن باشا صُحْبَة الْحَاج الْمصْرِيّ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أَقَامَ بهَا فوفد عَلَيْهِ فِيهَا مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد ابْن السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث فألزمه بالذهاب إِلَى وَالِده السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث واستلحاقه إِلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَذهب السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور فوصل إِلَى أَبِيه بِالْمحل الْمُسَمّى بالشعري من أَرض نجد فَأتى إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَلَمَّا حَضَره نَادَى لَهُ بالبلاد بعد أَن ألبسهُ خلعة وَقطع الدُّعَاء للشريف سعد فِي الْخطْبَة(4/523)
ودعا للشريف أَحْمد الْحَارِث وَقد كَانَ مَوْلَانَا الشريف سعد خرج صُحْبَة الْحَاج أَو عقبه حَتَّى وصل إِلَى يَنْبع فَأَقَامَ بِهِ وَلما بلغه مَا فعله حسن باشا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة من قطع اسْمه من الْخطْبَة وتوليته للسَّيِّد أَحْمد الْحَارِث والنداء لَهُ أرسل إِلَى السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث كتابا فِي غَايَة اللطافة واللين والرقة لَا الكثافة مضمونه بعد مزِيد الثَّنَاء وَحميد الدُّعَاء إِن هَذَا الْوَاقِع الَّذِي سمعنَا بِهِ من تقمصك برد الْملك وأثوابه فَهَذَا أَمر أَنْت بَيته الْأَعْلَى وَمثلك أَحْرَى بِهِ وَأولى فَإنَّك أَنْت الشَّيْخ وَالْوَالِد الْحَائِز كل كَمَال طريف وتالد فَإِن كَانَ هَذَا مُحكم الأساس فِي الْبُنيان جَار على مُقْتَضى مرسوم السُّلْطَان فَنحْن بِالطَّاعَةِ أعوان وَإِن كَانَ الْأَمر خلاف ذَلِك وَإِنَّمَا كَانَ من تسويلات هَذَا الظَّالِم الغادر وتنميقات ذَلِك المذمم غير الظافر فأجل حلمك أَن تستخفه نكباء الطيش أَو أَن تستنزله أخلاط الأشاوب وغوغاء الْجَيْش فَأرْسل إِلَيْهِ الْجَواب مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث بِأَن الْأَمر لم يكن على هواى وَإِنَّمَا هُوَ إِلْزَام مَعَ علمى بِأَن الِابْتِدَاء لَا يكون لَهُ تَمام فاستشعر حسن باشا أَن من نِيَّة مَوْلَانَا الشريف سعد الْمسير إِلَيْهِ فتهيأ لِلْقِتَالِ واعتد ولفق مَعَ عَسَاكِر الْمَدِينَة مَا قدر عَلَيْهِ بالجد لَا الْجد وصنع أكراً من حَدِيد قَرِيبا من مِائَتَيْنِ تسمى قنابر تملأ بالرصاص وَالْحَدِيد يرْمى بهَا من بعد إِلَى الْجَيْش فَيفْسد فِيهِ ملأها المتناثر وَكلما أَرَادَ الْمسير ثبطه السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث وثناه وَأظْهر لَهُ الرَّأْي فِي عدم الْمسير ومناه فعزم مَوْلَانَا الشريف سعد وَأَخُوهُ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة الظَّالِم أَهلهَا إِذْ ذَاك وصمم على الْقِتَال عزماً لَيْسَ مَعَه انفراك وَكَانَ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود رَحمَه الله نازلاً بالمبعوث فِي المربعة المنسوبة إِلَى مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد الْحَارِث وَكنت إِذْ ذَاك نازلاً عِنْده فى تِلْكَ الْبقْعَة وصلت إِلَيْهِ اشتياقا لمحياه السعيد وفرحاً بعد طول الْغَيْبَة بأنس الرّجْعَة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى بَين صَلَاتي الظّهْر وَالْعصر من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة إِذْ نَحن بِفَارِس على فرس عري يدك الأَرْض دكاً فَأقبل حَتَّى دنا فَإِذا هُوَ السَّيِّد أَحْمد بن السَّيِّد حسن بن حراز رَسُولا من مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث والباشا(4/524)
حسن بمكتوبين يستدعيان مَوْلَانَا السَّيِّد حمود للانضمام إِلَيْهِمَا فَفتح المكتوبين وقرأهما وتمقل ألفاظهما ومعناهما فنبذهما إِلَيّ وَقَالَ اقرأهما ثَانِيًا عَليّ فقرأتهما فَإِذا مَضْمُون الأول الَّذِي من الباشا حسن بعد الثَّنَاء وَالْوَصْف الْحسن إننا قد ولينا أَخَاكُم السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث بِأَمْر سلطاني مَعنا صَحِيح فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَالْقَصْد أَن تجمعُوا الشمل وَلَا تشقوا الْعَصَا وتكونوا عوناً لأخيكم على من خَالف وَعصى وَلكم مَا تريدونه من الْجِهَات والمعينات وَزِيَادَة فَوق مَا جرت بِهِ القوانين وَالْعَادَة وَهَذَا حَاصِل مَا فِيهِ فَلَا حَاجَة إِلَى التكثير وَلَا ينبئك مثل خَبِير ومضمون كتاب مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بعد الْعبارَة وَإِظْهَار الود والاشتياق والحنو والإشفاق إِنَّنِي يَا أَخُوك لم يكن لي هَذَا الْأَمر ببال وَلم ألتفت إِلَيْهِ بالقال وَلَا بِالْحَال وَإِنَّمَا لَحِقَنِي ولدك مُحَمَّد إِلَى الشعري وَكرر عَليّ القَوْل مرّة بعد أُخْرَى وَلم أوافقه حَتَّى رَأَيْت جدك النبى
فِي الْمَنَام قَائِلا لي وَافق مُحَمَّدًا وخلاك هلام فَحِينَئِذٍ رجعتُ وَكَانَ مَا سَمِعت وَالْقَصْد إِنِّي أَخُوك الَّذِي تعرفه وَلَا تنكره فَأقبل إِلَيْنَا فَهُوَ أعظم جميل نذكرهُ وَالسَّلَام ثمَّ فكر مَوْلَانَا السَّيِّد حمود سَاعَة فَكَأَنَّهُ كشفت لَهُ الفراسة عَن وَجه الْغَيْب قناعه وَقَالَ كَأَنِّي برَسُول الشريف يصابحنا إِن لم يماس فَكَأَنَّهُ فِي مرْآة الْغَيْب نَاظر فَقبل الْغُرُوب إِذا الرَّاكِب المنيخ بالفناء ابْن بسيان جاسر فَتقدم إِلَيْهِ وَقبل يَدَيْهِ وَأخرج مكتوبين أَحدهمَا من مَوْلَانَا الشريف سعد وَالْآخر من أَخِيه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد مضمونها استحثاثه فِي الْمسير إِلَيْهِمَا والحضور لديهما وَأَن حسن باشا قد شمر عَن سَاقيه للحرب وكشر عَن نابيه لِلطَّعْنِ وَالضَّرْب وَاسْتشْهدَ مَوْلَانَا الشريف سعد بقول الشَّاعِر // (من الوافر) //
(وَمَا غلظتْ رقابُ الأُسْدِ حتَّى ... بأنفسها تولَّتْ مَا عَنَاهَا)
وَأتبعهُ بقوله وَأَنت تعلم أَن الْأَمر الَّذِي يعنانا يعناك وأدري بِمَا يَئُول إِلَيْهِ الْأَمر فِي ذَاك وَهَذِه ألف دِينَار صُحْبَة الْوَاصِل الْمَذْكُور إِلَيْك فَأدْرك أدْرك أدام الله فَضله عَلَيْك وَاسْتشْهدَ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بِبَيْت الهمزية ثمَّ إِنِّي قلت لمولانا مَا صَوَاب الرأيين وَيتَوَجَّهُ الْعَزْم إِلَى أَي الْوَجْهَيْنِ فَقَالَ إِلَى سعد صَاحب الْفضل ومولاه فبيني وَبَينه فِي ضريح الحبر عتلات الله فَلَو(4/525)
اعترضني عبد الله لكفحت وَجهه بِالسَّيْفِ دونه وَالله ثمَّ وَالله ثمَّ توجه على الركاب يَوْمه الثَّانِي وقوض الأخبية وَفَارق المباني حَتَّى وصل إِلَى مَوْلَانَا الشريف سعد وأخيه وهما بِالْمحل الَّذِي عذب بحلولهما بعد أَن كَانَ اسْمه ملحة فوافاه الْقَضَاء بِمَا وَافق مُرَاده وأنتج نجحه من وُرُود القاصد بعزل حسن باشا وَطَلَبه وانخرام حسابه وتقطع سَببه ثمَّ ارتحل من الْمَدِينَة فَلَمَّا كَانَ بطرِيق غَزَّة وَتلك النواحي توفّي فَدفن فِي ذَلِك الْمحل الناحي وَأَتَتْ إِلَى مَوْلَانَا الشريف سعد خلعة باشوية صُحْبَة ذَلِك القاصد وَكَانَ إرسالها ضربا من المكايد ثمَّ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة قبل قدوم الْحَاج بِقَلِيل قدم مُحَمَّد جاوش بجيوش نَحْو أَرْبَعَة أَو خَمْسَة آلَاف ضرب أوطاقه فِي أَسْفَل مَكَّة الزَّاهِر بِمن مَعَه من العساكر وصاروا يدْخلُونَ مَكَّة عشرَة سَوَاء خَمْسَة سَوَاء وَثَمَانِية سَوَاء ويعودون إِلَى خيامهم خَارج مَكَّة للمبيت ثمَّ قدم صُحْبَة الْحَاج الشَّامي شخص يُسمى حُسَيْن باشا السلحدار بِنَحْوِ أَلفَيْنِ وَقد وسد من تِلْكَ الديار أَن يعْمل بِمَا يتوراه نظره ويختار فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة خرج لملاقاة الْمحمل الشريف الشَّامي على الْعَادة إِلَّا أَنه لم يخرج إِلَّا من الثَّنية الْعليا الْمُسَمَّاة بالحجون أَعلَى الْبِلَاد فَوقف إِلَى أَن يصل بهَا الْوَاصِل كَمَا هُوَ عَادَة الْأَوَائِل فَلم يصل إِلَيْهِ أحد بل طلب مِنْهُ أَن يَأْتِي إِلَى مخيم الْأَمِير وَهَذَا الْأَمر على شهامته غير يسير فعطف عنان فرسه رَاجعا من طَرِيق الشبيكة إِلَى مَكَّة المشرفة فخشوا من وُقُوع فتْنَة يذهب فِيهَا الأقوياء والضعفاء فأرسلوها مَعَ من لحقه بهَا فِي أثْنَاء الطَّرِيق وهُدُوا بذلك إِلَى طَرِيق الرشاد والتوفيق ثمَّ صعد الْحجَّاج إِلَى عَرَفَات وأفاضوا إِلَى الْمزْدَلِفَة ثمَّ منى ذَات المثوبات فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفر وَهُوَ الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام منى ترددت الرُّسُل من الشريف إِلَى أَمِير الْحَاج الشَّامي لما هُوَ الْمُعْتَاد من الخلعة الَّتِي صحبتهَا المرسوم السلطاني الَّتِي يلبسهَا ذَلِك الْيَوْم مَعَ المرسوم الَّذِي يقْرَأ فيسمعه القاصي والداني فَلم يُؤْت بهَا إِلَيْهِ فَعلم مَوْلَانَا الشريف أَن الْمدَار بِهَذِهِ العساكر الْقَبْض عَلَيْهِ فأضمر الصولة(4/526)
عَلَيْهِم والمسير وَلم يبال بذلك الْجمع وَإِن كَانَ حصره عسير ثمَّ رجح الانكفاف بالذهاب وإغلاق مَا للشرور من سَائِر الْأَبْوَاب ففر وَمن مَعَه على الْخَيل والركاب فجزاه الله عَن الْمُسلمين أحسن جَزَاء بِحرْمَة مُحَمَّد وَمن وَالَاهُ وَلما كَانَ ظهر الْيَوْم الثَّانِي عشر حضر حُسَيْن باشا وَمُحَمّد جاوش وأكابر الدولة وأمراء الْحَاج واستدعوا جمَاعَة من الْأَشْرَاف مِنْهُم مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث ومولانا السَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان ومولانا الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد وَأظْهر أمرا سلطانياً بِصَرِيح اسْم مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات فِي شرافة مَكَّة وَأَنَّهَا تَحت تصرفه وَله ملكهَا ملكة وألبس خلعة الْولَايَة فِي ذَلِك الْجمع وَنزل إِلَى مَكَّة المشرفة فِي موكب يبهر الْعين ويدهش السّمع وَنزل إِلَى بَيت أَبِيه الْمَعْرُوف بزقاق ظاعنة ووقفت على بَابه الْخُيُول صافنة وهرعت السادات إِلَيْهِ والأعيان والحضر والعربان يهنئونه بِالْملكِ وَالْولَايَة وَيدعونَ لَهُ بطول الْبَقَاء والثبات بِتَوْفِيق الْعِنَايَة وَمَا أسْرع من انقلاب الْحَال وَلكُل زمَان دولة وَرِجَال وأرخ بَعضهم عَام ولَايَته بقوله نثراً مَا نَصه بَارك الله لنا فِي بَرَكَات إِلَّا أَنه لسنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَالتَّوْلِيَة إِنَّمَا كَانَت فِي موسم اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ لَكِن التَّفَاوُت بِزِيَادَة سنة أَو نَقصهَا عِنْد أهل التَّارِيخ مغتفر وَكَانَت مُدَّة ولَايَة مَوْلَانَا الشريف سعد سِتّ سِنِين إِلَّا أحدا وَعشْرين يَوْمًا وَورد فِي ذَلِك الْمَوْسِم كتاب من الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الكبرلي لمولانا السَّيِّد حمود بن عبد الله وَكتاب من باشا مصر لَهُ أَيْضا وَكَذَلِكَ كِتَابَانِ من الْوَزير الْمَذْكُور وَمن باشا مصر لمولانا السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث وَكَذَلِكَ كِتَابَانِ للمرحوم السَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان والمضمون من الْجَمِيع وَاحِد والعبارات مختلفات أما كتاب مَوْلَانَا السَّيِّد حمود الَّذِي من الْوَزير فنصه فرع ذؤابة هَاشم ونبعة وشيج المحامد والمكارم السَّيِّد حمود نظم الله عقوده وأباد حسوده آمين وَبعد فَلَا يخفى عَلَيْكُم أَن الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام ومطاف طواف الْإِسْلَام هُوَ أول بَيت وضع للنَّاس وَأسسَ على التَّقْوَى مِنْهُ الأساس وَأَنه لم يزل فِي هَذِه الدولة العثمانية الْعلية آمنا وَأَهله من النوائب وروضاً مخصباً بأحاسن الأطايب إِلَى أَن ظهر من السَّيِّد سعد من الْأَمر الشنيع مَا يشيب عِنْده الطِّفْل الرَّضِيع وَمَا كَفاهُ ذَلِك حَتَّى(4/527)
شدد الخناق على أهل الْمَدِينَة البهية وأذاقهم كأس الْمنون روية فَلَمَّا بلغ هَذَا الْحَال السّمع الْكَرِيم السلطاني أَمر بعزل السَّيِّد سعد عَن شرافة مَكَّة وتفويضها إِلَى الشريف بَرَكَات ليعْمَل بهَا بِحسن التَّصَرُّفَات وتكونوا لَهُ معينا وظهيراً وناصحاً ومشيراً وكل من يتَفَرَّع غصنه من دوحة فَاطِمَة الزهراء وتتصل نسبته إِلَى الذُّرِّيَّة الغراء تهدونه إِلَى طَرِيق الْخَيْر وَالصَّلَاح وترشدونه إِلَى معالم النجح والفلاح وَأَنْتُم على مَا تعهدونه من التكريم والتبجيل وَالله على مَا نقُول وَكيل وَمِمَّا قيل فِيهِ قولي هَذِه القصية // (من الْبَسِيط) //
(صَبٌّ أَلَمَّ بِهِ طيفُ الكرَى فصَبَا ... وعَنْ أحِبَّاهُ لم يردُدْ عَلَيْهِ نَبَا)
(وَقد تغذَّى لبانَ الحبِّ مُنْذُ نشا ... وَلم يزلْ بالغوانِى مغرماً طَرِبا)
(تناهَبَتْ عقله سودُ اللحاظِ فَلَمٍ ... يُبْقِينَ فِيهِ لغيرِ الغِيدِ مُطَّلبَا)
(فصارَ يصبُو إِلَى سعدَى وآونةً ... إِلَى سعادَ وأياماً يَجُرُّ رَبًّا)
(وَلَا ملامَ عَلَيْهِ فالتنقُّلُ منْ ... سَلْمَى للبْنَى لدَى شرع الهوَى نُدِبا)
(فيا عذولَىَّ كُفَّا عَن ملامكما ... فَلَا أرَى لِىَ فِي نُصْحَيْكما أَرَبَا)
(لله عَقْلٌ أضلته الحسانُ على ... عِلْمٍ فهَامَ بهَا نأْيًا ومقتربَا)
(مِنْ كُلِّ ممنوعةٍ روس الأسنةِ لَو ... رامَ التصوُّرَ إدراكٌ لَهَا حُجِبا)
(مرقوبة الحفْظِ حدُّ السَّيْف يرقُبُهَا ... فهلْ سمعتُمْ بسيفٍ عدَّ فِي الرقبا)
(عقيلةُ الحىِّ من سمرِ الرماحِ لَهَا ... سورٌ وَفِي صفحاتِ المرهفاتِ خبا)
(وخدْرُهَا الثانِ من ستْرِ الحشاء فَمِنْ ... نياطي القلبِ قد مدَّتْ لَهَا طُنُبَا)
(هَا مقلتي لَهَبُ الهجرانِ سَيَّلَهَا ... على الخدودِ فظنُّوا مدمعي سكبَا)
(مَنْ لي بمَنْ فوَّقَتْ من قوسِ حاجبها ... سَهْما أراشَتْهُ بالأهدابِ قد هُدِبَا)
(معسولة الثغْرِ يطفي بردُ ريقتها ... نيرانَ مَنْ بلظَى هجرانها الْتَهَبَا)
(لمياءُ رشفُ رضابٍ من موشمها ... درياق مَنْ بهواها قلبُهُ لسبَا)
(يهدي الَّذِي قد أضلتهُ ذوائبها ... جبينها لامعاً باد ومنتقبَا)
(كَأَنَّهُ البرقُ أَو كالصبْحِ أَو كضيا ... سَعْدِ بنِ زيدٍ إِذا مَا قامَ منتدبا)
(أَبَا مسَاعد راعيها مملكها ... مَنْ حَلَّ رتبةَ مجدٍ جازَتِ الشهبا)
(خلاصَةُ العنْصُرِ الزاكِى المطهَّر مِنْ ... جذرِ الْوَصِيّ الرَّضِىْ أكرِمْ بِذَاكَ أَبَا)(4/528)
(عليْهِ سربالُ تقواهُ وعفَّته ... وَمن شمائِلِ علياه رِدًا وقَبَا)
(أغرُّ أزهَرُ فيَّاضٌ أناملُهُ ... من معشرٍ فِي رياضِ المجدِ نبت رَبًّا)
(محاسنُ السادةِ الماضينَ قد جمعَتْ ... فِيهِ كجَمْعِ الغديرِ القطْرَ منسكبَا)
(سمحٌ إِذا سيمَ للجدوَى يميدُ كَمَا ... يمِيدُ حاشاهُ صرْفَ الراحِ مَنْ شربا)
(لَهُ يَدٌ خُلِقَتْ للجودِ فهْوَ لَهَا ... طبع كَمَا العينُ للإبصارِ قد رتبا)
(هُوَ المحكّمُ عضبيه إِذا انتضَيَا ... يومي جلاد جدالٍ مفْصلاً أشبا)
(مفوهٌ فِي كلا عضبَيْهِ متَّسعٌ ... كلْمًا وكلْمًا إِذا مَا قَالَ أَو ضَرَبَا)
(يمناهُ واليُمْنُ يمتدانِ فِي لُزَزٍ ... قد أدركَا فِي مداهُ السبْقَ والقصبَا)
(مستأسدٌ بَيْنَ عينَيْهِ عَزَائِمه ... إِذا تراءَتْ لَهُ أكرومَهٌ وثَبَا)
(وَلَا تعاظمه أقطَارُ محمدةٍ ... وَلَو غَدا منْكب الجوزا لَهَا سَبَبَا)
(وَلَا يميلُ من العلياءِ إنْ صعُبَتْ ... وَلَا يضلُّ صَوَاب الرأىِ إِن نَشِبَا)
(إليكَ يَا ابنَ الكرامِ الأطولين يدا ... فِي المكرماتِ وَفِي الهيجا أحدَّ شَبَا)
(عروسَ فِكْرٍ كوشْىِ الروضِ باكرَهُ ... غيثٌ فَرَفَّ بنورٍ مزهرٍ وَربا)
(يحلُو بهَا فَم راويها فتحسبُهُ ... صَبًّا ترشَّفَ من عذب اللُّما ضَرَبا)
(وتنشقُ الْورْد مِنْهَا أذنُ سامعها ... حتَّى ترَاهُ إِلَى إنشادِهَا طَرِبَا)
(خلائقٌ كفتيتِ المسكِ طيبَة ... تلاق طيب سَرَاة سادَة نجبا)
(فَاسْلَمْ على كاهلِ العلياءِ مرتقياً ... وصافن الْمجد غَطَّى مِنْهُمَا عقبا)
(ودُمْ على خفضِ عيشٍ مَا يرنقُهُ ... ريبُ الحوادثِ مَا هَبَّ النسيمُ صَبَا)
ولاتساق الْمَقُول نقُول ثمَّ وَليهَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن بَرَكَات بن أبي نمى قيل ولَايَته بسعي الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي السُّوسِي وَذَلِكَ أَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور تشفع عِنْد الشريف سعد فِي رجل أزبكي كَانَ يُسمى السَّيِّد مُحَمَّد الفصيحي فعل جرما مَعَ مَوْلَانَا الشريف سعد فَلم يشفعه فِيهِ وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَانِينَ وَألف فاتفق أَن أَخا الْوَزير الْأَعْظَم حج فِي موسم تِلْكَ السّنة وَكَانَ لَهُ ولع بِعلم الْفلك فَاجْتمع بالشيخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور فَأخذ عَنهُ فِي ذَلِك فَطلب من الشَّيْخ أَن يُسَافر مَعَه إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فسافر مَعَه وَاجْتمعَ بالسلطان وَطلب(4/529)
مِنْهُ اْن يزِيل أَشْيَاء بِمَكَّة المشرفة فَأمر السُّلْطَان بإبطالها مِنْهَا أَن صَدَقَة السُّلْطَان جقمق كَانَت تقسم على أَرْبَاب الْبيُوت حبوباً وَكَانَت سَابِقًا تطبخ شربة وخبزاً للْفُقَرَاء أَصْحَاب الْقدح فَردَّتْ إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ سَابِقًا وأضيف إِلَى ذَلِك حب السُّلْطَان قايتباي وَمِنْهَا تَوليته على جَمِيع الأربطة وَألا تكون إِلَّا لمن يَسْتَحِقهَا بِشَرْط الْوَاقِف وَمِنْهَا إبِْطَال الدفوف فِي الزوافي وَمِنْهَا منع النِّسَاء من الْخُرُوج لَيْلَة المولد الشريف وَتمّ جَمِيع ذَلِك وَجعله نَاظرا على جَمِيع أوقاف الْحَرَمَيْنِ وَسَيَأْتِي ذكر وُرُود الْأَمر بِعَدَمِ إِقَامَته فِي الْحَرَمَيْنِ بعد وَفَاة مُسْتَنده الْوَزير أَحْمد باشا الكبرلي ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف خرج فِيهَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات وصبحته مُحَمَّد جاوش بالعساكر فِي طلب الشريف سعد فسلك طَرِيق الثَّنية إِلَى الطَّائِف وَكَانَ الشريف سعد قد سلكها وَنزل بِالطَّائِف ثمَّ ارْتَفع عَنهُ إِلَى عباسة ثمَّ إِلَى تربة ثمَّ إِلَى بيشة فَأَقَامَ بهَا فَتَبِعَهُ الشريف بَرَكَات وَمُحَمّد جاوش بِمن مَعَهُمَا حَتَّى انْتهى فِي التّبعِيَّة إِلَى قريب من الْبَلَد الْمُسَمَّاة تَرَبَة ثمَّ عَاد الشريف بَرَكَات إِلَى الْمَبْعُوث ثمَّ إِلَى الطَّائِف فَأَقَامَ وفيهَا فِي شهر رَجَب عدا السَّيِّد حيدرة على عَمه السَّيِّد عَليّ بن حُسَيْن فَقتله غيلَة يُقَال سَبَب ذَلِك الَّذِي قَامَت بِهِ نفس السَّيِّد حيدرة غرارة من الْحبّ حلف كل مِنْهُمَا أَن الآخر لَا يَأْخُذهَا وَهِي بوادي مر فَركب السَّيِّد عَليّ بن حُسَيْن من مَكَّة يُرِيد وَادي مر فَسمع بِهِ السَّيِّد حيدرة فَوَجَدَهُ فِي الْمحل الْمُسَمّى أَبُو الدُّود ممرحاً مُتكئا فَأَتَاهُ من خَلفه فَدخل حِينَئِذٍ على بعض الْأَشْرَاف فَلم يمض كبار الْأَشْرَاف دخله فنهج إِلَى الْيمن ثمَّ إِلَى مصر ثمَّ إِلَى مَكَّة دخيلاً مَعَ الْمحمل صُحْبَة أَمِير الْحَاج الشَّامي وَبَاعَ عقاره وَمَا يتَعَلَّق بِهِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر فتوفى بهَا بِالْفَضْلِ مَعَ من توفّي ثمَّ إِن الشريف بَرَكَات اسْتمرّ بِالطَّائِف إِلَى شعْبَان فَأَتَاهُ الْخَبَر بوصول خلع سلطانية ومراسيم خاقانية وصل بهَا القاصد إِلَى مَكَّة وَوضعت فِي مقَام الْخَلِيل(4/530)
على عَادَة التكريم والتبجيل فجَاء إِلَى مَكَّة أواسط شعْبَان هُوَ وَمن مَعَه من الْأَشْرَاف والأتراك والعربان ثمَّ فِي أواخره كَانَ الْقَبْض على رجل من الْأَعْيَان ثمَّ فِي لَيْلَة السَّابِع من رَمَضَان قبض على آخر وحملا من ليلتهما على الأدهم ثمَّ حدر بهما إِلَى جدة وأركبا غارب اليم ثمَّ قبض على ثَلَاثَة من حَوَاشِي الدولة وَفعل بهم مَا فعل بالأولين نَعُوذ بِاللَّه من سوء القولة وَمثل ذَلِك فعل هَذَا القاصد بِجَمَاعَة من أهالي الْمَدِينَة المنورة فافتدوا أنفسهم بِمَال سلموه لَهُ الله أعلم بكميته ثمَّ خرج مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات فِي الموكب حَتَّى نزل بقبة الدفتردار إِبْرَاهِيم صَائِما بهَا لطيب النسيم فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان قدر الله وَفَاة ابْنه السَّيِّد مُحَمَّد بن بَرَكَات فَنزل من يَوْمئِذٍ إِلَى الْبَلَد واصطبر رَغْبَة فِي الْأجر على لاعج الْحزن والكمد ثمَّ خرج فِي أثْنَاء شَوَّال إِلَى جِهَة ركبة استدعاه السَّيِّد حمود ابْن عبد الله ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا كَانَ خُرُوج الشريف بَرَكَات والسادة الْأَشْرَاف والعساكر والعربان إِلَى قتال حَرْب وشيخهم أَحْمد بن رَحْمَة كَانَ الظفر فِيهَا للشريف بَرَكَات وَلم تنفعهم خنادقهم الَّتِي حفروا بل كَانَت قبوراً لَهُم حِين قبروا فاستبيحت دِيَارهمْ ونهبت أَمْوَالهم وَهَلَكت نِسَاؤُهُم وأطفالهم وَقتل خيارهم وفيهَا يَوْم الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة فِي موقف المصاف اصْطلحَ مَوْلَانَا السَّيِّد حمود بن عبد الله هُوَ ومولانا من صُنف هَذَا الْكتاب برسمه وَشرف بشريف لقبه واسْمه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن غَالب متع الله بحياته عَن شَحْنَاء كَانَت بَينهمَا قبل ذَلِك سَبَب الصُّلْح على مَا بلغنَا أَنه اتجه بِهِ وهم يتشاوفون الْقَوْم فأقسم عَلَيْهِمَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات أَن يصطلحا فِي ذَلِك الْوَقْت فاعتنقا حِينَئِذٍ واصطلحا رحم الله من سلف وَأبقى من خلف ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف فِي سَابِع رَجَب مِنْهَا كَانَ خُرُوج مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات إِلَى أهل الْفُرُوع وَخرج مَعَه من جدة سنجقها بعسكره ونوبته(4/531)
ومدافعه فتلاقيا على عسفان أَو بعده فصَام بِمحل قريب مِنْهَا يُسمى قويزة وَعِيد بِهِ ثمَّ توجه فَنزل بِأم الْعِيَال مِنْهَا وَنزل السَّيِّد نَاصِر ابْن السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث بِالْمحل الْمُسَمّى أَبُو ضباع فدانوا لَهُ وأطاعوه وتنصلوا مِمَّا اقترفوه قلت لما كُنَّا فِي رابغ الْمنزل الْمَعْرُوف عائدين من الْفَرْع صُحْبَة مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات وَكنت قد خرجت مَعَه رَحمَه الله إِلَى الْفَرْع بإلزام من الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان إِمَامًا لَهُ ومدرساً لَهُ ولابنه الشريف سعيد ابْن الشريف بَرَكَات دخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي يعِيش رَأسك فِي المغربي فَقلت أَي المغاربة فَقَالَ عبد الرَّحْمَن المحجوب فَقلت رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة فَلم يتَكَلَّم بشئ فَعلمت من قَوْله وسكوته أَنه سرى بغض شَيْخه الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان للسَّيِّد عبد الرَّحْمَن إِلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه تسبب لبَعض خَواص السَّيِّد عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فِي أَذَى بليغ وإهانة من الشريف بَرَكَات وَبَلغنِي أَنه قَالَ لبَعْضهِم حِين مَاتَ السَّيِّد مَاتَ إِلَهكُم الْيَوْم فَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه نسْأَل الله السَّلامَة وفيهَا أَعنِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف فِي سادس صفر مِنْهَا كَانَت وَفَاة مَوْلَانَا المرحوم لَيْث السراة الصَّيْد من بنى هِشَام غوث الطريد فَمَا لجاره من حاشم رَأس بني حسن الْمَشْهُورين فَارس أبطال قُرَيْش الْمَذْكُورين مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا السَّيِّد حمود ابْن الشريف عبد الله بن الْحسن بن أبي نمي بن بَرَكَات اختصه مَوْلَانَا الشريف زيد واستدناه واستخلصه دون رباعته واجتباه فَزَوجهُ بابنته لصدق نِيَّته وخلوص طويته وَألقى إِلَيْهِ مهمات الْبِلَاد من الحواضر والبواد وَفِي يَوْم وَفَاة مَوْلَانَا الشريف زيد لم يشك أحد أَنه يقوم بعده ذَلِك الْمقَام كَانَ فِي ظن أَرْكَان الدولة فضلا عَن الْعَوام وَلَكِن لم يرد الله أَن يتقمصها وَلَا أَن يأوي طيره قفصها وَلَقَد سَأَلته رَحمَه الله فِي مُدَّة ذهَاب عرض مَوْلَانَا الشريف سعد وَعرضه إِلَى الْأَبْوَاب مَاذَا يخمنه مَوْلَانَا فِي الْجَواب فَأَجَابَنِي بقوله {قل اللَّهُمَّ ملك اَلمُلكِ} آل عمرَان 26 الْآيَة وَذَلِكَ جَوَاب مثله وَدفن من الْغَد خلف مَسْجِد الحبر ابْن عَبَّاس وَبني على قَبره تَابُوت وحوط عَلَيْهِ حوطة فسيحة رَحمَه الله وَنور ضريحه(4/532)
وَفِي تَاسِع رَجَب مِنْهَا توفّي مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث بِمَكَّة المشرفة كَانَ رَحمَه الله آيَة فِي الْعقل والذكاء مرجعاً للأشراف فِي جَمِيع أُمُورهم وَإِذا حكم بِأَمْر لم يقدر أحد أَن يسْتَدرك عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئا لحسن أَحْكَامه وَشدَّة إحكامه وَكَانَ قد ولاه حسن باشا فِي طيبَة كَمَا مر ذكر ذَلِك مُدَّة سِتَّة أشهر أَو قَرِيبا مِنْهَا وَلما رَجَعَ عماد أفندى إِلَى الديار الرومية سُئِلَ عَمَّن يسْتَحق الْملك إِذْ ذَاك من السَّادة الْأَشْرَاف فَقَالَ ثَلَاثَة لَا غير أَحْمد بن الْحَارِث وحمود بن عبد الله وَبشير بن سُلَيْمَان وَدفن فِي قبَّة السَّيِّد مَسْعُود ابْن الشريف حسن وَوضع عَلَيْهِ تَابُوت عَظِيم رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا كَانَ خُرُوج الشريف سعيد صُحْبَة الْحَاج الشَّامي إِلَى الديار الرومية بعروض من الشريف بَرَكَات يطْلب فِيهَا أَن يكون وَلَده الشريف سعيد ولي عَهده فَكتب لَهُ أَمر سلطاني وَأَن يكون هُوَ صَاحب مَكَّة بعد وَفَاة أَبِيه فَكَانَ ذَلِك بِرَأْي الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وتدبيره فتم لَهُ ذَلِك كُله بعد وَفَاة أَبِيه وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف يَوْم الْخَمِيس ثامن شَوَّال مِنْهَا وَقع حَادث غَرِيب وكارث عَجِيب هُوَ أَنه وَقع فِي ليلته أَن لُوِّث الْحجر الْأسود وَبَاب الْكَعْبَة ومصلى الْجُمُعَة وأستار الْبَيْت الشريف بشئ يشبه الْعذرَة فِي النتن والخبث فَصَارَ كل من يُرِيد تَقْبِيل الْحجر يتلوث وَجهه ويداه فَفَزِعت النَّاس من ذَلِك وضجت الأتراك وَاجْتمعت وَغسل الحَجَر والحِجر وَالْبَاب والأستار بِالْمَاءِ وبقى الأتراك وَالْحجاج والمجاورون فِي أَمر عَظِيم وَكَانَ إِذْ ذَاك رجل من فضلاء الأروام يلقب درس عَام فَكَانَ يرى جمَاعَة من الأرفاض بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَينظر صلَاتهم وسجودهم وحركاتهم عِنْد الْبَيْت وَالْمقَام فيتحرق لذَلِك ويتأوه فَلَمَّا وَقع هَذَا الْوَاقِع قَالَ لَيْسَ هَذَا إِلَّا فعل هَؤُلَاءِ الأرفاض اللئام الَّذين يلازمون الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَانَ حِينَئِذٍ مَعَ قَضَاء الْملك العلام السَّيِّد مُحَمَّد مُؤمن(4/533)
الرضوي قَاعِدا خلف الْمقَام يَتْلُو كتاب الله ذى الْجلَال وَالْإِكْرَام فَأتوا إِلَيْهِ وَأخذت الختمة من يَدَيْهِ وَضرب على رَأسه وسحب حَتَّى أخرج من بَاب الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بِبَاب الزِّيَادَة فَطرح خَارج الْبَاب وَضرب بِالْحِجَارَةِ والكسارات حَتَّى زهق فَمَاتَ وَفِي حَال مسكهم إِيَّاه من الْمَسْجِد كَلمهمْ فِيهِ شخص شرِيف من السَّادة الرفاعية يُسمى السَّيِّد شمس الدّين فعدوا عَلَيْهِ وألحقوه بِهِ فَضرب حَتَّى مإت وجُر ثمَّ أَصَابُوا آخر فضربوه وأخرجوه وقتلوه وعَلى من قبله طرحوه ثمَّ فعلوا ذَلِك برابع ثمَّ بخامس وَلَقَد رَأَيْتهمْ مطروحين وبقى بَعضهم على بعض الْآتِي والذاهب يوسعهم السب والركض وَلَقَد رَأَيْت ذَلِك الشئ وتأملته فَإِذا هُوَ لَيْسَ من القاذورات وَإِنَّمَا هُوَ من أَنْوَاع الخضروات عجين بعدس ممخخ وأدهان معفنات فَصَارَ رِيحه ريح النَّجَاسَات وَكَانَ هَذَا الْفِعْل عِنْد مغيب الْقَمَر من تِلْكَ اللَّيْلَة لَيْلَة الْخَمِيس ثامن الشَّهْر الْمَذْكُور وَلم يُعلم الْفَاعِل لذَلِك وَغلب عَليّ بعض الظنون أَن ذَلِك جعل عمدا وَسِيلَة إِلَى قتل أُولَئِكَ وَالله الْعَالم بالسرائر وَهُوَ مُتَوَلِّي البواطن والظواهر وفيهَا فِي لَيْلَة النَّحْر حصل مطر عَظِيم بعد نفر الْحَاج من عَرَفَة وَاسْتمرّ إِلَى بعد نصف اللَّيْل وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف رَابِع عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام مِنْهَا سَالَتْ أَوديَة طيبَة المنورة على ساكنها الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَا لم يسمع بهيئته الاجتماعية فِي سَابق الدهور والأعوام سَالَ أَبُو جيد سيلاً هائلاً أخرب جَمِيع مَا حوله من الديار وأحدث فِي الحدائق الدمار وأحدق بِالْمَدِينَةِ وَخرب كثيرا من الدّور الَّتِي تحفها وَكَاد أَن يدخلهَا من بَاب الْمصْرِيّ ورجفت الْبِلَاد وانزعجت الْعباد وضجت الْأَصْوَات بِالدُّعَاءِ وَجَرت الْعُيُون بالدمع من الْبكاء وَلَكِن بِحَمْد الله لم يهْلك فِيهِ إِلَّا شخص أَو شخصان وَتلك معْجزَة للرسول معْجزَة ولأصحابه كَرَامَة وَصَارَت تَحِيَّة النَّاس بَعضهم لبَعض نهنيكم بالسلامة وَالْحَاصِل أَنه أَمر حير الأفكار وَقصر عَن تَفْصِيله بَيَان الْأَخْبَار وَكَانَ فِي ذَلِك(4/534)
الْيَوْم بِعَيْنِه سيل بوادي الصَّفْرَاء سد مَا بَين الجبلين وَلم يضر من الْقَافِلَة أحدا من النَّاس سوى أَنه أَخذ امْرَأَة وَوَلدهَا بالحمراء بَين الصَّفْرَاء والخيف وَذهب بِبَعْض نخيل الْخيف إِلَى الْحَمْرَاء وَذهب بِبَعْض الْجمال والأحمال فَعَن الْبَحْر حدث وَلَا حرج وَفِي سنة تسعين وَألف يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان مِنْهَا كَانَت وقْعَة مُحَمَّد بن أَحْمد الخلفاني وَزِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة من جِهَة الشريف بَرَكَات سَببهَا ثيار عَسْكَر عَلَيْهِ ودعواهم أَنه سبّ السُّلْطَان فَاجْتمعُوا على بَابه وَدعوهُ إِلَى الشَّرْع الشريف فَأجَاب إِن هَذَا الْجمع يتفرق وَيتَعَيَّن الْخصم فَأنْزل مَعَه فَأَبَوا عَن ذَلِك وكتبت لَهُم حجَّة بعصيانه الشَّرْع فوصلوا إِلَى بَيته وكسروا عَلَيْهِ الْبَاب وَكَانَ مَعَه جمَاعَة فِي الْبَيْت فأخرجوهم على أَمَان الله وأمان السُّلْطَان فَلَمَّا خَرجُوا قتلوهم فَكَانَ مِمَّن قتل الْقَائِد مُتعب بن إِدْرِيس حَاكم الْبَلَد إِذْ ذَاك وَولده وَأَخُوهُ ورفيع وَلَده وَابْن دريعة الظَّاهِرِيّ وَعمْرَان الزبيدِيّ ورفاع وخُضير والعمري وَعبيد للخلفاني وَفِي جُمْلَتهمْ مِثْقَال عَتيق الْجمال مُحَمَّد عَليّ بن سليم كَانَ مستخدماً عِنْد الخلفانى كل هَذَا فى صحوة يَوْم الْأَحَد الْمَذْكُور وَأما قتل الخلفاني فَكَانَ عِنْد الزَّوَال من يَوْمه فَكَانَ آخر من قتل لِأَنَّهُ اختفى عِنْد الْحَرِيم حَتَّى دلتهم عَلَيْهِ امْرَأَة دخلت كَأَنَّهَا متوجعة لَهُ فَأخْبرت بمكانه أَو رَأَتْهُ فدلت عَلَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ عِنْد الْحَرِيم وقتلوه ثمَّ سحبوه من أَعلَى الْبَيْت إِلَى أَن أَخْرجُوهُ إِلَى قَارِعَة الطَّرِيق وَاسْتمرّ طريحاً إِلَى آخر النَّهَار وَأوحى إِلَى مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات أَسمَاء الفاعلين وَكَانُوا قَرِيبا من ثَلَاثِينَ نَفرا فَعرض فيهم إِلَى الْأَبْوَاب فورد الْأَمر بِقطع جوامكهم وتخريجهم من الْبِلَاد فَقطعت وأخرجوا ثمَّ عَاد إِلَى الْمَدِينَة بَعضهم بعد سنوات بشفاعات وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين أَوَاخِر شهر شَوَّال ظهر نجم لَهُ ذَنْب طَوِيل إِلَى جِهَة الشرق وَاسْتمرّ إِلَى آخر السّنة ثمَّ اضمحل وفيهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام مِنْهَا والركب الْمصْرِيّ فِي نفير السّير من مَكَّة أمْطرت السَّمَاء كأفواه الْقرب بل كأفواه الْغُرُوب وسالت الأودية من(4/535)
سَائِر الْجنُوب وَحصل سيل عَظِيم أخرب الدّور وأتلف من الْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى وَأخذ الْجمال محملات وَأغْرقَ نَحْو خَمْسمِائَة نفس وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَعلا على مقَام إِبْرَاهِيم ومقام الْمَالِكِي والحنبلي وَعلا قفل بَاب الْكَعْبَة وَأكْثر الغرقى غرباء لِأَنَّهُ أَتَى وَقت الشَّديد وَذَلِكَ أول الزَّوَال وَسقط كثير من الدّور واقتلع الجميزة الَّتِي بسوق اللَّيْل وَلَقَد شاهدت وَأَنا بِبَاب الْمَسْجِد النَّافِذ على بَيت الشريف وَالْمَاء مَلأ الطَّرِيق وَهُوَ مكور فِي الْمَسْجِد شاهدت قطراً من الْجمال عَلَيْهِ الركْبَان من رجال وَنسَاء وصبيان دهمه السَّيْل فانحاز إِلَى رَأس الزقاق الْغَيْر النَّافِذ جنب دَار السَّعَادَة وَرَأَيْت المَاء وصل من الْجمل وَهُوَ قَائِم تَحت دَار السَّعَادَة إِلَى منحره ثمَّ ازْدَادَ عَلَيْهِ المَاء فاقتلع ذَلِك الْقطر بِمَا عَلَيْهِ وتدهور فِيهِ وعَلى هَذَا فقس وَصعد جمَاعَة من الْعَسْكَر على سطح رواق الْمَسْجِد الْيَمَانِيّ أَمَام دَار السَّعَادَة وطلبوا حِبَالًا ليدلوها فيمسكها من أَخذه السَّيْل فيرفعوه فَأمر لَهُم المرحوم الشريف بَرَكَات بحبال ترمى من سطح دَار السَّعَادَة إِلَى سطح الرواق الْمَذْكُور وَرمى هُوَ بِنَفسِهِ بعض تِلْكَ الحبال فرحمه الله تَعَالَى مَا كَانَ أرحمه وأرأفه فنجا بذلك خلق كثير وَسبح بعض الْجمال فِي الْمَسْجِد حَتَّى انْتهى إِلَى الْمِنْبَر فارتقع عَلَيْهِ فَصَارَ مرتفعاً على الْمِنْبَر يَدَاهُ وعنقه مرتفعان عَن المَاء وَبَاقِيه فِيهِ وَكَانَ طوفان وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَلم يبْق من درج بَاب الزِّيَادَة الَّتِي فِي دَاخل الْمَسْجِد إِلَّا أَربع سنَن وَلم يبْق من طول أعمدة الرخام إِلَّا نَحْو الرّبع أَو أقل وأرخ بَعضهم سنته بقوله طَغى المَاء وَخرج أَمِير الْحَاج بالمحمل بَين العشاءين فِي نفر نَحْو الْعشْرين بِغَيْر نوبَة وَلَا موكب وَلَا ضوء وَلَا ثوب زِينَة وَخرج من أَعلَى مَكَّة فَلَمَّا كَانَ بسوق المعلاة وَقع جمل الْمحمل فِي حُفْرَة من حفر السَّيْل فَمَا طلع إِلَّا بِجهْد جهيد فسبحان الله الفعال لما يُرِيد وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف رَابِع عشر صفر توفّي الشَّيْخ حسن بن عَليّ الدهان ولد بِمَكَّة سنة أَربع وَألف وَدفن بالمعلاة وَقد ناهز التسعين وَفِي صفر الْمَذْكُور خرج مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن غَالب متع الله بحياته من مَكَّة مفارقاً للمرحوم الشريف بَرَكَات فِي نَحْو خَمْسَة وَعشْرين أَو ثَلَاثِينَ من السَّادة(4/536)
ذَوي مَسْعُود وَغَيرهم فَدخلت السَّادة الْأَشْرَاف فِي الصُّلْح بَينهمَا فَلم يتم فَخرج بهم إِلَى الركاني من وَادي مر واجتمعوا هُنَاكَ وتأهبوا وَسَارُوا مِنْهُ فِي شهر ربيع الثَّانِي قَاصِدين الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فوصلوا إِلَى الشَّام فأنزلهم متوليها حُسَيْن باشا السلحدار بَيت نقيب الْأَشْرَاف وأجرى عَلَيْهِم الْأَنْعَام والألطاف وَعرف بشأنهم إِلَى الْأَبْوَاب فَأمروا بِكِتَابَة عرض بِمَا يشكونه فكتبوه وأرسلوه مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُم هما السَّيِّد مُحَمَّد بن مساعد وَالسَّيِّد بشير بن مبارك فوعدوا بإزاحة شكواهم وفيهَا فِي حادي عشري ربيع الأول مِنْهَا وَقعت فتْنَة سَببهَا عبد السَّيِّد حسن بن حمود بن عبد الله اخْتصم مَعَ عسكري من عَسْكَر الرُّتْبَة عِنْد الششمة سَطَا العسكري على العَبْد وضربه وَأخذ سلاحه فاستحث السَّيِّد حسن الْأَشْرَاف والعبدُ العبيد واجتمعوا عِنْد مَوْلَانَا المرحوم السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله فانفلتت شرذمة من العبيد نَحْو الْخمسين شاهرين السِّلَاح فوصلوا إِلَى الْمَرْوَة فهربت الأتراك وَأَرَادُوا الرُّجُوع فَرَمَاهُمْ بعض الأتراك الساكنين فِي الرّبع بالأحجار فأرادوا الطُّلُوع إِلَيْهِم فكسروا بعض الدكاكين الَّتِي تَحْتَهُ بِظَنّ أَنه بَاب الرّبع فوجدوه ملآن من النّحاس والجوخ والأثاث فنهبوا جَمِيع ذَلِك وفعلوا بدكان آخر جنبه مثل ذَلِك وصوبوا نَحْو ثَلَاثَة من التّرْك بِالسِّلَاحِ وَقتلُوا رجلا من المجاورين كَانَ يحتجم عِنْد حلاق بالمروة ثمَّ ذَهَبُوا ثمَّ خرجت الأتراك وَجَاءُوا إِلَى الأفندي وَأَرْسلُوا إِلَى مَوْلَانَا الشريف يطْلبُونَ الْغُرَمَاء فصُبروا فَلم يصبروا وَأتوا إِلَى بَيت الشريف وَبَيت السَّيِّد أَحْمد الْحَارِث وَكَانَ بِهِ جمَاعَة من عَسْكَر الشريف فَرَمَوْهُمْ من بَيت الْحَارِث فَقتلُوا من التّرْك أَيْضا اثْنَيْنِ فَرَجَعُوا وَأرْسل مَوْلَانَا الشريف إِلَى الْأَشْرَاف يطلبهم الْغُرَمَاء فامتنعوا وَخرج الْأَشْرَاف إِلَى الشَّيْخ مَحْمُود وَقَالُوا من يطْلب الْغُرَمَاء يَأْتِي وَالْعَبِيد خَرجُوا جَمِيعًا حَتَّى عبيد الشريف نَفسه وَالْحَاكِم إِلَى بركَة الماجن ووجدوا جمَاعَة من الأتراك مقيلين فَأخذُوا جَمِيع مَا مَعَهم وضربوهم ونهبوا قَرِيبا من أَرْبَعمِائَة رَأس من الْغنم ثمَّ أرسل الشريف بَرَكَات أَخَاهُ السَّيِّد عَمْرو فَرد العبيد ثمَّ قصد مَوْلَانَا الشريف تسكين الْفِتْنَة فَأمر على عَبْدَيْنِ كَانَا محبوسين فِي سَرقَة أَن يشنقا فشنقا فَلم تطب نفوس الأتراك بعد رُؤْيَتهمَا ثمَّ وجد السَّيِّد يحيى(4/537)
ابْن الشريف بَرَكَات وَكَانَ يعس الْبَلَد عَبْدَيْنِ سارقين فَضرب أعناقهما وَرمى بجثتيهما تَحت جميزة المعلاة وَذكروا للأتراك أَنَّهُمَا الْغُرَمَاء فرضوا واصطلح السَّادة الْأَشْرَاف مَعَ الشريف ودخلوا مَكَّة ثمَّ حصل لمولانا الشريف بَرَكَات مرض وَاسْتمرّ نَحْو شهر زمَان فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشري ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين توفّي شرِيف مَكَّة مَوْلَانَا المرحوم الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن بَرَكَات بن أبي نمي وَدفن وَقت الضحوة يَوْمه فِي حوطة الشَّيْخ النَّسَفِيّ بِوَصِيَّة مِنْهُ وَلم يحصل للنَّاس لَا خوف وَلَا فزع وَكَانَت مُدَّة ولَايَته عشر سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة آمين وَمِمَّا قيل فِيهِ من الشّعْر قولي قصيدة حِين عوده من ذَهَابه لخفارة الْحَاج الشَّامي فوصل الْبِلَاد الْمُسَمَّاة بالحِجر ديار ثَمُود فَوَافَقَ حَال دُخُوله حُصُول مطر بهَا اشرت إِلَى ذَلِك فِي القصيدة وَهِي // (من الْبَسِيط) //
(مَا ظَلَّلَ البيرق الْمَنْصُور سُلْطانَا ... إِلَّا وكُلُّهُمُ فِي ظِلِّ مَوْلانا)
(أَبَا زُهَيْر الْعلَا بَرَكَات سيِّدنا ... وَإِلَى البسيطةِ عجماناً وعُرْبَانا)
(حامي حِمَى مكَّة الغَرَّا وطيبةَ مَعْ ... أقطارِ أنحائها حفْظًا وإتْقَانا)
(ذُو هِمَّةٍ همة الإسكندرىِّ غدَتْ ... أقلُّهَا وَبهَا كَمْ دَان بلدانا)
(وعزمةٍ فِي مُهِمِّ الخَطْبِ صَادِقَةٍ ... تُصَيِّرُ الإِمْتِنَاعَ الصرْفَ إِمْكانَا)
(تأمينُ حجاجِ بيتِ الله قمْتَ لَهُ ... بالنفْسِ والمالِ والأبناءِ إذعانا)
(فَحُطْتَهُمْ مثلَ حوطِ الابنِ كافلُه ... وكَمْ بذلكَ قد أذهَبْتَ ذهْبَانا)
(فِي طاعةِ الله والسلطانِ لَا برحَتْ ... لَهُ ملائكَةُ الرحْمَنِ أعوانا)
(مولَى ملوكِ الورَى الغازِى مُحَمَّد خَان ... زادَهُ الله نصرا أَيْنَمَا كَانَا)
(وشُرِّفَتْ بك أرضُ الحِجْرِ إِذْ سقيَتْ ... غيثاً بمقدمِكَ الميمونِ هَتَّانا)
(حَتَّى لقَد ظَنَّ فِي الأجداثِ هالكُهُمْ ... لأَنْ ينالَ من الرحمنِ غفرانا)
(أنتَ الَّذِي بكَ تاهَتْ مكَّةٌ وزهَتْ ... بحسنِ أَيَّامه عدلا وإحسانا)
(أنتَ الَّذِي بكَ ضمَّ الشمل ناثره ... مِنْ بعدِ تفريقِهِ مثنَى ووُحْدَانا)
(أيُّ الملوكِ بلادُ الله بلدتُهُ ... تمسي رعيَّته لله جِيرَانا)(4/538)
(أىُّ الملوكِ على كُل مودته ... حتَّى مَلَائِكَة الرحمنِ والجانا)
(أىُّ السلاطينِ لَوْلَا صِيتُ هيبته ... لم يمكنِ الحَجُّ من بغدادَ إنْسَانا)
(وَلَا تيَسّر للعبَّادِ فِي غَسَقٍ ... أَن يلمسوا لاستلامِ البيتِ أركانا)
(بِيُمْنِ طلعته الغَرَّا قد امتلأتْ ... جميعُ وِجْهَاتنا أمنا وإيمانا)
(مباركُ الإسمِ والأفعالِ قد خلصَتْ ... لله نيتُهُ سرا وإعلانا)
(لَهُ سريرَةُ صدقٍ لَا يزالُ بهَا ... يشيدُ حَقًا لدينِ الله أركانا)
(ألفضلُ شيمتُهُ والعدلُ سيرتُهُ ... بالحقِّ ينصفُ مِمَّن عزَّ أَو هانا)
(يَا وجْهَ آلِ رسولِ الله قاطبةً ... ومَنْ يمنُّ وَلَا نَلْقَاهُ مَنَّانا)
(أهِدى الثناءَ لكُمْ فِي كل آونةٍ ... فِي محفلٍ جحفلٍ مَا زالَ ملآنا)
(وَمَا أقصِّرُ أصلا فِي الدعاءِ لكُمْ ... إِذا تلوْتُ قبيلَ الفجْرِ قُرْآنًا)
(أَدْعُو بطولِ البقا والمُلْكِ تكنفُهُ ... وقايةُ الله أزمانَا فأزمانا)
(لَا زالَ خظُّكَ والنَّصْرُ المؤيدُ وَالسَّعْدُ ... المؤَبَّدُ طولَ الدهْرِ أقرانا)
(وَلَا فتئْتَ قريرَ العينِ مبتهجاً ... حَتَّى تَرَى إبْنَ إبْنِ الابنِ سُلْطَانا)
(ثمَّ الصلاةُ على جدَّيْكَ مَا عظفَتْ ... أنفاسُ ريحِ الصِّبَا المِسْكِىِّ أغصانا)
وَقَالَ مُحَمَّد بن جدوع الْمَشْهُور بالشاعر التغلبي // (من الطَّوِيل) //
(دُهِمَتُ بِمَا لَا أرْضى وَلَا اطِيقُ بعضَهُ ... أَتَانِي معاضول كثير بمحفلِ)
(نهضت معاما جَدَّمِ العَزْمِ مصرم ... من الْقَهْر خوفًا أَن أَمُوت أَو انْسَلَّ)
(فيا لَيْتَني عَن ذَا بعيدٌ ومنزلي ... على الذِّكرِ ِفي ديراتِ بكرٍ وموصلِ)
(وَلَا قُمتُ فِي دَار ذراعي قَصِيرَة ... ذليل وَلَا لِى مِن جناها محصّلِ)
(يهونُ علىَّ ازوامُ نَفسِي مشقَّة ... وَلَا حالتي هَذِى لىَ المَوْت أسهلِ)
(بأقوَى عُبابِ البَحْر مَاء ومَوْجَة ... أَشُوفُ السما فَوْقِى وتحتي وَلَا ازملِ)
(ذُهِلْتُ بهَا ممَّا جَرَى كُلّ مَا مضَى ... حَفِظْتُ بهَا مِنْ همتي كُلّ مجهلِ)
(وكَمْ ليلةٍ بَيْضَا سَرَيْتُ وليلةٍ ... بهَا الليلُ غدرا كالقَمِيصِ الْمفصل)(4/539)
(إِذا مَا تَنَحَّى الليلُ وَقفا وجدتُّنى ... على كُلِّ فَجَّا الصدرِ وَجْناء مرقلِ)
(كَبِيرةِ عُثْنُونِ القَفَا صَيْعَرِيَّةٍ ... كَأنَّ مَرَافِقْهَا عنِ الزّورِ تفتلِ)
(لَهَا اعلامُ شَيْبٍ كَنَّهُنَّ مَرَاوحٌ ... أَوَ اكْمَامُ رَقَّاصٍ إِن اقْفى وأقْبلِ)
(بخدِّ كظهرِ الذِّيبِ وعرا قطعنها ... وَمَرا بصفصاف بداويَّةٍ خلى)
(وَيَا طالما اسْتازى بغُرْضة نَاقَتي ... فُرُوخ القَطَا وَابْن النَّعَامِ المجفَّلِ)
(مِن ازْوامِ حَرِّ القَيْظِ فِي هَوْجَرِيَّةٍ ... فَرَائِدُهَا فِي الآلِ تَخْفَى وتعتلي)
(تَتِمُّ بهَا الأنْظارُ شتَّى كَثِيرَة ... كأنَّ بهَا البيضَ الهواري تُسللِ)
(بهَا القوز غرفى كَالقَواويقِ غطَّس ... على الرُّوسِ فِي وسطِ المعمَّى المطوَّلِ)
(صلبتُ النَّضَا فِيهَا بالادْلاجِ والسُّرى ... رجا كُل عادِىًّ قديمٍ منَ اوَّلِ)
(من الهجر رَا دمْنَ الكلا فِي جنوبهِ ... كأنَّهُ بَدْرٌ فِي كلاتيَّ جَدْولِ)
(وَكَمْ هَام فيهَا قسمتَاه رَاقِدًا ... أنَاس على الأناس فاغْفى وأغفلِ)
(وَكَثر خُوار القوامِ فِينَا وأيقنوا ... بلدراك من شوفِ احْدِهم يَوْم يكفلِ)
(خليلىَّ لَا تخشونَ منِّى معرة ... عليَّ لكُمْ ميرادكم أيٌّ منهلِ)
(فَصلْنَ وصيل الرَّمْلِ فِي مُدْلَهِمَّةٍ ... خَلصنَ وَكَمْ فِيهَا دَلِيل تَوجَّلِ)
(وردتهُ والأفَّان مَا أَنا بخابرٍ ... سوى العزمِ إِلَّا انَّهْ بالاذكار وصْفَ لي)
(أنخنَا عَلَيْهَا العيسَ مِنْ بَعْدِ سريه ... وَدرت لدَوْسِ الدائسات تأملي)
(ولمينِ حط الغرب عجلا فَقيل لي ... أما يَرْدهَا إِلَّا رشاء موصّلِ)
(ولمينِ وصلت الحبال بجدة ... وإكتربَتْ عضدي فِي المغربِ فْجُزْ لي)
(أَرَى كُلَّهمْ يلطِمْ بكفَّيهِ خدَّهُ ... وَبَعْضَهمَا مِنْ خَوفةِ الموْت هلَّلِ)
(فَقُلْتُ لَهُمْ لاَ تَحْزَنُونَ فَانا لكم ... أطوع من لدنِ الأديمِ المبللِ)(4/540)
(نزلتُ بهَا واسقيتُ ربعى بِسُرْعَة ... وصدَّرتهم روبا وصملانهم ملي)
(ولسْتُ بقوَّالٍ وَلا هُوْ بِصَادِقٍ ... وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ إذَا قَالَ يفعلِ)
(أَمَا ضَام وانا من عرانينِ تَغْلبٍ ... لَنَا فِي نِزَارٍ نِسبةٌ مَا تُبدلِ)
(فَإِن قَصَّرَتْ عَن فعلِ آباي همَّتى ... تكملن أَعْمَامِى وأَفْعال مخولِى)
(وَلاَ أَقْصَرَتْ عَن هؤلا بل لحقْتُهم ... حَميدة افْعَالى صدوقٌ بِمِقْوَلى)
(ولي ثِقَة فِي سيد إِبْنِ سيِّد ... مَنِ اختارهُ المولَى علينا لَنَا وَلِى)
(أَبُو سَعدٍ برْكات بن مُحَمَّد ... لهُ نَسب عدل بِطه موصّلِ)
(على الزين كم فرق من اصنام لَا بِهِ ... وَكم عكفوا بِهْ مِنْ رَسُولٍ ومرسلٍ)
(وكَمْ لطم الضَّدْ الْقوي بغارةٍ ... بِكُل ابْلَحِ ذَرْبٍ تصَلْصَل من علِ)
(على الْخَيل لدنين وَلَو مَا تعاودوا ... وَكم عطفوا بِصْدورهم روس ذبلِ)
(وكمْ فرقُوا بالسيَّف محزوم ضَرْبَة ... سرايَاه فِيهَا مِنْ عراةٍ وكمّلِ)
(علَى رَأْي حزَّام الحُرُوب انْ تفاختَتْ ... إِلَى هدم جمع عَنِ الْجمع يعزلِ)
(وَمِنْه يخلي الإبن عَم ابْن عَمه ... والابنا عَن اباها تغض وتنسلِ)
(أغارتْ مُلُوك الرُّومِ واستنصروا بِهِ ... وقبلَهْ عَسَاكِرْهُمْ تذل وتخذلِ)
(تقلل مِنْ وادِى قُرَيْش وجُرْهُم ... عَلَى ضُمَّرِ من طُول ممشَاهُ محلِ)
(وَقب تجابذهنَّ الارْسَان حزب ... مَطَاوِيِعِ لَدْنات المَرَاضِع قفّلِ)
(فلمَّا تبيّنْ وجْه ممشَاهُ صَائِل ... نشُوف ثَقِيل الطَّعن أقفى وأشْملِ)
(وأنكَرَ بَعْضٌ بَعْدَ الاجماعِ بعضَهُمْ ... وهُمْ قَبْلَ ذاكم فكَّكوا وَشر محملِ)
(وطاع الضجر الصَّلِيب وَلَا قسا ... وَمِنْه تخلى العَارِض الفَرْد منْ بلي)(4/541)
(وكَمْ مِنْ عَزِيزٍ عِنْدَ ملْقَاه غالي ... دَعَاهُ على التَّالى قَطِيع مهملِ)
(من اوزام هَا الجَمْع الْقوي بمثْلِهِ ... وحَرْجَمَتِ الأظْعَانُ فِي كُلِّ منزلِ)
(بهَا الحدب لزمن النواصي بمكنه ... ولابق بيْنَات المطاهير محْولِ)
(وخفوا عَنْ اطفالٍ وشيبٍ كثيرةٍ ... وَحُورٍ عَلَى ابَنَاها تحِنّ وتُعْوِلِ)
(وكَمْ طَلَبُوا مِنْهُ الرحا فِي مراحِهِمْ ... على اطْفَالِهِمْ مِنْ مأخَذِ القومٍ يعقلِ)
(عَسَاهُمْ يتوبوا عَنْ مناخاة ميمر ... مصالاه قَبْلَ الفِعْلِ للخَصْمِ يقتلِ)
(بقَوْمٍ إِذا زموا على الضَّدِّ واجملوا ... بالافْكَارِ مِنْ دارٍ لدار تحول)
(وَمن عطوة واما بهَا من عَطِيَّة ... وَمن رمك فِيهَا أصيل ومصهل)
(وَمن عرض مَا اعطى كم حكوا من جهامة ... بهَا نَاقَة حمرا وخوارة خلى)
(معَاذًا بِهِ الحارات بِالْقربِ حسر ... وَلَو كَانَ أزين من بهَا الشَّمْس واجمل)
(كليل مقاو الطّرف عَنْهُن دَائِما ... مدى الْعُمر مَعَ حدثها مَا تخَلّل)
(فَإِن غَابَ عَنْهَا بَعْلهَا فَهُوَ سترهَا ... رءوف بهَا كنه ولي مُوكل)
(فدَاه دويني قَلِيل أَمَانَة ... من الْخَوْف الأَرْض بْجارتيه تزلزل)
(فجزني على مدحي بميصال ديرتي ... فَكل غَرِيب نَاقص لَو تطول)
(ولي أُسْوَة بالليث وان كَانَ نَادِر ... بِلَا غابتهْ لزما يكل وينكل)
(وللحر عادات إِلَى رب مَا كرن ... من اطول مَا فى الأَرْض مَا ينزل اسفل)
(وصلوا على خير البرايا مُحَمَّد ... عددْ مَا مَشوا لهْ من حفايا وَنقل)
ثمَّ تولى الشريف سعيد ابْن الشريف بَرَكَات ابْن السَّيِّد مُحَمَّد ابْن السَّيِّد إِبْرَاهِيم ابْن السَّيِّد بَرَكَات ابْن الشريف أبي نمي يَوْم موت وَالِده الشريف بَرَكَات قبل أَن يجهزه ذهب السَّيِّد عَمْرو بن مُحَمَّد فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف إِلَى حَضْرَة أَفَنْدِي الشَّرْع وطلبوا مِنْهُ قفطاناً فَسَأَلَهُمْ الأفندي هَل رَضوا السَّادة الْأَشْرَاف فَقَالَ لَهُ السَّيِّد عَمْرو نعم رَضوا بذلك فَأتوا مِنْهُ بقفطان فألبسوه للشريف سعيد ثمَّ نودى بالبلاد باسمه وَمَعَ المنادى مَوْلَانَا الْحُسَيْن بن يحيى ومولانا السَّيِّد عبد الله بن هَاشم ثمَّ جهز الشريف بَرَكَات وَصلى عَلَيْهِ فاتح بَيت الله مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا الشَّيْخ عبد الْوَاحِد ابْن المرحوم سيدنَا ومولانا الشَّيْخ مُحَمَّد الشيبي الْقرشِي العبدرى بِوَصِيَّة(4/542)
مِنْهُ وَدفن فِي الْمحل الْمُتَقَدّم ذكره ثمَّ عقد مجْلِس يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي يَوْم الْوَفَاة بِالْحَطِيمِ حَضَره الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء والأعيان والعساكر فأظهر الشريف سعيد أمرا سلطانياً مضمونه إِنَّه لما أرْسلهُ مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات إِلَى حَضْرَة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان أنعم عَلَيْهِ بِالْملكِ بعد أَبِيه فقرئ بِمحضر ذَلِك الْجمع فسكنت الخواطر وَالْأَحْوَال لموجب ذَلِك الْأَمر الْوَاجِب الِامْتِثَال فَلِذَا لم تقع مُخَالفَة من أحد وَللَّه الْحَمد والْمنَّة ثمَّ حصل بَين الشريف سعيد وَالسَّيِّد نَاصِر ابْن المرحوم أَحْمد الْحَارِث بعض مقاومة من جِهَة وعد لم يتم فَقَامَتْ نفس السَّيِّد نَاصِر وعضد مَعَه جمَاعَة من الْأَشْرَاف مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن يعلى وَذَوي جود الله فِي خَمْسَة وَعشْرين شريفاً فَمَا زَالُوا يسعون بَينهم بِالصُّلْحِ حَتَّى اصْطَلحُوا وَللَّه الْحَمد وَفِي ثَانِي عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وصل أغا صحبته قفطان من صَاحب مصر لمولانا الشريف سعيد بن بَرَكَات جَاءَ بحراً وَخرج من يَنْبع وَفِي ثامن عشر رَمَضَان مِنْهَا ورد مُورق السميري يخبر أَن السَّيِّد زيد بن حَمْزَة رَسُول الشريف سعيد إِلَى الْأَبْوَاب وصل إِلَى يَنْبع ويخبر أَن القفطان السلطاني وَاصل بحراً وَفِي سادس عشريه وصل السَّيِّد حَمْزَة إِلَى مَكَّة وَفِي رَابِع شَوَّال مِنْهَا ورد إِلَى الأفندي أَمر سلطاني بِإِخْرَاج الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان من الْحَرَمَيْنِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَأرْسل إِلَيْهِ الأفندي يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ فَطلب مهلة ثَلَاثَة أَيَّام فأمهل ثمَّ لم يَأْمَن على نَفسه فَلَمَّا أَتَوْهُ على الْوَعْد امْتنع فجَاء إِلَيْهِ العساكر إِلَى بَيته فصاح وَصَاح أهل بَيته من نسَاء وَأَطْفَال وخدم فَتَرَكُوهُ ومضوا إِلَى الشريف وأفندي الشَّرْع وأخبروهما بِمَا وَقع فأرسلوا إِلَيْهِ مَوْلَانَا السَّيِّد ثقبة ابْن قَتَادَة فحاوله على الْخُرُوج فَأَجَابَهُ إِنِّي ممتثل الْأَمر وَإِنَّمَا تمهلوني إِلَى الْحَج فَتوجه السَّيِّد ثقبة فِي الْإِمْهَال إِلَيْهِ عِنْد الشريف وأفندي الشَّرْع فأمهلاه ثمَّ خرج صُحْبَة الْحَاج الشَّامي وَفِي ثامن عشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة دخل الأغا بالقفطان والمرسوم(4/543)
السلطانيين فلبسه مَوْلَانَا الشريف سعيد فِي الْحطيم وَقُرِئَ المرسوم على الْعَادة بالتبجيل والتعظيم وَالتَّصْرِيح بتفويض أَمر الْحَرَمَيْنِ إِلَيْهِ والتعويل فِي حراستهما عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ ذَلِك النَّهَار موكب عَظِيم وفيهَا وصلت صَدَقَة من ملك الْهِنْد إِلَى الْحَرَمَيْنِ قدرهَا مائَة ألف ربية أَرْبَعُونَ ألفا للشريف وَسِتُّونَ لمَكَّة وَالْمَدينَة فَكَتَبُوا أَسمَاء النَّاس فِي دفتر وعدوهم بالتقسمة ثمَّ اقْتضى رَأْيهمْ أَن يأخذوها جَمِيعًا ويأمروا أهل مَكَّة بِأَن يكتبوا باستلامها فَكتب أهل مَكَّة بذلك وَأرْسل إِلَى أهل الْمَدِينَة وَطلب مِنْهُم أَن يسمحوا كَمَا سمح أهل مَكَّة بذلك فَكَانَ جَوَاب أَفَنْدِي الْمَدِينَة وَشَيخ حرمهَا وأغوات العساكر مَا نَصه إِن هَذَا شئ لعامة النَّاس فَلَا يسعنا السماح عَن جمَاعَة مَا نعتقد رضاهم وأبوا أَن يجيبوا بِغَيْر هَذَا فَلَمَّا وصل الْخَبَر بذلك عَنْهُم دبروا تدبيراً آخر لَا حَاجَة بِنَا إِلَى كشفه وَأَرْسلُوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أورنك زيب صُحْبَة السَّيِّد مُحَمَّد البرزنجي فَلم يُعْط قبولاً وَلم يواجه السُّلْطَان هُوَ وَمن مَعَه أصلا ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة بعد ذَلِك فِي سنة خمس وَتِسْعين وَقد كَانَ فِي غنية وَعزة عَن مثل هَذِه الرسَالَة الَّتِي هَذَا شَأْنهَا وَقد أخذت مِنْهُ المكاتيب من بندر سُورَت وَأرْسلت إِلَى السُّلْطَان وَذَلِكَ لما بلغ السُّلْطَان حَقِيقَة الْحَال وَقد كَانَ المرحوم مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات عرض إِلَى الْأَبْوَاب لما فَارقه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن غَالب متع الله بحياته وَمن مَعَه فَعرف أَن السَّادة الْأَشْرَاف أتعبوه بِالطَّلَبِ الشطيط وَأَنه بَالغ فِي إرضائهم بِكُل وَجه فَقَالَ إِلَى حد أَنِّي رضيت أَن أجعَل لَهُم مغل ثَلَاثَة أَربَاع الْبِلَاد وَيكون لى ربع فَكَانَ جَوَابه أَنهم أبرزوا لَهُ أمرا سلطانياً بذلك فورد إِلَى مَكَّة بعد مدَّته فِي الْحَج آخر سنة ثَلَاث وَتِسْعين الْمَذْكُورَة وَلم يُرد مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات طلب هَذَا الْأَمر وَإِنَّمَا لما أرسل إِلَى الْأَبْوَاب متنصلاً عَن الْمُخَالفَة على السَّادة الْأَشْرَاف ومبيناً أَنه ساع فِي ملائمة هواهم بِحَيْثُ إِنَّه رَضِي بِأَن يَجْعَل ذَلِك لَهُم ظنت الدولة العثمانية أَن ذَلِك مُرَاد لَهُ ومطلوب فَأخْرج لَهُ أَمر بذلك فَلَمَّا وصل كتمه الشريف سعيد فتحققته السَّادة الْأَشْرَاف وطلبوه من الشريف فَأحْضرهُ على مَا أشيع مجْلِس الشَّرْع وسجل مضمونه(4/544)
وقسموا مَدْخُول الْبِلَاد والإخوان أَربَاعًا ربع لمولانا الشريف وَربع تشيخ فِيهِ مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله ومولانا السَّيِّد نَاصِر بن أَحْمد الْحَارِث ومعهما جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالرّبع الثَّالِث تشيخ فِيهِ مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن غَالب دَامَ علاهُ ومولانا السَّيِّد أَحْمد بن سعيد ومعهما جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالرّبع الرَّابِع تشيخ فِيهِ مَوْلَانَا السَّيِّد عَمْرو ومولانا السَّيِّد غَالب بن زامل ومعهما جمَاعَة من الْأَشْرَاف فَحصل بذلك التشاجر فِي الْقِسْمَة والتعب والتشاحن وَوَقع فِي الْبِلَاد السرقات بل النهب الصَّرِيح وَاخْتلفُوا فِيمَا بَينهم وَلزِمَ من ذَلِك أَن كل صَاحب ربع يكون لَهُ كتبة وخدام يجمعُونَ مَا هُوَ لَهُ واستكتب مَوْلَانَا الشريف أَحْمد متع الله بحياته عسكراً وانضم إِلَيْهِم عبيد ذَوي زيد فَحصل عِنْد الشريف سعيد تَعب من ذَلِك فَأمره بترك الْعَسْكَر فَامْتنعَ وَذكر أَن السوالف سبقت بِمثل هَذَا لصَاحب الرّبع وَشهد بذلك كبار الْأَشْرَاف فَذكر الشريف سعيد أَنه متوهم من هَذَا الْفِعْل وَطلب من يكفله لَهُ فَكَفَلَهُ عشرَة من الْأَشْرَاف واصطلحا على ذَلِك ثمَّ ادّعى الشريف سعيد على الْأَشْرَاف أَن عبيدكم أتلفوا الْبِلَاد وَالْقَصْد من أهل الأرباع أَن يُرْسل كل مِنْهُم شخصا من جَانِبه يعسون الْبِلَاد مَعَ جماعتي فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَأرْسل مَوْلَانَا الشريف أَحْمد بن غَالب أَخَاهُ مَوْلَانَا السَّيِّد حسن بن غَالب وَأرْسل مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله ابْنه بَرَكَات بن مُحَمَّد وَأرْسل الشريف سعيد مَوْلَانَا السَّيِّد حَمْزَة بن مُوسَى بن سُلَيْمَان فِي جمَاعَة من الخيالة والدَّبابة مَعَهم الْقَائِد حَاكم الْبِلَاد أَحْمد بن جَوْهَر ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وصل فِي خَامِس شهر رَمَضَان مِنْهَا إِلَى مَكَّة هَدِيَّة من ملكة آش بلد بأقصى الْهِنْد وَتلك مُقَابل هَدِيَّة كَانَ أهداها إِلَيْهَا مَوْلَانَا الشريف بَرَكَات مِنْهَا ثَلَاثَة قناطير ذهب مصطنع يصفى على النّصْف خَالِصا وَثَلَاثَة غلايين ذَهَبا وَثَلَاثَة أَرْطَال كافور وجانب عَظِيم من الفرنقل والجاوي وآواق زباد آشى وللكعبة الشَّرِيفَة بِخَمْسَة قناديل ومبخرتين وشمعدانين وللمدينة كَذَلِك قناديل ومباخر وشماعدين فنازع السَّادة الْأَشْرَاف الشريف سعيد طَالِبين الثَّلَاثَة الأرباع مِنْهَا فَامْتنعَ من ذَلِك فَقَامَتْ النُّفُوس بَينهم وَبَينه ثمَّ وَقع الصُّلْح على(4/545)
إعطائهم النّصْف مِنْهَا فَأَخَذُوهُ وَفِي سادس عشري ذِي الْقعدَة مِنْهَا فتح الْبَيْت الشريف وَجَاء مَوْلَانَا الشريف سعيد ومولانا السَّيِّد مُحَمَّد بن حمود ونائب الْحرم وعلقوا الْخَمْسَة الْقَنَادِيل بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وفيهَا يَوْم الْأَحَد رَابِع عشر ذِي الْقعدَة الْحَرَام مِنْهَا انْتقل بالوفاة إِلَى رَحمَه الله تَعَالَى مَوْلَانَا السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وَفِي شهر ذِي الْحجَّة مِنْهَا لم يخرج السَّادة الْأَشْرَاف جَمِيعهم مَعَ الشريف سعيد إِلَى العرضة فَبعد أَن حج النَّاس ونزلوا عقد الشريف سعيد محضراً فِيهِ أَمِير الشَّامي صَالح باشا وَأحمد باشا صَاحب جدة وأمير الْحَاج المصرى ذوالفقار بك وَأمين الصرة والسرادير وأكابر الْحَج وأغواته وشكا من الشريف أَحْمد بن غَالب كِتَابَة الْعَسْكَر وَأَنه مناكد لي فِي الْبِلَاد وَأَنه أفسد عَليّ الْأَشْرَاف وَأَنه حصل مِنْهُ وَمن جماعته الْفساد فِي الْبِلَاد وَأَرْسلُوا السَّيِّد غَالب بن زامل إِلَيْهِ ليحضر فَيظْهر مِمَّن الْخلاف فَامْتنعَ من الْحُضُور فِي بَيت الشريف وَقَالَ إِن كَانَ الْقَصْد الِاجْتِمَاع فَفِي الْمَسْجِد وَإِن كَانَ لكم دَعْوَى فأوكل وَكيلا يسمع مَا تدَّعون بِهِ عَليّ ثمَّ أرْسلُوا إِلَيْهِ عَن كِتَابَة الْعَسْكَر وَمَا بعده فَأجَاب بِمَا أجَاب أَولا أَن هَذِه قَوَاعِد بَيْننَا قد سلفت أَن صَاحب الرّبع لَهُ أَن يكْتب عسكراً وَأما قَوْلكُم إِنَّه قد حصل من جماعتي أَو عسكري مفْسدَة فأطلقوا منادياً فِي الْبِلَاد معاشر النَّاس كَافَّة هَل أحد يشكو مني أَو من جماعتي أَو عسكري شَيْئا أَو أخذُوا حق أحد ظلما أَو ضربوا أحدا فَإِن وجدْتُم مشتكياً صَحَّ مَا قلتموه وَإِلَّا فَلَا وَجه لكم وَأما تركي العرضة فَكَانَ خوفًا أَن يَقع شئ فينسب ذَلِك إليَّ أَو إِلَى جماعتي كل هَذَا والأشراف جَمِيعهم اجْتَمعُوا على قلب رجل وَاحِد وَلم تزل خيولهم مسرجة ودروعهم عيابها غير مشرجة بل قد لبسوها وملئوا الأجياد إِلَى العقد وتحركت الأنفة الهاشمية الَّتِي تأبى الضيم والضهد وَبَلغنِي عَن الثِّقَة أَن صَالح باشا أَمِير الْحَاج الشَّامي كَانَ من جملَة كَلَامه إِلَى الشريف أَحْمد متع الله بحياته إِن لم تصطلحوا طَوْعًا أصلحناكم بِالسَّيْفِ فَأرْسل لَهُ(4/546)
فِي الْجَواب السَّيْف لنا يَا بني هَاشم مَا هُوَ لفلاليح الشَّام وَلَكِن إِذا نمت فأحكم تزرير مضربك عَلَيْك وَلما أَن سمع الْأُمَرَاء والأكابر جَوَاب الشريف أَحْمد بالْكلَام الأول وَعَلمُوا أَنه لَا وَجه عَلَيْهِ وَلَا خلاف ينْسب إِلَيْهِ سعوا فِي الصُّلْح بَينه وَبَين الشريف سعيد على أَن يكفل كل مِنْهُمَا جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَلَا يتَعَدَّى أحد على صَاحبه وكتبت بَينهمَا حجَّة شَرْعِيَّة وطلبوا من الشريف أَحْمد متع الله بحياته أَن يَأْتِي إِلَى الشريف سعيد فوصل إِلَيْهِ لَيْلَة فِي شهر الْحَج قبل خُرُوج الْحَاج الشَّامي ثمَّ بعْدهَا وصل إِلَيْهِ الشريف سعيد لَيْلَة أُخْرَى وَتمّ الصُّلْح وَللَّه الْحَمد وَأما صَالح باشا فَفِي يَوْم الِاجْتِمَاع الْمَذْكُور وصل فِي نَحْو مائَة من عسكره إِلَى بَيت مَوْلَانَا الشريف أَحْمد متع الله بحياته وَقبل يَده وَاعْتذر مِمَّا تكلم بِهِ فَقبله وقابله بِوَجْهِهِ الطلق الصبيح ولاطفه بِلَفْظِهِ العذب الفصيح وَرفع عَنهُ الملام وأكرمه كَمَا هُوَ طبعه الشريف غَايَة الْإِكْرَام وفيهَا أَعنِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف أَمر مَوْلَانَا الشريف سعيد بالنداء فِي الْبِلَاد ثامن عشر ذِي الْحجَّة الْحَرَام أَن لَا يُقيم أحد من الغرباء بالبلاد من جَمِيع الْأَجْنَاس على حسب مَا ورد بِهِ الْأَمر السلطاني ثمَّ إِن أَرْبَاب الْأَمْوَال من الأتراك وَغَيرهم تكلمُوا مَعَ سرادير الْعَسْكَر وَجعلُوا لَهُم مصلحَة فَاجْتمعُوا وعزموا إِلَى أَحْمد باشا صَاحب جدة وَذكروا لَهُ أَن هَؤُلَاءِ التُّجَّار المصارية أَمْوَالنَا مَعَهم وَأَنَّهُمْ نافعون لنا فِي الْبِلَاد وحسنوا لَهُ التَّكَلُّم مَعَ الشريف سعيد فَأرْسل إِلَى الشريف سعيد فَتكلم مَعَه فِي إبقائهم فساجل على ذَلِك وَأطلق مناديه سَابِع عشري ذِي الْحجَّة الْمَذْكُورَة أَن من كَانَت لَهُ مُدَّة طَوِيلَة يُقيم وَلَا خلاف عَلَيْهِ فَمَا أسْرع انْتِقَاض الحكم بضده بعد تِسْعَة أَيَّام وَفِي ثَانِي عشر شعْبَان مِنْهَا كَانَت وَفَاة وَالِدَة مَوْلَانَا السُّلْطَان الْغَازِي الْمُجَاهِد السُّلْطَان مُحَمَّد خَان كَانَت صَاحِبَة خيرات وصلات تغمدها الله بأتم الرحمات وَفِي عَاشر ذِي الْقعدَة كَانَت وَفَاة شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي الْمَالِكِي السُّوسِي المفتن فِي جَمِيع الْعُلُوم الْمَشْهُور عِنْد الْعَرَب وَالروم توفّي بِدِمَشْق الشَّام مولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف قَرَأَ على كبار الْمَشَايِخ بِبَلَدِهِ من(4/547)
أَجلهم قَاضِي الْقُضَاة مفتي مراكش ومحققها سيدى عِيسَى السجسْتانِي والعلامة مُحَمَّد بن سعيد المراكشي وَمُحَمّد بن بكر الدلائي وَالشَّيْخ سعيد بن إبراهم الْمَشْهُور بقَدُّورَة مفتي الجزائر سِتِّينَ سنة وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس الْخِرْقَة ولازم الشَّيْخ مُحَمَّد بن نَاصِر الزرعي أَرْبَعَة أَعْوَام فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف وَغَيرهَا وَصَحبه وَتخرج بِهِ ثمَّ رَحل إِلَى الشرق وَدخل مصر فَأخذ بهَا عَن الْعَلامَة الشَّيْخ عَليّ الأَجْهُورِيّ والشهاب الخفاجي وَالشَّيْخ شهَاب الدّين بن سَلامَة القليوبي والعلامة سُلْطَان المراحي وأجازوه وبرع فِي الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان وَالْعرُوض والحساب والفلك والهيئة وَالْحكمَة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ عدَّة فنون وَألف كتبا مفيدة مِنْهَا مُخْتَصر جَامع الْأُصُول لِابْنِ الْأَثِير وَاخْتصرَ التَّلْخِيص وَشَرحه وَوضع حَاشِيَة على التسهيل وحاشية على التَّوْضِيح ومنظومة فِي علم الْمِيقَات وَشَرحهَا وَله جدول جمع فِيهِ مسَائِل الْعرُوض كلهَا واخترع كرة عَظِيمَة فاقت على الكرة الْقَدِيمَة والإصطرلاب وانتشرت فِي الْهِنْد واليمن والحجاز أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ سِنِين عزباً فِي خلْوَة بقايتباي ثمَّ جَاءَ إِلَى مَكَّة وجاور بهَا ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم فِي موسم سنة ثَمَانِينَ صُحْبَة أخي الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الكبرلي وحظي عِنْده حظوة عَظِيمَة وفوض إِلَيْهِ أَمر أوقاف مَكَّة وَغَيرهَا وعمَّر الأربطة الدامرة والمآثر الداثرة وَأَنْشَأَ تربة بالمعلاة وَجعلهَا جداراً أوتاراً متقاطعة فِي نصف قامة على شكل شطرنجي وعدتها ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعمائة قبر بلغت النَّفَقَة عَلَيْهَا من مَال الْوَزير الْمَذْكُور أَرْبَعَة آلَاف أَحْمَر وَمِائَة أَحْمَر كَانَ ابْتِدَاؤُهَا سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وسعى فِي عزل مَوْلَانَا الشريف سعد وَولى الشريف بَرَكَات بنظره وإشارته وَصَارَ فِي مَكَّة صَاحب الْحل وَالْعقد وأنيطت أمورها جَمِيعهَا إِلَيْهِ ويتردد الشريف بَرَكَات إِلَى بَيته كل يَوْم وَرُبمَا جَاءَ مرَّتَيْنِ فِي الْيَوْم الْوَاحِد وأكابر الْحَاج وأمراؤه يأْتونَ إِلَيْهِ فَمن قبل عَلَيْهِ أذن لَهُ وَمن لَا فَلَا وَلَا يقطع الشريف بَرَكَات أمرا قل أَو جلّ إِلَّا بنظره وَرُبمَا فعل أمرا بِغَيْر نظره فَإِذا علم بِهِ نقضه من يَوْمه إِلَى أَن مَاتَ الْوَزير الْمَذْكُور فضعف أمره وَورد الْأَمر من الْوَزير الآخر مصطفى باشا أَولا(4/548)
بالتحذير وَالنَّهْي عَن مُشَاركَة الدولة فِي أمورها من قَلِيل أَو كثير والتنفير عَن المكارشة فِيمَا يتَعَلَّق بهَا من جليل وحقير وَذَلِكَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف فأغلق ذَلِك الْبَاب وَصَارَ لَا ينفذ شَيْئا إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب ثمَّ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة عزم إِلَى بَلْدَة الطَّائِف وصاف بهَا ثمَّ ارتحل مِنْهَا أَوَاخِر شعْبَان فَسقط عَلَى وَادي مر ثمَّ توجه مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَة المنورة الشَّرِيفَة فَدَخلَهَا ثَانِي يَوْم من رَمَضَان فَأَقَامَ بهَا نَحْو أَربع سِنِين وابتنى فِي أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة دَارا بلصق جِدَار الْمَسْجِد النَّبَوِيّ الشمالي فَلَمَّا كَانَت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف رَحل مِنْهَا فِي النّصْف من شهر شعْبَان عَائِدًا إِلَى مَكَّة فَدَخلَهَا ثامن عشريه فاستمر بهَا إِلَى أَن ورد الْأَمر ثَانِيًا سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف بتخريجه من الْحَرَمَيْنِ فَخرج إِلَى مَكَّة صُحْبَة الْحَاج الشَّامي موسم سنة ثَلَاث وَتِسْعين كَمَا تقدم ذكر طرف من ذَلِك وَأخذ فِي سَفَره الأول إِلَى الرّوم عَن الشَّيْخ خير الدّين بن مُحَمَّد الرَّمْلِيّ الْحَنَفِيّ وبدمشق عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن بدر الدّين البلباني الْحَنْبَلِيّ وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين نقيب الْأَشْرَاف وَله فهرست بِجَمِيعِ مروياته وأشياخه سَمَّاهَا صلَة الْخلف بموصول السّلف وَوصل فِي سفرته الثَّانِيَة إِلَى دمشق الشَّام فَأَقَامَ بهَا حَتَّى كَانَت وَفَاته فِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله وَتجَاوز عَنهُ انْتهى ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين فِيهَا يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر محرم الْحَرَام لما أَرَادَ أَحْمد باشا النُّزُول إِلَى جدة حشكت عَلَيْهِ السَّادة الْأَشْرَاف بِسَبَب أَنه استولى على الرّبع من حب الجراية الَّتِي ترد إِلَى مَكَّة بعد أَن كَلمُوهُ فِي ذَلِك فَامْتنعَ فَسَكَتُوا عَنهُ إِلَى يَوْم نُزُوله جدة وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة الْمَذْكُور فتحزبوا جَمِيعًا وَقَالُوا لَا ينزل حَتَّى يُعْطِينَا مَا هُوَ لنا وَلَا يبْقى عِنْده شئ وَكَانَ ذَلِك بعد أَن تقدمه أَهله وَثقله إِلَى جدة فَصَارَ أحير من ضَب واجتمعوا بِبَيْت السَّيِّد مُحَمَّد بن حمود وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ السَّيِّد ثقبة فَقَالَ لَهُ إِن نزلت قبل أَن تصلح الْأَشْرَاف يَأْخُذُوا جَمِيع أسبابك الَّتِي تقدّمت وينهبوا حريمك ويقتلوك فأذعن حِينَئِذٍ بوفائهم فَقَالُوا لَا نرضى بذلك حَتَّى تكفل لنا فكفل لَهُم كرد أَحْمد المعمار وَجَمِيع السرادير والوزير عُثْمَان بن زين العابدين حميدان وَكَتَبُوا بذلك حجَّة شَرْعِيَّة وَأَنه إِن حصل مِنْهُ منع لبَعض(4/549)
حُقُوقهم فَيكون عاصي الشَّرْع وَالسُّلْطَان ثمَّ خرج من مَكَّة بعد عصر ذَلِك الْيَوْم كالهارب // (من الْبَسِيط) //
(أَلْجَدُّ فِي الجِدِّ والحرمانُ فِي الكَسَلِ ... )
وفيهَا تَاسِع ربيع الأول ورد أغا من صَاحب مصر بقفطان للشريف سعيد وبطلب كرد أَحْمد المعمار وَهَذَا كرد أَحْمد كَانَ قد وصل قبل هَذِه السّنة أرْسلهُ الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا إِلَى عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام وَحده وَكَانَت عِمَارَته فِي الْمَسْجِد فرش أروقته بِالْحجرِ الشبيكي وعمارته بجدة إِجْرَاء عين إِلَيْهَا اسْتمرّ فِيهَا نَحْو ثَلَاث سنوات ابتدأها من الْمحل الْمَعْرُوف بالقوز وَعمر بهَا أَيْضا مَسْجِدا ومنارةً وحماماً ووكالةً وَسبب طلبه لما غضب على مرسله الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى الْمَذْكُور بِسَبَب الولس الَّذِي نسب إِلَيْهِ مَعَ الْكفَّار على الْمُسلمين وَكَانَ هَذَا كرد أَحْمد من خَواص الْوَزير الْمَذْكُور فجَاء الْأَمر لمولانا الشريف سعيد ففى يَوْم وصل الأغا ختم على بَيت كرد أَحْمد الذى بِمَكَّة وَركب الأغا من يَوْمه إِلَى جدة وَختم على بَيته بهَا وعَلى جَمِيع المَال وأحضروا المهندسين فخمنوا الْعِمَارَة فخمنوا كل ذِرَاع بقرش ريال بعد أَن ذرعوا من الِابْتِدَاء إِلَى الْبَلَد فَبلغ كَذَا وَكَذَا ألف ذِرَاع وَكَذَلِكَ خمنوا مَا صرف على فرش الْمَسْجِد وَحَسبُوا جَمِيع ذَلِك وَكَتَبُوا بِهِ حجَّة شَرْعِيَّة وَخرج من مَكَّة إِلَى جدة فِي شهر ربيع الآخر فَذهب بحرا إِلَى من طلبه وَمِمَّا وَقع فِي هَذِه السّنة من الْعَجَائِب أَن حُرْمَة من جِهَة الشبيكه من نسَاء الْعَرَب وضعت كَلْبا فخافوا الفضيحة فَقَتَلُوهُ ودفنوه وفيهَا أَيْضا جَاءَ نجاب من مصر وَأَخْبرنِي مشافهة أَن بالمويلح الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة حُرْمَة ولدت ولدا فَذهب أَبوهُ إِلَى جِهَة السُّوق فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ الْوَلَد الْمَوْلُود لوالده العوافي يَا باه قضيت حَاجَتك وَتكلم بأَشْيَاء كَثِيرَة من سَاعَته وَهَذَا من الْعَجَائِب الَّتِي لم يسمع بِمِثْلِهَا إِلَّا نَادرا وَالْقُدْرَة صَالِحَة وَبعد ذَلِك فقد الْوَلَد فسبحان الْقَادِر على كل شئ وفيهَا تضرر السَّادة من غلو سعر الذَّهَب ووصول الْأَحْمَر إِلَى ثَمَانِيَة حُرُوف(4/550)
وَربع وبسببه غلت الأسعار فطلبوا من الشريف أَن يُنَادى بنزول سعره إِلَى أَرْبَعَة حُرُوف لتنزل أسعار المسعرات إِلَى النّصْف من كل شئ فأجابهم إِلَى ذَلِك فتعب من ذَلِك صَاحب جدة أَحْمد باشا وعساكر مصر حِين أرسل لَهُم الشريف بِمثل ذَلِك وَامْتنع من النداء عَلَيْهِ إِلَّا بسبعة حُرُوف وَكَانَ ذَلِك عشري جُمَادَى الأولى ثمَّ إِن عَسْكَر مصر شكوا إِلَى الشريف سعيد أَن هَذَا ضَرُورَة علينا فنسأل الْفضل أَن تجعلوه بِسِتَّة حُرُوف وَنصف لَا علينا وَلَا على السَّادة الْأَشْرَاف خلاف فَأمر الشريف سعيد بالنداء بذلك والفسح بِهِ فَلَمَّا سمعُوا السَّادة الْأَشْرَاف بموافقة الشريف سعيد للأتراك فِيمَا طلبوه تعبوا واجتمعوا فِي بَيت السَّيِّد مبارك الْحَارِث لِأَنَّهُ هُوَ أول من تكلم فِي ذَلِك الشَّأْن ثمَّ ركبُوا إِلَى السَّيِّد غَالب بن زامل وَكَانَ بِالْأَبْطح وَأَخْبرُوهُ بمخالفة الشريف هواهم واتباعه هوى الأتراك فَأتى مَوْلَانَا السَّيِّد غَالب ومولانا السَّيِّد مُحَمَّد بن حمود ومولانا السَّيِّد أَحْمد بن سعيد بن شنبر فَقَالُوا للسَّيِّد مبارك وَبَقِيَّة الْأَشْرَاف القائمين فِي هَذَا الْأَمر إِن الْبِلَاد للشريف وَإِن الْأَمر لَهُ فِي الْمُعَامَلَة وَغَيرهَا ولستم شُرَكَاء للشريف فِي الْأَحْكَام بل فِي الْمَدْخُول فحجوهم بذلك وفيهَا فِي شهر ربيع الآخر وجد رجل من أَبنَاء الْمَدِينَة يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن عمار الصعيدي بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ بعد أَن فتش الْمَسْجِد وأغلق فَأخْرجهُ الخدام ثمَّ لما كَانَ من أَعمال شئ من اللَّيْل وجدوه أَيْضا تجاه الْقَبْر الشريف يقْرَأ فِي مصحف فأخرجوه من الْمَسْجِد وَلما كَانَ لَيْلَة الْجُمُعَة وَقت التَّذْكِير دخلُوا لإيقاد قناديل الْحُجْرَة الشَّرِيفَة فوجدوه فِيهَا دَاخِلا تَحت السّتْر نصفه وَنصفه الآخر خَارِجا فتقدموا إِلَيْهِ وأخرجوه وَأتوا بِهِ إِلَى شيخ الْحرم وَأَخْبرُوهُ بِمَا وَقع فَوَضعه فِي بعض المخازن وأغلق الْبَاب وعَلى الْبَاب حرس ثمَّ فتحُوا الْبَاب بعد سَاعَة فَلم يجدوه فسألوا عَنهُ فَإِذا هُوَ فِي بَيته عِنْد وَالِده وَأَهله وَالله أعلم بِحَقِيقَة حَاله وفيهَا يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر رَمَضَان مِنْهَا عدا بعض أَوْلَاد الصاغة بِمَكَّة على أَخِيه فَضَربهُ جنبية عمدا فَقتله رَحمَه الله تَعَالَى وَدخل على السَّيِّد حسن بن غَالب فَدخل بِهِ على أَخِيه مَوْلَانَا الشريف أَحْمد متع الله بحياته فبذل لِأَبَوَيْهِ الدِّيَة(4/551)
فامتنعا وسمحا عفوا فألزمه بسكنى بندر جدة فَهُوَ فِيهَا وفيهَا لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع عشري رَمَضَان مِنْهَا كَانَت وَفَاة الْحرَّة الطاهرة والدرهَ الثمينة الفاخرة السيدة الشَّرِيفَة عمْرَة بنت سُلْطَان الْحَرَمَيْنِ مَوْلَانَا المرحوم الشريف زيد تغمدها الله برحمته وأستكنها فسيح جنته ودفنت صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم وَكَانَت جنازتها حافلة وفيهَا إرْسَال الشريف سعيد ترجماته المهتار على أغا إِلَى صَاحب مصر يذكر فَسَاد مَكَّة وَأَنَّهَا خربَتْ وَأَحْوَالهَا اضْطَرَبَتْ وَطلب مِنْهُ عسكرا لإصلاحها وفيهَا ثَانِي عشر رَمَضَان كَانَت وَفَاة الْأَمِير الخطير وَالسري الْكَبِير الَّذِي حوى من الْفضل أجمعه وَمن اللَّفْظ أعذبه وأبرعه الْأَمِير الْجَلِيل ذِي الْقدر النَّبِيل وَالْمجد الأثيل وَالْأَصْل الْأَصِيل الْأَمِير يحيى بك ابْن المرحوم على باشا الأحسائى ثمَّ الْمدنِي الْحَنَفِيّ بِطيبَة المنورة مولده سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف بِمَدِينَة الإحساء وَبهَا نَشأ فِي حجر وَالِده وتأدب بأكابر عُلَمَاء بَلَده وَأخذ عَن الْعَلامَة إِبْرَاهِيم بن حسن الأحسائي الْفِقْه والْحَدِيث وعلوم الْعَرَبيَّة وَأَجَازَهُ بمروياته وَجَمِيع مؤلفاته وتلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة وصافح من طَرِيق المعمرين الشَّيْخ تَاج الدّين النقشبندي الْهِنْدِيّ عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الشهير بحاجي رمزي قَالَ فصافحني أَبُو سعيد الحبشي قَالَ فصافحني النبى
وَله شعر مِنْهُ قَوْله يمدح النبى
// (من الْكَامِل) //
(أتريدُ جاراً حامياً لكَ سيدَا ... ومقامَ عِزِّ عَالِيا متفرّدَا)
(وترود شرقًا للبلاد وغربَهَا ... متفكراً متحيراً متردِّدَا)
(وترومُ ذَا والحالُ مِنْك مقصِّرٌ ... عَمَّا طرا والفعْلُ لَيْسَ مسدَّدا)
(فعليكَ أَن تردَ النجاةَ وتَتَّقى ... خوفَ الْعقَاب تِلَاوَة والمسْجِدا)
(وانزلْ بدارِ الْمُصْطَفى متأدِّبًا ... ولجودِهِ مستمطراً متقصِّدَا)
(واعرفْ لفيضِ الفضلِ مِنْهُ مواسماً ... لتكُنْ لَهَا مترقباً مترصِّدَا)
(فلعلَّ أَن يحيى كَمَا أحيى بِهِ ... للدِّينِ رسماً قد عَفا وتهدَّدَا)
(فاجهَدْ تكُنْ جاراً لَهُ ودخيلَهُ ... وابذلْ لَهُ روحاً ومالاً مجهدا)(4/552)
(أفما سمعْتَ لقائلٍ ذِي فطنةٍ ... تسمو بساكِنِهَا فكُنْ مسترشِدَا)
(واطلب بغالِى النفسِ منْكَ جوارَهُ ... واتركْ لِسَوْفَ وَلَا تقُلْ مهلا غَدَا)
(بلْ قُمْ وسارعْ للمدينةِ رَاغِبًا ... ولمنْ بهَا مستشفعاً متعبدَا)
(فَهُوَ الَّذِي يحمي ويغني جَاره ... وَعَلِيهِ قد أوصى وحَثّ وأكَّدَا)
(فلقَدْ نصحتُكَ إِن قبلْتَ نصيحَتِى ... وَلما نصحْتُ فعلته متودِّدا)
(وجنحْتُ مشتاقاً لطَيْبَةَ قَاصِدا ... غَوْثَ الورَى بَحْرَ الحقائقِ أحمدَا)
(بدْرُ الهدَى بالحقِّ أُرْسِلَ رَحْمَة ... للعالمينَ وبالملائكِ أُيِّدَا)
(أوَ لَيْسَ قومِي عالمينَ بأنني ... جاوَرْتُ خَيْرَ المرسلينَ محمَّدَا)
(وحَلَلْتُ ساحةَ جودِهِ متمسكاً ... بالعروةِ الوثقَى فَلَا أخْشَى الرَّدَى)
(حاشاكَ أَن أخشَى وأنْتَ وسيلتي ... وذَخِيرتى حَقًا وأنْتَ المقتدَى)
(فعلَيكَ خَيْرَ الخلقِ إِنِّي داخلٌ ... وببابِكَ الأعلَى أقمْتُ مقيَّدَا)
(فعسَى بجاهِكَ أَن يمنَّ بعفوها ... ربُّ كريمٌ بالنوالِ تفرَّدَا)
(ويجودَ بالغفرانِ مِنْهُ تفضلاً ... وأنالَ عِزَّا من مديحِكَ سَرْمَدَا)
(قد قَالَهَا من كَامِل فِي كاملٍ ... يحيا لكَىْ يحيى سعيداً مسعدَا)
(دنيا وأخرَى إِذْ لجا لجنابِكُمْ ... أيخيبُ مَنْ أمَّ الجنابَ المُفْرَدَا)
(حاشا وحاشا ثُمَّ حاشا أَن يُرَى ... متألما من جَاءكُمْ متعمِّدَا)
(وصلاةُ ربِّى دَائِما وسلامُهُ ... تغشَى ربوعَ الْمُصْطَفى والمرقدا)
(والآلَ والصحْبَ الكرامَ جميعَهُمْ ... والتابعينَ لَهُم ومَنْ قد وَحَّدَا)
(مَا لاحَ نجمٌ فِي السماءِ وَمَا أضا ... نجمٌ وَمَا أشجَى هزارٌ غَرَّدَا)
وَقَوله مضمناً // (من الْبَسِيط) //
(ظلمتُ نَفْسِى وَلم أعمَلْ بموجبها ... وَمَا علمْتُ بأنَّ الغىَّ يُتْلفنِى)
(يأتِى على المرءِ فِي أيامِ محنتِهِ ... حتَّى يرى حسنا مَا ليْسَ بالحسَنِ)
كَانَ وَالِده المرحوم على باشا والياً على الأحساء والأمير يحيى هَذَا على القطيف بأَمْره فَأرْسل وَالِده الْمَذْكُور أكبر أَوْلَاده مُحَمَّدًا بهدية إِلَى سُلْطَان الرّوم على جاري الْعَادة فزور كتابا من وَالِده مضمونه أَنه قد كبر فِي السن وَالْتمس من السُّلْطَان أَن يُقيم وَلَده مُحَمَّدًا فِي الْولَايَة على الأحساء مَكَانَهُ بمرسوم سلطاني(4/553)
فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَلما وصل مُحَمَّد إِلَى الأحساء أرشى أكَابِر العساكر وأعلمهم بِالْأَمر وتلقاه وَالِده وَإِخْوَته فَلَمَّا اجْتَمعُوا أخرج المرسوم السلطاني وَتَوَلَّى بِمُوجبِه وَأَرَادَ حبس وَالِده وَإِخْوَته فطلبوا مِنْهُ أَن يجهزهم إِلَى الْحَرَمَيْنِ ويعين لَهُم مصرفاً فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة وجاوروا بهَا وَتُوفِّي والدهم على باشا بهَا سنة سِتّ وَخمسين ثمَّ فِي موسم خمس وَسبعين توفّي ابْنه أَبُو بكر باشا ابْن على باشا بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة فَحمل فِي محفة إِلَى مَكَّة فَدفن بهَا فِي المعلاة وَكَانَ ذَا شهامة وصرامة سلالة بَيت عز وكرامة ذَا كرم يفوق الْبَحْر بِالْمدِّ وبأس يقصر عَنهُ حد السنان وَالْحَد إِلَى أدب بذ فِيهِ فحول الأدباء وفَاق وممادح قيلت فِيهِ فنفق سوقها لَدَيْهِ أحسن نفاق إِلَى لطف أَخْلَاق تُعير النسيم لطافة وتوصل قاصده وتؤمنه مأموله ومخافه إِلَى قريحة وقادة وذكاء ملك بِهِ زِمَام الْأَدَب وقاده لَهُ الشّعْر الرصين الْمَبْنِيّ البطين الْمَعْنى مِنْهُ مَا كتب بِهِ إِلَى مَوْلَانَا وَشَيخنَا الْعَلامَة أبي مهْدي عِيسَى بن مُحَمَّد الثعالبي الْجَعْفَرِي وَنَصه // (من الْكَامِل) //
(يَا مَنْ سما فوْقَ السِّمَاكِ مقامُهُ ... ولقدْ يَرَاكَ الكلُّ أنْتَ إمامُهُ)
(حزتَ الفضائلَ والكَمَالَ بأسْرِها ... وعلوْتَ قدرا فيكَ تَمَّ نظامُهُ)
(لَو قيلَ مَنْ حازَ العلومَ جميعَهَا ... لأَقُولُ أنْتَ المِسْكُ فيكَ ختامُهُ)
(كم صنْتَ من بِكْرِ العلومِ خرائداً ... عَن غيرِ كُفْءٍ لم يجب إكرامُهُ)
(فاعلَمْ بإني غَيْر كُفْءٍ لَائِق ... إنْ لم يكنْ ذَا الفضْلُ مِنْك تمامُهُ)
ثمَّ أتبعه بنثر صورته لما أَضَاء نور الْمحبَّة فِي قنديل الْقُلُوب صفت مرْآة الْحَقِيقَة فَظهر الْمَطْلُوب فاتضحت الرسوم الطامسة وَبَانَتْ الطّرق الدارسة فاكتحلت عين القريحة فسالت فِي أنهر النُّطْق فأثمرت بالمسطور وَهُوَ الْمَقْدُور وَأما الْمقَام فَهُوَ أنهى من ذَلِك وَأجل وَلَيْسَ يدْرك ذَلِك إِلَّا من وصل وَأما العَبْد فَهُوَ مقرّ أَنه قد قصرت بِهِ الركائب عَن بُلُوغ ذَلِك وعاقته عقبات الْأَسْبَاب عَن سلوك هَذِه المسالك لَكِن حَيْثُ أَن ثِيَاب السّتْر من فَضلكُمْ على أَمْثَاله مسبولة يُمكن أَن(4/554)
يدْخل فِي ضمن الْأَمْثَال مَطْلُوبه وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ مَوْلَانَا الشمار إِلَيْهِ بقوله // (من الْكَامِل) //
(لله درُّكَ يَا فريدَ محامِدٍ ... أربَى على البدرِ التمامِ تمامُهُ)
(قد صغْتَ من سرِّ البراعةِ مُفردا ... فاقَ الفرائدَ نثرُهُ ونظامُهُ)
(وكسوتَهُ مِنْ جزلِ لفظِكَ سابغاً ... وَشِيَتْ بكلِّ لطيفةٍ أكمامُهُ)
(أعربْتَ فِيهِ عنِ اعتقادٍ خالصٍ ... ومكينِ ودِّ أحكمَتْ أحكامُهُ)
(وجلوتَهُ يختالُ تيهاً آمنا ... مِنْ أنْ يشابه فِي الوجودِ قوامُهُ)
(وحبوْتَ ذَا شكْرٍ ببيتِ قصيدةٍ ... وبفضِّ خَاتمه الْعلي اسرامه)
(أَهلا بِهِ فَردا أَتَى من مفردٍ ... وحبا بِهِ ضيفاً يجلُّ مقامُهُ)
(حتما علىَّ ولازماً تبجيلُهُ ... فَوْرًا وحقَّا وَاجِبا إكرامُهُ)
(لكنْ علِى قدري فلَسْتُ بكُفْءِ مَنْ ... وطئَتْ على هامِ الْعلَا أقدامُهُ)
(وإليكَهَا عذرا عَلَى مَهَلٍ أتتْ ... خجلاً لمحتدِكَ العزيزِ مَرَامُهُ)
(فاصفَحْ بفضلكَ عَن صحيفةِ وُدِّها ... فالفضْلُ مؤتمٌّ وأنتَ إمامُهُ)
(واسحَبْ رداءَ المجدِ غيرَ مدافَعٍ ... فلأنْتَ عنصرُهُ وأنتَ خِتامُهُ)
وَله ديوَان شعر مجلدان حاوٍ مَا يفوق الدّرّ والجمان رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وفيهَا أَعنِي سنة خمس وَتِسْعين اشْتَدَّ الْبلَاء بالسرق لَيْلًا وَنَهَارًا سرّاً بل وجهاراً وَكسرت الْبيُوت والدكاكين وَترك النَّاس صَلَاة الْعشَاء فِي الْمَسْجِد وَالْفَجْر خوف الْقَتْل أَو الطعْن أَو الْكسر وَصَارَت العبيد لَا يأْتونَ إِلَّا ثَمَانِيَة وَعشرَة وَلَا يُبَالِي أحد مِنْهُم بِمن ننصره يدْخلُونَ بَيت الرجل يقفون على رَأسه بِالسِّلَاحِ وَرُبمَا نكح بَعضهم زَوجته وعينه تنظر كَأَنَّهَا حَلَاله الْمُبَاح وانقلب ليل النَّاس نَهَارا لأَنهم إِنَّمَا يبيتُونَ سهارى بل من الْخَوْف سكارى وَكَثُرت الْقَتْلَى فِي الرّعية بأيدي العبيد وَعدم المشتكي النَّاصِر وَفعل كل شقي مَا يُرِيد وَلَا يُجَاب الصائح حِين يَصِيح وَإِن اتّفق أَنه صَاح فَلَا يُوجد فِي مرقده إِلَّا وَهُوَ ذبيح حَتَّى ضُبطت الْقَتْلَى بِمَكَّة فِي شهر رَمَضَان فَكَانَت تِسْعَة أشخاص فضجت(4/555)