الشّرف الثاقب وَالْكَرم الْغَالِب ثمَّ تزْعم أَنِّي سلمت الْأَمر فَكيف يكون وَيحك كَذَلِك وَأَنا ابْن أَشْجَع الْعَرَب وَقد ولدتني فَاطِمَة سيدة نسَاء الْعَالمين لم أفعل وَيحك ذَلِك جببنا وَلَا ضعفا وَلكنه بايعني مثلك وَهُوَ يطلبني بترة ويداجيني الْمَوَدَّة فَلم أَثِق بنصرته لأنكم أهل بَيت غدر وَكَيف لَا يكون كَمَا أَقُول وَقد بَايع أَبوك أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ نكث بيعَته ونكص على عقيبة واختدع حشية من حشايا رَسُول الله
ليضل بهَا النَّاس فَلَمَّا خلف إِلَى الأعنة قتل بمضيعة لَا نَاصِر لَهُ وأتى بك أيسرا وَقد وَطئتك الكماة بأظلافها وَالْخَيْل بسنابكها واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك وأقيعت على عقبيك كَالْكَلْبِ إِذا احتوشته الليوث فَنحْن وَيحك نور الْبِلَاد وملاكها وبنا يفتخر الْأَئِمَّة وإلينا تلقى مقاليد الأزمة أتصول وَأَنت بمختدع الشَّاء ثمَّ أَنْت تفتخر على بني الْأَنْبِيَاء لم تزل الْأَقَاوِيل منا مَقْبُولَة وَعَلَيْك وعَلى أَبِيك مَرْدُودَة دخل النَّاس فِي دين جدي طائعين وكارهين ثمَّ بَايعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَسَارُوا إِلَى أَبِيك وَطَلْحَة حِين نَكثا الْبيعَة وخدعا عرس رَسُول الله
فَقتل أَبوك وَطَلْحَة وأتى بك أسيرَاً فبصبصت بذنبك وَنَاشَدْته الرَّحِم أَلا يقتلك فَعَفَا عَنْك فَأَنت عتاقة أبي وَأَنا سيدك وَسيد أَبِيك فذق وبال أَمرك فَقَالَ ابْن الزبير اعذرنا يَا أَبَا مُحَمَّد فَإِنَّمَا حَملَنِي على محاورتك هَذَا وَأحب الإغراء بَيْننَا فَهَلا إِذْ جهلتُ أَمْسَكت عني فَإِنَّكُم أهل بيتَ سجيتكم الْحلم وَالْعَفو فَقَالَ الْحسن يَا مُعَاوِيَة انْظُر هَل أكيع عِنْد محاورة أحد وَيحك أَتَدْرِي من أَي شَجَرَة أَنا وَإِلَى من أَنْتَهِي انته قبل أَن أسمك بميسم تَتَحَدَّث بِهِ الركْبَان فِي الْآفَاق والبلدان فَقَالَ ابْن الزبير هُوَ لذَلِك أهل فَقَالَ مُعَاوِيَة فَلَا أَرَاك تفتخر على أحد بعْدهَا وَاسْتَأْذَنَ الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا على مُعَاوِيَة فَأذن لَهُ وَعِنْده عبد الله بن جَعْفَر وَعَمْرو بن الْعَاصِ فَلَمَّا أقبل قَالَ عَمْرو قد جَاءَكُم الأقدُّ العييُ(3/95)
الَّذِي كَأَن بَين لحييْهِ عبلة فَقَالَ عبد الله بن جَعْفَر مَه فوَاللَّه لقد رمت صَخْرَة ململمة تنحط عَنْهَا السُّيُول وتقصر دونهَا الوعول وَلَا تبلغها السِّهَام فإياك وَالْحسن إياك فَإنَّك لَا تزَال راتعاً فِي لحم رجل من قُرَيْش وَلَقَد رميت فَمَا برح سهمك وقدحت فَمَا أورى زندك فَسمع الْحسن الْكَلَام فَلَمَّا أَخذ النَّاس مجَالِسهمْ قَالَ الْحسن يَا مُعَاوِيَة لَا يزَال عنْدك عبدا راتعاً فِي لُحُوم النَّاس أما وَالله لَئِن شِئْت لَيَكُونن بَيْننَا مَا تتفاقم فِيهِ الْأُمُور وتحرج مِنْهُ الصُّدُور ثمَّ أنشأ يَقُول من // (الوافر) //
(أتأْمُرُ يَا معاويَ عَبْدَ سهمٍ ... بشتْمِي والملا مِنَّا شهودُ)
(إِذا أخذَتْ مجالسَهَا قريشٌ ... فقدْ عامَتْ قريشٌ مَا تريدُ)
(قَصَرتْ إليَّ تَشْتِمني سفاهاً ... لضغْنٍ مَا يزولُ وَمَا يبيدُ)
(فَمَا لَكَ مِنْ أبٍ كَأبي تسامي ... بِهِ مَنْ قد تسامي أَو تكيدُ)
(وَلَا جَدُّ كجدِّي يَابْنَ هندٍ ... رسولُ الله إِن ذكِر الجدودُ)
(وَلَا أمِّ كأمي مِنْ قريشٍ ... إِذا مَا حُصِّلَ الحسبُ التليدُ)
(فَمَا مِثْلِي تهكّم يابنَ هنْدٍ ... وَلَا مثلي تُجَارِيهِ العبيدُ)
(فمهلا لَا تَهِجْ مني أمورَاً ... يشيبُ لَهَا مُعَاوِيَة الوليدُ)
وَذكروا أَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ لمعاوية ذَات يَوْم ابْعَثْ إِلَى الْحسن بن عَليّ فمره أَن يخْطب فَلَعَلَّهُ أَن يحصر فَيكون ذَلِك مِمَّا يعير بِهِ فَبعث إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فأصعده الْمِنْبَر وَقد جمع لَهُ النَّاس فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس من عرفني فَأَنا الَّذِي يعرف وَمن لم يعرفنني فَأَنا الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب ابْن عَم النَّبِي
أَنا ابْن البشير النذير السراج الْمُنِير أَنا ابْن من بعث رَحْمَة للْعَالمين وسخطاً على الْكَافرين أَنا ابْن من بعث إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس أَنا ابْن المستجاب الدعْوَة أَنا ابْن الشَّفِيع المطاع أَنا ابْن أول من ينفض رَأسه من التُّرَاب أَنا ابْن أول من يقرع بَاب الْجنَّة أَنا ابْن من قَاتَلت مَعَ الْمَلَائِكَة نصر بِالرُّعْبِ من مسيرَة شهر فافتن فِي هَذَا الْكَلَام وَلم يزل حَتَّى أظلمت الدُّنْيَا غلى مُعَاوِيَة فَقَالَ يَا حسن قد(3/96)
كنت ترجو أَن تكون خَليفَة وَلست هُنَاكَ فَقَالَ الْحسن إِنَّمَا الْخَلِيفَة من سَار بسيرة نَبِي الله
وَعمل بِطَاعَة الله تَعَالَى وَلَيْسَ الْخَلِيفَة من دَان بالجور وعطل السّنَن وَاتخذ الدُّنْيَا أَبَا وَأما وَلَكِن ذَاك ملك أصَاب ملكا تمتّع بِهِ قَلِيلا وَكَانَ قد انْقَطع عَنهُ فتعجل لذته وَبقيت عَلَيْهِ تَبعته فَكَانَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم ومتاع إِلَى حِين} الْأَنْبِيَاء 111 ثمَّ انْصَرف فَقَالَ مُعَاوِيَة لعَمْرو وَالله مَا أردْت إِلَّا هتكي مَا كَانَ أهل الشَّام يرَوْنَ أَن أحدا مثيلي حَتَّى سمعُوا من الْحسن مَا سمعُوا وَقدم عَلَيْهِ مرّة أُخْرَى فَوجدَ عِنْده عَمْرو بن الْعَاصِ ومروان بن الحكم والمغيرة بن شُعْبَة وصناديد قومه ووجوه أهل الْيمن وَأهل الشَّام فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة وثب وَأَقْعَدَهُ على سَرِيره وَأَقْبل عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ يُرِيد السرُور بمقدمه فَلَمَّا نظر مَرْوَان إِلَى ذَلِك حسده وَكَانَ مُعَاوِيَة قد قَالَ لَهُم لَا تحاوروا هذَيْن الرجلَيْن يَعْنِي الْحسن وَابْن عَبَّاس فَلَقَد قلداكم الْعَار وفضحاكم عِنْد أهل الشَّام فَقَالَ مَرْوَان يَا حسن لَوْلَا صلَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا قد بني لَهُ آباؤه الْكِرَام من الْمحل والْعَلَاء مَا أقعدك هَذَا المقعد ولقتلك وَأَنت لَهُ مستوجب بقودك الجماهير فَلَمَّا أحسست بِنَا وَعلمت أَن لَا طَاقَة لَك بفرسان أهل الشَّام وصناديد بني أُميَّة أذعنت بِالطَّاعَةِ واحتجزت بالبيعة وَبعثت تطلب الْأمان أما وَالله لَوْلَا ذَاك لأريق دمك وَعلمت أَنا نعطي السيوف حَقّهَا عِنْد الوغى فاحمد الله تَعَالَى إِذا ابتلاك بِمُعَاوِيَة فَعَفَا عَنْك ثمَّ صنع بك مَا ترى فَنظر إِلَيْهِ الْحسن فَقَالَ وَيحك يَا مَرْوَان لقد تقلدت مقاليد الْعَار فِي الحروب عِنْد مشاهدتها والمحاولة عِنْد مخالطتها نَحن هبلتك الهوابل لنا الْحجَج البوالغ وَلنَا إِن شكرتم عَلَيْكُم النعم السوابغ ندعوكم إِلَى النجَاة وتدعوننا إِلَى النَّار فشتان مَا بَين المنزلتين تَفْخَر ببني أُميَّة وتزعم أَنهم صُبر فِي الحروب أَسد عِنْد اللِّقَاء ثكلتك أمك أُولَئِكَ البهاليل السَّادة والحماة القادة بَنو عبد الْمطلب أما وَالله لقد رَأَيْتهمْ وَجَمِيع من فِي هَذَا الْبَيْت مَا هالتهم الْأَهْوَال وَلم يحيدوا عَن(3/97)
الْأَبْطَال كالليوث الضارية الباسلة الْخفية فَعندهَا وليت هَارِبا وَأخذت أَسِيرًا فقلدت قَوْمك الْعَار لِأَنَّك فِي الحروب خوار أيراق دمي زعمت أَفلا أرقت دم من وثب على عُثْمَان فِي الدَّار فذبحه كَمَا يذبح الْجمل وَأَنت تغثو ثُغَاء النعجة وتناديْ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور كالأمة اللكعاء أَلا دافعت عَنهُ بيد أَو ناضلت عَنهُ بِسَهْم لقد ارتعدت فرائضك وَغشيَ بَصرك فاستغثت بِي كَمَا يستغيث العَبْد بربه فأنجيتك من الْقَتْل ومنعتك مِنْهُ ثمَّ تحث مُعَاوِيَة على قَتْلِي وَلَو رام ذَلِك مَعَك لذبح كَمَا ذبح ابْن عَفَّان أَنْت مَعَه أقصر يدا وأضيق باعاً وأجبن قلباً أَن تجسرا على ذَلِك ثمَّ تزْعم أَنِّي ابْتليت بحلم مُعَاوِيَة أما وَالله لَهو أعْرَف بِشَأْنِهِ وأشكر لما وليناه هَذَا الْأَمر فَمَتَى بدا لَهُ فَلَا يغضى جفْنه القذى الَّذِي مَعَك فوَاللَّه مَعَك فوَاللَّه لألحقن بِأَهْل الشَّام بِجَيْش يضيق عَنهُ فضاؤها ويستأصل فرسانها ثمَّ لَا ينفعك عِنْد ذَلِك الْهَرَب والروغان وَلَا ترد عَنْك الطّلب يذرعك فِي الْكَلَام فَنحْن من لَا نجهل آباؤن القدماء الأكابر وفروعنا السَّادة الأخيار وانطق إِن كنت صَادِقا فَقَالَ عَمْرو ينْطق بالخنا وتنطق بِالصّدقِ ثمَّ أنشأ يَقُول من // (من الْبَسِيط) //)
قد يَضْطر "ُ العيرُ والمكواةُ تأخذُهُ ... ويضرطُ العيرُ والمكواةُ فِي النارِ)
ذُقْ وبال أَمرك يَا مَرْوَان وَأَقْبل عَلَيْهِ مُعَاوِيَة فَقَالَ قد نهيتك عَن هَذَا الرجل فَأَنت تأبى إِلَّا انهماكاً فِيمَا لَا يَعْنِيك أَربع على نَفسك فَلَيْسَ أَبوك كأبيه وَلَا أَنْت مثله أَنْت ابْن الطريد الشريد وَهُوَ ابْن رَسُول الله
الْكَرِيم فَقَالَ ارْمِ من دون قبضتك وقم بِحجَّة عشيريك ثمَّ قَالَ مَرْوَان لعَمْرو طعنك أَبوهُ فوقيت نَفسك بخصيتك فَلذَلِك تحذره وَقَامَ مغضباً فَقَالَ مُعَاوِيَة لَا تحاور البحور فتغمرك وَلَا الْجبَال فتبهرك واسترح من الِاعْتِذَار وَلَقي عَمْرو بن الْعَاصِ الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الطّواف فَقَالَ لَهُ يَا حسن أزعمت أَن الدبن لَا يقوم إِلَّا بك وبأبيك فقد رَأَيْت الله عز وَجل(3/98)
أَقَامَهُ بِمُعَاوِيَة فَجعله رأسَاً بعد ميله وَبَينا بعد خفائه أفرضي الله قتل عُثْمَان أم من الْحق أَن تَدور بِالْبَيْتِ كَمَا يَدُور الْحمار بالطحين عَلَيْك ثِيَاب كغرفئ الْبيض وَأَنت قَاتل عُثْمَان وَالله إِن لألم للشعت وأسهل للوعث أَن يوردك مُعَاوِيَة حِيَاض أَبِيك فَقَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ إِن لأهل النَّار عَلَامَات يعْرفُونَ بهَا وَهِي الْإِلْحَاد لأولياء الله تَعَالَى والمولاة لأعداء الله تَعَالَى الله إِنَّك لتعلم أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يرتب فِي الْأَمر وَلم يشك فِي الله طرفَة عين وَايْم الله لتنتهين يَا بن أم عَمْرو أَو لأقرعن جبينك بِكَلَام تبقى سمته عَلَيْك مَا حييت فإياك والإنزال عَليّ فَإِنِّي مَنْ قد عرفت لست بضعيف الغمرة وَلَا بهش المشاشة وَلَا بمرئ المأكلة وَإِنِّي من قُرَيْش فِي وسط القلادة يُعرف حسبي وَلَا أَدعِي لغير أبي وَقد تحكمت فِيك قُرَيْش فغلب عَلَيْك ألأمهم نسبا وعظمهم لعنة فإياك عني فَإنَّك رِجْس وَإِنَّمَا نَحن هَل بَيت الطَّهَارَة أذهب الله عَنَّا الرجس وَطَهِّرْنَا تَطْهِيرا وَقيل وَاجْتمعَ مرّة أُخْرَى بالْحسنِ فَقَالَ الْحسن قد علمت قُرَيْش بأسرها أَنِّي مِنْهَا فِي عز أرومتها لم أطلع على ضعف وَلم أعكس على خسف أعرف بشبهي وأدع لأبي فَقَالَ عَمْرو قد علمت قُرَيْش أَنَّك من أقلهَا عقلاَ وأكثرها جهلاَ وَإِن فِيك خِصَالًا لَو لم يكن مِنْهَا إِلَّا وَاحِدَة لشملك خزيها كَمَا شَمل الْبيَاض الحلك وَالله لتنبهين عَمَّا أَرَاك تصنع أَو لألبسن لَك حافة كَجلْد العائط أرميك من خللها بِأخذ من وَقع الأثافي أغرك مِنْهَا أديمك عَرك السلقة مَا لَك طالما ركبت صَعب المنحدر وَنزلت غي عراص الوعر التماساً للفرقة وارتصاداً للفتنة وَلنْ يزيدك الله تَعَالَى فِيهَا إِلَّا ضياعة فَقَالَ الْحسن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أما وَالله لَو كنت تسمو بحسبك وتعمل بِرَأْيِك مَا سلكت فج قصد وَلَا حللت رابية مجد وليم الله لَو أطعني مُعَاوِيَة فجعلك بِمَنْزِلَة الْعَدو الْكَاشِح فَإنَّك طالما طويت على هَذَا كشحك وأخفيته فِي(3/99)
صدرك وطمح بك الرجا إِلَى الْغَايَة القصوى الَّتِي لَا يورق فِيهَا غصنك وَلَا يخضر بهَا مرعاك أما وَالله ليوشكن يَا ابْن الْعَاصِ أَن تقع بَين لحيي ضرغام من قُرَيْش فري مُمْتَنع فروس ذِي لبد يضغطك ضغط الرَّحَى للحب لَا ينجيك مِنْهُ الروغان إِذا الْتفت حلقتا البطان انْتهى وَذكر هَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الْمُسَمّى المحسن والمساوئ وَكَانَ لرجل على أبي عَتيق مَال فتقاضاه فَقَالَ أَبُو عَتيق ائْتِنِي العشية فِي مجْلِس كَذَا فسلني عَن بَيت قُرَيْش فَأَتَاهُ الْغَرِيم فِي ذَلِك الْمجْلس وَفِيه وُجُوه قُرَيْش وَالْحسن بن عَليّ فَقَالَ الغلايم يَا أَبَا عَتيق إِنَّا تلاحينا فِي بَيت قُرَيْش ورضينا بك حكما فَقَالَ آل حَرْب فَقَالَ الْغَرِيم ثمَّ من فَقَالَ آل أبي الْعَاصِ فشق ذَلِك على الْحسن فَقَالَ الْغَرِيم فَأَيْنَ بَنو عبد الْمطلب فَقَالَ لم أكن أَظن أَن تَسْأَلنِي عَن غير بَيت الْآدَمِيّين فَأَما إِذْ صرت تَسْأَلنِي عَن بَيت الْمَلَائِكَة وَعَن رَسُول رب الْعَالمين وَسيد كل شَهِيد والطيار مَعَ الْمَلَائِكَة فَمن يسامي هَؤُلَاءِ فخراً إِلَّا وَهُوَ مُنْقَطع دونهم فانجلي عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ ثمَّ قَالَ لأبي عَتيق إِنِّي لأحسب أَن لَك حَاجَة قَالَ نعم يَا بن رَسُول الله لهَذَا عَليّ كَذَا وَكَذَا فاحتملها عَنهُ وَوَصله بِمِثْلِهَا وَذكروا أَن رجلَيْنِ أَحدهمَا من بني هَاشم وَالْآخر من بني أُميَّة قَالَ هَذَا قومِي أسمح وَقَالَ هَذَا قومِي أسمح قل فاسأل أَنْت عشرَة من قَوْمك وأسأل أَنا عشرَة من قومِي فَانْطَلق صَاحب بني أمبة فَسَأَلَ عشرَة فَأعْطَاهُ كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة آلَاف دِرْهَم وأتى صَاحب بني هَاشم إِلَى الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فَأمر لَهُ بِمِائَة وَخمسين ألف دِرْهَم ثمَّ أَتَى الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ هَل بدأت بِأحد قبلي قَالَ بدأت بأخيك الْحسن فَقَالَ مَا أَسْتَطِيع أَن أَزِيد على سَيِّدي فَأعْطَاهُ مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم فجَاء صَاحب بني أُميَّة يحمل مائَة ألف من عشرَة أنفس وَجَاء صَاحب بني هَاشم يحمل ثَلَاثمِائَة ألف من نفسين فَغَضب صَاحب بني أُميَّة فَردهَا عَلَيْهِم فقبلوها وَجَاء صَاحب بني هَاشم فَردهَا عَلَيْهِمَا فأبيا أَن يقبلاها وَقَالا مَا كُنَّا نبالي أَخَذتهَا أم ألقيتها فِي الطَّرِيق(3/100)
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الباقر جَاءَ رجل إِلَى الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فاستعان بِهِ فِي حَاجَة فَوَجَدَهُ معتكفاً فَاعْتَذر إِلَيْهِ فَذهب إِلَى أضيه الْحسن فاستعان بِهِ فَقضى حَاجته وَكن معتكفاً وَقَالَ لَقَضَاءُ حَاجَة أخٍ لي فِي الله عز وَجل أحب إليَ من اعْتِكَاف شهر وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ كثير التَّزْوِيج فَكَانَ لَا تُفَارِقهُ أَربع حرائر وَكَانَ مطلاقاً مُصدقا وَكَانَ أَبوهُ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه يَقُول يَا أهل الْكُوفَة لَا تزوجوه فَإِنَّهُ مطلاق فَيَقُولُونَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو خطب إِلَيْنَا كل يَوْم زوجناه منا ابْتِغَاء فِي صهر رَسُول الله
وَرَأى الْحسن فِي مَنَامه كَأَن مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ {قُل هُوَ اَللَهُ أَحَد} الْإِخْلَاص 1 فَبلغ ذَلِك سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِن كَانَ رأى هَذِه الرُّؤْيَا فَقل مَا بَقِي من أَجله فَلم يلبث الْحسن بن عَليّ بعد ذَلِك إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ وَقد أوصى أَخَاهُ الْحُسَيْن أَلا يطْلب الْخلَافَة ورغبه فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا والعزوف عَنْهَا إِلَى غير ذَلِك من وَصَايَا كَثِيرَة قَالَ فِي آخرهَا أَبى الله أَن يَجْعَل فِينَا أهل الْبَيْت مَعَ النُّبُوَّة الْخلَافَة وَالْملك وَالدُّنْيَا فإياك وسفهاء أهل الْكُوفَة أَن يستخفوك فيخرجوك فتندم حَيْثُ لَا ينفعك النَّدَم ثمَّ رفع طرفه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أحتسب نَفسِي عنْدك فَإِنِّي لم أصب بِمِثْلِهَا فَارْحَمْ صرعتي وآنس فِي الْقَبْر وَحْدَتي وَأَقل عثرتي يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ فِي المروج عَن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ دخل أبي الْحُسَيْن على عمي الْحسن حدثان مَا سقى السم فَقَامَ عمي الْحسن لقَضَاء الْحَاجة ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لقد سقيت السم عدَّة مَرَّات فَمَا سقيت مثل هَذِه وَلَقَد لفظت طَائِفَة من كَبِدِي فرأيتني أنكثه بِعُود فِي يَدي فَقَالَ لَهُ أبي يَا أخي من سقاك قَالَ لَهُ وَمَا تُرِيدُ من ذَلِك فَإِن كَانَ الَّذِي أَظن فَالله حسيبه وَإِن كَانَ غَيره فَمَا أحب أَن يُؤْخَذ بِي بريءٌ فَلم يلبث أَن توفّي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَذكر بِأَن امْرَأَته جعدة بنت الْأَشْعَث بن قيس الْكِنْدِيّ قد بعث إِلَيْهَا يزِيد إِن(3/101)
احتلت فِي قتل الْحسن وجهت إِلَيْك مائَة ألف دِرْهَم وتزوجتك فَكَانَ هَذَا الَّذِي بعثها على سَمِّه فَلَمَّا مَاتَ وفى لَهَا بِالْمَالِ وَأرْسل إِلَيْهَا إِنَّا لم نرضك لِلْحسنِ فَكيف نرضاك لأنفسنا وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك وَقَالَ الشَّاعِر النَّجَاشِيّ وَكَانَ من شيعَة عَليّ فِي شعر طَوِيل يرثيه بِهِ مِنْهُ قَوْله من // (السَّرِيع) //
(حَعْدَة ابكِيهِ وَلَا تَسْأَمي ... جعد بكاء الْمعول الثاكلِ)
(لم تسلبي السَّتْر على مثُلِهِ ... فِي الأرضِ مِنْ حافٍ وَمن ناعلِ)
وَقَالَ آخر من // (المتقارب) //
(تعَزّ فكَمْ لكَ من سالفٍ ... يفرخُ عَنْك عليلَ الحزَنْ)
(بموتِ النبيِّ وقتْلِ الوصيِّ ... وقَتْلِ الحُسَيْنِ وسمِّ الحَسَنْ)
وَكَانَت وَفَاته لخمس خلون من ربيع الأول سنة خمسين وَقيل اثْنَتَيْنِ وَخمسين من الْهِجْرَة وَدفن بِالبَقِيعِ فِي قبَّة عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَلما دفن وقف مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة أَخُوهُ على قَبره فَقَالَ لَئِن عزت حياتك فقد هزت وفاتك ولنعم الرّوح روح تضمنها كفنك ولنعم الْكَفَن كفن تضمنه بدنك وَكَيف لَا يكون هَذَا وَأَنت عضيد الْهدى وعتيد التوى وَخلف أهل التقى وخامس أهل لكسا غذتك بالتقوى أكف الْحق وأرضعتك ثدي الْإِيمَان وربيت فِي حجر الْإِسْلَام فطب حَيا وَمَيتًا وَإِن كَانَت أَنْفُسنَا غير سخية بِفِرَاقِك رَحِمك الله أَبَا مُحَمَّد ثمَّ تمثل بقول الْقَائِل من // (الطَّوِيل) //
(أأدهُنُ رَأْسِي أم تطيبُ مجالسي ... وخدّكَ معفورٌ وأنتَ سليبُ)
(سأبكيكَ مَا ناحَ الحمامُ بأيكةٍ ... وَمَا اخضَرَّ فِي أرضِ الحجازِ قضيبُ)
(غريبٌ وأكنافُ الحجازِ تحوطُهُ ... ِألا كُلُّ مَا تحتَ الترابِ غريبُ)(3/102)
كَانَ رَضِي الله عَنهُ قد أوصى إِلَى أَخِيه الْحُسَيْن أَن يدفنه مَعَ جده رَسُول الله
إِن وجد إِلَى ذَلِك سبيلاَ فَإِن منعت فادفني بِالبَقِيعِ فَلَمَّا مَاتَ لبس الْحُسَيْن ومواليه السِّلَاح وَخَرجُوا بِهِ ليدفنوه فَخرج مَرْوَان بن الحكم فِي موَالِي بني أُميَّة وَهُوَ يَوْمئِذٍ عَامل الْمَدِينَة لمعاوية ليمنعه فَخرج أَبُو هُرَيْرَة فَرده الْحُسَيْن وَأقسم عَلَيْهِ فَذهب بالْحسنِ فَدفن بِالبَقِيعِ فِي قبر قبَّة الْعَبَّاس وَدفن فِي هَذَا الْقَبْر أَيْضا عَليّ زين العابدين وَابْنه مُحَمَّد الباقر وَابْنه جَعْفَر الصَّادِق فهم أَرْبَعَة فِي قبر وَاحِد أكْرم بِهِ قبرَاً وَفِي ذكرى أَنه دفن فِيهِ أيضَاً رَأس الْحُسَيْن أَتَى بِهِ من دمشق فَدفن وَالله أعلم وَمَشى مَرْوَان فِي جَنَازَة الْحسن وَبكى فَقيل لَهُ أَتَبْكِي عَلَيْهِ وَقد كنت تفعل بِهِ مَا تفعل فَقَالَ كنت أفعل ذَلِك مَعَ من هُوَ أعظم من هَذَا وَأَشَارَ إِلَى جبل أحد
(صفته رَضِي الله عَنهُ)
كَانَ أَبيض اللَّوْن مشرباً بالحمرة أدعج الْعَينَيْنِ سهل الْخَدين دَقِيق المسربة ذَا وقرة كَأَن عُنُقه إبريق فضَّة عَظِيم الكراديس بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ ربعَة من أحسن النَّاس وَجها كَانَ أشبه النَّاس برَسُول الله
من تَحت الصَّدْر إِلَى الرَّأْس عمره سبع وَأَرْبَعُونَ سنة وَقيل ثَمَان وَأَرْبَعُونَ كَانَ مِنْهَا مَعَ جده رَسُول الله
سبع سِنِين وَمَعَ أَبِيه عَليّ بعد وَفَاة رَسُول الله
ثَلَاثِينَ سنة وعاش بعد وَفَاة أَبِيه عَليّ كرم الله وَجهه إِلَى حِين وَفَاته رَضِي الله عَنهُ عشر سِنِين مُدَّة خِلَافَته مِنْهَا سِتَّة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام أَوْلَاده تِسْعَة عشر ولدَاً تِسْعَة ذُكُور الْحسن وَزيد وحسين الْأَثْرَم وَعبد الله وَأَبُو بكر وَعبد الرَّحْمَن وَالقَاسِم وَطَلْحَة وَعمر قَالَه البلاذري وَذكر الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي ذخائر العقبى نقلا عَن الدولابي أَنهم خَمْسَة الْحسن وَزيد وَعبيد الله وَعمر وَإِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر بن الدارع أَنهم أحد عشر ذكرَاً وَبنت عبد الله الْقَاسِم وَالْحسن وَزيد وَعمر وَعبيد الله وَعبد الرَّحْمَن وَأحمد وَإِسْمَاعِيل وَالْحُسَيْن وَعقيل وَالْأُنْثَى أم الْحسن وعَلى كل الرِّوَايَات الْعقب مِنْهُ فِي رجلَيْنِ(3/103)
فَقَط هما زيد وَالْحسن الْمثنى وَكَانَ قد أعقب أَيْضا من الْحُسَيْن الْأَثْرَم وَعمر لَكِن انقرض عقبهما فَلم يبْق لِلْحسنِ السبط إِلَّا من هذَيْن الشخصين الْحسن الْمثنى وَزيد ابْني الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكرم وَجهه(3/104)
(لمقصد الرَّابِع وَفِيه سَبْعَة أَبْوَاب الْبَاب الأول فِي الدولة الأموية)
لَا يخفى أَنه كَانَ لنَبِيّ عبد منَاف فِي قُرَيْش مَحل من الْعدَد والشرف لَا يناهضهم فِيهِ أحد من بطُون قُرَيْش وَكَانَ فخذاهم بَنو أُميَّة وَبَنُو هَاشم حَيا جَمِيعًا يباهون بِعَبْد منَاف وينتمون إِلَيْهِ وَجَمِيع قُرَيْش تعرف ذَلِك وتسلم لَهما الرياسة عَلَيْهِمَا إِلَّا أَن بني أُميَّة كَانُوا أَكثر عددَاً من بني هَاشم وأوفر رجَالًا والعزة إِنَّمَا هِيَ بِالْكَثْرَةِ قَالَ الشَّاعِر من // (السَّرِيع) //
(وَلَسْتَ بِالأًكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ)
وَكَانَ لَهُم قبل الْإِسْلَام شرف مَعْرُوف انْتهى إِلَى حَرْب بن أُميَّة وَكَانَ رئيسهم يَوْم حَرْب الْفجار الأول وَالثَّانِي وَقد تقدم ذكره فِي سيرته
وَقد روى أَن قُريْشًا تواقعوا ذَات يَوْم وَحرب مُسْند ظَهره إِلَى الْكَعْبَة فتبادر إِلَيْهِ غلمة مِنْهُم ينادون يَا عَم أدْرك قَوْمك فَقَامَ يجر إزَاره حَتَّى أشرف عَلَيْهِم من بعض الروابي ولوح بِطرف ثَوْبه إِلَيْهِم أَن تَعَالَوْا فتبادرت الطائفتان إِلَيْهِ بعد أَن كَانَ حَمِيَ وطيسهم وَكَانَ إِذا مر مَعَ أَشْرَاف قُرَيْش فوصلوا إِلَى ثنية أَو حلق ربع لم يتقدمه أحد(3/105)
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام ودهش النَّاس لما وَقع من أَمر النُّبُوَّة وَالْوَحي وتنزل الْمَلَائِكَة وَمَا وَقع من خوارق الْأُمُور نسي النَّاس أَمر العصبية مسلمهم وكافِرهم أما الْمُسلمُونَ فنهاهم الْإِسْلَام عَن أُمُور الْجَاهِلِيَّة كَمَا فِي الحَدِيث الشريف
إِن الله أذهب عَنْكُم حمية الْجَاهِلِيَّة وَفَخْرهَا لأَنا وَأَنْتُم بَنو آدم مآدم من تُرَاب وَأما الْمُشْركُونَ فشغلهم ذَلِك الْأَمر الْعَظِيم عَم أَمر العصائب وذهلوا عَنهُ حينا من الدَّهْر وَلذَلِك افترق أَمر بني أُميَّة وَبني هَاشم بِالْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك الِافْتِرَاق بحصار بني هَاشم فِي الشّعب لَا غير وَلم يَقع كَبِير فتْنَة لأجل نِسْيَان العصبيات والذهول عَنْهَا بِالْإِسْلَامِ حَتَّى كَانَت الْهِجْرَة وَشرع الْجِهَاد وَلم تبْق إِلَّا العصبية الطبيعية الَّتِي لَا تفارق وَهِي نفرة الرجل على أَخِيه وجاره فِي الْقَتْل والعدوان عَلَيْهِ فَهَذِهِ لَا يذهبها شَيْء وَلَا هِيَ محظورة بل هِيَ مَطْلُوبَة ونافعة فِي الْجِهَاد وَالدُّعَاء إِلَى الدّين كَذَا فِي تَارِيخ ابْن خلدون قلت قَوْله وَلم تبْق إِلَّا العصبية الطبيعية إِلَى آخِره صَحِيح لَا شكّ فِيهِ مصداقه قَول صَفْوَان بن أُميَّة عِنْدَمَا انْكَشَفَ الْمُسلمُونَ يَوْم حنين إِذْ قَالَ وَهُوَ إِذْ ذَاك مُشْرك فِي الْمدَّة الَّتِي جعلهَا رَسُول الله
لَهُ مهلة ليسلم بعْدهَا حِين استمهله تِلْكَ فِي الْإِسْلَام وَفِي حفطي أَنه طلب مُدَّة شهر فَأعْطَاهُ رَسُول الله
مهلة شَهْرَيْن فَخرج مَعَه
إِلَى حنين لِأَخِيهِ لما سَمعه يَقُول أَلا بَطل السحر لَا يرد اربها إِلَّا الْبَحْر بِفِيكَ الكثكث لِأَن يربنِي رجل من قُرَيْش خير لي من أَن يربنِي رجل من هوزان رئيسهم مَالك بن عَوْف فَلَا باعث لَهُ على قَوْله ذَاك إِلَّا العصبية الطبيعية لِقَوْمِهِ قُرَيْش على هوزان ثمَّ إِن شرف بني عبد منَاف لم يزل فِي بني أُميَّة وَبني هَاشم فَلَمَّا هلك أَبُو طَالب وَهَاجَر بنوه مَعَ رَسُول الله
وَحَمْزَة كَذَلِك ثمَّ بعده الْعَبَّاس وَالْكثير من بني عبد الْمطلب وَسَائِر بني هَاشم خلا الجو حِينَئِذٍ من مَكَان بني هَاشم بِمَكَّة(3/106)
واستغلظت رياسة بني أُميَّة فِي قُرَيْش ثمَّ استحلمت مشيخة قُرَيْش من سَائِر الْبُطُون يَوْم بدر وَهلك فِيهَا عُظَمَاء من بني عبد شمس عتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة وَعتبَة بن أبي معيط وَغَيرهم فاستقل أَبُو سُفْيَان بن حَرْب بشرف بني أُميَّة والتقدم فِي قُرَيْش وَكَانَ رئيسهم يَوْم أحد وَقَائِدهمْ يَوْم الْأَحْزَاب وَهِي وقْعَة الخَنْدَق وَلما كَانَ الْفَتْح قَالَ الْعَبَّاس وَكَانَ صديقا لأبي سُفْيَان للنَّبِي
يَا رَسُول الله إِن أَبَا سُفْيَان رجل يحب الْفَخر فَاجْعَلْ لَهُ ذكرا غَدا وَكَانَ ذَلِك لَيْلَة دُخُول مَكَّة فَقَالَ النَّبِي
من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ثمَّ مَن على قُرَيْش بعد أَن ملكهم يَوْمئِذٍ وَقَالَ اذْهَبُوا فَأنْتم الطُلَقَاءُ ثمَّ أسلمت مشيخة قُرَيْش بعد ذَلِك وَشَكتْ مشيخة قُرَيْش إِلَى أبي بكر مَا وجدوا فِي أنفسهم من التَّخَلُّف عَن رُتْبَة الْمُهَاجِرين لأولين وَمَا بَلغهُمْ من كَلَام عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي تَركه شوراهم فَاعْتَذر إِلَيْهِم أَبُو بكر وَقَالَ أدركوا إخْوَانكُمْ بِالْجِهَادِ وأنفذهم لِحَرْب أهل الرِّدَّة فَأحْسنُوا الْغناء فِي الْإِسْلَام وقَوَّموا الْأَعْرَاب عَن الجنف والميل ثمَّ لما ولي عمر رمى بهم الرومَ وَفَارِس وأوعبت قُرَيْش فِي النفير إِلَى الشَّام وَكَانَ معظمهم هُنَالك وَاسْتعْمل يزِيد بن أبي سُفْيَان على الشَّام وَطَالَ أمد ولَايَته إِلَى أَن هلك فِي طاعون عمواس سنة ثَمَان عشرَة فولي عمر مَكَانَهُ أَخَاهُ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فأقره عُثْمَان بعد عمر فاتصلت رياستهم على قُرَيْش فِي الْإِسْلَام برياستهم قبيل الْفَتْح الَّتِي لم تحل صبغتها وَلَا نسي عهدها أَيَّام شغل بني هَاشم بِأَمْر النُّبُوَّة وتبدد الدُّنْيَا من أَيْديهم بِمَا اعتاضوا عَنْهَا من مُبَاشرَة الْوَحْي وَشرف الْقرب من الله تَعَالَى بِرَسُولِهِ وَمَا زَالَ النَّاس يعْرفُونَ ذَلِك لبني أُميَّة وَانْظُر مقَالَة حَنْظَلَة بن زِيَاد الْكَاتِب لمُحَمد(3/107)
ابْن أبي بكر إِن هَذَا الْأَمر إِن صَار إِلَى التغالب غلبك بَنو عبد منَاف وَلما هلك عُثْمَان وَاخْتلف النَّاس على عَليّ كَانَت عَسَاكِر عَليّ أَكثر عددَاً لمَكَان الْخلَافَة وَالْفضل إِلَّا أَنَّهَا من سَائِر القَبائل من ربيعَة ويمن وهمدان وخزاعة وَغَيرهم وحموع مُعَاوِيَة إِنَّمَا هِيَ جند الشَّام من قُرَيْش شَوْكَة مُضر وبأسهم نزلُوا بثغور الشَّام مُنْذُ الْفَتْح وَكَانَت عصبته أَشد وأمضَى شَوْكَة ثمَّ كسر من جَنَاحِ عَليّ كرم الله وَجهه مَا كَانَ من أَمر الْخَوَارِج وشغل بهم إِلَى أَن هلك وَاجْتمعَ النَّاس على الْحسن من بعده فحقن الدِّمَاء وَسكن النائرة وَدفع الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة وخلع نَفسه واتفقت الْجَمَاعَة على بيعَة مُعَاوِيَة(3/108)
(خلَافَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان)
قَالَ العلاَّمة ابْن خلدون الْحَضْرَمِيّ فِي تَارِيخه الْمُسَمّى بالعِبَر وديوان الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي أَخْبَار الْعَرَب والعجم والبربر كَانَ اتِّفَاق الْجَمَاعَة منتصف سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسمى ذَلِك الْعَام عَام الْجَمَاعَة عِنْدَمَا نسيث النَّاس النُّبُوَّة والخوارق وَرَجَعُوا إِلَى أَمر العصبية والتغالب وَتعين بَنو أُميَّة للغلب على مُضر وَسَائِر الْعَرَب وَمُعَاوِيَة يَوْمئِذٍ كَبِيرهمْ فَلم تتعده الْخلَافَة وَلَا ساهمه فِيهَا غَيره واستوت قدمه واستفحل شَأْنه واستحكمت فِي مُضر رياسته وتوثق عَهده وَأقَام فِي سُلْطَانه وخلافته عشْرين سنة ينْفق من بضَاعَة السياسة الَّتِي لم يكن أحد من قومه أوفر مِنْهُ فِيهَا يدامل أهل الترشيح من ولد فَاطِمَة وَبني هَاشم وَآل الزبير وأمثالهم ويصانع رُءُوس الْعَرَب وقرون مُضر بالإغضاء وَالِاحْتِمَال وَالصَّبْر على الْأَذَى وَالْمَكْرُوه وَكَانَت غَايَته فِي الْحلم لَا تدْرك وَعَصَاهُ لَا تقرع ومرقاته فِيهِ تزل عَنْهَا الأقدم مِنْهَا مَا روى أَنه مازح عدي بن حَاتِم يومَاً يؤنبه بِصُحْبَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ لَهُ عدي وَالله إِن الْقُلُوب الَّتِي أبغضناك بهَا لفي صدورنا وَإِن السيوف الَّتِي قَاتَلْنَاك بهَا لعلى عواتقنا وَلَئِن أدنيت إِلَيْنَا شبْرًا من الشَّرّ لندنين إِلَيْك من الشَّرّ باعا وَإِن حزم الْحُلْقُوم وحشرجة الحيزوم لأهونُ علينا من أَن نسْمع المساءة فِي عَليّ كرم الله تَعَالَى وَجهه السَّيْف يَا مُعَاوِيَة يبْعَث السَّيْف فَقَالَ مُعَاوِيَة هَذِه كَلِمَات حق فاكتبوها وَأَقْبل على عدي بالمقالة مُحدثا أمه هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة بن أُميَّة بن عبد شمس أسلمت يَوْم فتح مَكَّة وبايعت النَّبِي
وَهُوَ على الصَّفَا وَعمر رَضِي الله عَنهُ دونه فَجَاءَتْهُ فِي نسْوَة من قُرَيْش يبايعن على الْإِسْلَام وَعمر رَضِي الله عَنهُ يكلمهن عَن رَسُول الله
فَلَمَّا أَخذ عَلَيْهِنَّ أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا قَالَت هِنْد قد علمنَا أَنه لَو كَانَ مَعَ الله(3/109)
غَيره لأغنَى عَنَّا فَلَمَّا قَالَ وَلَا يَسْرِقن قَالَت لكنْ يَا رَسُول الله أَبُو سُفْيَان رجل مُمْسك وَرُبمَا أخذتُ من مَاله بِغَيْر علمه مَا يصلح وَلَده فَقَالَ لَهَا رَسُول الله
خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ ثمَّ قَالَ أئنك لأَنْت هِنْد قَالَت نعم يَا رَسُول الله اعْفُ عني فَقَالَ عَفا الله عَنْك وَفِي رِوَايَة بعد قَوْلهَا نعم يَا رَسُول الله أَنه قَالَ لَهَا أأنتِ هِنْد أكالة الكبود فَقَالَت أَنَبِي حقود وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله
وَلَا يَزْنِين قَالَت أتزني الْحرَّة يَا رَسُول الله فَلَمَّا قَالَ لَهَا وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ قَالَت وَالله رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا حَتَّى قَتلتهمْ أَنْت وَأَصْحَابك ببدر كبارًا قَالَ فَضَحِك عمر من قَوْلهَا حَتَّى مَال فَلَمَّا قَالَ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف قَالَت بِأبي أَنْت وَأمي مَا أكرمك وَأحسن مَا دَعَوْت إِلَيْهِ وَالله مَا قُمْت مقَامي هَذَا وَأَنا أضمر أَن أخالفك فِي شَيْء وروى عَن حميد بن وهب قَالَ كَانَت هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة قبل أبي سُفْيَان عِنْد الْفَاكِه بن الْمُغيرَة وَكَانَ من فتيَان قُرَيْش وَكَانَ لَهُ بَيت للضيافة تغشاه النَّاس من غير إِذن فَخَلا الْبَيْت ذَات يَوْم فَقَامَ الْفَاكِه وَهِنْد فِيهِ وَخرج لبَعض حاجاته وَأَقْبل رجل مِمَّن كَانَ يغشى ذَلِك الْبَيْت فولجه فَلَمَّا رأى الْمَرْأَة ولى هاربَاً فَأَبْصَرَهُ الْفَاكِه فَانْتهى إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا رَاقِدَة فضربها بِرجلِهِ وَقَالَ من هَذَا الَّذِي كَانَ(3/110)
عنْدك قَالَت مَا رَأَيْت أحدا وَلَا انْتَبَهت حَتَّى أنبهتني فَقَالَ لَهَا الحقي بأهلك وَتكلم فِيهَا النَّاس فَخَلا بهَا أَبوهَا عتبَة بن ربيعَة فَقَالَ لَهَا يَا بنية إِن النَّاس قد أَكْثرُوا فِيك فأنبئيني بذلك فَإِن يكن الرجل صادقَاً دسست إِلَيْهِ من يقْتله فتنقطع عَنَّا القالة وَإِن يكن كَاذِبًا حاكمته إِلَى بعض كهان الْيمن قَالَ فَحَلَفت لَهُ بِمَا كَانُوا يحلفُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة أَنه كاذبٌ فَقَالَ عتبَة للفاكه إِنَّك قد رميت ابْنَتي بأمرٍ عظيمٍ فحاكمني إِلَى بعض كهان الْيمن فَخرج الْفَاكِه فِي جمَاعَة من بني مَخْزُوم وَخرج عتبَة فِي جمَاعَة من بني عبد منَاف وَمَعَهُمْ هِنْد ونسوة مَعهَا تأنسُ بِهن فَلَمَّا أشرفوا على بِلَاد الكاهن تنكر حَال هِنْد وَتغَير وَجههَا فَقَالَ لَهَا عتبَة يَا بنية إِنِّي قد رأيتُ مَا بكِ من تغير الْحَال وَمَا ذَاك إِلَّا لمكروه عنْدك فَقَالَت لَا وَالله يَا أبتاه مَا ذَاك لمكروه وَلَكِنِّي أعرفُ أَنكُمْ ستأتون بَشَراً يُخطئ ويصيب فَلَا آمنهُ أَن يَسِمَنِي بِسِيمَاءَ تكون عليَ سُبة فِي الْعَرَب آخر الدَّهْر فَقَالَ لَهَا أَبوهَا إِنِّي سَوف أستخبره لَك قبل أَن ينظر فِي أَمرك فصفر لفرسه حَتَّى أدلى ثمَّ أَدخل فِي إحليله حَبَّة من الْحِنْطَة وأَوْكَأَ عَلَيْهَا بسير وصبحوا الكاهن فَنحر لَهُم وَأكْرمهمْ فَلَمَّا تغدوا قَالَ لَهُ عتبَة إِنَّا جئْنَاك لأمرِ وَقد خبأت لَك خبيئة أختبرك بهَا فَانْظُر مَا هُوَ قَالَ الكاهن بُرة فِي كمرة قَالَ عتبَة أُرِيد أبين مِن هَذَا قَالَ حَبَّة بر فِي إحليل مهر فَقَالَ عتبَة صدقت انْظُر فِي أَمر هَؤُلَاءِ النسْوَة فَجعل يدنو من إحداهنَ ويضربُ كتفها وَيَقُول انهضي حَتَّى دنا من هِنْد فضرَبَ كتفها وَقَالَ انهضي غَيْرَ وسخاء وَلَا زَانِيَة وستلدينَ ملكا يُقَال لَهُ مُعَاوِيَة فَنظر إِلَيْهَا فاكه فَأخذ بِيَدِهَا فنترتْ يَدهَا من يَده وَقَالَت إِلَيْك عني فواللِّه لأحرصن أَن يكون من غَيْرك فتزوَجها أَبُو سُفْيَان فَجَاءَت مِنْهُ بِمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قَالَ أهل الْعلم وولدته فِي خيف مِني فَهُوَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي الْأمَوِي العبشمي يلتقي مَعَ رَسُول الله
فِي جده عبد منَاف بن قصي وَلما اسْتَقل مُعَاوِيَة بالخلافة بعد نزُول الْحسن لَهُ عَنْهَا وَسمي ذَلِك الْعَام وَهُوَ عَامُ إِحْدَى وَأَرْبَعين عَام الجَمَاعة كَمَا تقدم ذَلِك بعث عماله على الْأَمْصَار(3/111)
فَبعث على الْكُوفَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَيُقَال إِن مُعَاوِيَة كَانَ ولي على الْكُوفَة أَولا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فتاه الْمُغيرَة بن شُعْبَة متنصحاً وَقَالَ عَمْرو بِمصْر وَابْنه بِالْكُوفَةِ فَأَنت بَين نابي الْأسد فعزل مُعَاوِيَة حينئذِ عبد الله بن عَمْرو عَن الْكُوفَة وولاها الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَبلغ ذَلِك عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَ لمعاوية إِن الْمُغيرَة يحتاز المَال فَلَا تَقدِرُ على رده مِنْهُ فَاسْتعْمل من يخافك فقصر مُعَاوِيَة ولَايَة الْمُغيرَة على الصَّلَاة وَولي على الْخراج غَيره ثمَّ ولي على الْبَصْرَة بُسر بن أَرْطَاة العامري وَكَانَ قد تغلب عَلَيْهَا حمْرَان بن أبان عِنْد صلح الْحسن مَعَ مُعَاوِيَة فَبعث إِلَيْهِ مُعَاوِيَة بُسراً فَخَطب النَّاس وَتعرض لعَلي ثمَّ قَالَ أنْشد الله رجلاَ يعلم أَنِّي صَادِق أَو كَاذِب إِلَّا صدقني أَو كَذبَنِي فَقَالَ لَهُ أَبُو بكرَة وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور اسْمه نُفَيع بن الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ قلت لقب بِأبي بكرَة لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ ثَقِيف فِي حصن الطَّائِف حَال حِصَار النَّبِي
أهل الطَّائِف فَنَادَى
من أَتَى إِلَيْنَا فَلهُ الْأمان وَهُوَ حر فَتَدَلَّى نفيع بن الْحَارِث هَذَا من أَعلَى الْحصن ببكرة وَنزل إِلَيْهِ
وَأسلم فلقب لذَلِك بِأبي بكرَة اللَّهُمَّ لَا نعلمك إِلَّا كَاذِبًا فَأمر بِهِ يسجن فَقَامَ أَبُو لؤلؤة الضَّبِّيّ فَدفع عَنهُ وَكن على فَارس من أَعمال الْبَصْرَة زِيَاد ابْن أَبِيه عَاملا لعَلي فَبعث إِلَيْهِ مُعَاوِيَة يَطْلُبهُ بِالْمَالِ فَقَالَ زِيَاد صرفْتُ بعضه فِي وَجهه واستودعتُ بعضه للْحَاجة إِلَيْهِ وحملت مَا فضل إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَحمَه لله ورضِيَ عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة بالقدوم لينْظر فِي ذَلِك فَامْتنعَ فَلَمَّا ولي بسر جمع عِنْده أَوْلَاد زِيَاد الأكابر عبد الرَّحْمَن وَعبيد الله وعباداً وَكتب إِلَيْهِ لتقدمن أَو لأقتلن بنيك فَامْتنعَ زِيَاد واعتزم على قَتلهمْ فَأَتَاهُ أَبُو بكر وَكَانَ أَخا زِيَاد لأمه وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك فَقَالَ لبسر أخذتهم بِلَا ذَنْب وَصلح الْحسن مَعَ مُعَاوِيَة علَى أَصْحَاب عَليّ حَيْثُ كَانُوا فأمهله بسر إِلَى أَن يَأْتِي كتاب مُعَاوِيَة ثمَّ قدم أَبُو بكر على مُعَاوِيَة وَقَالَ إِن النَّاس لم يبايعوا علَى قتل الْأَطْفَال وَإِن بُسراً يُرِيد قتل بني زِيَاد فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى بسر بتخليتهم وَجَاء إِلَى السجْن بعد المعياد وَلم يبْق مِنْهُ إِلَّا سَاعَة وهم(3/112)
موثقون للْقَتْل فأدركهم وأطلقهم بُسر ثمَّ عزل مُعَاوِيَة بسرا وَولي عَلَيْهَا عبد لله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف ثمَّ ولى معاويةُ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين على الْمَدِينَة مَرْوَان بن الحكم وعَلى مَكَّة خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام ثمَّ عزل مروانَ عَن الْمَدِينَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَولى مَكَانَهُ عَلَيْهَا سعيد بن لعاص ثمَّ عَزله سنة ربع وَخمسين فَرد إِلَيْهَا مَرْوَان بن الحكم ولمل امْتنع زِيَاد ابْن أَبِيه بِفَارِس بعد مقتل عَليّ كَمَا قدَمناه وَكَانَ عبد الرَّحْمَن ابْن أَخِيه لأمه أبي بكرَة يَلِي أَمْوَاله بِالْبَصْرَةِ رفع إِلَى مُعَاوِيَة ن زياداً استودع أَمْوَاله عبد الرَّحْمَن فَبعث مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغيرَة بِالْكُوفَةِ أَن ينظر فِي ذَلِك فَحَضَرَ عبد الرَّحْمَن وَقَالَ إِن يَكن أَبوك أَسَاءَ إِلَيّ فقد أحسن عمك وَأحسن الْعذر عَنهُ عِنْد مُعَاوِيَة ثمَّ قدم الْمُغيرَة على مُعَاوِيَة فَذكر مُعَاوِيَة لَهُ مَا عِنْده من الوجل باعتصام زِيَاد بِفَارِس وَقَالَ داهية الْعَرَب مَعَه أَمْوَال فَارس يُدِير الْحِيَل فَلَا آمن أَن يُبَايع لرجل من أهل الْبَيْت وَيُعِيد الْحَرْب جَذَعَة فاستأذنه الْمُغيرَة أَن يَأْتِيهِ ويتلطف لَهُ ثمَّ أَتَاهُ وَقَالا مُعَاوِيَة بَعَثَنِي إِلَيْك وَقد بَايعه الْحسن وَلم يكن هُنَاكَ غَيره فَخذ لنَفسك قبل أَن يَسْتَغْنِي مُعَاوِيَة عَنْك قَالَ لَهُ زِيَاد أَشِر عَلَيَ والمستشار مؤتمن فَقَالَ الْمُغيرَة أرى أَن تشخص إِلَيْهِ وَتصل حبلك بحبله وَترجع عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة بأمانه وَخرج زِيَاد من فَارس نَحْو مُعَاوِيَة فاعترضه عبد الله بن حَازِم السّلمِيّ فِي جمَاعَة وَقد بَعثه عبد الله بن عَامر ليَأْتِيه بِهِ فَلَمَّا رأى عبد الله بن حَازِم كتاب الْأمان تَركه فَلَمَّا قد زِيَاد على مُعَاوِيَة سَأَلَهُ عَن أَمْوَال فَارس فَأخْبرهُ بِمَا أنْفق وَمَا حمله إِلَى عَليّ وَمَا بَقِي عِنْده مودعاً للْمُسلمين فَصدقهُ مُعَاوِيَة وَقَبضه مِنْهُ وَيُقَال إِنَّه قَالَ لَهُ أَخَاف أَن تكون مَكَرتَ بِي فصالحني فَصَالحه على ألفَيْ درهمِ بعث بهَا إِلَيْهِ واستأذنه فِي نزُول الْكُوفَة فَأذن لَهُ وَكَانَ الْمُغيرَة يُكرمهُ ويعظمه وَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة أَن يُلزم زياداً وَحجر بن عدي وَسليمَان بن صرد وشبيب ابْن ربعي وَابْن الْكواء وَابْن الْحمق وَهَؤُلَاء أَصْحَاب عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَة فَكَانُوا يحضُرُونَ الصَّلَاة(3/113)
وَفِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين أَو الَّتِي قبلهَا كَانَ استلحاق مُعَاوِيَة زيادَاً قَالَ الْعَلامَة ابْن خلدون كَانَت سُمَية أم زِيَاد مولاة لِلْحَارِثِ بن كلدة الثَّقَفِيّ الطَّبِيب وَولدت مِنْهُ أَبَا بكرَة نفيع بن الْحَارِث ثمَّ زَوجهَا بمولى لَهُ فأتتْ مِنْهُ بِابْن سَمَّاهُ نَافِعًا ثمَّ إِن أَبَا سُفْيَان قد ذهب إِلَى الطَّائِف فِي بعض حاجاته فَأصَاب سميَّة هَذِه بِبَعْض أَنكِحَةِ الْجَاهِلِيَّة وولدَت زياداً هَذَا ونسبته إِلَى أبي سُفْيَان وأقرَ لَهَا بِهِ إِلَّا أَنه كَانَ يخفيه قلت هَذَا مَا ذكره ابْن خلدون ورأيتُ المَسْعُودِيّ فِي مروجه قَالَ مَا نَصه ذهب أَبُو سُفْيَان إِلَى الطَّائِف لتِجَارَة فَنزل على أبي مَرْيَم السَّلُولي خَمار بِالطَّائِف فَقَالَ لما طَالَتْ إِقَامَته إِن ابْنة عتبَة لَا أتمكنُ مَعهَا بِامْرَأَة وَقد طَالَتْ عزوبتي فأبغني بغياً فَقَالَ أَبُو مَرْيَم لَا أعلم الْآن إِلَّا سميَّة أمة الْحَارِث بن كلدة قَالَ فأتني بِهِ فَأَتَاهُ بهَا ثمَّ أَخذ أَبُو سُفْيَان بكُم درعها فَأدْخلهَا قي حجرَة من الدَّار ثمَّ خرج وجبينه يرشحُ عرقاً وَنَفسه يتتابع قَالَ أَبُو مَرْيَم فَقلت لَهُ كَيفَ رَأَيْتهَا فَقَالَ لَا بَأْس بهَا لَوْلَا استرخاء فِي ثدييها وذفر فِي إبطيها قَالَ ابْن خلدون وَلما شَب زِيَاد سمت بِهِ النجابة واستكتبه أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لما كَانَ على الْبَصْرَة واستكفاه عمر رَضِي لله عَنهُ فِي أَمر فَحسن غَنَاؤه فِيهِ وَحضر زِيَاد عِنْده يُعلمهُ بِمَا صنع فأبلغ مَا شَاءَ فِي الْكَلَام فَقَالَ عَمْرو ابْن الْعَاصِ وَكَانَ حَاضرا لِلَهِ هَذَا الغلامُ لَو كَانَ أَبوهُ من قُرَيْش سَاق العَرَبَ بعصاه فَقَالَ أَبُو سُفْيَان وَعلي رَضِي الله عَنهُ يسمع واللِّه إِنِّي لأعرف أَبَاهُ ومَنْ وَضعه فِي رحم أمه فَقل لَهُ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اسكُتْ فَلَو سمع عمر هَذَا مِنْك كَانَ إِلَيْك سَرِيعا ثمَّ اسْتعْمل عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ زيدا على فَارس فضبطها فَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة يتهدده ويعرض لَهُ بِوِلَادَة أبي سُفْيَان إِيَّاه فَقَامَ زِيَاد فِي النَّاس خَطِيبًا فَقَالَ عجبا لمعاوية يخوفني وبيني وَبَينه ابْن عَم الرَّسُول فِي لمهاجرين وَالْأَنْصَار وَكتب إِلَيْهِ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنِّي قد وليتك وَأَنا أَرَاك أَهلا وَقد(3/114)
كَانَ من أبي سُفْيَان فلتة من أماني الْبَاطِل وَكذب النَّفس لَا توجبُ مِيرَاثا وَلَا نسبا وَمُعَاوِيَة يَأْتِي الْإِنْسَان من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وَعَن يَمِينه وَعَن شِمَاله فاحذر ثمَّ احذر وَالسَّلَام وَلما قتل عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَصَالح زِيَاد مُعَاوِيَة وَضَعَ زِيَاد مصقلة بن هُبَيْرَة الشَّيْبَانِيّ علَى مُعَاوِيَة ليعرض لَهُ بِنسَب أبي سُفْيَان فَفعل وَرَأى مُعَاوِيَة أَن يستميله باستلحاقه فالتمس الشَّهَادَة بذلك مِمَّن عَلِمَ لُحُوق نسبه بِأبي سُفْيَان فَشهد لَهُ رجل من أهل الْبَصْرَة وألحقه وَكَانَ أَكثر شيعَة عَلي يُنكرُونَ ذَلِك وينقمون على مُعَاوِيَة حَتَّى أَخُوهُ لأمه أَبُو بكرَة وَكتب زِيَاد إِلَى عَائِشَة رَضِي الله تهعالى عَنْهَا فِي بعض الأحيان من زِيَاد ابْن أبي سُفْيَان يَسْتَدْعِي جوابها بِهَذَا النّسَب ليَكُون جوابها لَهُ حجَّة فَكتبت إِلَيْهِ من عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ إِلَى ابْنهَا زِيَاد وَكَانَ عبد الله بن عَامر يبغض زياداً فَقَالَ يَوْمًا لبَعض أَصْحَابه ابْن سميَّة يقبح آثاري ويعترض مُعَاوِيَة فَأمر مُعَاوِيَة حَاجِبه عَمَّا لي لقد هَمَمْت أَن آتِي بقسامة من قُرَيْش أَن أَبَا سُفْيَان طرير سميَّة فوصل الْخَبَر إِلَى زِيَاد فَأخْبر بِهِ مُعَاوِيَة فَأمر مُعَاوِيَة حَاجِبه أَن يرد عبد الله بن عَامر من أقْصَى الْأَبْوَاب فَرد فَشَكا ذَلِك إِلَى ابْنه يزِيد فَركب مَعَه وَأدْخلهُ على مُعَاوِيَة فَلَمَّا رَآهُ قَامَ من مَجْلِسه وَدخل إِلَى بَيته فَقَالَ يزِيد نقعد فِي انْتِظَاره فَلم يَزَالَا حَتَّى خرج وَغدا ابْن عَامر يتَعَذَّر فِيمَا كَانَ مِنْهُ من القَوْل فِي زِيَاد فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنِّي لَا أكتثر بِزِيَاد من قلَّة وَلَا أتعزَّز بِهِ من ذلة وَلَكِن عرفت حَقًا للَه فَوَضَعته مَوْضِعه وَخرج ابْن عَامر يترضى زياداً وَرَضي مُعَاوِيَة لَهُ وَفِي استلحاق مُعَاوِيَة زياداً يَقُول يزِيد بن مفرغ الْحِمْيَرِي // (من الوافر) //
(أَلا أَبْلِغْ مُعَاويَةَ بْنَ حرْبٍ ... مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ اليَمانِي)
(أَتَغْضبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي)
(فَأَشْهدُ أَنَّ رَحْمَك مِنْ زِيَادٍ ... كَرَحْمِ الفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ)
وَفِي زِيَاد وأخويه لأمه نُفَيع وَنَافِع يَقُول حَارِث بن صريم الْحَارِثِيّ // (من المنسرح) //
(إِنَّ زِيادَا وَنافِعًا وَأَبَا ... بَكْرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ)(3/115)
(إِنَّ رجَالًا ثَلاَثَةً خُلِقُوا ... مِنْ رَحْمِ أُنْثَى مُخَالِفي النَّسَبِ)
(ذَا قُرشيٌّ فِيمَا يَقُولُ وَذَا ... مَوْلًى وَهَذَا بِالزَّعْمِ مِنْ عَرَبِ)
وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين عذل مُعَاوِيَة الْحَارِث بن عبد الله الْأَزْدِيّ عَن الْبَصْرَة وَولى عَلَيْهَا زيادا وَجمع لَهُ فِي خُرَاسَان وسجستان ثمَّ جمع لَهُ السَّنَد والبحرين وعمان وَفِي الْبَصْرَة خطب خطبَته البتراء وَإِنَّمَا سميت بتراء لِأَنَّهُ لم يفتتحها بِالْحَمْد وَالثنَاء وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين كَانَ الطَّاعُون بِالْكُوفَةِ وَعَلَيْهَا الْمُغيرَة بن شُعْبَة فهرب مِنْهَا ثمَّ عَاد إِلَيْهَا فَمَاتَ فَضمهَا إِلَى زِيَاد مَعَ الْبَصْرَة فَهُوَ أول من جمع لَهُ ولَايَة العراقين الْبَصْرَة بِالْكُوفَةِ وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين قبض مُعَاوِيَة فدك من مراون بن الحكم وَكَانَ وَهبهَا لَهُ عُثْمَان رَضِي لله عَنهُ وَفِي سنة خمسين حج مُعَاوِيَة وَأمر بِحمْل الْمِنْبَر من الْمَدِينَة إِلَى الشَّام فكسفت الشَّمْس ورئيت الْكَوَاكِب فجزع لذَلِك وأعظمه ورده إِلَى مَوْضِعه وَزَاد فِيهِ سِتّ مراقٍ وَبعث جَيْشًا كثيفَاً إِلَى بِلَاد الرّوم مَعَ سُفْيَان بن عَوْف وَندب يزِيد ابْنه إِلَى الْخُرُوج مَعَهم فتثاقل فَتَركه ثمَّ بلغ النَّاس أَن الْغُزَاة أَصَابَهُم جوع وَمرض فَأَنْشد يزِيد // (من الْبَسِيط) //
(أَهْوِنْ عَلَى بِمَا لاقَتْ جموعُهُمُ ... يَوْم الطوانةِ مِنْ حُمَّى ومِنْ شُومِ)
(إِذَا اتَّكأتُ عَلَى الأنماطِ مُرْتَفِقًا ... بِدَيْرِ مرَّانَ عِنْدِي أُمُّ كُلْثُومِ)
قلت أم كُلْثُوم زَوجته بنت عبد الله بن عَامر بن كريز الْمُتَقَدّم ذكر قَوْله فِي زِيَاد لقد هَمَمْت أَن آتِي بقسامة(3/116)
فَلَمَّا بلغ قَوْله هَذَا أَبَاهُ مُعَاوِيَة حلف ليلحقنهُ بهم فَسَار يزِيد فِي جمع كثير جمعه لَهُ مُعَاوِيَة فيهم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ فأوغلوا فِي بِلَاد الرّوم وبلغوا الْقُسْطَنْطِينِيَّة وقاتلوا الرّوم عَلَيْهَا فاستشهد أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ ودفنوه قَرِيبا من سورها وَرجع يزِيد والعساكر إِلَى الشَّام وَكَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَيَّام إمارته على الْكُوفَة كثير مَا يتَعَرَّض لَعِلي فِي مجالسه وخُطَبِهِ ويترحم على عُثْمَان وَيَدْعُو لَهُ وَكَانَ حجر بن عَدِي بن حَاتِم الطَّائِي إِذا سَمعه يَقُول إيَّاكُمْ قد أضلّ الله وَلعن ثمَّ يَقُول أشهد أنَّ مَن تذمون أَحَقُّ بالفَضلِ وَمَن تُزكونَ أولَى بالذم فيعذله الْمُغيرَة وَيَقُول يَا حجر اتَّقِ غضب السُّلْطَان وسَطوته فَإِنَّهَا تهْلك أمثالك لَا يزِيدهُ على ذَلِك وَلما كن آخر إمارته قَالَ فِي بعض أَيَّامه مثل مَا كَانَ يَقُول فصاح بِهِ حجر مُر لنا بأرزاقنا فقد حبستها عَنَّا وأصبحتَ مولعَاً بذم خير النَّاس وَصَحَّ النَّاس بِهِ من جَوَانِب الْمَسْجِد صدق حجر فمُر لنا بأرزاقنا فَالَّذِي أَنْت فِيهِ لَا يُجدي علينا نفعا فَدخل الْمُغيرَة إِلَى بَيته وعذله قومه فِي جرْأَة حجر عَلَيْهِ بوهن سُلْطَانه ويسخط عَلَيْهِ مُعَاوِيَة فَقَالَ الْمُغيرَة لَا أحب أَن أسعى يقتل أحد من أهل الْمصر وَسَيَأْتِي بعدِي من يصنع مَعَه مثل ذَلِك فيقتله ثمَّ توفّي الْمُغيرَة وَولى زِيَاد كَمَا تقدم فَلَمَّا قدم خطب النَّاس وترحَم على عُثْمَان وَلعن قَاتله فَقَالَ حجر مَا كَانَ يَقُول فَسكت عَنهُ زِيَاد وَرجع إِلَى الْبَصْرَة واستخلف على الْكُوفَة عَمْرو بن حُرَيْث وبلغه أَن حجرا تَجْتَمِع عَلَيْهِ شيعَة عَليّ ويعلنون بلعن مُعَاوِيَة والبراءة مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حصبوا عَمْرو بِمَ حُرَيْث فشخص زِيَاد إِلَى الْكُوفَة حَتَّى دَخلهَا ثمَّ خطب النَّاس وحُجرٌ جَالس يسمع فتهدده وَقَالَ لست بِشَيْء إِن لم أمنع الْكُوفَة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده ثمَّ بعث إِلَيْهِ فَامْتنعَ من الْإِجَابَة فَبعث صَاحب الشرطة شَدَّاد بن هَيْثَم الْهِلَالِي إِلَيْهِ فِي جمَاعَة فسبهم أَصْحَاب حجر فَجمع زِيَاد أهل الْكُوفَة وهددهم فتبرءوا فَقَالَ ليَدع كل رجل مِنْكُم عشيريه الَّذين عِنْد حُجر فَفَعَلُوا حَتَّى إِذا لم يبْق مَعَه إِلَّا قومه قَالَ زِيَاد(3/117)
لصَاحب الشرطة انْطلق إِلَيْهِ فائتني بِهِ طَوْعًا أَو كرها فَلَمَّا جَاءَ يَدعُوهُ امْتنع من الْإِجَابَة وَحمل عَلَيْهِم وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو القمطرة الْكِنْدِيّ بِأَن يلْحق بكندة فيمنعوه هَذَا وَزِيَاد على الْمِنْبَر ينْتَظر ثمَّ غشيهم أَصْحَاب زِيَاد وَضرب عَمْرو بن الْحمق الْخُزَاعِيّ فَسقط وَدخل فِي دور الأزد فاختفي وَخرج حجر من أَبْوَاب كِنْدَة فَركب وَمَعَهُ أَبُو القميطرة إِلَى دور قومه وَاجْتمعَ إِلَيْهِ النَّاس وَلم يَأْته من كِنْدَة إِلَّا قَلِيل ثمَّ أرسل زِيَاد وَهُوَ على الْمِنْبَر إِلَى مُدْلِج وهمدان ليأتوه بِحجر فَلَمَّا علم أَنهم فصدوه تسرب من دَاره إِلَى لنخع وَنزل على أخي لأشتر وبلغه أَن الشرطة تسْأَل عَنهُ فِي النخع فَأتى الأزد واختفى عِنْد ربيعَة بن ناجد وأعياهم طلبه فَدَعَا زِيَاد مُحَمَّد بن الْأَشْعَث وَقَالَ لَئِن لم تأتني بِهِ لأقطعنك إرباً إرباً فاستمهله ثَلَاثَة أَيَّام فأمهله حَتَّى بعث حجر بن عدي إِلَى مُحَمَّد بن الْأَشْعَث أَن يَأْخُذ لَهُ أَمَانًا من زِيَاد حَتَّى يبْعَث بِهِ إِلَى مُعَاوِيَة فجَاء مُحَمَّد بن الْأَشْعَث وَمَعَهُ جرير بن عبد الله وَحجر بن زيد وَعبد لله بن الْحَارِث أَخُو الأشتر فاستأمنوا لَهُ زياداً فأجابهم ثمَّ أحضروا حجرا فحبسه ثمَّ طلب أصاحبه فَخرج عَمْرو بن الْحمق الْخُزَاعِيّ من أَصْحَاب حجر شيعَة عَليّ إِلَى لموصل وَمَعَهُ رِفَاعَة بن شَدَّاد فاختفى فِي جبل هُنَالك فَرفع خبرهما إِلَى عَامل لموصل وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ ابْن أُخْت مُعَاوِيَة وَيعرف بِابْن أم لحكم فَسَار إِلَيْهِمَا فهرب رِفَاعَة وَقبض على عَمْرو وَكتب إِلَى مُعَاوِيَة بذلك فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى زِيَاد إِن عَمْرو بن الْحمق طعن عُثْمَان تسع طعنت وَقَالَ حِين طعنه سِتّ لله تَعَالَى وَثَلَاث لما فِي نَفْسِي فاطعنه يَا زِيَاد كَذَلِك تسع طعنات فطعن فَمَاتَ فِي الأولى وَالثَّانيَِة فكملتْ عَلَيْهِ مَيتا ثمَّ جَد زِيَاد فِي طلب أَصْحَاب حجر فَأتى بقبيصة بن ضبيعة الْعَبْسِي بِأَمَان فحبسه وَجَاء قيس بن عباد الشَّيْبَانِيّ بِرَجُل من قومه من أَصْحَاب حجر فَأحْضرهُ زِيَاد وَسَأَلَهُ عَن عَليّ بن أبي طَالب فَأثْنى عَلَيْهِ فَضَربهُ وحبسه وعاش قيس بن عباد حَتَّى قَاتل مَعَ ابْن لأشعث ثمَّ دخل بَيته فِي الْكُوفَة وسعى بِهِ إِلَى الْحجَّاج فَقتله ثمَّ أرسل زِيَاد إِلَى عبد الله بن خَليفَة لطائي من أَصْحَاب حجر فتوارى عَنهُ وَجَاء الشَّرْط فَأَخَذُوهُ وَنَادَتْ أُخْته النوار بقَوْمه فخلصوه فَأخذ زِيَاد عدي بن(3/118)
حَاتِم وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَقَالَ ائْتِنِي بِعَبْد الله بن خَليفَة الطَّائِي وَخَبره فَقَالَ لَهُ آتِيك بِابْن عمي تقتله وَالله لَو كَانَ تَحت قدمي مَا رفعتها عَنهُ فحبسوه فنكر النَّاس عَلَيْهِ ذَلِك وكلموه وَقَالُوا تفعل هَذَا بِصَاحِب رَسُول الله
وكبير طَيئ فَقَالَ زِيَاد أخرجه علَى أَن يخرج ابْن عَمه عني فَأَطْلقهُ وَأمر عدي عبد الله أَن يلْحق بجبلي طَيئ فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ وأتى زِيَاد بكريم بن عفيف الْخَثْعَمِي من أَصْحَاب حجر وَغَيره وَلما جمع مِنْهُم اثنَي عشر فِي السجْن دَعَا رُؤَسَاء الأرباع وهم يَوْمئِذٍ عَمْرو بن حُرَيْث على ربع أهل لمدينة وخَالِد بن عُرْوَة على ربع تَمِيم وهمدان وَقيس بن لوليد على ربع ربيعَة وَكِنْدَة وَأَبُو بردة بن أبي مُوسَى على ربع مذبح وَأسد فَشَهِدُوا كلهم أَن حجرا جمع الجموع وَأظْهر شتم مُعَاوِيَة ودعا إِلَى حربه وَزعم أَن الْإِمَارَة لَا تصلح إِلَّا فِي الطالبيين ووثب بِالْمِصْرِ وَأخرج الْعَامِل وَأظْهر عذرَ أبي تُرَاب والترحُمَ عَلَيْهِ أَقُول نعم رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورِضَاهُ والبراءة من عدوه وَمن أهل حربه وَإِن لنفر الَّذين مَعَه وهم رُءُوس أَصْحَابه على مثل رَأْيه ثمَّ استنكر زِيَاد من الشُّهُود فَشهد إِسْحَاق ومُوسَى ابْنا طَلْحَة وَالْمُنْذر بن الزبير وَعمارَة بن عقبَة بن أبي معيط وَعمر بن سعيد بن أبي وَقاص وَغَيرهم وَكتب فِي الشُّهُود شُرَيْح بن الْحَارِث القَاضِي وَشُرَيْح بن هَانِئ ثمَّ استدعى زيادُ وَائِل بنَ حُجر الْحَضْرَمِيّ وَكثير بن شهَاب وَدفع إِلَيْهِمَا حُجْراً وَأَصْحَابه وهم الأرقم بن عبد الله الْكِنْدِيّ وَشريك بن شَدَّاد الْحَضْرَمِيّ وَصَيْفِي ابْن فُضَيْل الشَّيْبَانِيّ وقبيضة بن ضبيعة الْعَبْسِي وكريم بن عفيف الْخَثْعَمِي وَعَاصِم بن عَوْف البَجلِيّ وورقاء بن سمي البَجلِيّ وكرام بن حَيَّان الْعَنزي وَعبد الرَّحْمَن بن حسان الْعَنزي أَيْضا ومحرز بن شهَاب التَّمِيمِي وَعبد الله بن حوية السَّعْدِيّ ثمَّ أتبع هَؤُلَاءِ الاثْنَي عشر بِعتبَة بن الْأَخْنَس بن سعد بن بكر وَسعد ابْن عمرَان الْهَمدَانِي وَأَمرهمَا أَن يَسِيرا بهم إِلَى مُعَاوِيَة ثمَّ لحقهما شُرَيْح بن هَانِئ وَأرْسل كتابَاً إِلَى مُعَاوِيَة دَفعه إِلَى وَائِل بن حجر الْحَضْرَمِيّ فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى مرج عذراء قرب دمشق تقدم وَائِل وَكثير إِلَى مُعَاوِيَة وَقَرَأَ كتاب(3/119)
شُرَيْح بن هَانِئ وَفِيه بَلغنِي أَن زياداً كتب شهادتي وَإِنِّي أشهد على حُجر أَنه مِمَّن يُقيم الصَّلَاة وَيُؤْتى لزكاة ويديم الْحَج وَالْعمْرَة وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن لمنكر حرامُ الدَّم وَالْمَال فَإِن شِئْت فاقتله أَو فَدَعْهُ فَقَالَ مُعَاوِيَة مَا رأى هَذَا إلاَ أخرج نَفسه من شهادتكم يَعْنِي شُرَيْح ين هَانِئ وَحبس الْقَوْم بمرج عذراء حَتَّى لحقهم عنبه بن الْأَخْنَس وَسعد بن عمرن للَّذين ألحقهما بهم زِيَاد وَجَاء عَامر بن الْأسود الْعجلِيّ إِلَى مُعَاوِيَة فَأخْبرهُ بوصولها فاستوهب يزِيد بن أَسد البَجلِيّ عَاصِمًا وورقاء ابْني عَمه وَقد كتب جرير يزكيهما وَيشْهد ببراءتهما فطلقهما مُعَاوِيَة وشفع وائْل بن حُجر فِي الأرقم وَأَبُو الْأَعْوَر السّلمِيّ فِي ابْن الْأَخْنَس وحبِيب بن سَلمَة فِي خويه فتركهم وَسَأَلَهُ ملك بن هُبَيْرَة فِي السكونِي فردهُ فَغَضب وَجلسَ فِي بَيته وَبعث مُعَاوِيَة هدبة بن فياض الْقُضَاعِي وَالْحصين بن عبد الْكلابِي وَأَبا شرِيف الْبَدِيِّ إِلَى حجر وَأَصْحَابه ليقتلوا مِنْهُم من أَمر بقتْله فأتوهم وعرضوا عَلَيْهِم الْبَرَاءَة من عَلِي فَأَبَوا وصَلوا عَامَّة ليلتهم ثمَّ قدمُوا من الْغَد للْقَتْل فَتَوَضَّأ حجر وَصلى وَقَالا وَالله لَوْلَا أَن يَظُنُّوا بِي لجزع من الْمَوْت لاستكثرت مِنْهَا اللَّهُمَّ إِنَّا نستعديك على أمتنَا أهل الْكُوفَة يشْهدُونَ علينا وَأهل لشام يقتلوننا ثمَّ مَشَى إِلَيْهِ هدبة بن فياض بِالسَّيْفِ فارتعد فَقَالُوا لَهُ كَيفَ وَأَنت تزْعم أَنَّك لَا تجزع من الْمَوْت فابرأ من صَاحبك وَنحن نَدعك فَقل وَمنا لي لَا أجزع وَأَنا بَين الْقَبْر والكفن وَالسيف وَإِن جزعت من الْقَتْل لَا أَقُول مَا يسْخط الرب فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا خْمسة مَعَه شريك بن شَدَّاد وَصَيْفِي بن فُضَيْل وَقبيصَة بن ضيبعة ومحرز ابْن شهَاب وكرام بن حِين وصلوا عَلَيْهِم ودفنوهم وجئ بِعَبْد الرَّحْمَن بن حَيَّان الْعَنزي وكريم الْخَثْعَمِي إِلَى مُعَاوِيَة فوعظه الْخَثْعَمِي وَطَلَبه مُعَاوِيَة الْبَراء من عَليّ فَسكت واستوهبه سَمُرَة بن عبد الله الْخَثْعَمِي فوهبه لَهُ عَلَى أَلا يدْخل الْكُوفَة فَنزل الْموصل ثمَّ سَأَلَ مُعَاوِيَة عبد الرَّحْمَن بن حسان عَن عَليّ فَأثْنى خيرا ثمَّ عَن عُثْمَان فَقَالَ أول من فتح بَاب الظُّلم وأغلق بَاب الْحق فَرده إِلَى زِيَاد ليَقْتُلهُ شَر قِتلة فدفنه زِيَاد حَيا فَهُوَ سَابِع الْقَوْم وَأما مَالك بن هُبَيْرَة السكونِي فَلَمَّا لم يشفعه مُعَاوِيَة فِي حُجر جمع قومه وَسَار(3/120)
ليخلصه وَأَصْحَابه فلقي القتلة وسألهم وَقَالُوا تَابَ الْقَوْم وَسَار إلَى عذراء فتيقن قَتلهمْ فَأرْسل فِي أثر القتلة فَلم بدركوهم وَأخْبر مُعَاوِيَة فِيمَا فعل مَالك فَقَالَ تِلْكَ حرارة يجدهَا فِي نَفسه وَكَأَنِّي بِمَا قد طُفِئَت ثمَّ بعث إِلَيْهِ بِمِائَة ألف وَقَالَ خفت أَن يُعِيد الْقَوْم حَربًا فَتكون على الْمُسلمين أعظم من قتل حجر فطابتْ نفس مَالك وَلما بلغ عَائِشَة خبر حجر وَأَصْحَابه أرْسلت عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث إلَى مُعَاوِيَة تشفع فجَاء وَقد قتلوا فَقَالَ لمعاوية أَيْن غَابَ عَنْك حلم أبي سُفْيَان قَالَ حِين غَابَ عني مثلك من حلماء قومِي وحملني ابْن سميَّة فاحتملت وأسفت عَائِشَة على قتل حُجر وَكَانَت تُثنِي عَلَيْهِ قلت وَحجر هَذَا هُوَ حجر بن عدي بن حَاتِم الطَّائِي الْمَشْهُور بِالْكَرمِ وَأَبُو عدي صَحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ وَقيل إِن لحُجر ابنِهِ هَذَا صُحبَة وَلم يَصح وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين مَاتَ زِيَاد ابْن أَبِيه فِي رَمَضَان فِي بطاعون أَصَابَهُ فِي يَمِينه خرجت بهَا قرحَة يُقَال إِنَّهَا يَدعُوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَذَلِكَ أَن زيادَاً كتب إِلَى مُعَاوِيَة إِنِّي ضبطت الْعرَاق بشمالي ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز فَكتب لَهُ عهدا بذلك وَجمع لَهُ الْحجاز مَعَ بالعراقين وَخَافَ أهل الْحجاز من ذَلِك قَالَ الْعَلامَة المسعُودِي لما سمع بولايته أهل الْمَدِينَة اجْتمع الْكَبِير وَالصَّغِير بِمَسْجِد رَسُول الله
وقدَموا ابْن عمر فَاسْتقْبل الْقبْلَة ودعا مَعَهم وَكَانَ من دُعَائِهِ أَن قَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنَا يَمِين زِيَاد وضَجوا إِلَى الله تَعَالَى ولاذوا بِقَبْر النَّبِي
ثَلَاثَة أَيَّام لِعلمِهِم بظلمه وجوره وفسقه وَلما خرجن بكفه تِلْكَ البثرة حكها ثمَّ مدت واسودت فَصَارَت آكِلَة سَوْدَاء فاستدعى شريحاً القَاضِي واستشاره فِي قطع يَده فَقَالَ لَهُ لَك رزق مقسوم وَأجل مَعْلُوم وَإِنِّي أكره إِن كَانَت لَك مُدَّة أَن تعيش أَجْذم وَإِن حم أَجلك أكره أَن تلقى رَبك مَقْطُوع الْيَد فَإِذا سَأَلَك لم قطعتها قلت بغضاً لَك وفراراً من قضائك فَقَالَ لَا أَبيت والطاعون فِي لحافِ واحدٍ واعتزم عَلَى قطعهَا فَلَمَّا نظر(3/121)
إِلَى النَّار والمكاوي جزع وَتَركه وَقيل تَركه لإشارة شُرَيْح القَاضِي وعذل النَّاس شريحاً فِي تِلْكَ الْإِشَارَة فَقَالَ لَهُم وددت لَو أَن الله قطع يَده يومَا وَرجله يَوْمًا وَسَائِر جسده يومَاً يَوْمًا وَلَكِن المستشار مؤتمن وَكَانَ زِيَاد قد جمع النَّاس بِبَاب قصره يعرضهم على لعن عَليّ بن أبي طَالب لعن الله اللاعنَ والعارضَ فَمن أَبى عرضه على السَّيْف وَذكر عبد الرَّحْمَن بن السَّائِب قَالَ حضرتُ فصرت إِلَى الرحبة وَمَعِي جمَاعَة من الْأَنْصَار فَنمت فَرَأَيْت فِي مَنَامِي وَأَنا جَالس فِي جمَاعَة رأيتُ شخصا طَويلا قد أقبل فَقلت من هَذَا قَالَ أَنا النقاد ذُو الرَّقَبَة بعثت إِلَى صَاحب هَذَا الْقصر فانتهيت فَزعًا فَمَا كَانَ إِلَّا مِقْدَار سَاعَة حَتَّى خرج خَارج من الْقصر فَقَالَ انصرفوا فالأمير عَنْكُم مَشْغُول وَإِذا بِهِ قد أَصَابَهُ مَا ذكرنَا من الْبلَاء فِي كَفه وَفِي ذَلِك يَقُول عبد لله بن السَّائِب من أَبْيَات // (من الْبَسِيط) //
(مَا كَانَ منتهياً عَمَّا أَرَادَ بِنَا ... حتَّى أُتِيحَ لَهُ النَّقَّادُ ذُو الرَّقَبَهْ)
)
فَأَسْقَطَ الشِّقَّ مِنْهُ ضَرْبَةٌ ثَبَتَتْ ... لَمَّا تَنَاوَلَ ظُلْمًا صَاحِبَ الرَّحبهْ)
قلت صَاحب الرحبة يُرِيد بِهِ عَليّ بن أبي طَالب لِأَنَّهُ دفن فِي رحبة مَسْجِد الْكُوفَة على أحد الْأَقْوَال فِي مَوضِع قَبره وَقد ذكرت الِاخْتِلَاف فِيهِ فِيمَا تقدم فَهَلَك وَهُوَ ابْن خمس وَخمسين وَدفن بالثومة من أَرض الْكُوفَة لَا رَحمَه الله قَالَ يومَاً لجلسائه من أنعَم النَّاس عَيْشًا قَالُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ هَيْهَات فَأَيْنَ مَا يَلْقَى من لرعية قَالُوا فَأَنت أَيهَا الْأَمِير قَالَ فَأَيْنَ مَا يَرِدُ علينا من الثغور وَالْخَرَاج بل أنعمهم عَيْشًا من لَهُ سداد من عَيْشٍ وحَظ من دِينٍ وَامْرَأَة حسناءُ رضيها ورضيته لَا يعرفنا وَلَا نعرفه وَلما توفّي زِيَاد قدم ابْنه عبيد الله على مُعَاوِيَة وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة من اسْتعْمل أَبوك على المصرين فَأخْبرهُ فَقَالَ مُعَاوِيَة لَو اسْتعْملت أَبوك لاستعملتك فَقَالَ لَهُ عبيد الله أنْشدك الله أَن يَقُول لي أحد(3/122)
بعْدك لَو استعملك أَبوك لَا اسْتَعْمَلْتُك فولاه خرسان من الْبَصْرَة سنة خمس وَخمسين ووصاه فَكَانَ من وَصيته اتَّقِ الله وَلَا تؤثرن على تقواه شَيْئا فَإِن فِي تقواه عوضا وَقِ عرضك من أَن تذله وَإِذا أَعْطَيْت عهدا فأوف بِهِ وَلَا تتبعن كثيرا بِقَلِيل وَلَا يخْرجن مِنْك أَمر حَتَّى تبرمه فَإِذا خرج فَلَا يردن عَلَيْك وَإِذا لقِيت عَدوك فَكبر أكبر من مَعَك وقاسمهم على كتب الله وَلَا تطُمعنَّ أحدا فِي غير حَقه وَلَا تؤيسن أحدا من حق هُوَ لَهُ ثمَّ ودَعه وَسَار وَذَلِكَ فِي أول سنة أَربع وَخمسين من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة والتحية ذكر أَن مُعَاوِيَة تنَازع إِلَيْهِ عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول الله
رَضِي الله عَنهُ فِي أَرض فَقَالَ عَمْرو لأسامة كَأَنَّك تنكرني فَقَالَ لَهُ أُسَامَة مَا يسرني نسبك بولائي فَقَامَ مَرْوَان بن الحكم فَجَلَسَ إِلَى جَانب عَمْرو بن عُثْمَان فَقَامَ الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فَجَلَسَ إِلَى جنب أُسَامَة فَقَامَ سعيد بن الْعَاصِ فَجَلَسَ إِلَى جنب مَرْوَان فَقَامَ الْحُسَيْن بن عَليّ فَجَلَسَ إِلَى جنب الْحسن فَقَامَ عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن عبد شمس فَجَلَسَ إِلَى جنب سعيد بن الْعَاصِ فَقَامَ عبد لله بن جَعْفَر بن أبي طَالب فَجَلَسَ إِلَى جنب الْحُسَيْن فَقَامَ عبد الرَّحْمَن بن الحكم فَجَلَسَ إِلَى جنب عبد الله بن عَامر فَقَامَ عبد الله ابْن الْعَبَّاس فَجَلَسَ إِلَى جنب عبد لله بن جَعْفَر فَلَمَّا رأى ذَلِك مُعَاوِيَة قَالَ لَا تعجلوا أَن كنت شَاهدا إِذْ أقطعها رَسُول الله
أُسَامَة بن زيد فَقَامَ الهاشميون فَخَرجُوا ظَاهِرين وَأَقْبل عَلَيْهِ الأمويون وَقَالُوا هلا كنت أصلحت بَيْننَا قَالَ دَعونِي فو الله مَا ذكرت عيونهم تَحت المغافر بصفين إِلَّا لبس على عَقْلِي وَإِن الْحَرْب أَولهَا نجوى واواسطها شكوى وَآخِرهَا بلوى ثمَّ تمثل بِأَبْيَات عَمْرو بن معدي كرب // (من الْكَامِل) //
(أَلْحَربُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّة ... ... ... ... ... ... .)
وَقد تقدم ذكرهَا فِي آخر خلَافَة عمر رَضِي لله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ قَالَ مَا فِي لقلوب يشب الحروب وَالْأَمر الْكَبِير يَبْعَثهُ الْأَمر الصَّغِير وَمِمَّا ذكره المَسْعُودِيّ قَوْله ضحك مُعَاوِيَة ذَات يَوْم ضحكاً ذهب بِهِ كل(3/123)
مَذْهَب فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لم تضحك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أضْحك الله سنك فَقَالَ مُعَاوِيَة أضْحك من تغور ذهنك يَوْم بارزت عليا وإبدائك سوءتك أمل وَالله يَا عَمْرو لقد واقعت لمنايا وَرَأَيْت الْمَوْت عيَانًا وَلَو شَاءَ لقتلك وَلَكِن أبي ابنُ أبي طَالب فِي أَمرك إِلَّا تكرماً فَقَالَ عَمْرو أما وَالله إِنِّي لعَن يَمِينك حِين دعَاك للبرازِ فاحولت عَيْنَاك وبدا سحرك وبدا مِنْك مَا أكره ذكره فَمن نَفسك فاضحك أَو فدع دخل عبد الله بن عَبَّاس على مُعَاوِيَة وَعِنْده وُجُوه قُرَيْش فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة إِنِّي سَائِلك عَن مسَائِل قَالَ ابْن عَبَّاس سل عَمَّا بدا لَك قَالَ فَمَا تَقول فِي أبي بكر قَالَ رحم الله أَبَا بكر كَانَ وَالله للْفُقَرَاء رحِيما وللقرآن تالياً وَعَن الْمُنكر ناهياً وبربه عَارِفًا وَمن الله خَائفًا وَعَن الشبهاتِ زاجرَاً وبالعروف آمراً وبالليل مُصَليا وبالنهار صَائِما ففاق أَصْحَابه ورعاه وكفافَاً وسادهم زهداً وعفافاً فَغَضب الله على مَن تنقصه أَو طعن فِيهِ قَالَ مَا تَقول فِي عمر قَالَ رحم الله عمر أَبَا حَفْص كَانَ وَالله كَهْف الْإِسْلَام ومأوى الْأَيْتَام ومثنى الْإِحْسَان وَمحل الْإِيمَان وكهف الضُّعَفَاء وَمَعْقِل الصفاء قَامَ بِحَق الله صَابِرًا محتسباً حَتَّى أوضح الدّين وَفتح الْبِلَاد وأمنَ الْعباد فأعقب الله من يبغضه اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فَمَا تَقول فِي عُثْمَان بن عَفَّان قَالَ رحم الله عُثْمَان كَانَ وَالله أكرمَ الخَفَرَة وَأفضل البررة هجاداً بالأسحار كثير الدُّمُوع عِنْد ذكر النَّار نهاضاً إِلَى كل مكرمَة سباقا إِلَى كل فنجيه حَيِياً وفياً صَاحب جَيش الْعسرَة وختَنَ رسولِ الله
فأعقب الله من طعن عَلَيْهِ لعنة اللاعنين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فَمَا تَقول فِي عَلِي بن أبي طَالب قَالَ رحم الله عليا كَانَ وَالله علم الْهدى وكهف التقى وَبدر الحجى وبحر الندى وطود النهى وكهف الورى دَاعيا إِلَى الْحجَّة الْعُظْمَى مستمسكاً بالعروة الوثقى خير من آمن وَاتَّقَى وَأفضل(3/124)
من تقمص وارتدى وَأحب من انتعل وسعى وأفصح من تنصت وقرا وأكبر من شهد النَّحْوِيّ سرى الْأَنْبِيَاء وَالنَّبِيّ المصطفَى صَاحب الْقبْلَتَيْنِ فَهَل يوازيه أحد وَأَبُو السبطين فَهَل يُقَارِبه بشر زَوجته خير النسوان فَهُوَ بفرقه فَاضل وَهُوَ للأسود قتال وَفِي الحروب يختال لم تَرَ عَيْني مثله فعلى من تَنَقصَهُ لعنة الله والعباد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ مُعَاوِيَة يَا بن عَبَّاس قد أكثرت فِي ابْن عمك فَمَا تَقول فِي أَبِيك الْعَبَّاس فَقَالَ رحم الله أَبَا الْفضل كَانَ صنو نَبِي لله وقرة عين صفي الله سيد الْأَعْمَام وَله أَخْلَاق آبَائِهِ الأمجاد وأحلام أجداده الأجواد تَبَاعَدت الْأَسْبَاب عِنْد فَضله صَاحب الْبَيْت والسقاية والمشاعِرِ والتلاوة وَلم لَا يكون كَذَلِك وَهُوَ يشابه أكْرم من دَب وهَب عبد الْمطلب فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا بن عَبَّاس أشهد أَنَّك بنيه أهل بَيْتك قَالَ ابْن عَبَّاس وَلم لَا أكون كَذَلِك وَقد قَالَ لي رَسُول الله
اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل(3/125)
وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ أتيت مُعَاوِيَة وَقد قعد على سَرِيره وَجمع أَصْحَابه ووفود الْعَرَب عِنْده فدخلْتُ وسلمت وَقَعَدت فَقَالَ مُعَاوِيَة من النَّاس يَابْنَ عَبَّاس فَقلت نَحن قَالَ فَإِذا غبتم قلت فَلَا أحد قَالَ ترى أَنِّي قعدت هَذَا المقعد بكم قلت نعم فبمن قعدت قَالَ بِمن كَانَ مثل حَرْب بني أُميَّة قلت من أكفأ عَلَيْهِ إنائه قَالَ وَأَجَارَهُ بردائه قَالَ فَغَضب وَقَالَ وارِ شخصك عني شهرا فقد أمرتُ لَك بصلتك وأضعفتها لَك فَلَمَّا خرجت قلت لخاصته أَلا تَسْأَلُونِي مَا الَّذِي أغضب مُعَاوِيَة قَالُوا بلَى فَقل بِفَضْلِك قَالَ إِن أَبَاهُ حَربًا لم يلتق أحد من رُؤَسَاء قُرَيْش فِي عقبَة وَلَا مضيق مَعَ قوم إِلَّا لم يتَقَدَّم على الْحَرْب أحدا حَتَّى يجوزه أَولا فَالتقى حَرْب مَعَ رجل من بني تَمِيم فِي عقبَة فتقدمه التَّمِيمِي فَقَالَ حَرْب أَنا حَرْب بن أُميَّة فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ التَّمِيمِي وَجَاز قبله فَقَالَ حَرْب موعدك مَكَّة فبقى التَّمِيمِي دهراً ثمَّ أَرَادَ دُخُول مَكَّة فَقَالَ من يجيرني مِنْ حَرْب بن أُميَّة فَقَالُوا عبد الْمطلب فَقَالَ التَّمِيمِي عبد الْمطلب أجل قدرا من أَن يجير عَليّ حَرْب فَأتى لَيْلًا دَار الزبير بن عبد الْمطلب فدق عَلَيْهِ الْبَاب فَقَالَ الزبير لِأَخِيهِ الغيداق قد جَاءَنَا رجل إِمَّا طالبُ حَاجَة وَإِمَّا طالبُ قِرى وَإِمَّا مستجير وَقد أعطيناه مَا أَرَادَ فَخرج إِلَيْهِ الزبير فَقَالَ منشدَاً // (من الْكَامِل) //
(لاقَيْتُ حَرْبًا فِي الثَّنِيَّةِ مُقْبِلاُ ... والصُّبْحُ أبلَجُ ضَوْءَهُ للسَّارِي)
(فَدَعا بصَوْتٍ واكْتَنَى لِيَرُوعَنِي ... وَدَعَا بِدَعْوَتِهِ يُرِيدُ فَجَارِي)
(فتركْتُهُ كالكَلْبِ يَنْبَحُ وَحْدَهُ ... وأتيْتُ أَهْلَ معالِم وفَخَارِ)
(ليثاً هِزَبْرًا يُسْتَجَارُ بقُربِهِ ... رَحْبَ المَبَاءَةِ مُكْرِمًا للجاَرِ)
(ولَقَدْ حَلَفْتُ بمكَّةٍ وبِزمزمٍ ... والبيتِ ذِي الأحجَارِ والأسترِ)(3/126)
(إِنَّ الزبيرَ لَمَانِعِي مِنْ خَوْفِهِ ... مَا كَبَّر الحُجَّاجُ فِي الأَمْصَارِ)
فَقَالَ الزبير تقدم فَإنَّا لَا نتقدَم من نجيره فَتقدم التَّمِيمِي فَدخل الْمَسْجِد التَّمِيمِي فَرَآهُ حَرْب فَقَامَ إِلَيْهِ فَلَطَمَهُ فَحمل عَلَيْهِ الزبير بِالسَّيْفِ فَعدا حَتَّى دخل دَار عبد الْمطلب فَقَالَ أجرني من الزبير فأكفأَ عَلَيْهِ جفنةّ كَانَ أَبوهُ هَاشم يطعم فِيهَا النَّاس فبقى تحتهَا سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ اخْرُج فَقَالَ كَيفَ أخرج وَسَبْعَة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الْبَاب فَألْقى عَلَيْهِ عبد الْمطلب رداءَ كَانَ كَساهُ إِيَّاه سيفُ ذُو يزن لما قَدِمَ عَلَيْهِ لَهُ طرتان خضراوان فَخرج عَلَيْهِم بِهِ فَعَلمُوا أَنه قد أجاره فَتَفَرَّقُوا عَنهُ وَحضر مرّة مجْلِس مُعَاوِيَة هُوَ وَعَمْرو بن الْعَاصِ فَأقبل عبد الله بن جَعْفَر فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ ابْن الْعَاصِ قَالَ قد جَاءَكُم رجل كثير الخلوات بالتمني والمطربات بالتغني يحب القيان كثير مزاحه شَدِيد طماحه صروف عَن السنان ظَاهر الطيش لين الْعَيْش أخاذ بِالسَّيْفِ منفاق بالسرف فَقَالَ ابْن عَبَّاس كذبت وَالله أنتَ وَلَيْسَ كَمَا ذكرت وَلكنه لله ذُكُور ولنعمائه شكور وَعَن الْخَنَا زجور جواد كريم سيد حَلِيم ماجد لهيم إِن ابْتَدَأَ أصَاب وَإِن شئل أجَاب غير حصر وَلَا هياب وَلَا فحاش عياب حل من قُرَيْش فِي كريم النّصاب كالهزبر الضرغام الجريء الْمِقْدَام فِي الْحسب القمقام لَيْسَ يدعى لدعي وَلَا يدنى لدني كمن اخْتصم فِيهِ من قُرَيْش شِرَارهَا فغلب عَلَيْهِ جزارها فَأصْبح ألأمها حسباً وَأَدْنَاهَا منصباً ينوء مِنْهَا بالذليل ويأوي مِنْهَا إِلَى الْقَلِيل مذبذب بَين الْحَيَّيْنِ كالساقط ين الفراشين لَا الْمُضْطَر إِلَيْهِم عرفوه وَلَا الظاعن عَنْهُم فقدوه فليت شعري بِأَيّ قدم تتعرض للرِّجَال وَبِأَيِّ حسب تبارز عِنْد النضال أبنفسك فَأَنت الوغد الزنيم أم بِمن تنتمي إِلَيْهِ فَأهل السَّفه والطيش والدناءة فِي قُرَيْش لَا بشرف فِي الْجَاهِلِيَّة شهروا وَلَا بقديم فِي الْإِسْلَام ذكرُوا غير أَنَّك تَتَكَلَّم بِغَيْر(3/127)
لسَانك وتنطق بالزور بِغَيْر أركانك وَالله لَكَانَ أبين للفضل وَأظْهر للعدل أَن ينزلك مُعَاوِيَة منزلَة العَبْد الْحقيق فَإِنَّهُ طالما أسلس دلوك وطمح بك رجاؤك إِلَى الْغَايَة القصوى فَقَالَ عبد الله بن جَعْفَر لِابْنِ عَبَّاس أَقْسَمت عَلَيْك لَمَا أَمسَكت فَإنَّك عني ناضلت ولي فاوضت فَقَالَ ابْن عَبَّاس دَعْنِي وَالْعَبْد فَإِنَّهُ قد كَانَ يهدر خَالِيا إِذْ لَا يجد رامياً قد أتيح لَهُ ضيغم شرس للأقران مفترس وللأرواح مختلس فَقَالَ ابْن الْعَاصِ لمعاوية دَعْنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أنتصف مِنْهُ فوَاللَّه مَا ترك شَيْئا فَقَالَ ابْن عَبَّاس دَعه فَلَا يبْقى المبقى إِلَّا على نَفسه فوَاللَّه إِن قلبِي لشديد وَإِن جوابي لعتيد وَبِاللَّهِ الثِّقَة كَمَا قَالَ نَابِغَة بني ديبان // (من الوافر) //
(وَقَبْلَكَ مَا قَذَعْتُ وقَاذَعُونيِ ... فَمَا نزر الكَلاَمُ وَمَا شَجَانِي)
)
يَصُدُّ الشّاَعِرُ العَرَّافُ عَنِّي ... صُدُودَ الْبَكْرِ عَنْ قَدَمٍ هجَانِ)
وَلما بلغ غانمة بنت غَانِم القرشية سبّ مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ بني هَاشم قَالَت لأهل مَكَّة أَيهَا النَّاس إِن قُريْشًا سادَت فجادت وملكَت فملكَتْ وفضلت ففضلت واصطفيت فاصطفت لَيْسَ فِيهَا كدر عيب وَلَا أفن ريب وَلَا حسروا طاغين وَلَا جادوا نادمين وَلَا المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين إِن بني هَاشم أطول النَّاس باعاً وأمجد النَّاس أصلا وأوسع النَّاس حلماً وَأكْثر النَّاس عَطاء منا عبد منَاف الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر // (من الْكَامِل) //
(كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فتفلَّقَتْ ... فَالمُحُّ خَالِصُهَا لِعَبْدِ منافِ)
وَولده هَاشم الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيد لِقَوْمِهِ وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الْكَامِل) //
(عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لقَوْمِهِ ... ورجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ)
ثمَّ منا عبد الْمطلب الَّذِي سُقِينَا بِهِ الْغَيْث وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الْكَامِل) //(3/128)
(وَنحن سنى الْمحل قَامَ شفيعنا ... بِمَكة يَدْعُو والمياه تغور)
وَابْنه أَبُو طَالب عَظِيم قُرَيْش وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الْكَامِل) //
(أُنْبِئْتُهُ مَلكًا فَقَامَ بحَاجَتِي ... وَترى العُلَيِّجَ خَاسِئًا مَذْمُوم)
وَمنا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أردفه رَسُول الله
وَأَعْطَاهُ مَاله وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(رَديفُ رَسُولِ الله لم أَرَ مثلَهُ ... وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى القيَامَةِ يُوجَدُ)
وَمنا حَمْزَة سيد الشُّهَدَاء وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الوافر) //
(أَبَا يَعْلَي لَكَ الأرْكَانُ هدَّتْ ... وأَنْتَ الماجدُ البَرُّ الوَصُولُ)
وَمنا جَعْفَر ذُو الجناحَين أحسن النَّاس حسباً وأتمهم كمالاَ لَيْسَ بغدار وَلَا ختال بدله الله تَعَالَى بِكُل يَد جنَاحا يطير بهما فِي الْجنَّة وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(فَهاتُوا محاكي جَعْفَرٍ وَعَليَّنَا ... أَلَسْنَا أَعَزَّ النَّاسِ عِنْدَ الحقائِقِ)
وَمنا أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَفرس بني هَاشم وَأكْرم من احتفى وانتعل بعد رَسُول الله
وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(وَهَذَا عَليٌّ سَيِّدُ النَّاسِ فَاتَّقُوا ... عَليُّا بِإِسْلاَمٍ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ)
وَمنا الْحسن بن عَليّ سبط رَسُول الله
وَسيد شباب أهل الْجنَّة وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الوافر) //
(وَمَنْ يَكُ جَدُّهُ حَقاً نَبِيًّا ... فَإِنَّ لَهُ الفَضِيلَةَ فِي الأَنَامِ)(3/129)
وَمنا الْحُسَيْن بن عَليّ حمله جِبْرِيل على عَاتِقه وَكفى بذلك فخرَاً وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(نَفَى عَنْهُ عَيْبَ الآدَمِيَّينَ رَبُّهُ ... وَمَن جَدُّهُ جَدُّ الحُسَيْنِ المُطَهَّرُ)
ثمَّ قَالَت يَا معشر قُرَيْش الْآدَمِيّين وَالله مَا مُعَاوِيَة بأمير الْمُؤمنِينَ وَلَا هُوَ كَمَا يزْعم هُوَ وَالله شأني رَسُول الله
وَإِنِّي آتِيَة مُعَاوِيَة وقائلة لَهُ مَا يعرق مِنْهُ جَبينه وَيكون مِنْهُ أنينه فَكتب عَامل مُعَاوِيَة إِلَيْهِ بذلك فَلَمَّا بلغ مُعَاوِيَة أَن غانمة قربت مِنْهُ أَمر بدار ضِيَافَة فنظفت وَألقى فِيهَا فرش فَلَمَّا دنت من الْمَدِينَة اسْتَقْبلهَا يزِيد فِي حشمه ومماليكه فَلَمَّا دخلت الْمَدِينَة نزلت دَار أَخِيهَا عَمْرو بن غَانِم فَقَالَ لَهَا يزِيد إِن أَبَا عبد الرَّحْمَن يَأْمُرك أَن تصيري إِلَى ضيافته وَكَانَت لَا تعرف يزِيد فَقَالَت من أَنْت كلأك الله قَالَ يزِيد بن مُعَاوِيَة قَالَت فَلَا رعاك الله يَا نَاقص لست بزائد فتمعَّر لون يزِيد فَأتى أَبَاهُ فَأخْبرهُ فَقَالَ هِيَ أسن قُرَيْش وأعظمهم حَالا قَالَ يزِيد كم تعدُّ لَهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ كَانَت تعد على عهد رَسُول الله
أَرْبَعمِائَة عَام وَهِي بَقِيَّة الْكِرَام فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَاهَا مُعَاوِيَة فَسلم عَلَيْهَا فَقَالَت على أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّلَام وعَلى الْكَافرين الهوان ثمَّ قَالَت مَنْ مِنْكُم ابْن الْعَاصِ قَالَ عَمْرو هانذا فَقَالَت لَهُ رَأَيْتُك تسب قُريْشًا وَبني هَاشم وَأَنت أهل السب وفيك السب وَإِلَيْك يعود السبُّ يَا عَمْرو إِنِّي وَالله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك وَإِنِّي أذكر لَك ذَلِك عيبَاً عَيْبا وُلدْتَ من أمة سَوْدَاء مَجْنُونَة حمقاء تبول من قيام وتعولها اللئام إِذا لَا مَسهَا الْفَحْل كَانَت نطفتها أنفذ من نطفته ركبهَا فِي يَوْم وَاحِد أَرْبَعُونَ رجلا وَمَا أَنْت فقد رَأَيْتُك غاويَاً غير رَاشد ومفسداً غير مصلح وَلَقَد رَأَيْت فَحل زَوجتك على فراشك فَمَا غرت وَلَا أنْكرت وَأما أَنْت يَا مُعَاوِيَة فَم كنت فِي خير وَلَا ربيب فِي نعْمَة فَمَا لَك وَبني هَاشم أنساء أُميَّة كنسائهم أم أعْطى أُميَّة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام مَا أعْطى هَاشم فكفي فخراً برَسُول الله(3/130)
فَقَالَ مُعَاوِيَة أيتها الْكَبِيرَة أَنا كَاف عَن هَاشم قَالَت فَإِنِّي أكتب عَلَيْك عهدا فقد كَانَ النَّبِي
دَعَا ربه أَن يستجيب لي خمس دَعَوْت فأجعل تِلْكَ الدَّعْوَات كُله فِيك فخاف مُعَاوِيَة وَحلف لَهَا أَلا يسب بني هَاشم أبدَاً فَهَذَا آخر مَا كَانَ من أمرهَا مَعَه قيل قَالَ رجل من قُرَيْش مَا أَظن مُعَاوِيَة أغضبهُ شَيْء قطّ فَقَالَ بَعضهم إِن ذكرت أمه غضب فَقَالَ مَالك ابْن أَسمَاء الْقرشِي أَنا أغضبهُ إِن جعلتم لي جُعْلا فَفَعَلُوا فَأَتَاهُ فِي الْمَوْسِم فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عَيْنَيْك لتشبهان عينَي أمك قَالَ نعم كَانَتَا عينين طالما أعجبتا أَبَا سُفْيَان ثمَّ دَعَا مُعَاوِيَة مَوْلَاهُ شقران فَقَالَ لَهُ أعدد لأسماء دِيَة ابْنهَا فَإِنِّي قد قتلته وَهُوَ لَا يدْرِي فَرجع وَأخذ الْجعل فَقيل لَهُ إِن أتيت عَمْرو بن الزبير فَقلت لَهُ مثل مَا قلت لمعاوية أعطيناك كَذَا وَكَذَا فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِك فَأمر بضربه حَتَّى مَاتَ فَبلغ مُعَاوِيَة مَوته فَقل أَنا وَالله قتلته وَبعث إِلَى أمه بِتِلْكَ الدِّيَة الَّتِي أعدهَا وَأَنْشَأَ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(أَلاَ قُلْ لأَسْمَاءِ المُنى أُم مَالِكٍ ... فَإِني لَعَمْرُ الله أَهْلَكْتُ مَالِكَا)
وَقيل لِشَرِيك القَاضِي إِن مُعَاوِيَة كَانَ حَلِيمًا فَقَالَ كلا وَالله لَو كَانَ حَلِيم لما سفه الْحق وَقَاتل عَلِياً عَلَيْهِ السَّلَام وَلما مَاتَ سعيد بن الْعَاصِ وَفد ابْنه عَمْرو على مُعَاوِيَة فاستنطقه فَقَالَ إِن أول كل مركب صَعب وَإِن مَعَ أمس غَدا فَقل لَهُ مُعَاوِيَة من أوصى بك أَبوك فَقَالَ إِنَّه أوصى إليَ وَلم يُوصِ بِي فَقَالَ مُعَاوِيَة إِن ابْن سميَّة هَذَا لأشدق فُسمي عَمْرو الْأَشْدَق من ذَلِك الْيَوْم وَدخل ملك بن هُبَيْرَة السَّلُولي على مُعَاوِيَة وَكَانَ شَيخا كبيرَاً فأجلسه فحرك رجله فَمدَّهَا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة لَيْت لنا جَارِيَة لَهَا مثل ساقيك فَقَالَ مُتَّصِلا وبمثل عجيزتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخَجِلَ مُعَاوِيَة وَقَالَ وَاحِدَة بِوَاحِدَة وَدخل عَلَيْهِ شريك بن الْأَعْوَر فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَنْت شريك وَمَا لله من(3/131)
شريك وَابْن الْأَعْوَر وَالصَّحِيح خير من الْأَعْوَر وَإنَّك لدميم والوسيم خير من الدميم فَبِمَ سَودَكَ قَوْمك فَقَالَ لَهُ شريك إِنَّك لمعاوية وَمَا مُعَاوِيَة إِلَّا كلبة عوت فاستعويت فسميت مُعَاوِيَة وَإنَّك ابْن حَرْب وَالسّلم خير من الْحَرْب وَإنَّك ابْن صَخْر والسهل خير من الصخر وَإنَّك ابْن أُميَّة وَمَا أُميَّة إِلَّا أمة صغرت فَبِمَ صرت أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَقْسَمت عَلَيْك إِلَّا خرجت عني فَخرج وَهُوَ يَقُول // (من الوافر) //
(أَيَشْتُمُنِي مُعَاوِيَةُ بنُ حَربِ ... وَسَيفي صَارِم ومَعِي لسانِي)
(وَحَولِي مِنْ ذَوِي يَمَنٍ لُيُوث ... ضراغمة تَهَشُ إِلَى الطعانِ)
وَقَالَ أربيت على عَليّ فِي أَربع خِصَال كَانَ رجلا سره علنه ومنت كتوماً لأمري وَكَانَ لَا يسْعَى حَتَّى يفجأه لأمر وَكنت أبادر ذَلِك وَكَانَ فِي أَخبث جند وأشدهم ختلا وَكنت فِي أطوع جند وَكنت أحب مِنْهُ إِلَى قُرَيْش فَثَابَ إِلَيّ مَا شِئْت من جائح وتفرق عَنهُ وَدخل يَوْمًا على امْرَأَته مَيْسُونُ بنت بَحْدَل أم يزِيد وَمَعَهُ خَصي فاستترت مِنْهُ فَقَالَ لم ذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة امْرَأَة فَقَالَت كَأَنَّك ترى أَن مُثلَتَكَ بِهِ تحلل مَا حرم الله عَلَيْهِ مِني وروى أَن عدي بن حَاتِم دخل على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يَا عدي أَيْن الطرفات يَعْنِي بنيه طارفاً وطريفاً وطرفةَ قَالَ قتلوا يَوْم صفّين بَين يدَي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ مُعَاوِيَة مَا أنصفك ابْن أبي طَالب إِذْ قدم بَيْنك وَأخر بنيه فَقَالَ عدي بل مَا أنصفت أَنا عليا إِذْ قُتِلَ وبقيتُ قيل قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لمعاوية يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مابقي من شبابك وتلذذك قل وَالله مَا بقى شَيْء يُصِيبهُ النَّاس من الدُّنْيَا إِلَّا وَقد أصبته أما النِّسَاء فَلَا أرب لي فِيهِنَّ وَلَا لَهُنَّ وَأما الطّيب فقد شممته حَتَّى مَا أُبَالِي بِهِ وَأما الطَّعَام فقد طعمت الحلو والحامض حَتَّى لَا أجد فرق مَا بَينهمَا وَأما الثِّيَاب فقد لبست من لينها وجيدها حَتَّى مَا أُبَالِي مَا ألبس فَمَا شَيْء ألذ عِنْدِي من شربة مَاء بَارِد فِي يَوْم صَائِف ونظري إِلَى بني وَبني بني يدرجون حَولي فَأَنت يَا عَمْرو مَا بَقِي من لذتك قَالَ أَرض أغرسها وآَكل من ثَمَرَتهَا وأنتفع بغلتها ثمَّ الْتفت مُعَاوِيَة إِلَى وردان مولى عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَ يَا وردان مَا بَقِي من(3/132)
لذتك قَالَ صنائع كَرِيمَة أعقدها فِي عنَاق الرِّجَال لَا يكافئوني عَلَيْهَا تكون لأعقابي من بعدِي فَقَالَ مُعَاوِيَة تَباً لهَذَا الْمجْلس يغلبنا عَلَيْهِ هَذَا العَبْد وعَلى هَذَا الذّكر قَالَ قُتَيْبَة بن مُسلم لوكيع بن الْأسود مَا السرُور قَالَ لِوَاء منشور وجلوس على السرير وَالسَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير وَقيل لحصين بن الْمُنْذر مَا السرُور قَالَ مرأة حسناء فِي دَار قوراء وَفرس بالفناء وَقيل لبَعْضهِم أَي الْأُمُور أمتع قَالَ الْأَمَانِي فَلَيْسَ سرُور النَّفس بالجدة إِنَّمَا سرورها بالأمل والمنى وَأنْشد // (من الْبَسِيط) //
(إِذَا تَمَنَّيْتُ بِتُّ اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا ... إِنَّ المُنَى رأْسُ أَمْوَالِ المَفَالِيسِ)
(لَوْلاَ المُنَى متُّ مِن هَمِّ ومِنْ جَزَعٍ ... إِذا تذكَّرْتُ مَا فِي داخلِ الكِيسِ)
وَقيل لعبد الله بن الْأَهْتَم مَا السرُور قَالَ رفع الْأَوْلِيَاء وَحط الْأَعْدَاء وَقَالَ بَعضهم السرُور توقيع نَافِذ وَأمر جَائِز وَقيل لطرفة بن لعبد مَا السرُور فَقَالَ مطعم شهي ومركب وطي وملبس دفي وَقيل للأعشى مَا السرُور فَقَالَ صهباء صَافِيَة تمزجها غانية بِصَوْت غادية وَقيل لِمَعْنٍ مَا السرُور فَقَالَ مجْلِس يقل هذره وعود يصفو وتره وعقول تفهم مَا أَقُول وَقيل لمظلوم مَا السرُور فَقَالَ كِفَايَة ووطن وسلامة وَسكن وَقيل لبَعض الْعَرَب مَا السرُور فَقَالَ ينون أغبظ بهم عداتي وَلَا تقرع مَعَهم صفاتي وَقيل لفتاة مَا السرُور فَقَالَت زوج يمْلَأ قلبِي جلالاَ وعيني جمالا وفنائي جِمالا وَقيل لطفيلي مَا السرُور فَقَالَ ندامى تسكن صُدُورهمْ وتغلي قدورهم وَلَا تغلق دُورهمْ وَقيل لقانص مَا السرُور فَقَالَ قسي مأطورة وشرعة مشرورة ونبال مطرورة(3/133)
وَقَالَ الشَّاعِر // (من الْخَفِيف) //
(أطْيَبُ الأطيباتَ قتْلُ الأَعادِي ... واخْتيَالٌ عَلى مُتُونِ الجَيادِ)
(وَأَيادٍ تَحْبُو بِهنَّ كَرِيمًا ... إِنَّ عندَ الكَريمِ تزكُو الأَيَادِي)
)
ورسولٌ يَأْتِي بِوَعْدِ حبِيبٍ ... وَحَبِيبٌ يَأُتِي بِلاَ مِيعَادِ)
وَقل الآخر // (من الْخَفِيف) //
(أَطْيبُ الطْيبَاتَِأمْرٌ ونهْىٌ ... لَا يُرَدَّانِ فِي الأمورِ الجِسَامِ)
(وامتطاءُ الخُيُولِ فِي كَنَفِ الأَمنِ ... بِغَيْرَ الإِقدامِ والإِحجامِ)
(وَسماع الصَّهِيلِ فِي لجبِ المَوكبِ ... تحتَ اللِّوَاءِ والأعلامِ)
وَقَالَ الآخر // (من الْخَفِيف) //
(أَطيبُ الأطيباتِ طيبُ الزمانِ ... وندامَى المُنعَّمَاتِ الغَوانِي)
(واحتساءُ العُقارِ فِي غُرَّةِ الصُّبْحِ ... على شَدْوِ مَاهِرَاتِ القِيَانِ)
(وأَمَانٌ مِن الهُمُومِ وَمَالٌ ... لَيْسَ يُفْنِيهِ نَائِبُ الحَدَثَانِ)
وَلَقَد خرج بِنَا الاستطراد إِلَى غير المرد فنعود فَنَقُول وَقدم زِيَاد ابْن أَبِيه على مُعَاوِيَة فَلَمَّا طَال بِهِ الْمجْلس حَدثهُ بِحَدِيث فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة كذبت فَقَالَ زِيَاد مهلاَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فوَاللَّه مَا حللت للْكَلَام حبوة إِلَّا على بيعَة الصدْق وَلم أكذب وحياة الْكَذِب عِنْدِي موت الْمُرُوءَة فاستحياه مُعَاوِيَة وَقَالَ يغْفر الله لَك يَا أخي فَكَأَنِّي أرى بك حَرْب بن أُميَّة فِي جميل شميه وكرم أخلاقه وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قعد للنَّاس فِي يَوْم عيد وَوضعت الموائد وَبدر الدَّرَاهِم للجوائز والصلات فجَاء رجل فَقعدَ على كيس دَنَانِير وَالنَّاس يَأْكُلُون فصاح بِهِ الخدم تنحَ فَلَيْسَ لَك هَذَا بِموضع فَقَالَ مُعَاوِيَة دعوا الرجُلَ يجلس حَيْثُ أحبَّ فَأخذ الْكيس وَقَامَ فَلم يَجْسُر أحد أَن يدنو مِنْهُ فَقَالَ الخدم إِنَّه قد نقص من المَال كيس فَقَالَ مُعَاوِيَة أَنا صَاحبه وَهُوَ مَحْسُوب لكم(3/134)
ويحكي عَن مُعَاوِيَة بَيْنَمَا هُوَ يسير وشرحبيل بن لسمراء يسايره إِذْ راثَتْ فرس شُرَحْبِيل فساءه ذَلِك فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا أَبَا يزِيد إِنَّه يُقَال إِن الهامة إِذا عظمتْ دلتْ على وفور الدِّمَاغ وَصِحَّة الْعقل قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا هامتي فَإِنَّهَا عَظِيمَة وعقلي ضَعِيف نَاقص فَتَبَسَّمَ مُعَاوِيَة وَقَالَ كَيفَ ذَاك لله أَنْت قَالَ لإعلافي دَابَّتي مكوكين من شعير فَتَبَسَّمَ مُعَاوِيَة أَيْضا وَحمله على فرس من مراكبه قَالَ صَاحب كتاب المحاسن والمساوئ قيل لمعوية من رَأَيْت شَرّ النَّاس فَقَالَ عَلْقَمَة بن وَائِل الْحَضْرَمِيّ قدم على رَسُول الله
فَأمرنِي ن أَنطلق بِهِ إِلَى رجل من الْأَنْصَار أنزلهُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقت مَعَه وَهُوَ على نَاقَته وَأَنا مشي فِي سَاعَة شَدِيدَة الْحر وَلَيْسَ برجلي حذاء فَقلت احملني يَا عَم من هَذَا الْحر فَإِنَّهُ لَيْسَ على حذاء قَالَ لست من أرْدف الْمُلُوك قلت أَنا مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قَالَ قد سَمِعت رَسُول الله
يَقُول ذَلِك فَقلت ألق إِلَيّ نعليك قَالَ لَا تقلهما قدمك وَلَكِن امش فِي ظلّ نَاقَتي وَكَفاك بذلك شرفاً وَإِن الظل لَك كثير قَالَ مُعَاوِيَة فَمَا مرَ بِي مثل ذَلِك الْيَوْم ثمَّ أدْرك سلطاني فَلم أؤاخذه بذلك بل أجلسته على سَرِيرِي هَذَا وقضيت حَوَائِجه انْتهى كَانَ صعصعة بن صوحان وَأَخُوهُ زيد وَقيل يزِيد بن صوحان وَكِلَاهُمَا شيعَة عَليّ من الفصحاء البلغاء دخل صعصعة على مُعَاوِيَة فَسَأَلَهُ مَا السؤدد فِيكُم قَالَ إطْعَام الطَّعَام ولين الْكَلَام وبذل النوال وكف النَّفس عَن السُّؤَال والتودد للصَّغِير وَالْكَبِير وَأَن يكون النَّاس عنْدك شرعا ثمَّ قَالَ مَا الْمُرُوءَة والسيادة قَالَ أَخَوان اجْتمعَا فَإِن لقيا قهرا وَإِن كَانَ بَينهمَا قَلِيل وصاحبهما جليل محتاجان إِلَى صِيَانة ونزاهة ودماثة وفراهة قَالَ فَهَل تحفظ فِي ذَلِك شَيْئا قَالَ نعم أما سَمِعت قَول مرّة بنِ ذهل الشَّيْبَانِيّ حَيْثُ يَقُول // (من الْكَامِل) //
(إنَّ السِّادة والمُرُوءَةَ عُلِّقَا ... حَيْثُ السِّمَاكُ من السماءِ الأعزلُ)
(وَإذَل تَقابلَ يجريانِ لغايةٍ ... عَثر الهَجِيْنُ وأَسْلَمَتْهُ الأَرْجُلُ)(3/135)
(ونجَا الصريحُ مَعَ الغِياثِ مُعوَّدًا ... قربَ الجيادِ ولمْ يجِئْهُ الأَفْكلُ)
قَالَ مُعَاوِيَة لَو أَن رجلا ضرب آَباط الْإِبِل شرقاً وغرباً لفائدة هَذِه الأبيات مَا عفته ثمَّ قَالَ لَهُ فَمن الْحَلِيم قَالَ من ملك غَضَبه فَلم يَجْعَل وَأوحى إِلَيْهِ بِحَق أَو بَاطِل فَلم يقبل ذَلِك الْحَلِيم يَا مُعَاوِيَة ثمَّ قَالَ لَهُ فَمن الْفَارِس فِيكُم الشجاع حد لي فِيهِ حَداً أسمعهُ مِنْك فَإنَّك تضع الْأَشْيَاء موَاضعهَا يَابْنَ صوحان قَالَ الْفَارِس من قصر أَجله فِي نَفسه وضغم عَن أمله بضرسه وَكَانَت الْحَرْب عَلَيْهِ يَوْمه أَهْون من أمسه ذَلِك الْفَارِس إِذا أوقدت الْحَرْب وَاشْتَدَّ بالأنفس الكرب وتداعوا للنزال وتسارعوا لِلْقِتَالِ وتخالسوا المهَج واقتحموا بِالسُّيُوفِ اللجج قَالَ مُعَاوِيَة زِدْنِي قَالَ نعم الْفَارِس كثير الحذر يردد النّظر يلْتَفت بِقَلْبِه وَلَا يُدِير خَرَزَات صلبه قَالَ أَحْسَنت يَا بن صوحان فَهَل فِي مثل هَذِه الصّفة من شعر قَالَ نعم لزهير بن جناب الْكَلْبِيّ قَوْله // (من الْخَفِيف) //
(فارسٌ يَكْلأُ الصَّحَابَة مِنْهُ ... بِحُسَامٍ يمرُّ مَرَّ الحرِيقِ)
(لاَ تَرَاهُ يَوْمَ الوَغَى فِي مَجَالٍ ... يُغْفِلُ الضَّرْبَ لاَ وَلاَ فِي المَضِيقِ)
(مَنْ يَرَاهُ يَخَلْهُ فِي الحربِ يَومًا ... أَنه تَائِهٌ مُضِلُّ الطَّرِيقِ)
وَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَحْسَنت كل الحسُن يَا بن صوحان وَمن حسن سياسات مُعَاوِيَة أَن رجلا من أهل الْكُوفَة قدم دمشق على بعير لَهُ بعد منصرفهم من صفّين فَتعلق بِهِ رجل من أهل دمشق وَقَالَ هَذِه نَاقَتي أخذت مني(3/136)
بصفين فَرفع أَمرهمَا إِلَى مُعَاوِيَة فَأَقَامَ الدِّمَشْقِي خمسين رجلا يشْهدُونَ أَنَّهَا نَاقَته فَقضى مُعَاوِيَة على الْكُوفِي وَأمره بِتَسْلِيم النَّاقة فَقَالَ الْكُوفِي أصلحك الله إِنَّمَا هُوَ جمل وَلَيْسَ بِنَاقَة فَقَالَ مُعَاوِيَة هَذَا حكم مضى ودس إِلَى الْكُوفِي من أحضرهُ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن ثمن بعيره فَدفع إِلَيْهِ ضعف ثمنه وبره وَأحسن إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أبلغ عليا أَنِّي أقاتله بِمِائَة ألف مَا فيهم من يفرق بَين النَّاقة والجمل وَلَقَد بلغ من طاعتهم لَهُ أَنه صلى بهم عِنْد مسيره إِلَى صفّين الْجُمُعَة يَوْم الْأَرْبَعَاء وأعاروه رُءُوسهم عِنْد الْقِتَال وجملوه بهَا هَكَذَا ذكره المَسْعُودِيّ فِي مروجه ثمَّ انْتهى بهم الْحَال إِلَى أَن جعلُوا لَعنَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وكرم الله وَجهه سُنَة ينشأ عَلَيْهَا صَغِيرهمْ وَيهْلك عَلَيْهَا كَبِيرهمْ أَقُول انْظُر إِلَى هَذَا النَّقْل من المَسْعُودِيّ هَل يخرج إِلَّا من قلب مبغض وَيدخل إِلَّا فِي أذن مبغض سبما صلَاته بهم الْجُمُعَة يَوْم الْأَرْبَعَاء أَي معنى فِيهِ لَهُ هَب أَن مَا عداهُ على تَقْدِير صِحَّته لَهُ غَرَض فِيهِ وَأما نِسْبَة الصَّلَاة فَلَيْسَ الْقَصْد بهَا إِلَّا نسبته إِلَى الاستخفاف بِالدّينِ والتلاعب بعماده الَّتِي هِيَ أعظَمُ رُكْنه المكين وَقد علمت أ، المَسْعُودِيّ هُوَ من هُوَ وَإِذا كَانَ اعْتِقَادهم فِي الشَّيْخَيْنِ وحاشاهما ارتدادهما وهما من هما فَمَا ظَنك بسواهما وَذكر بعض الإخباريين أَنه قَالَ لرجل من هَل الشَّام من زعمائهم وَهل الرَّأْي مِنْهُم من أَبُو تُرَاب هَذَا الَّذِي يلعنه الإِمَام على الْمِنْبَر فَقَالَ الشَّامي أرَاهُ إِمَّا لِصُّاً من لصوص الْقَيْن أَو من قطاع الطَّرِيق وَحكى الجاحظ أَنه قَالَ لرجل من أهل الشَّام وَهُوَ يُرِيد الْحَج وَقد ذكر لَهُ الْبَيْت الشريف يَا أخي إِذا أَتَيْته فَمن يكلمني مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا إِنَّه أخبرهُ صديق لَهُ أَنه قَالَ لَهُ رجل وَقد سَمعه يُصَلِّي على مُحَمَّد
مَا تَقول فِي مُحَمَّد هَذَا أربنا هُوَ وَذكر ثُمَامَة بن أَشْرَس قَالَ كنت ماراً بِالسوقِ بِبَغْدَاد فَإِذا رجل يَبِيع كحلا ويصفه أَنه ينجح لكل دَاء فِي الْعين فَنَظَرت إِلَى عَيْنَيْهِ فَإِذا وَاحِدَة برشاء(3/137)
وَالْأُخْرَى موكوسة فَقلت لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَو هَاهُنَا اشتكيت عَيْني يَا أبله إِنَّمَا اشتكيتها بِمصْر فَقَالَ أَصْحَابه صدق صدق قَالَ المَسْعُودِيّ وَذكر لي بعض إخْوَانِي من أهل الْعلم قَالَ كُنَّا نقعد فنتذاكر أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وَمُعَاوِيَة وَنَذْكُر مَا يذكرهُ أهل الْعلم وَكَانَ قوم من النَّاس مِنْهُم ينظرُونَ إِلَيْنَا فَقَالَ لي بَعضهم وَكَانَ أظرفهم وأعقلهم وأكبرهم لحية كم تطنبون فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة وَفُلَان وَفُلَان فَقلت لَهُ وَمَا تَقول أَنْت فِي ذَلِك فَقَالَ من تُرِيدُ قلت عَليّ مَا تَقول فِيهِ قَالَ أَلَيْسَ هُوَ أَبَا فَاطِمَة قلت وَمن كَانَت فَاطِمَة قَالَ امْرَأَة النَّبِي
بنت عَائِشَة أُخْت مُعَاوِيَة قلت فَمَا كَانَ من قصَّة عَليّ قَالَ قتل فِي غزَاة حنين مَعَ النَّبِي
وَفِي الطيوريات عَن سُلَيْمَان المَخْزُومِي قَالَ أذن مُعَاوِيَة للنَّاس إِذْنا عَاما فَلَمَّا أحتفل بِالْمَجْلِسِ قَالَ أنشدوني ثَلَاثَة أَبْيَات لرجل من الْعَرَب كل بَيت مِنْهَا قَائِم بِمَعْنَاهُ فَسَكَتُوا ثمَّ طلع عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ مُعَاوِيَة أَنْشدني ثَلَاثَة أَبْيَات لرجل من الْعَرَب كل بَيت قَائِم بِمَعْنَاهُ قَالَ بثلاثمائة ألف قَالَ أَو تَسَاوِي قَالَ أَنْت بِالْخِيَارِ فَأَنت واف كَاف قَالَ هَات فأنشده للأفوه الأودي // (من الوافر) //
(بَلَوْتُ الناسَ قرنا بعد قرْنٍ ... فلمْ أَرَ غَيْرَ ختالٍ وقَالِي)
فَقَالَ مُعَاوِيَة صدقت هيه فَقَالَ // (من الوافر) //
(وَذُقْتُ مَرَارَة الأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا طعْمٌ أَمَرّ مِن السُّؤالِ)
قَالَ صدقت هيه فَقَالَ // (من الوافر) //
(وَلمْ أَرَ فِي الخُطُوبِ أَشَدَّ وَقعا ... وَأَصْعبَ مِن مُعَادَاةِ الرِّجَالِ)
قَالَ مُعَاوِيَة صدقت ثمَّ أَمر لَهُ بثلاثمائة ألف(3/138)
قَالَ الْعَلامَة الدَّمِيرِيّ فِي حَيَاة الحيون الْكُبْرَى لما تزوَج مُعَاوِيَة مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكَلْبِيَّة أم يزِيد بن مُعَاوِيَة واتصلت بِهِ وَكَانَت ذَات جمال باهر وَحسن غامر وأعجب بهَا مُعَاوِيَة وهيأ لَهَا قصرَاً مشرفاً على الغوطة وزينه بأنواع الزخارف وَوضع فِيهِ من الْأَوَانِي الْفضة وَالذَّهَب مَا يضاهيه وَنقل إِلَيْهِ من الديباج الرُّومِي الملون والفرش مَا هُوَ لَائِق بِهِ ثمَّ أسكنها مَعَ وصائف لَهَا كأمثال الْحور الْعين فَلبِست يَوْمًا أَفْخَر ثِيَابهَا وتطيبتْ وتزينَتْ بِمَا أعدَ لَهَا من الْحلِيّ والجواهر الَّتِي لَا يُوجد مثلهَا ثمَّ جَلَست فِي روشنها وحولها الوصائف ونظرَتْ إِلَى الغوطة وأشجارها وأنهارها وتجاوب الطير فِي أوكارها واشتمَّتِ الأزهارَ والرياحينَ والنُوَّارَ فتذكرت نجداً وحنَّتْ إِلَى أترابها وأناسها وَذكرت مسْقط رَأسهَا فَبَكَتْ وتنهدت فَقَالَ لَهَا بعض حظاياها مَا يبكيك وَأَنت فِي ملك يضاهي ملك بلقيس فتنفست الصعداء ثمَّ أنشدت // (من والوافر) //
(لبَيْتٌ تَخْفُقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قصرٍ مُنِيفِ)
(وَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لبسِ الشُّفوفِ)
(وأَكل كسيرةٍ فِي ظلِّ بَيْتِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أكلِ الرَّغيفِ)
(وأصواتُ الرياحِ بكلِّ فَجٍّ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نقرِ الدُّفوفِ)
(وكلْبٌ ينبحُ الطُّرَّاقَ دوني ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِطٍّ أَلُوفِ)
(وَبَكْرُ يتبعُ الأظعَانَ صَعْبٌ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْلٍ زفُوفِ)
(وخرق مِنْ بني عَمي نحِيفٌ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عِلْجٍ عَنُوفِ)
فَلَمَّا دخل معاوبة عَرفته الحظية بِمَا قَالَت وَقيل إِنَّه سَمعهَا وَهِي تنشد ذَلِك فَقَالَ مَا رضيتْ بنت بَحْدَل حَتَّى جَعَلتني علجاً عنوفاً هِيَ طَالِق ثَلَاثًا مروها فلتأخذ جَمِيع مَا فِي الْقصر فَهُوَ لَهَا ثمَّ سيره إِلَى أَهلهَا بِنَجْد وَكَانَت إِذْ ذَاك حاملاَ بِيَزِيد فولدته بالبادية وأرصعته سنتَيْن وليتها لم تَلد وَلم ترْضع ثمَّ أَخذه مُعَاوِيَة مِنْهَا بعد ذَلِك وَذكر الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم الحريري فِي درة الغوص أَن عبيد بن شرية الجرهمي عَاشَ ثَلَاثمِائَة سنة وَأدْركَ الْإِسْلَام فَأسلم وَدخل على مُعَاوِيَة بِالشَّام وَهُوَ خَليفَة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة حَدثنِي بِأَعْجَب مَا رَأَيْت فَقَالَ مَرَرْت بِقوم يدفنون مَيتا لَهُم فَلم(3/139)
انْتَهَيْت إِلَيْهِ اغرورقت عَيناهُ بالدموع فتمثلت بقول الشَّاعِر من // (الْبَسِيط) //
(ياَ قَلْبُ إنكَ من أسماءَ مغرورُ ... فاذْكُرْ ولنْ يَنْفَعَنْكَ اليَوْمَ تذكيرُ)
(قَدْ بُحْتَ بالحُبِّ مَا تُخْفِيهِ مِنْ أَحَدٍ ... حَتَّى جَرَتْ لَكَ أطْلاَقٌ مَحَاضِيرُ)
(فَلَسْتَ تَدْرِي وَمَا تَدْرِي أَعَاجِلُهَا ... أدنَى لِرُشْدِكَ ذَا أَمْ فِيهِ تَأْخِيرُ)
(فَاسْتَقْدِرِ الله خَيْرًا ورأضَيَنَّ بِهِ ... فَبَيْنَمَا العُسْرُ إذْ دَارَتْ مياسيرُ)
(وبينما المرءُ فِي الأحْيَاءِ مغتبطٌ ... إذْ قَدْ هَوَى الرَّمْسَ تَغْفُوهُ الأعَاصِيرُ)
(يَبْكِي الغَرِيبُ عَلَيْهِ لَيْسَ يَعْرِفُهُ ... وَذُو قَرَابَتِهِ فِي الحَيِّ مَسْرُورُ)
فَقَالَ لي شخص أتعرفُ مَن يَقُول هَذِه الأبيات قلت لَا وَالله إِلَّا أَنِّي أرويها مُنْذُ زمَان فَقَالَ وَالَّذِي يُحلَفُ بِهِ إِن قَائِلهَا هُوَ صاحبنا الَّذِي دفناه السَّاعَة وَأَنت الغريبُ الَّذِي يبكي عَلَيْهِ وَلَيْسَ يعرفهُ وَهَذَا الَّذِي خرج من قَبره أَمَسُّ النَّاس بِهِ رحما وَهُوَ أسرهُم بِمَوْتِهِ كَمَا وصف فتعجب مُعَاوِيَة من هَذَا الِاتِّفَاق الْغَرِيب وَوَصله بِمَال عَظِيم وَذكر أَن أَبَا الْأسود الديلِي من شيعَة عَليّ دخل على مُعَاوِيَة خَالِيا فتحادثا طَويلا فحبق أَبُو الْأسود فَقَالَ لمعاوية إِنَّهَا فلتة فاكتمها عَليّ فَقَالَ مُعَاوِيَة أفعل ذَلِك فَلَمَّا خرج من عِنْده دخل على مُعَاوِيَة عَمْرو بن الْعَاصِ فَأخْبرهُ عَن ضرطة أبي الْأسود ثمَّ خرج عَمْرو فلقي أَبَا الْأسود بِالسوقِ فَقَالَ لَهُ مَا فعلت ضرطتك يَا أَبَا الْأسود فَقَالَ أَبُو الْأسود كل ذِي جَوف ضروط ثمَّ غَدا على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ إِن امْرأ لم يُؤمن على ضرطة حقيق ألاَ يُؤمن على إمرة الْمُؤمنِينَ قَالَ الْعَلامَة الذَّهَبِيّ فِي دوَل الْإِسْلَام عِنْد ذكر عبيد الله بن زِيَاد الْمَعْرُوف أَبوهُ بِزِيَاد ابْن أَبِيه عِنْد النَّاس وَعند بني أُميَّة بِزِيَاد بن أبي سُفْيَان روى عَن مُعَاوِيَة أَنه كتب إِلَى زِيَاد أوفد عَليّ ابْنك عبيد الله فَفعل فَمَا سَأَلَهُ مُعَاوِيَة عَن شَيْء إِلَّا أنفذه فِيهِ حَتَّى سَأَلَهُ عَن الشّعْر فَلم يعرف مِنْهُ شَيْئا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة مَا مَنعك من رِوَايَة الشّعْر قَالَ كرهت أَن أجمع كَلَام الله وَكَلَام الشَّيْطَان فِي صَدْرِي فَقَالَ اغرب وَالله لقَد وضعتُ رِجَلي فِي الركاب يَوْم صفّين مرَارًا مَا يَمْنعنِي من الْعَزِيمَة أبياتَ ابْن الإطنابة حَيْثُ يَقُول من // (الوافر) //
(أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى حَيَائِي ... وأَخْذِي الحمْدَ بالثَّمَنِ الرَّبيحِ)(3/140)
(وَإعْطَائِي على الإعدامِ مَالِي ... وإِقْدَامِي عَلَى البَطَلِ المُشِيحِ)
(وَقَوْلِي كُلَّما جَشأَتْ وطَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحي)
وَكتب إِلَى أَبِيه فَرَوَاهُ الشّعْر فَمَا سقط عَلَيْهِ مِنْهُ بعدُ شَيْء قلت وَإِنَّمَا ذكرتها هَهُنَا لتعلقها بِمُعَاوِيَة إِذْ الْكَلَام فِيهِ هُنَا قَالَ مُعَاوِيَة يَوْمًا على الْمِنْبَر أَيهَا النَّاس إِن الله فضل قُريْشًا بِثَلَاث فَقَالَ لنَبيه {وَأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} الشُّعَرَاء 214 وَنحن عشريته الأقربون وَقَالَ {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} الزخرف 44 وَنحن قومه وَقَالَ {لإيلافِ قُرَيشٍ} قُرَيْش 1 وَنحن قُرَيْش فَقَالَ لَهُ رجل من الْأَنْصَار على رسلك يَا مُعَاوِيَة فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وكذبَ بِه قَومُكَ وَهُو اَلحق} الْأَنْعَام 66 وَأَنْتُم قومه وَقَالَ {وَلمَا ضرِبَ ابنُ مَريَمَ مَثَلا إِذَا قَومك مِنهُ يصدُّون} الزخرف 57 وَأَنْتُم قومه وَقَالَ {وَقَالَ اَلرسول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا القرءان مَهْجُورًا} الْفرْقَان 30 وَأَنْتُم قومه ثَلَاث بِثَلَاث وَلَو زدتنا لزدناك قَالَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن حسان بن ثَابت دخل رَهْط من الْأَنْصَار على مُعَاوِيَة فقّال لَهُم يَا معشر الْأَنْصَار قُرَيْش خير لكم مِنْكُم لَهُم فَإِن يكن ذَلِك لقتلَى أُحُد فقد نلتم يَوْم بدر وَإِن تكن للأثرة فوَاللَّه مَا جعلتم إِلَى صلتكم سَبِيلا خذلتم عُثْمَان يَوْم الدَّار وقتلتم أنصاره يَوْم الْجمل وصليتم بِالْأَمر يَوْم صفّين فَقَالَ رجل مِنْهُم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما قَوْلك عَن قَتْلَى أحد فَإِن قتيلنا شَهِيد وحينا فائز وَأما قَوْلك الأثرة فَإِن رَسُول الله
أمرنَا بِالصبرِ عَلَيْهَا وَأما قَوْلك إِنَّا خذلنا عُثْمَان يَوْم الدَّار فإِنِ الْأَمر فِي عُثْمَان إِلَّا جَفَلَى وَأما قَوْلك إِنَّا قتلنَا أنصاره يَوْم الْجمل فَذَاك مَا لَا نعتذر مِنْهُ وَأما قَوْلك إِنَّا صلينَا الْأَمر يَوْم صفّين فَإنَّا كُنَّا مَعَ رجل لم نأله خيرا فَإِن لمتنا فَرب ملوم لَا ذَنْب لَهُ مَا مددت لنا شبْرًا من عذر إِلَّا مددنا لَك باعاً من خير وَإنَّك جدير بِأَن تستصفي قُلُوبنَا من كدرها بفَضلِ حلمك فَقَالَ أفعلُ وكرامة ثمَّ أَدْنَاهُم وأجزل حباءهم كَذَا فِي المحاسن للبيهقي وَعَن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ قَالَ دخلت بكارة الْهِلَالِيَّة على مُعَاوِيَة وَكَانَت قد كَبرت وَغشيَ على بصرها وضعفت قوتها فَسلمت وَجَلَست فَرد عَلَيْهَا مُعَاوِيَة السَّلَام(3/141)
وَقل لَهَا كَيفَ أَنْت يَا خَالَة قَالَت بِخَير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ غَيرَكِ الدهْرُ قَالَت هُوَ كَذَا من عَاشَ كبر وَمن مَاتَ قبر فَقَالَ عَمْرو بن لعاص هِيَ القائلة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من // (الْكَامِل) //
(يَا زَيْدُ دُونَكَ فَاحْتَفِرْ فِي أرْضِنَا ... سَيْفًا حُسَامًا فِي التُّرابِ دَفِينَا)
(قَدْ كُنْتُ أخبوه لِيَوْمِ مُلمَّةٍ ... وَاليَوْم أَبْرَزَهُ الزَّمَانُ مَصُُونا)
فَقَالَ مَرْوَان هِيَ وَالله القائلة أَيْضا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من // (الْكَامِل) //
(أَتُرَى ابْنَ هِنْدٍ للخِلاَفةِ مَالِكًا ... هَيْهَاتَ ذَاكَ وَإِنْ أراهُ بَعِيدُ)
(منَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلاَءِ ضَلاَلَةً ... أَقْوَال عَمْرٍ ووَالشَّقيُّ سَعِيدُ)
وَقَالَ سعيد بن الْعَاصِ هِيَ وَالله القائلة أيضَاً من // (الْكَامِل) //
(قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَمُوتَ ولاَ أَرَى ... فَوْقَ المَنابِرِ مِنْ أُمَيَّةَ خاطِبا)
(أَلله أَخَّرَ مُدَّتِي فَتَطَاوَلَتْ ... حَتَّى رأَيْتُ مِنَ الزَّمَانِ عَجَائِبَا)
فَقَالَت يَا مُعَاوِيَة إِن هَؤُلَاءِ جمَاعَة حَسَنَة وَأَنا وَالله القائلة هَذَا جَمِيعه وَمَا خَفِي عَنْك أَكثر فَضَحِك مُعَاوِيَة وَقَالَ لَهَا لَيْسَ يمنعنا ذَلِك من أَدَاء حَقك وَقَضَاء حوائجك فَمَا كَانَ لَك من حَاجَة فأبديها قلت أما فِي الْمجْلس فَلَا وانصرفت فَأرْسل خلفهَا واسترضاها وَأَعْطَاهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم وَعَن سهل التَّيْمِيّ قَالَ حج مُعَاوِيَة فَسَأَلَ عَن امْرَأَة من بني كنَانَة يقل لَهَا دارمة الحجازية الكنانية فأخبروه بسلامتها فَأمر بإحضارها فَلَمَّا حضرت وَكَانَت سَوْدَاء فَقَالَ لَهَا كَيفَ أَنْت يابنة حام قَالَت لست بابنة حام إِنَّمَا أَنا امْرَأَة من بني كنَانَة قَالَ أَتَدْرِينَ لم أرْسلت إِلَيْك قَالَت لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله قَالَ أردْت ن أَسأَلك لم أَحْبَبْت عليا وأبغضتني وواليتِه وعاديتِني قَالَت أَحْبَبْت عليا لعدله فِي الرّعية وقسمته بِالسَّوِيَّةِ وأبغضتك لِقِتَالِك من هُوَ أولى بالخلافة مِنْك وطلبك مَا لَيْسَ بِحَق لَك وواليت عليا لما عقد لَهُ رَسُول الله
من الْولَايَة ولحبه الْمَسَاكِين وإعظامه لأهل الدّين وعاديتك بسفك الدِّمَاء وجورك فِي الْقَضَاء وحكمك بالهوى فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة ورأيتِ عليا قَالَت نعم قَالَ كَيفَ رأيتِه قَالَت رَأَيْته مَا فتنه الملكُ الَّذِي فتنك وَلم تشغله النِّعْمَة الَّتِي شغلتك قَالَ فَهَل سَمِعت من كَلَامه شَيْئا قَالَت نعم كَانَ كَلَامه يجلو الْقُلُوب من(3/142)
الْعَمى كَمَا يجلو الْقَيْن الصدى قَالَ فَهَل لَك من حَاجَة قَالَت نعم أَعْطِنِي مائَة نَاقَة حَمْرَاء فِيهَا فحولها ورعاها قَالَ فَم تصنعين بهَا قَالَت أغذي بلبنها الصغار وأستحي وأكتسب بهَا المكارم وَأصْلح بهَا بَين العشائر قَالَ فَإِذا دفعتها لَك أكون عنْدك فِي منزلَة عَليّ قَالَت لَا وَالله فَقَالَ مُعَاوِيَة // (من الطَّوِيل) //)
إِذَا لمْ أَجُدْ بِالحِلْمِ مِنِّي عليْكُمُ ... فَمَنْ ذَا الَّذِي بَعْدِي يُؤَمَّلُ لِلْحِلْمِ)
)
خُذِيَها هَنِيئًا واذْكُرِي فِعْلَ ماجدٍ ... جَزَاكِ عَلَى حرْبِ العداوةِ بِالسِّلْمِ)
ثمَّ قَالَ لَهَا وَالله لَو كَانَ عَليّ حَيا مَا أَعْطَاك مِنْهَا نَاقَة قَالَت لَا وَالله وَلَا وَبرَة لأَنها من مَال الْمُسلمين واستأذنت أم الْبَراء بنت صَفْوَان على مُعَاوِيَة فَأذن لَهَا فدخلتْ وسلمت وَكَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثَة دروع تسحب خلفهَا ثمَّ جَلَست فَقَالَ لَهَا كَيفَ أَنْت يابنة صَفْوَان قَالَت كسلت بعد نشاط وضعفت بعد قُوَّة فَقَالَ شتَان بَين لسَانك الْيَوْم وَبَين قَوْلك // (من الْكَامِل) //
(يَا زَيْدُ دُونَكَ صَارِمًا ذَا رَوْنَقٍ ... عَضْبِ المحزة لَيْسَ بالخَوَّارِ)
(أسرجْ جَوادَكَ مُسْرعًا ومُشَمِّرًا ... للحَرْبِ غَيْر معوّدٍ لِفِرَارِ)
(أَجِبِ الإِمامَ وَذبَّ تَحْتَ لوائِهِ ... وَالْقَ العَدْوَّ بِصَارِمٍ بتَّارِ)
(يَا اليتني أَصْبحْتُ غَيْرَ قعيدةٍ ... فَأذبَّ عَنْهُ عَسَاكِرَ الفُجَّارِ)
قَالَت قد كَانَ ذَلِك وَلَكِن عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ قَالَ هَيْهَات أما وَالله لَو عَاد لعدتِ وَلكنه اخترم قَالَت أجل وَالله إِنِّي على بَيِّنَة من رَبِّي وَهدى من أَمْرِي فَقَالَ بعض جُلَسَائِهِ وَهِي القائلة ترثي عليا // (من الْكَامِل) //
(ياَ لَلرِّجَالِ لهوْلِ عُظْمِ مُصِيبَةٍ ... حلَّتْ فَلَيْسَ مُصَابها بالحَائِلِ)
(ألشَّمْسُ كاسفَةٌ لِفَقْدِ إِمَامِنَا
خَيْرِ الخلائِقِ والإمَامِ العَادِلِ)
(صِهْرَ النبيِّ لقَدْ نَفَذْتَ فؤَادنا ... وَالحَقُّ أَصْبَحَ خَاضِعًا للبَاطِلِ)
فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة قَاتلك الله مَا أبقيت لنا من قَول ثمَّ خرجت فَبعث لَهَا مُعَاوِيَة بجائزة سنية وأخباره بِمثل ذَلِك كَثِيرَة شهيرة(3/143)
قيل ذكر أَنه جلس يَوْمًا فِي مجْلِس كَانَ لَهُ بِدِمَشْق وَكَانَ ذَلِك الْمجْلس مفتح الجوانب يدْخل مِنْهُ النسيم من سَائِر جهاته فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس ينظر وَكَانَ يَوْمًا شَدِيد الْحر لَا نسيم فِيهِ وَكَانَ وسط النَّهَار إِذْ نظر إِلَى رجل يمشي نَحوه وَهُوَ يتلظى من حر الرمضاء ويحجل فِي مشيته رَاجِلا حافياً فَتَأَمّله وَقَالَ لجلسائه هَل خلق الله رجلا أَشْقَى مِمَّن يحْتَاج إِلَى الْحَرَكَة فِي مثل هَذِه السَّاعَة فَقَالَ بَعضهم لَعَلَّه يقْصد أَمِير الْمُؤمنِينَ فأوصى حَاجِبه إِن طلبني هَذَا الْأَعرَابِي فَلَا تَمنعهُ من الدُّخُول عَليّ فَكَانَ كَذَلِك فَأدْخلهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة مِمَّن الرجل فَقَالَ من تَمِيم قَالَ مَا الَّذِي جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت قَالَ جِئْت شكيا وَبِك مستجيراً قَالَ مِمَّن قَالَ من مروانَ بنِ الحكمِ بِمَا ملك وَأنْشد من // (الطَّوِيل) //
(مُعَاوِيَ يَا ذَا الحِلْمِ والجودِ والفَضْلِ ... وَيَا ذَا النَّدي والعِلْمِ وَالرُّشْدِ والنُّبْلِ)
(أَتيتُكَ لمَّا ضَاقَ فِي الأرْضِ مَذْهَبِي ... فَيَا غَوْثُ لاَ تَقْطَعْ رَجَائِي مِنَ العَدْلِ)
(وَجُدْ لِي بِإِنْصَافٍ مِنَ الجَائِرِ الَّذِي ... بَلاَنِي بِشَيءِ كانَ أَيْسَرُهُ قَتْلِي)
(سَبَانِيَ سُعْدَى وانبَرى لخُصُومَتِي ... وَجَارَ وَلم يَعْدِلْ وَغَاصَبَنِي أَهْلِي)
(وَهَمَّ بقتلى غيْرَ أَنَّ منِيَّتِي ... تَنَاءَتْ وَلم أسْتَكْمِلِ الرِّزْقَ مِنَْأجْلِي)
فَلَمَّا سمع مُعَاوِيَة إنشاده وَالنَّار تتوقد من فِيهِ قَالَ مهلا يَا أَخا الْعَرَب اذكر قصتك وأبِن عَن أَمرك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَت لي زَوْجَة وَكنت لَهَا محباً وَبهَا كلفَاً وَكَانَت لي صرمة من إبل نستعين بهَا على قيام حَالي فأصابتنا سنة سنتَاءُ حطمَة شَدِيدَة أذهبتِ الْخُف والحافر فَبَقيت لَا أملك شَيْئا فَلَمَّا ذهب مَا بيَدي بقيت مهاناً ثقيلا على النَّاس فَلَمَّا علم أَبوهَا مَا بِي من سوء الْحَال أَخذهَا مني وحجرني وطردني وَأَغْلظ عَليّ فَأتيت إِلَى عاملك مَرْوَان راجيَاً لنصرته فَلَمَّا أحضر أَبَاهَا سَأَلَهُ عَن حَالي فَقَالَ مَا أعرفهُ قبل الْيَوْم فَقلت أصلح الله أَمِير إِن رَأَى أَن يحضرها ويسألها عَن قَول أَبِيهَا فَلْيفْعَل فَبعث خلفهَا فأحضرها فَلَمَّا حضرت بَين يَدَيْهِ وقعَتْ مِنْهُ موقع الْإِعْجَاب فَصَارَ لي خصما وَعلي منكرَاً وَأظْهر لي الْغَضَب وَبعث بِي إِلَى السجْن فَبَقيت كأنني خَرَرْت من السَّمَاء واستهوت بِي الرّيح فِي مَكَان سحيق ثمَّ قَالَ لأَبِيهَا هَل لَك أَن تزَوجهَا مني على ألف دِينَار وَعشرَة آلَاف دِرْهَم لَك وَأَنا ضمن لَك خلاصها من هَذَا الْأَعرَابِي فَرغب أَبوهَا(3/144)
فِي المَال وأجابه إِلَى ذَلِك فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث إِلَيّ وأحضرني وَنظر إِلَيّ كالأسد الغضبان وَقَالَ يَا أَعْرَابِي طلق سعدى فَقلت لَا فَسلط عَليّ جمَاعَة من غلمانه فأخذوني يعذبوني أنوع الْعَذَاب فَلم أجد بُداً من طَلاقهَا فأعادني إِلَى السجْن فَمَكثت فِيهِ إِلَى ن انْقَضتْ عدتهَا فَتَزَوجهَا وَدخل بهَا وأطلقني وَقد أَتَيْتُك مستجيراً إِلَيْك ملتجئاً وَأنْشد // (من المجتث) //
(فِي القَلْبِ مِنِّيَ نَارُ ... وَالنَّارُ فِيها اسْتِعَارُ)
(وَالجسْمُ مِنِّى سَقِيمٌ ... فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ)
(وَفِي فؤادِيَ جَمْرٌ ... والْجَمرُ فِيهِ شَرارُ)
(والعيْن تنهلُّ دمعاً ... فَدَمْعُهَا مِدْرَارُ)
(وَلَيْسَ إِلاَّ بِربِّي ... ثُمَّ الأَمِيرِ انْتِصَارُ)
ثمَّ اضْطربَ واصطكت لحياه وَصَارَ مغشيا عَلَيْهِ وَأخذ يتلوى كالحية المقتولة فَلم سمع كَلَامه مُعَاوِيَة وإنشاده قَالَ تعدى وظلم بن الحكم فِي حُدُود الدّين واجترأ على حرم الْمُسلمين ثمَّ قَالَ وَالله يَا أَعْرَابِي لقد أتيتني بِحَدِيث لم أسمع بِمثلِهِ ثمَّ دَعَا بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وَكتب إِلَى مَرْوَان بن الحكم قد بَلغنِي أَنَّك ظلمت واعتديت وَيَنْبَغِي لمن كَانَ والياً أَن يكف بَصَره عَن شهواته ثمَّ كتب إِلَيْهِ بعد كَلَام فَقَالَ // (من الْبَسِيط) //
(وَلِيتَ ويْحَك أمرا لَسْت تُدْرِكُهُ ... فَاسْتَغْفِرِ اللَّه مِنْ فِعْلِ امريٍء زَاني)
(وَقَدْ أَتَانَا الفَتَى الْمِسْكِينُ مُنْتَحِبًا ... يَشْكُو إِلَيْنَا بِبَثٍّ ثُمَّ أَحْزَانِ)
(أُعْطِي الإِلَهَ يَمِينًا لَا أُكَفِّرُهَا ... نعَمْ وأَبْرأُ من دينيِ وَدَيَّانِي)
(إِن أَنْتَ خالَفْتنِي فِيمَا كَتَبْتُ بِهِ ... لأَجْعَلَنَّكَ لَحْمًا بَيْن عقْبَانِ)
(طَلِّقْ سُعَاد وعَجِّلْهَا مُجَهَّزَةً ... مَعَ الكُمَيْتِ ومَعْ نَصْرِ بن ذبيانِ)
ثمَّ طوى الْكتاب وطبعه بِخَاتمِهِ واستدعى بالكميت وَنصر بن ذبيان وَكَانَ يستنهضهما للمهمات لأمانتهما فأخذا الْكتاب وقدما الْمَدِينَة وأسلما الْكتاب إِلَى مَرْوَان فَجعل يقْرَأ ويرتعد ويبكي وَأخْبر سعدى وَطَلقهَا وجهزها وصحبها الرّجلَانِ وَكتب إِلَى مُعَاوِيَة فصلا يَقُول فِيهِ // (من الْبَسِيط) //(3/145)
(لَا تعجَلنَّ أميرَ المؤمنينَ فقَدْ ... أوْفى بنذْرِكَ فِي رفْقٍ وإِحسانِ)
(وَمَا أَتَيْتُ حَرَامًا حينَ أعجبني ... فكَيْفَ أُدْعَى بإِسْمِ الخائِنِ الزانيِ)
(أُُعْذُرْ فإنَّكَ لَو أبصَرْتَها لَجَرتْ ... مِنْكَ الأمانِي على تِمْثَالِ إنسانِ)
(وسَوْفَ تَأْتِيكَ شَمْسٌ لَيْسَ يَعْدِلُهَا ... عِنْد الحقيقةِ مِنْ إِنْسٍ وَلاَ جَانِ)
وَختم الْكتاب وَدفعه إِلَى الرسولين وَسلم إِلَيْهِمَا الْجَارِيَة فوصلوا إِلَى مُعَاوِيَة فَقَرَأَ الْكتاب ثمَّ قَالَ لقد أحسن فِي الطَّاعَة ثمَّ أَمر بإحضار الْجَارِيَة فَلَمَّا رَآهَا رأى صُورَة لم ير مثلهَا فخاطبها فَوَجَدَهَا فصيحة اللِّسَان عذبة الْمنطق فَقَالَ عَلَي بالأعرابي فَأتى بِهِ وَهُوَ على غَايَة من سوء الْحَال فَقَالَ يَا أَعْرَابِي هَل لَك عَنْهَا من سلو وأعيضك عَنهُ ثَلَاث جوَار نهد أَبْكَارًا مَعَ كل جَارِيَة ألف دِينَار وَأقسم لَك من بَيت لمَال فِي كل سنة مَا يَكْفِيك فَقل الْأَعرَابِي استجرت بعدلك من مَرْوَان فبمن أستجير من جورك ثمَّ أنْشد من // (الْبَسِيط) //
(لاَ تجْعَلنِّي جَزَاكَ اللَّه مِنْ ملِكٍ ... كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَا إِلَى النَّارِ)
(أُرْدُدْ سُعَادَ عَلَى حرَّانَ مُكْتَئِبٍ ... يُمْسي ويُصْبح فِي هَمٍّ وَتَذْكَارِ)
(أَطْلِقْ وثَاقي ولاَ تَبْخَلْ عَلَيَّ بهَا ... فإِنْ فَعلْتَ فإِني غيْرُ كَفَّارِ)
وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أَعْطَيْتنِي مَا حوته الْخلَافَة مَا أَخَذته دون سعاد وَأَنْشَأَ يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(أَبَي القلبُ إِلاَّ حُبَّ سُعْدَى وبُغِّضَتْ ... إِلَيَّ نساءٌ مَا لَهُنَّ ذُنُوبُ)
فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا أَعْرَابِي إِنَّك مقرّ أَنَّك طَلقتهَا ومروان طَلقهَا وَنحن نخيرها فَإِن اخْتَارَتْ سواك زوجناها قَالَ افْعَل فَقَالَ مُعَاوِيَة مَا تَقُولِينَ أَيّمَا أحبُّ إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي عِزهِ وشرفه وسلطانه أَو مَرْوَان بن الحكم فِي عسفه وجوره أَو هَذَا الْأَعرَابِي فِي جوعه وَفَقره فأنشدت من // (الْبَسِيط) //
(هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي جُوعٍ وإِضْرارِ ... أَعَزُّ عِنْدِيَ مِنْ قَوْمِي ومِنْ جارِي)
(وَصَاحِبِ التَّاجِ أَو مرْوَانَ عامِلِهِ ... وَكُلِّ ذِي دِرْهَمٍ عِنْدِي وَدِينارِ)
ثمَّ قالتَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أَنا بخاذلته لحادثة الزَّمَان وَلَا لغدرة الْأَيَّام فَإِن لي مَعَه صُحْبَة قديمَة لَا تُنْسَى ومحبة لَا تبلَى فَأَنا أَحَق من صَبر مَعَه فِي الضراء كَمَا تنعمت مَعَه فِي السَّرَّاء فَعجب مُعَاوِيَة من عقلهَا ومروءتها وموافاتها(3/146)
وَأمر لَهَا بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وردهَا إِلَى الْأَعرَابِي بِعقد صَحِيح انْتَهَت قَالَ ابْن سعد فِي الطَّبَقَات افتخر الْحسن بن عَليّ فِي مجْلِس مُعَاوِيَة فَقَالَ أَنا ابْن مَاء السَّمَاء وعروق الثرى وَابْن من سَاد أهل الدُّنْيَا بالحسب الثاقب والشرف الْفَائِق والقدم السَّابِق أَن ابْن من لرضاه رَضِي الرَّحْمَن ثمَّ رد وَجهه للخصم فَقَالَ هَل لَك أَب كَأبي أَو قديم كقديمي فَإِن تَقُلْ لَا تُغْلَبْ وَإِن تقل نعم تكذب فَقَالَ الْخصم لَا تَصْدِيقًا لِقَوْلِك فَقَالَ سيدنَا الْحسن من // (الْكَامِل) //
(أَلْحَقُّ أَبْلَجُ لاَ تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... والحقُّ تَعْرِفُهُ أَولُو الأَلْبَابِ)
وَقَالَ مُعَاوِيَة يومَاً وَعِنْده أَشْرَاف النَّاس من قُرَيْش وَغَيرهم أخبروني بأكرم لناس أَبَا وَأما وَعَما وعمَّة وخالاَ وَخَالَة وجدا وجدةَ فَقَامَ مَالك بن العجلان وَأَوْمَأَ إِلَى الْحسن فَقَالَ هَا هُوَ ذَا ابْن عَليّ بن أبي طَالب وَأمه فَاطِمَة بنت رَسُول الله
وَعَمه جَعْفَر الطيار وَعَمَّته أم هَانِئ بنت أبي طَالب وخاله لقاسم ابْن رَسُول الله
وجده رَسُول الله وجدته خَدِيجَة بنت خويلد فَسكت الْقَوْم ونهض الْحسن فَقَامَ رجل من بني سهم فأنبَ ابْن العجلان على مقَالَته فَقَالَ ابْن العجلان مَا قلتُ إِلَّا حقُّاً وَمَا أحد من النَّاس يطْلب مرضات مَخْلُوق بِمَعْصِيَة الْخَالِق إِلَّا لم يُعْطه الله أمْنِيته فِي دُنْيَاهُ وَلم يخْتم لَهُ إِلَّا بالشقاء فِي أخراه بَنو هَاشم أرواكم عوداً وأوراكم زنداً كَذَلِك يَا مُعَاوِيَة فَقَالَ اللَّهُمَّ نعم
(عهد مُعَاوِيَة لِابْنِهِ يزِيد بالخلافة)
ذكر ابْن الْجَوْزِيّ بِسَنَدِهِ قَالَ قَدِمَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة على مُعَاوِيَة فَشَكا إِلَيْهِ الضعْف واستعفاه فأعفاه وَأَرَادَ أَن يولي سعيد بن الْعَاصِ وَقَالَ أصحب الْمُغيرَة للْمُغِيرَة إِن مُعَاوِيَة قلاك فَقَالَ لَهُم رويدا ونهض إِلَى يزِيد وَعرض لَهُ الْبيعَة وَقَالَ ذهب أَعْيَان الصَّحَابَة وكبراء قُرَيْش وذَوُو أسنانهم وَإِنَّمَا بَقِي أبناؤهم وَأَنت مني أفضلهم وَأَحْسَنهمْ رَأيا وسياسة وَمَا أَدْرِي مَا أيمنع أَمِير الْمُؤمنِينَ من العَقْدِ لَك فأَدْلَى ذَلِك يزِيد إِلَى أَبِيه فاستدعاه وفاوضه فِي ذَلِك فَقَالَ قد رَأَيْت مَا كَانَ من الِاخْتِلَاف وَسَفك الدِّمَاء بعد عُثْمَان وَفِي يزِيد ابْنك خلف فاعقد لَهُ يكون كهفاً للنَّاس بعْدك فَلَا يكون فتْنَة وَلَا سفك للدماء وَأَنا أكفيك لكوفة وَيَكْفِيك زِيَاد(3/147)
الْبَصْرَة فَرد مُعَاوِيَة الْمُغيرَة إِلَى الْكُوفَة وَأمره أَن يعْمل فِي بيعَة يزِيد فَقدم الْكُوفَة وَذكر من يرجع إِلَيْهِ من شيعَة بني أُميَّة فَأَجَابُوا وأوفد مِنْهُم جمَاعَة مَعَ ابْنه مُوسَى ابْن الْمُغيرَة فدعوا مُعَاوِيَة إِلَى بيعَة يزِيد فَقَالَ وَقد رضيتموه قَالُوا نعم نَحن وَمن وَرَاءَنَا فَقَالَ نَنْظُر مَا قدمتم لَهُ وَيَقْضِي الله أمره والأناة خير من العجلة ثمَّ كتب إِلَى زِيَاد يستشيره فنكر زِيَاد ذَلِك وَأعظم أَن يُكَاتب فِيهِ واستدعى عبد الله بن كَعْب النميري وَكَانَت لَهُ صحابة وَله بِهِ ثِقَة وَقَالَ لَهُ دعوتك لأمر اتهمت عَلَيْهِ بطُون الصحُفِ إِن مُعَاوِيَة كتب إِلَى أَن أجمع النَّاس على بيعَة يزِيد وَهُوَ يتخوف نفرة النَّاس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني وعلاقة أَمر الْإِسْلَام وضمانه عَظِيم وَيزِيد صَاحب رسلة وتهاون فِيمَا أولع بِهِ من الصَّيْد فالق مُعَاوِيَة مُؤديا عني وَأخْبرهُ عَن فعلات يزِيد وَقل لَهُ رويدك بِالْأَمر فقمن أَن يتم لَك مَا تُرِيدُ وَلَا تعجل فَقَالَ لَهُ عبيد الله بن كَعْب لَا تفْسد على مُعَاوِيَة رَأْيه وَلَا تمقت إِلَيْهِ ابْنه وَأَنا ألْقى يزِيد فِي سر من مُعَاوِيَة فَأخْبرهُ عَنْك بِكِتَاب مُعَاوِيَة إِلَيْك يستشيرك فِي بيعَته وَأَنَّك تتخوف خلاف النَّاس لما ينقمون عَلَيْك وَأَنَّك ترى لَهُ ترك مَا ينقمون عَلَيْهِ لتستحكم الْحجَّة على النَّاس ويسهل الْأَمر وَفِي ذَلِك نصح يزِيد ورضا مُعَاوِيَة والسلامة عَن دَرك الْأمة فَقَالَ لَهُ زِيَاد لقد رميت الْأَمر بحجره اشخص علَى بركَة الله وَكتب زِيَاد إِلَى مُعَاوِيَة يَأْمُرهُ بالتؤدة وَألا يعجل فَقبل ذَلِك مُعَاوِيَة وَبلغ عبيد الله بن كَعْب وَصِيَّة زِيَاد إِلَى يزِيد فَكف عَن كثير مِمَّا كَانَ يصنع فَلَمَّا مَاتَ زِيَاد اعتزم مُعَاوِيَة على الْعَهْد ليزِيد وَقَرَأَ كِتَابه على النَّاس باستخلافه يزِيد إِن حدث بِهِ حدث المَوت فيزيد ولي عَهده فاستوثق لَهُ النَّاس على الْبيعَة ليزِيد غير خَمْسَة نفر الْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فحج مُعَاوِيَة سنة إِحْدَى وَخمسين فَلَمَّا قدم مَكَّة بعث عَن الْحُسَيْن وَقَالَ يَا بن أخي قد استوثق النَّاس لهَذَا الْأَمر غير خَمْسَة نفر أَنْت تقودهم فَمَا إربك إِلَى هَذَا الْخلاف قَالَ الْحُسَيْن أرسل إِلَيْهِم فَإِن بَايعُوا فَأَنا مِنْهُم وَلَا تعجل(3/148)
عَليّ فعاهده مُعَاوِيَة على الكتمان ثمَّ بعث عَن ابْن الزبير فَأَجَابَهُ بِمثل مَا أجَاب الْحُسَيْن وَطَلَبه الْعَهْد فَأبى وَخرج ثمَّ بعث عَن ابْن عمر فَأَجَابَهُ بِمثل كَلَامهمَا وألان لَهُ القَوْل بعض اللين بِأَن قَالَ أَخَاف أَن أدع الْأمة كالضأن لَا راعي لَهَا فَقَالَ لَهُ ابْن عمر أُبَايِعك على أَنِّي أَدخل بعْدك فِيمَا تَجْتَمِع عَلَيْهِ الْأمة فوَاللَّه لَو اجْتَمعُوا بعْدك على عبد حبشِي لدخلتُ مَعَهم وَخرج فأغلق بَابه وَلم يَأْذَن لأحد ثمَّ بعث مُعَاوِيَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق فَقَالَ لَهُ بأية يَد أَو رجل تُقدِمُ على معصيتي فَقَالَ عبد الرَّحْمَن أَرْجُو أَن يكون ذَلِك خيرا لي فَقَالَ مُعَاوِيَة وَالله لقد هممتُ أَن أَقْتلك قَالَ عبد الرَّحْمَن لَو فعلت لأخذك الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلم يذكر ابْن عَبَّاس وَقد ذكر فِي كَيْفيَّة هَذَا الحَدِيث طَرِيق غير هَذَا ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه دوَل الْإِسْلَام أَحْبَبْت إِيرَاده لاشْتِمَاله على زِيَادَة علم وَنَصه روى النُّعْمَان بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ عَن ذكْوَان مولى عَائِشَة قَالَ لما أجمع مُعَاوِيَة على أَن يُبَايع لِابْنِهِ يزِيد حج فَقدم مَكَّة فِي نَحْو من ألف رجل فَلَمَّا دنا من الْمَدِينَة خرج ابْن عمر وَابْن الزبير وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فَلَمَّا قدم مُعَاوِيَة الْمَدِينَة صعد الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ ذكر ابْنه يزِيد فَقَالَ من أَحَق بِهَذَا الْأَمر مِنْهُ ثمَّ ارتحل فَقدم مَكَّة فَقضى طَوَافه وَدخل منزله فَبعث إِلَى ابْن عمر فَتشهد وَقَالَ أما بعد يَا بن عمر إِنَّك كنت تُحَدِّثنِي أَنَّك لَا تحب تبيت لَيْلَة سَوْدَاء لَيْسَ عَلَيْك فِيهَا أَمِير وَأَنا أحذرك أَن تشق عَصا الْمُسلمين أَو تسْعَى فِي فَسَاد ذَات بَينهم فَقَامَ ابْن عمر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فَإنَّك كَانَت قبلك خلفاء لَهُم أَبنَاء لَيْسَ ابْنك بِخَير من أبنائهم فَلم يرَوا فِي أبنائهم مَا رَأَيْت فِي ابْنك وَلَكنهُمْ اخْتَارُوا للْمُسلمين حَيْثُ علمُوا الْخِيَار وَإنَّك تحذرني أَن أشق عَصا الْمُسلمين وَلم أكن لأَفْعَل إِنَّمَا أَنا رجل من الْمُسلمين فَإِذا اجْتَمعُوا على أَمر فَإِنَّمَا أَنا رجل مِنْهُم فَقَالَ مُعَاوِيَة يَرْحَمك الله فَخرج ابْن عمر ثمَّ أرسل إِلَى ابْن أبي بكر فَتشهد ثمَّ أَخذ فِي الْكَلَام فَقطع عبد الرَّحْمَن عَلَيْهِ كَلَامه فَقَالَ إِنَّك وَالله لَوَدِدْت(3/149)
أَنا وكلناك فِي أَمر ابْنك إِلَى الله وَإِنَّا وَالله لَا نَفْعل وَالله لتردن هَذَا الْأَمر شُورَى فِي الْمُسلمين أَو لنردنها عَلَيْهِ جَذَعَة ثمَّ وثب وَمضى فَقَالَ مُعَاوِيَة اللَّهُمَّ اكفنيه بِمَا شِئْت ثمَّ قَالَ على رسلكَ أَيهَا الرجلُ لَا تشرفن على أهل الشَّام فَإِنِّي أَخَاف أَن يسبقوني بِنَفْسِك حَتَّى أخبر الْعَشِيرَة أَنَّك قد بَايَعت ثمَّ كن علَى مَا بدا لَك من أَمرك ثمَّ أرسل إِلَى ابْن الزبير فَقَالَ يَا بن الزبير إِنَّمَا أَنْت ثَعْلَب رواغ كلما خرج من جُحر دخل آخر وَإنَّك عَمَدت إِلَى هذَيْن الرجلَيْن فنفخت فِي مناخيرهما وحملتهما على غر رأيهما فَقَالَ ابْن الزبير إِن كنت قد مللت الْإِمَارَة فَاعْتَزلهَا وهلم ابْنك فلنبايعه أَرَأَيْت إِذا بَايعنَا ابْنك مَعَك لأيكما نسْمع ونطيع لَا نجمع الْبيعَة لَكمَا أبدا ثمَّ رَاح وَصعد مُعَاوِيَة الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِنَّا وجدنَا أَحَادِيث النَّاس ذَات عوار زَعَمُوا أَن ابْن عمر وَابْن أبي بكر وَابْن الزبير لم يبايعوا يزيدَ وَقد سمعُوا وأطاعوا وَبَايَعُوا فَقَالَ أهل الشَّام وَالله لَا نرضى حَتَّى يبايعوا على رُءُوس الأشهاد وَإِلَّا ضربنا أَعْنَاقهم فَقَالَا مُعَاوِيَة سُبْحَانَ الله مَا أسْرع النَّاس إِلَى قُرَيْش بِالشَّرِّ لَا أسمع هَذِه الْمقَالة من أحد مِنْكُم بعد الْيَوْم ثمَّ نزل فَقَالَ النَّاس بَايع ابْن عمر وَابْن الزبير وَابْن أبي بكر وهم يَقُولُونَ لَا وَالله مَا بَايعنَا فَيَقُول النَّاس بلَى وارتحل مُعَاوِيَة فلحق بِالشَّام وَقَالَ جوَيْرِية بن أَسمَاء سمعتُ أشياخَ المدينةِ يحدثُونَ أَن مُعَاوِيَة لما رَحل عَن مر دَاخِلا مَكَّة قَالَ لصَاحب حرسه لَا تدع أحدا يسير معي إِلَّا من حَملته أَنا فَخرج يسير وَحده حَتَّى إِذا كَانَ وسط الْأَرَاك لقِيه الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ فَوقف وَقَالَ مرْحَبًا وَأهلا بِابْن ابْنة رَسُول الله
وَسيد شباب الْمُسلمين دَابَّة لأبي عبد الله يركبهَا فَأتى ببرذون فتحول عَلَيْهِ ثمَّ طلع عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فَقَالَ مُعَاوِيَة مرْحَبًا وَأهلا بشيخ قُرَيْش وسيدها وَابْن صديق الْأمة دَابَّة لأبي مُحَمَّد فَأتى ببرذون فَركب ثمَّ طلع ابْن عمر فَقَالَ مرْحَبًا(3/150)
وَأهلا بِصَاحِب رَسُول الله
وَابْن الْفَارُوق فَدَعَا لَهُ بِدَابَّة فركبها ثمَّ طلع ابْن الزبير فَقَالَ مرْحَبًا بِابْن حوارِي رَسُول الله
وَابْن عمَّة رَسُول الله
ثمَّ دَعَا بِدَابَّة فركبها ثمَّ أقبل مُعَاوِيَة يسير بَينهم لَا يسايره غَيرهم حَتَّى دخل مَكَّة ثمَّ كَانُوا أول دَاخل عَلَيْهِ وَآخر خَارج وَلَيْسَ لَهُم صباح إِلَّا وَلَهُم حباء وكرامة وَلَا تعرَّض لَهُم بِذكر شَيْء حَتَّى قضى نُسكه وترحلت أثقاله وَقرب مسيره فَأقبل بعض الْقَوْم على بعض فَقَالَ أَيهَا الْقَوْم لَا تخدعوا إِنَّه وَالله مَا صنع بكم مَا صنع لِحُبِّكُمْ وَلَا لكرامتكم وَلَا صنعه إِلَّا لما يُرِيد فأعدوا لَهُ جَوَابا فَأَقْبَلُوا على الْحُسَيْن فَقَالُوا أَنْت يَا أَبَا عبد الله فَقَالَ وَفِيكُمْ شيخ قُرَيْش وسيدها هُوَ أَحَق بالْكلَام فَقَالُوا لعبد الرَّحْمَن يَا أَبَا مُحَمَّد قَالَ لست هُنَاكَ وَفِيكُمْ صَاحب رَسُول الله
وَسيد الْمُسلمين فَقَالُوا لِابْنِ عمر أَنْت قَالَ لست بصاحبكم وَلَكِن ولوا الْكَلَام ابْن الزبير قَالَ نعم إِن أعطيتموني عهودكم أَلا تخالفوني كفيتكم الرجل قَالُوا ذَاك لَك قَالَ فَأذن لَهُم مُعَاوِيَة فَدَخَلُوا فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ قد علمْتُم مسيري فِيكُم وصلتي لأرحامكم وصفحي عَنْكُم وَيزِيد أخوكم وَابْن عمكم وَأحسن النَّاس فِيكُم رَأيا وَإِنَّمَا أردْت أَن تقدموه باسم الْخلَافَة وتكونون أَنْتُم الَّذين تنزعون وتؤمرون وتقسمون فَسَكَتُوا فَقَالَ أَلا تُجِيبُونِي فَسَكَتُوا فَأقبل على ابْن الزبير فَقَالَ هَات يَا ابْن الزبير فَإنَّك لعمري صاحبُ خطْبَة الْقَوْم قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نخيرك ثَلَاث خِصَال أَيهَا مَا أخذت فَهُوَ لَك قَالَ لله أَبوك اعرضهُن قَالَ إِن شِئْت اصْنَع مَا صنع رَسُول الله
وَإِن شِئْت اصْنَع مَا صنع أَبُو بكر وَإِن شِئْت اصْنَع مَا صنع عمر قَالَ مُعَاوِيَة مَا صَنَعُوا قَالَ ابْن الزبير قبض رَسُول الله
وَلم يعْهَد عَهده وَلم يسْتَخْلف أحدا فارتضى الْمُسلمُونَ أَبَا بكر فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنَّه لَيْسَ فِيكُم الْيَوْم مثل أبي بكر فَإِن أَبَا بكر رجل تقطع دونه الْأَعْنَاق وَإِنِّي لست آمن عَلَيْكُم الِاخْتِلَاف قَالَ ابْن الزبير صدقت وَالله مَا تحب أَن تدعنا فَاصْنَعْ مَا صنع أَبُو بكر قَالَ مُعَاوِيَة لله أَبوك مَا صنع أَبُو بكر(3/151)
قَالَ عهد إِلَى رجل من قاصية قُرَيْش لَيْسَ من رهطه فاستخلفه فَإِن شِئْت أَن تنظر أَي الرجل من قُرَيْش لَيْسَ من بني عبد شمس فترضى بِهِ قَالَ مُعَاوِيَة فالثالثة مَا هِيَ قَالَ تصنع مَا صنع عمر قَالَ وَمَا صنع قَالَ جعل الْأَمر شُورَى فِي سِتَّة لَيْسَ فيهم أحد من وَلَده وَلَا من بني أَبِيه وَلَا من رهطه قَالَ مُعَاوِيَة فَهَل عنْدك غير هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَأنْتم قَالُوا وَنحن أَيْضا فَقَالَ أما إِنِّي قد أَحْبَبْت أَن أتقدم إِلَيْكُم أَنه قد أعذر من أنذر وَأَنه كَانَ يقوم الْقَائِم مِنْكُم إِلَيّ فيكذبني على رُءُوس النَّاس فأحتمل ذَلِك لَهُ وَإِنِّي قَائِم بنقالة إِن صدقت فِي صدقي وَإِن كذبت فلي كذبي وَإِنِّي أقسم بِاللَّه لَئِن رد على إِنْسَان مِنْكُم كلمة فِي مقَامي هَذَا لَا ترجع إِلَيْهِ كَلمته حَتَّى يسْبق إِلى رَأسه فَلَا يَرعَيَن رجل إِلَّا على نَفسه ثمَّ دَعَا صَاحب حرسه فَقَالَ أقِم على رَأس كل رجل من هَؤُلَاءِ رجلَيْنِ فَإِن ذهب رجل يرد على كلمة فِي مقَامي هَذَا فليضرب عُنُقه ثمَّ خرج وَخَرجُوا مَعَه حَتَّى رقي الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن هَؤُلَاءِ الرَّهْط سادة الْمُسلمين وخيارهم لَا يُستبد بِأَمْر دونهم وَلَا يقْضى أَمر إِلَّا عَن مشورتهم وَإِنَّهُم قد رَضوا وَبَايَعُوا ليزِيد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ من بعده فَبَايعُوا باسم الله قَالَ فَضربُوا على يَده بالمبايعة ثمَّ جلس على رواحله وَانْصَرف النَّاس
(وَفَاة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان)
ذكر غير وَاحِد أَنه لما ثقل فِي الضعْف وتحدث النَّاس أَنه الْمَوْت قَالَ لأَهله احشوا عَيْني إثمداً وأوسعوا رَأْسِي دهناً فَفَعَلُوا وبرقوا وَجهه بالدهن ثمَّ مهدوا لَهُ مَجْلِسا وأسندوه فَأذن للنَّاس فَدَخَلُوا وسلموا عَلَيْهِ قيَاما فَلَمَّا خَرجُوا من عِنْده أنْشد قَائِلا من // (الْكَامِل) //
(وَتَجَلُّدِي للِشَّامِيِينَ أُرِيهِمُ ... أَنَّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لاَ أَتَضَعْضَعُ)
فَسَمعهُ رجل من العلويين فَأَجَابَهُ يَقُول من // (الْكَامِل) //
(وَإِذَا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ)(3/152)
وَكَانَ قد خطب النَّاس قبل مَوته فَقَالَ إِنِّي كزرع مستحصد وَقد طَالَتْ إمارتي عَلَيْكُم حَتَّى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي وَلنْ يأتيكم بعدِي إِلَّا من أَنا خير مِنْهُ كَمَا كَانَ من قبلي خيرَاً منى وَقد قيل من أحب لِقَاء الله أَحب الله لقاءه اللَّهُمَّ إِنِّي قد أحببتُ لقاءك فأحبب لقائي وَبَارك لي فِيهِ فَلم يمض قَلِيل حَتَّى ابْتَدَأَ بِهِ مَرضه فَدَعَا ابْنه يزِيد وَقَالَ يَا بني إِنِّي قد كفيتك الرحلة ووطأت لَك الْأُمُور وأخضعت لَك رِقَاب الْعَرَب وجمعت لَك مَا لم يجمع أحد وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك أَن ينازعك هَذَا الْأَمر الَّذِي استتب لَك إِلَّا أَرْبَعَة نفر من قُرَيْش الْحُسَيْن بن عَليّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن الزبير وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فَأَما ابْن عمر فَرجل قد وقذته الْعِبَادَة وَإِذا لم يبْق غَيره بَايَعَك وَأما الْحُسَيْن فَإِن أهل الْعرَاق لن يَدعُوهُ حَتَّى يخرجوه فَإِن خرج عَلَيْك فظفرت بِهِ فاصفح عَنهُ فَإِن لَهُ رحما ماسة وَحقا عَظِيما وَأما ابْن أبي بكر فَإِن رَأْي أَصْحَابه صَنَعُوا شَيْئا صنع مثله وَلَيْسَ لَهُ همة إِلَّا فِي النِّسَاء وَأما الَّذِي يجثم لَك جثوم الْأسد ويراوغك روغان الثَّعْلَب فَإِذا أمكنته فرْصَة وثب فَذَاك ابْن الزبير فَإِن هُوَ فعلهَا بك وَقد فزت عَلَيْهِ فَقَطعه إرباً إرباً هَذَا حَدِيث الطَّبَرِيّ عَن هِشَام وَله عَن هِشَام من طَرِيق آخر قَالَ لما حضرت مُعَاوِيَة الْوَفَاة سنة سِتِّينَ كَانَ يزِيد غَائِبا بِبَيْت الْمُقَدّس فَدَعَا بِالضحاكِ بن قيس الفِهري وَكَانَ صَاحب شرطته وَمُسلم بن عقبَة المري فَقَالَ أبلغا يزِيد وصيتي انْظُر أهل الْحجاز فَإِنَّهُم أصلك وَأكْرم من قدم عَلَيْك مِنْهُم وتعاهد من غَابَ وَانْظُر أهل الْعرَاق فَإِن سألوك أَن تعزل عَنْهُم كل يَوْم عَاملا فافعل فَإِن عزل عَامل أخف من أَن يشهر عَلَيْك مائَة ألف سيف وَانْظُر أهل الشَّام فليكونوا بطاتنك وعيبتك وَإِن رَابَك شَيْء من عَدوك فانتصر بهم فَإِذا أصبْتُم فاردد أهل الشَّام إِلَى بِلَادهمْ فَإِنَّهُم إِن أَقَامُوا بِغَيْر بِلَادهمْ تَغَيَّرت أَخْلَاقهم وَلست أَخَاف عَلَيْك من قُرَيْش إِلَّا ثَلَاثَة وَلم يذكر فِي هَذَا الطَّرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فنقص ذكره من الْأَرْبَعَة السَّابِق ذكرهم(3/153)
وَقَالَ فِي ابْن عمر قد وقذه الدّين فَلَيْسَ بملتمس شَيْئا قبلك وَقَالَ فِي الْحُسَيْن وَلَو أَنِّي صَاحبه عَفَوْت عَنهُ وَأَنا أَرْجُو أَن يكفيكه الله بِمن قتل أَبَاهُ وخذل أَخَاهُ وَقَالَ فِي ابْن الزبير إِذا شخص إِلَيْك فالبد لَهُ إِلَّا يلْتَمس مِنْك صلحا فاقبل واحقن دِمَاء قَوْمك مَا اسْتَطَعْت وَكَانَت وَفَاة مُعَاوِيَة منتصف رَجَب سنة سِتِّينَ وَقيل جُمَادَى الْآخِرَة لتسْع عشرَة سنة وَأشهر من ولَايَته وَكَانَ على خَاتمه عبد الله بن حُصَيْن الْحِمْيَرِي وَهُوَ أول من اتخذ ديوَان الْخَاتم وَكَانَ سَببه أَنه أَمر لعَمْرو بن الزبير بِمِائَة ألف دِرْهَم وَكتب بذلك كتابا إِلَى زِيَاد بالعراق ففض عَمْرو الْكتاب وصير الْمِائَة مِائَتَيْنِ فَلَمَّا رفع زِيَاد حسابه أنكر مُعَاوِيَة وَأخذ عمرَاً بردهَا وحبسه فأدَّاهَا عَنهُ أَخُوهُ عبد الله بن الزبير فأحدث عِنْد ذَلِك ديوَان الْخَاتم
(صفة مُعَاوِيَة)
كَانَ رجلا أَبيض جميلا إِذا ضحك انقلبت شفته الْعليا وَكَانَ يخضب بالصفرة قَالَ أَبُو عبد رب الدِّمَشْقِي رَأَيْت مُعَاوِيَة يصفر لحيته كَأَنَّهَا الذَّهَب وَعَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن قارظ قَالَ سَمِعت مُعَاوِيَة على مِنْبَر الْمَدِينَة يَقُول أَيْن فقهاؤكم يَا أهل الْمَدِينَة سَمِعت رَسُول الله
ينْهَى عَن هَذِه الْقِصَّة ثمَّ وَضعهَا على رَأسه أَو خَدّه فَلم أر على عروس وَلَا على غَيرهَا أبهَى مِنْهَا على مُعَاوِيَة
(ذكر مناقبه)
ذكر الْمفضل الْغلابِي أَن زيد بن ثَابت كَانَ كَاتب وَحي رَسُول الله
وَكَانَ مُعَاوِيَة كَاتبه فِيمَا بَينه وَبَين الْعَرَب كَذَا قَالَ(3/154)
وَقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كنت أَلعَب فدعاني رَسُول الله
وَقَالَ ادْع لي مُعَاوِيَة وَكَانَ يكْتب الْوَحْي وَقَالَ مُعَاوِيَة بن صَالح عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة سَمِعت رَسُول الله
وَهُوَ يَدْعُونَا إِلَى السّحُور هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاء الْمُبَارك ثمَّ سمعته يَقُول اللَّهُمَّ علم مُعَاوِيَة الْكتاب والحساب وقه الْعَذَاب رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وروى عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عميرَة الْمُزنِيّ وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي
أَن النَّبِي
قَالَ لمعاوية اللَّهُمَّ علمه الْكتاب والحساب وقه الْعَذَاب وروى عبد الرَّحْمَن بن أبي عميرَة أَيْضا يَقُول سَمِعت رَسُول الله
يَقُول لمعاوية اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هاديَاً مهدياً واهده واهد بِهِ رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم وَأَبُو مسْهر عَن سعيد نَحوه وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الذهلي عَن أبي مسْهر وروى نعيم بن حَمَّاد بِسَنَدِهِ عَن يُونُس بن ميسرَة عَن عبد اللَه بن بسر أَن رَسُول الله
اسْتَأْذن أَبَا بكر وَعمر فِي أَمر فَقَالَ أشيرا عَلَي فَقَالَا الله وَرَسُوله أعلم فَقَالَ ادْعُوَا مُعَاوِيَة وأحضراه أمركما فَإِنَّهُ قوي أَمِين وروى عَن وَحشِي بن حَرْب بن وَحشِي عَن أَبِيه عَن جده قَالَ أردفَ رَسُول الله
مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان خَلفه فَقَالَ مَا يليني مِنْك قَالَ بَطْني قَالَ اللَّهُمَّ املأه علما وَقَالَ خَليفَة جمع عمر لمعاوية الشَّام كُله ثمَّ أقره عُثْمَان(3/155)
وَقَالَ مُسلم بن جُنْدُب عَن أسلم مولى عمر قَالَ قدم علينا مُعَاوِيَة وَهُوَ أَبَضُّ النَّاس وأجملهم فحج مَعَ عمر وَكَانَ عمر ينظر إِلَيْهِ فيعجب لَهُ ثمَّ يضع إصبعه على مَتنه ويرفعها عَن مثل الشرَاك وَيَقُول بخ بخ نَحن إِذن خير النَّاس أَن جمع لنا خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سأحدثك إِنَّا بِأَرْض الحمامات والريف فَقَالَ لَهُ عمر سأحدثك مَا بك إلطافك نَفسك بأطيب الطَّعَام وتضحيك حَتَّى تضرب الشَّمْس منكبيك وذوو الْحَاجَات وَرَاء الْبَاب قَالَ أسلم فَلَمَّا جِئْنَا ذَا طوى أخرج مُعَاوِيَة حلَّة فلبسها فَوجدَ عمر مِنْهَا رَائِحَة طيبَة فَقَالَ عمر يعمد أحدكُم يخرج حَاجا تَفِلا حَتَّى إِذا جَاءَ أعظم بلدان الله أخرج ثوبيه كَأَنَّهُمَا كَانَا فِي الطّيب فيلبسهما فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنَّمَا لبستهما لأَدخُلَ فيهمَا على عشيرتي وَالله لقد بَلغنِي أذاك هَهُنَا وبالشام الله يعلم أَنِّي لقد عرفت الْحيَاء فِيهِ وَنزع مُعَاوِيَة الثَّوْبَيْنِ وَلبس ثوبيه اللَّذين أحرم فيهمَا وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي كَانَ عمر إِذا نظر إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ هَذَا كسْرَى الْعَرَب وَقَالَ مُجَاهِد عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ قَالَ لَا تكْرهُوا إمرة مُعَاوِيَة فَإِنَّكُم لَو فقدتموه رَأَيْتُمْ الرُّءُوس تندر عَن كواهلها وروى عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه قَالَت قدم مُعَاوِيَة الْمَدِينَة فَأرْسل إِلَى عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن أرسلي إِلي بأنجانية رَسُول الله
وشعره فَأرْسلت بذلك معي أحملهُ فَأخذ الأنبجانية فلبسها وَغسل الشّعْر بِمَاء فَشرب مِنْهُ وأفاض على جلده(3/156)
وروى أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن الشّعبِيّ قَالَ لما قدم مُعَاوِيَة الْمَدِينَة عَام الْجَمَاعَة يَعْنِي عَام أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة تَلَقَّتْهُ رجال قُرَيْش فَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أعز نصرك وَأَعْلَى أَمرك فَمَا رد عَلَيْهِم جَوَابا حَتَّى دخل الْمَدِينَة فعلا الْمِنْبَر ثمَّ حمد الله وَقَالَ أما بعد فَإِنِّي وَالله مَا وليت أَمركُم إِلَّا وَأَنا أعلم أَنكُمْ لَا تسرون بولايتي وَلَا تحبونها وَإِنِّي لعالم بِمَا فِي نفوسكم وَلَكِنِّي خالستكم بسيفي هَذَا مخالسة وَلَقَد رمت على عمل ابْن أبي قُحَافَة فَلم أَجدهَا تقوم بذلك وأردتها على عمل عمر فَكَانَت عَنهُ أَشد نفوراً وحاولتها على مثل سنياتِ عُثْمَان فَأَبت عَليّ وَأَيْنَ مثل هَؤُلَاءِ هَيْهَات أَن يدْرك أحد فَضلهمْ من بعدهمْ غير أَنِّي سلكت بهَا طَرِيقا لي فِيهِ مَنْفَعَة وَلكم فِيهِ مثل ذَلِك وَلكُل فِيهِ مؤاكلة حَسَنَة ومشاربة جميلَة وَمَا استقامت السِّيرَة وَحسنت الطَّاعَة فَإِن لم تجدوني خَيركُمْ فَأَنا خير لكم وَالله لَا أحمل السَّيْف على من لَا سيف مَعَه وَمهما تقدم مِمَّا قد علمتموه فقد جعلته دبر أُذُنِي وَإِن لم تجدوني أقوم بحقكم كُله فارضوا مني بِبَعْضِه فَإِنَّهَا لقائبة قوبها وَإِن السَّيْل إِذا جَاءَ تترى وَإِن قل أغْنى وَإِيَّاكُم والفتنة فَلَا تهموا بهَا فَإِنَّهَا تفْسد الْمَعيشَة وتكدر النِّعْمَة وتورث الاستئصال وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم وَنزل قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي دوَل الْإِسْلَام قَالَ جندل بن والق وَغَيره
حَدثنَا مُحَمَّد ابْن بشر حَدثنَا مجَالد عَن أبي الوداك عَن أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله
إِذا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَة على منبري فَاقْتُلُوهُ مجَالد ضَعِيف وَقد رَوَاهُ النَّاس عَن عَليّ بن زيد بن جدعَان وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد فَذكره وروى عَن أبي بكر بن دَاوُد قَالَ هُوَ مُعَاوِيَة بن تابوه رَأس الْمُنَافِقين حلف أَن(3/157)
يتغوَط فَوق الْمِنْبَر الشريف وَقَالَ بسر بن سعيد عَن سعد بن أبي وَقاص قَالَ مَا رأيتُ أحدا بعد عُثْمَان أقضَى بِحَق من صَاحب هَذَا الْبَاب يَعْنِي مُعَاوِيَة وَعَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم عَن ثَابت مولى أبي سُفْيَان أَنه سمع مُعَاوِيَة يخطُبُ وَيَقُول إِنِّي لست بِخَيْرِكُمْ وَإِن فِيكُم من هُوَ خير مني عبد الله بن عمر وَعبد الله ابْن عَمْرو وَغَيرهمَا من الأفاضل وَلَكِنِّي حسبت أَن أكونَ أَنْكَاكم فِي عَدوكُمْ وأنفعكم ولَايَة وَأَحْسَنُكُمْ خلقا قَالَ همام بن مُنَبّه سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول مَا رأيتُ رجلا كَانَ أخلق للْملك من مُعَاوِيَة كَانَ النَّاس يردون مِنْهُ على أرجاء وادِ رحب لم يكن بالضيق الْحصْر العصعص المتعصب يَعْنِي ابْن الزبير وَقَالَ أَبُو أَيُّوب عَن أبي قلَابَة إِن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ لن يملك هَذِه الْأمة أحد مل ملك مُعَاوِيَة قلت صدق كَعْب فِيمَا قَالَه فَإِن مُعَاوِيَة بَقِي خَليفَة عشْرين سنة لَا ينازعه أحد الْأَمر فِي الأَرْض جَمِيعًا بِخِلَاف عبد الْملك بن مَرْوَان وَأبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَهَارُون الرشيد وَغَيرهم فَإِنَّهُم كَانَ لَهُم مُخَالف وَخرج عَن حكمهم بعضْ الممالك وروى ضمام بن إِسْمَاعِيل قَالَ سَمِعت أَبَا قبيل حييّ بن هَانِئ يخبر عَن مُعَاوِيَة وَصعد الْمِنْبَر يَوْم جُمُعَة فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِن المَال مالنا والفيء فيئنا من شِئْنَا أعطينا وَمن شِئْنَا منعنَا فَلم يجبهُ أحد فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى قَالَ مثل ذَلِك فَلم يجبهُ أحد فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّالِثَة قَالَ مثل ذَلِك فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ كلا إِنَّمَا المَال مالنا والفيء فيئنا من حَال بَيْننَا وَبَينه حكمناه إِلَى الله(3/158)
بأسيافنا فَنزل مُعَاوِيَة وَأرْسل إِلَى الرجل فَأدْخل عَلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْم هلك فَفتح مُعَاوِيَة الْأَبْوَاب وَدخل النَّاس فوجدوا الرجل مَعَه على السرير فَقَالَ مُعَاوِيَة إِن هَذَا أحياني أَحْيَاهُ الله سَمِعت رَسُول الله
يَقُول سَيكون أَئِمَّة من بعدِي يَقُولُونَ فَلَا يرد عَلَيْهِم قَوْلهم يتقاحمون فِي النَّار تَقَاحم القردة وَإِنِّي تَكَلَّمت فَلم يرد عَليّ أحد فَخَشِيت أَن أكون مِنْهُم ثمَّ تَكَلَّمت الْجُمُعَة الثَّانِيَة فَلم يرد على أحد فَقلت فِي نَفسِي إِنِّي من الْقَوْم ثمَّ تَكَلَّمت هَذِه الْجُمُعَة الثَّالِثَة فَقَامَ هَذَا فَرد عليَ فأحياني أَحْيَاهُ الله فرجوت أَن يخرجني الله مِنْهُم فَأعْطَاهُ وَأَجَازَهُ وروى عَن خَالِد بن معدان قَالَ وَفد الْمِقْدَام بن معدي كرب وَعمر بن الْأسود وَرجل من بني أَسد لَهُ صُحْبَة على مُعَاوِيَة فَقَالَ مُعَاوِيَة للمقدام توفّي الْحسن فَاسْتَرْجع فَقَالَ مُعَاوِيَة أتراها مُصِيبَة قَالَ الْمِقْدَام وَلم لَا وَقد وَضعه رَسُول الله
فِي حجره وَقَالَ هَذَا مني وحسين من عَليّ ثمَّ قَالَ مُعَاوِيَة للأسدي مَا تَقول أَنْت قَالَ جَمْرَة أطفئَت فَقَالَ الْمِقْدَام أنْشدك الله هَل سَمِعت رَسُول الله
ينْهَى عَن لبس الذَّهَب وَالْحَرِير وَعَن جُلُود السبَاع وَالرُّكُوب عَلَيْهَا قَالَ نعم قَالَ فوَاللَّه لقد رَأَيْت هَذَا كُله فِي بَيْتك يَا مُعَاوِيَة فَقَالَ مُعَاوِيَة عرفت أَنِّي لَا أنجو مِنْك وَكَانَ يضْرب الْمثل بحلم مُعَاوِيَة وَقد أفرد ابْن أبي الدُّنْيَا وَأَبُو بكر بن أبي عَاصِم تصنيفاً مُسْتقِلّا فِي حلم مُعَاوِيَة فَقَالَ إِن رجلا شارط آخر على أَن يضْرب مُعَاوِيَة كَفاً فَلَمَّا فعله الْتفت إِلَيْهِ مُعَاوِيَة وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى صَاحبك وَخذ شرطك وَلَا تعد لمثلهَا ثمَّ إِن هَذَا الرجل شارط آخر على مثلهَا فِي يزِيد فَلَمَّا فعله أَمر بِقطع يَدَيْهِ فَقَالَ الرجل إِن كَانَ لَا بُد فَوَاحِدَة فَقَالَ يزِيد وَاحِدَة للضرب وَالْأُخْرَى للشّرط فَقَالَ لَهُ الرجل غَرني حلم مُعَاوِيَة يَا يزِيد فَقَالَ يزِيد تِلْكَ أمة قد خلت(3/159)
وَعَن قبيصَة بن جَابر قَالَ صَحِبت مُعَاوِيَة فَمَا رأيتُ رجلا أثقل حلماً وَلَا أَبْطَأَ جهلا وَلَا أبعد أَنَاة مِنْهُ وَقَالَ جرير عَن مُغيرَة قَالَ أرسل الْحسن بن عَليّ وَعبد الله بن جَعْفَر إِلَى مُعَاوِيَة يسألانه فَبعث إِلَيْهِمَا بِمِائَة ألف دِينَار فَبلغ ذَلِك عليا فَقَالَ لَهما أَلا تستحيان من رجل نطعن فِيهِ غدْوَة وَعَشِيَّة تسألانه المَال قَالَا لِأَنَّك حرمتنا وجاد لنا وَقَالَ مَالك كَانَ معاويةُ ينتف الشيب كَذَا وَكَذَا سنة وَكَانَ يخرج إِلَى الصَّلَاة وَرِدَاؤُهُ يحمل وَرَاءه فَإِذا دخل للصَّلَاة جعل عَلَيْهِ وَذَلِكَ من الْكبر وَذكر غَيره أَن مُعَاوِيَة أَصَابَته اللقوة قبل أَن يَمُوت وَكَانَ اطلع فِي بِئْر عَادِية فِي الْأَبْوَاء لما حج فأصابته اللقوة يَعْنِي بَطل نصفه وَعَن الشّعبِيّ قَالَ أول من خطب النَّاس قَاعِدا معاويةُ وَذَلِكَ حِين كَثُرَ شحمه وَعظم بَطْنه وَعَن ابْن سِيرِين أصَاب مُعَاوِيَة لقُوَّة فَاتخذ لحفاً خفافاً تلقى عَلَيْهِ فَلَا يلبث أَن يتَأَذَّى بهَا فَإِذا أخذت عَنهُ يسْأَل أَن ترد عَلَيْهِ فَقَالَ قبحك الله من دَار مكثت فِيك عشْرين سنة أميرَاً وَعشْرين سنة خَليفَة ثمَّ صرت إِلَى مَا أرى وروى عبد الْأَعْلَى بن مَيْمُون بن مهْرَان عَن أَبِيه أَن مُعَاوِيَة قَالَ فِي مَرضه كنت أوضئ رَسُول الله
يَوْمًا فَنزع قَمِيصه وكسانيه فَرَفَعته وخبأت قلامة أَظْفَاره فِي قَارُورَة فَإِذا مت فَجعلُوا الْقَمِيص على جلدي واسحقوا تِلْكَ القلامة واجعلوها فِي عَيْني فَعَسَى الله أَن يرحمني ببركتها وَقَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء لما حضرت مُعَاوِيَة الْوَفَاة أنْشد من // (الطَّوِيل) //
(هُوَ المَوْتَ لاَ يُنْجَى مِنَ المَوْتِ وَالّذِي ... تُجَاوِزُ بَعْدَ المَوْتِ أَدْهى وَأَفْظَعُ)(3/160)
اللَّهُمَّ أقل العثرة واعف عَن الزلة وَتجَاوز بِحِلْمِك عَن جهل من لم يرج غَيْرك فَمَا وَرَاءَك مَذْهَب قَالَ أَبُو مسْهر صلى عَلَيْهِ الضَّحَّاك بت قيس الفِهري وَدفن بِدِمَشْق بَين بَاب الْجَابِيَة وَالْبَاب الصَّغِير قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ وقبره يزار إِلَى الْآن عَلَيْهِ بَيت مَبْنِيّ يفتح كل اثْنَيْنِ وخميس وَله من الْعُمر ثَمَانُون وَقيل تسعون وَكَانَ أَمِيرا وَخَلِيفَة أربعينَ سنةَ مِنْهَا أَربع سِنِين فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ
(بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة)
قد مضَى أَن مُعَاوِيَة جعل ابْنه ولي عَهده وأكره النَّاس على ذَلِك فَلَمَّا توفّي لم يدْخل فِي طَاعَة يزِيد بن الْحُسَيْن بن عَليّ وَلَا عبد الله بن الزبير وَلَا من يشايعهما قَالَ أَبُو مسْهر حَدثنَا خَالِد بن يزِيد حَدثنِي سعيد بن حُرَيْث قَالَ لما كَانَت الْغَدَاة الَّتِي توفّي لَيْلَتهَا مُعَاوِيَة فزع النَّاس إِلَى الْمَسْجِد وَلم يكن قبله خَليفَة بِالشَّام غَيره فَكنت فِيمَن أَتَى الْمَسْجِد فَلَمَّا الاتفع النَّهَار وهم يَبْكُونَ فِي الخظراء وَابْنه يزِيد غَائِب وَبعث إِلَيْهِ الْبَرِيد وَهُوَ ولي عهد وَكَانَ بجوارين وَكَانَ نَائِبه على دمشق الضَّحَّاك بن قيس الفِهري فَدفن مُعَاوِيَة فَلَمَّا كَانَ بعد أُسْبُوع بلغنَا أَن ابْن الزبير خرج بِالْمَدِينَةِ وَحَارب وَكَانَ مُعَاوِيَة قد غشي عَلَيْهِ مرّة فَركب بِمَوْتِهِ الركْبَان فَلَمَّا بلغ ذَلِك ابْن الزبير خرج فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة صلى بِنَا الضَّحَّاك ثمَّ قَالَ تعلمُونَ أَن خليفتكم يزِيد قدم وَنحن غَدا متلقوه فَلَمَّا صلى الصُّبْح ركب فَرَكبْنَا مَعَه فَسَار فِي ثنية الْعقَاب فَإِذا بأثقال يزِيد ثمَّ سرنا قَلِيلا فَإِذا بِيَزِيد فِي ركب مَعَه أَخْوَاله من بني كلب وَهُوَ(3/161)
عَليّ بخْتِي لَهُ رَحل وريطة مثنية فِي عُنُقه لَيْسَ عَلَيْهِ سيف وَلَا عِمَامَة وَقد كَانَ ضخماً سميناً قد كثر شعره وشعث فَأقبل النَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ ويعزونه وَهُوَ ترى فِيهِ الكآبة والحزن وخفض الصَّوْت وَالنَّاس يعيبون ذَلِك مِنْهُ وَيَقُولُونَ هَذَا الْأَعرَابِي الْأُمِّي ولي أَمر النَّاس وَالله سَائل عَنهُ قسار فَقُلْنَا يدْخل من بَاب توما فَلم يدْخل وَمضى إِلَى بَاب شَرْقي فَلم يدْخل مِنْهُ وَأَجَازَهُ ثمَّ أجَاز بَاب كيسَان إِلَى بَاب الصَّغِير فَلَمَّا وافاه أَنَاخَ وَنزل وَمَشى الضَّحَّاك بَين يَدَيْهِ إِلَى قبر مُعَاوِيَة فصففنا خَلفه وَكبر أَرْبعا فَلَمَّا خرج من الْمَقَابِر أَتَى ببغلة فركبها إِلَى الخضراء ثمَّ نُودي الصَّلَاة جمَاعَة لصَلَاة الظّهْر فاغتسل وَلبس ثيابًا نفيسةَ ثمَّ جلس على الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر موت أَبِيه وَقَالَ إِنَّه كَانَ يغزيكم الْبَحْر وَالْبر وَلست حاولا أحدا الْمُسلمين فِي الْبَحْر وَإنَّهُ كَانَ يشتيكم بِأَرْض الرّوم وَلست مشتياً أحدا بهَا وَإنَّهُ كَانَ يخرج لكم الْعَطاء ثَلَاثَة وَأَنا أجمعه لكم كُله قَالَ فافترقوا وَمَا يفضلون عَلَيْهِ أحدَاً وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم عَن عَطِيَّة بن قيس قَالَ خطب مُعَاوِيَة فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت إِنَّمَا عهِدت ليزِيد لما رَأَيْت من فَضله فَبَلغهُ مَا أملت وأعنه وَأَن كنت إِنَّمَا حَملَنِي على ذَلِك حب الْوَالِد لوَلَده وَأَنه لَيْسَ بِأَهْل فاقبضه قبل أَن يبلغ ذَلِك قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن دَخَلنَا على بشير وَكَانَ صحابياً فَقُلْنَا اسْتخْلف يزِيد فَقَالَ يَقُولُونَ أَن يزِيد لَيْسَ بِخَير أمة مُحَمَّد
وَأَنا أَقُول ذَلِك وَلَكِن لِأَن يجمع الله أمة مُحَمَّد أحب إِلَيّ من أَن يتفرق كَذَا فِي الذَّهَبِيّ بُويِعَ يزِيد بعد موت أَبِيه وعَلى الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبَة بن أبي سُفْيَان وعَلى مَكَّة عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الشهير بالأشدق وعَلى الْبَصْرَة عبيد الله بن زِيَاد وعَلى(3/162)
الْكُوفَة النُّعْمَان بن بشير وَلم يكن هم يزِيد إِلَّا بيعَة النَّفر الَّذِي أَبَوا على مُعَاوِيَة بيعَته فَكتب يزِيد إِلَى الْوَلِيد بن عتبَة بِمَوْت مُعَاوِيَة وَأَن يَأْخُذ حُسَيْنًا بن عمر وَابْن الزبير بالبيعة من غير رخصَة فَلَمَّا أَتَى الْوَلِيد نعى مُعَاوِيَة استدعى مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ منقطعَاً عَنهُ بِمَا كَانَ يبلغهُ عَنهُ فَلَمَّا قَرَأَ مَرْوَان الْكتاب بنعي مُعَاوِيَة اسْترْجع وترحَم فَاسْتَشَارَهُ الْوَلِيد فِي أَمر أُولَئِكَ النَّفر فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يحضرهم لوقته فَإِن بَايعُوا وَإِلَّا قَتلهمْ قبل أَن يعلمُوا بِمَوْت مُعَاوِيَة فيثب كل رجل مِنْهُم فِي نَاحيَة إِلَّا ابْن عمر فَإِنَّهُ لَا يحبُ الْقِتَال وَلَا يحب الْولَايَة إِلَّا أَن يرفع إِلَيْهِ الْأَمر فَبعث الْوَلِيد لوقته عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان وَهُوَ غُلَام حدث فجَاء إِلَى الْحُسَيْن وَابْن الزبير فِي الْمَسْجِد فِي سَاعَة لم يَكُنِ الْوَلِيد يجلس فِيهَا للنَّاس وَقَالَ أجيباً الْأَمِير فَقَالَا انْصَرف الْآن نأتيه ثمَّ حدسا فِيمَا بعث إِلَيْهِمَا فَلم يَعْدُوَا مَا وَقع وَجمع الْحُسَيْن فتيانه وَأهل بَيته وَسَار إِلَيْهِ وأجلسهم بِالْبَابِ وَقَالَ إِن دعوتكم أَو سَمِعْتُمْ صوتي عَالِيا فادخلوا بأجمعكم ثمَّ دخل فَسلم ومروان عِنْده فشكرهما الْوَلِيد على الصِّلَة بعد القطيعة ودعا لَهما بصلاح ذَات الْبَين فَأَقْرَأهُ الْوَلِيد الْكتاب بنعي مُعَاوِيَة وَدعَاهُ إِلَى الْبيعَة فَاسْتَرْجع وترحم قَالَ مثلي لَا يُبَايع سِرُّاً وَلَا يَكْتَفِي بهَا مني فَإِذا ظَهرت للنَّاس ودعوتهم كَانَ أمرنَا وَاحِدًا وَكنت أول مُجيب فَقَالَ الْوَلِيد وَكَانَ يحب المسالمة انْصَرف يَا أَبَا عبد الله وَقَالَ مَرْوَان للوليد لَا تقدر مِنْهُ على مثلهَا أبدا حَتَّى تكْثر القتلَى بَيْنك وَبَينه ألزمهُ الْبيعَة وَإِلَّا اضْرِب عُنُقه فَوَثَبَ الْحُسَيْن وَقَالَ أَنْت تقتلني أَو هُوَ كذبت وَالله فَانْصَرف إِلَى منزله يتهادَى بَين موَالِيه وَهُوَ يَقُول // (من الْخَفِيف) //
(لاَ ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي فَلَقِ الصُّبْحِ ... مُغِيرًا وَلاَ ذَعَرْتُ يَزِيدَا)
(يَوْمَ أعْطى مَخَافَةَ القَتْلِ ضَيْمًا ... وَالمَنَايَا صدَدْنَيِي أَنْ أَحِيدَا)
وَأخذ مَرْوَان فِي عذل الْوَلِيد فَقَالَ يَا مَرْوَان وَالله مَا أحب أَن لي مَا طلعَت عَلَيْهِ الشَّمْس من مَال الدُّنْيَا وملكها وَأَنِّي قتلت الْحُسَيْن أَن قَالَ لَا أبايع(3/163)
وَأما ابْن الزبير فَإِنَّهُ اختفى فِي دَاره وَجمع أَصْحَابه وألح الْوَلِيد فِي طلبه وَبعث موَالِيه فَشَتَمُوهُ وتهددوه وَأَقَامُوا بِبَابِهِ فِي طلبه فَبعث ابْن الزبير أَخَاهُ جعفراً يلاطف الْوَلِيد ويشكو مَا أَصَابَهُ من الذعر ويعده بالحضور من الْغَدَاة وَأَن يصرف رسله من بَابه فَبعث إِلَيْهِم وَانْصَرفُوا وَخرج ابْن الزبير من ليلته مَعَ أَخِيه جَعْفَر وَحدهمَا وأخذا طَرِيق الْفَرْع إِلَى مَكَّة فسرح الْوَلِيد الرِّجَال فِي طلبه فَلم يدركوه وَرَجَعُوا وتشاغل بذلك عَن الْحُسَيْن سائِرَ يَوْمه ثمَّ أرسل إِلَى الْحُسَيْن يَدعُوهُ فَقَالَ الْحُسَيْن أَصْبحُوا وَتَروْنَ ونَرَى وَسَار فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة ببنيه وَبني أَخِيه إِلَّا مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَكَانَ قد نصحه وَقَالَ تَنَح عَن يزِيد وَعَن الْأَمْصَار مَا اسْتَطَعْت وَابعث دعاتك إِلَى النَّاس فَإِن أجابوك فاحمد الله وَإِن اجْتَمعُوا على غَيْرك فَلم ينقص بذلك دينك وَلَا عقلك وَلم تذْهب بِهِ مروءتك وَلَا فضلك وَأَنا أَخَاف أَن تأني مصرَاً أَو قوما فيختلفون عَلَيْك فَتكون لأوّل الأسنة فَإِذا خير الْأمة نفسا وَأَبا أضيعها دمنا وأذلها أصلا قَالَ لَهُ الْحُسَيْن فَإِنِّي ذَاهِب قَالَ لَهُ انْزِلْ مَكَّة فَإِن اطمأنت بك الدَّار فبسبيل ذَلِك وَإِن نأت بك لحقت بالرمال وشعاب الْجبَال وَمن بلد إِلَى بلد حَتَّى تنظر مصير أَمر النَّاس وتعرف الرَّأْي فَقَالَ يَا أخي نصحتَ وأشفقتَ فلحق بِمَكَّة وَبعث الْوَلِيد إِلَى ابْن عمر ليبايع فَقَالَ إِذا بَايع النَّاس وَقيل إِن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس كَانَا بِمَكَّة ورجعا إِلَى الْمَدِينَة فلقيا الْحُسَيْن وَابْن الزبير فأخبراهما بِمَوْت مُعَاوِيَة وبيعة يزِيد فَقَالَ ابْن عمر لَا نفرق جمَاعَة الْمُسلمين وقَدِمَ هُوَ وَابْن عَبَّاس الْمَدِينَة وَبَايِعًا عِنْد بيعَة النَّاس وَلنَا دخل ابْن الزبير مَكَّة وَعَلَيْهَا عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الشهير بالأشدق كَمَا تقدم ذكره قَالَ أَنا عَائِد بِالْبَيْتِ وَلم يكن يُصَلِّي وَلَا يفِيض مَعَهم وَيقف هُوَ وَأَصْحَابه نَاحيَة وَلما بلغ يزِيد صَنِيع الْوَلِيد بن عتبَة بِأَمْر أُولَئِكَ النَّفر وتوانيه فِي أَمرهم عَزله عَن الْمَدِينَة وولاها عَمْرو بن سعيد فَقَدمهَا فِي رَمَضَان وَاسْتعْمل على شرطته عَمْرو ابْن الزبير بِالْمَدِينَةِ لما كَانَ بَينه وَبَين أَخِيه عبد الله بن الزبير من الْبغضَاء قَالَ الْعَلامَة ابْن خلدون وَولى يزِيد بن مُعَاوِيَة عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْمَدِينَة وَمَكَّة والموسم والطائف فَقدم إِلَى الْمَدِينَة سنة سِتِّينَ فِي رَمَضَان قبيل(3/164)
الْعَتَمَة فصلى الْعَتَمَة بِالنَّاسِ وَقَرَأَ {لَم يَكنُ} الْبَيِّنَة 1 و {إذَا زُلزِلتَ الأَرضُ} الزلزلة 1 فَلَمَّا أصبح خرج على النَّاس وَعَلِيهِ قَمِيص أَحْمَر وعمامة حَمْرَاء فَصَعدَ الْمِنْبَر فَرَمَاهُ النَّاس بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ يَا أهل الْمَدِينَة مَا لكم ترموننا بأبصاركم كأنكم تُرِيدُونَ تقروننا سُيُوفكُمْ أنسيتم مَا فَعلْتُمْ أما لَو انتقم مِنْكُم فِي الأولى مَا عدتم إِلَى الثَّانِيَة أغركم إِذْ قتلتم عُثْمَان فوجدتم صَابِرًا حَلِيمًا وإمامَاً مواتياً فَذهب غَضَبه وَذَهَبت أذاته فاغنموا أَنفسكُم فقد وَلِيكُم إِمَام بالشباب المقتبل الْبعيد الأمل وَقد اعتدل جِسْمه وَاشْتَدَّ عظمه وَرمى الدَّهْر ببصربه واستقبله بأسره فَهُوَ إِن عض نهش وَإِن وطئ فرش لَا يقلقله الْحَصَى وَلَا تقرع لَهُ الْعَصَا فرعف وَهُوَ يتَكَلَّم على الْمِنْبَر فَألْقى رجل إِلَيْهِ عِمَامَة فَمسح بهَا فَقَالَ رجل من خثعم دم على الْمِنْبَر من عِمَامَة فتْنَة عَمت وَعلا ذكرهَا وَرب الْكَعْبَة ثمَّ خرج عَمْرو بن سعيد إِلَى مَكَّة فَقَدمهَا قبل التَّرويَة بِيَوْم وَخرج الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقبل لعَمْرو خرج الْحُسَيْن فَقَالَ اركبوا كُل بعير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فِي طلبه قَالَ وَكَانَ النَّاس يتعجبون من قَوْله فطلبوه فَلم يدركوه فَكَانَت الْفِتْنَة الْمَشْهُورَة انْتهى ذكر ذَلِك فِي ذكر العيافة والزجر والطيرة وأحضر نَفرا من شيعَة ابْن الزبير بِالْمَدِينَةِ فضربهم من الْأَرْبَعين إِلَى الْخمسين إِلَى السِّتين مِنْهُم الْمُنْذر بن الزبير وَابْنه مُحَمَّد وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن عبد يَغُوث وَعُثْمَان بن عبد الله بن حكم بن حزَام وَمُحَمّد بن عمار بن يَاسر وَغَيرهم ثمَّ جهز الْبعُوث إِلَى مَكَّة سَبْعمِائة وَنَحْوهَا وَقَالَ لعَمْرو بن الزبير من نبعث إِلَى أَخِيك فَقَالَ لَا تَجِد رجلا أبلى لَهُ مني فَجهز مَعَه سَبْعمِائة مقَاتل وعذل مَرْوَان بن الحكم عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة مَكَّة وَقَالَ لَهُ اتَّقِ الله وَلَا تحل حرمه فَقَالَ وَالله لنغزرنه فِي جَوف الْكَعْبَة وَجَاء أَبُو شُرَيْح الْخُزَاعِيّ إِلَى عَمْرو بن سعيد فَقَالَ لَهُ سَمِعت رَسُول الله
يَقُول إِنَّمَا أذن لي بِالْقِتَالِ فِيهَا سَاعَة من النَّهَار ثمَّ عَادَتْ كحرمتها بالْأَمْس(3/165)
فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن سعيد نَحن أعلم بحرمتها مِنْك أَيهَا الشَّيْخ وَيُقَال إِن الْجَيْش كَانَ عدته ألفَى مقَاتل وعَلى مقدمته أنيس بن عُمَيْر الْأَسْلَمِيّ فَلَمَّا قاربوا مَكَّة نزل أنيس بِذِي طوى وَنزل عَمْرو بِالْأَبْطح وَبعث إِلَى أَخِيه عبد الله أَن بر يَمِين يزِيد فَإِنَّهُ حلف أَلا يقبل بيعَته إِلَّا أَن يُؤْتى بِهِ فِي جَامِعَة فَلَا تضرب النَّاس بَعضهم بِبَعْض فَإنَّك فِي بلد حرَام فَأرْسل عبد الله بن الزبير من اجْتمع مَعَه من أهل مَكَّة مَعَ عبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة فهزموا أنيسا بِذِي طوى وَقتل أنيس فِي الْهَزِيمَة وتخلف عَن عَمْرو بن الزبير أَصْحَابه فَدخل دَار ابْن عَلْقَمَة وَأَجَارَهُ وَقَالَ لِأَخِيهِ عبد الله بن الزبير قد أجرته فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ وَأَجَازَ جواره وَقيل إِنَّه لم يجز جواره وضربه بِكُل من ضربه عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ من جماعته وحسبه بسجن عَارِم وَمَات تَحت السِّيَاط
(توجه الْحُسَيْن بن عَليّ إِلَى الْكُوفَة واستشهاده بكربلاء)
لما خرج الْحُسَيْن من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لقِيه عبد الله بن مُطِيع وَسَأَلَهُ أَيْن تُرِيدُ فَقَالَ مَكَّة وأستخير الله فِيمَا بعد فنصحه أَلا يقرب الْكُوفَة وَذكره قَتلهمْ أَبَاهُ وخذلانهم أَخَاهُ وَأَن يُقيم بِمَكَّة لَا يُفَارق الْحرم حَتَّى يتداعى إِلَيْهِ النَّاس وَرجع عَنهُ وَنزل الْحُسَيْن بِمَكَّة فَأَقَامَ النَّاس يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَابْن الزبير فِي جَانب الْكَعْبَة يُصَلِّي وَيَطوف عَامَّة النَّهَار وَيَأْتِي الْحُسَيْن فِيمَن يَأْتِيهِ وَعلم أَن أهل الْحجاز لَا يلتفتون إِلَيْهِ مَعَ الْحُسَيْن وَلما بلغ أهل الْكُوفَة بيعَة يزِيد ولحاق الْحُسَيْن بِمَكَّة اجْتمعت أهالي الْكُوفَة والشيعة فِي منزل سُلَيْمَان بن صُرَدَ الْخُزَاعِيّ وَكَتَبُوا إِلَيْهِ إِنَّا حبسنا أَنْفُسنَا على بيعتك وَنحن نموت دُونك وإننا لم نُبَايِع للنعمان بن بشير أَمِير الْكُوفَة وَلَا نَجْتَمِع مَعَه فِي جُمُعَة وَلَا عيد وَلَو جئتنا أخرجناه وبعثوا بِالْكتاب مَعَ عبد الله بن سميع(3/166)
الْهَمدَانِي ثمَّ كتبو إِلَيْهِ ثَانِيَة بعد لَيْلَتَيْنِ نَحْو مائَة وَخمسين صحيفَة ثمَّ ثَالِثَة يستحثونه للحاق بهم فأجابهم الْحُسَيْن فهمت مَا قصصتم وَقد بعثت إِلَيْكُم أخي وَابْن عمي وثقتي من أهل بَيْتِي مُسلم بن عقيل يكْتب إِلَيّ بأمركم ورأيكم فَإِن اجْتمع ملؤكم على مثل مَا قدمت بِهِ رسلكُمْ أقدم عَلَيْكُم قَرِيبا ولعمري مَا الإِمَام إِلَّا الْعَامِل بِالْكتاب الْقَائِم بِالْقِسْطِ الدَّائِن بدين الْحق فَسَار مُسلم وَدخل الْمَدِينَة وَصلى فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وودع أَهله واستأجر دَلِيلين من قيس فضَلا الطَّرِيق وعطش الْقَوْم فَمَاتَ الدليلان بعد أَن أَشَارَ إِلَيْهِم بِموضع المَاء وانتهوا إِلَيْهِ وَشَرِبُوا ونجوا فتطير مُسلم بذلك وَكتب إِلَى الْحُسَيْن يستعفيه فَكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن إِنِّي خشيت ألاَ يكون حملك على ذَلِك إِلَّا الْجُبْن فَامْضِ لوجهك وَالسَّلَام فَسَار مُسلم وَدخل الْكُوفَة أول ذِي الْحجَّة من سنة سِتِّينَ اخْتلفت إِلَيْهِ الشِّيعَة وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب الْحُسَيْن فبكوا ووعدوه بالنصر وَعلم النُّعْمَان بن بشير أَمِير الْكُوفَة بمَكَان مُسلم وَكَانَ حَلِيمًا ينجح إِلَى المسالمة وَكَانَ على الْكُوفَة حِين مَاتَ مُعَاوِيَة فَلَمَّا بلغه خبر وَمُسلم وَالْحُسَيْن قَالَ لِابْنِ بنت رَسُول الله
أحب إِلَيْنَا من ابْن بنت بَحدَل فَخَطب وحذر النَّاس الْفِتْنَة وَقَالَ لَا أقَاتل من لَا يقاتِلُنِي وَلَا آخذ بالظنة والتهمة وَلَكِن أَن نكثتم ببيعتكم وخالفتم إمامكم فوَاللَّه لأضربنكم بسيفي مَا دَامَ قائمه فِي يَدي وَلَو لم يكن لي نَاصِر وَقَالَ لَهُ بعض حلفاء بني أُميَّة لَا يصلح مَا ترى إِلَى الغشم وَهَذَا الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ مَعَ عَدوك رَأْي الْمُسْتَضْعَفِينَ فَقَالَ أكون من الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي طَاعَة الله أحب إِلَيّ من أَن أكون من الأَعزينَ فِي مَعْصِيّة الله ثمَّ نزل عَن الْمِنْبَر فَكتب عمار بن الْوَلِيد وَعمر بن سعد بن أبي وَقاص إِلَى يزِيد بالْخبر بِضعْف النُّعْمَان وَبِقَوْلِهِ لِابْنِ بنت رَسُول الله ... إِلَخ فَابْعَثْ إِلَى الْكُوفَة رجلا قَوِيا ينفذ أَمرك وَيعْمل عَمَلك فِي عَدوك فَأَشَارَ إِلَى يزِيد سرجون الرُّومِي كَاتب أَبِيه بعبيد الله بن زِيَاد وَكَانَ منحرفاً عَنهُ فَقَالَ لَهُ إِن أَبَاك مُعَاوِيَة ولاه قبل مَوته فَكتب يزِيد لَهُ بعهده إِلَى الْكُوفَة مُضَافا على الْبَصْرَة وَبعث لَهُ مَعَ مُسلم بن عَمْرو الْبَاهِلِيّ وَالِد قُتَيْبَة بن مُسلم وَأمره بِطَلَب مُسلم بن عقيل وَقَتله أَو نَفْيه(3/167)
وَكَانَ الْحُسَيْن قد كتب إِلَى أَشْرَاف الْبَصْرَة الْأَحْنَف بن قيس وَالْمُنْذر بن الْحَارِث ومالكِ بن مسمع الْبكْرِيّ ومسعود بن عَمْرو وَقيس بن الْهَيْثَم وود وَعَمْرو بن عبيد الله بن معمر يَدعُوهُم إِلَى الْكتاب وَالسّنة وإماتة الْبِدْعَة وخشي الْمُنْذر أَن يكون دسيساً من عبيد الله بن زِيَاد فَأَتَاهُ بالرسول وَالْكتاب من بَين أَصْحَابه فَقتل الرَّسُول ثمَّ خطب النَّاس وَأخْبرهمْ بولايته الْكُوفَة واستخلافه أَخَاهُ عُثْمَان بن زِيَاد على الْبَصْرَة وتهددهم على الْخلاف بِالْقَتْلِ وَأخذ الْأَدْنَى بالأقصى والقريب بقريبه ثمَّ أَغَذ عبيد الله السّير يسابق الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَة قَالَ الْعَلامَة ابْن خلدون فِي خَمْسمِائَة فَتَخَلَّفُوا عَنهُ شَيْئا فَشَيْئًا وقا الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي اثْنَي عشر رجلاَ حَتَّى دخل الْكُوفَة وَحده وَمر بالمجالس فظنوه الْحُسَيْن فَحَيوا ورحبوا وَهُوَ يسمع وساءه ذَلِك ثمَّ انْتهى إِلَى الْقصر فِي هجيج النَّاس يتبعونه فأغلق النُّعْمَان الْبَاب دونه يَظُنّهُ الْحُسَيْن وَقَالَ مَا أَنا بِمُسلم أمانتي إِلَيْك وَلَا أقاتلك فَدَنَا مِنْهُ عبيد الله وَقَالَ افْتَحْ لَا فتحت فَعرف صَوته وَفتح لَهُ وتفرق النَّاس ثمَّ خطب لولايته ووعد بِالْإِحْسَانِ للمحسن والشدة على الْمُرِيب والعاصي وحذر من الْمُخَالفَة ثمَّ أَخذ العُرَفَاء بِأَن يكتبوا لَهُ الغرباء والحرورية وَأهل الريب وَيضمن كل وَاحِد مَا فِي عرافته وَمن وجد فِي عرافته أحد لم يعرفهُ صلبه على بَاب دَاره ثمَّ نزل عَن الْمِنْبَر وَسمع مُسلم بن عقيل بذلك فَأتى منزل هَانِئ بن عُرْوَة وَكَانَ الْحُسَيْن أمره بالنزول عَلَيْهِ فَاسْتَجَارَ بِهِ فآواه على كره لمكانه خشيَة الْعَاقِبَة وأقامت الشِّيعَة تخْتَلف إِلَيْهِ فِي دَار هَانِئ ودعا ابْن زِيَاد مولى لَهُ وَأَعْطَاهُ مالاَ ودسه عَلَيْهِم ليَأْتِيه بعلمهم فَأَتَاهُ مُسلم بن عَوْسَجَة الْأَسدي وَهُوَ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ وَكَانَ من كبار دعاتهم فَقَالَ لَهُ أَنا من أهل الشَّام وَأَرَدْت لِقَاء هَذَا الرجل الَّذِي يُبَايع للحسين فاقبض هَذَا المَال وأدخلني عَلَيْهِ أُبَايِعهُ وَإِلَّا فَخذ أَنْت بيعتي قبل لِقَائِه فَأخذ بيعَته وَبَقِي يخْتَلف إِلَيْهِ وَمرض هَانِئ بن عُرْوَة فَأَتَاهُ عبيد الله بن زِيَاد يعودهُ وَحمل أَصْحَاب هَانِئ على الفتك بِابْن زِيَاد فَقَالَ مَا أحب ذَلِك فِي بَيْتِي ثمَّ مرض شريك بن الْأَعْوَر(3/168)
أَو تمارض فَقيل لِابْنِ زِيَاد إِن شَرِيكا شَاك يقئ الدَّم وَكَانَ قد شرب الْمغرَة فَجعل يقيئها فجَاء ابْن زِيَاد يعودهُ وَكَانَ قد نزل على هَانِئ وَكَانَ شَدِيد التَّشَيُّع شهر صفّين مَعَ عَليّ فَقَالَ لمُسلم بن عقيل إِذا قلت اسقوني فَاخْرُج وَقَتله ثمَّ اقصد الْقصر فَلَا حَائِل دونه وَإِن بَرِئت من وجعي كفيتك أَمر الْبَصْرَة فَلَمَّا جَاءَ عبيد الله بن زِيَاد إِلَى منزل هَانِئ جبن مُسلم عَن قَتله وَبَقِي شريك ينبهه لذَلِك وَيَقُول اسقوني اسقوني فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَيحكم اسقوني وَلَو كلنت فِيهِ نَفسِي فَلَا يُجيب حَتَّى خرج ابْن زِيَاد وَلم يصنع مُسلم شَيْئا وَكَانَ من أَشْجَع النَّاس وَلَكِن أَخَذته كبوة فَاعْتَذر عَن قَتله بِأَن هانئاً يكره ذَلِك فِي بَيته وَبِأَن عليا حدث عَن النَّبِي
أَن الْإِيمَان قيد الفتك ثمَّ قضى شريك بعد ثَلَاث وَصلى عَلَيْهِ عبيد الله بن زِيَاد ثمَّ علم بعد ذَلِك بِشَأْنِهِ فَحلف لَا يحضر جَنَازَة عراقي ثمَّ إِن الْمولى الَّذِي دسه ابْن زِيَاد بِالْمَالِ اخْتلف إِلَيْهِ مُسلم بن عَوْسَجَة بعد موت شريك فَأدْخلهُ على مُسلم بن عقيل فَأخذ بيعَته وَقبض مَاله وَأقَام يخْتَلف إِلَيْهِم ويخبر ابْن زِيَاد بأحوالهم حَتَّى تبين جلبة الْأَمر وَكَانَ هَانِئ انْقَطع عَن عبيد الله بن زِيَاد بِعُذْر الْمَرَض فَدَعَا بن زِيَاد مُحَمَّد ابْن الْأَشْعَث وَأَسْمَاء بنت خَارِجَة وَعَمْرو ابْن الْحجَّاج والزبيدي وعذل هانئاً فِي انْقِطَاعه عَنهُ وَأَنه بلغ بُرْؤُهُ من الْمَرَض وَقَالَ القوه فَمُرُوهُ أَلا يَنْقَطِع عني فَلَقِيَهُ الْقَوْم ولاموه فِي ذَلِك ثمَّ حلفوا عَلَيْهِ واستركبوه مَعَهم ودخلوا بِهِ على ابْن زِيَاد وَكَانَ مكرمَاً لَهُ فَقَالَ لَهُ ابْن زِيَاد يَا هَانِئ مَا هَذِه الْأُمُور الَّتِي تربض فِي دَارك للْمُسلمين وأمير الْمُؤمنِينَ وَأخْبرهُ بشأن مُسلم بن عقيل فَأنكرهُ فَدَعَا ابْن زِيَاد الْمولى الَّذِي دَسَه عَلَيْهِم وَرَآهُ هَانِئ فَسقط فِي يَده ثمَّ قَالَ وَالله مَا دَعَوْت الرجلَ وَلَا علمت بِشَيْء من أمره وَصدقه الْخَبَر فِي مَجِيئه إِلَى دَاره واستجارته بِهِ واستحيائه من رده وَقد كَانَ من أمره مَا بلغك وَأَنا الْآن أُعْطِيك عهدا ورهينة حَتَّى أخرجه من دَاري وأعود إِلَيْك فَقَالَ لَهُ ابْن زِيَاد وَالله لَا تُفَارِقنِي حَتَّى تَأتِينِي بِهِ فَقَالَ آتِيك بضيفي تقتله وَالله لَا فعلت ثمَّ قَامَ إِلَيْهِ مُسلم بن عَمْرو الْبَاهِلِيّ وَلم يكن هُنَالك أعز مِنْهُ فَاسْتَأْذن ابْن زِيَاد ودخلا نَاحيَة ونصحه أَن يَأْتِي بِهِ فَإِنَّهُ ابْن عمهم وَلَيْسوا قاتليه وَلَا ضاربيه(3/169)
وَلَيْسَ عَلَيْك فِي ذَلِك منقصة وَإِنَّمَا إِلَى السُّلْطَان فَأبى ولج وسَمعه ابْن زِيَاد فاستدناه لَئِن لم تأتني بِهِ لَأَضرِبَن عنقَك قَالَ هَانِئ إِذن وَالله تكْثر البارقة وَيُقَال إِن هَانِئ لما رأى الرجل الَّذِي كَانَ عينا قَالَ أَيهَا الْأَمِير أَنْت آمن وَأهْلك فسِرْ حَيْثُ شِئْت فَأَشَارَ ابْن زِيَاد إِلَى مهْرَان مَوْلَاهُ وَهُوَ قَائِم على رَأسه فَأخذ بضفيرتي هَانِئ وَأخذ ابْن زِيَاد الْقَضِيب من يَد مهْرَان وَلم يزل يضْرب وَجه هَانِئ حَتَّى كسر أَنفه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته ثمَّ أغلق عَلَيْهِ فِي بَيت وَجَاء أَسمَاء بن خَارِجَة مُنْكرا لذَلِك لِأَن هانئاً جَاءَ فِي جواره وَأمر بِهِ ابْن زِيَاد يطرد عَنهُ وَحبس وَأظْهر مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الرِّضَا وَجلسَ وَبلغ عَمْرو بن حجاج أَن هانئاً قتل فَأقبل فِي مذْحج وَأَحَاطُوا بقصر ابْن زِيَاد وَأمر ابْن زِيَاد القَاضِي شريحاً أَن يعلمهُمْ بحياة هَانِئ بعد أَن أدخلهُ عَلَيْهِ فَرَآهُ حَياً فَأخْبرهُم فانصرفوا وَجَاء الْخَبَر إِلَى مُسلم بن عقيل وَكَانَ قد بَايعه ثَمَانِيَة عشر ألفا وَحَوله فِي الدَّار أَرْبَعَة آَلاف فَنَادَى فيهم وَركب نَحْو قصر عبيد الله بن زِيَاد وأحاط بِهِ وامتلأ الْمَسْجِد والسوق من النَّاس إِلَى السَّمَاء وضاق بعبيد الله بن زِيَاد أمره وَلَيْسَ مَعَه فِي الْقصر إِلَّا نَحْو خمسين رجلا من أهل بَيته ومواليه وتسلل إِلَيْهِ الْأَشْرَاف وَأمر كثير بن الْحَارِث أَن يخرج فِيمَن أطاعه من مذْحج فيخذل عَنهُ النَّاس وَأمر ابْن الْأَشْعَث أَن يخرج فِيمَن أطاعه من كِنْدَة وحضرموت وَيرْفَع راية أَمَان لمن حماه من النَّاس وَبعث بِمثل ذَلِك الْقَعْقَاع بن شور الذهلي وشبيب بن ربعي التَّمِيمِي ومجاز بن أبي أبجر الْعجلِيّ وشمر بن ذِي الجوشن الضبابِي وَترك وُجُوه النَّاس عِنْده استئناساً بهم وَخرج أُولَئِكَ النَّفر على النَّاس فافترقوا عَن مُسلم بن عقيل إِلَى أَن بَقِي فِي الْمَسْجِد فِي ثَلَاثِينَ فَخرج واختفى عِنْد عَجُوز من ذَوي ابْن الْأَشْعَث وتعرف إِلَيْهَا فأخنفته وَخرج ابْن زِيَاد إِلَى الْمَسْجِد قبل الْعَتَمَة ونادى فِي النَّاس فَامْتَلَأَ الْمَسْجِد وأحضر الْحصين بن تَمِيم وَكَانَ على الشَّرْط أَن يفتش الدّور وَشعر ابْن الْعَجُوز بِمُسلم بن عقيل عِنْد أمه فَأتى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْأَشْعَث فَأخْبرهُ وَأخْبر أَبَاهُ فَأخْبر ابْن زِيَاد فَقَالَ ائْتِنِي بِهِ السَّاعَة وَبعث مَعَه عمر بن عبيد الله السّلمِيّ فِي(3/170)
سبعين من قيس فَلَمَّا أَتَوا الدَّار وَسمع مُسلم بن عقيل الأصوت خرج بِسَيْفِهِ وَمَا زَالَ يحمل عَلَيْهِم وَقطعت شفته الْعليا وَسَقَطت ثنيتاه وألقوا عَلَيْهِ النَّار والقصب وَهُوَ يُقَاتل حَتَّى أثخن وَعجز عَن الْقِتَال فَأَمنهُ ابْن الْأَشْعَث وَحمله على بغل وانزعوا سَيْفه فَقَالَ هَذَا أول الْغدر وبكَى فعذله عَمْرو بن عبيد الله السّلمِيّ فَقَالَ إِنَّمَا أبْكِي على الْحُسَيْن وَآله قلت خَيبَ الله أهل الْعرَاق الخونة الْفجار وأحلَهم الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار ثمَّ قَالَ مُسلم لِابْنِ الْأَشْعَث عساك أَن تبْعَث تخبر الْحُسَيْن بحالي ليرْجع بِأَهْل بَيته وَلَا يغتر بِأَهْل الْكُوفَة فَفعل ذَلِك ابْن الْأَشْعَث ولقيه الرَّسُول بزبالة وَقد جَاءَهُ كتاب مُسلم فِي بِالْأولِ يُخبرهُ بِمن بَايعه ويستحثه على السّير فَقَالَ الْحُسَيْن حِين قَرَأَ كتاب الْأَشْعَث كُل مَا قدر كَائِن وَعند الله نحتسب أَنْفُسنَا وَفَسَاد أمتنَا ثمَّ أَدخل مُحَمَّد بن، الْأَشْعَث مُسلم بن عقيل على ابْن زِيَاد وَأخْبرهُ بِمَا أعطَاهُ من الْأمان فَقَالَ مَا بعثناك لتؤمنه واستسقى مُسلم وَهُوَ بَاب الْقصر فجَاء عمَارَة بن عقبَة بِمَاء بَارِد فَلم يطق الشّرْب لما كَانَ يسيل من دم فِيهِ فَتَركه وَدخل على ابْن زِيَاد فَقَالَ لَهُ لتقتلن فَقَالَ دَعْنِي لأوصي فَالْتَفت إِلَى عمر بن سعيد بن أبي وَقاص مناجاه بِأَن يقي عَنهُ دينه ويواري جثته وَيبْعَث إِلَى الْحُسَيْن يردهُ ثمَّ حاوره وأساء بعضهما على بعض ثمَّ أصعد فَوق الْقصر وَضربت عُنُقه وَتَوَلَّى ذَلِك بكير بن عمرَان لضربة أَصَابَهُ مُسلم بهَا فِي الجولة عِنْد الدَّار وَكَانَ ابْن الْأَشْعَث قد تشفع فِي هَانِئ بن عُرْوَة فوعد باستبقائه فَلَمَّا قتل مُسلم أخرج إِلَى السُّوق فَضربت عُنُقه وَبعث ابْن زِيَاد بالرأسين إِلَى يزِيد فَكتب إِلَيْهِ يزِيد يشكره ويأمره بالاحتراس وَوضع المراصد فَإِن الْحُسَيْن قد سَار إِلَيْك ثمَّ طلب ابْن زِيَاد الْمُخْتَار بن أبي عبيد وَعبيد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل وَكَانَا جَاءَا مَعَ مُسلم بن عقيل فحبسهما وَلما أَرَادَ الْحُسَيْن الْمسير إِلَى الْكُوفَة بِكِتَاب مُسلم السَّابِق وَأهل العلااق جَاءَهُ عَمْرو بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي وَهُوَ بِمَكَّة فَقَالَ لَهُ بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ الْعرَاق فَأَنا مُشفق عَلَيْك تَأتي بلد فِيهِ الْعمَّال والأمراء وبيوتُ الْأَمْوَال وَالنَّاس عبيد الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَلَا آمن عَلَيْك فجزاه الْحُسَيْن خيرَاً وَقَالَ لَا بدَّ لي(3/171)
من ذَلِك وَأَتَاهُ ابْن عَبَّاس بِمثل ذَلِك فعصاهما ثمَّ ألم عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخرُوجِ إِلَى الْيمن فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن يَا بن عمي لَا أنقض عزمي قَالَ فَإذْ قد عَصَيْتنِي فَلَا تسر بنسائك وَلَا صبيانك فَإِنِّي أَخَاف أَن تقتل وهم ينظرُونَ كَمَا قتل عُثْمَان وَلَقَد أَقرَرت عين ابْن الزبير بخروجك من الْحجاز ثمَّ الْتفت إِلَى ابْن الزبير فَإِذا هُوَ فِي جمَاعَة من قُرَيْش قد استعلاهم بالْكلَام فجَاء حَتَّى ضرب بِيَدِهِ بَين عضديه فَقَالَ أَصبَحت وَالله كَمَا قَالَ فأنشده // (من الرجز) //
(يَا لَكِ مِنْ قُنْيُبرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خَلاَ لَكِ الجَوُّ فبِيضِي وَاصْفِرِي)
(وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي ... قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَمَاذَا تَنْظُرِي)
خلا الْحجاز من الْحُسَيْن بن عَليّ وَأَقْبَلت تهدر فِي جوانبها فغب ابْن الزبير وَقَالَ وَالله إِنَّك لترى أَنَّك أَحَق بِهَذَا الْأَمر من غَيْرك فَقَالَ ابْن عَبَّاس إِنَّمَا يرى ذَلِك من كَانَ فِي حَال مثلك وَأَنا من ذَلِك على يَقِين فَقَالَ ابْن الزبير وَبِأَيِّ شَيْء تحقق عنْدك أَنَّك أَولَى بِهَذَا الْأَمر مني فَقَالَ ابْن عَبَّاس أَنا أَحَق بِمن تدلي بِحقِّهِ وَبِأَيِّ شَيْء تحقق عنْدك أَنَّك أَحَق بِهَذَا الْأَمر من سَائِر الْعَرَب إِلَّا بِنَا فَقَالَ ابْن الزبير تحقق عِنْدِي أَنِّي أَحَق بهَا مِنْكُم لشرفي عَلَيْكُم قَدِيما وحديثاً فَقَالَ ابْن عَبَّاس أَنْت أشرف أم من شرفت بِهِ فَقَالَ ابْن الزبير إِن من شرفت بِهِ زادني شرفاً إِلَى شرف قديم كَانَ لي قَالَ أَفَمَن الزِّيَادَة أم مِنْك قَالَ بل مِنْك فَتَبَسَّمَ ابْن عَبَّاس فَقَالَ ابْن الزبير يَا بن عَبَّاس دَعْنِي من لسَانك هَذَا الَّذِي تقلبه كَيفَ شِئْت وَالله لَا تحبوننا يَا بني هَاشم أبدا قَالَ ابْن عَبَّاس صدقت نَحن أهل بَيت مَعَ الله عز وجلَّ لَا نحب من أبغضه الله تَعَالَى فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لَك أَن تصفح عَن كلمة وَاحِدَة فَقَالَ إِنَّمَا أصفح عَمَّن أقرّ وَأما عَمَّن هر فَلَا وَالْفضل لأهل الْفضل قَالَ ابْن الزبير فَأَيْنَ الْفضل قَالَ عندنَا أهل الْبَيْت لَا نَصرِفُهُ عَن أَهله وَلَا نضعه فِي غير أَهله فنندم قَالَ ابْن الزبير فبظلم فلست من أَهله قَالَ بلَى إِن نبذت الْحَسَد ولزمت الْحُدُود وانقضى حَدِيثهمْ وَقَامَ الْقَوْم فَتَفَرَّقُوا وَكَانَ خُرُوج الْحُسَيْن من مَكَّة يَوْم التَّرويَة من سنة سِتِّينَ وَسَار مَعَ أَصْحَابه فلقي بِالتَّنْعِيمِ عيرًا مقبلة من الْيمن عَلَيْهَا الورس وَالْحلَل بعث بهَا بجير بن رُومَان عَامل الْيمن إِلَى يزِيد فَأَخذهَا الْحُسَيْن وَأعْطى أَصْحَابه كراهم ثمَّ سَار فَرَأى الفرزدق(3/172)
بالصفاح فَقَالَ لَهُ أَخْبرنِي عَن النَّاس خَلفك فَقَالَ الْقُلُوب مَعَك أَو قُلُوبهم مَعَك وَسُيُوفهمْ عَلَيْك مَعَ بني أُميَّة وَالْقَضَاء ينزل من السَّمَاء فَقَالَ الْحُسَيْن صدقت لله الْأَمر يفعل مَا يَشَاء كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن ثمَّ لحقه كتاب عبد الله بن جَعْفَر مَعَ ابنيه عون وَمُحَمّد يسْأَله بِاللَّه فِي الِانْصِرَاف وَالرُّجُوع لَا يهْلك نَفسه وَأهل بَيته وَإِنِّي فِي إِثْر كتابي ثمَّ جَاءَهُ كتاب عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ عَامل يزِيد على مَكَّة مَعَ أَخِيه يحيى بن سعيد بالأمان وَالتَّرْغِيب فَلم يفعل وَاعْتذر بِأَنَّهُ رأى رَسُول الله
فِي الْمَنَام يَأْمُرهُ بِأَمْر وَهُوَ مَاض لَهُ وَلما بلغ ابْن زِيَاد مسير الْحُسَيْن من مَكة بعث الْحصين بن تَمِيم التَّمِيمِي صَاحب شرطته فَنزل الْقَادِسِيَّة ثمَّ نظم الْخَيل مَا بَينه وَبَين خفان وَمَا بَينه وَبَين القطقطانة إِلَى جبل لعلع وَلَقي هُنَالك قيس بن مسْهر الْأَسدي بِكِتَاب الْحُسَيْن من الحاجر إِلَى أهل الْكُوفَة يعرفهُمْ بقدومه فَبعث بِهِ الْحصين إِلَى ابْن زِيَاد فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ اصْعَدْ الْقصر فسب الْحُسَيْن فَصَعدَ وَأدّى رِسَالَة أهل الْكُوفَة وَأَنه فَارقه بالحاجر وَلعن ابْن زِيَاد وأباه واستغفر لعَلي وبنيه فَأمر ابْن زِيَاد فَرمى بِهِ من الْقصر فتقطع وانْتهى الْحُسَيْن فِي مسيره إِلَى عبد اللَه بن مُطِيع فعذله فِيمَا جَاءَ لَهُ وَنَاشَدَهُ الله وَحُرْمَة الْإِسْلَام وَالْعرب وَبَنَات الرَّسُول لَا تَأتي الْكُوفَة فتقتلك بَنو أُميَّة فَأبى وَسَار ولقيه خبر قتل مُسلم بن عقيل بالثعلبية فَنَاشَدَهُ الله أَصْحَابه فِي الرُّجُوع فَقَالَ بَنو عقيل لَا وَالله حَتَّى ندرك ثَأْرنَا فَقل الْحُسَيْن لَا خير فِي الْعَيْش بعد هَؤُلَاءِ ثمَّ سَار فَكَانَ لَا يمر بِمَاء إِلَّا اتبعهُ من عَلَيْهِ حَتَّى انْتهى إِلَى زبالة فَلَقِيَهُ مقتل قيس بن مسْهر الْأَسدي الَّذِي أَلْقَاهُ ابْن زِيَاد من أَعلَى الْقصر فَأعْلم النَّاس الَّذين مَعَه بذلك وَقَالَ قد خذلتنا شِيعَتِنَا فَمن أحب فلينصرف وقصده أَن يوطنهم على مَا يقدمُونَ فافترقوا عَنهُ وَلم يبْق مَعَه إِلَّا أَصْحَابه الَّذين خَرجُوا مَعَه من مَكَّة فَسَار إِلَى سرف ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى منتصف النَّهَار فَلَقِيَهُمْ الْحر بن يزِيد التَّمِيمِي وَلما رَآهُ قَالَ لَهُ بعض النَّاس مَعَه مل بِنَا إِلَى ذِي جشم تَجْعَلهُ عَن يسارك ونستقبل الْقَوْم من وَجه وَاحِد فَفعل وسبقهم إِلَى الْجَبَل فَنزل وَجَاء الْحر فِي ألف فَارس أرْسلهُ الْحصين بن تَمِيم من الْقَادِسِيَّة يسْتَقْبل الْحُسَيْن فَقَالَ الْحُسَيْن إِنِّي لم آتِ إِلَّا بكتبكم ورسلكم فَإِن تعطوني مَا أطمئن إِلَيْهِ من الْعَهْد أقدم مِصرَكُم وَإِلَّا أرجع من(3/173)
حَيْثُ جِئْت ثمَّ حضرت الصَّلَاة فصلى الْحُسَيْن وَصلى الْحر وَأَصْحَابه بِصَلَاتِهِ ثمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ وأنمى عَلَيْهِم شَأْن الْكتب وذم الْوُلَاة فَقَالَ الْحر وَالله مَا نَدْرِي لسنا من هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا أمرنَا إِذا لقيناك ألاَ نُفَارِقك حَتَّى نقدمك الْكُوفَة على ابْن زِيَاد فَقَالَ الْحُسَيْن الْمَوْت أدنى من ذَلِك ثمَّ أَمر أَصْحَابه فَرَكبُوا لينصرفوا فَمَنعهُمْ الْحر وَطَالَ بَينهمَا الْكَلَام وَقَالَ الْحر لم أومر بقتالك وَإِنَّمَا أمرت أَلا أُفَارِقك حَتَّى أقدمك الْكُوفَة فَخذ طَرِيقا غير طريقها وأكتبُ أَنا إِلَى ابْن زِيَاد واكتب أَنْت إِلَيْهِ وَإِلَى يزِيد فَعَسَى أَن يَأْتِي من الْأُمُور مَا يدْفع عني أَن أُبتلى بِشَيْء من أَمرك فتياسر عَن طَرِيق العذيب والقادسية وَسَار الْحر مَعَه وَهُوَ يعظه ويذكره حُقُوق أهل الْبَيْت وَوُجُوب طاعتهم ويقدح لَهُ فِي ولاته وأمرائه بِمَا كَانَ مَعَهم ويذكُرُ لَهُ كتب أهل الْكُوفَة ورسلهم وَالْحر يعظه وَيَقُول لَهُ اتَّقِ الله فِي نَفسك فلئن قَاتَلت لتقتلن فَيَقُول بِالْمَوْتِ تخوفني وَيضْرب الْأَمْثَال وينشد فِي الشجَاعَة فَلَمَّا رَآهُ لحر كَذَلِك عدل يسير عَنهُ نَاحيَة حَتَّى انْتَهوا إِلَى عذيب الهجانات سمي بهجان ابْن النُّعْمَان كَانَت ترعى فِيهِ فَإِذا هُوَ بأَرْبعَة فرسَان دليلهم الطرماح بن عدي الطَّائِي وأجمح الْحر حسهم فردهم فَقَالَ الْحُسَيْن هم بِمَنْزِلَة أَصْحَابِي وَإِلَّا ناجزتك ثمَّ أخبرهُ بِخَبَر الْكُوفَة وَقتل قيس بن مسْهر فَبكى وَقَرَأَ {فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَه وَمنهُم مَن يَنتَظِر} الْأَحْزَاب 23 ثمَّ دَعَا لَهُم وَقَالَ لَهُ الطرماح مَا أرى مَعَك كثير أحد وَلَو لم يقاتلك إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذين مَعَ الْحر لكانوا أَكثر من كفْئِكَ فَكيف بِمن سَار إِلَيْك من الْكُوفَة فَلم تَرَ عَيْنَايَ جمعا أَكثر مِنْهُم فأنشدك الله ألاَ تتقدم إِلَيْهِم شبْرًا وَإِن أردْت فسر معي انْزِلْ جبلنا أجأ فقد امتنعنا بِهِ وَالله من مُلُوك غَسَّان وحمير والنعمان وَمن الْأَبْيَض والأحمر وتجتمع إِلَيْك طَيئ فِي عشْرين ألفَاً لَا يُوصل إِلَيْك وَفِيهِمْ عين تطرف فجزاه خيرا وَقَالَ قد عاهدنا هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين مَعنا فَلَا بُد من الْوَفَاء لَهُم فودعه الطرماح وَانْصَرف فَسَار الْحُسَيْن ومَرَ بقصر بني مقَاتل فَرَأى فسطاطاً لِعبيد الله بن الْحر الْجعْفِيّ فاستدعاه فَقَالَ وَالله مَا خرجت من الْكُوفَة إِلَّا فرارَاً من الْحُسَيْن فَركب الحسينُ وجاءه وَدعَاهُ إِلَى النُّصْرَة أَو أَن يكون مِمَّن يكف فَأَجَابَهُ إِلَى هَذِه(3/174)
ثمَّ ركبُوا من الْغَد وَأَرَادَ أَن يُفَارق الْحر فَمَنعه وَإِذا بِكِتَاب من ابْن زِيَاد إِلَى الْحر يَأْمُرهُ أَن يجعجع بالحسين حَتَّى يَجِيء كِتَابه وَرَسُوله وَلَا ينزله إِلَّا بالعراء فِي غير حصن وَلَا مَاء وَقد أمرت الرَّسُول أَن يلزمك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أَمْرِي فَقَرَأَ الْحر الْكتاب وَأعلم الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِمَا فِيهِ فَقَالُوا دَعْنَا ننزل فِي الغاضرية فَقَالَ لَا أَسْتَطِيع وَهَذَا الرجل قد بعث عينا عَليّ فَقَالَ زُهَيْر بن الْقَيْن وَكَانَ صَحبه من مَكَّة تعال نحاجز هَؤُلَاءِ فهم أَهْون علينا مِمَّن يأتينا بعدهمْ فَقَالَ مَا كنت لأبدأهم بِالْقِتَالِ وَذَلِكَ لليلتين من الْمحرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ فَلَمَّا كَانَ الْغَد قدم عمر بن سعد بن أبي وَقاص من الْكُوفَة فِي أَرْبَعَة آلَاف وَكَانَ ابْن زِيَاد جهزه إِلَى حَرْب الديلم وَكتب لَهُ عَهده على الرّيّ فَلَمَّا كَانَ أَمر الْحُسَيْن دَعَاهُ أَن يقدم حربه ثمَّ يرجع إِلَى عمله فاستعفاه فَقَالَ نعم على أَن ترد ولَايَة الرّيّ فَقَالَ أمهلني وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه فكلهم نَهَاهُ غير ابْن أُخْته حَمْزَة ابْن الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَقَالَ لَهُ تَفْتَدِي من دم الْحُسَيْن بسُلْطَان الأَرْض لَو كَانَ لَك ثمَّ غذا على ابْن زِيَاد واستعفاه ثَانِيَة فَقَالَ لَهُ مثل الأول قَالَ فَإِنِّي سَائِر وَأَقْبل فِي الجيوش حَتَّى نزل بالحسين وَبعث إِلَيْهِ يسْأَله مَا جَاءَ بِهِ فَقَالَ كُتُبُ أهل الْكُوفَة فَأَما إِذْ كرهوني فَأَنا أنصرف عَنْهُم فَكتب بذلك إِلَى ابْن زِيَاد فَكتب إِلَيْهِ أَن يعرض على الْحُسَيْن الْبيعَة أَو يمنعهُ وَمن مَعَه من المَاء فَأرْسل عَمْرو بن الْحجَّاج إِلَى الشَّرِيعَة ومنعوهم المَاء وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم الْعَطش فَرَكبُوا إِلَى المَاء وقاتلوا عَلَيْهِ وملئوا قربهم ثمَّ بعث الْحُسَيْن إِلَى عمر فِي اللِّقَاء فَلَقِيَهُ لَيْلًا وتحادثا طَويلا وافترقا وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ الْحُسَيْن دَعونِي أرجع إِلَى الْمَكَان الَّذِي جِئْت مِنْهُ أَو أذهب فِي الأَرْض العريضة حَتَّى يَسْتَقِيم أَمر النَّاس وَكتب عمر بذلك إِلَى عبيد الله بن زِيَاد يبشره بِأَن الله أطفأ النائرة وَجمع الْكَلِمَة فَقبل ابْن زِيَاد ذَلِك وَقَامَ إِلَيْهِ شمر بن ذِي الجوشن مُنْكرا لذَلِك وَقَالَ تقبل ذَلِك مِنْهُ وَقد نزل بأرضك وَلَئِن رَحل وَلم(3/175)
تضع يدك فِي يَده لَيَكُونن أعز وَتَكون أعجز وَلَكِن لينزل على حكمك وَقد بَلغنِي أَن الْحُسَيْن وَعمر باتا يتحادثان عَامَّة ليلتهما بَين العسكرين فَقَالَ ابْن زِيَاد نِعمَ مَا رَأَيْت اخْرُج إِلَيْهِ أَنْت بِهَذَا الْكتاب ليعرض على الْحُسَيْن وَأَصْحَابه النُّزُول على حكمي وَيبْعَث بهم سلما وَإِن امْتَنعُوا فليقاتلهم وَإِن أَبى عمر من ذَلِك فَأَنت الْأَمِير وَابعث إِلَيّ بِرَأْسِهِ وَكتب إِلَى عمر بذلك وعنفه على المطاولة والشفاعة وَأَن يفعل مَا أمره بِهِ وَإِلَّا فليعتزل الْعَسْكَر ويخلي بَين شمر وَبَينه وَكتب مَعَه أَمَانًا لبني عَليّ بن أبي طَالب من أم الْبَنِينَ بنت حذام وهم الْعَبَّاس وَعبيد الله وجعفر وَعُثْمَان سَأَلَهُ الْأمان لَهُم عبد الله ابْن خالهم أبي الْمحل بن حرَام وَكَانَ حَاضرا عِنْد ابْن زِيَاد فَردُّوا أَمَانه وقلوا لَا حَاجَة لنا فِيهِ وَلما أَتَى شمر إِلَى عمر قَالَ لَهُ يَا شمر أَظُنك أَنْت تثنيه عَمَّا كتبت بِهِ إِلَيْهِ وأفسدت علينا أموراً أَرْجُو أَن تصلح وَالْحُسَيْن وَالله لَا يستسلم أبدا ونهض إِلَيْهِ عَشِيَّة تاسوعاء فَركب الْعَبَّاس أَخُو الْحُسَيْن فِي عشْرين فَارِسًا وتلقاهم فأخبروه بِمَا جَاءَ بِهِ من أَمر ابْن زِيَاد فجَاء بِهِ إِلَى الْحُسَيْن فَقَالَ ارْجع إِلَيْهِم ووخرهم إِلَى الْغَدَاة لنستكثر من الصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار فَوَعَدَهُمْ الْحُسَيْن إِلَى الْغَدَاة فإمَّا رَضِينَا وَإِلَّا رددناه فَشَاور عمر أَصْحَابه فَأَشَارَ بَعضهم بإمهاله وَهُوَ عَمْرو بن الْحجَّاج الزبيدِيّ فَقَالَ وَالله لَو كَانَ من الديلم لوَجَبَ إمهاله وَأَشَارَ قيس بن الْأَشْعَث بالمناجزة وَقَالَ ليصبحنك بِالْقِتَالِ فَرجع عمر وَجمع الْحُسَيْن أَصْحَابه واستشارهم وجزاهم خيرَاً وَأذن لَهُم فِي الانطلاق وَقَالَ هَذَا اللَّيْل قد غشيكم فاتخذوه جملا وافترقوا فِي الْبِلَاد وَالْقَوْم إِذا أصابوني لَهُوا عَن غَيْرِي فَأَبَوا فَقَالَ يَا بني عقيل حسبكم من الْقَتْل بِمُسلم واذهبوا فقد أَذِنت لكم قَالُوا مَا تَقول النَّاس وَالله لَا نَفْعل ولنقاتلن مَعَك حَتَّى نرد موردك وَقَامَ إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه من غير عشيرته فَقَالَ كَيفَ نتخلى عَنْك وَلم نغدر إِلَى الله فِي حَقك وَالله لَا أُفَارِقك حَتَّى أكسر رُمْحِي وسيفي وأقذفهم بِالْحِجَارَةِ دُونك حَتَّى أَمُوت وَتكلم أَصْحَابه بِمثل ذَلِك فجزاهم خيرَاً وسمعن أخواته بذلك فطفقن يعولن ويلطمن حَتَّى غشي على بَعضهنَّ فجَاء إلَيْهِنَّ وعزاهن برَسُول الله
وَمن سلف(3/176)
من قومه وعاهَدنَ أَلا يكثرن الصُّرَاخ عَلَيْهِ وَلَا يشققن الْجُيُوب وَلَا يخمشن الْوُجُوه وَلَا يدعين بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ثمَّ أَمر أَن تدخل أطناب الْبيُوت بَعْضهَا فِي بعض ليستقبلوا الْعَدو من أمامهم ثمَّ قَامُوا يصلونَ وَيدعونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ حَتَّى أصبح وَذَلِكَ يَوْم عَاشُورَاء وَركب عمر بن سعد فِي التعبئة وعبأ الْحُسَيْن أَصْحَابه اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَارِسًا وَأَرْبَعين رَاجِلا وَأعْطى رايته أَخَاهُ الْعَبَّاس وَضرب للحسين فسطاط أَمَام أخبيته فَدخل فِيهِ وَاسْتعْمل النورة ثمَّ أميت لَهُ الْمسك فِي جَفْنَة وأطلى بِهِ ثمَّ ركب وَوضع الْمُصحف أَمَامه وَقَاتل أَصْحَابه بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يَدْعُو ثمَّ تقدم على رَاحِلَته ونادى النَّاس وَوعظ وَذكر بحقوقه وَقَالَ إِن كذبتموني فعندكم من يُخْبِركُمْ سلوا جَابر بن عبد الله وَأَبا سعيد وأنساً وسُهَيل بن سعد وَزيد ابْن أَرقم يُخْبِرُوكُمْ بِمَا سمعُوا من رَسُول الله
فِي حَقنا أهل الْبَيْت أما فِي هَذَا حاجز يحجزكم عَن دمي تطلبوني بمالٍ أَو دمٍ أَو قصاصٍ فَلم يُجِيبُوهُ فَنَادَى يَا شبيب بن ربعي يَا حجار بن أبجر يَا قيس بن الْأَشْعَث يَا زيد بن لحارث ألم تكْتبُوا إِلي بالقدوم قَالُوا لَا قَالَ بلَى قد فَعلْتُمْ فدعوني أنصرف إِلَى مأمني من الأَرْض فَقَالَ لَهُ قيس أَفلا تنزل على حكم ابْن زِيَاد وَهُوَ ابْن عمك قَالَ لَا وَالله لَا أعطي يَدي إِعْطَاء الذَّلِيل وَلَا أقرّ إِقْرَار العَبْد عباد لله إِنِّي عذت بربي وربكم أَن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبرِ لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب ثمَّ أَنَاخَ رَاحِلَته وَنزل عَنْهَا وَخرج زُهَيْر بن الْقَيْن وَهُوَ شاكي السِّلَاح وَكَانَ صحب الْحُسَيْن من مَكَّة فَوقف بَين الْعَسْكَر وَوعظ أهل الْكُوفَة ونصحهم ودعاهم إِلَى نصْرَة ابْن رَسُول الله
وخذلان ابْن زِيَاد وأفحش فِي ذمّ عبيد الله وَأَبِيهِ وَقَالَ يقتلانكم ويقطعانكم ويسملانكم ويقتلان أماثلكم اذْكروا حجر بن عدي وهانئ بن عُرْوَة فَشَتَمُوهُ وأثنوا على ابْن زِيَاد وَقَالُوا لَا نَبْرَح حَتَّى نقتلكم أَو نأسركم فَقَالَ لَهُم أعيذكم بِاللَّه أَن تقتلُوا ابْن فَاطِمَة خلوا بَينه وَبَين ابْن مُعَاوِيَة فَإِن يزِيد يُرْضِي مِنْكُم بِدُونِ هَذَا ثمَّ رَمَاه شمر وَشَتمه فتشاتما سَاعَة ثمَّ رده الْحُسَيْن فَرجع(3/177)
وَلما زحف عمر بن سعد نَحْو الْحُسَيْن قَالَ لَهُ الْحر بن يزِيد الَّذِي كَانَ جَاءَ ليلازم الْحُسَيْن أمقاتل أَنْت هَذَا الرجل قل نعم قَالَ وَلَا تقبلون مِنْهُ وَاحِدَة من الْخِصَال الَّتِي عرض عَلَيْكُم فَقَالَ عمر لَو كَانَ الْأَمر إِلَيّ لفعلتُ وَلَكِن أميرنا أَبى ذَلِك ثمَّ أقبل يدنو نَحْو الْحُسَيْن حَتَّى استراب بِهِ أَصْحَابه وَلحق بِهِ وَقَالَ يَا بن رَسُول الله أَنا صَاحبك الْحر الَّذِي حبستك عَن الرُّجُوع وسايرتك فِي الطَّرِيق وجعجعت بك فِي هَذَا الْمَكَان وَوَاللَّه لَو ظَنَنْت أَنهم لَا يقبلُونَ مِنْك وَاحِدَة مِمَّا عرضت عَلَيْهِم أَو يبلغون بك هَذِه الْمنزلَة مَا فعلت الَّذِي فعلت وَقد جئْتُك تائبَاً أَمُوت دُونك أفتراها لي تَوْبَة قَالَ نعم يَتُوب الله عَلَيْك وَيغْفر لَك ثمَّ انعطف إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ أَلا تقبلون من الْحُسَيْن وَاحِدَة مِمَّا عرض عَلَيْكُم فيعافيكم الله من حربه وقتاله فَقَالَ لَهُ عمر قد حرصت على ذَلِك وَمَا وجدت إِلَيْهِ سبيلاَ ثمَّ نَادَى أهل الْكُوفَة ووبخهم على أَن دَعوه وأسلموه ثمَّ منعُوهُ من التَّوَجُّه فِي بِلَاد الله العريضة حَتَّى يَأْمَن ويأمن أهل بَيته فَأصْبح كالأسير لَا يملك لنَفسِهِ نفعا وَلَا ضراً ومنعوه وَأَصْحَابه مَاء الْفُرَات يشربه الْيَهُودِيّ والنصرانيُ والمجوسيُ وتمرغ فِيهِ كلاب السوَاد وخنازيرهم وَهُوَ وَأَهله صرعى من الْعَطش بئْسَمَا خَلفْتُمْ مُحَمَّدًا فِي ذُريَّته ودعا عَلَيْهِم فَرَمَوْهُ بِالنَّبلِ فَرجع ثمَّ تقدم عمر بن سعد برايته وَرمى بِسَهْم وَقَالَ اشْهَدُوا أَنا أول رامٍ وتبارز النَّاس وَقتل فِي البرَاز يسَار مولى زِيَاد وَسَالم مولى عبيد الله بن زِيَاد قَتلهمَا عبد الله بن عُمَيْر الْكَلْبِيّ وَكَانَ قد لحق بالحسين من الْكُوفَة وَمَعَهُ امْرَأَته ثمَّ حمل عَمْرو بن الْحجَّاج على الْحُسَيْن وَأَصْحَابه فجثوا على الركب وأشرعوا نَحوه الرماح فَلم يقدموا وذهبوا ليرجعوا فأصابوهم بِالنَّبلِ فصرعوا مِنْهُم رجَالًا وَخرج يزِيد بن حُصَيْن من أَصْحَاب الْحُسَيْن يبارز يزِيد بن معقل فبارزه فَقتله آخر دونه وَخرج عَمْرو بن قرظة الْأنْصَارِيّ فقاتل وَقتل وَقَاتل الْحر بن يزِيد مَعَ الْحُسَيْن قتالاَ شَدِيدا وَقتل من أَصْحَاب عَمْرو وَصَاح عَمْرو بن الْحجَّاج بِالنَّاسِ يُقَاتلُون فرسَان الْمصر مستميتين وهم قَلِيلُونَ وَقل مَا يبقون وَلَو رميتموهم بِالْحِجَارَةِ لقتلتموهم وَوَافَقَهُ عمر فَمنع النَّاس من المبارزة ثمَّ حمل عَمْرو بن الْحجَّاج على جَانب الْحُسَيْن واقتتلوا سَاعَة وَقتل مُسلم بن عوسج الْأَسدي وَانْصَرف عَمْرو(3/178)
وَمُسلم صريع فجَاء إِلَيْهِ الْحُسَيْن ودعا لَهُ ودنا مِنْهُ حبيب بن مظَاهر واستوصاه وَقَالَ أوصِي إِلَيْك بِهَذَا أَن تَمُوت دونه وَأَشَارَ إِلَى الْحُسَيْن فَقَالَ أفعل ثمَّ قضى مُسلم وصاحَتْ جَارِيَته وسمعها شمر بن ربعي وَقد سمع أَصْحَابه يَقُولُونَ قتلنَا مُسلم بن عَوْسَجَة فنكر قَتله وتسخط وَقَالَ أتفرحون لمثل مُسلم وَعدد مواقفه ثمَّ حمل فِي المسيرة فثبتوا ثمَّ حملُوا على الْحُسَيْن وَأَصْحَابه من كل جَانب وهم يكْرهُونَ وَلَا يحملون على جَانب من خيل الْكُوفَة إِلَّا كشفوا وَبعث عُرْوَة بن قيس وَهُوَ على خيل الْكُوفَة إِلَى عمر بن سعد أَن ابْعَثْ إِلَيْنَا الرِّجَال وَالرُّمَاة فَقَالَ لشبيب بن ربعي تقدم فَقَالَ مثلي لَا يبْعَث فِي الرُّمَاة وَكَانَ يكره ذَلِك الْقِتَال كُله فَقَالَ للحصين بن تَمِيم تقدم فرشقوا الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِالنَّبلِ فعقروا خيولهم وأرجلوهم وَقَاتل الْحر بن يزِيد أَشد قتال إِلَى أَن انتصف النَّهَار وَلَا يقدرُونَ يأتونهم إِلَّا من وَجه وَاحِد لِاجْتِمَاع مضاربهم فَبعث عَمْرو من يقوض تِلْكَ الْأَبْنِيَة وَكَانَ أَصْحَاب الْحُسَيْن يتخللون الْأَبْنِيَة فيقتلون الرجل يعرض أَو ينهب فَأمر عمر بن سعد فأضرمت نَار ومنعت الْعَدو من الْجَوَاز من جَانبهَا وَبلغ شمر فسطاط الْحُسَيْن ليحرقه بالنَّار فصاح بِهِ الْحُسَيْن وَالنِّسَاء وَجَاء شبيب بن ربعي فزجره عَن ذَلِك فَرجع وَاتبعهُ زُهَيْر بن الْقَيْن فِي عشيرة فكشفهم عَن الْبيُوت وَقتلُوا من أَصْحَاب شمر أَبَا عوزة الضبابِي وَعطف عَلَيْهِم فَأصَاب مِنْهُم ثمَّ حضر وَقت الصَّلَاة وَذكر أَبُو ثُمَامَة الْأنْصَارِيّ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ الْحُسَيْن الْإِمْهَال لنصلي وَوَقع الْكَلَام فِي ذَلِك بَين الْحصين بن زيد من أهل الْكُوفَة وحبِيب ابْن مظَاهر من أَصْحَاب الْحُسَيْن وَقتل الحبيب رجل من بني تَمِيم وَقَتله الْحصين وَلما قتل حبيب هد ذَلِك من الْحُسَيْن ثمَّ حمل الْحر بن يزِيد فقاتل حَتَّى قتل ثمَّ صلى الْحُسَيْن الظّهْر صَلَاة الْخَوْف ثمَّ اشْتَدَّ الْقِتَال بعد الصَّلَاة وخلصوا إِلَى الْحُسَيْن فاستقدم الْحَنَفِيّ أَمَامه واستهدف لَهُم فَرَمَوْهُ حَتَّى سقط وَقَاتل زُهَيْر بن الْقَيْن حَتَّى قتل وَأسر يافع بن هِلَال الْجملِي بعد أَن قتل اثْنَي عشر مِنْهُم وَقَتله شمر فتنافر أَصْحَاب الْحُسَيْن أَن يقتلُوا بَين يَدَيهِ فَقتل مِنْهُم جمَاعَة ثمَّ رموا بِالْحِجَارَةِ من كل جَانب واستأذنه الضَّحَّاك بن عبد الله فِي الِانْصِرَاف والنجاة فَأذن(3/179)
لَهُ وَانْصَرف ثمَّ خلص الْقَوْم إِلَى أهل الْبَيْت فَقتل عَليّ الْأَكْبَر بن الْحُسَيْن بعد أَن حمل عَلَيْهِم مرَارًا فطعنه مرّة بن منفذ فصرع فجَاء الْحُسَيْن فَحَمله حَتَّى وَضعه بَين يَدَي فسطاطه ثمَّ رمى عبد الله بن مُسلم بن عقيل بِسَهْم فَقتل ثمَّ حمل آَخر على عون ابْن عبد الله بن جَعْفَر فَقتل ثمَّ على عبد الرَّحْمَن بن عقل فَقتل ثمَّ على جَعْفَر بن عقيل فَقتل ثمَّ على الْقَاسِم بن الْحُسَيْن فَقتل وجالوا عِنْده جَوْلَة وطئته فِيهَا الْخَيل ثمَّ انجلت الغبرة وَالْحُسَيْن قَائِم على فرسه وَهُوَ يفحص برجَليهِ ثمَّ احتمله فَأَلْقَاهُ مَعَ ابْنه عَليّ وقتلى أهل بَيته وَمكث الْحُسَيْن طَويلا من النَّهَار وَالنَّاس يتحاشَونَ قَتله ثمَّ جَاءَ مَالك بن النسير من كِنْدَة فربه على رَأسه بِالسَّيْفِ فأدماه ودعا الْحُسَيْن بِابْنِهِ عبد الله وَهُوَ محتير فأجلسه فِي حجره فَرمى بِسَهْم ذبحه ثمَّ رمى أَبُو بكر بن الْحُسَيْن بِسَهْم فَقتل ثمَّ تقدم الْعَبَّاس بن عَليّ وأخوته من أمه فَقتلُوا جَمِيعًا وَاشْتَدَّ عَطش الْحُسَيْن فجَاء ليشْرب من الْفُرَات فَرمى حُصَيْن بن تَمِيم بِسَهْم فِي فَمه فَجعل يتلَقَّى الدَّم وَيَدْعُو ثمَّ أقبل شمر بن ذِي الجوشن فِي عشرَة من رجالته فحالوا بَين الْحُسَيْن وَبَين أَهله فَقَالَ امنعوا أَهلِي ورحلي من طَعَامكُمْ فَقَالَ ذَلِك لَك ثمَّ حمل عَلَيْهِم وحملوا عَلَيْهِ وَأَحَاطُوا بِهِ من يَمِينه وشماله وَخرجت زَيْنَب تنادي فَلَقِيت عمر بن سعد فَقَالَت يَا عمر يقتل أَبُو عبد الله وَأَنت تنظر فَبكى وزوى عَنْهَا وَجهه ثمَّ نَادَى شمر مَاذَا تنتظرون بِالرجلِ فحملوا عَلَيْهِ وَضرب زرْعَة بن شريك التَّمِيمِي كتفه الْأَسير وعَلى عَاتِقه فأوهنه ثمَّ طعنه سِنَان بن قيس النَّخعِيّ بِالرُّمْحِ وَقَالَ لخولى بن يزِيد الأصبحي جز رَأسه فأرعد فَنزل إِلَيْهِ سِنَان فَأخذ رَأسه وَدفعه إِلَى خولى وسلب مَا كَانَ عَلَيْهِ فَأخذ سراويله بَحر بن كَعْب وقطيقته قيس بن الْأَشْعَث وَكَانَت من خَز وسيفه رجل من درام وانتهب النَّاس ثقله ومتاعه وأبله وسلبوا نِسَائِهِ ونتهوا إِلَى عَليّ بن الْحُسَيْن وَهُوَ مَرِيض وَأَرَادَ الشمر قَتله فَمَنعه حميد بن مُسلم وَجَاء عمر بن سعيد وَقَالَ لَا يدخلن بَيت النُّبُوَّة أحد وَلَا يعرض لهَذَا الْغُلَام الْمَرِيض وليرد عَلَيْهِم مَتَاعهمْ وَلم ينج من الْقَوْم إِلَّا اثْنَان ونادى عمر بن(3/180)
سعد فِي أَصْحَابه من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه وَكَانَ ابْن زِيَاد أمره بذلك فَانْتدبَ عشرَة فداسوه حَتَّى ضروا ظَهره وصدره وَكَانَ بِهِ ثَلَاث وَثَلَاثُونَ طعنة وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ ضَرْبَة وَقتل من أَصْحَابه اثْنَان وَسَبْعُونَ رجلا ودفنهم أهل الغاضرة من بني أَسد وَقتلُوا من أَصْحَاب عمر بن سعيد مائَة وَثَمَانِينَ رجلا فصلى عَلَيْهِم ودفنهم وَبعث بِرَأْس الْحُسَيْن ورءوس أَصْحَابه إِلَى ابْن زِيَاد مَعَ شمر وَقيس بن الْأَشْعَث عَمْرو بن الْحجَّاج وَعُرْوَة بن قيس وأحضرها بَين يَدَيْهِ وَجعل ينكت بِقَضِيبِهِ بَين ثنيتي الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ زيد بن الأرقم ارْفَعْ قضيبك عَنْهَا فَلَقَد رَأَيْت شفتي رَسُول الله
على هَاتين الشفتين يقبلهما ثمَّ بَكَى فزجره ابْن زِيَاد فَخرج مغضبَاً ثمَّ ارتحل عمر بن سعد إِلَى الْكُوفَة بعد مقتلهم بيومين وَمَعَهُ نِسَائِهِم وصبيانهم وبناتهم وَعلي بن الْحُسَيْن مَرِيض ومروا بالحسين وَأَصْحَابه صرعى فأعولوا ولطموا وَلما أدخلُوا على ابْن زِيَاد قَالَ عبيد الله من هَذِه يُشِير إِلَى زَيْنَب فَقيل لَهُ هَذِه زَيْنَب بنت فَاطِمَة فكلمها وأجابته وأبلغَت فأغضبته حَتَّى قَالَ لَهُ هَذِه شجاعة وَلَقَد كَانَ أَبوك شجاعاً فَقَالَت ماللمرأة والشجاعة ثمَّ قَالَ لعَلي بن الْحُسَيْن مَا اسْمك فَأخْبرهُ فَقَالَ ألم يقتل الله عليا فَقَالَ {وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بإذنِ اَلله} آل عمرَان 145 فَقَالَ أَنْت وَالله مِنْهُم ثمَّ قَالَ انْظُرُوا هَل أنبت فَقيل لَهُ نعم فَقَالَ اقْتُلُوهُ فَقَالَ وَمن يُوكل بِهَذِهِ النسْوَة وتعلقت بِهِ زَيْنَب وَقَالَت يَا بن زِيَاد حَسبك أما رويت من دمائنا ثمَّ اعتنقته وَقَالَت إِن قتلته فاقتلني مَعَه وَقَالَ عَليّ يَا بن زِيَاد إِن كَانَ بَيْنك وبينهن قرَابَة فَابْعَثْ مَعَهُنَّ من يصحبهن يصحبة الْإِسْلَام ثمَّ خطب النَّاس وَتعرض للحسين وَشَتمه بعض شيعته وَأمر بقتْله وصلبه ثمَّ أَمر بِرَأْس الْحُسَيْن فطيف بِهِ فِي الْكُوفَة ثمَّ بعث بِهِ وبرءوس أَصْحَابه إِلَى يزِيد مَعَ عَمْرو بن ذِي الجوشن وَيُقَال مَعَ زفر بن قيس وَبعث مَعَهم بِالنسَاء وَالصبيان محمولاتٍ على الأقتاب والغل فِي عنق عَليّ بن الْحُسَيْن ورقبته فَدخل على يزِيد(3/181)
زفر بن قيس فَقَالَ مَا وَرَاءَك قل أبشر بِفَتْح لله وبنصره ورد علينا الْحُسَيْن فِي ثَمَانِيَة عشر من أهل بَيته وَسِتِّينَ من شيعته وسرنا إِلَيْهِم وسألناهم أَن ينزلُوا على حكم الْأَمِير عبيد الله أوالقتال فَاخْتَارُوا الْقِتَال فغدونا عَلَيْهِم مَعَ شروق الشَّمْس فأحطنا بهم من كل نَاحيَة حَتَّى أخذت السيوف مأخذها من هام الْقَوْم وَجعلُوا يهربون إِلَى غير وزر ويلوذون بالآكام والحفر كَمَا لَاذَ الْحمام من صقر فَمَا كَانَ إِلَّا جزر جزور أَو نومَة قَائِل حَتَّى أَتَيْنَا على آخِرهم فهاتيك أجسامهم مُجَرّدَة وثيابهم مرملة وخدودهم معفرة تصهرهم الشَّمْس وتعفر عَلَيْهِم الرّيح زوارهم العقبان والرخم قَالَ فَدَمَعَتْ عينا يزِيد وَقَالَ كنت أرْضى من طَاعَتك بِدُونِ قتل الْحُسَيْن لعن الله ابْن سُمَيةَ أما وَالله لَو أَنِّي صَاحبه لعفوتُ عَنهُ فرحم الله الْحُسَيْن أَقُول بل لعن ابْن مَيْسُونُ قبل ابْن سميَّة وَبعده إِلَى يَوْم يبعثون وَيُقَال إِن آل الْحُسَيْن لما وصلوا إِلَى الْكُوفَة حَبسهم ابْن زِيَاد وَبعث إِلَى يزِيد بالْخبر فَأمره بإرسالهم إِلَيْهِ فبعثهم مَعَ نخفر بن ثَعْلَبَة وشمر ومعهما الثّقل وَالرَّأْس وأنهما لما وضعا الرَّأْس بَين يَدَيْهِ وحدثاه سَمِعت حَدِيثهمَا هِنْد بنت عبد الله بن عَامر وَكَانَت تَحت يزِيد فتسفعت بثوبها وَخرجت فَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رَأس الْحُسَيْن بن فَاطِمَة بنت رَسُول الله
قَالَ نعم فأعولي عَلَيْهِ عجل عَلَيْهِ ابْن زِيَاد فَقتله قَتله الله ثمَّ دخل عَلَيْهِ النَّاس وَالرَّأْس بَين يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن هَذَا وإيانا كَمَا قَالَ الْحصين بن الْحمام من // (الطَّوِيل) //
(أَبَي قَوْمُنا أَنْ يُنْصِفُونَا فَأَنْصَفَتْ ... قَوَاضِبُ فِي أَيْمَانِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا)
(تُفلِّقْنَ هَاماً مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةِ ... علينا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا)
وَيُقَال إِنَّه اسْتشْهد بِبَعْض أَبْيَات قصيدة عبد الله بن الزبعري الَّتِي قَالَهَا فِي يَوْم أحد الَّتِي مطْلعهَا قَوْله من // (الرمل) //
(يَا غُرَابَ البَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ ... إِنَّماَ تنْطِقُ شَيْئًا قَدْ فُعِلْ)
وَمِنْهَا قَوْله
(لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا ... جزَعَ الخَزْرَجِ مِنَ وَقْعِ الأَسَلْ)
وَإنَّهُ نكت فِي ثغر الْحُسَيْن بِقَضِيبِهِ كَمَا فعل ابْن زِيَاد فَقَالَ لَهُ أَبُو بزْرَة الْأَسْلَمِيّ(3/182)
مَا قَالَ زيد بن أَرقم لِابْنِ زِيَاد ثمَّ قَالَ يزِيد يَا حُسَيْن وَالله لَو أْني صَاحبك مَا قتلتك ثمَّ قَالَ أَتَدْرُونَ من أَيْن أَتَى الْحُسَيْن قَالَ أبي خير من أَبِيه وَأمي فَاطِمَة خير من أمه وجدي رَسُول الله خير من جده وَأَنا خير مِنْهُ فَأَما أمه وجده فَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يعْتَقد غير هَذَا وَأما أبي وَأَبوهُ فقد تحاجا عِنْد الله وَمَا علم النَّاس أَيهمَا حكم لَهُ وَلكنه أَتَى من قبل الْفِقْه وَلم يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ ملك اَلمُلكَ تُؤتيِ اَلملك مَن تشَاءُ} آل عمرَان 26 ثمَّ أَدخل نسَاء الْحُسَيْن عَلَيْهِ وَالرَّأْس بَين يَدَيْهِ فَجعلت فَاطِمَة وسكينا بِنْتا الْحُسَيْن تتطاولان تنظران إِلَى الرَّأْس وَيزِيد يَتَطَاوَل يستر عَنْهُمَا الرَّأْس فَلَمَّا أبصرنه صحنَ فصاح نسَاء يزِيد وَبَنَات مُعَاوِيَة فَقَالَت فَاطِمَة أبنات رَسُول الله سَبَايَا يزِيد فَقَالَ يَا بنة أخي كنت لهَذَا أكره قَالَت وَالله مَا ترك لنا من خوص قَالَ أما إِنِّي سأوصل إلَيْكُنَّ مَا هُوَ أعظم مِمَّا أَخذ مِنْكُن ثمَّ أخرجن ودخلن دور يزِيد فَلم تبْق امْرَأَة فِي بيتهن إِلَّا أتتهن وأقمْنَ المأتم وَسَأَلَ عَمَّا أَخذ منهنَّ فأضعفه لَهُنَّ وَكَانَت سكينَة تَقول مَا رَأَيْت عدوا خير من يزِيد بن مُعَاوِيَة ثمَّ أَدخل عَليّ بن الْحُسَيْن مغلولاً فَقَالَ يَا يزِيد لَو رَآنِي رَسُول الله مغلولاً لفكني قَالَ صدقت وَأمر بفكه عَنهُ فَقَالَ لَو رآنا رَسُول الله على بعد لقربنا فَأمر بِهِ فَقرب مِنْهُ وَقَالَ لَهُ يَا عَليّ أَبوك الَّذِي قطع رحمي وَجَهل حَقي ونازعني سلطْاني فَصنعَ الله بِهِ مَا رَأَيْته فَقَالَ عَليّ {مَا أَصَابَ مِن مُصِيبة فِي اَلأرضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُم إِلا فِي كتاب} الْآيَة الْحَدِيد 22 وَقَالَ يزِيد {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبةِ فَبِمَا كسبَت أيدِيكم} الشورى 30 ثمَّ سكت عَنهُ وَأمر بإنزاله وإنزال نِسَائِهِ فِي دَار جده ثمَّ لم يزل يذم من ابْن زِيَاد فعله فِي الْحُسَيْن وَيَقُول لعن الله ابْن مرْجَانَة سَأَلَهُ أَن يضع يَده فِي يَدي أَو يلْحق بثغر حَتَّى يتوفاه الله فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَقَتله وبغَّضني إِلَى الْمُسلمين وَزرع الْعَدَاوَة لي عِنْد الْبر والفاجر مَالِي وَلابْن مرْجَانَة لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ ثمَّ أَمر النُّعْمَان بن بشير أَن يجهزهم بِمَا يصلحهم وَبعث مَعَهم إِلَى الْمَدِينَة رجلا من أهل الشَّام فِي خيل تسير مَعَهم ودعا عليا ليودعه وَقَالَ لَهُ لعن الله ابْن مرْجَانَة وَالله لَو أَنِّي صَاحب أَبِيك مَا سَأَلَني خصْلَة أبدا إِلَّا أَعْطيته إِيَّاهَا ولدفعت(3/183)
عَنهُ الحيف بِمَا اسْتَطَعْت وَلَو بِهَلَاك وَلَدي وَلَكِن قضى الله مَا رَأَيْت فكاتبني بأية حَاجَة تكون لَك وَأوصى بهم ذَلِك الرَّسُول فَخرج بهم فَكَانَ يسايرهم لَيْلًا من ورائهم بِحَيْثُ لَا يفوتون نظره عَن حوائجهم حَتَّى دخلُوا الْمَدِينَة فَقَالَت فَاطِمَة لأختها زَيْنَب لقد أحسن إِلَيْنَا هَذَا الرجل فَهَل لَك أَن نصله بِشَيْء فَقَالَت مَا مَعنا إِلَّا حلينا فأخرجتا سِوَارَيْنِ ودملجين لَهما فبعثتا بذلك إِلَيْهِ واعتذرتا فَرد الْجَمِيع وَقَالَ لَو كَانَ الَّذِي صَنعته للدنيا لَكَانَ فِي هَذَا مَا يرضيني وَإِنَّمَا صَنعته لله ولقرابتكم من رَسُول الله
وَكَانَ ابْن زِيَاد بعث إِلَى الْمَدِينَة بِخَبَر الْحُسَيْن وَبهَا عَمْرو بن سعيد فَأعْلم النَّاس وَبكى نسَاء بني هَاشم فَلَمَّا سمع عَمْرو أصواتهن قَالَ ناعية بناعية عُثْمَان وَفِي الذَّهَبِيّ قَالَ يزِيد اليزدي حَدثنِي من شافه الْحُسَيْن بن عَليّ قَالَ رَأَيْت أبنية مَضْرُوبَة فِي الفلاة للحسين فَأَتَيْته فَإِذا شيخ يقْرَأ الْقُرْآن والدموعُ تسيل على خديه فَقلت بِأبي أَنْت وَأمي يَا بن رَسُول الله مَا أنزلك هَذِه الْبِلَاد والفلاة الَّتِي لَيْسَ بهَا أحد فَقَالَ هَذِه كتب أهل الْكُوفَة إِلَيّ لأخرج وَلَا أُرَاهُم إِلَّا قاتلي فَإِذا فعلوا ذَلِك لم يدعوا لله حُرْمَة إِلَّا انتهكوها فيسلط الله عَلَيْهِم من يذلهم حَتَّى يَكُونُوا أذلّ من قرم الْأمة يَعْنِي مقنعتها وروى الزبير بن بَكار عَن مُحَمَّد بن حسن قَالَ لما نزل عمر بن سعد بالحسين وأيقن أَنهم قَاتلُوهُ قَامَ فِي أَصْحَابه فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ قد نزل بِنَا مَا ترَوْنَ وَإِن الدُّنْيَا قد تَغَيَّرت وتنكرت حَتَّى لم يبْق مِنْهَا إِلَّا صبَابَة كَصُبَابَةِ الْإِنَاء وَإِلَّا خسيس عَيْش كالمرعى الوبيل أَلا ترَوْنَ الْحق لَا يعْمل بِهِ وَالْبَاطِل لَا ينهَى عَنهُ ليرغب الْمُؤمن فِي لِقَاء الله وَإِنِّي لَا أرى الْمَوْت إِلَّا سَعَادَة والحياة مَعَ الظَّالِمين إِلَّا ندماً وَقَالَ خَالِد الْحذاء عَن الْجريرِي إِن الْحُسَيْن لما أرهقه السِّلَاح قَالَ أَلا تقبلون مني مَا كَانَ رَسُول اله
يقبله من الْمُشْركين قيل وَمَا كَانَ يقبل مِنْهُم قَالَ كَانَ إِذا جنح أحد مِنْهُم للسلم قَبِلَ مِنْهُ قَالُوا لَا قَالَ فدعوني أرجع قَالُوا لَا قَالَ فدعوني آتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ يزِيد فأضع يَدي فِي يَده فَقَالَ لَهُ رجل أبشر بالنَّار فَقَالَ الْحُسَيْن بل إِن شَاءَ الله برحمة رَبِّي وشفاعة نبيي(3/184)
فقاتل فَلَمَّا استحرَ الْقَتْل بأَهْله فَإِنَّهُم لَا يزالون يقتلُون وَاحِدًا بعد واحدِ صَاح الْحُسَيْن أما ذَاب يذبكم عَن حَرِيم رَسُول الله
فَحِينَئِذٍ خرج الْحر بن يزِيد بن ثَابت الْحَارِث الريَاحي فقاتل مَعَه حَتَّى قتل وَحمل الْحُسَيْن بمفرده وَقتل كثيرا من شجعانهم وَهُوَ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(أَنَا ابْنُ عَلِيِّ الخيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... كفَانِي هَذَا مفْخرًا حِينَ أَفْخَرُ)
(وَجَدِّي رَسُولُ الله أَكْرَمُ مَنْ مشَى ... ونحنُ سِرَاجُ الله فِي النَّاسِ يُزْهِرُ)
(وفاطمَةٌ أُمِّي سُلالَةُ أَحْمَدٍ ... وَعَمِّيَ يُدْعَى ذَا الجناحَيْنِ جَعْفَرُ)
(وفِينَا كِتابُ الله أُنْزلَ صادِقًا ... وَفينَا الهُدى والوَحْيُ والخَيْرُ يُذْكَرُ)
وَفِي رِوَايَة قيل إِنَّه لما جِيءَ بِرَأْسِهِ فِي طست وضع بَين يَدي ابْن زِيَاد فنكته بِقَضِيبِهِ وَقَالَ من قَتله فَقَامَ رجل قيل هُوَ الشمر بن ذِي الجوشن وَقيل سِنَان ابْن أنس النَّخعِيّ وَكَانَ قد طعن الْحُسَيْن فِي ترقوته ثمَّ انتزع الرمْح فطعنه أُخْرَى فِي ثواني صَدره فَخر رَضِي الله عَنهُ صَرِيعًا فَقَالَ لخولى بن يزِيد حز رَأسه فأرعدت يَده فَنزل سِنَان فَخر رَأسه لَا رَحِمهم الله وَلَا رَضِي عَنْهُم كَمَا تقدَم ذكر ذَلِك فَقَالَ أَنا وَأنْشد // (من الزّجر) //
(أَوْقِرْ رِكَابي فِضَّةً وذهبا ... )
(إِنِّي قَتَلْتُ المِلِكَ المُحَجَّبَا ... )
(قَتَلْتُ خَيْرَ الناسِ أُمًّ وأَبَا ... )
(ومَنْ يُصَلِّي القبلتيْنِ فِي الصِّبَا ... )
(وخَيْرَهُمْ إذْ يُنْسَبُونَ نَسَبَا ... )
وَذكر كَيْفيَّة قَتلهمْ بقوله غدونا عَلَيْهِم إِلَى آخر مَا تقدم ذكره قَالَ فاسود وَجهه فِي بِالْحَال فَغَضب ابْن زِيَاد من قَوْله وَقَالَ لَهُ إِذا علمت ذَلِك فَلم قَتله وَالله لَا نلْت مني خيرا ولألحقنك بِهِ ثمَّ ضرب عُنُقه وَقتل مَعَ الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ من أخوته وبنيه وَبني أَخِيه الْحسن وَمن أَوْلَاد جَعْفَر وَعقيل تِسْعَة عشرا نَفرا وَقيل أحد وَعِشْرُونَ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ مَا كَانَ على وَجه الأَرْض يَوْمئِذٍ لَهُم شَبيه رَضِي الله عَنْهُم(3/185)
وروى أَبُو معشر نجيح عَن بعض مشيخته أَن الْحُسَيْن قَالَ حِين نزلُوا كربلاء مَا اسمُ هَذِه الأَرْض قَالُوا كربلاء قَالَ كرب وبلاء وروى شريك عَن مُغيرَة قَالَ قَالَت مرْجَانَة لابنها عبيد الله يَا خَبِيث قَتلتَ ابْن رَسُول الله
لَا ترى الْجنَّة أبدا قَالَ الْمَدَائِنِي عَن عَليّ بن مدرك عَن جده قَالَ احْمَرَّتْ آفَاق السَّمَاء بعد قتل الْحُسَيْن سِتَّة أشهر يرى فِيهَا كَالدَّمِ فَحدثت بذلك شريحاً فَقَالَ لي مَا أَنْت من الْأسود قلت هُوَ جدي أَبُو أُمِّي فَقَالَ أما وَالله إِن كَانَ لصدقاً قلت وَمَا أشجَى قَول أبي الْعَلَاء أَحْمد بن سُلَيْمَان الشهير بالعري فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ من قصيدة // (من الْخَفِيف) //
(وَعَلَى الأُفْقِ مِنْ دِمَاءِ الشَّهِيديْنِ ... علِيِّ وَنَجْلِهِ شَاهِدَانِ)
(فَهُمَا فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ فَجَرانِ ... وَفِي أًوليَاتِهِ شَفَقَانِ)
(ثَبَتَا فِي قمِيصِهِ لِيَجِسء ... الْحشْرَ مُسْتَعْدِيًا إِلى الرَّحْمَنِ)
وَكَذَا روى مثل ذَلِك سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن ابْن سِيرِين قَالَ لرجل تعلم هَذِه الْحمرَة فِي الْأُفق مِم هِيَ قَالَ لَا قَالَ من يَوْم قتل الْحُسَيْن وَقَالَ جرير بن عبد الحميد عَن يزِيد بن زِيَاد قَالَ قتل الْحُسَيْن ولي أَربع عَشرَةَ سنة فَلَمَّا قتل صَار الورس الَّذِي فِي عَسْكَرهمْ رَمَادا وَكَانَ فِي قافلة من الْيمن تُرِيدُ الْعرَاق فوافتهم حِين قَتله واحمرت آفَاق السَّمَاء ونحروا نَاقَة فِي عَسْكَرهمْ وَكَانُوا يرَوْنَ فِي لَحمهَا نَارا وَقَالَ حَمَّاد بن زيد حَدثنِي جميل بن مرّة قَالَ أَصَابُوا إبِلا فِي عَسْكَر الْحُسَيْن يَوْم قتل فنحروها وطبخوها فَصَارَت مثل العلقم وَقَالَ قُرَّة بن خَالِد حَدثنَا أَبُو رَجَاء العطاردي قَالَ كَانَ لنا جَار من بلهُجَيْم(3/186)
فَقدم الْكُوفَة فَقَالَ مَا ترَوْنَ هَذَا الْفَاعِل ابْن الْفَاعِل قَتله الله يَعْنِي الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أَبُو رَجَاء فَرَمَاهُ الله بكوكبين من السَّمَاء فطمسا عينه وَأَنا رَأَيْته وَقَالَ معمر بن رَاشد أول مَا عرف الزُّهْرِيّ تكلم فِي مجْلِس عبد الْملك بن مَرْوَان فَقَالَ لَهُ تعلم مَا فعلت حجار بَيت المقددس يَوْم قتل الحسيِن فَقَالَ الزُّهْرِيّ إِنَّه لم يقَلب حجر فِيهِ إِلَّا وجد تَحْتَهُ دم عبيط قَالَ جَعْفَر بن سُلَيْمَان حَدَّثتنِي أم سَالم خَالَتِي قَالَت لما قتل الْحُسَيْن مُطِرْنَا مطر طالدم على الْبيُوت والجدر وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن عمار ابْن أبي عمار عَن ابْن عَبَّاس رَأَيْت رَسُول الله
فِي الْمَنَام نصف النَّهَار أَشْعَث أغبر وَبِيَدِهِ قَارُورَة فِيهَا دم فَقلت بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله مَا هَذَا قَالَ هَذَا دَم الْحُسَيْن وأصحابِهِ وَلم أزل مُنْذُ الْيَوْم ألتقطه فأحصي ذَلِك الْيَوْم فوجدوه قتل يَوْمئِذٍ وَقَالَ حَمَّاد عَن عمار سَمِعت أم سَلمَة تَقول سمعتُ الْجِنّ تبْكي على الْحُسَيْن وتنوح عَلَيْهِ وَعَن أبي جناب الْكَلْبِيّ قَالَ أتيتُ كربلاء فَقلت لرجل من أَشْرَاف الْعَرَب فِيهَا بَلغنِي أَنكُمْ تَسْمَعُونَ نوح الْجِنّ فَقَالَ لي مَا تلقى أحدا إِلَّا أخْبرك أَنه سمع ذَلِك فَقلت لَهُ فأخبيرني مَا سَمِعت أَنْت قَالَ سمعتهم يَقُولُونَ // (من مجزوء الْكَامِل) //
(مَسَحَ الرَّسُولُ جَبِينَهُ ... فَلَهُ بَريقٌ فِي الخُدُودِ)
(أَبَواهُ مِنْ عُلْيَا قُرَيْشٍ ... جَدُّهُ خَيْرُ الجُدُودِ)
وَلما دخل الرَّأْس على يزِيد وَوضع بَين يَدَيْهِ أنْشد الْبَيْتَيْنِ الْمُتَقَدّم ذكرهمَا(3/187)
// (منِ الطَّوِيل) //
(أَبَى قومُنَا أَن ينصفُونَا ... ... ... ... ... ... ... .)
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَخُو مَرْوَان بن الحكم // (من الطَّوِيل) //
(لهَامٌ بجَنْبِ الطَّفِّ أَوْفَى قَرَابَةً ... مِنِ ابْن زِيَاد العَبْدِ ذِي النَّسبِ الوغلُ)
(سُمَيَّة أمسَى نَسْلُهَا عددَ الحَصَى ... وبِنْتُ رسُولِ الله ليْسَ لَهَا نَسْلُ)
فَضرب يزِيد صَدره وَقَالَ اسْكُتْ قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ رُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة أَن يُونُس بن حبيب حَدثهُ قَالَ لما قتل الْحُسَيْن وَبَنُو أَبِيه وَبعث ابْن زِيَاد برءوسهم إِلَى يزِيد سر بِقَتْلِهِم أَولا ثمَّ نَدم ثَانِيًا فَكَانَ يَقُول وَمَا عَليّ لَو احتملت الْأَذَى وأنزلت الْحُسَيْن مني وحكمته فِيمَا يُرِيد وَإِن كَانَ فِي ذَلِك وَهن فِي سلطاني حفظا لرَسُول الله
ورعاية لحقه وقرابته لعن الله ابْن مرْجَانَة يُرِيد عبيد الله بن زِيَاد فَإِنَّهُ أخرجه واضظره وَقد كَانَ سَأَلَهُ أَن يخلي سَبيله وَيرجع من حَيْثُ أقبل أَو يأْتيني فَيَضَع يَده فِي يَدي أَو يلْحق بثغر من الثغور فَأبى ذَلِك ورده عَلَيْهِ فأبغضني بقتْله الْمُسلمُونَ قَالَ المَسْعُودِيّ كَانَ قتل مُسلم بن عقيل فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ الْحُسَيْن من مَكَّة يَوْم التَّرويَة كَمَا تقدم ذكره قَالَ لما قتل الْحُسَيْن وَحمل رَأسه إِلَى ابْن زِيَاد خرجت بنت عقيل فِي نسَاء قومه حواسر حائرات لما ورد عَلَيْهِم من قتل السادات وَهِي تَقول شعرًا // (من الْبَسِيط) //
(مَاذَا تقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ ... مَاذَا فعلتُمْ وأنتُمْ آخِرُ الأُممِ)
(بعترتي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفَتَقَدي ... نِصْفٌ أُسارَى ونصْفٌ ضُرِّجُوا بدَم)
(مَا كَانَ هَذَا جَزَائي إذْ نَصَحْتُ لَكُمْ ... أَن تخْلُفونِي بسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمي)
وَقَالَ الْمَدَائِنِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بن دِينَار حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه قَالَ لما قتل الْحُسَيْن ودخلنا الْكُوفَة لَقينَا رجل(3/188)
فَدَخَلْنَا منزله فألحفنا فَنمت فَلم أستيقظ إِلَّا بحس الْخَيل فِي الْأَزِقَّة فحملنا إِلَى يزِيد فَدَمَعَتْ عينا حِين رآنا وأعطينا مَا شِئْنَا وَقَالَ إِنَّه سَيكون فِي قَوْمك أَمر فَلَا تدخل مَعَهم فِي شَيْء فَلَمَّا كَانَ من أهل الْمَدِينَة مَا كَانَ كتب مَعَ مُسلم بن عقبَة المُري كتابا فِيهِ أماني فَلَمَّا فرغ مُسلم من الْحرَّة بعث إِلَيّ فَجِئْته وَقد أيقنتُ بالموتِ فَكتبت وصيتي فَرمى إِلَيّ الْكتاب فَإِذا فِيهِ اسْتَوْصِ بعلي ابْن الْحُسَيْن خيرا فَإِن دخل مَعَهم فِي أَمرهم فأمنهُ واعفُ عَنهُ وَإِن لم يكن مَعَهم فقد أصَاب وَأحسن وَقَالَ رزق الله بن عبد الْوَهَّاب الجبائي فِي الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ شعرًا // (من الْكَامِل) //
(رَأْسُ ابنِ بنتِ محمدٍ ووصيِّهِ ... للمسلمينَ عَلَى قَنَاةٍ يُرْفَعُ)
(والمُسْلِمُونَ بمنظرٍ وبمسْمَع ... لَا جازعٌ فيهمْ وَلَا مُسْتَرْجِعُ)
(أيقظْتَ أجفانًا وكنْت أنمتهَا ... وأنمْتَ علينا لم تَكُنْ لَك تَهْجَعُ)
(مَا رَوْضةٌ إلاَّ تمَنَّتْ أَنَّهَا ... لَكَ تربةٌ ولحظِّ قبركَ موضعُ)
وَقَالَ أَحْمد بن عِيسَى الْهَاشِمِي معتذراً عَن الْكحل يَوْم عَاشُورَاء // (من مخلع الْبَسِيط) //
(لَمْ أَكْتَحِلْ فِي صَبَاحِ يَوْمٍ ... أُهْرِقَ فيهِ دَم الحُسَيْنِ)
(إلاَّ لحُزْنٍ وَذَاكَ أنِّي ... سَوَّدتُّ حَتَّى بيَاضَ عَيْنِي)
وَقَالَ بَعضهم فِي مثل مَعْنَاهُ شعرًا // (من مخلع الْبَسِيط) //
(وَلاَئِم لاَمَ فِي اكْتِحَالِي ... يَوْم أراقُوا دَمَ الحُسَيْنِ)
(قُلْتُ دَعُونِي أَحَق عُضْوٍ ... فِيهِ بلُبْسِ السَّوادِ عيْنِي)
وَمِمَّا قَالَ أَبُو حسن الجراز فِي ذَلِك شعرًا // (من الْكَامِل) //
(وَيَعُودُ عَاشُورَاءُ يُذْكِرُنِي ... رُزْءَ الحُسَيْنِ فلَيْتَ لمْ يَعْدِ)
(يَلَيْتَ عَيْنًا فِيهِ قد كُحِلَتْ ... بِمَرَاوِدٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ رَمَدِ)
(يوْمٌ سبيلي حينَ أذكُرُهُ ... ألاَّ يدورَ الصَّبْرُ قي خَلَدِي)
(ويداً بِهِ لشماتةٍ خُضِبَتْ ... مقطوعةٌ مِنْ زَنْدِهَا بِيَدِي)
(أما وقَدْ قُتِلَ الحُسَيْنُ بِهِ ... فَأَبُو الحُسيْنِ لأحقُّ بالكَمَدِ)(3/189)
(مَنَاقِب الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ)
هُوَ الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب وَرَيْحَانَة النَّبِي
ولد بِالْمَدِينَةِ لخمس خلون من شعْبَان سنة أَربع من الْهِجْرَة على الصَّحِيح وَقيل سِتّ وَقيل سبع قَالَ فِي الْإِصَابَة وَهَذَا القَوْل الآخر لَيْسَ بِشَيْء وَكَانَت والدته البتول علقت بِهِ بعد أَن ولدت أَخَاهُ الْحسن بِخَمْسِينَ يَوْمًا وَقيل بطهر وَاحِد ألقابه الرشيد وَالطّيب والرضي وَالسَّيِّد والزكي وَالْمبَارك والبسيط وَالتَّابِع لمرضاة الله كَانَ الْحُسَيْن أشبه الْخلق بِالنَّبِيِّ
من سرته إِلَى كَعبه وروى أَبُو عمر عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَبْصرت عَيْنَايَ وَسمعت أذناي رَسُول الله
وَهُوَ يَقُول لَهُ تَرَق عينَ بقه فرقى الْغُلَام حَتَّى وضع قَدَمَيْهِ على صدر رَسُول الله
ثمَّ قَالَ لَهُ رَسُول الله
افْتَحْ فَاك ثمَّ قلبه ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أحبه فَأَحبهُ روى خثيمَةَ بن سُلَيْمَان بن حيدرة وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الهيثمي رِجَاله كلهم ثِقَات عَن أبي هُرَيْرَة ري الله عَنهُ قَالَ أَخذ رَسُول الله
بيَدي فَانْطَلَقْنَا إِلَى سوق قينقاع فَلَمَّا رَجَعَ دخل الْمَسْجِد فَجَلَسَ فَقَالَ أَيْن لُكَع فجَاء الْحُسَيْن يمشي حَتَّى سقط فِي حجره فَجعل أَصَابِعه فِي لحية رَسُول الله
فَفتح رَسُول الله
فَمه وَأدْخل فَاه فِي فِيهِ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أحبه فَأَحبهُ وَأحب من يُحِبهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَمَا رَأَيْته قطّ إِلَّا فاضت عَيْني دموعاً وروى أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن يعلي العامري أَنه خرج مَعَ رَسُول الله
إِلَى(3/190)
طَعَام دعِي إِلَيْهِ فَإِذا حُسَيْن مَعَ غلْمَان يَلْعَبُونَ فِي طَرِيقه فاستهوى رَسُول الله أم الْقَوْم ثمَّ بسط يَده فَطَفِقَ الصَّبِي يفر هَهُنَا مرّة وَهَهُنَا مرّة وَجعل رَسُول الله
يضاحكه ثمَّ أَخذه رَسُول الله
فَجعل إِحْدَى يَدَيْهِ تَحت ذقنه وَالْأُخْرَى تَحت قَفاهُ ثمَّ أَقَامَ رَأسه فَوضع فَاه على فِيهِ وَقَالَ حُسَيْن مني وَأَنا من حُسَيْن رحم الله من أحب حُسَيْنًا حُسَيْن سبط من الأسباط وروى ابْن أبي عَاصِم عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لما قتل الْحُسَيْن وَجِيء بِرَأْسِهِ إِلَى ابْن زِيَاد فَجعل ينكت بقضيب على ثناياه وَكَانَ حسن الثغر فَقلت فِي نَفسِي لأسوءنك لقد رَأَيْت رَسُول الله
يقبل مَوضِع قضيبك من ثنيته وروى عَن أبي ظبْيَان قَالَ وَالله إِن كَانَ رَسُول الله
يفرج رجلَيْهِ يَعْنِي الْحُسَيْن وَيقبل زبيبته وروى ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله
يدلع لِسَانه للحسين فَيرى الصَّبِي حمرَة لِسَانه فيهش إِلَيْهِ فَقَالَ عُيَيْنَة بن حصن بن بدر الْفَزارِيّ أَرَاك تصنع هَذَا بِهَذَا فوَاللَّه ليَكُون لي الْوَلَد قد خرج وَجهه وَمَا قبلته فَقَالَ رَسُول الله
من لَا يرحم لَا يرحم رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة وَعِنْده فَإِذا رأى الصَّبِي حمرَة لِسَانه هش إِلَيْهِ وروى أَبُو الْحسن بن الضَّحَّاك عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله
يمص لعاب الْحُسَيْن كَمَا يمص الرجل التمرة(3/191)
وروى ابْن حبَان وَابْن سعد وَأَبُو يعلى وَابْن عَسَاكِر عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ من سره أَن ينظر إِلَى رجل من أهل الْجنَّة وَفِي لفظ إِلَى سيد شباب الْجنَّة فَلْينْظر إِلَى الْحُسَيْن بن عَليّ وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله
يَقُول ذَلِك وروى أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى قَالَ خلونا عِنْد رَسُول الله
إِذْ أقبل الْحُسَيْن فَجعل ينزو على ظهر رَسُول الله
وعَلى بَطْنه فَبَال فقمنا إِلَيْهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعوه ثمَّ دَعَا رَسُول الله
بِمَاء فَصَبَّهُ على ثَوْبه وروى سعيد بن مَنْصُور وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه عَن يعلى بن مرّة العامري رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله
حُسَيْن مني وَأَنا من حُسَيْن أحب الله من أحب حُسَيْنًا حُسَيْن سبط من الأسباط وروى الإِمَام أَحْمد عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله
الحسنُ وَالْحُسَيْن سِبطانِ من الأسبَاطِ وروى الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله
من أحَب هَذَا يَعْنِي الْحُسَيْن فقد أَحبَّنِي وروى الْحَاكِم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله
اللَّهُمَّ إِني أحبه فَأَحبهُ يَعْنِي الْحُسَيْن وروى أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ بِسَنَدِهِ قَالَ خرج رَسُول الله
من بَيت عَائِشَة فَمر على بَاب فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَسمع حُسَيْنًا يبكي فَقَالَ رَسُول الله
أما تعلمين أَن بكاءه يُؤْذِينِي(3/192)
وروى الطبراين فِي الْكَبِير وَابْن سعد عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله
قَالَ أَخْبرنِي جِبْرِيل أَن ابْني الْحُسَيْن يقتل بِأَرْض الطف وَجَاءَنِي بِهَذِهِ التربة وَأَخْبرنِي أَن فِيهَا مضجعه وروى الإِمَام أَحْمد عَن ثَابت عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ اسْتَأْذن ملك الْمَطَر أَن يَأْتِي النَّبِي
فَإِذن لَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام لأم سَلمَة احفظي علينا الْبَاب لَا يدْخل أحد فجَاء الْحُسَيْن فَوَثَبَ حَتَّى دخل فَجعل يصعد على منْكب رَسُول الله
فَقَالَ لَهُ ملك الْمَطَر أَتُحِبُّهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نعم قَالَ إِن أمتك تقتله وَإِن شِئْت أريتك الْمَكَان الَّذِي يقتل فِيهِ قَالَ فَضرب بِيَدِهِ فَأرَاهُ تُرَابا أَحْمَر فَأخذت أم سَلمَة ذَلِك التُّرَاب فصرته فِي طرف ثوبها قَالَ فَكُنَّا نسْمع بقتْله بكربلاء وَرَوَاهُ البهيقي من حَدِيث وَهِي بن ربيعَة بن زِيَاد قَالَ أَخْبَرتنِي أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله
اضطجَعَ ذَات يَوْم فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ حائر ثمَّ اضْطجع فرقد ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ حائر دون مَا رأيتُ مِنْهُ فِي الْمرة الأولى ثمَّ اضْطجع وَفِي يَده تربة حَمْرَاء وَهُوَ يقلبها فَقلت مَا هَذِه التربة يَا رَسُول الله قَالَ أَخْبرنِي جِبْرِيل أَن ابْني هَذَا يقتل بِأَرْض الْعرَاق قَالَ فَقلت يَا جِبْرِيل أَرِنِي تربة الأَرْض فَقَالَ هَذِه تربَتهَا وروى الْبَزَّار عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الْحُسَيْن جَالِسا فِي حجره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل أَتُحِبُّهُ فَقَالَ كَيفَ لَا وَهُوَ ثَمَرَة فُؤَادِي فَقَالَ إِن أمتك ستقتله أَلا أريك مَوضِع قَبره فَقبض قَبْضَة وَإِذا تربة حَمْرَاء(3/193)
وروى الإِمَام أَحْمد عَن عبد الله بن بجى عَن أَبِيه أَنه سَار مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ كرم الله وَجهه فَلَمَّا حازَى شط الْفُرَات قَالَ صبرا أَبَا عبد الله قلت وَمَا ذَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ دخلت على النَّبِي
وَعَيناهُ تفيضان بالدمع فَقلت مِم ذَلِك يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْك فَقَالَ قَامَ من عِنْدِي جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام وَأَخْبرنِي أَن ابْني الْحُسَيْن يقتل بشط الْفُرَات وَقَالَ هَل لَك أَن أنعمك من تربته فَقلت نعم فَقبض من تُرَاب فَأَعْطَانِيهَا فَلم أملك عَيْني أَن فاضتا وروى الإِمَام أَحْمد عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله
لَا تدع أحدَاً يدْخل فجَاء الْحُسَيْن فمنعته فَبكى فخليته فَدخل حَتَّى قعد فِي حجره
فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِن أمتك ستقتله فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تقتله وهم مُؤمنُونَ قَالَ نعم وَأرَاهُ من تربته وَفِي رِوَايَة قَالَ رَسُول الله
يَا جبريلُ أَفلا أراجع رَبِّي عز وَجل قَالَ لَا إِنَّه أَمر قد قضى وفُرغَ مِنْهُ وروى الإِمَام أَحْمد عَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله
قَالَ لقد دَخَلَ جِبْرِيل عَليّ الْبَيْت وَلم يدْخل عَليّ قبلهَا فَقَالَ ابْنك هَذَا الْحُسَيْن مقتول وَإِن شِئْت أريتك التربة الَّتِي يقتل بهَا فَأخْرج تربة حَمْرَاء وروى الْبَغَوِيّ عَن أنس بن الْحَارِث رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله
يَقُول إِن ابْني هَذَا يقتل بِأَرْض يُقَال لَهَا كربلاء فَمن شهد ذَلِك فلينصره قَالَ فَخرج أنس بن الْحَارِث إِلَى كربلاء فَقتل مَعَ الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ وروى الملا عَن أم سَلمَة أَنَّهَا قَالَت ناولني رَسُول الله
كفا من تُرَاب(3/194)
أَحْمَر وَقَالَ إِن هَذَا من تربة الأَرْض الَّتِي يقتل بهَا ابْني يَعْنِي الْحُسَيْن فَمَتَى صَار دَمًا فاعلمي أَنه قتل قَالَت أم سَلمَة فَوَضَعته فِي قَارُورَة وَكنت أَقُول إِن يَوْمًا يتَحَوَّل فِيهِ دمَاً ليَوْم عَظِيم وَفِي رِوَايَة فَأَصَبْته يَوْم قتل الْحُسَيْن وَقد صَار دمَاً قَالَت أم سَلمَة فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة قتل الْحُسَيْن سَمِعت قائلاَ يَقُول // (من الْخَفِيف) //
(أَيُهَا اٌ لقَاتِلُونَ جَهْلاً حُسَيْنًا ... أبْشِرُوا بِالعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ)
قَالَت فَبَكَيْت وَفتحت القارورة فغذا الحصيات قد خرجت دمَاً وَأخرج ابْن سعد قَالَ مر عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بكربلاء عِنْد مسيره إِلَى صفّين وحاذى نِينَوَى اسْم قَرْيَة على الْفُرَات فَوقف وَسَأَلَ عَن اسْم هَذِه الأَرْض فَقيل لَهُ كربلاء فَبكى حَتَّى بلت دُمُوعه الأَرْض ثمَّ قَالَ هَاهُنَا مناخ رِكَابهمْ هَاهُنَا مهراق دِمَائِهِمْ فتية من آل مُحَمَّد يقتلُون بِهَذِهِ الْعَرَصَة تبْكي عَلَيْهِم السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلما سير بِرَأْسِهِ إِلَى يزِيد فنزلوا أول مرحلة فَجعلُوا يشربون وَالرَّأْس بَين أَيْديهم فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ خرجَت عَلَيْهِم من الْحَائِط يَد مَعهَا قلم من حَدِيد فَكتب سطراً بِدَم وَهُوَ // (من الوافر) //
(أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنّا ... شَفاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ االْحِسَابِ)
فَهَرَبُوا وَتركُوا الرَّأْس أخرجه مَنْصُور بن عمار وَذكر غير وَاحِد أَن هَذَا الْبَيْت وجد بِحجر فِي دير رَاهِب فِي كَنِيسَة بِأَرْض الرّوم وَلَا يدْرِي من كتبه فَسَأَلُوهُ فَقَالَ هَذَا مَكْتُوب قبل مبعث نَبِيكُم بثلاثمائة سنة وَقد تقدم ذكر حمرَة السَّمَاء قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وحكمته أَن غضبنا يُؤثر حمرَة الْوَجْه وَالْحق تنزه عَن الجسمية فأظهر تأثر غَضَبه على من قتل الْحُسَيْن بحمرة الْأُفق إِظْهَار لِعظَم الْجِنَايَة قَالَ وَإِذا كَانَ أَنِين الْعَبَّاس وَهُوَ مأسور ببدر منع رَسُول الله
النّوم فَكيف(3/195)
بِابْنِهِ الْحُسَيْن وَلما أسلم وَحشِي قاتلُ حَمْزَة قَالَ لَهُ غيب وَجهك عني فَإِنِّي لَا أحب أَن أرى من قتل الْأَحِبَّة وَالْإِسْلَام يجب مَا قبله فَكيف بِقَلْبِه
أَن يرى من ذبح الْحُسَيْن وَأمر بقتْله وَحمل أَهله على أقتاب الْجمال سافرات الْوُجُوه ناشرات الشُّعُور وَأخرج أَبُو الشَّيْخ أَن جمعَاً يذكرُونَ أَنه مَا من أحد أعَان على قتل الْحُسَيْن إِلَّا أَصَابَهُ بلَاء قبل أَن يَمُوت وَنقل شبط ابْن الْجَوْزِيّ عَن السّديّ أَنه أَضَافَهُ رجل بكربلاء فتذاكروا هَذَا الْمَعْنى أَي أَنه مَا من أحد أعَان على قتل الْحُسَيْن أَو شركهم فِي دَمه بِوَجْه إِلَّا مَاتَ أقبح ميتَة فكذب المضيف بذلك وَقَالَ إِنَّه مِمَّن حضر وَلم يصبهُ شَيْء فَقَامَ ليصلح السراج فَأَخَذته النَّار فَذهب لطفئها بريقه فالتهب فَمه فَجعل يُنَادي النارَ النارَ وانغمس فِي الْفُرَات وَمَعَ ذَلِك دبت النَّار فِي جسده فَأَحْرَقتهُ قَالَ السّديّ وَأَنا واللِّه رَأَيْته كالحممة وَحكى سبطه عَن الْوَاقِدِيّ أَن شَيخا حضر قَتله فَقَط فَعميَ فَسئلَ عَن سَببه فَقَالَ إِنَّه رأى النَّبِي
حاسراً عَن ذراعه وَبِيَدِهِ السَّيْف وَبَين يَدَيْهِ نطع وَرَأى عشرَة من قاتلي الْحُسَيْن مذبوحين بَين يَدَيْهِ ثمَّ لَعنه وسبه بتكثير سوادهم ثمَّ أكحله بمرود من دم الْحُسَيْن فَأصْبح أعمى وَأخرج أيضَاً أَن شخصا مِنْهُم علق فِي لبب فرسه رَأس الْعَبَّاس بن عَليّ فَرُئِيَ بعد أَيَّام وَوَجهه أَشد سوادَاً من القار فَقيل إِنَّك كنت أَنْضَرُ الْعَرَب وَجها فَقَالَ مَا مرت عَليّ لَيْلَة مذ حملت ذَلِك الرَّأْس إِلَّا وَاثْنَانِ يأخذان بضبعي ثمَّ ينهضان إِلَى نَار تؤجج فيدفعاني فِيهَا وَأَنا أنكص فتسفعني كَمَا ترى ثمَّ مَاتَ على أقبح حَالَة وَذكر الْبَارِزِيّ عَن الْمَنْصُور أَنه رأى رجلا بِالشَّام وَجهه وَجه خِنْزِير فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنَّه كَانَ يلعن عليا كل يَوْم ألف مرّة وَفِي كل جُمُعَة ربعَة آلَاف مرّة وَأَوْلَاده مَعَه فَرَأَيْت النَّبِي
وَذكر منامَاً طَويلا من جملَته أَن الْحسن شكاه إِلَيْهِ فلعنه ثمَّ بَصق فِي وَجهه فَصَارَ وَجهه وَجه خِنْزِير وَصَارَ آيَة للنَّاس وروى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن عمر أَنه سَأَلَهُ رجل عَن دم(3/196)
البعوض أطاهر أم لَا فَقَالَ لَهُ مِمَّن أَنْت قَالَ من أهل الْعرَاق فَقَالَ ابْن عمر انْظُرُوا إِلَى هَذَا يسألني عَن دم البعوض وَقد قتلوا ابْن النَّبِي
قَالَ الْعَلامَة سبط ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه مرْآة الزَّمَان وَغَيره الْمَشْهُور أَن يزِيد لما وصل إِلَيْهِ الرَّأْس الشريف جمع أهل الشَّام وَجعل ينكت الرَّأْس بالقضيب الخيرزان وتمثل بِتِلْكَ الأبيات وَقيل بل ترحم على الْحُسَيْن وتنكر لِابْنِ زِيَاد لكنه قَالَ الْمَشْهُور الأول وَجمع بِأَنَّهُ أظهر الثَّانِي وأخفى الأول بِقَرِينَة أَنه بَالغ فِي رفْعَة ابْن زِيَاد حَتَّى أدخلهُ على نِسَائِهِ وبقرينة قَوْله الْبَيْتَيْنِ السَّابِق ذكرهمَا فِيهِ ثمَّ قَالَ وَلَيْسَ الْعجب إِلَّا من ضرب يزِيد ثنايا الْحُسَيْن بالقضيب وَحمل آل النَّبِي
سَبَايَا على أقتاب الْجمال مُوثقِينَ فِي الحبال وَالنِّسَاء مكشفات الْوُجُوه والرءوس وَذكر أَشْيَاء من قْبيح فعله قَالَ وَيُقَال إِنَّه بعث بِالرَّأْسِ مَعَهم إِلَى الْمَدِينَة حِين ردهم إِلَيْهَا وَقيل بل كَانَ الرَّأْس فِي خزانته لِأَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك رأى النَّبِي
فِي الْمَنَام يلاطفه ويبشره فَسَأَلَ الْحسن الْبَصْرِيّ عَن تَعْبِير ذَلِك فَقَالَ لَهُ لَعَلَّك صنعت إِلَى آله مَعْرُوفا قَالَ سُلَيْمَان نعم وجدت رَأس الْحُسَيْن فِي خزانَة يزِيد فكسوته خَمْسَة أَثوَاب وصليتُ عَلَيْهِ فِي جمَاعَة من أَصْحَابِي وقبرته فَقَالَ لَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ إِن ذَلِك سَبَب رضَا النَّبِي
عَلَيْك فَأمر سُلَيْمَان لِلْحسنِ بجائزة حَسَنَة قلت رَأَيْت فِي الذَّهَبِيّ مَا نَصه قَالَ عبد الصَّمد بن سعيد القَاضِي حَدثنَا سُلَيْمَان بن عبد الحميد البهراني سَمِعت أَبَا أُميَّة الكلَاعِي سَمِعت أَبَا كريب قَالَ كنتُ فِي الْقَوْم الَّذين توثبوا على الْوَلِيد بن يزِيد وَكنت فِيمَن نهب خزانتهم بِدِمَشْق فَأخذت سفطاً وَقلت فِيهِ غنائي فركبت فرسي وَجَعَلته بَين يَدي وَخرجت من بَاب توما ففتحته فَإِذا بحريرة قيها قرطاس مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذَا رَأس الْحُسَيْن بن(3/197)
عَليّ فحفرت لَهُ بسيفي ودفنته فَالله أعلم أياً كَانَ ذَلِك فَلَمَّا فعل يزِيد مَا مر كَانَ عِنْده إِذْ ذَاك رَسُول قَيْصر فَقَالَ متعجبَاً إِن عندنَا فِي بعض الخزائن فِي دير حافر حمَار عِيسَى فَنحْن نحج إِلَيْهِ كل عَام فِي الأقطار وننذر النذور ونعظمه كَمَا تعظمون كعبتكم وَأَنْتُم تَفْعَلُونَ هَذَا بِابْن بنت نَبِيكُم فَأشْهد أَنكُمْ على بَاطِل وَقَالَ آخر كَانَ مَعَه بيني وَبَين دَاوُد سَبْعُونَ أَبَا وَإِن الْيَهُود تعظمني وتحترمني وَأَنْتُم تَفْعَلُونَ مَا تَفْعَلُونَ فِي ابْن نَبِيكُم قَالَ وَكَانَت الحرس على الرَّأْس الشريف كلما نزلُوا منزلا رَفَعُوهُ على رمح وحرسوه فرى هـ رَاهِب فِي دير فَسَأَلَ عَنهُ فعرفوه بِهِ فَقَالَ بئس الْقَوْم أَنْتُم لَو كَانَ للمسيح ولد لأسكناه فِي أحداقنا بئس الْقَوْم أَنْتُم لَو كَانَ للمسيح ولد لأسكناه فِي أحداقنا بئس الْقَوْم أَنْتُم هَل لكُم فِي عشرَة آلَاف دِينَار ويبيت الرَّأْس عِنْدِي هَذِه اللَّيْلَة فَقَالُوا نعم فَأَخذه وغسله وطَيبه وَوَضعه على فَخذه وَقعد يبكي إِلَى الصُّبْح لِأَنَّهُ رأى نورا ساطعاً من الرَّأْس إِلَى السَّمَاء ثمَّ خرج عَن الدَّيْر وَمَا فِيهِ وَصَارَ يخْدم أهل الْبَيْت فهنيئَاً لَهُ ثمَّ هَنِيئًا وَكَانَ مَعَ أُولَئِكَ الحرس دَنَانِير أخذوها من عَسْكَر الْحُسَيْن ففتحوا أكياسها ليقتسموها فرأوها خزفاً وعَلى أحد وَجْهي كل مِنْهَا {وَلا تحَسَبن اَللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعمَلُ اَلظالمُونَ} إِبْرَاهِيم 42 وعَلى الآخر {وَسَيَعلَمُ الَّذين ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلبِوُنَ} الشُّعَرَاء 227 قَالَ أهل السّير لما سيق حَرِيم الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَة كالأسارَى بَكَى أهل الْكُوفَة فَجعل زين العابدين بن عَليّ بن الْحُسَيْن يَقُول إِن هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ من أجلنا فَمن ذَا الَّذِي قتلنَا وَأخرج الْحَاكِم من طرق مُتعَدِّدَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ قَالَ جِبْرِيل قَالَ رَسُول الله تبَارك وَتَعَالَى إِنِّي قتلتُ بدمِ يحيى بن زَكَرِيَّا سيعين ألفا وَإِنِّي قَاتل بِدَم الْحُسَيْن بن عَليّ سبعين ألفا وَسبعين ألفا وَقتل هَذِه الْعدة بِسَبَبِهِ لَا يسْتَلْزم أَنَّهَا بِقدر عدَّة القاتلين لَهُ فَإِنَّهَا قتنة أفضت إِلَى تعصبات ومقاتلات تفي بذلك(3/198)
(ولَايَة الْوَلِيد بن عتبَة على الْحجاز وعزل عَمْرو بن سعيد)
وَلما قتل الْحُسَيْن وَبلغ خَبره إِلَى مَكَّة قان ابْن الزبير فِي النَّاس فخطبهم وَعظم قتل الْحُسَيْن وَعَابَ من تولاه وَأمر بِهِ وترحم عَلَيْهِ وَلعن قَاتله وَتعرض ليزِيد بِسَمَاع الْغناء والحداء وَشرب الْخمر وكلاب الصَّيْد وَقد كَانَ بُويِعَ سرا وَأظْهر أَنه عَائِذ بِالْبَيْتِ لَهُ أَصْحَابه أظهر بيعتك فَلم يبْق بعد الْحُسَيْن من ينازعك فَقل لَا تعجلوا وَبلغ يزِيد الْخَبَر بأَمْره فَحلف ليؤتين بِهِ إِلَيْهِ فِي جَامِعَة فَصنعَ جَامِعَة من فضَّة وَبعث بهَا إِلَيْهِ لتبر يَمِينه فَامْتنعَ من رسله وَرجع يزِيد فأغراه بَنو أُميَّة بِعَمْرو بن سعيد الْعَامِل بالحجاز وَقَالُوا لَو أَرَادَ لبعث بِهِ إِلَيْك فَعَزله وَولى مَكَانَهُ الْوَلِيد بن عتبَة بن أبي سُفْيَان فَسَار إِلَى الْحجاز وَلحق عَمْرو بِيَزِيد وَبَين لَهُ مكايدة ابْن الزبير فعذره وَأقَام الْوَلِيد يحاول غِرة ابْن الزبير فيجده مستحذراً ممتنعَاً ثمَّ كتب ابْن الزبير إِلَى يزِيد يعيبُ الْوَلِيد بِأَنَّهُ أخرق لَا يتَّجه لرشد وَلَا يرعوي لعظة فَابْعَثْ رجلا سهل الْخلق أَرْجُو أَن يسهل بِهِ من الْأُمُور مَا استوعر وَيجمع بِهِ مَا افترق فعزل الْوَلِيد وَولي عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان
(خلع أهل الْمَدِينَة يزِيد ووقعة الْحرَّة وحصار مَكَّة)
لما ولي عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان على أهل لحجاز سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بعث إِلَى يزِيد وَفْدًا من أهل الْمَدِينَة فيهم عبد الله بن حَنْظَلَة الغسيل وَعبد الله بن عَمْرو بن أبي حَفْص بن الْمُغيرَة وَالْمُنْذر بن الزبير وَرِجَال من أَشْرَاف أهل الْمَدِينَة فأكرمهم يزِيد وَأَجَازَهُمْ بِمِائَة ألف دِرْهَم لكل وَاحِد مِنْهُم واستأذنه الْمُنْذر فِي الْقدوم على ابْن زِيَاد فِي الْعرَاق فَأذن لَهُ وَرجع الْوَفْد إِلَى الْمَدِينَة فَقَامُوا بمعايب يزِيد فَقَالُوا يشرب الْخمر وَيضْرب بالطنابير ويلعب بالكلاب ويسمر عِنْده الخراب واللصوص فنكر النَّاس شَأْنه وَبَايَعُوا عبد الله بن حَنْظَلَة الغسيل على خلعه وَبلغ الْخَبَر يزِيد فَبعث إِلَى ابْن زِيَاد بِحَبْس الْمُنْذر وَكَانَ(3/199)
صديقا لَهُ ولأبيه فكره ذَلِك وَأذن لَهُ فِي الِانْصِرَاف إِلَى بَلَده فَقدم الْمَدِينَة وَعَابَ يزِيد أعظم من الْأَوَّلين وحرض النَّاس عَلَيْهِ فَبعث يزِيد النُّعْمَان بن بشير إِلَى الْمَدِينَة لردهم عَمَّا كَانُوا فِيهِ من الانتقاص وأتاهم وخوفهم الْفِتْنَة وَقَالَ لَا طَاقَة لكم بِأَهْل الشَّام وَقَالَ لَهُ عبد الله بن مُطِيع يَا نعْمَان تفرق جماعتنا وتفسد مَا أصلح الله من أمرنَا فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان وَالله لكَأَنِّي بك لَو نزلَتْ بك الجموع ودارت الْحَرْب ركبت بغلتك إِلَى مَكَّة وَتركت هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين يَعْنِي الْأَنْصَار يقتلُون فِي مساكنهم ومساجدهم وعَلى أَبْوَاب دُورهمْ فَعَصَاهُ النَّاس وَانْصَرف إِلَى يزِيد فَلَمَّا كَانَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَقد بَايعُوا لعبد الله بن الغسيل على خلع يزِيد وأخرجوا عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان عَامل يزِيد عَلَيْهِم فَاجْتمع لَهُ بَنو أُميَّة ومواليهم فِي ألف رجل وامتنعوا بدار مَرْوَان بن الحكم وَكَتَبُوا إِلَى يزِيد يستحثونه فَأمر عَمْرو بن سعيد أَن يسير إِلَيْهِم فِي النَّاس فَأبى وَقَالَ كنت قد ضبطت الْبِلَاد والآن تهراق الدِّمَاء بالصعيد فَبعث إِلَى عبيد الله بن زِيَاد بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَة وحصار ابْن الزبير بِمَكَّة فأعظم غَزْو الْكَعْبَة مَعَ مَا كَانَ مِنْهُ من قتل الْحُسَيْن فَأبى وَاعْتذر فَبعث إِلَى مُسلم بن عقبَة المري وَأخْبرهُ بِخَير بني أُميَّة قَالَ مَا يكونُونَ ألف رجل قَالَ الرَّسُول بلَى قَالَ فَمَا اسْتَطَاعُوا الْقِتَال سَاعَة من نَهَار هَؤُلَاءِ أذلاء دعوهم حَتَّى يجهدوا فِي أنفسهم فِي جِهَاد عدوهم فَقَالَ يزِيد وَيحك لَا خير فِي الْعَيْش بعدهمْ فَاخْرُج بِالنَّاسِ وَيُقَال إِن مُعَاوِيَة أوصى يزِيد إِن حدث بك حدث من أهل الْمَدِينَة فَارْمِهِمْ بِمُسلم بن عقبَة فتجهز مُسلم ونادى بالعطاء ومعونة مائَة دِينَار فَاجْتمع لَهُ اثْنَا عشر ألفا فَسَار بهم إِلَى الْحجاز وَقَالَ لَهُ ادْع الْقَوْم ثَلَاثًا قبل الْقِتَال وَإِذا ظَهرت فأبحها ثَلَاثًا بِمَا فِيهَا من مَال وَرثهُ وَطَعَام وَسلَاح فَهُوَ للجند واكفف عَنْهُم بعد الثَّلَاث وَإِن حدث بك حدث فاستخلف الْحصين بن نمير السكونِي واستوص بعلي بن الْحُسَيْن خيرَاً فقد أَتَانِي كِتَابه وَلم يدْخل مَعَ النَّاس وَقد كَانَ مَرْوَان بن الحكم لما أصَاب بني أُميَّة مَا أَصَابَهُم رَغبَ إِلَى عَليّ بن الْحُسَيْن أَن يكون حَرَمُهُ مَعَ حَرَمِهِ فَأَجَابَهُ وَخرج بحرمه وَحرم مَرْوَان وَمِنْهُم عَائِشَة بنت عُثْمَان إِلَى يَنْبع(3/200)
وَقيل بل بَعثهمْ من ابْنه عبد الله إِلَى الطَّائِف ثمَّ سَار مُسلم بالجيش وَبلغ أهل الْمَدِينَة خَبره فَاشْتَدَّ حصارهم لبني أُميَّة بدار مَرْوَان حَتَّى أنزلوهم على أَن يخرجوهم إِلَى الشَّام وَلَا يظاهروا عَلَيْهِم وَلَا يدلوا على عواراتهم وَبعث أهل الْمَدِينَة إِلَى الْمَوَارِد بَينهم وَبَين الشَّام فَألْقوا فِيهَا القطران فَأرْسل الله السَّمَاء بالمطر وَاسْتغْنى الْعَسْكَر عَن الْمَوَارِد وَلَقي بني أُميَّة مُسلم بن عقبَة بوادي الْقرى فَسَأَلَ عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان واستشاره فَقَالَ أخذُوا علينا الْعَهْد أَلا ندل على عَورَة فَقَالَ لَوْلَا أَنَّك ابْن عُثْمَان لضَرَبْت عُنُقك وَلَا أقيل فِيهَا قرشياً بعْدك ثمَّ استدعى مَرْوَان بعد فَقَالَ مَرْوَان لِابْنِهِ عبد الْملك ادخل قبلي إِلَيْهِ يجتزئ بك فَدخل فَقَالَ مُسلم هَات مَا عنْدك قَالَ أرى أَن تسير إِلَى أدنَى نخيلها فَإِذا أَصبَحت تركت الْمَدِينَة ذَات الْيَسَار ومضيت حَتَّى تأتيهم من قبل الْحرَّة مشرقاً ثمَّ تسْتَقْبل الْقَوْم فَإِذا أشرقت الشَّمْس كَانَت فِي ظهوركم ووجوههم وترون من أشعة سِلَاحهمْ مَا لَا يرَوْنَ ويتأذون بشعاع الشَّمْس وَلَا تتأذون ثمَّ قَاتلهم فَقَالَ لَهُ مُسلم لله أَبوك أَي امْرِئ وَلَدَكَ ثمَّ دخل مَرْوَان وَقَالَ إِذا لقِيت عبد الْملك فقد لقيتني قَالَ مَا حملت من رجال قُرَيْش ثمَّ ارتحل وَعمل بِرَأْي عبد الْملك وأتاهم من قبل الْمشرق ثمَّ دعاهم وَقَالَ أَنْتُم أصل أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا أكره إِرَاقَة دمائكم وَإِنِّي أؤجلكم ثَلَاثًا فَإِن راجعتم الْحق قبلت وسرت إِلَى مَكَّة وَإِن أَبَيْتُم كنت قد أعذرت وَلما مَضَت الثَّلَاث قَالَ مَا تَصْنَعُونَ يَا أهل الْمَدِينَة قَالُوا نحارب فلاطفهم فِي الطَّاعَة لينصرف إِلَى مَكَّة فَقَالُوا لَا نَدعك تَأتي بَيت الله وتلحد فِيهِ وتستحل حرمته وَكَانُوا قد خندقوا على أنفسهم وَكَانَ عبد الله بن مُطِيع فِي قُرَيْش على ربع وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر بن عَوْف على ربع وَمَعْقِل بن صنان الْأَشْجَعِيّ فِي الْمُهَاجِرين على ربع وأمير جَمَاعَتهمْ عبد الله بن الغسيل على الْأَنْصَار فِي أعظم تِلْكَ الأرباع قَالَ الذَّهَبِيّ كتب عبد الله بن جَعْفَر إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ عِنْد يزِيد بِالشَّام أَلا يعرضُوا لجيشه فورد مُسلم بن عقبَة فمنعوه ونصبوا لَهُ الْحَرْب ونالوا من يزِيد(3/201)
فأوقع فيهم وأباحهم ثَلَاثَة أَيَّام وَقَالَ الْوَاقِدِيّ أَنبأَنَا ابْن أبي ذِئْب عَن صَالح بن أبي حسان أَنبأَنَا إِسْمَاعِيل ابْن إِبْرَاهِيم المَخْزُومِي قَالَ لما وثب أهل الْحرَّة وأخرجوا بني أُميَّة عَن الْمَدِينَة واجتمعوا على عبد الله بن حَنْظَلَة وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت قَالَ يَا قوم اتَّقوا الله فوَاللَّه مَا خرجنَا على يزِيد حَتَّى خفنا أَن نُرمَى بِالْحِجَارَةِ من السَّمَاء قَالَ وَكَانَ ابْن حَنْظَلَة يبيتُ تِلْكَ اللَّيَالِي فِي الْمَسْجِد وَمَا يزِيد على أَن يفْطر على شربة من سويق ويصوم الدَّهْر وَقَالَ الذَّهَبِيّ دخل عبد الله بن مُطِيع ليَالِي الْحرَّة على ابْن عمر فَقَالَ لَهُ ابْن عمر سَمِعت رَسُول الله
يَقُول من نزع يَداً من طَاعَة لم يكن لَهُ حجَّة يَوْم الْقِيَامَة وَمن مَاتَ مفارقاً للْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يَمُوت ميتَة جَاهِلِيَّة وَقَالَ الْمَدَائِنِي توجه مُسلم بن عقبَة إِلَى الْمَدِينَة فِي اثْنَي عشر ألف رجل وَيُقَال اثْنَي عشر ألف فَارس وَخَمْسَة عشر ألف راجل قَالَ السُّهيْلي فِي روضه وقْعَة الْحرَّة كَانَ سَببهَا أَن أهل الْمَدِينَة خلعوا يزِيد بن مُعَاوِيَة وأخرجوا بني أُميَّة وَأمرُوا عَلَيْهِم عبد الله بن حَنْظَلَة الغسيل الَّذِي غسلت أَبَاهُ الْمَلَائِكَة يَوْم أُحد وَلم يُوَافق أهلَ الْمَدِينَة على هَذَا الْخلْع أَحَدٌ من أكَابِر أَصْحَاب رَسُول الله
وصمد مُسلم فِي العساكر فانكشف أهل الْمَدِينَة من كل جَانب ثمَّ حمل ابْن الغسيل فانكشف العساكر وانتهت إِلَى مُسلم فَنَهَضَ فِي وُجُوههم بِالرِّجَالِ وَاشْتَدَّ الْقِتَال ثمَّ جَاءَ الْفضل بن عَبَّاس بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب لِابْنِ الغسيل فقاتل مَعَه ثمَّ انتقى الشجعان يُرِيد قتل مُسلم فَحمل على أهل الشَّام فانفرجوا وجثت الرَجال أَمَامه على الركب ومضَى نَحْو راية مُسلم فَقتل صَاحبهَا يظنّ أَنه مُسلم بن عقبَة فَأخذ مُسلم رايته وَسَار وشدت(3/202)
الرِّجَال أَمَامه فصرع الْفضل بن عَبَّاس وَقتل مَعَه زيد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَتَقَدَّمت خيل مُسلم إِلَى ابْن الغسيل وَمَعَهُ أَخُوهُ لأمه مُحَمَّد بن ثَابت بن قيس ابْن شماس وَعبد الله بن زيد بن عَاصِم وَمُحَمّد بن عَمْرو بن حزم وأبلى مُحَمَّد ابْن سعد بن أبي وَقاص ثمَّ انهزم النَّاس وأباح مُسلم الْمَدِينَة ثلاثَاً للْقَتْل والنهب وأفزع ذَلِك الصَّحَابَة الَّذين بهَا وَخرج أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ ليأوي إِلَى كَهْف فِي الْجَبَل فاعترضه رجل من الْعَسْكَر لقَتله فَعرفهُ بِنَفسِهِ فَتَركه قَالَ السُّهيْلي لما أرجف أهل الْمَدِينَة بِيَزِيد دَعَا عبد الله بن عمر ببنيه ومواليه فَقَالَ لَهُم إِنَّا قد بَايعنَا هَذَا الرجل على بيعَة الله وَرَسُوله وَإنَّهُ وَالله لَا يبلغنِي عَن أحد مِنْكُم أَنه خلع يدَاً من طَاعَة إِلَّا كَانَت الفيصلَ بيني وَبَينه ثمَّ لزم بَيته وَلزِمَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ بَيته فَدخل عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّام الَّتِي أبيحت الْمَدِينَة فِيهَا فَقيل لَهُ من أَنْت أَيهَا الشَّيْخ فَقَالَ أَنا أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ صَاحب رَسُول الله
فَقَالُوا قد سمعنَا خبرك ولنعم مَا فعلت حِين كَفَفْت يدك ولزمت بَيْتك وَلَكِن هَات المَال فَقَالَ أَخذه الَّذين دخلُوا قبلكُمْ عَليّ وَمَا عِنْدِي شَيْء فَقَالُوا كذبت ثمَّ قَالُوا أضجعوه فأضجعوه فَجعل كل وَاحِد يَأْخُذ من لحيته خصْلَة وَأخذُوا مَا وجدوا حَتَّى صوف الْفرش وَحَتَّى أخذُوا زَوْجَيْنِ من حمام كَانَ صبيانه يَلْعَبُونَ بهما وَأما جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ فَخرج فِي ذَلِك الْيَوْم يطوف فِي أَزِقَّة الْمَدِينَة وَهُوَ أعمى والبيوت تنتهب وَهُوَ يعثر فِي الْقَتْلَى وَيَقُول تعس من أَخَاف رَسُول الله
فَقَالَ لَهُ قَائِل وَمن أَخَاف رَسُول الله
فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله
يَقُول من أَخَاف الْمَدِينَة فقد أَخَاف مَا بَين جَنْبي فحملوا عَلَيْهِ ليقتلوه فَأَخذه مِنْهُم مَرْوَان بن الحكم وَأدْخلهُ بَيته وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم من وُجُوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ألف وَسَبْعمائة رجل وَقيل من أخلاط النَّاس عشرَة آلَاف سوى النِّسَاء وَالصبيان ونهبوا وأفسدوا وَاسْتَحَلُّوا الْحرم وعطلت الصَّلَوَات فِي مَسْجده
وَلم يبْق(3/203)
فِي الْمَسْجِد إِلَّا سعيد بن الْمسيب جعل نَفسه ولهاناً خبلا فَتَرَكُوهُ وَكَانَ يَقُول كنت أسمع عِنْد مَوَاقِيت الصَّلَاة همهمة من الْحُجْرَة المطهرة وافتض فِيهَا ألف عذراء وَإِن مفتضَّها فعل ذَلِك أَمَام الْوَجْه الشريف وَالْتمس مَا يمسح بِهِ الدَّم فَلم يجد فَفتح مصحا قَرِيبا مِنْهُ ثمَّ أَخذ من أوراقه ورقة فتمسح بهَا نَعُوذ بِاللَّه مَا هَذَا إِلَّا صَرِيح الْكفْر وأنتنه وَمن ذَلِك أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار دخل عَلَيْهَا رجل من أهل الشَّام وَهِي ترْضع وَلَدهَا وَقد أَخذ مَا كَانَ عِنْدهَا قَالَ لَهَا هَاتِي الذَّهَب وَإِلَّا قتلتك وَقتلت ابْنك فَقَالَت وَيحك إِن قتلته فأبوه أَبُو كَبْشَة صَاحب رَسُول الله
وَأَنا من النسْوَة اللَّاتِي بايعن رَسُول الله
وَمَا خُنْت الله فِي شَيْء بَايَعت رَسُوله عَلَيْهِ فَأخذ الصَّبِي من حجرها وثديها فِي فِيهِ وَضرب بِهِ الْحَائِط حَتَّى انتثر دماغه فِي الأَرْض وَالْمَرْأَة تَقول لَو كَانَ عِنْدِي شَيْء أفديك بِهِ يَا ابْني لفديتك قَالَ فَمَا خرج من الْبَيْت حَتَّى اسودَ نصف وَجهه وَصَارَ مثلَة فِي النَّاس قَالَ الْمُؤلف وأحسب هَذِه الْمَرْأَة جدة لهَذَا الصَّبِي لَا أُماً لَهُ إِذْ يبعد فِي الْعَادة أَن تبَايع رَسُول الله
امْرَأَة وَتَكون يَوْم الْحرَّة فِي سنّ من يُرْضِعُ والحرة الَّتِي يعرف بهَا هَذَا الْيَوْم يُقَال لَهَا حرَّة زهرَة بقرية كَانَت لبني زهرَة قوم من الْيَهُود فَقيل للقرية زهرَة وَكَانَت عامرة فِي الزَّمن الأول يُقَال كَانَ فِيهَا ثَلَاثمِائَة صائغ ذكره الزبير بن بكار فِي فَضَائِل الْمَدِينَة وَيُقَال إِن مُسلما لما حَارب أهل الْمَدِينَة ووقف ابْن الغسيل وَالنَّاس لقتاله خالفهم بَنو حَارِثَة من الْأَنْصَار وأدخلوا أهل الشَّام من ناحيتهم فَانْهَزَمَ النَّاس وَكَانَ من هلك فِي الخَنْدَق أَكثر مِمَّن قتل ثمَّ دَعَا مُسلم النَّاس إِلَى بيعَة يزِيد على أَنهم خَوَل لَهُ يحكم فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وأهليهم بِمَا شَاءَ وَمن امْتنع قَتله وَجِيء بعد يَوْم بِيَزِيد بن عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود وَمُحَمّد بن أبي الجهم بن حُذَيْفَة فَقَالَا لَا نُبَايِع إِلَّا على الْكتاب وَالسّنة فَقَتَلَهُمَا وَأنكر عَلَيْهِ مَرْوَان قتل فريق على أَمَان فطعنه بالقضيب فِي خاصرته وَقَالَ وَالله لَو قلتهَا أَنْت لقتلتك ثمَّ جِيءَ بمعقل بن سِنَان فَقَالَ لَهُ وَالله لأَقْتُلَنك فَنَاشَدَهُ الله وَالرحم فَقَالَ(3/204)
أما أَنْت لقيتني بطبرية لَيْلَة انْصَرف وفدكم من عِنْد يزِيد فأثنيت عَلَيْهِ شرا وَقلت نرْجِع الْمَدِينَة فنخاع هَذَا الْفَاسِق ابْن الْفَاسِق ونبايع لرجل من أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَإِنِّي آلَيْت لَا أَلْقَاك بِحَيْثُ أقدر على قَتلك إِلَّا قتلتك ثمَّ أَمر بِهِ فَقتل وَجِيء بِيَزِيد بن وهب فَقَالَ أبايع على سنة عمر فَقتله وشفع فِيهِ مَرْوَان لصهر بَينهمَا فَلم يشفعه ثمَّ جَاءَ عَليّ بن الْحُسَيْن بَين مَرْوَان وَعبد الْملك وَجلسَ بَينهمَا فَقَالَ تجيئني بَين هذَيْن لتأمن عِنْدِي وَالله لَو كَانَ الْأَمر إِلَيْهِمَا لقتلتك وَإِنَّمَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَوْصَانِي بك وَأَخْبرنِي أَنَّك كاتبته ثمَّ أجلسه مَعَه على السرير فَقَالَ لَعَلَّ أهلك فزعوا فَقَالَ نعم فَرده إِلَى بَيته على دَابَّته وَلم يلْزمه الْبيعَة كَمَا ألزم أهل الْمَدِينَة ثمَّ أحضر عبد الله بن عَبَّاس لِلْبيعَةِ وَكَانَت أمه كندية فَقَالَ الْحصين بن النمير لَا تبَايع ابْن أُخْتنَا إِلَّا مثل مَا بَايع عَليّ بن الْحُسَيْن فَتَركه ثمَّ جَاءَ عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان وَلم يكن خرج مَعَ بني أُميَّة فَقَالَ هَذَا الْخَبيث ابْن الطّيب وَأمر بِهِ فنتفت لحيته وَكَانَ مِمَّن قتل فِي الْحرَّة زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ وَعبيد الله بن عبد الله بن موهب ووهب بن عبد الله بن زَمعَة وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عاظب وَالزُّبَيْر ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الله بن نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَكَانَ لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وأتى خبر الْوَاقِعَة لِابْنِ الزبير مَعَ الْمسور بن مخرمَة فاستعد هُوَ وَأَصْحَابه وَعرفُوا أَن مُسلم بن عقبَة نَازل ثمَّ اسْتخْلف مُسلم على الْمَدِينَة روح بن زنباع الجذامي وَقيل عَمْرو بن مُحرز الْأَشْجَعِيّ وشخص إِلَى مَكَّة لقِتَال ابْن الزير فَمَاتَ بالمشلل وَقيل بثنية هرشي وَأوصى الْحصين بن نمير فَقَالَ يَا برذعة الْحمار لَو كَانَ هَذَا الْأَمر إليَ مَا وليتك هَذَا الْجند لَكِن أَمِير الْمُؤمنِينَ ولاك فأسرع السّير وَعجل المناخرة وَلَا تمكن قُريْشًا من أُذُنك ثمَّ مَاتَ وَسَار الْحصين بِالنَّاسِ وَقدم مَكَّة لأَرْبَع بَقينَ من الْمحرم وَقد بَايع أَهلهَا وَأهل(3/205)
الْحجاز لعبد الله بن الزبير واجتمعوا عَلَيْهِ وَلحق بِهِ أهل الْمَدِينَة وَقدم عَلَيْهِ نجدة ابْن عَامر الْحَنَفِيّ فِي الْخَوَارِج لمنع الْبَيْت وَخرج ابْن الزبير للقاء أهل الشَّام وعثرت البغلة بِعَبْد الله فَنزل وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمسور بن مخرمَة وَمصْعَب بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَجَمَاعَة من أَصْحَابه فَقتلُوا جَمِيعًا وصابرهم ابْن الزبير إِلَى اللَّيْل ثمَّ انصرفوا وَأَقَامُوا يقاتلونه شهرا وَبَعض شهر وَاحْتَرَقَ الْبَيْت يُقَال قَذَفُوهُ بالنَّار فِي المجانيق وَيُقَال كَانَ أَصْحَاب ابْن الزبير يوقدون حول الْكَعْبَة فعلقت شرارة مِنْهَا بِثَوْب الْكَعْبَة وَاحْتَرَقَ خشب الْبَيْت وَالْأول أصح لِأَن البُخَارِيّ ذكر فِي صَحِيحه أَن ابْن الزبير لما احترقت الْكَعْبَة تَركهَا ليراها النَّاس محترقة فتحزبهم على أهل الشَّام ثمَّ لم يزل الْعَسْكَر محاصرين لِابْنِ الزبير حَتَّى جَاءَهُم نعي يزِيد لأوّل ربيع الثَّانِي
(وَفَاة يزِيد وبيعة مُعَاوِيَة ابْنه وَملكه)
ثمَّ مَاتَ يزِيد منصف ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ قَالَ الْعَلامَة الْحَافِظ الذَّهَبِيّ روى زحر بن حُصَيْن عَن جده حميد بن منْهب قَالَ زرت الْحسن بن أبي الْحسن يَعْنِي الْبَصْرِيّ فخلوت بِهِ فَقلت يَا أَبَا سعيد مَا ترى مَا النَّاس فِيهِ فَقَالَ لي أفسد أَمر النَّاس اثْنَان عَمْرو بن الْعَاصِ يَوْم أَشَارَ على مُعَاوِيَة بِرَفْع الْمَصَاحِف فَحملت وَقَالَ أَيْن الْقُرَّاء فَحكم الْخَوَارِج فَلَا يزَال هَذَا التَّحْكِيم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْآخِرَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَإِنَّهُ كَانَ عَامل مُعَاوِيَة على الْكُوفَة فَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة إِذا قَرَأت كتابي فَأقبل معزولا فَأَبْطَأَ عَنهُ فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ قَالَ مَا أَبْطَأَ بك قَالَ أَمر كنت أُوَطئُه وأهَيئُهُ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ الْبيعَة ليزِيد من بعْدك قَالَ أَو فعلت قَالَ نعم قَالَ ارْجع إِلَى عَمَلك فَلَمَّا خرج الْمُغيرَة قَالَ لَهُ(3/206)
أَصْحَابه مَا وَرَاءَك قَالَ وضعت رجل مُعَاوِيَة فِي غرز غي لَا يزَال فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ الْحسن فَمن أجل ذَلِك بَايع هَؤُلَاءِ لأبنائهم وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ شُورَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ مُحَمَّد بن مَرْوَان السعيدي أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْخُزَاعِيّ عَن أَبِيه عَن جده عَن مُحَمَّد بن الحكم عَن أبي عوَانَة قَالَ كَانَ مُعَاوِيَة يُعْطي عبد الله بن جَعْفَر كل عَام ألف ألف دِينَار فَلَمَّا وَفد على يزِيد أعطَاهُ ألفي ألف فَقَالَ عبد الله ليزِيد بِأبي أَنْت وَأمي فَأمر لَهُ بِأَلف ألف أُخْرَى فَقَالَ لَهُ عبد الله وَالله لَا أجمعهما لأحد بعْدك حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار بنْدَار حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا عَوْف الْأَعرَابِي حَدثنَا مهَاجر أَبُو مخلد حَدثنِي أَبُو الْعَالِيَة حَدثنِي أَبُو مُسلم قَالَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء سَمِعت النَّبِي
يَقُول أول من يُبدل سنتي رجل من بني أُميَّة يُقَال لَهُ يزِيد أْخرجه الرَّوْيَانِيّ فِي مُسْنده عَن بنْدَار وَفِي رِوَايَة عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مَكْحُول عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ قَالَ رَسُول الله
لَا يزَال أَمر أمتِي قائْماً بِالْقِسْطِ حَتَّى يكون أول من يثلمه رجل من بني أُميَّة يُقَال لَهُ يزِيد وَقَالَ ابْن مُطِيع إِن يزِيد يشرب الْخمر وَيتْرك الصَّلَاة وَيَتَعَدَّى حكم الْكتاب قَالَ رجل مَا رَأَيْت مِنْهُ مَا تذكرُونَ وَقد أَقمت عِنْده فرأيته مواظباً للصَّلَاة متحرياً للخير يسْأَل عَن الْفِقْه قَالَ كَانَ ذَلِك مِنْهُ تصنعَاً لَك ورياء وَقَالَ الزبري بن بكار فِي أَنْسَاب قُرَيْش أَنْشدني عمي ليزِيد قَوْله // (من المديد) //
(آبَ هَذَا الهَمُّ فَاكْتَنَعَا ... وَأَمَرَّ النَّوْم فَامْتَنَعَا)(3/207)
(رَاعيا للنجْمِ أرقبُهُ ... فَإذا مَا كوْكَبٌ طَلَعَا)
(حام حتَّى إنَّنِي لَأَرَى ... أَنه بالغَوْر قد وَقَعَا)
(وَلها بالماطِرُون إِذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَا)
(خرقةٌ حتَّ إِذا ربعَتْ ... نزلَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا)
(فِي قبابٍ وَسْطَ دسكرةٍ ... حَوْلَهَا الزيتونُ قد ينَعَا)
قلت هَذِه الأبيات من قصيدة لَهُ فِي نَصْرَانِيَّة تعشقها وافتتن بهَا لنعه الله وَإِيَّاهَا وأساء عقباه وعقباها وَمن شعره فِي الْخمر // (من الطَّوِيل) //
(أقولُ لصَحْبٍ ضَمَّتِ الكَأْسُ شَمْلَهُمْ ... وَدَاعِي صَبَابَاتِ الهَوَى يَتَرَنَّمُ)
(خُذُوا بنَصِيبٍ مِنْ نَعِيمٍ ولَذَّةٍ ... فكُلٌّ وَإِنْ طَالَ المدَى يَتَصَرَّمُ)
وَمن شعره أَيْضا فِيهَا // (من الطَّوِيل) //
(وَدَاعٍ دَعانِي والثُّرَيَّا كأَنَّهَا ... قلائصُ قد أعنقْنَ خَلْفَ فَنِيقِ)
(وَقَالَ اغتنِمْ من دَهْرنا غَفَلاَتِهِ ... فَعَقْدُ ذِمَامِ الدَّهْرِ غَيْرُ وَثِيقِ)
(وناولنِي كَأْسًا كَأَنَّ بنانَهُ ... مخضَّبةٌ مِنْ لَوْنِهَا بِخَلُوقِ)
(إِذا مَا طغَى فِيهَا الحَياءُ حسبتَهَا ... كَوَاكبَ دُرِّ فِي سمَاءِ عَقِيقِ)
(تَدُبُّ دَبِيبَ النَّمْل فِي كُلِّ مفْصلٍ ... وتَكْسُو وجُوهَ الشَّرْبَ ثَوبَ شقِيقِ)
(وإنِّيَ مِنْ لَذَّاتِ دَهْرِي لقانعٌ ... بحلْوِ حَدِيثٍ أَوْ بِمُرِّ عتيقِ)
(هَما مَا هُمَا لَمْ يَبْقَ شيءٌ سِوَاهُمَا ... حَدِيثُ صَدِيقٍ أَوْ عَتِيقُ رَحِيقِ)
وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهِ يُخَاطب أَبَاهُ مُعَاوِيَة عِنْد نَهْيه إِيَّاه عَن شرب الْخمر قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(أَمِنْ شَرْبَةٍ من ماءِ كرْمٍ شَرِبْتُهَا ... غبْتَ عليَّ الآنَ طابَ لي السُّكْرُ)
(سأشرَبُ فاغضَبْ لَا رَضِيت كِلَاهُمَا ... حبيبٌ إِلَى قَلْبِي عُقُوقُكَ والخَمْرُ)(3/208)
توفّي كَمَا تقدم فِي ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَله تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَت خِلَافَته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَدفن بحوارين من أَرض دمشق بمقبرة بَاب الصَّقْر وَفِيه يَقُول الْقَائِل // (من الرجز) //
(بأَيُّهَا القَبْرُ بِحَوَّارِينَا ... ضَمَمْتَ شَرَّ الناسِ أَجْمَعِينا)
ورثاه شَاعِرهمْ الأخطل بقوله // (من الطَّوِيل) //
(لَعَمْريَ قَدْ دَلَّى إِلَيّ اللَّحْدِ خَالدٌ ... جنَازَةَ لاَ نِكْسِ الفُؤَادِ وَلَا غمرِ)
(مُقِيمٌ بحوَّارِينَ لَيْسَ يَرِيمهَا ... سَقَتْكَ الغَوَادِي مِنْ ثَرِيِّ وَمن قَبْرِ)
قَالَ فِي الإشاعة لأشراط السَّاعَة فِي الْبَاب الأول وَهُوَ فِي الإمارات الْبَعِيدَة الَّتِي ظَهرت وَانْقَضَت وَهِي كثير إِلَى أَن قَالَ وَمِنْهَا ملك بني أُميَّة يزِيد وَمن بعده الْمُشْتَمل على الفتَن الْعِظَام كَقطع اللَّيْل المظلم وَعَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ قَالَ أبْغض النَّاس إِلَى رَسُول الله
بَنو أُميَّة وَثَقِيف وَبَنُو حنيفَة وَعَن أبي ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا بلغت بَنو الْعَاصِ أَرْبَعِينَ رجلا اتَّخذُوا عباد الله خولا وَمَال الله دولا وَكتاب الله دخلاَ وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لكل أمة آفَة وَآفَة هَذِه الْأمة بَنو أُميَّة وَعَن عَمْرو بن مرّة الْجُهَنِيّ قَالَ اسْتَأْذن الحكم بن أبي الْعَاصِ على رَسُول الله
فَعرف صَوته فَقَالَ ائذنوا لَهُ حَيَّة ولد حَيَّة لعنة الله عَلَيْهِ وعَلى كل من يخرج من صلبه إِلَّا الْمُؤمن مِنْهُم وَقَلِيل مَا هم قلت وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء إِشَارَة إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُعَاوِيَة بن يزِيد وَيزِيد النَّاقِص والصالحِ مِنْهُم وَعَن ابْن عمر هجرت الرواح إِلَى النَّبِي
فجَاء أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ لَهُ
ادن فَلم يزل يُدْنِيه حَتَّى الْتَقم أُذُنه فَبَيْنَمَا هُوَ يسارُّهُ إِذْ رفع رَأسه كالفزع فَإِذا قارع يقرع بِسَيْفِهِ الْبَاب فَقَالَ
لعَلي اذْهَبْ فَقده كَمَا تقاد الشَّاة إِلَى حالبها فَإِذا عَليّ(3/209)
كرم الله وَجهه يدْخل الحكم بن أبي الْعَاصِ آَخذَاً بأذنه وَلها زنمة حَتَّى أوقفهُ بَين يَدَيْهِ
فلعنه نَبِي الله ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ أجلسه نَاحيَة حَتَّى رَاح إِلَيْهِ قوم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ثمَّ دَعَاهُ فلعنه ثمَّ قَالَ إِن هَذَا سيخالف كتاب الله وَسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السَّمَاء فَقَالَ نَاس من الْقَوْم هُوَ أقل وأذل من ذَلِك فَقَالَ
بلَى وبعضكم يَوْمئِذٍ شيعته ثمَّ إِنَّه
نَفَاهُ إِلَى الطَّائِف وَلم يردهُ أَبُو بكر وَلَا عمر ورده عُثْمَان حِين ولي الْخلَافَة وَكَانَ رده أحد الْأُمُور الَّتِي نقمت عَلَيْهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت وَقد ذكرت ذَلِك وَجَوَابه فِيمَا تقدم فِي تَرْجَمَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَمن الْفِتَن الَّتِي وَقعت فِي زمن يزِيد قتل الْحُسَيْن ووقعة الْحرَّة وخراب الْمَدِينَة بعد الْحرَّة وَرمي الْكَعْبَة بالمنجنيق وَمِنْهَا فِي زمن بني مَرْوَان قتل ابْن الزبير وَهدم الْكَعْبَة بعد رميها بالمنجنيق أَيْضا وتولية الْحجَّاج وَأَنه قتل مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألف نفس حَرَامًا صبرَاً سوى مَا قَتله فِي المحاربات وَوجد فِي حَبسه ثَمَانُون ألفا مِنْهُم ثَلَاثُونَ ألف امْرَأَة وَكَانَ حَبسه مبلطَاً لَا سقف لَهُ ليتأذوا بِالْحرِّ وَالْبرد وَكَانَ حَبسه من حَبسه ظلما صرفا وَهوى نفس حَتَّى إِنَّه وجد فِيهِ من حبس لبولة بالها فِي جنب سور وَاسِط الْبَلَد الَّتِي اختطَّها الْحجَّاج وَمِنْهَا قتل زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وصلبه وإحراقه بالنَّار وَقتل وَلَده يحيى فِي زمانْهم وشربهم الْخمر وصلاتهم بِالنَّاسِ سكارى وَتَقْدِيم الْجَوَارِي فِي الْمِحْرَاب للصَّلَاة بِالنَّاسِ وَغير ذَلِك من أَنْوَاع القبائح بل نقل الْعَلامَة السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه للخلفاء أَن الْوَلِيد بن يزِيد عزم على الْحَج لأجل أَن يشرب الْخمر فَوق الْكَعْبَة فَقتل قبل أَن يبلغ مُرَاده وَعَن الْمسور بن مخرمَة قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف ألم يكن فِيمَا تَقْرَءُونَهُ قَاتلُوا فِي الله آخِره مرّة كَمَا قاتلتم أول مرّة قَالَ مَتى ذَاك قَالَ إِذا كَانَت بَنو أُميَّة الْأُمَرَاء وَبَنُو مَخْزُوم الوزراء رَوَاهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فَكَانَت(3/210)
دولتهم لمفاسد كَثْرَة ومظالم لَا تعد وَلَا تحصى إِلَى أَن قَالَ وَأما بَنو يزِيد وَبَنُو الحكم فهم ملعونون على لِسَان النَّبِي
وَلذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل حِين سَأَلَهُ ابْنه عَن لعن يزِيد فَقَالَ الإِمَام إِن الله تَعَالَى يَقُول {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَليتم أَن تفسِدُوا فِي اَلأرض وَتُقَطعُوا أَرحَامَكُم أُولَئكَ اَلَذِينَ لعنَهُمُ اللَهُ} الْآيَة مُحَمَّد 22 23 وَأي فَسَاد وَقَطِيعَة أَشد مِمَّا فعله يزِيد يَا بني وَفِي تَارِيخ أبي مخرمَة الْمُسَمّى قلادة النَّحْر عَن الشَّيْخ نصر بن مجلي وَكَانَ من الثِّقَات الْعباد الصَّالِحين قَالَ رَأَيْت عَليّ بن أبي طَالب فِي الْمَنَام فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تفتحون مَكَّة وتقولون من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ثمَّ يتم عَليّ ولدك الْحُسَيْن مَا تمّ فَقَالَ لي أما سَمِعت أَبْيَات ابْن صَيْفِي فِي هَذَا قلت لَا قَالَ اسمعها مِنْهُ ثمَّ انْتَبَهت فبادرت إِلَى دَار ابْن الصيفي فَذكرت لَهُ الرُّؤْيَا فشهق وَبكى وَحلف بِاللَّه إِنَّهَا لم تخرج من فِيهِ وَلَا من خطه إِلَى أحد وَمَا نظمها إِلَّا فِي ليلته ثمَّ أَنْشدني من // (الطَّوِيل) //
(مَلَكْنَا وكَانَ العفْوُ منا سجيَّةً ... فَلَمَّا ملكْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أيطَحُ)
(وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأسَارَى وطَالَمَا ... غدَوْنَا مِنَ الأَسْرَى نَمُنُّ ونَصْفَحُ)
(وَحَسْبُكُمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا ... فكُلُّ إِنَاءٍ بالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ)
قلت اسْم ابْن الصيفي سعيد بن مُحَمَّد أَبُو الفوارس التَّمِيمِي شَاعِر مَشْهُور وَهُوَ الملقب بحيص بيص توفّي سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة فِي الْقرن السَّادِس قَالَ الْعَلامَة الدَّمِيرِيّ فِي حَيَاة الْحَيَوَان سُئِلَ الإِمَام أَبُو الْحسن عماد الدّين عَليّ بن مُحَمَّد الملقب بالكيا الهراسي من رُؤُوس معيدي إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن يزِيد بن مُعَاوِيَة هَل هُوَ من الصَّحَابَة وَهل يجوز لَعنه أم لَا فَأجَاب إِنَّه لم يكن من الصَّحَابَة لِأَنَّهُ ولد فِي زمن عُثْمَان وَأما جَوَاز لَعنه فَفِيهِ لكل وَاحِد من الإِمَام أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد قَولَانِ تَصْرِيح وتلويحٌ وَلنَا قَول وَاحِد التَّصْرِيح دون التَّلْوِيح وَكَيف لَا يكون ذَلِك وَهُوَ المتصيد بالفهد واللاعب بالنرد والمدمن على الْخمر وَكتب فصلا طويلاَ أضربنا عَن ذكره ثمَّ قَالَ وَلَو مددت ببياض لأطلقت الْعَنَان وَبسطت الْكَلَام فِي مخازي هَذَا الرجل(3/211)
هَذَا وَأما الْغَزالِيّ فقد أفتى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِخِلَاف مَا أفتى بِهِ الكيّا وَبسط الْكَلَام فِي ذَلِك قَالَ الْعَلامَة مُحَمَّد بن مصطفى كاتي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى بغية الخاطر ونزهة النَّاظر كَانَ ليزِيد بن مُعَاوِيَة قرد سَمَّاهُ أَبَا قيس كَانَ يركبه فَوق حمَار بسرج فِي المواكب وَله زِيّ كزي راكبي الْخَيل من الْعِمَامَة وَالْكِسْوَة ويجلسه فِي مجَالِس أنسه وَكَانَ لهَذَا القرد من الفطنة وَإِدْرَاك الْأُمُور مَا لَا يدْرك فأركب مرّة على حمَار وحشيّ ففرت بِهِ فَأَنْشد يزِيد يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(تَمَسَّكْ أَبَا قيْسٍ بفَضَلِ عِنَانِهِ ... فلَيْسَ عَليْهِ إنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ)
وبويع بعده ابْنه مُعَاوِيَة فَمَكثَ ثَلَاثَة أشهر ثمَّ خطب النَّاس وَقَالَ إِنِّي ضَعِيف عَن أَمركُم وَطلبت لكم مثل عمر بن الْخطاب حِين اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر فَلم أَجِدهُ فطلبت سِتَّة مثل أهل الشورى فَلم أجدهم فَأنْتم أولى بأمركم اخْتَارُوا لَهُ وَدخل منزله فَمَاتَ يُقَال مسموماً وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بن عتبَة بن أبي سُفْيَان وَهلك ليومه بالطاعون وَقيل إِن مُعَاوِيَة بن يزِيد أوصى الضَّحَّاك بن قيس أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَتَّى تجمع النَّاس على إِمَام قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ إِن مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة لما خلع نَفسه صعد الْمِنْبَر فَجَلَسَ طَويلا ثمَّ حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ بأبلغ مَا يكون من الْحَمد وَالثنَاء ثمَّ ذكر النَّبِي
لأحسن مَا يذكر بِهِ ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس مَا أَنا بالراغب فِي الائتمار عَلَيْكُم لعَظيم مَا أكرهه مِنْكُم وَإِنِّي أعلم أَنكُمْ تكرهونا أَيْضا لأَنا بلينا بكم وبليتم بِنَا إِلَّا أَن جدي مُعَاوِيَة نَازع هَذَا الْأَمر من كَانَ أولى بِهِ مِنْهُ وَمن غَيره لِقَرَابَتِهِ من رَسُول الله
وعظيم فَضله وسابقيته أعظم الْمُهَاجِرين قدرَاً وأشجعهم قلبَاً وَأَكْثَرهم علما وأولهم إِيمَانًا وأشرفهم منزلَة وأقدمهم صُحْبَة ابْن عَم رَسُول الله
وصهره وَأَخُوهُ زوجه ابْنَته رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَجعله لَهَا بعلا بِاخْتِيَارِهِ لَهَا وَجعلهَا لَهُ زَوْجَة باختيارها لَهُ أَبُو سبيطه سيدَيْ شباب أهل الْجنَّة وَأفضل هَذِه الْأمة تربية الرَّسُول وابنا فَاطِمَة البتول رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَتَّى انتظمت لجدي مُعَاوِيَة الْأُمُور فَلَمَّا جَاءَهُ الْقدر المحتوم واخترمته أَيدي الْمنون بَقِي مرتهناً بِعَمَلِهِ فريداً فِي قَبره وَوجد مَا قدمت يَدَاهُ(3/212)
فَرَأى مَا ارْتَكَبهُ واعتداه ثمَّ انْتَقَلت الْخلَافَة فِي أبي يزِيد فتقلد أَمركُم لهوى كَانَ أَبوهُ هويه فِيهِ وَلَقَد كَانَ أبي يزِيد بِسوء فعله وإسرافه على نَفسه غَيْرَ خليق بالخلافة على أمة مُحَمَّد
فَركب هَوَاهُ وَاسْتحْسن خطاه وأقدم على مَا قدم من جرأته على الله تَعَالَى وبغيه على من اسْتحلَّ حرمته من أَوْلَاد رَسُول الله
فقلتْ مدَّته وَانْقطع أَثَره وضاجع عمله وَصَارَ حَلِيف حفرته رهين خطيئته وَبقيت أوزاره وتبعاته فَهَل عُوقِبَ بإساءته وجوزى بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ ظَنِّي ثمَّ اختنقته الْعبْرَة فَبكى طويِلاَ وَعلا نحيبه وَحمد الله ثمَّ قَالَ وصرت أَنا ثَالِث الْقَوْم والساخطُ عليَ أَكثر من الراضي وَمَا كنت لأتحمل آثامكم وَلَا يراني الله جلت قدرته مُتَقَلِّدًا أوزاركم وألقاه بتبعاتكم فشأنكم وأمركم فَخُذُوهُ وَمن رَضِيتُمْ بِهِ عَلَيْكُم فولوه فَلَقَد خلعت بيعتي من أَعْنَاقكُم وَالسَّلَام فَقَالَ لَهُ مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ تَحت الْمِنْبَر أسنة عمْرَة يَا أَبَا ليلى فَقَالَ اغدُ عني أعن ديني تخدعوني فوَاللَّه مَا ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرع مرارتها ائْتِنِي بِرِجَال مثل رجال عمر على أَنه كَانَ حِين جعلهَا شُورَى وصرفها عَمَّن لَا يشك فِي عَدَالَته ظلوماً وَالله لَئِن كَانَت الْخلَافَة مغنمَاً لقد نَالَ أبي مَعهَا مغرماً ومأثمَاً وَلَئِن كَانَت شرا فحسبه مِنْهَا مَا أَصَابَهُ ثمَّ نزل فَدخل عَلَيْهِ أَقَاربه وَأمه فوجدوه يبكي فَقَالَت لَهُ أمه ليتك كنت حَيْضَة وَلم أسمع بخبرك فَقَالَ وددت وَالله ذَلِك ثمَّ قَالَ ويلي إِن لم يرحمني رَبِّي ثمَّ إِن بني أُميَّة قَالُوا لمؤدبه القصوص أَنْت عَلمته هَذَا ولقنته إِيَّاه وصددته عَن الْخلَافَة وزينت لَهُ حب عَليّ وَأَوْلَاده رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَحَمَلته على مَا وَسَمَنَا بِهِ من الظُّلم وَحسنت لَهُ الْبدع حَتَّى نطق بِمَا نطق وَقَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَالله مَا فعلته وَلكنه مجبول ومطبوع على حب عَليّ وَأَوْلَاده رَضِي الله عَنْهُم فَلم يقبلُوا مِنْهُ ذَلِك وأخذوه ودفنوه حَيا حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله وَتُوفِّي معاويةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعد خلعه نَفسه بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة رَحمَه الله تَعَالَى وَهُوَ الْمُسَمّى مُعَاوِيَة الْأَصْغَر وَقيل بعد الْخلْع بتسعين لَيْلَة وَكَانَ عمره ثلاثَاً(3/213)
وَعشْرين سنة وَقيل إِحْدَى وَعشْرين وَقيل ثَمَان عشرَة وَيُقَال إِنَّه لما احْتضرَ قيل لَهُ أَلا تسْتَخْلف فَأبى وَقَالَ مَا أصبت من حلاوتها فلمَ أتحمل مرارتها وَلم يعقب رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه
(إِظْهَار ابْن الزبير لِلْبيعَةِ)
وَلما هلك يزِيد بلغ الْخَبَر إِلَى عبد الله بن الزبير بِمَكَّة قبل أَن يعلم الْحصين بن نمير وَمن مَعَه وَكَانَ حصارهم قد اشْتَدَّ فناداهم ابْن الزبير وَأهل مَكَّة علام تقاتلون وَقد هلك صَاحبكُم فَلم يصدقوه فَلَمَّا بلغ الْخَبَر الْحصين بعث إِلَى ابْن الزبير وواعده الأبطح لَيْلًا فَالْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ الْحصين هَلُمَّ نُبَايِعك فأنتَ أَحَق وَهَذَا الْجند الَّذِي معي هم وُجُوه أهل الشَّام وفرسانُهُم واخرج مَعنا فَلَا يخْتَلف عَلَيْك اثْنَان على أَن تؤمن النَّاس وتهدر لَهُم مَا أَصَابُوا من الدِّمَاء فَأبى من إهدارها وَكَانَ الْحصين يكلمهُ سرا وَهُوَ يجْهر وَيَقُول وَالله لَا أفعل فَقَالَ الْحصين قَبحَ الله من يَعُدكَ بعْدهَا داهية ثمَّ ارتحل إِلَى الْمَدِينَة وراجع ابْن الزبير رَأْيه فَأرْسل إِلَيْهِ لَا أَسِير إِلَى الشَّام وَلَكِن بَايعُوا لي هُنَاكَ وَأَنا مؤمنكم فَقَالَ الْحصين لَا يتم إِلَّا بحضورك فهناك بَنو أُميَّة يطْلبُونَ الْأَمر ومَر الْحصين بِالْمَدِينَةِ فَكَانُوا يتخوفون عسكره وهم حذرون مِنْهُم لى أَن بعدوا ثمَّ وصلوا دمشق
(انْتِقَاض أَمر ابْن زِيَاد ورجوعه إِلَى الشَّام)
لم جَاءَ الْخَبَر إِلَى ابْن زِيَاد بِالْبَصْرَةِ بمهلك يزِيد بن مُعَاوِيَة ثمَّ مُعَاوِيَة ابْنه وَاخْتِلَاف النَّاس بِالشَّام جمع النَّاس فَخَطب ونعى يزِيد وثلبه فَنَهَاهُ الْأَحْنَف ثمَّ(3/214)
تلطف لأهل الْبَصْرَة وَقرر وسائله إِلَيْهِم بالمهاجرة والمولد وَحسن الآَثار فِي الجباية والعسكر وَإِصْلَاح السابلة وكف الْأَذَى وأعلمهم باخْتلَاف النَّاس بِالشَّام بعد يزِيد وَقَالَ أَنْتُم أعز النَّاس وأغناهم عَن النَّاس وأوسعهم بلاداً فَاخْتَارُوا من تولون وَأَنا أول رَاض بِهِ فَقَالَ أهل الْبَصْرَة هَلُمَّ فلنبايعك فَأبى ثمَّ ألحوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأجَاب وَبَايَعُوهُ ثمَّ انصرفوا وتناجوا ومسحوا أَيْديهم بالحيطان وَقَالُوا يظنّ ابْن مرْجَانَة أَن ننقاد لَهُ فِي الْجَمَاعَة والفرقة وَلما بَايعُوهُ أرسل إِلَى أهل الْكُوفَة يعلمهُمْ ببيعة أهل الْبَصْرَة ويدعوهم إِلَيْهَا وَكَانَ خَلِيفَته على الْكُوفَة عَمْرو بن حُرَيْث فَجمع النَّاس وَذكر لَهُم رَسُوله ذَلِك فَقَامَ يزِيد بن الْحَارِث بن رُوَيْم الشَّيْبَانِيّ فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أراحنا من ابْن سميَّة لَا نُبَايِعهُ وحَصَبَهُ ثمَّ تبعه النَّاس وحصبوه وَرجع بالْخبر إِلَى ابْن زِيَاد فَبَدَا لأهل الْبَصْرَة فِي بيعَته وَضعف سُلْطَانه وَأقَام لَا تنفذ أوامره ويحال بَين وَبَين أعوانه وَبَين الْخُصُوم إِذا سحبوهم ثمَّ جَاءَ إِلَى الْبَصْرَة سَلمَة بن ذُؤَيْب التَّمِيمِي الْحَضْرَمِيّ فنصب لِوَاء فِي السُّوق ودعا لِابْنِ الزبير فَبَايعهُ نَاس وَآتى الْخَبَر ابْن زِيَاد فَجمع النَّاس فَقَالَ بَلغنِي أَنكُمْ مسحتم أَيْدِيكُم بالحيطان وقلتم مَا قُلْتُمْ وَأَنا الْآن ترد أوامري ويحال بَين أعواني وَبَين طلبي هَذَا سَلمَة بن ذُؤَيْب يدعوكم إِلَى الْخلاف فَيُجِيبهُ مِنْكُم مجيبون فَقَالَ الْأَحْنَف وَالله نَحن نَأْتِيك بسلمة فَخَرجُوا ليأتوا بِهِ فَإِذا جمعه قَد كثف والخرق قد اتَّسع فبعدوا عَن ابْن زِيَاد وَلم يراجعوا إِلَيْهِ فَدَعَا مقاتلة السُّلْطَان لِيُقَاتِلُوا مَعَه فَقَالُوا إِن أذن قوادنا فِي ذَلِك وَقَالَ أخوته وَأَصْحَابه لَيْسَ لنا خَليفَة نُقَاتِل عَنهُ وَإِن كَانَت علينا هلكنا وَهَلَكت أَمْوَالنَا فَعِنْدَ ذَلِك أرسل إِلَى الْحَارِث ابْن قيس من بني جَهْضَم ابْن خُزَيْمَة بن مَالك بن فهم من الأزد وَقَالَ إِن أبي أَوْصَانِي بك إِن أصابني الدَّهْر بِشَيْء فعدد عَلَيْهِ قلَّة الْمُكَافَأَة مِنْهُ وَمن أَبِيه وَأقَام عِنْده إِلَى اللَّيْل ثمَّ أردفه خَلفه وَخرج بِهِ وَفرق ابْن زِيَاد على موَالِيه الْكثير مِمَّا كَانَ فِي بَيت المَال وَهُوَ تِسْعَة عشر ألف ألف مرَّتَيْنِ وسير بِهِ الْحَارِث وَالنَّاس يتحارسون خوفًا من الحرورية ويمر بِالنَّاسِ فيسألونه فَيَقُول أَنا الْحَارِث بن قيس إِلَى أَن أنزلهُ بداره فِي الجهاضم فَأثْنى عَلَيْهِ ابْن زِيَاد وَقَالَ اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَسْعُود بن عَمْرو فقد علمت شرفه فِي الأزد وطاعتهم لَهُ فَأَكُون فِي دَاره وَإِلَّا فرق عَلَيْك أَمر(3/215)
قَوْمك فجَاء إِلَى مَسْعُود فتطير من ابْن زِيَاد وَمَا زَالَ الْحَارِث يلاطفه حَتَّى سكن وَقَالَ لَهُ أفتخرجه من بَيْتك بعد مَا دخله فَجعله فِي بَيت أَخِيه عبد الغافر بن عَمْرو ثمَّ ركب هُوَ والْحَارث وَجَمَاعَة من قومه وطافوا فِي الأزد وَقَالُوا لَهُم ابْن زِيَاد فُقِدَ وَلَا نَأْمَن أَن يتهمونا بِهِ فَأَصْبحُوا بِالسِّلَاحِ وَقيل إِن الْحَارِث لم يلق مَسْعُود بن عَمْرو وَإِنَّمَا جَاءَ بعبيد الله وَمَعَهُ مائَة ألف وأتى بهَا امْرَأَة مَسْعُود فَطلب مِنْهَا الْجوَار لِابْنِ زِيَاد بِأَن تلبسه ثِيَاب مَسْعُود فَلَمَّا جَاءَ مَسْعُود تلطفوا بِهِ حَتَّى رَضِي وَأصْبح النَّاس فِي الْبَصْرَة بِغَيْر أَمِير ثمَّ رفعوا رَأْيهمْ إِلَى قيس بن الْهَيْثَم السّلمِيّ وَكَانَ أموياً وَإِلَى النُّعْمَان بن سُفْيَان الرَّاسِبِي وَكَانَ هاشمياً يؤمران عَلَيْهِم من يختارانه فَقدم النُّعْمَان عَلَيْهِم عبد الله بن الْحَارِث ابْن نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب ويلقب ببهُ فرضيه النَّاس وَبَايَعُوهُ وأنزلوه بدار الْإِمَارَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ ثمَّ أنْفق ابْن زِيَاد أَمْوَالًا فِي جمع ربيعَة والأزد وَاتَّفَقُوا على أَن يرد ابْن زِيَاد إِلَى إمارته وركبوا لذَلِك وَرَئِيسهمْ مَسْعُود بن عَمْرو وَرَئِيس ربيعَة مَالك بن مسمع وَتركُوا ابْن زِيَاد فِي حيهم وَبعث موَالِيه مَعَهم وَجَاء مَسْعُود فَدخل الْمَسْجِد وَصعد الْمِنْبَر وَأخْبر الْأَمِير عبد الله بن الْحَارِث بذلك وَقيل لَهُ اركب فِي بني تَمِيم وَأصْلح بَين النَّاس فَأبى وَجَاء بَنو تَمِيم إِلَى الْأَحْنَف ليركبوه فتعلل وَلم يركب ثمَّ أركب عباد بن حُصَيْن فِي بني عَمْرو بني تَمِيم وَعِيسَى بن طلق بن سعيد بن زيد مَنَاة ومسعود يخْطب فاستنزلوه وقتلوه ثمَّ قتلوا مَالك بن مسمع بَيته وهرب عبيد الله بن زِيَاد فلحق بِالشَّام وَلزِمَ عبد الله بن الْحَارِث بَيته وَكتب أهل الْبَصْرَة إِلَى ابْن الزبير فَكتب إِلَى أنس بن مَالك يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَتَّى بعث عمر بن عبيد الله بن معمر بعد ثَلَاثَة أشهر فحبس عبد الله بن الْحَارِث فَأَقَامَ عَمْرو فِي ولايتها شهرَاً ثمَّ جَاءَهُ الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي من قبل ابْن الزبير ويلقب القباع وَفِي أَيَّامه سَار نَافِع بن الْأَزْرَق من الْبَصْرَة إِلَى الأهواز وَأما الْكُوفَة فَلَمَّا طرد يزِيد بن الْحَارِث بن رُوَيْم رَسُول ابْن زِيَاد اجْتمع أهل(3/216)
الْكُوفَة على عمر بن سعد بن أبي وَقاص ثمَّ عزلوه واجتمعوا على عَامر بن مَسْعُود ابْن أُميَّة بن خلف بن حذافة الجُمَحِي وَكَتَبُوا بذلك إِلَى ابْن الزبير فأقره وَأقَام عَاملا على الْكُوفَة وبلغه انْتِقَاض أهل الرّيّ فَبعث مُحَمَّد بن عُمَيْر بن عُطَارِد التَّمِيمِي فَهَزَمَهُ أهل الرّيّ فَبعث إِلَيْهِم عتاب بن وَرْقَاء التَّمِيمِي فَهَزَمَهُمْ وَقتل أَمِيرهمْ الصرحان ثمَّ قدم الْكُوفَة من قبل ابْن الزبير عبد الله بن زيد الخطمي على الصَّلَاة وَإِبْرَاهِيم بن طَلْحَة على الْخراج وَاسْتعْمل مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن قيس على الْموصل فَاجْتمع لِابْنِ الزبير أهل الْبَصْرَة وَأهل الْكُوفَة ومَنْ بالقبلة من الْعَرَب وَأهل الجزيرة وَأهل الشَّام إِلَّا أهل الْأُرْدُن
(بيعَة مَرْوَان ووقعة مرج راهط)
وَلما بُويِعَ ابْن الزبير بِمَكَّة بِعته الظَّاهِرَة ولي على مصر عبد الرَّحْمَن بن جحدر الفِهري وعَلى الْمَدِينَة عبيد الله بن الزبير وَأخرج بني أُميَّة فَلَحقُوا بِالشَّام وَفِيهِمْ مَرْوَان بن الحكم وَأقَام هُنَاكَ فَمر بِهِ الْحصين بن نمير مرجعه من مَكَّة بعد موت يزِيد فَأخْبرهُ بِمَا دَار بَينه وَبَين ابْن الزبير وحرض بني أُميَّة على طلب الْأَمر وَكَانَ رَأْي مَرْوَان أَن يسير إِلَى ابْن الزبير فيبايع لَهُ بالخلافة فَقدم ابْن زِيَاد مْن الْعرَاق حِين انتقضوا عَلَيْهِ وأخرجوه فسفه رَأْي مَرْوَان فِي ذَلِك وحثه على طلب الْأَمر لنَفسِهِ فَقَامَ لذَلِك وَسَار إِلَى دمشق وَالضَّحَّاك بن قيس يَوْمئِذٍ قد بَايعه أَهلهَا على الصَّلَاة بهم حَتَّى يجْتَمع النَّاس على إِمَام وَهُوَ مَعَ ابْن الزبير وَهُوَ يَدْعُو لَهُ فِي السِّرّ وَزفر بن الْحَارِث الْكلابِي بِقِنْسِرينَ على مثل رَأْيه والنعمان بن بشير بحمص(3/217)
كَذَلِك وَكَانَ بفلسطين حسان بن مَالك بن بَحْدَل الْكَلْبِيّ عَامل مُعَاوِيَة وَابْنه وهواه فِي بني أُميَّة فَسَار إِلَى الْأُرْدُن واستخلف على فلسطين رَوح بن زنباع فَأخْرجهُ نائل ابْن قيس وَبَايع لِابْنِ الزبير وَبَايع أهل الْأُرْدُن حسان بن مَالك على أَن يجنبهم بيعَة خَالِد وَعبد الله ابْني يزدْ لصغرهما وَكتب حسان إِلَى الضَّحَّاك يعظم حق بني أُميَّة ويذم ابْن الزبير بالفتنة وخلع الْأَئِمَّة وَكتب مَعَ الرَّسُول نُسْخَة كِتَابه وَقَالَ إِن لم يقْرَأ الضَّحَّاك على النَّاس وَإِلَّا فاقرأ أَنْت هَذَا عَلَيْهِم فَلَمَّا دفع الْكتاب إِلَى الضَّحَّاك حَبسه وَصعد الْمِنْبَر فَلم يقرأه فَقَرَأَ الرَّسُول نسخته على النَّاس فاضطربوا بَين مُصدق لحسان ومكذب وتشاتموا ثمَّ سكتوا وَقضى الضَّحَّاك صَلَاة الْجُمُعَة وَدخل الْقصر ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد وَاخْتلف قبائل قيس وكلب قيس تَدْعُو لِابْنِ الزبير ونصرة الضَّحَّاك وكلب تَدْعُو إِلَى بني أُميَّة وهم أخوال عبد الله وخَالِد ابْني يزِيد فَاقْتَتلُوا ثمَّ افْتَرَقُوا من يومهم وَبعث الضَّحَّاك إِلَى بني أُميَّة يعْتَذر إِلَيْهِم ويواعدهم الِاجْتِمَاع بِحسان بن بَحْدَل بالجابية وَكَتَبُوا إِلَيْهِ جَمِيعًا بذلك وَسَارُوا نَحْو الْجَابِيَة ثمَّ ثناه ثَوْر بن معن السّلمِيّ عَن رَأْيه فِي ذَلِك خشيَة أَن يمِيل حسان إِلَى ابْن أختهم خَالِد بن يزِيد وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِابْنِ الزبير فَخرج الضَّحَّاك وَنزل بمَرج راهط وَاجْتمعَ بَنو أُميَّة وَحسان بالجابية وَأقَام يُصَلِّي بهم أَرْبَعِينَ يَوْمًا وهم يتشورون وَأَشَارَ مَالك بن هُبَيْرَة السكونِي على الْحصين بن نمير ببيعة خَالِد لِأَن أَبَاهُ يزِيد ابْن أختهم فَأبى حُصَيْن وَقَالَ تَأْتِينَا الْعَرَب بشيخ ونأتيها بصبي فَقَالَ مَالك وَالله لَئِن ولي مَرْوَان لتكونُن عَبِيدَاً لَهُ ولقومه فَإِنَّهُ أَبُو عشرَة وأخو عشرَة وَعم عشرَة ثمَّ قَامَ رَوح بن زنباع فَخَطب النَّاس وَذكر فضل ابْن عمر وسابقيته وَأَشَارَ إِلَى ضعفه ثمَّ ذكر ابْن الزبير وَأثْنى عَلَيْهِ بِأَبِيهِ وَأمه ثمَّ ذكر دُخُوله فِي الْفِتْنَة وَسَفك الدِّمَاء وشق الْعَصَا وخلع الْأَئِمَّة وَمثل هَذَا لَا يكون إمامَاً فَعَلَيْكُم بِمَرْوَان بن الحكم فَلَا يكون صدع إِلَّا شعبه وَلَا تعدلوا عَن الْكَبِير إِلَى الصَّغِير ثمَّ اجْتمع رَأْيهمْ على الْبيعَة لمروان ثمَّ لخَالِد بن يزِيد ثمَّ لعَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ على أَن إمرة دمشق لعَمْرو وإمرة حمص لخَالِد وَقَالَ حسان لخَالِد إِن النَّاس أَبوك لصغرك وَمَا أُرِيد لَا أهل بتك لَكِن فعلته نظرَاً لكم(3/218)
ثمَّ بَايعُوا مَرْوَان أول ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَار النَّاس من الْجَابِيَة إِلَى الضَّحَّاك وَقد بعث النُّعْمَان بن بشير بحمص فأمده بشرحبيل بن ذِي الكلاع وأمده زفر بن الْحَارِث بِأَهْل قنسرين وَقَاتل ابْن قيس بِأَهْل فلسطين فَاجْتمع على مَرْوَان كلب وغسان والسكاسك والسكون وَجعل على ميمنته عَمْرو بن سعيد وعَلى ميسرته عبيد الله بن زِيَاد وثار على الضَّحَّاك بِدِمَشْق يزِيد بن أبي النمس الغساني وَكَانَ مختفيَاً بهَا فَأخْرج عَنْهَا عَامله وَبَايع لمروان وأمده بالأموال وَالرِّجَال وَالسِّلَاح واقتتل مَرْوَان وَالضَّحَّاك بمرج راهط عشْرين لَيْلَة وَانْهَزَمَ الضَّحَّاك وَقَتله دحْيَة بن عبد الله الْكَلْبِيّ وَقتل مَعَه فِي المعركة ثَمَانُون من أَشْرَاف أهل الشَّام واستحكمت قيس بِالْقَتْلِ وَكَانَت الْوَقْعَة آخر سنة أَربع وَسِتِّينَ وَقيل فِي الْمحرم من سنة خمس وَآتى مَرْوَان بِرَأْس الضَّحَّاك فساءه وَبلغ خبر الْهَزِيمَة إِلَى النُّعْمَان بن بشير بحمص مَعَ الفَل فَخرج هَارِبا بأَهْله وبنيه فَخرج فِي طلبه عَمْرو بن الخلي الكلَاعِي فَقتله وَجَاء بِرَأْسِهِ وهرب زفر بن الْحَارِث من قنسرين فلحق بقرقيساء وَعَلَيْهَا عِيَاض الجرشِي كَانَ يزِيد ولاه فخدعه وغلبه عَلَيْهَا وتحصن بهَا وَاجْتمعت إِلَيْهِ قيس وهرب نائل بن قيس الجذامي عَن فلسطين وَلحق بِابْن الزبير بِمَكَّة وَاسْتعْمل مَرْوَان بعده على فلسطين رَوح بن زنباع واستوسق الشَّام لمروان وَتزَوج أم خَالِد بن يزِيد وَقيل إِن عبيد الله بن زِيَاد جَاءَ لبني أُميَّة بتدمر ومروان مجمع على الْمسير لِابْنِ الزبير فثناه عَن ذَلِك وَأخذ لَهُ الْبيعَة على بني أُميَّة وَأهل تدمر وَسَارُوا إِلَى الضَّحَّاك وهزموه فبمَا ملك مَرْوَان الشَّام سَار إِلَى مصر وَعَلَيْهَا عبد الرَّحْمَن بن جحدر الفِهري يَدْعُو لِابْنِ الزبير فَخرج للقائه وَبعث مَرْوَان عَمْرو بن سعيد فَخَالف عبد الرَّحْمَن إِلَى مصر فَرجع وانتقض أمره وَبَايع النَّاس مَرْوَان وَملك مصر وَرجع إِلَى دمشق فَبَلغهُ أَن مُصعب بن الزبير أقبل فِي الجيوش فَبعث إِلَيْهِ عَمْرو بن سعيد وَحَال بَينه وَبَين الشَّام وَانْهَزَمَ مُصعب وَرجع مَرْوَان إِلَى دمشق فاستقر بهَا وَبعث عبيد الله بن زِيَاد إِلَى الجزيرة وَإِذا فرغ مِنْهَا سَار إِلَى الْعرَاق وَبعث حُبَيْش بن(3/219)
دلجة القَيني إِلَى الْمَدِينَة وَعَلَيْهَا جَابر بن الْأسود بن عَوْف لعبد الله بن الزبير فهرب مِنْهُ جَابر وَبعث الْحَارِث بن أبي ربيعَة جيشَاً من الْبَصْرَة للقاء حُبَيْش فَسَار إِلَيْهِم وَبعث عبد الله بن الزبير عَبَّاس بن سهل بن سعد أَمِير على الْمَدِينَة ويسير فِي طلب حُبَيْش حَتَّى يوافي عَسْكَر الْبَصْرَة فيلحقهم بالربوة وَقتل حُبَيْش واعتصم من عسكره بِالْمَدِينَةِ خَمْسمِائَة فَارس فَقَتلهُمْ عَبَّاس وَكَانَ من حيش الْحجَّاج وَأَبوهُ يُوسُف بن الحكم على جمل وَاحِد وَكَانَ عَمْرو بن سعيد لما رَجَعَ من قتال مُصعب بفلسطين أنهَى عَنهُ إِلَى مَرْوَان أَنه يَقُول الْأَمر إِلَيّ من بعده فَشَكا ذَلِك إِلَى حسان ابْن بَحْدَل فَقَامَ فِي النَّاس وَقَالَ بلغنَا أَن رجالاَ يتمنونَ أماني قومُوا فَبَايعُوا لعبد الْملك بن الْعَزِيز فَبَايعُوا من عِنْد آخِرهم وَولى ابْن الزيبر أَخَاهُ عبيد الله على الْمَدِينَة ثمَّ عَزله وَولى مصعباً
(مُفَارقَة الْخَوَارِج لِابْنِ الزبير)
كَانَ الْخَوَارِج عِنْد استبداد ابْن زِيَاد عَلَيْهِم بِالْكُوفَةِ ومسير العساكر من الشَّام إِلَى ابْن الزبير قَالَ لَهُم نَافِع بن الْأَزْرَق مِنْهُم سِيرُوا بِنَا إِلَى ابْن الزبير نجاهد مَعَه إِن كَانَ على رَأينَا وَإِلَّا ندافع عَن الْبَيْت فَجَاءُوا إِلَيْهِ وقاتلوا مَعَه أهل الشَّام ثمَّ أَرَادوا اختبار رَأْيه فيهم فَسَأَلُوهُ وَقَالَ ائْتُونِي من الْغَدَاة وَجمع أَصْحَابه بِالسِّلَاحِ فَلَمَّا جَاءُوا من الْغَد وَنظر إِلَيْهِم فَقَالَ لَهُم ابْن الْأَزْرَق إِن الرجل مزمع خلافكم ثمَّ قَالَ عُبَيْدَة بن هِلَال من الْخَوَارِج إِن الله بعث مُحَمَّد
يَدْعُو إِلَى الدّين فَأَجَابَهُ الْمُسلمُونَ وَعمل فيهم بِكِتَاب الله حَتَّى قَبضه الله واستخلف أَبُو بكر وَعمر فعملا بِالْكتاب وَالسّنة ثمَّ اسْتخْلف عُثْمَان فحمى الْحمى وآثر القربَى وَرفع الدرةَ وَوضع السَّوْط ومزق الْكتاب وَضرب منكري الْجور وآوى طريد الرَّسُول وَضرب السباقين بِالْفَضْلِ وحرمهم وَأخذ من الله الَّذِي أَفَاء عَلَيْهِم فَقَسمهُ فِي فساق قُرَيْش ومُجان الْعَرَب فسارت إِلَيْهِ طَائِفَة فَقَتَلُوهُ فَنحْن أولياؤهم وَمن ابْن عَفَّان وأوليائه بريئون فَمَا تَقول أَنْت فَقَالَ ابْن الزبير أما الَّذِي ذكرْتُمْ بِهِ النَّبِي
فَهُوَ فَوْقه وَأما مَا ذكرْتُمْ بِهِ أَبُو بكر وَعمر فقد وُفقتم وأصبتم وَأما الَّذِي ذكرْتُمْ بِهِ عُثْمَان فَلَا أعلم أَن أحدا من خلق الله الْيَوْم أعلم بعثمان وَأمره مِني نقموا عَلَيْهِ واستعتبوه فَلم يدع شَيْئا إِلَّا أعتبهم ثمَّ جَاءُوهُ بِكِتَاب لَهُ يَأْمر بِقَتْلِهِم ويزعمون أَنه(3/220)
كتبه فَقَالَ مَا كتبته وَإِن لم تكن بَيِّنَة حَلَفت لكم فوَاللَّه مَا جَاءُوا بِبَيِّنَة وَلَا استحلفوه ووثبوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأما مَا عبتموه بِهِ فَلَيْسَ كَذَلِك وَأَنا أشهدكم وَمن حضر أَنِّي وليُ عُثْمَان بن عَفَّان وعدوُّ أعدائه قَالُوا فبرئ الله مِنْك وَتَفَرَّقُوا فَأقبل نَافِع بن الْأَزْرَق وَعبد الله بن صفار وَعبد الله بن إباض وحَنْظَلَة بن نهيش وَبَنُو الماحوز عبيد الله وَالزُّبَيْر وَكلهمْ من تَمِيم حَتَّى أَتَوا الْبَصْرَة وَانْطَلق أَبُو طالوت من بكر بن وَائِل وَأَبُو فديك من قيس بن ثَعْلَبَة وعطية بن الْأسود من يشْكر فَوَثَبُوا مَعَ أبي طالوت ثمَّ تَرَكُوهُ واجتمعوا على نجدة ابْن عَامر الْحَنَفِيّ وَكَانَ من خبرهم مَا يذكر عِنْد ذكر الْخَوَارِج
(خُرُوج سُلَيْمَان بن صُرَدَ فِي التوابين من الشِّيعَة)
لما قتل الْحُسَيْن وَرجع أَبُو زِيَاد إِلَى الْكُوفَة تلاوم الشِّيعَة على مَا أضاعوه من أَمر الْحُسَيْن وَأَنَّهُمْ وَدعوهُ وَلم ينصروه فَنَدِمُوا وَقَالُوا لَا كَفَّارَة لذَلِك إِلَّا قتل قاتليه أَو الْمَوْت دون ذَلِك كَمَا قَالَ الله لبني إِسْرَائِيل {فَتُوبُوا إِلىَ بَارِئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} الْبَقَرَة 54 واجتمعوا على إِلَى خَمْسَة نفر من رءسهم سُلَيْمَان بن صُرَد الْخُزَاعِيّ وَكَانَت لَهُ صُحْبَة وَالْمُسَيب بن نجية الْفَزارِيّ وَعبد الله بن سعد بن نفَيْل الْأَزْدِيّ وَعبد الله بن وَال التَّيْمِيّ مِمَّن تيم بكر وَرِفَاعَة بن شَدَّاد الْجبلي وَكَانُوا من خِيَار أَصْحَاب عَليّ واجتمعوا فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد وتفاوضوا فِي تِلْكَ الندامة واعترفوا بذنبهم وَاتَّفَقُوا على الْبيعَة لِسُلَيْمَان بن صرد وطاعته وأخرجوا من أَمْوَالهم النَّفَقَة على ذِي النَّخْلَة من أشياعهم وجعوا قبض ذَلِك وَنَفَقَته لعبد الله ابْن وَال وَكتب سُلَيْمَان إِلَى سعد بن حُذَيْفَة وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ بِمَا اعتزموا عَلَيْهِ فَقَرَأَ الْكتاب سعد على من هُنَاكَ من الشِّيعَة وَأَجَابُوا بالموافقة وَالْخُرُوج عِنْد الْأَجَل الَّذِي ضرب لَهُم وَكَانُوا يدعونَ إِلَى ذَلِك فِي السِّرّ مُنْذُ مقتل الْحُسَيْن وَالنَّاس يجيبونهم نَفرا بعد نفر وَلما هلك يزِيد دَعَا بَعضهم إِلَى الْوُثُوب على عَمْرو بن حُرَيْث خَليفَة ابْن زِيَاد(3/221)
على الْكُوفَة ثمَّ رَأَوْا أَن الْأَمر لَا يستتب لَهُم بذلك لِأَن قتل الْحُسَيْن هم جمَاعَة الْكُوفَة فأقصروا عَن ذَلِك ووثب الدعاة فِي النواحي واستجاب لَهُم النَّاس ثمَّ أخرج أهل الْكُوفَة عَمْرو بن حُرَيْث وَبَايَعُوا لِابْنِ الزير وَقدم عبد الله بن يزِيد وَقدم عبد الله بن يزِيد الخطمي أَمِير على الْكُوفَة من قبله فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمَعَهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة على الْخُرُوج وَالْمُخْتَار بن أبي عبيد الثَّقَفِيّ وَبلغ عبد الله بن يزِيد الخطمي خبر سُلَيْمَان وَأَصْحَابه التوابين وأشير عَلَيْهِ بحبسهم وخُوف عَاقِبَة أَمرهم فَقَالَ نَحن تاركوهم مَا تركونا وهم يطْلبُونَ قتلة الْحُسَيْن ولسنا مِنْهُم ثمَّ خطب بِمثل ذَلِك وَقَالَ وَالله مَا قتلنَا حُسَيْنًا وَلَقَد أصبْنَا بمقتله وَهَؤُلَاء الْقَوْم الَّذين إِلَيْنَا رفع أَمرهم آمنون فيسيرون إِلَى قاتلي الْحُسَيْن وَهُوَ ابْن زِيَاد فهما هُوَ على جسر مَنبج وَهُوَ سَائِر إِلَيْكُم فسيروا إِلَيْهِ وَأَنا ظهر لكم عَلَيْهِ وَلَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا فَقَامَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة فَقَالَ يأيها النَّاس لَا تغرنكم مقَالَة هَذَا المداهن وَالله من خرج علينا لنقتلنه وَمن علمنَا بِخُرُوجِهِ لنأخذن الْقَرِيب بالقريب والولى بالوالى والعريف بعرافته حَتَّى يسقم فَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْن نجية وَعبد الله بن وَال وأساءوا إِلَيْهِ ثمَّ تشاتموا وَأنزل الْأَمِير عَن الْمِنْبَر وَخرج أَصْحَابِي سُلَيْمَان ويشترون السِّلَاح ويتجهزون وَالْمُخْتَار يسفهُ رَأْيهمْ فِي ذَلِك وَيرى أَنه أبْصر مِنْهُم وَكَانَ سَبَب قدوم الْمُخْتَار الْكُوفَة أَن الشِّيعَة كَانَت تسب الْمُخْتَار بِمَا كَانَ مِنْهُ من أَمر الْحُسَيْن وإشارته على عَمه بِالْمَدَائِنِ أَن يقبض عَلَيْهِ لمعاوية وَلما جَاءَ مُسلم بن عقيل إِلَى الْكُوفَة نزل دَاره وَبَايَعَهُ ودعا ثمَّ جَاءَ يَوْم خُرُوجه من قريته بِظَاهِر الْمَدِينَة الْكُوفَة ففاته أَمر ابْن عقيل وَوَقع فِي يَد ابْن حُرَيْث فَأَمنهُ ثمَّ رفع عمَارَة بن الْوَلِيد أمره إِلَى عبيد الله فَاعْتَذر بِأَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْن حُرَيْث وَشهد لَهُ فَضرب عبيد الله وَجهه بقضيب شتر عينه وحبسه حَتَّى قتل الْحُسَيْن فَبعث إِلَى عبد الله بن عمر أَن يشفع فِيهِ إِلَى ابْن زِيَاد وَكَانَ زوج أُخْته صَفِيَّة بنت أبي عبيد فشفعه على أَلا يُقيم بِالْكُوفَةِ فَخرج إِلَى الْحجاز وَسَأَلَ فِي طَرِيقه عَن ابْن الزبير فَقيل إِنَّه عَائِذ بِالْبَيْتِ ومبايع سرا وَلَو كثر جمعه لظهر فَقَالَ هَذِه فتْنَة واعتزم الْمُخْتَار على الطّلب بِدَم الْحُسَيْن من يَوْمئِذٍ(3/222)
وَقد إِلَى ابْن الزبير وَأخْبرهُ خبر الْعرَاق وَدعَاهُ إِلَى الْبيعَة فكتم أمره عَنهُ ففارقه وَغَابَ بِالطَّائِف سنة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة وَلم يَأْتِ ابنَ الزبير وَكَانَ قد ظهر أمره فَدس عَلَيْهِ ابْن الزبير عَبَّاس بن سُهَيْل بن سعد فَلَقِيَهُ وعذله عَن تَأَخره عَن ابْن الزبير فَقَالَ كتم عني وَأَرِنِي الِاسْتِغْنَاء فاستغنيت عَنهُ فَحَمله على لِقَائِه مَعَه وَحضر عَن ابْن الزبير لَيْلًا وَقَالَ أُبَايِعك على أَلا تقضي أمرا دوني وأكون أول دَاخل وتوليني أفضل عَمَلك فَقَالَ ابْن الزبير أُبَايِعك على كتاب الله وَسنة رَسُوله فَقل لَا فَبَايعهُ ابْن الزبير على مَا أحب وَشهد مَعَه قتال الْحصين نمير وأبلى فِيهِ فَلَمَّا هلك يزِيد وأطاع أهل الْعرَاق ابْن الزبير فَإِذا هُوَ لَا يَسْتَعْمِلهُ وبلغه الْخَبَر عَن الشِّيعَة بِالْكُوفَةِ فَفَارَقَ ابْن الزبير إِلَيْهِم وَقدم الْكُوفَة وَنزل فِي دَاره وَاخْتلف إِلَيْهِ الشِّيعَة وجاءه رُءُوس النَّاس من كِنْدَة وَبني هِنْد وَأَخْبرُوهُ بِخَبَر سُلَيْمَان بن صرد وَأَصْحَابه وَأَنَّهُمْ على الْمسير فَقَالَ إِن ابْن الزبير بَعَثَنِي إِلَيْكُم وَأَمرَنِي بِقِتَال الْمُلْحِدِينَ والطلب بِدَم أهل الْبَيْت وَالدَّفْع عَن الضُّعَفَاء فَبَايعُوهُ وَبعث إِلَى الشِّيعَة الَّذين عِنْد سُلَيْمَان بن صرد بِمثل ذَلِك ودعاهم إِلَى طَاعَته واستمالهم عَن سُلَيْمَان فَمَال إِلَيْهِ طَائِفَة مِنْهُم وَخرج سُلَيْمَان نَحْو الجزيرة لشأنه وَجَاء النَّاس إِلَى الْأَمِير عبد الله يزِيد الخطمي وَصَاحبه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة مِنْهُم شبيب بن ربعي وَيزِيد بن الْحَارِث بن رُوَيْم فَقَالُوا لَهما إِن الْمُخْتَار يُرِيد أَن يثب عَلَيْكُم وَهُوَ أَشد من سُلَيْمَان وَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ عبد الله مَا كنت لأخذ أحد على الظنة وَتَوَلَّى إِبْرَاهِيم أمره وحبسه وَقيل إِنَّمَا جَاءَ الْمُخْتَار إِلَى الْكُوفَة بِأَمْر ابْن الزبير وَإنَّهُ قَالَ لَهُ ابعثني أستخرج لَك جنداً من شيعَة على تقَاتل بهم أهل الشَّام فَبَعثه حَتَّى إِذا اجْتمع إِلَيْهِ النَّاس وثب على ابْن مُطِيع عَامل ابْن الزبير بِالْكُوفَةِ وَكتب إِلَيْهِ إِن ابْن مُطِيع داهن وراسل عبد الْملك فأخرجهُ وَأما سُلَيْمَان بن صُرَدَ فَخرج فِي ربيع سنة خمس وَسِتِّينَ وَنزل النخيلة ثمَّ اسْتقْبل عدد النَّاس وَأرْسل من نَادَى فِي الْكُوفَة بثأر الْحُسَيْن فجَاء بعض وتثاقل بعض وَالْمُخْتَار يثبطهم وَأقَام بالنخيلة ثلاثَاً ثمَّ سَار فِي أَرْبَعَة آلَاف ونادى فيهم من أَرَادَ الدُّنْيَا ومتاعها فِي الْفَيْء وَالْغنيمَة فَليرْجع وَلَيْسَ مَعنا إِلَّا سوفنا وَزَاد النقلَة(3/223)
فوافقوه ثمَّ أَشَارَ بَعضهم بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكُوفَة ومناجزة قتلة الْحُسَيْن فأكثرهم هُنَالك فَقَالَ سُلَيْمَان إِنَّمَا قَتله الَّذِي عَبأَ الْجنُود إِلَيْهِ وَمنعه الْأمان حَتَّى يستسلم وَهُوَ ابْن زِيَاد وَمن بعده أَهْون مِنْهُ ولحقه أَمِير الْكُوفَة عبد الله بن يزِيد وبراهيم بن مُحَمَّد فعذلاه فِي الْمسير وأشارا عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ حَتَّى نتجهز جَمِيعًا لهَذَا الْعَدو فنلقاه بِجمع كثيف وَقد كَانَ بَلغهُمْ إقبال عبيد الله بن زِيَاد من الشَّام فِي الْجنُود فَلم يوافقهما سُلَيْمَان وَلَا أَصْحَابه وَسَارُوا لوجههم وتخلف عَنْهُم كثير من أَصْحَابهم وَفِي ذَلِك يَقُول عبد الله بن الْأَحْمَر يحرض من // (الطَّوِيل) //
(صَحَوْتُ وَقد يَصْحُو الصّبَا والغَوَانِيا ... وقُلْتُ لِأَصْحابِي أَجِيبُوا المُنَادِيَا)
(وقُولُوا لَهُ إذْ قامَ يَدْعُو إِلَى الهُدَى ... وقَبْلَ الدُّعا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ دَاعِيَا)
(أَلا فَانْعَ خيْرَ النَّاس جَدًّا ووالداً ... حُسَيْنَا إِذَا مَا كُنْتَ للدِّينِ نَاعِيَا)
(لِيَبْكِ حسينَاً مجتدٍ ذُو خَصَاصةٍ ... عديمٌ وأَيْتَامٌ تشكِّى المواليا)
(وأضحَى حُسَين للرماحِ دَرِيئَةً ... وغودر ذَا دَرْسَيْنِ بالطَّفِّ ثَاوِيَا)
(فيا ليْتَنِي إِذْ ذاكَ كُنْتُ شهدتُهُ ... فضارَبْتُ عَنهُ الشَّامِتِينَ الأعَادِيَا)
(سَقَى الله أَرضًا ضمَّتِ المجْدَ والثَّنَا ... بِغرْبِيَّةِ الطَّفِّ الغَمَامَ الغوادِيا)
(فيَا أُمَّة تَاهَتْ وضَلَّتْ سَفاهَةً ... أَنِيبُوا فَأَرُْضوا الوَاحِدَ المُتَعَالِيَا)
ثمَّ سَارُوا يقدمهم من ذكر وَعبد الله بن الْأَحْمَر يَقُول من // (الرجز) //
(خَرَجْنَ يلمعْنَ بِنَا أرْسَالاَ ... عوابساً تَحْمِلُنا أبْطَالا)
(نُرِيدُ أَنْ نَلْقَى بِهَا القتالَ ... ألقاسِطِينَ الغُدَّرَ الضُّلاَّلاَ)
(وَقد رَفَضَنَا الوُلْدَ والأَمْوَالاَ ... والخَفِراتِ البِيضَ والحِجَالاَ)
(نُرضِي بِهِ ذَا النِّعَمِ المِفْضَالا ... )
ثمَّ انْتَهوا إِلَى قبر الْحُسَيْن فصاحوا وبَكوا وجددوا التَّوْبَة من خذلانه وَأَقَامُوا عِنْده يومَاً وَلَيْلَة فَزَادَهُم ذَلِك حنقاً وبلغهم كتاب عبد الله بن يزِيد يثنيهم عَن الْمسير فَأَبَوا واستماتوا ثمَّ انْتَهوا إِلَى قرقيسيا على تعبئة وَبهَا زفر بن الْحَارِث الْكلابِي متحصناً من مَرْوَان وَقَومه وَدخل إِلَيْهِ الْمسيب بن نجبة يَطْلُبهُ فِي السُّوق لأَصْحَابه فَأمر ابْنه الْهُذيْل فَأخْرج لَهُم سوقاً وَبعث إِلَيْهِم بعلف ودقيق وجزائر(3/224)
واستغنوا بهَا عَن السُّوق إِلَّا فِي غير الطَّعَام وَأعْطِي الْمسيب ألف دِرْهَم وفرساً فَأخذ الْفرس ورد المَال ثمَّ خرج زفر من الْغَدَاة يودعهم وَأخْبرهمْ بِمن سَار من الجيوش إِلَيْهِم وَأَنَّهُمْ عدد كثير وَأَن أمراءهم الْحصين بن نمير وشرحبيل الْكلابِي وأدهم بن مُحرز وَحَملَة بن عبيد الله الْخَثْعَمِي وَعبيد الله بن زِيَاد فأقيموا مَعنا ونلقاهم جَمِيعًا فأبة سُلَيْمَان وَأَصْحَابه من ذَلِك فَأَشَارَ عَلَيْهِم بِوَجْه الرَّأْي فِي السّير وَالْحَرب وودعهم فَسَارُوا مجدينَ إِلَى عين الوردة فأقموا بهَا خمْسا وأراحوا حَتَّى إِذا كَانَت عَسَاكِر الشَّام على يَوْم وَلَيْلَة عَنْهُم فخطبهم سُلَيْمَان بن صرد وحرضهم وَقَالَ إِن قتلت فأمير النَّاس المسيبُ بن نجبة فَإِن قتل فعبد الله بن سعد بن نفَيْل فَإِن قتل فعبد الله بن وَال فَإِن قتل فرفاعة بن شَدَّاد ثمَّ سرح الْمسيب فِي أَرْبَعمِائَة فَارس يَشن عَلَيْهِم الْغَارة فَإِن رأى مَا أحب وَإِلَّا رَجَعَ فَسَار يَوْمه وَلَيْلَته وَجَاء أَصْحَابه بأعرابي فَسَأَلُوهُ عَن الْعَسْكَر فَقَالَ أدنى عَسْكَر مِنْكُم شُرَحْبِيل بن ذِي الكلاع على ميل وَقد اخْتلف هُوَ وحصين بن نمير فِي الْإِمَارَة وهما ينتظران أَمر ابْن زِيَاد فأغذوا إِلَيْهِم السّير وأشرفوا عَلَيْهِم وهم غارُونَ وحملوا فَانْهَزَمَ الْعَسْكَر وغنم أَصْحَاب الْمسيب مَا فِيهِ وَرَجَعُوا إِلَى أَصْحَابهم موقرين وسرح ابْن زِيَاد الْحصين بن نمير مسرعاً حَتَّى نزل فِي اثْنَي عشر ألفا ثمَّ تراجعوا على التعبئة وَلما دنا بَعضهم من بعض دعاهم أهل الشَّام إِلَى الْجَمَاعَة إِلَى مَرْوَان ودعاهم أَصْحَاب سُلَيْمَان إِلَى إِسْلَام عبيد الله بن زِيَاد إِلَيْهِم وَأَنَّهُمْ يخرجُون أَصْحَاب ابْن الزبير من الْعرَاق وَيرد الْأَمر إِلَى أهل الْبَتّ ثمَّ اقْتَتَلُوا وَكَانَ الظُّهُور لِسُلَيْمَان وَأَصْحَابه على الْحصين وأمده ابْن زِيَاد بِثمَانِيَة آلَاف فَاقْتَتلُوا من الْغَد على السوَاء وتحاجزوا عِنْد الْمسَاء وَلما أصبح أهل الشَّام أَتَاهُم أدهم بن مُحرز الباهل فِي عشرَة آلَاف مدَدا فقاتلوهم يَوْم الْجُمُعَة إِلَى ارْتِفَاع الضُّحَى وَلما رأى سُلَيْمَان كثرتهم وَمَا لَقِي أَصْحَابه مِنْهُم كسر جفن سَيْفه واستمات وَاتبعهُ نَاس مِنْهُم فَقتلُوا من أهل الشَّام مقتلة عَظِيمَة ثمَّ قتل سُلَيْمَان وَبعده الْمسيب بن نجبة بعد أَن حمل مرَارًا فَأخذ الرَّايَة عبد الله بن سعد بن نفَيْل وَقَاتل فَجَاءَهُ وَهُوَ فِي الْقِتَال الْخَبَر من عبد الله بن سعد(3/225)
ابْن حُذَيْفَة بمدد أهل الْمَدَائِن ثمَّ فِي سبعين وَمِائَة ومدد أهل الْبَصْرَة مَعَ الْمثنى بن مخرمَة فِي ثَلَاثمِائَة فَقَالَ لَو كَانَ ذَلِك وَنحن أَحيَاء ثمَّ قتل عبد الله بن سعد وَنَادَوْا عبد الله بن وَال فَإِذا هُوَ قد اصطلى الْحَرْب فَحمل رِفَاعَة بن شَدَّاد حَتَّى كشف عَن أهل الشَّام وجابَه فَأخذ الرَّايَة وَقَاتل واستماتوا وَتَوَلَّى قِتَالهمْ عِنْد الْمسَاء أدهم بن مخرمَة فَقتل عبد الله بن وَال وَهُوَ مقبل وَأَرَادَ رِفَاعَة بن شَدَّاد الِانْصِرَاف بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه لَا تفعل حَتَّى يغشانا اللَّيْل فنسير فِي دلجته على مهل فَلَمَّا أَمْسوا رَجَعَ أهل الشَّام إِلَى معسكرهم وَأَصْحَاب رِفَاعَة إِلَى معسكرهم وَقد قتل عامتهم وفشت الْجراحَة فيهم وَفِي خيلهم فَسَار بِالنَّاسِ ليلته وَأصْبح الْحصين فَلم يرهم وانتهوا إِلَى قرقيسيا وأضافهم زفر ثَلَاثًا وزودهم إِلَى الْكُوفَة وَبلغ سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَان من أهل الْمَدَائِن إِلَى هيت فَلَقِيَهُ خبرهم فَرجع ولفيه الْمثنى بن مخرمَة الْعَبْدي فِي أهل الْبَصْرَة بصدد وِأقاموا حَتَّى جَاءَ رِفَاعَة وَأَصْحَابه فاستقبلوه وَبكوا وافترقوا إِلَى بِلَادهمْ وَدخل رِفَاعَة الْكُوفَة وَبعث إِلَيْهِ الْمُخْتَار بن أبي عبيد وَهُوَ مَحْبُوس يَدعُوهُ إِلَى طَاعَته فِي الطّلب بدماء أهل الْبَيْت وَجِهَاد الْمُلْحِدِينَ وَأَن سُلَيْمَان لم يكن صَاحبكُم الَّذِي تنتصرون بِهِ وَبلغ الْخَبَر عبد الْملك بن مَرْوَان بن الحكم فَخَطب النَّاس وأعلمهم بِمَوْت سُلَيْمَان بن صرد وَأَصْحَابه ولأعشى هَمدَان قصيدة طَوِيلَة يرثي بهَا أهل عين الوردة من التوَابين سُلَيْمَان بن صرد الْخُزَاعِيّ وَأَصْحَابه ويصف مَا فَعَلُوهُ فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(توجَّهَ مِنْ دُونِ الثَّويَّةِ سائراً ... إِلَى ابْنِ زِيادٍ فِي الجموعِ الكَتَائِبِ)
(فَساروا وَهُمْ مِنْ بَين مُلْتَمِسِ التُّقَى ... وآخَرَ مِمَّا حُمَّ بالأمْسِ تَائبِ)
(فَلاقَوْا بعيْنِ الوَرْدِ جَيْشًا مشاكلاً ... عَلَيْهِم بِبعض قَاطِعَات قَواصِبِ)
(فَجَاءَهُمُ جَمْع مِن النَّاسِ بَعْدَهُ ... جُمُوعٌ كمَوْجِ البَحْرِ مِنْ كُلِّ جانبِ)
(فَمَا بَرِحُوا حَتَى أُبِيدَتْ جُمُوعُهُمْ ... ولَمْ يَنْجُ مِنَهُمْ ثَم غَيْرُ عَصَائبِ)
(وغودِر أَهْلُ الصَّبْرِ صَرْعى فأصْبَحْوا ... تُعَاوِرُهُمْ ريِحُ الصَّبَا والجَنَائِبِ)
(وأضحَى الخُزَاعِيُّ الرَّئيسُ مُجَدَّلاً ... كأنْ لمْ يُقَاتِلْ مَرَّةً ويُحَاربِ)
)
ورأسُ بني أزدٍ وفارسُ قومِهِ ... جَمِيعًا مَعَ التيميِّ عاري المَناكِبِ)(3/226)
(وعَمْرُو بنُ عَمْرو وابْنُ بِشْرٍ وخالدٌ ... وبَكْرٌ وزيدٌ والحُسَين بن غالبِ)
(أَبَوْا غَيْرَ ضَرْبٍ يُفْلِقُ الهَامَ حَدُّهُ ... وطعْنٍ بأَطْراف الأَسِنَّةِ لاَزبِ)
(فيا خيْرَ جَيْشٍ للعراقِ وأَهْلِهِ ... سُقِيتُمْ روايا كُل أسحَمَ ساكبِ)
(فَلاَ يَبْعَدَنْ فُرْسَانُنَا وحُمَاتُنَا ... إِذَا البِيضُ أبدَتْ عَنْ خدامِ الكَواعِبِ)
(فَإِن تُقْتَلُوا فالقَتْلُ أكرَمُ مِيتَةٍ ... وَكُلُّ فَتى يَوْمًا لإحْدَى الشَّواعِبِ)
(وَمَا قُتِلُوا حَتَّى أَصَابُوا عِصَابَة ... بَحَزِّ نُحُورٍ كالتُّيُوسِ الضَوَاربِ)
وَفِي كتاب الأذكياء لِلْحَافِظِ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ قَالَ كَانَ حويطب بن عبد الْعُزَّى قد بلغ مائَة وَعشْرين سنة سِتِّينَ مِنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَام فَلَمَّا ولي مَرْوَان بن الحكم دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَرْوَان مَا سنك يَا عَم فَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ مَرْوَان تَأَخّر إسلامك أَيهَا الشَّيْخ حَتَّى سَبَقَك الْأَحْدَاث فَقَالَ حويطب وَالله لقد نهضت إِلَى الْإِسْلَام غير مرّة كل ذَلِك يعوقني أَبوك عَنهُ وينهاني وَيَقُول لَا تَدع دين آبَائِك لدين مُحَمَّد فأسكت مَرْوَان وَنَدم على سُؤَاله إِيَّاه ثمَّ قَالَ لَهُ حويطب أما أخْبرك عُثْمَان بن عَفَّان مَا كَانَ لَقِي من أَبِيك حِين أسلم فازداد مَرْوَان غماً إِلَى غمه وَحكى عَن البخْترِي بن عبيد أَنه قَالَ كنت عِنْد مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان جَالِسا وَكَانَ حسان من جُلَسَائِهِ وَلَيْسَ بِحسان بن ثَابت الصَّحَابِيّ فَأقبل رجل على نَاقَة حَمْرَاء وَعَلِيهِ برنس ثمَّ نزل عَنْهَا وَمَشى حَتَّى دنا من مُعَاوِيَة وَهُوَ جَالس فَسلم عَلَيْهِ فضم لَهُ مُعَاوِيَة رجلَيْهِ فَجَلَسَ الرجل على الطفنسة ثمَّ أقبل عَلَيْهِ مُعَاوِيَة بِالْحَدِيثِ فَلَمَّا قَامَ انْكَشَفَ الْبُرْنُس فَرَأَيْت عَلَيْهِ قَمِيص كتَّان وَرَأَيْت أثر مسح زقاق الزَّيْت على قَمِيصه فَقَالَ حسان لمعاوية من هَذَا الَّذِي شغلك حَدِيثه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ هَذَا رجل يَرْجُو الْخلَافَة من بعدِي فَقَالَ لَهُ حسان لَيْسَ هَذَا الزيات بِأَهْل لذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ مُعَاوِيَة مهلا يَا حسان هَذَا مَرْوَان بن الحكم(3/227)
(خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان بعد وَفَاة أَبِيه مَرْوَان)
كَانَ أَبوهُ مَرْوَان عِنْد ولَايَته تزوج أم خَالِد بن يزِيد وَهِي بنت هَاشم بن عتبَة فَوَقع بَين خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَبَين بعض ولد مَرْوَان كَلَام فَقَالَ لخَالِد اسْكُتْ فلست وَالله تُعَدّ لَا فِي العير وَلَا فِي النفير فَقَالَ لَهُ خَالِد وَهل كَانَ فِي العير غير جدي وَفِي النفير غير جدي وَلَكِن لَو قلت حبيلات وغنيمات والطائف ورحم الله عُثْمَان قُلْنَا صدقت انْتهى قلت فِي قَول خَالِد جدي فِي العير جدي فِي النفير يُشِير إِلَى أَن جده لِأَبِيهِ أَبَا سُفْيَان هُوَ الَّذِي كَانَ فِي العير وجده لأمه هُوَ الَّذِي كَانَ فِي النفير وَهُوَ عتبَة بن ربيعَة بن أُميَّة بن عبد شمس لِأَن أم جده مُعَاوِيَة هِيَ بنت عتبَة وَأما قَوْله حبيلات فَهِيَ جمع حبلة وَهِي أصل الكرمِ وَقَوله غنيمات والطائف ورحم الله عُثْمَان يَعْنِي يعيره بِكَوْن جده الحكم وَالِد مَرْوَان نَفَاهُ النَّبِي
إِلَى الطَّائِف فَأَقَامَ ثمَّة عِنْده حبيلات وغنيمات وَاسْتمرّ إِلَى أثْنَاء خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَرده إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ رده من جملَة الْأُمُور المنقومة على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَأَرَادَ مَرْوَان أَن يقصر بِخَالِد لما كَانَ حسان بن بَحْدَل يمِيل إِلَيْهِ فَدخل خَالِد يَوْمًا على مَرْوَان يمشي بَين السماطين فَقَالَ مَرْوَان نه لأحمق وَقَالَ تَنَح يَا بن رطبَة الاستِ يسْقطهُ من عين أهل الشَّام فَتوجه إِلَى أمه فَقَالَت اكتم خبرك وَأَنا أكفيك فَلَا تصر تسمعها مِنْهُ وَدخل عَلَيْهَا مَرْوَان فَقَالَ هَل قَالَ لَك خَالِد شَيْئا قَالَت هُوَ أَشد لَك تَعْظِيمًا من هَذَا ثمَّ قَالَ عِنْدهَا يَوْمًا فغطته بالوسادة وتحاملت هِيَ وجواريها عَلَيْهِ فَقتلته وَأَرَادَ عبد الْملك أَن يثأر مِنْهَا فَقيل لَهُ لَا(3/228)
يسمع أَن امْرَأَة قتلت أَبَاك وِلَادَته سنة ثِنْتَيْنِ من الْهِجْرَة بُويِعَ فِي رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ وَكَانَت الشَّوْكَة وَالْغَلَبَة لِابْنِ الزبيير مدَّته خَمْسَة عشر شهرا وَقيل عشرَة أشهر وَفَاته فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ عمره ثَلَاث وَسِتُّونَ وَقيل أَربع وَسِتُّونَ وَقد كَانَ بَايع لوَلَده عبد الْملك ثمَّ بعده لوَلَده الآخر عبد الْعَزِيز وَالِد عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(وثوب الْمُخْتَار بِالْكُوفَةِ وأخباره)
لما قتل سُلَيْمَان بن صرد وَقدم الشِّيعَة إِلَى الْكُوفَة وَكَانَ الْمُخْتَار مَحْبُوسًا كَمَا مر كتب إِلَيْهِم من السجْن يعدهم ويمنيهم ويعرفهم أَن الَّذِي بَعثه ابْن الْحَنَفِيَّة لطلب الثأر فَقَرَأَ كِتَابه رِفَاعَة بن شَدَّاد والمثنى بن مخرمَة الْعَبْدي وَسعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَيزِيد بن أنس وَأحمد بن شميط البَجلِيّ وَعبد الله بن شَدَّاد البَجلِيّ وبعثوا إِلَيْهِ عبيد الله بن كَامِل مِنْهُم إِنَّا بِحَيْثُ نسرك وَإِن شِئْت أَن نَأْتِيك ونخرجك من الْحَبْس فعلنَا فسر بذلك وأمهلهم ثمَّ شفع فِيهِ ابْن عمر إِلَى عبد الله بن يزِيد وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة فَأطلق واستحلفاه أَلا يخرج عَلَيْهِم وَنزل بداره وَاخْتلفت إِلَيْهِ الشِّيعَة وَبَايَعُوهُ وَقَوي أمره ثمَّ عزل ابْن الزبير إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة وَعبد الله بن يزِيد وَاسْتعْمل على الْكُوفَة عبد الله ابْن مُطِيع فَقَدمهَا فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وخطب النَّاس بِأَن ابْن الزبير أمره أَلا يقسم فيئهم فِي غَيرهم وَأَن يسير فيهم بسيرة عمر وَعُثْمَان ثمَّ توعدهم على الْخلاف فَقَالُوا أما فيئنا فَلَا يكون غير ذَلِك وَأما السِّيرَة فسيرة عَليّ الَّتِي سَار بهَا فِي بِلَادنَا وَلَا حَاجَة لنا فِي سيرة عُثْمَان وَلَا عمر فَقَالَ ابْن مُطِيع نسير بِكُل سيرة ترضونها ثمَّ بلغه أَن الْمُخْتَار يَدْعُو لأهل الْبَيْت وبمن اجْتمع لَهُ وأشاروا عَلَيْهِ بحبسه(3/229)
فَبعث إِلَه فَاعْتَذر بِالْمرضِ وارتاب أَصْحَاب الْمُخْتَار فِيمَا بَلغهُمْ عَن ابْن الْحَنَفِيَّة فَسَارُوا إِلَيْهِ بِمَكَّة يسألونه واستأذنوه فِي اتِّبَاعه فَقَالَ وددت أَن الله انتصَرَ لنا من عدونا بِمن يَشَاء مِنْ خلقه فَرَجَعُوا وأخبروا بذلك الْمُخْتَار وَقَالُوا لَهُ قد أمرنَا بنصرك فَجمع الشِّيعَة وَأخْبرهمْ بِمَا قدم بِهِ أَصْحَابهم من عِنْد ابْن الْحَنَفِيَّة وَأَنه أخْبرهُم رَسُوله وأمركم باتباعي وطاعتي فِيمَا دعوتكم إِلَيْهِ من قتال المحلين والطلب بدماء أهل الْبَيْت وَشهد الوافدون بذلك فاجتمعت الشِّيعَة وَمن جُمْلَتهمْ الشّعب وَأَبُو شُرَحْبِيل وَأَشَارَ عَلَيْهِ بعض أَصْحَابه بِدُعَاء إِبْرَاهِيم بن الأشتر لقوى أَمرهم بِهِ فَمضى إِلَيْهِ الشّعبِيّ فِي جمَاعَة مِنْهُم وَذكر تقدم أَبِيه فِي ولَايَة عَليّ وَدعَاهُ إِلَى الطّلب بِدَم الْحُسَيْن وَأَصْحَابه فَقَالَ عل أَن تولوني فَقَالُوا قد جَاءَ الْمُخْتَار بتولية ابْن الْحَنَفِيَّة وَقد أمرنَا بِطَاعَتِهِ فَسكت إِبْرَاهِيم ثمَّ جَاءَ الْمُخْتَار بِكِتَاب ابْن الْحَنَفِيَّة إِلَى إِبْرَاهِيم يسْأَله النُّصْرَة ويعده بِالْولَايَةِ الْعَامَّة وَفِيه من مُحَمَّد الْمهْدي إِلَى إِبْرَاهِيم بن مَالك الأشتر وَدفعه إِلَيْهِ الشّعبِيّ وقرأه وَقَالَ مازال ابْن الْحَنَفِيَّة يكاتبني فَلَا زيد على اسْمه وَاسم أَبِيه فَشهد جمَاعَة مِنْهُم أَنه كِتَابه وَسكت الشّعبِيّ وَسَأَلَهُ إِبْرَاهِيم بعد انصرافهم فَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين يشْهدُونَ سادة الْقُرَّاء ومشيخة الْمصر وفرسان الْعَرَب فَكتب أَسْمَاءَهُم عِنْده ثمَّ حمل عشيرته على إِجَابَة الْمُخْتَار وَصَارَ يخْتَلف إِلَيْهِ وتواعدوا لِلْخُرُوجِ منتصف ربيع الأول سنة سِتّ وَسِتِّينَ ونما خبر إِلَى ابْن مُطِيع فَبعث إِلَى رُءُوس النَّاس فِي كل نَاحيَة من الْكُوفَة يوقظهم لذَلِك وَألا يؤتوا من قبلهم فَاسْتَعدوا فَركب إِيَاس بن مضَارب فِي الشَّرْط وأحاط بِالسوقِ وَالْقصر ثمَّ ركب إِبْرَاهِيم بن الأشتر يُرِيد الْمُخْتَار قبل الْموعد بليلتين وَهُوَ مظهر للسلاح وَلَقي إِيَاس بن مضَارب فارتاب بِهِ وأراده على الْإِتْيَان لِابْنِ مُطِيع فَأبى وطعنه فَقتله وافترق أَصْحَاب إِيَاس وَجَاءُوا إِلَى ابْن مُطِيع وَولى مَكَانَهُ ابْن رَاشد على الشرطة وَمضى إِبْرَاهِيم إِلَى الْمُخْتَار وَأخْبرهُ بالْخبر وبعثوا فِي الشِّيعَة وتنادوا بثأر الْحُسَيْن ومضَى إِبْرَاهِيم إِلَى النخع فاستركبهم وَسَار بهم فِي الْمَدِينَة لَيْلًا وَهُوَ يتَجَنَّب الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الْأُمَرَاء ثمَّ(3/230)
لقِيه بَعضهم فَهَزَمَهُمْ ثمَّ آخَرين كَذَلِك ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمُخْتَار فَوجدَ شبيبَ بنَ رَبعي وحجار بن أبجر الْعجلِيّ يقاتلانه فهومهما وَجَاء شَبَّبَ إِلَى ابْن مُطِيع فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِجمع النَّاس والنهوض إِلَى الْقَوْم فقد قوي أَمرهم فَركب وَاجْتمعَ النَّاس وتوافي إِلَى الْمُخْتَار نَحْو أَرْبَعَة آلَاف من الشِّيعَة وَبعث ابْن مُطِيع شبيب بن ربعي فِي ثَلَاثَة آلَاف وَرَاشِد بن إِيَاس فِي أَرْبَعَة آلَاف فسرح إِلَيْهِم الْمُخْتَار إِبْرَهِيمُ بن الأشتر لراشد فِي سِتّمائَة فَارس وسِتمِائَة راجل ونعيم بن هُبَيْرَة لشيب فِي ثَلَاثمِائَة فَارس وسِتمِائَة راجل واقتتلوا من بعد صَلَاة الصُّبْح وَقتل نعيم فوهن الْمُخْتَار لقَتله وَظهر شبيب وَأَصْحَابه عَلَيْهِم وَقَاتل إِبْرَاهِيم ابْن الأشتر رَاشد بن إِيَاس فَقتله وَانْهَزَمَ أَصْحَابه فركبهم الْقَتْل وَبعث ابْن مُطِيع جَيْشًا كثيفاً فَهَزَمَهُمْ إِبْرَاهِيم ثمَّ حمل على شبيب فَهَزَمَهُ وزحف الْمُخْتَار فَمَنعه الرُّمَاة من دُخُول الْكُوفَة وَرجع المنهزمون إِلَى ابْن مُطِيع فدهش فشجعه عَمْرو ابْن الْحجَّاج الزبيدِيّ وَقَالَ لَهُ اخْرُج واندب النَّاس فَفعل وَقَامَ فِي النَّاس ووبخهم على هزيمتهم وندبهم ثمَّ بعث عَمْرو بن الْحجَّاج فِي أَلفَيْنِ وشمر بن ذِي الجوشن فِي أَلفَيْنِ وَنَوْفَل بن مساحق فِي خَمْسَة آلَاف ووقف هُوَ بكناسة واستخلف على الْقصر شبيب بن ربعي فَحمل ابْن الأشتر على ابْن مساحق فَهَزَمَهُ وأسره ثمَّ مَن عَلَيْهِ وَدخل ابْن مُطِيع الْقصر وحاصره إِبْرَاهِيم الأشتر ثَلَاثًا وَمَعَهُ يزِيد بن أنس وَأحمد بن شميط وَلما اشْتَدَّ الْحصار على ابْن مُطِيع أَشَارَ عَلَيْهِ شبيب بن ربعي بِأَن يستأمنَ الْمُخْتَار وَيلْحق بِابْن الزبير وَله مَا بعده فَخرج عَلَيْهِم مسَاء وَنزل دَار أبي مُوسَى وَاسْتَأْمَنَ الْقَوْم للمختار فَدخل الْقصر وَغدا على النَّاس فِي الْمَسْجِد فخطبهم ودعا إِلَى بَيْعه ابْن الْحَنَفِيَّة فَبَايعهُ أَشْرَاف الْكُوفَة على الْكتاب وَالسّنة والطلب بِدَم الْحُسَيْن وَوَعدهمْ بِحسن السِّيرَة وبلغه أَن ابْن مُطِيع فِي دَار أبي مُوسَى فَبعث إِلَيْهِ بِمِائَة ألف دِرْهَم وَقَالَ تجهز بِهَذِهِ وَكَانَ ابْن مُطِيع قد فرق بيُوت الْأَمْوَال على النَّاس وَسَار ابْن مُطِيع إِلَى وَجهه وَملك الْمُخْتَار الْكُوفَة وَجعل على شريطة عبد الله بن كَامِل وعَلى حرسه كيسَان أَبَا عمْرَة وَجعل الْأَشْرَاف جلساءه وَعقد لعبد الله بن الْحَارِث بن الأشتر(3/231)
على أرمينية ولمحمد بن عُمَيْر بن عُطَارِد على أذربيجان ولعَبْد الرَّحْمَن بن سعيد ابْن قيس على الْموصل وَإِسْحَاق بن مَسْعُود على الْمَدَائِن ولسعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَان على حلوان وَأمر بِقِتَال الأكراد وَإِصْلَاح السابلة وَولي شريحاً على الْقَضَاء ثمَّ طعنت فِيهِ الشِّيعَة بِأَنَّهُ شهد على حجر بن عدي وَلم يبلغ عَن هَانِئ بن عُرْوَة رسَالَته إِلَى قومه وَأَن عليا عَزله وَأَنه عثماني وَسمع ذَلِك هُوَ فتمارض فَجعل مَكَانَهُ عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود ثمَّ مرض فولي مَكَانَهُ عبد الله بن مَالك الطَّائِي
(مسير ابْن زِيَاد إِلَى الْمُخْتَار وَخلاف أهل الْكُوفَة عَلَيْهِ وغلبه إيَّاهُم)
كَانَ مَرْوَان بن الحكم لما استوثق لَهُ أهل الشَّام بعث جيشين أحددهما إِلَى الحجار مَعَ حنيش بن دلجة القيني وَقد مر شَأْنه ومقتله وَالْآخر إِلَى الْكُوفَة مَعَ عبيد الله بن زِيَاد وَكَانَ من أمره وَأمر التوابين من الشِّيعَة مَا تقدَم وَأقَام محاصراً لزفَر بن الْحَارِث بقرقيسيا وَهُوَ مَعَ قومه قيس على طَاعَة ابْن الزبير فاشتغل بهم عَن الْعرَاق سنة أَو نَحْوهَا ثمَّ توفّي مَرْوَان وَولي بعده عبد الْملك فأقره على ولَايَته وَأمره بالجد وأيس من أَمر زفر وَقيس فَنَهَضَ إِلَى الْموصل فَخرج عَنْهَا عبد الرَّحْمَن بن سعد عَامل الْمُخْتَار إِلَى تكريت وَكتب إِلَى الْمُخْتَار بالْخبر فَبعث يزِيد بن أنس الْأَسدي فِي ثَلَاثَة اَلاف إِلَى الْموصل فَسَارُوا إِلَيْهَا على الْمَدَائِن وسرح ابْن زِيَاد للقائه ربيعَة بن الْمُخْتَار الغنوي فِي ثَلَاثَة آلَاف والتقيا بِبَابِل وعبأ يزِيد أَصْحَابه وَهُوَ رَاكب على حِمَاره وحرضهم وَقَالَ إِن مت فأميركم وَرْقَاء بن عَازِب الْأَسدي وَإِن هلك فعبد الله بن ضَمرَة العذري وَإِن هلك فسعد الْحَنَفِيّ ثمَّ اقْتَتَلُوا يَوْم عَرَفَة وَانْهَزَمَ أهل الشَّام وَقتل ربيعَة وَسَار الْعَسْكَر غير بعيد فَلَقِيَهُمْ عبد الله بن حَملَة الْخَثْعَمِي قد سرحه ابْن زِيَاد فِي ثَلَاثَة آلَاف فَرد المنهزمين وَأعَاد الْقِتَال يَوْم الْأَضْحَى فَانْهَزَمَ أهل الشَّام وأثخنت فيهم أهل الْكُوفَة الْقَتْل والنهب وأسروا مِنْهُم ثَلَاثمِائَة فَقَتَلُوهُمْ وَهلك يزِيد بن أنس من آخر يَوْمه وَقَامَ بأمرهم وَرْقَاء بن عَازِب خَليفَة وهاب لِقَاء ابْن زِيَاد بعد يزِيد وَقَالَ نرْجِع لمَوْت أميرنا قبل أَن يظْهر علينا أهل الشَّام بذلك وَصرف النَّاس(3/232)
وَتقدم الْخَبَر إِلَى الْكُوفَة فَأَرْجَفَ النَّاس بالمختار وَأشيع أَن يزِيد قتل وساء الْمُخْتَار رُجُوع الْعَسْكَر فسرح إِبْرَاهِيم بن الأشتر فِي سَبْعَة آلَاف وَضم إِلَيْهِ حنيش يزِيد ثمَّ تناجز ابْن زِيَاد فَسَارُوا لذَلِك ثمَّ اجْتمع أَشْرَاف الْكُوفَة عِنْد شبيب بن ربعي وَكَانَ شيخهم جاهلي إسلامي وَشَكوا من سيرة الْمُخْتَار وإيثاره الموَالِي عَلَيْهِم دَعوه إِلَى الْوُثُوب بِهِ فَقَالَ حَتَّى أَلْقَاهُ وأعذر إِلَيْهِ ثمَّ ذهب إِلَيْهِ وَذكر لَهُ جَمِيع مَا ذَكرُوهُ فوعده الرُّجُوع إِلَى رضاهم لَهُ وَذكر شَأْن الموَالِي وشوكتهم فِي الفئ فَقَالَ إِن أعطيتموني عهدكم عِلّة قتال بني أُميَّة وَابْن الزبير تَركهم فَقَالَ اخْرُج إِلَيْهِم بذلك وَخرج فَلم يرجع وَاجْتمعَ رَأْيهمْ على قِتَاله وهم شبيب بن ربعي وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث وَعبد الرَّحْمَن بن سعد بن قيس وشمر بن ذِي الجوشن وَكَعب بن أبي كَعْب الْخَثْعَمِي وَعبد الرَّحْمَن بن مخنف الْأَزْدِيّ وَكَانَ ابْن مخنف أَشَارَ عَلَيْهِم بِأَن يمهلوا لقدوم أهل الشَّام ومجيء أهل الْبَصْرَة فيكفونهم أمره قبل أَن يُقَاتِلكُمْ بمواليكم وشجعانكم وَهُوَ عَلَيْكُم أَشد فَأَبَوا رَأْيه وَقَالُوا لَا تفْسد جماعتنا ثمَّ خَرجُوا وشهروا السِّلَاح وَقَالُوا للمختار اعْتَزَلنَا فَإِن ابْن الْحَنَفِيَّة لم يَبْعَثك قَالَ فتعالوا نبعث إِلَيْهِ الرُّسُل مني ومنكم وَأخذ يعللهم بِمثل هَذِه المراحعات وكف أَصْحَابه عَن قِتَالهمْ ينظرُونَ وُصُول إِبْرَاهِيم بن الأشتر وَقد بعث إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ فجَاء وَالْقَوْم مجتمعون وَرِفَاعَة بن شَدَّاد البَجلِيّ يُصَلِّي بهم فَلَمَّا وصل إِبْرَاهِيم عبأ الْمُخْتَار أَصْحَابه وسرح بَين يَدَيْهِ أَحْمد بن شميط البَجلِيّ وَعبد الله بن كَامِل الشاكري فَانْهَزَمَ أصحابهما وصبرا وأمدهما الْمُخْتَار بِالرِّجَالِ والفرسان فوجَاً بعد فَوْج وَصَارَ ابْن الأشتر إِلَى مُضر وَفِيهِمْ شبيب بن ربعي وَقَاتلهمْ فَهَزَمَهُمْ وَاشْتَدَّ ابْن كَامِل على أهل الْيمن فَرجع رِفَاعَة بن شَدَّاد أمامهم إِلَى الْمُخْتَار فقاتل مَعَه حَتَّى قتل وَقتل من أهل الْيمن عبد الله بن سعيد بن قيس والفرات أهل الْيمن هزيمنة قبيحة وَأسر من الوادعيين خَمْسمِائَة أَسِير فَقتل الْمُخْتَار كل من شهد قتل الْحُسَيْن مِنْهُم وَكَانُوا نصفهم وَأطلق البَاقِينَ ونادى الْمُخْتَار بالأمان إِلَّا من شرك فِي دِمَاء أهل الْبَيْت وفر عَمْرو بن الْحجَّاج الزبيدِيّ وَكَانَ أَشد من(3/233)
حضر قتل الْحُسَيْن فَلم يُوقف لَهُ على خبر وَقيل أدْركهُ أَصْحَاب الْمُخْتَار فَأخذُوا رَأسه وَبعث فِي طلب شمر بن ذِي الجوشن فَقتل طَالبه وانْتهى إِلَى قَرْيَة الكلتانية فارتاح يظنّ أَنه نجا وَإِذا فِي قَرْيَة أُخْرَى بإزائه أَبُو عمْرَة صَاحب الْمُخْتَار بَعثه مصلحاً بَينه وَبَين أهل الْبَصْرَة فنما إِلَيْهِ خَبره فَبعث إِلَيْهِ وَألقى شلوه للكلاب وانجلت الْوَقْعَة عَن سَبْعمِائة وَثَمَانِينَ قَتِيلا أَكْثَرهم من الْيمن وَكَانَت آخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخرج أَشْرَاف النَّاس إِلَى الْبَصْرَة وتتبع الْمُخْتَار قتلة الْحُسَيْن وَدلّ عَلَيْهِم عبيد الله بن أَسد الْجُهَنِيّ وَمَالك بن الأشتر الْكِنْدِيّ وَحمل بن مَالك الْمحَاربي بالقادسية فأحضرهم وقتلهم ثمَّ أحضر زِيَاد بِمَ مَالك الضبعِي وَعمْرَان بن خَالِد الغنوي وَعبد الرَّحْمَن بن أبي خشكارة البَجلِيّ وَعبد الله بن قيس الْخَولَانِيّ وَكَانُوا نهبوا من الورس الَّذِي كَانَ مَعَ الْحُسَيْن فَقَتلهُمْ وأحضر عبد الله وَعبد الرَّحْمَن ابْني طَلْحَة وَعبد الله بن وهب الْهَمدَانِي ابْن عَمْرو الْأَعْشَى فَقَتلهُمْ وأحضر عُثْمَان بن خَالِد الْجُهَنِيّ وَابْن أَسمَاء بشر بن شميط الْقَابِسِيّ وَكَانَا مشتركين فِي قتل عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَفِي سلبه فَقَتَلَهُمَا وحرقهما بالنَّار وَبحث عَن حَولي بن يزِيد الأصبحي صَاحب رَأس الْحُسَيْن فجيء بِرَأْسِهِ وَحرق بالنَّار ثمَّ قتل عمر بن سعد بن أبي وَقاص بعد أَن كَانَ أَخذ لَهُ الْأمان من عبد الله بن جعدة بن هُبَيْرَة فَبعث أَبَا عمْرَة فَجَاءَهُ بِرَأْسِهِ وَابْنه حَفْص عِنْده فَقَالَ تعرف هَذَا قَالَ نعم وَلَا خير فِي الْعَيْش بعده فَقتله وَعَن الْهَيْثَم بن حسن بن عمَارَة قَالَ قدم شيخ من خُزَاعَة أَيَّام الْمُخْتَار فَنزل على عبد الله بن أبي أَبْزي الْخُزَاعِيّ فَلَمَّا رأى مَا تصنع شيعَة الْمُخْتَار بِهِ من الإجلال والإعظام جعل يَقُول يَا عباد الله أبالمختار يصنع هَذَا وَالله لقد رَأَيْته يَبِيع الْإِمَاء بالحجار فَبلغ ذَلِك الْمُخْتَار فَدَعَا بِهِ وَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي بَلغنِي عَنْك قَالَ الْبَاطِل فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَقَالَ لَا وَالله لَا تقدر على ذَلِك قَالَ وَلم قَالَ أما إِنِّي أنظر إِلَيْك وَقد فتحتَ مَدِينَة دمشق حجرا حجرا وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت الذُّرِّيَّة ثمَّ تصلبني على شَجَرَة على نهر وَالله إِنِّي لأعرف الشَّجَرَة السَّاعَة وَأعرف شاطئ ذَلِك النَّهر قَالَ فَالْتَفت الْمُخْتَار إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ لَهُم أما إِن الرجل قد(3/234)
عرف السحر فحبس حَتَّى إِذا كَانَ اللَّيْل بعث إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَخا خُزَاعَة أَو مزاح عِنْد الْقَتْل فَقَالَ أنْشدك الله أَن تقتل ضيَاعًا قَالَ وَمَا تطلب هَهُنَا قَالَ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم أَقْْضِي بهَا ديني قَالَ ادفعوها لَهُ وَإِيَّاك أَن تصبح بِالْكُوفَةِ فقبضها وَخرج ليلته وَعنهُ قَالَ كَانَ سراقَة الْبَارِقي من ظرفاء أهل الْمَدِينَة فَأسرهُ رجل من أَصْحَاب الْمُخْتَار فآتى بِهِ الْمُخْتَار وَقَالَ أسرت هَذَا فَقَالَ سراقَة كذب وَالله مَا أسرني إِنَّمَا أسرني رجل عَلَيْهِ ثِيَاب بيض على فرس أبلق فَقَالَ الْمُخْتَار أما إِن الرجل قد عاين الْمَلَائِكَة خلوا سَبيله فَلَمَّا أفلت أنشأ يَقُول // (من الوافر) //
(أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا إسْحاقَ عَنِّي ... بأَنَّ البُلْقَ دُهْم مُصْمتَات)
(أرى عَيْنَيَّ مَا لمْ تَرْأَياهُ ... كِلاَنَا مولَعٌ بِالتُّرَّهَاتِ)
(كَفَرْتُ بِدِينِكُمْ وجعلتُ نَذْرًا ... عَلَيِّ قِتَالكُمْ حَتى المَمَات)
وَيُقَال إِن الَّذِي بعث الْمُخْتَار على قتلة الْحُسَيْن أَن يزِيد بن شرَاحِيل الْأنْصَارِيّ قدم على مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة فَقَالَ لَهُ ابْن الْحَنَفِيَّة يزْعم الْمُخْتَار أَنه لنا شيعَة وقتلة الْحُسَيْن عِنْده على الكراسي يحدثونه فَلَمَّا سمع الْمُخْتَار ذَلِك تتبعهم بِالْقَتْلِ وَبعث بِرَأْس عمر وَابْنه إِلَى ابْن الْحَنَفِيَّة وَكتب إِلَيْهِ أَنه قتل من قدر عَلَيْهِ وَهُوَ فِي طلب البَاقِينَ ثمَّ أحضر حَكِيم بن طفيل الطَّائِي وَكَانَ رمى الْحُسَيْن وَأصَاب سلب الْعَبَّاس ابْنه وَجَاء عدي بن حَاتِم ليشفع فِيهِ فَقتله ابْن كَامِل والشيعة قبل أَن يصل حذرا من قبُول الْمُخْتَار شَفَاعَته وَبحث عَن مرّة بن منقذ بن عبد الْقَيْس قَاتل عَليّ بن الْحُسَيْن فدافع عَن نَفسه وَنَجَا لى مُصعب بن الزبير وَقد شلت يَده بضربة وَبحث عَن زيد بن رقاد الْجَنبي قَاتل عبد الله بن مُسلم بن عقيل رَمَاه بسهمين وَقد وضع كَفه على جَبهته يَتَّقِي النبل فَأثْبت كَفه فِي جَبهته وَقَتله بِالْأُخْرَى فَخرج بِالسَّيْفِ يدافع فَقَالَ لَهُم ابْن الْكَامِل ارموه بِالْحِجَارَةِ فَرَمَوْهُ حَتَّى سقط وأحرقوه حَيا وَطلب سِنَان بن أنس الَّذِي كَانَ يَدعِي قتل الْحُسَيْن فلحق بِالْبَصْرَةِ وَطلب عَمْرو بن صبيح الصدائي فَقتله طعنَاً بِالرِّمَاحِ وَأرْسل فِي طلب مُحَمَّد بن الْأَشْعَث وَهُوَ بقريته عِنْد الْقَادِسِيَّة فهرب إِلَى(3/235)
مُصعب وَهدم الْمُخْتَار دَاره وَطلب آخَرين كَذَلِك من المتهمين بِأَمْر الْحُسَيْن فَلَحقُوا بمصعب وَهدم دُورهمْ
(شَأْن الْمُخْتَار مَعَ ابْن الزبير)
كَانَ على الْبَصْرَة الْحَارِث بن أبي ربيعَة وَهُوَ القباع عاملاَ لِابْنِ الزبير وعَلى شرطته عباد بن حُسَيْن وعَلى الْمُقَاتلَة قيس بن الْهَيْثَم وَجَاء الْمثنى بن مخرمَة الْعَبْدي وَكَانَ مِمَّن شهد مَعَ سُلَيْمَان بن صرد وَرجع فَبَايع لمختار وَبَعثه إِلَى الْبَصْرَة يَدْعُو لَهُ فَجَاءَهُ كثير من النَّاس وعسكر لِحَرْب القباع فسرح إِلَيْهِ عباد بن الْحُسَيْن وَقيس بن الْهَيْثَم فِي العساكر فَانْهَزَمَ الْمثنى إِلَى قومه عبد الْقَيْس وَأرْسل القباع عسكراً يأْتونَ فَجَاءَهُ زِيَاد بن عَمْرو الْعَتكِي فَقَالَ لَهُ لتردن خيلك عَن إِخْوَاننَا أَو لنقاتلنهم فَأرْسل الْأَحْنَف بن قيس وَأصْلح الْأَمر على أَن يخرج الْمثنى عَنْهُم فَسَار إِلَى الْكُوفَة وَقد كَانَ الْمُخْتَار لما خرج الْمُطِيع من الْبَصْرَة كتب إِلَى ابْن الزبير يخادعه ليتَم أمره فِي الدُّعَاء لأهل الْبَيْت وَطَلَبه الْمُخْتَار بِالْوَفَاءِ لما وعده من الْولَايَة فَأَرَادَ ابْن الزبير أَن يتَبَيَّن الصَّحِيح من أمره فولى عَمْرو بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام على الْكُوفَة وأعلمه بِطَاعَة الْمُخْتَار وَبَعثه إِلَيْهَا وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْمُخْتَار فَبعث زَائِدَة بن قدامَة فِي خَمْسمِائَة فَارس وَأَعْطَاهُ سَبْعمِائة دِرْهَم وَقَالَ ادفعها إِلَى عَمْرو فَهِيَ ضعف مَا أنْفق وَأمر بالانصراف بعد أَن تمكن خيلك فَإِن أَبى فَأَرِهِ الْخَيل وَكَانَ كَذَلِك وَلما رأى عَمْرو الْخَيل أَخذ المَال وَسَار نَحْو الْبَصْرَة وَاجْتمعَ هُوَ وَابْن مُطِيع فِي إِمَارَة القباع وثوب الْمثنى بن مخرمَة وَقيل إِن الْمُخْتَار كتب إِلَى الزبير إِنِّي اتَّخذت الْكُوفَة دَارا فَإِن سوغتني ذَلِك وأعطيتني مائَة ألف دِرْهَم سرت إِلَى الشَّام وكفيتك مَرْوَان فَمَنعه من ذَلِك وَأقَام الْمُخْتَار يصانعه ويوادعه ليتفرغ لأهل الشَّام ثمَّ بعث عبد الْملك بن مَرْوَان عبد الْملك بن الْحَارِث بن الحكم بن أبي الْعَاصِ إِلَى وَادي الْقرى فَكتب الْمُخْتَار إِلَى ابْن الزبير يعرض عَلَيْهِ المدد فَأَجَابَهُ أَن يعجل بإنفاذ الْجَيْش إِلَى جند عبد الْملك بوادي الْقرى فسرح شُرَحْبِيل بن ورس الْهَمدَانِي فِي ثَلَاثَة آلَاف أَكْثَرهم من الْمولى وَأمره أَن يَأْتِي الْمَدِينَة ويكاتبه ذَلِك واتهمه ابْن(3/236)
الزبير فَبعث من مَكَّة عَبَّاس بن سهل بن سعد فِي أَلفَيْنِ وَأمره أَن يستنفر الْعَرَب وَإِن رأى من جَيش الْمُخْتَار خيلا فناجزهم وأهلكهم فَلَقِيَهُمْ عَبَّاس بالرقيم وهم على تعبئة وَقَالَ سِيرُوا بِنَا إِلَى الْعَدو الَّذِي بوادي الْقرى فَقَالَ ابْن ورس إِنَّمَا أَمرنِي الْمُخْتَار أَن آتِي الْمَدِينَة فَفطن عَبَّاس لما يُرِيد وأنزلهم وجاءهم بالعلوفة والزاد وتخير ألفا من أَصْحَابه وَحمل عَلَيْهِم فَقتل ابْن ورس وَسبعين مَعَه من شجعان قومه وَأمن البَاقِينَ فَرَجَعُوا إِلَى الْكُوفَة وَمَات أَكْثَرهم فِي الطَّرِيق وَكتب الْمُخْتَار إِلَى ابْن الْحَنَفِيَّة يشكو ابْن الزبير ويوهمه أَنه بعث الْجَيْش فِي طَاعَته فَفعل ابْن الزبير مَا فعل ويستأذنه فِي بعث الجيوش إِلَى الْمَدِينَة وَيبْعَث ابْن الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِم رجلا من قبله فَيعلم النَّاس أَنِّي فِي طَاعَتك فَكتب إِلَيْهِ ابْن الْحَنَفِيَّة قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي وَأحب الْأُمُور إِلَى الطَّاعَة فأطع الله وتجنب دِمَاء الْمُسلمين فَلَو أردتُ الْقِتَال لوجدت النَّاس إِلَيّ سرَاعًا والأعوان كثيرا لَكِن اعتزلهم واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين ثمَّ دَعَا ابْن الزبير مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة وَمن مَعَه من الشِّيعَة وَأهل بَيته إِلَى الْبيعَة فَامْتنعَ وَبعث إِلَيْهِ ابْن الزبير وَأَغْلظ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم فاستكانوا وصبروا فتركهم وَذكر المَسْعُودِيّ عَن عَمْرو بن شيبَة عَن مساور بن السَّائِب أَن ابْن الزبير خطب أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يُصَلِّي على النَّبِي
وَقَالَ مَا يَمْنعنِي أَن أُصَلِّي إِلَّا شمخ رجال بآنافها وَدخل عبد الله بن عَبَّاس على ابْن الزبير فَقَالَ لَهُ ابْن الزبير أَنْت الَّذِي تؤنبني وتبخلني قَالَ ابْن عَبَّاس نعم سَمِعت رَسُول الله
يَقُول لَيْسَ الْمُسلم الَّذِي يشبعُ ويَجُوعُ جَاره قَالَ ابْن الزبير إِنِّي أكتُمُ بغضَكم أهلَ هَذَا الْبَيْت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة وَجرى بَينهمَا خطب طَوِيل(3/237)
وخطب ابْن الزبير فَقَالَ مَا بَال أَقوام يفتون بِالْمُتْعَةِ ويتنقصون حوارِي رَسُول الله
وَأم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة مَا بالهم أعمى الله بصائرهم كَمَا أعمى أَبْصَارهم يعرض بِابْن عَبَّاس فَقَالَ ابْن عَبَّاس لقائده اهدني إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أما قَوْلك فِي الْمُتْعَة فسل أمك تخبرك فَإِن أول مجمر سَطَعَ للمتعة لمجمر سَطَعَ بَين أمك وَأَبِيك قلت يُرِيد مُتْعَة الْحَج لَا مُتْعَة النِّكَاح فَإِن الزبير تزوج أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْإِسْلَام من أَبِيهَا مُعْلنا فَكيف تكونُ مُتْعَة نِكَاح حمى الله الزبير عَن ذَلِك وَحمى الله ابْن عَبَّاس عَن إِرَادَة مَا هُنَالك انْتهى وَأما قَوْلك أم الْمُؤمنِينَ فبنا سميت أم الْمُؤمنِينَ وَضرب عَلَيْهَا الْحجاب وَأما قَوْلك حوارِي رَسُول الله فَلَقَد لَقيته فِي الزَّحْف يَعْنِي حَرْب يَوْم الْجمل وَأَنا مَعَ إِمَام هدى فَإِن يكن على مَا أَقُول فقد كفر بقتاله وَإِن يكن على مَا تَقول فقد كفر بهربه ثمَّ انْصَرف ابْن عَبَّاس يَقُودهُ غُلَامه قلت هَذَا الْكَلَام عدم صِحَة مَعْنَاهُ دَلِيل على عدم صِحَة نسبية لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أما أَولا فَإِن الزبير لم يهرب من عَليّ يَوْم الْجمل وَإِنَّمَا لما ذكره عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بقول رَسُول الله
إِنَّك ستقاتله وَأَنت لَهُ ظَالِم تذكَّر وَرجع واستغفر كَمَا تقدم ذكر ذَلِك فِي وقْعَة الْجمل وَأما ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْقِتَال وَلَا الْهَرَب كفر إِن فرض وُقُوع ذَلِك إِذْ غَايَة مَا فِيهِ أنْ يكونْ خُرُوجًا عَن الإِمَام الْعَادِل لشُبْهَة قامَت عِنْد الْخَارِج وَهُوَ لَيْسَ بِكفْر بل مَعْصِيّة وفسوق وَتَأمل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للزبير وَأَنت لَهُ ظَالِم وَلم يقل وَأَنت كَافِر وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعمَّار تقتلك الفئة(3/238)
الباغية وَقَوله
فِي الْحسن مَعَ مُعَاوِيَة وَقَومه وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين فسماهم مُسلمين مَعَ أَنهم خارجون عَن الْحسن ظَالِمُونَ لَهُ بقتالهم فَتَأمل ذَلِك لَكِن الرَّاوِي لهَذِهِ الْقِصَّة المَسْعُودِيّ وَهُوَ من هُوَ وَمَا هَذَا بِأَعْجَب مِمَّا رَوَاهُ من قَوْله أَكتُمُ بغضكم أهل هَذَا الْبَيْت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة وروى أَن ابْن الزبير خطب فَقَالَ فِي أثْنَاء خطبَته عذرت بني الفواطم أَن يتكلموا فَمَا بَال ابْن الْحَنَفِيَّة فَقَالَ مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة يَابْنَ أم رُومَان وَمَالِي لَا أَتكَلّم أليست فَاطِمَة بنت مُحَمَّد حَلِيلَة أبي وَأم أخوتي أليست فَاطِمَة بنت أَسد جَدتي أَو لَيست فَاطِمَة بنت عَمْرو بن عَائِذ جدة أبي أما وَالله لَوْلَا خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد مَا تركت فِي بني أَسد عظما إِلَّا هشمته وَإِن نالتني مِنْهُم المعايب صبرت وَلما استولى الْمُخْتَار على الْكُوفَة وأظهرت الشِّيعَة دَعْوَة ابْن الحنيفة خَافَ ابْن الزبير أَن يتداعى النَّاس إِلَى الرِّضَا بِهِ فاعتزم عَلَيْهِم فِي الْبيعَة وتوعدهم بالقَتْل وحبسهم بزمزم وَضرب لَهُم أَََجَلًا وَكتب ابْن الحنيفة إِلَى الْمُخْتَار بذلك فَأخْبر الشِّيعَة وندبهم وَبعث أُمَرَاء مِنْهُم فِي نَحْو ثَمَانمِائَة عَلَيْهِم عبد الله الحذلي وَبعث لِابْنِ الْحَنَفِيَّة أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم وَسَارُوا إِلَى مَكَّة فَدَخَلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام وبأيديهم الْخشب كَرَاهَة إشهار السَّيْف فِي الْحرم وَطَفِقُوا ينادون بثأر الْحُسَيْن حَتَّى انْتَهوا إِلَى زَمْزَم وأخرجوا ابْن الْحَنَفِيَّة وَقد كَانَ بَقِي من أَجله يَوْمَانِ واستأذنوه فِي قتال ابْن الزبير فَقَالَ لَا أستحل الْقِتَال فِي الْحرم ثمَّ جَاءَ بَاقِي الْجند وخافهم ابْن الزبير وَخرج ابْن الْحَنَفِيَّة إِلَى شعب عَليّ وَاجْتمعَ لَهُ أَرْبَعَة آلَاف رجل فقسم بَينهم المَال وَامْتنع وَلما قتل الْمُخْتَار واستوثق أَمر ابْن الزبير بعث إِلَيْهِ بالبيعة(3/239)
فخافه على نَفسه وَكتب لعبد الْملك فَأذن لَهُ أَن يقدم الشَّام حَتَّى يَسْتَقِيم أَمر النَّاس ووعده بِالْإِحْسَانِ فَخرج ابْن الْحَنَفِيَّة وَأَصْحَابه إِلَى الشَّام وَلما وصل مَدين لقِيه خبر مهلك عَمْرو بن سعيد فندم وَأقَام بأيلة وَظهر للنَّاس فَضله وعبادته وزهده وَكتب لَهُ عبد الْملك أَن يبايعه فَرجع إِلَى مَكَّة وَنزل شعب أبي طَالب فَأخْرجهُ ابْن الزبير إِلَى الطَّائِف وعذل ابْن عَبَّاس ابْن الزبير على شَأْنه ثمَّ خرج عَنهُ وَلحق بِالطَّائِف وَمَات هُنَاكَ فصلى عَلَيْهِ ابْن الْحَنَفِيَّة وعاش حَتَّى أدْرك حِصَار الْحجَّاج لِابْنِ الزبير وَلما قتل ابْن الزبير بَايع مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة لعبد الْملك وَكتب عبد الْملك إِلَى الْحجَّاج بتعظيم حَقه وبَسطِ أمله ثمَّ قدم الشَّام وَطلب من عبد الْملك أَن يرفع عَنهُ ففْعل وَقيل إِن ابْن الزبير بعث إِلَى ابْن عَبَّاس وَابْن الْحَنَفِيَّة فِي الْبيعَة فَقَالَا حَتَّى يجْتَمع النَّاس على إِمَام فَإِن هَذِه فتْنَة فحبس ابْن الْحَنَفِيَّة فِي زَمْزَم وضيق على ابْن عَبَّاس فِي منزله فَأَرَادَ إحراقهما فَأرْسل الْمُخْتَار جَيْشه كَمَا تقدَّم وَنَفس عَنْهُمَا فَلَمَّا قتل الْمُخْتَار قوي ابْن الزبير عَلَيْهِمَا فَخَرَجَا إِلَى الطَّائِف
(مقتل ابْن زِيَاد)
وَلما فرغ الْمُخْتَار من قتال أهل الْكُوفَة آخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ بعث إِلَى إِبْرَاهِيم ابْن الأشتر لقِتَال ابْن زِيَاد وَبعث مَعَه بالكرسي الَّذِي يستنصر بِهِ وَهُوَ كرْسِي قد غشاه بِالذَّهَب وَقَالَ للشيعة هَذَا فِيكُم مثل التابوت فِي بني إِسْرَائِيل فَكثر السبئية وأحضر قتال ابْن زِيَاد فَكَانَ لَهُ الظُّهُور فازدادت الشِّيعَة فتْنَة وَيُقَال إِنَّه كرْسِي عَليّ بن أبي طَالب وَإِن الْمُخْتَار أَخذه من ولد جعدة بن هُبَيْرَة وَكَانَت أمه أم هَانِئ بنت أبي طَالب فَهُوَ ابْن أُخْت عَليّ ثمَّ أسْرع إِبْرَاهِيم بن الأشتر السّير وأوغل فِي أَرض الْموصل وَكَانَ ابْن زِيَاد قد ملكهَا كَمَا مر فَلَمَّا دخل إِبْرَاهِيم أَرض الْموصل عبأ أَصْحَابه وَلما بلغ نهر الخابور بعث على مقدمته الطُّفَيْل بن لَقِيط(3/240)
النَّخعِيّ وَنزل ابْن زِيَاد قَرِيبا من النَّهر وَكَانَت قيس مضطغنة على بني مَرْوَان من وقْعَة المرج وجند عبد الْملك يَوْمئِذٍ كُلَيْب فلقي عُمَيْر بن الْحباب السّلمِيّ إِبْرَاهِيم بن الأشتر ووعده أَن ينهزم بالمسيرة وَأَشَارَ عَلَيْهِ بالمناجزة وَرَأى عِنْد ابْن الأشتر ميلًا إِلَى المطاولة فثناه عَن ذَلِك وَقَالَ إِنَّهُم ملئوا مِنْكُم رعْبًا وَإِن طاولتهم اجترءوا عَلَيْكُم قَالَ وَبِذَلِك أَوْصَانِي صَاحِبي ثمَّ عبأ أَصْحَابه فِي السحر الأول يمشي ويحرض النَّاس حَتَّى أشرف على الْقَوْم وَجَاء عبد الله بن زُهَيْر السكونِي بِأَنَّهُم خَرجُوا على دهش وفشل وَابْن الأشتر يحرض أَصْحَابه وَيذكرهُمْ فَقَالَ ابْن زِيَاد وَأَبِيهِ ثمَّ التقى الْجَمْعَانِ وَحمل الْحصين بن نمير من ميمنة أهل الشَّام على ميسرَة إِبْرَاهِيم فَقتل عَليّ بن مَالك الْخَثْعَمِي ثمَّ أَخذ الرَّايَة قُرَّة بن عَليّ فَقتل وانهزمت المسيرة كَمَا كَانُوا وحملت ميمنة إِبْرَاهِيم على ميسرَة ابْن زِيَاد وهم يرجون أَن ينهزم عُمَيْر بن الْحباب كَمَا وعدهم فمنعته الأنفة عَن ذَلِك وَقَاتل قتالا شَدِيدا وَقصد ابْن الأشتر قلب الْعَسْكَر وسواده الْأَعْظَم فَاقْتَتلُوا أَشد قتال حَتَّى كَانَت أصوات الضَّرْب بالحديد كأصوات القَصارين وَإِبْرَاهِيم يَقُول لصَاحب الرَّايَة انغمس برايتك فيهم ثمَّ حملُوا حَملَة رجل وَاحِد فَانْهَزَمَ أَصْحَاب ابْن زِيَاد وَقَالَ ابْن الأشتر إِنِّي قتلت رجلا تَحت راية مُنْفَرِدَة شممت مِنْهُ رَائِحَة الْمسك وضربته بسيفي فقصمته نِصْفَيْنِ فالتمسوه فَإِذا هُوَ ابْن زِيَاد فَأخذ رَأسه وأحرقت جثته وَحمل شريك بن جدير التغلبي على الْحصين من غير سلَاح فاعتنقه وَجَاء بِهِ أَصْحَابه فَقتلُوا الْحصين وَيُقَال إِن الَّذِي قتل ابْن زِيَاد هُوَ ابْن جدير هَذَا وَقتل شُرَحْبِيل بن ذِي الكلاع وَادّعى قَتله سُفْيَان بن يزِيد الْأَزْدِيّ وورقاء بن عَازِب الْأَسدي وَعبيد الله بن زُهَيْر السّلمِيّ وَاتبع أَصْحَاب ابْن الأشتر المنهزمين فغرق فِي الْبَحْر أَكثر مِمَّن قتل وغنموا جَمِيع مَا فِي الْعَسْكَر وطير ابْن الأشتر الْبشَارَة إِلَى الْمُخْتَار فَأَتَتْهُ بِالْمَدَائِنِ وأنفذ ابْن الأشتر عماله إِلَى الْبِلَاد فَبعث أَخَاهُ عبد الرَّحْمَن إِلَى نَصِيبين وغلي على سنجار ودارة وَمَا والاهما من أَرض الجزيرة وَولى زفر ابْن الْحَارِث قرقيسيا وحاتم بن النُّعْمَان الْبَاهِلِيّ حَران والرهَا وسميساط وَعُمَيْر بن الْحباب السّلمِيّ كفر توثا وطور عَبْدَيْنِ وَأقَام بالموصل وأنفذ رُءُوس عبيد الله وقواده إِلَى الْمُخْتَار(3/241)
(مسيرَة مُصعب إِلى الْمُخْتَار وَقَتله إِيَّاه)
كَانَ ابْن الزبير فِي أول سنة سبع وَسِتِّينَ أَو آخر سنة سِتّ عز الْحَارِث بن أبي ربيعَة وَهُوَ القباع وَولى مَكَانَهُ أَخَاهُ مصعباً فَقدم الْبَصْرَة وَصعد الْمِنْبَر وَجَاء الْحَارِث فأجلسه مُصعب تَحْتَهُ بِدَرَجَة ثمَّ خطب وَقَرَأَ الآَيات من أول الْقَصَص وَنزل وَلحق بِهِ أَشْرَاف الْكُوفَة حِين هربوا من الْمُخْتَار وَدخل عَلَيْهِ شبيب بن ربعي وَهُوَ يُنَادي واغوثاه ثمَّ قدم مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بعده واستحثوه على الْمسير وَبعث عَن الْمُهلب بن أبي صفرَة وَهُوَ عَامله على فَارس ليحضر مَعَه قتال الْمُخْتَار فَأَبْطَأَ واعتل فَأرْسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بكتابه فَقَالَ الْمُهلب مَا وجد مُصعب بريداً غَيْرك فَقَالَ مَا أَنا ببريد وَلَكِن غلبنا عبيدنا على آبَائِنَا وحرمنا فَأقبل مَعَه الْمُهلب بالجموع وَالْأَمْوَال وعسكر مُصعب عِنْد الجسر وَأرْسل عبد الرَّحْمَن بن مخنف إِلَى الْكُوفَة سِراً ليثبط النَّاس عَن الْمُخْتَار وَيَدْعُو النَّاس إِلَى ابْن الزبير وَسَار على التعبئة وَبعث فِي مقدمته عباد بن الْحصين الحبطي التَّمِيمِي وعَلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر وَسَار ميسرته الْمُهلب وَبلغ الْخَبَر الْمُخْتَار فَقَامَ فِي أَصْحَابه وندبهم إِلَى الْخُرُوج مَعَ ابْن شميط وعسكر بحمام أعين وَبعث برءوس الأرباع الَّذين كَانُوا مَعَ ابْن الأشتر مَعَ ابْن شميط فَسَار وعَلى مقدمته ابْن كَامِل الشاكري وانْتهى إِلَى الْمدَار فَعَسْكَرَ قَرِيبا من مُصعب ثمَّ حمل عباد صَاحب مُقَدّمَة مُصعب على ابْن شميط وَأَصْحَابه فثبتوا وَحمل الْمُهلب على الميسرة على ابْن كَامِل فَثَبت ثمَّ كَر الْمُهلب وَحمل حَملَة مُنكرَة وصبر ابْن كَامِل قَلِيلا وانهزموا وَحمل النَّاس جَمِيعًا على ابْن شميط فَانْهَزَمَ وَقتل واستحر الْقَتْل فِي خيل من أهل الْكُوفَة فَلم يدركوا منهزمَاً إِلَّا قَتَلُوهُ وَلما فرغ مُصعب مِنْهُم أقبل فَقطع الْفُرَات وَسَار إِلَى الْكُوفَة وَلما بلغ الْمُخْتَار(3/242)
خبر الْهَزِيمَة وَمن قتل من أَصْحَابه وَأَن مصعباً أقبل إِلَيْهِ فِي الْبر وَالْبَحْر سَار إِلَى مجمع الْأَنْهَار نهر الجزيرة والسلحين والقادسية ونهر يُوسُف فَكسر الْفُرَات فَذهب مَاؤُهُ فِي الْأَنْهَار وَبقيت السفن سفن أهل الْبَصْرَة فِي الطين فَخَرجُوا إِلَى الْكسر وأزالوا وقصدوا الْكُوفَة وَسَار الْمُخْتَار فَنزل حروراء بعد أَن حصن الْقصر وَأدْخل عدَّة الْحصار وَأَقْبل مُصعب وعَلى ميمنته الْمُهلب وعَلى ميسرته سعيد بن منقذ الْهَمدَانِي وعَلى الْخَيل عَمْرو بن عبد الله النَّهْدِيّ وَنزل مُحَمَّد بن الْأَشْعَث فِيمَن هرب من أهل الْكُوفَة بَين العسكرين وَلما التقى الْجَمْعَانِ اقْتَتَلُوا سَاعَة وَحمل عبد الله بن جعدة بن هُبَيْرَة المَخْزُومِي على من بازائه فحطم أَصْحَاب الْمُخْتَار حطمة مُنكرَة وكشفوهم وَحمل مَالك بن عَمْرو النَّهْدِيّ فِي الرجالة عِنْد الْمسَاء على ابْن الْأَشْعَث حَملَة مُنكرَة فَقتل ابْن الْأَشْعَث وَعَامة أَصْحَابه وَقتل عبيد الله بن عَليّ بن أبي طَالب وَقَاتل الْمُخْتَار ثمَّ افترق النَّاس عَنهُ وَدخل الْقصر وَسَار مُصعب من الْغَد فَنزل السبخة وَقطع عَنْهُم الْميرَة وَكَانَ النَّاس يأتونهم بِالْقَلِيلِ من الطَّعَام وَالشرَاب خُفْيَة فَفطن مُصعب لذَلِك فَمَنعه وأصابهم الْعَطش فَكَانُوا يصبون الْعَسَل فِي الآَبار وَيَشْرَبُونَ ثمَّ إِن الْمُخْتَار أَشَارَ على أَصْحَابه بالاستماتة فتحنط وتطيب وَخرج فِي عشْرين رجلا مِنْهُم السَّائِب بن مَالك الْأَشْعَرِيّ فعذله فَقَالَ وَيحك يَا أَحمَق وثب ابْن الزبير بالحجاز وَابْن نجدة بِالْيَمَامَةِ ومروان بِالشَّام فَكنت كأحدهم إِلَّا أَنِّي طلبت بثأر أهل الْبَيْت إِذْ نَامَتْ عَنهُ الْعَرَب فقاتل على حَسبك إِن لم تكن لَك نِيَّة ثمَّ تقدم فقاتل حَتَّى قتل على يَد رجلَيْنِ من بني حنفية أَخَوَيْنِ طرفَة وطراف ابْني عبد الله بن دجَاجَة وَكَانَ عبد الله بن جعدة بن هُبَيْرَة لما رأى عزم الْمُخْتَار على الاستماتة تدلى من الْقصر واختفى عِنْد بعض إخوانه ثمَّ بعث الَّذين بقوا بِالْقصرِ إِلَى مُصعب ونزلوا على حكمه فَقَتلهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمُهلب باستبقائهم فَاعْترضَ أَشْرَاف الْكُوفَة وَرجع إِلَى رَأْيهمْ ثمَّ أَمر بكف الْمُخْتَار بن أبي عبيد فَقطعت وسمرت إِلَى(3/243)
جَانب الْمَسْجِد فَلم يَنْزِعهَا من هُنَالك لَا الحَجاج وَقتل زَوجته خَوْلَة بنت النُّعْمَان ابْن بشر زعمت أَن الْمُخْتَار رجل كَانَ يَقُول رَبِّي الله وَكَانَ يَصُوم نَهَاره وَيقوم ليله وَأَنه بذل دَمه لله وَلِرَسُولِهِ فِي طلب قتلة الْحُسَيْن وَأهل بَيته فَاسْتَأْذن أَخَاهُ عبد الله وقتلها كَذَا فِي تَارِيخ ابْن خلدون قَالَ المَسْعُودِيّ آتى مُصعب بحريم الْمُخْتَار فدعاهن إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهُ فقبلنَ إِلَّا حرمتان إِحْدَاهمَا فَاطِمَة بنت سَمُرَة بن جُنْدُب الفزازي وَالْأُخْرَى خَوْلَة بنت النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ فَكتب مُصعب بخبرهما إِلَى أَخِيه عبد الله بن الزبير فَكتب إِلَيْهِ إِن رجعتا عَمَّا هما عَلَيْهِ وبرئتا وَإِلَّا فاقتلهما فَلَمَّا طلب الْبَرَاءَة مِنْهُمَا قَالَتَا كَيفَ نبرأ من رجل يَقُول رَبِّي الله كَانَ صَائِم النَّهَار وقائم اللَّيْل قد بذل دَمه لله وَرَسُوله فِي طلب قتلة ابْن بنت نبيه وَأَهله وشيعته فأمكنه الله مِنْهُم حَتَّى شفى النُّفُوس وأبرد الأكباد فعرضهما مُصعب على السَّيْف فأجابت الفزازية وتبرأت مِنْهُ ولعنته وَقَالَت لَو دعوتموني إِلَى الْكفْر مَعَ السف لكفرت وَأما ابْنة النُّعْمَان الْأَنْصَارِيَّة فَأَبت وَقَالَت شَهَادَة أرزقها فأتركها كلا إِنَّهَا موتَة ثمَّ الْجنَّة وأقدم على رَسُول الله
وَأهل بَيته اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي متبعة نبيك وَابْن عَمه وَأهل بَيته ثمَّ قدمت فَقلت فَفِي ذَلِك يَقُول عمر بن أبي ربيعَة من // (الْخَفِيف) //
(إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الأَعَاجِيبِ عِنْدِي ... قَتْلَ حَسْنَاءَ غَادَةٍ عُطْبُولِ)
(قتَلُوها ظُلمًا عَلَى غيْرِ جُرْمٍ ... إنَّ لِلَّهٍ درها مِنْ قَتِيكِ)
(كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ علَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ)
ثمَّ كتب مُصعب إِلَى إِبْرَاهِيم بن الأشتر يَدعُوهُ إِلَى طَاعَته ويعده بِالْولَايَةِ على أَعِنَّة الْخَيل وَمَا غلب عَلَيْهِ من أَرض الْعَرَب وَكتب إِلَيْهِ عبد الْملك بولاة الْعرَاق وَاخْتلف إِلَيْهِ أَصْحَابه وجنح إِلَى مُصعب خشيَة مِمَّا أصَاب من ابْن زِيَاد وأشراف(3/244)
الشَّام فَكتب إِلَى مُصعب بالإجابة وَسَار إِلَيْهِ فَبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان الْمُهلب بن أبي صفرَة وَقيل إِن الْمُخْتَار إِنَّمَا أظهر الْخلاف لِابْنِ الزبير عِنْد قدوم مُصعب الْبَصْرَة وَإنَّهُ بعث على مقدمته أَحْمد بن شميط وَبعث مُصعب عبادَاً الحبطي وَمَعَهُ عبيد الله بن عَليّ بن أبي طَالب وتوافوا لَيْلًا فناجزهم الْمُخْتَار من ليلته وانكشف أَصْحَاب مُصعب إِلَى عَسْكَرهمْ وَاشْتَدَّ الْقِتَال وَقتل من أَصْحَاب مُصعب جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد ابْن الْأَشْعَث فَلَمَّا أصبح الْمُخْتَار وجد أَصْحَابه قد توغلوا فِي أَصْحَاب مُصعب وَلَيْسَ عِنْده أحد فَانْصَرف وَدخل قصر الْكُوفَة وفقده أَصْحَابه فَلَحقُوا بِهِ وَدخل الْقصر مَعَه ثَمَانِيَة آلَاف مِنْهُم وَأَقْبل مُصعب فَحَاصَرَهُمْ أَرْبَعَة أشهر يقاتلهم بِالسَّيْفِ كل يَوْم حَتَّى قتل وَطلب الَّذين فِي الْقصر الْأمان من مُصعب ونزلوا على حكمه فَقَتلهُمْ جَمِيعًا وَكَانُوا سِتَّة آلَاف رجل وَلما ملك مُصعب الْكُوفَة بعث عبد الله بن الزبير ابْنه حَمْزَة على الْبَصْرَة مَكَان مُصعب فأساء السِّيرَة وَقصر بالأشراف ففزعوا إِلَى مَالك بن مسمع فَخرج إِلَى الجسر وَبعث إِلَى حَمْزَة الْحق بأبيك وَكتب الْأَحْنَف إِلَى أَبِيه أَن يعزله عَنْهُم وَيُعِيد لَهُم مصعباً فَفعل وَخرج بالأموال فَعرض لَهُ مَالك بن مسمع وَقَالَ لَا نَدعك تخرج بأعطياتنا فضمن لَهُ عمر بن عبيد الله الْعَطاء فَكف عَنهُ وَقيل إِن عبد الله بن الزبير إِنَّمَا رد مصعباً إِلَى الْبَصْرَة عِنْد وفادته عَلَيْهِ بعد سنة من قتل الْمُخْتَار وَلما رد إِلَى الْبَصْرَة اسْتعْمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فَارس وولاه حَرْب الْأزَارِقَة وَكَانَ الْمُهلب على حربهم أَيَّام مُصعب وَحَمْزَة فَلَمَّا أَرَادَ أَن يولي الْمُهلب الْموصل والجزيرة وأرمينية ليَكُون بَيِّنَة وَبَين عبد الْملك فاستقدمه واستخلف على عمله ابْنه الْمُغيرَة فَلَمَّا قدم الْبَصْرَة عَزله مُصعب عَن حَرْب الْخَوَارِج وبلاد فَارس وَاسْتعْمل عَلَيْهَا عمر بن عبيد الله بن معمر فَكَانَ لَهُ فِي حروبهم مَا نذكرهُ فِي أَخْبَار الْخَوَارِج(3/245)
(خلاف عَمْرو بن سعد الْأَشْدَق ومقتله)
كَانَ عبد الْملك بعد رُجُوعه من قنسرين أَقَامَ بِدِمَشْق زَمَانا ثمَّ سَار لقِتَال زفر بن الْحَارِث الْكلاب بقرقسيا واستخلف على دمشق عبد الرَّحْمَن بن أم الحكم الثَّقَفِيّ ابْن أُخْته وَسَار مَعَه عَمْرو بن سعيد فَلَمَّا بلغ بطْنَان انْتقض عَمْرو وَأسرى لَيْلًا إِلَى دمشق وهرب ابْن أم الحكم عَنْهَا فَدَخلَهَا وَهدم دَاره وَاجْتمعَ إِلَيْهِ النَّاس فخطبهم وَوَعدهمْ وَجَاء عبد الْملك على أَثَره فحاصره بِدِمَشْق وَوَقع بَينهمَا الْقِتَال أَيَّامًا ثمَّ اصطلحا وكتبا بَينهمَا كتابا وأمنه عبد الْملك فَخرج إِلَيْهِ عَمْرو وَدخل عبد الْملك دمشق فَأَقَامَ أَرْبَعَة أَيَّام ثمَّ بعث إِلَى عَمْرو ليَأْتِيه فَقَالَ لَهُ عبد الْملك بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَهُوَ صهره وَكَانَ عِنْده لَا تأته فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك مِنْهُ قَالَ وَالله لَو كنت نَائِما مَا أيقظني ووعد الرَّسُول بالرواح إِلَيْهِ ثمَّ آتى بالْعَشي وَلبس درعه تَحت القباء ومضَى فِي مائَة من موَالِيه وَقد جمع عبد الْملك عِنْده بني مَرْوَان وَحسان بن بَحْدَل الْكَلْبِيّ وَقبيصَة بن ذُؤَيْب الخزاعيي وَأذن لعَمْرو فَدخل وَلم يزل أَصْحَابه يَجْلِسُونَ عِنْد كل بَاب حَتَّى بلغ غَايَة الدَّار وَمَا مَعَه إِلَّا غُلَام وَنظر إِلَى عبد الْملك وَالْجَمَاعَة حوله فأحس بِالشَّرِّ فَقَالَ للغلام انْطلق إِلَى أخي يحيى وَقل لَهُ يأتيني فَلم يفهم عَنهُ وَأعَاد عَلَيْهِ فَيُجِيبهُ الْغُلَام لبيْك وَهُوَ لَا يفهم فَقَالَ لَهُ اغرب عني ثمَّ أذن عبد الْملك لحسان وَقبيصَة فلقيا عمرا وَدخل فأجلسه مَعَه على السرير وحادثه زَمنا ثمَّ أَمر بِنَزْع السَّيْف فَأنْكر ذَلِك عَمْرو وَقَالَ إِنَّا لله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ عبد الْملك أتطمع أَن تجْلِس معي متقلدَاً سَيْفك فَأخذ عَنهُ السَّيْف فَقَالَ لَهُ عبد الْملك يَا أَبَا أُميَّة إِنَّك حِين خلعتني حلفتُ بِيَمِين إِن أَنا رَأَيْتُك بِحَيْثُ أقدر عَلَيْك أَن أجعلك فِي جَامِعَة فَقَالَ بَنو مَرْوَان ثمَّ تطلقه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ نعم وَمَا عَسَيْت أَن(3/246)
أصنع بِأبي أُميَّة فَقَالَ بَنو مَرْوَان أبر قسم أَمِير الْمُؤمنِينَ يَا أَبَا أُميَّة فَقَالَ عَمْرو قد أبر الله قسمك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأخْرج من تَحت فرَاشه جَامِعَة وَأمر غُلَاما فَجَمعه فِيهَا وَسَأَلَهُ أَن يُخرجهُ على رُءُوس النَّاس فَقَالَ أمكراً عِنْد الْمَوْت ثمَّ جذبه جذبة أصَاب فَمه السرير فَكسر ثنيته ثمَّ سَأَلَهُ الْإِبْقَاء فَقَالَ عبد الْملك وَالله لَو علمتُ أَنَّك تبقى إِن أبقيت عَلَيْك وَتصْلح قُرَيْش لأبقيتك وَلَكِن لَا يجْتَمع رجلَانِ مثلنَا فِي بلد فشتمه عَمْرو وَخرج عبد الْملك إِلَى الصَّلَاة وَأمر أَخَاهُ عبد الْعَزِيز بقتْله فَلَمَّا قَامَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ ذكره الرَّحِم فَأمْسك عَنهُ وَجلسَ وَرجع عبد الْملك من الصَّلَاة وغلقت الْأَبْوَاب فَمَا غلظ على عبد العزز ثمَّ تنَاول عمرَاً فذبحه بِيَدِهِ وَقيل أَمر غُلَامه ابْن الزعيزعة فَقتله وفقد النَّاس عمرا مَعَ عبد الْملك حِين خرج إِلَى الصَّلَاة فَأقبل أَخُوهُ يحيى فِي أَصْحَابه عبيده وَكَانُوا ألفا وَمَعَهُ حميد بن حُرَيْث وَزُهَيْر بن الْأَبْرَد فهتفوا باسمه ثمَّ كسروا بَاب الْمَقْصُورَة وضربوا النَّاس بِالسُّيُوفِ وجرحوا الْوَلِيد بن عبد الْملك واقتتلوا سَاعَة ثمَّ خرج عبد الرَّحْمَن بن أم الحكم الثَّقَفِيّ بِالرَّأْسِ فَأَلْقَاهُ إِلَى النَّاس وَألقى إِلَيْهِم عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بدر الْأَمْوَال فانتهبوها وافترقوا ثمَّ خرج عبد الْملك إِلَى النَّاس وَسَأَلَ عَن الْوَلِيد فَأخْبر بجراحته وأتى بيحى بن سعيد وأخيه عَنْبَسَة فحبسهما وَحبس بني عَمْرو بن سعيد ثمَّ أخرجهم جَمِيعًا وألحقهم بمصعب حَتَّى حَضَرُوا عِنْده بعد قتل مُصعب فَأَمنَهُمْ ووصلهم وَكَانَ بَنو عَمْرو أَرْبَعَة أُميَّة وَسَعِيد وَإِسْمَاعِيل وَمُحَمّد وَلما حَضَرُوا عِنْده قَالَ أَنْتُم أهل بَيت ترَوْنَ لكُم على جَمِيع قومكم فضلا لن يَجعله الله لكم وَالَّذِي كَانَ بيني وَبَين أبيكم لم يكن حَدِيثا وَإِنَّمَا كَانَ قَدِيما فِي أنفس أوليائكم على أوليائي فِي الْجَاهِلِيَّة فَقَالَ سعيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تعد علينا أمرَاً كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام قد هدم ذَلِك ووعد جنَّة وحذر نَارا وَأما عَمْرو فَهُوَ ابْن عمك وَقد وصل إِلَى الله وَأَنت أعلم بِمَا صنعت وَإِن أَخَذتَنَا بِهِ فبطن الأَرْض خير لنا من ظهرهَا فَرَق لَهُم عبد الْملك وَقَالَ أبوكم خيرني بَين أَن يقتلني أَو أَقتلهُ فاخترتُ قَتله على قَتْلِي وَأما أَنْتُم فَمَا أَرغبني فِيكُم وأوصلني لقرابتكم وَأحسن جائزتهم(3/247)
وَقيل إِن عمرا إِنَّمَا كَانَ خَلعُهُ وَقَتله حِين سَار عبد الْملك لقِتَال مُصعب طلبه أَن يَجْعَل لَهُ الْعَهْد بعده كَمَا فعل أَبوهُ فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك فَرجع إِلَى دمشق وَقيل كَانَ عبد الْملك اسْتَخْلَفَهُ على دمشق فعصى وَامْتنع بهَا وَكَانَ قَتله سنة تسع وَسِتِّينَ
(مسير عبد الْملك إِلَى الْعرَاق ومقتل مُصعب)
وَلما صفا الشَّام لعبد الْملك اعتزم على الْعرَاق وأتته الْكتب من أَشْرَافهم يَدعُونَهُ فاستمهله أَصْحَابه فَأبى وَسَار نَحْو الْعرَاق وَبلغ مصعبَاً مسيره فَأرْسل إِلَى الْمُهلب بن أبي صفرَة وَهُوَ بِفَارِس فِي قتال الْخَوَارِج يستشيره وَقد كَانَ عزل عمر ابْن عبيد الله بن معمر عَن فَارس وَحرب الْخَوَارِج وَولى الْمُهلب مَكَانَهُ وَذَلِكَ حِين اسْتخْلف هُوَ على الْبَصْرَة وَجَاء خَالِد بن عبيد الله بن خَالِد بن أَسد إِلَى الْبَصْرَة مختفياً دَاعِيَة لعبد الْملك عِنْد مَالك بن مسمع فِي بكر بن وَائِل والأزد وأمده عبد الْملك بعيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثمَّ صَالحهمْ على أَن يخرجُوا خَالِدا فأخرجوه وَجَاء مُصعب وَقد طمع أَن يدْرك خَالِدا فَوَجَدَهُ قد خرج فسخط على ابْن معمر وسَب أَصْحَابه وضربهم وَهدم دُورهمْ وخلعهم وَهدم دَار مَالك بن مسمع واستباحها وعزل ابْن معمر عَن فَارس وَولى الْمُهلب وَخرج إِلَى الْكُوفَة فَلم يزل بهَا حَتَّى سَار للقاء عبد الْملك قلت هَكَذَا ذكره فِي العبر وَرَأَيْت فِي المروج مَا نَصه كَانَ مُصعب حِين صفا لَهُ الْعرَاق بعد قتل الْمُخْتَار وَأَصْحَابه خرج حَتَّى انْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بباجميرا مِمَّا يَلِي الجزيرة يُرِيد الشَّام لِحَرْب عبد الْملك بن مَرْوَان فَبَلغهُ مسير خَالِد بن عبد الله بن خَالِد بن أسيد من مَكَّة إِلَى الْبَصْرَة فِي عدَّة من موَالِيه وَولده نَاكِثًا لبيعة أَخِيه عبد الله بن الزبير وداعية لعبد الْملك فحاربه مُصعب فَكَسرهُ فَخرج هَارِبا ببنيه حَتَّى لحق بِعَبْد الْملك وَهُوَ كَمَا ترى مخالفٌ لقَوْل صَاحب كتاب العبر(3/248)
وَجَاء مُصعب وطمع أَن يدْرك خَالِدا فَوَجَدَهُ قد خرج فسخط على ابْن معمر وسَب أَصْحَابه إِلَى آخِره قَالَ الذَّهَبِيّ يرْوى فِي بعض الْآثَار أَن مصعباً لما سَار عَن الْكُوفَة عشرَة أَيَّام يُرِيد قتال عبد الْملك بن مَرْوَان كتب إِلَى زَوجته سكينَة ابْنة الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ من // (الطَّوِيل) //
(وَكَانَ عَزِيزًا أَن أَبِيت وبَيْنَنَا ... سِفارٌ فَقَدْ أصبحْتُ منكِ على عَشْرِ)
(وأَنْكَاهُمَا للعيْنِ واللَّهِ فاعْلَمِي ... إِذْ ازددتُّ مِثْلَيْهَا فصرْتُ على شَهْرِ)
(وأَبْكي لعَيْنِي مِنْهُمَا اليَوْمَ أنني ... أَخَافُ بألاَّ نَلْتَقِي آخِرَ الدَّهْرِ)
فَلَمَّا جاءها الْخَبَر بِمَوْتِهِ قَالَت من // (الطَّوِيل) //
(فَإِنْ تقتلوه تقتُلُوا الماجِدَ الَّذِي ... يرى الموْتَ إِلَّا بالسيُوفِ حَراما)
(وقبلك مَا خَاضَ الحُسَين منِيَّةً ... إِلَى السيْفِ حَتَّى أوردُوهُ حِمَامَ)
وَكَانَ مَعَه الْأَحْنَف فَتوفي بِالْكُوفَةِ وَلما بعث عَن الْمُهلب يسير مَعَه إِلَى أهل الْبَصْرَة أَن يكون الْمُهلب على قتال الْخَوَارِج فَرده قَالَ لَهُ الْمُهلب إِن أهل الْعرَاق قد كاتبوا عبد الْملك وكاتبهم فَلَا نتعدى ثمَّ بعث مُصعب عَن إِبْرَاهِيم بن الأشتر وَكَانَ على الْموصل والجزيرة فَجعله على مقدمته وَسَار حَتَّى عَسْكَر فِي مسكن وَسَار عبد الْملك وعَلى مقدمته أَخُوهُ مُحَمَّد بن مَرْوَان وخَالِد بن عبد الله ابْن خَالِد بن أسيد فنزلوا قرقيسيا وحصروا زفر بن الْحَارِث الْكلابِي ثمَّ صَالحه وَبعث زفر مَعَه الْهُذيْل ابْنه فِي عَسْكَر وَسَار عَنهُ فَنزل بمسكن قَرِيبا من عَسْكَر مُصعب وفر الْهُذيْل من زفر وَلحق مُصعب وَكتب عبد الْملك إِلَى أهل الْعرَاق وَكَتَبُوا إِلَيْهِ وَكلهمْ يشرط أَصْبَهَان وَآتى ابْن الأشتر بكتابه مختومَاً إِلَى مُصعب فقرأه فَإِذا هُوَ يَدْعُو إِلَى نَفسه وَيجْعَل لَهُ ولَايَة الْعرَاق فَأخْبرهُ مُصعب بِمَا فِيهِ وَقَالَ مثل هَذَا لَا يرغب عَنهُ فَقَالَ إِبْرَاهِيم مَا كنت لأتقلد الْغدر والخيانة وَلَقَد كتب عبد الْملك إِلَى أَصْحَابك كلهم مثل هَذَا فأطعني واقتلهم أَو احبسهم فِي أَبيض كسري فَأبى عَلَيْهِ مُصعب وأضمر أهل الْعرَاق الْغدر بمصعب وعذلهم قيس بن الْهَيْثَم ولامهم فِي طَاعَة أهل الشَّام فأعرضوا عَنهُ وَلما تدانى العسكران بعث عبد الْملك إِلَى مُصعب يَقُول تعال نجْعَل الْأَمر(3/249)
شُورَى فَقَالَ مُصعب لَيْسَ بَيْننَا إِلَّا السَّيْف فَقدم عبد الْملك أَخَاهُ محمدَاً وَقدم مُصعب إِبْرَاهِيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمدَاً عَن موقفه فأمده عبد الْملك بِعَبْد الله بن يزِيد فَاشْتَدَّ الْقِتَال وَقتل من أَصْحَاب مُصعب مُسلم بن عَمْرو الْبَاهِلِيّ وَالِد قُتَيْبَة وأمد مُصعب إِبْرَاهِيم بعتاب بن وَرْقَاء فسَاء ذَلِك إِبْرَاهِيم ونكره وَقَالَ قد أوصيته لَا يمدني بعتاب وَأَمْثَاله وَكَانَ قد بَايع لعبد الْملك فجر الْهَزِيمَة على إِبْرَاهِيم فَقتل وَحمل رَأسه إِلَى عبد الْملك وَتقدم أهل الشَّام فقاتل مُصعب ودعا رُءُوس الْعرَاق إِلَى الْقِتَال فاعتذروا وتثاقلوا فَدَنَا مُحَمَّد ابْن مَرْوَان من مُصعب وناداه بالأمان وَأَشْعرهُ بغدر أهل الْعرَاق فَأَعْرض عَنهُ فَنَادَى ابْنه عِيسَى بن مُصعب فَأذن لَهُ أَبوهُ فِي لِقَائِه وبذل لَهُ الْأمان وَأخْبرهُ أَبَاهُ قَالَ أظنهم يَفُونَ لَك بذلك فَإِن أَحْبَبْت فافعل قَالَ لَا تَتَحَدَّث نسَاء قُرَيْش أَنِّي رغبت بنفسي عَنْك قَالَ فَاذْهَبْ إِلَى عمك بِمَكَّة فَأخْبرهُ بصنع أهل الْعرَاق وَدعنِي فَإِنِّي مقتول فَقَالَ لَا أخبر قُريْشًا عَنْك أبدا وَلَكِن الْحق أَنْت بِالْبَصْرَةِ فَإِنَّهُم على الطَّاعَة أَو بأمير الْمُؤمنِينَ بِمَكَّة فَقَالَ لَا تَتَحَدَّث قُرَيْش عَن أنني فررتُ ثمَّ قَالَ لعيسى تقدم يَا بني أحتسبك فَتقدم فِي نَاس وَقتل وَقتلُوا ولج عَلَيْهِ عبد الْملك فِي قبُول أمانِهِ فَأبى وَدخل سرادقه فتحنط وَرمى السرادق فَخرج فقاتل وَدعَاهُ عبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان إِلَى البرَاز فشتمه وَحمل عَلَيْهِ فَضَربهُ فخرجه وخذل أهل الْعرَاق مصعباً حَتَّى بَقِي فِي سَبْعَة أنفس فأثخنته الْجراحَة فَرجع إِلَيْهِ عبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان فَقتله وَجَاء بِرَأْسِهِ إِلَى عبد الْملك فَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار فَلم يَأْخُذهَا وَقَالَ إِنَّمَا قتلته بثأر أخي وَكَانَ قطع الطَّرِيق فَقتله صَاحب شرطة مُصعب وَقيل إِن الَّذِي قَتله زَائِدَة بن قدامَة الثَّقَفِيّ من أَصْحَاب الْمُخْتَار وَأخذ عبيد الله رَأسه وَأمر عبد الْملك بِهِ وبابنه عِيسَى فدفنا بدير الجاثليق عِنْد نهر دجيل وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَسبعين قَالَ الذَّهَبِيّ لما بذل لمصعب الْأمان وَقد بَقِي ي سَبْعَة نفر أَبى وبارز فعرقبت فرسه وَبَقِي رَاجِلا فَأقبل عبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان وَكَانَ قد أثخن(3/250)
جراحاً فاختلفا ضربتين سبقه مُصعب بالضربة الأولى إِلَى رَأسه لم تُؤثر ضَربته إِلَّا جرحا وضربه ابْن ظبْيَان فَقتله وَأخذ رَأسه إِلَى عبد الْملك فَسجدَ وَقبض عبيد الله بن ظبْيَان على قَائِم سَيْفه واجتذبه حَتَّى آتى على أَكْثَره سَله ليضْرب بِهِ عبد الْملك حَال سُجُوده ثمَّ تذمم واسترجع فَكَانَ يَقُول بعد ذَلِك ذهب الفتك بَين النَّاس إِذْ هَمَمْت فَلم أفعل فَأَكُون قد قتلت عبد الْملك ومصعباً ملكَي الْعَرَب فِي سَاعَة وَاحِدَة وَكَانَ قَتله يَوْم الثُّلَاثَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة وَدفن هُوَ وَابْنه بدير الجاثليق كَمَا تقدم آنِفا وتمثل عبد الْملك عِنْد مَجِيء رَأس مُصعب بقوله من // (الطَّوِيل) //
(نُعَاطِي الملوكَ الحقَّ مَا قَسَطُوا لنا ... ولَيْسَ علينا قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمِ)
وَلما رَجَعَ عبد الْملك إِلَى الْكُوفَة وَدخل قصر الْإِمَارَة وضع الرَّأْس بَين يَدَيْهِ حدث الْمنْقري قَالَ حَدثنِي سُوَيْد بن سعيد قَالَ حَدثنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي مُسلم بن الْحَنَفِيّ كنت مَعَ عبد الْملك بن مَرْوَان حِين جِيءَ إِلَيْهِ بِرَأْس مُصعب بن الزبير فَرَأى عبد الْملك فِي اضطرابَاً فَسَأَلَنِي فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ دخلت هَذَا الْقصر يَعْنِي قصر الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ فَرَأَيْت رَأس الْحُسَيْن بَين يَديْ عبيد الله بن زِيَاد فِي هَذَا الْموضع ثمَّ دَخلته فرأيتُ رأسَ ابْن زِيَاد بَين يَدي الْمُخْتَار بن أَي عُبَيْدِ الثَّقَفِيّ ثمَّ دَخَلْتُهُ فَرَأَيْت رأسَ الْمُخْتَار بَين يَدي مُصعب بن الزبير وَهَذَا مصعبْ بَين يَديك فَوَثَبَ عبد الْملك متطيراً وَقَالَ لَا أَرَاك الله الْخَامِس وَأمر بهدم الْقصر حجرا حجرَاً ثمَّ دَعَا عبد الْملك جند الْعرَاق إِلَى الْبيعَة فَبَايعُوهُ وَسَار إِلَى الْكُوفَة فَأَقَامَ بالنخيلة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وخطب النَّاس فوعده المحسن وتوعده الْمُسِيء وَطلب يحيى ابْن سعيد بن جَعْفَر وَكَانُوا أَخْوَاله فأحضروه وأمنه ثمَّ ولى أَخَاهُ بشر بن مَرْوَان على الْكُوفَة وَمُحَمّد بن نمير على همذان وَيزِيد بن وَرْقَاء بن رُوَيْم على الرّيّ وَلم يَفِ لَهُم بأصفهان كَمَا اشترطوا عَلَيْهِ وَكَانَ عبد الله بن يزِيد بن أَسد وَالِد خَالِد العشري وَيحيى بن مُصدق الْهَمدَانِي قد لحجأ إِلَى عَليّ بن عبيد الله بن عَبَّاس ولجأ هُذَيْل بن زفر بن الْحَارِث وَعَمْرو بن يزِيد الْحكمِي إِلَى خَالِد بن يزِيد فَأَمنَهُمْ عبد الْملك وصنع عَمْرو بن حُرَيْث(3/251)
لعبد الْملك طَعَاما فَأحْضرهُ بالخورنق وَأذن للنَّاس عَامَّة فَدَخَلُوا وَجَاء عمر بن حُرَيْث فأجلسه مَعَه على سَرِيره وَطعم النَّاس ثمَّ طَاف مَعَ عَمْرو بن حُرَيْث على الْقصر يسْأَله عَن مساكنه ومعالمه وَلما بلغ عبد الله بن خازم مسير مُصعب لقِتَال عبد الْملك قَالَ أمعه عمر بن معمر قيل لَا هُوَ على فَارس قَالَ فالمهلب وَقيل فِي قتال الْخَوَارِج قَالَ فَعبَّاد بن الْحصين قيل على الْبَصْرَة قَالَ وَأَنا بخرسان من // (الطَّوِيل) //
(خُذِينِي فَأَجْرِينِي حِصَار وَأَبْشِرِي ... بِلَحْمِ امرئٍ لم يَشْهَدِ اليَوْمَ نَاصِرهْ)
ثمَّ بعث عبد الْملك بِرَأْس مُصعب إِلَى الْكُوفَة ثمَّ إِلَى الشَّام فنصب بِدِمَشْق وَأَرَادُوا التطواف بِهِ فمنعت من ذَلِك زَوْجَة عبد الْملك عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة فغسلته ودفنته وانْتهى قتل مُصعب إِلَى الْمُهلب وَهُوَ يحارب الْأزَارِقَة فَبَايع النَّاس لعبد الْملك بن مَرْوَان وَلما جِيءَ بِخَبَر مُصعب لعبد الله بن الزبير خطب النَّاس فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي لَهُ الْخلق وَالْأَمر يُؤْتِي الْملك من يَشَاء وَينْزع الْملك مِمَّن يَشَاء ويعز من يَشَاء ويذل من يَشَاء أَلا وَإنَّهُ لم يذل الله من كَانَ الْحق مَعَه وَإِن كَانَ النَّاس عَلَيْهِ وَقد أَتَانَا من الْعرَاق خبر أحزننا فَإِن لفراق الْحَمِيم لوعة يجدهَا حميمه عِنْد الْمُصِيبَة ثمَّ عبد من عباد الله وَعون من أعواني أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الْغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقلٌ الثّمن فَإِن يقتل ثمَّة فوَاللَّه مَا نموت على مضاجعنا كَمَا يَمُوت بَنو أبي الْعَاصِ فوَاللَّه مَا قتل رجل مِنْهُم فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام وَلَا نموت إِلَّا قعصاً بِالرِّمَاحِ وَتَحْت ظلال السيوف أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِية من الْملك الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُول سُلْطَانه وَلَا يبيد فَإِن تقبل فَلَا آخذها أَخذ الأشر البطر وَإِن تدبر لم أبك عَلَيْهَا بكاء الضَّرع المهين أَقُولُ قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم وَلما بلغ خبر مُصعب الْبَصْرَة تنَازع فِي ولايتها حمْرَان بن أبان وَعبد الله بن أبي بكر واستعان حمْرَان بِعَبْد الله بن الْأَهْتَم فغلب عَلَيْهَا وَكَانَت لَهُ منزلَة عِنْد بني أُميَّة فَلَمَّا تمهد الْأَمر بالعراق لعبد الْملك بن مُصعب ولي على الْبَصْرَة خَالِد بن(3/252)
عبد الله بن أسيد فاستخلف عَلَيْهِ عبد الله بن أبي بكر فَقدم على حمْرَان وعزله حَتَّى جَاءَهُ خَالِد ثمَّ عزل خالدَاً سنة ثَلَاث وَسبعين وَولى مَكَانَهُ على الْبَصْرَة أَخَاهُ بشرا وَجمع لَهُ المصرين وَسَار بشر إِلَى الْبَصْرَة واستخلف على الْكُوفَة عَمْرو بن حُرَيْث وَولى عبد الْملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مُصعب أَخَاهُ مُحَمَّد بن مَرْوَان سنة ثَلَاث وستيِن فغزا الرّوم ومزقهم بعد أَن كَانَ هادن ملك الرّوم أَيَّام الْفِتْنَة على ألف دِينَار يَدْفَعهَا إِلَيْهِ كل يَوْم
(أَمر زفر بن الْحَارِث بقرقيسيا)
قد ذكرنَا فِي وقْعَة راهط مسير زفر إِلَى قرقيسيا واجتماع قيس عَلَيْهِ وَأقَام بهَا يَدْعُو لِابْنِ الزبير وَلما ولي عبد الْملك كتب إِلَى أبان بن عقبَة بن أبي معيط وَهُوَ على حمص يالمسير لى زفر فَسَار وعَلى مقدمته عبد الله بن رميث الطَّائِي فعاجله عبد الله بِالْحَرْبِ وَقتل من أَصْحَابه نَحْو ثَلَاثمِائَة ثمَّ أقبل أبان فواقع زفر وَقتل ابْنه وَكِيع بن زفر وأوهنه ثمَّ سَار إِلَيْهِ عبد الْملك إِلَى قرقيسيا قبل مسيره إِلَى مُصعب فحصره وَنصب عَلَيْهِ المجانيق وَقَالَت كلب لعبد الْملك لَا تخلط مَعنا القيسية فنهم يتهزمون إِذا الْتَقَيْنَا مَعَ زفر فَفعل وَاشْتَدَّ حصارهم وَكَانَ زفر يقاتلهم فِي كل غَدَاة وَأمره ابْن الْهُذيْل أَن يحمل حَتَّى يضْرب فسطاط عبد الْملك فَفعل وَقطع بعض أطنابه ثمَّ بعث عبد الْملك أَخَاهُ مُحَمَّدًا بالأمان لزفَر وَابْنه الْهُذيْل على أَنفسهمَا ومَن مَعَهُمَا وَأَن لَهُم مَا أَحبُّوا فَأجَاب الْهُذيْل وداخل أَبَاهُ فِي ذَلِك وَقَالَ عبد الْملك لنا خير من ابْن الزبير فَأجَاب على أَن لَهُ الْخِيَار وَأَن ينزل حَيْثُ شَاءَ وَلَا يعين على ابْن الزبير وبينما الرُّسُل تخْتَلف بَينهم إِذْ قيل لعبد الْملك قد هدم من الْمَدِينَة أَرْبَعَة أبرجة فَترك الصُّلْح وزحف إِلَيْهِم فكشفوا أَصْحَابه إِلَى عَسْكَرهمْ وَرجع إِلَى الصُّلْح وَاسْتقر بَينهم على الْأمان وَوضع الْأَمْوَال أَلا يُبَايع لعبد الْملك حَتَّى يَمُوت(3/253)
ابْن الزبير لِلْبيعَةِ الَّتِي لَهُ فِي عُنُقه وَأَن يدْفع إِلَيْهِ مَال نَفسه فِي أَصْحَابه وَتَأَخر زفر عَن لِقَاء عبد الْملك خوفَاً من فعلته بِعَمْرو بن سعيد فَأرْسل إِلَيْهِ بقضيب النَّبِي
فجَاء إِلَيْهِ وَأَجْلسهُ عبد الْملك مَعَه على سَرِيره وَزوج ابْنه مسلمة الربَاب بنت زفر وَسَار عبد الْملك إِلَى قتال مُصعب فَبعث زفر بن الْهُذيْل مَعَه فِي عَسْكَر فَلَمَّا قَارب مصعباً هرب إِلَيْهِ وَقَاتل مَعَ ابْن الأشتر حَتَّى إِذا قتلوا اختفى الهذْيل فِي الْكُوفَة حَتَّى آمنهُ عبد الْملك كَمَا مر
(مقتل عبد الله بن الزبير)
كَانَ عبد الْملك لما بُويِعَ بِالشَّام بعث إِلَى الْمَدِينَة عُرْوَة بن أنيف فِي سِتَّة آلَاف من أهل الشَّام وَأمره أَن يعسكر بالعرصة وَلَا يدْخل الْمَدِينَة وعامل ابْن الزبير يَوْمئِذٍ على الْمَدِينَة الْحَارِث بن حَاطِب بن الْحَارِث بن معمر الجُمَحِي فهرب الْحَارِث وَأقَام ابْن أنيف شهرَاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ وَيرجع إِلَى مُعَسْكَره ثمَّ رَجَعَ ابْن أنيف إِلَى الشَّام فَرجع الْحَارِث إِلَى الْمَدِينَة وَبعث ابْن الزبير سُلَيْمَان ابْن خَالِد الدَّوْرَقِي على خَيْبَر وفدك وَبعث عبد الْملك إِلَى الْحجاز عبد الْملك بن الْحَارِث بن الحكم فِي أَرْبَعَة آلَاف فَنزل وَادي الْقرى وَبعث سَرِيَّة إِلَى سُلَيْمَان بِخَيْبَر وهرب فأدركوه فَقَتَلُوهُ وَمن مَعَه وَأَقَامُوا بِخَيْبَر وَعَلَيْهِم أَبُو القمقام ونكر عبد الْملك ذَلِك واغتم لَهُ وَقَالَ قتلوا رجلا صَالحا بِغَيْر ذَنْب ثمَّ عزل ابْن الزبير الْحَارِث بن حَاطِب عَن الْمَدِينَة وَولى مَكَانَهُ جَابر بن الْأسود بن عَوْف الزُّهْرِيّ فَبعث جَابر إِلَى خَيْبَر أَبَا بكر بن أبي قيس ي سِتّمائَة فَانْهَزَمَ ابْن المقمقام وَأَصْحَابه أمامهم وَقتلُوا صبرا ثمَّ بعث عبد الْملك طَارق بن عَمْرو مولى عُثْمَان وَأمره أَن ينزل بَين أَيْلَة ووادي الْقرى وَيمْنَع عُمَّال ابْن الزبير من الانتشار ويسد خللا إِن ظهر لَهُ بالحجاز فَبعث طَارق خيلا إِلَى أبي بكر بِخَيْبَر واقتتلوا فأصيب أَبُو بكر فِي مِائَتَيْنِ من أَصْحَابه وَكتب ابْن الزبير إِلَى القباع وَهُوَ عَامله على الْبَصْرَة يستمده ألفَي فَارس إِلَى(3/254)
الْمَدِينَة فبعثهم القباع وَأمر ابْن الزبير جَابر بن الْأسود أَن يسيرهم إِلَى قتال طَارق فَفعل ولقيهم طَارق فَهَزَمَهُمْ وَقتل مقدمهم وَقتل من أَصْحَابه خلقَاً وأجهز على جريحهم وَلم يستبق أسيرهم وَرجع لى وَادي الْقرى ثمَّ عزل ابْن الزبير جَابِرا عَن الْمَدِينَة وَاسْتعْمل طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف وَهُوَ طَلْحَة الندي وَذَلِكَ سنة سبعين فَلم يزل على الْمَدِينَة حَتَّى أخرجه طَارق وَلما قتل عبد الْملك مصعبَاً وَدخل الْكُوفَة بعث مِنْهَا الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ فِي ثَلَاثَة آلَاف من أهل الشَّام لقِتَال ابْن الزبير وَكتب مَعَه الْأمان لِابْنِ الزبير وَمن مَعَه إِن أطاعوا فَسَار فِي جُمَادَى سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين فَلم يعرض للمدينة وَنزل الطَّائِف وَكَانَ يبْعَث الْخَيل إِلَى عَرَفَة وتلقاهم هُنَاكَ خيل ابْن الزبير فينهزمون دَائِما وَترجع خيل الْحجَّاج بالظفر ثمَّ كتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك يُخبرهُ بِضعْف ابْن الزبير وتفرُق أَصْحَابه ويستأذنه فِي دُخُوله الْحرم لحصار ابْن الزبير ويستمده فَكتب عبد الْملك إِلَى طَارق باللحاق بالحجاج فَقدم الْمَدِينَة فِي ذِي الْقعدَة سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَأخرج عَنْهَا طَلْحَة الندى عَامل ابْن الزبير وَولى مَكَانَهُ رجلا من أهل الشَّام وَسَار إِلَى الْحجَّاج بِمَكَّة فِي خَمْسَة آلَاف وَلما قدم الْحجَّاج مَكَّة أحرَم بِحجَّة وَنزل بِئْر مَيْمُون وَحج بِالنَّاسِ وَلم يطف وَلَا سعى وَحصر ابْن الزبير عَن عَرَفَة فَنحر بدنه بِمَكَّة وَلم يمْنَع الْحجَّاج من الطّواف وَالسَّعْي ثمَّ نصب الْحجَّاج المنجنيق على أبي قبيس وَرمى بِهِ الْكَعْبَة وَكَانَ ابْن عمر قد حج تِلْكَ السّنة فَبعث بالحجاج بالكف عَن المنجنيق لأجل الطائفين فَفعل ونادى مُنَادِي الْحجَّاج عقيب الْإِفَاضَة انصرفوا إِلَى بِلَادكُمْ فَإنَّا نعود بِالْحِجَارَةِ على ابْن الزبير وَرمى المنجنيق على الْكَعْبَة وألحتِ الصَّوَاعِق عَلَيْهِم فِي يَوْمَيْنِ وَقتلت من أهل الشَّام رجَالًا فذرعوا فَقَالَ لَهُم الْحجَّاج لَا تنكوا فَهَذِهِ صواعق تهَامَة وَإِن الْفَتْح قد حضر فأبشروا ثمَّ أَصَابَت الصَّوَاعِق من أَصْحَاب ابْن الزبير فسرى عَن أهل الشَّام وَكَانَت الْحِجَارَة تقع بَين يَدي ابْن الزبير وَهُوَ يُصَلِّي فَلَا ينْصَرف وَلم يزل الْقِتَال بَينهم وغلت الأسعار وَأصَاب النَّاس مجاعَة شَدِيدَة حَتَّى ذبح ابْن الزبير فرسه وَقسم لَحْمه فِي أَصْحَابه وبيعت الدَّجَاجَة بِعشْرَة دَرَاهِم والمُد من الذّرة بِعشْرين وبيوت ابْن الزبير مَمْلُوءَة قمحَاً وشعيراً وذرة وَتَمْرًا وَلَا ينْفق مِنْهُ إِلَّا مَا(3/255)
يمسك الرمق يُقَوي بِهِ نفوس أَصْحَابه ثمَّ أجهدهم الْحصار وَبعث الْحجَّاج إِلَى أَصْحَاب ابْن الزبير بالأمان فَخرج إِلَيْهِ مِنْهُم نَحْو عشرَة آلَاف وافترق النَّاس عَنهُ وَكَانَ مِمَّن فَارقه ابناه حَمْزَة وخبيب وَأقَام ابْنه الزبير حَتَّى قتل مَعَه وحرض الْحجَّاج النَّاس وَقَالَ قد ترَوْنَ قلَّة أَصْحَاب ابْن الزبير وَمَا هم فِيهِ من الْجهد والضيق فتقدموا وملئوا مَا بَين الْحجُون إِلَى الْأَبْوَاب فَدخل ابْن الزبير على أمه أَسمَاء وَقَالَ يَا أمه قد خذلني النَّاس حَتَّى وَلَدي وَالْقَوْم يعطونني مَا أردتُ من الدُّنْيَا فَمَا رَأْيك فَقَالَت لَهُ أَنْت أعلم بِنَفْسِك إِن كنت على حق وَتَدْعُو إِلَيْهِ فَامْضِ لَهُ فقد قتل عَلَيْهِ أَصْحَابك وَلَا تمكِّن من رقبتك تلعب بهَا غلْمَان بني أُميَّة وَإِن كنت إِنَّمَا أردْت الدُّنْيَا فبئس العَبْد أنتَ أهلكْتَ نَفسك وَمن قتل مَعَك وَإِن قلت كنت على حق فَلَمَّا وَهن أَصْحَابِي ضعفتُ فَلَيْسَ هَذَا بِفعل الْأَحْرَار وَلَا أهل الدّين فَقَالَ يَا أمه أَخَاف أَن يمثلوا بِي ويصلبوني فَقَالَت يَا بني الشَّاة لَا تألم بالسلخ فَامْضِ على بصيرتك واستعز بِاللَّه فَقبل رَأسهَا وَقَالَ هَذَا رَأْيِي الَّذِي خرجتُ بِهِ دَاعيا إِلَى يومي هَذَا وَمَا ركنت إِلَى الدُّنْيَا وَمَا أخرجني إِلَّا الْغَضَب لله وَأَن تستحلَّ حرماته لَكِن أَحْبَبْت أَن أعلم رَأْيك قد زدتني بَصِيرَة وَإِنِّي يَا أمه فِي يومي هَذَا مقتول فَلَا يشْتَد حزنك وسلمي الْأَمر لله فَإِن ابْنك لم يتَعَمَّد إتْيَان مُنكر وَلَا عملا بِفَاحِشَة وَلم يخن وَلم يغدر وَلم يظلم وَلم يقر على الظُّلم وَلم يكن عِنْدِي آثر من رضَا الله تَعَالَى اللَّهُمَّ لَا أَقُول هَذَا تَزْكِيَة لنَفْسي لَكِن تَعْزِيَة لأمي حَتَّى تسلو عني فَقَالَت إِنِّي لأرجو أَن يكون عزائي فِيك جميلا إِن تقدمتنِي أحتسبك وَإِن ظفرتَ سررت بظفرك ثمَّ قَالَت اخْرُج حَتَّى أنظر إلامَ يصير أَمرك فَقَالَ جَزَاك الله خيرا فالا تَدعِي الدُّعَاء فدعَتْ لَهُ فودعها وودعته وَلما عانقته للوداع وَقعت يَدهَا على الدرْع فَقَالَت مَا هَذَا صنيعُ مَنْ يُرِيد مَا تُرِيدُ قَالَ مَا لبسته إِلَّا لأشد مِنْك فَقَالَت إِنَّه لَا يشد مني فنزعها وَقَالَت لَهُ البس ثِيَابك مشمرة ثمَّ خرج فَحمل على أهل الشَّام حَملَة مُنكرَة فَقتل مِنْهُم ثمَّ انْكَشَفَ هُوَ وَأَصْحَابه وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعضهم بالفرار فَقَالَ بئس الشَّيْخ أَنا فِي الْإِسْلَام إِن أوقعت(3/256)
قومَاً قتلوا ثمَّ فَرَرْت على مثل مصَارِعهمْ وامتلأت أَبْوَاب الْمَسْجِد بِأَهْل الشَّام وَالْحجاج وطارق بِنَاحِيَة الأبطح إِلَى الْمَرْوَة وَابْن الزبير يحمل على هَؤُلَاءِ وينادي أَبَا صَفْوَان لعبد الله بن صَفْوَان ابْن أُميَّة بن خلف فَيُجِيبهُ من جَانب المعرك وَلما رأى الْحجَّاج إحجامَ الناسِ عَن ابْن الزبير غضب وترجل وصمد إِلَى صَاحب الرَّايَة بَين يَدَيْهِ فَتقدم ابْن الزبير إِلَيْهِم عَنهُ وكشفه وَرجع فصلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْمقَام وحملوا على صَاحب الرَّايَة فَقَتَلُوهُ عِنْد بَاب بني شيبَة وَأخذُوا الرَّايَة ثمَّ قَاتلهم وَابْن مُطِيع مَعَه حَتَّى قتل وَيُقَال أَصَابَته جِرَاحَة فَمَاتَ مِنْهَا بعد أَيَّام وَيُقَال إِنَّه قَالَ لأَصْحَابه يَوْم قتل يَا آَل الزبير لَو طبتم لي نفسا عَن أَنفسكُم كُنَّا أهل الْبَيْت فِي الْعَرَب اصطلمنا فِي الله فَلَا يرعكم وَقع السيوف فَإِن ألم الدَّوَاء فِي الْجراح أَشد من وقعها صونوا سُيُوفكُمْ عَمَّا تصونون وُجُوهكُم وغضوا أبصاركم عَن البارقة وليشغل كل امْرِئ قرنه وَلَا تسألوا عني وَمن كَانَ عني سَائِلًا فَإِنِّي فِي الرعيل الأول ثمَّ حمل حَتَّى بلغ الحَجُون فأصابته جِرَاحَة فِي وَجهه فأرعش لَهَا ودمى وَجهه ثمَّ قَاتل قتالا شديدَاً وَقتل فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَحمل رَأسه إِلَى الْحجَّاج فَسجدَ وكبَّر أهل الشَّام وَسَار الْحجَّاج وطارق حَتَّى وَقفا عَلَيْهِ وَبعث الْحجَّاج بِرَأْسِهِ وَرَأس عبد الله بن صَفْوَان وَرَأس عمَارَة بن عَمْرو بن حزم إِلَى عبد الْملك وصلب جثته منكسة على ثنية الْحجُون اليمني وَبعثت إِلَيْهِ أَسمَاء فِي دَفنه فَأبى وَكتب إِلَيْهِ عبد المملك يلومه على ذَلِك فخلى بَينهَا وَبَينه وَلما قتل عبد الله ركب أَخُوهُ عُرْوَة وَسبق رسل الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك فَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلسهُ على سَرِيره وَجرى ذكر عبد الله فَقَالَ عُرْوَة إِنَّه كَانَ فَقَالَ عبد الْملك وَمَا فعل قَالَ قتل فَخر سَاجِدا ثمَّ أخبرهُ عُرْوَة أَن الْحجَّاج صلبه واستوهَبَ جثته لأمه فَقَالَ نعم وَكتب إِلَى الْحجَّاج يُنكر عَلَيْهِ صلبه فَبعث بجثته إِلَى أمه وَصلى عَلَيْهِ عُرْوَة وَدَفنه وَمَاتَتْ أمه بعده بِخَمْسَة أَيَّام وَلما فرغ الْحجَّاج من ابْن الزبير دخل إِلَى مَكَّة فَبَايعهُ أَهلهَا لعبد الْملك أَمر(3/257)
بكنس الْمَسْجِد من الْحِجَارَة وَالدَّم وَسَار إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَت فِي عمله فَأَقَامَ بهَا شَهْرَيْن وَأرْسل إِلَى الْحسن بن الْحسن فَقَالَ هَات سيف رَسُول الله
وَدِرْعه فَقَالَ لَا أفعل قَالَ فجَاء الْحجَّاج بِالسَّوْطِ والعصا وَالسيف وَقَالَ وَالله لأضربنك بهَا حَتَّى تبرد أَو فأتني بهما فَقَالَ النَّاس يَا أَبَا مُحَمَّد لَا تتعرض لهَذَا الْجَبَّار فجَاء الْحسن بِسيف رَسُول الله
وَدِرْعه فوضعهما بَين يَدَيْهِ فَأرْسل الْحجَّاج إِلَى رجل من آل أبي رَافع فَقَالَ لَهُ هَل تعرف سيف رَسُول الله
قَالَ نعم فخلطه بأسياف ثمَّ قَالَ لَهُ أخرجه فَأخْرجهُ ثمَّ جَاءَ بالدرع فَنظر إِلَيْهَا فَقَالَ هُنَاكَ عَلامَة كَانَت على الْفضل ابْن عَبَّاس يَوْم اليرموك فطعن بِحَرْبَة فخرقت الدرْع فرفعوها فوجدوا الدرْع كَمَا قَالَ فَقَالَ الْحجَّاج لِلْحسنِ أَنا وَالله لَو لم تجئني بِهِ وَجئْت بِغَيْرِهِ لضَرَبْت بِهِ رَأسك وأساء إِلَى أَهلهَا وَقَالَ أَنْتُم قتلة عُثْمَان وَختم أَيدي جمَاعَة من الصَّحَابَة بالرصاص اسْتِخْفَافًا بهم كَمَا يفعل بِأَهْل الذِّمَّة مِنْهُم جَابر بن عبد الله وَأنس بن مَالك وَسَهل بن سعد ونقلت عَنهُ فِي ذمّ الْمَدِينَة أَقْوَال قبيحة أمره فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى وَقيل إِن ولَايَة الْحجَّاج وَمَا فعل فِيهَا كَانَت سنة أَربع وَسبعين وَإِن عبد الْملك عزل عَنْهَا طَارِقًا وَاسْتَعْملهُ ثمَّ هدم الْحجَّاج بِنَاء الْكَعْبَة الَّذِي بناه ابْن الزبير وَأخرج الْحجر مِنْهُ وَأَعَادَهُ إِلَى الْبناء الَّذِي أقره عَلَيْهِ النَّبِي
وَهُوَ بِنَاء قِرْش وَلم يصدق ابْن الزبير فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن عَائِشَة فَلَمَّا صَحَّ ذَلِك عِنْد عبد الْملك قَالَ وددت أَنِّي تركته وَمَا عمل
(ولَايَة الْمُهلب حَرْب الْأزَارِقَة)
وَلما عزل عبد الْملك خَالِد بن عبد الله عَن الْبَصْرَة وَاسْتعْمل مَكَانَهُ أَخَاهُ بشر بن مَرْوَان وَجمع لَهُ المصرين أمره أَن يبْعَث الْمُهلب إِلَى حَرْب الْأزَارِقَة فِيمَن ينتخبه من أهل الْبَصْرَة ويتركه ورأيه فِي الْحَرْب وَأَن يبْعَث من أهل الْكُوفَة رجلا شريفاً(3/258)
مَعْرُوفا بالبأس والنجدة والتجربة فِي جَيش كثيف إِلَى الْمُهلب فيتتبعوا الْخَوَارِج حَتَّى يهلكوهم فَأرْسل الْمُهلب جديع بن سعيد بن قبيصَة ينتخب النَّاس من الدِّيوَان وشق على بشر أَن إمرة الْمُهلب جَاءَت من عبد الْملك فقصر بِهِ ودعا عبد الرَّحْمَن بن مخنف فَأعلمهُ بِمَنْزِلَتِهِ عِنْده وَقَالَ إِنِّي أوليك جَيش الْكُوفَة لِحَرْب الْأزَارِقَة وكُن عِنْد حسن ظَنِّي بك ثمَّ أَخذ يغريه بالمهلَب وَألا يقبل رَأْيه وَلَا مشورته فأظهر لَهُ الْوِفَاق وَسَار إِلَى الْمُهلب فنزلوا رام هُرْمُز وَلَقي بهَا الْخَوَارِج فَخَنْدَق عَلَيْهِ على ميل من الْمُهلب حَيْثُ يتَرَاءَى العسكران ثمَّ أَتَاهُم نعي بشر بن مَرْوَان لعشر لَيَال من مقدمهم وَأَنه اسْتخْلف على الْبَصْرَة خَالِد بن عبيد الله ابْن خَالِد وافترق نَاس من أهل المصرين إِلَى بلدهم ونزلوا أهواز وَكتب إِلَيْهِم خَالِد بن عبيد الله يتهددهم ويحذرهم عُقُوبَة عبد الْملك إِن لم يرجِعوا إِلَى الْمُهلب فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ ومضوا إِلَى الْكُوفَة وَاسْتَأْذَنُوا عَمْرو بن حُرَيْث فِي الدُّخُول فَلم يَأْذَن لَهُم دخلُوا وأضربوا عَن إِذْنه
(ولَايَة الْحجَّاج على الْعرَاق)
وَقيل فِي سَبَب ولَايَته إِنَّه وَفد على عبد الْملك وَمَعَهُ إِبْرَاهِيم بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ وَكَانَ من رجال قُرَيْش علما وَعَملا وزاهدا ودينَاً وَكَانَ الْحجَّاج مسخراً لَهُ لَا يتْرك من إجلاله شَيْئا فَلَمَّا قدما على عبد الْملك أذن للحجاج بِالدُّخُولِ فَلَمَّا دخل سلم وَلم يبْدَأ بِشَيْء إِلَّا أَن قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قدمت عَلَيْك بِرَجُل من أهل الْحجاز لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي كَمَال الْمُرُوءَة والديانة وَحسن الْمَذْهَب وَالطَّاعَة مَعَ الْقَرَابَة وَوُجُوب الْحق فَقَالَ عبد الْملك وَمن هُوَ قَالَ إِبْرَاهِيم ابْن طَلْحَة التَّيْمِيّ فَلْيفْعَل أَمِير الْمُؤمنِينَ بِهِ مَا يفعل بأمثاله فَقَالَ عبد الْملك أذكرتنا حَقًا واجبَاً ورحمَاً قريبَة ثمَّ أذن لَهُ فَلَمَّا دخل قربه وَأَدْنَاهُ وَقَالَ لَهُ إِن أَبَا مُحَمَّد ذكرنَا(3/259)
مَا لم نَزَل نعرفك بِهِ من الْفضل وَحسن الْمَذْهَب فَلَا تدعن حَاجَة إِلَّا ذكرتها فَقَالَ إِبْرَاهِيم إِن أولى الْأُمُور أَن تفتتح بِهِ الْحَوَائِج مَا كَانَ فِيهِ لله رضَا وَلحق رَسُوله أَدَاء ولجماعة الْمُسلمين نصيحة قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ لَا يُمكن القَوْل إِلَّا وَأَنا خالٍ فأخلني قَالَ أَو دون أبي مُحَمَّد قَالَ نعم فَأَشَارَ عبد الْملك إِلَى الْحجَّاج فَخرج فَقَالَ إِبْرَاهِيم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك عهِدت إِلَى الْحجَّاج مَعَ تغطرسه وتعجرفه وَبعده عَن الْحق وركونه إِلَى الْبَاطِل فوليته الْحَرَمَيْنِ وَبِهِمَا من أَوْلَاد الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من قد علمت يسومهم الْخَسْف ويقودهم بالعنف ويطؤهم بطغام أهل الشَّام ورعاع لَا روية لَهُم فِي إِقَامَة حق وَلَا فِي إِزَالَة بَاطِل ثمَّ تظن أَن ذَلِك ينجك من عَذَاب الله فَكيف بك إِذا جاثاك مُحَمَّد
لللخصومة ة بَين يَدي الله تَعَالَى وَأما وَالله إِنَّك لن تنجو هُنَالك إِلَّا بِحجَّة تضمنُ لَك النجَاة فَاتق لنَفسك أَو دع وَكَانَ عبد الْملك متكئَاً فَاسْتَوَى وَقَالَ كذبتَ ومِنتَ فِيمَا جئتَ بِهِ وَلَقَد ظَن بك الحجاجُ ظنا لم يجده فِيك فَأَنت المائن الْحَاسِد قَالَ فَقَامَ إِبْرَاهِيم وَهُوَ لَا يبصر شَيْئا فَلَمَّا جَاوز السّتْر لحقه لَاحق وَقَالَ للحاجب امْنَعْ هَذَا من الْخُرُوج وائذن للحجاج فَدخل فَلبث مَلِيًّا قَالَ إِبْرَاهِيم وَلَا أَشك أَنَّهُمَا فِي أَمْرِي ثمَّ خرج الْإِذْن لي فَدخلت فَلَمَّا كشف السّتْر إِذْ أَنا بالحجاج خَارج فاعتنقني وَقبل بَين عَيْني وَقَالَ إِذا جزى الله المتواخيين لفضل تواصلهما فجزاك الله عني أفضل الْجَزَاء وَالله لَئِن بقيت لأرفعن ناظريك ولأتبعن الرِّجَال غُبَار قَدَمَيْك قَالَ قَالَ إِبْرَاهِيم فَقلت فِي نَفسِي إِنَّه ليسخر مني فَلَمَّا وصلت إِلَى عبد الْملك أدنى مجلسي كَمَا فعل أولاَ ثمَّ قَالَ يَا بن طَلْحَة هَل أعلمت الْحجَّاج بِمَا جرى أَو شاركَكَ أحد فِي نصيحتك قلت لَا وَالله لَا أعلم أحدا أظهر يَداً من الْحجَّاج وَلَو كنت محابياً أحدَاً بديني لَكَانَ هُوَ وَلَكِنِّي آثرت الله وَرَسُوله وَالْمُسْلِمين فَقَالَ عبد الْملك قد علمت صدق مَقَالَتك وَلَو آثرتَ الدُّنْيَا لَكَانَ لَك فِي الْحجَّاج أَمَلٌ وَقد عزلتُهُ عَن الْحَرَمَيْنِ لما كرهتَ من ولَايَته عَلَيْهِمَا وأخبرته أَنَّك أَنْت الَّذِي استنزلتني لَهُ عَنْهُمَا استصغاراً للولاية ووليته الْعرَاق لما هُنَالك من الْأُمُور الَّتِي لَا يدحضها إِلَّا مثله وَإِنَّمَا قلت ذَلِك ليؤدي مَا يلْزمه من ذِمَامك(3/260)
فَاخْرُج مَعَه فَإنَّك غير ذام صحبته مَعَ يدك عِنْده قَالَ إِبْرَاهِيم فَخرجت مَعَ الْحجَّاج فأكرمني أَضْعَاف إكرامه الأول وَاسْتدلَّ النَّاس بذلك على مَكَارِم عبد الْملك وأخلاقه واعترافه بِالْحَقِّ وتيقظه فِي الْأُمُور ودهائه ثمَّ ولى عبد الْملك الْحجَّاج بن يُوسُف على الْكُوفَة وَالْبَصْرَة سنة خمس وَسبعين وَأرْسل إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ يَأْمُرهُ بالمسيرة إِلَى الْعرَاق فَسَار على النجب فِي اثْنَي عشر رَاكِبًا حَتَّى قدم الْكُوفَة فِي شهر رَمَضَان وَقد كَانَ بشر بعث الْمُهلب إِلَى الْخَوَارِج فَدخل الْمَسْجِد وَصعد الْمِنْبَر وَقَالَ عَليّ بِالنَّاسِ وظنوه من بعض الْخَوَارِج فَهموا بِهِ حَتَّى تنَاول عُمَيْر بن ضابئ البرجمي الْحَصْبَاء وَأَرَادَ أَن يحصبه فَلَمَّا تكلم جعلت الْحَصْبَاء تسْقط من يَده وَهُوَ لَا يشْعر بهَا ثمَّ حضر النَّاس وخطب خطْبَة عَظِيمَة أحسنُ من أوردهَا الْمبرد فِي الْكَامِل تهدد فِيهَا أهل الْكُوفَة وتوعدهم على التَّخَلُّف عَن الْمُهلب ثمَّ نزل قلت هَذَا مَا أوردهُ الْمبرد فِي كَامِله فَقَالَ وَفِي سنة خمس وَسبعين حج بِالنَّاسِ عبد الْملك بن مَرْوَان وخطب على مِنْبَر رَسُول الله
وسير على إمرة الْعرَاق الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ فَسَار من الْمَدِينَة إِلَى الْكُوفَة فِي اثْنَي عشر رَاكِبًا بعد أَن وهب البشير بهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار قَالَ الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنِي عبيد الله بن يزِيد بن أبي مُسلم الثَّقَفِيّ عَن أَبِيه قَالَ كَانَ الْحجَّاج عَاملا لعبد الْملك على مَكَّة فَكتب إِلَيْهِ بِولَايَة الْعرَاق قَالَ فَخرجت مَعَه فِي نفر قليلين على النجائب فَلَمَّا كُنَّا بِمَاء قريب من الْكُوفَة نزل فاختضب وتهيأَ وَذَلِكَ يَوْم جُمُعَة ثمَّ رَاح معتماً قد ألْقى عذبة الْعِمَامَة بَين كَتفيهِ متقلدَاً سَيْفه متنكباً قوسه حَتَّى نزل عِنْد دَار الْإِمَامَة عِنْد مَسْجِد الْكُوفَة وَقد أذن الْمُؤَذّن بِالْأَذَانِ الأول فَخرج عَلَيْهِم وهم لَا يعلمُونَ فجمَع بهم ثمَّ صعد الْمِنْبَر فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَسكت وَقد اشرأبوا إِلَيْهِ وجثوا على الركب وتناولوا الْحَصْبَاء ليحصبوه بهَا وَقد كَانُوا حصبوا عَاملا قبله فَخرج عَلَيْهِم فَسكت سكتة أبهتتهم وأحبوا أَن يسمعوا كَلَامه فَكَانَ بَدْء كَلَامه أَن قَالَ يَا أهل الْعرَاق يَا أهل الشقاق يَا أهل النِّفَاق وَالله إِن كَانَ أَمركُم ليهمني قبل(3/261)
أَن آتِي إِلَيْكُم وَلَقَد كنت أَدْعُو الله أَن يبتليكم بِي فَأجَاب دَعْوَتِي أَلا إِنِّي قد أسريت البارحة فَسقط مني سَوْطِي فاتخذت هَذَا مَكَانَهُ وَأَشَارَ إِلَى سَيْفه فوَاللَّه لأجرنه فِيكُم جر الْمَرْأَة ذيلها وَلَأَفْعَلَن وأفعلن قَالَ يزِيد فرأيتُ الْحَصْبَاء تتساقَطُ من أَيْديهم وَقَالَ قومُوا إِلَى بيعتكم فَقَامَتْ الْقَبَائِل قَبيلَة قَبيلَة تبَايع فَيَقُول من فَتَقول بَنو فلَان حَتَّى جَاءَت قَبيلَة فَقَالَ من قَالُوا النخع قَالَ مِنْكُم كَميل بن زِيَاد قَالُوا نعم قَالَ فَمَا فعل قَالُوا أَيهَا الْأَمِير شيخ كَبِير قَالَ لَا بيعَة لكم عِنْدِي وَلَا تقربون حَتَّى تَأْتُونِي بِهِ قَالَ فَأتوهُ بِهِ منعوشاً فِي سَرِيره حَتَّى وضعوه إِلَى جَانب الْمِنْبَر فَقَالَ الْحجَّاج لم يبْق مِمَّن دخل على عُثْمَان الدَّار غير هَذَا فَدَعَا بنطع وَضربت عُنُقه وَقَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ حَدثنِي من شهد الْحجَّاج حِين قدم الْعرَاق فَبَدَأَ بِالْكُوفَةِ فَنُوديَ الصَّلَاة جَامِعَة فَأقبل النَّاس إِلَى الْمَسْجِد وَالْحجاج مُتَقَلِّدًا قوساً عَرَبِيَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة خَز حَمْرَاء متلثمَاً فَقعدَ وَعرض الْقوس بَين يَدَيْهِ ثمَّ لم يتَكَلَّم حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِد قَالَ مُحَمَّد بن عُمَيْر فَسكت حَتَّى ظَنَنْت أَنه إِنَّمَا يمنعهُ العِي وَأخذت فِي يَدي كَفاً من حَصْبَاء أردْت أَن أضْرب بهَا وَجهه فَقَامَ فَوضع النقاب وتقلد قوسه وَقَالَ من // (الوافر) //
(أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلَّاُعُ التنايا ... مَتَى أَضَعِ العمامَةَ تَعْرِفُوني)
إِنِّي لأرى رُءُوسًا قد أينعَتْ وحان قطافها كَأَنِّي أنظر إِلَى الدما بَين العمائم واللحى من // (الرجز) //
(لَيْسَ بعشك فادرجي ... )
(قَدْ شَمَّرَتْ عَن سَاقهَا فَشَمِّرِي ... )
(هَذَا أَوَانُ الحَرْبِ فاشتدِّى زِيَمْ ... قد لَفَّهَا الليلُ بسَوَّاق حُطَمْ)
(لَيْسَ برَاعِي إِبِل وَلَا غَنَمْ ... وَلَا بجَزَّارٍ على ظَهْر وَضَمْ)
(قَدْ لَفَّهَا الليلُ بعَصْلَبِئِّ ... مهاجِر لَيْسَ بأعرابيِّ)
إِنِّي وَالله مَا أغمز غمز التِّين وَلَا يقعقع لي بالشنان وَقد فُررت عَن ذكاء وفتشت عَن تجربة وحذيت من الغابة وَإِنَّكُمْ يَا أهل الْعرَاق طالما أوضعتم فِي(3/262)
الضَّلَالَة وسلكتم سبل الغواية أما وَالله لألحينكم لحى الْعود ولأعصبنكم عصب السلمة ولأقرعنكم قرع الْمَرْوَة ولأضربنكم ضرب غرائب الْإِبِل يَا عبيد الْعَصَا أَنا الْغُلَام الثَّقَفِيّ لَا أعد إِلَّا وفيت وَلَا أَحْلف إِلَّا فريت إِنَّمَا مثلكُمْ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَضرب الله مثل قَرية كَانتَ آمِنَةَ مطمئنة يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِن كل مَكَان فكفَرَت بأَنعُمِ اللَهِ فَأَذاقَهَا اَللَهُ لِباسَ اَلجُوعَ وَاَلخَوفِ بِمَا كَانوا يَصنَعُونَ} النَّحْل 112 شَاهَت الْوُجُوه فَإِنَّكُم أشباه ذَلِك فاستوثقوا واستقيموا أقسم بِاللَّه لتدعن الإرجاف ولتقبلن على الْإِنْصَاف ولتنزعنَّ عَن القيل والقال وَكَانَ وَكَانَ والهبر وَمَا الهبر أَو لأهبرنكم بِالسَّيْفِ يدع النِّسَاء أيامَى والولدانَ يتامَى أَلا إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ نثل كِنَانَته بَين يَدَيْهِ فعجم عيدانها فوجدني أمرهَا عوداً وأصلبها مكسرَاً فوجهني إِلَيْكُم فاستقيموا وَلَا يميلن مِنْكُم مائل وَاعْلَمُوا أَنِّي إِذا قلت قولا وفيت بِهِ من كَانَ مِنْكُم من بعث الْمُهلب فليلحق بِهِ فَإِنِّي لَا أجد أحدا بعد ثَالِثَة إِلَّا ضربت عُنُقه وإياي وَهَذِه الزرافات فَإِنِّي لَا أجد أحدا يسير فِي زرافة إِلَّا سفكت دَمه واستحللت مَاله ثمَّ نزل هَذَا مَا رَوَاهُ الْمبرد وَزَاد الذَّهَبِيّ بِإِسْنَاد عَن الثَّوْريّ قُم يَا غلامُ فاقرأ عَلَيْهِم كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ ففقرأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى من فِي الْكُوفَة سَلام عَلَيْكُم فَسَكَتُوا فَقَالَ الْحجَّاج اكفف يَا غُلَام ثمَّ أقبل عَلَيْهِم فَقَالَ يسلم عَلَيْكُم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا تردون عَلَيْهِ شَيْئا هَذَا أدب ابْن نهية أما وَالله لأؤدبنكم غير هَذَا الْأَدَب أَو لتستقيمن اقْرَأ يَا غُلَام فَقَرَأَ قَوْله السَّلَام عَلَيْكُم فَلم يبْق فِي الْمَسْجِد أحد إِلَّا قَالَ وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ أفضل السَّلَام قلت العصلبيُ الشَّديد من الرِّجَال والسواق الحطم العنيف فِي سوقه(3/263)
الْوَضم كل مَا وقى بِهِ اللَّحْم من الأَرْض عجمت الْعود ذَا عضضته بنابك لتعرف أَصْلَب هُوَ أم رخو الزرافات الْجَمَاعَات وَحضر النَّاس عِنْده للعطاء واللحاق بالمهلب فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَيْر بن ضابئ وَقَالَ أَنا شيخ كَبِير عليل وَابْني هَذَا أَشد مني فَقَالَ هَذَا خير لنا مِنْك ثمَّ قَالَ وَمن أَنْت قَالَ عُمَيْر بن ضابئ قَالَ الَّذِي دخل على عُثْمَان فِي دَاره وداس على ظَهره فَكسر ضلعين من أضلاعه قيل نعم فَقَالَ يَا عَدو الله أَفلا بعثت إِلَى عُثْمَان بَدَلا قَالَ إِنَّه حبس أبي وَكَانَ شَيخا كَبِيرا فَقَالَ إِنِّي لأحسب فِي قَتلك صَلَاح المصرين وَأمر بِهِ فَقتل وانتهب مَاله وَقيل إِن عتبَة بن سعيد بن الْعَاصِ هُوَ الَّذِي أغرى بِهِ الْحجَّاج حِين دخل عَلَيْهِ ثمَّ أَمر الْحجَّاج مناديه فَنَادَى أَلا إِن ضابئاً تخلف بعد ثَالِثَة من النداء فَأمر بقتْله ودمة الله بريئة مِمَّن بَات اللَّيْلَة عَن جند الْمُهلب فَتسَارع النَّاس إِلَى الْمُهلب وَهُوَ برامهرمز وجاءه العرفاء فَأخذُوا كتبه بموافاة الْعَسْكَر وَقد كَانَ من أَخذ الْحَصْبَاء بِيَدِهِ يُرِيد أَن يحصب بهَا الْحجَّاج تساقط من يَده خوفًا ورعباً فثبتت مهابته فِي قُلُوبهم وتحكم حِينَئِذٍ فِي رقابهم وَكَانَ الْقَاسِم بن سَلام يَقُول قَاتل الله أهل الْعرَاق أَيْن قبائلهم وعشائرهم وَأهل الأنفة وَأَيْنَ تجبرهم قتلوا عليا وطعنوا الْحسن وقاتلوا الْمُخْتَار وعجزوا عَن قتل هَذَا الملعون الدميم الصُّورَة وَقد جَاءَهُم فِي اثْنَي عشر رَاكِبًا وهم فِي مائَة ألف وَلَكِن ظهر بِهِ تَصْدِيق قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب فِي قَوْله اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِم الْغُلَام الثَّقَفِيّ ثمَّ بعث الْحجَّاج إِلَى الْبَصْرَة الحكم بن أَيُّوب الثَّقَفِيّ وَأمره أَن يشْتَد على خَالِد ابْن عبد الله وبلغه الْخَبَر فقسم فِي أهل الْبَصْرَة ألف ألف وَخرج عَنْهَا وَيُقَال إِن الْحجَّاج أول من عاقب على التَّخَلُّف عَن الْبعُوث بِالْقَتْلِ قَالَ الشّعبِيّ كَانَ الرجل إِذا أخل بِوَجْهِهِ الَّذِي يكْتب إِلَيْهِ زمن عمر وَعُثْمَان وَعلي تنْزع عمَامَته ويقام بَين النَّاس فَلَمَّا ولى مُصعب أضَاف إِلَيْهِ حلق الرُّءُوس واللحي فَلَمَّا ولي بشر أضَاف إِلَيْهِ تَعْلِيق الرجل بمسمارين فِي يَده فِي حَائِط فيخرق المسمار يَده وَرُبمَا مَاتَ فَلَمَّا جَاءَ الْحجَّاج ترك ذَلِك كُله وَجعل عُقُوبَة من يخل بمكانه(3/264)
من الثغر أَو الْبَعْث الْقَتْل ثمَّ ولى الْحجَّاج على السَّنَد سعيد بن أسلم بن زرْعَة خرج عَلَيْهِ مُعَاوِيَة بن الْحَارِث العلافي وَأَخُوهُ فغلباه على الْبِلَاد وقتلاه فَأرْسل الْحجَّاج مجاعَة بن سعيد التَّمِيمِي مَكَانَهُ فغلب على الثغر وغزا وَفتح فتوحات وَمَات بمكران لسنة من ولَايَته
(وثوب أهل الْبَصْرَة عل الْحجَّاج)
ثمَّ خرج الْحجَّاج من الْكُوفَة واستخلف عَلَيْهَا عُرْوَة بن الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَسَار إِلَى الْبَصْرَة وقدمها وخطب كَمَا خطب بِالْكُوفَةِ وتوعد على الْقعُود عَن الْمُهلب كَمَا توعَد فَأَتَاهُ شريك بن عمر الْيَشْكُرِي وَكَانَ بِهِ فتق فَاعْتَذر بِهِ وَبِأَن بشر بن مَرْوَان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه يرد إِلَى بَيت المَال فَضرب الْحجَّاج عُنُقه وتتابع النَّاس متوجهين إِلَى الْمُهلب ثمَّ سَار حَتَّى كَانَ بَينه وَبَين الْمُهلب ثَمَانِيَة عشر فرسخَاً فَقَامَ ليَشُد ظَهره وَقَالَ يَا أهل المصرين هَذَا وَالله مَكَانكُمْ حَتَّى يهْلك الله الْخَوَارِج ثمَّ قطع لَهُم الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا مُصعب فِي الأعطية وَكَانَت مائَة مائَة وَقَالَ لسنا نجيزها فَقَالَ عبد الله بن الْجَارُود إِنَّمَا هِيَ زِيَادَة عبد الْملك وَقد أجازها أَخُوهُ بشر بأَمْره فانتهزه الْحجَّاج قَالَ لَهُ إِنِّي لَك نَاصح وَإنَّهُ قَول من ورائي فَمَكثَ الْحجَّاج أشهراً لَا يذكر الزِّيَادَة ثمَّ أعَاد القَوْل فِيهَا فَرد عَلَيْهِ ابْن الْجَارُود مثل الرَّد الأول فَقَالَ لَهُ مصقلة بن كرب الْعَبْدي سمعا وَطَاعَة للأمير فِيمَا أحببنا وكرهنا فَلَيْسَ لنا أَن نرد عَلَيْهِ فانتهره ابْن الْجَارُود وَشَتمه وَآتى الْوُجُوه إِلَى عبد الله بن الْجَارُود فصوبوا رَأْيه وَقَالَ لَهُ الْهُذيْل بن عمرَان البرجمي وَعبد الله ابْن حَكِيم بن زِيَاد الْمُجَاشِعِي وَغَيرهمَا إِن هَذَا الرجل مجمع على نقض هَذِه الزِّيَادَة فتعال نُبَايِعك على إِخْرَاجه من الْعرَاق ونكتب إِلَى عبد الْملك أَن يولي علينا غَيره وَإِلَّا خلعناه وَهُوَ يخافنا مَا دَامَت الْخَوَارِج فَبَايعُوهُ سرَّاً وتعاهدوا وَبلغ الْحجَّاج أَمرهم فاحتاط وحذر ثمَّ خَرجُوا فِي ربيع سنة سِتّ وَسبعين وَركب عبد الله بن الْجَارُود فِي عبد الْقَيْس على راياتهم وَلم بق مَعَ الْحجَّاج إِلَّا خاصته وَأهل بَيته وَبعث الْحجَّاج يستدعيه فأفحش ف القَوْل لرَسُوله وَصرح بخلع الْحجَّاج فَقَالَ لَهُ الرَّسُول تهْلك قَوْمك وعشيرتك وأبلغه تهديد الْحجَّاج(3/265)
إِيَّاه فَأمر بِهِ فَضرب وَأخرج وَقَالَ لَوْلَا أَنَّك رَسُول لقتلتك ثمَّ زحف ابْن الْجَارُود فِي النَّاس حَتَّى غشي فسطاطه فنهب مَا فِيهِ من الْمَتَاع وَالظّهْر وَأخذُوا زَوْجَاته وَانْصَرفُوا عَنهُ وَكَانَ رَأْيهمْ أَن يخرجوه وَلَا يقتلوه وَقَالَ الغضبان بن القبعثري الشَّيْبَانِيّ لِابْنِ الْجَارُود لَا ترجع عَنهُ وحرضه على معاجلته فَقَالَ إِلَى الْغَدَاة وَكَانَ مَعَ الْحجَّاج عُثْمَان بن قطن وَزِيَاد بن عَمْرو العتكى صَاحب الشرطة بِالْبَصْرَةِ فاستشارهما فَأَشَارَ زِيَاد بِأَن يستأمن الْقَوْم وَيلْحق بأمير الْمُؤمنِينَ وَأَشَارَ عُثْمَان بالثبات وَلَو كَانَ دونه الْمَوْت وَلَا تخرج إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْعرَاق بعد أَن رقاك إِلَى مَا رقاك وَفعلت مَا فعلت بِابْن الزبير فَقبل الْحجَّاج رأى عُثْمَان وحقد على زِيَاد فِي إِشَارَته وجاءه عَامر بن مسمع يَقُول قد أخذت لَك الْأمان من النَّاس فَجعل الْحجَّاج يغالطه رَافعا صَوته عَلَيْهِ ليسمع النَّاس وَيَقُول وَالله لَا أؤمنهم حَتَّى يأتوني بالهذيل بن عمرَان وَعبد الله بن حَكِيم ثمَّ أرسل إِلَى عبيد بن كَعْب النميري أَن ائْتِنِي فامنعني فَقَالَ إِن أتيتني منعتك فَأبى وَبعث إِلَى مُحَمَّد بن عُمَيْر بن عُطَارِد وَعبد الله بن حَكِيم بِمثل ذَلِك فَأَجَابُوهُ بِمثلِهِ ثمَّ إِن عباد بن الْحصين الحبطي مَر بِابْن الْجَارُود والهذيل وَعبد الله بن حَكِيم يتناجون فَطلب الدُّخُول مَعَهم فأَبوا فَغَضب وَسَار إِلَى الْحجَّاج وجاءه قُتَيْبَة بن مُسلم فِي بني أعصر للحمية القسية ثمَّ جَاءَهُ سُبْرَة بن عَليّ الْكلاب وَسَعِيد بن أسلم الْكلابِي وجعفر بن عبد الرَّحْمَن بن مخنف الْأَزْدِيّ فثابت إِلَيْهِ نَفسه وَعلم أَنه قد امْتنع وَأرْسل إِلَيْهِ مسمع بن مَالك بن مسمع إِن شِئْت أَتَيْتُك وَإِن شِئْت أَقمت وثبطت عَنْك فَأَجَابَهُ أَن أقِم فَلَمَّا أصبح إِذا حوله سِتَّة آلَاف وَقَالَ ابْن الْجَارُود لِعبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان مَا الرَّأْي قَالَ تركته أمس وَلم يبْق إِلَّا الصَّبْر ثمَّ تزاحفوا وعبأ ابْن الْجَارُود وَأَصْحَابه على ميمنته الْهُذيْل وعَلى ميسرته ابْن ظبْيَان وتعبأَ الْحجَّاج على ميمنته قُتَيْبَة بن مُسلم وأو عباد بن الْحصين وعَلى مسرته سعيد بن أسلم وَحمل الْجَارُود حَتَّى أجَاز أَصْحَاب الْحجَّاج وَعطف الْحجَّاج عَلَيْهِ فَعَاد ابْن الْجَارُود بِظهْر ثمَّ أَصَابَهُ سهم غرب فَوَقع مَيتا ونادى مُنَادِي(3/366)
الْحجَّاج بأمانِ النَّاس إِلَّا الْهُذيْل وَابْن حَكِيم وَأمر أَلا تتبع المنهزمون وَلحق ابْن ظبْيَان بعمان فَمَاتَ هُنَالك وَبعث الْحجَّاج بِرَأْس الْجَارُود ورءوس ثمانة عشر من أَصْحَابه إِلَى الْمُهلب ونصبت ليراها الْخَوَارِج فيتأسوا من الْخلاف وَحبس الْحجَّاج عبيد بن كَعْب وَمُحَمّد بن عُمَيْر لامتناعهما من الْإِتْيَان إِلَيْهِ وَحبس ابْن القبعثري لتحريضه عَلَيْهِ فَأَطْلقهُ عبد الْملك وَكَانَ فِيمَن قتل مَعَ ابْن الْجَارُود عبد الله بن أنس بن مَالك فَقَالَ الْحجَّاج لَا أرى إنْسَانا يعين عَليّ وَدخل الْبَصْرَة فَأخذ مَاله وجاءه أنس فأساء عَلَيْهِ وأفحش فِي شَتمه فَكتب أنس إِلَى عبد الْملك يشكوه فَكتب عبد الْملك إِلَى الْحجَّاج يشتمه ويغلظ عَلَيْهِ فِي التهديد على مَا فعل بأنس وَأَن يَجِيء إِلَى منزله ويتنصل وَإِلَّا ويتمعَّر وجبينه يرشح عرقاً ثمَّ جَاءَ إِلَى أنس بن مَالك وَاعْتذر إِلَيْهِ وَفِي غُضُون هَذِه الْوَاقِعَة خرج الزنج بفرات الْبَصْرَة وَقد كَانُوا خَرجُوا قبل ذَلِك فِي أَيَّام مُصعب وَلم يَكُونُوا بالكثير وأفسدوا الثِّمَار والزروع ثمَّ جمع لَهُم خَالِد ابْن عبد الله وافترقوا قبل أَن ينَال مِنْهُم وَقتل بَعضهم وصلبهم فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْوَقْعَة قدمُوا عَلَيْهِم رجلاَ مِنْهُم اسْمه رَبَاح ويلقب شير زنجي أَي أَسد الزنج وأفسدوا فَلَمَّا فرغ الْحجَّاج من ابْن الْجَارُود أَمر زِيَاد بن عَمْرو صَاحب الشرطة أَن يبْعَث إِلَيْهِم من يقاتلهم فَبعث إِلَيْهِم ابْنه حفصَاً فِي جَيش فَقَتَلُوهُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابه فَبعث جيشَاً فَهزمَ الزنج وأبادهم
(مقتل ابْن مخنف وَحرب الْخَوَارِج)
كَانَ الْمُهلب وَعبد الرَّحْمَن بن مخنف واقفَينِ للخوارج برامهرمز فَلَمَّا أمدهم الْحجَّاج بالعساكر من الْكُوفَة وَالْبَصْرَة تَأَخّر الْخَوَارِج من رامهرمز إِلَى كازرون واتبعهم الْعَسْكَر حَتَّى نزلُوا بهم وَخَنْدَق الْمُهلب على نَفسه وَقَالَ ابْن مخنف وَأَصْحَابه خندقنا سوفنا فبيتهم الْخَوَارِج وَأَصَابُوا الْغرَّة فِي ابْن مخنف فقاتل(3/267)
وَأَصْحَابه حَتَّى قتلوا هَكَذَا حَدِيث أهل الْبَصْرَة وَأما أهل الْكُوفَة فَذكرُوا أَنهم لما نهضوا إِلَى الْخَوَارِج اشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وَمَال الْخَوَارِج على الْمُهلب واضطروه لى مُعَسْكَره وأمده عبد الرَّحْمَن بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال وَلما رأى الْخَوَارِج مدده تركُوا من شغل الْمُهلب وقصدوا عبد الرَّحْمَن فقاتلوه وانكشف عَنهُ النَّاس وصبر فِي سبعين من قومه فَقَاتلُوا إليآخر اللَّيْل وَقتلُوا عَن آخِرهم وَبعث الْحجَّاج على عَسْكَر ابْن مخنف من أهل الْكُوفَة عتاب بن وَرْقَاء وَأمره أَن يسمع للمهلب فثقل ذَلِك عَلَيْهِ فَلم تحسن بَينهمَا الْعشْرَة وَكَانَ رترادان فِي الْكَلَام وَرُبمَا أغْلظ لَهُ الْمُهلب وَأرْسل عتاب إِلَى الْحجَّاج يسْأَله الْعود وَكَانَ خرق الْخَوَارِج وشبيب وَقد اتَّسع عَلَيْهِ فصادف مِنْهُ ذَلِك موقعَاً واستقدمه وَأمره أَن يتْرك الْعَسْكَر مَعَ الْمُهلب فولى عَلَيْهِم الْمُهلب ابْنه حبيباً وَأقَام يقاتلهم بنيسابور نَحوا من سنة وتحركت الْخَوَارِج على الْحجَّاج من سنة سِتّ وَسبعين إِلَى سنة ثَمَان وشغل بِحَرْبِهِمْ وَأول من خرج مِنْهُم صَالح بن مسرح من بني تَمِيم بعث إِلَيْهِ العساكر فَقتل فَوَلوا عَلَيْهِم شبيبا وَبعث وَأتبعهُ كثير من بني شَيبَان إِلَيْهِم الحجاجُ العساكر مَعَ الْحَارِث بن عميرَة ثمَّ مَعَ سُفْيَان الْخَثْعَمِي ثمَّ الْحِرْز بن سعيد فهزموهم وَأَقْبل شبيب إِلَى الْكُوفَة فجار بِهِ الْحجَّاج وَامْتنع عَلَيْهِ ثمَّ سرح عَلَيْهِ العساكر وَبعث فِي أَثَرهم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث فهزموهم ثمَّ بعث عتاب بن وَرْقَاء وَقتل مِنْهُم جمَاعَة كَمَا نذْكر ذَلِك كُله ي أخبارهم وف سنة سِتّ وَسبعين خرج صَالح بن مسرح التَّمِيمِي وَكَانَ صَالحا ناسكاً مخبتاً وَكَانَ بدارا والموصل وَله أَصْحَاب يُقْرِئهُمْ ويفقههم ويقص عَلَيْهِم وَلكنه يحط على الخليفتين عُثْمَان وَعلي كدأب الْخَوَارِج ويتبرأ مِنْهُمَا وَيَقُول تيسروا رحمكم الله لجهاد هَذِه الْأَحْزَاب المتحزبة وللخروج من دَار الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء وَلَا تجزعوا من الْقَتْل فِي الله فَإِن الْقَتْل أيسر من الْمَوْت وَالْمَوْت نَازل بكم لم يلبث أَن أَتَاهُ كتاب شبيب بن يزِيد من الْكُوفَة فِيهِ أما بعد فَإنَّك شيخ(3/268)
الْمُسلمين وَلنْ نعدل بك أحدا وَقد دعوتني فاستجبت لَك وَإِن أردْت تَأْخِير ذَلِك أعلمني فَإِن الْآجَال غادية ورائحة وَلَا آمن أَن تختر مني الْمنية وَلم أجاهد الظَّالِمين فيا لَهُ غبناً وَيَا لَهُ فضلا متروكاً جعلنَا الله وَإِيَّاك مِمَّن يُرِيد بِعَمَلِهِ الله ورضوانه فَرد عَلَيْهِ صَالح الْجَواب يحضه على الْمَجِيء فَجمع شبيب قومه وَقدم على صَالح وَهُوَ بدارا فتصمدوا مائَة وَعشرَة أنفس ثمَّ وَثبُوا على خيل لمُحَمد بن مَرْوَان فَأَخَذُوهَا وقويت شوكتهم وأخافوا الْمُسلمين فندب مُحَمَّد إِلَى قِتَالهمْ عدي بن عدي بن عميرَة الْكِنْدِيّ فَقَاتلهُمْ فَهزمَ عدي فندب لقتالهم خَالِد بن جُزْء السّلمِيّ والْحَارث العامري واقتتلوا أَشد الْقِتَال وانجاب صَالح إِلَى الْعرَاق فَوجه الْحجَّاج عسكراً عَلَيْهِم سُورَة بن الْحر فَاقْتَتلُوا ثمَّ مَاتَ صَالح مثخنَاً بِهِ الْجراح فِي جُمَادَى الآخرى من السّنة الْمَذْكُورَة وعهد إِلَى شبيب بن يزِيد فَالتقى شبيب هُوَ وَسورَة فَانْهَزَمَ سُورَة بعد قتال شَدِيد ثمَّ سَار شبيب فلقي سعيد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ فَاقْتَتلُوا ثمَّ انْصَرف شبيب فهجم الْكُوفَة وَقتل بهَا أَبَا سليم مولى عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان وَالِد اللَّيْث بن سليم وَغَيره من الْمَشَاهِير ثمَّ خرج عَنْهَا فَوجه الْحجَّاج لحربه زَائِدَة بن قدامَة الثَّقَفِيّ ابْن عَم الْمُخْتَار فِي جَيش كثير فَالْتَقوا أَسْفَل الْفُرَات فَهَزَمَهُمْ شبيب وَقتل زَائِدَة فَوجه الْحجَّاج لحربه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث فَلم يقاتلهم وَكَانَ مَعَ شبيب امْرَأَته غزالة وَكَانَت مَعْرُوفَة بالشجاعة وَدخلت مَسْجِد الْكُوفَة تِلْكَ الْمَرْأَة وقرأت وردهَا فِي الْمَسْجِد وَكَانَت نذرت أَن تصعد الْمِنْبَر فصعدته ثمَّ حَار الْحجَّاج فِي أمره مَعَ شبيب فَوجه لقتاله عُثْمَان بن قطن الْحَارِثِيّ فَالْتَقوا فِي آخر الْعَام الْمَذْكُور فَقتل عُثْمَان وَانْهَزَمَ جمعه بعد أَن قتل مِنْهُم سِتّمائَة نفر واستفحل أَمر شبيب بن يزِيد فَنزل الْمَدَائِن فندب الْحجَّاج لقتاله أهل الْكُوفَة كلهم وَعَلَيْهِم زهرَة بن حوية السَّعْدِيّ شيخ كَبِير قد بَاشر الحروب وَبعث إِلَى زهرَة عِبد الْملك من الشَّام سُفْيَان بن الْأَبْرَد وحبيباً الْحكمِي مدَدا بِسِتَّة آلَاف(3/369)
وَاجْتمعَ جَمِيع الْجَيْش خمسين ألفا وَعرض شَبَّبَ بن يزِيد جُنُوده بِالْمَدَائِنِ فَكَانُوا ألف رجل فَقَالَ يَا قوم إِن الله كَانَ ينصركم وَأَنْتُم مائَة أَو مِائَتَان فَأنْتم الْيَوْم مئون ثمَّ ركب فَأخذُوا يتخلفون عَنهُ ويتأخرون فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ لم يثبت مَعَه إِلَّا سِتّمائَة فَحمل شبيب فِي مِائَتَيْنِ على مسيرَة النَّاس فَانْهَزَمُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَال وعتاب بن وَرْقَاء جَالس هُوَ وزهرة بن حوية على طنفسة فِي الْقلب فَقَالَ عتاب هَذَا يَوْم كثر فِيهِ الْعدَد وَقل فِيهِ الْغناء يَعْنِي النَّفْع والهفي على خَمْسمِائَة من رجال تَمِيم وتفرق عَن عتاب عَامَّة الْجَيْش وَحمل عَلَيْهِ شبيب فقاتل عتاب سَاعَة وَقتل ووطئت الْخَيل زهرَة بن حوية فَهَلَك فتوجع لَهُ شبيب لما رَآهُ صريعَاً فَقَالَ لَهُ رجل من قومه وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك لتتوجع لرجل من الْكَافرين قَالَ إِنَّك لست أعرف بصلاتهم مني إِنِّي أعرف من قديم أَمرهم مَالا تَعرفُ لَو ثبتوا عَلَيْهِ كَانُوا إِخْوَاننَا ثمَّ قَالَ شبيب لأَصْحَابه ارْفَعُوا عَنْهُم السَّيْف ودعا النَّاس إِلَى طَاعَته وبيعته فَبَايعُوهُ ثمَّ هربوا لَيْلًا وَهَذَا كُله قبل أَن يقدم جَيش الشَّام الَّذِي بَعثه عبد الْملك فَتوجه شبيب نَحْو الْكُوفَة وَقد دَخلهَا عَسْكَر الشَّام فشدوا ظهر الْحجَّاج وانتعش بهم وَاسْتغْنى عَن عَسْكَر الْكُوفَة وَقَالَ يَا أهل الْكُوفَة لَا أعز الله من أَرَادَ بكم الْعِزّ الحقوا بِالْحيرَةِ مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا تقاتلوا مَعنا وحنق علهيم وهذْا مِمَّا يزيدهم فِيهِ بغضاً ثمَّ إِنَّه وَجه الْحَارِث بن مُعَاوِيَة الثَّقَفِيّ فِي ألف فَارس مَعَ الْكَشْف فالتمس شبيب غفلتهم فَالْتَقوا فَحمل شبيب على الْحَارِث فَقتله وَانْهَزَمَ من مَعَه ثمَّ جَاءَ شبيب فنازل الْكُوفَة وَحفظ النَّاس السكَك وَبنى شبيب مَسْجِدا بِطرف السبخة فَخرج إِلَيْهِ أَبُو الْورْد مولى الْحجَّاج فِي عدَّة غلْمَان فقاتل حَتَّى قتل ثمَّ خرج طهْمَان مولى الْحجَّاج أَيْضا فِي طَائِفَة فَقتله شبيب ثمَّ إِن الْحجَّاج خرج من قصر الْكُوفَة فَركب بغلا وَخرج فِي جَيش الشَّام فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ نزل الْحجَّاج وَقعد على كرْسِي ثمَّ نَادَى يَا أهل الشَّام أَنْتُم أهل السّمع وَالطَّاعَة وَالصَّبْر وَالْيَقِين لَا يغلبن بَاطِل هَؤُلَاءِ حقكم غضبوا الْأَبْصَار(3/370)
وجثوا على الركب وأشرعوا إِلَيْهِم الأسنة وَكَانَ شبيب فِي الستمائة فَجعل مِائَتَيْنِ مَعَه كردوساً وَمِائَتَيْنِ مَعَ سُوَيْد بن سليم وَمِائَتَيْنِ مَعَ الْمُحَلّل بن وَائِل فَحمل سُوَيْد عَلَيْهِم حَتَّى إِذا غشي أَطْرَاف الأسنة وَثبُوا فِي وُجُوههم يطعنونهم قدما قدما فانصرفوا فَأمر الْحجَّاج بتقدم كرسيه وَصَاح بِأَصْحَابِهِ فَحمل عَلَيْهِم شبيب فثبتوا وَطَالَ الْقِتَال فَلَمَّا رأى شبيب صبرهم نَادَى يَا سُوَيْد احْمِلْ على أهل هَذِه السِّكَّة لَعَلَّك تزيل أَهلهَا عَنْهَا فتأتي الْحجَّاج من وَرَائه وَنحن من أَمَامه فَحمل سُوَيْد بن سليم على أهل السِّكَّة فَرمى من فَوق الْبيُوت فَرد قَالَ أَبُو مخنف فَحَدثني فَرْوَة بن لَقِيط الْخَارِجِي من قوم شبيب قَالَ فَقَالَ لنا شبيب يَوْمئِذٍ يَا أهل الْإِسْلَام إِنَّمَا شرينا الله وَمن شرى الله لم يكثر عَلَيْهِ مَا أَصَابَهُ شدَّة كشداتكم فِي مواطنكم الْمَعْرُوفَة وَحمل على الْحجَّاج فَوَثَبَ أَصْحَاب الْحجَّاج طعنَاً وَضَربا فَنزل شبيب وَقَومه فَصَعدَ الْحجَّاج على مَسْجِد شبيب فِي نَحْو عشْرين رجلا وَقَالَ إِذا دنوا فارشقوهم بالنبال فَاقْتَتلُوا عَامَّة النَّهَار أَشد قتال فِي الدُّنْيَا حَتَّى أقرّ كل فريق لآخر ثمَّ إِن خَالِد بن عتاب بن وَرْقَاء قَالَ للحجاج ائْذَنْ لي فِي قِتَالهمْ فَإِنِّي موتور لِأَنَّهُ قتل أَبوهُ عتاب بن وَرْقَاء وَمِمَّنْ لَا يتهم فِي نصيحته فَأذن لَهُ فَخرج فِي عِصَابَة وَدَار من ورائهم فَقتل مصاداً أَخا شبيب وغزالة امْرَأَة شبيب وأضرم النيرَان فِي عسكره فَوَثَبَ شبيب وَأَصْحَابه على خيولهم فَقَالَ الْحجَّاج احملوا عَلَيْهِم فقد ارتعبوا فشدوا عَلَيْهِم فهزموهم وَتَأَخر شبيب عَن خَاصَّة قومه فَذكر من كَانَ مَعَ شبيب أَنه كَانَ يَنْعس ويخفق بِرَأْسِهِ وَخَلفه الطّلب قَالَ فَقلت يَا أَمر الْمُؤمنِينَ الْتفت فَانْظُر من خَلفك فَالْتَفت غير مكترث ثمَّ أكب يخْفق ثمَّ قلت إِنَّهُم دنوا فَالْتَفت ثمَّ أقبل يخْفق وَبعث الْحجَّاج إِلَى خيله ان دَعوه فِي حرقة النَّار فَتَرَكُوهُ وَرَجَعُوا(3/271)
وَمر أَصْحَاب شبيب بعامل الْحجَّاج على بلد بِالسَّوَادِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ أَتَوا بِالْمَالِ فِي على دَابَّة فشتمهم شبيب على مجيئهم بِالْمَالِ وَقَالَ لقد اشتغلتم بالدنيا ثمَّ رمى بِالْمَالِ فِي الْفُرَات ثمَّ سَار بهم إِلَى الأهواز وَبهَا مُحَمَّد بن مُوسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله فَخرج لقتاله وَسَأَلَهُ مُحَمَّد المبارزة فبارزه شبيب فَقتله ومضَى إِلَى كرمان فَأَقَامَ شَهْرَيْن وَرجع إِلَى الأهواز فندب لَهُ الْحجَّاج مقدمي جش الشَّام سُفْيَان بن الْأَبْرَد الْكَلْبِيّ وحبِيب بن عبد الرَّحْمَن الْحكمِي فَالْتَقوا على جسر دجيل فَاقْتَتلُوا حَتَّى حجز بَينهم اللَّيْل ثمَّ ذهب شبيب فَلَمَّا صَار على جسر دجيل قطع الجسر فَوَقع شبيب وغرق وَقيل قفز بِهِ فرسه فَأَلْقَاهُ فِي المَاء وَعَلِيهِ الدرْع فَقَالَ لَهُ رجل أغرقاً يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم وألقاه دجيل إِلَى ساحله مَيتا وَآتى بِهِ الْحجَّاج قَالَ أَبُو مخنف فَسَمِعتهمْ يَقُولُونَ إِنَّه شقّ بَطْنه فَأخْرج قلبه وَكَانَ مجتمعا صلبا كَأَنَّهُ صَخْر وَأَنه كَانَ يضْرب بِهِ الأَرْض فيثب قامة الْإِنْسَان قلت لله أَبُو هَذَا البطل القرم الَّذِي بارز الأقران فكسرهم وشتت شملهم وقهرهم يظقر فِي سِتّمائَة على خمسين ألفا وَهُوَ شبيب بن يزِيد بن نعيم بن قيس بن عَمْرو بن الصَّلْت الشَّيْبَانِيّ خرج بالموصل كَمَا تقدم فَبعث إِلَيْهِ الْحجَّاج خَمْسَة قواد قَتلهمْ وَاحِدًا بعد وَاحِد ثمَّ سَار إِلَى الْكُوفَة وحاصر الْحجَّاج بهَا وقاتله وَكَانَت امْرَأَته غزالة من الشجَاعَة والفروسية قربيا مِنْهُ هرب الْحجَّاج مِنْهَا فِي بعض حروبه فَعَيَّرَهُ بعض النَّاس // (من الْكَامِل) //
(أَسَدٌ عَلَى وَفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ)
(هَلاَّ بَرَزْتَ إلَي غَزَالَة فِي الوَغَى ... بَلْ كَانَ قلبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ)(3/272)
وَكَانَت أمه تسمى جهيزة تشهد الحروب كَذَلِك قَالَ بَعضهم رَأَيْت شبيبَاً وَقد دخل الْمَسْجِد وَعَلِيهِ جُبَّة طيالسة عَلَيْهَا نقط من أثر الْمَطَر وَهُوَ طَوِيل أشمط جعد آدم اللَّوْن فبقى فِي الْمَسْجِد يرتج ولد سنة سِتّ وَعِشْرُونَ من الْهِجْرَة وغرق بدجيل سنة سبع وَسبعين وَلما حمل إِلَى عبد الْملك عتْبَان الحروري من أَصْحَاب شبيب قَالَ لَهُ عبد الْملك أَلَسْت الْقَائِل // (من الطَّوِيل) //
(فإنْ كَانَ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وابنُهُ ... وعَمْرٌ ر ومنْكُمْ هاشمٌ وحبيبُ)
(فمنا حُصَيْن والبطين وقَعْنَبٌ ... وَمنا أَمِير المؤمنينَ شَبِيبُ)
فَقَالَ عتْبَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا قلت وَمنا أميرَ الْمُؤمنِينَ وَنصب على النداء فَاسْتحْسن قَوْله وَأطْلقهُ وجهيزة أم شبيب هِيَ الني يضْرب بهَا الْمثل فِي الْحمق لِأَنَّهَا لما حملت قَالَت فِي بَطْني شَيْء ينفر فَقيل أَحمَق من جهيزة وروى عَنْهَا مَا يدل على عدم الْحمق فَإِن عَمْرو بن شبيب قَالَ حَدثنِي خَلاد بن يزِيد الأرقط قَالَ كَانَ شبيب نعى إِلَى أمه فقيال لَهَا إِنَّه قد قتل فَلَا تقبل فَلَمَّا قيل لَهَا إِنَّه قد غرق قبلت ذَلِك وَقَالَت إِنِّي رأيتُ حِين وَلدته أَنه خرج مني شهَاب نَار فَعلمت أَنه لَا يطفئه إِلَّا المَاء كَذَا فِي دوَل الْإِسْلَام لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيّ وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ بني الْحجَّاج مَدِينَة وَاسِط الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة وَذَلِكَ أَن الْحجَّاج كَانَ ينزل أهل الشَّام " ذَا ورد الْكُوفَة على أهل الْكُوفَة فَضرب الْبَعْث عَن أهل الْكُوفَة إِلَى خرسان وعسكروا قَرِيبا من الْكُوفَة حَتَّى يستتموا فَرجع مِنْهُم ذَات لَيْلَة فَتى حَدِيث عهد بعرس بابنة عَمه فطرق بَيته فدق الْبَاب فَلم يفتح لَهُ إِلَّا بعد هنيهة وَإِذا سَكرَان من أهل الشَّام يسْتَأْذن وَشَكتْ عَلَيْهِ ابْنة عَمه مراوونه إِيَّاهَا فَقَالَ لَهَا ائذني لَهُ فَأَذنت لَهُ فجَاء فَقتله الْفَتى الْكُوفِي وَخرج إِلَى الْعَسْكَر وَقَالَ ابعثي إِلَى الشاميين وادفعي إِلَيْهِم صَاحبهمْ فَفعلت فأحضرها عِنْد الْحجَّاج فَأَخْبَرته(3/273)
فَقَالَ صدقت وَقَالَت للشاميين لَا قَود لَهُ وَلَا عَقل فَإِنَّهُ قَتِيل الله إِلَى النَّار ثمَّ نَادَى منادٍ لَا ينزل أحد على أحد وَبعث الرواد فارتادوا لَهُ مَكَان وَاسِط وَوجد هُنَاكَ رَاهِبًا ينظف بقْعَة من النَّجَاسَات فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ نجد فِي كتبنَا أَنه يبْنى هَهُنَا مَسْجِدا لِلْعِبَادَةِ فاختط الْحجَّاج مَدِينَة وَاسِط هُنَاكَ وَبني الْمَسْجِد فِي تِلْكَ الْبقْعَة وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان أَن ابْن الزبير لما ولي الْخلَافَة بِمَكَّة ولى أَخَاهُ عبيد الله ابْن الزبير الْمَدِينَة وَلم يزل يُقيم للنَّاس الْحَج من سنة أَربع وَسِتِّينَ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين فَلَمَّا ولي عبد الْملك منع أهل الشَّام من الْحَج من أجل ابْن الزبير لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ النَّاس بالبيعة إِذا حجُّوا فَضَجَّ النَّاس لما منعُوا من الْحَج فَبنى عبد الْملك قبَّة على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس ومساجد الْأَمْصَار وَقيل إِن أول من سنّ التَّعْرِيف بِالْبَصْرَةِ عبد الله بن عَبَّاس رض الله عَنْهُمَا لما كَانَ عَاملا عَلَيْهَا لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وبمصر عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أَخُو عبد الْملك وببيت الْمُقَدّس عبد الْملك بن مَرْوَان وَلما قتل عبد الْملك مُصعب بن الزبير وَأَرَادَ الرُّجُوع جَاءَ إِلَيْهِ الْحجَّاج فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت فِي مَنَامِي أَنِّي أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فولني قِتَاله فَبَعثه فِي الْجَيْش الْمُتَقَدّم ذكره فحصره أَكثر من خمسين يَوْمًا وَقيل خَمْسَة أشهر وَفعل مَا فعل وَأرْسل بِرَأْسِهِ إِلَى عبد الْملك فَأرْسل عبد الْملك بِالرَّأْسِ إِلَى عبد الله بن حَازِم السّلمِيّ وَهُوَ عَامل ابْن الزبيرعلى خرسان وَمَا والاها وَكَانَ عبد الله بن حَازِم هَذَا من الْأَبْطَال والفرسان والمعدودين والمشهورين وَلَقَد سَمِعت عبارَة فِي وَصفه بالشجاعة لم أسمع نظريها فِي غَيره فَمَا أحقها أَن تكون فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب فَإِنَّهَا غَايَة فِي الْمَدْح مَا خلفهَا غَايَة وَهِي قَول بعض الْعَرَب فِيهِ مَا ستحيا شُجَاع قد ان يفر من عبد الله حَازِم السّلمِيّ فتأملها بالذوق تجدها تجذب المحامد بالطوق الشَّيْء بالشَّيْء يذكر قَالَ فِي العقد فرسَان الْحُرُوف فِي الْجَاهِلِيَّة ربيعَة بن مكدم من بني فَارس بن غنم بن مَالك بن كنَانَة(3/274)
قلت هُوَ صَاحب الْوَاقِعَة مَعَ عَمْرو بن معدي كرب الَّتِي تقدم ذكرهَا كَانَ يعقر على قَبره فِي الْجَاهِلِيَّة وَلم يعقر على قبر أحد قبله وَبَنُو فَارس من الَّذين قَالَ فيهم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يمدحهم ويذم أهل الْكُوفَة يَا معشر الْكُوفَة من فَازَ بيكم فَازَ بِالسَّهْمِ الأخيب أبدلكم الله بِي من هُوَ شَرّ لكم وأبدلني بكم من هُوَ خير مِنْكُم وددت وَالله أَن لي بجمعكم وَأَنْتُم مائَة ألف ثَلَاثمِائَة من بني فراس بن غنم بن مَالك بن كنَانَة وعنترة بن شَدَّاد الْعَبْسِي وَعتبَة بن الْحَارِث بن شهَاب وَأَبُو بداء عَامر بن مَالك ملاعب الأسنة وَزيد الْخَيل وبسطام بن قيس والأحيمر السَّعْدِيّ وعامر ابْن الطُّفَيْل وَعَمْرو بن عبد ود العامري وَعَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ وَأما فِي الْإِسْلَام فعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَرِجَال من الْأَنْصَار مِنْهُم أَبُو دجانهة الْأنْصَارِيّ وَعَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح وَقيس بن سعد بن عبَادَة وَعبادَة بن الْحصين وَالْأَشْتَر بن مَالك النَّخعِيّ وَعبد الله بن الزبير ومسلمة ابْن عبد الْملك بن مَرْوَان وَعُمَيْر بن الْحباب وقطري بن الفجاءه والحريش ين هِلَال السَّعْدِيّ وشبيب الحروري الْخَارِجِي وَعبد الله بن حَازِم السّلمِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ عبد الله بن حَازِم هَذَا عَاملا لِابْنِ الزبير على خرسان وَمَا والاها كَمَا تقدم ذكره فَلَمَّا أرسل إِلَيْهِ عبد الْملك بن مَرْوَان بِرَأْس ابْن الزبير أرْسلهُ مَعَ رجل من بني عَامر بن صعصعة يَدعُوهُ إِلَى طَاعَته وَأَن تكون لَهُ خُرَاسَان طعمة سبع سِنِين لَا يسْأَل عَن شَيْء مِنْهَا قَالَ ابْن حَازِم للرسول لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا تقتل وَفِي رِوَايَة لَوْلَا خشيَة الْفِتْنَة من بني عَامر وَبني سليم لضَرَبْت عُنُقك ولكنْ كُل كِتَابَ صَاحبك فَأَكله ثمَّ أَمر بِالرَّأْسِ فَغسله وَقَبله وَدَفنه وَقيل إِنَّه بَعثه إِلَى آل الزبير بِالْمَدِينَةِ فدفنوه مَعَ جثته حَيْثُ دفنت وَعبد الْملك أول من سمي بِعَبْد الْملك فِي الْإِسْلَام كَانَ مشدود الْأَسْنَان بِالذَّهَب حازماً يقظاً لَا يكلُ أمره إِلَى سواهُ شَدِيد الْبُخْل يلقب رشح الْحجر لبخله ويلقب أَيْضا بِأبي الذُّبَاب لبخر كَانَ فِي فِيهِ كَذَا قيل مقدما على(3/275)
سفك الدِّمَاء أوصى ابْنه الْوَلِيد لما ثقل مَرضه فَقَالَ يَا وليد لَا ألفينك إِذا وَضَعتنِي فِي حفرتي تعصر عَيْنَيْك كالأمة الوكعاء بل شمر وائتزر والبس جِلد النمر وادع النَّاس إِلَى الْبيعَة فَمن قَالَ بِرَأْسِهِ كَذَا أَي لأَفْعَل باليسف كَذَا أَي اضْرِب عُنُقه وَمن سكت مَاتَ بدائه وَكَانَ عبد الْملك يلقب قبل ذَلِك بحمامة الْمَسْجِد لقبه بِهِ عبد الله بن عمر وجاءته الْخلَافَة وَهُوَ يقْرَأ ي الْمُصحف فطبقه وَقَالَ سَلام عَلَيْك هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك وَقيل لِابْنِ عمر رأيتَ لَو تفانوا أَصْحَاب رَسُول الله
فَمن نسْأَل بعدهمْ قَالَ سلوا هَذَا الْفَتى يَعْنِي عبد الْملك بن مَرْوَان عَن يُونُس بن ميسرَة عَن عبد الْملك أَنه قَالَ وَهُوَ على الْمِنْبَر سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول الله
مَا من امْرِئ لَا يَغْزُو فِي سَبِيل الله أَو يُجهز غازياً أَو يخلفه بِخَير إِلَّا أَصَابَهُ الله بقارعة قبل الْمَوْت وَقَالَ النَّضر بن مُحَمَّد وَذكر سنداً إِلَى سحيم مولى أَي هُرَيْرَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن عبد الْملك بن مَرْوَان دخل عَلَيْهِم وَهُوَ غُلَام شَاب فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة هَذَا يملك الْعَرَب وَقَالَ جرير بن حَازِم عَن نَافِع لقد رَأَيْت الْمَدِينَة وَمَا بهَا شَاب أَشد تشميراً وَلَا أنسك وَلَا أَقرَأ لكتاب الله من عبد الْملك بن مَرْوَان وَعَن ابْن عمر قَالَ ولد النَّاس أَبنَاء وَولد مَرْوَان أَبَا قَالَ مَالك سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول أول من صلى فِي الْمَسْجِد مَا بَين الظّهْر إِلَى الْعَصْر عبد الْملك بن مَرْوَان وفتيان كَانُوا مَعَه إِذا صلى الإِمَام الظّهْر قَامُوا فصلوا إِلَى الْعَصْر فَقيل لسَعِيد بن الْمسيب لَو قمنا فصلينا كَمَا يُصَلِّي هَؤُلَاءِ فَقَالَ سعيد بن الْمسيب لَيست الْعِبَادَة بِكَثْرَة الصَّلَاة وَالصَّوْم إِنَّمَا الْعِبَادَة التفكير فِي أَمر الله والورع عَن محارم الله(3/276)
وروى إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ مَا جالست أحدا إِلَّا وجدت لي الْفضل عَلَيْهِ إِلَّا عبد الْملك بن مَرْوَان فَإِنِّي مَا ذاكرته حَدِيثا إِلَّا زادني فِيهِ وَلَا شعرًا إِلَّا زادني فِيهِ وَقَالَ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن يحيى الغساني حَدثنَا أبي عَن أَبِيه قَالَ لما نزل مُسلم بن عقبَة المري الْمَدِينَة دخلت الْمَسْجِد النَّبَوِيّ فَجَلَست إِلَى جنب عبد الْملك فَقَالَ لي أَمن هَذَا الْجَيْش أَنْت قلت نعم قَالَ ثكلتك أمك أَتَدْرِي إِلَى من تسير إِلَى أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام قلت مُرَاده بِالْمَدِينَةِ فقد صَحَّ أَن عبد الله بن الزبير أول مَوْلُود ولد بهَا قيل بقباء وَقيل بِالْمَدِينَةِ نَفسهَا ففرح الْمُسلمُونَ فَرحا شَدِيدا لِأَن الْيَهُود تفوهوا بِأَنا سحرنَا محمدَاً وَأَصْحَابه فَلَا يُولد لَهُم فَكَانَ أول مكذب لَهُم رَضِي الله عَنهُ انْتهى وَإِلَى ابْن حَوَاري رَسُول الله
وَإِلَى ابْن ذَات النطاقين وَإِلَى من حنكه رَسُول الله
أما وَالله إِن جِئْته نهارَاً وجدته صائمَاً وَإِن جِئْته لَيْلًا لتجدنه قائمَاً فَلَو أَن أهل الأَرْض أطبقوا على قَتله لأكبهم الله جميعَاً فِي النَّار فَلَمَّا صَارَت الْخلَافَة إِلَى عبد الْملك وجهنا مَعَ الْحجَّاج حَتَّى قَتَلْنَاهُ قَالَ الْأَصْمَعِي حَدثنَا عباد بن مُسلم بن زِيَاد عَن أَبِيه قَالَ ركب عبد الْملك ابْن مَرْوَان بكرا فَأَنْشَأَ قائده يَقُول // (من الرجز) //
(يَأَيُّهَا البكْرُ الَّذِي أَرَاكَا ... )
)
غَلَبْتَ أهلَ الأرضِ فِي مَمْشَاكا ... )
(وَيْحَكَ هَلْ تعلَمُ مَنْ عَلاَكَا ... )
(خليفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا ... )
(لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا ... )
فَلَمَّا سَمعه عبد الْملك قَالَ إيهاً يَا هَناه قد أمرت لَك بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَمِمَّا نقلته من العقد لِابْنِ عبد ربه الْقُرْطُبِيّ قَالَ مدح جرير الْحجَّاج بِأَبْيَات(3/277)
مِنْهَا قَوْله // (من الوافر) //
(دَعَ الحَجَّاجُ مِثْلَ دعاءِ نُوحٍ ... فأسمَعَ ذَا المعارجِ فَاسْتَجَابَا)
فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج إِن الطَّاقَة تَعجِزُ عَن مكافأتك وَلَكِنِّي موفدك على أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك بن مَرْوَان فسر بكتابي هَذَا إِلَيْهِ فَسَار إِلَى عبد الْملك فأنشده القصيدة الَّتِي مطْلعهَا // (من الوافر) //
(أَتَصْحُو أَمْ فؤادُكَ غَيْرُ صَاح ... )
فَقَالَ عبد الْملك بل فُؤَادك يَا ابْن الفاعلة حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله فِيهَا // (من الوافر) //
(تَعَزَّتْ أمُّ حَزْرَةَ ثُمَّ قالَتْ ... رأيتُ الوارِدِينَ ذَوِي امتِيَاحِ)
(ثِقِي باللَّهِ ليْسَ لَهُ شريكٌ ... ومِنْ عندِ الخليفةِ بالنجاحِ)
(سأشكُرُ إِن رَدَدتَ إلَيَّ ريشِي ... وأثبتَّ القَوَادِمَ مِنْ جَنَاحي)
(أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العَالَمينَ بُطُونَ راحِ)
فَلَمَّا قَالَ هَذَا الْبَيْت اسْتَوَى عبد الْملك جَالِسا وَكَانَ متكئَاً ثمَّ قَالَ من مَدْحنَا فبمثل هَذَا فليمدح ثمَّ قَالَ يَا جرير أَتَرَى أم جزرة ترْوِيهَا مائَة نَاقَة من نعم كلب فَقَالَ إِذا لم تَرَوْهَا فَلَا أرواها الله وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْإِبِل أباق وَنحن مَشَايِخ وَلَيْسَ بأحدنا فضل عَن رَاحِلَته فَلَو أمرت بالرعاة لَهَا فَأمر لَهُ بِثمَانِيَة أعبد قَالَ وَكَانَت بَين يَدي عبد الْملك صحاف من فضَّة يقرعها بقضيب فِي يَده فَقَالَ جرير والمحلب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَشَارَ لى صَحْفَة فنبذها إِلَيْهِ بالقضيب وَقَالَ خُذْهَا فَفِي ذَلِك يَقُول // (من الْبَسِيط) //
(أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثمانيَةٌ ... مَا فِي عطائِهمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ)
وروى هِشَام بن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه قَالَ دخل أَعْرَابِي إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان فمدحه وَأحسن وَعِنْده جرير والفرزدق والأخطل فَقَالَ لَهُ عبد الْملك أتعرف أهجَى بَيت فِي الْإِسْلَام قَالَ نعم قَول جرير // (من الوافر) //
(فَغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كلاَبا)
قَالَ أصبتَ فَهَل تعرف أرق بَيت قيل فِي الْإِسْلَام قَالَ نعم قَول جرير أَيْضا // (من الْبَسِيط) //
(إِنَّ العُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حور ... قتاْنَنَا ثمَّ لم يُحْيِينَ قَتْلنَنا)(3/278)
(يَصْرعْنَ ذَا اللب حَتَّى لَا حراكَ بِهِ ... وهُنَّ أضعَفُ خَلْقِ الله أركانا)
قَالَ عبد الْملك أَحْسَنت ثمَّ قَالَ فَهَل تعرفُ أمدح بَيت قيل فِي الْإِسْلَام قَالَ نعم قَوْله فِيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ // (من الوافر) //
(أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأَنْدَى العالَمينَ بُطُونَ رَاحِ)
قَالَ أَحْسَنت فَهَل تعرف جريرَاً قَالَ لَا وَالله وَإِنِّي إِلَى رُؤْيَته لمشتاق فَقَالَ هَذَا جرير وَهَذَا الفرزدق وَهَذَا الأخطل فَأَنْشَأَ الْأَعرَابِي يَقُول // (من المتقارب) //
(فَحَيَّا الإلهُ أَبَا حَزْرَةٍ ... وَأَرْغَمَ أنفَكَ يَا أَخْطَلُ)
(وَجَدُّ الفرزدقِ أَتْعِسْ بِهِ ... وَدَقَّ خياشيمَكَ الجَنْدَلُ)
فَأَنْشَأَ الفرزدق يَقُول // (من الْبَسِيط) //
(بَلْ أَرْغَمَ اللَّهُ أنفًا أنتَ حامِلُهُ ... يَا ذَا الخَنَا ومقَالِ الزُّور والخَطَلِ)
(مَا أَنْتَ بالحَكَمِ التُّرْضَى حكومتُهُ ... وَلَا الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرأْيِ والجَدَلِ)
فَغَضب جرير وَأَنْشَأَ يَقُول // (من الْبَسِيط) //
(أَتَشْتُمَانِ سفَاهًا خَيْرَكُمْ حَسَبًا ... فَفِيكُمَا وإلهي الزُّورَ والخَطَلُ)
(شَتَمْتُماهُ عَلَى رَفْعِي وَوَضْعِكُما ... لَا زِلْتُمَا فِي سِفَالٍ أَيهَا الرَّجُلُ)
ثمَّ نَهَضَ فَقيل يَدي عبد الْملك وَقَالَ يَا مولاَيَ جائزتي لجرير فَقَالَ عبد الْملك وَله مني مثلهَا انْتهى وَحكى الْهَيْثَم بن عدي أَن عبد الْملك بن مَرْوَان بَعَثَ إِلَى عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي وَإِلَى جميل بن معمر العذري صَاحب بثينة وَإِلَى كثير عزة وَهُوَ كثير ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود الْخُزَاعِيّ الْمدنِي وأوقر نَاقَة ذهبَاً وَفِضة ثمَّ قَالَ لينشد كل وَاحِد مِنْكُم ثَلَاثَة أَبْيَات فَأَيكُمْ كَانَ أغزل شعرَاً فَلهُ النَّاقة وَمَا عَلَيْهَا فَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة // (من الطَّوِيل) //
(فَيَا ليْتَ أَنِّي حِينَ تَدْنُو منيَّتِي ... شَمَمْتُ الَّذِي مل بَين عينيكِ والفَمِ)
(وَلَيْتَ طهوري كَانَ رِيقكِ بَعْدَهُ ... ولَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِكِ والدَّمِ)
(وَلَيْتَ سُلَيْمَى فِي المنامِ ضَجِيعتِي ... لَدَى الجَنَّةِ الخضراءِ أَو فِي جَهَنَّمِ)
وَقَالَ جميل // (من الطَّوِيل) //
(حَلَفتُ يمنًا يَا بثينَةُ صَادِقا ... فإنْ كُنْتُ فِيهَا كَاذِبًا فَعَمِيتُ)
(حلفتُ لَهَا بالبُدْنِ تدمى نحورُهَا ... لقد شَقِيَت نَفْسِي بكُمْ وعنِيتُ)(3/279)
(وَلَو أنَّ رَاقي المَوْتِ يَرْقي جنازتي ... بمَنْطِقِهَا فِي الناطِقِينَ حَيِيتُ)
وَقَالَ كثير عزة // (من الْكَامِل) //
(بِأَبِي وأُمِّي أَنْتَ مِنْ معشوقةٍ ... ظَفِرَ العدوُّ بهَا فَغيَّرَ حالَهَا)
(ومشَى إليَّ بعَيْبِ عزَّةَ نسوةٌ ... حعل المليكُ خدودَهُنَّ نِعَالَهَا)
(وَلَو انَّ عزَّةَ حاكَمَتْ شَمْسَ الضحَى ... فِي الحُسْنِ عِنْد موفَّقٍ لَقَضَى لَهَا)
فَقَالَ عبد الْملك خُذ النَّاقة يَا صَاحب جَهَنَّم وَكَانَ يُقَال من أَرَادَ رِقَّة الْغَزل فَعَلَيهِ بِشعر عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي وَمن شعره مَا رَوَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي // (من الْكَامِل) //
(لَبِثُوا ثَلاَث مني بمَنْزِلِ قلعةٍ ... وَهُمُ عِلى عرضٍ لَعمْرُكَ مَا هُمُ)
(الْعَتِيق متجاوزينَ بغَيْرِ دارِ إقامةٍ ... لَو قد أجَدَّ رحيلهم لم يَقْدَمُوا)
(ولهن بالبيْتِ العتقِ لبانَةٌ ... والبيتُ يعرفُهُنَّ لَو يتكلَّمُ)
(لَو كَانَ حَيَّا قبلهنَّ ظعائناً ... حَيَّا الحطيمُ وجوهَهُنَّ وزَمْزَمُ)
(لكنَّهُ مِمَّا يطيفُ برُكْنِهِ ... منهنَّ صماء الصَّدَى مُسْتَعْجمُ)
(وكأنهنَّ وَقد صدرْنَ عشيَّةً ... بيضٌ بأكنافِ الخيامِ منظَّمُ)
وَفِي كتاب أَنْسَاب قُرَيْش للزبير بن بكار لعمر بن أبي ربيعَة قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(نَظَرْتُ إِلَيْهَا بالمحصَّبِ من مِنًى ... ولي نَظَرٌ لَوْلَا التحرُّمُ عازمُ)
(فقلْتُ أشمسٌ أَو مصابيحُ بيعَةٍ ... بَدَتْ لكَ تَحت السُّجْفِ أَمْ أنْتَ حَالِمُ)
(بعيد مَهْوى القُرْطِ أما لنوفَلٍ ... أَبُوهَا وإمَّا عَبْدُ شَمْسٍ وهاشِمُ)
)
فَلم أستطِعْهَا غيْرَ أَنْ قَد بَدَا لَنا ... عشيَّةَ راحَتْ وَجْهُهَا والمَعَاصِمُ)
وَقَالَ الزبير بن بكار أنْشد ابْن أبي عَتيق سعيدَ بن الْمسيب قَول عمر بن أبي ربيعَة // (من الْخَفِيف) //
(أَيهَا الراكبُ المجدُّ ابتِدَارَا ... قد قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الأوطارا)
(إِن يكُنْ قلبُكَ الغدَاة جلِيدًا ... ففؤادي بالحُبِّ أمْسَى مُعَارا)
(لَيْت ذَا الدَّهْرَ كَانَ حَتْمًا علينا ... كُلَّ يومَين حِجَّةً واعتِمَارا)
فَقَالَ سعيد بن الْمسيب لقد كلف ابْن أبي ربيعَة الْمُسلمين شططاً وروى الْأَصْمَعِي عَن صَالح بن أسلم قَالَ قَالَ عمر بن أبي ربيعَة إِنِّي قد(3/280)
أنشدت من الشّعْر مَا بلغك وَبلغ غَيْرك وَلَكِن وَرب هَذِه البِنِية يُشِير إِلَى الْكَعْبَة مَا حللت إزَارِي على فرج حرَام قطّ حضر مجْلِس عبد الْملك يَوْمًا قوم من وُجُوه الْعَرَب فَقَالَ لَهُم عبد الْملك أَي المناديل أفضل فَقَالَ بَعضهم مناديل مصر كَأَنَّهَا غِرقِئُ الْبيض وَقَالَ بعض مناديل الْيمن كَأَنَّهَا أنوار الرّبيع فَقَالَ عبد الْملك مَا صَنَعْتُم شَيْئا أفضلهَا مَا قَالَه عَبدة بن الطَّبِيب حَيْثُ يَقُول // (من الْبَسِيط) //
(لَمَّا نزلْنَا ضربْنَا ظِلَّ أخبيةٍ ... وفَارَ بالغَلْيِ للقَوْمِ المراجيلُ)
(ورد وأشْقَر لَا يُؤْنيه طابخُهُ ... مَا قارَبَ النضْجَ مِنْهَا فَهُوَ مأكولُ)
(ثمَّ انثنينا عَلَى عُوجٍ مسوَّمةٍ ... أعرافُهُنَّ لأيدينا منَاديِلُ)
ثمَّ قَالَ وَمَا أطربني لقَوْل طفيل الْخَيل // (من الْبَسِيط) //
(إِنِّي وإنْ قَلَّ مَالِي لَا يُفَارِقُنِي ... مِثلُ النعامةِ فِي أوصالهَا طُولُ)
(تقريبُهَا المَرطَى والجَوْزُ معتدلٌ ... كَأَنَّهُ سبدٌ بالماءِ مغسُولُ)
(أَو ساهم الوجهِ لم تقطَعْ أباجلُهُ ... يُصَانُ وَهْوَ بيومِ الروعِ مبذولُ)
قلت وَفِي حفظي لِابْنِ المعتز فِي مثل هَذَا الْمَعْنى من وصف الْفرس مَا يعجب سَمَاعه وَيحسن فِي الطروس إيداعه قَوْله // (من الْكَامِل) //
(وَلَقَد وَطِئْتُ الغيثَ يَحْملُنِي ... طِرْفٌ كلونِ الصبحِ حينَ وقدْ)
(يمشِي ويعرضُ فِي العِنَانِ كَمَا ... صَدَفَ المعشَّقُ بالدَّلاَلِ وصَدّ)
(طارَتْ بِهِ رجلٌ موقعةٌ ... رجَّامةٌ لحَصَى الطرقِ وَيَدْ ...
(وَكَأَنَّهُ مَوْجٌ يسيلُ إِذا ... أطلقتَهُ وَإِذا حبست جَمَدْ)
وَقَول زيد الْخَيل // (من الرمل) //
(يَا بني الصيداء رُدُّوا فَرَسي ... إنماُيصنَعُ هَذَا بالذَّلِيلِ)
(لَا تذيلوه فَإِنِّي لم أكُن ... يَا بني الصَّيْدَا لِمُهْرِي بالمُذِيلِ)
(عَوِّدُوهُ كَالَّذِي عَوَّدْتُهُ ... دلج الْليلِ وَإِيطَاء القَتِيلِ)
قيل وفدت عزة على عبد الْملك بن مَرْوَان فَلَمَّا دخلت سلَمَت فَرد عَلَيْهَا السَّلَام ورحب بهَا وَقَالَ مَا أقدمك يَا عزة قَالَت شدَّة الزَّمَان وَكَثْرَة الألوان(3/281)
واحتباس الْقطر قَالَ هَل تروين لكثير // (من الطَّوِيل) //
(وَقَدْ زعَمتْ أنِّي تغيَّرْتُ بَعْدَمَا ... ومَنْ ذَا الَّذِي يَا عَزُّ لَا يتغَّيرُ)
قَالَت أَروِي لَهُ هَذَا وَلَكِنِّي أَروِي قَوْله فِي قصيدة لَهُ // (من الطَّوِيل) //
(كأَنِّي أُنَادِي صَخْرَةً حِينَ أَعْرَضَتْ ... مِنَ الصُّمِّ لَو تمشِي بهَا العُصْمُ زَلَّتِ)
قَالَ ماكنت لتصرين لى حَاجته أَو تهبين نَفسك لي فأزوجك مِنْهُ قَالَت الْأَمر إِلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا كنت لأزهد فِي هَذَا الشّرف الْبَاقِي لي مَا دَامَت الدُّنْيَا أَن يكون أَمِير الْمُؤمنِينَ وليي فَعظم بذلك قدرهَا عِنْده وَأمر لَهَا بِمَال وَكتب إِلَى كثير وَهُوَ بِالْكُوفَةِ أَن اركب الْبَرِيد وَعجل فَإِنِّي مزوجك عزة وَأَتَاهُ الْكتاب وَهُوَ مضني من الشوق إِلَيْهَا فَرَحل وَأَقْبل نَحْوهَا فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق إِذا هُوَ بغراب على شَجَرَة بانة ينتف ريشه ويطايره وَكَانَ كثير شَدِيد الطيرَة فَلَمَّا رَآهُ تَطَير وهَم بالانصراف ثمَّ غَلبه شوقه فَمضى وَهُوَ مكروب لما رأى حَتَّى آتى مَاء لبني نهد فَإِذا هُوَ بِرَجُل يسْقِي إبِله فَنزل كثير عَن رَاحِلَته واستظل بشجرة هُنَاكَ فَأَبْصَرَهُ النَّهْدِيّ وَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ عَن اسْمه وَنسبه فانتسب فرحبَ بِهِ فَأخْبرهُ كثير عَمَّا رأى فِي طَرِيقه فَقَالَ أما الْغُرَاب فغربة وَأما البانة فَبين وَأما نتف ريشه ففرقة فتطير من ذَلِك ومشَى حَتَّى دنا من دمشق فَإِذا بِجنَازَة فاستعبر وَقَالَ أسأَل الله خير مَا هُوَ كَائِن فَسَأَلَ عَن الْمَيِّت فَإِذا هِيَ عزة فَخر مغشياً عَلَيْهِ فعُرِفَ وصب عَلَيْهِ المَاء فَكَانَ مجهوده أَن بلغ الْقَبْر فَلَمَّا دفنت انكب على الْقَبْر وَهُوَ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(سِرَاجُ الدُّجَى صفْرُ الحَشَا مُنْتَهى المنى ... كَشَمْسِ الضحَى نَوَّامة حينَ أُصْبحُ)
(إِذا مامشتْ بَين البيوتِ تخزَّلت ... ومالَتْ كَمَا مَال النزيفُ المرنَّحُ)
(تعاَّقتُ عزا وهىَ رَود شبابها ... علاقَة حُبَّ كَاد بالقَلْبِ يرجحُ)
(أقولُ ونِضْوِى واقفٌ عِنْد رَمْسِها ... عليكِ سلامُ اللهِ والعَيْن تسفَحُ)
(فَهَلا فَدَاكِ الموتُ مَنْ أنتِ دونه ... ومَنْ هُوَ أسوا منكِ دلاَّ وأقبحُ)
(على أمَّ بكرٍ رحمةٌ وتحيَّةٌ ... لَهَا مِنْك والنائي يودُّ ينصحُ)
(منعمة لَو يدرج النمْلُ بَينهَا ... وَبَين حواشِي بردهَا كَادَ يجرحُ)
(وَمَا نظَرَتْ عَيْني إِلَى ذِي بشاشةٍ ... من الناسِ إِلَّا أنْتِ فِي العينِ أملحُ)(3/282)
ثمَّ بَكَى حَتَّى غشي عَلَيْهِ فأفاق وَهُوَ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(مَا أَعْيفَ النَّهْدِيَّ لَا دَرَّ دَرُّهُ ... وأزجَرَهُ للطَّيْرِ لَا طَارَ طاءرُهْ)
(رأيتُ غراباً واقِعًا فَوْقَ بانَةٍ ... يُنَتّفُ أعلَى ريشِهِ ويطايرُهْ)
(فَقَالَ غرابٌ ذَا اغترابٌ من النوَى ... وبانَة بَيْن مِنْ حَبِيبٍ تُعَاشِرُهْ)
ثمَّ لم ير ضَاحِكا بعْدهَا حَتَّى أدْركهُ الْمَوْت انْتهى وَقيل كَانَ جوثة الضمرِي صديقا لعبد الْملك بن مَرْوَان ثمَّ خرج عَلَيْهِ مَعَ ابْن الزبير فَلَمَّا استأمن النَّاس قَالَ عبد الْملك لجوثة أكنتُ مُسْتَحقّا مِنْك أَن تعين ابْن الزبير على مَا بيني وَبَيْنك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تعجلن عَليّ حَتَّى تسمعَ عُذْري قَالَ هاته قَالَ هَل رَأَيْتنِي قطّ فِي حَرْب أَو سباق أَو نضال إِلَّا والفئة الَّتِي أَنا مَعهَا مغلوبة ومهزومة بِسوء بخْتِي وشؤمي وَإِنِّي خرجت مَعَ ابْن الزبير ليقل على رسمي فَضَحِك مِنْهُ عبد الْملك وَعَفا عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ وَقَالَ عبد الْملك كلكُمْ يرشح نَفسه لهَذَا الْأَمر يَعْنِي الْخلَافَة وَلَا يصلح لَهُ مِنْكُم إِلَّا من كَانَ لَهُ سيف مسلول وَمَال مبذول وَعدل تطمئِن إِلَيْهِ الْقُلُوب والعقول وَقَالَ لِابْنِهِ الْوَلِيد يَا بني اعْلَم أَنه لَيْسَ بَين السُّلْطَان وَبَين أَن يملك الرّعية أَو تملكه الرّعية إِلَّا حزم أَو توان واصطبح فِي يَوْم شَدِيد الْبرد فَدَعَا بِزَوْج سمور وعمامة خَز فلبسهما وَأمر بكَوَانِينِ النارِ فأضرم فِيهَا الفحم بَين يَدَيْهِ ثمَّ دَعَا بمُضَحِكٍ لَهُ يُدعَى أَبَا الزعيريرة فَقَالَ لَهُ عبد الْملك اخْرُج إِلَى الشتَاء فَقل لَهُ أرعد وأبرق كَيفَ شِئْت قد استعددنا لَك فَخرج إِلَى صحن الدَّار ثمَّ عَاد فَقَالَ قد أديتُ رسالتَكَ إِلَيْهِ فَقَالَ أمَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ وَلَكِن وَالله لَأَضرِبَن ضبب أبي الزعيريرة ضربا يدْخلهُ فِي حِر أمه فَضَحِك مِنْهُ وَوَصله وخلع عَلَيْهِ من ثِيَابه وَكَانَ يَقُول خلَّتَانِ لَا تدعوهما إِن قدرتم تعلم الْعَرَبيَّة ولباس الثِّيَاب الفاخرة فَإِنَّهُمَا الزِّينَة والمروءة الظَّاهِرَة وَعَن عوَانَة قَالَ جرى بَين عُرْوَة بن الزبير وَبَين عبد الْملك بن مَرْوَان كَلَام أغْلظ لَهُ عُرْوَة فِيهِ وَكَانَ الْحجَّاج حَاضرا فَقَالَ لَهُ يَا ابْن العمياء أَتكَلّم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمثل هَذَا فَقَالَ لَهُ عُرْوَة وَمَا أَنْت وَذَاكَ يَا ابْن المتمنية فَضَحِك(3/283)
عبد الْملك وَقَالَ للحجاج قد كنت غَنِيا عَن هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ عُرْوَة أَن أم الْحجَّاج وَهِي الفارعة بنت همام قَالَت // (من الْبَسِيط) //
(هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمرٍ فَأَشْرَبَها ... أَمْ هَلْ سَبِيلٌ إِلَى نَصْرِ بنِ حَجَّاجِ)
وَكَانَ نصر بن الْحجَّاج هَذَا من أجمل أهل الْمَدِينَة قلت ذكرُوا أَن عمر بن الْخطاب خشِي من وُقُوع الْفِتْنَة بِهِ فنفاه من الْمَدِينَة بعد أَن حلق لمة كَانَت لَهُ فَفِيهِ يَقُول الشَّاعِر // (من الْخَفِيف) //
(حَلَقُوا رَأْسَهُ لِيَزْدَادَ قُبْحا ... غِيرَةٌ مِنْهُمُ عَلَيْهِ وشُحَّا)
(كَانَ صُبْحًا عَلَيْهِ لَيْلٌ بهيمٌ ... فَمَحَوْا لَيْلَهُ وأَبْقَوْهُ صُبْحَا)
وَعَن الْمَدَائِنِي جرى بَين عبد الْملك وَعَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ مُنَازعَة فَأَغْلَظ لَهُ عَمْرو فَقَالَ لَهُ خَالِد بن يزِيد يَا عَمْرو أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يكلم بِمثل هَذَا فَقَالَ لَهُ عَمْرو اسْكُتْ فوَاللَّه لقد سلبوك ملكَكَ ونكَحُوا أمك فَمَا هَذَا النصح الموشح بغش أَنْت كَمَا قَالَ الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(كَمُرْضِعَةٍ أولادَ أُخْرَى وضيعَتْ ... بنيها فَلَم ترقع بذلك مَرْقَعَا)
وَقدم الْحجَّاج على عبد الْملك بن مَرْوَان فَمر بِخَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَعِنْده رجل من أهل الشَّام فَقَالَ الشَّامي لخَالِد من هَذَا يُشِير إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ لَهُ خَالِد كَالْمُسْتَهْزِئِ هَذَا عَمْرو بن الْعَاصِ فَعدل إِلَيْهِ الْحجَّاج وَقَالَ إِنِّي وَالله مَا أَنا بِعَمْرو بن الْعَاصِ وَلَا ولدت عمرا وَلَا ولدني وَلَكِنِّي ابْن الغطاريف من ثَقِيف والعقائل من قُرَيْش وَلَقَد ضربت بسيفي هَذَا أكثَرَ من مائَة ألف كلهم يشْهد أَنَّك وأباك وَجدك من أهل النَّار ثمَّ لم أجد لذَلِك جَزَاء وَلَا شكرا وَانْصَرف عَنهُ وَهُوَ يَقُول عَمْرو بن الْعَاصِ عَمْرو بن الْعَاصِ وَكَانَ عبد الْملك إِذا دخل عَلَيْهِ رجل من أفق من الْآفَاق قَالَ لَهُ أعفني من أَربع وَقل بعْدهَا مَا شِئْت لَا تكذبني فَإِن المكذوب لَا رَأْي لَهُ وَلَا تجبني عَمَّا لم أَسأَلك فَإِن فِيمَا أَسأَلك غنية عَنهُ وَلَا تطرني فَإِنِّي أعلم بنفسي مِنْك وَلَا تحملنِي على الرّعية فَإِنِّي إِلَى الرِّفْق بهم أحْوج ذكر ابْن خلكان أَن عبد الْملك بن مَرْوَان لما عزم على الْخُرُوج لمحاربة(3/284)
مُصعب بن الزبير ناشدته زَوجته عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة أَلا يخرج بِنَفسِهِ وَأَن يَسْتَنِيب غَيره وألحت عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة فَلَمَّا لم يسمع مِنْهَا بَكت وَبكى من حولهَا من جواريها وحشمها فَقَالَ عبد الْملك قَاتل الله كثيراًَ كَأَنَّهُ رأى موقفنا هَذَا حِين قَالَ // (من الطَّوِيل) //
(إِذا مَا أرَادَ الغزْوَ لم يَثْنِ هَمَّهُ ... حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرِّ يَزينُهَا)
(نهتْهُ فلمَّا لم تَرَ النَّهيَ عاقَهُ ... بكَتْ فبكَى مِمَّا شَجَّاهَا قَطِينُهَا)
ثمَّ عزم عليهل أَن تقصر وَخرج وروى جرير بن عبد الحميد لعبد الْملك // (من الطَّوِيل) //
(لَعَمْري لقد عُمِّرْتُ فِي الدهْرِ بُرْهَةً ... ودلنَتْ لِيَ الدُّنيا بِوَقْعِ البَوَاترِ)
(فَأضحَى الَّذِي قد كَانَ ممَّا يَسُرُّنِي ... كلمحٍ مَضَى فِي المزمناتِ الغوابرِ)
(فيا لَيْتَني لَمْ أَغْنَ فِي الْملك ساعةَ ... وَلم أَلْهُ فِي لذاتِ عيشٍ نواضِرِ)
(وكنتُ كذي طِمْرَيْنِ عاشَ ببُلْغَةٍ ... من الدَّهْرِ حتَّى زارَ ضَنْكَ المَقَابرِ)
وَعَن يحيى الغساني قَالَ كَانَ عبد الْملك كثيرا مَا يجلس إِلَى أم الدَّرْدَاء فِي مُؤخر الْمَسْجِد بِدِمَشْق فَقَالَت لَهُ مرّة بَلغنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنَّك شربت الطلا بعد النّسك وَالْعِبَادَة فَقَالَ إِي وَالله والدماء وَقَالَ عَليّ بن مُحَمَّد لما أيقَنَ عبد الْملك بِالْمَوْتِ دَعَا مَوْلَاهُ أَبَا علاقَة فَقَالَ وَالله لَوَدِدْت أَنِّي كنت مُنْذُ ولدت يومي هَذَا جمالاَ وَلم يكن لَهُ من الْبَنَات إِلَّا وَاحِدَة وَهِي فَاطِمَة وَكَانَ قد أَعْطَاهَا قرطي مَارِيَة والدرة الْيَتِيمَة وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي لم أخلف شَيْئا أهم إِلَيّ مِنْهَا فاحفظها فَتَزَوجهَا عمر بن عبد الْعَزِيز ثمَّ أوصى بنيه بتقوى الله ونهاهم عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف وَقَالَ انْظُرُوا مسلمة وأصدروا عَن رَأْيه يَعْنِي أَخَاهُم فَإِنَّهُ مجنكم الَّذِي تجتنون بِهِ ونابكم الَّذِي عَنهُ تفترون وَكُونُوا بني أم بررة وَكُونُوا فِي الْحَرْب أَحْرَار واحلولوا فِي مرَارَة ولينوا فِي شدَّة وَكُونُوا كَمَا قَالَ ابْن عبد الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيّ // (من الْكَامِل) //
(إنَّ القِدَاحَ إِذا اجتمعْنَ فَرَامَهَا ... بالكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وبطْشٍ أَيِّدِ)
(عَزَّتْ فَلم تُكْسَرْ وإنْ هِيَ بُدِّدَتْ ... فالكَسْرُ والتوْهِينُ للمتبدِّدِ)(3/285)
يَا وَلَدي اتَّقِ الله فِيمَا أخلفك فِيهِ واحفظ وصيتي وَخذ بأَمْري وَانْظُر أخي مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ ابْن أُمِّي وَقد ابتلى فِي عقله بِمَا علمتَ ولولاك لآثرته بالخلافة فصل رَحمَه واحفظني فِيهِ وَانْظُر أخي مُحَمَّد بن مَرْوَان فأقره على الجزيرة وَلَا تعزله وَانْظُر أَخَاك عبد الله فَلَا تؤاخذه وأقرره على عمله بِمصْر وَانْظُر الْحجَّاج فَأكْرمه فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي وطأ لكم المنابر وَهُوَ سَيْفك يَا وليد ويدك على من ناوأك فَلَا تسمعن فِيهِ قَول أحد وَأَنت إِلَيْهِ أحْوج مِنْهُ إِلَيْك ثمَّ تمثل // (من الوافر) //
(فَهَلْ مِنْ خالدٍ إمَّا هَلَكْنا ... وهَلْ بالمَوْتِ يَا للناسِ عارُ)
وِلَادَته فِي شهر رَمَضَان سنة خمس وَعشْرين من الْهِجْرَة وجلوسه فِي شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ مدَّته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وشهران وَفَاته يَوْم الْخَمِيس نصف شَوَّال سنة سِتّ وَثَمَانِينَ عمره إِحْدَى وَسِتُّونَ سنة خلف سَبْعَة عشر ذكرا وَأُنْثَى وَاحِدَة ولي الْخلَافَة مِنْهُم أَرْبَعَة الْوَلِيد وَسليمَان وَهِشَام وَيزِيد وَكَانَ مِنْهُم ولد اسْمه مُعَاوِيَة مَشْهُورا بالعِي والبلادة طَار يَوْمًا باز من يَده فَقَالَ أغلقوا أَبْوَاب الْمَدِينَة حَتَّى لَا يخرج الْبَازِي ووقف يَوْمًا على بَاب طحان فَنظر إِلَى حمَار لَهُ يَدُور بالرحى وَفِي عُنُقه جلجل فَقَالَ للطحان لم جعلت هَذَا الجلجل فِي عنق هَذَا الْحمار فَقَالَ الطَّحَّان رُبمَا أدركتني سآمة أَو نمت فَإِذا لم أسمع الجلجل علمت أَنه وَاقِف فَصحت عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْت إِن وقف الْحمار وحرك رَأسه بالجلجل فَقَالَ الطَّحَّان من لي بِحِمَار يكون عقله مثل عقل ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ أَبوهُ عبد الْملك منع أَن يمشي أحد بِاللَّيْلِ بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة فَخرج ذَات لَيْلَة مَعَ الشَّرْط يَدُور فِي الطّرق فوجدوا رجلاَ فَلَمَّا رَآهُمْ الرجل قعد على رَوْث فرس فَقَالُوا لَهُ لم خرجتَ قَالَ خرجت لأقضي الْحَاجة فتلوه من يَده فَإِذا تَحْتَهُ رَوْث فرس فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَا عَلَيْكُم أَلا تبحثوا عَن ذَلِك يخرى كل إِنْسَان مَا أَرَادَ فَقَالَ مُعَاوِيَة ابْن عبد الْملك صدق وَالله فأطلقوه بعد أَن استغبروا ضحكاً وَكَانَ عبد الْملك يروم خلع أَخِيه عبد الْعَزِيز من ولَايَة الْعَهْد الَّذِي كَانَ عَهده أَبوهُ مَرْوَان لعبد الْملك بن مَرْوَان ثمَّ من بعده لِأَخِيهِ عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان والبيعة لِابْنِهِ(3/286)
الْوَلِيد وَكَانَ قبيصَة ينهاه عَن ذَلِك وَيَقُول لَعَلَّ الْمَوْت يَأْتِيهِ وتدفع الْعَار عَن نَفسك وجاءه رَوح بن زنباع لَيْلَة وَكَانَ عِنْده عَظِيما ففاوضه فِي ذَلِك فَقَالَ لَو فعلته مَا انتطح فِيهِ عنزان فَقَالَ نصبح إِن شَاءَ الله وَأقَام روح عِنْده وَدخل عَلَيْهِمَا قبيصَة بن ذُؤَيْب من جنح اللَّيْل وهما نائمان وَكَانَ لَا يحتجب عَنهُ وَإِلَيْهِ الْخَاتم وَالسِّكَّة فَأخْبرهُ بِمَوْت عبد الْعَزِيز أَخِيه فَقَالَ عبد الْملك لروح كفانا الله مَا نُرِيد ثمَّ ضم مصر إِلَى ابْنه عبد الله بن عبد الْملك وَيُقَال إِن الْحجَّاج كتب إِلَى عبد الْملك يزين لَهُ الْبيعَة للوليد فَكتب عبد الْملك إِلَى عبد الْعَزِيز إِنِّي رَأَيْت أَن يصير الْأَمر إِلَى ابْن أَخِيك فَكتب لَهُ عبد الْعَزِيز إِنِّي أرى فِي ابْني أبي بكر مَا ترى فِي الْوَلِيد فَكتب عبد الْملك إِلَى عبد الْعَزِيز أَن يحمل خراج مصر فَكتب إلية إِنِّي وَإِيَّاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَشْرَفنَا على عمر أهل بيتنا وَلَا ندرى أَيّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْت فَلَا تفْسد على بَقِيَّة عمري فَرَق لَهُ عبد الْملك وَتَركه وَلما جَاءَ الْخَبَر بِمَوْتِهِ وَذَلِكَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ أَمر النَّاس بالبيعة لِوَلَدَيْهِ الْوَلِيد ابْن عبد الْملك وَسليمَان بن عبد الْملك وَكتب بالبيعة لَهما إِلَى الْبلدَانِ وَكَانَ على الْمَدِينَة هِشَام بن إِسْمَاعِيل المَخْزُومِي فَدَعَا النَّاس إِلَى الْبيعَة فَأَجَابُوا إِلَّا سعيد بن الْمسيب فَضَربهُ ضربا مبرحاً وَطَاف بِهِ فِي الْأَسْوَاق وَكتب عبد الْملك إِلَى هِشَام يلومه وَيَقُول إِن سعيد لَيْسَ عِنْده شقَاق وَلَا خلاف وَقد كَانَ ابْن الْمسيب امْتنع من بيعَة ابْن الزبير فَضَربهُ جَابر بن الْأسود عَامل الْمَدِينَة لِابْنِ الزبير سِتِّينَ سَوْطًا وَكتب ابْن الزبير يلوم جَابِرا
(خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك)
قَالَ الثعالبي قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان ولدت فِي شهر رَمَضَان وفطمت فِيهِ وَبَلغت الْحلم فِيهِ وَوليت الْخلَافَة فِيهِ وختمت الْقُرْآن فِيهِ وأظن موتِي فِيهِ فَلَمَّا(3/287)
دخل شَوَّال أَمن الْوَفَاة فَتوفي فِي شَوَّال فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ كَمَا تقدم ذكره وَلما دفن قَالَ الْوَلِيد إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَالله الْمُسْتَعَان على مُصِيبَتنَا بأمير الْمُؤمنِينَ وَالْحَمْد لله على مَا أنعم بِهِ علينا من الْخلَافَة فَكَانَ أول من عزى نَفسه وهنأها ثمَّ قَامَ عبد الله بن همام السَّلُولي فَقَالَ // (من الرجز) //
(أَللهُ أعْطَاك الَّتِي لَا فَوْقَهَا ... وَقَدْ أَرَادَ المُلْحِدُونَ عَوْقَهَا)
(عَنْكَ ويَأْبَى الله إِلَّا سَوْقَهَا ... إلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طوقَهَا)
وَبَايَعَهُ ثمَّ بَايعه النَّاس بعده ثمَّ صعد الْوَلِيد الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس لَا مقدم لما أخر الله وَلَا مُؤخر لما قدمه الله وَقد كَانَ من قَضَاء الله وسابق علمه مَا كتب على أنبيائه وَحَملَة عَرْشه الْمَوْت وَقد صَار أبي إِلَى منَازِل الْأَبْرَار وَولي هَذِه الْأمة بِالَّذِي يحِق الله عَلَيْهِ من الشدَّة على المذنب واللين لأهل الْحق وَالْفضل وَإِقَامَة مَا أَقَامَ الله من منَازِل الْإِسْلَام وأعلامه من حج الْبَيْت وغزو الثغور وَشن الْغَارة على أَعدَاء الله فَلم يكن عَاجِزا وَلَا مفرطاً أَيهَا النَّاس عَلَيْكُم بِالطَّاعَةِ وَلُزُوم الْجَمَاعَة فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْفَرد أَيهَا النَّاس من أبدى لنا نَفسه ضربنا الَّذِي فِيهِ عَيناهُ وَمن سكت مَاتَ بدائه ثمَّ نزل
(عمَارَة الْمَسْجِد النَّبَوِيّ على يَد عَامله على الْمَدِينَة عمر بن عبد الْعَزِيز)
كَانَ الْوَلِيد عزل هِشَام بن إِسْمَاعِيل المَخْزُومِي عَن الْمَدِينَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَولى عَلَيْهَا ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان فَقَدمهَا وَنزل دَار مَرْوَان ودعا عشرَة من فُقَهَاء الْمَدِينَة فيهم الْفُقَهَاء السَّبْعَة المعروفون فجعلهم أهل مشورته لَا يقطع أمرا دونهم فَأَمرهمْ أَن يبلغُوا الْحَاجَات والظلامات إِلَيْهِ فشكروه وجزوه خيرَاً ودعا لَهُ النَّاس(3/288)
ثمَّ كتب إِلَيْهِ الْوَلِيد سنة ثَمَانِينَ أَن يدْخل حجر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فِي الْمَسْجِد وَأَن يَشْتَرِي مَا فِي نواحي الْمَسْجِد من الدّور حَتَّى يَجعله مِائَتي ذِرَاع فِي مثلهَا وَيقدم الْقبْلَة وَمن أبي أَن يعطيك ملكه فقومه قيمَة عدل وادفع إِلَيْهِ الثّمن واهدم عَلَيْهِ الْملك وَلَك فِي عمر وَعُثْمَان أُسْوَة فِي ذَلِك فَأعْطَاهُ أهل الْأَمْلَاك مَا أحب مِنْهَا بأثمانها وَبعث الْوَلِيد إِلَى ملك الرّوم إِنِّي أُرِيد بِنَاء الْمَسْجِد النَّبَوِيّ فَبعث إِلَيْهِ ملك الرّوم بِمِائَة ألف مِثْقَال من الذَّهَب وَمِائَة من الفعلة وَأَرْبَعين حملا من الفسيفساء فَبعث بذلك كُله إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز واستكثر مَعَهم من فعلة الشَّام وَشرع فِي عِمَارَته فعمره عمر بن عبد الْعَزِيز وَلم يُغير شَيْئا من مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنه
حَتَّى إِنَّه يَأْتِي الْجذع الْقَائِم فيقلعه ثمَّ يضع مَوْضِعه أساس الأسطوانة وَيرْفَع الْبناء عَلَيْهَا فَلِذَا ترى بعض الأساطين متسعاً مَا بَينهَا وَبَعضهَا متضايقاً لِأَنَّهَا كَانَت كَذَلِك فِي بِنَاء عمر بن الْخطاب الَّذِي هُوَ على بنائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ورزق الْفُقَهَاء والفقراء والضعفاء وَحرم عَلَيْهِم سُؤال النَّاس وَفرض لَهُم مَا يكفيهم وَضبط الْأُمُور أتم ضبط ثمَّ ولى سنة تسع وَثَمَانِينَ على مَكَّة خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي قَالَ العبشمي عَن أَبِيه كَانَ الْوَلِيد دميماً سَائل الْأنف طويلاَ أسمر بِهِ أثر جدري أفطس وبمقدم لحيته شمط لَيْسَ فِي رَأسه ولحيته غَيره إِذا مَشى يتبختر فِي مشيته كَانَ أَبَوَاهُ يترفانه فشب بِلَا أدب وَلَا علم وروى يحيى الغساني أَن روح بن زنباغ قَالَ دخلت يَوْمًا على عبد الْملك وَهُوَ مهموم فَقَالَ لي فَكرت فِيمَن أوليه أَمر الْعَرَب فَلم أَجِدهُ فَقلت أَيْن أَنْت عَن الْوَلِيد قَالَ إِنَّه لَا يحسن النَّحْو قَالَ فَقَالَ لي عبد الْملك رُح إِلَى العشية فَإِنِّي سأظهر كآبة فسلني قَالَ فرحت إِلَيْهِ والوليد عِنْده فَقلت لَهُ لَا يسوءك الله مَا هَذِه الكآبة قَالَ فَكرت فِيمَن أوليه أَمر الْعَرَب فَلم أَجِدهُ فَقلت أَيْن أَنْت عَن رَيْحَانَة قُرَيْش وسيدها الْوَلِيد فَقَالَ لي يَا أَبَا زنباع إِنَّه لَا يَلِي الْعَرَب إِلَّا من تكلم(3/289)
بكلامهم قَالَ فَسَمعَهَا الْوَلِيد فَقَامَ من سَاعَته وَجمع أَصْحَاب النَّحْو وَجلسَ مَعَهم فِي بَيت وطبق عَلَيْهِ سِتَّة أشهر ثمَّ خرج وَهُوَ أَجْهَل مِمَّا كَانَ فَقَالَ عبد الْملك أما إِنَّه قد أعذر كَذَا قَالَه الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي الدول وروى سعيد بن عَامر الضبعِي عَن كثير أبي الْفضل الطفَاوِي قَالَ شهِدت الْوَلِيد بن عبد الْملك صلى الْجُمُعَة وَالشَّمْس على الشّرف ثمَّ صلى الْعَصْر وَبَنُو أُميَّة معروفون بِتَأْخِير الصَّلَوَات عَن أول أَوْقَاتهَا قَالَ فِي مسامرة الْأَخْبَار قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي حَدثنَا أَبُو عِكْرِمَة الضَّبِّيّ أَن الْوَلِيد بن عبد الْملك قَرَأَ على الْمِنْبَر {يَا ليتَهَا كانتِ القَاضِيَةَ} الحاقة 27 وَضم التَّاء وَتَحْت الْمِنْبَر عمر بن عبد الْعَزِيز وَسليمَان بن عبد الْملك أَخُوهُ فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وددتها وَالله عَلَيْك وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ كَانَ الْوَلِيد لحانا كَأَنِّي اسْمَعْهُ على مِنْبَر النَّبِي
يَقُول يَا أهل الدينة وَكَانَ الْوَلِيد جباراً ظالمَاً لكنه أَقَامَ الْجِهَاد فِي أَيَّامه وَفتحت فِي خِلَافَته فتوحات عَظِيمَة وَكَانَ يختن الْأَيْتَام ويرتب لَهُم المؤدبين ويرتب للزمنَى من يخدمهم وللأضراء من يقودهم من رَقِيق بَيت مَال وَعمر مَسْجده عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام ووسَعه وَكَانَ يبر حَملَة الْقُرْآن وَيَقْضِي دُيُونهم وَبنى الْجَامِع الْأمَوِي فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ قَالَ الْعَلامَة مُحَمَّد بن مصطفى الشهير بكاتي فِي تَارِيخه بغية الخاطر إِن الْوَلِيد بنى بِدِمَشْق الْجَامِع الْمَشْهُور بِجَامِع بني أُميَّة وَشرع فِي بنائِهِ أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَحين شرع احضر العملة من كل جِهَة وعدتهم اثْنَا عشر ألف رجل وَأنْفق فِي عِمَارَته أَرْبَعمِائَة صندوق فِي كل صندوق من الذَّهَب الْعين ثَمَانِيَة وَعشْرين ألف دِينَار ذَهَبا أَحْمَر وامتد بِنَاؤُه عشر سِنِين وَفِيه عَمُود من المرمر يمِيل إِلَى الْحمرَة اشْتَرَاهُ بِأَلف وَخَمْسمِائة دِينَار(3/290)
قَالَ فِي خريدة الْعَجَائِب وَفِي محرابه عمودان صغيران من المرمر الْأَخْضَر حصله من عرش بلقيس الملكة ابْنة الهدهاد زَوْجَة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام وَجعل فِي الْمَسْجِد طاقات على عدد أَيَّام السّنة تدخل الشَّمْس فِي كل يَوْم من طاق من تِلْكَ الطاقات وَكَانَت فِيهِ سِتّمائَة سلسلة من ذهب للقناديل وَمَا زَالَت إِلَى أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز بعد سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَجَعلهَا فِي بَيت المَال وَاتخذ عوضهَا صفراً وحديداً قَالَ الذَّهَبِيّ قَالَ ضَمرَة عَن عَليّ بن أبي عبلة سمع عبد الله بن عبد الْملك ابْن مَرْوَان قَالَ قَالَ لي الْوَلِيد كَيفَ أَنْت وَالْقُرْآن قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أختمه فِي كل جُمُعَة قلت فَأَنت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَكَيف مَعَ الِاشْتِغَال قلت على ذَلِك قَالَ فِي كل ثَلَاث قَالَ عَليّ فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم بن أبي عبلة فَقَالَ كَانَ يخْتم فِي رَمَضَان سبع عشرَة ختمة وَقَالَ ضَمرَة سَمِعت إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة يَقُول رحم الله الْوَلِيد وَأَيْنَ مثل الْوَلِيد فتح الْهِنْد والسند والأندلس وَغَيرهَا وَبنى مَسْجِد النَّبِي
ووسعه وَبني مَسْجِد دمشق وَكَانَ يعطيني قصاع الْفضة أقسمها على قَرَأَ بَيت الْمُقَدّس غَرِيبَة قَالَ عَمْرو بن عبد الْوَاحِد الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن أَبِيه قَالَ خرج الْوَلِيد بن عبد الْملك من الْبَاب الْأَصْغَر فَوجدَ رجلا عِنْد الْحَائِط عِنْد المئذنة الشرقية يَأْكُل وَحده فجَاء حَتَّى وقف على رَأسه فَإِذا هُوَ يَأْكُل خبزَاً وتراباً فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد مَا شَأْنك انْفَرَدت عَن النَّاس قَالَ أَحْبَبْت الْوحدَة قَالَ فَمَا حملك على أكل التُّرَاب أما فِي بَيت مَال الْمُسلمين مَا يجْرِي عَلَيْك قَالَ بلَى وَلَكِن رَأَيْت القنوع قَالَ فَرجع الْوَلِيد إِلَى مَجْلِسه ثمَّ أحضرهُ فَقَالَ إِن لَك لخبرا لختبرني بِهِ وَإِلَّا ضربت عُنُقك قَالَ نعم كنت جمالا وَمَعِي ثَلَاثَة أجمال موقرة طَعَاما حَتَّى أتيت مرج الصفر فَقَعَدت فِي خربة أبول فَرَأَيْت الْبَوْل ينصب فِي شقّ فَأَتْبَعته حَتَّى كشفته فَإِذا غطاء على حفير فَنزلت فَإِذا مَال صبيب(3/291)
فأنخت رواحلي وحللت أعكامي ثمَّ أوقرتها ذَهَبا وغطيت الْمَوْضُوع فَلَمَّا سرت عَنهُ غير يسير وجدت معي مخلاة فِيهَا طَعَام فَقلت أَنا أترك الكسرة ففرغتها وَرجعت لأملأها فخفي على الْموضع وأتعبني الطّلب فَرَجَعت إِلَى الْجمال فَلم أَجدهَا وَلم أجد الطَّعَام الَّذِي أخرجته من المخلاة فآليت على نَفسِي أَلا آكل شَيْئا إِلَّا الْخبز بِالتُّرَابِ فَقَالَ الْوَلِيد كم لَك من الْوَلَد فَذكر عيالا قَالَ يجْرِي عَلَيْك من بَيت المَال وَلَا تسْتَعْمل فِي شَيْء فَإِن هَذَا هُوَ المحروم قَالَ ابْن جَابر فَذكر لنا أَن الْجمال جَاءَت إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين فأناحت عِنْده فَأَخذهَا أَمِين الْوَلِيد فطرحها فِي بَيت المَال رُوَاته ثِقَات قَالَه الْكِنَانِي وَعَن نمير بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ عَن أَبِيه قَالَ قَالَ الْوَلِيد لَوْلَا أَن الله ذكر آل لوط فِي الْقُرْآن مَا ظَنَنْت أَن أحدَاً يفعل هَذَا وَعَن يزِيد بن الْمُهلب قَالَ لما ولاني سُلَيْمَان بن عبد الْملك خرسان روعني عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ لي يَا يزِيد اتَّقِ الله فَإِنِّي حِين وضعت الْوَلِيد فِي قَبره إِذا هُوَ يرْكض فِي أَكْفَانه يَعْنِي يضْرب الأرضْ برجليه دخل جرير على الْوَلِيد بن عبد الْملك وَعِنْده عدي بن الرّقاع العاملي فَقَالَ الْوَلِيد لجرير أتعرف هَذَا قَالَ لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قل هَذَا عدي بن الرّقاع فَقَالَ جرير شَرّ الثِّيَاب الرقاِع فممنْ هُوَ قَالَ من عاملة قَالَ جرير الَّذين يَقُول الله تَعَالَى فيهم {عاملة ناضبة تَصلى نَاراً حَاميَةَ} الغاشية 3، 4 ثمَّ قَالَ // (من الطَّوِيل) //
(يُقَصَّرُ باعُ العامِلِي عَن العُلا ... ولكنَّ أَيْرَ العامِلِيِّ طويلُ)
فَقَالَ لَهُ عدي // (من الطَّوِيل) //
(أأمُّكَ كَانَتْ خَبِّرَتْكَ بِطُولِهِ ... أَمَ انْتَ امْرُؤٌ لَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَقُولُ)(3/292)
فَقل لَا بل أَنا امْرُؤ لم أدر كَيفَ أَقُول فَوَثَبَ عدي إِلَى رجل الْوَلِيد يقبلهَا وَيَقُول أجرني مِنْهُ فَقَالَ الْوَلِيد لجرير لَئِن ذكرته فِي شعرك لأسرجنك وألجمنك حَتَّى يركبك فتعيرك بذلك الشُّعَرَاء قَالَ الْمَدَائِنِي آتى الْوَلِيد بن عبد الْملك بِرَجُل من بني عبس قد ذهبت عينه فَسَأَلَهُ عَن سَبَب ذَلِك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا كَانَ فِي بني عبس أَكثر مني مَالا وَولدا فآتى السَّيْل فاجترف مَالِي وَوَلَدي وَبَقِي لي ولد صَغِير وبعير فَحملت الصَّبِي وند الْبَعِير فَوضعت الصَّبِي وتبعته فنخفى بِرجلِهِ ففقأ عَيْني فَرَجَعت إِلَى ابْني فَإِذا الذِّئْب يلغ من دَمه فَقَالَ الْوَلِيد اذهبو بِهِ إِلَى عُرْوَة بن الزبير ليعلم أَن فِي الدُّنْيَا من هُوَ أعظم مُصِيبَة مِنْهُ انْتهى قلت ومصيبة عُرْوَة بن الزبير فِي رجله وَولده شهيرة
(وَفَاة الْحجَّاج)
هُوَ الْحجَّاج بن يُوسُف بن الحكم بن أبي عقيل بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ أَمِير الْعرَاق أَبُو مُحَمَّد ولد سنة أَرْبَعِينَ أَو إِحْدَى وَأَرْبَعين وَكَانَ فصيحا بليغا مفوها فَاسِقًا ظلوما غشوما سافكا للدماء روى أَنه لم يرضع الثدي حَتَّى قَالَ بعض الْكُهَّان اذبحوا لَهُ ثَلَاث جدي وألعقوه بعض دَمهَا وغسلوه بِالدَّمِ فَفَعَلُوا فَلذَلِك أَتَى يحب سفك الدِّمَاء وَولد بِغَيْر مخرج فَغُورَ لَهُ مخرج بالحديد قَالَ أَبُو عَمْرو مَا رَأَيْت أحدا أفْصح من الْحجَّاج وَالْحسن بن عَليّ وَالْحسن أفْصحهما وَسَتَأْتِي عدَّة مَا قلته صبرا وَمن كَانَ فِي سجنه وَقيل فِي سَبَب ولَايَة الْحجَّاج مَا ذكر بعض المؤرخين أَن الْحجَّاج لم يزل فِي كنف أَبِيه وَكَانَ أَبوهُ رجلا نبيلا جليلَ الْقدر إِلَى أَن اتَّصل بِروح بن زنباع من أُمَرَاء عبد الْملك ثمَّ بِهِ وَلم يزل يترقى إِلَى أَن ولي الْعرَاق والمشرق وطار ذكره وَعظم سُلْطَانه وَأول مَا علم من شهامته وجوره أَن أَبَاهُ خرج من مصر يُرِيد عبد الْملك وَمَعَهُ(3/293)
ابْنه الْحجَّاج فَأقبل سليم بن عَمْرو القَاضِي وَكَانَ من أروع النَّاس وأتقاهم فَقَامَ إِلَيْهِ أَبوهُ يُوسُف فَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَلَك حَاجَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ نعم أَن تسأله يعزلني عَن الْقَضَاء فَقَالَ يُوسُف لَوَدِدْت أَن قُضَاة الْمُسلمين كلهم مثلك فَكيف أسأله ذَلِك ثمَّ انْصَرف فَقَالَ الْحجَّاج لِأَبِيهِ من هَذَا الَّذِي قُمْت إِلَيْهِ فَقَالَ هَذَا سليم بن عَمْرو قَاضِي مصر وقاصهم فَقَالَ يغْفر الله لَك يَا أَبَت أَنْت ابْن عقيل تقوم " لى رجل فِي كِنْدَة فَقَالَ وَالله إِنِّي لأرَى النَّاس مَا يرحمون إِلَّا بِهَذَا وأشباهه فَقَالَ وَالله مَا يفْسد على أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا هَذِه وأشباهه يَقْعُدُونَ وتقعد أليهم أَحْدَاث فَيذكرُونَ سيرة أبي بكر وَعمر فَيخْرجُونَ على أَمِير الْمُؤمنِينَ فوَاللَّه لَو أضيف إلَي هَذَا الْأَمر لسألت أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَجْعَل لي السَّبِيل فأقتل هَذَا وأشباهه فَقَالَ لَهُ اتَّقِ الله يَا بني وَالله إِنِّي لأَظُن أَن الله خلقك شقيُّاً وَأول مَا أعجب بِهِ عبد الْملك مِنْهُ أَنه كَانَ قد اتَّصل بِروح بن زنباع وَصَارَ من جملَة شرطته وَكَانَ روح بن زنباع بِمَنْزِلَة نَائِب عبد الْملك توجه إِلَى الجزيرة لقِتَال زفر بن الْحَارِث عِنْدَمَا عصى عَلَيْهِ بقرقيسيا فَأمر رواح بن زنباع جمَاعَة من أَصْحَاب شرطته يحثون الْمُتَأَخِّرين عَن الْعَسْكَر فِي كل منزل وَكَانَ الْحجَّاج من جُمْلَتهمْ فَمر يَوْمًا بعد رحيل الْعَسْكَر بِجَمَاعَة من خواصِّ روح فِي خيمة يَأْكُلُون فَأَمرهمْ بالرحيل فسخروا مِنْهُ أَولا لمحلهم وثانية لمحل سيدهم وَقَالُوا لَهُ انْزِلْ كُلْ واسكُتْ فَضرب بِسَيْفِهِ أطناب الْخَيْمَة فَسَقَطت عَلَيْهِم وَأطلق فِيهَا نَارا فأحرقت أثاثهم فقبضوا عَلَيْهِ وأتو بِهِ روح بن زنباع وَسمع عبد الْملك الْخَبَر وَطَلَبه وَقَالَ من فعل هَذَا بغلمان روح فَقَالَ أَنْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرتنا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا وليتنا فَفَعَلْنَا مَا أمرت بِهَذِهِ الفعلة يرتدعُ من بَقِي من الْعَسْكَر وَمَا على أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يعوضهم مَا احْتَرَقَ وَقد قَامَت الْحُرْمَة وَتمّ المُرَاد فأعجب عبد الْملك ذَلِك وَقَالَ إِن شرطيكم لجلد ثمَّ أقره على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلما طَال الْحصار والقتال بَينه وَبَين زفر بن الْحَارِث أرسل عبد الْملك رَجَاء بن حَيْوَة وَجَمَاعَة مِنْهُم الْحجَّاج إِلَى زفر يَدعُوهُ إِلَى الصُّلْح فَأتوا بِالْكتاب وَقد حضرت الصَّلَاة فَقَامَ رَجَاء فصلى مَعَ زفر وصَلى الْحجَّاج وَحده فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ لَا أُصَلِّي مَعَ مُنَافِق خَارج عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ وبارز عَن طَاعَته فَسمع ذَلِك(3/294)
عبد الْملك فزاده عجبا بالحجاج وَرفع قدره وولاه تبادله وَهِي أول مَا وَلِي فَخرج إِلَيْهَا فَلَمَّا قرب سَأَلَ عَنْهَا فَقيل لَهُ إِنَّهَا وَرَاء هَذِه الأكمة فَقَالَ أُفٍّ لبلد تسترها الأكمة وَرجع فَقيل فِي الْمثل أَهْون على الْحجَّاج من تبَالَة ثمَّ وصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ وَزعم بعض الروَاة أَن أول أَمر الْحجَّاج أَنه كَانَ معلما للصبيان وَكَانَ يُسمى كليباً وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من المتقارب) //
(أَيَنْسَى كُلَيْبٌ زَمَانَ الهُزَالِ ... وتَعْلِيمَهُ سُورَةَ الكَوْثَرِ)
(رَغِيفٌ لَهُ فَلَكٌ مَا يُرَى ... وَآخرُ كَالقَمَرِ الأَزْهَرِ)
يُشِير إِلَى النَّاس أَن خبز المعلمين يخْتَلف فِي الصفر وَالْكبر بِحَسب اخْتِلَاف بيُوت الصّبيان ثمَّ صَار دباغَاً ويستدل على ذَلِك بحكايته مَعَ كَعْب الأشقري وَذَلِكَ أَن الْمُهلب بن أبي صفرَة لما أَطَالَ قتال الْأزَارِقَة وَكَانَ الْحجَّاج أرْسلهُ لذَلِك كتب إِلَيْهِ يستبطئه فِي تَأْخِير مناجزتهم فَقَالَ الْمُهلب لرَسُوله قل لَهُ إِن الشَّاهِد يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِب فَقَالَ كَعْب الْأَشْقَر وَكَانَ من جند الْمُهلب // (من الْكَامِل) //
(إنَّ ابْنَ يوسُفَ غَرَّهُ مِنَ غَزْوِكُم ... خَفْضُ المقامِ بجَانبِ الأمْصَارِ)
(لَو عَايَنَ الصَّفيَّن حِين تَلاَقَيَا ... ضَاقَتْ عَلَيْهِ برُحْبِهَا الأَقْطَارُ)
(وَرَأى معاوَدَةَ الدّباغ غنيمَةً ... أيامَ كَانَ مُحَالِفَ الإِقْتَارِ)
فبلغت أبياته الْحجَّاج فَكتب إِلَى الْمُهلب بإشخاصه فأشخصه الْمُهلب إِلَى عبد الْملك وَكتب إِلَيْهِ يستوهبه مِنْهُ فَقدم كَعْب برسالة الْمُهلب إِلَى عبد الْملك فاستنشده فأعجبه مَا سمع وَكتب إِلَى الْحجَّاج يقسم عَلَيْهِ أَن يعْفُو عَن كَعْب فَلَمَّا دخل كَعْب على الْحجَّاج قَالَ إيه يَا كَعْب وَرَأى معاودة الدّباغ غنيمَة فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير لَوَدِدْت فِي بعض مَا شاهدته فِي تِلْكَ الحروب وَمَا يردهُ الْمُهلب من خطرها أَن أنجُوَ مِنْهَا وأكون حجاماً أَو حائكاً فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج أولى لَك لَوْلَا قسم أَمِير الْمُؤمنِينَ لما نفعك مَا أسمع فالحَق بصاحبك وروى ابْن الْكلابِي عَن عوَانَة بن الحكم قَالَ سمع الْحجَّاج تكبيرَاً فِي السُّوق وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلَمَّا انصرَفَ صعد الْمِنْبَر فَقَالَ يَا أهل الْعرَاق يَا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الْأَخْلَاق قد سَمِعت تَكْبِيرا لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَاد بِهِ الله فِي(3/295)
التَّرْغِيب وَلكنه الَّذِي يُرَاد بِهِ التَّرْهِيب إِنَّهَا عجاجة تحتهَا قَصف أَي بني اللكيعة وَعبيد الْعَصَا وَأَوْلَاده الْإِمَاء أَلاَ يربأ الرجل مِنْكُم على ظلعه وَيحسن حمل رَأسه وحقن دَمه فيبصر مَوضِع قدمه وَالله مَا أرى الْأُمُور تنْتَقل بِي وبكم حَتَّى أوقع بكم وقْعَة تكون نكالا لما قبلهَا وتأديبا لما بَعْدَمَا وَقَالَ سيار أَبُو الحكم سمعتُ الْحجَّاج على الْمِنْبَر يَقُول أَيهَا الرجل وكلُكم ذَلِك الرجل رجل خطم نَفسه فزمها فقادها بخطامها إِلَى الطَّاعَة الله تَعَالَى وعنجها بزمامها عَن معاصي الله قَالَ مَالك بن دِينَار سَمِعت الْحجَّاج يخط فَيَقُول امْرُؤ زود نَفسه قبل أَن يكون الْحساب إِلَى غَيره امْرُؤ نظر إِلَى مِيزَانه امْرُؤ عقل عَن الله أمره امْرُؤ أَفَاق واستفاق وَأبْغض الْمعاصِي والنفاق وَكَانَ إِلَى مَا عِنْد الله بالأشواق فَمَا زَالَ يَقُول ذَلِك حَتَّى أبكاني وروى أَنه خطب فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ لَهُ مَا أصفق وَجهك وَأَقل حياءك تفعل مَا تفعل ثمَّ تَقول هَذَا فَأَخَذُوهُ فَلَمَّا نزل دَعَا بِهِ فَقَالَ لَهُ لقد أجترأت فَقَالَ يَا الْحجَّاج أَنْت تجتريء على الله فَلَا تنكره فِي نَفسك وأجترئ أَنا عَلَيْك فتنكره عَليّ فخلى سَبيله وَقَالَ شريك عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ الْحجَّاج يومَاً من كَانَ لَهُ بلَاء فَليقمْ فلنعطه على بلائه فَقَامَ رجل فَقَالَ أَعْطِنِي على بلائي قَالَ وَمَا بلائك قَالَ قتلت الْحُسَيْن قَالَ وَكَيف قتلته قَالَ دسرته بِالرُّمْحِ دسرا وهبرته البسيف هبرَاً وَمَا أشركت معي فِي قَتله أحدا قَالَ أما إِنَّك وإياه لن تجتمعا فِي مَوضِع وَاحِد وَقَالَ لَهُ اخْرُج وروى صَالح بن مُوسَى الطلحي عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة أَنهم ذكرُوا الْحُسَيْن(3/296)
رَضِي الله عَنهُ عِنْد الْحجَّاج فَقَالَ لم يكن من ذُرِّيَّة النَّبِي
فَقَالَ لَهُ يحيى بن يعمر كذبت أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج لتَأْتِيني على مَا قلت بِبَيِّنَة من كتاب الله تَعَالَى أَو لأَقْتُلَنك فَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمِن ذُرِيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيماَنَ وَأَيوُبَ وَيوُسُفَ وَمُوسَى وهاَرُونَ وكذَلِكَ نَجزي اَلمُحسِنِينَ وَزكرِيَا وَيحيىَ وَعِيسَى} الْأَنْعَام 84 85 ثمَّ قَالَ أخبرنَا الله أَن عِيسَى من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم أمه فَقَالَ الْحجَّاج صدقت فَمَا حملك على تكذيبي فِي مجلسي قَالَ أَخذ الله على الْأَنْبِيَاء ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه قَالَ فنفاه الْحجَّاج إِلَى خُرَاسَان قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش سَمِعت الْحجَّاج وَذكر هَذِه الْآيَة {فَاتقوُا اللَّهَ مَا ستطعتم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا} التغابن 16 قَالَ هَذِه لعبد الله أَمِين الله وخليفته لَيْسَ فِيهَا مثنوية وَالله لَو أمرتُ رجلا أَن يخرج من بَاب هَذَا الْمَسْجِد فَأَخذه من غَيره لحل لي دَمه وَمَاله وَالله لَو أخذت ربيعَة بمضر لَكَانَ لي حَلَالا يَا عجبا من عبد هُذَيْل يزْعم أَنه يقْرَأ قُرْآنًا من عِنْد الله وَمَا هُوَ إِلَّا رجز من رجز الْأَعْرَاب وَالله لَو أدْركْت عبد هُذَيْل لضَرَبْت عُنُقه رَوَاهَا وَاصل بن عبد الْأَعْلَى شيخ مُسلم عَن أبي بكر فَقَالَ قَاتل الله الْحجَّاج مَا أجرأه على الله كَيفَ يَقُول هَذَا فِي العَبْد الصَّالح الصَّحَابِيّ الْجَلِيل عبد الله بن مَسْعُود قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش ذكرت قَوْله هَذَا للأعمش فَقَالَ قد سمعته مِنْهُ وَرَوَاهَا مُحَمَّد بن يزِيد عَن أبي بكر فَزَاد قَوْله وَلَا أجد أحدا يقْرَأ على قِرَاءَته إِلَّا ضربت عُنُقه ولأحنكها من الْمُصحف وَلَو بضلع خِنْزِير قَالَ حَمْزَة بن شَوْذَب رُبمَا دخل الْحجَّاج على دَابَّته حَتَّى يقف على حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ فيستمع إِلَى كَلَامه فَإِذا أَرَادَ الِانْصِرَاف يَقُول يَا حسن لَا تمل النَّاس فَيَقُول لَهُ الْحسن أصلح الله الْأَمِير إِنَّه لم يبْق إِلَّا من لَا جاجة لَهُ قَالَ الْأَصْمَعِي قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان للحجاج إِنَّه لَيْسَ أحد إِلَّا وَهُوَ يعرف عَيبه فَعِب نَفسك فَقَالَ الْحجَّاج أعفني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأبى عَلَيْهِ فَقَالَ أَنا(3/297)
لجوج حقود حسودٌ فَقَالَ عبد الْملك مَا فِي الشَّيْطَان أقبحُ مِمَّا ذكرت وَقَالَ يزِيد بن هَارُون أَنبأَنَا الْعَوام بن حَوْشَب حَدثنَا حبيب بن أبي ثَابت قَالَ قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه لرجل لَا مت حَتَّى تدْرك فَتى ثَقِيف قيل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا فَتى ثَقِيف قَالَ ليقالن لَهُ يَوْم الْقِيَامَة اكْفِنَا زَاوِيَة من زَوَايَا جَهنمَ رجل يملك عشْرين سنة لَا يدع مَعْصِيّة لله إِلَّا ارتكبها وَقَالَ جَعْفَر بن سُلَيْمَان حَدثنَا مَالك بن دِينَار عَن الْحسن أَن عليا كَانَ على الْمِنْبَر فِي الْعرَاق فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي ائتمنتهم فأخذوني ونصحتهم فغشوني اللَّهُمَّ فَسلط عَلَيْهِم غُلَام ثَقِيف يحكم فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ بِحكم الْجَاهِلِيَّة وَقد كوشف الإِمَام عَليّ كرم الله وَجهه بِمَا سيقع من الْحجَّاج فَقَالَ مَا قَالَ فَكَانَ كَمَا قَالَ قَالَ أَبُو عَاصِم النَّبِيل حَدثنِي جليس هِشَام بن أبي عبد الله قَالَ قَالَ عَمْرو بن عبد الْعَزِيز لعنبسة بن سعيد أخبرنى بِبَعْض مَا رَأَيْت من عجائب الْحجَّاج قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْده لَيْلَة فَأتى بِرَجُل وَكَانَ قد نهى عَن الْمَشْي بِاللَّيْلِ بعد الْعشَاء الأخبره فَقَالَ مَا أخرجك هَذِه السَّاعَة وَقد قلت لَا أجد فِيهَا أحدا إِلَّا فعلت بِهِ قَالَ أما وَالله لَا أكذب الْأَمِير أُغمي على أُمِّي مُنْذُ ثَلَاث وَكنت عِنْدهَا فَلَمَّا أفاقت السَّاعَة قَالَت يَا بني أعزم عَلَيْك إِلَّا رجعت إِلَى أهلك فَإِنَّهُم مغمومون بتخلفك عَنْهُم فَخرجت فأخذني الطَّائِف فَقَالَ الْحجَّاج ننهاكم وتعصوننا يَا غُلَام اضْرِب عُنُقه ثمَّ أَتَى بِرَجُل آخر فَقَالَ مَا أخرجك هَذِه السَّاعَة قَالَ وَالله لَا أكذبك لزمني غَرِيم لما كَانَت السَّاعَة أغلق الْبَاب وَتَرَكَنِي على بَابه فجائني الطَّائِف فأخذني فَقَالَ اضربوا عُنُقه ثمَّ أَتَى بآخر فَقَالَ مَا أخرجك هَذِه السَّاعَة قَالَ كنت مَعَ شَرب أشْرب فعربدوا فَخفت على نَفسِي فخرجْتُ ففكَر الْحجَّاج سَاعَة ثمَّ قَالَ رجل أحب المسالمة يَا عَنْبَسَة مَا أرَاهُ إِلَّا صَادِقا فأخلوا سَبيله فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز لعنبسة فَمَا قلت للحجاج شَيْء فِي ذَلِك قَالَ عَنْبَسَة لَا فَقَالَ عمر لآذنه لَا تَأذن لعنبسة إِلَّا أَن يكون فِي حَاجَة(3/298)
وَقَالَ بسطَام بن مُسلم عَن قَتَادَة قَالَ قيل لسَعِيد بن حبير خرجت على الْحجَّاج قَالَ إِنِّي وَالله مَا خرجت عَلَيْهِ حَتَّى كفر قَالَ هِشَام بن حسان أحصوا مَا قتل الْحجَّاج صبرا فَبلغ مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا وَقَالَ عبَادَة بن كثير أطلق سُلَيْمَان عبد الْملك فِي عذاة وَاحِدَة أحدا وَثَمَانِينَ ألف أَسِير وَعرضت السجون بعد موت الْحجَّاج فَوجدَ فِيهَا ثَلَاثَة وَثَمَانِينَ ألفا مِنْهَا ثَلَاثُونَ ألفا من النِّسَاء لم يجب على أحد مِنْهُم قطع وَلَا صلب وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز لَو تخابثت الْأُمَم وَجِئْنَا بالحجاج لغلبناهم مَا كَانَ يصلح لدُنْيَا وَلَا لآخرة قَالَ الْعَبَّاس الْأَزْرَق عَن السّري بن يحيى قَالَ مَر الحَجاج فِي يَوْم جُمُعَة فَسمع استغاثة فَقَالَ مَا هَذَا قيل أهل السجون يَقُولُونَ قتلنَا الْحر فَقَالَ قُولُوا لَهُم {قَالَ اَخسئوُا فِيهَا وَلا تُكلِمُونِ} الْمُؤْمِنُونَ 108 قَالَ فَمَا عَاشَ بعد ذَلِك إِلَّا أقل من جُمُعَة وَبنى واسطاً فِي سنتَيْن قَالَه الْأَصْمَعِي وَشرع فِيهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ قَالَ فِي المحاسن وَهُوَ أول من ابتنى مَدِينَة فِي الْإِسْلَام وَهِي وَاسِط وَأول من قعد على سَرِير فِي الْحَرْب وَأول من اتخذ بالمحامل فَقَالَ فِيهِ حميد الأرقط // (من الرجز) //
(أَخْزَى الإِلَهُ عَاجِلاً وآجِلاَ ... )
(أَوَّل عَبْدٍ عَمِلَ المَحَامِلاَ ... )
(عبْدَ ثقيفٍ ذَاكَ أَزلاً آزِلاَ ... )
قَالَ مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا الصَّلْت بن دِينَار قَالَ مرض الْحجَّاج فأرحف بِهِ أهل الْكُوفَة فَلَمَّا عوفي صعد الْمِنْبَر وَهُوَ ينثني على أعواده فَقَالَ يَا أهل الشقاق والنفاق والمراق نفخ الشَّيْطَان فِي مناخركم فقلتم ماتَ الْحجَّاج فَمه وَالله مَا أَرْجُو الْخَيْر إِلَّا بعد المَوت وَمَا رَضِي الله الخلود لأحد من خلقه إِلَّا لأهونهم عَلَيْهِ إِبْلِيس وَقد قَالَ العَبْد الصَّالح سُلَيْمَان (رَب اَغفِر لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لَا(3/299)
يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} ص 35 فَكَانَ ذَلِك ثمَّ اضمحل فَكَأَن لم يكن يأيها الرجل وكلكم ذَلِك الرجل كَأَنِّي بِكُل حَيّ ميت وَبِكُل رطب يَابِس وكل امْرِئ فِي ثِيَاب طهُور إِلَى بَيت حفرته فحد لَهُ فِي الأَرْض خَمْسَة أَذْرع طولاَ فِي ذراعين عرضا فَأكلت الدُّود لَحْمه ومصت من صديده وَدَمه قَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يبغضُ الْحجَّاج فَنَفْس عَلَيْهِ بِكَلِمَة قَالَهَا عِنْد الْمَوْت اللَّهُمَّ اغْفِر لي فَإِنَّهُم يَزْعمُونَ أَنَّك لَا تفعل وَقَالَ الْأَصْمَعِي أَنشَدَ الْحجَّاج لما احْتضرَ من // (الْبَسِيط) //
(يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْداءُ وَاجْتَهَدُوا ... بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكنِي النارِ)
(أيحلفُونَ علَى عمياءَ وَيْحَهُمُ ... مَا عِلْمُهُمْ بعظيمِ العَفْوِ غَفَّارِ)
فَأخْبر الْحسن بذلك فَقَالَ إِن نجا فبهما وروى أَن الْحسن حِين أخبر بِمَوْت الْحجَّاج سجد شكرا لله وَقَالَ ابْن سِيرِين إِنِّي لأرجو للحجاج مَا أَرْجُو لأهل لَا إِلَه إِلَّا الله فَبلغ قَوْله الْحسن يَعْنِي الْبَصْرِيّ فَقَالَ أما وَالله ليخلقن الله رَجَاءَهُ فِيهِ قَالَ ابْن شَوْذَب عَن أَشْعَث الْحدانِي قَالَ رَأَيْت الْحجَّاج فِي مَنَامِي بِحَال سَيِّئَة فَقلت لَهُ مَا صنع الله بك قَالَ مَا قتلت أحدا قتلة إِلَّا قتلني بهَا قتلة مَا عدا سعيد بن جُبَير فَإِنِّي قتلت بِهِ سبعين قتلة قلت ثمَّ مَه قَالَ ثمَّ أَمر بِي إِلَى النَّار قلت ثمَّ مَه قَالَ ثمَّ أَرْجُو مَا يَرْجُو أهل لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ ابْن خلكان مَاتَ بواسط وعَفي قَبره وأجرى عَلَيْهِ المَاء قَالَ الْعَلامَة الذَّهَبِيّ وَعِنْدِي مُجَلد فِي أَخْبَار الْحجَّاج فِيهِ عجائب لَكِن لَا أعرفُ صِحَّتهَا توفّي سنة خمس وَتِسْعين قبل موت الْوَلِيد بِسنة وَلما حضْرته الْوَفَاة اسْتخْلف(3/300)
على الصَّلَاة ابْنه عبد الله وعَلى عرب الْكُوفَة وَالْبَصْرَة يزِيد بن أبي كَبْشَة وعَلى خراجهما يزِيد بن أبي مُسلم وَكتب إِلَى قُتَيْبَة بن مُسلم الْبَاهِلِيّ وَكَانَ قد ولاه على خُرَاسَان قد عرف أَمِير الْمُؤمنِينَ بلاءك وجِدك وجهادك أَعدَاء الْمُسلمين وأمير الْمُؤمنِينَ رافعك وصانع بك الَّذِي تحب فأتمَّ مغازيك وانتظر ثَوَاب رَبك وَلَا تغيب عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ كتبك حَتَّى كَأَنِّي أنظر إِلَى بلادك والثغر الَّذِي أَنْت فِيهِ قيل أُصِيب الْحجَّاج بمصيبة وَعِنْده رَسُول عبد الْملك بن مَرْوَان فَقَالَ الْحجَّاج لَيْت أَنِّي قد وجدت إنْسَانا يُخَفف عني مَا أَنا فِيهِ فَقَالَ لَهُ الرجل الرَّسُول أَقُول أَيهَا الْأَمِير قَالَ لَهُ قل فَقَالَ كل إِنْسَان يُفَارِقهُ صَاحبه بِمَوْت أَو بصلب أَو يَقع من فَوق الْبَيْت أَو يَقع عَلَيْهِ الْبَيْت أَو يغشى عَلَيْهِ أَو يكون شَيْء لَا نعرفه فَضَحِك الْحجَّاج وَقَالَ مصيبتي فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أعظم حَيْثُ وَجه مثلك رَسُولا وَكَانَ الْحجَّاج مهيباً جدا لجرأته وإقدامه على سفك الدِّمَاء واشتداد عضده بِمن أَقَامَهُ أَمِيرا فَكَانَ يهابه عماله والخاصة والعامة فَمن ذَلِك مَا ذكره فِي المروج كتب عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَيْهِ أَنْت عِنْدِي كسالم وَالسَّلَام فَلم يفهم الْحجَّاج مُرَاد عبد الْملك بذلك فَكتب إِلَيْهِ قُتَيْبَة بن مُسلم عَامله على خُرَاسَان وَبعث كتاب عبد الْملك مَعَ الرَّسُول إِلَيْهِ فَلَمَّا ورد الرَّسُول عَلَيْهِ نَاوَلَهُ الْكتاب فَفَزعَ واضطرب قُتَيْبَة فضرط فَخَجِلَ واستحيا فَقَرَأَ الْكتاب ثمَّ أَرَادَ أَن يَقُول للرسول اقعد فَقَالَ اضرط فَقَالَ الرَّسُول قد فعلت فاستحيا قُتَيْبَة حَيَاء أكثَرَ وَقَالَ لَهُ مَا أردْت أَقُول لَك إِلَّا اقعد فغلطت فَقَالَ الرَّسُول قد غَلطت أَنا وَأَنت قَالَ قُتَيْبَة وَلَا سَوَاء أغلط من فمي وتغلط من استك ثمَّ قَالَ قُتَيْبَة أعلم الْأَمِير أَن سالما كَانَ عبدا لرجل وَكَانَ عِنْده أثيراً عَزِيزًا وَكَانَ يسْعَى بِهِ إِلَيْهِ كثيرا فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِم وأُدِيرُهُمْ ... وَجِلْدَةُ بَين العينِ والأنْفِ سَالِمُ)
فَلَمَّا آتى الْحجَّاج بالرسالة سُرَ بذلك وَكتب لَهُ بِهِ عهدَاً على خُرَاسَان بالتأييد قلت وَرَأَيْت فِي تَارِيخ الصَّفَدِي مَا نَصه قَالَ نَافِع مولى ابْن عمر كَانَ ابْن عمر(3/301)
يلقى سالما ابْنه فيقبله وَيَقُول سيخ يقبل شَيخا وَقَالَ خَالِد بن أبي بكر بَلغنِي أَن عبد الله بن عمر كَانَ يلام فِي حب ابْنه سَالم فَيَقُول من // (الطَّوِيل) //
(يلُومُونَنِي فِي سَالِم وَأَلُومُهُمْ ... وَجِلْدَةُ بَين العَينِ والأنفِ سَالِمُ)
وَرَوَاهُ بَعضهم يديرونني وأديرهم قَالَ الصَّفَدِي اشْتهر هَذَا الْبَيْت كثيرا وروسل بِهِ وَكتب بِهِ عبد الْملك إِلَى الْحجَّاج انْتهى قلت تَفْسِير قُتَيْبَة ذَلِك بِأَن سالمَاً كَانَ عبدا رجل وَكَانَ عِنْده إِلَى آخِره لَا يُوَافق مَا ذكره الصَّفَدِي أَن الْبَيْت لعبد الله بن عمر فِي ابْنه سَالم بن عبد الله بن عمر وَالأَصَح التَّفْسِير الثَّانِي لرِوَايَة نَافِع لَهُ عَن عبد الله بن عمر إِلَّا أَن يكون عبد الله متمثلا بِهِ لَا ناظمه فَيمكن مَا قَالَه قُتَيْبَة وصَحَّف الْجَوْهَرِي بل حرَف فِي صحاحِه فَقَالَ يُقَال للجلدة الَّتِي بَين الْعين وَالْأنف سَالم وَأورد الْبَيْت قَالَ الصَّفَدِي وَأَنا شَدِيد التَّعَجُّب من صَاحب الصِّحَاح كَونه مَا فهم الْمَعْنى من الْبَيْت وَأَن الْكَلَام جارٍ على التَّشْبِيه وَأَن سالما عِنْد أَبِيه بِمَنْزِلَة هَذِه الْجلْدَة من الْمَكَان الْمَذْكُور لعزته قَالَ الْخَطِيب التبريزي تبع الْجَوْهَرِي خَاله إِبْرَاهِيم الفارابي صَاحب ديوَان الْأَدَب فِي غلط هَذَا الْموضع انْتهى وَلم يُغير الْوَلِيد بعد موت الْحجَّاج أحدا من عماله بل أبقاهم حَتَّى كَانَ سُلَيْمَان ابْن عبد الْملك فعزلهم جَمِيعًا وَاسْتعْمل غَيرهم قَالَ ابْن حمدون فِي تَذكرته ذكر أَن وضاح الْيمن كَانَ من أحسن النَّاس شكلا وأجملهم وجهَاً وَكَانَ يتبرقع فِي المواسم من الْعين فحجت أم الْبَنِينَ زَوْجَة الواليد ابْن عبد الْملك فرأت هَذَا فهويته واستقدمته بمدح فَقدم ومدح الْوَلِيد بقصيدة فَأَجَازَهُ وَكَانَت أم الْبَنِينَ تَأتي بِهِ لإبى قصرهَا وتجلس مَعَه وَإِذا خَافت خبأته فِي صندوق فأُهدِيَ إِلَى الْوَلِيد جَوْهَر فاستدعى بخادم وأرسله بِهِ إِلَى أم الْبَنِينَ(3/302)
فَأَتَاهَا فَجْأَة ووضاح عِنْدهَا فرآها الْخَادِم وَهِي تواريه فِي الصندوق فَطلب مِنْهَا من الْجَوْهَر حجرا فانتهرته وأبت فآتى الْوَلِيد وَأخْبرهُ بِمَا رأى وَعلم لَهُ الصندوق فكذبه ونهره وضَرَبَ عُنُقه فِي الْحَال وَقَامَ مسرعاً إِلَى أم الْبَنِينَ وَهِي فِي مقصورتها تمتشطُ فَجَلَسَ على الصندوق الَّذِي أخبرهُ بِهِ الْخَادِم وَقَالَ لَهَا مَا أحب هَذَا الْبَيْت إِلَيْك دون الْبيُوت قَالَت لِأَنَّهُ يضم حوائجي جَمِيعًا فَقَالَ أُرِيد أَن تهبي لي صندوقاً من هَذِه الصناديق قَالَت دُونك الْجَمِيع فَقَالَ مَا أُرِيد إِلَّا واحدَاً قَالَت ارسم الَّذِي تقصده فَقَالَ هَذَا الَّذِي جَلَست عَلَيْهِ قَالَت خُذ غَيره فَإِن لي فِي حوائج أحتاجها قَالَ مَا أُرِيد غَيره قَالَت خُذْهُ فَأمر الْخَادِم بِحمْلِهِ إِلَى مَجْلِسه وحفر بِئْرا عَظِيمَة وأعمق فِيهَا حَتَّى وصل المَاء ودنا من الصندوق فَقَالَ يَا صندوق إِنَّه بلغنَا عَنْك خبر إِن كَانَ حَقًا قد كُفيناك ودفناك وَانْقطع خبرك وَإِن كَانَ بَاطِلا فَإِنَّمَا دفنا الْخشب وأهون بِهِ ثمَّ قذف بِهِ فِي الْبِئْر وهال التُّرَاب عَلَيْهِ وَردت الْبسط على حَالهَا وَلم ير الْوَلِيد وَلَا أم الْبَنِينَ فِي أحد مِنْهُمَا أثرَاً وَلَا تغيَّرَتْ مَوَدَّة أَحدهمَا للْآخر حَتَّى فرق الْمَوْت بَينهمَا وَلم ير وضاح بعْدهَا أبدا قلت فَمن أَيْن اتَّصل نبأ هَذَا الْخَبَر وَالْحَالة هَذِه وَقد اخْتلف الْعُقَلَاء فِي فعل الْوَلِيد هَذَا هَل يعد بِهِ من أهل الْمُرُوءَة وَالْحيَاء وَالْكَرم فبه يمدح أم من أهل الدناءة والوقاحة والعار الَّذِي ذمّ بِهِ فبه يقْدَح ذهب إِلَى كل مِنْهَا عقلاء لكَني أرجح كَونه ثَانِيًا لَا أَولا إِذْ الشهم لَا يبْقى على صفحة عرضه الْغُبَار وَلَا يرضى بلباس الْعَيْب وَلَو كَانَ فَوْقه ألف دثار وَمن شعر وضاح فِي جَارِيَة قد شَببَ بهَا قَوْله من // (السَّرِيع) //
(قَالتْ أَلاَ لَا تَلِجنْ دَارَنَا ... إِنَّ أَبَانَا رَجُلٌ غَائِرُ)
(قلْتُ فَإِنِّي طالبٌ غِرَّةً ... وإنَّ سَيفي صارِمٌ باترُ)
(قالتْ فَإنَّ البابَ ذُو منعةٍ ... قلتُ فَإِنِّي واثبٌ كاسرُ)
(قالتْ فإنَّ النَّاسَ مِنْ دونِنا ... قلتُ فَإِنِّي كاتمٌ ماهرُ)
(قَالَت فإنَّ القصْرَ مِنْ دُوننَا ... قلْتُ فَإِنِّي فرقه طائرُ)
(قالتْ فإِنَّ البَحْرَ من دُوننَا ... قلْتُ فَإِنِّي سابحٌ ماهرُ)(3/303)
(قَالَت فَحَوْلي إخوةٌ سَبْعَةٌ ... قلتُ فَإِنِّي لَهُمُ حاذرُ)
(قَالَت فليْثٌ رابضٌ دُوننَا ... قلتُ فَإِنِّي أَسَدٌ ظافرُ)
(قَالَت فِإنَّ الله مِنْ فَوْقنَا ... قلتُ فرَبِّي راحمٌ غافرُ)
(قَالَ لقد أَعْيَيْتَنَا حجةَ ... فائْتِ إِذا مَا هَجَعَ السامِرُ)
(واسقُطْ علينا كسُقُوطِ النَّدَى ... لَيْلَةَ لَا نَاهٍ وَلَا آمِرُ)
وَقَالَ أَبُو عمر الضَّرِير توفّي الْوَلِيد نصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين بدير مران وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال فَدفن بِبَاب الصَّغِير وَكَانَ عمره إِحْدَى وَخمسين سنة وَمُدَّة خِلَافَته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز وَخلف أَرْبَعَة عشر ولدا
(خلَافَة سُلَيْمَان بن عبد الْملك)
قَالَ ابْن خلدون أَرَادَ الْوَلِيد أَن يمْنَع أَخَاهُ سُلَيْمَان ويبايع لوَلَده عبد الْعَزِيز بن الْوَلِيد فَأبى سُلَيْمَان فَكتب إِلَى عماله ودعا النَّاس إِلَى ذَلِك فَلم يجبهُ إِلَّا الْحجَّاج وقتيبة بن مُسلم وَبَعض خواصه وأستقدم سُلَيْمَان ثمَّ اسْتَبْطَأَهُ فأجمع المسر إِلَيْهِ ليخلعه فَمَاتَ دون ذَلِك وَلما مَاتَ بُويِعَ سُلَيْمَان من يَوْمه وَهُوَ بالرملة فعزل عُمَّال الْحجَّاج جَمِيعهم وَأمر يزِيد بن الْمُهلب بنكبة آل عقيل قوم الْحجَّاج وَبني أَبِيه وَبسط الْعَذَاب عَلَيْهِم فولى يزِيد بن الْمُهلب أَخَاهُ عبد الْملك بن الْمُهلب على ذَلِك فَفعله ثمَّ عزل قُتَيْبَة وَقَتله وَآتى إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ لموافقتهما الْوَلِيد على خلعه بُويِعَ بالخلافة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين بعد الْوَلِيد بالعهد الْمَذْكُور من أَبِيهِمَا كَانَ من خِيَار بنيي أُميَّة فصيحَاً مفوهاً مؤثراً للعدل محباً للغزو وجهز(3/304)
الجيوش مَعَ أَخِيه مسلمة بن عبد الْملك لحصار الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَقَالَ امْرَأَة رَأَيْته أَبيض عَظِيم الْوَجْه مقرون الحاجبين يضْرب شعره مَنْكِبَيْه مَا رَأَيْت أجمل مِنْهُ وَقَالَ الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنِي غير وَاحِد أَن الْبيعَة أَتَت لِسُلَيْمَان وَهُوَ بمشارف البلقاء فَأنى إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس وأتته الْوُفُود فَلم يرَوا وفادة كَانَت أهنأ من الْوِفَادَة إِلَيْهِ كَانَ يجلس فِي قبَّة فِي صحن الْمَسْجِد مِمَّا يَلِي الصَّخْرَة وَيجْلس النَّاس على الكراسي وَيقسم الْأَمْوَال وَيَقْضِي الأشغال وَقَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز ولي سُلَيْمَان وَهُوَ إِلَى الشَّبَاب والتَرَفه مَا هُوَ فَقَالَ لعمر بن عبد الْعَزِيز يَا أَبَا حَفْص إِنَّا ولينا مَا قد ترى وَلم يكن لنا بتدبيره عِلْم فَمَا رَأَيْت من مصلحَة الْعَامَّة فَمُر بِهِ فَكَانَ من ذَلِك عزل عُمَّال الحَجاج وَإِخْرَاج من فِي سِجْنِ الْعرَاق وَمن ذَلِك كِتَابه إِن الصَّلَاة قد أميتت فأحيوها وردوها إِلَى أول وَقتهَا مَعَ أُمُور حَسَنَة كَانَ يسمع من عمر فِيهَا وَعَن الشّعبِيّ لما حج سُلَيْمَان بن عبد الْملك سنة سبع وَتِسْعين فَرَأى النَّاس بِالْمَوْسِمِ قَالَ لعمر بن عبد الْعَزِيز أما ترى هَذَا الْخلق الَّذِي لَا يُحصِي عَددهمْ إِلَّا الله تبَارك وَتَعَالَى وَلَا يسع رزقهم غَيره قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ الْيَوْم رعيتك وَغدا هم خصماؤك فَبكى سُلَيْمَان بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ بِاللَّه أستعين وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ رحم الله سُلَيْمَان بن عبد الْملك افْتتح خِلَافَته بِخَير وختمها بِخَير افتتحها بإحياء الصَّلَوَات لمواقيتها واختتمها باستخلاف عمر بن عبد الْعَزِيز وَفِي الذَّهَبِيّ قيل كَانَ من الْأكلَة الْمَذْكُورين فَذكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْغلابِي وَلَيْسَ بِثِقَة قَالَ حَدثنَا(3/305)
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن القرش عَن أَبِيه عَن هِشَام بن سُلَيْمَان قَالَ أكل سُلَيْمَان بن عبد الْملك أَرْبَعِينَ دجَاجَة تشوى لَهُ على النَّار على صفة الكباب وَأكل أَرْبعا وَثَمَانِينَ كلوة بشحومها وَثَمَانِينَ جردقة وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الحميد الرَّازِيّ عَن ابْن الْمُبَارك إِن سُلَيْمَان لما حج آتى الطَّائِف فَأكل سبعين رمانة وخروفاً وَسِتِّينَ دجَاجَة وأتى بموكب زبيب طائفي فَأَكله أجمع وَعَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ كَانَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك أكولا وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن يحيى بن يحيى ثَنَا أبي عَن أَبِيه قَالَ جلس سُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي بَيت أَخْضَر على وطاء أَخْضَر عَلَيْهِ ثِيَاب خضر ثمَّ نظر فِي الْمرْآة فأعجبه شبابه وجماله فَقَالَ كَانَ مُحَمَّد
نَبينَا وَكَانَ أَبُو بكر صديقا وَكَانَ عمر فاروقَاً وَكَانَ عُثْمَان حيياً وَكَانَ مُعَاوِيَة حَلِيمًا وَكَانَ يزِيد صبوراً وَكَانَ عبد الْملك سائساً وَكَانَ الوليدُ جَباراً وَأَنا الْملك الشَّاب فَمَا دَار عَلَيْهِ الشَّهْر حَتَّى مَاتَ وروى مُحَمَّد بن سعيد الدِّرَامِي عَن أَبِيه قَالَ كَانَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك ينظر فِي الْمرْآة من فرقه إِلَى قدمه وَيَقُول أَنا الْملك الشَّاب فَلَمَّا نزل بمرج دابق حُم وفشت الحُمَى فِي عسكره فَنَادَى بعض خدمَة فَجَاءَت بطست فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنك قَالَت محمومة قَالَ فَأَيْنَ فُلَانَة قَالَت محمومة فَمَا ذكر أحدا إِلَّا قَالَت مَحْمُوم فَالْتَفت إِلَى خَاله الْوَلِيد بن الْقَعْقَاع الْعَبْسِي وَقَالَ من // (الْكَامِل) //
(قرِّبْ وَضُوءَكَ يَا ولِيدُ فَإنَّما ... هَذِي الحَيَاةُ تَعِلَّةٌ وَمَتَاَع)
ُ فَقَالَ الْوَلِيد من // (الْكَامِل) //
(فاعمَلْ لنَفْسِكَ فِي حيَاتِكَ صَالحا ... فالدَّهْرُ فِيهِ فُرْقَةٌ وجمَاعُ)
وَمَات فِي مَرضه ذَاك قَالَ الدَّمِيرِيّ فِي حَيَاة الْحَيَوَان لما اسْتَقل بالخلافة اتخذ ابْن عَمه عمر بن(3/306)
عبد الْعَزِيز وزيراً ومشيراً ثمَّ إِنَّه أَرَادَ أَن يسْتَكْتب يزِيد بن أبي مُسلم وَزِير الْحجَّاج فَقَالَ لَهُ عمر سَأَلتك بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تحيي ذكرى الْحجَّاج باستكتابك يزِيد فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان يَا عمر إِنِّي لم أجد عِنْده خِيَانَة فِي دِرْهَم وَلَا دِينَار فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن إِبْلِيس أعف مِنْهُ فِي الدِّرْهَم وَالدَّنَانِير قد أغوى الْخلق فَأَضْرب سُلَيْمَان عَمَّا عزم عَلَيْهِ وَفِي الْكَامِل لأبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد الملقب بالمبرد النَّحْوِيّ الْمَشْهُور أَنه دخل على سُلَيْمَان بن عبد الْملك يزِيد بن أبي مُسلم وَزِير الْحجَّاج وَكَانَ يزِيد قبيحاً دميما فَقَالَ لَهُ سلمَان قبح الله رجلا أجرَك رسنه وشركك فِي أَمَانَته يعرض بالحجاج فَقَالَ يزِيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تقل هَذَا قَالَ سُلَيْمَان وَلم قَالَ لِأَنَّك رَأَيْتنِي وَالْأَمر عني مُدْبِر وَلَو رَأَيْتنِي والأمرُ عليَّ مقبل لاستحسنت مني مَا استقبحت ولاستعظمت مَا استصغرت فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان وَيحك وَقد اسْتَقر الْحجَّاج فِي قَعْر جَهَنَّم بَعْدُ أم لَا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تقل ذَلِك فِي الْحجَّاج قَالَ وَلم قَالَ لِأَن الْحجَّاج وطأ لكم المنابر وذلَل لكم الْجَبَابِرَة وَإنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة عَن يَمِين أَبِيك عبد الْملك ويسار أَخِيك الْوَلِيد فَحَيْثُ مَا كَانَا كَانَ ولى سُلَيْمَان بن عبد الْملك أَخَاهُ مسلمة بن عبد الْملك وَكَانَ يلقب بالجرادة الصَّفْرَاء أرمينية وأذربيجان غير مرّة وإمرة الْعِرَاقِيّين وسيره فِي مائَة وَعشْرين ألفا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة كَمَا تقدَّم وروى مسلمة عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ مَذْكُور فِي سنَن أبي دَاوُد سُلَيْمَان ابْن الْأَشْعَث السجسْتانِي من الْفَوَائِد عَن مسلمة أَنه لما حصر عمورية حصل لَهُ صداع فَلم يركب فِي الْحَرْب فَقَالَ أهل عمورية للْمُسلمين مَا لأميركم لم يركب الْيَوْم فَقَالُوا عرض لَهُ صداع فأخرجوا لَهُ برنساً وَقَالُوا ألبسوه لَهُ يزل عَنهُ مَا يجد فلبسه مسلمة فشفي لوقته ففتشوه فَلم يَجدوا فِيهِ شَيْئا ثمَّ فتقوا أزراره فَإِذا فِيهَا بطاقة مَكْتُوب فِيهَا هَذِه الْآيَات آيَات التَّخْفِيف {الآنَ خَففَ اَللَّهُ عَنكمُ} الْآيَة(3/307)
الْأَنْفَال 66 {ذلِكَ تَخْفِيف مِن رّبكمُ} الْآيَة الْبَقَرَة 178 {حم عسق} الشورى 1، 2 {وَإِذا سأَلك عِبادي عَني} الْآيَة الْبَقَرَة 186 {أَلَم تَرَ إِلىَ رَبك كَيف مَدَ اَلظِلَّ} الْآيَة الْفرْقَان 45 {وَلَه مَا سكَنَ فِي الليلِ وَالنهار} الْآيَة الْأَنْعَام 13 فَقَالَ الْمُسلمُونَ من أَيْن لكم هَذَا وَإِنَّمَا أنزل على نَبينَا مُحَمَّد
قَالُوا وَجَدْنَاهُ منقورَاً فِي حجر فِي كَنِيسَة قبل أَن يبْعَث نَبِيكُم بسبعمائة عَام وَمِمَّا يحْكى من محَاسِن سُلَيْمَان أَنه دخل عَلَيْهِ رجل فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أنْشدك الله وَالْأَذَان فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان أما أنْشدك الله فقد عَرفْنَاهُ فَمَا الْأَذَان فَقَالَ الرجل قَوْله تَعَالَى {فأذنَ مُؤَذِن بَينَهُم أَن لعنَةُ اَللَهِ عَلَى اَلظالمين} الْأَعْرَاف 44 فَقَالَ لَهُ مَا ظلامتك قَالَ ضيعتي فُلَانَة غلبني عَلَيْهَا عاملك فلَان فَنزل سُلَيْمَان عَن سَرِيره وَرفع الْبسَاط وَوضع خَدّه فِي الأَرْض وَقَالَ وَالله لَا رفعته حَتَّى يكْتب لَهُ برد ضيعته فَكتب الْكتاب وَهُوَ وَاضع خَدّه بِالْأَرْضِ رَحمَه الله وَعَفا عَنهُ وَمِمَّا يحْكى عَنهُ أَنه قَالَ لطلْحَة بن مصرف مَا تَقول فِي أبي بكر قَالَ مَا أدْرك دهره وَلَا أردك دهري وَلَقَد قَالَ النَّاس فِيهِ فَأحْسنُوا وَهُوَ إِن شَاءَ الله كَذَلِك فَقَالَ مَا تَقول فِي عمر فَقَالَ مثل ذَلِك قَالَ مَا تَقول فِي عُثْمَان قَالَ مَا أدْركْت دهره وَلَا أدْرك دهري وَلَقَد قَالَ فِيهِ النَّاس فَأحْسنُوا وَقَالَ فِيهِ نَاس وأساءوا وَعند الله علمه قَالَ مَا تَقول فِي عَليّ فَقَالَ مثل ذَلِك قَالَ سُب عليا فَقَالَ طَلْحَة لَا أسبه قَالَ وَالله لتسبنه أَو لَأَضرِبَن عُنُقك قَالَ وَالله لَا أسبه فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَقَامَ إِلَيْهِ رجل بِيَدِهِ سيف فهزه فَقَالَ طَلْحَة وَيلك يَا سُلَيْمَان أما ترضي بِمَا رَضِي بِهِ من هُوَ خير مِنْك فِيمَن هُوَ شَرّ من عَليّ قَالَ وَمَا ذَاك قَالَ فَإِن الله عز وَجل رَضِي من عِيسَى وَهُوَ خير مِنْك إِذْ قَالَ فِي بني إِسْرَائِيل وهم شَرّ من عل {إِن تُعَذّبهُم فإنَهُم عِبَادُك} الْآيَة الْمَائِدَة 118 فسكن غَضَبه وخلى سَبيله فَخرج طَلْحَة يختال فِي مشيته وَدخل سَالم بن عبد الله بن عمر على سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَعَلِيهِ ثِيَاب غَلِيظَة خشنة رثَّة فأقعده سُلَيْمَان مَعَه على السرير وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز حَاضرا فَقَالَ لَهُ رجل يَا عمر مَا اسْتَطَاعَ خَالك يَعْنِي سَالم بن عبد الله أَن(3/308)
يلبس ثيابًا فاخرة يدْخل بهَا على أَمِير الْمُؤمنِينَ وعَلى الْمُتَكَلّم ثِيَاب فاخرة فَقَالَ لَهُ عمر مَا رأيتُ ثِيَابه وَضعته وَلَا رأيتُ ثيابَكَ هَذِه رفعتك إِلَى مَكَانَهُ فَسكت الرجل وَلم يحر جَوَابا ويروى أَنه لما حم خرج لصَلَاة الْجُمُعَة فَوجدَ حظية لَهُ فِي حصن الدَّار فَأَنْشَدته من // (الْخَفِيف) //
(أَنْتَ نِعْمَ المَتَاعُ لَو كُنْتَ يبقَى ... غَيْرَ أَن لَا بَقَاءَ للإنسانِ)
(لَيْسَ فيِمَا بَدَا لنا مِنْكَ عَيْبٌ ... عابَهُ النَّاسُ غَيْرَ أنكَ فَانِي)
فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة دخل دَاره ودعا بِتِلْكَ الحظية فَقَالَ لَهَا مَا قلت لي فِي صحن الدَّار فَقَالَت وَالله مَا قلت لَك شَيْئا وَمَا رَأَيْتُك وَأَنِّي لي بِالْخرُوجِ إِلَى صحن الدَّار فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون نعيت إِلَيّ نَفسِي فَمَا دارت عَلَيْهِ جُمُعَة أخرَى إِلَّا وَهُوَ فِي قَبره توُفِي رَحمَه الله فِي صفر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَقيل تسع بمرج دابق وَله تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَت خِلَافَته سنتَيْن وَثَمَانِية أشهر وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز
(خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وأرضاه)
قَالَ الْوَلِيد بن مُسلم بن عبد الرَّحْمَن بن حسان الْكِنَانِي لما مرض سُلَيْمَان بمرج دابق قَالَ لرجاء بن حَيوَةَ كَاتبه ووزيره من لهَذَا الْأَمر بعدِي أستخلف ابْني فَقَالَ لَهُ رَجَاء ابْنك غَائِب فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلَا تَدْرِي حَيَاته أَو مَوته فَقَالَ أستخلف ابْني دَاوُد الآخر فَقَالَ إِنَّه صَغِير قَالَ فَمن ترى قَالَ اسْتخْلف عمر ابْن عبد الْعَزِيز قَالَ أَتَخَوَّف أخوتي لَا يرضون قَالَ رَجَاء فول عمر ثمَّ بعده(3/309)
أَخَاك يزِيد بن عبد الْملك وتكتب كتابَاً وتختم عَلَيْهِ وَتَدْعُوهُمْ إِلَى الْبيعَة لمن فِيهِ مَخْتُومًا فَقَالَ سُلَيْمَان لقد رأيتُ مَا رأيتَ ائْتِنِي بقرطاس فَكتب فِيهِ الْعَهْد على مَا ذكر وَدفعه إِلَى رَجَاء وَقَالَ اخْرُج إِلَى النَّاس فليبايعوا لمن فِي هَذَا الْكتاب قَالُوا وَمن فِيهِ قَالَ هُوَ مختوم لَا تخبرون بِمن فِيهِ حَتَّى يَمُوت قَالُوا لَا نُبَايِع وَرجع رَجَاء إِلَيْهِ فَأخْبرهُ فَقَالَ انْطلق إِلَى صَاحب الشرطة والحرس فاجمع النَّاس وَأمرهمْ بالبيعة فَمن أَبى فَاضْرب عُنُقه فَفعل فَبَايعُوا لمن فِيهِ قَالَ رَجَاء بن حَيْوَة فَبَيْنَمَا أَنا رَاجع إِذْ سَمِعت جلبة موكب فَإِذا هِشَام بن عبد الْملك فَقَالَ لي يَا رَجَاء قد علمت موقعك منا وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ صنع شَيْئا مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَأَنا أَتَخَوَّف أَن يكون قد أزالها عني فَإِن يكن قد عدلها عني فَأَعْلمنِي مَا دَامَ الْأَمر نفس حَتَّى أنظر قَالَ رَجَاء فَقلت لَهُ سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا فأطلعك عَلَيْهِ لَا يكون هَذَا أبدا قَالَ فأدارني وألاحني فأبيت عَلَيْهِ فَانْصَرف فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير إِذْ سَمِعت جلبة خَلْفي فَإِذا عمر ابْن عبد الْعَزِيز فَقَالَ لي يَا رَجَاء إِنَّه وَقع فِي نَفسِي أَمر كَبِير من هَذَا الرجل أَتَخَوَّف أَن يكون قد جعلهَا إليَّ وَلست أقوم لَهُ بِهَذَا الشَّأْن فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمر نفس لعَلي أتخلَص مِنْهُ مادام حَيا فَقلت سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا فأطلعك عَلَيْهِ لَا يكون هَذَا أبدا قَالَ فأدارني وألاحني فأبيت عَلَيْهِ فَانْصَرف فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير إِذْ سَمِعت جلبة خَلْفي فَإِذا عمر ابْن عبد الْعَزِيز فَقَالَ لي يَا رَجَاء إِنَّه وَقع فِي نَفسِي أَمر كَبِير من هَذَا الرجل أَتَخَوَّف أَن يكون قد جعلهَا إليَّ وَلست أقوم لَهُ بِهَذَا الشَّأْن فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمر نفس لعَلي أتخلَص مِنْهُ مَا دَامَ حَيا فَقلت سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا وأطلعك عَلَيْهِ قَالَ وَثقل سُلَيْمَان فَلَمَّا مَاتَ أجلسته مَجْلِسه وأسندته وهيأته وَخرجت إِلَى النَّاس فَقَالُوا كَيفَ أصبح أَمِير الْمُؤمنِينَ قلت سَاكِنا وَأحب أَن تسلموا عَلَيْهِ وتبايعوا بَين يَدَيْهِ على مَا فِي الْكتاب فَدَخَلُوا وَأَنا قَائِم عِنْده فَلَمَّا دنوا قلت إِنَّه يَأْمُركُمْ بِالْوُقُوفِ ثمَّ أخذت الْكتاب من عِنْده وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم وَقلت إِنَّه يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا لمن فِي هَذَا الْكتاب فَبَايعُوا وبسطوا أَيْديهم فَلَمَّا بايعتهم وفرغت قلت آجركم الله فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالُوا فَمن ففتحت الْكتاب فَإِذا فِيهِ الْعَهْد لعمر بن عبد الْعَزِيز فتغيرَتْ وُجُوه بني عبد الْملك وَقَالَ هِشَام لَا نُبَايِعهُ أبدا فَقَالَ لَهُ رَجَاء وَالله نضرب عُنُقك فَقَامَ آسفاً يجر رجلَيْهِ فَلَمَّا سمعُوا وَبعده يزِيد بن عبد الْملك كَأَنَّهُمْ تراجعوا(3/310)
فَقَالُوا أَيْن عمر فطلبوه فَإِذا هُوَ فِي الْمَسْجِد فَأتوهُ فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة فعقر بِهِ وَلم يسْتَطع النهوض حَتَّى أخذُوا بضبعيه فدنوا بِهِ إِلَى الْمِنْبَر وأصعدوه فَجَلَسَ طَويلا لَا يتكلَّم فَقَالَ رَجَاء أَلا تقومون إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فتبايعوه فَنَهَضَ الْقَوْم إِلَيْهِ فَبَايعُوهُ رجلاَ رجلا ومَدَ يَده إِلَيْهِم ثمَّ صعد إِلَيْهِ هِشَام بن عبد الْملك فَلَمَّا مد يَده إِلَيْهِ قَالَ هِشَام إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أسفَاً لما فَاتَهُ وأخطأه فَقَالَ لَهُ عمر إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون لما وَقع فِيهِ من ولَايَة أَمر الْأمة ثمَّ قَامَ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي لست بفارضِ وَلَكِنِّي منفذ وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع وَإِن من حَوْلكُمْ من الْأَمْصَار والبلدان والمدن إِن هم أطاعوا كَمَا أطعتم فَأَنا واليكم وَإِن أَبَوا فلست لَهُم بوال ثمَّ نزل فَأَتَاهُ صَاحب المراكب فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا مركب الْخلَافَة قَالَ لَا حَاجَة لي بِهِ ائْتُونِي بدابتي فَأتوهُ بدابته فَانْطَلق إِلَى منزله ثمَّ دَعَا بِدَوَاةٍ فَكتب بِيَدِهِ إِلَى الْأَمْصَار قَالَ رَجَاء كنت أَظن أَنه يَضْعُفُ فَلَمَّا رَأَيْت صنعه فِي الْكتاب علمت أَنه سيقوى وَقَالَ عمر بن مهَاجر صلى عمر بن عبد الْعَزِيز الْمغرب ثمَّ صلى على جَنَازَة سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَلما بلغ عبد الْعَزِيز بن الْوَلِيد وَكَانَ غائبَاً موت سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَلم يعلم ببيعةَ عمر عقد لِوَاء ودعا لنَفسِهِ وَجَاء إِلَى دمشق ثمَّ بلغه عهد سُلَيْمَان إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فجَاء إِلَيْهِ وَاعْتذر وَقَالَ أَنا فعلت مَا فعلت لما بَلغنِي أَن سُلَيْمَان لم يعْهَد إِلَى أحد فَخَشِيت على الْأَمْوَال أَن تنتهب فَقَالَ لَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز لَو قُمْت بِالْأَمر لقعدتُ فِي بَيْتِي وَلم أنازعك فَقَالَ لَهُ عبد الْعَزِيز وَالله لَا أجيبُ لهَذَا الْأَمر فَأول مَا بَدَأَ بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز لما استقرتِ الْبيعَة لَهُ أَنه رد مَا كَانَ لفاطمة بنت عبد الْملك بن مَرْوَان زَوجته من المَال والحلي والجواهر إِلَى بَيت المَال(3/311)
وَقَالَ لَا أجتمع أَنا وَأَنت وَهُوَ فِي بَيت وَاحِد فَردته جَمِيعًا وَلما ولي أَخُوهَا يزِيد من بعده رده عَلَيْهَا فَأَبت وَقَالَت مَا كنت لأطيعه حَيا وأعصيه مَيتا ففرقه يزِيد على أَهله وَكتب إِلَى مسلمة بن عبد الْملك وَهُوَ بِأَرْض الرّوم يَأْمُرهُ بالقفول بِالْمُسْلِمين وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس ابْن عبد منَاف بن قصي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو حَفْص الْقرشِي الْأمَوِي قَالَ الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي هُوَ خَامِس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه ولد بِالْمَدِينَةِ وَقيل بحلوان من أَعمال مصر سنة سِتِّينَ عَام وَفَاة مُعَاوِيَة أَو بعْدهَا بِسنة أمه أم عَاصِم بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب روى عَن أَبِيه وَأنس وَعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب وَغَيرهم صفته كَانَ رَضِي الله عَنهُ أبيضَ اللَّوْن رَقِيق الْوَجْه جميلا نحيف الْجِسْم حسن اللِّحْيَة غائر الْعَينَيْنِ بجبهته أثر حافر دَابَّة وَلذَلِك سمي أشج بني أُميَّة قد وخطه الشيب قَالَ ثروان مَوْلَاهُ دخل عمر إِلَى إصطبل أَبِيه وَهُوَ غُلَام فَضَربهُ فرس فَشَجَّهُ فَجعل أَبوهُ يمسح عَنهُ الدَّم وَيَقُول إِن كنت أشج بني أُميَّة إِنَّك لسَعِيد رَوَاهُ ضَمرَة عَن ثروان وَعَن ضمام بن إِسْمَاعِيل عَن أبي قبيل أَن عمر بن عبد الْعَزِيز بَكَى وَهُوَ غُلَام فَقَالَت أمه مَا يبكيك قَالَ ذكرت الْمَوْت وَكَانَ قد جمع الْقُرْآن وَهُوَ غُلَام صَغِير فَبَكَتْ أمه وَعَن سعيد بن عفير عَن يَعْقُوب عَن أَبِيه أَن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أَمِير مصر بَعَثَ ابْنه عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الْمَدِينَة يتأدب بهَا وَكتب إِلَى صَالح بن كيسَان أَن يتعاهده وَكَانَ يخْتَلف إِلَى عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة يسمع مِنْهُ الْعلم فَبَلغهُ أَن(3/312)
عمر يتنقص عليا فَقَالَ لَهُ مَتى بلغك أَن الله سَخِطَ على أهل بدر بعد أَن رَضيَ عَنْهُم ففهم وَقَالَ معذرة إِلَى الله وَإِلَيْك لَا أَعُود وَقَالَ غَيره لما مَاتَ عبد الْعَزِيز طلب عبد الْملك بن مَرْوَان عمر إِلَى دمشق فزوجته ابْنَته فَاطِمَة بنت عبد الْملك وَكَانَ الَّذين يعيبون عمر من حساده لَا يعيبونه إِلَّا بالإفراط فِي التنعم والاختيالِ فِي المشية هَذَا قبل الإمرة قَالَ أَبُو زرْعَة عبد الْأَحَد بن اللَّيْث القيناني سَمِعت مَالِكًا يَقُول أَتَى فتيَان إِلَى عمر بن عبد العزز فَقَالُوا إِن أَبَانَا تُوفيَ وَترك لنا مالاَ نَحْو عمنَا حميد الأمجي فَأحْضرهُ عمر وَقَالَ لَهُ أَنْت الْقَائِل من // (المتقارب) //
(حُميْدُ الَّذِي أمج دَاره ... أَخُو الخَمْرِ ذِي الشيْبَةِ الأَصْلَع)
(أَتَاهُ المَشِيبُ علَى شربهَا ... وكَانَ كَريماً فَلَمْ يَنْزعِ)
قَالَ نعم قَالَ مَا أَرَانِي إِلَّا حادكَ إِذْ أَقرَرت بشربها وَأَنَّك لم تنْزع عَنْهَا قَالَ أَيْن يذهب بك ألم تسمع الله يَقُول {وَاَلشُعَراء يَتبِعُهُم الغَاوونَ أَلمَ تَرَ أَنهُم فِي كُلِّ وَاد} الْآيَة الشُّعَرَاء 224 قَالَ عمر أَولَى لَك يَا حميد مَا أَرَاك إِلَّا قد تفلت وَيحك يَا حميد كَانَ أَبوك رجلاَ صَالحا وَأَنت رجل سوء قَالَ أصلحك الله وأينا يشبه أَبَاهُ أما كَانَ أَبوك رجل سوء وَأَنت رجل صَالح قَالَ إِن هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَن أباهم تُوُفيَ وَترك مَالا عنْدك قَالَ صدقُوا وأحضره بِخَتْم أَبِيهِم ثمَّ قَالَ إِن أباهم مَاتَ سنة كَذَا وَكَذَا وَكنت أنْفق عَلَيْهِم من مَالِي وَهَذَا مَالهم فَقَالَ عمر مَا أحد أَحَق أَن يكون عِنْده مِنْك فَامْتنعَ وَقَالَ زيد بن أسلم قَالَ أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَا صليت وَرَاء إِمَام بعد رَسُول الله
أشبه صَلَاة برَسُول الله
من هَذَا الْفَتى يَعْنِي عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ عمر أَمِيرا على الْمَدِينَة قَالَ زيد بن أسلم كَانَ يتم الرُّكُوع وَالسُّجُود ويخفف الْقيام وَالْقعُود وَقَالَ عمر بن قيس الْملَائي سُئِلَ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ هُوَ نجيبة بني أُميَّة وَلكُل قوم نجيبة وَإنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة أمة وَاحِدَة وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ كَانَ الْعلمَاء مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز تلامذة(3/313)
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي تَارِيخه بِسَنَد رَفعه إِلَى جوَيْرِية عَن نَافِع بلغنَا أَن عمر بن الْخطاب قَالَ إِن مِن وَلَدي رجلا بِوَجْهِهِ شجة يَلِي فَيمْلَأ الأَرْض عدلا قَالَ هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَن السّري بن يحيى عَن ريَاح بن عُبَيْدَة قَالَ خرج عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الصَّلَاة وَشَيخ متوكئ على يَده فَقلت فِي نَفسِي إِن هَذَا الشَّيْخ لجافٍ فَلَمَّا صلى لحقته فَقلت أصلح الله الْأَمِير من الشَّيْخ الَّذِي كَانَ متكئَاً على يدك قَالَ يَا ريَاح رَأَيْته قلت نعم قَالَ مَا أحسبك إِلَّا رجلا صَالحا ذَاك أخي الْخضر أَتَانِي فَأَعْلمنِي أَنِّي سألي أَمر هَذِه الْأمة وَأَنِّي سأعدل فِيهَا رُوَاته ثِقَات قَالَ جرير عَن مُغيرَة جع عمر بن عبد الْعَزِيز بني مَرْوَان حِين اسْتخْلف فَقَالَ إِن رَسُول الله
كَانَ لَهُ فدك ينْفق مِنْهَا وَيعود مِنْهَا على صَغِير بني هَاشم ويزوج مِنْهَا أيمهم وَإِن فَاطِمَة سَأَلته أَن يَجْعَلهَا لَهَا فَأبى وَكَانَت كَذَلِك حَيَاة أبي بكر ثمَّ عمر ثمَّ اقتطعها مَرْوَان ثمَّ صَارَت إِلَيّ فَرَأَيْت أمرا مَنعه رَسُول الله
لَيْسَ لي بحَق وَإِنِّي أشهدكم أَنِّي قد رَددتهَا على مَا كَانَت عَلَيْهِ أَيَّام رَسُول الله
وَفِي كتاب المحاسن والمساوي للعلامة إِبْرَاهِيم البهيقي مَا نَصه وَحدث إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد قَالَ أَتَى الْوَلِيد بن عبد الْملك بِرَجُل من الْخَوَارِج وَعِنْده عمر بن عبد الْعَزِيز وخَالِد بن الريان فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد مَا تَقول فِي أبي بكر فَقَالَ صَاحب رَسُول الله
وَثَانِي اثْنَيْنِ رجمه الله تَعَالَى وَغفر لَهُ قَالَ فَمَا تَقول فِي عمر بن الْخطاب قَالَ هُوَ الْفَارُوق رَحمَه الله تَعَالَى وَغفر لَهُ قَالَ فَمَا تَقول فِي عُثْمَان بن عَفَّان قَالَ كَانَ سُنَيات من خِلَافَته ملازماً للعدل قَالَ فَمَا تَقول فِي مَرْوَان بن الحكم قَالَ لعن الله ذَاك قَالَ فَمَا تَقول فِي عبد الْملك قَالَ ذَاك ابْن ذَاك لعن الله ذَاك فَقَالَ فَمَا تَقول فِي قَالَ ابْن ذَيْنك وَأَنت شَرّ الثَّلَاثَة فَقَالَ الْوَلِيد يَا عمر مَا تَقول فِيمَا تسمع قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أحد أعلم(3/314)
بِهَذَا مِنْك فألح عَلَيْهِ وَالله لتقولن فَقَالَ أما إِذْ أَبيت إِلَّا أَن أَقُول فسب أَبَاهُ كَمَا سَبَّ أَبَاك {وَأن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى} الْبَقَرَة 237 فَقَالَ لَيْسَ إِلَّا هَذَا فَقَالَ لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا أَن تداخلك جبرية فَأَما فِي الْحق فَلَيْسَ إِلَّا هَذَا فَالْتَفت إِلَى خَالِد بن الريان وَهُوَ قَائِم على رَأسه ثمَّ قَامَ وَهُوَ غَضْبَان فَقَالَ خَالِد وَالله يَا عمر لقد نظر إِلَيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ نظرةَ كنت أَظن أَنه يَأْمُرنِي بِضَرْب عُنُقك قَالَ لَو أَمرك أَكنت تفعل فَقَالَ إِي وَالله قَالَ أما إِنَّه كَانَ يكون شرا لَكمَا وخيرَاً لي ثمَّ سكت عمر عَنهُ وَبَقِي ذَلِك فِي قلبه وَلما قَامَ الْوَلِيد من مَجْلِسه دخل على زَوجته أم الْبَنِينَ بنت عبد الْعَزِيز أُخْت عمر فَقَالَ لَهَا أَخُوك الحروريُّ وَالله لأقتلنه فَمَكثَ عمر أَيَّامًا فِي منزله لَا يحضُرُ الْبَاب وَلَا يلْتَمس المعذرة فَأَتَاهُ رَسُول الْوَلِيد وَقت القائلة فَدَعَاهُ فَلَمَّا دخل بَاب الْقصر عدل بِهِ إِلَى بَيت فَأدْخل فِيهِ وطين عَلَيْهِ الْبَاب فَرجع صَاحب دَابَّته إِلَى أَهله فَأخْبرهُم فَأخْبرُوا أُخْته فبحثت عَن خَبره فعلمته فَدخلت على الْوَلِيد وَنَاشَدْته الرَّحِم وَقبلت يَده فَقَالَ قد وهبته لَك إِن أَدْرَكته حَياً قَالَ ففتحوا عَنهُ الْبَاب فوجدوه قد انثنى عُنُقه فَحَمَلُوهُ إِلَى منزله وعالجوه فَلَمَّا توفّي الْوَلِيد وَكَانَ سُلَيْمَان بعده فَهَلَك وَتَوَلَّى عمر الْخلَافَة جَاءَ خَالِد بن الريان فِي الْيَوْم الَّذِي اسْتخْلف فِيهِ عمر متقلدَاً سَيْفه يُرِيد الْوُقُوف على رَأسه فَقَالَ عمر يَا خَالِد انْطلق بسيفك هَذَا فضعه فِي بَيْتك واقعد فِيهِ لَا حَاجَة لنا فِيك أَنْت رجل إِذا أُمِرْتَ بِشَيْء فعلته لَا تنظر لدينك فَلَمَّا ولي خَالِد ذَاهِبًا نظر عمر إِلَى قَفاهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ يَا رب إِنِّي قد وَضعته لَك فَلَا ترفعه أبدا فَمَا لبث إِلَّا جُمُعَة حَتَّى ضربه الفالج فَقتله انْتهى قَالَ عبد الله بن صَالح حَدثنِي اللَّيْث قَالَ لما ولي عمر بَدَأَ بلحمته وَأهل بَيته وَأخذ مَا بِأَيْدِيهِم وسمى أَمْوَالهم مظالم فَفَزِعت بَنو أُميَّة إِلَى عمته فَاطِمَة بنت مَرْوَان فَأَتَتْهُ لَيْلًا فأنزلها عَن دابتها فَلَمَّا أخذت مجلسها قَالَ يَا عمَّة أَنْت أولى بالْكلَام فتكلَمي قَالَت تكلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ إِن الله بعث نبيه رَحْمَة للْأمة ثمَّ اخْتَار لَهُ مَا عِنْده فَقَبضهُ الله وَترك لَهُم نَهرا شربهم سَوَاء ثمَّ قَامَ أَبُو بكر فَترك النَّهر على حَاله ثمَّ ولي عمر فَعمل عمل صَاحبه وَلم يزل النَّهر يشق مِنْهُ يزِيد(3/315)
ومروان وَعبد الْملك والوليد وَسليمَان حَتَّى أفضَى الْأَمر إِلَيّ وَقد يبس النَّهر الْأَعْظَم وَلنْ يرْوى أَصْحَاب النَّهر الْأَعْظَم حَتَّى يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَقَالَت حَسبك قد أردْت كلامك ومذاكرتك فَأَما إِذا كَانَت مَقَالَتك هَذِه فلست بذاكرة لَك شَيْئا فَرَجَعت إِلَيْهِم فأبلغتهم كَلَامه وَعَن مُحَمَّد الْمروزِي قَالَ أخْبرت أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما ولي الْخلَافَة جَاءَ صَاحب الشرطة ليسير بَين يَده بالحربة جَريا على عَادَة الْخُلَفَاء قبله فَقَالَ لَهُ عمر تنحَّ عني مَالِي وَلَك إِنَّمَا أَنا رجل من الْمُسلمين ثمَّ سَار مختلطاً بِالنَّاسِ حَتَّى دخل الْمَسْجِد فَصَعدَ الْمِنْبَر وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر النَّبِي
ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي ابْتليت بِهَذَا الْأَمر من غير رأيٍ مني فِيهِ وَلَا طلبٍ وَلَا مشورةِ وَإِنِّي قد حللت مَا فِي أَعْنَاقكُم من بيعتي فَاخْتَارُوا لأنفسكم غَيْرِي فصاح الْمُسلمُونَ صَيْحَة وَاحِدَة قد اخترناك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ورضينا بك أميرنا بِالْيمن وَالْبركَة فَلَمَّا سكتوا حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَصلى على النَّبِي
ثمَّ قَالَ أوصيكم بتقوى الله فَإِن تقواه خلف من كل شَيْء وَلَيْسَ من تقوى الله خلف وتعجلوا لآخرتكم فَإِن من عجل لآَخرته كَفاهُ الله أَمر دُنْيَاهُ وآخرته وَأَصْلحُوا سرائركم يصلح الله علانيتكم وَأَكْثرُوا ذكر الْمَوْت وأحسنوا لَهُ الاستعداد قبل أَن ينزل فَإِنَّهُ هَادِم اللَّذَّات وَإِنِّي وَالله لَا أعطي أحد بَاطِلا وَلَا أمنع أحدا حَقًا ثمَّ رفع صَوته فَقَالَ أَيهَا النَّاس من أطَاع اللِّه وَجَبت طَاعَته وَمن عصى الله فَلَا طَاعَة لَهُ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت الله فَإِن عصيته فَلَا طَاعَة لي عَلَيْكُم ثمَّ نزل وَدخل دَار الْخلَافَة فَأمر بالستور فهتكت وبالبسط فَرفعت وَأمر بِبيع ذَلِك وَإِدْخَال أثمانها فِي بَيت مَال الْمُسلمين ثمَّ ذهب يتبوأ مقيلا فَأَتَاهُ ابْنه عبد الْملك فَقَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ أَن تصنع يَا أَبَت فَقَالَ أَي بني أقيل فَقَالَ أتقيل وَلَا ترد الْمَظَالِم إِلَى أَهلهَا قَالَ أَي بني إِنِّي سهرت البارحة ف أَمر عمك سُلَيْمَان(3/316)
فَإِذا صليت الظّهْر رددت الْمَظَالِم فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من أَيْن لَك أَن تعيش إِلَى الظّهْر فَقَالَ ادن مني فَدَنَا مِنْهُ فَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أخرج من ظَهْري من يُعِيننِي على ديني فَخرج وَلم يقل فَأمر منادياً أَن يُنَادي أَلا من كَانَت لَهُ مظْلمَة فليرفعها فَتقدم إِلَيْهِ ذمِّي من أهل حمص فَقَالَ أَسأَلك كتاب الله قَالَ وَمَا ذَاك قَالَ إِن الْعَبَّاس بن الْوَلِيد اغتصبني أرضي وَالْعَبَّاس جَالس فَقَالَ عمر مَا تَقول يَا عَبَّاس قَالَ إِن الْوَلِيد أقطعني إِيَّاهَا هَذَا كِتَابه فَقَالَ عمر مَا تَقول يَا ذمِّي قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَسأَلك كتاب الله فَقَالَ عمر كتاب الله أَحَق أَن يتبع من كتاب الْوَلِيد ارْدُدْ عَلَيْهِ أرضه يَا عَبَّاس فَردهَا عَلَيْهِ ثمَّ جعل لَا يدع شَيْئا مِمَّا كَانَ فِي يَد أهل بَيته من الْمَظَالِم إِلَّا رَدَها مظْلمَة مظْلمَة فَلَمَّا بلغ الْخَوَارِج سيرة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمَا رد من الْمَظَالِم اجْتَمعُوا وَقَالُوا مَا يَنْبَغِي لنا أَن نُقَاتِل هَذَا الرجل وَلما بلغ عمر بن الْوَلِيد رد الضَّيْعَة على الذِّمِّيّ كتب إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز كتابا فِيهِ إِنَّك قد أزريت على من كَانَ قبلك من الْخُلَفَاء وعبت عَلَيْهِم فعلهم وسرت بِغَيْر سيرتهم بغضاً لَهُم وشيناً لمن بعدهمْ من أَوْلَادهم قطعت مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل إِذْ عَمَدت إِلَى أَمْوَال قُرَيْش ومواريثهم وأدخلتها بَيت المَال جوراً وعدواناً وَلنْ تتْرك على هَذَا الْحَال وَالسَّلَام فَلَمَّا قَرَأَ عمر بن عبد الْعَزِيز كتاب عمر بن الْوَلِيد كتب إِلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى عمر بن الْوَلِيد السَّلَام على الْمُرْسلين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما بعد فقد بَلغنِي كتابك أما أول شَأْنك يَا ابْن الْوَلِيد فأمك بنانة أمة السّكُون كَانَت تَطوف فِي سوق حمص وَتدْخل فِي حوانيتها ثمَّ الله أعلم بهَا ثمَّ اشْتَرَاهَا ذبيان من بَيت مَال الْمُسلمين فأهداها لأَبِيك فَحملت بك فبئس الْمَوْلُود أَنْت ثمَّ نشأت فَكنت جباراً عنيداً تزْعم أَنِّي من الظَّالِمين إِذْ حرمتك وَأهل بَيْتك مَال الله الَّذِي فِيهِ حق الْقَرَابَة وَالْمَسَاكِين والأرامل وَإِن أَظْلَمَ مني وأترك لعهد الله مَن استعملك صَبيا سَفِيها على جند الْمُسلمين تحكم فيهم(3/317)
بِرَأْيِك وَلم يكن لَهُ فِي ذَلِك نِيَّة إِلَّا حب الْوَالِد لوَلَده فويل لأَبِيك مَا أَكثر خصماءه يَوْم الْقِيَامَة وَإِن أظلم مني وأترك لعهد الله من اسْتعْمل الْحجَّاج يسفك الدِّمَاء وَيَأْخُذ المَال الْحَرَام وَإِن أظلم مني وأترك لعهد الله من اسْتعْمل أعرابيُّاً جَافيا على مصر وَأذن لَهُ فِي المعازف وآلات اللَّهْو وَالشرب وَإِن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لغالية البربرية فِي خُمْس الْعَرَب نَصِيبا فرويدا يَابْنَ بنانة فَلَو الْتَقت حلقتا البطان ورد الفئ إِلَى أَهله لتفرغتُ لَك وَلأَهل بَيْتك فوضعتهم فِي المحجبة الْبَيْضَاء فطالما تركْتُم الْحق وأخذتم فِي الْبَاطِل وَمن وَرَاء ذَلِك مَا أَرْجُو أَن أكون رائيه من بيع رقبتك وَقسم ثمنك بَين الْيَتَامَى والأرامل فَإِن لكل فِيك حَقًا وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى وَلَا ينَال سلامُ الله الْقَوْم الظَّالِمين وَفِي الذَّهَبِيّ كتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى سَالم بن عبد الله بن عمر يكْتب إِلَيْهِ بسيرة عمر بن الْخطاب فِي الصَّدقَات فَكتب إِلَيْهِ بِالَّذِي سَأَلَ وَكتب إِلَيْهِ إِنَّك إِن عملت بِمثل عمل عمر فِي زَمَانه وَرِجَاله فِي مثل زَمَانك ورجالك كنت عِنْد الله خيرا من عمر وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان سَمِعت عمر بن عبد الْعَزِيز يَقُول لَو أَقمت فِيكُم خمسين عامَاً مَا استكملت الْعدْل فِيكُم إِنِّي لأريد الْأَمر فَأَخَاف أَلا تحمله قُلُوبكُمْ فَأخْرج مِنْهُ طَمَعا من طمع الدُّنْيَا فَإِن أنْكرت قُلُوبكُمْ هَذَا سكنت إِلَى هَذَا وَعَن سعيد بن عَامر حَدثنَا جوَيْرِية قَالَ دَخَلنَا على فَاطِمَة بنت عَليّ بن أبي طَالب فأثنت على عمر بن عبد الْعَزِيز خيرا وَقَالَت لَو كَانَ بَقِي لنا مَا احتجنا بَعْدُ إِلَى أحد وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ حَدَّثتنِي فَاطِمَة امْرَأَة عمر بن عبد الْعَزِيز أَنَّهَا(3/318)
دخلت عَلَيْهِ وَهُوَ جَالس فِي مُصَلَّاهُ تسيلُ دُمُوعه على لحيته فَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَشَيْء حدث قَالَ يَا فَاطِمَة إِنِّي تقلدت من أَمر أمة مُحَمَّد
أسودها وأحمرها فتفكرت فِي الْفَقِير الجائع وَالْمَرِيض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب الْأَسير وَالشَّيْخ الْكَبِير وَذي الْعِيَال الْكثير وَالْمَال الْقَلِيل وأشباههم فِي أقطار الأَرْض وَسَائِر الْبِلَاد فَعلمت أَن رَبِّي سائلي عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة فَخَشِيت أَلا تثبت لي حجَّة فَبَكَيْت وَعَن الْأَوْزَاعِيّ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ جالسَاً فِي بَيته وَعِنْده أَشْرَاف بني أُميَّة فَقَالَ تحبون أَن أولي كل رجل مِنْكُم جنداً فَقَالَ رجل مِنْهُم لم تعرض علينا مَا لَا تَفْعَلهُ فَقَالَ ترَوْنَ بساطي هَذَا إِنِّي لأعْلم أَنه سيصير إِلَى بلَاء وفناء وَإِنِّي أكره أَن تدنسوه بأرجلكم فَكيف أوليكم ديني وأوليكم أَعْرَاض الْمُسلمين وأسارهم هَيْهَات فَقَالُوا أما لنا قرَابَة أما لنا حق قَالَ مَا أَنْتُم وأقصى رجل من الْمُسلمين فِي هَذَا الْأَمر عِنْدِي إِلَّا سَوَاء إِلَّا رجل من الْمُسلمين حَبسه عني طول شقته حَدثنَا مُعَاوِيَة بن صَالح الْحِمصِي حَدثنِي سعيد بن سُوَيْد أَن عمر بن عبد الْعَزِيز صلى بهم الْجُمُعَة ثمَّ جلس وَعَلِيهِ قَمِيص مرقوم الجيب من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه فَقَالَ لَهُ رجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله قد أَعْطَاك فَلَو لبست فَنَكس رَأسه مَلِيًّا ثمَّ رَفعه فَقَالَ أفضل الْقَصْد عِنْد الْجدّة وَأفضل الْعَفو عِنْد الْمقدرَة وَحدث إِبْرَاهِيم بن هِشَام عَن أَبِيه عَن جده عَن مسلمة بن عبد الْملك قَالَ دخلت على عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِذا عَلَيْهِ قَمِيص وسخ فَقلت لزوجته وَهِي أُخْتِي فَاطِمَة بنت عبد الْملك اغسلوا قَمِيص أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَت نَفْعل ثمَّ عدت فَإِذا بالقميص على حَاله فَقلت لَهَا فَقَالَت وَالله مَا لَهُ قَمِيص غَيره رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه(3/319)
وَعَن إسماعل بن عَاشَ عَن عمر بن مهَاجر كَانَت نَفَقَة عمر بن عبد الْعَزِيز يَوْم دِرْهَمَيْنِ وَعَن عون بن الْمُعْتَمِر قَالَ دخل عمر بن عبد الْعَزِيز على زَوجته ذاتَ يومٍ فَقَالَ عنْدك دِرْهَم نشتري بِهِ عنبا قَالَت لَا أَنْت أَمر الْمُؤمنِينَ لَا تقدر على دِرْهَم قَالَ هَذَا أَهْون عَليّ من معالجة الأغلال فِي جَهَنَّم قَالَ يحيى بن معِين كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يلبس الفروة الكبل وَكَانَ سراج بَيته على ثَلَاث قصبات فوقهن طين وَكَانَ يسرج عَلَيْهِ الشمعة مَا كَانَ فِي حوائج الْمُسلمين فَإِذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثمَّ أَسْرج عَلَيْهِ سراجه وَعَن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ قَالَ لي رَجَاء بن حَيْوَة مَا أكمل مُرُوءَة أَبِيك عمر سمرت عِنْده لَيْلَة فعشى السراج فَقَالَ لي أما ترى السراج قد عشى قلت بلَى قَالَ وَإِلَى جَانِبه وصيف رَاقِد قلت أَلا أنبهه قَالَ لَا قلت أَفلا أقوم قَالَ لَيْسَ من مُرُوءَة الرجل استخدامه ضَيفه فَقَامَ إِلَى بطة الزَّيْت وَأصْلح السراج ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ قُمْت وَأَنا عمر بن عبد الْعَزِيز وَرجعت وَأَنا عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَت لي فَاطِمَة زَوْجَة عمر كَانَ عمر إِذا صلى الْعشَاء قعد فِي مَسْجده ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَلم يزل يبكي حَتَّى تغلبه عَيناهُ ثمَّ ينتبه فَلَا يزَال يَدْعُو ربه رَافعا يَدَيْهِ يبكي حَتَّى تغلبة عَيناهُ يفعل ذَلِك ليله أجمع وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ قَالَ لي عمر حَدثنِي فحدثه حَدِيثا فَبكى مِنْهُ بكاء شَدِيدا فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو علمتُ لحدثتك حديثَاً أَلين مِنْهُ قَالَ يَا مَيْمُون إِنَّا نَأْكُل هَذِه الشَّجَرَة العدس وَهِي مَا علمت مرقه للقلب مغزرة للدمعة مذلة للجسد(3/320)
قلت صدق رَضِي الله عَنهُ فَإِن من خَواص العدس مَا ذكره وَالسَّبَب الْخَفي فِي ذَلِك الْبكاء إِنَّمَا هُوَ رقة فِي قلبه من خوف الله تَعَالَى وخشيته لكنه وجد سَبِيلا إِلَى إِسْنَاده إِلَى العدس لما قيل إِن فِيهِ خاصية ذَلِك كَأَنَّهُ قصد الْبعد عَن مظان الرِّيَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مُجَاهِد قَالَ لي عمر بن عبد الْعَزِيز مَا تَقول النَّاس فِي قلت يَقُولُونَ مسحور قَالَ مَا أَنا بمسحور وَالله وَلَكِنِّي بخوف رَبِّي مسحور قَالَ وَكَانَت بَنو أُميَّة قد تبرمَتْ بعمر لكَونه شدَد عَلَيْهِم وانتزع كثيرا مِمَّا فِي أَيْديهم مِمَّا غصبوه وَكَانَ قد أهمل التَّحَرُّز فدسوا لَهُ غُلَاما سقَاهُ السمَّ ثمَّ دَعَا الْغُلَام وَقَالَ وَيحك مَا حملك على أَن تسقيني السم قَالَ ألف دِينَار أُعْطيتها وعَلى أَن أعتق قَالَ عمر هَاتِهَا فألقاها فِي بَيت مَال الْمُسلمين وَقَالَ اذْهَبْ حَيْثُ لَا يراك أحد وروى أَنه وَقع غلاء عَظِيم فِي زَمَنه فَقدم عَلَيْهِ وَفد من الْعَرَب فَاخْتَارُوا رجلا مِنْهُم لخطابه فَتقدم إِلَيْهِ وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّا قد وفدنا إِلَيْك من ضَرُورَة عَظِيمَة وحقنا فِي بَيت المَال وَمَاله لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون لله أَو لعباد الله أَو لَك فَإِن كَانَ لله فَإِن الله غَنِي عَنهُ وَإِن كَانَ لعباد الله فأَتهم إِيَّاه وَإِن كَانَ لَك فَتصدق علينا إِن الله يحب المتصدقين فاغرورقت عينا عمر بالدموع وَقَالَ هُوَ كَمَا ذكرت وَأمر بحوائجهم فَقضيت فهم الْأَعرَابِي بالانصراف فَقَالَ لَهُ عمر أَيهَا الرجل كَمَا أوصلت حوائج عباد الله إليَ فأوصل حَاجَتي وارفع فَاقَتِي إِلَى الله عز وَجل فَقَالَ الْأَعرَابِي اللَّهُمَّ اصْنَع بعمر بن عبد الْعَزِيز كصنعه فِي عِبَادك فَمَا استتم كَلَامه حَتَّى ارْتَفع غيم عَظِيم وهطلت السَّمَاء فجَاء فِي الْمَطَر بردة فَوَقَعت على حجر فَانْكَسَرت فَخرج مِنْهُ كاغد مَكْتُوب فِيهِ هَذِه بَرَاءَة من الله الْعَزِيز الْجَبَّار لعمر بن عبد الْعَزِيز من النَّار وَقَالَ رَجَاء بن حَيْوَة كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز من أعظم النَّاس وألينهم وأعلمهم وأجملهم فِي مشيته ولبسه وَلما اسْتخْلف قومَت ثِيَابه وعمامته وقميصه وقباؤه(3/321)
وخُفاه وَرِدَاؤُهُ فَإِذا هن يعدلنَ اثنَي عشر درهما وَعَن زَوجته فَاطِمَة أَنَّهَا قَالَت مَا اغْتسل وَالله عمر من جَنَابَة مُنْذُ ولي هَذَا الْأَمر كَانَ نَهَاره فِي أشغال الْمُسلمين ورد الْمَظَالِم وليله فِي عبَادَة ربه قَالَ الْحَافِظ كَانَ لعمر بن عبد الْعَزِيز رأفة بالخلق عَامَّة وبأولاد النَّبِي
خَاصَّة من ذَلِك قصَّة زيد بن الْحسن السبط رَضِي الله عَنْهُمَا وَذَلِكَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كتب فِي حَقه حِين كَانَ والياً على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة من قبل الْوَلِيد إِلَى الْوَلِيد أما بعد فَإِن زيد بن الْحسن شرِيف بني هَاشم فأدوا إِلَيْهِ صدقَات رَسُول الله
وأعنه يَا هَذَا على مَا استعانك عَلَيْهِ فَأمر لَهُ بذلك قَالَ عبد الله بن وهب حَدثنِي يَعْقُوب قَالَ بَلغنِي أَن الْوَلِيد كتب إِلَى زيد بن الْحسن يسْأَله أَن يُبَايع لِابْنِهِ ويخلع سُلَيْمَان بن عبد الْملك من ولَايَة الْعَهْد الَّذِي عَهده لَهُ أَبوهُ عبد الْملك إِلَى الْوَلِيد فَفرق زيد وَأجَاب الْوَلِيد فَلَمَّا اسْتخْلف سُلَيْمَان وَجدَ كتاب زيد بذلك إِلَى الْوَلِيد فَكتب إِلَى أبي بكر بن حزم أميره ادْع زيدا فاقرأ عَلَيْهِ كِتَابه فَإِن عرفه فَاكْتُبْ إِلَيّ وَإِن أنكرهُ فحلفه قَالَ فخاف الله واعترف بذلك وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله بن عمر فَكتب بذلك ابْن حزم إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَكَانَ جَوَاب سُلَيْمَان أَن اضربه مائَة سَوط وَدِرْعه عباءة ومشه حافيَاً قَالَ فحبس عمر بن عبد الْعَزِيز الرَّسُول فِي عَسْكَر سُلَيْمَان وَقَالَ حَتَّى أكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَا كتب بِهِ وَمرض سُلَيْمَان فَمَاتَ فَحرق عمر بن عبد الْعَزِيز الْكتاب جزاه الله تَعَالَى فِي فعله أفضل الْجَزَاء وَقَالَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَو كنت فِي قتلة الْحُسَيْن وَأمرت أَن أَدخل الْجنَّة مَا فعلتُ حَيَاء أَن تقع عَليّ عين رَسُول الله
وأتى الْوَلِيد بن عبد الْملك بِرَجُل من الْخَوَارِج فَقَالَ مَا تَقول فِي الْحجَّاج قَالَ مَا عساي أَن أَقُول فِي الْحجَّاج وَهل الْحجَّاج إِلَّا خَطِيئَة من خطاياك وَأَبِيك وشَرَر من نارك وناره فلعنة الله عَلَيْك وعَلى الْحجَّاج مَعَك وَأَقْبل يشتمهما فَالْتَفت الْوَلِيد إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ مَا تَقول فِي هَذَا قَالَ عمر مَا أَقُول(3/322)
فِي هَذَا هَذَا رجل يشتمكم فإمَّا أَن تشتموه كَمَا يشتمكم أَو تعفون فَغَضب الْوَلِيد وَقَالَ مَا أَظُنك إِلَّا خارجياً فَغَضب عمر وَقَالَ مَا أَظُنك إِلَّا مجنونَاً وَقَامَ وَخرج مغضباً ولحقه خَالِد بن الريان فَقَالَ لَهُ مَا حملك على مَا أجبْت بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله لقد ضربْتُ يَدي على قَائِم سَيفي أنتظره مَتى يَأْمُرنِي بِضَرْب عُنُقك فَقَالَ لَهُ عمر وكنتَ فاعلاَ لَو أَمرك قَالَ نعم فَلَمَّا اسْتخْلف عمر بن عبد الْعَزِيز جَاءَ خَالِد بن الريان فَقَامَ على رَأسه كَمَا كَانَ يقوم على رَأس من كَانَ قبله من الْخُلَفَاء وَكَانَ رجل من الْكتاب يضر وينفع بقلمه فجَاء حَتَّى جلس مَجْلِسه الَّذِي يجلس فِيهِ بَين يَدي الْخَلِيفَة فَنظر عمر إِلَى خَالِد بن الريان فَقَالَ لَهُ يَا خَالِد ضع سَيْفك فَإنَّك تطيعنا فِي كل مَا أمرناك بِهِ وضع أَنْت يَا هَذَا قلمك فقد كنت تضر وَتَنْفَع وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قد وضعتهما فَلَا ترفعهما قَالَ فوَاللَّه مَا زَالا وضيعين بشر حَتَّى مَاتَا قلت قد تقدّمت هَذِه الرِّوَايَة على نوع مُخَالفَة لما هُنَا وروى أَنه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صعد الْمِنْبَر ذَات يَوْم بِمَكَّة فَقَالَ أَيهَا النَّاس من كَانَت لَهُ ظلامة فليتقدم فتقَدم عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ كرم الله وَجهه فَقَالَ إِن لي ظلامة عنْدك فَقَالَ وَمَا ظلامتك فَقَالَ مقامك هَذَا الَّذِي أَنْت فِيهِ فَقَالَ إِنِّي لأعْلم ذَلِك وَلَكِن لَو علمت أَن النَّاس يتركونه لَك وَالله لتركته وروى عَن الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر قَالَ كَانَ العَبْد الصَّالح أَبُو حَفْص عمر بن عبد الْعَزِيز يهدي إِلَيْنَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فِي زقاق الْعَسَل خوفًا من أهل بَيته قَالَ الْكَلْبِيّ لما أفضت الْخلَافَة إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز وقدمت عَلَيْهِ الشُّعَرَاء كَمَا كَانَت تقدم على الْخُلَفَاء فأقاموا بِبَابِهِ أيامَاً لم يُؤذن لَهُم فِي الدُّخُول حَتَّى قدم عدي بن أَرْطَاة وَكَانَت لَهُ مِنْهُ مكانة فتعرض لَهُ جرير وَسَأَلَهُ أَن يسْتَأْذن لَهُم فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الشُّعَرَاء ببابك لَهُم أَيَّام لَا يُؤذن لَهُم وأقوالهم نَافِذَة وسهامهم مَسْمُومَة فَقَالَ عمر يَا عدي مَالِي وللشعراء فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن النَّبِي
مُدِحَ وأعطَى وَفِيه أُسْوَة لكل مُسلم فَقَالَ وَمن مدحه قَالَ(3/323)
الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ فَكَسَاهُ حلَّة وَقَالَ يَا بِلَال اقْطَعْ لِسَانه عني قَالَ أتروي قَوْله قَالَ نعم قَالَ عمر قل فَأَنْشد من // (الطَّوِيل) //
(رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ البريةِ كلِّهَا ... بخيرِ كتابٍ جئْتَ بالحَقِّ مُعْلِمَا)
(وقَرَّرْتَ بالإسلامِ أمرا مدمَّسًا ... وأطفَأْتَ بالبرهانِ جمراً مُضَرَّمَا)
(فَمَنْ مُبْلِغٌ عني الرسُولَ محمَّدًا ... فكُلُّ امرئٍ يُجْزَى بِمَا قد تَكَلَّما)
(أَقمت سبِيلَ الحَقِّ بعد اعوجاجِهِ ... وَكَانَ قَدِيما وَجْهُهُ قد تَجَهَّمَا)
(تعالَى عُلوًّا فَوق عَرْشِ إلهنا ... وَكَانَ جَلاَلُ الله أعْلَى وأعظَمَا)
قَالَ عمر فَمن بِالْبَابِ من الشُّعَرَاء قَالَ عدي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن أبي ربيعَة الْقرشِي المَخْزُومِي فَقَالَ لَا قرَبه الله وَلَا حَيَّاهُ أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل من // (الطَّوِيل) //)
أَلاَ لَيْتَ أَنِّي حينَ تدنُو منيتِي ... شمَمْتُ الَّذِي مَا بَين عينيكِ والفَمِ)
(وباتَتْ سُلَيْمَى فِي المنامِ ضجيعَتِي ... هُنَالِكَ أَو فِي جَنَّةٍ أَو جَهَنَّمِ)
فليته عَدو الله تمناها فِي الدُّنْيَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْعَمَل الصَّالح وَالله لَا يدْخل عَليّ فَمن بِالْبَابِ غَيره فَقَالَ كثير عزة قَالَ أَو لَيْسَ هُوَ الْقَائِل من // (الْكَامِل) //
(رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذين عَهِدتُّهُمْ ... يَبْكُونَ من حَرِّ العذابِ قُعُودا)
(لَو يسمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كلامَهَا ... خَرُّوا لعزَّةَ رُكَّعًا وسُجُودا)
عَد عَن ذكره من بِالْبَابِ غَيره قَالَ الْأَحْوَص الْأنْصَارِيّ قَالَ أبعده الله وأسحقه أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل وَقد أفسد على رجل جَارِيَته حَتَّى أَبَقَتْ من سَيِّدهَا من // (المنسرح) //
(أللَّهُ بَيْنِي وَبَين سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ)
لَا يدْخل عَليّ من بِالْبَابِ غَيره قَالَ الفرزدق همام بن غَالب التَّمِيمِي قَالَ أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل يفتخر بالزنى من // (الطَّوِيل) //
(هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثمانينَ قَامَةً ... كَمَا انْقَضَّ بازٍ أَقْتَمُ الريشِ كاسِرُهْ)
(فَلَمَّا استَوَتْ رِجلاَيَ فِي الأرْضِ قَالَتَا ... أَحَيٌّ يُرَجَّى أم قتيلٌ نُحَاذِرُه)
لَا يدْخل عَليّ من بِالْبَابِ غَيره قَالَ عدي الأخطل التغلبي قَالَ هُوَ الْكَافِر وَالْقَائِل من // (الوافر) //
(وَلَسْتُ بصائمٍ رمَضَانَ عمري ... ولَسْتُ بآكِل لَحْمَ الْأَضَاحِي)(3/324)
(ولستُ بزَاجِرٍ جَمَلاً بكوراً ... إلَى بطحاءِ مكَّةَ للنجاحِ)
(ولَسْتُ بِقائِم كَالْعَيْرِ يَدْعُوِ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ علَى الفَلاحٍ)
(ولكنِّي سأشْرَبُهَا شمولاَ ... وأسجُدُ عِنْد مبتلجِ الصباحِ)
وَالله لَا وطئ لي بساطا من الْبَاب غَيره قَالَ عدي جرير بن عَطِيَّة الخطفي قَالَ هُوَ الْقَائِل من // (الْكَامِل) //)
لَوْلَا مراقبةُ العيونِ أَرَيْنَناَ ... حِدَقَ المَهَا وَسَوالِفَ الآرامِ)
(طرَقَتْكَ صائدَةُ القلوبِ ولَيْسَ ذَا ... وَقْتُ الزِّيَارَة فارْجِعِي بسَلامِ)
فَإِن كَانَ وَلَا بُد فائذن لجرير فَخرج عدي فَأذن لَهُ فَدخل وَهُوَ يَقُول من // (الْكَامِل) //
(وَسِعَ الخلائِقَ عَدْلُهُ ووقارُهُ ... حتَّى ارعَوَى وأقامَ ميْلَ المائِلِ)
(إِنِّي لَأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجلا ... فالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بحُبِّ العاجِلِ)
فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ اتَّقِ الله وَلَا تقل إِلَّا حَقًا فَقَالَ من // (الْبَسِيط) //
(كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شعثاءَ أرملةٍ ... ومِنْ ضعبفٍ سقيمِ الصوتِ والنَّظَرِ)
(مِمَّنْ يَعُدُّكَ تَكْفِي فَقْدَ والدِهِ ... كالفَرْخِ فِي العُشِّ لم يدرُجْ وَلم يَطِرِ)
(إِنَّا لنَرْجُو إِذا مَا الغيْثُ أخلَفَنَا ... مِنَ الخليفةِ مَا نَرْجُو من المَطَرِ)
(نَالَ الخلافَةَ إذْ كانَتْ لَهُ قَدَرُا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ موسَى على قَدَرِ)
(هذي الأرامِلُ قد قَضَّيْتَ حَاجَتهَا ... فَمَنْ لحاجةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ)
وَهِي طَوِيلَة فَقَالَ وَالله يَا جرير مَا ملك عمر سوى مائَة دِرْهَم يَا غُلَام ادفعها لَهُ وَدفع لَهُ حلي سَيْفه فَخرج جرير إِلَى الشُّعَرَاء فَقَالُوا مَا وَرَاءَك قَالَ مَا يسوءكم رجل يُعْطي الْفُقَرَاء وَيمْنَع الشُّعَرَاء وَأَنا عَنهُ رَاض وَأَنْشَأَ يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(رَأَيْتُ رُقَى الشيْطَانِ لَا تستفزُّهُ ... وَقد كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الجِن رَاقيا)
وَفِي الطبقاتِ لِابْنِ سعد عَن عمر بن قيس لما ولى عمر بن عبد الْعَزِيز الْخلَافَة سمع صَوت لَا نَدْرِي قَائِله يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(مِنَ الآنَ قَدْ طَابَتْ وَقَرَّ قرارُاهَا ... عَلَى عُمَرَ المَهْدِيَّ قَامَ عَمُودُهَا)
وَكَانَ عمر عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مُؤمنا ورعاً تقياً صادقَاً وَهُوَ أول من اتخذ(3/325)
دَار المضيف من الْخُلَفَاء وَأول من فرض لأبناء السَّبِيل وأزال مَا كَانَ بَنو أُميَّة تذكر بِهِ عليا على المنابر وَكتب إِلَى الْآفَاق بِتَرْكِهِ وَجعل مَكَان ذَلِك {إِنَّ اَللَهَ يأمُرُ بِالعَدلِ وَاَلإحساَنِ} الْآيَة النَّحْل 90 فامتدحه الشُّعَرَاء بذلك من // (الطَّوِيل) //
(ولِيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عليا وَلم تُخِفْ ... بَريًّا وَلم تتبعْ سجيَّةَ مُجْرِمِ)
(وقُلْتَ فَصَدَّقْتَ الَّذِي قُلْتَ بِالَّذِي ... فعَلْتَ وأضحَى رَاضِيا كُلُّ مسلِمِ)
(فَمَا بَين شرقِ الأرضِ والغَرْبِ كلِّها ... منادٍ يُنَادي مِنْ فصيحٍ وأعجمٍ)
(يقولُ أَمِير المؤمنينَ ظَلَمْتَنِي ... بِأَخْذِكَ ديناري وَلَا أَخْذِ درهمِي)
(فَأَرْبِحْ بهَا مِنْ صفقةٍ لمبايعٍ ... وأكْرِمْ بهَا مِنْ بَيْعَةٍ ثمَّ ألأَكْرِمِ)
وَكتب إِلَى عماله أَلا يُقيد مسجون بِقَيْد فَإِنَّهُ يمْنَع من الصَّلَاة وَكتب أَيْضا إِلَى عماله إِذا دعتكم قدرتكم إِلَى ظلم النَّاس فاذكروا قدرَة الله عَلَيْكُم ونفاد مَا تأتون إِلَيْهِم وَبَقَاء مَا يَأْتِي إِلَيْكُم من الْعَذَاب بِسَبَبِهِمْ ومزاياه كَثِيرَة وَمن أرادها فَعَلَيهِ بالحلية وَغَيرهَا مِمَّا أفرد لذَلِك وَكَانَ مَرضه بدير سمْعَان بحمص وَلما احْتضرَ قَالَ إلهي أَنا الَّذِي أَمرتنِي فقصرت ونهيتني فعصيت وَلَكِن لَا إِلَه إِلَّا الله فَتوفي من لخمس مضين من شهر رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة وَهُوَ ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة وَأشهر وَقيل أَرْبَعِينَ مدَّته سنتَانِ وَخَمْسَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يومَاً رَحمَه الله وَرَضي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه وَمِمَّا رثي بِهِ رَحمَه الله قَول الشريف الرضي الموسوي نقيب الْأَشْرَاف بِبَغْدَاد أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ين جَعْفَر بن مُحَمَّد بِمن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وعنهم قَوْله فِيهِ وَقد جرى ذكر عمر بن عبد الْعَزِيز وَمَا تفرد بِهِ عَن أهل بَيته من الصّلاح وَالْعدْل وَجَمِيل السِّيرَة وَمَا كَانَ مِنْهُ من قطع سبّ عَليّ على المنابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وكرم وَجهه إِذْ عمر بن عبد الْعَزِيز توفّي بعد تَمام الْمِائَة الأولى بِسنة والشريف الرضي توفّي أَوَاخِر الْقرن الرَّابِع أَو أول الْخَامِس فَلم يدْرك وَفَاته وَإِنَّمَا قَالَ هَذِه القصيدة لما جرى ذكره بِمَا ذكر فَقَالَ من // (الْخَفِيف) //)
يَا بْنَ عَبْدِ العزيزِ لَوْ بَكتِ العَيْنُ ... فَتًى مِنْ أُمَيَّةٍ لبَكَيْتُكْ)(3/326)
(غَيْرَ أنِّي أَقُولُ إِنَّكَ قد طِبْتَ ... وَإِنْ لم يَطِبْ وَلم يَزْكُ بَيْتُكْ)
(أَنْتَ نَزَّهْتَنَا عَنِ السَّبِّ والقَذْفِ ... فَلَو أَمْكَنَ الجَزَا لَجَزيْتُكْ)
(وَلَوَ انِّي رَأَيْتُ قَبْرَكَ لاسْتَحْيَيْتُ ... مِنْ أَن أُرَى وَمَا حَييْتُك)
(وَقَلِيلٌ أَنْ لَو بَذَلْتُ دِمَاءَ البُدْنِ ... صِرْفًا على الثَّرَى وسَقَيْتُكْ)
(دَيْرُ سمعانَ لَا أَغَبَّكَ غادٍ ... خَيْرُ ميتٍ من آل مرْوان ميْتُكْ)
(أَنْتَ بألذُّكْرِ بَين عَيْنِي وقلبي ... إنْ تَدَانَيْتُ مِنْكَ يَوْمًا أَتَيْتُكْ)
(وإذَا حركَ الحَشَا خَاطِرٌ مِنْكَ ... تَوَهَّمْتُ أَنَّنِي قَدْ رَأَيْتُكْ)
(قَرُبَ العَدْلُ مِنْكَ لَمَّا نَأَي الجَوْرُ ... بِهِمْ فاجْتَوَيْتَهُمْ وَاجْتَبَيْتُكْ)
(وَلَوَ انِّي مَلَكْتُ دفعا لما نَابَكَ ... مِنْ طَارِقِ الرَّدَى لَفَدَيْتُكْ)
رَحمَه الله تَعَالَى
(خلَافَة يزِيد بن عبد الْملك)
ابْن مَرْوَان بن الحكم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو خَالِد الْأمَوِي ولي الْخلَافَة بعد عمر بن عبد الْعَزِيز بِعَهْد من أَخِيه سُلَيْمَان مَعْقُود فِي تَوْلِيَة عمر بن عبد الْعَزِيز كَمَا ذَكرْنَاهُ وَأمه عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة ولد سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَكَانَ جسيماً أَبيض مدوَر الْوَجْه أفقم لم يشب وَقيل لعمر بن عبد الْعَزِيز حِين احْتضرَ اكْتُبْ ليزِيد فأوصه بالأمة فَقَالَ بِمَاذَا أوصيه إِنَّه من بني عبد الْملك ثمَّ كتب أما بعد فَاتق الله يَا يزِيد وَإِيَّاك أَن تدركك الصرعة بعد الْغَفْلَة حِين لَا تُقَال العثرة وَلَا تقدر على الرّجْعَة إِنَّك تتْرك مَا تتْرك لمن لَا يحمدك وَتصير إِلَى من لَا يعذرك وَالسَّلَام وَلما ولي يزِيد عمل بسيرة عمر بن عبد الْعَزِيز أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَدخل عَلَيْهِ من(3/327)
الَّذين أضلهم الله على علم أَربَعُونَ نَفرا من الشُّيُوخ من أهل دمشق وحلفوا لَهُ بِاللَّه مَا على الْملك من سُؤال وَلَا عَذَاب فِي لَذات نَفسه لِأَنَّهُ مشتغل بِأُمُور النَّاس نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا سيلقى الظَّالِمُونَ من شَدِيد الْعَذَاب الْأَلِيم وخدعوه بذلك فانخدع لَهُم وَكَانَ كَلَامهم موفقا لهواه فانهمك فِي اللَّذَّات وَاللَّهْو والطرب وَلم يراقب الله وَلم يخشه وَرُوِيَ أَن شهَاب عبد الله بن مُسلم الزُّهْرِيّ دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يزِيد هَهُنَا حَدِيث حَدثنَا بِهِ أهل الشَّام فَقَالَ وَمَا هُوَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ حدثوا أَن الله تَعَالَى إِذا استرعى عبدا عباده كتب لَهُ الْحَسَنَات وَلم يكْتب عَلَيْهِ السَّيِّئَات فَقَالَ ابْن شهَاب كذبُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنَبِي خَليفَة أقرب عِنْد الله أم خَليفَة غير نَبِي فَقَالَ بل نَبِي خَليفَة أقرب قَالَ أحدثُكَ بِمَا لَا تشكُّ فِيهِ قَالَ الله تَعَالَى {يَا دَاودُ إِنا جَعلناك خليفَة فِي اَلأَرضِ فاحكمُ بَين اَلناسِ} الْآيَة ص 26 يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا فِي حق خَليفَة نَبِي فَمَا ظَنك بخليفة غير نَبِي يحْكى عَن مؤدب يزِيد هَذَا أَنه قَالَ لَهُ فِي صغره وَقت تعلمه وَقد لحن لم لحنت فَقَالَ الْجواد قد يعثر فَقَالَ لَهُ الْمُؤَدب إِي وَالله وَيضْرب حَتَّى يَسْتَقِيم فَقَالَ يزِيد وَرُبمَا يرمح سائسه فيكسر أَنفه وَفِي تَارِيخ ابْن عَسَاكِر ذكر أَن يزِيد بن عبد الْملك كَانَ قد اشْترى فِي أَيَّام أَخِيه سُلَيْمَان بن عبد الْملك جَارِيَة من عُثْمَان بن سهل بن حنيف الْأنْصَارِيّ بأَرْبعَة آلَاف دِينَار وَكَانَ اسْمهَا حَبابة بتَشْديد الْبَاء الأولى وأحبها حبا شَدِيدا فَبلغ أَخَاهُ سُلَيْمَان ذَلِك فَقَالَ لقد هَمَمْت أَن أحجر على يزِيد فَبلغ ذَلِك يزِيد فَبَاعَهَا خوفَاً من أَخِيه سُلَيْمَان فَلَمَّا أفضت الْخلَافَة إِلَيْهِ بعد سُلَيْمَان قَالَت لَهُ زَوجته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل بَقِي فِي نَفسك من الدُّنْيَا شَيْء قَالَ نعم قَالَت مَا هُوَ قَالَ حَبابة فاشترتها لَهُ وَهُوَ لَا يعلم وزينَتهَا وأجلستها من وَرَاء السّتْر ثمَّ قَالَت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل بَقِي فِي نَفسك فِي الدُّنْيَا شَيْء قَالَ لَهَا أَو مَا أعلمتك أَنَّهَا حبابة فَرفعت السّتْر وَقَالَت هَا أَنْت وحبابة وَتركته إِيَّاهَا فحظيت عِنْده وغلبت على عقله وَلم ينْتَفع بِهِ فِي الْخلَافَة(3/328)
وَأَنه قَالَ يَوْمًا بعض النَّاس يَقُولُونَ إِنَّه لن يصفو لأحد من الْمُلُوك يَوْم كَامِل من الدَّهْر وَإِنِّي أُرِيد أَن أكذبهم فِي ذَلِك وَأَقْبل على لذاته واختلَى مَعَ حبابة وَأمر أَن يحجب عَن سَمعه وبصره كل خبر يُكرَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي تِلْكَ الْحَال فِي صفو عَيْش وَزِيَادَة فَرح وسرور إِذْ تناولت حَبابة حَبة رمان وَهِي تضحك فغَصتْ بهَا فَمَاتَتْ فاختل عقل يزِيد وتكدر عيشه وَذهب سروره وَوجد عَلَيْهَا وجدا شَدِيدا وَتركهَا أيامَاً لم يدفنها بل يقبلهَا ويرتشفها حَتَّى أنتنت وجافت فَأمر بدفنها ثمَّ نبشها من قبرها فَلم يَعش بعْدهَا إِلَّا خَمْسَة عشر يَوْمًا وَكَانَ مَرضه بالسل وَمِمَّا قَالَ فِيهَا من // (الطَّوِيل) //
(فَإِنْ تَسْلُ عنكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعِ الهَوَى ... فباليَأْسِ تَسْلُو عَنْكِ لَا بالتَّجَلُّدِ)
(وَكُلُّ خليلٍ زَارَنِي فَهْوَ قَائِلٌ ... مِنَ اجلِكِ هَذَا هامَة اليَوْمِ أَوْ غَدِ)
قَالَ أَبُو مسْهر مَاتَ يزِيد بأربد بِمَرَض السل وَقَالَ غَيره مَاتَ لخمس بَقينَ من شعْبَان سنة خمس وَمِائَة وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وشهراً عمره خمس وَأَرْبَعُونَ وَقيل تسع وَعِشْرُونَ
(خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك)
كَانَ ذَا دهاء وحزم وَفِيه حلم وتدبير لأحوال المملكة وَنظر لأحوال الرّعية وَقلة شَرَهٍ وَكَانَ مجتنبَاً لسفك الدِّمَاء لكنه قتل الإِمَام زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وكفي بقتْله سفكَاً للدماء قَامَ بتدبير المملكة أتم قيام وَكَانَ يجمع الْأَمْوَال ويوصف بالبخل والحرص يُقَال إِنَّه جمع من الْأَمْوَال مَا لم يجمعه خَليفَة قبله فَلَمَّا مَاتَ احتاط الْوَلِيد بن يزِيد على مَا تَركه وَأمر الْخزَّان فغلقوا الخزائن وَمَا كَفنه إِلَّا مَمْلُوك من مماليكه(3/329)
وَكَانَ هِشَام أَحول الْعين حُكِيَ أَنه خرج يَوْمًا فلقي رجلا أَعور فَأمر بضربه وحسبه فَقَالَ لَهُ الْأَعْوَر مَا ذَنبي فَقَالَ هِشَام تشاءمتُ بك فَقَالَ الْأَعْوَر شُؤْم الْأَعْوَر على نَفسه وشؤم الْأَحول على غَيره أَلا ترى أَنِّي استقبلتك فَلم يصبك مني شَيْء وَأَنت استقبلتني فنالني مِنْك السوء فَخَجِلَ هِشَام وَوَصله وَقيل عرض هِشَام الْجند بحمص فَمر بِهِ رجل من أهل حمص وَهُوَ على فرس نفور فَقَالَ هِشَام مَا حملك على أَن تركب فرسا نفروا فَقَالَ الْحِمصِي لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ بنفور وَلكنه أبْصر حولتك فَظن أَنَّك عزون البيطار فنفر فَقَالَ هِشَام تَنَح عَلَيْك وعَلى فرسك لعنة الله وَكَانَ عزون البيطار رجلا أَحول حكى الزبير بن بكار قَالَ هِشَام لأبي النَّجْم الْفضل بن قدامَة الْعجلِيّ صف لي إبِلا قَالَ أَبُو النَّجْم فَذهب بِي الروي إِلَى أَن قلت // (من الرجز) //
(وَصَارَتِ الشَّمْسُ كَعَينِ الأَحْوَلِ ... )
فَغَضب هِشَام فَقَالَ أخرجُوا هَذَا ثمَّ بعد مُدَّة أدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ هَل لَك أهل قلت نعم وابنتان قَالَ زوجتهما قلت إِحْدَاهمَا قَالَ فَمَا أوصيتها قلت // (من الرجز) //
(أَوصَيْتُ مِنْ بَرَّةَ قَلْبًا حُرَّا ... بِالكَلْبِ خَيْرًا والحمَاةِ شَرَّا)
(لاَ تَسْامِي خَنْقًا لَهَا وَجرَّا ... وَالحَيَّ عمِّيهِمْ بِشَرِّ طُرَّا)
(وإنْ حَبَوْكِ ذَهَبًا وَدُرَّا ... حَتَّى يَرَوْا حُلْوَ الحياةِ مُرَّا)
فَضَحِك هِشَام واستلقى وَقَالَ مَا هَذِه وَصِيَّة يَعْقُوب بنيه قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَا أمنا مثل يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فَمَا زدتها قلت // (من الرجز) //
(سُبِّي الحماةَ وَابْهَتِي عَلَيْهَا ... وإنْ نَأَتْ فَأزلفِي إِلَيْهَا)
(واقرعِي بِالوُدِّ مِرْفَقَيْهَا ... مظَاهر الْيَد بِهِ عَلَيْهَا)
قَالَ فَمَا فعلت أُخْتهَا قلت درجت بَين أَبْيَات الْحَيّ فنفعتنا قَالَ فَمَا قلتَ فِيهَا قَالَ قلت // (من السَّرِيع أَو الرجز) //
(كَأَنَّ ظَلاَّمَة أَخْتَ شَيْبَانْ ... يتيمَةٌ ووَالِدَاهَا حَيَّانْ)
(أَلرَّأْسُ قَمْلٌ كُلُّهُ وصُؤْبَانْ ... وَلَيْسَ فِي الرِّجْلَينِ إِلَّا خَيْطانْ)(3/330)
(فَهْيَ الَّتِي يَذْعَرُ مِنْهَا الشَّيْطَانْ ... )
فوصلني هِشَام بِدَنَانِير وَقَالَ اجْعَلْهَا فِي رجْلي ظلامة وَهَذَا أَبُو النَّجْم هُوَ الْقَائِل من // (الرجز) //
(أَنََا أبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي ... )
وَمن العقد لِابْنِ عبد ربه كَانَ الْكُمَيْت الشَّاعِر الْمَشْهُور مادِح أهل الْبَيْت يمدح بني هَاشم ويعرضُ ببني أُميَّة فَطَلَبه هِشَام بن عبد الْملك فهرب عَنهُ فَكَانَ مطرداً عشْرين سنة لَا يستقرُ لَهُ قَرَار خوفًا من هِشَام وَكَانَ مسلمة بن عبد الْملك أَخُو هِشَام لَهُ حَاجَة على هِشَام يَقْضِيهَا لَهُ كل سنة وَلَا يردهُ فِيهَا كائنة مَا كَانَت فَخرج مسلمة إِلَى بعض حروبه ثمَّ أَتَى فَأَتَاهُ النَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُ من جُمْلَتهمْ الْكُمَيْت بن زيد فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَيهَا الْأَمِير أما بعد من // (مجزوء الْكَامِل) //
( ... ... ... ... ... قِفْ بِالديَارِ وُقُوفَ زَائِرْ)
حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله
(يَا مُسْلِمُ يَا بْن الوَليِد ... لميِّت إنْ شِئْتَ نَاشِرْ)
(عَلقَتْ حبالِي مِنْ حِبَالِكَ ... ذِمَّةَ الرَّجُلِ المُجَاوِرْ)
(فالآنَ صرْتُ إلَى أمَيْيَةَ ... وَالأُمُورُ لَهَا مصَايِرْ)
(وَالآن كُنْت بِهِ الْمُصِيب ... لمهتدٍ بالأَمْسِ حَائِرْ)
فَقَالَ مسلمة سُبْحَانَ الله من هَذَا الهندكي الجلحاب الَّذِي أقبل من أخريات النَّاس فَبَدَأَ بِالسَّلَامِ ثمَّ أما بعد ثمَّ الشّعْر قيل لَهُ الْكُمَيْت فأعجب بِهِ وبفصاحته فَذكر لَهُ الْكُمَيْت بعد أَن تَم إنشاده رعبه من هِشَام وَطول تشرده فضمن لَهُ مسلمة أَمَانه وَتوجه حَتَّى أدخلهُ على هِشَام وَهُوَ لَا يعرفهُ فَقَالَ الْكُمَيْت السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحَمد لله فَقَالَ هِشَام نعم الْحَمد لله يَا هَذَا فَقَالَ الْكُمَيْت مبتدئ الْحَمد ومبتدعه وَاسْتمرّ فِي خطْبَة طَوِيلَة بديعة فِيهَا(3/331)
قَوْله تهت فِي حيرة وحرت فِي سكرة ادلأَم بِي خَطَرُهَا وأهاب بِي داعيها فَأَجَابَنِي غاويها فاقطوطيت إِلَى الضَّلَالَة وتسكعت فِي الظلمَة والجهالة جائراً عَن الْحق قَائِلا بِغَيْر الصدْق فَهَذَا مقَام العائذ ومنطق التائب اللائذ ومصير الْهِدَايَة بعد الْعمي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كم من عاثر أقَلتُم عثرته ومجترم عفوتم عَن جرمه إِلَى آخر مَا قَالَ فَقَالَ هِشَام وَيحك من سَن لَك الغواية وأهاب بك فِي الغيابة فَقَالَ الْكُمَيْت الَّذِي أخرج أبي من الْجنَّة فَنَسِي وَلم يجد لَهُ عزماً وَهُوَ مترصد لِبَنِيهِ فَعَفَا عَنهُ هِشَام وَفِي ربيع الْأَبْرَار تنْسب إِلَى الفرزدق مكرمَة يُرجَى لَهُ بهَا الْجنَّة هِيَ أَنه لما حج هِشَام بن عبد الْملك فِي أَيَّام أَبِيه مدحه الفرزدق فَلَمَّا طَاف بِالْبَيْتِ جهد أَن يصل إِلَى الْحجر الْأسود ليستلمه فَلم يقدر على ذَلِك لِكَثْرَة الزحام فنصب لَهُ كرْسِي وَجلسَ عَلَيْهِ ينظر إِلَى النَّاس وَمَعَهُ جمَاعَة من أَعْيَان أهل الشَّام فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبل زين العابدين بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَكَانَ من أجمل النَّاس وَجها وأطيبهم أرجاً وَبَين عَيْنَيْهِ سَجْدَة فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْحجر تنحى عَنهُ النَّاس هَيْبَة وإجلالاً حَتَّى اسْتَلم الْحجر فغاظ ذَلِك هشاماً فَقَالَ لَهُ رجل من أهل الشَّام من هَذَا الَّذِي هابه النَّاس هَذِه الهيبة فَقَالَ هِشَام لَا أعرفهُ مَخَافَة أَن يرغَبَ فِيهِ أهل الشَّام وَكَانَ الفرزدق حَاضرا فَقَالَ أَنا أعرفهُ فَقَالَ الشَّامي من هُوَ يَا أَبَا فراس قَالَ // (من الْبَسِيط) //
(هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهرُ العَلَمُ)
(هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ البطحَاءُ وَطْأَتَهُ ... والبيتُ يَعْرِفُهُ والرُّكْنُ والحَرَمُ)
(إِذا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قائلُهَا ... إِلَى مكارِمِ هَذَا ينْتَهِي الكَرَمُ)
(يَنْمِي إِلَى ذِرْوةِ العزِّ الَّتِي قَصُرَتْ ... عَنْ نيْلِها عَرَبُ الإسلامِ والعَجَمُ)
(يكادُ يُمْسِكُهُ عرفانَ راحتَهِ ... رُكْنُ الحَطِيمِ إِذا مَا جَاءَ يسْتَلِمُ)
(فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ ريحُهُ عبقٌ ... مِنْ كَفِّ أرْوَعَ فِي عِرْنينه شمَمُ)
(يُغَضِي حَيَاء ويُغْضَي مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكَلَّمُ إلاَّ حينَ يَبْتَسِمُ)(3/332)
(ٍ ينشَقُّ نُورُ الهُدَى مِنْ نُورِ غُرَّتِهِ ... كالشَّمْسِ تنجَابُ عَنْ إشراقها الظُّلَمُ)
(مُنْشقةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهُوالْخيمُ والشِّيَمُ)
(هَذَا ابْن فاطمةٍ إنْ كُنْتَ تَجهَلُهُ ... بجَدِّهِ أنبياءُ اللَّهِ قد خُتِمُوا)
(أللَّهُ شَرَّفَهُ قِدْمًا وعَظَّمَهُ ... جَرى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ القَلَمُ)
(ولَيْسَ قولُكَ مَنْ هَذَا بضائِرِهِ ... ألعُرْبُ تعرفُ مَنْ أنكَرْتَ والعَجَمُ)
(كِلْتَا يَديْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا ... يسْتَوكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُما العَدَمُ
(سَهْلُ الخليفةِ لَا تُخْشَى بوادِرُهُ ... يَرِينُهُ اثنانِ حُسْنُ الخُلْقِ والشِّيَمُ)
(حَمَّالُ أثقالِ أَقوام إِذا فدحوا ... حلْوُ الشمائِلِ تَحْلُو عِنْده النِّعَمُ)
(مَا قَالَ لَا قَطُّ إلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ ... لَوْلاَ التَّشَهُّدُ كانَتْ لاؤهُ نَعَمُ)
(عَمَّ البريَّةَ بالإِحسانِ فانقَشَعَتْ ... عَنْهَا الغَيَابَةُ والإِملاقُ والعَدَمُ)
(مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وبغضُهُمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُمُ مَنْجًى ومُعْتَصَمُ)
(إنْ عُدَّ أهلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمتَهُمْ ... أَو قِيلَ مَنْ خَيْرُ أهلِ الأرضِ قِيلَ هُمُ)
(لَا يستطيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غايتِهم ... وَلَا يُدَانيهِمُ قَوْمٌ وإنْ كَرمُوا)
(هم الغُيُوثُ إِذا مَا أزمةٌ أَزمَتْ ... والأُسْدُ أُسدُ الشَّرَى إِيَّاكَ تختذمُ)
(لَا ينْقصُ العُسْرُ بَسْطًا من أكُفِّهِمُ ... سِيَّان ذَلِك إِن أثْرَوا وإنْ عدمُوا)
(مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ ... فِي كُلِّ بَدْءٍ ومختوم بِهِ الحكمُ)
(أَيُّ الخلائِقِ ليسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأوليَّةِ هَذَا أَو لَهُ نعمُ)
(مَنْ يَعْرِفِ اللَّه يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذَا ... فَالدَّينُ مَنْ بَيْتَ هَذَا نَالَهُ الأمَمُ)
فَغَضب هِشَام وَقَالَ للفرزدق أَو رَافِضِي أَنْت يَا فرزدق فَقَالَ إِن كَانَ حب آل الْبَيْت رفضاً فَنعم فحرمه هِشَام جائزته فَتحمل عَلَيْهِ الفرزدق بِأَهْل بَيته فَأبى أَن يُعْطِيهِ شَيْئا فَقَالَ لَهُ عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب كم كنتَ تؤمل أَن يعطيك هِشَام فَقَالَ الفرزدق ألف دِينَار فِي كل سنة قَالَ فكم تؤمل أَن تعيش قَالَ أَرْبَعِينَ سنة قَالَ يَا غُلَام عَليّ بالوكيل فَدَعَاهُ فَقَالَ أعْط الفرزدق أَرْبَعِينَ ألف دِينَار فقبضها مِنْهُ ثمَّ أَمر هِشَام بِحَبْس الفرزدق فحبس فأنفذ إِلَيْهِ على زين العابدين اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وَقَالَ هَذَا عَاجل برنا وَلَك الْمَزِيد فَردهَا الفرزدق وَقَالَ مدحته لله لَا للعطاء فَأرْسل إِلَيْهِ زين العابدين وَقَالَ لَهُ إِنَّا أهل بَيت إِذا(3/333)
وهبنا شَيْئا لَا نستعيده وَالله تَعَالَى عَالم بنيتك ومُثيبك عَلَيْهَا فَشكر الله لَك سعيك فَلَمَّا بلغته الرسَالَة قبلهَا وَكَانَ حبس هِشَام للفرزدق بعسفان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فَفِي ذَلِك يَقُول الفرزدق من // (الطَّوِيل) //
(أَتَحْبِسُنِي بَين المَدِينَةِ وَالَّتِي ... إِلَيْهَا رقابُ النَّاسِ يَهْوى مُنِيبُهَا)
(يٌ قَلِّبُ رَأْسًا لم يكُنْ رَأْسَ سيِّدٍ ... وَعَيْنَا لَهُ حَوْلاَءَ بَادٍ عُيُوبُهَا)
قَالَ مُصعب الزبيرِي زَعَمُوا أَن عبد الْملك رأى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ بَال فِي محرابه
أَربع مَرَّات فدسَ إِلَى سعيد بن الْمسيب من يسْأَله تَعْبِير ذَلِك فَقَالَ يملك من صُلْبِ هَذَا الرَّائِي أَرْبَعَة وَكَانُوا كَذَلِك الْوَلِيد بن عبد الْملك يزِيد بن عبد الْملك سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَهِشَام بن عبد الْملك وَهُوَ آخِرهم توفّي ثَانِي عشر ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة وعمره أَربع وَخَمْسُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة عشرَة يَوْمًا قَالَ الصَّفَدِي فِي تَذكرته من أَوْلَاد هِشَام سعيد بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان كَانَ منهمكاً فِي لذات الدُّنْيَا مغرى بحب النِّسَاء وَفِيه يَقُول الْقَائِل مُخَاطبا أَبَاهُ هشاماً من // (الْبَسِيط) //
(أَبْلِغْ هِشَامًا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَقَدْ ... أَغظْتَنا بأميرٍ غَيْرِ عِنِّينِ)
(طَوْرًا يشارِكُ هَذَا فِي حلِيلَتِهِ ... وتارَةً لَا يُرَاعِي حُرْمَةَ الدِّينِ)
قَالَ فحبسه أَبوهُ هِشَام فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ وَكَانَ هَذَا السّلمِيّ فِي حبس هِشَام إِن سعيداً كَانَ فِي بَيت علَى حِدَة وَكنت أسمع من بَيته صَوت الْعود فَخرجت يَوْمًا إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ قد أَخذ جَفْنَة فنقبها وعلق فِيهَا أوتاراً فَقلت وَيحك على هَذِه الْحَال تفعل هَذَا فَقَالَ لَا أَبَا لَك لَوْلَا هَذَا متْنا غماً وَهُوَ الْقَائِل من // (الرجز) //
(أَرْسَلْتُ كَلْبِي طَالبا مَا يأكُلُهْ ... مَنِ الَّذِي يَرُدُّهُ أَو يجْهَلُهْ)
وَبلغ أَبَاهُ هشاماً مَا صنعه فَأمر بِإِخْرَاجِهِ وَقَالَ لَهُ لعنك الله أفسقاً كفسق الْعَوام هلا فسقاً كفسق الْمُلُوك فَقَالَ لَهُ ابْنه وَهل للملوك فِسْق يمتازون بِهِ قَالَ نعم قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ أَن تحيي هَذَا وَتقتل هَذَا وَتقتل هَذَا وَتَأْخُذ مَال هَذَا فتعطيه(3/334)
هَذَا وَمن شعر سعيد هَذَا قَوْله من // (الرمل) //
(آلُ مَرْوانَ أَرَاهُمْ فِي عَمًى ... غضب العَيْش عليهِمْ وَالفَرَحْ)
(كُلُّهم يَسْعَى لما يُتْعِبُهُ ... وَأَنا أسْعَى لأُنْسٍ وَقَدَحْ)
وَفِي درة الغواص قَالَ حَمَّاد الرِّوَايَة كَانَ انقطاعي إِلَى يزِيد بن عبد الْملك فِي خِلَافَته وَكَانَ أَخُوهُ هِشَام يحسدني لذَلِك فَلَمَّا مَاتَ يزِيد وَولي هِشَام خفته وَمَكَثت فِي بَيْتِي سنة لَا أخرج إِلَّا إِلَى من أَثِق بِهِ من إخْوَانِي سرا فَلَمَّا لم أسمع أحدا يذكرنِي فِي السّنة أمنت فخرجتُ يَوْمًا أُصَلِّي الْجُمُعَة فِي مَسْجِد الرصافة فَإِذا بشرطيين واقفين عَليّ وَقَالا يَا حَمَّاد أجب الْأَمِير يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ وَكَانَ والياً على الْعرَاق لهشام بن عبد الْملك فاستسلمت فِي أَيْدِيهِمَا ثمَّ صرت إِلَى يُوسُف بن عمر وَهُوَ فِي الإيوان الْأَحْمَر فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام وَرمى إِلَى كتلابا فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله هِشَام بن عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ أَمَا بعد إِذا قَرَأت كتابي هَذَا فَابْعَثْ إِلَى حَمَّاد الرِّوَايَة من يَأْتِيك بِهِ من غير ترويع وَلَا تتعتع وادفع لَهُ خَمْسمِائَة دينارٍ وجملاً مهرياً يسير عَلَيْهِ اثْنَتَيْ هشرة لَيْلَة إِلَى دمشق فَأخذت الدَّنَانِير وَنظرت فَإِذا جمل مرحول فركبت وَوضعت رجْلي فِي الغرز وسرت حَتَّى وافيت دمشق فِي اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة فنزلْتُ على بَاب هِشَام فاستأذنت فَأذن لي فَدخلت إِلَيْهِ فِي دارٍ قوراءَ مفروشة بالرخام وَبَين كل رخامتين قضيب ذهب وَهِشَام جَالس على طنفسة حَمْرَاء وَعَلِيهِ ثِيَاب حمر من الْخَزّ وَقد تضمخ بالمسك والعنبر فَسلمت فَرد على السَّلَام واستدناني فدنوْتُ حَتَّى قبلت رجله فَإِذا جاريتان لم أر مثلهمَا قطّ فِي أذن كل مِنْهُمَا حلقتان فيهمَا لؤلؤتان تتقدان فَقَالَ كَيفَ أَنْت يَا حَمَّاد فَقلت بِخَير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ أَتَدْرِي لم بعثت إِلَيْك قلت لَا قَالَ بعثت إِلَيْك بِسَبَب بَيت خطر ببالي وَلَا اعرف لمن قلت وَمَا هُوَ قَالَ من // (الْخَفِيف) //)
وَدَعَوْا بِالصَّبُوحِ يَوْمًا فجاءَتْ ... قَيْنَةٌ فِي يَمِينِهَا إِبْرِيقُ)
فَقلت يَقُوله عدي بن زيد الْعَبَّادِيّ من قصيدة فَقَالَ أنشدنيها فَأَنْشَدته من // (الْخَفِيف) //
(بَكَرَ العاذلُونَ فِي وَضَحِ الصُّبْحِ ... يقولُونَ لي أَلاَ تَسْتَفيِقُ)
(وَيَلُومُونَ فِيك يابنةَ عَبْدِ اللهِ ... والقَلْبُ عندكُمْ موثُوقُ)(3/335)
(لسْتُ أَدْرِي إذْ أَكْثَرُوة العَذلَ فِيهَا ... أعَدُوٌّ يلومُنِي أمْ صَدِيقُ)
قَالَ حَمَّاد فَأَنْشَدته حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قَوْله من // (الْخَفِيف) //
(ودعَوْا بالصَّبُوحِ يَوْمًا فجاءَتْ ... قَيْنَةٌ فِي يَمِينِها إبْرِيقُ)
(قَدَّمَتْهُ على عقارٍ كَعيْنِ الدْدِيك ... ِ صَفَّي سلافَها الرَّاووقُ)
(مُرَّةٌ قبْلَ مزْجِها فَإِذا مَا ... مُرِجَتْ لَذَّ طَعْمها مَنْ يَذُوقُ)
(وطفا فَوْقَهَا فقاقيعُ كَالياقُوتِ ... حُمْرٌ يرِينُهَا التصفيقُ)
(ثمَّ كَانَ المزاجُ ماءَ سَحابِ ... لَا صَرٍ ي آجِنٌ وَلَا مطرُوقُ)
فطرب هِشَام وَقَالَ أَحْسَنت يَا حَمَّاد وَالله ثمَّ قَالَ يَا حَمَّاد سل حَاجَتك فَقلت إِحْدَى هَاتين الجاريتين ثمَّ ذهبت فَلم أَعقل حِين أَصبَحت إِلَّا والجاريتان عِنْد رَأْسِي وَإِذا عشرَة من الخدم مَعَ كل وَاحِد بدرة فِيهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم فَقَالَ أحدهم إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول خُذ هَذَا فَانْتَفع بِهِ فِي سفرك فَأخذت ذَلِك والجاريتين وعدت إِلَى أَهلِي
(خلَافَة الْوَلِيد بن يزِيد)
لما توفّي هِشَام بالرصافة ولي بعده الْوَلِيد ابْن أَخِيه يزِيد وَكَانَ متلاعباً وَله مجون وشراب وندمان وَأَرَادَ هِشَام خلعه فَلم يُمكنهُ وَكَانَ يضْرب من يُؤْخَذ فِي صحبته فَخرج الْوَلِيد فِي خاصته ومواليه وَخلف كَاتبه عِيَاض بن مُسلم ليكاتبه بالأحوال فَضَربهُ هِشَام وحبسه وَلم يزل الْوَلِيد مُقيما فِي الْبَريَّة حَتَّى مَاتَ هِشَام وجاءه مولى أبي مُحَمَّد السفياني على الْبَرِيد بِكِتَاب سَالم بن عبد الرَّحْمَن صَاحب ديوَان الرسائل بالْخبر فَسَأَلَ عَن كَاتبه عِيَاض فَقَالَ إِنَّه لم يزل مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ هِشَام فَأرْسل إِلَى الْخزَّان أَن يحتفظوا بِمَا فِي أَيْديهم حَتَّى منعُوا هشاماً من كفن ثمَّ خرج عِيَاض بعد موت هِشَام من الْحَبْس وَكتب أَبْوَاب الخزائن ثمَّ كتب الْوَلِيد من وقته إِلَى عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْملك أَن يَأْتِي الرصافة فَيُحْصي مَا فِيهَا من أَمْوَال هِشَام(3/336)
وَولده وَمَاله وحشمه إِلَّا مسلمة بن هِشَام فَإِنَّهُ كَانَ يُرَاجع أَبَاهُ هشاماً بالرفق بالوليد فَانْتهى لما أمره بِهِ الْوَلِيد ثمَّ اسْتعْمل الْوَلِيد الْعمَّال وَكتب إِلَى الْآفَاق بِأخذ الْبيعَة فَجَاءَتْهُ بيعتهم وَكتب مَرْوَان بيعَته وَاسْتَأْذَنَ فِي الْقدوم ثمَّ عهد الْوَلِيد من سنته لابْنَيْهِ الحكم وَعُثْمَان بعده وجعلهما ولي عَهده وَكتب بذلك إِلَى الْعرَاق وخرسان قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ أَبوهُ يزِيد بن عبد الْملك حِين احْتضرَ عهد بِالْأَمر إِلَى هِشَام ابْن عبد الْملك وأخيه بِأَن يكون الْعَهْد من بعده لوَلَده الْوَلِيد بن يزِيد فَلَمَّا مَاتَ هِشَام بُويِعَ لَهُ بالخلافة يَوْم موت عَمه هِشَام وَهُوَ إِذْ ذَاك بالبرية فَارًّا من عَمه هِشَام لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين عَمه هِشَام مُنَافَسَة لأجل استخفافه بِالدّينِ وشربه الْخمر واشتهاره بِالْفِسْقِ والفجور فهم هِشَام بقتْله ففر وَصَارَ لَا يُقيم بِأَرْض خوفًا من هِشَام فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَة الَّتِي قدم عَلَيْهِ الْبَرِيد فِي صبحها بالخلافة قلق تِلْكَ اللَّيْلَة قلقاً شَدِيدا فَقَالَ لبَعض أَصْحَابه وَيحك قد أَخَذَنِي اللَّيْلَة قلق فاركَبْ بِنَا حَتَّى ننبسط فَسَار مِقْدَار ميلين وهما يتحادثان فِي أَمر هِشَام وَمَا يكْتب إِلَيْهِ من التهديد والوعيد ثمَّ نظرا فرأيا فِي الْبعد رهجاً وصوتاً فَقَالَا اللَّهُمَّ أعطنا خَيرهمْ فَلَمَّا قدم الْبَرِيد وأثبتوا الْوَلِيد معرفَة ترجلوا وَجَاءُوا فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة فبهت ثمَّ قَالَ وَيحكم أمات هِشَام قَالُوا نعم ثمَّ أَعْطوهُ الْكتب فقرأها وَسَار مِنْ فوره إِلَى دمشق فَأَقَامَ على اشتهاره بالمنكرات وتظاهر بالْكفْر والزندقة قَالَ ابْن عَسَاكِر وَغَيره انهمك الْوَلِيد فِي شرب الْخمر ولذاته ورفَض الْآخِرَة وَرَاء ظَهره وَأَقْبل على القصف وَاللَّهْو والتلذذ مَعَ الندماء والمغنين وَكَانَ يضْرب بِالْعودِ ويوقع بالطبل وَيَمْشي بالدف وَكَانَ قد انتهك محارم الله حَتَّى قيل لَهُ الْفَاسِق وَعرف بذلك وَمَعَ هَذَا كَانَ أكمل بني أُميَّة أدباً وفصاحَة وظرفاً وأعرفهم باللغة والنحو والْحَدِيث وَكَانَ جوادَاً مفضالاً وَلم يكن فِي بني أُميَّة أَكثر مِنْهُ إدماناً للشراب وَالسَّمَاع وَلَا أَشد مجوناً وتهتكاً مِنْهُ واستخفافَاً بِالدّينِ وَأمر الْأمة يُقَال إِنَّه وَاقع جَارِيَة وَهُوَ سَكرَان وجاءه المؤذنون يؤذنونه بِالصَّلَاةِ فَحلف ألاَ يُصَلِّي(3/337)
بِالنَّاسِ إِلَّا هِيَ فَلبِست ثِيَابه وصلت بِالْمُسْلِمين وَهِي جنب سكرَى وَقيل إِنَّه صنع بركَة فملأها خمرًا وَكَانَ إِذا طرب ألْقى نَفسه فِيهَا وَيشْرب مِنْهَا حَتَّى يظْهر النَّقْص فِي أطرافها وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب أدب الدّين وَالدُّنْيَا عَنهُ أَنه تفاءل ذَات يَوْم فِي الْمُصحف فَخرج لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَاَسْتَفتحوُا وخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيد} إِبْرَاهِيم 15 فَأمر بالمصحف فنصب ورماه بِالسِّهَامِ حَتَّى مزقه وَهُوَ يَقُول // (من الوافر) //
(أتَوعِدُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ... فَها أنَا ذَاكَ جبارٌ عنِيدُ)
(إِذا مَا جِئْتَ ربَّكَ يَوْم حشْرٍ ... فقُلْ يَا ربِّ مَرَّقَّنِي الوَلِيدُ)
وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث يكون فِي هَذِه الْأمة رجل يُقَال لَهُ الْوَلِيد هُوَ شَرّ من فِرْعَوْن فتأوله الْعلمَاء بالوليد بن يزِيد هَذَا فخلعه أهل دمشق لما ذكر وَقَتله يزِيد ابْن عَمه الْوَلِيد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَكَانَت خِلَافَته سنة وَاحِدَة قَالَ الْعَلامَة ابْن خلدون وَلَقَد ساءت الْمقَالة فِيهِ كثيرا وَكثير من النَّاس نفروا عَنهُ ذَلِك وَقَالُوا إِنَّهَا شناعات الْأَعْدَاء ألصقوها بِهِ قَالَ الْمَدَائِنِي دخل ابْنه المعمر بن يزِيد على الرشيد هَارُون فسألة مِمَّن أَنْت فَقَالَ من قريشٍ فَقَالَ الرشيد من أَيهَا فَسكت ووجم فَقَالَ لَهُ الرشيد قل وَأَنت آمن وَلَو أَنَّك مَرْوَان فَقَالَ أَنا المعمر بن يزِيد فَقَالَ رحم الله عمك وَلعن يزِيد النَّاقِص فَإِنَّهُ قتل خَليفَة هُوَ مجمع عَلَيْهِ ارْفَعْ حوائجك فَرَفعهَا إِلَيْهِ وقضاها وَقَالَ شبيب بن شيبَة كُنَّا جُلُوسًا عِنْد الْمهْدي وَذكر الْوَلِيد فَقَالَ الْمهْدي كَانَ زنديقا فَقَامَ ابْن علائة الْفَقِيه فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله تَعَالَى أعدل من أَن يولي(3/338)
خلَافَة النُّبُوَّة وَأمر الْأمة زنديقاً إِنَّه أَخْبرنِي عَنهُ من كَانَ يشهده فِي ملاعبه وشربه بمروءة فِي طَهَارَته وَصلَاته فَكَانَ إِذا حضرت الصَّلَاة يطْرَح الثِّيَاب الَّتِي عَلَيْهِ المطيبة المصبغة ثمَّ يتَوَضَّأ فَيحسن الْوضُوء ويؤتي بِثِيَاب بيض نظيفة فيلبسها وَيُصلي فِيهَا فَإِذا فرغ عَاد إِلَى تِلْكَ الثِّيَاب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه أَتَرَى هَذَا من فعال من لَا يُؤمن بِاللَّه فَقَالَ لَهُ الْمهْدي بَارك الله فِيك يَا بن علاثة وَإِنَّمَا كَانَ الرجل محسداً فِي خلاله ومزاحماً بكبار عشيرته وَأهل بَيته من عمومته مَعَ لَهو كَانَ يصاحبه أوجَدَ لَهُم السَّبِيل على نَفسه فَكَانَ من خلاله قرض الشّعْر الوثيق ونظم الْكَلَام البليغ قَالَ يَوْمًا لهشام يغريه فِي مسلمة إِن عَقبي من بَقِي لخوف من مضى وَقد أمكن بعد مسلمة الصَّيْد لمن رمى واختل الثغر فهوى وعَلى أثر من سلف يمْضِي من خلف فتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى فَأَعْرض هِشَام وَسكت الْقَوْم وَأما حِكَايَة مَقْتَله فَإِنَّهُ لما تعرض لَهُ بَنو عَمه ونالوا من عرضه أَخذ فِي مكافأتهم فَضرب سُلَيْمَان ابْن عَمه هِشَام مائَة سَوط وحلقه وغربه إِلَى معَان من أَرض الشَّام فحبسه إِلَى آخر دولته وَحبس أَخَاهُ يزِيد بن هِشَام وَفرق بَين روح بن الْوَلِيد وَبَين امْرَأَته وَحبس عدَّة من ولد الْوَلِيد وطعنوا عَلَيْهِ فِي تَوْلِيَة ابنيه الحكم وَعُثْمَان الْعَهْد مَعَ صغرهما وَكَانَ أَشد النَّاس عَلَيْهِ يزِيد بن الْوَلِيد لِأَنَّهُ يتنسك فَكَانَ النَّاس إِلَى قَوْله أميل فَخرج عَلَيْهِ يزِيد بن الْوَلِيد الْمَذْكُور الملقب بالناقص وتغلب على دمشق
(خلَافَة يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان)
لما خلع أهل دمشق الْوَلِيد بن يزِيد بن الْوَلِيد الْمَذْكُور ثمَّ جهز يزِيد الْجَيْش إِلَى الْوَلِيد بمكانه من الْبَادِيَة فَإِنَّهُ كَانَ غَائِبا بهَا فَجهز إِلَيْهِ الْجَيْش مَعَ عبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج بن عبد الْملك وَمَعَ مَنْصُور بن جُمْهُور وَقد كَانَ الْوَلِيد حِين بلغه الْخَبَر(3/339)
بعث عبد الله بن يزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى دمشق فَأَقَامَ بطريقه قَلِيلا ثمَّ بَايع ليزِيد وَأَشَارَ على الْوَلِيد وَأَصْحَابه أَن يلْحق بحمص فيتحصن بهَا قَالَ لَهُ ذَلِك يزِيد بن خَالِد بن يزِيد وَخَالفهُ عبد الله بن عَنْبَسَة وَقَالَ مَا يَنْبَغِي للخليفة أَن يدع عسكره وَحرمه قبل أَن يُقَاتل فَسَار إِلَى قصر النُّعْمَان بن بشير وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ من ولد الضَّحَّاك وَغَيرهم وجاءه كتاب الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بِأَنَّهُ قادم وَلما وصل عبد الْعَزِيز وَمَنْصُور اللَّذَان أرسلهما يزِيد صُحْبَة الْجَيْش بعث إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابه زِيَاد بن الْحصين الْكَلْبِيّ يدعوانهم إِلَى الْكتاب وَالسّنة فَقتله أَصْحَاب الْوَلِيد فقَاتلوهم حِينَئِذٍ وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وَبعث عبد الْعَزِيز بن مَنْصُور بن جُمْهُور لاعتراض الْعَبَّاس بن الْوَلِيد فِي أَن يَأْتِي الْوَلِيد فجَاء بِهِ مَنْصُور كرها إِلَى عبد الْعَزِيز وألزمه الْبيعَة لِأَخِيهِ يزِيد ونصبوا راية باسمه فتفرقْ النَّاس عَن الْوَلِيد واجتمعوا على الْعَبَّاس وَعبد الْعَزِيز وَأرْسل الْوَلِيد إِلَى عبد الْعَزِيز بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَولَايَة حمص مَا بَقِي على أَن ينْصَرف فَأبى ثمَّ قَاتل الْوَلِيد قتالاً شَدِيدا حَتَّى سمع النداء بقتْله وسبه من جَوَانِب الحومة فَدخل الْقصر وأغلق الْبَاب وطَلَبَ الْكَلَام من أَعلَى الْقصر فكالمه يزِيد بن عَنْبَسَة السكْسكِي فَذكره بحقوقة وفعاله فيهم وزيادته فِي أَرْزَاقهم فَقَالَ ابْن عَنْبَسَة مَا ننقم عَلَيْك فِي أَنْفُسنَا وَإِنَّمَا ننقم عَلَيْك فِي انتهاكك مَا حرم الله تَعَالَى وَشرب الْخمر وَنِكَاح أُمَّهَات أَوْلَاد أَبِيك واستخفافك بِأَمْر الله تَعَالَى فَقَالَ حَسبك يَا أَخا السكاسك لقد أكثرت وأغرقْتَ فِيمَا أحل الله سَعَة عَمَّا ذكرتَ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الدَّار فَجَلَسَ وَأخذ الْمُصحف يقْرَأ وَقَالَ يَوْم كَيَوْم عُثْمَان فتسوروا عَلَيْهِ وَأخذ يزِيد بن عنبسهّ بِيَدِهِ يَقِيه لَا يُرِيد قَتله وَإِذا بمنصور بن جُمْهُور فِي جمَاعَة مَعَه ضربوه واحتزوا رَأسه وَسَارُوا بِهِ إِلَى يزِيد فَأمر بنصبه فتلطف لَهُ يزِيد بن فَرْوَة فِي الْمَنْع من ذَلِك وقَال هَذَا ابْن عمك وَخَلِيفَة وَإِنَّمَا تنصب رُءُوس الْخَوَارِج وَلَا اَمن أَن يغْضب لَهُ أهل بَيته فَلم يجبهُ يزِيد إِلَى ذَلِك وأطافه بِدِمَشْق على رمح وَبَعثه إِلَى أَخِيه سُلَيْمَان بن يزِيد وَكَانَ مَعَهم عَلَيْهِ وَكَانَ قَتله فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَلما قتل خطب يزِيد بِالنَّاسِ فذمه وثلبه وَأَنه قَتله لأجل ذَلِك ثمَّ وعدهم بِحسن النّظر والاقتصار عَن النَّفَقَة فِي غير حاجاتهم وسد الثغور وَالْعدْل فِي الْعَطاء(3/340)
والأرزاق وَرفع الْمَظَالِم وَإِلَّا فلكم مَا شِئْتُم من الْخلْع وَكَانَ يُسمى النَّاقِص لِأَنَّهُ نقص الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا الْوَلِيد فِي أعطيات الْجند وَهِي عشرَة عشرَة وردهَا كَمَا كَانَت أْيام هِشَام وَقيل لنُقْصَان كَانَ فِي أَصَابِع رجلَيْهِ وَأول من سَمَّاهُ بذلك مَرْوَان ابْن مُحَمَّد وَلما قتل الْوَلِيد كَانَ مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم على أرمينية وَكَانَ على الجزيرة عَبدة بن رَبَاح الغساني وَكَانَ الْوَلِيد قد بعث بالصائفة أَخَاهُ فَبعث مَعَه مَرْوَان بن عبد الْملك فَلَمَّا انصرفوا من الصائفة لَقِيَهُمْ بحران خبر مقتل الْوَلِيد فَسَار عَبدة عَن الجزيرة إِلَى الشَّام فَوَثَبَ عبد الْملك بالجزيرة وحران فضبطهما وَكتب إِلَى أَبِيه مَرْوَان بأرمينية يستحثه طَالبا بِدَم الْوَلِيد بعد أَن أرسل إِلَى الثغور من يضبطها وَكَانَ مَعَه ثَابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين وَكَانَ صَاحب فتْنَة وَكَانَ هِشَام قد حَبسه على إِفْسَاد الْجند بإفريقية عِنْد مقتل كُلْثُوم بن عِيَاض وَتشفع فِيهِ مَرْوَان فَأَطْلقهُ وَاتخذ عِنْده يدا فَلَمَّا سَار من أرمينية دخل ثَابت بن نعيم إِلَى أهل الشَّام فِي الْعود إِلَى الشَّام من وَجه الْفُرَات وَاجْتمعَ لَهُ الْكثير من جند مَرْوَان وناهضه الْقِتَال ثمَّ غلبهم وانقادوا لَهُ وَحبس ثَابت بن نعيم وَأَوْلَاده ثمَّ أطلقهُم من حران إِلَى الشَّام وَجمع نيفاً وَعشْرين ألفا من الجزيرة يسير بهم إِلَى يزِيد وَكتب إِلَيْهِ بِشَرْط مَا كَانَ عبد الْملك ولي أَبَاهُ مُحَمَّدًا من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان فَأعْطَاهُ يزِيد ولَايَة ذَلِك وَبَايع لَهُ مَرْوَان وَانْصَرف وَأقَام يزِيد فِي الْخلَافَة والأمور مضطربة عَلَيْهِ وَكَانَ مظْهرا للنسك وَقِرَاءَة الْقُرْآن وأخلاق عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ ذَا دين وورع قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ولي يزِيد بن الْوَلِيد وَكَانَ قدرياً فَدَعَا النَّاس إِلَى الْقدر وَحَملهمْ عَلَيْهِ وَبَايع لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد بالعهد وَمن بعده لعبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج بن عبد الْملك حمله على ذَلِك أَصْحَابه الْقَدَرِيَّة لمَرض أَصَابَهُ ثمَّ توفّي يزِيد آخر سنة 126 سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَكَانَت خِلَافَته خَمْسَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وعمره تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَقيل أَرْبَعُونَ(3/341)
(خلَافَة إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان)
بُويِعَ لَهُ بعد موت يزِيد وَكَانَ إِبْرَاهِيم قَلِيل الْعقل قَلِيل التَّدْبِير فَانْتقضَ النَّاس عَلَيْهِ وَلم يتم لَهُ أَمر وَكَانَ يسلم عَلَيْهِ تَارَة بالخلافة وَتارَة بالإمارة وَقَالَ فِيهِ الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(نُبَليعُ إبراهيمَ فِي كُلِّ جمعةٍ ... أَلا إنَّ أَمْرًا أَنْتَ وَالِيهِ ضَائِعُ)
وَأقَام على ذَلِك نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَلم يبايعه مَرْوَان بن مُحَمَّد وَقَامَ عَلَيْهِ وخلعه ثمَّ بعد خلعه بِثَلَاثَة أَيَّام قَتله وَقيل صلبه وَكَانَ يلقب صلبان وَهُوَ اسْم مَجْنُون بِدِمَشْق وَقَالَ ابْن خلكان لم يقْتله بل عَاشَ إِلَى أَن هلك سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة
(خلَافَة مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم)
لما مَاتَ يزِيد بن الْوَلِيد وَجلسَ فِي مَكَانَهُ إِبْرَاهِيم أَخُوهُ لم يبايعه مَرْوَان وتعلل بأَشْيَاء ونهض للخلافة وبويع فِي خَامِس عشر شهر صفر سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَكَانَ قبل ذَلِك والياً على أرمينية كَمَا تقدم ذكره وَصَارَ سُلْطَانه فِي الشَّام ومصر فَقَط وَكَانَ زَمَانه زمَان حَرْب وَفتن وَاخْتِلَاف فاضطربت أُمُوره فَسَار إِلَى دمشق فَلَمَّا انْتهى إِلَى قنسرين وَكَانَ عَلَيْهَا بشر بن الْوَلِيد عَاملا لِأَخِيهِ يزِيد وَمَعَهُ أخوهما مسرور فدعاهما مَرْوَان إِلَى بيعَته وَمَال إِلَيْهِ يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة وَخرج بشر للقاء مَرْوَان فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ مَال ابْن هُبَيْرَة وَقيس إِلَى مَرْوَان وَأَسْلمُوا بشرا وسروراً فَأَخذهُمَا مَرْوَان وحبسهما وَسَار بِأَهْل قنسرين وَمن مَعَه إِلَى حمص وَكَانُوا قد امْتَنعُوا من بيعَة إِبْرَاهِيم فَوجه إِلَيْهِم عبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج بن عبد الْملك فِي جند أهل دمشق وَكَانَ يحاصرهم فَلَمَّا دخل مَرْوَان رَحل(3/342)
عبد الْعَزِيز عَنْهُم وَبَايَعُوا مَرْوَان وَخرج للقائه سُلَيْمَان بن هِشَام فِي مائَة وَعشْرين ألفا ومروان فِي ثَمَانِينَ ألفا فَدَعَاهُمْ إِلَى الصُّلْح وَترك الطّلب بِدَم الْوَلِيد على أَن يطلقوا ابنيه الحَكَم وَعُثْمَان وليي عَهده فَأَبَوا وقاتلوه وسرب عسكرا وجاءوهم من خَلفهم فَانْهَزَمُوا وأثخن فيهم أهل حمص فَقتلُوا مِنْهُم نَحوا من خَمْسَة عشر ألفا وأسروا مثلهَا وَرفع مَرْوَان الْقَتْل وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة للْحكم وَعُثْمَان ابْني الْوَلِيد وَكَانَ مِمَّن شهد مقتل الْوَلِيد وهرب يزِيد بن خَالِد الْقَسرِي إِلَى دمشق فَاجْتمع مَعَ إِبْرَاهِيم وَعبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج وَتَشَاوَرُوا فِي قتل الحكم وَعُثْمَان خشيَة أَن يطلقهما مَرْوَان فيثأران كل مِنْهُمَا وولوا ذَلِك يزِيد بن خَالِد فَبعث مَوْلَاهُ أَبَا الْأسد فَقَتَلَهُمَا وَأخرج يُوسُف بن عمر فَقتله واعتصم أَبُو مُحَمَّد السفياني بِبَيْت فِي الْحَبْس فَلم يطيقوا فَتحه وأعجلتهم خيل مَرْوَان وأنهب سُلَيْمَان بن هِشَام بَيت المَال وَخرج من الْمَدِينَة وَعمر مولى الْوَلِيد بن يزِيد إِلَى دَار عبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج فَقَتَلُوهُ ونبشوا قبر يزِيد بن الْوَلِيد وصلبوه على بَاب الْجَابِيَة وَجَاء مَرْوَان فَدخل دمشق وأُنبِئ بِابْن الْوَلِيد ويوسف بن عمر مقتولين فَدَفْنُهُمَا وأتى بِأبي مُحَمَّد السفياني فِي قيوده فَسلم عَلَيْهِ بالخلافة وَقَالَ إِن وليي الْعَهْد جعلاها لَك ثمَّ بَايعه وَسمع النَّاس فَبَايعُوهُ وَكَانَ أَوَّلهمْ بيعَة مُعَاوِيَة بن يزِيد بن حُصَيْن بن نمير وَأهل حمص ثمَّ رَجَعَ مَرْوَان وَاسْتَأْمَنَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد وَسليمَان بن هِشَام وقدما عَلَيْهِ وَكَانَ قدوم سُلَيْمَان بِمن مَعَه وَمن أخوته وَأهل بَيته ومواليه فَبَايعُوا لمروان فِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة فِي رَمَضَان مِنْهَا
(قيام أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي بالدعوة لبني الْعَبَّاس بخراسان)
ظهر بهَا فِي مَدِينَة مرو فدانت لَهُ الْبِلَاد وَهزمَ الْأَحْزَاب المروانية وَكَانَ أَبُو مُسلم دَاعيا لإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الإِمَام بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أخي(3/343)
السفاح عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور بالقرية الْمَعْرُوفَة بالكرار والحميمة والكتب من أبي مُسلم تصل ليه بِمَا اتّفق من الفتوحات وَكَانَ قلبه نصر بن سيار عَاملا على خرسان لمروان فحاصره مُسلم حَتَّى خرج متخفيَاً فَكتب نصر إِلَى مَرْوَان يستنجده بِهَذِهِ الأبيات يَقُول // (من الوافر) //
(أَرى خَلَلَ الرمادِ وميضَ نَارٍ ... وَيوشِكُ أَنْ يكُونَ لَهَا ضِرَامُ)
(فإِنَّ النارَ بالعيدان تُذْكى ... وإنَّ الحَربَ أوَّلها كَلاَمُ)
(فَإنْ لم تُطفِئوها تُخْرِجُوهَا ... مُسَجَّرَةً يشيبُ لَهَا الغُلاَمُ)
(أقولُ من التعجُّبِ ليْت شعري ... أأيقاظٌ أُمَيَّةُ أَم نِيَامُ)
(فَإنْ يكُ قَومنَا أضحَوْا نياماً ... فقلْ قُومُوا فَقَدْ حَانَ القيامُ)
(تعَزي عَنْ رجالِكِ ثُمَّ قوليِ ... عَلَى الإسلامِ والعَرَبِ السلامُ)
فَوَجَدَهُ الرَّسُول مَشْغُولًا بِحَرب الضَحاك بن قيس فَكتب إِلَيْهِ الْجَواب الشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب فاحسم الثؤلول قَلْبك فقَال نصر لأَصْحَابه أما إِن صَاحبكُم قد أعلمكُم أَن لَا نصر عِنْده وصادف وُصُول كتاب نصر إِلَى مَرْوَان عثور مَرْوَان على كتاب إِبْرَاهِيم الإِمَام ابْن مُحَمَّد لأبي مُسلم يوبخه حَيْثُ لم ينتهز الفرصة من نصر إِذْ أمكنته وَلَا يطاوله فِي المحاصرة ويأمره أَلا يدع بخراسان متكلماً بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمَّا قَرَأَ مَرْوَان الْكتاب بعث إِلَى الْوَلِيد بن مُعَاوِيَة بن عبد الْملك وَهُوَ يَوْمئِذٍ عَامله على دمشق يَأْمُرهُ أَن يكْتب إِلَى عَامل البلقاء أَن يسير إِلَى الحميمة للقبض على إِبْرَاهِيم الإِمَام فَقَبضهُ عَامل البلقاء وشده وثاقَاً وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِ فِي مَسْجِد الحميمة وَأرْسل بِهِ إِلَى الْوَلِيد وَأرْسل بِهِ إِلَى الْوَلِيد أرسل بِهِ الْوَلِيد إِلَى مَرْوَان فحسبه بحران ثمَّ قَتله وَكَانَ إِبْرَاهِيم قد عهد بِالْوَصِيَّةِ إِلَى أَخِيه عبد الله بن مُحَمَّد الملقب بالسفاح ابْن الحارثية أرسل إِلَيْهِ بالجامعة وَأمره أَن يسير على مَا ذكر فِيهَا فَإِن الْأَمر صائر إِلَيْهِ وَإِن بني الْعَبَّاس موطدة لَا محَالة فَلَمَّا اشْتهر قتل إِبْرَاهِيم الإِمَام بَايع(3/344)
أَبُو مُسلم وَغَيره من الدعاة أَبَا الْعَبَّاس عبد الله السفاح ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس فَبَثَّ دَعوته فِي سَائِر الْأَمْصَار وَأظْهر لبس السوَاد وسير أَبَا عون عبد الْملك بن يزِيد الْأَزْدِيّ إِلَى شهر زور فَقتل عُثْمَان بن سُفْيَان وَأقَام بِنَاحِيَة الْموصل وَسَار مَرْوَان بن مُحَمَّد إِلَيْهِ من حران فِي مائَة وَعشْرين ألف قارح وَنزل بالزاب اسْم نهر قرب الْموصل وَبعث السفاح سَلمَة بن مُحَمَّد فِي أَلفَيْنِ وَعبد الله الطَّائِي فِي ألف وَخَمْسمِائة وَعبد الحميد بن ربعي الطَّائِي فِي أَلفَيْنِ وَوَرس بن نَضْلَة فِي خَمْسمِائَة كل ذَلِك إمداد لأبي عون ثمَّ ندب أهل بَيته إِلَى السّير إِلَى أبي عون فَأرْسل عبد الله بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس فَسَار وَقدم إِلَى أبي عون فتحول لَهُ عَن سرادقه بِمَا فِيهِ ثمَّ أَمر عَنْبَسَة ابْن مُوسَى فِي خَمْسَة آلَاف فَعبر النَّهر من الزاب فِي أول جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَقَاتل عَسَاكِر مَرْوَان إِلَى الْمسَاء فَرجع فعقد مَرْوَان الجسر من الْغَد وَقدم ابْنه عبد الله فَعبر فَبعث عبد الله بن عَليّ عَم السفاح الْمَذْكُور الْمخَارِق ابْن غفار فِي أَرْبَعَة آلَاف نَحْو عبد الله بن مَرْوَان فسرح ابْن مَرْوَان الْوَلِيد بن مُعَاوِيَة ابْن مَرْوَان بن الحكم فَانْهَزَمَ أَصْحَاب الْمخَارِق وَأسر هُوَ وَجِيء بِهِ إِلَى مَرْوَان مَعَ رُءُوس الْقَتْلَى فَقَالَ لَهُ أَنْت الْمخَارِق قَالَ لَا قَالَ فتعرفه فِي هَذِه الرُّءُوس قَالَ نعم هُوَ ذَا فخلى سَبيله وَقيل بل أنكر أَن يكون فِي الرُّءُوس فخلى سَبيله ثمَّ عاجلهم عبد الله بن عَليّ بِالْحَرْبِ وعَلى ميمنته أَبُو عون وعَلى مسيرَة مَرْوَان الْوَلِيد بن مُعَاوِيَة فَأرْسل إِلَيْهِ مَرْوَان فِي الْمُوَادَعَة فَأبى وَحمل الْوَلِيد بن مُعَاوِيَة وَهُوَ صهر مَرْوَان على ابْنَته فقاتل أَبَا عون حَتَّى انهزم إِلَى عبد الله بن عَليّ فَأمر النَّاس عبد الله بن عَليّ فترجلوا وَمَشى قدماً يُنَادي يالثارات إِبْرَاهِيم وبالشعار يَا مُحَمَّد يَا مَنْصُور وَأمر مَرْوَان الْقَبَائِل أَن يحملوا فتخاذلوا وَاعْتَذَرُوا حَتَّى صَاحب شرطته ثمَّ ظهر لَهُ الْخلَل فأباح الْأَمْوَال للنَّاس على أَن يقاتلوا فَأخذُوا من غير قتال فَبعث ابْنه عبد الله يصدهم عَن ذَلِك فَتَنَادَوْا بالفرار فَانْهَزَمُوا فَقتل مِنْهُم خلق كثير وَقطع مَرْوَان الجسر فغرق مِنْهُم أَكثر مِمَّن قتل(3/345)
قَالَ الكاتي فِي تَارِيخه قيل كَانَ سَبَب هزيمته أَنه نزل عَن فرسه فِي الْحَرْب ليزيل حقنه فهرب الْفرس إِلَى وسط الْعَسْكَر فتوهموا أَنه قتل فَقيل ذهبت الدولة بالبولة وَكَانَت الْهَزِيمَة يَوْم السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَمضى مَرْوَان فِي هزيمته وَنظر إِلَى أَصْحَابه مَعَ كَثْرَة عَددهم وَقُوَّة عُددهم ولِمَا قد ظَهَرَ فيهم من الفشل وَمَا حل بهم من الْجزع والوجل فَقَالَ إِذا انْقَضتْ الْمدَّة لم تَنْفَع الْعدة فَأَقَامَ عبد الله بن عَليّ فِي عسكره سَبْعَة أَيَّام واجتاز عَسْكَر مَرْوَان بِمَا فِيهِ وَكتب بِالْفَتْح إِلَى ابْن أَخِيه عبد الله السفاح وَسَار مَرْوَان مُنْهَزِمًا إِلَى مَدِينَة الْموصل وَعَلَيْهَا هِشَام بن عَمْرو التغلبي وَبشر بن خُزَيْمَة الْأَسدي فقطعا الجسر ومنعاه العبور إِلَيْهِم وَقيل لَهُم هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فتجاهلوا وَقَالُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يفرُّ ثمَّ أسمعوه الشتم والقبائح فَسَار إِلَى حران وَبهَا أبان ابْن أَخِيه يزِيد بن مُحَمَّد فَأَقَامَ بهَا نَحوا من عشْرين لَيْلَة وَسَار عبد الله بن عَليّ الْمَذْكُور على أَثَره إِلَى الْموصل فملكها وعزل هشاماً التغلبيَ وَولى مَكَانَهُ مُحَمَّد بن صول ثمَّ سَار فِي أَتبَاع مَرْوَان إِلَى حران فَخرج مِنْهَا مَرْوَان وَترك عَلَيْهَا أبان ابْن أَخِيه وَسَار إِلَى حمص وَجَاء عبد الله إِلَى حران فَلَقِيَهُ أبان مُفردا فأَمنه وَملك الجزيرة وَلما بلغ مَرْوَان حمص أَقَامَ بهَا ثَلَاثًا وارتحل فَاتبعهُ أَهلهَا لينبهوه فَقَاتلهُمْ وَهَزَمَهُمْ وأثخن فيهم وَسَار إِلَى دمشق وَعَلَيْهَا الْوَلِيد ابْن عَمه فَأَوْصَاهُ بِقِتَال عُرْوَة وَسَار إِلَى فلسطين فَنزل نهر أبي فطرس وَقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي فَأرْسل مَرْوَان إِلَيْهِ عبد الله بن يزِيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره ثمَّ سَار عبد الله بن عَليّ فِي أَثَره من حران بعد أم هدم الدَّار الني حبس فِيهَا مَرْوَان أَخَاهُ إِبْرَاهِيم الإِمَام وَقدم عَلَيْهِ أَخُوهُ عبد الصَّمد بن على بَعثه السفاح مدَدا فِي أَرْبَعَة آلَاف فَسَار إِلَى قنسرين فأطاعوه ثمَّ إِلَى حمص كَذَلِك ثمَّ إِلَى بعلبك ثمَّ لما نزل مزة دمشق من قرى الفوطة قدم عَلَيْهِ أَخُوهُ صَالح بن عَليّ بَعثه السفاح مدَدا فِي ثَمَانِيَة آلَاف وَأقَام عبد الله بن عَليّ خمس عشرَة لَيْلَة وارتحل يُرِيد(3/346)
فلسطين فأجفل مَرْوَان إِلَى النّيل ثمَّ إِلَى الصَّعِيد وَنزل صَالح بن عَليّ الْفسْطَاط يَعْنِي مصر فتقدمت عساكره فَلَقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا مِنْهُم ودلوهم على مَكَانَهُ بيوصر ذكر الْعَلامَة الدَّمِيرِيّ فِي حَيَاة الْحَيَوَان أَن مَرْوَان لما أَن وصل إِلَى أَبُو صير وَهِي قَرْيَة عِنْد الفيوم قَالَ مَا اسْم هَذِه الْقرْيَة قيل لَهُ أَبُو صير فَقَالَ وَإِلَى الله الْمصير ثمَّ دخل كَنِيسَة فَبَلغهُ أَن خَادِمًا نم عَلَيْهِ فَأمر بِهِ فَقطع رَأسه وسل لِسَانه وَألقى على الأَرْض فَجَاءَت هرة فأكلته ثمَّ سَار إِلَيْهِ أَبُو عون وعامر بن إِسْمَاعِيل الْمذْحِجِي فأدركوه ببوصير ثمَّ هجم على الْكَنِيسَة الَّتِي كَانَ نازلا بهَا عَامر بن إِسْمَاعِيل الْمذْحِجِي فَخرج مَرْوَان من بَاب الْكَنِيسَة وَفِي يَده السَّيْف وَقد أحاطت بِهِ الْجنُود وصفت حوله الْخُيُول فتمثل بِبَيْت العجاج بن حَكِيم السّلمِيّ من // (الْكَامِل) //
(مُتَقَلِّدِينَ صَفَائِحًا هِنْدِيّةً ... تَتْرُكْنَ منْ ضَرَبُوا كأَنْ لَمْ يُولَدِ)
ثمَّ قَاتل حَتَّى قتل فَأمر عَامر برَأْسه فَقطع فِي ذَلِك الْمَكَان وسل لِسَانه وَألقى على الأَرْض فَجَاءَت تِلْكَ الْهِرَّة بِعَينهَا فخطفته وأكلته فَقَالَ عَامر لَو لم يكن فِي الدُّنْيَا عجب إِلَّا هَذَا لَكَانَ كَافِيا لِسَان مَرْوَان فِي فَمِ هرةٍ وَفِي ذَلِك يَقُول شَاعِرهمْ من // (الْبَسِيط) //
(قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِصْرًا عَنْوَةً لكُمُ ... وأهْلَكَ الظَّالِمَ الجَبَّارَ إِذْ ظَلَماَ)
(فَلاَكَ مِقْوَلَهُ هِرُّ يُجَرْجِرُهُ ... وَكَانَ عَامِرُ مِنْ ذِي الظُّلْمِ منْتَقِمَا)
وَبعث عون بِالرَّأْسِ إِلَى صَالح بن عَليّ فَبعث بِهِ صَالح إِلَى السفاح وَوجد عَامر بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور نسَاء مَرْوَان وَبنَاته فِي كَنِيسَة بوصير وَقد وكل بِهن خَادِمًا يقتلهن بعده فَبعث بِهن إِلَى صَالح وَلما دخلن عَلَيْهِ سألنه فِي الْإِبْقَاء عَلَيْهِنَّ على قتلاهم عِنْد بني أُميَّة ثمَّ عَفا عَنْهُن وحملهن إِلَى حران يبكينَ وَدخل عَامر بعد قتل مَرْوَان الكنسية فَجَلَسَ على فرش مَرْوَان وَكَانَ مَرْوَان يتعشَّى فَلَمَّا سمع الوجبة وثب عَن عشائه فَخرج فَقتل فَجَلَسَ عَامر على ذَلِك الطَّعَام وَجعل يَأْكُل مِنْهُ ودعا بابنة لمروان وَكَانَت أسن بَنَاته فَقَالَت يَا عَامر إِن دهراً أنزل مَرْوَان عَن(3/347)
فرشه وأقعدك عَلَيْهِ حَتَّى تعشيت بعشائه واستصحبت بمصباحه ونادمت ابْنَته لقد أبلغ فِي موعظتك وأجمل فِي إيقاظك فاستحيا عَامر وصرفها قَالَ ابْن زنبل فِي تَارِيخه قتل مَعَ مَرْوَان ابْنه عبيد الله وهرب ابْنه الآخر عبد الله حَتَّى انتهَى إِلَى ملك النّوبَة فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا وصل إِلَيْهِ ملك الْبِلَاد وَمَا رَضِي بِالْجُلُوسِ فَوق الْفرش بل جلس فَوق التُّرَاب فَقَالَ للترجمان قل للْملك لم فعلت ذَلِك فَقَالَ لَهُ إِنِّي ملك وَحقّ على كل ملك أَن يكون متواضعاً لِعَظَمَة الله تَعَالَى ثمَّ أقبل ينْكث فِي الأْرض بإصبعه ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ لَهُ كَيفَ سُلبتم نعْمَة الْملك وَأَنْتُم أقرب النَّاس إِلَى نَبِيكُم فَقَالَ جَاءَ من هُوَ أقربُ منا إِلَيْهِ وقتلنا وطردنا وجئتُ أَنا مستجيراً إِلَيْك ثمَّ قَالَ كَيفَ كُنْتُم تشربون الْخمر وَهِي مُحرمَة عَلَيْكُم فِي كتابكُمْ فَقَالَ فعله عبيدنا وأتباعنا من الْعَجم وَغَيرهم لما دخلُوا فِي ملكنا من غير علمنَا ثمَّ قَالَ فَلم كُنْتُم تَرْكَبُونَ على دوابكم بِآلَة الذهَبِ والفضةِ والديباج وَهُوَ محرم عَلَيْكُم فَقَالَ لَهُ مثل الأول ثمَّ قَالَ فَلم كُنْتُم إِذا خَرجْتُمْ لصيد طَائِر لَا خَطَرَ لَهُ هجمتم فِي أهل الْقرى وكلفتموهم الضِّيَافَة وَمَا لَا قدرَة لَهُم عَلَيْهِ وأفسدتم مَزَارِعهمْ بدوابكم وَالْفساد محرم فِي دينكُمْ فَتعذر بِمثل الأول وَقَالَ كرهنا مخالفتهم لِأَن مماليكنا تمكنوا فِي الْبِلَاد فهز رَأسه وَقَالَ لَا وَالله وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حرم عَلَيْكُم وارتكبتم مَا نهاكم عَنهُ وأحببتم الْفساد وَالظُّلم وكرهتم الْعدْل فسلبكم الله تَعَالَى العِز وألبسكم الذل والنقمة إِذا نزلت عَمت والبلية إِذا حلت شملت وَإِن الله فِيكُم نقمة لن تبلغ غايتها فَاخْرُج من بلدي وَإِلَّا قتلتك وَمن مَعَك قَالَ فَخرج من بِلَاده ملوماً مَدْحُورًا قَالَ ابْن خلدون بَقِي عبد الله بن مَرْوَان الْمَذْكُور إِلَى أَيَّام الْمهْدي العباسي فَأَخذه عَامل فلسطين وسجنه إِلَى أَن مَاتَ فِي السجْن وَكَانَ مَرْوَان بطلا شجاعَاً مهيباً كَانُوا يعدونه فِي مُقَابلَة ألف مقَاتل أَبيض اللَّوْن ربعَة أشهل الْعين ضخماً كث اللِّحْيَة كَانَ حاكمَاً سائساً لقب بالجعدي قَالَ الْعَلامَة السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه نِسْبَة إِلَى مؤدبه الْجَعْد بن دِرْهَم لتمسكه بمذهبه كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن ويتزندق أَمر هِشَام بن عبد الْملك خَالِدا الْقَسرِي بقتْله لذَلِك فَقتله ويلقب مَرْوَان(3/348)
بالحمار أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يجِف لَهُ لبد فِي محاربة الخارجين عَلَيْهِ كَانَ يصل السّري بالسري ويصبر على مكاره الْحَرْب وَيُقَال فِي الْمثل فلَان أَصْبِر من حمَار أَو لِأَن الْعَرَب تُسَمى كل مائَة سنة حمارا فَلَمَّا قَارب ملك بني أُميَّة فِي زَمَنه مائَة سنة لقبوه بالحمار قَالَ مَرْوَان وَا لهفتاه على دولة مَا نصرت وكف مَا ظَفرت ونعمة مَا شكرت فَقَالَ لَهُ خادمه وَكَانَ من أَوْلَاد عُظَمَاء النَّصَارَى من أهمل الصَّغِير حَتَّى يكبر والقليل حَتَّى يكثر والخفي حَتَّى يظْهر أَصَابَهُ مثل هَذَا مُدَّة خِلَافَته خمس سِنِين وَعشرَة أشهر وعمره خَمْسُونَ سنة وَقيل سبع وَخَمْسُونَ وَقيل ثَمَان وَقيل سِتُّونَ وَفِي روض الْأَخْبَار ذهبنت الدولة من بني أُميَّة فِي عهد ثَلَاثَة من الرِّجَال مَرْوَان ابْن مُحَمَّد وَصَاحب عسكره يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة وَكَانَ خَطِيبًا شجاعاً يضْرب بشجاعته الْمثل ووزيره وكاتبه عبد الحميد وَكَانَ يُقَال بدئت الْكِتَابَة بِعَبْد الحميد وختمت بِابْن العميد قَالَ المطرزي فِي شَرحه على المقامات الحريرية كَانَ لمروان عبد الحميد كَاتبا والبعلبكي مُؤذنًا وسلامة الْحَادِي حاديَاً فأحضروا إِلَى السفاح بعد قتل مَرْوَان فَقَالَ سَلامَة الْحَادِي استبقني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي أحسن الحداء قَالَ وَمَا بلغ من حدائك قَالَ تعمد إِلَى إبل ظمئت ثَلَاثًا ثمَّ توردها فَإِذا بدأت تشرب رفعت صوتي بالحداء فَترفع رءوسها وَتَدَع الشّرْب ثمَّ لَا تشرب حَتَّى أسكت فَأمر بِإِبِل ظماء فَقرب مِنْهَا المَاء ثمَّ حدا فَرفعت رءوسها فَلم تزل رَافِعَة حَتَّى سكت من حدائه فاستبقاه وَأَجَازَهُ ثمَّ قَالَ البعلبكي إِنِّي مُؤذن مُنْقَطع النظير قَالَ وَمَا بلغ من أذانك فَقَالَ تَأمر جَارِيَة فَتقدم لَك طستاً وَتَأْخُذ إبريقاً بِيَدِهَا وأشرع فِي الْأَذَان فتدهش وَيذْهب عقلهَا حتّى تلقَي الإبريق من يَدهَا وَهِي لَا تعلم فَأمر بذلك فَوَجَدَهُ صَحِيحا فاستبقاه وَأَجَازَهُ وَقَالَ عبد الحميد استبقني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي فريد الدَّهْر غي الْكِتَابَة والبلاغة فَقَالَ مَا اْعرفني بك فَأَنت الَّذِي فعلت بِنَا الأفاعيل وعملت بِنَا(3/349)
الدَّوَاهِي فَقطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَضرب عُنُقه وَدخل سديف يَوْمًا على السفاح وَعِنْده سُلَيْمَان بن هِشَام وَقُدَامَة فَقَالَ من // (الْخَفِيف) //
(لاَ يَغُرّنْكَ مَا تَرَى مِنْ رجالٍ ... إنَّ تَحْتَ الضلوعِ دَاء دَوِيَّا)
(فَضَعِ السيْفَ وارْفَعِ السَّوْطَ حتَّى ... لَا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِها أُمَوِيَّا)
فَأمر السفاح بِسُلَيْمَان فَقتل وَدخل شبْل بن عبد الله مولى بني هَاشم على السفاح وَعِنْده ثَمَانُون أَو تسعون نفسَاً من بني أُميَّة قد أَمنهم فهم على الكراسي فَأَنْشد من // (الْخَفِيف) //
(أَصْبَحَ المُلْكُ ثابتَ الآساسِ ... بالبهاليلِ مِن بَني العَبَاسِ)
(طَلَبُوا وتْرَ هاشمٍ فَشَفَوْهَا ... بعدَ مَيْلٍ مِنَ الزمَانِ وَبَاسِ)
(لَا تُقِيلَنَّ عبد الشمْسٍ عثارٍ ا ... واقْطَعَنْ كلَّ رقْلَةٍ وغِرَاسِ)
(أقْصِهِمْ أَيهَا الخليفَةُ واقْطَعْ ... عنكَ بالسَّيْفِ شَأْفَةَ الأَرْجَاسِ)
(ذلُّهَا أَظْهَرَ التودُّدَ مِنْهَا ... وبهَا مِنْكُمُ كَحَرِّ المواسِي)
)
(ولَقَدْ سَاءَنِي وسَاءَ سَوَائي ... قُرْبُهَا مِنْ مَنَابِرٍ وكراسِي)
(أَنْزِلُوهَا بحَيثُ أَنْزَلَهَا اللهُ ... بدَارِ الهَوَانِ والإتْعَاسِ)
(واذكُرُوا مَصْرَعَ الحُسَيْنِ وَزَيْدٍ ... وقَتِيلاً بجَانِبِ المِهْرَاسِ)
(والقتيلَ الَّذِي بحرَّانَ أضْحَى ... ثَاوِيًا بَيْنَ غُرْبَةٍ وَتَنَاسِي)
فَقَالَ السفاح أَنْتُم بَين يَدي على الْكُرْسِيّ وَدِمَاء أسلافي تقطر من أسيافكم فَأمر بهم فشدخوا بعمد الْحَدِيد وَبسط فَوْقهم الأنطاع فَأكل عَلَيْهَا الطَّعَام وأنينهم يسمع وَإِن الطَّعَام فِي صحون الْمَائِدَة ليختلج لاختلاجهم وَقَالَ وَالله مَا أكلت طَعَاما ألذ من طَعَامي هَذَا يَوْم بِيَوْم الْحُسَيْن وَلَا سَوَاء وَكَانَ كَبِير مِنْهُم جَالِسا إِلَى جَانب السفاح فَقَالَ لَهُ السفاح كَأَن هَذَا لم تطبْ بِهِ نَفسك فَقَالَ نعم وَالله قَالَ أفتحب اللحاق بهم قَالَ نعم وَإِنِّي إِلَى ذَلِك لمشتاق فَلَا خير فِي الْعَيْش بعدهمْ فَأمر بِهِ فسحب وشدخ كَمَا شدخوا وَقيل إِن الْقَائِل للشعر الثَّانِي هُوَ سديف صَاحب الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين لَا شبْل بن عبد الله ثمَّ تتبعوا بني أُميَّة بِالْقَتْلِ فَقتل سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس عَم السفاح(3/350)
بِالْبَصْرَةِ جمَاعَة مِنْهُم ورموا بأشلائهم فِي الطَّرِيق فَأَكَلتهَا الْكلاب ونبش عبد الله ابْن عَليّ عَم السفاح أَيْضا قُبُور الْخُلَفَاء مِنْهُم فَلم يَجدوا فِي الْقُبُور إِلَّا شبه الرماد وخيطاً فِي قبر مُعَاوِيَة وجمجمة فِي قبر عبد الْملك وَرُبمَا وجدوا فِيهَا بعض الْأَعْضَاء إِلَّا هِشَام بن عبد الْملك فَإِنَّهُ وجد كَمَا هُوَ لم يبل فَضَربهُ بالسياط ثمَّ صلبه وَحَرقه وذراه فِي الرّيح قَالَ ابْن خلدون كَذَا قيل وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك واستقصوا فِي تتبعهم قتلا وَلم يفلت إِلَّا الرضعاء أَو مَنْ هرب إِلَى الأندلس مثل عبد الرَّحْمَن الملقب بالداخل لِأَنَّهُ أول من دخل إِلَى بِلَاد الْمغرب وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَغَيره مِمَّن تبعه من قرَابَته وَفِي ربيع الْأَبْرَار للزمخشري انقرضت دولة بني أُميَّة وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر نَفرا مُعَاوِيَة يزِيد بن مُعَاوِيَة وَمُعَاوِيَة بن يزِيد الَّذِي يُقَال لَهُ مُعَاوِيَة الْأَصْغَر رَضِي الله عَنهُ مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة عبد الْملك بن مَرْوَان الْوَلِيد بن عبد الْملك سُلَيْمَان بن عبد الْملك عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ وأرضاه يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْفَاسِق ممزق الْمُصحف بِالسِّهَامِ ومقدم الْجَارِيَة تؤم النَّاس فِي صَلَاة الصُّبْح جنبَاً سكرى يزِيد ابْن الْوَلِيد بن عبد الْملك إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد أخي يزِيد الْمَذْكُور قبله يَلِيهِ مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم المنبوز بالحِمَارِ وَفِي أَكثر التواريخ ذكرُوا أَن مُدَّة ملكهم ألف شهر لِأَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حِين تكلمُوا عَلَيْهِ فِي تَسْلِيم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ {ليلةُ اَلقَدرِ خَير مِنْ ألفِ شهر} الْقدر 3 وَذَلِكَ ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر فَقَوْل الْحسن رَضِي الله عَنهُ كَانَ تَقْرِيبًا لَا تحديداً وَيُمكن أَن يكون تحديداً على بعض الْحساب نظرَاً إِلَى تمكنهم وانهزامهم وقتلهم من تدَاخل السنين والشهور وَهِي يسيرَة فَأَما على ظَاهر الْحساب أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان بُويِعَ بعد وَفَاة عَليّ بن أبي طَالب فِي ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة فِي سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة وبويع عبد الله السفاح(3/351)
العباسي فِي ثَالِث عشر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فَإِن أخرجنَا من هَذِه الْمدَّة مُدَّة ابْن الزبير تكون مُدَّة ملكهم إِلَى أَن مَاتَ مَرْوَان ثلاثَاً وَثَمَانِينَ سنة وشهرين وَثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا لِأَن مُدَّة ابْن الزبير تسع سِنِين وَأشهر بُويِعَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَقيل ثَلَاث وَسبعين سنة وَإِن حسبتها من الْيَوْم الَّذِي صَالح فِيهِ الْحسن مُعَاوِيَة تكون بعد إِخْرَاج مُدَّة ابْن الزبير ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سنة وشهراً وَاحِدًا وَسِتَّة وَعشْرين يَوْمًا وَالله أعلم وَفِي سراج الْمُلُوك سُئِلَ بعض الْعلمَاء مَا الَّذِي أذهب ملك بني أُميَّة فَقَالَ تحاسد الْأَكفاء وَانْقِطَاع الْأَخْبَار وَذَلِكَ أَن يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة وَزِير مَرْوَان كَانَ يحب أَن يضَعَ نصر بن سيار أَمِير خُرَاسَان لمروان فَكَانَ لَا يمده بِالرِّجَالِ وَلَا يرفع إِلَى مَرْوَان مَا يرد من الْأَخْبَار وَسُئِلَ بعض بني أُميَّة عَن سَبَب زَوَال ملكهم فَقَالَ اسْتِعْمَال الصغار من الرِّجَال على الْكَبِير من الْأَعْمَال وَتَقْدِيم الأرذال والأنذال على أهل الدّين والكمال وَذَوي النجدة من الرِّجَال فآل أمرنَا إِلَى مَا آل وَقَالَ بَعضهم وَقد سُئِلَ عَن مثل ذَلِك فَقَالَ نوم الغدوات وَشرب العشيات والاجتراء بإعلان الْفُجُور وَترك النهيِ عَن الْمُنْكَرَات وَلَا شَيْء أضيع للْملك وَأهْلك للرعية من شدَّة الْحجاب وَعدم الْقبُول لقَوْل الْعُقَلَاء لأَنهم قَالُوا من تمّ سروره قصرت شهوره والحزم أَسد الآراء والغفلة أضرّ الْأَعْدَاء وَمن قعد عَن حِيلَة تَدْبِير الْملك أقامته شَدَائِد الْفِتَن وَمن نَام عَن عدوه نبهته المكائد والمحن وَمن أَعْجَبته آراؤه غلبته أعداؤه وَمن استضعف عدوه اغْترَّ وَمن اغْترَّ ظفر بِهِ عدوه وَمن طَالَتْ عداوته زَالَت سلطته وَمن كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلكه وفناؤه وَرَأس الْحِكْمَة التودد إِلَى النَّاس قلت صدق فِيمَا بِهِ نطق فسبحان من لَا يَزُول ملكه وَلَا يتَحَوَّل سُلْطَانه وَرَأَيْت فِي تَارِيخ الْعَلامَة مَحْمُود بن عَليّ بن أَحْمد البهوتي الْمُسَمّى بتاريخ الخلائف مَا نَصه قد كَانَ لبني أُميَّة ألقاب تلقبوا بهَا فمعاوية بن أبي سُفْيَان يلقب بالتام لدين الله وَيزِيد يلقب بالمنتصر على أهل الزيغ وَمُعَاوِيَة بن يزِيد يلقب بالراجع إِلَى الله ومروان بن الحكم يلقب بالمؤتمن بِاللَّه وَعبد الْملك بن مَرْوَان(3/352)
بالموفق لأمر الله والوليد بن عبد الْملك بالمنتقِم لله وَسليمَان بن عبد الْملك بالداعِي إِلَى الله وَعمر بن عبد الْعَزِيز بالمعصومِ باللهِ وَيزِيد بن عبد الْملك بالقادر بصُنْع الله وَهِشَام بن عبد الْملك بالمنصور بِاللَّه والوليد بن يزِيد بالمكتفي بِاللَّه وَيزِيد بن الْوَلِيد بالشاكر لأنعم الله وَإِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد بالمعتز بِاللَّه ومروان بن مُحَمَّد بالقائم بِحَق الله وَعبد الله بن الزبير بالعائذ بِبَيْت الله فسبحان مغيِّر الدول ومفني الْأُمَم لَا رب غَيره سُبْحَانَهُ فَلَيْسَ العباسية أَبَا عذرتها فَليعلم ذَلِك(3/353)
(الْبَاب الثَّانِي)
(فِي الدولة العباسية)
اعْلَم أَن أَمر الْإِسْلَام لم يزل جَمِيعًا ودولته وَاحِدَة أَيَّام الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَبني أُميَّة من بعدهمْ لِاجْتِمَاع عصبية الْعَرَب(3/354)
ثمَّ ظهر من بعد ذَلِك أَمر الشِّيعَة وهم الدعاة لأهل الْبَيْت فَغلبَتْ دعاة بني الْعَبَّاس على الْإِمَامَة واستقلوا بخلافة الْملَّة وَلحق فل بني أُميَّة بالأندلس فَقَامَ بأمرهم فِيهَا عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل ابْن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك وَمن تبعه من مواليهم وَمن الْعَرَب فَلم يدخلُوا فِي دَعْوَة بني الْعَبَّاس وانقسمت لذَلِك دَعْوَة بني الْعَبَّاس وانقسمت بذلك دولة الْإِسْلَام بدولتين لافتراق عصبية الْعَرَب ثمَّ ظهر دعاة أهل الْبَيْت بالمغرب وَالْعراق من العلوية ونازعوا خلفاء بني الْعَبَّاس واستولوا على القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الْأَقْصَى والعبيديين بالقيروان ومصر والقرامطة بِالْبَحْرَيْنِ والداعي بطبرستان والديلم والأطروش فِيهَا وَمن بعده وانقسمت دولة الْإِسْلَام بذلك دولا مُتَفَرِّقَة
(ذكر الشِّيعَة ومبادئ دولهم وَكَيف انساقت إِلَى العباسية من بعدهمْ إِلَى آخر دولهم)
كَانَ مبدأ هَذِه الدولة أَعنِي دولة الشِّيعَة أَن أهل الْبَيْت لما توفّي رَسُول الله
كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر وَأَن الْخلَافَة لَهُم دون من سواهُم من قُرَيْش وَفِي الصَّحِيح أَن الْعَبَّاس قَالَ لعَلي فِي وجع رَسُول الله
الَّذِي توفّي فِيهِ اذهَبْ بِنَا إِلَيْهِ نَسْأَلهُ فِي هَذَا الْأَمر فَإِن كَانَ فِينَا علمناه وَإِن كَانَ فِي غَيرنَا أوصى بِنَا فَقَالَ عَليّ إِن سألناه فمنعناها لَا يعطيناها النَّاس وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن رَسُول الله
قَالَ فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك عِنْده وَتَنَازَعُوا وَلم يتم الْكتاب وَفِي رِوَايَة قَالَ(3/355)
قومُوا عني وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول إِن الرزية كل الرزية مَا حَال بَين رَسُول الله
وَبَين ذَلِك الْكتاب لاختلافهم ولغطهم حَتَّى قد ذهب كثير من الشِّيعَة إِلَى أَن النَّبِي
أوصى فِي مَرضه ذَلِك لعَلي وَلم يَصح ذَلِك من وَجه يعول عَلَيْهِ وكما نقلوه عَن أهل الْآثَار أَن عمر قَالَ يَوْمًا لِابْنِ عَبَّاس إِن قومكم يَعْنِي قُريْشًا مَا أَرَادوا أَن يجمعوا لكم بَين النُّبُوَّة والخلافة فتتبجحوا عَلَيْهِم وَأَن ابْن عَبَّاس أنكر ذَلِك وَطلب من عمر إِذْنه فِي الْكَلَام فَتكلم بِمَا غضب لَهُ عمر وَظهر من محاورتهما أَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَن فِي نفوس أهل الْبَيْت شَيْئا من أَمر الْخلَافَة والعدول عَنْهُم بهَا مِمَّا الله تَعَالَى أعلم بِصِحَّتِهِ وَعدمهَا
(قصَّة الشورى)
أَن جمَاعَة من الصَّحَابَة كَانُوا يتشيعون لعَلي ويرون اسْتِحْقَاقه على غَيره فَلَمَّا عدل بهَا إِلَى سواهُ أنفوا من ذَلِك وأسفوا لَهُ مثل الزبير وَسعد وعمار بن يَاسر والمقداد بن الْأسود وَغَيرهم إِلَّا أَن الْقَوْم لرسوخ قدمهم فِي الدّين وحرصهم على الألفة بَين الْمُسلمين لم يزِيدُوا فِي ذَلِك على النَّجْوَى بالتأفف والأسف ثمَّ لما فَشَا النكير على عُثْمَان والطعن فِي الْآفَاق كَانَ عبد الله بن سبأ وَيعرف بِابْن السَّوْدَاء من أَشد النَّاس خوضَاً فِي التَّشَيُّع لعَلي بِمَا لَا يرضاه من الطعْن على عُثْمَان وعَلى جمَاعَة فِي الْعُدُول إِلَيْهِ عَن عَليّ وَأَنه ولي بِغَيْر حق فَأخْرجهُ عبد الله بن عَامر عَامل عُثْمَان على الْبَصْرَة مِنْهَا إِلَى مصر فَاجْتمع إِلَيْهِ جمَاعَة من أَمْثَاله جنحوا إِلَى الغلو فِي ذَلِك وافتجار الْمذَاهب الْفَاسِدَة فِيهِ مثل خَالِد بن ملجم وسودان بن حمْرَان وكنانة بن بشر وَغَيرهم ثمَّ كَانَت بيعَة عَليّ ووقعة الْجمل وصفين وانحراف الْخَوَارِج عَلَيْهِ بِمَا أَنْكَرُوا من التَّحْكِيم فِي الدّين وتمحضت شيعته للاستماتة مَعَه فِي حَرْب مُعَاوِيَة ثمَّ لما قتل عَليّ وبويع ابْنه الْحسن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَخرج عَن الْأَمر لمعاوية سخط ذَلِك شيعَة عَليّ مِنْهُ وَأَقَامُوا يتناجون فِي السِّرّ اسْتِحْقَاق أهل الْبَيْت(3/356)
والميل إِلَيْهِم وسخطوا من الْحسن مَا كَانَ مِنْهُ من النُّزُول لمعاوية وَكَتَبُوا إِلَى الْحُسَيْن بِالدُّعَاءِ لَهُ فَامْتنعَ وواعدهم إِلَى هَلَاك مُعَاوِيَة فَسَارُوا إِلَى مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَبَايَعُوهُ فِي السِّرّ على طلب الْخلَافَة مَتى مَا أمكنه وَولى على كل بلد رجلا وَأَقَامُوا على ذَلِك وَمُعَاوِيَة يكف سياسته من غربهم ويقلع الدَّاء إِذا تعين لَهُ مِنْهُم كَمَا فعل بِحجر بن عدي وَأَصْحَابه وَقد تقدم ذكر قَتلهمْ عِنْد ذكر خِلَافَته ويروض من شماس أهل الْبَيْت ويسامحهم فِي دَعْوَى تقدمهم واستحقاقهم وَلَا يهيج أحدا مِنْهُم بالتثريب عَلَيْهِ فِي ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ وَولي يزِيد فَكَانَ من خُرُوج الْحُسَيْن وَقَتله مَا هُوَ مَعْرُوف وَكَانَت من أشنع الوقائع فِي الْإِسْلَام عظمت بهَا الشحناء وتوغل الشِّيعَة فِي شَأْنهمْ وَعظم النكير والطعن على من تولى ذَلِك وأَمَرَ بِهِ أَو قعد عَنهُ ثمَّ تَلَاوَمُوا على مَا أضاعوا من أَمر الْحُسَيْن وَأَنَّهُمْ لم ينصروه فَنَدِمُوا وَرَأَوا أَن لَا كَفَّارَة لذَلِك إِلَّا الاستماتة دون ثَأْره وَسموا أنفسم التوابين وَخَرجُوا لذَلِك يقدمهم سُلَيْمَان بن صُرَد الْخُزَاعِيّ وَجَمَاعَة مَعَه من خِيَار أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه وَكَانَ ابْن زِيَاد قد انْتقض عَلَيْهِ الْعرَاق فلحق بِالشَّام وَنزل منبج قَاصِدا الْعرَاق فزحفوا إِلَيْهِ وقاتلوه حَتَّى قتل سُلَيْمَان وَكثير من أَصْحَابه كَمَا ذكرنَا فِيمَا تقدم وَذَلِكَ سنة خمس وَسِتِّينَ ثمَّ خرج الْمُخْتَار بن أبي عبيد ودعا لمُحَمد بن الْحَنَفِيَّة كَمَا قَدمته وَفَشَا التعصب لأهل الْبَيْت فِي الْخَاصَّة والعامة بِمَا خرج بهم عَن حُدُود الْحق وَاخْتلفت مَذَاهِب الشِّيعَة فِيمَن هُوَ أحقُّ بِالْأَمر من أهل الْبَيْت وبايعَتْ كل طَائِفَة لصَاحِبهَا سرا ورسخ الْملك لبني أُميَّة فطوى هَؤُلَاءِ الشِّيعَة قُلُوبهم على عقائدهم فِيهَا وتستروا بهَا مَعَ تعدُد فرقهم وَكَثْرَة اخْتلَافهمْ وَسَار زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَقَرَأَ على وَاصل بن عَطاء إِمَام الْمُعْتَزلَة فِي وقته وَكَانَ وَاصل يتَرَدَّد فِي إِصَابَة عَليّ فِي حَرْب الْجمل وصفين فلقن ذَلِك عَنهُ وَكَانَ أَخُوهُ مُحَمَّد الباقر يعذله فِي الْأَخْذ عَمَّن يرى تخطئة جده وَكَانَ زيد أَيْضا مَعَ قَوْله بأفضلية عَليّ على الصَّحَابَة يرى أَن بيعَة الشَّيْخَيْنِ صَحِيحَة وَأَن إِمَامَة الْمَفْضُول جَائِزَة خلاف مَا عَلَيْهِ الشِّيعَة وَيرى أَنَّهُمَا لم يظلما عليا(3/357)
ثمَّ دَعَتْهُ الْحَال إِلَى الْخُرُوج بِالْكُوفَةِ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَاجْتمعَ لَهُ عَامَّة الشِّيعَة وَرجع عَنهُ بَعضهم لما سَمِعُوهُ يثني على الشَّيْخَيْنِ وأنهما لم يظلما عليا وَقَالُوا لَهُ لم يظلمك هَؤُلَاءِ فَرَفَضُوا دَعوته وَقَالُوا نَحن نرفضك إذنْ فَقَالَ اذْهَبُوا فَأنْتم الرافضة فسموا الرافضة من أجل ذَلِك ثمَّ قَاتل يُوسُف بن عمر فَقتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى هِشَام بن عبد الْملك وصلب شلوه بالكناسة وَلحق ابْنه يحيى بخراسان فَأَقَامَ بهَا ثمَّ دَعَتْهُ شيعته إِلَى الْخُرُوج فَخرج هُنَاكَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة فسرح إِلَيْهِ نصر بن سيار العساكر فَقَتَلُوهُ وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْوَلِيد وصلب شلوه بالجوزجان وانقرض شَأْن الزيدية هُنَالك وَأقَام الشِّيعَة على شَأْنهمْ وانتظارِ أمرِهم والدعاة لَهُم فِي النواحي على الْإِجْمَال للرضا من أهل الْبَيْت وَلَا يصرحون بِمن يدعونَ لَهُ حذرا عَلَيْهِ من أهل الدولة وَكَانَت شيعَة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة أَكثر شيعَة أهل الْبَيْت وَكَانُوا يرَوْنَ أَن الْأَمر بعد مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة لِابْنِهِ أبي هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد وَكَانَ يَعْنِي أَبَا هَاشم عبد الله ابْن مُحَمَّد كثيرَاً مَا يفد على سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَمر فِي بعض أَسْفَاره بِمُحَمد ابْن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بمنزله بالحميمة من أَعمال البلقاء فَنزل عَلَيْهِ وأدركه الْمَرَض عِنْده فَمَاتَ وَأوصى لَهُ بِالْأَمر وَقد كَانَ أعلم شيعته بالعراق وخرسان أَن الْأَمر صائر إِلَى ولد مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا وَهُوَ وَالِد إِبْرَاهِيم والسفاح فَلَمَّا مَاتَ أَبُو هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قصدت الشِّيعَة مُحَمَّد بن عَليّ وَبَايَعُوهُ سرا وَبعث الدعاة مِنْهُم إِلَى الْآفَاق على رَأس مائَة من الْهِجْرَة أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز وأجابه عَامَّة أهل خرسان وَبعث عَلَيْهِم النُّقَبَاء وتداول أَمرهم هُنَالك فَتوفي مُحَمَّد سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة وعهد لِابْنِهِ إِبْرَاهِيم وَأوصى الدعاة بذلك وَكَانُوا يسمونه الإِمَام ثمَّ بعث أَبَا مُسلم الخرساني إِلَى أهل دَعوته بخرسان لقوم فيهم بأَمْره وَكتب إِلَيْهِم بولايته وَذَلِكَ فِي دولة مَرْوَان بن مُحَمَّد المنبوز بالحمار فعثر مَرْوَان على كتاب من إِبْرَاهِيم الإِمَام إِلَى أبي مُسلم الخرساني فَأمر عَامله على دمشق أَن يَأْمر عَامل البلقاء بِالْقَبْضِ على إِبْرَاهِيم الإِمَام فَقبض عَلَيْهِ وأوثقه شدُّاً وَأرْسل بِهِ إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد فحبسه بحران ثمَّ قَتله كَمَا قدمنَا ذكر ذَلِك قَرِيبا وَملك أَبُو مُسلم خُرَاسَان وزحف إِلَى الْعرَاق(3/358)
فملكها وغلبوا بني أُميَّة على أَمرهم وانقرضت دولتهم فَقَامَتْ دولة بني الْعَبَّاس وَهَذِه الدولة من دوَل الشِّيعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ وفرقتها مِنْهُم يعْرفُونَ بالكيسانية وهم الْقَائِلُونَ بإمامة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة بعد عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ بعده ابْنه هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد ثمَّ بعده مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بوصيته كَمَا ذَكرْنَاهُ إِلَى ابْنه إِبْرَاهِيم الإِمَام ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس ثمَّ من بعده إِلَى أَخِيه أبي الْعَبَّاس عبد الله السفاح وَهُوَ عبد الله بن الحارثية هَكَذَا مساقها عِنْد هَؤُلَاءِ الكيسانية قلت قَالَ المَسْعُودِيّ هَذِه نِسْبَة إِلَى كيسَان وَهُوَ الْمُخْتَار بن أبي عبيد الثَّقَفِيّ فَإِن اسْمه كيسَان وَإِنَّمَا نسبوا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أول من دَعَا لمُحَمد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ ابْن خلدون ويسمون أبضا الخرمانية نِسْبَة إِلَى أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي لِأَنَّهُ كَانَ يلقب خرمان ولبني الْعَبَّاس أَيْضا شيعَة يسمون الرواندية من أهل خُرَاسَان يَزْعمُونَ أَن أَحَق النَّاس بِالْإِمَامَةِ بعد النَّبِي
عَمه الْعَبَّاس لِأَنَّهُ وَارثه وعاصبه لقَوْله تَعَالَى {وَأولوُا اَلأَرحَامِ بَعضهُمْ أَولىَ بِبَعْض فِي كِتاب الله} الْأَنْفَال 75 وَالنَّاس منعُوهُ من حَقه فِي ذَلِك وظلموه إِلَى أَن رده الله إِلَى وَلَده ويذهبون إِلَى البراءه من الشَّيْخَيْنِ وَعُثْمَان ويجيزون بيعَة عَليّ لِأَن الْعَبَّاس قَالَ لَهُ يَا ابْن أخي هَل أُبَايِعك فَلَا يخْتَلف عَلَيْك اثْنَان وَلقَوْل دَاوُد بن عَليّ على مِنْبَر الكزفة يَوْم بُويِعَ السفاح يَا أهل الْكُوفَة إِنَّه لم يقم فِيكُم إِمَام بعد رَسُول الله
إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب وَهَذَا الْقَائِم فِيكُم يَعْنِي السفاح قَالَ فِي الإشاعة لأشراط السَّاعَة فِي أماراتها الْبَعِيدَة وَمِنْهَا دولة بني الْعَبَّاس عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سَمِعت رَسُول الله
يَقُول إِذا أَقبلت رايات ولد الْعَبَّاس من عقبات خُرَاسَان جَاءُوا بنعي الْإِسْلَام فَمن سَار تَحت لوائهم لم تنله شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْحِيلَة(3/359)
وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَوْصُولا مَالِي ولبني الْعَبَّاس شيعوا أمتِي أَي صيروهم شيعَاً وفرقاً وسفكوا دماءها ولبسوا ثِيَاب السوَاد ألبسهم الله ثِيَاب النَّار رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذممهم كَثِيرَة فَلَا نطول بذكرها فَمن الْفِتَن الْوَاقِعَة فِي زمانهم قتال أهل الْمَدِينَة وَقتل مُحَمَّد النَّفس الزكية ابْن عبد الله الْمَحْض ابْن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط وَقتل أَخِيه إِبْرَاهِيم بن عبد الله وَحبس أَبِيهِمَا عبد لله الْمَحْض حَتَّى مَاتَ فِي السجْن وَقتل جمَاعَة كَثِيرَة من العلويين وَحبس الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق فِي زمن الْمَنْصُور وَمَوْت الإِمَام مُوسَى الكاظم فِي الْحَبْس بالسم فِي زمن الرشيد هَارُون وَإِدْخَال الفلسفة فِي الْإِسْلَام ونصرة أهل الاعتزال وتكليف الْعلمَاء على القَوْل بِخلق الْقُرْآن وقتلُ كثير مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك فِي زمن الْمَأْمُون وضربُ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي زَمَنه وزمنِ أَخِيه المعتصم وَابْنه الواثق وَلم تتفق فِي زمانهم الْكَلِمَة وَلم تصف لَهُم الْخلَافَة وَأَكْثَرهم أدعياء وَمِنْهُم ظلمَة فسقة وَأحسن من فيهم المتَوَكل لِأَنَّهُ أول من رَجَعَ(3/360)
عَن الاعتزال وَنصر السّنة لكنه كَانَ فِي التعصب على جَانب عَظِيم بِحَيْثُ إِنَّه هَدَمَ(3/361)
قبر الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَجعله مزرعة وَمنع النَّاس من زيارته وَقد قَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك من // (الْكَامِل) //
(تاللَّهِ إِنْ كانَتْ أميةُ قد أَتَتْ ... قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبيهَا مَظْلُومَا)
(فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بمثْلِهِ ... هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا)
(أَسِفُوا على ألاَّ يَكُونُوا شَارَكُوا ... فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رميِمَا)
وَقَالَ آخر من // (الْكَامِل) //
(تاللَّهِ مَا فَعَلَتْ عُلُوجُ أميَّةٍ ... مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بنُو العَبَّاسِ)
نعم كَانَ الْمُهْتَدي مِنْهُم زاهداً ناسكاً يتأسى بعمر بن عبد الْعَزِيز فِي هَدْيه لكنه قتل بعد سنة وَلم تطل أَيَّامه
(خلَافَة أبي الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد السفاح)
قد قدمت كَيفَ كَانَ أصل هَذِه الدعْوَة وظهورها بخراسان على يَد أبي مُسلم عبد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِي ثمَّ اسْتِيلَاء شيعتهم على خُرَاسَان وَالْعراق ثمَّ قتل مَرْوَان ابْن مُحَمَّد ببوصير بُويِعَ للسفاح هَذَا بالخلافة يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَفِي المسامرة بُويِعَ فِي الْكُوفَة يَوْم الْخَمِيس وَمن غَد يَوْم الْجُمُعَة لعشرين خلت من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة بُويِعَ بيعَة الْعَامَّة وَهُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم ابْن عبد منَاف بن قصي السفاح الْمَشْهُور بِابْن الحارثية كَانَ أَصْغَر من أَخِيه الْمَنْصُور أبي جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد كَانَ كَرِيمًا جواداً وَفِي كتاب قلادة النَّحْر لأبي مخرمَة مَا حصل فِي زَمَانه بَينه وَبَين الطالبين من الْأَشْرَاف شَيْء وَلَا قَامَ عَلَيْهِ أحد مِنْهُم بل قربهم وَأحسن إِلَيْهِم وَكَانَت الْمحبَّة صَافِيَة بَينهم وَقَامَ بِأَمْر الدولة العباسية أَبُو مُسلم الخرساني وتأطدت لَهُ الْأَعْمَال(3/362)
من الشرق إِلَى الغرب وَحصل عِنْده برد النَّبِي
وَأما الْقَضِيب والمخصرة فَإِن مَرْوَان بن مُحَمَّد لما تَيَقّن بِالْقَتْلِ دفنهما حسداً فَدلَّ عَلَيْهِمَا غُلَام فأخرجهما عَامر ابْن إِسْمَاعِيل الْمذْحِجِي الدَّاخِل على مَرْوَان الْكَنِيسَة وَأرْسل بهما إِلَى السفاح وَاسم أمه ريطة بنت عبيد الله من ذُرِّيَّة حَارِث بن مَالك بن ربيعَة وَلذَلِك يُقَال السفاح ابْن الحارثية وَكَانَ بَنو أُميَّة يمْنَعُونَ بني هَاشم من نِكَاح الحارثيات لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَن زَوَال ملكهم على يَد ابْن حارثية فَلَمَّا ولي الْخلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز أَتَاهُ مُحَمَّد بن عَليّ وَالِد السفاح فَقَالَ أُرِيد أَتزوّج ابْنة خَالِي من بني الْحَارِث فتأذن لي فَقَالَ لَهُ عمر تزوج من شِئْت فَتزَوج ريطة الْمَذْكُورَة فأولدها السفاح فانتقلت الحلافة إِلَيْهِ يفعل الله مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد لَا راد لقضائه وَلَا مَانع لحكمه وَلما اسْتَقر السفاح فِي الْخلَافَة خرج عَلَيْهِ بعض أشياع بني أُميَّة وقوادهم وَكَانَ أول من نقض عَلَيْهِ حبيب بن مرّة المري من قواد مَرْوَان كَانَ بحوران والبلقاء خَافَ على نَفسه وَقَومه فَخلع وبيض وَمَعْنَاهُ لبس الْبيَاض وَنصب الرَّايَات الْبيض مُخَالفَة لشعار العباسية فِي ذَلِك وَتَابعه قيس وَمن يليهم والسفاح يَوْمئِذٍ بِالْحيرَةِ فزحف إِلَيْهِ عبد الله بن عَليّ عَم السفاح وبينما هُوَ فِي محاربته بلغه الْخَبَر بِأَن الْورْد مجزأَة بن الْكَوْثَر بن زفر بن الْحَارِث الْكلابِي نقض بِقِنِّسْرِينَ وَكَانَ من قواد مَرْوَان فَلَمَّا انهزم مَرْوَان وَقدم عَليّ عبد الله بن عَليّ بَايعه وَدخل فِي دَعْوَة العباسيين وَكَانَ ولد مسلمة بن عبد الْملك مجاورين لَهُ ببالس فَبعث بهم وبنسائهم الْقَائِد الَّذِي جَاءَهُ من قبل عبد الله بن عَليّ وَشَكوا ذَلِك إِلَى أبي الْورْد فَقتل الْقَائِد وخلع مَعَه أهل قنسرين وكاتبوا أهل حمص فِي الْخلاف وَقدمُوا عَلَيْهِم أَبَا مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَقَالُوا هُوَ السفياني الَّذِي يذكر وَلما بلغ ذَلِك عبد الله بن عَليّ وادع حبيب بن مرّة وَسَار إِلَى أبي الْورْد بِقِنِّسْرِينَ وَمر بِدِمَشْق فخلف بهَا أَبَا غَانِم عبد الحميد بن ربعي الطَّائِي فِي أَرْبَعَة آلَاف فَارس مَعَ حرمه وأثقاله وَسَار إِلَى حمص فَبَلغهُ أَن أهل دمشق خلعوا وبيضوا وَأَقَامُوا فيهم عُثْمَان بن عبد الْأَعْلَى الْأَزْدِيّ وَأَنَّهُمْ هزموا أَبَا غَانِم وَعَسْكَره وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وانتهبوا مَا خَلفه عبد الله بن عَليّ عِنْدهم فَأَعْرض عَن ذَلِك وَسَار(3/363)
للقاء السفياني وَأبي الْورْد وَقدم أَخَاهُ عبد الصَّمد فِي عشرَة آلَاف فانكشف وَرجع إِلَى أَخِيه عبد الله بن عَليّ مُنْهَزِمًا فزحف عبد الله فِي جمَاعَة القواد ولقيهم بمرج الآخرم وهم فِي أَرْبَعِينَ ألفا فَانْهَزَمُوا وَثَبت أَبُو الْورْد فِي خَمْسمِائَة من قومه فَقتلُوا جَمِيعًا وهرب أَبُو مُحَمَّد إِلَى تدمر وراجع أهل قنسرين طَاعَة العباسية وَرجع عبد الله بن عَليّ إِلَى قتال أهل دمشق وَمن مَعَهم فهرب عُثْمَان بن عبد الْأَعْلَى وَدخل أهل دمشق فِي الدعْوَة وَبَايَعُوا لعبد الله بن عَليّ وَلم يزل أَبُو مُحَمَّد السفياني بِأَرْض الْحجاز متغيباً إِلَى أَيَّام الْمَنْصُور فَقتله زِيَاد بن عبد الْحَارِثِيّ عَامل الْحجاز يَوْمئِذٍ للمنصور وَبعث رَأسه إِلَى الْمَنْصُور مَعَ ابْنَيْنِ لَهُ أسيرين فأطلقهما الْمَنْصُور ثمَّ خلع أهل الجزيرة وبيضوا وَكَانَ السفاح بعث إِلَيْهَا ثَلَاثَة آلَاف من جنده مَعَ مُوسَى بن كَعْب من قواده وأزالهم بحران وَكَانَ إِسْحَاق بن مُسلم الْعقيلِيّ عَامل مَرْوَان على أرمينية فَلَمَّا بلغته هزيمَة مَرْوَان سَار عَنْهَا وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أهل الجزيرة وحاصروا مُوسَى بن كَعْب بحران شَهْرَيْن فَبعث السفاح أَخَاهُ أَبَا جَعْفَر إِلَيْهِم وَكَانَ محاصراً لِابْنِ هُبَيْرَة بواسط فَسَار لقِتَال إِسْحَاق بن مُسلم وَهُوَ بقرقيسيا والرقة وَقد خلعوا وبيضوا وَسَار نَحْو حران فأجفل إِسْحَاق بن مُسلم عَنْهَا وَدخل الرهَا وَبعث أَخَاهُ بكار بن مُسلم إِلَى قبائل ربيعَة بنواحي ماردين وَرَئِيسهمْ يَوْمئِذٍ بريكة من الحرورية فصمد أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور فَهَزَمَهُمْ وَقتل بريكة فِي المعركة وَانْصَرف بكار إِلَى أَخِيه إِسْحَاق فخلفه إِسْحَاق بالرها وَسَار إِلَى سميساط وَجَاء عبد الله بن عَليّ فحاصره ثمَّ جَاءَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور فحاصروه سَبْعَة أشهر وَهُوَ يَقُول لَا أَخْلَع الْبيعَة من عنقِي حَتَّى أتيقن مَوتَ صَاحبهَا يَعْنِي مَرْوَان بن مُحَمَّد فَلَمَّا تَيَقّن مَوته طلب الْأمان فَاسْتَأْذنُوا السفاح فَأَمرهمْ بتأمينه وَخرج إِسْحَاق بن مُسلم إِلَى أبي جَعْفَر فَكَانَ من آثر أَصْحَابه وخواصه قلت لله أَبُو إِسْحَاق بن مُسلم هَذَا مَا أوقفهُ عِنْد عقده وأوفاه بميثاقه وَعَهده واستقام أهل الجزيرة وَالشَّام وَولى السفاح أَخَاهُ أَبَا جَعْفَر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى جَاءَتْهُ الْخلَافَة بعد وَفَاة أَخِيه السفاح وَلَقَد صدق من قَالَ من // (الْكَامِل) //(3/364)
(لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرفيعُ مِنَ الأذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ)
ذكر ابْن الْأَثِير أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور لما أمره أَخُوهُ السفاح بحصار ابْن هُبَيْرَة أحد الناقضين عَلَيْهِ حاصره بواسط وَكَانَ ابْن هُبَيْرَة خَنْدَق على نَفسه فَقَالَ أَبُو جَعْفَر إِن ابْن هُبَيْرَة يخندق على نَفسه كالنساء فَبلغ ذَلِك ابْن هُبَيْرَة فَأرْسل إِلَى أبي جَعْفَر يَقُول أَنْت الَّذِي تَقول كَذَا وَكَذَا فابرز إِلَيّ لترى فَأرْسل إِلَيْهِ الْمَنْصُور لم أجد لي وَلَك مثل فِي ذَلِك إِلَّا كالأسدِ لَقِي خنزيراً فَقَالَ لَهُ الْخِنْزِير بارزني فَقَالَ لَهُ الْأسد مَا أَنْت لي بكفء فَإِن بارزتك ونالني مِنْك سوء كَانَ عارا عَليّ وَإِن قَتلك قتلت خِنْزِير فَلم أحصل على حمد وَلَا فِي قَتْلِي إياك فَخر فَقَالَ لَهُ الْخِنْزِير إِن لم تبارزني لأُعرفن السبَاع أَنَّك جبنت عني فَقَالَ لَهُ الْأسد احْتِمَال عَار كَذبك أيسر من تلطخ براثني بدمك قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي دوَل الْإِسْلَام لما صلى السفاح بِالنَّاسِ أول جُمُعَة خطب فَقَالَ فِي خطبَته الْحَمد لله الَّذِي اصْطفى الْإِسْلَام لنَفسِهِ فكرمه وشرفه وعظمه وَاخْتَارَهُ لنا وأيده بِنَا وَجَعَلنَا أَهله وكهفه وحصنه والقوام بِهِ والذابين عَنهُ ثمَّ ذكر قرابتهم فِي آيَات الْقُرْآن إِلَى أَن قَالَ فَلَمَّا قبض الله نبيه قَامَ بِالْأَمر أَصْحَابه إِلَى أَن وثب بَنو حَرْب ومروان فجاروا واستأثروا فأملى الله لَهُم حينا حَتَّى آسفوه فانتقم مِنْهُم بِأَيْدِينَا ورد علينا حَقنا ليمن بِنَا على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض وَختم بِنَا كَمَا افْتتح بِنَا وَمَا توفيقنا أهل الْبَيْت إِلَّا بِاللَّه يَا أهل الْكُوفَة أَنْتُم مَحل محبتنا ومنزل مودتنا لم تفتروا عَن ذَلِك وَلم يثنيكم عَنهُ تحامل أهل الْجور فَأنْتم أسعد النَّاس بِنَا وَأكْرمهمْ علينا وَلَقَد زِدْت فِي عطياتكم مائَة مائَة(3/365)
فَاسْتَعدوا فَأَنا السفاح الْمُبِيح والثائر المبير وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة اسْتَأْذن أَبُو مُسلم الخرساني السفاح فِي الْقدوم عَلَيْهِ للحجِّ وَكَانَ مُنْذُ ولي خُرَاسَان لم يفارقها فَأذن لَهُ فِي الْقدوم بِخَمْسِمِائَة من الْجند فَكتب إِلَيْهِ أَبُو مُسلم إِنِّي قد وترت النَّاس وَلَا آمن على نَفسِي فَأذن لَهُ فِي ألف وَقَالَ إِن طَرِيق مَكَّة لَا يحْتَمل الْعَسْكَر فَسَار فِي ثَمَانِيَة آلَاف فرقهم مَا بَين نيسابور والري وَخلف موَالِيه وخزائنهُ بِالريِّ وَقدم فِي ألف وَخرج القواد بِأَمْر السفاح لتلقيه وَدخل على السفاح فَأكْرمه وأعظمه وَاسْتَأْذَنَ فِي الْحَج فَأذن لَهُ وَقَالَ لَوْلَا أَن أَبَا جَعْفَر يُرِيد الحجَ لاستعملتك على الْمَوْسِم وأنزله بِقُرْبِهِ وَكَانَ قد كتب إِلَى أبي جَعْفَر إِن أَبَا مُسلم استأذنني فِي الْحَج فأذنتُ لَهُ وَهُوَ يُرِيد ولَايَة الْمَوْسِم فاسألني أَنْت فِي الْحَج فَلَا يطْمع أَن يتقدمك فَقدم أَبُو جَعْفَر إِلَى الأنبار وَكَانَ بَين أبي جَعْفَر وَأبي مُسلم من حِين بعث السفاح أَبَا جَعْفَر إِلَى خُرَاسَان ليَأْخُذ عَلَيْهِ الْبيعَة لَهُ وَلأبي جَعْفَر من بعده وَتَوَلَّى أَبُو مُسلم على خُرَاسَان شَيْء فاستخف أَبُو مُسلم إِذْ ذَاك بِأبي جَعْفَر فَلَمَّا قدم أَبُو جَعْفَر الآَن أغرى السفاح بقتل أبي مُسلم فَأذن لَهُ فِي قَتله ثمَّ نَدم فكفه عَن ذَلِك وَسَار أَبُو جَعْفَر إِلَى الْحَج وَمَعَهُ أَبُو مُسلم وَفِي كتاب الأذكياء لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ حِكَايَة طريفة عَن خَالِد بن صَفْوَان التَّمِيمِي أَنه دخل على أبي الْعَبَّاس السفاح وَلَيْسَ عِنْده أحد فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي وَالله مَا زلت مذ قلدك الله تَعَالَى خِلَافَته أطلب أَن أصير إِلَى مثل هَذِه الْخلْوَة فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْمر بإمساك الْبَاب حَتَّى أفرغ فعل فَأمر السفاح الْحَاجِب بذلك فَقَالَ ابْن صَفْوَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي فَكرت فِي أَمرك وأجلت فكري فِيك فَلم أر أحدا لَهُ قدرَة واتساع فِي الِاسْتِمْتَاع بِالنسَاء مثلك وَلَا أضيق فِيهِنَّ عَيْشًا إِنَّك ملكت نَفسك امْرَأَة من نسَاء الْعَالمين فقصرت نَفسك عَلَيْهَا فَإِن مَرضت مَرضت وَإِن غَابَتْ غبت وَحرمت نَفسك التَّلَذُّذ باستطراف الْجَوَارِي(3/366)
وَمَعْرِفَة أخلاقهن والتلذذ بِمَا يَشْتَهِي مِنْهُنَّ فَإِن مِنْهُنَّ الطَّوِيلَة الَّتِي تشْتَهي لجسمها والبيضاء الَّتِي تحب لروعتها والسمراء اللعساء والصفراء الذهبية ومولدات الْمَدِينَة والطائف واليمامة ذَوَات الألسن العذبة وَالْجَوَاب الْحَاضِر وَبَنَات الْمُلُوك وَمَا يَشْتَهِي من نضارتهن ولطافتهن وتخلل خَالِد لِسَانه فأطنب فِي صِفَات ضروب الْجَوَارِي وشوقه إلَيْهِنَّ فَلَمَّا فرغ من كَلَامه قَالَ السفاح وَيلك مَلَأت مسامعي مَا أشغل خاطري مَا سلك فِيهَا أحسن من هَذَا فأعدْ على كلامك فقد وَقع مني موقعا فَأَعَادَ خَالِد بِأَحْسَن مِمَّا ابتدأه فَقَالَ لَهُ السفاح انْصَرف فَانْصَرف وَبَقِي السفاح مفكراً فَدخلت عَلَيْهِ أم سَلمَة وَزَوجته وَكَانَ قد حلف ألاَ يتَّخذ مَعهَا سَرِيَّة ووفى فَقَالَت إِنِّي أنْكرت مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَهَل حدث شَيْء أَو أَتَاك خبر ارتعت لَهُ قَالَ لَا فَلم تزل بِهِ حَتَّى أخْبرهَا بمقالة خَالِد فَخرجت إِلَى مواليها وأمرتهم بِضَرْب خَالِد قَالَ خَالِد فَخرجت من الدَّار مَسْرُورا بِمَا ألقيت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم أَشك فِي الصِّلَة فَبَيْنَمَا أَنا وَاقِف إِذْ أَقبلُوا يسْأَلُون عني فحققت الْجَائِزَة فَقلت لَهُم هَا أَنا فَاسْتَبق أحدهم بخشبة فغمزت برذوني فلحقني وَضرب عجز البرذون وركضت فيهم واستخفيت فِي منزلي أَيَّامًا وَوَقع فِي قلبِي أَنِّي أتيت من أم سَلمَة فَبينا أَنا ذَات يَوْم جَالس فِي الْمنزل لم أشعر إِلَّا بقومٍ قد هجموا عَليّ فَقَالُوا أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَسبق فِي قلبِي أَنه الْمَوْت فَقلت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون لم أر دم شيخ أضيع من دمي وَركبت إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَصَبْته جَالِسا ولحظت فِي الْمجْلس بَيْتا عَلَيْهِ ستور رقاق وَسمعت حسا من خلف السّتْر فأجلسني ثمَّ قَالَ ويجك يَا خَالِد وصفت لي صفة فأعدها عَليّ فَقلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعلمتك أَن الْعَرَب إِنَّمَا اشْتقت اسْمَ الضرتين من الضَّرَر وَأَن أحدا لم يكن عِنْده من النِّسَاء أَكثر من وَاحِدَة إِلَّا كَانَ فِي ضُر وتنغيص فَقَالَ السفاح لم يكن هَذَا من كلامك أَولا قلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمتك أَن الثَّلَاث من النِّسَاء يدخلنَ على الرجل الْبُؤْس ويشيبن الرَّأْس فَقَالَ السفاح برئتُ من رَسُول الله
إِن كنت سَمِعت هَذَا مِنْك أَو مر فِي حَدِيثك لي قلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأخبرتك أَن الْأَرْبَع من النِّسَاء شَر مَجْمُوع لصَاحبه(3/367)
يشبنه ويهرمنه قَالَ اسفاح لَا وَالله مَا سَمِعت هَذَا مِنْك أَولا قلت بلَى وَالله فَقَالَ السفاح أتكذبني قلت فتقتلني نعم وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أبكار الْإِمَاء رجال إِلَّا أَنه لَيْسَ لَهُنَّ خصي قَالَ خَالِد فَسمِعت ضحكاً من خلف السّتْر ثمَّ قلت وَالله وأخبرتك أَن عنْدك رَيْحَانَة قِرْش وَأَنت تطمح بِعَيْنَيْك إِلَى النِّسَاء والجواري فَقيل لي من وَرَاء السّتْر صدقتَ وَالله يَا عماه بِهَذَا حدثته وَلكنه غير حَدِيثك ونطق بِمَا فِي خاطره عَن لسَانك فَقَالَ السفاح مَالك قَاتلك الله قَالَ خَالِد فانسللت وَخرجت فَبعثت لي أم سَلمَة بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وبرذون وتخت ثِيَاب وَقَالَت الزم مَا سمعناه مِنْك ويروى أَنه سهر ذَات لَيْلَة وَعِنْده أنَاس من مُضر وَفِيهِمْ خَالِد بن صَفْوَان بن أهتم التَّمِيمِي الْمَذْكُور وناس من الْيمن فيهم إِبْرَاهِيم بن مخرمَة الْكِنْدِيّ فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس هاتوا فافعلوا ليلتنا بمحادثتكم فَبَدَأَ إِبْرَاهِيم بن مخرمَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أخوالك هم النَّاس وهم الْعَرَب الأول الَّذين كَانَت لَهُم الدُّنْيَا وَكَانَت لَهُم الْيَد الْعليا مَا زَالُوا ملوكاً وأربابا تداولوا الرياسة كَابِرًا عَن كَابر وَآخر عَن أول يلبس آخِرهم سرابيل أَوَّلهمْ يعْرفُونَ الْحَمد ومآثر الْحَمد مِنْهُم النعمانان والحمادان والقابوسان وَمِنْهُم غسيل الْمَلَائِكَة ومَنِ اهتز لمَوْته الْعَرْش وَمِنْهُم مُكَلم الذِّئْب وَمن كَانَ يَأْخُذ كل سفينة غصبَاً وَيجْرِي فِي كل نائية نهبَاً وَمِنْهُم أَصْحَاب التيجان وكماة الفرسان لَيْسَ من نبل وَإِن عظم خطره وَعرف أَثَره من فرس رائع أَو سيف قَاطع أَو مجن واق أَو درع حَصِينَة أَو درة مكنونةَ إِلَّا وهم أَرْبَابهَا وأصحابها إِن حل صيف قروه وَإِن سَأَلَهُمْ سَائل أَعْطوهُ لَا يبلغهم مُكَاثِر وَلَا يطاولهم مطاول وَلَا مفاخر فَمن مثلهم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْبَيْت يمَان وَالْحجر يمَان والركن يمَان وَالسيف يمَان فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مَا أرى مُضر تَقول بِقَوْلِك هَذَا وَمَا أَظن خَالِدا يرضى بِمَا ذكرت فَقَالَ خَالِد إِن أذن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأمنت الموجدة تَكَلَّمت فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس تكلم وَلَا ترهب أحدا فَقَالَ خَالِد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ خَابَ الْمُتَكَلّم وَأَخْطَأ المقتحم إِذْ قَالَ بِغَيْر علم(3/368)
ونطق بِغَيْر صَوَاب أَو يفخر على مُضر وَمِنْهُم النَّبِي
وَالْخُلَفَاء من أهل بَيته وَهل أهل الْيمن إِلَّا دابغ جلد أَو قَائِد قرد أَو حائك برد دلّ عَلَيْهِم هدهد وغرقهم جرذ وملكتهم أم ولد وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا لَهُم أَلْسِنَة فصيحة وَلَا سنة صَحِيحَة وَلَا حجَّة تدل على كتاب وَلَا يعْرفُونَ بهَا صَوَاب وَإِنَّهُم لبإحدى الخصلتين إِن جازوا قصدُوا مَا أكلُوا وَإِن حادوا عَن حكمنَا قتلوا ثمَّ الْتفت إِلَى الْكِنْدِيّ فَقَالَ أتفخر بالفرس الراِئع وَالسيف الْقَاطِع والترس الواقي والدرع الحصينة وَأَشْبَاه ذَلِك أَفلا تَفْخَر بأكرم الْأَنَام وَخَيرهمْ مُحَمَّد
فالمن من الله عز وَجل عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم من أَتْبَاعه وأشياعه فمنا نَبِي الله الْمُصْطَفى وَخَلِيفَة الله المرتضى وَلنَا السؤدد والعلا وَفينَا الْعلم والحجا وَلنَا الشّرف الْمُقدم والركن الْأَعْظَم وَالْبَيْت المكرم والجناب الْأَخْضَر وَالْعدَد الْأَكْثَر والعز الْأَكْبَر وَلنَا الْبَيْت الْمَعْمُور والمشعر الْمَشْهُور والسقف الْمَرْفُوع وزمزم وبطحاؤها وجبالها وصحراؤها وحياضها وغياضها وأحجارها وأعلامها ومنابرها وسقايتها وحجابها وسدنة بَيتهَا فَهَل يعدلنا عَادل أَو يبلغ فخرنا قَائِل وَمنا أعظم النَّاس عبد الله بن عَبَّاس أعلم الْبشر الطّيبَة أخباره الْحَسَنَة آثاره وَمنا الْوَصِيّ وَذُو النورين وَمنا الصّديق والفاروق وَمنا أَسد الله وَأسد رَسُوله سيد الشُّهَدَاء حَمْزَة وَمنا ذُو الجناحين جَعْفَر الطيار وَمنا الكماة والفرسان وَمنا الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء وَمنا عرف الدّين وَمن عندنَا أَتَاكُم الْيَقِين فَمن زاحمنا وزحمناه وَمن عَادَانَا اصطلمناه وَمن فاخرنا فخرناه وَمن بدل سنتنا قَتَلْنَاهُ ثمَّ الْتفت إِلَى الْكِنْدِيّ فَقَالَ كَيفَ علمك بلغات قَوْمك قَالَ إِنِّي بهَا عَالم فَقَالَ مَا الجمحة فِي لغتكم قَالَ الْعين قَالَ فَمَا المبزم قَالَ السن قَالَ فَمَا الشناتر قَالَ الْأَصَابِع قَالَ فَمَا الصنبارة قَالَ الْأذن قَالَ فَمَا الْقُلُوب قَالَ الذِّئْب قَالَ فَمَا الزب قَالَ اللِّحْيَة قَالَ أفتقرأ كتاب الله تَعَالَى قَالَ نعم قَالَ فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءانا عَرَبيا} يُوسُف 2 وَقَالَ {بلِسَانٍ عَرَبي مُبين} الشُّعَرَاء 195 وَقَالَ جلّ ذكره {وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قوَمِه} إِبْرَاهِيم 4 فَقَالَ عز وَجل {السن بِالسِّنِّ وَالْعين بِالْعينِ} الْمَائِدَة 45 وَلم يقل الجحمة بالجحمة(3/369)
وَقَالَ {يجعَلوُنَ أَصاَبِعهُم فِي آذَانهم} الْبَقَرَة 19 وَلم يقل شناترهم فِي صنابرهم وَقَالَ {وَالسِّنَّ بِاَلسِّن} الْمَائِدَة 45 وَلم يقل المبزم بالمبزم وَقَالَ {فَأكَلَهُ الذِّئْب} وسف 17 وَلم يقل أكله الْقُلُوب وَقَالَ {لَا تَأخذْ بِلِحيتَي} طه 94 وَلم يقل بزبي وَإِنِّي سَائِلك يَا ابْن مخرجة عَن ثَلَاث خِصَال فن أَقرَرت بهَا قهرت وَإِن جحدتها كفرت قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ أتعلم أَن فِينَا نَبِي الله الْمُصْطَفى
قَالَ اللَّهُمَّ نعم قَالَ أفتعلم أَن فِينَا كتاب الله الْمنزل قَالَ اللَّهُمَّ نعم قَالَ أفتعلم أَن فِينَا خَليفَة الله المرتضى قَالَ اللَّهُمَّ نعم قَالَ فَأَي شَيْء يعدل هَذِه الْخِصَال قَالَ أَبُو الْعَبَّاس اكفف عَنهُ فوَاللَّه مَا رَأَيْت غَلَبَة قطّ أنكَرَ مِنْهَا وَالله مَا فرغت من كلامك يَا أَخا مُضر حَتَّى توهمتُ أَنه سيعرَجُ بسريري إِلَى السَّمَاء ثمَّ أَمر لخَالِد بِمِائَة ألف دِرْهَم وَفِي ابْن خلكان أَن السفاح نظر يَوْمًا إِلَى الْمرْآة وَكَانَ من أجمل النَّاس وجهَاً فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُول كَمَا قَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَلَكِنِّي أَقُول اللَّهُمَّ عمرني طَويلا فِي طَاعَتك ممتعَاً بالعافية فَمَا استتم كَلَامه حَتَّى سمع غُلَاما يَقُول لآخر الْأَجَل بيني وَبَيْنك شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام فتطير من كَلَامه وَقَالَ حسبي الله وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَبِه استعنت فَمَا مَضَت الْمدَّة الْمَذْكُورَة حَتَّى أَخَذته الْحمى وَمرض فَمَاتَ بعد شَهْرَيْن وَخَمْسَة أَيَّام بالجدري بالأنبار مدينته الَّتِي بناها وسماها الهاشمية وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَقيل ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَمُدَّة خِلَافَته أَربع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وولادته سنة خمس وَمِائَة وَكَانَ أَبيض مليحَاً جميلا حسن اللِّحْيَة والهيئة(3/370)
(خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور)
هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَخُو السفاح عبد الله الْمُتَقَدّم قبله كَانَ السفاح ولاَه الْحَج سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمَات السفاح فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا فَأَتَاهُ الْخَبَر وَهُوَ عَائِد من الْحَج وأتته الْخلَافَة بمكانٍ يعرف بالصافية فَقَالَ صفا أمرنَا وَكَانَ السفاح قد عهد قبل مَوته بالخلافة لِأَخِيهِ أبي جَعْفَر وَمن بعده لعيسى ابْن أخيهما مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَجعل الْعَهْد فِي ثوب وختمه بخواتيم أهل الْبَيْت وَدفعه إِلَى عِيسَى وَلما توفّي السفاح وَكَانَ أَبُو جَعْفَر بِمَكَّة حَاجا أَخذ لَهُ الْبيعَة على النَّاس عِيسَى بن مُوسَى وَكتب إِلَيْهِ بالْخبر فجزع واستدعى أَبَا مُسلم وَكَانَ قد حج مَعَه كَمَا تقدَم ذكره فَأَقْرَأهُ الْكتاب فَبكى أَبُو مُسلم واسترجَعَ وسكَّن أَبَا جَعْفَر عَن الْجزع وَبَايع لَهُ أَبُو مُسلم وَالنَّاس وأقبلا حَتَّى اقدما الْكُوفَة وَيُقَال إِن أَبَا مُسلم كَانَ فِي رُجُوعه من مَكَّة مُتَقَدما على أبي جَعْفَر وَأَن الْخَبَر أَتَاهُ قبله فَكتب إِلَيْهِ يعزيه ويهنيه بالخلافة وَبعد يَوْم كتب لَهُ ببيعته فَلَمَّا قدم أَبُو جَعْفَر الْكُوفَة سَار مِنْهَا إِلَى الأنبار فَسلم إِلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى بيُوت الْأَمْوَال والدواوين واستقام أَمر أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ ابْن خلدون تولى أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور الْخلَافَة فِي أول سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَكَانَ أول مَا فعل أَن قتل أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي صَاحب دعوتهم وممهد دولتهم وَذَلِكَ لما كَانَ أَبُو مُسلم يستخف بِأبي جَعْفَر من حِين بَعثه السفاح إِلَى خُرَاسَان ليَأْخُذ الْبيعَة لَهُ وَلأبي جَعْفَر من بعده كَمَا ذكرت آنفَاً ولأمور أخر حدثت عَن أبي مُسلم مِنْهَا أَنه لما حج مَعَه كَانَ يُؤثر نَفسه على الْمَنْصُور ويتقدم بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوُفُود وَإِصْلَاح الطَّرِيق والمياه وَكَانَ الذّكر لَهُ وَلما صَدرا(3/371)
عَن الْمَوْسِم تقدم ولقيه الْخَبَر بوفاةَ السفاح قبل الْمَنْصُور فَبعث إِلَى أبي جَعْفَر يعزيه وَلم يهنئه بالخلافة وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَا انتظره فَغَضب أَبُو جَعْفَر وَكتب إِلَيْهِ وَأَغْلظ فِي العتاب فَكتب إِلَيْهِ يهنئه بالخلافة وَتقدم إِلَى الأنبار قبل أبي جَعْفَر ودعا عِيسَى بن مُوسَى أَن يُبَايع لَهُ فَأبى عِيسَى لِأَن عَهده إِنَّمَا هُوَ بعد موت الْمَنْصُور فَأَرَادَ أَبُو مُسلم رفع الْخلَافَة عَن أبي جَعْفَر إِلَى عِيسَى فَامْتنعَ عَسى وَقدم أَبُو جَعْفَر وَقد كَانَ عَم الْمَنْصُور عبد اللِّه بن عَليّ الَّذِي كَانَ تولى قتال مَرْوَان ابْن مُحَمَّد خلع طَاعَة الْمَنْصُور وَبَايع لنَفسِهِ وَقَالَ إِن السفاح حِين أَرَادَ أَن يبْعَث الْجنُود إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد تكاسل عَنهُ بَنو أَبِيه فَقَالَ لَهُم من انتدب مِنْكُم فَهُوَ ولي عهدي فَلم ينتدب غَيْرِي وسرت إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد وَشهد لَهُ أَبُو حَاتِم الطَّائِي وخفاف المروروذي وَغَيرهمَا من القواد وَبَايَعُوهُ وَكَانَ قد ظفر من أَمْوَال بني أُميَّة بِمَا لَا يحصَى من ذخائر وَبِمَا لَا يستقصى فسرح أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي إِلَى قتال عَمه عبد الله بن عَليّ الْمَذْكُور فَهَزَمَهُ وَجمع الْغَنَائِم من عسكره فَبعث أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مَوْلَاهُ أَبَا الخصيب لجمعها فَغَضب أَبُو مُسلم وَقَالَ أَنا أَمِين على الدُّعَاء فَكيف أخون الْأَمْوَال وهم بقتل أبي الخصيب ثمَّ خلى عَنهُ وخَشِيَ الْمَنْصُور أَن يمْضِي أَبُو مُسلم إِلَى خُرَاسَان فَكتب لَهُ بِولَايَة الشَّام فازداد نفاراً وَخرج من الجزيرة يُرِيد خُرَاسَان وَسَار أَبُو جَعْفَر إِلَى الْمَدَائِن وَكتب إِلَى أبي مُسلم يستقدمه فَأَجَابَهُ بالامتناع والتمسك بِالطَّاعَةِ عَن بُعدٍ والتهديد بِالْخلْعِ إِن طلب سوى ذَلِك فَبَقيَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور حائراً بعد أَن هَم بقتْله بَين الاستبداد بِرَأْيهِ فِي أَمر أبي مُسلم وَبَين الاستشارة فِيهِ فَقَالَ يَوْمًا لسلم بن قُتَيْبَة مَا ترى فِي أبي مُسلم فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا فَقَالَ الْمَنْصُور حَسبك يَابْنَ قُتَيْبَة لقد أودعتها أذنا وَاعِيَة ثمَّ كتب الْمَنْصُور إِلَى أبي مُسلم يُنكر عَلَيْهِ هَذَا الشَّرْط وَأَنه لَا يحسن مَعَه طَاعَة وَبعث إِلَى عِيسَى بن مُوسَى برسالة يؤانسه وَقيل بل كتب إِلَيْهِ أَبُو مُسلم يعرض لَهُ بِالْخلْعِ وَأَنه تَابَ إِلَى الله مِمَّا جناه من الْقيام بدعوتهم وَأخذ أَبُو مُسلم طَرِيق حلوان وَأمر الْمَنْصُور ابْن عَمه عِيسَى بن مُوسَى فِي مشيخة بني هَاشم بِكِتَاب إِلَى(3/372)
أبي مُسلم يحرضونَهُ على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ ويحذرونه عَاقِبَة الْبَغي ويأمروته بِالرُّجُوعِ وَبعث الْكتاب مَعَ مَوْلَاهُ حميد المروروذي وَأمره بملاينته والخشوع لَهُ بالْقَوْل حَتَّى ييأس مِنْهُ فَإِذا يئس من مُوَافَقَته يُخبرهُ بقسم أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا وكلت أَمرك إِلَى غَيْرِي وَلَو خضت الْبَحْر لخضته وَرَاءَك وَلَو اقتحمت النَّار لاقتحمتها حَتَّى أَقْتلك أَو أَمُوت فأوصل حميد الْكتب وتلطف لَهُ فِي القَوْل مُؤمنا واحتجَ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي التحريض على طاعتهم فَاسْتَشَارَ أَبُو مُسلم مَالك بن الْهَيْثَم فَأبى لَهُ من الإصغاء إِلَى القَوْل وَقَالَ وَالله لَئِن أَتَيْته ليقتلنك ثمَّ بعث أَبُو مُسلم إِلَى ميزك صَاحب الرّيّ يستشيره فَأبى لَهُ من ذَلِك وَأَشَارَ عَلَيْهِ بنزول الرّيّ وخراسان من وَرَائه ليَكُون أمكن لسلطانه فَأجَاب أَبُو مُسلم حميدَاً رَسُول أبي جَعْفَر بالامتناع فَلَمَّا يئس حميد مِنْهُ أبلغه مقَالَة الْمَنْصُور فَوَجَمَ طَويلا ورعب من ذَلِك القَوْل وأكبره وَكَانَ الْمَنْصُور قد كتب إِلَى عَامل أبي مُسلم بخراسان يرغبه فِي الانحراف عَنهُ بِولَايَة خُرَاسَان فَأجَاب سرا وَكتب إِلَى أَبُو مُسلم بخراسان يحذرهُ الْخلاف وَالْمَعْصِيَة فزاده على ذَلِك رعْبًا وَقَالَ لحميد قبل انْصِرَافه قد كنت عزمت على الْمُضِيّ إِلَى خُرَاسَان ثمَّ رَأَيْت أَن أوجه أَبَا إِسْحَاق إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يأتيني بِرَأْيهِ فَإِنِّي أَثِق بِهِ فَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا قدم أَبُو إِسْحَاق تَلقاهُ بَنو هَاشم وَأهل الدولة بِكُل مَا يحب وداخله الْمَنْصُور فِي صرف أبي مُسلم عَن وجهة خُرَاسَان ووعده بولايتها فَرجع أَبُو إِسْحَاق إِلَى أبي مُسلم وَأَشَارَ عَلَيْهِ بلقاء الْمَنْصُور فاعتزم على ذَلِك واستخلف مَالك بن الْهَيْثَم بعسكره بحلوان وَقدم الْمَدَائِن على الْمَنْصُور فِي ثَلَاثَة آلَاف وخشي أَبُو أَيُّوب وَزِير الْمَنْصُور أَن يحدث مِنْهُ عِنْد قدومه فتك فَدَعَا بعض إخوانه وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يَأْتِي أَبَا مُسلم ويتوسل بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فِي ولَايَة كسكر يُصِيب فِيهَا مَالا عَظِيما وَأَن يُشْرك أَخَاهُ فِي ذَلِك وَيجْعَل ذَلِك أَبُو مُسلم فِي حَوَائِجه وَأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عازم على أَن يوليه مَا وَرَاء بَابه وَينْزع نَفسه وَاسْتَأْذَنَ لَهُ المنصورَ فِي لِقَاء أبي مُسلم فَأذن لَهُ فلقي ذَلِك الْبَعْض أَبَا مُسلم وتوسل إِلَيْهِ وَأخْبرهُ الْخَبَر فطابت نَفسه وَذهب عَنهُ الْحزن واستبشر بتولية الْمَنْصُور إِيَّاه مَا وَرَاء بَابه(3/373)
وَلما قرب أَبُو مُسلم أَمر الْوَزير أَبُو أَيُّوب النَّاس بتلقيه ثمَّ دخل على الْمَنْصُور فَقبل يَده ثمَّ انْصَرف ليريح ليلته ودعا الْمَنْصُور من الْغَد حَاجِبه عُثْمَان بن نهيك وَأَرْبَعَة من الحرس مِنْهُم شبيب بن واج وَأَبُو حنيفَة حَرْب بن قيس وأجلسهم خلف الرواق وَأمرهمْ بقتل أبي مُسلم إِذا صفق بيدَيْهِ واستدعى أَبَا مُسلم فَلَمَّا دخل سَأَلَهُ عَن سيفين أصابهما لِعَمِّهِ عبد الله بن عَليّ وَكَانَ أَبُو مُسلم مُتَقَلِّدًا أَحدهمَا فَقَالَ أَبُو مُسلم هَذَا أَحدهمَا فَقَالَ الْمَنْصُور أرنيه فانتضاه أَبُو مُسلم وناوله إِيَّاه فَأخذ يقلبه بِيَدِهِ ويهزه ثمَّ وَضعه تَحت فرَاشه وَأَقْبل يعاتبه فَقَالَ كتبتَ إِلَى السفاح تنهاه عَن الْموَات كَأَنَّك تعلمه فَقَالَ أَبُو مُسلم ظَنَنْت أَنه لَا يحل ثمَّ اقتديتُ بِكِتَاب السفاحِ وعلمتُ أَنكُمْ مَعْدن الْعلم قَالَ فتقدمك عني بطرِيق مَكَّة فَقَالَ كرهت مزاحمتك على المَاء قَالَ فامتناعُكَ عَن الرُّجُوع إِلَيّ حِين بلغك موت السفاح وامتناعك عَن الْإِقَامَة حَتَّى ألحقك قلت قد تقدَم أَن أَبَا مُسلم حَال عودهما من الْحَج كَانَ مُتَقَدما على الْمَنْصُور فَبَلغهُ خبر موت السفاح قبله وَلم يرجع إِلَى الْمَنْصُور للتعزية والتهنئة لَهُ بالخلافة وَلم يقمْ فِي مَكَانَهُ إِلَى أَن يصل إِلَيْهِ الْمَنْصُور بل استمرَّ سائراً حَتَّى دخل الْكُوفَة قبله فَلذَلِك يؤنبه بذلك فَقَالَ أَبُو مُسلم طلبت الرِّفْق بِالنَّاسِ والمبادرة إِلَى الْكُوفَة قَالَ فجارية عمي عبد الله أردتَ أَن تتخذها لنَفسك قَالَ لَا وَإِنَّمَا وكلْتُ بهَا من يحفظها قَالَ فمراغمتك وسيرك إِلَى خُرَاسَان قَالَ خفت مِنْك فَقلت آتِي خُرَاسَان وأكتُبُ بعذري فَأذْهب مَا فِي نَفسك مني قَالَ فَالْمَال الَّذِي جمعته بحران قَالَ أنفقته على الْجند تَقْوِيَة لكم قَالَ أَلَسْت الْكَاتِب إليَّ تبدأُ بِنَفْسِك وتخطب آمِنَة بنت عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وتزعم أَنَّك من ذُرِّيَّة سليط بن عبد الله بن عَبَّاس لقد ارتقيت لَا أُمَ لَك مرتقى صعبَاً ثمَّ قَالَ لَهُ وَمَا الَّذِي دعَاك إِلَى قتل سُلَيْمَان بن كثير مَعَ أَثَره فِي دَعوتنَا وَهُوَ أحد نقبائنا من قبل أَن ندخلك فِي هَذَا الْأَمر قَالَ أَرَادَ الْخلَافَة فَقتلته ثمَّ قَالَ أَبُو مُسلم كَيفَ يُقَال لي هَذَا بعد بلائي وَمَا كَانَ مني قَالَ يَا ابْن الخبيثة لَو كَانَت أَمَة مَكَانك لأغْنَتْ إِنَّمَا ذَاك بدولتنا وريحنا فأكب أَبُو مُسلم قبل يَدي الْمَنْصُور وَيعْتَذر فازداد الْمَنْصُور(3/374)
غَضبا فَقَالَ أَبُو مُسلم دع هَذَا فقد أَصبَحت لَا أَخَاف إِلَّا الله وَحده فشتمه الْمَنْصُور وصفَّق بِيَدِهِ فَخرج الحرس وضربه عُثْمَان بن نهيك فَقطع علابيه قَالَ أَبُو مُسلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ استبقني لعدوك فَقَالَ لَا أبقاني الله إِذن وَأي عَدو أعدى مِنْك وَأَخذه الحرس بسيوفهم حَتَّى قَتَلُوهُ وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَخرج الْوَزير أَبُو الجهم فصرف النَّاس والجند وَقَالَ الْأَمِير قَائِل عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فانصرفوا وَأمر لَهُم بالجوائز وأعطَى أَبَا إِسْحَاق مائَة ألف وَدخل عِيسَى بن مُوسَى على الْمَنْصُور بعد قَتله فَسَأَلَهُ عَنهُ وَأخذ فِي الثَّنَاء على طَاعَته وبلائه وَذكر رَأْي الإِمَام إِبْرَاهِيم فِيهِ فَقَالَ الْمَنْصُور وَالله لَا أعلم على وَجه الأَرْض عدوا أعدى لكم مِنْهُ هُوَ ذَا فِي الْبسَاط فَاسْتَرْجع عِيسَى فَأنْكر عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَقَالَ وَهل كَانَ لكم ملك مَعَه ثمَّ دخل على الْمَنْصُور جَعْفَر بن حَنْظَلَة فَاسْتَشَارَ فِي قتل أبي مُسلم فَأَشَارَ بقتْله فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور وفقك الله ثمَّ نظر إِلَيْهِ قَتِيلا فَقَالَ عُدَ خلافتك من هَذَا الْيَوْم ثمَّ دَعَا أَبَا إِسْحَاق وعذله على مُتَابعَة أبي مُسلم وَقَالَ تكلم بِمَا أردْت وَأخرجه قَتِيلا فَسجدَ أَبُو إِسْحَاق ثمَّ رفع رَأسه يَقُول الْحَمد لله الَّذِي آمنني بك وَالله مَا جِئْته قَطُّ إِلَّا وتكفنْتُ وتحنطْتُ وَرفع ثِيَابه وَأرَاهُ كَفنه وحنوطه فرحمه الْمَنْصُور وَقَالَ اسْتقْبل طَاعَتك وَاحْمَدْ الله الَّذِي أراحك وَكتب الْمَنْصُور بعد قتل أبي مُسلم إِلَى نصر بن الْهَيْثَم الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ أَبُو مُسلم على خُرَاسَان حَال سيره إِلَى الْمَنْصُور كتابَاً على لِسَان أبي مُسلم يَأْمُرهُ بِحمْل أثقاله وَقد كَانَ أَبُو مُسلم أوصاه إِن جَاءَك كتابي بخاتمي تَاما فَاعْلَم أَنِّي لم أكتبه فَلَمَّا رَآهُ نصر بن الْهَيْثَم كَذَلِك فطنَ وَانْحَدَرَ إِلَى همذان يُرِيد خُرَاسَان فَكتب لَهُ الْمَنْصُور بوالية شهرزور وَكتب إِلَى زُهَيْر بن التركي بهمذان بِحَبْس نصر فَمر نصر بهمذان وخادعه زُهَيْر وَدعَاهُ إِلَى طَعَامه وحبسه وَجَاء كتاب الْعَهْد بشهرزور لنصر فَأَطْلقهُ زُهَيْر ثمَّ جَاءَهُ بعد ذَلِك كتاب فَقَالَ جَاءَنِي كتاب عَهده فخليت سَبيله ثمَّ قدم نصر على الْمَنْصُور فعذله فِي استشارته على أبي مُسلم بالامتناع من السّير إِلَيْهِ فَقَالَ نصر نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اصطنعني فنصحتُ لَهُ وَإِن(3/375)
اصطنعني أَمِير الْمُؤمنِينَ نصحت وشكرت فَاسْتَعْملهُ الْمَنْصُور على الْموصل ثمَّ أقبل الْمَنْصُور على من حضر وَأَبُو مُسلم طريح بَين يَدَيْهِ وأنشده من // (السَّرِيع) //
(زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يُقَتَضَى ... فَاسْتَوْفِ بالكَيْلِ أَبَا مُجْرِمِ)
(إِشْرَبْ بِكَأْسٍ كُنْتَ تَسْقِي بِهَا ... أَمَرَّ فِي الحَلْقِ مِنَ العَلْقَمِ)
وَكَانَ يُقَال لَهُ أَبُو مُجرم وَفِيه يَقُول أَبُو دلامة من // (الطَّوِيل) //
(أَبَا مُجْرِمٍ مَا غَيَّرَ الله نعمَةً ... على عَبْدِهِ حَتَّى يغيِّرَهَا العَبْدُ)
(أَفِي دَوْلَةِ المنْصُورِ حاوَلْتَ غدرةَ ... أَلا إِن أهْلَ الغَدْرِ آباؤُكَ الكُرْدُ)
(أَبَا مجرِمٍ خَوَّفْتَنِي القَتْلَ فانْتَحَى ... عليكَ بِمَا خوفْتنِي الأَسَدُ الوَرْدُ)
وَلما قَتله الْمَنْصُور خطب النَّاس فَذكر أَن أَبَا مُسلم أحسن أَولا وأساء آخرا ثمَّ قَالَ فِي آخر خطبَته وَمَا أحسن قَول النَّابِغَة الذبياني للنعمان بن الْمُنْذر من // (الْبَسِيط) //
(فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ ... كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلى الرَّشَدِ)
(وَمَنْ عَصَاكَ فعاقبْهُ معاقبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تقَعُدْ على ضَمَدِ)
الضمد بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم الحقد وَفِي ابْن خلكان وَغَيره كَانَ أَبُو مُسلم قد سمع الحَدِيث وروى عَنهُ وَأَنه خطب يَوْمًا فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ مَا هَذَا السوَاد الَّذِي أرى عَلَيْك فَقَالَ أَبُو مُسلم حَدثنِي أَبُو الزبير عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن النَّبِي
دخل مَكَّة يَوْم الْفَتْح وعَلى رَأسه عِمَامَة سَوْدَاء وَهَذِه ثِيَاب الهيبة وَثيَاب الدولة يَا غُلَام اضْرِب عُنُقه قلت حَدِيث جَابر هَذَا فِي صَحِيح مُسلم وَمن ثمَّ كَانَ شعار بني الْعَبَّاس فِي الْخطْبَة السَّوْدَاء وَكَانَ أَبُو مُسلم فصيحَاً عَالما بالأمور شجاعاً فاتكاً وَلم يُرَ قطّ مازحاً وَلَا يظْهر عَلَيْهِ سرُور وَلَا غضب وَلَا يَأْتِي النِّسَاء إِلَّا مرّة وَاحِدَة فِي السّنة وَكَانَ يَقُول(3/376)
النِّكَاح جنونٌ وَيَكْفِي الْعَاقِل أَن يجن فِي السّنة إِلَّا مرّة وَاحِدَة وأحصى من قَتله أَبُو مُسلم صبرَاً وَفِي حروبه فَكَانُوا سِتّمائَة ألف ونيفاً وَفِي المحاسن قَالَ قَالَ ابْن الْمعَافي لأبي مُسلم أَيهَا الْأَمِير لقد قُمْت بأمرِ لَا يقصر بك ثَوَابه عَن الْجنَّة فِي إِقَامَة دولة بني الْعَبَّاس فَقَالَ خوفي من النَّار وَالله أولى من طمعي فِي الْجنَّة إِنِّي أطفأت من بني أُميَّة جَمْرَة وألهبت من بني الْعَبَّاس نيراناً فَإِن أفرح بالإطفاء فواحسرتا من الإلهاب وَحدث أَبُو نميلَة عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت أَبَا مُسلم بِعَرَفَات يَقُول فِي الْموقف باكياً اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوب إِلَيْك مِمَّا أَظن أَنَّك لن تغفره لي فَقلت أَيهَا الْأَمِير أيعظم على الله تَعَالَى غفران ذَنْب فَقَالَ إِنِّي نسجت ثوبَاً من الظُّلم لَا يبْلى مَا دَامَت الدولة لبني الْعَبَّاس فكم صارخٍ وصارخةٍ تلعنني عِنْد تفاقم هَذَا الْأَمر فَكيف يغْفر الله تَعَالَى لمن هَذَا الْخلق خصماؤه انْتهى وَاخْتلف فِي نسبته فَقيل من الْعَرَب وَقيل من الْعَجم وَقيل من بني أُميَّة وَقيل من الأكراد وَقيل لَهُ مَا كَانَ سَبَب خُرُوج الدولة عَن بني أُميَّة فَقَالَ لأَنهم أبعدوا أصدقاءهم ثِقَة بهم وأدنوا أعداءهم تألفاً لَهُم فَلم يصر الْعَدو صديقا بالتأليف وَصَارَ الصّديق عدوا بالإبعاد وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْأمَوِي الْمُسَمّى بالداخل لِأَنَّهُ أول من دخل الْمغرب فَدخل الأندلس وَاسْتولى عَلَيْهَا وامتدت أَيَّامه وَبقيت الأندلس فِي يَد أَوْلَاده إِلَى بعد الأربعمائة وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا من أهل الْعلم وَالْعدْل وَكَانَت سيرته حميدة فِي الدّين وَكَانَ يُجَاهد الْكفَّار على إعلاء كلمة الدّين فَقيل للْإِمَام مَالك بن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِن بالمغرب ملكا قَائِما بالشرائع يلبس الصُّوف وَيَأْكُل الشّعير ويجاهد أَعدَاء الدّين من الْمُشْركين المجاورين لَهُ فَقَالَ مَا أحْوج بَلْدَتنَا إِلَى وَاحِد مثله تتزين بِهِ فوصلت كلمة مَالك إِلَيْهِ بالأندلس فَجمع النَّاس فِي مَمْلَكَته ونادى(3/377)
أَلا يدان إِلَّا بِمذهب مَالك فَمن ثمَّ كَانَ أهل الْمغرب على مَذْهَب الإِمَام مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ سمع الْمَنْصُور بذلك فحصلت مِنْهُ إساءة إِلَى الإِمَام مَالك بِسَبَب ذَلِك القَوْل وَأمه بربرية وَكَذَلِكَ أم الْمَنْصُور فَكَانُوا يَقُولُونَ ملك الدُّنْيَا ابْنا بربريتين الْمَنْصُور وَعبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة هَذَا وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة حج الْمَنْصُور فَنزل فِي دَار الندوة وَكَانَ يخرج فيطوفُ سحرًا بِالْبَيْتِ فَخرج ذَات لَيْلَة فَبَيْنَمَا هُوَ يطوف إِذْ سمع قَائِلا يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع فهرول الْمَنْصُور حَتَّى مَلأ مسامعه ثمَّ رَجَعَ إِلَى دَار الندوة وَقَالَ لصَاحب الشرطة إِن بِالْبَيْتِ رجلا يطوف صفته كَذَا فائتني بِهِ فَخرج فَوجدَ رجلا عِنْد الرُّكْن الْيَمَانِيّ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَنْصُور مَا الَّذِي سَمِعتك آنِفا تشكوه إِلَى الله تَعَالَى من ظُهُور الْبَغي وَالْفساد إِلَى آخِره فوَاللَّه لقد حشوتَ مسامعي مَا أَمْرَضَنِي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الَّذِي دخله الطمع وَحَال بَين الْحق وَأَهله أنتَ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور وَيحك كَيفَ يدخلني طمع والصفراء والبيضاء ببابي وَملك الأَرْض فِي قبضتي فَقَالَ الرجل سُبْحَانَ الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهل دخل أحدا من الطمع مَا دَخلك إِن الله تَعَالَى استرعاك أُمُور الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فأهملت أُمُورهم واهتممت بِجمع أَمْوَالهم واتخذت بَيْنك وَبينهمْ حجابَاً من الجص والآَجُر وحجبة تمنعهم الْبَلَاغ وَأمرت أَلا يدْخل عَلَيْك إِلَّا فلَان وَفُلَان ثمَّ استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك وَلم تَأمر بإيصال الْمَظْلُوم وَلَا الجائع وَلَا العاري وَلَا أحد إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حَق فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ الَّذين استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك تجمَعُ الأموالَ وَلَا تقسمها قَالُوا هَذَا قد خَان الله وَرَسُوله فمالنا لَا نخونه فَاجْتمعُوا على أَلا يصل إِلَيْك من أَمْوَال النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا فصاروا شركاءك فِي سلطانك وَأَنت غافل عَنْهُم وَإِذا جَاءَ الْمَظْلُوم إِلَى بابك وَجدك قد أوقفت ببابك رجل ينظر فِي الْمَظَالِم فَإِن كَانَ الظَّالِم من بطانتك علل الْمَظْلُوم وسوف بِهِ من وَقت إِلَى وَقت(3/378)
فَإِذا اجْتهد وَظَهَرت أنتَ فَصَرَخَ بَين يَديك ضرب ضربَاً مبرحاً ليَكُون نكالا لغيره وَأَنت ترى ذَلِك فَلَا تنكره وَلَقَد كَانَت الْخُلَفَاء من قبلك إِذا انْتَهَت إِلَيْهِم الظلامة أزيلَتْ فِي الْحَال وَلَقَد كنت أسافر إِلَى الصين فقدمتُ مرّة إِلَيْهِ فَوجدت الْملك الَّذِي بِهِ فَقَدَ سَمْعَهُ فَبكى فَقَالَ وزراؤه مَا يبكيك فَقَالَ مَا بَكَيْت لمصيبة نزلت بِي إِنَّمَا أبْكِي لمظلوم يصْرخ بِالْبَابِ فَلَا أسمعهُ ثمَّ قَالَ إِن ذهب سَمْعِي فَلم يذهب بَصرِي نادوا فِي النَّاس لَا يلبس أحد أَحْمَر إِلَّا مَظْلُوما وَكَانَ يركب الْفِيل وَيذْهب فِي الْبَلَد لعلَه يجد لابس ثوب أَحْمَر فينصفه فَهَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رجل مُشْرك بِاللَّه غلبت رأفته على شح نَفسه بالمشركين فَكيف بك وَأَنت مُؤمن بِاللَّه وَابْن عَم رَسُول الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا يجمع المَال لإحدى ثَلَاث إِن قلتَ إِنَّمَا أجمع المَال للْوَلَد فقد أَرَاك الله عِبْرَة فِي الطِّفْل إِذْ يسْقط من بطن أمه وَلَيْسَ لَهُ على وَجه الأَرْض من مَال وَمَا من مَال إِلَّا ودونه يَد شحيحة تحويه فَلم يزل لطف الله تَعَالَى بذلك الطِّفْل حَتَّى تعظم رَغْبَة النَّاس فِيهِ وحوى مَا حوته تِلْكَ الْيَد الشحيحة وَلست بِالَّذِي تُعْطِي وَإِنَّمَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المعطِي وَإِن قلت إِنَّمَا أجمعه لمصيبة تنزل بِي فقد أَرَاك الله تَعَالَى عِبْرَة فِي الْمُلُوك والقرون الَّذين خلو من قبلك مَا أغْنى عَنْهُم مَا أعدُّوا من الْأَمْوَال والذخائر والكُرَاع حِين أَرَادَ الله تَعَالَى مَا أَرَادَ وَإِن قلت إِنَّمَا أجمعه لغاية هِيَ أحسن من الْغَايَة الَّتِي أَنْت فِيهَا فوَاللَّه مَا فَوق غايتك إِلَّا منزلَة لَا تدْرك إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالح فَبكى الْمَنْصُور بكاء شديدَاً ثمَّ قَالَ كَيفَ أعمل والعلماءُ قد فرَتْ مني والصالحون لم يدخلُوا عَليّ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ افْتَحْ الْبَاب وانتصر للمظلوم من الظَّالِم وَخذ المَال مِمَّا حل واقسمه بِالْحَقِّ وَالْعدْل وَأَنا ضَامِن من هرب مِنْك أَن يعود إِلَيْك ثمَّ خرج الرجل فَقَامَ الْمَنْصُور للصَّلَاة فَلَمَّا صلى طلب الرجل فَلم يجده فَذهب إِلَيْهِ الشرطي فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن الْيَمَانِيّ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الرجل لَيْسَ إِلَى ذَلِك سَبِيل قَالَ الشرطي إذنْ يضْرب عنقِي قَالَ لَا وَلَا إِلَى ضرب عُنُقك سَبِيل ثمَّ أخرج وَرقا مكتوبَاً فَقَالَ خُذْهُ مَعَك فَإِن فِيهِ دُعَاء الْفرج وَذكر لَهُ فضلا عَظِيما فَأَخذه الشرطي وأتى إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا رَآهُ قَالَ وَيحك(3/379)
أتحسن السحر قَالَ لَا وَالله ثمَّ قصّ عَلَيْهِ الْقِصَّة فَأمر الْمَنْصُور بنقله وَأمر للشرطي بِأَلف دِينَار وَهُوَ هَذَا اللَّهُمَّ كَمَا لطفت فِي عظمتك وقدرتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمتَ مَا تَحت أَرْضك كعلمك بِمَا فَوق عرشك فَكَانَت وساوس الصُّدُور عنْدك كالعلانية وَعَلَانِيَة القَوْل كالسر فِي علمك فانقاد كل شَيْء لعظمتك وخضع كل ذِي سُلْطَان لسلطانك وَصَارَ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كُله بِيَدِك اجْعَل لي من كل هم وغم أصبحتُ أَو أمسيتُ فِيهِ فرجَاً ومخرجاً اللَّهُمَّ إِن عفوك عَن ذُنُوبِي وتجاوزك عَن خطيئتي وسترك على قَبِيح عَمَلي أطمعني أَن أَسأَلك مَا لَا أستوجبه مِنْك بهما قصرت فِيهِ فصرت أَدْعُوك آمنَاً وَأَسْأَلك مستأنساً فَإنَّك المحسن وَأَنا الْمُسِيء إِلَى نَفسِي فِيمَا بيني وَبَيْنك تتودد إليَ بنعمتك وأتبغض إِلَيْك بِالْمَعَاصِي وَلَكِن الثِّقَة بك حَملتنِي على الجرأة عَلَيْك فَعُدِ اللَّهُمَّ بِفَضْلِك وإحسانك عَليّ إِنَّك أَنْت الرءوف الرَّحِيم وَكَانَ هَذَا الرجل هُوَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا الدُّعَاء مَشْهُور بِأَنَّهُ دُعَاء الْخضر وَهُوَ عَظِيم الْفَوَائِد جم العوائد وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة بني مَدِينَة بَغْدَاد سَببهَا ثورة الرواندية عَلَيْهِ بالهاشمية وَلِأَنَّهُ كَانَ يكره أهل الْكُوفَة وَلَا يَأْمَن على نَفسه مِنْهُم فتجافى عَن جوارهم وَسَار إِلَى مَكَان بَغْدَاد الْيَوْم وَجمع من كَانَ هُنَاكَ من البطارقة وسألهم عَن أَحْوَالهم ومواضعهم فِي الْحر وَالْبرد والمطر والوحل والهوام واستشارهم فأشاروا عَلَيْهِ بمكانها وَقَالُوا تجيئك الْميرَة فِي السفن من الشَّام والرقة ومصر وَالْمغْرب إِلَى الصراة وَمن الصين والهند وَالْبَصْرَة وواسط وديار بكر وَالروم والموصل فِي دجلة وَمن أرمينية وَمَا اتَّصل بهَا من تامراً تتصلُ بالزاب يَعْنِي نهر الْموصل وَأَنت بَين أَنهَار كالخنادق لَا تعبر إِلَّا على القناطر والجسور وَإِذا قطعتها لم يكن لعدوك مطمع فِي أَرْضك وَأَنت متوسط بَين الْبَصْرَة والكوفة وواسط والموصل قريب من الْبر وَالْبَحْر والجبل فشرع الْمَنْصُور فِي عمارتها وَكتب إِلَى الشَّام والكوفة وواسط وَالْبَصْرَة فِي الصناع والفعلة وَاخْتَارَ من ذَوي الْفضل وَالْعَدَالَة والعفة وَالْأَمَانَة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذَلِك وَأمر بخطها بالرماد فشكلَت(3/380)
أَبْوَابهَا وفصلاتها وطاقاتها ونواحيها وَجعل على الرماد حب الْقطن فأضرم نَارا ثمَّ نظر إلِيِها وَهِي تشتعل فَعرف رسمها وَأمر أَن تحفر الأسوس على ذَلِك الرَّسْم ووكل بهَا أَرْبَعَة من القواد يتَوَلَّى كل وَاحِد مِنْهُم نَاحيَة ووكل الإِمَام الْأَعْظَم أَبَا حنيفَة بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ بِعَد الآجُر وَاللَّبن وَقد كَانَ أَرَادَهُ على الْقَضَاء والمظالم فَأبى فَحلف أَلا يقْلع عَنهُ حَتَّى يعْمل لَهُ عملا فَكَانَ هَذَا وأْمر الْمَنْصُور أَن يكون عرض أساس السُّور من أَسْفَله خمسين ذراعَاً وَمن أَعْلَاهُ عشْرين ذِرَاعا وَوضع بِيَدِهِ أول لبنة وَقَالَ بِسم الله وَالْحَمْد لله وَالْأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين ثمَّ قَالَ ابْنُوا على بركَة الله وَاسْتَشَارَ خَالِدا الْبَرْمَكِي فِي نقض الْمَدَائِن وإيوان كسْرَى فَإِنَّهُ بِالْمَدَائِنِ فَقَالَ لَا أرى لَك لِأَنَّهُ من آثَار الْإِسْلَام وفتوح الْعَرَب وَفِيه مصلى عَليّ بن أبي طَالب فاتهمه الْمَنْصُور بعصبية الْعَجم لِأَن خَالِدا أَصله من الْعَجم وَأمر بِنَقْض الْقصر الْأَبْيَض فَإِذا الَّذِي ينْفق عَلَيْهِ أَكثر من الثّمن الْجَدِيد فأقصر الْمَنْصُور عَنهُ فَقَالَ لَهُ خَالِد أما الْآن فَلَا أرى إقصارك عَنهُ لِئَلَّا يُقَال عجزوا عَن هدم مَا بناه غَيرهم وَالْهدم أيسَرُ من الْبناء فَأَعْرض عَنهُ وَنقل الْأَبْوَاب إِلَى بَغْدَاد من وَاسِط وَمن الشَّام وَمن الْكُوفَة وَجعل الْمَدِينَة مُدَوَّرَة وَجعل قصره وَسطهَا ليَكُون النَّاس مِنْهُ على حد سَوَاء وَجعل الْمَسْجِد الْجَامِع إِلَى جنب الْقصر وَجعل لَهَا سورين والداخل أَعلَى من الْخَارِج وَكَانَ زنة اللَّبن الَّذِي يَبْنِي بِهِ كل لبنة مائَة رَطْل وَسَبْعَة عشر رطلا وطولها ذِرَاع فِي ذِرَاع وَكَانَ مِقْدَار النَّفَقَة عَلَيْهَا بالجامع وَالْقصر والسورين والفنادق والأبواب والأسواق أَرْبَعَة آلَاف ألف وَثَمَانمِائَة ألف وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين توطأت الممالك كلهَا للمنصور وجلت هيبته فِي النُّفُوس ودانت لَهُ الْأَمْصَار وَلم يبْق خَارِجا عَنهُ سوى جَزِيرَة الأندلس فَإِنَّهُ غلب عَلَيْهَا عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام كَمَا قدمت ذكره وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين فرغ من بِنَاء بَغْدَاد وَفِي سنة خمسين بني الرصافة وشيدها وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين ألزم الْمَنْصُور رَعيته لبس القلانس الطوَال وَكَانُوا يعملونها بالقصب وَالْوَرق ويلبسونها فَقَالَ أَبُو دلامة فِي ذَلِك من // (الطَّوِيل) //(3/381)
(وَكُنَّا نرجِّي من إمامٍ زِيَادَة ... فَزَاد الإمَامُ المصطَفَى فِي القَلَانِسِ)
(تَرَاهَا على هَامِ الرجالِ كَأَنَّهَا ... زُنَارُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بِالبَرَانِسِ)
وَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مهيباً سفاكَاً ذَا دهاءِ وحزمِ وتدبيرِ لأمور الرّعية وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الصمت وعَلى ظَاهر أَحْوَاله الصّلاح أمه يُقَال لَهَا سَلامَة بربرية يُقَال إِنَّهَا قَالَت لما حملت بِهِ رأيتُ كَأَن أسداً خرج مني فأقعى وزأر وَضرب بذيله الأَرْض فَأَقْبَلت إِلَيْهِ الْأسود من كل نَاحيَة فَكلما انْتهى أَسد مِنْهَا إِلَيْهِ سجد كَانَت وِلَادَته سنة خمس وَتِسْعين وَهِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا الْحجَّاج بن يُوسُف يحْكى أَنه رتب أوقاته لأموره كَانَ بعد أَن يُصَلِّي الصُّبْح إِلَى وَقت صَلَاة الظّهْر يدبر أَحْوَال الْبِلَاد وَيرْفَع الْمَظَالِم عَن الْعباد وَيَقْضِي حوائج النَّاس وَمن الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر يدبر أَحْوَال نَفسه وَمن الْعَصْر إِلَى الْمغرب يتَقَيَّد بِأُمُور خواصِّ أهل بَيته وَبعد الْمغرب إِلَى الْعشَاء يشْتَغل بِالْقِرَاءَةِ وَبعد الْعشَاء إِلَى مُضِيّ الثُّلُث الأول من اللَّيْل يجْتَمع إِلَيْهِ ندماؤه ويتحدَثون بالسير وَالْأَخْبَار والأشعار المتضمنة للْحكم والشجاعة فَإِذا تفَرقُوا من عِنْده رقد الثُّلُث الْأَوْسَط فَإِذا دخل الثُّلُث الْأَخير قَامَ وَتَوَضَّأ وتهجد وَقَرَأَ الْقُرْآن إِلَى الصُّبْح وَفِي ربيع الْأَبْرَار سَأَلَ الْمَنْصُور بعض بطانة هِشَام بن عبد الْملك الْأمَوِي عَن تَدْبِير هِشَام فِي حروبه فَقَالَ ذَلِك الْبَعْض فعل كَذَا رَحمَه الله وصنع كَذَا رَحمَه الله فَقَالَ الْمَنْصُور لعنك الله وإياه تطَأ بساطي وتترحَم على عدوي أَخْرجُوهُ عني فَقَامَ الرجل وَهُوَ يَقُول وَالله لنعمة عَدوك قلادة فِي عنقِي لَا يَنْزِعهَا إِلَّا غاسلي فَقَالَ الْمَنْصُور ردُّوهُ عَليّ فَرُدَ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور يَا شيخ أشهد أَنَّك نتيجة حر وَثَمَرَة شرِيف ودعا لَهُ بِمَال فَقَالَ الرجل لَوْلَا افتراض طَاعَتك مَا قبلت بعده لأحد نعْمَة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور كفيت قَوْمك فخراً كن أول دَاخل عَليّ وَآخر خَارج عني(3/382)
وَدخل بعض الهاشميين عَلَيْهِ فَجعل يحدثه وَيكثر من ذكر أَبِيه والترحم عَلَيْهِ فَيَقُول كَانَ أبي رَحمَه الله وَفعل أبي رَحمَه الله فَقَالَ لَهُ الرّبيع حَاجِب الْمَنْصُور كم تترحَم على أَبِيك بِحَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ الْهَاشِمِي أَنْت مَعْذُور فَإنَّك لَا تعرف حلاوة الْآبَاء فَخَجِلَ مِنْهُ أَشد الخجل وَذَلِكَ أَن الرّبيع كَانَ لقيطاً لَا يعرف لَهُ أَب وَكَانَ الْمَنْصُور مَعَ هَذِه الصِّفَات الحميدة يُوصف بالبخل الشَّديد وَلذَا لقب بالدوانيقي ذكر ابْن خلدون أَنه حاسب القواد الَّذين جعلهم على بِنَاء بَغْدَاد عِنْد الْفَرَاغ مِنْهَا فألزم كُلاًَ بِمَا بَقِي عِنْده حَتَّى إِنَّه أَخذ من خَالِد بن الصَّلْت مِنْهُم خَمْسَة عشرَة درهما بعد أَن حَبسه عَلَيْهَا وَمِمَّا يحْكى عَنهُ من الشُّح أَنه قَالَ للمسيب بن زُهَيْر أحضرني بِنَاء حاذقاً السَّاعَة فَأحْضرهُ فَأدْخلهُ إِلَى بعض محاله وَقَالَ ابْن لي بازائه طاقاً يكون شَبِيها بِالْبَيْتِ فَلم يزل يُؤْتِي بالحصى والآجر حَتَّى بناه وجوده فَنظر إِلَيْهِ الْمَنْصُور وَاسْتَحْسنهُ وَقَالَ للمسيب أعْطه أجره فَقَالَ أعْطِيه خَمْسَة دَرَاهِم فاستكثرها وَقَالَ لَا أرضي بذلك فَلم يزل حَتَّى نَقصه درهما ففرح بذلك وابتهج كَأَنَّهُ أصَاب مَالا وَحكي أَيْضا أَنه لدغ فَدَعَا مولى لَهُ يُقَال لَهُ أسلم رقاء فَأمره أَن يرقيه فرقاه فبرئ فَأمر لَهُ برغيف فَأخذ الرَّغِيف فثقبه وصيره فِي عُنُقه وَجعل يَقُول رقيت مولَايَ فبرئ فَأمر لي بِهَذَا الرَّغِيف فَبلغ الْمَنْصُور ذَلِك فَقَالَ لَهُ لم أبرك أَن تشنع عَليّ فَقَالَ لم أشنع إِنَّمَا أخْبرت بِمَا أمرتَ فَأمر أَن يصفع ثَلَاث أَيَّام كل يَوْم ثَلَاث صفعات قلت وَعِنْدِي وَالله فِي صِحَة هَذَا القَوْل عشرُون شكا وَالله أعلم بالحقائق وَحكي عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ بعث إِلَيّ الْمَنْصُور فَقَالَ لم تبطئ عَنْهَا قلت وَمَا تُرِيدُ منا فَقَالَ لآخذ عَنْكُم وأقتبس مِنْكُم فَقلت لَهُ مهلا فَإِن عُرْوَة بن رُوَيْم أَخْبرنِي أَن نَبِي الله
قَالَ من جَاءَتْهُ موعظة من ربه فقبلها شكر الله لَهُ ذَلِك(3/383)
وَمن جَاءَتْهُ فَلم يقبلهَا كَانَت حجَّة عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة مهلا فَإِن مثلك لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينَام إِنَّمَا جعلت الْأَنْبِيَاء رُعَاة لعلمهم بالرعية يجبرون الكسير ويسمنون الهزيل ويؤوون الضَّالة فَكيف من يسفك دم الْمُسلمين وَيَأْخُذ أَمْوَالهم أُعِيذك بِاللَّه أَن تَقول إِن قرابتك من رَسُول الله
تدعوك إِلَى الْجنَّة إِن رَسُول الله
كَانَت فِي يَده جَرِيدَة يستاك بهَا فَضرب بهَا قورة أَعْرَابِي فَنزل جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله تبَارك وَتَعَالَى لم يَبْعَثك مؤيسَاً مقنطاً تكسر قُرُون أمتك ألق الجريدة من يدك فَدَعَا الْأَعرَابِي إِلَى الْقصاص من نَفسه فَكيف بِمن يسفك دِمَاء الْمُسلمين إِن الله عز وَجل أوحى إِلَى من هُوَ خير مِنْك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {يَا داودُ إِنا جَعلناك خليفَة فِي اَلأَرضِ فاحكمُ بَين اَلناسِ باِلحقِ وَلا تَتبِعِ الهَوَى} الْآيَة ص 26 وأوحي إِلَيْهِ يَا دَاوُد إِذا أَتَاك الخصمان فَلَا يكون لأَحَدهمَا على صَاحبه الْفضل فأمحوك من ديوَان نبوتي اعْلَم أَن ثوبَاً من ثِيَاب أهل النَّار لَو علق بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لمات أهل الأَرْض من نَتن رِيحه فَكيف بِمن يتقمصه وَلَو أَن حَلقَة من سلاسل جَهَنَّم وضعت على جبال الدُّنْيَا لذابت كَمَا يذوب الرصاص حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الأَرْض السَّابِعَة فَكيف بِمن تقلدها فبكي حَتَّى خضبت دُمُوعه لحيته وَوجه
(الْعَهْد للمهدي وخلع عِيسَى بن مُوسَى)
كَانَ السفاح قد عهد إِلَى عِيسَى ابْن أَخِيه مُوسَى أَن يكون خَليفَة بعد أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وولاه على الْكُوفَة فَلم يزل عَلَيْهَا فَلَمَّا كبر الْمهْدي بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور أَرَادَ الْمَنْصُور أَبوهُ أَن يقدمهُ فِي الْعَهْد على عِيسَى وَكَانَ يُكرمهُ فيجلسه عَن يَمِينه وَالْمهْدِي عَن يسَاره فَكَلمهُ فِي التَّأَخُّر عَن الْمهْدي فِي الْعَهْد فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ بالأيمان الَّتِي عَليّ وعَلى الْمُسلمين وَأبي من ذَلِك وَلم يرض بتقدم الْمهْدي عَلَيْهِ فَتغير لَهُ الْمَنْصُور وباعده بعض الشَّيْء وَصَارَ يَأْذَن(3/384)
للمهدي قبله ولعميه عِيسَى بن عَليّ وَعبد الصَّمد ثمَّ يدْخل عِيسَى بن مُوسَى فيجلس تَحت الْمهْدي وَاسْتمرّ الْمَنْصُور على التنكُر لعيسى وعزله عَن الْكُوفَة ثمَّ رَاجع عِيسَى رَأْيه وخلع نَفسه فَبَايع الْمَنْصُور للمهدي بالعهد وَجعل عِيسَى من بعده وَيُقَال أَنه أعطَاهُ أحد عشر ألف دِرْهَم وَأشْهد جمَاعَة عَلَيْهِ بِالْخلْعِ قَالَ فِي بغية الخاطر للعلامة مُحَمَّد بن مصطفى الشهير بكاتي ذكر أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ لعَمْرو بن عبيد عظني قَالَ بِمَا رأيتُ أَو بِمَا سمعتُ فَقَالَ بل بِنَا رأيتَ فَقَالَ توفّي عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله وَخلف أحد عشر ابْنا وَبَلغت قيمَة تركته سَبْعَة عشر دِينَارا فَكفن بِخَمْسَة دَنَانِير وَاشْترى لَهُ مَوضِع قَبره بدينارين وَأصَاب كل وَاحِد من أَوْلَاده ثَمَانِيَة عشر قيراطاً وَمَات هِشَام بن عبد الْملك وَخلف أحد عشر ابْنا فَحصل كل وَاحِد من ورثته مِمَّا خَلفه عشرَة آلَاف دِينَار فَرَأَيْت رجلا من أَوْلَاد عمر بن عبد الْعَزِيز قد حمل على مائَة فرس فِي سَبِيل الله وَرَأَيْت رجلا من أَوْلَاد هِشَام يسْأَل النَّاس وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين توفّي الْمَنْصُور محرما بِالْحَجِّ وَكَانَت وَفَاته ببئر مَيْمُون السَّادِس من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وبئر مَيْمُون على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة وَدفن قبل بِئْر الْحجُون وَبَين بِئْر مَيْمُون وحفر لَهُ مائَة قبر وَدفن فِي أَحدهَا خوفًا أَن تنبشه الْأَعْدَاء قَالَ ابْن خلدون دفن بمقبرة المعلاة بعد أَن صلى عَلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى وَقيل إِبْرَاهِيم بن يحيى وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وعمره اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَسِتَّة أَيَّام وَقيل أَربع وَسِتُّونَ صفته قَالَ ابْن الْأَثِير فِي كَامِله كَانَ طَويلا أسمر خَفِيف اللِّحْيَة رَحْبَ الصَّدْر كَأَن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان صَارِمًا مهيبَاً ذَا جرْأَة وسطوة وحزم وعزم ورأي وشجاعة وَكَمَال عقل ودهاء وَعلم وحلم وَفقه وخبرة فِي الْأُمُور تقبله النُّفُوس وتهابه الرِّجَال كَانَ يخلط الْملك بزِي النّسك وَكَانَ بَخِيلًا بِالْمَالِ إِلَّا عِنْد النوائب(3/385)
قلت ورأيتُ فِي الذَّهَبِيّ أَنه كَانَ أغرى بسفيان وَالثَّوْري فَأمر قَتله حَال فَرَاغه من الْمَنَاسِك وَأعد خَشَبَة مَعَ الخشابين ليصلبه عَلَيْهَا فجَاء الْخَبَر إِلَى سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فضطجع بِالْحجرِ وَرَأسه فِي حجر الفضيل بن عِيَاض وَرجلَاهُ فِي حجر سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَقيل لَهُ إِن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور قَارب مَكَّة فَانْجُ بِنَفْسِك واختفِ فَقَامَ إِلَى أَثوَاب الْبَيْت الشريف ودعا طَويلا ثمَّ قَالَ بَرِئت من رب هَذِه الْبَيِّنَة إِن دَخلهَا أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور إِلَّا مَيتا فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك وَلما سَار الْمَنْصُور إِلَى الْحَج أوصى وَلَده الْمهْدي عِنْد وداعه فَقَالَ لَهُ لم أدع شَيْئا إِلَّا تقدّمت إِلَيْك فِيهِ وسأوصيك بخصال وَمَا أَظُنك تفعل وَاحِدَة مِنْهَا وَكَانَ لَهُ سفط فِيهِ دفاتر عمله وَعَلِيهِ قفل لَا يَفْتَحهُ أحد غَيره فَقَالَ للمهدي انْظُر لهَذَا السفط فاحتفظ بِهِ فَإِن فِيهِ علم آبَائِك مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَإِن حزبك أَمر فَانْظُر فِي الدفتر الْكَبِير فَإِن أصبت فِيهِ مَا تُرِيدُ وَإِلَّا فَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث حَتَّى بلغ سَبْعَة فَإِن ثقل عَلَيْك فالكراسة الصَّغِيرَة فَإنَّك وَاجِد مَا تُرِيدُ فِيهَا وَمَا أَظُنك تفعل وَانْظُر هَذِه الْمَدِينَة وَإِيَّاك أَن تستبدل بهَا غَيرهَا وَقد جمعت لَك فِيهَا من الْأَمْوَال مَا لَو انْكَسَرَ عَلَيْك الْخراج عشر سِنِين كَفاك لأرزاق الْجند والنفقات والذرية ومصالح الْبَيْت فاحتفظ بهَا فَإنَّك لَا تزَال عَزِيزًا مَا دَامَ بَيت مَالك عَامِرًا وَلَا أَظُنك تفعل وأوصيك بِأَهْل بَيْتك أَن تظهر كرامتهم وتحسن إِلَيْهِم وتقدمهم وتوطئ النَّاس أَعْقَابهم وتوليهم المنابر فَإِن عزك عزهم وَذكرهمْ لَك وَمَا أَظُنك تفعل وَانْظُر مواليك فَأحْسن إِلَيْهِم وقربهم واستكثر مِنْهُم فَإِنَّهُم مادتك لشدتَك إِن تنزل بك يومَاً وَمَا أَظُنك تفعل وأوصيك بِأَهْل خرسان خيرَاً فَإِنَّهُم أنصارك وشيعتك الَّذين بذلوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فِي دولتك وَلَا تخرج محبتك من قُلُوبهم أحسن إِلَيْهِم وَتجَاوز عَن مسيئهم واخلف من مَاتَ فِي وَلَده وَأَهله بِخَير وَمَا أَظُنك تفعل وَإِيَّاك أَن تبني مَدِينَة الشرقية فَإنَّك لَا تتمّ بناءها وأظنك ستفعل وَقيل قَالَ إِنِّي قد ولدت فِي ذِي الْحجَّة وَوليت فِي ذِي الْحجَّة وَقد هجس فِي نَفسِي أَنِّي أَمُوت فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة فَاتق الله فِيمَا أَعهد إِلَيْك من أُمُور الْمُسلمين بعدِي يَجْعَل لَك فِيمَا جزبك فرجَاً ومخرجاً ويرزقك السَّلامَة وَحسن(3/386)
الْعَاقِبَة من حَيْثُ لَا تحتسب يَا بني احفظ مُحَمَّدًا
فِي أمته يحفظك الله ويحفظ عَلَيْك أمورك وَإِيَّاك وَالدَّم الْحَرَام فَإِنَّهُ حوب عِنْد الله عَظِيم وعار فِي الدُّنْيَا لَازم مُقيم والزم الْحُدُود فَإِن فِيهَا صلاحك العاجل والآجل وَلَا تَعْتَد فِيهَا فتبور فَإِن الله تَعَالَى لَو علم شَيْئا أصلح مِنْهَا لدينِهِ وأزجر عَن مَعَاصيه لأمر فِي كِتَابه وَاعْلَم أَن من شدَّة غضب الله لسلطانه أَمَرَ بِتَضْعِيف الْعَذَاب وَالْعِقَاب على من سعى فِي الأَرْض فَسَادًا مَعَ مَا ذخر لَهُ من الْعَذَاب الْأَلِيم فَقَالَ {إِنَمَا جزؤا الذَّينَ يُحَارِبونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيسَعونَ فِي اَلأرَضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلوا} الْآيَة الْمَائِدَة 33 فالسلطان يَا بني حَبل الله المتين وعروته الوثقى وَدينه القويم فاحفظه وحصنه وذب عَنهُ وأوقع بالملحدين فِيهِ والمارقين مِنْهُ واقتل الخارجين عَنهُ وَلَا تجَاوز مَا أَمرك الله بِهِ فِي مُحكم الْقُرْآن واحكم بِالْعَدْلِ وَلَا تشطط فَإِن ذَلِك أقطع للشغب وأحسم لِلْعَدو وأنجع فِي الدَّوَاء واعف عَن الغي فَلَيْسَ بك إِلَيْهِ حَاجَة مَعَ مَا أخلفه لَك وافتتح بصلَة الرَّحِم وبر القَرابة وَإِيَّاك والتبذير لأموال الرّعية واشحن الثغور بالمصالح واضيط الْأَطْرَاف وَأمن السبل وسكِّن الْعَامَّة وَأدْخل الْمرَافِق عَلَيْهِم وادفع المكاره عَنْهُم وَأعد الْأَمْوَال واخزنها وَإِيَّاك والتبذير فَإِن النوائب غير مَأْمُونَة وَهِي من شيم الزَّمَان وَأعد الكراع والجُنْدَ مَا اسْتَطَعْت وَإِيَّاك وَتَأْخِير عمل الْيَوْم إِلَى غَد فتتداول الْأُمُور ويضيع حدسك فِي إحكام الْأُمُور النازلات لأوقاتها وَأعد رجلا بِاللَّيْلِ لمعْرِفَة مَا يكون بِالنَّهَارِ ورجلا بِالنَّهَارِ لمعْرِفَة مَا يكون فِي اللَّيْل وباشر الْأُمُور وَلَا تضجر وَلَا تكسل وَاسْتعْمل حسن الظَّن بِاللَّه وأسئ الظَّن بعمالك وكتابك وخُذ نَفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك وسَهلْ إذنك للنَّاس وَانْظُر فِي أَمر النزاع إِلَيْك ووكل بهم عينا غير نَائِمَة ونفساً غير لاهية وَلَا تنم فَإِن أَبَاك لم ينم مُنْذُ ولي الخلافةَ وَلَا دخل عَلَيْهِ الغمض إِلَّا وَقَلبه متيقظ هَذِه وصيتي إِلَيْك وَالله خليفتي عَلَيْك ثمَّ ودعه وَسَار إِلَى الْكُوفَة فَأحْرم مِنْهَا قارنَاً وسَاق الْهدى وَأَشْعرهُ وقلَّده لأيام خلت من ذِي الْقعدَة وَلما سَار منَازِل عرض لَهُ وَجَعه الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهُوَ الْبَطن وَلما قرب من(3/387)
مَكَّة رأى على جِدَار خرب سطرين هما // (من الطَّوِيل) //
(أَبَا جَعْفَرٍ حانَتْ وفاتُكَ وانْقَضَتْ ... سِنُوكَ وَأَمْر اللهِ لَا بُدَّ واقعُ)
(أَبَا جعفرٍ هَل كاهِنٌ أَو منجِّمٌ ... لَك اليَوْمَ من رَيْبِ المنيةِ دافعُ)
فَلَمَّا قَرَأَهَا تَيَقّن انْقِضَاء أَجله ثمَّ اشْتَدَّ بِهِ وَجَعه فَجعل يَقُول للربيع وَكَانَ عديله بَادر بِي إِلَى حرم رَبِّي هاربَاً من ذُنُوبِي فَلَمَّا وصل إِلَى بِئْر مَيْمُون مَاتَ سحرًا لَيْلَة السَّادِس من ذِي الْحجَّة كَمَا تقدَم ذكره وَلم يحضرهُ إِلَّا خدمه وَالربيع مَوْلَاهُ فَكَتَمُوا الْأَمر ثمَّ غَدا أهل بَيته على عَادَتهم فَدَعَا الأكابر وَذَوي الْأَسْنَان ثمَّ عامتهم فبايعهم الرّبيع للمهدي ثمَّ بَايع القواد وَعَامة النَّاس وَسَار الْعَبَّاس بن مُحَمَّد وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان إِلَى مَكَّة فبايعا النَّاس للمهدي بَين الرُّكْن وَالْمقَام وَذكر عَليّ بن مُحَمَّد النَّوْفَلِي عَن أَبِيه وَهُوَ من أهل الْبَصْرَة كَانَ يخْتَلف إِلَى الْمَنْصُور قَالَ جِئْت من مَكَّة صَبِيحَة مَوته إِلَى الْعَسْكَر فَإِذا مُوسَى بن الْمهْدي عِنْد عَمُود السرادق وَالقَاسِم بن الْمَنْصُور فِي نَاحيَة فَعلمت أَنه قد مَاتَ ثمَّ أقبل الْحسن ابْن زيد الْعلوِي وَالنَّاس حَتَّى ملئوا السرادق وَسَمعنَا هَمس الْبكاء ثمَّ خرج أَبُو العنبر الْخَادِم مشقوق الأقبية وعَلى رَأسه التُّرَاب وَهُوَ يستغيث وَقَامَ الْقَاسِم فشق ثِيَابه ثمَّ خرج الرّبيع فِي يَده قرطاس فقرأه على النَّاس وَفِيه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله الْمَنْصُور أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى من خلف من بني هَاشم وشيعته من أهل خُرَاسَان وَعَامة الْمُسلمين ثمَّ بَكَى وَبكى النَّاس ثمَّ قَالَ الْبكاء أمامكم فأنصتوا رحمكم الله ثمَّ قَرَأَ أما بعد فَإِنِّي كتبت كتابي هَذَا وَأَنا فِي آخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا أَقرَأ عَلَيْكُم السَّلَام وأسأل الله ألاَ يَفْتِنكُم بعدِي وَلَا يلْبِسكُمْ شيعًا يُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض ثمَّ أَخذ فِي وصيتهم بالمهدي وبعثهم على الْوَفَاء بعهده ثمَّ تنَاول الْحسن بن زيد وَقَالَ قُم نُبَايِع مُوسَى بن الْمهْدي لِأَبِيهِ فَقَامَ فَبَايعهُ ثمَّ بَايع النَّاس الأول فَالْأول ثمَّ دخل بَنو هَاشم على الْمَنْصُور وَهُوَ فِي أَكْفَانه مَكْشُوف الرَّأْس لمَكَان الْإِحْرَام فَحَمَلُوهُ من مَكَانَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة فدفنوه وَكَانَ(3/388)
عِيسَى بن مُوسَى لما بَايع النَّاس أَبى من الْبيعَة لِأَنَّهُ كَانَ ولي الْعَهْد بعد أبي جَعْفَر وَإِنَّمَا أَخّرهُ أَبُو جَعْفَر وَقدم ابْنه الْمهْدي عَلَيْهِ وَجعل لَهُ الْعَهْد بعد الْمهْدي فَقَالَ لَهُ عَليّ بن عِيسَى بن ماهان وَالله لتبايعن أَو لَأَضرِبَن عُنُقك فَبَايع ثمَّ بعث مُوسَى ابْن الْمهْدي وَالربيع بالْخبر والبردة والقضيب وَخَاتم الْخلَافَة إِلَى الْمهْدي وَخَرجُوا من مَكَّة
(خلَافَة الْمهْدي)
مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس الْقرشِي الْهَاشِمِي لما وصل الْخَبَر إِلَى الْمهْدي منتصف ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة اجْتمع أهل بَغْدَاد فَبَايعُوهُ قَالَ السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه أول من هَنأ المهدَي بالخلافة وَعَزاهُ بِأَبِيهِ المنصورِ أَبُو دلامة فَقَالَ // (من الْكَامِل) //
(عَيْنَايَ واحدَةٌ تُرَى مسرورة ... بأميرِهَا جَذْلَى وأخرَى تَذْرِفُ)
(تَبْكِي وتضحَكُ تَارَةً ويَسُوءُهَا ... مَا أنكَرَتْ ويَسُرُّهَا مَا تَعْرِفُ)
(فيسُوءُهَا مَوْتُ الخليفةِ مُحْرِمًا ... ويَسُرُّهَا أنْ قَامَ هذَا الأرأفُ)
(مَا إنْ رَأَيْتُ كَمَا رأيتُ وَلَا أَرَى ... شَعْرا أسرِّحُهُ وآخَر أَنْتِفُ)
(هَلَكَ الخليفةُ يَالَدِينِ محّمدٍ ... وأتاكُمُ مِنْ بعده مَنْ يَخْلُفُ)
(أَهْدَى لهَذَا اللَّهُ فَضَلَ خلافةٍ ... ولذاكَ جَنَّاتِ النعيمِ تزخرفُ)
وَذكر الصولي أَن امرأةَ اعترضت الْمهْدي فَقَالَت يَا عصبَة رَسُول الله انْظُر(3/389)
فِي حَالي فَقَالَ الْمهْدي مَا سَمعتهَا من أحد قطّ اقضوا حَاجَتهَا وأعطوها عشرَة آلَاف دِرْهَم وَكَانَ أول مَا فعله أَن أطلق من كَانَ فِي حبس أَبِيه الْمَنْصُور إِلَّا من كَانَ حَبسه فِي دم أَو مَال أَو مِمَّن سعى بِالْفَسَادِ وَكَانَ حَلِيمًا جواداً فصيحاً سلك مَعَ النَّاس سيرِة مرضية فَأَحبهُ النَّاس وَإِن كَانَ منهمكاً فِي اللَّهْو فقد أراح النَّاس من تَعب الظُّلم والجور والاعتساف لما أضَاف إِلَى ذَلِك من الْحلم والجود والإنصاف حَتَّى أطمأن بِهِ الْعباد والبلاد وَكَانَت أَيَّامه كالأعياد وِلَادَته سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَفِي سنة سِتِّينَ حج الْمهْدي واستخلف على بَغْدَاد ابْنه الْهَادِي واستصحب ابْنه هَارُون وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَلما وصل إِلَى مَكَّة اهتم بكسوة الْكَعْبَة فكساها بأفخر الْكسْوَة بعد أَن أَتَاهُ بَنو شيبَة فَقَالُوا قد تكاثرت الكساوي على الْكَعْبَة وَنحن نخشَى من ثقلهَا على الْكَعْبَة فَأمر بِنَزْع جَمِيع مَا كَانَ عَلَيْهَا وَكَانَت فِيهَا كسْوَة هِشَام بن عبد الْملك من الديباج الثخينِ وَقسم مَالا عَظِيما هُنَاكَ فِي مصارف الْخَيْر فَكَانَ مِنْهُ مَا جَاءَ من الْعرَاق ألف ألف دِرْهَم وَوصل إِلَيْهِ من مصر ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وَمن الْيمن مائَة ألف دِينَار فَفرق ذَلِك كُله وَفرق مائَة ألف ثوب وَخمسين ألف ثوب ووسع الْمَسْجِد الْحَرَام وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رأى الْكَعْبَة لَيست فِي وسط الْمَسْجِد لضيق جَانِبه من جِهَة الْيمن فَأمر الصناع والمهندسين بتوسيعه من تِلْكَ الْجِهَة وَاشْترى دوراً هُنَالك وهدمها فَنَهَاهُ المهندسون وَقَالُوا يدْخل السَّيْل إِن فعلتَ ذَلِك إِلَى الْمَسْجِد لضيق مجْرَاه حِينَئِذٍ فَقَالَ لَا بدَ من ذَلِك وَإِن دخل السَّيْل وَلَو أنفقت فِي ذَلِك جَمِيع بيُوت المَال وَصعد المهندسون على ظهر الْكَعْبَة ونصبتَ الرماح بَعْضهَا إِلَى بعض ومدَتْ من أَعلَى الْكَعْبَة إِلَى الْجِهَات الْأَرْبَع حَتَّى كَانَت مستوية متوسطة فِي الْمَسْجِد نِسْبَة الْجِهَات الْأَرْبَع إِلَيْهَا على السوَاء فجزاه الله خيرَاً وشكر سعيِه قَالَ الفاكهي كَانَ بعد جِدَار الْمَسْجِد من الْجَانِب الجنوبي عَن الْكَعْبَة تِسْعَة وَأَرْبَعين ذِرَاعا لَا غير ولبيان مثل هَذِه الْأُمُور كتب مُفْردَة وَلما رَجَعَ أَمر بِبِنَاء الْقُصُور بطريقّ مَكَّة أوسع من قُصُور أَبِيه الْمَنْصُور من الْقَادِسِيَّة إِلَى زبالة وَأمر باتخاذ المصانع فِي كل منهل وبتحديد الأميال وحفر(3/390)
الْآبَار وَذَلِكَ على يَد يقطيِن بن مُوسَى وَأمر بِالزِّيَادَةِ فِي مَسْجِد الْبَصْرَة وتقصير المنابر إِلَى مِقْدَار مِنْبَر النَّبِي
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ ظهر عَطاء الْمقنع شيخ لعين خرساني كَانَ يعرف السحر والسيميا فَربط النَّاس بالخوارق والمغيبات وَادّعى الربوبية وَكَانَ يَقُول بالتناسخ أَي أَن الله تَعَالَى تحول إِلَى صُورَة آدم وَلذَلِك أَمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لَهُ ثمَّ تحول إِلَى صُورَة نوح ثن إِلَى صُورَة إِبْرَاهِيم وَغَيرهم من الْأَنْبِيَاء والحكماء والفلاسفة وَيقْرَأ {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} الانفطار 8 ثمَّ إِنَّه تحول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى صُورَة أبي مُسلم الخرساني صَاحب الدعْوَة العباسية ثمَّ مِنْ بعدِ أبي مُسلم إِلَى صُورَة نَفسه فعبده خلائق من الجهلة وَكَانَ مشوهاً أصور أَعور الْعين قصيرَاً فَكَانَ لَا يكْشف وَجهه بل اتخذ لَهُ وَجها من الذَّهَب وَلذَلِك قيل لَهُ المقنَّع وَمِمَّا أضلّ النَّاس بِهِ من المخاريق أَنه أظهر لَهُم قمراً يرونه فِي السَّمَاء من مسيرَة شَهْرَيْن مَعَ قمر السَّمَاء وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن سناء الْملك من قصيدة أخرج فِيهَا ذكره مخرج الْغَزل فَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(إِلَيْك فَمَا بَدْرُ المُقَنَّعِ طَالِعًا ... بأَسْحَرَ مِنْ أَلْحَاظِ بَدْرِ المُقَنَّعِ)
وَلأبي الْعَلَاء المعري // (من الطَّوِيل) //
(أَفِقْ أَيهَا البَدْرُ المُعَمِّمُ رَأسَهُ ... ضَلاَلٌ وَغيٌّ مِثْل بَدْرِ المُقَنَّعِ)
وَلما استفحل شرُ عَطاء لَعنه الله جهز الْمهْدي عسكرَاً لحربه فقصدوه وحصروه فِي قلعته ببلسام من أَعمال بُخَارى فَلَمَّا عرف أَنه مَأْخُوذ جمع نِسَاءَهُ فسقاهنَّ السم فهلكنَ ثمَّ تنَاول هُوَ السم فَمَاتَ وَهُوَ يتّحسَاه فِي نَار جَهَنَّم خَالِدا ثمَّ أخذت القلعة وَقتل رُءُوس أَتْبَاعه لَعنه الله وَبعث بِرَأْسِهِ ورءوسهم إِلَى الْمهْدي فوصلَت إِلَيْهِ بحلب وَهُوَ ذَاهِب لغزو الرّوم وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة خلع الْمهْدي ابْن عَمه عِيسَى بن مُوسَى عَن ولَايَة الْعَهْد إِلَى ابْنه مُوسَى الْهَادِي ابْن الْمهْدي وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ أَخذ الْبيعَة الآخر هَارُون بعد ابْنه الْهَادِي ولقبه بالرشيد(3/391)
فَالْحَاصِل أَن الْمهْدي مُحَمَّدًا عهد إِلَى ولديه الْهَادِي وَهَارُون الرشيد على أَن يكون الْهَادِي بعده قبل الرشيد ثمَّ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ اعتزم على خلع ابْنه الْهَادِي والبيعة للرشيد وتقديمه على الْهَادِي وَكَانَ الْهَادِي بجرجان فَبعث إِلَيْهِ بذلك واستقدمه فَضرب الْهَادِي الرَّسُول وَامْتنع فَسَار إِلَيْهِ الْمهْدي فَلَمَّا بلغ ماسبذان توفّي هُنَالك يُقَال مسمومَاً من بعض جواريه يُقَال سمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى فِي كمثرى فغلظ الْمهْدي فَأَخذهَا فَأكلهَا فَمَا جسرت أَن تَقول لَهُ إِنَّهَا مَسْمُومَة وَيُقَال سَبَب مَوته أَنه طرد صيدا فَدخل وَرَاءه إِلَى خربة فدق بَاب الخربة ظَهره فَأدْخل قربوس السرج فِي صَدره وَكَانَ مَوته فِي الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة سنة تسع وَسِتِّينَ وَلم يُوجد لَهُ نعش يحمل عَلَيْهِ فَحمل على بَاب وَدفن تَحت شَجَرَة جوز وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته عشْرين سنة وشهراً وَله من الْعُمر ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ سنة وَكَانَ جواداً ممدحاً سخياً إِلَى الرّعية حسن الْخلق والخلق يُقَال إِن أَبَاهُ خلف فِي الخزائن مائَة ألف ألف دِينَار وَسِتِّينَ ألف ألف دِرْهَم ففرقها الْمهْدي وَقد قيل مَا جَاءَ فِي بني الْعَبَّاس أكْرم من الْمهْدي وَلَا أبخل من أَبِيه الْمَنْصُور دخل على الْمهْدي شريك القَاضِي فَقَالَ لَهُ الْمهْدي يَا شريك مَا تَقول فِي عَليّ بن أبي طَالب قَالَ مَا قَالَ فِيهِ جدك الْعَبَّاس وَعبد الله ابْنه فَقَالَ مَا قَالَا فِيهِ قَالَ أما الْعَبَّاس فَمَاتَ وَعلي عَنهُ أفضلُ الصَّحَابَة وَقد كَانَ يرى كثيرا من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين يسألونه عَمَّا ينزل بهم من النَّوَازِل وَمَا احْتَاجَ هُوَ إِلَى أحد مِنْهُم حَتَّى لحق إِلَى كَرَامَة الله تَعَالَى وَأما عبد الله ابْنه فَكَانَ يضْرب بَين يَدَيْهِ بسيفَين وَكَانَ فِي حروبه رَأْسا متبعَاً وَسَيِّدًا مُطَاعًا فَلَو كَانَت إِمَامَة عَليّ جوراً لَكَانَ أول من قعد عَنهُ جدك عبد الله لعلمه بدين الله وفقهه فِي أَحْكَام الله فَأَطْرَقَ الْمهْدي رَأسه سَاعَة ثمَّ عزلَ شريكَاً عَن الْقَضَاء بعد أَيَّام قَليلَة(3/392)
وَدخل عَلَيْهِ ابْن الخَياط وامتدحه فَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم فَسَأَلَهُ أَن يقبل يَده فقبلها ثمَّ خرج فَمَا انْتهى إِلَى الْبَاب حَتَّى فرقها جَمِيعًا فعوتب على ذَلِك فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(لَمَسْتُ بكَفِّي كَفَّهُ أَبْتَغِي الغِنَى ... وَلَمْ أَدْرِ اَنَّ الجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدِي)
(فَلاَ أَنَا مِنْهُ مَا أَفَاد ذَوُو الغِنَى ... أَفَدتُّ وَأَعْدَانِي فَأَتْلَفْتُ مَا عِنْدِي)
فَبلغ الْمهْدي ذَلِك فَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَقَالَ سَلم الخاسرُ يرثي الْمهْدي من // (الوافر) //
(وَباَكيةٍ على المَهْدِيِّ عَبْرَى ... كَأَنَّ بهَا وَمَا جُنَّتْ جُنُونا)
(وَقد خَمَشَتْ محاسِنَهَا وأبْدَتُ ... غدائِرَهَا وأظْهَرَتِ القُرُونَا)
(لَئِنْ بلَى الخليفةُ بعد عِزِّ ... لقدْ أَبْقَى مساعِيَ مَا بَلينَا)
(سَلاَمُ اللَّهِ غُدْوَةَ كلِّ يومٍ ... على المهديِّ حيثُ ثَوى رَهينَا)
(تركْنَا الدِّينَ والدُّنْيَا جَمِيعًا ... بحَيثُ ثَوَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَا)
وَفِي كتاب الأذكياء لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَن أَبَا دلامة دخل على الْمهْدي فأنشده قصيدة فَقَالَ لَهُ الْمهْدي سلني حَاجَتك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تهب لي كلب صيد فَغَضب وَقَالَ أتسأل كلب صيد وَأَنا أَقُول لَك مَا أَقُول فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحَاجة لي أم لَك فَقَالَ لَهُ بل لَك قَالَ فَإِنِّي سَأَلتك إِيَّاه فَأمر لَهُ بكلب صيد فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هبني خرجت إِلَى الصَّيْد فأعدوا على رجْلي فَأمر لَهُ بدابَّةٍ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمن يقومُ عَلَيْهَا فَأمر لَهُ بِغُلَام فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هبني صدت صيدا فَمن يطبخه فَأمر لَهُ بِجَارِيَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ أَيْن يبيتُونَ فَأمر لَهُ بدار فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد صَار فِي عنقِي عِيَال فَمن أَيْن لي مَا يقوت هَؤُلَاءِ قَالَ قد أقطعتك ألف جريب عَامر وَعَن عبد الله بن هَارُون قَالَ حَدثنِي عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن الْمُغيرَة قَالَ دخل الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي وَأَبُو السَّائِب العثماني وَابْن أُخْت الْأَحْوَص على الْمهْدي وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ أنشدوني فأنشده الْمُغيرَة(3/393)
من // (الطَّوِيل) //
(وللنَّاسِ بَدْرٌ فِي السماءِ تَرَوْنَهُ ... وأًنْتَ لنا بدْرٌ على الأرضِ مُقْمِرُ)
(فَبِاللَّهِ يَا بَدْرَ السماءِ وصِنْوَهُ ... تُرَاكَ تُكَافي عُشْرَ مَا لَك مُضْمرُ)
(وَمَا البَدْرُ إِلا دُونَ وَجْهِكَ فِي الدُّجَى ... يغيبُ فَتَبْدُو حِينَ غَابَ فَتُقْمِرُ)
(وَمَا نَظَرَتْ عَيْني إلَى البَدْرِ مَاشِيا ... وأنْتَ فتمشِى فِي الثيَابِ فَتسْحَرُ)
ثمَّ أنْشدهُ ابْن أُخْت الْأَحْوَص فَقَالَ من // (الْبَسِيط) //
(قَالَتْ كلابة مَنْ هَذَا فقلْتُ لَهَا ... هَذَا الَّذِي أَنْتِ مِنْ أعدائِهِ زَعَمُوا)
(إنِّي امرؤٌ لَج بِي حُبٌّ فأحْرَضَنِي ... حَتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ)
ثمَّ أنْشدهُ المَخْزُومِي من // (الطَّوِيل) //
(رَمَى القلْبُ مِن قلبِي السوَادَ فأوْجَعَا ... وَصَاحَ فصيحٌ بالرَّحيلِ فَأسْمَعَا)
(وغَرَّدَ حادِي البَينِ وانشقَّتِ العَصَا ... فأصْبَحْتُ مَسْلُوبَ الفُؤَادِ مُفَجَّعَا)
(كفَى حَزَنًا مِنْ حادِثِ الدَّهرِ أنني ... أَرَى البَينَ لَا أَسْطِيعُ للبَينِ مَدْفَعَا)
(وَقد كُنْتُ قَبْلَ اليومِ بالبَيْنِ جَاهِلاً ... فيا لَكَ بَينا مَا أَمَرَّ وأَوْجَعَا)
ثمَّ أنْشدهُ أَبُو السَّائِب يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(أَصِيخَا لداعي حُبِّ ليلَي فَيَمِّمَا ... صُدُورَ المطايا نَحْوَهَا فتَسَمَّعَا)
(خليليَّ إنْ ليلَي أقامَتْ فَإِنَّنِي ... مُقِيمٌ وإنْ بانَتْ فِينَا بِنَا مَعَا)
(وإنْ أثبتتْ لَيْلَى بربْعِ يحوزها ... أعيذُكُمَا باللَّه أَنْ تَتَزَعْزَعَا)
ثمَّ أَمر لَهُم بصلات جسيمة وَحدث إِدْرِيس بن سُلَيْمَان بن يحيى بن يزِيد بن أبي حَفْصَة كَانَ سَبَب اتِّصَال مَرْوَان بخلفاء بني الْعَبَّاس وَكَانَ وَالله أعلم من شعراء بني أُميَّة أَن جَارِيَة يَمَانِية أهديت إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَأَنْشَدته شعرًا لمروان يمدح فِيهِ السّري بن عبد الله يذكر فِيهِ وراثة الْعَبَّاس فَسَأَلَهُ الْمَنْصُور عَن الشّعْر فَقَالَت هُوَ لمروان فوافاه بالربذة حَاجا وبالمنصور الْعلَّة الَّتِي مَاتَ بهَا فلقي مَرْوَان الرّبيع حَاجِب الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ كن قريبَاً حَتَّى يَدْعُو بك فَلم تزل الْعلَّة بالمنصور تشتدُ حَتَّى مَاتَ قبل أَن يصل إِلَيْهِ مَرْوَان فَقَالَ لَهُ الرّبيع الْحَقْ بالمهدي وَلَا تتخلف عَنهُ فانصرفَ مَرْوَان إِلَى الْيَمَامَة فَجَعلهَا طَرِيقا وَعَلَيْهَا بشر بن الْمُنْذر والياً فأوفده بشر(3/394)
على الْمهْدي فِيمَن أوفد فَقدم مَرْوَان على الْمهْدي وَقد مدحه بِأَرْبَع قصائد مطلع الأولى من // (الطَّوِيل) //
(صَحَا بَعْدَ جُهْدٍ فاستَرَاحَتْ عواذلُهْ ... وأَقْصَرْنَ عَنهُ حِينَ أَقْصَرَ بَاطِلُهُ)
وَالثَّانيَِة من // (الْكَامِل) //
(طَافَ الخَيَالُ فَحَيِّهِ بسَلاَمِ ... أَنَّى أَلَمَّ ولَيْسَ حِين مَنَامِ)
وفيهَا يَقُول
(أَنَّي يكُونُ ولَيْسَ ذاكَ بكَائِنٍ ... لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأعْمَامِ)
وَالثَّالِثَة من // (الْكَامِل) //
(إعْصِ الهَوَى وَتَعَزَّ عَنْ سُعْدَاكَا ... فَلِمِثْل حِلْمِكَ عَنْ هَوَاكَ نهاكا)
وَالرَّابِعَة من // (الطَّوِيل) //
(بَرى العَين شَوْقٌ حَالَ دُونَ التجلُّدِ ... ففاضَتْ بأَسْرَابٍ مِنَ الدَّمْعِ حُشَّدِ)
قَالَ إِدْرِيس فَأعْطى الْمهْدي مَرْوَان إجَازَة سبعين ألف دِرْهَم فَقَالَ مَرْوَان يمدحه فِي قصيدة ويذكرها من // (الطَّوِيل) //
(بِسَبْعِينَ ألفا رَاشَنِي مِنْ حِبائِهِ ... وَمَا نَالَهَا فِي الناسِ مِنْ شَاعِرٍ قلبِي)
رحم الله أهل الْكَرم وَحدث أَحْمد بن أبي بكر الْبَاهِلِيّ قَالَ حَدثنِي حَاجِب الْمهْدي قَالَ قَالَ لي الْمهْدي يَوْمًا نصف النَّهَار اخْرُج فَانْظُر من فِي الْبَاب فَخرجت فَإِذا شيخ وَاقِف فَقلت لَك حَاجَة فَقَالَ لَا أخبر بحاجتي أحد غير أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأخْبرت الْمهْدي بِخَبَرِهِ وَبِقَوْلِهِ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ ومُرْهُ بِالتَّخْفِيفِ فَخرجت وَقلت لَهُ ادخل وخففْ فَدخل وَسلم بالخلافة ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّا قد أمرنَا التَّخْفِيف من // (الطَّوِيل) //
(فإنْ شئْتَ خَفَّفْنَا فكنَّا كَرِيشَةٍ ... متَى تَلْقَهَا الأنفاسُ فِي الجَوِّ تَذْهَبِ)
(وإنْ شئْتَ ثَقَّلْنَا فكُنَّا كصخرةٍ ... مَتى تًلْقِهَا فِي حوْمَةِ البَحْرِ تَرْسُبِ)
(وإنْ شئْتَ سلَّمنا فكُنَّا كراكبٍ ... مَتى يَقْضِ حَقًّا من سلامِكَ يَغْرُبِ)
فَضَحِك الْمهْدي وَقَالَ بل تكرم وتقضى حَاجَتك فَقضى حَاجته ووَصله بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم(3/395)
كَانَ معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ من أُمَرَاء الْمَنْصُور أبي الْمهْدي ثمَّ أبقاه المهديُ والياً على أذربيجان على مَا كَانَ من وَالِده الْمَنْصُور وَهُوَ أحد الأجواد الْمَشْهُورين والشجعان الْمَذْكُورين قَدِمَ عَلَيْهِ قوم من أهل الْكُوفَة مستميحين فَنظر إِلَيْهِم فِي هَيْئَة رثَّة فَأَنْشَأَ يَقُول من // (الطَّوِيل) //
(إِذا نَوْبَةٌ نَابَتْ صديقَكَ فاغَتَنِمْ ... مَرَمَّتَهَا فالدَّهْرُ بالناسِ قُلَّبُ)
(فأَحْسَنُ ثوبَيْكَ الَّذِي أنْتَ لابسٌ ... وأَمْهَرُ مُهْرَيْكَ الَّذِي هُوَ يُرْكَبُ)
وَقَالَ يَا غُلَام أعطهم لكل وَاحِد أَرْبَعَة آلَاف فَقَالَ أحدهم يَا سَيِّدي دَنَانِير أَو دَرَاهِم فَقَالَ معن وَالله لَا تكونُ همتك أرفع من همتي يَا غُلَام صفرها لَهُم وَأَتَاهُ أَعْرَابِي وَمَعَهُ مَوْلُود فَقَالَ من // (الْبَسِيط) //
(سَمَّيْتُ طِفْلِيَ مَعْنًا ثمَّ قلْتُ لَهُ ... هَذَا سَمِىُّ فَتًى فِي الناسِ محمودِ)
(أمسَتْ يمينُكَ مِنْ جُودٍ مُصَوَّرَةً ... لَا بَلْ يمينُكَ مِنْهَا صُورَةُ الجُودِ)
فَأمر لَهُ بثلاثمائة دِينَار روى أَن الْمهْدي خرج يَوْمًا يتصيد فَلَقِيَهُ الْحُسَيْن بن مطير الْأَسدي فأنشده من // (الْبَسِيط) //
(أضحَتْ يمينُكَ مِنْ جُودٍ مصوَّرَةً ... لَا بَلْ يمينُكَ مِنْهَا صُورَةُ الجودِ)
(مِنْ حُسْنِ وجهِكَ تُضْحِي الأرضُ مشرقَةً ... ومِنْ بنانِكَ يَجْرِي الماءُ فِي العُودِ)
فَقَالَ لَهُ الْمهْدي كذبتَ يَا فاسقُ وَهل تركتَ فِي شعرك موضعا لأحد مَعَ قَوْلك فِي معن بن زَائِدَة من // (الطَّوِيل) //
(أَلمَّا بِمَعْنٍ ثُمَّ قولا لِقَبْرِهِ ... سَقَتْكَ الغَوَادِي مَرْبَعًا ثُمَّ مرْبَعَا)
(فَيَا قَبْرَ مَعًنٍ كَيْفَ وارَيْت جُودَهُ ... وقَدْ كَانَ مِنْهُ البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعَا)
(ولكنْ حَوَيْتَ الجُوَدَ والجُودُ ميِّتٌ ... وَلَو كَانَ حَيا ضِقْتَ حَتَّى تَصَدَّعَا)
(وَلما مَضَى مَعْنٌ مَضَى الجُودُ والنَّدَى ... وأَصْبَحَ عِرنينُ المَكَارِمِ أَجْدَعَا)
فَأَطْرَقَ الْحُسَيْن ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهل مَعْن إِلَّا حَسَنَة من حَسَنَاتك فَرضِي عَنهُ وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار(3/396)
(خلَافَة الْهَادِي)
مُوسَى بن الْمهْدي مُحَمَّد بن الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم كَانَ شجاعاً كَرِيمًا وَكَانَ فِي صغره لَا يزَال فاتحاً فَمه خلقةَ فَوكل أَبوهُ غُلَاما ينبهه على إطباق فَمه كلما رَآهُ فاتحه فَيَقُول لَهُ مُوسَى أَطبقْ فَكَانَ يُقَال لَهُ لذَلِك فِي صغره مُوسَى أطبق كَانَت وِلَادَته سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقَالَ سلم الخاسر جَامعا بَين التهنئة للهادي بالخلافة والعزاء بِأَبِيهِ الْمهْدي مُحَمَّد فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(لَقَدْ قَامَ مُوسَى بِالخِلاَفَةِ والهُدَى ... وَمَاتَ أميرُ الْمُؤمنِينَ مُحَمَّدُ)
(فَمَاتَ الَّذِي عَمَّ البريَّة فَقَدُهُ ... وقَامَ الَّذِي يَكْفِيكَ مَنْ تتفقَّدُ)
وَقَالَ مَرْوَان بن أبي حَفْصَة من // (الطَّوِيل) //
(لَقَدْ أَصْبَحَتْ تختالُ فِي كُلِّ بلدةٍ ... بقَبْرِ أميرِ المؤمنينَ المَقَابِرُ)
(وَلَو لم تُسَكَّنْ بِابْنِهِ بَعْدَ موتِهِ ... لَمَا بَرحَتْ تَبْكِي عَلَيْهِ المنابرُ)
(وَلَو لم يَقُمْ موسَى عليهَا لَرجَّعَتْ ... حَنِينًا كَمَا حَنَّ الصفايا العَشَائِرُ)
بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه وَكَانَ الْهَادِي مُقيما بجرجان يحارب أهل طبرستان وَكَانَ الرشيد لما توفّي الْمهْدي والعسكر مَعَه بماسبذان نَادَى فِي النَّاس بالعطاء تسكيناً لَهُم وَقسم فيهم فَلَمَّا استوفوها تنادوا بِالرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاد وتسابقوا إِلَيْهَا واستيقنوا موت الْمهْدي فَأتوا بَاب الرّبيع وأحرقوه وطالبوه بالأرزاق وفتقوا السجون وَقدم الرشيد بَغْدَاد فِي أَثَرهم فَبعث الخيزران إِلَى الرّبيع وَيحيى فَامْتنعَ يحيى خوفًا من غيرَة الْهَادِي وَأمر الرّبيع بِسنتَيْنِ للجند فسكنوا وَكتب الْهَادِي إِلَى الرّبيع يتهدده فَاسْتَشَارَ يحيى فِي أمره وَكَانَ يَثِق بوده فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يبْعَث ابْنه الْفضل يعْتَذر عَنهُ ويصحبه الْهَدَايَا واللطف فَفعل فَرضِي الْهَادِي عَنهُ(3/397)
فَأخذت الْبيعَة بِبَغْدَاد للهادي وَكتب الرشيد بذلك إِلَى الْآفَاق وَبعث نصر إِلَى الْهَادِي بجرجان فَركب الْبَرِيد إِلَى بَغْدَاد قَالَ الصولي وَلَا يعرف خَليفَة رَكِبَ خيل الْبَرِيد إِلَّا الْهَادِي من جرجان إِلَى بَغْدَاد فَقَدمهَا فِي عشْرين يَوْمًا واستوزر الرّبيع وَهلك لمُدَّة قَليلَة من وزارته وَاشْتَدَّ الْهَادِي فِي طلب الزَّنَادِقَة وقتلهم وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ كَانَ ظُهُور حُسَيْن الْمَقْتُول بفخ وَهُوَ الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وقصته مَعْرُوفَة وَكَانَ للهادي بغض بالرشيد بِمَا كَانَ الْمهْدي أَبوهُمَا يؤثره عَلَيْهِ أخيراً وَكَانَ رأى أَنه دفع إِلَيْهِمَا قضيبين فأورق قضيب الْهَادِي من أَعْلَاهُ وأورق قضيب الرشيد كُله وَتَأَول ذَلِك بقصر مُدَّة الْهَادِي وَطول مُدَّة الرشيد وحسنها فَلَمَّا ولي الْهَادِي أجمع على خلع أَخِيه الرشيد والبيعة لِابْنِهِ جَعْفَر بن الْهَادِي مَكَانَهُ وفاوض فِي ذَلِك قُوَاده فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك يزِيد بن مزِيد وَعلي بن عِيسَى وَعبد الله بن مَالك وَوضع الشِّيعَة على الرشيد ينتقصونه وَيَقُولُونَ لَا نرضى بِهِ وَنهى الْهَادِي أَن يسَار بَين يَدَيْهِ بالحربة فاجتنبه النَّاس وَكَانَ يحيى بن خَالِد يتَوَلَّى أُمُوره فاتهمه الْهَادِي بمداخلته وَبعث إِلَيْهِ وتهدده فَحَضَرَ عِنْده مستميتاً وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن حملت النَّاس على نكث الْأَيْمَان فِيهِ هَانَتْ عَلَيْهِم فِيمَن توليه وَإِن بَايَعت لجَعْفَر بعده كَانَ ذَلِك أوثق لِلْبيعَةِ فَصدقهُ وكف عَنهُ وَعَاد أُولَئِكَ الَّذين خلعوه من القواد والشيعة فأغروه بِيَحْيَى وَأَنه الَّذِي منع الرشيد من خلع نَفسه فحبسه الْهَادِي فَطلب الْحُضُور للنصيحة فَأحْضرهُ من الْحَبْس فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أتظن النَّاس يسلمُونَ الْخلَافَة لابنك جَعْفَر وَهُوَ صبي ويرضون بِهِ لصلاتهم وحجهم وغزوهم وتأمن أَن يسمو إِلَيْهَا عِنْد ذَلِك أهل بَيْتك فَتخرج من ولد أَبِيك وَالله لَو لم يعقده لَهُ المهديُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَن تعقده أَنْت لَهُ حذرا من ذَلِك إِنِّي أرى أَن تقر الْعَهْد لأخيك فَإِذا بلغ ابْنك أَتَيْتُك بأخيك فَخلع نَفسه وَبَايع لَهُ فَقبل الْهَادِي قَوْله وَأطْلقهُ(3/398)
وَلم يقنع القواد ذَلِك لأَنهم كَانُوا حذرين من الرشيد فَأرْسل إِلَى الرشيد وضيق عَلَيْهِ واستأذنه فِي الصَّيْد ومضَى إِلَى قصر مقَاتل فنكره الْهَادِي وَأظْهر جفاءه وَبسط الموَالِي فِيهِ ألسنتهم ثمَّ خرج الْهَادِي إِلَى حَدِيثَة الْموصل فَاشْتَدَّ مَرضه هُنَالك واستقدم الْعمَّال شرقاً وغرباً وَلما ثقل تآمر الْقَوْم الَّذين بَايعُوا جعفراً فِي قتل يحيى بن خَالِد ثمَّ أَمْسكُوا خوفًا من الْهَادِي ثمَّ توفّي الْهَادِي فِي شهر ربيع سنة سبعين وَمِائَة وَقيل إِنَّمَا توفّي بعد أَن عَاد من حَدِيثَة الْموصل وَيُقَال إِن أمه الخيزران دست بعض الْجَوَارِي عَلَيْهِ فقتلنه لِأَنَّهَا كَانَت أول خِلَافَته تستبد عَلَيْهِ بالأموال فعكف النَّاس على بَابهَا وَاخْتلف المواكب إِلَيْهَا فَوجدَ الْهَادِي من ذَلِك فكلمته يَوْمًا فِي حَاجَة فَلم يجبها فَقَالَت قد ضمنتها لعبد الله بن مَالك فَغَضب الْهَادِي وَشَتمه وَحلف لَا قضيتها فَقَامَتْ وَهِي مغضبة فَقَالَ مَكَانك وَالله وَإِلَّا انتفيت من قَرَابَتي من رَسُول الله
لَئِن بَلغنِي أَن أحدا من قُوادي وخاصَتي وقف ببابك لَأَضرِبَن عُنُقه ولأقبضن مَاله مَا للمواكب تَغْدُو وَتَروح عَلَيْك أما لَك مغزلك يشغلك أَو مصحف يذكرك أَو بَيت يصونك إياك إياك لَا تفتحي بابك لمُسلم وَلَا ذمِّي فَانْصَرَفت وَهِي لَا تعقل ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه أَيّكُم يحب أَن يتحدث الرِّجَال بِخَبَر أمه فَيُقَال فعلت أم فلَان وصنعت فَقَالُوا لَا نحب ذَلِك قَالَ فَمَا بالكم تأتون أُمِّي فتتحدَثون مَعهَا وَيُقَال إِنَّه لما جَد فِي خلع الرشيد خَافت عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَمَّا ثقل فِي مَرضه دست بعض الْجَوَارِي فَجَلَسَ على وَجهه فَمَاتَ وَحكى فِي بغية الخاطر أَن الْهَادِي كَانَ يَدُور يَوْمًا فِي بستانه وَمَعَهُ خواصه وَهُوَ رَاكب على حمَار وَلَيْسَ مَعَه سلَاح فَدخل عَلَيْهِ حَاجِبه فَأخْبرهُ أَن رجلا من الْخَوَارِج جِيءَ بِهِ أَسِيرًا وَكَانَ الْهَادِي حريصَاً على الظفر بِهِ فَأمر بإدخاله فَأدْخل بَين رجلَيْنِ قد أمسكا بيدَيْهِ فَلَمَّا رأى الخارجيُ وَجه الْهَادِي جذب يَدَيْهِ من(3/399)
الرجلَيْن وَاخْتَرَطَ سيف أَحدهمَا ووثب نَحْو الْهَادِي فَلَمَّا رأى ذَلِك من حول الْهَادِي فروا جَمِيعًا وَبَقِي الْهَادِي وَحده وَثَبت على حِمَاره بركابه وعزم حَتَّى إِذا قرب الخارجيُ مِنْهُ وَكَاد أَن يعلوه بِالسَّيْفِ قَالَ الْهَادِي اضْرِب عُنُقه يَا غُلَام فَالْتَفت الْخَارِجِي حِين سمع ذَلِك وهمَا مِنْهُ فَوَثَبَ الْهَادِي عَن حِمَاره وانتزع السَّيْف من يَده فذبحه بِهِ ذبحا ثمَّ عَاد على ظهر حِمَاره من فوره وتراجع إِلَيْهِ حَاشِيَته وَقد ملئوا رعْبًا وجبناً فَمَا خاطبهم فِي ذَلِك بِكَلِمَة وَاحِدَة وَلم يكن بعد ذَلِك يُفَارِقهُ السَّيْف وَلَا يركب إِلَّا الْخَيل وَفِي مروج الذَّهَب أَنه رفع إِلَى الْهَادِي أَن رجلا من بِلَاد المنصورة من أَرض السَّنَد من أَشْرَافهم ربى غلامَاً سنديُّاً أَو هندياً وَأَن الْغُلَام هوى مولاته فَرَاوَدَهَا عَن نَفسهَا فأجابته فَدخل مَوْلَاهُ فَوَجَدَهَا مَعَه فَجَب ذكر الْغُلَام وخصاه ثمَّ عالجه إِلَى أَن برِئ فَأَقَامَ مُدَّة وَكَانَ لمَوْلَاهُ ابْنَانِ فَصَعدَ بهما الْغُلَام السندي إِلَى أَعلَى سور الدَّار فَرَأى سَيّده ابنيه مَعَ الْغُلَام فَقَالَ يَا غُلَام عرضتَ ابنيَ للهلاك فَقَالَ الْغُلَام دع عَنْك هَذَا فوَاللَّه لَئِن لم تَجُب نَفسك بحضرتي الآَن لأرمين بهما فَقَالَ الله الله فِي وَفِي ابنيَ فَقَالَ الْغُلَام دع عَنْك هَذَا فوَاللَّه مَا هِيَ إِلَّا نَفسِي وَإِنِّي لأسمح بهَا من شربة مَاء فأهوي ليرمِيَ بهما فأسرع مَوْلَاهُ فَأخذ المدية فَجَب نَفسه فَلَمَّا رأى الْغُلَام أَنه قد فعل رمى بالصبيين فتقطعا ثمَّ قَالَ هَذَا الَّذِي فعلتُ بفعلك فِي وَقتل هذَيْن الْوَلَدَيْنِ زِيَادَة فَأمر الْهَادِي بِالْكتاب إِلَى صَاحب السَّنَد بقتل الْغُلَام السندي وتعذيبه بأنواع الْعَذَاب وَأمر بِإِخْرَاج كل سندي من مَمْلَكَته فَرَخُصُوا فِي أَيَّامه حَتَّى كَانُوا يتداولون فِي ذَلِك الزَّمَان بأبخس ثمن وَقد قيل فِي مثل هَذَا الْمَعْنى من // (الْبَسِيط) //
(لاَ تأمنَنَّ فتَى أسكَنْتَ مهجَتهُ ... غَيْظًا وتَحْسِبُ أَن الغَيْظَ قد ذَهَبَا)
(لاَ تقطَعَنْ ذَنَبَ الأفعَى وتُرْسِلُهَا ... إنْ كُنْت شَهْمًا فَأتبعْ رأْسَهَا الذَّنَبَا)(3/400)
وَفِي العقد لِابْنِ عبد ربه ذكر عَن عبد الله بن الضَّحَّاك عَن الْهَيْثَم بن عدي قَالَ إِن سيف ابْن معدي كرب الزبيدِيّ البطل الْمَشْهُور الْمُسَمّى بالصمصامة دخل فِي يَد الْمهْدي فَأعْطَاهُ لوَلَده الْهَادِي فَأخْرج ذَلِك السَّيْف الْهَادِي يَوْمًا فِي مَجْلِسه وَوَضعه بَين يَدَيْهِ ودعا بمكتل دَنَانِير وَقَالَ لحاجبه ائْذَنْ للشعراء فَلَمَّا دخلُوا أَمرهم أَن يَقُولُوا فِي السَّيْف فبدأهم ابْن يَامِين الْبَصْرِيّ فَقَالَ من // (الْخَفِيف) //
(حَازَ صمصامَةَ الزبيديٌ مِنْ دُونِ ... جمِيعِ الأَنامِ مُوسَى الأَمِينُ)
(سيْفَ عَمْرٍ ووكَانَ فِيمَا سَمِعْنَا ... خَيْرَ مَا أُغْمِدَتْ عَلَيْهِ الجُفُونُ)
(أَخْضَرُ المَتْنِ بَين خَدَّيْهِ نُورٌ ... مِنْ فِرِنْدٍ تَمِيدُ فِيهِ العُيُونُ)
(أَوْقدَتْ فَوْقه الصواعِقُ نَارا ... ثمَّ ساطَتْ بِهِ الذُّعاف المنُونُ)
(فَإِذا ماسلَلْتَهُ بَهَرَ الشمْسَ ... ضِيَاء فَلم تكُنْ تَسْتبِينُ)
(وكاَّنَّ الفِرِنْدَ والرونَقَ الجَارِيَ ... فِي صَفْحَتيِهِ مَاءٌ مَعِينُ)
(وكأَنَّ المنُونَ نِيطَتْ إلَيْهِ ... فَهْوَ فِي كُلِّ جانِبَيْهِ منونُ)
(مَا يُبَالِي مَنِ انتضَاهُ لِحَرْبٍ ... أَشِمَالٌ سَطَتْ يبه أَمْ يَمِينُ)
فَقَالَ الْهَادِي دُونك السَّيْف والمكَتل فخذْهُمَا فَفرق ابْن يَامِين المكتل وَالدَّنَانِير على الشُّعَرَاء وَقَالَ فِي السَّيْف عوضْ ثمَّ انْصَرف فَبعث إِلَيْهِ الْهَادِي فَاشْترى مِنْهُ السَّيْف بِخَمْسِينَ ألف دِينَار هَكَذَا هَكَذَا قلت وتعجبني أَبْيَات أَرْبَعَة لِابْنِ الرُّومِي فِي وصف السَّيْف حَيْثُ يَقُول من // (الْخَفِيف) //
(خَيْرُ مَا اسْتَعْصَمتْ بِهِ الكَفُّ غضْبٌ ... ذَكَرٌ جسُّهُ أَنِيثُ المُهُزِّ)
(مَا تَأَمَّلْتَهُ بعَيْنَيْكَ إِلاَّ ... أرعدتْ صَفْحَتَاهُ من غَيْر هَزِّ)
(مِثْلُهُ أَفْزَعَ الشجَاعَ إِلى الدِّرْعِ ... فَغَالَى بِهِ عَلَى كُلِّ بَزِّ)
(مَا يُبَالي أَصممت شَفْرتَاهُ ... فِي مَحزِّ أم جَازَتَا عَنْ مجَزِّ)
قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ وَعَن مُصعب الزبيرِي عَن أَبِيه قَالَ دخل مَرْوَان بن أبي(3/401)
حَفْصَة الشَّاعِر على الْهَادِي بن الْمهْدي فأنشده قصيدة من // (الطَّوِيل) //
(تَشَابَهَ يَوْمَا بَأْسِهِ وَنوَالِهِ ... فَمَا أَحَد يَدْرِي لِأيِّهِمَا الفَضْلُ)
(أَيوْمُ عَطَاهُ الجمَّ أَمْ يَوْمُ بَأْسِهِ ... ... ... ... ... )
فَلَمَّا فرغ من إنشادها قَالَ لَهُ أَيّمَا أحب إِلَيْك ثَلَاثُونَ ألفا مُعجلَة أم مائَة ألف تدون فِي الدَّوَاوِين فَقَالَ مَرْوَان تعجل الثَّلَاثُونَ ألفا وتدون الْمِائَة ألف فَتلك من الْهَادِي قَلِيل قَالَ الْهَادِي بل يعجلاَنِ لَك جَمِيعًا احملوا إِلَيْهِ مائَة وَثَلَاثِينَ ألفا قَالَ نفطويه قيل إِن الْهَادِي قَالَ لإِبْرَاهِيم الْموصِلِي إِن أطربتني فاحتكم فغناه من // (الهزج) //
(سُلَيْمَى أَزْمَعَتْ بَيْنَا ... فَأَيْنَ لِقَاؤُهَا أَيْنا)
فِي أَبْيَات يسيرَة فَأعْطَاهُ سَبْعمِائة ألف دِرْهَم قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ الْهَادِي يتَنَاوَل الْمُسكر ويلعب ويركب حمارا فارهاً يَعْنِي قبل تِلْكَ الْوَاقِعَة الَّتِي ذكرتها قريبَاً وَكَانَ فصيحاً قَادِرًا على الْكَلَام أديبا تعلوه هبة وَله سطوة وشهامة وَكَانَ طَويلا جسيماً أبيضَ شفته الْعليا تقلص فَلَا يزَال مَفْتُوح الْفَم فَوكل بِهِ أَبوهُ خَادِمًا كلما رَآهُ مفتوحَ الْفَم قَالَ لَهُ مُوسَى أطبق فيفيق على نَفسه ويطبق شَفَتَيْه كَمَا تقدم ذكر ذَلِك مَاتَ فِي ربيع الآخر سنة سبعين وَمِائَة وسِنهُ ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وَمُدَّة خِلَافَته سنة وشهران وَقيل فِي سَبَب مَوته غير مَا تقدم وَهُوَ أَنه دفع نديمَاً لَهُ من جرف على أصُول قصب قد قطع فَتعلق النديم بِهِ فَوَقع فَدخلت قَصَبَة فِي مخرجه فَكَانَت سَبَب مَوته فماتا جَمِيعًا(3/402)
(خلَافَة هَارُون الرشيد)
ابْن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وَكَانَ فصيحاً بليغاً يحجُ عَاما ويغزو عَاما وَرُبمَا جمع بَينهمَا فِي عَام وَاحِد وَيُصلي كل يَوْم مائَة رَكْعَة لَا يتركُهَا إِلَّا لعِلَّة وَيتَصَدَّق كل يَوْم بِأَلف دِرْهَم وَيُحب الْعلمَاء وَيظْهر حرمات الْإِسْلَام ويتفقد الصلحاء وَمَعَ ذَلِك كَانَ منهمكَاً فِي اللَّهْو وَله فِي ذَلِك نَوَادِر وحكايات لَا تحصر بِحَدّ وَلَا تحصى بعد بُويِعَ لَيْلَة الْجُمُعَة لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول سنة مَاتَ أَخُوهُ الْهَادِي سنة سبعين وَمِائَة وَولد لَهُ الْمَأْمُون فِيهَا وَكَانَت لَيْلَة عَجِيبَة فِيهَا وَفَاة خَليفَة وَولَايَة خَليفَة وولادة خَليفَة وَلما بُويِعَ الرشيد استوزر يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْموصِلِي من // (الطَّوِيل) //
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشمْسَ كانَتْ مريضَةً ... فلمَّا أتَى هارُونُ أَشْرقَ نُورُهَا)
(تَلَبَّستِ الدُّنْيا جمَالاً بِمُلْكِهِ ... فهَارًونُ والِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا)
فَأعْطَاهُ هَارُون مائَة ألف وَأَعْطَاهُ يحيى خمسين ألفَاً وَكَانَ يحيى يصدر عَن رَأْي الخيرزان أم الرشيد ولداود بن رزين الوَاسِطِيّ قَوْله فِيهِ من // (الطَّوِيل) //
(بِهَارُونَ لَجَّ النُّورُ فِي كُلِّ بلدةٍ ... وقامَ بِهِ فِي عدْلِ سِيرَتِهِ النَّهْجُ)(3/403)
(إِمامٌ بِذَاتِ الله أَصْبَحَ شُغْلُهُ ... فأَكْثَرُ مَا يُغْنَى بِهِ الغَزْوُ والحجُّ)
(تَضِيقُ عيونُ الخَلْقِ عَن نُورِ وَجْهِهِ ... إِذا مَا بَدَا لِلنَّاسِ مَنْظَرُهُ البلْجُ)
(تَفَسَّحَتِ الآمالُ فِي جُودِ كَفِّهِ ... وَأعْطى الَّذِي يرْجُوهُ فَوْقَ الَّذِي يَرْجُو)
وَفِي سنة خمس وَسبعين وَمِائَة كَانَ خُرُوجُ يحيى بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى فِي الديلم وَهُوَ أَخُو الْمهْدي مُحَمَّد الملقب بِالنَّفسِ الزكية واشتدت شوكته وَكثر جمعه وَأَتَاهُ النَّاس من الْأَمْصَار فندب إِلَيْهِ الرشيد الْفضل بن يحيى فِي خمسين ألفا وولاه جرجان وطبرستان والري وَمَا يَليهَا وَحمل مَعَه الْأَمْوَال فَسَار وَنزل بالطالقان وَكَاتب يحيى وحذره وَبسط أمله وَكتب إِلَى صَاحب الديلم فِي تسهيل أَمر يحيى على أَن يُعْطِيهِ ألف ألف دِرْهَم فَأجَاب يحيى على الْأمان بِخَط الرشيد وَشَهَادَة الْفُقَهَاء والقضاة وَجلة بني هَاشم ومشايخهم وَعين عبد الصَّمد بن عَليّ أَن يكون مِنْهُم فَكتب لَهُ الرشيد بِكُل مَا أحب وأفاضَ عَلَيْهِ الْعَطاء وعظُمَت منزلَة الْفضل عِنْده ثمَّ إِن الرشيد حبس يحيى إِلَى أَن هلك فِي محبسه وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ حج الرشيد فَسَار من الأنبار وَمَعَهُ أَوْلَاده الثَّلَاثَة مُحَمَّد الْأمين وَعبد الله الْمَأْمُون وَالقَاسِم الملقب بالمؤتمن وَكَانَ قد ولى الْأمين الْعَهْد وولاه الْعرَاق وَالشَّام إِلَى آخر الْمغرب وَولى الْمَأْمُون الْعَهْد بعده وَسلم إِلَيْهِ من هَمدَان إِلَى آخر الْمشرق وَبَايع لِابْنِهِ الْقَاسِم بعد موت الْمَأْمُون ولقبه المؤتمن وَجعل خلعه وإثباته لِلْمَأْمُونِ وَضم إِلَيْهِ الجزيرة والثغور والعواصم ومَرَ بِالْمَدِينَةِ فَأعْطى فِيهَا ثَلَاث أعطية عَطاء مِنْهُ وَعَطَاء من الْأمين وَعَطَاء من الْمَأْمُون فَبلغ ألف ألف دِينَار وَخَمْسمِائة ألف دِينَار ثمَّ سَار إِلَى مَكَّة فَأعْطى مثلهَا وأحضر الْفُقَهَاء والقضاة والقواد وَكتب كتابا أشهد فِيهِ على الْأمين بِالْوَفَاءِ لِلْمَأْمُونِ وَآخر على الْمَأْمُون بِالْوَفَاءِ للأمين وعلق الْكِتَابَيْنِ فِي الْكَعْبَة الشَّرِيفَة وجدَّد عَلَيْهِمَا العهود بذلك قَالَ إِبْرَاهِيم الحَجبي لما أردْت تَعْلِيق كتاب الْعَهْد بِالْكَعْبَةِ سقط مني المعلاق فَكَانَ فألا بِسُرْعَة نقضه(3/404)
وَلما صير الرشيد وَلَده الْأمين ولي عَهده بعده قَالَ سلم الخاسر قصيدة فِي ذَلِك يَقُول فِيهَا من // (الْكَامِل) //
(قُلْ للمنازلِ بالكَثِيبِ الأَغْفَرِ ... سُقِّيتِ غادِيةَ السماءِ المُمْطِرِ)
(قَدْ بايَعَ الثَّقَلاَنِ مَهْدِِي الهُدَى ... لمحمدِ ابنِ زُبَيْدَةَ ابْنةِ جَعْفَرِ)
(قَدْ وَفَّقَ اللَّهُ الخليفَة إذْ بَنَى ... بَيْتَ الخلافةِ لِلْهِجَانِ الأَزْهرِ)
(فَهُوَ الخليفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ ... شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَنْظَرٍ وبِمَخْبَرِ)
فحشت زبيدة فَاه جَوَاهِر قيل باعة بِعشْرين ألف دِينَار قلت وَمن شعر سلم قَوْله من // (مخلع الْبَسِيط) //
(بَانَ شبابِي فَمَا يَحُورُ ... وطَالَ مِنْ لَيْلِيَ القَثصيرُ)
(أَهْدى لِيَ الشَّوْقَ وَهْوَ حُلْوٌ ... أَغَنُّ فِي طَرْفِهِ فُتُورُ)
(وَقَائِلٍ حِينَ شَبَّ وَجْدِي ... وَاشْتَعَلَ المُضْمرُ السَّتِيرُ)
(لَوْ شِئْتُ أَسْلاَكَ عَنْ هَوَاهُ ... قَلْبٌ لِأَشْجَانِه ذَكُورُ)
(فَقُلْتُ لَا تَعْجَلَنْ بِِلَوْمِي ... فَإِنَّمَا يُنْبِئُ الخَبِيرُ)
(عَذَّبَني والهَوَى صَغِيرُ ... فَكَيْفَ بِي والهَوَى كَبِيرُ)
(مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَات غَمًّا ... وَفَازَ باِللَّذَّةِ الجَسُورُ)
وَسلم هَذَا اسْمه سلم بن عَمْرو الْبَصْرِيّ أحد الشُّعَرَاء الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ غُلَام بشار بن برد مدح الْمهْدي والرشيد والبرامكة وَكَانَ عاكفاً على الْمعاصِي ثمَّ تزهد وتنسك مُدَّة مديدة ثمَّ مرق وَعَاد إِلَى اللَّهْو وَبَاعَ مصحفه وَاشْترى بِثمنِهِ ديوَان شعر فلقب لذَلِك الخاسر وَمن غَرِيب مَا اتّفق لهارون الرشيد أَن أَخَاهُ مُوسَى الْهَادِي لما ولي الْخلَافَة قبله سَأَلَ عَن خَاتم عَظِيم الْقدر كَانَ لِأَبِيهِ الْمهْدي فَبَلغهُ أَن الرشيد أَخذه فَطَلَبه مِنْهُ فَامْتنعَ فألحَ عَلَيْهِ فِيهِ فشق على الرشيد أَخذه فَطَلَبه وَمر على جسر بَغْدَاد فَرَمَاهُ فِي دجلة فَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي وَولي الرشيد الْخلَافَة أَتَى إِلَى ذَلِك الْمَكَان بِعَيْنِه وَمَعَهُ خَاتم رصاص فَرَمَاهُ فِيهِ وَأمر الغطاسين أَن يلتمسوه فَفَعَلُوا فَاسْتَخْرَجُوا الْخَاتم الأول فعد ذَلِك من سَعَادَة الرشيد وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ كَانَت نكبة الرشيد بالبرامكة(3/405)
اعْلَم أَن البرامكة يُقَال أصلهم من جيل من الْعَجم كَانُوا مجوسَاً وأولهم فِي التَّقَرُّب إِلَى الْخُلَفَاء خَالِد بن برمك وَكَانَ من كبار الشيعةَ وَله قدم راسخ فِي الدولة وَكَانَ يَلِي الولايات الْعِظَام ولاه الْمَنْصُور على الْموصل وأذربيجان وَولى ابْنه يحيى على أرمينية ووكله الْمهْدي بكفالة الرشيد فَأحْسن تَرْبِيَته وَدفع عَنهُ أَخَاهُ لما أَرَادَهُ على الْخلْع وتولية ابْنه الْعَهْد وحبسه الْهَادِي لذَلِك فَلَمَّا ولي الرشيد استوزر يحيى وفوض لَهُ أُمُور ملكه وَكَانَ أَولا يصدر عَن رَأْي الخيرزان أم الرشيد ثمَّ استبد بِالرَّأْيِ فِي الدولة وَكَانَ بَيتهمْ معمورا بِالرِّجَالِ من العمومية والقرابة وَكَانَ بنوه جَعْفَر وَالْفضل وَمُحَمّد قد ساهموا أباهم فِي حمل الدولة واستولوا على حظّ من تقريب السُّلْطَان واستخلاصه وَكَانَ الْفضل أَخا للرشيد من الرَّضَاع أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيرزان وَكَانَ يُخَاطب يحيى يَا أَبَت واستوزر الْفضل وجعفرَاً وَولي جَعْفَر على مصر وخراسان وَبعث الْفضل لاستنزال يحيى بن عبد الله الْعلوِي من الديلم وَدفع وَلَده الْمَأْمُون لما ولاه الْعَهْد إِلَى كَفَالَة جَعْفَر بن يحيى فحسنت آثَارهم فِي ذَلِك كُله ثمَّ عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولةَ وَكَثُرت السّعَايَة فيهم وَعظم حقد الرشيد على جَعْفَر مِنْهُم فَلَمَّا كثرت فيهم السّعَايَة بِسَبَب استيلائهم على الْخَلِيفَة فَمن دونه تحيل أعداؤهم من البطانة فِيمَا دسوه للمغنين من الشّعْر احتيالا على إسماعه للخليفة ولتحريك حفائظه عَلَيْهِم وَمن ذَلِك بيتان هما من // (الرمل) //
(لَيْتَ هِنْدًا أنجزتْنَا مَا تعِدْ ... وشَفَتْ أَنْفُسَنَا ممَّا نَجِدْ)
(واستَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَة ... إِنَّمَا العَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدّ)
فَلَمَّا سَمعهَا الرشيد قَالَ إِي وَالله عَاجز فبعثوا بذلك كامن غيرته وسلَطوا عَلَيْهِ انتقامه نَعُوذ بِاللَّه من غَلَبَة الرِّجَال وَسُوء الْحَال ذكر هَذَا ابْن عبد ربه الْقُرْطُبِيّ فِي العقد فتنكر لَهُم الرشيد وَدخل عَلَيْهِ يَوْمًا يحيى بن خَالِد بِغَيْر إِذن فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ وخاطب طبيبه جِبْرِيل بن بختيشوع منصرفاً بِهِ عَن مواجهته وَكَانَ حَاضرا فَقَالَ يحيى أما هِيَ عادتي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِذ قد نكرت مني فسأكون فِي الطَّبَقَة الَّتِي تجعلني فِيهَا فاستحيى هَارُون وَقَالَ مَا أردْت مَا تكره(3/406)
وَكَانَ الغلمان يقومُونَ بِبَاب الرشيد يَعْنِي إِذا دخل يحيى فَتقدم لَهُم مسرور الْخَادِم بِالنَّهْي عَن ذَلِك فصاروا يعرضون عَنهُ إِذا أقبل وَأَقَامُوا على ذَلِك زمانَاً فَلَمَّا حج الرشيد سنة سبع وَثَمَانِينَ وَرجع من حجه وَنزل الأنبار أرسل مَسْرُورا الْخَادِم فِي جمَاعَة من الْجند لَيْلًا فأحضروا جعفرَاً بِبَاب الْفسْطَاط وَأعلم الرشيد فَقَالَ ائْتِنِي بِرَأْسِهِ فَطَفِقَ جَعْفَر يتذلل وَيسْأل مَسْرُورا الْمُرَاجَعَة فِي أمره فَدخل إِلَى الرشيد يكلمهُ فِيهِ فَحَذفهُ الرشيد بِعَصا كَانَت فِي يَده وتهدده فَخرج وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ وَحبس يحيى وَابْنه الْفضل من ليلته وَبعث من احتاط على منَازِل يحيى وَولده وَجمع موجودهم وَكتب فِي ليلته إِلَى سَائِر النواحي بِقَبض أَمْوَالهم ورقيقهم وَبعث من الْغَد بشلو جَعْفَر وَأمر بِأَن يقسم بقطعتين وينصبا على الجسر وأعفى مُحَمَّد بن خَالِد من النكبة وَلم يضيق على يحيى وَابْنه الْفضل قَالَ فِي المروج وَاخْتلف فِي سَبَب إِيقَاعه بهم فَأَما الظَّاهِر فاحتجار الْأَمْوَال فَإِنَّهُم كَانُوا لَيْسَ للرشيد مَعَهم أمرٌ حَتَّى كَانَ يحْتَاج لليسير من المَال فَلَا يقدر عَلَيْهِ وَقيل إِن سَبَب ذَلِك أَن الرشيد لما وَجه يَقْطِين بن مُوسَى إِلَى إفريقية لإصلاحها وَكَانَ يَقْطِين من كبار الشِّيعَة وَمِمَّنْ كَانَ مَعَ إِبْرَاهِيم الإِمَام فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اكشف لي عَن جسدك أقبله لأَكُون قبلت بضعَة من رَسُول الله
ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي مولَايَ إِبْرَاهِيم الإِمَام أَن الْخَامِس من الْخُلَفَاء بني الْعَبَّاس تعذر بِهِ كُتابه فَإِن لم يقتلهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالَ لَهُ الرشيد الله حَدثَك الإِمَام بِهَذَا قَالَ نعم فَكَانَ ذَلِك السَّبَب فِي قَتلهمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَامِس من خلفاء بني الْعَبَّاس وَقيل إِن سَبَب قتل جَعْفَر أَنه رفع إِلَى الرشيد رقْعَة لم يدر رافعها وفيهَا من // (السَّرِيع) //
(قُلْ لأمِينِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ... ومَنْ ألَيْهِ الحَلُّ والعَقْدُ)
(هَذَا ابْنُ يَحْيَى قد غَدَا مَالِكًا ... مِثْلَكَ مل بَيْنَكُمَا حَدُّ)(3/407)
(أَمْرُك مرْدُودٌ إلَى أَمْرِهِ ... وأَمْرُهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّ)
(وقَدْ بَنى الدَّارَ الَّتِي مَا بَنَى ... مِثَالَهَا الفُرْسُ وَلَا الْهِنْدُ)
(أَلدُّرُّ واليَاقُوتُ حَصْبَاؤها ... وتُرْبُهَا العَنْبَرُ والنِّدُّ)
(ونَحْنُ نخشَى أَنه وَارِثٌ ... مُلْكَكَ إِنْ غَيَّبَكَ اللَّحْدُ)
(ولَنْ يُبَاهِي العَبْدُ أربابَهُ ... إلاَّ إِذا مَا بَطرَ العَبْدُ)
فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا الرشيد أوقع بِهِ وقيِل سَببه أَن الرشيد لما استنزل يحيى بن عبد الله الْعلوِي عَن جَعْفَر وَكَانَ يخافه على الْخلَافَة وَكَانَ جَعْفَر يرى سرُور الرشيد بِمَوْت من يَمُوت فِي حَبسه من هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يحيى بن عبد الله قد مَاتَ فَسُر سرورَاً وَأخْبر أَبَاهُ يحيى بذلك فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون إِن تَرَكْنَاهُ تلفنا وَإِن قَتَلْنَاهُ فَالنَّار لنا ثمَّ خيل لَهُ أَن كتب إِلَى عَليّ بن مُوسَى بن هامان وَالِي خُرَاسَان وَكَانَ متزوجاً بنت يحيى فَعرفهُ مَا جرى وفزع إِلَيْهِ فِي أَن يكون يحيى عِنْده مكرمَاً إِلَى أَن يقْضِي الله قَضَاءَهُ وَكَانَ الْكتاب بِخَط يحيى وَلم يكن يحيى يعلم مَا بَين عَليّ بن عِيسَى وَبَين ولديه الْفضل وجعفر من الْعَدَاوَة فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى عَليّ بن عِيسَى بن هامان وصل يحيى بن عبد الله قَالَ هَذَا من حيل الْفضل وجعفر عَليّ فَأجَاب يحيى بِأَنَّهُ يفعل مَا أَرَادَ وأنفذ الْكتاب إِلَى الرشيد فَأعلمهُ أَن يحيى بن عبد الله عِنْده فَكتب إِلَيْهِ الرشيد يحسن فعله ويعلمه فَسَاد أَمر البرامكة لَدَيْهِ وَأمره ببعث يحيى بن عبد الله إِلَيْهِ من غير أَن يعلم أحدا فَلَمَّا وصل يحيى إِلَى الرشيد أوقع بالبرامكة بعد مُدَّة من ذَلِك الْوَقْت وَقيل أَرَادَت البرامكة الزندقة وإفساد الْملك فَقَتلهُمْ وَقيل سَبَب ذَلِك أَن الرشيد كَانَ لَا يصبر عَن جَعْفَر وَلَا عَن أُخْته عباسة وَمَتى غَابَ أَحدهمَا عَنهُ لَا يتم سروره فَقَالَ لجَعْفَر أزَوّجكَهَا ليحل لَك النّظر إِلَيْهَا وَلَا تمسها وَكَانَا يحْضرَانِ مَجْلِسه وَرُبمَا فراقهما فيمتلئان من الشَّرَاب وهما شابان فجامعها جَعْفَر فَحملت مِنْهُ وَفِي كمامة الزهر أَن العباسة عشقت جعفراً فراودته فَأبى خوفًا على نَفسه وَرَأَتْ أَن النِّسَاء إِلَى الخديعة أقرب فَبعثت إِلَى أم جَعْفَر عتابة وَكَانَت عتابة ترسل إِلَى ابْنهَا فِي كل جُمُعَة بِكراً وَكَانَ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَأْخُذ(3/408)
شَيْئا من النَّبِيذ فَقَالَت العباسة أرسليني لجَعْفَر كجارية من اللواتي ترسلينها إِلَيْهِ فَأَبت فَقَالَت لَهَا إِن لم تفعلي أخْبرت الرشيد أَنَّك كَلَّمتنِي فِي كَيْت كَيْت وَإِن اشتملتُ على ولد زَاد فِي شرف ابْنك وَمَا عَسى أَن يفعل أخي بعد اشتمالي على ولد فطمعت عتابة فِي ذَلِك ووعدت وَلَدهَا بِجَارِيَة من هيئتها كَذَا وَكَذَا فطالبها جَعْفَر بهَا فمطلته أَيَّامًا ثمَّ قَالَت للعباسة تَهيئي فِي هَذِه اللَّيْلَة فَفعلت وأدخلتها على جَعْفَر وَكَانَ لَا يعرفهَا لِأَنَّهُ كَانَ يجلس مَعهَا هُوَ والرشيد فَلَا يَجْسُر أَن يرفع طرفه إِلَيْهَا خوفًا فَلَمَّا قضى مِنْهَا وطره قَالَت لَهُ كَيفَ رَأَيْت خديعة بَنَات الْمُلُوك فَقَالَ وَبنت أَي ملك أَنْت قَالَت أَنا مولاتك العباسة فطارَ السكر من رَأسه وَقَالَ لأمه بعتيني وَالله رخيصاً فَكَانَ هذَاَ هَو السَّبَب وَيُقَال إِن علية بنت الْمهْدي قَالَت للرشيد مَا رَأَيْت لَك يَا سَيِّدي يَوْم سرُور مُنْذُ قتلت جعفراً فلأي شَيْء قتلته فَقَالَ لَهَا يَا حيائي لَو علمت أَن قَمِيصِي يعلم السَّبَب لأحرقته وَفِي ربيع الْأَبْرَار لم أر أبر من الْفضل بِأَبِيهِ يحيى بلغ من بره أَنه لما كَانَا محبوسين وَكَانَ يحيى لَا يتَوَضَّأ إِلَّا بِمَاء مسخن فَمنع السجان الْوقُود فِي لَيْلَة بَارِدَة فَلَمَّا أَخذ يحيى مضجعه قَامَ الْفضل إِلَى قمقم فأدناه إِلَى الْمِصْبَاح فَلم يزل قَائِما وَهُوَ فِي يَده حَتَّى أصبح فَتَوَضَّأ بِهِ أَبوهُ يحيى فشعر السجان بذلك فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الثَّانِيَة غيب السجان الْمِصْبَاح فَبَاتَ الْفضل متأبطَاً القمقم يدفئه لِأَبِيهِ ليله أجمع وَمَات يحيى بالسجن فِي الرقة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة بعد قتل جَعْفَر بِثَلَاث سِنِين وَبَقِي الْفضل بعده فِي السجْن ثمَّ مَاتَ وَكَانَت دولتهم مُنْذُ اسْتخْلف هَارُون إِلَى أَن قتل جَعْفَر سبع عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر وَخَمْسَة عشر يَوْمًا وَقد رثتهم الشُّعَرَاء وَأَكْثرُوا وَمن ذَلِك قَول عَليّ بن معَاذ من // (السَّرِيع) //
(يَأَيُّهَا المُغْتَرُّ بِالدَّهْرِ ... وَالدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ وّذُو غَدْرِ)
(إِنْ كُنْتَ ذَا جَهْلٍ بِتَصْرِيِفِهِ ... فَانظُر إلَى المَصْلُوبِ بِالجسْرِ)(3/409)
(فَبَيْنَمَا جَعْفَرُ فِي مُلْكِهِ ... عشيَّةَ الجمعَةِ بالغمْرِ)
(إذْ عَثَرَ الدهْرُ بِهِ عثْرَةً ... يَا وَيْلَتِي مِنْ عَثْرَةِ الدَّهْرِ)
وَقَالَ سلم الخاسر من // (الطَّوِيل) //
(هَوَتْ أنجُمُ الجَدْوَى وشَلَّتْ يَد النَّدَى ... وغَاضَتْ بِحَارُ الجُودِ بَعْدَ البَرَامِكِ)
(هوتْ أنجُمٌ كانَتْ لآل ابْن بَرْمَكٍ ... بهَا يَعْرِف الجرِي قَوِيمَ المَسَالِكِ)
وَقَالَ مَنْصُور النميري من // (مخلع الْبَسِيط) //
(أُنْدُبْ بنِي بَرْمَكِ لدُنْيَا ... تَبْكِي علَيْهِمْ بكُلِّ نَادِي)
(كانتْ بهمْ بُرْهَةً عَرُوسًا ... فأضحَتِ الآنَ فِي حِدَادِ)
وَقَالَ دعبل الْخُزَاعِيّ من // (الطَّوِيل) //
(ألم تَرَ صَرْفَ الدّهْرِ فِي آلِ بَرْمَكٍ ... وآلِ نهيكٍ والقُرُونِ الَّتي خَلُّوْا)
(لقد غَرَسُوا غَرْسَ النخيلِ تكرُّمًا ... فَمَا حصدُوا إِلَّا كَمَا تحصدُ البقْلُ)
وَقَالَ أَبُو عذرة الْأَعرَابِي من // (الْخَفِيف) //
(مَا رَعَى الدَّهْرُ آلَ بَرْمَكَ لَمَّا ... أَنْ رَمَى ملكَهُمْ بأمْرٍ بديعِ)
(إنَّ دهراً لم يَرْعَ حَقًا ليحيى ... غَيْرُ راعٍ حَقُّا لآلِ الرَّبِيعِ)
قلت آل الرّبيع هُوَ حَاجِب هَارُون الرشيد كَأَنَّهُ يهددهم بِهَذَا القَوْل ويخوفهم ولبعضهم من من // (المديد) //
(ياَ بَنِي بَرْمَكَ وَاهًا لَكُمْ ... ولِأَيَّامِكُمُ المُقْبِلَهْ)
(كَانَتِ الدُّنْيَا عرُوسًا بِكُمْ ... وَهِيَ اليَوْمَ عَجُوزٌ أَرْمَلَهْ)
وَفِي ابْن خلكان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْهَاشِمِي قَالَ دخلت على والدتي فِي يَوْم عيد النَّحْر فَوجدت عِنْدهَا امْرَأَة عجوزاً فِي ثِيَاب رثَّة فَقَالَت لي والدتي أتعرف من هَذِه قلت لَا قَالَت هَذِه عتابة أم جَعْفَر الْبَرْمَكِي فَأَقْبَلت عَلَيْهَا بوجهي وأكرمتها وتحدثنا زَمَانا ثمَّ قلت يَا أمه مَا أعجب مَا رَأَيْت قَالَت يَا بني لقد أَتَى على هَذَا الْعِيد وعَلى رَأْسِي أَرْبَعمِائَة وصيفة وَإِنِّي أعد أَن ابْني عَاق لي وَلَقَد أَتَى على الْعِيد الْيَوْم وَمَا مناي إِلَّا جلد شَاتين أفرش(3/410)
أَحدهمَا وألتحف بِالْآخرِ قَالَ فَدفعت لَهَا خَمْسمِائَة دِينَار فَكَادَتْ تَمُوت فَرحا وَهَهُنَا مُكَاتبَة من يحيى بن خَالِد حَال كَونه فِي السجْن إِلَى الْخَلِيفَة هَارُون نثر ونظم أَحْبَبْت ختم قصتهم بهَا هِيَ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِمَام الْمُسلمين وَخلف المهديين وَخَلِيفَة رب الْعَالمين من عَبْدٍ أسلمته ذنُوبه وأوبقته عيوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وَنزل بِهِ الزَّمَان وناح عَلَيْهِ الْحدثَان فَسَار إِلَى الضّيق بعد السعَة وعالج الْبُؤْس بعد الدعة وافترش السخط بعد الرضى واكتحل السهر وافتقد الهجوع فساعته شهر وَلَيْلَته دهر قد عاين الْمَوْت وشارف الْفَوْت جزعاً يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَحجَّة الله على فقدك لما أُصِيب بِهِ من بُعدك لَا لمصيبتى بِالْحَال وَالْمَال فَإِن ذَلِك كَانَ بك وَلَك عَارِية فِي يَدي مِنْك وَلَا بُد أَن تسترد العواري فَإِن كَانَت المحنة فِي جَعْفَر فبجرمه أَخَذته وبجريرته عاقبته وَمَا أَخَاف عَلَيْك زلَّة فِي أمره وَلَا مُجَاوزَة بِهِ فَوق مَا يسْتَحقّهُ فاذكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ خدمتي وَارْحَمْ ضعْفي وسني ووهن قوتي وهب لي رضى عني فَمن مثلي الزلل ومنك الْإِقَالَة وَلست أعْتَذر وَلَكِنِّي أقرّ وَقد رَجَوْت أَن يظْهر مِنْك الرضى من وضوح عُذري وَصدق قولي وَظَاهر طَاعَتي ومليح حجتي مَا يَكْتَفِي بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَيرى الجلية فِيهِ ويبلغ المُرَاد مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ كتب تحتهَا شعرًا يَقُول من // (مجزوء الْكَامِل) //
(قُلْ لشلْخَلِيفةِ ذِي الصنَائِعِ ... والعطايا الفَاشِيَهْ)
(وابنِ الخلائفِ مِنْ قريْشٍ ... والملوكِ الهَادِيَهْ)
(رأسِ الْمُلُوك وخَيْرِ منْ ... ساسَ الأمورَ الماضيِهْ)
(إنَّ البرامكَةَ الَّذين ... رُمُوا لَدَيْكَ بداهِيَهْ)
(عَمَّتْهُمُ لَكَ سخطةٌ ... لم تُبْقِ مِنْهُمْ باقِيَهْ)
(فَكأنَّهُمْ مِمَّا بِهِمْ ... أَعْجَازُ نَخْلٍ خاويَه)
(صُفْرُ الوجوهِ عَلَيْهِمُ ... خِلَعُ المذَّلةِ بادَيهْ)(3/411)
(مستضعفُونَ مُطَرَّدُونَ ... بكُلِّ أرضٍ قاصِيَهْ)
(من دون مَا يَلْقَوْنَ مِنْ ... عَتْبٍ يشِيبُ النّاَصيَهْ)
(أضحَوْا وجُلُّ مناهُمُ ... منْكَ الرضَا والعافِيهْ)
(بَعْدَ الوزارةِ والإمارةِِ ... والأمورِ العاليَهْ)
(أُنْظُرْ إِلَى الشيخِ الْكَبِير ... فنَفْسُهُ لَك راجيَهْ)
(أوَ مَا سَمِعْتَ مَقَالَتي ... يَا ذَا الفروعِِ الزاكيَهْ)
(مَا زلْتُ أَرْجُو راحَةً ... فاليومَ حَانَ رجائيَهْ)
(اَلْيَوْمَ قد سَلَبَ الزمانُ ... كَرَامَتِي وبَهَائِيَهْ)
(ألقَى الزمَانُ جِرَانيَهْ ... مستثبتَاً بفنائيَهْ)
(ورمَى سواءَ مَقاتِلِي ... فَأصَاب حِينَ رمانيَهْ)
(يَا مَنْ يَوَدُّ لِيَ الرَّدَي ... يكفيكَ ويَحْكَ مَا بِيَهْ)
(يكفيكَ أنِّي مستباحٌ ... مَعْشَرِي ونِسَائِيَهْ)
(يَكْفِيك مَا أَبْصَرْتَ مِنْ ... ذلي وذُلِّ مكانيَهْ)
(إِن كَانَ لَا يَكْفِيكَ إلْلاَ ... أَنْ أَذُوقَ حِمَامِيهْ)
(فلقدْ رَأَيْتُ المَوْتَ مِنْ ... قبل المماتِ عَلاَنِيَهْ)
(وفُجِعْتُ أَعْظَمَ فجْعَةٍ ... وفَنيْتُ قبْلَ فَنَائِيَهْ)
(أُنْظُرْ بعينِكَ هَلْ تَرَى ... إلاَّ قُصُورًا خاليَهْ)
(وذخائرَاً موروثَةً ... قُسِّمْنَ قبْلَ مَمَاتِيَهْ)
(ومصارعاً وفجائعاً ... ومصائبَاً متواليهْ)
(أَخَلِيفَة اللَّهِ الرِّضَا ... لَا تُشْمِتَنْ أعدائَهْ)
(واذكُرْ مُقَاسَاتِي الأمُوْرَ ... وخِدْمَتِي وعنَائِيهْ)
(إِرْحَمْ جُعِلْكُ لَك الفدا ... كِبَرِي وشِدَّةَ حَالِيَهْ)
(واحْمِ أخاكَ الفَضْلَ ... والْباقِينَ مِنْ أولادِيَهْ)
(أخليفةَ الرحمنِ إنْنَكَ ... لَو رَأَيْتَ بَنَاتِيَهْ)
(وبُكاءَ فاطمةَ الكبيرةِ ... والمَدَامِعَ جاريهْ)
(ومقالَهَا بتوجُّعٍ ... يَا شِقْوَتِي وبلاَئِيَهْ)(3/412)
)
مَا لي وَقد غَضِبَ الإمامُ ... عَلى جَمِيع رِجَلِيَهْ)
(يَا نظرةَ المَلِكِ الرِّضَا ... عودي إلَيْنَا ثَانِيَهْ)
فَلَمَّا رأى الرشيد هَذِه الأبيات وَقع تحتهَا قَوْله من // (مجزوء الْكَامِل) //
(أَجْرَى القَضَاءُ عَلَيْكُمُ ... مَا جِئْتُمُوهُ عَلَانِيَهْ)
(مِنْ تَرْكِ نُصْحِ إمامِكُمْ ... عِنْد الأُمُورِ البَادِيَهْ)
(يَا آلَ بَرْمَكَ إنَّمَا ... كُنْتُمْ ملوكاً عادِيَهْ)
)
فكَفَرْتُمُ وعَصَيْتُمُ ... وجحدتُّمُ نَعْمَائِيَةْ)
(هَذِي عُقُوبَةُ مَنْ عَصَى ... معبودَهُ وعَصَانِيَهْ)
{وضرَبَ اَللَهُ مَثَلا قَرية كَانتَ آمِنَة مُطمَئنَةَ} الْآيَة النَّحْل 112 سَأَلَ الرشيد مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر فَقَالَ لَهُ لم زعمتم أَنكُمْ أقرب إِلَى رَسُول الله
منا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أَن رَسُول الله
أنشر فَخَطَبَ إِلَيْك هَل كنت تجيبه فَقَالَ سُبْحَانَ الله وَكنت أَفْخَر بذلك على الْعَرَب والعجم فَقَالَ مُوسَى لكنه لَا يخْطب إليَ وَلَا أزَوجهُ لِأَنَّهُ ولَدَنَا وَلم يَلِدْكُمْ وَدخل عَلَيْهِ يَوْمًا فعثر بهدب الْبسَاط فَوَقع فَضَحِك الرشيد فَالْتَفت إِلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه ضعف صَوْم لَا ضعف سكر وَكَانَ الرشيد قد حمل مُوسَى مَعَه سنة أَن حَجَ حمله مَعَه من الْمَدِينَة إِلَى بَغْدَاد وحبسه غير مضيق عَلَيْهِ إِلَى أَن توفّي قَالَ الذَّهَبِيّ بلغنَا أَنه بعث إِلَى الرشيد رِسَالَة يَقُول إِنَّه لن يَنْقَضِي عني يَوْم من الْبلَاء إِلَّا انْقَضى عَنْك مَعَه يَوْمًا من الرخَاء ثمَّ نقضي جَمِيعًا إِلَى يَوْم لَيْسَ لَهُ انْقِضَاء يخسر فِيهِ المبطلون قَالَ عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ لما رأى الرشيد قَبره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله يَا ابْن عَم يفتخر بذلك فَتقدم مُوسَى بن جَعْفَر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَت فتغيَّر وَجه الرشيد وَقَالَ هَذَا الْفَخر حَقًا قَالَ وَلَعَلَّ الرشيد مَا حمله إِلَى بَغْدَاد وحبسه إِلَّا لقَوْله السَّلَام عَلَيْك يَا أبتِ(3/413)
فَإِن الْخُلَفَاء لَا يحْتَملُونَ مثل هَذَا حكى الإِمَام مُحَمَّد بن ظفر قَالَ كَانَ الرشيد مَعَ ظلمه وعظيم مُلْكه وجبروته يَعْتَرِيه خَوفُ الله فَمن ذَلِك أَن خارجياً خرج عَلَيْهِ فَقتل أبطاله وانتهب أَمْوَاله مرَارًا ثمَّ إِنَّه جهز إِلَيْهِ جَيْشًا كثيفاً فقاتلوه فغلبوه بعد جهد وَأتوا بِهِ الرشيد فَجَلَسَ مجلسَاً عَاما وَأمر بإدخاله عَلَيْهِ فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ يَا هَذَا مَا تُرِيدُ أَن أصنَعَ بك قَالَ مَا تريدُ أَن يَصْنَعَ الله بك إِذا وقفتَ بَين يَدَيْهِ فَعَفَا عَنهُ وَأمر بِإِطْلَاقِهِ فَلَمَّا خرج قَالَ بعض جلسائْه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رجلٌ قَتَلَ أبطالك وانتهب أموالك تطلقه بِكَلِمَة وَاحِدَة هَذَا مِمَّا يُجَرئُ عَلَيْك أهلَ الشَّرّ فَقَالَ الرشيد ردُّوهُ فَعلم الرجل أَنه قد تكلم فِيهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تطعهم فَلَو أطَاع الله النَّاس فِيك مَا ولاك طرفَة عين قَالَ صدقت ثمَّ أَمر لَهُ بصلَة وَفِي كتاب روض الْأَخْبَار أَن الرشيد خرج إِلَى الصَّيْد فَانْفَرد عَن عسكره وَالْفضل بن الرّبيع خَلفه فَإِذا شيخ رَاكب على حمَار فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ رطب الْعين فغمز الْفضل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْفضل أَيْن تُرِيدُ يَا شيخ قَالَ حَائِطا لي فَقَالَ هَل أدلك على شَيْء تداوي عَيْنَيْك فتذهب هَذِه الرُّطُوبَة فَقَالَ الشَّيْخ مَا أحوجني إِلَى ذَلِك فَقَالَ لَهُ الْفضل خُذ عيدَان الْهَوَاء وغبار المَاء وورق الكمأة فصيره فِي قشر جوزة واكتحل بِهِ فَإِنَّهُ يذهب رُطُوبَة عَيْنَيْك فاتكأ الشَّيْخ على حلْس حِمَاره وضرط ضرطة طَوِيلَة ثمَّ قَالَ هَذِه أُجْرَة وصفك فَإِن نفعنا الْكحل زدناك فَضَحِك الرشيد حَتَّى كَاد أَن يسْقط من على ظهر فرسه قَالَ النَّضر بن شُمَيْل إِمَام اللُّغَة حَدثنِي الْفراء عَن الْكسَائي قَالَ دَعَاني الرشيد وَلَيْسَ عِنْده إِلَّا حَاشِيَته وابناه الْمَأْمُون والأمين فَقَالَ يَا عَليّ مَا زلت ساهراً مفكراً فِي مَعَاني أَبْيَات قد خفيت عَليّ قلت إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن ينشدنيها فَأَنْشد من // (الرجز) //
(قد قُلْتُ قولا للغُرَابِ إذْ حَجَلْ ... )
(عَلَيْكَ بالقُودِ المسانيفِ الأُوَلْ ... )(3/414)
(تَغَدَّ مَا شِئْتَ عَلَى غَيْرِ عَجَلْ ... )
قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن العير إِذا فصلَت من خَيْبَر وَعَلَيْهَا التَّمْر يَقع الْغُرَاب على آخر العير فطرده السَّائِق يَقُول يَا هَذَا تقدم إِلَى أَوَائِل العير فَكل على غير عجل والقود جمع أَقُود وَهُوَ الطَّوِيل الْعُنُق وَالْأُنْثَى قوداء والمسانيف الْمُتَقَدّمَة ثمَّ أَنْشدني من // (الطَّوِيل) //
(لَعَمْرِي لَئِن عشرتْ مِنْ خشْيَةِ الردَى ... نُهَاقَ الحميرِ إِنَّنيِ لَجَهُولُ)
فَقلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ الرجل من الْعَرَب إِذا وصل إلَى خَيْبَر أكب على أَرْبَعَة وَعشر تعشير الْحمار وَهُوَ أَن ينهق عشر نهقات مُتَتَابِعَات يفعل ذَلِك فَيدْفَع عَن نَفسه حمى خَيْبَر ثمَّ أَنْشدني قَول الآخر من // (الْبَسِيط) //
(أجاعلٌ أَنْتَ بَيْقُورًا مُضَرَّمَةً ... ذريعَةً لَكَ بَين اللهِ والمَطَرِ)
قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَت الْعَرَب إِذا أَبْطَأَ الْمَطَر شدت الْعشْر والسلع وهما ضَرْبَان من النبت فِي أَذْنَاب الْبَقر وألهبوا فِيهَا النَّار وشردوا بالبقر تفاؤلا بالبرق والمطر ثمَّ أَنْشدني من // (الطَّوِيل) //
(لعمركَ مَا لامَ الفَتَى مِثْل نَفْسِهِ ... إِذا كانَتِ الأحياءُ تَعْرَى ثيابُهَا)
(وآذَنَ بالتصْفِيقِ مَنْ سَاءَ طنُّهُ ... فَلم يَدْرِ مِنْ أيِّ اليدَيْنِ جوابُهَا)
فَقلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا ضَل فِي الْمَفَازَة قلب ثِيَابه وَصَاح كَأَنَّهُ يُومِئ إِلَى إِنْسَان ويشتد شدَّة ويصفق بيدَيْهِ فيهتدي الطَّرِيق ثمَّ أَنْشدني من // (مجزوء الْكَامِل) //
(قَوْدَاء تَمْلِكُ رَحْلَهَا ... مِثْلَ اليَتِيمِ مِنَ الأَرَانِبْ)
فَقلت نعم يَقُول هَذِه نَاقَة مثل الْيَتِيم من الآكام واليتيم الْوَاحِد من كل شَيْء والأرانب الآكام ثمَّ أَنْشدني لآخر من // (الطَّوِيل) //
(إِلى اللهِ أشكُو هَجْمَةً هجريَّةً ... تعاورها أَمْر السِّنِين الغَوَابِرِ)(3/415)
(فعادَتْ روايا تَحْمِلُ الطَّينَ بَعْدَ مَا ... تَكُونُ قِرًى للمُعْتَفِينَ المَفَاقِرِ)
قلت نعم هَذَا رجل فِي بستانه نخيل أَتَى عَلَيْهَا الدَّهْر فجفت فقطعها وصيرها أجذاعاً وسقف بهَا الْبيُوت فَقَالَ هَذِه الأجذاع كَانَت تحمل الرطب فنأكل ونطعم الأضياف فجفت فقطعتها وسقفت بهَا فَهِيَ الْآن تحمل الطين وَالتُّرَاب وَغير ذَلِك ثمَّ أَنْشدني من // (الطَّوِيل) //
(وَسِرْبٍ مِلاَحٍ قد رأيتُ وجوهَهُمْ ... إِنَاثٌ دَوَانِيهِ ذُكُورٌ أواخِرُهْ)
قلت نعم يَعْنِي الأضراس ثمَّ أَنْشدني قَول الآخر من // (الطَّوِيل) //
(فَإنِّي إِذن كَالثَّوْرِ يُضْرَبُ جَنْبُهُ ... إِذَا لَمْ يَعَفْ يَوْمًا وَعَافَتْ صَوَاحِبُهْ)
قلت نعم كَانَت الْعَرَب إِذا وَردت الْبَقر المَاء فَشَرِبت الثيران وأبت الْبَقر ضربت الثيران فَتَشرب الْبَقر وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر الآخر من // (الْبَسِيط) //
(إِنِّي وَقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ ... كالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عافَتِ البَقَرُ)
ثمَّ أَنْشدني قَول الآخر من // (الطَّوِيل) //
(وَمُنْحَدِرٍ مِنْ رَأْسِ بَرْقَاءَ حَطَّهُ ... مَخَافَةَ بينٍ أَوْ حَبِيب مُزَايِلِ)
قلت نعم يَعْنِي الدُّمُوع والبرقاء الْعين لِأَن فِيهَا بياضَاً وسواداً حطه أساله قَالَ فَوَثَبَ الرشيد فجذبني إِلَى صَدره وَقَالَ لله در أهل الْأَدَب ثمَّ دَعَا بِجَارِيَة فَقَالَ احملي إِلَى منزل الْكسَائي خمس بدر على أَعْنَاق خَمْسَة أعبد يلزمون خدمته ثمَّ قَالَ لي استنشدها يَعْنِي ابنيه فأنشدني مُحَمَّد الْأمين فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(وَإِنِّي لَعَفُّ الفَقْر مُشْتَرَكُ الغِنَى ... وَتَارِكُ شَكْلٍ لاَ يُوَافِقُهُ شَكْلِي)
(وَشَكْلِيَ شكْلٌ لَا يَقُومُ لِمِثْلِهِ ... مِنَ الناسِ إِلاَّ كُلُّ ذيِ ثِقَةٍ مِثْلِي)
(ولي نيقةٌ فِي المَجْدِ والبَذْلِ لم يَكُنْ ... تَأَنَّقَهَا فِيمَا مَضَى أَحَدٌ قَبْلِي)
(وأجعلُ مَالِي دُونَ عِرْضِيَ جُنَّةً ... لِنَفْسِي وأَسْتَغْنِي بِمَا كَانَ مِنَ فَضْلِ)
وأنشدني عبد الله الْمَأْمُون من // (الْكَامِل) //
(بَكَرَتْ تلومُكَ مطْلَعَ الفَجْرِ ... ولقَدْ تلومُ بَغْير مَا تَدْرِي)(3/416)
(مَا إنْ مَلَكْت مُصِيبَةً نَزَلَتْ ... إذْ لَا تحكِّمُ طائعَاً أمْرِي)
)
مَلِكُ المُلوكِ عَلَىَّ مُقْتَدِرٌ ... يُعْطى إِذا مَا شَاءَ مِنْ يُسْرِ)
(فَلَرُبَّ مغتبطٍ تمدُّ لَهُ ... ومفَجَّعٍ بنوائِبِ الدهْرِ)
(ومكاشِحٍ لي قد مَدَدتُّ لَهُ ... نَحْرًا بِلَا ضرْعٍ وَلَا غمْرِ)
(حَتَّى يَقُولَ لنفْسِهِ لَهَفٌ ... فِي أَيِّ مذهَبِ غايةٍ أَجْرِي)
(ويَرَى قنَاتِي حِينَ يَغْمِزُهَا ... غمْزَ الثِّقَافِ بطيئَة الكَسْرِ)
فَقَالَ الرشيد يَا عَليّ كَيفَ تراهما فَقلت من // (الطَّوِيل) //
(أَرَى قَمَرَيْ أُفْقٍ وَفَرْعَي بشامَةٍ ... يَزِينُهُمَا عِرقٌ كريمٌ ومَحْتِدُ)
(يَسُدَّانِ آفاقَ السماءِ بشيمةٍ ... يؤيِّدُهَا حَزْمٌ وعَضْبٌ مُهْنَّدُ)
(سليليْ أمِيرِ المؤمنينَ وحَائِزَيْ ... موارِيثِ مَا أبْقَى النَّبِيُّ محمَّدُ)
ثمَّ قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فرع زكا أَصله وطاب مغرسه وتمكَنت عروقه وعذبت مشاربه غذاهما ملك أغر نَافِذ الْأَمر وَاسع الْعلم عَظِيم الْحلم فأسأل الله أَن يزِيد بهما الْإِسْلَام تأييدَاً وَعزا ويمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بهما ويمتعهما بدوام سُلْطَانه وَقدرته مَا دجا ليل وأضاء نَهَار ثمَّ انْقَضى الْمجْلس وَخرجت جذلا مَسْرُورا وَفِي كتاب الأذكياء ذكر أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن جَعْفَر الْبَلْخِي أَن الرشيد جمع بَين الْكسَائي وَأبي مُحَمَّد اليزيدي يتناظران فِي مَجْلِسه فَسَأَلَهُمَا الْكرْمَانِي عَن قَول الشَّاعِر من // (مجزوء الرمل) //
(مَا رَأَيْنَا خَرِبًا يَنْقر ... عَنهُ البَيْضَ صَقْرُ)
(لاَ يَكُونُ العَيْرُ مُهْرًا ... لَا يكون المُهْرُ مُهْرُ)
فَقَالَ الْكسَائي يجب أَن يكون الْمهْر مَنْصُوبًا على أَنه خبر كَانَ فَفِي الْبَيْت على هَذَا إقواء فَقَالَ اليزيدي الشّعْر صَوَاب لِأَن الْكَلَام قد تمّ عِنْد قَوْله لَا يكون الثَّانِيَة ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ الْمهْر مهر ثمَّ ضرب بقلنسوته على الأَرْض وَقَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد فَقَالَ لَهُ يحيى أتكتني بِحَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الرشيد وَالله إِن خَطَأَ الْكسَائي مَعَ حسن أدبه لأحب إِلَيّ من صوابك مَعَ سوء أدبك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن حلاوة الظفر أذهبت عَن التحفظ فَأمر بِإِخْرَاجِهِ(3/417)
وَاجْتمعَ الْكسَائي وَمُحَمّد بن الْحسن الشباني صَاحب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ الْكسَائي من تبحر فِي علم النَّحْو اهْتَدَى إِلَى سَائِر الْعُلُوم فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد مَا تَقول فِيمَن سَهَا فِي سُجُود السَّهْو هَل يسْجد مرّة أُخْرَى قَالَ لَا قَالَ لم ذَا قَالَ لِأَن النُّحَاة يَقُولُونَ المصغر لَا يصغر قَالَ مُحَمَّد فَمَا تَقول فِي تَعْلِيق الْعتْق بِالْملكِ قَالَ لَا يَصح قَالَ لم قَالَ لِأَن السَّيْل لَا يسْبق الْمَطَر وَتعلم الْكسَائي النَّحْو على كبر سنه وَسَببه أَنه مَشى يَوْمًا حَتَّى أعيا فَجَلَسَ وَقَالَ عييت فَقيل لَهُ لحنت قَالَ كَيفَ قيل إِن كنت أردْت التَّعَب فَقل أعييت وَإِن كنت أردْت انْقِطَاع الْحِيلَة فَقل عييت بِغَيْر همز فَأَنف من قَوْلهم لحنت واشتغل بالنحو حَتَّى مهر وَصَارَ إِمَام وقته وَكَانَ يُؤَدب الْأمين والمأمون وَصَارَت لَهُ الْيَد الْعُظْمَى والوجاهة التَّامَّة عِنْد الرشيد وولديه وَتُوفِّي مُحَمَّد بن الْحسن وَالْكسَائِيّ فِي يَوْم وَاحِد سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة ودفنا فِي مَكَان وَاحِد فَقَالَ الرشيد هَهُنَا دفن الْعلم وَالْأَدب وقصة الْكسَائي مَعَ سِيبَوَيْهٍ فِي مَسْأَلَة فَإِذا هُوَ هِيَ أَو إِيَّاهَا شهيرة لَا نطول بذكرها وَقَالَ الْمبرد حَدثنِي مُحَمَّد بن عباد الْحَنَفِيّ قَالَ أَخْبرنِي الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف بِبَغْدَاد قَالَ لم أدر ذَات يَوْم إِلَّا والمسودة قد أحاطت بِي فَمضى بِي إِلَى دَار الْخلَافَة هَارُون الرشيد فصرت إِلَى خَالِد بن يحيى فَقَالَ وَيحك يَا عَبَّاس إِنَّمَا اخْتَرْتُك من ظرفاء الشُّعَرَاء لقرب مأخذك وَحسن تَأْتِيك وَإِن الَّذِي ندبتك لَهُ من شَأْنك وَقد عرفت خطرات الْخُلَفَاء وَإِنِّي أخْبرك أَن ماردة هِيَ الْغَالِبَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد جرى بَينهمَا عتب وَهِي بِعِزة دَالَّة المعشوق تأبى أَن تعتذر وَهُوَ بِعِزةِ الْخلَافَة وَشرف الْملك يَأْبَى وَقد رمت الْأَمر من قبلهَا فأعياني وَهُوَ أَحْرَى أَن تستقيده الصبابة فَقل شعرًا تسهل بِهِ هَذَا السَّبِيل فَلَمَّا قضى كَلَامه دَعَاهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَصَارَ إِلَيْهِ وَأعْطيت وَرقا ودواة فاعتراني الدمع وَنَفر عني كل شَيْء ثمَّ انْفَتح لي شَيْء من الْأَشْيَاء وَالرسل من الْخَلِيفَة مَا تغبني فجاءتني أَرْبَعَة أَبْيَات رضيتها وَقعت صَحِيحَة الْمَعْنى سهلة الْأَلْفَاظ(3/418)
ملائمة لما طلب مني فَقلت لأحد الرُّسُل أبلغ الْوَزير أَنِّي قد قلت أَرْبَعَة أَبْيَات فَإِن كَانَ فَفِيهَا مقنع وَفِي مُدَّة ذهَاب الرَّسُول ومجيئه حضرني بيتان من غير ذَلِك الروى فَكتبت الْأَرْبَعَة فِي صدر الرقعة وعقبتهما بالبيتين وَذَلِكَ قولي من // (الْكَامِل) //)
ألْعَاشِقَانِ كلاَهُمَا متغضِّبُ ... وَكِلَاهُمَا متوحِّدٌ متجنِّبُ)
(صَدَّتْ مُغَاِضبةً وصَدَّ مُغَاضِبًا ... وكلاهُما ممَّا يُعَالِجُ مُتْعبُ)
(رَاجِعْ أَحِبَّتَكَ الَّذينَ هَجَرْتَهُمْ ... إنَّ المتيَّمَ قَلَّما يتجنَّبُ)
(إِن التجنُّبَ إنْ تطاوَلَ منْكُمَا ... دبَّ السُّلُوُّ لَهُ فَعَزَّ المَطْلَبُ)
ثمَّ البيتان وهما من // (السَّرِيع) //
(لاَ بُدَّ للعاشِقِ من وَقْفَةٍ ... تكُونُ بَين الوَصْلِ والصَّرْمِ)
(حَتَّى إِذا الهَمُّ تمادَى بِهِ ... راجَعَ مَنْ يَهْوَى عَلَى رَغْمِ)
قَالَ ثمَّ وجهت بالرقعة فَدَفعهَا إِلَى الرشيد فَقَالَ وَالله مَا رَأَيْت شعرًا أشبه بِمَا نَحن فِيهِ من هَذَا وَالله لكَأَنِّي قصدت بِهِ فَقَالَ يحيى فَأَنت وَالله الْمَقْصُود يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا يَقُول الْعَبَّاس بن الأحْنف فِي هَذِه الْقِصَّة فَلَمَّا قَرَأَ الْبَيْتَيْنِ وأفضى إِلَى قَوْله رَاجع من يهوى على رغم استغرق ضحكاً ثمَّ قَالَ إِنِّي وَالله أرَاجعهَا على رَغم يَا غُلَام نَعْلي فَنَهَضَ وأذهله الجذل وَالسُّرُور عَن أَن يَأْمر لي بِشَيْء فدعاني يحيى وَقَالَ إِن شعرك قد وَقع بغاية الْمُوَافقَة ثمَّ جَاءَ إِنْسَان فسارهُ بِشَيْء فَنَهَضَ ونهضت لنهوضه فَقَالَ يَا عَبَّاس أمسيت أنبل النَّاس أَتَدْرِي مَا سَارَّنِي بِهِ هَذَا الرَّسُول قلت لَا قَالَ ذكر أَن ماردة تلقت أَمِير الْمُؤمنِينَ لما علمت بمجيئه فَقَالَت لَهُ كَيفَ كَانَ هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَعْطَاهَا الشّعْر وَقَالَ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِي قَالَت من يَقُوله فَقَالَ الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف قَالَت فبكم كوفئ فَقَالَ الْخَلِيفَة مَا فَقلت شَيْئا قَالَت إِذن وَالله لَا أَجْلِس حَتَّى يكافأ وأمير الْمُؤمنِينَ قَائِم لقيامها وَأَنا قَائِم لقيامهما وهما يتناظران فِي صِلَتِكَ هَذَا كُله لَك قلت مَا لي من هَذَا إِلَّا الْقبْلَة فَضَحِك وَقَالَ هَذَا أحسن من شعرك فَأمر لي الْخَلِيفَة بمالِ وأمرتْ هِيَ لي بِمَال دونه وَأمر لي الْوَزير بِمَال دون مَا أمرت بِهِ وحملت المَال على بغلة انْتهى وروى عَن الْمبرد قَالَ حَدثنِي من أَثِق بِهِ أَن مُسلم بن الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ الْمُسَمّى(3/419)
بصريعِ الغواني كَانَ يمدحُ من دون الْخَلِيفَة وَكَانَ يَقُول إِن نَفسِي تذوب حسرات من أَن يحوي جوائز الْخُلَفَاء من لَا يقاربني فِي الْأَدَب وَلَا يوازيني وَلَا يصلح أَن يكون شعره خَادِمًا لشعري فَخرج ذَات يَوْم فلقي يزِيد بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي بِبَاب الرشيد فَسلم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَن يقربهُ من الْخَلِيفَة فوعده ذَلِك فَدخل الْحِمْيَرِي فَأصَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ لقس النَّفس قد اشْتَمَل عَلَيْهِ الْفِكر فِي سرعَة تقضي الْأُمُور وَأَنه لَا يتشبث بِشَيْء لَا كَانَ كالظل الْحَائِل والسراب الخادع فَقَالَ لَهُ جَعْفَر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا هَذَا الَّذِي أَنْت فِيهِ عَارض لَك وَكَانَت الْحُكَمَاء تَقول الْهم مفْسدَة للنَّفس مضلة للفهم مشدهة للقلب وَقَالَت أَيْضا بالسرور يطيب الْعَيْش وَمَعَ الْهم يتَمَنَّى الْمَوْت قَالَ وَكَأن الرشيد نشط واندفع عَنهُ مَا اعتراه من ذَلِك الْفِكر فَتقدم الْحِمْيَرِي وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ خلفت بِالْبَابِ اَنفاً رجلا من أخوالك الْأَنْصَار متقدمَاً فِي شعره وأدبه وظرفه أَنْشدني قصيدة يذكر فِيهَا أنسه ولهوه ومحادثة إخوانه وَيذكر مجَالِس اتّفقت بأبلغ قَول وَأحسن وصف يبْعَث وَالله على الصبابة والفرح ويباعد من الْهم والترح وَكَأَنَّهُ وفْق بيمن أَمِير الْمُؤمنِينَ وسعادة جده لِأَن يكون زَائِدا فِي سرُور أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فاستفزه السرُور والقلق إِلَى دُخُوله عَلَيْهِ واستماع قصيدته فَجعل الْخَلِيفَة يُتَابع الرُّسُل إِلَيْهِ فَدخل مُسلم فَسلم بالخلافة ثمَّ أمْهل حَتَّى سكن ثمَّ أذن لَهُ فِي الْجُلُوس والانبساط واستدعى مِنْهُ الشّعْر فانبرى ينشد من // (الطَّوِيل) //
(أَدِيرَا عَلَىَّ الكَأْسَ لاَ تَشْرَبَا قبلي ... وَلاَ تطْلُبَا مِنْ عِنْدِ قَاتِلَتِي ذَخْلِي)
(فَمَا جرَعِي أَنَّي أموتُ صَبَابَةً ... ولكنْ على مَنْ لَا يَحِلُّ لَهَا قَتْلِي)
(أحبُّ الَّتِي صَدّتْ وقالتْ لِتِرْبِهَا ... دَعِيه الثريا مِنْهُ أقْرَبُ مِنْ وَصْلِي)
(بَلَى رُبمَا وَكَّلْتُ عَيْني بنظرةٍ ... إِلَيْهَا تزيدُ القَلْبَ خَبْلاً على خَبْلِ)
(كَتَمْتُ تباريحَ الصبَابَةِ عَاذِلِي ... فَلم يَدْرِ مَا بِي واستَرَحْتُ مِنَ العّذْلِ)
(ومانحَةٍ شرَّابَها المَلْك قَهْوَةً ... يهوديةَ الأَصْهارِ مُسْلِمَةَ البَعْلِ)
(رَبِيبَةَ شَمْسٍ لم تُهَجَّنْ عُروقُهَا ... بِنَارٍ وَلم يُجْمَعْ لَهَا سعفُ النَّخْلِ)
(بعثنَا لَهَا مِنا خَطِيبًا لِبُضْعِهَا ... فجَاء بهَا يَمْشِي العِرَضْنَةَ فِي مَهْلِ)(3/420)
(قَدِ استودعَتْ دَنًّا لَهَا فَهْوَ قائِمٌ ... بهَا شفقاً بَين الكرومِ على رِجْلِ)
(فوافَي بهَا عَذْرَاءَ خلّ أَخُو تَدًى ... جَزِيلُ العطايا غَيْرُ نِكْسٍ وَلَا وَغْلِ)
(مُعَتَّقَةً لَا تَشْتَكِي دَمَ عاصِرٍ ... حروريَّةً فِي جَوْفِهَا دَمُها يَغْلِي)
(أغارَتْ على كَفِّ المُدِيرِ بلونِهَا ... فصَارَتْ لَهُ مِنْهَا أَنَامِلُ كالذّبْلِ)
(أماتَتْ نفوساً من حياةٍ قريبةٍ ... وماتَتْ فَلم تُطْلَبْ بِوتْر وَلَا تبْلِ)
(شَقَقْنَا لَهَا فِي الدَّنِّ عينا فأسْبَلَتْ ... كَمَا أخلًتْ عَين الخَرِيدَةِ بِالكُحْلِ)
(كأنَّ فنيقاً بازلاً شقَّ نَحْرهُ ... إِذا أسفَرَتْ مِنْهَا الشعاعُ على البُزْلِ)
(ودارَتْ علينا الكَأسُ مِنْ كَفِّ ظَبْيَةٍ ... مبتَّلةٍ حَوْرَاء كَالرَّشَأ الطَّفْلِ)
(كأنَّ ظباء عُكَّفًا فِي رياضها ... أباريقُها أَو حِينَ قَعْقَعَةِ النَّبْلِ)
(وحنَّ لنا عودُ فَبَاحَ بِسِرِّنَا ... كأنَّ عَلَيْهِ سَاقَ جاريةٍ عُطْلِ)
(تضاحكُهُ طَوْرًا وتبكيه تَارَة ... خَدلَّجةٌ هيْفَاءُ ذَاتُ شَوًى عَبْلِ)
(إِذا مَا عَلَتْ منا ذُؤَابَةَ مَاجِد ... تَمَشَّتْ بِهِ مَشْيَ المُقَيَّدِ فِي الوَحْلِ)
(فَلَا نَحن مِتْنَا مَوْتَةَ الدَّهْرِ بَغْتَة ... وَلَا هِيَ عادَتْ بعد عَلًّ وَلَا نَهْلِ)
(سأنقادُ لِلَّذَّاتِ مُتَّبِعَ الهَوَى ... لِأُمْضِيَ هَمًّا أَو أَصَبْت فَتًى مِثليِ)
(هَلِ العيشُ إلاَّ أَنْ تَرُوحَ مَعَ الصّبَا ... وَتَغْدُو صَرِيع الكَأْسِ والأَعْينِ النُّجْلِ)
قَالَ فَجعل الرشيدُ يتطاوَلُ لَهَا ويستحسنُ جَمِيع مَا حَكَاهُ وَأمر لَهُ بِمَال جزيل وَأَن يتَّخذ لَهُ مجْلِس يتَحَوَّل إِلَيْهِ وَجعل الرشيد وَأَصْحَابه يتناشدون قصيدته هَذِه وَسَماهُ يَوْمئِذٍ بآخر بَيت فِي القصيدة صَرِيعَ الغواني فالرشيد هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بِهَذَا الِاسْم فَلَزِمَهُ انْتهى كَذَا فِي المحاسن لإِبْرَاهِيم البهيقي وَأدْخل الْفضل بن يحيى أَبَا نواس إِلَى عِنْد الرشيد فَقَالَ لَهُ الرشيد أَنْت الْقَائِل من // (مجزوء الرمل) //
(عتقَتْ فِي الدَّنِّ حَتَّى ... هِيَ فِي رِقَّةِ دِينِي. .)
أحسبك زنديقاً قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد قلت مَا يشْهد لي بِخِلَاف ذَلِك قَالَ وَمَا هُوَ فَقَالَ من // (السَّرِيع) //
(أَيَّةُ نَارٍ قَدَحَ القَادِحُ ... وَأَيُّ جِدِّ بَلَغَ المازحُ)
(للَّهِ دَرُّ الشَّيْبِ مِنْ واعظٍ ... ونَاصِحٍ لَو قُبِلَ الناصِحُ)(3/421)
(فاغْدُ فَمَا فِي الحَقِّ أُغْلُوطَةٌ ... وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائحُ)
(مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي ... سِيقَ إِليْهِ المَتْجَرُ الرَّابحُ)
(لَا يَجْتَلِي الحَوْرَاءَ مِنْ خِدْرِهَا ... إِلاَّ امْرُؤٌ مِيزَانُهُ رَاجِحُ)
(فاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى نِسْوَةٍ ... مُهُورُهُنَّ العَمَل الصَّالِحُ)
فَقَالَ الرشيد لَا أعتبر بِهَذَا الْكَلَام يَا غُلام اضْرِب عُنُقه فَقَالَ أَبُو نواس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أتقتلني شَهْوَة لقتلي قَالَ بل استحقاقاً قَالَ فَإِن الله تَعَالَى يُحَاسب ثمَّ يعْفُو أَو يُعَاقب فبماذا استحققتُ عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَتْل قَالَ بِقَوْلِك من // (الطَّوِيل) //
(أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْرًا وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُ ... ولاَ تَسْقِنِي سِرًّا إِذا أَمْكَنَ الجَهْرُ)
قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَهَل علمت أَنه سقاني أَو شربت قَالَ أظُن قَالَ أفتقتلني على الظَّن وَبَعض الظَّن إِثْم قَالَ وَقد قلت أَيْضا مَا تسْتَحقّ بِهِ الْقَتْل غير هَذَا قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ قَوْلك فِي التعطيل من // (الْكَامِل) //
(مَا جاءَنا أَحًدٌ يُخَبِّرُ أَنَّهُ ... فِي جَنَّةٍ مَنْ مَاتَ أَو فِي نَارِ)
قَالَ أفجاء أحد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَا قَالَ أفتقتلني على الصدْق قَالَ أولست الْقَائِل من // (الْبَسِيط) //
(يَا أَحْمَدُ المُرْتَجَى فِي كُلِّ نائيةٍ ... قُمْ سَيِّدِي نَعْصِ جَبَّارَ السَّمَواتِ)
قَالَ أَبُو نواس أفقام أَحْمد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَصَارَ القَوْل فعلا قَالَ أعلم قَالَ أفتقتلني على مَا لَا تعلم قَالَ فدع هَذَا كُله قد اعترفْتَ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من شعرك بِمَا يُوجب عَلَيْك الْقَتْل قَالَ قد علم الله تَعَالَى هَذَا من قبل علم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأخْبر عني أَنِّي أَقُول مَا لَا أفعل يُشِير إِلَى الْآيَة فِي الشُّعَرَاء {وَأَنَهُم يَقولوُنَ مَا لَا يَفعَلوُن} الشُّعَرَاء 226 فَقَالَ الْفضل يَا سَيِّدي إِنَّه ليؤمن بِالْبَعْثِ وَإنَّهُ يحملهُ المجون على ذِكْرِ مَا لم يَعْتَقِدهُ ثمَّ إِن أَبَا نواس أنْشد الْخَلِيفَة يَقُول مدحاً من // (الطَّوِيل) //
(لَقَدْ طَالَ فِي رَسْمِ الديارِ بُكَائِي ... وقَدْ طَال تَرْدَادِي بهَا وَعَنَائِي)
(كأنِّي مريعٌ فِي الديارِ طريدَة ... أَرَاهَا أمامِي مَرَّةً وَوَرَائِي)
(فَلمَّا بدا لِي اليَأْسُ عَدَّيْتُ نَاقَتِي ... عَنِ الدارِ اسْتَوْلي عَلَىَّ عَزَائِي)(3/422)
(إلَى بَيْتِ حَانٍ لاَ تَهِرُّ كِلاَبُهُ ... عَلَىَّ وَلَا ينكرْنَ طُولَ ثَوَائي)
(فَمَا رمتُهُ حَتَّى أتَى دُونَ مَا حَوَتْ ... يَمِيني وحَتَّى رَبْطَتى وحِذَائي)
(وكأسٍ كمصباحِ السماءِ شَرِبْتُهَا ... عَلَى قُبْلَةٍ أَو مَوْعِدٍ بِلِقَاءِ)
(أَتَتْ دونهَا الأَيامُ حتَّى كَأَنَّهَا ... تَسَاقَطُ نورَاً مِنْ فُتُوِقِ سَمَاءِ)
(تَرَى ضَوْءَهَا من ظاهرِ البَيْتِ ساطعاً ... عَلَيْك وَلَوْ غَطَّيْتَهُ بِغِطَاءِ)
(تَبارَكَ مَنْ سَاسَ الأمورَ بِقُدْرَةٍ ... وفَضَّلَ هَارُونًا على الخُلَفَاءِ)
(نَراكَ بِخَيْرٍ مَا انْطَوينَا عَلَى التقَى ... وَمَا سَاسَ دُنْيَانَا أَبُو الأُمَنَاءِ)
(إِمامٌ يخافُ الله حَتَّى كَأَنَّهُ ... يؤمِّلُ رُؤيَاهُ صَبَاحَ مَسَاءِ)
(أَشَمّ طِوَال الساعِدَيْنِ كَأَنَّمَا ... يُنَاطُ نِجَادًا سَيْفُهُ بِلِواءِ)
قَالَ فَخلع عَلَيْهِ الرشيد وَوَصله بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَالْفضل بِمِثْلِهَا فَنظر إِلَى جَارِيَة تخْتَلف كَأَنَّهَا لُؤْلُؤ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا ميت فِي لَيْلَتي هَذِه فَإِذا مت فَمر أَن أُدفَنَ فِي بطن هَذِه الْجَارِيَة فَقَالَ لَهُ الرشيد خُذْهَا لَا بارَكَ الله لَك فِيهَا فَقَالَ أَبُو نواس فَانْصَرَفت بِمثل الشَّمْس حسنا وَفِي منزلي غُلَام لي مثل الْقَمَر فلقيني مُحَمَّد بن بشير الشَّاعِر فَقَالَ أَتَيْتُك مهنئاً بِمَا حباك أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقلت هِيَ نعْمَة تتبعها نقمة قَالَ وَلم ذَاك قلت عِنْدِي غُلَام مثل الْقَمَر وَهَذِه الشَّمْس إِن جمعتهما أتخوفُ مَا تعلم وَإِن أفردت الْجَارِيَة لم آمَن عَلَيْهَا وغلامِي لَا بُد مِنْهُ قَالَ اجْعَلْهَا عِنْد بعض إخوانك إِلَى وَقت حَاجَتك قلت فَلَعَلَّ الحارسَ هُوَ المحروس مِنْهُ قَالَ فصَيرهَا عِنْد عَجُوز تثقُ بهَا قلت لعَلي أسترعِي الذِّئْب قَالَ ثمَّ افترقنا فَالتقى معي بعد ثَلَاث فَقلت لَهُ يَا مُحَمَّد بن بشير مَا على وَجه الأَرْض شَرّ مِنْك شاورتك فِي أَمر فَلم تفتح عَليّ فِيهِ شَيْئا فَلَمَّا فارقتك ازدحَمَ عليَ الرَّأْي الْمُصِيب فَقَالَ لي صنعت مَاذَا قلت زوجتُ الشمسَ بالقَمَرِ فحصلتهما لأَقضِي بهما وطرى فَقَالَ كَانَ الشَّيْء عَلَيْك حَلَالا فَجَعَلته حَرَامًا فَقَالَ أَبُو نواس يَا أَحمَق مَا شاورتك فِي الْحَلَال وَالْحرَام إِنَّمَا قلت لَك كَيفَ الرَّأْي فِي تحصيلهما عِنْدِي ثمَّ أنشأ يَقُول من // (السَّرِيع) //
(زَوَّجْتُ هَذَاكَ بِهَذى لِكَيْ ... أَنْكِحَ ثِنْتَينِ فَثِنْتَينِ)
(أَنْكِحُ هّذَا مرَّة ثُمَّ ذَا ... أَدِيرُ رُمْحًا بَين صَفَّيْنَ)(3/423)
(مَتَّعْتُ نَفْسِي بِهِمَا لذَّةً ... يَا مَنْ رَأَى مَطْلعَ شَمْسيْنِ)
وَذكر أَن هَارُون الرشيد لما قدم الْمَدِينَة المنورة لزيارة النَّبِي
وَذَلِكَ فِي بعض حجاته وَجه يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي إِلَى الإِمَام مَالك بن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ احْمِلْ إليَ كتابك الَّذِي صنعت يَعْنِي الْمُوَطَّأ أسمعهُ عَلَيْك فَقَالَ مَالك ليحيى أَقرِئْهُ السَّلَام وَقل لَهُ الْعلم يزار وَلَا يزور وَيُؤْتى وَلَا يَأْتِي فَرجع إِلَى هَارُون الرشيد وَأخْبرهُ ثمَّ قَالَ يحيى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يبلغ أهل الْعرَاق أَنَّك وجهت إِلَى مَالك بِأَمْر فخالفك اعزم عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيك فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ بِمَالك قد دخل وَلَيْسَ مَعَه الْكتاب جَاءَ مُسلما على الْخَلِيفَة فَسلم وَجلسَ فَقَالَ لَهُ هَارُون يبلغ أهل الْعرَاق أَنِّي سَأَلتك أمرَاً من الْأُمُور سهلا فأبيت عَليّ فَقَالَ مَالك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله قد جعلك فِي هَذَا الْموضع فَلَا تكنْ أول من ضيع الْعلم فيضيعك الله تَعَالَى وَلَقَد رَأَيْت من لَيْسَ هُوَ فِي حَسبك ونسبك يعز هَذَا الْعلم ويجله فَأَنت أَحْرَى أَن تجله وَلم يزل يعظه ويعدد عَلَيْهِ حَتَّى بَكَى ثمَّ قَالَ مَالك أَخْبرنِي الزُّهْرِيّ عَن خَارِجَة عَن زيد بن ثَابت قَالَ كنت أكتب الْوَحْي عِنْد رَسُول الله
{لَا يستَوِي اَلقَاعدُونَ مِنَ المُؤمنِينَ غيرُ أُولِي اَلضررِ وَالمجُاهدونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموالهم وَأنفُسِهِم} النِّسَاء 95 وَابْن أم مَكْتُوم عِنْد النَّبِي
فَقَالَ يَا رَسُول الله أَنا رجل ضَرِير فَهَل لي رخصَة يَعْنِي فِي ترك الْجِهَاد فَقَالَ
لَا أَدْرِي قَالَ زيد وقلمي رطب مَا جف حَتَّى غشي النَّبِي
الْوَحْي ثمَّ سرى عَنهُ فَقَالَ اكْتُبْ يَا زيد {غيرُ أُولِي اَلضررِ} النِّسَاء 95 قَالَ فحرف وَاحِد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بعثَ فِيهِ الْملك جِبْرِيل من مسيرَة خمسين ألف عَام حَتَّى نزل على النَّبِي
أَفلا يَنْبَغِي لي أَن أعزه وأجله قَالَ بلَى ثمَّ إِن هَارُون أَتَى إِلَى منزل الإِمَام مَالك فَسمع مِنْهُ الْكتاب ووفقه الله للصَّوَاب وَقد قيل الدّين لسيوف الْأُمَرَاء وألسن الْعلمَاء وَاجْتمعَ القَاضِي أَبُو يُوسُف بِالْإِمَامِ مَالك عِنْد الرشيد فَقَالَ لَهُ القَاضِي أَبُو يُوسُف مَا تَقول فِيمَن سَهَا بِزِيَادَة فِي الصَّلَاة فَقَالَ الإِمَام مَالك يسْجد للسَّهْو(3/424)
بعد السَّلَام فَقَالَ فَإِن سَهَا بهما فَقَالَ يسْجد قبل السَّلَام فَقَالَ أَبُو يُوسُف متلفتا إِلَى الرشيد الشَّيْخ تَارَة يُخطئ وَتارَة لَا يُصِيب فَظن الإِمَام مَالك أَنه يَقُول تَارَة يُخطئ وَتارَة يُصِيب فَقَالَ على هَذَا أدركنا مَشَايِخنَا من السّلف الصَّالح ثمَّ نبه الإِمَام مَالك لقَوْله أبي يُوسُف وَمرَاده فَقَالَ مَا ظَنَنْت أَن أهل الْعلم يَتَكَلَّمُونَ بِمثل هَذَا قلت رحم الله الإِمَام مَالِكًا وَرَضي عَنهُ فَمَا أغفله عَن مظان السوء وَمَا أسلم فطرته وأخلص نِيَّته وأصدق طويته حَيْثُ لم يخْطر بِبَالِهِ ذَلِك وَلَا خطر بِبَالِهِ أَن يخْطر ببال أهل الْعلم وَقد طلب الرشيد من الإِمَام مَالك أَن يكْتب مذْهبه لقصد أَن يجمع الْأمة على مذْهبه فَقَط فَقَالَ الإِمَام لَا تفعل هَذَا فَإِن الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة كَثِيرَة وَقد نقلهَا الْعلمَاء فِي سَائِر الْبلدَانِ وانتشرت فَلَا تحجر وَاسِعًا ودع الْأمة على مذاهبها رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْأَصْمَعِي وَقَالَ لي الرشيد يَا أصمعي مَا أغفلك عَنَّا وأجفاك لنا قلت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ألاقتني بِلَاد بعْدك حَتَّى أَتَيْتُك فَسكت فَلَمَّا انْصَرف النَّاس قَالَ اجْلِسْ فَجَلَست فَلَمَّا لم يبْق سوى الغلمان قَالَ مَا معنى مَا ألاقتني فَقلت قَالَ الشَّاعِر من // (الْكَامِل) //
(كَفَّاكَ كفُّ مَا تُلِيقُ بِدِرْهَمٍ ... جُودًا وأُخْرَى تُعْطِ بالسَّيْفِ الدّمَا)
فَقَالَ أحسنْتَ هَكَذَا فكُن وقرنا فِي الملا وَعلمنَا فِي الخلا وَأمر لي بِخَمْسَة آلَاف دِينَار رَوَاهَا أَبُو حَاتِم عَنهُ وَفِي مروج الذَّهَب رأى الرشيد أَن يُوصل مَا بَين بَحر الرّوم ويحر القلزم مِمَّا يَلِي الفرما فَقَالَ لَهُ يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي لَو فعلت ذَلِك كَانَت الرّوم تختطف النَّاس من الْمَسْجِد الْحَرَام وَتدْخل مراكبهم إِلَى الْحجاز فَترك ذَلِك قَالَ الجاحظ اجْتمع للرشيد مَا لم يجْتَمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه أَبُو يُوسُف وشاعره مَرْوَان بن أبي حَفْصَة ونديمه الْعَبَّاس بن مُحَمَّد عَم أَبِيه وحاجبه الْفضل بن الرّبيع أنبه الناسَ وأعظمهم ومغنيه أَبُو إِسْحَاق الْموصِلِي وَزَوجته زبيدة بنت جَعْفَر(3/425)
وَحكى أَنه خلف من الأثاث وَالْعين وَالْوَرق والجواهر وَالدَّوَاب مَا قِيمَته ألف ألف وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار وَمن النَّقْد مائَة ألف ألف دِينَار وَله أَخْبَار فِي اللَّهْو وَاللَّذَّات المحظورة وَالنِّسَاء فَالله يسامحه قَالَ صَاحب جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ لما أنْشد مَنْصُور النميري هَارُون الرشيد قصيدته تقرباً للرشيد يغض فِيهَا من الطالبيين مِنْهَا قَوْله من // (الوافر) //
(يُسَمُّونَ النَّبِيَّ أَبًا ويَأْبَى ... مِنَ الْأَحْزَاب سَطْرٌ فِي السُّطُورِ)
يُرِيد بذلك الْآيَة الْكَرِيمَة {مَا كاَنَ مُحَمَّد أَبَا أحد مِّن رّجَالِكُم} الْآيَة الْأَحْزَاب 40 رأى فِي ليلته النَّبِي
وَهُوَ يهوى عَلَيْهِ بقضيب من نَار وَيَقُول أَنْت الَّذِي تَنْفِي ذريتي مني فانتبه مَرْعُوبًا وَمَال إِلَى التشيعِ وَقَالَ فِي ذَلِك مَا أوجب أَن أَمر الرشيد لما وقف عَلَيْهِ بقتْله فنحاه الله ووجدوه قد مَاتَ وَهَذِه الْوَاقِعَة ذكرهَا أَبُو الْفرج الأصفاني فِي كتاب الأغاني قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم أرَاهُ كَانَ لَا يشرب النَّبِيذ الْمُخْتَلف فِيهِ إِلَّا الْخمر الْمُتَّفق على تَحْرِيمهَا ثمَّ جاهر بهَا جهاراً كَبِيرا قَالَ السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة توجه الرشيد نَحْو خُرَاسَان فَذكر مُحَمَّد بن الصَّباح أَن أَبَاهُ شيع الرشيد إِلَى النهروان فَجعل يحادثه فِي الطَّرِيق إِلَى أَن قَالَ يَا صباح لَا أحسبك تراني بعْدهَا قلت بل يردك الله سالما ثمَّ قَالَ وَلَا أحسبك تَدْرِي مَا أجد فقَلت لَا وَالله فَقَالَ تعال أريك وانحرف عَن الطَّرِيق فَأَوْمأ إِلَى الْخَواص فتنحوا ثمَّ قَالَ أَمَانَة الله يَا صباح أَن تكْتم عَليّ وكشف عَن بَطْنه فَإِذا عِصَابَة حَرِير حوالي بَطْنه فَقَالَ هَذِه عِلّة أكتمها عَن النَّاس كلهم وَلكُل وَاحِد من وَلَدي على رَقِيب فمسرور رَقِيب الْمَأْمُون وَجِبْرِيل ابْن يختيشوع رَقِيب الْأمين وَفُلَان رَقِيب المؤتمن مَا مِنْهُم أحد إِلَّا وَهُوَ يحصي أنفاسي ويعدُ أيامي ويستطيل دهري فَإِن أردْت أَن تعرف ذَلِك فالساعة أَدْعُو ببرذون فيجيئون بِهِ أعجَفَ ليزِيد فِي علتي ثمَّ دَعَا ببرذون فَجَاءُوا بِهِ كَمَا وصف فَنظر إِلَيّ ثمَّ رَكبه وودعني وَسَار إِلَى جرجان ثمَّ رَحل مِنْهَا فِي صفر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَهُوَ عليل إِلَى طوس فَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ(3/426)
قَالَ الذَّهَبِيّ إِن الرشيد رأى مناماً أَنه يَمُوت بطوس فانتبه وَبكى وَقَالَ احفروا لي قبرَاً فحفر لَهُ ثمَّ حمل فِي قُبَّته على جمل وسيق بِهِ حَتَّى نظر إِلَى الْقَبْر فَقَالَ يَا ابْن آدم تصير إِلَى هَذَا وَأمر قوما فنزلوا فختموا فِيهِ ختمة وَهُوَ فِي محفته على شَفير الْقَبْر فَلَمَّا مَاتَ دفن بِهِ وَكَانَت خِلَافَته ثلاثَاً وَعشْرين سنة وشهرين وَتِسْعَة عشر يَوْمًا وَقيل أَرْبعا وَعشْرين وَقيل خمسَاً وَعشْرين سنة وعمره أَربع وَأَرْبَعُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام
(خلَافَة مُحَمَّد الْأمين)
ابْن هَارُون الرشيد بن مُحَمَّد الْمهْدي بن عبد الله الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بَايع لَهُ أَبوهُ الرشيد بِولَايَة الْعَهْد فِي سنة خمس وَسبعين ولقبه بالأمين وَله يومئذٍ خمس سِنِين لحرص أمه زبيدة على ذَلِك قَالَ الذَّهَبِيّ فَكَانَ هَذَا أول وَهن جرى فِي دولة الْإِسْلَام من حَيْثُ الْإِمَامَة ثمَّ لِابْنِهِ الآخر من بعد الْأمين عبد الله ولقبه الْمَأْمُون وولاه ممالك خُرَاسَان بأسرها ثمَّ بَايع ابْنه الآخر الْقَاسِم ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وَهُوَ صبي فَلَمَّا قسم الدُّنْيَا بَين هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قَالَ بعض الْعُقَلَاء قد ألْقى بَينهم بأسهم وغائلة ذَلِك تضرُ بالرعية ثمَّ إِنَّه علق نُسْخَة الْبيعَة بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وَفِي ذَلِك يَقُول إِبْرَاهِيم الْموصِلِي من // (مجزوء الْكَامِل) //(3/427)
)
خيرُ الأمورِ مغبَّةً ... وأحمقُّ أمرٍ بالتمامْ)
(أمرٌ قضى أحكامَهُ الرْرَحمنُ ... فِي البَيْتِ الحَرَامْ)
وَقَالَ عبد الْملك بن صَالح من // (الْبَسِيط) //
(حُبُّ الخليفةِ حبٌّ لَا يدينُ لَهُ ... عاصِي الإلهِ وشانٍ يَلْقَِحُ الفتنا)
(أللَّهُ قَلَّدَ هاروناً سياستَهُ ... لمَّا اصْطَفَاهْ فأحيا الفرضَ والسُّنَنَا)
(وقلَّدَ الأَمْرَ هَارُون لِرَأْفَتِهِ ... بِنَا أَمينا ومأموناً ومؤتمنا)
قَالَ بَعضهم وَقد زوى الرشيد الْخلَافَة عَن وَلَده المعتصم لكَونه أُمِّيا فساقها الله إِلَيْهِ وَجعل الْخُلَفَاء بعده كلهم من ذُريَّته وَلم يَجْعَل من نسل غَيره من أَوْلَاد الرشيد خَليفَة بُويِعَ الْأمين بالخلافة يَوْم توفّي الرشيد بطوس والأمين بِبَغْدَاد فورد عَلَيْهِ بهَا خَاتم الْخلَافَة والبردة والقضيب فَلَمَّا تمكن من الْخلَافَة خلع أَخَاهُ الْمَأْمُون وَجعل الْعَهْد لوَلَده مُوسَى وَهُوَ فِي المهد وَسَماهُ النَّاطِق بِالْحَقِّ وَقطع ذكر الْمَأْمُون والمؤتمن وَجعل وَلَده مُوسَى فِي حجر عَليّ بن عِيسَى فَأرْسل إِلَى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة من جَاءَهُ بِكِتَاب الْعَهْد الَّذِي علقه فِيهَا الرشيد للأمين والمأمون فمزقه وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي الْفضل بن الرّبيع وَبكر بن الْمُعْتَمِر فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك من // (المتقارب) //
(أضاعَ الخلافةَ غِشُّ الضَّميرِ ... وفسقُ الوزيرِ وجهلُ المُشِيرِ)
(ففضْلٌ وزيرٌ وبَكْرٌ مُشيرٌ ... يريدانِ مَا فِيهِ حَتْفُ الأميرِ)
(لواطُ الخليفةِ أعجوبَةٌ ... وأعجبُ مِنْهُ حلاق الوزيرِ)
(فَهَذَا يدوسُ وَهَذَا يُداسُ ... وَهَذَا لعمري خلافُ الأمورِ)
(فَلَو يستعفَّانِ هَذَا بذاكَ ... لكانا بعُرْضَةِ أمرٍ يسيرِ)
(وأعجبُ مِنْ ذَا وَذَا أَنَّنَا ... نُبَايعُ للطفْلِ فِينَا الصغيرِ)
(ومَنْ ليسَ يُحْسِنُ غَسْلَ استِهِ ... وَلم يخلُ من بولِهِ حجْرُ ظِيرِ)
وَكَانَ أول من أجَاب الْأمين إِلَى خلع الْمَأْمُون وزيره عَليّ بن عِيسَى بن ماهان فجهزه الْأمين لِحَرْب الْمَأْمُون فِي مائَة ألف مقَاتل فَلَمَّا قرب من الرّيّ قابله طَاهِر بن(3/428)
الْحُسَيْن بن قبل الْمَأْمُون فِي أَرْبَعَة آلَاف أَو خَمْسَة آلَاف وَحمل عَلَيْهِ على حِين غَفلَة فَكَانَت بَينهمَا وقْعَة فِي ذَلِك الْموضع كَانَت الدائرة على عَليّ بن ماهان وَأَصْحَابه وانجلت عَن قتل عَليّ بن عِيسَى فحز رَأسه وظفر طَاهِر بِجَمِيعِ خزائنه وَأرْسل على الْفَوْر إِلَى ذِي الرياستين الفض 1 ل بن سهل وَزِير الْمَأْمُون بِكِتَاب يَقُول فِيهِ أَطَالَ الله بَقَاءَك وكتبت أعداوءك كتبت كتابي هَذَا إِلَيْك وَرَأس عَليّ بن ماهان بَين يَدي وخاتمه فِي إصبعي فَسمع الْمَأْمُون بذلك وَسلم عَلَيْهِ بالخلافة فِي ذَلِك الْوَقْت وَلما قتل عَليّ بن عِيسَى بعث الْأمين عبد الرَّحْمَن بن الْأَنْبَارِي فِي عشْرين ألف فَارس إِلَى همذان وولاه عَلَيْهَا وعَلى كل مَا يَفْتَحهُ من بِلَاد خرسان فَسَار إِلَى همذان وحصنها وجاءه طَاهِر فبرز إِلَيْهِ ولقيه وهزمه طَاهِر إِلَى الْبَلَد ثمَّ خرج عبد الرَّحْمَن ثَانِيَة فَانْهَزَمَ إِلَى الْمَدِينَة وحاصره طَاهِر حَتَّى ضجر مِنْهُ أهل الْمَدِينَة وَطلب الْأمان من طَاهِر فَأَمنهُ وَأقَام فِي أَمَانه ثمَّ أصَاب عبد الرَّحْمَن غرَّة من طَاهِر فَركب وهجم عَلَيْهِ فِي عسكره فقاتله طَاهِر أَشد الْقِتَال حَتَّى انهزم أَصْحَاب عبد الرَّحْمَن وَقتل وَلم يزل طَاهِر يهْزم الجيوش وَيقتل قواد الْأمين وَاحِدًا بعد وَاحِد وَهُوَ سَائِر إِلَى بَغْدَاد يُرِيد الْأمين وفر قائدا من قواد الْأمين الْكِبَار هما خُزَيْمَة بن خازم وَمُحَمّد بن عَليّ بن عِيسَى بن ماهان إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن فوثبا على جسر دجلة فِي ثامن الْمحرم فقطعاه وركزا أعلامهما وخلعا الْأمين ودعيا لِلْمَأْمُونِ فَأصْبح طَاهِر ابْن الْحُسَيْن وألح على أَصْحَاب مُحَمَّد الْأمين وَدخل طَاهِر قسرَاً بِالسَّيْفِ ونادى مناديه من لزم بَيته فَهُوَ آمن ثمَّ أحَاط بِمَدِينَة الْمَنْصُور وبقصر زبيدة وَقصر الْخلد فَثَبت على قتال طَاهِر حَاتِم بن الصَّقْر والهرش والأفارقة فنصب طَاهِر المجانيق خلف السُّور وعَلى القصرين وَرَمَاهُمْ فَخرج مُحَمَّد وَأمه وَأَهله من الْقصر إِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور وتفرق عَامَّة جنده وعلمائه وَقل عَلَيْهِم الْقُوت وَالْمَاء وفنيت خزائنهما على كثرتها قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ ذكر عَن مُحَمَّد بن رَاشد أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه كَانَ مَعَ مُحَمَّد بِمَدِينَة الْمَنْصُور فِي قصر بَاب الذَّهَب فَخرج لَيْلَة من الْقصر من(3/429)
الضّيق والضنك فَصَارَ إِلَى قصر الْقَرار فطلبني فَأتيت فَقَالَ مَا ترى طيب هَذِه اللَّيْلَة وَحسن الْقَمَر وضوءه فِي المَاء فَهَل لَك فِي الشَّرَاب قلت شَأْنك فَدَعَا برطل من نَبِيذ فشربه ثمَّ سقيت مثله فابتدأت أغنيه من غير أَن يسألني لعلمي بِسوء خلقه فغنيت فَقَالَ مَا تَقول فِيمَن يضْرب عَلَيْك فَقلت مَا أحوجني إِلَى ذَلِك فَدَعَا بِجَارِيَة وَكَانَ اسْمهَا ضعف فتطيرتُ من اسْمهَا ثمَّ غنت الْجَارِيَة بِشعر النَّابِغَة الْجَعْدِي // (من الطَّوِيل) //
(كلبيبٌ لعمرِي كَانَ أكثَرَ ناصراً ... وأيْسر ذَنبا مِنْك ضُرِّجَ بالدَّمِ)
فتطير الْأمين من ذَلِك وَقَالَ لَهَا غَنِي غير هَذَا فغنت // (من الْبَسِيط) //
(أبكِي فراقَهُمُ عَيْني فأرَّقها ... إنَّ التفرُّقَ للأحبابِ بَكَّاءُ)
(مَا زَالَ يَعْدُو عليهِمْ رَيْبُ دهرِهِمُ ... حَتَّى تفَانَوا ورَيْبُ الدَّهرِ عَدَّاءُ)
(فاليومَ أبكيهمُ جَهْدِي وأندبُهُمْ ... حَتَّى أءوب وَمَا فِي مُقْلَتي ماءُ)
فَقَالَ لعنك الله أما تعرفين غير هَذَا فَقَالَت ظَنَنْت أَنَّك تحبه ثمَّ غنت // (من المنسرح) //
(أما وربِّ السكونِ والحرك ... ِ إنَّ المنايا كثيرةُ الشَّرَك)
(مَا اختلَفَ الليلُ والنهارَ وَلَا ... دارَتْ نجومُ السماءِ فِي الفلَكِ)
(إِلَّا لنقلِ السلطانِ من ملكٍ ... قد زالَ سلطانُهُ إِلَى مَلِكِ)
(ومُلْكُ ذِي العرشِ دائمٌ أبدا ... لَيْسَ بفانٍ وَلَا بمُشْتَرَكِ)
فَقَالَ لَهَا قومِي لعنك الله فَقَامَتْ فَعَثَرَتْ فِي قدح بلور لَهُ قيمَة فَكَسرته فَقَالَ وَيحك يَا إِبْرَاهِيم أما ترى وَالله مَا أَظن أَمْرِي إِلَّا قد قرب فَقلت بلَى يُطِيل الله عمرك ويعز ملكك فَسمِعت صَوتا من دجلة {قُضي اَلأمرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان} يُوسُف 41 فَوَثَبَ مُحَمَّد مُغَتَماً وَرجع إِلَى مَوْضِعه بِالْمَدِينَةِ فَقتل بعد لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ وَذكر المَسْعُودِيّ أَن إِبْرَاهِيم الْمهْدي قَالَ اسْتَأْذَنت على الْأمين وَهُوَ فِي شدَّة الْحصار فَإِذا هُوَ وَاضع رجله بالشباك وَكَانَ فِي الْقصر بركَة عَظِيمَة يدْخل من(3/430)
دجلة إِلَيْهَا المَاء من ذَلِك الشباك الْحَدِيد فَسلمت وَهُوَ مقبل على المَاء والخدم والغلمان قد انتشروا فِي تفتيش المَاء وَهُوَ كالواله فَقَالَ لي لَا تؤذني يَا عَم فَإِن مقرطتى قد ذهب فِي الْبركَة إِلَى دجلة وَإِن كوثر اسْم خَادِم لَهُ خصي قد صَاد مقرطتين وَلم أصد أَنا شَيْئا بعد والمقرطة سَمَكَة كَانَ قُرْطهَا بحلقتي ذهب فيهمَا جوهرتان عظيمتان قَالَ إِبْرَاهِيم فَخرجت وَأَنا آيس من فلاحه وَقلت لَو ارتدع فِي وَقت لَكَانَ هَذَا الْوَقْت وَكَانَ مَعَ طَاهِر هرثمة بن أعين وَعظم الْأَمر وَاشْتَدَّ الْحصار وَالْبَلَاء حَتَّى خربَتْ بذلك منَازِل بَغْدَاد ووثب العيارون على أَمْوَال النَّاس فانتهبوها وَأقَام الْحصار مُدَّة سنة وَمِمَّا عمل فِي بَغْدَاد من المراثي قَول الْقَائِل // (من الوافر) //
(بكيْتُ دَمًا على بغدادَ لما ... فقدتُّ نضارَةَ العيشِ الأنيقِ)
(أصابَتْها من الحسادِ عَين ... فأفنَتْ أَهلهَا بالمنجنيقِ)
وتضايق الْأَمر على الْأمين وَكتب طَاهِر إِلَى وُجُوه أهل بَغْدَاد سرا يعدهم إِن أعانوه ويتوعدهم إِن لم يدخلُوا فِي طَاعَته فَأَجَابُوا طَاهِرا وفارقوا الْأمين وصرحوا بخلعه وَمنع طَاهِر الْأمين وَمن مَعَه من كل شَيْء حَتَّى كَاد هُوَ وَأَصْحَابه أَن يموتوا جوعَاً وعطشاً فَلَمَّا عاين الْأمين ذَلِك كَاتب هرثمة بن أعين وَطلب مِنْهُ أَن يُؤمنهُ حَتَّى يَأْتِيهِ فَأَجَابَهُ هرثمة إِلَى ذَلِك وَبلغ ذَلِك طَاهِرا فشق عَلَيْهِ كَرَاهَة أَن ينْسب الظفر لهرثمة دونه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس لخمس بَقينَ من الْمحرم من سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة خرج الْأمين إِلَى هرثمة فِي حراقة فَركب الْأمين وَمن مَعَه وَكَانَ طَاهِر قد أكمن للأمين فَلَمَّا صَار الْأمين فِي الحرَاقة رَمَوْهُ بالنشاب وَالْحِجَارَة فَانْكَفَأت الحراقة وغرق مُحَمَّد وهرثمة فسبح مُحَمَّد حَتَّى صَار إِلَى بُسْتَان مُوسَى فَعرفهُ مُحَمَّد بن حميد الطاهري فصاح بِأَصْحَابِهِ فنزلوا ليأخذوه فبادر مُحَمَّد المَاء فَأخذ بِرجلِهِ وَحمله على برذون وَخَلفه بن يمسِكهُ كالأسير قَالَ أَحْمد بن سَلام كنت مَعَ الْأمين فِي الحراقة فَأخذت وحبست فَبعد هدوء من اللَّيْل إِذا أَنا بحركة الْخَيل وَهُوَ يَقُولُونَ بشر زبيدة فَأدْخل عليَ رجل عُرْيَان عَلَيْهِ سَرَاوِيل وعمامة ملثم بهَا وعَلى كتفه خرقَة خلقَة فصيروه معي ووكلوا بِنَا فَلَمَّا(3/431)
حسر الْعِمَامَة عَن وَجهه فَإِذا هُوَ مُحَمَّد فاستعبرت واسترجعت فِي نَفسِي فَقَالَ لي من أَنْت قلت مَوْلَاك أَحْمد بن سَلام قَالَ أعرفك كنت تَأتِينِي بالرقة قلت نعم قَالَ كنت تَأتِينِي وتتلطفني كثيرَا لست مولَايَ بل أَنْت أخي ادن مني فَإِنِّي أجد وَحْشَة شَدِيدَة قَالَ أَحْمد فضممته إليَ ثمَّ قَالَ يَا أَحْمد مَا فعل أخي قلت حَيّ قَالَ قبح الله صَاحب الْبَرِيد مَا أكذبه كَانَ يَقُول لي قد مَاتَ قلت قبح الله وزراءك قَالَ لَا تقل فَمَا لَهُم ذَنْب وَلست أول من طلب أمرا فَلم يقدر عَلَيْهِ قَالَ أَترَاهُم يقتلونني أَو يفون لي بأمانهم قلت بل يفون لَك يَا سَيِّدي وَجعل يمسك الْخِرْقَة بعضديه فنزعت منْطقَة عَليّ وَقلت ألقها وَخذ هَذِه فَقَالَ وَيحك دَعْنِي فَهَذَا من الله لي فِي هَذَا الْموضع خير كثير فَلَمَّا انتصف اللَّيْل دخل الدَّار قوم من الْعَجم بِالسُّيُوفِ فَقَامَ وَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ذهبت وَالله نَفسِي فِي سَبِيل الله أما من حِيلَة أما من مغيث فأحجموا عَن التَّقَدُّم وَجعل بَعضهم يَقُول لبَعض تقدم فَقُمْت وصرت وَرَاء حصر ملففة وَأخذ مُحَمَّد بِيَدِهِ وسَادَة وَقَالَ وَيحكم أَنا ابْن عَم رَسُول الله
أَنا ابْن هَارُون أَنا أَخُو الْمَأْمُون الله الله فِي دمي فَوَثَبَ عَلَيْهِ خُمَاروَيه غُلَام لقريش الدنداني فَضَربهُ بِالسَّيْفِ على مقدم رَأسه فَضَربهُ مُحَمَّد بالوسادة واتكأ عَلَيْهِ فَأخذ السَّيْف من يَده فصاح خمارويه قتلني قتلني فتكاثروا عَلَيْهِ فذبحوه من قَفاهُ وذهبوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِر فنصب رَأسه على حَائِط بُسْتَان وَأَقْبل طَاهِر يَقُول هَذَا رَأس المخلوع مُحَمَّد الْأمين ثمَّ بعث بِهِ مَعَ الْبردَة والقضيب والمصلى وَهُوَ من سعف مبطن مَعَ ابْن عَمه مُحَمَّد بن مُصعب إِلَى الْمَأْمُون فَلَمَّا وصل الرَّأْس إِلَيْهِ سجد شكرا لله تَعَالَى على الظفر وَأمر لمُحَمد ابْن مُصعب بِأَلف ألف دِرْهَم وَجَرت جثته بِحَبل وَلما بلغ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عَم الْأمين مَا وَقع للأمين بَكَى طَويلا وَأنْشد من // (السَّرِيع) //
(عُوجَا لمعغنى طللٍ داثرِ ... بالخُلْد ذَات الصَّخْر والآجرِ)
(والمرمر الْمسنون يطلى بِهِ ... وَالْبَاب بَاب الذَّهَبِ الناضرِ)(3/432)
(وأبلغَا عِّي مقَالا إِلَى الْمَوْلى ... عَن المأمورِ والآمِرِ)
(قولا لَهُ يَا ابْنَ وليِّ الهدَى ... طَهِّرْ بلادَ اللَّهِ منْ طاهِرِ)
(لم يكفِهِ أَن حَزَّ أَوْداجَهُ ... ذبح الضَّحَايا بِمُدَى الجازِرِ)
(حَنى أَتَى يَسْحَبُ أوصالَهُ ... فِي شَطنٍ يعنَى بِهِ السابشرِي)
(قد برد الموتُ على عيْنِهِ ... فطرفه منكسرُ المناظِرِ)
وَلما بلغ هَذَا الشّعْر الْمَأْمُون اشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِك وَنَدم وحزن وحوقل ولخزيمة بن الْحسن على لِسَان زبيدة قصيدة يَقُول فِيهَا من // (الطَّوِيل) //
(أتَى طاهرٌ لَا طَهَّرَ اللَّهُ طَاهِرا ... فَمَا طاهِرٌ فِيمَا أتَى بُمطَهَّرِ)
(فأخرجَنِي مكشوفَةَ الوَجْهِ حاسًرا ... فَأنْهبَ أَمْوَالِي واحْرقَ أَدْوُرِي)
(يَعزُّ عَلَى هاَرُونَ مَا قدْ لَقِيْتُهُ ... وَمَا مَرَّ بِي من ناقِصِ الخلقِ أعورِ)
(تذكَّرْ أميرَ المؤمنينَ قَرَابتِي ... فديتُكَ من ذِي حُرْمَةٍ مُتَذَكِّرِ)
وَكَانَ الْأمين من أحسن الشَّبَاب صُورَة أَبيض طَويلا جميلا ذَا قُوَّة مفرطة وبطش وشجاعة مَعْرُوفَة وفصاحة وأدب وَفضل وبلاغة لَكِن كَانَ سيء التَّدْبِير ضَعِيف الرَّأْي لَا يصلح للإمارة قَالَ ابْن جُبَير لما ملك مُحَمَّد الْأمين ابْتَاعَ الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النِّسَاء والجواري وَوجه إِلَى الْبلدَانِ فِي طلب الملهين وأجرى لَهُم الأرزاق واقتنى الوحوش وَالسِّبَاع والطيور واحتجت عَن أهل بَيته وَعَن أمرائه واستخف بهم ومحق بيُوت الْأَمْوَال وضيع الْجَوَاهِر والنفائس وَبني عدَّة قُصُور فِي عدَّة أَمَاكِن وَعمل خمس حرَاقات على صفة أَسد وفيل وعقاب وحية وَفرس وَأنْفق فِي عَملهَا أَمْوَالًا فَقَالَ أَبُو نواس من // (الْخَفِيف) //
(سخَّرَ اللَّهُ للأمينِ مطايا ... لم تُسَخَّرْ لصاحبِ المحرابِ)
(فَإِذا مَا ركابُهُ سارَ برا ... سارَ فِي المَاء رَاكِبًا ليثَ غابِ)
(أسداً باسطاً ذرَاعْيهِ يَهْوي ... أهرت الشِّدْقِ كَالحَ الأنيابِ)(3/433)
وَهَكَذَا حَتَّى وصفهَا جَمِيعًا وَمن شجاعته وَقُوَّة بطشه مَا نَقله المَسْعُودِيّ فَقَالَ حكى أَنه اصطبح يَوْمًا فَأتى بِسبع هائل على جمل فِي قفص فَوضع بِبَاب الْقصر فَقَالَ افتحوا القفص وخلوه فَقيل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه سبع هائل أسود كالثور كثير الشّعْر فَقَالَ خلوا عَنهُ فَفَعَلُوا فَخرج فزأر وَضرب بِذَنبِهِ الأَرْض فتهارب النَّاس وأغلقت الْأَبْوَاب وبقى الْأمين وَحده غير مكترث فَأَتَاهُ الْأسد وقصده فَرفع يَده فَجَذَبَهُ الْأمين وَقبض على ذَنبه وغمزه وهزه ورماه إِلَى خلف فَوَقع السَّبع على صَخْرَة فَخر مَيتا وَجلسَ الْأمين وَكَأَنَّهُ لم يعْمل شَيْئا وَإِذا أَصَابِعه قد تخلعت فشقوا بطن الْأسد فَإِذا مرارته قد انشقت على كبده قَالَ الذَّهَبِيّ كتب الْأمين إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن رقْعَة فِيهَا يَا طَاهِر مَا قَامَ لنا مُنْذُ قمنا قَائِم بحقنا فَكَانَ جَزَاؤُهُ عندنَا إِلَّا السَّيْف فَانْظُر لنَفسك أَو دع قَالَ فَلم يزل طَاهِر يتَبَيَّن موقع الرقعة مِنْهُ قلت وَكَانَ طَاهِر قد انتدب لحربه من جِهَة أَخِيه الْمَأْمُون فَكتب لَهُ هَذِه الرقعة وَهِي غَايَة فِي التحذير وَلم يل الْخلَافَة هاشمي ابْن هاشمية إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب وَمُحَمّد الْأمين هَذَا فَإِن أم الأول فَاطِمَة بنت أَسد هاشمية وَكَذَا أم الثَّانِي زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور قَالَ الصولي حَدثنَا أَبُو العيناء عَن مُحَمَّد بن عَمْرو الرُّومِي قَالَ خرج كوثر خَادِم الْأمين ليرى الْحَرْب فأصابته رجمة فِي وَجهه فَجَلَسَ يبكي وَجعل الْأمين يمسح الدَّم عَن وَجهه ثمَّ قَالَ من // (مجزوء الرمل) //
(ضَرَبُوا قرَّةَ عَيْني ... ومِن اجْلِي ضَرَبُوهُ)
(أخَذَ اللَّهُ لقلبي ... مِنْ أناسٍ أحرقُوهُ)(3/434)
قَالَ ثمَّ أحضر عبد الله بن أَيُّوب التَّمِيمِي الشَّاعِر فَقَالَ لَهُ قل عَلَيْهِمَا فَقَالَ من // (مجزوء الرمل) //
(مَا لمَنْ أهَوى شبِيه ... فبِهِ الدُّنْيَا تَتِيهُ ...
(وَصْلُهُ حلوُ ولكنْ ... هجْرُهُ مُرٌّ كريهُ)
(مَنْ رأى الناسُ لَهُ فضلا ... عَلَيْهِم حَسَدُوهُ)
(مثل مَا قَدْ حَسَدَ ... القائمَ بالمُلْكِ أَخُوهُ)
فَقَالَ الْأمين وَالله بحياتي أَحْسَنت يَا عباسي أنظر فَإِن فَإِن جَاءَ على ظهر فأقروه لَهُ وَإِن جَاءَ فِي زورق فأوقره لَهُ فأوقر لَهُ ثَلَاثَة بغال دَرَاهِم هِيَ الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا وَمِمَّا قيل فِي هجو الْأمين أَقَامَهُ مقَام الرثاء فَقَالَ من // (الرمل) //
(لِمَ نبْكِيك لماذا للطَّرَبْ ... يَا أَبَا موسَى وتزويج اللّعبْ)
(ولتَرْكِ الخَمْسِ فِي أوقاتِهَا ... حرصاً منكَ على ماءِ العِنَبْ)
(وشنيف أَنا لَا أَبْكِي لَهُ ... وعَلى كوثَرَ لَا أخشَى العَطبْ)
(لم تَكُنْ تصلحُ للمُلكِ ولَمْ ... تعطك الطاعَةَ بالملْكِ العربْ)
(لِم نبكيكَ لما عَرَّضْتَنَا ... للمجانيقِ وطَوْرًا للسَّلَبْ)
وَذكر عَن الْكسَائي أَنه قَالَ لما ولاني الرشيد تَأْدِيب ابنيه الْأمين والمأمون كنت أشدد عَلَيْهِمَا فِي الْأَدَب وآخذهما أخذا شَدِيدا خصوصَاً الْأمين فأتتني ذَات يَوْم خَالِصَة أمة زبيدة فَقَالَت إِن السيدة تقرئك السَّلَام وَتقول لَك حَاجَتي أَن ترفق بِابْني مُحَمَّد فَقلت قولي لَهَا إِن مُحَمَّدًا مرشح للخلافة بعد أَبِيه وَلَا يجوز التَّقْصِير فِي حَقه قَالَت خَالِصَة إِن لرقة السيدة سببَاً أَنا أخْبرك بِهِ إِنَّهَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي وَلدته فِيهَا أريت فِي منامها كَأَن أَربع نسْوَة أقبلن عَلَيْهِ فاكتنفنه من جهاته الْأَرْبَع فَقَالَت الَّتِي بَين يَدَيْهِ ملك قَلِيل الْعُمر ضيق الصَّدْر عَظِيم الْكبر واهي الْأَمر شَدِيد الْغدر وَقَالَت الَّتِي فِي خَلفه قصاف مبذر متلاف قَلِيل الْإِنْصَاف كثير الْإِسْرَاف وَقَالَت الَّتِي عَن يَمِينه ملك عَظِيم الحطم قَلِيل اللَّحْم كثير الْإِثْم قطوع الرَّحِم وَقَالَت الَّتِي عَن شِمَاله ملك غدار كثير العثار سريع الدمار ثمَّ بَكت خَالِصَة وَقَالَت يَا كسائي هَل ينفع الحذر مَعَ الْقدر قلت لَا وَالله(3/435)
وَذكر الْأَصْمَعِي أَنه دخل على الرشيد قَالَ وَكنت قد غبت عَنهُ بِالْبَصْرَةِ حولا فَسلمت عَلَيْهِ بالخلافة فَأَشَارَ إِلَيّ بِالْجُلُوسِ فَجَلَست حَتَّى خف النَّاس ثمَّ قَالَ يَا أصمعي أَلا تحب أَن ترى مُحَمَّدًا وَعبد الله ابْني قلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي لأحب ذَلِك وَقد أوردت الْقَصْد إِلَيْهِمَا لأسلم عَلَيْهِمَا ثمَّ قَالَ الرشيد عَليّ بِمُحَمد وَعبد الله فَانْطَلق الرَّسُول فَأَقْبَلَا كَأَنَّهُمَا قمراً أفق قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأَرْض حَتَّى وَقفا على أَبِيهِمَا فسلما عَلَيْهِ بالخلافة فَأَوْمأ لَهما فَجَلَسَ مُحَمَّد عَن يَمِينه وَعبد الله عَن شِمَاله ثمَّ أَمرنِي بمطارحتهما الْأَدَب فَكنت لَا ألْقى عَلَيْهِمَا شَيْئا من فنون الْأَدَب إِلَّا أجابا فِيهِ وأصابا فَقَالَ كَيفَ ترى أدبهما قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رَأَيْت مثلهمَا فِي ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما فَأطَال الله بقاءهما ورزق الْأمة رأفتهما فَضَمَّهُمَا إِلَى صَدره وسبقته عبرته فَبكى حَتَّى تحدرت دُمُوعه على لحيته ثمَّ أذن لَهما فِي الْقيام فنهضا حَتَّى إِذا خرجا قَالَ يَا أصمعي كَيفَ بهما إِذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما وَوَقع بأسهما بَينهمَا حَتَّى تسفك الدِّمَاء وَيَوَد كثير من الْأَحْيَاء أَن لَو كَانَ فِي الْأَمْوَات قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا شَيْء قضى بِهِ المنجمون عَن مولدهما أَو شَيْء أثرته الْعلمَاء فِي أَمرهمَا قَالَ بل شَيْء أثرته الْعلمَاء عَن الأوصياء قَالَ الصولي وَكَانَ الرشيد يسمع مَا يجْرِي بَينهمَا جَمِيعه من مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق وَلذَلِك قَالَ مَا قَالَ قَالَ فِي قلادة النَّحْر إِن الْمَأْمُون مر يَوْمًا على زبيدة أم الْأمين فرآها تحرّك شفتيها بِشَيْء لَا يعرفهُ فَقَالَ لَهَا يَا أُمَّاهُ أتدعين عَليّ أَن قتلت ابْنك وسلبته فَمَا كَانَ الْبَاغِي إِلَّا ابْنك وَإِن لكل باغِ مصرعاً قَالَت لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَمَا الَّذِي قلت قَالَت يعفيني أَمِير الْمُؤمنِينَ فألح عَلَيْهَا قَالَ وَلَا بُد أَن تقوليه قَالَ قلت قبح الله اللجاج والملاحَة قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَت إِنِّي لألعب يَوْمًا مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد الشطرنج على الحكم وَالرِّضَا فغلبني فَأمرنِي أَن أتجرد من أثوابي وأطوف الْقصر عُرْيَانَة فاستعفيته فَلم يعفني فتجردت من ثِيَابِي وطفت الْقصر عَارِية ثمَّ عاودني اللّعب فغلبته فَأَمَرته أَن يذهب إِلَى المطبخ فيطأ أقبح جَارِيَة وأشوهها خلقَة فاستعفاني فَلم أعفه فبذل لي خراج مصر وَالْعراق فأبيت وَقلت وَالله لتفعلن ذَلِك فَأبى فألححت عَلَيْهِ وَأخذت بِهِ وَجئْت بِهِ إِلَى المطبخ فَلم(3/436)
أر جَارِيَة أقبح وَلَا أقذر وَلَا أنتن ريحًا وَلَا أشوه خلقَة من أمك مراجل فَأَمَرته أَن يَطَأهَا فَوَطِئَهَا فعلقت مِنْهُ بك فَكنت سَببا لقتل وَلَدي وسلبه ملكه فولي الْمَأْمُون وَهُوَ يَقُول لعن الله الملاحة أَقُول نعم لعن الله الملاحة إِذْ إلحاحه على زبيدة كَانَ سَبَب سَماع هَذَا الْكَلَام المؤلم قَالَ الثعالبي فِي المعارف كَانُوا يَقُولُونَ لَو نشرت زبيدة ضفائرها مَا تعلّقت إِلَّا بخليفة أَو ولي عهد فَإِن الْمَنْصُور جدها والسفاح أَخُو جدها وَالْمهْدِي عَمها والرشيد زَوجهَا والأمين ابْنهَا والمأمون والمعتصم ابْنا زَوجهَا وَأما وُلَاة الْعَهْد فكثير ونظيرتها فِي ذَلِك من بني أُميَّة عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أَبوهَا يزِيد بن مُعَاوِيَة وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان جدها وَمُعَاوِيَة بن يزِيد أَخُوهَا ومروان بن الحكم حموها وَعبد الْملك بن مَرْوَان زَوجهَا وَيزِيد بن عبد الْملك ابْنهَا والوليد بن يزِيد ابْن ابْنهَا والوليد بن وَهِشَام وَسليمَان بَنو زَوجهَا عبد الْملك وَيزِيد وَإِبْرَاهِيم ابْنا الْوَلِيد ابْن زَوجهَا كَانَت مُدَّة خِلَافَته أَربع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا وَقيل ثَمَانِيَة أشهر وَقتل لخمس بَقينَ من الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وعمره سبع وَعِشْرُونَ سنة وَقيل وَأَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام وَقيل سِتّ وعششرون سنة وَخَمْسَة أشهر وَقيل ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَسِتَّة أشهر رَحمَه الله تَعَالَى وغفا عَنهُ وَعَن الْمُسلمين آمين
(خلَافَة الْمَأْمُون)
عبد الله بن هَارُون الرشيد بن الْمهْدي مُحَمَّد بن الْمَنْصُور بن عبد الله أَبُو الْعَبَّاس الْهَاشِمِي ولد سنة سبعين وَمِائَة عِنْدَمَا اسْتخْلف أَبوهُ الرشيد وَقَرَأَ الْعلم فِي صغره وَسمع ابْن هشيم وَعباد بن الْعَوام ويوسف بن عَطِيَّة وَأَبا مُعَاوِيَة الضَّرِير(3/437)
وطبقتهم وبرع فِي الفقة والعربية وَأَيَّام النَّاس وَلما كبر عُني بالفلسفة وعلوم الْأَوَائِل وَمهر فِيهَا فجره ذَلِك إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَكَانَ من أتم رجال بني الْعَبَّاس حزماً وعزماً وحلماً وعلماً ورأيَاً ودهاءَ وهيبة وشجاعة وسؤدداً وسماحَة وَله محَاسِن وسيرة طَوِيلَة وبرع فِي معرفَة التَّارِيخ وفنون الْأَدَب وَكَانَ يضْرب الْمثل بحلمه وامتحن الْعلمَاء فِي زَمَانه وَكَانَ يجبرهم على القَوْل بِخلق الْقُرْآن قَالَ فِي المسامرة بَايع الْمَأْمُون على الرِّضَا فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَجعله ولي عَهده من بعده وَلبس الخضرة ونوه بِذكرِهِ فَغَضب بَنو الْعَبَّاس بالعراق لهذين الْأَمريْنِ وخلعوه وَبَايَعُوا عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ولقبوه الْمُبَارك فحاربه الْحسن بن سهل فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيم وألحقه بواسط وَأقَام إِبْرَاهِيم بِالْمَدَائِنِ ثمَّ سير الْمَأْمُون إِلَيْهِ جَيْشًا آخر فهزموه فاختفى وَانْقطع خَبره إِلَى أَن ظهر فِي وسط خلَافَة الْمَأْمُون فَعَفَا عَنهُ وَله سيره مبسوطة مَذْكُورَة وَمَات على الرِّضَا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ فَرجع الْمَأْمُون سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ إِلَى لبس السوَاد كعادته وَعَادَة آبَائِهِ قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ قَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا وَكَانَ الْمَأْمُون أبي ربعَة حسن الْوَجْه تعلوه صفرَة قد وَخَطَهُ الشيب أعين طَوِيل اللِّحْيَة دقيقها ضيق الجبين على خَدّه خَال وَقَالَ الجاحظ أَبيض فِيهِ صفرَة وَكَانَ ساقاه دون جسده صفراوين كَأَنَّمَا طليا بالزعفران أمه أم ولد اسْمهَا مراجل مَاتَت أَيَّام نفَاسهَا بِهِ وَكَانَ فصيحاً مفوهاً وَكَانَ يَقُول مُعَاوِيَة بِعَمْرو وَعبد الْملك بحجاجه وَأَنا بنفسي وَقد رويت هَذِه الْكَلِمَة عَن الْمَنْصُور وَكَانَ نقش خَاتم الْمَأْمُون عبد الله بن عبيد الله وروى أَنه ختم فِي بعض الرمضانات ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ختمة وَقَالَ الْحُسَيْن بن فهم الْحَافِظ حَدثنَا يحيى بن أَكْثَم قَالَ قَالَ لي الْمَأْمُون أُرِيد أَن أحدث قَالَ وَمن أولى بِهَذَا من أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ ضَعُوا لي منبراً ثمَّ صعد فَأول حدث حَدثنَا عَن هشيم عَن أبي هشيم عَن أبي الجهم عَن الزُّهْرِيّ عَن(3/438)
أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة فَرفع الحَدِيث قَالَ امْرُؤ الْقَيْس صَاحب لِوَاء الشّعْر إِلَى النَّار ثمَّ حدث بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ حديثَاً ثمَّ نزل فَقَالَ لي كَيفَ رَأَيْت يَا يحيى مَجْلِسنَا قلت أجل مجْلِس يفقه الْخَاصَّة والعامة فَقَالَ مَا رَأَيْت لكم حلاوة إِنَّمَا الْمجْلس لأْصحاب الخلقان والمحابر وَقَالَ السراج حَدثنَا سهل بن عَسَاكِر قَالَ تقدم رجل غَرِيب بِيَدِهِ محبرة إِلَى الْمَأْمُون فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صَاحب حَدِيث مُنْقَطع بِهِ قَالَ مَا تحفظ فِي بَاب كَذَا فَلم يذكر الرجل فِيهِ شَيْئا قَالَ فمازال الْمَأْمُون يَقُول حَدثنَا هشيم وَحدثنَا يحيى وَحدثنَا حجاج فَذكر الْبَاب ثمَّ سَأَلَهُ عَن بَاب آخر فَلم يذكر فِيهِ شَيْئا فَقَالَ الْمَأْمُون حَدثنَا فلَان وَحدثنَا فلَان إِلَى أَن قَالَ لأَصْحَابه يطْلب أحدهم الحَدِيث ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ يَقُول أَنا من أَصْحَاب الحَدِيث أَعْطوهُ ثَلَاث دَرَاهِم وَمَعَ هَذَا فَكَانَ الْمَأْمُون مُسْرِفًا فِي الْكَرم جواداً ممدحاً جَاءَ عَنهُ أَنه فرق فِي سَاعَة وَاحِدَة سِتَّة وَعشْرين ألف ألف دِرْهَم وَجَاء أَنه مدحه أَعْرَابِي مرّة فَأَجَازَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأما ذكاؤه وَعلمه فروى مُحَمَّد بن عون عَن أبي عُيَيْنَة أَن الْمَأْمُون جلس فَجَاءَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَاتَ أخي وَخلف سِتّمائَة دِينَار فأعطوني دِينَارا وَاحِدًا وَقَالُوا هَذَا نصيبك فَحسب الْمَأْمُون وَقَالَ أَيْضا هَذَا نصيبك هَذَا أَخُوك خلف أَربع بَنَات قَالَت نعم قَالَ لَهُنَّ أَرْبَعمِائَة دِينَار وَخلف وَالِدَة لَهَا مائَة دِينَار وَخلف زَوْجَة فلهَا خَمْسَة وَسَبْعُونَ دِينَارا بِاللَّه أَلَك اثْنَا عشر أَخا قَالَت نعم قَالَ لكل وَاحِد دِينَارَانِ وَلَك دِينَار وَاحِد وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ لي الْمَأْمُون أَخْبرنِي عَن قَول هِنْد بنت عتبَة من // (الرجز) //
(نحنُ بناتُ طارقْ ... نمشِي على النمارِقْ)
وَمن طَارق هَذَا قَالَ فَنَظَرت فِي نَسَبهَا فَلم أَجِدهُ فَقلت مَا أعرفهُ فَقَالَ الْمَأْمُون إِنَّمَا أَرَادَت النَّجْم انتسبت إِلَيْهِ بحسنها ثمَّ رمى إِلَيّ بعنبرة فِي يَده فبعتها(3/439)
بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ أَبُو معشر المنجم كَانَ الْمَأْمُون أماراً بِالْعَدْلِ مَحْمُود السِّيرَة مَيْمُون النقيبة فَقِيه النَّفس يعد من كبار الْعلمَاء وَعَن الرشيد وَالِده قَالَ إِنِّي لأعرف فِي عبد الله حزم الْمَنْصُور ونسك الْمهْدي وَعزة الْهَادِي وَلَو أَشَاء لأنسبه إِلَى الرَّابِع يَعْنِي نَفسه لنسبته وَقد قدمت مُحَمَّدًا عَلَيْهِ وَإِنِّي لأعْلم أَنه ينقاد إِلَى هَوَاهُ مبذر لما حوته يَده يُشَارِكهُ فِي رَأْيه الْإِمَاء وَالنِّسَاء وَلَوْلَا أم جَعْفَر يَعْنِي زبيدة وميل بني هَاشم إِلَيْهِ لقدمت عبد الله عَلَيْهِ وَعَن الْمَأْمُون قَالَ لَو عرف النَّاس حبي للعفو لتقربوا إِلَيّ بالجرائم وأخاف أَلا أوجر فِيهِ يَعْنِي لكَونه طبعَاً لَهُ وَعَن يحيى بن أَكْثَم قَالَ كَانَ الْمَأْمُون يحلم حَتَّى يغيظنا وَذكر أَن ملاحاً مر بِهِ الْمَأْمُون فَقَالَ الملاح أتظنون أَن هَذَا نَبل فِي عَيْني وَقد قتل أَخَاهُ الْأمين لَا وَالله فَسَمعَهَا الْمَأْمُون فَتَبَسَّمَ وَقَالَ مَا الْحِيلَة حَتَّى أنبل فِي عَيْني هَذَا السَّيِّد الْجَلِيل وَعنهُ قَالَ كَانَ الْمَأْمُون يجلس للمناظرة فِي الْفِقْه يَوْم الثُّلَاثَاء فجَاء رجل عَلَيْهِ ثِيَاب قد شمرها وَنَعله فِي يَده فَوقف على طرف الْبسَاط وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم فَرد الْمَأْمُون السَّلَام فَقَالَ أتأذن لي فِي الدنو قَالَ ادن وَتكلم فَقَالَ أَخْبرنِي عَن الْمجْلس الَّذِي أَنْت فِيهِ جلسته باجتماع الْأمة أم بالمغالبة والقهر قَالَ الْمَأْمُون لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا بل كَانَ يتَوَلَّى أُمُور النَّاس من عقد لي ولأخي فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيّ علمت أَنِّي مُحْتَاج إِلَى اجْتِمَاع كلمة الْمُسلمين فِي الشرق والغرب على الرِّضَا بِي فَرَأَيْت أَنِّي مَتى تخليت عَن الْأَمر اضْطربَ حَبل الْإِسْلَام وَتَنَازَعُوا ومرج عَهدهم وَبَطل الْجِهَاد وَالْحج وانقطعت السبل فَقُمْت حياطة للْمُسلمين إِلَى أَن يجمعوا على رجل يرضون بِهِ فَأسلم إِلَيْهِ الْأَمر فَمَتَى اتَّفقُوا على رجل خرجت لَهُ من الْأَمر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَذهب فَوجه الْمَأْمُون من يكْشف خَبره فَرجع فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مضى إِلَى مَسْجِد فِيهِ خَمْسَة عشر رجلاَ فِي مثل هَيئته فَقَالُوا لَهُ أتيت الرجل قَالَ نعم وَأخْبرهمْ بِمَا جرى فَقَالُوا مَا نرى بِمَا قَالَ(3/440)
بأسَاً وافترقوا فَقَالَ الْمَأْمُون كفينا مُؤنَة هَؤُلَاءِ بأيسر الْخطب وأتى بِرَجُل من الْخَوَارِج فَقَالَ لَهُ مَا حملك على الْخُرُوج وَالْخلاف قَالَ {وَمَن لم يحكمُ بِمَا أَنزَلَ اَللهّ فَأُولَئكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الْمَائِدَة 44 فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون أَلَك علم بِأَنَّهَا منزَّلة قَالَ نعم قَالَ مَا دليلك قَالَ إِجْمَاع الْأمة قَالَ فَكَمَا رضيت بإجماعهم فِي التَّنْزِيل فارض بإجماعهم فِي التَّأْوِيل قَالَ صدقت السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعَن إِسْحَاق الْموصِلِي قَالَ كَانَ الْمَأْمُون قد سخط على الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك الملقب بالخليع الشَّاعِر لكَونه هجاه عِنْدَمَا قتل الْأمين قَالَ إِسْحَاق فَبَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم عِنْد الْمَأْمُون إِذْ دخل الْحَاجِب برقعة فَاسْتَأْذن فِي إنشادها فَأذن لَهُ فَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(أَجِزْنِي فإنِّي قد ظَمِئْتُ إِلَى الوِرْدِ ... متَى تنجزِ الوعدَ المؤكِّد بالعَهْدِ)
(أعيذُكَ من خُلْفِ الملوكِ فقد ترَى ... تقطُّعَ أنفاسي عَلْيكَ من الوَجْدِ)
(أيبخَلُ فردُ الحُسْنِ عنِّي بنائِلٍ ... قَلِيلٍ وقَدْ أفردتُّهُ بهوًى فَرْدِ)
إِلَى أَن قَالَ
(رأى اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ خَيْرَ عبادِهِ ... فملَّكه واللَّهُ أعلمُ بالعَبْدِ)
(أَلاَ إِنَّمَا المأمونُ للناسِ عصمةٌ ... مُمَيِّزَةٌ بَين الضلاَلةِ والراشدِ)
فَقَالَ لَهُ أَحْسَنت قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أحسن قَائِلهَا قَالَ وَمن هُوَ قَالَ عَبدك الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك فَقَالَ لَا حَيَّاهُ الله وَلَا بياه أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل // (من الطَّوِيل) //
(فَلَا تَمَّتِ الأشياءُ بعد محمَّدِ ... وَلَا زالَ شمْلُ الملكِ فِيهَا مبدَّدَا)
(وَلَا فَرِحَ المأمونُ بالمُلْكِ بعدَهُ ... وَلَا زالَ فِي الدُّنْيَا طريدَاً مشرَّدا)
هَذِه بِتِلْكَ فَلَا شَيْء لَهُ عندنَا قَالَ الْحَاجِب فَأَيْنَ عَادَة عَفْو أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أما هَذِه فَنعم ائذنوا لَهُ فَدخل فَقَالَ هَل عرفت يَوْم قتلِ أخي هاشمية هتكت قَالَ لَا قَالَ فَمَا معنى قَوْلك // (من الطَّوِيل) //
(وَمِمَّا شَجى قَلْبي وكَفْكَفَ عَبْرَتِي ... محارمُ مِنْ آلِ الرسولِ استُحِلَّتِ)(3/441)
(ومهتوكة بالاجلْدِ عَنْهَا سجوفها ... كعاب كقرنِ الشمسِ حِين تبدَّتِ)
(فَلَا باتَ ليلُ الشامتِين بغبطةٍ ... وَلَا بلَغَتْ آمالها مَا تمنَّتِ)
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لوعة غلبتني وروعة فاجأتني ونعمة سلبتها بعد أَن غمرتني فَإِن عَاقَبت فبحقك وَإِن عَفَوْت فبفضلك فَدَمَعَتْ عينا الْمَأْمُون وَأمر لَهُ بجائزة حكى الصولي أَنه كَانَ يحب اللّعب بالشطرنج واقترح فِيهِ شَيْئا وَكَانَ ينْهَى أَن يَقُول الشَّخْص تعال نلعب وَيَقُول بل نتناقل وَلم يكن بِهِ حاذقَاً وَكَانَ يَقُول أَنا أدبر الدُّنْيَا وأتسع لَهَا وأضيق عَن تَدْبِير شبرين وَله فِيهِ // (من الْبَسِيط) //
(أرضٌ مُرَبَّعَةٌ حمراءُ مِنْ أَدم ... مَا بَين إلفَيْنِ معروفَيْنِ بالكَرَمِ)
(تذاكرا الحَرْب فاخْتالاَ لَهَا حِيَلاً ... مِنْ غيرِ أَنْ يأْثَما فِيهَا بِسَفْكِ دَمِ)
(هَذَا يُغٍ يرُ على هَذَا وَذَاك عَلى ... هَذَا يُغِيرُ وَعين الحَزْمِ لَمْ تَنَمِ)
(فانْظُرْ إِلَى فِطَنٍ جَالَتْ بِمَعْرِفَةٍ ... فِي عسْكرَيْنِ بِلَا طَبْلٍ وَلَا عَلَمِ)
وَنظر الْمَأْمُون إِلَى عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَكَانَ يلقب بالتنين لسمنه فَقَالَ لَهُ مَا أَظُنك عشقت قد ثمَّ أنْشد // (من السَّرِيع) //
(وَجْهُ الَّذِي يَعْشَقُ مَعْروفُ ... لأَنَّهُ أَصْفرُ مَنْحُوفُ)
(ليْسَ كَمنْ يَأْتِيكَ ذَا جُثَّةٍ ... كَأَنَّهُ لِلذَّبْحِ مَعْلُوفُ)
وَعَن الْمَأْمُون قَالَ مَا أعياني قطّ جَوَاب إِلَّا جَوَاب ثَلَاثَة صرت إِلَى أم ذِي الرياستين الْفضل بن سهل أعزيها فِيهِ فَقلت لَا تأسى عَلَيْهِ فَإِنِّي عوضه لَك قَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ لَا أَحْزَن على ولد أكسبني مثلك وأتيت بمتنبئ فَقلت لَهُ من أَنْت قَالَ أَنا مُوسَى بن عمرَان قلت وَيحك مُوسَى لَهُ آيَات فائتني بهَا حَتَّى أومن بك قَالَ إِنَّمَا أتيت بِهَذِهِ المعجزات لفرعون إِذْ قَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى فَإِن قلت ذَلِك أَتَيْتُك بِالْآيَاتِ قَالَ وأتى أهل الْكُوفَة يَشكونَ عاملهم فَقَالَ خطيبهم هُوَ شَرّ عَامل أما فِي أول سنة فَإنَّا بعنا الأثاث وَفِي الثَّانِيَة بعنا الْعقار وَفِي الثَّالِثَة نزحنا عَن بِلَادنَا وأتيناك نستغيث فَقلت كذبت بل هُوَ رجل قد حمدت مذْهبه ورضيت دينه فاخترته معرفَة بكم وَقد تقدم سخطكم على(3/442)
الْعمَّال غر مرّة قَالَ صدقت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وكذبت أَنا فقد خصصتنا بِهِ هَذِه الْمدَّة دون بَاقِي الْبِلَاد فَاسْتَعْملهُ على بلد آخر يشملهم من عدله وإحسانه مثل الَّذِي شملنا فَقلت قُم فِي غير حفظ الله قد عزلته عَنْكُم وَكَانَ قدوم الْمَأْمُون من خُرَاسَان إِلَى بَغْدَاد فِي صفر سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ دَخلهَا فِي رَابِع صفر فِي أبهة عَظِيمَة وتجمل زَائِد فَكَلمهُ العباسيون وَغَيرهم فِي الْعود إِلَى لِبَاس السوَاد وَترك الخضرة فتوقف ثمَّ أجَاب إِلَى ذَلِك لما قَالَ لَهُ بعض أهل بَيته إِنَّك على أثر أَوْلَاد عَليّ بن أبي طَالب وَالْأَمر فِيك أقدر مِنْك على برهم وَالْأَمر فيهم قَالَ إِنَّمَا فعلت مَا فعلت لِأَن أَبَا بكر لما ولي لم يول أحد من بني هَاشم شَيْئا ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان كَذَلِك ثمَّ لما ولي عَليّ ولي عبد الله بن عَبَّاس الْبَصْرَة وَعبيد الله الْيمن ومعبداً مَكَّة وَقثم الْبَحْرين وَمَا ترك أحدا مِنْهُم إِلَّا ولاه شَيْئا وَكَانَت هَذِه فِي أعناقنا حَتَّى كافأته فِي وَلَده بِمَا فعلت وَفِي سنة عشرَة بعد الْمِائَتَيْنِ تزوج الْمَأْمُون بوران بنت الْحسن بن سهل وَقَامَ بخلع للقواد وكلفهم مُدَّة سَبْعَة عشر يومَاً وَكتب رِقَاعًا فِيهَا أَسمَاء بضياع لَهُ ونثرها على القواد والعباسيين فَمن وَقعت فِي يَده رقْعَة باسم ضَيْعَة تسلمها ونثر صينية ملأى جَوَاهِر بَين يَدي الْمَأْمُون عِنْدَمَا زفت إِلَيْهِ وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ أَمر الْمَأْمُون بِأَن يُنَادي بَرِئت الذِّمَّة مِمَّن ذكر مُعَاوِيَة بِخَير وَأَن أفضل الْخلق بعد رَسُول الله
عَليّ بن أبي طَالب وَفِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة أظهر القَوْل بِخلق الْقُرْآن ثمَّ فِي سنة ثَمَان عشرَة امتحن الْعلمَاء بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن فَكتب إِلَى نَائِبه بالعراق إِسْحَاق بن الْخُزَاعِيّ ابْن عَم طَاهِر بن الْحُسَيْن بذلك ليلزم الْعلمَاء ويحاجهم فِي ذَلِك قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ قَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَرَفَة النَّحْوِيّ فِي تَارِيخه حكى أَبُو سُلَيْمَان بن دَاوُد بن عَليّ عَن يحيى بن أَكْثَم قَالَ كنت عِنْد الْمَأْمُون وَعِنْده جمَاعَة من قواد خُرَاسَان وَقد دَعَا إِلَى خلق الْقُرْآن حينئذِ فَقَالَ لأولئك القواد مَا تَقولُونَ فِي الْقُرْآن قَالُوا كَانَ شُيُوخنَا يَقُولُونَ مَا كَانَ فِيهِ ذكر(3/443)
الْحمير وَالْجمال وَالْبَقر فَهُوَ مَخْلُوق وَمَا كَانَ فِيهِ من سوى ذَلِك فَهُوَ غير مَخْلُوق فَأَما إِذا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ غير ذَلِك فَنحْن نقُول كُله مَخْلُوق فَقلت لِلْمَأْمُونِ أتفرح بموافقة هَؤُلَاءِ وَمن كَلَام الْمَأْمُون النَّاس ثَلَاثَة فَمنهمْ مثل الْغذَاء لَا بُد مِنْهُ على كل حَال وَمِنْهُم كالدواء يحْتَاج إِلَيْهِ فِي حَال الْمَرَض وَمِنْهُم كالدواء مَكْرُوه على كل حَال وَكَانَ يَقُول لَا نزهة ألذ من النّظر فِي عقول الرِّجَال وَكَانَ يَقُول غَلَبَة الْحجَّة أحب إِلَى من غَلَبَة الْقُدْرَة لِأَن غَلَبَة الْحجَّة لَا تَزُول وَغَلَبَة الْقُدْرَة تَزُول بزوالها وَكَانَ يَقُول الْملك يغْتَفر كل شَيْء إِلَّا ثَلَاثًا الْقدح فِي الْملك وإفشاء السِّرّ والتعرض للحرم وَكَانَ الْمَأْمُون مَعْرُوفا بالتشيع روى عَنهُ أَبُو دَاوُد المصاحفي قَالَ سَمِعت النَّضر ابْن شُمَيْل يَقُول دخلت على الْمَأْمُون فَقَالَ لي إِنِّي قلت الْيَوْم شعرًا فاسمعه فَقلت هاته قَالَ // (من المنسرح) //
(أصْبَحَ دِينِي الَّذِي أَدِينُ بِهِ ... وَلَسْتُ مِنهُ الغدَاةَ مُعْتَذِرَا)
(حُبّ علِيِّ بعْدَ النبيِّ وَلاَ ... أَشْتُمُ صِدِّيقَهُ وَلاَ عُمَرَا ... )
وإِبنُ عفانَ فِي الجِنانِ مَعَ الْأَبْرَارِ ... ذاكَ القَتِيلُ مُصْطَبِرَا)
(وعائِشُ الْلأُمُّ لَسْتُ أشْتُمُهَا ... منْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ مِنْهُ بَرَا)
وَمن شعره // (من المتقارب) //
(لِسَانِي كَتُومٌ لِأَسْرَارِكُمْ ... وَدمْعِي نمُومٌ لِسِرِّي مُذِبعُ)
(فَلَوْلاَ دُمُوعي كتمتُ الهَوَى ... وَلَوْلاَ الهَوَى لَمْ تَكُنْ لِي دُمُوعُ)
وَفِي ابْن خلكان دخل النَّضر بن شُمَيْل على الْمَأْمُون لَيْلَة فتفاوضا الحَدِيث فروى الْمَأْمُون عَن هشيم بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس قَوْله
إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها كَانَ فِيهِ سداد من عوز بِفَتْح السِّين فَقَالَ النَّضر يَا أميرِ(3/444)
الْمُؤمنِينَ صدق هشيم حَدثنَا فلَان ابْن فلَان إِلَى عَليّ بن أبي طَالب فَذكر الحَدِيث فَقَالَ فِيهِ سداد من عوز وَكسر السِّين وَكَانَ الْمَأْمُون مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا وَقَالَ كَيفَ قَلت سِداد بِكَسْر السِّين قلت لِأَن السداد بِالْفَتْح هَهُنَا لحن فَقَالَ أتلحنني قلت إِنَّمَا لحن هشيم فَتَبِعَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مَا الْفرق بَينهم قلت السداد بِالْفَتْح الْقَصْد فِي الدّين والسبيل وبالكسر الْبلْغَة وَكَانَ مَا سددت بِهِ شَيْئا فَهُوَ سداد فَقَالَ الْمَأْمُون أَو تعرف الْعَرَب ذَلِك قلت نعم هَذَا العرجي يَقُول // (من الوافر) //
(أَضَاعُونِي وَأَبيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ)
فَاسْتَوَى جَالِسا وَقَالَ قبح الله من لَا أدب لَهُ ثمَّ أقبل عَليّ فَقَالَ أَخْبرنِي بأخلب بَيت قالته الْعَرَب قلت قَول ابْن بيض فِي الحكم بن مَرْوَان // (من المنسرح) //
(تَقُولُ لِي وِالعُيُونُ هَاجِعَةٌ ... أَقِمْ عَلَيْنَا يَوْمًا فلَمْ أُقِمِ)
(مَتَى يقُلْ صَاحِبُ السُّرَادِقِ هَا ... ذَا إِبْنُ بيض بالبَابِ يَبْتسِمِ)
(قَدْ كنت أسلمتُ فِيكَ مُقْتَبلاً ... فَهَاتِ أدخُلْ وأَعْطِنِي سلَمِي)
فَقَالَ لقد أحسن وأجاد فَأَخْبرنِي بأنصف بَيت قالته الْعَرَب قلت قَول عرُوبَة // (من الْكَامِل) //
(إِني وَإِن كَانَ ابْن عمِّيَ وَاغِرًا ... لمُدَاهِن من خلفيهِ وَوَرَائِهِ)
(ومعده نَصْرِي وَإِن كَانَ امْرأٌ ... مُتَبَاعدًا من أَرْضِهِ وَسَمائِهِ)
(فَأَكُون وَالي سِرِّهِ وأَصُونُه ... حَتَّى يحينَ علىَّ وَقْتُ أَدَائِهِ)
(وَإِذَا الحَوَادِثُ أَحْجَنَتْ بِسَوَامِهِ ... قَرَّبْتُ جلتَهَا إِلَى حِرْبائِهِ)
(وَإِذَا دَعَا باسمي لِيَرْكبَ مَرْكبًا ... صعباً ركِبْتُ لهُ على سيسَائِهِ)
(وَإِذَا رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا ناضراً ... لَمْ يلْقَنِي مُتَمنيا لِردَائِهِ)
قَالَ لقد أحسن وأجاد فَأَخْبرنِي عَن أغرب بَيت قالته الْعَرَب قلت قَول راعي الْإِبِل // (من المنسرح) //
(أَطْلُبُ مَا يطْلُبُ الْكريم مِنْ الرِّزْقِ ... لِنَفْسِي وَأُجْمِلُ الطَّلَبَا)
(وَأَطْلُبُ الدُّرَّةَ الصفاءَ وَلاَ ... أَطْلُبُ فِي غَير خلفهَا جَلَبَا)(3/445)
(إِنِّي رأيتُ الفَتَى الكريمَ إِذَا ... رَغَّبتهُ فِي صَنِيعةٍ رَغِبَا)
(والنذْلَ لَا يطْلب العَلاَء ولاَ ... يعطيكَ شَيْئًا إِلَّا إِذا رَهِبَا)
(مثلُ الحِمارِ المُوَاقِعِ السُّوءِ لاَ ... يُحْسِنُ مشْيًا إِلا إِذا ضُرِبَا)
فَقَالَ وَالله لقد أحسن وأجاد ودعا بالدواة فَمَا أَدْرِي مَا يكْتب ثمَّ قَالَ يَا نضر كَيفَ تَقول فعل الْأَمر من الإتراب فَقلت أَقُول أترب القرطاس والقرطاس متروب قَالَ فَكيف تَقول من الطين قلت أَقُول طن الْكتاب وَالْكتاب مطين قَالَ هَذِه أحسن من الأولى ثمَّ دفَع مَا كتب إِلَى خَادِم وَجهه معي إِلَى الْحسن بن سهل فَلَمَّا قَرَأَ الْفضل الرقعة قَالَ يَا نضر قد أَمر لَك بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم فَمَا كَانَ السَّبَب فَأَخْبَرته فَأمر لي بِثَلَاثَة ألف دِرْهَم أُخْرَى فَأخذت ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم بِحرف واحدٍ اسْتُفِيدَ مني وَقد نَادَى الْمَأْمُون بِإِبَاحَة الْمُتْعَة فَلم يَجْسُر أحد يُنكر عَلَيْهِ فروى لَهُ يحيى بن أَكْثَم حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ابْني الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا مُحَمَّد بن عَليّ ري الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر فَلَمَّا صَحَّ لَهُ الحَدِيث رَجَعَ إِلَى الْحق ونادى بإيطالها وَأما مسألأة خلق الْقُرْآن فصمم عَلَيْهَا وَلم يرجع عَنْهَا فِي سنة ثَمَان عشرَة وامتحن الْعلمَاء بهَا فعوجل وَلم يُمْهل توجه فِي هَذِه السّنة غازياً إِلَى أَرض الرّوم فَلَمَّا وصل إِلَى البذندون مرض وَاشْتَدَّ بِهِ المر فأوصى بالخلافة إِلَى أَخِيه المعتصم بن الرشيد وَأما المؤتمن الْمَعْقُود لَهُ الْعَهْد بعده فقد كَانَ خلعه قبل حِين وَجعل الرضي مَكَانَهُ فِيمَا تقدم سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ فَلَمَّا ورد نزل على عين البذندون فَأَقَامَ هُنَاكَ واعتل قَالَ المَسْعُودِيّ أعجبه برد مَاء الْعين وصفاؤها وَطيب الْموضع وَكَثْرَة الخضرة وَقد طرح لَهُ دِرْهَم فِي الْعين فقرأه فِيهَا لفرط صفائها وَلم يقدر أحد أَن يسبح فِيهَا لشدَّة بردهَا فَرَأى سَمَكَة نَحْو الذِّرَاع كَأَنَّهَا الْفضة فَجعل لمن يُخرجهَا سيفَاً فَنزل فرَاش فاصطادها وطلع فاضطربت وفرت إِلَى المَاء فنضح صدر الْمَأْمُون ونحره وابتل ثَوْبه ثمَّ نزل الْفراش ثَانِيَة فَأَخذهَا فَقَالَ الْمَأْمُون يقلي(3/446)
السَّاعَة ثمَّ أَخَذته رعدة وتغطى باللحف وَهُوَ يرتعد ويصيح فأوقدت حوله نَار ثمَّ أَتَى بالسمكة فَمَا ذاقها لشغله بِحَالهِ ثمَّ أَفَاق من غمرته فَسَأَلَ عَن تَفْسِير اسْم الْمَكَان بالعربي فَقيل لَهُ مد رجليك فتطير بِهِ وَسَأَلَ عَن تَفْسِير الْبقْعَة قيل الرقة وَكَانَ فِيمَا علم من مولده أَنه يَمُوت بالرقة فَكَانَ يتَجَنَّب نزُول الرقة فَلَمَّا سمع هَذَا من الرّوم عرف وأيس وَقَالَ يَا من لَا يَزُول ملكه ارْحَمْ من زَالَ ملكه وأجلس المعتصم عِنْده من يلقنه الشَّهَادَة فَرفع الرجل بهَا صَوته فَقَالَ لَهُ ابْن ماسويه لَا تصح فوَاللَّه مَا يفرق الْآن بَين ربه وَبَين ماني فَفتح الْمَأْمُون عَيْنَيْهِ وَبِهِمَا من عظم الورم والحمرة أَمر شَدِيد وَأَقْبل يحاول بيدَيْهِ الْبَطْش بِابْن ماسويه ورام مخاطبته فعجز فرمز بطرفه نَحْو السَّمَاء وَقد امْتَلَأت عَيناهُ دموعاً وَقَالَ فِي الْحَال يَا من لَا يَمُوت ارْحَمْ من يَمُوت ثمَّ قضى فِي يَوْم الْخَمِيس لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ فنقله ابْنه الْعَبَّاس وَأَخُوهُ المعتصم إِلَى طرسوس فَدفن هُنَاكَ وَلما ورد خبر وَفَاته بَغْدَاد قَالَ أَبُو سعيد المَخْزُومِي // (من الْخَفِيف) //
(هَلْ رَأيْتَ النُّجُومَ أَغْنتْ عَنِ الْمأْمُونِ ... يَوْمًا أَوْ ملكه المأسوس)
(خَلَّفُوهُ بِعَرْصَتَيْ طَرَسُوس ... مِثْلَ مَا خلَّفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ)
حدث مُحَمَّد بن أَيُّوب أَمِير الْبَصْرَة لِلْمَأْمُونِ قَالَ كَانَ بِالْبَصْرَةِ رجل من بني تَمِيم شَاعِر أديب كنت آنس بِهِ فَأَرَدْت نَفعه فَقلت خليفتنا الْمَأْمُون أَجود من السَّحَاب الحافل وَالرِّيح العاصف وَإِنِّي موفدك عَلَيْهِ فَدَعَا لي فأعطيته نجيبَاً وَنَفَقَة ثمَّ عمل أرجوزة لَطِيفَة ذَكرنِي فِيهَا فاستحسنتها وَخرج إِلَى الشَّام والمأمون ب سلغوس ثمَّ أَخْبرنِي بعد ذَلِك فَقَالَ بَينا أَنا فِي غَدَاة قُرَّة على نجيبي وَأَنا أُرِيد الْعَسْكَر إِذا أَنا بكهل على بغل فاره مَا يقر قراره وَلَا تدْرك خطاه فتلقاني مُوَاجهَة فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك بِكَلَام جَهورِي وَقَالَ قف إِن شِئْت فوقفت فتضوعت مِنْهُ رَائِحَة الْمسك فَقَالَ مِمَّن أَنْت فَقلت رجل من مُضر فَقَالَ وَنحن من مُضر قَالَ ثمَّ مِمَّن قلت من تَمِيم من بني سعد فَقَالَ هيه مَا أقدمك قلت قصدت(3/447)
هَذَا الْخَلِيفَة الَّذِي مَا سَمِعت بِمثلِهِ أندى رَاحَة وَلَا أوسع ساحة وَلَا أطول باعاً وَلَا أمد يفاعَاً وَقد قصدته بِشعر يلذ على أَفْوَاه الروَاة ويحلو فِي آذان المستمعين قَالَ فأنشدنيه فمضيت وَقلت يَا رَكِيك أخْبرك بِشعر قلته فِي الْخَلِيفَة ومديح حبرته فِيهِ فَقَالَ وَمَا تَأمل مِنْهُ قلت إِن كَانَ على مَا ذكر لي فألف دِينَار قَالَ فَأَنا أُعْطِيك ألف دِينَار إِن رَأَيْت الشّعْر جيدَاً وَمَتى تصل إِلَيْهِ وَبَيْنك وَبَينه عشرُون ألف رامح ونابل فَقلت لَهُ أَمَعَك مَال قَالَ بغلي هَذَا خير من ألف دِينَار أنزل لَك عَن ظَهره فَقلت مَا يُسَاوِي هَذَا الْبَغْل هَذَا النجيب فَقَالَ دع عَنْك هَذَا وَلَك الله أَن أُعْطِيك ألف دِينَار فَأَنْشَدته الأرجوزة وَقلت // (من الرجز) //
(مَأمُونُ يَا ذَا المِنَنِ الشَّرِيفَهْ ... وَصَاحِبَ المَرْتَبَةِ المُنِيفَهْ)
(وَقَائِدَ الْكَتِيبََةِ الْكَثِيفَهْ ... هَلْ لَكَ فِي أُرْجُوزَةٍ ظَرِيفَهْ)
(أظْرَفَ مِنْ فِقهِ أبِي حَنِيفَهْ ... لاَ وَالَّذِي أَنْتَ لَهُ خَلِيفَهْ)
(مَا ظَلَمَتْ فِي أَرْضِنَا عَفِيفَهْ ... أَميرنَا مُؤْنَتُهُ خَفِيفَهْ)
(ومَا اجْتَنَي شَيْئًا سِوَى الوَظِيفَهْ ... فَالذَّئْبُ وَالنَّعْجَةُ فِبي سَقِيفَهْ)
(وَاللِّصُّ وَالتَّاجِرُ فٍ ي قَطِيفَهْ ... )
قَالَ فوَاللَّه مَا أتممتها حَتَّى غشينا زهاء عشرَة آلَاف فَارس قد سدوا الْأُفق يَقُولُونَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأخذني شبه جُنُون فَنظر إِلَيّ وَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك قلت أمعذري أَنْت قَالَ نعم ثمَّ الْتفت إِلَى خَادِم وَقَالَ أعْطِيه مَا مَعَك فَأخْرج كيساً فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار ذَهَبا وَقَالَ هاك سَلام عَلَيْك وَمضى وَرجعت إِلَى بلدي مَسْرُورا فِي المسامرة لِابْنِ عَرَبِيّ أشرف الْمَأْمُون من قصره فَرَأى رجلا قَائِما وَبِيَدِهِ فَحْمَة وَهُوَ يكْتب بهَا على حَائِط قصره فَأمر الْمَأْمُون بعض خدمه أَن يذهب إِلَيْهِ فَينْظر مَا كتب ويأتيه بِهِ فبادر الْخَادِم إِلَى الرجل مسرعاً وَقبض عَلَيْهِ وَتَأمل الْكتاب وَإِذا هُوَ // (من الْبَسِيط) //
(يَا قَصْرُ جُمِّعَ فيكَ الشُّؤْم واللُّومُ ... متَى تُعَشِّشُ فِي أَرْجَائِكَ البُومُ)
(يَوْمَ تُعَشِّشُ فيكَ البُومُ مِنْ فرَحِي ... أَكُونُ أَّولَ منْ يرْعَاك مَرْغُومُ)
ثمَّ إِن الْخَادِم قَالَ للرجل أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ سَأَلتك بِاللَّه لَا تذْهب(3/448)
بِي إِلَيْهِ فَقَالَ الْخَادِم لَا بُد من ذَلِك فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ أعلمهُ الْخَادِم بِمَا كتبه فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون وَيلك مَا حملك على هَذَا قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه لن يخفي عَلَيْك مَا حواه قصرك من خَزَائِن الْأَمْوَال والحلي وَالْحلَل وَالطَّعَام وَالشرَاب والقرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وَغير ذَلِك مِمَّا يقصر عَنهُ وصفي ويعجز عَنهُ فهمي وَإِنِّي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قّد مَرَرْت عَلَيْهِ الْآن وَأَنا فِي غَايَة الْجُوع والفاقة فوقفت مفكرَاً فِي أَمْرِي وَقلت فِي نَفسِي هَذَا الْقصر عَامر عَال وَأَنا جَائِع وَلَا فَائِدَة لي فِيهِ وَلَو كَانَ خرابَاً وَأَنا مَرَرْت بِهِ لم أعدم مِنْهُ رخامة أَو خَشَبَة أَو مسمارَاً أبيعه وأتقوت بِثمنِهِ أَوَ مَا علم أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا قَالَ الشَّاعِر فَقَالَ الْمَأْمُون وَمَا قَالَ الشَّاعِر فَقَالَ قَالَ // (من الطَّوِيل) //
(إِذَا لم يَكُنْ للمَرْءِ فِي دولِة اٌ مْرِئٍ ... نصيبٌ وَلاَ حَظٌّ تَمَنَّى زَوَالَها)
(وَمَا ذَاكَ مِنْ بُغْضٍ لَهَا غَيْرَ أَنَّهُ ... يُرَجِّى سِوَاها فَهْوَ يهوى زَوَالَهَا)
فَقَالَ الْمَأْمُون يَا غُلَام أعْطه ألف دِينَار ثمَّ قَالَ هِيَ لَك كل سنة مَا دَامَ قَصرنَا عامرَاً بأَهْله وَفِي مثل هَذَا الْمَعْنى قَالَ الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(إِذَا لاكنتَ فِي أَمْرٍ فَكُنْ فِيهِ مُحْسِنًا ... فَعَمَّا قَليلٍ أَنْتَ مَاضٍ وَتَارِكُهْ)
(وَكَمْ دَحَتِ ألأَيَّامُ أربابَ دَوْلَةٍ ... وَقَدْ ملكُوا أضعافَ مَا أَنْتَ مَالِكُهْ)
كَانَت مُدَّة خِلَافَته عشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا وعمره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَمن شعر الْمَأْمُون فِي آل الْبَيْت قَوْله // (من الوافر) //
(وَكَمْ غَاو يَعَضُّ عَلَىَّ غَيْظًا ... إذَ أَدْنَيْتُ أَبْنَاءَ الوصِيِّ)
(يحاولُ أنَّ نورَ الله يُطْفَى ... وَنُورُ اللَّهِ فِي حِصْنٍ أَبيِّ)
(فقلتُ أَلَيسَ قدْ أَوتيتَ عِلْمًا ... وَبانَ لَكَ الرشيدُ مِن الْغَوِيِّ)
(وَعُرِّفْتَ احْتِجَاجي بالمَثانِي ... وبِالمَعْقُولِ وَالْأَثرِ القَوِيِّ)
(بِأَيَّةِ خلَّةٍ وبِأَيَّ مَعْنًى ... تُفَضِّلُ مُلْحِدينَ عَلَى عَلِيِّ)
(عليٌّ أَعْظَمُ الثَّقَلينِ حَقًّا ... وأفضَلُهم سِوَى حَقِّ النبيِّ)
رَحمَه الله تَعَالَى(3/449)
(خلَافَة المعتصم)
أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو إِسْحَاق مُحَمَّد بن هَارُون الرشيد ولد سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَأمه أم ولد اسْمهَا ماردة بُويِعَ بعد الْمَأْمُون بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ فِي رَابِع عشر رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَبيض أصهب اللِّحْيَة طويلها ربع الْقَامَة مشرب اللَّوْن ذَا شجاعة وهمة عالية وَقُوَّة مفرطة قَالَ نفطويه حدثت أَنه أَدخل زند رجل بَين إصبعيه فَكَسرهُ وَكَانَ يحمل ألف رَطْل فَيَمْشِي بهَا خطوَات ويفحص الدِّينَار فَيَمْحُو سكَته بِوَاحِدَة وَكَانَ أُمِّيا لَا يحسن الْكِتَابَة روى الصولي قَالَ كَانَ للمعتصم غُلَام فِي الْكتاب يتَعَلَّم مَعَه فَمَاتَ ذَلِك الْغُلَام فَقَالَ لَهُ الرشيد أَبوهُ مَاتَ غلامك قَالَ نعم يَا سَيِّدي واستراح من الْكتاب فَقَالَ الرشيد لَهُ وَإِن الْكتاب ليبلغ مِنْك هَذَا دَعوه وَلَا تعلموه وَكَانَ يقْرَأ وَيكْتب قِرَاءَة وَكِتَابَة ضَعِيفَة قَالَ الْعَلامَة البهوتي ذكر أَبُو الْفضل الرياشي كتب ملك الرّوم لَعنه الله إِلَى المعتصم يتهدده فَأمر بجوابه فَلَمَّا قرئَ عَلَيْهِ الْجَواب لم يرضه وَقَالَ لِلْكَاتِبِ اكْتُبْ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أما بعد فقد قَرَأت كتابك وفهمت خطابك وَالْجَوَاب مَا ترى لَا مَا تسمع وَسَيعْلَمُ الْكَافِر لمن عُقبى الدَّار قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب غزا المعتصم بِلَاد الرّوم سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ(3/450)
فأكنى فِي الْعَدو نكاية عَظِيمَة وَنصب على عمورية المجانيق وفتحا وَقتل ثَلَاثِينَ ألف وسبى مثلهَا وَكَانَ فِي سبيه سِتُّونَ بطريقاً ثمَّ أحرقها وَهِي من أَجَل فتح وَقع فِي الْإِسْلَام وَسبب ذَلِك على مَا ذكره أهل التواريخ أَن رجلا وقف على المعتصم حَال شربه وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كنت بعمورية وَجَارِيَة من أحسن النِّسَاء أسيرة قد لطمها على وَجههَا علج فَقَالَت وامعتصماه فَقَالَ لَهَا العلج عساه أَن يَأْتِيك على خيل بلق فَلَمَّا سمع المعتصم كَلَامه أَمر بالختم على الكأس وَقَالَ وَقَرَابَتِي من رَسُول الله
لَا شربته حَتَّى أغزوه فأنتقذها ثمَّ استجاش وَسَار إِلَيْهِ على الْخَيل البلق كَمَا قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ وَلما تجهز المعتصم لفتح عمورية حكم المنجون أَن ذَلِك الْوَقْت طالع نحس وَأَنه يكسر فَكَانَ من ظفره وَنَصره مَا لم يخف فَقَالَ فِي ذَلِك أَبُو تَمام الطَّائِي حبيب بن أَوْس قصيدته البديعة البائية وَهِي من // (الْبَسِيط) //
(أَلسَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْباءً مِنَ الكُتُبِ ... فِي حَدِّه الحَدُّ بَين الجِدِّ واللعِبِ)
(بِيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ)
(والعْلِمُ فِي شُهُبِِ الأَرْماحِ لاَمِعةً ... بَين الخَمِيسَينِ لاَ فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ)
(أَيْنَ ألرِّوَايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا ... صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فِيهَا وَمِنْ كذِبِ)
(تخَرُّصًا وَأَحَادِيثًا مُلَفَّقَةً ... لِيْسَتْ بِنَبع إِذَا عُدَّتْ وَلا غَرَبِ)
(عَجَائِبًا زَعَمُوا الْأَيَّامَ مُجْفِلَةً ... عَنْهُنَّ فِي صَفَر الْأَصْفَارِ أَوْ رَجَبِ)
)
وَخَوَّفُوا النَّاسَ مِنْ دَهْيَاءَ مظْلِمَةٍ ... إِذَا بدا الكَوْكَبُ الغَرْبِيُّ ذُو الذَّنَبِ)
(وَصَيَّروا الأَبْرُجَ العلْيَا مُرتبةً ... مَا كَانَ مُنْقَلِبًا أَوْ غيرَ مُنْقَلِبِ)
(يَقْضُونَ بالْأَمْرِ عَنْهَا وَهْي غاَفِلَةٌ ... مَا دَارَ فِي فَلَكٍ مِنْهَا وفِي قُطُبِ)
(لوْ بَيَّنَتْ قَطُّ أمْرًا قَبْلَ مَوْقِعِهِ ... لَمْ تُخْفِ مَا حَلَّ بالأَوْثَانِ وَالصُّلُبِ)
(فَتْح الفُتُوح تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ بِهِ ... نَظْمٌ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ نثْرٌ مِِنَ الخُطَبِ)
(فَتْحٌ تَفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لِهُ ... وَتَبْرُزُ الأَرْضُ فِي أَثْوابِهَا القُشُبِ)
(يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّورِيَّةَ انْصَرفَتْ ... مِنْكَ المُنَى حُفَّلاً مَعْسُولَةَ الَحلب)
(أَبْقَيْتَ جَدَّ بَنى الإِسَلاَمِ فِي صَعَدٍ ... والمُشْرِكِينَ وَدَارَ الحَرْبِ فِي صَبَبِ)(3/451)
(أُمٌّ لَهُمْ لوْ رَجَوْا أَن تُفْتدَى جَعَلُوا ... فِدًى لَهَا كلَّ أمِِّ بَرَّةٍ وَأَبِ)
(وَبرْزَةُ الوَجْهِ قَدْ أَعْيتْ رِِيَاضَتُها ... كِسْرَى وَصَدَّتْ صُدودًا عَن أبي كَرِبِ)
(بِكْرٌ فَمَا افْتَرَعَتْهَا كَفُّ حَادِثَةٍ ... وَلاَ ترقَّتْ إِليها هِمَّةُ النُّوبِ)
(مِنْ عَهْد إِسكندرٍ أَوْ قبلَ ذلكَ قَدْ ... شَابَتْ نَوَاصِي اللَّيَاليِ وَهْيَ لَمْ تَشِبِ)
(حَتّى إِذَا مَخَّضَ الله السِّنين لَها ... مَخْضَ الحَلِيبَةِ كَانتْ زُبْدَة الحِقَبِ)
(أَتتْهُمُ الكُرْبَةُ السَّوْدَاءُ سَادِرَةً ... مِنها وَكانَ اسْمُهَا فَرَّاجَةَ الكُرَبِ)
(جَرَى لَهَا الفَأْلُ نحْسًا يوْمَ أَنْقرَةِ ... إِذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحَاتِ وَالرحَبِ)
(لمَّا رَأَتْ أُخَها بالأَمْسِ قَدْ خَرِبَتْ ... كَانَ الخَرَابُ لهَا أَعْدَى مِنَ الجرَبِ)
(كَمْ بينَ حِيطانِها مِنْ فارِسٍ بَطَل ... قَانِي الذَّوائِبِ مِنْ آنِي دَم سَرِبِ)
(بسُنَّةِ السَّيفِ والخَطِّىِّ مِنْ دَمِهِ ... لاَ سُنَّةِ الدِّينِ والإِسْلاَمِ مُخْتَضِبِ)
(لَقَدْ تركْتَ أَميرَ المؤْمِنِينَ بِهَا ... لِلنَّارِ يَوْمًا ذَلِيلَ الصَّخْرِ والخشَبِ)
(غادرْتَ فيهمن بهِيمَ اللَّيْلِ وَهْو ضُحًى ... بِثُلَّةِ وَسْطَها صُبْحٌ مِن اللهَبِ)
(حتَّى كأنَّ جَلابِيبَ الدُّجَى رَغِبَتْ ... عَنْ لونِهَا وَكأَنَّ الشَّمْسَ لم تَغِبِ)
(ضوءٌ مِنَ النَّارِ والظَّلْمَاءُ عَاكِفَةٌ ... وظُلمَةٌ مِنْ دُخَانٍ فِي ضُحًى شَحِبِ)
(فالشَّمْسُ طالعةٌ مِنْ ذَا وَقَدْ أَفَلتْ ... وَالّشَمْسُ وَاجِبَةٌ فِي ذَا وَلَمْ تَجِبِ)
(تَكَشَّفَ الدَّهْر تَصْرِيح الغَمام لَهَا ... عَنْ يَوْمِ هيجاءَ مِنْهَا طَاهٍ ر جلبِ)
(لم تَطْلُع الشَّمْسُ مِنْهُ يَوْمَ ذَاك عَلَى ... بانٍ بأَهْلٍ ولَمْ تَغْرُبْ عَلَى عَزَبِ)
(مَا رَبْعُ ميَّةَ مَعْمُورًا يُطيِفُ بِهِ ... غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبًى مِنْ ربْعِهَا الخَرِبِ)
(وَمَا الخُدُودُ وَإِن أُدْمِينَ من خجَلٍ ... أَشْهَى إلَى نَاظِِرِي مِنَ خَدِّها التَّرِبِ)
(سَمَاجَةً غَنِيَتْ منْهَا العُيونُ بِهَا ... عَنْ كُلِّ حُسْنٍ بَدَا أَوْ مَنْظَرٍ عجَبِ)
(وَحُسْنُ منقلبٍ تَبْدُو عَوَاقِبُهُ ... جَاءَتْ بَشَاشَتُهُ عَنْ سُوءِ مُنْقَلَبِ)
(تَدْبِيرُ مُعْتصِمٍ بِاللَّهِ مُنْتَقِم ... للِهِ مُرْتَقِبٍ فِي اللَّهِ مُرْتَغِبِ)
(ومُطعمِ النَّصْلِ لم تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُ ... يَوْمًا وَلَا حُجِبَتْ عَن رُوح مُحتْجِبِ)
(لم يَرْمِ قومَاً وَلَم يَنْهَدْ إلِى بَلَدٍ ... إِلاَّ تَقَدَّمَهُ جَيْشٌ مِنَ الرُّعُبِ)
(لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلاً يَوْمَ الوَغَى لَغدَا ... مِنْ نفسِهِ وَحْدَهَا فِي جَحْفَلٍ لجبِ)(3/452)
(رَمى بِكَ اللَّهُ بُرْجَيْهَا فهَدَّمَهَا ... وَلو رَمَى بِكَ غيْرُ اللَّهِ لمْ يُصِبِ)
(مِنْ بَعْدِ مَا أَشَّبوهَا واثقِينَ بِها ... واللَّهُ مِفْتَاحُ بَاب المَعْقلِ الأَشِبِ)
(وَقَالَ ذُو أَمْرِهم لاَ مَرْتَعٌ صّدَدٌ ... لِلسَّارِحِينَ ولَيْسَ الوِرْدُ عنْ كثَبِ)
(أَمَنِيًا سَلَبتْهُمْ نُجْحَ هَاجِسِهَا ... ظُبَي السُّيوفِ وَأطْرَافُ القَنَا السُّلُبِ)
(إِِنَّ ألحمامَينِ مِنْ بِيضٍ ومِنْ سُمُرٍ ... دَلْوَا الحَيَاتينِ مِنْ مَاءٍ وَمِنْ عُشُبِ)
(لَبَّيْتَ صَوْتًا زِبطْرِيًّا هرَقْت لَهُ ... كَأْسَ الكرَا ورُضَابَ الخُرَّدِ العُرُبِ)
(عَدَاكَ حَرُّ الثُّغُورِ المُستُضَامَةِ عَنْ ... بَرْدِ الثُّغُورِ وَعَنْ سَلْسَالِهَا الحَصِبِ)
(أَجبْتَهُ مُعْلِنًا بالسَّيْفَ مُنْصَلِتًا ... وَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لم تُجِبِ)
(حَتَّى تَرَكْتَ عَمُودَ الشِّرْك مُنْعَفِرًا ... ولَمْ تُعَرِّجْ عَلَى الأَوْتَادِ والطُّنُبِ)
(لَّما رَأَى الحَرْبَ رَأْى العَينِ نُوفَلِسٌ ... والحَرْبُ مُشْتَقَّةُ الْمَعْنى مِِنَ الحرَبِ)
(غَدَا يُصَرِّفُ بالأمْوالِ خِزْيَتَهَا ... فَعَزَّهُ البَحْرُ ذُو التَّيَّارِ والعَببِ)
(هَيْهَاتَ زُعْزِعَتِ الأَرْضُ الوَقُورُ بِهِ ... عَنْ غَزْوِ مُحْتَسِبٍ لَا غَزْوِ مُكْتَسِبِ)
(لَمْ يُنْفِقِ الذَّهَبَ المُرْبِى بِكَثْرَتِهِ ... عَلَى الحصَى وَبِهِ فَقْرٌ إلَى الذَّهَبِ)
(إِنَّ الأُسُودَ أُسود الغَابِ هِمَّتُها ... يَوْمَ الكرِيهةِ فِي المسْلُوبِ لاَ السَّلبِ)
(ولَّى وقدْ ألْجَمَ الخَطِّيُّ مَنْطِقَهُ ... بِسَكْتَةٍ تحتهَا الأَحْشَاءُ فِي صَخبِ)
(أَحْذَى قَرَابينَهُ صرْفَ الرَّدى وَمَضَى ... يَحُثُّ أَنْجَى مَطَايَاهُ مِنَ الهربِ)
(مُوَكَّلاَ بِيَفَاع الأرْضِ يُشْرِفُهُ ... مِنْ خِفَّةِ الخَوْفِ لاَ من خِفَّة الطَّرَبِ)
(إِن يعْدُ من حرِّهَا عَدْوَ الظَّلِيمِ فَقَدْ ... أَوْسَعْت جَاحِمَهاَ مِنْ كَثْرَةِ الحَطَبِ)
(تِسْعُون أَلفًا كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ ... جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالعِنَبِ)
(يَا رُبَّ حَوْبَاءَ لمَّا اجْتُثَّ دَابِرُهُمْ ... طَابتْ وَلَوُضمِّخَتْ بِالمِسْكِ لَمْ تطِبِ)
(وَمُغْضَبٍ رَجَعَتْ بيضُ السُّيوفِِ بِهِ ... حَيَّ الرِّضَا عَنْ رَدَاهُمْ مَيِِّتَ الغَضَبِ)
(وَالحَرْبُ قَائِمةٌ فِي مَأْزِقٍ لَجِبٍ ... تَجْثُو الرِّجَالُ بِهِ صُغْرًا عَلَى الرُّكَبِ)
(كَمْ نِيلَ تَحْتَ سَنَاهَا مِنْ سَنَا قَمَرٍ ... وَتَحْتَ عَارِضِهَا مِنَ عارِضٍ شَنِبِ)
(كم كَانَ فِي قَطْعِ أسْبَابِ الرِّقَابِ بِها ... إِلَى المُخَدَّرةِ العَذْرَاء مِنْ سبَبِ)
(كم أَحْرَزَتْ قُضُبَ الهنْدِيِّ مُصْلَتَةً ... تَهْتَزُّ من قُضُبٍ تَهْتَزُّ فِي كُثُبِ)(3/453)
(بِيضٌ إِذَا انْتُضِيَتْ منْ حُجْبِهَا رَجَعَتْ ... أَحَقَّ بِالبِيضِ أَبْدَانًا مِنَ الحُجُبِ)
(خليفةُ اللَّهُ جَازَى اللَّه سَعْيَكَ عَنْ ... جُرْثُومَةِ الدِّينِ وَالْإِسْلاَمِ والحَسَبِ)
(بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلمْ تَرَهَا ... تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ)
(أِنْ كَانَ بَيْنَ صُرُوفِ الدَّهْرِ مِنْ رَحِمٍ ... مَوْصُولَةٍ وَذِمَامٍ غَيْرِ مُنْقَضِبِ)
(فَبَيْنَ أَيَّامِكَ اللاَّئيِ نُصِرْتَ بهَا ... وَبَيْنَ أَيَّام بَدْرٍ أَقْرَبُ النَّسَبِ)
(أَبْقَتْ بَنِي الْأَصْفر المُصْفَرِّ كَاسْمهِمُ ... صُفْرَ الوُجُوهِ وَجَلَّتْ أوْجُهَ العَرَبِ)
وَكَانَ يُقَال لَهُ الْمُثمن فَإِنَّهُ ثامن الْخُلَفَاء من بني الْعَبَّاس وَملك ثَمَان سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَفتح ثَمَان فتوحات وَخلف من الذَّهَب ثَمَانِيَة آلَاف ألف دِينَار وَمن الدَّرَاهِم ثَمَانِيَة عشر ألف ألف وَمن الْخَيل ثَمَانِينَ ألفا وَثَمَانِية آلَاف مَمْلُوك وَثَمَانِية آلَاف جَارِيَة وَبنى ثَمَانِيَة قُصُور وَكَانَ عدد غلمانه التّرْك ثَمَانِيَة عشر ألفا وَولد فِي شعْبَان وَهُوَ ثامن شهور السّنة وَخلف ثَمَانِيَة ذُكُور وثمان إناث وَتُوفِّي وعمره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ سنة وَعَن أَحْمد بن بِي دؤاد قل كَانَ المعتصم يخرج ساعده إليّ فَيَقُول يَا أَبَا عبد الله عض ساعدي بأكبر قوتك فَأَقُول لَا تطيب نَفسِي فَيَقُول إِنَّه لَا يضرني فأروم ذَلِك فَإِذا هُوَ لَا تعْمل فِيهِ الأسنة فضلا عَن الْأَسْنَان وَانْصَرف يَوْمًا من دَار الْمَأْمُون إِلَى دَاره وَكَانَ شَارِع لميدان منتظماً بالخيام فِيهَا الْجند فَإِذا امْرَأَة تبْكي وَتقول ابْني ابْني وَإِذا بعض الْجند أَخذ ابْنهَا فَدَعَاهُ المعتصم وَأمره برد ابْنهَا عَلَيْهَا فَأبى فاستدناه فَدَنَا مِنْهُ فَقبض الْجند عَلَيْهِ بِيَدِهِ فَسمِعت أصوات عِظَامه ثمَّ أطلقهُ فَسقط مَيتا وَأمر بِإِخْرَاج الصَّبِي إِلَى أمه وَنقل أَنه حَال محاصرته لعمورية أصبح ذَلِك الْيَوْم برد عَظِيم وثلج فَلم يقدر أحد أَن يخرج يَده وَلَا أَن يمسك قوسه فأوتر المعتصم فِي ذَلِك الْيَوْم فَوق أَرْبَعَة آلَاف قَوس أخبر إِبْرَاهِيم بن عبد السَّلَام عَن الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك قَالَ دخلت أَنا وَمُحَمّد بن عَمْرو الرُّومِي دَار المعتصم فَخرج علينا كالحا فَدخل إيتاخ مَمْلُوك فَقَالَ الملهون(3/454)
على الْبَاب مُخَارق وعلويه وَفُلَان وَفُلَان فَقَالَ اغرب عَلَيْك وَعَلَيْهِم لعنة الله قَالَ فتبسمت إِلَى مُحَمَّد وَتَبَسم إِلَيّ فَقَالَ المعتصم مِم تبسمت فَقلت خطر ببالي شَيْء قَالَ هاته فَأَنْشَدته من // (مجزوء الْخَفِيف) //
(إِنْفِ عنْ قَلْبِكَ الحَزَنْ ... بِدُنُوِّ مِنَ السَّكَنْ)
(وَتَمَتَّعْ بِكَرِّ طَرْفِكَ ... فِي وَجْهِهِ الحَسَنْ)
فَدَعَا لي بِأَلف دِينَار ولمحمد بِأَلف فَقلت الشّعْر لي فَمَا معنى ألف مُحَمَّد قَالَ لِأَنَّهُ جَاءَ مَعَك وَأمر المهلين بِالدُّخُولِ فَدَخَلُوا فَمَا زَالَ يَوْمه ذَاك ينشد ذَلِك الشّعْر ويردده انْتهى قَالَ أَبُو العيناء أَنْشدني المعتصم عقب ذكر جرى لبغداد من // (المتقارب) //
(سَقاَنِي بَِعَيْنَيْهِ كَأْسَ الهوَى ... فَظَلْتُ وَبِي مِنْهُ مِتْلَ اللِّمَمْ)
(بِعَيْنَىْ مَهَاةٍ شَقِيقِيَّةٍ ... وَأَشْنَبَ عَذْبٍ وَفَرْعٍ أَجَمّ)
قَالَ أَبُو العيناء فتوهمت أَنه يَعْنِي سر من رأى ويكنى عَنْهَا بذلك فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ مَرْوَان فِي جدك من // (الرجز) //)
قُرَيْش الْأَبْلَجُ ذُو البَهَاءِ ... )
(غَيْثُ العُفَاةِ غُرَرُ الأَنْوَاءِ ... )
(هُمُ زِمامُ الدَّوْلَةِ الزَّهْرَاءِ ... )
قَالَ قل يَا أَبَا عبد الله فِي مدح بني هَاشم لَك أَو لغيرك فقد أصبت مقَالا فأنشدت لمروان بن أبي حَفْصَة من // (المتقارب) //
(إِلَى ملِكٍ مِثْلِ بَدْرِ الدُّجَى ... عَطِيمِ الفِنَاءِ رَفِيعِ الدِّعَمْ)
(قَرِيعِ نِزَارٍ غدَاةَ الْفَخَارِ ... وَلوْ شِئْت قُلْتَ جَمِيع الْأَمَمْ)
(لَهُ كَفُّ جُودٍ تُقِيدُ الغِنَي ... وَكفٌّ تُبِيدُ بِسَيْفِ النِّقَمْ)
فَقَالَ زِدْنِي فَأَنْشَدته // (من الرجز) //
(يَا قُطُبَ الرَّحْرَاحَةِ الملْحاءِ ... )
(ومنْزلَ البَدْرِ مِن السَّماءِ ... )
(وَالْمُجْتَدَى فِي السَّنَةِ الْعَجْفَاءِ ... )
فَقَالَ حَسبك ثمَّ الْتفت إِلَى جَارِيَة بَين يَدَيْهِ فَقَالَ عشر بدر ووصيفة وَفرس(3/455)
ومملوك وَخَمْسُونَ ثوبا من السَّاعَة فجيء بِهَذَا كُله فَأَخَذته وانصرفت فَقَالَ النَّاس يَا أَبَا العيناء مَا هَذَا قلت مَال الله على يَد عبد الله لله الْحَمد ولأمير الْمُؤمنِينَ الشُّكْر مَا دَامَت السَّمَاء وَمَا حملت مثقلة إِلَى السَّمَاء وَعَن ابْن أبي دؤاد قَالَ أرسل المعتصم إِلَى مَمْلُوك لَهُ تركي مقدم العساكر كَانَ يتَعَلَّق على الْآدَاب فَطلب مِنْهُ كلب صيد فَوجه بِهِ إِلَيْهِ ثمَّ رده المعتصم بعد رُجُوعه من الصَّيْد وَهُوَ يعرج فَكتب أشناس إِلَى المعتصم بقوله
(الْكَلْب أخذت جيد ... مكسور رجل جبت)
(رد جيد كَمَا كنت كلب أخذت ... )
فَكتب إِلَيْهِ المعتصم من جنس شعر
(الْكَلْب كَانَ يعرج يَوْم الَّذِي بعثت ... لَو كَانَ جا مجبر)
(جبر رجل كلب أَنْت ... )
فَللَّه مَا أحلم المعتصم وألطف طبعه قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ كَانَ المعتصم من أهيب الْخُلَفَاء وأعظمهم لَوْلَا مَا شان سؤدده بامتحان الْعلمَاء بِخلق الْقُرْآن فنسأل الله السَّلامَة وَهُوَ أول من أَدخل الأتراك الدِّيوَان وَقَالَ عَليّ بن المنجم استتمت عدَّة غلْمَان المعتصم الأتراك بضعَة عشر ألفَاً وعلق لَهُ خَمْسُونَ ألف مخلاة وَذَلِكَ لِلْعَدو بالنواحي وَكَانَ يتشبه بملوك الْأَعَاجِم سمتا ومشية هجاه دعبل الخزعي بقوله // (من الطَّوِيل) //
(مُلُوكُ بَنِي العَبَّاسِ فِي الكُتْبِ سبْعَةٌ ... وَلَمْ تَأْتِنَا فِي ثامِنٍ لهُمُ الكُتْبُ)
(كَذَلِكَ أَهْلُ الكَهْفَ فِي الكهفِ سَبْعَةٌ ... غَدَاةَ ثَوَوْا فِيهِ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُ)
(وَإِنّي لَأُعْلِي كَلْبَهُمْ عَنْكَ رَغْبَةً ... لِأَنَّكَ ذُو ذَنْبٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْبُ)(3/456)
)
لَقَدْ ضَاعَ أأمْرُ الناسِ حِينَ يسوسُهُمْ ... وَصبفٌ وَأَشْناسٌ وَقَدْ عظُمَ الخطْبُ)
)
وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تُرَى مِنْ مَغِيبِها ... مَطالِعُ شَمْسِ قَدْ يَغَصُّ بِهَاالشَّرْبُ)
)
وَهَمُّك تُرْكِيُّ عَلَيْهِ مَهَابَةٌ ... فَأَنْتَ لَهُ أُمُّ وَأَنْتَ لَهُ أَبُّ)
فتطلبه المعتصم فخاف وهرب حَتَّى قدم مصر ثمَّ خرج إِلَى الْمغرب أخرج الصولي عَن الْفضل اليزيدي قَالَ وَجه المعتصم إِلَى الشُّعَرَاء بِبَابِهِ من كَانَ مِنْكُم يحسن أَن يَقُول فِينَا قَالَ مَنْصُور النميري فِي الرشيد // (من الْبَسِيط) //)
إنَّ المَكارِمَ وَالمعْرُوفَ أَوْدِيةٌ ... أَحَلَّكَ الله مِنْها حيْثُ تَجْتَمِعُ)
)
مَنْ لمْ يَكُنْ بِأَمِيرِ اللَّهِ مُعْتَصِمًا ... فَليْسَ بِالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَنْتَفِعُ)
)
إِن أخْلِفَ القَطْرُ لَمْ تُخْلَفْ فَوَاضِلُهُ ... أَوْ ضَاقَ أَمْرٌ ذَكَرْنَاهُ فيَتَّسِعُ)
فَقَالَ أَبُو وهب فِينَا من يَقُول خيرا مِنْهُ فِيك // (من الْبَسِيط) //)
ثَلاَثَةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا ببَهْجَتِهَا ... شَمْسُ الُّحى وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَمَرُ)
)
يَحْكِى أَفَاعِيلَهُ فِي كُلَّ نَائِبَةٍ ... أَللَّيْثُ والغَيْثُ وَالصّمْصَامَةُ الذَّكَرُ)
فأسنى جائزته وروى الصولي عَن أَحْمد بن الخصيب قَالَ قَالَ لي المعتصم إِن بني أُميَّة ملكوا وَمَا لأحد منا ملك وملكنا نَحن وَلَهُم بالأندلس هَذَا الْأمَوِي فَقدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لمحاربته وَشرع فِي ذَلِك فاشتدت علته وَمَات وي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بنى المعتصم سر من رأى لِكَثْرَة عسكره وضيق بَغْدَاد عَلَيْهِ وانتقل إِلَيْهَا وسكنها بعسكره وَسميت الْعَسْكَر وَفِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ احْتجم المعتصم فَحم فَمَاتَ قَالَ عَليّ بن الْجَعْد لما احْتضرَ جعل يَقُول أؤخذ من بَين هَذَا الْخلق ذهبت الْحِيلَة فَلَيْسَ حلية حَتَّى صمت وَمن كَلَامه إِذا اشتعلت الْأَلْبَاب بالآداب والعقول بالتعليم انْتَبَهت النُّفُوس على مَحْمُود أمرهَا وأبرز التحريك حقائقها وَكَانَ يَقُول عَاقل مرَّتَيْنِ أَحمَق(3/457)
وَتُوفِّي يَوْم الْخَمِيس لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الأول سنة ثَمَان وَعشْرين وعمره ثَمَان وأرِبعون سنة وَثَمَانِية أَيَّام وَمن أحسن مَا سمع مِنْهُ قَوْله إِن صَحَّ عَنهُ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي أخافك من قِبَلي وَلَا أخافك من قبلك وأرجوك من قبلك وَلَا أرجوك من قبلي رَحمَه الله تَعَالَى وَلما مَاتَ المعتصم رثاه وزيره مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات جَامعا بَين لعزاء والهناء فَقَالَ // (من المنسرح) //
(قَدْ قُلْتُ إِذَ غَيَّبُوكَ واصْطَفَقَتْ ... عَلَيْكَ أَيْدٍ بِالتُّرْبِ وَالطِّينِ)
(إِذْهَبْ فَنِعْمَ الحْفِيظُ كُنْتَ عَلَى الدُّنْيَا وَنِعْمَ الظَّهِرُ للِدِّينِ)
(مَا يَجْبُرُ اللَّهُ أَمَّةً فَقَدَتْ ... مِثْلَكَ إِلاَّ بِمِثْلِ هَارُونِ)
(خلَافَة الواثق بِاللَّه)
هَارُون بن أبي إِسْحَاق مُحَمَّد المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بُويِعَ بالخلافة ب سر من رأى بِمَوْت أَبِيه المعتصم فاستقر الْأَمر لَهُ بِبَغْدَاد وَغَيرهَا ولد لعشرِ بَقينَ من الْمحرم سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَفِي المسامرة بُويِعَ فِي تَاسِع ربيع الأول يَوْم الْخَمِيس لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ أمه أم ولد اسْمهَا قَرَاطِيس كَانَ أَبيض حسن الخيم فِي عينه الْيُمْنَى نُكْتَة بَيَاض وَلم ولي قتل أَحْمد بن نصر الْخُزَاعِيّ على القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَنصب رَأسه الشرق فدار إِلَى الْقبْلَة فَأقْعدَ رجلا مَعَه رمح أَو قَصَبَة وَأمره أَن يرد الرَّأْس كلما دَار إِلَى الْقبْلَة إِلَى الشرق ورؤى فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ غفر لي ورحمني إِلَّا أَنِّي كنت(3/458)
مهموما رَأَيْت النَّبِي
مرَّتَيْنِ معرضًا عني بِوَجْهِهِ فغمني ذَلِك ثمَّ رَأَيْته مرّة ثْالثه فَقلت يَا رَسُول اللِّه ألستُ على الْحق فَلم تعرض عني قَالَ بلَى وَلَكِنِّي أَعرَضت عَنْك حَيَاء إِذْ قَتلك رجل من أهل بَيْتِي وروى البغداي أَن طَاهِر بن خلف قَالَ سَمِعت مُحَمَّدًا الملقب بالمهتدي بن الواثق يَقُول كنت عِنْد أبي الواثق إِذْ أَتَى بِرَجُل مَحْصُور مُقَيّد فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَا سلم الله عَلَيْك فَقَالَ بئْسَمَا أدبك بِهِ من أدبك قَالَ تَعَالَى {وَإذَا حُيّيتمُ بِتَحِيَّة فَحَيّوا بأحسَنَ منهَا أَو رُدُّوهَا} النِّسَاء 86 وَالله مَا حييتني بِأَحْسَن مِنْهَا وَلَا رَددتهَا فَقَالَ لَهُ أبي وَعَلَيْك السَّلَام فَقَالَ ابْن أبي دؤاد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الرجل مُتَكَلم فَقَالَ كَلمه وسله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا مَحْبُوس مُقَيّد أُصَلِّي فِي الْحَبْس بِتَيَمُّم منعت المَاء فَمر بقيودي تحل وَمر لي بِمَاء أتطهر بِهِ فأصلي ثمَّ سل فَأمر لَهُ بِمَاء فَتَوَضَّأ وَصلى ثمَّ قَالَ لِابْنِ أبي دؤاد سَله فَقَالَ الشَّيْخ الْمَسْأَلَة لي فمره أَن يجيبني فَقَالَ سل فَأقبل الشَّيْخ على ابْن أبي دؤاد فَقَالَ أَخْبرنِي عَن هَذَا الْأَمر الَّذِي تَدْعُو النَّاس إِلَيْهِ أَشَيْء دَعَا إِلَيْهِ رَسُول الله
قَالَ لَا قَالَ فشيء دَعَا إِلَيْهِ أَبُو بكر بعده قَالَ لَا قَالَ فشيء دَعَا إِلَيْهِ عمر بن الْخطاب قَالَ لَا قَالَ فشيء دَعَا إِلَيْهِ عُثْمَان بن عَفَّان قَالَ لَا قَالَ الشَّيْخ فشيء دَعَا إِلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب قَالَ لَا قَالَ الشَّيْخ فشيء لم يدع إِلَيْهِ رَسُول الله
وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان وَلَا عَليّ تَدْعُو إِلَيْهِ أَنْت أَيهَا الْإِنْسَان لَيْسَ يَخْلُو أَن تَقول علموه أَو جهلوه فَإِن قلت علموه وسكتوا عَنهُ وسعنا وَإِيَّاك من السُّكُوت مَا وسع الْقَوْم وَإِن قلت جهلوه وعلمته أَنْت فيا لكع ابْن لكع يجهل النَّبِي
وَالْخُلَفَاء الراشدون شَيْئا وتعلمه أَنْت وَأَصْحَابك قَالَ الْمُهْتَدي بن الواثق فَرَأَيْت أبي وثب قَائِما وَدخل الْخلْوَة وَجعل ثَوْبه فِي فِيهِ يضْحك ثمَّ جعل يَقُول صدق لَيْسَ يَخْلُو من أَن يَقُول علموه أَو جهلوه فَإِن قَالَ علموه وسكتوا وسعنا مَا وسع الْقَوْم جزما قَالَ الْمُهْتَدي ثمَّ دَعَا أبي عماراً الْحَاجِب وَأمره أَن يُعْطي الشَّيْخ أَرْبَعمِائَة دِينَار وَيَأْذَن لَهُ فِي الرُّجُوع إِلَى وَطنه وَأَهله وَسقط من عينه ابْن أبي دؤاد وَلم يمْتَحن بعد ذَلِك أحدا(3/459)
وَالشَّيْخ الْمَذْكُور هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ شيخ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي حليته قَالَ الْمُهْتَدي مَا قطع أبي يَعْنِي الواثق إِلَّا شَيخٌ جِيءَ بِهِ من المصنعة فَمَكثَ فِي الْحَبْس مُدَّة ثمَّ ذكر الْقِصَّة بِقرب مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَأخرج الصولي قَالَ غنى فِي مجْلِس الواثق بِشعر الأخطل // (من الْبَسِيط) //
(وَشَادِنٍ فَرِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمنَي ... لاَ بِالحُصورِ ولاَ فِيهَا بِسوَّارِ)
فَقيل سوار وسآر فَوجه إِلَى ابْن الْأَعرَابِي فسَأله عَن ذَلِك فَقَالَ سوار وثاب يَقُول وَلَا يثب على ندمائه وسآر يفضل فِي الكأس سؤراً وَقد رويا جميعَاً فَأمر الواثق لَهُ بِعشْرين ألف دِرْهَم وَفِي الذهبيي قيل رأى الواثق مناماً كَأَنَّهُ سَأَلَ الله الْجنَّة وَأَن قَائِلا يَقُول لَا يهْلك على الله إِلَّا مَن قلبه مَرتٌ فَأصْبح فَسَأَلَ الجلساء عَن ذَلِك فَلم يعرفوا مَعْنَاهُ فَوجه إِلَى أبي محلم فَسَأَلَهُ عَن الرُّؤْيَا والمرت فَقَالَ أَبُو محلم المَرت القفر الَّذِي لَا ينْبت شَيْئا فَالْمَعْنى لَا يهْلك على لله إِلَّا من قلبه خَال من الْإِيمَان خلو المرت من النَّبَات فَقَالَ لَهُ الواثق أُرِيد شَاهدا على هَذَا فَقَالَ قَالَ شَاعِر بني أَسد // (من الْبَسِيط) //
(وَمَرْتٍ مَرَورَاتٍ يَحَارُ بِهَا الْقَطَا ... وَيُصْبحُ ذُو عِلْمٍ بِهَا وَهْوَ جَاهِلُ)
فَأمر لَهُ الواثق بِمِائَة ألف دِينَار وَفِي ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة أبي عُثْمَان بكر الْمَازِني الْبَصْرِيّ النَّحْوِيّ شيخ الْمبرد رَوَاهَا عَن شَيْخه أبي عُثْمَان أَن رجلا من أهل الذِّمَّة قَصده لقرأ عَلَيْهِ كتاب سِيبَوَيْهٍ ويزن لَهُ مائَة دِينَار فَامْتنعَ أَبُو عُثْمَان من ذَلِك فَقَالَ لَهُ الْمبرد تِلْمِيذه جعلت لَك الْفِدَاء أترد الْمَنْفَعَة مَعَ فاقتك فَقَالَ إِن هَذَا الْكتاب يشْتَمل على أَكثر من ثَلَاثمِائَة آيَة من كتاب الله تَعَالَى وَلست أرى أَن أمكن مِنْهُ ذِمِّيا غيرَة على كتاب الله وحمية لَهُ قَالَ فاتفق أَن جَارِيَة غنت بِحَضْرَة الواثق بقول العرجي // (من الْكَامِل) //)
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابِكُمْ رَجُلاً ... أَهْدَى السَّلاَمَ تَحِيَّةً ظُلْمُ)
فَاخْتلف من بِحَضْرَتِهِ فِي إِعْرَاب رجل مِنْهُم من نَصبه على أَنه اسْم إِن وَمِنْهُم(3/460)
من رَفعه على أَنه خَبَرهَا وَالْجَارِيَة مصرة على لِأَن شيخها أَبَا عُثْمَان الْمَازِني لقنها إِيَّاه بِالنّصب فَأمر الواثق بإشخاصه قَالَ أَبُو عُثْمَان فَلَمَّا مثلتُ بَين يَدَيْهِ قَالَ لي مِمَّن الرجل قلت من مَازِن قَالَ أَي الموازن أمازن تَمِيم أم مَازِن قيس أم مَازِن ربيعَة قلت من مَازِن ربيعَة فكلمني بِكَلَام قومِي فَقَالَ لي بَاسمُكَ لأَنهم يبدلون الْبَاء من الْمِيم وَالْمِيم مِنْهَا فَكرِهت أَن أواجهه بالمكر فَقلت بكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَفطن لما قصدته وأعجب بِهِ ثمَّ قَالَ مَا تَقول فِي الْبَيْت وأنشده أترفعه أم تنصبه قلت بل الْوَجْه النصب يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ قَالَ وَلم قلت لِأَن مصاب مصدر ميمي بِمَعْنى الْإِصَابَة ورجلا مَنْصُوب بِهِ وَالْمعْنَى إِن إصابتكم رجلا أهْدى السَّلَام تَحِيَّة ظلم فظلم هُوَ الْخَبَر ل إِن وَلَا يتم الْكَلَام إِلَّا بِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ الواثق وأعجب بِهِ ثمَّ قَالَ هَل لَك من ولد قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بنية قَالَ مَا قَالَت لَك عِنْد مسيرك قَالَ قلت أنشدت وَهِي تبْكي قَول الْأَعْشَى // (من المتقارب) //
(أَيَا أَبَتَا لاَ ترِمْ عندَنَا فَإِنَّا بِخَيْرٍ إِذَا لمْ ترِمْ)
(أُرَانا إِذا أَضْمَرَتْكَ البِلاَدُ ... نُجْفَى وَتُقْطعُ مِنَّا الرَّحِمْ)
قَالَ الواثق فَمَا قلت لَهَا قلت قَول جرير من // (الوافر) //
(ثِقِي بِاللَّهِ ليْسَ لَهُ شرِيكٌ ... وَمِنْ عِنْدِ الخلِيفَةِ بِالنَّجَاحِ)
فَقَالَ عَليّ النجاح إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ أَمر لي بِأَلف دِينَار ولحف وهدايا كَثِيرَة ووهب لي الْجَارِيَة جملَة أُخْرَى وردني مكْرها قَالَ الْمبرد فَلَمَّا عَاد جِئْت لأهنئه بالقدوم فَقَالَ لي كَيفَ رَأَيْت يَا أَبَا الْعَبَّاس تركنَا لله مائَة فعوضنا ألفا فَقلت من ترك شَيْئا لله عوضه الله خيرا مِنْهُ كَانَ الواثق مؤثراً لِكَثْرَة الْجِمَاع فَقَالَ لطبيب اصْنَع لي دَوَاء للباءة فَقَالَ الطَّبِيب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تهدم بدنك بِالْجِمَاعِ وَاتَّقِ الله فِي نَفسك فَقَالَ لَا بُد من ذَلِك فَأمر الطَّبِيب أَن يُؤْخَذ لحم سبع فيغلى عَلَيْهِ سبع غليات على جمر وتتناول مِنْهُ إِذا شربت وزن ثَلَاثَة دَرَاهِم وَلَا تتجاوز هَذَا الْقدر فَأمر بِذبح سبع(3/461)
فبذبح وطبخ لَحْمه وَصَارَ يتنقل بِهِ على شرابه فَلم يكن إِلَّا قَلِيل حَتَّى استسقى فأجمع الْأَطِبَّاء على أَن لَا دَوَاء لَهُ إِلَّا أَن ينزل بَطْنه ثمَّ يتْرك فِي التَّنور قد سجر بحطب الزَّيْتُون حَتَّى يصير جمراً ثمَّ يجلس فِيهِ فَفعل بِهِ ذَلِك وَمنع المَاء ثَلَاث سَاعَات فَجعل يستغيث وَيطْلب المَاء فَلَا يسقونه فَصَارَ فِي جسده نفاطات مثل الْبِطِّيخ ثمَّ أَخْرجُوهُ فَجعل بقول ردوني لى التَّنور وَإِلَّا مت فَردُّوهُ فسكن صياحه ثمَّ انفجرت تِلْكَ النفاطات وقطر مِنْهَا مَاء فَأخْرج من التَّنور وَقد اسود جَسَد فَمَاتَ بعد سَاعَة وَلما احْتضرَ جعل يَقُول
(أَلْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ تَشْترِكُ ... لاَ سُوقَةٌ مِنْهُمُ يَبْقَى وَلاَ ملِكُ)
(مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تفَاقُرِهِمْ ... وَلَيْسَ يُغْنِي عنِ الْأَمْلاَكِ مَا ملَكُوا)
ثمَّ أَمر بالبسط فطويت وألصق خُذْهُ فِي الأَرْض وَجعل يَقُول يَا من لَا يَزُول ملكه ارْحَمْ من زَالَ ملكه قَالَ الذَّهَبِيّ روى عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الواثقي أَمِير الْبَصْرَة عَن أَبِيه قَالَ كنت أَدخل فِي مرض الواثق عَلَيْهِ إِذْ لحقته غشية فَمَا شككنا أَنه مَاتَ فَقَالَ بَعْضنَا لبَعض تقدمُوا فَمَا جسر أحد فتقدمت أَنا فَلَمَّا صرت عِنْد رَأسه وَأَرَدْت أَن أَضَع يَدي على أَنفه لحقته إفاقة فَفتح عَيْنَيْهِ فكدت أَمُوت فَزعًا أَن يراني قد مشيت إِلَى غير رتبتي فَرَجَعت إِلَى خلف فتعلقت قبيعة سَيفي بالعتبة فَعَثَرَتْ على سَيفي فاندلق فكاد أَن يدْخل فِي لحمي فَسلمت وَخرجت واستدعيت بِسيف وَجئْت فوقفت سَاعَة فَتلفت الواثق تلفاً لم يشك فِيهِ فشددت لحييْهِ وغمضته وسجيته وَجَاء الفراشون فَأخذُوا مَا تَحْتَهُ ليردوه إِلَى الخزائن لِأَنَّهُ مكتتب عَلَيْهِم وَترك وَحده فِي الْبَيْت فَقَالَ لي أَحْمد بن أبي دؤاد القَاضِي إِنَّا نُرِيد أَن نتشاغل بِأَمْر الْبَيْت وَأحب أَن تحفظ إِلَى أَن يدْفن فَأَنت من أخصهم بِهِ فِي حياتيه فَرددت بَاب الْمجْلس وَجَلَست عِنْد الْبَاب فأحسست بعد سَاعَة بحركة فِي الْمجْلس أفزعتني فَدخلت فَإِذا بجرذون قد جَاءَ فاستل عينه فَقلت لَا إِلَه إِلَّا الله هَذِه الْعين الَّتِي فتحهَا من سَاعَة فاندلق سَيفي هَيْبَة لَهَا كَذَا فِي الذَّهَبِيّ والجرذون أكبر من اليربوع قَالَ يحيى بن أَكْثَم مَا أحسن أحد إِلَى آل أبي طَالب مَا أحسن إِلَيْهِم الواثق(3/462)
مَا مَاتَ وَمِنْهُم فَقير وَكَانَ عَالما شاعرَاً حاذقَاً أَكثر بني الْعَبَّاس رِوَايَة للشعر بليغَاً كَانَ يُقَاس بِعَبْد الله بن المعتز قَالَ حمدون بن إِسْمَاعِيل كَانَ الواثق يحب خَادِمًا لَهُ أهْدى إِلَيْهِ من مصر فأغضبه الواثق ثمَّ إِنَّه سَمعه يَقُول لبَعض الخدم عَن الواثق وَالله إِنَّه ليروم أَن ُأكَلِّمهُ من يَوْمَيْنِ فَلم أفعل فَقَالَ الواثق من // (الْبَسِيط) //
(يَا ذَا الَّذِي بِعَذَابِي ظلَّ مُفْتَخِرَا ... مَا أَنْتَ إِلاَّ مَلِيكٌ جارَ إِذْ قَدَرَا)
(لَوْلاَ الْهَوَى لتَجَارَيْنَا عَلَى قَدرٍ ... وَإِنْ أُفِق مِنْهُ يوْمًا مَا فَسَوْفَ تَرَى)
وَمن شعر الواثق قَوْله // (من السَّرِيع) //
(حَيَّاكَ بِالنَّرْجِسِ وَالْوَرْدِ ... مُعْتَدِل الْقَامَةِ وَالْقَدِّ)
(فَأَلْهَبَتْ عَيْناهُ نَارَ الجوَى ... وَزَادَ فِي اللَّوْعَةِ وَالْوَجْدِ)
(أَمَّلْتُ بِالمُلْكِ وِصَالاً لَهُ ... فصَارَ مُلْكِي سَبَبَ الْبُعْدِ)
(مَوْلًى ويشْكُو الظُّلْم مِنْ عبْدَهَ ... فأَنْصِفُوا الموْلَى مِن الْعبْدِ)
قَالَ الصولي أَجمعُوا على أَن لَيْسَ لأحد من الْخُلَفَاء مثل هَذِه الأبيات فِي اللَّطِيف والرقة مَاتَ ب سر من رأى يَوْم الْأَرْبَعَاء لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت خِلَافَته خمس سِنِين وَسِتَّة أشهر وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَأَرْبَعَة أَيَّام
(خلَافَة المتَوَكل)
جَعْفَر أَبُو الْفضل بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بُويِعَ فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بعد الواثق وَكَانَ أسمر اللَّوْن مليح الْعَينَيْنِ نحيف الْجِسْم خَفِيف العارضين إِلَى الْقصر أقرب أمه أم ولد تركية(3/463)
اسْمهَا شُجَاع اسْتخْلف فأظهر السّنة وَتكلم بهَا فِي مَجْلِسه وَكتب إِلَى الْآفَاق بِرَفْع المحنة بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن وَأظْهر السّنة وَنصر أَهلهَا وَقدم إِلَى دمشق فِي صفر سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَعْجَبهُ فعزم على الْمقَام بهَا وَنقل دواوين الْملك إِلَيْهَا وَأمر بِالْبِنَاءِ بهَا وَبنى قصراً كَبِيرا ب داريه من جِهَة المزة ثمَّ رَجَعَ إِلَى سر من رأى دَار ملكه قيل إِن سَبَب ميله إِلَى دمشق أَن إِسْرَائِيل بن زَكَرِيَّا الطَّبِيب نعت لَهُ دمشق وَأَنَّهَا مُوَافقَة لمزاجه ومذهبة عَنهُ الْعِلَل الَّتِي تعرض لَهُ فِي الصَّيف بالعراق كَانَ المتَوَكل شجاعاً كَرِيمًا مَا أعْطى خَليفَة شَاعِرًا مَا أعطَاهُ المتَوَكل وَمن أَفعاله الشنيعة أَنه هدم قبر الْحُسَيْن بن عَليّ فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَهدم جَمِيع مَا حوله من الدّور وَجعل مَكَانهَا مزارع وَمنع من زيارته فتألم النَّاس لذَلِك وَكتب أهل بَغْدَاد شَتمه على الْحِيطَان والمساجد وهجاه بِعْ الشُّعَرَاء بقوله من // (الْكَامِل) //
(تاللَّهِ أِنْ كَانَتْ أُميَّةُ قَدْ أَتَتْ ... قَتْل ابنِ بِنْتِ نبِيها مَظْلُومَا)
(فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثِلْهِ ... هَذَا لَعَمرِي قَبْرُهُ مَهْدُومَا)
(أَسِفُوا عَلَى أَلاَّ يَكُونُوا شَارَكُوا ... فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا)
وَهَذَا الْفِعْل السيء محا جَمِيع محاسنه وَصَارَ مَا عذب من إحسانه مغلبا بأجاجه وآسنه وعدت هَذِه الزلة أقبح فبيحة وَهَذِه الْخلَّة الشنيعة أفضح من كل فضيحة وَذكر ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة المتَوَكل عَن المتَوَكل نَفسه قَالَ ركبت إِلَى دَار الواثق أخي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ لأعوده فَجَلَست فِي الدهليز لأنتظر الْإِذْن فَبَيْنَمَا أَنا جَالس إِذْ سَمِعت النِّيَاحَة عَلَيْهِ وَإِذا إيتاخ وَمُحَمّد بن عبد الْملك الزيات يأتمران فِي أَمْرِي فَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك نقْتل فِي التَّنور وَقَالَ إيتاخ بل ندعه فِي المَاء الْبَارِد حَتَّى يَمُوت وَلَا يرى عَلَيْهِ أثر الْقَتْل فينما هما على ذَلِك إِذْ جَاءَ أَحْمد بن أبي دؤاد القَاضِي دخل وحدثهما كلَاما لَا أفهمهُ لما داخلني من الْخَوْف وشغل الْقلب فِي إِعْمَال حِيلَة فِي الْهَرَب فينما أَنا كَذَلِك وَإِذا بالغلمان(3/464)
يتغادون وَيَقُولُونَ انهض يَا مَوْلَانَا فَلم أَشك أَنِّي دَاخل لأبايع لولد الواثق ثمَّ ينفذ فِي مَا قررا فَلَمَّا دخلت بايعوني فَسَأَلت عَن الْحَال فأعلمت أَن ابْن أبي دؤاد كَانَ سَبَب ذَلِك ثمَّ إِن المتَوَكل قتل إيتاخ بِالْمَاءِ الْبَارِد وَابْن الزيات بالتنور على مَا أَشَارَ إِلَيّ فِي حَقه وَهَذَا من أعجب الِاتِّفَاق فَإِن ابْن الزيات هُوَ الَّذِي صنع التَّنور وَكَانَ يعذب بِهِ النَّاس فَعَذَّبَهُ الله بِهِ جَزَاء وفَاقا وَهُوَ من حَدِيد دَاخله مسامير وَكَانَ يسجر عَلَيْهِ بحطب الزَّيْتُون حَتَّى يصير كالجمر ثمَّ يدْخل فِيهِ الْإِنْسَان نسْأَل الله الْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ ابْن الزيات إِذا اسْتَغَاثَ بِهِ أحد من الرّعية فَقَالَ ارْحَمْنِي يَقُول الرَّحْمَة خور فِي الْقلب فَلَمَّا ألْقى هُوَ فِي التَّنور قَالَ للمتوكل ارْحَمْنِي فَقَالَ لَهُ الرَّحْمَة خور فِي الْقلب أَو فِي الطبيعة وَكَانَ قد حَبسه قبل أَن يدْخلهُ التَّنور أَيَّامًا فَكتب إِلَيْهِ فِي الْحَبْس بقوله من // (الْبَسِيط) //
(هِيَ اليَّبِيلُ فمِنْ يَوْمٍ إِلى يوْمِ ... كَأَنَّهُ مَا تُرِيكَ العَيْن فِي النَّومِ)
(لاَ تَعْجَلَنَّ رُوَيْدًا إِنّهَا دُوَلٌ ... دُنْيا تَنقَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قوْمِ)
وَوَقعت فِي أَيَّامه عجائب مِنْهَا أَن النُّجُوم ماجت فِي السَّمَاء وتناثرت كَأَنَّهَا الْجَرَاد فرميت قَرْيَة السويداء بِنَاحِيَة مُضر أَحْجَار من السَّمَاء وُزن حجر مِنْهَا فَكَانَ عشرَة أَرْطَال ومار جبل بِالْيمن عَليّ مزارع ومرن إِلَى جبل آخر بَينهمَا نَحْو أَرْبَعَة أَيَّام وَوَقع طَائِر أَبيض دون الرخمة فصاح يَا معشر النَّاس اتَّقوا الله أَرْبَعِينَ مرّة وَجَاء من الْغَد فَفعل كَذَلِك فَكَتَبُوا خبر ذَلِك على الْبَرِيد إِلَى بَغْدَاد وَكَتَبُوا فِيهِ شَهَادَة خَمْسمِائَة رجل سمعُوا ذَلِك بآذانهم وَكَانَ هَذَا فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وحصلت زلازل وَغَارَتْ عُيُون مَكَّة فَأرْسل المتَوَكل مائَة ألف دِينَار ذَهَبا لإجراء عين عَرَفَات فصرفت فِيهَا إِلَى أَن جرت كَذَا ذكره السُّيُوطِيّ قَالَ الْعَلامَة النَّجْم عمر بن فَهد فِي تَارِيخه إتحاف الورى بأخبار أم الْقرى فِي حوادث سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ غارت غين مشاش وَهِي عين مَكَّة فَبلغ ثمن الْقرْبَة درهمَاً فَبعث المتَوَكل مَالا ثَانِيًا فأنفق عَلَيْهَا حَتَّى جرت قَالَ ابْن(3/465)
الْأَثِير فِي تَارِيخه الْمُسَمّى ب الْكَامِل هَذِه الْعين من عمل زبيدة بنت جَعْفَر زَوْجَة الرشيد وَهِي عين بازان قَالَ الْعَلامَة القطبي عين مشاش هِيَ عين مَكَّة مَوْجُودَة الْآن وَهِي من جملَة الْعُيُون الَّتِي تصب فِي عين حنين وَهِي تقوى وتضعف أَحْيَانًا لقلَّة الأمطار وَكَثْرَتهَا ومحلها مَعْرُوف وَلما كثر التّرْك بِبَغْدَاد ودخلوا فِي الْملك واستولوا على المملكة وَصَارَ بيدهم الْحل وَالْعقد وَالْولَايَة والعزل إِلَى أَن حملم الطغيان على الفتك بالخليفة المتَوَكل لما أَرَادَ أَن يصادر مَمْلُوك أَبِيه وصيفَاً التركي لِكَثْرَة أَمْوَاله وخزائنه فتعصب لَهُ باغر التركي وانحرف الأتراك عَن المتَوَكل فَدخل باغر وَمَعَهُ عشرَة أتراك وَهُوَ فِي مجْلِس أنسه وَعِنْده وزيره الْفَتْح بن خاقَان بعد مُضِيّ هزيع من اللَّيْل فصاح الْفَتْح وَيْلكُمْ هَذَا سيدكم وَابْن سيدكم وهرب من كَانَ حوله من الغلمان والندمان على وُجُوههم فَبَقيَ الْفَتْح وَحده والمتوكل غَائِب سَكرَان فَضَربهُ باغر بِالسَّيْفِ على عَاتِقه فَقده إِلَى حقوه فَطرح الْفَتْح نَفسه عَلَيْهِ فضربهما باغر ضَرْبَة ثَانِيَة فماتا جَمِيعًا فلفهما مَعًا فِي بِسَاط وَمضى هُوَ وَمن مَعَه وَلم ينتطح فِي ذَلِك عنزان وَقيل إِن سَبَب ذَلِك أَن ابْنه الْمُنْتَصر بَاطِن عَلَيْهِ الأتراك حَتَّى قَتَلُوهُ وَذَلِكَ أَنه كَانَ بَايع بالعهد للمنتصر ثمَّ أَرَادَ أَن يعزله ويولي المعتز ابْنه لمحبته لأمه فَسَأَلَ المتَوَكل المتنصر أَن ينزل عَن الْعَهْد فَأبى فَكَانَ يحضرهُ مجْلِس الْعَامَّة ويحط من مَنْزِلَته ويتهدده ويشتمه وَقيل كَانَ هَذَا وَهَذَا سَببا لذَلِك قَالَ المَسْعُودِيّ وَلم يَصح عَن المتَوَكل النصب حَدثنَا الْمبرد قَالَ قَالَ المتَوَكل لأبي الْحسن على الْهَادِي بن مُحَمَّد الْجواد بن عَلِي الرضي بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق مَا يَقُول ولد أَبِيك فِي الْعَبَّاس قَالَ مَا يَقُولُونَ فِي رجل فرض الله طَاعَة نبيه على خلقه وَفرض طَاعَته على نبيه فأعجب بجوابه المتَوَكل إعجاباً قلت لَا يخفي على الفطن هَذِه التورية من هَذَا السَّيِّد الْجَلِيل وصدقها وسعى إِلَى المتَوَكل بِأبي الْحسن الْمَذْكُور بِأَن فِي منزل سِلَاحا وكتابا من الشِّيعَة وَأَنه يُرِيد التَوثّب على الْخلَافَة فَبعث إِلَيْهِ المتَوَكل جمَاعَة فَهَجَمُوا على منزله فوجدوه على الأَرْض مُسْتَقْبل الْقبْلَة يقْرَأ الْقُرْآن فَحَمَلُوهُ على حَال إِلَى المتَوَكل والمتوكل(3/466)
يشرب الْخمر فأعظمه وَأَجْلسهُ وَقَالَ اشرب فَقَالَ وَالله مَا خامر لحمي وَدمِي قطّ فأعفني فأعفاه ثمَّ قَالَ أَنْشدني فَأَنْشد // (من الْبَسِيط) //
(بَاتُوا عَلى قُللِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ... غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ)
(واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزِّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ ... وَأُودِعُوا حُفْرَةً يَا بِئْسَمَا نزلُوا)
(نَادَاهُمُ صَارخٌ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ... أيْنَ الْأَسِرََّةُ وَالتِّيجَانُ وَالحلل)
(فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُ ... تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا لدُّودُ يقْتَتِلُ)
(قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْرًا وَما شَرِبُوا ... فَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَاكَ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا)
فَبكى جَعْفَر والحاضرون وَقَالَ يَا أَبَا الْحسن لقد لينت منا قلوباً قاسية أعليك دين قَالَ نعم أَرْبَعَة آلَاف فَأمر لَهُ بهَا ورده مكرماً وَمِمَّا يحْكى من كرمه أَنه دخل عَلَيْهِ ابْن الجهم وَقيل النميري فأنشده قصيدة يَقُول فِيهَا من // (مجزوء الْكَامِل) //
(وَإِذَا مَرَرْت بِبِئْرِ عُرْوَةَ ... فَاسْقِني مِنْ مَائِهَا)
وَكَانَ بيد المتَوَكل درتان عظيمتان يقلبهن فدحا إِلَيْهِ بدرة مِنْهُمَا فَقَالَ استقص بهَا فِي وَالله خير من مائَة ألف دِينَار قَالَ لَا وَالله وَلَكِنِّي فَكرت فِي أَبْيَات أعملها آخذ بهَا الْأُخْرَى فَقَالَ قل فَقَالَ // (من مخلع الْبَسِيط) //
(بِسُرَّ منْ رَا إِمَامُ عَدْلٍ ... تَغْرَقُ مِنْ كفِّهِ البِحَارُ)
(يُرْجَى ويُخْشَى بِكُلِّ خَطْبٍ ... كأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ)
(أَلْمُلْكُ فِيهِ وفِي بَنِيهِ ... مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)
(يَدَاهُ فِي الجُودِ ضَرَّتانِ ... علَتْهِ كِلْتَاهُما تَغارُ)
(لمْ تَأْتِ مِنْهُ اليَمِيَنُ شَيْئًا ... إِلاَّ أَتتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ)
قَالَ فدحا إِلَيْهِ بِالدرةِ الْأُخْرَى قلت رحم الله الْكِرَام المجيزين على دردي النظام بَدْرِي النظام وَأَجَازَ مَرْوَان بن أبي الْجنُوب على قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا // (من الطَّوِيل) //(3/467)
(فَأَمْسِكْ نَدَى كَفََّيْكَ عَنِّي وَلاَ تَزِدْ ... فَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَطْغَى وَأَنْ أَتَجَبَّرَا)
فَقَالَ لَا أمسك حَتَّى يغرقك جودي فَأمر لَهُ بِمِائَة وَعشْرين ألف دِينَار وخمسمائةَ ثوب ديباج قَالَ عَليّ بن مُحَمَّد النديم دخلت على المتَوَكل العباسي وَعِنْده الرضي فَقَالَ يَا عَليّ من أشعر النَّاس قلت البحتري قَالَ وَمن بعده قلت مَرْوَان بن أبي حَفْصَة فَالْتَفت إِلَى الرضي وَقَالَ من أشعر النَّاس فِي زَمَاننَا قَالَ عَليّ بن مُحَمَّد الْعلوِي قَالَ وَمَا تحفظ من شعره قَالَ قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(لَقَدْ فَاخَرَتْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ ... بِمَطِّ خُدُودٍ وَامْتدادِ الْأَصَابِعِ)
(فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الفَخارَ قَضَى لَنَا ... عَليْهِمْ بِمَا نَهْوى نِدَاءُ الصَّوَامِع)
قَالَ المتَوَكل وَمَا معنى نِدَاء الصوامع فَقَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله قَالَ المتَوَكل وَأَبِيك إِنَّه لأشعر النَّاس ثمَّ أنْشدهُ قَوْله أَيْضا // (من المتقارب) //
(عَصَيْتُ الهَوَى وَهَجَرْتُ النِّسَاءَ ... وَكُنْتُ دَوَاءً فأَصْبَحْتُ دَاءَ)
(وَمَا أَنْسَ لاَ أَنْسَ حَتَّى المَمَاتِ ... تَرِيبَ الظِّبَاءِ تُجِيبُ الظِّبَاءَ)
(دَعِينَي وَصَبْرِي عَلى النَّائِباتِ ... فَبِالصَّبْرِ نِلْتُ الثَّرى وَالثّوَاءَ)
(فَإِنْ يَكُ دَهْرِي لَوَى رَأْسَهُ ... فَقَدْ لَقِيَ الدَّهْرُ مِنَّي الْتِوَاءَ)
(ليَاليَ أَرْوِي صُدُورَ الْقَنَا ... وَأَرْوِي بِهِنَّ الصُّدُورَ الظِّمَاءَ)
(وَنَحْن إِذَا كَانَ شُرْبُ المُدَامِ ... شَرِبْنَا عَلى الصَّافِنَاتِ الدِّمَاءَ)
(بِلَغْنَا السَّماءَ بِأَنْسَابِنَا ... وَلَوْلاَ السَّمَاءُ لَجُزْنَا السَّماءَ)
(فَحَسْبُكَ مِنْ سُؤْدَدٍ أَنَّنَا ... بِحُسْنِ البَلاَءِ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ)
(يَطِيبُ الثَّنَاءُ لآِبَائِنَا ... وَذِكْرُ عَلِبِّ يَزِينُ الثَّنَاءَ)
(إِذَا ذُكِرَ النَّاسُ كَانُوا مُلُوكًا ... وَكَانُوا عَبِيدًا وَكَانُوا الْإمَاءَ)
(هَجَانِي رِجَالٌ ولَمْ أَهْجُهُمْ ... أَبَى الله لِي أَنْ أقُولَ الْهِجَاءَ)
فوصله لهَذِهِ الرِّوَايَة بِمَال عَظِيم وَفِي سنه أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ قتل المتَوَكل يَعْقُوب بن السّكيت الإِمَام فِي الْعَرَبيَّة وَذَلِكَ أَنه حضر يَوْمًا مجْلِس المتَوَكل وَكَانَ يُؤَدب أَوْلَاد فجَاء مِنْهُم(3/468)
المعتز والمؤيد فَقَالَ المتَوَكل يَا يَعْقُوب أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي هَذَانِ أم الْحسن وَالْحُسَيْن ابْنا عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ يَعْقُوب وَالله إِن قنبر خَادِم عَليّ خير مِنْك وَمن ابنيك فَقَالَ المتَوَكل للأتراك سلوا لِسَانه من قَفاهُ فَفَعَلُوا ذَلِك فَمَاتَ ثمَّ أرسل المتَوَكل لأولاده دِيَة أَبِيهِم عشرَة آلَاف دِرْهَم كَذَا فِي حَيَاة الْحَيَوَان وَذكر ابْن خلكان كَانَ المتَوَكل يبغض عليا فَذكر يَوْمًا عَليّ عِنْده فغض مِنْهُ فتمعر وَجه ابْنه الْمُنْتَصر لذَلِك فشتمه أَبوهُ المتَوَكل وَأنْشد مواجهاً لَهُ // (من المجتث) //
(غَضْبَ الفَتَى لابْن عمِّهْ ... رَأْسُ الفتَى فِي حِرِ امِّهْ)
فحقد عَلَيْهِ وأغرى على قَتله مَعَ مَا كَانَ مِمَّا تقدم من عَدو لَهُ بالعهد عَنهُ إِلَى أَخِيه المعتز قلت هَذَا يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي أَن المتَوَكل ناصبي خلاف مَا قَالَه المَسْعُودِيّ وَذكر أَن عَليّ بن الجهم كَانَ بدوياً جَافيا قدم على المتَوَكل أول قدمة فأنشده قصيدة يمدحه بهَا يَقُول فِيهَا // (الْخَفِيف) //
(أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكَ لِلوُددِّ ... وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخْطُوبِ)
(أنْتَ كَالدَّلْو لاَ عَدِمْتُكَ دَلْوًا ... مِن كِبَارِ الدِّلا كَثِير الذّنُوبِ)
فَعرف المتَوَكل قوته ورقة قصد وخشونة لَفظه وَعرف أَنه مَا رأى سوى مَا شبه لملازمته الْبَادِيَة وَعدم مخالطته فَأمر لَهُ بدار حَسَنَة على شاطئ دجلة وفيهَا بُسْتَان يتخلله النسيم والجسر قريب مِنْهُ وَأمر لَهُ بجائزة سنية فلطف طبعه عَن أول أمره وَأنْشد الْأَشْعَار البليغة الرقيقة بعد ذَلِك وَحكى أَن عبَادَة المخنث دخل يَوْمًا إِلَى دَار المتَوَكل فَرَأى رطبَة مطروحة فأكب ليأخذها فرأه ابْن المتَوَكل صَغِير فَأَشَارَ بإصبعه إِلَى استه وَقَالَ يَا عَم من فتح لَك هَذِه الكوة فَقَالَ لَهُ عبَادَة الَّذِي فتح لأمك ثِنْتَيْنِ فَسَمعهُ المتَوَكل فَأمر بِضَرْب عُنُقه فهرب وَلم يدر إِلَى أَيْن يتَوَجَّه فَأخذ يهرب فِي الصَّحَارِي وَمَعَهُ طبله ونايه فَلَمَّا أمعن فِي الصَّحرَاء خَافَ أَن يُدْرِكهُ الطّلب فَرَأى غاراً مَفْتُوحًا فَدخل وسد بَاب بِالْحِجَارَةِ فَلَمَّا صَار إِلَى أقصاه وجد فِي أسداً عَظِيما رابضَاً فَفَزعَ مِنْهُ وهم الْأسد أَن(3/469)
يثب عَلَيْهِ فَمَا وَسعه إِلَّا أَن ضرب الطبل فَلَمَّا سَمعه الْأسد فزع من صَوته وهرب يُرِيد الْخُرُوج فَوجدَ بَاب الْغَار مسدوداً فَرَبَضَ هُنَاكَ خَائفًا من صَوت الطبل فَجعل عبَادَة تَارَة يضْرب بالطبل وَتارَة يزمر بالناي خوفًا من الْأسد وَوَافَقَ ذَلِك قدوم الفتَح بن خاقَان من نزهة كَانَ خرج إِلَيْهَا فَلَمَّا سمع صَوت الطبل والناي فِي الصَّحرَاء أنكرهُ ثمَّ تبعه حَتَّى وقف على بَاب الْغَار وَأمر أَن يفتح فَلَمَّا فتحوه خرج الْأسد هَارِبا على وَجهه فَخرج عبَادَة وَهُوَ يبكي ويصرخ وَيَقُول هَذَا دَفعه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أعلمهُ ضرب الطبل والغناء بالناي وشردته عَليّ فَقَالَ لَهُ الْفَتْح أَنا أرضي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَك عَليّ ألف دِينَار فَقَالَ أَخَاف وَالله أَن يضْرب عنقِي فَقَالَ الْفَتْح أَنا أستوهبه دمك فَقَالَ إِن فعلت فقد رضيت ثمَّ أَخذه مَعَه وأتى بِهِ المتَوَكل فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لي إِلَيْك حَاجَة قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ هَب لي دم عبَادَة فَأَنا الَّذِي أذنبت وَلَيْسَ هُوَ فَقَالَ مَا كَانَت نيتي إِلَّا أَن أضْرب عُنُقه وَقد وهبته لَك فَقبل الْفَتْح يَده وَقَالَ أَنا الَّذِي أطلقت الْأسد وَمَا لَهُ ذَنْب فَلَمَّا سمع المتَوَكل ذكر الْأسد سَأَلَ عَن أصل الْقِصَّة فَقَالَ لَهُ الْفَتْح بِمَا رأى قَالَ وَرَغمَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أعطَاهُ ذَلِك الْأسد ليعلمه الطبل والغناء فَضَحِك المتَوَكل حَتَّى فحص بِرجلِهِ الأَرْض وَقَالَ خدعك وَالله يَا فتح إِن الأَصْل كَيْت وأنجر الْفَتْح لعبادة الْألف الَّتِي وعده بهَا بوعده السَّابِق انْتهى كَذَا فِي بَقِيَّة الخاطر لمُحَمد بن مصطفى الشهير بالكاتي قَالَ البحتري اجْتَمَعنَا فِي مجْلِس المتَوَكل فنعت لَهُ سيف هندي فَبعث إِلَى الْيمن فَاشْترى لَهُ بِعشْرَة آلَاف فَأتى بِهِ فأعجبه ثمَّ قَالَ لِلْفَتْحِ أبغني غُلَاما أدفَع إِلَيْهِ هَذَا السَّيْف لَا يفارقني بِهِ فَأقبل باغر التركي فَقَالَ الْفَتْح هَذَا مَوْصُوف بالشجاعة والبسالة فَدفع المتَوَكل إِلَيْهِ السَّيْف وَزَاد فِي رزقه فواللِّه مَا انتضى ذَلِك السَّيْف إِلَّا لَيْلَة ضربه باغر بِالْقصرِ الْجَعْفَرِي وَكَانَ المتَوَكل مُسْتَغْرقا بِجَارِيَتِهِ الَّتِي اسْمهَا قبيحة وَهِي أم وَلَده المعتز لَا يصبر عَنْهَا سَاعَة فوقفت لَهُ يَوْمًا وَقد كتبت على خديها بالغالية جَعْفَر فتأملها ثمَّ أنشأ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(وَكَاتِبةٍ بِالمِسْكِ فِي الْخَدِّ جَعْفرًا ... بِنَفْسِي مَخَطَّ المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أثَّرَا)(3/470)
(لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرًا مِنَ المِسْكِ خَدَّهَا ... لَقَدْ أَوْدَعَتْ قلْبِي مِنَ الحُبِّ أَسْطُرَا)
وَكَانَت لَيْلَة المتَوَكل يضْرب بهَا الْمثل فِي السرُور الَّذِي يعقبه ترح يُقَال مَاتَ بليلة المتَوَكل كَانَ قَتله لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لليلتين مضتا من شهر شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ أول مقتول بمعرة وَلَده الْمُنْتَصر بعد قتل الْأمين بِمُبَاشَرَة طَاهِر بن الْحُسَيْن كَانَت مُدَّة خِلَافَته أَربع عشرَة سنة وتّسعة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام وَكَانَ عمرهُ أَرْبَعِينَ سنة وشهراً وَقيل إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة
(خلَافَة الْمُنْتَصر بِاللَّه)
مُحَمَّد بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور أخي السفاح بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بُويِعَ بالخلافة فِي اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِيهَا أَبوهُ وَمن الْغَد الْبيعَة الْعَامَّة وَلما ولي خلع أَخَوَيْهِ المعتز والمؤيد من ولَايَة الْعَهْد الَّتِي عقدهَا لَهما أَبوهُ المتَوَكل وَأظْهر الْعدْل والإنصاف فِي الرّعية فمالت ليه النُّفُوس والقلوب مَعَ هيبتهم لَهُ وَكَانَ محببَاً إِلَى العلويين وصُولا لَهُم باراً بهم أَزَال مِمَّن آل أبي طَالب مَا كَانُوا فِيهِ من الْخَوْف والمحنة بمنعهم من زِيَارَة قبر الْحُسَيْن ورد فدك عَلَيْهِم فَقَالَ يزِيد المهلبي فِي ذَلِك يمدحه // (من الْكَامِل) //
(وَلقَدْ بَرَرْتَ الطَّالِبِيَّةَ بعْدَ مَا ... ذَمُّوا زَمَانًا بَعْدَهَا وَزَمَانَا)
(وَردَدتَّ أُلْفةَ هَاشِمٍ فَرَأَيْتهُمْ ... بَعْدَ الْعَدَاوَةِ بََيْنَهُمْ إِخْوَانا)
وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا من كَلَامه لَذَّة الْعَفو أعذب من لَذَّة التشفي وأقبح أَفعَال المقتدر الانتقام(3/471)
وَقَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ ذكر نجيج بن عَليّ المنجم أَن الْمُنْتَصر جلس للهو وَأمر بفرش بِسَاط من ذخائر الخزينة تداولته الْمُلُوك ففرش فَرَأى فِيهِ صُورَة رَأس عَلَيْهِ تَاج وَعَلِيهِ كِتَابَة بِالْفَارِسِيَّةِ فَطلب من يقْرَأ تِلْكَ الْكِتَابَة فأحضر رجل من الْأَعَاجِم فقرأها وَعَبس عِنْد ذَلِك فَسَأَلَهُ الْمُنْتَصر عَنْهَا فَقَالَ لَا معنى لَهَا فألح عَلَيْهِ فَقَالَ هِيَ أَنا الْملك شيرويه بن كسْرَى بن هُرْمُز قتلت قتلت أبي فَلم أمتع بِالْملكِ بعده إِلَّا سِتَّة أشهر فَتغير وَجه الْمُنْتَصر وَقَامَ من ذَلِك الْمجْلس وَترك اللَّهْو الَّذِي أَرَادَهُ وَبَات مغتماً وتوعك ثمَّ رأى فِي لَيْلَة وعكه أَبَاهُ فانتبه فَزعًا يبكي فَقَالَت لَهُ أمه مَا يبكيك فَقَالَ أفسدت ديني ودنياي رَأَيْت أبي السَّاعَة يَقُول لي قتلتني يَا مُحَمَّد لأجل الْخلَافَة وَالله لَا تتمتع بهَا إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ مصيرك إِلَى النَّار فاستمر موهوماً من هَذَا الْمَنَام فَمَا عَاشَ بعد ذَلِك إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِل وَكَانَ على حذر من الأتراك يسبهم ويلعنهم وَيَقُول هَؤُلَاءِ قتلة الْخُلَفَاء فَلم يأمنوه فأرادوا قَتله فَمَا أمكنهم الْإِقْدَام عَلَيْهِ لشدَّة محاذرته مِنْهُم فدسوا إِلَى طبيبه ابْن طيفور ثَلَاثِينَ ألف دِينَار عِنْد توعكه ليسمه فقصده بمبضع مَسْمُوم فأحس بذلك وَأَرَادَ قتل الطَّبِيب فَقَالَ لَهُ إِنَّك تصبح طَبِيبا وَتقدم على قَتْلِي فأمهلني إِلَى الصُّبْح فأمهله فَأصْبح مَيتا وَكَانَت وَفَاته لأَرْبَع خلون من بيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وعمره سِتّ وَعِشْرُونَ سنة وَقيل خمس وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَة أَيَّام وَمُدَّة خِلَافَته سِتَّة أشهر
(خلَافَة المستعين بِاللَّه)
أَحْمد بن المعتصم بن هَارُون كَانَ فَاضلا دينا أخبارياً مطلعاً على التواريخ متجملا فِي ملبسه وَهُوَ أول من أحدث الأكمام العراض فَجعل عرض الْكمّ ثَلَاثَة(3/472)
أشبار وَهُوَ عَم الْمُنْتَصر قبله أَخُو المتَوَكل أَبِيه وَإِنَّمَا قَدمته الأتراك وَعدلُوا عَن أَوْلَاد المتَوَكل لأَنهم كَانُوا قتلوا المتَوَكل فخافوا أَن يَلِي الْخلَافَة أحد من أَوْلَاده فَيَأْخُذ بثأر أَبِيه فَاخْتَارُوا من أَوْلَاد المعتصم أَحْمد هَذَا ولقبوه بالمستعين بِاللَّه أمه أم ولد تسمى مُخَارق وَمَا كَانَ لَهُ من الْخلَافَة إِلَّا الِاسْم وَكَانَ المماليك الأتراك مستولين على الْملك وَكَانَ الْأَمر جَمِيعه لكبيري الأتراك وصيف وبغا التركيين حَتَّى قيل فِي ذَلِك // (من الرجز) //
(خَلِيفَةٌ فِي قَفَصٍ ... بيْنَ وَصِيفٍ وبغَا)
(يَقُولُ مَا قَالاَ لَهُ ... كَمَا تقُولُ البَبَّغا)
والببغا هِيَ الطير الْمُسَمّى بِالدرةِ وَاسْتمرّ كَذَلِك وَهُوَ مترصد لَهما إِلَى أَن ظفر بوصيف فَقتله وهرب باغر الَّذِي كَانَ سَطَا فِي المتَوَكل وَقَتله فَتَنَكَّرت لَهُ الأتراك فَخرج عَنْهُم من سر من رأى إِلَى بَغْدَاد فأرسلوا إِلَيْهِ يَعْتَذِرُونَ ويسألونه العودة إِلَى سر من رأى فَامْتنعَ مِنْهُم فَلَمَّا أَبى قصد الأتراك خلعه فَأتوا إِلَى الْحَبْس فأخرجوا مُحَمَّدًا أَبَا عبد الله بن المتَوَكل ولقبوه المعتز بِاللَّه وَبَايَعُوهُ وعمره تِسْعَة عشر عَاما وَلم يل الْخلَافَة أَصْغَر مِنْهُ وجيشوا على المستعين بِاللَّه جَيْشًا إِلَى أَن خلع نَفسه وَأشْهد الْقُضَاة والعدول على نَفسه بذلك وانحدروا بِهِ إِلَى وَاسِط وحبسوه تِسْعَة أشهر ثمَّ دسوا إِلَيْهِ سعيداً الْحَاجِب فذبحه فِي الْحَبْس فِي ثَالِث شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَجَاء بِرَأْسِهِ إِلَى المعتز وَهُوَ يلْعَب الشطرنج فَقيل لَهُ هَذَا رَأس المخلوع فَقَالَ دَعوه هُنَاكَ حَتَّى أفرغ من اللّعب ثمَّ أَمر بدفنه وعمره إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وخلافته إِلَى زمَان خلعه سنتَانِ وَثَمَانِية أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا(3/473)
(خلَافَة المعتز بِاللَّه)
مُحَمَّد بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن الْمَنْصُور عبد الله كَانَ بديع الْحسن جدا مليح الصُّورَة لَيْسَ فِي الْخلق أجمل مِنْهُ حسنا كَانَ مستضعفَاً مَعَ الأتراك وَكَانَ صَالح بن وصيف مستولياً عَلَيْهِ وَهُوَ خَائِف مِنْهُ فَاجْتمع الْجند عَلَيْهِ وطلبوا مِنْهُ أَرْزَاقهم ووعدوه أَنه إِذا أنْفق عَلَيْهِم أَرْزَاقهم ركبُوا مَعَه على صَالح بن وصيف فيقتلوه ويصفو الْملك لَهُ وَلم يكن فِي خزائنه مَال يصرفة عَلَيْهِم فَطلب من أمه وَكَانَت تركية اسْمهَا قبيحة لفرط جمَالهَا بَين النِّسَاء فَأَبت أَن تعطيه وشحت عَلَيْهِ بِالْمَالِ وسخت بِوَلَدِهَا وَكَانَ مَعهَا مَال عَظِيم فاتفق الأتراك على خلعه وَركب عَلَيْهِ صَالح بن وصيف وَمُحَمّد بن بغا وهجموا عَلَيْهِ وجروا بِرجلِهِ وأوقفوه فِي الشَّمْس فَصَارَ يرفع رجلا وَيَضَع رجلا وعذبوه وهم يلطمونه وَيَقُولُونَ اخْلَعْهَا وَيَتَّقِي بيدَيْهِ ويأبى ثمَّ أجابهم وخلع نَفسه فأدخلوه الْحمام ومنعوه المَاء إِلَى أَن مَاتَ عطشاً وَقيل أَتَوْهُ بِمَاء مالح فشربه وَسقط مَيتا ثمَّ أَخْرجُوهُ وَأشْهدُوا عَلَيْهِ أَنه لَا أثر بِهِ وصادر صَالح بن وصيف قبيحة أم المعتز وعذبها حَتَّى أَخذ مِنْهَا ألف ألف دِينَار ذَهَبا وَنصف أردب لُؤْلُؤ وَمثله زمرد وَسدس أردب ياقوت أَحْمَر ثمَّ أخرجت إِلَى مَكَّة وأقامت بهَا إِلَى أَن مَاتَت وَأَقل النَّاس الترحم عَلَيْهَا حَيْثُ إِن هَذَا المَال عِنْدهَا وشحت بِهِ عَن وَلَدهَا عِنْد احْتِيَاجه فَكَانَ عَلَيْهِ مَا كَانَ توفّي فِي ثَالِث شعْبَان سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ مُدَّة خِلَافَته سنتَانِ وَأحد عشر شهرا وعمره اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر(3/474)
(خلَافَة الْمُهْتَدي بِاللَّه)
أَبُو إِسْحَاق بن الواثق هَارُون بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور الْخَلِيفَة الصَّالح ولد فِي خلَافَة جده سنة بضع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رَجَب سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَمَا قبل بيعَة أحد حَتَّى أَتَى إِلَيْهِ بالممعتز قبل قَتله فَلَمَّا رَآهُ قَامَ لَهُ وَسلم على المعتز بالخلافة وَجلسَ بَين يَدَيْهِ فجيء بالشهود وَالْقَاضِي ابْن أبي الشَّوَارِب فَشَهِدُوا على المعتز أَنه عَاجز عَن الْخلَافَة واعترف بذلك وَمد يَده وَبَايع الْمُهْتَدي فارتفع حِينَئِذٍ الْمُهْتَدي إِلَى صدر الدِّيوَان وَقَالَ لَا يجْتَمع سيفان فِي غمد وتمثل بقول أبي ذُؤَيْب من // (الطَّوِيل) //
(تُرِيدِن كيْمَا تجمعيني وخَالِدًا ... وهلْ يُجْمَعُ السَّيْفَانِ وَيْحَكِ فِي غِمْدِ)
وَكَانَ الْمُهْتَدي بِاللَّه أسمر رَقِيقا مليح الْوَجْه ورعاً متعبدَاً عادلا قَوِيا فِي أَمر الله تَعَالَى بطلا شجاعاً لكنه لم يجد ناصراً وَلَا معينا على الْحق وَالْخَيْر قَالَ أَبُو بكر بن الْخَطِيب قَالَ أَبُو مُوسَى العباسي لم يزل صَائِما مُنْذُ ولي إِلَى أَن قتل قَالَ الْعَبَّاس بن هَاشم بن الْقَاسِم كنت بِحَضْرَة الْمُهْتَدي عَشِيَّة فِي رَمَضَان فَوَثَبت لأنصرف فَقَالَ لي اجْلِسْ فَجَلَست وَتقدم فصلى بِنَا ثمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ فَإِذا طبق عَلَيْهِ خبز وآنية فِيهَا ملح وخل وزيت فدعاني إِلَى الْأكل فَقَالَ كل وَاسْتَوْفِ فَلَيْسَ هَهُنَا من الطَّعَام غير مَا ترى فعجبت ثمَّ قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَسْبغ الله نعْمَته عَلَيْك فَقَالَ إِن الْأَمر على مَا وصفت وَلَكِنِّي فَكرت فِي أَنه كَانَ فِي بني أُميَّة عمر بن عبد الْعَزِيز فَكَانَ من التقلل والتقشف على مَا بلغك فغرت على بني هَاشم فَأخذت نَفسِي بِمَا رَأَيْت وَقَالَ ابْن عَرَفَة النَّحْوِيّ حَدثنِي بعض الهاشميين قَالَ كَانَ للمهتدي سفط فِيهِ(3/475)
جُبَّة صوف وَكسَاء وَكَانَ يلْبسهُ بِاللَّيْلِ وَيُصلي فِيهِ وَكَانَ قد اطرَح الملاهي وَحرم الْغناء وحسم عَن الظُّلم وَكَانَ يشرف على الدَّوَاوِين بِنَفسِهِ وَيجْلس الْكتاب بَين يَدَيْهِ فتبرم بِهِ بابك التركي وانحصر وَكَانَ ظلوماً غشوماً فَأمر الْمُهْتَدي بقتْله فَلَمَّا قتل هَاجَتْ الأتراك وَوَقع الْحَرْب بَينهم وَبَين المغاربة فَقتل من الْفَرِيقَيْنِ أَرْبَعَة آلَاف وَخرج الْمُهْتَدي والمصحف فِي عُنُقه وَهُوَ يَدْعُو النَّاس إِلَى نصرته والمغاربة مَعَه وَبَعض الْعَامَّة فَحمل عَلَيْهِم طنبغا أَخُو بابك فَهَزَمَهُمْ وَمضى الْمُهْتَدي مُنْهَزِمًا وَالسيف فِي يَده وَقد جرح جرحين حَتَّى دخل دَار مُحَمَّد بن أبي دَاوُد فتجمعت الأتراك وهجموا عَلَيْهِ وأخذوه أسيرَاً وَحمل على دَابَّة وَأَرْدَفَ خَلفه سائس بِيَدِهِ خنجر وَأدْخل إِلَى دَار بَعضهم وَجعلُوا يصفعونه وَيَقُولُونَ اخْلَعْهَا فَأبى عَلَيْهِم فَسلم إِلَى رجل مِنْهُم فوطئ مذاكيره حَتَّى قَتله وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته سنة وَاحِدَة إلاخمسة عشر يَوْمًا عمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر
(خلَافَة الْمُعْتَمد على الله
أبي جَعْفَر أَحْمد بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور لما قتل متغلبة الأتراك الْخَلِيفَة الْمُهْتَدي صبرا عَمدُوا إِلَى الْحَبْس وأخرجوا ابْن عَمه أَبَا جَعْفَر أَحْمد بن المتَوَكل ولقبوه بالمعتمد على الله وَبَايَعُوهُ سنة سِتّ وَخمسين أمه أم ولد اسْمهَا فينان وَكَانَ لَهُ انهماك على اللَّذَّات وَاللَّهْو فَقدم أَخَاهُ طَلْحَة بن المتَوَكل ولقبه بالموفق بِاللَّه وَجعله ولي عَهده ولاه الْمشرق والحجاز واليمن وَفَارِس وطبرستان وسجستان والسند وَكَانَ لَهُ ولد صَغِير اسْمه جَعْفَر ولاه الْمغرب وَالشَّام والجزيرة ولقبه الْمُفَوض إِلَى الله وَعقد لَهما لواءين أَبيض وأسود وَعقد لَهما الْبيعَة وَشرط على أَخِيه الْمُوفق بِاللَّه أَنه إِن حدث بِهِ الْمَوْت وَولده صَغِير كَانَ الْمُوفق ولي عَهده وَإِن كَانَ حِينَئِذٍ وَلَده كَبِيرا كَانَ هُوَ ولي عَهده(3/476)
وَكتب بذلك معاقدة كتب كل مِنْهُمَا خطة عَلَيْهِ وَكتب الْقُضَاة والعدول خطوطهم عَلَيْهَا وأرسلها إِلَى مَكَّة فعلقت فِي الْكَعْبَة وَمَا أَفَادَ مَعَ هَذَا حذر من قدر كَانَ الْمُوفق عَاقِلا مُدبرا شجاعاً مشتغلا بِأُمُور المملكة ملتفتاً لأمور الرّعية وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعْتَمد مكباً على لهوه ولذاته مهملا أَحْوَال الرّعية غير متلفت إِلَيْهَا فكرهه النَّاس وأحبوا أَخَاهُ طَلْحَة الْمُوفق وَظَهَرت فِيهِ نجابات كَثِيرَة وَكَانَ ميمونَاً مظفرا فِي الحروب وَظهر أَيَّام المعتضد طَائِفَة من الزنج وتغلبوا على الْمُسلمين وَكَانَ لَهُم رَئِيس اسْم يهبول يدعى أَنه أرْسلهُ الله إِلَى الْخلق وَادّعى علم المغيبات وَقتل فِي الْمُسلمين ذكر الصولي أَنه قتل ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف مُسلم وَكَانَ يستأسر نسَاء الْمُسلمين ويبيعهن فِي الْأَسْوَاق بأبخس ثمن وينادي على الشَّرِيفَة العلوية بِدِرْهَمَيْنِ وَكَانَ عِنْد الزنْجِي الْوَاحِد مِنْهُم عشر شرائف يطؤهن ويمتهنهن فِي الخدم الشاقة وَكَانَ ذَلِك من أعظم المصائب فِي الْإِسْلَام وتملك هَذَا الْكَافِر مدناً كَثِيرَة للْمُسلمين واستأصل أَهلهَا وَجعل دَار مَمْلَكَته وَاسِط ورامهرمز وَمَا والاهما فَانْتدبَ لقتاله الْمُوفق بِاللَّه وَجمع الجموع والعساكر مِمَّن حنكته الحروب ووسمته قوارع الخطوب فاتخذهم جنَانًا ويداً وَرَضي بهم ساعداً وعضداً فركض بهم إِلَى الْأَعْدَاء اللئام الْكَفَرَة الطغام فالتقت الفئتان على ضريبة الْحَرْب وتساقيا كئوس الطعْن وَالضَّرْب فجفلت السودَان من لامع الصارم الْأَبْيَض وفروا كَمَا يفر اللَّيْل الْأسود من النَّهَار المبيض وَقتل أَمِيرهمْ يهبول وَنصر الله مِلَّة الْإِسْلَام ومحا بنوره ذَلِك الظلام واستردت الْمَدَائِن الَّتِي أَخذهَا وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَاطْمَأَنَّ الْمُسلمُونَ وكافة الْعباد ولقبوه بالناصر لدين الله وَصَارَ لَهُ حينئذٍ لقبان الْمُوفق بِاللَّه والناصر لدين الله وَدخل إِلَى بَغْدَاد فِي عَظمَة وعلو شَأْن وَرَأس ذَلِك الْكَافِر ورءوس أَصْحَابه على رماح ودعا لَهُ الْمُسلمُونَ وقصدته الشُّعَرَاء بالمدائح وأحبه النَّاس وَبعد صيته واستفحل أمره وَاسْتمرّ أَخُوهُ الْمُعْتَمد على حَاله منهمكاً فِي اللَّهْو وَاللَّذَّات وَله اسْم الْخلَافَة وَجَمِيع الْأُمُور يتلقاها الْمُوفق بِاللَّه النَّاصِر لدين الله فحسده أَخُوهُ الْمُعْتَمد لذهابه بِالذكر والصيت وَأَرَادَ هضمه لاستيلائه على المملكة ورضا النَّاس عَنهُ فَلم يدر(3/477)
كَيفَ يصنع فِي ذَلِك فاستعان على هضم جَانب أَخِيه بِصَاحِب مصر يومئذٍ أَحْمد بن طولون وَكَانَ ملكا شجاعاً فاتكاً صَاحب جيوش وجنود كثير الْأَمْوَال والخزائن مُسْتقِلّا بمملكة مصر يَأْخُذ خراجها فكاتبه الْمُعْتَمد وَأمره أَن يُقَاتل أَخَاهُ ليخف أمره ويهون بذلك فجرت بَينهمَا حروب اشْتغل بهَا الْمُوفق عَن أَخِيه الْمُعْتَمد وَصَارَ يواليه تَارَة ويداريه ويباعده تَارَة ويدانيه وَمضى على ذَلِك زمَان والموفق بعد مرهن وَكَانَ للموفق ابْن نجيب اسْمه أَحْمد جعله الْمُوفق ولي عده واستعان بِهِ فِي حروبه وَظَهَرت لَهُ نجابة وَقُوَّة فخشي الْمُوفق على نَفسه وعَلى أحيه الْمُعْتَمد لما رأى من شجاعته وبسالته فأودعه بطن الْحَبْس ووكل بِهِ من يَثِق بِهِ فِي أمره وَاسْتمرّ مَحْبُوسًا إِلَى أَن اشْتَدَّ حَال الْمُوفق فِي الْمَرَض فبادر غلمانه إِلَى الْحَبْس وأخرجوا وَلَده أَحْمد مِنْهُ فَلَمَّا رَآهُ الْمُوفق قَالَ يَا وَلَدي لهَذَا الْيَوْم خبأتك وَكَانَ ذَلِك قبل مَوته بِثَلَاثَة وفوض إِلَيْهِ وأوصاه بِعَمِّهِ الْمُعْتَمد خيرا ثمَّ مَاتَ بعد ثَلَاثَة أَيَّام وشمت الْمُعْتَمد بِمَوْت أَخِيه وَظن أَنه استراح وَصفا لَهُ دهره والدهر مَا صفا لأحد من الْبشر وَإِن صروفه تَأتي بالعبر والغير فَمَا حَال عَلَيْهِ الْحول حَتَّى سلب ذَلِك الطول والحول وَلم يكن لَهُ بعد خذلانه النَّاصِر من قُوَّة وَلَا نَاصِر وَتُوفِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَجَب سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَأحد عشر شهرا وعمره أَرْبَعُونَ سنة وَسِتَّة أشهر
(خلَافَة المعتضد)
أَحْمد بن الْمُوفق بِاللَّه طلحه بن المتَوَكل بن المعتصم بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد وَفَاة عَمه الْمُعْتَمد فِي تَارِيخ وَفَاته الْمَذْكُور آنِفا أمه أم ولد اسْمهَا صَوَاب كَانَ قَلِيل الرَّحْمَة مهيبا ظَاهر الجبروت وافر الْعقل شجاعَاً(3/478)
مظفراً دَانَتْ لَهُ الْأُمُور فسالمه كل مُخَالف ومعاند شَدِيد السطوة حسن السياسة يقدم على الْأسد وَحده إِذا غضب على أحد أَلْقَاهُ فِي حُفْرَة وطم عَلَيْهِ التُّرَاب وَله تَصَرُّفَات شَتَّى فِي قتل من غضب عَلَيْهِ أسقط المكوس وَرفع الْمَظَالِم عَن الرّعية وَأظْهر عز الْملك بعد مَا ذل ووهت وجدد ملك بني الْعَبَّاس وَفِي ذَلِك يَقُول عبد الله بن المعتز من // (السَّرِيع) //
(أَمَا تَرَى مُلْك بَنِي هَاشِم ... عَادَ عَزِيزًا بَعْدَ مَا ذُلِّلا)
(يَا طالِبَ المُلْكِ فَكُنْ مِثْلهُ ... تسْتَوجِبِ المُلْك وَإِلاَّ فَلاَ)
وَفِيه يَقُول أَبُو الْعَبَّاس عَليّ بن الرُّومِي من // (الطَّوِيل) //
(هَنِئًا بَنِي الْعَبَّاسِ إِنَّ إِمَامَكُمْ ... إِمامُ الْهدَى وَالْبَأْسِ والجودِ أَحْمَدُ)
(كَما بِأَبي العَبَّاسِ أسِّسَ مُلْكُكُمْ ... كَذَا بِأَبي العَبَّاسِ أيْضًا يُجَدَّدُ)
(إِمَامٌ يظَلُّ الْأَمْسُ يَشْكُو فِرَاقَهُ ... تأسُّفَ مَلْهُوفٍ وَيَشْتَاقُهُ الْغَدُ)
وَكَانَ مَعَ سطوته وبأسه يتوخى الْعدْل ويبرز الْمَرْأَة فِي صُورَة الجبروت والعسف وَهُوَ فِي ذَلِك محق فِي الْبَاطِن فَمن ذَلِك مَا روى عَن عبد الله بن حمدون قَالَ خرج المعتضد للصَّيْد يَوْمًا وَأَنا مَعَه فَمر بمقثاة فعاث بعض جنود فِيهَا فصاح صَاحبهَا واستغاث بالمعتضد فَأحْضرهُ وَسَأَلَهُ عَن سَبَب صياحه فَقَالَ ثَلَاثَة من غلمانك نزلُوا المقتاه فأخربوها فَأمر عبيده بإحضارهم فَضرب أَعْنَاقهم وَمضى وَهُوَ يحادثني فَقَالَ لي اصدقني مَا الَّذِي تنكره النَّاس من أحوالي فَقلت لَهُ سفكك للدماء فَقَالَ مَا سفكت دمَاً حَرَامًا قطّ فَقلت بِأَيّ ذَنْب قتلت أَحْمد ابْن الطّيب فَقَالَ دَعَاني إِلَى الْإِلْحَاد فَقتلته لما ظهر لي إلحاده لنصرة الدّين فَقلت فالثلاثة الَّذين نزلُوا المقثاة الْآن فَقَالَ وَالله مَا قَتلتهمْ وَإِنَّمَا ثَلَاثَة من قطاع الطّرق وأوهمت النَّاس أَنهم هم ثمَّ أحضر صَاحب الشرطة فَأمره بإحضار الثَّلَاثَة الَّذين نزلُوا المقثاة فأحضرهم وشاهدتهم ثمَّ أَمر بإعادتهم إِلَى الْحَبْس وَهَكَذَا يَنْبَغِي تَدْبِير السياسة وَإِظْهَار النصفة وتخويف الْجند(3/479)
وإراعابهم وَمِمَّا وَقع فِي أَيَّام المعتضد من عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام زِيَارَة دَار الندوة وَهِي الزِّيَارَة الَّتِي فِي شَامي الْمَسْجِد وَهِي أول الزيادتين وَالْأُخْرَى الَّتِي فِي الْجَانِب الغربي سَيَأْتِي أَن الْآمِر بهَا المقتدر وَبَينهمَا قريب من عشْرين وَلَيْسَت الزِّيَادَة هِيَ عين دَار الندوة بل محلهَا فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن لَا على التَّعْيِين من خلف مقَام الْحَنَفِيّ إِلَى آخر الزِّيَادَة قلت مَا سبق بَيَانه أَن قصياً أول من بنى مَكَّة ثمَّ بنت قُرَيْش بيوتها وَأَن الْبيُوت كَانَت محدقة بِالْكَعْبَةِ وَلها أَبْوَاب شارعة إِلَى المطاف وَبَين كل دارين طَرِيق إِلَى المطاف وَهُوَ هَذِه الْبقْعَة المرخمة يَقْتَضِي أَن دَار الندوة هِيَ مَحل مقَام الْحَنَفِيّ الْآن بِلَا شُبْهَة فَتَأمل ذَلِك وَمن شعر المعتضد قَالَه حِين مرض من // (الطَّوِيل) //
(تَمتَّعْ مِن الدُّنْيأ فإِنَّكَ لَا تبْقى ... وَخُذْ صفْوهَا مَهْمَا صفتْ وَدَع الرَّنْقَا)
(وَلاَ تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ ... فلمْ يُبْقِ لِي حَالاً ولَمْ يَرْعَ لِي حَقَّا)
(قَتلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجالِ وَلمْ أَدعْ ... عدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى حَسَدٍ خَلْقَا)
(وَأَخْلَيْتُ دارَ المُلْكِ عنْ كُلِّ نَازِلٍ ... وَفَرَّقْتُهُمْ غَربًا وَمَزَّقْتُهُمْ شرْقَا)
(وَلَمَّا بلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً ... ودَانتْ رِقابُ الخَلْقِ أجْمع لِي رِقَّا)
(رَمَانِي الرَّدى سهْمًا فأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهأنذا فِي حُفْرَتِي عاجِلاً مُلْقى)
(وَأَفْسَدتُّ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَة ... فمنْ ذَا الَّذِي مِنِّى بِمَصْرَعِهِ أشْقَى)
(فَيا ليْتَ شِعْرِي بَعْدَ موْتِيَ مَا أَرَى ... لِرحْمَةِ رَبِّي أَمْ إِلَى نارِهِ أُلْقى)
ثمَّ عهد إِلَى ابْنه عَليّ ولقبه المكتفي بِاللَّه وَأخذ لَهُ الْبيعَة قبل مَوته بِثَلَاثَة أَيَّام(3/480)
حكى المَسْعُودِيّ أَن المعتضد كَانَ مفرطاً فِي الْجِمَاع فاعتل من إفراطه وطالت علته وَغشيَ عَلَيْهِ فَشك من حوله فِي مَوته وَكَانَ لَا يَجْسُر أحد عَلَيْهِ لشدَّة هيبته فَتقدم إِلَيْهِ الطَّبِيب ليخبره بجس النبض فَفتح عَيْنَيْهِ وفطن لذَلِك فرفس الطَّبِيب بِرجلِهِ رفسة رَمَاه أذرعا فَمَاتَ الطَّبِيب ثمَّ مَاتَ المعتضد من سَاعَته وَكَانَ أسمر اللَّوْن مهيباً جدا معتدل الشكل توفّي لسبع بَقينَ من ربيع الأول سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقيل سنة سبع وَثَمَانِينَ وَكَانَ مدَّته تسع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام وعمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة وَشهر
(خلَافَة المكتفي بِاللَّه)
عَليّ بن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور لما توفّي المعتضد كَانَ ابْنه المكتفي غَائِبا بالرقة فَنَهَضَ بأعباء الْبيعَة لَهُ الْوَزير أَبُو الْحُسَيْن الْقَاسِم بن عبيد الله وَكتب إِلَيْهِ فوصل وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهوداً زينت لَهُ بَغْدَاد وَنزل دَار الْخلَافَة وخلع على الْوَزير سبع خلع ومدحه الشُّعَرَاء وأنعم عَلَيْهِم بالجوائز السّنيَّة كَانَ مولده فِي غرَّة ربيع الأول سنة مِائَتَيْنِ وَأَرْبع وَسِتِّينَ وَأمه أم ولد تركية اسْمهَا غنجك وَكَانَ مليح الصُّورَة يضْرب بحسنه الْمثل قَالَ ابْن المعتز من // (الْكَامِل) //
(مَيَّزْتُ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذا المَلاَحةُ بِالْجِنَايَةِ لاَ تَفِي)(3/481)
وَاللَّهِ لاَ كَلَّمْتُهَا ولَو انَّها ... كالشَّمْسِ أوْ كَالْبَدْرِ أَوْ كَالْمُكْتَفِي)
كَانَ وسيماً جميلا بديع الْحسن وردى اللَّوْن معتدل الطول أسود الشّعْر قَالَ الصَّفَدِي فِي شرح اللامية وَمن أَيْن للمكتفي صفة الْحسن وَالَّذِي دلّت عَلَيْهِ التواريخ أَنه كَانَ أسمر أعين قَصِيرا وَلَيْسَت هَذِه من صِفَات الْحسن قلت الْمُثبت مقدم على النَّافِي سِيمَا وَأكْثر التواريخ فِيهَا وَصفه بالْحسنِ كَمَا هُنَا وَكَانَ إِلَى حب عَليّ بن أبي طَالب امتدحه شَاعِر بقصيدة يذكر فِيهَا فضل أَوْلَاد الْعَبَّاس على أَوْلَاد عَليّ فَقطع المكتفي عَلَيْهِ إنشاده وَقَالَ كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا ابْني عَم وَإِن لم يَكُونُوا خلفاء مَا أحب أَن يُخَاطب أهلنا بِشَيْء من ذَلِك وَلم يسمع القصيدة وَلَا أجَازه عَلَيْهَا وَذكر عبد الْغفار فِي تَارِيخ نيسابور عَن أبي الْمَدِينِيّ وَكَانَ معلما للمكتفي قبل أَن يَلِي الْخلَافَة فَلَمَّا أفضت إِلَيْهِ كتب إِلَيْهِ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ من // (الْخَفِيف) //
(عِنْدَ أَهْلِ التُّقى وَأَهْلِ المُرُوَّةْ ... حقُّ الاُسْتَاذِ فَوْقَ حَقِّ الْأَبُوَّةْ)
(وَأَحَقُّ الْأَنَام أَنْ يحْفظُوا ذاكَ ... وَيرْعوْهُ أهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّهْ)
وَمن أعظم الْحَوَادِث فِي أَيَّام المكتفي ظُهُور القرامطة الْمُلْحِدِينَ بل الْكَفَرَة أَعدَاء الدّين فَأول من خرج مِنْهُم يحيى بن بهرويه القرمطي وَكَانَت دَار ملكهم هجر وهم طَائِفَة إباحية يدعونَ أَن الإِمَام الْحق بعد النَّبِي
مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة ويسندون إِلَيْهِ أقاويل بَاطِلَة لَا أصل لَهَا فَجهز عَلَيْهِ المكتفي جيوشاً فَقتله فَقَامَ بعده أَخُوهُ الْحُسَيْن وَظهر شَأْنه وَظهر ابْن عَمه عِيسَى ابْن مهرويه ويلقب بالمدثر وَزعم أَنه المُرَاد بالسورة الشَّرِيفَة يَا أَيهَا المدثر ولقب غلامَاً مظلماً بالمطوَق بِالنورِ وَزعم أَنه الْمهْدي ودعا لنَفسِهِ على المنابر وأفسد بِالشَّام وعاث فحارب المكتفي الثَّلَاثَة وقتلهم وطيف برءوسهم فِي الْبِلَاد فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَلم يطلّ زمَان المكتفي توفّي لَيْلَة الْأَحَد لِاثْنَتَيْ عشرَة خلت من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَمُدَّة خِلَافَته سِتّ سِنِين وَسَبْعَة أشهر وعمره إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا(3/482)
(خلَافَة المقتدر بِاللَّه)
أَبُو الْفضل جَعْفَر بن المعتضد بن الْمُوفق بِاللَّه بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد ابْن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بُويِعَ لَهُ بالخلافة بِبَغْدَاد يَوْم مَاتَ أَخُوهُ المكتفي وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَلم يل الْخلَافَة قبله وَلَا بعده أَصْغَر مِنْهُ وَضعف دست الْخلَافَة فِي أَيَّامه ذكر صَاحب النَّوَادِر وَغَيره أَن صافي مولى المعتضد قَالَ مشيت يَوْمًا بَين يَدي المعتضد وَهُوَ يُرِيد دَار الْحَرِيم فَلَمَّا بلغ بَاب دَار المقتدر وقف وَتسمع وتطلع من خلل الْبَاب فَإِذا هُوَ بالمقتدر وَله إِذْ ذَاك خمس سِنِين وَبَين يَدَيْهِ طبق فضَّة فِيهِ عنقود عِنَب فِي وَقت فِيهِ الْعِنَب عَزِيز جدا وَالصَّبِيّ يَأْكُل مِنْهُ وَاحِدَة بعد وَاحِدَة ثمَّ يطعم الْجَمَاعَة عنبه عنبة على الدّور حَتَّى فنى العنقود والمعتضد يتمزق غيظاً ثمَّ رَجَعَ وَلم يدْخل الدَّار فرأيته مهموماً فَقلت مَا سَبَب هَذَا يَا سَيِّدي فَقَالَ يَا صافي لَوْلَا الْعَار وَالنَّار لقتلت هَذَا الْغُلَام الْيَوْم فَإِن فِي قَتله صلاحاً للْأمة فَقلت يَا سَيِّدي مَا شَأْنه وَأي شَيْء غمك أُعِيذك بِاللَّه من هَذَا فَقَالَ وَيحك أَنا بَصِير بِمَا أَقُول أَنا رجل قد سست الْأُمُور وأصلحت الدُّنْيَا بعد فَسَاد شَدِيد وَلَا بُد من موتِي وَأَنا أعلم أَن النَّاس بعدِي لَا يختارون أحدا على وَلَدي إِنَّهُم سيجلسون ابْني عليا يَعْنِي المكتفي وَمَا أَظن عمره يطول لِلْعِلَّةِ الَّتِي بِهِ يَعْنِي الْخَنَازِير الَّتِي فِي حلقه فيتلف عَن قريب وَلَا يرى النَّاس إخْرَاجهَا عَن وَلَدي وَلَا يَجدونَ بعد أمثل من جَعْفَر يَعْنِي المقتدر وَهُوَ صبي وَله من الطَّبْع والسخاء مَا قد رَأَيْته من أَنه أطْعم الوصائف مثل مَا أكل وساوى بَينه وَبينهمْ فِي شَيْء عَزِيز فِي الْعَالم وَالشح على مثله فِي طبائع الصّبيان غَالب فيحتوي على النِّسَاء لقرب عَهده بِهن فَيقسم مَا جمعته من الْأَمْوَال كَمَا قسم الْعِنَب ويبذر خراج الدُّنْيَا(3/483)
فتضيع الثغور وتعظم الْأُمُور وتحدث الْحَوَادِث والأسباب الَّتِي فِيهَا زَوَال الْملك عَن بني الْعَبَّاس فَقلت يَا مولَايَ يتخلق بأخلاقك وَلَا يكون هَذَا الَّذِي ظَنَنْت فَقَالَ وَيحك احفظ عني مَا أَقُول فَإِنَّهُ كَمَا قلت وَمكث يَوْمه مهموماً وضربه الدَّهْر ضَرْبَة وَمَات المعتضد وَولى المكتفي وَلم يطلّ عمره وَولي المقتدر فَكَانَ مَا ذكره المعتضد فوَاللَّه لقد وقفت على رَأس المقتدر وَهُوَ فِي مجْلِس لهوه فَدَعَا بالأموال فأخرجت إِلَيْهِ وَوضعت الْبَدْر بَين يَدَيْهِ فَجعل يفرقها على الْجَوَارِي وَالنِّسَاء ويلعب بهَا ويمحقها ويهبها وَأعْطى القهرمانة سبْحَة جَوْهَر لم ير مثلهَا وَأخرج على النِّسَاء جَمِيع جَوَاهِر الْخلَافَة وأتلف أَمْوَالًا كَثِيرَة مِنْهَا من النَّقْد ثَمَانمِائَة ألف ألف دِينَار فَذكرت قَول مولَايَ المعتضد ثمَّ إِن الْجند وَثبُوا على وزيره فَقَتَلُوهُ وَاتَّفَقُوا على خلع المقتدر وعقدوا لأبي الْعَبَّاس عبد الله بن المعتز بن المتَوَكل فوليها
(خلَافَة عبد الله بن المعتز بن المتَوَكل)
لما أقاموه فِي الْخلَافَة لقبوه الْغَالِب بِاللَّه وَقيل المرتضى بِاللَّه بعد أَن شَرط عَلَيْهِم أَلا يكون فِي ذَلِك حَرْب وَلَا سفك دم فَلَمَّا بُويِعَ اسْتمرّ يَوْمًا وَلَيْلَة فَأرْسل إِلَى المقتدر يَأْمُرهُ بإخلاء دَار الْخلَافَة وَأَن يذهب إِلَى دَار مُحَمَّد بن طَاهِر لينْظر فِي أمره فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول إِلَى المقتدر وبلغه الرسَالَة قَالَ لَيْسَ عِنْدِي جَوَاب إِلَّا السَّيْف وَلبس السِّلَاح وَركب وَمَعَهُ جمَاعَة قَليلَة من خدمه وهم مستسلمون للْقَتْل فِي غَايَة الْخَوْف والوجل وهجوا على عبد الله بن المعتز فأهاله ذَلِك وَألقى الله فِي قلبه الرعب فَانْهَزَمَ هُوَ ووزيره وقاضيه وكل من هُوَ فِي ديوانه ظنا أَن خلف هَؤُلَاءِ أعواناً وأنصارَاً وَقبض المقتدر على ابْن المعتز وحبسه ثمَّ أخرجه من الْحَبْس مَيتا(3/484)
قَالَ ابْن خلكان لما أَدخل ابْن المعتز على المقتدر أَمر بِهِ فَطرح على الثَّلج عُريَانا وحشى سراويله ثلجاً فَلم يزل كَذَلِك والمقتدر يشرب إِلَى أَن مَاتَ فِي ربيع الآخر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَعبد الله بن المعتز لقصر زَمَانه لَا يَنْبَغِي عده من الْخُلَفَاء وَلَكِن قد ذَكرْنَاهُ كَمَا ذكره بعض المؤرخين لفضله وأدبه وَهُوَ أشعر بني الْعَبَّاس بل أشعر بني هَاشم على الْإِطْلَاق وأغزرهم فضلاَ وأدبَاً ودخولا وَمَعْرِفَة بِعلم الموسيقا وَصَاحب التشبيهات المبتكرة الغريبة المخترعة المرقصة الَّتِي لَا يشق لَهُ فِيهَا غُبَار وَكَانَ يَقُول إِذا قلت كَأَن وَلم أجد تَشْبِيها فَقطع الله لساني قلت مِمَّا أحفظ لعبد الله ابْن المعتز من ذَلِك قَوْله فِي تَشْبِيه الْهلَال والثريا حَيْثُ يَقُول من // (المنسرح) //
(قَدِ انْقَضَتْ دَوْلةُ الصِّيَامِ وَقدْ ... بَشَّرَ سُقْمُ الهِلاَلِ بِالْعِيدِ)
(يَتْلُو الثُّريَّا كَفاغِرٍ شَرِهٍ ... يَفْتَحُ فَاهُ لِأَكْلِ عُنْقُودِ)
وَقَوله فِي تَشْبِيه اللَّيْل والهلال والنجوم من // (المنسرح) //
(كَأَنَّمَا اللَّيْلُ وَالهِلاَلُ وقَدْ ... لاَحَتْ نُجُومُ السَّماءِ مُنْقَضَّهْ)
(وَأْمٌ مِنَ الزَّنْجِ حوْلهُ ذَهَبٌ ... تبْدُرُ مِنْهُ بنَادِقُ الفِضَّهْ)
وَقَوله من // (الرجز) //
(إِذَا الْهِلالُ فارَقَتْهُ ليْلَتُه ... )
(لِكُلِّ مَنْ يَرْمُقُهُ وَيَنْعَتُهْ ... )
(كَأَنَّهُ أَسْرُ شَابَتْ لِحْيَتُهْ ... )
وَهُوَ صَاحب القصيدة البائية اليتي يفخر فِيهَا على بني هَاشم ويدعى أَوْلَوِيَّة الْخلَافَة ببني الْعَبَّاس وَهُوَ فِي ذَلِك ظَالِم وَهِي قَوْله من // (المتقارب) //
(أَلاَ مَنْ لِعَيْنٍ وتَسْكَابِهَا ... تُشَكِّي القَذا وبُكاهَا بِها)
(ترَامتْ بِنَا حَادِثاتُ الزَّمَانِ تَرَامِى ... القِسِيِّ بِنشَّابِهَا)
(وَيَا رُبَّ ألْسِنةٍ كَالسُّيوفِ ... تُقَطِّعُ أَرْقابَ أَصْحَابِها)
(وَكم دُهِيَ المرءُ مِن نفسِهِ ... فمزَّقهُ حَدُّ أَنيابِهَا)(3/485)
(فرصه وَإِنْ أمكنَتْ فِي العدوِ ... فَلاَ تُبدِ همَّكَ إلاّ بِهَا)
)
فإنْ لم تَلِجْ بابَها مُسْرِعًا ... أتاكَ عدوُّكَ مِنْ بَابِها)
(وهلْ نافِعٌ نَدَمٌ بعدَهَا ... وتأميلُ أُخْرَى وأَنَّي بِهَا)
(وَمَا يُنْتَقَصْ من شبابِ الرجالِ ... يُزَدْ فِي نُهَاها وَأَلْبابِهَا)
(نهيتُ بنِي رَحِمِي نَاصِحًا ... نَصيحَةَ بَرِّ بأنسَابِهَا)
(وَقد رَكِبُوا بغيهم وارْتقَوْا ... مَعَارِجَ تَهْوِي بركَّابِهَا)
(فَرَامُوا فَرَائِسَ أُسْد الشَّرى ... وَقد نَشِبَتْ بينَ أَنيابِهَا)
(دَعُوا الأُسْد تفرسُ ثمَّ اشْبَعُوا ... بِمَا تفضلُ الأسْدُ فِي غابِهَا)
وَمِنْهَا
(قتلنَا أميةَ فِي دارِها ... ونحنُ أحقُّ بأسلابِهَا)
(وَلما أَبَى اللَّهُ أَن تملِكُوا ... نهضْنَا إِلَيْهَا وقٌ مْنَا بِها)
(وَنحن ورثنا ثيابَ النَّبِيِّ ... فَلِمْ تَجذِبونَ بأَهْدَابِهَا)
(لَكُمْ رَحِمٌ يَا بني بِنْتِهِ ... ولكنْ بنُو العمِّ أولَى بِهَا)
(فَمهْلاً بني عَمِّمنَا إنَّها ... عطيَّةُ ربِّ حَبَانا بِهَا)
(وَكَانَت تَزَلزلُ فِي العالَمِينَ ... فَشُدَّتْ لَدَيْنا بأَطْنابِهَا)
فَرد عَلَيْهِ شَاعِر زَمَانه وفصيح أَوَانه عبد الْعَزِيز بن سَرَايَا الْحلِيّ وأجاد فَقَالَ من // (المتقارب) //
(أَلاَ قُلْ لِشرِّ عبيدِ الإِلهِ ... وَطَاغي قريسٍ وَكَذَّابِهَا)
(أَأَنْتَ تُفَاخِرُ آلَ النبيِّ ... وَتَجْحَدُهَا فَضْلَ أَنْسَابِهَا)
(بِكُمْ بَاهَلَ المُصْطَفى أَمْ بِهِمْ ... وَرَدَّ العُدَاةَ بِأَوْصَابِهَا)
(أَعَنْكُم نَفَى الرِّجْسَ أَمْ عَنْهُمُ ... لِطُهْرِ النُّفُوسِ وَأَلْبَابِهَا)
(أَمِ الشُّرْبُ واللهْوُ مِنْ دَأْبِكُمْ ... وَفَرْطُ العِبَادَةِ مِنْ دأبِهَا)
(وقلتم ورِثْنَا ثِياب النَّبِيِّ ... فَلِمْ تَجْذِبُونَ بأهْدَابِهَا)
(وعندكَ لاَ تُورَثُ الأنبياءُ ... فكَيْفَ حظِيتُمْ بأَثْوَابِهَا)
(فكذبْتَ نَفْسَك فِي الحالَتَيْنِ ... وَلم تعلمِ الشَّهْدَ مِنْ صَابِها)
(أَجَدُّكَ يرْضَى بِمَا قلتَهُ ... وَمَا كَانَ يوْمًا بمُرْتَابِهَا)(3/486)
(وَكَانَ ب صِفِّينَ من حِزْبِهِمْ ... لحربِ الطُّغَاةِ وأحْزَابِهَا)
(وَقد شَمَّرَ المَوْتُ عَن سَاقِهِ ... وكَشَّرَتِ الحَرْبُ عَن نَابِهَا)
(فأقبلَ يَدْعُو إِلَى حَيْدرٍ ... بِإْعَرابها وبإرْهَابِهَا)
(وآثرَ أَنْ ترتضيه الأَنامُ ... مِنَ الحَكَمَينِ لإسْهَابِهَا)
(ليُعْطِى الخِلافَةَ أَهْلاً لَها ... فَلم يرتضوه لأَنجابِهَا)
(وَصَلَّى معَ الناسِ طولَ الحياةِ ... وحَيْدَرُ فِي صدرِ مِحْرابِهَا)
(فَهَلاَّ تَقَمَّصَها جَدُّكُمْ ... إِذَا كانَ ذَلِك أَحْرَى بِهَا)
(وإِذْ جعَل الأمرَ شُورَى لَهُم ... فَهلْ كَانَ من بَعْضِ أَرْبَابِهَا)
(أَخَامِسَهُمْ كَانَ أَمْ سَادِسًا ... وَقَدْ جُليَتْ بَيْن خطَّابِها)
(وقولُكَ أَنْتُم بنُو بنتِهِ ... وَلَكِنْ بَنُو العَمِّ أَولَى بِهَا)
(بَنُو البِنْتِ أَيْضا بَنُو عمّهِ ... وذَلِكَ أَدْنَى لِأَنْسَابِهَا)
(فدَعْ فِي الخلاَفَةِ فصْلَ الخِطَابِ ... فليسَتْ ذَلُولاً لِرُكَّابِهَا)
(وَمَا أَنْت والفَحْصَ عَنْ شَأْنِهَا ... وَمَا قمَّصُوكَ بِأَثْوَابِهَا)
(وَمَا ساوَرَتْكَ سِوَى سَاعَةٍ ... فَمَا كُنْتَ أَهْلاً لأَلْقَابِهَا)
(وَكَيْفَ يخُصُّوكَ يوْمًا بِهًا ... ولمْ تَتَأَدَّبْ بِآدابِهَا)
(وقُلْت بأنَّكُمُ القَاتِلُون ... أسودَ أُمَيَّةَ فِي غابِهَا)
(كَذبْتَ وَأَسْرَفْت فِيمَا ادَّعَيْتَ ... وَلَمْ تَفْدِ نفَسكَ عنْ عَابِهَا)
(فَكَمْ حَاوَلَتْهَا سَرَاةٌ لَكُمْ ... فَردَّتْ عَلَى نَكْصِ أَعْقَابِِهَا)
(وَلَوْلَا سُيُوف أبي مُسْلِمٍ ... لَعَزَّتْ عَلَى جَهْدِ طلاَّبِهَا)
)
وَذَلِكَ عَبْدُ لَهُمْ لاَ لَكُمْ ... رَعَى فيكمُ قُرْبَ أَنْسَابِهَا)
(وَكنتُمْ أَسََارَى بِبطْنِ الحُبُوسِ ... وقَد شَفَّكُمْ لَثْمُ أَعْقَابِهَا)
(فَأَخْرَجَكُمْ وَحبَاكُمْ بِها ... وَقَمَّصَكُمْ فَضْلَ جِلْبَابِهَا ...
(فجازَيْتُمُوه بِشرِّ الجَزَاءِ ... لطغْوَى النُّفُوسِ وَإِعْجَابِهَا)
(فدَعْ ذِكْرَ قَوْم رَضُوا بالكَفافِ ... وجاءُوا القَنَاعَةَ مِنْ بابِهَا)
(هُمُ الزَّاهِدُونَ هُمُ العابِدُون ... هُمُ العامِلُون بآدابهَا)
(هُمُ القََائِمُونَ هُمُ الرَّاكِعُون ... هُمُ السَّاجِدُونَ بِمحْرَابِها)(3/487)
(هُمُ قُطْبُ مِلَّةِ دِينِ الإِلَهِ ... ودَوْرُ الرُّحِِيِّ بِأَقْطَابِهَا)
(عَلَيْكَ بِلَهْوِكَ بالْغَانِيَاتِ ... وَخَلً الامَعَالِي لِأَرْبَابِهَا)
(وَوَصْفِ العِذَارِ وَذَاتِ الخِمَارِ ... وَنعْتِ العُقارِ بِأَلْقَابِهَا)
(وَشِعْرِكَ فِي مَدْحِ تَرْكِ الصَّلاَةِ ... وَسَعْىِ السُّقَاةِ بِأَكْوَابِهَا)
(فَذَلِكَ شَأْنُكَ لاَ شَأْنُهُمْ ... وَجَرْىُ الجِيَادِ بِأَحْسَابِهَا)
وَاسْتمرّ المقتدر فِي الْخلَافَة إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ مؤنس الْخَادِم مقدم جَيْشه وَذَلِكَ سنة سبع عشرَة وثلاثمائة لأمر بلغه عَنهُ وَهُوَ أَنه قد عزم على اغتياله فَبلغ المقتدر مَا نقل إِلَى مؤنس فَحلف المقتدر على بطلَان ذَلِك معتذرَاً إِلَى مؤنس فأسرها مؤنس وَلم يقبل حلفه وَلَا عذره وَركب والجيش مَعَه وَجَاءُوا دَار الْخلَافَة فهرب خَواص المقتدر وَأشْهد المقتدر على نَفسه بِالْخلْعِ وأحضر مؤنس أَبَا مَنْصُور مُحَمَّد بن المعتضد وَبَايَعَهُ ولقب بالقاهر بِاللَّه وفوضت الوزارة إِلَى الْوَزير أبي عَليّ ابْن مقلة الْكَاتِب الْمَشْهُور وَاسْتقر القاهر وَكتب الْوَزير إِلَى سَائِر الْبِلَاد وَعمل يَوْم الِاثْنَيْنِ الدِّيوَان فجَاء الْعَسْكَر يطْلبُونَ مِنْهُ رسم الْبيعَة فارتفعت الْأَصْوَات فَمَنعهُمْ الْحَاجِب من الدُّخُول إِلَى الْخَلِيفَة القاهر فَقتلُوا الْحَاجِب ومالوا إِلَى دَار مؤنس الْخَادِم وأخرجوا المقتدر من الْحَبْس وَحَمَلُوهُ على أَعْنَاقهم إِلَى دَار الْخلَافَة فَجَلَسَ على سريرها وأتوه بأَخيه القاهر وَهُوَ مقهور يبكي وَيَقُول الله الله يَا أخي فِي روحي فاستدناه المقتدر وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ يَا أخي لَا ذَنْب لَك الذَّنب لمؤنس وَأَنت مُضْطَر مغلوب على أَمرك وَالله لَا ينالك مني مَكْرُوه فطب نفسا وقر عينا وبذل المقتدر الْأَمْوَال للجند واسترضاه وَثبتت لَهُ الْخلَافَة بعد الْعَزْل مرَّتَيْنِ الأول بالمعتز وَالثَّانيَِة بالقاهر وَهَذِه التَّوْلِيَة ثَالِث مرّة وَالثَّالِثَة ثَابِتَة وَمن محَاسِن المقتدر أَنه زَاد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بَاب إِبْرَاهِيم فِي الْجَانِب الغربي مِنْهُ وَلَيْسَ المُرَاد بإبراهيم الْمُضَاف إِلَيْهِ هَذَا الْبَاب سيدنَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى سَائِر النَّبِيين أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِنَّمَا هُوَ إِبْرَاهِيم كَانَ خياطاً يجلِسُ عِنْد الْبَاب وَعمر دهراً فَعرف الْبَاب بِهِ وأضيف إِلَيْهِ كَذَا فِي أَعْلَام القطبي وقدمت على المقتدر رسل ملك الرّوم بِهَدَايَا لطلب الْهُدْنَة فَعمل المقتدر موكباً عَظِيما لإرهاب الْعَدو فَأَقَامَ مائَة وَسِتِّينَ ألف مقَاتل بِالسِّلَاحِ الْكَامِل سماطين وَأقَام(3/488)
بعدهمْ الخدم وهم سَبْعَة آلَاف خَادِم ثمَّ الْحجاب وهم سَبْعمِائة حَاجِب وعلق فِي دَار الْخلَافَة ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ ألف ستر ديباج وَكَانَت الْفرش الفاخرة الَّتِي بسطت فِي الأَرْض اثْنَيْنِ وَعشْرين ألف بِسَاط وَفِي الحضرة مائَة سبع بسلاسل الذَّهَب وَالْفِضَّة وأبرز شَجَرَة صيغت من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَأَغْصَانهَا تتمايل بحركات مصنوعة وعَلى الأغصان طيور ذهب وَفِضة تنفخ فِيهَا الرّيح فَيسمع لكل طير تغريد وصفير خَاص وَهَذَا بعد وَهن الْخلَافَة وضعفها فَكيف كَانَ زينتها فِي أَيَّام دولتهم فِي كَمَال وصفهَا فسبحان من لَا يزَال ملكه وَلَا يَزُول وَفِي هَذِه السّنة وَهِي سنة سبع عشرَة وثلاثمائة لم تشعر الْحجَّاج يَوْم التَّرويَة بِمَكَّة إِلَّا وَقد وافاهم عَدو الله أَبُو طَاهِر القرمطي فِي عَسْكَر جرار فَدَخَلُوا بخيلهم وسلاحهم الْمَسْجِد الْحَرَام وَوَضَعُوا السَّيْف فِي الطائفين والمصلين والمحرمين إِلَى أَن قتلوا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَفِي مَكَّة وشعابها أَزِيد من ثَلَاثِينَ ألف إِنْسَان وركض أَبُو طَاهِر بِسَيْفِهِ مسلولا بِيَدِهِ وَهُوَ سَكرَان فصفر لفرسه عِنْد الْبَيْت فَبَال وراث وَالْحجاج يطوفون وَالسُّيُوف تأخذهم وَقتل فِي المطاف خَاصَّة ألف محرم وطمت بِئْر زَمْزَم بالقتلى وَمَا بِمَكَّة من الْحفر والآبار ملئت بهم وطلع أَبُو طَاهِر إِلَى بَاب الْكَعْبَة فقلعه وَهُوَ يَقُول من // (الرمل) //
(أَنَا بِاللَّهِ وَباللَّهِ أَنَا ... يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا)
وأطلع رجلا لقلع الْمِيزَاب فَأَتَاهُ سهم من جبل أبي قبيس فَقتله وأطلع آخر لقلعه فَسقط إِلَى أَسْفَل فانفضخ دماغه فَقَالَ دَعوه حَتَّى يَأْتِي من يَأْخُذهُ وَقتل أَمِير مَكَّة مُحَمَّد بن محَارب وخلقاً من الْعلمَاء والصلحاء واستدعى جَعْفَر بن أبي علاج فَأمره بقلع الْحجر الْأسود فقلعه بعد الْعَصْر يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة من تِلْكَ السّنة وَأقَام بِمَكَّة أحد عشر يَوْمًا وَقيل سِتَّة أَيَّام ثمَّ انْصَرف إِلَى بَلَده هجر وَحمل مَعَه الْحجر الْأسود يُرِيد أَن يحول الْحَج إِلَى بَلَده الَّذِي سَمَّاهُ دَار الْهِجْرَة وَأَرَادَ أَخذ مقَام الْخَلِيل فغيبه بَنو شيبَة فِي بعض شعاب مَكَّة وَلما وصل إِلَى بَلَده علق الْحجر الْأسود فِي الأسطوانة السَّابِعَة مِمَّا يَلِي صحن الْمَسْجِد وَبَقِي الْحجر الْأسود عِنْدهم وبذل لَهُ الْمُطِيع العباسي خمسين ألفا فَلم يردوه إِلَى أَن أيسوا من تَحْويل الْحَج إِلَى بلدهم هجر فَردُّوهُ إِلَى مَحَله من أنفسهم(3/489)
بعد اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما وَأَرْبَعَة أَيَّام أَتَى بِهِ سمندر بن الْحسن القرمطي إِلَى مَكَّة يَوْم النَّحْر سنة 339 تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَوَضعه وَقَالَ أخذناه بِأَمْر ورددناه بِأَمْر وللقرمطي وعترته سير مُطَوَّلَة وابتلى أَبُو طَاهِر بأكلة فَصَارَ لَحْمه يَتَنَاثَر بالدود فَمَاتَ أشنع موتَة وَفِي التواريخ صور أُخْرَى لهَذِهِ الْقِصَّة متناقضة وَهَذَا ملخص أصح مَا روى فِيهَا فاعتمدنا عَلَيْهِ بِاخْتِصَار ثمَّ وَقع بَين مؤنس والمقتدر حَرْب خرج فِيهِ المقتدر فتوغل فِي المعركة فَضَربهُ بربري من خَلفه فَسقط إِلَى الأَرْض فَقَالَ لضاربه وَيحك أَنا الْخَلِيفَة فَقَالَ أَنْت الْمَطْلُوب وذبحه بِالسَّيْفِ وَرفع رَأسه على الرمْح وسلب مَا على بدنه وَبَقِي مَكْشُوف الْعَوْرَة حَتَّى سُتر بحشيش ثمَّ حفر لَهُ مَكَانَهُ فَدفن وعفي أَثَره وَكَانَت وَفَاته لثمان بَقينَ من شَوَّال سنة عشْرين وثلاثمائة وَمُدَّة خِلَافَته أَولا وَثَانِيا وثالثاً خمس وَعِشْرُونَ سنة إِلَّا أَيَّامًا وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَشهر وَنصف
(خلَافَة القاهر بِاللَّه)
أَخِيه مُحَمَّد بن المعتضد بن الْمُوفق بِاللَّه بن المتَوَكل بن المعتصم بُويِعَ لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال سنة عشْرين وثلاثمائة وَلما ولي قبض على أَخِيه المكتفي وَأمر بِهِ فأقيم فِي بَيت وسد عَلَيْهِ بالآجر والجص حَتَّى مَاتَ غماً وَقبض على أم المقتدر فطالبها بِمَال لم تقدر عَلَيْهِ فتهددها وضربها بِيَدِهِ وعذبها وعلقها منكوسة حَتَّى كَانَ يجْرِي بولها على وَجههَا وَهِي تَقول أَلَسْت ابْني فِي كتاب الله ألم أخلصك من ابْني المقتدر لما جِيءَ بك إِلَيْهِ تبْكي وَأَنت الْآن تعاقبني هَذِه الْعقُوبَة ثمَّ إِنَّهَا مَاتَت بعدُ عقب ذَلِك ثمَّ إِن الْجند شغبوا عَلَيْهِ وهجموا على دَاره من سَائِر الْأَبْوَاب فهرب إِلَى سطح حمام استتر فِيهِ فَأتوا إِلَيْهِ وقبضوا عَلَيْهِ وخلعوه وحبسوه وسملوا عَيْنَيْهِ قَالَ(3/490)
ابْن البطريق لِأَن القاهر قد ارْتكب أموراً قبيحة لم يسمع بهَا فِي الْإِسْلَام وَكَانَ أهوج طائشاً سفاكَاً للدماء مدمناً للشُّرْب كَانَت لَهُ حَرْبَة يَأْخُذهَا بِيَدِهِ فَلَا يَضَعهَا حَتَّى يقتل بهَا إنْسَانا ولوا الْحَاجِب سَلامَة لأهْلك النَّاس وَحكى أَن رجلا قَالَ صليت فِي جَامع الْمَنْصُور بِبَغْدَاد فَإِذا أَنا بِإِنْسَان عَلَيْهِ جُبَّة عتابية قد ذهب وَجههَا وَبقيت بطانتها وقطنها وَهُوَ يَقُول أَيهَا النَّاس تصدقوا عَليّ بالْأَمْس كنت أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا الْيَوْم من فُقَرَاء الْمُسلمين فَسَأَلت عَنهُ فَقيل لي إِنَّه القاهر بِاللَّه كَانَت مُدَّة خِلَافَته سِتّ سِنِين وَسَبْعَة أشهر ووفاته تَأَخَّرت إِلَى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وعمره اثْنَان وَخَمْسُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر
(خلَافَة الراضي بِاللَّه)
أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن المقتدر بن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل بن المعتصم بُويِعَ بالخلافة يَوْم خلع عَمه القاهر سنة سِتّ وَعشْرين وثلاثمائة واستوزر أَبَا عَليّ بن مقلة وَأطلق كل من كَانَ فِي حبس القاهر ثمَّ قبض على ابْن مقلة وَسبب ذَلِك أَن مُحَمَّد بن رائق كَانَ بواسط متغلباً عَلَيْهَا إِلَّا أَن الضَّرُورَة ألجأته إِلَى ذَلِك لاضطراب الْأُمُور عَلَيْهِ ولضعف من يَلِي الوزارة عَن الْقيام بهَا فأحضر الراضي الْقُضَاة وأعلمهم بِأَن ابْن مقلة راسله فِي مُحَمَّد بن رائق فأفتوا بِقطع يَده الْيُمْنَى وَبعد أَيَّام قطع لِسَانه ثمَّ مَاتَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة ودعا الراضي بِاللَّه مُحَمَّد بن رائق فَقدم إِلَى بَغْدَاد فَجعله الراضي أَمِير الْأُمَرَاء وفوض إِلَيْهِ تَدْبِير المملكة وَمن ذَلِك الْيَوْم بَطل أَمر الوزارة بِبَغْدَاد وَلم يبْق إِلَّا اسْمهَا وَالْحكم لِلْأُمَرَاءِ والملوك المتغلبين فَكَانَ قدومه لخمس بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة(3/491)
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة وَالدُّنْيَا فِي أَيدي المتغلبين وكل من حصل فِي يَده بلد ملكه ومانع عَلَيْهِ فالبصرة وواسط والأهواز فِي يَد عبد الله اليزيدي وأخوته وَفَارِس فِي يَد عماد الدولة بن بويه الديلمي والموصل وديار ربيعَة وَمُضر فِي أَيدي بني حمدَان الْحسن بن حمدَان وناصر الدولة وَسيف الدولة ومصر وَالشَّام فِي يَد أبي بكر مُحَمَّد بن طغج الإخشيدي وَالْمغْرب وإفريقية فِي يَد الْمهْدي الفاطمي والأندلس فِي يَد بني أُميَّة أَوْلَاد عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام ابْن عبد الْملك الْأمَوِي وخراسان وَمَا والاها فِي يَد نصر بن أَحْمد الساماني واليمامة وهجر والبحرين فِي يَد أَوْلَاد أبي طَاهِر القرمطي وَلم يبْق فِي يَد الراضي وَابْن رائق سوى بَغْدَاد وَمَا ولاها وتعطلت دواوين المملكة وَنقص قدر الْخلَافَة وَضعف ملكهَا فَتوفي الراضي بِاللَّه خَامِس ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وثلاثمائة بعلة الاسْتِسْقَاء والسحج وَكَانَ أكبر أَسبَاب علته كَثْرَة الْجِمَاع وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَلَاث سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة وَهُوَ آخر خَليفَة لَهُ شعر مدون وَآخر خَليفَة انْفَرد بتدبر الجيوش وَالْأَمْوَال وَآخر خَليفَة خطب يَوْم الْجُمُعَة وجالس الندمان وَكَانَت جوائزه وأموره على تَرْتِيب الْمُتَقَدِّمين وَمن شعره قَوْله من // (مجزوء الْخَفِيف) //
(كُلُّ صَفْوٍ إِلى كَدَرْ ... كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حذَرْ)
(وَمصِيرُ الشَّبابِ لِلْمَوْتِ ... فِيهِ أوِ الْكدَرْ)
(درَّ دَرُّ المَشِيبِ مِنْ ... وَاعِظٍ يُنْذِرُ البَشرْ)
(أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي ... تاهَ فِي لُجَّةِ القَدَرْ)
(أَيْنَ مَنْ كانَ قَبْلَنَا ... ذهَبَ الْعَيْنُ وَالأَثَرْ)
(رَبَّ فَاغفِرْ لِيَ الْخَطِيئَةَ ... يَا خَيْرَ منْ غفَرْ)(3/492)
(خلَافَة المتقي لله)
أَخُوهُ إِبْرَاهِيم بن المقتدر بن المعتضد بُويِعَ لَهُ بالخلافة يَوْم موت أَخِيه الراضي فصلى رَكْعَتَيْنِ وَركب السرير وَكَانَ ذَا دين وورع وزهد وَلِهَذَا لقبوه المتقي وَلم يكن لَهُ من الْخلَافَة إِلَّا الِاسْم وَالتَّصَرُّف لتوزون ثمَّ إِنَّه زَاد استيلاؤه فَخلع المتقي وَسلمهُ لِابْنِ عَمه المستكفي فَأخْرجهُ إِلَى جَزِيرَة بِقرب السَّنَد وأكلحه بعد أَن أشهد المتقي على نَفسه بِالْخلْعِ سنة 333 ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَكَانَت خِلَافَته ثَلَاث سِنِين وَأحد عشر شهرَاً وَلما توفّي قَالَ القاهر وَكَانَ يعِيش من // (السَّرِيع) //
(صِرْتُ وَإِبْرَاهِيم شَيْخَيْ عَمًى ... لاَ بُدَّ لِلشَّيْخَينِ مِنْ مَصْدَرِ)
(مَا دَامَ توزون لَهُ إِمْرَةٌ ... مُطَاعَةٌ فَالْمَيْلُ فِي المَجْمَرِ)
وَلم يحل الْحول على توزون حَتَّى مَاتَ وَكَانَ عُمر المتقي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة وَسِتَّة أشهر واثني عشر يَوْمًا
(خلَافَة المستكفي بِاللَّه)
أبي الْقَاسِم عبد الله المستكفي عَليّ بن المعتضد بُويِعَ بالخلافة بعد ابْن عَمه وَفِي أَيَّامه قدم معز الدولة أَحْمد بن بويه الديلمي إِلَى بَغْدَاد فَخلع عَلَيْهِ وفوض إِلَيْهِ أَمر المملكة وتدبيرها وَأمر أَن يخْطب لَهُ على المنابر ولقبه بمعز الدولة ولقب أَخَاهُ أَبَا الْحسن عَليّ بعماد الدولة ولقب أخاهما أَبَا الْفَتْح بِرُكْن الدولة وَكَانَ(3/493)
قدومه سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة ثمَّ وَقعت الْفِتْنَة بَينه وَبَين معز الدولة وَقبض عَلَيْهِ وسمل عَيْنَيْهِ وَسبب ذَلِك أَن معز الدولة بلغه أَن المستكفي قد دبر على هَلَاكه فَدخل وَقبل الأَرْض ثمَّ قبل يَده وَطرح لَهُ كرسيُّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثمَّ تقدم إِلَيْهِ رجلَانِ من الديلم ومدا أَيْدِيهِمَا إِلَى المستكفي فَظن أَنَّهُمَا يُريدَان تَقْبِيل يَده فَمدَّهَا إِلَيْهِمَا فجذباه من أَعلَى السرير وَجعلا عمَامَته فِي عُنُقه ثمَّ سحب لى دَار معز الدولة فاعتقله ثمَّ خلعه وسمل عَيْنَيْهِ فَصَارَ ثَالِثا للأولين قبله وانتهبت دَار الْخلَافَة حَتَّى لم يبْق فِيهَا شَيْء وَكَانَ خلعه فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَمُدَّة خِلَافَته سنة وَاحِدَة وَأَرْبَعَة أشهر ويومان وعمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة وشهران وَكَانَت وَفَاته فِي بَيت معز الدولة فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
(خلَافَة الطيع بِاللَّه)
الْفضل بن المقتدر بن المعتضد ضعفت فِي زَمَنه الْخلَافَة وَكَاد ينمحي رسمها وَلَا يذكر اسْمهَا وَغلب على الْأَمر معز الدولة والمطيع لَا نهى لَهُ وَلَا أَمر وَلَا خلَافَة تذكر وَعين لَهُ معز الدولة فِي كل يَوْم مائَة دِينَار فَهَذَا كَانَ حَظه من الْخلَافَة وانقطعت الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس فِي مصر وَالشَّام والحجاز وَغلب على الْمُطِيع مرض الفالج واشتدت زمانته فَجعل ابْنه ولي عَهده مَعَ ضعف حَاله وَتُوفِّي فِي أَيَّامه معز الدولة سنة سِتّ وَخمسين وثلاثمائة فَقَامَ وَلَده عز الدولة بختيار مقَام وَالِده وقلده الْمُطِيع مَوضِع أَبِيه وخلع عَلَيْهِ فاستقل بالأمور كأبيه وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين توفّي كافور الإخشيدي صَاحب مصر وفيهَا قدم جَوْهَر الْقَائِد الرُّومِي غُلَام الْمعز لدين الله الفاطمي صَاحب إفريقية إِلَى مصر وَأقَام بهَا(3/494)
الدعْوَة لسَيِّده الْمعز الفاطمي وَبَايَعَهُ النَّاس على ذَلِك وانقطعت الْخطْبَة بِمصْر عَن بني الْعَبَّاس وَشرع فِي بِنَاء الْقَاهِرَة والقصرين ثمَّ دخل الْمعز بِنَفسِهِ مصر لثمان بَقينَ من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة كَمَا سنذكر ذَلِك عِنْد فتح مصر فِي الْبَاب الثَّالِث الْمَعْقُود للدولة الفاطمية إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلما تغلب سبكتكين التركي وَهُوَ غُلَام معز الدولة وقويت شوكته ونفذت كَلمته وانضاف إِلَى ذَلِك مَا لحق الْمُطِيع من الفالج وَالْمَرَض خلع نَفسه طَائِعا من الْخلَافَة وَسلمهَا لوَلَده الطائع عبد الْكَرِيم وَقيل أَبُو بكر ولقبه الطائع لله وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة ثمَّ توفّي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَكَانَت خِلَافَته تسعا وَعشْرين سنة وَسِتَّة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وعمره تسع وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا
(خلَافَة الطائع لله)
عبد الْكَرِيم بن الْمُطِيع الْفضل بن المقتدر بن المعتضد بُويِعَ لَهُ بالخلافة وَالْأَمر مغلوب عَلَيْهِ وَمَا لَهُ إِلَّا الِاسْم لم يل الْخلَافَة من بني الْعَبَّاس أكبر سنا مِنْهُ كَانَ عمره حِين اسْتخْلف سبعا وَأَرْبَعين سنة وَلم يتقلد الْخلَافَة مِنْهُم من أَبوهُ حَيّ غَيره وَغير أبي بكر الصّديق فِي الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وعنهم وَلما ولي خلع على بكتكين التركي فولاه مَا وَرَاء بَابه وَفِي أَيَّامه استولى عضد الدولة على بَغْدَاد وملكها فَخلع عَلَيْهِ الطائع وَتوجه بتاج جَوْهَر وطوقة وسوَره وَعقد لَهُ لواءين بِيَدِهِ أَحدهمَا مفضض وَالْآخر مَذْهَب على رسم وُلَاة العهود وَلم يعْهَد هَذَا اللِّوَاء الثَّانِي لغيره وَأمر بِضَرْب الدبادب على بابة صبحاً ومغرباً وعشاء وَأَنه يخْطب لَهُ على مَنَابِر الحضرة وَذَلِكَ بعد محاربة عضد الدولة لِابْنِ عَمه عز الدولة ابْن معز الدولة وظفره بِهِ(3/495)
وَلما مَاتَ عضد الدولة قَامَ وَلَده بهاء الدولة بن عضد الدولة بتدبير المملكة بعد وَالِده فَخلع عَلَيْهِ الطائع وقلده مَا كَانَ قلد أَبَاهُ ثمَّ إِن بهاء الدولة أمسك الطائع واعتقله ونهبت دَار الْخلَافَة ثمَّ أشهد على الطائع بخلع نَفسه من الْخلَافَة وتسليمها إِلَى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْحَاق بن المقتدر وَكَانَ الْخلْع وَالْإِشْهَاد فِي شهر شعْبَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَأقَام مخلوعاً إِلَى أَن توفّي فِي لَيْلَة عيد الْفطر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته سبع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَتِسْعَة أَيَّام وَكَانَ عمره ثَلَاثًا وَخمسين سنة
(خلَافَة الْقَادِر بِاللَّه)
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر بن جَعْفَر بن المعتضد كَانَ رجلا صَالحا عَالما كثير التَّهَجُّد وَالصَّدقَات وصنف كتابَاً فِي فضل الصَّحَابَة وذم الروافض وَكَانَ يقْرَأ فِي الْمَسَاجِد والجوامع بُويِعَ بالخلافة لَيْلَة خلع الطائع نَفسه وَكَانَ غَائِبا فَقدم فِي عَاشر رَمَضَان وَجلسَ من الْغَد جلوسَاً عَاما وهنئ وَأنْشد الشّعْر بَين يَدَيْهِ وَمن ذَلِك قَول الشريف الرضي من قصيدة من // (الْكَامِل) //
(شَرَفُ الْخِلاَفَةِ يَا بَنِي الْعَبَّاسِ ... ألْيَوْمَ جَدَّدَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ)
(ذَا الطَّوْدُ أَبْقَاهُ الزَّمَانُ ذَخِيرَةً ... مِنْ ذَلِكَ الجَبَلِ العَظِيمِ الرَّاسِي)
يَحْكِي أَن فِي زَمَانه جِيءَ إِلَيْهِ بِرَجُل قامته ذِرَاع وَاحِد ولحيته شبران وأذناه فِي غَايَة الطول وَالْعرض المفرط دور الْوَاحِدَة أَرْبَعَة أَذْرع فطافوا بِهِ بَغْدَاد وَكَانَ من يَأْجُوج وَمَأْجُوج رمت بِهِ الرّيح من فَوق السد فأحضر الْقَادِر لَهُ أجناسَاً من التّرْك فَلم يفهموا كَلَامه وَاسْتمرّ الْقَادِر إِلَى أَن توفّي حادي عشر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين(3/496)
وَأَرْبَعمِائَة وَمُدَّة خِلَافَته إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر ويومان قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ كَانَ فِي عصر الْقَادِر رَأس الأشعرية الإِمَام الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني قلت هَذَا الإِمَام هُوَ جد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى جَامع هَذَا الْكتاب وَقد ذكره ابْن قُتَيْبَة وَغَيره بالسيادة وَشرف النِّسْبَة المحمدية الحسينية وَالْبَعْض الآخر لم يذكرهُ بسيادة وَشرف من المؤرخين لنسبه فَيحْتَمل صِحَة النِّسْبَة وَيكون من إِطْلَاق من أطلق اعْتِمَادًا على تَقْيِيد من قيد على أَن لي اتِّصَالًا لَا ريب فِيهِ بنسبه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من جِهَة الْأُم فأرجو بهما أَو بِهِ الْفَوْز الآخروي بِرِضا الله تَعَالَى على أَنِّي بِحَمْد الله متشرف بانتظامي فِي سلك وارثي علمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فرعا عَن أصل آصل سلسلة علم مَا فصلها بِحَمْد الله جَاهِل عُلَمَاء محققين فضلاء مدرسين وَإِن عريت عزائمي عَن ذَاك ومنيت أسبابي عَمَّا هُنَاكَ فَفِي ولائي لأهل يته ومحبتي وَحسن اعتقادي وخدمتي مَا يُقَوي قوى أمراس أملي وأطمع بِهِ أَن يمحي خطأ خطط خطلي وَرَأس المعتزله القَاضِي عبد الْجَبَّار وَرَأس الرافضة ابْن الْمعلم وَرَأس الكرامية مُحَمَّد بن الهيصم وَرَأس الْقُرَّاء أَبُو الْحسن الحمامي وَرَأس الْمُحدثين الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سعيد وَرَأس الصُّوفِيَّة أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ صَاحب كتاب مَنَاقِب الْأَبْرَار ومحاسن الأخيار وَرَأس الشُّعَرَاء أَبُو عَمْرو بن دراج وَرَأس الْكتاب المجودين ابْن البواب وَرَأس الْمُلُوك السُّلْطَان مَحْمُود بن سُبكتكين انْتهى وَزَاد السُّيُوطِيّ فَقَالَ وَرَأس الزَّنَادِقَة الْحَاكِم بِأَمْر الله العبيدي وَرَأس اللغويين إِسْمَاعِيل الْجَوْهَرِي وَرَأس النُّحَاة عُثْمَان بن جني وَرَأس البلغاء البديع الهمذاني وَرَأس الخطباء ابْن نباتة صَاحب الْخطب الْمَشْهُورَة وَرَأس الْمُفَسّرين أَبُو الْقَاسِم ابْن حبيب النَّيْسَابُورِي وَرَأس الْخُلَفَاء الْقَادِر بِاللَّه فَإِنَّهُ من أعلامهم تفقه وصنف ومدته فِي الْخلَافَة من أطول المدد(3/497)
(خلَافَة الْقَائِم بِأَمْر الله)
عبد الله بن الْقَادِر بِاللَّه أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد كَانَ خَيراً دينا فَاضلا صَالحا مَغْلُوبًا على أمره مُدَّة زَمَانه أمه أرمنية اسْمهَا قطر الندى أدْركْت خِلَافَته بُويِعَ بالخلافة يَوْم مَاتَ أَبوهُ الْقَادِر بِاللَّه وَكَانَت بيعَته بِحَضْرَة الْقُضَاة والأمراء والكبراء فَكَانَ أول من بايعة الشريف الرضي الموسوي وَأنْشد من // (المتقارب) //
(فَإِمَّا مَضَى جَبَلٌ وَانْقَضَى ... فمِنْكَ لَنَا جَبَلٌ قَدْ رَسَا)
(وَإِمَّا فُجِعْنَا بِبَدْرِ التِّمامِ ... فَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضُّحَى)
)
لَنَا حَزَنٌ مِنْ خِلاَلِ السُّرُورِ ... فَكَمْ ضَحِكٌ مِنْ خِلاَلِ البُكَا)
(فَيا صَارِمًا أَغْمَدَتْهُ يَدٌ ... لنَا بَعْدَك الصَّارِمُ المُنْتَضَى)
(وَلَمَّا حَضَرْنَاكَ عَقْدَ البَيَانِ ... عَرَفْنَا بِهَدْيِكَ طُرْقَ الهُدَى)
(فقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ المِشَيبِ ... كمَالاً وَسِنُّكَ سِنُّ الفَتَى)
واستوزر أَبَا طَالب مُحَمَّد بن أَيُّوب واستقصى ابْن مَاكُولَا الإِمَام الْمَشْهُور فِي أَيَّامه وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة كَانَ انْقِرَاض الدولة الديلمية دولة بني بويه وَكَانَت مدَّتهَا مائَة وسبعَاً وَعشْرين سنة وابتدأت دولة السلاطين السلجوقية قَالَ الذَّهَبِيّ وَآل سلجوق هم مُلُوك الرّوم وَقد امتدت أيامهم وَبَقِي مِنْهُم بَقِيَّة إِلَى زمن الْملك الظَّاهِر وَفِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِي خلَافَة الْقَائِم(3/498)
الْمَذْكُور كَانَ حريق جَامع دمشق الَّذِي كَانَ عمره الْوَلِيد بن عبد الْملك وكلفه وَقد تقدم ذكره عِنْد ذكر خلَافَة الْوَلِيد وَكَانَ حريقه فِي هَذِه السّنة وَسبب الْحَرِيق أَن غلْمَان الفاطميين والعباسيين اخْتَصَمُوا فِيمَا بَينهم فألقيت نَارا بدار الْملك وَهِي الخضراء بِجَانِب الْمَسْجِد من جِهَة الْقبْلَة فاحترقت وتعدى حريقها حَتَّى وصل إِلَى الْجَامِع فَسَقَطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة الني على جدرانه وتغيرت معالمه ومحاسنه وتبدلت بهجته بضدها وَقد كَانَت سقوفة مذهبَة مبطنة كلهَا والجملونات من فَوْقهَا وجدرانه بالفصوص المذهبة والملونة مُصَور فِيهَا جَمِيع بِلَاد الدُّنْيَا الْكَعْبَة وَمَكَّة فَوق الْمِحْرَاب والبلاد كلهَا شرقيها وغربيها كل فِي مَكَانَهُ اللَّائِق بِهِ وَفِيه كل شَجَرَة مثمرة وَغير مثمرة كل مُصَور فِي بلدانه وأوطانه والستور مرخاة على أبوابه النافذة إِلَى الصحن وعَلى أصل الْحِيطَان إِلَى مِقْدَار الثُّلُث مِنْهَا وَبَاقِي الجدران بالفصوص المذهبة والملونة وأرضه كلهَا بالفصوص الرخام الملون وَلم يكن فِي الدُّنْيَا بِنَاء أحسن مِنْهُ لَا قُصُور الْمُلُوك وَلَا غَيرهَا من دور الْخُلَفَاء وَغَيرهم ثمَّ لما وَقع هَذَا تبدل الْحَال الْكَامِل بضده وَصَارَت أرضه طيناً فِي الشتَاء غباراً فِي الصَّيف وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى تبلط فِي زمن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بعد الستمائة وَكَانَ جَمِيع مَا سقط من الرخام وَغَيره مستودعاً فِي الْمشَاهد الْأَرْبَعَة شرقيه وغربيه حَتَّى فرغها من ذَلِك القَاضِي كَمَال الدّين الشهرزوري فِي زمن الْملك الْعَادِل نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود بن زنكي حِين ولاه نظر الْأَوْقَاف كلهَا وَلم تزل الْمُلُوك تجدّد فِي محاسنة إِلَى زَمَاننَا هَذَا فتماثل حَاله فِي زمن الْأَمِير شكر بن عبد الله الناصري نَائِب الشَّام وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَأما الخضراء وَهِي دَار الْملك والإمارة فبادت وَصَارَت كوماً تُرَابا بَعْدَمَا كَانَت فِي غَايَة الإحكام والإتقان وَحسن الْبناء وَطيب الفناء فَهِيَ إِلَى يَوْمنَا هَذَا لَا يسكنهَا لرذالة مَكَانهَا إِلَّا سفلَةُ النَّاس وأسقاطهم بعد مَا كَانَت دَار الْملك والإمارة مُنْذُ أسسها مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان الْأمَوِي كَذَا فِي تَارِيخ ابْن السُّبْكِيّ وَكَانَ الْقَائِم بِأَمْر الله أَبيض مليح الْوَجْه مشربَاً بحمرة ورعاً زاهداً عابداً مرِيدا لقَضَاء حوائج الْمُسلمين موقرَاً لأهل الْعلم مُعْتَقدًا فِي الْفُقَرَاء(3/499)
وَالصَّالِحِينَ وَلم يقم أحد فِي الْخلَافَة إِقَامَته كَانَت مدَّته أربعَاً وَأَرْبَعين سنة وَثَمَانِية أشهر وَقيل خمسَاً وَأَرْبَعين سنة وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة لعشرة أَيَّام مَضَت من شعْبَان قَالَ ابْن السُّبْكِيّ افتصد الْقَائِم بِأَمْر الله يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة من ماشرا كَانَ يعتاده قلت ماشرا اسْم لعِلَّة نَعُوذ بِاللَّه من جَمِيع الْعِلَل ثمَّ نَام فانفجر فصاده فَاسْتَيْقَظَ وَقد سَقَطت كل قوته وَحصل الْيَأْس مِنْهُ فَدَعَا حفيده وَولي عَهده من بعده عُمْدَة الدّين أَبَا الْقَاسِم عبد الله بن مُحَمَّد ابْنه وأحضر إِلَيْهِ الْفُقَهَاء والنقباء وَأشْهد عَلَيْهِ ثَانِيًا بِولَايَة الْعَهْد لَهُ من بعده فَشَهِدُوا ثمَّ توفّي وَكَانَ عمره أربعَاً وَسبعين سنة وَثَمَانِية أشر وَثَمَانِية أَيَّام ومدته أَرْبعا وَأَرْبَعين سنة وَمُدَّة أَبِيه قبله إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة فمجموعهما خمس وَثَمَانُونَ سنة وَأشهر وَذَلِكَ مقارب لمُدَّة دولة بني أُميَّة كلهَا
(خلَافَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله)
هُوَ الْقَاسِم عُمْدَة الدّين عبد الله بن ذخيرة الدّين مُحَمَّد ابْن الْخَلِيفَة الْقَائِم عبد الله ابْن الْقَادِر أَحْمد بن الأْمير إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد بن الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بُويِعَ لَهُ بالخلافة يَوْم وَفَاة جده الْقَائِم بِأَمْر الله وَذَلِكَ أَنه لما افتصد استدعى ابْن ابْنه هَذَا عبد الله ولقبه الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله كَمَا تقدم ذكر ذَلِك فَلَمَّا مَاتَ جده الْقَائِم بِأَمْر الله الْمَذْكُور بُويِعَ بالخلافة يَوْم وَفَاته بِحَضْرَة الإِمَام الْوَلِيّ الشهير أبي إِسْحَاق(3/500)
الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي صَاحب كتاب التَّنْبِيه والمهذب وَغَيرهمَا أحد أَرْكَان أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ثمَّ إِن الْمُقْتَدِي جهز الإِمَام الْمَذْكُور إِلَى نسابور إِلَى جلال الدولة ملك شاه السلجوقي سفيراً لَهُ فِي خطْبَة ابْنَته فنجز الشّغل وناظر إِمَام الْحَرَمَيْنِ هُنَاكَ ثمَّ ودعه إِمَام الْحَرَمَيْنِ حَال خُرُوجه وَأخذ بركاب بغلته حَتَّى ركب وَكَانَ الْمُقْتَدِي قد بَايع بالعهد لوَلَده المستظهر بعده ثمَّ لما ولدت ابْنة ملك شاه من الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي ولدا أقبل ملك شاه يُرِيد بَغْدَاد وَأرْسل إِلَى الْمُقْتَدِي يلْزمه أَن يعْزل وَلَده المستظهر عَن ولَايَة عَهده وَيجْعَل ولي عَهده ابْن ابْنَته جَعْفَر مَكَانَهُ وَأَن يخرج من بَغْدَاد وَيَتْرُكهَا وَيذْهب إِلَى أَي بلد شَاءَ فَأرْسل الْمُقْتَدِي يتلطف بِهِ فِي ذَلِك فَأبى إِلَّا شدَّة وغلظة يُرِيد بذلك إِظْهَار التحكم والحيف على الْخَلِيفَة وَطلب الْخَلِيفَة الْإِمْهَال شهرا فَأبى وَقَالَ وَلَا سَاعَة فَأرْسل إِلَى وزيره فاستمهله لَهُ عشرَة أَيَّام فأمهله فَصَارَ الْخَلِيفَة يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل وَيَضَع خَدّه على التُّرَاب ويناجي حَضْرَة رب الأرباب يَدْعُو على ملك شاه فَاسْتَجَاب الله دعاءه فَهَلَك ملك شاه قبل مُضِيّ الْعشْرَة الْأَيَّام وَكَفاهُ الله تَعَالَى شَره وَمَا رَبك بظلام للعبيد وعدت هَذِه كَرَامَة للخليفة الْمُقْتَدِي وَهَذِه عُقبى كل ظَالِم ومعتدي ذكر أَن الْمُقْتَدِي قدم إِلَيْهِ طَعَام فَتَنَاول مِنْهُ ثمَّ غسل يَدَيْهِ وَهُوَ على أكمل حَال فِي جِسْمه وَنَفسه وَبَين يَدَيْهِ قهرمانته شمس النَّهَار فَقَالَ مَا هَذِه الْأَشْخَاص الَّذين دخلُوا على بِغَيْر إِذن فالتفتت فَلم تَرَ أحدا فَنَظَرت إِلَيْهِ فَوَجَدته قد تغير وَجهه وَاسْتَرْخَتْ يَدَاهُ وانحلت قواه وَسقط إِلَى الأَرْض فَإِذا هُوَ قد مَاتَ فَأَمْسَكت عَن الْبكاء واستدعت الْخَادِم فاستدعى الْوَزير أَبَا مَنْصُور فَبَكَيَا وأحضرا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُقْتَدِي وَكَانَ أَبوهُ الْمُقْتَدِي قد عهد إِلَيْهِ بالخلافة بعده فعزياه وهنأه وأخفى مَوته ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى توطأت الْبيعَة لِابْنِهِ أَحْمد ولقب بالمستظهر بِاللَّه كَانَت وَفَاة الْمُقْتَدِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمُدَّة خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر إِلَّا يَوْمَيْنِ وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية شهور(3/501)
(خلَافَة المستظهر بِاللَّه)
أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المتقدي بن مُحَمَّد الْقَائِم عبد الله بن الْقَادِر أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد بن الوفق طَلْحَة بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد بُويِعَ بعد موت وَالِده المتقدي وَأول من بَايعه الْوَزير أَبُو مَنْصُور بن جهير كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَحضر من الْعلمَاء الإِمَام الْغَزالِيّ والشاشي وَابْن عقيل وَبَايَعُوهُ يَوْمئِذٍ وَكَانَ كريم الْأَخْلَاق حَافِظًا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم فصيحا بليغا شَاعِرًا منطقيا من شعره // (من الْبَسِيط) //
(أَذَابَ حَر الْجَوَى فِي الْقَلْبِ مَا جَمُدَا ... يَوْمًا مَدَدْنَ عَلَى رَسْمِ الوَدَاعِ يَدَا)
(قَدْ أَخْلَفَ الوَعْدَ قَدْ شُغِفْتُ بِهِ ... مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفَى دَهَرًا بِمَا وَعَدا)
(إِنْ كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْدَ الحُبِّ فِي خَلَديِ ... مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلاَ عَايَنْتُهُ أَبَدَا)
حكى أَنه اجْتمع فِي زَمَانه فِي برج الْحُوت سِتَّة أنجم من السَّبْعَة السيارة مَا عدا زحل فَحكم المنجمون أَنه سَيظْهر طوفان كطوفان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام فتألم من ذَلِك المستظهر بِاللَّه وأحضر من المنجمين ابْن الفيلسوف وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَقَالَ فِي زمن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام اجْتمع فِي برج الْحُوت السَّبْعَة الأنجم بأكملها والآَن اجْتمع سِتَّة وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله لَكِن الَّذِي تدل عَلَيْهِ الدَّلَائِل وَلَيْسَ بقطعي أَنه سيجتمع المَاء من الْعَالم من طرقٍ شَتَّى فِي مَكَان وَاحِد فيغرقون فِي ذَلِك الْمحل فخافوا على بَغْدَاد لِاجْتِمَاع الْعَالم فِيهَا وَهِي فِي جنب شط النَّهر فوصل الْخَبَر أَن الْحجَّاج حِين نزلُوا فِي وَادي المناقب هجم عَلَيْهِم سيل جحاف فَغَرقُوا أَجْمَعِينَ فِي ذَلِك السَّيْل فتعجب من قرب التَّحْقِيق من قَوْله وَالْأَمر بيد الله تَعَالَى وسبحانه {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحد إِلا مَنِ اَرتضى مِن رَّسُولٍ} الْجِنّ 26 27 الْآيَة توفى المستظهر لَيْلَة الْخَمِيس للأربع وَعشْرين لَيْلَة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتى عشرَة وَخَمْسمِائة وَمُدَّة خِلَافَته خمس وَعشْرين سنة وَعشرَة أَيَّام وعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَأحد عشر شهرَاً وَأَرْبَعَة أَيَّام(3/502)
(خلَافَة المسترشد بِاللَّه)
الْفضل بن المستظهر أَحْمد بن الْمُقْتَدِي عبد الله بن مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْقَائِم بن عبد لله بن الْقَادِر بن أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد بُويِعَ يَوْم وَفَاة وَالِده المستظهر وَكَانَ شجاعاً دينا مشتغلاَ بِالْعبَادَة لم يل الْخلَافَة بعد المعتضد أشهم مِنْهُ أمه أم ولد اسْمهَا لبَابَة كَانَ شَدِيد الهيبة ذَا رَأْي ويقظة وهمة عالية ضبط الْأُمُور وَأَحْيَا مجد بني الْعَبَّاس وجاهد غير مرّة يحْكى أَن فِي زَمَانه سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة قبر الْخَلِيل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب على نَبينَا وَعَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وشوهدت أجسامهم الْمُبَارَكَة كَأَنَّمَا دفنُوا تِلْكَ السَّاعَة وَوجد عِنْدهم فِي الْموضع قناديل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغير ذَلِك ذكر ذَلِك فِي كتاب قلادة النَّحْر الْفَقِيه بالمخرمة كَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَمُدَّة خِلَافَته سبع عشر سنة وَسَبْعَة أشهر وَمن شعره قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(أَنَا الأَشْقَرُ المَوْعُودُ بِي فِي الملاَحِمِ ... وَمَنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مُزَاحِمِ)
فَكَانَ هَذَا التخيل من خيلاته الْفَاسِدَة فَإِنَّهُ مَا يملك من الدُّنْيَا وَلَا فنَاء دَاره خرج عَلَيْهِ الْملك مَسْعُود بن مُحَمَّد بن ملك شاه السلجوقي فَلم يُقَاتل مَعَه أحد فقاتل وَحده إِلَى أَن حمل أَسِيرًا فحبس وَذكر أهل التواريخ أَنه لما حبس رَأْي فِي مَنَامه كَأَن على يَده حمامة مطوقة وَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ خلاصك فِي هَذَا وَأَشَارَ إِلَى الْحَمَامَة فَلَمَّا أصبح حكى ذَلِك لِابْنِ سكينَة الإِمَام فَقَالَ لَهُ مَا أولته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ أولته بقول أبي تَمام // (من الْكَامِل) //
(هُنَّ الحَمَامُ فَإِنْ كَسَرْت عِيَافَةً ... مِنْ حائِهِنَّ فإِنَّهُنَّ حِمَامُ)(3/503)
وَلَا أرى أحلامي إِلَّا فِي حِمامي فَقتل بعد أَيَّام قَائِل وَقيل فِي كفيه قَتله غير ذَلِك فَقتل فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وعمره ثَلَاث أَرْبَعُونَ سنة وَأحد عشر شهرا
(خلَافَة الراشد بِاللَّه)
مَنْصُور بن المسترشد بن المستظهر بن الْمُقْتَدِي بُويِعَ لَهُ يَوْم وَفَاة أبيعه بِعَهْد مِنْهُ فَمَكثَ مَا شَاءَ الله ثمَّ وَقع بَينه وَبَين السُّلْطَان مَسْعُود بن مُحَمَّد قَاتل وَالِده فاستخدم الراشد أجنادا كثير وتهيأ للقائه فكاتب السُّلْطَان مَسْعُود أتابك زنكي وأرتغش كَبِير جند الراشد فَأَشَارَ إِلَيْهِ بالتوقف عَن الْمسير إِلَى الْملك مَسْعُود وَأَقْبل الْملك مَسْعُود بجيوشه فَدخل بَغْدَاد فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فنهب دور الْجند وَمنع من نهب الْبَلَد واستمال الرّعية وأحضر الْقُضَاة وَالشُّهُود فقدحوا فِي الراشد بِأَنَّهُ صدرت مِنْهُ سيرة قبيحة من سفك الدِّمَاء وارتكاب الْمُنْكَرَات وَفعل مَا لَا يجوز فعله وشهدوا عَلَيْهِ بذلك فَحكم قَاضِي الْقُضَاة بخلعه فخلعوه فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ الراشد قد هرب هُوَ وأتابك زنكي إِلَى الْموصل فَطَلَبه السُّلْطَان مَسْعُود فهرب إِلَى فَارس ثمَّ دخل أَصْبَهَان وحاصرها فتمرض هُنَاكَ فَوَثَبَ عَلَيْهِ جمَاعَة من الفداوية فَقَتَلُوهُ وَكَانَت مدَّته إِلَى أَن خلع سنة إِلَّا أَيَّامًا وعمره إِحْدَى وَعشْرين سنة وَقيل ثَلَاثُونَ سنة كَانَ شَابًّا أَبيض تَامّ الشكل شَدِيد الْبَطْش شُجَاع النَّفس كَرِيمًا جوادَاً فصيحاً قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب كَانَ للراشد الْحسن اليوسفي وَالْكَرم الْحَاتِمِي رَحمَه الله تَعَالَى(3/504)
(خلَافَة أبي عبد الله المقتفي)
مُحَمَّد بن المستظهر بن الْمُقْتَدِي وَهُوَ عَم الراشد قابله بُويِعَ لَهُ يَوْم خلع ابْن أَخِيه الراشد ولقب بالمقتفي وَسبب تلقيبه بِهَذَا أَنه رأى النَّبِي
قبل الْخلَافَة بأشهر فِي الْمَنَام وَهُوَ يَقُول لَهُ إِنَّه سيصل إِلَيْك هَذَا الْأَمر فاقتف بِي فَقَامَ بتدبير المملكة وَكَانَ بِيَدِهِ أَزِمَةُ الْأُمُور لَا يجْرِي فِي خِلَافَته أَمر وَإِن صغر إِلَّا بتوقيعه وَكتب بِيَدِهِ فِي أَيَّام خِلَافَته ثَلَاث ربعات وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة مشكور الدولة يرجع إِلَى فضل وَدين وعقل ورأي وسياسة جدد معالم الْإِمَامَة ومهد رسوم الْخلَافَة وامتدت أَيَّامه وَلم ير مَعَ سماحته ولين جَانِبه ورأفته بعد المعتصم خَليفَة مثله فِي شهامته وصرامته مَعَ مَا خص بِهِ من زهده وروعه وعبادته وَلم تزل جيوشه منصورةَ حَيْثُ يممت قَالَ الْعَلامَة بن الْجَوْزِيّ من أَيَّام المقتفي هَذَا عَادَتْ بَغْدَاد وَالْعراق إِلَى يَد الْخُلَفَاء وَلم يبْقى لَهُم مُنَازع وَقبل ذَلِك من دولة المقتدر إِلَى وقته كَانَ الحكم للمتغلبين من الْمُلُوك وَلَيْسَ للخليفة مَعَهم إِلَّا الِاسْم فَقَط وَمن سلاطين دولته سنجر صَاحب خرسان وَنور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب الشَّام الْمَعْرُوف بِنور الدّين الشَّهِيد وَفِي سنة أحد وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فِي خِلَافَته قَالَ ابْن الْأَثِير ظهر بِدِمَشْق الشَّام سَحَاب أسود فَاشْتَدَّ الظلام حَتَّى لَا يرى أحد أحدا ثمَّ نقشع وَظهر بعده سَحَاب أَحْمَر فتلونت السَّمَاء بلون النَّار ثمَّ بعد ذَلِك ظَهرت ربح عَظِيمَة عاصف تقلع الْأَشْجَار الْعَظِيمَة من أُصُولهَا(3/505)
وَفِي سنة خمس أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة من خِلَافَته أمْطرت السَّمَاء دَمًا أَحْمَر لَا يُنكر مِنْهُ شيءوكان ذَلِك الإمطار فِي بِلَاد نيسابور وَفِي قلادة النَّحْر فِي حوادث سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة من خلَافَة الْمَذْكُور كَانَت قصَّة أهل قَرْيَة المعلف وَهِي قَرْيَة بَين الكُدر والمهجم من أَعمال تهَامَة الْيمن وَفِي كِفَايَة المستبصر هما قَرْيَتَانِ اسْم أحمدهما معلف ولأخرى سحلة أرسل الله عَلَيْهِمَا سَحَابَة سَوْدَاء فِيهَا رجف وبرق وشعل نَار تلهب وريح فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك زَالَت عُقُولهمْ فألتجأ مِنْهُم قوم إِلَى الْمَسَاجِد فغشيهم الْعَذَاب فاحتملت الرّيح أصل القريتين من تَحت الثرى بمساكنهم بِمن فِيهَا من الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال وَالدَّوَاب فألتقتهم بمَكَان بعيد نَحْو خَمْسَة أَمْيَال من حَيْثُ احتملتهم فوجدوا حَيْثُ ألقتهم صرعى ولبعضهم أَنِين وهم صم وبكم وعمى فماتوا عَن آخِرهم يومهم نسْأَل الله السَّلَام والعافية لنا وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين وَكَانَ المقتفي محباً للْحَدِيث وسماعه معتنياً بِهِ وبالعلم مكرماً لأَهله وَلما دَعَا الإِمَام أَبَا مَنْصُور الجواليقي النَّحْوِيّ ليجعله أَمَام يُصَلِّي بِهِ الصَّلَوَات الْخمس دخل فَمَا زَاد على أَن قَالَ السَّلَام على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَكَانَ الطَّبِيب هبة الله بن صاعد ابْن التلميذ النَّصْرَانِي قَائِما فَقَالَ مَا هَكَذَا يسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ يَا شيخ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ الجواليقي وَقَالَ للمقتفي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سلامي هُوَ مَا جَاءَت بِهِ السّنة النَّبَوِيَّة وروى لَهُ خبرَاً فِي صُورَة السَّلَام ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو حلف حَالف أَن نَصْرَانِيّا أَو يَهُودِيّا لم يصل إِلَى قلبه نوع من أَنْوَاع الْعلم على الْوَجْه الْمُعْتَبر مَا لَزِمته كَفَّارَة الْحِنْث لِأَن الله تَعَالَى ختم على قُلُوبهم وَلم يفك خَتمه إِلَّا الْإِيمَان فَقَالَ المقتفي صدقت وأحسنت فَكَأَنَّمَا ألقم ابْن التلميذ حجرا مَعَ فَضله وغزارة علمه وأدبه وَتُوفِّي الْخَلِيفَة المقتفي يَوْم الْأَحَد ثَالِث ربيع الأول وَقبل الآخر وَقيل رَجَب سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة مُدَّة خِلَافَته خمس وَعشْرين سنة وَثَلَاثَة أشهر وَنصف وعمره سبع وَسِتُّونَ سنة وَقيل وَشهر وَاحِد(3/506)
(خلَافَة المستنجد بِاللَّه)
أَبُو المظفر يُوسُف ابْن المقتفي لأمر الله مُحَمَّد بن المستظهر أَحْمد بن الْمُقْتَدِي كَانَ أديباً فَاضلا أَهلا للخلافة بُويِعَ لَهُ يَوْم وَفَاة وَالِده أمه أم ولد حبشية اسْمهَا طَاوس حكى أَنه قبل أَن يسْتَخْلف رأى فِي مَنَامه أَن ملكا نزل من السَّمَاء فَكتب فِي كَفه خمس خاءات فَلَمَّا أصبح سَأَلَ الإِمَام مُحَمَّدًا الْغَزالِيّ أَو أَخَاهُ أَحْمد عَن تَعْبِير ذَلِك فَقَالَ وَالله أعلم أَنَّك ستلي الْخلَافَة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فَكَانَ كَذَلِك وَليهَا سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فالخاء الأولى للخلافة وَكَانَ مَوْصُوفا بِالْعَدْلِ والديانة أبطل المكوس وَقَامَ كل الْقيام على المفسدين روى أَنه سجن رجلا كَانَ يسْعَى بِالْفَسَادِ فِي النَّاس فجَاء إِلَيْهِ رجل وبذل فِيهِ عشرَة آلَاف دِينَار فَقَالَ المستنجد لَهُ أَنا أُعْطِيك عشرَة آلف دِينَار على آخر مثله تَأتِينِي بِهِ فأحبسه وأكفي النَّاس شَره وَله شعر متوسط مِنْهُ قَول فِي الْبُخْل // (من السَّرِيع) //
(وبَاخِلٍ أَشْعَلَ فِي بَيْتِه ... تَكرُّ مِنْهُ لَنَا شمْعَهْ)
(فَمَا جرَتْ مِنْ عيْنِهَا دَمْعَةٌ ... حَتى جَرَتْ مِنْ عيْنِهِ دَمْعَهْ)
وَقَوله // (من الْخَفِيف) //
(عيَّرَتْنِي بِالشَّيْبِ وهَوَ وقَارُ ... لَيْتَهَا عَيّرتْ بِما هُوَ عارُ)
(إِنْ تَكُنْ شَابتِ الذَّوَائِبُ مِنِّي ... فَالليَالِي تزِينُهَا الْأقْمارُ)
وَفِي سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَهِي السّنة الثَّالِثَة من خِلَافَته جرت الكائنة الغريبة وَهِي مَا ذكره الْعَلامَة السَّيِّد نور الدّين عَليّ السمهودي الْمدنِي فِي كِتَابه خُلَاصَة الوفا وَغَيره فَقَالَ إِن الْملك الْعَادِل نور الدّين رأى النَّبِي
فِي نَومه(3/507)
لَيْلَة ثَلَاث مَرَّات وَهُوَ يُشِير إِلَى رجلَيْنِ أشقرين يَقُول أنجدني من هذَيْن فَأرْسل إِلَى وزيره وتجهزا فِي بَيته ليلتهما على رواحل خَفِيفَة فِي عشْرين نَفرا وَصَحب مَالا كثيرَاً فَقدم الْمَدِينَة فِي سِتَّة عشر يومَاً فزار ثمَّ أَمر بإحضار أهل الْمَدِينَة بعد كتابتهم وَصَارَ يتَأَمَّل فِي كل ذَلِك تِلْكَ الصّفة إِلَى أَن انْقَضتْ النَّاس فَقَالَ هَل بَقِي أحد قَالُوا لم يبْق سوى رجلَيْنِ صالحَين عفيفين مغربيين يكثران الصَّدَقَة فطلبهما فرآهما الرجلَيْن اللَّذين أَشَارَ إِلَيْهِمَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَسَأَلَ عَن منزلهما فَأخْبر أَنَّهُمَا فِي رِبَاط بِقرب الْحُجْرَة الشَّرِيفَة فَأَمْسَكَهُمَا وَمضى إِلَى منزلهما فَلم ير غير ختمتين وكتباً فِي الرَّقَائِق ومالا كثيرَاً فَأثْنى عَلَيْهِمَا أهل الْمَدِينَة خيرا فبقى متردداً متحيراً فَرفع حَصِيرا فِي الْبَيْت فَرَأى سرداباً محفوراً يَنْتَهِي إِلَى صوب الْحُجْرَة فارتاعت النَّاس لذَلِك فَقَالَ لَهما السُّلْطَان أصدقاني وضربهما ضربا شَدِيدا فاعترفا بِأَنَّهُمَا نصرانيان بعثهما النَّصَارَى فِي زِيّ حجاج المغاربة وأمالوهما بِالْمَالِ الْعَظِيم ليتحيلا فِي الْوُصُول إِلَى الجناب الشريف وَنَقله وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَنزلَا قرب رِبَاطًا وصارا يحفران ليلاَ وَلكُل مِنْهُمَا محفظة جلد وَالَّذِي يجْتَمع من التُّرَاب يخرجانه فِي محفظتيهما إِلَى البقيع إِذا خرجا بعلة الزِّيَارَة فَلَمَّا قرب من الْحُجْرَة أرعدت السَّمَاء وأبرقت وَحصل رجف عَظِيم فَقدم السُّلْطَان صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا ظهر حَالهمَا بَكَى السُّلْطَان بكاء شَدِيدا وَأمر بِضَرْب رقابهما فقتلا تَحت الشباك الَّذِي يَلِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة الْمُسَمّى الْآن شباك الْجمال ثمَّ أَمر بإحضار رصاص عَظِيم وحفر خَنْدَقًا عظيمَاً إِلَى المَاء حول الْحُجْرَة الشَّرِيفَة كلهَا وأذاب ذَلِك الرصاص وملأ الخَنْدَق فَصَارَ حول الْحُجْرَة سور من رصاص إِلَى المَاء انْتهى وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ذكر صَاحب الْخَمِيس عَن شمس الدّين صَوَاب الْموصِلِي بواب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ والقائم بأَمْره بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَن جمَاعَة من الروافض وصلوا من حلب فأهدوا إِلَى أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة من الْأَمْوَال والجواهر مَا لم يخْطر ببال فَشَغلهُ ذَلِك وأنساه دينه والتمسوا مِنْهُ أَن يخرجُوا جَسَد أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا من عِنْد النَّبِي
فَلَمَّا غشيه من حب الدُّنْيَا والتشاغل بالأموال عَن الدّين وافقهم على ذَلِك قَالَ صَوَاب الْموصِلِي الْمَذْكُور فطلبني أَمِير الْمَدِينَة وَقَالَ إِن فِي هَذِه اللَّيْلَة يصل إِلَيْك(3/508)
كَذَا وَكَذَا من الرِّجَال فحين يصلونَ إِلَيْك سلم إِلَيْهِم مِفْتَاح الْحُجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وَلَا تتشاغل عَنْهُم وَإِلَّا أخذت مَا فِيهِ عَيْنَاك قَالَ صَوَاب فَأَخَذَتْنِي رعدة ودهشة وَلَا أَدْرِي إلامَ يَئُول الْأَمر فانتظرت فَلَمَّا كَانَ نصف اللَّيْل أقبل أَرْبَعُونَ رجلا فَدَخَلُوا من بَاب السَّلَام فَسلمت إِلَيْهِم مِفْتَاح الْحُجْرَة المطهرة فَإِذا مَعَهم المقاحف والمكاتل وآلات الْحفر فَعرفت مُرَادهم وَغَابَ حسى من الهيبة النَّبَوِيَّة ثمَّ سجدت لله وَجعلت أبْكِي وأتضرع فَمَا نظرت إِلَّا وَقد انشقت الأَرْض واشتملتهم بِجَمِيعِ مَا مَعَهم من آلَات الْحفر والتأمت لساعتها وَذَلِكَ عِنْد الْمِحْرَاب العثماني فسجدت شكرا لله فَلَمَّا استبطأ الْأَمِير الْخَبَر أرسل لي رَسُولا فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْت فطلبني عَاجلا فوصلت إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ مثل الواله فَسَأَلَنِي مشافهة فحققت لَهُ مَا رَأَيْت فَقَالَ إِن خرج مِنْك هَذَا الْأَمر قتلتك فَلم أزل ساكتاً عَن بَث هَذَا الْأَمر مُدَّة حَيَاة ذَلِك الْأَمِير خوفًا مِنْهُ وَتُوفِّي المستنجد يَوْم السبت ثَالِث ريع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمُدَّة خِلَافَته اثْنَتَا عشرَة سنة إِلَّا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ وعمره سبع وَأَرْبَعُونَ سنة وَقيل تسع وَأَرْبَعُونَ وَشهر وَكَانَ أسمر طَوِيل اللِّحْيَة وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ من الْخُلَفَاء قَالَ فِيهِ بعض الأدباء من // (الْبَسِيط) //
(أَصْبَحْتَ لُبَّ بَنِي العَبَّاسِ كُلِّهِمُ ... إِنْ عُدِّدتْ بِحِسَابِ الجُمَّلِ الخُلَفَا)
(خلَافَة المستضييء بِنور الله)
أبي مُحَمَّد الْحسن بن المستنجد بُويِعَ لَهُ بالخلافة يَوْم موت أَبِيه المستنجد وخطب لَهُ بالديار المصرية واليمن وَكَانَت الْخطْبَة مُنْقَطِعَة مِنْهُمَا فِي زمن الْمُطِيع العباسي عِنْد اسْتِيلَاء الْمعز الفاطمي على مصر وَكَانَ المستضيء جواداً كريمَاً مؤثرَاً للخير كثير الصَّدقَات سخياً محيياً للسّنة أمنت الْبِلَاد فِي زَمَانه وأبطل مظالم كَثِيرَة واحتجب عَن أَكثر النَّاس فَلم يكن يركب إِلَّا مَعَ مماليكه وَلم يكن يدْخل عَلَيْهِ غير الْأَمِير قيماز(3/509)
قَالَ الذَّهَبِيّ وَلم يل الْخلَافَة أحد اسْمه الْحسن بعد الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا غير هَذَا وَوَافَقَهُ فِي الكنية أَيْضا وَمِمَّا نظمه الْعِمَاد الْكَاتِب حِين جَاءَت الْبشَارَة بخلافة المستضيء وَهُوَ بِأَرْض الْموصل قَوْله من // (الْخَفِيف) //
(قد أضاءَ الزمانُ بالمُسْتَضِيِّ ... وارثِ البُرْدِ وابْنِ عَمِّ النبِيِّ)
(جاءَ بِالحقِّ والشريعةِ والعَدْلِ ... فيا مرْحَبًا بِهَذَا المَجِيِّ)
(فهنيئَاً لأهْلِ بغدادَ فازوا ... بعد بؤسَى بكلِّ عيشٍ هنىِّ)
وَكَانَ مَرضه بالحمى ابْتَدَأَ بهَا يَوْم عيد الْفطر فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت سلخ شَوَّال سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة توفّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَمَان سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَثَمَانِية وَعشْرين يَوْمًا وَقيل تسع سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وعمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة
(خلَافَة النَّاصِر لدين الله)
أَحْمد بن المستضيء حسن بن المستنجد يُوسُف بن المقتفي لأمر الله مُحَمَّد بن المستظهر بن الْمُقْتَدِي كَانَت فِيهِ شهامة وصرامة وإقدام وعقل ودهاء وَكَانَ مستقلاُّ بِأُمُور الْملك بالعراق مُتَمَكنًا طَالَتْ أَيَّامه وَكَانَت لَهُ دسائس وعيون عِنْد كل أحد من الْأُمَرَاء والعظماء والسلاطين والحكام من الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة حَتَّى كَانَ يظنّ أَن لَهُ اطلاعاً على المغيبات بُويِعَ بالخلافة بعد موت وَالِده وعمره ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة فَبسط الْعدْل وَأمر بإراقة الْخُمُور وَكسر الملاهي وَإِزَالَة المكوس والضرائب فعمر الْبِلَاد وَبسط الأرزاق وقصدت النَّاس بَغْدَاد وتبركوا بِهِ وَفِي أَيَّامه ظُهُور صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب واستخلاصه بَيت الْمُقَدّس من الفرنج واستيلاؤه على مصر وَإِزَالَة دولة الفاطميين عَنْهَا فَخَطب بهَا للناصر العباسي كَمَا سنذكر ذَلِك عِنْد ذكرهم(3/510)
وَفِي أَيَّامه مَاتَ السُّلْطَان طغرلبك شاه بن أرسلان بن طغرلبك بن مُحَمَّد بن ملك شاه وَهُوَ آخر مُلُوك الدولة السلجوقية وَكَانَ عدتهمْ نيفاً وَعشْرين ملكا أَوَّلهمْ طغرلبك الَّذِي أعَاد الْخَلِيفَة الْقَائِم إِلَى بَغْدَاد وَمُدَّة دولتهم مائَة وَسِتُّونَ سنة وطالت أَيَّامه فأحيا رسوم الْخلَافَة وامتلأت الْقُلُوب بهيبته وَكَانَ ذَا فكر صائب وَكَانَت أَيَّامه من غرر الزَّمَان وَهُوَ الَّذِي وَقع للشريف قَتَادَة بن إِدْرِيس صَاحب مَكَّة مَعَه تِلْكَ الْوَاقِعَة حِين استدعاه وسأذكرها إِن شَاءَ الله فِي الخاتمة عِنْد ذكر الشريف قَتَادَة وَكَانَ لَهُ إِحْسَان على أهل الْحَرَمَيْنِ وَكَانَت الْكَعْبَة الشَّرِيفَة تُكسَى الديباج الْأَبْيَض زمن الْمَأْمُون إِلَى آخر أَيَّام النَّاصِر هَذَا فكساها الديباج الْأسود وَاسْتمرّ إِلَى زَمَاننَا هَذَا قَالَ فِي قلادة النَّحْر نقلا عَن الْعِمَاد الْكَاتِب فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فِي خلَافَة النَّاصِر العباسي أجمع المنجمون على اجْتِمَاع الْكَوَاكِب السَّبْعَة فِي برج الْمِيزَان وَيدل ذَلِك على خراب الْعَالم وَأَن تهب ريح مثل ريح قوم عَاد وعينوا الِاجْتِمَاع فِي لَيْلَة نصف شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفرق الْمُلُوك فَحَفَرُوا حفائر ونقلوا إِلَيْهَا المَاء والزاد قَالَ فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي عينوها جلسنا عِنْد السُّلْطَان والشموع تتقد فَلم يَتَحَرَّك اللهب مِنْهَا وَلم تَرَ لَيْلَة مثلهَا فِي ركود رِيحهَا وسكونها وَلَكِن ظهر بعد ذَلِك أَن سُلْطَان التتار خرج فِي تِلْكَ اللَّيْلَة من تِلْكَ السّنة فَكَانَ مِنْهُ مَا كَانَ من الْفساد وعاث فِي أَكثر الْبِلَاد وأفنى خلقا من الْعباد حَتَّى قتل الْخَلِيفَة العباسي المستعصم بِاللَّه بِبَغْدَاد كَمَا سأذكر قصَّته على أتم الْأَحْوَال وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة أمْطرت السَّمَاء يَوْمًا وَلَيْلَة رَمَادا وأظلمت الدُّنْيَا وَعجز النَّاس عَن اطراق الطّرق إِلَى بُيُوتهم من الْأَسْوَاق وَذَلِكَ بِمَدِينَة زبيد بِالْيمن وَوَقعت بردة فِي أَسْفَل وَادي مور من بِلَاد تهَامَة طولهَا مائَة وَسِتُّونَ ذِرَاعا وعرضها عشرَة أَذْرع وسمكها نَحوا من قامتين فَلَمَّا ذَابَتْ سقى بِمَائِهَا أَربع قطع من الأَرْض فِي ذَلِك الْموضع(3/511)
وَكَانَ النَّاصِر فِي أَكثر اللَّيْل يشق الدروب والأسواق وَكَانَ النَّاس يتهيئون للقائه وَهُوَ أطول بني الْعَبَّاس خلَافَة كَانَت مدَّته سِتا وَأَرْبَعين سنة وَقيل سبعا وَأَرْبَعين وَكَانَت وَفَاته سلخ شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة أَصَابَهُ فِي آخر عمره الفالج فَبَقيَ مَعَه سنتَيْن وَذَهَبت عينه ثمَّ مَاتَ فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وعمره سَبْعُونَ سنة إِلَّا شهرا كَانَ تركي الْوَجْه أقنى الْأنف خَفِيف العارضين أشقر اللِّحْيَة رَقِيق المحاسن رَحمَه الله تَعَالَى
(خلَافَة الظَّاهِر بِأَمْر الله)
أبي نصر مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي كَانَ من أهل الْوَرع وَالدّين تَابعا للشَّرْع اتّفق أهل النَّفْل أَنه مَا جَاءَ أحد بعد عمر بن عبد الْعَزِيز مثله فَإِنَّهُ أَحْيَا سنة العمرين وَسَار بسيرتهما فَأَعَادَ الْأَمْوَال الْمَغْصُوبَة والأملاك الْمَأْخُوذَة فِي أَيَّام أَبِيه وَمن قبله إِلَى أَهلهَا وَأظْهر الْعدْل وأزال المكس وَكَانَ الْعمَّال تكيل للديوان يَكِيل زَائِد على مَا يكيلون بِهِ للنَّاس فَأبْطل ذَلِك وَكتب إِلَى وزيره {وَيل للمُطَفِفِينَ} إِلَى قَوْله {لِرَبِ اَلعَاَلمِينَ} المطففين 1 - 6 فَقَالَ لَهُ الْوَزير تفَاوت الْكَيْل ينوف على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار فَقَالَ لَهُ أبْطلهُ وَلَو أَنه ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وَفرق لَيْلَة عيد النَّحْر على الْفُقَهَاء مائَة ألف دِينَار فلامه وزيره على ذَلِك فَقَالَ اتركني أفعل الْخَيْر فَإِنِّي لَا أَدْرِي كم أعيش وَلم يَمْتَد زَمَانه وَكَانَ فِي أضق عَيْش فَقَالُوا لَهُ إشفاقاً لحاله لم لَا تتوسع فِي المأكل وَالْمشْرَب والرزق فَقَالَ من فنح الْحَانُوت بعد الْعَصْر فحاله مَعْلُوم فِي البيع وَالشِّرَاء توفّي فِي شهر رَجَب سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَلما توفّي اتّفق خُسُوف الْقَمَر(3/512)
فِي تِلْكَ السّنة مرَّتَيْنِ فجَاء ابْن الْأَثِير رَسُولا من صَاحب الْموصل برسالة فِي التَّعْزِيَة أَولهَا مَا اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يعتذران وَقد عظم حادثهما وَمَا للشمس وَالْقَمَر لَا ينكسفان وَقد فقد ثالثهما من // (الطَّوِيل) //
(فيا وَحْشَةَ الدنْيَا وكانَتْ أنسيةً ... ووحدةَ مَنْ فِيهَا لِمَصْرَع واحدِ)
وَهُوَ سيدنَا ومولانا الإِمَام الظَّاهِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي جعلت ولَايَته رَحْمَة للْعَالمين إِلَى آخر رِسَالَة ذكرهَا السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَت مدَّته عشرَة أشهر وأياماً وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة وَقيل وَخَمْسُونَ وَسِتَّة أشهر
(خلَافَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه)
أبي جَعْفَر مَنْصُور بن الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن المستضيء الْحسن بن المستنجد يُوسُف بن المقتفي مُحَمَّد بن المستظهر بن الْمُقْتَدِي بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد موت أَبِيه الظَّاهِر فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة فنشر الْعدْل وبذل الْإِنْصَاف وَقرب أهل الْعلم وَالدّين وَبني الْمَسَاجِد والربط والمدارس وَأقَام منار الدّين وقمع المتمردين وَنشر السّنَن وكفَ الْفِتَن وَحمل النَّاس على أقوم سنَن وَحفظ الثغور وافتتح الْحُصُون وَاجْتمعت الْقُلُوب على محبته والألسن على مدحته وَلم يجد أحد من المتعنتة فِيهِ معاباً وَكَانَ جده النَّاصِر يقربهُ ويسميه القَاضِي لهديه وعقله وإنكار مَا يجده من الْمُنكر قَالَ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ كَانَ الْمُسْتَنْصر رَاغِبًا فِي فعل الْخَيْر مُجْتَهدا على أَعمال الْبر وَله فِي ذَلِك آثَار جميلَة وَهُوَ الَّذِي أنشأ المستنصرية الَّتِي لم يبن مثلهَا فِي مدارس الْإِسْلَام وَلم يُوجد فِي الْمدَارِس أَكثر كسباً مِنْهَا وَلَا أَكثر أوقافاً عَلَيْهَا ورتب فِيهَا الرَّوَاتِب الْحَسَنَة لأهل الْعلم(3/513)
وَقَالَ ابْن وَاصل بناها على دجلة من الْجَانِب الشَّرْقِي وَهِي بأَرْبعَة مدرسين على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَعمل فِيهَا مارستاناً ورتب فِيهَا مطبخاً للفقهاء ومزملة للْمَاء الْبَارِد ورتب لبيوت الْفُقَهَاء الْحصْر والبسط وَالزَّيْت وَالْوَرق والحبر ورتب فِيهَا الْخبز وَاللَّحم والحلوى والفواكه وَكِسْوَة الشتَاء وَكِسْوَة الصَّيف وَجعل فِيهَا ثَلَاثِينَ يَتِيما ووقف على ذَلِك ضيَاعًا وقرى كَثِيرَة سردها الذَّهَبِيّ وَغَيره وَلكُل فَقِيه فِي الشَّهْر دِينَار وَشرع فِي عمارتها سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وأتمها فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَنقل إِلَيْهَا من الْكتب النفيسة وعدة فقهائها مِائَتَان وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ فَقِيها من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَشَيخ حديثٍ وَشَيخ نَحْو وَشَيخ طب وَشَيخ فَرَائض وَكَانَ غلال مَا وقف عَلَيْهِمَا فِي كل عَام نيفاً وَسبعين ألف مثقالِ ذَهَبا وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَمر الْمُسْتَنْصر بِضَرْب الدَّرَاهِم الفضية ليعامل بهَا بَدَلا عَن قراضة الذَّهَب فَجَلَسَ الْوَزير وأحضر الْوُلَاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ عَلَيْهَا الدَّرَاهِم وَقَالَ الْوَزير قد رسم مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بمعاملتكم بِهَذِهِ الدَّرَاهِم عوضا عَن قراضة الذَّهَب رفقَاً بكم وإنقاذَاً لكم من التَّعَامُل بالحرام وَمن الصّرْف الرِّبَوِيّ فأعلنوا الدُّعَاء لَهُ ثمَّ أديرت وسعرت كل عشرَة دَرَاهِم بِدِينَار فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْقَاسِم بن أبي الحويل فِي ذَلِك أبياتاً من // (الْخَفِيف) //
(لَا عَدِمْنَا جميلَ رأيَكَ فِينَا ... أَنْتَ باعَدتَّنَا عَنِ التَّطفيفِ)
(ورسَمْتَ اللُّجَينَ حَتَّى أَلِفْنَاهُ ... وَمَا كَانَ قَبْلُ بالمألوفِ)
(لَيْسَ للجَمْعِ كَانَ منْعُكَ للصَّرْفِ ... ولكنْ للعَدْلِ والتعريفِ)
قلت تَأمل بَيته الْأَخير فَمَا ألطفه وَمن مناقبه أَن الْوَجِيه القيرواني امتدحه بقصيدة يَقُول فِيهَا من // (الْكَامِل) //
(لَو كُنْت فِي يومِ السقيفةِ حَاضرا ... كُنْتَ المقدَّمَ والإمامَ والأَوْرَعَا)
فَقَالَ لَهُ قَائِل بِحَضْرَتِهِ أَخْطَأت قد كَانَ حَاضرا الْعَبَّاس جد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم يكن الْمُقدم إِلَّا أَبُو بكر فَأقر ذَلِك الْمُسْتَنْصر وخلع على الْقَائِل ثمَّ أَمر بِنَفْي الْوَجِيه(3/514)
فَخرج إِلَى مصر كَذَا قَالَه الذَّهَبِيّ قلت الْعَبَّاس رَضِي تَعَالَى عَنهُ لم يحضر السَّقِيفَة فالرد مَرْدُود على أَن قَول الشَّاعِر حَاضر لَا يلْزم مِنْهُ حُضُوره عِنْد السَّقِيفَة حَتَّى يرد مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل بل مُرَاده حُضُوره أَي وجوده فِي ذَلِك الزَّمن يَعْنِي زمن اجْتِمَاعهم فِي السَّقِيفَة لَا حُضُور نفس الِاجْتِمَاع فِيهَا وَكَانَت مدارس بَغْدَاد يضْرب بهَا الْمثل فِي ارْتِفَاع الْعِمَاد وإتقان المهاد وَطيب المَاء ولطف الْهَوَاء ورفاهية الطلاب وسعة الطَّعَام وَالشرَاب وَأول مدرسة بنيت فِي الدُّنْيَا مدرسة نظام الْملك فَلَمَّا سمع عُلَمَاء مَا وَرَاء النَّهر هَذَا الْخَبَر اتَّخذُوا ذَلِك الْعَام مأتماً وحزنوا على سُقُوط حُرْمَة الْعلم فَقَالُوا حِين سئلوا عَن ذَلِك إِن للْعلم ملكة شريفة لَا تطلبها إِلَّا النُّفُوس الشَّرِيفَة بجاذب الشّرف الذاتي فَلَمَّا جعلت عَلَيْهِ الأجور تطلبته النُّفُوس الرذلة لتجعله مكسباً وسلمَا لحطام الدُّنْيَا لَا لتَحْصِيل شرف الْعلم بل لتَحْصِيل المناصب الدُّنْيَوِيَّة الأسفلية الفانية فيرذل الْعلم لرذالتهم وَلَا يشرفون بشرفه أَلا ترى إِلَى علم الطِّبّ فَإِنَّهُ مَعَ كَونه شريفاً لما تعاطاه الْيَهُود وَالنَّصَارَى رذل برذالتهم وَلم يشرفوا بشرفه وَهَذَا حَال طلبة الْعلم فِي هَذَا الزَّمَان الْفَاسِد كَذَا فِي الْأَعْلَام قلت قد كَانَ هَذَا قبل وَأما الْيَوْم فَلَا طلب وَلَا مَطْلُوب وَلَا رَغْبَة وَلَا مَرْغُوب نسْأَل الله اللطف وَحسن الخاتمة وَمن جملَة خدام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْأَمِير شرف الدّين وإقبال الشرابي المستنصري وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَقع بِالْيمن مطر عَظِيم عَمه جميعَاً وَكَانَ فِيهِ برد عَظِيم قتل من الدَّوَابّ والوحوش شَيْئا كثيرا وَنزلت فِيهِ بردة كالجبل الصَّغِير لَهَا شناخيب يزِيد كل وَاحِد مِنْهَا على ثَلَاثَة أَذْرع وَقعت فِي مفازة من بِلَاد سنحان وزراحة وَذَلِكَ بمرحلتين بمسير الْجمال عَن صنعاء فَغَاب فِي الأَرْض أَكْثَرهَا وَكَانَت يَدُور حولهَا عشرُون رجلا فَلَا يرى بَعضهم يعضا وبشاذروان الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فِي وسط مصلى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهِي الحفيرة الْمُسَمَّاة الآَن بالمعجنة حجر من الرخام الْأَزْرَق ومنقور فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَمر بعمارة هَذَا(3/515)
المطاف الشريف وَذكر اسْمه وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وآَله انْتهى وَهَذَا الْحجر بَاقٍ إِلَى يَوْمنَا ثمَّ توفّي الْمُسْتَنْصر لعشر بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَكَانَت خِلَافَته سِتّ عشرَة سنة وَعشرَة أشهر وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر رَحمَه الله تَعَالَى
(خلَافَة المستعصم بِاللَّه)
أبي أَحْمد عبد الله بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه مَنْصُور بن الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد هُوَ آخر الْخُلَفَاء العباسيين بالعراق أمه أم ولد حبشية اسْمهَا هَاجر بُويِعَ لَهُ بالخلافة عِنْد موت أَبِيه الْمُسْتَنْصر كَانَ لينًا هينَاً قَلِيل الرَّأْي بعيد الْفَهم فوض جَمِيع أُمُوره إِلَى وزيره مؤيد الدّين بل مدمر الدّين ابْن العلقمي الرافضي فَكَانَ سَبَب هَلَاكه وَزَوَال ملكه كَمَا سَيَأْتِي ذكره وَكَانَ للمستنصر أَبِيه ابْنَانِ أَحدهمَا يُسمى بالخفاجي كَانَ شَدِيد الرَّأْس شَدِيد الرَّأْي شجاعاً صَعب المراس وَالثَّانِي هَذَا المستعصم وَكَانَ هيناً لينًا ضَعِيف الرَّأْي فاختاره الْأَمِير الشرابي على أَخِيه الخفاجي ليستبد هُوَ بِالْأَمر ويستقل بأحوال الْملك فَإِنَّهُ لَا يخشاه كَمَا يخْشَى من أَخِيه الخفاجي فَلَمَّا توفّي الْمُسْتَنْصر أخْفى الْأَمِير إقبال مَوته نَحوا من عشْرين يومَاً حَتَّى دبر الْولَايَة للمستعصم وبويع لَهُ بالخلافة ففر أَخُوهُ الخفاجي إِلَى العربان وتلاشى أمره وَفِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين بنى إقبال الشرابي مدرسة بِمَكَّة على يَمِين الدَّاخِل من بَاب السَّلَام إِلَى الْمَسْجِد ورباطَاً فِيهِ عدَّة خلاوي ووقف بِالْمَدْرَسَةِ كتبا ذهبت شذر مذر إِلَّا قَلِيلا والمدرسة بَاقِيَة إِلَى الْآن وعلوها مجلسان مطلان على بَاب السَّلَام وَبهَا كتب وَقفهَا بعض أهل الْخَيْر مِمَّن أدركناه رَحِمهم الله تَعَالَى كَذَا فِي(3/516)
الْأَعْلَام للقطب النهروالي نِسْبَة إِلَى نهروالا قَرْيَة من قرى الْهِنْد أَو الْعَجم وَفِي موسم السّنة الْمَذْكُورَة حجت وَالِدَة المستعصم بِاللَّه وَهِي أم ولد حبشية اسْمهَا هَاجر كَمَا تقدم وَكَانَ فِي خدمتها الْأَمِير إقبال الشرابي الدوادار وَمَعَهُ سِتَّة آلَاف خلعة وَتصدق بِنَحْوِ سِتِّينَ ألف دِينَار وعدت جمال ركب أهل بَغْدَاد تِلْكَ السّنة فَكَانَت فَوق مائَة وَعشْرين ألف بعير ثمَّ عَادَتْ إِلَى بَغْدَاد وَفِي سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة كَانَ ظُهُور النَّار قَالَ أَبُو شامة فِي كتاب الروضتين جَاءَنَا كتب من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِيهَا لما كَانَت لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة ظهر بِالْمَدِينَةِ دوِي عَظِيم ثمَّ زَلْزَلَة عَظِيمَة فَكَانَت سَاعَة بعد سَاعَة إِلَى خَامِس الشَّهْر الْمَذْكُور فظهرت نَار عَظِيمَة فِي الْحرَّة الشرقية قريبَاً من قُرَيْظَة نرَاهَا من دُورنَا من دَاخل الْمَدِينَة كَأَنَّهَا عندنَا وسالت أَوديَة مِنْهَا وَادي شظا سيل المَاء وطلعنا نقصدها فَإِذا الْجبَال تسير نَارا وسارت هَكَذَا وَهَكَذَا كَأَنَّهَا الْجبَال وطار مِنْهَا شرر كالقصر وفزع النَّاس إِلَى الْقَبْر الشريف مستغفرين تَائِبين واستمرت هَكَذَا أَكثر من شهر وَقَالَ الذَّهَبِيّ كَانَت تدب دَبِيب النَّمْل وَكَانَت تحرق كل مَا مرت عَلَيْهِ من الْحِجَارَة وَغَيرهَا فَكَانَت الْحِجَارَة تذوب كَمَا يذوب الرصاص وَكَانَت لَا تحرق أَشجَار الْمَدِينَة على مشرفها الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ نسَاء الْمَدِينَة يغزلن على ضوئها ثمَّ انطفأت بعد مُدَّة قريبَة من شهر وَمَعَ ذَلِك مَا كَانَ لَهَا حرارة وَمَا كَانَت تُؤثر فِيمَن وصل إِلَيْهَا ذكر أَن أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أرسل رجلَيْنِ ليتحققا أَمر هَذِه النَّار فَلَمَّا وصلا إِلَى قربهَا وَشَاهدا عدم حَرَارَتهَا تقربا إِلَيْهَا حَتَّى إِن أَحدهمَا أخرج نشاباً فَأدْخلهُ النَّار فذاب نصله وَلم يَحْتَرِق الْعود فَقلب النشاب وَأدْخلهُ النَّار فَاحْتَرَقَ الريش وَلم يَحْتَرِق الْعود لِأَن السِّهَام كَانَت من أَشجَار الْمَدِينَة وَذَلِكَ من معجزاته عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام قَالَ اليافعي فِي تَارِيخه وَهَذِه النَّار هِيَ الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله
فَقَالَ تظهر فِي آخر الزَّمَان نَار شَرْقي الْمَدِينَة تضيء لَهَا أَعْنَاق الْإِبِل ب بصرى من أَرض(3/517)
الشَّام قلت الَّذِي ذكره الْحَافِظ الذَّهَبِيّ أَن لفظ الحَدِيث لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تخرج نَار بِأَرْض الْحجاز تضيء لَهَا أَعْنَاق الْإِبِل ب بصرى ثمَّ قَالَ وَأمر هَذِه النَّار متواتر وَهُوَ مصداق مَا أخبر بِهِ الْمُصْطَفى
وَقد حكى غير وَاحِد مِمَّن كَانَ ب بصرى أَنه رأى فِي اللَّيْل أَعْنَاق الْإِبِل فِي ضوئها والصادق لَا ينْطق عَن الْهوى
ثمَّ كَانَ أَن مؤيد الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْملك صَار وَزِير المستعصم وَكَانَ رَافِضِيًّا سباباً مستولياً على المستعصم عدوا لَهُ وَلأَهل السّنة يداريهم فِي الظَّاهِر وينافقهم فِي الْبَاطِن وَكَانَ دائراً على طمس آثَار السّنة وإعلاء منار الْبِدْعَة فَصَارَ يُكَاتب هولاكو قَائِد التتار ويطعمه فِي ملك بَغْدَاد ويخبره بأخبارها ويعرفه بِصُورَة أَخذهَا وبضعف الْخَلِيفَة وبانحلال الْعَسْكَر عَنهُ وَصَارَ يحسن للمستعصم توفير الخزائن وَعدم الصّرْف على الْعَسْكَر وَالْإِذْن لَهُم فِي الذّهاب أَيْن شَاءُوا وَيقطع أَرْزَاقهم ويشتت شملهم بِحَيْثُ إِنَّه أذن مرّة لعشرين ألف مقَاتل فَذَهَبُوا ووفر علوفاتهم من الخزانتين وَكَانَ التتار جائلين فِي الأَرْض يقتلُون وَيَأْسِرُونَ ويخربون الديار ونارهم فِي غَايَة الاشتعال والاستعار والمستعصم وَمن مَعَه فِي غَفلَة عَنْهُم إخفاء ابْن العلقمي عَنهُ سائْر الْأَخْبَار إِلَى أَن وصل هولاكو خَان إِلَى بِلَاد الْعرَاق واستأصل من بهَا قتلاَ وأسراً وَتوجه إِلَى بَغْدَاد وَأرْسل إِلَى الْخَلِيفَة يَطْلُبهُ فَاسْتَيْقَظَ من نوم الْغرُور وَنَدم على غفلته حَيْثُ لَا ينفع النَّدَم وَجمع من قدر عَلَيْهِ وبرز إِلَى قِتَاله وَجمع من أهل بَغْدَاد خاصته وَمن عبيده وخدامه مَا يُقَارب أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل لكِنهمْ مرفهون بلين المهاد وساكنون على شط بَغْدَاد فِي ظلّ ثخين وَمَاء معِين وفاكة وشراب واجتماع أحباب مَا كابدوا حربَاً وَلَا ذاقوا طَعنا وَلَا ضربا وعساكر الْمغل ينوفون على مائَة ألف مقَاتل فَوَقع التصاف والتحم الْقِتَال وزحف الْخَمِيس إِلَى الْخَمِيس يَوْم الْخَمِيس عَاشر محرم سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وصبر أهل بَغْدَاد(3/518)
على حر السيوف صَبَرُوا مضطرين على طعم الحتوف وأعطوا الدَّار حَقّهَا واستقبلوا غمام السِّهَام وبلها وودقها واستمروا كَذَلِك من إقبال الْفجْر إِلَى إدبار النَّهَار فعجزوا عَن الاصطبار وانكسروا أَشد انكسار وولوا الأدبار وغرق كثير مِنْهُم فِي دجلة وَقتل أَكْثَرهم شَرّ قتلة وَوضعت التتار فيهم السَّيْف وَالنَّار فَقتلُوا فِي ثَلَاثَة أَيَّام مَا ينوف على ثَلَاثمِائَة ألف وَسبعين ألفا وَسبوا النِّسَاء والأطفال ونهبوا الخزائن وَالْأَمْوَال وَأخذ هولاكو جَمِيع النُّقُود وَأمر بحرق الْبَاقِي وَرمى كتب مدارس بَغْدَاد فِي دجلة وَكَانَت لكثرتها جِسْرًا يَمرونَ عَلَيْهَا ركبانَاً وَمُشَاة وَتغَير لون المَاء بحبرها إِلَى السوَاد فَأَشَارَ الْوَزير على الْخَلِيفَة بمصانعتهم وَقَالَ أَنا فِي تَقْرِير الصُّلْح فَخرج ووثق لنَفسِهِ بَينهم وَرجع إِلَى الْخَلِيفَة وَقَالَ إِن الْملك هولاكو قد رغب فِي أَن يُزَوّج ابْنَته بابنك الْأَمِير أبي بكر ويبقيك فِي منصب الْخلَافَة كَمَا أبقى صَاحب الرّوم فِي سلطنته وَلَا يُؤثر أَن تكون الطَّاعَة لَهُ كَمَا كَانَ أجدادك مَعَ سلاطين الديلم والسلجوقية وينصرف عَنْك بجُنُوده فيجيب مَوْلَانَا إِلَى هَذَا فَإِن فِيهِ حَقنا لدماء من بَقِي من الْمُسلمين وَيُمكن بعد ذَلِك أَن تفعل مَا تُرِيدُ فَالرَّأْي أَن تخرج إِلَيْهِم فَخرج الْخَلِيفَة فِي أَعْيَان دولته فَأنْزل فِي خيمة ثمَّ دخل الْوَزير فاستدعى الْفُقَهَاء والأماثل ليحضروا العقد فَخَروا من بَغْدَاد فَضربت أَعْنَاقهم وَكَذَلِكَ تخرج طَائِفَة بعد طَائِفَة فَتضْرب أَعْنَاقهم حَتَّى قتل جَمِيع من فِيهَا من الْعلمَاء والأمراء والحجاب وَالْكتاب واستبقى هولاكو المستعصم أَيَّامًا إِلَى أَن استصفي أَمْوَاله وخزائنه وذخائره ثمَّ رمى رِقَاب أَوْلَاده وَذَوِيهِ وَأَتْبَاعه وَأمر أَن يوضع الْخَلِيفَة فِي غرارة ويرفس بالأرجل حَتَّى يَمُوت فَفعل بِهِ ذَلِك وَفِي رِوَايَة أَن خُرُوج الْخَلِيفَة المستعصم إِلَيْهِ كَانَ قبل وُقُوع شَيْء من الْقِتَال ثمَّ لما خرج وَفعل بِهِ وَمن مَعَه مَا فعل بذل السَّيْف فِي بَغْدَاد وَاسْتمرّ السَّيْف نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا فبلغت الْقَتْلَى أَكثر من ألف ألف نسمَة وَلم يسلم إِلَّا من اختفى فِي بِئْر أَو قناة وَاسْتشْهدَ الْخَلِيفَة رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر صفر من سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وانقطعت بِمَوْتِهِ خلَافَة بني الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب من الْعرَاق(3/519)
وعدتهم سَبْعَة وَثَلَاثُونَ خَليفَة أَوَّلهمْ عبد الله السفاح ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن الْعَبَّاس وَآخرهمْ هَذَا المستعصم بِاللَّه عبد الله بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي جَعْفَر مَنْصُور بن الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن المستضيء بِنور الله حسن بن المستنجد بِاللَّه يُوسُف بن المقتفي لأمر الله مُحَمَّد بن المستظهر بِاللَّه أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله عبد الله ابْن الْأَمِير مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْقَائِم بِأَمْر الله عبد الله بن الْقَادِر بِاللَّه أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر بن جَعْفَر بن المعتضد بن أَحْمد ابْن الْأَمِير طَلْحَة الْمُوفق بن المتَوَكل على الله جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون ابْن الْمهْدي مُحَمَّد بن الْمَنْصُور أبي جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته سِتّ عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام وعمره خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَقيل سِتّ وَأَرْبَعُونَ وشهران وَهَذِه السّنة الَّتِي قتل فِيهَا المستعصم تسمى سنة المصائب وَبقيت الدُّنْيَا بِلَا خَليفَة ثَلَاث سِنِين وَنصفا ستٍ وَخمسين وستمائْة وَسبع وَخمسين وثمانٍ وَخمسين وتسعِ وَخمسين إِلَى رَجَب مِنْهَا فأقيمت بِمصْر الْخلَافَة وبويع الْمُسْتَنْصر كَمَا سَنذكرُهُ قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ عِنْد ذكر قتل الْخَلِيفَة وَمَا أَظُنهُ دفن وَقتل مَعَه جمَاعَة من أَوْلَاده وأعمامه وَبني عَمه وَكَانَت بلية لم يصب الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا وعملت الشُّعَرَاء قصائد فِي مراثي بَغْدَاد وَأَهْلهَا وتمثل بقول سبط بن التعاويذي من // (الْكَامِل) //
(بَادَتْ وأهلُوهَا مَعًا فبيوتُهُمْ ... ببقاءِ مَوْلَانَا الوزيرِ خرابُ)
وَقَالَ بَعضهم من // (الْكَامِل) //
(يَا عصبَةَ الْإِسْلَام نوحِي واندُي ... حزنا علَى مَا تَمَّ للمستعصِمِ)
(دَسْتُ الوزارةِ كَانَ قَبْلَ زمانِهِ ... لابْنِ الفراتِ فَصَارَ لابنِ العلقمِي)(3/520)
قلت يُشِير إِلَى ابْن الْفُرَات وَكَانَ وزيراً فِي خلَافَة المقتدر وَكَانَ آخر خطْبَة خطبت بِبَغْدَاد قَالَ الْخَطِيب فِي أَولهَا الْحَمد لله الَّذِي هدم بِالْمَوْتِ مشيد الْأَعْمَار وَحكم بالفناء على أهل هَذِه الدَّار وَالسيف قَائِم بهَا وَمِمَّا قَالَه تَقِيّ الدّين ابْن أبي الْيُسْر فِي بَغْدَاد من // (الْبَسِيط) //
(لسائلِ الدمعِ عنْ بغدَادَ إخبارُ ... فَمَا وقوفُكَ والأحبابُ قد سَارُوا)
(يَا زائرينَ إِلى الزوراءِ لَا تَفِدُوا ... فَمَا بِذَاكَ الحِمى والدارِ ديَّارُ)
(تاجُ الخلافةِ والرَّبْعُ الَّذِي شَرُفَتْ ... بِهِ المَعَالِمُ قد عفَّاهُ إقفارُ)
(أضحَى لِعَصْفِ البلا فِي رَبْعِهِ أثرٌ ... وللدموعِ على الآثارِ آثارُ)
(يَا نارَ قَلْبيَ من نارٍ لحَرِّ وغًي ... شبَّتْ علهخ ووافي الرَّبْعَ إعصارُ)
(علا الصليبُ على أعلَى منابِرِهَا ... وقامَ بالأمْرِ مَنْ يحويه زُنَّارُ)
(وَكم حريمٍ سَبَتْهُ التُّركُ غَاصِبةً ... وَكَانَ مِنْ~ دونِ ذَاك السِّتْر أَسْتَارُ)
(وَكم بُدُورٍ على البَدْرِيةِ انخسفتْ ... وَلم يعدْ لِبُدُورٍ مِنُهُ إبدارُ)
(وَكم ذخائرَ أضحَتْ وَهِي شائعةٌ ... من النِّهابِ وَقد حازَتْهُ كفارُ)
(وَكم حدودٍ أقيمَتْ من سيوفهِمُ ... على الرِّقابِ وخطَّت فِيهِ أوزَارُ)
(نادَيْتُ والسَّبْيُ مَهْتُولٌ يَجُرُّهُمُ ... إِلَى السِّفاحِ من الأعداءِ دعَّارُ)
(إليكَ يَا ربَّنا الشكوَى فأنْتَ ترَى ... مَا حلَّ بالدِّينِ والباغونَ فُجَّارُ)
وَمن غَرِيب الِاتِّفَاق مَا رَوَاهُ بَعضهم قَالَ لما استولت التتار على بَغْدَاد وَقتلُوا الْخَلِيفَة المستعصم كَانَ بِبَغْدَاد رجل من ذَوي الْيَسَار مَعْرُوف فَلَمَّا سمع بِقرب التتار من بَغْدَاد جعل فِي قاع دَاره مخبأ تَحت الأَرْض وَوضع فِيهِ صناديقه وأمتعته وَسَائِر مَا يعز عَلَيْهِ من أَمْوَال وَغَيرهَا ثمَّ جعل على فَم ذَلِك الْموضع هَيْئَة فَم الخرابة وَجعل تسرب مَائِهَا إِلَى مَوضِع آخر ليخفي أَمر ذَلِك الْموضع عَن الناظرين وَقَالَ فِي نَفسه إِذا دخلت التتار بَغْدَاد خرجت إِلَى الصَّحرَاء فَإِذا خَرجُوا عدت إِلَى دَاري وَمَالِي فَلَمَّا فرغ من إحكام ذَلِك وجد فِي ذخائره سِتا من اللآليء الْكِبَار النفيسة كبارَاً جدا فَقَالَ فِي باله فتح هَذِه المطمورة أَمر عَظِيم وفكر فِي(3/521)
حفظ تِلْكَ اللؤلؤات فَلم يجد لَهَا موضعا أحسن من عش عصافير كَانَ بسقف تِلْكَ الدَّار قَرِيبا من المخبأ الْمَذْكُور فاستدعى بسلم فوضعها فِي ذَلِك العش وَجلسَ فِي دهليز تِلْكَ الدَّار وَعَلِيهِ زِيّ الْفُقَرَاء فَلَمَّا دخلت التتار بَغْدَاد خرج إِلَى مَوضِع استتر فِيهِ فَأمْسك بعض عَسَاكِر التتار رجلا من أهل بَغْدَاد وألزموه أَن يُرِيهم دور أهل الْيَسَار من أهل بَغْدَاد ليجد فِيهَا مَا يَأْخُذهُ فَأتى ذَلِك الرجل بذلك الْبَعْض إِلَى هَذِه الدَّار الْمَذْكُورَة فَطَافَا فِيهَا فَلم يجدا شَيْئا فَغَضب التترى فربطه وَقَالَ أتهزأ بِي وَجعل يضْربهُ ويعذبه وَالرجل يحلف لَهُ أَن صَاحب هَذِه الدَّار من مياسير أهل بَغْدَاد وَمَا هزأت بك فَبَيْنَمَا هُوَ يضْربهُ إِذْ زرق عَلَيْهِ عُصْفُور من ذَلِك العش الَّذِي فِيهِ اللؤلؤات فَأصَاب الزرق وَجهه فازداد غيظه فَضرب ذَلِك العش فَوَقع العش وَسَقَطت تِلْكَ اللؤلؤات مِنْهُ فتدحرجت مِنْهُ ثَلَاث فوقعن فِي ثقب تِلْكَ الخربة فَأخذ التتري تِلْكَ الثَّلَاث لؤلؤات وألزم الرجل بخراب تِلْكَ الخرابة لإِخْرَاج اللؤلؤات الْأُخْرَى فَلَمَّا شرع فِي تخريبها وأزال وَجههَا وجد سلالم تَنْتَهِي إِلَى الْموضع الَّذِي فِيهِ الْأَمْوَال والذخائر والصناديق فَأخذ التتري جَمِيع مَا هُنَاكَ وَأطلق الرجل وَأَعْطَاهُ مَا تيَسّر فاعتبروا يَا أولي الْأَلْبَاب
(شرح حَال التتار)
قَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف الخجندي فِي خبر التتار هُوَ حَدِيث يَأْكُل الْأَحَادِيث وَخبر يطوي الْأَخْبَار وتاريخ ينسي التواريخ ونازلة تصغر كل نازلة وفادحة تطبق الأَرْض وتملؤها مَا بَين الطول وَالْعرض هَذِه الْأمة لغتهم مشوبة بلغَة الْهِنْد لأَنهم فِي جوارهم وَبينهمْ وَبَين بنكث أَرْبَعَة أشهر وَهِي فِي النِّسْبَة إِلَى التّرْك عراض الْوُجُوه واسعو الصُّدُور خفاف الأعجاز صغَار الْأَطْرَاف سمر اللَّوْن سريعو الْحَرَكَة فِي الْجِسْم والرأي تصل إِلَيْهِم أَخْبَار الْأُمَم وَلَا تصل أخبارهم إِلَى الْأُمَم قَلما يقدر جاسوس أَن يتَمَكَّن مِنْهُم لِأَن الْغَرِيب لَا يشْتَبه بهم وَإِذا أَرَادوا جِهَة كتموا أَمرهم ونهضوا دفْعَة وَاحِدَة فَلَا يعلم بهم أهل بلد حَتَّى يدخلوه وَلَا عَسْكَر حَتَّى يخالطوه فَلهَذَا تفْسد(3/522)
على النَّاس وُجُوه الْحِيَل فيهم وتضيق طرق الْحَرْب عَلَيْهِم وَنِسَاؤُهُمْ يقاتلن كرجالهم وَالْغَالِب على سِلَاحهمْ النشاب وأكلهم أَي لحم وجدوه وَلَيْسَ فِي قَتلهمْ اسْتثِْنَاء وَلَا إبْقَاء يقتلُون الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال وَكَانَ مقصودهم إفناء النَّوْع الإنساني وإبادة العلام لَا قصد الْملك وَالْمَال وَقَالَ سبط ابْن الْجَوْزِيّ فِي مرْآة الزَّمَان أَرض التتار بأطراف بِلَاد الصين وهم سكان بوادي مَشْهُورُونَ بِالشَّرِّ والغدر وَسبب ظُهُورهمْ أَن إقليم الصين متسع دوره سِتَّة أشهر وهم سِتّ ممالك وَلَهُم ملك حَاكم على السِّت وَهُوَ القان الْأَكْبَر الْمُقِيم بطغماج وَهُوَ كالخليفة على الْمُسلمين وَكَانَ سُلْطَان أحد الممالك السِّت واسْمه دوس خَان قد تزوج بعمة جنكيز خن ملك التتار فَحَضَرَ زَائِرًا لِعَمَّتِهِ وَقد مَاتَ زَوجهَا وَكَانَ قد حضر مَعَ خنكيز خَان كشلوخان فأعلمتهما أَن الْملك الَّذِي هُوَ دوس خَان لم يخلف ولدَاً وأشارت على ابْن أَخِيهَا أَن يقوم مقَامه فَقَامَ مقَامه وانضم إِلَيْهِ خلق من الْمغل ثمَّ سير التقاديم والهدايا إِلَى القان الْأَكْبَر فأستشاط غَضبا وَأمر بِقطع أَذْنَاب الْخَيل الَّتِي أهديت إِلَيْهِ وطردها وَقتل الرُّسُل لكَون التتار لم يتَقَدَّم لَهُم سَابِقَة سلطنة إِنَّمَا هم بادية الصين فَلَمَّا سمع جنكيزخان وَصَاحبه كشلوخان تحَالفا على التعاضد وأظهرا الْخلاف للقان وَهُوَ الْحَاكِم على السِّت المدن الْمَذْكُورَة وأتتهما أُمَم كَثِيرَة من التتار وَعلم القان قوتهم وشرهم فَأرْسل يؤانسهم ثمَّ أرسل بعد ذَلِك ينذرهم ويتهددهم فَلم يغن ذَلِك فيهم شَيْئا ثمَّ عزم على قصدهم فقصدهم وَوَقع بَينهم ملحمة عَظِيمَة فكسروا القان وملكوا بِلَاده واستفحل شرهم وَاسْتمرّ الْملك بَين جنكيزخان وكشلوخان على الْمُشَاركَة ثمَّ سارا إِلَى بِلَاد قاسون من نواحي الصين فملكاها فَمَاتَ كشلوخان فَقَامَ مقَامه وَلَده فاستصغره جنكيزخان فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَقتله واستقل جنكيزخان ودانت لَهُ التتار وانقادت واعتقدوا فِيهِ الأولوهية وبالغوا فِي طاعتهم ثمَّ كَانَ أول خُرُوجهمْ من بِلَادهمْ سنة سِتّ وسِتمِائَة إِلَى نواحي التّرْك وفرغانة فَأرْسل خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش صَاحب خُرَاسَان الَّذِي أباد(3/523)
الْمُلُوك وَأخذ الممالك وعزم على قصد الْخَلِيفَة فَلم يتهيأ لَهُ إِلَى أهل فرغانة والشاش وكاشان وَتلك الْبِلَاد النزهة العامرة بالجلاء والإجفال عَنْهَا إِلَى سَمَرْقَنْد وَغَيرهَا ثمَّ خربها جَمِيعًا خوفًا من التتار أَن يملكوها لعلمه أَنه لَا طَاقَة لَهُ بهم ثمَّ سَارَتْ التتار يتحفظون ويتنقلون إِلَى سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة فَأرْسل فِيهَا جنكيزخان إِلَى السُّلْطَان خوارزم رسلًا وهدايا وَقَالَ الرُّسُل لخوارزم شاه إِن القان الْأَعْظَم جنكيزخان يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك لَيْسَ يخف عَليّ عظم شَأْنك وَمَا بلغت من سلطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم وَأَنا أرى مسالمتك من جملَة الْوَاجِبَات وَأَنت عِنْدِي مثل أعز أَوْلَادِي وَغير خَافَ عَلَيْك أَنِّي ملك الصين وَأَنت أخبر النَّاس ببلادي وَأَنَّهَا مغارات العساكر والخيول ومعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة وفيهَا كِفَايَة عَن غَيرهَا فَإِن رَأَيْت أَن تعقد بَيْننَا الْمَوَدَّة فَأمر التُّجَّار بِالسَّفرِ لتعم المصلحتان فَأَجَابَهُ خوارزم شاه إِلَى ملتمسه وسر جنكيزخان بذلك وَاسْتمرّ الْحَال على المهادنة إِلَى أَن وصل من بِلَاده تجار وَكَانَ خَال خوارزم شاه نَائِبا عَنهُ على بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر وَمَعَهُ عشرُون ألف فَارس فشرهت نَفسه إِلَى أَمْوَال التُّجَّار فَكتب إِلَى جنكيزخان يَقُول إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد جَاءُوا بزِي التُّجَّار وَمَا قصدهم إِلَّا التَّجَسُّس وَإِن أَذِنت لي فيهم فَأذن لَهُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِم فَقبض عَلَيْهِم وَأخذ أَمْوَالهم فوردت رسل جنكيزخان إِلَى خوارزم شاه يَقُول إِنَّك أَعْطَيْت أمانك للتجار فغدرت والغدر قَبِيح وَهُوَ من السُّلْطَان أقبح فَإِن زعمت أَن الَّذِي فعله خَالك بِغَيْر أَمرك فسلمه إِلَيْنَا وَإِلَّا سَوف تشاهد مني مَا تعرفنِي بِهِ فَدخل خوارزم شاه من الرعب لكنه تجلد وَأمر بقتل الرُّسُل فَقتلُوا فيالها من قتلة كم هدرت من دِمَاء لِلْإِسْلَامِ أجرت بِكُل قطر سيلا من الدَّم ثمَّ سَار جنكيزخان إِلَيْهِ فانجفل خوارزم شاه عَن جيحان إِلَى نيسابور إِلَى مرج هَمدَان رعْبًا من التتار فأحدق بِهِ التتار وَقتلُوا كل من مَعَه وَنَجَا هُوَ بِنَفسِهِ فَخَاضَ المَاء إِلَى جَزِيرَة وَلَحِقتهُ عِلّة ذَات الْجنب فَمَاتَ بهَا وحيداً طريدَاً(3/524)
وَذَلِكَ سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة فملكوا جَمِيع مملكة خوارزم شاه ثمَّ بعد ذَلِك عبروا النَّهر بعد أَن أخذُوا بُخَارى وسمرقند وَكَانَ خوارزم شاه قد أباد الْمُلُوك من مدن خُرَاسَان فَلم يجد التتار أحدا فِي وُجُوههم فطوفوا الْبِلَاد قتلا وسبياً وَسَاقُوا إِلَى أَن وصلوا هَمدَان وقزوين قَالَ ابْن الْأَثِير فِي كَامِله حَادِثَة التتار من الْحَوَادِث الْعُظْمَى والمصائب الْكُبْرَى الَّتِي عقمت الدهور عَن مثلهَا عَمت الْخَلَائق وخصت الْمُسلمين فَلَو قَالَ قَائِل إِن الْعَالم مُنْذُ خلقه الله لم يبل بِمِثْلِهَا لَكَانَ صَادِقا فَإِن التواريخ لم تَتَضَمَّن مَا يقاربها وَمن أعظم مَا يذكرُونَ فعل بُختنَصر ببني إِسْرَائِيل بِبَيْت الْمُقَدّس فَمَا بَيت الْمُقَدّس بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خرب هَؤُلَاءِ الملاعين من مدن الْإِسْلَام وَمَا بَنو إِسْرَائِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قتلوا من الْأَنَام فَهَذِهِ الْحَادِثَة الَّتِي استطار شررها وَعم ضررها وسارت فِي الدُّنْيَا سير السَّحَاب استدبرته الرّيح فَإِن قوما خَرجُوا من أَطْرَاف الصين فقصدوا كبار المدن والقرى مثل تركستان وكاشغر وبلاساغون ثمَّ مِنْهَا إِلَى بُخَارى وسمرقند فتملكوا ملكهَا وأبادوا أَهلهَا ثمَّ تعبر طَائِفَة إِلَى خُرَاسَان فتفرع مِنْهَا ملكا وتخريبَاً وقتلا وإبادة ثمَّ إِلَى الرّيّ وهمذان إِلَى حد الْعرَاق ثمَّ يقصدون أذربيجان ونواحيها ويخربونها ويفتحونها كل ذَلِك فِي أقل من سنة أَمر لم يسمع بِمثلِهِ ثمَّ من أذربيجان إِلَى دَرْبند شرْوَان ثمَّ إِلَى بِلَاد اللان فَقتلُوا وأسروا ثمَّ بِلَاد القفجاق وهم من أَكثر التّرْك عددا فَقتلُوا من وقف وهرب الْبَاقُونَ وَاسْتولى التتار عَلَيْهَا وَمَضَت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى غزنة وأعمالها وسجستان وكرمان فَفَعَلُوا مثل هَذَا هَذَا مَا لم يطْرق الأسماع مثله فَإِن الْإسْكَنْدَريَّة الَّذِي ملك الدُّنْيَا لم يملكهَا فِي هَذِه السرعة وَإِنَّمَا ملكهَا فِي نَحْو عشْرين سنة وَلم يقتل أحدا وَإِنَّمَا رَضِي بِالطَّاعَةِ وَهَؤُلَاء قد ملكوا أَكثر الْمَعْمُور من الأَرْض وَأحسنه وأعمره وَلم يبْق أحد فِي الْبِلَاد الَّتِي لم يطرقوها إِلَّا وَهُوَ خَائِف يترقب وصولهم إِلَيْهِ ثمَّ إِنَّهُم كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْميرَة ومددهم يَأْتِيهم فَإِن مَعَهم الأغنام وَالْبَقر وَالْخَيْل يَأْكُلُون(3/525)
لحومها لَا غير وَأما خيل ركوبهم فَإِنَّهَا تحفر الأَرْض بحوافرها وتأكل عروق الشّجر لَا تعرف الشّعير وديانتهم سجودهم للشمس وَالْعِيَاذ بِاللَّه حَال طُلُوعهَا وَلَا يحرمُونَ شَيْئا ويأكلون جَمِيع الدَّوَابّ وَبني آدم وَلَا يعْرفُونَ نكاحَاً بل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة يَأْتِيهَا الْجَمَاعَات ويثبون وثوب القردة يقطعون المسافات الطَّوِيلَة فِي أَيَّام قَليلَة ويخوضون الأوحال ويتعلقون بالجبال ويصبرون على الْعَطش والجوع ويهجرون الغمض والهجوع وَلَا يبالون بِالْحرِّ وَالْبرد والسهل والوعر طعامهم كف شعير وشربهم من طرف الْبِئْر يكَاد أحدهم يتقوت بِطرف أذن فرسه يقطعهَا ويأكلها نيئة ويصبر على ذَلِك أَيَّامًا عديدة بل يَكْتَفِي هُوَ وفرسه بحشيش الأَرْض مُدَّة مديدة ثمَّ سَارُوا إِلَى بَغْدَاد وهم ينوفون على مِائَتي ألف فَارس وراجل سالب باسل فَكَانَ مَا كَانَ مِنْهُم على الْخَلِيفَة المستعصم وبغداد وَأَهْلهَا وملكهم هولاكو بعد أَن مَاتَ جنكيزخان ثمَّ وصلوا إِلَى حلب وبذلوا فِيهَا السَّيْف بعد أَن ملكوا مَا بَينهَا وَبَين بَغْدَاد من المدن والقرى ثمَّ أرسل هولاكو إِلَى الْملك النَّاصِر صَاحب دمشق كتابا صورته يعلم سُلْطَان نَاصِر طَال بَقَاؤُهُ أَنا لما توجهنا إِلَى الْعرَاق وَخرج إِلَيْنَا جنودهم قتلناهم بِسيف الله ثمَّ خرج إِلَيْنَا رُؤَسَاء الْبَلَد ومقدموها فَكَانَت قصارى كل مِنْهُم سَببا لهلاك نفوس تسْتَحقّ الإذلال وَأما صَاحب الْبَلَد الْخَلِيفَة فَإِنَّهُ خرج إِلَى خدمتنا وَدخل تَحت عبوديتنا فَسَأَلْنَاهُ عَن أَشْيَاء كذبنَا فِيهَا فَاسْتحقَّ الإعدام وَكَانَ كذبه ظَاهرا {ووجدوا مَا عمِلُوا حَاضرا} الْكَهْف 49 وَأَنت فأجب ملك البسيطة وَلَا تقولن قلاعي المانعات ورجالي المقاتلات وَقد بلغنَا أَن شذرة من عَسَاكِر الْعرَاق التجأت إِلَيْك هاربة وَإِلَى خبائك لائذة من // (الْكَامِل) //
(أينَ المفَرُّ وَلَا مفَرَّ لهاربٍ ... وَلنَا البسيطانِ الثرَى والمَاءُ)
فبساعة وقوفك على كتَابنَا تجْعَل قلاع الشَّام سماءها أرضَاً وطولها عرضا ثمَّ أرسل كتابا ثانيَاً يَقُول فِيهِ حَضْرَة ملك نَاصِر طَال عمره أما بعد فَإنَّا فتحنا(3/526)
بَغْدَاد واستأصلنا مُلكها ومَلكها وَقد كَانَ ضن بالأموال وَلم ينافس فِي الرِّجَال فَظن أَن ملكه يبْقى على ذَلِك الْحَال وَقد علا ذكره ونما قدره فَخسفَ فِي الْكَمَال بدره من // (المتقارب) //
(إِذا تَمَّ شيءٌ بدا نقصُهُ ... ترقَّبْ زوالاَ إِذا قِيلَ تَمّ)
وَنحن فِي طلب الازدياد على ممر الآباد فَلَا تكن كَالَّذِين نسوا الله وأبدِ مَا فِي نَفسك إِمَّا إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان أجب دَعْوَة البسيطة تأمن من شَره وتنل من بره واسعَ إِلَيْهِ برجالك وأمرائك وَلَا تعُق رَسُولنَا وَالسَّلَام ثمَّ أرسل إِلَيْهِ كتابا ثَالِثا قَول فِيهِ أما بعد فَنحْن جنود الله بِنَا ينْتَقم مِمَّن عتا وتجبر وطغى وتكبر وبأمر الله مَا ائتمر إِن عوتب تنمر وَإِن رُوجِعَ اسْتمرّ وَنحن قد أهلكنا الْبِلَاد وأبدنا الْعباد وقتلنا النِّسَاء وَالْأَوْلَاد فيا أَيهَا الْبَاقُونَ أَنْتُم بِمن مضى لاحقون وَيَا أَيهَا الغافلون أَنْتُم إِلَيْهِم تساقون وَنحن جيوش الهلكة لَا جيوش المملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لَا يرام ونزيلنا لَا يضام وعدلنا فِي ملكنا قد اشْتهر وَمن سُيُوفنَا أَيْن المفر وَلَا مفر ذلت لهيبتنا الْأسود وأصبحت فِي قبضتنا الْأُمَرَاء وَالْخُلَفَاء وَنحن إِلَيْكُم صائرون وَلكم الْهَرَب وعلينا الطّلب من // (الطَّوِيل) //
(ستعلَمُ ليلَى أيَّ دينٍ تداينَتْ ... وَأي غريمٍ للتقاضيِ غَريمُهَا)
دمرنا الْبِلَاد وأيتمنا الْأَوْلَاد وأهلكنا الْعباد وَجَعَلنَا عظيمهم صَغيراً وأميرهم أسرا تحسبون أَنكُمْ ناجون أَو متخلصون وَعَن قَلِيل سَوف تعلمُونَ على مَا تقدمون وَقد أعذر من أنذر فَلَمَّا وصلوا إِلَى دمشق خرج إِلَيْهِم الْملك المظفر الْمُسَمّى قطز من مُلُوك الأتراك من مصر ومقدم عسكره الظَّاهِر بيبرس البندقداري فَالتقى مَعَهم عِنْد عين جالوت وَوَقع المصاف يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر رَمَضَان سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة فَهزمَ التتار شَرّ هزيمَة وانتصر الْمُسلمُونَ وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَقتل من التتار مقتلة عَظِيمَة وولوا الأدبار وطمع النَّاس فيهم تخطفونهم وينتهبونهم وَجَاء كتاب الْملك المظفر إِلَى دمشق بِخَبَر النَّصْر فطار الْمُسلمُونَ(3/527)
فَرحا وَسَيَأْتِي ذكر الْملك المظفر قطز فِي الْبَاب الْخَامِس الْمَعْقُود للدولة التركية إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ السخاوي ثمَّ لم يزل بقاياهم يخرجُون إِلَى أَن كَانَ اَخرهم تيمور لنك الْأَعْرَج فطرق الديار الشامية وعاث فِيهَا وَحرق دمشق حَتَّى جعلهَا خاوية على عروشها وَدخل الرّوم والهند وَمَا بَين ذَلِك وطالت مدَّته إِلَى أَن مَاتَ وتفرق بنوه فِي الْبِلَاد قلت وَفِي الشَّائِع أَن مُلُوك الْهِنْد فِي زَمَاننَا يرجع نسبهم إِلَى تيمور لنك هَذَا وَالله أعلم بِصِحَّة هَذَا فَإِنِّي لم أره مَنْقُولًا وَاعْلَم أَن السّنة النَّبَوِيَّة قد أشارت إِلَى قتال التّرْك وفتنتهم فقد روى السِّتَّة إِلَّا النَّسَائِيّ حَدِيث لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا قوما نعَالهمْ الشّعْر وَحَتَّى تقاتلوا التّرْك صغَار الْأَعْين حمر الْوُجُوه ذلف الْأَعْين كَأَن وُجُوههم المجان المطرقة وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الْأَعَاجِم حمر الْوُجُوه فطس الأنوف صغَار الْأَعْين كَأَن وُجُوههم المجان المطرقة نعَالهمْ الشّعْر وَفِي لفظ لَهُ عراض الْوُجُوه فَقَوله نعَالهمْ الشّعْر يحْتَمل أَنه على ظَاهره وَيحْتَمل أَن تكون من جُلُود مشعرة قَالَ الْمَنَاوِيّ فِي تَخْرِيج المصابيح وحمر الْوُجُوه بِي مشربَة بحمرة وذلف بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْجُمْهُور قَالَ صَاحب الْمَشَارِق وَهِي الصَّوَاب ويروى بإهمال الدَّال وَهُوَ جمع أدلف كأحمر وحمر مَعْنَاهُ فطس الأنوف كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَي قصارها مَعَ انبطاح وَقَالَ النَّوَوِيّ الذلف غلظ أرنبة الْأنف والمجان جمع مجن بِكَسْر الْمِيم الترس والمطرقة بِضَم الْمِيم وَإِسْكَان الطَّاء وَحكى فتحهَا مَعَ تَشْدِيد الرَّاء وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة وَمَعْنَاهُ أَن وُجُوههم عريضة ووجناتهم ناتئة(3/528)
وَقَوله حَتَّى تقاتلوا خوزا وكرمان بطه ابْن الْأَثِير فِي نهايته فَقَالَ بِالْخَاءِ وَالزَّاي المعجمتين جيل مَعْرُوف وهم من بِلَاد الأهواز وكرمان صقع مَعْرُوف قَالَ السَّمْعَانِيّ بَلْدَة مَعْرُوفَة فِي بِلَاد الْعَجم بَين خُرَاسَان وبحر الْهِنْد وَورد اتْرُكُوا التّرْك مَا تركوكم فَإِن أول من يسلب أمتِي ملكهَا بَنو قنطوراء الحَدِيث زَاد فِي رِوَايَة فَإِنَّهُم أَصْحَاب بَأْس شَدِيد وَغَنَائِم قَليلَة قلت بَنو قنطوراء بِالْمدِّ وَالْقصر قيل كَانَت جَارِيَة لسيدنا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فَولدت لَهُ أَوْلَادًا فانتشر مِنْهُم التّرْك حَكَاهُ مُحَمَّد بن الْأَثِير واستبعده لَكِن مَا استبعده جزم بِهِ الْمجد الفيروزأبادي فِي قاموسه وروى الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تكون مَدِينَة بَين الْفُرَات ودجلة يكون فِيهَا ملك بني الْعَبَّاس وَهِي الزَّوْرَاء تكون فِيهَا حَرْب مفظعة يسبى فِيهَا النِّسَاء وتذبح فِيهَا الرِّجَال كَمَا تذبح الْغنم ثمَّ قَالَ وَإِسْنَاده شَدِيد الضعْف قَالَ الْحَافِظ السُّيُوطِيّ وَقد وَقعت هَذِه الْحَرْب بعد موت الْخَطِيب بِأَكْثَرَ من مِائَتي سنة وَذَلِكَ يُقَوي الحَدِيث ويصححه قَالَ السخاوي وَمن المرات الَّتِي قَاتل فِيهَا الْمُسلمُونَ التّرْك دولة بني أُميَّة حَتَّى أغزى مُعَاوِيَة الْجَيْش إِلَى الرّوم وأردفهم بِابْنِهِ يزِيد بن مُعَاوِيَة وَمَعَهُ عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ ثمَّ كَانَ بَينهم وَبَين الْمُسلمين مسدوداً بالهدنة الَّتِي عقدهَا يزِيد بَينه وَبينهمْ إِلَى أَن فتح ذَلِك شَيْئا فَشَيْئًا وَكثر السَّبي فيهم حَتَّى كَانَ أَكثر عَسْكَر المعتصم بن الرشيد مِنْهُم ثمَّ غلبت الأتراك على الْملك فَقتلُوا ابْنه المتَوَكل بن المعتصم ثمَّ أَوْلَاده الْخُلَفَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن خالط المملكة الديلم ثمَّ كَانَت الْمُلُوك السامانية من التّرْك أَيْضا فملكوا بِلَاد الْعَجم ثمَّ غلب على تِلْكَ الممالك آل سبكتكن غُلَام معز الدولة بن بويه ثمَّ آل سلجوق وامتدت مملكتهم إِلَى الْعرَاق وَالشَّام وَالروم وَكَانَت بقايا أتباعهم بِالشَّام وهم آّل زنكي وَالِد مَحْمُود بن زنكي الملقب نور الدّين الشَّهِيد وَأَتْبَاع آل زنكي هم بَنو أَيُّوب الأكراد فاستكثرت بَنو أَيُّوب الأتراك من المماليك أَيْضا(3/529)
فغلبوهم بالديار المصرية والشامية والحجازية وَخرج على آل محرق فِي الْمِائَة الْخَامِسَة الغز فخربوا الْبِلَاد وَقتلُوا فِي الْعباد ثمَّ جَاءَت الطامة الْكُبْرَى بعد الستمائة فَكَانَ خُرُوج جنكيزخان وَخَلفه بعده هولاكو واستعرت الدُّنْيَا بهم نارَاً لَا سِيمَا الشرق بأسره حَتَّى لم يبْق بلد مِنْهُ إِلَّا دَخلهَا شرهم ثمَّ كَانَ خراب بَغْدَاد وَقتل الْخَلِيفَة وسلب ملكه ودمار عماره وَظهر بِهِ بل بِجَمِيعِ ذَلِك مصداق قَوْله
أَن أول من يسلب أمتِي ملكهَا بَنو قنطوراء وَقد تقدم ذكر الحَدِيث وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَكَانَ مِمَّن نجا من سيوف التتار من بني الْعَبَّاس أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الظَّاهِر عَم المستعصم الْمَقْتُول قيل كَانَ محبوسَاً بِبَغْدَاد فَلَمَّا أخذت التتار بَغْدَاد أطلق فهرب وَصَارَ إِلَى عرب الْعرَاق فَلَمَّا تسلطن الْملك الظَّاهِر بيبرس بعد الْملك المظفر قطز وَفد عَلَيْهِ إِلَى مصر فِي رَجَب سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة وَمَعَهُ عشرَة من بني مهارش عرب الْحلَّة الْبَلدة الْمَعْرُوفَة فَركب السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس للقائه ثمَّ أثبت نسبه على يَد قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز الشَّافِعِي ثمَّ بَايعه بالخلافة السُّلْطَان ثمَّ قَاضِي الْقُضَاة الْمَذْكُور ثمَّ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام ثمَّ الْكِبَار على مَرَاتِبهمْ وَذَلِكَ فِي ثَالِث عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَضربت السِّكَّة باسمه وخطب لَهُ ولقب بلقب أَخِيه الْمُسْتَنْصر وَفَرح النَّاس وَركب يَوْم الْجُمُعَة وَعلي السوَاد إِلَى جَامع القلعة فَصَعدَ الْمِنْبَر وخطب خطْبَة ذكر فِيهَا شرف بني الْعَبَّاس ودعا للسُّلْطَان وَالْمُسْلِمين ثمَّ صلى بِالنَّاسِ ثمَّ رسم بِعَمَل خلعة للسُّلْطَان وبكتابة تَقْلِيد لَهُ ثمَّ نصبت خيمة بِظَاهِر الْقَاهِرَة وَركب الخلفة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْمَذْكُور وَالسُّلْطَان الظَّاهِر الْمَذْكُور مَعَه يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع شهر شعْبَان إِلَى الْخَيْمَة وَحضر الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء والأمراء والوزراء فألبس الْخَلِيفَة السُّلْطَان الخلعة بِيَدِهِ وطوقه ونُصِبَ مِنْبَر فَصَعدَ عَلَيْهِ فَخر الدّين بن لُقْمَان فَقَرَأَ التقلد ثمَّ(3/530)
ركب السُّلْطَان بالخلعة وَدخل من بَاب النَّصْر وزينت الْقَاهِرَة وَحمل الْوَزير التَّقْلِيد على رَأسه رَاكِبًا والأمراء مشَاة ورتب السُّلْطَان للخليفة جَيْشًا وأتابكاً واستدارا وشرابياً وخازنداراً وحاجباً وكاتباً وَعين لَهُ خزانَة وَجُمْلَة مماليك وَمِائَة فرس وَثَلَاثِينَ بغلا وَعشر قطارات جمال إِلَى أَمْثَال ذَلِك قَالَ الذَّهَبِيّ وَلم يل الْخلَافَة أحد بعد ابْن أَخِيه إِلَّا هَذَا الْمُسْتَنْصر فَإِنَّهُ وَليهَا بعد ابْن أَخِيه وَهُوَ المستعصم الْمَقْتُول وَإِلَّا المقتفي بن المستظهر فَإِنَّهُ وَليهَا بعد الراشد ابْن أَخِيه المسترشد بن المستظهر ثمَّ عزم الْمُسْتَنْصر إِلَى الْعرَاق يُرِيد تخت بَغْدَاد فَخرج مَعَه السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس يشيعه إِلَى أَن دخلُوا دمشق ثمَّ سَار الْخَلِيفَة بِمن مَعَه مُتَوَجها إِلَى بَغْدَاد فَلَمَّا وصل إِلَى السراة ثَالِث محرم سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة قَاتله هُنَاكَ قره بغا نَائِب هولاكو على بَغْدَاد فَقتل الْمُسْتَنْصر وَمن مَعَه وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وَلم يقم لَهُ أَمر فَكَانَت ولَايَته سِتَّة أشهر وَالْحَاصِل أَن خلفاء بني الْعَبَّاس البغداديين سَبْعَة وَثَلَاثُونَ خَليفَة أَوَّلهمْ السفاح وَآخرهمْ المستعصم وَمُدَّة ملكهم فِيهَا خَمْسمِائَة وَأَرْبع وَعِشْرُونَ سنة وَيَوْم وَاحِد وَقد ذكرهم الإِمَام مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن يحيى بن عَليّ بن تَمام السُّبْكِيّ نظماً مبتدئاً بِأبي بكر الصّديق فَقَالَ من // (الطَّوِيل) //
(إِذا رمتَ أعداد الخلائفِ عُدَّهُمْ ... كَمَا قُلْته تدعى اللبيبَ المحصِّلاَ)
(عتيقٌ وفاروقٌ وعثمانُ بعدَهُ ... عليُّ الرِّضَا مِنْ بَعْدِهِ حَسنٌ تَلا)
(معاويةٌ ثمَّ ابنُهُ وحفيدُهُ ... مُعاويَة وابنُ الزُّبيْرِ أَخُو العُلاَ)
(ومروانُ يتلوه ابنُهُ ووليدُهُ ... سليمانُ وافَى بَعْدَهُ عُمَرٌ وَلاَ)
(يزيدُ هشامٌ والوليدُ يزيدُهُمْ ... سناهُمْ بإبراهيمَ مروانُ قَدْ علا)
(وسفَّاحٌ المنصورُ مهديُّ ابنُهُ ... وهادِي رشيدٌ للأمينِ تَكَفَّلا)
(وأعقب بالمأمونِ مُعْتَصِم غَدا ... بَوَائقه يسْتتْبع المُتَوَكِّلاَ)
(ومنتصرٌ والمستعِينُ وبعدَهُ ... لمعتزِّ المَتْلُوِّ بالمهدي اقْبلاَ)(3/531)
(ومعتمدٌ يَقْفُوه معتضِدٌ وعَنْ ... سنا المكتفي يتلوه مقتدرٌ سلا)
(وبالقاهِرِ الراضِي يُفوِّضُ متقٍ ... وثَانِيهِ مُسْتَكْفٍ مُطِيع تفضَّلا)
(وطائعُهُمْ للَّهِ باللَّهِ قادرٌ ... وقائمُهُمْ بالمقتدي استَظْهر الْعلَا)
(ومسترشدٌ والراشدُ المكتفي بِهِ ... ومستنجدٌ والمستضِي نَاصِرٌ جلا)
(فظاهِرُهُمْ مستنصرٌ قد تكمَّلوا ... فَإِن آتٍ تقصيراً فكُنْ متطوِّلا)
قلت وَلم يذكر عبد الله بن المعتز فيهم وَقد ذكره بعض المؤرخين وَبَعْضهمْ لم يذكرهُ لكَونه ولي نصف يَوْم أَو نَحوه فَلذَلِك تَركه النَّاظِم ثمَّ صَار الْملك فِي مصر والحل وَالْعقد إِلَى مُلُوك الأتراك ثمَّ الجراكسة ثمَّ العثامنة وَقد كَانُوا يعينون وَاحِدًا من أَوْلَاد الْعَبَّاس للخلافة وَيكون كواحد من الْعَامَّة لَا حل لَهُ وَلَا عقد يُجَاب وَلَا يسمع وَلَا يفكر فِي رَأْي لَهُ فَيتبع فَأول من ورد إِلَيْهِم مصر الْمُسْتَنْصر الَّذِي تقدم ذكر قدومه إِلَيْهَا على الْملك الظَّاهِر بيبرس فجهزه وسيره إِلَى بَغْدَاد فتم عَلَيْهِ مَا تمّ ثمَّ وصل بعده إِلَى مصر من بني الْعَبَّاس أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الراشد بن المسترشد ولقب بالحاكم بِأَمْر الله فَأكْرمه الظَّاهِر بيبرس أَيْضا وَأثبت نسبه بِحَضْرَة قُضَاة الشَّرْع وَبَايَعَهُ بالخلافة فَأجرى عَلَيْهِ النَّفَقَة وَسكن بِمصْر وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء وَإِنَّمَا اسْمه الْخَلِيفَة واستخلف أَوْلَاده من بعده على هَذَا النسق لَيْسَ لَهُم إِلَّا اسْم الْخلَافَة يأْتونَ بِهِ إِلَى السُّلْطَان الَّذِي يُرِيد تَوليته فَيَقُول لَهُ وليتك السلطنة هَكَذَا كَانُوا بألقاب الْخُلَفَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد وَكَانَت سلاطين الأقاليم يتبركون بهم ويرسلون إِلَيْهِم أَحْيَانًا يطْلبُونَ تَقْلِيد السلطنة فيكتبون إِلَيْهِم تقليدَاً ويعهدون إِلَيْهِم بالسلطنة عهدا وَلَا يخفى أَن هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُم من الْخلَافَة إِلَّا الصُّورَة كَمَا كَانَت الْخُلَفَاء البغداديون الْمَحْجُور عَلَيْهِم من جَانب أمرائهم وَإِنَّمَا لَهُم الِاسْم الْمُجَرّد عَن الْمَعْنى من كل وَجه وعدتهم ثَمَانِيَة عشر خَليفَة أَوَّلهمْ الْمُسْتَنْصر الَّذِي جهزه الْملك الظَّاهِر بيبرس إِلَى بَغْدَاد فَوَقع لَهُ فِي الطَّرِيق مَا وَقع وَإِنَّمَا عدناه مِنْهُم لِأَن ولَايَته بِمصْر وَآخرهمْ مُحَمَّد المتَوَكل على الله ابْن المستمسك بِاللَّه يَعْقُوب وَهَذَا(3/532)
المستمسك هُوَ آخر من ذكره الْعَلامَة السُّيُوطِيّ فِي منظومته فِي الْخُلَفَاء وَاسْتمرّ المستمسك بِاللَّه خَليفَة إِلَى أَن كَبرت سنه وكف نظره وَدخلت أَيَّام الدولة العثمانية وافتتحت الديار المصرية فَأَخذه السُّلْطَان سليم مَعَه إِلَى أسطنبول وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن مَاتَ السُّلْطَان سليم ثمَّ عَاد إِلَى مصر فَخلع وَولى وَلَده المتَوَكل عَليّ بن المستمسك فِي شعْبَان سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَاسْتمرّ خَليفَة إِلَى أَن توفّي ثَانِي عشر شعْبَان سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فِي أَيَّام المرحوم دَاوُد باشا صَاحب مصر وباني رِبَاط الداودية ومدرستها الْمَعْرُوفَة بِهِ وبموته انْقَطَعت الْخلَافَة الصورية أَيْضا بِمصْر وَكَانَ المتَوَكل فاضلاَ أديباً لَهُ شعر حسن مِنْهُ قَوْله من // (الْبَسِيط) //
(لم بقَ محتسبٌ يُرجَى وَلَا حسنٌ ... وَلَا كريمٌ إِلَيْهِ مُشْتَكَى حَزَنيِ)
(وَإِنَّمَا سَادَ قومٌ ذِي غيرُ حَسَبٍ ... مَا كنْتُ أوثرُ أنْ يمتدَّ بِي زَمَنِي)
قَالَ الْعَلامَة قطب الدّين اجْتمعت بِهِ رحلتي إِلَى مصر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَأخذت عَنهُ وَهَذِه قصيدة الْعَلامَة السُّيُوطِيّ المتضمنة لذكر الْخُلَفَاء الرَّاشِدين والأمويين والعباسيين والبغداديين والمصريين وَمُدَّة وفياتهم وَهِي غَايَة فِي ضبط أُولَئِكَ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى من // (الْبَسِيط) //
(ألحمدُ للَّهِِ حمداً لَا نَفَادَ لَهُ ... وَإِنَّمَا الحمدُ حَقًا رأسُ مَنْ شكَرَا)
(ثمَّ الصلاةُ على الهاديِ النبيِّ ومَنْ ... سادَتْ بنسبته الأشرافُ والأُمَرَا)
(إنَّ الأمينَ رسُولَ اللَّهِ مبعثُهُ ... لأَربعينَ مضَتْ فِيمَا رَوَوْا عُمُرَا)
(وكانَ هجرتُهُ مِنْهَا لطَيْبَةَ مِنْ ... بعد الثلاثةِ أعواماً تلِي عَشَرَا)
(وماتَ فِي عامِ إِحْدَى بَعْدَ عشْرتها ... فيا مصيبةَ أَهْلِ الأرضِ حينَ سَرَى)
(وقامَ مِنْ بعده الصِّديقُ مُجْتَهدا ... وف ثَلَاثَة عشر بَعْدَهُ قُبِرا)
(وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ القرآنَ فِي صحفٍ ... وأولُ النَاسِ سَمَّى المُصْحَفَ الزُّبُرَا)
(وقامَ من بعدِهِ الفاروقُ ثُمَّتَ فِي ... عشرينَ بعْدَ ثلاثٍ غَيَّبوا عُمَرا)(3/533)
(وَهْوَ الَّذِي اتخَذَ الديوانَ وافترَضَ ... الْعَطاءَ قَبلُ وبيتَ المالِ والدُّرَرَا)
(وَهْوَ المسمَّى أميرَ المؤمنينَ وَلم ... يُدْعَي بِهِ قَبْلَهُ شخصٌ مِنَ الأُمَرَا)
(وَقَامَ عثمانُ حتَّى جاءَ مَقْتَلُهُ ... بعد الثلاثينَ فِي خَمسٍ وَقد حُصِرا)
(وبعدُ قامَ عليُّ ثمَّ مقتَلُهُ ... لأربعينَ فمَنْ أوداه قد خَسِرَا)
(ثمَّ ابنُهُ السِّبْطُ نصفَ العامِ ثُمَّ أتَى ... بَنو أيَّةَ يَبْغونَ الوغَى زُمَرَا)
(فسلَّم الأمرَ فِي أُخْرَى لِرَغْبَتِهِ ... عَن دارِ دُنْيَا بِلَا ضَيْرٍ وَلَا ضَرَرَا)
الْخُلَفَاء الأمويون
(وَكَانَ أولَ ذِي مُلكٍ معاويةٌ ... فِي النِّصْفِ من عامِ ستنَ الحِمَامُ عَرا)
(ثمَّ اليزيدُ ابنُهُ أَخْبِثْ بِهِ ولدا ... فِي أربعٍ بعْدهَا ستُّونَ قد قُبِرَا)
(وابنُ الزبيْرِ وَفِي سبعينََ مَقٍ تًلُهُ ... بعد الثلاثِ وكَمْ بالبيتِ قد حُصِرا)
(وَفِي ثمانينَ مَعْ ستِّ عَلَيْهِ قضى ... عبدُ المليكِ بِهِ الأمَر الَّذِي استُهرا)
(ثمَّ الوليدُ ابنُهُ فِي قَبْلِ مَا رَجَبٍ ... فِي الستِّ من بعدِ تسْعِينَ انقضَى عُمُرا)
(وَهْوَ الَّذِي مَنَعَ الناسَ النداءَ لَهُ ... باسْم وكانتْ تُنَادَى باسمِها الأُمَرَا)
)
وقامَ بَعْدُ سليمانُ الخِيَارُ وفِي ... تسعٍ وتسعينَ جَاءَ الموتُ فِي صَفَرَا)
(وبعدَه عُمَرٌ ذَاك النجيبُ وفِي ... إِحْدَى تلِي مائَة قد أَلْحَدُوا عُمَرَا)
(وَهْوَ الَّذِي أَمر الزهْرِيَّ خَوْفَ ذَهَابِ ... الْعلم أنْ يجمَعَ الأَخبارَ والأَثَرا)
(ثمَّ اليَزِيدُ فَفِي خَمْسٍ قَضَى وتَلاَ ... هِشَامُ فِي الخَمْسِ والعِشْرينَ قَدْ سطرا)
(ثمَّ الوليدُ وَبعد الْعَام مَقْتَله ... من بعد مَا جَاءَ بِالْفِسْقِ الَّذِي شهرا)
)
ثمَّ اليزيد وَفِي ذَا الْعَام مَاتَ وَقد ... أَقَامَ سِتّ شهور مثل مَا أثرا)
(وبعدَهُ قامَ إبراهيمَ ثمَّ مضَى ... بالخلعِ سبعينَ يَوْمًا مذ أقامَ ثرا)
(وَبعده قامَ مروانُ الحمارُ وَفِي ... ثنتينِ بعد ثلاثينَ الدماءُ جَرَى)
الْخُلَفَاء العباسيون
(وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ السَّفَّاح ثمَّ قَضَى ... بعدَ الثلاثينَ فِي ستِّ وَقد جُدِرَا)
(وقامَ مِنْ بعدِهِ المنصورُ ثمَّت فِي ... خمسينَ بعد ثمانٍ مُحْرِمًا قُبِرا)(3/534)
(ثمَّ ابنُهُ وَهْوَ المهديُّ ماتَ لدَى ... تسعٍ وستينَ مَسْمُومًا كَمَا ذُكِرَا)
(ثمَّ ابنُهُ وَهْوَ الهادِي وموتَتُهُ ... فِي عامِ سبعينَ لمَّا هَمَّ أَنْ غَدَرَا)
(ثمَّ الرشيدُ وفِي تسعين تاليةٍ ... ثلاثةَ ماتَ فِي الغزوِ الرَّفِيع ذُرَا)
(ثمَّ الأمينُ وَفِي تسعينَ تاليةٍ ... ثمانياً جَاءَهُ قتلٌ كَمَا ذُكِرَا)
(وقامَ مِنْ بعده المأمونُ ثمَّتَ فِي ... ثمانِ عشرةَ كَانَ الموتُ فاعْتَبِرا)
(وقامَ معتصمٌ مِنْ بعدِهِ وقضَى ... فِي عامِ سبعٍ وعشرينَ الَّذِي أُثِرَا)
(وَهْوَ الَّذِي أدخَلَ الأَتراكَ مُنْفَردا ... ديوانَهُ واقتناهُمْ جالباً وشرا)
(ثمَّ ابنُهُ الواثِقُ المالي الورَى رُعُبًا ... وَفِي ثلاثينَ مَعْ ثِنْتَيْنِ قد غَبَرَا)
(وَذُو التوكُّلِ مَا أزكَاهُ من خُلُقٍ ... ومظهرُ السُّنَّةِ الغَرَّاءِ إِذْ نَصَرَا)
(فِي عامِ سبعٍ تليهَا أربَعُونَ قَضى ... قتلا حَبَاه ابنُه المدعوُّ منتَصِرَا)
(فَلم يَقُمْ بعدَهُ إلاَّ اليسيرَ كَمَا ... قد سَنَّهُ الله فيمَنْ بعضَه غَدَرَا)
(والمستعينُ وَفِي عامِ اثنتينِ تَلاَ ... خمسينَ خَلْعٌ وقتلٌ جَاءَهُ زُمَرَا)
(وَهْوَ الَّذِي أحدثَ الأكمامَ وَاسِعَة ... وَفِي القلانِسِ عَن طُولٍ أَتَى قِصَرَا)
(وقامَ مِنْ بَعْدِه المعتزُّ ثُمَّتَ فِي ... خمسٍ وخمسينَ حَقا قتلُهُ أثرَا)
(والمهتدِي الصّالِحُ الميمونُ مَقْتَلُهُ ... مِنْ بعدِ عَامٍ وقفي قبله عمرا)
(أقامَ مِنْ بَعْدِهِ بالأَمْرِ مُعْتَمِدٌ ... فِي عامِ تسعٍ وَسبعين الحِمَامُ عَرَا)
(وذاكَ أولُ ذِي أمرٍ لَهُ حَجَرُوا ... وأولُ الناسِ موكولا بِهِ قُهِرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعده بالأمرِ معتضدٌ ... وَفِي ثمانينَ مَعْ تسَع مضتْ قُبَرَا)
(ثمَّ ابنُهُ المكتفي بِاللَّه أحمدٌ فِي ... خمسٍ وتسعينَ وافاه الَّذِي قدرَا)
(فِي عامِ عشرينَ فِي شوالَ بَعْدَ مُضِي ... ثلاثةٍ قُتِلَ المدعوُّ مُقْتَدِرَا
(وبعدَهْ القاهِرُ الجَبَّارُ مخلَعُه ... فِي اثنينِ مِنْ بعد عشْرين وَقد سُمِرَا)
(وَقَامَ من بعدهِ الراضي وَمَاتَ لَدَى ... تسعٍ وعشرينَ وانسُبْ عِنْدَهُ أخَرَا)
(والمقتَّقي وَمَضَى بالخَلْعِ مُشْتَمِلاً ... من بعد أربعةِ الأعوامِ فِي صَفَرا)
(وَقَامَ بالأمرِ مستكفيهِمُ وَقَفَا ... من بعدِ عامٍ لأمر المتقي أَثَرَا)(3/535)
(ثمَّ المطيعُ وفى ستينَ يتبعُهَا ... ثلاثةٌ فى أخيرِ العامِ قد غَبَرَا)
(ثمَّ ابنُه الطائعُ المقهورُ مخلَعُهُ ... عامَ الثمانينَ مَعْ إحْدَى كَمَا أُثِرَا)
(ثمَّ الإِمَام أَبُو العباسِ قادرُهم ... فِي اثنينِ مِنْ بعد عشرينَ مَضَتْ قُبِرَا)
(ثمَّ ابْنُهُ قائِمٌ لله ماتَ لَدَى ... سبعٍ وستينَ مِنْ شعبانَ قدْ سُطِرَا)
(والمقتدِي ماتَ فى تسعٍ بأوَّلِهَا ... بَعْدَ الثمانينَ جدَّ الْملك واقتدَرَا)
(وَقَامَ مِنْ بَعدِه مستظهرٌ وقَضَى ... فى خامسِ القرنِ فى اثنينِ تلِى عَشرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعدهِ مسترشدٌ ولَدَى ... تسعٍ وَعشْرين فِيهِ القَتْلُ حَلَّ عُرَا)
(ثمَّ ابنُهُ الراشدُ المقهورُ مخْلَعُهُ ... مِنْ بعد عامٍ فَلَا عينٌ وَلَا أَثَرَا)
(والمقتفي ماتَ مِنْ بَعْدِ التَمَكُّنِ فِي ... خمسٍ وخمسينَ وانقادَتْ لَهُ النُّصَرا)
(وقَامَ مِنْ بعدهِ مستنجدٌ وقَضَى ... من بعدِ ستينَ مَعْ سِتِّ وَقد شعرًا)
(والمستظئُ بِأَمْر الله ماتَ لَدَى ... خمسٍ وَسبعين بِالْإِحْسَانِ قد بَهَرا)
(وقامن مِنْ بعدهِ بالأمرِ ظاهِرُهُم ... تسعا شهورًا فأقلل مدةَ قِصَرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعدهِ مستنصرٌ وقَضَى ... لأربعينَ وكَمْ تَرْثِيهِ مِنْ شُعَرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعدهِ مستعصمٌ ولَدَى ... ستِّ وخمسينَ كَانَ الفتنةُ الكبرَى)
(جَاءَ التتارُ فَأَرْدَوْهُ وبلدتَهُ ... فيلعنُ اللَّهُ والمخلوقةُ والتَّتَرَا)
(مرتْ ثلاثُ سنتن بعدَهُ وَيلى ... نصفٌ ودَهْرُ الرَّدَى عَنْ قائمٍ شغرَا)
الْخُلَفَاء العباسيون المصريون
(وقامَ مِن بعد ذَا مستنصرٌ وثَوَى ... فى آخِرِ الْعَام قَتْلاً مِنْهُمُ وسرى)
(أَقَامَ ستَّ شهورٍ ثمَّ رَاحَ لَدَى ... مُهَلِّ ستينَ لَم يَبْلُغْ بهَا وَطَرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعده فِي مصرَ حاكِمُهُمْ ... على وَهًى لَا كَمَنْ مِن قَبْلُ قد غَبَرا)
(وَمَات فِي عَام إِحْدَى بَعْد سبعِ مِئِى ... وَقَامَ من بعدُ مستكفيهمُ وجَرَى)
(فِي أربعينَ قضى إِذا قَامَ واثِقُهُمْ ... فَفِي اثنينِ قضى خلعا مِنْ الأَمَرَا)(3/536)
(وَقَامَ حاكمُهُمْ مِنْ بعدِه وَقضى ... عَامَ الثلاثِ مَعَ الخَمْسِينَ معتبرَا)
(فَقَامَ مِنْ بعدِه بالأمرِ معتضدٌ ... وفى الثلاثةِ والستينَ قَدْ غَبَرَا)
(وَذُو التوكُّلِ يتلوهُ أَقَامَ إِلَى ... بعدَ الثمانينَ فى خمسٍ وَقد حُصِرَا)
(وبايَعُوا واثقا بِاللَّه ثُمَّتَ فى ... عامِ الثمانِ قَضَى وسَمَّه عُمَرا)
(وبايَعُوا بعدَهُ بِاللَّه معتصمًا ... فى عامِ إِحْدَى وتسعينَ أُزِيل وَرَا)
(وَذُو التوكُّل رَدُّوهُ أقامَ إِلَى ... ذَا القرنِ عامَ ثمانٍ مِنْهُ قَد قُبِرَا)
(أولادُه منهمُ خمسٌ مبجلةٌ ... حازوا الخلافةَ إِذْ كانَتْ لَهُمْ قَدَرَا)
(والمستعينُ وآلَ الأمرُ أَن خلعوا ... فِي شهرِ شعْبَان فِي خمسٍ تَلي عَشَرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعدِه بِالْأَمر معتضدٌ ئ ... لأربعينَ تَلِيهَا الخمسةُ احتُضِرَا)
(وَقَامَ بِالْأَمر مستكفيهمُ وقَضَى ... فى عامِ الأَرْبع والخمسينَ مُصْطَبِرَا)
(وَقَامَ قائِِمهُمْ من بعدُ ثُمَّتَ فِي ... سبعٍ وخمسينَ بعد الْخلْع قد حُصِرَا)
(وَقَامَ مِنْ بعدِه مستنجدٌ دَهرًا ... خَليفَة العَصْرِ رقَّاهُ الْإِلَه ذُرَا)
(وبعدَ نظمىَ هَذَا النظمَ فى مُدَدٍ ... قَضَى خليفتُنا المذكورُ مصطَبرا)
(فى عَام الأَرْبَعِ من شهرِ المحرَّم مِنْ ... بعدِ الثمانينَ يومَ السبت قَدْ قُبِرا)
(وبويع ابنُ أَخِيه بَعْدَهُ ودُعِى ... بِذِي التوكُّلِ كالَجِّد الذى شُهِرَا)
(وماتَ عامَ ثلاثٍ بعد تِسْعِمِئى ... سلخ المحرَّم عَنْ عهدٍ لَهُ سطرَا)
(لنجله البرِّ يعقوبَ الشريفِ وَقَدْ ... لُقِّبَ مستمسكًا بِاللَّه فِي صَفَرَا)
وَهَذَا آخر مَا نظمه الْعَلامَة السيوطى وَقَالَ بَعضهم فَذكر خلع المستمسك هَذَا بعد طول عمره وَكبر سنه وانكفاف نظره وَولَايَة ابْنه مُحَمَّد المتَوَكل على الله بن المستمسك بِاللَّه فَقَالَ
(وَكَانَ خلعٌ لَهُ فى عَام أربعةٍ ... من بعد عَشْرَةَ فى شعبانَ قد شُهِرَا)
(وَلم يكنْ خَلْعُهُ من أجلِ مَنْقَصَةٍ ... فى دينِه ثمَّ دنياهُ وليسَ جَرَى)
(شبيهُ ذاكَ ولكنْ أمرُ خالِقنا ... مُذْ حلَّ فى عينه فأَذْهَبَ البَصَرَا)
(وأهلُ حَلِّ وعَقْدِ بايَعُوا بِرِّضا ... لِنَجْلهِ ليْسَ فِيْهِمْ واحدٌ غَدارَ)
(بذى التوكُّلِِ حَقًا لقبُوهُ وَقُلْ ... محمدٌ إِسمه لاَ زَال مُنْتَصِرَا)
(فِي ساعةِ الْخلْع والمخلوعُ والدُه ... كانْتَ بَنُو عَمِّهِ راضِينَ مَا ذكَرَا)(3/537)
(الْبَاب الثَّالِث)
(فِي الدولة العبيدية المسمين بالفاطميين بالمغرب ثمَّ بِمصْر)
اعْلَم أَن بني الْعَبَّاس حِين ولوا الْخلَافَة امتدت إيالتهم على جَمِيع ممالك الْإِسْلَام كَمَا كَانَ بَنو أُميَّة من قبلهم ثمَّ لحق بالأندلس من فل بني أُميَّة من ولد هِشَام بن عبد الْملك حفيده عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام وَنَجَا من تِلْكَ الهلكة فَأجَاز الْبَحْر وَدخل الأندلس فملكها من يَد عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف الفِهري وخطب للسفاح فِيهَا حولا ثمَّ لحق بِهِ أهل بَيته من الْمشرق فعذلوه فِي ذَلِك فَقطع الدعْوَة عَن السفاح وَبقيت بِلَاد الأندلس مُنْقَطِعَة عَن الدولة الإسلامية من بني الْعَبَّاس ثمَّ كَانَت وقْعَة فخ أَيَّام الْهَادِي أخي الرشيد عَليّ بن الْحسن بن عَليّ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَقتل داعيتهم يَوْمئِذٍ الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن المثلث بن بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَنَجَا آخَرُونَ وخلص مِنْهُم إِدْرِيس بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَقَامَ بدعوته البرابر هُنَالك فاقتطع الْمغرب عَن بني الْعَبَّاس واستحدثوا هُنَالك دولة لأَنْفُسِهِمْ(3/538)
ثمَّ ضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال وتغلب على الْخَلِيفَة بهَا الْأَوْلِيَاء والقرابة والمصطنعون وَصَارَ تَحت حجرهم من حِين قتل الْخَلِيفَة المتَوَكل العباسي وَحدثت الْفِتَن بِبَغْدَاد وَصَارَ العلوية إِلَى النواحي مظهرين لدعوتهم فَدَعَا أَبُو عبد الله الشيعي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ بإفريقية فِي كِتَابه لِعبيد الله الْمهْدي بن مُحَمَّد الحبيب بن جَعْفَر الْمُصدق بن مُحَمَّد المكتوم بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الصَّادِق وَبَايع لَهُ وانتزع إفريقية من بني الْأَغْلَب وَاسْتولى عَلَيْهَا وعَلى الْمغرب الْأَقْصَى ومصر وَالشَّام واقتطعوا سَائِر هَذِه الْأَعْمَال عَن بني الْعَبَّاس واستحدثوا دولة أَقَامَت مِائَتَيْنِ وَسبعين سنة كَمَا يذكر الْآن فِي أخبارهم ثمَّ ظهر بطبرستان من العلوية الْحسن بن زيد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْحسن بن زيد بن الْحسن السبط وَيعرف بالداعي خرج سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ أَيَّام المستعين وَلحق بالديلم فأسلموا على يَدَيْهِ وَملك طبرستان ونواحيها وَصَارَ لَهُ هُنَاكَ دولة أَخذهَا من يَد أَخِيه سنة إِحْدَى وثلاثمائة الأطروش من بني الْحُسَيْن ثمَّ من بني عَليّ بن عمر دَاعِي الطالقان أَيَّام المعتصم وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك فِي الْبَاب الثَّانِي من الخاتمة عِنْد ذكر من دَعَا من أهل الْبَيْت وَاسم هَذَا الأطروش الْحسن بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد وَكَانَت لَهُم دولة وانقرضت أَيَّام الْخمسين والثلاثمائة وَاسْتولى عَلَيْهِم الديلم وَصَارَت لَهُم دولة أُخْرَى فَظهر بِالْيمن يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الرسي وَهُوَ ابْن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا لقب بذلك للكنة كَانَت فِي لِسَانه يعدل عَن لفظ قبا قبا إِلَى طِبًّا طِبًّا ابْن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى وَأظْهر هُنَالك دَعْوَى الزيدية وَملك صعدة وصنعا وَكَانَت لَهُم هُنَالك دولة لم تزل حَتَّى الْآن وَأول من ظهر مِنْهُم يحيى ابْن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَسَيَأْتِي ذكرهم فِي الدعاة للمبايعة ثمَّ ظهر أَيَّام الْفِتْنَة من دعاة العلوية صَاحب الزنج ادَعى أَنه أَحْمد بن عِيسَى بن زيد الشَّهِيد وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ أَيَّام الْمُهْتَدي وَطعن فِي نسبه فَادّعى ثَانِيًا أَنه من ولد يحيى بن زيد قَتِيل الجوزجان وَقيل إِنَّه انتسب إِلَى طَاهِر ابْن الْحُسَيْن بن عَليّ وَالَّذِي ثَبت عِنْد الْمُحَقِّقين أَنه عَليّ بن عبد الرَّحِيم بن عبد الْقَيْس فَكَانَت لَهُ ولبنيه دولة بنواحي الْبَصْرَة قَامَ بهَا الزنج إِلَى أَن انقرضت على يَد الْمُوفق طَلْحَة الْمُعْتَمد أَيَّام السّبْعين وَمِائَتَيْنِ(3/539)
ثمَّ ظهر القرمطي بنواحي الْبَحْرين وعمان سَار إِلَيْهَا من الْكُوفَة سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ أَيَّام المعتضد وانتسب إِلَى بني إِسْمَاعِيل ابْن الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق دَعْوَى كَاذِبَة وَكَانَ من أَصْحَابه الْحسن الجبائي وزكرويه القاشاني فقاما بالدعوة من بعده ودعوَا لِعبيد الله الْمهْدي وغلبوا على الْبَصْرَة والكوفة ثمَّ انْقَطَعُوا عَنْهَا إِلَى الْبَحْرين وعمان وَكَانَت هُنَالك دولة انقرضت آخر الْمِائَة الرَّابِعَة وتغلب عَلَيْهِم الْعَرَب من بني سليم وَبني عقيل وَفِي خلال ذَلِك استبد بَنو سامان بِمَا وَرَاء النَّهر آخر أَعْوَام السِّتين والمائتين وأقامت دولتهم إِلَى آخر الْمِائَة الرَّابِعَة ثمَّ اتَّصَلت دولة أُخْرَى فِي مواليهم بِغَزنَةَ إِلَى منتصف الْمِائَة السَّادِسَة وَكَانَت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أُخْرَى استبدوا بهَا على الْخُلَفَاء من لدن أَيَّام الرشيد والمأمون إِلَى أول الْمِائَة الثَّالِثَة ثمَّ أعقبتها دولة أُخْرَى لمواليهم بني طغج موَالِي كافور إِلَى السِّتين والثلاثمائة ثمَّ استولى الْمعز الفاطمي على مصر بعد موت كافور لما افتتحها لَهُ عَبده جَوْهَر الرُّومِي الصّقليّ واختط الْقَاهِرَة وَالْجَامِع الْأَزْهَر والقصرين واستمرت فِي يَد أَوْلَاده إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة حَتَّى كَانَ آخِرهم العاضد فاستولى عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب الْكرْدِي وَقطع خطْبَة الفاطميين وَأعَاد الْخطْبَة بِمصْر لبني الْعَبَّاس للمستضيء بن المستنجد مِنْهُم بعد أَن قطعت عَنْهُم مِائَتَيْنِ ونيفاً وَثَمَانِينَ سنة مُدَّة اسْتِيلَاء الفاطميين عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي ذكر كل ذَلِك فِي الدولة الأيوبية ثمَّ عَقبهَا دولة أُخْرَى لمواليهم وَهِي الدولة التركمانية الَّذين أَوَّلهمْ الْمعز أيبك التركماني ثمَّ عقبتها دولة أُخْرَى لمواليهم وَهِي الدولة الشركسية ثمَّ عقبتها دولة أُخْرَى وَهِي العثمانية وَسَيَأْتِي ذكر كل دولة فِي بَاب على حِدة على تَرْتِيب مَا ذَكرْنَاهُ وَفِي خلال هَذَا كُله تضايق نطاق الدولة العباسية بِخُرُوج المستبدين بالنواحي عَلَيْهَا وَلم يَمْتَد نطاقها إِلَّا إِلَى نواحي السوَاد والجزيرة فَقَط إِلَّا أَنهم قائمون بِبَغْدَاد على أَمرهم(3/540)
ثمَّ كَانَت للديلم دولة أُخْرَى واستولوا فِيهَا على النواحي وملكوا الْأَعْمَال ثمَّ سَارُوا إِلَى بَغْدَاد وملكوها وصيروا الْخَلِيفَة فِي مملكتهم من لدن المستكفي أَعْوَام الثَّلَاثِينَ والثلاثمائة إِلَى الأربعمائة وَالْخمسين فَكَانَت مدتهم مائَة وَعشْرين سنة وَكَانَت من أعظم الدول ثمَّ أَخذهَا من أَيْديهم الْمُلُوك السلجوقية إِحْدَى شعوب التّرْك فَلم تزل دولتهم من لدن الْقَائِم بِأَمْر الله العباسي سنة الْأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة أَو الْخمسين إِلَى آخر الْمِائَة السَّادِسَة وَكَانَت دولتهم كَذَلِك من أعظم الدول فِي الْعَالم وتشعبت عَنْهَا دوَل لَهُم ولأشياعهم فِي النواحي وَهِي بَاقِيَة لهَذَا الْعَهْد آخذة فِي التلاشي كَمَا سنذكر كلا فِي مَحَله من بَابه الْمَعْقُود لَهُ
(نسب العبيديين بإفريقية)
قد اخْتلف النَّاس فِي صِحَة نسب هَؤُلَاءِ العبيديين القائمين بإفريقية ثمَّ بِمصْر فَأثْبت نسبهم وَصَححهُ جمَاعَة ونفاه جمَاعَة كَثِيرُونَ قَالَ الْعَلامَة ابْن خلكان وَالْجُمْهُور على عدم صِحَة نسبهم وَأَنَّهُمْ كذبة أدعياء لَا حَظّ لَهُم فِي النِّسْبَة المحمدية أصلا فَمِمَّنْ أثبت نسبهم الْعَلامَة ابْن خلدون فِي تَارِيخه فَقَالَ نِسْبَة هَؤُلَاءِ العبيديين إِلَى أول خلفائهم وَهُوَ عبيد الله الْمهْدي بن مُحَمَّد الحبيب ابْن جَعْفَر الْمُصدق بن مُحَمَّد المكتوم بن إِسْمَاعِيل الإِمَام بن جَعْفَر الصَّادِق وَلَا عِبْرَة بِمن أنكر هَذَا النّسَب من أهل القيروان وَغَيرهم وَلَا بالمحضر الَّذِي كتب بِبَغْدَاد أَمَام الْقَادِر بِاللَّه العباسي بالقدح فِي نسبهم وَأشْهد فِيهِ أَعْلَام الْأَئِمَّة مثل الْقَدُورِيّ والصيمري وَأبي الْعَبَّاس الأبيوردي وَأبي حَامِد الأسفراييني وَأبي الْفضل النسوي وَأبي جَعْفَر النَّسَفِيّ وَمن العلويين المرتضى وَابْن البلجاني وَابْن الْأَزْرَق وزعيم الشِّيعَة أبي عبد الله بن النُّعْمَان فَهِيَ شهاده على السماع وَكَانَ ذَلِك الْقدح مُتَّصِلا فِي دولة العباسيين مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين فاشياً فِي أمصارهم وأعصارهم عِنْد أعدائهم شيعَة بني الْعَبَّاس فَتَلَوَّنَ النَّاس بِمذهب أهل(3/541)
الدولة فجازت شادتهم بذلك وَالشَّهَادَة على السماع فِي مثله جَائِزَة على أَنَّهَا شَهَادَة نفي فَلَا تعَارض شَهَادَة الْمُثبت مَعَ أَن طبيعة الْوُجُود فِي الانقياد إِلَيْهِم وَظُهُور كلمتهم حَتَّى فِي مَكَّة وَالْمَدينَة أدل شَيْء على صِحَة نسبهم وَأما من يَجْعَل نسبهم فِي الْيَهُود والنصرانية كميمون القداح فكفاه إثمَاً وسفسفة وَكَانَ شيعَة هَؤُلَاءِ العبيديين فِي الْمشرق واليمن وإفريقية وَكَانَ أصل ظُهُورهمْ بإفريقية دُخُول الْحلْوانِي وَأبي سُفْيَان من شيعتهم إِلَيْهَا أنفذهما جَعْفَر الصَّادِق وَقَالَ لَهما بالمغرب أَرض بور فاذهبا واحرثاها حَتَّى يَجِيء صَاحب الْبذر فَنزل أَحدهمَا بِبَلَد مرغة وَالْآخر بِبَلَد سَوف جمار وَكِلَاهُمَا من أَرض كتامة ففشت هَذِه الدعْوَة فِي تِلْكَ النواحي وَكَانَ مُحَمَّد الحبيب ينزل سليمَة من أَرض حمص وَكَانَ شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إِذا زاروا قبر الْحُسَيْن فجَاء مُحَمَّد بن الْفضل من عدن لاعة من الْيمن لزيارة مُحَمَّد الحبيب فَبعث مَعَه رستم بن الْحسن بن حَوْشَب من أَصْحَابه لإِقَامَة دَعوته بِالْيمن وَأَن الْمهْدي خَارج فِي هَذَا الْوَقْت فَسَار فأظهر الدعْوَة للمهدي من آل مُحَمَّد بنعوته الْمَعْرُوفَة عِنْدهم وَاسْتولى على أَكثر الْيمن وَسمي بالمنصور وابتنى حصناً بجبل لاعة وَفرق الدعاة فِي الْيمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر وَالْمغْرب وَلما توفّي مُحَمَّد الحبيب عهد إِلَى ابْنه عبيد الله وَقَالَ لَهُ أَنْت الْمهْدي وتهاجر بعدِي هِجْرَة بعيدَة فَتلقى محنَاً شَدِيدَة واتصل خَبره بِسَائِر دعاته فِي إفريقية واليمن وَبعث إِلَيْهِ أَبُو عبد الله الشيعي رجالاَ من كتامة يخبرونه بِمَا فتح الله عَلَيْهِم وَأَنَّهُمْ فِي انْتِظَاره وشاع خَبره واتصل بالخليفة العباسي على المكتفي فَطَلَبه ففر من أَرض الشَّام إِلَى الْعرَاق ثمَّ لحق بِمصْر وَمَعَهُ ابْنه الآخر أَبُو الْقَاسِم غُلَاما حدثَاً وخاصته ومواليهم بعد أَن كَانَ أَرَادَ قصد الْيمن فَبَلغهُ مَا أحدث بهَا عَليّ بن الْفضل وَأَنه أَسَاءَ السِّيرَة فانثنى عَن ذَلِك واعتزم على اللحاق بِأبي عبد الله الشيعي داعيتهم بالمغرب فارتحل هُوَ وَمن مَعَه من مصر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ثمَّ خَرجُوا من الْإسْكَنْدَريَّة فِي زِيّ التُّجَّار وَجَاء كتاب المكتفي إِلَى عَامل مصر وَهُوَ يَوْمئِذٍ عِيسَى النوشري بخبرهم وَالْقعُود لَهُم بالمرصاد وَكتب إِلَيْهِ بنعته وحليته فسرح(3/542)
فِي طَلَبهمْ ثمَّ وقف عَلَيْهِم وامتحن أَحْوَالهم فَلم يقف على الْيَقِين فِي شَيْء مِنْهَا فخلى سيلهم وجد الْمهْدي فِي السّير وَكَانَت لَهُ كتب فِي الْمَلَاحِم منقولة من آبَائِهِ سرقت من رَحْلِهِ فِي طَرِيقه فَيُقَال إِن ابْنه أَبَا الْقَاسِم استردها من برقة حِين زحف إِلَى مصر ثمَّ إِن الْمهْدي أغزى ابْنه أَبَا الْقَاسِم وجموع كتامة سنة إِحْدَى وثلاثمائة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ومصر وَبعث أسطوله فِي الْبَحْر فِي مِائَتي مركب وشحنها بالأمداد وَعقد عَلَيْهَا لحباسة بن يُوسُف فسارت العساكر فملكوا برقة والإسكندرية والفيوم فَبعث المقتدر عَسَاكِر من بَغْدَاد مَعَ سُبكتكين ومؤنس الْخَادِم فتواقعوا مَعَهم مرَارًا وأجلوهم عَن مصر فَرَجَعُوا إِلَى الْمغرب ثمَّ أعَاد الْمهْدي حباسة فِي المعسكر فِي الْبَحْر سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فملكها وَسَار يُرِيد مصر فجَاء مؤنس الْخَادِم من بَغْدَاد لمحاربته فتواقعوا مَرَّات وَكَانَ الظُّهُور آخرا لمؤنس وَقتل من أَصْحَاب حباسة حوالي سَبْعَة آلَاف وَانْصَرف إِلَى الْمغرب فَقتله الْمهْدي فانتفض عَلَيْهِ لذَلِك أَخُو حباسة واسْمه عرُوبَة وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من كتامة خلق كثير من كتامة والبربر فسرح إِلَيْهِ الْمهْدي مَوْلَاهُ غَالِبا فِي الجيوش فَهَزَمَهُمْ وَقتل عرُوبَة وَبني عَمه فِي أُمَم لَا تحصى ثمَّ اعتزم الْمهْدي على بِنَاء مَدِينَة على سَاحل الْبَحْر يتخذها معصماً لأهل بَيته لما كَانَ يتوقعه على الدولة من الْخَوَارِج ويحكى عَنهُ أَنه قَالَ بنيتها ليعتصم بهَا الفواطم سَاعَة من نَهَار وأراهم موقف صَاحب الْحمار بساحتها فَخرج بِنَفسِهِ يرتاد موضعا لبنائها وَمر بتونس وقرطاجنة حَتَّى وقف على مَكَانهَا جَزِيرَة مُتَّصِلَة بِالْبرِّ كصورة كف اتَّصَلت بزند فاختطها وَهِي المهدية وَجعلهَا وأدار ملكه وأدار عَلَيْهَا سوراً محكماً وَجعل لَهَا أبواباً من الْحَدِيد وزن كل مصراع مائَة قِنْطَار وابتدأ بنائها آخر سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَلما ارْتَفع السُّور رمى من فَوْقه بِسَهْم إِلَى نَاحيَة الْمغرب وَنظر إِلَى منتهاه وَقَالَ إِلَى هَذَا الْموضع يصل صَاحب الْحمار يَعْنِي أَبَا يزِيد وَأَبُو يزِيد هَذَا خارجي خرج عَلَيْهِ نهب باجة وَغَيرهَا وأحرق وَقتل الْأَطْفَال وسبى النِّسَاء وَاجْتمعَ إِلَيْهِ قبائل البربر وَاتخذ الأخبية والبيوت وآلات(3/543)
الْحَرْب وَأهْدى إِلَيْهِ رجل حمارا أَشهب وَكَانَ يركبه وَبِه لقب وَكَانَ يلبس جُبَّة صوف قَصِيرَة ضيقَة الكمين وَهُوَ أَبُو يزِيد بن مخلد بن كيداد وَكَانَ جده كيداد من أهل قسطيلية من بلد توزر وَكَانَ يخْتَلف إِلَى بِلَاد السودَان بِالتِّجَارَة وَبهَا ولد وَلَده أَبُو يزِيد الْمَذْكُور ثمَّ أَمر أَن ينحت فِي الْجَبَل دَار لإنشاء السفن تسع مائَة سفين ويخبأ فِي أرْضهَا أهراء الطَّعَام ومصانع اللمياه وَبنى فِيهَا الْقُصُور والدور فكملت سنة سِتّ وثلاثمائة فَلَمَّا فرغ مِنْهَا قَالَ الْيَوْم أمنت على الفواطم ثمَّ جهز ابْنه أَبَا الْقَاسِم بالعساكر إِلَى مصر مرّة ثَانِيَة سنة سبع وثلاثمائة فَملك الْإسْكَنْدَريَّة ثمَّ سَار وَملك الجيزة والأشمونين وَكَثِيرًا من الصَّعِيد وَكتب إِلَى أهل مَكَّة بِطَلَب الطَّاعَة فَلم يُجِيبُوهُ إِلَيْهَا وَبعث المقتدر مؤنساً الْخَادِم فِي العساكر فَكَانَت بَينه وَبَين أبي الْقَاسِم عدَّة وقعات ظهر فِيهَا مؤنس وَأصَاب عَسْكَر أبي الْقَاسِم الْجهد من الغلاء والوباء فَرجع إِلَى إفريقية وَكَانَت مراكبهم قد وصلت من المهدية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي ثَمَانِينَ أسطولاَ مددَاً لأبي الْقَاسِم ثمَّ توفّي عبيد الله الْمهْدي فِي ربيع سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة وَولي بعده ابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد وَيُقَال نزار ولقب الْقَائِم بِأَمْر الله فَعظم حزنه على أَبِيه حَتَّى يُقَال إِنَّه لم يركب سَائِر أَيَّامه إِلَّا مرَّتَيْنِ وَكثر الثوار عَلَيْهِ فِي النواحي فسير إِلَيْهِم وَأَخذهم واستباح أَمْوَالهم وديارهم وحاصر الأدارسة مُلُوك الرِّيف وَدخل الْمغرب وحاصر فاس واستنزل عاملها أَحْمد بن بكر ثمَّ بعث عسكراً إِلَى مصر مَعَ خادمه زيران فملكوا الْإسْكَنْدَريَّة فَجَاءَت عَسَاكِر الإخشيد من مصر فأزعجوهم عَنْهَا فَرَجَعُوا إِلَى الْمغرب ثمَّ توفّي الْقَائِم أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبيد الله الْمهْدي صَاحب إفريقية بعد أَن عهد إِلَى وَلَده إِسْمَاعِيل وَذَلِكَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَقَامَ بعده وَلَده إِسْمَاعِيل وَذَلِكَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَقَامَ بعده وَلَده إِسْمَاعِيل بعهده إِلَيْهِ وتلقب بالمنصور هَذَا مَا ذكره ابْن خلدون ثمَّ اسْتمرّ فِي ذكر تعدادهم وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى آخِرهم العاضد لدين الله وَأما غير مَا ذكره ابْن خلدون فِي شَأْنهمْ فَقَالَ بِهِ جماعات كَثِيرُونَ مِنْهُم الإِمَام الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه دوَل الْإِسْلَام وَنَصه اعْلَم أَن مبدأ أَمرهم ومنشأ خبرهم أَن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله القداح لِأَنَّهُ كَانَ يعالج الْعُيُون(3/544)
بالقدح فتبصر ابْن مَيْمُون بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قدم إِلَى سليمَة وَكَانَ لَهُ بهَا ودائع وأموال من ودائع جده عبد الله القداح فاتفق أَن جرى بِحَضْرَتِهِ ذكر النِّسَاء فوصفت لَهُ امْرَأَة يَهُودِيّ حداد مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَهِي فِي غَايَة الْحسن وَالْجمال وَله مِنْهَا ولد يماثلها فِي الْجمال فَتَزَوجهَا وأحبها وَحسن موضعهَا مِنْهُ وَأحب وَلَدهَا فَعلمه الْعلم وَصَارَت لَهُ نفس عَظِيمَة وهمة كَبِيرَة وَكَانَ الْحُسَيْن يدعيِ أَنه الوصِي وَصَاحب الْأَمر والدعاة بالمغرب واليمن يكاتبونه وَلم يكن لَهُ ولد فعهد إِلَى الْيَهُودِيّ ابْن الْحداد ربيبه وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَال وَأمر أَصْحَابه بِطَاعَتِهِ وخدمته وَقَالَ إِنَّه الإِمَام الرضي وزوجه ابْنة عَمه وَهُوَ جدهم عبيد الله فتلقب بالمهدي وَوضع لنَفسِهِ نسبا هُوَ عبيد الله بن الْحسن بن عَلِي بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب فَلَمَّا توفّي الْحُسَيْن قَامَ بعده الْمهْدي هَذَا فَلَمَّا انتشرت دَعوته أرسل إِلَيْهِ داعيه بالمغرب بِمَا فتح الله عَلَيْهِ من الْبِلَاد وَأَنَّهُمْ ينتظرون قدومه إِلَيْهِم فشاع خَبره عِنْد النَّاس أَيَّام المكتفي العباسي عَليّ بن المعتضد فَطَلَبه فهرب هُوَ وَولده نزار الملقب بالقائم وَهُوَ يومئذٍ غُلَام ومعهما خاصتهما ومواليهما فَلَمَّا وصلا إِلَى إفريقية أحضر الْأَمْوَال مِنْهَا واستصحبها مَعَه فوصل إِلَى رقادة فِي الْعشْر الْأَخير من شهر ربيع الأول سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَنزل فِي قصر من قُصُورهَا وَأمر أَن يدعى لَهُ فِي الْخطْبَة فِي جَمِيع تِلْكَ الْبِلَاد وَجلسَ يَوْم الْجُمُعَة للمبايعة وأحضر النَّاس بالعنف ودعاهم لمذهبه فَمن أجَاب أحسن إِلَيْهِ وَمن أَبى حَبسه فاستمر على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه نزار وتلقب بالقائم بِأَمْر الله تَعَالَى وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه إِسْمَاعِيل وتلقب بالمنصور انْتهى مَا ذكره الْحَافِظ الذَّهَبِيّ قَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة الْمَنْصُور هَذَا وَذكر أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَرْوذِيّ قَالَ خرجت مَعَ الْمَنْصُور بن الْقَائِم بن الْمهْدي العبيدي صَاحب(3/545)
إفريقية يَوْم هزم أَبَا يزِيد الْخَارِجِي فسايرته وَبِيَدِهِ رمحان فَسقط أَحدهمَا مرَارًا فمسحته وتفاءلت لَهُ فَأَنْشَدته من // (الطَّوِيل) //
(فأَلقَتْ عَصَاها واسْتَقَرَّ بِهَا الَّنوى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بالإيابِ المُسافِر)
فَقَالَ هلا قلت مَا هُوَ خير من هَذَا وأصدق {وَأَوحَينا إِلىَ مُوسَى أَن ألقِ عَصاك فَإِذا هيَ تَلقَفُ مَا يأفكوُنَ فَوَقَعَ الحقَّ وَبطلَ مَا كَانُوا يعَمَلُونَ فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وَاَنقَلَبوُا صاغِريِن} الْأَعْرَاف 117 119 فَقلت يَا مَوْلَانَا أَنْت ابْن رَسُول الله قلت مَا عنْدك لما عنْدك من الْعلم وَكَانَ الْمَنْصُور شجاعاً رابط الجأش فصيحاً بليغَاً يرتجل الْخطب ارتجالا وَتُوفِّي بمدينته الَّتِي بناها وسماها المنصورية انْتهى مَا ذكره ابْن خلكان وإفريقية بِكَسْر الْهمزَة وَالْفَاء الساكنة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة بعْدهَا مثناة تحتية فقاف مَكْسُورَة فمثناة تحتية مُشَدّدَة إقليم عَظِيم بِبِلَاد الْمغرب افْتتح فِي خلَافَة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه معد الملقب بالمعز بن إِسْمَاعِيل الملقب بالمنصور بن نزار الملقب بالقائم بن عبيد الله الملقب بالمهدي هَذَا الْمعز أول من ملك مصر من العبيديين أرسل عَبده جوهراً الرُّومِي الصّقليّ أرْسلهُ من إفريقية بِلَاد الْمغرب لأخذ بِلَاد مصر عِنْد اضْطِرَاب جَيشِهَا بعد موت كافور الإخشيدي فَلم يجتمعوا عَلَيْهِ فَأرْسل بَعضهم إِلَى الْمعز يستنجد بِهِ فَأرْسل مَوْلَاهُ جوهراً هَذَا فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة فوصل إِلَى الْقَاهِرَة فِي شعْبَان فِي مائَة ألف مقَاتل وَمَعَهُ من الْأَمْوَال ألف وَمِائَتَا صندوق وَقيل خَمْسمِائَة صندوق فانزعج النَّاس وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ إِلَيْهِ الْأمان فآمنهم فَلم يرض الْجَيْش بذلك وبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الْأمان لأَهْلهَا ودخلها يَوْم الثُّلَاثَاء لثمان عشرَة لَيْلَة خلت من شعْبَان فشق مصر وَنزل فِي مَكَان الْقَاهِرَة الْيَوْم وَأسسَ من ليلته القصرين وخطب يَوْم الْجُمُعَة(3/546)
الْآتِيَة وَقطع الدُّعَاء لبني الْعَبَّاس ودعا لمَوْلَاهُ الْمعز وَذكر الْأَئِمَّة الاثْنَي عشر وَأذن بحي على خير الْعَمَل وَكَانَ يظْهر الْإِحْسَان إِلَى النَّاس وَيجْلس كل يَوْم سبت مَعَ الْوَزير جَعْفَر بن الْفُرَات واجتهد فِي تَكْمِيل الْقَاهِرَة وَفرغ من جَامعهَا سَرِيعا وَهُوَ الْجَامِع الْأَزْهَر الْمَشْهُور وَأرْسل أميرَاً من أمرائه يُسمى جَعْفَر بن فلاح إِلَى الشَّام فَأَخذهَا لسَيِّده الْمعز ثمَّ قدم مَوْلَاهُ الْمعز فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة وصحبته توابيت آبَائِهِ فَلَمَّا وصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي شعْبَان مِنْهَا تَلقاهُ أَعْيَان مصر فَخَطب النَّاس هُنَاكَ خطْبَة بليغة ارتجالاَ ذكر فِيهَا فَضلهمْ وشرفهم وَقد كذب وَقَالَ إِن الله تَعَالَى قد أغاث الرعايا بهم وبذويهم حكى ذَلِك قَاضِي بِلَاد مصر وَكَانَ جَالِسا إِلَى جَانِبه ثمَّ إِنَّه سَأَلَهُ هَل رَأَيْت خَليفَة أفضل مني فَقَالَ القَاضِي لم أر أحدا من الخلائف سوى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ أحججت فَقَالَ نعم قَالَ وزرت قبر النَّبِي
قَالَ نعم قَالَ وقبر أبي بكر وَعمر قَالَ فتحيرتُ مَاذَا أَقُول ثمَّ نظرت فَإِذا ابْنه قَائِم مَعَ كبار الْأُمَرَاء فَقلت شغلني رَسُول الله
عَنْهُمَا كَمَا شغلني أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن السَّلَام على ولي الْعَهْد ونهضت إِلَيْهِمَا فَسلمت عَلَيْهِمَا وَرجعت فانفسح الْمجْلس إِلَى غير هَذَا المجال ثمَّ سَار من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى مصر فَدَخلَهَا فِي الْيَوْم الْخَامِس من رَمَضَان من هَذِه السّنة فَنزل بالقصرين ثمَّ كَانَت أول حُكُومَة انْتَهَت إِلَيْهِ أَن امْرَأَة كافور الإخشيدي تقدّمت إِلَيْهِ فَذكرت لَهُ أَنَّهَا كَانَت أودعت رجلا من الْيَهُود الصواغ قبَاء من لُؤْلُؤ منسوج بِالذَّهَب وَأَنه جَحدهَا ذَلِك فَاسْتَحْضرهُ وَقَررهُ فَجحد الْيَهُودِيّ ذَلِك وَأنْكرهُ فَأمر عِنْد ذَلِك الْمعز أَن تحفر دَاره وَأَن يسْتَخْرج مَا فِيهَا فوجدوا القباء قد جعله فِي جرة وَدَفنه فسلمه الْمعز إِلَيْهَا فتقدمت إِلَيْهِ وعرضته عَلَيْهِ فَأبى أَن يقبله مِنْهَا ورده عَلَيْهَا فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ الْحَاضِرُونَ من مُؤمن وَكَافِر وَقد ثَبت فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله
قَالَ إِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر وَفِي بعض التواريخ أَنه سُئِلَ فِي ذَلِك الْمجْلس عَن نسبه فاستل سَيْفه إِلَى نصفه بيمناه وَقبض قَبْضَة من الذَّهَب بيسراه فَقَالَ هَذَا نسبي وَهَذَا حسبي وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك(3/547)
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة عملت الروافض الْبِدْعَة الشنعاء يَوْم عَاشُورَاء بِبَغْدَاد من تَعْلِيق المسوح ونثر النتن فِي الْأَسْوَاق وَخُرُوج النِّسَاء سافرات الْوُجُوه والنهود يَنحن على الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَقعت فتْنَة عَظِيمَة بَين أهل السّنة وَالرَّوَافِض وكلا الْفَرِيقَيْنِ قَلِيل عقل بعيد من السداد وَذَلِكَ أَن جمَاعَة من أهل السّنة أركبوا امْرَأَة جملا وسموها عَائِشَة وَتسَمى بَعضهم بطلحة وَالزُّبَيْر وَقَاتل مقَاتل أَصْحَاب عَليّ بن أبي طَالب فَقتل من الْفَرِيقَيْنِ خلق كثير وعاثت العيارون فِي الْبَلَد بِالْفَسَادِ ونهبت الْأَمْوَال وَقتل الرِّجَال ثمَّ أَخذ جمَاعَة مِنْهُم فَقتلُوا وصلبوا فسكنت الْفِتْنَة قَالَ الْعَلامَة ابْن الْأَثِير فِي كَامِله لما اسْتَقر الْمعز الفاطمي فِي الديار المصرية وتأطد ملكه سَار إِلَيْهِ الْحُسَيْن بن أَحْمد القرمطي الأحسائي قَالَ ابْن عَسَاكِر وَبَقِيَّة نسبه ابْن أبي سعيد الْحسن بن بهْرَام وَيُقَال الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن يُوسُف بن كودر كار يُقَال أصلهم من الْفرس قَالَ وَيعرف الْحُسَيْن هَذَا بالأعصم وَكَانَ قد تغلب على دمشق سنة سبع وَخمسين وثلاثمائة ثمَّ عَاد إِلَى بَلَده الأحساء بعد سنة ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فِي سنة سِتِّينَ وَكسر جَيش جَعْفَر بن فلاح أول من نَاب بِالشَّام عَن الْمعز الفاطمي ذكر لَهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر أشعاراً حَسَنَة رائقة فائقة فَمن ذَلِك مَا كتبه إِلَى جَعْفَر بن فلاح قبل الْحَرْب بَينهمَا وَهُوَ هَذِه الأبيات من // (الْبَسِيط) //
(أَلحَرْبُ ساكِنَةٌ والخيلُ صَافِنَهٌ ... والسِّلْمُ مبتَذَلٌ والظّلِ مَمْدُودُ)
(فإنْ أنبتُمْ فَمقْبُولٌ إِنَابِتُكُمْ ... وَإِنْ أبيتُمْ فَهَذا الكُورُ مَشْدُودُ)
(على ظهورِ المَطَايا أَو يَرِدْنَ بِها ... دِمَشْقَ وَالْبَابُ مَهْدُومٌ ومَرْدُودُ)
(إِني امرُؤٌ لَيْسَ من شَأْنِي وَلَا أَرَبِي ... طَبْلٌ يَرِنُّ وَلاَ نَايٌ وَلاَ عُودُ)
(ولاَ اعْتِكَافٌ علَى خمرٍ ومجْمَرَةٍ ... وذاتِ دَل لهَا دَلٌّ وتفنيدُ)
(وَلَا أَبيتُ بَطِينَ البَطْنِ من شِبَعِ ... وَلِي رفيقٌ خميصُ البَطْنِ مَهْجُودُ)
(وَلَا تَسَامَتْ بِيَ الدُّنْيَا إِلَى طَمَعٍ ... يَوْمًا وَلاَ غرَّنِي مِنْهَا المَوَاعيدُ)(3/548)
وَمن شعره أَيْضا قَوْله من // (الْكَامِل) //
(يَا سَاكِنَ البَلَدِ المَنِيعِ تَعزُّزًا ... بِقِلاَعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ)
(لاَ عِزَّ إِلاِّ لِلْعَزِيزِ بِنَفْسِهِ ... وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ)
ثمَّ فِي هَذَا الْعَام وَهُوَ عَام ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة سَار إِلَى مصر فِي جَيش كَبِير من أَصْحَابه والتقى مَعَه أَمِير الْعَرَب بِبِلَاد الشَّام وَهُوَ حسان بن الْجراح الطَّائِي فِي عرب الشَّام بكاملهم فَلَمَّا سمع بِهِ الْمعز الفاطمي سقط فِي يَده لكثرتهم فَكتب إِلَى القرمطي يستميله وَيَقُول لَهُ إِن دَعْوَة آبَائِك إِنَّمَا كَانَت لآبائي قَدِيما فدعوتنا وَاحِدَة وَيذكر فَضله وَفضل آبَائِهِ فَرد لَهُ الْجَواب قَوْله من // (الْكَامِل) //
(زَعَمتْ رِجَالُ العُرْبِ أَنِّي هِبْتُهَا ... فَدَمِى إذَنْ مَا بَينْهَا مَطْلُولُ)
(يَا مِصْرُ إنْ لَمْ أَسْقِ أَرْضَكِ مِنْ دَمٍ ... يَرْوِى ثَرَاكِ فَلاَ سَقَانِي النِّيلُ)
وصل كتابك الَّذِي كثر تَفْصِيله وَقل تَحْصِيله وَنحن سائرون على أَثَره وَالسَّلَام فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى أَطْرَاف مصر عاثوا قتلا ونهباً وَفَسَادًا وحار الْمعز مَاذَا يفعل لِكَثْرَة من مَعَ القرمطي وَضعف جَيْشه عَن مقاومته فَعدل إِلَى المكيدة والخديعة فراسل حسان بن الْجراح أَمِير الْعَرَب ووعده بِمِائَة ألف دِينَار فَأرْسل إِلَيْهِ حسان أَن ابْعَثْ إِلَيّ بِمَا التزمت فِي أكياس وَأَقْبل بِمن مَعَك فَإِذا الْتَقَيْنَا انهزمتُ بِمن معي فَأرْسل إِلَيْهِ الْمعز بِمِائَة ألف فِي أكياس وَلكنهَا زغل أَكْثَرهَا ضرب النّحاس وَألبسهُ ذَهَبا وَجعله فِي أَسْفَل الأكياس وَوضع فِي رُءُوس الأكياس الدَّنَانِير الْخَالِصَة وَلما بعثها إِلَيْهِ ركب فِي أَثَرهَا بجيشه فَالتقى النَّاس فَلَمَّا تواجه الْفَرِيقَانِ ونشبت الْحَرْب بَينهمَا انهزم حسان بن الْجراح بالعرب فضعف جَانب القرمطي وَقَوي عَلَيْهِ الْمعز الفاطمي فَكَسرهُ وانهزمت القرامطة بَين يَدَيْهِ فَرَجَعُوا إِلَى أَذْرُعَات فِي أذلّ حَال وَبعث الْمعز فِي آثَارهم بعض الْأُمَرَاء فِي عشرَة آلَاف فَارس ليحسم مَادَّة القرامطة وَلما أرسل جَوْهَر الْقَائِد الرُّومِي الصّقليّ رَسُولا إِلَى سَيّده الْمعز الفاطمي بإفريقية يبشره بِفَتْح الديار المصرية وَإِقَامَة الدعْوَة وَالْخطْبَة لَهُ بهَا فَرح فرحَاً شَدِيدا وامتدحه الشُّعَرَاء فَكَانَ مِمَّن امتدحه شاعره مُحَمَّد بن هَانِئ الأندلسي بالقصيدة الْمَشْهُورَة وَهِي من // (الطَّوِيل) //
(تَقُولُ بَنو العباسِ هَلْ فُتِحَتْ مِصْرُ ... فَقُلْ لبني العباسِ قَدْ قُضِي الأَمْرُ)(3/549)
(وَقد جَاوَز الإسكندريةَ جَوْهَرٌ ... تطالِعُهُ البُشْرى ويَقْدُمُهُ النَّصْرُ)
(وَقد أَوْفدَتْ مِصْرٌ إليهِ وُفودَهَا ... وَزِيدَ على المعقودِ مِنْ جسرِهَا جِسْرُ)
(فَمَا جَاء هَذَا اليومُ إلاَّ وَقَدْ غَدَتْ ... وأيْدِيكُمُ مِنْهَا ومِنْ غَيرِها صِفْرُ)
(فَلَا تُكْثِرُوا ذمَّ الزمَانِ الَّذِي خلا ... فذلِك عصْرٌ قد تَقصَّى وّذَا عَصْرُ)
(أَفِى الجيشِ كنتُمْ تمْتَرُونَ رُوَيْدكُم ... فَهَذَا القَنَا العرّاصُ والعسْكَرُ المجْرُ)
(وَقد أَشْرفتْ خيلُ الإِلهِ طَوَالِعًا ... عَلَى الدِّينِ والدُّنيا كَمَا طَلَعَ الفجْرُ)
(وَذَا ابْنُ رسولِ الله يطلُبُ وَتْرَهُ ... وكَانَ حَرٍ ألاَّ يَضِيعَ لَهُ وَتْرُ)
(ذَرُوا الوِرْدَ فِي مَاءِ الفُرَاتِ لِخيلِهِ ... فَلَا الضَّحْلُ مِنْهُ تمنَعُونَ وَلَا الغَمْرُ)
(أفِى الشمسِ سكٌّ أِنها الشمسُ بعْدَ مَا ... تَجلَّتْ عِيَانّا ليسَ مِنْ دونِها سِتْرُ)
(وَما هِيَ إِلَّا آيةٌ بعدَ آيةٍ ... ونذرٌ لكم إِنْ كَانَ تُغِنيكُمُ النٌّ ذْرُ)
(وكونُوا حَصِيدًا خامِدِينَ أوِ ارْعَوُوا ... إِلَى ملِكٍ فِي كَفِّه الموتُ والنَّشْرُ)
(أَطِيعُوا إِمَامًا للأئمةِ فَاضِلاً ... كمَا كَانَتِ الأَعْمَالُ يَفْضُلُهَا البرُّ)
(رِدُوا سَاقياً لَا تُنْزِفُونَ حِيَاضَهُ ... جموعاً كَمَا لَا تُنْزِفُ الأبْحُرَ الذَّرُّ)
(فَإِن تَتْبَعُوهُ فَهْوَ مَوْلاكُمُ الَّذِي ... لهُ بِرَسُولِ الله دُونَكُمُ الفَخْرُ)
(وإلاَّ فبُعْدًا للبَعِيدِ فَبَيْنَهُ ... وبينَكُمُ مَا لاَ يُقرِّبهُ الدَّهْرُ)
(أَفِى ابْنِ أَبى السِّبْطينِ أمْ فِي طليقِكُمْ ... تَنَزَّلتِ الآياتُ والسُّوَرُ الغُرُّ)
(بَنِى نتلةٍ مَا أَوْرَثَ الله نتلة ... وَمَا ولدَتْ هَلْ يَسْتَوِي العَبْدُ والحُرُّ)
(وَأَنَّى بِهذَا وَهْيَ أعْدَتْ بلُؤْمِها ... أَبَاكُمْ فإيَّاكُمْ ودَعْوى هِيَ الكُفْرُ)
(ذَرُوا النَّاسَ رُدُّوهُمْ إِلَى مَنْ يَسُوسُهُمْ ... فمَا لكُمُ فِي الأَمْرِ عُرْفٌ وَلَا نُكْرُ)
(أسرتُمْ قُرُومًا بالعراقِ أعِزةَّ ... فَقَدْ فُكَّ من أعناقِهِمْ ذلِك الأَسْرُ)
(وَقد بَزَّكُمْ أيَّامَكُمْ عَصَبُ الهُدَى ... وَأَنْصَارُ دِينِ اللهِ والبيضُ والسُّمْرُ)
(وَمُقْتَبِلٌ أَيَّامَهُ مُتَهلِّلٌ ... إِلَيْهِ الشَّبابُ الغَضُّ والزَّمَنُ النَّضْرُ)
(أَدَارَ كَمَا شَاءَ الوَرَى وتَحَيَّزَتْ ... على السبعةِ الأَفْلاَكِ أُنْمُلُهُ العَشْرُ)
(أَتَدْرُونَ مَنْ أزكى البريةِ مَنْصِباً ... وأفضلُهَا إِنْ عُدِّدَ البَدْوُ والحَضْرُ)
(تعالَوْا إِلى حكامِ كُلِّ قبيلةٍ ... فَفِى الأَرْضِ أَقْيَالٌ وأندِيَةٌ زُهْرُ)
(وَلاَ تَعْدِلُوا بالصِّيدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... وَلَا تَتْرُكوا فِهْراً وَمَا جمعتْ فِهْرُ)(3/550)
(فجيئوا بمَنْ ضمَّتْ لُّؤىُّ بنُ غالبٍ ... وجِيئوا بِمن ضمَّتْ كنانَةُ والنّضْرُ)
(وَلَا تَذرُوا عُلْيا مَعدِّ وعِزَّهَا ... ليُعْرفَ منكُمْ مَنْ لَهُ الحقُّ والأَمْرُ)
(ومِنْ عَجَبِ أَن اللسانََ جَرَى لَهُمْ ... بذكرٍ عَلَى حينَ انْقَضَوْا وانْقَضَى الذِّكْرُ)
(فَبَادُوا وعَفَّى الله آثارَ مُلْكِهِمْ ... فَلاَ خَبَرٌ تلقَاهُ عنهُمْ وَلَا خُبْرُ)
(أَلاَ تلكمُ الأرْضُ الأَرِيضَةُ أَصْبحَتْ ... وَمَا لِبنِى العباسِ عرضهَا ختر)
(فَقَدَ دَالَتِ الدُّنيَا لآلِ محمدٍ ... وقدْ جرَّرَتْ أذيالَهَا الدولةُ البِكْرُ)
(وردَّ حقوقَ الطالبيِّينَ مَنْ زكَتْ ... صنائِعُهُ فِي آلِهِ وزَكَا الذُّخْرُ)
(مُعِزُّ الهُدَى والدينِ والرَّحِمِ الَّتِي ... بِهِ اتَّصلَتْ أسبَابُهَا ولَهُ الشُّكْرُ)
(مَنِ انَتاشَهُمْ فِي كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... فبُدِّلَ أَمْناً ذَلِكَ الخَوْفُ والذُّعْرُ)
(وكُلُّ إماميِّ يَجيءُ كَأَنَّمَا ... على يَدِهِ الشِّعْرَى وَفي وجْهِهِ البَدْرُ)
(وَلما تولَّتْ دولةُ النَّصْبِ عَنْهُمُ ... تولى العَمَى والجَهْلُ واللُّؤمُ والغَدْرُ)
(حقوقٌ أتَتْ من دونِهَا أَعصُرٌ خَلَتْ ... فَمَا رَدَّهَا دَهْرٌ عليهِمْ وَلَا عَصْرُ)
(فجرَّدَ ذُو التَّاجِ المقاديرَ دونَهَا ... كَمَا جُرِّدَتْ بيضٌ مضارِبُها حُمْرُ)
(وأنقذَها مِنْ بُرْثُنِ الدهرِ بعدَمَا ... تواكَلَها الفرْس الْمُنِيب والهَصْرُ)
(وأجْرَى على مَا أنزل اللَّهُ قَسْمَهَا ... فَلمْ يَنْخَرِمْ فيهَا قليلٌ وَلَا كُثْرُ)
(فدونَكُمُ يَا آلَ بَيْتِ محمَّدٍ ... صَفَتْ بمعزِّ الدِّينِ حَمْأَتُها الكُدْرُ)
(فقدْ صارَتِ الدُّنْيَا إليكُمْ مَصِيرَهَا ... وَصَار لَهُ الحمْدُ المُضَاعَفُ والأَجْرُ)
(أمامٌ رأيتُ الدينَ مُرْتَبِطًا بِهِ ... فَطَاعَتُه فَوْزٌ وعِصْيَانه خُسْرُ)
(أرَى مَدْحَهُ كالمدحِ لله إِنَّه ... قُنُوتٌ وَتَسْبِيحٌ يُحَطُّ بِهِ الوِزْرُ)
(هُوَ الوَارِثُ الدُّنْيَا ومَنْ خُلِقَتْ لَهُ ... مِنَ النَّاسِ حَتَّى يلتقي الْقطر والقطْرُ)
(وَمَا جَهِلَ المنصورُ فِي المَهْدِ فَضْلَهُ ... وَقد لاحَتِ الأعْلاَمُ والسِّمة البُهْرُ)
(رَأَى أَنْ يُسَمَّى مالكَ الأرضِ كلِّها ... فلمَّا رَآهُ قَالَ ذَا الصَّمَدُ الوَتْرُ)
(وَمَا ذَاكَ أخذٌ بالفَرَاسَةِ وَحْدَهَا ... وَلا أَنه فِيها إِلَى النُّطْقِ مُضْطَرُّ)
(ولكنَّ مَرْجُوّاً مِنَ الأَثَرِ الَّذِي ... تَلَقّاهُ عَنْ حَبْرٍ ضَنِينٍ بِهِ حبْرُ)
(وكنزاً مِنَ العِلْمِ الرُّبُوبِيِّ إِنه ... هوَ العِلْمُ حقَّا لَا العِيَافَةُ والزَّجْرُ)
(فبشِّرْ بِهِ البيتَ المحرَّمَ عاجِلاً ... إذَا أَوْجَفَ التَّطْوَافُ بالناسِ والنَّفْرُ)(3/551)
(وَهَا فَكَأَنْ قَدْ زارَهُ وتجانفَ ... بِهِ عنْ قصورِ المُلْكِ طيبَة والسرُّ)
(هلِ البيتُ بَيْتُ الله إلاَّ حَرِيمُه ... وهَلْ لِغريبِ الدارِ عَنْ دارِهِ صَبْرُ)
(مَنَازِلُهُ الأُولَى اللَّواتِى يَشُقْنَهُ ... فليْسَ لَهُ عنهنَّ مَعْدًى وَلَا قصْرُ)
(وحيثُ تلقَّى جَدُّه القدسَ وانتحتْ ... لَهُ كلماتُ اللَّهِ والسرُّ والجَهْرُ)
(فَإِن يَتَمنَّ البيتُ تلكَ فَقَدْ دنَتْ ... مواكِبُها والعُسْرُ مِنْ بعدِه اليُسْرُ)
(ألستَ ابنَ بانِيهِ فَلَو جِئْتهُ انجلتْ ... غواشِيهِ وابْيَضَّتْ مناسِكُه الغُبْرُ)
(حبيبٌ إلَى بطحاءِ مَكَّة موسِمٌ ... تحيي مَعَدًّا فيهِ مَكَّةُ والحِجْرُ)
(هناكَ تضئُ الأرضُ نورَاً وتلتقِى ... دُنُوًّا فَلَا يََسْتَبْعِد السَّفَرَ السَّفْرُ)
(وتُدْرَى فروضٌ الحجِّ مِنْ نَاقِلاَتِهِ ... ويمْتَازٌ عِنْد الأمَّةِ الخَيْرُ والشَّرُّ)
(وشهدتُّ لَقَدْ أعززْتَ ذَا الدّيِنَ عِزّةً ... خَشِيتُ لَهَا أَن يَسْتَبِدَّ بكَ الكِبْرُ)
(وأميضتَ عزماً ليسَ يعْصيكَ بَعْدَهُ ... مِنَ الناسِ إِلَّا جاهِلٌ بك مُغْترُّ)
(فَلم يَبْقَ إِلَّا البُرْدُ تترى وقَدْ نأََى ... عليكَ بِهِ أَقْصى مواعيدِه شهْرُ)
(وَمَا ضَرَّ مِصرًا حينَ ألقتْ قِيَادَهَا ... إِليك أمُدَّ النيلُ أم غَالَهُ الجَزْرُ)
(وَقد حُبِّرتْ فيهَا لَك الخُطَبُ الَّتِي ... بدَائِعُها نَظَمٌ وألفاظُها نثْرُ)
(فَلم يُهْترَقْ فيهَا لِذِى ذِمَّةٍ دمٌ ... حَرامٌ وَلم يُحْملْ على مُسْلِم إِصْرُ)
(غَدَا جَوْهَرٌ فيهَا غَمَامَةَ رَحْمَةٍ ... يَقِى جَانِبَيْها كُلّ حادثةٍ تعْرُو)
(كأَنِّى بِهِ قَدْ سَارَ فِي القومِ سِيرَةً ... سَواء إِذَا مَا حلَّ فِي الأرضِ وَالْقَطْرُ)
(وَمن أَيْن تَعْدُوهُ وسيلةُ مِثلِهَا ... وقَدْ قُلِّصتْ فِي الحربِ عَن ساقِه الأُزْرُ)
(وثقَّف تثقيفَ الرُّديْنِيِّ قبْلهَا ... وَمَا الطَّرْفُ إِلَّا أَن يُهَذِّبهُ الضُّمْرُ)
(وليسَ الَّذِي يَأْتِي بأوَّلِ مَا كفَى ... فشُدَّ بِهِ مُلْكٌ وسُدَّ بِه ثَغْرُ)
(فَمَا بمداهُ دُونَ عِزِّ تخلُّفٌ ... وَمَا بِخُطَاه دونَ صَالِحةٍ بَهْرُ)
(سننْت لهُمْ فِيهِ من العَدْلِ سُنّةً ... هىَ الآيةُ الْكُبْرَى وبُرْهانها السِّحْرُ)
(على مَا خلا من سنةِ الوَحْيِ مَا خَلا ... فَأَذْيَالُهَا تَضْفُو عليهِمْ وتَنْجَرُّ)
(وأوصيتَهُ فيهم بِرفْقِكَ مُرْدِفًا ... بجودِكَ معقوداً بِهِ عندَكَ البِرُّ)
(وَصَاةً كَمَا أوصى بهِ اللَّه رُسْلَهُ ... ول يْسَ بأُذْنٍ أنتَ مُسْمِعُهَا وَقْرُ)
(وثبَّتَّهَا بالكُتْبِ فِى كُلِّ مُدْرَجٍ ... كأَنَّ جميعَ الخيرِ فِي طَيِّه سَطْرُ)(3/552)
(يَقُولُ رجالٌ شاهَدُوا يومَ حُكْمِهِ ... بِذا تَعْمُرُ الدُّنْيَا وَلَوْ أنَّها قَفْزُ)
(بذَا لَا ضِيَاعٌ حَلَّلُوا حرماتِهَا ... وَأَقْطَاعَها واسْتُصْفِىَ السَّهْلُ والوَعْرٌ)
(فحسْبُكُمُ يَا أهلَ مِصْرٍ بعَدْلِهِ ... دَلِيلا على العَدْلِ الَّذِي عَنهُ يَفْتَرُّ)
(فذاكَ بيَانٌ واضحٌ عَن خليفةٍ ... كثيرُ سِوَاهُ عِنْد مَعْرُوفه نَزْرُ)
(رَضِينا لكُمْ يَا أهل مصرٍ بِدَوْلةٍ ... أطيلَ لَنَا فِي ظلِّها الأمْنُ والوَفْرُ)
(لكُمْ أسْوَةٌ فِينَا قَدِيما فلَمْ يكُنْ ... بأحوالِنَا عنكُمْ غِطَاءٌ ولاَ سِتْرُ)
(وهَلْ نحنُ إلاَّ مَعْشَرٌ من عُفَاتِهِ ... لَنا الصافِناتُ الجُرْدُ والعَسْكرُ الدّثْرُ)
(فكيفَ مَوَالِيهِ الذِينَ كأنَّهُمْ ... سَمَاءٌ على الغافِينَ أَمْطَارُها التِّبْرُ)
(لَبِثْنَا بِهِ أيَّامَ دهرٍ كَأَنَّمَا ... بِهَا وَسَنٌ أَوْ مَالَ ميْلاً بهَا السُّكْرُ)
(فيا مَلِكًا هَدْيُ المَلاَئِكِ هَدْيُه ... ولكنَّ بحْرَ الأْنبياءِ لَهُ بَحْرُ)
(وَيَا رَازِقًا من كفِّهِ نَشَأ الحيَا ... وإلاَّ فَمِن~ أسْرارِهِ يَنْبُعُ البَحْرُ)
(أَلاَ إِنَّمَا الأيَّامُ أيامُكَ الَّتِي ... لِىَ الشَّطْرُ من نَعْمَائِها وَلكَ الشَّطْرُ)
(لَك الشَّطْرُ مِنْهَا مَالِكَ المجْدِ والعُلاَ ... وَيبْقى لَنا مِنْها الحَلُوبةُ والدَّرُّ)
(لقَدْ جدتِّ حَتَّى لَيْسَ لِلمَالِ طَالِبٌ ... وأَعطيْتَ حَتَّى مَا لمُنْفِسة قَدْرُ)
(فلَيْسَ لِمَنْ لَا يرتقِى النجمَ هِمَّةٌ ... وليسَ لِمَنْ لاَ يَسْتَفِيدُ الغِنَى عُذْرُ)
(وَدِدتُّ لجيلٍ قد تقدَّم عصرهُمْ ... لوِ استأخَرُوا فِي حلْبَةِ العُمْرِ أَو كَرُّوا)
(وَلوْ شهِدُوا الأيامَ والعَيْشُ بَعْدَهُمْ ... حَدَائِقُ والآمَالُ مُونِقةُ خُضْرُ)
(فَلَوْ سَمِعَ التثويبَ مَنْ كانَ رِمَّةً ... رُفَاتًا وَلَبَّى الحىَّ مَنْ ضَمَّهُ أبقر)
(لنادَيُت منْ قَدْ مَاتَ حَى بِدَوْلةٍ ... تُقَامُ بِهَا المَوْتَى وَيُرْتَجَعُ العُمْرُ)
انْتَهَت قلت قَوْله بني نتلة يُشِير إِلَى بني الْعَبَّاس لِأَن نتلة أم الْعَبَّاس وَقد أفحش فَرمى بني الْعَبَّاس بالْكفْر وَالرّق والعبودية فَلَا قوةَ إِلَّا بِاللَّه وَكَانَ هَذَا مُحَمَّد بن هَانِئ شاعرَاً محبوباً مقرباً عِنْد الْمعز استصحبه مَعَه من بِلَاد القيروان وَتلك النواحي حِين توجه إِلَى الديار المصرية فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وُجد مُحَمَّد بن هَانِئ مقتولاَ مجدلاَ على حافة الْبَحْر وَذَلِكَ فِي رَجَب وَقد كَانَ شَاعِرًا مطبقاً قوي النّظم إِلَّا أَنه كفره غير وَاحِد من الْعلمَاء فِي مبالغاته فِي مدائحه(3/553)
للمعز خُصُوصا فَمن ذَلِك قَوْله فِيهِ قبحهما الله تَعَالَى من // (الْكَامِل) //
(مَاشِئْت لاَ مَا شاءتِ الأَقْدارُ ... فاحْكُمْ فأَنْتَ الوَاحِدُ القَهَّارُ)
وَهَذَا خطأ كثير وَكفر كَبِير وَقَالَ أَيْضا قبحه الله وأخزاه وفض فَاه من // (مجزوء الْكَامِل) //
(وَلَطَالَمَا زَاحَمْت تَحْتََ ... رِكَابِهِ جِبْرِيلاَ)
وَمن ذَلِك قَوْله قَالَ ابْن الْأَثِير وَلم أر ذَلِك فِي ديوانه من // (مخلع الْبَسِيط) //
(حَلَّ بِرقَّادَةَ المَسِيحُ ... حلَِّبهَا لآدَمٌ ونُوحُ)
(حلَّ بِها الله ذُو المَعَالِي ... فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ رِيحُ)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَقد شرع بعض المتعصبين لَهُ فِي الِاعْتِذَار عَنهُ قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ فِي تَارِيخه وَهَذَا الْكَلَام إِن صَحَّ عَنهُ فَلَيْسَ عَنهُ اعتذار لَا فِي الدَّار الْآخِرَة وَلَا فِي هَذِه الدَّار قَالَ فِي الأرج المسكي فَصَارَت الْخطْبَة الإسلامية على قسمَيْنِ فَمن بَغْدَاد إِلَى حلب وَسَائِر ممالك الشرق إِلَى أَعمال الْفُرَات يُخطب فِيهَا للمطيع العباسي وَمن حلب إِلَى بِلَاد الْمغرب مَعَ الْحَرَمَيْنِ الشريفين يخْطب فِيهَا للمعز العُبَيدي هَذَا وَتُوفِّي الْمعز فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه نزار الملقب بالعزيز ابْن الْمعز الفاطمي العبيدي بُويِعَ بعد موت أَبِيه الْمعز وَقَامَ بتدبيره الْقَائِد جَوْهَر غُلَام وَالِده وَكَانَ يَدعِي التنجيم فَكتب لَهُ من // (مخلع الْبَسِيط) //
(بِالظُّلمِ والجَوْرِ قَدْ رَضِينَا ... وََلَيْسََ بالْكُفْرِ والحَمَاقَهْ)
(إِنْ كُنْتَ أُعْطِيت عِلْمَ غيْبٍ ... بيِّنْ لَنَا كاتِب البِطاقَهْ)
كَانَ الْعَزِيز هَذَا قد استزور رجَلين أَحدهمَا نَصْرَانِيّ اسْمه عِيسَى بن نسطورس وَالْآخر يَهُودِيّ اسْمه مِيشَا فعز بسببهما أهل تينك الملتين فِي ذَلِك(3/554)
الزَّمَان على الْمُسلمين حَتَّى كتبت إِلَيْهِ امْرَأَة قصَّة فِي حَاجَة فَقَالَت فِيهَا بِالَّذِي أعز النَّصَارَى بِعِيسَى بن نسطورس وَالْيَهُود بميشا وأذل الْمُسلمين بك إِلَّا مَا كشفت عَن ظلامتي فَعِنْدَ ذَلِك أَمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا وَأخذ من النَّصْرَانِي ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار كَذَا ذكره ابْن السُّبْكِيّ رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ ابْن خلكان أَكثر أهل الْعلم بِالنّسَبِ لَا يصححون نسب الْمهْدي عبيد الله جد خلفاء مصر حَتَّى إِن هَذَا الْعَزِيز فِي أول مَا تولى صعد الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة فَوجدَ هُنَالك ورقة مَكْتُوب فِيهَا هَذِه الأبيات من // (السَّرِيع) //
(إِنَّا سمِعْنا نَسباً مُنْكرًا ... يُتْلى عَلَى المِنْبرِ فِي الْجامِع)
(إِنْ كُنْتَ فِميمَا تدَّعِى صَادِقًا ... فاذْكُرْ أَباً بعْدَ الأبِ السَّابعِ)
(وَإِنْ تُرِدْ تحْقِيقَ مَا قُلْتهُ ... فانْسُبْ لنَا نفْسك كالطَّائِعِ)
(أَوْ لاَ دعِ الْأنْسابَ مسْتُورةً ... وادْخُلْ بِنا فِى النَّسبِ الواسِعِ)
(فَإنَّ أَنْسَابَ بنِى هاشِمٍ ... يقْصُرُ عنْها طَمَعُ الطَّامِعِ)
وَتُوفِّي الْعَزِيز فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فَكَانَت مدَّته إِحْدَى وَعشْرين سنة ثمَّ قَامَ بعده ابْنه مَنْصُور الملقب بالحكم بِأَمْر الله بُويِعَ بعد موت أَبِيه وَهُوَ صَاحب الْجَامِع الَّذِي هُوَ دَاخل بَاب النَّصْر فِي الْقَاهِرَة وَكَانَ أول أمره خيرا وَلما كبر عبد الْكَوَاكِب وَفعل فِي حكوماته مَا يضْحك مِنْهُ الصّبيان من المهملات والقبائح وَاسْتمرّ إِلَى أَن عملت أُخْته على قَتله فَقتل قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه وفيات الْأَعْيَان فِي تَرْجَمَة الْحَاكِم بِأَمْر الله كَانَ(3/555)
لَهُ حمَار أَشهب يدعى بقمر يركبه وَكَانَ يحب الِانْفِرَاد وَالرُّكُوب وَحده فَخرج راكبَاً حِمَاره لَيْلَة الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة إِلَى ظَاهر مصر وَطَاف ليله كُله وَأصْبح مُتَوَجها إِلَى شَرق حلوان وَمَعَهُ ركابيان فَأَعَادَ أَحدهمَا ثمَّ أعَاد الآخر وَبَقِي النَّاس يخرجُون يَلْتَمِسُونَ رُجُوعه وَمَعَهُمْ دَوَاب الموكب إِلَى يَوْم الْأَحَد سلخ الشَّهْر الْمَذْكُور ثمَّ خرج ثَانِي الْقعدَة جمَاعَة من الموَالِي والأتراك فأمعنوا فِي طلبه وَفِي الدُّخُول فِي الْجَبَل فَرَأَوْا الْحمار الْأَشْهب الَّذِي كَانَ يركب عَلَيْهِ وَهُوَ على قرنة الْجَبَل وَقد ضربت يَدَاهُ بِسيف وَعَلِيهِ سَرْجه ولجامه فتبعوا الْأَثر إِلَى الْبركَة الَّتِي فِي شَرْقي حلوان فَنزل فِيهَا رجل فَوجدَ فِيهَا ثِيَابه وَهِي سبع جبات وَوجدت مزررة لم تحل أزرارها وفيهَا آثَار السكاكين فَحملت إِلَى الْقصر وَلم يشكوا فِي قَتله غير جمَاعَة من الغالين فِي حبهم لَهُ السخيفين عقولا يظنون حَيَاته وَأَنه سَيظْهر ويحلفون بغيبة الْحَاكِم وَكَانَ الْحَاكِم جواداً بِالْمَالِ سفاكاً للدماء وَكَانَت سيرته عجبا يخترع كل يَوْم حكما يحمل النَّاس عَلَيْهِ فَمن ذَلِك أَنه أَمر النَّاس فِي سنة خمس وَتِسْعين وثلاثمائة بكتب سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فِي حيطان الْمَسَاجِد والقناطر والشوارع وَكتب بِهِ إِلَى سَائِر الْبلدَانِ من الديار المصرية ثمَّ أَمر بِقطع ذَلِك سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة وَأمر بِضَرْب من سبّ الصَّحَابَة وتأديبه وَأمر بقتل الْكلاب فَلم ير كلب فِي الْأَسْوَاق والأزقة إِلَّا قتل وَنهى عَن بيع الفقاع والملوخيا وَنهى عَن بيع الزَّبِيب قَليلَة وكثيرة وَجمع جملَة كَثِيرَة مِنْهُ فأنفق على إحراقها مَا يُسَاوِي خَمْسمِائَة دِينَار ثمَّ منع من بيع الْعِنَب أصلاَ وألزم الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن يتميزوا فِي لباسهم عَن الْمُسلمين فِي الحمامات وخارجها ثمَّ أفرد حمامَاً للْيَهُود وحماماً لِلنَّصَارَى وألزمهم أَلا يركبُوا أَشْيَاء من المراكب المحلاة وَأَن تكون ركبهمْ الْخشب وَلَا يستخدموا أحدا من الْمُسلمين وَلَا يركبُوا حمارا لمكار مُسلم وَلَا سفينة نوتيها مُسلم وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة منع النِّسَاء من الْخُرُوج من الْمنَازل أَو يطلعن من(3/556)
الأسطحة والطاقات وَمنع الخفافين من عمل الْخفاف لَهُنَّ وَمن الْخُرُوج إِلَى الحمامات وَقتل خلقا مِنْهُنَّ على مُخَالفَة ذَلِك وَهدم بعض الحمامات عَلَيْهِنَّ وجهز عَجَائِز يطفن فِي الْبيُوت يستعلمن أَحْوَال النِّسَاء من مِنْهُنَّ تعشق أَو تعشق بأسمائهن وَأَسْمَاء من يتَعَرَّض لَهُنَّ وَأكْثر من الدوران بِاللَّيْلِ وغرق من اطلع على فسقه من الرِّجَال وَالنِّسَاء فَضَاقَ النطاق عَلَيْهِنَّ وعَلى الْفُسَّاق وَلم يتَمَكَّن أحد مِنْهُم أَن يصل إِلَى أحد إِلَّا نَادرا حَتَّى إِن امْرَأَة نادت قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية وَهُوَ مَالك بن سعد الفارقي وحلفته بِحَق الحاكمِ لما وقف لَهَا فاستمع كَلَامهَا فَوقف لَهَا فَبَكَتْ بكاء شَدِيدا وَقَالَت إِن لي أَخا لَيْسَ لي غَيره وَهُوَ فِي السِّيَاق وَأَنا أَسأَلك لما وصلتني إِلَى منزله لأنظر إِلَيْهِ قبل أَن يُفَارق الدُّنْيَا فرق لَهَا القَاضِي رقة شَدِيدَة وَأمر رجلَيْنِ مَعَه أَن يَكُونَا مَعهَا حَتَّى يبلغاها إِلَى الْمنزل الَّذِي تريده فأغلقت بَابهَا وأعطت الْمِفْتَاح جارتها وَذَهَبت حَتَّى وصلت مَعَ الرجلَيْن إِلَى منزل فطرقت الْبَاب وَدخلت وَقَالَت لَهما اذْهَبَا راشدين فَإِذا هُوَ منزل رجل تهواه ويهواها فَأَخْبَرته بِمَا احتالت بِهِ على القَاضِي فأعجبه ذَلِك وَجَاء زَوجهَا آخر النَّهَار فَوجدَ بَابه مغلقاً فَسَأَلَ عَن أمرهَا فَذكر لَهُ مَا صنعت فاستغاث على القَاضِي وَذهب إِلَيْهِ وَقَالَ مَا أُرِيد امْرَأَتي إِلَّا مِنْك فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا ذهبت إِلَى عشيقها فخاف القَاضِي من معرة هَذَا الْأَمر فَركب إِلَى الْحَاكِم وبكي لَدَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن شَأْنه فَأخْبرهُ بِمَا اتّفق من الْأَمر فَأرْسل الْحَاكِم مَعَ الرجلَيْن من يحضر الرجل وَالْمَرْأَة جَمِيعًا على أَي حَال كَانَا عَلَيْهِ فوجدوهما متعانقين سكرانين فَسَأَلَهُمَا القَاضِي عَن حَالهمَا فأخذا يعتذران بِمَا لَا يجدي فَأمر بتحريق الْمَرْأَة فِي بَارِية وَضرب الرجل بالسياط ضربَاً مبرحاً وازداد احْتِيَاط الْحَاكِم على النِّسَاء حَتَّى مَاتَ ذكر هَذَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم وَأمر بهدم القمامة وَجَمِيع الْكَنَائِس بالديار المصرية ووهب جَمِيع مَا فِيهَا من الْآلَات وَجَمِيع مَا لَهَا من الأحباس لجَماعَة من الْمُسلمين وَأمر أَلا يتَكَلَّم أحد فِي صناعَة النُّجُوم وَأَن يَنْفِي المنجمون من الْبِلَاد وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الْغناء ثمَّ أَمر بِبِنَاء مَا كَانَ هَدمه من الْكَنَائِس ورد مَا كَانَ أَخذه من أحباسها انْتهى(3/557)
حلوان مَدِينَة كَثِيرَة النزه فَوق مصر بِمِقْدَار خَمْسَة أَمْيَال كَانَت مسكن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان وَالِد عمر بن عبد الْعَزِيز وَبهَا ولد عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ الْعَلامَة السُّبْكِيّ فِي تَارِيخه عِنْد ذكر الْحَاكِم ولنذكر شَيْئا من صِفَاته القبيحة وَسيرَته الملعونة أَخْزَاهُ الله وَلَا وَقَاه شرا كَانَ قبحه الله كثير التلون فِي أَفعاله وأقواله جَائِزا فِي كَيْفيَّة بُلُوغ مَا يؤمله لِأَنَّهُ كَانَ يروم أَن يَدعِي الألوهية كَمَا ادَّعَاهَا قَارون فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام فَكَانَ قد أَمر الرّعية إِذا ذكره الْخَطِيب على الْمِنْبَر أَن تقوم النَّاس على أَقْدَامهم صُفُوفا إعظاماً لذكره واحترامَاً لاسمه فَكَانَ هَذَا يفعل فِي سَائِر ممالكه حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَكَانَ أهل مصر على الْخُصُوص إِذا قَامُوا خروا سجدا حَتَّى إِنَّه يسْجد بسجودهم من فِي الْأَسْوَاق من الرعاع وَغَيرهم وابتنى الْمدَارِس وَجعل فِيهَا الْفُقَهَاء والمشايخ ثمَّ قَتلهمْ وخربها وألزم النَّاس بإغلاق الْأَسْوَاق والدكاكين نَهَارا وَفتحهَا ليلاَ فامتثلوا ذَلِك دهرَاً طَويلا حَتَّى اجتاز مرّة بشيخ يعْمل النجارة فِي أثْنَاء النَّهَار فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ ألم أنهكم عَن هَذَا فَقَالَ يَا سَيِّدي أما كَانَ النَّاس يسهرون لما كَانُوا يتعيشون بِالنَّهَارِ فَهَذَا من جملَة السهر فَتَبَسَّمَ وَتَركه وَأعَاد النَّاس إِلَى أَمرهم الأول وكل هَذَا مِنْهُ تَغْيِير للرسوم واختبار لطاعة الْعَامَّة ليرقى إِلَى مَا هُوَ أهم من ذَلِك لَعنه الله وَقد كَانَ يعْمل الْحِسْبَة بِنَفسِهِ يَدُور فِي الْأَسْوَاق على حِمَاره فَمن وجده قد عثر فِي معيشته أَمر عبدَاً أسود مَعَه يُقَال لَهُ مَسْعُود أَن يفعل بِهِ الْفَاحِشَة العمطى وَهَذَا أَمر مُنكر مَلْعُون لم يسْبق إِلَيْهِ لَعنه الله وَكَانَت الْعَامَّة يبغضونه ويكتبون لَهُ الأوراق الَّتِي فِيهَا الشتيمة البليغة لَهُ ولأسلافه وحريمه فِي صُورَة قصَص فَإِذا قَرَأَهَا ازْدَادَ حنقَاً عَلَيْهِم حَتَّى إِن أهل مصر حملُوا صُورَة امْرَأَة من ورق بخفها وإزارها وَفِي يَدهَا قصَّة فِيهَا من الشتم والقبائح شَيْء كثير فَلَمَّا رَآهَا ظَنّهَا امْرَأَة فَذهب من ناحيتها وَأخذ الْقِصَّة من يَدهَا فقرأها فَرَأى مَا فِيهَا فأغضبه جدا وَأمر بقتل تِلْكَ الْمَرْأَة فَلَمَّا تحققها من ورق ازْدَادَ غيظاً على غيظه ثمَّ لما وصل إِلَى الْقَاهِرَة أَمر العبيد من السودَان أَن يذهبوا إِلَى مصر فيحرقوها وينهبوا مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والحريم فَذهب العبيد فامتثلوا مَا أَمرهم بِهِ فَقَاتلهُمْ أهل مصر قتالاَ عَظِيما ثَلَاثَة أَيَّام وَالنَّار تعْمل فِي(3/558)
الدّور وَالْحرم وَفِي كل يَوْم يخرج بِنَفسِهِ لَعنه الله فيقف من بعيد ويبكي وَيَقُول من أَمر هَؤُلَاءِ العبيد بِهَذَا ثمَّ اجْتمع النَّاس فِي الْجَوَامِع فَرفعُوا الْمَصَاحِف وجأروا إِلَى الله تَعَالَى واستغاثوا بِهِ فرق لَهُم التّرْك والمشارقة وانحازوا إِلَيْهِم فَقَاتلُوا مَعَهم عَن حريمهم ودورهم السودَان وتفاقم الْحَال جدا ثمَّ ركب الْحَاكِم ففصل بَين الْفَرِيقَيْنِ وكف العبيد عَنْهُم وَكَانَ يظْهر التنصل من الْقَضِيَّة وَأَن العبيد ارتكبوا ذَلِك من غير علمه وَهُوَ ينفذ إِلَيْهِم السِّلَاح ويحثهم على ذَلِك فِي الْبَاطِن وَمَا انجلى الْحَال حَتَّى احْتَرَقَ من مصر نَحْو ثلثهَا وَنهب قريب من نصفهَا وَسبي حَرِيم خْلق كثير فعل بِهن الْفَوَاحِش والمنكرات حَتَّى إِن مِنْهُنَّ من قتلت نَفسهَا خوفًا من الْعَار والفضيحة وَاشْترى الرِّجَال من سبي لَهُم من النِّسَاء والحريم من أَيدي العبيد انْتهى مَا قَالَه ابْن السُّبْكِيّ وقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه المنتظم فِي ذكر الْأُمَم من الْعَرَب والعجم ثمَّ زَاد ظلم الْحَاكِم وَعَن لَهُ أَن يَدعِي الربوبية فَصَارَ قوم من الْجُهَّال إِذا رَأَوْهُ يَقُولُونَ يَا وَاحِد يَا أحد يَا محيي يَا مميت وَكَانَ قد تعدى شَره النَّاس حَتَّى إِلَى أُخْته يتهمها بالفاحشة ويسمعها أغْلظ الْكَلَام فتبرمت مِنْهُ وعملت على قَتله فراسلت فِيهِ أكبر الْأُمَرَاء وَكَانَ يُقَال لَهُ ابْن دواس فتوافقت هِيَ وَهُوَ على قَتله فواطأها على ذَلِك وجهز من عِنْده عَبْدَيْنِ أسودين فَقَالَ لَهما إِذا كَانَت اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة فكونا بجبل المقطم فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة يكون الْحَاكِم هُنَاكَ فِي اللَّيْل ينظر فِي النُّجُوم وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا ركابي وَصبي فاقتلاه واقتلاهما مَعَه وَاتفقَ الْحَال على ذَلِك وتقرر فَلَمَّا كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة قَالَ الْحَاكِم لَا بُد أَن فِي هَذِه اللَّيْلَة عَليّ قطعا عظيمَاً فَإِن نجوت مِنْهُ عمرت نَحوا من ثَمَانِينَ سنة فَقَالَت لَهُ أمه يَا مولَايَ فَإِذا كَانَ الْأَمر كَمَا تَقول فارحمني وَلَا تتْرك ليلتك هَذِه إِلَى مَوضِع أصلا وَكَانَ من عَادَته أَن يَدُور حول الْقصر كل لَيْلَة فدار ثمَّ عَاد إِلَى الْقصر فَنَامَ إِلَى قريب ثلث اللَّيْل الْأَخير فَاسْتَيْقَظَ وَقَالَ إِن لم أركب اللَّيْلَة فاضت نَفسِي فثار وَركب فرسا وَتَبعهُ صبي وركابي حَتَّى صعد جبل المقطم فَاسْتَقْبلهُ ذَانك العبدان فأنزلاه عَن(3/559)
مركوبه وقطعاً يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وبقرا بَطْنه وَأَتيا بِهِ مولاهما فَحَمله إِلَى أُخْته فدفنته فِي مجْلِس دارها واستدعت الْأُمَرَاء والأكابر والوزير وَقد أطلعته على الْحِيلَة فَبَايَعته لولد الْحَاكِم أبي الْحسن عَليّ ولقب بِالظَّاهِرِ لإعزاز دين الله وَكَانَ بِدِمَشْق فاستدعته وَجعلت تَقول للنَّاس إِن الْحَاكِم قَالَ لي إِنَّه يغيب سَبْعَة أَيَّام ثمَّ يعود فاطمأن النَّاس بذلك وَجعلت ترسل ركابين ويصعدون الْجَبَل ويجيئون فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُ فِي الْموضع الْفُلَانِيّ وَيَقُول الَّذين من بعدهمْ تَرَكْنَاهُ فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا حَتَّى اطْمَأَن النَّاس وَقدم ابْنه فحين وصل ألبسته تَاج جد أَبِيه الْمعز وحلته حلية عَظِيمَة فأجلسته على السرير فَبَايعهُ الْأُمَرَاء والرؤساء وأطلقت لَهُم الْأَمْوَال الجزيلة وخلعت على ابْن دواس خلعة سنية هائلة وعملت عزاء أَخِيهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أرْسلت إِلَى ابْن دواس طَائِفَة من الْجند ليكونوا بَين يَدَيْهِ بسيوفهم وقوفاً فِي خدمته ثمَّ أَمرتهم فِي بعض الْأَيَّام أَن يَقُولُوا لَهُ أَنْت قَاتل مَوْلَانَا ثمَّ يهتبرونه بسيوفهم فَفَعَلُوا ذَلِك وَقتلت كل من اطلع على سرها فِي قتل أَخِيهَا فعظمت هيبتها وقويت حرمتهَا وَثبتت دولتها فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَت متولية الْأُمُور لدولة ابْن أَخِيهَا وَكَانَ عمر الْحَاكِم حِين قتل سبعَاً وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ قَتله سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَمُدَّة ملكه خمسَاً وَعشْرين سنة لَعنه الله وقبحه وَفِي ربيع الآخر من سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة فِي دولة الْحَاكِم الْمَذْكُور كتبت بِبَغْدَاد محَاضِر تَتَضَمَّن اللَّعْن والقدح فِي نسب الْخُلَفَاء المصريين الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم فاطميون وَلَيْسوا كَذَلِك وَكتب فِي ذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء والقضاة وَالْفُقَهَاء والأشراف والأماثل والمعدلين وَالصَّالِحِينَ شهدُوا جَمِيعًا أَن الناجم وَهُوَ مَنْصُور ابْن نزار الملقب بالحاكم بِأَمْر الشَّيْطَان لَا بِأَمْر الله حكم الله عَلَيْهِ بالبوار والدمار والخزي والنكال والاستئصال ابْن معد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْقَائِم ابْن سعيد لَا أسعد الله فَإِنَّهُ لما صَار إِلَى الْمغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي وَمن تقدم من سلفه من الأرجاس والأنجاس عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم لعنة الله ولعنة اللاعنين أدعياء خوارج لَا نسب لَهُم فِي ولد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَلَا(3/560)
يتعلقون مِنْهُ بِسَبَب وَأَنه منزه عَن أباطيلهم وَأَن الَّذِي ادعوهُ بَاطِل وزور وَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ أحدا من أهل بيوتات الطالبيين توقف فِي إِطْلَاق القَوْل فِي هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُمْ الْخَوَارِج وَأَنَّهُمْ أدعياء وَقد كَانَ هَذَا الْإِنْكَار لباطلهم شَائِعا فِي الْحَرَمَيْنِ وَفِي أول أَمرهم بالمغرب منتشراً انتشاراً يمْنَع من أَن يُدَلس على أحد كذبهمْ أَو يذهب وَهم إِلَى تصديقهم وَإِن هَذَا الناجم بِمصْر هُوَ وسلفه كفار وفساق فجار ملحدون زنادقة معطلون وللإسلام جاحدون ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون قد عطلوا الْحُدُود وأباحوا الْفروج وَأَحلُّوا الْخُمُور وسفكوا الدِّمَاء وَسبوا الْأَنْبِيَاء ولعنوا السّلف وَادعوا الربوبية وَقد كتب خطه فِي الْمحْضر خلق كثير فَمن العلويين المرتضي والرضي وَابْن الْأَزْرَق الموسوي وَأَبُو طَاهِر بن أبي الطّيب وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن أبي يعلى وَمن الْقُضَاة أَبُو مُحَمَّد القناتي وَأَبُو الْقَاسِم الحمزوي وَأَبُو الْعَبَّاس بن السوري وَمن الْفُقَهَاء الإِمَام أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن الكشفلي وَأَبُو الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ وَأَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ وَأَبُو عبد الله الْبَيْضَاوِيّ وَأَبُو عَليّ بن حكمان وَمن الشُّهُود أَبُو الْقَاسِم التنوخي فِي كثير وقُرئ بِالْبَصْرَةِ وَكتب فِيهِ خلق كثير هَذِه عبارَة الشَّيْخ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ قَامَ من بعده وَلَده عَليّ الملقب بِالظَّاهِرِ لإعزاز دين الله وكني بِأبي هَاشم بُويِعَ بعد قتل أَبِيه وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة وَقَامَت عمته بتدبير ملكه أحسن قيام كَمَا تقدم ذكره إِلَى أَن مَاتَت فحذا حذوها وَحسنت أَيَّامه وَسيرَته إِلَى أَن طمع النَّاس فِيهِ لصِغَر سنه وتغلب صَاحب الرملة حسان بن مفرج البدري على أَكثر بِلَاد الشَّام وتضعضعت دولة الظَّاهِر إِلَى أَن توفّي يَوْم الْأَحَد منتصف شعْبَان سنة سبع(3/561)
وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَله من الْعُمر ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سِتَّة عشر عَاما وَتِسْعَة أشهر ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه معد المُكَنى أَبَا تَمِيم الملقب بالمستنصر بسين الاستفعال ابْن الظَّاهِر وعمره سبع سِنِين وتكفل بأعباء المملكة بَين يَدَيْهِ الْأَفْضَل أَمِير الجيوش بدر بن عبد الله الجمالي بُويِعَ يَوْم موت أَبِيه وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا وَبَقِي فِي الْخلَافَة سِتِّينَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَلَا يعلم فِي الْإِسْلَام خَليفَة وَلَا سُلْطَان أَقَامَ فِي الْملك هَذِه الْمدَّة والمستنصر هَذَا هُوَ الَّذِي خطب لَهُ البساسيري على مَنَابِر بَغْدَاد وَهَذَا شَيْء لم يَقع لأحد من آبَائِهِ وَفِي أَيَّامه وَقع الغلاء الْعَظِيم بِمصْر حَتَّى إِن الْكَلْب بيع بِخَمْسَة دَنَانِير ليؤكل والقط بِثَلَاثَة دَنَانِير وضعفت النَّاس من شدَّة الْجُوع حَتَّى إِن الْكَلْب يدْخل إِلَى بَيت الشَّخْص فيأكل وَلَده وَلَيْسَ لَهُ قدرَة على النهوض إِلَى دَفعه وَكَانَ بِمصْر حارة تعرف بحارة الطَّبَق وفيهَا عشرُون دَارا كل دَار تَسَاوِي أَكثر من ألف دِينَار فبيعت كلهَا بطبق خبز كل دَار مِنْهَا برغيف قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم خرجت امْرَأَة وَمَعَهَا قدر ربع من جَوْهَر فَقَالَت من يَأْخُذ مني هَذَا الْجَوْهَر ويعطيني عوضا برا فَلم تجدْ مَنْ يَأْخُذهُ مِنْهَا بذلك فَقَالَتْ إِذَا لم يَنْفَعنِي وَقت الْحَاجة فَلَا حَاجَة لي بِهِ فألقته على الأَرْض وانصرفت فالعجب مَا كَانَ لَهُ من يلقطه وَأخرج الْمُسْتَنْصر جَمِيع الذَّخَائِر فَبَاعَهَا يُقَال إِنَّه بَاعَ فِي هَذَا الغلاء ثَمَانِينَ ألف قِطْعَة من أَنْوَاع الْجَوَاهِر المثمنة وَخَمْسَة وَسبعين ألف قِطْعَة من أَنْوَاع الديباج المنسوج بِالذَّهَب وَعشْرين ألف سيف محلى وَأحد عشر ألف دَار وافتقر الخلبفة حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا سجادة تَحْتَهُ وقبقاب فِي رجله(3/562)
فَصَارَ إِذا نزل للصَّلَاة يستعير بغلة الدِّيوَان حَتَّى يركبهَا وَمَات مُعظم النَّاس جوعا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِي ولَايَة الْمُسْتَنْصر كَانَ غلاء شَدِيد وقحط عَظِيم بديار مصر بِحَيْثُ إِنَّهُم أكلُوا الْجِيَف وَالْمَيتَات وَالْكلاب وأفنيت الدَّوَابّ فَلم يبْق لصَاحب مصر فرس بعد الْعدَد الْكثير وَنزل الْوَزير يَوْمًا عَن بغلته فَغَفَلَ عَنْهَا الْغُلَام لضَعْفه من الْجُوع فَأَخذهَا ثَلَاثَة نفر فذبحوها وأكلوها فَأخذُوا وصلبوا فَأَصْبحُوا وعظامهم بادية على مَا صلبوا عَلَيْهِ قد أكل النَّاس لحومهم وَظهر على رجل يقتل الصّبيان وَالنِّسَاء ويدفن رُءُوسهم وأطرافهم وَيبِيع لحومهم فَقتل وفيهَا ضَاقَتْ يَد شرِيف مَكَّة مُحَمَّد بن أبي هَاشم بن فليتة فَأخذ الذَّهَب من أَسْتَار الْكَعْبَة والميزاب وَالْبَاب فَضرب ذَلِك دَرَاهِم ودنانير وَكَذَلِكَ فعل صَاحب الْمَدِينَة بالقناديل الَّتِي فِي الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقبلهَا فِي سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة كَانَت فتْنَة البساسيري وَهُوَ أرسلان التركي قبحه الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَنه عزم على أَن يسير إِلَى بَغْدَاد ويأخذها من صَاحبهَا الْخَلِيفَة العباسي الْمُسَمّى بِالْقَاهِرَةِ بن الْقَادِر ويخطب فِيهَا للمستنصر الفاطمي فَركب البساسيري وَمَعَهُ قُرَيْش بن بدران أَمِير الْعَرَب إِلَى الْموصل فَأَخذهَا وأخرب قلعتها فانزعج النَّاس لذَلِك واضطربت بَغْدَاد وأرجف النَّاس بِأَن البساسيري عازم على قصد بَغْدَاد وَأَنه قرب من الأنبار وتفرق الْجَيْش من بَغْدَاد إِلَى نواحي همذان والأهواز وَبقيت بَغْدَاد وَلَيْسَ بهَا أحد من الْمُقَاتلَة فعزم الْخَلِيفَة الْقَائِم بِأَمْر الله على الرحيل من بَغْدَاد إِلَى غَيرهَا وليته فعل ثمَّ أحب دَاره وَالْمقَام مَعَ أَهله فَلبث فِيهَا اغْتِرَارًا وَلما خلا الْبَلَد من الْمُقَاتلَة قيل للنَّاس من أَرَادَ الْخُرُوج فليذهب إِلَى حَيْثُ شَاءَ فانزعج النَّاس وَبكى الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال وَعبر كثير من النَّاس إِلَى الْجَانِب الغربي وَبَلغت المعبرة دِينَارا أَو دينارين لعدم الجسر قَالَ وطار فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على دَار الْخَلِيفَة نَحْو من عشر بومات مجتمعات(3/563)
يصحن صياحاً مزعجاً وَقيل للوزير أبي الْقَاسِم بن الْمسلمَة الملقب برئيس الرؤساء وَزِير الْقَائِم العباسي من الْمصلحَة أَن الْخَلِيفَة يرتحل من بَغْدَاد لعدم الْمُقَاتلَة بهَا فَلم يقبل وشرعوا فِي اسْتِخْدَام طَائِفَة الْعَوام ودُفِعَ إِلَيْهِم سلَاح من دَار المملكة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة دخل البساسيري بَغْدَاد وَنشر الرَّايَات الْبيض المصرية وعَلى رَأسه أَعْلَام مَكْتُوب عَلَيْهَا الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَو تَمِيم معد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَتَلقاهُ أهل الكرخ وهم أهل الرَّفْض والإلحاد فتضرعوا إِلَيْهِ وسألوه أَن يجتاز عِنْدهم فَدخل الكرخ وَخرج إِلَى مشرعة الروايا فخيم بهَا وَالنَّاس إِذْ ذَاك فِي ضرّ ومجاعة شَدِيدَة وَنزل قُرَيْش بن بدران فِي نَحْو مِائَتي فَارس على مشرعة بَاب الْبَصْرَة وَكَانَ البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم فِي نهب دَار الْخلَافَة وَنهب أهل الكرخ دور أهل السّنة بِبَاب الْبَصْرَة ونهبت دَار قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي وَهلك اكثر السجلات والكتب الْحكمِيَّة ونهبت دَار المتعلقين بِخِدْمَة الْخَلِيفَة وأعادت الروافض الْأَذَان بحي على خير الْعَمَل وَكَذَلِكَ أذن فِي سَائِر جَوَامِع بَغْدَاد وَضربت لَهُ السِّكَّة على الذَّهَب وَالْفِضَّة وحوصرت دَار الْخلَافَة فحاجز الْوَزير ابْن الْمسلمَة بِمن مَعَه من المستخدمين دونهَا فَلم يفد ذَلِك شَيْئا فَركب الْخَلِيفَة بِالسَّوَادِ والبردة على كَتفيهِ وعَلى رَأسه القواد وَبِيَدِهِ سيف صلت وَحَوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات وجوههن ناشرات شعورهن مَعَهُنَّ الْمَصَاحِف على رُءُوس الرماح وَبَين يَدَيْهِ الخدم بِالسُّيُوفِ المسللة ثمَّ إِن الْخَلِيفَة أَخذ ذمامَاً من أَمِير الْعَرَب قُرَيْش بن بدران لنَفسِهِ وَأَهله ووزيره ابْن الْمسلمَة فآَمنه على ذَلِك وأنزله فِي خيمة فلامه البساسيري على ذَلِك وَقَالَ لَهُ لقد علمت مَا كَانَ وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ بيني وَبَيْنك من أَنَّك لَا تستبد بِرَأْي دوني وَلَا أَنا دُونك وَمهما ملكنا فبيني وَبَيْنك واستحضر البساسيري ابْن الْمسلمَة ووبخه ولامه لوماً شَدِيدا ثمَّ ضربه ضربا مبرحَاً واعتقله مهاناً عِنْده ونهبت العيارون دَار الْخلَافَة فَلَا يُحْصى مَا أَخذ مِنْهَا من الْجَوَاهِر والنفائْس والديباج والأثاث وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحد وَلَا يُوصف قلت مَا أَخذه البساسيري لأستاذه الْمُسْتَنْصر من دَار الْخَلِيفَة الْقَائِم العباسي(3/564)
أخرجه وَبَاعه بأبخس الْأَثْمَان وَهُوَ مُضْطَر جوعان وَلم يتمتع بِهِ فِي هَذِه الدَّار وَهُوَ محاسب عَلَيْهِ فِي دَار الْقَرار ثمَّ اتّفق رَأْي البساسيري وقريش بن بدران على تسيير الخلفة من بَغْدَاد وتسليمه إِلَى أَمِير حَدِيثَة عانة وَهُوَ مهارش بن مجلى البدري وَهُوَ من بني عَم قُرَيْش بن بدران وَكَانَ رجلا صَالحا قلت حَدِيثَة عانة بليدَة بَين حلب وبغداد مَشْهُورَة مَذْكُورَة إِلَى الآَن النِّسْبَة إِلَى جزئا الأول فَيُقَال فلَان الحديثي انْتهى فَلَمَّا بلغ الْخَلِيفَة ذَلِك دخل على قُرَيْش بن بدران أَلا يُخرجهُ من بَغْدَاد فَلم يفد ذَلِك شَيْئا وسيروه مَعَ أَصْحَابه إِلَى حَدِيثَة عانة فَكَانَ عِنْد مهارش أميرها حولا كَامِلا وَلَيْسَ مَعَه أْحد من أَهله فحكي عَن الْقَائِم أَنه قَالَ لما كنت بحديثة عانة قُمْت لَيْلَة إِلَى الصَّلَاة فَوجدت فِي قلبِي حلاوة الْمُنَاجَاة ثمَّ دَعَوْت الله تَعَالَى فَقلت اللَّهُمَّ أعدني إِلَى وطني واجمع بيني وَبَين أَهلِي وَوَلَدي وَيسر اجتماعنا وَأعد روض الْأنس زاهراً وَربع الْقرب عَامِرًا فقد قل العزاء وبرح الخفاء قَالَ فَسمِعت قَائِلا على شط الْفُرَات يَقُول نعم نعم فَقلت هَذَا رجل يُخَاطب آخر ثمَّ أخذت فِي السُّؤَال والابتهال فَسمِعت ذَلِك الصائح يَقُول إِلَى الْحول إِلَى الْحول فَعلمت أَنه هَاتِف أنطقه الله تَعَالَى بِمَا جرى الْأَمر عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ خرج من دَاره فِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة وَرجع إِلَيْهَا فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمُقبلَة كَمَا سَنذكرُهُ الْآن وَلما كَانَ يَوْم عيد الْأَضْحَى ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنين الْبيَاض وَعَلِيهِ هُوَ وَأَصْحَابه كَذَلِك وعَلى رَأسه الْأَوْلَوِيَّة المستنصرية والقطاريف المصرية وخطب للمستنصر الفاطمي صَاحب مصر وَالرَّوَافِض فِي غَايَة السرُور وانتقم من أَعْيَان أهل بَغْدَاد انتقاماً عَظِيما وغرق خلقا كثيرا وَقتل من الْعلمَاء جمعا وَلما كَانَت لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْحجَّة أحضر بَين يَدَيْهِ الْوَزير ابْن الْمسلمَة وَعَلِيهِ جُبَّة صوف وطرطور من لبد أَحْمَر وَفِي رقبته مخنقة من جُلُود فأركب جملا وطيف بِهِ فِي الْبَلَد وَخَلفه من يصفعه بِقِطْعَة جلد وَحين أجَاز(3/565)
بالكرخ نثروا عَلَيْهِ خلقان المداسات وبصقوا فِي وَجهه ولعنوه وسبوه فَأوقف بازاء دَار الْخلَافَة وَهُوَ فِي ذَلِك كُله يَتْلُو قَوْله تَعَالَى {قُلِ اَللَهُمَ ماَلِكَ اَلملك} الْآيَة آل عمرَان 26 ثمَّ لما فرغ من الطّواف بِهِ فِي الْبَلَد وأعيد إِلَى الْعَسْكَر ألبس جلد ثَوْر بقرنيه وعلق بكلاب فِي شدقيه وَرفع إِلَى الْخَشَبَة حَيا فَجعل يضطرب إِلَى آخر النَّهَار فَمَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَ آخر كَلَامه أَن قَالَ الْحَمد لله الَّذِي أحياني سعيداً وأماتني شَهِيدا ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وبغداد فِي قَبْضَة البساسيري يخْطب فِيهَا للخليفة الْمُسْتَنْصر الفاطمي والقائم قَاعد ب حَدِيثَة عانة ثمَّ لما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر صفر أحضر البساسيري قَاضِي الْقُضَاة أَبَا عبد الله الدَّامغَانِي وَجَمَاعَة من الْوُجُوه والأعيان من العلويين والعباسيين وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة للمستنصر الفاطمي ثمَّ دخل دَار الْخلَافَة وَهَؤُلَاء المذكورون مَعَه وَأمر بِنَقْض تَاج دَار الْخلَافَة فنقضت بعض الشراريف ثمَّ قيل لَهُ إِن ترك الْفَتْح فِي هَذَا الْأَمر من الْمصلحَة فَتَركه ثمَّ ركب إِلَى زِيَارَة المشهد وَأمر بِأَن تنقل جثة ابْن الْمسلمَة إِلَى مَا يُقَارب الْحرم الظَّاهِرِيّ وَأَن ينصب على دجلة وكتبت أم الْخَلِيفَة وَكَانَت عجوزاً كَبِيرَة قد بلغت التسعين وَهِي مختفية فِي مَكَان إِلَى البساسيري تَشْكُو إِلَيْهِ الْفقر وَالْحَاجة وضيق الْحَال فَأرْسل إِلَيْهَا ونقلها إِلَى الْحَرِيم وأخدمها جاريتين ورتب لَهَا كل يَوْم اثْنَي عشر رطلا من خبز وَأَرْبَعَة أَرْطَال من لحم وَلَا يَفِي هَذَا بقيراط مِمَّا فعله بِوَلَدِهَا وبأهل السّنة وَكَانَ وُقُوع هَذَا الْوَاقِع وَالسُّلْطَان طغرلبك أَبُو طَالب مُحَمَّد بن مِيكَائِيل بن سلجوق غَائِب لقِتَال أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مِيكَائِيل فَلَمَّا ظفر بِهِ وأسره وَقَتله وَتمكن فِي أمره وَطَابَتْ نَفسه وَاسْتقر حَاله وَلم يبْق لَهُ بِتِلْكَ الْبِلَاد مُنَازع سمع بِهَذَا الْوَاقِع فَكتب إِلَى قُرَيْش بن بدران أَمِير الْعَرَب يَأْمُرهُ بِأَن يُعَاد الْخَلِيفَة إِلَى دَاره على مَا كَانَ عَلَيْهِ وتوعده على ترك ذَلِك بَأْسا شَدِيدا فَكتب إِلَيْهِ قُرَيْش يتلطف بِهِ ويسأله وَيَقُول أَنا مَعَك على البساسيري بِكُل مَا أقدر عَلَيْهِ حَتَّى يُمكن الله مِنْهُ(3/566)
وَلَكِن أخْشَى أَن أشرع فِي أَمر يكون فِيهِ على الْخَلِيفَة مفْسدَة أَو يبدر إِلَيْهِ أحد بأذية وَلَكِن سأعمل فِي أمره بِكُل مَا يمكنني ثمَّ إِنَّه راسل البساسيري وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِعُود الْخَلِيفَة إِلَى دَاره وخوفه من جِهَة الْملك طغرلبك وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ إِنَّك دَعوتنَا إِلَى طَاعَة الْمُسْتَنْصر صَاحب مصر وبيننا وَبَينه سِتّمائَة فَرسَخ وَلم يأتنا من جِهَة رَسُول وَلَا أحد وَلم يفكر فِي شَيْء مِمَّا أرسلنَا إِلَيْهِ وَهَذَا الْملك من وَرَائِنَا بالمرصاد وَجَاء كتاب من الْملك طغرلبك عنوانه إِلَى الْأَمِير الْأَجَل علم الدّين أبي الْمَعَالِي قُرَيْش ابْن بدران مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ من شاهنشاه ملك الْمشرق وَالْمغْرب طغرلبك أبي طَالب مُحَمَّد بن مِيكَائِيل بن سلجوق وعَلى رَأس الْكتاب الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة بِخَط السُّلْطَان حسبي الله وَكَانَ فِي الْكتاب مَا نَصه والآن فقد سَارَتْ بِنَا الْمَقَادِير إِلَى قتال كل عَدو للدّين وَالْملك وَلم يبْق لنا وعلينا من الْمُهِمَّات إِلَّا خدمَة سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وإطلاع أبهة إِمَامَته على سَرِير عزه فَإِن الَّذِي يلْزمنَا ذَلِك وَلَا فسحة فِي التضجيع فِيهِ سَاعَة من الزَّمَان وَقد أَقبلنَا بجيوش الْمشرق إِلَى هَذَا المهم الْعَظِيم ونريد من الْأَمِير الْجَلِيل السَّعْي النجيح الَّذِي وفْق لَهُ وَتفرد بِهِ وَهُوَ أَن يتمم وفاءه من أَمَانَته وخدمته فِي بَاب سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَن يكون أحد الرجلَيْن إِمَّا أَن يقبل بِهِ إِلَى وكر عزه ويتولى إِقَامَته وموقف خِلَافَته من مَدِينَة السَّلَام وينتدب بَين يَدَيْهِ مُتَوَلِّيًا أمره منفذاً حكمه شاهراً سَيْفه وقلمه وَذَلِكَ المُرَاد وَهُوَ خليفتنا فِي تِلْكَ الْخدمَة الْمَفْرُوضَة ويوليه الْعرَاق بأسرها وتصفي لَهُ مشارع برهَا وبحرها لَا يطَأ حافر من خُيُول الْعَجم شبْرًا من أَرض تِلْكَ المملكة إِلَّا بالتماس لمعاونته ومظاهرته وَإِمَّا أَن يحافظ على شخصه العالي بتحويله من القلعة إِلَى حِين يجاء لخدمته فيتكفل بإعادته وَيكون الْأَمِير الْجَلِيل مُخَيّرا بَين أَن يلتقي بِنَا أَو يُقيم حَيْثُ شَاءَ بتولية الْعرَاق وسنخلفه فِي الْخدمَة وَهُوَ أدام الله تمكنه يتَيَقَّن من ذكرنَا وَيعلم أَن توجهنا إِثْر هَذَا الْكتاب بِهَذَا الْغَرَض الْمَعْلُوم وَلَا غَرَض سواهُ وَمن اتَّصل بِبَغْدَاد من سَائِر الْعَرَب والعجم والأكراد كلُّهم إِخْوَاننَا وَفِي ديننَا وعهدنا وعلينا لَهُم عهد الله وميثاقه مَا داموا موافقين للأمير وَلكُل مُحْتَرم(3/567)
عَفَوْنَا وأمننا لما بدر مِنْهُ إِلَّا البساسيري فَإِنَّهُ لَا عهد لَهُ وَلَا أَمَان وَهُوَ موكول إِلَى الشَّيْطَان وَقد ارْتكب فِي دين الله عَظِيما وَهُوَ إِن شَاءَ الله مَأْخُوذ حَيْثُ وجد ومعذب على مَا عمل وسعي فِي دِمَاء خلق كثير بِسوء دخيلته وإدارة أَفعاله على فَسَاد عقيدته وَكتب فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى قُرَيْش بن بدران استعلم عَن أَخْبَار الْملك طغرلبك من الرُّسُل وَغَيرهم فَإِذا مَعَه جنود عَظِيمَة فخاف من ذَلِك خوفًا شَدِيدا وَبعث إِلَى الْبَريَّة وَأمر بِحَفر أَمَاكِن للْمَاء وتجهيز علوفات كَثِيرَة إِلَى هُنَالك وأنفذ الْكتاب إِلَى البساسيري فانزعج البساسيري لذَلِك وخارت قوته وَضعف أمره وَبعث إِلَى أَهله فنقلهم من بَغْدَاد وأرصد لَهُ إقامات عَظِيمَة بواسط وَجعلهَا دَار مقره وَوَافَقَ على عود الْخَلِيفَة إِلَى بَغْدَاد وَلَكِن اشْترط شُرُوطًا كَثِيرَة ليذْهب خجله وترحل قُرَيْش بن بدران إِلَى أَرض الْموصل وَبعث إِلَى حَدِيثَة عانة يَقُول لأميرها مهارش بن مجلي الَّذِي سلم إِلَيْهِ الْخَلِيفَة الْمصلحَة تَقْتَضِي أَن تحول الْخَلِيفَة إِلَيّ حَتَّى نستأمن لأنفسنا بِسَبَبِهِ فَلَا نسلمه حَتَّى نَأْخُذ لأنفسنا أَمَانًا وَيكون فِي يدك دون يَدي فَامْتنعَ عَلَيْهِ مهارش وَقَالَ قد غدر بِي البساسيري فِي أشياءَ وَعَدَني بهَا فَلم أرها وَلست بمرسله إِلَيْك أبدا وَله فِي عنقِي أَيْمَان كَثِيرَة لَا أغدر بهَا وَكَانَ مهارش رجلا صَالحا ثِقَة أَمينا فَقَالَ للخليفة من الْمصلحَة أَن نسير إِلَى بلد بدر بن مهلهل وَنَنْظُر مَا يكون من أَمر السُّلْطَان فَإِن ظهر دَخَلنَا بَغْدَاد وَإِن كَانَت الْأُخْرَى نَظرنَا لأنفسنا فَإنَّا نخشى من البساسيري أَن يعود فيحصرنا فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة افْعَل مَا فِيهِ الْمصلحَة فسارا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة إِلَى أَن حصلا بقلعة عكبراء فَتَلَقَّتْهُ رسل الْملك طغرلبك بالهدايا الَّتِي كَانَ أنفذها إِلَيْهِ وَهُوَ متشوق إِلَيْهِ كثيرا وَجَاءَت الْأَخْبَار بِأَن السُّلْطَان طغرلبك دخل بَغْدَاد وَكَانَ يَوْمًا مشهودا غير أَن الْجَيْش نهبوا بَغْدَاد سوى دَار الْخَلِيفَة وصودر خلق كثير وشرعوا فِي عمَارَة دَار الْملك وَأرْسل السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة مراكب كَثِيرَة من أَنْوَاع الْخُيُول وَغَيرهَا(3/568)
وسرادق عَظِيمَة وملابس سنية أرسل ذَلِك مَعَ وزيره عبد الْملك الكندري وَلما انْتَهوا أرْسلُوا بِتِلْكَ الْآلَات قبل أَن يصلوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لمن حوله اضربوا السرادق وليلبس الْخَلِيفَة مَا يَلِيق بِهِ ثمَّ نجيء نَحن فنستأذن عَلَيْهِ فَلَا يَأْذَن لنا إِلَّا بعد سَاعَة طَوِيلَة فَلَمَّا دخل الْوَزير عبد الْملك الكندري وَمن مَعَه قبلوا الأَرْض بعد أَن اسْتَأْذنُوا فَلم يُؤذن لَهُم إِلَّا كَمَا قَالُوا وَأخْبر الْخَلِيفَة بسرور السُّلْطَان بِمَا حصل من الْعود إِلَى بَغْدَاد واشتياقه إِلَيْهِ جدا وَكتب الْوَزير عبد الْملك إِلَى السُّلْطَان وَأخْبرهُ بِمَا جرى وَأحب أَن يَأْخُذ خطّ الْخَلِيفَة فِي أَعلَى الْكتاب فَيكون أقرّ لِعَين السُّلْطَان وَلم يكن عِنْد الْخَلِيفَة دَوَاة فأحضر الْوَزير دواته وَمَعَهَا سيف قَالَ هَذِه حُرْمَة السَّيْف والقلم فأعجب الْخَلِيفَة قَوْله وترحلوا من مَنَازِلهمْ تِلْكَ بعد يَوْمَيْنِ لما وصلوا إِلَى النهروان خرج السُّلْطَان طغرلبك من بَغْدَاد لتلقيه فَلَمَّا انْتهى إِلَى السرادق قبل الأَرْض بَين يَدي الْخَلِيفَة سبع مَرَّات فَأخذ الْخَلِيفَة مخدة فوضعها بَين يَدَيْهِ فَأَخذهَا السُّلْطَان فقبلها ثمَّ جلس عَلَيْهَا وَقدم للخليفة الْحَبل الْيَاقُوت الْأَحْمَر الَّذِي كَانَ لِابْنِ بويه فَوَضعه بَين يَدَيْهِ وَأخرج اثْنَتَيْ عشرَة حَبَّة لُؤْلُؤ كبار وَقَالَ هَذَا لرسلان خاتون وَهِي أُخْته زَوْجَة الْخَلِيفَة وَكَانَت قد خرجت فِي وقْعَة البساسيري وَلَحِقت بأخيها السُّلْطَان طغرلبك تخْدم وتسأل أَن يسبح الْخَلِيفَة بِهَذِهِ المسبحة وَجعل يتَعَذَّر عَن تَأَخره عَن الحضرة فَيَقُول سَببه عصيان أخي إِبْرَاهِيم عَلَي فحاربته وقتلته وَاتفقَ موت أخي الْأَكْبَر فاشتغلت فِي تَرْتِيب أَوْلَاده فِي هَذِه الممالك وَأَنا شَاكر لمهارش بِمَا كَانَ مِنْهُ من خدمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا ن شَاءَ الله أمضي إِلَى هَذَا الْكَلْب البساسيري وأعود إِلَى الشَّام وأفعل بِصَاحِب مصر مَا يَنْبَغِي أَن يجازي بِهِ من سوء الْمُقَابلَة بِمَا كَانَ من فعله هَهُنَا فَدَعَا لَهُ الْخَلِيفَة وشكره على ذَلِك كل ذَلِك بتوجيه الْوَزير عبد الْملك الكندري بَين الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان وَأعْطى الْخَلِيفَة السُّلْطَان سَيْفا كَانَ لم يبْق مَعَه من أُمُور الْخلَافَة سواهُ ودخلَ الخليفةُ بَغْدَاد يومَ الخميسِ لخمسِ بَقينَ من ذِي القعدةِ وَكَانَ ذَلِك يومَاً مشهوداً الْجَيْش كُله مَعَهُ والقضاة والأعيان بَين يَديهِ وَالسلطان آخذ بلجام بغلته حَتَّى وصل إِلَى بَاب الْحُجْرَة وَلما وصل الْخَلِيفَة إِلَى دَار مَمْلَكَته ومقر خِلَافَته(3/569)
اسْتَأْذن السُّلْطَان طغرلبك فِي الْخُرُوج وَرَاء البساسيري فَأذن لَهُ وَكَانَ قد عزم على أَن يمْضِي مَعَه فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا أكفيك وَأطلق لمهاوش عشرَة آلَاف دِينَار وَلم يرض وَشرع السُّلْطَان فِي تَرْتِيب الجيوش وَرَاء البساسيري فَأرْسل جَيْشًا من نَاحيَة الْكُوفَة ليمنعوه من الدُّخُول إِلَى الشَّام وَخرج هُوَ فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من شهر ذِي الْحجَّة فِي بَقِيَّة الْجَيْش وَأما البساسيري فَإِنَّهُ مُقيم بواسط فِي جمع غلات وتمور يتهيأ لقِتَال أهل بَغْدَاد وَمن فِيهَا وَعِنْده أَن السُّلْطَان طغرلبك وَمن مَعَه لَيْسُوا بِشَيْء يخَاف مِنْهُم وَذَلِكَ لما يُريدهُ الله من إهلاكه على يَد السُّلْطَان جزاه الله عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خيرا وَلما سَار السُّلْطَان وَقد وصلت إِلَيْهِ السّريَّة الأولى فَلَقوهُ بِأَرْض وَاسِط فَالْتَقوا هُنَاكَ فَانْهَزَمَ أَصْحَاب البساسيري وَنَجَا بِنَفسِهِ على فرسه فَتَبِعَهُ بعض الغلمان فَرمى فرسه بنشابة فألقته إِلَى الأَرْض وَجَاء وضربه على وَجهه وَلم يعرفهُ وَأَخذه وَاحِد من الْجَيْش يُقَال لَهُ كشتكين فحز رَأسه وَحمله إِلَى السُّلْطَان وَأخذت الأتراك من جَيش البساسيري من الْأَمْوَال والذخائر مَا عجزوا عَن حمله وَلما وصل الرَّأْس إِلَى السُّلْطَان أَمر أَن يذهب بِهِ إِلَى بَغْدَاد وَأَن يرفع على قناة وَأَن يُطَاف بِهِ والدباب والبوقات والنفاطون مَعَه فَفعل ذَلِك وَخرج النَّاس وَالنِّسَاء وَالصبيان للفرجة عَلَيْهِ ثمَّ نصب على الطيار تجاه دَار الْخلَافَة وَالله الْحَمد والْمنَّة وَكَانَ مَعَ البساسيري خلق من البغاددة خَرجُوا ظانين أَنه سيعود إِ ليها محبَّة فِيهِ فهلكوا ونهبت أَمْوَالهم كلهَا وَلم ينج من أَصْحَابه إِلَّا الْقَلِيل وَأما الْخَلِيفَة فَإِنَّهُ لما عَاد إِلَى دَار الْخلَافَة جعل لله عَلَيْهِ أَلا ينَام وطاء وَلَا يَأْتِيهِ أحد بطعامه إِذا كَانَ صَائِما وَلَا يَخْدمه فِي وضوئِهِ وغسله بل يتَوَلَّى ذَلِك كُله بِنَفسِهِ وَعَاهد الله أَلا يُؤْذِي أحدا مِمَّن آذاه وَأَن يصفح عَمَّن ظلمه وَكَانَ يَقُول مَا عَاقَبت من عصى الله فِيك بِأَكْثَرَ من أَن تطيع الله فِيهِ انْتَهَت وقْعَة اليساسيري بكمالها وأحببت إيرادها لِأَنَّهَا من أعظم الوقائع وَلم(3/570)
تخل من فَائِدَة وَيُقَال إِن الْمُسْتَنْصر هَذَا أحسن السِّيرَة وَالْعدْل لما احتفظ بتدبير المملكة وَذكروا أَنه كتب على رقْعَة من // (السَّرِيع //
(أصْبحْتُ لاَ أرْجُو وَلاَ أتَّقِي ... إِلا إِلَهِى ولَهُ الْفَضْلُ)
(جدِّى نبِيِّى وإِمامِى أبِي ... وقوْلِى التَّوْحِيدُ وَالْعدْل)
المَال مَال الله وَالْعَبِيد عبيد الله وَالعطَاء خير من الْمَنْع {وَسَيعلمُ اَلذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبِ يَنقَلِبوُن} الشُّعَرَاء 227 وَفِي أَيَّامه احْتَرَقَ دمشق سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة قلت البساسيري هَذَا اسْمه أرسلان ويلقب أَبَا الْحَارِث وَهُوَ من التّرْك وَكَانَ من مماليك بهاء الدولة ابْن عضد الدولة الديلمي وَكَانَ أَولا مَمْلُوكا لرجل من أهل مَدِينَة بسا بِالْبَاء العجمية بأصبهان فنسب إِلَى ذَلِك الرجل الْمَنْسُوب إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة فَقيل لَهُ البساسيري ثمَّ كَانَ مقدما كَبِيرا عِنْد الْخَلِيفَة الْقَائِم بِأَمْر الله لَا يقطع أمرا دونه وخطب لَهُ على مَنَابِر الْعرَاق كلهَا ثمَّ طَغى وبغى وتمرد وعتا وَخرج على الْخَلِيفَة بل وعَلى الْمُسلمين ودعا إِلَى خلَافَة الفاطميين ليتم لَهُ مَا رامه من الأمل الْفَاسِد وَكَانَت وَفَاته سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَت وَفَاة الْمُسْتَنْصر يَوْم الْخَمِيس لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قَامَ من بعده أَحْمد الملقب بالمستعلي المكنى بِأبي الْقَاسِم بُويِعَ بعد موت أَبِيه الْمُسْتَنْصر وسنه نَيف وَعِشْرُونَ سنة وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه أَمِير الجيوش الْأَفْضَل شاهنشاه ابْن أَمِير الجيوش بدر الجمالي وَقد كَانَ عهد أَبوهُ إِلَى وَلَده الآخر نزار فخلعه الْأَفْضَل فقاتله نزار فَهَزَمَهُ الْأَفْضَل وَأسر القَاضِي ونزار فَقتل القَاضِي وَحبس نزار حَتَّى مَاتَ وَاسْتقر المستعلي فِي الْخلَافَة وَكَانَ عمره(3/571)
إِحْدَى وَعشْرين سنةَ وَفِي أَيَّامه استولت الفرنج على سواحل أهل الشَّام وَبَيت الْمُقَدّس واضمحل أَمر الفاطميين وَلم يبْق لَهُم من الْخلَافَة إِلَّا الِاسْم وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث صفر سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مَنْصُور الملقب بالآمر بِأَحْكَام الله ابْن المستعلي ابْن الْمُسْتَنْصر الفاطمي العبيدي أَبُو عَليّ الاخبيث الرافضي بُويِعَ بعد موت أَبِيه وَتَوَلَّى تَدْبِير مَمْلَكَته شاهنشاه فَلَمَّا كبر جازاه بِالْقَتْلِ وَأقَام عوضه فِي الوزارة الْمَأْمُون البطائحي صَاحب جَامع الْأَقْمَر بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَقَتله وصلبه أَيْضا وَاسْتمرّ الْآمِر إِلَى أَن مَاتَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَت مدَّته سبعا وَعشْرين سنة وَتِسْعَة أشهر وَلم يعقب وَسبب مَوته أَنه مر على الجسر من الرَّوْضَة عِنْد خُرُوجه إِلَى الجزيرة تجاه مصر فَوَثَبَ عَلَيْهِ تِسْعَة فضربوه بالسكاكين حَتَّى إِن أحدهم وثب وَركب خَلفه ثمَّ حمل جريحاً إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ قَامَ من بعده ابْن عَمه عبد الْمجِيد الملقب بِالْحَافِظِ لدين الله بن مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر المكنى أَبَا الهول بُويِعَ بعد قتل الْآمِر ودام إِلَى أَن مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة واستوزر فِي أَيَّامه أَحْمد بن الْأَفْضَل شاهنشاه بن بدر الجمالي ولقب أَمِير الجيوش كأبيه وجده وَكَانَت الْأُمُور قبل ولَايَة الْحَافِظ اضْطَرَبَتْ لمَوْت الْآمِر عَن(3/572)
غير ولد وَكَانَ الْحَافِظ كثير الْمَرَض بِالرِّيحِ القولنج فَعمل لَهُ الْحَكِيم الْمُسَمّى سرماه طبلاً للقولنج الَّذِي وجد بعد فِي خَزَائِن الفاطميين لما ملك السُّلْطَان صَلَاح الدّين مصر وَكَانَ هَذَا الطبل مركبا من الْمَعَادِن السَّبْعَة فِي أَشْرَافهَا وَكَانَ من خاصية هَذَا الطبل إِذا ضرب بِهِ أحد خرج مِنْهُ تِلْكَ الرّيح الْمَذْكُورَة فَلَمَّا وجد فِي الخزائن ضرب بِهِ بعض الأجناد الأجلاف فَخرج مِنْهُم ريح فَغَضب وَضرب بِهِ الأَرْض فَكَسرهُ فبطلت تِلْكَ الخاصية فندم السُّلْطَان صَلَاح الدّين لذَلِك غَايَة النَّدَم وَفِي أَيَّام الْحَافِظ هَذَا ابتذلت الْخلَافَة حَتَّى لم يبْق لَهُ من الحكم لَا قَلِيل وَلَا كثير وَكَانَت مدَّته تسع عشرَة وَسَبْعَة أشهر ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه إِسْمَاعِيل الملقب بالظافر ابْن عبد الْمجِيد بن مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر الفاطمي العُبيدي صَاحب الْجَامِع الظافري الْمَعْرُوف بِجَامِع الفاطميين دَاخل الْقَاهِرَة بُويِعَ بعد موت أَبِيه وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة وَأشهر وَكَانَ يهودى نصرا ابْن وزيره الْعَبَّاس وينادمه فَينزل الظافر لَهُ خُفْيَة وينام عِنْده فَتكلم النَّاس فِي ذَلِك فَبلغ الْعَبَّاس ذَلِك فوبخ ابْنه بِمَا سمع من كَلَام النَّاس فَلَمَّا نزل إِلَيْهِ الْخَلِيفَة فِي بعض اللَّيَالِي على عَادَته وَمَعَهُ خَادِم وَاحِد ونام قَامَ نصر إِلَيْهِ فَقتله وَرمى بِهِ فِي بِئْر وَعرف أَبَاهُ الْوَزير بذلك فَلَمَّا أصبح الْوَزير توجه إِلَى بَاب الْقصر كَأَنَّهُ لم يعلم بِمَا وَقع فَطلب الْخَلِيفَة على الْعَادة فَقَالَ لَهُ خَادِم الْقصر ابْنك نصر يعرف أَيْن هُوَ فَقَالَ لَهُ الْوَزير مَا لِابْني علم ثمَّ أحضر الْعَبَّاس أَخَوَيْنِ للظافر وَابْن أَخِيه وقتلهم صبرا بَين يَدَيْهِ ثمَّ أحضر أَعْيَان الدولة وَقَالَ لَهُم إِن الظافر قد ركب البارحة فِي مركب فَانْقَلَبَ بِهِ وغرق وَقَامَ وَدخل إِلَى الْحَرِيم وَأخرج عِيسَى بن الظافر وَبَايَعَهُ ولقبه بالفائز وتفرق النَّاس عَن الْوَزير لما عرفُوا أَمر الظافر وطالبوه بِدَم الْخَلِيفَة(3/573)
وَكَانَت مُدَّة الظافر أَربع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَأرْسل النِّسَاء يستغثن بطلائع بن رزيك وَكَانَ إِذْ ذَاك بِدِمَشْق مُتَوَلِّي منية ابْن الخصيب فَجمع طلائع عسكره وَقصد عباساً الْوَزير فَبَلغهُ فَجمع عَبَّاس مَا قدر على جمعه من الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال وَخرج نَحْو الشَّام فَخرج عَلَيْهِ الفرنج فِي الطَّرِيق فأسروه وَأخذُوا أَمْوَاله وَتَوَلَّى طلائع وزارة مصر وَأرْسل فبذل للفرنج مَالا عَظِيما وَأخذ عباساً مِنْهُم وَقَتله وصلبه على بَاب الْقصر وتلقب بِالْملكِ الصَّالح وَهُوَ صَاحب جَامع بَاب الزويلة وَكَانَ قتل الظافر سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة ثمَّ قَامَ من بعده ابْنه عِيسَى الملقب بالفائز بن الظافر بن الْحَافِظ بن مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر بُويِعَ بعد قتل أَبِيه وَهُوَ صبي وَأُصِيب بالرجفة لما أخرجه الْوَزير عَبَّاس من الْحَرِيم على كتفه لِلْبيعَةِ وَهُوَ ابْن سنتَيْن أَو أَربع وَذَلِكَ أَنه لما رأى أَعْمَامه قَتْلَى فزع واضطرب ودام بِهِ ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر رَجَب سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن عشر سِنِين تَقْرِيبًا قَالَ فِي الْبِدَايَة وفيهَا يَعْنِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تولى الفائز بنصر الله أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن إِسْمَاعِيل الظافر ثمَّ كَانَت وَفَاته فِي صفر وعمره إِحْدَى عشرَة سنة وَمُدَّة ولَايَته من ذَلِك سِتّ سِنِين وشهران وَكَانَ مُدبر دولته أَبُو الغارات ثمَّ قَامَ من بعده عبد الله الملقب بالعاضد لدين الله بن يُوسُف بن الْحَافِظ وَلم يكن أَبوهُ خَليفَة وَكَانَ يَوْمئِذٍ قد ناهز الِاحْتِلَام فَقَامَ بتدبير مَمْلَكَته الْملك الصَّالح طلائع بن رزيك الْوَزير وَأخذ لَهُ الْبيعَة وزوجه بابنته وجهزها بِأَمْر عَظِيم وَقد عمرت بعد زَوجهَا العاضد وَرَأَتْ زَوَال دولة الفاطمين على يَد السُّلْطَان(3/574)
صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذي الْكرْدِي فَإِن العاضد هُوَ اَخرهم وَكَانَ انْتِقَال دولتهم فِي زَمَنه وَكَانَ لما بُويِعَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة قَالَ فِي الأرج المسكي وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه وزيره الْملك الصَّالح طلائع ابْن رزيك وزر لَهُ بعد وَالِده ولقب بالعادل فانتزعها مِنْهُ شاور وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَببا لخراب الديار المصرية بمباطنته الفرنج لعنهم الله وَزَوَال دولة العبيديين مِنْهَا ثمَّ بعد قتل شاور وزر لَهُ أَسد الدّين شيركُوه بن شاذي الْكرْدِي وَهُوَ عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لِأَن أَيُّوب وشيركوه أَخَوان أَبوهُمَا شاذي وَأَيوب يلقب نجم الدّين وشيركوه يتلقب أَسد الدّين فَهُوَ عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين فلقب شيركوه بِالْملكِ الْمَنْصُور وَأقَام شَهْرَيْن وأياماً ثمَّ مَاتَ فاستوزر العاضد السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ولقبه بِالْملكِ النَّاصِر فَقطع الْملك النَّاصِر بعد سِنِين اسْم الْخَلِيفَة العاضد من الْخطْبَة بِمصْر وأعمالها بِأَمْر الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي بن آق سُنقر صَاحب الشَّام الْمَعْرُوف بِنور الدّين الشَّهِيد وَمَات العاضد بعد ذَلِك بأيام فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ يَوْم عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَنَدم السُّلْطَان صَلَاح الدّين على قطعه الْخطْبَة فِي حَيَاته وَتمنى أَن كَانَ الْقطع بعد مَوته فاستولى السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن أَيُّوب على مصر وذخائرها وَاخْتلف فِي سَبَب موت العاضد فَقيل إِنَّه تفكر فِي أُمُوره فرآها فِي إدبار فَأَصَابَهُ ذَرب عَظِيم فَمَاتَ مِنْهُ وَقيل إِنَّه لما خطب لبني الْعَبَّاس بِالْقَاهِرَةِ بلغه ذَلِك فَاغْتَمَّ فَمَاتَ وَقيل إِنَّه لما أَيقَن بِزَوَال ملكه كَانَ فِي يَده خَاتم فصه مَسْمُوم فمصه فَمَاتَ مِنْهُ قَالَ الذَّهَبِيّ وَكَانَ العاضد مَعَ وزرائه كالمحجور عَلَيْهِ لَا يتَصَرَّف فِي شَيْء مِمَّا يُرِيد وَهُوَ آخر مُلُوك مصر المسمين بالعبيديين الفاطميين وَكَانَت مُدَّة تملكهم مِائَتَيْنِ وثمان سِنِين فَكَانُوا لأربعة عشر مُتَخَلِّفًا لَا مستخلفاً وَقَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ فِي تَارِيخه الْمُسَمّى بالبداية كَانَ ابْتِدَاؤُهَا سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَكَانَ مزت العاضد فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وأعيدت الْخطْبَة للمستضيء العباسي ابْن المستنجد وَفَرح الْمُسلمُونَ فَرحا شَدِيدا وَكَانَت(3/575)
الْخطْبَة قد قطعت عَن بني الْعَبَّاس من ديار مصر من سنة تسع وَخمسين وثلاثمائة فِي خلَافَة الْمُطِيع العباسي قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد ألفت فِي ذَلِك كتابا سميته النَّصْر على مصر قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ وَاتفقَ أَنه لما دخل الْمعز الفاطمي مصر أرسل إِلَى الْجَامِع الْأَزْهَر يطْلب ألقاباً تكون عِنْده لمن يقوم بعده من أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَوْلَاده فَكتبت لَهُ هَذِه الألقاب الْعَزِيز الْحَاكِم بِأَمْر الله إِلَى العاضد آخِرهم والعضد فِي اللُّغَة الْقطع فَكَانَ مَعَ إِرَادَته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَاطعا لخلافتهم وَبِه انْقِرَاض ملكهم قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ وَاتفقَ أَنه لما اسْتَقر أَمر السُّلْطَان صَلَاح الدّين فِي مصر بِالْخطْبَةِ لبني الْعَبَّاس عَن مرسوم الْملك نور الدّين مَحْمُود بن زنكي لَهُ بذلك لمعاتبة الْخَلِيفَة المستنجد إِيَّاه قبل وَفَاته بذلك وَكَانَ إِذْ ذَاك العاضد مَرِيضا مدنفاً فَكَانَت وَفَاته يَوْم عَاشُورَاء فِي سنة سبع وَسِتِّينَ كَمَا تقدم ذكر ذَلِك فَحَضَرَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين جنَازَته وَشهد عزاءه وَبكى عَلَيْهِ وتأسف وَظهر مِنْهُ حزن فقد كَانَ مُطيعًا لَهُ فِيمَا يَأْمُرهُ بِهِ وَلما مَاتَ استحوذ الْملك صَلَاح الدّين على الْقصر بِمَا فِيهِ وَأخرج أهل العاضد إِلَى دَار أفردها لَهُم وأجرى عَلَيْهِم النَّفَقَات والأرزاق الهنية والمعيشة المرضية وَكَانَ يتندم على إِقَامَته الْخطْبَة العباسية قبل وَفَاته وهلاً صَبر بهَا إِلَى مَا بعد مماته وَلَكِن كَانَ ذَلِك قدرا مَقْدُورًا وَفِي الْكتاب مسطوراً وَمِمَّا قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فِي ذَلِك من // (المنسرح) //
(تُوُفّيَ العَاضِدُ الدَّعِيُّ فَمَا ... يَفْتَحُ ذُو بِدْعَةٍ بِمِصْرَ فَمَا)
(وَعَصْرُ فِرْعَوْنِهَا انْقَضَى وَغَدَا ... يُوسُفُهَا فِي الأُمُورِ مُحْتَكِمَا)
(فَانْطَفَأَتْ جَمْرَةُ الفُؤَادِ وَقَدْ ... بَاخَ مِنَ الشَّرِّ كُلُّ مَا اضْطَرَمَا)
(وَصَارَ شَمْلُ الصَّلاَحِ مُلْتَئِمًا ... بِهَا وَعَقفْدُ السّدَادِ مُنْتَظِمَا)
(لمَّا غَدَا معلما شِعَارُ بَنِي العَبَّاسِ ... حَقَّا وَالبَاطِلُ اكْتًتِمَا)
(وَبَاتَ دَاعِي التَّوْحِيدِ مُنْتَصِرًا ... وَمِنْ دُعَاةِ الْإِشْرَاكِ مُنْتَقِمَا)
(فَظَلَّ أَهْلُ الضَّلاَلِ فِي ظُلَلٍ ... دَاجِيَةٍ مِنْ عَماَيَةٍ وَعَمَى)(3/576)
(وَارْتَبَكَ الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَم ... لمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا)
(وَعَادَ بِالْمُسْتَضِئِ مُمْتَهِدّاً ... بِنَاء حَقِّ قَدْ كَانَ مُنْهَدِما)
(واعْتَلَتِ الدَّوْلَةُ الَّتِي اضْطُهِدَتْ ... وَانْتَصرَ الدِّينُ بَعْدَ مَا اهتُضِمَا)
(وَاهْتَزَّ عِطْفُ الْإِسْلاَمِ مِنْ جَذلٍ ... وَافْتَرَّ ثَغْرُ الْإِيمَانِ مُبْتَسِمَا)
(وَاسْتَبْشَرَتْ أَوْجُهُ الْهُدَى فَرَحًا ... فَلْيَقْرَعِ الْكُفْرُ سِنَّهُ نَدَمَا)
(عَادَ حَرِيمُ الْأَعْدَاءِ مُنْتَهكَ الْحِمى ... وَفيْءُ الطُّغَاةِ مُقْتسَمَا)
(قُصُورُ أَهْلِ القُصُورِ أَخْرَبَهَا ... عامِرُ بَيْتٍ مِنَ الْكَمَالِ سَمَا)
(أُزْعِجَ بعْد السُّكُونِ سَاكِنُهَا ... وَمَاتَ ذُلاًّ وَأَنْفُهُ رَغِمَا)
قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة وَقد قَالَ حسان الشَّاعِر الْمَدْعُو عرقلة من // (الْخَفِيف) //
(أَصْبَحَ المُلْكُ بَعْدَ آلِ عَلِيِّ ... مُشْرِقًا بِالمُلُوكِ مِنْ آلِ شَاذِي)
(وَغَدَا الشَّرْقُ يحْسُدُ الغَرْبَ لِلْقَرْمِ ... وَمِصْرٌ تَزْهُو علَى بَغْدَاذِ)
(مَا حَوَوْهَا إِلاَّ بِعَزْمٍ وحزْمٍ ... وَصَليِلِ الفُولاَذِ فِي الفُولاذِ)
(لاَ كَفِرْعَوْنَ وَالْعَزِيزِ وَمَنْ كَانَ ... بِها كَالْخَصِيبِ وَالْأُسْتَاذِ)
وَقَوله آل عَلِي يَعْنِي الفاطميين وَلم يَكُونُوا فاطميين وَإِنَّمَا كَانُوا أدعياء ينتسبون إِلَى يهودى حداد بسليمة ثمَّ ذكر مَا ذَكرْنَاهُ من كَلَام الْأَئِمَّة فيهم وطعنهم فِي نسبهم قَالَ وَقد استقصيت الْكَلَام فِي ذَلِك فِي بعض الأحيان من الكفريات والمصائب العظميات وَقد صنف الْعلمَاء فِي الرَّد عَلَيْهِم كتبا كَثِيرَة من أجل مَا وضع فِيهِ كتاب القَاضِي الْعَلامَة إِمَام الْأَئِمَّة أبي بكر الباقلاني الَّذِي سَمَّاهُ كشف الْأَسْرَار وهتك الأستار وَمن أحسن مَا قَالَه بعض الشُّعَرَاء فِي بني أَيُّوب يمدحهم على مَا فَعَلُوهُ بِمصْر قَوْله من قصيدة من // (الطَّوِيل) //
(أَلَسْتُمْ مُزِيلِي دَوْلَةِ الْكُفْرِ من بَني ... عُبَيْدٍ بِمِصْرٍ إِنَّ هَذَا هُوَ الفَضْلُ)
(زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ ... مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالحِينَ لَهُمْ أَصْلُ)(3/577)
(يُسِرُّونَ كُفْرًا يُظْهِرونَ تَشَيُّعًا ... لِيَسْتتِرُوا شَيْئًا وَعَمَّهُمُ الْجَهْلُ)
وَمِمَّا قيل من الشّعْر بِبَغْدَاد يبشر الْخَلِيفَة المستنجد بِاللَّه العباسي من // (الطَّوِيل) //
(لِيَهْنِكَ يَا مَوْلاََيَ فَتْحٌ تَتاَبَعَتْ ... إِلَيْكَ بِهِ خُوصُ الرَّكَائِبِ تُوجَفُ)
(أَخَذْت بِهِ مِصْرًا وَقَدْ حَالَ دُونهَا ... مِنَ الشِّرْكِ ناسٌ فِي لَهَا الْحَقِّ تُقْذَفُ)
(فَعَادَتْ بِحمْدِ اللهِ بِاسْمِ إِمامِنَا ... تَتِيهُ عَلَى كُل الْبلاَدِ وَتَشْرُفُ)
(فَلَا غَرْوَ إِنْ ذَلَّتْ لِيُوسُفَ مِصْرُهُ ... وكانتْ لَهُ عَلْيَاؤُهَا تَتشَوَّفُ)
(تَمَلَّكَهَا فِي قَبْضَةِ الْكُفْرِ يُوسُفٌ ... وَخَلَّصَهَا مِنْ عُصْبةِ الفِسْقِ يُوسُفُ)
(فَشَابَهَهُ خَلْقًا وخُلْقًا وَعِفَّةً ... وَكُلٌّ عَنِ الرَّحْمَنِ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُ)
(كَشَفْتَ بِها عَنْ آلِ هاشِم سُبَّةً ... وَعَارًا أََبَى إِلاَّ بِسيْفِكَ يُكْشفُ)
ذكر الشَّيْخ شهَاب الدّين فِي الروضتين أَن أَبَا الْفَضَائِل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد وَزِير ابْن هُبَيْرَة أنشدها للخليفة المستنجد وَالِد المستضيء قبل مَوته عِنْد تَأْوِيل مَنَام رَآهُ بعض النَّاس للخليفة فَأَرَادَ الشَّاعِر بِيُوسُف الثَّانِي الْخَلِيفَة المستنجد لِأَن اسْمه يُوسُف وَكَذَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره أَن هَذِه القصيدة أنشدت للمستنجد فِي حَيَاته وَلَكِن لم يُخطب بِمصْر إِلَّا لوَلَده المستضيء بن المستنجد فَجرى التَّأْوِيل باسم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ثمَّ إِن الْخَلِيفَة المستضيء أرسل إِلَى الْملك نور الدّين الشَّهِيد خلعة سنية وَكَذَلِكَ للْملك صَلَاح الدّين إِلَى الديار المصرية فَرفعت على أَعْلَام سود ولواء مَعْقُود ففرقت على الْجَوَامِع بِبِلَاد الشَّام وبلاد مصر فَللَّه الْحَمد على مَا صَحَّ من الْعِزّ والنصر وَكَانَ قد أجمع جمَاعَة من الدولة المصرية الفاطمية الَّذين كَانُوا حكاماً فاتفقوا فِيمَا بَينهم أَن يُعِيدُوا الدولة الفاطمية فَكَتَبُوا إِلَى الفرنج يستدعونهم إِلَيْهِم وعينوا خَليفَة من وَرَثَة الفاطميين ووزراء وأمراء وَذَلِكَ فِي غيبَة السُّلْطَان بِبِلَاد الكرك ثمَّ اتّفق مَجِيئه وَكَانَ من نِيَّة الْملك صَلَاح الدّين أَن يبْعَث أَخَاهُ تورانشَاه شمس الدّين إِلَى الْيمن فشرع عُمارةُ اليمني يذكر لَهُ الْيمن وَمَا فِيهَا من الْمصَالح والدور والمنتزهات والمغلات وَيحسن ل الْمصير إِلَيْهَا ليخف الْجَيْش بِمصْر ويضعف عَن مقاومة الفرنج إِذا قدمُوا لنصرة الفاطميين فَخرج تورنشاه وَلم يخرج مَعَه عمَارَة بل أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ يفِيض فِي هَذَا الحَدِيث وَيدخل الْمُتَكَلِّمين فِيهِ وَكَانَ من(3/578)
أكَابِر الدعاة إِلَيْهِ والمحرضين عَلَيْهِ هَذَا وَقد أدخلُوا مَعَهم فِي هَذَا الْأَمر بعض من ينتسب إِلَى الْملك النَّاصِر وَذَلِكَ من قلَّة عُقُولهمْ وَكَثْرَة جهلهم فخانهم أحْوج مَا كَانُوا إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّيْخ زيد الدّين عَليّ بن نجا الْوَاعِظ فجَاء إِلَى السُّلْطَان وَأخْبرهُ بِمَا تمالأ عَلَيْهِ الْقَوْم وَمَا انْتهى أَمرهم إِلَيْهِ فَأطلق لَهُ السُّلْطَان أَمْوَالًا جزيلة وأفاض عَلَيْهِ خلعا جملَة ثمَّ استدعاهم السُّلْطَان وَاحِدًا وَاحِدًا فقررهم فأقروا لَهُ بذلك فاعتقلهم ثمَّ استفتى الْعلمَاء فِي أَمرهم فأفتوا بِقَتْلِهِم وتبديد شملهم فَعِنْدَ ذَلِك أَمر بهم فَصَلبَتْ رُءُوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم وَأمر بِنَقْل من بَقِي من جَيش العنيديين إِلَى أقاصي الْبِلَاد وَقد كَانَ عمَارَة هَذَا معاديَاً للْقَاضِي الْفَاضِل فَلَمَّا حضر بَين يَدي السُّلْطَان قَامَ القَاضِي الْفَاضِل فَاجْتمع بالسلطان ليشفع فِيهِ فَتوهم عمَارَة أَنه تكلم فِيهِ فَقَالَ يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان لَا تسمع مِنْهُ فَغَضب القَاضِي الْفَاضِل ونهض وَخرج من الْقصر فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان إِنَّه كَانَ قد شفع فِيك فندم عمَارَة ندماً عَظِيما وَلما ذهب بِهِ ليصلب اجتاز بدار القَاضِي الْفَاضِل فَطَلَبه فتغيب عَنهُ فَأَنْشد عِنْد ذَلِك قَائِلا من // (الرجز) //
(إِنَّ الْخَلاصَ هُوَ الْعَجَبْ ... عَبْدُ الرَّحِيمِ قَدِ احْتَجَبْ)
قَالَ ابْن أبي طي وَكَانَ الَّذين صلبوا الْفضل بن كَامِل القَاضِي وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم هبة الله ابْن عبد الله بن كَامِل قَاضِي قُضَاة الديار المصرية زمن الفاطميين ويلقب بفخر الْأُمَنَاء وَهُوَ أول من صُلب وَقد كَانَ ينْسب إِلَى فَضِيلَة وأدب وَله شعر رائق مِنْهُ فِي غُلَام رفاء من // (مخلع الْبَسِيط) //
(يَا رَافِيًا خَرْقَ كُلِّ ثَوْبٍ ... وَيَا رَشًا حُبُّهُ اعْتِقادِي)
(عَسَى بِكَفِّ الوِصَالِ ترْفُو ... مَا مَزَّقَ الهَجْرُ مِنْ فُؤَادِي)
وَابْن عبد الْقوي دَاعِي الدعاة وَكَانَ يعلم بدقائق الْقَصْد فَعُوقِبَ ليعلم بهَا فَامْتنعَ من ذَلِك فَمَاتَ واندرست وشريا كَاتب السِّرّ وَعبد الصَّمد أحد أُمَرَاء المصريين ونجاح الحمامي رجل منجم نَصْرَانِيّ كَانَ قد بشرهم بِأَن هَذَا الْأَمر يتم بِعلم النجوَم وَعمارَة اليمني هَذَا وَقد كَانَ شَاعِرًا مطبقاً بليغاً فصيحاً لَا يُلحق فِي هَذَا الشَّأْن وَله ديوَان مَشْهُور ذكره ابْن السُّبْكِيّ فِي طبقاته وَله فِي الفاطميين ووزرائهم وأمرائهم مدائح كَثِيرَة جدا وَأَقل مَا نسب إِلَى الرَّفْض وَقد اتهمَ بَاطِنه(3/579)
بالْكفْر الْمَحْض وَله مُصَنف فِي الْفَرَائِض وَكتاب الوزراء الفاطميين وَكتاب جمع فِيهِ سيرة نَفسه وَكَانَ أديباً فَاضلا فَقِيها فصيحاً وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي الخريدة أَنه قَالَ فِي قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا من // (الْبَسِيط) //
(أَلْعِلْمُ مُذْ كَانَ مُحْتَاجٌ إِلى الْعَلمِ ... وَشَفْرَةُ السَّيْفِ تَسْتغًنِي عَنِ الْقَلَمِ)
وَهِي طَوِيلَة قَالَ فِيهَا أَيْضا
(قَدْ كَانَ أَوَّلُ هَذَا الدِّينِ مِنْ رَجُلٍ ... سَعَى إِلَى أَنْ دَعَوْهُ سَيِّدَ الْأُمَمِ)
قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فَأفْتى عُلَمَاء مصر بِكُفْرِهِ وَقَتله وحرضوا السُّلْطَان على الْمثلَة بِمثلِهِ قَالَ وَيجوز أَن يكون الشّعْر مَعْمُولا عَلَيْهِ كَذَا قَالَه الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ أَقُول سُبْحَانَ الله كَيفَ هَذَا الْإِفْتَاء بالْكفْر وَالْحَال أَن هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ ظاهرَاً فِيمَا يُوجب الْكفْر فضلا عَن أَن يكون نصا إِذْ قَوْله سعى يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ سَعْيه
فِي إبلاغ دين الله وَعرضه نَفسه على الْقَبَائِل وَصَبره على مَا لاقاه من أَذَى قُرَيْش وَغَيرهم وجهاده فِي إعلاء كلمة الله وإعلانها وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر ظهوراً بَينا وَالْمَطْلُوب والمتعين الْحمل عَلَيْهِ إِذْ الْإِيمَان والعصمة ثابتان لَهُ قبل ذَلِك بِلَا شكّ فعندي فِي هَذَا التفكير تفكير انْتهى وَمِمَّا أورد لَهُ ابْن السَّاعِي قَوْله يمدح بعض الْمُلُوك من // (الْكَامِل) //
(مَلِكٌ إِذَا قَابَلْتُ بِِشْرَ جَبِينِهِ ... فَارَقْتُهُ والبِشْرُ فَوْقَ جبِينَي)
(وَإِذَا لَثَمْتُ يَمِينَهُ وخَرَجْتُ مِنْ ... أَبْوَابِهِ لَثَمَ المُلُوكُ يَمِينِي)
وَمِمَّا وجد من شعر عمَارَة يرثي العاضد الفاطمي ودولته وأيامه // (من الْكَامِل) //
(أَسَفِي عَلَى زَمَنِ الْإِمَامِ الْعَاضِدِ ... أَسَفَ العَقيِم علَى فِرَاقِ الوَاحِدِ)
(جَالسْتُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَصَحِبْتُ مِنْ ... أُمَرَائِهِ أَهْلَ الثَّنَاءِ الخَالِدِ)
(لَهَفِى عَلَى حُجُرَاتِ قَصْرِكَ إِذْ خَلتْ ... يَا ابْنَ النَّبِيِّ مِنِ ازْدِحَامِ الوَافِدِ)
(وَعَلى النَّوَازِلِ مِنْ عسَاكِرِكَ الَّتِي ... كَانَتْ كَأَمْوَاجِ الخَِمِّ الرَّاكِدِ)
(قُلِّدتَّ مُؤْتَمَنَ الخِلاَفةِ أَمْرَهُمْ ... فَكَبَا وَقَصَّرَ عَنْ صَلاَحِ الْفَاسِدِ)
(فَعَسَى اللَّيَالِي أَنْ تَرُدَ عَلَيْكُمُ ... مَا عَوَّدَتْكُمُ مِنْ جَمِيلِ عَوَائِدِ)
وِله من قصيدة فِيهِ من // (الْبَسِيط) //
(يَا عَذِلِي فِي هَوىَ أَبْنَاءِ فَاطِمَةٍ ... لَكَ المَلاَمَةُ إِنْ قَصَّرْتَ فِي عَذَلِي)(3/580)
(باللَّهِ زُرْ سَاحَةَ الْقَصْرَيْنِ وَابْكِ مَعِي ... علَيْهِمَا لاَ عَلَى صِفِّينَ وَالْجَمَلِ)
(وَقُلْ لِأَهْلِهِمَا وَاللَّهِ مَا الْتَحَمَتْ ... فِيكُمْ قُرُوحِي وَلاَ جُرْحِي بِمُنْدَمِلِ)
(مَاذَا تُرَى كَانَتِ الْإِفْرنْجُ فَاعِلةً ... فِي نَسْلِ آلِ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عَلي)
وَقد أورد الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة فِي الروضتين من أشعار عمَارَة هَذَا ومدائحه فِي الْخُلَفَاء الفاطميين وذويهم شَيْئا كثيرا فَمن ذَلِك قَوْله من // (الْبَسِيط) //
(لِي فِي هَوَى الرَّشَإِ الْعُذْرِيِّ أَعْذَارُ ... لَمْ يَبْقَ لِي مُذْ أَقرَّ الدَّمْعُ إِنْكَارُ)
(لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي لَثْمِ الخُدُودِ وَفِي ... ضَمِّ النهوَدِ لُبَانَاتُ وَأَوْطَارُ)
(هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ ... أَوْ لاَ فَدَعْنِي وَمَا أَهْوَى وَأَخْتَارُ)
وَمِمَّا أنْشد الشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ فِي عمَارَة حِين صلب قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(عمَارَةُ فِي الإِسْلاَمِ أَبْدَى خِيَانَةً ... وَبَايَعَ فيهَا بَيْعَةً وَصَلِيبَا)
(وَأَمْسَى شَريكَ الشِّرْكِ فِي بُغْضِ أَحْمَدٍ ... فَأَصْبَحَ فِي حُبِّ الصليِبِ صَلِيبَا)
)
وَكَانَ خَبِيثَ الْمُلْتَقَى إِنْ عَجَمْتَهُ ... تَجِدْ مِنْهُ عُودًا فِي الثِّقَافِ صَلِيبَا)
(سَيَلْقَى غَدًا مَا كَانَ يَسْعَى لأَجْلِهِ ... وَيُسْقَى صَدِيدًا فِي لَظًى وَصلِيبَا)
قلت الأول صَلِيب النَّصَارَى وَالثَّانِي بِمَعْنى مصلوب وَالثَّالِث بِمَعْنى الْقوي وَالرَّابِع بِمَعْنى ودك الْعِظَام وَلما صلب الْملك النَّاصِر هَؤُلَاءِ بَين القصرين فِي الْقَاهِرَة وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم السبت الثَّامِن من شهر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة كتب إِلَى الْملك نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود بن زنكي يُعلمهُ بذلك وَمَا وَقع بهم من الخزي والنكال فوصل الْكتاب بذلك الْأَمر يَوْم توفّي الْملك نور الدّين الْمَذْكُور رَحمَه الله تَعَالَى(3/581)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
(الْبَاب الرَّابِع)
(فِي الدولة الأيوبية السُّنِّيّةِ السَّنيّة)
هم أَصْحَاب الفتوحات الجليلة الجلية الكاشفون عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين كل كربَة وبلية قَالَ ابْن السُّبْكِيّ رَحمَه الله كَانَ ابْتِدَاء دولتهم وملكهم سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَقَالَ السَّيِّد السَّمرقَنْدِي فِي تحفة الطَّالِب سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة
(السَّبَب فِي توردهم الديار المصرية)
قَالَ الْعَلامَة ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره لما كَانَت سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة قدم شاور بن مجبر أَبُو شُجَاع السَّعْدِيّ الملقب بأمير الجيوش وَهُوَ إِذْ ذَاك وَزِير الديار المصرية بعد آل رزيَّك لما قتل النَّاصِر رزيَّك بن صَالح بن رزيَّك وَقَامَ فِي الوزارة بعده يَعْنِي وزارة العاضد العبيدي واستفحل أمره فِيهَا فَسَار عَلَيْهِ أَمِير يُقَال لَهُ الضرغام بن سوار وَجمع لَهُ جموعاً كَثِيرَة وستظهر عَلَيْهِ وَقتل ولديه واستوزر العاضد بعده ضرغام بن سوار الْمَذْكُور ولقب بالمنصور فَخرج شاور من الديار المصرية هَارِبا من العاضد وضرغام ملتجئاً إِلَى نور الدّين مَحْمُود بن زنكي أَمِير الشَّام من جِهَة السلجوقي فِي الديار المصرية فَأرْسل مَعَه نور الدّين جَيْشًا عَلَيْهِم أَسد الدّين شيركوه بن شاذي عَم السُّلْطَان(4/3)
يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذي فَلَمَّا دخلُوا مصر خرج إِلَيْهِم الْجَيْش الَّذِي بهَا فَاقْتَتلُوا أَشد الْقِتَال فَهَزَمَهُمْ أَسد الدّين وَقتل مِنْهُم خلقا وَقتل ضرغام بن سوار وطيف بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَاد وَاسْتقر شاور فِي الوزارة ثمَّ اصْطلحَ العاضد هُوَ وشاور وَفِي هَذِه السّنة الْمَذْكُورَة كَانَت وَفَاة مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور أبي جَعْفَر الْأَصْفَهَانِي الملقب بالجمال وَزِير صَاحب الْموصل قطب الدّين بن مودود بن زنكي وَهُوَ ابْن أخي مُحَمَّد بن زنكي بن آق سنقر السلجوقي الْمَذْكُور كَانَ هَذَا الْجمال الْأَصْفَهَانِي كثير الْمَعْرُوف وَالصَّدقَات وَله آثَار حَسَنَة ب مَكَّة وَالْمَدينَة من ذَلِك أَنه سَاق عينا إِلَى عَرَفَات وَعمل هُنَالك مصانع وَبنى مَسْجِد عَرَفَات ودرجه وَأحكم أَبْوَاب الْحرم وَبنى مَسْجِد الْخيف وَبنى الْحجر وزخرف الْكَعْبَة وأذهبها وعملها بالرخام وَبنى على الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة سوراً وَبنى جِسْرًا على دجلة عِنْد جَزِيرَة ابْن عمرَ بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد والرصاص وَبنى ربطاً كَثِيرَة وَكَانَ يتَصَدَّق كل يَوْم على بَابه بِمِائَة دِينَار ويفتدي من الأساري كل سنة بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَلَا تزَال صدقاته وافدة إِلَى الْفُقَهَاء والفقراء حَيْثُ كَانُوا وَلما مَاتَ دفن فِي رِبَاط بناه لنَفسِهِ بالموصل وَقد كَانَ بَينه وَبَين أَسد الدّين شيركوه الْمَذْكُور مؤاخاة وعهد أَيهمَا مَاتَ قبل الآخر أَن يحملهُ إِلَى الْمَدِينَة فاستأجر لَهُ أَسد الدّين رجَالًا فنقلوه إِلَيْهَا فَمَا مروا بِهِ فِي بَلْدَة إِلَّا صلى عَلَيْهِ أَهلهَا وترحموا وأثنوا عَلَيْهِ خيرا فَصلي عَلَيْهِ ب الْموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وَمَكَّة وطيف بِهِ حول الْكَعْبَة ثمَّ نقل إِلَى الْمَدِينَة المشرفة فَدفن برباط بناه شَرْقي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَابْن السَّاعِي وَلَيْسَ بَينه وَبَين حرم رَسُول الله
سوى مِقْدَار خَمْسَة عشر ذِرَاعا قَالَ ابْن السَّاعِي لما صليَ عَلَيْهِ بالحلة صَعِدَ شَاب على نشز فَأَنْشد من الطَّوِيل
(سرَى نَعْشُهُ فَوْقَ الرِّقَابِ وطَالَما ... سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ ونَائِلُهْ)(4/4)
(يَمُرُّ عَلَى الوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ ... علَيْهِ وبِالنِّادِي فَتُثْنِي أَرَامِلُهْ)
رَجعْنَا إِلَى سيرة شاور والعاضد وَأسد الدّين لما اصْطلحَ شاور مَعَ العاضد استمرا على دَخَن فَلَمَّا كَانَت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة طغت الفرنج بالديار المصرية وتحكموا فِي إيوانها وسكنها أَكثر شجعانهم وَلم يبْق شَيْء من أَن يستحوذوا عَلَيْهَا ويخرجوا مِنْهَا أَهلهَا الْمُسلمين وَذَلِكَ بِسَبَب مَا قَرَّرَهُ لَهُم شاور على مصر كل عَام بِأَلف ألف دِينَار وَأَن تكون لَهُم بهَا شحنة فَلَمَّا سمع الفرنج بذلك طمعوا فِي أَخذهَا بِالْأَصَالَةِ فركبت أمدادهم من كل نَاحيَة وَسَارُوا فَأول مَا أخذُوا مَدِينَة بلبيس فَقتلُوا خلقا وأسروا آخَرين فَأمر الْوَزير شاور بإحراق مصر وَأَن ينْتَقل النَّاس إِلَى الْقَاهِرَة فنهبت الْبَلَد وَبقيت النَّار تعْمل فِي مصر أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا فَعِنْدَ ذَلِك أرسل الْخَلِيفَة العاضد لدين الله إِلَى الْملك نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود بن زنكي يستغيث بِهِ وَبعث إِلَيْهِ بشعور نِسَائِهِ يَقُول لَهُ أدركني واستنقذ نسَائِي من يَد الفرنج وَالْتزم لَهُ بِثلث خراج مصر على أَن يكون أَسد الدّين شيركوه مُقيما عِنْدهم بِمصْر وَلَهُم إقطاعات زَائِدَة على الثُّلُث فشرع نور الدّين فِي تجهيز الجيوش إِلَى الديار المصرية فَلَمَّا استشعر الْوَزير شاور بوصول الْمُسلمين أرسل إِلَى ملك الإفرنج يَقُول قد عرفت محبتي ومودتي ولكِن العاضد والمسلمون لَا يوافقوني على تَسْلِيم الْبَلَد واستدعي نور الدّين الشَّهِيد الْأَمِير أَسد الدّين شيركوه فقدمه على العساكر الَّتِي قد جهزها إِلَى الديار المصرية وأضاف إِلَيْهِ جملَة من الْأُمَرَاء والأعيان وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذي وأضاف إِلَيْهِ سِتَّة آلَاف من التركمان فَلَمَّا وصلت الجيوش النورية إِلَى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عَن الْقَاهِرَة بالصفقة الخاسرة فَدخل الْأَمِير أَسد الدّين على العاضد وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية فلبسها وَعَاد إِلَى مخيمه بِظَاهِر الْقَاهِرَة وَخرجت وُجُوه النَّاس إِلَى مخيم أَسد الدّين خدمَة لَهُ وَكَانَ مِمَّن خرج إِلَه الْخَلِيفَة العاضد متنكراً فَأسر إِلَيْهِ أموراً مهمة مِنْهَا قتل الْوَزير شاور وَقرر مَعَه ذَلِك وَعظم أَمر الْأَمِير أَسد الدّين بِمصْر وَلم يقدر الْوَزير شاور على منع شَيْء من ذَلِك لِكَثْرَة من مَعَ أَسد الدّين من الْجَيْش وَلَكِن شرع يماطل فِيمَا كَانَ تقرر لَهُم(4/5)
وللملك نور الدّين مِمَّا كَانَ الْتَزمهُ لَهُم وَهُوَ مَعَ ذَلِك يتودد إِلَى الْأَمِير أَسد الدّين ويركب مَعَه وعزم على فعل ضِيَافَة لَهُ فَنهى أَسد الدّين وَأَصْحَابه عَن الْحُضُور عِنْده خوفًا عَلَيْهِ من غائلته وشاوروه فِي قتل شاور فَلم يُمكنهُم الْأَمِير أَسد الدّين من ذَلِك فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام جَاءَ شاور إِلَى منزل أَسد الدّين فَوَجَدَهُ قد ذهب إِلَى زِيَارَة قبر الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَإِذا ابْن أَخِيه الْملك صَلَاح الدّين يُوسُف هُنَالك فَأمر صَلَاح الدّين بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَلم يُمكنهُ قَتله إِلَّا بعد مُشَاورَة عَمه أَسد الدّين فَانْهَزَمَ أَصْحَاب شاور فأعلموا العاضد لَعَلَّه يبْعَث من ينقذه فَأرْسل العاضد إِلَى الْأَمِير أَسد الدّين يطْلب رَأس شاور فَقتله يُوسُف وَأرْسل بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ ففرح الْمُسلمُونَ بذلك وَأمر أَسد الدّين بِنَهْب دَار شاور فنهبت وَدخل على العاضد فاستوزره وخلع عَلَيْهِ خلعة عَظِيمَة ولقبه الْملك الْمَنْصُور فسكن دَار شاور وَعظم شَأْنه هُنَالك قلت وَهَذَا الْوَزير شاور هُوَ أول من استكتب القَاضِي الْفَاضِل استدعي بِهِ من الْإسْكَنْدَريَّة فحظي عِنْده وانحصرت فِيهِ الْكِتَابَة لما رَأَوْا فَضله وفضيلته وَمِمَّا قَالَه عمَارَة اليمني فِي شاور قَوْله من الْكَامِل
(ضَجِرَ الحَدِيدُ مِنَ الحَدِيدِ وشَاورٌ ... فِي نَصْرِ آلِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ)
(حَلَفَ الَّزمَانُ ليَأْتِيَنَّ بِمِثْله ... حَنِثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ)
وَلم يزل قَائِما فِي الوزارة إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ ضرغام بن سوار كَمَا تقدم ذكره ثمَّ كَانَ قَتله على يَد النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف وَلما اسْتَقر أَسد الدّين بِمصْر كَمَا ذكرنَا أرسل إِلَى الْقصر يطْلب كَاتبا فأرسلوا إِلَيْهِ بِالْقَاضِي الْفَاضِل وَكَانُوا قد أبغضوه أَرْسلُوهُ إِلَيْهِ رَجَاء أَن يُقتل مَعَه إِذا قتل أَسد الدّين شاور فِيمَا كَانُوا يؤملون ثمَّ إِن أَسد الدّين بعث الْعمَّال وأقطع الإقطاعات وَولى للولايات وَفَرح بِنَفسِهِ أَيَّامًا معدودات فأدركه حِمَامُهُ يَوْم السبت ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فَكَانَت ولَايَته شَهْرَيْن وَخَمْسَة أَيَّام فَلَمَّا توفّي أَسد الدّين أَشَارَ الْأُمَرَاء الشاميون على العاضد بتولية صَلَاح الدّين(4/6)
يُوسُف بن أَيُّوب الوزارة بعد عَمه أَسد الدّين وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية ولقبه الْملك النَّاصِر قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة فِي كتاب الروضتين صفة الخلعة الَّتِي لبسهَا صَلَاح الدّين يَوْمئِذٍ هِيَ عِمَامَة بَيْضَاء بِطرف ذهب وثوب ديبقي بطراز الذَّهَب وجبة بطراز ذهب وطيلسان مطرز بِذَهَب وَعقد جَوْهَر بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَسيف محلى بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وحجرة من الْخَيل بِثمَانِيَة آلَاف دِينَار وَعَلَيْهَا طوق ذهب وسرفسار ذهب بجوهر وَفِي رَأسهَا مِائَتَا حَبَّة جَوْهَر وَفِي قَوَائِمهَا أَرْبَعَة عُقُود جَوْهَر وَفِي رَأسهَا قضيب ذهب وَمَعَ الخلعة عدَّة بقج وخيل ومنشور الْولَايَة فِي ثوب أطلس أَبيض وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَأقَام صَلَاح الدّين بالديار المصرية بِصفة نَائِب للْملك نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود ابْن زنكي يخْطب لَهُ على المنابر بالديار المصرية بعد الْخَلِيفَة وَقد قَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي قتل صَلَاح الدّين شاور من الطَّوِيل
(هَنِيئًا لِمصْرِ حَوْزُ يوسُفَ مُلْكَهًا ... بأَمْرٍ مِنَ الرحْمَنِ قَدْ كَانَ مَوْقُوتاَ)
(وَمَا كَانَ فِيها قَتْلُ يوسُفَ شاوراً ... يماثلُ إلاَّ قَتْلَ داوُدَ جَالُوتاَ)
وارتفع قدر صَلَاح الدّين بَين الْعباد بِتِلْكَ الْبِلَاد واضطهد العاضد فِي أَيَّامه غَايَة الاضطهاد وَزَاد فِي إقطاعات الَّذين مَعَه فَأَحبُّوهُ وخدموه واحترموه فاستمر حَتَّى كَانَ أول جُمُعَة من سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَهِي السّنة الَّتِي توقي فِيهَا الْخَلِيفَة العاضد قبل وَفَاته أَمر بِإِقَامَة الخطية لبنى الْعَبَّاس ب مصر وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة ب الْقَاهِرَة وَكَانَ ذَلِك يَوْمًا مشهوداً وَلما انْتهى الْخَبَر بذلك إِلَى الْملك نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود بن زنكي ب الشَّام أرسل إِلَى الْخَلِيفَة يُعلمهُ بذلك مَعَ ابْن عصرون فزينت بَغْدَاد وغلقت الْأَسْوَاق وَفَرح الْمُسلمُونَ فَرحا شَدِيدا وَكَانَت الْخطْبَة عَن بني الْعَبَّاس قد قطعت من سنة تسع وَخمسين وثلاثمائة فِي خلَافَة الْمُطِيع العباسي حِين تغلب الفاطميون وَهن الْمُسلمُونَ بالعُبَيديين على مصر وملكها مِنْهُم الْمعز الفاطمي باني الْقَاهِرَة والقصرين(4/7)
إِلَى هَذَا الأوان وَهُوَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ مِائَتَا سنة وثماني سِنِين كَمَا تقدم ذكر ذَلِك قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد ألفت فِي ذَلِك كتابا سميته النَّصْر على مصر فَهَذَا هُوَ سَبَب اسْتِيلَاء الدولة الأيوبية على مصر وَالشَّام وأعمالهما وَكَانَت وَفَاة نور الدّين الشَّهِيد فِي شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فأولهم الْملك النَّاصِر
(السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب)
ابْن شاذي الْكرْدِي الروادي وهم خِيَار الأكراد الدويني وَمِنْهُم من يَقُول أَيُّوب بن شاذي بن مَرْوَان وَزَاد بَعضهم بعد مَرْوَان ابْن يَعْقُوب وَالَّذِي عَلَيْهِ جمهورهم أَنه لَا يعرف بعد شاذي أحد من نسبهم وَأغْرب بَعضهم فَزعم أَنهم من سلالة مَرْوَان بن مُحَمَّد الْجَعْدِي آخر خلفاء بني أُميَّة وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح كَذَا قَالَه ابْن السُّبْكِيّ قلت وَالَّذِي انتسب هَذِه النِّسْبَة ادِّعَاء هُوَ الْملك أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن طغتكين ابْن أَيُّوب بن شاذي وَيعرف بِابْن سيف الْإِسْلَام لِأَن سيف الْإِسْلَام لقب(4/8)
ل طغتكين بن أَيُّوب أخي صَلَاح الدّين وَقد ملك إِسْمَاعِيل هَذَا بعد أَبِيه فتعاظم فِي نَفسه وادعي الْخلَافَة وتلقب بِالْإِمَامِ الْهَادِي بِنور الله الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَزعم أَنه أموي ومدحه الشُّعَرَاء وأطروه ولهجوا بذلك وَقَالَ هُوَ فِي نَفسه من الطَّوِيل
(وَإنِّي أَنَا الهَادِي الْخَلِيفَةُ والذِي ... أَدُوسُ رِقَابَ الغلبِ بالضُّمَّرِ الجُرْدِ)
(وَلَا بُدَّ مِنْ بَغْدَادَ أَطْوِي رُبُوعَهَا ... وأَنْشُرُهَا نَشر السِّمَاسِرِ للبردِ)
(وأَنْصِبُ أَعْلاَمِي عَلَى شُرُفَاتِهَا ... وأُحْيِي بِهَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ جَدِّي)
(ويخطبُ لي فِيهَا على كلِّ منبرٍ ... وأظِهْرُ دِينَ اللَّهِ فِي الغَورِ والنَّجْدِ)
وَهَذَا الادعاء لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا أصل لَهُ فيعتمد عَلَيْهِ وَلَا مُسْتَند يسْتَند إِلَيْهِ وَكَانَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله متقشفاً فِي ملبسه ومأكله وملبسه لَا يلبس إِلَّا الْكَتَّان والقطن وَالصُّوف وَلَا يعرف أَنه تخطى مَكْرُوها بعد أَن أنعم الله عَلَيْهِ بِالْملكِ بل كَانَ همه الْأَكْبَر ومقصوده الْأَعْظَم نصْرَة الْإِسْلَام وَكسر الْأَعْدَاء اللئام وَيعْمل فكره فِي ذَلِك ورأيه وَحده وَمَعَ من يَثِق بِرَأْيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا هَذَا مَعَ مَا لَدَيْهِ من الْفَضَائِل والفواضل والفوائد والفرائد فِي اللُّغَة وَالْأَدب وَأَيَّام النَّاس حَتَّى قيل إِنَّه كَانَ يحفظ الحماسة بِتَمَامِهَا وَكَانَ مواظباً على الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا فِي جمَاعَة يُقَال لم تفته الْجَمَاعَة فِي صَلَاة قبل مماته بدهر طَوِيل حَتَّى فِي مرض مَوته وَكَانَ يتجشم الْقيام مَعَ ضعفه وَكَانَ يفهم مَا يُقَال بَين يَدَيْهِ من الْبَحْث والمناظرة ويشارك فِي ذَلِك مُشَاركَة حَسَنَة وَإِن لم يكن بالعبارة المصطلح عَلَيْهَا وَكَانَ يحفظ ويحفظ أَوْلَاده عقيدة جمعهَا لَهُ القطب النَّيْسَابُورِي وَكَانَ يحب سَماع الْقُرْآن الْعَظِيم ويواظب على سَماع الحَدِيث حَتَّى إِنَّه سمع فِي بعض المصافات جُزءاً وَهُوَ بَين الصفين وتبجح بذلك وَقَالَ هَذَا موقف لم يسمع فِيهِ أحد حَدِيثا وَكَانَ رَقِيق الْقلب سريع الدمعة عِنْد سَماع الْقُرْآن والْحَدِيث كثير التَّعْظِيم لشعائر الدّين وَكَانَ من خِيَار الْمُلُوك وأشجعهم وَأكْرمهمْ وَأَحْسَنهمْ فتح الفتوحات الَّتِي لَا تحصى(4/9)
من ممالك الْكفْر وَدَمرَ دِيَارهمْ واستلب أعمارهم وسبى نِسَاءَهُمْ وصغارهم وَكَانَ شَيخا كَرِيمًا حَلِيمًا ضحوك الْوَجْه كثير البِشر أحسن الْمُلُوك سيرة وأطهرهم سريرة يشبه بِالْملكِ الْعَادِل نور الدّين الشَّهِيد وَلم يتْرك فِي خزائنه سوى سِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما وَقَالَ غير ابْن السُّبْكِيّ سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما وَلم يتْرك عقارا وَلَا مزرعة وَلَا شَيْئا من أَنْوَاع الْأَمْلَاك لِكَثْرَة عطاياه وهباته وصدقاته وخيراته إِلَى أمرائه وفقرائه حَتَّى إِلَى أعدائه وَخلف من الْأَوْلَاد سَبْعَة عشر ذكرا وَابْنَة وَاحِدَة أكبرهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ وَكَانَ قد قسم الْبِلَاد فِي حَيَاته بَين أَوْلَاده فالديار المصرية لوَلَده الْعَزِيز عُثْمَان وبلاد دمشق وَمَا حولهَا لوَلَده الْأَفْضَل الْمَذْكُور والديار الحلبية لوَلَده الظَّاهِر غَازِي والكرك والشوبك لِأَخِيهِ الْعَادِل أبي بكر ثمَّ شرعت الْأُمُور تضطرب وتختلف حَتَّى آل الْأَمر واستقرت الممالك وَاجْتمعت المحافل على أخي السُّلْطَان الْملك الْعَادِل وَصَارَت المملكة فِي أَوْلَاده الأماجد الأفاضل كَمَا ستراهم حِين تعدادهم وَاحِدًا بعد وَاحِد وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَن اعترته حمى صفراوية لَيْلَة السبت سادس عشر صفر وتفاقم بِهِ الْحَال لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَدخل عَلَيْهِ القَاضِي الْفَاضِل فِي الصُّبْح وَهُوَ باَخر رَمق فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارئ قَوْله تَعَالَى {لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} التَّوْبَة: 129 تَبَسم وتهلل وَجهه وَسلمهَا إِلَى ربه عز وَجل وَله من الْعُمر سبع وَخَمْسُونَ سنة وَدفن بتربته عِنْد مدرسة أَنْشَأَهَا ب الْموصل وألحده وَلَده نور الدّين عَلِي الْأَفْضَل وَدفن مَعَه سَيْفه الَّذِي كَانَ يحضر بِهِ الْجِهَاد والجلاد وَذَلِكَ بِإِشَارَة القَاضِي الْفَاضِل وَقد عمل فِيهِ الشُّعَرَاء المراثي الْكَثِيرَة فَمن أحْسنهَا قصيدة الْعِمَاد الْكَاتِب وَهِي(4/10)
مِائَتَان وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْتا فَمِنْهَا قَوْله فِي أَولهَا من الْكَامِل
(شَمْلُ الهُدَى والمُلكِ وعَمَّ شَتَاتُهُ ... والدَّهْرُ سَاءَ وأَقْلَعَتْ حَسَنَاتُهُ)
(أَيْنَ الَّذِي مُذْ لَمْ يَزَلْ مَخْشِيَّةً ... مَرْجُوَّةً ... هَبَّاتُهُ وهباتُهُ)
(أَيْنَ الذِي طَاعَاتُنَا كانَتْ لَهُ ... مَبْذُولةً ولِرَبهِ طَاعَاتُهُ)
(باللَّهُ أَيْنَ النَّاصِرُ المَلِكُ الذِي ... لِلَّهِ خَالِصَةٌ صَفَتْ نيَّاتُهُ)
(أَيْنَ الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَاناً لَنَا ... يُرجَى نَدَاهُ وتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ)
(أَيْنَ الذِي شَرُفَ الزَّمَانُ بفَضْلِهِ ... وسَمَتْ عَلَى الفُضَلاَءِ تَشْرِيفَاتُهُ)
(أَيْنَ الذِي عَنَتِ الفِرِنجُ لِبَأْسِهِ ... ذلا ومِنْهَا أَدْرَكَتْ ثَارَاتُهُ)
(أَغْلاقُ أَعْنَاقِ العِدَى أسْيَافُهُ ... أطْواقُ أجْيَادِ الوَرَى مِنًّاتُهُ)
قلت إِن كَانَت القصيدة كلهَا على هَذِه الوتيرة فَمَا تصلح أَن تكون بعقر دَاره عقيرة رَحمَه الله
(ثمَّ تولى ابْنه الْملك الْعَزِيز عُثْمَان)
أَبُو الْفَتْح ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب تسلطن بعد مَوته وَكَانَ نَائِبا عَن أَبِيه بِمصْر لما كَانَ أَبوهُ ب دمشق وَتمّ أمره وسنه نَيف وَعِشْرُونَ سنة وَكَانَ أَصْغَر إخْوَته وَكَانَ أكبرهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ وَكَانَت إِلَيْهِ ولَايَة الْعَهْد من أَبِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَكَانَ ب دمشق وَأَخُوهُ عُثْمَان ب مصر وَعَمه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر ب حلب وَكَانَ أكولاً يَأْكُل الخروف وَحده وَكَانَ فَاضلا متأدباً حَلِيمًا حسن السِّيرَة متديناً قل أَن يُعَاقب على ذَنْب وَمَعَ هَذَا مَا صفا لَهُ الدَّهْر وَلَا هنَّاه بِالْملكِ بعد أَبِيه لبث مُدَّة يسيرَة ثمَّ حصره عَمه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر وَأَخُوهُ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان صَاحب(4/11)
التَّرْجَمَة هَذِه وَأَخْرَجَاهُ من ملكه إِلَى صَرخَد ثمَّ جهزاه إِلَى سميساط وَفِي ذَلِك كتب إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر العباسي ب بَغْدَاد قَوْله من الْبَسِيط
(مَوْلاَيَ إنَّ أبَا بَكرٍ وصَاحِبَهُ ... عُثمان قَدْ غَصَبَا بالسَّيْفِ حَقَّ عَلِي)
(وهْوَ الذِي كَانَ قَدْ ولاَّهُ والِدُهُ ... عَلَيْهِمَا فاسْتَقَامَ الأمْرُ حِيَن وَلِي)
(فَخَالَفَاهُ وحَلاَّ عقْدَ بَيْعتِهِ ... والأَمْرُ بَيْنَهُمَا والنِّصْفُ فِيهِ جَلِي)
(فانظُرْ إِلَى حَظِّ هَذَا الاسْمِ كَيْفَ لَقِى ... مِنَ الأوَاخِرِ مَا لاَقَى مِنَ الأُوَلِ)
فأَجابه النَّاصِر العباسي من الْكَامِل
(وَافَى كِتَابُكَ يابْنَ يُوسُفَ مُعْلِنًا ... بالوردِ يُخْبِرُ أَنَّ أَصْلَكَ طَاهِرُ)
(غَصَبُوا عَلِيًّا حَقَّهُ إذْ لَمْ يَكُنْ ... بَعْدَ النِّبِيِّ لَهُ بِيَثْرِبَ نَاصِرُ)
(فاصْبِرْ فإنَّ غَدًا عَلَيْه حِسَابَهُمْ ... وَابْشِرْ فَنَاصِرُكَ الإمامُ النَّاصِرُ)
وَكَانَ فيهمَا تشيع وَقَالَ الْعَلامَة الصَّفَدِي فِي تَارِيخه توفّي يَوْم الْجُمُعَة فَجْأَة بعد أَن صلى الْجُمُعَة خَامِس عشر صفر من سنة 622 هـ وَحمل إِلَى حلب وذفن بهَا وَكَانَ صَحِيح العقيدة عِنْده علم وأدب يجب الْعلمَاء وَالْعلم وَله فِي الْجِهَاد مَعَ أَبِيه مشَاهد مَعْرُوفَة وآثار جميلَة ووقف أوقافاً جميلَة ولشعراء عصره فِيهِ أمداح طائلة وقصائد هائلة مثل ابْن الساعاتي وَابْن سناء الْملك وَغَيرهمَا فَمن قَول ابْن سناء الْملك فِيهِ من قصيدة من الْخَفِيف
(مَلكٌ إسْمُهُ عَلِيِّ وَلَكِنْ ... كَبْدُهُ فِي حُرُوبه كَبْدُ عَمْرِو)
(لَيْسَ يَنْفَكُّ بَيْنَ فَتْحٍ وفَتْكٍ ... حِين يختالُ بَين نصلٍ ونصرِ)
(وَجْههُ البَدْرُ فِي الحُرُوبِ فَلاَ تع ... جَبْ إِذا كَانَ يَوْمُهُ يَوْمَ بدرِ)
وَله من أُخْرَى من الْبَسِيط
(حَسْبِى علىٌّ نَدًى حَسْبِى عَلِىٌّ هُدًى ... حَسْبِى علىٌّ جدى حَسْبِى عَلِىٌّ عُلاَ)
(حَمَدتُّ آخرَ أَيَّامِى بِخِدْمَتِهِ ... ولَسْتُ أَحْمَدُ مِنْ أَيِامِىَ الْأَوْلَاد)(4/12)
(ذِكْرِي بِهِ سَارَ حَالِي عِنْدَهُ عَظُمَتْ ... قَدْرِي بِهِ جَلَّ مِقْدَادِي لَدَيْهِ عَلاَ)
ثمَّ قَالَ وَقَالَ كَمَال الدّين بن العديم لم يكن متشيعاً وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الشّعْر مُوَافقَة للْحَال وتقرباً للْإِمَام النَّاصِر العباسي فَإِنَّهُ كَانَ مَنْسُوبا إِلَى التَّشَيُّع قَالَ الصَّفَدِي وَلما تعصب عَلَيْهِ أَخُوهُ الْعَزِيز عُثْمَان الْمَذْكُور وَعَمه الْعَادِل أَبُو بكر قَالَ من الْكَامِل
(ذِي سُنَّةٌ بَيْنَ الأَنَامِ قَدِيمَةٌ ... أبدَا أَبُو بَكْرٍ يَجُوزُ عَلَى عَلىِ)
وَكتب بِتِلْكَ الْأَرْبَعَة الأبيات إِلَى النَّاصِر العباسي قلت قد ذكرت الْأَرْبَعَة أَبْيَات وَفِي حفظي لَهُ بيتان يذم بهما حَظه وَهُوَ معنى لم أسمعهُ لغيره ووكر لم يأو إِلَيْهِ غير طيره هما من الْكَامِل
(يَا مَنْ يُسَوِّدُ بالخضابِ شُعُورَهُ ... لعَسَاهُ مِنْ أَهْلِ الشَّبِيبَةِ يُجْعَلُ)
(هَا فَاخْتَضِبْ بِسَوادِ حَظِّي مَرَّةَ ... ولَكَ الأمانُ بأنَّه لَا يُنْصَلُ)
وَإِنَّمَا ذكرت تَرْجَمَة عَلِي الأَفضَلِ فِي تَرْجَمَة أَخِيه عُثْمَان صَاحب التَّرْجَمَة لجَرَيَان ذكره بأكبريته على إخْوَته بني يُوسُف بن أَيُّوب وَاسْتمرّ عُثْمَان فِي الْملك إِلَى أَن خرج إِلَى الفيوم يتصيد فلاح لَهُ ظَبْي فساق خَلفه فكبا بِهِ الْفرس فَوَقع فَدخل قربوس السرج فِي فُؤَاده فَحمل إِلَى الْقَاهِرَة وَتُوفِّي فِي عشر الْمحرم الْحَرَام سنة خمس أَو سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَمُدَّة ملكه خمس سِنِين وَعشرَة أَيَّام(4/13)
(ثمَّ تولى ابْنه الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد)
ابْن عُثْمَان الْعَزِيز بن صَلَاح الدّين تسلطن بعد موت أَبِيه وعمره نَحْو الْعشْرين وَصَارَ مُدبر مَمْلَكَته الْأَمِير قراقوش وَوَقع لَهُ مَعَ عَمه الْملك الْأَفْضَل صَاحب الشَّام أُمُور عَجِيبَة وَكَذَلِكَ مَعَ عَم أَبِيه الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَلم تطل أَيَّامه لتغلب أَعْمَامه عَلَيْهِ إِلَى أَن خلعه عَم أَبِيه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب
(ثمَّ تولى الْملك الْعَادِل)
عَم أَبِيه أَبُو بكر سيف الدّين بن أَيُّوب تسلطن بعد خلع ابْن ابْن أَخِيه فِي شَوَّال سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَفِي أَيَّامه انْتَقَلت السلطنة من دَار الوزارة إِلَى قلعة الْجَبَل فِي سنة أَربع وسِتمِائَة وَكَانَ لَهُ سعد عَظِيم فَإِن غَالب مُلُوك بني أَيُّوب من نَسْله(4/14)
وَكَانَ يَأْكُل خروفاً كَامِلا مشوياً كَمَا كَانَ يَأْكُلهُ ابْن أَخِيه الْأَفْضَل الْمُتَقَدّم ذكره وَتُوفِّي ب مالقين بلد بِالشَّام فِي ثامن جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة فصبره وَلَده الْملك الْمُعظم عِيسَى صَاحب دمشق وَحمله وَلم يعلم بِمَوْتِهِ أحد إِلَى قلعة دمشق فدفنه بهَا وَهُوَ الملقب بالعادل الْكَبِير وَلما مَاتَ اسْتَقر كل وَاحِد من وَلَده بمملكته الَّتِي كَانَ قسمهَا بَينهم فاستقر الْكَامِل مُحَمَّد فِي سلطنته ب مصر وَاسْتقر الْملك الْمُعظم عِيسَى فِي ممالك الشَّام وَاسْتقر الْأَشْرَف مُوسَى شاه أرمن بديار بكر وممالك الشرق وَبَاقِي أَوْلَاده كل فِي جِهَة أَو فِي خدمَة أَخ من اخوته وَكَانَت مُدَّة ولَايَته على مصر ثَمَانِي عشرَة سنة وَنَحْو ثَمَانِيَة أشهر
(ثمَّ تولى الْملك الْكَامِل مُحَمَّد)
ابْن أبي بكر الْملك الْعَادِل اسْتَقل بسلطنة مصر يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الْأُخْرَى من سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة فعمر قبَّة الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَبنى الْمدرسَة الكاملية بَين القصرين وَله من الْخيرَات غير ذَلِك وَاسْتمرّ إِلَى أَن توفّي بِدِمَشْق يَوْم الْأَرْبَعَاء وَدفن من غَد يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَمُدَّة(4/15)
ملكه عشرُون سنة وشهران
(ثمَّ تولى ابْنه أَبُو بكر الْعَادِل)
وَهُوَ الْمُسَمّى بالعادل الصَّغِير ابْن مُحَمَّد الْكَامِل بن أبي بكر الْعَادِل وَهُوَ الْمُسَمّى بالعادل الْكَبِير تسلطن بعد موت وَالِده الْكَامِل ب مصر وَكَانَ الصَّالح نَائِب أَبِيه بِبِلَاد الشرق فَلَمَّا مَاتَ الْكَامِل اتّفق رَأْي الْأُمَرَاء على تَوْلِيَة أبي بكر الْعَادِل هَذَا وَأَن يكون نَائِبه ب دمشق ابْن عَمه الْملك الْجواد يُوسُف وَأَن يكون أَخُوهُ أَيُّوب على حَاله بديار بكر وممالك الشرق فتم ذَلِك وتسلطن الْعَادِل فِيهِ وَله ثَمَان عشرَة سنة ثمَّ بلغ الْخَبَر أَخَاهُ فَتحَرك طَالبا لملك مصر حَتَّى ملكهَا بعد أُمُور وَقعت لَهُ مَعَ أَخِيه وقهره وخلعه عَن الْملك وحبسه ثمَّ قَتله بعد سِنِين فِي السجْن فِي شَوَّال سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَكَانَت مُدَّة الْعَادِل سنة وشهرين وأياماً مَعَ مَا وَقع لَهُ من الأنكاد والحروب والفتن
(ثمَّ تولى الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل)
وَله سير وأوصاف جميلَة حميدة وَهُوَ ممدوح الصفي الْحلِيّ وباني الْمدرسَة(4/16)
بَين القصرين الْمَعْرُوفَة بالصالحية الَّتِي هِيَ الْآن المحكمة إِلَّا أَنه لم يمْكث فَإِنَّهُ وَقعت لَهُ أَكلَة فِي خَدّه فَمَاتَ لَيْلَة النّصْف من شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ب المنصورة وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة وأخفت زَوجته الْمُسَمَّاة شَجَرَة الدّرّ مَوته خوفًا على الْمُسلمين إِلَى أَن حضر ابْنه الْمُعظم توران شاه ودبرت الْملك بَيْنَمَا وصل وَعلمت على المناشير بِخَط يحاكي خطّ الصَّالح وَهُوَ صَاحب قلعة الرَّوْضَة تجاه مصر الْقَدِيمَة على النّيل وَهُوَ الَّذِي استكثر من المماليك الأتراك بديار مصر وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ بَعضهم من الْبَسِيط
(أَلصَّالِحُ المُرْتَضَى أَيُّوبُ أَكْثَرَ مِنْ ... تُرْكِ بِدَوْلَتِهِ يَا شَرَّ مَجْلُوبِ)
(لاَ وَاخَذَ اللهُ أَيُّوباً بِفَعْلَتِهِ ... فالنَّاسُ كُّلُهُمُ فِي ضُرِّ أَيوبِ)
(ثمَّ تولى تورنشاه)
ابْن الْملك الصَّالح ابْن الْملك الْكَامِل ابْن الْملك الْعَادِل تسلطن بعد موت أَبِيه بِنَحْوِ شَهْرَيْن وَنصف وَقيل بأَرْبعَة أشهر وَهُوَ الْأَصَح لِأَن أَبَاهُ مَاتَ فِي شعْبَان وَقدم تورنشاه أَوَاخِر ذِي الْحجَّة فَفِي أول الْمحرم من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين ولي وَلما ملك واستفحل أمره تغير(4/17)
على مماليك أَبِيه بِالْقَتْلِ والفتك وتوعد شَجَرَة الدّرّ جَارِيَة أَبِيه بالمصادرة فَدفعت لَهُ أَشْيَاء وَهُوَ لَا يكف عَنْهَا فَتغير خاطرها عَلَيْهِ وَكَانَت مطاعة فَوَثَبَ عَلَيْهِ المماليك بإشارتها يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر محرم الْحَرَام سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَلم يثبت لَهُم وهرب فطلع إِلَى برج خشب فأطلقوا فِيهِ النَّار والنفط فَنزل إِلَى الخركاه فَرَمَوْهُ بالنشاب فَصَارَ يَصِيح مَا لي حَاجَة بِالْملكِ دَعونِي أتوجه إِلَى الْحصن فَلم يَتْرُكُوهُ وضربوه بِالسُّيُوفِ إِلَى أَن مَاتَ وسلطنوا شَجَرَة الدّرّ زَوْجَة أستاذهم
(ثمَّ تولت شَجَرَة الدّرّ)
وسلطنوها بِاتِّفَاق من الْأُمَرَاء وحلفوا لَهَا واستحلفوا جَمِيع العساكر المصرية والشامية واستمرت تعلم على المناشير وَيَدعِي لَهَا على المنابر ب مصر وأعمالها ويكنون عَنْهَا بالجهة الصالحية ملكة الْمُسلمين عصمَة الدُّنْيَا وَالدّين أم خَلِيل صَاحِبَة الْملك الصَّالح فَبَقيت على ذَلِك الْحَال نَحْو ثَلَاثَة أشهر ثمَّ بدا لَهَا خلع نَفسهَا(4/18)
(ثمَّ تولى الْملك عز الدّين أيبك التركماني)
وَاسْتقر فِي السلطنة وَقد كَانَ هُوَ أتابك العساكر لَهَا رتبه الْأُمَرَاء ثمَّ تزوج الأتابك الْمَذْكُور بهَا وَكَانَت مستولية عَلَيْهِ فَبعد اسْتِقْرَار أيبك الْمَذْكُور فِي السلطنة بِخَمْسَة أَيَّام أجمع رَأْي الْأُمَرَاء جَمِيعهم على تَوْلِيَة مظفر الدّين مُوسَى بن النَّاصِر ابْن الْملك المسعود ابْن الْملك الْكَامِل ابْن الْملك الْعَادِل ولقبوه بِالْملكِ الْأَشْرَف فَلم يسع الْمعز إِلَّا الإذعان لَهُم لعظم شوكتهم
(فَتَوَلّى الْملك الْأَشْرَف مُوسَى مظفر الدّين)
ابْن الْملك النَّاصِر ابْن الْملك المسعود بن الْكَامِل بن الْعَادِل بُويِعَ عَام ثَمَان وَأَرْبَعين فَقَامَ عَاما وَاحِدًا إِلَى أَن قويت شَوْكَة الْمعز الْمَذْكُور أيبك على الْأُمَرَاء فَخلع الصَّبِي واستقل بالسلطنة وبخلعه انْتَهَت الدولة الأيوبية الكردية وَكَانَت مُدَّة ولايتهم اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وعدة مُلُوكهمْ تِسْعَة رجال وَامْرَأَة هِيَ شَجَرَة الدّرّ الْمَذْكُورَة وَكَانَت تركية الْجِنْس ثمَّ آل بِهِ الْأَمر أَن قتلته لما بلغَهَا عَنهُ أَنه يُرِيد التَّزَوُّج عَلَيْهَا فَقَتلهَا بعده غلمانه كَمَا سَيَأْتِي(4/19)
(الْبَاب الْخَامِس)
(فِي ذكر الدولة التركمانية)
كَانَ ابْتِدَاؤُهَا سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة أَوَّلهمْ الْمعز أيبك التركماني الصَّالِحِي النجمي التركي أول مُلُوك الأتراك بالديار المصرية وَقد نظم بَعضهم من مَسّه الرّقّ من مُلُوك الأتراك فِي أَبْيَات موالياً وَهِي
(أيبك قطز يعقبو بيبرس ذُو الْإِكْمَال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال)
(لاجين بيبرس برقوق شيخ ذُو الأفضال ... ططر برسباي جقمق ذُو الْعلَا أينال)
(وخشقدم عَنهُ قل بلباي ذُو الْأَحْوَال ... تمر بغاقيتبيه الْغمر ذُو الإقبال)
قَالَ فِي الأرج المسكي وَهَذِه الأبيات مفيدة لِأَن كثيرا من فقهائنا نصوا على عدم صِحَة أوقافهم معللين ذَلِك بِأَنَّهُم أرقاء لبيت المَال وَمَا وَقَفُوهُ من أَمْوَال بَيت المَال ويجعلون ذَلِك وَسِيلَة إِلَى جَوَاز تنَاول من يكون مُقيما ب مصر من أَمْوَال الْحَرَمَيْنِ الْمَوْقُوفَة عَلَيْهِم من مُلُوك الأتراك وَالْإِطْلَاق فِي ذَلِك خطأ فَإِن بَعضهم لم يمسهُ الرّقّ وَهُوَ من عدا المنظومين فِي هَذِه الأبيات فليتنبه لذَلِك وأيبك الْمَذْكُور كَانَ من مماليك الْملك الصَّالح أَيُّوب الأيوبي اشْتَرَاهُ فِي حَيَاة وَالِده الْملك الْكَامِل وَجعله جاشنكير فَلهَذَا تسلطن يَوْم السبت آخر ربيع أول سنة ثَمَان(4/20)
وَأَرْبَعين أَو تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بعد خلع شَجَرَة الدّرّ نَفسهَا وَأجْمع على سلطنته الْأُمَرَاء من غير كره وَركب بشعار السلطنة وحملت الغاشية بَين يَدَيْهِ وَتمّ أمره ثمَّ إِن المماليك الصالحية اتَّفقُوا على وَاحِد من بني أَيُّوب وَهُوَ مُوسَى وسلطنوه واجتمعوا عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر فَارس الدّين أقطاي الجمداري وبيبرس البندقداري وبلباي الرَّشِيدِيّ وسنقر الرُّومِي فأقاموا مظفر الدّين مُوسَى بن النَّاصِر يُوسُف ابْن الْملك المَسْعُودِيّ بن الْكَامِل بن الْعَادِل ولقبوه الْملك الْأَشْرَف وَكَانَ عِنْد عماته فأحضروه وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك نَحْو عشر سِنِين وَلم يعْزل الْمعز عَن السلطنة بل كَانَ أتابك العساكر وخطب لَهما على المنابر مَعًا وَكَانَت هَذِه الْحَرَكَة بعد سلطنته بِخَمْسَة أَيَّام كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَاسْتمرّ شَرِيكا للصَّبِيّ إِلَى أَن مهد أُمُوره وقويت شوكته وَصفا لَهُ الْوَقْت فعزل الصَّبِي واستقل بعد أُمُور حصلت ووقائع إِلَى أَن قتلته زَوجته شَجَرَة الدّرّ لما بلغَهَا أَنه يُرِيد التَّزَوُّج عَلَيْهَا فواطأت على قَتله جمَاعَة من المماليك ثمَّ قَتلتهمْ جَمِيعًا وَكَانَ قَتلهَا لَهُ يَوْم الثُّلَاثَاء عشر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة
(ثمَّ تولى ابْنه الْملك الْمَنْصُور نور الدّين عَليّ)
تسلطن وَجلسَ على تخت الْملك وعمره خمس عشرَة سنة ووزر لَهُ وَزِير أَبِيه شرف الفائزي وَقَامَ بتدبير ملكه الْآمِر علم الدّين سنجر الْحلَبِي فَحَدَّثته نَفسه بالوثوب على الْآمِر فَقبض عَلَيْهِ الْأَمِير فطز المعزي الأيبكي وَوَقع فِي أَيَّامه حروب كَثِيرَة مَعَ المماليك الصالحية ثمَّ قدم فِي أَيَّامه هولاكو ملك التتار إِلَى بَغْدَاد وَقتل الْخَلِيفَة المستعصم ثمَّ ملك هولاكو حلب وَالشَّام وَقصد مصر فَلَمَّا بلغ الْأَمِير قطز ذَلِك كَانَ قد استفحل أمره فِي الديار المصرية كَلمُوهُ فِي السلطنة وَالْقِيَام بملاقاة التتار فَجمع الْقُضَاة وأعيان الدولة فأجمع رَأْي الْجَمِيع على خلع الْملك الْمَنْصُور من السلطنة لصِغَر سنه لعدم دَفعه لِلْعَدو المخذول فَخلع وتسلطن قطز وَبَقِي الْملك(4/21)
الْمَنْصُور معتقلاً إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت مدَّته سنتَيْن وَسَبْعَة أشهر واثنين وَعشْرين يَوْمًا كَانَ كثير اللَّهْو فاستولى عَلَيْهِ أكَابِر الدولة وحبسوه كَمَا تقدم
(ثمَّ تولى الْملك المظفر سيف الدّين قطز)
بُويِعَ عَام سبع وَخمسين وسِتمِائَة وَهُوَ ب مصر المحروسة وَله ولَايَة الشَّام وحلب وَجَمِيع مَا كَانَ لمخدومه فَلَمَّا وصل الْخَبَر بِأَن التتار وصلوا دمشق مَعَ استمرارهم على قتل الْمُسلمين وتعطيل شَعَائِر الدّين تجهز الْملك المظفر الْمَذْكُور فِي جيوش عَظِيمَة ومقدمها الظَّاهِر بيبرس فَالتقى الْجَمْعَانِ عِنْد عين جالوت يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر رَمَضَان سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة وانتصر الْمُسلمُونَ وَهزمَ التتار وَقتلُوا شَرّ قتلة ثمَّ ولوا الأدبار وَالنَّاس يتخطفونهم ثمَّ جَاءَ كتاب الْملك المظفر إِلَى دمشق بالنصر فطار النَّاس فَرحا ثمَّ دخل المظفر إِلَيْهَا مؤيداً منصوراً وأحبه النَّاس غَايَة الْمحبَّة فمهد أمورها وَأصْلح مَا فسد من شَأْنهَا وَهُوَ أول من ملك الْبِلَاد الشامية من مُلُوك التّرْك بديار مصر لِأَن الشَّام جَمِيعه فِي تصرف النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَغَيره من بني أَيُّوب من بعده وَاتبع بيبرس آثَار التتار حَتَّى أخرجهم من حلب وطردهم عَن الْبِلَاد ثمَّ وَقعت الوحشة بَينه وَبَين بيبرس لِأَنَّهُ وعده ولَايَة حلب ثمَّ أخلفه فاتفق أَن الْمظهر قطز لما عَاد إِلَى مصر صَار إِلَى التصيد فَرَأى أرنباً فساق خلف الأرنب وسَاق وَرَاءه جمَاعَة من الْأُمَرَاء قد اتَّفقُوا على قَتله وَكَبِيرهمْ بيبرس البندقداري وَمَعَهُ آبض فَلَمَّا دنوا مِنْهُ وَلم يبْق عِنْد قطز غَيرهم تقدم إِلَيْهِ بيبرس وشفع عِنْده شَفَاعَة فقبلها المظفر فَأَهوى بيبرس على يَده ليقبلها فَقبض عَلَيْهِ وَحمل عَلَيْهِ آبض فَضَربهُ(4/22)
بِالسَّيْفِ ثمَّ حملُوا عَلَيْهِ وقَتلوه وتركوه مَيتا وَسَاقُوا وهم شاهرون سيوفهم إِلَى أَن وصلوا إِلَى الدهليز السلطاني بمنزله فِي الصالحية فَجَلَسَ بيبرس على مرتبَة السلطنة وَتمّ أمره وَكَانَ قتل المظفر يَوْم السبت سادس ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة فَكَانَت مدَّته سنة وَاحِدَة إِلَّا يَوْمًا وَقيل إِلَّا عشرَة
(ثمَّ تولى الْملك الظَّاهِر بيبرس)
البندقداري الصَّالِحِي التركي النجمي ركن الدّين أَبُو الْفتُوح تسلطن بعد قتل الْملك المظفر وَأَصله تركي الْجِنْس أَخذ من بِلَاده وَبيع ب دمشق للعماد الصَّائِغ ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ عَلَاء الدّين أيدكين البندقدراي ثمَّ لما صادر الْملك الصَّالح عَلَاء الدّين أيدكين أَخذ بيبرس هَذَا فِي جملَة من أَخذ وَجعله من مماليكه البحرية وَمَا زَالَ يترقى وَالْقدر يسعفه إِلَى أَن صَار أستاذه أيدكين من جملَة أمرائه وَهُوَ الَّذِي استحدث ب مصر الْقُضَاة الْأَرْبَعَة وَهُوَ صَاحب الفتوحات الْكَثِيرَة والهمم الْعلية والأخلاق الرضية وَمن أثر خيراته إنْشَاء الْمدرسَة الَّتِي بَين القصرين تجاه البيمارستان وَالْجَامِع الَّذِي بالحسينية وَفِي أَيَّامه أُقِيمَت الْخلَافَة العباسية ب مصر بعد قتل المستعصم كَمَا تقدم ذَلِك(4/23)
فَأَقَامَ فِي السلطنة سبع عشرَة سنة وشهرين وَنصفا وَمَات فِي القصرين ب دمشق سنة سِتّ وَسبعين بِتَقْدِيم السِّين وسِتمِائَة
(ثمَّ تولى ابْنه الْملك السعيد نَاصِر الدّين)
مُحَمَّد بركَة خَان ابْن الْملك الظَّاهِر بيبرس دعِي ب بركَة خَان على اسْم جده لأمه بركَة خَان ملك التتار ابْن دولة خَان الْخَوَارِزْمِيّ تسلطن فِي حَيَاة أَبِيه بيبرس صُورَة فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع صفر سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة إِلَى أَن استبد بِالْأَمر بعد موت أَبِيه وَاسْتمرّ إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَكَبِيرهمْ حموه الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الألفي الصَّالِحِي وخلعوه من الْملك وسلطنوا أَخَاهُ سلامش بن الْملك الظَّاهِر وَكَانَت مُدَّة الْملك السعيد من يَوْم موت أَبِيه سنتَيْن وشهرين وَنصفا وَأعْطى الكرك بعد أَن خلع فَتوجه إِلَيْهَا وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة
(ثمَّ تولى الْملك سلامش بن بيبرس)
الْملك الْعَادِل سيف الدّين تسلطن بعد أَخِيه وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وَنصف وَصَارَ أتابكه الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الألفي الصَّالِحِي فَخلع بِهِ فِي شهر رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة(4/24)
وَكَانَت مدَّته مائَة يَوْم وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرّد الِاسْم
(ثمَّ تولى الْملك المصنور قلاوون الألفي)
الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين تسلطن بعد خلع سلامش وَأَصله من مماليك الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب اشْتَرَاهُ سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وترقى بعد موت أستاذه الصَّالح وَعظم بدولة الظَّاهِر بيبرس إِلَى أَن صَار يخْطب لَهُ مَعَ السُّلْطَان الْعَادِل سلامش الْمَذْكُور وَضربت السِّكَّة على وَجه باسم سلامش وعَلى الْوَجْه الآخر باسم قلاوون وَأمْسك جمَاعَة من الْأُمَرَاء الظَّاهِرِيَّة وَاسْتعْمل ممالكيه على الْبِلَاد وَأمرهمْ وَله همة عَظِيمَة وَمن مناقبه أَن عدَّة مماليكه بلغت اثْنَي عشر ألفا وَأَن ملك مصر دَامَ من بعده فِي ذُريَّته ونسله ثمَّ فِي يَد مماليكهم إِلَى أَن انْقَضتْ دولة الأتراك وَجَاءَت دولة الأروام وَكَانَ أجل مُلُوك التّرْك وَهُوَ الَّذِي بنى بِمصْر البيمارستان بَين القصرين والقبة الَّتِي دفن فِيهَا وَله فتوحات بساحل الْبَحْر الرُّومِي مِنْهَا طرابلس وبيروت وصيداء وَغير ذَلِك وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى عشرَة سنة وشهرين وَنصفا وَتُوفِّي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة(4/25)
(ثمَّ تولى الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل بن قلاوون)
تسلطن بعد موت أَبِيه وَاسْتمرّ إِلَى أَن خرج من الْقَاهِرَة فِي أَوَائِل الْمحرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة وَتوجه إِلَى الْبحيرَة للصَّيْد فَلَمَّا كَانَ بتروجة يَوْم السبت ثَانِي عشر محرم الْحَرَام وَقت الْعَصْر حضر إِلَيْهِ نَائِب السلطنة الْأَمِير بيدار وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَكَانَ الْأَشْرَف قد أمره بكرَة النَّهَار أَن يمْضِي بالدهليز والعساكر إِلَى جِهَة الْقَاهِرَة وَبَقِي الْأَشْرَف وأمير شكار يتصيدان فأحاطوا بِهِ وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا شهَاب الدّين بن الْأَشْهَل أَمِير شكار الْمَذْكُور فابتدر الْأَشْرَف بيدار وضربه بِالسَّيْفِ فَقطع يَدَيْهِ ثمَّ ضربه حسام الدّين لاجين على كتفه فَحلهَا فصاح لاجين على بيدار من يُرِيد الْملك تكون هذي ضَربته فَسقط الْأَشْرَف عَن فرسه وَلم يكن مَعَه سيف بل كَانَ فِي وَسطه بند مشدود ثمَّ جَاءَ الْأَمِير بهادر رَأس نوبَة فَأدْخل السَّيْف من أَسْفَله وشق بِهِ إِلَى حلقه وَتَركه طريحاً فِي الْبَريَّة وَاتَّفَقُوا على بيدار وحلفوا لَهُ وَمَشوا تَحت العصائب السُّلْطَانِيَّة يُرِيدُونَ الْقَاهِرَة ولقبوه بِالْملكِ الأوحد وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة وَأصْبح يسير إِلَى الْقَاهِرَة فَلَمَّا ارْتَفع النَّهَار إِذا بِجمع عَظِيم قد أقبل فِيهِ الْأَمِير كتبغا المنصوري والأمير حسام الدّين الأستادار وَغَيرهمَا يطْلبُونَ بيدار بِدَم أستاذهم الْأَشْرَف خَلِيل فَالْتَقوا فانكسر بيدار وَقتل وحملت الأشرفية رَأسه على رمح وعادوا إِلَى الْقَاهِرَة وَاتَّفَقُوا على سلطنة أَخِيه مُحَمَّد بن قلاوون فَكَانَت مدَّته ثَلَاث سِنِين وشهرين وَقتل سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة
(ثمَّ تولى الْملك النَّاصِر مُحَمَّد)
أَخُو الْأَشْرَف الْمَذْكُور بُويِعَ بعد قتل أَخِيه فِي الْعَام الْمَذْكُور وعمره تسع سِنِين وَهَذِه سلطنته الأولى وَاسْتقر نَائِبه فِي السلطنة الْأَمِير كتبغا المنصوري وَفِي الوزارة علم الدّين سنجر(4/26)
الشجاعي مُضَافا للأستدارية وتدبير الدولة ثمَّ قبض النَّاصِر على جمَاعَة من الأتراك الَّذين اتَّفقُوا على قتل أَخِيه ثمَّ أمْسكهُ كتبغا الشجاعي لما بلغه أَنه يُرِيد الفتك بِهِ ولقتله بعض أَصْحَاب كتبغا المنصوري صبرا واستبد كتبغا بِأَمْر المملكة لصِغَر سنّ النَّاصِر ثمَّ بدا لَهُ أَن يخلعه ويتسلطن عوضه فاتفق مَعَ أكَابِر الْأُمَرَاء على ذَلِك فوافقوه وخلعوا النَّاصِر فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وسلطنوا
(كتبغا)
ولقبوه بالعادل وَكَانَت مُدَّة النَّاصِر هَذِه الأولى نَحْو السّنة ثمَّ جهز كتبغا النَّاصِر إِلَى الكرك بعد أَن قَالَ لَهُ لَو علمت أَنهم يُخلون لَك الْملك وَالله لتركته وَلَكنهُمْ لَا يخلونه لَك وَأَنا مملوكك ومملوك والدك أحفظ لَك الْملك وَأَنت الْآن تروح إِلَى الكرك إِلَى أَن تترعرع وتجرب الْأُمُور فتعود إِلَى ملكك بِشَرْط أَنَّك تُعْطِينِي دمشق أكون بهَا مثل صَاحب حماه فوافقه على ذَلِك فَأَقَامَ كتبغا سنتَيْن ثمَّ هرب إِلَى الشَّام سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة
(ثمَّ تولى الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين لاجين)
الَّذِي كَانَ نَائِبا عَن كتبغا فَأَقَامَ سنتَيْن وشهراً وَنصفا وَقتل فِي القلعة سنة(4/27)
(ثمَّ عَاد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون)
إِلَى السلطنة ثَانِيًا وَفِيه يَقُول الوداعي من السَّرِيع
(أَلمَلِك النَّاصِرُ قَدْ أَقْبَلَتْ ... دَوْلَتُهُ مُشْرِقَةَ الشَّمسِ)
(عادَ إِلى كُرْسِيِّهِ مِثْلَ مَا ... عَادَ سُلَيْمَانُ إِلى الكُرْسِي)
وَاسْتمرّ إِلَى أَن تجهز لقِتَال التتار فانكسر فَرجع إِلَى مصر ثمَّ تجهز للقائهم أَيْضا فكسرهم وَهَزَمَهُمْ وَنصر الله الْإِسْلَام وَأَهله ثمَّ عَاد إِلَى مصر فتنكر عَلَيْهِ صَاحب سلال وأستاداره بيبرس الجاشنكير ودام ذَلِك التكدر بَينهم إِلَى أَن أظهر فِي رَمَضَان سنة ثَمَان وَسَبْعمائة التوجُّه إِلَى الْحجاز وَخرج من الْقَاهِرَة وَتوجه إِلَى الكرك متبرماً مِنْهُمَا وَأعْرض عَن ملك مصر فروجع فِي ذَلِك فَأبى فَكَانَت مدَّته عشْرين سنة فاتفق الْأُمَرَاء على سلطنة بيبرس الجاشنكير وسلطنوه فتسلطن
(بيبرس الجاشنكير)
ولقبوه بِالْملكِ المظفر تسلطن عَام ثَمَان وَسَبْعمائة بعد خلع النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعيب بِهِ فِي الْإِرْسَال إِلَى الكرك وتطلب الْأَمْوَال مِنْهُ حَتَّى إِن النَّاصِر تأدب مَعَه فِي المكاتبات وَكتب لَهُ الْملك المظفر وَهُوَ لم يرجع عَنهُ فَلَمَّا زَاد عَلَيْهِ تحرّك عَلَيْهِ وَكَانَت مماليك أَبِيه النواب بالديار الشامية كلهم مَعَه مَا عدا الأفرم فَإِنَّهُ كَانَ من أعوان الجاشنكير فَأَجَابُوهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَتوجه إِلَى الجاشنكير الْمَذْكُور فجبن عَن لِقَائِه لتغير مماليكه وجماعته عَلَيْهِ ثمَّ تسحب من قلعة الْجَبَل والعامة من خَلفه تؤذيه وتريد بِهِ شرا حَتَّى شغلهمْ بنثر الذَّهَب عَلَيْهِم وَتوجه هَارِبا إِلَى الصَّعِيد وَاسْتولى النَّاصِر على الْبَلَد ثمَّ احتال على قَبضه وإحضاره فخنفه بالوتر ثمَّ أطلقهُ وسمه ثمَّ خنقه ثَانِيًا هَكَذَا إِلَى أَن مَاتَ فِي شَوَّال سنة تسع وَسَبْعمائة(4/28)
فَكَانَت مُدَّة دولته سنة وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم من الوافر
(تَثَنَّى عطْفُ مصر حِينَ وافى ... قدومُ النَّاصر المَلِكِ الخَبِيرِ)
(فَذَلَّ الجَشْنَكِير بِلاَ لِقَاءِ ... وأَصْبَحَ وَهْوَ ذٌ وجَأشِ نَكِيرِ)
(إِذا لَمْ تئضد الأقدار شَخْصاً ... فأوَّلُ مَا يُرَاعُ مِنَ النِّصِيرِ)
وَهُوَ الَّذِي بنى البيبرسية بالدرب الْأَصْفَر وَهَذِه هِيَ الْمرة الثَّالِثَة لعود السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد إِلَى الْملك فدام فِي السلطنة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ عَاما بعد بيبرس الْمَذْكُور وَعظم أمره جدا وَعمر العمائر الهائلة حَتَّى إِنَّه صَار أجل سلاطين مصر من جَمِيع الْوُجُوه وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ يَوْم الْأَرْبَعَاء عشري ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وتسلطن من وَلَده لصلبه ثَمَانِيَة نفر وَكَانَت مُدَّة ولَايَته فِي المرات الثَّلَاث أَرْبعا وَأَرْبَعين سنة وَخَمْسَة عشر يَوْمًا
(تمّ تولى الْأَشْرَف عَليّ كجك بن مُحَمَّد النَّاصِر بن قالوون)
تسلطن بعد قتل أَخِيه وَكَانَ قوصون إِذا حضرت الْعَلامَة يَأْخُذ الْقَلَم بِيَدِهِ ويجعله فِي يَد الْأَشْرَف حَتَّى يعلم على المناشير واضطربت الْأَحْوَال وَوَقع التعصب على قوصون فِي الْخَاصَّة والعامة لقبح سيرته مَعَهم فَقَتَلُوهُ ونهبوا دَاره وخلعوا كجك فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بأَخيه أَحْمد ابْن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَحبس كجك بقلعة الْجَبَل إِلَى أَن مَاتَ فِي سلطنة أَخِيه الآخر وَهُوَ الْملك الْكَامِل سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة(4/29)
(ثمَّ تولى الْملك النَّاصِر أَحْمد بن قلاوون)
تسلطن بعد خلع أَخِيه كجك وَاسْتمرّ إِلَى أَن اخْتَار ترك ملك مصر وَعَاد إِلَى الكرك وَأخذ الْأَمْوَال والذخائر بعد أَن ظلم وتعسف فطلبوه للْملك مرَارًا وَهُوَ مُمْتَنع مُتَعَذر وَترد أجوبته بِخَط كَاتب نَصْرَانِيّ كَانَ مقرباً عِنْده فخلعوه بأَخيه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون وأجلس على تخت الْملك يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر محرم الْحَرَام سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَكَانَت مدَّته دون الْأَرْبَعَة أشهر فَجهز إِلَيْهِ أَخُوهُ الْملك الصَّالح الجيوش مرّة بعد أُخْرَى وحاصره بالكرك فَلم يقدر النَّاصِر أَحْمد على مقاومة النَّاصِر إِلَى أَن تلاشى أَمر النَّاصِر وَهلك أهل الكرك من الْجُوع وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يمل وَلَا يكل من الْقِتَال والحصار إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَقت الظّهْر ثَانِي عشر صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَكتب بذلك إِلَى أَخِيه فَأرْسل الْملك منجك اليوسفي فحز رَأسه وَتوجه بِهِ إِلَيْهِ إِلَى الْقَاهِرَة
(ثمَّ تولى الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور ابْن مُحَمَّد قلاوون)
تسلطن بعد توجه أَخِيه إِلَى الكرك وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ فِي الْعشْرين من ربيع الأول سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته ثَلَاث سِنِين وشهراً وَثَمَانِية عشر يَوْمًا ورثاه الصَّفَدِي بقوله من الطَّوِيل
(مَضَى الصَّالحُ المَرْجو للبأْسِ والنَّدَى ... وَمَنْ لَمْ يَزَلْ يَلْقَى المُنَى بالمَنَائِحِ)
(فَيا لَك مِصْر كَيْفَ حَالُكِ بَعْدَهُ ... إِذا نَحْنُ أَثْنَيْنَا عَلَيْكِ بصَالِحِ)(4/30)
(ثمَّ تولى الْملك الْكَامِل شعْبَان بن مُحَمَّد بن قلاوون)
تسلطن بعد موت أَخِيه الْملك الصَّالح بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ بعد اخْتِلَاف من الْأُمَرَاء فِي إِقَامَته وَإِقَامَة أَخِيه حاجي فاتفقوا عَلَيْهِ وَقَالَ الْأَمِير نَائِب السلطنة بِشَرْط أَن لَا يلْعَب بالحمام فنقم عَلَيْهِ شعْبَان بعد أَن تسلطن وَأخرجه إِلَى نِيَابَة صفد وَكَانَ جُلُوس الْملك الْكَامِل على سَرِير الْملك يَوْم الْخَمِيس ثَانِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَقَالَ فِيهِ ابْن نباتة الْمصْرِيّ من مخلع الْبَسِيط
(شَعْبَانُ سُلْطَانُنَا المُرَجى ... مُبَارَكُ الطَّالِعِ البَدِيعِ)
(يَا بَهْجَةَ الدَّهْرِ إذْ تَبَدَّى ... هِلاَلُ شَعْبَانَ فِي رَبِيعِ) وَاسْتمرّ إِلَى أَن خلعه الْأُمَرَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بأَخيه حاجي فَكَانَت مدَّته سنة وَاحِدَة وَسَبْعَة عشر يَوْمًا قَالَ الصَّفَدِي حكى لي سيف الدّين دَاوُد بن أرغون شاه قَالَ مَدَدنا السماط على أَن يَأْكُل الْملك الْكَامِل وجهزنا طَعَام حاجي إِلَيْهِ فِي السجْن فَخرج حاجي وَأكل على السماط وَدخل الْكَامِل السجْن وَأكل الطَّعَام الَّذِي كَانَ لحاجي وَقلت فِي واقعته من السَّرِيع
(بيتُ قَلاَوُون مُعَادَاتُهُ ... فِي عاجِلٍ كانَتْ بِلَا آجلِ)
(حلَّ عَلَى أمْلاَكِهِ للردى ... دَيْنٌ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بالكَامِلِ)
وَقتل الْكَامِل يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة
(ثمَّ تولى حاجي)
وَيُقَال أَمِير الْحَاج ولقب بِالْملكِ المظفر تسلطن بعد خلع أَخِيه الْملك الْكَامِل كَمَا تقدم وَاسْتمرّ إِلَى أَن وَقع بَينه وَبَين الْأُمَرَاء أَشد المنافرة وَتَفَرَّقَتْ عَنهُ قُلُوب النَّاس فَخرج الْأُمَرَاء بِمن مَعَهم إِلَى قبَّة النَّصْر فَركب المظفر وَمن مَعَه إِلَيْهِم(4/31)
فَتفرق عَنهُ أَصْحَابه فالتقاهم هُوَ بِنَفسِهِ فطعنه أَمِير يلبغا أَمِير مجْلِس فطرحه عَن فرسه وضربه الْأَمِير طَال برقه بالطبر من خَلفه فجرح وَجهه وأصابعه ثمَّ ربطوه وأحضروه إِلَى الْأَمِير أرقطاي النَّائِب ليَقْتُلهُ فَلَمَّا رَآهُ نزل عَن فرسه وَرمى عَلَيْهِ قباءه وَقَالَ أعوذ بِاللَّه هَذَا سُلْطَان ابْن سُلْطَان مَا أَقتلهُ خذوه إِلَى القلعة فأدخلوه إِلَى تربة هُنَاكَ وَقضى الله أمره فِيهِ وَذَلِكَ فِي ثَانِي عشر رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته سنة وَثَمَانِية أشهر واثني عشر يَوْمًا وَكَانَ أكبر أَسبَاب عَزله لعبه بالحمام فَقَالَ الصَّفَدِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْخَفِيف
(أيُّهَا العَالِمُ اللَّبِيْبُ تَفَكَّرْ ... فِي المَلِيكِ المُظَفَّرِ الضرْغَامِ)
(كَمْ تَمادَى فِي البغْىِ والغيِّ حَتى ... كَانَ لعْبُ الحَمَامِ جِدَّ الحِمَامِ)
(تمّ تولى السُّلْطَان حسن بن مُحَمَّد بن قلاوون)
(من أَوْلَاد النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون)
تسلطن بعد أَخِيه قبله وَكَانَ اسْمه قمارى فَلَمَّا جلس على سَرِير الْملك سَمَّاهُ النَّائِب قمارى فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَا عَم مَا اسْمِي إِلَّا حسن مَا أَنا مَمْلُوك فَقَالَ النَّائِب المرسوم مرسومك يَا خوند وَاسْتمرّ فِي الْملك إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة فَوَقَعت بَينه وَبَين الْأَمِير طاز الناصري وَحْشَة فَقَامَ طاز فِي خلعه وسلطنة أَخِيه صَالح فتم لَهُ ذَلِك فَأُخِذَ السُّلْطَان حسن وَحبس بالدور من قلعة الْجَبَل بعد أَن خلع نَفسه وَذَلِكَ فِي أَوَائِل رَجَب من سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَت(4/32)
مدَّته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر
(ثمَّ تولى الْملك الصَّالح صَالح بن مُحَمَّد بن قلاوون)
تسلطن بعد أَخِيه حسن وَصَارَ مُدبر مَمْلَكَته الْأَمِير أق طاز وَلَيْسَ للصالح فِيهَا إِلَّا الِاسْم فَقَط إِلَى أَن أخرج طاز الْأَمِير شيخو اللال الْعمريّ الناصري من سجن الْإسْكَنْدَريَّة فَبَقيَ أَمر المملكة إِلَى ثَلَاثَة شيخو أتابك العساكر وَهُوَ أول من سمي بالأمير الْكَبِير وَلبس لَهَا خلعة فَصَارَت الأتابكية وَظِيفَة من يَوْمئِذٍ والأمير طاز أَمِير مجْلِس والأمير صرغتمش رَأس نوبَة النوب ونائب السلطنة إِذْ ذَاك الْأَمِير صلاي وَاسْتمرّ الصَّالح إِلَى أَن خلعه شيخو من السلطنة وَأعَاد حسن فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي شَوَّال سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة فَكَانَت مُدَّة الصَّالح ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر واحتفظ عَلَيْهِ بداره إِلَى أَن توفّي فِي ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَتَوَلَّى أَمر السُّلْطَان حسن وَعظم شَأْنه إِلَى أَن وَقع بَينه وَبَين غُلَامه مَمْلُوك يلبغا الْعمريّ فتحاربا فانكسر حسن إِلَى القلعة فَتَبِعَهُ يلبغا فَهَيَّأَ السُّلْطَان مماليكه لِلْقِتَالِ فَلم يجد لَهُم خيلاً لِأَن الْخَيل كَانَت فِي الرّبيع فَتَزَيا بِغَيْر زيه وهرب فَعرف وَقبض عَلَيْهِ وَلم يعلم مَا وَقع لَهُ وَكَانَت مدَّته هَذِه الثَّانِيَة سِتّ سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَالسُّلْطَان حسن هَذَا هُوَ الَّذِي بنى الْمدرسَة الَّتِي بالرميلة بِمصْر وَهِي من أحسن الْمدَارِس عالية الْبناء وَاسِعَة الفناء ثمَّ عمر لَهَا عمَارَة بأَرْبعَة رُءُوس وَقد وصفهَا(4/33)
المؤرخون وَصفا عجيباً وقصة السُّلْطَان حسن مَعَ الشَّيْخ الْعَلامَة قوام الدّين الْأَتْقَانِيّ حِين قَالَ لَهُ السُّلْطَان مَا الْفرق بَيْنك وَبَين الْحمار فَأجَاب بقوله هَذِه الوسادة وَقد كَانَت بَينهمَا وَفِي أَيَّام السُّلْطَان حسن بنى شيخو جَامعه وخانقاءه وَبنى صرغتمش مدرسة وَقرر الشَّيْخ قوام الدّين فِي تدريسها وَكَانَت مُدَّة تصرف السُّلْطَان حسن أَولا وَثَانِيا عشر سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر ثمَّ قتل بيد مَمْلُوكه يلبغا سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة
(ثمَّ تولى مُحَمَّد ابْن الْملك المظفر حاجي)
وَيُقَال أَمِير الْحَاج بن مُحَمَّد بن قلاوون وتلقب بِالْملكِ الْمَنْصُور بُويِعَ بعد قتل عَمه حسن فِي الْعَام الْمَذْكُور فَأَقَامَ سنتَيْن وَخَمْسَة أشهر ثمَّ خلع فَأَقَامَ بالقلعة مَحْبُوسًا إِلَى أَن مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة
(ثمَّ تولى الْملك شعْبَان بن حسن بن مُحَمَّد بن قلاوون)
ولقب بِالْملكِ الْأَشْرَف بعد ابْن عَمه قبله إِلَّا أَن الْأُمُور كلهَا بيد يلبغا وشاركه فِي ذَلِك طنبغا الطَّوِيل فَمَا زَالَ يلبغا وطنبغا حَتَّى ظفر بِهِ وَقبض عَلَيْهِ وظلم فاتفق المماليك على قَتله ففز فاشتجاشوا بالسلطان شعْبَان عَلَيْهِ فوافقهم وَنزل إِلَى بولاق وسلطن يلبغا أيزك بن حسن أَخا شعْبَان فَلم يتم لَهُ ذَلِك ثمَّ انهزم يلبغا فَقتل فَأَقَامَ شعْبَان فِي الأتابكية بعده استدمر وخلع عَلَيْهِ فَأَرَادَ استدمر أَن يحذو خذو يلبغا فِي مشاركه السلطنة بعد أَن سكن بالكبش فَلم يُوَافقهُ شعْبَان على شَيْء من ذَلِك فَأَرَادَ استدمر خلع شعْبَان وَركب عَلَيْهِ فانكسر استدمر ومسك وَحبس وَفِي ذَلِك يَقُول(4/34)
ابْن الْعَطَّار الشَّاعِر من الْبَسِيط
(هِلاَلُ شَعْبَانَ جَهْراً لاَحَ فِي صَفَرِ ... بالنَّصْرِ حَتَى أَرَى عِيدًا لشَعْبَانِ)
(وأَهْلُ كَبْشٍ كَأَهْلِ الفِيلِ قَدْ أُخِذُوا ... رَجْمًا ومَا انْتَطَحَتْ فِي الكَبْشِ عنزانِ)
وَاسْتمرّ شعْبَان عَظِيم الشَّوْكَة إِلَى أَن توجه لِلْحَجِّ سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة وَأقَام جمَاعَة فِي تَدْبِير المملكة فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وخلعوه فِي غيبته وسلطنوا وَلَده عليا وَزَعَمُوا أَن شعْبَان بِالْعقبَةِ وصادف قَوْلهم هَذَا أَن الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه خَرجُوا عَلَيْهِ بعقبة أَيْلَة وَانْهَزَمَ مَعَهم وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة واختفى فِي تربة عِنْد قبَّة النَّصْر فَبلغ الْأُمَرَاء الَّذين عصوه فأمسكوا غُلَاما كَانَ مَعَه وضربوه فَأقر فتوجهوا إِلَيْهِ وقتلوه وَقتلُوا من مَعَه من الْأُمَرَاء وَكَانَ قَتله لَيْلَة الثُّلَاثَاء خَامِس ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسبعين وَسَبْعمائة قلت وَمن خيراته بِنَاء مَنَارَة الْحَزْوَرَة كَمَا ذكره القطب وَغَيره والعمود المنقور عَلَيْهِ اسْمه كَانَ قَرِيبا مِنْهَا فَلَمَّا وَقع الْحَرِيق بِالْمَسْجِدِ وَعمر ذَلِك الْجَانِب فرج بن برقوق ثَانِي مُلُوك الشراكسة نقل لَا عَن قصد وَوضع تَحت مَنَارَة بَاب بني سهم الْمَعْرُوف بِبَاب الْعمرَة فيظن الرَّائِي ذَلِك التَّارِيخ فِي العمود أَن الْإِشَارَة فِيهِ إِلَيْهَا لقرب مَكَانَهُ مِنْهَا وانما هُوَ لمنارة الْحَزْوَرَة وَهِي مؤرخة بعام اثْنَيْنِ وَسبعين وَسَبْعمائة وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة أحدثت الْعَلامَة الشطفة الخضراء على عمائم الشرفاء ليتميزوا بهَا وَكَانَ ذَلِك بِأَمْر هَذَا السُّلْطَان شعْبَان بن حسن بن النَّاصِر مُحَمَّد ابْن قلاوون الْمَذْكُور فَقَالَ فِي ذَلِك الْعَلامَة أَبُو عبد الله بن جَابر الضَّرِير النَّحْوِيّ صَاحب شرح الألفية الْمَشْهُور بالأعمى والبصير رَحمَه الله تعال من الْكَامِل
(جَعَلوا لأَبْنَاءِ النَّبِيِّ عَلاَمَةً ... إنَّ العَلاَمَةَ شَأْنُ مَنْ لَمْ يشْهَر)
(نُورُ النُّبُوَّةِ فِي كَرِيم وُجُوهِهِمْ ... يُعْنِي الشًّرِيفَ عَنِ الطِّرَازِ الأَخْضَرِ)
وَفِي هَذِه السّنة كَانَ ابْتِدَاء خُرُوج الطاغية تيمورلنك الَّذِي خرب الْبِلَاد وأباد الْعباد فَكَانَ تَارِيخ خُرُوجه عَذَاب وَذَلِكَ سنة 773 وَاسْتمرّ يعثو فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ إِلَى أَن أهلكه الله فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر شعْبَان سنة سبع وَثَمَانمِائَة(4/35)
وَسَيَأْتِي ذكره عِنْد ذكر مُلُوك آل عُثْمَان فِي الْبَاب السَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(ثمَّ تولى بعده وَلَده عَليّ بن الْأَشْرَف شعْبَان)
(وتلقب بِالْملكِ الْمَنْصُور فِي عَام السَّبع وَالسبْعين والسبعمائة الْمَذْكُور)
تسلطن بعد وَالِده وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشر صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته خَمْسَة أعوامّ وَخَمْسَة أشهر وَله من الْعُمر ثَلَاثَة عشر يَوْمًا
(ثمَّ تولى أَخُوهُ حاجي بن شعْبَان الْأَشْرَف)
وتلقب بِالْملكِ الصَّالح بعد مَوته فِي عَام ثَلَاث وَثَمَانِينَ فدام سُلْطَانه عَاما كَامِلا وأشهراً وَكَانَ سنه سِتّ سِنِين وَالْكَلَام لبرقوق ثمَّ خلعه برقوق بعد إِلْزَام لَهُ من الْأُمَرَاء لما وَقع من الْفِتَن وتسلطن برقوق يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ ثمَّ إِن برقوقاً جعل حاجي بن الْأَشْرَف شعْبَان بعد خلعه فِي قلعة الْجَبَل كَمَا هِيَ عَادَة أَوْلَاد السلاطين فاستمر إِلَى سنة خمس وَثَمَانِينَ فثار على برقوق يلبغا الناصري فخلعه وَأعَاد حاجي إِلَى الْملك فتسلطن ثانياًْ وَاسْتمرّ إِلَى أَن حف بِهِ منطاش واستعان بِهِ على حَرْب برقوق بعد أَن أطلق من حبس الكرك فَتوجه حاجي مَعَه لقِتَال برقوق فانتصر عَلَيْهِمَا ومعهما الْخَلِيفَة العباسي فَقتل منطاش وَأمْسك حاجي إِلَى أَن دخل بِهِ إِلَى القلعة بِمصْر وفرش لَهُ الْحَرِير ليمشي عَلَيْهِ فعزل نَفسه ثمَّ جعله بداره بقلعة الْجَبَل مبجلاً إِلَى أَن مَاتَ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شَوَّال سنة أَربع عشرَة وَثَمَانمِائَة فَكَانَت مدَّته الثَّانِيَة هَذِه سَبْعَة أَعْوَام وَنَحْو سِتَّة(4/36)
عشر يَوْمًا ويعزل الصَّالح نَفسه كَمَا ذكر انْقَضتْ الدولة التركية وَأَقْبَلت الدولة الشركسية وَكَانَت مدتهم مائَة وأربعاً وَثَلَاثِينَ سنة وعدة مُلُوكهمْ خَمْسَة وَعشْرين ملكا وَالْملك لله الَّذِي لَا يَزُول ملكه وَلَا يتَحَوَّل(4/37)
(الْبَاب السَّادِس)
(فِي ذكر الدولة الشركسية بِمصْر وَالشَّام وأعمالهما)
اعْلَم أَن الشراكسة جنس من التّرْك فِي جنوب الأَرْض لَهُم مَدَائِن عامرة وَلَهُم جمال ومزارع يزرعون وهم تابعون لسلطان سراي قَاعِدَة ملك خوارزم وملوك هَذِه الطوائف لملك سراي كالرعية يقاتلونهم ويسبون مِنْهُم النِّسَاء وَالْأَوْلَاد ويجلبونهم إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد والأقاليم وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور قلاوون الَّذِي هُوَ من مُلُوك الأتراك صَاحب مصر قد استكثر من شِرَاء المماليك الشركسية وَكَذَلِكَ أَوْلَاده وَأَوْلَادهمْ وأدخلوهم فِي الخدم الْخَاصَّة وصاروا سلحدارية وجمدارية وجاشنكيرية وَكَبرُوا عمائهم وسلكوا طرائق أستاذيهم مُلُوك التّرْك وأدخلوا السلطنة وغلبوا عَلَيْهَا واستكثروا من جنسهم وَعمِلُوا قَوَاعِد انتظمت بهَا دولتهم وَولي مِنْهُم وَمن أَوْلَادهم السلطنة بِمصْر اثْنَان وَعِشْرُونَ ملكا وَكَانَ ابْتِدَاء ملكهم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَمُدَّة ملكهم مائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثُونَ سنة فأولهم
(السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر سيف الدّين)
(أَبُو سعيد برقوق بن آنص العثماني كَذَا ذكره المقريزي فِي خططه
) قَامَ بدولة الشراكسة جلبه عُثْمَان بن مُسَافر فَلذَلِك يُقَال لَهُ برقوق العثماني فَاشْتَرَاهُ الأتابك يلبغا الْعمريّ وَهُوَ من جملَة الأتراك الَّذين مسهم الرّقّ مماليك بني أَيُّوب وَإِنَّمَا سمى برقوق لجحوظ فِي عَيْنَيْهِ وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن صَار أَمِير(4/38)
مائَة مقدم ألف وَكَانَ أتابكاً للْملك الصَّالح حاجي بن الْأَشْرَف شعْبَان بن حسن بن النَّاصِر بن مُحَمَّد قلاوون وَهُوَ الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من مُلُوك الأتراك مماليك الأيوبية المتغلبين عَلَيْهِم وَكَانَ إِذْ ذَاك سنّ الْملك الصَّالح حاجي لما ولي السلطنة عشرَة أَعْوَام وَلَيْسَ لَهُ من السلطنة إِلَّا الِاسْم فألزم الْأُمَرَاء برقوق بخلع الْملك الصَّالح حاجي وبتوليته السلطنة بدله فَخلع بعد سنة وَنصف كَمَا تقدم وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ برقوق مُتَمَكنًا من المملكة جمع الْأَمْوَال والخزائن وَاشْترى المماليك الشركسية فتمكنت من الْملك وتلاعبت بعده المماليك الشركسية بِملك مصر وصاروا مُلُوكهَا وسلاطنيها بِالْقُوَّةِ والغلب والاستيلاء وَكَانَت تقع بَينهم فتن وجدال وجلاد وَقتل نفوس وَحرب بسوس وَخَوف وبؤس إِلَى أَن يسْتَقرّ الْأَمر لوَاحِد مِنْهُم فيركب فِي شعار السلطنة وَكَانَ من شعار سلاطنيهم عِمَامَة كَبِيرَة ملفوفة مكلفة يجْعَلُونَ فِي مقدمها ويمينها ويسارها شكل سِتَّة قُرُون بارزة من نفس الْعِمَامَة ملفوفة من نفس الشاش يلبسهَا السُّلْطَان فِي موكبه وديوانه وَذَلِكَ عرف لَهُم وَالْعرْف يحسن ويقبح ويلبس قفطاناً يكون على كتفه قِطْعَة طراز مزركش بِالذَّهَب وَمثله على كتفه الْأَيْسَر ويلبسه الْأُمَرَاء أَيْضا فَلَيْسَ مَخْصُوصًا بالسلطان ويخلع بِمثل هَذَا القفطان على من أَرَادَ وَتحمل على رَأس السُّلْطَان قبَّة صَغِيرَة لَطِيفَة كالجسر فِي وَسطهَا صوره طير صَغِير يظلل السُّلْطَان بِتِلْكَ الْقبَّة وَالَّذِي يحملهَا على رَأس السُّلْطَان هُوَ أَمِير كَبِير وظيفته أَن يصير سُلْطَانا بعد ذَلِك وأكابر أمرائه أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا بطبلخانة تضرب على أَبْوَابهم صبحاً وعصرا(4/39)
كل وَاحِد مِنْهُم أَمِير بَابه مقدم ألف بِمَنْزِلَة البيكلاربيكية عِنْدهم ودونهم أَمِير عشرَة مقدم مائَة بِمَنْزِلَة السنجق كل وَاحِد مِنْهُم عمَامَته بقرنين فَقَط ودونهم الخاصكية يكون لَهُ فرس وخادم وعَلى رَأسه زنط عَلَيْهِ عِمَامَة بعذبة يديرها تَحت حنكه ودونهم وهم المشاة على رُءُوسهم طواقٍ من جوخ أَحْمَر ضيق مدخله وَاسع آخِره لاطئ بِرَأْسِهِ وملبوسُ أكثرِهم اللطةُ الْبَيْضَاء المصقولة يكون على كَتفيهِ طرازان من مخمل وأطلس مزركش وَفِي أوساطهم شدود بيض مصقولة يشدونها ويسدلونها ويسدلون أطرافها إِلَى أَنْصَاف سوقهم وَكَأن خيال السلطنة فِي دماغ كل وَاحِد مِنْهُم من حِين يُجلب إِلَى السُّوق إِلَى أَن يَمُوت حَتَّى إِن وَاحِدًا مِنْهُم جلب وَهُوَ حقير فَاحش الْقرعَة فَاحش العرَج قَالَ للدلال الَّذِي يَبِيعهُ هَل اتّفق تولي الْأَقْرَع الْأَعْرَج سُلْطَانا فِي مصر وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت(4/40)
لَهُم سماحة وحماسة وصداقة لمن صادقوه وَكَانَت أرزاق مصر بِأَيْدِيهِم وَأهل مصر تتلاعب بهم فِيمَا بيدهم من الأرزاق ثمَّ لما تسلطن برقوق اسْتمرّ سُلْطَانا وَأَنْشَأَ الْمدرسَة الَّتِي بِمصْر بَين القصرين كَانَ مشد عمارتها شركس الخليلي فَقيل فِي ذَلِك الْعَمَل من الْبَسِيط
(قَدْ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ السُّلْطَان مَدْرَسَةً ... فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرْعَةِ العَمَلِ)
(يَكْفِي الخَلِيلَ بِأَنْ جَاءَتْ لخدْمَته ... صمُّ الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ)
فَأَقَامَ سُلْطَانا إِلَى أَن اخْتلف عَلَيْهِ الْأُمَرَاء فَخرج عَلَيْهِ تمربغا الأفضلي ويلبغا الْعمريّ فجهَّز عَلَيْهِمَا عَسَاكِر فَكسر وقوى أَمرهمَا وملكا مصر فَإِن برقوقاً عجز عَن النهوض وَقبض عَلَيْهِ فَأخْرج حاجي من دور القلعة وأعيد إِلَى السلطنة وَحبس برقوق بالكرك ثمَّ تسحب من الْحَبْس وَجمع الجيوش وَقَاتل وَغلب على المملكة وأعيد إِلَى السلطنة وَصَارَ يتتبع أعداءه وَمن خرج عَلَيْهِ وَيقدم من وَافقه وحالفه إِلَى أَن اصطفاهم وَمَا صفا لَهُ الزَّمَان وَظن أَنه آمن وَأَيْنَ الْأمان وبرق برق الزيال على برقوق وَشَاهد الِانْفِصَال فعهد بالسلطنة إِلَى وَلَده النَّاصِر فرج وَتُوفِّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى لَيْلَة الْجُمُعَة وَقت التَّسْبِيح منتصف شَوَّال سنة وَاحِد وَثَمَانمِائَة وَفِي ذَلِك يَقُول أَحْمد الْمقري رَحمَه الله تعال من الطَّوِيل
(مَضَى الظَّاهِرُ السُّلْطَانُ أَكْرَمُ مَالِكٍ ... إِلَى رَبِّهِ يَرْقَى إِلَى الخُلْدِ فِي الدَّرَجْ)
(وقَالُوا سَتَأْتِي شِدَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... فَأَكْذَبَهُمْ رَبِّي وَمَا جَا سِوى فَرَجْ)
وَخلف برقوق من الذَّهَب الْعين ألفي ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار وَمن الْخَيل المسومة وَالْبِغَال الفارهة سِتَّة آلَاف وَمن الْجمال خَمْسَة آلَاف وَكَانَ عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول وَكَانَت مُدَّة تصرفه سِتّ عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر(4/41)
(ثمَّ تولى ابْنه الْملك النَّاصِر)
أَبُو السعادات فرج بن برقوق عِنْد وَفَاة أَبِيه كَمَا تقدم صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة ثَمَانمِائَة وَوَاحِدَة وَصَارَ الْأَمِير أيتمش مُدبر مَمْلَكَته والأمير يشبك خازنداره فَوَقَعت بَينهمَا منافرات أدَّت إِلَى مشاجرة ثمَّ إِلَى قتال فانكسر أيتمش فهرب إِلَى نَائِب الشَّام وجيش جيوشاَ على النَّاصِر ويشبك فَخرج النَّاصِر لقتالهم فَهَزَمَهُمْ واضطربت أَحْوَال مصر لاخْتِلَاف الْكَلِمَة ثمَّ وصل تيمورلنك إِلَى بِلَاد الشَّام وَأَخذهَا من سردون الظَّاهِرِيّ فَخرج إِلَيْهِ النَّاصِر فرج فَوَجَدَهُ قد توجه إِلَى بِلَاد الرّوم فَأعْطى الشَّام لتغري بردي وَعَاد إِلَى مصر سنة ثَلَاث وَثَمَانمِائَة وَمن خيرات فرج تعميره الْمَسْجِد الْحَرَام من الْحَرِيق الْوَاقِع بِهِ لَيْلَة السبت لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال سنة ثَمَانمِائَة واثنتين وَسَببه ظُهُور نَار من رِبَاط راشت الملاصق لباب الْحَزْوَرَة من أَبْوَاب الْمَسْجِد فِي الْجَانِب الغربي مِنْهُ وراشت هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن الْفَارِسِي وقف هَذَا الرِّبَاط على الرِّجَال الصُّوفِيَّة أَصْحَاب المرقعات فِي سنة 529 خَمْسمِائَة وتسع وَعشْرين فوشت النَّار من سراج تَركه فِي الْخلْوَة فَاحْتَرَقَ مَا فِي الْخلْوَة وعلق الْحَرِيق من شباك الْخلْوَة إِلَى سقف الْمَسْجِد فاشتعل سقف الْمَسْجِد وعجزوا عَن إطفائه لارْتِفَاع السّقف فاحترقت الأروقة من ابْتِدَاء الْحَرِيق إِلَى بَاب العجلة فَأرْسل فرج الْأَمِير بيسق سنة ثَمَانمِائَة وَثَلَاث إِلَى مَكَّة وَكَانَ هُوَ أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ فعمر الْمَسْجِد الْحَرَام فِي مُدَّة يسيرَة وكملت فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانمِائَة وَمن جملَة خيراته أَنه لما رأى رِبَاط راشت وَمَا آل إِلَيْهِ بعد الْحَرِيق من الخراب حَتَّى صَار سباطة بذلك الْمحل أَمر بإعادته رِبَاطًا كَمَا كَانَ وَصرف عَلَيْهِ من مَاله إِلَى أَن عَاد أحسن من الأول وَيُسمى هَذَا الرِّبَاط الْآن رِبَاط الْخَاص سَببه أَنه اسْتَأْجرهُ وعمره بعد تهدمه فِي أواسط الْقرن الْعَاشِر وَالْخَاص من طَائِفَة المباشرين(4/42)
فِي ديوَان السُّلْطَان بِمصْر من خدمَة السُّلْطَان جقمق العلائي وَمن بعده وَكَانَ هَذَا بيسق الْأَمِير من أهل الْخَيْر رَحمَه الله ثمَّ كثرت الْفِتَن بِمصْر من الْأُمَرَاء الظَّاهِرِيَّة على فرج إِلَى أَن ضجر من ذَلِك وهرب من القلعة بعد الْعشَاء لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ سادس ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة فاختفى عِنْد سعد الدّين بن عرب أحد رُءُوس المباشرين فأخفاه عِنْده فَأصْبح الْأُمَرَاء فاقديه فأقاموا فِي السلطنة أَخَاهُ الْملك الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن برقوق فتلاشت أُمُور المملكة لصِغَر سنه وَاخْتِلَاف الْأُمَرَاء عَلَيْهِ فَظهر النَّاصِر فرج بعد هروبه واختفائه وَركب مَعَه أُمَرَاء من مماليك أَبِيه فَأخذ القلعة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانمِائَة وثمان وَنفى أَخَوَيْهِ عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فتوفيا بهَا واتهم فرج بِقَتْلِهِمَا فِي سنة تسع وَثَمَانمِائَة ثمَّ صَار الْملك النَّاصِر يتتبع أعداءه من الْأُمَرَاء فيقتلهم وَاحِدًا بعد وَاحِد فتجمعوا عَلَيْهِ وَخَرجُوا عَن طَاعَته وقاتلوه فَهَزَمَهُمْ وَخَرجُوا إِلَى الشَّام فَتَبِعهُمْ وصاروا يمكرون بِهِ ويهربون عَنهُ ويتعبونه فِي طَلَبهمْ إِلَى أَن مل مِنْهُ الخدم والأتباع فصادفوه فِي طَلَبهمْ بعد التَّعَب والدأب وَهُوَ وَمن مَعَه قد أتعبوا خيولهم فِي طَلَبهمْ من الْعشَاء إِلَى الصَّباح وأشرفوا عَلَيْهِ فَحمل النَّاصِر وَمن مَعَه وهم نفر قَلِيل على أعدائه وهم متوفرون كَثِيرُونَ فَمَنعه أَصْحَابه من هَذِه الحملة وَعَلمُوا أَنهم فِي قلَّة فَلم يطعهم وأطاع غروره وجهله واغتر بشجاعته وَظن أَن لَا يُقَابله أحد فدارت عَلَيْهِ الدَّوَائِر فَمَا كَانَ للناصر من قُوَّة وَلَا نَاصِر فأُخِذَ وَقيد وَحبس بقلعة دمشق إِلَى أَن قتل بأيدي المشاعلية بالسكاكين فِي لَيْلَة السبت منتصف صفر سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة وَأُلْقِي بعد هَذِه القتلة على سباطة مزبلة وَهُوَ عُرْيَان عَن اللبَاس تمر بِهِ النَّاس تنظر إِلَى ذَلِك الْبدن الممتهن والجسد العاري الممتحن إِلَى أَن عطف الله بعض الْأَنَام بعد عدَّة أَيَّام فَحَمله وغسله وكفنه وواراه فِي مَقْبرَة بَاب الفراديس وَوَقع فِي أَيَّام فرج بن برقوق الْمَذْكُور أَن سُلْطَان كاله من سلاطين الْهِنْد وَهُوَ غياث الدّين أعظم شاه بن إسكندر شاه أرسل إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين صَدَقَة كَبِيرَة مَعَ(4/43)
خادمه ياقوت الغياثي ليتصدق بهَا على أهل الْحَرَمَيْنِ ويعمر لَهُ بِمَكَّة مدرسة ورباطاً وَيُوقف على ذَلِك جِهَات يصرف ريعها على أَفعَال الْبر كالتدريس وَنَحْوه وَكَانَ ذَلِك بِإِشَارَة وزيره خَان جهان فوصل ياقوت الْمَذْكُور بأوراق سلطانية إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن بن عجلَان شرِيف مَكَّة يَوْمئِذٍ مَعَ هَدَايَا جليلة إِلَيْهِ فقبلها وَأَن يفعل مَا أَمر بِهِ السُّلْطَان غياث الدّين لكنه أَخذ ثلث الصَّدَقَة على معتاده ومعتاد آبَائِهِ ووزع الْبَاقِي على الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء والفقراء فَاشْترى ياقوت الغياثي لعمارة الْمدرسَة والرباط دارين متلاصقتين على بَاب أم هَانِئ هدمهما وبناهما رِبَاطًا ومدرسة وَاشْترى أصيلتين وَأَرْبع وجبات من مَاء الريحاني وَجعلهَا وَقفا على الْمدرسَة وَجعل لَهَا أَرْبَعَة مدرسين وَاشْترى دَارا مُقَابلَة للمدرسة الْمَذْكُورَة بِخَمْسِمِائَة مِثْقَال ذَهَبا ووقفها على مصَالح الرِّبَاط وَأخذ مِنْهُ السَّيِّد حسن بن عجلَان فِي الدَّاريْنِ اللَّتَيْنِ بناهما رِبَاطًا ومدرسة والأصيلتين والأربع وجبات من قَرَار عين الريحاني اثْنَي عشر ألف مِثْقَال ذَهَبا وَأخذ مِنْهُ مبلغا لَا يعلم قدره كَانَ جهزه مَعَه سُلْطَانه لتعمير عين عَرَفَة فَذكر مَوْلَانَا أَنه يصرف ذَلِك على عمارتها فعين الشريف أحد قواده وَهُوَ الشهَاب بركوت المكيني لتفقد عين بازان وإصلاحها وَإِصْلَاح البركتين وكانتا معطلتين فأصلحهما وَكَانَ خَان جهان الْمَذْكُور أرسل مَعَ ياقوت الغيائي الْمَذْكُور خَادِمًا لَهُ يُسمى إقبال أرْسلهُ بِصَدقَة أُخْرَى من عِنْده لأهل الْمَدِينَة وجهز مَعَه مَالا يَبْنِي لَهُ بِهِ مدرسة ورباطاً وهدية لأمير الْمَدِينَة يَوْمئِذٍ وَهُوَ الْأَمِير جماز الْحُسَيْنِي فَانْكَسَرت السَّفِينَة الَّتِي بهَا الْأَمْوَال بِقرب جدة فَأخذ الشريف حسن ربع مَا خرج من الْبَحْر على عَادَتهم فِي المكسر وَأخذ مَا يتَعَلَّق بالأمير جماز لِأَنَّهُ عصى وَظهر مِنْهُ شنائع فِي الْمَدِينَة من أَخذ مِفْتَاح خزانَة النَّبِي
من قَاضِي الْمَدِينَة جبرا بعد إهانته وَهُوَ القَاضِي زين الدّين أَبُو بكر بن الْحُسَيْن المراغي وَضرب شيخ الخدام وَأخذ من خزانَة النَّبِي
إِحْدَى عشرَة خوشخانة وصندوقين كبيرين وصندوقاً صَغِيرا كلهَا ممهورة فِيهَا ذهب مودعة لملوك الْعرَاق وَخَمْسَة آلَاف كفن أَرَادَهُ وَأخذ قناديل الذَّهَب من الْحُجْرَة فَمَنعه الله ورجمته الْعَامَّة فهرب من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَأَخذه الله وَنهب الْعَرَب كل مَا مَعَه فَأرْسل مَوْلَانَا الشريف حسن بن عجلَان إِلَى الْمَدِينَة عسكراً(4/44)
وصلوا إِلَيْهَا بعد خراب الْبَصْرَة فولى عَلَيْهَا الشريف حسن بن عجلَان غير الْحُسَيْنِي الْمَذْكُور وكل ذَلِك سنة إِحْدَى عشرَة وَثَمَانمِائَة وَلما قتل النَّاصِر فرج مَا أقدم أحد من الشراكسة على التَّلَبُّس بالسلطنة خوفًا من مخاصمة الْعَسْكَر
(ثمَّ ولي الْخَلِيفَة العباسي)
ولَّوْه بالجبر وَهُوَ المستعين بِاللَّه أَبُو الْفضل العباسي الْمصْرِيّ بعد تمنع شَدِيد وَكَانَ الْقَائِم بتدبير المملكة الْأَمِير شيخ المحمودي فاستمر المستعين بِاللَّه سِتَّة أشهر وأياماً وخلع وَكَانَ استناب الْمُؤَيد شيخ وشاركه فِي الْخطْبَة وَالْأَمر للمؤيد
(ثمَّ تولى الْأَمِير شيخ المحمودي)
وتلقب بِالْملكِ الْمُؤَيد فِي مستهل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة وَكَانَ أَصله من مماليك الظَّاهِر برقوق اشْتَرَاهُ من تَاجر يُسمى مَحْمُود اليزدي فَأعْتقهُ فَلذَلِك يُقَال لَهُ المحمودي ثمَّ جعله أَمِير عشرَة ثمَّ صَاحب طبلخانة ثمَّ مقدم ألف ثمَّ ولي نِيَابَة طرابلس فَأسرهُ تيمور لما أسر نواب الْبِلَاد الشامية ثمَّ هرب مِنْهُ إِلَى أَن آل أمره أَن صَار سُلْطَانا فخدم المستعين وَعصى عَلَيْهِ(4/45)
نواب الْبِلَاد الشامية فَتوجه لقتالهم مرَارًا كَثِيرَة وافتتح الشَّام وَغَيرهَا ثمَّ عَاد إِلَى مصر وَكَانَ يَعْتَرِيه ألم المفاصل فَصَارَ يُحمل على الأكتاف ويركب المحفة وَكَانَ شجاعاً مقداماً مهيباً وَكَانَت أسواق ذَوي الْأَدَب نافقة عِنْده لجودة فهمه وذوقه وَكَانَ يحب الْعلمَاء والفضلاء ويجل قدرهم وَبنى مدرسته الْمَوْجُودَة الْآن فَبَدَأَ فِي عمارتها سنة سبع عشرَة وَثَمَانمِائَة وَكَانَ سنه عشْرين سنة قلت وَهُوَ الْبَانِي للجامع الْمَشْهُور بِجَامِع المؤيدية وَبِه المنارة الَّتِي توارد عَلَيْهَا شَيخا الْإِسْلَام الْحَافِظ شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن حجر الْعَسْقَلَانِي الشَّافِعِي والعلامة الإِمَام الْهمام مَحْمُود الْعَيْنِيّ الْحَنَفِيّ وَذَلِكَ لما أَن ظهر فِي المنارة اختلال بعد بنائها فَقَالَ الْحَافِظ الْمَذْكُور هذَيْن الْبَيْتَيْنِ يعرض فيهمَا بِهِ فِي ستر التورية من الطَّوِيل
(لِجَامِعِ مَوْلاَنَا المُؤَيّدِ بَهْجَةٌ ... مَنَارَتُهُ بالحُسْنِ تَزْهُو وبالزَّيْنِ)
(تَقُولُ وَقَدْ مَالَتْ عَنِ القَصْدِ أَمْهِلُوا ... فَلَيْسَ عَلَى جِسْمِي أَضَرُّ مِنَ العَيْنِ)
فوصل خبر الْبَيْتَيْنِ إِلَى الإِمَام الْعَلامَة مَحْمُود الْعَيْنِيّ فَقَالَ فِي جوابهما معرضًا ستر التورية كَذَلِك من الْبَسِيط
(مَنَارةٌ كَعَرُوسِ الحُسْنِ إِذْ جُلِيَتُ ... وَهَدْمُهَا بِقَضَاءِ اللِّهِ والقَدَرِ)
(قَالُوا أُصِيبَتْ بِعَيْنِ قُلْتُ ذَا غَلَطٌ ... مَا أَوْجَبَ الهَدْمَ إلاَّ خِسَّةُ الحَجَرِ) قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر والبيتان قد عملهما لَهُ النواجي لَا سامحه الله سامح الله الْجَمِيع وَمن أعجب مَا وَقع لَهُ فِي أَيَّامه أَن جملا لجمال يُقَال لَهُ الفاروني يحمِّله فَوق طاقته فهرب أثْنَاء جُمَادَى الْآخِرَة من تِلْكَ السّنة وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَلم يزل يطوف بِالْبَيْتِ وَالنَّاس حوله يُرِيدُونَ إِمْسَاكه فيعضهم وَلَا يُمكن من نَفسه فَتَرَكُوهُ حَتَّى أتم ثَلَاثَة أسابيع ثمَّ جَاءَ إِلَى الْحجر الْأسود فَقبله ثمَّ توجه إِلَى جِهَة مقَام الْحَنَفِيّ ووقف هُنَاكَ تجاه الْمِيزَاب الشريف فبرك عِنْده وَبكى وَألقى نَفسه على الأَرْض وَمَات فَحَمله النَّاس إِلَى بَين الصَّفَا والمروة ودفنوه هُنَاكَ(4/46)
وَفِي آخر سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة أرسل الْمُؤَيد منبراً حسنا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام ودرجة الْكَعْبَة وَوصل ذَلِك فِي موسم السّنة الْمَذْكُورَة وخطب الْخَطِيب على الْمِنْبَر الْجَدِيد خطْبَة التَّرويَة يَوْم سَابِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام وَكَانَت وَفَاة الْمُؤَيد شيخ المحمودي يَوْم الْإِثْنَيْنِ لتسْع خلون من الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وَخَمْسَة أشهر
(ثمَّ تولى بعده وَلَده الْملك المظفر)
أَبُو السعادات أَحْمد بن الْمُؤَيد بِعَهْد مِنْهُ وعمره إِذْ ذَاك سنة وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَصَارَ مُدبر مَمْلَكَته الْأَمِير ططر أَمِير مجْلِس أتابك العساكر وَخَالف عَلَيْهِ أَمِير الشَّام وَمن مَعَه فتجهز ططر عَلَيْهِم وَمَعَهُ الْملك المظفر أَحْمد طفْلا وَقَاتلهمْ وَقتل كثيرا مِنْهُم إِلَى أَن صفا لَهُ الْوَقْت فَخلع الْملك المظفر أَحْمد
(ثمَّ تولى ططر)
وتسلطن عوضه يَوْم الْجُمُعَة لليلة بقيت من شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَرجع بالمظفر إِلَى مصر وَاسْتمرّ بالقلعة إِلَى أَن نقل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَتوفي بهَا مطعوناً فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت مُدَّة سلطنته سَبْعَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وَنقل إِلَى الْجَامِع المؤيدي دَاخل بَاب زويله رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَ ططر من مماليك الظَّاهِر برقوق أعْتقهُ وَقدمه وَلَا زَالَ يترقى إِلَى أَن صَار عِنْد الْمُؤَيد رَأس نوبَة ثمَّ أَمِير مجْلِس ثمَّ تسلطن وتلقب بِالْملكِ الظَّاهِر لقب(4/47)
أستاذه ومهد الممالك وَقبض على الْمُخَالفين عَلَيْهِ وَقرب المحالفين لَهُ وَله آثَار جميلَة ومقاصد حَسَنَة جليلة من أعظمها أَنه قرر لصَاحب مَكَّة الشريف حسن بن عجلَان عشْرين ألف دِينَار تحمل إِلَيْهِ من خزينة مصر كل عَام وَجعل ذَلِك فِي مُقَابلَة ترك المكس على الخضرة والفواكه والحبوب وَغَيرهَا بِمَكَّة وَأمر أَن يكْتب عَهده واعترافه بذلك على سواري الْمَسْجِد من نَاحيَة بَاب السَّلَام وَمن نَاحيَة بَاب الصَّفَا والسواري الْمَكْتُوبَة بِهَذَا الْعَهْد مَوْجُودَة إِلَى الْآن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام ثمَّ توفّي يَوْم الْأَحَد لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة فَكَانَت مُدَّة ملكه أَرْبَعَة وَتِسْعين يَوْمًا
(ثمَّ تولى بعده ابْنه الْملك مُحَمَّد بن الظَّاهِر ططر)
وعمره نَحْو الْعشْر سنوات وأتابكه ومدبر مَمْلَكَته الأتابك جَان بيك الصُّوفِي إِلَى أَن تغلب على الأتابك برسباي الدقماقي فَقبض عَلَيْهِ وأرسله إِلَى السجْن الْإسْكَنْدَريَّة فَصَارَ أتابكاً مَكَانَهُ واستبد بِأُمُور الْملك من غير مشارك فَخلع الْملك الصَّالح يَوْم الْأَرْبَعَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَمُدَّة ملكه ثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا وعمره عشرُون سنة وَاسْتمرّ بعد الْخلْع عِنْد والدته بالقلعة إِلَى أَن توفّي بالطاعون
(ثمَّ تولى الْملك الْأَشْرَف برسباي الدقماقي)
اشْتَرَاهُ الْأَمِير دقماق الظَّاهِرِيّ نَائِب ملطية وَقدمه إِلَى الظَّاهِر برقوق هَدِيَّة فَأعْتقهُ وقربه ورقاه إِلَى أَن ولاه الْملك الْمُؤَيد مقدم ألف وَاسْتمرّ إِلَى أَن تسلطن بعد قَبضه على مُحَمَّد بن ططر وَمن جملَة مناقبه أَنه أَخذ بِلَاد قبرس وَأسر ملكهَا فِي سنة تسع وَعشْرين(4/48)
وَثَمَانمِائَة وَهُوَ فِي تخت مَمْلَكَته لم يَتَحَرَّك وَكَانَ عَاقِلا مُدبرا سيوساً محباً لجمع المَال اشْترى من مَاله ثَلَاثَة آلَاف مَمْلُوك شركسي وَفتح آمد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وَبنى مدرسته الأشرفية الَّتِي أَنْشَأَهَا بِمصْر على رَأس الوراقين وعلق خوذة ملك آمد الَّتِي أَخذهَا بعد قَتله علقها بدهليز مدرسته بَين الْبَابَيْنِ بسلسلة وَله خبرات كَثِيرَة توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَمُدَّة ولَايَته سِتَّة عشر سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام
(ثمَّ تولى بعده وَلَده يَوْم مَوته)
(الْملك الْعَزِيز يُوسُف بن برسباي وعمره أَرْبَعَة عشر عَاما)
وَصَارَ مُدبر مَمْلَكَته الأتابك جقمق العلائي وَلَا زَالَ يقوى أمره والأقدار تساعد إِلَى أَن خلع الْعَزِيز بعد أَن تسلطن نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام لم يكن لَهُ فِيهَا سوى الِاسْم ثمَّ ولي مَكَانَهُ يَوْم الْأَرْبَعَاء لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة ولقب بِالْملكِ الظَّاهِر سيف الدّين وكني بِأبي سعيد جقمق العلائي وَجلسَ على سَرِير المملكة والعلائي نِسْبَة إِلَى مُشْتَرِيه عَلَاء الدّين فنسب إِلَيْهِ فَقيل العلائي ثمَّ انْتقل إِلَى الظَّاهِر برقوق فَقيل الظَّاهِرِيّ وَكَانَ عِنْد الظَّاهِر(4/49)
برقوق خاصكياً ثمَّ صَار فِي دولة النَّاصِر فرج بن برقوف ساقياً ثمَّ أَمِير عشرَة مقدم مائَة ثمَّ فِي دولة الْمُؤَيد خازنداراً ثمَّ من مقدمي الألوف ثمَّ فِي الدولة الأشرفية حَاجِب الْحجاب ثمَّ أَمِير آخور كَبِير ثمَّ أَمِير سلَاح ثمَّ صَار أتابكاً إِلَى أَن تسلطن فَخرج عَن طَاعَته الْأَمِير قرقماس فقاتله وظفر بِهِ وسجنه فِي الْإسْكَنْدَريَّة ثمَّ قَتله ثمَّ خرج عَن طَاعَته نَائِب حلب تغري برمش ثمَّ أينال الْحكمِي نَائِب الشَّام فَجهز عَلَيْهِمَا العساكر فَقَتَلَهُمَا وَاحِدًا بعد وَاحِد وَبعد قتل هَؤُلَاءِ صفا لَهُ الْوَقْت فَأخذ وَأعْطى وأقدم وسطا وَكَانَ متواضعاً محباً للْفُقَرَاء وَالْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ يمِيل إِلَى تربية الْأَيْتَام وَيحسن إِلَيْهِم عفيفاً عَن الْمُنْكَرَات طَاهِر الْفَم والذيل لَا يعلم من مُلُوك الشراكسة قبله وَلَا بعده أعف مِنْهُ وَكَانَ على قَاعِدَة الأتراك الدَّعْوَى عِنْده لمن يسْبق يذاكر بمسائل فقهية ويتعصب لمَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَملك مصر نَحْو خمس عشرَة سنة وَمن أول مَا عمل فِي ولَايَته أَن أرسل إِلَى شرِيف مَكَّة الشريف بَرَكَات بن حسن ابْن عجلَان بخلَع ومراسيم وَأرْسل إِلَيْهِ سودون المحمدي ليَكُون أَمِيرا على خمسين فَارِسًا من التّرْك مقيمين بِمَكَّة وَفِي سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة وَردت القصاد من مصر تخبر أَن الْملك الظَّاهِر جقمق زَاد بِهِ الْمَرَض فَخلع نَفسه من السلطنة يَوْم الْخَمِيس لسبع بَقينَ من محرم السّنة الْمَذْكُورَة(4/50)
(ثمَّ تولى بعده أَبُو السعادات فَخر الدّين عُثْمَان بن حقمق)
ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور وَرَضي النَّاس بِهِ واطمأنوا وسنه إِذْ ذَاك دون الْعشْرين وَركب فِي شعار السلطنة وَحمل الأتابك أينال العلاتي أَمِير كَبِير الْقبَّة وَالطير على رَأسه وَقد تقدم أَن من قواعدهم أَن لَا يحملهَا إِلَّا من يَلِي السلطنة بعد الْمُتَوَلِي المحمولة لَهُ وَجلسَ على تخت السلطنة فِي قلعة الْجَبَل وباشر الْأُمُور إِلَى أَن توفّي وَالِده بعد ولَايَته بِاثْنَيْ عشر يَوْمًا فَوَقَعت فتْنَة بَين الْأُمَرَاء فَخلع عُثْمَان بن جقمق فقاتل بعد الْخلْع قتالاً شَدِيدا ثمَّ حبس فتسحب من الْحَبْس فظفر بِهِ وَقبض عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى سجن الْإسْكَنْدَريَّة فسجن إِلَى سنة أَربع وَسِتِّينَ فَأَطْلقهُ السُّلْطَان خشقدم وَأمر بإكرامه وَهُوَ بالإسكندرية وَكَانَت مدَّته نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا
(ثمَّ تولى الْملك الْأَشْرَف سيف الدّين أَبُو النَّصْر أينال العلائي)
يَوْم خلع عُثْمَان صَبِيحَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان مضين من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وأينال مَمْلُوك لبرقوق اشْتَرَاهُ ثمَّ أعْتقهُ ابْنه فرج ثمَّ رقاه جقمق إِلَى أَن جعله أتابكاً وَاسْتمرّ إِلَى أَن تسلطن وطالت أَيَّامه نَحْو ثَمَان سِنِين وشهرين وَكَانَ طَويلا خَفِيف اللِّحْيَة بِحَيْثُ اشْتهر بأينال الأجرود وَكَانَ قَلِيل الظُّلم قَلِيل سفك الدِّمَاء متجاوزاً عَن التَّقْصِير وَفِي أَيَّامه ولى الْأَمِير جَان بك مشدا على جدة وَهُوَ الَّذِي التمس مِنْهُ الشريف بَرَكَات أَن يلْتَمس من السُّلْطَان إِقَامَة وَلَده مُحَمَّد بن بَرَكَات مقَامه فِي شرافة مَكَّة كَمَا سَيَأْتِي فِي ذكر بَرَكَات بن حسن بن عجلَان فِي الخاتمة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ الْبَانِي للبستان أَعنِي جَان بك الَّذِي على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى الْمَعْرُوف ببستان جَان بك وحفر فِيهِ عدَّة آبار وغرس مَا قدر عَلَيْهِ من الْأَشْجَار(4/51)
حَتَّى شجر التَّمْر هندي قلت وَهُوَ الْآن مَوْجُود وَفِيه المربعة الَّتِي تحتهَا السَّبِيل الْمُعَطل وَفِي الْبُسْتَان شَيْء من الْأَشْجَار وَقَلِيل من الْخضر وَاسْتمرّ أينال سُلْطَانا إِلَى أَن خلع نَفسه من السلطنة لوَلَده الْملك الْمُؤَيد شهَاب الدّين أبي الْفَتْح أَحْمد بن أينال العلائي
(ثمَّ تولى ابْنه أَحْمد الْمَذْكُور ابْن أينال ولقب بِالْملكِ الْمُؤَيد)
كَمَا مر آنِفا يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَتُوفِّي وَالِده أينال بعد ولَايَته بِيَوْم وَاحِد فاستمر خَمْسَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام ثمَّ خلع فَإِن الطوائف اتَّفقُوا على خلعه من غير مُوجب بالأتابك خشقدم فخلعوه ثمَّ حبسوه بالإسكندرية إِلَى أَن أطلقته تمربغا فِي أَيَّام سلطنته يَوْم الْأَحَد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
(ثمَّ تولى أتابكه الْملك الْعَادِل سيف الدّين خشقدم الناصري)
وَهُوَ رومي اشْتَرَاهُ الْملك الْمُؤَيد وَأعْتقهُ وَصَارَ خاصكياً عِنْده ثمَّ تنقلت بِهِ الدولة إِلَى أَن جعله أينال أتابكاً لوَلَده فخلعه بعد خَمْسَة أشهر وتسلطن مَكَانَهُ وَكَانَ خشقدم محباً للخير وكسا الْكَعْبَة فِي أول ولَايَته على الْعَادة وَكَانَ حسن السِّيرَة إِلَّا أَنه كَانَ فِيهِ شح وطمع ويرضى بإفساد مماليكه فِي أُمُور الْمُسلمين فَلذَلِك تمنى النَّاس زَوَاله حَتَّى الْيَهُود وَالنَّصَارَى ثمَّ مرض وَطَالَ مَرضه وَتُوفِّي يَوْم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَمُدَّة ملكه سِتّ سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَأَيَّام(4/52)
(ثمَّ تولى بعده فِي ذَلِك الْيَوْم أتابكه بلباي الْمُؤَيد)
تلقب بِالْملكِ الظَّاهِر أبي النَّصْر وخلع على الْأَمِير تمريغا الظَّاهِرِيّ الأتابكية عوضا عَن نَفسه وَكَانَ بلباي ضَعِيفا عَن تَدْبِير الْملك وتنفيذ الْأُمُور فخلعه الْأُمَرَاء من السلطنة يَوْم السبت لسبع مضين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَكَانَت مُدَّة سلطنته شَهْرَيْن إِلَّا أَرْبَعَة أَيَّام
(ثمَّ تولى مَكَانَهُ الْملك الظَّاهِر أَبُو سعيد تمريغا الظَّاهِرِيّ)
وَيُقَال إِنَّه رومي الأَصْل من مماليك الظَّاهِر جقمق أعْتقهُ ورباه صَغِيرا ورقاه إِلَى أَن جعله خاصكياً ثمَّ سلحداراً ثمَّ خازنداراً ثمَّ إِلَى أَن صَار أتابكاً للعساكر ثمَّ تسلطن وَكَانَ لَهُ فضل وتودد إِلَى النَّاس وحذق بِبَعْض الصَّنَائِع بِحَيْثُ كَانَ يعْمل القبي الفائقة بِيَدِهِ وَيعْمل السِّهَام عملا فائقاً وَيَرْمِي بهَا أحسن رمي مَعَ الفروسية التَّامَّة وَمَا زَالَ بِهِ الْأَمر حَتَّى خلعوه ونفوه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَت مُدَّة ولَايَته ثَمَانِيَة وَخمسين يَوْمًا ثمَّ إِن السُّلْطَان قايتباي اعتذر إِلَيْهِ من وثوبه عَلَيْهِ وأكرمه وَأحسن مثواه وأرسله إِلَى دمياط على أحسن حَال فَقبل عذره وَلم يَقع لملك من الْإِكْرَام بعد الْخلْع مَا وَقع لَهُ لكَونه جَدِيرًا بذلك
(ثمَّ تولى السلطنة أتابك العساكر يَوْمئِذٍ السُّلْطَان الْأَشْرَف قايبتاي)
(المحمودي الظَّاهِرِيّ الشركسي)
ظهر يَوْم الْإِثْنَيْنِ لست مضين من شهر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة يَوْم خلع تمربغا وَقيل لَهُ المحمودي لِأَنَّهُ جلبه الخوجا مَحْمُود إِلَى مصر فنسب(4/53)
إِلَيْهِ فَاشْتَرَاهُ الْأَشْرَف برسباي وَأعْتقهُ الظَّاهِر جقمق وَإِلَيْهِ انتسب بالظاهري وَكَانَ محباً للخير مُعْتَقدًا فِي الصَّالِحين حكى عَن نَفسه أَنه لما جلبه سَيّده إِلَى مصر للْبيع وَهُوَ إِمَّا مراهق أَو بَالغ كَانَ مَعَه رَفِيقه أحد المماليك والجلب فتحادثا مَعَ الْجمال لَيْلَة من اللَّيَالِي فِي شهر رَمَضَان فَقَالُوا لَعَلَّ هَذِه اللَّيْلَة لَيْلَة الْقدر وَالدُّعَاء فِيهَا مستجاب فَليدع كل وَاحِد منا بِدُعَاء يُحِبهُ قَالَ قايتباي فَقلت أما أَنا فأطلب سلطنة مصر من الله تَعَالَى فَقَالَ رفيقي وَأَنا أطلب أَن أكون أَمِيرا كَبِيرا والتفتنا إِلَى الْجمال فَقُلْنَا لَهُ أَي شَيْء تطلب أَنْت فَقَالَ أَنا أطلب من الله خَاتِمَة الْخَيْر فَصَارَ قايتباي سُلْطَانا وَصَارَ صَاحبه أَمِيرا كَبِيرا فَكُنَّا إِذا اجْتَمَعنَا نقُول فَازَ الْجمال من بَيْننَا وَكَانَ رَحمَه الله ملكا جَلِيلًا وسلطاناً نبيلاً لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْخيرَات والطول الطائل فِي إسداء المبرات بنى فِي الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة عدَّة رُبط ومدارس وجوامع عَظِيمَة الْآثَار باهرة الْأَنْوَار وَله بِمصْر وَالشَّام وغزة وَغير ذَلِك آثَار جميلَة وخيرات جزيلة أَكْثَرهَا بَاقٍ إِلَى الْآن وَجَمِيع عمائره يلوح عَلَيْهَا لوائح النورانية والأنس وَفِي أول ولَايَته أرسل إِلَى شرِيف مَكَّة بالمراسيم وَالْخلْع وَهُوَ الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان وَإِلَى قَاضِي القضاه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن ظهيرة تقليداً لقَضَاء مَكَّة ومراسيم تَتَضَمَّن الْأَمر بِإِبْطَال جَمِيع المكوسات والمظالم وَأَن ينقر ذَلِك على أسطوانة من أساطين الْحرم الشريف فِي بَاب السَّلَام وَفِي أَوَاخِر سنة أَربع وَسبعين وَثَمَانمِائَة أَو الَّتِي قبلهَا بنى مَسْجِد الْخيف بِنَاء عَظِيما محكماً وَجعل فِي وسط الْمَسْجِد قبَّة عَظِيمَة هِيَ حد مَسْجِد رَسُول الله
وبنيت جدرانه المحيطة بِهِ وَبنى أَربع بوائك من جِهَة الْقبْلَة فَصَارَت قبَّة عالية فِيهَا محراب النَّبِي
وبلصق الْقبَّة مئذنة غير المئذنة الَّتِي على بَاب الْمَسْجِد وَبنى دَارا بلصق بَاب الْمَسْجِد كَانَت مسكن أَمِير الْحَاج وعَلى بَاب الدَّار سَبِيل على صهريج كَبِير جعل فِي صحن الْمَسْجِد يمتلئ من الْمَطَر وجدد العلمين الموضوعين لحد عَرَفَة والعلمين الموضوعين لحد الْحرم وجدد عين عَرَفَات وابتدأ الْعَمَل فِيهَا من سفح جيل الرَّحْمَة إِلَى وَادي نعْمَان فَوجدَ المَاء بِكَثْرَة فاقتصر على ذَلِك وَلم يصل إِلَى أم الْعين وَكَانَت قد انْقَطَعت مُنْذُ مائَة وَخمسين عَاما فَكَانَ الْحجَّاج(4/54)
يقاسون فِي يَوْم عَرَفَة من قلَّة المَاء مَا لَا صَبر عَلَيْهِ ثمَّ أصلح البرك وملأها بِالْمَاءِ ثمَّ أصلح عين خليص وأجراها وَأصْلح بركتها وَبنى قبتها وَكَانَ ذَلِك سنة تسع وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَفِي سنة اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة أَمر السُّلْطَان وَكيله وتاجره الخوجا شمس الدّين مُحَمَّد بن عمر الشهير بِابْن الزَّمن وشاد عمائره الْأَمِير سنقر الجمالي أَن يحصلا لَهُ موضعا مشرفاً على الْحرم الشريف ليبني فِيهِ مدرسة ليدرس فِيهَا على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة ورباطاً يسكنهُ الْفُقَرَاء وَيعْمل لَهُ ربوعاً ومسقفات يحصُل مِنْهَا ريع كَبِير يصرف مِنْهُ على المدرسين وعَلى الْقُرَّاء وَأَن تقْرَأ لَهُ ربعَة فِي كل يَوْم يحضرها الْقُضَاة الْأَرْبَعَة والمتصرفون ويقرر لَهُم وظائف وَيعْمل مكتِّباً للأيتام وَغير ذَلِك من جِهَات الْخَيْر فاستبدل لَهُ رِبَاط السِّدْرَة ورباط المراغي وَكَانَا متصلين وَكَانَ إِلَى جَانب رِبَاط المراغي دَار الشَّرِيفَة شمسية من شرائف بني حسن اشْتَرَاهَا وَهدم ذَلِك جَمِيعه وَجعل فِيهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين خلْوَة ومجمعاً كَبِيرا مشرفاً على الْمَسْجِد الْحَرَام وعَلى الْمَسْعَى وصير الْمجمع الْمَذْكُور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف الْمَذْهَب وَقرر فِيهَا أَرْبَعَة مدرسين على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَأَرْبَعين طَالبا وَأرْسل خزانَة كتب وَقفهَا على طلبة الْعلم وَجعل مقرها الْمدرسَة الْمَذْكُورَة وَجعل الْوَاقِف فِي ذَلِك الْمجمع للقضاة الْأَرْبَعَة حضوراً بعد الْعَصْر مَعَ جمَاعَة من الْفُقَهَاء يقرءُون ثَلَاثِينَ جُزْءا من الْقُرْآن وَجعل لَهَا معلم أَرْبَعِينَ صَبيا من الْأَيْتَام ورتب لكل وَاحِد من الْأَيْتَام وَأهل الخلاوي مَا يكفيهم من الْقَمْح كل سنة وللمدرسين وقراء الربعة وَأهل الخدم مبالغ من الذَّهَب تصرف لَهُم كل سنة وَبنى عدَّة ربوع ودور تغل فِي كل عَام نَحوا من ألفي دِينَار ووقف عَلَيْهِم بِمصْر قرى وضياعاً كَثِيرَة تغل حبوباً كَثِيرَة تحمل كل عَام إِلَى أهالي مَكَّة وَعمل من الْخيرَات الْعَظِيمَة مَا لم يعمله سُلْطَان قبله وَذَلِكَ باقٍ إِلَى الْآن إِلَّا أَن الْأكلَة استولت على تِلْكَ الْأَوْقَاف فضعفت جدا قلت هَذَا فِي زمَان قطب الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَأما الْآن فقد تضاعفت لَا ضعفت إِلَّا أَنَّهَا كَمَا قَالَ رَحمَه الله قد استولت عَلَيْهَا أَكلَة النظار وَقد صَارَت الْمدرسَة سكناً لأمراء الْحَج إِذا وصلوا مَكَّة أَيَّام الْمَوْسِم وَكَانَ الْفَرَاغ من(4/55)
بِنَاء هَذِه الْمدرسَة والرباط والبيتين أَحدهمَا من نَاحيَة بَاب السَّلَام وَالثَّانِي من نَاحيَة بَاب الحريريين فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة على يَد مُشَيدِ عمائره الْأَمِير سنقر الجمالي وَفِي هَذِه السّنة وَردت أَحْكَام سلطانية من السُّلْطَان قايتباي إِلَى صَاحب مَكَّة الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن بن عجلَان رَحمَه الله تَتَضَمَّن أَنه رأى مناماً وَأَن بعض المعبرين عبر لَهُ ذَلِك الْمَنَام بِغسْل الْبَيْت الشريف من دَاخله وخارجه وَغسل المطاف وَأَنه أمره أَن يفعل ذَلِك فَحَضَرَ مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّد بن بَرَكَات رَحمَه الله بِنَفسِهِ وقاضي الْقُضَاة إِبْرَاهِيم ابْن ظهيرة وناس من التّرْك المقيمين بِمَكَّة الْأَمِير قاتي باي اليوسفي والأمير سنقر الجمالي والدوادار الْكَبِير جَان بك نَائِب جدة المعمورة وَبَقِيَّة الْقُضَاة والأعيان وفاتح الْكَعْبَة عمر بن أبي رَاجِح الشيبي والشيبيون والخدام وغسلوا الْكَعْبَة الشَّرِيفَة من ظَاهرهَا وباطنها قدر قامة وغسلوا أَرض الْكَعْبَة وَأَرْض المطاف الشريف وطيبوها بالطيب وَالْعود وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس لثمان بَقينَ من ذِي الْحجَّة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة وَمن أعظم مَا وَقع فِي أَيَّام السُّلْطَان قايتباي من الْأُمُور المهولة حريق الْمَسْجِد النَّبَوِيّ فِي ثلث اللَّيْل الْأَخير من لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة فعمره رَحمَه الله أحسن عمَارَة وَبنى الْمَقْصُورَة وأدار عَلَيْهَا الشبك الْحَدِيد جَمِيعهَا وَكَانَ تَمام ذَلِك فِي عَام ثَمَان وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة كَمَا رَأَيْته مرسوماً بالقلم الْحَدِيد فِي جِهَة الْبَاب من الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَقد ذكر السَّيِّد السمهودي ذَلِك مفصلا وَغَيره وَعمر السُّلْطَان الْمَذْكُور بِالْمَدِينَةِ مثل مَا عمر بِمَكَّة من الْمدرسَة والرباط وأوقف كتبا على طلبة الْعلم الشريف فَأرْسل مصاحف كَثِيرَة وكتباً لخزانة الْمَسْجِد الشريف عوضا عَمَّا احْتَرَقَ وَلم يحجّ من مُلُوك الشراكسة غير السُّلْطَان قايتباي الْمَذْكُور وَذَلِكَ لتمكنه فِي(4/56)