بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف /
من كتاب العقد المنظوم :
…وممن تعانى العلم والعمل ، وحصل وكمل فالتحق في شبابه بالمشايخ الكمل ، الشيخ محي الدين ، الشهير بالبركوي كان رحمه الله من قصبة بالي كسرى ، وكان أبوه رجلاً عالماً من أصحاب الزوايا ـ ولا غرو فإن في الزوايا خبايا ـ نشأ المرحوم فيطلب المعارف والعلوم ، ووصل إلى مجلس العظام ودخل محافل الكرام وعكف على التحصيل والإفادة من الأفاضل السادة منهم المولى محي الدين المشتهر بأخي زاده ، وصار ملازماً من المولى عبد الرحمن أحد قضاة العسكر في عهد السلطان سليمان ثم غلب عليه الزهد والصلاح ولاح في جبينه آيات الفوز فأمره أحد مشايخه بالعودة والاشتغال بمدارسة العلوم ومذاكرة المنطوق والمفهوم ، والتصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات والوعظ بالزواجر الزاجرات وحصل بينه وبين الموالي عطاء الله محبة أكيدة ومودة شديدة ، فأقبل بحسن الالتفات عليه وبنى مدرسة في قصبة ( بركي ) وفوض تدريسها إليه ، وعين له كل يوم ستين درهماً فكان رحمه الله يدرس تارة ويعظ أخرى بما هو أليق وأحرى . فقصده الناس من كل فج عميق وآوى إليه الطلبة من كل مكان سحيق ، واجتمع عليه الطلاب ، واشتغلوا عليه من كل فصل وباب ، وأكب هو على الاشتغال بيومه وأمسه ، وانتفع الناس بوعظه ودرسه ، فكم من أسير في غيابة الجهالة مقيد بسلاسل الشؤون والبطالة ـ نال بسببه شرف العلم وعزه ما ناله ، وكم من تائه بمهامه هواه ، عاد إلى السبيل هداه .كان رحمة الله في طرف عال من الفضل والكمال ، وتتبع الكتب والرسائل ، وجمع القواعد والمسائل ، وجمع العلم وتبحر فيه ، وحوى من الفضل والمعرفة ما يكفيه ، شرح [ مختصر البيضاوي ] في النحو ، وكتب متناً لطيفاً في علم الفرائض ، وله في الحديث وتفسير القرآن والفقه تعاليق ورسائل ، اخترمة دونها الميتة فقائه حصول الأمنية(1/1)
…وكان رحمه الله آية في الزهد والصيانة ، وفي الورع والديانة ، متمسكاً بما هو أتم وأقوى ، قاتم على الحق في كل مكان ، يرد علي من خالف الشريعة كائنا من كان ، لا يهاب أحداً ، لعلو رتبته وسمو منزلته جاء في آخر عمره إلى القسطنطية ، فدخل مجلس الوزير محمد باشا ، وكلمه في قمع الظلم ودفع المظالم بكلمات أحد من السيوف .
…وتوفي رحمه الله في شهر جمادى الأولى سنة 981هـ وهو مكب على الزهد والعبادة رحمه الله .
…………
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من نطفة أمشاج ، وجعله سميعاً بصيراً ، وهداه النجدين ، فمنهم من سل طريق الجنة ، ومنهم من اختار سعيراً ، والصلاة والسلام على أفضل من أرسل بالحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا له في إحياء الدين معيناً وظهيراً ، وهم في مجاهداتهم لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا نصيراً .
…وبعد : فهذه أوراق انتخبتها من [ إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ] للشيخ الإمام العلامة ابن القيم الجوزية ، جعل الله روحه مع الأوراح التي رجعت إلى ربها راضية مرضية ، كتبتها لبعض إخوان الآخرة ، مع ضم ما وجدته في الكتب المعتبرة ، لأن كثيراً من الناس في هذا الزمان ، جعلوا بعض القبور كالأوثان ، يصلون عندها ويذبحون القربان ويصدر منهم أفعال وأقوال لا تليق بأهل الإيمان ، فإن أردت أن أبين لهم ما وردبه الشرع في هذا الشأن ، حتى يتميز الحق من الباطل عند من يريد تصحيح الإيمان والخلاص من كيد الشيطان ، والنجاة من عذاب النيران ، والدخول في دار الجنان والله الهادي وعليه التكلان .(1/2)
…أعلم : أن السعادة العظمى ، والكرامة الكبرى في الدنيا والعقبى لا تحصل إلا بمتابعة خاتم النبيين ، صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين ، لكن الشيطان للإنسان عدو مبين ، يصدهم بأنواع مكائده عن الصراط المستقيم ، ويدعوهم إلى الإثم العظيم ، ليكونوا من أصحاب الجحيم ، وغاية بغيتهم سلب الإيمان ، حتى يكونوا من أهل الخلود في النيران .
…ومن أعظم مكائده التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور ، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى ، وعبدت قبورهم واتخذت أوثانا ، وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل ، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى .
…وكان ابتداء هذا الداء العظيم في قوم نوح عليه السلام ، كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم حيث قال { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ـ ومكروا مكرا كبارا ـ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوقا ونسرا } وقال ابن عباس وغيره من السلف : كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليه الأمد فعبدوهم ، وكان هذا مبدأ عبادة وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها : مارية ، فذكرت له ما رأت فيها من الصور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى " .
…ففي هذا الحديث ما ذكر من الجمع بين التماثيل والقبور .(1/3)
فلما كان مبدأ عبادة الأصنام ومنشؤها من فتنة القبور ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الافتتان بها بوجوه كثيرة .
…منها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها مساجد ، كما ثبت في [ صحيح مسلم] عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه انه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول : " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ".
…وفي الصحيحن " عن عائشة رضي الله عنها : أنه عليه السلام قال في مرضه الذي لم يقم منه : " لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره عليه السلام ، لكن خشي أن يتخذ مسجداً .
…وقولها : ( خشي ) بضم الخاء تعليل لمنع إبراز قبره عليه السلام ، فإنهم اختلفوا بعد موته عليه السلام : في موضع دفنه ، حتى سموا ما وري عنه عليه السلام " أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون فلما كان هذا من خصائصهم دفنوه في حجرتها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء ؛ لئلا يصلي أحد على قبره ، ويتخذوه مسجداً ، فإنه عليه السلام نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ، ثم لعن من فعل ذلك من أهل الكتاب ؛ تحذيراً لهم أن يفعلوا ذلك .
…وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها والصلاة إليها ؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة ، ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك .
…وطائفة وإن أطلقت الكراهة لكن ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ؛ إحساناً للظن بالعلماء ، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه .
…ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن إيقاد السرج عليها ؛ لما روى الإمام احمد وأهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام ( لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .(1/4)
…فكل ما لعن عليه رسو الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر ، وقد صرح الفقهاء بتحريمه . وقال أبو محمد المقدسي : لو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن من فعله ؛ وقد لعن ؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة ، وإفراطاً في تعظيم القبور تشبيهاً بتعظيم الأصنام ولهذا قال العلماء : لا يجوز أن ينذر للقبور ، لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به بالاتفاق ، ولا أن يوقف عليها شيء لأجل ذلك ، فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه .
…ومنها : أنه عليه السلام نهى عن تجصيصها والبناء عليها ، كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام نهى عن تجصيص القبر ، وأن يبنى عليه قيل هذا يحتمل وجهين :
…أحدهما : البناء عليه بالحجارة ، وما يجري مجراها ، والآخر : أن يضرب عليه خباء ونحوه ، وكلا الوجهين منهي عنه لعدم الفائدة فيها مع إضاعة المال ، وبكونه من صنيع أهل الجاهلية .
…ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود في [ سننه ] عن جابر رضي الله عنه : أنه عليه السلام ( نهى عن تجصيص القبور ، وأن يكتب عليها ) .
…ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الزيادة فيها من غير ترابها ، كما روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه أيضاً : أنه عليه السلام ( نهى عن تجصيص القبر أن يكتب عليه ، أو يزاد عليه ) .
…ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الصلاة عندها كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن أبي مرثد الغنوي : أنه عليه السلام قال : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
…والأحاديث في النهي عن ذلك والتغليظ فيه كثيرة ؛ وذلك لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها .(1/5)
…وقد تقدم أن ابتداء عبادة الأصنام إنما كان من فتنة القبور ؛ ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب ؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ، وأن هؤلاء المردة كانوا يصلون في المواضع التي دفن فيها أنبياؤهم ، إما ظناً منهم بأن السجود لقبورهم تعظيم لها ؛ وهذا شرك جلي ؛ ولهذا قال النبي عليه السلام : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ". وإما ظناً منهم بأن التوجه إلى قبورهم حالة الصلاة أعظم موقعاً عند الله تعالى ؛ لاشتماله على أمرين : عبادة الله تعالى وتعظيم الأنبياء . وهذا شرك خفي .
…قال ابن القيم في [ إغاثته ] نقلاً عن شيخه ابن تيمية : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم ، إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك ن فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر ؛ ولهذا نجد كثيراً من الناس عند القبور يتضرعون ، ويخشعون ، ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر ومنهم من يسجد لها وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها مالا يرجون في المساجد لأجل هذه المفسدة حسما لنبي عليه الصلاة والسلام مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً وإن لم يقصد الصلاة عندها ووقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت استوائها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها فنهى أمته عن الصلاة وإن لم يقصدوا ما قصده المشركون .
…وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة متبركاً بالصلاة في تلك البقعة ـ فهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن المسلمين اجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين نبيهم : أن الصلاة عند المقبرة مني عنها .(1/6)
…وفي هذا دليل على ضلال من زعم أن النهي عن الصلاة فيها مختص بالمقابر المنبوشة لما فيها من النجاسة الحاصلة بالنبش وهذا ابعد شيء من مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو باطل من عدة أوجه :
…أما أولاً : فلأن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة المنبوشة وغير المنبوشة .
…أما ثانياً : فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة الحاصلة بالنبش لأن قبور أنبيائهم لا تنبش ولو نبشت فهي من أطهر البقاع ليس للنجاسة عليها طريق البتة فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون .
…وأما ثالثاً : فإنه عليه الصلاة والسلام اخبر : أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولو كان ذلك للنجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور .
…وأما رابعاً : فلأنه عليه الصلاة والسلام قرن في اللعنة بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج لديها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة سيان .
…ومعلوم إن أيقاد السراج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها أوثاناً يوفض إليها وكذا اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا قرن بينهما .
…وأما خامساً : فلأنه عليه الصلاة والسلام قال :" اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله تعالى على قوم اتخذا قبور أنبيائهم مساجد ".
…فذكره عليه الصلاة والسلام اشتداد غضب الله تعالى على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد عقيب :" اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " تنبيه منه على سبب اللعن لهم وهو : توسلهم بذلك إلى تصير قبورهم أوثاناً تعبد .(1/7)
…وأما سادساً : فلأن فتنة الشرك بالصلاة فيها ومشابهة عبادة الأوائل بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عن تلك المفسدة سداً لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة التي كثيراً ما تدعو صاحبها إلى الشرك بدعاء الموتى وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم افضل من الصلاة في المساجد وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ؟!.
…وبالجملة إن من له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعة وفهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه عليه الصلاة والسلام واللعن والنهي بالصيغة التي هي : ( لا تفلعوا ) وصيغة ( إني أنهاكم ) ليس لأجل النجاسة الحاصلة بالنبش ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما نهى عنه واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن هذا وأمثاله من النبي عليه الصلاة والسلام صيانة لحمى التوحيد من أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له أن يعدل به سواه ، فأبى أكثر الناس إلا عصياناً لأمره ، وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين .
…ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل عباد يغوث ويعوق ونسرا وسائر عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة ، فإن هؤلاء جمعوا بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم فهدى الله تعالى أهل التوحيد حيث سلكوا طريقتهم وأنزلوهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلبوا عنهم خصائص الربوبية ، وهذا غاية تعظيمهم وإكرامهم ونهاية طاعتهم ومتابعتهم .(1/8)
…ولا تحسبن أيها المنعم عليه باتباع الصراط المستقيم ، أن النهي عن اتخاذا القبور أوثاناً والصلاة إليها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج لديها أن هذا غض من أصحابها وتنقيص لهم ـ كلا ليس هذا من تنقيصهم كما يحسبه أهل البدع والضلال بل هذا من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون واجتناب عما يكرهون وأنت وأيم الله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وأنت على هداهم .
…وأما هؤلاء المبتدعون الضالون فقد نقصوهم في صورة التعظيم فهم أبعد الناس من هداهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح ، واليهود مع موسى ، والروافض مع علي فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن
…ولذا نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من كان يتبع السنن ويحييها مشتغلين بغيره عما أمر به ودعا إليه .
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما يكون باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أوثاناً فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا اعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وإياهم عن ذلك الأجر فأي تعظيم واحترام لهم في هذا .
…ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتسويتها كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن أبي الهياج الأسدي أنه قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عونه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .(1/9)
…ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها عيداً ، كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ".
…وفي [ مسند أبي يعلى الموصلي ] عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام فيدخل فيها فيدعوا فنهاه ، قال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته [من] أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم ".
…وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن أحمد ، أخبرني سيهل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني هو ببيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء ، فقلت : لا أريده ، فقال : مالي رأيتك عند القبر فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لا تتخذو بيتي عيداً ، ولا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " فما أنت ومن بالأندلس إلا سواء منه عليه الصلاة والسلام .(1/10)
…فإن قبره عليه الصلاة والسلام لما كان سيد القبور وأفضل قبر على وجه الأرض ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذه عيداً ، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام قرن ذلك النهي بقوله : " ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً " وهو أمر بتحري النافلة في البيوت حتى لا تكون بمنزلة القبور ، ونهى عن تحري العبادة عند القبور ثم عقبه بقوله " وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " وأشار بذلك إلى أن ما ناله منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبره وبعدكم عنه ، فلا حاجة بكم إلى الاتخاذ عيداً كما اتخذا المشركون من أهل الكتاب قبور أنبيائهم وصالحيهم عيداً فإن اتخاذ القبور عيداً هو من أعيادهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام وقد كان لهم أعياد زمانية وأعياد مكانية فلما جاء الإسلام أبدلها الله تعالى وعوض عن أعيادهم الزمانية عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى ، كما عوض عن أعيادهم المكانية الكعبة البيت الحرام وعرفات ومنى والمشاعر .
…قال ابن القيم [ في إغاثة اللهفان ] : قد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبهاً من النصارى بالشرك وشبهاً من اليهود بالتحريف ( فقال : هذا أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام والعكوف عنده واعتياد قصده وإتيانه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين ، فكأنه قال : لا تجعلوا قبري بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت أ هـ ) .(1/11)
وهذا محادة ومناقضة لما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام وقلب للحقائق ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده وكثرة انتيابه بقوله " لا تجعلوا قبري عيداً " فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصاً فليس للتنقيص حقيقة فينا ولا شك أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثماً وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه عليه الصلاة والسلام وسنته وهكذا غيرت ديانات الرسل .
…ولولا أنه تعالى أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله قال عليه الصلاة والسلام :" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " فإنه عليه السلام بين في هذا الحديث أن الغالين يحرفون ما جاء به ، وأن المبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله .
…وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث ، فلو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال هؤلاء الضالون لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، ولم يلعن من فعل ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وإتيانها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول.؟!
وكيف يقول صلى الله عليه وسلم " وصلوا علي حيثما كنتم " بعد قوله "لا تجعلوا قبري عيداً وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف !؟.(1/12)
…وقد سمعت فيما سبق أن أفضل التابعين من أهل بيته صلى الله عليه وسلم علي بن الحسين نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره عليه الصلاة والسلام واستدل بالحديث الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الطاغين ، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أله بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً .
…قال ابن القيم نقلاً عن شيخه : فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، وكانوا له أضبط .
…ثم في اتخاذ القبور عيداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى ، وغيرة على التوحيد وتقبيح للشرك وتهجين للكفر والبدع ، ولكن ( ما لجرح ميت بإيلام ) .
…فمن مفاسد اتخاذها عيداً أن غلاة متخذيها عيداً إذا رأوها من موضع بعيد ينزلون من الدواب ويضعون الجباه على الأرض ويقبلون ويكشفون الرؤوس وينادون من مكان بعيد ويستغيثون بمن لا يبديء ولا يعيد ويرفعون الأصوات بالضجيج ويرون أنهم قد ازدادوا في الربح على الحجيج حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبور سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً وقد ملؤوا اكفهم خيبة وخسراناً فلغير الله تعالى ، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات .(1/13)
…ثم إنهم ينتشرون حول القبور طائفين ، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركاً وهدى للعالمين ، ثم يأخذون في التقبيل والاستلام كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام ثم يخرون على الجباه والخدود والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود يكملون مناسك حج القبر بالتقصير والحلاق ويستمتعون من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق ثم يقربون لذلك الوثن القرابين ، وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، ثم نراهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول : أجز الله لنا ولكم أجراً وافراً .
…ثم إذا رجعوا يسألهم بعض غلاة المتخلفين أن يبيع لهم أحدهم ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام فيقول : لا ولو بحجك كل عام . هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد ما هو ذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما يؤول إليه ما نهى عنه والخير والهدى في اتباعه وطاعته ، والشر والضلال في معصيته ومخالفته .(1/14)
…ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبدا فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور وهم يخالفونه ويصلون عندها ، ونهى عن اتخاذ المساجد عليها وهم يخالفونه ويبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد . ونهى عن إيقاد السرج عليها وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع بل يوقفون لذلك أوقافاً وأمر بتسويتها وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت ونهى عن تجصيصها والبناء عليها وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب ونهى عن الكتابة عليها وهم يخالفونه ويتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره . ونهى عن الزيادة عليها غير ترابها وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب الآجر والأحجار والجص ونهى عن اتخاذها للعيد وأكثر .
…والحاصل أنهم مناقضون لما أمر به الرسول عليه السلام ونهى عنه ومحادون لما جاء به .
…وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجاً ، ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتباً وسماه " مناسك حج المشاهد " مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر ما بين ما شرعه النبي عليه السلام من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه من التباين ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره :
…فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها .(1/15)
ومنها تفضيلها على احب البقاع إلى الله تعالى فإنهم يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه وذلك يقتضي عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث فيه رسوله بضد ذلك ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين إذ عمروا المشاهد وخربوا المساجد .
…ومنها اعتقاد أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل الغيث من السماء إلى غير ذلك من الرجاء .
…ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها فإن الشرك لما كان أظلم الظلم واقبح القبائح وأنكر المنكر ، كان أبغض إلى الله تعالى وأكرهها له ولذلك رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب آخر سواه واخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم قربان حرمه وحرم ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء ولملائكته ورسله وللمؤمنين وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونسائهم وأن يتخذوهم عبيداً وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا الظن لوحدوه حق توحيده ولم يرجوا شيئاً من غيره .
…ولهذا اخبر سبحانه وتعالى عنهم في ثلاثة مواضع من كتابه أنهم ما قدروا الله حق قدره أي : ما عرفوه حق معرفته ، وكيف يعرفه محق معرفته من يجعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويسويه برب العالمين .
…ومعلوم أنهم ما ساووا أوثانهم به تعالى في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ولا قالوا : إنها خلقت السموات والأرض وأنها تحيي وتميت وإنما ساووها به تعالى في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها ، كما ترى على ذلك أهل الشرك ممن ينسب إلى الإسلام .
…ومنها الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها .(1/16)
…ومنها المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها واتخاذ السدنة لها حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد .
…ومنها النذر لها ولسدنتها .
…ومنها المخالفة لله ولرسوله والمناقضة لما شرعه في دينه .
…ومنها إماتة السنن وإحياء البدع .
…ومنها السفر مع التعب الأليم والإثم العظيم فإن جمهور العلماء قالوا : السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول رب العالمين ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة .
…ومعلوم أن أحد لا يسافر إليها إلا لذلك وقد ثبت في [ الصحيحين ] أنه عليه السلام قال :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا "
…ومنها إيذاء أصحابها فإنهم يتأذون بما يفعل عند قبورهم مما ذكر ويكرهونه غاية الكراهية كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى في حقه وكذلك غيره من الأنبياء والعلماء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى في حقهم وهم يتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال تعالى { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } وقال الله تعالى { يعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } .(1/17)
…ومنها أن الذي شرعه النبي عليه السلام عند زيادة القبور إنما هو تذكر الآخرة والاتعاظ والاعتبار بحال المزور والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه حتى يكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيادة الشرك بالميت ودعاءه وسؤاله الحوائج واستنزال البركات منه ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت فإنه عليه السلام لسد ذريعة الشرك نهى أصحابه في أوائل الإسلام عن زيارة القبور لكونهم حديثي عهد بالكفر لم لما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها وبين فائدتها وعلمهم كيفيتها تارة بقوله وتارة بفعله وذلك في الأحاديث الكثيرة لكن نذكر عدة منها في الإذن وبعضها في التعليم وفي ضمنها بيان الفائدة .
…أما التي في الإذن :
فمنها حديثا أبي سعيد : أنه عليه السلام قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا " رواه الإمام أحمد والنسائي ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " زوروا القبور فإنها تذكر الموت " رواه مسلم
…وأما التي في التعليم :
فمنها حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام على أهل الديار " وفي لفظ مسلم " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إنشاء الله للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية "
…ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إنشاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد " رواهما مسلم .(1/18)
…ومنها : حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهة فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر " . رواه الأمام أحمد والترمذي وحسنه .
…فإنه صلى الله عليه وسلم بين في هذه الأحاديث أن فائدة زيارة القبور إحسان الزائر إلى نفسه وإلى الميت أما أحسانه إلى نفسه فيذكر الموت والآخرة والزهد في الدنيا والأتعاظ والاعتبار بحال الميت وأما إحسانه إلى الميت فبالسلام عليه والدعاء له بالرحمة والمغفرة وسؤال العافية .
…فينبغي لمن يزور قبر ميت أي ميت كان سواء كان من أولياء الله تعالى أو من غيرهم من المؤمنين : أن يسلم عليه ويسأل له العافية ويستغفر له ويترحم عليه كما تقدم في الأحاديث ثم يعتبر في حال من زاره وما صار إليه حاله وماذا سئل عنه وبماذا أجاب وهل كان قبره روضة من رياض الجنة أو حفرة من النيران ثم يجعل نفسه كأنه مات ودخل في القبر وذهب عنه ماله وأهله وولده معارفه وبقي وحيداً فريداً وهو الآن يسأل فماذا يجيب وما يكون حاله ويكون مشغولاً بهذا الاعتبار مادام هناك ويتعلق بمولاه في الخلاص من هذه الأمور الخطيرة العظيمة ويلجأ إليه .
…وأما قراءة القرآن :
فجوزها بعض العلماء ومنعها البعض الآخر وقالوا : الزائر لا بد أن يكون مشغولاً بالاعتبار وقراءة القرآن يحتاج إلى التدبر وإحضار الفكر فيما يتلوه ، وفكرتان لا تجتمعان في قلب واحد في زمان واحد .
…فإن قال قائل : أنا أعتبر في وقت واقرأ في وقت آخر والقرآن إذا قريء تنزل الرحمة فلعل أن يلحق بالميت من تلك الرحمة شيء ينفعه .
…فالجواب من وجوه :
…الأول : أن قراءة القرآن وإن كانت عبادة لكن كون الزائر مشغولاً بما تقدم من الفكرة والاعتبار في حال الموت وسؤال ملكين وغير ذلك عبادة أيضاً والوقت ليس محلاً إلا لهذه العبادة فقط فلا يخرج من عبادة إلى أخرى سيما لأجل الغير .(1/19)
…والثاني : أنه لو قرأ في بيته أهدى ثوابها إليه بأن قال بعد فراغه من قراءته : اللهم اجعل ثواب ما قرأته لفلان الميت لوصل إليه ، لأن هذا دعاء له بوصول الثواب إليه والدعاء يصل بلا خلاف فلا يحتاج أن يقرأ على قبره .
…والثالث : أن قراءته على قبره قد تكون سبباً لعذابه أو لزيادة عذابه ، إذ كلما قرئت آية لم يعمل بها يقال له : أما سمعتها فكيف خالفتها ؟! فيعذب لأخل مخالفته لها ؛ كما نقل عن بعض من ابتلي بما ذكر أنه رؤي في عذاب عظيم فقيل له : أما تنفعك القراءة عندك ليلاً ونهاراً ، فقال : إنها سبب لزيادة عذابي ، وذكر ما تقدم سواء .
…فإذا كان كذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة ويقف عند ما شرع له ولا يتعداه ليكون محسناً إلى نفسه وإلى الميت فإن زيارة القبور نوعان : زيارة شرعية وزيارة بدعية .
…أما الزيارة الشرعية : التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود منها شيئان :
…أحدهما : راجع إلى الزائر هو الاعتبار والاتعاظ .
…ثانيهما : راجع إلى الميت وهو أن يسلم عليه الزائر ويدعو له ولا يطول عهده به فيهجره ويتناساه كما أنه إذا ترك زيارة أحد من الأحياء يتناساه وإذا زاره فرح بزيارته وسر ذلك ، فالميت أولى به ؛ لأنه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم فإذا زاره أحد وأهدى إليه هدية من سلام ودعاء ازداد بذلك سروره وفرحه .
…وأما الزيارة البدعية :(1/20)
…فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها وأخذ ترابها ودعاء أصحابها والاستعانة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين ، بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام .
…فإنهم قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناه من فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرأة الصافية والماء الصافي ونحوهما على الجسم المقابل له .
…ثم قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده وإقباله إليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه اعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سيناء والفارابي وغيرهما وصرح به عباد الكواكب وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور ولهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وإقامة السدنة لها ودعاء أصحابها والنذر لهم وغير ذلك من المنكرات .(1/21)
…والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه وناقضوه في قصده وقالوا : إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى وتوجه إليه بمهمته وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان وهو شديد التعلق به فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به .
…وبهذا السبب عبدوا القبور وأصحابها واتخذوهم شفعاء على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة والقرآن من أوله إلى آخره من الرد عليهم وإبطال رأيهم قال الله تعالى حكاية عن صاحب يس : { إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } وقال الله تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء } وقال الله تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال الله تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } .
…فإن الله تعالى علق الشفاعة في كتابه بأمرين :
…أحدهما : رضاه عن المشفوع له .
…ثانيهما : إذنه للشافع .
فعلم من هذا أن الشفاعة لا يمكن حصولها ما لم يوجد مجموع هذين الأمرين وقال الله تعالى { ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله ما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }(1/22)
…فبين سبحانه وتعالى : أن المتخذين شفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذ الشفعاء وإنما تحصل بإذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع له فمن اتخذ شفيعاً من دون الله فهو مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومن اتخذ الرب تعالى وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه الذي يتقرب إليه ويطلب رضاه ويجتنب سخطه ـ فهو الذي يأذن الرب تعالى للشافع أن يشفع فيه .
…ولهذا كان أولى الناس بشفاعه سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا توحيدهم وخلصوه ، من تعلقات الشرك وشوائبه وأما أهل الشرك الذين اتخذوا من دون الله شفعاء فإنه تعالى لا يرضى عنهم ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيهم وسر ذلك : أن الأمر كله لله وحده ليس لأحد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده الرسل والملائكة المقربون وهم مملكون مربوبون ، أفعالهم وأقوالهم مقيدة بأمره وإذنه لا يسبقونه بالقول ولا يفعلون شيئاً إلا بإذنه وأمره فإذا أشركهم أحد به تعالى واتخذهم شفعاء من دونه ظناً منه أنه إذا فعل ذلك يتقدمون بين يديه ويشفعون له ـ فهو من أجهل الناس بحقه تعالى ـ وما يجب له وما يمتنع عليه حيث قاسوا الرب تعالى على الملوك والكبراء الذين يتخذون بعضاً من خواصهم وأوليائهم من يشفع لهم عندهم في الحوائج والمهمات .(1/23)
…وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذت من دون الله شفعاء وهذا أصل شرك الخلق ومع هذا فو تنقيص لجانب الربوبية وهضم لحقها لأن من اتخذ شفيعاً عند الله تعالى إما أن يظن أنه تعالى لا يعلم مراد عباده حتى يعلمه الواسطة أو لا يسمع دعائهم لبعده عنهم فيحتاج أن يرفعه الواسطة إليه أو لا يفعل ما يريده العباد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع لحاجته إليه وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعزره به من الذلة أو لا يقضي حاجاتهم حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الدنيا أو يظن أن للمخلوق حقاً فهو يتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك ممن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته إذ هو في الحقيقة شريكهم وإن كان عبدهم ومملوكهم فإن الشفعاء عند المخلوقين من الملوك والسلاطين شركاؤهم لأن انتظام أمرهم وقيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا لها لأنهم إن ردوها ولم يقبلوا يخافون أن ينقضوا طاعتهم ويذهبوا إلى غيرهم فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا ، فإن الشفيع في المخلوق مستغن عن المشفوع إليه في أكثر أموره وإن كان محتاجاً إليه في بعض ما يناله من رزق وغيره ، كما أن المشفوع إليه فيما يناله من النفع بالنصرة والمعاونة وغير ذلك . فكل منهما محتاج إلى الآخر .(1/24)
…وأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه مفتقر إليه بذاته ، فإن جميع من في السماوات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة فلا يملك منهم أحد أن يشفع بنفسه عنده إلا بإذنه فالشفاعة كلها له كما قال الله تعالى { قل لله الشفاعة جميعاً } وهو الذي يشفع بنفسه على نفسه يرحم عبده فيأذن لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره إياه بعد شفاعته إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده كما قال الله تعالى { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وفي آية أخرى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } .
…فأخبر سبحانه وتعالى أن ليس للعباد شفيع من دونه فإنه إذا أراد رحمة عبده يأذن هو لمن يشفع فيه أن يشفع فيه كما قال الله تعالى { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيعاً من دونه بل هو شفيع بإذنه بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فإنها ليست بالإذن بل هو سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به إلى قبولها ولول على كره منه إما بقوة وسلطان وإما برغبة في إحسان فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من شافع إما رغبة ينتفع بها وإما رهبة يندفع عنها بخلاف الشفاعة عند الرب تعالى فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ولم يأذن له فيها لا يمكن وجودها والشافع لا يشفع عند الرب تعالى لحاجة الرب إليه ولا لرهبته منه ولا لرغبته فيما لديه وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمر وطاعة له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئته تعالى فهو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل .(1/25)
…ومن وفق لهم هذا المعنى يتحقق عنده التوحيد ويتخلص فإن الشرك ملزوم للتنقيص والتنقيص لازم له ضرورة شاء المشرك أو أبى ولكون الشرك منقصاً للربوبية اقتضى حكمه تعالى وكمال ربوبيته أن لا يغفره ويخلد صاحبه في النار ولا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله تعالى وإن زعم أنه يعظمه كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول عليه السلام وإن زعم أنه معظم بالبدعة .
…بل يزعم بأنها خير من السنة وأولى بالصواب فهو مشاق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متبصراً في بدعته . وإن كان جاهلاً مقلداً يزعم أنها هي السنة .
…قال ابن القيم في [ إغاثة اللهفان ] : ما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ) ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان ( الصحابة والتابعون حين كان الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل فيها أحد لا لصلاة ولا لدعاء ولا لشيء آخر مما هو من جنس العبادة ، بل كانوا يفعلون جميع ذلك في المسجد وكان) أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا .(1/26)
…قال سلمة بن وردان : رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو ، وهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء وإنما نزاعهم في وقت السلام عليه قال أبو حنيفة رحمه الله : يستقبل القبلة عند السلام أيضاً ولا يستقبل القبر وقال غيره : يستقبل القبر عند السلام خاصة ولم يقل أحد من الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبر عند الدعاء ، إلا حكاية مكذوبة عن مالك ؛ ومذهبه بخلافها ، وكذلك الحكاية المنقولة عن الشافعي رحمه الله كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة رحمه الله ـ فإنها من الكذب الظاهر بل قالوا : إنه يستقبل القبلة وقت الدعاء ولا يستقبل القبر حتى يكون الدعاء عند القبر ، فإن الدعاء عبادة كما ثبت في الترمذي مرفوعاً " الدعاء هو العبادة " فالسلف من الصحابة والتابعين جردوا العبادة لله تعالى ، ولم يفعلوا عند القبر منها شيئاً إلا ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم .
…والحاصل : أن الميت قد انقطع عمله وهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع لأجله ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوباً واستحباباً ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي قال عوف بن مالك : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه هو يقول : " اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار " حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت . رواه مسلم .(1/27)
…وقال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول في صلاته على الجنازة : " اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها " الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله وفي [ سنن أبي داود ] رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : " إذا صليتم على الميت فاخلصوا له الدعاء " وعن عائشة وأنس أنه عليه السلام قال " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه " رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم .
…فعلم من هذا أن المقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له والاستغفار لأجله والشفاعة فيه فإنا لم كنا إذا وقفنا على جنازته ندعوا له ولا ندعوا به ونشفع له ولا نستشفع به فبعد الدفن أولى وأحرى لأنه في قبره بعد الدفن أشد احتياجاً إلى الدعاء منه على نعشه فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره ن وقد روى أبو داود عثمان بن عفان رضي الله عنه : أنه عليه السلام كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : " استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " . وروي عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال : إذا سئل الميت من ربك ؟ يتراءى له الشيطان في صور فيشير إلى نفسه : إني أنا ربك قال الترمذي : فهذه فتنة عظيمة ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالثبات فيقول : " اللهم ثبت عند المسالة منطقه وافتح أبواب السماء لروحه " وكان يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقال : اللهم أعذه من الشيطان الرجيم .(1/28)
…فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة وهذه سنة الخلفاء الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين فبدل أهل البدع والضلال قولاً غير الذي قيل لهم فإنهم بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه أو بالدعاء به وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت وإلى الزائر سؤال الميت والاقسام به على الله تعالى وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة ، وجعلوا حضور القلب وخشوعه عندها أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار ومن المحال أن يكون دعاء الموتى والدعاء بهم والدعاء عند قبورهم مشروعاً وعملاً صالحاً ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يظفر به الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون .
…فإن كنت في شك من هذا فانظر هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها ؟! فضلا أن يصلوا عندها ويسألوا الله تعالى بأصحابها ويسألوهم حوائجهم فليقفونا على أثر واحد منها في ذلك .
…كلا ، لا يمكنهم ذلك بل يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم ثم كلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين ـ حرف واحد من ذلك بل فيها من خلاف ذلك كثير كما سبق من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله عليه الصلاة والسلام " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً " أي فحشاً وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولاً وفعلاً .(1/29)
…وأما آثار الصحابة فاكثر من أن يحاط بها ومن ذلك ما في [ صحيح البخاري ] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند القبر فقال : القبر القبر .
…قال ابن القيم : وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه لعله لم يره أو لم يعلمه قبراً وذهل عنه فلما نبهه عمر رضي الله عنه تنبه .
…وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه : من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال : حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحلمناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأته فقرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد فقل من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له : دانيال عليه السلام فقلت : منذ كم وجدتموه مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة فقلت : ما كان تغير منه شيء ؟ قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع فقلت : ما كان يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت : فما صنعتم به ؟ قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشوه .
…فانظر القصة وما فعله المهاجرون والأنصار كيف سعوا في تعمية قبره فئلا يفتن الناس به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به هؤلاء الخلوف لحاربوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله تعالى فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يدانيه ولا يقاربه وبنوا عليها الهياكل وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد .(1/30)
…فلو كان الدعاء والصلاة عند القبور فضيلة أو سنة أو مباحاً لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً لذلك ن ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكنهم كانوا أعلم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه من هؤلاء الخلوف الذين ضلوا عن الطريق المستقيم وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر أحد ولا دعاه ولا دعا به ولا استنصر به فلو كان وقع شيء منها لنقل إذا من المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله .
…فحينئذ يتبين : أن الدعاء عند القبور والدعاء بأربابها لا يخلوا إما أن يكون أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا . فإن كان أفضل كيف خفي علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم وتظفر به الخلوف علماً وعملاً ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما إذا ظهر لهم حاجة فاضطروا إلى الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة ما وهم كيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء ويعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لم يقصدوه هذا محال طبعاً وشرعاً فتعين القسم الآخر الذي هو أنه لا فضل للدعاء عند القبور ولا هو مشروع ولا مأذون فيه بل هو مما شرعه عباد القبور ولم يشرعه الله ولم ينزل به سلطاناً .(1/31)
…وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير كما روى غير واحد عن المعرور بن سويد أنه قال : صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } و { لإيلاف قريش } ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل : يا أمير المؤمنين مسجد فيه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها .
…وكذلك لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، أرسل فقطعها رواه ابن وضاح في كتابه فقال : سمعت ابن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب يقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي عليه الصلاة والسلام فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون إلى الشجرة فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة .
…روى أبو بكر الخلال بإسناده عن حذيفة بن اليمان : أنه قال لرجل جعل في عضده خيطاً من الحمى : لو مت وهذا عليك لم أصل عليك بل قد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم وأمتعتهم بخصوصها كما روى البخاري في [ صحيحه ] عن أبي واقد الليثي أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " الله أكبر هذا كما قالت بنو اسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " ثم قال : " إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم " .(1/32)
…فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها شيئاً فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء عنده ودعاء صاحبه والدعاء به .
…فمن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل البدع والضلال اليوم في هذا الباب علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق و المغرب .
…وقد ذكر البخاري في [ صحيحه ] عن أم الدرداء أنها قالت : دخل أبو الدرداء مغضباً فقلت : مالك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً .
…وقال الزهري : دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال : ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت . ذكره البخاري .
…وقال المبارك بن فضالة : صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له ما يبكيك يا أبا سعيد ؟ فقال تلومونني على البكاء ولو أن رجلاً من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئاً مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه وهذه إشارة إلى الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة وإذا غيرت قيل : غيرت السنة أو هذا منكر .
…قال ابن القيم : وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة ولا التفات إليه . وقد جرى العمل على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس كما سمعت آنفاً .(1/33)
…وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع العبادات المبتدعة التي يكرهها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لإعراضهم عن المشروع فإنهم وإن أقاموه بصورته الظاهرة لكنهم هجروا حقيقته المقصودة منه وقد ثبت أن الشرائع أغذية القلوب فلما غذيت بالبدع لم يبق فيها فضل . وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه مراعياً لما شرع فيها من السنن والواجبات عارفاً بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح واهتم بها كل الاهتمام وجد في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية ما يغنيه عن الشرك والبدع .
…ومن قصر فيها يوجد فيه من الشرك والبدع بحسب ذلك ومن أصغى إلى كلام الله تعالى بقلبه وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكليته وهيأ نفسه لاقتباس العلم والهدى منهما لا من غيرهما وجد في كل منهما من أنواع العلوم النافعة ما يميز به بين الحق والباطل والحسن والقبيح ويغنيه عن البدع والخيالات التي هي وساوس النفوس والشياطين .
…ومن بعد عن ذلك : فلا بد أن يتعوض عنه بما ينفعه كما أن من غمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه وجد في ذلك من الحالات السنية ما يغنيه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه وإذا خلا عن ذلك صار عبد هواه وأي شيء استحسنه يملكه ذلك الشيء ويعبده .
……فالمعرض عن التوحيد مشرك وكافر شاء أم أبى ، والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى . فإن قيل فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا ؟
…قيل أوقعهم في ذلك أمور :
……منها الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها ولم يكن لهم من العلم ما يبطل دعوته استجابوا له بسحب ما عندهم من الجهل وعصموا بقدر ما معهم من العلم .(1/34)
……ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تناقض دينه وما جاء به كحديث ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) وحديث ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه ) وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها عباد القبور وراجت عليه أشباههم من الجهال والضلال والله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لقتل من حسن ظنه بالأحجار والأشجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق كما تقدم .
……ومنها حكايات حكيت لهم عن أهل تلك القبور : أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت حاجته وفلان نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره .
…وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها فإذا سمع أحد أن قبر فلان ترياق يميل إليه والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعو عنده بحرقة وانكسار وذلة فجيب الله تعالى دعوته لما قام بقلبه من الذلة والانكسار لا لأجل القبر فإنه لو دعا كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة والله تعالى يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً فليس كل من أجاب الله تعالى يجيب دعاءه يكون راضياً عنه ولا محباً له ولا راضياً بفعله فإنه تعالى يجيب دعاء البر والفاجر والمؤمن والكافر .
…وكثير من الناس يدعو دعاءاً يعتدي فيه أو يشرك أو يكون فيه ما لا يجوز أن يسأل ـ فيحصل له ذلك كله أو بعضه فيظن أن عمله صالح مرضي عند الله تعالى ويكون كمن أملى له وأمده بالمال والبنين وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات وقد قال الله تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } .(1/35)
…فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو ينقص به درجته فإنه تعالى يقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه وارتكاب حدوده .
…والمقصود أن الشيطان يلطف كيده للإنسان بتحسين الدعاء له عند القبر وجعله أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار .
…فإذا قرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء بصاحب القبر والإقسام على الله تعالى به وهذا أعظم من الذي قبله فإن شأنه تعالى أعظم من أن يقسم عليه بأحد من خلقه أو يسأل بأحد من خلقه .
…وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في [ شرح كتاب الكرخي ] قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به قال : وأكره أ ن يقول أسألك بمعقد العز من عرشك وأكره أن يقول : بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام .
…قال أبو الحسن : أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله تعالى على خلقه .
…قال ابن بلدجي في [ شرح المختار ] : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك أو نحو ذلك ، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه ، أو يقول في دعائه : أسألك بمعقد العز من عرشك وعن أبي يوسف جوازه لما روي أنه عليه السلام دعا بذلك ، ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله تعالى بها العرش مع عظمته فكأنه سئل بأوصافه .
…وما قال فيه أبو حنيفة وأصحابه وأصحابه : أكره كذا ، فهو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب .(1/36)
…فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله تعالى به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله والنذر له ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف عليه ويوقد عليه القنديل والشمع ويعلق عليه الستور ويبني على المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم في دنياه وآخرتهم .
…قال ابن القيم نقلاً عن شيخه وهذه الأمور المبتدعة عند القبور على مراتب أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها ، كما يفعله كثير من الناس وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب في بعض الأزمان كما يتمثل لعباد الأصنام فإنه يدعو من يعظمه فيتمثل له الشيطان ويخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو الشيطان فإنه وإن أعان الإنسان ببعض مقاصده لكنه يضره أضعاف ما ينفعه وكذلك يوجد بعباد القبور عند القبور أحوال يظنون أنها كرامات وهي من الشيطان مثل أن يوضع عند قبر من يظن كرامته مصروع فيرون أن الشيطان قد فارقه فإنه يفعل ليضل .
…ومن عظيم كيده ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان وقد أمر الله المؤمنين باجتنابه وعلق فلاحهم بذلك الاجتناب فقال : { يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } فالأنصاب : جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون وهو : كل ما نصب وعبد من دون الله من شجر أو حجر أو وثن أو قبر .
…قال مجاهد وقتادة وابن جريج : كان حول البيت أحجار وكان أهل الجاهلية يعظمون تلك الأحجار ويعبدونها ويذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ، وهي ليست بأصنام ، وإنما الصنم ما يصور وينقش .(1/37)
…وأصل اللفظة : الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه ، فمن الأصنام ما نصبه الشيطان للناس من شجرة أو عمود أو قبر وغير ذلك ، والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره ، كما أن عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم أرسل فقطعها فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالشجرة التي بايع تحتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها الله تعالى في القرآن حيث قال { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بسببها .
…وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه ، كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم حتى تسوى بالأرض .
…وكذلك القباب التي بنيت على القبور يجب هدمها لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وكل بناء أسس على معصيته ومخالفته فهو أولى بالهدم من مسجد الضرار لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ، ولعن المتخذين عليها مساجد وأمر بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض .
…فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله ، وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج وشمع أوقدت على القبور ، فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقيم لدينه ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ينصرهما ويذب عنهما .
…قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : انظروا رحمكم الله تعالى أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها .(1/38)
…وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق بعض الحيطان والعمد . وشرح مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي بين شجر وحجر وحائط وعين يقولون : إن هذا الشجر وهذا الحجر وهذه العين يقبل النذر أي : العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه .
…ولقد أنكر السلف التسمح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي في كتاب " مكة " عن قتادة في قوله تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قال : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا أن يمسحوه بل اتفق العلماء على أنه لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود وأما الركن اليماني فالصحيح أنه يستلم ولا يقبل .
…وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما قال السلف من الصحابة والتابعين فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخذه عيداً وجعله وثناً فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته ويكفرونه وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونهى عما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
…( وأما الأزلام ) فقال سعيد بن جبير : ( كانت لأهل الجاهلية حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها ) أي طلب بها ما قسم له .(1/39)
…وقال أيضاً ( هي القدحان اللذان اكان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم مكتوب على أحدهما ( أمرني ربي ) وعلى الآخر ( نهاني ربي ) فإذا أرادوا أمراً ضربوا بها ، فإن خرج عليه أمرني ربي فعلوا ما هموا به وإن خرج الذي عليه نهاني ربي تركوه ) .
…وقال الأزهري في تفسير قوله تعالى ( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين .
…وقال أبو إسحاق الزجاج وغيره : ( الاستقسام بالأزلام حرام ) ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم : لا تخرج من أجل طلوع نجم كذا ، أو اخرج لأجل طلوع نجم كذا لن الله تعالى يقول : { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } وذلك دخول في علمه تعالى الذي هو غيب عنا فهو حرام .
…ويدخل فيه ( الفأل ) الذي يفعل في زماننا ويسمونه ( فال القرآن ) و (فأل دانيال ) عليه السلام أو نحوها ، فإنهما من قبيل الاستقسام بالأزلام فلا يجوز استعمالها ولا اعتقادها لأن فيها الخبر عن الغيب والتطير بالقرآن العظيم وإنما الفأل التيمن والتبرك بالكلمة المرافقة للمراد كالراشد والنجيح لما ورى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : " لا دعوى ولا طيرة ويعجبني الفأل " وما الفأل قال :"كلمة طيبة " .
…وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع : يا راشد يا نجيح .(1/40)
…والحاصل : أن عباد الله الصالحين إذا عرض لهم أمر من أمور الدين والدنيا يستخيرون الله تعالى فيه بالاستخارة التي رواها البخاري في [ صحيحه ] عن جابر رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول :" إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا اعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به "
…وأما أهل الفسق والجهلة الذين ضلوا عن طريق الهدى فإن أحدهم إذا عزم على أمر ذهب إلى المنجم والكاهن وصاحب الرمل والحصى فيلعبون بعقله ويزداد بسؤالهم جهلاً وخساراً ويصدقهم بما قالوا له ويعطيهم على ذلك أجرة ولا يعلم ذلك المسكين أن ذلك يهدم دينه ودنياه .
…لما روي أنه عليه السلام قال : " من أتى كاهناً ، فسأله عن أمر ثم صدقه بما أخبر به لم تقبل صلاته أربعين صباحاً " وفي رواية : " من صدق كاهناً فقد كفر ما أنزل على محمد " عليه السلام .
…والكاهن : هو المنجم سواء كان برمل أو حصى أو شعير أو غير ذلك .
…والمقصود أن كثيراً من الناس ابتلوا بالأنصاب والأزلام فالأنصاب للشرك والعبادة والأزلام للتكهين وطلب علم استأثر الله تعالى به واستبد ، فهذه للعلم وتلك للعمل ودين الله تعالى مضاد لهذا وهذا وإنما الرسول عليه بعث لإبطالهما .
…والله المستعان وعليه التكلان .
………………ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
تم تجهيز الكتاب للنشر على الشبكة يوم السبت 28/12/1423هـ .
عبر شبكة أنا المسلم .(1/41)