|
المؤلف : الدكتور عبد الكريم عكيوي
جامعة ابن زهر- اغادير المغرب
((تنبيه : النورسي عنده أخطاء في العقيدة فلينتبه لذلك))
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
وأيا كان الأصل في المفهوم اللغوي (للإنسان)؛ فإنه يجمع هذه المعاني كلها، من حيث هو مخلوق اجتماعي، يعيش في مجتمع من جنسه، ويقوم بعضه ببعض، ويألف ويؤلف، وينسى ويتذكر. ومن هنا جاءت الرسالات السماوية للإنسان، تترى؛ قصد تذكيره دائما بحقيقته الوجودية، ووظيفته الكونية.
ب - في الاصطلاح:
وأما في اصطلاح بديع الزمان؛ فـ(الإنسان) هو:
- الإنسان: هو ثمرة شجرة الخلق، والفهرست الكوني الجامع، العاكس الأكمل للأسماء الحسنى، الساعي لتحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته، المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض؛ عبادةً كليةً لله الواحد الأحد.
وبيان ذلك مفصلا هو كما يلي:
ب 1- الإنسان ثمرة لشجرة الخلق:
إن الإنسان - كمفهوم وجودي - عند الأستاذ النورسي، قائم من حيث ماهيته على رؤية نورسية قرآنية. فهي نورسية؛ لأنها من محض تأمله التفكري، ونظره التدبري، وهي قرآنية؛ لأن بديع الزمان لم يكن ينظر في تأملاته للكون إلاّ من خلال القرآن الكريم. فهي إذن رؤية تندرج ضمن ما يمكن تسميته (بالتفسير المفهومي للقرآن الكريم). إن كون (الإنسان ثمرة لشجرة الخلق) راجع إلى أن هذا المخلوق الآدمي هو الغاية الخلقية لهذا الكون، من حيث بناؤه القرآني؛ إذ خلق الله عز وجل الأرض والسماوات على صورة مهيأة لاستضافة هذا الساكن الفريد، حمّال الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال (فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)(الأحزاب:72). فحملُ هذه الأمانة إذن؛ هو حدث كوني مرتبط - في سياقه القرآني - بالأرض والجبال والسماوات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الكون كله بخلائقه جميعاً مهيأ لخدمة الإنسان، ولم يهيأ الإنسان بفطرته لخدمة أحد، وإنما هيء للبحث عن المعرفة القدسية، سعياً للترقي في مدارج الكمال، بالتعرف على رب الكون، والاستغراق في عبادته سبحانه وتعالى.
(21/74)
قال بديع الزمان: (إن الإنسان ثمرة شجرة الخلقة، فهو كالثمرة أبعد شيء عن البذرة، وأجمع لخصائص الكل)(1)، وقال أيضا: (إن الإنسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخلقة، ومن المعلوم أن الثمرة هي أبعد أجزاء الشجرة، وأجمعها وألطفها؛ لذا فإن الإنسان هو ثمرة العالم، وأجمع وأبدع مصنوعات القدرة الربانية، وأكثرها عجزا وضعفا ولطفا)(2).
وليس معنى هذا أنه يقصد - بمفهوم المخالفة - أن الخلق الإلهي فيه نقص في بعض أنواعه، أو في بعض مظاهره كلا، وحاش لله! وإنما المقصود أن الإرادة الربانية قضت أن يكون الإنسان غاية خلقية في الكون. بمعنى أنه أعظم مظهر من مظاهر التجلي الرباني لأسمائه الحسنى؛ وذلك على سبيل الاستناد والخضوع لله الواحد القهار! ومن هنا جاز أن يكون بعض مخلوقاته أكمل من بعض، من حيث كمال الخضوع والعبادة، لا من حيث الصنعة والإتقان، فكل خلق الله كامل الصنعة متقن، طبعا حسب درجة وجوده، وحسب ما قصد من خلقه. وإنما المراد كمال الإظهار للعبودية. تماما كما أن القرآن الكريم تعظم بعض سوره، أو بعض آيه على بعض؛ لاختصاص ذلك البعض بكمالات خاصة من القصد الإلهي، والتضمن لاسم الله الأعظم مثلا. فالإنسان أيضا مظهر بخلقته وفطرته لاسم الله الأعظم، ودال على وحدانية الخالق عز وجل. وهو كما قال النورسي في الشعاعات، في سياق حديثه عن الإنسان؛ شارحا لهذا المعنى: (بل هو الآية الحاملة لتجليات الاسم الأعظم في ذلك القرآن الكوني، كآية الكرسي في القرآن الكريم! وهو أكرم ضيف في قصر الكون، وهو أنشط موظف مأذون له بالتصرف في سَكَنَة ذلك القصر)(3).
__________
(1) الكلمات:1/418.
(2) الكلمات:1/204.
(3) الشعاعات:4/272.
(21/75)
ثم إن الضعف الذي وصف به الإنسان من حيث هو (ثمرة)؛ إنما هو بالمعنى الإيجابي، لا السلبي. فالضعف البشري هو باب العبودية لله القوي العظيم. ولذلك كان الإنسان أحوج ما يكون لربه في كل لحظة وحين. وإن يغفل عن الاستناد إليه يكن إذن من الغاوين! ولهذا كانت الحياة البشرية عبادة لله من بدايتها حتى نهايتها! (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) ومن هنا نال ما نال من تقدير وتكريم، فكان ثمرة الخلق بمعنى أن هذا الكون كله إنما هيء له؛ حتى يعيش فيه ويموت، ثم يموت الكون كله بموته، ثم يعاد خلقه بإعادة خلقه! أي أن إعادة خلق الكون إنما هي من أجل إعادة خلق الإنسان مرة أخرى! وقد سبق قوله عز وجل: (فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب:72) وقال سبحانه: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104) وذلك لنصب الموازين والحساب لليوم الآخر، اليوم الأبدي الذي أبد ليخلد من خلد في الجنة، ويخلد من خلد في النار والعياذ بالله!
وقد يتأمل المرء كل هذا فيصاب بالدهشة: كيف يكون كل هذا الأمر الكوني العظيم الذي تتبدل به الأرض غير الأرض والسماوات؛ من أجل هذا المخلوق البشري الضعيف؟ ذلك ما أجاب عنه النورسي رحمه الله بقوله: (لا يخطرن على بال أحد، ويقول: ما أهمية هذا الإنسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة، وتفتح دنيا أخرى لمحاسبته على أعماله؟ لأن هذا الإنسان، هو سيد الموجودات، رغم أنه صغير جدا؛ لما يملك من فطرة جامعة شاملة. فهو قائد الموجودات، والداعي إلى سلطان ألوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة، ومظهرها. لذا فإن له أهمية عظمى)(1).
__________
(1) الكلمات1/63-64.
(21/76)
إن تفكر بديع الزمان في الكون، وتدبره للقرآن، أوصلاه إلى نتيجة عظيمة، هي ظاهرة من نصوص القرآن، لكنها كثيرا ما تخفى علينا؛ هي: أن الإنسان مخدوم في هذا الكون غير خادم! ألا ترى أن كل شيء مما في الأرض أو في السماء إلاّ وله علاقة خادمة لوجود هذا الإنسان بصورة مباشرة، أو غير مباشرة؟ بدءاً من الملائكة إلى أدق الخلق من الحشرات والجراثيم. فالملائكة هي المكلفة من لدن رب العالمين - بعد السجود لآدم عليه السلام - بنفخ الروح في الجنين، وبحفظه قبل ولادته وبعد ولادته، وبكتابة عمله، وبقبض روحه...إلخ. ثم كل شيء من الحيوانات بعد والحشرات والجراثيم مسخرات في إنتاج طعامه وشرابه وتهييء رزقه، والحفاظ على توازن بيئته، ومحيطه الفضائي...إلخ. ولا يضره شيء من ذلك - بعد إذن الله - إلا بسبب سوء الاستعمال! ثم انظر إليه هو، أي إلى هذا الإنسان! إنه لا يخدم أحدا! وإن فعل فلأجل مصلحته الخاصة، كما يقوم الراعي برعي غنمه من أجل لحومها، وجلودها، وأصوافها؛ لرزقه! ومن هنا فإن وظيفة الإنسان في الأرض إنما كانت هي التفرغ لعبادة الله الواحد القهار.
(21/77)
قال رحمه الله: (إن للإنسان قيمة عالية؛ بدليل أن السماوات والأرض مسخرة لاستفادته، وكذا أن له أهمية عظيمة؛ بدليل أن الله لم يخلق الإنسان للخلق، بل خلق الخلق له! وأن له عند خالقه لموقعا؛ بدليل أن الله تعالى لم يوجد العالم لذاته، بل أوجده للبشر، وأوجد البشر لعبادته؛ فأنتج أن الإنسان مستثنى وممتاز، لا كالحيوانات.)(1) بل إن النورسي وجد - بتدبره وتفكره - أن الإنسان (علة) ربانية حكيمة لتفسير وجود الكون كله! ألم يقل عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:21-22)، وقد سبق قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود:7) وهذا نص في أن الخلق الكوني؛ إنما هو (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، أي من أجل الوجود البشري، وحكمته الابتلائية والاستخلافية!
ذلك ما ترجمه النورسي في تفسيره التدبري، إذ قال: (نعم، يصح أن يقال: إن (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الإنسان في هذا الكون، فخلق الكون لأجله، وذلك لأن الإنسان يمكنه أن يدرك جميع الأسماء الإلهية الحسنى ويتذوقها؛ بما أودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة.
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/222.
(21/78)
فهو يدرك - مثلا - كثيرا من معاني تلك الأسماء؛ بما يتذوق من لذائذ الأرزاق المنهمرة عليه. بينما لا يبلغ الملائكة إلى إدراك تلك الأسماء بتلك الأذواق الرزقية)(1). وأبين منه قوله: (لأجل وسعة روح الإنسان، وتبسط عقله، وانبساط استعداده (...) جعل القرآن الكريم جهة استفادة البشر، التي هي غاية فذة من ألوف ألوف غايات السماء والأرض؛ في منزلة العلة الغائية، كأنها هي العلة بالنظر إلى الإنسان. أي أن الإنسان يستفيد من الأرض عرصة لبيته، والسماء سقفا له، والنجوم قناديل، والنباتات ذخائر، فحق لكل فرد أن يقول: شمسي، وسمائي، وأرضي. فتأمل وعقلك معك!)(2).
ب2 - الإنسان هو الفهرست الكوني الجامع:
ومن اللازم لما سبق، من كون الإنسان (ثمرة لشجرة الخلق) أن يكون أيضا (فهرستا) لهذا الكون الفسيح. إذ الثمرة هي مجمع كل الخصائص الوراثية الجينية للشجرة بأكملها. تحتوي في نواتها على كل العناصر المكونة لمادة الشجرة، بدءا بالوريقات الأولى حتى الجذوع والأغصان ثم الأزهار والثمار! كل ذلك مضمن بصورة مركزة جدا في نواة الثمرة، التي إن غرستها كانت منها بعد ذلك شجرة أخرى. فبهذا المثال الاستعاري يقدم لنا بديع الزمان صورة الإنسان كمخلوق مركزي في هذا الكون الفسيح. ذلك (أن الماهية الإنسانية مظهر جامع لجميع تجليات الأسماء المتجلية في جميع الكائنات) كما قال(3).
__________
(1) اللمعات:3/593.
(2) إشارات الإعجاز:5/162.
(3) اللمعات:3/509.
(21/79)
إننا هنا عند هذا المعنى لا نظل ننظر إلى الإنسان كضيف عابر في هذا الكون وحسب، يولد إلى الدنيا ليعيش أياما ثم يموت ويفنى إلى الأبد. إن منطق الثمرة يرفض هذا؛ لأن الثمرة ببساطة تتضمن نواة هي سر الاستمرار والخلود. إن الإنسان بهذا المعنى جامع لمادة الكون، أو بتعبير النورسي (فهرس) أو (فهرست) له! وإذا كان كذلك كان الإنسان هو مركز الكون، ومرجع المخلوقات كلها في الدلالة على الله رب الكون. أليس الإنسان هو النواة؟ إذن لابد أن يكون جامعا. فذلك معنى كونه فهرستا أي جامعا لكل الخصائص الموجودة في هذا الكون، من الملائكية إلى الشيطانية، ومن النباتية إلى الترابية.. إلخ. وهو ما ركزه بديع الزمان في قولته الحكيمة التي تكررت في رسائله في أكثر من مناسبة، إذ تواتر استعماله لمصطلح (الفهرست) أو (الفهرس)؛ للدلالة على جامعية الإنسان، وشموليته الخلقية. قال رحمه الله: (كما أن الإنسان عالَم صغير، كذلك العالم إنسان كبير. فهذا الإنسان يمثل خلاصة الإنسان الكبير، وفهرسه. فالنماذج المصغرة في الإنسان لا بد أن أصولها الكبيرة المعظمة موجودة في الإنسان الأكبر بالضرورة)(1).
__________
(1) اللمعات:3/127.
(21/80)
وقال أيضا: (إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة لكتاب العالم)(1)، ثم قال أيضا: (إن الإنسان مع صغر جرمه وضعفه، وكونه حيوانا من الحيوانات؛ ينطوي على روح غال، ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لا حصر لها، ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز أفكارا غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة. مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم)(2). ونحو هذا المعنى عنده كثير، حتى إنه ليشكل بذاته كلية كبرى، من كليات رسائل النور! ولو أردت أن تعرف مثالا لذلك فانظر إلى ذاتك: هذا الوعي العميق لديك بالحياة، وهذه الرغبات الشديدة، من حب للخير، وحب للخلود، وحب للتنعم، وحب للسيطرة، وحب للامتلاك، وحب لكل الشهوات، وأيضا هذا النزوع الكامن في فطرتك إلى الكمال، وإلى الترقي في مدارج المعرفة القدسية سيرا إلى الله رب العالمين، والرغبة في منافسة الكائنات في الحصول على الأقربية العظمى والخلود في الجنة... إلخ. كل هذا ونحوه يدل على أن الإنسان يحتوي على طاقات هائلة تتجاوز جسمه الضعيف قطعا. إنه إذن تفجير للطاقات الفهرستية الكامنة فيه. هذه الطاقات الموصولة بالكون كله على سبيل الخلقة، والموصولة بالله رب العالمين، من جهة أخرى على سبيل الاستناد، والانتساب الإيماني العظيم(3)؛ ومن هنا استحق أن يوصف بأنه فهرست للكون أو - بتعبير آخر لبديع الزمان - (خريطة) له، تقود في النهاية إلى رب العالمين. قال رحمه الله بنوع من التفصيل التمثيلي: (لما كان الإنسان خلاصة جامعة لهذا الكون؛ فإن قلبه بمثابة خريطة معنوية لآلاف العوالم! إذ كما أن دماغ الإنسان - الشبيه بمجمع مركزي للبث والاستقبال السلكي واللاسلكي - وهو بمثابة مركز معنوي لهذا الكون، يستقبل ما في الكون من علوم وفنون، ويكشف عنها، ويبثها أيضا؛ فإن قلب
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/26.
(2) إشارات الإعجاز:5/149.
(3) انظر مصطلح "الانتساب الإيماني".
(21/81)
الإنسان كذلك هو محور لما في الكون من حقائق لا تحد، ومظهر لها، بل هو نواتها)(1).
وهذا هو السر في قدرة الإنسان على التدرج في مدارج المعرفة القدسية، التي هي أشرف المعارف؛ سيرا إلى الله عز وجل، من حيث هو رب العالمين، أي أن ذلك يقتضي من الإنسان أن يستوعب بوجدانه كل الكائنات، باعتبارها مأمورة مثله بالسير؛ فينخرط معها في رحلة جماعية كونية، يكون فيها هو الدلال على الله، بما قد تجلى في خلقته وفطرته من خصائص التعبد الجامع، خضوعا شاملا لله الواحد الأحد. فكان أقدر هذه الكائنات جمعاء على التقاط الإشارات الكونية، والمخاطبات التعبدية، بما له من غوص في التفكر والتدبر، وبما له من خصوص في تعلم (الأسماء كلها)، هكذا على سبيل العموم والشمول! كما سبق بيانه من تفسير النورسي لقوله عز وجل: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة:30). فكان أن تعلم ثم عَلّم! وهذا مهم جدا، إذ العملية التعليمية عنده مركبة من تأثر وتأثير، فقد تعلم ثم علّم: (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:32).
ب3 - الإنسان هو العاكس الأكمل للأسماء الحسنى:
__________
(1) المكتوبات:2/571.
(21/82)
ثم إنه من اللازم عن كونه (فهرستا) أن يكون مظهرا لكل أسماء الله الحسنى. ذلك أنه إذا كان الكون كله مجالا لعكس أنوار الأسماء الحسنى، من حيث أنه مخلوق ومرتبط في كينونته واستمراره بهذه الأسماء، التي هي صفات الربوبية. وإنما معنى الربوبية المالكية المطلقة للكون والحياة والمصير؛ فإن الإنسان - وهو فهرستة الكون - أكثر إظهارا، وأكمل إبرازا لهذه الأسماء، من حيث مخلوقيته. فشدة ضعف الإنسان وشدة حاجته، كلاهما دال على شدة ارتباطه بربه كرها أو كرها وطوعا معا. بمعنى أن الإنسان - ولو كان كافرا - لا يمكنه الاستغناء عن مدد الله، وإستناده القدري له، فهو الذي خلقه ويطعمه، ويسقيه، وإذا مرض فهو الذي يشفيه. أما مسألة اعتراف الإنسان بذلك فمسألة أخرى. وإنما المهم هنا أن الإنسان لا يقوم بنفسه، بل هو أضعف الخلق عن أن يقوم بنفسه! فهو في هذا الكون كالطفل الذي لا يقوم في كل أمره إلا بأمه! وليس ذلك لأنه أقل المخلوقات شأنا، كلا! وإنما هو لتنوع حاجاته، وكثرة مطالبه ورغائبه، التي لا تنتهي، كلما حصل على شيء طمع في غيره. أما غيره من المخلوقات فحاجاته المعيشية، والحياتية قليلة بالمقارنة معه، وكذلك رغائبه وآماله المعنوية، كما في حبه الفطري للعلم والمعرفة، وما ركب في خلقته من حب الاطلاع، بدءا بعلوم الأشياء حتى المعرفة القدسية العليا. كل ذلك رغبات غيره فيها محدودة. أما هو فلا حد لرغباته وأشواقه.
إن (المرآتية) الإنسانية بكمالها، إذ تعكس أنوار الأسماء الحسنى؛ تظهر جمالها الرباني، من خلال السير التعبدي لله الواحد الأحد. وذلك عبر مراتب ثلاث، استقرأها بديع الزمان، فبين أوجهها بقوله: (إن الإنسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يشعره الحق سبحانه وتعالى جميع أسمائه الحسنى المتجلية، بما أودع في نفس الإنسان من مزايا جامعة (...) إن الإنسان مرآة عاكسة لتجليات الأسماء الإلهية الحسنى، وهو مرآة لها من ثلاثة أوجه:
(21/83)
الوجه الأول: كما أن الظلام سبب لرؤية النور (...) فالإنسان أيضا يُعَرّف بضعفه وعجزه، وبفقره وحاجاته، وبنقصه وقصوره؛ قدرةَ القدير ذي الجلال، وقوته العظيمة، وغناه المطلق، ورحمته الواسعة؛ فيكون الإنسان بهذا كأنه مرآة عاكسة لكثير من تجليات الصفات الإلهية الجليلة (...)
أما الوجه الثاني: فهو أن الإنسان مرآة لتجليات الأسماء الحسنى؛ إذ أن ما وهب من نماذج جزئية من (العلم، والقدرة، والبصر، والسمع، والتملك، والحاكمية) وأمثالها من الصفات الجزئية؛ يصبح مرآة عاكسة يعرف منها الصفات المطلقة لله سبحانه وتعالى(...)
الوجه الثالث: لكون الإنسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، فهو أيضا مرآة عاكسة لها من حيث نقوشها الظاهرة عليه)(1). أي الظاهرة على سيمائه الملمحية، الدالة على بديع صنع الله، وجمال خلقه، سبحانه وتعالى.
__________
(1) الكلمات:1/828-829.
(21/84)
وبهذه المعاني جميعا كان الإنسان (العاكسَ الأكمل للأسماء الحسنى)، بمعنى الأكثر تذوقا لها، واستفادة من أنوارها. في حال الضعف والقوة، وفي حال الفقر والغنى، وفي حال اليسر والعسر...إلخ. إن الحاجة الإنسانية الجبلّية، والمطلقة، ثم الذوقية العالية التي جُبل عليها، حسا ومعنى؛ كل ذلك مكّنه - بصورة متميزة - على الإدراك الوجداني للجمال في النعم والأرزاق؛ فجاءت عباداته تحمل كل هذه الأشواق، وكل هذه المواجيد الحرى. وما كان له أن يجد ذلك؛ لولا أنه ذاق - من خلال حر الجوع والفقر - جمال الرزق والغنى، وما كان له أيضا أن يذوق ما ذاق؛ لولا تعلقه الفطري بأنوار الأسماء الحسنى! وما أبدع بديع الزمان إذ يقول: (إن أشد الأحياء حاجة إلى الرزق وإلى أنواعه هو الإنسان. فالحق سبحانه وتعالى قد خلق هذا الإنسان مرآة جامعة لجميع أسمائه الحسنى، وأبدعه معجزة دالة على قدرته المطلقة، فهو يملك أجهزة يتمكن بها من تثمين، وتقدير، جميع مدخرات خزائن رحمته الواسعة، ومعرفتها. وخلقه على صورة خليفة الأرض، الذي يملك من الأجهزة الحساسة؛ ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الأسماء الحسنى؛ فلأجل كل هذا فقد أودع سبحانه في هذا الإنسان فاقة لا حد لها، وجعله محتاجا إلى أنواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي)(1).
__________
(1) المكتوبات:2/473.
(21/85)
هنا يجتمع النقيض مع نقيضه - بلا تناف - في خلق الله العجيب؛ ليشكل بذلك آية من آيات القدرة الإلهية، والعظمة الربانية، وشعاعا باهرا من أشعة الخالقية، فكلما كان الإنسان أضعف؛ كان أشد صفاء في عكس النور الاسمي، وأبهى جمالا في أداء مواجيد الشوق والمحبة؛ حتى إنه في مرضه، وجوعه، وفاقته؛ هو - كما في رغبته وحبه لكل شيء - أكثر عكسا، وأشد إبرازا لبراهين الأسماء الربانية في الكون. ومن هنا كانت قوة الإنسان في ضعفه، وكان كماله في نقصه. لأن الإحساس بالنقص والضعف؛ هو الذي يعمق في النفس الشعور بالذلة، والرغبة في الخضوع والاستسلام. وعندما يكون ذلك في طريق السير إلى الله الرزاق ذي القوة المتين؛ يكون كمالا في التعبد، وجمالا في السير. ومن هنا كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)(1)؛ وذلك لأن الدعاء هو التعبير الأصدق عن الحاجة، والفقر، والنقص، وكل معاني الضعف البشري، التي هي أساس الخضوع لله الواحد القهار. وذلك مقصود بديع الزمان من (عكس الإنسان للأسماء الحسنى)، قال: (إن الله سبحانه يجعل ما ألبسه الإنسانَ من لباس الوجود دليلا على صنعته المبدعة، حيث خلقه على صورة نموذج "موديل" يفصل عليه لباس الوجود، يبدله ويقصه ويغيره، مبينا بهذا التصرف تجليات مختلفة لأسمائه الحسنى. فمثلما يستدعي اسم "الشافي" المرض، فإن اسم "الرزاق" أيضا يقتضي الجوع)(2).
__________
(1) رواه أحمد والأربعة وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:3407.
(2) اللمعات:3/12.
(21/86)
وبهذا المنطق يصير الضعف الإنساني صفة إيجابية، ونعمة إلهية على الإنسان لا تقدر بثمن! وفي هذا الإطار تُفْهَم، وتُتَذَوق كل مدارج الإيمان، ومنازل الإحسان، في سير العبد إلى ربه، تائبا، ومتوكلا، وفقيرا، وعاجزا، وشاكرا، ومشتاقا، ومحبا. يقول النورسي في إيضاح هذا المعنى بصورة مفصلة: (إن الله سبحانه قد أدرج في الإنسان عجزا لا حد له، وفقرا لا نهاية له؛ إظهارا لقدرته المطلقة، وإبرازا لرحمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بحيث يتألم بما لا يحصى من الجهات، كما أنه يتلذذ بما لا يعد من الجهات؛ إظهارا للنقوش الكثيرة لأسمائه الحسنى! فأبدعه سبحانه على صورة ماكنة عجيبة تحتوي مئات الآلات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها، ومهمتها وثوابها وجزاؤها. فكأن الأسماء الإلهية المتجلية في العالم، الذي هو إنسان كبير تتجلى أكثرها أيضا في هذا الإنسان، الذي هو عالم أصغر. وكما أن فيه من أمور نافعة كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها، تدفعه إلى الشكر، وتسوق تلك الماكنة إلى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الإنسان ماكنة شكر!
(21/87)
كذلك الأمر في المصائب والأمراض والآلام، وسائر المؤثرات المهيجة والمحركة، تسوق الدواليب الأخرى لتلك الماكنة؛ إلى العمل والحركة، وتثيرها من مكمنها، فتفجر كنوز العجز والضعف والفقر المندرجة في الماهية الإنسانية، فلا تمنح المصائبُ الإنسانَ الالتجاء إلى البارئ بلسان واحد؛ بل تجعله يلتجئ إليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الإنسان بتلك المؤثرات والعلل والعقبات والعوارض؛ يغدو قَلَمًا يتضمن آلاف الأقلام، فيكتب مقدرات حياته في صحيفة حياته، أو في اللوح المثالي، وينسج لوحة رائعة للأسماء الإلهية الحسنى! ويصبح بمثابة قصيدة عصماء، ولوحة إعلان؛ فيؤدي وظيفة فطرته)(1). وبهذا يمكننا القول: إن غائية الخلقة الإنسانية تتجلى أيضا في كون الإنسان - بهذا المعنى الكوني - أكمل مخلوق عاكس للأسماء الحسنى.
ب4- الإنسان ساع لتحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته:
ينطلق الأستاذ النورسي في رؤيته الكونية للإنسان؛ من مقولة مهمة، راجعة إلى أصل قرآني، مفادها أن الماهية الإنسانية ماهية (خالدة). أي أن الإنسان إنما خُلق ليبقى، لا ليفنى، ويندثر في غيابات العدم. فالنفخ الرباني فيه بالروح هو الذي أعطاه الميزة الكونية العليا التي ميزت ماهيته بالخلود. وجبلت طبيعته على العبادة، إذ العبادة إنما هي حب البقاء المغروز في الإنسان، المنبعث من كوامنه؛ شوقا إلى الباقي، سبحانه وتعالى. قال بديع الزمان: (إن روح الإنسان التي تنشد الأبدية والخلود، وهي التي خلقت للبقاء والأبد، وتعشق الإحسان، وتتألم من الفراق، تنهض بهذا الإنسان(...) ليناجي متضرعا أمام باب الحضرة الصمدانية، للقديم الباقي، وللقيوم السرمدي، وليلتجئ إلى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى)(2).
__________
(1) اللمعات:3/19-20.
(2) الكلمات:1/42.
(21/88)
إن الطبيعة (البقائية) للإنسان بالمعنى الأخروي لتعتبر من الحقائق الكبرى التي استوقفت بديع الزمان في تفكره وتدبره، فنالت منه حظا وافرا من التأمل. فقرر في أكثر من موضع أن (الأجهزة التي زرعت في الإنسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وإنما أنعم عليه بها لحياة باقية دائمة، لها شأن وأي شأن!)(1) ومن ألطف ما استعمله من استدلالات عقلية - إلى جانب استدلاله النقلي - على خلود الإنسان؛ ما فطر عليه ابن آدم من حب شديد للبقاء، وبغض شديد للفناء، في شتى صوره! وقد ضرب لذلك مثالا، أو بالأحرى نصب افتراضا توضيحيا، هو من الدقة بحيث يجعلك تقر وجدانيا بحقيقة ما ذهب إليه.. قال رحمه الله: (إن استعداد الإنسان مسدد نحو الأبد. فإن شئت فتأمل في جوهر الإنسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر إلى الخيال، الذي هو أصغر خادم لجوهر الإنسانية، واذهب إليه، وقل: أيها الخيال السيد، أبشر! فسيوهب لك عمر يزيد على ملايين السنين، مع سلطنة الدنيا وما فيها؛ ولكن عاقبتك الفناء والعدم، وعدم العودة إلى الحياة! ثم انظر كيف يقابلك الخيال؟ أبالبشارة والسرور، أم بالحسرة والندامة؟ بل إن جوهر الإنسانية سيئن في أعماق الوجدان:
آه! واحسرتاه..! على فقدان السعادة الأبدية!)(2).
__________
(1) الكلمات:1/365.
(2) صيقل الإسلام:8/137.
(21/89)
وقال في موضع آخر: (لو قيل لقدرة التخيل في الإنسان، وهي إحدى وسائل العقل، وأحد مصوريه: ستمنح لك سلطنة الدنيا وزينتها، مع عمر يزيد على مليون سنة، ولكن مصيرك إلى الفناء والعدم حتما؛ نراها تتأوه وتتحسر! - إن لم يتدخل الوهم وهوى النفس - أي أن أعظم فانٍ - وهو الدنيا وما فيها - لا يمكنه أن يشبع أصغر آلة في الإنسان، وهي الخيال! يظهر من هذا جيدا أن هذا الإنسان الذي له هذا الاستعداد الفطري، والذي له آمال تمتد إلى الأبد، وأفكار تحيط بالكون، ورغبات تنتشر في ثنايا أنواع السعادة الأبدية، هذا الإنسان إنما خُلق للأبد، وسيرحل إليه حتما. فليست هذه الدنيا إلا مستضافا مؤقتا، وصالة انتظار الآخرة!)(1).
__________
(1) الكلمات:1/95.
(21/90)
إنه ضرب من التحليل النفسي الدقيق، والاستبطان الوجداني العميق؛ للشخصية الإنسانية، وعرض التجربة الوجدانية لابن آدم مشرّحة، معروضة كما هي؛ بناء على القاسم المشترك في الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية، المجبولة على حب البقاء، والاستزادة من طول العمر. وذلك ما قررته الأحاديث النبوية، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ)(1)، وإنما كان بديع الزمان يعرض هذا المعنى بالذات، لكن في صورة تحسيسية، تمثيلية، مستثمرا نصوص الكتاب، وجوامع الكلم النبوي الشريف، في تفسير الوجود الإنساني. إن كلام بديع الزمان ضرب من (تحقيق مناط) الوحي - بتعبير الأصوليين - على النفس الإنسانية؛ إذ حب العيش الممتد أبدا أمر جبلّي في الإنسان، لا يخفف من غلوائه إلا الإيمان باليوم الآخر! وعلى هذا يفهم قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (البقرة:96). فهذا الشعور في الحقيقة ليس خاصا باليهود والنصارى والذين أشركوا فحسب وإنما هو لديهم غال مفرط؛ بسبب غياب الإيمان باليوم الآخر أو ضعفه الشديد لديهم، وإلا فهو طبيعة بشرية حاضرة حتى في الإنسان المؤمن ولكن باعتدال. وشاهده من الحديث النبوي كثير، وذلك نحو قوله تعالى في الحديث القدسي: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، ولا بد له من الموت!)(2) وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخبراً أن نبي الله موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت لطمه ففقأ إحدى عينيه(3) ونحو
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه البخاري.
(3) انظر تمام القصة في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما. وانظر كذلك ( المكتوبات) ص451.
(21/91)
هذا لو تتبعناه كثير؛ ومن هنا لا يمكن إلا أن تقر - مع بديع الزمان - أن الإنسان فعلا(خُلِقَ للأبد والخلود؛ بدليل آماله الممتدة إلى الأبد (...) وهذا هو السر في ظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق، في أعماق كل إنسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق؛ لتنقذه من الموت الأبدي)(1).
وللبقاء عند النورسي مفهوم خاص. ذلك أن البقاء الحق إنما يجده الذي سعد بلقاء الله، ووصل إلى باب الرضى. فيجد من لذة البقاء في الدنيا قبل الآخرة ما يملأ قلبه طمأنينة وحبا في ربه، مما ينشط سيره إليه تعالى فلا يجد من الحياة وحشة، ولا من الموت فزعا. أما من ضل طريقه إلى ربه؛ فهو الذي يسقط في غيابات العدم، بمعنى أنه يشعر بالموت وكأنه نهاية قاضية، واندثار تام عن الوجود، فيملأ ذلك قلبه بؤسا، تماما كما قال الله عز وجل: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)(الممتحنة:13). ولبديع الزمان إشارات ولطائف، في استنباط هذا المعنى من القرآن. قال رحمه الله: (فالإنسان الذي تاه في كثرة المخلوقات، وغرق في الكائنات، وأخذ حب الدنيا بلبّه، حتى غره تبسم الفانيات، وسقط في أحضانها، لا شك أن هذا الإنسان يخسر خسرانا مبينا، إذ يقع في الضلال والفناء والعدم، أي يعدم نفسه معنى.
ولكن الإنسان إذا ما رفع رأسه، واستمع بقلب شهيد لدروس الإيمان، من لسان القرآن، وتوجه إلى الوحدانية فإنه يستطيع أن يصعد بمعراج العبادة إلى عرش الكمالات والفضائل فيغدو إنسانا باقيا!)(2).
__________
(1) صيقل الإسلام:8/494.
(2) الكلمات:1/418.
(21/92)
إن رغبة التعبد لدى الإنسان إذن؛ هي رغبة فطرية؛ بسبب ما جُبل عليه من حب البقاء. إلا أن هذه الرغبة قد تنحرف عن تجليات العبادة إلى تجليات (الأنانية). فما دام أنها رغبة فطرية؛ فلا بد أنها ظاهرة بصورة ما، ومعبرة عن نفسها تلقائيا بشكل ما. إما إيجابا: بالبحث عن الباقي سبحانه، والسير في طريق المعرفة القدسية؛ وإما سلبا: بالاستكبار في الأرض، والتأليه للنفس؛ ظنا بأن ذلك يحقق لها رغبة الخلود والبقاء. وما ذلك طبعا إلا الانحدار إلى غيابات الفناء والعدم المعنويين في الدنيا قبل الآخرة.
إن تحرير النفس من (الأنا) هو السبيل الوحيد للحصول على حقيقة الماهية الإنسانية - بمعناها الكوني - الساعية إلى البقاء بالباقي سبحانه، بعد فنائها عن أناها الواهمة. وإنما تحريرها: أن تنظر إليها - كما هي - بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى الاسمي على حد تعبير بديع الزمان، أي على أنها تابعة في وجودها تبعية الحروف في الجملة النحوية إلى الاسم، لا أصيلة الوجود، كما الأسماء. وإنما الاسم الحق هو الله رب العالمين. وأما (أنا) فليست في هذا السياق التفكري إلا (حرفا) بالمعنى الكوني لدى النورسي. أي بمعنى أنها تابعة في وجودها للباقي سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله في كلام مفصل بديع: (اعلم أن مفتاح العالم في يد الإنسان، وفي نفسه. فالكائنات - مع أنها مفتحة الأبواب - منغلقة، فالحق سبحانه أودع من جهة الأمانة في الإنسان مفتاحا يفتح به كل أبواب العالم، وطلسما يفتح به كنز خلاق الكون. والمفتاح: ما فيك من (أنا). إلا أن (أنا) أيضا معمى مغلق، ومطلسم منغلق، فإذا فتحت (أنا) بمعرفة ماهيته الموهومة انفتح لك الكائنات!(...)
(21/93)
فالإنسان إذا عرف (أنا) ما هو؛ بأن رآه شعرة شعورية في حبل وجود الإنسان، وخيطا رقيقا في ثوب ماهية البشر، وألفا في كتاب الشخص؛ له وجهان: وجه إلى الخير، فبه قابل للفيض فقط، لا فاعل. ووجه إلى الشر والعدم وبه فاعل. وماهيته موهومة، وربوبيته مخيلة، ووجوده أضعف من أن يتحمل شيئا بالذات، بل إنما هو كميزان الحرارة، وأمثاله من الموازين، التي يعرف بها مقادير الأشياء. فـ(أنا) أيضا ميزان يعرف به الصفات المحيطة المطلقة للواجب الوجود، وأذعن: دخل تحت (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)(الشمس:9) وأدى الأمانة بحقها.
فإذا تأملت في "أنا" بالمعنى الحرفي، صار لك عينا، تفهمتَ ورأيتَ به كل ما في الكون؛ لأنه إذا جاءت المعلومات الآفاقية صادفت في "أنا" ما يصدقها. فإذا فهمتها انتهت وظيفة "أنا" وربوبيته الموهومة، ومالكيته المفروضة. فليرجع "أنا" من السمكتية إلى الحبابية! وأما إذا نظرت إلى "أنا" بالمعنى الاسمي واعتقدته مالكا، وخنت في الأمانة؛ دخلت تحت: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(الشمس:10) إذ الأمانة التي تدهشت من حملها السماوات والأرض والجبال هي: "أنا" من هذه الجهة، إذ منها يتولد الشرك، والشرور والضلالات، إذ إذا تستر "أنا" عنك غلظ! حتى صار حبلا بلع وجودك، فصار كلك "أنا". ثم استغلظ بأنانية النوع، والاستناد به؛ فيصير شيطانا يبارز أمر صانعه! ثم يقيس الناس، ثم الأسباب على نفسه فيقع في شرك عظيم! ففي هذا الوجه لو أرسلت عينك، وفتحت كل الآفاق؛ انغلق في وجهك، برجوع عينك إلى نفسك؛ إذ ترى كل شيء بلون ما في نفسك من (أنا)! ولونه في ذاته - في هذا الوجه - الشرك والتعطيل. ولو مُلئت الآفاقُ آيات باهرة، وبقي في "أنا" نقطة مظلمة طمت على الآيات!)(1).
__________
(1) المثنوي العربي:6/327 – 328.
(21/94)
وليس عبثا أن كره النبي - صلى الله عليه وسلم - سماع (أنا) من طارق الباب عندما سئل: (من؟) فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا! أنا!") وفي رواية لمسلم: (فخرج وهو يقول: أنا! أنا!) وقد ترجم مسلم لهذا الباب بقوله: (باب كراهة قول المستأذن: "أنا" إذا قيل: من هذا؟). وإنما كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ردا على الطارق: (أنا! أنا!) في رواية الشيخين؛ إنكارا ونهيا عن استعمال هذا التعبير في مثل هذا السياق؛ لما فيه من إحالة على قول إبليس اللعين لرب العالمين، في مقام الاستعلاء على آدم عليه السلام؛ غرورا وتكبرا، لما أمر بالسجود له، فقال: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ!) كما هو محكي في قول الله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:12-13).
وفي الحديث أيضا ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان؛ حتى عد تسعة. فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام. فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم في النار! وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثهما في الجنة)(1).
__________
(1) رواه النسائي، والبيهقي، والضياء عن أبي رضي الله عنه. وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير: 1492).
(21/95)
إن هذه (الأنا) التي ذابت - في نهاية المطاف - في الإسلام: (ابن الإسلام!) إنما وجودها في - شعور صاحبها - هو بالمعنى الحرفي لا الاسمي، كما بين النورسي. أما (الأنا) التي امتدت متسلسلة عبر ذاتها، محققة لكل طاقاتها (الأنانية)؛ فهي موجودة في حس صاحبها بالمعنى الاسمي. إن الشعور بـ(الأنا) في المجال التعبدي مخالف تماما لقصد الشارع الحكيم؛ بناء على ما أصلناه في الكتاب والسنة، من كمال إنساني، راجع إلى الإحساس بالفقر، والضعف، والحاجة إلى الله الواحد القهار. إنه إذن مناقض لمنطق العبودية؛ ومن هنا خطورته على المستوى العقدي.
إن الرغبة الفطرية في الإنسان للحصول على البقاء. كما قد تنقسم سلوكيا بين النظر الحرفي والنظر الاسمي، قد تنقسم كذلك (مذهبيا) إلى هذين المعنيين. ومن هنا مشكلة الفلسفة الغربية منذ القديم إلى الآن، إذ كانت قائمة في مقاصدها - ولا تزال - على تأليه الإنسان! والنظر إلى (أناه) بالمعنى الاسمي! مما أدى بها إلى التيه والعدمية في نهاية المطاف. وتلك نتيجة حتمية لمقدمات التأليه للأنا. قال بديع الزمان: (إن "أنا" له وجهان: وجه أخذته النبوة، ووجه أخذته الفلسفة.
فالوجه الأول: منشأ العبودية المحضة. ماهيته حرفية، ووجوده تبعي، ومالكيته وهمية، وحقيقته فرضية، ووظيفته: صيرورته ميزانا ومقياسا لفهم صفات الخالق. فالأنبياء هكذا نظروا إلى "أنا"، فسلموا الملك كله لله. وحكموا بأنه لا شريك له، لا في ملكه ولا في ربوبيته، ولا في ألوهيته. وبيده مقاليد كل شيء، وهو على كل شيء قدير. ومن هذا الوجه الشفاف الحي أنبت الرحيم جل جلاله شجرة طوبى العبودية، فأثمرت أغصانها المباركة في حديقة الكائنات، دانية قطوفها، متدليةَ ثمرات الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصديقين، المتلألئين كالنجوم في الظلمات!
(21/96)
وأما الفلسفة فنظرت إلى "أنا" بالمعنى الاسمي دون الحرفي، وبالوجود الأصلي دون التبعي، وزعموه مالكا بالحقيقة، وظنوه حقيقة ثابتة، وتوهموا وظيفته: تكمل ذاته بحب ذاته! فمن هنا تشعبت أنواع الشرك، وعلى رأس "أنا" نبتت شجرة زقوم الضلالة (...) فـ"أنا" في العالم الصغير، كالطبيعة في العالم الكبير: كلاهما من الطواغيت! ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)(1).
إن رغبة البقاء لدى الإنسان، إن لم تعتصم بالنبوة؛ فستتحول إلى جحيم من الشرور، بسبب ما تؤدي إليه من رغبة في السيطرة الظالمة، والهيمنة على الآخرين بغير حق، والسطو على حقهم في العيش والوجود. وهو تماما ما آلت إليه الفلسفة الغربية، التي أفرزت في نهاية المطاف فكرا استعماريا، أنانيا، متجبرا، ما يزال يسوم العالم من الويلات؛ ما يؤكد أن الجزاء الأخروي من العذاب المقيم، هو من صميم العدل الإلهي العظيم، الذي رتب للأنا الظالمة ما رتب لها من جزاء، بسبب الانحراف عن المهمة الكونية، التي خلقت من أجلها أصالة، والانحراف عن التوظيف السليم لهذه الطاقة الهائلة، التي منحت للإنسان؛ لكي يحلق بها في أشواق الخلود؛ سلوكا إلى الباقي سبحانه وتعالى.
__________
(1) المثنوي العربي:6/329.
(21/97)
قال الأستاذ النورسي: (إن حب الإنسان لنفسه، وتحري مصلحته وحده، وحبه لذاته وحده، من الأشكال الخبيثة لـ(أنا والأنانية)، وإذا ما اقترن العناد والغرور بذلك الميل؛ تولدت فظائع بشعة بحيث لم يعثر له البشر على اسم بعد. وكما أن هذا دليل على وجوب وجود جهنم، كذلك لا جزاء له إلا النار!)(1) ومن هنا، فقد آمن الأستاذ سعيد النورسي أن الرغبة الكونية للبقاء لدى الإنسان؛ إذا أخذت طريقها السليم في التعبير الوجودي، قد تفيد في الجزئيات وليس في الكليات فقط. بمعنى أن كل أمر خالطته (الأنا) - من الأمور الحياتية - لم يكتب له النجاح والبقاء، بينما إذا خلا منها صار إلى البقاء. هذا في كل شيء. حتى قال في سياق حديثه عن رسائله النورية: (يا سعيد! كن صعيدا! في نكران تام للذات، وترك للأنانية، وتواضع مطلق كالتراب؛ لئلا تعكر صفو رسائل النور، وتقلل من شأنها في النفوس!)(2).
ب5- الإنسان هو المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض:
__________
(1) صيقل الإسلام:8/345.
(2) الملاحق في فقه دعوة النور:7/110.
(21/98)
إن الاستخلاف - كما يراه بديع الزمان - من خلال آي القرآن؛ ذو مغزى تعبدي، أي أنه استخلاف وظيفي، راجع إلى نيابة كلية شاملة عن سائر الكائنات، وجمع تام لسائر وظائفها الجزئية، في السير الشامل إلى الله العلي الكبير. فالكون كله إنما أنشئ ليكون مسجدا كبيرا للعابدين من الخلق أجمعين. ومن هنا قول الله عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56). وقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الدخان:38-39). فالإنسان إذن وجد في كون عابد، ليشهد على عبادته من خلال قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق والتدبر في خلق السماوات والأرض. ليسلك إلى ربه عابدا وهو يجمع كل ذلك في وجدانه: أي بالعبادة الكلية الشاملة لله الواحد القهار. من هنا كان استخلافه كما عبرنا استفادة عن النورسي: (مشاهدة لعبادة الكائنات). فكان - لذلك - عبادة كلية شاملة. ولذا فإنه ينظر إلى الإنسان في عبادته نظرة كونية أيضا. يقول: (إن الصانع الحكيم قد خلق العالم الأكبر خلقا بديعا، ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير، وأنشأ سبحانه هذا الإنسان في أحسن تقويم، واهبا له العقل، بحيث جعله يسجد سجدة إعجاب أمام معجزات صنعته وبديع قدرته، واستقرأه آيات كبريائه، حتى صيره عبدا ساجدا في ذلك المسجد الكبير، بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له. فهل من الممكن أن يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين، في هذا المسجد الكبير، غير الصانع الواحد الأحد؟)(1).
__________
(1) المكتوبات:2/301.
(21/99)
ولم يكن تعليم آدم الأسماء كلها إلا ليقوم بهذه العبادة الكلية، ويحسن (المشاهدة) الكونية؛ لعبادة سائر الكائنات، ولذلك كان استخلافه أساسا كما بينا. قال بديع الزمان: (فالآية الكريمة: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا"(البقرة:31) تبين أن تعليم الأسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة؛ إظهارا لاستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية إلا أنها طرف لدستور كلي هو: أن تعليم الإنسان - المالك لاستعداد جامع - علوما كثيرة لا تحد، وفنونا كثيرة لا تحصى، حتى تستغرق أنواع الكائنات، فضلا عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة، لصفات الخالق الكريم سبحانه، وشؤونه الحكيمة، إن هذا التعليم هو الذي أهّل الإنسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل أيضا على السماوات والأرض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى!)(1).
__________
(1) الكلمات:1/270.
(21/100)
إن معنى (الأمانة الكبرى) الذي يتحدث عنه النورسي، فيه معنى (الإمامة التعبدية) للكون، في جماعة الخضوع لله، والدلالة عليه، فهذا الإنسان إذن (إمام) في ذلك المسجد الكبير، الذي هو الكون؛ يتقدم فيه إماما لسائر الكائنات العابدة. وكل الكائنات عابدة إكراها أو اختيارا. فهي إذن صف واحد تنتظم فيه، لتصلي مؤتمة بالإنسان، إمامها في السير إلى الله رب العالمين. يقول بديع الزمان: (إن الكريم ذا الجلال الذي ملأ هذا الكون بنعمه وآلائه إلى هذا المدى، بديهي - بل ضروري - أن يطلب الشكر من ذوي المشاعر تجاه تلك النعم. وإن الحكيم ذا الجلال الذي زين هذا الكون بمعجزات صنعته إلى هذا الحد؛ سيجعل بالبداهة من هو المختار الممتاز من أرباب الشعور مخاطبا له، وترجمانا لأوامره، ومبلغا لعباده، وإماما لهم. وإن الجميل ذا الكمال الذي جعل هذا الكون مظهرا - بما لا يعد ولا يحصى - لتجليات جماله وكماله، سيهب بالبداهة لمن هو أجمع نموذجٍ لبدائع صنعته، وأكملُ من يظهر ما يحبه، ويريد إظهاره من جمال وكمال وأسماء حسنى.. سيهب له أكمل حالة للعبودية، جاعلا منه أسوة حسنة للآخرين، ويحثهم لاتباعه؛ ليظهر عندهم ما يماثل تلك الحالة اللطيفة الجميلة)(1).
__________
(1) اللمعات:3/85.
(21/101)
ومن هنا كان الإنسان موضع خطاب إلهي، بالرسالات والنبوات، ليتحمل تكاليف (التعبير) عن العبادة، أي من حيث هو (ناطق) بعبادة شمولية، تستقرئ كل الكون، وتستوعب كل أحواله التعبدية على الإجمال، لا على التفصيل. أعني من حيث إن كل شيء عابد لله الواحد دال على واحديته. فالناطقية الإنسانية إنما خلقت في الإنسان ليقوم بهذا الدور العظيم: الاستخلاف التعبدي، والمشاهدة للعبادة الكونية الشاملة، والتعبير عنها في سيره الجامع إلى الله. فأن يكون الإنسان موضع خطاب رب العالمين؛ هو - لعمري - أمر عظيم جدا، وتكريم كبير جدا، لهذا المخلوق الضعيف، لا يملك العبد المحب إزاءه إلا أن يخر ساجدا لله رب العالمين، على ما أنعم وأعطى من تأهيل وتشريف! إن بديع الزمان - وهو الرجل التدبري - قد انتبه وجدانه بقوة إلى هذه الحقيقة العظيمة: (أن يكون الإنسان موضع خطاب رب العالمين!) فما فتئ يعبر عنها في كل مناسبة من رسائل النور، تعبير المنبهر بفضل الله ونعمائه. قال رحمه الله: (كون الإنسان موضع خطابه سبحانه؛ بما أودع فيه من خصائص جامعة، أهلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى)(1).
ولما كان الخطاب الإلهي للإنسان بالتكليف والعبادة، خطابا كليا، كونيا، أي أنه خاطبه باعتباره عبدا جامعيا لله الواحد الأحد، اجتمع في شخصه الآدمي ما تفرق في غيره، مما فصلناه قبل في (ثمريته الكونية)، و(عكسه الأكمل للأسماء الحسنى). والخطاب القرآني إنما خاطب الإنسان بهذه الصفة الكونية الشمولية الكلية. قال بديع الزمان: فالله (اختار هذا الإنسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطبا كليا له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدرا لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقا لها ومتعرفا إليها)(2).
__________
(1) اللمعات:3/595.
(2) الكلمات:1/89.
(21/102)
من هنا أيضا؛ كان الإنسان ناطقا باسم الكل، ومعبرا عن الكل، عابدا لله بكل شيء! فإشرافه الفكري على الكون بشموله، من حيث إن كل الكون مخلوق لله الواحد سبحانه؛ جعله يسير إلى الله عابدا بهذا الإشراف التفكري الشامل، وكأنه ناطق في عبادته باسم هذه الكائنات جميعا. وإنها لصورة بديعة يتحدث عنها النورسي رحمه الله، إذ ينبه إلى سر نعمة الناطقية، المودعة في الجهاز البدني للإنسان؛ ليقوم بوظيفة العبادة الشمولية، و(ينطق) باسم الكل. قال: (تفتحت صبغته ونقش حكمته في الإنسان عن زهرة خطاب، أي أن تلك الصنعة البديعة ذات مغاز دقيقة وجميلة، بحيث أنطقت ما في تلك الماكنة الحية من أجهزة، وإن ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في أحسن تقويم؛ حتى تفتحت عن زهرة البيان والخطاب! تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد، فمنح سبحانه وتعالى رأس الإنسان من قابلية النطق والبيان؛ حتى انكشف ما فيه من أجهزة سامية معنوية، عن مراتب كثيرة وكثيرة جدا، أهلته لموضع خطاب السلطان الأزلي الجليل، مما نال رقيا ورفعة وسموا. أي أن الصبغة الربانية التي في فطرة الإنسان قد فتحت زهرة الخطاب الإلهي)(1).
__________
(1) المكتوبات:2/303.
(21/103)
إن (زهرة الخطاب الإلهي) هذه التي فتحت عبر الناطقية الإنسانية، هي الآلة العجيبة، التي تمكن الإنسان من التعبير عن العبادة الكونية الشاملة، والمشاهدة التفكرية، من خلال التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، ومن خلال الدعاء، وسائر أنواع الثناء على الله الواحد القهار، والسير إليه عبر الكلمات الدالة على صفاته تعالى، وأنوار أسمائه وربوبيته، وامتداد ملكه اللامتناهي، وسلطانه المطلق - تماما كما ورد في الحديث النبوي - (مِلْءَ السماوات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد!)(1) أليست هذه قراءة تفكرية للكون كله؟ ونطقا باسمه كله؟ وعبادة بعدد ذراته كله؟ ذلك بالذات ما وجده النورسي في معنى (الناطقية). هذا اللفظ الذي فرغه المناطقة من محتواه، وجعلوه (فصلا) ميكانيكيا؛ لتمييز الإنسان عن الحيوان فقط! إذ قالوا قولتهم الحدية المشهورة: (الإنسان حيوان ناطق). بينما هو - كما رأيت - عند النورسي، مفهوم كوني عظيم! قال رحمه الله مخاطبا (الإنسان): (إنك اللسان الناطق البليغ باسم هذه الموجودات الحكيمة، وإنك القارئ الداهي، والمطالع النبيه لكتاب العالم هذا. وإنك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبحة، وإنك بحكم الأستاذ الخبير، والمعمار الكريم، لهذه المصنوعات العابدة الساجدة!)(2) إنه إذن مشاهد لعبودية الكون لله الواحد القهار، حاضر في ركبها السائر إليه تعالى، بل هو الحادي لقافلة المحبين بتراتيله المعبرة الشاملة، قولا وسلوكا عاما، وما أنعمه عليه مولاه من ترتيل للقرآن الكريم وسائر الأدعية الكلية العظيمة مما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اجتهده بعد ذلك عند حاجاته ومواجيده الكثيرة، التي لا تكاد تنحصر.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) الكلمات:1/371.
(21/104)
إن مشاهدة الإنسان لعبودية الكائنات لله، أشبه ما تكون بنوع من (الإمامة) في صف العبادة كما عبرنا قبل. ومن هنا فهي في عبادتها كأنها قائمة بالإنسان، تماما كقيام صلاة المأمومين بالإمام معنى. وهذا معنى أساس من معاني الاستخلاف الإنساني في الأرض. يقول بديع الزمان: (إن الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم أيضا - من جهة - بالإنسان، الذي يمثل أكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم "القيوم". أي أن القيومية تتجلى في الإنسان تجليا يجعل منه عمودا ساندا للكائنات جميعا، بمعنى أن أعظم الحكم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه إلى الإنسان)(1).
وبهذا المعنى كان (شاهدا) على المخلوقات، قائدا لها في طريقه إلى الله، من حيث إنه مشاهد لعبادتها وتسبيحاتها في تفكره وتدبره، مستحضرا ذلك كله في عبادته لله على المستوى الوجداني، فهو إذ يسجد أو يتفكر، إنما يفعل ذلك وهو يعي أن الكون كله ساجد لله مسبح له، فشهوده لهذه الحقيقة يملأ قلبه بنوع من الأنس إذ رأى وشهد أن الكل لله الواحد القهار. فجمع في سيره إليه من كل ذلك معنى. وكان ذلك أساس استخلافه في الأرض. ومن هنا كان حسابه يوم القيامة كليا أيضا! لعظم ما أتيح له من إمكانات، وما كلفه من مسؤوليات. يقول بديع الزمان: (فيا ترى هل يقبل عقل بأن يترك هذا الإنسان، الذي أصبح مكرما بالخلافة والأمانة، والذي ارتقى إلى مرتبة القائد، والشاهد على المخلوقات، بتدخله في شؤون عبادة أغلب المخلوقات وتسبيحاته؛ بإعلانه الوحدانية في ميادين المخلوقات الكثيرة، وشهوده شؤون الربوبية الكلية.. فهل يمكن أن يترك هذا الإنسان، يذهب إلى القبر لينام هادئا دون أن ينبه ليسأل عن كل صغيرة وكبيرة من أعماله؟ ودون أن يساق إلى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلا ثم كلا!)(2).
__________
(1) اللمعات:3/593.
(2) الكلمات:1/83.
(21/105)
إن التكليف الإلهي للإنسان تكليف كوني! بمعنى أنه مكلف بما سبق ذكره من اعتبارات فهرستية، وجامعية، وشهودية، ولذلك كانت الأمانة التي حملها من الخطر ما جعل السماوات والأرض والجبال يأبين أن يحملنها ويشفقن منها! وهذه كلها كائنات كونية! إنها الإمامة الكونية كما بينا. وليس من السهل أن يتقدم مخلوق بين يدي الله؛ نائبا، وإماما لسائر الكائنات في الوجود، ناطقا باسم الكل، في صف العبادة الشاملة! فمفهوم (الخلافة) يرجع أساسا إلى معنى النيابة، ومن هنا كانت نيابة الإنسان بمعنيين: الأول نيابة عن الكائنات بما بينا، والثاني: نيابة عن الله في دلالة خلقه عليه تعالى. ومن هنا فُرّغ من كل خدمة، وسُخّر كل شيء خادما له! حتى يقوم هو بوظيفة الخلافة في الأرض خير قيام. ويكون أعبد الخلق لله؛ ولذلك فإن الله (وهب لهذا الإنسان استعدادا فطريا ساميا؛ ما يمكنه من حمل الأمانة الكبرى، التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، أي خلقه ليعرف صفات خالقه سبحانه الشاملة، المحيطة، وشؤونه الكلية، وتجلياته المطلقة، بموازينه الجزئية ومهاراته الضئيلة، والذي برأه بشكل ألطف المخلوقات وأعجزها وأضعفها. فسخر له جميعها من نبات وحيوان؛ حتى نصبه مشرفا ومنظما ومتدخلا في أنماط تسبيحاتها وعباداتها، والذي جعله نموذجا - بمقاييس مصغرة - للإجراءات الإلهية في الكون، ودلالا لإعلان الربوبية المنزهة - فعلا وقولا - على الكائنات؛ حتى منحه منزلة أكرم من منزلة الملائكة، رافعا إياه إلى مرتبة الخلافة)(1).
__________
(1) الكلمات:1/94.
(21/106)
فكان إذن من مقتضى شهوده عبادة الكون؛ أن يقوم بتوجيه ما سخر له من مخلوقات، في الاتجاه الصحيح، إلى قبلة واحدة: عبادة الله الواحد الأحد. فلتكن كل الصناعات والإنتاج البشري في المجال الحضاري العام متوجها إلى الله بالعبادة حتى يستفيد من توظيف ذلك كله لما خلق له فلا يزغ به عن أهدافه التعبدية فيحاسب حسابا عسيرا عن كل ذلك فهو المسؤول عن عمارة الأرض وحكمها بسلطان الله الذي استخلفه إماما للعابدين. ومن هنا فما دام الإنسان (يحكم في شتى جهات هذه الأرض(...) ويتصرف في أغلب مخلوقاتها، مسخرا أكثر الأحياء له، جاعلا أكثر المصنوعات تحوم حوله، وفق مقاييسه وهواه، وحسب حاجاته الفطرية، وينظمها ويعرضها ويزينها، وينسق الأنواع العجيبة منها في كل مكان، بحيث لا يلفت نظر الإنس والجن وحدهم، بل يلفت أيضا نظر أهل السماوات، والكون قاطبة، بل حتى نظر مالك الكون، فنال الإعجاب والتقدير والاستحسان، وأصبحت له - من هذه الجهة - أهمية عظيمة، وقيمة عالية، فأظهر بما أوتي من علم، ومهارة؛ أنه هو المقصود من حكمة خلق الكائنات، وأنه هو نتيجتها العظمى، وثمرتها النفيسة، ولا غرو فهو خليفة الأرض)(1).
__________
(1) الكلمات:1/111.
(21/107)
ولهذا جميعه كانت الأرض بتلك القيمة العظيمة التي ذكرت في القرآن. وهو معنى لطيف جدا، انتبه إليه بديع الزمان بحسه المرهف، ونظره الصافي صفاء مشاهده من آيات الله في الكون. إذ وجد أن الأرض وهي نقطة ضئيلة جدا في فضاءات السماء الدنيا؛ ذكرت في القرآن مرارا كمعادل للسماوات كلها! وذلك نحو قول الله عز وجل: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (الأنبياء:30) وقوله سبحانه: (تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى) (طه:3) وقوله أيضا: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود:7) ونحو هذا كثيرا جدا.
(21/108)
فذكر الأرض في قصة الخلق - وهي بمقياس ذرة بالنسبة إلى السماوات السبع وما فيهن - إنما هو دال على خصوصيتها وشرفها. وما ذلك لذاتها، وإنما لشرف ساكنها: الإنسان هذا الخليفة الرباني المكرم. ففي الأرض موطنه يعبد الله ومنها ينطلق في سيره الشمولي إليه تعالى بشهوده على الخلق، ولذلك كانت مجالا خاصا بالإنسان صالحا لعيشه وحياته التعبدية ذات قابلية لاحتضانه واحتضان كل مكتشفاته من وسائل الحضارة والمدنية، ومظهرا كليا لما في الكون من حقائق على سبيل الفهرسة المختصرة، والتمثيل المعبر. قال بديع الزمان: (إن الإنسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخلقة (...)؛ ومن هنا فإن مهد هذا الإنسان، ومسكنه، وهو الأرض، كفء للسماء معنى وصنعة. ومع صغر الأرض وحقارتها بالنسبة إلى السماء فهي قلب الكون ومركزه، ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية، ومظهر جميع تجليات الأسماء الحسنى وبؤرتها، ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة، ومحشرها، وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق، ولا سيما عرضها لكثرة كاثرة من النباتات والحيوانات. وهي نموذج مصغر لما يعرض في عالم الآخرة من مصنوعات، ومصنع يعمل بسرعة فائقة لإنتاج المنسوجات الأبدية، والمناظر السرمدية المتبدلة بسرعة، وهي مزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بذور البساتين الدائمة الخالدة)(1).
وبهذا القصد الابتلائي زينت الدنيا أصالة للإنسان، على وزان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقه بورك له فيها، ورُبَّ متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار!)(2).
__________
(1) الكلمات:1/204.
(2) رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير : 3410.
(21/109)
ومن هنا إذن؛ اقتضت خلافة الإنسان في الأرض أن (يعرض صنائع الخالق البديعة، وينظمها بشكل جميل جذاب في هذه الدنيا)(1). فإذا كان ذلك كذلك؛ تبين لك كيف أن النورسي جعل الإنسان: هو المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض.
- ب6 عبادةً كليةً لله الواحد الأحد:
إن (التعبد الكلي) الذي يتحلى به الإنسان في سيره إلى الله راجع أساسا إلى ما فطره الله عليه من جامعية في الخلق والاستعداد كما بين النورسي. ولذلك كان أشمل الكائنات في التعبير عن الفقر والاحتياج البالغين إلى الله؛ فكان كماله في شدة ضعفه. وذلك أساس التعبد، ومؤهله العظيم فطرة وخلقة جامعة. قال بديع الزمان: (إن مقام الإنسان الراقي، وتفوقه على سائر الأحياء، وامتيازه عليها إنما هو لسجاياه السامية، ولاستعداداته الفطرية الجامعة، ولعبوديته الكلية)(2).
وهو سر سيادته الكونية التعبدية. قال رحمه الله: (هذا الإنسان، هو سيد الموجودات، رغم أنه صغير جدا؛ لما يملك من فطرة جامعة شاملة. فهو قائد الموجودات، والداعي إلى سلطان ألوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة، ومظهرها. لذا فإن له أهمية عظمى)(3).
__________
(1) الكلمات:1/111.
(2) الشعاعات:3/27.
(3) الكلمات1/63 -64.
(21/110)
إن الكون كله يعبد الله في مسجد واحد هو هذا الوجود. وكل شيء داخل في الصف طوعا أو كرها. إلا الإنسان فقد تُرك لنفسه هذه أن تحقق الكمال بالاختيار! ولم يقبل منها إلا الاختيار! وتلك هي رتبة الكمال في العبادة. فما عليه إذن إلا أن يقرر الانتساب إلى قافلة المحبين، وينطلق سيرا على درب الوصل الكلي. فأسلاك الغيب موصولة بكل شيء في الكون وما عليه إلا أن يصل أسلاك قلبه هو بأقرب شيء إليه ليكون في صف المتعبدين إماما! (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء:44). قال بديع الزمان: (إن الإنسان كالشجر الذي علق على ذروته كثير من خطوط الآلة البرقية، قد التفت على رأسه رؤوس أنظمة الخلقة، وامتدت مشرعة إليه قوانين الفطرة، وانعكست متمركزة فيه أشعة النواميس الإلهية في الكائنات. فلا بد للبشر أن يتممها ويربطها، وينتسب إليها، ويتشبث بأذيالها؛ ليسري الجريان العمومي؛ حتى لا يزلق، ولا يطرد، ولا يلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي إلا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي)(1).
ومن هنا تنطلق (كليته التعبدية)؛ ذلك أن ربط الإنسان أسلاك الاتصال بكل عناصر الكون؛ إنما يكون على سبيل التفكر، حيث يعمل يوما بعد يوم - وهو جاد في سيره إلى الله - على فك ألغاز ما حوله، وفهم كل حركة كونية، في فلك الخلق؛ ليفهم سر المخاطبات التعبدية، التي فطر عليها كل كائن من الموجودات، ويتدبر في سر وجوده، ووظيفته التعبدية. حتى إذا انكشف له سر الحكم الإلهية، فيما وصل إليه فكره ونظره؛ كان حكيما حقا، وحاز على خير كثير (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة:269)، ثم كان سيد العابدين، وإمام السائرين؛ بجمعه وعي الكل في وعيه، وسيره بكل ذلك إلى الله.
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/14.
(21/111)
وبذلك فقط يكتسب الإنسان صفة (الإنسانية الحقة) التي بها تأهل للاستخلاف في الأرض والتي بها نال ما نال من تكريم. فإما يكتسبها بانخراطه في وظيفة (الإنسانية) وإما يفقدها بالعصيان والتمرد، فلا يكون إنسانا إلا شبها! وهذا المعنى تواتر في فكر بديع الزمان تواترا كليا؛ حتى صار لمفهوم (الإنسانية) عنده معنى خاص، سيأتي بيانه بحول الله(1). قال رحمه الله: (فالإنسان إذن يصبح إنسانا حقا؛ ما دام يتأمل وينظر إلى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود، وعنده يجد سبيلا من الفاني إلى الباقي)(2). وقال: (فالإنسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح إنسانا حقا، ويظهر أنه "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"؛ فيصير بيُمن الإيمان، وبركته لائقا للأمانة الكبرى، وخليفة أمينا على الأرض)(3).
ذلك أن الأهلية الإنسانية لحب المعرفة رقَّته إلى صف المؤهلين لمعرفة الله تعالى. ولا أحد يعرفه تعالى أكثر من الإنسان، الذي يعتبر المستفيد الأكبر من أنوار الأسماء الحسنى، من حيث سعة حاجاته التي لا تجتمع في مخلوق آخر كما اجتمعت فيه! (يتضح من هذا أن وظيفة الإنسان الفطرية إنما هي التكمل (بالتعلم) أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية بالدعاء (...) إذن فلقد جيء بهذا الإنسان إلى هذا العالم؛ لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شيء فيه موجه إلى العلم، ومتعلق بالمعرفة، حسب الماهية والاستعداد. فأساس كل العلوم الحقيقية، ومعدنها ونورها، وروحها، هو (معرفة الله تعالى) كما أن أس هذا الأساس هو الإيمان بالله جل وعلا)(4). ذلك هو ما سماه بديع الزمان في موطن آخر بـ(المعرفة القدسية)، ذلك أن (ذروة الكمال الإنساني: إنما هو في الإيمان والمعرفة القدسية، السامية، المفصلة، والمبرهنة، النابعة من الإيمان التحقيقي!)(5).
__________
(1) انظر مشتقات هذا المصطلح بهذا البحث.
(2) الكلمات:1/92.
(3) الكلمات:1/373.
(4) الكلمات:1/355.
(5) الملاحق:7/27.
(21/112)
وبهذا أساسا اكتسب الإنسان كليته التعبدية. فالاستعدادات المعرفية الشاملة، إنما هي قائمة به على ما أودع في (ثمريته) من خصائص شاملة ترفعه - على سبيل الإمكان - إلى أعلى درجات المعرفة بالله. يقول بديع الزمان: (إن الإنسان ثمرة شجرة الخلقة، فهو كالثمرة أبعد شيء عن البذرة، وأجمع لخصائص الكل، وله نظر عام إلى الجميع، ويضم جهة وحدة الكل، فهو مخلوق يحمل نواة القلب، ووجهه متوجه إلى الكثرة - من المخلوقات - وإلى الفناء، وإلى الدنيا، ولكن العبادة التي هي حبل الوصال، أو نقطة اتصال بين المبدأ والمنتهى، تصرف وجه الإنسان من الفناء إلى البقاء، ومن الخلق إلى الحق، ومن الكثرة إلى الوحدانية، ومن المنتهى إلى المبتدأ)(1).
لقد حل بديع الزمان بتوظيفه مفهوم (الكلية) في التعبد الإنساني إشكالا تصوريا، على مستوى العقيدة، قد يستغله بعضهم لإثارة الشبهات على الإسلام، والنورسي رحمه الله كان قد آلى على نفسه دفع هذه الشبهات وبيان حقائق القرآن بما لم يكد يسبق له مثيل في التاريخ! استجابة لموجة الإلحاد الصريح الذي تفشى في المجتمع الإسلامي في النصف الأول من القرن الميلادي العشرين! والشبهة هي كيف يعذب الله سبحانه وتعالى الإنسان الكافر عذابا سرمديا خالدا أبدا، والحال أن عمره الذي قضاه في الدنيا قليل جدا؟ ألا يكون من الأعدل أن يعذب مدةَ ما قضاه من سنوات عمره في الدنيا؟
__________
(1) الكلمات:1/.418
(21/113)
إن القول بخلافة الإنسان وما أوتي من مؤهلات هائلة، وفرص غير محدودة، لعبادة الله بصور شتى، وما ينبني على ذلك من إمامة كونية للإنسان، وما بينه النورسي من طبيعة شمولية للدين في سير العبد إلى الله؛ يقتضى أن يكون الجزاء من جنس العمل: إما سعادة كلية، أو عذاب كلي والعياذ بالله. فإذا كانت طاعة الإنسان لربه طاعة كونية من حيث هو إمام كوني؛ فكذلك لا يكون الكفر إلا كونيا! وبيان ذلك بنصه هو كما يلي: قال رحمه الله: (لا يخطرن على البال كذلك: كيف يكون هذا الإنسان محكوما بعذاب أبدي، مع أن له عمرا قصيرا جدا؟
لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث إنه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها - التي توازي قيمة مكاتيب صمدانية، ودرجتها - إلى هاوية العبث، ويوهم عدم وجود الغاية من إيجادها. إنه تحقير بيّن للكائنات كلها، وإنكار لما يشاهد من أنوار الأسماء الحسنى كلها، وإنكار آثارها في هذه الموجودات، ومن ثم فإنه تكذيب ما لا يحصى من الأدلة الدالة على حقيقة وجود ذات الحق سبحانه وتعالى، وكل هذا جناية لا حدود لها، والجناية التي لا حدود لها، توجب عذابا غير محدد بحدود!)(1).
__________
(1) الكلمات:1/64.
(21/114)
إن العبادة الكلية لله التي يمارسها الإنسان هي التي ترفع مقامه إلى مستوى فطرته الكونية من حيث هو كائن مركزي في هذا الكون وبذلك أساسا تكتمل عبادته لله الواحد القهار، وتتجلى إمامته للكائنات في السير التعبدي إلى الله. ذلك أن الشعور البشري بماهيته الكونية يملأ وجدانه أنسا وأملا وقوة، كما يشعره بجدوى الحياة وعمقها الغيبي البعيد. وهذا كله يجعله ينخرط بجدية ونشاط في وظيفته التعبدية، وشهادته على الكون. إلا أن هذه التصورات جميعا، وهذه المواجيد كلها؛ لا تتأتى إلا عن طريق (الإيمان) طبعا؛ لأن المسألة في النهاية مسألة تصورات ومعتقدات. صحيح أن قراءة الكون قراءة صحيحة ستقود إلى ذلك حتما؛ إلا أن الوجدان الإيماني هو الذي يفجر تلك الطاقة الاستيعابية لدى الإنسان؛ لإدراك ماهيته الكونية، في أبعادها الغيبية؛ مما يولد لديه أنسا خاصا كما ذكرنا، واستعدادا هائلا للعمل والعبادة. إن الإيمان يجعل قراءة الإنسان للكون قائمة على أساس الأحدية والواحدية، أي إثبات وحدة الإبداع والخلق، ثم وحدة المآل والقصد لسائر الكائنات. يقول بديع الزمان: (إن أي مخلوق مهما كان صغيرا، إنما هو مثال مصغر للكون كله، ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكا لذلك المخلوق الحي الصغير إلاّ من كان بيده زمام الكون كله! وله الأمر جميعا. وحيث إن كل بذرة متناهية في الصغر؛ ليست بأقل إبداعا في الخلق؛ من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة، تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير إنما هو بحكم عالم مصغر، وكون صغير؛ فإن تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالا ممتنعا!
(21/115)
ثم إن هذا الكون - في ضوء هذا السر، سر الأحدية - ليس كلا يستعصي على التجزئة وحدها، بل أيضا هو كلي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام، والاشتراك، والتجزئة، وتدخل الأيدي المتعددة قط. فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه، وكل الكون هو بحكم الكون الكلي. فليس فيه موضع للاشتراك في أي جهة كانت)(1).
فإذا كان الكون كله (كلا من حيث الماهية) على حد تعبير النورسي، من حيث هو مخلوق لخالق واحد، هو الله تبارك وتعالى؛ وإذا كان كل جزء منه - مهما كان صغيرا - نموذجا مصغرا لذلك الكل؛ فمعنى ذلك أن ذات الإنسان التي أثبت النورسي أنها فهرست للكون؛ هي أجمع نموذج لسائر الكائنات؛ من هنا إذن سوف يكون الإنسان أرقى مخاطب رباني بالأمر الإلهي التعبدي خاصة! ولا تكون إمامته للكائنات في السير إلى الله إلا بهذا المعنى. من هنا إذن يجد المؤمن ما يجده من أنس، وأخوة كونية، ونشاط في أداء مهمة الحياة، وكذا فرح عند نهايتها، بموته الذي هو موعد التسريح من التكليف، وتحمل الأمانة؛ إلى السعادة الأبدية، في عالم البقاء السامي. هذا أساس سعادة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وهذا أساس استبشاره بكل شيء من المخلوقات، وأنسه بها، وإلفه إياها. ولا يكون الكفر بعد ذلك إلا طمسا لهذه الحقيقة. ودخولا في ظلام دامس، وعمى عن الحقيقة الكونية للإنسان؛ فلا يرى - بسبب ذلك - من الكائنات إلا ما يهدده، ويفزعه، ويرعبه؛ فيدخل في صراع خاسر مع كل شيء حتى مع نفسه!
قال بديع الزمان: (إن الكفر والضلال يُريان الكون لأهلهما أنه مليء بآلاف الأعداء المخيفين، بل هو سلسلة من طوائف تعادي الإنسان، ابتداء من المنظومة الشمسية، وانتهاء إلى ميكروبات التدرن الرئوي، كلها تعادي الإنسان المسكين، بأيدي القوى العمياء، والمصادفة العشواء، والطبيعة الصماء؛ حتى تجعله في رعب دائم! (...).
__________
(1) اللمعات:3/551.
(21/116)
فهذه الأمور المتسلسلة المترابطة في الكون، سواء منها المادية أو المعنوية؛ تهاجم أهل الضلال الذين حرموا من الإيمان، وتهددهم وترهبهم، وتحطم قواهم المعنوية، بينما لا تخيف أهل الإيمان ولا تهددهم بشيء. بل تبعث فيهم السرور والسعادة والأنس والأمل والقوة. وذلك لأنهم يرون الوجود بنور الإيمان، وتلك الحوادث المتسلسلة (...) إنما تساق إلى وظيفة معينة محددة؛ من قبل صانع حكيم؛ لتؤديها ضمن نظام وحكمة، من دون اختلاط ولا تجاوز قط. فيُرِي الإيمانُ المؤمنَ أن كل شيء ينال قبسا من تجليات جمال الله، وإتقان صنعته سبحانه، ويمنحه قوة معنوية عظيمة، بما يفتح له من نماذج للسعادة الأبدية.)(1)
إن إمكان تحصيل هذه النظرية المتفائلة، والممتدة إلى استيعاب كل شيء، على سبيل الأخوة الكونية، والاندماج الخَلقي، والهدف التعبدي، ولو عن ظهر غيب؛ إنما هو قائم على إدراك طبيعة الارتباط الكوني البشري، الراجعة إلى الإيمان بوحدة الصنعة والخلق، أي إلى (الأحدية)، ووحدة الشعور والقصد، أي إلى (الواحدية). أو بكلمة واحدة: لا بد من الإيمان بوحدة الكون، من حيث هو مخلوق لخالق واحد - حاشا وحدة الوجود - وبتداخل بعض عناصره مع بعض، وتواصلها الدائم المستمر، سواء عالم الغيب منه وعالم الشهادة؛ وهناك ترى ما لا يراه الذين أعماهم الكفر عن مشاهدة الماهية الكونية للإنسان، وما يجده هذا الأخير من لذة وجمال في الحياة، والسير إلى الله، في هذا الموكب الكوني العظيم، الحافل، وهو يحتل منه مركز القيادة، والريادة التعبدية.
قال بديع الزمان: (إن مملكة السماوات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والمركز؛ فإن لها هواتف معنوية، تمتد منها إلى قلوب الناس في مملكة الأرض. فضلا عن أن عالم السموات لا يشرف على العالم الجسماني وحده، بل يتضمن عالم الأرواح وعالم الملكوت؛ لذا فعالم السماوات يحيط - بجهة - بعالم الشهادة تحت ستار. (...)
__________
(1) صيقل الإسلام:8/519-520.
(21/117)
فكما أن حواس الإنسان، التي أودعها الصانع الحكيم الجليل، بحكمته وبقدرته؛ في رأس الإنسان؛ فعلى الرغم من أن مراكزها مختلفة، فإن كلا منها تسيطر على الجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها. كذلك الكون الذي هو إنسان أكبر، يضم ألوف العوالم الشبيهة بالدوائر المتداخلة.)(1) إلى أن يقول: (إن هذا العالم الفاني، وعالم الشهادة، حجاب لعالم الغيب وعالم البقاء. إنه يمكن رؤية الجنة في كل جهة، مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جدا؛ وذلك بواسطة مرآة عالم المثال. ويمكن أيضا بواسطة الإيمان البالغ درجة حق اليقين؛ أن تكون للجنة دوائر، ومستعمرات، (لا مشاحة في الأمثال) في هذا العالم الفاني، ويمكن أن تكون هناك مخابرات، واتصالات، معها بالأرواح الرفيعة، وبهاتف القلب، ويمكن أن ترد منها الثمار)(2).
إن (العبادة الكلية لله الواحد الأحد) التي هي وظيفة الإنسان في الأرض؛ تصله عبر أسلاك الكائنات جميعا بالواحد الأحد؛ فيرى في كل شيء مرآة لجمال الله، وانعكاسا لأسمائه الحسنى. ومن ههنا فهو يتلمس سائر أخبار القرآن عن الكون والملكوت الغيبي، في امتداداتها الأرضية؛ من حيث إنها مسالكه التفكرية، التي تصل به إلى الله، كما أنها دروبه المعراجية، التي يترقى بها إلى منازل اليقين. ومن هنا أيضا كانت الكثرة المنتظمة في كلي الكون تقود - جميعها - إلى الواحد الأحد.
- ثانيا: مشتقاته وضمائمه:
أ - مشتقاته:
- الإنسانية:
الإنسانية: هي الفطرة التعبدية لدى الإنسان، ببعدها الكوني الشامل، واستعداداتها التفكرية لتذوق الإيمان.
__________
(1) اللمعات:3/452.
(2) اللمعات:3/454.
(21/118)
ذلك أن بديع الزمان خص مفهوم الإنسانية بما جُبل عليه الإنسان خِلقيا من قابلية للتدين. فمن فقد هذه القابلية؛ بسبب ما يلقي عليه الكفر من ثقافات مغشية لإحساسه الفطري؛ فهذا يعتبر لدى النورسي قد فقد (إنسانيته) حقا. ومن لم يزل يتمتع بذوق ديني للحياة فهو (الإنساني) بهذا المعنى، لا سواه. إن (الإنسانية) لدى بديع الزمان تقوم أساسا على (النسبة) لمفهوم الإنسان كما ورد عنده، مما فصلناه هنا. فإذن لابد أن تكون هذه الصفة محملة بكل دلالات (الإنسان) الاستخلافية في الأرض. فالاستعداد لهذا المعنى لدى كل شخص يعتبر (إنسانية). أعني كونه يطمح في وجدانه وتفكره لتحقيق وجوده الاستخلافي كإنسان، خُلق أصالة لهذا.
(21/119)
وهذا المعنى من ألطف ما ورد عن النورسي من خصوصيات اصطلاحية، مستنبطة من مفهوم (الإنسان) كما وجده؛ بتدبره رحمه الله للقرآن الكريم، وهذا اصطلاح قد لا تجده - بهذا المفهوم - عند غيره. يقول رحمه الله: (ما يطلق عليه لفظ "الإنسانية" التي هي قصيدة حكيمة منظومة، تعلن إعلانا لطيفا جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية (...) هذه "الإنسانية" يقذفها الكفر من صورتها الحية، التي تفوقت بها على الأرض والجبال والسماوات، بما أخذت على عاتقها من الأمانة الكبرى، وفضلت على الملائكة، وترجحت عليها حتى أصبحت صاحبة مرتبة خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية إلى دركات هي أذل وأدنى من أي مخلوق ذليل فان عاجز ضعيف فقير، بل يرديها إلى دركة أتفه الصور القبيحة الزائلة سريعا)(1). وقال أيضا: (حسبي من جعلني إنسانا؛ فأنعم عليّ بنعمة الإنسانية التي صيرت الإنسان عالما!)(2). فنعمة الإنسانية هي القدرة الفطرية - كما بينا في التعريف - على تذوق معنى الوجود؛ بغاية شغل وظيفة الخليفة فيه. قال: (وأكرمنا سبحانه بإنسانية بحيث نتذوق بآلاتها العديدة - كالعقل والقلب - من هدايا غير متناهية، لعالم المادة ولعالم المعنى ما نتذوق!)(3) وقال في تتميم هذا المعنى: (فما غايات حياتك، وما حقوقها؛ إلا إظهارك لآثار تجليات أسمائه، وتشهير غرائبها لدى أنظار المخلوقات. وما إنسانيتك إلا شعورك بهذه الوظيفة)(4). وأما عدم الشعور بها فيعني فقدان صفة الإيمان؛ لفقدان صفة الإنسانية أصلا! فالكفر لا يطمس الإيمان؛ إلا بعد أن يطمس القابلية له! وما تلك القابلية إلا صفة الإنسانية! ومن هنا قال في تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الآية (البقرة:13)، قال: (فاتبعوا جمهور الناس؛ إذ (...) يلوح بأنهم هم (الناس) فقط، كأن
__________
(1) الكلمات:1/361.
(2) الشعاعات:4/101.
(3) الشعاعات:4/214 -215.
(4) المثنوي العربي النوري:6/386.
(21/120)
من عداهم ليسوا بإنسان إلا صورة، إما بترقي هؤلاء في الكمالات، وانحصار حقيقة الإنسانية عليهم، وإما بتدني أولئك عن مرتبة الإنسانية)(1).
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة:7). قال: (إن التعبير بـ"الناس" يشير إلى أنه - مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق - فأعم الصفات، أعني: الإنسانية، أيضا منافية له؛ إذ الإنسان مكرم ليس من شأنه هذه الرذالة)(2).
فمن الطبيعي إذن؛ أن يجد المؤمن؛ بسبب إدراكه لبعده الكوني كخليفة في الأرض، ما لا يجده الكافر، الذي يعيش في الواقع نوعا من المسخ لهويته الكونية، والانحطاط عن طبيعته الإنسانية، وفطرته الوجودية. وإنما (الإنسانية) - في مفهوم بديع الزمان النورسي كما ذكرنا - هي الفطرة التعبدية لدى الإنسان، ببعدها الكوني، وبإدراكها الوجودي الشامل! ذلك أن الله جل جلاله - يقول النورسي - هو الذي: (منح "الإنسانية" [يعني: للإنسان]؛ ففتحت نعمة الوجود بتلك "الإنسانية" وبانكشافها طريق الاستفادة من تلك الموائد المنصوبة، الواسعة، في العوالم المادية والمعنوية، بمشاعر خاصة بالإنسان)(3).
ومن هنا تكون (الإنسانية) - بهذا المعنى - من أكبر النعم التي أعطيت للإنسان، بمحض فطرته وخلقته، المجبولة على الإدراك الكوني لفعل التعبد؛ فكان بذلك نموذجا لهذا العالم، وفهرستا لهذا الكون. وإذا كان الإسلام وحده كدين هو الذي يفصل هذه المعاني الكلية للإنسان كان الإسلام هو الإنسانية في أجلى صورها. ومن هنا كان لبديع الزمان في منظومته الاصطلاحية مصطلح: (الإنسانية الحقة) أو (الإنسانية الكبرى) للدلالة على ذلك. وبيانه كما يلي:
- الإنسانية الكبرى أو الإنسانية الحقة:
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/103.
(2) إشارات الإعجاز:5/89.
(3) الشعاعات:4/77.
(21/121)
الإنسانية الكبرى أو الحقة: ضميمتان اصطلاحيتان بمعنى واحد لدى بديع الزمان. ومعناهما: دين الإسلام خاصة، عقيدة وشريعة. قال رحمه الله: (إن الإسلام الذي هو الإنسانية الكبرى سيسطع كالشمس في رابعة النهار؛ في سماء المستقبل، وعلى جنان آسيا!)(1). إلى أن يقول مفصلا الأبعاد الكونية للمصطلح، في مقابل ما سماه ب-(الإنسانية الصغرى) وهي (المدنية)، أي الحضارة البشرية، المحدودة بنوعيها المادي للأشياء. يقول: (إن الحاكم على الدهر، وعلى طبائع البشر؛ إلى يوم القيامة؛ هو حقيقة الإسلام، التي هي تجلي العدالة الأزلية في عالم الكون، والتي هي الإنسانية الكبرى! وما محاسن المدنية التي هي الإنسانية الصغرى إلا مقدمة لها!)(2) وإنما ذلك من حيث أن الإسلام هو الأقدر على تعميق وعي الإنسان، وشعوره بماهيته الكونية؛ بسبب عقائده القائمة على هذا القرآن العظيم، الذي هو كتاب الله الكوني، والذي أنزل فيه تفصيل كل شيء، وبيان كل شيء، مما يتعلق بالإنسان أساسا؛ باعتباره كائنا وجوديا، يأتي في مقدمة المخلوقات؛ ثمرة لهذا الكون.
كما ورد عنه التعبير بـ(الإنسانية الحقة) بدل (الكبرى) كما ذكرنا، وذلك نحو ما في قوله: (إن مخزن الآخرة هو دار الدنيا، ومزرعةَ الجنة ومستودعها هو عالم الإسلام، وعالم الإنسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسنات والحسن والأنوار!)(3). وقال رحمه الله: (إن الإيمان يجعل الإنسان إنسانا حقا، بل يجعله سلطانا؛ لذا كانت وظيفته الأساس: الإيمان بالله تعالى والدعاء إليه. بينما الكفر يجعل الإنسان حيوانا مفترسا في غاية العجز(...) نعم، إن التفاوت بين مجيء الحيوان والإنسان إلى هذه الدنيا يدل على أن اكتمال الإنسانية، وارتقاءها إلى الإنسانية الحقة، إنما هو بالإيمان وحده)(4).
ب - ضمائمه:
- الإنسان الحق:
__________
(1) صيقل الإسلام:8/49-50.
(2) صيقل الإسلام:8/51 -52.
(3) الشعاعات:4/635.
(4) الكلمات:1/354.
(21/122)
الإنسان الحق: هو المسلم الصادق، الملتزم بدينه عقيدة وشريعة، القائم بحق الأمانة. وقد سلف في بيان (الإنسانية الحقة) من النصوص ما يبينه، نقتصر منها هنا على قوله: (فالإنسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح إنسانا حقا، ويظهر أنه "في أحسن تقويم"؛ فيصير بيُمن الإيمان، وبركته لائقا للأمانة الكبرى، وخليفة أمينا على الأرض)(1).
- الإنسان الكامل:
أما الإنسان الكامل: فهو المسلم البالغ مقام الولاية؛ بخوضه بحر المعرفة القدسية، القائمة على الإيمان التحقيقي.
وهذا التعريف (للإنسان الكامل) إنما ركبناه للنورسي من عدة نصوص من أقواله، منها قوله: (للوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل: وذلك بالتوجه القلبي إلى الله طوال سيره وسلوكه، وأثناء معاناته الروحية، التي تسمو بحياته المعنوية، أي الوصول إلى مرتبة المؤمن الحق، والمسلم الصادق، أي نيل حقيقة الإيمان والإسلام، لا صورتيهما. ثم أن يكون الإنسان عبدا خالصا لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلا عن الكائنات الحية، ووليا لله وخليلا له، حتى كأنه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي أحسن تقويم حقا، فيقيم الحجة على أفضلية بني آدم على الملائكة. وهكذا يطير بجناحي الإيمان والعمل بالشريعة إلى المقامات العليا، والتطلع من هذه الدنيا إلى السعادة الأبدية، بل الدخول فيها)(2). وإنما يكون ذلك كله بالسير في طريق اكتساب المعرفة القدسية النابعة من الإيمان التحقيقي، وذلك قوله: (ذروة الكمال الإنساني: إنما هو في الإيمان والمعرفة القدسية، السامية، المفصلة، والمبرهنة، النابعة من الإيمان التحقيقي!)(3).
__________
(1) الكلمات:1/373.
(2) المكتوبات:2/593.
(3) الملاحق:7/278.
(21/123)
ومن هنا كان الإنسان الكامل يوظف كل طاقاته الفطرية، وكل استعداداته التفكرية في السير إلى الله، مكتسبا ما استطاع من منازل المعرفة بالله التي هي غاية المعرفة القدسية، فلا يترك الإنسان الكامل شيئا من لطائفه الروحية والنفسية؛ إلا وظفها في هذا الطريق. ومن هنا كان الصحابة الكرام هم كُمّل الأولياء، من حيث إنهم فرغوا كل طاقاتهم فعلا لله الواحد الأحد، وكانوا بذلك أعلم الخلق - بعد الأنبياء - بالله جل جلاله. وكانوا نماذج الإنسان الكامل حقا. قال بديع الزمان: (للإنسان لطائف كثيرة جدا، كالقلب، منها العقل والروح والسر. كل لطيفة منها مكلفة بوظيفة، ومأمورة للقيام بعمل خاص بها. فالإنسان الكامل: هو - كالصحابة الكرام - يسوق جميع تلك اللطائف إلى مقصوده الأساس، وهو عبادة الله. فيسوق القلبُ - كالقائد - كل لطيفة منها، ويوجهها نحو الحقيقة، بطريق عبودية خاص بها. عند ذلك تسير الكثرة الكاثرة من اللطائف جنودا في ركب عظيم، وفي ميدان واسع فسيح، كما هو لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم)(1)؛ ولذلك كان (الصحابة الكرام هم في قمة الكمال الإنساني، حيث إن التحول العظيم الذي أحدثه الإسلام في مجرى الحياة في ذلك الوقت، سواء في المجتمع أو في الفرد؛ قد أبرز جمال الخير والحق، وأظهر نصاعتهما الباهرة!)(2).
- السيماء المعنوية، أو السيماء المعنوي، سيماء الماهية المعنوية الإنسانية:
__________
(1) الكلمات:1/582.
(2) الكلمات:1/574.
(21/124)
السيماء المعنوية للإنسان، أو سيماء الماهية المعنوية الإنسانية: هي تجليات الإعجاز الإلهي في خلق الملامح المعنوية للشخصية الإنسانية، واستعداداتها الفطرية المتميزة، على المستوى النفسي الخاص. يقول بديع الزمان: (ومثلما نشاهد على وجه الأرض آية الأحدية، وسمتها، وختم الرحمة وطابعها، فإن على سيماء الماهية المعنوية الإنسانية أيضا طابع الرحمة (...) فيا أيها الإنسان! إن الذي وهب لك هذه السيماء المعنوية، ووضع عليها الرحمة، وختمها بختم الأحدية؛ أمن الممكن أن يتركك سدى؟)(1) ثم شرع في بيان المقصود المعنوي بهذا المصطلح؛ حتى لا ينصرف إلى الجانب الحسي المادي، أي الملامح الخارجية الشكلية. إذ المقصود هنا أساسا إنما هو الطابع الخاص الذي فطر الله عليه كل إنسان فكان بذلك فريد شخصه. قال رحمه الله: (معرفة جنس الجنين في رحم الأم بأشعة (رونتكن)، هذه المعرفة لا تنافي قطعا ما تفيده الآية الكريمة (وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ) (لقمان:34) من معنى الغيب؛ لأن المراد من العلم المذكور فيها لا ينحصر في ذكورة الجنين وأنوثته، وإنما المراد منه معرفة الاستعدادات البديعة الخاصة بذلك الطفل، والتي هي مبادئ المقدرات الحياتية (...) فكيف إذن يمكن كشف السيماء المعنوية في استعداداته وقابلياته التي هي خارقة بمئات الألوف من المرات عن ملامح الوجه؟)(2).
__________
(1) اللمعات:3/150.
(2) اللمعات:3/169 .
(21/125)
ومن هنا انتقد على المتصوفة فهمهم الحرفي للنصوص الدينية، الدالة على هذا المعنى، مبينا دلالتها النفسانية. قال: (لقد ورد في حديث شريف ’’أن الله خلق آدم على صورة الرحمن‘‘أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - (1). فَسّرَ قِسْمٌ من أهل الطرق الصوفية هذا الحديث الشريف تفسيرا عجيبا لا يليق بالعقائد الإيمانية، ولا ينسجم معها، بل بلغ ببعض من أهل العشق أن نظروا إلى السيماء المعنوي للإنسان نظرتهم إلى صورة الرحمن! (...) ولهذا الحديث الشريف مقاصد جليلة كثيرة منها: أن الإنسان مخلوق على صورة تظهر تجلي اسم الله "الرحمن" إظهارا تاما)(2).
- خلاصة:
قد تبين إذن؛ أن الهوية الكونية للإنسان عند النورسي، هي المعبر الأساس؛ لفهم الذات، وبفهم الذات يمكن فهم وظائفها الوجودية؛ انطلاقا من أكبر الكليات؛ حتى أصغر الجزئيات. وقد تبين أن القرآن الكريم هو الأساس في تحقيق هذه الرؤية، لدى بديع الزمان. ذلك أن القرآن الذي هو كلام رب العالمين؛ إنما هو كتاب كوني؛ ومن هنا كان عرضه لمفهوم الإنسان في السياق الكوني أيضا. ولذلك يمكن القول: إن (كونية الإنسان) إنما هي (كونية قرآنية).
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير: 12/430 وقال ابن حجر: رجاله ثقات، فتح الباري: 5/183، لكن الهيثمي ضعفه في مجمع الزوائد: 8/106. والمحفوظ هو قوله- صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته) متفق عليه.
(2) اللمعات:3/153.
(21/126)
إن معنى (الكونية القرآنية) هو من كون القرآن (كلام الله باعتباره رب العالمين). فالربوبية قاضية على كل معاني الشمول والامتلاك والسلطنة! ذلك أن (القرآن) من حيث هو كلام رب العالمين، متضمن لمعنى الربوبية، الجامعة لكل عناصر الكون امتلاكا وقهرا. كما أن الكائنات - من خلاله - تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى. وعلى رأسها الإنسان، المخاطب الأول بالتكليف الإلهي الكوني الشامل الجامع. أي من حيث إن (الله سبحانه خلق الإنسان، وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة لكتاب العالم)(1) وبهذا الاعتبار جاء القرآن فيه (كل شيء)، ويتحدث عن (كل شيء)! إذ كان خطابه للإنسان خطابا كونيا، أو كما قال بديع الزمان: (فكأن القرآن المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - قراءة لآيات الكائنات)(2).
والخلاصة أن النظر الكوني إلى الماهيات، لا يتأتى إلا بالقرآن، ولا يكون إلا عن تجربة وجدانية، متدبرة لكتاب الله عز وجل. وذلك ما ألزم الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي به نفسه؛ فكان خير خادم للقرآن في هذا العصر . فرحمه الله رحمة واسعة، ما دام القرآن في الوجود يتلى بأفواه الصالحين، ويرتل من حناجر الذاكرين، بين ناشئة الليل وسبحات النهار.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الفصل الثالث
مصطلح
مصطلح الكون
تمهيد:
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/27.
(2) اللمعات:3/498.
(21/127)
يعتبر مصطلح (الكون) عند الأستاذ بديع الزمان النورسي أحد القرائين الثلاثة، التي خاطب بها الله الناس أجمعين، وذلك بعد قرآن الوحي، وشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خُلُقه القرآن. فالكون إذن خطاب إلهي للعالمين؛ ومن هنا كان كل شيء فيه آية مبصرة, ونورا يعكس جمال الأسماء الحسنى. إن وجود المخلوقات كلها من سماوات وأرضين وما بينهما من الأجرام السيارات، وأفلاك المدارات، وما يحمله كل جرم من ذوات الحياة والشعور، مما نعلم أو لا نعلم؛ كل ذلك أحرف في كتاب الكون، الذي خاطب به رب العالمين الخليقة كلها. وهذا معنى عظيم، صرح به كتاب الوحي في غير ما آية وسورة. قال عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164). وقال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53). ومثل ذلك كثير.
(21/128)
فإذا كان ذلك كذلك؛ أي إذا كان (الكون) بمعناه الوجودي خطابا؛ فإن الخطاب لا يخلو من قصد، بل لا يسمى (الخطاب) – من حيث هو مفهوم لساني - كذلك إلا إذا كان مبنيا على قصد بلاغي بالمعنى الإرسالي للكلمة. ومن هنا كان لمصطلح (الكون) حضوره القوي في المشروع التجديدي للنورسي؛ فلذا صار هذا الرجل العبقري أحد القراء الكبار لكتاب الكون، إذ جاء منه بمعان وإشارات قلما تجدها عند غيره. بل إنني زعيم لك أن من لم يحط بمفهوم (الكون) لدى بديع الزمان النورسي لن يستطيع الدخول إلى منظومته الفكرية، ولا السياحة في أرجائها وفضاءاتها على التمام والكمال! ومن هنا اختيارنا لهذا المصطلح، في سياق دراسة معجم بديع الزمان النورسي رحمه الله.
-أولا: التعريف:
أ - في اللغة:
ترجع مادة (كون) في اللغة إلى معنى الحدوث والوجود. والكون في اللغة له دلالتان: مصدرية واسمية. وهذه من تلك، أي أن أصل الدلالة الاسمية إنما هو من المصدرية. فالمصدرية: الكون مصدر (كان) التامة – دون الناقصة - أي التي بمعنى (وُجِدَ) تقول: "كان الشيءُ": أي وُجِد وحَدَثَ، فصار موجودا وحدثا. ومنه انتقلت الدلالة إلى جميع مشتقات (كون) ككان الناقصة التي هي من النواسخ. فمرجع ذلك كله إلى الحدثان والوجود.
(21/129)
وأما الدلالة الثانية الاسمية؛ فهي الكون: بمعنى الوجود الحادث من سائر المخلوقات والكائنات. وقد ذكر ابن منظور ذلك كله مفصلا في اللسان نلخص منه ما يلي: (الكَوْنُ: الحَدَثُ، وقد كان كَوْناً وكَيْنُونة (...) والكَيْنونة في مصدر كانَ يكونُ أَحسنُ. (...) والكائنة: الحادثة. وحكى سيبويه: أَنا أَعْرِفُكَ مُذْ كنت أَي مذ خُلِقْتَ، والمعنيان متقاربان. [قال] ابن الأَعرابي: التَّكَوُّنُ التَّحَرُّك، تقول العرب لمن تَشْنَؤُه: لا كانَ ولا تَكَوَّنَ؛ لا كان: لا خُلِقَ، ولا تَكَوَّن: لا تَحَرَّك أَي مات. والكائنة: الأَمر الحادث. وكَوَّنَه فتَكَوَّن: أَحدَثَه فحدث. وفي الحديث: ( مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَكَوَّنُنِي )(1) (...) . وكَوَّنَ الشيءَ: أَحدثه. والله مُكَوِّنُ الأَشياء يخرجها من العدم إلى الوجود. و"المكان": الموضع، والجمع أَمْكِنة وأَماكِنُ، توهَّموا الميم أَصلاً حتى قالوا تَمَكَّن في المكان (...) وكان ويكون: من الأَفعال التي ترفع الأَسماء وتنصب الأَخبار، كقولك كان زيد قائماً ويكون عمرو ذاهباً، والمصدر كَوْناً وكياناً (...) وكان تأْتي باسم وخبر، وتأْتي باسم واحد وهو خبرها كقولك كان الأَمْرُ وكانت القصة أي وقع الأَمر ووقعت القصة، وهذه تسمى التامة المكتفية (...) وأَما قوله عز وجل: "وكان الله عَفُوّاً غَفُوراً"، وما أَشبهه فإن أَبا إسحاق الزجاج قال: قد اختلف الناس في كان فقال الحسن البصري: كان الله عَفُوّاً غَفُوراً لعباده. وعن عباده قبل أَن يخلقهم، وقال النحويون البصريون: كأَنَّ القوم شاهَدُوا من الله رحمة فأُعْلِمُوا أَن ذلك ليس بحادث وأَن الله لم يزل كذلك، وقال قوم من النحويين: كانَ وفَعَل من الله تعالى بمنزلة ما في الحال، فالمعنى، والله أَعلم: والله عَفُوٌّ غَفُور؛ قال أَبو إسحاق: الذي قاله الحسن وغيره أَدْخَلُ في العربية
__________
(1) رواه البخاري .
(21/130)
وأَشْبَهُ بكلام العرب (...) وروي عن ابن الأَعرابي في قوله عز وجل: "كُنتُم خَيْرَ أُمَّة أُخرجت للناس"؛ أَي أَنتم خير أُمة، قال: ويقال معناه كنتم خير أُمة في علم الله. وفي الحديث: "أَعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْنِ"(1). ويروى "الكور" بالراء وهو صحيح أيضا)، قال ابن الأَثير: الكَوْنُ مصدر كان التامَّة)(2).
وأما في اصطلاح بديع الزمان النورسي؛ فهو كما يلي:
- الكون: هو شجرة الخلق الكلية، وكتاب الله المنظور، المنعكس عن الأسماء الحسنى، المنجذب إلى خالقه بحركة المحبة، في سير يفيض بالحياة.
فهذا تعريف شامل للمفهوم الكلي الذي وضعه بديع الزمان (للكون)؛ اعتمادا على تدبره لآي القرءان العظيم. وإنما نحن ركبناه استقراء لنصوص كليات رسائل النور، العارضة لهذا المعنى كليا، أو جزئيا. ونسوق الآن ذلك مفصلا، من خلال دراسة عناصر التعريف، فصولا وخواص وأعراضا. وهو كما يلي:
ب1- الكون شجرة الخلق الكلية:
فأما كونه "شجرة الخلق الكلية"؛ فلأن الوجود كتلة واحدة، مترابطة العناصر، بعضها يفضي إلى بعض، تماما كما تفضي بعض أطراف الشجرة إلى بعض. فالتسلسل الحاصل في بناء الكون هو تسلسل سببي، غائي، بحيث ينبني الفرع فيه على الأصل؛ وتمتد عناصره بعد ذلك امتداد الأغصان في الفضاء، لغاية معلومة. وهذا التصور لدى بديع الزمان قائم أساسا على اعتبار أن الإنسان هو ثمرة الكون الجامعة، كما بيناه في محله(3). قال رحمه الله: (إن الخالق الحكيم العليم سبحانه، قد خلق هذا الكون بمثابة شجرة، وجعل أرباب الشعور ثمارها الكاملة، وكرّم الإنسان باعتباره أجمع ثمرة لأرباب المشاعر، وجعل الشكر والعبادة أفضل ما تثمره حياة الإنسان، بل هما - الشكر والعبادة - نتيجة خلقه وغاية فطرته وثمرة حياته)(4).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) اللسان، مادة: "كون".
(3) انظر مصطلح "الإنسان" بهذا البحث.
(4) اللمعات:3/ 288.
(21/131)
ولك أن تتمثل بالصورة التي رسمها الأستاذ النورسي لهذه الشجرة كما يلي: (فالكائنات شجرة، والعناصر أغصانها، والنباتات أوراقها، والحيوانات أزاهيرها، والأناسي ثمراتها)(1). وهذا التصور أو التصوير تواتر عنده؛ حتى كان لا يرى أي شيء إلا من خلاله. فاقرأ قوله مثلا: (أيها الناس! انظروا إلى الكرة الأرضية الطائرة في انجذاب ونشوة، والسائرة في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها، والأجرام العلوية المرتبط بعضها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضها ببعض، بأواصر كيمياوية في شجرة الخلقة، المنتشرة فروعها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمة الصانع!! أو انظروا بمجهر عقولكم إلى قطرة ماء، التي تستوعب عالماً من الحيوانات، بأن الله على كل شئ قدير!)(2).
إن التصور الشجري للكون جعل بديع الزمان النورسي يتمكن من إثبات أصلين عظيمين من أصول الدين، هما: التوحيد، والبعث.
فأما التوحيد فهو راجع ههنا إلى كون الخلقة الكونية (كلية) واحدة، من حيث بذورها التي تنتهي - مهما تعددت الثمار - إلى زارع واحد هو الخالق للكل جل جلاله. يقول النورسي: (ما أن تنفذ الحياةُ في شيء [حتى] تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ إذ تمنحه من الجامعية ما يجعله كلاً إن كان جزءاً، وما يجعله كلياً إن كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلب الأسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الأحدية. فحالما تدخل الحياة في جسم تعمل على تحويله إلى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لا يمكن أن تكون البذرة إلاّ أثر قدرة خالق شجرتها؛ كذلك الذي خلق أصغر كائن حي، لابد أنه هو خالق الكون كله)(3).
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 330.
(2) صيقل الإسلام/محاكمات: 30.
(3) اللمعات: 569.
(21/132)
ومن هنا كانت (أدق الأحوال الجزئية والثمرات التي هي في أقصى نهايات شجرة الخلق تشهد وتشير إلى التوحيد والوحدانية)(1).
إن المفهوم الشجري للكون لدى بديع الزمان قائم أساسا على استقراء أحوال الحياة في هذا الوجود، فهذه الأجيال البشرية تتجدد وتتساقط كما تتجدد وتتساقط أوراق الأشجار، وهذه السماوات والأرضون وسائر النجوم والكواكب السيارة، وكل دوائر الأفلاك، كل ذلك عبارة عن أنظمة من الدوائر المتداخلة بعضها يستند إلى حركة البعض في تناسق عجيب؛ بدءاً بأصغر جرم إلى أضخم كوكب. فإذا بالكل إذن يتحرك في الحقيقة عبر مدار واحد، مهما بدا أن المدارات متعددة فهي متداخلة بعضها يتحرك بحركة البعض. وبذرة الحياة فيه ذات خلاصة مصغرة جدا لكنها تحمل فهرست الكون كله. ذلك (أن أول كل شجرة عُليبة صغيرة وبرنامج.. وآخرها نموذج ولائحة تعريف.. وظاهرها حلّة مزركشة ولباس مزيّن.. وباطنها مصنع ومعمل.. فهذه الجهات الأربع تلاحظ إحداها الأخرى، فتنشأ من هذه الأربعة علامة عظيمة جداً، بل اسم أعظم بحيث لا يمكن قطعاً أن يقوم بتلك الأعمال غير الواحد الأحد الذي بيده زمام الكون كله)(2).
__________
(1) الشعاعات: 26.
(2) الشعاعات:41.
(21/133)
وأما البعث: فالتصور الشجري هو من أوضح الإحالات على عقيدة البعث والنشور، والحشر إلى الله الواحد الأحد. ذلك لأن عالم النبات عموما يقوم على مبدأ (البعث). فالشجرة التي جفت تربتها، ويبس عودها، أعواما؛ حتى تيقن موتها؛ ما تفتأ بعد عام من الغيث أن تنبعث من تربتها حية جديدة، كأنها غرست غضة طرية؛ وذلك لما للبذرة من كمون السنين الطويلة، والاستعداد للنشور في أي لحظة توفرت فيها شروط الحياة. ولذلك وجدنا القرآن الكريم كثيرا ما يمثل لمبدأ البعث والنشور بعالم الأشجار والنبات. وذلك نحو قول الله عز وجل: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ. رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق:9-11) وما كتب بديع الزمان رسالة الحشر إلا من بعد ما قرأ قوله عز وجل من سورة الروم: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ. فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:48-50). أورد مصطفى صونغور تلميذ الأستاذ النورسي رحمه الله هذه الخاطرة:
(21/134)
(كنت أنا وزبير مع الأستاذ في غرفة في بستان على حافة بحيرة بارلا " أغردير " وذلك في ربيع سنة 1954 فقال الأستاذ: "قبل ثلاثين سنة تقريبا وفي هذا الموسم حيث تتفتح أزاهير أشجار اللوز، كنت أتجول هنا - مشيرا إلى الأشجار والبساتين- وإذا بالآية الكريمة: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ترد إلى خاطري وفتح الله علي هذه الآية في ذلك اليوم فكنت أسير وأتجول وأتلوها بصوت عال حتى قرأتها أربعين مرة، وفي المساء ألفت "رسالة الحشر" الكلمة العاشرة، مع الحافظ توفيق الشامي، أي أمليتُ عليه الرسالة وكتبها)(1).
فمن هنا - من القرآن الكريم - كان للنورسي ما كان من تصور شجري للكون. إذ لم يكن هذا الوجود شجرة إلا لأنه قابل للبعث مرة أخرى بعد نهايته. قال رحمه الله: (نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتائجها، وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل إن (...) ما يُفهم من غاية شجرتها ونتيجتها، وثمرتها الجديرة بعظمة تلك الشجرة، ما هي إِلاّ الحياة الأبدية والحياة الآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. وإلاّ يلزم أن تظل شجرة الحياة المجهَّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الإنسان - دون ثمر ولا فائدة ولا حقيقة)(2).
__________
(1) سيرة ذاتية:خ.
(2) الكلمات: 115.
(21/135)
وقال مبينا أمثلة ذلك في سياق تفسير آيات من سورة (يس): (تنكرون إذن النشأة الأخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟.. ثم يشير بـ(اَلّذي جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجَرِ الاَخْضَرِ نَاراً) (يس:80) إلى تلك الآلاء وذلك الإحسان والإنعام الذي أنعمه الحق سبحانه على الإنسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدى ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.. ثم انه يقول رمزاً : إنكم ترون أحياء واخضرار الأشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟.. ثم هل يمكن أن يعجز مَن خلق السماوات والأرض عن إِحياء الإنسان وإماتته وهو ثمرة السماوات والأرض، وهل يمكن لمن يدير أمر الشجرة ويرعاها أن يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث "شجرة الخلقة" التي عجنت جميع أجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟.. وهكذا فإن الذي سيحييكم في الحشر هو مَن بيده مقاليد السماوات والأرض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر"كن فيكون" تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسير وهيّن كخلق زهرة واحدة، وإيجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كإيجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ)؟)(1).
__________
(1) الكلمات: 124.
(21/136)
وشجرية الكون هي التي جعلته (كلاً) لا يتجزأ تجزأ انقسام، وإنما تجزؤه تجزؤ تكامل. لأن الشجرة لا تكون إلا بجميع مكوناتها من جذور وجذع وأغصان وفروع وأزهار وثمار...إلخ. ومن هنا كان كل جزء من الكون دالا على ما سواه. من حيث كونه إن الجزء لا يقوم إلا بالكل. وإنما الكل هو جميع الجزئيات المنتظمة فيه. قال بديع الزمان: (اعلم! أن كل جزء من كل الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الأجزاء. وبالعكس، فأجزاء الكائنات مقاييس للإمكانات بينها كلٌّ لكلٍ)(1). وهذا إنما يدل على ما سماه بديع الزمان (بطابع الأحدية) و(ختم التوحيد) بمعنى أن الكون من حيث كليته دال على الخالق الواحد؛ إذ (الكلية) أساسا تقوم على الانتظام الكلي الجامع. فإذا كان كل شيء دالا على ما سواه ومحيلا عليه لوحدة الطابع في كل شيء؛ فإن كل شيء حينئذ دال على الواحد؛ ومن هنا كانت الكلية الكونية قائمة على أصل التوحيد. يقول بديع الزمان: (إن التجلي الأعظم للفردية قد طبع على وجه "الكون" كله طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحكم "الكل" الذي لا يقبل التجزئة مطلقاً)(2).
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 176.
(2) اللمعات: 539.
(21/137)
وأما كون كلية الكون لا تقبل الانقسام فبمعنى أنه لا يقبل المصدرية المتعددة. إذ حقيقة الانقسام عند بديع الزمان هي بمعنى تدخل الأيدي المتعددة في الخلق، فيرجع كل مخلوق إلى خالقه المفترض، فيكون لكل خلق طابع خاص مختلف ومناقض للآخر بدلالته على خالق آخر. وهذا انقسام في الكون. إلا أنه عُلم أن الخالق واحد من وحدة المخلوقات المنتظمة في ناموس كلي واحد. إذ تبين أن (الأحدية) في تجلياتها الكونية دليل قاطع على (الواحدية)(1)، وفي ذلك دليل قاطع أيضا على (الكلية الكونية) المنتظمة من مجموع الخليقة. يقول النورسي: (ثم إن هذا الكون في ضوء هذا السر - سر الأحدية - ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها بل أيضاً هو كلّي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة، وتدخل الأيدي المتعددة قط، فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه، وكل الكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت)(2).
ب2- الكون هو كتاب الله المنظور:
__________
(1) انظر مصطلح (التوحيد) بهذا البحث في "مشتقاته": (الأحدية والواحدية).
(2) اللمعات: 551.
(21/138)
لا شك أن الكتاب المسطور على الورق أو القرطاس - أي كتاب - دال على (قصد الخطاب)، الحاصل في اللغة بين المتخاطبين؛ بهدف التواصل، فهو إرسالية لغوية، تتضمن مرسِلا، ومرسَلا إليه مقصودا بالخطاب. ولا كلام إلا وهو يتضمن هذه الأركان إلا أن يكون لغوا. وأقوال العقلاء -كأعمالهم- منزهة عن العبث. فإذا كان كذلك؛ فإن الكون بكل عناصره المادية والمعنوية كتاب منظور؛ لأنه يتضمن كل خصائص الكتاب المقروء، من قصدية خطابية، وإرسالية معنوية. إننا (إذا تأملنا في أرجاء الكون نرى أن هناك نظاماً كاملاً وتناسقاً بديعاً مقصوداً في جميع أجزائه. فنشاهد رشحات الإرادة والاختيار، ولمعات القصد في كل جهة؛ حتى نبصر نور "القصد" في كل شيء، وضياء "الإرادة" في كل شأن، ولمعان "الاختيار" في كل حركة، وشعلة "الحكمة" في كل تركيب)(1).
إن مفهوم "الكون" باعتباره مجموعة من الرموز الوجودية، هو خطاب من الله إلى هذا الإنسان، خاطبه به ليبلغه وحدانيته، وجمال ذاته، وجلال صفاته سبحانه؛ بقصد هدايته إليه، وتبيان سبيل الوصول إليه عز وجل. فكل شيء إذن بهذا الوجود هو أحرف كونية، وكلمات ربانية، وجمل صمدانية، صادرة من لدن حكيم خبير؛ بقصد سابق معلوم. يقول النورسي: (إن التجلي الأعظم لاسم "الحَكَم" جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئات الكتب، وأدرجت في كل سطر منه مئات الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئات الأسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئات الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة - بمئات الأوجه - على مصوِّرِه وكاتبه، حتى أن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافية للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا إلى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه أضعافاً مضاعفة)(2).
__________
(1) الكلمات: 613.
(2) اللمعات: 528.
(21/139)
إن البعد "القصدي" للكائنات جميعا، وما لها من وظائف وجودية، كل ذلك ونحوه جعل النورسي يعتبر الكون مجموعة من الرموز الدلالية التي تحمل خطابا، ومن هنا كان كتابا؛ ذلك أن الحرف ما هو في نهاية المطاف إلا رمزا يحمل دلالة لغوية ما. فساوى الكون الكتاب من هذا الوجه. حتى شبهه بديع الزمان بـ"قرآن مجسم" من حيث إن القرآن المقروء خطاب الله للعباد، المنزل على عبده؛ هداية لهم وإرشادا، فشابهه الكون من هذه الجهة، أي من حيث إنه هو أيضا خطاب الله الرمزي لذوي الألباب؛ هداية لهم وإرشادا. يقول رحمه الله: (إن ماهية الكون وقيمته ومزاياه تتحقق بالنور الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - وبه تُعلم وظائف ما فيه من موجودات ونتائجها ومهماتها وقيمتها، وبه يكون الكون بأسره عبارة عن مكاتيب إلهية بليغة، وقرآن ربانى مجسّم، ومعرض آثار سبحانية مهيب)(1). ومن هنا ارتبطت أحكام القرآن بالكون كله من حيث إن الخطاب في العمق واحد؛ لأن المخاطب واحد. (فاعلم من هذا (...) مدى قوة ارتباط أحكام القرآن بالكون، وكيف أنها مدّت جذوراً عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها أن إفساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع إفساد نظام الكون والإخلال به وتشويه صورته)(2).
__________
(1) الشعاعات: 666.
(2) اللمعات: 526.
(21/140)
إن قرآنية الكون التي جعلها بديع الزمان صفة ثابتة له؛ تعنى فيما تعني أنه رحمه الله انبهر بـ(البعد القصدي) للكون، إذ أدرك بتفكره العميق ما لهذه الكائنات من دلالات ربانية وما لرموزها من معان خطابية، فرفض أن يكون هذا النظام الكوني الدقيق، والمتشابك؛ مجرد صدفة عمياء؛ مما جعله يوقن من هذه القرآنية الكونية. قال رحمه الله: (إن كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تُعرِض للأنظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها أن تتدخل - في أية جهة كانت - في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو اُفترض تدخلها - جدلاً - لظهر أثر التدخل، بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط)(1). ومن هنا كان الكون كالقرآن، يعرض جمال الله جل جلاله في صحائف الوجود المشاهدة. هذا الجمال الذي ليس إلا انعكاسا لجمال أسمائه الحسنى، مما سوف نبين بعد بحول الله، حيث يتعرف الإنسان على مولاه من خلال خطابه الكوني المنظور، كما يتعرف عليه تعالى من خلال خطابه القرآني المقروء. فكل شيء يسبح بحمد خالقه، ويقول (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ): انظر ها نحن أولاء نعكس جمال الخالق جل جلاله؛ دلالة عليه، فارفع بصرك إلى هناك حيث ترى جمال الحق يمد الوجود بالبهاء. ذلك منطوق كلام بديع الزمان في وصف جمالية الكون من حيث هو كتاب قدسي منظور. قال رحمه الله: (فبناء على هذا الدستور العام فإن البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته - ابتداءً من أصغر جزئي إلى أكبر كلي – فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدسَّة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل
__________
(1) اللمعات: 530.
(21/141)
صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا) (1).
ولو أردت أن تلج إلى باطن هذا الكتاب الكوني؛ لوجدت أنه سجل شامل لتفاصيل الكائنات وسائر مقاديرها الممكنة، ذلك (أن الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجل تاريخ حياة كل شجرة في كل بذر من بذورها، ودوّن وظائف حياة كل عشب ومهام كل زهر في جميع نواها. وكتب جميع حوادث الحياة لكل ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبة الخردل. واحتفظ بكل عمل في ملكه كافة وبكل حادثة في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة، والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الأكبر لأجل تجليات وتحقق العدالة والحكمة والرحمة التي هي أهم أساس للربوبية)(2).
ب3- الكون منعكس عن الأسماء الحسنى:
ومن الخواص التعريفية للكون - عند بديع الزمان - أنه (منعكس عن الأسماء الحسنى)، بمعنى أنه مفعول للربوبية العليا، المتصفة بصفات الكمال، والمتسمة بأسماء الجمال؛ مما يؤول مرة أخرى بهذه الكثرة المتناثرة في الوجود إلى الوحدة، وذلك من خلال الرجوع إلى رب واحد عبر أسمائه الحسنى، المشعة على الكون؛ إيجادا ورعاية ورحمة. فما من شيء إلا وهو مرتبط في وجوده باسم من أسماء الله الحسنى، ذلك أن الرب العظيم سبحانه وتعالى متصرف في الكون خلقا وإيجادا؛ من حيث هو خالق، مصور، بديع، محي، مميت، رازق، مهيمن، رحمن، رحيم ...إلخ. فأي شيء إذن يمكن تصوره خارج هذه الدوائر الربانية؟ من هنا كان الوجود الحقيقي للأشياء إنما هو بالأسماء، لا بذوات تلك الأشياء. وذلك قول النورسي: (الحقائق الحقيقية للأشياء، إنما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الأشياء فهي ظلال تلك الحقائق)(3).
__________
(1) اللمعات: 530.
(2) الشعاعات: 299.
(3) الكلمات: 749.
(21/142)
وهذا المعنى عند بديع الزمان يرجع إلى ما يمكن تسميته (بالنظرية المرآتية)، أو التصور المرآتي للكون، حيث اعتبر وجود الكائنات كلها كوجود المرآة، القابلة لعكس النور المسلط عليها، ذلك أن (الكون مرآة، وماهية كل موجود مرآة أيضا. هذه المرايا معرضة إلى الإيجاد الإلهي بالقدرة الأزلية)(1). وإنما غاية المرآة أن تعكس النور، وإنما النور نور الله الكريم ذي الجلال والجمال، الذي يعطي الكائنات حياتها، إذ يمتد بهاء أسمائه الحسنى إلى كل شيء من خلقه سبحانه وتعالى، فتشير صور الجمال في الخلق إلى الجمال المطلق للخالق جل جلاله، المنزّه عن التشخيص والتجسيم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(الشورى:11). يقول بديع الزمان: (إن هذا الكون مرآة تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل من تجلياته سبحانه. وما في الكون من جمال وحسن آت من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب إليه فيرقى ويعلو.. إذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون إلى مأتم موحش، وأخلاط، ودمار، وفوضى ضارب أطنابها)(2).
إن الناظر المتفكر في الكون، عبر كل امتداداته وأبعاده؛ لن يرى - إذا كان ينظر بنور التفكر - إلا أنوارا منعكسة عن الأسماء الحسنى. وكيف لا يرى ذلك وهذه أسرار الخلق والإبداع تبهر كل متأمل سالك إلى الله. فانظر تر كل شيء يدلك على اسم من أسماء مولاك الحسنى وصفاته العلا. انظر إلى أي صخرة، أو أي قطره، أو زهرة.. (فان لم تستطع أن تقرأ في زهرة واحدة الأسماء الحسنى وتعجز عن رؤيتها بوضوح، فانظر إلى الجنة وتأمل في الربيع وشاهد سطح الأرض، عند ذلك يمكنك أن تقرأ بوضوح الأسماء المكتوبة على الجنة وعلى الربيع وعلى سطح الأرض، التي هي أزاهير كبيرة جداً لرحمة الله الواسعة)(3).
__________
(1) اللمعات: 55.
(2) الشعاعات: 681.
(3) الكلمات: 754.
(21/143)
إن بديع الزمان بنى كل تصوراته التفكرية، ونظرياته التفسيرية على شجرة الأسماء الحسنى. فالكون كله عنده ليس إلا انعكاسا جماليا لأسماء الله الحسنى، من حيث إن صفاته تعالى المنيرة من أسمائه، تقتضي أن يكون لها أثر في الوجود، وهذا الأثر هو الكون نفسه. بمعنى أن صفة الخالقية، تقتضي أن يكون له مخلوق، وصفة المالكية تقتضي أن يكون له مملوك، وصفة الرازقية تقتضي أن يكون له مرزوق، وهكذا صفة الرحمة، والعدل، والمغفرة ...إلخ. حتى كان كل شيء في الكون إن هو إلا أثر من آثار رحمة الله وأسمائه الحسنى جل وعلا. ومن هنا كان رجوع الكون في سائر تجلياته الوجودية إلى تلك الأسماء انعكاسا لجمالها وجلالها. كما تعكس المرآة –ولله المثل الأعلى- نور الشمس. قال بديع الزمان في سياق الرد على ابن عربي: (إن النقوش التي توجد في مرايا الموجودات بقدرة الله وإرادته إنما هي من آثاره سبحانه وتعالى. فكل موجود إنما هو منه تعالى وهو الذي يوجده، وليس كل موجود هو، حتى يقال: لا موجود إلا هو. إذ للأشياء وجود، وهو وجود ثابت إلى حد ما، وان كان هذا الوجود وجودا ضعيفاً كأنه وهمي وخيالي بالنسبة إلى وجوده تعالى، إلا انه موجود بإيجاد القدير الأزلي وإرادته وقدرته.
إن للشمس المشهودة في المرآة وجوداً مثالياً عدا وجودها الخارجي الحقيقي. ولها وجود خارجي عرضي آخر يلون المرآة بزينته إذ تنبسط عليها صورتها. ولها وجود خارجي عرضي أيضاً، وهو وجود ثابت إلى حد ما وهو الصورة المنتقشة على الورقة الحساسة خلف المرآة. فكما أن للشمس وجودات هكذا في المثال كذلك الأمر في مرآة الكون ومرايا ماهية الأشياء. فان نقوش المصنوعات الظاهرة بتجليات الأسماء الإلهية الحسنى الحاصلة بالإرادة الإلهية واختيارها وقدرتها، لها وجود حادث غير وجود الواجب الوجود)(1).
__________
(1) اللمعات: 55-56.
(21/144)
وهذا المنطق هو الذي ساعد بديع الزمان على تثبيت عقيدة التوحيد الصافية، بمنهج عرفاني، دون أن يحيد عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وما ذلك إلا بسبب ارتباطه الوثيق بالقرآن الكريم. مصدرا للبحث، ومجالا للتدبر، ومنهجا للعرفان. وقد رأيت كيف حكم بارتباط أحكام القرآن بالكون؛ حتى جعل الكون قرآنا منظورا. ومن هنا فرق بوضوح بين الخالق والمخلوق، ولم يلتبس عليه ما التبس على أهل العرفان في شطحاتهم من القول بوحدة الوجود. فخرجوا بذلك عن مقتضى الصراط المستقيم. كما سهل عليه تبين ما أشكل على بعضهم: كيف تقود الكثرة إلى الوحدة، وتؤدي إليها؟ أي كيف يصدر الكثير عن الواحد؟ وهو خلاصة عقيدة التوحيد التي كرس النورسي حياته لتثبيتها والدفاع عنها. وعدم إحكام ذلك إما يؤدي بصاحبه إلى القول بوحدة الوجود، أو إلى القول بتعدد الآلهة وكلاهما كفر صريح. فكانت نظرية صاحبنا مسلكا أمينا إذ سلك بتفكره الوجداني، وتدبره العقلاني مسلك القرآن, مستفيدا من أنوار الأسماء الحسنى، التي كانت الموجودات كلها بعض آثارها. وما تلك الأسماء بدورها إلا صفات ثابتة لله الواحد الأحد الفرد الصمد. سبحانه وتعالى عن خلقه علوا كبيرا. ذلك ما نجده في كلمة جامعة للنورسي قال رحمه الله: (إن حاكمية ألوف الأفعال العمومية الجارية في الكون ومئات الأسماء الإلهية المشهودة تجلياتها وكبرياؤها وكمالها وإحاطتها وإطلاقها ولاتناهيها، كل منها، برهان قوي للوحدانية والتوحيد)(1).
__________
(1) الشعاعات: 24.
(21/145)
وبيان ذلك هو كما يلي: (ما أن تنفذ الحياةُ في شيء [حتى] تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ إذ تمنحه من الجامعية ما يجعله كلاً إن كان جزءاً، وما يجعله كلياً إن كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلب الأسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الأحدية. فحالما تدخل الحياة في جسم تعمل على تحويله إلى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لا يمكن أن تكون البذرة إلاّ أثر قدرة خالق شجرتها كذلك الذي خلق أصغر كائن حي لابد أنه هو خالق الكون كله)(1).
وبذلك تظهر مقاصد الربوبية في الكون كله، حيث تعلن الذرات كلها انتسابها لله المالك الواحد؛ (لأن مقاصد الربوبية في الكون تتجمع في الأحوال الجزئية، وغاياتها تتمركز فيها، وتجليات أكثر الأسماء الحسنى وظهورها وتعيناتها تجتمع فيها، ونتائج خلق الموجودات وفوائدها تبرز فيها؛ لذا فان كلاً منها تقول انطلاقاً من نقطة التمركز والتجمع هذه: أنا ملك مَن خلق الكون بأسره، أنا فعله وأثره)(2).
__________
(1) اللمعات: 569.
(2) الشعاعات: 26.
(21/146)
فدل ذلك كله على وحدانية الخالق عز وجل. لأن الربوبية تقتضي الملك والقيومية معا، أي الخلق والرعاية. فكانت سائر الأسماء الحسنى تتصرف بين هذا وذاك، أي بين الخلق والإبداع من جهة، وبين الرعاية والهيمنة على كل شيء من جهة ثانية؛ رزقا وحفظا وإعاشة وإماتة ...إلخ من سائر معاني الأسماء الخاصة بقيومية الله الواحد الأحد على الكون. فلا شيء إلا وهو يشهد أنه واحد. ذلك أنه لا شيء إلا وهو مستفيد كليا من بعض أسمائه الحسنى خلقا تدبيرا. وما الأسماء الحسنى - في نهاية المطاف - إلا صفات الخالق الفرد الصمد. يقول بديع الزمان: (نعم إن إدارة الكون واحدة، وتدبير شؤونه واحد، وسلطنته واحدة، وعلامته واحدة.. وهكذا واحد، واحد، واحد، إلى ألف من الواحد.. وكذا الأسماء الإلهية وأفعالها التي تدير هذا الكون، كل منها واحدة، فضلاً عن أن كل اسم، وكل فعل؛ يحيط بالكون كله أو بمعظمه، أي أن الحكمة الفاعلة في الكون واحدة والعناية فيه واحدة، والتنظيم الذي فيه واحد، والإعاشة واحدة والرحمة المغيثة للمحتاجين فيه واحدة، والمطر النازل بشرى بين يدي رحمته تعالى واحد. وهكذا واحد، واحد، واحد.. إلى الألف من الواحد)(1) وما هو إلا واحد. تعددت الأسماء والفرد جل وعلا واحد.
__________
(1) الشعاعات: 34.
(21/147)
ومن هنا كانت المهارات جميعها والتجليات، الظاهرة في الكون أو في الإنسان، الدالة على أي جمال أو كمال؛ إنما هي تجليات للأسماء الحسنى. حتى المظاهر التي تدل على حاجة ما، أو ضعف ما، فهي أيضا من هذا القبيل. أليس مظهر المرض مثلا يدل على الحاجة إلى الشافي؟ والفقر يدل على الحاجة إلى الغني، والجوع يدل على الحاجة إلى الرزاق، وهكذا لا شيء إلا وهو يعود إلى الأسماء المهيمنة على الكون كله، تفتح فيه مسالك للعباد يسلكون منها إلى رب العباد. قال بديع الزمان: (إن في كل شيء وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - إلى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ) إذ أن حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند إلى اسم من الأسماء أو إلى كثير من الأسماء. وإن الإتقان الموجود في الأشياء يستند إلى اسم من الأسماء، حتى إن علم الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم الله "الحكيم" وعلم الطب يستند إلى اسم الله "الشافي" وعلم الهندسة يستند إلى اسم الله "المقدّر" .. وهكذا كل علم من العلوم يستند إلى اسم من الأسماء الحسنى وينتهي إليه، كما أن حقيقة جميع العلوم وحقيقة الكمالات البشرية وطبقات الكمّل من البشر، تستند كلها إلى الأسماء الإلهية الحسنى)(1).
__________
(1) الكلمات: 749.
(21/148)
وكما أن شجرة الأسماء الحسنى أثمرت لدى بديع الزمان توحيد الخالق جل جلاله، في ذاته وصفاته، فهي أيضا قد أثمرت إثبات البعث واليوم الآخر. قال رحمه الله: (وكذا، فان تجلّيات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في أرجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة)(1). وبيان ذلك أن أسماء الله الحسنى وصفاته العلا هي الدالة على سائر تصرفات الله في الكون، بما تقتضيه ربوبيته تعالى خلقا وإبداعا ورعاية. وقد علمنا أن سائر التحولات والتغيرات الكونية في الأنفس والآفاق راجعة إلى تأثير الأسماء الراجعة إلى وجوه التصرفات الإلهية، وأنواع الشؤون الربانية، على حد تعبير النورسي، ذلك أن (تكامل الأسماء والعناوين يُفصح عن تكامل صفاتٍِ لا تحصى لذلك الصانع من جهة صنعته وتكامل تلك الصفات وإبداع الصنعة يشهدان على تكامل قابليات ذلك الصانع واستعداداته الذاتية المسماة بالشؤون. وتكامل تلك الشؤون والقابليات الذاتية تدل على تكامل ماهية ذات الصانع)(2).
__________
(1) الكلمات: 127.
(2) الكلمات: 343.
(21/149)
ومصطلح الشؤون مأخوذ من قوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(الرحمن:29) وتفسير هذه الآية لدى علماء التفسير دال على كل معاني التصرفات الربانية في الكون، بما يرجع إلى ربوبيته تعالى وقيوميته. فكل التغييرات الجارية بين الموت والحياة في كل شيء، راجع إلى شؤونه عز وجل. وإذا كانت مظاهر الإحياء والإماتة، صورا تترى ههنا في الدنيا من خلال عكس الأرض مثلا لأسماء الله في تجولاتها بين الربيع والخريف ثم الربيع مرة أخرى بعد فصل الشتاء الدال على الموت في عالم النبات؛ فإن الكون كله محكوم بأسماء الله: المحيي المميت، الحكم، العدل، الباسط القابض، الرحمن الرحيم...إلخ فرحمته تعالى المستغرقة لكل شيء تقتضي أن يكون سبحانه حكما عدلا. وإنما تمام ذلك أن يبعث الناس ليوم النشور حيث تمام الجزاء. ومن هنا كان المسلم يقرأ سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). إن أسماء الله الحسنى التي تعلق بها حدوث الكون هي السالكة به إلى وجوده الثاني في اليوم الآخر. (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) (الأنبياء: 104). يقول بديع الزمان: (نعم، إن الكون حادث، حيث نشاهد في كل عصر، وفي كل سنة بل في كل موسم عالَماً يرحل ويحطُّ آخرُ مكانه، تمضي كائنات، وتأتي أخرى. فالقدير ذو الجلال هو الذي يوجِد هذا العالم من العدم في كل سنة، بل في كل موسم، بل في كل يوم، ويعرضه أمام أرباب الشعور ثم يأخذه إلى الغيب، ويأتي مكانه بآخر، وهكذا ينشر الواحدَ تلو الآخر في تعاقب مستمر، معلقاً تلك العوالم بشكل متسلسل على شريط الزمان)(1). إن هذه الشؤون الربانية المتصرفة في الكون إنما هي آثار رحمة الله المتدفقة أنوارها من مشكاة السماء الحسنى، التي ألهمت بديع الزمان بإملاء رسالته العظيمة في (الحشر) ضمن كليات رسائل النور، كما سبق بيانه، وذلك بمقتضى قوله تعالى: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ
__________
(1) الكلمات: 825.
(21/150)
يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الروم:50).
ب4- الكون منجذب إلى خالقه بحركة المحبة:
ومن خواص مفهوم "الكون" لدى بديع الزمان النورسي أنه متحرك أبدا. بيد أن حركته تلك ليست عشوائية، ولا عمياء، بل هي حركة واعية، بل هي عميقة في الشعور والإحساس؛ لأنها حركة وجدانية. وأعمق الحركات وعيا لدى الكائنات مطلقا؛ ما كان صادرا عن رغبة وجدانية. وإنما الوجد خلاصة المحبة، وزبدتها. فالكون إذن محب، يجري في مدرات المحبة سالكا إلى محبوبه: الله رب العالمين، الذي خلقه ولم يكن شيئا مذكورا، والذي فطره على عبادته، وجبله على طاعته رغبا ورهبا.
(21/151)
فأما معنى حركة الكون فهو ظاهر في التحولات الزمانية والمكانية التي تطبع وجوده. فكل شيء فيه سائر إلى غايته؛ فيما قدره الله له من أفلاك ومدارات أو معارج ومسارات: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس:38-40). وأما قيام تلك الحركة على المحبة؛ فلأن الأصل في الإنسان أنه يعبد ربه محبة فيه. وما العبادة إلا خالص المحبة وروحها. وإذا كان الإنسان كذلك وهو من هو: ثمرة شجرة الكون وفهرسته الجامع كما تبين بمحله من هذا البحث(1)؛ فإن سائر الكائنات تبع له في هذا. فهو الخليفة الذي تحمل أمانة العبادة الكلية الشاملة، والكائنات تبع له في ذلك. قال بديع الزمان: (العشق الإلهي العَذْب الذي يستحوذ على قلب الإنسان - وهو ثمرة شجرة الكون - يبين أن عشقاً خالصاً ومحبةً صادقة بأشكال شتّى، مغروزة في كيان الكون كله، وتتظاهر بأشكال شتّى. هذا الحب المالك قلب الكون يفصح عن محبوب خالد سرمدي)(2)؛ ومن هنا كان الكل - مما في الكون - يلهج بذكر الله: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاّ تَفْقَهُونَ) ( الإسراء:44). وما قوانين الجاذبية - عند النورسي - التي في تربط الأجرام بمداراتها وأفلاكها، إلا مواجيد المحبة، تعلقت بجمال الأسماء الحسنى، فسارت أبدا تجرى إلى رضى المحبوب الذي له الأسماء الحسنى جل جلاله. يقول: (في كل اسم من ألف اسم من الأسماء الإلهية الحسنى طبقات حُسن وجمال وفضل وكمال كثيرة جداً، كما أن فيها مراتب محبة وفخر وعزة وكبرياء كثيرة جداً. ومن هنا قال الأولياء المحققون الذين حظوا باسم الودود: إن جوهر
__________
(1) انظر مصطلح "الإنسان" بهذا البحث.
(2) الكلمات: 818.
(21/152)
الكون كله هو المحبة وان حركة الموجودات بالمحبة، فقوانين الانجذاب والجذب والجاذبية التي تجرى في الموجودات إنما هي آتية من المحبة)(1).
إن الانجذاب المذكور للكائنات، إنما هو لنور الأسماء الحسنى كما تبين في النص، وإنما انجذابها لها راجع إلى كون تلك الأسماء هي مصدر وجودها، فهي أنوار الجمال الصادر عن الله الواحد الأحد؛ فآل الأمر إلى التوحيد الخالص؛ ولذلك كانت جميع الكائنات تحب جميع الأسماء، (ومحبة جميع الأسماء أيضاً تتحول إلى محبة ذاته الجليلة سبحانه، إذ أن تلك الأسماء عناوين وتجليات ذاته جلّ وعلا)(2). فما من شيء إذن؛ إلا وهو انعكاس لجمالها؛ ومن هنا شوق الكائنات إلى مصدر النور، تماما كما تنجذب الفراشات إلى جمال المصابيح في ظلمة الليل البهيم. هناك حيث تحقق وجودها؛ بإدراك أصل الوجود ومعرفة كمال الأسماء والصفات العليا لله الواحد القهار، جل وعلا. فالمحبة الكامنة في قلب الكون، وفي مواجيد الكائنات، هي سبب وجودها، فإنما خلقت الكائنات لتظل منجذبة إلى جمال الله وجلاله. ألم يقل عز وجل: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:10)، ومن هنا قول النورسي على سبيل الاستنباط والتفسير: (إن هذا الكون هو بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولا سيما السماوات والأرض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة وهم ينجزونها بكل سعادة وامتنان)(3). فما جوهر العبادة إلا المحبة. وتلك غاية كل مخلوق، ومقصد الخالق من خلقه. ومن هنا قال بديع الزمان: (إن المحبة سبب وجود هذه الكائنات، والرابطة لأجزائها، وإنها نور الأكوان، وحياتها)(4). وما دام كل شيء في الكون يسبح بحمد ربه، عابدا لله الواحد الأحد، فإن
__________
(1) الكلمات: 746.
(2) الكلمات:768.
(3) الكلمات: 520.
(4) الكلمات: 410.
(21/153)
(كل ذرات الوجود في نشوة المحبة)(1).
فكل شيء مستجيب للأمر الإلهي استجابة رغبة ورهبة؛ لما استقر في وجدان الكون من متعة ذوقية كلما اقترب من مولاه. فالقرب يكسبه إحساسا بوجوده لما يستفيد من أنوار الأسماء. أما البعد فهو متلف له في متاهات الظلمات المؤدية إلى العدم. ولا طاقة لمن أدرك نعمة الوجود للعود إلى الفناء المطلق؛ من إذن هنا كانت المحبة للنور محبة للوجود وإحساسا بالحياة، ورغبة في الوصل الدائم مع مصدر النور، مصدر الحياة. فكيف لا تجد الكائنات المبصرة حقا لذتها في السير التعبدي إلى الله؟ يقول بديع الزمان: (اعلم! أن الحق سبحانه بكمال كرمه ادمج قسماً من مكافأة الخدمة في نفس الخدمة، وأدرج أجرة العمل في نفس العمل. حتى إن الموجودات ولو الجمادات تمتثل أوامره التكوينية بكمال الشوق والتلذذ، وبالامتثال تصير معاكسَ تجليات أسماء نور الأنوار. كالحباب الحقير المظلم الذي يتوجه بقلبه الصافي إلى الشمس، فيتنور مبتسماً في وجهك، بجعل قلبه سرير الشمس. وكيف لا تلتذ الذراتُ ومركباتها - بفرض شعورٍ فيها - بمظهريتها لتجليات أسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق مع ارتقائها بالامتثال، مثل الحباب من نهاية الخمود والظلمة إلى نهاية الظهور والنور!)(2).
__________
(1) الكلمات: 746.
(2) المثنوي العربي النوري: 274.
(21/154)
بهذا إذن تتأكد حاجة الكائنات المستمرة لمنبع الحياة والوجود. إن الحاجة كلما تعمقت في الوجدان؛ أشعرت صاحبها بالشوق إلى الذات المالكة لتلك الحاجة. وإنما الشوق هو المولد للمحبة الجاذبة. وقد تبين أن حاجة الكون هي للوجود أولا، ولا مالك لذلك إلا الذي وهبه إياه، الذي قال له: (كن فيكون!) وبدون هذا الأمر التكويني العظيم لا يكون شيء شيئا! فأي رغبة إذن، وأي شوق، يملأ قلب العبد - أي عبد من ذوي الأرواح وما سواهم - ويعطيه سكينة وطمأنينة؛ أكثر من أن يحظى بأمر: "كن"؟ فآل "الأمر التكويني" وكل أمر رباني إلى أن صار مصدرا للمحبة وباعثا على الشوق. وما أجمل قول بديع الزمان في تمثيله اللطيف، إذ قال: (إن قائد الجيش بأمره "تَقَدمْ" مثلما يحرّك الجندي الواحد فانه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقة سر الطاعة هي أن لكل شيء في الكون - كما يشاهد بالتجربة - نقطة كمال، وله ميل إليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول إلى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لامتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء)(1).
ب5- الكون يفيض بالحياة:
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 274.
(21/155)
إذا كان هذا الكون متحركا بمحبة، وعابدا بوجدان، وسائرا إلى الله بوعي؛ فلا يمكن إلا أن يكون (حيا)؛ لأن الميت ليس له شيء مما ذكر من خصائص. ورغم أن كثيرا من عناصر الكون هي مما نصنفه تحت اسم (الجماد) إلا أنه مع ذلك حي بجميع مظاهره، وكل تجلياته. وما كان كلام الله في كتابه الحكيم ليكون عبثا ولا هذرا. فقد سبق قوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاّ تَفْقَهُونَ). ومن هنا جزم النورسي في كلمات جوامع بحياة كل شيء في الكون. ذلك أن (حقيقة الحياة (...) هي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلها كما أنها أعظم سِرّ يولّد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون وأهم نتيجة لخلق العالم هذا)(1).
فكل المظاهر المادية في الكون تتضمن نبضا حيا، وشعورا واعيا بوجودها. فذاك هو الذي يشكل حقيقتها الوجودية، وأما تلك المظاهر المادية فليست إلا أشباحا تابعة لها في الوجود. قال رحمه الله: (الحياة أساس الوجود وأصله. والمادة تابعة لها وقائمة بها)(2)، إذ الوجود الحق إنما هو للحياة؛ ومن هنا كانت (الحياة كمال الوجود)(3)، فهي تتجلى فيه نورا مشعا يملأ حقيقته حيوية، ويخرجه من ظلمات العدم بأمر الله الحي القيوم. (فالكون إذن - بجميع عوالمه - حيٌ ومشعٌ مضيء بذلك التجلي)(4).
__________
(1) صيقل الإسلام: 343.
(2) اللمعات: 559.
(3) الكلمات: 876.
(4) الكلمات: 875.
(21/156)
وقد أثبت بديع الزمان؛ في غير ما موطن من رسائل النور؛ أن الكون إنسان كبير، كما أن الإنسان كون صغير، وفهرست جامع له(1). ومن مقتضيات الفَهْرَسَةِ أن تحيل على الكتاب الكبير في كل شيء. ومما يجب أن يحيل عليه الوجود الفهرستي للإنسان معنى الحياة الكامنة فيه، والمتجلية على سائر كينونته بالفعل. فلا بد إذن أن يكون المحال عليه من تفاصيل الكتاب حيا كذلك؛ وإلا انعدم مفهوم الفهرستية في الإنسان. ولذلك قال النورسي: (كذلك الكون الذي هو إنسان أكبر يضم ألوف العوالم الشبيهة بالدوائر المتداخلة. فالأحوال الجارية في تلك العوالم والحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها)(2). وإنما حقيقة الوجود الإنساني هي الحياة؛ ومن هنا أمكن أن نقول: (إن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة)(3).
فالروح - (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) - هو إذن باعث الحياة في كل شيء، ولو خلا منه شيء لخلا من الحياة. هذه حقيقة مطلقة لدى بديع الزمان. قال: (لقد ثبت بالتجربة أن المادة ليست أساساً وأصلاً ليبقى الوجود مسخّراً من أجلها وتابعاً لها، بل هي قائمة بـ«معنى»، وهذا المعنى هو الحياة.. هو الروح)(4).
__________
(1) انظر مصطلح "الإنسان" بهذا البحث.
(2) اللمعات: 452.
(3) اللمعات: 567.
(4) الكلمات: 600.
(21/157)
من هنا إذن كانت الحياة أهم حقيقة في الكون. وأعظم تجل للوجود الحق، وجود واجب الوجود جل جلاله. فدل ذلك على عمق معنى الحياة وامتدادها المطلق في الغيب. فما من شيء إلا وهو يحيل على الوجود الحق، باعث الحياة وواهبها سبحانه وتعالى، حتى ولو كانت نملة. أليست شيئا يفيض بالحياة؟ فإذن لا شك أن حقيقتها أعظم من أن تسعها عقولنا ولا حتى هذه الأرض؛ ذلك أنك (إذا وازنت النملة بميزان الوجود، فالكون الذي تنطوي عليه النملة بسر الحياة، لا تسعه كرتنا الأرضية)(1).
إلا أن بديع الزمان قد يذكر إلى جانب حقيقة الحياة في ماهية الكون حقائق أخرى مترابطة فيما بينها، إذ يؤدي بعضها إلى بعض، ويؤول أولها إلى آخرها، في حلقة واحدة: هي الكون. فهي بمجموعها تكون ماهيته، وهي: (الوجود، والنور، والرحمة، والحياة). فهذه العناصر المعنوية الأربعة هي التي تشكل طبيعة ماهيته. وذلك قوله رحمه الله: (إن أهم حقيقة في الكون وأثمن ماهية فيه هي الوجود، الحياة، النور، الرحمة. وان هذه الأربعة متوجهة مباشرة ودون وسائط وحجب إلى القدرة الإلهية ومشيئتها الخاصة، بينما تحجب الأسباب الظاهرة في المصنوعات الإلهية الأخرى تصرّف القدرة الإلهية، وتستر القوانين المطردة والقواعد الثابتة - إلى حدٍ ما - الإرادة الإلهية ومشيئتها، إلاّ أن تلك الحجب والأستار لم توضع أمام الحياة والنور والرحمة؛ لعدم جريان حكمة وجودها في تلك الأمور)(2).
__________
(1) الكلمات: 845.
(2) اللمعات: 167.
(21/158)
فالمقصود بالوجود هنا: معناه المصدري، أي فعل الوجود. فهذه حقيقة بدهية تقوم أساسا على مقولة أن هذا الكون موجود حقيقة، لكن بمعناه الحرفي. وذلك رفضا منه لكل المقولات السفسطائية التي تشكك في كل شيء، حتى البدهيات نفسها. ثم إن معنى الوجود بعد ذلك بالنسبة لبديع الزمان يعتبر حقيقة كبرى، ونعمة عظمى حظي بها الكون. ألم يكن ممكنا أن يكون عدما؟ بلى؛ فمن رحمة الله إذن على الكون أن أوجده. ومن هنا كانت الرحمة طبيعة في الوجود كله سارية فيه بمقتضى أسماء الله الرحمن الرحيم. فلا شيء من مظاهره إلا وهو قائم على الرحمة لكافة عناصره.
وأما النور؛ فلا حياة إلا بنور. وإنما الظلام قرين العدم. ومن هنا كانت الحياة قائمة على النور، فهو شرط وجودها، ومصدره. ولذلك كان الله هو (النور) الحق. فقال عز وجل: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (النور: 35).
(21/159)
إلا أن أجمع لفظ دال عنده على ماهية الوجود هو مصطلح (الحياة). فهو جامع لهذه العناصر جميعا أعني: الوجود، والنور، والرحمة. فإذا ورد عنده منفردا دل عليها جميعا. ولذلك جعلناه خاصية من خواص تعريف الكون، دون باقي العناصر الثلاثة. فإذا كان الكون حيا فهو بالضرورة موجود، ومستنير يشع بالحياة، ثم منطو على حكمة الرحمة الكلية. ومن هنا اكتفى بديع الزمان في كثير من رسائله بوصف الكون بالحياة للدلالة على كل مراده من ماهيته وطبيعته الوجودية. ومن أجمع كلامه في هذا قوله رحمه الله: (إن كمال الوجود مع الحياة، بل إن الوجود الحقيقي للوجود كائن مع الحياة، فالحياة نور الوجود، والشعور ضياء الحياة.. والحياة رأس كل شئ وأساسه. وهي التي تجعل كل شئ ملكاً لكل كائن حيّ، فتجعل الشيء الحيّ الواحد بحكم المالك لجميع الأشياء. فبالحياة يتمكن الشيء الحيّ أن يقول: "إن هذه الأشياء ملكي، والدنيا مسكني، والكائنات كلها ملك أعطانيه مالكي". وكما أن الضوء سبب لرؤية الأجسام وسبب لظهور الألوان - على قول - كذلك الحياة هي كشّافة للموجودات وسبب لظهورها، وسبب لتحقق النوعيات.. وهي التي تجعل جزء الجزئي بحكم الكلّ والكلّي، وسبب لحصر الأشياء الكلية في الجزء، وسبب لجميع كمالات الوجود كإشراكها وتوحيدها الأشياء الوفيرة، وجعلها مداراً لوحدة واحدة ومظهراً لروح واحدة.. حتى أن الحياة نوع من تجلّي الوحدة في طبقات الكثرة من المخلوقات، فهي مرآة للأحدية في الكثرة)(1).
__________
(1) الكلمات: 596.
(21/160)
وبغير هذا الفهم الحيوي للكون يكون الوجود كله طلسما مخيفا، يملأ عيشنا الفاني وحشة، وفزعا، وقلقا، وضلالا. ولله در بديع الزمان إذ يقول: (نعم، إن مثل هذا التجلي، تجلي الحياة الذي هو ضياء شمس الحياة الأزلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، ولا في هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالم من العوالم مظهراً من مظاهر تجلي ذلك الضياء حسب قابليته. فالكونُ إذن بجميع عوالمه، حيّ ومشع مضيء بذلك التجلي، وإلاّ لأصبح كل من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً)(1). فلا نور له إلا بالمسارعة إلى التعلق بأسماء الله الحسنى، مصابيح كل حي، ومدده من الحياة. من حيث إن الأسماء هي قنوات تزويده بالحياة، ونقاط ربطه بمصدرها المشع. فهي إذن -كما تبين قبل- مدد وجوده. ولذلك كانت أنوارها الساطعة عليه مكامن الحياة فيه، وآثارها هي أسرار تجليات الروح عليه. وذلك قول بديع الزمان: (كما أن الجسد يستند إلى الروح ويقوم بها وتُبعث فيه الحياة بها، واللفظ يتنور على وفق المعنى، والصورة تستند إلى حقيقة وتتزود منها قيمتها. كذلك هذا العالم، عالم الشهادة المادي الجسماني إنما هو جسد، ولفظ، وصورة، يستند إلى الأسماء الإلهية المحتجبة وراء ستار عالم الغيب، فهو يحيى بتلك الأسماء التي تبعث فيه الحيوية، ويتوجه إليها، فيزداد جمالاً وبهاءً)(2).
__________
(1) الكلمات: 120.
(2) الشعاعات: 88.
(21/161)
وإذا كان ذلك كذلك؛ ولم يكن ممكنا لهذا الوجود أن يتحرك إلا بحياة، ممتدة من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فلا بد إذن للإنسان أن يعلم هذه الحقيقة؛ وإلا تاه عن إدراك هذا المغزى، وفاتته حقيقة الحياة، فلا يتمكن من ربط حياته هذه بالحياة الممتدة في الغيب، حياة الدار الآخرة التي هي الحياة حقا، للإنسان وللكون أجمع. فإذن كان لا بد من إنزال الرسل بأخبار الغيب، تمد الوعي البشري بنبأ الحياة، وتصله بالله والدار الآخرة، حيث تمتد الحياة إلى الأبد (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64) أي هي الوجود الممتلئ حياة، فلا موت ولا فناء. والكون كله حينئذ سيكون حيا بحياة الإنسان، إذ يعاد الخلق الكوني من أجل الإنسان، حتى يقام له ما وعده ربه من خلود في الجنة أو الأخرى نعوذ بالله منها. فإنما الكون كالإنسان خلق ليحيى. قال بديع الزمان: ( نعم! ما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة، وأن الحياة هي أعظم تجل، وأكمل نقش، وأجمل صنعة للحي القيوم جلّ جلاله. وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بإرسال الرسل وإنزال الكتب. إِذ لو لم تكن هناك "رسل" ولا "كتب" لما عُرفت تلك الحياة الأزلية، فكما أن تكلم الفرد يبين حيويته وحياته؛ كذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم)(1).
__________
(1) الكلمات: 118.
(21/162)
وأخيرا فحياة الكون هي أساس التوحيد، ومسلكه الذي يجمع شتات الكثرة في الوحدة، أي يقود العقل المتفكر من بين طبقات الكائنات الكثيرة جدا، ليريه نقطة استنادها جميعها، حيث تلتقي كل روافدها بدون استثناء، التي تمدها بالحياة. ذلك أن مختلف طبقات الحياة المتجلية في سائر الكائنات من الإنسان والحيوان والنبات والجماد... إلخ، كل ذلك يقود إلى حقيقة واحدة، هي مصدر الحياة الواحدة، التي تملأ وجودهم جميعا، وتعطيه معناه، ووعيه بذاته وبما حوله. فالحياة إذن هي الدليل القاطع على وحدانية الحي القيوم، واهب الحياة سبحانه وتعالى؛ ذلك (أن كمال الوجود مع الحياة، بل إن الوجود الحقيقي للوجود كائن مع الحياة، فالحياة نور الوجود، والشعور ضياء الحياة.. والحياة رأس كل شيء وأساسه (...) حتى أن الحياة نوع من تجلّي الوحدة في طبقات الكثرة من المخلوقات، فهي مرآة للأحدية في الكثرة)(1).
__________
(1) الكلمات: 596.
(21/163)
إن الجاذبية التي تكمن في كل ذرة من ذرات الكون لهي رابطة عامة شاملة تربط الوجود الكوني كله بحقيقة واحدة: هي أن الكثرة الظاهرة فيه تؤول إلى الوحدة من حيث إن كل شيء فيه يستجيب لأمر واحد يربط بين جميع الأشياء مهما تعدد شكلها. وما تلك الجاذبية السارية في الكون إلا أثرا من آثار الحياة فيه. فكانت لطيفة الحياة الخفية أي سلطان الروح الكامن فيها هو الذي يسوق كل عناصر الكون إلى التوحيد. يقول بديع الزمان: (إن مبدأ الكثرة هو الوحدة، وإن منتهاها أيضا إلى الوحدة. فهذا دستور فطري. فلقد خَلَقت القدرة الإلهية، من القوة التي أودعتها في الكائنات - وهي فيض تجليها وأثر إبداعها – قوةً جاذبة عامة، متصلة مستقلة محصلة بإحسانها على كل ذرة من ذرات الوجود جاذبة خاصة بها. فأوجدت رابطة الكون. فكما أن في الذرات محصلة القوى الجاذبة الناشئة من القوة المودعة فيها، فهي ضياء القوة، واستحالة لطيفة من إذابتها، كذلك فان محصل قطرات الحياة المنتشرة على الكائنات كافة ولمعانها، إنما هي حياة عامة تعم الوجود جميعاً.. نعم هكذا يقتضي الأمر. فأينما وجدت الحياة فثمّ الروح. والروح مثل الحياة أيضا منتهاها بداية تجلي فيض لروح)(1)، بمعنى أن مآل الروح وغاية امتداده إنما هو المصدر، والمرجع الكلى الذي يرجع إليه كل شيء. فكان الروح الذي هو أصل الحياة يصب بقوة جاذبة في مسلك الدلالة على الواحد الأحد.
ثانيا: علاقاته:
مرادفاته:
- الوجود:
__________
(1) صيقل الإسلام: 336.
(21/164)
أهم مرادف لمصطلح الكون بأبعاده الاصطلاحية الشاملة هو مصطلح (الوجود). يقول بديع الزمان: (إن هذه الكلمة الطيبة "بسم الله" كنز عظيم لا يفنى أبداً، إذ بها يرتبط"فقرك" برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق"عجزك" بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات)(1). ويقول: (إن الإنسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يُشعِرَهُ الحقُّ سبحانه وتعالى جميع أسمائه الحسنى المتجلية بما أودع في نفس الإنسان من مزايا جامعة)(2). فلفظ الوجود هنا هو بمعنى الكون سواء. إلا أن استعماله لدى بديع الزمان غالبا ما يأتي من حيث هو صفة للكون، أي من حيث هو كائن، بمعنى الكينونة المفارقة للعدم.
فإذا أراد الحديث عن الكون بصفته الوجودية سماه (وجودا). وذلك نحو قوله رحمه الله: (ليست الروح البشرية وحدها لم تخلق للفناء، بل حتى أبسط المخلوقات كذلك لم تخلق للفناء بل لها نوع من البقاء، فالزهرة البسيطة - مثلاً - التي لا تملك روحاً مثلنا، هي أيضاً عندما ترحل بآلاف من الأوجه ظاهراً من الوجود تبقى صورتها محفوظة في كثير من الأذهان، كما يدوم قانون تراكيبها في مئات من بُذيراتها المتناهية في الصغر، فتمثل بذلك نموذجاً لنوع من البقاء)(3). (إن الوجود خير محض، والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل إلى الوجود، وكون العدم أساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.)(4)
ب - أضداده:
- العدم:
يرد العدم عند النورسي مضادا للكون من حيث هو (وجود). وإنما سمي الكون (كونا)؛ لأنه (كائن)، فالعدم نقيضه، ومضاده. والنصوص الواردة قَبْلُ في بيان مرادفة (الوجود) دالة على مناقضة (العدم). فلا داعي لإعادتها.
__________
(1) الكلمات:7.
(2) الكلمات: 828.
(3) الكلمات: 610.
(4) الكلمات: 553.
(21/165)
وإنما نبين ههنا طبيعة هذه (المناقضة)؛ ببيان حقيقة (العدم) ومفهومه، كما شاهده الأستاذ النورسي، في مقابلته لحقيقة الكون والوجود. فله عنده خصوصُ نظر، وتفرد إبصار! وذلك أنه - رحمه الله – أوغل بنا في النظر لهذا المفهوم إلى آخر حدود مدركات العقل البشري! فكانت له بذلك مشاهدات ذات عمق سحيق، تضرب في أبعاد النظر العقلي وأغوار الإبصار الذوقي الوجداني، بما يصعب على الفكر أن يتابعه بدقة متناهية! لقد وقف بنا النورسي بنظره هذا على شاطئ بحر العلم الإلهي المطلق! فقال لنا: انظروا هناك! فمن ذا قدير على التحديق في النور الخارق؟ وجرِّبْ إن شئتَ؛ (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ!)(الملك:4) حيث لا قدرة لمخلوق على الخوض، وإلا فيكون من الهالكين!
إن (العدم) الذي نسميه نحن عادة بهذا الاصطلاح؛ إنما هو نقيض مفهومي بسيط لمعنى الوجود. أو قُلْ: هو غيابٌ للوجود، وليس نقيضا حقيقيا له! ذلك أن العدم المحض هو من المستحيلات على التصور والإدراك! نعم، ولو على المستوى الذهني المجرد! فكيف إذن يكون له مفهوم ومعنى؟ والعدم بما يتحدث عنه الفكر البشري هو: معنى من المعاني! هذا خُلْفٌ إذن!
ولهذا فإن النورسي ميَّزَ بين معنيين للعدم: أحدهما هو ما اصطلح عليه بـ(العدم الخارجي)، والآخر سماه: (العدم المطلق) أو (الفناء المطلق). فهذا إنما هو اسم على غير مسمى! إذْ لا حقيقة لوجوده الذهني أو التصوري! وأما (العدم الخارجي) فهو فناء باعتبار خروجه من عالم (الوجود بالفعل)، إلى عالم (الوجود بالقوة)، أو بتعبير النورسي من دائرة تجليات (القدرة الإلهية) في عالم الشهود؛ إلى دائرة مكنونات (العلم الإلهي) في بحار الغيوب! فهو إذن؛ له حقيقة وجودية معنوية، كما سترى بحول الله موضحا بأمثلته البيانية.
(21/166)
قال رحمه الله في سياق الجواب عن سؤال كلامي: (أتشمل هذه الآية الكريمة: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ)(القصص:88) الآخرةَ والجنةَ وجهنَّمَ وأهليها، أم لا؟)
(الجواب: لقد صارت هذه المسألة موضع بحث كثير جداً من العلماء المحققين، وأصحاب الكشف والأولياء الصالحين. فالقول قولهم في هذه المسألة، فضلاً عن أن لهذه الآية الكريمة سعةً عظيمة جداً، مع تضمنها لمراتب كثيرة جداً. فقد قال القسم الأعظم من المحققين: لا تشمل هذه الآية عالم البقاء. في حين قال آخرون: إن تلك العوالم تتعرض أيضاً لنوع من الهلاك في زمن قصير جداً بحيث يعدّ آناً، وهو زمان قصير إلى درجةٍ لا يُشْعَرُ بذهابها إلى الفناء والعودة منه!
أما ما يحكم به بعض أصحاب الكشف المفرِّطين في أفكارهم من حدوث الفناء المطلق، فليس حقيقة ولا صواباً! لأن ذات الله سبحانه وتعالى دائمي وسرمدي، فلابد أن صفاته وأسماءه أيضاً دائمية وسرمدية. ولما كانت صفاته وأسماؤه دائمية؛ فلابد أن أهل البقاء والباقيات الموجودة في عالم البقاء - التي هي مراياها، وجلواتها، ونقوشها، ومظاهرها- لا تذهب بالضرورة إلى الفناء المطلق قطعاً!
وحالياً وردت نقطتان من فيض القرآن الحكيم إلى البال نكتبها إجمالاً:
أولاها: إن قدرة الله - جل وعلا - لا حدود لها، حتى إن الوجود والعدم بالنسبة إلى قدرته وإرادته تعالى كمَنْزِلَيْنِ، يرسل إليهما الأشياء ويجلبها منهما، بكل يسر وسهولة! فإن شاء يجلبها في يوم واحد، أو في آن واحد!
(21/167)
ثم إن العدم المطلق لا وجود له أصلاً؛ لوجود العلم المحيط، علماً أنه لا شيء خارج دائرة العلم الإلهي، كي يُلقى إليه شيء. والعدم الموجود ضمن دائرة العلم هو عدم خارجي، وعنوانٌ صار ستاراً على الوجود العِلْمي، حتى حدا ببعض العلماء المحققين إلى التعبير عن هذه الموجودات العلمية بأنها "أعيان ثابتة". لذا فالذهاب إلى الفناء، إنما هو نزع الأشياء لألبستها الخارجية مؤقتاً، ودخولها في وجود معنوي وعِلْمِي، أي أن الهالكات والفانيات تترك الوجود الخارجي وتلبس ماهياتها وجوداً معنوياً، وتخرج من دائرة القدرة؛ داخلة في دائرة العلم!)(1).
والمقصود بـ(دائرة القدرة) ههنا: تجليات القدرة الإلهية في عالم الأفعال، وليس المعنى أن هنالك شيئا يخرج عن دائرة قدرة الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! وإنما المقصود أن الشيء إذْ تنقطع عنه إرادة الإيجاد الإلهية؛ يفنى فورا! إذْ وجوده الحقيقي إنما هو بالله! فيخرج من (دائرة القدرة) إلى (دائرة العلم)، بمعنى أنه حينما يفنى بذاته فإنه يبقى بعلم الله تبارك وتعالى! وهذا معنى لطيف جدا! فيه من مشاهدة جمال التوحيد وجلاله حقائقُ إيمانية في غاية السمو والصفاء!
وبيان ذلك إنما ورد في سياق آخر عنده بصورة أوضح، قال رحمه الله: "إن الأشياء لا تمضي إلى العدم، ولا تصير إلى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة إلى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء إلى عالم النور والبقاء! وإن الجمال والكمال في الأشياء يعودان إلى الأسماء الإلهية، وإلى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة"(2).
__________
(1) المكتوبات:74-75.
(2) المكتوبات: 371.
(21/168)
ومثل له قبل ذلك بمثال عجيب، قال: "وهكذا فإن موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة، على سطح الأرض، الشبيه بمزهرة عظيمة، إنما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب إلى العدم. بيد أنه - أي الربيع - يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحِكَمَ الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات!"(1) فهو إذن زوال وفناء مادي فحسب، لكنه بقاء معنوي سرمدي!
وللمسألة عنده رحمه الله بيانٌ آخر، أورده بمنطق مصطلحه الخاص في معاني الوجود والعدم النسبيين، وهو الوجود (بالمعنى الاسمي) والوجود (بالمعنى الحرفي)، وهو القسم الثاني من التقسيم السابق في النص الأول، قال:
(النقطة الثانية: لقد أوضحنا في كثير من "الكلمات": أن كل شيء فانٍ بمعناه الإسمي، وبالوجه الناظر إلى ذاته، إذْ ليس له وجود مستقل ثابت بذاته، وليست له حقيقة قائمة بذاتها وحدها. ولكن الشيء في الوجه الناظر إلى الله سبحانه - أي إذا صار بالمعنى الحرفي - فليس فانياً؛ لأن فيه جلواتٍ ظاهرةً لأسماء باقية، فلا يكون معدوماً؛ لأنه يحمل ظلاً لوجود سرمدي، وله حقيقة ثابتة، وهي حقيقة سامية؛ لأنها نالت نوعاً من ظل ثابتٍ لاسم باقٍ!(2).
ثم إن قوله تعالى: (كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وَجْهَه) هو سيفٌ ليقطع يد الإنسان عمّا سوى الله تعالى! حيث إن الآية تقطع العلائق مع الأشياء الفانية، في دنيا فانية، في غير سبيل الله. فحكم الآية الكريمة أنها تنظر إلى الفانيات في الدنيا، بمعنى أن الشيء إن كان في سبيل الله، أي إن كان بالمعنى الحرفي، أي إن كان لوجه الله؛ فلا يدخل ضمن ما سواه تعالى! أي لا يُضْرَبُ عنقُه بسيف الآية الكريمة: (كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وَجْهَه).
__________
(1) المكتوبات:380.
(2) ينظر شرح هذين المفهومين عند النورسي: (الوجود بالمعنى الاسمي) و(الوجود بالمعنى الحرفي) ضمن دراسة مصطلح: (التوحيد) بالفصل الأول من هذا البحث.
(21/169)
حاصل الكلام: إذا كان الأمر لله، ووُجِدَ لله، فلا غير إذن حتى يُقطع رأسه! ولكن إن لم يوجد الله، ولم ينظر في سبيل الله فكل شيء غيرٌ. فعليه أن يسلّ سيف: (كلّ شيءٍ هالكٌ الاّ وَجْهَه)! ويمزّق الحجاب؛ حتى يجده سبحانه تعالى!)(1) يعني: حتى يجده تعالى وحده دون سواه! فلا يتعلق بأوهام الظلال دون حقائقها؛ فيكون من الخاسرين! إذْ لا حقيقة لشيء فيما سواه؛ إلا به تعالى! وأي شيء في الوجود يقوم بغيره جل وعلا، وهو الحي القيوم على كل شيء؟ (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر:62).
وهذا لعمري معنى لطيف جدا، من أدق المعاني وألطفها، في بيان حقيقة مفهوم (العدم) ومعنى (الفناء)، بالنسبة إلى علم الله جل وعلا، وقدرته سبحانه. وإنما هو مشاهدة من مشاهدات (الإعجاز المعنوي) للقرآن العظيم، وقَفَتْ بنا خاشعين بين يدي الله، على شاطئ بحر العلم الإلهي، ومطلق القدرة الرحمانية العظيمة! وما كان لها أن تكون لبديع الزمان؛ لولا أنها قبسٌ إلهامي من نور القرآن.. فإلى مثلها تشد الرحال!
ثالثا- ضمائمه:
الآيات الكونية:
الآيات الكونية: هي الدلائل الوجودية من كل الكائنات، من حيث كل منها حرف ذو مغزى - بالمعنى الحرفي – منصوب للدلالة على الصانع الجليل.
قال بديع الزمان: (نعم! إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور. وهو الذي ينظر إلى الموجودات - التي كل منها حرف ذو مغزى - بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات)(2).
__________
(1) المكتوبات: 75.
(2) الكلمات:143.
(21/170)
- ثمرة الكون: هي الإنسان. قال بديع الزمان: (العقل والقلب هما بحكم نواة الإنسان ولبّه وبفضلهما استطاع أن يصبح ثمرة الكون، ويملكان من القدرة على الانبساط والاتساع ما يمكنهما أن يطويا العالم كله رغم صغرهما!)(1) وذلك أن الإنسان كما درسناه عند النورسي (هو ثمرة شجرة الخلق، والفهرست الكوني الجامع، العاكس الأكمل للأسماء الحسنى، الساعي لتحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته، المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض؛ عبادةً كليةً لله الواحد الأحد)(2).
وبهذا المعنى كان الإنسان ثمرة الكون. وقال أيضا: (إن الإنسان هو حقاً أكرم ثمرة لشجرة الكون)(3).
الحقائق الكونية: هي ما كشفه القرآن من الأسرار الطبيعية المودعة في الكون.
قال بديع الزمان في سياق حديثه عن صدق نبوة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، منبها إلى: (إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والأمور الأخروية)(4) وقال عن الناس في السياق نفسه: (لم يصلوا إلى أصغر تلك الحقائق وأبسطها بعقولهم. ثم إن عقول البشر ستقول بلا شك أمام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي أظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها إلى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه)(5).
الحوادث الكونية:
__________
(1) الشعاعات: 160.
(2) انظر تفصيله في مصطلح الإنسان بهذا البحث.
(3) الكلمات:640.
(4) الكلمات:470.
(5) الكلمات:471.
(21/171)
الحوادث الكونية: هي وقائع خلق الكون وتدميره، من يوم بدء الخلق إلى يوم الهدم إلى يوم الإعادة. وذلك نحو قوله تعالى في البدء: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ!) (فصلت:9-11) وقوله جل وعلا في الإعادة: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104).
كل ذلك ونحوه يسميه بديع الزمان: (حوادث كونية). وصدقها دال على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال رحمه الله في سياق بيان أدلة صدق القرآن ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -: (بيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما سيأتي منها مع أميّته (...) يؤكد أن القرآن سماوي، وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم)(1).
السنن الكونية:
السنن الكونية: هي الإرادة الإلهية التكوينية، المتعلقة بقوانين الطبيعة وأسرارها التسخيرية. أي العادات الجارية التي تربط بين الأسباب والمسببات.
__________
(1) الكلمات: 521.
(21/172)
قال بديع الزمان: (إن انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على أسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاناً عن صدق دعوته)(1). وقال في سياق الشرح والبيان: (الشرع التكويني - أو السنة الكونية - الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة "الإرادة الإلهية")(2).
ولأن الأمر كذلك، أي بما أن السنن الكونية هي أسرار التسخير الكوني، وقوانين الطبيعة الجارية؛ فإن بديع الزمان أولاها اهتماما خاصا؛ إذ عليها قيام النهضة المادية. وحيازة قصب السبق الحضاري في المجال الدنيوي. وهو أمر مهم جدا في حياة المسلمين، من حيث قانون التدافع الحضاري مع الأمم الأخرى من جهة، ومن حيث إن الدنيا مزرعة للآخرة من جهة أخرى. ولذلك قال رحمه الله: (وغالباً ما يرى (...) مطيع الشريعة والعاصي لها جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. (...) ومطيع السنن الكونية والعاصي لها غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا)(3). ومن هنا كان نداؤه للأمة الإسلامية عاليا؛ من أجل التنبيه والانتباه إلى هذا الأمر الخطير، قال رحمه الله في خطبته الشامية الشهيرة: (يا أولياء الأمور! إن أردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة أعمالكم للسنن الإلهية في الكون - أي قوانين الله - وإلاّ فلن تحصدوا إلاّ الخذلان والإخفاق!)(4)
__________
(1) الكلمات:704.
(2) الكلمات: 872.
(3) الكلمات: 872.
(4) صيقل الإسلام: 531.
(21/173)
وفسر ذلك في موطن آخر في درس عجيب، قال: (إن الصانع ذا الجلال وهو القادر على كل شئ، هو نفسه خالق الأسباب، وخالق المسبّبات، وهو الذي يربط المسبّبات بالأسباب بحكمته سبحانه، وقد عين بإرادته طبيعة الأشياء، وجعلها مرآة عاكسة لتجليات الشريعة الفطرية الكبرى التي فطر عليها الكون، والتي هي قوانين الله وسننه الجارية التي تخص تنظيم شؤون الكون، وقد أوجد بقدرته وجه "الطبيعة" التي يقوم عليها عالم الشهادة الخارجي الوجود، ثم خلق الأشياء وأنشأها على تلك الطبيعة ومازج بينهما بتمام الحكمة) (1). إن القوانين سنن الله الجارية في الكون والتي هي عناوين لنواميس الإرادة الإلهية، قد أطلق البشر على إحدى تلك القوانين اسم "الكهرباء")(2). ذلك (أن الطبيعة هي شريعة إلهية كبرى أوقعت نظاماً دقيقاً بين أفعال وعناصر وأعضاء جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة. هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بـ"سنة الله" و"الطبيعة" وهي محصلة وخلاصة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية في الكون)(3). تلك إذن هي: (الشريعة الآتية من صفة الإرادة التي تسمى بالأوامر التكوينية، والشريعة الفطرية، وهي محصلة قوانين عادات الله الجارية في الكون)(4). تلك السنن التي لا تحابي أحدا، من أخذ بها أخذ بأسباب النجاح والفلاح، ومن أعرض عنها كان في الدنيا من المتخلفين، وجرى يلهث خلف ركب الأمم.
شجرة الكون:
__________
(1) اللمعات: 286.
(2) الملاحق – ملحق أميرداغ 2 : 413.
(3) المثنوي العربي النوري: 425.
(4) المثنوي العربي النوري: 426.
(21/174)
شجرة الكون: هي مجموع النظام الكوني. وإنما سماه بديع الزمان شجرة من حيث إن بعضه ينبني على بعض، ويخرج بعضه من بعض، كانبناء الفرع على الأصل. فكان الإنسان خلاصة النتاج الأخير، والثمرة الجامعة كما بيناه قبل. قال رحمه الله: (إن الإنسان هو حقاً أكرم ثمرة لشجرة الكون)(1). وقال أيضا الإنسان: (خاتمة ثمرات شجرة الكون وأجمع ما فيها من الصفات)(2).
الشريعة الكونية:
الشريعة الكونية: هي مجموع السنن الكونية ونظامها الكلي. قال رحمه الله: (إن ترك المستعد لما هو أهل للقيام به، وتشبثه بما ليس أهلاً له، عصيان كبير وخرق فاضح لطاعة الشريعة الكونية (شريعة الخلقة). إذ من شأن هذه الشريعة: انتشار استعداد الإنسان ونفوذ قابليته في الصنعة، واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها، وامتثال نواميسها والتمثل بها)(3).
طلسم الكون:
الطلسم: هو اللغز الغامض. وطلسم الكون: هو لغز الكون بمعناه الوجودي. إنه سؤال: "ما معنى وجود الكون؟" أي أنه الأسئلة الفلسفية الخالدة المشهورة: (من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟) بمعناها الإشكالي، حينما تطرح حول الكون والإنسان والحياة والمصير! والقرآن وحده يملك حل ذلك اللغز وكشف طلسمه.
__________
(1) الكلمات: 640.
(2) الشعاعات: 272.
(3) صيقل الإسلام: 66.
(21/175)
يقول بديع الزمان: (إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم!)(1). ويقول أيضا: (إن الإيمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء)(2). ويقول في سياق آخر أبين: (إن تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار وإظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الألماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الإنسانية؛ ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق)(3).
فهرس الكون:
فهرس الكون: هو الإنسان، وذلك من حيث هو (ثمرة الكون) كما سبق بيانه. وقد ورد في دراستنا لمصطلح الإنسان عند بديع الزمان أن معنى كونه (فهرستا) أو (فهرسا) هو راجع إلى ثمريته الوجودية؛ إذ (من اللازم لما سبق، من كون الإنسان (ثمرة لشجرة الخلق) أن يكون أيضا (فهرستا) لهذا الكون الفسيح. إذ الثمرة هي مجمع كل الخصائص الوراثية الجينية للشجرة بأكملها. تحتوي في نواتها على كل العناصر المكونة لمادة الشجرة، بدءا بالوريقات الأولى حتى الجذوع والأغصان ثم الأزهار والثمار! كل ذلك مضمن بصورة مركزة جدا في نواة الثمرة، التي إن غرستها كانت منها بعد ذلك شجرة أخرى. فبهذا المثال الاستعاري يقدم لنا بديع الزمان صورة الإنسان كمخلوق مركزي في هذا الكون الفسيح(4).
__________
(1) الكلمات: 506.
(2) الكلمات: 26.
(3) الكلمات:466.
(4) انظر تعريف مصطلح (الإنسان) بهذا البحث.
(21/176)
يقول بديع الزمان عن الحياة مبينا أن (القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها - أي الحياة - وسيلةٌ لانطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرس الكون العظيم، كما تجعله في رباط وثيق مع معظم الموجودات)(1). ويقول: (ألا ترى معجزات القدرة في وجهي؟ وخوارق الصنعة في فطرتي؟ فان استطعت أن تشاهدها، فستدرك أن خالقي لا يخفى عليه شئ، ولا يصعب عليه أمر (...) وهو الذي ادرج فهرس الكون العظيم في ماهيتي بانتظام دقيق)(2). ومن هنا تصريحه الواضح في اللمعات، يقول: (كما أن الإنسان عالَم صغير، كذلك العالم إنسان كبير. فهذا الإنسان يمثل خلاصة الإنسان الكبير، وفهرسه. فالنماذج المصغرة في الإنسان لا بد أن أصولها الكبيرة المعظمة موجودة في الإنسان الأكبر بالضرورة)(3).
قلب الكون:
__________
(1) اللمعات: 558.
(2) الكلمات: 713.
(3) اللمعات:3/127.
(21/177)
قلب الكون: في اصطلاح بديع الزمان النورسي هو الأرض! وذلك من حيث كونها موطن الإنسان، باعتباره ثمرة شجرة الكون كما تم بيانه. فمن هنا كانت الأرض قلب الكون. يقول: (إن الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد أصبحت مَشْهَرَاً لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشراً لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممراً لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجداً لعباده المتراصين صفوفاً عليها، ومقراً لأداء عباداتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نوراً وضياءً)(1). وقال أيضا: إن(هذه الأرض قد أصبحت ذات أهمية عظمى من حيث احتواؤها على كثرة المخلوقات، ومئات الألوف من أنواع ذوي الحياة والأرواح المختلفة المتبدلة، حتى صارت قلب الكون وخلاصته، ومركزه وزبدته ونتيجته وسبب خلقه. فذُكرت دائماً صنواً للسماوات كما في ( رَبُّ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ) في جميع الأوامر السماوية)(2)، وبين تفسير ذلك وعلته فيما أورده من كلامه المفصل بـ(الكلمات) على سبيل البيان والتعليل، قال: (ومن هنا فان مهد هذا الإنسان ومسكنه وهو الأرض كفء للسماء معنىً وصنعةً. ومع صغر الأرض وحقارتها بالنسبة إلى السماء فهي قلب الكون ومركزه.. ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية.. ومظهر جميع تجليات الأسماء الحسنى وبؤرتها.. ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة ومحشرها وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق، ولاسيما عرضها لكثرة كاثرة من النباتات والحيوانات.. وهي نموذج مصغر لما يعرض في عوالم الآخرة من مصنوعات.. و مصنع يعمل بسرعة فائقة لإنتاج المنسوجات الأبدية والمناظر السرمدية المتبدلة بسرعة.. وهي مزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بذور البساتين الدائمة الخالدة)(3).
كتاب الكون:
__________
(1) الكلمات: 812.
(2) الكلمات:111.
(3) الكلمات:204.
(21/178)
كتاب الكون: هو مجموع الكائنات من سائر الخلائق، من حيث هي آيات وجودية ناطقة بتوحيد الله، ودالة عليه تعالى. كما هو شأن آيات القرآن تماما. ولذلك سماه (قرآن الكون) أيضا.
يقول رحمه الله: (أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر إلى كتاب الكون نظرتها إلى الحروف - الدالة على كاتبها - فقد نظرت إليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا! بدلاً من: ما أجمل خلق هذا!)(1). وقال في مثل هذا السياق: (إن فلسفة البشر وحكمته تنظر إلى الدنيا على أنها: ثابتة دائمة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكراً مفصلاً مسهباً، بينما لو ذكرتْ وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فإنها تذكرها ذكراً مجملاً مقتضباً. أي أنها تفصّل في ذكر نقوش كتاب الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماماً كبيراً)(2). ومن هنا سماه قرآنا أيضا كما أشرنا قبل، من حيث إن وظيفته كوظيفة القرآن المكتوب، التي هي: الدلالة على الله والهداية إليه، قال رحمه الله: (إن الشخصية المعنوية للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما أنها الآية العظمى من قرآن الكون)(3).
خلاصة:
القرآن تفسير الكون والحياة.
__________
(1) الكلمات: 143.
(2) الكلمات:508.
(3) اللمعات: 556.
(21/179)
إن الذي استفاده بديع الزمان النورسي من تفكراته الكونية؛ أنه استطاع أن يجمع بين القراءتين في نسق عجيب: قراءة القرآن المتلو، وقراءة القرآن المنظور؛ فكان أن نسج بينهما منافذ للفهم والتفسير قدمها للناس في شكل ما سماه بـ(كليات رسائل النور). إن اعتباره القرآن الكريم أعظم تفسير للكون جعله يدرك العلاقة الرابطة بين كلام الله جل وعلا وبين ملكوته. ولذلك قال رحمه الله: (إن القرآن الكريم "المقروء" هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم "منظور")(1)، الأمر الذي جعله يدخل باب العبادة في الحياة؛ وكأن هذا الكون مسجد كبير، مهيأ أصالة لعبادة الله رب العالمين. فهو إذن في مسجده حيثما حل وارتحل! ومن هنا قوله رحمه الله: (إن القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا، فلننصت إليه! ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم؛ حتى يكون لساننا رطباً بذكره وتلاوته!)(2) بذلك أساسا ربط بديع الزمان النورسي بين القرآنين، وبذلك كان لرسائله ذوقها، وكان لدعوته أثرها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفصل الرابع
مصطلح
مصطلح (القرآن)
تمهيد:
مصطلح القرآن هو المفتاح الأول والأساس لفهم حركة النور التي قدح بديع الزمان النورسي وميضها في ربوع تركيا، لتنطلق بعد ذلك شعاعا يمتد إلى كل العالم عبر كليات رسائل النور!
__________
(1) الكلمات:143.
(2) الكلمات: 30.
(21/180)
فلم تكن عبقرية بديع الزمان النورسي - رحمه الله - غير رشحة من رشحات القرآن العظيم، وومضة من ومضاته المتدفقة أبدا على العالمين! فالقرآن نور رباني عظيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا)(النساء:174). فلم يزل – منذ نزوله على محمد - صلى الله عليه وسلم -- متدفقا على البشرية من الأعالي! كما قال شاعر الإسلام في العصر الحديث محمد إقبال:
تجلي النور فوق الطور باقٍ *** فهل بقي الكليم بطور سينا؟
ذلك هو القرآن، النور الإلهي المبين! وإنما تتلقاه القلوب الصقيلة الصافية. فهي وحدها تعكس من أشعته على قدر صفائها، فإذا بها تتلألأ في الآفاق مثل النجوم! واقرأ إن شئت قول الله جل علاه: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(النور:35)
(21/181)
من هنا إذن؛ من منابع النور.. انقدحت مواجيد بديع الزمان النورسي؛ فكانت (كليات رسائل النور)! لقد انجلى لبصيرته النافذة أن التحدي الرهيب للدين، ولحقائق الإيمان في هذا العصر العصيب؛ لن يقف في وجهه غير سيف القرآن البتار! فنبذ كل الأسلحة إلا سلاح القرآن العظيم. وانبرى لإعلان إعجاز القرآن بلغة جديدة ومنهج جديد، منهج مستوحى من القرآن نفسه، فكان له – لذلك - من النجاح ما شهدت به الأيام بعدُ؛ بأعلى صوت الزمان وملء فمه! واستطاع بحركته القرآنية أن يشق ظلمات الضلالة والإلحاد، بشعاع القرآن وحده، وأن يبني جيلا من طراز فريد، يتحدى به كل أنواع الفتن، فأنبت حقائق الإيمان ريانة خضرة، على أرض أحرقتها الزندقة الجديدة وألهبت كل نبتة للخير فيها! لكن كشف حقائق الإيمان برسائل النور، وإظهار إعجاز القرآن للعالمين في هذا العصر كانت له جولة جديدة من جولات المعجزة المحمدية الخالدة، تلك المعجزة التي نطق بها القرآن العظيم، وجعلها حقيقة كونية سرمدية قاهرة: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة:32-33).
ذلك سر من أسرار القرآن! فلنطل إذن مع بديع الزمان على بعض ذلك من خلال ما عرضه من مشاهدات عن القرآن!
- أولا: التعريف:
أ - في اللغة:
(21/182)
تكاد تجمع معاجم اللغة على أن الأصل الدلالي لمادتي: (قرأ) و(قري) إنما هو معنى الجمع والاجتماع، وما تفرع عنه. سواء همزت آخره أم لم تهمزه، فهو في ذلك سواء. ومنه سمي (القرآن) قرآنا؛ لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص والعبر، أو لاجتماع آيه وسوره وتألفها. قال ابن فارس: (القاف والراء والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على جمع واجتماع. من ذلك القرية؛ سميت قرية لاجتماع الناس فيها. ويقولون: قَرَيْتُ الماءَ في المقراة: جمعته (...) وإذا هُمِز هذا الباب كان هو والأول سواء (...) قالوا: ومنه القرآن، كأنه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك)(1).
وقال صاحب مختار الصحاح: (قرأ الكتابَ قراءة وقُرآنا بالضم. وقرأ الشيء قُرآنا بالضم أيضا: جمعه وضمه. ومنه سمي (القرآنُ)؛ لأنه يجمع السور ويضمها)(2).
وذلك ما نجده لدى ابن منظور، رغم ما أورده من كثرة الاستعمالات للمادة اللغوية، ودلالاتها. قال رحمه الله: (قَرَأَهُ يَقْرَؤُه ويَقْرُؤُه (...) قَرْءاً وقِراءَةً وقُرْآنا (...) يسمى كلام الله تعالى الذي أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كتابا وقرآنا وفرقانا. ومعنى القرآن: معنى الجمع. وسمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها. وقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )(القيامة:17) أي جمعه وقراءته. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:18) أي قراءته. (...) وقال بعضهم: قرأتُ: تفقهتُ. ويقال: أَقْرَتُ في الشعر، وهذا الشعر على قَرْء هذا الشعر: أي على طريقته ومثاله. (...) والقَرْءُ: الوقت. قال الشاعر:
إذا ما السماء لم تَغِمْ ثم أخْلَفَتْ *** قُروءَ الثُّرياَّ أنْ يكون لها قَطْرُ
يريد وقت نوئها الذي يمطر فيه الناس.
(...) والقَرْء والقُرْء: الحيض، والطهر ضد. وذلك أن القرء الوقت، فقد يكون للحيض والطهر)(3).
__________
(1) المقاييس، مادة: (قري).
(2) مختار الصحاح، مادة: (قرأ).
(3) اللسان: (قرأ).
(21/183)
وربما كان الأصل - من حيث الوضع اللغوي - لمادة (قرأ) دالا على الجمع، فكانت (القراءة) - بمعنى: تلاوة الحروف - من فروعه، من حيث إن القارئ يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض عند التلاوة؛ إلا أن الإشكال هنا هو: هل اسم (القرآن) من الجمع بمعنى الوضع الأول، أم بمعنى القراءة والتلاوة التي هي فرع استعمالي؟
فرغم أن أغلب كتب اللغة - كما رأيت - مالت إلى ترجيح الأول فإن أبا جعفر الطبري (المتوفى سنة:310هـ) مال في تفسيره - وهو من الأصول اللغوية أيضا - إلى ترجيح الثاني. أي أن (القرآن) - عنده - إنما سمي كذلك؛ لأنه يقرأ بمعنى: يتلى، وليس بمعنى يُجمع. قال رحمه الله: (فأما القرآن: فإن المفسرين اختلفوا في تأويله. والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس، من التلاوة والقراءة. وأن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت القرآن، كقولك الخسران من خسرت، والغفران من غفر الله لك. (...) وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض. كقولك ما قرأت هذه الناقة سلاً قط: تريد بذلك أنها لم تضم رحما على ولد (...).
ولكلا القولين، أعني قول ابن عباس وقول قتادة اللذين حكيناهما وجه صحيح في كلام العرب. غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى: " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قرآنه"(القيامة:17-18) قول ابن عباس؛ لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحي إليه، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن!)(1).
__________
(1) جامع البيان:1/42ـ43.
(21/184)
والراجح - والله تعالى أعلم - أن يكون المعنيان معا مقصودين في دلالته اللغوية؛ وذلك بغض النظر عن خصوص دلالة آية سورة القيامة، مما أورده أبو جعفر رحمه الله، فلا يمنع ورود المعنى الجزئي أن يكون الكلي - وهو أشمل منه طبعا - مقصودا أيضا. فيكون (القرآن) قد سمي بذلك؛ لجمعه المعاني كلها. وهو معنى وجيه جدا. قال عز وجل: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(الأنعام:38) ولأنه مؤلف مجموع متناسق، ثم لأنه إنما أنزل ليقرأ ويتلى. وكل ذلك حسن جدا في معنى (القرآن) لغة. فلا تزاحم بين هذه المعاني جميعها، ولا تعارض.
وهذا ما يفهم أيضا مما أورده الراغب الأصفهاني(ت:502 هـ) - من قبل - في كتابه القيم (المفردات في غريب القرآن). قال رحمه الله: (القراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل (...) قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله: لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم! كما أشار إليه بقوله: " وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ "(يوسف:111) وقوله: " تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ "(النحل:89)(1)
ولعل هذا المسلك التوفيقي بين الدلالتين اللغويتين، هو الأقرب إلى تفسير بديع الزمان النورسي لمفهوم القرآن الكريم، من حيث هو اصطلاح، كما سترى بحول الله.
ب - مصطلح (القرآن) بمشهود بديع الزمان النورسي:
هذا، وأما تعريف (القرآن) عند النورسي من حيث هو مصطلح، وُضِع للدلالة العَلَمية على (كلام الله رب العالمين، المنزل على رسوله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر) على حد تعبير علماء القرآن؛ فقد كانت له فيه صياغة لطيفة خاصة. إلا أنها كانت من مخاض المعاناة الوجدانية، والتجربة التفكرية.
__________
(1) المفردات: (قرأ).
(21/185)
فالنورسي رحمه الله ملم طبعا بتعريفات المفسرين وعلماء القرآن، لكنه لم يكن يقصد في بيان (مفهوم القرآن)؛ إلى صياغة تعريف رسمي أو حدّي - على طريقة المناطقة - غايته حصر العقول في معنى (القرآن) من حيث هو (مصحف مكتوب)، بما لا يدع مجالا للخلط بينه وبين غيره، أو تحريفه بالزيادة والنقصان، فتلك غاية تكفل الله بها سبحانه، إذ قال عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9). وعلماء القرآن والمفسرون ثم حفاظ الأمة من ورائهم، هم الذين سخرهم الله جل جلاله؛ لتنفيذ هذه المهمة العظيمة. إلا أن بديع الزمان ما كان يسعى إلى هذا، بقدر ما كان يسعى إلى محاولة تعريف (القرآن) من حيث هو (كلام رب العالمين) المتوجه برسالته إلى الإنسان حامل الأمانة! فكأنه رحمه الله كان يروم تعريف (القرآن) من حيث هو مضمون، ومقاصد، لا أحرف ورسوم. بمعنى أنه كان يحاول تعريف القرآن من حيث هو رسالة ربانية، تحدد غاية الوجود البشري في الكون، وتلخص قصة التكوين، وترسم للإنسان مدار فلكه الذي ينبغي له أن يسلكه إلى ربه.
وهنا مكمن الصعوبة، أو قل المغامرة؛ وذلك راجع إلى الطبيعة (المطلقة) لهذا المصطلح من جهة، فهو كلام الله جل جلاله؛ وإلى كون الأستاذ إنما حاول تعريف (القرآن) عبر (المشاهدة) و(التفكر الوجداني). وهو مما يصعب - إن لم يستحل - نقل معانيه عن طريق اللغة الواصفة!
(21/186)
لقد تحاشى بديع الزمان - في تعريفه للقرآن - التعريف المنطقي التقليدي للمصطلحات والمفاهيم، من (حدود) و(رسوم)، وجاء بتعريف (ذوقي)، لا يطمع إلى الإحاطة بالمفهوم، إذ كلمات الله لا يحيط بها أحد، وإنما حاول خلاله (تذويق) المتذوقين: (ما القرآن؟). و(الذوق) لا يقع في العادة إلا على جزء. لكنه إذا كان ذوقا صحيحا أنبأك عن طبيعة الباقي على الجملة، وصور لك مخايل المعنى الكلي غيبا، وغمرك شوقا إلى تذوق الباقي. ومن هنا سمى النورسي ما صاغه من تعريف لمصطلح القرآن: (لمعة من تعريف القرآن)(1).
وبالرغم من أنه سماه (لمعة)؛ إلا أنه لم يرد في جملة واحدة، أو جمل قصيرة على غرار التعريفات المنطقية القائمة على تحديد الفصول والخصائص. بل جاء في فقرات من البيانات الإشارية، والعبارات الذوقية؛ لأن النورسي رحمه الله كان يعلم، بل كان يشعر و(يجد) أنه بإزاء الحديث عن (كلام الله)! وكفى بذلك عظمة أن لا يحدث عنه الإنسان إلا رمزا! وأي عبارة في اللغة بإمكانها أن تحيط بحرارة الشوق، وأنوار المشاهدة، التي تتدفق على قلب المشاهد لجمال القرآن وجلاله؟ والنورسي شاعر بذلك، ومعتبر له في تعريفه. قال رحمه الله: (إن الكلام الإلهي سبحانه لا نهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف:109))(2)
ونحن هنا بحول (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي الله) نورد تعريفه أولا، ثم ندرسه؛ لبيان المقاصد التذويقية التربوية التي تضمنها، والفضاءات الوجدانية التي سبح فيها، وآثار ذلك كله على المتلقي مما هدف إليه النورسي وقصده في هذا التعريف.
قال رحمه الله: (فإن قلت: القرآن ما هو؟ قيل لك:
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/22.
(2) الشعاعات:4/189.
(21/187)
"هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم.. وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض. وكذا هو مفتاح الحقائق والشؤون المضمرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية، والالتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قول شارح، وتفسير واضح، وبرهان قاطع، وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه.
وكذا هو مرب للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد الهادي إلى ما خلق البشر له. وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر.
وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة، في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل؛ حتى إنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة، من الأولياء والصديقين، ومن العرفاء والمحققين؛ رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل)(1).
يتضمن هذا التعريف الهام ثلاثة مقاطع معنوية كبرى، كل مقطع منها مؤلف من إشارات تعريفية مختلفة، بيد أنها تشكل بمجموعها - ضمن كل مقطع - وحدة موضوعية متكاملة. وهذه الوحدات الثلاث، هي:
- أولا: كونية القرآن الكريم. وتبتدئ من قوله في البداية: (هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات) إلى قوله: (وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه).
__________
(1) إشارت الإعجاز:5/22 والمكتوبات:2/267.
(21/188)
- ثانيا: رسالية القرآن الكريم وغايته التعبدية. وتبتدئ من قوله بعد: (وكذا هو مرب للعالم الإنساني) إلى قوله: (كذلك هو كتاب فكر).
- ثالثا: عرضه الكثرة من عين الوحدة. وتبتدئ من قوله (وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة) إلى قوله في نهاية التعريف: (حتى كأنه مجموعة الرسائل).
إلا أن هذه الوحدات الثلاث ناطقة جميعها بجملة واحدة، هي جوهر التعريف. وعنها صدر كل هذا التوصيف للقرآن الكريم. هذه الجملة هي: أن (القرآن كلام الله رب العالمين). فهذه الجملة المعنوية الكبرى هي أم الوحدات الثلاث المذكورة. وإنما قال النورسي ما قاله فيها من عبارات تعريفية ذوقية؛ انبهارا بهذه الحقيقة الوجودية العظمى: (كلام الله)! وهو ما صرح به النورسي رحمه الله في مواطن عديدة من رسائل النور، كما سترى بحول الله.
فانضاف إلى الوحدات الثلاث المذكورة إذن؛ وحدة رابعة هي جماع المفهوم، وفص المصطلح المكنون بين جواهره ولآلئه. فلنتحدث عن كل ذلك، كما ورد في كلمات بديع الزمان ومواجيده الحَرى:
1- القرآن كلام الله:
(21/189)
إن ما بهر النورسي من ذلك، وأفاض مشاعره؛ هو أن القضية هنا هي من العظمة والرهبة؛ بحيث يستحيل على القلب البشري تحمل مواجيدها! بدءا بالتفكر في هذا الكون الشاسع، الممتد في فضاءات لا يحدها بصر ولا تصور ولا خيال! وما يسبح في من نجوم وكواكب ومجرات وسدم غائرة بعيدة بملايين السنوات الضوئية، وما يحيطها من سماوات بعضها فوق بعض، وما يعمرها من خلائق نورانية، مما لا يدرك له كنه، ولا صورة، إلى ما بين هذا وذاك، من طبقات الزمان المختلفة؛ عدا، وتقديرا، ونسبة، من الأيام والسنوات، قد يختزل اليوم الواحد منها (أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)(السجدة:5) إلى (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(المعارج:4)! ورب هذه العوالم جميعها، الخالق لها، والمحيط بأزمنتها وأمكنتها كلها، المدبر شؤون حياتها ومماتها وأرزاقها، بقيوميته الممتدة من الأزل إلى الأبد، المالك زمام أحوالها بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، سبحانه وتعالى! هذا الرب الرحمن الرحيم، والملك العظيم، المتنزه في مطلق علوه، وسموه، وجلاله، وكبريائه؛ يقَدّر برحمانيته ورحمته أن يكرم الإنسان، هذا المخلوق الضعيف الضئيل، القابع في الأرض هذا الكوكب الضئيل السابح في بحر عظيم زاخر بأمواج السدم والمجرات، فيكون من أعظم مقامات هذا التكريم؛ أن يخاطبه بهذا الكلام الإلهي العظيم: القرآن الكريم!
فكيف للنسبي الفاني أن تتحمل مواجيده كلام المطلق الباقي؟ كيف للقلب المحكوم بالزمان والمكان، أن تستوعب خفقاته المعدودة، وأنفاسه المحدودة؛ وقع الكلام الخارق للزمان والمكان؟
(21/190)
تلك هي القضية المزلزلة للكيان الإنساني، في قلب الأستاذ الذواقة، بديع الزمان سعيد النورسي، والمفجرة لكل طاقاته الوجدانية، التي سطرها ألحانا وأنغاما في رسائل النور. فمن ذا قدير إذن؛ على وضع حد معرف، أو رسم شارح لـ(مفهوم القرآن الكريم)؟ وما زعم النورسي أنه يعرف القرآن على سبيل (الحد الجامع المانع) بتعبير المناطقة، وما قدمه من تعريف؛ إنما هو فيض من أنوار قلبه، وما قلبه إلا قمر من الأقمار السيارة، العاكسة لأشعة الأسماء الحسنى! فأكرم بذلك مقاما للعارفين الصديقين! وأما كتاب الله فلا تحيط به حدود، ولا ترسمه تعريفات! وإنما غاية الأقمار السالكة في فلكه أن تقتبس منه (لمعة من تعريف) كما عبر النورسي من قبل.
قال رحمه الله في تعريف ملخص للتعريف السابق، وشارح له في الآن نفسه، ومبينا كيف أن مصدرية القرآن العليا، من حيث هو (كلام الله)؛ قد رفعته فوق كل الحدود والرسوم: (إن مَنْحَ القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعا - تلك الكلمات التي لا تحدها حدود - مرده أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم، ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى. فهو كلام الله بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السماوات والأرض، وهو مكالمة سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني، نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية (...) وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة. ولأجل هذه الأسرار أطلق على القرآن الكريم بما هو أهله ولائق به؛ اسم: (كلام الله)!)(1).
__________
(1) الكلمات:1/147.
(21/191)
إن حقيقة كون القرآن الكريم (كلام الله رب العالمين) تجعل المؤمن - إذ يقرؤه ويرتله أو يتدبره ويتدارسه - يَنشَدّ إلى أشعة الأسماء الحسنى، ويتعلق بأنوار الربوبية. وذلك من أعظم ما غمر قلب بديع الزمان، وصاغ معماره المنقوش بالمحبة المتوقدة! ولذلك قلنا: إنه إنما انبهر بالقرآن من حيث هو خطاب رباني، وما فاض عنه من مواجيد مفهومية أو تفسيرية؛ إنما فاض من حيث تدبره لهذه الحقيقة العظمى التي لا تطاق! وذلك ما أشار إليه في النص السالف، وهو ما فتئ يكرره ويعيده، تماما كما يكرر المحب اسم محبوبه، بغير إرادة منه ولا اختيار. وذلك نحو قوله الذي يشبه نوعا من الانجذاب: (القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين)(1). ربما يقول قائل: إن هذا الكلام بدهي! أي أن (القرآن هو كلام رب العالمين)؛ كلا! إن النورسي لم يتكلم بعبارات وإنما تكلم بدلالات ومعان! وهي بكل تأكيد من غرائب الحقائق. فقوله هذا رحمه الله: (القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين) فيه دلالة واضحة على أنه ينبه إلى أمرين:
- الأول: غفلة الناس عما بين أيديهم! فهذا القرآن مكتوب في المصاحف المنتشرة في كل مكان، وبين أيدي كل الناس. ولكن المشكلة أن آفة التعود قتلت حاسة التدبر والتفكر في الإنسان. فعميت البصائر أن ترى حقيقة القرآن الكريم الكونية، ومفهومه الرباني، رغم أنه بين أيديها!
__________
(1) اللمعات:3/346.
(21/192)
- الثاني: إثارة الانتباه بهذا التعريف إلى أن الذي يجب أن نشهده في القرآن - بالقصد الأول - إنما هو الله رب العالمين، من حيث إنه هو سبحانه المتكلم به! وهذا أيضا مما طمسه التعود والجهل لدى الناس. فالنورسي في هذا الأمر هو أشبه برجل رأى آخر عثر على حجر من ذهب وهو لا يدري أنه من ذهب، فجعل هذا يستعمل الحجر لأمر وضيع، غير لائق بالذهب؛ بينما جعل العارف بالذهب يتأسف ويتحرق؛ أسى على تضييع ذلك الجاهل لما بين يديه من مال عظيم! ومن هنا صيحة النورسي وتنبيهه إلى عظمة ما (بين أيدينا): (إن القرآن الذي بين أيدينا...).
إن الوجدان الذي صدر عنه تعريف القرآن لدى النورسي هو وجدان منبهر بالربوبية العظمى! إن كل المسلمين يعرفون أو يقولون: (إن القرآن هو كلام الله). ولكن قليلا منهم يستحضر في قوله هذا؛ أن الله جل جلاله قد تكلم بهذا القرآن؛ من حيث هو (رب العالمين). إن ذلك يعني أن آفة التعود - كما ذكرنا - قد قتلت حاسة التدبر في الإنسان؛ ففقدت القلوب بذلك إحساسها بالقرآن العظيم، الذي لم تطقه حتى الجبال الشامخات، كما في قوله عز وجل: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(الحشر:21).
(21/193)
إن ههنا لدينا حقيقة مهمة في فهم خصوص مقصد بديع الزمان التعريفي هنا؛ وهي أن الهدف الأساس من تعريف الناس بالقرآن إنما هو تعريفهم بالله؛ ولذلك سلك إليه من باب الربوبية. وللربوبية ذوق خاص لديه رحمه الله، فهي تشير عنده إلى تجلى الأسماء الحسنى على الكون كله من حيث الخلق والقيومية، وما تعلق بهما من أسماء وصفات ربانية. فكل جزيئية في الكون، وكل ذرة؛ من كل شيء إنما هي متعلقة بهذا الرب: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام:102). وذلك بتعلقها باسمه الأعظم سبحانه، وأسمائه الحسنى، الناطقة بجلال ملكه، وشمول سلطانه. إن القرآن الكريم كمفهوم تعريفي لدى النورسي يقود إلى هذه الحقيقة الكبرى: معرفة الله تبارك وتعالى (رب العالمين)! وذلك عين الحقيقة الإصلاحية التي قام عليها مشروع النورسي الإصلاحي التجديدي، ومن أجلها، مشروع إنقاذ الإيمان وتجديده في المجتمع الإنساني، هذا المشروع الذي اعتمد فيه خاصة على تجديد الوعي (بالقرآن) بما ذكرنا من مواصفات مقاصدية، وهو أمر يصرح به النورسي بكل وضوح، وذلك قوله: (الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.)(1) من هنا إذن كان اهتمامه بكتاب الله، ومن هنا أيضا كان منطلق تعريفه إياه.
__________
(1) الكلمات:1/293.
(21/194)
يقول رحمه الله في تعريف آخر للقرآن الكريم، أوضح في الدلالة على خصوص انبهاره بجمال الربوبية وجلالها: (إن القرآن كلام الله باعتبار أنه رب العالمين، وبعنوان إله العالمين، وباسم رب السماوات والأرضين، ومن جهة الربوبية المطلقة، ومن جهة السلطنة العامة، ومن جانب الرحمة الواسعة، ومن حيثية حشمة عظمة الألوهية، ومن محيط اسمه الأعظم إلى محاط عرشه الأعظم)(1). ويتحدث عن (مفهوم القرآن) في سياق تجديد الوعي بمصدره الرباني. يقول: (إن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم، ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني، نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة. ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به؛ اسم: "كلام الله! ")(2).
إن هذا النص الفريد لدى النورسي ليؤكد أن الرجل كان أديبا! حقا بل شاعرا على طريقته النثرية المتدفقة.. لقد كان ينصت إلى القرآن الكريم إنصات من يستحضر منازله العليا، وحركة الوحي وهي تعبر الكون العظيم، فتطوي طبقات السماوات طيا! لتغمر المكان والزمان بأنوارها! وتنشئ بعد ذلك حركة مباركة، تمتد في التاريخ البشري؛ عمرانا حضاريا، لا يفتأ يتجدد أبدا، ما دام لهذا القرآن مرتلون ومتدبرون!
__________
(1) المثنوي العربي:6/463، انظر مثله في: اللمعات:3/346.
(2) الكلمات: 147.
(21/195)
إن (مفهوم القرآن) بهذا المعنى؛ يمتد عبر الكون كله؛ انطلاقا من نور الاسم الأعظم؛ إلى صناعة التاريخ الإنساني في الأرض! ومن التكوين الأول إلى التكوين الثاني، أو من الدنيا إلى الآخرة! من هنا إذن؛ ما كان لبشر أن يحد القرآن، من حيث هو (كلام رب العالمين)؛ إلا أن يجد (لمعة من تعريف القرآن). وإلا فإنه لا حد له إلا أن تقول: (القرآن هو: القرآن)!
ومن هنا رفض الأستاذ النورسي أن يقبل بحث القرآن بحثا (محايدا)، على طريقة المتغربين المخدوعين! إذ جزم أنه (مفهوم) عال علوا مطلقا، بحيث لا يقارن بغيره، ولا يصح افتراض أي وسط بينه وبين ما سواه. وأي محاولة لذلك تعتبر - عنده رحمه الله - خروجا عن منهج العلم الحق!
ومن أطرف ما ورد في ذلك من كلامه وأعجبه؛ قصة هي عبارة عن محاورة نفسانية، دارت على شكل مناظرة خفية، داخل خواطره؛ كان التناظر فيها دائرا بينه وبين الشيطان لعنه الله! ذلك أن إبليس اللعين حاول إقناعه باعتماد منهج (حيادي) في دراسة القرآن الكريم، أو على الأقل: منهج (وسط). فردّ النورسي ذلك كله بأدلته وحججه التي أثبتت أنه، لا يمكن تدبر القرآن إلا لمؤمن به، كما أنه لا وسط بينه وبين غيره، كما لا وسط بين الخالق والمخلوق، إذ الوجود: إما خالق أو مخلوق. ولا ثالث لهذين الاحتمالين!
ولقيمة القصة في توضيح ما نحن فيه، من دراسة مصطلحية، نوردها؛ لزيادة توضيح (مفهوم القرآن)، أو (ما القرآن؟) لدى بديع الزمان. قال رحمه الله:
(كنت أنصت يوما إلى القرآن الكريم من حفاظ كرام في جامع بايزيد باستانبول، وذلك في أيام شهر رمضان المبارك، وإذا بي أسمع كأن صوتا معنويا صرف ذهني إليه، دون أن أرى شخصه بالذات، فأعرت له السمع خيالا، ووجدته يقول:
- إنك ترى القرآن ساميا جدا ولامعا جدا، فهلا نظرت إليه نظرة حيادية؟ ووازنته بميزان محاكمة عقلية حيادية؟ أعني: افرض القرآن قول بشر! ثم انظر إليه بعد هذا الفرض هل تجد فيه تلك المزايا والمحاسن؟
(21/196)
اغتررت به في الحقيقة، فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت إليه من تلك الزاوية، وإذا بي أرى نفسي في ظلام دامس! فقد انطفأت أضواء القرآن الساطعة! وعم الظلام الأرجاء، كما يعم الجامع كله؛ إذا مس أحدهم مفتاح الكهرباء. فعلمت عندها أن المتكلم معي هو شيطان، يريد أن يوقعني في هاوية. فاستعصمت بالقرآن نفسه، وإذا بنور يقذفه الله في قلبي، أجد نفسي به قويا قادرا على الدفاع. وحينها بدأت المناظرة مع الشيطان على النحو الآتي:
قلت: أيها الشيطان! إن المحاكمة الحيادية، دون انحياز إلى أحد الطرفين: هي التزام موضع وسط بينهما، بيد أن المحاكمة الحيادية، التي تدعو إليها أنت وتلاميذك من الإنس؛ إنما هي التزام الطرف المخالف! فهي ليست حيادية، بل خروج عن الدين مؤقتا! ذلك لأن النظر إلى القرآن أنه كلام بشر، وإجراء محاكمة عقلية، في ضوء هذا الفرض؛ ما هو إلا اتخاذ الطرف المخالف أساسا، والتزام للباطل أصلا. وليس أمرا حياديا، بل هو انحياز للباطل وموالاة له.
فقال الشيطان: افرضه كلاما وسطا، لا تقل إنه كلام الله، ولا كلام بشر!
قلت: وهذا أيضا لا يمكن أن يكون قطعا (...) فالقرآن الكريم متاع ثمين، وبضاعة سامية، ومال رفيع لله. والبعد بين الطرفين بعد مطلق، لا يحده حد! إذ هو البعد ما بين كلام رب العالمين وكلام البشر (...) لا وسط بينهم إطلاقا! لأنهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما! ولهذا ينبغي أن يقبل الأمر هكذا، وسوق الأدلة في ضوئها أي أنه بيده سبحانه. إلا إذا استطاع الطرف الآخر دحض جميع البراهين المشيرة إلى أنه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر؛ عندئذ يمكنه أن يمد يده إليه، وإلا فلا!)(1).
__________
(1) المكتوبات:2/399ـ400.
(21/197)
إن قول بديع الزمان في هذا النص: (فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت إليه من تلك الزاوية، وإذا بي أرى نفسي في ظلام دامس! فقد انطفأت أضواء القرآن الساطعة! وعم الظلام الأرجاء، كما يعم الجامع كله؛ إذا مس أحدهم مفتاح الكهرباء) هو كلام دال على أن المفهوم الحقيقي للقرآن قائم على معنى (الإيمان)، والإيمان لا يصح وقوعه إلا بما هو غيب. فالمحسوسات تدرك بالحس والتجريب، والمعقولات تدرك بالعقل والاستدلال، بينما الغيبيات لا تدرك إلا بـ(الإيمان) القائم على الإذعان والتسليم القلبي. وليس معنى هذا أن القرآن غير قابل للإثبات العقلي، كلا! وإنما المقصود أن له قوة جبارة، وإسنادا عظيما، ونورا خارقا، لكن لمن (انتسب) إليه، بالمعنى الاصطلاحي الخاص لمفهوم (الانتساب) كما فصلناه عند النورسي. إن العبد (المنتسب) إلى القرآن المؤمن به هو ذو (عقل مسدد)؛ ولذلك فهو يرى ما لا يراه صاحب (العقل المجرد)! ومن هنا فإثبات المفهوم الرباني للقرآن سهل جدا على المؤمن؛ لما لديه من تسديد وتأييد، إذا استند إلى النور الكاشف عن الحقائق، التي تغيب عمن حبس بصره على المحسوسات القريبة، والمعقولات البسيطة!
ومن هنا أمكن للعبد المنتسب أن يحاجج، ويجادل، ويناظر؛ بقوة عشرات العقول! بينما لو افترض أنه لا يؤمن بهذا الكتاب، ولا بمصدريته الربانية؛ لخرج قلبه عن مداره الفلكي، حول نور الحق العظيم، ولفقد زاده الدائم من نور شمس الهداية؛ ولعكست مرآته ساعتها ظلمات الضلال! فكيف له إذن بإبصار الدليل؟
(21/198)
إن مفهوم القرآن مفهوم غيبي. والغيب قاض على عالم الشهادة، ومحيط به! وما كان للمحاط أن يكون أقوى من المحيط! ولذا فإن النورسي كان واضحا في اشتراط (سلامة القلب) على من قصد مشاهدة جمال القرآن. قال: (لقد شاهدت أن مشاهدة جمال القرآن تابعة لدرجة سلامة القلب وصحته. فمريض القلب لا يشاهد إلا ما يشوه له مرضه! فأسلوب القرآن والقلب كلاهما مرآتان ينعكس كل واحد في الآخر)(1).
هذا، وأما الوحدة الثانية من وحدات التعريف، المعتمد لديه لمفهوم (القرآن) فهي:
2 - كونية القرآن الكريم:
وقد سبق القول: إنها تبتدئ من قوله في البداية: (هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات) إلى قوله: (وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه).
إن معنى (الكونية) هو من لوازم الوحدة الأولى، أي كون القرآن (كلام الله باعتباره رب العالمين). فالربوبية قاضية على كل معاني الشمول والامتلاك والسلطنة! ذلك أن (القرآن) من حيث هو كلام رب العالمين، متضمن لمعنى الربوبية، الجامعة لكل عناصر الكون امتلاكا وقهرا. كما أن الكائنات - من خلاله - تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى. ومن هنا كان القرآن وهو - خطاب إلى الإنسان - خطابا كونيا أيضا، لاسيما وأن (الله سبحانه خلق الإنسان، وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة لكتاب العالم)(2). ثم إن القرآن فيه (كل شيء) ويتحدث عن (كل شيء)!
ويمكن تفصيل (كونية القرآن) - من حيث هو مفهوم - فيما يلي:
أ - القرآن قراءة لكتاب الكون، وكشف لأسراره:
__________
(1) المثنوي العربي:6/157.
(2) إشارات الإعجاز:5/27.
(21/199)
يقول النورسي: (فكأن القرآن المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - قراءة لآيات الكائنات)(1). ومعنى ذلك أنه كتاب كاشف للغز الحياة بصورة بسيطة. فهو يقدم الصعب المعقد تقديما سهلا ميسرا؛ ولذلك سهل على العامة؛ بل حتى على الأميين؛ (قراءة) مقاصده من خلال أبعاده الكونية؛ إذ يلفت الانتباه إلى مظاهر الكون التي يبصرها كل ذي عينين؛ ليتفكر في خلق السماوات والأرض. كل على حسب طاقته، وسعة إدراكه، فيكون القرآن الكريم بكونيته هذه خطابا لجميع الناس، بجميع مستوياتهم الثقافية، واختلافاتهم اللغوية والعرقية. وهو ضرب من ضروب الإعجاز. يقول بديع الزمان: (انظر إلى درجة رحمة القرآن الواسعة، وشفقته العظيمة على جمهور العوام، ومراعاته لبساطة أفكارهم، ونظرهم غير الثاقب إلى أمور دقيقة! انظر كيف يكرر ويكثر الآيات الواضحة، المسطورة في جباه السماوات والأرض! فيقرئهم الحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السماوات والأرض، وأمثالها من الآيات، ولا يوجه الأنظار إلى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة إلا نادرا، كيلا يصعب الأمر عليهم. ثم انظر إلى جزالة بيان القرآن وسلاسة أسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الإنسان ما كتبته القدرة الإلهية، في صحائف الكائنات؛ من آيات؛ حتى كأن القرآن قراءة لما في كتاب الكائنات وأنظمتها، وتلاوة لشوون بارئها المصور، وأفعاله الحكيمة. فإن شئت استمع بقلب شهيد لقوله تعالى: " عَمَّ يَتَسَاءلُونَ " و" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ"(آل عمران:26) وأمثالهما من الآيات الكريمة)(2).
__________
(1) اللمعات:3/498.
(2) اللمعات:3/196.
(21/200)
ومن هنا كان القرآن بحق - كما قال النورسي - (مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الأنام)(1). كل الأنام، عالمهم وجاهلهم، عربهم وعجمهم؛ لأن اللغة العربية ليست شرطا في قراءة الكون! فيكفي أن تفهم المعنى من القرآن الكريم أو بالأحرى بعضه، ولو مترجما لينطلق الفكر في (القراءة) للأحرف الكبيرة فما العالم كله إلا كتاب كبير.
... ب - القرآن روح لحياة الكون:
ومعنى ذلك أنه ما دام المتكلم به هو الله رب العالمين - بالمعنى الذي ذكرنا - أي (خالق كل شيء) سبحانه؛ فإنه لا شيء إلا وهو راجع - في حقيقة وجوده - إلى حقائق القرآن الكريم الكونية. وإنما القرآن نور صادر من الرب العظيم الذي هو (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(النور:35) وإذن؛ فلا شيء بعد نوره إلا الظلام، ولا شيء بعد وجوده إلا العدم! وإنما حقيقة المخلوقات أنها موجودة باسمه تعالى، أي: "بسم الله الرحمن الرحيم". فوجودها رهين بوجوده تعالى، وتجليها رهين بتجلي نوره سبحانه. فكان الكون بذاته دالا على (وجوب وجود) رب الكون العظيم.
__________
(1) المثنوي العربي النوري:6/55.
(21/201)
وما علمنا ذلك كله إلا من خلال القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين الخالق لكل شيء؛ إذن فالقرآن يمثل - من حيث حقائقه - حقائق الكون كله، بدءا بقصة الخلق إلى غاية الإعادة من يوم القيامة: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)(الأنبياء:104) ثم البعث والنشور، فالمصير. فلو تصور عدم حقائق القرآن - وهو فرض محال - لاستحال تصور وجود العالم الكوني كله! ثم إن حقائق القرآن التي هي التفسير السليم لنظام الكون؛ هي وحدها القادرة على الحفاظ على ذلك النظام الكوني في العقل. ولو افترضنا تفسيرا غيرها؛ لعمت الفوضى تصورات العقول، ولاختل التوازن في الفكر، بتصورات لا يمكن إلا أن تؤدي في النهاية إلى افتراضات تفضي في المنطق العقلي إلى اختلال الكون كله في التصور. وهو محال. وبهذا المعنى كان القرآن عند النورسي (روح حياة الكون).
يقول بديع الزمان: (ما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة، وأن الحياة هي أعظم تجل، وأكمل نقش، وأجمل صنعة، (للحي القيوم) جل جلاله، وما دامت الحياة السرمدية الخالدة، تظهر وتكشف عن نفسها، بإرسال الرسل وإنزال الكتب (...) فلا بد أن الحياة التي في الكون كما أنها تدل - بصورة قاطعة - على (الحي الأزلي) سبحانه وتعالى، وعلى وجوب وجوده؛ تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها - مما له ارتباط وعلاقات معها - من أركان الإيمان، مثل (إرسال الرسل) و(إنزال الكتب)، وتثبتهما رمزا. ولا سيما (الرسالة المحمدية) و(الوحي القرآني). إذ يصح القول: إنهما ثابتان قطعيان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث إنهما بمثابة روح الحياة وعقلها (...) والوحي القرآني - بشهادة حقائقه الحيوية - روح لحياة الكون وعقل لشعوره.
(21/202)
أجل.. أجل.. أجل! فإذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون؛ جن جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزال عقلها، وظلت دون شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة!)(1) فقوله: (إذا ما غاب القرآن وفارق الكون) يعني: (غابت حقائقه) التي هي في الواقع (حقائق الكون) نفسه. إذ ثبت أنما القرآن قراءة لكتاب العالم، كما بيناه آنفا.
ج - القرآن محيط بمفهوم الزمان الكوني:
__________
(1) اللمعات:3/567ـ568.
(21/203)
إذا كان القرآن كلام الله رب العالمين، فإنه صفة له سبحانه؛ لأن الكلام صفة للمتكلم. وقد علم أن الله جل جلاله محيط بالزمان والمكان. تعالى الله أن يحكمه زمان أو مكان، بل هو الحاكم على الزمان والمكان. فهو فوق كل شيء، ومحيط بكل شيء، لأنه تعالى (خالق كل شيء). من هنا إذن كان القرآن محيطا الزمان الكوني: الماضي والحاضر والمستقبل، ثم الزمان الأرضي، وهو الزمان بالتقدير البشري الدنيوي مما نعد به التاريخ والأعمار، والزمان المعراجي وهو المشار إليه في قوله تعالى: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة:5)، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4) والزمان العِنْدِيّ وهو المشار إليه في قوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) (الحج:45) ثم الزمان الأخروي وهو الزمان الخالد الذي لا ينتهي، مما يكون بعد إعادة الخلق، حيث قيام يوم الدين، من بعث، وحشر، وحساب، وجنة ونار. فحديث القرآن عن ذلك كله حديث واحد، كأنه زمان واحد. ومن هنا كان محيطا بكل الزمان، مما ينتسب إلى عالم الغيب أو إلى عالم الشهادة. كل ذلك عنده سواء. ولذلك قال النورسي: (فالقرآن إذاً كلام من ينظر إلى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد)(1). فإذا كان ذلك كله كما علمت، وكان القرآن - كما تبين - قراءة في كتاب الكون، فإن هذا الكون نفسه دال باللزوم على الآخرة.
__________
(1) الكلمات:1/296.
(21/204)
قال بديع الزمان: (فاعلم من هذا أن (العدالة والاقتصاد والطهر) التي هي من حقائق القرآن ودساتير الإسلام، ما أشدها إيغالا في أعماق الحياة الاجتماعية، وما أشدها عراقة وأصالة. وأدركْ من هذا مدى قوة ارتباط أحكام القرآن بالكون، وكيف أنها مدت جذورا عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرى وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها أن فساد تلك الحقائق ممتنع كامتناع إفساد نظام الكون والإخلال به، وتشويه صورته.
ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون (...) فهناك حقائق محيطة معها، كالرحمة والعناية والرقابة، وأمثالها مئات من الحقائق المحيطة والأنوار العظيمة، تستلزم الحشر، وتقتضي الحياة الآخرة!)(1).
3 - رسالية القرآن الكريم وغايته التعبدية:
وهي الوحدة الثالثة من وحدات التعريف المدروس. وقد سبق القول: إنها تبتدئ من قوله: (وكذا هو مربّ للعالم الإنساني) إلى قوله: (كذلك هو كتاب فكر).
إن القرآن الكريم رسالة إلى العالم البشري من رب الكون.
__________
(1) اللمعات:3/526.
(21/205)
وهذه الجملة كافية لبيان الدلالة المفهومية العظيمة للقرآن. ذلك أن الله تبارك وتعالى لم يكن يتكلم بالقرآن وكفى. ولكنه كان يخاطب به مخاطبا ما. ذلك المخاطب هو الإنسان. وهذه حقيقة من أعظم الحقائق التي قتلها (التعود) البشري الذي يطمس كثيرا من الحقائق العظيمة في هذا العالم. ولعل النورسي بتفكره وتدبره قد اهتز وجدانه لهذه الحقيقة الكبرى. فكان أن وجد نفسه منجرفا بشكل وجداني لخدمة هذا القرآن. ومن هنا انبنى مشروعه كله على هذا الهدف غاية ووسيلة. أي أنه جعل القرآن غايته وهو في الآن نفسه وسيلته. ومن هنا جاء في تعريف القرآن لديه، مما سبق ذكره: (وكذا هو مربّ للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد الهادي إلى ما خُلق البشر له. وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر).
فأنت ترى أن النورسي لم ينظر إلى القرآن - في جانبه التشريعي - على أنه مجرد مصدر من مصادر التشريع، أو المصدر الأول للتشريع وكفى! كما هو منصوص عليه في البحوث الأصولية والفقهية. بل لقد نظر إلى هذه الشريعة القرآنية على أنها تربية للعالم الإنساني، ونور له في عالم الظلمات، تهديه إلى منابع الخير والجمال، لتنتهي به إلى غاية الغايات: ألا وهي الوصول إلى الله. ومن هنا كان القرآن عنده (معراجا) للمؤمنين.
(21/206)
لقد كان انتباه النورسي إلى المعنى الرسالي للقرآن بابا فتح عليه من معاني النور مواجيد لا تنتهي لذاذاتها أبدا. وبهذا المنظار نظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه رسول جاء بالقرآن! فأعظم به من رسول إذن! جاء يحمل هذا الكتاب الكوني العظيم إلى البشرية على أنه رسالة من رب الكون إليهم. قال بديع الزمان واصفا إياه بأنه: (أعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم، وأداها أفضل أداء في أسمى مرتبة، وأبلغ صورة، وأحسن طراز، فلبى إرادة رب العالمين في صرف وجه هذا الإنسان من الكثرة إلى الوحدة، ومن الفاني إلى الباقي)(1).
إن قيمة الرسالة - أي رسالة - تتحدد أولا وقبل أي شيء بقيمة مصدرها: أي معرفة من أرسلها؟ ومن هنا كان من فطرة الإنسان أن يبادر كلما تسلم رسالة بشرية إلى النظر في الغلاف؛ لمعرفة الجهة أو الشخص الذي أرسل إليه تلك الرسالة. وهناك يتحدد عنده الاهتمام أو عدمه، إذ يعرف (مَن؟) فيكترث ويهتم بقدر قيمة المرسل عنده. لقد انبهر بديع الزمان بالقرآن الكريم أشد انبهار. إذ وجد أن المرسِل هو الله رب العالمين! ولذا كان لا يفتأ يذكر هذا المعنى العظيم في كل مبحث من مباحث رسائل النور، لا يكاد يسكت عن ذلك، ولا قليلا! ولقد أوردنا من ذلك شواهد عند بيان (الوحدة) الأولى من وحدات التعريف، فلا حاجة للإعادة.
فإذا تمت لديه عناصر (الإرسالية) عظم الشأن عنده أكثر، ووصل الانبهار إلى غايته: وهي الانخراط في سلك الخدمة والسير إلى الله على سبيل الإصلاح والتجديد، وإيقاظ همم الناس: كأنه انتفض ليقول لهم: أيها الناس إن هذا القرآن هو رسالة رب العالمين إليكم!
__________
(1) المكتوبات:2/278.
(21/207)
لقد أدرك بديع الزمان (عناصر الإرسالية). ذلك أن عناصر الإرسالية الأربعة تتحد بوجود المرسل، والمرسل إليه، والمضمون المرسل به، أو القصد، ثم المقام الشامل لظروف الرسالة. فالقرآن كلام رب العالمين هو، بذاته سبحانه المتكلم به؛ رسالة إلى الناس الحيارى - بدونه - في هذه الأرض. فهم إذن المخاطبون به. ولذلك جاء فيه أن هذا سبيل النجاة لكم أيها الحيارى! هذا كشف اللغز الكوني الرهيب! هذا بلسم الحيرة والقلق المحيط بالإنسان؛ من توقع الفناء والعدم. هذا بيان البدء والنشأة والمصير. هذه قصة الخلق كاملة ملخصة، بما لا يدع مجالا للشك، أو الحيرة، والتردد في الانطلاق سيرا إلى هذا الرب الرحمن الرحيم، الذي خلق ثم هدى! ذلك مضمون الرسالة. وأما مقامها فهذه الظروف البشرية الحياتية في الكرة الأرضية، وهذا السير البشري المتدفق في كل الاتجاهات؛ بحثا عن مخرج ما من ظلام لغز الحياة، وطلسم وجود الكائنات، وتناقض المذاهب والفلسفات!
في خضم كل ذلك جاء القرآن يحمل رسالة الهداية إلى الناس. إن بديع الزمان تحدث عن سر إعجاز القرآن فقال بكلمة موجزة، لكنها دالة حكيمة. قال رحمه الله: (اعلم أن منابع علو طبقة الكلام، وقوته، وحسنه، وجماله؛ أربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط كما ضل فيه الأدباء! فانظر إلى من قال؟ ولمن قال؟ ولما قال؟ وفيما قال؟ فالكلام إن كان أمرا ونهيا فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويته وقوته!)(1).
__________
(1) المثنوي العربي:6/78.
(21/208)
إن المفهوم الرسالي للقرآن الكريم قائم أساسا على تبليغ مضمون ما للناس. ذلك المضمون هو الذي سماه بديع الزمان - في عدة مواطن من رسائل النور – بـ(مقاصد القرآن الأربعة) وهي: (التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة). قد تختلف عباراتها من نص إلى آخر، وقد تتفق، ولكن المضمون واحد. قال رحمه الله: (إن المقاصد الأساسية من القرآن، وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة)(1). وقال أيضا: (فاعلم أن المقصد الأصلي في القرآن الكريم هو إرشاد الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوة والحشر، والعدالة)(2). ونحو هذا كثير.
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/23.
(2) إشارات الإعجاز:5/177.
(21/209)
إن الرسالة القرآنية قائمة على إثبات هذه المقاصد؛ لتكون هي أساس (الوظيفة) التي نزل القرآن الكريم من أجلها. أعني الهدف الأسمى الذي يمثل المفهوم الرسالي للقرآن الكريم. ذلك أن إثبات المقاصد الأربعة لم يكن من أجل إثباتها لذاتها؛ لأنها ثابتة بالأصالة عند الله عز وجل، وإنما كان الإثبات مقصودا من أجل أن يقوم الإنسان بوظيفة العبودية لله الواحد القهار، ويؤدي خدمته التي أنيطت به في هذا الكون، ألا وهي التعلق بأنوار الأسماء الحسنى، والانتساب إلى دائرة الربوبية من خلال دائرة العبودية؛ ومن هنا كانت (رسالة القرآن) هي تعليم الناس شؤون الدائرتين. يقول بديع الزمان: (الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.)(1). وبهذا المعنى كان القرآن الكريم هو (المعراج) التعبدي للعبد السائر إلى الله. ذلك أن الدخول إلى (الحقيقة) من باب خدمة القرآن والاشتغال به؛ هو (المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!)(2).
4 - عرضه الكثرة من عين الوحدة:
إن القرآن الكريم بمفهومه الكوني قائم على مبدأ التوحيد، الذي يقوم بدوره على تفسير الكثرة القائمة في الكون بإرجاعها إلى الوحدة. فما دام الله رب العالمين هو سبحانه وتعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام:141)؛ فإن (كل شيء) خاضع له عز وجل - طوعا أو كرها - وشاهد له بالوحدانية. إذ لا حياة، ولا بقاء، ولا كينونة؛ لأي شيء؛ إلا بمقدار ما يعكس من أنوار الأسماء الحسنى.
ومن مقتضيات هذا المفهوم أيضا: أن الرسائل السماوية جميعها، والأنبياء كلهم؛ إنما هم لوظيفة واحدة، ورسالة واحدة، لخصها القرآن جميعها في أسلوب واحد!
__________
(1) الكلمات:1/293.
(2) صيقل الإسلام:8/123.
(21/210)
وقد سبق قول النورسي في تعريفه المذكور للقرآن: (كما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة، في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل؛ حتى إنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة، من الأولياء والصديقين، ومن العرفاء والمحققين؛ رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل).
وهو دال بذلك على أن القرآن الكريم قد يحتوي على كل فضائل الكتب السماوية السابقة ويزيد عليها. فهو جامع لها جميعا، ومضيف إليها فوائد مما لم يرد بها؛ حتى لكأنه مجموعة من الكتب لا كتاب واحد! وذلك من نعم الله الكريم على هذه الأمة؛ حتى يتسنى لكل إنسان أن يسلك إلى ربه، حسب مؤهلاته الفطرية، ومواهبه الجبلية. فرُبّ شخص تميل به فطرته إلى الزهد والتقلل، ورب آخر يميل إلى الاستدلال العقلي، وآخر إلى التفكر والتدبر، وآخر إلى التفقه والتعلم، والبحث في دلائل الإعجاز... إلخ. وكلها طرق موصلة عبر القرآن الكريم إلى الله. ولذلك كان جامعا لها جميعا من حيث الإمكانات التي يتيحها للإنسان في سيره إلى الله. ومن ألطف ما ورد لدى النورسي من التعبير عن ذلك قوله:
... (إن الجهات الست للقرآن الكريم منورة وضاءة، لا تدنو منها الشبهات والأوهام؛ لأن:
من ورائه العرش الأعظم يستند إليه، فهناك نور الوحي.
وبين يديه سعادة الدارين، يستهدفها، فقد امتدت ارتباطاته وعلاقاته بالأبد والآخرة. فهناك نور الجنة ونور السعادة.
ومن فوقه تتلألأ آية الإعجاز وتسطع طغراؤه.
ومن تحته أعمدة البراهين الرصينة والدلائل الدامغة، ففيها الهداية المحضة.
وعن يمينه يقف استنطاق العقول وتصديقها، لكثرة ما فيه (أفلا يعقلون).
وعن يساره استشهاد الوجدان؛ حتى ينطق من إعجابه: (تبارك الله) بما ينفخ من نفحات روحية للقلب)(1).
__________
(1) المكتوبات:2/248.
(21/211)
ولذلك قال في موطن آخر: (للوصول إلى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة وعديدة. ومورد جميع الطرق الحقة، ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم)(1).
وقد ثبت في القرآن نفسه أنه جامع للكتب السماوية السابقة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)(الأعلى:18-19) وكما في قوله سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)(النمل:76- 77). وقد فصل هذا المعنى العجيب حديثٌ نبوي شريف، تشد إليه الرحال! قال - صلى الله عليه وسلم -: (أُعطيتُ مكان التوراة السبع الطوال، وأُعطيتُ مكان الزبور المئين، وأُعطيتُ مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلْتُ بالمفصل!)(2).
ومن هنا اعتبار النورسي القرآن أنه ملخص للكتب السابقة. قال في أحد ابتهالاته: (لا آية من آيات التوحيد القاطعة للقرآن، المعجز البيان، الذي يلخص جميع الكتب المقدسة الحقة، ولا مسألة من مسائله القدسية؛ إلا وتشهد شهادة، وتملك دلالة، وتعرض إشارة؛ على وجوب وجودك، وعلى صفاتك المقدسة!)(3).
__________
(1) المكتوبات:2/594.
(2) رواه الطبراني والبيهقي. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: 1059.
(3) الشعاعات:4/74.
(21/212)
ثم إن عرض الكثرة من خلال الوحدة بعد ذلك؛ لا يتجلى في كون القرآن - وهو كتاب واحد - يتضمن عدة كتب ورسائل فحسب؛ كلا بل يتعداه إلى عرض الكثرة الكونية من خلال الوحدة الخَلْقية، كما أشرنا قبل. ومن هنا كان مفهوم القرآن واحدا وهو كثير! أو كان كثيرا وهو واحد! وبيان ذلك أن الناظر في الكثرة التي تطبع الكون والتنوع الذي يميز عناصره المختلفة، قد يتيه في تتبع ذلك، وقد يضل عن تبين الحقيقة، إذ يغرق في الكثرة ولا يجد منها سبيلا إلى الحقيقة الواحدة غير المتعددة. فربما أشرك وألّه الأشياء، وربما جحد وألحد في آيات الله. بينما المؤمن إذ يقرأ القرآن إنما يقرأ بذلك آيات الله في الكون، فأحرف القرآن الصغيرة قراءة لأحرف الكون الكبيرة، كما سبق قول بديع الزمان. والقرآن هادي العباد إلى (نقطة الاستناد) الوحيدة في هذا العالم. ألا وهي تفرد الخالق جل جلاله بطغراء واحدة، مسكوكة على سائر مخلوقاته، لا يدركها حق الإدارك إلا من سلك طريق القرآن، الذي يعرض هذه الكثرة من خلال هذه الطغراء الواحدة.
يقول بديع الزمان: (إن القرآن الكريم يفوض أمر المخلوقات غير المحدودة إلى الصانع الواحد، ويسند إليه كل شيء مباشرة، فيسلك طريقا سهلا بدرجة الوجوب، ويدعو إليها، وكذلك يفعل المؤمنون)(1). وذلك يكون بالجمع بين مفهومين عظيمين من مفاهيم التوحيد لدى النورسي، ألا وهما: (الواحدية) و(الأحدية).
إن القرآن الكريم إذ يجمع بين مفهومي (الواحدية) و(الأحدية) يقود الإنسان من خلال الكثرة إلى الوحدة، وإلى مشاهدة الخالق جل وعلا في جمال صنعه، وكمال إبداعه. وقد بينا في دراسة مصطلح (التوحيد) لدى النورسي؛ أن الفرق بين الواحدية والأحدية راجع إلى كون (الواحدية: هي صفة الله تعالى في وحدانيته، وتفرده في ذاته، بغض النظر عن شهادة خلقه له. وهذا المعنى راجع إلى التصور الذهني للتوحيد.
__________
(1) المكتوبات:2/334.
(21/213)
أما (الأحدية) : فهي مشاهدة ذلك في خلقه. أي دلالة الخلق عليه سبحانه، من خلال ما سماه من قبلُ (بخاتم التوحيد)، أو (سكة التوحيد)، أو (طغرائه). فإذا كانت (الواحدية) تُدْرَك بالاعتقاد، فإن (الأحدية) لا تدرك إلا بالمشاهدة)(1). وهذا بالذات معنى كون (القرآن يعرض الكثرة من عين الوحدة) على المستوى الكوني.
وللنورسي كلام جميل جدا في التمثيل لذلك في الواقع المشاهد. قال: (إن تجلي الواحدية في مخلوقات لا حد لها، لا يحيط به كل من يقول: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) حيث يتشتت الفكر ويتيه في تلك الكثرة، إذ يلزم لملاحظة ذات الله الأحد من خلال مجموع المخلوقات لدى خطاب ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وجود قلب واسع يسع الأرض كلها! فبناء على هذا السر الدقيق؛ فإن الله سبحانه يبين بجلاء طابع الأحدية في كل جزء، مثلما يظهره في كل نوع؛ وذلك لتشد الأنظار إلى ذات الله الأحد، وليتمكن كل شخص - مهما بلغت مرتبته - من التوجه المباشر في خطابه ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إلى ذات الله الأقدس سبحانه، من دون تكلف أو صعوبة.
فتبيانا لهذا السر العظيم؛ فإن القرآن الكريم عندما يبحث في آيات الله في أجواء الآفاق، وفي أوسع الدوائر، إذا به يذكر أصغر دائرة من دوائر المخلوقات، وأدق جزئية من جزئياتها؛ إظهارا لطابع الأحدية بوضوح في كل شيء. مثال ذلك: عندما يبين القرآن الكريم آيات خلق السماوات والأرض؛ يعقبها بآيات خلق الإنسان، وبيان دقائق النعمة، في صوته، وبدائع الحكمة في ملامحه، كي لا يتشتت الفكر في آفاق شاسعة، ولا يغرق القلب في كثرة غير متناهية، ولتبلغ الروح معبودها الحق دون وساطة. فالآية الكريمة الآتية تبين الحقيقة السابقة بيانا معجزا: " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ "(الروم:22))(2).
__________
(1) انظر مصطلح (التوحيد): مشتقاته.
(2) اللمعات:3/151ـ152.
(21/214)
وهذا التفات عظيم إلى أدق المعاني الإشارية للقرآن الكريم، إذ بين النورسي رحمه الله، أن الله تعالى قرن بين الدلائل العظيمة، ذات الامتداد البعيد عن الإدارك البشري الشامل: السماوات والأرض، والدلائل الدقيقة، الداخلة في صميم الاجتماع البشري: كالتعدد اللغوي والجنسي. لأن الذي خلق ذلك الامتداد؛ هو نفسه الذي خلق هذه الذرات الدقيقة من جسم الإنسان وجلده. هذا الإنسان الذي ليس إلا فهرسا لذلك الامتداد! كما بيناه قبل من قول بديع الزمان. فيظهر بذلك خاتم التوحيد على كل شيء، ويجد المؤمن طريقا إلى الله من كل شيء.
إنه مفهوم يدل حقا على أن القرآن الكريم قد جمع الكثرة الكونية، فصاغها في طابع واحد، هو خاتم الخالقية العظمى، الذي يفتح الباب لقلب المؤمن؛ من أجل مشاهدة جمال الله وجلاله، وبذلك يتحقق هدف القرآن الأسمى: توظيف كل شيء في توحيد الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد. فمن خلال القرآن تجد كل شيء - ككل شيء - يدل على من ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى:11) فإذن؛ كل الطرق المشاهدة بمنظار القرآن تؤدي إلى الله. وبهذا كان القرآن أضمن سبيل، وأسلم طريق. قال رحمه الله: (القرآن الكريم يعفي الكائنات بكل وضوح عن الإعدام، ويطلق سراحها من السجن. فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل، وخادمة في سبيله. وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى. كأنها مرايا تعكس تلك التجليات، أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الاسمي، من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم، فيجد إلى الحق سبحانه طريقا من كل شيء)(1).
- ثانيا: قيمته الاصطلاحية:
__________
(1) المكتوبات:2/597.
(21/215)
لا ريب أن كلمة (قرآن) هي من أرسخ الألفاظ العربية من حيث الدلالة الاصطلاحية. أعنى من حيث هي اسم عَلَم دال على معنى مخصوص، هو: كتاب الله المنزل على نبيه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. فدلالة هذا اللفظ على عموم هذا المعنى هو مما اشتهر اشتهارا، ليس عند المسلمين فحسب، بل عند البشرية جمعاء. ولو نطقت اليوم كلمة (قرآن) هكذا باللفظ العربي، أمام رجل أعجمي من غير المسلمين؛ لما تردد في معرفة المقصود، أو على الأقل لتبادر إلى ذهنه - من أول ما يتبادر إليه من الاحتمالات الدلالية - المعنى العَلَمي للقرآن الكريم! فما بالك بالمسلمين من العرب والعجم؟
إن اصطلاحية القرآن هي أم المصطلحات الإسلامية جمعاء، في سائر علوم الإسلام على الإطلاق. فإنما ولد المصطلح الإسلامي، في علوم التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والتصوف...إلخ؛ من ألفاظ القرآن الكريم، وكلماته؛ نقلا واشتقاقا، واستنباطا. (فالقرآن) هو منبع الاصطلاح الإسلامي ككل. ومن هنا كانت دلالته الاصطلاحية من أكبر الدلالات وأرسخها؛ حتى كانت ترجمته الاسمية العَلَمية إلى اللغات العالمية نقلا حرفيا للفظ العربي (قرآن) ليس إلا. على نحو في ما في الترجمة الإنجليزية: (QURAN)، ونحو ما في الترجمة الفرنسية: (CORAN).
- ثالثا: ضمائمه:
1- أسرار القرآن:
أسرار القرآن: هي حقائقه الخفية، ونكته اللطيفة، التي تستنبط من مقتضيات نصوصه، على سبيل التكميل والتتميم؛ لما استنبطه الأولون.
(21/216)
فبمقتضى هذا التعريف المستفاد من كلام النورسي؛ يخرج عن معنى (أسرار القرآن) كل الفهوم (الباطنية)، والتأويلات المغرضة، التي لا يقبلها منطق اللغة، والتي ناقضت ما فهمه السلف - من الصحابة رضي الله عنهم - من مقتضى دلالاته اللغوية. فـ(أسرار القرآن) إنما هي معان لطيفة تشير إليها نصوصه اللغوية، أو على الأقل لا ترفضها. قد تخفى في البداية على كثير من الناس، لكنها قد تظهر عند التدبر والتأمل، أو بسبب اكتشاف علمي في مجال الطبيعة والحياة؛ مما يرجح وجود ذلك المعنى من الآية، لكنه لا يكون نقضا لفهوم السلف، ولا هو غير مقبول في المقتضى اللغوي للنص القرآني. ومن هنا كان لكل عصر حظه من (أسرار القرآن) على حسب تدبر رجاله واجتهادهم.
قال بديع الزمان عن مقولة إنه (لا تعرف أسرار القرآن معرفة كاملة، ولم يدرك المفسرون حقيقته؟) هذا المفهوم له وجهان. والقائلون به طائفتان:
الطائفة الأولى: هم أهل الحق والعلم والتدقيق. فهم يقولون: إن القرآن الكريم كنز عظيم لا ينفد، وإن كل عصر يأخذ حظه من حقائقه الخفية التي هي من قبيل التتمات، مع التسليم بنصوص القرآن ومحكماته من دون أن يتعرض أو يمس ما خفي من الحقائق من حظ أهل العصور الأخرى. وحقا إن حقائق القرآن تتوضح أكثر كلما مضى الزمان، ولا يعني هذا أبدا إلقاء ظل الشبهة على ما بينه السلف الصالح من حقائق القرآن الظاهرة، لأنها نصوص قاطعة، وأسس وأركان لا بد من الإيمان بها. وقوله تعالى: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)(النحل:103) يوضح أن معنى القرآن واضح مبين. فالخطاب الإلهي من أوله إلى آخره يدور حول تلك المعاني ويقويها حتى يجعلها بدرجة البداهة. لذا فإن رفض تلك المعاني المنصوص عليها يؤدي إلى تكذيب الله سبحانه وتعالى (حاش لله)، وإلى تزييف فهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (حاشاه) (...).
(21/217)
الطائفة الثانية: وهم أصدقاء حمقى! يفسدون أكثر مما يصلحون! أو أنهم أعداء ذوو دهاء شيطاني. يريدون أن يتصدوا للأحكام الإسلامية ويعارضوا الحقائق الإيمانية)(1).
2 - إعجاز القرآن:
إعجاز القرآن: هو كشف غطاء الإلفة عن خوارق القدرة البديعة، وبيانه أن كل كلمة وحرف من آياته هو بمثابة خزينة من الحقائق.
إن هذا التعريف المركب، أو قل: المنتقى من عدة مواطن من تعبيرات النورسي، وتفسيره لمعنى (إعجاز القرآن)؛ يقوم على أساسين اثنين: الأول كوني، والثاني بلاغي. وكلا الأمرين محكوم بقاعدة الإعجاز لدى النورسي، التي ضبط بها مفهوم الإرسالية. وهي قوله السالف الذكر: (اعلم أن منابع علو طبقة الكلام، وقوته، وحسنه، وجماله؛ أربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط كما ضل فيه الأدباء! فانظر إلى من قال؟ ولمن قال؟ ولما قال؟ وفيما قال؟ فالكلام إن كان أمرا ونهيا فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويته وقوته!)(2) ومن خلال هذا المنظار الرباني: أي اعتبار أن القرآن (كلام الله رب العالمين) نزل (رسالة) إلى موجهة الناس بمضمون (الرسالي) كما بيناه قبل - في ظروف أرضية بشرية حائرة تمثل مقام الخطاب. قلت: من خلال ذلك يمكن تبين المقصود بالشقين: الكوني والبلاغي لدى النورسي في هذا التعريف المركب من عباراته وكلماته. وأحسب أن بديع الزمان قد جاء بمفهوم جديد لمعنى (الإعجاز)، ولم يقف عند حد الجانب البلاغي كما هو في أغلب كتب البلاغة العربية، وعلوم القرآن المتأثرة بها.
__________
(1) المكتوبات:2/500-501.
(2) المثنوي العربي:6/78.
(21/218)
فأما الأول: وهو الجانب الكوني؛ فمفهوم (الإعجاز) فيه راجع إلى أن القرآن الكريم قام على مبدأ (تمزيق غطاء الإلفة) أو كشف (ستار العادة) عن الأشياء؛ لتظهر حقائقها الغريبة، وأسرارها العجيبة، مما لا ينتبه إليه الإنسان بفعل الإلف الحياتي، وموت حاسة التفكر والتدبر لديه. وهذه حقيقة نفسية عجيبة، انتبه إليها بديع الزمان، وعمل على تحطيم حواجزها. ذلك أن الشيء قد يكون غريبا حقا، لكنه بسبب تكرار المشاهدة غير المتدبرة، يفقد غرابته في النفوس، فلا ينتبه بعد ذلك إليه أحد! ففي زماننا هذا مثلا نجد المرء الذي يركب الطائرة لأول مرة في حياته يشعر بنوع من الرهبة، ليس بدافع الخوف من السقوط فقط، ولكن أيضا بسبب الغرابة الناتجة عن طيران هذا الحجم من الحديد في السماء، وعلوه طبقات الفضاء، سابحا فوق السحاب بعدة أميال! لكنه بمجرد ما يركب الطائرة المرة الثانية، والثالثة...إلخ. يتعود على المشهد؛ فلا يثير في نفسه أي استغراب بعد ذلك. وهو أمر نفسي سارٍ على جميع الأشياء؛ بدءا بخلق الإنسان في بطن أمه، وولادته، ورضاعه، ونموه، حتى هرمه وموته؛ إلى أعظم مخلوق في هذا الكون من مجرات وسماوات! كل ذلك في الحقيقة غريب عجيب، لا تكاد أسراره تنتهي أبدا! مهما طال التفكر وتعمق التدبر.
إن القرآن العظيم - وهو كلام الله الخالق لهذه العوالم جميعا، دقيقها وعظيمها - قد قام إعجازه على لفت الانتباه؛ إلى عجائب صنع الله وخلقه، فيما تعودناه، وما لم نتعوده. إنه يمزق حجاب العادة في النظر، ويكشف غطاء الإلفة في الفكر؛ حتى إذا نظر الإنسان إلى الأشياء بعد هذا (الكشف)؛ حصل له من الانبهار؛ ما يثبت لديه عظمة الخالق سبحانه. وبذلك يتحقق (إعجاز القرآن)!
(21/219)
يقول الأستاذ سعيد النورسي: (إن القرآن الكريم ببياناته القوية النافذة، إنما يمزق غطاء الألفة وستار العادة، الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تذكر إلا أنها عادية مألوفة! مع أنها خوارق قدرة بديعة، ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحا كنزا لا يفنى للعلوم أمام العقول!)(1)
ويضرب بديع الزمان لذلك مثالا عجيبا، بحيث يفرض أن المتلقي للقرآن في هذا الزمان، كان يعيش في العصر العربي الأول الذي نزل فيه القرآن، أعني عصر البعثة؛ مستحضرا لظروف الزمان والمكان؛ فينظر حينئذ إلى شساعة النقلة الوجدانية والتصورية، التي أحدثها القرآن في النفوس العربية، التي كانت أنظارها محدودة بما تصل إليه حواسها من مدركات مادية، دون تفكر أو تدبر، فجاء القرآن ليرفع من رتبة النظر؛ لدى أولئك البدو الرحل إلى مستوى كوني فسيح، لا يزال إلى اليوم مجالا مطلقا للسياحة العلمية المعاصرة. ولم تزل هذه تتعثر في تفسيره وإدراكه، رغم ما حصلت عليه من تقدم هائل، بالنسبة إلى مدارك ذلك الزمان. أما بالنسبة إلى الكون نفسه؛ فمدارك الإنسان لا تزال أضعف ما تكون! وأصغر من أن تحيط الإحاطة التامة، ولا بأسرار خلية الخلق الدقيقة، في الحيوان المنوي، لدى الإنسان، أو الحيوان!
فارجع إذن إلى عالم البداوة، وأنصت إلى هذا القرآن وهو يربي الإنسان العربي، القريب عهد بجاهليته، يربيه بما يشبه المستحيل! ليرتفع بتصوره للكون، وعالم الخلق؛ إلى أحدث ما وصل إليه الإنسان المعاصر وزيادة! على مستوى الإدراك العام، لا تفاصيل الجزئيات. والمعجزة الحقيقية أن الإنسان العربي ذاك؛ قد استجاب لهذه التربية، وارتقى فعلا، رغم محدودية مداركه واستعداده! فكان إنسانا كونيا! بسبب القرآن. وبذلك حقا تم (إعجاز القرآن) بهذا المعنى لدى بديع الزمان.
__________
(1) الكلمات:1/150.
(21/220)
قال رحمه الله: (إذا شئت أن تشاهد، وتتذوق كيف تنشر كل آية من القرآن الكريم؛ نور إعجازها وهدايتها، وتبدد ظلمات الكفر، كالنجم الثاقب؛ تصور نفسك في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء تلك البداوة والجهل، فبينا تجد كل شيء قد أسدل عليه ستار الغفلة، وغشيه ظلام الجهل، ولف بغلاف الجمود والطبيعة؛ إذا بك تشاهد وقد دبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة، أو الميتة في أذهان السامعين، فتنهض مسبحة ذاكرة الله بصدى قوله تعالى: ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة. ثم إن وجه السماء المظلمة، التي تستعر فيها نجوم جامدة، تتحول في نظر السامعين - بصدى قوله تعالى: ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ) (الإسراء:44) - إلى فم ذاكرٍ لله. كل نجم يرسل شعاع الحقيقة، ويبث حكمة حكيمة بليغة!
وكذا وجه الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة، تتحول بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس، وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة!
وهكذا بانتقالك الشعوري إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة)(1).
__________
(1) الكلمات:1/152.
(21/221)
وأما الوجه الثاني من مفهوم (إعجاز القرآن)، وهو الجانب البلاغي: فهو عند النورسي - رغم ارتباطه بالأسلوب والألفاظ القرآنية - وثيق الصلة بالجانب الأول. أي الجانب الكوني. ذلك أن عظمة الكلمات القرآنية بلاغيا؛ تكمن - لدى النورسي - في اختزالها لأسرار الكون بإيجاز وجزالة غير مسبوقين، ولا ممكنين في غير القرآن! ولما كان الله رب العالمين جل جلاله هو المتكلم بهذا القرآن؛ فقد كانت كلماته وحروفه على قدر عظمة المتكلم، بلاغة وإعجازا. ومن هنا كانت الألفاظ القرآنية تتضمن من العلم والحكمة ما لا يسعه الخيال البشري! وحينما نقول: الألفاظ فإننا نعني كل ما يدخل في معنى (لفظ) مما يتلفظ به من القرآن: الجمل، والكلمات، والحروف! كل ذلك معجز - لدى النورسي - مركبا ومفردا! قال رحمه الله: (ليست آيات القرآن ولا كلماتها معجزة وحدها، وإنما كذلك حروف القرآن - كما في (ن) نعبد - هي مفاتيح نورانية لحقائق عظمى)(1).
ولـ(ن) هذه عنده قصة طريفة نحكيها مختصرة؛ للدلالة على دقة الملاحظة لدى بديع الزمان، وعمق التدبر للقرآن لديه، وجمال نظره الثاقب إلى مفهوم (إعجاز القرآن). إلا أنه يجب التنبيه قبل ذلك إلى أنه رحمه الله لم يسلك مسلك الباطنية في تفسير الحروف، كلا! وإنما بقي منضبطا في حدود ما تتيحه قواعد اللغة العربية، ومعانيها. ثم إنه أطلق العنان لوجدانه للسياحة في فضاء القرآن، من خلال الكلمات والحروف، انطلاقا من قواعد اللغة وضوابط التفسير.
__________
(1) المكتوبات:2/509.
(21/222)
قال رحمه الله في سياق الجزم باستحالة ترجمة القرآن الكريم: (إن كلمات القرآن التي جاءت بتلك اللغة العربية الفصحى الجامعة الخارقة، وفي صورة معجزة، وصادرة من علم محيط بكل شيء، يدير الجهات كلها؛ كيف توفي حقها كلمات ألسنة أخرى تركيبية وتصريفية، في ترجمة من هو جزئي الذهن، قاصر الشعور، مشوش الفكر، مظلم القلب؟ أم كيف تملأ كلمات ترجمةٍ محل تلك الكلمات المقدسة؟ حتى أستطيع القول، وأثبت أيضا: أن كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة(...)!
تأملت ذات يوم في (ن) المتكلم مع الغير في: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وتحرى قلبي، وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد؛ إلى صيغة الجمع (نَعْبُدُ)؛ فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك النون (...) وهنا انكشفت حالة أخرى، إذ رأيت:
أن الجماعة لتي انضممت إليها قد أصبحت ثلاث جماعات ودوائر:
الأولى: هي الجماعة الكبرى المؤلفة من المؤمنين الموحدين، على وجه الأرض قاطبة.
الثانية: هي جماعة الموجودات كافة حيث ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (النور:41) فرأيت نفسي مع صلاتها الكبرى، وفي تسبيحاتها العظمى، وأن ما يسمى وظائف الأشياء وأعمالها؛ إن هو إلا عناوين عباداتها وعبوديتها! (...)
الثالثة: ورأيت عالما يبدأ من ذرات وجودي، وينتهي إلى حواسي الظاهرة؛ فهو عالم صغير وصغير، إلا أنه عظيم جدا يدعو إلى الحيرة والإعجاب. وهو عالم ظاهره متناه في الصغر إلا أن حقيقته عظيمة، ووظائفه جليلة، نعم رأيت أن كل جماعة من جماعات هذا العالم منهمكة بوظائف عبوديتها وواجبات شكرها. ورأيت أن اللطيفة الربانية التي هي في تلك الدائرة في قلبي تردد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) باسم هذه الجماعة. مثلما رددها لساني بنية الجماعتين العظيمتين الأوليين!
(21/223)
والخلاصة أن (نون) (نَعْبُدُ) تشير إلى هذه الجماعات الثلاث وتدل عليها.
وبينما أنا في هذه الحالة؛ إذا بالشخصية المعنوية المباركة لمبلغ القرآن الكريم قد تمثلت أمامي بعظمته ووقاره، وهو - صلى الله عليه وسلم - على منبره المعنوي (المدينة المنورة)، وأسمع منه - كما سمع غيري - خطابا إلهيا موجها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ( (البقرة:21) فرأيت - خيالا - أن كل من في تلك الجماعات الثلاث يتجاوب مثلي مع ذلك الخطاب الرباني العظيم قائلا: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )!
وهناك تمثلت حقيقة أخرى أمام الفكر، حسب قاعدة: (إذا ثبت الشيء ثبت بلوازمه) وهي:
ما دام رب العالمين قد اتخذ الإنسان مخاطبا له، فيتكلم مع جميع الموجودات، وأن هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد قام بتبليغ ذلك الخطاب الرباني الجليل إلى جميع البشر، بل إلى جميع ذوي الشعور، وإلى جميع ذوي الأرواح؛ فلا بد أن الماضي والمستقبل معا قد أصبحا بحكم الزمن الحاضر! وغدت البشرية كافة مجلسا واحدا، وجماعة واحدة، في صفوف مختلفة متنوعة، حيث الخطاب متوجه إليهم جميعا.
هناك بدا لي أن كل آية من آيات القرآن الكريم؛ في قمة البلاغة، ومنتهى الجزالة، وفي غاية الإعجاز الذي يشع نوره الساطع. حيث إن الآية تكسب علوها وسموها وقوتها؛ لصدورها من ذلك المقام السامي الرفيع، الذي لا نهاية لعظمته، ولا غاية لسعته، ولا منتهى لسموه! من ذي الجلال والعظمة المطلقة، من المتكلم الأزلي جل جلاله)(1).
لقد كان (إعجاز القرآن) لدى بديع الزمان؛ منطلقا من تذوقه المنبهر بدلالة الكلمات الربانية على البعد الكوني، والمشهد الوجودي؛ ولذلك ارتقى مفهوم (البلاغة) عنده من مجرد (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) أو (مراعاة المقام) - كما هو عند البلاغيين، الذين سبق نقده لهم بشدة كما رأينا - إلى مراعاة أركان الكلام كله! بدءا بالمتكلم وانتهاء بالمتلقي!
__________
(1) المكتوبات:2/506-508.
(21/224)
3 - الإعجاز المعنوي للقرآن:
والإعجاز المعنوي للقرآن: هو ما يتلقاه (خادم القرآن) من إلهام، وما يفيض على قلبه من مشاهدات لحقائق الإيمان؛ بسبب تفرغه الخالص (لخدمة القرآن).
وذلك أن (إعجاز القرآن) تتعدى أنواره الربانية؛ لتشع بين أيدي خدامه؛ فيكون لهم بذلك منه مشاهداتٌ لحقائق الإيمان، أو - كما سماه النورسي - (إعجازٌ معنوي)، وهو ما تحقق لديه رحمه الله بما شاهده من حقائق انتظمت له في كليات رسائل النور، بصورة سلسة، غير متكلفة، ولا متعنتة، بل بما هي أنوارٌ منعكسة عن شمس القرآن العظيم؛ فكانت بذلك في مستوى التحدي العالي للإلحاد والزندقة؛ بما أخرست فلسفةَ العصر المادية، والعبثية الوجودية.
إنه إذا كان القرآن الكريم معجزا بنصه فعلا، مبنىً ومعنىً بإطلاق، وباعتبار ما يعرضه من آيات في الأنفس والآفاق؛ فإنه كذلك (معجز بالمعنى) من خلال ما يُفِيضُ على خدامه من لطائف شهودية، وموافقات ربانية. ولهذا قال بديع الزمان: (إن الحقائق الإيمانية والقرآنية لها من السعة والشمول ما لا يمكن أن يحيط به ذكاء أذكى إنسان! أليس إذاً ظهور تلك الأكثرية المطلقة، لتلك الحقائق بدقائقها، لشخص مثلي مشوش الذهن، مشتت الحال، لا مرجع ومصدر له من الكتب، ويتم التأليف في سرعة، وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثرا من آثار الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وجلوة من جلوات العناية الربانية، وإشارة غيبية قوية؟ (...) وهكذا فهذا التسهيل الخارق في التأليف، والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعد الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد، وتدريسها إلى أكثر الناس بساطة، وأمية، لا يكون في وسع شخص مثلي (...) لا شك أنه أثر من آثار العناية الإلهية، ولا يمكن أن يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية)(1).
4- تلميذ القرآن:
__________
(1) الكلمات:482- 483.
(21/225)
وتلميذ القرآن: هو من انخرط في التربية القرآنية؛ حتى حصل الأخوة الكونية، وسمو الروح وانبساطها؛ فكان عبدا لله ذاكرا له، بالتفكر والتدبر. فاستوعب وجدانه بذلك الكون كله، فلا يرى شيئا إلا من خلال (الأحدية)!
و(تلميذ القرآن) بهذا المعنى مناقض لـ(تلميذ الفلسفة) الذي - رغم أنه يتأمل ويتفكر في الكون - يعزل الأشياء عن دلالتها (الأحدية)، فكأن كل جرم أو مخلوق موجود بذاته ولذاته.
قال بديع الزمان: (أما التلميذ المخلص للقرآن فهو (عبد)، ولكنه لا يتنزل لعبادة أعظم مخلوق (...) إن تلميذ الفلسفة يفر من أخيه أَثَرةً لنفسه، ويقيم عليه الدعوى، أما تلميذ القرآن فإنه يرى جميع عباد الله الصالحين في الأرض والسماوات إخوانا له (...) حتى إنه يرى ما هو أعظم الأشياء كالعرش الأعظم والشمس الضخمة مأمورا مسخرا مثله!
ثم يمكنك قياس سمو الروح وانبساطها لدى التلميذين بما يأتي:
إن القرآن الكريم يمنح تلاميذه نماء ساميا للروح، وانبساطا واسعا لها؛ إذ يسلم إلى أيديهم بدلا من تسع وتسعين حبة من حبات المسبحة، سلسلة مركبة من ذرات تسع وتسعين عالما من عوالم الكون التي يتجلى فيها تسع وتسعون اسما من الأسماء الحسنى (...) فإن شئت فانظر إلى تلاميذ القرآن من الأولياء الصالحين (...) وأنصت إليهم حينما يقرؤون أورادهم، وانظر كيف أخذوا في أيديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وأنفاس المخلوقات! فيذكرون الله بها ويسبحونه ويقدسونه! تأمل كيف يتعالى ذلك الإنسان الهزيل، الذي يصارعه أصغر ميكروب، ويصرعه أدنى كرب! وكيف يتسامى في التربية القرآنية الخارقة؛ فتنبسط لطائفه وتسطع بفيض إرشادات القرآن!)(1).
__________
(1) اللمعات:3/181ـ182.
(21/226)
فقوله في هذا النص: (فإن شئت فانظر إلى تلاميذ القرآن من الأولياء الصالحين (...) وأنصت إليهم حينما يقرؤون أورادهم، وانظر كيف أخذوا في أيديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وأنفاس المخلوقات! فيذكرون الله بها ويسبحونه ويقدسونه!) هو ما عبر عنه بـ(الأحدية) التي لا تدرك إلا بالمشاهدة، كما بيناه في محله(1).
ومن هنا كانت أهم الدروس التي يتلقاها (تلميذ القرآن) من القرآن هي توجيهه إلى عالم الخلق والملكوت الرباني؛ ليتأمل ويتفكر، إذ ذلك هو الطريق القرآني إلى الإيمان الصادق والتوحيد الحقيقي. وبهذا المعنى تحدث عن (أستاذية القرآن). قال: (إن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلا! وإن توحيد القلبة إنما يكون بأستاذية القرآن فقط)(2).
5 - حقائق القرآن أو الحقائق القرآنية:
وحقائق القرآن: هي قضاياه الإيمانية الكبرى، ومبادئه الكونية الكلية، المتعلقة بإثبات مقاصده الأربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدل.
قال بديع الزمان: (إن "الكلمات" جميلة رائعة، وإنها ليست مني وإنما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم أجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها، وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جملت عباراتي!)(3).
والذي يدل على أن المقصود بمصطلح (حقائق القرآن) في النص إنما هو قضايا الإيمان خاصة، ما أورده النورسي في موضع آخر؛ من عطف (الحقائق القرآنية) على (الحقائق الإيمانية) عطف بيان. مما دل على ترادفهما. قال: (إن إثبات أجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الإيمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين إثباتا ساطعا؛ إنما هو إشارة غيبية قوية جدا، وعناية إلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الإيمانية والقرآنية ما اعترف بعجزه عن فهمها؛ من يعد من أعظم صاحب دهاء!)(4).
__________
(1) انظر مصطلح (التوحيد) بهذا المعجم.
(2) المثنوي العربي:6/30.
(3) المكتوبات:2/477.
(4) الكلمات:2/481.
(21/227)
ومعلوم أن (رسائل النور) إنما هي إثبات لأصول الإيمان، ومبادئه الكبرى، من خلال تفسيرها الجديد للقرآن، وكشفها لإعجازه.
ومن هنا لم تكن فروع السياسية، والخلافات الاجتماعية من (حقائق القرآن). قال بديع الزمان: (فالدرس القرآني الذي يلقى من موضع طاهر، زكي، مبرأٍ من موحيات أفكار التيارات السياسية، والانحيازات المغرضة جميعها (...) لا ينبغي أن تحجم عنه جهة. (...) وحمدا لله فإنني بسبب تجردي عن التيارات السياسية؛ لم أبخس قيمة حقائق القرآن، التي هي أثمن من الألماس، ولم أجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مر الأيام)(1).
6 - حكمة القرآن:
وحكمة القرآن: هي كشف غطاء الألفة عن مشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الأشياء، من تدبير وتربية ورعاية.
أو بعبارة أخرى: إنها الاعتبار بتدبر القرآن، لما يعرضه من مغزى الخلق للكون، دقائقه وجلائله. وإسناد كل ذلك إلى الأحد الصمد، للخروج من الكثرة إلى الوحدة. ولذا كانت (حكمة القرآن) - بهذا المعنى - جزء من مفهوم (إعجاز القرآن) بما سبق بيانه.
ومن هنا فارقت (حكمة القرآن) (حكمة الفلسفة) من حيث إن هذه الأخيرة تدخل في الكثرة ولا تخرج منها. أي أنها لا تسند الخلق للخالق، ولا تبرز (الأحدية) في الأشياء. قال بديع الزمان: (إذا أردت أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية (...) فأمعن النظر وتأمل فيما يأتي:
إن القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، إنما يمزق غطاء الألفة، وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تذكر إلا أنها عادية مألوفة، مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة، ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحا كنزا لا يفنى للعلوم أمام العقول.
__________
(1) المكتوبات:2/61.
(21/228)
أما (حكمة الفلسفة)، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية، وتسترها تحت غطاء الألفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث (...) فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة، وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة، وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل)(1).
ولهذه العلة أيضا فارقت (حكمة القرآن) حكمة العلوم، أو ما سماه النورسي بـ(حكمة الأشياء). قال: (العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات، كالفيزياء، والكيمياء، والنبات، والحيوان، هذه العلوم التي هي (حكمة الأشياء) يمكن أن تكون حكمة حقيقية؛ بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الأشياء. وهي تجليات تدبير وتربية ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الأشياء ومصالحها؛ تصبح تلك الحكمة حكمة حقا! أي باستنادها إلى ذلك الاسم: (الحكيم) وإلى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلا. وإلا فإما أن تنقلب إلى خرافات، وتصبح عبثا لا طائل من ورائها، أو تفتح سبيلا إلى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية)(2).
7 - الخدمة القرآنية أو خدمة القرآن:
الخدمة القرآنية: هي وظيفة الدعوة إلى القرآن باعتباره رسالة رب العالمين، والدلالة على مقاصده السامية.
فالدعوة إلى القرآن الكريم عند النورسي هي دعوة إلى المقاصد الأربعة (التوحيد والنبوة والعدل والحشر). ولكن بالمنهج القرآني، ومن خلال العرض القرآني، القائم على التدبر والتفكر. ووسيلة ذلك عنده إنما هي بيان (إعجاز القرآن) بمعناه الكوني لديه كما بيناه. فذلك المشروع كان هو أساس رسائل النور.
__________
(1) الكلمات:1/150ـ151.
(2) الكلمات:1/291.
(21/229)
قال عن نفسه: تفرغتُ (لخدمة القرآن وحده بكوني دلالا لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفة الدعوة إلى القرآن والدلالة عليه من أخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها، وإنما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع، وتلك الوظيفة الجليلة)(1). وقال أيضا في السياق نفسه: (إننا نستخدم في هذه الخدمة القرآنية، وندفع إلى العمل مكللين بالرضى الإلهي، مستظلين بظل العناية الربانية)(2).
8- خادم القرآن أو خدام القرآن:
وخدام القرآن: هم طلبة النور الذين اشتغلوا بنشر (رسائل النور)؛ وذلك من حيث كون هذه الرسائل بيانا، وكشفا؛ لإعجاز القرآن ومقاصده الأربعة.
قال بديع الزمان: (يحاول شياطين الإنس (...) أن يخدعوا خدام القرآن، ويصرفوهم عن ذلك العمل المقدس)(3). وقال أيضا: (إن الخدمة القرآنية التي اجتمعنا عليها ترفض (أنا) وتطلب: (نحن). فلا تقولوا: أنا! بل قولوا: نحن! ولا شك أنكم قد اقتنعتم أن أخاكم هذا الفقير لم يبرز إلى الميدان بـ(أنا) ولا يجعلكم خداما لأنانيته، بل أراكم نفسه خادما للقرآن لا يملك أنانية)(4).
9 - طريق القرآن: (انظر: المعراج القرآني).
10- ألفاظ القرآن، أو الألفاظ القرآنية:
وألفاظ القرآن: هي صيغ التكلم الإلهي، وأعلام الضروريات الدينية، ومحافظ الأسرار الربانية، ومنابع الحقائق الكونية.
إن معنى ذلك أن أهم ما يميز ألفاظ القرآن الكريم أنها الصيغ اللغوية التي تكلم بها الله جل جلاله وحيا إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو سر إعجاز القرآن كما بينا أي صدوره {من رب العالمين} {خالق كل شيء} وهي الحقيقة التي بهرت النورسي وأثارت تفاعله مع القرآن، وتأثره به! ومن هنا لم يكن ممكنا قط ترجمة القرآن ولا تبديل كلماته بمرادفات! لأن الحقيقة الكبرى هي في السؤال الخطير التالي:
__________
(1) المكتوبات:2/411.
(2) المكتوبات:2/485.
(3) المكتوبات:2/532.
(4) المكتوبات:2/550.
(21/230)
أي كلمة في لغات الكون يمكنها معادلة لفظ، (تكلم) به الله، وصار له وصفا؟ ألا سبحانه وتعالى ما لكلماته من مثيل!
ولذلك كانت (ألفاظ القرآن) مقدسة كلها سامية جميعها حرفا حرفا! هذه هي الحقيقة الأولى في هذا التعريف المقتبس من تعبيرات النورسي. قال رحمه الله: (إن تلك الألفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، إذ تذكر بالكلام الإلهي، والتكلم الرباني! (...) إن تلك الألفاظ العربية لها أهميتها وقداستها وأنوارها وفيوضاتها؛ حيث إنها كلام إلهي!
ومجمل القول: إنه لا يمكن أن يقوم مقام الألفاظ القرآنية التي هي محافظ ومنابع للضروريات الدينية أي لفظ آخر، ولا يمكن لأي لفظ آخر أن يحل محلها قطعا. ولا أن يؤدي الغرض منها لقدسيتها، وسموها ودوامها (...)
والنتيجة أن شمولية اللغة العربية الفصحى وسعتها، والبيان المعجز في الألفاظ القرآنية؛ تحولان دون ترجمة تلك الألفاظ؛ ولذلك لا يمكن ترجمتها قطعا! بل إنه محال!)(1) إضافة إلى القداسة الربانية للألفاظ القرآنية؛ فإنها صارت بمثابة أسماء أعلام دالة على المفاهيم الدينية التعبدية. والاسم العَلم دال دلالة مطابقة على مفهومه، ولذلك لم تجز ترجمته في جميع اللغات، ولدى جميع الأجناس! وكلام الله أولى بذلك قطعا مما سواه. قال رحمه الله: (أن ألفاظ الكلمات القرآنية، والتسبيحات النبوية، ليس لباسا جامدا يقبل التبديل والتغيير، وإنما مثله مثل الجلد الحي للجسد. بل إنها أصبحت فعلا جلدا حيا بمرور الزمن، ولا جدال في أن تبديل الجلد وتغييره يضر بالجسم. ثم إن تلك الكلمات المباركة في الصلاة والذكر والأذان، أصبحت اسما وعَلما لمعانيها العرفية والشرعية، ولا يمكن تبديل الاسم العَلم)(2).
__________
(1) المكتوبات:2/438ـ439.
(2) المكتوبات:2/437.
(21/231)
ثم إن الألفاظ القرآنية أيضا (محافظ)، أو (منابع) - كما سبق تعبيره - للأسرار الربانية، والحقائق الكونية. والله وحده العليم الخبير هو الذي يعلم - حق العلم - مقاصد كلماته على التمام والكمال، ومحفوظاتها من الأسرار والحقائق، مما يتعلق بالربوبية، والخلق، والغيب والشهادة. ولذلك كان من المجازفة الخاسرة حتما مجرد التفكير في إمكان تعويضها بغيرها من الألفاظ البشرية. فمن ذا قدير على الإحاطة التامة بعلم الله؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال بديع الزمان: (ما دام القرآن الكريم كلام رب العالمين وخالق كل شيء؛ فكل كلمة من كلماته إذن بمثابة نواة. أي يمكن أن تكون تلك الكلمة نواة تنبت منها شجرة معنوية من الأسرار والمعاني، أو بمثابة قلب تتجسد حوله المعاني والأسرار)(1).
وليس هذا خاصا بالكلمات القرآنية من الأسماء والأفعال فحسب؛ بل هو عام في كل لفظ قرآني، أي بما في ذلك الحروف. وقد سبق قوله رحمه الله: (حتى أستطيع القول، وأثبت أيضا: أن كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة!)(2) كما سبق قوله: (ليست آيات القرآن ولا كلماتها معجزة وحدها، وإنما كذلك حروف القرآن - كما في (ن) نعبد - هي مفاتيح نورانية لحقائق عظمى)(3). وقد سبق تفصيل ذلك في بيان ما تتضمنه دلالة النون من جماعات بشرية وكونية!
11 - المعراج القرآني:
والمعراج القرآني أو طريق القرآن: هو تدبر القرآن الكريم، والتفكر فيما يعرضه من الآيات الكونية؛ للوصول إلى عرش الكمالات وهو معرفة الله جل جلاله.
__________
(1) المكتوبات:2/247.
(2) المكتوبات:2/506.
(3) المكتوبات:2/509.
(21/232)
وسالك هذا الطريق هو من سبق وصفه لدى النورسي بـ(تلميذ القرآن). (فتدبر) الكتاب المقروء، يفضي بالضرورة إلى (التفكر) في الكتاب المنظور. ومن هنا كان له طريقان تفكريان: الأول: فهم أن الله لا يخلق شيئا إلا لحكمة، وهو ما سماه بدليل العناية. والثاني: أن الله قد أعطى لكل شيء وجوده الخاص، وهو ما سماه بدليل الاختراع. والتفكر في هذا وذاك مفض إلى (الأحدية) المطلقة وذلك كمال معرفة الله جل جلاله.
قال بديع الزمان: (إن أصول العروج إلى عرش الكمالات - وهو معرفة الله جل جلاله - أربعة:
- أولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس، والسلوك الإشراقي.
- ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان(...).
- ثالثها: مسلك الفلاسفة.
هذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات، والأوهام!
- رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق! وهو نوعان:
الأول: دليل العناية: (...) وزبدة هذا الدليل: رعاية المصالح والحكم في نظام العالم الأكمل؛ مما يثبت قصد الصانع وحكمته وينفي وهم المصادفة(...).
الدليل القرآني الثاني: دليل الاختراع. وخلاصته أن الله تعالى قد أعطى كل فرد، وكل نوع، وجودا خاصا، هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة فلا نوع يتسلسل إلى الأزل)(1).
__________
(1) صيقل الإسلام:8/122ـ124.
(21/233)
والعروج إلى الله عبر طريق القرآن الكريم يتم عند النورسي بأربع خطوات هي: العجز، والفقر، والشفقة، والتفكر. فهذه المعاني يستشعرها العبد في ممارسة عبادته لله الواحد القهار، هذه العبادة التي لا تختلف أشكالها، ولا أعدادها، ولا شروطها؛ عما هو معروف ومشتهر لدى جمهور المسلمين، أو ما يسمى لدى الفقهاء بـ(المعلوم من الدين بالضرورة)؛ ولذلك اعتبر النورسي منهجه هذا أقرب إلى الحقيقة الشرعية؛ منه إلى الطريقة الصوفية.
قال رحمه الله في سياق مقارنة طريق القرآن بطريق العشق الصوفي: (للوصول إلى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة وعديدة. ومورد جميع الطرق الحقة، ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم (...) وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقا قصيرا وسبيلا سويا هو: طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.
نعم! إن العجز: كالعشق موصل إلى الله، بل أقرب وأسلم، إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية. والفقر: مثله يوصل إلى اسم الله (الرحمن). وكذلك الشفقة: كالعشق موصل إلى الله، إلا أنه أنفذ منه في السير، وأوسع منه مدى، إذ هو يوصل إلى اسم الله (الرحيم). والتفكر: أيضا كالعشق، إلا أنه أغنى منه وأوسع نورا، وأرحب سبيلا، إذ هو يوصل السالك إلى اسم الله (الحكيم).
وهذا الطريق يختلف عما سلكه أهل السلوك في طرق الخفاء (...) وهو حقيقة شرعية أكثر مما هو طريقة صوفية(...).
أما أوراد هذا الطريق القصير وأذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان والعمل بالأذكار عقبها، وترك الكبائر)(1).
12 - مقاصد القرآن:
__________
(1) المكتوبات:2/594.
(21/234)
ومقاصد القرآن: هي الحقائق التي نزل القرآن من أجل إثباتها، وعناصره المبدئية الكبرى. وهي: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة. وهو ما أورده النورسي في أكثر من موطن من رسائله، التي ألفها أساسا من أجل العمل على إثبات تلك الحقائق؛ وذلك ببيان إعجاز القرآن. قال: (إن المقاصد الأساسية من القرآن، وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة)(1).
13 - وظيفة القرآن:
أما وظيفة القرآن: فهي على حد تعبير النورسي، وذلك في قوله: (الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها)(2).
ومعنى ذلك أن معرفة الله عز وجل إنما هي معرفته من حيث هو {رب العالمين} ومن حيث هو {خالق كل شيء} أي معرفته تعالى من خلال البعد الكوني؛ لتوحيده سبحانه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. ومن هنا كانت المعرفة بالله قائمة أساسا على (مشاهدة) أنوار الأسماء الحسنى المنعكسة على سائر الكائنات، وفي كل الحركات. ومن هنا كان الكون نفسه كالقرآن دالا على الله بطريق التفكر. كما أن القرآن دال على الله بطريق التدبر، وكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دال على الله بطريق الاقتداء والتأسي.
قال بديع الزمان: (إن ما يعرّف لنا ربنا لا يعد ولا يحصى، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:
إحداها: هذه الكائنات، وقد سمعت بعض آيات هذا الكتاب الكبير.
وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوز الخفية عليه الصلاة والسلام.
وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الأنام: أي القرآن الحكيم)(3). وقال أيضا: (إن ما يعرف لنا ربنا هو ثلاثة معرفين أدلاء عظام:
أوله: كتاب الكون (...)
ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة- صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) إشارات الإعجاز:5/23.
(2) الكلمات:1/293.
(3) المثنوي العربي النوري:6/55.
(21/235)
ثالثه: القرآن الحكيم)(1).
فإذا كان ذلك كذلك؛ أي إذا تم التعريف بالله (ربا وخالقا)، وتمت مشاهدة أسمائه الحسنى، متجلية أنوارها في كل شيء؛ كان ذلك هو الشطر الأول من وظيفة القرآن التعليمية والتربوية، وهو ما سماه في التعريف بـ(تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها). وأما الشطر الثاني: فهو ما يتوجب على العبد أن يؤديه من حقوق الربوبية والخالقية! وما ينبغي له أن يسلكه من (معراج قرآني) و(خطوات أربع) مما سبق بيانه عنده، وما يجب عليه أن يتحلى به في ذلك من آداب الطريق. وهو ما عبر عنه في التعريف بتعليم (وظائف دائرة العبودية وأحوالها).
خاتمة:
القرآن هو سر نجاح الأستاذ بديع الزمان النورسي في دعوته التجديدية، رغم الظروف العصيبة التي اكتنفتها ولا تزال! إن هذا الرجل الذي خرج تربويا من رحم التصوف؛ ليعلن للعالم بعد نظر بصير بالزمان والإنسان، فيقول للدعاة والمربين بكل قوة: (إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية! بل زمان إنقاذ الإيمان!)(2). ولم يكن مشروع (إنقاذ الإيمان) عنده غير سلوك سبيل (المعراج القرآني) وتلقين ذلك لعموم المسلمين. ونصه - الوارد قبل - فصل البيان في المنهج. قال رحمه الله: (المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!)(3).
ومعنى ذلك إنما هو تجديد التربية للأجيال؛ بناء على برنامج القرآن في تكوين الإنسان، وإعداده لتسلم وظيفة العبادة لله الواحد القهار في كل شؤون الحياة، تلك الوظيفة التي من أجلها خُلق. تماما كما صنع محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، من بعدما نزلت عليه القطرات الأولى من القرآن العظيم. فانطلق بين الناس بالآيات بشيرا ونذيرا.
__________
(1) المكتوبات:2/257.
(2) الملاحق - ملحق أميرداغ/1/: 263.
(3) صيقل الإسلام:8/123.
(21/236)
من أجل ذلك كان القرآن عند بديع الزمان النورسي هو جوهر دعوة التجديد، وعمودها الأساس. لم تقم إلا به ومن أجله! هو المصدر، وهو المنهج، وهو البرنامج! منه وإليه يرجع كل شيء عند النورسي: تفسير الكون، وتفسير الحياة، وإعادة بنائها! فكان لذلك مصطلح القرآن – كما تعامل معه رحمه الله - هو المفتاح الأساس؛ لفهم كليات رسائل النور.
الفصل الخامس
مصطلح
مصطلح (الانتساب الإيماني)
تمهيد:
يعتبر مصطلح (الانتساب الإيماني) عند بديع الزمان النورسي رحمه الله، من أرفع (الأواني) التعبيرية، التي قدم فيها مفهوم الإيمان بمعناه الوجداني، ومقاصده الإصلاحية التجديدية. فكان أن فتح بذلك (للإنسان) آفاقا أرحب، تصل نسبيته بالمطلق؛ عبر مسلك (العبدية) بمفهومه الذوقي الخاص عنده؛ ليكون له بذلك شأن آخر، ومعنى جديد!
إن المسلم عند النورسي لم يعد –باعتباره عبدا لله- مجردَ اسمٍ عَلَمٍ ينادى، أي: (عبد الله) أو (عبد الرحمان)، وإنما صاحب وظيفة مستنبطة من التفكر الخفي، والتدبر الملي؛ لطبيعة العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، في اسم (عبد الله) الذي هو اسم وظيفي – لا عَلَمِي – لكل مسلم حق. إن الإضافة النحوية لها دلالة عظيمة، على مستوى المعاني بالقصد البلاغي والإيماني معا. أعني من حيث إنها تفيد اختصاص المضاف إليه بالمضاف، وتفرده به، على سبيل (الامتلاك). وكذا اختصاص المضاف بالمضاف إليه، على سبيل (الاستناد) والانتماء.
(21/237)
وهنا تكمن خطورة المصطلح: (الانتساب)؛ لأنه تصوير لعلاقة المطلق بالنسبي وما يكتسبه هذا من ذاك! فعلاوة على دقة العلاقة بين مفهومين لا يجمعهما في المنطق إلا معنى التضاد؛ بينما هما هنا يلتقيان في المعنى الإسلامي؛ في التناسب الجميل المستفاد من علاقة العبادة، وما تحمله من ظلال روحية هادئة. قلت: علاوة على ذلك كله فإن المصطلح المدروس يصور بأدق ما يكون التصوير الرقي الإنساني، في مدارج الإيمان، حتى يكون أهلا لمقام العطف الرباني والتضييف الرحماني.
ومن خلال ذلك كله يقدم الأستاذ النورسي معنى الإيمان بحس إصلاحي تجديدي، يغري المسلم بتصحيح إسلامه، وتجديد الصلة بربه على أساس مفهوم (الانتساب) الذي كان له أعظم الأثر في تشكيل (مدرسة النور) في الفكر الإسلامي المعاصر.
وإني لأحسب أن تجديد التدين في المجتمع الإسلامي، لو أنه سعى هذا المسعى القائم على تحقيق معنى (العبودية)، حيث كانت الإضافة فيها إلى الرحمن نقطة استناد؛ لكان له اليوم شأن آخر، إذ يمنح العبد معنى القوة والمنعة والحياة،كما في قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الإسراء : 65 ). فياء الضمير: (المضاف إليه) الدال على الذات الإلهية، يخص المضاف (عباد) بخصوص (الانتساب) الذي يكتسب منه (العبد) شرف النسبة إلى الملك العظيم رب السموات والأرض. فذلك ما عبر عنه الأستاذ النورسي (بالانتساب) حينا و(الانتساب الإيماني) حينا آخر، كما في قوله رحمه الله: (إن نور الإيمان الذي بسط ذلك (الانتساب) والعبدية هو الذي يجعل النمل يغلب فرعونا بقوة ذلك (الانتساب)(1) وقوله: (إنك تنتسب بهوية (الانتساب الإيماني) إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة)(2).
وهنا ينفتح باب آخر لتدفق التجليات والواردات، مما لا يدرك له كنهه إلا أن يذاق!
__________
(1) الشعاعات : 4 / 13 .
(2) اللمعات : 3/ 388 .
(21/238)
وبيان ذلك على مستوى الدراسة المصطلحية هو كما يلي:
... في مفهوم ( الانتساب الإيماني) عند النورسي:
أ- (الانتساب) لغة:
يرجع استعمال مادة (نسب) في اللغة إلى معنى (الاتصال). وكل ما اشتق من (النون والسين والباء) فهو راجع إلى ذلك بصورة ما. ومن هنا كان هذا الجذر اللغوي (أصلا) واحدا غير متعدد من حيث الوضع اللغوي الأصلي. فكانت لذلك كل معانيه الاشتقاقية، الجزئية، الحقيقية والمجازية؛ إنما تَعْبرُ إلى دلالتها الخاصة في الحقيقة أو المجاز؛ عبر المسلك الدلالي الأول، أعني: الاتصال. وما أدق تعبير إمام اللغويين والمعجميين، في التأصيل والتأثيل أحمد بن فارس إذ قال في مقاييسه: (النون، والسين، والباء: كلمة واحدة قياسها: اتصال شيء بشيء. منه النسَب: سمي لاتصاله، وللاتصال به. نقول: نَسَبْتُ أنْسُبُ وهو نسيب فلان، ومنه النسيب في الشعر إلى المرأة: كأنه ذِكْر يتصل بها، ولا يكون إلا في النساء (…) والنسيب: الطريق المستقيم، لاتصال بعضه من بعض)(1) وقال الراغب الأصفهاني: (وتستعمل النسبة في مقدارين متجانسين بعض التجانس، يختص كل واحد منهما بالآخر)(2) ولذلك قال ابن منظور: (النسب يكون بالآباء، ويكون إلى البلاد، ويكون في الصناعة (…) وانتسب واستنسب: ذكر نسبه)(3) ، ومن هنا كان الانتساب ضربا من التعريف بالمنتسِب، سواء انتسب إلى أب أو جهة، أو مكان، أو صناعة؛ لأنه بانتسابه يعرف بعض ماهيته، قال ابن منظور: (يقال للرجل إذا سئل عن نسبه: استنسب لنا أي: انتسب لنا حتى نعرفك)(4).
ومن هنا كان (الانتساب) في اللغة: بيان علاقة الشخص بجهة ما؛ قصد التعريف به.
ب - وأما في اصطلاح بديع الزمان النورسي:
فالانتساب: هو الانخراط الوجداني في سلك العبودية لله إيمانا وعملا؛ بما يحقق للإنسان معنى الإضافة إلى الله في صفة (عبد الله).
__________
(1) المقاييس : ( نسب ).
(2) المفردات : ( نسب ) .
(3) اللسان : ( نسب ).
(4) اللسان : ( نسب ) .
(21/239)
وبيان هذا التعريف - على الإجمال - هو كما يلي:
ب 1 - فأما كونه (انخراطا) فلأنه نوع من الدخول في (الخدمة) بمعناها الوظيفي، حيث يكتسب العبد الصفة الإيمانية الانتسابية، بما يشغل من وظيفة لدى الملك العظيم. ولذلك كان الإمام بديع الزمان حريصا على التمثيل لهذا المعنى في كثير من المواطن من (الكليات) بالخدمة السلطانية، لما تجلبه هذه من صفات العزة والمنعة للخادم المجند، يقول رحمه الله: (إن الذي يتحرك ويسكن، ويصبح ويمشي بهذه الكلمة: (بسم الله) كمن انخرط في الجندية، يتصرف باسم الدولة، ولا يخاف أحدا، حيث إنه يتكلم باسم القانون، وباسم الدولة، فينجز الأعمال ويثبت أمام كل شيء)(1). ويقول في بيان أوضح: (إذا انتسب أحد إلى السلطان بالجندية أو بالوظيفة الحكومية، فإنه يتمكن أن ينجز من الأمور، والأعمال أضعاف أضعاف، ما يمكنه إنجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني)(2). فهذا التشبيه البليغ مقصود للدلالة على الطبيعة الوظيفية، للخدمة التعبدية التي بها فقط ينال المسلم شرف الانتساب الإيماني، ذلك أنه –كما يقول رحمه الله– (يرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه، رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم ، وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ): أي انتسابه لمالك يوم الدين، ولسلطان الأزل والأبد)(3).
__________
(1) الكلمات : 1/ 6 – 7.
(2) اللمعات : 3/ 278.
(3) الكلمات : 1 / 45 .
(21/240)
ومن هنا كان الإيمان المبلغ إلى مقام الانتساب، انخراطا وظيفيا كما قلنا، حيث عمل النورسي على تحسيس طلابه بالذوق الانتمائي للإسلام، وتجديد مفهوم الصفة الإسلامية التي أبلتها العادات الاجتماعية، وطمستها الظلمات الضلالة الزاحفة، فكان الأستاذ لذلك يثير مكامن الوجدان في النفوس بتجديد المفاهيم، وسك المصطلحات، ومن هنا كان لزاما أن نقيد عبارة الانخراط في التعريف بصفة (الوجداني)؛ للدلالة على مقصود النورسي من تجليات الإيمان، وما يجده المؤمن فيها من أذواق ومواجيد، هي حقيقة مقام (الانتساب). فالمسألة إذن ليست مجرد انخراط شكلي بحمل الشارات والعلامات، من أسماء إسلامية وتعابير دينية، ولكنها أعمق من ذلك بكثير، إنها شعور ومواجيد وأذواق، يجدها العبد من صدق توجهه، وأصالة انتسابه، مما يرقيه إلى ما يسميه المربون الأوائل (بمقام الأنس) حيث تنساب غدران الطمأنينة والسكينة على مشاعر العبد في سلوكه إلى الله. قال رحمه الله مخاطبا نفسه: (فما دمت قد ظفرت بنقطة استناد مثل هذه، بهوية الانتساب الإيماني؛ فيمكنك الاستناد والاطمئنان إذا إلى قوة عظيمة، وقدرة مطلقة. وحقا لقد كنت أحس بقوة معنوية عظيمة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(1). ويقول في موطن آخر لكن في السياق ذاته: (ما أن جاءت (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى رفعَت الستار، فأحسستُ، وشاهدتُ، وتذوقتُ بحق اليقين أن لذة البقاء وسعادته موجودة بنفسها، (…) في إيماني وإذعاني، وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي)(2).
__________
(1) اللمعات : 3 / 389 .
(2) الشعاعات : 4 / 70 .
(21/241)
وأما كون الانخراط الوجداني في سلك العبودية إنما يكون (إيمانا وعملا): فهو للدلالة على أن الأذواق والمواجيد التعبدية، التي يكتسبها العبد بانتسابه، إنما يكتسبها من اجتماع الأمرين معا: الإيمان والعمل، فيجني من الأول مواجيد التفكر، ويجني من الثاني مواجيد الخدمة، فيتم له بذلك جمال الانتساب صدقا لا كذبا، ويكون حينئذ أهلا لورود التجليات.
وأما كون ذلك كله واقعا (بما يحقق للإنسان معنى الإضافة إلى الله في صفة "عبد الله")؛ فلأن غاية الانتساب وجوهره إنما هو الشعور بأنك منتسب لله على سبيل العبدية، من حيث هو تعالى الخالق، والمالك، والرب المتصرف في الذوات وفي المنافع، بما شاء وكما شاء؛ فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، وكفى بذلك عزةً. ومن هنا كان (الانتساب) قوة ورفعة لصاحبه.
هذا في مفهوم (الانتساب الإيماني) على الإجمال، وأما على التفصيل فنعرضه كما يلي:
ب2: في الانتساب الإيماني والتوحيد:
يرجع مفهوم (الانتساب) عند بديع الزمان - من حيث التصور - إلى معنى (التوحيد)، كما فصلناه في معناه الرئيس عنده(1). وذلك من خلال مفهوم اصطلاحي يستعمل عنده مقرونا بمصطلح (الانتساب)، ألا وهو (الاستناد)، على جهة الترادف، لكن للدلالة أساسا على معنى الارتكاز على (الواحد الأحد)، وتوحيده بالانتساب إليه سبحانه، واستدرار ثمار التوحيد والوحدانية، من معاني التأييد والتسديد والنصرة، قال رحمه الله: (إن قوة الاستناد والانتساب التي في الفردية والوحدانية تجعل النملة الصغيرة تقدم على إهلاك فرعون عنيد (…) باسم ذلك الانتساب، وبسر ذلك الاستناد)(2).
__________
(1) انظر بحثنا في ذلك ( مفهوم التوحيد عند بديع الزمان النورسي ) .
(2) اللمعات : 3 / 545 .
(21/242)
ذلك هو توحيد الواحد الذي يمنح العبد الموحد قوة بسبب انتسابه إلى الواحد الأحد، ولذلك كان الشرك بهذا المعنى – من حيث المناقضة- دالا على التفرقة، وكل معاني الضعف والتجزيء، ذلك (أن في الوحدة يقوم الانتساب مقام قدرة غير محدودة، ولا يضطر السبب لحمل منابع قوته، ويتعاظم الأثر بالنسبة إلى المسند إليه، وفي الشركة يضطر كل سبب لحمل منابع قوته، فيتصاغر الأثر بنسبة جرمه)(1).
إن (الانتساب الإيماني) بهذا المعنى يقوم أساسا من حيث المنطلق على مفهوم (التوحيد) لدى بديع الزمان. فكل منتسب موحد بالضرورة، وكل من لا انتساب إيماني له؛ مشرك تصورا أو وجدانا أو هما معا.
وهذا واضح في تدبر الاعتبار التصوري، الذي بنى عليه النورسي مفهوم الانتساب، إذ كان الكون كله من حيث هو مخلوقات شتى، جلائلها ودقائقها باطلاق، قائما بقيومية (القيوم) سبحانه، فهو إذن انتساب كوني، ينطلق منه العبد على مستوى التصور لتحرير التوحيد في قلبه، وتخليصه من كل الشوائب الشركية؛ حتى يتسنى له إخلاص الانتساب الإيماني لله الواحد القهار على مستوى الوجدان، قال رحمه الله: (إن خالق هذا الكون – ذا الجلال – (قيوم) أي: أنه قائم بذاته، دائم بذاته، باق بذاته. وجميع الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، وتبقى في الوجود به، وتجد البقاء به، فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفة عين يمحى الكون كله!)(2).
__________
(1) المثنوي العربي : 6 / 143.
(2) اللمعات : 3 / 575 .
(21/243)
هذا التصور – كما قلت – هو الفراش الذي يمهد به العبد لإخلاص التوحيد، وإسناد كل شيء لله وحده دون سواه، ثم يكون هو بعد ذلك عبدا (منتسبا) أي مستندا في كل أمره إلى الواحد الأحد، وذلك هو قول بديع الزمان: (إذا ما انقطع الانتساب إلى الله سبحانه وتعالى، ينبغي قبول وجود آلهة بعدد ذرات التراب! وهذه خرافة مستحيلة في ألف محال ومحال، بينما الأمر يكون مستساغا عقلا، وسهلا ومقبولا؛ عندما تصبح كل ذرة مأمورة، إذ كما أن جنديا اعتياديا لدى سلطان عظيم يستطيع – باسم السلطان، واستنادا إلى قوته – أن يقوم بتهجير مدينة عامرة من أهلها (…) كذلك تستطيع بعوضة صغيرة أن تطرح نمرودا على الأرض (…) وتستطيع بذرة تين صغيرة جدا أن تحمل شجرة التين الضخمة على ظهرها، كل ذلك باسم سلطان الأزل والأبد، وبفضل ذلك الانتساب)(1).
إنه ضرب من تحرير التصور – أولا – من الشرك والخرافة والتناقضات المستحيلة؛ لأنه بغير ذلك لا يستقيم انتساب إيماني لعبد، ثم إنه ضرب أيضا من التفسير العقدي التوحيدي (لفاعلية) الانتساب الإيماني لدى الإنسان، وكيف يتم التحول من الضعف إلى القوة، ومن الاستمداد الجزئي إلى الاستمداد الكلي، رغم ضآلة الجرم المنتسِب وحقارته. ذلك جوهر (التوحيد) عند بديع الزمان كما بيناه(2) وإنما (الانتساب الإيماني) وجه من وجوهه، وصورة من مرآته.
ب3 - في الانتساب الإيماني و(العبدية):
__________
(1) الكلمات : 1 / 332 – 333 .
(2) بحثنا في مصطلح التوحيد المشار إليه قبل .
(21/244)
سبق البيان في التعريف أن الانتساب الإيماني انخراط وجداني في سلك العبودية لله. وإنما ذلك لما حققناه لدى بديع الزمان من ثمار تفكرية، لمفهوم (العبدية)، في سياق شرح معاني الانتساب، حتى إنه يمكن القول: إن معنى (الانتساب) مرادف تمام المرادفة لمعنى (العبدية)، من حيث إن المنتسب لا يعدو أن يكون بانتسابه ذاك محققا لمعنى عبوديته لله الواحد القهار. وتلك هي غاية الغايات من وظيفته الخلقية، المذكورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ)( سورة الذاريات : 56) وللعبدية في معنى الانتساب ذوق آخر، وجمال جديد، إنها الشعور الدائم بالصلة الإيمانية، القائمة على أساس الخدمة، التي تربط العبد بربه بالغداة والعشي. فالإحساس (بالوصل الذوقي ) بقلب العبد، ليس متاحا لكل الناس، بل هو موجدة جمالية لا تكون إلا بتحقيق معنى الانتساب الإيماني، لدى (عبد الله) خاصة. ومعنى (عبد الله) هنا تحقيق المعنى الإسنادي لا مجرد الاسم. ولا يكون تحقيقه إلا بالاستدعاء الدائم للصفة الوجودية للانسان، مما ذكر في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) أي باستحضار ذلك استحضارا فعليا، على مستوى الباطن والظاهر، والدوران معه بدوران الفلك.
(21/245)
فما أجمل قول بديع الزمان الجامع المانع مخاطبا (عبد الله) بالمعنى المفهومي: (إنك منتسب إلى مالك كريم بعبوديتك وبمملوكيتك)(1). إنه نداء اليقظة، الذي يجعل المرء يدرك حقيقة ماهيته الغائبة بسبب الغفلة والظلمة الغاشية، إدراكا يبسط مواجيده بعد قبض، وإنما هو (نور الإيمان الذي بسط ذلك الانتساب والعبدية)(2). (فالعبدية) إذن شعور وجداني يجده العبد بمجرد اكتساب (وعيه) بانتسابه. وهو المقصود بقوله السابق معللا: (وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي انتسابه لمالك يوم الدين)(3). ذلك بعض ما يستفاد من حكمة التشريع الرباني، في فرض قراءة سورة الفاتحة في الصلاة، ركنا لا تنجبر الصلاة إلا به، تكرارا لا يقل عن سبع عشرة مرة في اليوم! والمدار الدائم إنما هو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). ولعل ذلك ما تفطن إليه الإمام ابن القيم رحمه الله عند توشيح كتابه العظيم باسم: (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)(4).
فتكرار (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) – الذي لا تكرار فيه على الحقيقة، وإنما هو تأسيس وابتداء عند كل ذكر وتلاوة – هو طرق متوال على قلب العبد الغافل أن أفق! وع ما أنت عليه من عبودية لله! أو طرق متوال أيضا على قلب العبد الذاكر أن حذار من العودة إلى النوم والغفلة! فتخسر لذة التجدد في كؤوس التعبد، المقدمة هدية من الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، إلى عبده، كلما ذكر أو تلا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
__________
(1) الشعاعات : 4 / 75 .
(2) الشعاعات: 4 / 13 .
(3) الكلمات : 1 / 45 .
(4) طبع في ثلاثة أجزاء بتحقيق محمد حامد الفقي توزيع دار الرشاد الحديثة المغرب.
(21/246)
إن هذا الدوران المتجدد ، المبتدأ، والمؤسس، عبر فلك التعبد؛ هو الذي يكسب العبد وعيه المستمر بجمال ( العبدية )، هذه الصفة الشريفة التي وشحه الرحمن بها مذ أعلن (انتسابه) إليه وحده دون سواه، وتلك لعمري شفافية الجمال، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
وهنا يجتمع التصور والتطبيق في قلب العبد، ويكون انتسابه شعورا وحركة، وذلك هو جماع خُلُقِه، تماما كما إذ سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ)(1) أي العبودية الحقة بترجمة القرآن وجمال آيه إلى سلوك وجداني واجتماعي، طاعة لله عز وجل، ملؤها الرضى والمحبة، وذلك هو الوجه التعبدي، أو العبدي لمصطلح الانتساب لدى بديع الزمان. قال رحمه الله: (إن إدراك تلك الرحمة والظفر بها، إنما يكون بالانتساب إلى ذلك (الرحمن) بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه، بأداء الفرائض والواجبات)(2).
وإنما المرء (يجد بانتسابه إلى السلطان ذي الجلال؛ بالايمان والعبودية؛ مستندا قويا، ومرتكزا عظيما)(3).
إن "إدراك" ذلك كما عبر بديع الزمان، هو المشكلة الأساس في ابتداء ذوق معنى (الانتساب) لدى الإنسان. فكثير من الناس (يعبدون) الله، لكن شكلا لا (معنى)، وظاهرا لا باطنا، ومجازا لا حقيقة، تماما كما هي أسماء كثير من المسلمين (عبد الله) و(عبد الرحمن)، و(عبد الملك) و(عبد القدوس) ونحوها من الأسماء الحسنى، بيد أن القليل منهم من يدرك حقيقة اسمه ذوقا ووجدانا، بل ربما كانت أحوالهم وأفعالهم مناقضة على التمام لأسمائهم وما تقتضيه .
__________
(1) رواه مسلم .
(2) اللمعات : 3 / 343 .
(3) الكلمات : 1 / 179 .
(21/247)
إن تحقيق (العبدية) إذن؛ (إدراك) لواقع الحال الوظيفي والغائي، من وجود الذات المدركة، وتلك هي العتبة الأولى لمقام الانتساب، أنت (عبد) إذن أنت مملوك! ومن كان مملوكا لم يكن له من الأمر شيء. وإنما أمره كله لله الواحد القهار، المالك لكل شيء على الحقيقة. (فصلة) العبدية هي العلاقة الجميلة التي تربط المنتسِب بالمنتسَب إليه. و(للصلة) معنى جوهري في تحقيق الانتساب كما حققناه في جذره اللغوي، وكذا استعماله الاصطلاحي لدى بديع الزمان. وما (صلة العبدية) إلا السلوك إلى الله جل جلاله عبر مدارج الطاعة الشاملة والخضوع المطلق، أمرا ونهيا. وما حال (العبد) بين يدي (سيده) إلا (الترقب) للأمر والنهي؛ ليمارس ما خلق لأجله من عبودية، وإذن يكون (منتسبا).
ب4 - في الانتساب الإيماني والتجلي الرباني:
(21/248)
أما التجلي الرباني: فمعناه أن الإنسان الذي ينتسب إلى ربه عبدا موحدا مسندا كل شيء إليه تعالى؛ تصفو سريرته بنور الإيمان المتدفق على قلبه، وتصفو مرآة وجهه، فتعكس أنوار الأسماء الحسنى، ونقوش الصنعة الربانية، فيشهد بذلك وحدانية الواحد، ويرى جمال إحسانه بقلبه ووجدانه. إن صفاء التوحيد الحاصل بالانتساب الإيماني الحق، يرقي العبد إلى مرتبة (الولاية) بمعناها القرآني ومشهدها القدسي،كما ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عن ربه: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)(1) ذلك إذن هو التجلي النوراني الذي يملأ قلب العبد بالتسديد والتأييد، ويرفعه إلى خصوص الولاية الرحمانية، التي هي إخلاص الانتساب بالإيماني للواحد الأحد، تعبدا وتوحيدا.
__________
(1) رواه البخاري .
(21/249)
ذلك ما نثره الأستاذ النورسي ذوقا، بعد تفكر وتدبر، إذ قال رحمه الله: (إذا أسندت المخلوقات غير المحدودة والأشياء غير المعدودة إلى الواحد الأحد؛ فكل شيء عندئذ يكون بذلك الارتباط قد نال مظهرا من ذلك الانتساب، ويكون موضعَ تجل من ذلك النور الأزلي، فتمد علاقات ارتباطه بقوانين حكمته، وبدساتير علمه، وبنواميس قدرته جل وعلا، وعندها يرى كل شيء بحول الله وقوته، ويحظى بتجل رباني، يكون بمثابة بصره الناظر إلى كل شيء، ووجهه المتوجه إلى كل شيء، وكلامه النافذ في كل شيء! وإذا انقطع ذلك الانتساب، ينقطع أيضا كل شيء من الأشياء عن ذلك الشيء، وينكمش الشيء بقدر جرمه)(1).
فهذا النص بيان لما يفعله الانتساب في وجدان المؤمن من تخلية وتحلية، ومن تهذيب وتشذيب، وتصفية وتزكية، ترقيه إلى منزلة الصفاء والإخلاص، حيث مرآة التجلي تعكس ما تعكس من أنوار وأسرار – ذلك (أن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عليين، فيكتسب بذلك قيمة تجعله لائقا بالجنة (…) لأن الإيمان يربط الإنسان بصانعه الجليل، ويربطه بوثاق شديد، ونسبة إليه. فالإيمان إنما هو انتساب، لذا يكتسب الإنسان بالإيمان قيمة سامية من حيث تجلي الصنعة الإلهية فيه، وظهور آيات نقوش الأسماء الربانية على صفحة وجوده)(2).
إن ظهور الصنعة الإلهية على صفحة الإنسان، وعكس مرآته لجمال أسمائه الحسنى، ونقوشها العليا، لا يكون إلا بعد صفاء المرآة. ولا صفاء إلا بخدمة، وإخلاص، وتفان في السير إلى الله. إن الانتساب معناه (الانخراط) في الخدمة كما قدمنا. أي الدخول في الأعمال، والمراقبة لكل ما يتعلق بذلك ورعايته، لتحقيق العبودية الحقة بـ(الرعاية لحقوق الله) كما عبر الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله(3).
__________
(1) المكتوبات : 2 / 333 .
(2) الكلمات : 1 / 348 .
(3) عنوان كتابه المطبوع بتحقيق عبد القادر أحمد عطا، نشر دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الرابعة : 1405 هـ / 1985 م .
(21/250)
إن الإيمان الكفيل بإظهار آثار التجليات، وروائع الجماليات، إنما هو الإيمان الخالص الانتساب إلى الله، المحقق للعبدية الحقة، حيث تصفو السريرة، وتنجلي مرآة البصيرة، فإذا العبد عند ذلك يرى بنور الله.. وتكون التجليات: واردات (الولاية) الرحمانية. يقول بديع الزمان: (الإيمان – الذي هو عبارة عن الانتساب إلى الصانع الجليل – يقوم بإظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الإنسان، فتتعين بذلك قيمة الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية، فيتحول هذا الإنسان – الذي لا أهمية له – إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلا للخطاب الإلهي، وينال شرفا يؤهله للضيافة الربانية في الجنة .
أما إذا تسلل الكفر – الذي هو عبارة عن قطع الانتساب إلى الله – في الإنسان، فعندئذ تسقط جميع معاني نقوش الأسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام، وتمحى نهائيا)(1).
إن (الانتساب الإيماني) إذن؛ هو صيقل القلب وملمع مرآته؛ كي يستقبل التجليات الربانية والجماليات النورانية، حتى إذا رأى؛ رأى بنور الله، وإذا سمع؛ سمع به! وتلك لعمري منزلة الولاية، وأكرم بها مقاما للمحب في سلوك طريق المحبة.
ب 5 - الانتساب الإيماني، واستمداد القوة الخارقة:
__________
(1) الكلمات : 1 / 349 .
(21/251)
إن العبد إذ يترقى ويصفو ليكون محل تجليات ربانية – كما تبين قبل – تعكس مرآته أنوار الأسماء الحسنى، ليكون حينئذ على صلة بواردات المدد الإلهي العظيم، حيث يستمد من قوته عز وجل ما يجعله محفوظا بحفظ الله، آمنا من كل مكروه، قادرا بإذنه تعالى على إنجاز ما تحيل العادة الجارية على مثله إنجازه، إن عبودية الانتساب تفيض على العبد، من بركات المنتسَب إليه؛ ظلالا من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فلا يتحرك إلا في شعاعها، ولا يتصرف إلا بهديها، وباسمها، فتظهر عليه آنئذ تصرفات لا يشك الناظر إليه أنها من التأييد والتسديد الإلهي، وأنها من الإمداد والتقدير الرباني.
إن التجلي باب عظيم إلى ولوج العبد مخازن القوة الإلهية، يستمد من سلطانه العظيم ما يأذن به سبحانه لإجراء مسلك الانتساب إليه تعالى، في وظيفة العبدية الجارية بين خلقه، وإذن يكون العبد متصرفا باسم سيده، معتمدا على قوته المطلقة، وذلك هو جوهر مقام التوكل وسر جماله. يقول بديع الزمان: (وانتسابه هذا يجعله ينال تجليا منه. وبهذه الحظوة والانتساب يستند إلى علم مطلق وقدرة مطلقة، فينجز من الأعمال، ويؤدي من الوظائف ما يفوق قوته بملايين المرات؛ وذلك بقوة خالقه، وبسر ذلك الاستناد والانتساب)(1).
__________
(1) المكتوبات : 2 / 331 .
(21/252)
إن سر الانتساب يجعل الفعل من العبد المنتسب، لا يقع منه بذاته وباسمه، وإنما يقع باسم سيده المنتسب إليه، ولذا فإنه يحمل من خصائص القوة والعظمة والهيبة والجلال؛ بقدر ما يعكس صفاء قلبه من أنوار الملك العظيم. وتلك صورة أخرى من صور الولاية الواردة في الحديث القدسي المذكور: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)(1). قال بديع الزمان: (لذا تظهر منه أعمال خارقة كأنها أعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار فوق ما تبدو منه عادة، وكأنها آثار جيش كبير، رغم أنه فرد. فالنملة – من حيث تلك الوظيفة – تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغ، والبعوضة تستطيع أن تهلك نمرودا جبارا، بقوة ذلك الانتساب، والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بحبة الحنطة تنشئ بذلك الانتساب جميع أجهزة الصنوبر الضخمة)(2).
__________
(1) رواه البخاري .
(2) اللمعات : 3/ 278 .
(21/253)
واستدعاء القوة الربانية يكون بأي مفتاح من مفاتيح الكنوز الملكية العليا، من تفكر، أو تدبر، أو ذكر، أو دعاء .. إلخ، مما يحقق في الوجدان (حال) التذوق للعبدية الرفيعة، المستندة إلى الرب العظيم جل جلاله. وللنورسي حكاية عن نفسه عند غربته، معتقلا ببعض ابتلاءاته العديدة التي تعرض لها في حياته رحمه الله. حيث نزل به غمّ مما ألم به من تسلط الأعداء وتربصهم به، وقد أنهكه المرض، فقال رحمه الله: (إن جيوشا كثيفة تهاجم شخصا واحدا ضعيفا مريضا مكبل اليدين. أوَليس له – أي لي – من نقطة استناد؟ فراجعت آية (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فأعلمتنني أنك تنتسب بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة (…) وحقا لقد كنت أحس بقوة معنوية عظيمة، كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك قوة تمكنني أن أتحدى بها جميع أعدائي في العالم، وليس الماثلين أمامي وحدهم، لذا رددت من أعماق روحي: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))(1).
__________
(1) اللمعات : 3 / 388 – 389 .
(21/254)
إن استدعاء القوة الربانية بالانتساب الإيماني، إنما يتم عند النورسي بتحقيق اليقين في (توحيد الربوبية). ذلك أنك إذ تعتقد وتشعر – كأنك ترى – أن الله رب العالمين قد قهر كل خلقه – وكل الكون خلقه سبحانه – فخضعت له ذرات كل شيء، بل (تشاهد) جلال الربوبية الساري في الكون كله، مشاهدة العبد المنبهر بجلال مولاه وجماله، وتتجول بخشوع، سائحا في ملكوته، مستفتحا الأبواب بأسمائه الحسنى، وترى (القيومية) في اسمه (القيوم) قائمة بذاته تعالى على الكمال والجلال، وترى (كل شيء) من الكون قائما بها انتسابا واستنادا، كما سبق قول النورسي، فلو انقطعت صلة الانتساب هذه لذابت كلها في العدم والفناء؛ لأن وجودها وبقاءها إنما هو مجاز، إذ لم تكتسبه بذاتها، ولكن بالاستناد إلى الرب العظيم رب العالمين، ذي الوجود الحقيقي المطلق؛ فإذن كل قوة لم تستند إليه تعالى هي قوة كاذبة، وهنا يكمن جوهر المسألة.
ذلك أن استدعاء هذا المعنى حتى يتحول لدى العبد من مجرد تصور نظري ذهني، إلى حال ذوقي وجداني، وتفكر قلبي اكتسابي، أي تكتسب به منازل جديدة في مدارج الانتساب الإيماني؛ يكون له أثر على القلب عبر الواردات والتجليات، فإذا بالطاقة (العبدية) تستمد – من خلال عبوديتها – جلال (الإذن)، وجمال السلطان من الملك الرحمن! والخصوص الكامن في (العبدية) أن الرب العظيم قد أسر فيها أسرار (الإضافة) إلى ذاته تعالى، على سبيل الولاء المطلق، فقال عز وجل: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)(الحجر : 42)؛ لأن سلطان الملك الديان قد أظلهم بظلال الهيبة والمنعة، فلا يصل إليهم عدو من الجن والإنس، مهما كانت قوته، وكيف يصل إليهم وكل قوة ضادت الرب العظيم محكوم عليها بالهزيمة الأبدية؟
(21/255)
إن لبديع الزمان النورسي قصة تمثيلية في هذا الشأن، ذات دلالة بليغة على ما نحن فيه، كررها في رسائل النور مرات عديدة لما لها من فائدة عظيمة، ولكن تكراره لها كان بأذواق مختلفة، ومواجيد متجددة، قال رحمه الله يخاطب نفسه، وكل نفس راغبة في الذكرى: (فإن كنت راغبة في إدراك مدى ما في (بسم الله) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:
إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء، ويسيح فيها لابد له أن ينتمي إلى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله (…) وهكذا فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة، كان أحدهما متواضعا، والآخر مغرورا، فالمتواضع انتسب إلى رئيس. بينما المغرور رفض الانتساب، فتجولا في هذه الصحراء. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير؛ بفضل ذلك الاسم، وإن لقيه قاطع طريق يقول له: إنني أتجول باسم ذلك الرئيس، فيتخلى عنه الشقي. أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات مالا يكاد يوصف (...) نعم إن هذه الكلمة الطيبة (بسم الله) كنز عظيم لا يفنى أبدا! إذ بها يرتبط (عجزك) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق فقرك بقدرة عظيمة مطلقة، تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات!)(1).
ب 6 - في الانتساب الإيماني ومفهوم الزمن:
__________
(1) الكلمات : 1 / 6 – 7 .
(21/256)
من اللطائف الخاصة، والأسرار الرفيعة، والأذواق الجمالية الراقية، التي يمنحها (الانتساب) للعبد المنتسب، في سلوكه إلى ربه، ما يجده من نظرات قلبية عجيبة لمفهوم الزمن، حيث تتأثر المشاعر والأحاسيس بمواجيد الانتساب، فتفيض التجليات على مرآة القلب الصقيلة الصافية بآلاف المعاني، ليس أقلها شأنا (معنى) الزمن، أي ما يجده العبد من لذائذ الحياة المتدفقة بالخلود، من تجليات أسماء الله الحسنى، الدالة على البقاء السرمدي، من مثل أسمائه تعالى: الحي، والقيوم، والباقي، والأول، والآخر، والوارث، جل جلاله.
إن (الاتصال) الذي يعقده الانتساب الإيماني، بين العبد الفاني، وربه الباقي، يوصل إلى قلب المنتسب واردات من نور البقاء، وذلك بانتسابه العبدي، حيث يضاف النسبي إلى المطلق، فيكتسب من تلك الإضافة معنى لطيفا، بل رفيع اللطف، دقيق الخفاء، حيث يعيش اللحظة الدنيوية بنفَس أخروي أبدي، ويمتد بذلك عمره في وجدانه المشاهد لجمال البقاء في الأسماء الحسنى، فإذا الموت بالنسبة إليه جمال آخر، ينتقل فيه من مشاهدة الخلود إلى حياة الخلود، ومن عين اليقين إلى حق اليقين! ألا ما أغنى مقام الانتساب لو كان الناس يتذوقون! قال بديع الزمان: (نعم، بسر الانتساب الإيماني تقوم دقيقة من الوجود مقام ألوف سنة بلا انتساب إيماني، بل تلك الدقيقة أتم، وأوسع بمراتب من تلك الآلاف سنة )(1).
وما ذلك إلا بتحقيق مفهوم العبدية للحي الباقي انتسابا أبديا، إذ (أن لذة البقاء وسعادته موجودة بنفسها، بل أفضل منها، في إيماني وإذعاني، وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي؛ لأنه ببقائه سبحانه يتحقق لي حقيقة باقية لا تموت، إذ يتقرر بشعور إيماني: أن ماهيتي تكون ظلا لاسم باق، لاسم سرمدي، فلا تموت(…).
__________
(1) اللمعات : 3 / 505 .
(21/257)
وكذا يتولد بذلك الشعور الإيماني انتساب إلى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائج مع ملكه عامة بالإيمان بذلك الانتساب، فينظر المرء بنور الإيمان إلى ملك غير محدود كنظره إلى ملكه، فيستفيد معنى)(1).
إن ذلك المعنى إنما هو (بقاؤه بالله) كما عبّر الأوائل، إن خرق العبد لحجب الزمن الأرضي بتكبيرة الإحرام مثلا، يجعله يتصل بالرحمن مناجيا (وإن أحدكم إذا صلى يناجي ربه)(2) فيعيش لحظة أخرى خارج مدار الزمن، في ضيافة الباقي. هناك فقط تكون (اللحظة) ومضة من ومضات الخلود، ولمعة من لمعات اسمه الباقي، يعيش العبد في ظلالها، ويذوق من فاكهتها ما يملأ قلبه شوقا إلى النعيم السرمدي، وإذ لا يفصل بينه وبين ذاك إلا الموت، يصير الموت ذاته بالنسبة إليه تذكرة لطيفة إلى العالم الباقي. هكذا يعيش العبد المنتسب حياته الدنيا كأنها مقدمة موصولة بحياته الأخرى، فإذا العمر ممتد بلا نهاية، وإذا اللحظة ذات عرض لا تفنى مشاهده أبدا.. ويُكَبْكَبُ الغافلون والضالون في فناء رهيب، بين عد أيام الدنيا الفانية، وترقب شبح الموت القادم بمنجل حصاده، ليلقي بالرؤوس في ظلمات الشك القاتل، وغياهب الشرك الغائصة في المجهول! فإذا المرء يعيش حياته ضنكا، وهو يرى ما برصيده من أيام يتناثر تترى! ويبقى المنتسبون وحدهم في حصن (الباقي) آمنين مطمئنين، يشهدون ويتذوقون لذة البقاء مرتين. قال بديع الزمان: (فإن انتساب الإنسان بالإيمان إلى القدير الذي لا نهاية لقدرته، وإلى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته بالطاعة والشكران، يبدل الأجل والموت من الإعدام الأبدي، إلى تذكرة مرور، ورخصة إلى العالم الباقي!)(3).
ب 7 - في الانتساب الإيماني والأخوة الوجودية:
__________
(1) الشعاعات : 4 / 70 .
(2) رواه البخاري .
(3) الكلمات : 1 / 179 .
(21/258)
غير بعيد عن مفهوم (الزمن الانتسابي) كما بيناه في الفصل السابق لدى النورسي يكشف هذا الرجل الرباني عن مفهوم جديد: هو (الأخوة الوجودية).
إن كتّابا آخرين، ومفكرين إسلاميين عديدين قد تكلموا عن شيء من مثل هذا المعنى، متحدثين عن روابط الأخوة بين سائر الموجودات، من حيث هي جميعا تعبد الله الواحد وتسبح بحمده، انطلاقا من قوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ)( الإسراء : 44)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبل أحد: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ)(1) فلم يَعْدُ تدبرهم لهذه النصوص وأشباهها القولَ بالأخوة في العبادة للواحد المعبود، تماما كما هي أخوة الإيمان والإسلام بالنسبة للمسلمين كافة في توحيد الله(2).
__________
(1) متفق عليه .
(2) انظر مثلا محمد قطب في ( منهج الفن الإسلامي ).
(21/259)
بيد أن بديع الزمان يتميز في تدبره لهذه النصوص ذاتها، وما كان في معناها، بكشف ألطف، وذوق ألذ، فقد وجد رحمه الله بإحساسه الصافي أن هذه الأخوة موصولة – بالإضافة إلى ما ذكر قبل – بمفهوم الزمن الانتسابي، إذ يشعر العبد المنتسب أنه لا يشارك الموجودات في أخوة العبادة لله وحسب، بل يتعدى ذلك إلى مشاركتها في (أخوة الوجود). والمقصود بهذه: هو تواصل الأعمار بين سائر الموجودات المنتسبة إلى الباقي، حيث يشعر العبد المنتسب من خلال مؤاخاة سائر الموجودات، أنه مستمر في الوجود التعبدي بوجودها. ولو زال وجوده الشخصي الفاني. فأخوة العبادة ورابطة المحبة القائمة على أساس أن الجميع هو خلق الله الواحد الأحد، تزرع في القلب إحساسا بالاتصال وعدم الانقطاع عن الحياة، مادام بعض الموجودات موجودا. وهو شعور معنوي ذوقي، يملأ القلب سكينة وطمأنينة، تماما كما يشعر الأب بامتداد عمره لما يرى ولده ينشأ بين يديه، وإن أحس أن أجله الشخصي قريب. فاستمرار الولد يعطي للأب معنى من الاستمرار على المستوى الوجداني، فيغمر قلبه سكينة وطمأنينة. وما ذلك إلا لما بين الوالد والولد من روابط الدم والوراثة والمحبة.
(21/260)
والمؤمن المنتسب إذ يجد في قلبه أن هذه الموجودات جميعا، تشاركه العبودية لله، والانتساب إلى أسمائه الحسنى، والاحتماء بظلال بقائه تعالى، يشعر أنه موصول بها، باق في عبادته لربه ببقائها بعده مستمرة في عبادته تعالى. وهذا معنى في غاية اللطف، قال رحمه الله: (إن وجودي الذي هو ذرة صغيرة جدا – كوجود كل مؤمن – مرآة لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بأنواع من وجود غير محدود بانبساط غير متناه (…) حتى إن لحظة عيش له من حيث انتسابه الإيماني ثمين جدا! ( …) لأن معرفتي بالشعور الإيماني بأن وجودي هذا أثر من آثار واجب الوجود (…) دفعتني لأمد روابط أخوة وثيقة إلى جميع الموجودات (…) وعلمت أن هناك وصالا دائما بهذه الروابط مع جميع ما أحبه من الموجودات من خلال فراق مؤقت. وهكذا فإن وجودي – كوجود كل مؤمن – قد ظفر بالإيمان، والانتساب الذي فيه؛ بأنوار أنواع وجود غير محدودة لا افتراق فيها، فحتى لو ذهب وجودي فإن بقاء تلك الأنواع من الوجود من بعده يطمئن وجودي، وكأنه قد بقي بنفسه كاملا، والخلاصة: أن الموت ليس فراقا، بل هو وصال، وتبديل مكان، وإثمار لثمرة باقية)(1).
إن هذا الاتصال الوجودي المذكور وامتداده بعد الموت، ليس بمعنى ما عند بعض الكفار من (تناسخ الأرواح) كلا! ولكنه معنى رفيع في تدبر توحيد الله الواحد الأحد، من خلال شمول الانتساب إليه لدى سائر الموجودات. فوظيفة (العبدية) لدى المسلم تجعله يحب معبوده كما يحب عبادته، ولهذا يجد لذة في وجود العابدين، من حيث إن المتحقق في النهاية هو ما يحبه: العبادة لله الواحد القهار، من هنا كانت الطمأنينة تسري في وجدان العبد؛ إذ يشعر أن هناك من سيستمر في أداء الوظيفة المحبوبة بعد موته.
__________
(1) اللمعات : 3 / 391 .
(21/261)
ولذا يجد من فرط المحبة لعبادة المعبود؛ أن عمره ممتد في أعمار سائر الموجودات، ما دامت قائمة بوظيفتها الوجودية: عبادة الله، ثم إن الموت في نهاية المطاف بالنسبة إليه انتقال للمؤمن من منزلة (العبدية) إلى منزلة (العبدية) ذاتها، وإن كانت الأولى في عالم الشهادة والثانية في عالم الغيب. أو بعبارة أخرى: الأولى بدار الوظيفة والثانية بدار الضيافة! وإذن فإن الأخوة الوجودية باقية مستمرة مادامت (العبدية) قائمة هنا وهناك بين العالمين، ولدى سائر الموجودات. وإنما ذلك كله إمعان في تحقيق الخضوع المطلق لله الواحد القهار رب العالمين جميعا. وتفريده سبحانه في ملكه بالألوهية السرمدية.
فالعبدية الكونية عند المسلم إذن هي وجوده الحقيقي الذي يعبد الله به، قبل اعتبار وجوده الشخصي الفاني، قال بديع الزمان: (وكذا يتكون بذلك الشعور الإيماني انتساب إلى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائج مع ملكه عامة بالإيمان بذلك الانتساب (…) وكذا يتكون بذلك الشعور الإيماني، وبذلك الانتساب والعلاقة، ما يشبه الاتصال والارتباط بجميع الموجودات، وفي هذه الحالة يتولد وجود غير محدود، غير وجوده الشخصي الذي يأتي بالدرجة الثانية.)(1) والوجود غير المحدود هذا – على مستوى الإحساس بأخوة سائر الموجودات، إنما هو وجود معنوي يتدفق جماله بالقلب؛ فيعطي أنسا رحمانيا، يحدو روح العبد المنتسب، في سلوكه إلى ربه.
خلاصة:
وإنما خاتمة الكلام في مثل هذا المقام (فاتحة)، نستفتح بها مدخل بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله إلى مقام (الانتساب).
وأي مدخل يكون لرجل رباني مثل بديع الزمان غير مدخل الفقر، والعجز، وإظهار الحاجة إلى السيد الكريم؟ كيف لا وقد سبق القول: إن (العبدية) عنده هي جوهر الانتساب؟
__________
(1) الشعاعات : 4 / 70 .
(21/262)
قال رحمه الله يخاطب نفسه: (أيها المريض الوحيد الغريب العاجز! إن كانت غربتك، وعدم وجود من يعيلك، فضلا عن مرضك؛ سببا في لفت القلوب القاسية نحوك، وامتلائها بالرقة عليك؛ فكيف بِنَظَرِ رحمةِ خالقك الرحيم ذي التجليات؟ (…) فانتسابك إليه بالإيمان، والالتجاء إليه بلسان العجز المنبعث من مرضك، ورجاؤك منه، وتضرعك إليه يجعل من مرضك في وحدتك وغربتك؛ هدفا ووسيلة تجلب إليك نظر الرحمة منه سبحانه، تلك النظرة التي تساوي كل شيء! فما دام هو موجودا ينظر إليك فكل شيء موجود لك! والغريب حقا، والوحيد أصلا، هو ذلك الذي لا ينتسب إليه بالإيمان والتسليم، أو لا يرغب في ذلك الانتساب)(1).
... ذلك رَذاذُُ من مشاهدات بديع الزمان النورسي في مملكة (الانتساب الإيماني)، قدمها لطلاب النور كؤوسا طافحة بالمحبة.. يستحيل على هذه الوريقات أن تنقلها إليك! وإنما إذا شئت (المشاهدة) فذق!والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفصل السادس
مصطلح
مصطلح الأخلاق
تمهيد:
__________
(1) اللمعات : 3 / 337.
(21/263)
أَنْ تَدْخُلَ فضاءَ (رسائل النور)؛ يعني أنك أحد (المبصرين!) وتلك دعوى كبرى! من ذا يتجاسر على ادعائها؟ ومن ذا قدير على أن يبوء بثقلها؟ كيف وقد ثبت أن ليس كل من (ينظر) بعينين يعد من (المبصرين)؟ ألم يقل ربنا جل وعلا: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)؟(الأعراف:198). ولقد عُلِمَ أن الأستاذ بديع الزمان سعيدا النورسي ما صعد إلا أعلى مقامات الإبصار وأدقها! فأنى للدارس إذن؛ أن يواكب مشاهداته إن لم يكن مبصرا حقا؟ وإذا كان لكل حكم شرط، فقد ثبت أن ذلك هو شرط الأستاذ! أليس هو القائل: (أتكلم في مكاني، لا في مقام السامع المواجه لي - خلافاً لسائر المتكلمين، الذين يفرضون أنفسهم في مقام السامعين - فيصير أمام كتابي (الذي) وجههُ إليّ، ومعكوسه ومقلوبه إلى السامع، فكأنه يقرأ في المرآة فيتعسّر عليه؛ فإذاً لا أذهب إلى مقامه، فليرسل هو خياله إليّ لأضيفه على عيني ، في رأسي؛ كي يرى كما أرى!)(1).
تلك إذن هي القضية! وذلك هو شرطها على الإجمال!
فكيف إذا كان التفصيل دراسة مفهوم كثيف الاكتناز الدلالي، مثل مفهوم الأخلاق؟ هذا المصطلح الكوني، الذي يعتبر من أهم المصطلحات المفاتيح؛ لكليات رسائل النور! مصطلح يحيلنا على كل أبعادها الكونية! فليس لنا إذن؛ أن ندعي غير المقاربة، ومحاولة الاقتراب. وأما الغوص والإبحار؛ فدونك رسائل النور؛ ليس ينوب عنها شيء!
نعم، إن مفهوم ’’الأخلاق‘‘ كما قدمه الأستاذ بديع الزمان النورسي رحمه الله - من خلال تفسيره التفكري للقرآن العظيم - يعتبر مفتاحا من أهم المفاتيح؛ لفهم نسق الرسائل من جهة، ولمقاربة المفهوم الكلي للدين نفسه من جهة ثانية. وما كليات رسائل النور في نهاية المطاف؛ إلا مرآة صافية تعكس شعاع القرآن، وتجليه لهذه الإنسانية المتمردة، الضاربة اليوم في العمى.
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 218.
(21/264)
وما العولمة الجديدة/القديمة التي تنفث ظلماتها على العالم الإسلامي؛ إلا مرحلة من مراحل التمرد البشري على رب الكون. وإن نظرة واحدة في المفهوم النوري للأخلاق؛ لكفيلة ببيان هشاشة البناء البشري لمنظومة العولمة الخُلُقية. إذ هي أشبه ما تكون بالبناء العشوائي الذي يحيط المدن الكبرى في العالم. إنها محاولة لغزو النظام المتكامل لبنية الأخلاق لدى المسلمين، والتشويش على النسق الجميل للبعد الكوني لمفهوم الأخلاق في أصولها القرآنية.
إن بديع الزمان الذي تكلم في هذا الموضوع بمنهج استبصاري – منهج ’’علم المستقبليات‘‘ - ليدل على وعيه المبكر جدا، والغريب؛ بما ستؤول إليه أخلاق الغرب - والشرق المتأثر به - من إفلاس عجيب، لقد كان يتكلم رحمه الله وكأنه يعيش لحظتنا هذه: مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بالذات!
إن الفلسفة الغربية التي هي سليلة الفكر اليوناني القديم، والتي تنكرت لمسيحيتها حتى في صورتها المحرفة! قد وصلت إلى الرأسمالية في بعدها العولمي الأخير، التي أنذر بها بديع الزمان في رسائله، مبينا أنها أمارة الانتحار والإفلاس للفكر البشري، وبداية الانتصار لمنظومة القرآن. وهذا واحد من معاني تأكيده أن رسائل النور ستقرأ في كل مكان، وستغزو كل العالم(1). ذلك إذن؛ وجه من وجوه عالمية القرآن، المستوعبة لكل الأشكال الهندسية، لأنماط الحياة في العالم.
إن الفرق بين التعبد والتمرد؛ هو الفرق بين البقاء والفناء! وهو كالفرق بين المعنى واللامعنى!
__________
(1) الملاحق: 100.
(21/265)
من هنا إذن كان لابد من دراسة هذا المفهوم ابتداء: (الأخلاق)، كما هو معروض بشموليته الكونية في كليات رسائل النور؛ لنتبين مدى الاكتناز الدلالي الذي يتصف به هذا المصطلح، في بناء تصور النورسي للإنسان كما تلقاه من القرآن العظيم، وبيان مدى الإخفاق الذي منيت به فلسفة الأخلاق في الفكر العقلاني المتمرد، المعتصم بـ(أناه)، في معناها (الاسمي)، على اصطلاح بديع الزمان النورسي كما سنوضحه بحول الله(1).
ولقد انطلق الإنسان نحو (الكونية الأخلاقية) لكن بمعنيين وبمنهجين: الأول منهج القرآن، والثاني: منهج الفلسفة، مما انتشر في علوم الإنسان الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
__________
(1) لابد من التنويه بأن بديع الزمان لا يهاجم الفلسفة بإطلاق، وإنما يهاجم قسمها الضار للاجتماع البشري. قال رحمه الله: (إن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسم الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمة لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة). الملاحق: 286.
(21/266)
أما الكونية الأخلاقية في القرآن فقد جردت (أنا) الإنسان من (اسميتها)، وربتها على المعنى (الحرفي) المفتقر إلى اسم الله تجريدا وتفريدا، فامتدت أخلاقه بذلك لتسع الكون كله إمامةً للعابدين، سيرا في فلك التعبد لله رب الكون كله. وأما الكونية الأخلاقية في الفكر الفلسفي؛ فقد رسخت اسمية (الأنا)؛ فتضخمت ثقة الإنسان بمعارفه تضخما سرطانيا؛ حتى انتهى إلى اعتقاد استغنائه عن كل عون من الله وكل مدد. بل استغنى عن وجود الله جل وعلا! وَهْماً وتوهما؛ فطغى! وتحول إلى وثن يعبد ذاته ويؤلهها. ولذلك قال عز وجل: (كَلاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7).
إن بديع الزمان النورسي رحمه الله قد صاغ نظرته الأخلاقية المستنبطة من القرآن، وعرضها بمنهج مقارن عجيب، مبينا آفاقها الكونية العالية، وسبقها التربوي، بالنظر إلى ما آلت إليه النظريات الأخلاقية الفلسفية قديمها وحديثها، التي لم تعتمد القرآن منطلقا وطريقا مختصرا للوصول. ونحن في هذه الدراسة سنحافظ في عرض مفهوم الأخلاق عنده؛ على المنهج نفسه الذي اعتمده، مع ما نضيفه من منهج الدراسة المصطلحية، المبني على الاستقراء للنصوص، والجمع بين أجزائها؛ عسى أن نصل إلى المعنى الكلي، الذي أعطاه بديع الزمان لمفهوم الأخلاق، والذي بثه خلال أجزاء رسائل النور مجملا ومفصلا.
وبيان ذلك هو كما يلي:
أولا- التعريف:
أ - الأخلاق في التعريف اللغوي:
(21/267)
ترجع مادة (خلق) في اللغة إلى معنى التقدير والإنشاء والطبع والتكوين. ومنه تفرعت الدلالة إلى سائر المعاني التي استعمل فيها اللفظ بعد. ولذلك دل أصالة على فعل الله في تكوين المخلوقات وإنشائها على غير مثال سابق، فكان بذلك شاملا لكل الصفات الجبلّية في صور المخلوقات الظاهرة حسا. وهي مظاهر الخليقة. ثم دل تبعا على كل سجية، أو طبيعة من الصفات النفسية، وهي الأخلاق. قال الراغب الأصفهاني: (الخلق أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ "(الأنعام:1) أي: أبدعهما، بدلالة قوله: " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ "(البقرة:117). ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو: " خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ "(النساء:1) (...) والخَلْقُ: يقال في معنى المخلوق. والخَلْقُ والخُلُقُ في الأصل واحد (...) لكن خص الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص [الخُلُقُ] بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1). وقال صاحب مختار الصحاح: (الخَلْقُ: التقدير يقال خَلَقَ الأديمَ: إذا قدره قبل القطع، وبابه نصر. والخَلِيقةُ الطبيعة والجمع الخَلاَئِقُ، والخَلِيقةُ أيضا: الخلائق، يقال هم خليقة الله، وهم خَلْقُ الله. وهو في الأصل مصدر. والخِلْقةُ: الفطرة، وفلان خَلِيقٌ بكذا: أي جدير به، ومضغة مُخَلَّقَة:ٌ تامة (...) والخُلُقُ بسكون اللام وضمها: السجية. وفلان يَتَخَلَّقُ بغير خلقه: أي يتكلفه)(2). وفي اللسان: (الخِلْقةُ: الفِطْرة (...) والخُلْق والخُلُق: السَّجِيّة (...) وفي الحديث: " لَيْسَ شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ" (3).
__________
(1) مفردات الراغب الأصفهاني: مادة: (خلق).
(2) مختار الصحاح: (خلق).
(3) رواه أحمد عن أبي الدرداء ، مرفوعا. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير : 5390
(21/268)
[و]الخُلُقُ بضم اللام وسكونها: وهو الدِّين والطبْع والسجية. وحقيقته أَنه صورة الإِنسان الباطنة، وهي نفْسُه، وأَوصافها، ومعانيها المختصةُ بِها؛ بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة، وأَوصافها، ومعانيها)(1)، وفي القاموس: (خالَقَهُم: عاشَرَهُمْ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. )(2)
فكانت الأخلاق في اللغة إذن؛ هي: التصرفات الإنسانية، الصادرة عن أوصاف النفس وسجاياها الباطنة. أو هي سيماء النفس وصورتها الباطنة.
ب - الأخلاق في التعريف الفلسفي:
أما مفهوم (الأخلاق) في الفكر الفلسفي، فلم يستطع أن يخرج عن نطاق تمجيد (الأنا)، على حد تعبير الأستاذ بديع الزمان النورسي، كما سيأتي بدليله. بدءا بالفكر الفلسفي اليوناني وانتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة. لقد سكنت (الأنا) لا شعور الفلسفة، عبر مسيرتها التاريخية، منذ تبلور التفكير الفلسفي مع قدماء اليونان، حيث كان الفكر الوثني أصلا هو الإطار الثقافي الذي تخلقت فيه الفلسفة الأولى. فكان لذلك دور كبير في (استصنام) الأفكار الفلسفية، وتوثينها؛ إذ كان الفيلسوف اليوناني في الحقيقة مصارعا للآلهة ومنازعا لها في (الهيمنة) على الكون، مما سجله (هوميروس) في ملاحمه الكبرى. إن فكرة (الصراع) التي طبعت الوجدان الفلسفي اليوناني قد حكمت عليه بالذاتية (الاسمية)، والرغبة في تأليه الإنسان إلى الأبد. فكانت الفلسفة بذلك تدور على محور استصنام (الأنا) عبر تاريخها الطويل. ولم تستطع أن تتخلص منها حتى في صورتها المشائية الإسلامية وصورتها المسيحية على السواء، أي مع الفلاسفة المشائين المسلمين، وفلاسفة القرون الوسطى من المسيحيين!
__________
(1) لسان العرب: (خلق)
(2) القاموس المحيط: مادة:(خلق).
(21/269)
فقديما انطلق أفلاطون في نظريته الأخلاقية من مفهوم (الخير الأسمى) أو (الخير بالذات)؛ مما يوحي بالمثالية المطلقة والمجردة عن الأهواء، لكنه لما أراد تطبيق ذلك على (جمهوريته المثالية) أو ما سمي في الترجمات العربية القديمة (بالمدينة الفاضلة)؛ لجأ إلى ما يمكن تسميته (بالكذب الفلسفي). حيث إنه لم يجد حرجا في لجوء الحكام والفلاسفة أحيانا إلى الكذب الصراح؛ لخداع المواطنين من الطبقة الدنيئة بدناءتهم، وقطع كل أمل في تغيير أوضاعهم الاجتماعية، بينما لا يجوز لهؤلاء المواطنين أن يخدعوا الحكام. ويكون ذلك الكذب الضروري بالقول بأن المعدن الذي خلقت منه كل طبقة مختلف عن المعدن الذي خلقت منه الأخرى!(1) وهكذا آل أمر نظرية الأخلاق الأفلاطونية إلى تمجيد (الأنا) الطبقية للحكام والفلاسفة وطبقة المترفين!
وانتقلت هذه (الأنا) الوثنية إلى فلاسفة الإسلام، حيث تجلت بصورة أخرى لدى فيلسوف الأخلاق المسلم ابن مسكويه؛ الذي لم يستطع التحرر من أثر الفلسفة الأخلاقية، لدى فلاسفة اليونان - رغم محاولته التوفيق بين الفلسفة والشريعة، على غرار سائر فلاسفة الإسلام - حيث كان يرى أن غاية الأخلاق هي تحقيق السعادة، وما السعادة إلا نوع من تحقيق الاكتفاء الذاتي على المستوى الوجودي، كما هو عند الملائكة وعند الله(!) وهو ما قال به الفارابي أيضا، حيث اعتبر أن غاية السعادة هي تحصيل الكمال الذاتي(2)، وإنما هذا من خصائص الحضارة اليونانية، التي كانت ترى أن استعمال العقل في التأمل يجعل الإنسان يشارك الآلهة في حياتها!
__________
(1) أفلاطون، سيرته وفلسفته: 142 إعداد أحمد شمس الدين.
(2) تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور أبي ريان: 268ـ269.
(21/270)
وعندما انتقلت النهضة الفلسفية إلى بلاد الغرب ازداد التوغل الأناني في التفكير الأخلاقي لدى فلاسفة أوروبا؛ انطلاقا مما ورثوه عن أفلاطون وأرسطو؛ وما آلت إليه من نرجسية متألهة على يد فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين، الذين اصطبغت فلسفتهم بنوازع (الأنا)، وطلب السعادة المطلقة، كما عرفها فلاسفة اليونان الوثنيين. لكنها هنا تلبست بلبوس مسيحي، كما هو الشأن عند توماس الأكويني الفيلسوف المثالي في العصور الوسطى(1)، ثم عند (عمانويل كانط) شيخ الفلسفة في العصر الحديث(2)، ولم تزل الرغبة في تحقيق سعادة (الأنا) هي أساس التفكير الأخلاقي في الفلسفة الغربية؛ حتى تطورت الأخلاق إلى (المذهب النفعي) في صورته المادية(3)؛ بفعل التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدتها أروبا؛ استجابة لتطور الأوضاع الصناعية؛ ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي، كما أثبته مؤرخ الفلسفة الغربية الفيلسوف الانجليزي (برتراند رسل)، الذي قال: (لقد اشتق مذهب المنفعة من نظرية أخلاقية ترجع بوجه خاص إلى هتشسون، الذي كان قد عرضها عام: 1725م، وترى النظرية باختصار أن الخير هو اللذة، والشر هو الألم)(4). ولم تزل كذلك؛ حتى آلت إلى النفعية الحديثة، سواء في صورتها الماركسية؛ أو في صورتها الليبيرالية. وهكذا تطورت النظريات الفلسفية الأخلاقية إلى ما انطلقت منه ابتداء، من مثل فلسفة أفلاطون الذي بنى جمهوريته على توظيف الكذب لاستغلال الشعوب. وذلك هو بالضبط جوهر (العولمة) في صورتها الجديدة.
ج – الأخلاق في التعريف النوري:
وأما في اصطلاح بديع الزمان النورسي؛ فالأخلاق هي:
__________
(1) انظر توماس الإكويني، تأليف الشيخ كامل محمد عويضة.
(2) انظر عمانويل كانط، تأليف الشيخ كامل محمد عويضة.
(3) حكمة الغرب: 2/207 وما بعدها. لبرتراند رسل.
(4) حكمة الغرب: 2/213.
(21/271)
- الأخلاق: هي نظام القرآن الذي يطبع صورة الروح الإنسانية بماهيتها، ويسلك بها مدارج التربية والمجاهدة؛ لاكتساب معناها الكوني.
ولتبين التصور الشمولي لهذا التعريف، الذي ركبناه من استقراء نصوص رسائل النور، كما وضعها بديع الزمان رحمه الله؛ فإنه يجدر بنا أن ندرس عناصره فقرة فقرة؛ حتى يتسنى لنا تبين جوهر المفهوم الذي استنبطه بمنهجه التفكري من القرآن العظيم. وبيان ذلك هو كما يلي:
- الأخلاق نظام القرآن:
إن الهم الرسالي الذي كان يحمله بديع الزمان رحمه الله، والقصد الإصلاحي الذي كان يسكن وجدانه وهو يكتب رسائل النور؛ جعله يمضي في تدبره للقرآن، وتفكره في أحوال النفس والمجتمع؛ فقاده ذلك إلى اكتشاف حقيقة الأخلاق في القرآن. حيث عرضها بعد ذلك في رسائله على أنها هي كل نظام القرآن، أي النسق الكلي للقرآن. فرسالة القرآن إنما جاءت لتصنع مجتمعا قائما على أساس الأخلاق، بمعنى كلي. فكل التصرفات البشرية في العلاقات النفسية، والاجتماعية، والوجودية، مع سائر الكائنات؛ إنما هي أخلاق. وهذا مفهوم خاص لمعنى (أخلاق)، الذي يحصره بعضهم فقط في مجال (الفضائل)، بمعناها الاجتماعي الصرف. و(الفضائل) - في المعنى السائر المتأثر بالدلالة الفقهية - مفهوم موح بنوع من النفل الزائد، الذي يفعله الإنسان تطوعا. وهذا معنى فرعي، بينما تصور النورسي للأخلاق قائم على أنها (أصول) لا (فروع)، كما سيأتي بنصه وتعبيره، وعلى أنها (قانون) بمعنى نظام مطرد، ونسق كلي، وليست أحوالا تقبل الحدوث كما تقبل التخلف؛ وعلى أنها (قواعد) بمعنى ضوابط، سيقت لتكييف السلوك الإنساني، والتصرف البشري تكييفا تربويا، وفق ميزان معين، ثابت، لا يلحقه العبث ولا تثلمه الفوضى. إن تصور الأخلاق على أنها (فضيلة نافلة) هو مفهوم جزئي. والاقتصار عليه يؤدي إلى تحريف الدلالة القرآنية، ذات البعد الشمولي العميق لمصطلح (أخلاق). وأحسب أن تحقيق مفهوم الأخلاق نوع من التجديد، الذي
(21/272)
رامه بديع الزمان، في عرض حقائق القرآن، من خلال رسائل النور، وهو يتحدى الغزو الفكري والخلقي الغربي. إن تصور النورسي لهذا المعنى المستنبط من القرآن قائم على دلالة أخرى تماما. إنه دال عنده على كل الحركة الإنسانية في النفس والمجتمع، فلا يبقى بعد ذلك شيء من تصرف الإنسان إلا وهو مشمول بمصطلح (الأخلاق). ومن هنا صح أن يكون القرآن - كل القرآن - إنما جاء لبناء الأخلاق، بهذا المعنى الشمولي الواسع. وذلك هو منطوق حديث عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت قولتها المشهورة: (كان خلقه القرآن)(1) هكذا على سبيل الاستغراق الشامل لكل القرآن. وهو أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(2) هكذا بهذا الحصر الشامل المستغرق لكل مقاصد البعثة المحمدية. فكان إذن أن القرآن كله - من حيث هو نظام رباني، أنزله الله لتنظيم حياة الإنسان التعبدية والنفسية والاجتماعية - إنما هو نظام للأخلاق. ولذلك بيَّن بديع الزمان النورسي أن أخلاق القرآن قد وسعت - بهذا المعنى - كل ما جاءت به الكتب السماوية السابقة وزيادة. قال رحمه الله: (إن أصول الأخلاق في القرآن عالية علوّ ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها. وإن أخلاق الأمم التي دانت له تحولت بتحول الأزمان والعروق (...) إن أهم نتيجة يمكن استنباطها هي تأثير القرآن العظيم في الأمم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها ما للإسلام من السلطان على النفوس قليلة جداً، وقد لا تجد دينا اتفق له ما اتفق للإسلام من الأثر الدائم، والقرآن هو قطب الحياة في الشرق وهو ما نرى أثره في أدقّ شؤون الحياة)(3).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه ابن سعد والحاكم عن أبي هريرة . وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير : 2349.
(3) إشارات الإعجاز: 285.
(21/273)
ولذلك فإن التغيير الذي أحدثه القرآن في المجتمعات التي دانت له كان عميقا وجذريا. إنه بهذا المعنى الذي قدمه للأخلاق؛ غيَّر البنية الثقافية والوجدانية، لكل الأعراق التي انتسبت إليه، وجعلها منصهرة في نسق واحد، ونظام واحد، هو أخلاق القرآن. إن دمج العرقيات والجنسيات المختلفة والمتناقضة؛ لغة، وتاريخا، وسلالة، وعادات وتقاليد...إلخ، في خفقة وجدان واحد؛ لهو من أغرب المستحيلات قطعا! ولكن ما (المعجزة) إن لم تكن هي صناعة المستحيل؟ وما القرآن إن لم يكن هو كتاب الإعجاز الأول بلا منازع؟
إن كثيرا من الأحكام الدينية، والتشريعات القرآنية، التي دأب بعض الكتاب على تصنيفها خارج مفهوم الأخلاق، جعلها بديع الزمان من صميم الأخلاق، وأصولها. إن القوانين التشريعية الإسلامية كلها؛ إنما أنزلها الشارع الحكيم على أنها سلوك خلقي لا مجرد قانون ملزم؛ شريعةً وعقوبةً. بل إن السر في التزام الناس بالقانون التشريعي الإسلامي إنما يرجع إلى عمقه التخلقي الرفيع. فهذا الجمع والتوفيق بين الأمرين هو الذي سعى به القرآن لبناء الإنسان. إن بديع الزمان لم يكن يرى في نصوص التشريع إلا نظاما أخلاقيا اجتماعيا بديعا. قال رحمه الله في نص عجيب، مكتنز بحكم بالغة: (إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط ما بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام، والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات. إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة. وفي مادة التشريع وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي، ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة حدد سلوك كل فرد تجاه معاملة الأطفال والأرقاء والحيوانات والصحة والملبس... الخ)(1).
__________
(1) إشارات الإعجاز: 266.
(21/274)
إن أدق أحكام القرآن الجزئية في التشريع الاجتماعي مثلا؛ ما هي إلا عنصر من عناصر نظام الأخلاق، سواء كانت من أحكام المواريث كما رأيت في النص المذكور، أو من أحكام العقود...إلخ. كل ذلك وما في معناه - مما قد لا يبدو للناظر، غير الخبير بطبيعة القرآن؛ أنه ذو بعد أخلاقي - إنما هو تشريع راجع إلى مفهوم (التعبد) في الإسلام. وإنما مفهوم التعبد قائم على معنى (المحبة). وذلك هو جوهر الأخلاق في الدين. (المحبة) هي أساس التشريع الإسلامي. وأي خُلُق صالح في سلوك الإنسان خارج عن معنى المحبة؟ وأي آية لا ينتظمها ذوق المحبة في القرآن؟ فمن أهم الفروق - التي ذكرها النورسي - بين الفلسفة والشريعة؛ أن هدف الفلسفة إنما هو (المنفعة)، بينما الشريعة (هدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها: المودّة والتجاذب)(1).
ومن هنا أبصر بديع الزمان أن كل آي القرآن مشع بنور المحبة؛ فضلا عن الآيات التي يصنفها العلماء على أنها آيات الفضائل، التي سيقت أصالة لذلك، والتي هي ظاهرة في النطق بكل معاني الحب.
قال رحمه الله: (لا تجد في القرآن آية إلا توحي بمحبة شديدة لله.. وفيه حث كبير على الفضيلة - خلا تلك القواعد الخاصة بالسلوك الخلقي - وفيه دعوة كبيرة إلى تبادل العواطف، وحسن المقاصد، والصفح عن الشتائم، وفيه مقت للعجب والغضب، وفيه إشارة إلى أن الذنب قد يكون بالفكر والنظر، وفيه حض على الإيفاء بالعهود حتى مع الكافرين، وتحريض على خفض الجناح والتواضع، وعلى استغفار الناس لمن يسيئون إليهم، لا لعنهم. ويكفي جميع تلك الأقوال الجامعة، المملوءة حكمة ورشداً؛ لإثبات صفاء قواعد الأخلاق في القرآن. إنه أبصر كلّ شئ!)(2).
__________
(1) المكتوبات:607.
(2) إشارات الإعجاز: 272.
(21/275)
إن الجمال والمحبة أمران مرتبطان. وبما (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) كما في الحديث الصحيح(1) فقد تسلسل الكون بشعاع المحبة الصادر عن جمال الأسماء الحسنى. فكان كل من عَبَدَ الله حقا؛ منتسبا إلى ذلك النور، ومتخلقا بذلك الخلق الكلي الشامل: المحبة. ومن هنا ارتباط الأخلاق الإسلامية بنظام الكون، من حيث كونه يمثل انعكاسا نوريا للأسماء الحسنى؛ وبنظام القرآن من حيث كونه ناطقا بحقائق الكون، وناظما لها في سلك العبودية؛ وبهدي النبوة من حيث كونها أرفع نماذج ذلك الانعكاس والامتثال. ولبديع الزمان نص بديع في بيان هذه العلاقات النورية المتوالية في الكون، التي تضرب بنظام الأخلاق القرآني في الامتداد الكوني كله. قال رحمه الله: (لمحبته سبحانه لجماله؛ يحب حبيبَه - صلى الله عليه وسلم -إذ هو مرآة ذلك الجمال، ولمحبته لأسمائه الحسنى يحب حبيبه - صلى الله عليه وسلم -وإخوانه، إذ هو المدرك الشاعر لتلك الأسماء .ولمحبته لصنعته سبحانه يحب حبيبه- صلى الله عليه وسلم - وأمثاله، إذ هو الدال على صنعته والمُعْلِن عنها، ولمحبته لمصنوعاته سبحانه يحب حبيبه - صلى الله عليه وسلم -وَمن هم خلفه من المقتدين بهديه، إذ هو الذي يقدّر قيمة المصنوعات، ويباركها بـ: "ما أجمل صنعتها!" ولمحبته لمحاسن مخلوقاته يحب حبيبه- صلى الله عليه وسلم - ، ومن تبعه وإخوانه، إذ هو الجامع لمكارم الأخلاق)(2).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) الكلمات:741. انظر نحوه أيضا في المكتوبات: 393.
(21/276)
ذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أكمل الخلق في تمثل جمال أخلاق المحبة، أو قل: الأخلاق القرآنية. ومن هنا كان عليه صلوات الله وسلامه أجمع الخَلْق خُلُقا. لأنه كان أجمعهم للقرآن تطبيقا وامتثالا. كما هو منطوق حديث عائشة السالف الذكر. وقد وقف بديع الزمان على هذا المعنى وقفة خاصة، ونبه إلى ما في ذلك من الدلالة على أنما سنته - صلى الله عليه وسلم -هي خُلُق القرآن، ولا شيء سوى خلق القرآن، فمن فاته هذا المعنى فقد فاته اتباع السنة. وفي هذا درس بليغ لأولئك الذين يفصلون بين السنة والقرآن، ويجزئون الأخذ منهما؛ فيغيب عنهم هذا النظر الجامع الذي يبصر من خلاله بديع الزمان الكليات الخلقية في الإسلام. فيكون كثير ممن يدعون الالتزام بالسنة؛ أبعد ما يكونون عنها؛ اتباعا ومقاصد. ذلك درس عظيم ما أحوج حركات التجديد الديني اليوم إلى إدراكه فكرة ودعوة. قال رحمه الله: (ووَصَفَهُ الصحبُ الكرام كما وصفته الصحابية الجليلة الصدّيقة عائشة رضي الله عنها قائلة: (كان خُلُقهُ القرآن). أي: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو المثال النموذج لما بينه القرآن الكريم من محاسن الأخلاق، وهو أفضل من تمثلت فيه تلك المحاسن، بل إنه خُلق فطرة على تلك المحاسن (...) ينبغي أن يكون كل من أفعال هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأحواله، وكل من حركاته نموذج اقتداء للبشرية. فما أتعس أولئك المؤمنين من أمته الذين غفلوا عن سنته - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يبالون بها، أو يريدون تغييرها، فما أتعسهم! وما أشقاهم!)(1). بل إن مقياس اتباع السنة إنما هو رهين بدرجة التخلق بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ذلك أن الله (سبحانه لحبه أخلاق مخلوقاته يحب محمداً - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو في ذروة الأخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الأولياء والأعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الأخلاق، كلاً حسب
__________
(1) اللمعات: 95 .
(21/277)
درجته)(1).
إن إحالة أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القرآن، إنما معناه إحالتنا على الكون كله! ومن هنا نتبين سر وقوف النورسي على هذا الحديث العجيب (كان خلقه القرآن). حيث اتخذت الأخلاق الإسلامية عنده نظاما كونيا، كما قلنا في التعريف: (هي نظام القرآن - إلى قولنا - لاكتساب معناها الكوني) ذلك أن القرآن في المفهوم التفكري لدى بديع الزمان هو كشاف كتاب الكون الكبير. والتخلق بأخلاق القرآن هو ضرب في عمق الكونية، وارتباط بأخوة الكائنات جميعا من حيث هي سيارات في نظام الكون البديع على وزان فلك القرآن. ولم يزل تعريفه رحمه الله للقرآن كما درسناه بمحله(2) من أعمق الالتفاتات التفسيرية في رسائل النور. وإنما نقتطف منه ههنا عبارات تدل على بعض المقصود؛ مما يساعدنا في دراسة مفهوم الأخلاق عنده. قال رحمه الله: (فإن قلت: القرآن ما هو؟ قيل لك:
هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم.. وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض. وكذا هو مفتاح الحقائق والشؤون المضمرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة (...) وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قول شارح، وتفسير واضح، وبرهان قاطع، وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه. وكذا هو مرب للعالم الإنساني)(3).
__________
(1) المكتوبات: 393.
(2) انظر مصطلح (القرآن) بهذا البحث.
(3) إشارات الإعجاز: 5/22، والمكتوبات: 2/267.
(21/278)
ومن هنا كان تخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخلاق القرآن كمالا عظيما، وليس عبثا أن ترد آية في كتاب الله ناطقة بذلك في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - شهادةَ تعديل كامل من رب الكون، بجملة اسمية دالة على الثبات والاستمرار، في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4).
وبذلك صار خلقه - صلى الله عليه وسلم - في حد ذاته معجزة، إضافة إلى ما تلقاه من معجزة القرآن العظيم. قال بديع الزمان: (إن أعظم معجزة للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعد القرآن الكريم هو ذاته المباركة، أي ما اجتمع فيه - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق السامية، والخصال الفاضلة، وقد اتفق الأعداء والأولياء على أنه أعلى الناس قدراً، وأعظمهم محلاً، وأكملهم محاسن وفضلا)(1). وما ذلك طبعا إلا من حيث (كان خلقه القرآن)! وذلك معنى وصفه - صلى الله عليه وسلم - أيضا بأنه (كان قرآنا يمشي بين الناس)!
__________
(1) المكتوبات: 236.
(21/279)
إن القرآن من حيث هو كلام الله الأزلي؛ كان في تربيته للإنسان على أخلاقه؛ ناظما له في سلك العبودية، السائر إلى الله عبر أنوار الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وتلك هي الأخلاق الكونية الكبرى، التي جاء الإسلام ليصنع الاجتماع الإنساني على وزانها، وينشئه على مقياسها ونظامها. قال بديع الزمان: (إن الكون العظيم يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لخلاصة الخلاصة، ولكن لأن لسان كل نوع من الأنواع واسع جداً، يتحرك العقل عن طريق الفكر كثيراً؛ كي يذعن بالأسماء الإلهية وصفاتها بعلم اليقين، وبعد ذلك يتمكن أن يبصر ذلك بوضوح. وعندما ينظر إلى الحقيقة الإنسانية، في ذلك المقياس الجامع، في تلك الخريطة المصغرة (...) فإنه يصدق تلك الأسماء والصفات، بإيمان، واطمئنان، ووجدان جازم، شهودي وإذعاني (...) فيكسب الإيمان التحقيقي، ويدرك المعنى الحقيقي للحديث الشريف: "إن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن"(1). لأن المراد من الصورة، السيرة والأخلاق والصفات)(2).
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير: 12/430 وقال ابن حجر: رجاله ثقات، فتح الباري: 5/183، لكن الهيثمي ضعفه في مجمع الزوائد: 8/106. والمحفوظ هو قوله- صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته) متفق عليه.
(2) الملاحق: 284.
(21/280)
إن هذا النص العجيب يحيلنا على مفهوم (الكون) عند الأستاذ النورسي. ولقد وجدنا أن من خواصه التعريفية أنه (منعكس عن الأسماء الحسنى)، بمعنى أنه مفعول للربوبية العليا، المتصفة بصفات الكمال، والمتسمة بأسماء الجمال؛ مما يؤول مرة أخرى بهذه الكثرة المتناثرة في الوجود إلى الوحدة، وذلك من خلال الرجوع إلى رب واحد عبر أسمائه الحسنى، المشعة على الكون؛ إيجادا ورعاية ورحمة. فما من شيء إلا وهو مرتبط في وجوده باسم من أسماء الله الحسنى، ذلك أن الرب العظيم - سبحانه وتعالى - متصرف في الكون خلقا وإيجادا؛ من حيث هو خالق، مصور، بديع، محي، مميت، رازق، مهيمن، رحمن، رحيم ...إلخ. فأي شيء إذن يمكن تصوره خارج هذه الدوائر الربانية؟ من هنا كان الوجود الحقيقي للأشياء إنما هو بالأسماء، لا بذوات تلك الأشياء(1).
__________
(1) انظر مصطلح (الكون) بهذا البحث.
(21/281)
فما وجود الإنسان إذن؛ إلا رشحة من رشحات الأسماء الحسنى؛ خلقا ورعاية وتكريما. وما غاية ذلك كله إلا أن يسعى هذا المخلوق المكرم إلى تحقيق العبودية؛ بدورانه حول هذا الفلك العظيم؛ رغبة ورهبة. وذلك هو ما قصده بديع الزمان من تعبير (التخلق بالأخلاق الإلهية)، أو تعبير (التخلق بأخلاق الله)، الذي أورده في كثير من المواطن، من مثل قوله رحمه الله: (إن الغاية القصوى للإنسانية والوظيفة الأساسية للبشرية هي التخلق بالأخلاق الإلهية، أي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة - التي يأمر بها الله سبحانه - وأن يعلم الإنسانُ عجزَه فيلتجئ إلى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقرَه فيلوذ برحمته تعالى، وينظر إلى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى)(1)، بمعنى أن الانتساب إلى الله عبادة وسلوكا هو استنارة بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ رغبا ورهبا. وعلى هذا المعنى حمل دلالة الحديث المذكور: (إن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن). فالاعتراف بالعجز والضعف البشريين، يؤول إلى طلب الانتساب إلى القوة والعظمة، والاحتماء بظلالهما. وإنما كمال ذلك وحقيقته متمثل في ذات الله رب العالمين. وطلب السمو بفعل الخضوع هو عين العبودية، وهو عين التخلق بأخلاق الله. ذلك أن (من القواعد المقررة للنبوة في حياة الإنسان الشخصية، التخلق بأخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين بأخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة أنفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم)(2).
__________
(1) الكلمات: 642.
(2) الكلمات: 643.
(21/282)
إن بديع الزمان بهذا الطرح الشمولي لمعنى الأخلاق، يعرض على العالم فعلا نظام القرآن عرضا اجتماعيا، ويعرض الاجتماع عرضا كونيا؛ وبذلك يبلغ قمة التحدي في سياق بناء المجتمع الإنساني من خلال المنهج القرآني العظيم، إذ تتحول الآيات بين يديه إلى سلاح يصد به هجمات المغرضين الذين يحطون من شأن الأخلاق الإسلامية، ويدعون إلى إباحية ورذيلة تهلك الحرث والنسل، وتُفقِد الهويةَ الإسلامية خصوصيتها الحضارية، وانتماءها القرآني، وامتدادها الكوني. إنه بهذا الفعل يحاصر أخلاق الفلسفة الغربية في زاوية الشهوات الحيوانية، ومستنقع النزوات البَهَمِيَّة، في حين يرتفع بالخُلُق القرآني إلى أفق الكون الفسيح، ناظما لسلوك الإنسان المسلم في سلك الوجود السرمدي، الذي يمنحه الخلود الحقيقي، والتوحيد الحقيقي. إذ يصل وجدانَه بأنوار أسماء الله الحسنى، ويجد بذلك حقيقة ماهيته الوجودية. فلا يصدر منه شر ولا أذى. ومن هنا كان المسلم مصدر أمن للعالم ومصدر سلام.
(21/283)
ونقتطف ههنا كلمة لأستاذنا الدكتور محسن عبد الحميد في تقديمه لكتاب إشارات الإعجاز، تبين مدى وعي النورسي بخطورة الحرب الأخلاقية، التي يقودها الغرب ضد المسلمين، ومدى تأثير ذلك على نظام القرآن كله، من حيث إن الأخلاق الإسلامية إنما هي نظام القرآن. يقول حفظه الله: (لقد كان أسلوب رسائل النور في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة؛ هو البديل العصري الذكي؛ لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي، والبياني، والعقلي، من خلال نظرية النظم، لأن ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن، أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه، أو بتناسب سوره وآيه وكلماته. وإنما كان يركز على شن هجوم عام، شامل، على أصول الإيمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم. لقد وعى الأستاذ النورسى التغييرات الهائلة، التي أحدثها الصراع الجديد؛ فتوجّه إليها بحقائق القرآن، التي قدمها من خلال أصول المنطق العقلي الفطري، وعلوم ومعارف عصره)(1).
حقيقةً؛ لقد عالج بديع الزمان المسألة الخلقية بمنهج استبصاري غريب! فقد كشف الستار ببصيرته النافذة، وفراسته المستنيرة بنور القرآن؛ فخاطب ما كان يتوقعه من حال الأمة بعد خمسين سنة قادمة، وهو تماما ما نشهدها عليه اليوم من أحوال، في مستهل الألفية الثالثة! يقول رحمه الله عن أوضاع زمانه، وما توقعه بعدها: (فالأوضاع الحاضرة ستنعكس على الجيل الآتي لهذه الأمة – البطلة، المتدينة، الغيورة على شرفها - بعد خمسين سنة. ولا يخفى عليكم ما ستؤول إليه السجايا الدينية، والأخلاقية الاجتماعية)(2)، ثم يتوجه بالكلام إلى الجيل الذي يأتي بعده، مناديا بصورة عجيبة: (يا إخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عاماً!)(3).
__________
(1) من مقدمة د.محسن عبد الحميد لإشارات الإعجاز: 8.
(2) الملاحق: 234.
(3) صيقل الإسلام: 518.
(21/284)
إن هذا الحدس الاستبصاري الكاشف، الذي كان يتمتع به بديع الزمان النورسي رحمه الله، هو الذي ساعده على النفاذ - في معالجة المسألة الخلقية - إلى أغوار النفس الباطنة، تشخيصا وتعليلا، ثم تطبيبا ووصفا. فكما كان يحاول إزاحة حجب الزمن؛ لاستبصار المستقبل؛ فقد كان يحاول إزاحة حجب البدن؛ لاستبصار ماهية النفس؛ قصد تهذيبها وتشذيبها، وطبع أخلاقها. وبيان ذلك كما يلي:
- الأخلاق تطبع صورة الروح الإنسانية بماهيتها
إن مفهوم الأخلاق لدى بديع الزمان - كما تَقَطَّر من تفكراته القرآنية - يرجع إلى معنى تربوي خصوصي. إذ هو تنقيح لـ(ماهية الإنسان) من شوائب الأنانية الوجودية، وخزف الصنمية الكاذبة. وذلك بتجلية صورة الروح الإنسانية، وتصفيتها حتى تبدو مرآتها على أجلى حقائقها، من حيث كونها أكمل رمز للعبودية. وفي ذلك تتميز الأخلاق القرآنية عن أخلاق الفلسفة، التي تكثف الحجب الكاذبة على حقيقة الإنسان وماهيته، فتوهمه أنه إله من دون الله الواحد القهار. إن الفلسفة تنطلق منذ القديم من أسطورة (انتزاع) شعلة المعرفة من (إله المعرفة)، إنها سليلة مبدأ الصراع بين الآلهة والإنسان. ولذلك أنتجت الفكر الفلسفي الغربي ذا الطبيعة المتمردة على كل شيء، بما في ذلك القيم الإنسانية المثلى. إن تلميذ الفلسفة يسعى إلى عبادة نفسه وتمجيدها. وفي هذا السياق فرق بديع الزمان بين مفهوم (التخلق بأخلاق الله)، الذي سبق بيانه، وبين مفهوم (التشبه بالله)، الذي هو غاية الفكر الفلسفي في نظريته الأخلاقية. فإذا كان الأول نفيا (للأنا)، فإن الثاني ترسيخ لها وتصنيم! قال رحمه الله في تتمة نص سبق إيراده في سياق التخلق بأخلاق الله: (من القواعد المقررة للنبوة في حياة الإنسان الشخصية، التخلق بأخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين بأخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة أنفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم. فأين هذه القاعدة الجليلة من قول الفلسفة: "
(21/285)
تشبهوا بالواجب " ! التي تقررها غايةً قصوى للإنسانية؟ أين ماهية الإنسان التي عجنت بالعجز، والضعف، والفقر، والحاجة غير المحدودة؛ من ماهية واجب الوجود؟ وهو الله القدير القوي الغني المتعال!!)(1).
من هنا إذن؛ كانت الأخلاق عند النورسي (تطبع صورة الروح الإنسانية بماهيتها)، كما عبرنا في التعريف. بحيث تبرز طبيعتها الاستنادية ووجودها الحرفي؛ حتى تتعلق بخالقها فناء وبقاء، وتتفانى في خدمة المقاصد التعبدية لوجودها. وتكسب بذلك معناها وتحقق ماهيتها. ومن هنا أيضا حرص بديع الزمان على الاهتمام بصورة الروح بدل صورة الجسم؛ رغبة في تجلية الماهية الروحية للإنسان التي هي سر البقاء فيه؛ على حساب الماهية الطينية، التي ليست سوى مظهر من مظاهر الفناء. وبذلك فسر رحمه الله - في إشارات لطيفة - سر فرض الحجاب على المرأة المسلمة. إذ لم يعتبره فقط نوعا من الوقاية من الوقوع في الغواية والفتنة، وإنما اعتبره رمزا عميقا للدلالة على الماهية الروحية للإنسان. فكأنه أخفى الصورة الكاذبة؛ ليدلك على الصورة الحقيقية. وهذا غاية من الدقة واللطافة في تدبر النصوص القرآنية، والتفكر في الطبيعة الاجتماعية للمجتمع الإسلامي، في مثاليته الراقية. يقول النورسي رحمه الله: (إن القرآن يأمر النساء أن يحتجبن بحجاب الحياء؛ رحمةً بهن، وصيانة لحرمتهن وكرامتهن؛ ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة، معادن الشفقة والرأفة، وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة؛ تحت أقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة، ومتعة تافهة لا قيمة لها. أما المدنية فإنها قد أخرجت النساء من أوكارهن وبيوتهن، ومزقت حجابهن، وأدت بالبشرية إلى أن يجنَّ جنونها. علماً أن الحياة العائلية إنما تدوم بالمحبة، والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة، والاحترام الجاد، ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما
__________
(1) الكلمات: 643ـ644.
(21/286)
الولع بالصور فإنه يفسد الأخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي إلى انحطاط الروح وتردّيها)(1).
إن الصورة مضادة للروح، وقاتلة لها شعورا وإحساسا. بمعنى أن الذي استهوته الصورة لن يرى الجمال الحق، بل سيعمى عن صورة الروح الخفية، التي تتجلى في إنسانية المرأة، ورقتها، وشفقتها السيالة جمالا وكمالا. والأخلاق إنما هي التربية على هذا، وطبع الرغبة الإنسانية؛ تهذيبا وتشذيبا؛ على حب النظر إلى جمال الروح، والكشف عن كمالاته. ولذا كان النظر إلى صورة جسم المرأة مثلا؛ هو كالنظر إلى جثة الموت سواء. فأي جمال فيها وأي بهاء؟ ذلك (أن النظر بدافع الهوى وبشهوة إلى جنازة امرأة حسناء، تنتظر الرحمة وترجوها؛ يهدم الأخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة إلى صور نساء ميتات، أو إلى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الإنسان ويعبث بها، ويهدمها)(2). وهذا سر من أهم أسرار نجاح الأُسر أو فشلها، فإذا ما تعلق نظر القلب بالروح، كان ذلك سببا من أسباب الدوام؛ لأن جمال الروح خالد لا يفنى. وإذا ما تعلق بالصورة الجسدية آل حتما إلى الذبول والفناء؛ بذبول المتعلق به، وهو الصورة الجسمية الفانية. ثم إن جمال الصورة الجسمانية نفسه ما هو - عند المبصرين جوهره لا شكله فقط - إلا انعكاس لجمال الروح. فمن نظر إلى الروح وجمالها؛ كان له في جمال الصورة الجسمانية ما لا يجده فيها غيره، ممن كان نظره حسيا فقط، حسيرا، لا يتعدى حدود الجلد؛ إلى ما هنالك من جمال روحاني فياض. إن الزوج الذي يحب الروح الساكن في كينونة زوجته، يرى منها حقيقتها، ولذلك فهو يعرفها حقا. أما الذي لا يرى من زوجته إلا أشكالها وأشباحها فهو لا يعرفها؛ ولذلك فإنه يصطدم معها اصطداما كلما خفتت النوازع المادية التي ربطته بها. ولأمر ما ذكر الله تعالى في القرآن العظيم؛ أن الزواج إنما هو زواج أنفس، لا زواج أبدان، في إشارة لطيفة عجيبة من
__________
(1) الكلمات: 476.
(2) الكلمات: 476.
(21/287)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء)(النساء:1).
ومن هنا تتدفق العواطف الجياشة بالمحبة الحقيقية، ويجد الزوج لزوجته من الفضل ما لا يجده لنفسه هو! وبذلك تصان حقوق المرأة في الإسلام، صيانة وجدانية، لا صيانة قانونية كاذبة، لا تكاد تذكر حتى تخرق. كما هو الحال اليوم في بلاد الغرب، الذي يملي على المجتمعات الإسلامية ما فشل هو في تحقيقه فشلا ذريعا! وإن بديع الزمان النورسي كان يعيش عصره بملاحظاته الدقيقة (من نهاية القرن التاسع عشر؛ حتى النصف الأكبر من القرن العشرين)، حيث كانت هذه المقولات في بدايتها آنئذ، لكنه أبصر بفراسته الدقيقة مآلاتها فأنذر بخطورتها، ورد عليها بإشاراته اللطيفة وتفكراته العميقة، مبينا من خلال ذلك حقيقة الأخلاق في الإسلام، ومبرزا صورة الروح على حساب صورة البدن الكاذبة. قال رحمه الله في محبة الزوجة: (عليك بمحبتها على أنها هدية أنيسة لطيفة من هدايا الرحمة الإلهية. وإياك أن تربط محبتك لها برباط الجمال الظاهري السريع الزوال، بل أوثقها بالجمال الذي لا يزول ويزداد تألقاً يوماً بعد يوم، وهو جمال الأخلاق والسيرة الطيبة المنغرزة في أنوثتها ورقّتها. وإن أحلى ما فيها من جمال وأسماه هو في شفقتها الخالصة النورانية. فجمال الشفقة هذا، وحُسن السيرة يدومان ويزدادان إلى نهاية العمر. وبمحبتهما تُصان حقوق هذه المخلوقة اللطيفة الضعيفة، وإلاّ تفقد حقوقها في وقت هي أحوج ما تكون إليها؛ بزوال الجمال الظاهري)(1).
__________
(1) الكلمات: 765.
(21/288)
إن (المستقبلية الوجودية)، و(المستقبلية الاجتماعية) التي كانت تطبع نظرات بديع الزمان جعلته ينفذ ببصره إلى أعماق الحركة التاريخية، ويبصر ما يتوقع أن تصير إليه الحالات من مآلات! فصار يعالج المسألة الخلقية بمنهج استبصاري نادر ومؤثر. ومن ألطف إشاراته رحمه الله في هذا السياق قصته التي حكاها في كتاب (الشعاعات)، حيث كان مرة في سجن (أسكي شهر) يطل من النافذة، فرأى بنات صغيرات يلعبن ويمرحن في عيد الجمهورية، فانخرط في بكاء حار، أثار انتباه رفقاء سجنه؛ فاستفسروه عن سبب بكائه؛ فكانت قصته الغريبة. قال رحمه الله: (كنت في أحد أيام عيد الجمهورية جالسا أمام شباك سجن "أسكي شهر" الذي يطل على مدرسة إعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها، ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأة على شاشة معنوية ما يؤول إليه حالهن بعد خمسين سنة! فرأيت: أن نحواً من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة؛ يتحولن إلى تراب ويعذبن في القبر! وأن عشرة منهن قد تحولن إلى عجائز دميمات، بلغن السبعين والثمانين من العمر! شاهت وجوههن، وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام، من نظرات التقزز والاستهجان؛ من الذين كنّ يتوقعن منهم الإعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن أيام شبابهن! نعم رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخناً؛ أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فأسرعوا إليّ مستفسرين!)(1).
__________
(1) الشعاعات: 247.
(21/289)
إن بكاء بديع الزمان يرجع إلى أنه كان يبصر الصورة الحقيقية للإنسان: صورة الروح. لقد كان ينفذ ببصره من خلال صورة البدن؛ إلى ما هنالك من حقائق باطنة: النفس الزكية أو النفس الشقية، فيبصر في ضوء ذلك مآلات المستقبل، ويبكي لهول ما يرى! لقد كان منهجه التفكري الاستبصاري قائما على قراءة حركة التاريخ، في صيرورتها المقبلة، بقواعد العلم، والسنن الجارية في الكون وفي المجتمع. ولذلك جاء في قوله العجيب: (لو أمكن عرض ما سيقع من أحداث مقبلة بعد خمسين سنة مثلاً، على شاشةٍ الآن، مثلما تُعرض الأحداث الماضية عليها؛ لبكى أربابُ الغفلة والسفاهة بكاءً مراً أليماً على ما يضحكون له الآن!)(1).
إن من أسباب الغواية أن الإنسان إذ تأسره صورته الخزفية؛ يعيش للحظة التي هو فيها. وإن تفكر في المستقبل؛ ففي اتجاه العيش الحيواني الساذج، ليس إلا. إنه عادة ما يضعف عن محاولة خرق حواجز النفس؛ إلى التفكر في نهاياتها، وفيما تحتمله تلك النهايات من مفاجآت واحتمالات! فذلك أمر تكرهه النفس بطبيعتها. ومن هنا كان أسلوب النورسي حملها على تلك المشقة، التي هي حقيقة مرة، ولكنها حقيقة! حتمية لا مفر منها: الهرم والموت! ثم ماذا بعد؟ أين صورة الإنسان؟ أين ماهيته؟ تلك هي القضية! قال في (اللمعات)، بعدما أبصر صور الشباب في مآلاتها المقبلة: (إن خمسة من كل خمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن، والذين يمرحون في نشوة وبهجة، سيكونون كهولاً بعد خمسين عاماً، وقد انحنت منهم الظهور، وناهز العمر السبعين! والخمسة والأربعون الباقية يُرمّون في القبور!)(2).
__________
(1) الكلمات: 159.
(2) اللمعات: 446.
(21/290)
لقد كان هذا المنهج الفعال هو المفتاح العجيب، الذي استعمله الأستاذ النورسي؛ للنفاذ إلى صورة الروح - التي هي مناط التخلق - لتجلية ماهيتها الإنسانية، بما ذكرناه مفصلا. فالماهية التي يراد طبعها على صورة الروح، بالتخلق؛ يجب أن تتجاوز صورة البدن، ولا يمكن ذلك إلا بالنفاذ الاستبصاري إلى أغوار النفس؛ لتهذيب (أناها) بالوسائل التربوية، التي هي أساس التخلق التعبدي، وذلك كما يلي:
- الأخلاق تسلك بالروح الإنسانية مدارج التربية والمجاهدة:
إن المنهج الذي اعتمده الأستاذ النورسي للوصول إلى حقيقة الأخلاق من حيث هي نظام القرآن هو المنهج القرآني نفسه، والذي سماه في غير ما موضع من رسائله بـ(طريق القرآن)، أو (المعراج القرآني) الذي هو أقصر الطرق الموصلة إلى الله، والتخلق بأخلاقه جل وعلا، بما ذكرنا من معنى. يقول رحمه الله: أما (المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!)(1).
والمنهج القرآني لطبع الروح بماهيتها الخلقية؛ راجع في دلالته إلى معنى التربية والمجاهدة. ولذلك كان عنصرا جوهريا في (مفهوم الأخلاق) لدى بديع الزمان؛ حيث إن الأخلاق كسب وصفي، ينطبع على صورة الروح الإنسانية، بفعل السلوك التربوي اليومي، الذي يربي النفس بصغار العلم قبل كباره، على أساس الربانية المذكورة في قوله تعالى: (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79).
إذن يمكنك أن تقول: (إنما الخُلُق بالتخلق) على وزان حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)(2).
__________
(1) صيقل الإسلام: 123.
(2) رواه الدارقطني بإسناد حسن، كما جاء في صحيح الجامع الصغير: 2328.
(21/291)
والتخلق إنما هو: التربية والمجاهدة. ومن هنا قال بديع الزمان في كلمة جامعة مانعة: (أما مسلكنا: فهو التخلق بالأخلاق المحمدية - صلى الله عليه وسلم - وإحياء السنة النبوية)(1). ولا تخلق إلا بمجاهدة؛ وذلك هو نص قوله من أن (نشوء الحسيات العالية ونموّ الأخلاق إنما هو بالمجاهدة، وتَكَمُّلُ الأشياء إنما هو بمقابلة الأضداد ومزاحمتها)(2). وفي هذا التعبير إشارة إلى ما يقصده (بالمجاهدة) أيضا من معاني التدافع النفسي، الحاصلة لدى المسلم الذي عزم على مواجهة عدوى فساد الأخلاق، فينخرط بذلك في صراع مع الشهوات الحيوانية، التي تثور في نفسه، وتريد أن تنحرف به عن فلكها السيار مستقيما على نظام القرآن، الدائر على محورها النموذجي في كمال الأخلاق: الرسول الأعظم سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - .
قال الأستاذ رحمه الله في بيان ما ينبغي أن تكون عليه (جمعية) تأسست في زمانه، وتسمت باسم: (الاتحاد المحمدي): (فجمعية مثل هذه، رئيسها هو: فخر العالمين سيدنا الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -. ومسلكها ومنهجها: مجاهدة كل شخص نفسه أي التخلق بأخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وإحياء السنة النبوية، ومحبة الآخرين، وإسداء النصح لهم، ما لم ينشأ منه ضرر)(3).
__________
(1) صيقل الإسلام/الخطبة الشامية: 532.
(2) إشارات الإعجاز: 207.
(3) صيقل الإسلام: 446.
(21/292)
إن المجاهدة في هذا الزمان هي بمثابة حرب على المستوى الباطني والنفسي، يخوضها الإنسان مع نوازعه الشريرة. ولذلك فقد أورد قصة تمثيلية - كعادته في عرض أفكاره - من الحرب العالمية الأولى، في سياق استنباط العظات والعبر؛ منزلا حقائقها بصورة مجازية على حرب الإنسان مع النفس ومع الشيطان، فقال: (وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والإنس؛ إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين)(1).
فالمجاهدة ليست نزهة، بقدر ما هي عملية وجدانية، تنتقل بالطبيعة البشرية من طين العادات إلى ماء العبادات. وليس غير القرآن أقدر على هذا التحويل الجبلّي العجيب، وهذه الصناعة التربوية العميقة. ومن هنا لم يزل بديع الزمان منبهرا بتلك العملية التربية التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت راية القرآن، وهو يقوم بتحويل قبائل العرب من أخلاق البداوة والتوحش إلى أخلاق القيادة والسيادة؛ حتى صاروا كأكرم ما تكون الأمم في التاريخ! من معاني الفضيلة والمثل العليا. فقد قال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موطن: (فإن شئت أن تعرف أن ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر إلى إجراءاته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ الأمم المتمدنة)(2).
__________
(1) الكلمات: 19.
(2) الكلمات: 258.
(21/293)
وقال في موطن آخر؛ متفكرا ومتأملا؛ كيف أن هذا النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - قد (غلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية، المألوفة، الراسخة، المستمرة، الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإحكام والقوة - كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم - أخلاقاً عالية وعادات حسنة. وقد بدّل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة، وأظهر جوهر إنسانيتهم، ثم أخرجهم من زوايا النسيان ورقي بهم إلى أوج المدنية، وصيّرهم معلمي عالمهم، وأسس لهم دولة عظيمة في زمن قليل. فأصبحت كالشعلة الجوالة والنور النوار؛ بل كعصا موسى تبتلع سائر الدول وتمحوها. فأظهر صدقه ونبوته وتمسكه بالحق؛ إلى كل مَن لم تعم بصيرته)(1).
ذلك ما دفع الأستاذ النورسي إلى البحث عن أسرار التحولات، ومفاتيح التغيرات، التي أحدثها القرآن في أخلاق الناس؛ عساه يمسك برأس الخيط الذي يعيد به تشكيل المجتمع الإسلامي المعاصر، ويعيد تركيبه على أساس تجديد الدين للأمة، كما هو موعود به في الحديث الشريف. ومن هنا وصل إلى أن سر التغيير الذي أحدثه القرآن في الإنسان هو أنه ربط المسلم بحقيقة ماهيته الجوهرية القائمة على التنكر (للأنا)، بمعناها الوجودي. فعقد لذلك مقارنة لطيفة بين تلميذ التربية القرآنية وتلميذ الفلسفة، نوردها مختصرة فيما يلي، قال رحمه الله: (للوصول إلى مدى الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:
__________
(1) صيقل الإسلام: 148.
(21/294)
فالتلميذ المخلص للفلسفة "فرعون" ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس شيء لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه رباً له(...) بينما تلميذ القرآن المخلص هو "عبد" ولكنه عبد عزيز، لا يستذل لشيء حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله. ثم إنه تلميذ متواضع، لين هيّن ، ولكنه لا يتذلل بإرادته لغير فاطره الجليل، ولغير أمره وإذنه)(1).
إن العبودية بمعناها الشرعي في الإسلام هي أساس التربية الخلقية، ومن عجيب الأمر أنها تجمع بين نقيضين العزة والذلة؛ ذلك أن الذلة لله الواحد القهار تورث العبد عزة، من باب (الانتساب)، كما هو مفهومه عند النورسي(2) حيث يستفيد عبد الله أنوارا من أسماء الله الحسنى، وتسنده صفات الله العلى، من قوة وعظمة وجلال وعزة، فيعز العبد بالانتساب إليه تعالى. ويتخلق في الأرض - من جهة الاجتماع البشري - بأخلاق الصلاح، حيث يعبد ربه بمعاملة الناس، والسعي في حوائجهم صلاحا وإصلاحا؛ وهذا ما يجعل أخلاق المسلم مطبوعة بالصدق والوفاء بصورة مثالية، تنعدم معانيها في غير مجتمع العابدين. إن التلقائية التعبدية التي تطبع الأخلاق الإسلامية هي سر نجاح التربية التي يشرف عليها القرآن. وهذا لا يمكن تصوره في التربية الفلسفية. إن الاحتكام إلى العقل الفلسفي لا يورث إلزاما ولا التزاما. ما دام القلب لا يستجيب بشكل وجداني لعاطفة المحبة، التي هي سر التحولات الخلقية في الإنسان. تماما كما تحولت قبائل العرب من بداوتها المتوحشة إلى أستاذية عالمية في درس الأخلاق! وبهذا المنطق تحدى بديع الزمان الفلسفة والفلاسفة، وعلماء الاجتماع والسياسة؛ فرفع نداءه عاليا: (فليلق السمعَ علماء الاجتماع والسياسة والأخلاق من المعنيين بشؤون الإنسان وأخلاقه واجتماعه!)(3) ونادى: (فلترن آذان الاجتماعيين والأخلاقيين من المعنيين بشؤون
__________
(1) الكلمات: 144.
(2) انظر مصطلح (الانتساب) بهذا البحث.
(3) الكلمات: 106.
(21/295)
الإنسان!)(1)
إن التربية القرآنية تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا سهل الانقياد، سهل الإدارة؛ لما له من قابلية تعبدية، ولما له من رغبة في التقرب إلى الله، بالانضباط الخلقي، والالتزام التلقائي لحدود الله؛ (حتى إن قروياً مثلي [يقول بديع الزمان] يستطيع أن ينظر إلى إدارة الدولة التي هي في أوج العلا كالثريا، ويربط نوى الأماني والاستعدادات هناك. وحيث إن كل فعل وطور يصدر يلقى صداه هناك، لذا ستتعالى همته كالثريا وتتكامل أخلاقه بالدرجة نفسها، وتتوسع أفكاره بقدر سعة الممالك العثمانية، وسيسبق بإذن الله الأفذاذ من أمثال أفلاطون، وابن سينا، وبسمارك، وديكارت، والتفتازاني)(2).
إن هذا السبق الذي قد يبدو مستحيلا لغير العارف بالحقيقة القرآنية من جهة، وغير العارف بالحقيقة التاريخية من جهة أخرى؛ ليس ناشئا عن فراغ، ولا هو وليد استرخاء وترف فكري. كلا! بل هو ناشئ عن مجاهدة ومكابدة. إن المجاهدة التربوية تورث الأمي البدوي، أسرار المعرفة الإيمانية التي هي شرط السبق في قيادة البشر. وها هم هؤلاء الخلفاء الراشدون تحولوا - بفضل ذلك المنهج التربوي العجيب - من رعاة للجمال في بطاح مكة؛ إلى أساتذة في فن قيادة المجتمعات، ذات العرقيات المتباينة، والثقافات المختلفة، واللغات العديدة؛ بحبل واحد ووحيد: هو (حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)، كما في الحديث الصحيح(3) أي: القرآن العظيم!
__________
(1) الشعاعات: 284.
(2) صيقل الإسلام: 470.
(3) رواه الطبري في تفسيره: 4/31، نشر دار الفكر بيروت لبنان: 1405هـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:4473.
(21/296)
إن المجاهدة التربوية - التي هي أساس التخلق في الإسلام - تصل بالإنسان إلى الغاية الكونية التي خلق من أجلها، والتي تمثل حقيقته الوجودية، لولا تلبيس إبليس على العالمين. ومن هنا كان مفهوم (الأخلاق) في الإسلام - على ما تقَطَّر لبديع الزمان النورسي من تفكراته - ذا بعد كوني أعجز الفكر الفلسفي كله؛ أن يقرب من ثرياه، ولا أن يحلم بمنتهاه. إذ بقيت المدينة الفاضلة في الفلسفة اليونانية - بغض النظر عن طبقيتها العنصرية - حبرا على ورق عبر التاريخ! وآل أمر الديموقراطية في الفكر الغربي المعاصر؛ إلى فضيحة عالمية، من بعدما كشرت عن نابها الاستعماري، وتغطرست في جلدها العولمي الجديد!
إن الكونية الخلقية في الإسلام ترفع الإنسان بمعراج المحبة؛ ليرتبط بعلاقة أخوة وجودية؛ مع جميع السائرين في فلك العبادة، من ذوي الحياة والشعور الظاهر والباطن، في هذا الكون الفسيح. ولهذا استطاع الأستاذ النورسي - وهو المولع ببيان الأبعاد الكونية لمفاهيم القرآن - أن يرصد لنا (كونية) حقيقية في مجال التخلق، خلال كليات رسائل النور، ويرسم لطلاب النور مدارجها التربوية؛ خطوة خطوة. فكان أن أكمل بذلك بناء - ما يمكن تسميته - بالتصور النوري لمفهوم (الأخلاق) نظريةً وتطبيقا. وذلك كما يلي:
- الأخلاق تُكسب الروحَ الإنسانية معناها الكوني:
(21/297)
يرجع مفهوم (الإنسان) لدى الأستاذ النورسي إلى معنى استخلافي كوني، كما درسناه بمحله(1)، وذلك من حيث هو (ثمرة شجرة الكائنات)، و(فهرست العالم) على حد تعبيره، الذي تواتر عنه رحمه الله في غير ما موطن من رسائله. وهذا شيء مهم في بحثنا الأخلاقي هذا؛ إذ بدونه لا يمكن تصور حقيقة معنى (الأخلاق والتخلق) عنده على التمام والكمال. ذلك أن البعد الكوني للإنسان، والغاية التعبدية التي خلق من أجلها في هذا السياق أيضا؛ كلاهما شرط من شروط معرفة الماهية، والخاصية التي تميز مفهوم الأخلاق من حيث هو مصطلح كوني، وليس مصطلحا (اجتماعيا) وحسب، بالمعنى الضيق للكلمة!
__________
(1) انظر مصطلح (الإنسان) بهذا البحث.
(21/298)
يقول بديع الزمان في كلمة جامعة: (هذا الإنسان، هو سيد الموجودات، رغم أنه صغير جدا؛ لما يملك من فطرة جامعة شاملة. فهو قائد الموجودات، والداعي إلى سلطان ألوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة، ومظهرها. لذا فإن له أهمية عظمى)(1)، ومعنى ذلك أنه مؤهل لمهمة كونية كبرى، هي الإمامة التعبدية، إذ جعله الله إماما للعابدين ولسائر السائرين من الخليقة أجمعين، كما هو مشار إليه في آية الأمانة: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72). وهو إذ أسكنه الله عز وجل الأرض؛ جعلها مؤهلة لذلك وصالحة لاستضافة خلفية الله بالمعنى المذكور. فهيأها لجميع أنواع العبادات الإنسانية، العملية والتفكرية، وجعلها مسالك تقود العباد إلى الله. فكان الإنسان بذلك جامعا - بالقوة دون الفعل - لكل أخلاق الكون التعبدية. فإذا انخرط في سلك المجاهدة التربوية اكتسب صفاتها بالفعل، وإذا تخاذل واستجاب لشهواته بقيت تلك الصفات في قبر (القوة)، وبرزت على حسابها أخلاق الشر والعياذ بالله. ومن هنا كانت الأرض مسجده الكلي المستعد لكل أنواع الصلوات. قال بديع الزمان: (إن الإنسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخلقة (...) ومن هنا فإن مهد هذا الإنسان، ومسكنه، وهو الأرض، كفء للسماء معنى وصنعة. ومع صغر الأرض وحقارتها بالنسبة إلى السماء فهي قلب الكون ومركزه، ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية، ومظهر جميع تجليات الأسماء الحسنى وبؤرتها، ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة، ومحشرها، وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق، ولا سيما عرضها لكثرة كاثرة من النباتات والحيوانات. وهي نموذج مصغر لما يعرض في عالم الآخرة من مصنوعات، ومصنع يعمل بسرعة فائقة لإنتاج المنسوجات الأبدية، والمناظر
__________
(1) الكلمات: 63 ـ64.
(21/299)
السرمدية المتبدلة بسرعة، وهي مزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بذور البساتين الدائمة الخالدة)(1).
كل ذلك إذن؛ إنما هو لإتاحة الفرصة أمام الاستعدادات الفطرية، التي جعلها الله عز وجل في نفس الإنسان؛ لبلوغ كمالات التقوى خُلُقا وتخلقا. تلك الكمالات التي هي زبدة الشريعة، وغاية الدين، ومجمع البحرين، من سور القرآن وآياته. وقد سبق في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(2).
هذه غايتك يا ابن آدم فكيف السلوك؟ وتلك هي قصة الكونية الأخلاقية في القرآن منذ بدايتها، فكيف تحقيق مناطها؟ تلك أسئلة جعلها النورسي جزءا من مضمون المفهوم. وبيانها كما يلي:
- مجاهدة (الأنا) بين التخلي الاسمي والتحلي الحرفي:
لقد انطلق الأستاذ النورسي في رسم طريق المجاهدة الأخلاقية، من مبدأ تفكري استقرائي، في تشخيص أصل الأمراض الخلقية كلها. وهو رجوعها جميعا إلى غرق الإنسان في مشاهدة (الأنا) الذاتية التي تسكنه، بصورة تعميه عن مشاهدة أي شيء سواها إلا من خلالها! فتنشأ بباطنه رغبة آثمة لتوظيف كل مصالح الاجتماع البشري لصالحه فقط، ولا عليه بعد ذلك أن يهلك الآخرون. قال رحمه الله: (لو تأملت في مساوئ جمعية البشر لرأيت: أس أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية، كلمتين فقط: إحداهما: "إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع!". والثانية: "اكتسبْ أنت لآكل أنا! واتعبْ أنت لأستريح أنا!")(3) فالكلمة الأولى راجعة إلى الرغبة الآثمة في تمجيد (الأنا)، وتمتيعها بذاتها، ولذاتها فقط. فهي الهدف من كل ما يراه. والكلمة الثانية راجعة إلى توظيف كل شيء؛ من أجل تحقيق الأولى، فهي وسيلتها.
__________
(1) الكلمات: 204.
(2) سبق تخريجه.
(3) المكتوبات: 604.
(21/300)
ومن هنا انطلق بديع الزمان إلى علاج هذا الداء الخلقي العضال، من تبين طبيعة الوجود البشري؛ لتحديد طريق التخلص من سيطرة (الأنا) على الإنسان، وترقيته بمدارج الصلاح الخلقي، بصورة تحقق له توازنا فطريا، وكمالا حقيقيا لا وهميا. وذلك أن وجود الإنسان - بالنسبة إلى وجود الخالق جل علاه - إنما هو كسائر الموجودات. أي أنه فرد من المخلوقين يستوي وإياهم في الخضوع لصفة الخالقية. وإنما تميزه من حيث هو أحوجهم جميعا إلى رحمة الله، فهو ثمرة شجرة الكون، وثمر الشجرة هو أضعف ما فيها، وأجمع لخصائصها! وذلك سر إمامته كما تبين بمحله(1). أما من الناحية الوجودية الصرف؛ فكل الخلق خاضع للوجود (الحرفي)، ولا شيء داخل المعنى الاسمي إلا اسم الجلال الله الخالق لكل شيء، سبحانه وتعالى. وعلى هذه الأرضية تنبني إمكانية المجاهدة التربوية عبر مسالك التخلق الكوني، إذ يتعين على الإنسان من حيث هو موجود بـ(المعنى الحرفي) أن يسلك مسلك تحقيق (الحرفية) بمشاهدة استنادها إلى (الاسمية) في (الوجود الاسمي) الحق، الذي هو وجود الخالق جل وعلا. ومن خلال مشاهدة الحرفية الذاتية للإنسان في نفسه؛ يشاهد آنئذ كل المخلوقات الكونية تصدقه، ويصدقها، إذ هي جميعا مجرد حروف، تدور في فلك الاسم الأعظم؛ وهكذا يجد صداها جميعا في نفسه، فيشعر بوجوده الحقيقي وقد تخلق بأخلاق كونية شمولية؛ وذلك بالسير إلى الله الذي له الاسم الأعظم، والأسماء الحسنى. وهو معنى (الانتساب الإيماني) أيضا كما درسناه بمحله(2).
__________
(1) انظر مصطلح (الإنسان) بهذا البحث.
(2) انظر مصطلح (الانتساب) بهذا البحث.
(21/301)
لقد استعار بديع الزمان اصطلاحات النحاة من (حرفية) و(اسمية)؛ ليوظفها توظيفا تفكريا بديعا. إذ عبّر بذلك عن أدق حقائق الوجود وألطفها، وبيّن بها إعجاز القرآن وإشاراته، في الأنفس وفي الآفاق، ورسم بها مسلكا عمليا خلال آيات القرآن للتخلق الكوني. وأصل دلالة (الحرف) نحويا: أنه غير مستقل بنفسه، في حاجة مستمرة إلى غيره. وهو ما يسميه النحاة بـ(الافتقار). أما (الاسم) فهو مكتف بذاته على دلالته على المعنى(1).
من هنا إذن كانت الكائنات موجودة بالمعنى الحرفي لا الاسمي، بمعنى أنها غير مستقلة بنفسها، بل هي في حاجة مستمرة إلى خالقها، مفتقرة في بقائها إلى إرادته سبحانه. فالنظر إلى الموجودات على أن وجودها (حرفي) فحسب؛ يجعلها مجرد مظاهر تعكس تجليات الأسماء والصفات، من حيث إن تلك الموجودات مفتقرة إلى خالقها البارئ المصور العليم الخبير. ذلك أن تأمل (الحاجة) يدل على جمال (الغنى). ومن هنا كان من المستحيل أن تحمل الكائنات الحرفية حقيقة الاسم، إذ كل الحروف تقود إلى الاسم الواحد الأعظم. قال رحمه الله مجيبا عن أسئلة بعض طلاب النور: (أما سؤالك الثاني الذي يتعلق ببحث المعنى الاسمي والمعنى الحرفي، فمثلما أشارت كتب النحو عامة إليه في بداياتها، فقد وضحته توضيحاً كافياً بالأمثلة كتب علم الحقيقة كالكلمات والمكتوبات ويعّد من الإسراف الإسهاب في الإيضاح لمن يملك ذكاءً ودقة ملاحظة مثلك.
فإنك إذا نظرت إلى المرآة من حيث إنها زجاجة، ترى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا، بينما إن كان القصد من النظر إلى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها، فالصورة تتوضح أمامك حتى تدفعك إلى القول (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:14) بينما تبقى زجاجة المرآة أمراً ثانوياً.
__________
(1) انظر ألفية ابن مالك: "وكافتقار أصلا".
(21/302)
النظرة الأولى تمثل (المعنى الاسمي) أي: زجاجة المرآة معنى مقصود، وصورة الشخص المتمثلة فيها (معنى حرفي) غير مقصود. أما النظرة الثانية فصورة الشخص هي المقصودة، فهي إذن معنى (اسمي) أما الزجاج فمعنى (حرفي). وهكذا ورد في كتب النحو تعريف الاسم أنه: دلّ على معنى في نسفه. أما الحرف فهو: ما دلّ على معنى في غيره.
فالنظرة القرآنية إلى الموجودات تجعل الموجودات جميعها حروفاً، أي أنها تعبّر عن معنى في غيرها، بمعنى أنها تعبّر عن تجليات الأسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.
أما نظرة الفلسفة الميتة فهي تنظر على الأغلب بالنظر الاسمي إلى الموجودات، فتزل قدمها إلى مستنقع الطبيعة)(1).
وبهذا النظر كان بديع الزمان يدرس الظواهر الكونية كلها ويتفكر فيها. قال: (فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل، وخادمة في سبيله، وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى، كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الاسمي، من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شيء)(2).
فقوله هذا: (فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شيء) دال على أن تحقيق الإنسان المؤمن للمعنى الحرفي في النفس؛ اعتقادا وعبادة وتفكرا؛ هو الكفيل بأن يبلغ به إلى تحقيق العبودية الكاملة لله الواحد الأحد سبحانه، وهو الكفيل بتحقيق انتسابه إلى الوجود الحق، وأما قصد (الاسمية) في النفس فهو قصد إلى العدم عينه.
__________
(1) اللمعات: 171 ـ 172.
(2) الكلمات:561.
(21/303)
وإنما كل ذلك (أخلاق) و(تخلق). إذ منطلق تحقيق الحرفية قائم أساسا على نكران الذات، والتجرد من الشهوات، ومجاهدة (للأنا) التي هي سبب كل بلاء. وما ألطف قول النورسي في هذا: (فإذا تأمّلت في "أنا" بالمعنى الحرفي، صار لك عيناً تفهّمت ورأيت به كل ما في الكون؛ لأنه إذا جاءت المعلومات الآفاقية صادفتْ في "أنا" ما يصدقها. فإذا فهمتها انتهت وظيفة "أنا" وربوبيته الموهومة، ومالكيته المفروضة. فليرجع "أنا" من السّمكتية إلى الحبابية! وأما إذا نظرت إلى "أنا" بالمعنى الاسمي واعتقدته مالكاً، وخنت في الأمانة دخلت تحت (وقَدْ خَابَ مَنْ دَسّيها)(الشمس:10)، إذ الأمانة التي تدهشتْ من حملها السماوات والأرض والجبال هي "أنا" من هذه الجهة، إذ منها يتولد الشرك والشرور والضلالات، إذ إذا تستَّر "أنا" عنك غلُظ، حتى صار حبلاً بلع وجودك، فصار كلُّك "أنا". ثم استغلظ بأنانية النوع والاستناد به؛ فيصير شيطانا يبارز أمر صانعه. ثم يقيس الناس، ثم الأسباب؛ على نفسه؛ فيقع في شرك عظيم. ففي هذا الوجه لو أرسلت عينك وفتحت كل الآفاق انغلقت في وجهك، برجوع عينك إلى نفسك؛ إذ ترى كلَّ شيء بلون ما في نفسك من "أنا". ولونُه في ذاته - في هذا الوجه - الشرك والتعطيل، ولو مُلئت الآفاق آياتٍ باهرةً، وبقي في "أنا" نقطة مظلمة؛ طمَّت على الآيات!)(1).
إن هذا النص لهو من ألطف كلمات الأستاذ بديع الزمان النورسي رحمه الله! فقد ضمنه غرة معاني العبودية، وجوهر أصول التوحيد! وذلك - كما رأيت - بأسلوب إشاري رفيع! (الأخلاق) إذن بكل امتداداتها الكونية؛ إنما منطلقها: (أنا)! هذه هي القضية. (فليرجع "أنا" من السّمكتية إلى الحبابية!) ذلك هو بيت القصيد، وإن دونه لفل الحديد وقطع الوريد!
ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني *** بها كبدا ليست بذات قروحِ؟
أباها عليَّ الناسُ لا يشترونها *** ومن يشتري ذا علة بصحيحِ؟
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 328.
(21/304)
والمقصود بـ(السمكتية): المعنى الاسمي، والمقصود بـ(الحبابية): المعنى الحرفي. ذلك أن السمكة السابحة في الماء (ذات)، بينما الحُباب إنما هو نفاخات الماء وفقاقيعه، التي ليس وراءها غير الهواء! فوجوده تبعي، لا ذاتي. وتحول السمكة إلى حباب يعني إنكارها لذاتها، وانتسابها في الوجود إلى الماء. فلا ترى الأشياء إلا من خلاله؛ تجريدا وتفريدا. وذلك عين التوحيد. بينما إصرارها على اسميتها يعميها عن إبصار الانتساب إلى بحرها، فلا ترى الأشياء إلا من خلال ذاتها! وذلك هو عين الشرك العظيم!
وإذن؛ (فليرجع "أنا" من السّمكتية إلى الحبابية!) ذلك ألطف مثال - ولا مشاحة في الأمثال - ساقه بديع الزمان لبيان الحقيقة الوجودية، والبعد الكوني للأخلاق.
فـ(أنا) هي موضوع التخلق، وباب التربية، وسبيل المجاهدة؛ للوصول إلى الكونية الخلقية. وإنما انزلقت قدم تلميذ الفلسفة في منطلق التفكر ومبدئه الأول هذا: (الأنا)، التي هي منطلق كل خير، ومنطلق كل شر، على حسب ما رَكّبْتَه عليه من (الاسمية) أو (الحرفية). قال رحمه الله: (إنَّ "أنا" له وجهان: وجه أخذته النبوة، ووجه أخذته الفلسفة.
فالوجه الأول: منشأ العبودية المحضة. ماهيته حرفية، ووجوده تبعي، ومالكيته وهمية، وحقيقته فرضية، ووظيفته: صيرورته ميزانا ومقياسا لفهم صفات الخالق. فالأنبياء هكذا نظروا إلى "أنا"، فسلّموا الملكَ كلَّه لله. وحكموا بأنه لا شريك له، لا في ملكه ولا في ربوبيته، ولا في ألوهيته. وبيده مقاليد كل شيء، وهو على كل شيء قدير. ومن هذا الوجه الشفاف الحي أنبت الرحيم جل جلاله شجرة طوبى العبودية، فأثمرت أغصانها المباركة في حديقة الكائنات، دانية قطوفها، متدليةَ ثمرات الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصديقين، المتلألئين كالنجوم في الظلمات!
(21/305)
وأما الفلسفة فنظرت إلى "أنا" بالمعنى الاسمي دون الحرفي، وبالوجود الأصلي دون التبعي، وزعموه مالكا بالحقيقة، وظنوه حقيقة ثابتة، وتوهموا وظيفته: تكمل ذاته بحب ذاته! فمن هنا تشعبت أنواع الشرك، وعلى رأس "أنا" نبتتْ شجرة زقوم الضلالة (...) فـ"أنا" في العالم الصغير، كالطبيعة في العالم الكبير: كلاهما من الطواغيت!)(1).
فإذن؛ آل أمر الأمانة الكونية الكبرى إلى قضية واحدة؛ موقفا وسلوكا. هي: (أنا). كيف يمكن تربيتها حتى تتخلق بأخلاق القرآن؟ كيف يمكن إخراجها من الجزئية البشرية الضيقة، إلى الاستخلافية الكلية، والأمانة الكونية الفسيحة؟ إن حديث أمنا عائشة رضي الله عنها في وصف رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أنه (كان خُلقه القرآن)(2)؛ حديث محيل على الكون العابد لله الخاضع لسلطانه. أليس القرآن هو ترجمان الكون؟ أليس هو الثبت الكشاف عن أسراره؟ ثم أليس الكون هو كتاب الله المنظور؟ أليس هو برهانه المنشور؟ كما بينه بديع الزمان في غير ما موطن من رسائله(3). إذن؛ التخلق بأخلاق القرآن هو تخلق بأخلاق الكون، السائر إلى الله عبر أفلاك العبادة؛ رغبا ورهبا، كما في قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(الإسراء:44). وقال مخبرا عن ذوات الشعور من الأحياء: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ
__________
(1) المثنوي العربي: 329.
(2) رواه مسلم.
(3) انظر مصطلح (القرآن) بهذا البحث.
(21/306)
مُّسْتَقِيمٍ)(الأنعام:38-39).
إن إخراج (أنا) من طينيتها الخزفية الفانية؛ هو إخراج لها من (اسميتها) الوهمية؛ إلى حرفيتها المستندة إلى الحق الباقي سبحانه وتعالى. وهي لذلك في حاجة إلى تهذيب وتشذيب. حتى ترتقي إلى أعلى مراتب الكونية. وتتبوأ أرقى مدارج العبودية، كلما برهنت على حرفيتها؛ بالتجرد من ذاتها والفناء عنها؛ حتى لا تبقى إلا بالله. الاسم الحق وحده دون سواه في الكون كله. ذلك هو العلم الذي أوتيه الإنسان ليبرهن به على وحدانية الله سلوكا وعبادة. وذلك هو الخُلُق العلي الرفيع، بل هو مفتاح الأخلاق كلها وسر أسرارها. وتأمل كيف أن الله جل جلاله يغضب غضبا شديدا على كل متكبر؛ ذلك أن التكبر هو سر غلو (الأنا) وإصرارها على اسميتها الوهمية. ولا انتقال لها إلى حرفيتها الفطرية؛ إلا بالتجرد الكامل من كل أنواع الكبرياء، والدخول في خُلُق التواضع والخضوع. وليس عبثا أن أنذر الرحمن عباده بما رواه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي قال: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ)(1).
- ثانيا: ضمائمه:
تميز مصطلح (الأخلاق) عند بديع الزمان النورسي بضمائم متعددة، زادته غنى وثراء؛ مما يدل على العمق الفكري، والموقع المحوري، الذي يحتله هذا المصطلح ضمن منظومته الإصلاحية، في كليات رسائل النور. وبيان ذلك هو كما يلي:
1- الأخلاق الاجتماعية:
الأخلاق الاجتماعية: هي نظام العلاقات الاجتماعية القائم على الصدق.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في (ص ج ص):4311.
(21/307)
قال بديع الزمان: لقد (صار الصدق والكذب يعرضان معاً في معرض واحد، ويصدران معاً من مصدر واحد؛ ففسدت الأخلاق الاجتماعية واختلت موازينها. وزادت الدعايات السياسية إخفاء قبح الكذب المرعب، وستر جمال الصدق الباهر!)(1). وقال: (فوا أسفى! إنه مثلما انتقلت محاسننا إلى غير المسلمين؛ فسجايانا الحميدة هم الذين سرقوها كذلك! وكأن قسماً من أخلاقنا الاجتماعية السامية لم يجد رواجاً عندنا، فنَفَر منا والتجأ إليهم، وإن قسماً من رذائلهم لم يلق رواجاً عندهم فجُلب إلى سوق جهالتنا!)(2).
2-الأخلاق الإلهية:
الأخلاق الالهية: هي السجايا السامية، والخصال الحميدة، القائمة على التعبد؛ استنادا إلى أسمائه الحسنى وصفاته العلا. فالإنسان المتخلق بالأخلاق الإلهية: هو العبد الذي شاهد فقره وعجزه؛ فالتجأ إليه تعالى في سائر أمره؛ رَغَباً ورَهَباً. قال بديع الزمان: أما (الذين هم في مسار النبوة؛ فقد حكموا حكماً ملؤه العبودية الخالصة للّه وحده، وقضوا بأن الغاية القصوى للإنسانية، والوظيفة الأساسية للبشرية؛ هي التخلق بالأخلاق الإلهية، أي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة، التي يأمر بها الله سبحانه، وأن يعلم الإنسانُ عجزَه فيلتجىء إلى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقرَه فيلوذ برحمته تعالى، وينظر إلى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى)(3).
3-الأخلاق الإنسانية:
__________
(1) الكلمات:575.
(2) صيقل الإسلام: 415.
(3) الكلمات: 642.
(21/308)
الأخلاق الإنسانية: هي خصال الفطرة الإنسانية الضرورية للوصول إلى الحق. قال رحمه الله: (إن جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور؛ بين طريق الإيمان والكفر؛ تبين بياناً قاطعاً أن طريق الإيمان والتوحيد، أقصر الطرق، وأصوبها، وأيسرها، وأكثرها استقامة، بينما طرق الكفر والإنكار طويلة جداً، وذات مشكلات ومخاطر. فلا شك أن هذا الكون الذي يساق في طريق ذات استقامة وحكمة ... لا يمكن أن تكون فيه حقيقة الشرك والكفر. بينما حقائق الإيمان والتوحيد، واجبة وضرورية في هذا الكون؛ ضرورة الشمس فيه! وكذا فان أيسر الطرق في الأخلاق الإنسانية، وأنفعها، وأقصرها، وأسلمها؛ هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة)(1).
4-الأخلاق الحسنة الدنيوية:
الأخلاق الحسنة الدنيوية: هي نظام العلاقات الاجتماعية القائم على اعتبارات نفعية براجماتية، لا دينية. قال بديع الزمان: (ألا ترى أن الشخص الأوروبائي ينكر محمّداً عليه الصلاة والسلام، ولكن يتسلى (بالخرستيانية)(2) المموّهة، وبمدنيتهم المخصوصة، الممزوجة بعاداتهم الملّية، فيمكن أن يبقى في روحه بعضُ الأخلاق الحسنة الدنيوية، وبعض الهمم العالية؛ لأجل هذه الحياة الدنيوية. فلا يرى بسبب هذا التسلي ظلمات روحه، ولا يتهم قلبه)(3).
5-الأخلاق الرذيلة أو أخلاق الرذيلة:
الأخلاق الرذيلة: هي التصرفات الصادرة عن الوجدان ذي الإحساس الأناني الخبيث. قال رحمه الله: (إن أس أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنما هو كلمة واحدة. كما أن منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضاً:
الكلمة الأولى: إن شبعتُ، فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع!
__________
(1) الشعاعات: 649.
(2) الخرستيانية: كلمة يونانية يقصد بها: النصرانية. كما ذكر المحقق الأستاذ إحسان قاسم الصالحي.
(3) المثنوي العربي النوري: 446.
(21/309)
الكلمة الثانية: اكتسبْ أنتَ، لآكل أنا، واتعبْ أنت لأستريح أنا!)(1). وقال: (أفيمكن أن لا يوجد مشاغب في مدينة، أو قرية، أو جماعة؟ فكيف يمكن إذاً إدامة حياة إنسانٍ مريض مقيد، سُلب منه عصاه، وسلط عليه كلبان ذوا مخالب وأنياب؟ إن (الانكليز) كالشيطان الرجيم! يثير أحاسيس الإنسان الخبيثة، ويشجع الأخلاق الرذيلة، في حين يطفئ جذوة المشاعر النبيلة!)(2).
6-الأخلاق العالية:
الأخلاق العالية: هي خصال الخير القائمة بالنفس، على صدق خالص، وشرف رفيع، يأبى بطبعه الشر والسفاسف.
قال بديع الزمان: (إن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة جديا، وإن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هو بالصدق. ولو ارتفع الصدق من بينها صارت كهشيم تذروه الرياح)(3). وقال أيضا: (اعلم أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام، وسيره وتاريخ حياته تشهد - مع تسليم أعدائه - بأنه لعلى خلق عظيم، وبأنه قد اجتمع فيه الخصائل العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاق توليد عزة للنفس، وحيثية وشرف ووقار؛ لا تساعد التنزل للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لا يساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاق العالية بجمعها لا تساعد أصلا لتداخل الحيلة)(4).
7-الأخلاق الفاضلة:
الأخلاق الفاضلة: هي نظام السلوك الإيماني، المبني على الحقائق الإلهية، والدساتير الإسلامية، والأسرار القرآنية.
__________
(1) الكلمات: 473-474.
(2) صيقل الإسلام: 556.
(3) إشارات الإعجاز: 166.
(4) إشارات الإعجاز: 166.
(21/310)
قال في سياق الدفاع عن رسائل النور: (رسائل النور (...) إنما تعطي دروساً حول الحقائق الإلهية، وحول الدساتير الإسلامية، وحول الأسرار القرآنية. فكيف إذن يعد جرماً أو ذنباً قراءةُ رسائل النور وهي مؤلفات تعد في الذروة، من ناحية تدريسها وتلقينها للأخلاق الفاضلة، والحقائق الإيمانية؟)(1) وقال أيضا: (إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع، وليس بالإكراه. وبإظهار الإسلام محبوباً وسامياً لديهم؛ وذلك بالامتثال الجميل لأوامره، وإظهار الأخلاق الفاضلة!)(2).
8-أخلاق الله:
أخلاق الله: هي الأخلاق الإلهية كما سبق بيانها. وهي السجايا السامية، والخصال الحميدة، القائمة على التعبد؛ استنادا إلى أسمائه الحسنى وصفاته العلا. قال بديع الزمان: (من القواعد المقررة للنبوة في حياة الإنسان الشخصية، التخلق بأخلاق الله: أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين بأخلاق الله، محتمين بحماه، معترفين في قرارة أنفسكم بعجزكم، وفقركم، وقصوركم)(3).
9-الأخلاق المحمدية:
الأخلاق المحمدية: هي السجايا والخصال النبوية، الموضوعة للاقتداء والتأسي، من سنة محمد- صلى الله عليه وسلم -. قال بديع الزمان: (أما مسلكنا: فهو التخلق بالأخلاق المحمدية- صلى الله عليه وسلم -، وإحياء السنة النبوية)(4)
10-أخلاق المقامات الاصطفائية:
__________
(1) الشعاعات: 600.
(2) صيقل الإسلام/الخطبة الشامية: 535.
(3) الكلمات: 643.
(4) صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 532.
(21/311)
أخلاق المقامات الاصطفائية: هي أخلاق النبوة العالية، الراجعة إلى أعلى مراتب التكريم الرباني، والاصطفاء الرحماني، من قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(آل عمران:33). وقوله سبحانه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(الحج:75). ولذلك وصف النورسي رحمه الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو (إمام المتقين، وحبيب رب العالمين (...) ومنبع العلم والحلم والحكم، المتحقق بأعلى رتب العبودية، والمتخلق بأخلاق المقامات الاصطفائية. الخليل الأعظم، والحبيب الأكرم، عليه أفضل الصلوات، وأزكى التحيات، وأنمى البركات، ما دامت الأرض والسموات!)(1).
11-الأخلاق النبوية السامية:
الأخلاق النبوية السامية: هي أخلاق الأنبياء عموما من حيث مهمتهم الرسالية، ووظائفهم الاجتماعية. قال رحمه الله: (فالقرآن الكريم إذ يحث البشرية صراحة على اتباع الأخلاق النبوية السامية، التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها؛ رمزاً إلى النظر إلى ما بين يديه من مهنة مقدسة، وطب رباني عظيم)(2). وقال أيضا: (فكذا الحال في الاقتصاد الذي هو من الأخلاق النبوية السامية، بل هو من المحاور التي يدور عليها نظام الحكمة الإلهية، المهيمن على الكون، لا علاقة له أبداً بالخسة، التي هي مزيج من السفالة والبخل والجشع والحرص! بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعاً، إلاّ ذلك التشابه الظاهري)(3).
12-الأخلاق الوحشية:
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 330.
(2) الكلمات: 281.
(3) اللمعات: 219.
(21/312)
الأخلاق الوحشية: هي أخلاق الجاهلية التي كانت عند العرب. قال بديع الزمان: (إن محمداً الهاشمي- صلى الله عليه وسلم - مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرة، وعدم ميله إلى تحكم وسلطنة؛ قد (...) غلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العادات والاخلاق الوحشية، المألوفة، الراسخة، المستمرة، الكثيرة. ثم غرس في موضعها (...) أخلاقاً عالية وعادات حسنة. وقد بدّل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة، بحسيات رقيقة، وأظهر جوهر إنسانيتهم، ثم أخرجهم من زوايا النسيان ورقي بهم إلى أوج المدنية، وصيّرهم معلمي عالمهم.)(1)
13-أسس الأخلاق:
أسس الأخلاق: هي أمهات الفضائل الإسلامية. كالإخلاص، والمروءة، والفضيلة، والمحبة، والتضحية...إلخ.
(والقرآن الكريم النازل رحمة للعالمين، لا يقبل إلاّ طرازاً من المدنية، التي تمنح السعادة للجميع أو الأكثرية. بينما المدنية الحاضرة قد أطلقت الأهواء والنوازع من عقالها. فالهوى حر طليق طلاقة البهائم، بل أصبح يستبد، والشهوة تتحكم (...) فدفعت المدنيةُ البشريةَ إلى ممارسة الخداع والانغماس في الحرام. ومن هنا فسدت أسس الأخلاق!)(2) وقال في موطن آخر: (وهكذا فإن كل "مدينة" هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها. فإن لم يكن "الإيمان بالآخرة" مسيطراً على أفراد هذه العائلة الكبيرة؛ فسيستولي عليهم الحقد، والمنافع الشخصية، والاحتيال، والأنانية، والتكلف، والرياء، والرشوة، والخداع؛ بدلاً من أسس الأخلاق الحميدة: التي هي الإخلاص، والمروءة، والفضيلة، والمحبة، والتضحية، ورضى الله، والثواب الأخروي؛ ولكانت معاني الإرهاب، والفوضى، والوحشية؛ حاكمة ومسيطرة، تحت اسم النظام والأمن!)(3).
14-التربية الأخلاقية:
__________
(1) صيقل الإسلام: 148. انظر مثله بالحرف تقريبا في: إشارات الإعجاز: 170.
(2) الكلمات: 856.
(3) الشعاعات: 283.
(21/313)
التربية الأخلاقية: هي تكوين الإنسان وإنشاؤه على مكارم الأخلاق القرآنية. قال بديع الزمان: (للوصول إلى مدى الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة؛ نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة!)(1)
15- جامع مكارم الأخلاق، أو الجامع لمكارم الأخلاق:
الجامع لمكارم الأخلاق: هو رسول الله محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم -.
قال بديع الزمان: (اللهم صلّ على جامع مكارم الأخلاق، ومظهر سر: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4))(2) وقال أيضا: (هو- صلى الله عليه وسلم - الجامع لمكارم الأخلاق!)(3).
16- المثل الأخلاقية:
المثل الأخلاقية: هي القيم النابعة من المقدسات؛ لبناء المجتمع الإنساني، التي بدونها تعم الفوضى والإرهاب!
(إن الفكر الاشتراكي (...) يدعو إلى تدمير قسم من المقدسات؛ فقد انقلب أخيراً إلى البلشفية، وقد نشرت البلشفية أيضاً بذور الإفساد؛ لتحطيم كثير من المقدسات، والمثل الأخلاقية والإنسانية، وستثمر تلك البذور حتماً حناظل الفوضوية، والإرهاب، التي لا تعرف حدوداً لشيء، ولا تقيم وزناً له!) (4)
خاتمة في أن الأخلاق مفتاح الإصلاح:
وبعد،
فإننا بهذا البحث المتواضع نستطيع الوصول - إن شاء الله - إلى نتيجة، فيما يتعلق بباب الخروج من الأزمة الراهنة، التي تكبل نهوض الأمة الإسلامية اليوم. وذلك أن الدارس لكليات رسائل النور، يمكن أن يثبت بسهولة؛ أن للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رأيا في الخلاف المشهور بين علماء الدعوة والإصلاح، في الفكر الإسلامي المعاصر، والذي مداره حول سؤالين إشكاليين، هما:
- طبيعة الأزمة ما هي؟
- ثم كيف الخروج منها؟
__________
(1) الكلمات: 144.
(2) اللمعات: 96.
(3) الكلمات: 741.
(4) الشعاعات: 116-117.
(21/314)
ومعلوم أن الأجوبة تضاربت في ذلك وتباينت، فمن داعية يرى أن الأزمة أزمة فكرية، إلى من يرى أنها أزمة روحية، أو ثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو عسكرية... إلى غير ذلك من الاجتهادات والتصورات. ثم يختلفون بعد الاختلاف الأول في باب الخروج منها: أهو العمل السياسي الحزبي؟ أم هو العمل الثقافي العلمي؟ أم هو العمل الروحي الصوفي؟ ... إلخ. وربما اتفقت أقوال بعضهم على توصيف معين للأزمة، لكنهم يختلفون في تحديد باب الخروج كيف؟
إن بديع الزمان يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأزمة اليوم أزمة أمانة! لكن ليس بالمعنى الفقهي للكلمة. بل هو بمعناها الكوني، الراجع إلى الوظيفة الوجودية للإنسان في القرآن، والتي هي عنوان الاستخلاف الرباني، في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)(الأحزاب:72). ثم إن هذا المفهوم الشمولي الذي أعطاه الأستاذ النورسي للأخلاق؛ جعله يعتبرها هي باب الخروج من الأزمة؛ صلاحا وإصلاحا. إذ بصلاحها ينهض الناس بالأمانة، وبفسادها يتمردون عليها ويخونونها. فهي غاية ووسيلة في الآن نفسه، وهي مادة التربية، وهي مقصدها.
ولقد ألغى الأستاذ النورسي العمل السياسي - بمعناه الضيق - من الاعتبار في العملية الإصلاحية، وجعله من الهوامش والتوابع، لا من المنطلقات والأصول، في المشروع التجديدي للدين، منطلقا في ذلك من الطبيعة التشريعية للإسلام من جهة، ومن فقه الواقع السياسي المعاصر، واعتبار المآلات الاجتماعية من جهة أخرى. قال رحمه الله: (إن نسبة الأخلاق والعبادة، وأمور الآخرة، والفضيلة؛ في الشريعة؛ هي تسع وتسعون بالمائة. بينما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحدة بالمائة!)(1)
__________
(1) صيقل الإسلام: 446.
(21/315)
وفي هذا نقد واضح وصريح للتصورات السياسية الجزئية، التي حجرت العمل الإسلامي في زاوية وَسَلِيَّة، لا تفضي إلى غاية كونية.
إن الأخلاق في كليات رسائل النور هي جوهر العمل الديني. فمن خلالها خاطب الأستاذ النورسي أجيال ما بعد جيله وزمانه، وضمن للتدين امتدادا في المستقبل، بل ضمن له انتصارا على كل منظومات العولمة في كل أشكالها وكل مقولاتها.
وما أسعدنا أن نختم بحثنا هذا بكلمة صدرت عنه رحمه الله، أطلقها نداء كونيا في أثير الوجود، فلم تزل تطن في أذن العالم إلى الأبد، قال: (يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من أيديكم ، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق، الفاسد؛ في إناء آخر! ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها، والتخلق بالأخلاق الفاضلة!)(1).
تلك بصيرته التي أبصرت مستقبلات الحياة ببصائر القرآن؛ فكانت رسائل النور تبصيرا لمن لم ير؛ عسى ألا يكون من العَمِين. يقول الحق جل وعلا: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104).
وكتبه عبد ربه، راجي عفوه وغفرانه، خادم رسائل النور بمكناسة الزيتون، من حواضر المغرب الأقصى: فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي. وكان تمام الفراغ من تبييضه وتصحيحه يوم: الاثنين 10صفر 1423هـ الموافق لـ 22 أبريل 2002م.
خاتمة
__________
(1) صيقل الإسلام: 467.
(21/316)
وبعد، فهذه دراسة مصطلحية لبعض مصطلحات رسائل النور، اعتبرناها من أهم المفاتيح المفهومية لمنظومة النورسي الفكرية والتربوية، على المستوى النفسي والاجتماعي. والقارئ لفصولها مُرَتَّبةً كما قدمناها بهذه الدراسة؛ يكتشف التسلسل المنهجي الذي اعتمده النورسي في إعادة تكوين الجيل المسلم، كما يكتشف المفاتيح المفهومية ذات المقاصد التربوية التي بها فتح الرجل قلوب الملايين من الأتراك وغيرهم، في زمن قياسي وجيز! وصنع بذلك نسيجا اجتماعيا متمسكا بدينه أشد ما يكون التمسك! على المستويين: الوجداني والفكري. بل أخرج للناس أمة تَستوعِب ولا تُستوعَب! وتنفتح ولا تُذَوَّب!
إن الدراسة المصطلحية قد كشفت لنا طبيعة ما يسمى في علم اللسانيات الحديثة (باللغة الواصفة). هذه اللغة التي عبارة عن جهازه المصطلحي، ونسقه المفهومي، الذي هو سر الولوج إلى عالم النورسي بأدق ما يكون الفهم السليم، لكليات رسائل النور؛ ومن ثَمَّ الإدراك السليم لمنهجية التعامل معها؛ استفادة واقتراضا في أي محاولة اجتهادية لإعادة تجديد أي نسيج اجتماعي على موازين الإسلام، في أي بلد من بلدان الإسلام. وجدير بأي داعية في هذا العصر أن يتأمل جيدا تجربة بديع الزمان وطبيعة رسائل النور التي هي العمود الفقري للحركة النورية في تركيا. ذلك أن النجاح الباهر الذي حققته في مجال بناء الإنسان المسلم، بخصائص خلقية وتعبدية نادرة في هذا العصر؛ جعلها رائدة بحق في ذلك.
(21/317)
لقد انطلق بديع الزمان في حركة تجديد الإيمان من مفهوم (التوحيد)، حيث عمل على تخليصه من الجفاء الفلسفي والجفاف الكلامي، ثم أعاد إليه مفهومه الأصيل في القرآن العظيم، ألا وهو الإخلاص! إذ جعل المسلم ينتظر بعين الشهود القلبي إلى (التوحيد الحقيقي) كما سماه ليحصل له ما بيناه في التعريف من (مشاهدة اليقين لانفراد ربوبيته تعالى، ووحدانية ألوهيته، في خاتمه المضروب على كل شيء)(1).
وجعل ذلك هو غاية الوجود البشري: التوحيد بما هو الطريق الحقيقي للتعرف إلى الله جلاله. حيث (الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانيته سبحانه، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في ألوهيته، ولا معين له في ربوبيته، ولا ند له في مُلْكِه، إيمانا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب؛ لرؤية آية قدرته، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء. فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه (...) ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي)(2).
__________
(1) انظر مصطلح (التوحيد) بالفصل الأول من هذا البحث.
(2) الكلمات: 1/326.
(21/318)
تلك غاية الدين، ولذلك كانت من أهم المفاهيم التي اشتغل بديع الزمان برسمها في الفكر والوجدان وتجديد مضمونها بما يرجعها إلى المفهوم القرآني النظيف. ولذلك فقد اعتمد على قنوات اصطلاحية أخرى ضرورية لبناء مشروعه على هذه الغاية وهي مصطلح الإنسان ومصطلح القرآن ثم مصطلح الكون. فأما مصطلح (الإنسان) فقد أعاد بناء مفهومه بما يجعله (فهرست الكون) وخلاصته المركزة؛ مما يرفع من مستوى الاستعداد النفسي لدى المتلقي؛ لتقبل الرسالة الإلهية والانخراط الكلي فيها! وأما مصطلح الكون فقد قدمه بما هو مجال للإنسان يصرف فيه الأمانة التي أنيطت به. إذ لم يكن الإنسان إلا خلاصة الكون، ولم يكن الكون إلا (شجرة الخلق الكلية، وكتاب الله المنظور، المنعكس عن الأسماء الحسنى) كما تبين في جانب من تعريفه بمتن هذه الدراسة. فكان ارتباط الإنسان بالكون كارتباط الثمرة بشجرتها. كل عناصر التواصل والاتصال بين الثمرة وبين مصدر الإمداد من الماء والغذاء يكون عبر أغصان الشجرة وعروقها. فكان الكون بذلك للإنسان هو مجال السلوك التعبدي إلى الله جل جلاله. وهو معنى التسخير المذكور في غير ما موطن من كتاب الله نحو قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.)(لقمان:20).
(21/319)
وأما مصطلح القرآن فقد قصد النورسي أن يعرضه في مفهوم وجداني تعبدي بعيد عن حدود المناطقة وعلماء الكلام، ومختلف عن رسوم أهل علوم التفسير والقرآن، القائمة على قصد حفظ النص من الضياع أو الاختلاط بغيره. بل عرضه على أساس غايته ومقاصده الرسالية؛ وذلك بغرض إحياء الوجدان الإنساني باعتباره مخاطَبا إلهيا! فالله هو خالق الكون والإنسان هو خلاصة ذلك الخلق، ومنت حق الخالق على المخلوق أن يرجع عليه بالعبادة والتوحيد والتفريد؛ ولذلك كان من الله جل جلاله هذا الخطاب رسالة منه إلى الإنسان يحمل كل التعريفات المتعلقة بقصة الكون خلقا وتقديرا وتدبيرا، وبما للإنسان فيه من وظيفة كونية كبرى! ومن هنا فقد قدم بديع الزمان لهذا الإنسان (مفهوم القرآن) – كما هو في حقيقته الغائية - أي باعتباره نص الخطاب، ومتن الرسالة!
وبالاستجابة الإنسانية لذلك يتحلى الإنسان بصفة (الانتساب الإيماني) الذي يشعره بقيمته الوجودية ووظيفته التعبدية. وهو مصطلح درسناه بعد ذلك لبيان الفرق بين الكفر والإيمان كما عرضه النورسي رحمه الله. ثم كان تتميم ذلك كله بدراسة مصطلح الأخلاق من حيث هو ثمرة ذلك (الانتساب)، ونتيجة ذلك الاستناد. ذلك أن دخول الإنسان باب المعراج القرآني في سلوكه إلى الله يثمر صافت العبد السالك التي هي الأخلاق؛ ومن هنا قدمها بديع الزمان النورسي على أنها (نظام القرآن الذي يطبع صورة الروح الإنسانية بماهيتها، ويسلك بها مدارج التربية والمجاهدة؛ لاكتساب معناها الكوني) كما بينا تعريفها بمحله(1). وذلك هو خلاصة الشمائل المحمدية التي عرضتها أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق بقولها الجامع المانع؛ لما سئلت عن خلقه- صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان خلقه القرآن!)(2)
__________
(1) انظر مصطلح (الأخلاق) بالفصل السادس.
(2) رواه مسلم.
(21/320)
إن الدراسة المصطلحية لكليات رسائل النور – ولو بهذا القدر البسيط الذي قدمنا - قد كشفت بالفعل عن عبقرية بديع الزمان النورسي رحمه الله وبينت بحق أي رجل كان! إذ لا يكاد يخلو لفظ من اصطلاحاته - كما رأيت – من عمق في النظر، وتجديد في الفكر، وتأصيل مجدد للمفهوم؛ ومن هنا خطورة التسرع في الحكم على مصطلحاته لمجرد التطابق اللفظي بينها وبين من سبقوه من هؤلاء أو أولئك! بل تبين أنه لا بد من التأني والبحث الاستقرائي الهادف إلى الجمع والمنع لكل مقاصده من المصطلح المعني، ثم تبين حقيقة الكلام بعد ذلك؛ بناء على المنهج الوصفي المعتمد في الدراسة المصطلحية.
وذلك هو تمام ما حاولناه في هذه الدراسة المصطلحية. والله الهادي إلى الحق وهو المعين عليه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما ورضي عن أصحابه الميامين أجمعين، وعن أتباعهم الصالحين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكان توقيع ختمه بمدينة استنبول/حي الفاتح، مساء يوم الأحد من شهر جمادى الأولى: 1424هـ. الموافق لـ: 27/07/2003.
ــــــــــــــانتهى بحمد الله وتوفيقه.
لائحة المصادر والمراجع
1- مصادر أساسية:
– القرآن الكريم
- صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. شرح وتحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي. دار القلم بيروت. ط. الأولى: 1407هـ/1987م.
- صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الحديث بالقاهرة. ط. الأولى: 1412هـ/1991م.
صحيح الجامع الصغير وزياداته للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي بيروت / دمشق. ط. الثالثة: 1408هـ/1988.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني. نشر دار المعرفة بيروت: 1379هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.
- القاموس المحيط للإمام مجد الدين الفيروزأبادي. نشر دار الجيل بيروت.
(21/321)
– كليات رسائل النور تأليف بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة إحسان قاسم الصالحي، نشر دار ( سوزلر ) للنشر، فرع القاهرة ط 2 بمصر 1412 هـ/ الموافق 1992 م.
الجزء الأول : الكلمات
" الثاني : المكتوبات
" الثالث : اللمعات .
" الرابع : الشعاعات
" الخامس: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز.
" السادس : المثنوي العربي النوري .
" السابع : الملاحق في فقه دعوة النور .
" الثامن : صيقل الإسلام، آثار سعيد القديم .
" التاسع : سيرة ذاتية .
لسان العرب لجمال الدين محمد بن منظور، دار صادر بيروت بلا تاريخ.
مختار الصحاح لأبي بكر الرازي طبعة المكتبة الأموية بيروت: 1391هـ
- معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، ط. الأولى:1411 هـ/ 1991 م.
المفردات في غريب القرآن. تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد، المعروف بالراغب الأصفهاني. تحقيق محمد سيد كيلاني. طبع شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر:1381هـ/1961م.
2- مراجع عامة:
- أفلاطون سيرته وفلسفته إعداد أحمد شمس الدين. نشر دار الكتب العلمية بيروت. ط. الأولى: 1411هـ/1990م.
- تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور محمد علي أبي ريان. دار النهضة العربية بيروت. ط. الثانية:1973م.
- توماس الأكويني الفيلسوف المثالي في العصور الوسطى. تأليف الشيخ كامل محمد عويضة. نشر دار الكتب العلمية بيرزت. ط. الأولى: 1413هـ/1993م.
- حكمة الغرب تأليف برتراند رسل. ترجمة الدكتور فؤاد زكريا. سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت. العدد: 72 صفر/ربيع الأول:1404هـ. 1983م.
عمانويل كانط شيخ الفلسفة في العصر الحديث تأليف الشيخ كامل محمد عويضة. نشر دار الكتب العلمية بيرزت. ط. الأولى:1413هـ/1993م.
قاموس اللسانيات للدكتور عبد السلام المسدي، نشر الدار العربية للكتاب.
(21/322)
المصطلح الأصولي عند الشاطبي للدكتور فريد الأنصاري، نشر معهد الدراسات المصطلحية بفاس، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. ط. الأولى: 2004.
مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين للدكتور الشاهد البوشيخي. نشر دار القلم، باريس. ط. الأولى: 1414هـ/1993م. مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.
منهج المعجمية لجورج ماطوري، ترجمة الدكتور عبد العلي الودغيري، منشورات كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط. ط. الأولى: 1993م, مطبعة المعارف بالرباط.
(21/323)