ج - الهدف والمقصد :
استعمل بديع الزمان الهدف بمعاني مختلفة، فجعله في مقام بمعنى القصد(1)، ويُرى أيضا ذلك الاستعمال في سياق التعليق على بعض الأحداث حيث يقول:" عندما نادى من كانوا يجودون بأرواحهم للإسلام من أصحاب الهمم بالدعوة إلى المشروطية(2)، والذين كانوا يعتقدون أنّ نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجّهين لهم للتوجه إلى القبلة في صلاة العدالة طالبين إعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وإبقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما أن نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الأمور الفرعية إذا ببعض مَن لا يميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم أنّ الشريعة تشدّ أزر الاستبداد - حاشاها - فقلّدوا كالببغاء منادين: "بأنّا نطالب بالشريعة " فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصد الحقيقي، وانجر الوضع إلى ما رأيتم. ومعلوم أنّ الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر إلى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحمية على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار "(3).
__________
(1) - صيقل الإسلام 27
(2) - النظام الدستوري.
(3) - صيقل الإسلام 406(15/17)
يلاحظ في هذا السياق توظيف الهدف بمعنى القصد الحقيقي، كأنّه يجعل للمصطلحين حقيقة واحدة، ووظّف في مقام آخر بمعنى الهدف الجزئي الذي يعدّ شرطا رئيسا في تحقيق الهدف الكلي أو الأصلي، يستشف هذا المعنى من قوله:"إنّ أسمى جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين، فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. إذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الإتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف. ألاَ أن الجنود هم المراكز، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود. إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلاّ لجعل الأمة جنوداً في المحبة والأخوة. أما الإتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، إذ مركزه وصفّه الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون."(1)
د - النتيجة والمقصد:
تمثّل النتيجة باعتبار المآل مقصدا جزئيا، ولكنّه يمكن أن يكون مقصدا كليا، إلاّ أنّ الخلوص إلى النتيجة الصحيحة يقتضي وجود مقدّمات من وزنها وقيمتها، بشرط أن تكون المقدمات أوضح من النتيجة نفسها، وتكون صلتها بها واضحة جلية، وإلاّ امتنع أن تكون دالة عليها.
وبهذا الصدد ترى أنّ رسائل النور استعملت النظر في الموجودات مقصدا جزئيا لنيل جلّ المقاصد الأصلية(التوحيد، النبوة، الحشر، العدالة)، وقد استفادت الرسائل ذلك التوظيف من استعمالات القرآن الكريم، منها تأكيد بديع الزمان على أنّ القرآن الكريم يبحث في الكائنات استطرادا (وهذا مقصد فرعي وليس مقصدا أصليا) للاستدلال على ذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى (مقصد أصلي)... وعلى هذا يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، ومن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور(2).
__________
(1) - سيرة ذاتية 107
(2) - انظر الكلمات 266، المكتوبات 269(15/18)
والنتيجة باعتبارها مقصد مآل التصرّف والاختيار، اعتبر بديع الزمان التنبيه إليها من الوسائل المقنعة بجدوى التصرّفات المختارة أو عدم جدواها، لهذا يمكن اعتباره تنبيها بالمقصد المعبّر عنه في هذا السياق بالنتيجة، كأنّه يقول ناصحا المسلم، إذا أردت اكتشاف جدوى أفعالك فتساءل عن النتيجة المنتظرة منها، فإن وجدتها طيّبة حسنة أقبلت، وإن وجدت غير ذلك أدبرت، يقول بديع الزمان سعيد النورسي:" إذا أردت أن تنبّه المخاطب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجه لطيف مقنع لابد أن تستفهم ليتوجه ذهنُه إلى فعله فينتقل منه إلى النتيجة فيطمئن.. "(1)، وقد عبّر عنها في مقام آخر بالربط بين النتيجة والمقدّمة(2).
ونظرا للصلة الموضوعية بين المقدّمة والنتيجة، نبّه النورسي إلى ذلك في قوله: "وجود الثمرة قطعي ويقين كقطعية ويقين وجود الغصن.. ووجود النتيجة يقين كيقين وجود السلسلة.. ووجود المخزن يقين كيقين وجود المحاصيل.. ووجود الحوض يقين كيقين وجود النهر.. ووجود موضع التجلي يقين كيقين وجود الرحمة والقهر."(3)، إنّها علاقة لزوم المقدّمة للنتيجة.
__________
(1) - إشارات الإعجاز 76
(2) - إشارات الإعجاز 228
(3) - المكتوبات 12(15/19)
حتى غدت العلاقة بين النتيجة والمقدّمة مترابطة لا تقع اعتباطا، ولم تحدث لغير ما مغزى، ويتيقّن بأنّ كل شيء حدث له وكأنّه كان ينبغي أن يحدث على الشكل الذي حدث به وبالطريقة عينها التي حدث بها، وأنّه النتيجة المتوقعة لسلسلة من المقدمات التي سبقته فلا تقبل نتيجة سواها، فالأحداث أو الأقدار - تأنيساً لبني البشر - لا تأتي مغايرة لمن تقع لهم، بل تأتي شبيهة بهم وبأعمالهم، وبما ينطوي عليه كيانهم البشري من أصول البطولة أو الخسّة، ومن جذور النقاء أو الدنس. وصدق الله العظيم حيث يقول: { قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ } (الإسراء: 84) فعلى شاكلة هذه الأعمال، وبسببها وعلى قدْرِها يقع القدر، وينفذ القضاء."(1)
يستشف مما سلف تقريره أن النتيجة في سياقات كثيرة من رسائل النور ترد بمعنى المقصد، فعبّرت أحيانا عن المقصد الكلي ولكنّها في الغالب تعبّر عن المقاصد الفرعية أو الجزئية، إلا أنّها في الغالب تكون من طبيعة تربوية منهجية بالدرجة الأولى، أكثر مما تتناول بالعرض تفاصيل متعلّقة بمسألة اجتماعية معيّنة، أي يركّز عرضها على الجوانب المنهجية ذات البعد التربوي أكثر من عرض قضايا اجتماعية فرعية، وإن عرضها أحيانا في مثل تلك السياقات فهي استثناء وليست قاعدة عامة.
عرض المقصد الكلي(2)بعنوان النتيجة في مثل قوله:" إنّ الحقائق الاثنتي عشرة السابقة يؤيّد بعضها البعض الآخر، وتكمل إحداها الأخرى وتسندها وتدعمها، فتتبيّن النتيجة من مجموعها واتحادها معاً. فأيّ وَهْم يمكنه أن ينفذ من هذه الأسوار الاثني عشر الحديد، بل الألماس المنيعة ليزعزع الإيمان بالحشر المحصّن بالحصن الحصين"(3).
ه- - الحكمة والمقصد:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 21
(2) - كلي بحكم اندراج جزئيات فرعية خلص إلى تقعيدها باستقراء وتتبّع الجزئيات في سياق ظهورها.
(3) - الكلمات 98(15/20)
يذكر النورسي أنّه يتراءى من الحكمة القصد، كأنّها قصد المقصد، "نعم، إنّ حُلّة "الحكمة" التي يتراءى منها القصد والشعور والإرادة قد أسبغت على الكون كلّه وجُلّلت كل جوانبه. وخُلعَتْ على حلة الحكمة هذه حلّةُ "العناية" التي تشف عن اللّطف والتزيين والتحسين والإحسان، وعلى هذه الحلة القشيبة للعناية ألقيت حلّةُ "الرحمة" التي يتألق منها بريق التودّد والتعرف والإنعام والإكرام وهي تغمر الكون كلّه وتضمه. وصفَّت على هذه الحلّة المنوّرة للرحمة العامة"(1).
ووُظّفت الحكمة في رسائل النور بوصفها طريقا إلى اكتشاف المقاصد" نعم، إنّ هذه الموجودات، ابتداءً من الذرات إلى الشموس، سواءً أكانت أفراداً أم أنواعاً وسواءً أكانت صغيرة أم كبيرة، قد ألبست ثوباً رائعاً جداً، نُسج هذا الثوب من قماش "الحكمة" المزيّن بنقوش الثمرات والنتائج والغايات والفوائد والمصالح.. وأكسيت بحلّةِ "العناية" المطرزة بأزاهير اللطف والإحسان قدّت وفصلت حسب قامة كلّ شيء ومقاس كل موجود.. وعلى حلّة العناية هذه قُلّدت شارات "الرحمة" الساطعة ببريق التودّد والتكرّم والتحنّن، والمتلألئة بلمعات الإنعام والأفضال... وعلى تلك الشارات المرصّعة المنوّرة نُصبت مائدةُ "الرزق" العام على امتداد سطح الأرض بما يكفي جميع طوائف ذوي الحياة وبما يفي سد جميع حاجاتهم."(2)، فكان القصد من رؤية الحكمة اكتشاف قصد واضعها في أصل وضعها.
وقد استعملت الحكمة دليلا على قصد الحكيم وهي برهان ساطع على أصول المقاصد وفروعها، بحسب زاوية النظر، "فالنظر في الكون يشير إشارة واضحة إلى حكيم مطلق الحكمة، وكريم مطلق الكرم، ورحيم مطلق الرحمة، ورزاق مطلق الرزق."(3) وما أسماء الله الحسنى إلا تعبيراً عن قصود في الأسماء والأفعال المتجلية عنها في حياة الإنسان المادية والمعنوية.
__________
(1) - الكلمات 338
(2) - الكلمات 339
(3) - الكلمات 339(15/21)
يعبّر عن بعض المقاصد الجزئية بالحكمة المتجلية في بعض مظاهر تجليات الأسماء الحسنى، كالتجليات المستفادة من اسم"الجواد"، " ففي تعدد الغايات هذا يكمن سر التوفيق بين "الحكمة والجود" أي بين " الاقتصاد والسخاء المطلقين" اللذين يبدوان كالضدين والنقيضين. وتوضيح ذلك:إذا لوحظت غاية بمفردها فإنّ الجود والسخاء يسودان آنذاك، ويتجلى اسم "الجواد"، فالثمار والحبوب حسب تلك الغاية المفردة الملحوظة لا تعد ولا تحصى. أي أنّها تفيد جوداً مطلقاً وسخاء لا حصر له. أما إذا لوحظت الغايات كلّها فإنّ الحكمة هي التي تظهر وتهيمن، ويتجلى اسم "الحكيم". فتكون الحِكَم والغايات المتوخاة من ثمرة لشجرة واحدة بعدد ثمار تلك الشجرة، فتتوزع هذه الغايات على الأقسام الثلاثة التي سبق ذكرها، فهذه الغايات( المقاصد ) العامة تشير إلى حكمة غير نهائية، واقتصاد غير محدد، فتجتمع الحكمة المطلقة مع الجود المطلق اللذان يبدوان كالضدين"(1).
كما تُعبّر أحيانا عن المقاصد الخفية المستفادة بطريق التأمّل، مثال ذلك:"إن إحدى الغايات من الجيش هي المحافظة على الأمن والنظام، فإذا نظرت إلى الجيش بهذا المنظار فسترى أنّ هناك عدداً فوق المطلوب منه. أمّا إذا نظرنا إليه مع أخذنا الغايات الأخرى بنظر الاعتبار كحفظ الحدود، ومجاهدة الأعداء وغيرها، عند ذلك نرى أنّ العدد يكاد يفي بالحد المطلوب.. فهو إذن توازن دقيق بميزان الحكمة. إذ تجتمع "حكمة" الحكومة مع "عظمتها". وهكذا يمكن القول في هذه الحالة: أنّ الجيش ليس فوق الحد المطلوب"(2)
__________
(1) - الكلمات 79
(2) - الكلمات 79(15/22)
ولو نظر إلى الحكمة من زاوية الوظيفة التربوية العامة لكانت مقصودة في سياق آثارها المتجلية في الأفعال الإلهية في الكون، ولكانت بهذه الصفة مقصدا أساسيا من مقاصد الله في أفعاله الكونية، يرى هذا المعنى في تأكيد بديع الزمان على مقتضيات الحكمة الإلهية في الكون، من نحو قوله:"إنّ الحكمة الإلهية وحاكميتها، التي لا تهمل أصغر مخلوق دون أجر، أو دون كمال، أو دون مقام، لما يقوم به من وظيفة، كيف تهمل مأموريها ومستخدميها الكثيرين جداً، الذرات.. دون نور، أو دون أجر."(1)، كما يتجلّى المعنى ذاته في قوله:" ولأجل تدريس مثل هذا الكتاب وتعليمه تعليماً كلياً وشاملاً جميع حقائقه، تقتضي الحكمة سيراً وسلوكاً في غاية السمو والرفعة."(2)
و - الفائدة والمقصد:
__________
(1) - انظر الكلمات661 663، 684
(2) - الكلمات 688(15/23)
استعملت رسائل النور الفائدة بمعنى المقصد في كثير من الأحيان، واستعملتها أيضا بمعنى الغاية المرحلية التي يتوخّى بلوغها بأعمال منجزة من طبيعة خاصة أو نوع خاص، كأنّها تكوّن دافع التوجّه إلى الفعل، وهي بهذه الصفة بمثابة مقاصد مرحلية تمثّل قوّة دفع لإنجاز عمل مخصوص متعلّق بها تعلّقا مباشرا، يتّضح الأمر بالمثال الآتي: "رأيت عدداً من الأشخاص - من أهل التقوى - يرغبون في الدين ويحبون أن يقيموا أوامره كي يوفقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم. حتى أنّ منهم من يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات. بمعنى أنّه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تكئة ومرتبة سلّم للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يعلم هذا أنّ الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدها الدنيوية إلاّ مرجّحة ومشوّقة( أي تكوّن دافعا جزئيا ومقصدا مرحليا) إلا أنّها لو ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لعمل البر، فإنها تبطله، وفي الأقل يفسد إخلاصه، ويذهب ثوابه. وقد ثبت بالتجربة أنّ أفضل منقذ من ظلم هذا العصر المريض الغادر المشئوم ومن ظلماته الدامسة، هو النور الذي تشعه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السديدة.يشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد."(1).
لهذا يجب أن تنزل تلك المقاصد ( العرضية ) الجزئية المعبّر عنها بالفوائد منزلتها الحقيقية، وأن لا نجاوز بها طورها، لأنّنا إن تجاوزنا بها ذلك، أفضت إلى تعطيل نتائجها السننية، بل ونسف المقاصد الأصلية، مما سيؤثّر على تلك المقاصد الجزئية( الفوائد) في قابل الأيام.
2 - رتب المقاصد وطرق التعبير عنها في رسائل النور
__________
(1) - سيرة ذاتية 309(15/24)
تعدّدت وتنوّعت رتب مقاصد رسائل النور، وينظر إليها باعتبارات مختلفة، فهي باعتبار المضمون كلية وفرعية (جزئية) أو ما يدور في فلكهما كالأصلية والمقصد العالي، ومقصد المقاصد والمقصد الحقيقي ...كما يطلق مقابلها على مقاصد جزئية متعلّقة بقضايا ومسائل جزئية تفهم في سياقها الذي ذكرت فيه، وهي باعتبار المقصد في المخاطب، ظاهرية أو باطنية أو جامعة بينهما، وإضافة إلى ما سلف يمكن أن ينظر إليها - من زاوية وظيفية صرف - باعتبار مصدرها والأصل في وضعها، فيقال مقاصد إلهية ذلك أنّها إلهية في أصل وضعها، إلا أنّ الضرورات المنهجية تنبّه إلى المقاصد الإنسانية والمقاصد في عالم النبات وعالم الجماد ...بل وفي كلّ شيء في الكون، والتنبيه إليها لا باعتبارها مناقضة أو مزاحمة للمقاصد الإلهية بل باعتبارها وجها من وجوه بيان مقاصد الله في الإنسان، فهي أشبه بالتوضيح للمقاصد الإلهية المتجلية في الإنسان.
أ - مختلف مستويات المقاصد:
استعمل بديع الزمان النورسي في التعبير عن المقاصد أساليب مختلفة، تعبّر بمجموعها عن رتب المقاصد في رسائل النور، نقتصر في هذا المقام على ما صرّح به في الرسائل.
- المقاصد الإلهية:(15/25)
استعمل بديع الزمان مصطلح المقاصد الإلهية تعبيرا عما لاح له من تجليات الغايات الربانية من خلق الكون في عناصره المادية والمعنوية، استشف ذلك الأمر من القرآن الكريم أهم مصدر للحقائق الإيمانية والكونية، تلك الحقائق التي يخلص إلى اكتشاف حقيقتها كل عاقل، بل جميع أرباب العقول، بما يلقّنه القرآن الكريم من دروس مقدسة سامية وإرشادات حكيمة.. وليبيّن بأجمل صورة وأجلاها المقاصد الإلهية بالقرآن العظيم، حيث بيّن أنّ للصانع "الحَكَم الحكيم".. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمها مظاهر الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فإنسانٌ هذه مهمته، إنسان ضروري وجوده ( أي يمثّل مقصدا أساسيا في الكون)، بل يستلزمه هذا الكون، كضرورة الشمس ولزومها له".(1)
وفي سياق الحديث عن تلك المقاصد اعتبر الإنسان أعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، "وقد جعله الخالق الحكيم مؤهّلا لإدراك الخطاب الرباني، واختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الإنسان المكرّم مَن هو أكمل وأفضل وأعظم إنسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الإنساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً".(2)
__________
(1) - اللمعات 537
(2) - اللمعات 555(15/26)
ووظّف العنوان نفسه في سياقات مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: "إنّ هذا الكون مثلما يدلّ على صانعه، وكاتبه، ومصوّره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرّف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنّه قصر باذخ، أو كأنّه كتاب كبير، أو كأنّه معرض بديع، أو كأنّه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويعلِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات، أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، وأستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً. ... فالكون - من حيث هذا الاقتضاء - يدل ويشهد على صدق هذا النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1)
ويظهر أنّ بديع الزمان عبّر عن الرتب بأساليب وألفاظ متنوّعة، تحمل في عباراتها الدليل على مستويات مختلفة من المقاصد، منها على سبيل المثال لا الحصر، المقصد الحقيقي، مقصد المقاصد، المقاصد الكلية ومقابلها المقاصد الجزئية ....
- المقصد الحقيقي:
استعمل بديع الزمان رتبة المقصد الحقيقي بمعنى مقصد المقاصد، صرّح بهذا المعنى في سياق تعليقه على الشرور والقبائح الجزئية المبثوثة في الكون، فيقول:"وأمثال هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار أنواع الخير والجمال الكلّيين، وهكذا يثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الأساسية في الخلق إنّما هو :الخير والحسن والكمال، لذا فالإنسان الذي لوّث وجه الأرض بكفره الظالم وعصيانه الله لا يمكن أن يفلت من العقاب، ويذهب إلى العدم من دون أن يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون. بل سيدخل سجن جهنم" (2)
__________
(1) - المكتوبات 284
(2) - صيقل الإسلام 502(15/27)
يؤكّد مضمون المصطلح "المقصد الحقيقي" البُعد الإنساني لرسائل النور، إذ لخّص الأستاذ المقصد الحقيقي في الكون والغاية الأساسية في الخلق بأسلوب واضح بيّن، أكّده حصرا في الخير والحسن والكمال، سواء تعلّق الأمر بتذكير المؤمن تحبيبا أو ترهيب الكافر تنفيرا له عما هو عليه من تصوّرات خاطئة وتصرّفات طائشة.
- مقصد المقاصد:
استعمل في سياق آخر ما يقرب من المعنى السابق، وسماه مقصد المقاصد مبيّنا فيها الغايات النهائية والمقاصد الكبرى، يشهد لهذا الاستعمال قوله:" إنّ الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو :أنّ المقاصد القادمة من أبعد هدف وأعلاه - وهو مقصد المقاصد - يرتبط بعضها ببعض، ويكمل أحدها نقصان الآخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأنّ وضع هذا في موضعه يمكّن الآخر في مكانه، ويقرّ الآخر في مستقره.. وهكذا كلٌ يأخذ محله الملائم له، فتنصب تلك المقاصد في قصر الكلام المشيد بملاحظة نسب يمين هذا وشماله وكل جهاته. وكأن المتكلم استعار عقولاً إلى عقله للتعاون، وغدا كل مقصد من تلك المقاصد جزءاً تشترك فيه التصاوير المتداخلة، بمثل ما إذا وضع رسام نقطة سوداء في صور متداخلة، فإنها تكون عين هذا ومنخر ذاك وفم هذا وشامة ذلك.. وهكذا ففي الكلام الرفيع نقاط أمثال هذه ..(1)
- المقصد العالي:
أورد الأستاذ في مقام آخر استعمالا مميّزا يكاد يكون فريدا في السياق العام لرسائل النور، فقد استعمل مصطلح المقصد العالي، ومن مضامين ذلك المقصد النبيل التأكيد على أنّ أفضل خصالنا ومقتضى ديننا هو أن نقول بروحنا وجسدنا ووجداننا وفكرنا وبكل قوانا: "إن متنا، فأمتنا الإسلامية حية، وهي باقية خالدة فلتحيا أمتنا ولتسلم، وحسبنا الثواب الأخروي، فإنّ حياتنا المعنوية التي في حياة الأمة تحيينا وتعيّشنا، وتجعلنا في نشوة ولذة في العالم العلوي، فينبغي أن نجعل الدساتير النورانية للنور والحميّة لنا دستوراً ..
__________
(1) - صيقل الإسلام110(15/28)
يتطلّب هذا المسلك أن نحفر بالفكر الديني الإسلامي في جوف الأمة حوضاً للمعرفة والمحبّة - كحوض الكوثر – ونسدّ بالمعارف والعلوم ثغرات تحتها يسيل منها الماء، ونفتح بالفضيلة الإسلامية المسائل التي تصب الماء فيه. هناك نبع كبير ضائع أسيء استعماله إلى يومنا هذا فجرى في الأرض السبخة الرملية فما أدّى إلاّ إلى ترعرع متسوّلين عجزة.. فشيّدوا مجرىً جميلاً له وصُبوا الماء بالمساعي الشرعية إلى ذلك الحوض ثم سقوا بستان كمالاتكم به، فهذا نبعٌ لا ينضب ولا ينفد أبداً"(1).
يفرض تبني المقصد العالي التركيز على خدمة الأمّة لا الأفراد، فينبغي التأكيد على أنّ الإحسان إنّما يكون إحساناً حقاً إن كان للأسرة الإنسانية أي للنوع أو للمحتاج أو الفقير، وعنده يكون السخاء سخاءً حقاً، وإذا كان السخاء لأجل الأمة، أو للفرد الذي تعد خدمته خدمة الأمة، فهو سخاء جميل، ولكن إن كان لغير المحتاج يعوّده الكسل والتسوّل والخلاصة: إن الأمة باقية، بينما الفرد فانٍ.
خدمة الأمّة إذاً مقصد أعلى من خدمة الأفراد، من ثمّ كانت خدمة الأمة خدمة للأفراد ولا عكس، لهذا ختم الأستاذ كلامه، بالتأكيد على أنّ هذا الزمان أكّد بدوره وكشف بما لا يدع مجالا للشك احتياج الملّية وفتح الباب لهذا المقصد العالي.(2)
وتعبّر مصطلحات المقصد العالي والمقصد الأصلي والمقصد الكلي عن وجه من وجوه مقاصد القرآن الكريم، والتي سمّاها بديع الزمان بالمقاصد الأساسية للقرآن الكريم.
ب - المقاصد الكلية والجزئية
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 416
(2) - انظر صيقل الإسلام 415 - 420(15/29)
أول مظاهر تبويب النورسي للمقاصد تقسيمها إلى مقاصد كلية ومقاصد جزئية، وقد ذكرها في أكثر من موضع، عرضها في مقام بيان المقاصد الكلية في القرآن الكريم، يشهد لهذا الاستعمال قوله:" اعلم أنّ في ختم الآيات في الأغلب بفذلكات متضمّنة للأسماء الحسنى، أو بعينها، أو متضمنة للأمر بالتفكّر والحوالة على العقل، أو متضمنة لأمر كلي من المقاصد القرآنية، شرارات من نور حكمته العلوية ورشّات من ماء هدايته الإلهية، إذ القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي، يبسط الآثار وأفعال الصانع للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، أو ثبوت الحشر، أو التوحيد"(1)
ويصرّح في سياق آخر بهذه المعاني، فيتّخذ من الإنسان مثالا لتوضيحها، إذ في الإنسان من المطالب الدقيقة الجزئية والخفية جداً تخص راحة قلبه وسلامته، وله أيضاً من المقاصد الكلية المحيطة ما هو مدار لبقاء روحه وسعادتها، بحيث لا يمكن أن يحقّقها له إلاّ من يبصر ما لا يُرى من أرق حجب القلب ويهتم بها ويسمع ما لا يُسمع من أخفى الأصوات ويستجيب لها، ومن له القدرة على تسخير السموات والأرض في وظائف جليلة كتسخير الجندي المنقاد للأوامر. وكذا فإنّ جميع أجهزة الإنسان ومشاعره تأخذ مكانة رفيعة بسر التوحيد، في حين تسقط إلى هاوية سحيقة بالكفر والشرك.(2)
جليّ مما سبق بيانه أنّ الأستاذ يوظّف المصطلحين، فيذكر مقاصد كلية تندرج فيها مقاصد جزئية، تتعلّق بمسائل تندرج في الإطار الكلي المشار إليه أعلاه.
ج - المقصد الأصلي والمقصد التبعي
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 458
(2) - انظر الشعاعات19(15/30)
ويقسّم المقاصد في سياق آخر إلى مقاصد أصلية ومقاصد فرعية، يربطهما رباط التكاتف تحقيقا للغايات الجزئية والكلية، وقد ذكر ذلك التقسيم حين الحديث عن مقاصد القرآن الكريم، يشهد لهذا الاستعمال قوله رحمه الله:" اعلم! أنّ المقصد الأصليّ في القرآن الكريم إرشادُ الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن الكريم إنّما هو تبعيّ واستطراديّ للاستدلال، إذ ما نزل القرآن لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا، بل إنّما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنظام البديع على النظّام الحقيقي جلّ جلاله. والحال أنّ أثر الصنعة والعمد والنظام يتراءى في كل شيء. وكيف كان التشكل فلا علينا، إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي، فحينئذ مادام أنّه يبحث عنها للاستدلال، ومادام أنّه يجب كونه معلوما قبل المدعى، ومادام أنّه يستحسن وضوح الدليل.. كيف لا يقتضي الإرشادُ والبلاغةُ تأنيسَ معتقداتهم الحسية، ومماشاة معلوماتهم الأدبية بإمالة بعض ظواهر النصوص، إليها، لا ليدلّ عليها بل من قبيل الكنايات أو مستتبعات التراكيب مع وضع قرائن وأمارات تشير إلى الحقيقة لأهل التحقيق."(1)
واستعمل مصطلح المقصد الأصلي في سياق آخر، أشار فيه إلى أنّ ذكر الكائنات في القرآن الكريم تبعي واستطرادي بمعنى ليس مقصدا أصليا بل مقصدا تبعيا، يؤكّد هذا المعني قوله:" إنّ المقصد الأصلي للشارع الحكيم من إرشاد الجمهور محصور في إثبات الصانع الواحد والنبوة والحشر والعدالة. لذا فذكر الكائنات في القرآن إنّما هو تبعي واستطرادي، للاستدلال.أي الاستدلال بالنّظام البديع في الصنعة - الظاهرة لإفهام الجمهور - على المنظّم الحقيقي جلّ جلاله. والحال أنّ أثر الصنعة ونظامها يتراءى في كل شيء. وكيف كان التشكّل فلا علينا إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي."(2)
__________
(1) - إشارات الإعجاز 77
(2) - صيقل الإسلام 155(15/31)
وقد عبّر عن المقصد الأصلي في سياق آخر بالغرض الأصلي، كإشارته إلى الغرض الأصلي المستفاد من تحديد المقصد(1).
ويقابل المقصد الأصلي في الاستعمال المقصد التبعي، وفق ما صرّح به الأستاذ في النص المذكور سابقا، ومعلوم أنّ المقاصد التبعية تخدم المقاصد الأصلية وتنخرط في سلك خدمتها توضيحا وتحقيقا، إذ لا يتصوّر تحقق المقاصد الأصلية بغير تحقق المقاصد التبعية، فالصلة بينهما عضوية.
ثانيا: صيغة عرض المقاصد الكلية والمقاصد الجزئية:
عرضت المقاصد الكلية والجزئية في شكل لافت للانتباه، ويؤكّد ذلك العرض التأسيس المعرفي المنهجي لتلك الكليات وما يندرج فيها من جزئيات، وتتأكّد المزاولة المنهجية في النقاط الآتية:
1 - المقاصد الكلية جواب لأسئلة متكررة متفاوتة:
المقاصد الكلية جواب لأسئلة متكررة متفاوتة، تنتهي إلى التمازج والاتحاد، كأنّها جواب لسؤال واحد، جاءت بياناً لحادثات أحكامٍ متعدّدة متغايرة، مع كمال الانتظام كأنّ الحادثة واحدة..
__________
(1) - صيقل الإسلام 101(15/32)
ويتوافق بهذا الصدد الكتاب المنظور(الكون) مع الكتاب المسطور(الوحي)، فتجد كلا منهما متضمناً لتنزلات أو أفعال إلهية في أساليب تناسب أفهام المخاطبين، فالكتاب المسطور له تنزلات تناسب الخلق من جهة الأفهام، ولاسيما، المنزل عليه " عليه السلام" بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأنّ الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً إلى أصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الإفهام كأنّ المخاطب واحد، بحيث يظنّ كلُ صنف كأنّه المخاطب بالأصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات إرشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد، تدور تلك المقاصد والغايات على الأقطاب الأربعة وهي: " التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة ". فبسرّ امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.(1)
يمكن أن نقرر مما سلف أنّه مع تعدد المقاصد الكلية وتنوّع المقاصد الجزئية المندرجة فيها يشمل جميع تساؤلات البشر وحاجاتهم، كأنّها تجيبهم إلى طلبهم من غير طلب منهم، ليس هذا فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تقرير المطلوب في أنماط متنوّعة تشبع الحاجة إلى معرفة المقاصد الكلية والجزئية وزيادة.
2 – تنوّع صيغ التعبير عن المقاصد:
تذكر المقاصد الكلية بأشكال مختلفة متنوّعة تخدم أهدافا كلية تضبطها المقاصد الكلية، ذلك أنّ القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية، ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات إلى قاعدة كلية، يجيلَ الأذهان فيها.
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 230(15/33)
من ذلك مثلا تثبيت وإثبات المقصد الجزئي وتأكيده بالأسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية، ولأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأنّ الذي يسمع أدنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم أن يكون ذلك الذي يسمع كل شيء ويراه، وهو المنزه عن الممكنات.والذي يكون رباً للكون لا بدّ أن يرى ما في الكون أجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لا يمكن أن يكون رباً لهم، ومن أمثلة ذلك على رأي النورسي، أنّ جملة ( إن الله سميع بصير) تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً(1)، أي أنّ الخلوص إلى الإقرار القطعي بالمقصد الجزئي إنّما ثبت بالتكرر المفيد تقرير النتيجة وصحتها وإن كانت جزئية، ذلك أنّ تنوّع وجوه تكرار الجزئيات وتعدّدها يقرر كلية المقصد الجزئي وقطعيته من زاويتي الثبوت أولا والجزئية ثانيا.
3– صيغة التكامل بين المقاصد الجزئية الكلية:
تؤكد الصيغ المشار إليها أعلاه الدور التكاملي بين المقاصد الجزئية والكلية، بحيث يستحيل تصوّر مقصد كلي بغير مقصد جزئي من الناحية النظرية البحت، والمحال نفسه معدوم من الناحية العملية الصرف، لهذا فالمقاصد الجزئية تخدم المقاصد الكلية خدمة مباشرة، وتمثّل فرشتها الضرورية كما أن المقاصد الكلية تمثّل العمد، وهي الأهداف الكبرى التي تتوخى المقاصد الجزئية تحقيقها.
4 – تربوية وتعليمية عرض المقاصد:
__________
(1) - انظر الكلمات496- 497(15/34)
يبيّن القرآن الكريم الحقائق النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها..وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليقه.(1)
يمضي القرآن الكريم - بجميع آياته المتوجهة للكون ( أي الآيات الكونية) - على هذا الأساس، فيكشف عن حقيقة الدنيا كما هي، ويبيّنها للأنظار. ويصرف نظر الإنسان ببيانه إلى مدى دمامة وجه الدنيا القبيح - بتلك الآيات - ليتوجه إلى الوجه الصبوح الجميل للدنيا الجميلة، ذلك الوجه المتوجه إلى الصانع الجليل. فيوجّه نظر الإنسان إلى هذا الوجه، ملقّناً إيّاه الحكمة الصائبة والفلسفة الحقّة بما يعلّمه من معاني كتاب الكون الكبير مع التفاته إلى حروفه ونقوشه، من دون أن يبدّد جهوده فيما لا يعنيه من أمور نقوش الحروف الزائلة كما تفعله الفلسفة الثملة العاشقة للقبح، حيث أنستْه النظر إلى المعنى والمغزى.(2)، أي غفلت عن تحديد مقاصد فضلا عن السعي إلى تحقيق أهداف إنسانية.
__________
(1) - الكلمات 507
(2) - الكلمات511(15/35)
ويبين بالإعجاز نفسه " الكون" الذي يراه الغافلون فضاء موحشاً بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبيّنه القرآن: كتاباً بليغاً، كتبه الأحد الصمد، ومدينة منسّقة عمّرها الرحمن الرحيم، ومعرضاً بديعاً أقامه الربّ الكريم لإشهار مصنوعاته، فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنّه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكلّ شيء مسخّر وكلّ شيء أنيط به وظيفة وواجب... وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنوّر إلى الإنس والجن والملائكة كافة.فلا ريب أنّ هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الإعجاز في البيان - قمين بأن يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية.(1)
الفصل الثاني
مصادر مقاصد رسائل النور ومميّزاتها
أولا : مصادر التعريف بمقاصد رسائل النور
تستشف رسائل النور مقاصدها ومضمون تلك المقاصد من المصادر الإسلامية المعتمدة في فنون المعارف الإسلامية عموما، فكانت عناية بديع الزمان بالوحيين ( القرآن الكريم والسنّة المطهّرة) جليّة واضحة باعتبارهما مصدرين رئيسين للمعارف الإسلامية عموما والمقاصد على الخصوص، لهذا بوّأ الوحيين الصدارة تأسيسا للمقاصد وبيانها وتمحيصها، واستأنس في تأكيد ذلك الأمر بالواقع الكوني والبشري المستشف من تاريخ العالم والإنسانية.
1 - المصدر الأول: القرآن الكريم:
يعدّ القرآن الكريم كتاب المسلمين الأول، فهو مصدر معارفهم الدينية، يعرّفهم بربّهم ونبيّهم والمعاد والعدالة، وقد عبّر عن تلك الحقائق بالعبارات الواضحة البيّنة، عبارات وألفاظ لا تحتمل التأويل أيّدتها إشارات كثيرة.
__________
(1) - الكلمات 527(15/36)
أخبر القرآن الكريم بتلك المقاصد بصريح اللفظ و بأبْيَن الأساليب، فهو "مثلما أجرى من بحر علومه، علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فإنّه أجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام، الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة."(1)، وكل ذلك تعبير عن المقاصد بصريح العبارة، ذلك أنّ بيان علوم الشريعة والحقيقة يكون مشفوعا ببيان مقاصدها التي يشهد لها الانتظام بما ييسّر لها الانخراط في سلك خدمة الإنسان.
يمثّل القرآن الكريم حسب تعبير رسائل النور وجوها متعددة للخدمة المعرفية والعقدية والفكرية والتربوية، فيظهر أنّها متكثّرة ومنسجمة يظهر فيها التكامل والشمول، نلخصها من زاوية وظيفية في المجملات الآتية:
أ – الناحية المعرفية ببعدَيها المعرفي والتربوي الإنساني:
يمثّل القرآن الكريم مصدرا رئيسا لمعارف مخصوصة، معارف لها بعدها المعرفي والإنساني، بحيث يظهر المضمون الإنساني المطلوب في صيغته زيادة إلى مضمونه، ويتجلى فيما يأتي:
- الناحية المعرفية ذات البعد الإنساني:
نحاول في هذا السياق الاقتباس من أقوال الأستاذ النورسي، ونعرضها في شكل بنود مركّزة، وإليك بيان ذلك:
يمثّل الكتاب الكريم الترجمةُ الأزلية لكتاب الكائنات الكبير..
يمثّل الترجمانُ الأبدي لألسنتها المتنوعة التالية للآيات التكوينية..
يعدّ مفسّر كتاب عالَم الغيب والشهادة..
إنّه كشّافٌ لمخفيات الكنوز المعنوية للأسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض..
الكتاب المسطور مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات..
إنّه لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة..
خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراء حجاب عالم الشهادة.
__________
(1) - الكلمات 457(15/37)
القرآن الكريم شمسُ عالم الإسلام المعنوي وأساسُه وهندسته..
الوحي خريطةٌ مقدسةٌ للعوالم الأخروية..
إنّه القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه..
- الناحية التربوية ذات البعد الإنساني:
لا يتوقّف البعد عند الناحية التربوية، بل يجاوزها إلى الناحية التربوية ذات البعد الإنساني، وتحقق ذلك الأمر بتوزّعها على كل ميادين الفعل الإنساني، ولا يمكن الخلوص إلى تلك النتائج إلاّ إذا استصحب المتعامل معه الميزات الآتية:
الكتاب الكريم هو المربي لهذا العالم الإنساني..
يمثّل ماء وضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلام..
القرآن الكريم ليس مصدر الحكمة فحسب، بل هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر..
يعد الكتاب الكريم المرشد المهدي إلى ما يسوق الإنسانية إلى السعادة..
ب – الناحية المعرفية والتربوية الخاصة بالإنسان:
يتجاوز القصد مجرد إثبات وتثبيت البعد الإنساني المتجلي في بعديه المعرفي والتربوي، إنّه سعي إلى تقرير تلك الحقائق وتمكينها من قلب الإنسان نفسه، إنّه لا يمكن أن يدفع إلى تحقيق تلك الأبعاد الإنسانية ما لم يكن هو نفسه مشبعا بتلك الميزات، والتشبّع بتلك الميزات يفرض معرفتها وهذا يوجب التعامل مع القرآن الكريم بطريقة مخصوصة، فهو ليس مجرّد كتاب، بل هو كتاب رب العالمين، والتسليم بهذا يفرض الإقرار بالحقائق الآتية:
يمثّل الكتاب الكريم بالنسبة للإنسان:كتاب شريعةٍ.
القرآن الكريم هو كتابُ حكمةٍ وليس مجرد مصدر للحكمة.
القرآن العظيم بيّن من مضمونه وأسمائه أنّه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ، كتابُ أمرٍ ودعوة، كتابُ ذكرٍ، كتابُ فكرٍ.. إنّه كتاب الصلة بين الإنسان وربه.
إنّه الكتاب الوحيد المقدس الجامع لكلّ الكتب التي تحقق جميع حاجات الإنسان المعنوية.(15/38)
يتميّز القرآن العظيم بموافقته لمختلف المشارب، فأبرز لمشرَب كلِّ واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلك وتصويره.
القرآن الكريم كتاب سماوي أشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.(1)
ج - تعبير القرآن الكريم عن المقاصد:
يعبّر القرآن الكريم عن تحقيق مقاصده بأساليب تربوية بديعة، فيعبّر عن مقصد الحشر بأمثلة واقعية جزئية معيشة، فيصرّح "أنّ الذي يبعث أجساد الأحياء قاطبة من غير شيء كأنّها أفراد جيش ضخم بكمال الانتظام وبميزان الحكمة، ويجمع ذرات تلك الأجساد ولطائفها ويحفظها بأمر " كن فيكون "في كل قرن، بل في كل ربيع، على وجه الأرض كافة، ويوجِد مئات الألوف من أمثالها من أنواع ذوي الحياة. إنّ القدير العليم الذي يفعل هذا هل يمكن أن يستبعد منه جمع الذرات الأساسية والأجزاء الأصلية المتعارفة تحت نظام الجسد كأنها أفراد جيش منظم ... إن استبعاد هذا من ذلكم القدير العليم لا محالة جنون!"(2).
كما أنّ ذكر القرآن الكريم الأسماء الحسنى تعبير عن المقاصد بأساليب بديعة ذلك أنّ الاسم يدل لفظا على متضمّنات المسمى من الناحية اللغوية المعبّرة عن مقاصد متوخاة من حقيقة تلك الأسماء، فكل اسم من الأسماء الحسنى يمثّل مظهرا من مظاهر تلك المقاصد المعبّرة عن مختلف وظائفها.
__________
(1) - انظر الكلمات 422
(2) - الكلمات 442(15/39)
كل اسم من الأسماء الحسنى "هو كلام الله بوصفه ربّ العالمين، وهو أمر الله بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطاب أزلي باسم السلطنة الإلهية الشاملة العظمى، وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني النابع من رحمته الواسعة المحيطة بكلّ شيء، وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية - إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات - وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة، نازلٌ من محيط الاسم الأعظم ينظر إلى ما أحاط به العرش الأعظم. ومن هذا السر أُطلق على القرآن الكريم ويطلق عليه دوماً ما يستحقه من اسم وهو : " كلام الله ". وتأتي بعد القرآن الكريم الكتب المقدسة لسائر الأنبياء عليهم السلام وصحفهم. أما سائر الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجلٍ خاص لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فإلهامات المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جداً من حيث الكلية والخصوصية."(1)
ولوضوح المقاصد في القرآن الكريم استغرب أولئك الذين رموا إلى وضع مقاصد للإنسان أو اكتشافها من خارج الوحيين ( الكتاب والسنّة )، ذلك أنّهم لم يوفّقوا على الإطلاق، فأريد صرف جهود الإنسان في أبعاد غير إنسانية حدّدتها تلك المقاصد غير الإنسانية(المقاصد التي وضعها الإنسان لبني جلدته أو...)، فتجاوز الأمر حدود المقاصد المحددة بالوحيين.
والغفلة عن تلك المقاصد في فهم الكون أو التعامل معه لا يختلف عن الغفلة عن مقاصد القرآن الكريم حين التعامل معه، فالبعد عن مقاصده في فهمه أو تفسيره تضييع لمقاصده الإنسانية المطلوبة من جهة وغفلة عن مضمونه من جهة أخرى، من ذلك أنّ بعضهم صرف طاقته في غير المطلوب، فانتهى به الجهد إلى الغفلة عن الميزات.
__________
(1) - الكلمات 423(15/40)
ولعل من أبيَن أمثلة القضية المشار إليها أعلاه، سعيُ بعض الظاهريين إلى تفسير القرآن الكريم... فطبّقوا منقولَه على بعض الإسرائيليات، وليس بعيدا عنه جهد أولئك الذين حاولوا التوفيق بين قسم من معقوله والفلسفة، بناء على ما رأوا من شموله على المنقول والمعقول.
فبدلاً من أن يستخرج الفريقان المقاصد من عين الكتاب والسنة، حاولوا تكييف نص القرآن الكريم مع الثقافة الوافدة، فمن ذلك سعيُ طائفة إلى إثبات علاقة بين النقليات الصادقة وبعض الإسرائليات المحرّفة، ومنه أيضا سعي طائفة ثانية إلى إثبات علاقة بين العقليات(1) الحقيقية - التي دلّت عليها نصوص الوحي - والفلسفة الموهومة المموّهة، ظن الفريقان أنّ هذه المطابقة والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيان لمقاصدهما(2)، وفي ذلك اقصر طرق التبديل وأسس أساس البدع الشائعة المنتشرة في الخلق.
__________
(1) - العقلية :يراد بها ما كان موافقا لأحكام العقل الفطري السنني، أي لا يراد بها العقلانية، تلك التي تجعل للعقل سلطانا في وضع العقائد.
(2) - انظر صيقل الإسلام 35(15/41)
ويعد العمل السابق مخالفا لما اتّفقت عليه كلمة جميع أهل الاختصاص والشهود وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين، إذ هم متفقون على أنّ القرآن الكريم زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه، وإلاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئاً في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الأضواء عند باب القبر...فالكلام كلامه.هو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة...."(1)من منطلق ما سبق تقريره ظهرت الحكمة في عدم الملل والسأم من القرآن (2)، ليس هذا فحسب، بل جعله الله إضافة إلى ما سلف مصدر وعينا وباعث الحركية في أفعالنا وإليه يعود بعث المضامين الاجتماعية للإيمان، وهو مؤسس مقاصد ذات أبعاد إنسانية، هدفه الإنسان وهو وسيلتها الرئيسة.
2 - المصدر الثاني : السنّة المطهّرة والسيرة الشريفة
__________
(1) - الكلمات 29 - 30
(2) - الكلمات 437(15/42)
يعرّف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمقاصد، إذ أنّه "أكرم دالّ على جمالٍ في كمال مطلق لخالق العالم وأفضل معرّف لبّى إرادة الله سبحانه في إظهار الجمال والكمال والشمول بوساطة مبعوث كما تقتضيه الحكمة والحقيقة."(1)، وهو "أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حُسنه المنزّه - كما تشير إليه آثاره البديعة - وهو أفضل مَن أحبَّه وحببَّه، فلبّى إرادته سبحانه في رؤية ذلك الجمال المقدس وإرادته بمقتضى الحقيقة والحكمة."(2)، "فمثل هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي يضاف إلى كفّة حسناته في الميزان مثل ما قامت به أمّتُه من حسنات بسر " السبب كالفاعل "... والذي تضاف إلى كمالاته المعنوية الصلوات التي تؤدّيها الأمّة جميعاً.. والذي يُفاض عليه من الرحمة الإلهية ومحبتها ما لا يحدهما حدود فضلاً عما يناله من ثمرات ما أدّاه من مهمة رسالته من ثواب معنوي عظيم.. نعم، فمثل هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - لا ريب أن ذهابه إلى الجنة، وإلى سدرة المنتهى، وإلى العرش الأعظم، فكان قاب قوسين أو أدنى، أنما هو عين الحق، وذات الحقيقة ومحض الحكمة."(3)، "وأنّه عليه الصلاة والسلام هو كذلك - بالبداهة - أكمل مَن بيّن المقاصد الإلهية بالقرآن الكريم وأحسن مَن وضح السبيل إلى مرضاة رب العالمين، فلبّى إرادته سبحانه في تعريف ما يريده من ذوي الشعور وما يرضاه لهم بوساطة مبعوث، بعدما عرّف نفسه لهم بجميع مصنوعاته البديعة وحببها إليهم بما أسبغ عليهم من نعَمه الغالية."(4)
أ – مميّزات مقاصد القرآن و السنّة المطهّرة
- أعلى مقام الكلمات:
تعبّر المقاصد عن أعلى مقام الكلمات، كما قال بديع الزمان"وهكذا فإن منح القرآنَ الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعاً، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود"، ويرجع ذلك إلى ما يأتي:
__________
(1) - الكلمات 690
(2) - الكلمات 690
(3) - الكلمات 692
(4) - المكتوبات 278(15/43)
نزول القرآن من الاسم الأعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى.
كلام الله، بوصفه رب العالمين.
أمره تعالى بوصفه إله الموجودات.
خطابُه بوصفه خالق السماوات والأرض.
مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة.
خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى.
سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء.
مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات.
الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.(1)
يستشف مما سلف تميّز كلام الله عن سائر أنواع الكلام دقّة ومضمونا، "وشاهد ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل."(2)
- التناسب والتسلسل:
يتميّز عرض المقاصد في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة بالتسلسل والتناسب، "فإنّ جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن، فيظهر في المقصد الواحد كظهوره في مجموع المقاصد نفسها أصولا وفروعا، إلا أنّها قد تتداخل وتتسلسل، وتصبح توابع، كلّ منها مقارنة مع الأخرى دون اختلاط. وهذا يوجب الحذر والانتباه. لأن النظرة العابرة كثيراً ما تزلّ في هذه المواضع."(3)
__________
(1) - الكلمات 147
(2) - الكلمات 151
(3) - صيقل الإسلام 102(15/44)
تداخل وتسلسل وتناسب المقاصد في القرآن الكريم يؤسّس لدستور "التعاون" الجاري الظاهر "ابتداءً من جري الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار وترادف الشتاء والصيف..إلى إمداد النباتات للحيوانات الجائعة، وإلى سعي الحيوانات لمساعدة الإنسان الضعيف المكرم، بل إلى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لإغاثة الأطفال النحاف، وإمداد الفواكه اللطيفة. بل إلى خِدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم...كل هذه الحركات الجارية وفق دستور "التعاون" تُري لمن لم يفقد بصيرته كلّياً إنّها تجري بقوةِ مربٍّ واحد كريم مطلق الكرم، وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة".(1)
كما يظهر الكون - بجميع مكوّناته المادية والمعنوية - وفق ذلك الانتظام والتسلسل بحيث يستبعد توهّم الإسراف والعبثية في الموجودات، "إن كمال النظام والميزان في إنشاء كل موجودٍ يطرد هذا الوهم إذ النظامُ خيط نُظّم فيه الغايات المترتبة على الأجزاء الجزئية والتفاصيل الفرعية. ومن المحال أن يراعي أحدٌ كلّ غايات تفاصيل قصرٍ - بدلالة انتظام بنائه - ويترك غاية المجموع، التي بها تصير الغايات الجزئية غاياتٍ"(2)، "ويشهد لهذه المعاني إحاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الأحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات."(3)
ويظهر التناسب في الآيات المنظورة كظهوره في الآيات المسطورة التي منها يظهر التناسب والانتظام والتسلسل في المقاصد نفسها، فلا تضارب بل تكامل وتوافق وتناسب وانتظام، بحيث يظهر أنّ لتلك المقاصد في انتظامها مقاصد تربوية ومنهجية و...زيادة إلى ما سلف بيانه.
- التساند بين المقاصد:
__________
(1) - الكلمات 338
(2) - المثنوي العربي النوري 285
(3) - الملاحق 184(15/45)
تتساند المقاصد فيما بينها بشكل يخدم حقيقة متكاملة وشاملة، ويشهد هذا التساند، والتعاون، والتجاوب، و...، والانتظام، الجاري بين المقاصد والمتجلي في الكون بمظاهره المادية والمعنوية، "أن مدبّراً واحداً هو الذي يديره، ومربّياً أحداً يسوق الجميع في الكون، زد عليه، فإنّ الحكمة العامة الظاهرة بداهة في خلق الأشياء البديعة وما تتضمنه من عناية تامة وما في هذه العناية من رحمة واسعة وما على هذه الرحمة من أرزاق منثورة تفي بحاجة كل ذي حياة وتعيّشه وفق حاجاته... كلّ ذلك ختم عظيم للتوحيد له من الظهور والوضوح ما يفهمه كلّ مَن لم تنطفئ جذوة عقله، ويراه كل من لم يُعمَ بصرُه."(1)
وتظهر تجليات التساند بين المظاهر الكونية، "لبس الكرة الأرضية حلّة قشيبة ملوّنة بألوان زاهية منسوجة بكمال الحكمة بخيوط أنواع النباتات والحيوانات التي تنوف على مائة ألف نوع الشبيهة بنوعنا الإنساني، وتكون بوسعها نسج ذلك البساط البديع المفروش على الأرض من خيوط مئات الألوف من أنواع الكائنات الحية، والتي هي في أبدع نقش وأجمله.. وفضلاً عن خلق هذا البساط الرائع، وتجدّده دوماً وبحكمة تامة؛ فإنّ كانت لديك قدرة محيطة وحكمة شاملة كهذه، بحيث تتصرف في كرة الأرض التي نحن من ثمارها، وتدبّر شؤون العالم الذي نحن بذوره، فترسل بميزان الحكمة لوازم حياتنا إلينا من أقطار العالم كله.. وإن كنت تنطوي - أيها المدعي- على اقتدار يخلق علامات القدرة الإلهية المميزة الموحدة في وجوهنا، وفي أمثالنا من السالفين والآتين."(2)
- رعاية الفطرة والمطابقة:
__________
(1) - الكلمات 338.
(2) - انظر الكلمات 712(15/46)
تتجلى في المقاصد رعاية الفطرة، ذلك أنّها تقصد خدمة الإنسان في أصل وضعها، فقد قصد في المقاصد والغايات، تحقيق الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، وهذا يوجب المحافظة عليها في شقيها الجزئي والكلي من زاويتي التكامل والشمول، ويحقق هذا المسعى المحافظة على الميزان."(1)، وبذلك تحافظ على المصالح والنتائج والغايات الجليلة (2)
توفّر المقاصد على تلك الميزات يسوقنا إلى الحديث عن مجموعة أخرى من مواصفاتها الأساسية، وخاصة تلك التي تيسّر فهمها واستيعابها وتأثيرها.
- التوزّع على النص القرآني:
ييسّر الفهم والاستيعاب بالتوزّع على النص، وبذلك يجد قرّاء القرآن الكريم مقصوده (الوحي) في قراءة أقصر نصوصه، ذلك أنّه-كما قال النورسي-"لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم أكثر المقاصد القرآنية في أكثر سوره، لاسيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، التعرّف على المقاصد، فيستوعب النص الواحد مقاصد كثيرة فترى فيها التوحيد والحشر وغيرهما".(3)
__________
(1) - اللمعات 882
(2) - المكتوبات 310
(3) - انظر المكتوبات 268، الكلمات 265(15/47)
وتوزّع المقاصد على النصّ القرآني لا يختلف عن توزّع الغايات والمقاصد على عناصر الحياة المادية والمعنوية، بحيث ترى المقاصد في أقل القليل من مظاهر الكون، "انظر الآن وفي كلّ وقت إلى الينابيع والجداول والأنهار، وتأمل في تفجّرها من الأرض أو الجبال تجد أنّه لا مصادفة فيها ولا عبث قط.إذ تترتّب عليها الفوائد والمصالح التي هي آثار رحمة إلهية واضحة، أما النتائج الحاصلة منها فهي موزونة محسوبة، وكذلك ادخارها وخزنها في الجبال إنما يجري ضمن حساب دقيق، ووفق حاجات الأحياء، ومن بعد ذلك تفجيرها وإرسالها بميزان هو الغاية في الحكمة.. كل ذلك دلالات وشواهد ناطقة أنّ ذلك التسخير والادخار إنّما يتمّ من لدن ربّ حكيم.. وما نراه من شدة فورانها وتفجرها من الأرض إنّما هو تَوقُها العظيم لامتثال الأوامر الربانية حال صدورها."(1)
- تثبيت القاعدة الكلية بأمثلة جزئية:
يتميّز عرض المقاصد في رسائل النور بالسعي الحثيث إلى خدمة هدف عظيم، مؤداه بيان المقاصد والتقعيد لها، وقد اتّخذ لتحقيق ذلك الهدف طريقة تكثير الأمثلة الجزئية تأسيسا وتثبيتا للقاعدة الكلية والمقصد الأصلي، وقد نسج بديع الزمان ذلك بناء على ما ورد في كتاب الله، فقد ورد عن بديع الزمان، "أنّ القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية، ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات إلى قاعدة كلية، يجيل الأذهان فيها و يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرّره ويؤكّده بالأسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية "(2).
__________
(1) - الكلمات 806
(2) - الكلمات 496(15/48)
"كما بيّن القرآن الكريم المعجز البيان سبيل سعادة الدارين، ووضّح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الإيمان السامي الواسع الذي يضمّ الحقائق الإسلامية كلّها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلّباً إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه، معلِّماً الإنسان صانعَه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته. فلا ريب ولابد أنّه لا يمكن الإتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولا يمكن مطلقاً أن تُنال درجة إعجازه."(1)
وقد يسّر القرآن الكريم استيعاب المقاصد الخمسة التي اعتبرها النورسي كالأنهار الجارية تحت هذه الآيات، "حتى يفور هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في ثالثة. فأدنى ترشِّحٍ على السطح يومي بتماس عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقة لها." (2)
وتأسيس القاعدة الكلية بالأمثلة الجزئية يتضمّن العناية بجميع المخاطبين، ذلك " أنّ القرآن خطاب ودواء ٌلجميع طبقات البشر من أذكى الأذكياء إلى أغبى الأغبياء، ومن أتقى الأتقياء إلى أشقى الأشقياء، ومن الموفّقين المجدّين الفارغين من الدنيا إلى المخذولين المتهاونين المشغولين بالدنيا، والسورة منه قرآن صغير يتضمّن مقاصده الكلية، فسهّل السَبيل لكل أحدٍ.وينادي مشوّقاً { وَلَقَدْ يَسَّرنْا القرآنَ لِلذّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِر } "(3)
__________
(1) - الكلمات 523
(2) - إشارات الإعجاز 61
(3) - انظر المثنوي العربي 70(15/49)
ومن مظاهر التأسيس للقاعدة الكلية بالأمثلة الجزئية العناية بجميع المكلّفين، وتتجلى في " تضمين كلِّ سورةٍ من القرآن مجمل ما في كل القرآن وسائر السور من المقاصد وأهم القصص، لأجل أن لا يحرمَ من يقرأ سورة فقط عما أُنزلَ له التنزيل، إذ في المكلفين الأمّيُ أو الغبيُّ، ومَن لا يتيسر له إلاّ قراءة سورةٍ قصيرة فقط، فمِن هذه اللمعة الإعجازية تصير السورةُ قرآناً تاماً لمن قرأها.."(1)، "حتى أنّ أغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لا تكتفي بمقصدين أو ثلاثة من مقاصد القرآن الأربعة (وهي:التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة معاً، أي كل منها:كتاب ذكر وإيمان وفكر، كما أنّه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتباً عدة، وترشد إلى دروس مختلفة متنوعة. فتجد أنّ كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح أمام الإنسان أبواباً للإيمان يحقق بها إقرار مقاصد أخرى حيث إنّ القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسّخ في أعماق المؤمن إحاطة ربوبيته سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فإنّ ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قويّة بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الأسلوب مطابقاً تماماً لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية."(2)
- الإجابة عن أسئلة مكررة:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 208
(2) - الكلمات 533(15/50)
وزيادة إلى ما سلف، فإنّ المقاصد في كلّياتها وجزئياتها إجابة عن أسئلة متكررة، تمثّل الأولى(الكلية)تحديدا لمقاصد أصلية تمثّل الأسس النظرية للحياة الإنسانية، وتمثّل الثانية(الجزئية) بيّنات وتفاصيل تشعّب تلك المقاصد وتجلياتها في الحياة المادية والمعنوية، حتى أنّك تجد الإجابة من غير تطويل مملّ أو تقصير مخلّ، فيكتفى أحيانا بقدر بيان نتيجة حيث تبيّنها رسائل النور بحجج وبراهين(1)، وقد استقى بديع الزمان ذلك المسلك التعليمي الهادف-الإجابة عن الأسئلة المتكررة- من القرآن الكريم الكفيل بالإجابة عن أسئلة الحياة، وأسئلة الحكمة(الفلسفة) من الكائنات: من أين؟ وبأمر مَن تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ وإلى أين تصيرون؟ ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم - مما سوى المقاصد - إنما هو ذكر استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة. نعم! الانتظام يشاهد، بل يُظهر نفسه بكل وضوح. فالصنعة المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وإرادته شهادة صادقة قاطعة، إذ تتراءى في كلّ جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق إلى أنظار الحكمة، حتى لكأنّ كل مصنوع لسان يسبّح بحكمة صانعه، كلّ نوع يشهد مشيراً بإصبعه إلى حكمة الصانع.(2)
وحقق هدف الإجابة بأسلوب غناء الكلام وثروته ووسعته، فعبّر عن أصل الكلام المفيد أصل المقصد، كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوح إلى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنّما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام.
__________
(1) - الشعاعات 279
(2) - انظر الكلمات 690، المكتوبات 278، صيقل الإسلام29.(15/51)
وكما يقال بالمثال يتّضح المقال، انتقل الأستاذ إلى ضرب الأمثلة، فيقول في أسلوب تربوي، "وإن شئت مثالا تأمّل في { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } ... و { وإذا لقوا الذين آمنوا } ...، على الوجه المفسَّر سابقا( المذكور عليها).(1)
كما أفاد الإجابة بسلاسة الكلام المنتجة للطافته وحُلْوه هو أن تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتّحد أو مختلفة تنتظم، لئلا تتشرب الجوانب قوّة الإفادة والغرض، بل يجذب المركزُ القوّةَ من الأطراف.. وأيضاً من السلاسة أن يتعيّن المقصد.. وأيضاً منه أن يتظاهر ملتقى الأغراض.(2)، وهكذا كان القرآن الكريم معبّرا عن تلك الأجوبة بأكمل صور البلاغة، فيبرق حسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتأخذها على المقصد الأصلي، وإمداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمع الأودية أو الحوض المتشرّب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل"(3)، وقد عبّر بديع الزمان عن تلك المعاني بإشارات عميقة وعبارات دقيقة، منها تنبيهه الذي يقول فيه: " اعلم ! أنّ في كلّ آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة، كلٌ منها - في كلٍ منها - كفيل وضامن لطائفة من الحقائق. وكما أنّك إذا أخذت قوارير من فضة وزيّنتها بذوب الذهب، ثم نقشتها بجواهرَ، ثم صيّرتها ذوات نور بإدراج "الكتريق"(الكهرباء) ترى فيها طبقات حسن وأنواعَ زينة، كذلك في كل من تلك الآيات من المقصد الأصليّ إلى الأسلوب التمثيليّ قد شرعت إشارات ومُدّت رموز إلى مقامات كأن أصل المقصد تدحرج على المراتب وأخذ من كلٍ لوناً وحصة حتى صارت تلك الكلمات من جوامع الكلمات بل من جمع الجوامع."(4)
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 122
(2) - انظر إشارات الإعجاز 124
(3) - إشارات الإعجاز 45
(4) - إشارات الإعجاز 117(15/52)
ويتأكّد مسعى تأصيل القاعدة الكلية بالجزئيات بما حواه القرآن الكريم من قصص الأنبياء، إذ يرمي ذلك التكرار إلى تقعيد قواعد ثابتة راسية، تؤسس للمقاصد العظيمة وما يخدمها من مقاصد فرعية، بيّن هذا المعنى قول النورسي:" ومن المكررات القرآنية ( قصص الأنبياء ) عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء إنما هي لإثبات الرسالة الأحمدية وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجةً على أحقية الرسالة الأحمدية وصدقها، حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكرها إذن دليل على الرسالة."(1)، وقد ذكر التكرار لوظيفة تربوية وعلمية واجتماعية جلية، ذلك أنّ " كثيراً من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار"(2)
يفرض الخلوص إلى القاعدة الكلية ووظائفها العامة والخاصة توفّر مجموعة متكاملة من المميّزات، منها الوضوح والبساطة.
- الوضوح والبساطة:
يفرض تحقيق الجزئيات المكررة للقاعدة الكلية الوضوح والبساطة، وهو ما سعى بديع الزمان إلى توخّيه في نصوصه، مستعينا في ذلك بنسج القرآن الكريم، فالقرآن الكريم إنما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت."(3)
__________
(1) - الكلمات 535
(2) - الكلمات 535
(3) - الكلمات 271(15/53)
ودلالتها على المقصد بوضوح لا يختلف عن دلالة المصنوعات على الصانع"فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة أمامنا فوق الأرض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي أيضاً بعينها تجري تحت الأرض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً وأغرب منها انتظاماً."(1)، ومنها أيضا "الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر أجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج إلى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها أهلُ الأرض في كثير من الأمور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن أمورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية."(2)
لا يمكن الحديث عن مقاصد وغايات غير واضحة جلية، ذلك أنّها تخدم الإنسان، وخدمته لا تتصوّر مع غموض المقاصد أو صعوبة فهمها فضلا عن استحالة تمثّلها، لهذا "لا ريب أنّ مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شيء عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً إظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كلّ شيء. (3)
- تيسّر تفسير الحياة والكون:
__________
(1) - الكلمات 273
(2) - الكلمات 274
(3) - انظر المكتوبات 113(15/54)
وييسّر ظهور المقاصد ووضوحها فهم الحياة والكون، لهذا فلمعرفة المقاصد وظيفة معرفية ظاهرة، إذ نلاحظ أنّ الحياة موهوبة من رزق ممنوح ومدام، وممد الحياة والرزق، هو المتكفّل بكلّ ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود إليه، والنتائج المهمة لها تتوجه إليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع إليه(1)، "فقد وجد العقل انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللّطيفة المنبعثة من الأشجار والحيوانات معاً، ومن أنداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم أنّ كلّ شيء يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى."(2)
__________
(1) - انظر المكتوبات 293
(2) - الكلمات 244(15/55)
كما يمثّل القرآن الكريم من زاوية سننية بحت، "الترجمة الأزلية للكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والأرض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية..وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الإسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الإنساني.. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية... وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي إلى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك هو كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل."(1)
__________
(1) - الكلمات 264(15/56)
ويجلى تلك الترجمة المعبّرة "الحِكمَةُ العَامَّةُ في تَنْظيماتِها.. وَالعِنَايَةُ التَّامَّةُ في تَزيِيِنَاتِها.. وَالرَّحمَةُ الوَاسِعَةُ في تَلطيفاتِها.. وَالأرزَاقُ وَالإعَاشَةُ الشَّامِلَةُ في تَربِيَتِها.. والحَيَاةُ العَجيبَةُ الصَّنعَةِ بِمَظْهَرِيَّتِها للِشُؤونِ الذَّاتِيَّةِ لِفَاطِرِها.. وَالمَحَاسِنُ القَصْدِيَّةُ في تَحْسينَاتِهَا.. وَدَوَامُ تَجَلِّي الجَمَالِ المُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِهَا.. وَالعِشْقُ الصَّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِهَا.. وَالاِنْجِذَابُ الظَّاهِرُ في جَذْبَتِها.. وَاتِّفاقُ كُلِّ كُمَّلِهَا عَلى وَحْدَةِ فاطِرها.. وَالتَصَرُّفُ لِمَصالِحَ في أجزائِها.. وَالتَّدْبيرُ الحَكيمُ لِنَباتاتِها.. وَالتَّربِيَةُ الكَريمَةُ لِحَيواناتِهَا.. والاِنتِظامُ المُكَمَّلُ فِي تَغيُّراتِ أركَانِها.. وَالغاياتُ الجَسيمةُ في انتِظامِ كُلِّيَّتِها.. وَالحُدُوثُ دَفْعَة مَعَ غايَةِ كَمَالِ حُسنِ صَنْعَتِها بِلا احتِياجٍ إلى مُدَّةٍ ومَادَّةٍ.. وَالتَّشَخُّصاتُ الحَكِيمَةُ مَعَ عَدَم ِتَحْديدِ تَرَدُّدِ إمْكاناتِها.. وَقَضاءُ حاجاتِها عَلى غَايَةِ كَثْرَتِها وَتَنَوُّعِها في أوقَاتِها اللاَّئِقةِ المُنَاسِبَةِ، مِنْ حَيثُ لا يُحتَسَبُ وَمِنْ حَيثُ لا يُشْعَرُ مَعَ قِصَرِ اَيْدِيها مِنْ أصغَرِ مَطالِبِها.. وَالقُوَّةُ المُطلَقَةُ في مَعْدَنِ ضَعْفِهَا.. وَالقُدْرَةُ المُطلَقَةُ في مَنبَعِ عَجْزِها.. وَالحَياةُ الظَاهِرَةُ في جُمُودِها.. وَالشُعُورُ المُحيطُ في جَهْلِها.. وَالانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغَيُّراتِها المُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ المُغَيِّرِ الغَيرِ المُتَغَيِّر.. وَالاتِّفاقُ في تَسْبِيحَاتِها كَالدوائِرِ المُتَدَاخِلَةِ المُتَّحِدَةِ المَرْكَزِ.. وَالمَقْبُولِيَّةُ في دَعَوَاتِها الثَّلاثِ " بِلسانِ استِعدادها، وبِلسانِ احتِيَاجَاتِها الفِطريَّةِ، وبِلسانِ(15/57)
اضطِرارِها ".. وَالمُناجاة وَالشُّهو داتُ وَالفُيُوضاتُ في عِباداتِهَا.. وَالاِنتظامُ في قَدَرَيها.. وَالاِطْمئنَانُ بِذِكرِ فاطِرِها.."(1)
ومما ييسّر الفهم أيضا "أنّ الصانع القدير باسمه " الحَكَم والحكيم" قد أدرج في هذا العالم ألوف العوالم المنتظمة البديعة، وبوّأ الإنسان - الذي هو أكثر من يمثّل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها - موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورها، إذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح إلى الإنسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الإنسان، فتجد أنّ معظم الحِكَم والغايات وأغلب المصالح والفوائد - ضمن عالم الإنسان - تتوجّه إلى ذلك الرزق وتتضح به، لذا فإنّ تجليات اسم " الحكيم " تبدو واضحة بأبهر صورها وأسطعها من خلال مشاعر الإنسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كلّ علم - من مئات العلوم التي توصّل الإنسان إلى كشفها بما يملك من شعور- يعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم " الحَكَم" في نوع من الأنواع."(2)
__________
(1) - اللمعات 480
(2) - اللمعات 532(15/58)
ويظهر تيسّر الفهم أيضا من التأسيس لرؤية "معاونة الموجودات بعضها للبعض الآخر وتجاوبها فيما بينها، وتساندها في الوظائف والواجبات.. مما يدل على أنّ كلّ المخلوقات تحت تربية ورعاية مُربٍّ واحد أحد. وأن الكل تحت أمر مدبر واحد أحد.. وأنّ الكلّ تحت تصرف واحد أحد.. ذلك لأن" دستور التعاون " بين الموجودات، يجري ابتداءً من الشمس، التي تهيئ بأمر الله لوازم الحياة للأحياء، ومن القمر الذي يعلمنا المواقيت، وانتهاءً إلى إمداد الضوء والهواء والماء والغذاء لذوي الحياة، وإمداد النباتات للحيوانات، وإمداد الحيوانات للإنسان، بل حتى إمداد كل عضو من أعضاء الجسم للآخر، وإمداد ذرات الغذاء لحجيرات الجسم.. فخضوع هذه الموجودات الجامدة الفاقدة للشعور وانقيادها لدستور التعاون وارتباطها معاً ارتباط تفاهم وتجاوب في منتهى الحكمة، وفي منتهى الإيثار والكرم، وجعل كل منها يسعى لإغاثة الآخر وإمداده بلوازم حياته، ويهرع لقضاء حاجياته وإسعافه، تحت ظلّ قانون الكرم وناموس الرأفة، ودستور الرحمة... كلّ ذلك يدلّ بداهة على أنّ جميعها مخلوقات مأمورات ومسخرات عاملات للواحد الأحد، الفرد الصمد، القدير المطلق القدرة، والعليم المطلق العلم، والكريم المطلق الكرم."(1)
__________
(1) - الكلمات 792(15/59)
ويسعف هذا المسلك في ملاحظة التوافق بين الصورة المادية والدور في الحياة "...فالوجود له صورة معنوية في علم الله تمثل مقدراته الحياتية، وهي تلازم الصورة المادية وتنتقل معها في مراحل نموها، ثم تتبدّل تلك الصورة والمقادير في مسيرة حياته تبدّلاً يلائم الحكمة في خلقه وينسجم كلياً مع المصالح المركبة عليه، مما يدلّ بالبداهة على أنّ صور تلك الأجسام ومقاديرها تُفصَّل وتُقدَّر تقديراً معيناً في دائرة القدر الإلهي، الجليل الحكيم ذي الكمال، وتُنظَّم تلك الصور وتُنسَّق بيد القدرة الإلهية وتمنحها الوجود المعيّن المقدّر."(1)، "تأمّل فيما يحويه جسمك وأعضاؤك أيها الإنسان من حدود متعرجة والتواءات دقيقة.. وتأمّل في فوائدها ونتائج خدماتها وشاهد كمال القدرة في كمال الحكمة."(2)
كما ترى أيضا مظاهر شعور كامل طَي جهل مطبق، كما هو في حركات كل شيء وجريانه - ابتداءً من الذرات إلى المجرات - تلك الحركات المتّسمة بالشعور الكامل والانسجام التام مع نظام الكون كله، والملائمة ملاءمة تامة مع مقتضيات الحياة ومطالب الحكمة المقصودة من الوجود(3)، "إنّ ما يشاهد على سطح الأرض من انتظام واطّراد في خلق المخلوقات، وتدبير أمورها، وتجديدها باستمرار في كلّ موسم، يدلّ بالبداهة على حكمة عامة تغمر الموجودات. هذه الحكمة العامة تدلّ بالضرورة على حكيم مطلق الحكمة، إذ لا صفة دون موصوف."(4)
__________
(1) - الكلمات 794
(2) - الكلمات 794
(3) - انظر الكلمات 796
(4) - الكلمات 797(15/60)
وهكذا يكتشف المتعلّم العاقل بالبداهة العناية والقصد في الفعل من أنواع الزينة البديعة التي تؤطر ستار الحكمة العامة الذي يتلفع الوجود به، عناية فائقة عامة، وهذه العناية تدلّ بالضرورة على خالق كريم(1)، وهذا "واضح جلي كوضوح النبات نفسه، وجميل كذلك كجمال النبات نفسه، تلك التسبيحات التي يهمس بها كل نبات في إشراق تبسّمه، عند تفتح زهره، ونضج ثمره، وتسنبل سنبله، لأنّه بالثغر الباسم لكل زهرة، وباللّسان الدقيق للسنبل المنتظم، وبكلمات البذور الموزونة، والحبوب المنسقة، يظهر (النظام ) الذي يدلّ على كمال( الحكمة).."(2)، "وجمال الإتقان في الجزئيات والفرعيات، وفي النتائج والفوائد، فإنّ العناصر الكلية، والمخلوقات العظيمة التي تبدو مختلطة ومتشابكة، وتوهِمُ أنّها لعبة المصادفة، تتّخذ أيضاً أوضاعاً تتّسم بالحكمة وإتقان، رغم الاختلاط الظاهر عليها"(3)
وللدلالة على المراد - على رأي بديع الزمان – "انظر الآن إلى الينابيع والجداول والأنهار، وتأمّل في تفجرها من الأرض أو الجبال، تجد أنّه لا مصادفة فيها ولا عبث قط. إذ تترتّب عليها الفوائد والمصالح التي هي آثار رحمة إلهية واضحة، أما النتائج الحاصلة منها فهي موزونة محسوبة، وكذلك ادخارها وخزنها في الجبال إنما يجري ضمن حساب دقيق، ووفق حاجات الأحياء، ومن بعد ذلك تفجيرها وإرسالها بميزان هو الغاية في الحكمة.. كل ذلك دلالات وشواهد ناطقة أنّ ذلك التسخير والادخار إنّما يتم من لدن ربّ حكيم.. وما نراه من شدّة فورانها وتفجرها من الأرض إنّما هو تَوقُها العظيم لامتثال الأوامر الربانية حال صدورها."(4)
__________
(1) - انظر الكلمات 797
(2) - الكلمات 803
(3) - الكلمات805
(4) - انظر الكلمات 806(15/61)
ويلاحظ رغم سعة الكون وشساعته "أنّ السيارات تجري في أفلاكها سابحة مشدودة الوثاق بالشمس، مرتبطة معها بقانون إلهي، هذا القانون هو الذي يطلق عليه علماء الفلك اسم " الجاذبية " .. فهي تجري بنظام دقيق دون خطأ - ولو بمقدار ثانية واحدة - وتنقاد انقياداً تاماً، وبطاعة مطلقة لهذا القانون، كانقياد المصلين المأمومين لإمامهم.. وهذا دليل وأيّ دليل - بأوسع مقياس وأعظمه - على عظمة القدرة الربانية ووحدانية الربوبية.. فإن استطعت أن تقدّر عظمة هذا الأمر بنفسك فافعل، لترى مدى العظمة والحكمة في جعل تلك الأجرام الجامدة، وتلك الكتل الهائلة وهي بلا شعور تجري في منتهى النظام وكمال الميزان، وفي غاية الحكمة، وعلى صور متباينة، وضمن مسافات مختلفة، وبحركات متنوعة، ومن بعد ذلك تسخيرها جميعاً وِفْقَ نظام بديع رائع!"(1).
ومما يدلّل به النورسي على "أنّ سيارتنا - الأرض - هذه تُسخَّر بأمر ربَّاني، لأجل أن تنهض بخدمات جليلة، ومهامّ جسيمة خلال سيرٍ وتجوال طويل، فتدور حول الشمس لتظهر بجريها ودورانها هذا عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية، وكمال الرحمة والحكمة. فكأنّ الأرض سفينة عظيمة لرب العالمين مشحونة بعجائب مخلوقاته سبحانه، أوهي كمسكن متجوّل لذوي الحياة والشعور من عباده، أسكنهم فيها، ويجريهم بها للنزهة والتفرج في أرجاء الفضاء".(2)
__________
(1) - الكلمات 808
(2) - الكلمات 809(15/62)
وتدلّ تلك المقاصد بمجموعها على يسر تفسير فهم الكون واستيعاب ما عليه من عناية عامة تتضمّن حكما لا حصر لها، وكلّ من هذه المظاهر واحدة واحدة وبمجموعها تدلّ دلالة عظيمة جداً على الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزّاق، وتدلّ على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته، إذ إنّ ما في الحكمة من عناية، وما في العناية من رحمة، وما في الرحمة من إعاشة وإرزاق دلالات قاطعة وبمقياس واسع جداً على الواجب الوجود بمثل دلالة الألوان السبعة على ضوء الشمس الذي يملأ النهار نوراً. مما يشهد بقوّة على التربية المكلّلة بالحكمة البالغة الشاملة، والرحمة الواسعة، والرزق الوفير(1)وشاهد البذور المنثورة المدفونة تحت التراب، لو أمعن النظر في تمايزها أثناء نموها وتسنبلها، رغم تشابه تراكيبها. وتأمّل في المواد المختلفة الداخلة في بنية الأشجار، وتحوّلها إلى مختلف الأشكال من الأوراق الرقيقة، والأزهار الزاهية، والثمار اللطيفة. وتأمّل في أنواع الطعام والأغذية المختلفة الداخلة في المعدة، وتمايز بعضها عن البعض، ودخول كل منها إلى العضو الذي يناسبها بل إلى الحجيرة التي تلائمها بتمايز واضح.. شاهد آثار القدرة المطلقة، من خلال الحكمة المطلقة.(2)
وقد اكتسبت رسائل النور بفعل تفاعلها الرائع مع القرآن الكريم مجموعة من الميزات، تلك الميزات التي كان لها حضور كبير في الرسائل النور مضمونا ومنهجا وأبعادا، سنحاول عرضها لاحقا بشيء من التفصيل.
3 - المصدر الثالث: الواقع الكوني والبشري
__________
(1) - انظر الكلمات 809
(2) - انظر الكلمات 800(15/63)
تؤكّد المصادر السابقة لمقاصد رسائل النور أنّ المنظور من آيات الله الكونية موافق كلّ الموافقة لآيات الله المسطورة، لهذا فالحديث عن المصدر الرابع متضمن فيما ذكرناه عن المصدرين السابقين (الكتاب والسنّة المطهّرة)، ذلك أنّ الواقع الكوني بشقيه (المتعلّق بعالم الأشياء، والمتعلّق بعالم الإنسان) شاهد أساسي في التأسيس للمقاصد المشار إليها، ذلك أنّها تمثّل مسرح النظر في الآفاق والأنفس، من هنا كان الواقع الكوني والبشري مسرح إثبات وتثبيت المقاصد من جهة ومصدرا يستأنس به المؤمن في تثبيت المقاصد وإثباتها من جهة أخرى، كما يمكن أن تكون مصدرا مستقلا لإثبات تلك المقاصد بالنسبة لغير المؤمن.
فكانت الآيات المسطورة تفتح العيون المعصوبة بالتدبّر والتأمّل في الآفاق والأنفس المألوفتين.(1)
يشهد لهذا أنّ أغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة – تفتح أمام الإنسان أبوابا للإيمان ولمعرفة الله ومراتب التوحيد يحقق بها إقرار مقاصد عديدة، حيث إنّ القرآن يقرأ ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في أعماق المؤمن إحاطة ربوبيته سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس، لذا فإنّ ما يبدو ظاهراً من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية.(2)
يشير إلى تلك المعاني أنّ دلائل التوحيد مستمدة أساسا من النظر في الآفاق والأنفس، ذلك أنّ دلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي، والأنفسي على قول بديع الزمان نوعان نفسي وأصولي، وكلاهما يرتكز على النظر في الواقع الكوني والبشري، فقد أشار إلى النفسي الأقرب الأوضح بقوله تعالى: { الذي خلقكم } وإلى الأصولي المستفاد من النظر في الواقع البشري بقوله تعالى: { والذين من قبلكم } (3)
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 63
(2) - انظر الشعاعات 310
(3) - انظر إشارات الإعجاز 157(15/64)
ولا يتوقّف الاعتداد بالواقع الكوني والبشري عند حدّ التأسيس والتأصيل للمقاصد بل يجاوزه إلى توظيفه في دفع كلّ ما من شأنه أن يقوّض تلك المقاصد، من ذلك ما أشار إليه الأستاذ في إبطال الكفر بوصفه أهمّ ملوّثات البيئة الفطرية، إذ عمدته في إنكاره الكفر والكفران الدلائل الأنفسية وهي أطوار البشر، والدلائل الآفاقية..(1)
عمدت رسائل النور إلى النسج على وفق مسلك القرآن الكريم والسنة المطهّرة في جعل النظر في الواقع الكوني والبشري المشار إليه في أدبيات النورسي بـ" الآفاق والأنفس" مسرحا أساسيا في النظر المؤسس لمقاصد الرسائل نفسها.
قصد بديع الزمان برسائل النور "فتح طريق واسع إلى معرفة الله، وذلك بتوجّهها إلى الآفاق الكونية - كالطرق الجهرية - فضلا عن جهادها في الأنفس، حتى وكأنها عصا موسى - عليه السلام - أينما ضربتْ فجّرت الماء الزلال"(2)، فكانت نورا منبعثا من الآفاق والأنفس عاكسا لشمس معرفة الأزل(3)، مزيلا للظلمات بجميع أشكالها وأنواعها.
أ - الواقع الكوني والبشري معرّفان التوحيد:
يبحث في آيات الله في أجواء الآفاق وفي أوسع الدوائر إذا به يذكُر أصغَر دائرةٍ من دوائر المخلوقات وأدق جزئيةٍ من جزئياتها، إظهاراً لطابع الأحدية بوضوح في كل شيء.(4)
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 222 ، 50
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 32
(3) - انظر المثنوي العربي النوري 135.
(4) - انظر اللمعات 151(15/65)
"انظر أوسع الآفاق الكونية فترى أفعال تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وأمثالها من الأفعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، ليس هذا فحسب، بل حتى أكثر الأسماء الحسنى، بل كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في أوسع دائرة من دوائر الكون. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الأحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه"(1)، فيتجلى في الواقع الكوني البشري بشكل جلي واضح.
ب - حماية التوحيد من جانب العدم:
__________
(1) - انظر اللمعات 520، وانظر الشعاعات 50(15/66)
يعتمد الأستاذ في دفع مضادات التوحيد على النظر في الأنفس إضافة إلى الآفاق كما سبقت الإشارة إليه، كثيرا ما يؤكّد هذا المعنى بلفت النظر إلى النفس، منها قوله رحمه الله:"فإذا تأمّلت في " أنا " بالمعنى الحرفي، صار لك عيناً تفهّمت ورأيت به كل ما في الكون، لأنّه إذا جاءت المعلومات الآفاقية صادفتْ في " أنا "ما يصدقها. فإذا فهمتها انتهت وظيفة " أنا " وربوبيته الموهومة ومالكيته المفروضة، فليرجع " أنا " من السّمكتية إلى الحبابية .. وأما إذا نظرت إلى " أنا " بالمعنى الأسمي واعتقدته مالكاً، وخنت في الأمانة دخلت تحت { وقَدْ خَابَ مَنْ دَسّيها } إذ الأمانة التي تدهشتْ من حملها السماوات والأرض والجبال هي " أنا" من هذه الجهة، إذ منها يتولد الشرك والشرور والضلالات، إذ إذا تستَّر " أنا " عنك غلُظ، حتى صار حبلاً بلع وجودك فصار كلك أنا.ثم استغلظ بأنانية النوع والاستناد به فيصير شيطانا يبارز أمر صانعه. ثم يقيس الناس، ثم الأسباب على نفسه فيقع في شرك عظيم.. ففي هذا الوجه لو أرسلت عينك وفتحت كل الآفاق انغلق في وجهك، برجوع عينك إلى نفسك، إذ ترى كلَّ شيء بلون ما في نفسك من " أنا"، ولونُه في ذاته - في هذا الوجه - الشرك والتعطيل، ولو مُلئت الآفاق آياتٍ باهرةً، وبقي في" أنا" نقطة مظلمة طمَّت على الآيات."(1)
ج - الواقع الكوني والبشري ودلالته على النبوة:
الدلائل الأنفسية - على تعبير النورسي - تدل على النبوة والرسالة، مثلها مثل الشمس المصدّقة بالدلائل الآفاقية، فاجتمعت أعالي تلك الحجج والأدلة على أنّّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمتّع بجميع الأخلاق الحميدة في ذاته.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغالية(2)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 328
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 56(15/67)
يؤكّد الواقع البشري أنّه " لا بد أن يوجد رائدٌ أكمل، ومعلمٌ أكبر، ليرشد الناس إلى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدسة حقيقية.. وليعلّم وجود الحِكَم المبثوثة في إرجائه ويدلّ عليها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشد إلى ما يريد الخالق إظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال أسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهض بعبودية واسعة - باسم المخلوقات قاطبة - تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً أنظار الجميع إلى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به أرجاء السماوات والأرض.. (1)
إنّ الآيات المنظورة والمسطورة تؤكّد أنّ الله تعالى { أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم هدانا أعظم الهداية بكشف الحجاب عن الحق فظهر الحق حقا والباطل باطلا.(2)، فكان بينها توافق يجلي النظام الإلهي للكون بشقيه المادي والمعنوي.
د - الواقع الكوني والبشري ودلالاته على الحشر:
النظر في الكون يدل على تحقيق المعاد وإزالة الشبه، كأنّهم يقولون: أين للإنسان هذه القيمة؟ وكيف له تلك الأهمية؟ وما موقعه عند الله حتى يقيم القيامة لأجله؟
__________
(1) - انظر اللمعات 536
(2) - انظر إشارات الإعجاز 31(15/68)
فكان جواب القرآن الكريم، فقال القرآن بإشارات واضحة:إنّ للإنسان قيمة عالية بدليل أنّ السماوات والأرض مسخّرة لاستفادته، وكذا أنّ له أهمية عظيمة بدليل أنّ الله لم يخلق الإنسان للخلق بل خلق الخلق له، وأنّ له عند خالقه لموقعا بدليل أنّ الله تعالى لم يوجد العالم لذاته بل أوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته. فأنتج أن الإنسان مستثنى وممتاز لا كالحيوانات.(1) ذلك "أنّ الإنسان مميّز عن الحيوان بشمول علاقته بالماضي والمستقبل، وكلّية إدراكه بالأنفس والآفاق.. وكشفه لترتب العلل الظاهرية في إنشاء الأشياء الظاهرية، فأعظم وظيفته وأقدمها، وأتمّ جهازاته وألزمها، التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبّح الإنسان صانعه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الأنفس والآفاق.. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يثني على صانع الأشياء بقراءة أسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صنع الأشياء." (2)
ثانيا: مميزات عرض مقاصد رسائل النور
فرشة التناثر المحكم للمقاصد في النص النوري
تتميّز المقاصد بتكررها في رسائل النور وتوزّعها على نصوصها، بشكل يخدم حكمة التكرار، بحيث تخلص إلى اكتشافها بقراءة أيّ نص من نصوص الرسائل، ذلك التناثر المحكم الذي يدلّ بنفسه على نفي العبثية وتأكيد شهادة الحكمة، وعدم الإهمال...ونظرا للتكرر المستفيض كانت النتيجة الحاصلة يقينية لورودها بالاستقراء التام(3).
ولتلك الميزات حكم كثيرة متناثرة على نص رسائل النور، يمكن أن نجملها في نوعين، الحكمة المعرفية والحكمة النفسية.
أولا : الحكمة المعرفية :
1 – استناد الأشياء الكثيرة والمتكثّرة إلى الواحد الأحد:
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 222
(2) - المثنوي العربي النوري 338
(3) - انظر صيقل الإسلام 140(15/69)
يدلّ الاستقراء على استناد الأشياء كلّها إلى واحد أحد، وبذلك تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب في فهم الكون في شقيه المادي والمعنوي، فيكون التناثر المحكم للمقاصد على النص حجّة قوية قطعية على الحكمة، وبهذا يستبعد استناد الانتظام المحكم إلى أسباب عدة وصنّاع كثيرين، ذلك أنّ تبني هذا الرأي يظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع، لأن شخصاً واحداً وليكن ضابطاً أو بنّاءً، يحصل على النتيجة التي يريدها، ويعطي الوضع المطلوب، لكثرة من الجنود، أو كثرة من الأحجار ولوازم البناء، بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو أحيل ذلك الأمر إلى أفراد الجيش أو إلى أحجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج بل لا يمكن قطعاً إلاّ بصعوبة عظيمة.(1)
لو استصحبت مسلك عدم الإقرار باستناد الكل إلى الواحد الأحد، لأفضى إلى إنكار وجود مقاصد كلية وجزئية حال وجودها المتجلي في عناصر الكون جملة وتفصيلا، وفي ذلك أشنع أنواع إنكار الموجود حال الوجود، يصل حدّ التناقض الصارخ، لا يميل إلى القول به إلاّ ملحد منكر ، ذلك أنّ المقاصد في نفسها وتجلياتها تدلّ على استنادها إلى الواحد الأحد في وجودها ثم بقائها.
2 – الدلالة على التناغم والتوازن:
__________
(1) - انظر المكتوبات 21(15/70)
يظهر توزّع المقاصد على النصوص بشكل متوازن ومتناغم مع الغايات النهائية والجزئية، نرى ذلك في الجزء الواحد كما نراه في الكلّ، "نعم، كما أنّنا نرى أنّ كلّ فرد بحاجة إلى رزق يديم حياته، كذلك جميع موجودات العالم - ولا سيما الأحياء - الكلّي منها والجزئي، أو الكلّ والجزء، لها في كيانها، وفي بقائها، وفي حياتها وإدامتها، مطاليب كثيرة، وضروريات عديدة، مادةً ومعنىً، ومع أنّها مفتقرةٌ ومحتاجة إلى أشياء كثيرة ممّا لا يمكن أن تصل يدُها إلى أدناها، بل لا تكفي قوّةُ ذلك الشيء وقدرتُه للحصول على أصغر مطاليبه، نشاهد أنّ جميع تلك المطالب والأرزاق المادية والمعنوية تُسلَّم إلى يديه من حيث لا يحتسب وبانتظام كامل وفي الوقت المناسب تسليماً موافقاً لحياته متّسماً بالحكمة الكاملة."(1) ولا يخلص إلى تقرير تلك الحقيقة ما لم نسلّم بوجود المقاصد.
3 - النظر إلى الأشياء من زاوية الوظائف المتكاملة:
تقرر الملاحظة الآنفة الذكر بأنّ لوجود كل شيء غايات، ولحياته أهداف ونتائج، فهي ليست بمنحصرة – كما يتوهّم أهل الضلالة – على الغايات والمقاصد التي تتوجه إلى الدنيا أو التي تنحصر في الموجود نفسه، حتى يمكن أن يتسلّل إليها العبث وعدم القصد. بل إنّ غايات وجود كل شيء ومقاصد حياته متنوّعة اختصرها بديع الزمان في ثلاثة أقسام:
أ - القسم الأول: القسم الأعلى والأسمى والمتوجّه إلى الله عزّ وجلّ:
__________
(1) - الكلمات 339(15/71)
يعد هذا القسم أسماها وهو المتوجه إلى صانعه سبحانه وتعالى... أي: "عرض دقائق صنع كل شيء وبديع تركيبه أمام أنظار الشاهد الأزلي سبحانه - بما يشبه الاستعراض الرسمي - حيث تكفي لذلك النظر حياة الشيء ولو للحظة واحدة. بل قد يكفيه استعداده لإبراز قواه الكامنة - الشبيهة بنيّته - ولمّا يبرز إلى الوجود . ومثاله : المخلوقات اللطيفة التي تزول بسرعة، والبذور التي لم يتسن لها إعطاء ثمارها وأزاهيرها، تفيد هذه الغاية وتعبّر عنها تماماً، فلا يطرأ عليها عبث ولا انتفاء النفع البتة. أي أنّ أولى غايات كل شيء هو : إعلانه وإظهاره - بحياته ووجوده - معجزات قدرة صانعه، وآثار صنعته، أمام أنظار عناية مليكه ذي الجلال".
ب - القسم الثاني: المتوجّه إلى الغاية من الوجود والهدف من الحياة في ذوي الشعور
"غاية الوجود وهدف الحياة في هذا المقام هو : التوجه إلى ذوي الشعور أي أنّ كل شيء بمثابة رسالة ربانية زاخرة بالحقائق، وقصيدة تنضح لطفاً ورقّةً وكلمة تفصح عن الحكمة، يعرضها الباري عزّ وجلّ أمام أنظار الملائكة والجن والحيوان والإنسان، ويدعوهم إلى التأمّل، أي أنّ كلّ شيء هو محل مطالعة وتأمّل وعبرة لكل من ينظر إليه من ذوي الشعور".
ج - القسم الثالث:المتوجّه إلى الغاية من الوجود والحياة في الإنسان نفسه
"غاية الوجود وهدف الحياة في هذا السياق هو : التوجه إلى ذات نفسه:كالتمتّع والتلذّذ وقضاء الحياة والبقاء فيها بهناء، وغيرها من المقاصد الجزئية. فمثلاً:إنّ نتيجة عمل الملاّح في سفينة السلطان العظيمة تعود فائدتها إليه وهي أجرته، وهي بنسبة واحد في المائة، بينما تسع وتسعين بالمائة من نتائج السفينة تعود إلى السلطان الذي يملكها.. وهكذا إن كانت الغاية المتوجهة إلى كلّ شيء بذاته وإلى دنياه واحدة، فالغاية المتوجهة إلى بارئه سبحانه هي تسع وتسعون.(15/72)
ففي تعدد الغايات هذا يكمن سرّ التوفيق بين "الحكمة والجود" أي بين " الاقتصاد والسخاء المطلقين" اللذين يبدوان كالضدين والنقيضين. وتوضيح ذلك:
إذا لوحظت غاية بمفردها فإنّ الجود والسخاء يسودان آنذاك، ويتجلى اسم "الجواد"، فالثمار والحبوب حسب تلك الغاية المفردة الملحوظة لا تعد ولا تحصى. أي أنّها تفيد جوداً مطلقاً وسخاء لا حصر له. أما إذا لوحظت الغايات كلّها فإنّ الحكمة هي التي تظهر وتهيمن، ويتجلى اسم "الحكيم"، فتكون الحِكَم والغايات المتوخاة من ثمرة لشجرة واحدة بعدد ثمار تلك الشجرة، فتتوزّع هذه الغايات على الأقسام الثلاثة التي سبق ذكرها. فهذه الغايات العامة تشير إلى حكمة غير نهائية، واقتصاد غير محدد، فتجتمع الحكمة المطلقة مع الجود المطلق اللذان يبدوان كالضدين.
ومثلاً: إنّ إحدى الغايات من الجيش هي المحافظة على الأمن والنظام، فإذا نظرت إلى الجيش بهذا المنظار فسترى أنّ هناك عدداً فوق المطلوب منه.أمّا إذا نظرنا إليه مع أخذنا الغايات الأخرى بنظر الاعتبار كحفظ الحدود، ومجاهدة الأعداء وغيرها، عند ذلك نرى أنّ العدد يكاد يفي بالحد المطلوب... فهو إذن توازن دقيق بميزان الحكمة.إذ تجتمع "حكمة" الحكومة مع "عظمتها". وهكذا يمكن القول في هذه الحالة: أن الجيش ليس فوق الحد المطلوب".(1)
4 – تعدد الوظائف وشمولها:
يعد توزّع المقاصد على النص النوري مظهرا من مظاهر تعدد الوظائف وشمولها إضافة إلى تكاملها، يمكن اكتشاف ذلك من ملاحظة أنّ القدير الجليل وفق ما حدّده من مقاصد مخصوصة أعطى كلَّ عنصرٍ من العناصر وظائف كثيرة، ويُنشئ على كلٍ من تلك الوظائف نتائج كثيرة.
__________
(1) - الكلمات 79(15/73)
فلو ظهرت نتيجة واحدة قبيحة - أي شر ومصيبة وبلاء - من عنصر من العناصر في وظيفة من وظائفه الكثيرة، فإنّ سائر النتائج المترتّبة على ذلك العنصر، تجعل هذه النتيجة الوخيمة في حكم الحسن والجميل، لأنّها جميلة وحسنة إذ لو مُنع ذلك العنصر الغاضب على الإنسان من تلك الوظيفة للحيلولة دون مجيء تلك النتيجة الوحيدة البشعة للوجود لتُركت إذن خيرات كثيرة بعدد النتائج الخيرة المترتبة على سائر وظائف ذلك العنصر. أي تحصل شرور كثيرة بعدد تلك النتائج الخيرة، حيث إنّ عدم القيام بخير ضروري، إنّما هو شر كما هو معلوم.كلّ ذلك للحيلولة دون مجيء شر واحد! وما هذا إلاّ منافاةٌ للحكمة. وهو قبح واضح، ومجافاة للحقيقة، وقصور مشين. بينما الحكمة والقدرة والحقيقة منزّهة عن كلّ نقص وقصور.(1)وبهذا يستبعد خلو الكون من مقاصد ظاهرة جلية.
5 - الأصل الواحد الذي يحكم الكلّ:
__________
(1) - انظر الكلمات 197(15/74)
تناثر المقاصد على جميع الجزئيات والكليات المكتشفة يدل على الأصل الواحد الذي يحكم الجميع في إطار تكاملي شامل، يحدد لكلّ دوره في إطار مقاصد فرعية وكلية، بحيث إذا أسندت الأشياء كلّها إلى واحد أحد، تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب، وإن أسندت إلى أسباب عدة وصنّاع كثيرين تظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع. لأنّ شخصاً واحداً، وليكن ضابطاً أو بنّاءً، يحصل على النتيجة التي يريدها، ويعطى الوضع المطلوب، لكثرة من الجنود، أو كثرة من الأحجار ولوازم البناء، بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو أحيل ذلك الأمر إلى أفراد الجيش أو إلى أحجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج بل لا يمكن قطعاً إلاّ بصعوبة عظيمة.(1)، فلو أحيلت المهارة في بناء القبة إلى أحجارها، وفوّض ما يخصّ الضابط في إدارة الفوج إلى الجنود أنفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولا تأتي إلى الوجود أصلاً أو يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الأمور. بينما إذا أسندت المهارة في بناء القبب إلى صانع ليس من نوع الحجر، وفوّضت إدارة الجنود في الفوج إلى ضابط حاز ماهية الضابط - من حيث الرتبة - فإن الصنعة تسهّل والإدارة تتيسّر، حيث إنّ الأحجار وكذا الجنود يمنع أحدها الآخر.بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجّهان ويديران كلّ نقطة من نقاط البناء أو الجنود دون مانع أو عائق. (ولله المثل الأعلى) إن الماهية المقدّسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميع حقائق الكائنات ليست إلاّ أشعة لاسم " الحق " الذي هو اسم من الأسماء الحسنى لتلك الماهية.(2)وبتلك الصفة نستشف السير المنضبط للكون وفق مقاصد مخصوصة تقتضيها بعض أشعة اسم"الحق".
6 – دليل أهمية المقاصد في رسائل النور:
__________
(1) - المكتوبات 21
(2) - المكتوبات 325(15/75)
توزّع المقاصد على النصوص يدلّ على أهميتها ومركزيتها، بحيث تظهر في الغالب الأعم في كل فقرة من فقرات النص، وبهذا يتأكّد أنّ الشارع الحكيم قصد إظهارها في كلّ النصوص لغاية وظيفية، كي لا يغفل عنها الإنسان، كما أنّ التوزّع على النص وسيلة قوية لفهم الوحدة المتجلية في الكثرة، ذلك أنّ الوحدة المتجلية في الكثرة دليل على المقاصد الموزّعة على النص، كما " أنّ في طريق الوحدة والإيمان سهولة مطلقة بدرجة الوجوب، بينما في طريق الشرك والأسباب والكثرة مشكلات وصعوبات بدرجة الامتناع، لأنّ الواحد يعطي وضعاً معيناً لكثير من الأشياء، ويستحصل منها نتيجة معينة دون عناء، بينما لو أحيل اتّخاذ ذلك الوضع واستحصال تلك النتيجة إلى تلك الأشياء الكثيرة، لما أمكن ذلك إلاّ بتكاليف وصعوبات كثيرة جداً وبحركات كثيرة جداً."(1) بل لعدّ من باب المحال ليس صعبا تصوّره فحسب بل يعد من قبيل التشغيب.
7 – مظهر من مظاهر الحكمة الربانية:
__________
(1) - المكتوبات 333(15/76)
يؤكّد التناثر المحكم للمقاصد في النص النوري، تعدد الغايات الذي تكمن فيه كثير من مظاهر الحكمة الربانية المعبّرة عن بعض وجوه تلك المقاصد الحكيمة، إذ فيها يكمن سر التوفيق بين الحكمة والجود أي بين الاقتصاد والسخاء المطلقين، اللذين يبدوان كالضدين والنقيضين، وتوضيح ذلك إذا لوحظت غاية بمفردها فإنّ الجود والسخاء يسودان آنذاك، ويتجلى اسم "الجواد"، فالثمار والحبوب حسب تلك الغاية المفردة الملحوظة لا تعد ولا تحصى، أي أنّها تفيد جوداً مطلقاً وسخاء لا حصر له، أمّا إذا لوحظت الغايات كلّها، فإنّ الحكمة هي التي تظهر وتهيمن، ويتجلى اسم "الحكيم"، فتكون الحِكَم والغايات المتوخاة من ثمرة لشجرة واحدة بعدد ثمار تلك الشجرة، فتتوزّع هذه الغايات على الأقسام الثلاثة التي سبق ذكرها، فهذه الغايات العامة تشير إلى حكمة غير نهائية، واقتصاد غير محدد، فتجتمع الحكمة المطلقة مع الجود المطلق اللذان يبدوان كالضدين."(1)
8 - استبعاد العبثية:
__________
(1) - الكلمات 79(15/77)
ويستفاد من تناثر المقاصد على النصوص والكون استبعاد العبثية والإسراف في خلق الموجودات، وأنّ عدمهما يشير إلى السعادة الأبدية والدار الآخرة. والدليل على أنّه ليس في الفطرة إسراف ولا في الخلق عبث، وفي ذلك أجلى صور القصد في الوضع، "ذلك أنّ الخالق سبحانه وتعالى قد اختار لخلق كلّ شيء أقرب طريق، وأدنى جهة، وأرقّ صورة، وأجمل كيفية، فقد يسند إلى شيء واحد مائة وظيفة، وقد يعلّق على شيء دقيق واحد ألفاً من الغايات والنتائج. فما دام ليس هناك إسراف، ولا يمكن أن يكون هناك عبث فلابدّ أن تتحقق تلك الحياة الأخرى الأبدية. وذلك إن لم يكن هناك رجوع إلى الحياة من جديد، فإنّ العدم يحوّل كل شيء إلى عبث، بمعنى أنّ كلّ شيء كان إسرافاً وهدراً. إلاّ أنّ عدم الإسراف الثابت حسب علم وظائف الأعضاء في الفطرة جميعها - ومنها الإنسان- ليبيّن لنا أنّه لا يمكن أن تذهب هباءً - فيكون إسرافاً - جميع الاستعدادات المعنوية، والآمال غير النهائية، والأفكار والميول.. حيث إنّ الميل الأصيل إلى التكامل المغروس في أعماق الإنسان يفصح عن وجود كمال معين، وأنّ ميله وتطلّعه إلى السعادة يعلن إعلاناً قاطعاً عن وجود سعادة خالدة وأنّه المرشح لهذه السعادة".(1)
9 – مظهر زينة الكائنات ماديا ومعنويا:
يظهر توزّع المقاصد على النصوص "أنّ الحكيم المطلق قد زيّن هذه الكائنات العظيمة ونظّمها إظهاراً لأمثال هذه المقاصد العظمى والغايات الجليلة.. وأنّ في هذه الموجودات نوعَ الإنسان الذي يستطيع أن يشاهد هذه الربوبية العامة بجميعِ دقائقها، وهذه الألوهية الجليلة بجميع حقائقها.. فلا ريب أنّ ذلك الحكيم المطلق سيتكلم مع الإنسان وسيُعْلِمُه مقاصدَه".(2) فالتوزّع نفسه زينة مادية ومعنوية تدل على الانتظام والنظام، بحيث لو سيق بعضها قبل المقدّم عنه لفقدت الزينة المشاهدة.
10 - دلالتها على المنظّم:
__________
(1) - انظر الكلمات 614
(2) - انظر الكلمات 678(15/78)
التوزّع المحكم للمقاصد على العالمَين المادي والمعنوي يستدل به على المنظّم الحكيم الجواد اللطيف بعباده، بل تعد تلك المقاصد في توزّعها بعض تجليات الأسماء الحسنى.
كما أنّ المقاصد المحكمة التوزيع على العالمين المادي والمعنوي تؤكّد وحدة النظام، وبالتالي كان المنظّم واحدا مستقلا عن النظام نفسه أو مكوّناته.
يقول الأستاذ بديع الزمان:"نعم، كما أنّ الإبداع الظاهر على "المسبَّبات"وروعة جمالها قد عَزَلت الأسباب وسلبتها قدرة الخلق، ودلَّتنا بلسان حالها على مسبِّب الأسباب، وسلَّمتْ الأمور كلّها بيد الله كما جاء في الآية الكريمة: { وَإلَيه يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ } (هود:123) كذلك النتائج التي نيطت بالمسبَّبات، والغايات الناشئة والفوائد الحاصلة منها، تظهر جميعاً بداهةً أن وراء حجاب الأسباب ربّاً كريماً، حكيماً، رحيماً، وأن ما نراه من أشياء ليست إلاّ من صنعه وإبداعه سبحانه."(1)
11 - الآثار المتجددة للنظام:
تجاوز توزّع المقاصد الدلالة على النظام،إذ يدلّ أيضا على تجدد النظام، "يستشف ذلك من الآثار المتجدّدة البادية للعيان، تلك التي تملأ الكون، وتدلّ بداهة على أفعال في منتهى الحكمة والكمال، وأنّ عناوين هذه الأفعال الظاهرة من خلال منتهى الإتقان وغاية الحكمة تدلّ بالبداهة على فاعل كاملٍ منزهٍ عن النقص في عناوينه وأسمائه.لأنَّ الأفعال المتقنة والحكيمة معلومٌ بداهةً أنها لا تحصل دونما فاعل. وأنّ العناوين التي هي في منتهى الكمال تدل على الصفات".(2)
__________
(1) - الكلمات 820
(2) - انظر الكلمات801(15/79)
ويرى أثر المنظّم على صغير الكون وكبيره، فيرى التناغم الفني والوظيفي و...من ذلك "مثلا أنّ النجم كالمَلك والسَمَك له أفراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر، فكل ما يضيء في وجه السماء فهو نجم، فمن هذا النوع ما يُزَيّن به السماء كالجواهر والأثمار والأسماء، ومنه ما يُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، أو للإشارة إلى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، أو للرمز إلى جريان قانون المبارزة في أوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة".(1)
"إنّك لو لاحظت ماهية ما هو ظاهر في أغلب الأشياء من تنظيم الحكمة وتزيين العناية وتقدير العدالة ولطافة الرحمة، تبيّن لك أنّه صادرة من يد القدرة لصانع حكيم، كريم، عادل، رحيم، كذلك إذا لوحظت عظمة هذه الصفات الجليلة وقوتها وطلاقتها، مع قصر حياة هذه الموجودات في هذه الدنيا وزهادتها فان الآخرة تتبين من خلالها".(2)
12- الحكمة الموزّعة على كل مظاهر الكون:
من مقتضيات النظر في التوزّع المحكم للمقاصد على الكونين المنظور والمسطور تأكيد النظام ومشاهدة الحكمة التي تعطي كلّ شيء دوره المنوط به، فتكشف على أنّ المقدّر القدير الحكيم لا يشغله صغير عن كبير، ولا خطير عن حقير. وأنّ المحيط الظاهر الباطن المجرّد عن المادة لا يواري الأكبرُ عنه الصغر.ولا النوعُ الفردَ. وأنّ الصغير مادةً قد يكون كبيراً من جهة الصنعة.وأنّ نوع الصغير، عظيم كثير كبير. وأنّ العظمة المطلقة لا تقبل الشركة أصلا ولا تتحملها.(3)
13 - تقسيم الأعمال وتكاملها:
__________
(1) - المثنوي العربي 336
(2) - انظر الكلمات 97
(3) - انظر المثنوي العربي 415(15/80)
تناثر المقصد بنفسه دال على تقسيم محكم للأعمال في إطار شامل متكامل وأساس هذه القاعدة هو :"أنّ الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل - الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال - فرض وواجب، إلاّ أنّ الطاعة لإشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها. علماً أنّ يد عناية الحكمة الإلهية - التي تقتضي قاعدة تقسيم الأعمال - قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لأداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة (السنن الكونية)".(1)
ثانيا: الحكمة التربوية
1 - الدعوة للاستغفار قدر العدد اللانهائي من تناثر المقاصد التي لا يكافئ عددها ما لانهاية له من الاستغفار:
__________
(1) - صيقل الإسلام43(15/81)
فضل الله على البشر لا حصر له عددا، ونعمه تحيط بهم من كل جانب، ففي كل ّ مقصد نعمٌ لا يبلغها العد، وإذا كان التوزّع لا حصر له ولا عد، بحيث نجد تجلياته في كل شيء مهما دقّ وفي كلّ نص مهما قصر في الغالب الأعم، فإنّ التعدد مدعاة للتذكّر والاستغفار، ولا يقابل ما لا نهاية له بما له حد، فتكون التجليات التي لا حصر لها سببا في الدفع إلى استغفار لا حصر له، سجّل هذا المعنى قول بديع الزمان:"إنني أقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي مالا يعد ولا يحصى من الألسنة لأقسمت بها جميعاً، أقسمت بالذي خلق العالم بهذا النظام الأكمل ( وهي مظهر من المظاهر الجلية للتوزّع المحكم للمقاصد على الكون)، وخلق الكون في منتهى الحكمة والانتظام من الذرات إلى السيارات السابحات في أجواز الفضاء(دليل على توزّع حكيم لا حصر له) ومن جناح البعوضة إلى قناديل النجوم المتلألئة في السموات، ذلكم الحكيم ذو الجلال والصانع ذو الجمال، أقسم به سبحانه بألسنة لا تحد أنّه لا يمكن أن يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف بقية إخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم الزقومية على مدى ألوف السنين، فهذا لا يمكن قطعاً."(1)
2 - تناثر المقاصد تذكير دائم في كل المظاهر الكونية:
__________
(1) - صيقل الإسلام 503(15/82)
يفيد تناثر المقاصد تذكيرا مستمرا دائما، بحيث يتذكّر القارئ المتفحّص الغايات الأصلية وتوابعها، وذلك بما يظهر من غايات متعددة وثمرات متنوّعة ووظائف مختلفة، "انظر في نفسك ألا ترى أنّ للسانك وظائف بعدد شعر رأسك؟ فالجود باعتبارٍ غاية بلا حساب وباعتبار وظيفةٍ لا ينافي الحكمة والعدالة في وجوده الناظر إلى مجموع الغايات والوظائف، كالعسكر المستخدم في تعقيب ذي جناية أو في حماية قافلة مثلا، ففي العسكر كثرة وجود بلا حساب بالنسبة إلى أمثال هذه الخدمات الجزئية مع القلّة والمساواة لما يلزم لحفظ الثغور والحدود وسائر الغايات..(1)
وبسبب الغفلة عن التذكّر المستفاد من العدد الذي لا حصر له من المقاصد الموزّعة بإحكام، تحول النفس الأمارة المتتلمذة للشيطان بين الإنسان والنظر المثمر، فتظنّ صغر الجسم سبب صغر الصنعة، فتجوِّز صدورها من أسباب صمٍ عُميٍ، وتدّعى في الكبير المنبسط عدم الكتابة بالحكمة، ووجود العبثية والتصادف..(2)إنّها أظهر صور الغفلة عن ذلك الحبك المنظّم للمقاصد على الآيات المنظورة والمسطورة.
3 - الدعوة إلى الحسن والخير والحق والكمال:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 356
(2) - المثنوي العربي النوري 356(15/83)
يعد من الأبعاد التربوية المطلوبة والمقصودة، النظر إلى توزّع المقاصد على النص النوري من زاوية تربوية، وييسّر ذلك النظر مشاهدة الحسن والخير والحق والكمال الذي يمثّل مقصدا أساسيا في الغالب، وهو المقصد المطلق في خلق العالم، وبشهادة العلوم جميعها، وبتصديق الاستقراء الناشئ من نظر الحكمة، أمّا الشرّ والقبح والباطل، فهي أمور تبعية ومغلوبة ومغمورة، وحتى لو كانت لها الصولة فهي صولة مؤقتة.(1)، "لهذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جداً، وقسّمه بشكل بارع إلى منازل ودوائر مزيّناً كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار إبداعه وأجملها، ونظّمه ونسّقه بأدقّ دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسّنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه".(2)
4 - اكتشاف قيمة الإنسان:
القراءة النافعة للمقاصد تسهم في اكتشاف الإنسان قيمته، وبذلك تسهم في صناعة وعيه بقوته الكامنه، وتذكّره بوظيفته الأصلية.
إنّ النظر في الكون من زاوية المقاصد يؤكّد أنّه كما أنّ قيمة الإنسان المؤمن قيمةُ ما فيه من الصنعة العالية، والصبغة الغالية ونقوش جلوات الأسماء، المستفادة من تناثر المقاصد عليه وعلى ما حوله من مظاهر الكون المادية والمعنوية، كما أنّ غفلة الإنسان الكافر عن تلك المقاصد المتناثرة تجعل قيمته قيمة مادته الفانية الساقطة..
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 53
(2) - الكلمات129(15/84)
تزيد بلا نهاية قيمة هذا العالم إذا نظر إليه من زاوية تناثر المقاصد على كلّياته وجزئياته - إن نظر إليه بالمعنى الحرفي وبحسابه سبحانه - كما علّم القرآن. أمّا إذا غفلنا عن تلك المقاصد المتناثرة تسقط قيمته إلى درجة المادة المتغيّرة الجامدة - إن نظر إليه بالمعنى الإسمي وبحساب الأسباب (1)- كما علَّمَتْه الحكمة الفلسفية.(2)
5 - ظهور قيمة الأشياء مهما صغرت في تناثر المقاصد على الكون:
الاهتمام بالأنا مفسدة تبعد العناية المعرفية والموضوعية بالأشياء مادية كانت أو معنوية، وخاصة تلك التي لا صلة لها بمصالح الأناني المادية والمعنوية، ويرجع نظر الأناني إلى إهمال المقاصد والغايات في تحقيق النظر الدقيق إلى الأشياء مهما صغرت، فالواحد في هذه المخلوقات والممكنات الاعتيادية - وهي ناقصة فانية –لما فيها من "(النورانية والشفافية والانتظام والامتثال والموازنة) فلابدّ أنّه يتساوى أمام القدير المطلق القليل والكثير، والصغير والكبير، وحشرُ فرد واحد وجميع الناس بصيحة واحدة، وذلك بالتجليات "النورانية" المطلقة لقدرته الذاتية المطلقة وهي في منتهى الكمال، و"الشفافية" و"النورانية" في ملكوتية الأشياء، و"انتظام"الحكمة والقدرة، و"امتثال" الأشياء وطاعتها لأوامره التكوينية امتثالاً كاملاً، وبسر"موازنة" الإمكان الذي هو تساوي الممكنات في الوجود والعدم".(3)
6 - إظهار الوظائف الجزئية للأشياء:
__________
(1) - الظن بأنّ قوّته ذاتية وليست من اللّاه تعالى، ويراد بالشق الثاني التعلّق بالأسباب و ربط المصير بها عوض الرجوع إلى جاعل الأسباب وخالقها.
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 378
(3) - الكلمات 99(15/85)
المعرفة الجزئية في إطار المقاصد والغايات تظهر الوظائف الجزئية فضلا عن الوظائف الكلية الكبرى، ذلك أنّ الكلية الكبرى تركيب لمجموعة من الوظائف الجزئية - قد نبلغ عدّها وقد لا نبلغه-، وقد بيّن بديع الزمان ذلك النظر بمثال رائع، قال فيه:"إذا ما شيَّد معماري بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كلّ حجر من أحجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصوّر مَن له شعور أن لا يبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد، لأنّ هذا يعني تعريض البناء إلى العدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لا يرضى به ذو شعور، أو أنّ حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الأطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن أن يَتَصور مَن له عقل صدور العبث والإسراف المنافيين كلّياً للحكمة المطلقة من ذلك " الحكيم المطلق" فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنّه ينفق لإنشائها وإثمارها الكثير" (1)
والنظر وفق هذه الرؤية المتميّزة يسمح بالتأسيس الجلي للإيمان، لأن إحداث عوالم ذات حياة، وإيجاد كائنات موظّفة في هذه الدنيا، إحداثاً وإيجاداً بكلّ علم وحكمة، وميزان وموازنة، وانتظام ونظام، واستعمالها بقدرة، واستخدامها برحمة في المقاصد الربانية، وفي الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، تدلّ بالبداهة على وجوب وجود ذاتٍ مقدسة جليلة لا حدّ لقدرتها، ولانهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.(2)
7 - اكتشاف التناغم مع الفطرة:
__________
(1) - اللمعة الثلاثون 535
(2) - انظر الشعاعات183(15/86)
النظر التمحيصي في المقاصد يبيّن تناغمها مع الفطرة بجميع مظاهرها ومضامينها، ولعلّ من أهم تلك المظاهر تناغمها مع فطرة الإنسان، إذ يتجلى في المقاصد والغايات الشرعية والكونية المادية والمعنوية الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، بل أبعد من ذلك، فترى الاتحاد في المقاصد والغايات في خدمة ذلك الهدف، لهذا ترى المقاصد محافظة على الميزان الكوني بشكل جلي ظاهر لا يغفل عنه إلاّ مريض ولا ينكره إلاّ متكبّر.(1)
8 - الصلة بين المكوّنات من تناثر المقاصد:
وتظهر صلة المكوّنات المادية والمعنوية ببعضها من تناثر المقاصد وتوزّعها على الكون بمظهريه المسطور(الكتاب)والمنظور(الكون المادي)، خذ مثلا ما اشتهر بين الناس من " حق الحياة " وهو حفظ الحياة مع نوع راحة، فأقلّ وأصغر وأدنى وأحقر من أن يكون جزءاً من ملايين أجزاء " حق الحياة " تلك الحياة التي هي من أعلى وأغلى وأعجب وأغرب وألطف وأشرف معجزات قدرة الحي القيوم الأحد الصمد، بل ما هو إلاّ وسيلة وإنّما يتشرف ما بقي وسيلةً، فإذا ترقى إلى المقصدية، سقط بالزوال هباءً منثوراً.. (2)
__________
(1) - اللمعات 882، الملاحق 184
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 417(15/87)
ومن أمثلة ذلك أيضا، لمعات إعجاز القرآن كما ذكرت في أكثر من موضع من رسائل النور، "إنّه جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون بين الجمل وهيئاتها والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني، مع أنّه نزل في عشرين سنة نجما نجما لمواقع الحاجات، نزولاً متفرّقاً متقاطعاً مع كمال التلاؤم كأنّه نزل دفعة، ولأسباب نزول مختلفة متباينة مع كمال التساند كأنّ السبب واحد، وجاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة مع نهاية الامتزاج والاتحاد كأنّ السؤال واحد.وجاء بيانا لحادثات أحكام متعدّدة متغايرة مع كمال الانتظام كأنّ الحادثة واحدة.ونزل متضمنا لتنزلات إلهية في أساليب تناسب أفهام المخاطبين، لاسيما فهم المنزل بحالات في التلقى متنوعة متخالفة مع حسن التماثل والسلاسة كأنّ الحالة واحدة. وجاء متكلّما متوجها إلى أصناف مخاطبين متعددة متباعدة مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الأفهام كأنّ المخاطب واحد بحيث يظن كل صنف أنّه المخاطب بالأصالة.ونزل مهديا وموصلا لغايات إرشادية متدرجة متفاوتة مع كمال الاستقامة والموازنة والنظام كأن المقصد واحد، فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنّه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً كصحيفة مبصرة واضحة يقلّبها كيف يشاء، فيعرِّف معانيها على ما يشاء.." (1)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 77(15/88)
وتؤكّد رسائل النور تلك الحقائق بظهور اسم "الجواد" في الجزئيات مهما صغرت، وتظهر اسم "الحكيم" في تناغم الكل وتوافقه، ولاشك أنّ الربط بينها لا يكون إلاّ بانتشار المقاصد وتوزّعها على العوالم المادية والمعنوية، ليس هذا فحسب، بل هي تجليات للمقاصد والغايات، يشهد لهذا المعنى قول بديع الزمان:"إذا لوحظت غاية بمفردها فإنّ الجود والسخاء يسودان آنذاك، ويتجلى اسم"الجواد"، فالثّمار والحبوب حسب تلك الغاية المفردة الملحوظة لا تعد ولا تحصى. أي أنّها تفيد جوداً مطلقاً وسخاء لا حصر له. أمّا إذا لوحظت الغايات كلّها فإنّ الحكمة هي التي تظهر وتهيمن، ويتجلى اسم "الحكيم"، فتكون الحِكَم والغايات المتوخاة من ثمرة لشجرة واحدة بعدد ثمار تلك الشجرة، فتتوزع هذه الغايات على الأقسام الثلاثة التي سبق ذكرها. فهذه الغايات العامة تشير إلى حكمة غير نهائية، واقتصاد غير محدد، فتجتمع الحكمة المطلقة مع الجود المطلق اللذان يبدوان كالضدين."(1)
__________
(1) - الكلمات 79(15/89)
ونلاحظ الشاهد نفسه في تجليات الأسماء الحسنى، ففي الدعاء نحن أيضاً نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من أسماء الله الحسنى، نطلب حصول ما يطلب هو .. ثم انظر إلى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيم ٍفي اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة، بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع، ها هو يدعو لمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان بل العالم بل كل المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى، وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ إلى مقامات كمالاتها... ثم انظر كيف يتضرّع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسموات، ويهيّج وجدَها، حتى كأنّ يقول العرش والسموات:آمين اللهم آمين.. ثم انظر ممّن يطلب مسئولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يسمع أخفى دعاءٍ من أخفى حيوانٍ في أخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياة في أدنى غاية، إذ يوصله إليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم، لا يبقى ريب في أنّ هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم(1)، فالغايات راجعة إلى المحيي جلّ جلاله بالمظهرية لتجليات أسمائه، وبإظهار ألوان وأنواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الأخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..(2)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 63
(2) - المثنوي العربي النوري 193(15/90)
وتقرر الحقيقة نفسها في كثير من المواضع في رسائل النور، منها قول النورسي: " إنّ الذي يجعل النتيجة الواحدة تولّد نتائج متعاقبة هو :جمع الأصول المتعددة وذكرها، لأنّ لكلّ أصل من الأصول، وإن لم يكن له ارتباط بالذات وقصدٌ بالنتيجة الرفيعة، ففي الأقل يهزّها ويكشفها إلى حدّ ما. فكأنّ الكلام يشير بتباين الأصول - التي هي مظاهر ومرايا متعددة للمقاصد - وبوحدة النتيجة والمتجلّى، إلى تجرّد المقصد وسموّه"(1)
ويشهد لهذا المعنى تصريحه الذي لا يقبل التأويل، وخاصة في قوله:"ثم إنّ مما يحوِّج إلى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به، ومن الأول متشابهات القرآن الكريم، إذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة، ولأن العوام لا يتلقون الحقائق في الأغلب إلاّ بصورة متخيّلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ (اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ) لتأنيس أذهانهم ومراعاة أفهامهم".(2)
والمتدبّر في كتاب الله يتأمّل مثلا في قوله تعالى: { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ } المسوقة للتهويل المستفاد من التقليل بسر انعكاس الضد من الضد، أفلا ترى التشكيك في "إن" كيف يمد التقليل، والمسّ بدل الإصابة في "مسّت" كيف يشير إلى القلة والتروّح فقط، والمرتّقية والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ "نفحةٌ" كيف تلوِّح بالقلة، والبعضية في "مِن" كيف تومئ إليها، وتبديل النكال بالـ "عذاب" كيف يرمز إليها، والشفقة المستفادة من الـ "ربّ" كيف تشير إليها، وقس؟!.. فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة، وقس على هذه الآية أخواتها، وبالخاصة (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) لأن هذه الآية ذُكرت لمدح القرآن وإثبات الكمال له.(3)
__________
(1) - صيقل الإسلام 110
(2) - إشارات الإعجاز 118
(3) - إشارات الإعجاز 45(15/91)
وتوزّعت المقاصد على العالمين المادي والمعنوي لغرض وظيفي ظاهر، أشرنا في البداية إلى أهميته في التأسيس لدرس تذكيري دائم، إذ يخلص القارئ إلى المقاصد ومن ثمّ وظائفها بالنظرة العجلى إلى أي جزء من أجزاء الكون المادي والمعنوي، وزيادة إلى ذلك يكتشف الناظر إلى الكون من منظور رسائل النور حصة كلّ جزء في المقاصد من جهة ووظائفها من جهة أخرى، فإذا نظر إلى المقاصد من زاوية تحليلة أو تركيبية تقررت الحقيقة المشارة إليها آنفا، وبهذا الصدد يقول بديع الزمان:"فيا من آنس قيمة التركيب من جانب التحليل، وأدرك فرق الكلّ عن كلٍ، انظر نظرة واحدة إلى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌ حصته إلى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب".(1)
__________
(1) - إشارات الإعجاز47(15/92)
كما يؤكّد توزّع المقاصد الدور الكلي للجزء من المقاصد، بمعنى أن للمقاصد الجزئية دورا فاعلا في الكل، بحيث يؤثّر فقدها في تحقيق المقاصد الكلية لوظائفها، "فإن شئت فانظر إليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الأرض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر إنّه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنّه هو إمامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) إلى هذا العصر إلى آخر الدنيا في صفوف الإعصار مؤتمين به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه، فنحن أيضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو .. ثم انظر إلى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع، بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة، بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرّع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان، بل العالم، بل كلّ المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات إلى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأنّ العرشَ والسموات يقول:آمين اللّهم آمين.. ثم أنظر ممن يطلب مسؤلَه، نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، إذ يوصله إليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم.لا يبقى ريب في أنّ هذه التربية(15/93)
والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم."(1)
وهكذا يتجلى في مظاهر الكون المادية والمعنوية وظائف توزّع المقاصد عليها، ويكرّس ذلك النظر في الإنسان نفسه:" إن قلت:إنّ الإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه، وأرضه ذرة بالنسبة إلى الكائنات. وكذا فرده ذرة إلى نوعه ونوعه ذرة بالنسبة إلى شركائه في الاستفادة في هذا البيت العالي. وكذا جهة استفادة البشر بالنسبة إلى فوائد وغايات هذا البيت ذرة، والغايات التي تحسّ بها العقول ذرة بالنسبة إلى فوائده في الحكمة الأزلية والعلم الإلهي، فكيف جعل العالم مخلوقاً لأجل البشر واستفادته علة غائية".(2)
وتوزّع المقاصد يقرر حقيقة المدد المتكامل والشامل للجزئيات في الإطار الكلي الشامل الكون، والأمثلة على ذلك أكبر من أن تحصى، منها قول بديع الزمان:"إذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلّة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيُعين كلٌ الآخر، فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة."(3)
الفصل الثالث
المقاصد الكبرى في رسائل النور
تمهيد
عبّرت رسائل النور عن المقاصد الكبرى بمقاصد المقاصد، وقد أوردها بديع الزمان في سياقات مختلفة بالعنوان المشار إليها بداية الفقرة، لهذا سنعمل على بيان المراد بمقصد المقاصد أو مقاصد المقاصد من جهة المضمون.
- المقاصد الكبرى ومقاصد المقاصد:
__________
(1) - الكلمات 261
(2) - إشارات الإعجاز162
(3) - الكلمات 442719(15/94)
عبّر عن مقاصد المقاصد في قوله:"إنّ الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو : أنّ المقاصد القادمة من أبعد هدف وأعلاه - وهو مقصد المقاصد - يرتبط بعضها ببعض، ويكمل أحدها نقصان الآخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأنّ وضع هذا في موضعه يمكّن الآخر في مكانه، ويقرّ الآخر في مستقره.. وهكذا كلٌ يأخذ محله الملائم له، فتنصبّ تلك المقاصد في قصر الكلام المشيد بملاحظة نسب يمين هذا وشماله وكل جهاته.وكأنّ المتكلّم استعار عقولاً إلى عقله للتعاون، وغدا كل مقصد من تلك المقاصد جزءاً تشترك فيه التصاوير المتداخلة، بمثل ما إذا وضع رسام نقطة سوداء في صور متداخلة، فإنّها تكون عين هذا ومنخر ذاك وفم هذا وشامة ذلك.. وهكذا ففي الكلام الرفيع نقاط أمثال هذه .."(1)
كما نجده في سياقات أخرى يذكر المقاصد الفرعية للمقاصد الكبرى مؤقّتة تيسيرا لفهمها واستيعابها، وبهذا الصدد يبيّن في سياق تفسير الاسم أنّ "المقصد الأول:إنقاذ ذلك الاسم من التحديد والتخصيص، وليعلن شموله المؤمنين عامة كي لا يقع الخلاف والفرقة ولا ترد الشبهات والأوهام.." ، ينتقل بعدها إلى المقصد الثاني، فيؤكّد أنّه جعل ليكون سداً أمام افتراق الفرق والأحزاب الذي كان سبباً في هذه المصيبة الفائتة العظيمة، وذلك بمحاولة التوحيد بينها، ثم يذكر الأستاذ تأسّفه لعدم إسعاف الزمان له،إذ جاء السيل فأوقعه. (2)
__________
(1) - صيقل الإسلام 110
(2) - انظر صيقل الإسلام 447 سيرة ذاتية 96(15/95)
وعبّر عن تلك المقاصد أيضا في سياق الحديث عن المقاصد الإلهية من خلق الكون، وفي ذلك يقول:" الدليل الثامن:إنّ هذا الكون مثلما يدل على صانعه، وكاتبه، ومصوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ، أوكأنه كتاب كبير، أوكأنه معرض بديع، أوكأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويعلِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات.أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، وأستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً. فأدرك السائح: أن الكون - من حيث هذا الاقتضاء - يدل ويشهد على صدق هذا النبي"(1)
كما وظّفها في مقام بيان المقاصد الإلهية، إذ يتّضح لجميع أرباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وإرشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبين بأجمل صورة وأجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع "الحكم الحكيم".. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمها مظاهر الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق، فإنسانٌ هذه مهمته، إنسان ضروري وجوده، بل يستلزمه هذا الكون، كضرورة الشمس ولزومها له.(2)
واعتبر في الرسائل –رسائل النور- الإنسان أعظم المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني.وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الإنسان المكرّم مَن هو أكمل وأفضل وأعظم إنسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الإنساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.(3)
__________
(1) - المكتوبات 284
(2) - اللمعات 537
(3) - اللمعات 555(15/96)
حصر النورسي مقاصد المقاصد في خمسة تمثّل الأنهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفور هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في ثالثة، فأدنى ترشِّحٍ على السطح يومي بتماس عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقة لها. (1)، "حتى إن إشارات القرآن الكريم، ومقتضى اسم الله " الحكيم " والحكمة المندرجة في الكائنات مع شهادات الروايات الكثيرة وأمارات لا حد لها.. تدلّ على أن الحسنات تتمثل بصورة ثمرات الجنة والسيئات تتشكل بصورة زقوم جهنم."(2)
مقصد المقاصد في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة الإنسان ، وقد جعل بديع الزمان هذا المقصد نصب عينه، غاية ينشدها وهدفا أساسيا يسعى إليه سعيا حثيثا، إذ اعتبر الإنسان أعظم المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني.وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الإنسان المكرّم مَن هو أكمل وأفضل وأعظم إنسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الإنساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.(3)
تفرض خدمة هذا المقصد وتحقيقه واقعيا الإحاطة بالمقاصد الكلية في رسائل النور، تلك المقاصد المستوحاة من الوحي الكريم، ويلاحظ القارئ الفاحص أنّها تصب جميعا في مقصد خدمة الإنسان، وبيّن من عناوينها أنّنا أمام الغايات الكبرى لوجود الإنسان من جهة وآليات ضبطها ومصادر فاعليّتها وتفاعلها الإنساني مع الحياة المادية والمعنوية.
من منطلق ما سبق تقريره ، ننتقل إلى بيان مقاصد القرآن الكريم، كما بيّنها بديع الزمان النورسي في رسائل النور.
المقاصد الكلية للقرآن الكريم وفق بيان النورسي:
المقاصد الأساسية للقرآن الكريم:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 61
(2) - الكلمات 694
(3) - اللمعات 555(15/97)
ترمي رسائل النور إلى بيان المقاصد الأساسية للقرآن الكريم، وقد صرّح المؤلّف بهذه المعاني في قوله:" اعلم! إن مقاصد القرآن الأساسية وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والرسالة، والحشر، والعدالة مع العبودية. فيصير سائر المسائل وسائل هذه المطالب. ومن القواعد: عدم التعمق في تفصيل الوسائل، لئلا ينتشر البحث بالاشتغال بما لا يعني فيفوت المقصد. فلهذا قد ابهم وقد أهمل وقد أجمل القرآن في بعض المسائل الكونية. وكذا إن الأكثر المطلق من مخاطب القرآن عوام وهم لا يقتدرون على فهم الحقائق الغامضة الإلهية بدون توسيط التمثيل والتقريب بالإجمال، ولا يستعدون في كل وقت لمعرفة مسائل لم يوصل إليها بعدُ القرون الطويلة إلا قليل من الفلاسفة. فلهذا أكثر القرآن من التمثيل، ومن التمثيل بعض المتشابهات فإنها تمثيلات لحقائق غامضة إلهية. وأجمل فيما كشفه الزمانُ بعد عصور وبعد حصول مقدمات مرتبة.. "(1)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 75(15/98)
وصرّح في مواضع كثيرة أنّ مقاصد القرآن الكريم الأساسية التي عبّر عنها في بالأقطاب الأربعة، حيث ذكر أنّها أشبه بالجواب عن سؤال واحد، جاءت بياناً لحادثات أحكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في أساليب تناسب أفهام المخاطبين، لاسيما، المنزل عليه "عليه السلام" بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً إلى أصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الأفهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالأصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات إرشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد، تدور تلك المقاصد والغايات على الأقطاب الأربعة: وهي "التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة". فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.(1)
__________
(1) - انظر المثنوي العربي النوري 230، إشارات الإعجاز 23(15/99)
وقد حوى القرآن الكريم ذكر الأقطاب بطريقة لم يأت ولن يأتي مثلها ولن يدانيها شيء قط، ذلك لأن القرآن الكريم إنما هو خطاب من رب العوالم جميعاًً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لا يمكن تقليدها - بأي جانب من الجوانب - وليس فيه أمارة تومئ بالتصنع. ثم إنّ المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو أكرم من أصبح مخاطباًً وأرفعهم ذكراً، وهو الذي ترشح الإسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرّج به إلى قاب قوسين أو أدنى فنزل مكلّلاً بالمخاطبة الصمدانية. ثم إنّ القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضّح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضّحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الإيمان السامي الواسع الذي يضمّ الحقائق الإسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباًً إيّاه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه. معلّماً الإنسان صانعه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته، فلاريب ولابد أنّه لا يمكن الإتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولا يمكن مطلقاً أن تنال درجة إعجازه."(1)
وتتميّز تلك الأقطاب الأربعة المعبّر عنها بالمقاصد بورودها في أقل القليل من آي القرآن الكريم، بحيث تتجلى للعاقل المتدبّر في كل سور القرآن الكريم، فكما تتراءى هذه المقاصد الأربعة في كلّه، كذلك قد تتجلى فيه سورةٍ سورة، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلام، بل قد يُرْمَز إليها في كلمةٍ كلمة، لأن كل جزء فجزء كالمرآة لكلٍ فكلٍ متصاعداً، كما أنّ الكلّ يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلا، فترى المقاصد الأربعة في "بسم الله" وفي "الحمد لله".(2)
__________
(1) - الشعاعات 179
(2) - انظر إشارات الإعجاز 24(15/100)
لهذا فالمقاصد جلية واضحة في كل السور، نرى في السورة الواحدة أحكاما ضمنية:كالإشارة إلى التوحيد والنبوة والحشر والعدل أني المقاصد الأربعة المشهورة، مع أنّ في أكثر السور يكون المقصود بالذات واحداً منها، والباقي استطراديا.فلِمَ لا يجوز أن يكون لجهة أو حُكمٍ أو مقام منها مناسبة مخصوصة لروح السورة وتكون موضوعاً للمقام بل فهرسة إجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات(1)
وقد لخّص بديع الزمان المقاصد الأساسية للقرآن الكريم بأقطاب أربعة هي: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة، وأضاف إليها في بعض السياقات العبودية، وردت كالاستطراد المرتبط بالعدالة أساسا بوصفه مزهرا من مظاهرها.
يرى بديع الزمان أن مقاصد القرآن الكريم تتلخّص في التوحيد والنبوة والحشر والعدالة، وهي بمجموعها كما هو بيّن من عناوينها جعلت لخدمة الإنسان معرفيا واجتماعيا وحتى إنسانيا.
أولا : المقصد الأول : التوحيد
احتفى القرآن الكريم بمقصد التوحيد، واعتنى به عناية فائقة، تشهد لها مستودعات الخالق الكريم في الخلق بمظاهره المادية والمعنوية، إذ يظهر التوحيد في كل شيء غاياتٍ كثيرة مهمة من جهة نظره إلى صانعه، ومن تلك الغايات إظهار الشيء لأسماء خالقه، كأنّ الشيء كلمة واحدة جامعة لرموز الأسماء، فتدل عليها(2).
النقطة الأولى:أساليب التعبير عن هذا المقصد في رسائل النور
تعد رسائل النور في مجال بيان مقصد التوحيد امتثالا لما ورد في الوحيين، امتثال له حضوره في مضمون الرسائل ومنهجها زيادة إلى أبعادهما المعرفية والتربوية والحضارية و...
1 – أسلوب التأسيس للتوحيد:
نسج بديع الزمان في التأسيس للمقصد الأول بما ورد في الأصلين وخاصة القرآن الكريم، فترى هذا الأمر في جملة متناغمة تتوزّع على حاجات الإنسان(المخاطب) بالتوحيد.
أ – أسلوب المحاججة العقلية:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 40
(2) - المثنوي العربي النوري 466(15/101)
يشبع هذا النوع من العرض حاجة الإنسان إلى القناعة العقلية بوصفها من أهمّ وسائل التواصل مع المخالف من جهة وبوصفها معبّرة عن صورة من صور مناط التكليف من جهة أخرى(العقل مناط التكليف).
رمى بديع الزمان إلى التأسيس للمقصد الأول(التوحيد)بما ورد في كتاب الله وفق استعمالات بعض المهتمين بالنظر في مباحث العقائد الإسلامية،فتراه تارة مستصحبا لما يشبه دليل التمانع عند المتكلّمين، وقد عرض الدليل وفق ما يوافق عقلية ومعارف أهل عصره، وفي هذا السياق يقول - رحمه الله -:" فبمقتضى قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } إذا ما حلّ مختاران في قرية، وواليان في ولاية وسلطانان في بلد، فالانتظام يختل حتماً والانسجام يفسد نهائياً.والحال أنّ الانتظام الدقيق واضح بدءاً من جناح البعوضة إلى قناديل السماء، فليس للشرك موضع ولو بمقدار جناح بعوضة، فما دام هؤلاء يمرقون من نطاق العقل ويجافون الحكمة والمنطق ويقومون بأعمال منافية كلّياً للشعور والبداهة، فلا يصرفك تكذيبهم لك عن التذكير والإرشاد."(1).
__________
(1) - الكلمات 449(15/102)
استعمل بديع الزمان أسلوب التوجيه العقلي تيسيرا لاستيعاب المعاني العظيمة المكنونة في التوحيد، حتى ليغدو رفض التوحيد عند المسلمين منافيا لبداهة العقول، وفي ذلك يقول:"اعلم أنّه قد يستعظم المرء النتيجة وهي التوحيد المحض الخالص، ولا يسعها ذهنُه الكاسد، أولا يتحملها خياله الفاسد، فيشرع يردّ براهينها الصحيحة القاطعة، ويتعلّل بأنّ نتيجة بهذه العظمة لا يمكن أن يقبلها ويقيمها هذا البرهان، ولو كان في غاية القوة. فالمسكين لا يعرف أن قيوم النتيجة الإيمان، وما البرهان إلاّ منفذ ينظر إليها.. أو مكنسة يطهّر الأوهام عنها.مع أنّ البرهان ليس واحداً، بل لها براهين عدد رمال الدهناء، وبمقدار حصى البطحاء وقطرات الأمطار وأمواج البحار."(1)، ليس هذا فحسب، بل إنّ مشاهدة براهينه العظيمة من جميع جوانبها تورّث العلم اليقيني أنّ الذي يعلنه واثق كلّ الثقة من نتيجة التوحيد، ومطمئن اطمئناناً لا يشوبه تردد قط، إذ يبني جميع الأمور على هذه النتيجة الرصينة، بل يجعلها حجر الزاوية لكلّ شيء في الوجود.. فمثل هذا الأساس الراسخ لا يمكن أن يكون تكلّفاً وتصنّعاً البتة، بل يجعل الإعجاز الباهر على هذا البرهان مستغنياً عن تصديق الآخرين له، فأنباؤه كلها صدق، ثابتة وحق وحقيقة بنفسها.(2)
ب – أسلوب التذكير(مخاطبة الوجدان - القلب -):
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 325
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 427(15/103)
التوحيد بالمعنى الوجداني ووفق مسلك بديع الزمان في العرض يورّث معاني عظيمة في قلوب معتقديه، ومخاطبة الوجدان بأسلوب التذكير تكون نتيجته الأخروية المحبّة المشروعة المكلّلة بالشكر للّه، نحو الأطعمة اللذيذة والفواكه الطيّبة في الدنيا، هي تلك الأطعمة والفواكه الطيّبة اللائقة بالجنة الخالدة...كما ينصّ عليه القرآن الكريم، هذه المحبة، محبة ذات اشتياق واشتهاء لتلك الجنة وفواكهها، حتى أنّ الفاكهة التي تأكلها في الدنيا وتذكر عليها "الحمد للّه" تتجسّم في الجنة فاكهة خاصة بها وتقدّم إليك طيبة من طيبات الجنة. فأنت تأكل هنا فاكهة، وهناك " الحمد للّه " مجسمة في فاكهة من فواكه الجنة...وحيث أنك تقدم شكراً معنوياً لذيذاً برؤيتك الإنعام الإلهي والالتفات الرباني في الأطعمة والفواكه التي تتناولها هنا، فستسلم إليك هناك في الجنة أطعمة لذيذة وفواكه طيبة، كما هو ثابت في الحديث الشريف وبإشارات القرآن الكريم، وبمقتضى الحكمة الإلهية ورحمتها الواسعة.(1)
ج- التركيب بين مخاطبة العقل والوجدان:
__________
(1) - انظر الكلمات 775(15/104)
وتأسيسا لمعاني التوحيد في القلوب والعقول اعتنى القرآن الكريم بإبطال أقوال المناوئين للتوحيد من جهة وتنبيها للمؤمنين من جهة أخرى، أشار إلى تلك المعاني في قوله:"إنّ أمثال الآيات الكريمة التالية تبين عظمته سبحانه وتعالى وكبرياءه المطلقين:فابتداءً من قوله تعالى: { وما قدروا الله حقّ قَدرهِ والأرضُ جميعاً قب-ضتُه يومَ القيامة والسمواتُ مطويّاتٌ بيمينه } (الزمر: 67) إلى قوله تعالى: { واعلَموا أن الله يحُولُ بين المرء وقلبه } (الأنفال: 24) ومن قوله تعالى: { خالقُ كلّ ش--يءٍ وهو ع-لى كل ش-يء وكي-ل } (الزمر: 62) إلى ق-وله تعالى: { يعلمُ ما يُسرّون وما يُعلنون } (البقرة: 77) ومن قوله تعالى: { خَلَقَ السموات والأرض } (الاعراف:54) إلى قوله تعالى: { خَلَقَكُم وما تَعملون } (الصافات: 96). ومن قوله تعالى: { ما ش-اءَ الله لا قوة إلاّ بالل-ه } (الكهف:39) إلى ق-وله تعالى: { وما تشاءون إِلاّ أن يشاء الله } (الإنسان: 30). هذه الآيات الجليلة تب-يّن إحاطة عظمة ربوبيته سبحانه وكبرياء ألوهيته بكلّ شيء.. هذا السلطان الجليل، سلطان الأزل والأبد يهدّد بشدة ويعنّف ويزجر ويتوعّد هذا الإنسان الذي هو في منتهى العجز ومنتهى الضعف ومنتهى الفقر، والذي لا يملك إلاّ جزءاً ضئيلاً من إرادة اختيارية وكسباً فقط، فلا قدرة له على الإيجاد قطعاً. والسؤال الوارد هو : ما أساس الحكمة التي تبنى عليها تلك الزواجر والتهديدات المرعبة والشكاوى القرآنية الصادرة من عظمته الجليلة تجاه هذا الإنسان الضعيف، وكيف يتم الانسجام والتوفيق بينهما."(1)
__________
(1) - الكلمات 190(15/105)
استفاد النورسي في التأسيس لمقصد التوحيد بما ورد في القرآن الكريم من عناية بالأسماء الحسنى في وظيفتيها المعرفية والاجتماعية، يشير إلى هذه المعاني في كثير من نصوصه، منها قوله - رحمه الله منبّها ومعلّما -:"اعلم! أنّ الأسماء الحسنى كلٌ منها يتضمن الكلَّ إجمالاً، كتضمن الضياء للألوان السبعة.. وكذا كلٌ منها دليل على كلّ منها، ونتيجةٌ لكلٍ منها، بينها تعاكسٌ كالمرايا.فيمكن ذكرها كالقياس الموصول النتائج متسلسلاً، وكالنتيجة المترتبة الدلائل. إلا أن الاسم الأعظم الواحد يتضمن الكلَّ فوق هذا التضمن العام. فيمكن للبعض الوصول إلى نور الاسم الأعظم بغيره من الأسماء الحسنى. فيتفاوت الاسم الأعظم ُبالنظر إلى الواصلين. والله أعلم بالصواب."(1)
د - عرض من طبيعة مخصوصة:
والتوحيد الذي نظم القرآن عقده ورتّب عناصره ليس عقليا صرفا ولا ذوقيا بحتا، بل إنّ التوحيد وفق نسق القرآن الكريم، كما صوّره الأستاذ النورسي، توحيد ذوقي لا ينحصر في نظر العقل والفكر، إذ أنّ شدة الاستغراق في التوحيد - بعد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - يُفضي إلى وحدة القدرة، أي: لا مؤثر في الكون إلاّ الله. ثم يؤدي هذا إلى وحدة الإرادة، وهذا يسوق إلى وحدة الشهود ثم إلى وحدة الوجود. ومن بعدها رؤية وجود واحد ثم إلى رؤية موجود واحد.
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 236(15/106)
ونظرا لخطورة ما انتهى إليه أمر التوحيد عند القائلين بوحدة الوجود، استبعد الأستاذ البدع المتسرّبة إلى رحاب التوحيد، من هنا قال معلّقا على الصوفية:" فشطحات علماء الصوفية التي هي من قبيل المتشابهات لا تقام دليلاً على هذا المذهب، فالذي لم تتخلص روحهُ من تأثير الأسباب ولم تتجرد من دائرتها إذا ما تكلم عن وحدة الوجود يتجاوز حدّه، والذين يتكلمون به إنّما حصروا نظرهم في " واجب الوجود " حصراً بحيث تجرّدوا عن الممكنات فأصبحوا لا يرون إلاّ وجوداً واحداً بل موجوداً واحداً.. نعم، إن رؤية النتيجة ضمن الدليل، أي رؤية الصانع الجليل ضمن موجودات العالم شيء ذوقي ولا يمكن بلوغها إلاّ باستغراق ذوقي. فإدراك حقيقة جريان التجليات الإلهية في جداول الأكوان، وسريان الفيوضات الإلهية في ملكوتية الأشياء، ورؤية تجلي الأسماء والصفات في مرايا الموجودات.. أقول: إن إدراك هذه الحقائق أمرٌ ذوقي.إلاّ أن أصحاب مذهب وحدة الوجود لضيق الألفاظ عبّروا عن هذه الحقيقة بالألوهية"(1)
2 – أسلوب إبطال أقوال المناوئين للتوحيد:
قطعا لطريق المكابرة يستبعد الأستاذ المحاججة النقدية الجافة، ويركّز على التذكير المازج بين مسلكي إقناع العقول والتوجّه إلى القلوب، ويقرر تلك الحقيقة بأسلوب تذكري تربوي، فيقول:"اعلم! يا من يستعظم النتيجة ويستضعف دليلها! أنّه ما من دليل يشهد على حقيقةٍ من الحقائق الإيمانية، إلاّ ويزكيّه ويؤيّده ويقوّيه ويمدّه كلُّ ما قام على الصدق؛ فكأنّ كلَّ مالا يعدّ من الشواهد والشهداء والبراهين والأمارات، كل منها يضعُ إمضاءه على سند كلٍ من أخواتها، فيختم كلٌّ منها خاتمَ تصديقه على منشور كلِّ واحدٍ ...خلافاً للنافي، إذ للمنافاةِ بين النافي والمثبتِ يُنفى منَ النَّافي ما يُثبِتُ للمُثبتِ.فألفُ نافٍ كفردٍ.. (2)
3 – مميزأت أسلوبي التأسيس والإبطال:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 432
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 192(15/107)
أ – البساطة والوضوح:
كان مسلكه واضحا و بسيطا يبتعد عن التقعير والتعقيد، ذلك أنّه موجّه لجمهور الناس، إذ من مقتضيات ذلك مراعاة سير الضعفاء في ميدان البحث والاستدلال، فكانت حججه في الجملة واضحة جلية عبارة ومضمونا وصياغة، ومن مترتّبات هذا السمعى تحلية القلوب والعقول بالتوحيد بيسر ووضوح، فإذا حيل دون ذلك بمشوشات فكرية أو(علمية) عمدت رسائل النور وفق مسلك القرآن الكريم إلى تخلية القلوب من الآراء المناوئة أوالمخالفة، فكان المسلك جامعا بين البناء (الإنشاء) والهدم (النقد) في أسلوب بسيط بيّن.
يشهد لهذا المعنى ما استقاه الأستاذ بديع الزمان من القرآن الكريم في وضوحه وبساطته، فيقول - رحمه الله - :" القرآن إنّما يبحث عن الكائنات استطراداً للاستدلال على ذات الله وصفاته، ومن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظْهَر من النتيجة، والنتيجة معرفة ذات الله وصفاته وأسمائه.فلو قال على ما يشتهيه أهل الفن: " يا أيّها الناس فانظروا إلى الشمس في سكونها، وإلى الأرض في حركتها لتعرفوا عظمة قدرة خالقها "، لصار الدليل أخفى وأغمض من النتيجة وأبعد بمراتب من فهم أكثر البشر في أكثر الأزمان والأعصار، مع أنّ حق الأكثر المطلق أهم في نظر الإرشاد والهداية. فمراعاة فهمهم لا تنافي استفادة المتفلسفين المتعمقين القليلين. ولكن في مراعاة هذا الأقل محرومية الأكثر في أكثر الأوقات."(1)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 72(15/108)
وبيّن من أسلوبه الذي لا لبس فيه أنّ التوحيد من السهولة والوضوح ما يجعل تصوّر نقيضه في منتهى البعد، إذ النظر بعيني البصر والبصرية في الكون بعناصره المادية والمعنوية يخلص بالباحث إلى التوحيد والوحدة، بوصفها نتيجة موضوعية لتلك المقدّمات التي لا تحصى عدّا، يشهد لهذه المعاني ، قول النورسي:"وَفي الوَحْدَةِ سُهولَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَفي الكَثْرَةِ وَالشِّرْكَةِ صُعُوبَةٌ مُنغَلِقَةٌ.إنْ اُسْنِدَ كُلُّ الأشْيَاءِ للِوَاحِدِ، فَالكَائِنَاتُ كَالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَةُ كَالثَّمَرَةِ سُهولَةً في الابْتِدَاعِ.. وَإنْ اُسْنِدَ للِكَثْرَةِ فَالنَّخْلةُ كَالكَائِنَاتِ وَالثَّمَرَةُ كَالشَّجَرَاتِ صُعُوبَةً في الامْتِنَاعِ، إذْ الوَاحِدُ بِالفَعْلِ الوَاحِدِ يُحَصِّلُ نَتِيجَة ً ووَضْعيِة ً للكَثيرِ بِلا كُلْفَةٍ ولا مُبَاشَرَةٍ، لَو أحِيلَتْ تِلْكَ الوَضِْعيَّةُ وَالنَّتيجَةُ إلى الكَثرَةِ لا يُمْكنُ أنْ تَصِلَ إلَيهَا إلاّ بِتَكَلُّفَاتٍ وَمُبَاشَرَاتٍ وَمُشَاجَرَاتٍ، كَالأمِيرِ مَعَ النَّفَرَاتِ وَالبَانِي مَعَ الحَجَراتِ وَالاَرضِ مَعَ السَّيَّارَاتِ والفَوَّارَةِ مَعَ القَطَرَاتِ وَنُقطَةِ المَرْكَزِ مَعَ النُّقَطِ في الدَّائِرَةِ"(1)
ب - المحاججة العقلية
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 142(15/109)
لم يكتف بديع الزمان بالبناء(التأسيس)بل جاوزه إلى التمحيص والنقد، فرمى إلى تحرير القلوب والعقول من المعارف المزاحمة، فيذكر محذّرا: " إنّ ما يتوهم بقصور النظر من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة المنجرة إلى الاستنكار في إسناد كلّ شيء إلى الواجب الوجود الواحد الأحد. فتلك الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة والمعالجات تنقلب حقيقية عند عدم الإسناد إلى صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، بل تتضاعف تلك الأمور عند إسناد الآثار إلى جانب الإمكان والكثرة والأسباب وأنفسِها، عددَ أجزاء الكائنات.. فما يتوهم في إسناد الكل إلى الواجب يتحقق في إسناد جزء واحد إلى غيره تعالى. بل الأولُ أسهل وأيسر، إذ صدور الكثير عن الواحد أقل كلفة من صدور الواحد عن الكثير المتشاكسين العُمي الذين اجتماعهم يُزيدهم عمىً، إذ النحلة لو لم تخرج من يد قدرة الواجب، لزم اشتراك ما في الأرض والسموات في وجودها!.. بل تترقى الكلفة والمعالجة في الجزء الواحد من الذرة بالنسبة إلى الوجوب إلى أمثال الجبال، ومن الشعرة إلى أمثال الحبال، لو أحيل على الأسباب.. إذ الواحد بالفعل الواحد يحصّل وضعية ومصلحة للكثير، لا يصل إلى عين تلك الوضعية والنتيجة الكثيرُ، إلاّ بفعل كثير، كالأمير بالنسبة إلى نفراته، والفوّارة إلى قطراتها، والمركز إلى نقاط دائرته.فبفعل واحدٍ تصل هذه الثلاثة إلى تحصيل وضعيةٍ للكثير، ونتيجةٍ لاتصل النفرات والقطرات والنقاط لو أحيلت عليها إلاّ بأفعال كثيرة وتكلفات عظيمة. بل الاستغراب والاستبعاد الموهومان في طرف الوجوب، ينقلبان هنا إلى محالات متسلسلة."(1)
ج- التذكير الوجداني
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 112(15/110)
الذكر الذي علّمه الله المسلمين يشهد بحقيقة التوحيد الناصعة، فما كانت تلك المعارف إلا شهودا إضافيين يؤيّدون كلام ربّ العالمين وتوجيهاته المتجلّية في كلّ مظاهره في الكون، "فانظر وقل: الله أكبر.. هو القادر المقيم.. هو البارئ العليم.. هو اللطيف الكريم.. هو الودود الرحيم.. هو الجميل العظيم.. هو نقاش العالم.. إن شئت أن تعرف هذا العالم ما هو كله أجزاؤه، الكائنات ما هي نوعاً وجزئياتٍ، فإنّما هو هي خطوط قضائه.. رسوم قدره.. في تنظيم الذرات.. في تعيين الغايات.. في تقدير الهيئات."(1) نحاول تقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة في الوقت نفسه إلى الأذهان بمثال، نصفّيه بمصاف ونحلله بمحللات مختلفة، ومهما يطل البحث بنا فإنه يعدّ قصيراً، فينبغي عدم السأم."(2)
د – التركيب بين برهان العقل ومخاطبة الوجدان:
يظهر الجمع بين مخاطبة العقول والقلوب في مضمون الشواهد وصيغها، فتتوافق الشواهد الكونية وتتناغم فيما بينها للدلالة على التوحيد، يستشف هذا الأمر في أسماء الله الحسنى، كما أنّ في كل شيء وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - إلى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة : { وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده } إذ أن حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى الأسماء الإلهية الحسنى.
ويذهب الأستاذ إلى أنّ حقيقة كلّ شيء تستند إلى اسم من الأسماء أو إلى كثير من الأسماء، ويتجلى هذا التقرير والبيان فيما يأتي:
الإتقان الموجود في الأشياء يستند إلى اسم من الأسماء.
علم الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم الله " الحكيم ".
علم الطب يستند إلى اسم الله " الشافي ".
علم الهندسة يستند إلى اسم الله " المقدّر " ..
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 473
(2) - الكلمات 749(15/111)
وهكذا كل علم من العلوم يستند إلى اسم من الأسماء الحسنى وينتهي إليه، كما أنّ حقيقة جميع العلوم وحقيقة الكمالات البشرية وطبقات الكمّل من البشر، تستند كلها إلى الأسماء الإلهية الحسنى، حتى قال أولياء محققون إن:"الحقائق الحقيقية للأشياء، إنّما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الأشياء فهي ظلال تلك الحقائق "، بل يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الأسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب.
ه-– ضرب الأمثلة
دلّت الآيات الكونية المبثوثة في ثنايا عناصر الكون المادية والمعنوية على التوحيد، نبّه الأستاذ إلى هذا في قوله:"فهذا مثالُ آيةٍ واحدة للتوحيد تَظهر على سطح الأرض في فصل الربيع والصيف! فتأمل إذن كيف يظهر ختمُ الواحدية بجلاء على تصريف الأمور في الربيع الهائل على سطح الأرض وهو في منتهى الحكمة والبصر، ذلك لأن هذه الإجراءات المشاهَدة، هي في انتظام مطلق، وخلقة تامة، وصنعة كاملة بديعة، مع أنّها تجري في سعة مطلقة، ومع هذه السعة فهي تتم في سرعة مطلقة، ومع هذه السرعة فهي ترد في سخاء مطلق. ألا يوضح هذا أنه ختمٌ جلّي بحيث لا يمكن أن يمتلكه إلاّ مَن يملك علماً غير متناهٍ وقدرة غير محدودة."(1)
__________
(1) - الكلمات 337(15/112)
وتأكيدا لبيان مسألة التوحيد، ينبّه بديع الزمان إلى الفرق بين مدينتي الكفّار والمؤمنين، تأسيسا لمعنى الوظيفة المعرفية والمنهجية للإيمان بالله، فيذكر تلك المعاني في صيغة تربوية تعليمية، يشهد لها مطلع التوجيه، حيث قال رحمه الله:" اعلم! أنّ الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أنّ الأولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرها مزيّن، باطنها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أنسية وتحبب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوةً بين كل الكائنات، وأنسية وتحببا بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى أخوةً في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقياً في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. وأما الكافر فبحكم الكفر له أجنبية ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شيء لا نفع له فيه، حتى مع أخيه، إذ لا يرى الأخوة إلاّ نقطة اتصال بين افتراق أزلي ممتد، وفراق أبدي سرمد، إلاّ أنه بنوع حميةٍ ملّية أو غيرة جنسية تشتد تلك الأخوة في زمان قليل، مع أنّ ذلك الكافر لا يحب في محبة أخيه، إلاّ نفس نفسه.وأما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الإنسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الإسلام، وانعكاسات إرشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الأديان السماوية."(1)
و – المسعى الهادف وتجاوز العبثية:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 181(15/113)
لم يكتف في سياق بيان أهمية التوحيد منهجيا ومعرفيا بالبيان المجرّد، بل جاوزه بضرب الأمثلة الواقعية المشاهدة، تؤكّد تلك المعاني المسعى الهادف واستبعاد العبثية، يقرر هذه الحقيقة قوله:"فإن شئت تحقيقه فانظر إلى هذه الموازنة وهي:أن الموجودات إما فاعلها جانبُ الإمكان والكثرة وإما جانبُ الوجوب والوحدة.فما يُتوهم بقصور النظر من الكلفة والاستبعاد، والاستغراب في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود، تصير محققة عند الإسناد إلى الكثرة، لقصور أي سبب كان، وضعفه عن تحمل أي مسبَّب كان، في جانب الكثرة دون الوحدة.فما يُتوهمُ هناك، متحقق هنا، ثم بعد هذا تتضاعف الكلفة والاستبعاد والاستغراب عدد أجزاء الكائنات مع أنّها في الإسناد الأول كانت واحدة موهومة وصارت هنا حقيقة متضاعفة عدد أجزاء الكائنات، إذ في الإسناد إليه تعالى نسبةُ كثيرٍ غير محدود إلى واحدٍ مباين الماهية لها، وفي جانب الكثرة نسبةُ واحدٍ إلى كثير غير محدود متماثلة الماهية، إذ النحلة مثلاً، لو لم تُسند إلى الواجب الواحد، لزِمَ اشتراك السماوات والأرض في إيجادها لعلاقتها بأركان العالم.مع أنّ صدور الكثير عن الواحد أسهلُ بمراتب من صدور الواحد عن الكثيرين المتشاكسين الصُم العمي الذين لا يزيد اختلاطُهم إلاّ أعميتَهم وأصميتهم. ثم مع ذلك إنّ الكلفة لو كانت في الإسناد الأول مثل ذرة، تترقى في الإسناد الثاني إلى أمثال الجبال، إذ الواحد بالفعل الواحد يحصل وضعية ونتيجة للكثير، لا يتيسر للكثير لو أحيلت عليهم أن يحصلوا تلك الوضعية، أو يصلوا إلى تلك النتيجة إلاّ بأفعال كثيرة وتكّلفات عظيمة، كالأمير مع نفراته، والفوارة مع قطراتها، والمركز مع نقاط دائرته."(1)
النقطة الثانية: أهمية التوحيد اجتماعيا
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 184(15/114)
قصد بديع الزمان التنبيه إلى الأبعاد الوظيفية للحقائق الإيمانية، وبذلك تجاوز مسلك تقرير العقائد بوصفها حقائق عقلية جافة منفصلة عن متطلّبات القلوب والرسالة الاجتماعية للمؤمن، فيبيّن أن التوحيد من حيث كونه رسالة اجتماعية يضع في يد المؤمن الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، وهذا ييسّر له تغيير شكله كما شاء خالقه ورازقه، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء أركان خلافته وإدامة دولته وحكمه.فما دام هذا الأمر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فأنتم يا بني آدم إن أطعتم أوامر الله التكوينية تُوهَب لكم أيضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن أن تقتربوا منهما وتبلغوهما. (1)
الظفر بمعرفة الله طريق من رام الحصول على علم الحقيقة والحكمة الحقّة، إذ حقائق الموجودات كلّها، إنّما هي أشعة اسم الله الحق، ومظاهر أسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة.إنّ حقيقة كلّ شيء مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الإنسان نفسه إنّما تستند إلى نور من أنوار أسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. وإلاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها.(2)
ثانيا: المقصد الثاني : النبوة
تمهيد :
يصنع وعي المسلم بالحياة الاجتماعية بجميع مضامينها وخلفياتها النظرية (الحضارية، والفكرية، والسياسية ...)تعلّقه بأصول دينه، وتجسيدها برنامجا معيشا، تنصبغ به جميع تصرفاته.
ويعد الانخراط في سلك العبودية، بناء على الأصول الإسلامية الثلاث التوحيد والنبوة والمعاد أهم ما يصنع وعي المسلمين ويكسب حياتهم بُعدا إنسانيا منظورا، ويدفعهم إلى البذل الحضاري المستمر، فكيف السبيل إلى تصوّر ذلك؟
__________
(1) - انظر الكلمات 282
(2) - انظر الكلمات 555(15/115)
معرفة الله، ليست من قبيل المعارف التي تحشى بها الرؤوس ويُتباهى بها في المجالس وتُطلب بها المغانم والمكاسب والمناصب، بل هي معارف تعيش في الأعماق، تكسب العقل عقلا والقلب انكشافا والسلوك وضوحا ومقصدا إنسانيا ظاهرا، يتجلى - كما يقول الصوفية على تنوّع مشاربهم في عشق مهيمن يطلب بموجبه العاشق هروبا من الفناء وتعلقا بالبقاء(1) بواسطة الارتباط العاطفي والأخلاقي والاجتماعي بالدين.
وما دام الدين مرتبطا بالوحي، ولا طريق إليه إلا النبوة، كانت منزلتها وستبقى سامقة، لما لها من أهمية في التأسيس للارتباط بالدين والتعرّف على مسالك العبودية، إذ لو تصورنا حبا للعبودية دون مسالك النبوة، لتصوّرنا المحال ولكانت العبودية سببا في الفرقة عوض أن تكون وسيلة توحيد، إذ ليس مستبعدا - مع التفاوت الثقافي والاستعدادات النفسية والعقلية - أن يتولّد الاختلاف ثم التنافر حال الغفلة عنها، بسبب عدم إمكان الاتفاق حول طريقة العبادة، فيكون الرسول ركنا ركينا في وحدة العبادة ومقاصدها الاجتماعية والحضارية.
إن العبودية لله في طريق النبوة تستمد فاعليتها في العقل والقلب - المترجم في موقف اجتماعي - بالتذكّر المستمر للمعاد، قال تعالى: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين } العنكبوت 06، لما له(التذكّر) من قدرة على دفعنا لتنمية قدراتنا الإيمانية وتطوير وسائلنا الاجتماعية وإيجاد فاعليتها الحضارية.
لهذا كان بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي والإيمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً، وارتباطاً تاماً للتلازم في نفس الأمر، بين وجوب الألوهية وثبوت الرسالة، ووجود الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة(2)
__________
(1) - الخلود في الجنة، والذي يقتضي أن يكون قلبه معلّقا بالباقي.
(2) - المثنوي العربي النوري 86(15/116)
ومن مظاهر ذلك الترابط العبودية، فهذا أكمل الخلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عبد وهو رسول في الوقت نفسه. فيحتاج الى "الصلاة" من حيث العبودية.إذ العبودية تتوجه من الخلق إلى الخالق حتى تنال المحبوبية والرحمة، ف- "الصلاة" تفيد هذا المعنى.(1)
من منطلق ما سبق بيانه يتأكّد أنّ النبوة في البشرية فذلكة الخير وخلاصة الكمال وأساسه. وأن الدين الحق فهرس السعادة. وأن الإيمان حُسنٌ منزه وجمال مجرّد. وحيث إنّ حسناً ساطعاً، وفيضاً واسعاً سامياً، وحقاً ظاهراً، وكمالاً فائقاً مشاهَدٌ في هذا العالم، فبالبداهة يكون الحقُ والحقيقة في جانب النبوة، وفي يد الأنبياء عليهم السلام، وتكون الضلالة والشر والخسارة في مخالفيهم. (2)
تولّد العبودية في المؤمن اليقظة الإيمانية، والتبصّر فيما أخبر به كتاب ربه وسنة نبيّه، ولعل من أهم تلك الأوامر، الدعوة إلى الوحدة بوصفها فريضة شرعية، لقوله تعالى: { واعتصموا بحبل جميعا ولا تفرقوا } آل عمران 103 { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } الحجرات 10، { وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء 92.
1 - النبوة والنظام الكوني :
أ - النبوة جزء من نظام الكون:
يقتضي سر ناظم الكون ضرورة النبوة للبشرية، ذلك أنّ القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتماً البشر من دون نبي، من دون شريعة(3)
وتتجاوز ذلك بانسجام النبوة مع جمال الكون الحقيقي ونظامه وتناسقه وكماله(4).
ب - دلالة الكون على النبوة :
__________
(1) - انظر الملاحق 67
(2) - انظر اللمعات 194
(3) - انظر الكلمات 843
(4) - انظر الشعاعات 652(15/117)
ترتبط النبوة كما مرّ معنا بالألوهية والحشر ارتباطا وثيقا فلا ترى بينها انفصاما لاستحالته، لذلك كانت الحجج على التوحيد حججا على إثبات النبوات، ذلك أنّ المتكلّم الحي الذي يأمر وينهى بكلماته وخطاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون ، لابد أن الحياة التي في الكون تدل دلالة قاطعة على "الحي الأزلي" سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، كما أن شعاعات الحياة الأزلية كذلك وتجلياتها تنظر وتتوجه إلى مالها ارتباطات وعلاقات معها من أركان الإيمان مثل (إرسال الرسل) و(إنزال الكتب) وتثبتهما رمزاً، ولا سيما "الرسالة المحمدية" و"الوحي القرآني". إذ يصحّ القول: إنّهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت الحياة، حيث إنّهما بمثابة روح الحياة وعقلها.(1)
2 - أهمية النبوة في العبادة:
يتجلى مما سلف تقريره أهمية النبوة في طريق العبودية وتحقيق العناصر الإنسانية من جهة والتعالم الإيجابي مع عناصر الكون المادية والمعنوية من جهة أخرى، وتيسيرا لوظيفة النبوّة وهب الباري رسله جميعا وعلى رأسهم النبي الختام عليهم جميعا الصلاة والسلام أكمل الصفات وأيّده بالمعجزات، وجعله خليفة وكرّمه، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم إلى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد أن هناك إشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.(2)
أ - النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام:
- النبي الخاتم شعور شعور الكون:
__________
(1) - الكلمات 119
(2) - انظر الكلمات 282(15/118)
يمثّل النبي الخاتم مجمد عليه الصلاة والسلام شعورا لشعور الكون ونور له، ذلك أنّ "الرسالة المحمدية مترشّحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي أصفى خلاصته، بل إنّ حياة محمد صلى الله عليه وسلم - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل ... أجل... أجل."(1)
ب - نعوته عليه الصلاة والسلام وصفاته في رسائل النور:
ذكر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في رسائل النور بنعوت وصفات كثيرة، تدلّ على عناية الأستاذ بمقصد النبوة من جهة والنبي الخاتم من جهة أخرى، فقد ذكر أنّه عليه الصلاة والسلام يمثّل منتهى الكاملات والصفات والوظائف، و من ذلك:أنّه عليه الصلاة والسلام العامل الخاص بأمر اللّاه.
خاتم ديوان النبوة.- شمس سماء الرسالة.- القمر المنير لشمس الرسالة.- شمس شموس النبوة - الشخصية المعنوية النورانية.- الآية الكبرى.
من ذلك قول الأستاذ: - رحمه الله - "هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة صلى الله عليه وسلم "(2) .
و تؤكّد تلك المعاني باقتران اسم النبي باسم اللّاه في ألفاظ الشهادة " أشهد أن لا إله إلاّ اللّاه وأشهد أنّ محمدا رسول اللّاه"
ج - دلالات حضور اسم النبي في ألفاظ الشهادة:
اعتبر الأستاذ أنّ كلّ كلمة في الشهادة الثانية " أشهد أنّ محمدا رسول اللّاه"تومئ إلى كثير من القضايا المهمة إيمانيا من زاوية وظيفية صرف:
برهان صادق حق من البراهين الحقّة للنبوة المحمدية.
تشير إلى وظيفة من وظائف النبوة.- تشير إلى مقام من المقامات المحمدية.(3)
__________
(1) - الكلمات 119
(2) - الكلمات 254
(3) - انظر اللمعات 497.(15/119)
تشير إلى أهمية النبي عليه الصلاة والسلام في الكون إذ يمثّل نورا كليا للكون في جوانبه المادية والمعنوية، لأنّه "ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الف-ضاء، وقامت القيامة". (1)
وفي فلك تلك الزوايا الوظيفة المشار إليها أعلاه، ترى الأستاذ بديع الزمان يعبّر عن فرحة العالم بوجود النبي عليه الصلاة والسلام، ليس هذا فحسب، بل يعلن مباركته وتهانيه الحارة للنبي عليه الصلاة والسلام كلّ جلسة تشهّد في الصلاة يومياً وبملايين الألسنة: "السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته" مقدما ً له ولاءه لمهمة النبوة، ومصدقا ً إياه في بشراه بالسعادة الأبدية التي أتى بها، فيستقبله بامتنان بالغ وشكر عميم إزاء فتحه طريقاً سوياً إلى الحياة الباقية التي تبحث عنها البشرية بعشق دفين عميق وشوق فطرى عارم وباستعداد قوي جداً، بقوله: "السلام عليك أيّها النبي" معبراً به عن زيارة معنوية له صلى الله عليه وسلم ولقاء معه، ومرحّباً ومهنئاً إياه باسم ثلاثمائة وخمسين مليوناً بل مليارات من المؤمنين.(2)
د - النبي الأسوة الأكمل:
تحقيق الأسوة يستوجب ظهور ما يمكن أن يقتدى به فيه، فأظهر - صلى الله عليه وسلم - أعلى مراتب العبودية وأسماها بالعبودية العظيمة في دينه تلبية لإرادة الله في ظهور ألوهيته بمقتضى الحكمة.(3) وتحقيق مقتضيات القدوة ونتائجها التربوية والاجتماعية يفرض الإنصات إلى الرسول بشوق ورغبة وتبجيل وإعجاب، وبذلك يوافق العقل والحكمة المنتظرة والمطلوبة من الإقتداء (4)
3 - حجج إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
الحرية والنبوة:
__________
(1) - الكلمات 119
(2) - الشعاعات 657 –بتصرف-
(3) - انظر الكلمات 690
(4) - انظر الكلمات 697(15/120)
تمهيد:الحرية والنبوة و النبوة والحرية
النبوة في أصل وضعها تأسيس للحرية، إذ تمثّل طريق تحرير الإنسان من العناصر التي تشدّه إلى الأرض، وذلك بما يفرضه المسلك النبوة من تحرّر من عناصر الشد إلى الأرض، ذلك أنّ النبوة مؤسسة للعبودية التي تعدّ أعلى مقامات الحرية، ومن ثمّ كانت العبودية التي وضعت خطتها النبوة محررة للبشر من نوازعهم السلبية من جهة، و واهبة الإنسان إيجابية تسع الحياة كلّها، لو أردنا أن نختصر الكلام لكفانا القول بأنّ النبوة باب الحرية.
ويطرح بهذا الصدد الصلة بين النبوة والحرية، فقد يذهب الخيال بالبعض فيظن أنّ النبوة تلغي الحرية؛ فهل لهذا القول سند؟
النبوة والحرية:
درجت عادات الناس على أنّ للحجة والبرهان صلة وثيقة بالإلزام الآيل في بعض التصوّرات إلى الإرغام الذي لا يلتئم مع الحرية، فهل في الحجج المثبتة لنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ما يلغي الاختيار؟
تبنّي الموقف السابق لا يلتئم مع حكمة الله في التكليف، إذ من مقتضيات التكليف حرية الاختيار، أكّد الأستاذ ذلك المعنى في قوله:" إنّ المعجزة تأتي لإثبات دعوى النبوة عن طريق إقناع المنكرين، وليس إرغامهم على الإيمان. لذا يلزم إظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم إلى القناعة والاطمئنان إلى صدق النبوة. أما إظهارها في جميع الأماكن، أو إظهارها إظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس إلى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف أيضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال أمام العقل دون سلب الاختيار منه."(1)
__________
(1) - الكلمات 703(15/121)
وللتدليل على المسألة يختار الأستاذ أوضح الأمثلة وأبينها، و في هذا المقام يقول:"لو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، وأظهرها للعالم أجمع ودخلت بطون التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون إنّها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة ع-لى صدق النبوة، ولا م-عجزة."(1)
إنّ التكليف يبقي الباب مفتوحا لحرية الاختيار وهو بدوره أكبر تفسير لقبول فكرتي الحساب فضلا عم الثواب والعقاب ومن ثمّ الجنة والنار، إنّنا لو قبلنا ظهور المعجزة إلى جميع الناس في العالم كله فإما إنّها كانت تبرز لهم نتيجة إشارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل إلى البداهة، أي يضطر الناس كلهم إلى التصديق، أي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، ينما الإيمان في أجلى صوره وأبسط دلالاته وأوضحها يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة المحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.(2)
يبقى الأستاذ بهذا التحليل الباب مفتوحا للمكابرة ومن ثمّ الإنكار، إذ رغم تضافر الحجج والبيّنات والبراهين تجد من ينكر ويجحد بآيات الله في الآفاق والأنفس، فكان تكثير الحجج على النبوة غلقا لباب الاعتذار يوم القيامة، إذ إننا نرى في رسائل النور حججا لا حصر لها عددا ونوعا، ومن ذلك ما نعرضه في الفقرة اللاحقة.
أ - القرآن الكريم حجته:
- مقصد النبوة في القرآن الكريم:
القرآن الكريم رأس حجج إثبات النبوة إذ يمثّل يحر المعجزات وهو نفسه المعجزة الكبرى ، يثبت نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.(3)
__________
(1) - الكلمات 703
(2) - الكلمات 705
(3) - انظر الكلمات 264(15/122)
ترى تلك الحجج والأدلة في مجمل سور القرآن الكريم، حوته السور الطويلة والقصيرة على حد سواء ، كأن كل سورة على حدة تمثّلّ القرآن الكريم ، فلا تكتفي السورة بمقصد النبوة فقط، بل كثيرا ما يذكر معه المقصد والمقصدين(1)
- التوحيد في القرآن الكريم ودلالته على النبوة:
يعلّمنا القرآن الكريم وفق مسلك النورسي في التعامل مع كتاب الله النظر إلى الكون بعناصره المادية والمعنوية، تأسيسا لنظرة إيمانية يسميها الأستاذ التفكّر الإيماني، إذ يستفاد بذلك التفكّر" شهادة الكائنات بغاياتها وبالمقاصد الإلهية فيها على الرسالة المحمدية الجامعة؛ بسبب توقّف حصول غايات الكائنات والمقاصد الإلهية منها وتقرر قيمتها ووظائفها وتبارز حسنها وكمالها وتحقق حكم حقائقها على الرسالة الإنسانية لاسيما على الرسالة المحمدية؛ إذ هي المظهرة والمدار الأتمّ لها، ولولاها لصارت هذه الكائنات المكملة والكتاب الكبير ذو المعانى السرمدية هباءً منثوراً متطايرة المعاني متساقطة الكمالات وهو محال من وجوه وجهات.(2)
- قصص الأنبياء حجج إضافية لإثبات النبوة:
يذكر القرآن الكريم قصص الأنبياء بأشكال متنوّعة لحكم كثيرة منها إثبات الرسالة المحمدية وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجةً على أحقية الرسالة المحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دليل على الرسالة.(3)
- احتفاء القرآن الكريم بسيدنا مجمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) - انظر الكلمات 533 ، الشعاعات 310
(2) - انظر الشعاعات 665
(3) - انظر الكلمات 553(15/123)
منح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم مقام وأسماه في القرآن الكريم، وجعل "محمد رسول الله" - الذي يتضمن أربعة من أركان الإيمان - مقروناًً ب-"لا اله الاّ الله" دليل - وأيّ دليل - على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً صلى الله عليه وسلم لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية والمقام السامى والمرتبة الرفيعة لمحمد صلى الله عليه وسلم هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه صلى الله عليه وسلم أهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة إثباتا قاطعاً.(1)
القرآن الكريم الحجة الرئيسة للنبوة الخاتمة، نبوة سيدنا مجمد عليه الصلاة والسلام، وحجة خاتم النبوة لا تكون إلاّ خاتمة الحجج، بحيث لا تكون حجة بعدها لانقطاع الوحي، لهذا تضمّنت الحجة الخاتمة "القرآن الكريم المعجزات الباهرة، وتناول كل أنواع التفكير والتشريع؛ فيكون من العسير على إنسان واحد أن يحكم في هذه المواضيع كلّها، وهل من مناص للمرء من الانجذاب إلى معجزة القرآن بعد تمعنه في أميّة نبي الإسلام ووقوفه على أسرار حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.. فقد جعل الله تعالى معجزة القرآن وأمية محمد صلى الله عليه وسلم برهاناً على صدق النبوة وصحة انتساب القرآن له.(2)
و توسعة لدائرة المتلقّين يستشهد القرآن الكريم بحجج عقلية تفيد الموالف والمخالف على حد سواء ، و قد استدل بهذا النمط من الدليل قطعا للدور المتصوّر من الدليل النقلي الصرف للزوم الدور على رأي الأستاذ بديع الزمان النورسي.(3)
ب - دلالة الأسماء الحسنى على النبي:
__________
(1) - انظر الشعاعات 313
(2) - انظر إشارات الإعجاز 271
(3) - انظر إشارات الإعجاز 194(15/124)
إرسال الرسل وإنزال الكتب تجل أكمل للأسماء الحسنى، يشير إلى ذلك المعنى قول بديع الزمان:"نعم! فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وان الحياة هي اعظم تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة "للحي القيوم" جلّ جلاله، وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بإرسال الرسل وإنزال الكتب، إذ لو لم يكن هناك "رسل" ولا "كتب" لما عُرفت تلك الحياة الأزلية، فكما أنّ تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عل-يه-م، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهي بكلماته وخط-اباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد أنّ الحياة التي في الكون كم-ا أنّها تدلّ - بص-ورة قاطع-ة - ع-لى "الحي الأزلي" سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها باركان الإيمان مثل (إرسال الرسل) و(إنزال الكتب) وتثبتهما رمزاً. ولا سيما "الرسالة المحمدية" و"الوحي القرآني". إذ يصح القول، انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.(1)
و وظّف الأستاذ الاستدلال بالأسماء الحسنى عتلى النبوة في كثير من مواضع منها - إضافة إلى ما سلف- أنّه اعتبر أنّ الرسالة المحمدية نمثّل مقتضى التجلي لاسم "الحكم والحكيم" في أوسع مداه ، ليس هذا فحسب، بل إنّ أغلب الأسماء الحسنى؛ "الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب" وأمثالها، تستلزم الرسالة المحمدية في أعظم تجلّياتها وإحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه. وهكذا فأغلب الأسماء الحسنى إنّما هي برهان باهر على الرسالة المحمدية.(2)
ج - معجزاته صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) - اللمعات 567
(2) - - اللمعات 537(15/125)
القرآن الكريم المعجزة الباقية المستمرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلّم، ومع ذلك فقد رويت معجزاته الأحرى في كتب الحديث، وبلغت حد التواتر المعنوي(لا اللفظي)، منها :
انشقاق القمر:
أنّ الله سبحانه وتعالى شقّ القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الأرض بإشارة من عبده في الأرض، فأظهر معجزته هذه، إثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، حتى اصبح صلى الله عليه وسلم كالفلقين المنيرين للقمر، فعرج إلى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين. حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السماوات كما هو فخر لأهل الأرض.(1)
- الإخبار بالغيب:
إخبار عليه الصلاة والسلام بغيب الحاضر وغيب متعلّق بغيب المستقبل البشري أو بالغيب المطلق كالتعريف ببغض مسائل العقائد( الجنة النار الملائكة، عذاب القبر، ...)تؤكّد بم لا يدع مجالا للشك أنّه مبلغ عن الله سبحانه وتعالى ، فقد رأى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بنظر النبوة الأنيس بالغيب، النافذ إلى المستقبل(2).
- تعدد معجزاته عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) - انظر الكلمات 706
(2) - مثل أنّه بعد نحو ثلاثين أو أربعين سنة ستقع فتن عظيمة في صفوف الصحابة والتابعين، وستراق الدماء الزكية. فشاهد أنّ أبرز من فيها هم الأشخاص الثلاثة الذين سترهم تحت عباءته. فلأجل الإعلان عن تبرئة علي في نظر الأمة.. وتسلية الحسين وعزائه.. وتهنئة الحسن واظهار شرفه ومكانته وعظيم نفعه للأمة برفعه فتنة كبيرة بالصلح.. وطهارة نسل فاطمة وشرافتهم واهليتهم بلقب أهل البيت، ذلك العنوان الشريف الرفيع.. لأجل كل ذلك ستر صلى الله عليه وسلم اولئك الاربعة مع نفسه تحت ذلك العباء واهباً لهم ذلك العنوان المشرف: آل العباء الخمسة.انظر اللمعات 143(15/126)
و لو أردنا أن نتوقّف عند كل المعجزات لما كفتنا الصفحات الطوال لهذا نشير إليها مجملة، ذلك أنّها دلائل النبوة المحمدية لا تعد ولا تحصى، وقد ذكر قسماً منها في (الكلمة التاسعة عشرة والمكتوب التاسع عشر)، و ذكر في السياق نفسه أنّ مع شهادة "معجزاته" البالغة إلى ألف، ومع شهادة "القرآن" البالغ وجوه إعجازه إلى أربعين، وفق ما أوردها في (الكلمة الخامسة والعشرين) على رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام..(1)
ذكر الأستاذ بعضها منها على سبيل المثال لا الحصر،
نبع الماء من أصابعه الخمس المباركة وتدفقه كما يدفق من خمس عيون وارتواء جيش كامل منه وشهادتهم له، المنقول الينا بروايات صحيحة متواترة ، فضلا ً عن تكرار هذه الحادثة العجيبة مرتين وفي مواضع أخرى..
رميه حفنة من تراب بالكف نفسها على جيش العدو المغير ودخول التراب عين كل منهم وانهزامهم أثناء هجومهم كما هو صراحة الآية الكريمة (وما رميتَ إذ رَميت)..
تسبيح الحصى في الكف نفسه تسبيحاً واضحاً بيناً المروى بروايات صحيحة..
وأمثالها من المعجزات الباهرة التي ظهرت من يده المباركة صلى الله عليه وسلم والمروي قسم منها في كتب السير والتاريخ بروايات متواترة قاطعة وهى تربو على المئات بل تبلغ الألف لدى أهل التحقيق من العلماء.(2)
د - النبي برهان النبوة:
__________
(1) - انظر المثنوي النوري 66
(2) - الشعاعات 658(15/127)
التحرر من قيود المكان والزمان يضفي على النظر إلى سيدنا مجمد أكمل الحجج وأبينها على صدق نوبته، فهو كالشمس قس الدلالة على نغسها(1)، فلو ركبنا سفينة كتب التاريخ والسيرة الشريفة ووصلنا إلى ساحل جزيرة عصر السعادة والنور، وبلغنا الجزيرة العربية، وحظينا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يزاول مهمة النبوّة المقدسة، سنخلص وفق ما خلص إليه العقلاء قاطبة ونعلم بيقين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنّما هو برهان باهر للتوحيد ودليل ساطع عليه بحيث نوّرَ سطح الأرض جميعاً، وأضاء وجهَي الزمان الماضي والمستقبل ومحا ظلمات الكفر والضلالة.(2)
ه- - النبي برهان التوحيد:
رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم ثابتة وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛لأنه: لما كان التوحيد هو أعظم حقيقة في عالم الوجود، وأنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى تبليغه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد أن جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهين لإثبات رسالته وأدلة على صدق نبوته وأحقية دعوته صلى الله عليه وسلم، فرسالته العظمى تضم ألوفاً من أمثال هذه الحقائق السامية.(3)
كما أنّه بجهوده المبذولة لبيان التوحيد ومختلف مطالب التكليف تدلّ بنفسها على نفاسة معدنه وصدق دعوته وكمال بيانه للتوحيد مقتضيات التكليف، لهذا كان حجة إضافية لتأكيد التوحيد؛"فمَن ذا غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدىّ الأمانة على افضل وجه وبلّغ الرسالة على اجمل صورة؟."(4)
و- النبوة تجلي الأسماء الحسنى:
__________
(1) - الشعاعات 658
(2) - الكلمات 321- بتصرف -
(3) - انظر اللمعات 553
(4) - اللمعات 554(15/128)
تجلت في النبي الكريم عليه الصلاة والسلام الفيوضات الربانية بتلاوته آية واحدة قد تكون مساوية لفيض إلهي كامل على نبي آخر؛إذ هو صلى الله عليه وسلم موضع تجلي الاسم الأعظم. فإذا قيل أنّ العبد الذاكر قد تعرض إلى نفحة من ظل الاسم الأعظم بفضل وراثة النبوة ونال ثواباً بها بمقدار قابليته، بقدر الفيض الإلهي على نبي آخر، فليس في قوله خلاف للحقيقة قط.(1)
و النبي عليه الصلاة والسلام هو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الأسماء الحسنى كلّها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم(2)
توافق شهادات الأنبياء في الدلالة على النبوة والنبي الخاتم على الخصوص:
تعد معجزات جميع الأنبياء والرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والذي هو فخر العالمين(3)، ويؤكّد تلك الحقيقة مكررات "قصص الأنبياء" عليهم السلام، إذ الحكمة من تكرارها إنّما هي لإثبات الرسالة المحمدية وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة المحمدية وصدقها؛حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعا. فذكرها إذن دليل على الرسالة.(4)
ز - شهادة الكائنات:
__________
(1) - الكلمات 399
(2) - الكلمات 291
(3) - الكلمات 291
(4) - الشعاعات 313(15/129)
كمال حسن صنعة العالم لا ينكرها إلاّ مكابر ، وكمالها يدل على الرسالة المحمدية دلالة قطعية؛ لأن جمال هذه المصنوعات المزيّنات يُظهر للناظر حُسنَ صنعةٍ وزينةٍ بالمشاهدة، وأنّ حسن الصنعة وزينة الصورة يدلان بالبداهة على أنّ لصانعها إرادةَ تحسينٍ وطلبَ تزيينٍ في غاية القوة. وأنّ إرادة التحسين وطلبَ التزيين يدلان بالضرورة على أنّ لصانعها محبةً علويةً لصنعته، ورغبةً قدسية لإظهار كمالاتِ صنعته. وأنّ تلك المحبة والرغبة تدلان بالقطع على أنّ الإنسان الذي هو اكمل المصنوعات وأبدعها وأجمل المخلوقات وأجمعها، هو المظهرُ الجامعُ والمدارُ البارعُ لتلك المحبة والرغبة، وهو الذي تتمركزان فيه. وأنّ الإنسان لكونه أجمع وأبدع المصنوعات فهو الثمرة الشعورية لشجرة الخلقة. أي هو لها كثمرةٍ ذات شعور. فلكونه كالثمرة، فهو ما بين أجزاء الكائنات جزء أجمع وأبعد من جميع الأجزاء. فلكونه أجمعَ وأبعدَ وذا شعور، فله نظرٌ عام وشعور كلي. فلكون نظره عاماً يرى مجموع شجرة الخلقة، ولكون شعوره كلياً يعرف مقاصد الصانع، فهو المخاطَب(1)بالرسالة، وهذا يقتضي وجود رسول ييسّر له الرقي في سلّم المحبّة.
ح - الدليل الأخلاقي والاجتماعي على النبي:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 66(15/130)
يمثّل رسول الله صلى الله عليه وسلّم معلّم الإنسانية الأخلاق والسعي الاجتماعي الهادف، و قد حكم أبتاعه على مرّ تاريخهم الطويل –من العلماء والصالحين والأولياء، ...- حكماً ملؤه العبودية الخالصة للّه وحده، وقضوا أنّ الغاية القصوى للإنسانية والوظيفة الأساسية للبشرية هي التخلق بالأخلاق الإلهية، أي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة - التي يأمر بها الله سبحانه - وأن يعلم الإنسانُ عجزَه فيلتجئ إلى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر إلى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى.(1)و قد كان الرسول أصدق أنموذج أخلاقي واجتماعي دال على صدق دعواه.
ومن الشواهد الإضافية على الدليل الأخلاقي والاجتماعي أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قد أبدى رأفة عظيمة تجاه أمور ومواد جزئية خاصة، ضمن مهمته النبوية العامة الشاملة.(2)
أمّا الأسس التي هي مدار النبوة فهي تظهر بأكمل وجه وأظهره فيه صلى الله عليه وسلم، إذ هو أستاذ أبناء البشر في سن كمال البشر، ومعدن الأخلاق العالية وداعي الصدق دلال النبوة(3)منبع الأخلاق العالية والأنموذج الأكمل في العلاقات الاجتماعية الإنسانية، زيادة إلى كونه عليه الصلاة والسلام مصدر العلوم العالية في مدرسة الكون ومعلّمهما الأوّل بدون منازع.(4)
ط - الإنسان برهان النبوة:
اعتبر النورسي الإنسان دليل الحاجة للنبوة من جهة ودليل وجودها في ذات الوقت، ذلك أنّنا نشاهد النبوة المطلقة التي هي بمثابة معدن نظام البشرية المادي والمعنوي، ومركز انتظام أحوال كثير من الأنواع التي ضمّتها تحت تصرفها قوة العقل.. هذه النبوة المطلقة برهانها: رقي الإنسان على الحيوانية في ثلاث نقط:
__________
(1) - الكلمات 642
(2) - اللمعات 29
(3) - انظر صيقل الإسلام 142
(4) - انظر صيقل الإسلام 141(15/131)
النقطة الأولى:قوته العقلية
إدراك الإنسان وكشفه عن الترتيب في الأشياء، الناشئ من العلل المترتبة المتسلسلة في الخلقة.. وقابليته العلمية والتركيبية ومعرفته الحاصلة من تحليله مركبات بذور كمالات الإنسانية إلى بسيطات، وإرجاعها إلى أصلها.. وقدرته على محاكاة الطبيعة، ومساوقة نواميس الله الجارية في الكون بصنعته ومهارته، بالسر الكامن في القاعدة: (بداية الفكر نهاية العمل، نهاية الفكر بداية العمل).فالإنسان الذي هذه قابلياته، يدرك قصور نظره في صنعت، وزحمة الأوهام عليه، وافتقاره في جبلته الإنسانية.. مما يدله على حاجته الماسة إلى نبي مرشد، يحافظ على موازنة النظام المتقن في العالم.
النقطة الثانية: استعداده وآماله غير المتناهية
الإنسان استعداداته غير المتناهي، وآماله ورغباته غير محصورة، وأفكاره وتصوراته غير محدودة، وقوّته الشهوية والغضبية غير المحددّة.فتراه يتأسفُ ويتأفف.. وذلك بحكم عدم تناهي تلك الآمال المغروز في استعداده، فكأن عدم الرضا هذا يرمز ويشير إلى أنّ الإنسان مرشح للأبد، ومخلوق للسعادة الأبدية. كي يتمكن من تحويل استعداده غير المحصور من طور القوة إلى طور الفعل في عالم غير متناهٍ وغير محدود بحدود، وأوسع بكثير من عالمه هذا.
إنّ استعداد الإنسان مسدّد نحو الأبد. فإن شئت فتأمل في جوهر الإنسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر إلى الخيال الذي هو اصغر خادم لجوهر الإنسانية
النقطة الثالثة:اعتدال مزاج الإنسان ولطافة طبعه:
اعتدال مزاج الإنسان، ولطافة طبعه، وميله إلى الزينة، أي ميله الفطري إلي العيش اللائق بالإنسانية.(15/132)
لهذا يخلص الأستاذ إلى نتيجة مفادها التمييز المطلق بين الإنسان والحيوان، ذلك أنّ الإنسان لا يعيش عيش الحيوانات، ولا يسعه ذلك فهو محتاج لتحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمة، لا يقتدر هو بانفراده عليها كلها، ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليتشاركوا فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم.
ولكن لتجاوز قوى الإنسانية على الآخرين - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة، لذلك وغيره:
احتاج النوع إلى وضع قوانين كلية.. ثم لمحافظة تأثيرها ودوامها، لابد من مقنن يجريها.. ثم لإدامة حاكمية ذلك المقنن في الظاهر والباطن يحتاج إلى امتياز وتفوق - مادة ومعنىً - ويحتاج أيضاً إلى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم.. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج إلى إدامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الأذهان.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج إلى مذكّر مكرِر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرِّر إلاّ العبادة... وهذه العبادة توجه الأفكار إلى الصانع الحكيم، وهذا التوجه يؤسس الانقياد. والانقياد هو للإيصال إلى النظام الأكمل والارتباط به. وهذا النظام الأكمل يتولد من سر الحكمة، وسر الحكمة يشهد عليها إتقان الصنع وعدم العبثية.
و إذا علمت هذه الجهات الثلاث من تمايز الإنسان عن سائر الحيوانات خلصت بالضرورة النتيجة الابيّنة الآتية: إنّ النبوة المطلقة في نوع البشر قطب بل مركز ومحور تدور عليه أحوال البشر، ينتقل بعدها الأستاذ إلى بيان مسوّغات القول بتلك النتيجة، فيجيل نظره وينصح بتدقيق النظر في النقاط الآتية:(15/133)
- دقق النظر في الجهة الأولى: الإنسان في أشد الحاجة إلى المعلّم المرشد، ذلك أنّه سحل مشاكل الميل الطبيعي للإنسان وسوق إنسانيته، وقصر نظره، واختلاط الأوهام في طريق عقله.. وذلك المرشد هو النبي صلى الله عليه وسلم.
- تدبر في الجهة الثانية: عدم تناهي ميول وآمال الإنسان لا يسعها قانون البشر الذي لا ينطبق على قامة استعداده النامية كثمرة لميله إلى الترقي الذي هو غصن من شجرة ميل الاستكمال في العالم.
فعدم كفاية هذا القانون البشرى الحاصل نتيجة تلاحق الأفكار والتجارب التدريجية، لإنماء بذور ثمرة استعدادات الإنسان، احتاج إلى شريعة إلهية حية خالدة تحقق له سعادة الدارين معاً مادةً ومعنىً، وتتوسع حسب قامة استعداداته ونموها...فالذي أتى بالشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
- تفكّر أيضا في الجهة الثالثة:الحاجة إلى تعديل الأخلاق وحمايتها من الإفراط أو التفريط لا ينكرها إلا مكابر، و ملكة تعديل الأخلاق الموهومة لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاثة في الحكمة والعفة والشجاعة، لهذا كان الإنسان وسيبقى بالضرورة محتاجا إلى نبي يمسك بميزان العدالة الإلهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع.(1)
ص - شريعته الخاتمة:
شريعة خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هي خاتمة الشرائع لهذا كانت شريعته ناطقة بنبوته؛فكانت شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر(2)، و تؤصّل لمصالح الناس في العاجل والآجل(الدنيا والآخرة)، و تقرر أنّ القوة في الحق وليس الحق في القوة، فتقطع بهذا دابر الظلم وتحقق العدل.(3)
4 - مسالك إثبات النبوة عند بديع الزمان النورسي:
زيادة إلى ما سلف من حجج موزّعة على رسائل النور، فقد ذكر الأستاذ جملة من براهين إثبات النبوة ، يمكن أن نختصرها في فرشة ثم نلحق بها بيان مسالكه في إثباتها.
__________
(1) - صيقل الإسلام 136-139(بتصرف)
(2) - انظر الكلمات 568
(3) - الكلمات 643(15/134)
يسجّل في البداية أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن مترددا في أي حركة من حركاته، لهذا لم يبال باعتراضات المعترضين، و لم يسجّل عنه خوفا من المخالفين، وفي ذلك أكبر شاهد على صدقه وجديته، و مما زاد تلك الحجج قوّة ورصانة إصابته روح الحقيقة في أوامره، وهذا يدل على أنّه على الحق المبين.
حصر الأستاذ مسالك إثبات النبوة في مسالك خمسة أربعة منها واضحة والخامسة مخفية، و هي كالآتي:
أ - المسلك الأوّل في إثبات النبوة:تظهر من معرفة ذاته وصفاته
إنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان على الفطرة في تخلّقه ولم يكن متصنّعا، إذ بلو كان كذلك لأومأت فلتات هيئته العامة إلى التصنّع والتكلّف، كما أنّ الاخلاق العالية إنّما تتّصل بأرض الحقيقة ب- "الجدية"، وهي إدامتها محتاجة إلى انتظام مجموعها، ولا طريق لتثبيته بغير "الصدق". ومتى ما انقطعت عرى الصدق والجدية منها صارت كهشيم تذروه الرياح.و قد تحقق له ذلك أنّه ربط ميله بما طلبه الشارع الحكيم، تدل على ذلك آثار محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة وتاريخ حياته تشهد - مع تسليم أعدائه - بأنّه لعلى خلق عظيم، وأنّه قد اجتمعت فيه الخصال العالية كافة. ومن شأن امتزاج كثرة من تلك الأخلاق وتجمّعها وإحاطتها، توليد عزة النفس، التي تولد شرفاً ووقاراً يترفعان عن سفساف الأمور، كترفع الملائكة وتنزههم عن الاختلاط بالشياطين، فالأخلاق السامية كذلك لا تسمح أصلاً بتداخل الحيلة والكذب بينها، بل تتنزه وتتبرأ وتترفع عنها، بحكمة التضاد فيما بينها، فكان بحق حكم التخلّق بالمعالي حكما للكل وحكمٌا لكلٍ في ذات الوقت، فلا ترى في أخلاقه ما يعزب عن الكمال بقدر أنملة.
ب - المسلك الثاني:تاريخ النبي عليه الصلاة والسلام أكبر شاهد على نبوته:(15/135)
مراجعة صحيفة ماضيه عليه الصلاة والسلام برهان على نبوته، يشهد لهذا البرهان أنّ من يأخذ أساسات علم وفن - أو في القصص - ويعرف روحه والعقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها، فان ذلك يدل على مهارته وحذاقته في ذلك العلم.كما أنّك لو كنت عارفاً بطبيعة البشر، لا ترى أحداً يتجاسر بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو حقيراً، في قوم ولو قليلين، في دعوىً ولو حقيرة، بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة، وله دعوى في غاية الجلالة، ويعيش بين قوم في غاية الكثرة، ويقابله عناد في غاية الشدة، ومع أنّه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، إلاّ أنّه يبحث في أمور لا يستقل فيها العقل وحده، ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد.. أفلا يدل هذا على صدقه؟
كل ما نقل عنه عليه والصلاة والسلام من علوم معارف كانت أبعد عن البادية التي سكن بها وترعرع، وهي حجة إضافية على صدقه، يشهد لها أيضا أنّه لو ناظر أميّ علماء علم، ثم بيّن رأيه في مسائله مصدقاً في مظان الاتفاق، ومصححاً في مطارح الاختلاف، يدلك ذلك على تفوقه، وأنّ علمه منحة ربانية علم وهبي لا كسبي ناله بطريق التحصيل.
تدل تلك الشواهد الجزئية على أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع أمّيته، كأنّه بالروح الجوالة الطليقة طوى الزمان والمكان، فدخل في أعماق الماضي، وبيّن كالمشاهد لأحوال الأنبياء عليهم السلام، وشرح أسرارهم على رؤوس العالم، في دعوى عظيمة تجلب إليها أنظار الأذكياء. وقد قص قصصهم بلا مبالاة ولا تردد وفي غاية الثقة والاطمئنان، وأخذ العقد الحياتية فيها وأساساتها، مقدمة لمدّعاه مصدقاً فيما اتفقت عليه الكتب السالفة ومصححاً فيما اختلفت فيه. فثبت أنّ حاله هذه دليل على نبوته.
إنّ مجموع دلائل نبوة الأنبياء عليهم السلام، دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وجميع معجزاتهم معجزة معنوية له.(15/136)
ج - المسلك الثالث:بيان الحال الحاضرة وشهادتها على النبوة
يشهد عصر النبوة على صدق سيدنا محمد في التبليغ عن ربّه من أربعة وجوه، اختصرها فيما يأتي:
- الأمر الخارق أنّك تراه عليه الصلاة والسلام رفع ما تعذّر على الملوك والسلاطين رفعه من عادات حقيرة راسخة ، كما تراه ينتزع ما فشلوا في استئصاله من خصال، بهمة ولو شديدة، في زمان قصير لا يسع أضعافه أصحاب الجاه والسلطان،
فقد أرسى عليه الصلاة والسلام فجأة بدل سيّئ العادات والأخلاق، عادات وأخلاق تكمّلت دفعة في قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب، أفلا يدل ذلك صراحة على أنّ فعله كان خارقا بالفعل؟ فإن لم تصدق بهذا فسأورد اسمك في قائمة السوفسطائيين.
- شكّل محمد صلى الله عليه وسلم حكومة عظيمة، في زمان قصير، دولة غلبت الدول العظمى دفعة، و نشأت بشكل لافت للنظر مخالف لما درج عليه البشر من نمو تدريجي للدول، دولة يحكمها سلطان له سطوة وهيبة ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً. فإن لم تستطع رؤية هذه الأمور الخارقة، فأنت في طائفة العميان.
- حكم الناس بالقوة والقهر متاح وممكن، ولكن أن تكون الغلبة على الأفكار والتأثير بإلقاء حلاوته في الأرواح والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون إلاّ من خوارق العادات. وليس إلاّ الخاصة الممتازة للنبوة. فان لم تعرف هذه الحقيقة فأنت غريب عنها.
- نفذ محمد صلى الله عليه وسلّم إلى أعماق القلوب بإرشاده، وهيّج دقائق الحسيات، وكشف أكمام الاستعدادات، وأيقظ السجايا الكامنة، وأظهر الخصال المستورة، وجعل جوهر إنسانيتهم فوارة، وأبرز قيمة ناطقيتهم، لأنّه مقتبس من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة.
د - المسلك الرابع مسألة الشريعة التي تمثّل صحيفة المستقبل
و تظهر حجتها باقتضاب من وجوه في مسألة صحيفة المستقبل، لاسيما مسألة الشريعة. لابد من ملاحظة أربعة:(15/137)
- إنّ شخصاً لا يكون متخصصاً، وصاحب مَلَكة، في أربعة علوم أو خمسة منها، إلاّ إذا كان خارقاً.
- الرسول كان إنساناً وحيداً لا خبرة سابقة له في أمور الأنظمة والمجتمع، ولم تعنه احوال زمانه وبيئته، الاّ انه اسس نظاماً، وارسى عدالة، تلك هي الشريعة، التي هي كخلاصة جميع قوانين العلوم وكأنها حصيلة تجارب كثيرة، بل لايبلغ ادراكها الذكَاء مهما توسع، تلك الشريعة متوجهة الى الازل، معلنة انها آتية من الكلام الازلي، ومحققة سعادة الدارين.فإن أنصفت تجد ان هذا ليس في طوق بشر، في ذلك الزمان، بل خارج عن طوق النوع البشري قاطبة. الاّ اذا افسدت اوهامٌ سيئة بالتغلغل في الماديات طرف فطرتك المتوجهة نحو هذه الحقائق.
- إنّ الإرشاد إنّما يكون نافعاً إذا كان على درجة استعداد أفكار الجمهور الأكثر، والجمهور باعتبار الكثرة الكاثرة منه عوام والعوام لا يقتدرون على رؤية الحقيقة عريانة، ولا يستأنسون بها إلاّ بلباس خيالهم المألوف. فلهذا صوّرت الشريعة تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات فأبهمت وأطلقت في مسائل العلوم الكونية، التي يعتقد الجمهور بالحس الظاهري خلاف الواقع ضرورياً. وذلك لعدم انعقاد المبادي والوسائط.. ولكن مع ذلك أومأت إلى الحقيقة بنصب أمارات.
و انتهى الأستاذ بعد عرض طويل لبراهين النبوة إلى أنّ الصدق يلمع في كل فعل وكل حال من أفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم. إلاّ أنّ هذا لا يلزم أن تكون كلّ أفعاله وأحواله خارقة، لأن إظهار الخوارق والمعجزات لتصديق المدّعى إن لم تكن حاجة إليه، يكون الانقياد لقوانين عادات الله بالانسياق للنواميس الجارية العامة.(15/138)
إنّ الديانة والشريعة الإسلامية المؤسسة على البرهان ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية في جميع العلوم الأساسية، منها: فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وعلم إدارة المنزل، وفن سياسة المدنية، وعلم أنظمة العالم، وفن الحقوق، وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا...
فالشريعة فسّرت وأوضحت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج، وفيما لا يلزم أو لم تستعد له الأذهان أو لم يساعد له الزمان، أجملتْ بخلاصة ووضعت أساسا، أحالت الاستنباط منه وتفريعه ونشوء نمائه على مشورة العقول. والحال لا يوجد في شخص كل هذه العلوم، ولا ثلثها بعد ثلاثة عشر عصراً، في المواقع المتمدنة، ولا في الأذكياء.
ويخلص بعد تلك الجولة العقلية إلى أنّ " من زيّن وجدانه بالإنصاف يصدق بأنّ حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائماً ولاسيما في ذلك الزمان"
ه- - المسلك الخامس: إثبات النبوة بالمعجزات الظاهرة والخوارق المعروفة
العمدة في إثبات هذا المسلك كتب السيرة والتاريخ فإنّها مشحونة بها...إنّ الخوارق الظاهرة وإن كان كل فرد منها غير متواتر، ولكن جنسها، وكثيراً من أنواعها متواتر بالمعنى.
الخوارق والمعجزات على تنوّعها متفقة النتيجة متناغمة في خدمة إثبات النبوة.
- الإرهاصات المتنوعة وكأن ذلك العصر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم استفاد واستفاض منه فصار حساساً ذا كرامة فبشّر بالارهاصات، بقدوم فخر العالم بحس قبل الوقوع.
- الإخبارات الغيبية الكثيرة حتى لكأنّ روحه المجرد الطيّار صلى الله عليه وسلم مزّق قيد الزمان المعين والمكان المشخص فجال في جوانب الماضي والمستقبل، فقال لنا ماشاهده في كل ناحية منهما وبينه لنا.
- الخوارق الحسية التي أظهرها وقت التحدي والدعوى وقد بلغ هذا النوع الى مايقرب الالف. بمعنى ان مجموع هذا النوع متواتر بالمعنى وان كان افراده آحادياً.(15/139)
- نبعان الماء من أصابعه المباركة، وكأنه يصور تصويراً حسياً فورانَ زلال الهداية الباعث للارواح من لسانه الذي هو منبع الهداية بنبعان الماء الباعث على الحياة من يده المباركة التي هي معدن السخاء.
- تكلم الشجر والحجر والحيوان، وكأن الحياة المعنوية في هدايته صلى الله عليه وسلم قد سرت الى الجمادات والحيوانات فانطقتها.
- انشقاق القمر. وكأن القمر الذي يمثل قلب السماء قد انشق اشتياقاً اليه باشارة من اصبعه المبارك علّه يجد علاقة مع قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم.
و أعظم هذه المعجزات وأكبرها وأولاها هو القران الكريم المبرهن إعجازه بجهات كثيرة.
المتأمّل في المسالك الخمسة، بفكر واسع ونظر حاد وبصيرة ذات موازنة وحيدة تامة.ينتهى إلى القول: إنّ محمدا صلى الله عليه وسلّم هو الدليل الواضح على وجود الإله الذي ندعوا إليه.(1)
5 - مميزات النبوة الخاتمة:
أ - التناغم مع سائر النبوات من جهة إلهية المصدر:
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 142 - 158،و انظر إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز 165-190(15/140)
أجمع الأنبياء عليهم السلام واتّفقوا على الحقائق الإيمانية نفسها ، و هو بنفسه دليل قاطع على وجود الله سبحانه وعلى وحدانيته، وهو إضافة إلى ما سلف شهادة صادقة على صدق هذا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته، ذلك لأن كل ما يدل على صدق نبوة أولئك الأنبياء عليهم السلام، وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها توجد مثلها وبأكمل منها فيه صلى الله عليه وسلم، كما هو مصدّقٌ تاريخاً. فأولئك الأنبياء عليهم السلام قد اخبروا بلسان المقال - أي بالتوراة والإنجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم - بمجيء هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه صلى الله عليه وسلم (حتى أنّ أكثر من عشرين إشارة واضحة ظاهرة من الإشارات المبشرة لتلك الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً وأثبتت في رسالة المعجزات المحمدية) فكما أنّهم قد بشروا بمجيئه صلى الله عليه وسلم فإنّهم يصدّقونه صلى الله عليه وسلم بلسان حالهم - أي بنبوتهم وبمعجزاتهم - ويختمون بالتأييد على صدق دعوته إذ هو السابق الأكمل في مهمة النبوة والدعوة إلى الله، إنّهم مثلما يدلّون - أولئك الأنبياء - بلسان المقال وبالإجماع على الوحدانية، فإنّهم يشهدون - بلسان الحال وبالاتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.(1)
ب - إنسانية الغاية و المقصد:
تظهر إنسانية المسعى من مضامين الرسالة ومقاصدها، فتظهر في وظيفة التبليغ والتبشير المؤسس على بيان دورها في الإفهام وصناعة الفطنة الإيمانية وما تقتضيه من عملية ةتربوية تسع كل مجالات الحياة.
__________
(1) - انظر الشعاعات 169(15/141)
- التبشير والتبليغ: كلّف الله النبيّ بالتبليغ وأمره بالتبشير تأميناً لامتثال التكليف الذي فيه مشقة وترك للّذائذ الدنيوية. فكمّا أنّه مأمور بالإنذار؛ كذلك مأمور بالتبشير برضاء الله تعالى وتلطيفه وقربيته وبالسعادة الأبدية.(1)، و الإنسان هو وموضوع التبليغ والتبشير والإنذار، فهو عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء لأجل الإنسان بعثوا، بغرض التأسيس لمستوى الإنسانية المؤمنة مركزها ومحرّكها العبودية للّاه تعالى.
- دور النبوة في الإفهام عن الله:
بعث الله الأنبياء بغرض تفهيم الإنسان وظيفته ودوره في الكون، ذلك أنّ إفهام جمهور المخاطبين طريق ضروري وأساسي لنيل المقصد الأصلي للشارع الحكيم من إرشاد الجمهور محصور في إثبات الصانع الواحد والنبوة والحشر والعدالة.(2)، فالنبوة رتبة تفهيم وتعليم وفق ما ينسجم والجمهور العريض من المخاطبين، ولكنّها في ذات الوقت لا تهمل الاستجابة لدقيق ما يحتاجه الخاصة وحتى خاصة الخاصة.
- الوظيفة التربوية للنبوة:
من مقتضيات التفهيم والتعليم التربية الشاملة، تلك المهمة التي تعد من مشمولات وظيفة النبوة، قكانت بالفعل ميزة مهمّة من ميزاتها، و قد ضرب النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام أروع أمثلة التربية القاصدة، فمنها ما أظهرته تلك الموازين التربوية من آثار عظيمة على أقرب الناس إليه، إذ كانت حصة كل من الصديق والفاروق رضي الله عنهما عظيمة، وكان التوفيق حليفهما في زمن خلافتهما حتى صار كل واحد منهما دليلاً لدى أهل السنة والجماعة، (3)وذلك بفضل التربية النبوية
– النبوة عالمية التوجّه وهي قطب مصالح الإنسانية:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 197، انظر الشعاعات 168
(2) - انظر صيقل الإسلام 155
(3) - انظر اللمعات 36(15/142)
حضور الإنسان كهدف في النبوة أكبر من أن يتوقّف عنده طويلا،إذ نقل عن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم- فخر العالم- "لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك،فهدفها خدمة الإنسان بكل معاني الحدمة،فتوجّهه إلى سعادة الدار الخالدة الدار الآخرة الأبدية.(1)و أرشد الأنبياء وعلى رأسهم النبي الخاتم - عليهم جميعا أزكى الصلاة والسلام – إلى حقوق اللّاه وحقوق العباد و ضربوا أروع الأمثلة في ترك منافعهم الشخصية لأجل دعوتهم(2)،مما دفع العقلاء إلى اكتشاف البعد الإنساني في النبوات ورسالات الأنبياء عليهم والسلام
ج - التناغم مع الكون :
النبوة جزء من نظام الكون لأنّها من خالق الكون،ذلك الكون المنظور الذي أرسل الأنبياء بوحي مسطور؛فكان بين المنظور والمسطور توافقا كلّيا،و كانت أصفى خلاصته، أنّ شهادة آثار حياة محمد صلى الله عليه وسلم - المادية والمعنوية –التي تعدّ حياة لحياة الكون، ورسالته شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني - بشهادة حقائقه الحيوية - روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.(3)،لهذا إذا فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الأرضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.(4)
6 - المقاصد المندمجة في مقصد النبوة والرسالة و أسس الحاجة إليها:
أ - المقاصد المندمجة في مقصد النبوة والرسالة
من منطلق ما سبق تقريره يظهر جليا أنّ النبوّة بوصفها مقصدا أساسيا من مقاصد الدين، تندرج فيها مجموعة من المقاصد المتدخلة فيما بينها، فتظهر فيها ومنها:
إنّ محمداً عليه السلام نبي.
أكمل الأنبياء.
خاتم الأنبياء.
مرسل لكافة الأقوام.
__________
(1) - انظر االشعاعات 655
(2) - انظر صيقل الإسلام 140
(3) - انظر اللمعات 568
(4) - اللمعات 568(15/143)
شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها.(1)
وإضافة إلى ما سلف فإنّه عليه الصلاة والسلام:
مربّي أرواح المسلمين ومرشد عقولهم ومحبوب قلوبهم.
جعله الله مدار المقاصد الربانية.
محور الغايات الإلهية السامية في الكون.
سبب لرقي قيمة الموجودات وسمّوها، ومن مظاهر ذلك أنّه قال في الدقائق الأولى التي تشرّف العالم به " أمّتي.. أمّتي.."(2)
ومن مقتضيات الاهتمام بالأمّة، طلب الاقتداء به، من ثمّ لم يكن - صلى الله عليه وسلم - في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، بل كان بشريا ليتسنّى له أن يكون أسوةً يُقتدى به، ويكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين، لذا ما كان يلجأ إلى إظهار المعجزات إلاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، إقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - أي سواء أراد الإنسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الإرادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة اختيار، ولصدَّق أبو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ولانتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!(3)
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 59
(2) - انظر اللمعات 344
(3) - انظر المكتوبات 118(15/144)
ولا يذهب الخيال بك بعيدا فتوسّع من دائرة البشرية حتى تجعله عليه الصلاة والسلام كأحد من البشر، ذلك أنّه ورغم ذلك، فقد كان الرَّسُول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - - في المُقدمة - مستنداً إلى مئات من معجزاته الباهرة، والقرآن الكريم مستنداً إلى آياته الجازمة، ثم جميع الأنبياء عليهم السلام وهم ذوو الأرواح النيرة، وجميع الأولياء وهم أقطاب ذوي القلوب النورانية، وجميع الأصفياء وهم أرباب العقول المُنورة.. يبشرون الجن والأنس بالسعادة الأبدية وينذرون الضالين بجهنم - وهم يؤمنون بهذا ويشهدون عليه - استناداً إلى ما ذكرته مراراً وتكراراً من الوعد والوعيد في جميع الكتب السماوية والصحف المُقدسة، واعتماداً على صفاتك وشؤونك القُدسية كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال، ووثوقاً بعزة جلالك وسلطان ربوبيتك، ويبشرون بكشفياتهم ومشاهداتهم وبعقيدتهم الراسخة بعلم اليقين.(1)
ب - أسس الحاجة إلى النبوة:
يستشف مما سبق تقريره أنّ الحاجة ماسة إلى النبوة بوصفها مقصدا أساسيا من مقاصد الدين، ومن ثمّ كانت الحاجة إلى المعرفة الكاملة عن الذي اختاره الله ليكون أهلا لحملها، ونقصد بهذا الصدد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
1 - التعرّف على التوحيد: النبوة معرفة بالتوحيد ذلك أنّه في أصل وضعها مسلك لتعريف الخلق بالله تعالى وتعليم البشر عبادته.
2 - المعرفة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: يبدأ بالإقرار بأنّه عليه الصلاة والسلام نبي مختار مصطفى، وأنه أكمل الأنبياء وخاتمهم، أرسله الله إلى الناس كافة...وهي ولا شك ليست معارف مجرّدة بل لها صلة كبيرة بالحياة الاجتماعية والفكرية والتربوية للمؤمن.
__________
(1) - انظر سيرة ذاتية 323(15/145)
2 - معرفة سيرته وشريعته: ورأس ذلك الإقرار بأنّ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها، ويقتضي هذا المسلك الأخذ بما جاء به .(1) مربّي أرواح المسلمين ومرشد عقولهم ومحبوب قلوبهم، ذلك أنّ الله جعله مدار المقاصد الربانية، وهو محور الغايات الإلهية السامية في الكون.
3 - الحاجة الإنسانية والكونية لمعرفته:جعل الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - سببا لرقي قيمة الموجودات وسمّوها،ذلك أنّ الرسالة المحمدية شمس معنوية للكون وهي التي نالت عددا من الشهادات الكلية الواسعة من رب العالمين الذي لا يهمل رعاية وتنظيم شئ مهما كان حتى جناح ذبابة وزهيرة صغيرة .(2)
4- التبليغ عن الله والتمرّس بالدعوة:القراءة القلبية والعقلية لتاريخ حياة الأنبياء و لاسيما النبي الخاتم-عليهم جميعا الصلاة والسلام- تؤكّد أن نيل رتبة رسول رسول اللّاه تتطلّب استعدادا للتضحية و الفداء من أجل التبليغ،وهو ما يفرض التحلي بالصبر المحفوف بالإخلاص التام الذي بمقدوره استبعاد مرض العصر"الأنانية" من بداية الطريق.
ثالثا: المقصد الثالث: الحشر
مربط فاعلية العبودية في طريق النبوة، الاستحضار العقلي والقلبي للمعاد، فمن فعل خيرا بإخلاص نال خيرا في الدنيا والآخرة، ومن فعل غير ذلك كان جزاؤه من جنس عمله.
قال تعالى: { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } آل عمران 185.
يقول الشاعر:
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة لكل حي
ولك-نا إذا متنا بعثنا ونس-أل بعده عن كل شي
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 59
(2) - الشعاعات 668(15/146)
إن العبودية لله في طريق النبوة تستمد فاعليتها في العقل والقلب- المترجم في موقف اجتماعي- بالتذكّر المستمر للمعاد، قال تعالى: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين } العنكبوت 06، لما له(التذكر) من قدرة على دفعنا لتنمية قدراتنا الإيمانية وتطوير وسائلنا الاجتماعية وإيجاد فاعليتها الحضارية.
إنها تولّد في المؤمن اليقظة الإيمانية، والتبصّر فيما أخبر به كتاب ربه وسنة نبيّه، ولعل من أهم تلك الأوامر، الدعوة إلى الوحدة بوصفها فريضة شرعية، لقوله تعالى: { واعتصموا بحبل جميعا ولا تفرقوا } آل عمران 103، { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } الحجرات 10، { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء 92. وورد في السنة: "ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(1)
1 - منزلة الإيمان بالحشر في الإسلام:
أ- أهميته في العبادة:
__________
(1) ـ متفق عليه(15/147)
ونظرا لما للحشر من أهمية في حياة المسلم المادية والمعنوية، كلّف جميع الأنبياء بالحثّ على النظر إليه، خاصة وهم ذوو الأرواح النيّرة وفي مقدمتهم الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، وجميع الأولياء وهم أقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كل أولئك يؤمنون إيماناً راسخاً عميقاً به(الحشر) ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الأبدية، وينذرون أهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشّرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين إلى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، وإلى ما ذكرتَه أنت يا ربي مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها. وبناءً على إيمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين.(1)
ب – الحشر ضرورة منطقية وعقلية كونية:
الحشر ضرورة منطقية وعقلية تفرضها العدالة الكونية، تلك التي حدّدها خالقها وقدّر موازينها، إذ ليس من الممكن تصوّر أنّ الرب الرحيم ذا القدرة المطلقة والحكمة المحيطة ألاّ يُنشئ "النشأة الأخرى"، أو يعجز عنها، وهو الذي له مُلك السموات والأرض وهنّ مطويات بيمينه من الذرات إلى المجرات ويديرها جميعاً ضمن نظام محكم وميزان دقيق... فسبحان الله عما يصفون.(2)
__________
(1) - انظر الكلمات 109
(2) - انظر الكلمات 620(15/148)
والحشر حقيقة كونية لا مراء فيها لا ينكرها إلا مكابر، إذ الذي يقوم بأعمال في منتهى الإتقان والكمال والانتظام يبدّل هذه العوالم السيارة المنشورة على حبل الزمان، يعقب بعضها بعضاً، كيف يشاء، في إطار يظهر منتهى الحكمة والعناية وفي منتهى القدرة والإتقان، ذلك أنّه قدير مطلق وحكيم مطلق وبصير مطلق وعليم مطلق، لا يمكن بحال من الأحوال أن تبدو منه المصادفة قطعاً، فذلكم الخالق الجليل يقول: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقولَ له كُن فيكون } يس:82 { وما أمرُ الساعةِ إلاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب } النحل:77.
يعلن قدرته المطلقة ويبين أنّ الحشر والقيامة بالنسبة لتلك القدرة هي في منتهى السهولة واليسر، وأنّ الأشياء كلّها مسخّرة لأوامره ومنقادة إليها كامل الانقياد، وأنّه يخلق الأشياء دون معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة، ولأجل الإفادة عن السهولة المطلقة في إيجاد الأشياء، يقرر القرآن المبين أنّه سبحانه وتعالى يفعل ما يريد بمجرد الأمر.(1)
2 - أساليب عرض القرآن الكريم لمسألة الحشر:
عرض القرآن الكريم مسألة الحشر بأساليب مختلفة، تقرر جميعها وبأدلة متضافرة أنّ إنكار الحشر مكابرة ظاهرة، من ذلك مثلا:
أ – بسط المقدّمات المنهجية لحجج قطعية:
__________
(1) - انظر الكلمات216(15/149)
بسط القرآن الكريم مقدّمات ليؤكّد للكفار أنّ عدم قبول الحشر مكابرة، لإنكارهم إياه كما ورد في مستهل الآيات، فيقول: أفلا تنظرون إلى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أولا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص أو فطور..؟ أولا ترون كيف بسطنا الأرض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبّتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أولا ترون أنّا خلقنا فيها أزواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها إرجاء الأرض كافة؟ أولا ترون كيف أرُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أولا يرون أنّني أحيي الأرض الميتة، بذلك الماء. وآتي ألوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الأرض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر، إذ تموت الأرض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما أظهرته الآية في إثبات الحشر من جزالة البيان - التي ما أشرنا إلا إلى واحدة من الألف منها - وأين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.(1)
و هكذا يظهر جليا أنّ بسط المقدّمات في القرآن الكريم بطريقة واضحة بسيطة تهيّئ النفوس لقبول الحجج القطعية التي ساقها اللّاه تعالى في كتابه الكريم،و الخلوص بهم إلى أنّ رفض تلك النتائج القطعية يرجع إلى مرض نفسي أو فكري دفعهم إلى المكابرة.
ب - تنويع الأدلة على الحشر:
__________
(1) - انظر الكلمات 502(15/150)
إثباتا لحقيقة الحشر نوّع القرآن الكريم الأدلّة عليه، فقد جعلها مرتبة سهلة إلى درجة أنّ لها الملايين من الأمثلة في كل ربيع. إلاّ أن القرآن الكريم لأجل إثبات هذه المرتبة السهلة، يبيّن أحياناً قدرة قادرة على حشر جميع الذرات ونشرها، وأحياناً يبيّن آثار قدرة وحكمة تتمكن من إرسال المخلوقات كافة إلى الفناء والعدم ثم إعادتها من هناك.. ويبين في بعض آياته آثار وتدابير قدرة وحكمة لها من المقدرة على نثر النجوم وشق السماوات وفطرها. وتبيّن آيات أخرى تدابير قدرة وحكمة قادرة على إماتة جميع ذوي الحياة وبعثهم بصيحة واحدة، دفعة واحدة، ويبيّن في أخرى تجلّيات قدرة وحكمة قادرة على حشر ما على الأرض من ذوي الحياة، ونشره كل على انفراد. ويبيّن أحياناً آثار قدرة وحكمة قادرة على بعثرة الأرض كلّها ونسف الجبال وتبديلها إلى صورة أجمل منها. بمعنى أنّه مما سوى مرتبة الحشر الذي هو مفروض على الجميع الإيمان به ومعرفته، فإنّ كثيراً من مراتبه يمكن أن تتحقق بتلك القدرة والحكمة. فإذا ما اقتضت الحكمة الربانية قيامها، فلابدّ أنّه سيقيمها جميعاً مع حشر الإنسان ونشره، أو سيقيم بعضاً مهماً منها.(1)
ج- ربط فاعلية الإنسان في الحياة بالإيمان بالحشر:
ارتبطت فاعلية الحشر بربطه بعناصر ديمومة الحياة والحفاظ عليها، فقد جعل الشارع الانتفاع بالدنيا في اعتدال وتوسّط متناسبا بدرجة استحضار الحشر في مباشرة التعامل مع الدنيا بمكوّناتها المادية والمعنوية، وذلك بما نلحظه من " المعاني المقدسة المنبعثة من التجلي الأعظم للعدالة الكاملة والحكمة التامة في الحشر الأعظم في الدار الآخرة، "إذ يتجلى أثرها على الأحياء كافة فضلاً عن الجن والإنس.(2)
__________
(1) - الكلمات735
(2) - انظر الكلمات 746(15/151)
وتحقيقا لذلك المسعى يؤكّد أن الدنيا دار "الحكمة" والدار الآخرة هي دار "القدرة"، ولهذا فان إيجاد الأشياء في الدنيا صار بشيء من التدريج ومع الزمن. بمقتضى الحكمة الربانية وبموجب أغلب الأسماء الحسنى أمثال "الحكيم، المرتّب، المدبر، المربي". أما في الآخرة فان "القدرة" و"الرحمة" تتظاهران أكثر من "الحكمة" فلا حاجة إلى المادة والمدة والزمن ولا إلى الانتظار. فالأشياء تنشأ هناك نشأة آنية. وما يشير إليه القرآن الكريم ب- { وَمَا أمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ أو هو اَقْرَبُ } (النحل:77)، هو أنّ ما ينشأ هنا من الأشياء في يوم واحد وفي سنة واحدة ينشأ في لمحة واحدة كلمح البصر في الآخرة.(1)
3 - تعدد أنواع أدلة إثبات الحشر:
أثبت القرآن الكريم حقيقة الحشر بأدلّة متنوّعة، منها:
أ - خطاب الإنكار على المشاغب والمعاند:
__________
(1) - انظر الكلمات 122(15/152)
مخاطبة منكري الحشر بأسلوب إنكار، هدفه الإرشاد القوي إلى المطلوب، ورد ذلك عن الأستاذ في قوله:" تنكرون إذن النشأة الأخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟.. ثم يشير ب- { اَلّذى جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجَرِ الاَخْ-ضَرِ نَاراً } (يس:80) إلى تلك الآلاء وذلك الإحسان والإنعام الذي أنعمه الحق سبحانه على الإنسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدى ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.. ثم إنّه يقول رمزاً:إنّكم ترون إحياء واخضرار الأشجار الميّتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟.. ثم هل يمكن أن يعجز مَن خلق السماوات والأرض عن إحياء الإنسان وإماتته وهو ثمرة السماوات والأرض، وهل يمكن لمن يدير أمر الشجرة ويرعاها أن يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث "شجرة الخلقة" التي عجنت جميع أجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟.. وهكذا فإنّ الذي سيحييكم في الحشر هو مَن بيده مقاليد السموات والأرض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر"كن فيكون" تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسير وهيّن كخلق زهرة واحدة، وإيجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كإيجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: (مَنْ يُحيْىِ الْعِظَامََ)؟"(1)
ب - إثبات الحشر بأدلة النبوة:
__________
(1) - الكلمات124(15/153)
تقرير الأستاذ النورسي لحقيقة الحشر المتضمنة في أدلة إثبات نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، من ذلك قوله رحمه الله:" وهكذا فان الدلائل والحجج التي تثبت صدق القرآن الكريم بل جميع الكتب السماوية، وأنّ المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب الله بل الأنبياء جميعهم، تثبت بدورها أهمّ ما يدعون إليه، وهو تحقق الآخرة وتدلّ عليها. كما أنّ أغلب الأدلّة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالم البقاء التي هي مدار الربوبية والألوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها - كما سيُبين في المقامات الآتية - لأنّ وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب أسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدسة أمثال الربوبية والألوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضاً."(1)، "نعم، ما دام الله موجوداً، وهو واحد، أزلي أبدي، فلابدّ أنّ محور سلطان ألوهيته وهو الآخرة، موجود أيضاً.. وما دامت الربوبية المطلقة تتجلى في هذه الكائنات ولاسيما في الأحياء وهي ذات جلال وعظمة وحكمة ورأفة ظاهرة واضحة، فلابد أنّ هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أيّ ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرّئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر. أي أنّ تلك الدار موجودة قطعاً ولابد من الدخول فيها."(2)
__________
(1) - الكلمات 110
(2) - الكلمات 110(15/154)
وقد يعبّر الأستاذ النورسي عن الحشر في رسائل النور بأساليب أخرى منها "الدلائل التي تثبت "الإيمان بالقدر"(1)، فهي بدورها دلائل على الحشر ونشر الصحف وموازنة الأعمال عند الميزان الأكبر، ذلك لأنّ ما نراه أمام أعيننا من تدوين مقدّرات كلّ شيء على ألواح النظام والميزان، وكتابة أحداث الحياة ووقائعها لكلّ ذي حياة في قواه الحافظة، وفي حبوبه ونواه، وفي سائر الألواح المثالية. وتثبيت دفاتر الأعمال لكلّ ذي روح ولاسيما الإنسان، وإقرارها في ألواح محفوظة.. كل هذا القدر من القَدَر المحيط، ومن التقدير الحكيم، ومن التدوين الدقيق، ومن الكتابة الأمينة، لا يمكن أن يكون إلاّ لأجل محكمة كبرى، ولنيل ثواب وعقاب دائمين. وإلاّ فلا يبقى مغزى ولا فائدة أبداً، لذلك التدوين المحيط والكتابة التي تسجل وتحفظ أدقّ الأمور. فيقع إذن ما هو خلاف الحكمة والحقيقة. أي إنْ لم يحدث الحشر فإنّ جميع معاني كتاب الكون الحقة التي كتبت بقلم القَدَر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن أن يكون مطلقاً، وليس له احتمال أبداً، بل هو محال في محال. كإنكار هذا الكون، بل هو هذيان ليس إلاّ."(2)
ويعدّ الحشر وفق ترتيب النورسي المقصد الرابع من المقاصد المشهورة "مسألة الحشر" وقد استفادها بالإضافة إلى ما سلف من نظم القرآن الكريم لعشرة براهين.
ج - براهين القرآن الكريم على المقصد الرابع"مسألة الحشر":
من خلال النظر في قوله تعالى:(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يؤسس النورسي لمجموعة من البراهين المستفادة من الآية الكريمة، فيصرّح رحمه الله بأنّه استفاد من نظم القرآن الكريم عشرة براهين، ذكرها في أكثر من موقع(3)
__________
(1) - انظر رسالة القدر في الكلمة السادسة والعشرين
(2) - الكلمات 114.
(3) - انظر هذه البراهين في رسالة "لاسيما" من المثنوى العربى النورى، والكلمتين العاشرة والتاسعة والعشرين.(15/155)
يقرر الأستاذ بديع الزمان في مطلع حديثه أنّ الحشر حق، تؤكّده مجموعة من الشواهد المتضافرة:
- إنّ في الكائنات نظاماً أكمل قصدياً.. وأنّ في الخلقة حكمة تامة.. وأنّ لا عبثية في العالم.. وأن لا إسراف في الفطرة.. والمزكّي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كل منها شاهدُ صدق على نظام نوع موضوعه.. وأيضا إن في كثير من الأنواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامة مكررة نوعية.. وأيضا جوهر استعداد البشر يرمز إلى الحشر.. وأيضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشير إليه.. وأيضا رحمة الصانع الحكيم تلوح به.. وأيضا لسان الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به.. وأيضا بيان القرآن المعجز في أمثال { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَاراً } ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } يشهد له. تلك عشرة كاملة، مفاتيح للسعادة الأبدية وأبواب لتلك الجنة، ينتقل بعدها إلى تفاصيل البراهين.
البرهان الأول: استصعاب فهم نظام العالم:
لو لم تجر الكائنات إلى السعادة الأبدية لصار ذلك النظام الذي أتقن فيه صانعُه إتقاناً حَيَّرَ فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة، وجميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباء منثوراً.فليس نظام ذلك النظام إلاّ اتصاله بالسعادة، أي أنّ النكت والمعنويات في ذلك النظام إنّما تتسنبل في عالم الآخرة، وإلاّ لانطفأ جميع المعنويات، وتقطّع مجموع الروابط، وتمزّق كل النسب، ويتفتت هذا النظام، مع أن القوّة المندمجة في النظام تنادي بأعلى صوتها: أن ليس من شأنها الانقضاض والانحلال.
البرهان الثاني:نظام الدنيا دليل السعادة الأبدية(15/156)
تمثّل العناية الأزلية الحكمة التامة، التي هي رعاية المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي - بشهادة كل الفنون - يبشر بقدوم السعادة الأبدية. وإلاّ لَزِم إنكار هذه الحكم والفوائد التي أجبرتنا البداهةُ على الإقرار بها، إذ حينئذ تكون الفائدة لا فائدة.. والحكمة غير حكمة.. والمصلحة عدم مصلحة. وإن هذا إلاّ سفسطة.
البرهان الثالث:التناغم الجمالي والتوافق في الأدوار
يشهد الفن أيضا أنّ الصانع اختار في كل شيء الطريق الأقصر، والجهة الأقرب، والصورة الأخف والأحسن. فيدلّ على أن لا عبثية. و أنّ الأمر جدّي حقيقي. وما هو إلا بمجيء السعادة الأبدية. وإلاّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم الصرف. وتحول كل شيء عبثاً محضاً.. سبحانك ما خلَقْتَ هذا عَبَثاً.
البرهان الرابع:التناغم بين المكوّنات في العالمين الصغير(الإنسان)والكبير(الكون)أي التساوق بين الآفاق و الأنفس:(15/157)
يظهر فيها عدم إسراف في الفطرة بشهادة الفنون.فإنّ تقاصر ذِهْنُك عن إدراك حِكَم الإنسان الأكبر وهو "العالم" فأمعن النظر في العالم الأصغر وهو "الإنسان". فإنّ فن منافع الأعضاء قد شرح وأثبت أنّ في جسد الإنسان تقريبا ستمائة عظم كلّ لمنفعة.. وستة آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلّ لفائدة.. ومائة وأربعة وعشرين ألف مسامة وكوّة للحجيرات التي تعمل في كل منها خمس قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كل منها لمصلحة.وإذا كان العالَمُ الأصغر كذا فكيف يكون الإنسان الأكبر أنقصَ منه؟ وإذا كان الجسد الذي لا أهمية له بالنسبة إلى لبّه بتلك الدرجة من عدم الإسراف فكيف يُتصور إهمال جوهر الروح؟ وإسرافٌ كل آثاره من المعنويات والآمال والأفكار؟ إذ لولا السعادة الأبدية لتقلّصت كل المعنويات وصارت إسرافاً. فبالله عليك أيمكن في العقل أن يكون لك جوهرة قيمتها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لا تخلي أن يصل الغبار إليه، ثمّ تأخذ الجوهرة فتكسّرها شذراً مذراً وتمحو آثارها؟ كلا ثم كلا!
قيل لك: إنّ شخص الإنسان كنوع غيره، إذ نور الفكر أعطى لآمال البشر وروحه وُسْعة وانبساطاً بدرجة وسِعَت الأزمنة الثلاثة، لو ابتلع الماضي والمستقبل مع الحال لم تمتلئ آماله، لأنّ نور الفكر صيّر ماهيته علوية، وقيمته عمومية، ونظره كلياً، وكماله غير محصور، ولذته دائمية، وألمه مستمراً.أمّا فرد النوع الآخر فماهيته جزئية، وقيمته شخصية، ونظره محدود، وكماله محصور، ولذته آنية، وألمه دفعيّ، فوجود نوع قيامة في الأنواع، كيف لا يشير بالقيامة الشخصية العمومية للإنسان؟(15/158)
ما تهتم بالغلاف إلاّ لأجل ما فيه.. وأيضا إذا أفهمتك قوةُ البنية في شخص وصحة أعضائه واستعداده، استمرار بقائه وتكمله، أفلا تفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة الموحية بالاستمرار في الانتظام، والكمال المنجر إلى التكمل في النظام: مجيء السعادة الأبدية من باب الحشر الجسماني؟ إذ هي المخلصة للانتظام عن الاختلال، والواسطة للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبدة.
البرهان الخامس: الحدس المرمز إلى القصد
إنّ وجود نوع قيامات مكررة نوعية في كثير من الأنواع يشير إلى القيامة العظمى وإن شئت تمثُلَ الرمزِ في مثال، فانظر في ساعتك الأسبوعية، فكما أنّ فيها دواليب مختلفة دوارة متحرّكة محرّكة للإبر والأمْيال العادّة واحدة منها للثواني.وهي مقدمة ومخبرة لحركة إبرة الدقائق.وهي مُعدّة ومُعلنة لحركة ميل الساعات. وهي محصلة ومؤذنة لحركة الإبرة التي تعدّ أيام الأسبوع. فإتمام دورة السابقة يشير بأنّ أختها اللاحقة تتم دورها، كذلك إن لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الأفلاكُ تعدّ أميالها الأيام والسنين وعمر البشر وبقاء الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والأيام في ساعتك. فمجيء الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء - بناء على حركة تلك الساعة - يشير إشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.
البرهان السادس: الملوّح من لا تناهي استعدادات البشر
فهو عدم تناهي استعدادات البشر. نعم إنّ تصورات البشر وأفكاره التي لا تتناهى، المتولدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله غير المضبوطة، الناشئة من قابلياته غير المحدودة، المستترة في استعداداته غير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى، كلّ منها يشير في ما وراء الحشر الجسماني بأصبع الشهادة إلى السعادة الأبدية وتمد نظرها إليه. فتأمل!
البرهان السابع: البشارة بالرحمة الأبدية والسعادة لا متناهية(15/159)
و هو أنّ رحمة الرحمن الرحيم تبشر بقدوم أعظم الرحمة أعني السعادة الأبدية، إذ بها تصير الرحمة رحمة، والنعمة نعمة.وبها تخلص الكائنات من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الأبدي المصيّر للنعم نقماً.إذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الأبدية، لتحول جميع النعم نقما، وللزم المكابرة في إنكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..
فيا أيّها الحبيب الشفيق العاشق! انظر إلى ألطف آثار رحمة الله، أعني المحبة والشفقة والعشق، ثم راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق الأبدي والهجران الأزلي عليها، كيف ترى الوجدان يستغيث.. والخيال يصرخ.. والروح يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة - اللتين هما أحسن وألطف أنواع الرحمة والنعمة - أعظم مصيبة عليك واشد بلاء فيك؟ أ فيمكن في العقل أن تساعد تلك الرحمة الضرورية لهجوم الفراق الأبدي والهجران اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة أن تسلِّط الفراقَ الأبدي على الهجران الأزليّ، والهجران الأزلي على الفراق الأبدي والعدم عليهما.
البرهان الثامن: المصرّح بلسان النبي صلى الله عليه وسلّم:
لسان محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامه أبواب السعادة الأبدية، على أن إجماع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا المدعى. ولأمر مّا اتفقوا على حقيقة البشر و رافعوا و دافعوا عنها.
البرهان التاسع: إعجاز القرآن الكريم شاهد على الحشر:
إخبار القرآن المعجز، إذ التنزيل المصدق إعجازه بسبعة أوجه في ثلاثة عشر عصرا دعواه عين برهانها. فإخباره كشاف للحشر الجسماني ومفتاح له.
البرهان العاشر:براهين متنوّعة وكثيرة على المقصود:(15/160)
المشتمل على ألوف من البراهين التي تضمنها كثير من الآيات مثل { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْواراً } المشير إلى "قياس تمثيلي". و { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد } المشير إلى "دليل عدليّ" وغيرهما. فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ ناظرة إلى الحشر.
أ - القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأولى:
انظر في وجود الإنسان فانه ينتقل من طور إلى طور.. من النطفة إلى العلقة.. ومنها إلى المضغة.. ومنها إلى العظم واللحم.. ومنه إلى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الأطوار قوانين مخصوصة، ونظامات معيّنة، وحركات مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وإرادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدد لباسه في كل سنة، ومن شأنه التحلل والتركب، أي انقضاض الحجيرات وتعميرها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزعة على نسبة مناسبة الأعضاء التي يحضرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادة اللطيفة الحاملة لأرزاق الأجزاء. كيف تنتشر في أقطار البدن انتشاراً تحير فيه العقول. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعين على مقدار حاجات الأعضاء، بعد أن تلخصت تلك المادة بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من أربع مصفاتات، وانطبخت في أربعة مطابخ بعد أربعة انقلابات عجيبة، المأخوذة تلك المادة من القوت المحصل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستور منتظم، ونظام مخصوص، وقانون معين. وكل من القوانين والنظامات في تلك الأطوار يشف عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ.(15/161)
كيف لا، ولو تأمّلت من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرة مثلا، مستترة في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين "الحبيب"، لعلمت أن تلك الذرة وهي في الهواء معيّنة كأنها موظفة مأمورة بالذهاب إلى مكانها الذي عيُنّ لها، إذ لو نظرت إليها بنظر فنيّ تيقنت أن ليست حركتها "اتفاقية عمياء" "بتصادف أعمى"، بل تلك الذرة ما دخلت في مرتبة إلا تبعت نظاماتها المخصوصة، وما تدرجت إلى طور إلا عملت بقوانينه المعينة، وما سافرت إلى طبقة إلا وهي تساق بحركة عجيبة منتظمة. فتمر على تلك الأطوار حتى تصل إلى موضعها. مع أنها لا تنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها.
ويختم مجموع تلك البراهين بذكر محصّلة الكلام فيقول رحمه الله: " والحاصل: أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبق له تردد في النشأة الأخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (عجباً لمن يرى النشأة الأولى كيف ينكر النشأة الأخرى)(1).نعم! كما أن جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار إذا دعوا بالآلة المعروفة - فيتسللون عن كل طرف ومكمن، فيجتمعون متحدين تحت لوائهم - يكون أسهل وأسهل من جلبهم أول الأمر إلى الانتظام تحت السلاح، كذلك أن جمعَ الذرات التي حصلت بينها المؤانسة والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ إذا نوديتْ بصُور اسرافيل فينساب الكل من كل فج عميق ملبِّية لأمر خالقها يكون أسهل وأمكن في العقل من إنشائها وتركيبها أول المرة.
أما بالنسبة إلى القدرة فأعظم الأشياء كأصغرها. ثم الظاهر أن المعاد يعاد بأجزائه الأصلية والفضولية معا. كما يشير إليه كبر أجسام أهل الحشر وكراهة قصّ الأظفار والاشعار ونحوها للجُنُب، وسنّية دفنها. والتحقيق: أن عجب الذَنَب يكفي أن يكون بذراً ومادةً لتشكله.
ب - الدليل الذي لوح به (وما ربك بظلام للعبيد):(15/162)
اعلم! أنّا كثيراً ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة. ثم نرى المظلوم الفقير المتدين الحسن الخلق ينقضي عمره في غاية الزحمة والذلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلماً. والعدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت عليهما الكائناتُ منزهتان عن الظلم، فلابد من مجمعٍ آخر ليرى الأول جزاءه والثاني ثوابه فيتجلى العدالة الإلهية. وقس على هاتين الآيتين نظائرهما.
د - دلالة الحكمة على مقصد الحشر:(15/163)
دلّ على الحشر حكمة تعدّد الغايات التي وضّحتها حاشية الحقيقة السادسة من رسالة الحشر(1)كما أنّ من أهمّ مظاهر الرحمة والحكمة أنّ توجد ديار غير هذه الديار، فيها محكمة كبرى، ودار عدالة عليا، ومقرَّ كرم عظيم، لتظهر فيها العناية والعدالة بوضوح وجلاء (2)في الآخرة والدنيا، فتكون سبب في تحرير الإنسان ممّا يقلقه وينغّص عليه حياته، بالتفكير الدائم في مصيره، وكيفية دخوله القبر، مثلما انتهى إليه مصير أحبته وأقاربه. فتوهم الإنسان المسكين - الذي يضحي بروحه لأجل صديق عزيز - وتصوّره من أن آلافا بل ملايين الملايين من إخوانه البشر ينتهون إلى العدم بالموت - ذلك الفراق الأبدي الذي لا لقاء وراءه - سيذيقه هذا التصور ألما شديدا ينبئ بآلام جهنم. وحينما يتلوى هذا الإنسان من ألم ذلك العذاب الأليم النابع من ذلك التفكير، يأتي "الإيمان بالآخرة" فاتحا بصيرته، مزيلا الغشاوة عن عينيه، قائلا له: انظر.. فينظر بنور الإيمان، فإذا به يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهد من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الأبدي منتظرين قدومه إليهم. نقتصر على هذا حيث وضحت رسائل النور هذه النتيجة مع حججها.(3)
ه- - مخاطبة الوجدان في إثبات المقصد الرابع(الحشر):
__________
(1) - انظر المثنوي العربي 356
(2) - انظر الكلمات 57
(3) - انظر الشعاعات 278(15/164)
الترهيب والتهديد إثباتا وتأكيدا للحشر، أي أنّ اتقاء النار يفرض أنّكم إن كنتم صادقين تفعلوا المعارضة وتأتوا بسورةٍ لكن ما تفعلون ولن تفعلوا، فأنتج فلم تكونوا صادقين فكان خصمكم وهو النبيّ عليه السلام صادقا فالقرآن معجز، فوجب عليكم الإيمان به لتتقوا من العذاب... انظر كيف أوجز التنزيل فاعجز. ثم انه ذكر موضع استثناء نقيض التالي وهو "لكن ما تفعلون" لفظ (إن لم تفعلوا) مشيراً بتشكيك "إن" إلى مجاراة ظنهم، وبالشرطية إلى استلزام نقيض التالي لنقيض المقدم. ثم ذكر موضع النتيجة وهي نقيض المقدم أعني فلم تكونوا صادقين علة لازم لازمها وهي قوله (فاتقوا النار) لتهويل الترهيب والتهديد. (1)
يؤكّد المقصد (الحشر) أنّ الإنسان هو مركز الخلقة، أي محور الرحى الذي يدور حوله العالم خدمة وتسخيرا، خدمه الكون في الجانبين المادي والمعنوي، فالمادي بجعل الكون شاملا لمجموع عناصر حياته المادية، والمعنوي بجعله درسا مستمرا وتذكيرا دائما بالآخرة، لهذا يعتبر إثبات الحشر قطعا لدابر التساؤل المتبادر في قولهم " ما أهمية البشر حتى تقوم القيامة لأجله ويخرب العالم لسعادته؟ فكأن هذه الجملة تجيبه ب- "إن من هُيّئَ جميع ما في الأرض لاستفادته وسُخّر له الأنواع له أهمية عظيمة تشير إلى انه هو النتيجة للخلقة"."(2)
و - دور الإيمان بالحشر في تسلية القلوب وطمأنتها:
__________
(1) -إشارات الإعجاز 189
(2) - انظر إشارات الإعجاز 227(15/165)
الإيمان بالحشر وفق التصوّر المؤسس على التوحيد المستصحب لمجموع المعطيات الإيمانية بأبعادها النفسية والاجتماعية لا تزعزعه الفتن لأنّه محصّن بحصن منيع (1)، بل إنّ التعلّق بالحشر يعطي لكل يوم من حياتك معنى وقيمة لا يمكن كسبها خارج التصوّر التوحيدي للكون والحياة، ذلك أنّه"يجعل "كلّ يوم من أيام العمر بما فيها التي تمضي في السجن، مكسبا لثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين"، فتحوّلت الساعات الفانية إلى ساعات باقية بفعل استصحاب الآخرة في مزاولة الأفعال بصفة عامة ومنها المكوث في السجن.
إن للإيمان بالآخرة أبعادا كثيرة تتجلى نتائجها في جميع ميادين الفعل البشري، فتسلي القلوب وتضبط حركة العقول، فيولّد الإيمان بها محبّة دنيوية لغاية أخروية، وينال المحب بذلك "نتيجة أخروية للمحبة المشروعة المكللة بالشكر للّه، نحو الأطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة في الدنيا، هي تلك الأطعمة والفواكه الطيبة اللائقة بالجنة الخالدة.. كما ينص عليه القرآن الكريم. هذه المحبة، محبة ذات اشتياق واشتهاء لتلك الجنة وفواكهها. حتى أنّ الفاكهة التي تأكلها في الدنيا وتذكر عليها " الحمد للّه " تتجسم في الجنة فاكهة خاصة بها وتقدّم إليك طيبة من طيبات الجنة. فأنت تأكل هنا فاكهة، وهناك " الحمد للّه " مجسمة في فاكهة من فواكه الجنة.. وحيث إنّك تقدم شكراً معنوياً لذيذاً برؤيتك الإنعام الإلهي والالتفات الرباني في الأطعمة والفواكه التي تتناولها هنا، فستسلم إليك هناك في الجنة أطعمة لذيذة وفواكه طيبة، كما هو ثابت في الحديث الشريف(2) وبإشارات القرآن الكريم، وبمقتضى الحكمة الإلهية ورحمتها الواسعة."(3)
__________
(1) - انظر الكلمات 60-99، وذيل رسالة الحشر102
(3) - الكلمات 775(15/166)
ويحبّب الله إلى الخلق الجنّة بما أعدّه لهم من نعيم لا حصر له حال الطاعة، فهو أهل" لحور العين المترفلات بسبعين حلّة من حلل الجنّة المتنوعة بأنواع لطائفها وزينتها، والمتجملات بسبعين نوعاً من أنواع الحسن والجمال حتى كأنهن جنة مجسمة مصغرة تنبض بالروح والحياة، لتقرّ بها عينُ النفس التي أطاعت الله وتهدأ بها المشاعر التي اطمأنت إلى أوامر الله.. فهذه النتيجة لا ريب فيها، إذ الآيات الكريمة تصرح بها يقيناً"(1) كل ذلك لمن آمن بالحشر وعمل لما بعد الموت.
إنّ الإيمان بالحشر يدفع العبثية ويبعث الحيوية في قلوب البشر وعقولهم وييسّر لهم الدافع الموضعي لفعل الخير والابتعاد عن الشر، ذلك أنّه لا يتصوّر أنّ الخالق ذي الجلال الذي أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. أن لا يعامل بالإحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وأن لا يجازي أولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.(2)
__________
(1) - الكلمات 776
(2) - الكلمات: 68(15/167)
ويؤكّد تلك الحقيقة بأساليب متنوّعة، منها،أنّ الإنسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة إلا نادراً، بل يؤخر، إذ يرحل اغلب أهل الضلالة دون أن يلقوا عقابهم، ويذهب أكثر أهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد أن تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل إلى سعادة عظمى. وذلك لا يتأتّى بغير الحشر ثم الحساب(1)، إنّه نظام متناغم مع الحقائق الكونية الجلية في أدق مظاهر الكون المادية والمعنوية، وكون هذا شأنه لا يتصوّر أن يبقى الناس هملا من غير نيل ما يستحقون بما يوافق جهودهم، ولهذا قال النورسي:" أمن الممكن لمالك الملك ذي الجلال الذي أظهر في دار ضيافة الدنيا الفانية هذه، وفي ميدان الامتحان الزائل هذا، وفي معرض الأرض المتبدل هذا، هذا القدر من آثار الحكمة الباهرة، وهذا المدى من آثار العناية الظاهرة، وهذه الدرجة من آثار العدالة القاهرة، وهذا الحد من آثار الرحمة الواسعة! ثم لا ينشئ في عالم ملكه وملكوته مساكن دائمة، وسكنة خالدين، ومقامات باقية،ومخلوقات مقيمين.فتذهب هباءاً "(2)
رابعا:المقصد الرابع : العدالة والعبودية
اعتبر النورسي العدالة مقصدا أساسيا من مقاصد القرآن الكريم ومن ثم عدّها من عمد مقاصد رسائل النور، اعتنى الأستاذ بهذا المقصد و حاول بيان مختلف وجوه حضوره في المقاصد الأخرى،لهذا يستدعي البحث جهدا تركيبيا،يتتبّع الإشارات المندمجة فيها لنخلص إلى تقرير نظرة إجمالية عن هذا المقصد.
يؤكّد بديع الزمان في النص المؤسس لمقاصد القرآن من خلال رسائل النور أنّ العدالة والعبودية مقصد من المقاصد الأربعة الأساسية للقرآن الكريم(3)
__________
(1) - انظر الكلمات: 68
(2) - الكلمات 88
(3) - انظر المثنوي العربي النوري 75(15/168)
وأكّد تلك المعاني بتقرير حقيقة ناصعة مفادها أنّ العدالة الحقة مطلب طلاّب النور وهدفهم المنشود في التأسيس النظري للرؤية الكونية التوحيدية من جهة وغاية تصرّفاتهم الاجتماعية من جهة أخرى، يظهر هذا الحكم في مقام رده على الذين رموا أهل الإيمان بالرجعية، فيقول رجمه الله:"إنّ لطلاب القرآن وخدّامه إزاء هذه المظالم الفظيعة لهذه الرجعية الوحشية مئات من قوانين القرآن الأساسية من أمثال(ولاَ تزر وازرة وزر أخرى)(1) التي تحقق العدالة الحقة والاتحاد والأخوة. فإطلاق الرجعية على أهل الإيمان الذين يحققون العدل والأخوة، واتهامهم بذلك يشبه... ترجيح محاكم التفتيش على عدالة القرآن الكريم العظيمة.(2)
وأسس تلك العدالة والانتظام إنّما نشأ بتذكير أهل الدين وإرشاداتهم. فأسس العدالة والفضيلة شيّدها الأنبياء عليهم السلام. أي إنّ الأنبياء هم الذين أرسوا تلك القواعد والأسس، وهم الذين جعل الله لهم الفضل في إشباع حاجة الإنسان الضرورية للعدالة، ذلك أنّ الإنسان محتاج إلى نبي يمسك بميزان العدالة الإلهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع(3)
1 - مختلف مظاهر العدالة:
يمكن أن ينظر إلى العدالة من منظور رسائل النور من زوايا مختلفة متنوّعة، بعضها يقسّمها إلى إيجابية وتقابلها سلبية ، وأخرى يمكن أن نقسّمها إلى عدالة منظورة وعدالة مسطورة، ثالثة تقسّمها إلى محضة وإضافية.
أ - القسمة الأولى: الإيجابية والسلبية
يذكر الأستاذ أنّ للعدالة شقين أحدهما إيجابي والآخر سلبي
- القسم الإيجابي:
__________
(1) - الأنعام:164
(2) - الملاحق 374
(3) - انظر صيقل الإسلام 139(15/169)
ويكمن في إعطاء كلّ ذي حق حقه. فهذا القسم من العدالة محيط وشامل لكلّ ما في هذه الدنيا لدرجة البداهة.يظهر هذا القسم بأنّ ما يطلبه كلّ شيء وما هو ضروري لوجوده وإدامة حياته التي يطلبها بلسان استعداده وبلغة حاجاته الفطرية وبلسان اضطراره من الفاطر ذي الجلال يأتيه بميزان خاص دقيق، وبمعايير ومقاييس معينة، أي أنّ هذا القسم من العدالة ظاهر ظهور الوجود والحياة.
- القسم السلبي:
تأديب غير المحقين، أي إحقاق الحق بإنزال الجزاء والعذاب عليهم. فهذا القسم وإن كان لا يظهر بجلاء في هذه الدنيا إلاّ أنّ هنالك إشارات وأمارات تدلّ على هذه الحقيقة.خذ مثلاً سوطَ العذاب وصفعات التأديب التي نزلت بقوم عاد وثمود بل بالأقوام المتمرّدة في عصرنا هذا، مما يظهر للحدس القطعي هيمنة العدالة السامية وسيادتها.(1)
ب - القسمة الثانية: العدالة المحضة والعدالة الإضافية
- النوع الأول : العدالة المحضة
__________
(1) - انظر المكلمات 91(الهامش)(15/170)
أستفيد هذا النوع من العدالة من منطوق القرآن الكريم، إذ تفيد الآي-ة الكريمة: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } الأنعام 164، تفيد العدالة المحضة، أي لا يجوز معاقبة إنسان بجريرة غيره، ويستغل الأستاذ الفرصة للتذكير بخطورة العزوف عن تلك العدالة المطلوبة، فيؤكّد في مطلع الحديث على أنّ القرآن الكريم ومصادر الشريعة الأخرى وآداب أهل الحقيقة والحكمة الإسلامية كلّها تنبهك إلى وجوب التعامل بعدل من هنا كان إضمار العداء للمؤمن والحقد عليه ظلم عظيم، لأنّه إدانة لجميع الصفات البريئة التي يتصف بها المؤمن بجريرة صفة جانية فيه.والأشنع أن يمتد العداء إلى أقاربه وذويه بسبب صفة تمتعض منها، فهو ظلم أعظم، كما وصفه القرآن الكريم بالصيغة المبالغة: { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } (إبراهيم: 34)، إنّ عداء المؤمن ظل-م مبين، من حي-ث الحي-اة الشخصية.وبأسلوب تربوي يسترعي الانتباه والتنويه، يلفت الأستاذ النظر إلى دساتير تؤكّد ذلك التفسير والتعليل، يستشف هذا في عبارته:" فإن شئت فاستمع إلى بضعة دساتير هي أساس هذا الوجه من التفسير والتعليل، وبهذا يقرر بعدا تربويا للعدالة المحضة، ذلك البعد الذي له أثر عظيم على المضامين المنهجية والاجتماعية والأخلاقية بصفة عامة(1).
ومن تلك المضامين أنّ العدالة المحضة المستمدة من القرآن الكريم، لا تضحي بحياة برئ واحد، ولا تهدر دمه لأي شيء كان، لا في سبيل الأكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة.إذ الآية الكريمة { مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قَتَل الناسَ جميعاً } ( المائدة: 32 ) تضع سرّين عظيمين أمام نظر الإنسان:
__________
(1) - انظر المكتوبات 339 - 350(15/171)
- السر الأول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر إلى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما أنهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سنة دائمة. إلاّ أنّ الشخص يستطيع - برغبة من نفسه - أن يضحي بنفسه، من دون أن يُضحّي به قطعاً، حتى في سبيل الناس جميعاً.لأن إزهاق حياته وإزالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعاً شبيه بإزالة عصمتهم جميعاً وهدر دمائهم جميعاً.
- السر الثاني: هو لو قتل مغرورٌ بريئاً دون ورع، تحقيقاً لحرصه وإشباعاً لنزواته وهوى رغباته، فإنّه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري إن استطاع.(1)
- النوع الثاني: العدالة الإضافية
عرّف بديع الزمان العدالة الإضافية بالمثال، فقال رحمه الله: " هي أنّ الجزء يضحى به لأجل سلامة الجميع، فهذه العدالة لا تأخذ حق الفرد بنظر الاعتبار لأجل الجماعة، وإنّما تحاول القيام بنوع من عدالة إضافية من حيث الشر الأهون.
ولا يصار إلى العدالة الإضافية إلا إذا كانت العدالة المحضة غير قابلة للتطبيق، لهذا إذا صار إليها في حال إمكان تطبيق العدالة المحضة وقع الظلم".(2)
ويواصل الأستاذ أسلوبه المرتكز على التمثيل، فيذكر في سياق توضيح الفرق بين العدالة المحضة والعدالة الإضافية مثالا مفاده ما يأتي:
__________
(1) - الكلمات 862
(2) - المكتوبات(15/172)
إنّ حق الشخص البريء الواحد لا يبطل لأجل الناس جميعاً، أي أنّ حقه محفوظ، وهذا المعنى هو الذي تشير إليه الآية الكريمة { مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ( المائدة: 32 ) فلا يُضحى بفردٍ واحد لأجل الحفاظ على سلامةٍ الجميع، إذ الحق هو حق ضمن إطار الرحمة الإلهية، فلا يُنظر إلى كونه صغيراً أو كبيراً، لذا لا يُفدى بالصغير لأجل الكبير، ولا بحياة فرد وحقه لأجل سلامة جماعة والحفاظ عليها، إن لم يكن له رضا في الأمر.أما إذا كانت التضحية برضاه ورغبة منه فهي مسألة أخرى.
لهذا فالعدالة الإضافية تفدي بالجزء لأجل الكل بشرط أن يكون لذلك الجزء المختار الرضا والاختيار صراحة أو ضمناً، إذ عندما يتحول " أنا " الإفراد إلى " نحن" الجماعة ويمتزج البعض بالبعض الآخر مولداً روح الجماعة، يرضى الفرد أن يضحي بنفسه للكل.(1)
ج - القسمة الثالثة:العدالة المنظورة والعدالة المسطورة
يتجلى في الكون عدالة مطلقة إنّها عدالة جارية في الكون وهي نابعة من التجلي الأعظم لاسم "العدل" إنّما تدير موازنة عموم الأشياء، وتأمر البشرية بإقامة العدل(2)، ويعرف الأول في سياق هذه الفقرة بالعادلة المنظورة بينما يعرف الثاني بالعدالة المسطورة أي التي أخبر بها الأنبياء عليهم السلام ولاسيما خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
- النوع الأول: العدالة المنظورة
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 337
(2) - انظر اللمعات 526(15/173)
الناظر ببصيرة إلى الكون في عناصر المادية والمعنوية يحكم دون تردد بأنّ في الكون عدالة مطلقة، تلك العدالة هي سنن الله الجارية في الكون، وهي دستور إلهي شامل تدور رحى الموجودات عليه لا يفلت منها شيء(1)، إنّها عدالة مطلقة كلّ عضو من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتنسقه بموازين دقيقة حساسة - ابتداء من ميكروب صغير إلى كركدن ضخم، ومن نحل ضعيف إلى نسر مهيب، ومن زهرة لطيفة إلى ربيع زاهٍ بملايين من الأزهار.. وتراها تمنح كل عضو تناسقا لا عبث فيه، وموازنة لا نقص فيها، وانتظاماً لا ترى فيه إلاّ الإبداع، كل ذلك ضمن جمال زاهر وحسن باهر حتى تغدو المخلوقات نماذج مجسمة للإبداع والإتقان والجمال والعدالة... (2)
ومن تلك المخلوقات التي تمثّل الأمر الإلهي السماوات والأرض، إذ تبيّن أنّها كالجنود المرابطين في معسكرين،، كما أنهم يهرعون إلي أخذ مواقعهم وتسلم أسلحتهم بدعوة من القائد وبنفخة من بوق، كذلك السماوات والأرض... بل نرى هذه العظمة والطاعة في كل ربيع إذ يُحشَر ما في معسكر الأرض من جنود وينشَرون بنفخة من بوق مَلَك الرعد.. فبناء على التحقيقات السابقة، لابد أن تلك الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية ستحقق أبعادها وغاياتها في هذه الدنيا ولها امتداد في دار أخرى(3)، نبيّن حقيقتها في العدالة المسطورة.
- النوع الثاني:العدالة المسطورة
__________
(1) - انظر اللمعات 525
(3) - الشعاعات 268(15/174)
العدالة المسطورة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - تهب لكل ذي حياة حق الحياة، وتنصّب له موازين عدالة فائقة، فجزاء الحسنة حسنة مثلها، وجزاء السيئة سي-ئة مثلها.. وفي الوقت نفسه تُشعر قوتها وسرمديتها، بما تنزل من عذاب مدمر على الطغاة والظالمين منذ عهد آدم عليه السلام.فكما لا تكون الشمس دون نهار، فتلك الحكمة الأزلية، وتلك العدالة السرمدية لن تتحققا تحققاً كلياً إلاّ بحياة أخرى خالدة لذا لن ترضيا أبداً ولن تساعدا بحال من الأحوال على نهاية لا عدالة فيها ولا حكمة ولا إحقاق حق، تلك هي الموت الذي لا بعث بعده، والذي يتساوى فيه الظالمون العتاة مع المظلومين البائسين، فلابد إذن أن تكون وراءه حياة أخرى خالدة كي تستكمل الحكمة والعدالة حقيقتهما. (1)
أي أنّها تقتضي الحشر بالضرورة، إذ لاشك في مجيء الآخرة، بل إنّ عدم مجيئها محال في ألف محال، حيث إنّ عدمها يعني:
تبدلّ " الرحمة" التي هي في منتهى الجمال قسوة في منتهى البشاعة.
تحوّل كمال " الحكمة " إلى نقص العبث القاصر وغاية الإسراف.
انقلاب " العناية "التي هي في منتهى الحسن واللطف إلى إهانة في منتهى القبح والمرارة.
تغيّر " العدالة" التي هي في منتهى الإنصاف والحق إلى ظلمات في أشد القسوة والبطلان.
زد على ذلك فإنّ عدم مجيء الآخرة يعني أيضا سقوط هيبة السلطنة السرمدية العزيزة وبوار أبهتها وقوتها.
اتهام كمال الربوبية بالعجز والقصور..(15/175)
وكل ما سبق ذكره باطل ومحال لا يقبله عقل أي إنسان مهما كان، وهو الممتنع والخارج عن دائرة الإمكان، لأنّ كل ذي شعور يعلم أن الله سبحانه قد خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ورباه أحسن تربية، وزوّده من الأجهزة والأعضاء - كالعقل والقلب - ما يتطلع به إلى السعادة الأبدية ويسوقه نحوها، ويدرك كذلك مدى الظلم والقسوة إذا ما انتهى مصير هذا الإنسان المكرم إلى العدم الأبدي، ويفهم كذلك مدى البُعد عن الحكمة في عدم البعث الذي يجعل جميع الأجهزة والقوى الفطرية - التي لها آلاف المصالح والفوائد دون جدوى ودون قيمة(1)
- تناغم وتوافق المنظور و المسطور من العدالة:
يتخيّل بعض الناس أنه ليس للعدالة الكونية الضامنة لسير الكون وفاعليته صلة بالعدالة المسطورة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وخاصة في جانبها العقدي، فضلا عن الجوانب التشريعية البحت.
إنّ للعدالة المنظورة أثر عظيم في طلب العدالة المسطورة، ذلك أنّ صدى الحرية والعدالة المتجلية في الكون تبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى كأن الكرة الأرضية وما فيها مجذوبة جذبة المولوي (مولانا جلال الدين الرومي) بفعل تلك العدالة التي يتعدى مفعولها إلى الأمة فتهيّجها جميعا ويهزّها هزّ المجذوب (2) على تمثّل العدالة والسير وفق سنن خالقها فيها، من هنا كان التوافق جليا بين مظهر العدالة المنظورة والمسطورة.
__________
(1) - انظر الشعاعات 268
(2) - انظر صيقل الإسلام 466(15/176)
فمثلا إن وجود جهنم وعذابها الشديد لا ينافي قطعاً العدالة الحقيقية، ولا الحكمة الموزونة التي لا إسراف فيها، ذلك أنّ العدالة في حقيقة الأمر لا تتجزّأ، لها تجلّياتها في الآيات المنظورة والآيات المسطورة، لهذا فإنّ الرحمة والعدالة والحكمة تتطلّب وجود جهنم وتقتضيه، لأنّ قتل حيوان افترس مائة من الحيوانات أو إنزال عقاب بظالم هتك حرمات ألفٍ من الأبرياء، هو رحمة بآلاف الأضعاف للمظلومين من خلال العدالة. وإنّ إعفاء ذلك الظالم من العقاب أو التجاوز عنه، وترك ذلك الحيوان الوحشي طليقا، فيه ظلم شنيع وعدم رحمةٍ لمئات المساكين بمئات الأضعاف، إزاء رحمة في غير موضعها.ومثل هذا أيضا، الكافر المطلق - الذي يدخل سجن جهنم - فإنّه بكفره ينكر حقوق الأسماء الإلهية الحسنى، أي يتعدى على تلك الحقوق.. وبتكذيبه لشهادة الموجودات - الشاهدة على تلك الأسماء - يتعدى على حقوقها أيضا.. وبإنكاره للوظائف السامية للمخلوقات - وهي تسبيحاتها تجاه الأسماء - يتجاوز على حقوقها..
ومن مظاهر التفاعل الإيجابي مع العدالة الاستجابة لنداء العبودية المنسجم مع عبادات سائر المخلوقات، لهذا كان جحود أنواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه تظاهر الربوبية والألوهية - وهي غاية خلقتها وسبب من أسباب وجودها وبقائها - تعديا صارخا على حقوق جميع المخلوقات، لذا فالكفر جناية عظيمة وظلم شنيع تتجاوز بشاعته كل حدود العفو والمغفرة، فيحق عليه إذن تهديد الآية الكريمة: { إن الله لا يغفر أن يُشرَكَ به.. } (النساء: 48 )، بل إنّ عدم إلقاء مثل هذا الشخص في جهنم رحمةً به هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق هذه الأعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي اُنتهكت حقوقها.
وهكذا مثلما يطالب أصحاب الدعاوى بوجود جهنم، فإن عزة جلال الله وعظمة كماله سبحانه تطلبانها قطعا.(15/177)
نعم، إذا قال سفيه أو شقي عاص لحاكم عزيز للبلاد:" إنّك لا تستطيع أن تقذفني في السجن ولن تقدر على ذلك أبدا ". متجاوزاً حده ومتعدّيا على عزّة ذلك الحاكم وعظمته، فلابدّ أن ذلك الحاكم سينشئ سجنا لذلك السفيه المتعدي حتى لو لم يكن هناك سجن في البلاد. كذلك الأمر في الكافر المطلق، فإنّه بكفره يتعدى بشدّة على عزّة جلاله سبحانه، وبإنكاره يتحدّى عظمة قدرته، وبتجاوزه يمسّ كمال ربوبيته، فإن لم يكن هناك حتى تلك الأسباب الموجبة وتلك المبررات الكثيرة والحكم العديدة والوظائف الكثيرة لجهنم ولوجودها، فإن خلق جهنم لمثل هؤلاء الكفار وإلقاءهم فيها هو من شأن تلك العزة وذلك الجلال.
2 - العدالة والعبودية في العقائد
نحاول من خلال هذه الفقرة التأكيد على الربط بين العدالة والعبودية في فكر بديع الزمان، وتأكيدا لربط فكرة العدالة بالعبودية يذكر الأستاذ المسألة موضّحا من خلال حديثه المسهب –وظيفيا- عن الكفر، فيقول-رحمه الله-:"ثم إن ماهية الكفر نفسها توحي بجهنم، إذ كما أن ماهية الإيمان إذا تجسمت يمكن أن تبني بلذائذها ونعيم جمالها جنة خاصة في وجدان الإنسان وقلبه، هي جنة مصغرة تومئ وتخبر عن جنة الخلد التي تنتظره في الآخرة، كذلك الكفر - ولاسيما الكفر المطلق - والنفاق والردة فيه من الآلام والعذاب والظلمات المرعبة بحيث لو تجسمت وتأصلت في نفس صاحبها كونت له جهنمه الخاصة به (1)، وفي ذلك أظهر الأسس الفكرية المؤسسة والمؤصّلة للعدالة التي هي التوافق مع سنن الله في الخلق، ومن ثمّ كان تمثّلها في جانبها المسطور إضافة إلى المنظور مسلكا مؤسسا لعدالة القوانين المعبّرة عن الأمّة وتذكارها وتجلّ من تجليات الله سبحانه وتعالى(2).
3 - العدالة وحضورها في مختلف مضامين المقاصد:
__________
(1) - انظر الشعاعات 287 - 288
(2) - انظر السيرة الذاتية 338(15/178)
تعدّ العدالة دليلا مؤسسا للتوحيد والرسالة والنبوة والحشر، وهي في ذات الوقت مظهر من مظاهر المقاصد الثلاثة الآنفة الذكر (التوحيد، النبوة، الحشر)، من هنا كان للعدالة تجليات في المقاصد أولا وفي الآفاق والأنفس ثانيا، و في ذكر تلك التجليات أظهر برهان و أسطعه.
أ - العدالة والمقصد الأول(التوحيد):
يتناول التأسيس للتوحيد من خلال العدالة من زاويتي الوجود والعدم، فالأولى فعل إيجابي من شأنه أن يتولى بيان العناصر التي تقيم أصله وتحافظ على حضوره، والثانية فعل سلبي من مهامه الأساسية صد العناصر التي من شأنها التشويش على التوحيد أو تأخير تمكينه من القلوب والعقول.
- العدالة ودورها في التمكين للتوحيد من جانب الوجود:
التمكين للتوحيد نظر في كثير من صوره إلى العدالة المتجلية في الكون والمتدلية كالثمار المقتطفة من شجرة الحياة، تظهر العدالة كفعل مؤسس للتوحيد في رسائل النور، إذ تمثّل جزء من مظاهر الربوبية، وهي مبنى جريان الكون وحمايته وديمومته وسريان فوائده المنتظرة في صالح الإنسان أو الأشياء، وفي كل ذلك أكبر براهين وأدلّة التوحيد.
التوحيد الذي نشاهد براهينه الساطعة القاطعة في العدالة المبثوثة في هذا الكون، تلك العدالة التي تعبّر عن عادة الربوبية الجارية في الكون(1)
يقول الأستاذ في تأكيد تلك المعاني:" إنّنا نشاهد بأعيننا في هذا الكون أنّ من عادة الربوبية الجارية في كل آن بالعدالة والحكمة والعناية، حماية الأبرار وتأديب الكذابين الفاسدين نشاهدها ضمن تصرّفاته المنتظمة جل جلاله"(2)
__________
(1) - انظر الشعاعات 667
(2) - الشعاعات 667(15/179)
يعدّ النظام المبثوث في الكون أكبر دليل مؤسس للتوحيد، ومبنى ذلك النظام العدالة وهي بدورها أكبر دليل على إثبات المراد، فهي تمثّل بالنسبة للتوحيد حجّة ودليلا ومطلبا ومقصدا في ذات الوقت، يتجلى هذا الأمر في " أنّ الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجّل تاريخ حياة كلّ شجرة في كلّ بذر من بذورها، ودوّن وظائف حياة كل عشب ومهام كلّ زهر في جميع نواها. وكتّب جميع حوادث الحياة لكلّ ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبّة الخردل.واحتفظ بكلّ عمل في ملكه كافة وبكل حادثة في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة، والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الأكبر لأجل تجليات وتحقق العدالة والحكمة والرحمة التي هي أهم أساس للربوبية.."(1)
والشواهد على إثبات تلك الحقيقة وتثبيتها أكبر من أن تحصى، بحيث تبلغ حد الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية على العوالم السيّارة المتجددة(2)
__________
(1) - الشعاعات 299
(2) - انظر الشعاعات 313(15/180)
نرى في العالم عدالة تجليها حكمة عامة عالية، بشهادات رعاية المصالح والفوائد في كل شيء، وبدلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات، فهذه الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، تقتضي تلطيف المطيعين الملتجئين إلى جناحها.. كما تدل شهادات وضعه كل شيء في الموضع اللائق، وإعطاء كلّ ذي حق حقه الذي يستعد له، وإسعاف كل ذي حاجة حاجته التي يطلبها - لوجوده أو حفظ بقائه - وإجابة كل ذي سؤال سؤاله. وبالخاصة: إذا سئل بلسان الاستعداد أو بلسان الاحتياج الفطري أو بلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته، وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمة كبرى، مع أن هذه الدار الفانية أقل وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مظهراً لحقيقة تلك العدالة، فلابد حينئذ لهذا الملك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة.(1)
- العدالة ودورها في صيانة التوحيد من جانب العدم:
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 91(15/181)
النظر إلى العدالة من زاوية دورها في صد العناصر الملوّثة للبيئة الفطرية السليمة، يؤكّّد أنّ لها منزلة عظيمة في صيانة الإيمان من كلّ ما من شأنه أن يعدمه أو يضيّع وظيفته الاجتماعية، في إطار هذه الملاحظة يمكن أن نستوعب اهتمام الأستاذ النورسي بمقارعة الكفر والتنبيه إلى خطورته الفكرية والتربوية والحضارية، فسعى جاهدا إلى المرافعة عن التوحيد من خلال المرافعة عن الإيمان، وذلك بصد مؤامرات الكفر والإلحاد، وبهذا الصدد ينبّه بديع الزمان في أسلوب واضح إلى خطورة ذلك النوع من الأفكار من جهة، ويلخّص في ذات الوقت مهمّته الأساسية في حماية الإيمان من شيوع الكفر من جهة أخرى، فيقول - رحمه الله -:"رسائل النور ...تقوم بتحطيم الكفر المطلق - الذي أسفله الفوضى(مظهر ضياع العدالة) وأعلاه الاستبداد المطلق(مظهر تضييع العدل) - وتفتيته وردّه على أعقابه.وأكبر برهان على ذلك هو رسالة "الثمرة" التي هي بمثابة دليل واحد من بين مائة حجة ودليل على أنّ رسائل النور تسعى لتأسيس الأمن والنظام والحرية والعدالة...(1)
ب- العدالة و المقصد الثاني(النبوة و الرسالة) :
- العدالة والنبوة:
النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - دال على الله معرّف بتوحيده، برهن على تلك الحقائق بحجج موافقة لأحكام العقول الفطرية، كما يدلّ على ذلك بما جاء به من أحكام موافقة للفطرة السليمة تضمّنتها رسالته التي كلّف بتبليغها عن الله، ليس هذا فحسب، بل يعدّ أظهر حجج العدالة الإلهية في الأرض سواء بتصرّفاته أو بمقتضى ما جاء به من قواعد وأصول وأوامر ونواهي، لهذا فهو كنبي حجّة، كما أنّ رسالتها نفسها حجّة إضافية .
__________
(1) - انظر الشعاعات 334(15/182)
من مظاهر تلك العدالة وبمقتضى أفعال الله الرحمانية أنزل القرآن المعجز البيان على محمّد - صلى الله عليه وسلم -.. وإظهار أنواع المعجزات الكثيرة البالغة نحو ألف معجزة على يديه.. وحمايته له تحت جناح رأفته الشفيقة في كل حالاته، بل في أخطر أوضاعه حتى حمايته بالحمام والعنكبوت.. وتوفيقه توفيقاً معززاً في مهامه.. وإدامة دينه بجميع حقائقه.. وتتويج هامة الأرض والبشرية بإسلامه.. وإعلاء مقامه وشرفه إلى أرفع مقام وأشرفه.. وتفضيله على الموجودات كافة بمنحه مقاماً مرضياً مقبولاً ودائماً يفوق أفاضل الإنسانية.. وإعطائه شخصية تحمل أجمل الخصال الحميدة الرفيعة باتفاق الأولياء والأعداء حتى جعل خمس البشرية من أمّته.. كل ذلك يشهد شهادة صادقة قاطعة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - ورسالته.(1)وكلّ ذلك شاهد على أنّه نبي العدالة حمّل رسالة عدالة توافقها عدالة المظاهر الكونية، فتكاملت شهاداتان في العدالة المطلقة.
- العدالة والرسالة:
__________
(1) - الشعاعات 667(15/183)
تدلّ أفعال ربوبيته جلّ جلاله على أنّه متصرّف هذا العالم ومدبّر شؤونه، كما تدلّ أيضا على أنّه جعل رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - شمسا ً معنوية للكون، ...بدّد بها جميع الظلمات، مظهرا ً بها حقائق الكون النورانية.. وأبهج ذوى الشعور قاطبة بل الكون بأسره ببشارة الحياة الباقية.. وجعل دينه أيضا ً فهرس كمالات جميع عباده المقبولين، ومنهجا ً قويما ً لأفعال العبودية.. وجعل الحقيقة المحمدية وهي شخصيته المعنوية مرآة جامعة لتجليات ألوهيته بدلالة القرآن الكريم.. بل جعله ينال - علاوة على الحقائق من أمثال حسنات أمته كافة في كل يوم طوال أربعة عشر قرناً.. وبعثه إلى البشرية وأناط به وظائف جليلة سامية.. وجعله أحسن قدوة وأعظم مرشد وأكرم سيّدٍ للبشرية قاطبة، بدلالة آثاره في الحياة الاجتماعية والمعنوية والبشرية، وجعل البشرية محتاجة إلى دينه وشريعته وحقائقه التي أتى بها في الإسلام حاجتها إلى الرحمة والحكمة والعدالة والغذاء والهواء والماء (1)
وتعدّ الشريعة من أبرز ما جاءت به الرسالة النبوية، تنسحب عليها الصفات التي تحلّت بها الرسالة نفسها، لهذا كانت الشريعة بدورها مظهرا من مظاهر العدالة.
- الشريعة مظهر العدالة:
__________
(1) - انظر الشعاعات 667(15/184)
رسمت الشريعة طريق السعادة بل هي نفسها سبب في جلب السعادة، ذلك أنّها هي العدالة المحضة والفضيلة، لهذا انتهى الأستاذ النورسي إلى تبني التضحية من أجل الشريعة، إذ يصرّح بأنّه لو كان له ألف روح لكان مستعدا لأن يضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائقها، بشرط أن تكون الشريعة الحقة، وليست كتلك التي يطالب بها المتمردون.(1) لأنّ للشريعة دور في تأسيس إطاعة قانون العدالة الإلهية وامتثال النظام الرباني إضافة إلى دورها في إدامة تصوّر عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول. والإنسان يحتاج إلى تلك الإدامة من حيث هو إنسان لأنّه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها ويا خسارة من تكاسل فيها، ويا جهالة من لم يعرف قيمتها، فسحقاً وبعداً وافّاً وتفًّاً لنفسِ مَن لم يستحسنها.(2)
ج - العدالة والمقصد الثالث(الحشر أو المعاد):
- عقوبة الظالم مظهر من مظاهر العدالة:
تقتضي العدالة وجود الآخرة، فكما أنّ الدلائل والحجج التي تثبت صدق القرآن الكريم بل جميع الكتب السماوية، وأنّ المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب الله بل الأنبياء جميعهم، تثبت بدورها أهمّ ما يدعون إليه، وهو تحقق الآخرة والدلالة عليها.كذلك فإنّ أغلب الأدلة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالم البقاء التي هي مدار الربوبية والألوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها، لأنّ وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب أسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدّسة -أمثال الربوبية والألوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة - تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضاً.(3)
- الآخرة وتجلي العدالة:
__________
(1) - صيقل الإسلام 440
(2) - انظر إشارات الإعجاز 53
(3) - انظر الشعاعات 234(15/185)
الإيمان بالعدالة المحضة المطلقة يحافظ على الخير المبثوث في الكون ويدفع إلى الاستزادة منه، أمّا إنكار تلك الحقيقة فسيكون سببا في فعل الشرور ومدافعة الخير، ذلك أنّ تجلّي الحق والعدالة المحضة سيكون في الآخرة، وهو ميدان تغلّب الحسن والحق والخير الشخصي والعام، والجزئي والكلي، وهناك ستكون المحكمة الكبرى التي تجازي البشر ويكفأ الإنسان بما يوافق وينسجم مع استعداداته.(1)
الآخرة كما مرّ معنا مظهر من مظاهر العدالة وحجّة إضافية لها، ومن امتدادات ذلك كانت عقوبة الظالم مظهرا من مظاهر العدالة، لأنّ العدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت وتشهد عليهما الكائنات منزهتان عن الظلم، وهذا يقتضي وجود مجمع آخر ليرى الظالم جزاءه والمظلوم ثوابه، فتتجلى العدالة الإلهية في الموقف من الأول كما تتجلى من الموقف من الثاني، لأنّنا كثيراً ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة. ثم نرى المظلوم الفقير المتدين الحسن الخلق ينقضي عمره في غاية الزحمة والذلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلماً، لهذا كان لا بد من عقوبة الظالم وإنصاف المظلوم تحقيقا للعدالة(2)
- المضمون الفكري والتربوي والاجتماعي لرؤية العدالة كمقصد:
* المضمون الفكري لرؤية العدالة:
تيسّر رؤية العدالة في الكون الاستيعاب المجمل للنظام المبثوث فيه، ذلك النظام الذي يحكمه بشكل يسع بشكل واضح مشمولات الإدراك البشري من جهة، ويسمح بفهم المستعصي عن الاستيعاب في إطار تلك الرؤية الشاملة وإن عسر فهمه في إطاره الجزئي من جهة أخرى.
__________
(1) - انظر صيقل الإسلام 54
(2) - انظر إشارات الإعجاز 66(15/186)
استيعاب تلك المعاني يسمح بقبول إطار نظري قطعي متكامل لتحليل الظواهر الجزئية أو الكلية، إذ النظر إلى الكون من زاويتي التوافق بين العدالة المنظورة والعدالة المسطورة، يسمح بالخلوص إلى نتيجة هامة، مفادها:"إنّ الحاكم على الدهر وعلى طبائع البشر إلى يوم القيامة هو " حقيقة الإسلام" التي هي تجلّي العدالة الأزلية في عالم الكون، والتي هي الإنسانية الكبرى... إذ يعني هذا إسناد العجز التام إلى قدرة القدير المطلق، وتنسيب العبث والضياع إلى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وإرجاع القبح المطلق إلى جمال رحمة الرحيم المطلق، وإسناد الظلم المطلق إلى العدالة التامة للعادل المطلق، أي إنكار كلّ من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، إنكارها كلياً من الوجود، وهذا من أعجب المحالات وأشدّها سخفاً وأكثرها بطلاناً".(1)
النظر في ألفاظ القرآن الكريم يؤكّد تلك المعاني، يشير إلى هذا المعنى قول بديع الزمان:"قلت:لما اُنزل (بسم الله) لتعليم العباد كان "قُلْ" مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الاقوال القرآنية. فعلى هذا يكون في "قل" إشارة إلى الرسالة.. وفي (بسم الله) رمز إلى الألوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد.. وفي (الرحمن) تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان.. وفي (الرحيم) إيماء إلى الحشر."(2)
- العدالة وتبادل ثمرات السعي:
سير الكون وفق جعله يحتاج إلى تفاعل مجموعة كبيرة عددا من العناصر، ويضبط سيرها العدالة المتجلية في النظام، وأظهر ذلك النظام الإنسان.
__________
(1) - انظر اللمعات 535
(2) - إشارات الإعجاز 24(15/187)
خُلق الإنسان ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، أنتج ذلك المزاج فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً إلى أن يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالإنسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمة لا يقتدر هو بإنفراده على كلّها.ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم.لكنّ لما لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْبَرَكِ الجزء الاختياريّ - لا كالحيوانات التي حُددت قواها - حصل انهماك وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأنّ عقل كلّ أحد لا يكفي في درك العدالة احتاج النوع إلى عقل كلّي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل إلاّ قانون كليّ.(1)
- العدالة حاجة نفسية(تسلية قلوب المظلومين):
استيعاب العدالة في إطارها الكلي يسلّي القلوب بما يظهر من القدر الإلهي بحقي العدالة الإلهية وعنايتها ضمن ظلم البشر.وقياساً على هذا، يرى الأستاذ أنّه ما من مصيبة تنزل به إلاّ وتحتها رحمة إلهية، إذ كانت تلك المصائب سببا في انشغال التلاميذ به، وكان من النتائج المباشرة للانشغال به إنقاذ مئات من رسائل النور، ولهذا يخاطبهم الأستاذ قائلا:"يا إخوتي لا تقلقوا عليّ أبداً، حتى أنّني كلّما نويت الدعاء عليهم - بسبب اهانتهم له إهانة شديدة تجرح مشاعري جرحاً أليماً - فإنّ الموت الذي يعدمهم، وتعرّضهم لعذاب القبر الذي هو سجن انفرادي لهم، وما ينتج من تلك الإهانة من المصالح لي والمنافع لخدمتنا.. كل ذلك يحول بيني وبين الدعاء عليهم فأتخلى عنه."(2)
- رؤية العدالة يؤسس للتعامل الإيجابي مع الدنيا:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 147
(2) - انظر الملاحق 283(15/188)
الاقتناع بهيمنة العدالة على الكون، يؤسس للتعامل الإيجابي معه في عناصره المادية والمعوية، ذلك" أنّ كلّ حقيقة من الحقائق تثبت أموراً ثلاثة في آن واحد:وجود واجب الوجود، وأسمائه وصفاته، ثم تبني الحشر على تلك الأمور وتثبته، فيستطيع كلّ شخص من أعتى المنكرين إلى أخلص المؤمنين أن يأخذ حظّه من كلّ حقيقة، لأنّها تلفت الأنظار إلى الموجودات والآثار، وتقول:في هذه الموجودات أفعال منتظمة، والفعل المنتظم لا يكون بلا فاعل، لذا فلها فاعل.ولما كان الفاعل يفعل فعله بالانتظام والنظام يلزم أن يكون حكيماً عادلاً، وحيث أنّه حكيم، فلا يفعل عبثاً وحيث أنّه يفعل بالعدالة فلا يضيّع الحقوق، فلا بد إذن من محشر أكبر ومحكمة كبرى."(1)
- العزوف عن العدالة وما تسببه من عزلة كونية واجتماعية:
* التناقض مع الكون:
__________
(1) - الملاحق 73(15/189)
يستشف برهان العدالة من سير الكون وثباته المستمر الهادف، إذ لا يمكن قبول تلك النتيجة الساطعة البيّنة الأشبه بالبديهية، ما لم نقبل بشكل قطعي بوجود العدالة والحكمة البالغة في جميع مظاهر الكون، ولوضوحها يعدّ إنكارها تناقض ما بعده تناقض يصل حدّ الجنون أو الغفلة المحكّمة على الأقل، لأنّ إنكارها في غاية الجنون والسفه، لأنّ الربّ السرمدي والسلطان الأبدي أظهر في الكون عدالة عالية غالية مشفوعة بآثار حكمة باهرة ماهرة، وعناية ظاهرة، ومرحمة واسعة جامعة، بدرجة يعرف باليقين مَن لم يكن على عينه غين وفي قلبه رين، أنّه ليس في الإمكان أكمل من حكمته، وأجمل من عنايته، وأشمل من مرحمته، وأجلّ من عدالته، فلو لم تكن في دائرة مملكته - في ملكه وملكوته - أماكن دائمة عالية، ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة، لتكون تلك الأمور مظاهر لتظاهر حقائق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، للزم حينئذٍ إنكار هذه الحكمة المشهودة لذي عقل، وإنكار هذه العناية المبصرة لذي بصيرة، وإنكار هذه الرحمة المنظورة لذي قلب، وإنكار هذه العدالة المرئية لذي فكر، وللزم قبول كون صاحب هذه الأفعال الحكيمة الرحيمة الكريمة العادلة.. حاشا، ثم حاشا!.. سفيهاً لعّاباً وظالماً غدّاراً، فيلزم انقلاب الحقائق.(1)
__________
(1) - انظر المثنوي العربي النوري 99(15/190)
وإنكار العدالة الكونية أو تضليلها لا يختلف عن إنكار وجوب العدالة أو تضليلها في التقاضي بين الناس، يشهد لهذه المعاني قول الأستاذ بديع الزمان:"أما أنتم يا أعداءنا المتسترين ويا أولئك الذين يضللون العدالة في سبيل إرضاء الزندقة ويتسببون في خلق الأوهام الزائفة في أذهان المسئولين في الدولة لينشغلوا بنا دون داع أو سبب.. اعلموا قطعاً، ولترتعد فرائصكم، إنّكم تحكمون على أنفسكم بالإعدام الأبدى وبالسجن الإنفرادى الدائم.وأنّ انتقامنا يؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة، فها نحن أولاء نرى ذلك ونشفق عليكم. ولاشك أنّ حقيقة الموت التي ظلت تفرغ هذه المدنية مائة مرة إلى المقابر، لابد أن تكون لها غاية ومطلب فوق غاية العيش والحياة.وأنّ محاولة الخلاص من براثن ذلك الإعدام الأبدي هي قضية في مقدمة القضايا الإنسانية، بل هي من أهمّ الضروريات البشرية وأشدّها إلحاحاً."(1)
وإنكار العدالة لا يختلف عن التضليل باسمها أو تضليلها لما يترتّب عليها من ظلم وتأسيس للاستبداد ومناصرته، فقد أظهر الزمان أنّ دولا تسمى داعية الحرية، قد كبّلت بعدد ضئيل من موظفيها المستبدين أكثر أهل الكرة الأرضية، وسيطرت عليهم كأنّهم عدد ضئيل، حتى لم تتركهم يحركون ساكناً، ونفّذت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذة آلاف الأبرياء بجريرة مجرم واحد. وأعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط. فخدعت العالم ودفعته إلى نار الظلم.هذه الدول غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.(2)وفي ذلك أبين صور العزوف عن العدالة.
لقد جاءت تلك الدول باسم العدالة والحرية فأسست للظلم والاستبداد أو على الأقل سكتت عنه، أليس في تصرفاتهم ما يدل بنفسه على نقائض ما رموا إلى إشاعته من حرية وعدالة؟
__________
(1) - الشعاعات 435
(2) - انظر الملاحق 126(15/191)
أين ننزل " إفناء الأبرياء من أطفال وعائلات وشيوخ ومرضى بالقنابل المدمّرة بحجة وجود جندي أو اثنين من جنود الأعداء فيما بينهم..واتفاق أعتى المستبدين من البرجوازيين مع الفوضيين والإرهابيين المتطرفين ...وإهدار دماء ألوف بل ملايين من الأبرياء.. والاستمرار في هذه الحرب الضارة للإنسانية جمعاء.. وردّ الصلح والسلام.. لذا فإنّ الإسلام والقرآن الكريم بريئان بلا شك من مثل هذه الحروب المدمرة التي لا تنسجم مع أي قانون كان من قوانين العدالة ولا مع الإنسانية ولا مع أي دستور كان من دساتير الحقيقة وقوانين الحقوق. ولا يتنازلان ولا يتذللان لمعاونة أولئك، لأن فرعونية رهيبة ومصلحية عجيبة تستحوذان فيهم بحيث لا يمدون يد العون إلى القرآن والإسلام بل يحاولون جعلهما آلتين طيعتين في سبيل مآربهم.فلا شك أنّ أحقية القرآن تأبى الاستناد إلى سيوف ظالمين كهؤلاء.بل الفرض على أهل القرآن والواجب عليهم الاستناد إلى قدرة رب العالمين ورحمته بدلاً من الاستناد إلى قوة عجنت بدماء ملايين الأبرياء."(1)
* العذاب المعنوي والمادي:
يسبب العزوف عن العدالة بمفهومها العام عذابا معنويا ثم ماديا في قابل الأيام، والتاريخ البشري المتكرر يؤكّده، وأظهر شاهد معاصر على ذلك، ما أنزلته العدالة الإلهية بالمدنية الدنيّة التي حاولت إهانة أكبر شاهد على العدالة المنظورة والمسطورة - الإسلام- فأذاقت اهله عذاباً أليماً ومعنوياً؛فأرداها ذلك التصرّف الأرعن درك الوحوش الجاهلين. فلقد أزالت تلك المخاوف المستمرة ملذات وأذواق مدنية أوروبا والإنكليز مائة سنة وطيرت منهم نشوتهم من الرقي والتسلط على رقاب الآخرين ونشوة الاستيلاء عليهم."(2)
__________
(1) - انظر الملاحق 203
(2) - الملاحق 114(15/192)
ومن مظاهر ذلك العذاب أيضا، " أنّ ( الح-د ) أو ( العقاب) عندما يقام امتثالاً للأمر الإلهي والعدل الرباني فإنّ الروح والعقل والوجدان واللطائف المندرجة في ماهية الإنسان تتأثّر به وترتبط به، فلأجل هذا المعنى،يقول الأستاذ بديع الزمان:"أفادتنا إقامة حد واحد طوال خمسين سنة أكثر من سجنكم في كل يوم، ذلك لأن عقوباتكم التي تجرونها باسم العدالة لا يبلغ تأثيرها إلاّ في وهمكم وخيالكم، إذ عندما يقوم أحدكم بالسرقة يَرِد إلى خياله العقاب الذي ما وضع إلاّ لأجل مصلحة الأمة والبلاد ويقول إنّ الناس لو عرفوا بأنّي سارق فسينظرون إليّ نظرة ازدراء وعتاب، وإذا تبيّن الأمر ضدّي ربما تزجّني الحكومة في السجن.. وعند ذلك لا تتأثرُ إلاّ قوته الواهمة تأثراً جزئياً، بينما يتغلب عليه الميل الشديد إلى السرقة والنابع من النفس الأمّارة والأحاسيس المادية – لاسيما إن كان محتاجاً - فلا ينفعه عقابكم لإنقاذه من ذلك العمل السيء.ثم لأنه ليس امتثالاً للأمر الإلهي فليس هو بعدالة، بل باطل وفاسد بطلان الصّلاة بلا وضوء وبلا توجّه إلى القبلة، أي أنّ العدالة الحقة والعقاب الرادع إنّما يكون إذا اُجريت امتثالاً للأمر الإلهي وإلاّ فإنّ تأثير العقاب يكون ضئيلاً جداً."(1)
- العدالة مظهر الالتزام بالفضائل الإسلامية:
__________
(1) - صيقل الإسلام 523(15/193)
الحمية الحقة والوفاء الصادق والعدالة الخالصة لا تجري إلاّ على يد إنسان تزيّن قلبه وعقله بالفضائل الإسلامية، ولا يؤدي الغرض تزيّن القلب أو العقل منفردين.بل يجب أن تشملهما معا، وبذلك تجتمع الفضيلة والصنعة، ذلك أنّ الصنعة غير الفضيلة، فقد يقوم الفاسق برعي الأغنام رعياً جيداً، وقد يصلّح شارب الخمر ساعةً بإتقان حين لا يكون سكرانَ، فلم تجتمع فيهما الفضيلة والصنعة، وهو ما يدعوا للأسف حيث يقول رحمه الله:"وا أسفى على ندرة الذين جمعوا النورَين معاً:نور القلب ونور الفكر، أو بعبارة أخرى الفضيلة والصنعة، فهم نادرون لا يكفون لملء الوظائف، فإذاً إِما الصلاح وإِما المهارة...وإذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة."(1)
يدفع تبني العدالة إلى الجمع بين المهارة والصنعة، فتصبح الأسبقية والأولوية للجمع بين العنصرين، وهذا يفرض تأخير العنصر العرقي(الإثني)، فتمتزج تلك العناصر والقوميات بالإسلام امتزاج جزيئات الماء، إذ تمكين الإسلام من النفوس يسمح له بأن يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم.فتمزج العدالة المنصفة المت-ولّدة من حرارة نور المعارف الإسلامية، وتديم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة(2). ويؤسس إجراء العدالة للسعادة البشرية في الدنيا والآخرة.(3)
الفصل الرابع
مقاصد رسائل النور في الزمان
تتلوّن مقاصد رسائل النور في الزمان، أي في الواقع المتحرّك بحاجات الناس وظروفهم، وهي في ذات الوقت منخرطة في المقاصد الكلية المستفادة من القرآن الكريم والمبيّنة فيما سبق ذكره، لهذا فهي مقاصد فرعية متعلّقة بإلجاءات المكان وظروف الزمان، أي أننا بصدد الحديث عن المقاصد في تجلياتها الجزئية المقدّرة بحسب ظروف الناس.
__________
(1) - صيقل الإسلام 393
(2) - انظر صيقل الإسلام 462 سيرة ذاتية 84
(3) - انظر صيقل الإسلام 523(15/194)
لسنا بمقام وضع مقاصد جديدة في هذا السياق، بل نحن بصدد بيان محاولات التكيّف مع معطيات الواقع بما تمليه المقاصد الكلية، لهذا فهي مقاصد جزئية تمليها إكراهات الواقع المتحرّك.
اخترنا في التعبير عن المقاصد في زمان مصطلحات بديع الزمان النورسي نفسه، وبذلك نبتعد عن التقويل أو التأويل، فعمدتنا في التأسيس لهذه المعاني ما أورده الأستاذ في رسائل النور بصريح العبارة، وبناء على ما سلف انتهيت إلى حصر تلك المقاصد فيما يأتي:
1 - مقصد الأمن والنظام والحرية والعدالة.
2 – حصول صحوة إسلامية
3 - إنقاذ الإيمان والاعتصام بالقرآن، ولهذا المقصد أهداف كثيرة منها:
أ – المصالحة بين المدرستين الدينية والحديثة.
ب – أقصر طرق الفعالية.
ج – مصدر قيم الخير وصد الشر.
د – أساس التواصل الإسلامي والإنساني.
ه- – طريق تحقيق الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبّة وإعلاء كلمة الله.
و– أساس الشكر والعبادة .
ز– التأسيس القلبي والعقلي للشفقة والمحبّة.
ح– إنقاذ الإيمان يعطي الحياة معنى.
ط- إنقاذ الإنسان والاستجابة لحاجاته.
ي – تجاوز الهلاك.
س- تليين القلوب.
ع - القيام بوظيفة الخدمة.
ف - خدمة الإيمان.
ص - نيل مرضاة الله.
4 – بعث الصلة بين الإيمان والأخلاق.
5 - الأخوة والمحبّة والتضحية.
6 - الاتّحاد بين أهل الإيمان.
7 - دفع الأمراض الاجتماعية بالإيمان.
أولا: مقصد الأمن والنظام والحرية والعدالة:
دفعت طبيعة الأزمة التي يمرّ بها عالمنا الإسلامي الأستاذ بديع الزمان إلى التأكيد على أنّه ليس من مقاصد رسائل النور أو أهدافها في العصر الحاضر الاشتغال بالسياسة دفعا لخوف المسلطنين أو السائرين في مسالكهم وتطمينا لهم على مسلكهم، إذ تتلخّص المعركة في تحطيم الكفر المطلق الذي يعدّ أس أساس الفوضى والاستبداد من جهة والتأسيس للأمن والنظام والحرية والعدالة.(15/195)
صرّح بديع الزمان بهذه المعاني في سياق مرافعته عن رسائل النور فيقول رحم-ه الله:" أها البائسون!.. إن رسائل النور لا علاقة لها بالسياسة، بل تقوم بتحطيم الكفر المطلق - الذي أسفله الفوضى وأعلاه الاستبداد المطلق - وتفتيته وردّه على أعقابه. ..تسعى رسائل النور إلى تأسيس الأمن والنظام والحرية والعدالة في هذا البلد."(1)
وتدلّ تصرّفاته رحمه الله على تبنيّ ذلك المسلك في التغيير، إذ تأسيسا لمعاني طلب الأمن والحرية والنظام والعدالة، تجده ينأى بنفسه من أن يكون هدفا للاتّهام بالتعلّق بالدنيا ومفاتنها، لهذا تجده من منطلق الحكمة في التبليغ يتهرّب تهرّبا شديدا وينفر من التعرّض للسياسة والحكم، رغم امتلاكه قوّة الحق ما يسمح له بالدفاع عن حقة بجدارة وكفاءة، تؤكّدها إشارته الرائعة إلى مقتضيات تغييب العدالة رغم عزوفه عن الخوض في السياسة، وعزاءه في ذلك أنّه مادام كل شيء زائلاً وفانياً ومادام الموت موجوداً والقبر لا يزال فاغراً فاه، ومادام الأذى ينقلب إلى رحمة، فإننا نفضل أن نصبر ونتوكل على الله ونشكره ونسكت.أما محاولة الإخلال بسكوتنا وهدوئنا بالإكراه بإيقاع الأذى بنا فإنها تناقض كل مفاهيم العدالة والغيرة الوطنية والحمية الملية.(2)
ثانيا: حصول صحوة إسلامية
__________
(1) - الشعاعات 334- بتصرف -
(2) - انظر الشعاعات 347(15/196)
حينما يسجّل المصلح أو الإمام المرشد خللا في التصوّرات وانحرافا في الفعل يسعى جاهدا إلى تحصيل صحوة تتجاوز الوعي الراهن والتأسيس لوعي يستوعب الراهن بجميع مكوّناته المادية والمعنوية، ويستلهم من القرآن دواءه، من منطلق ذلك التشخيص لعمل المصلحين على مرّ الزمان، جعل بديع الزمان التأسيس لصحوة إسلامية راشدة مقصدا رئيسا من مقاصد رسائل النور، ذلك ما ورد في الرسائل:" أجل إن الهدف الذي كان يصبو إليه بديع الزمان منذ نعومة أظفاره والأمل الذي كان يحدوه وهو في طريقه إلى أنقرة هو حصول صحوة إسلامية تعم العالم الإسلامي، هذه الروح العظيمة توضحت في مباحثاته مع مئات العلماء في شرقي الأناضول قبل مجيئه إلى استانبول بل توضح أكثر عند قدومه إليها حتى حيّر السياسيين. ولم تغادره هذه المسؤولية الجسيمة والمهمة الثقيلة والشوق الدائم قط. فكان يأمل أن يكون الإعلان عن الحرية والمشروطية في خدمة الشريعة الغراء، ويكون ذلك تباشير سعادة الأناضول والعالم الإسلامي قاطبة، حتى أنه ألقى الخطب في ضوء ذلك الأمل وكتب المقالات بغية تحقيقه، وظهر ذلك أيضاً في مؤلفاته ولاسيما في سنوحات، لمعات وغيرها مما ألفه في تلك المرحلة. وكان لا يتواني من التصريح أن أعظم صوت مدو في المستقبل هو صوت القرآن العظيم."(1)
ويخدم ذلك المقصد بحسب رأي بديع الزمان بالتأسيس للحرية(2)ووضع قوانين أساسية تصونها من عبث العابثين والوصوليين والانتهازيين، وتكون تلك القوانين مصونة بالشريعة الغراء، فالعمل على تكوين وعي بضرورة الحرية لا يختلف من حيث القيمة والتأثير عن العمل على تحقيق الصحوة نفسها، إذ الخلوص إلى الصحوة يمرّ ضرورة بالحرية.
__________
(1) - سيرة ذاتية 182
(2) - انظر كتابنا، ماهية الإنسان وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية(15/197)
كما تجلى العمل على تأسيس صحوة إسلامية راشدة بإعادة الأمور إلى نصابها، فيعود الإيمان إلى مركزه في صناعة الوعي بالحياة ويكوّن دافعية العمل إلى الخير الإنساني العام، وطريق ذلك إنقاذ الإيمان، وبهذا يكون من أهمّ متطلّبات تحصيل الصحوة المنشودة، إنقاذ الإيمان والاعتصام بالقرآن الكريم.
ثالثا:إنقاذ الإيمان والاعتصام بالقرآن،ولهذا المقصد أهداف كثيرة:
جعل بديع الزمان إنقاذ الإيمان وصدّ الإلحاد مقصدا رئيسا في رسائل النور، فكان رغم الصعاب المتمثّلة في المراقبة التي لا تغادره يتحيّن فرص تبليغ ذلك المقصد النبيل، فكان يتجاذب الحديث مع من وفّقوا إلى لقائه، ويخاطبهم حسب مستواهم الفكري والثقافي حيث كان الزائرون من طبقات الشعب كافة.فينصبّ حديثه مجملاً حول أهمية الإيمان في الوقت الحاضر، وكان يصرّح بملء فيه بأنّ القصد الأساس لرسائل النور تقوية الإيمان وصد الإلحاد الذي يهدد الأمة والوطن.
واعتبر رحمه الله أهم قضية في الوقت الحاضر إنقاذ الإيمان وتقويته بالاعتصام بالقرآن الكريم. ورسائل النور تحصر نظرها في هذا المقصد، وحماية الإيمان وإنقاذه حماية للأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لهذا فالمرافعة مطلوبة حتى بمنظور وطني، لأنّها وطنية صادقة، ترمي إلى حماية البلاد والعباد من الوقوع في مخالب الأمراض القاتلة كالكفر والإلحاد الذين هم أخطر من الطاعون والسل.
وقد كانت تلك المساعي سببا في تعرّضه – رحمه اللّاه - لتكالب أعداء الوطن والدين من الملحدين، فاختلقوا الافتراءات الظالمة والإشاعات المغرضة، ورغم ذلك بقي صلبا شامخا صابرا، يجابه كل ذلك بثقة المؤمن بالله، ومردّ ذلك التحمّل، الإيمان، ذلك المقصد الذي عمل على إنقاذه، فقد كان الإيمان مصدر ومرجع العمل الإيجابي البنّاء، وهو المصدر الوحيد والرئيس لتلك الإيجابية.(15/198)
الإيمان الفاعل أقوى من صولجان السياسة، وبرنامج مكثّف يسع الحياة كلّها، إذ لو كانت لنا مائة من الأيدي لما كفت في حمل النور المنبعث من الإيمان، ذلك الإيمان الذي كان وسيبقى أساس مسلكنا الحاث على الإخلاص وابتغاء مرضاة الله وحده، وهذا هو مصدر قوة النور. فالعناية الإلهية تحمي خدمتنا ما دمنا مخلصين نعمل عملاً ايجابياً بناءً.(1)
- أهداف إنقاذ الإيمان:
1 – المصالحة بين المدرستين الدينية والحديثة:
المسلك المؤسس على الإيمان كمقصد رئيس في تطعيم الأمّة ضد أمراض الإلحاد مدرسة تصالح بين أهل المدرستين الدينية والحديثة وأهل الزوايا والتكايا وتجعلهم يتّحدون في خدمة ذلك المقصد، ذلك أنّ الإيمان يحدث بينهم الميل عن التنازع ثم الميل إلى تبادل الأفكار.(2)
ب – أقصر طرق الفعالية:
يعتبر بديع الزمان رسائل النور من أهم وأقصر طرق تحقيق مقصد إنقاذ الايمان والمعجزة المعنوية للقرآن الكريم في هذا العصر، فقد كشفت التجارب والأخبار أنّ لها تأثيرا عظيما في البلدان العربية والباكستان أكثر من أي بلاد أخرى، حتى ورد خبر مفاده أن طلاب النور في تلك الأماكن يزيدون ثلاثة أضعاف على ما ثبتته المحاكم في تركيا أثناء محاكمة الشيخ وبعض تلاميذه، لهذا يقول النورسي:"اضطرت روحي إلى بيان ومشاهدة هذه النتيجة العظيمة وأنا على عتبة القبر."(3)
3 – مصدر قيم الخير وصد الشر:
الإيمان مصدر قيم الخير وحائط صدّ الشر من ولوج القلوب والعقول، فهو الدافع إلى الشكر والعبادة اللتين تعتبران مدار المقاصد الإلهية في بناء قصر الكون ولا سيما الإنسان الذي هو أفضلهم إزاء النعم التي نالوها، إنّ مدار الاستفادة من الكون وعناصره المادية والمعنوية الإيمان(4)، ذلك المقصد الذي يعدّ بمثابة محرّك سائر المقاصد ولبّ لبابها.
4 – أساس التواصل الإسلامي والإنساني:
__________
(1) - سيرة ذاتية 364
(2) - سيرة ذاتية 506
(3) - انظر الملاحق 415
(4) - المكتوبات 308(15/199)
الإيمان يؤسس للتواصل بين المؤمنين من جهة والأسرة الإنسانية من جهة أخرى، ذلك أنّه رابطة قوية في التأسيس المعنوي لأسمى جمعية وأقدسها في الوقت الماضي والحاضر والمستقبل، هي جمعية الجنود المؤمنين. فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية.
5- طريق تحقيق الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبّة وإعلاء كلمة الله:
ترمي جمعية رسائل النور إلى تحقيق أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم،و يتلخّص ذلك الهدف في الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف، وفاعلية ذلك المسعى تجعل أولئك الجنود مراكز تبليغ تلك الأفكار من جهة وأنموذج العيش بتلك الأفكار من جهة أخرى، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود. إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلاّ لجعل الأمة جنوداً في المحبة والأخوة. أما الإتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، إذ مركزه وصفّه الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.(1)
6 - أساس الشكر والعبادة :
أصفى خلاصة مترشحة من الإيمان بجميع مضامينه وأبعاده الوظيفية الشكر والعبادة والحمد والمحبّة، والأبعد من ذلك أن تعدّ في رسائل النور أهم المقاصد الإلهية في الكون وأهمّ نتيجة لخلق العالم.(2)
7 - التأسيس القلبي والعقلي للشفقة والمحبّة:
__________
(1) - انظر سيرة ذاتية 107
(2) - اللمعات 559(15/200)
تعمل رسائل النور من خلال مقاصدها إلى تجاوز ما شاع تداوله بين البشر من ألفاظ فقدت اجتماعيا معانيها وخاصة مصطلحي المحبّة والشفقة، إذ لا نجد لتلك المعاني في مزاولتنا الاجتماعية سندا من نقل أو عقل أو قلب، فكان منهج الرسائل مؤسسا للفكرة في أصل وضعها، فاستصحبها في وضع الرسائل، بل جعلها من غياياته الرئيسة تأسيسا وتمحيصا، يشهد لهذا المعاني تأكيد بديع الزمان النورسي أنّ منهج رسائل النور يعبّر عن الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير ليمنعنا بشدة من الوقوع تحت طائلة الاستجابة للاستفزاز الاجتماعي أو المعرفي من خلال قصر الاهتمام بالأمور الجزئية على حساب الأمور الكلية والأساسية، نحو اختصار الهمّ في المزاولة السياسية نقدا وتمحيصا بل وحتى تأسيسا.(15/201)
والقضية بهذا الصدد تحتاج إلى تدقيق، فالمسألة المشار إليها قد تكون قضية خطيرة وكلية لها دور أساسي في تزييف الوعي أو تأخير صناعة وعي، إلاّ أنّها بالنظر إلى المسألة الأم تعتبر جزئية، من ذلك مثلا في ظل الظروف الراهنة مسألة الإلحاد، فلو قصرنا المعركة على المبتلين بهذه الأمراض النفسية والمعرفية، فإننا سنخسر أبناءهم وربّما أحفادهم، لهذا يؤكّد الأستاذ على أنّ وراء أولئك المبتلين بالإلحاد - واستحقوا بذلك العقاب - عدداً من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء. فإذا نزل بأحد أولئك المبتلين المستحقين للعقاب كارثة أو مصيبة، فان أولئك الأبرياء أيضاً سيحترقون بنارهم دون ذنب جنوه.وكذا لان حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنعنا بشدة(1) عن الاهتمام بالمسائل الجزئية على حساب معركة المصير المعبّر عنها بقضية حماية المكاسب الإيمانية والتأسيس لبقائها في المجتمع دون الدخول في معركة قد تعرّض البلاد والعباد إلى ما تحمد عقباه، لهذا يلحّ النورسي على التحليل الذي بموجبه نقدّر الأولويات، وأولوية الأولويات حسب تقديره حماية الإيمان بتثبيته وإثباته إن اقتضى الحال، وفي ذلك أبين جواب وأحسنه على الإلحاد عوض الدخول في مهاترات تعرّض طاقات الأمة إلى الضياع أو على الأقل تسهم في صرفها في غير أبوابها.
8 – إنقاذ الإيمان يعطي الحياة معنى:
إنقاذ الإيمان يعطي معنى إيجابيا لكل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن الكبير (الدنيا) أو السجن الصغير (المعروف)، فيمكن أن يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام من عبادة يوم واحد، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.(2)
__________
(1) - انظر الشعاعات 406
(2) - انظر الشعاعات 519(15/202)
يحلي الإيمان المنقذ الحياة بالرحمة وبذلك تكسب الحياة معنى وتشدّ إليها القلوب والعقول بما يخدم تعبيدها لله تعالى، فالرحمة وفق ضبط الشرع لها من أدلة القيامة والسعادة الأبدية، لأن الرحمة إنما تكون رحمةً، والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الأبدية. وإلاّ فالعقلُ الذي هو من أعظم النِعَم يكون مصيبةً على الإنسان، والمحبة والشفقة اللتان هما من ألطف أنواع الرحمة تتحولان ألماً شديداً بملاحظة الفراق الأبدي.(1)
9 - إنقاذ الإنسان والاستجابة لحاجاته:
ترمي المقاصد الكلية والجزئية إلى إنقاذ الإنسان، فتستجيب تلك المقاصد لحاجاته، إذ لا يمكن تصوّر عدم استجابة العدالة والحكمة الربانيتين لتلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء لأسمى مخلوق وهو الإنسان؟ في حين أنهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن أن تردّا أهم ما يرجوه الإنسان وأعظم ما يتمناه، وألاّ تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن الإجابة لحقوق العباد؟(2)
وبذلك تعطي للحياة البشرية معنى وتزوّدها بالعناصر الإنسانية في التصرّفات والمقاصد والأهداف المتعلّقة بالحياة الدنيوية نفسها.
10 - تجاوز الهلاك:
إنقاذ الإيمان يؤسس لحائط صدّ معرفي واجتماعي و...فيؤسس للتطعيم المعرفي والحضاري المانع من تجاوز الفكر المهلك بل وإسعاف المبتلى به على تجاوز مرضه، لهذا ينصح الأستاذ - وبإلحاح شديد- بالتعلّق بالدين والعض عليه بالنواجذ فهو حامينا من الهلاك الدنيوي والأخروي، لهذا قال النورسي ناصحا:" أيها المسلم لا ترخِ يدك عن الإسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المخيفة لتقدم أوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة، وإلاّ فمصيرك الهلاك."(3)
11 - تليين القلوب:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 29
(2) - انظر الكلمات 69
(3) - انظر صيقل الإسلام367(15/203)
ترمي مقاصد رسائل النور إلى تثبيت القلوب وتنشيط عزائم الأتقياء والصالحين وتشدّ على أيديهم، فتزوّدهم بالقيم والأصول الميسّرة لتحقيق ذلك الأمر بيسر ووضوح، بل تتجاوز ذلك إلى خدمة كل من دخلها محررا من أفكار مسبقة، وهو سرّ فشل أعداء رسائل النور المتسترين أن يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبّهوا المسئولين في الدولة ضد أهل الرسائل، وأثاروهم عليهم، فأصبحت الحياة - مرة أخرى - ثقيلة مضجرة، إلاّ أن العناية الإلهية تجلت على حين غرة، حيث أن المسئولين أنفسهم - وهم أحوج الناس إلى رسائل النور - بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل المصادرة بشوق واهتمام، وذلك بحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليّن قلوبَهم وتجعلها تجنح إلى جانبها. فتوسّعت بذلك دائرة مدارس النور، حيث أنهم بدأوا بتقديرها والإعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جمة، إذ هي خير مائة مرة ممّا نحن فيه من الأضرار المادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق. ولكن ما أن مرّت فترة وجيزة، حتى حوّل المنافقون - وهم الأعداء المتسترون - نظر الحكومة إلى شخصي الأستاذ، ونبّهوا أذهانها إلى حياته السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا المخاوف من حوله في صفوف دوائر العدل والمعارف (التربية) والأمن ووزارة الداخلية. ومما وسّع تلك المخاوف لديهم ما يجري من المشاحنات بين الأحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والإرهابيون - وهم واجهة الشيوعيين - حتى أن الحكومة قامت إثر ذلك بحملة توقيف وتضييق شديد عليه، وبمصادرة ما تمكّن الأستاذ النورسي من الحصول عليه من الرسائل، فتوقف نشاط طلاب النور وفعالياتهم.(1)
12 - القيام بوظيفة الخدمة:
__________
(1) - انظر السيرة الذاتية 383(15/204)
يسّر إنقاذ الإيمان تحرير مجال الفعل الإنساني بدقة متناهية، فتجلي تلك الحقيقة المنقذة مساحة الفعل، وتؤسس للعمل في المساحات المتاحة فعلا والابتعاد عن المساحات غير المطلوبة أو الممنوعة، لهذا كان أعظم شرط من شروط الجهاد المعنوي هو عدم التدخل بالوظيفة الإلهية. أي بما هو موكول إلى الله.والاقتصار على وظيفة الخدمة، بمعنى أنّ وظيفتنا الخدمة فحسب. بينما النتيجة تعود إلى رب العالمين، وإنّنا مكلّفون ومرغمون في الإيفاء بوظيفتنا.(1)
والقيام بوظيفة الخدمة انسجام مع العناصر الكونية في شقيها المادي والمعنوي، ذلك أنّ بين العناصر الكونية تكاملا يستغرق الجميع، فقد أعطى القدير الجليل كلَّ عنصرٍ من العناصر وظائف كثيرة، ويُنشئ على كلٍ من تلك الوظائف نتائج كثيرة. فلو ظهرت نتيجة واحدة قبيحة - أي شر ومصيبة وبلاء - من عنصر من العناصر في وظيفة من وظائفه الكثيرة، فإنّ سائر النتائج المترتّبة على ذلك العنصر، تجعل هذه النتيجة الوخيمة في حكم الحسن والجميل، لأنّها جميلة وحسنة إذ لو مُنع ذلك العنصر الغاضب على الإنسان من تلك الوظيفة للحيلولة دون مجيء تلك النتيجة الوحيدة البشعة للوجود لتُركت إذن خيرات كثيرة بعدد النتائج الخيرة المترتبة على سائر وظائف ذلك العنصر. أي تحصل شرور كثيرة بعدد تلك النتائج الخيرة، حيث إنّ عدم القيام بخير ضروري، إنّما هو شر كما هو معلوم. كل ذلك للحيلولة دون مجيء شر واحد! وما هذا إلاّ منافاةٌ للحكمة. وهو قبح واضح، ومجافاة للحقيقة، وقصور مشين. بينما الحكمة والقدرة والحقيقة منزهة عن كلّ نقص وقصور.(2)
13 - خدمة الإيمان:
__________
(1) - انظر سيرة ذاتية 470
(2) - انظر الكلمات197(15/205)
تتميّز رسائل النور بإكساب قرّائها علما بطريقة مبتكرة أصيلة في تحصيل الحقيقة، ذلك أن كلّ تحصيل علمي آخر تكون الغاية من الاستمرار فيه هي المنفعة المادية أو الحصول على موقع ما. أي أنّ الدوام لهذه الدروس لا تكون عن رغبة بل في الغالب للحصول على منافع مادية أو على شهرة. أما رسائل النور فتشبه جامعة حرة غير مفتوحة، والذين يداومون في هذه الجامعة بقراءة رسائل النور لا يبتغون أي هدف دنيوي بل يبتغون خدمة الإيمان والقرآن فقط لا غير.(1)
وطريق خدمة الإيمان إنقاذه، وقد حاول الأستاذ جهده تلقين تلاميذ رسائل النور دروسا في إنقاذ الإيمان، وعدّ ذلك أكبر غاية وأهمّ هدف للبشرية على سطح الأرض، إن قيامه منذ ما يقرب من خمس وعشرين سنة بمحاولة إنقاذ إيمان مئات الآلاف من الناس برسائل النور، وهو نفسه كان أحوج الناس إلى معرفتها،ذلك أنّهم في حاجة إلى معرفة شيء عن الإسلام ودروس الإيمان الذي هو السعادة القصوى والغاية من الحياة يعد دون شك فضلا إلهياً.(2)
إنقاذ الإيمان ييسّر للإنسان تذكّر الغايات والمقاصد لأنّ الإنسان مبتلىً بالنسيان، وأسوأ النسيان نسيانَ نفسه. إلا أن نسيان النفس إن كان في المعاملة، والخدمة، والسعي، والتفكر فهو الضلال. وان كان في النتائج والغايات فهو الكمال. فأهل الضلال، وأهل الهدى متعاكسان في النسيان والتذكر. أما الضال، فينسى نفسه عند النظر للعمل، وتطبيق دساتير الوظيفة، بل يمدّ نظرَه إلى الآفاق لتطمين الأنانية المتفرعنة، وغرورَه المنبسط الذي تضيق عنه النفس. لكن يتذكر نفسه في كل شيء من الغايات فتيلاً أو نقيراً. حتى لا غاية عنده، إلا ما يعود إلى نفسه. وان غاية الغايات في نظره، حب ذاته. (3)
__________
(1) - انظر الشعاعات 593
(2) - انظر الشعاعات 601
(3) - انظر المثنوي العربي 406(15/206)
ومن مظاهر خدمة الإيمان جعل الهدف المباشر لرسائل النور هو الآخرة، ولا علاقة له بالدنيا إلا بقدر ما ييسّر له العمل على تحقيق مقصد الآخرة، يشهد لهذا قول بديع الزمان:" إن رسائل النور لا تستهدف الدنيا، بل تستهدف السعادة الأخروية الدائمة وتستهدف نيل رضا الله الباقي الأزلي الرحيم ذي الجلال الذي لا يشكل الحسن والجمال في الدنيا إلا ظلاً خافتاً لجماله ولا تشكل لطائف الجنة جميعاً إلا لمعة من محبته سبحانه. فما دام مثل هذا الهدف الإلهي المقدّس ومثل هذا الهدف السامي موجوداً، فإنّني أبرئ رسائل النور وأنزهها ألف مرّة من الوقوع في أمور سفلية ومحرّمة تؤدي إلى نتيجة كتحريض الناس ضد الحكومة. ونحن نلوذ بحمى الله تعالى من شرور هؤلاء الذين لا يريدون منّا أن نتعلم أمور ديننا ولا أن نخدم إيماننا فيفترون علينا مثل هذه الافتراءات لكي يقضوا علينا.(1)
14 - نيل مرضاة الله:
يحقق السعي إلى نيل المقاصد والغايات الآنفة الذكر التهيّؤ لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله هيّأ لنا فرصة اكتساب محبّة الملايين من أهل الحقيقة ودعاءهم وشفاعتهم.
__________
(1) - انظر الشعاعات 429، 601(15/207)
تبرهن على تلك الحقائق وتوضّحها مرافعة الأستاذ أمام المحكمة ،غذ يقول:"إنّ الحقيقة السامية المسماة ب- " رسائل النور" أمامكم. فهل المراتب والمقامات الدنيوية الفانية والسفلية هي غايتها؟ أم أن غايتها هي نيل رضا الله تعالى الذي هو السعادة العظمى والفرحة الكبرى والهناء الذي ما بعده هناء؟ أو تحفّز كلماتها الإنسان إلى الأخلاق الرديئة والهابطة أم تجهّزهم بالإيمان وتجمّلهم بالفضيلة وبالأخلاق السامية؟ أنتم تجدون رسائل النور أمامكم وهى منبثقة من الإعجاز المعنوي للقرآن المبين الذي هو نور إلهي. فما دام اكتساب الإيمان، والانتقال بهذا الإيمان في الدنيا إلى سعادة الدار الآخرة أهمّ غاية للإنسان، ومادامت رسائل النور تقدم - بفيض من القرآن - الحقائق الإيمانية وتقرب مئات الآلاف من قرائها ومستنسخيها إلى هذا الهدف، فلا مناص أمام عدالتكم السامية وحبكم للحقيقة إلاّ فهم الوجه القرآني، والوجه الحقيقي لرسائل النور وتقدير قيمتها الحقيقية، ومعرفة أنّ طلاب النور لا يسعون إلاّ لنيل رضا الله تعالى وأنّه لا هدف لهم سواه.(1)
رابعا: بعث الصلة بين الإيمان والأخلاق:
شاع في أدبياتنا الانفصال النكد بين الأخلاق والإيمان، حتى صارت الصلة بينهما مفقودة، فتجد الرجل يدندن بكلمات إيمانية لا صلة لها بحياته الشخصية أو الاجتماعية، كأنّ يكون لسانه لاهجا بذكر الله ولكنّ عقله وسلوكه في أبعد ما يكون عن تلك المعاني المرددّة باللسان، وقد ظهرت رسائل النور من أجل تجاوز ذلك الانفصال بالتأسيس للتواصل بينهما، فجعلت الهدف الوحيد والخدمة الوحيدة لرسائل النور والأستاذ وطلبة النور هي إيفاء خدمة مقدسة للإسلام ولاسيما إيفاء خدمة مقدسة للأمة التركية المسلمة و الأمة الإسلامية من ناحية الإيمان والأخلاق.
__________
(1) - انظر الشعاعات 606(15/208)
من مطلق ذلك الهدف العظيم ينبغي بل من الضروري ومن الواجب عدم التعرض لرسائل النور ولطلابها من جراء خدماتهم هذه. هذا هو هدفهم، وهذه هي غايتهم وليس شيئاً آخر، وان إيفاءهم هذه الوظائف هو في سبيل الحصول على رضا الله تعالى. ومن الطبيعي أنهم لا يمكن أن يؤدوا هذه المهمة المقدسة في سبيل الدنيا وفي سبيل متاعها ومنافعها، ولا ينزلون أصلاً لهذا. إن طلبة النور الطاهرين لا يشغل قلوبهم أهداف وغايات دنيوية، لأن قلوبهم مشغولة بالإيمان وبأمور الآخرة، لذا فإنّه لم يخطر ببالهم أبداً ما أتهمهم به المدعي العام من القيام بتشكيل جمعية سرية، ولا يتحملون مثل هذا الاتهام(1)، بل يعملون على الاشتغال بالحقائق الإيمانية وحدها(2).
خامسا: الأخوة والمحبّة والتضحية:
يتجلى في رسائل النور السعي إلى تحصيل المحبّة والأخوة والتضحية ثم تمثّلها وبهذا تيسّر لها فرصة تبليغها، ذلك أنّها عملت على التأسيس العملي لجمعية الجنود المؤمنين، وتشمل في عضويتها جميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. إذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف. ألا إن الجنود هم المراكز، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود. إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلاّ لجعل الأمة جنوداً في المحبة والأخوة. أما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، إذ مركزه وصفّه الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.(3)
سادسا: الاتّحاد بين أهل الإيمان:
__________
(1) - انظر الشعاعات 622
(2) - انظر الملاحق 94
(3) - انظر صيقل الإسلام 447 ، سيرة ذاتية 107(15/209)
صرّح بديع الزمان في أكثر من موضع وبأسلوب صريح - كما هي عادته - أنّ من أهمّ غايات ومقاصد رسائل النور العمل على توحيد كلمة المؤمنين، ولمّ شملهم لخدمة هدف واحد مؤدّاه خدمة الإيمان نفسه، وطريقه التأسيس العملي للوحدة الشعورية بين المؤمنين أنفسهم، فلا يصحّ أن يبقى المؤمنون مشتّتين في أهدافهم وجهودهم، و لهذا المسعى أثر عظيم في استئصال مرض خطير معبّر عنه بقولهم: " مالي وما عليّ فليفكر غيري"، يشهد لهذه المعاني قوله رحمه الله:" إنّ قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف. إذ كما لا يمكن الاتحاد في المسالك والمشارب فلا يجوز أيضاً، لأن التقليد يشق طريقه ويؤدي إلى القول: " مالي وما عليّ فليفكر غيري".(1)
سابعا: دفع الأمراض الاجتماعية بالإيمان:
يدفع الإيمان كثيرا من الأمراض الاجتماعية الفتّاكة، منها على سبيل المثال لا الحصر، مرض الحرص الذي يعد من رؤوس البلايا الأخلاقية والاجتماعية، ذلك انّه كان وسيبقى سببا تضييع كنز العيش الهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الحياة المنبعث من القناعة، ومن هنا كان الحرص علّة الخيبة ومعدن الخسران والس---فالة كما يتبيّن ذلك من الحديث الشريف: (القناعة كنز لا يفنى)(2) فيتلف الحرص الإخلاص ويفسد العمل الأخروي، لأنّه لو وُجد حرص في مؤمن تقيّ لرغب في توجّه الناس وإقبالهم عليه، ومن يرقب توجّه الناس وينتظره لا يبلغ الإخلاص التام قطعاً ولا يمكنه الحصول عليه. فهذه النتيجة ذات أهمية عظمى جديرة بالدقة والملاحظة و العناية. (3)
__________
(1) - صيقل الإسلام/الخطبة الشامية 536 سيرة ذاتية 99
(3) - انظر اللمعات 220-222(15/210)
يدفع الإيمان الحسد والمنافسة غير الشريفة، ذلك أنّ من مقتضيات الإيمان أن يتحرر المؤمن من تلك الأمراض، إذ ليس في أمور ديننا أمثال هذه الأمراض، ويرجع منشأ تلك الأسقام إلى تجاوز أو غفلة عن الأبعاد الوظيفية للإيمان، وما يترتّب بالبعد عنها من تهالك على الشهوات وما ينجرّ عنها من مناقشات وتسابق ثم تزاحم ينتهي بأصحابه إلى الحسد. ولما كانت الدنيا ضيّقة ومؤقّتة ولا تشبع رغبات الإنسان ومطالبه الكثيرة، وحيث المتهالكين على شيء واحد كثر، فالنتيجة إذن السقوط في هاوية الحسد والمنافسة.
ويرجع خطر تلك الأسقام بالتعلّق بالإيمان ومقتضياته وخاصة التفكير العملي في الآخرة وما أعدّ الله فيها للمؤمنين، إنّها فسيحة، بحيث يكون لكلّ مؤمن جنة عرضها السماوات والأرض تمتد إلى مسافة خمسم-ائ-ة سن--ة، ولكل منهم سبعون ألفاً من الحور والقصور، فلا موجب هناك إذن إلى الحسد والمنافسة قط، فيدلّنا هذا على أنّه لا حسد ولا مشاحنة في أعمال صالحة تفضي إلى الآخرة، أي لا مجال للمنافسة والتحاسد فيها، فمَن تحاسد فهو لاشك مراء أي أنّه يتحرّى مغانم دنيوية تحت ستار طلب الآخرة.(1)
الفصل الخامس
أبعاد أهمية بحث المقاصد
و مفسدات فاعليتها
النقطة الأولى: أبعاد أهمية بحث المقاصد
بيّن من عنوان المقاصد أنّها تمثّل سيرا هادفا شاملا ومتكاملا، تعد مقاصدها الكبرى عمد الرسالة التي جاء بها العمل القاصد، وتمثّل تلك المقاصد في تفريعاتها العامة عملا شاملا يستغرق كل الميادين والمجالات التي تتوجّه إليها تلك الرسالة، كما أنّ تلك المقاصد الكلية وفروعها متكاملة تسعى إلى تحقيق مقصد كلي واحد، بحيث لا تنافر في أصولها وفروعها.
__________
(1) - انظر اللمعات 237(15/211)
يستشف من الفرشة الآنفة الذكر أهمية المقاصد بالنسبة للإنسان(أصل المتوجّه إليه بهذه الرسالة)، وما دامت رسائل النور مستمدة من هدي القرآن، فإنّها اكتسبت منه ميزات الغائية والشمول والتكامل، فسيرها قاصد، ومسعاها شامل مستعد لتلبية حاجات الإنسان وفق استعداداته، كما أنّ ذلك المسعى متميّز بالتكامل بحيث ينتفي التنافر بين مضامين الخطاب من جهة ومختلف حاجات الإنسان من جهة أخرى.
نؤكّد في مستهل الحديث أنّ للمقاصد أهمية عظيمة بالنسبة للإنسان فتشمل مجموع أبعاده، يتجلى فيها الاهتمام بالأبعاد الإيمانية والنفسية والاجتماعية والمعرفية والمنهجية، و...كما يظهر في مضمونها عنصر التكامل الذي يستغرق جميع ميادين استعدادات الإنسان وحاجاته.
أولا: الأهمية الإيمانية (1)
رسائل النور في أصل وضعها رسالة إيمانية، بحيث يمثّل الإيمان مقصدا مركزيا بالنسبة إليها.
مبنى فاعلية المقاصد وحضورها في وعي المجتمع والأفراد الإيمان القطعي اليقيني بمصدر تلك المقاصد، وخاصة الكتاب الكريم المحفوظ بينهم، وللقطع بذلك بعد إيماني ظاهر، يسهم بل ويؤسس للخلفية الفكرية(العقيدية) لمجموع تصرّفات المسلّم بها، فقد كان ذلك الكتاب المحفوظ وما يزال المعلّم الأستاذ الذي شاهدناه وسمعنا خطابه، إذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباء منثوراً، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبيّنه أستاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!..(2)
ومردّ الفعالية يتجاوز مجرّد الإيمان "القطعي" – وفق ما شاع تداوله اجتماعيا، كأنّه تصريح قولي بحت لا أثر له على التصرّفات، كلمة صرف – الذي لا صلة له بتصرفات المؤمنين،ويفرض تجاوز هذا النمط من الإيمان، التأسيس للعمل بمقتضى المقاصد وابعادها الإيمانية وفق امتداداتها المطلوبة في ميدان الفعل البشري، بحيث تستغرق جميع ميادين الفعل.
__________
(1) - سنعرض بالتفصيل البعد الإيماني في الباب الثاني من الدراسة
(2) - الكلمات 132(15/212)
- يوضّح طريق العروج للآخرة:
تحدد المقاصد الأصلية مسالك الترقي في سلّم المعارف النورانية، وترسم خطط نيلها وسبل الترقي فيها، فهي مجليّة طريق العروج إلى الآخرة، ومن ثمّ وجب أن تكون محلّ عناية تحقيقا لتبليغها أو حماية وجودها في القلوب والعقول، مع عناية بمضامينها الاجتماعية، ولا يتوقّف تأثيرها عند حد الكشف عن المضمون وطرق التعلّق به، بل يتعدّاه إلى إيجاد محفّزات داخلية للتعلّق به وسبل مزاولته.
يقول بديع الزمان:" ففي الوقت الذي ينبغى أن يكون هذا ( السعيد ) المسعود موضع فخر واعتزاز بما بيّن للبشرية بنور القرآن المبين طريق العروج إلى أعلى مراتب المعرفة الإلهية، برسائل النور، قام أهل الشقاء بنقيض ذلك فتجرأوا على تسميمه مرات ومرات. وربما كان ذلك من مقتضيات الحكمة الإلهية حيث تنزل المصائب والبلايا على ورثة الأنبياء والصالحين كما هو ثابت في الحديث الشريف (( أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ))(1)، حتى رماه الصبيان بالحجارة حينما خرج من بيته يوما في قسطموني قاصدا التوضؤ من النبع، ولكنّه تحمّل وتجمّل بالصبر، ولم يحمل في صدره غير السلامة وفي قلبه غير الطهر لأولئك الصبيان، فلم يغضب ولم يحقد عليهم بل دعا لهم بالخير وقال: لقد أصبح هؤلاء سببا لكشفى سرا من أسرار آية جليلة في سورة “يس”(2). ثم أصبح أولئك الصبيان بفضل الله وبركة الدعاء لهم، بعد ذلك يهرولون إلى الأستاذ أينما رأوه ويقبلون يده ويرجون منه الدعاء."(3)
ثانيا: الأهمية النفسية (4)
__________
(3) - سيرة ذاتية 4
(4) - سنعرض بالتفصيل مختلف الأبعاد في كتابنا عن قراءة في وظائف مقاصد رسائل النور.(15/213)
يمثّل العمل بالمقصد دافعا نفسيا قويا للاستزادة مما يجلب رضا الرحمن، ذلك أنّ "التعريف بحسب الغاية أولى، إذ العلم بالغاية يزيد شوق المحصّل، فهذا، أي المنطق علم آليّ. وتعريفه بحسب الغاية موقوف على معرفة وجه آليّته.ومعرفة وجه الآليّة موقوفة على جهة احتياج ما يحتاج إليه"(1)
ومادامت الحاجة إلى الغاية ماسة لتعلّقها بكل مجالات حياة الإنسان المادية والمعنوية، كان العلم بالمقاصد الكلية النبيلة حافزا نفسيا قويّا لدفع العامل بها على الاستزادة من الخير ودفع الشر، كما أنّ الارتباط بالمقاصد التافهة يأسر المتعلّق بها، فيقع من جرّاء التعلّق بها على أم رأسه، فيتحوّل من رجل عزيز مكرّم إلى ذليل حقير، يشهد لهذا المعنى تحذير بديع الزمان الإنسان من جعل الحياة الدنيا غاية المقصد، فتفرغ في سبيلها الجهد، إنّك إن فعلت ذلك ورضيت به، فسوف تكون في حكم أصغر عصفور.(2)
لهذا كانت أهمية المقاصد الجليلة النبيلة عظيمة في شحذ الهمم، كما أنّ التعلّق بالمقاصد التافهة يدمّر قوى الدفاع الذاتي، فيجعل النفس مهيّئة لقبول الاستخفاف والنذالة الفكرية والنفسية والاجتماعية.
يعود ما ناله المسلمون عربا وعجما من سعادة دنيوية إلى تسليمهم النفسي لأمر لله تعالى والرضا بقضائه وقدره، فقد كانوا يرون الحكمة في المقاصد الكلية، ويتلقّون دروس العبرة من الحوادث بدلاً من الرهبة والهلع منها.(3)
__________
(1) - صيقل الإسلام 243
(2) - الكلمات 20
(3) - صيقل الإسلام519(15/214)
ومن شواهد أهمية المقاصد النبيلة - في رؤيتها الكلية المتكاملة الشاملة - في التأسيس للبعد النفسي لمقاصد رسائل النور، قول النورسي:" رأيت عدداً من الأشخاص - من أهل التقوى - يرغبون في الدين ويحبّون أن يقيموا أوامره كي يوفّقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم.حتى أنّ منهم من يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات. بمعنى أنّه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تكئة ومرتبة سلم للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يعلم هذا أنّ الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدها الدنيوية إلاّ مرجحة ومشوقة، فلو ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لعمل البر، فإنها تبطله، وفي الأقل يفسد إخلاصه، ويذهب ثوابه.وقد ثبت بالتجربة أنّ أفضل منقذ من ظلم هذا العصر المريض الغادر المشئوم ومن ظلماته الدامسة، هو النور الذي تشعه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السديدة.يشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد."(1)، ولا شكّ أنّ مردّ الاهتمام بالغاية النبيلة أو المقصد العظيم، يرجع في أصل فاعليته إلى البعد النفسي سواء أصاب الهدف أو أخطأه، كحالتنا المبيّنة في السابق، إذ المقصد النبيل يفرض أن يكون الهدف موافقا له، فالهدف في هذا المثال قد يؤثّر على أصل المقصد نفسه، من هنا وجب التنبيه إلى الصلة الوثيقة بين الأهداف النبيلة والمقاصد الكليّة، وأهمية البعد النفسي إقبالا وإدبارا ظاهر جلي.
__________
(1) - سيرة ذاتية 309(15/215)
ومن مظاهر البعد النفسي في درس مقاصد رسائل النور أنّ العمل بالمقاصد يدفع إلى التضحية، إذ يوجد العلم بها المؤسس للعمل بمقتضاها قوّة معنوية تساعد محصّلها على تحمّل التضحية، ودفع أشدّ الظلم النمرودي من أعداء الوطن والدين المستترين، ليس هذا فحسب، بل يجاوزه إلى تكييف تصرّفاته الغضبية ويضبطها بمقصد كلّي قوامه طلب رضا الله، فلا يواجه القوّة المادية بالردّ المادي التخريبي، مستمدا تلك القوّة المعنوية من القرآن الحكيم الذي علّمه تلك المعاني السامية، لأجل ألاّ يتضرّر تسعون بريئاً بسبب زنادقة ملحدين نسبتهم عشرة في المائة، ومن أجل المحافظة على الأمن والنظام في الداخل بقوته كلها، ومن أجل نصب حارس في قلب كل إنسان بدروس النور.ولولا ذلك، لانتقم الأستاذ النورسي-كما صرّح به - في يوم واحد من أعدائه الذين ظلموه مدة ثمان وعشرين سنة. فتراه لا يدافع ضد من يهين عزته وكرامته حفاظاً على الأمن من أجل الأبرياء، ويقول: أنا مستعد للتضحية بحياتي الدنيوية من أجل ملة الإسلام، بل حتى بحياتي الأخروية إن لزم الأمر.(1)
كما أنّ استحضار المقاصد في النظر إلى النفس والمجتمع يزيد الإنسان تضحية وبذلا وعطاء، فيطرد النظر التفكير في العزلة والانزواء، ذلك أنّه إذا ما فكّر كلُ واحد بأن ينزوي في زاوية مظلمة ليأمن خداع النفس الأمارة بالسوء - تلك العدوة الكبرى - ويأمن مكر شياطين الجن والإنس، وانسحب إلى زاوية النسيان أو أراد أن ينسحب إليها، وأهمل ما حلّ بالعالم الإسلامي والإنساني حتى لم يعد ينفع أحدٌ أحداً، فالمطلوب أن نقوم بتبليغ إخواننا في الدين هذه الحقائق، لعل الله يعاملنا بفضله وكرمه بما يوافق جلال ألوهيته سبحانه. و لهذا من المفيد جداً صرف النظر عن أنفسنا في تلك الأزمنة. (2)
__________
(1) - سيرة ذاتية 463
(2) - الملاحق 20(15/216)
تلك المقاصد التي تقرر في الإنسان بعدا نفسيا ظاهرا، يحسّسه بحقائق الفقر والعجز والحاجة إلى الحكيم الخبير الخالق الرازق،إنّ ما يوفقكم الله إليه بالعجز والفقر للوقوف بباب قصر القرآن العظيم والأخذ من خزينته الخاصة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فتستخرجون ما تشاهدونه - وما يؤذن لكم منها - من جواهر، الواحدة تلو الأخرى.وتتدبّرون فيها أنتم أولاً ثم تقولون:أيّها الناس! انظروا إلى المولى الكريم الذي فتح لكم أبواب مضيفه وخلق العوالم برحمته العميمة وبرأكم بحكمته وأرسلكم إلى هذا العالم.. ذلكم رب العالمين.. الذي بيّن لكم الحكمة في الخلق والقصد من مجيئكم إلى هنا، والمهمة التي كُلفتم بها، وكلّ ما تقتضيه العبودية من وظائف وخدمات.. وأمثالها من الأمور التي بيّنها قبل ألف وثلاثمائة سنة بوساطة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -
بلّغ الأستاذ تلك الأوامر الرفيعة وتلك الأحكام المقدّسة،و حثّ على التلاميذ على تبليغها بلسانهم بحيث يقدرون على فهمها، فإن بلّغوا ذلك بإخلاص فسينفعون ذوي العقول والصواب وذوي البصائر والقلب، والمتمتّعون بالإنسانية،و ييسّرون لهم فهم الحقيقة ويردونهم إلى حظيرة الإيمان (1)
ثالثا: التشجيع على العمل والبذل المستمر
تحفّز المقاصد مدركها عقلا وقلبا على البذل المستمر بالاستعداد للرحلة المقررة، الرحلة إلى الآخرة، ذلك أنّ الحكمة في إبهام أجَل الشخص وموتهِ " لينتظره دائماً فيستعدّ لآخرته" - الحكمة في إبهام الساعة -، التي هي موتُ الدنيا لينتظرها أبناء الدنيا(2)، لهذا كان في خفاء الأجل مقصدا عظيما يبقي جذوة التعلّق بالخلاص متّقدة مهيمنة على كيان الإنسان، فتدفعه نفسيا للاستعداد السنني لنيل رضا الرحمن.
1 - إيجاد دافع التضحية:
__________
(1) - الملاحق 32
(2) - انظر المثنوي العربي 445(15/217)
كان النورسي مندفعا إلى التضحية في مباشرة التعامل مع الدنيا ومشاكلها في كنف نظرة تهيمن عليها العناية بالمقاصد السامية، فقد كان حينما اشتد خناق الأمراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليه، ووجد أن علاقاته تنفصم مع الدنيا لاح بين ناظريه أنّ الإيمان يرشده بأنّه مرشح لدنيا أخرى أبدية، وأنّه مؤهل لمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الأثناء ترك كل شيء تقطر منه الحسرة ويجعله يتأوه ويتأفف، وأبدله بكل ما يبشّر بالخير والفرح ويجعله في حمدٍ دائم. ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، إلاّ بقدرة غير محدودة للقدير المطلق، يعرف جميع حركات مخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جميع أحوالهم وأعمالهم ويسجلها كذلك. وأنّى لها أن تحصل إلاّ بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الإنسان الصغير الهزيل المتقلب في العجز المطلق، حتى كرّمه واتخذه خليلاً مخاطباً، واهباً له المقام السامي بين مخلوقاته.(1)
لقد وضعت الحكمة الإلهية ميلا وشوقا في الإنسان لإدامة النسل. ووضع أجرة لأداء تلك الوظيفة الفطرية، وهي اللذة. فالرجل ربما يتحمل مشاق ساعة لأجل تلك اللذة التي تدوم عشر دقائق - إن كانت مشروعة - بينما المرأة، تحمل في بطنها الطفل حوالي عشرة أشهر، مقابل تلك المتعة التي تدوم عشر دقائق، فضلا عما تتحمل من مشقات طوال عشر سنوات من أجل طفلها. بمعنى أن تلك اللذة التي تدوم عشر دقائق تزيل أهمية ذلك الميل الفطري، حيث تسوق إلى هذه المصاعب الكثيرة والمتاعب المستمرة.(2)
2 - تحمّل تبعات السير في مسلك الإيمان
__________
(1) - الشعاعات 75
(2) - الملاحق 341(15/218)
يسعف المرء بقوّة داخلية تدفعه إلى التحمّل باكتشاف جزء من حكمة الله في خلق الإنسان التي هي نقطة من بحر المقاصد، إذ أنّ كل إنسان في كلّ زمان ومكان، له نصيبه من المصائب الجارية إما قلباً أو روحاً أو عقلاً أو بدناً، ويعاني من العذاب والرهق ما يعاني، ولاسيّما أهل الضلالة والغافلين حيث أنّهم غافلون عن الرحمة الإلهية الشاملة والحكمة السبحانية الكاملة، فمن حيث إنسانيتهم وعلاقتهم بالبشرية يتعذّبون بالآلام الرهيبة المفجعة التي تعانيها البشرية في الوقت الحاضر، فضلاً عن آلامهم أنفسهم، ذلك لأنّهم قد تركوا وظائفهم الحقيقية وأمورهم الضرورية وأعاروا سمعهم بلهفة إلى مالا يعنيهم من صراعات سياسية وشؤون آفاقية، وحوادث خارجة عن طوقهم، ويتدخّلون فيها حتى جعلوا أرواحهم حائرة وعقولهم ثرثارة، وسلبوا من أنفسهم الإشفاق والرثاء عليهم، حسب قاعدة " الراضي بالضرر لا ينظر له" أي من يرضى لنفسه الضرر لا يستحق النظر إليه برحمة. فلا يُرثى لهم ولا يُشفق عليهم، فهم الذين قد سببوا نزول البلاء بهم.(1)
النظر في الكون والحياة في إطار المقاصد الشرعية يسهم في الكشف عن الحكمة الإلهية الجزئية المتجلية في عالم الأشخاص والأشياء، فترى تلك الحقائق في كل حادثة وفي كل شيء، لمشاهدة الأمور بمنظار نور دروس الإيمان التحقيقي المتلقى من رسائل النور.وبذلك يشاهد في كل شيء كمال الحكمة الإلهية، وجمال عدالتها، ويستعينون بها على مجابهة المصائب - التي هي من إجراءات الربوبية الإلهية بالبشر - بالتسليم التام لأمر الله فيبدي الرضا به، ولا يقدّم شفقته على الرحمة الإلهية كي يقاسي العذاب والألم.(2)
__________
(1) - انظر الملاحق 341
(2) - انظر الملاحق 153(15/219)
تخرج تلك النظرة الإنسان من الغفلة عن سلطان الكون ومنظّمه، وبهذا يتحرر من عقلية الشاكي القائل بأن ماهية العالم المنظمة بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لإنجاز الأمر الذي يطلبه، والشيء الذي يبغيه، والحالة التي يشتهيها، ولا يسمح به قانون الفلك المنقش بيد العناية الأزلية، ولا توافقه طبيعة الزمان المطبوعة بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمة الإلهية المؤسّسِة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمرات التي نطلبها بهندسة عقولنا وتَشَهّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم لا يمكن أن تسكن دائرة عظيمة عن حركاتها المهمة لأجل هوى شخصي...(1)، فالإفادة من المقاصد يفرض الانسجام معها في سيرها الجزئي والكلي.ويسهم هذا الانسجام في خدمة الحياة الاجتماعية البشرية، ويعين الأخلاق والمثل الإنسانية، ويمهّد السبل للرقي الصناعي، ذلك أنّها في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هو خادم لحكمة القرآن، ولا يعارضها، ولا يسعه ذلك.(2)وسيفضي الأمر إلى التعلّق بالمعالي والمقاصد الكلية والغايات الرفيعة، فيبتعد المنشغل بالمقاصد الشريفة عن تنسيق الكلمات وتنظيم الألفاظ، ويجعل شغله الشاغل إحياء الحس الديني والشعور الإيماني ومفهوم الفضائل والأخلاق أمنيته ومبتغاه بترسيخها في الأرواح والوجدان والأفكار لتنتقل عبر العصور والدهور للأجيال القادمة.(3)
__________
(1) - انظر الملاحق 206
(2) - انظر الملاحق 286
(3) - انظر سيرة ذاتية 32(15/220)
يؤسس النظر في الغايات لقبول التنوّع كظاهرة إسلامية إنسانية، إذ لا يفسد التنوّع للود قضية، ذلك أنّ تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحق وفي سبيل الوصول إلى الحقيقة إنما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع أن يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح. ولكن إن كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لأجل أغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء وإشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الأفكار.(1)
النظرة الكلية الشاملة تبيّن مركزية الإنسان في الكون، ويشهد لهذا المعنى أنّ موجودات العالم قد صُممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخُلقت الحياة لتمثّل نقطة المركز فيها، ثم نرى أن موجودات عوالم ذوي الحياة هي الأخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة بحيث يتبوّأ الإنسان فيها مركزها، فالغايات المرجّوة من الأحياء عادة تتمركز في هذا الإنسان.والخالق الكريم سبحانه يحشّد جميع الأحياء حول الإنسان ويسخّر الجميع لأجله وفي خدمته، جاعلاً من هذا الإنسان سيداً عليها وحاكماً لها. فالخالق العظيم إذن لم يكتف باصطفاء الإنسان من بين الأحياء فقط،بل يجعله موضع إرادته ونصبَ اختياره.(2)
رؤية الكون في سياق نظرة مقصدية يسهم في تثبيت فكرة العدالة الكونية في النفس، يمكّن لمظاهرها العظيمة في الجوانب المادية والمعنوية من العقل و القلب.
__________
(1) - انظر المكتوبات347
(2) - انظر المكتوبات(15/221)
يضرب الأستاذ أروع الأمثلة لتحقيق ذلك الهدف،فيذكر بأسلوب تربوي لافت للانتباه؛ فيقول:أنظر أيها الإنسان المعاند إلى ما أظهره السلطان من معجزات متنوعة في سائر الأماكن، فما رأيته هنا في المعرض، أوفي الميدان، أوفي القصر، من الأمور العجيبة له نماذج في كل مكان، إلاَّ أنه يختلف من حيث الشكل والتركيب، أيها المعاند ، أنعم النظر في هذا، لترى مدى ظهور اِنتظام الحكمة، ومبلغ وضوح إشارات العناية، ومقدار بروز أمارات العدالة، ودرجة ظهور ثمرات الرحمة الواسعة، في تلك القصور المتبدّلة، وفي تلك الميادين الفانية، وفي تلك المعارض الزائلة. فَمَن لم يفقد بصيرته يفهم يقيناً أنه لن تكون - بل لا يمكن تصور - حكمة أكملَ من حكمة ذلك السلطان ولا عناية أجملَ من عنايته، ولا رحمة أشمل من رحمته، ولا عدالة أجلّ من عدالته.... إنكار ذلك حماقة فاضحة، كحماقة من يرى ضوء الشمس وينكر الشمس نفسَها في رابعة النهار! ويلزم أيضاً القول بأن القائم بما نراه من إجراءات تتسم بالحكمة وأفعالٍ ذات غايات كريمة وحسنات ملؤها الرحمة إنما يلهو ويعبث ويغدر - حاشاه ثم حاشاه - وما هذا إلا قلب الحقائق إلى أضدادها، وهو المحال باتفاق جميع ذوي العقول غير السوفسطائي الأبله الذي يُنكِر وجودَ الأشياء، حتى وجودَ نفسه.(1)
رابعا: دفع الغفلة العامة
__________
(1) - انظر الكلمات57(15/222)
يندفع الإنسان إلى العمل بمقتضى القناعات المستفادة من المقاصد الشرعية، تلك القناعات المرتبطة بحكم لا حصر لها تحقق مجموعة لا حدّ لها من النتائج الإيجابية على تصرّف الإنسان، كالاستفادة منها في دفع الغفلة، فالحكمة المترتّبة عن المقاصد تدفع الغفلة العامة بتحقيق المراد من المقاصد نفسها في تصرّفات الإنسان، ولا ينال الإنسان المراد إلا إذا اكتشف طوره باكتشاف صلته بخالقه،وقبل ذلك معرفة خالقه الذي"لا يُسأل عما يفعلْ.فلا حقّ لشيء ولا لعلمٍ ولحكمةٍ اَن يَسأل عنه، إذ يتصرّف في مُلكه كيف يشاء وهو عليم حكيم.يعلم ما لا نعلم. فعدم علمنا بحكمةِ شيء لا يدلّ على عدمها.إذ شهود الحكمة في الأكثر المطلق شاهدٌ على وجود حكمة مستورة عنا هنا أيضاً.(1)، فوازن مثلا بين الأهلية والوحشية كَيْ ترى بعض حكمها ظاهرةً باهرةً.(2)
لاحظ جيّدا حرصه على التنبيه العقلي و القلبي في قالب تذكير واحد، ولا شكّ أنّ الغرض الرئيس من التنبيه تحصيل دفع الغفلة وتأسيسا للحضور الباطني والظاهري للحقائق الإيمانية، وما يترتّب عليها من دفع الغفلة بجميع أبعادها وأنواعها (الفكرية والتربوية والاجتماعية...)
خامسا: أهميته في صناعة الوعي
__________
(1) - انظر المثنوي العربي 446، 450
(2) - المثنوي العربي النوري 451(15/223)
تسهم معرفة المقاصد في صناعة وعي الإنسان بالكون ووظيفته إضافة إلى وظيفة الإنسان، نظره في الآفاق (الكون) والأنفس (الإنسان)، وفق المقاصد التي حدّدها له خالقه، فيكون المقصد في المسير شاحذا للهمم ومنشّطا للعزائم، فيكتشف الإنسان قيمته بنسبة ماهيته.. وماهيته بدرجة همته.. وهمته بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.(1) وبقدر علو المقصد تتعالى همّة الإنسان وتكبر وظيفته، إنّ الذي تسكن كيانه المقاصد السامية تصيّره بكرم الله ومنّه مرآة عاكسة للإسلام وحامي ثماره. ومثالاً مشخّصاً للأمة الإسلامية، إذ الهمّة تتعالى بعلو المقصد، والأخلاق تتسامى وتتكامل بغليان الحميّة الإسلامية.(2) التي تصنعها المقاصد السامية في قلوب الملتزمين بمقتضياتها. وتنتهي بهم إلى مواقف اجتماعية تؤكّد التزامهم تجاه أمّتهم والأسرة الإنسانية.ذلك أنّ حياتهم التي تتوجه إلى مثل هذه الغايات المثلى، وهي الجامعة لمثل هذه الخزائن القيّمة.. لا يليق عقلاً وإنصافاً أن تُصرف في حظوظ تافهة، تلبية لرغبات النفس الأمّارة، واستمتاعاً بلذائذ دنيوية فانية، فتهدر وتضيّع بعد ذلك.(3)
سيدفع الإنسان إلى التعلّق بالمعالي إذا تمثّل ظاهرا وباطنا المقاصد الجليلة، وخاصة إذا نظر إليها من زاوية السرّ في وفرة الأجهزة التي منحت له وغناها، "إنّ حواسَّ الإنسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً أكثر، لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه، نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه إلى مقاصدَ شتّى..
__________
(1) - صيقل الإسلام 464
(2) - صيقل الإسلام 464
(3) - انظر الكلمات 140(15/224)
ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت أجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيّأة لشتى أنواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال، لذا لا يمكن أن تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة إلى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابدّ أنّ الغايةَ القصوى لهذا الإنسان هي أن يفي بوظائفه المتطلّعة إلى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وأن يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ما تمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمّل وينظر إليها نظر العبرة والإعجاب.(1)
تعلّق الإنسان بالمقاصد حين مباشرة العيش في الدنيا يسعفه في تجاوز الضغوط التي تعترض طريقه، فإذا اشتد خناق الأمراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليه، ووجد أنّ علاقاته تنفصم مع الدنيا، اكتشف أنّ مقصد الإيمان في مجمل مضامينه وتجلياته - وخاصة التوحيد والنبوة والحشر - يرشده بأنّه مرشّح لدنيا أخرى أبدية، وأنّه مؤهل لمملكة باقية وسعادة دائمة، ففي هذه الأثناء يترك كلّ شيء تقطر منه الحسرة ويجعله يتأوه ويتأفف، وأبدله بكلّ ما يبشّر بالخير والفرح ويجعله في حمدٍ دائم. ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، إنّه لا طريق لتحصيلها إلاّ بقدرة القدير المطلق الذي يعرف جميع حركات مخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جميع أحوالهم وأعمالهم ويسجّلها كذلك. وأنّى لها أن تحصل إلاّ بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الإنسان الصغير الهزيل المتقلّب في العجز المطلق حتى كرّمه، واتخذه خليلاً مخاطباً، واهباً له المقام السامي بين مخلوقاته(2).
أهمية: أهمية المقاصد في تنبيه المخاطب
__________
(1) - الكلمات 367
(2) - اللمعات 389(15/225)
يتميّز الأستاذ بديع الزمان باستعمال النصيحة والموعظة المعروضة في قالب يمزج بين مخاطبة العقل والعاطفة، لهذا يركّز على لفت انتباه القارئ أو المسترشد إلى النظر في الآفاق والأنفس تيسيرا لتبليغ المعاني التربوية بمختلف أبعادها.
يخاطب قلب الإنسان وعقله، فيخاطبه في كنف استحضار المقاصد التي يتوخى خالقه تنبيهه إليها، ذلك أنّك أيّها الإنسان إن نظرت إلى الكون في كنف المقاصد تتنبّه إلى الشواهد الجزئية المتناثرة في الكتاب المنظور(الكون)بطريقة حكيمة، تؤيّدها الشواهد المبثوثة في الكتاب المسطور( القرآن الكريم)، "فهذه الخواتيم القرآنية التي تُمهَرُ بها الآيات مع تأييدها لآياتها، ترفع رأس المخاطب من الجزئي المشتّت غلى الكلي البسيط الواضح، ومن الجزء المفصّل إلى الكلّ المجمل. وتوجِّه نظره إلى المقصد الأعلى.. (1)".
أ - التخلّق بالأخلاق الإلهية
النظرة المقصدية للكون والحياة وفق التصوّر الإسلامي المستفاد من رسائل النور تسعف متبنيها على تبني الغاية القصوى للإنسانية والوظيفة الأساسية للبشرية، فتتعلّق الهمم بالتخلّق بالأخلاق الإلهية، "التي تعني التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة - التي يأمر بها الله سبحانه - وأن يعلم الإنسان عجزَه فيلتجئ إلى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر إلى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى.(2) ويتوكّل عليه حق التوكّل، التوكّل الذي يعني أخذ الأسباب، ذلك أنّ التوكل في ترتيب المقدمات كسل، بينما تفويض الأمر إلى الله في ترتّب النتيجة توكل يأمر به الشرع.(3)
2 - التنبيه العلمي والمنهجي
أ - الكشف عن أهمية الكتاب الكريم
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 267
(2) -انظر الكلمات642
(3) - انظر اللمعات 870(15/226)
ترمي المقاصد إلى إعادة القرآن الكريم إلى صدارة مصادر التوجيه المعرفي والمنهجي، إذ العلاقة بين المقاصد ومصدرها الأصلي والأساسي وثيقة لا تنفك، بحيث يعد فقده سببا في فقد أثر المقاصد نفسها في حياة الإنسان أو على الأقل يكون تغييبه سببا في اختلاف الأقوال والرؤى في مقاصد وجود الإنسان، لهذا كان حضور المقاصد في وعي المسلم حضورا للتوحيد في مضامينه المعرفية(توحيد المعارف التي تسعف في استيعاب الرؤية للآفاق والأنفس)من هنا يعمل على عودة القرآن إلى صدارة التوجيه، لأن"وجود ذلك المعلم الأستاذ الذي نشاهده ونسمع خطابه، إذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباء منثوراً، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبينه أستاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!.."(1)، ولهذا يمثّل القرآن الكريم مصدرا معرفيا أساسيا في معرفة مقاصد الخالق في خلق الخليقة من جهة، ووسائل تحقيق تلك المقاصد من جهة أخرى.
ب - التنبيه إلى البعد المنهجي
ترمي رسائل النور في مقاصدها الفرعية إلى التربية المنهجية لطلاّبها، حتى ليغدو بالنسبة إليها التعلّق بالتفكير المنهجي من متطلّبات المقاصد الكلية من جهة مضمونها ثم من جهة تبليغها وتمكينها في المجتمع، لهذا تقرر الرسائل أنّ وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبةٌ على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق).(2)
__________
(1) - انظر الكلمات 132
(2) - انظر اللمعات 871(15/227)
كما أنّه من الرتبة المنهجية أن يتعلّق الإنسان بالأسباب الموجبة لإيجاد النتائج المرتبطة بها ارتباطا سننيا (منطقيا)، فلا نرمي إلى الصعود باتّخاذ طريق النزول أو العكس، كما أننا لا يمكن أن نفتّش عن الفعالية بغير سبلها الموضوعية والسننية، الفعالية ترجع إلى التضحية والتضحية مصدر قوّتها القوة المعنوية التي توجبها، وبهذا الصدد يتساءل الأستاذ النورسي :"ما الحكمة في القوة المعنوية في تحمل هذا المضحي، لأشد الظلم النمرودي من أعداء الوطن والدين المستترين، وفي عدم مواجهته القوة المادية بالرد المادي التخريبي؟ فها أنا أعلن لكم ولأهل الوجدان كلهم جميعاً:إنّ القرآن الحكيم قد علّمه ذلك لأجل ألا يتضرر تسعون بريئاً بسبب زنادقة ملحدين نسبتهم عشرة في المائة، ومن أجل المحافظة على الأمن والنظام في الداخل بقوّته كلّها، ومن أجل نصب حارس في قلب كل إنسان بدروس النور.ولولا ذلك، لانتقمتُ في يوم واحد من أعدائي الذين ظلموني مدة ثمان وعشرين سنة.لهذا لا ترى الأستاذ مدافعا ضد من يهين عزته وكرامته حفاظاً على الأمن من أجل الأبرياء، ويقول:أنا مستعد للتضحية بحياتي الدنيوية من أجل ملة الإسلام، بل حتى بحياتي الأخروية إن لزم الأمر."(1)
3 - السننية في التفكير
__________
(1) - سيرة ذاتية 463(15/228)
النظر بعيني العقل والقلب في المقاصد المطلوبة أو المرسومة، يسعف المتأمّل في التأسيس للتفكير السنني، لحمة التفكير المنهجي، من هنا كان النظر في المقاصد بعين التأمّل مسعفا رئيسا في التأسيس للتفكير المنهجي، مثاله الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل - الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال - فرض وواجب، إلاّ أن الطاعة لإشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها.علماً أن يد عناية الحكمة الإلهية - التي تقتضي قاعدة تقسيم الأعمال - قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لأداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة "(1).
كما يستفاد التفكير المنهجي من التنبيه المستمر إلى وجوب استصحاب التحليل السنني في التعامل مع الظواهر بجميع أشكالها و أنواعها، وخاصة المتعلّقة بمسائل الدين، فمنها إشارته إلى أنّ مما يشوش أفكار الظاهريين، ويخلّ بخيالاتهم، اعتقادهم أن دلائل صدق الأنبياء عليهم السلام، محصورة ضمن خوارق العادات. واعتبارهم أن جميع أحوال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - وحركاته - أو معظمها - لا بد أن تكون خارقة. وهذا ما لا يسمح به الواقع، لذا لا يستقيم ولا يصلح لهم ما يتخيلون. إذ أن اعتقاداً كهذا غفلة عظيمة عن سر الحكمة الإلهية في الوجود، وعن تسليم الأنبياء عليهم السلام مقاليد الانقياد إلى قوانين الله الجارية في العالم."(2)
أ - رؤي-ة أثر الحكمة
كما يسهم النظر إلى الكون - بما يتوزّع عليه من مقاصد كلّية وجزئية - في التأسيس لرؤية الحكمة الفائقة في الأفراد والجماعات بل وكل عناصر الكون المادية والمعنوية، " أنظر، كيف تُنجز الأعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمّل كيف يُنظر إلى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقّة وميزانٍ صائب."(3)
ب - تيسّر تفسير سير الحياة وتنظيم الكون
__________
(1) - سيرة ذاتية 503
(2) - صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 65
(3) - الكلمات50(15/229)
تيسّر نظرة المقاصد المستفادة من القرآن الكريم المبثوثة في رسائل النور تفسير سير الكون فضلا عن نشأته ومصيره، فالنظر إليه في إطار المقاصد يؤكّد أنّ جميع عناصر الكون ومظاهرها المادية والمعنوية إنّما جعلت لخدمة الإنسان، لأنّ الإنسان هو أشرف الأسباب وأوسعها اختياراً وأشملها تصرفاً في الأمور، وهو في أظهر أفعاله الاختيارية، كالأكل والكلام والفكر - التي كلّ منها عبارة عن سلسلة عجيبة وفي غاية الانتظام والحكمة - ليس له نصيب منها إلاّ واحداً من مائة جزء من السلسلة.(1)
إنّ البشر ثمرٌ لهذه الكائنات، فهو المقصود الأظهر لخالق الموجودات.والقلبُ كالنواة، فهو المرآة الأنوار، لصانع المخلوقات من هذه الحكمة.فالإنسان الأصغرُ في هذه الكائنات هو المدار الأظهرُ للنشر والمحشر في هذه الموجودات، والتخريبِ والتبديلِ والتحويلِ والتجديد لهذه الكائنات."(2)
من هنا كانت جميع الأثمار وما فيها من بذيرات، معجزات الحكمة الإلهية.. خوارق الصنعة الإلهية.. هدايا الرحمة الإلهية.. براهين مادية للوحدانية.. بشائر الألطاف الإلهية في الدار الآخرة.. شواهد صادقة بأن خلاّقها على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.. فالبذور والأثمار، مرايا الوحدة في أقطار عالم الكثرة، وفي أطراف هذه الشجرة المتشعبة كالعالم، تُصرِف الأنظارَ من الكثرة إلى الوحدة."(3)، فلفظ " متاعاً" في الآية(4)أشار إلى الثمرات العجيبة الصنعة والحكمة اللامتناهبة وهو في ذات الوقت تأسيس عقدي إلى عزل الأسباب الظاهرية الجامدة عن التأثير الحقيقي.(5)
__________
(1) - الكلمات 727
(2) - الكلمات 732
(3) - الكلمات 733
(5) - المثنوي العربي النوري 461(15/230)
إنّ النظر إلى الكون من زاوية المقاصد الشرعية يسهّل فهم المعطيات الكونية، فالبذورُ والأثمارُ، والحبوبُ والأزهارُ معجزاتُ الحكمة.. خوارقُ الصنعة.. هدايا الرحمة.. براهينُ الوحدة.. شواهدُ لطفِه في دار الآخرة.. شواهدُ صادقة بأنّ خلاّقها على كل شيء قدير وبكلّ شيء عليم. قد وَسِع كلّ شيء بالرحمة والعلم والخلق والتدبير والصنع والتصوير. فالشمسُ كالبذرة، والنجمُ كالزهرة، والأرضُ كالحبّة، لا تثقل عليه بالخلق والتدبير، والصنُع والتصوير. فالبذور والأثمار مرايا الوحدة في أقطار الكثرة، إشاراتُ القَدَر، رموزاتُ القُدْرَة بأنّ تلك الكثرة من منبع الوحدة، تصدُرُ شاهدةً لوحدِة الفاطر في الصنع والتصوير. ثم إلى الوحدة تنتهي ذاكرةً لِحكمة الصانعِ في الخلق والتدبير.. وتلويحات الحكمة بأنّ خالق الكلّ - بكُلِّية النَظَر إلى الجزئي - ينظُرُ ثَمَّ إلى جزئه، إذ إن كان ثمراً فهو المقصود الأظهرُ مِن خلق هذا الشجر(1)
النظر في مقصد التوحيد المبثوث في الكتابين المسطور والمنظور، ييسّر فهم الكون واستيعاب معانيه وحكمه، بخلاف الشرك الذي يجعل الكون مستعصيا على الفهم، " فيا مَن له أدنى شعور - ولو كشعرة - هل يمكن مشاهدة هذه السهولة المطلقة في الجود المطلق في رخيصية مطلقة ومع شهود هذه الحكمة العامة في الانتظام المطلق، أن يستند خلق الشيء كهذه الرمانة مثلاً إلى أسباب جامدة، لكن تجلب جهازات أكثر الأشياء لتصنيع ذلك الشيء الواحد الذي هو مثال مصغر لكل تلك الأشياء.. وان لا تكون لهذه الرمانة غاية إلاّ أكلها في دقيقة للذة حيوانية."
__________
(1) - الكلمات 732(15/231)
ويسعف النظر في الدلالات الجزئية على الحكمة نفسها المستفادة من النظر في الكون، أنظر مثلا، كيف تساعد الحكمة التي وظّفت رأس الإنسان في حواسه، بوظائف عديدة، لو خصّصت لكل وظيفة منها في رأس الإنسان مقدار خردلة لصار رأس الإنسان كجبل الطور."(1)، والأعجب أن ترى الحكمة نفسها في جميع مظاهر الكون المادي، فترى دقّة الصنعة في الرمانة التي منتهى غايتها أكلك في لحظة غفل، فمحال ظاهر أن يثمر رأسك جبلاً من الأثمار، وأن لا يثمر مثل الجبل الاّ ثمرة كرأسك.إِذ يلزم حينئذٍ جمع نهاية الحكمة مع نهاية العبثية، وهو من أمحل المحال وأبطل الباطل، بل تلك الرمانة، كأمثالها تضمنت قصيدة في بيان الأسماء الحسنى، فأفادت معانيها، فوفّت فتوفّت فدفنت من فيك فيك."(2)
أبصر في نفسك والكون الذي حولك بالمقاصد المبثوثة فيه، فترى العَدل الحاكم، هو الحكمُ الفرد، هو العادل الحكيم.. إذ هو الذي أسّس بنيان الكائنات، بمسطر المشيئة، بالحكمة النظّامة.. أصول حكمته رابطة الموجودات.. ففصّل الموجودات بدستور القضاء، بقانون القدر.. قوانين القدرة، خيّاطة الصور، لقامة المصنوعات.. فنظّم الكائنات بناموس السُنّة، بقانون العادات.. نواميس السنّة، قوانين العادة.. نظّامة المخلوقات.. " إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " في الأرض والسموات.. بتلطيف الرحمة، بتكريم العناية.. قد زيّن الكائنات.. نواميس الرحمة.. دساتير العناية.. حسّانة المصنوعات وزينة الموجودات.. فنوّر الكائنات.. بجلوة الأسماء تجلّي الصفات.. تظاهرات الأسماء.. في جَلوات الصفات.. نوّارة الموجودات.. في الأرض والسموات.(3)
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 467
(2) - انظر المثنوي العربي النوري 467
(3) - المثنوي العربي النوري 473(15/232)
نرى بين دلالة الحكمة على المقاصد ودلالة المقاصد على الحكمة تداخلا كبيرا، بحيث تكون كل واحدة منهما طريقا للأخرى فالزهر والثمر.. والحب والبذر.. معجزات الحكمة.. هدايا الرحمة.. براهين الوحدة.. بشائر لطفه.. في دار الآخرة.. شواهد صادقة.. بأنّ صانعها بكلّ شيء عليم.. لكل شيء قدير.. قد وسع كل شيء.. بالرحمة والعلم.. باللطف والتدبير.(1)، فتشاهد كل نوع من آلاف الأنواع الأحياء التي تزيد على خمسين مليوناً على الكرة الأرضية، يلبس أقمصته المزركشة المنسقة ويبدّلها كل سنة، بل لا يبقى جناح واحد وهو عضو واحد من مئات أعضاء الذباب الذي لا يعد ولا يحصى، لا يبقى هذا العضو هملاً ولا سدىً بل ينال نور القصد والإرادة والحكمة. مما يدل على أن الأفعال والأحوال الجليلة للكرة الأرضية الضخمة - التي هي مهد ما لا يحد من ذوي المشاعر وحضارتهم ومرجعهم ومأواهم - لا تبقى خارج الإرادة والاختيار والقصد الإلهي، بل لا يبقى أي شيء خارجها، جزئياً كان أم كلياً(2).والنظر في الكتاب المسطور يؤكّد الحقيقة نفسها لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة إلى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا أسماء إلهية.حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية(3)، كما أن النظر في مقصد التوحيد ييسّر لك فهم تلك الحكمة المتناثرة بإحكام في الكل.
تقرر أبعاد المقاصد أنّ للمقاصد السامية حال التزام بها آثارا عظيمة على الإنسان، كما أنّ الغفلة عنها أو إهمالها المطلق يأسر الإنسان بمقاصد تافهة تدمّر حياة الفرد والمجتمع، من هذا المنطلق نركّز على الآثار الإيجابية للعناية الفعلية بالمقاصد السامية، كما سنوضّح خطر إهمالها على الإنسان والمجتمع والأسرة الإنسانية.
سابعا:أهمية المقاصد في التأسيس للبعد الاجتماعي
__________
(1) - المثنوي العربي النوري 475
(2) - الكلمة الرابعة عشرة 198
(3) - الكلمات 257(15/233)
1 - الكشف عن قيمة الإنسان:
قيمة المجتمع من قيمة الإنسان، والمجتمع الذي لا قيمة للإنسان فيه لا يعير أي قيمة للمجتمع، ومبنى تلك القيمة المقاصد التي تتوخّى الرسالة تحقيقها، فإذا كانت المقاصد إنسانية كان المجتمع المنشود إنسانيا، ذلك أنّ قيمة الإنسان في الرسالة تتعلّق بمقاصدها فيه، لأنّه لا يمكن أن يكون شيء موهوم مبدءاً لحقيقة خارجية. فنقطة الاستناد والاستمداد حقيقتان ضروريتان مغروزتان في الفطرة والوجدان، حيث إنّ الإنسان مكرّم وهو صفوة المخلوقات، فلولاهما لتردى الإنسان إلى أسفل سافلين، بينما الحكمة والنظام والكمال في الكائنات يردّ هذا الاحتمال."، فالمقاصد المتجلية في الكتابين المسطور (القرآن الكريم)والمنظور(الكون بما فيه الإنسان)، تكشف عن أهمية الإنسان بالنسبة لرسائل النور إضافة إلى البعد الإنساني في المسعى الاجتماعي من جهة والوظيفة الكلية للرسالة التي تمثّلها رسائل النور من جهة أخرى.
وترجع القوّة المعنوية في رسائل النور إلى وجود محفّزات موضوعية فاعلة في إيجاد دافعية فعل الخير وحمايتها، فمثلا، كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الآخرة فإنّ الغلبة المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل، حتى يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو الأمر في سائر الأنواع الأخرى، وحتى يتساوى الإنسان مع سائر إخوانه من الكائنات، وحتى يحق أن يقال في حقّه: " أنّه قد تحقق وتقرر سرّ الحكمة الأزلية في النوع البشري أيضاً."(1)
2 – طريق جلب السعادة الدنيوية:
من بين الأهداف التي ترمي إلى تحقيقها المقاصد بطريقة موضوعية، التأسيس لفاعلية حياة الإنسان المسلم من خلال ربطها بالمقاصد مع تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك المسعى، ولعلّ من الأهداف السامقة التي خدمتها مجموع المقاصد الكلية والفرعية رسم طريق جلب السعادة الأبدية كهدف نهائي للمسير البشري.
__________
(1) - صيقل الإسلام504(15/234)
يعود ما ناله المسلمون عربا وعجما من سعادة دنيوية إلى تسليم أمرهم لله تعالى والرضا بقضائه وقدره ، فقد كانوا يرون الحكمة في المقاصد الكلية، ويتلقّون دروس العبرة من الحوادث بدلاً من الرهبة والهلع منها.(1)
3 – عنصر قوّتنا المادية والمعنوية:
تعدّ المقاصد الأصلية الخلفية النظرية لعنصر قوّتنا و فعاليتنا المادية والمعنوية في الحياة المعيشة، فمرد شجاعتنا وبطولاتنا على مرّ التاريخ التزامنا بمضامين الأوامر الإلهية، وقد ثبت ذلك بمنطوق القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح، وأيّدتها التجربة والحكمة الموزّعة كالدرر المنتظم في مساحات الكون المترامية الأطراف، إنّ راية الإسلام والتوحيد التي بين أيدينا على مرّ التاريخ كانت سببا قويّا في شجاعتنا وبطولاتنا(2) المتناقلة جيلا عن جيل.
4 - اكتشاف حكمة الوظيفة:
قراءة المقاصد بعين القلب والعقل يسمح باكتشاف حكمة وظيفة الإنسان على الأرض، لأنّه"لما توجّه نوع البشر نحو المستقبل سأل فن الحكمة المرسل من قبل الكائنات، ومن جانب حكومة الخلقة مستنطقاً:يا بني آدم!من أين؟ وإلى أين؟ ما تصنعون؟ من سلطانكم؟ من أين مبدؤكم وإلى أين المصير؟. فبينما المحاورة، إذ قام سيد نوع البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - وخطيبهم ومرشدهم: أيها السائل نحن معاشر الموجودات أتينا بأمر السلطان الأزلي، مأمورين ضمن دائرة القدرة الإلهية، وقد ألبسنا واجب الوجود المتصف بجميع صفات الكمال، وهو الحاكم الأزلي، حلة الوجود هذه، ومنحنا استعداداً هو رأسمال السعادة.. ونحن معاشر البشر ننشغل الآن بتهيئة أسباب تلك السعادة الأبدية.. ونحن على جناح السفر، من طريق الحشر إلى السعادة الأبدية. فيا أيتها الحكمة اشهدي وقولي مثلما ترين، ولا تخلطي الأمور بالسفسطة."(3)
__________
(1) - صيقل الإسلام519
(2) - انظر صيقل الإسلام 540
(3) - صيقل الإسلام 158(15/235)
ولا يتوقّف الأمر عند اكتشاف البعد الوظيفي بل يتعدّاه بالتنبيه إلى أصول السعادة الأبدية المخزونة في الالتزام بتلك المقاصد السامية، لأنّ لا يلتئم قبول العبث في الكون مع الثابت بشهادة العقل والحكمة والاستقراء ذلك النظام المتكامل الدال على السعادة الأبدية، لأنّ العدم يحيل كل شيء إلى العبث.(1).
5 - التعرّف على الحكمة
لا يكون النظر إلى الكائنات نظر حكمة، إلاّ إذا أبصرها الإنسان في إطار رؤية مقصدية، تحتكم إلى المقاصد المبثوثة في جميع مظاهر الكون، تلك النظرة التي تجعلك ترى الدنيا كأنّها شجرة عظيمة متناغمة، فكما أنّ الشجرة لها أغصان وأوراق وأزاهير وثمرات، ففي العالم السفلي - الذي هو شقّ من شجرة الخلقة - تشاهد أيضاً أنّ العناصر بمثابة أغصانه، والنباتات والأشجار في حكم أوراقه، والحيوانات كأنها أزاه-يره، والأن-اسي كأنهم ثمراته، فالقانون الإلهي الجاري على الأشجار يلزم أن يكون جارياً أيضاً على هذه الشجرة العظمى، وذلك بمقتضى اسم الله " الحكيم "، لذا فمن مقتضى الحكمة أن تكون شجرة الخلقة هذه ناشئة أيضاً من نواة، وأن تكون النواة جامعةً نم-اذج وأسس سائر العوالم فضلاً عن احتوائه على العالم الجسماني، لأنّ النواة الأصلية للكائنات المتضمنة لألوف العوالم ومنشأها لا يمكن أن تكون مادة جامدة قط. (2)
النقطة الثانية:مفسدات فاعلية المقاصد
لا يستفيد المرء من معرفة المقاصد الحقّة من الخليقة ما لم يتحرّر عقلا وقلبا من مجموعة من المكدّرات المعنوية والمادية، لهذا لا تنفع المعرفة المجملة أوالتفصيلية للمقاصد بتمكّن تلك المنغّصات من قلوب وعقول المكلّفين، بل ينبغي أن يحرر مدركها من الوقوع تحت طائلة موانع الاستفادة من إدراك تلك المقاصد الشرعية.
__________
(1) - صيقل الإسلام160
(2) - الكلمات 692(15/236)
ذكر الأستاذ مجموعة لا يستهان بها من صوارف البال عن القراءة الموضوعية والإيجابية للكون والحياة، ولو أطلق الباحث لنفسه عنان بحثها واستقصائها لما وسعته المجلّدات الطوال، لهذا سنقتصر في هذه العجالة على بعضها.
1 - النظر إلى الكون من زاوية الشرك:
يبطل الانتفاع بالمقاصد إذا نظر إلى الكون من زاوية الشرك، ذلك أنّ التدخّل العشوائي للشرك في أي موجود من الموجودات - مهما ك-ان جزئياً - وفي أي كائن حي - مهما كان بسيطاً أو صغيراً - يفسد تلك الغايات، ويبطل تلك المقاصد، ويصرف الأذهان عن تلك الغايات، وعمن أرادها وقصدها، إلى الأسباب. وهذا ما يخالف ماهية الربوبية المطلقة تماماً ويعاديها. فلابد إذاً أن تمنع هذه الربوبية الواحدة المطلقة الشرك وصوره بأي شكل من الأشكال، فإرشادات القرآن الكريم الغزيرة المستمرة إلى التوحيد، وإلى التقديس والتنزيه والتسبيح، في آياته الكريمة، وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته، نابعة من هذا السر الأعظم.(1)
تخيّل أنّه قيل للأرض التي هي جندي في جيش السماوات:قفي لا تتدخلي في أمر التناغم المحدد للوظيفة الجزئية في الإطار الكلي الشامل للمنظومة الفلكية، وأُحيل استحصال نتيجة الانتظام وذلك الوضع إلى السماوات نفسها، وسُلكت طريق الكثرة والشرك بدل الوحدة، يلزم عندئذٍ أن تقطع ملايين النجوم كل منها أكبر بألوف المرات من الكرة الأرضية، أن تقطع كل يوم وكل سنة مسافة مليارات السنين في أربع وعشرين ساعة.(2)
__________
(1) - الشعاعات 194
(2) - انظر المكتوبات 333(15/237)
ولا يبعد الكفر والمعصية عن أثر الشرك بسبب بعدهما عن المقاصد المعنوية والمادية الخاصة والعامة، إنّ الكفر والمعصية نوع من العدم والتخريب، فيمكن أن يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وإن كان سيئة واحدة، إلاّ أنّه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجلّيات الأسماء الحسنى.فإنّ تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والأسماء الإلهية الحسنى، كلّها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وأنّ تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.(1)
إنّ الكفر والضلالة تجاوز شنيع وتعدّ رهيب، وجريمة تتعلّق بجميع الموجودات.ذلك لأنّ أهل الكفر والضلالة يرفضون الغاية السامية لخلق الكائنات التي نتيجتها العظمى عبودية الإنسان وتوجّهه بالإيمان والطاعة والانقياد للربوبية الإلهية. فإنكارهم هذه النتيجة العظمى للكون --- التي هي العلّة الغائية وسبب بقاء الموجودات --- نوعٌ من تعدٍ على حقوق جميع المخلوقات.(2)
2 - حصر الهمّة في الاستفادة الشخصية:
__________
(1) - الكلمات 544
(2) - اللمعات 128(15/238)
يقوم الكون في عناصره المادية والمعنوية على التناغم الكبير بينها، ذلك التناغم الذي يرجع في كثير من عناصر فاعليته إلى شمول عناصره والتكامل بينها وفق جعل الله لها، لهذا تستحيل الاستفادة الاجتماعية من معرفة المقاصد إذا فَنيَ المستفيد في جهة استفادته وحصر ذهنُه في طريقها وينسى ما عداها وينظر إلى كل شيء لنفسه ويحصر العلة الغائية على ما يتعلق به، فإذاً لا مجازفة في الكلام الموجَّه إلى ذلك الشخص في مقام الامتنان بأن يقال:إنّ زحل الذي أبدعه خالقه لألوفِ حِكَمٍ، وفي كل حكمة ألوفُ جهاتٍ، وفي كل جهة ألوفُ مستفيدٍ العلة الغائية في إبداعه جهة استفادة ذلك الشخص.(1)، ومن هنا كان الإنسان من أظلم الخلق، فانظر ما أشدّه ظلماً ! فلشدّة حبّه لنفسه لا يعطي الأشياء قيمة إلاّ بمقدار خدمتها لنفسه، وينظر إلى ثمرتها بمقياس نفعها له، ويظن العلّة الغائية في الحياة عين الحياة.
متغافلا في ذلك عن مبادئ رئيسة مؤدّاها أنّ للخالق في كلّ حيّ حِكَماً تدق عن العقول.(2)
3 - التعلّق بالدنيا ومفاتنها
__________
(1) - انظر إشارات الإعجاز 224
(2) - المثنوي العربي النوري 311(15/239)
التعلّق بالدنيا يمنع من رؤية المقاصد الموزّعة بإحكام على الكون بعناصره المختلفة، إنّ المبتلى بحبّ هذه الحياة يحسبَ أنّ العلة الغائية في الحياة وبقائها، وأنّ كل ما أودعته القدرة الأزلية في جوهر الإنسانية وذوي الحياة من الجهازات العجيبة والتجهيزات الخارقة، إنّما أعطاها الفاطر الحكيم لحفظ هذه الحياة السريعة الزوال، ولأجل البقاء.كلا ثم كلا!.إذ لو كان بقاء الحياة هو المقصود من كتاب الحياة، لصار أظهر وأبهرُ وأنورُ دلائل الحكمة والعناية والانتظام وعدم العبثية بإجماع شهادات نظامات الكائنات، أعجَبَ وأغربَ وأنسَب مثال العبثية والإسراف، وعدم الانتظام وعدم الحكمة. كمثل شجرٍ - كجبل - ليس لها إلاّ ثمرة فردة كخردلة، بل يرجع إلى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها.ثم سائر الثمرات والغايات راجعة إلى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات أسمائه، وبإظهار ألوان وأنواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الأخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية (1)
ويولّد التعلّق بالدنيا تبديل الغاية، فتصبح كالغاية المشهورة بين أهل الغفلة التي هي جهة استفادتنا منه، من الأكل وغيره، فأقل وأحصر، وأذلّ وأصغر من أن تكون غاية تامّة لخلقة الشيء، بل هي وسيلة إحدى غاياته.(2)
4 - الإغراب في الأسلوب والمضامين
__________
(1) - المثنوي العربي 193
(2) - المثنوي العربي النوري 466(15/240)
تلحق غرابة الأسلوب ضررا عظيما بالمقاصد والغايات النبيلة، فتكون سببا في عزوف الناس عن النظر إلى المقاصد نفسها، ولا يشفع لها سلامة النيات وصحة الغايات، ذلك أنّ: " الانشغال بذلك المسلك الذي يفتح مغاليق تلك الأسرار الغيبية يلحق الضرر بالعمل لأسس الإسلام، لهذا كان العمل في مسلك الوضوح أهم من ذلك المسلك وأثمن منه وأقوم، وهو محور الحاجة العامة ويُسد الحاجة الماسة للجميع بالعمل لأسس الإسلام وهو خدمة خزينة الحقائق الإيمانية والاستفادة منها، من هذا المنطلق وُجّهنا إلى سلوك هذا الطريق، لأن الانشغال بذلك المسلك يجعل المرء يدع أعظم المقاصد وأجلّها - وهي الحقائق الإيمانية - في درجة تالية.(1)
5 - الابتعاد عن المقاصد الشرعية سبب في تذكية الصراع
الاختلاف في الالتزام بمقتضى المقاصد الشرعية كان وما يزال وسيبقى سببا في شرارة الفتن، ذلك أنّك لا تجد بين المتصارعين اتفاقا في المقصد ولا غاية ، بل ليس على الكرة الأرضية نقطة تلاق لأفكارهم، ذلك لأنه ليس لأجل الحق، فترى فيه الإفراط البالغ دون حدود، مما يفضي إلى انشقاقات غير قابلة للالتئام. وحاضر العالم شاهد على هذا..(2)
6 - التأهّل لنيل العقوبة
يقع الإنسان جرّاء عدم انسجامه مع المقاصد الشرعية تحت طائلة استحقاق العقوبة الدنيوية والأخروية، لأن ذلك العاصي يستحق بلا ريب التهديد الرهيب كما يستحق أنواعاً من الوعيد المرعب(3)، بسبب عدم التناغم مع المقاصد الشرعية في بعديها المادي والمعنوي.حتى تغدو المظالم التي يقترفها الإنسان عند خرقه الغاية من الخلق سببا في الغضب الإلهي والسخط الرباني، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.(4)
7 - التحوّل السلبي
__________
(1) - الملاحق 148
(2) - المكتوبات 348
(3) - الكلمات191
(4) - انظر الشعاعات 306 ، الكلمات 529(15/241)
العقل عضو وآلة، إن لم تبعه - يا أخي - لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فإنّه يتحوّل إلى عضو مشئوم مزعج وعاجز، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ إلى درك آلة ضارة مشئومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر إنقاذا لنفسه من إزعاجات عقله؟ ولكن إذا بيع العقل إلى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فإنّه يكون مفتاحاً رائعاً بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكّر يرى الحكمة الإلهية في كل شيء، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة مرشدٍ رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة.(1)
الغفلة عن المقاصد الشرعية يوقع الإنسان فريسة لتحوّل - غير مقصود أحيانا-في الغايات والمقاصد، كاعتقاد عظماء الفلسفة وروادها ودهاتها، أمثال أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي بأن الغاية القصوى لكمال الإنسانية هي" التشبّه بالواجب"! أي بالخالق جلّ وعلا، فأطلقوه حكماً فرعونياً طاغياً، ومهّدوا الطريق لكثير من الطوائف المتلبسة بأنواع من الشرك، أمثال:عَبدة الأسباب وعَبدة الأصنام وعبدة الطبيعة وعبدة النجوم، وذلك بتهييجهم" الأنانية" لتجري طليقة في أودية الشرك والضلالة، فسدّوا سبيل العبودية إلى الله، وغلّقوا أبواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الإنسان، فضلوا في أوحال الطبيعة ولا نجوا من حمأة الشرك كلياً ولا اهتدوا إلى باب الشكر الواسع.(2)
إهمال المقاصد من الجماعة أو نسيانها يوقع الإنسان فريسة للأنانية، فتتحوّل الأذهان إلى أنانيات الأفراد وحامت حولها(3)خادمة وخاضعة لمطالبها الآنية.
8 - إهمال التكليف
__________
(1) - الكلمات 23
(2) - الكلمات 642
(3) - انظر اللمعات851، المكتوبات41(15/242)
المقاصد الكلية وضعت متكيّفة ومتناغمة مع معطيات الزمان وضرورات الظروف، وهذا يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أنّها وضعت في أصلها لمقاصد مرتبطة أساسا بحقائق التكليف، ذلك أنّ مقاصد التكاليف الشرعية طلب لتجلي المقاصد الكلية؛فالمكلّف مطالب بتكييف نفسه مع الشريعة التزاما بأوامرها و تركا لما نهت عنه.
إنّ الغفلة عن المقاصد المبثوثة في الآيات المسطورة تكرّس إهمال التكاليف الشرعية المرتبطة أساسا بالابتلاء، ولمّا كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي المرتبط بالتأسيس للحرية - أساس التكليف - يرى الأستاذ أنّ المعجزة ليست مُرغِمةً على التصديق - أي سواء أراد الإنسان أم لم يرد - ، ذلك أنّ سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الإرادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة اختيار، ولصدَّق أبو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ولانتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس(1)، فالتسليم بالعدل الإلهي يفرض القول بالحرية ومقتضياتها المؤسسة لقبول فكرتي الحساب والعقاب.
الخاتم---ة
انطلق البحث من مجموعتين متشاكستين من الفرضيات، وبعد البحث المستقصي انتهى الباحث إلى أنّ مصطلح المقاصد في رسائل النور فكرة مركزية هادية، يستلهمها بديع الزمان في وضع المقاصد الكلية وفروعها، وتمثّل تلك المقاصد ثمرة من ثمرات القرآن الكريم، تمثّل الأستاذ النورسي مضمونها وحاول النسج على منواله في عرضها، بحيث بدت صورة مستلة منها.
__________
(1) - المكتوبات 118(15/243)
استقى بديع الزمان المقاصد من القرآن الكريم والسنة المطهّرة بما فيها السيرة العطرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما استثمر الجهد البشري في تأكيد تلك المقاصد، واستجابة لدواعي الزمان وضع بديع الزمان مقاصد جزئية فرعية مندمجة في المقاصد الكلية المستفادة من القرآن الكريم والسنة المطهّرة.
وقد أكّدت تلك الفرضيات بمجموعها أهمية المقاصد في درس رسائل النور من جهة واكتشاف أبعادها من جهة أخرى، بحيث تغدو بمعزل عنها أشبه بنص يؤسس للعبثية.
وبهذا نستبعد المجموعة الثانية من الفرضيات، فيؤكّد العرض أنّ مقاصد الرسائل ليست مكابدة خاصة بمعزل عن نصوص الوحي، بل تعدّ معرفة وتقعيدا منبعثا من شمس المعرفة الإلهية المسطورة في الوحي والمنظورة في الكون والمؤيّدة بالواقعين الكوني والبشري، إنّها وإن كانت في بعض جزئياتها من مقتضيات التكيّف مع معطيات الزمان والمكان، فهذا لم يدفع الأستاذ النورسي إلى تأسيس مقاصد مزاحمة يفرضها التكيّف مع ثقافة الغازي، بل كانت في كثير منها مندمجة مع المقاصد الأصلية المستفادة من الوحيين، ليس هذا فحسب بل كانت محدّدات أساسية لتلك للمقاصد المرسومة في حدود الظروف الراهنة، مما يقرر أنّ للمقاصد الكلية أهمية معرفية وتربوية كبيرة، لا تقلّ أهمية عن المقاصد في الزمان و ذلك لأهميتها العظيمة في فهم كيفيات التعامل مع الظروف وأثر ذلك في فهم ترتيب الأولويات ماضيا والإفادة منه حاضرا ومستقبلا
وقد عرضنا ما يؤكّد أنّ المقاصد مصطلح محدّد المعالم، يمكن أن نلحق به مجموعة من التوابع، كالغاية والهدف والنتيجة والحكمة والفائدة و...وأنّ لتلك المقاصد رتبا وتقسيمات متباينة، فكانت منها تقسيمات خاصة كالمقاصد الإلهية والمقصد الحقيقي ومقصد المقاصد والمقصد العالي، و...إضافة إلى تقسيمها إلى مقاصد كلية وجزئية، ومقصد أصلي ومقصد تبعي...(15/244)
وقد عرضت المقاصد الكلية في رسائل النور عرضا رائعا بصيغ تدل على الغاية التربوية والمنهجية التي تحكم العرض، قكانت المقاصد الكلية جواب لأسئلة متكررة متفاوتة، تنوّعت صيغ التعبير عنها، فظهرت في صيغة التكامل بين الجزئي الكلي، وظهرت في صيغ المقاصد الفرعية المندمجة في المقاصد الكلية.
استقى الأستاذ تلك المقاصد من القرآن الكريم السنّة المطهّرة والسيرة الشريفة إضافة إلى شهادة الواقع الكوني والبشري، وتمثّل تلك المقاصد في الوحيين، أعلى مقام الكلمات، وتتميّز بالتناسب والتسلسل والتساند فيما بينها، ورعاية الفطرة والمطابقة، والتوزّع على نص الوحي، غرضها تثبيت القاعدة الكلية بأمثلة جزئية والإجابة عن أسئلة مكررة بوضوح وبساطة تيسّر تفسير الحياة والكون.
تمثّل النورسي ميزات عرض المقاصد في الوحيين، فظهرت المقاصد متناثرة بإحكام على النص النوري (رسائل النور)، وتجلّت فيها الحكمة المعرفية بمختلف وجوهها وتعدد وظائفها، إضافة الحكمة التربوية كالدعوة للاستغفار قدر العدد اللانهائي من تناثر المقاصد، والدعوة إلى الحسن والخير والحق والكمال...
حصرت رسائل النور مقاصدها في التوحيد والنبوة (الرسالة) والحشر إضافة إلى العدل مع العبادة، فبيّن في ثنايا الحديث عنها أساليب عرضها، وأهميتها في العبادة.
وقد بيّنت جميع المقاصد الرئيسة(التوحيد والنبوة والحشر) أنّ العدالة أقسام عدّة، أولها محضة وإضافية، وأخرى سلبية وإيجابية، وثالثة عدالة منظورة وعدالة مسطورة، وهي بتفاصيلها إضافة إلى ما سلف، حجة على إثبات وتثبيت تلك المقاصد.(15/245)
تمثّل المقاصد الرئيسة الآنفة الذكر يفرض ترتيب الأولويات، بمعنى وضع مقاصد مرحلية مندمجة مع الأصلية المشار إليها أعلاه، من هنا كان للأستاذ مقاصد في الزمان، يمكن تلخيصها في الأمن والنظام والحرية والعدالة، وحصول صحوة إسلامية، وإنقاذ الإيمان والاعتصام بالقرآن، ولهذا المقصد أهداف كثيرة، منها، المصالحة بين المدرستين الدينية والحديثة، رسم أقصر طرق الفعالية، نشر قيم الخير وصد الشر، التأسيس للتواصل الإسلامي والإنساني، تحقيق الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبّة وإعلاء كلمة الله.في طريق الشكر والعبادة ، والشفقة والمحبّة.، وإعطاء الحياة معنى، بإنقاذ الإنسان والاستجابة لحاجاته، لتجاوز الهلاك.وتليين القلوب، والقيام بوظيفة الخدمة، وخدمة الإيمان.
وانتهينا بعد ذلك العرض إلى تأكيد أبعاد أهمية بحث المقاصد، فهي إضافة على أهميتها الإيمانية، لها أهمية نفسية واجتماعية وفكرية ومنهجية.
فهرس الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
المقاصد:المصطلح والأهمية
أولا: المصطلح و متعلّقاته
1 - مستوى المصطلح وتوابعه
أ - المقصد والمقاصد
ب - الغاية والمقصد
- الغاية صحيحة والهدف خطأ
ج - الهدف والمقصد
د - النتيجة والمقصد
ه- - الحكمة والمقصد
و - الفائدة والمقصد
2 - رتب المقاصد وطرق التعبير عنها في رسائل النور
أ - مختلف تقسيمات المقاصد
- المقاصد الإلهية
- المقصد الحقيقي
- مقصد المقاصد
- المقصد العالي
ب - المقاصد الكلية والجزئية
ج - المقصد الأصلي والمقصد التبعي
ثانيا:صيغة عرض المقاصد الكلية والمقاصد الجزئية
1 - المقاصد الكلية جواب لأسئلة متكررة متفاوتة
2 – تنوّع صيغ التعبير عن المقاصد
3- صيغة التكامل بين المقاصد الجزئية الكلية
4 – تربوية وتعليمية عرض المقاصد
الفصل الثاني: مصادر مقاصد رسائل النور ومميّزاتها
أولا: مصادر التعريف بمقاصد رسائل النور
1 - المصدر الأول: القرآن الكريم(15/246)
أ – الناحية المعرفية ببعديها المعرفي والتربوي الإنساني
- الناحية المعرفية ذات البعد الإنساني
- الناحية التربوية ذات البعد الإنساني
ب – الناحية المعرفية والتربوية الخاصة بالإنسان
ج - تعبير القرآن الكريم عن المقاصد
2 - المصدر الثاني : السنّة المطهّرة والسيرة الشريفة
مميّزات مقاصد القرآن الكريم والسنّة المطهّرة
أ - أعلى مقام الكلمات
ب - التناسب والتسلسل
ج - التساند بين المقاصد
د - رعاية الفطرة والمطابقة
ه- - التوزّع على النص القرآني
و- تثبيت القاعدة الكلية بأمثلة جزئية
ي - الإجابة عن أسئلة مكررة
- الوضوح والبساطة
- تيسّر تفسير الحياة والكون
3 - المصدر الثالث: الواقع الكوني والبشري
أ- الواقع الكوني والبشري معرفان بالتوحيد
ب - حماية التوحيد من جانب العدم
ج - الواقع الكوني والبشري ودلالته على النبوة
د - الواقع الكوني والبشري ودلالته على الحشر
ثانيا : مميزات عرض مقاصد رسائل النور
تمهيد: التناثر المحكم للمقاصد في النص النوري
أولا : الحكمة المعرفية
1– استناد الأشياء الكثيرة والمتكثّرة إلى الواحد الأحد
2 – الدلالة على التناغم والتوازن
3 - النظر إلى الأشياء من زأوية الوظائف المتكاملة
أ- القسم الأول: القسم الأعلى والأسمى والمتوجّه إلى الله عزّ وجلّ
ب - القسم الثاني: المتوجّه إلى الغاية من الوجود والهدف من الحياة في ذوي الشعور
ج- القسم الثالث:المتوجّه إلى الغاية من الوجود والحياة في الإنسان نفسه
4 – تعدد الوظائف وشمولها
5 - الأصل الواحد الذي يحكم الكلّ
6 – دليل أهمية المقاصد في رسائل النور
7 – مظهر من مظاهر الحكمة الربانية
8 - استبعاد العبثية
9 – مظهر زينة الكائنات ماديا ومعنويا
10 - دلالتها على المنظّم.
11 - الآثار المتجددة للنظام.
12 - الحكمة الموزّعة على كل مظاهر الكون.
13- تقسيم الأعمال وتكاملها
ثانيا: الحكمة التربوية(15/247)
1 - الدعوة للاستغفار قدر العدد اللانهائي من تناثر المقاصد
لا يكافئ عددها ما لانهاية له من الاستغفار
2 - تناثر المقاصد تذكير دائم في كل المظاهر الكونية
3 - الدعوة إلى الحسن والخير والحق والكمال
4 - اكتشاف قيمة الإنسان
5 - ظهور قيمة الأشياء مهما صغرت في تناثر المقاصد على الكون
6 - إظهار الوظائف الجزئية للأشياء
7 - اكتشاف التناغم مع الفطرة
8- الصلة بين المكوّنات من تناثر المقاصد
الفصل الثالث: المقاصد الكبرى في رسائل النور
تمهيد : مقاصد المقاصد والمقاصد الكلية للقرآن الكريم وفق بيان النورسي
المقاصد الأساسية للقرآن الكريم
أولا : المقصد الأول : التوحيد
النقطة الأولى: أساليب القرآن الكريم في التعبير عن مقصد التوحيد
1 – أسلوب التأسيس للتوحيد
أ – أسلوب المحاججة العقلية
ب – أسلوب التذكير(مخاطبة الوجدان –القلب-)
ج- التركيب بين مخاطبة العقل والوجدان
د- عرض من طبيعة مخصوصة
2 – أسلوب إبطال أقوال المناوئين للتوحيد
3 – مميزات أسلوبي التأسيس والإبطال
أ – البساطة والوضوح
ب - المحاججة العقلية
ج- التذكير الوجداني
د – التركيب بين برهان العقل ومخاطبة الوجدان
ه-– ضرب الأمثلة
و– المسعى الهادف وتجاوز العبثية
النقطة الثانية: أهمية التوحيد اجتماعيا
ثانيا: المقصد الثاني : النبوة
تمهيد
النبوة والنظام الكوني
أ - النبوة جزء من نظام الكون.
ب – دلالة الكون على النبوة
2- أهمية النبوة في العبادة
أ- النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام
ب – نعوته عليه الصلاة والسلام.
ج – دلالات حضور اسم النبي غي ألفاظ الشهادة.
د – النبي الأسوة الأكمل.
3 – حجج إثبات نبوة سيّدنا محمد عليه الصلاة و السلام.
فرشة: الحرية و النبوة ثم النبوة والحرية.
أ – القرآن الكريم حجة النبي عليه الصلاة والسلام.
ب – دلالة الأسماء الحسنى على النبي.
ج – معجزاته عليه الصلاة والسلام.
د – النبي برهان النبوة.(15/248)
ه- - النبي برهان التوحيد.
و – تجلّي الأسماء الحسنى في النبوة.
ز – شهادة الكائنات.
ح – الدليل الأخلاقي و الاجتماعي على النبي.
ط – الإنسان برهان النبوة.
4- مسالك إثبات النبوة عند بديع الزمان النورسي.
أ – المسلك الأول:معرفة ذاته وصفاته
ب – المسلك الثاني:معرفة تاريخه أكبر شاهد على نبوته.
ج – المسلك الثالث:بيان الحال الحاضرة وشهادتها على النبوة.
د – المسلك الرابع:مسألة الشريعة التي تمثّل صحيفة المستقبل.
ه- -المسلك الخامس:إثبات النبوة بالمعجزات و الخوارق المعروفة.
5 – مميزات إثبات النبوة.
أ –التناغم مع سائر النبوات من جهتي المضمون و المصدر:
ب – إنسانية الغاية والمقصد.
ج – التناغم مع الكون.
6 – المقاصد المندمجة في النبوة و الرسالة وأسس الحاجة إليها.
أ - المقاصد المندمجة في النبوة و الرسالة.
ب – أسس الحاجة إلى النبوة الخاتمة.
ثالثا: المقصد الثالث: الحشر
1 - منزلة الإيمان بالحشر في الإسلام
أ- أهميته في العبادة
ب - الحشر ضرورة منطقية وعقلية وكونية
2- أساليب عرض القرآن الكريم لمسألة الحشر
أ – بسط المقدّمات المنهجية لحجج قطعية
ب – تنويع الأدلة على الحشر
ج – ربط فاعلية الإنسان في الحياة بالإيمان بالحشر
3- تعدّد أدلة إثبات الحشر
أ- خطاب الإنكار على المشاغب والمعاند
ب - إثبات الحشر بأدلة النبوة
ج - براهين القرآن الكريم على المقصد الرابع"مسألة الحشر"
البرهان الأول: استصعاب فهم نظام العالم
البرهان الثاني:نظام الدنيا دليل السعادة الأبدية
البرهان الثالث:التناغم الجمالي والتوافق في الأدوار
البرهان الرابع: التناغم بين المكوّنات في العالمين الصغير (الإنسان) والكبير (الكون) التساوق بين الآفاق و الأنفس
البرهان الخامس:والحدس المرمز إلى القصد
البرهان السادس: الملوّح من لا تناهي استعدادات البشر
البرهان السابع: البشارة بالرحمة الأبدية والسعادة لا متناهية(15/249)
البرهان الثامن: المصرّح بلسان النبي صلى الله عليه وسلّم
البرهان العاشر:براهين متنوّعة وكثيرة على المقصود
- القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأولى
- وأما الدليل الذي لوح به (وما ربك بظلام للعبيد)
د- دلالة الحكمة على مقصد الحشر
ه- - مخاطبة الوجدان في إثبات المقصد الرابع(الحشر)
و - دور الإيمان بالحشر في تسلية القلوب وطمأنته
رابعا : المقصد الرابع : العدالة والعبودية
1- مختلف مظاهر العدالة
أ - القسمة الأولى: الإيجابية والسلبية
– القسم الإيجابي
- القسم السلبي
ب- القسمة الثانية: العدالة المحضة والعدالة الإضافية
- النوع الأول :العدالة المحضة
- النوع الثاني: العدالة الإضافية
ج - القسمة الثالثة:العدالة المنظورة والعدالة المسطورة
- القسم الأول: العدالة المنظورة
- القسم الثاني:العدالة المسطورة
- تناغم وتوافق المنظور والمسطور من العدالة
2 - العدالة والعبودية في مضمون العقائد
أ- المضمون العقدي للعدالة و تجلياته في العقائد
3 – العدالة وحضورها في مختلف المقاصد
أ- العدالة و المقصد الأول(التوحيد)
- العدالة ودورها في صيانة التوحيد من جانب الوجود
- العدالة ودورها في صيانة التوحيد من جانب العدم
ب – العدالة والمقصد الثاني(الرسالة أو النبوة)
- العدالة والنبوة
- العدالة والرسالة
- الشريعة مظهر العدالة
ج – العدالة والمقصد الثالث(الحشر أو المعاد)
- عقوبة الظالم مظهر من مظاهر العدالة
- الآخرة وتجلي العدالة
- المضمون الفكري والتربوي والاجتماعي لرؤية العدالة كمقصد
* المضمون الفكري لرؤية العدالة
* العدالة وتبادل ثمرات السعي
- العدالة وتبادل ثمرات السعي
- العدالة حاجة نفسية(تسلية قلوب المظلومين)
- رؤية العدالة يؤسس للتعامل الإيجابي مع الدنيا
- الآثار السلبية لمجافاة العدالة
- العزوف عن العدالة وما تسببه من عزلة كونية واجتماعية
* التناقض مع الكون
* العذاب المعنوي والمادي(15/250)
- العدالة مظهر الالتزام بالفضائل الإسلامية
الفصل الرابع :مقاصد رسائل النور في الزمان
أولا: الأمن والنظام والحرية والعدالة.
ثانيا: حصول صحوة إسلامية
ثالثا: إنقاذ الإيمان والاعتصام بالقرآن، ولهذا المقصد أهداف كثيرة منها:
1 – المصالحة بين المدرستين الدينية والحديثة.
2 – أقصر طرق الفعالية.
3 – مصدر قيم الخير وصد الشر.
4 – أساس التواصل الإسلامي والإنساني.
5 –طريق تحقيق الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبّة وإعلاء كلمة الله.
6– أساس الشكر والعبادة .
7– التأسيس القلبي والعقلي للشفقة والمحبّة.
8– إنقاذ الإيمان يعطي الحياة معنى.
9- إنقاذ الإنسان والاستجابة لحاجاته.
10 – تجاوز الهلاك.
11- تليين القلوب.
12 - القيام بوظيفة الخدمة.
13 - خدمة الإيمان.
14 - نيل مرضاة الله.
رابعا: بعث الصلة بين الإيمان و الأخلاق.
خامسا: الأخوة والمحبّة والتضحية.
سادسا: الاتّحاد بين أهل الإيمان.
سابعا: دفع الأمراض الاجتماعية بالإيمان.
الفصل الخامس : أبعاد أهمية بحث المقاصد ومفسدات فاعليتها
النقطة الأولى:أبعاد أهمية بحث المقاصد
أولا: الأهمية الإيمانية
- يوضّح طريق العروج للآخرة
ثانيا: الأهمية النفسية
ثالثا: التشجيع على العمل والبذل المستمر
1 - إيجاد دافع التضحية
2 -تحمّل تبعات السير في مسلك الإيمان
رابعا: دفع الغفلة العامة
خامسا: أهميته في صناعة الوعي
سادسا: أهمية المقاصد في تنبيه المخاطب
1- التخلّق بالأخلاق الإلهية
2- التنبيه العلمي والمنهجي
أ - الكشف عن أهمية الكتاب الكريم
ب - التنبيه إلى البعد المنهجي
3 – السننية في التفكير
أ - رؤية الحكمة
ب - تيسّر تفسير سير الحياة وتنظيم الكون
سابعا: أهمية المقاصد في التأسيس للبعد الاجتماعي
1 - الكشف عن قيمة الإنسان
2 – طريق جلب السعادة الدنيوية
3 – عنصر قوّتنا المادية والمعنوية
4 - اكتشاف حكمة الوظيفة
5 - التعرّف على الحكمة(15/251)
النقطة الثانية:مفسدات فعالية المقاصد
1 - النظر إلى الكون من زاوية الشرك
2 - حصر الهمّة في الاستفادة الشخصية
3 - التعلّق بالدنيا ومفاتنها
4 - الإغراب في الأسلوب والمضامين
5 - الابتعاد عن المقاصد الشرعية سبب في تذكية الصراع
6 - التأهّل لنيل العقوبة
7 - التحوّل السلبي
8 - إهمال التكليف
الخاتمة(15/252)
ذكريات عن سعيد النورسي
ترجمة أُسَيد احسان قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)
لا اخفي ما اشعر به من سعادة وانشراح من أعماق روحي وأنا اكتب هذه الكلمات القصيرة لهذه الذكريات الجميلة، وهي باكورة أعمال ولدي الحبيب.. فالحمد لله أولا وآخراً.
ولئن تعذر في زماننا هذا مصاحبة الصالحين لندرتهم أو لصعوبة الوصول إليهم والتشرف بين أيديهم، فلتكن مجالستهم والعيش معهم في ذكرياتهم العطرة: فهم القوم لا يشقى جليسهم، وقديماً قيل: وخير جليس في الزمان كتاب.
وعلى الرغم من أهمية هذه الذكريات التي تعرض جوانب من الحياة اليومية ومواجهة الأحداث - قد لا تسجلها كتب التراجم المألوفة - إلا أنها غيض من فيض، وباقة زهر اقتطفت من بستان اينع بجهود الباحث التركي والمؤرخ الشاب »نجم الدين شاهينر« حيث قضى أكثر من عشر سنوات متواليات - وما يزال - في جهد متواصل وبحث دؤوب وتجوال مستمر، مستخدماً كل ما يستطيع من أساليب علمية وطرائق فنية.. لجمع شتات الذكريات وشوارد الخواطر حول الأستاذ النورسي.
فما ترك مدينة أو قرية في مختلف أنحاء تركيا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً إلا ورحل إليها مترجلاً أو على ظهر دابة أو داخل سيارة مما يذكرنا بصدق السلف الصالح وهمتهم في طلب العلم فلا تراه إلا حيث يطرق سمعه أن هناك من شاهد النورسي أو عاش معه أو يتذكر عنه موقفاً من مواقفه ولقطة من لقطات حياته.
فنشر لحد الآن - وبالمنهج العلمي المعزز بالأدلة والبراهين - شهادة أحد عشر ومئة شاهد حي يرزق في خمس مجلدات وسماه:( Son Sahitler Bediuzzaman Said Nursiyi Anlatiyor) أي: الشهود الأواخر يعرفون سعيد النورسي.(16/1)
وقام كذلك ببحث ميداني لمعرفة وجهة نظر اكثر من (مئة) من المفكرين في تركيا من أساتذة وعسكريين وصحفيين وعلماء ومسؤولين وأجرى معهم لقاءات وسجل أجوبتهم الإيجابية والسلبية على السواء بأمانة وإخلاص ونشرها في مجلد واحد سماه: (Aydinlar Konu?uyor) أي: المفكرون يتحدثون عن سعيد النورسي.
فضلاً عن انه اصدر كتاباً خاصاً مستقلاً في (460) صفحة حول حياة الأستاذ النورسي بتسلسلها التاريخي منذ ميلاده حتى يوم وفاته، وأغناه بوثائق تاريخية وشهادات شهود لازالوا على قيد الحياة وسماه: (Bilinmeyen Taraflariyla Bediuzzaman Said Nursi) أي: سعيد النورسي وجوانبه المجهولة.
وما تزال حياة هذا الرجل العظيم تنتظر مزيداً من الدراسات والبحوث والقراءات بحيث لا تكاد تقف عند حد معين فهي - والحق يقال - حياة حافلة غنية تمتد آثارها إلى أجيال وأجيال، مثلها كمثل حياة كبار رجال الفكر والدعوة في الإسلام .
ويتضمن هذا الكتاب - الذي هو بين يديك - فصولاً متنوعة مثيرة حول بعض جوانب من حياة الأستاذ النورسي حسب تواجده وتنقلاته في المناطق المختلفة من بلاده تركيا ابتداء من مدينة "وان" سنة 1923 وانتهاء إلى مدينة "اورفة" سنة 1960 وما بين هاتين المدينتين من مدن إقامته ومنفاه من "بارلا" و"اسبارطة" و"قسطموني" و "اميرداغ".. وأخرى غيرها، وهي مناطق حافلة بالذكريات والأحداث مع طلابه ومعارفه والناس من شتى المستويات الثقافية والاجتماعية والمهنية، مما يدل دلالة كبيرة على مدى أبعاد حركته وعمق شخصيته ودوره الفعال في مجتمعه والتأثير عليه بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
وتمشياً مع روح الكتاب فقد جاءت الصور تضفي لوناً بهيجاً على جماله وسعة معلوماته، ولعل الفصل الأخير (الرحيل) أعطى الكتاب مشهداً رائعاً متمماً ووحدة متناسقة مع لوحات الفصول الأخرى، وكشف للقارئ الكريم معلومات قيمة قد تكون خافية عليه أو كانت قليلة لم تكن تشفي غليله مبثوثة هنا وهناك.(16/2)
وفي الوقت الذي نبارك هذا الجهد المتواضع والجدول الرقراق من ذلك النهر الهادر من الذكريات، نسأله تعالى أن يوفق إلى المزيد منه فتتوالى أمثالها من الذكريات عن حياة الأستاذ النورسي المليئة بالدروس والعبر والحكم حتى تستكمل - بإذن الله - معظم جوانبها أو أكثرها بما يوفي ويشفي.
هذا ولم يكن حظي في مراجعة هذه الذكريات سوى الهوامش مع المقدمات المقتضبة للفصول: وما يستوجب الكتاب من تشذيب أو تقديم وتأخير لبعض الجمل والفقرات.
والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إحسان قاسم الصالحي
ملاحظة
إن كل شهادة من الشهادات الواردة في هذه الذكريات حول مسألة معينة، إنما تمثل طرفاً من شهادات كثيرة حولها، لم ندرج جميعها خشية التكرار. ولا يخفى على القارئ الكريم انه مثلما الشهود أحرار في إدلاء ما شاهدوه فعلاً فهو حر كذلك في قبول شهاداتهم، وحسبنا أن نعلم انهم صادقون فيما يروونه من أحداث. ثم إن هذه الذكريات بمجموعها تتناول جانباً معيناً من جوانب حياة الأستاذ النورسي، نرجو أن يعيننا القارئ الكريم بدعائه الخالص ليوفقنا المولى إلى إبراز جوانب أخرى من حياة هذا الرجل القرآني في كتب ملحقة.
أُسيد
ذكريات من "وان"
مدينة "وان" مدينة تاريخية عريقة، تقع شرقي تركيا على ضفاف اكبر بحيرة فيها وهي بحيرة "وان" هذه المدينة حافلة بالذكريات عن الأستاذ النورسي، حيث مسقط رأسه قريب منها "في قرية نورس" وحيث انه قضى فيها خمس عشرة سنة من عمره: طالباً للعلم، ثم عالماً يناظر العلماء، ثم مجاهداً يقود صفوف الأنصار في الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها زاهداً متعبداً في جبل "أرك" القريب من مدينة "وان".(16/3)
فالفترة 1923 - 1925 من حياة الأستاذ النورسي التي قضاها منعزلاً عن الناس في جبل أرك، تعتبر المنعطف الأساس في أفكاره وأسلوب عمله في خدمة الإسلام: إذ تعد هذه الفترة فترة تحوله إلى "سعيد الجديد" - كما سمى نفسه به - الذي اعتزل السياسة ونذر نفسه للإيمان وحده، بعد أن خبر السياسة ودخل دهاليزها وصراعاتها طوال فترة حياته الأولى "سعيد القديم".
ونحن هنا نقتطف من ذكريات "ملا حميد" الذي لازم الأستاذ النورسي في جبل أرك، وفي جامع "نورشين" داخل مدينة "وان".. هذا الشاب الذي خدم أستاذه بإخلاص دون أن ينتظر شيئاً منه، شملته بركة مجالسة الصالحين وخدمة العلماء العاملين؛ إذ اصبح من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان في تلك المنطقة بعد أن كان لا يجيد القراءة والكتابة.
* تسبيحات الأستاذ
"كنت انشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً بالأستاذ، كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً. وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى للصلاة وبذورها(1). وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول (سبحان الله .. سبحان الله ) كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه.
إنني شخصياً لم أرَ مثل الأستاذ قط مَن يصلي ثم يسبح بهذا الخشوع والحزن، مع أنني رأيت كثيراً من الشيوخ والعلماء.
وعندما كان يقول: "لا اله إلا الله" ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من أهل الطريقة الصوفية إذن لأخذته الجذبة والشوق!"(2).
* شاركني في الدعاء
"كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة. وكنت أحياناً أراه وهو يصلي فلا أستطيع النوم. وعندما كان يراني مستيقظاً يقول لي:
- ما دمت مستيقظاً فتعال وشاركني في الدعاء.
ولكني كنت اجهل قراءة أي دعاء، فكان يقول لي:
__________
(1) يفصل الأستاذ النورسي معنى هذه العبارة في الكلمة التاسعة.
(2) Son ?ahitler, 1/118 ( )(16/4)
- سأدعو أنا وردّد أنت بعدي: آمين، فأنا أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام (1). وبدعاء أويس القرني (2)، وقد أورده الأستاذ النورسي ضمن كتاب (حزب أنوار الحقائق النورية) ويستهل الدعاء بـ"الهي أنت ربي وأنا العبد وأنت الخالق وأنا المخلوق..". واطرق باب رحمة الله بهما.
وكنت أغفو أحياناً في أثناء الدعاء فكان ينظر اليّ ويقول:
- لقد كنتُ أنا أيضاً مثلك.. ولكنك ستتعود"(3).
* لا راحة بعد اليوم
"عندما كان ينشغل الأستاذ بعباداته وتضرعاته ومناجاته كان يجلس جلسة التشهد في الصلاة، وكان يطيل هذا النوع من الجلوس ساعات طوالا، حتى أنه من جراء هذا الجلوس تقرحت إصبع قدمه.
فذات يوم طلب من أحد طلابه وهو - ملا رسول - (4) مرهماً لمداواة إصبعه، الذي كان منهمكاً في إيقاد الحطب وإشعاله في الموقد. فالتفت إليه ملا رسول قائلاً:
- ونحن أيضاً نخشى الله ونخافه يا أستاذنا، ولكنك ترتعد من خشيتك حتى تكاد مرارتك تنفجر. فلو كنت تجلس مطمئناً مثلنا لما تقرحت إصبعك!
- ملا رسول! ملا رسول! لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة، بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة. أأعيش هنا كيفما أشاء ثم أدّعي الجنة وأطلبها.. لا يجوز هذا أبداً..! فلا أجرأ على العيش كما أهوى!
كان الأستاذ يقول هذا وملا رسول يضع المرهم على الجرح أملا بالشفاء"(5).
* كيف كان يقضي أوقاته
__________
(1) المقصود الآية الكريمة: لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
(2) هذا الدعاء موجود في اغلب كتب الأدعية، وقد أورده الأستاذ النورسي ضمن كتاب (حزب أنوار الحقائق النورية)، ويستهل الدعاء بـ"إلهي أنت ربي وأنا العبد وأنت الخالق وأنا المخلوق...".
(3) Bilinmeyen Taraflariyla, 1/247 ( )
(4) .( ) وهو عالم جليل في مدينة "وان"، تتلمذ على يد الأستاذ "النورسي" رغم انه يكبره سناً.
(5) Son ?ahitler, 1/124(16/5)
"على جوانب نبع (الزرنباد) الصافي القريب من جبل (أرك) تتكاثف الأشجار وتلتف أغصانها وتتشابك، صنعنا للأستاذ ما يشبه منصة خشبية كي يجلس عليها فوق الشجر. أما نحن فكنا نجلس على الأرض تحت ظلال الأشجار.
كان الأستاذ لا يصرف وقته سدى قط، فلا أراه إلا قائماً يصلي أو داعياً متضرعاً أو مسبحاً ذاكراً أو متأملاً في ملكوت السماوات والأرض، فهو حتماً منشغل بشغل يهمه.
وحينما يزوره الأصدقاء كان يكلمهم، ويأخذ معهم بأطراف الحديث، وأول ما يبادرهم بالسؤال:
- هل من مسجد في قريتكم؟ وأي درس يدرّسه أئمة المساجد؟ فإذا أجابه الزائر بأنه ليس لديهم مسجد ولا معلم يعلمهم كان يتألم كثيراً ويحزن. ويعجب من آمرهم كيف يعيشون في مكان ليس فيه مسجد ولا مرشد؟!
وكان يغضب كثيراً من الغيبة والكذب ولا يسمح - بأي حال - لأحد أن يغتاب أحداً عند"(1).
* الأرزاق في المزارع
"كان جبل أرك وما حوله من الجبال مكسوة بأشجار التفاح البرية حيث كانت مزارع ربانية لا دخل ليد الإنسان فيها. فعندما كنا نريد أن نقطف من هذه الأشجار تفاحاً كان الأستاذ لا يرضى بذلك ويقول:
- إن حصتنا من التفاح هي من البساتين والحدائق، فالرزاق الحكيم يرزقنا من تلك المزارع. أما الفواكه الموجودة هنا فهي أرزاق الحيوانات البرية. فيجب أن لا نتعدى على أرزاق هذه الحيوانات.
وكان يقول أيضاً عندما تذبح ذبيحة:
ضعوا مالا تحتاجونه من اللحم في موضع كي تأكله الحيوانات"(2).
* مم تخاف؟
عندما كنا في جبل (أرك) أتى بضعة أشخاص لزيارة الأستاذ وحيث انهم كانوا ضيوفاً عليه فقد رغبوا في المبيت عنده تلك الليلة. فقال لي الأستاذ :
اذهب إلى هذه القرية القريبة واجلب فراشاً ومناماً للضيوف.
__________
(1) Son ?ahitler, 1/122 .( )
(2) Son ?ahitler, 1/116 .( )(16/6)
كنت - قبل أن اذهب - خائفاً من حيوانات مفترسة، فكنت أفكر ماذا افعل إذا ما هاجمتني الحيوانات. خرجت من عنده وقطعت غصناً من شجرة الصفصاف كي أدافع به عن نفسي. فلمحني الأستاذ في هذه الأثناء وقال:
- لمَ لم تذهب بعد؟
فأجبته بأنني استعد وأتهيأ للذهاب وأتسلح، فأبتسم وقال:
- استح .. استح! مم تخاف؟ فلديك عصاً وحجارة فلمَ الخوف؟! اذهب فالكلاب لا تؤذيك. فاطمأننت بقول الأستاذ ورميت ما في يدي، وفارقت المنطقة بكل ثقة متوجهاً نحو القرية. فعندما اقتربت منها رأيت قطعاناً من الأغنام تحيط بها أعداد كبيرة من الكلاب الضخمة، وكان هناك كلب ضخم على الطريق الذي يجب عليّ أن أسلكه، كان من الصعب جداً المرور من هناك. ولكن لما اقتربت منه إذا به ينهض ويتمطى قليلاً ثم ينزاح جانباً كأنه يفسح لي الطريق. كان الراعي يراقبني بوجل من بعيد! وحينما دخلت القرية وجدت جماعة من الشباب والرجال وفي أيديهم عصي للدفاع بها عن أنفسهم. فسألوني من أين أتيت وأي طريق سلكت؟ ولما عرفوا طريقي أخذتهم الدهشة عن كيفية مروري بين القطيع، فقالوا:
- مع أننا رعاة وفي أيدينا أسلحتنا لم نستطع الاقتراب من القطيع، فهؤلاء الرعاة يرضعون كلابهم حليب الأغنام، كي تدافع عنها من الذئاب. فكيف فسحوا لك المجال وسمحوا لك بالمرور؟
فأفهمتهم بان الأستاذ نفسه هو الذي أرسلني. فقالوا:
- من ذا لا يعترف بولاية الأستاذ وكراماته! إننا نشك بإيمان من لا يعترف بولايته!. ومن ثم أخذت الفراش ورجعت إلى الأستاذ فاستقبلني قائلا:
- هل مسّك الكلاب بسوء؟
فقلت : لم تقترب مني والحمد لله.
قال:- نعم كن شجاعاً هكذا ولا تخف«(1).
* لم يؤذ حتى النملة
__________
(1) Son ?ahitler, 1/121 .( )(16/7)
"بدأ الجو يبرد شيئاً فشيئاً حيث الشتاء مقبل ونحن لازلنا على جبل أرك، كنا نتوقع هطول أمطار غزيرة وتساقط الثلوج بكثرة وكان المكان الذي نبقى فيه هو على شكل ربوة أو مرتفع صغير، فأراد الأستاذ أن نبني غرفة. فبدأنا ببناء الغرفة على هذا المرتفع، وعندما حفرنا الأساس وجدنا مملكة للنمل، ولما رأى الأستاذ النمل لم يقبل بالحفر في المكان. فسألناه عن السبب. قال:
- هل يجوز بناء بيت بهدم بيت آخر؟ لا تخربوا بيوت هذه الحيوانات. احفروا في مكان آخر غيره.
فبدأنا نحفر في مكان آخر فوجدنا مملكة أخرى أيضاً للنمل. وحفرنا ثالثة فوجدنا نفس الشيء. وهكذا تكررت العملية ثلاث مرات. فسألني أحد الطلاب الذي كان يساعدني في هذا العمل:
- هل سيستمر الأمر هكذا؟ علينا أن نحفر في مكان ما فإذا ظهرت النمل واريناها بالتراب لئلا يراها الأستاذ ومن بعد ذلك نستمر بالحفر، وإلا فسوف نظل إلى العشاء ولما نقم بشيء، فليس في هذه المنطقة شبر إلا وفيها مملكة للنمل.
وعلى كل حال بنينا غرفة صغيرة للأستاذ هناك، فكان الأستاذ كلما يرى النمل ويشاهد مملكتها في الغرفة يقدم لها البرغل والسكر وفتات الخبز.
فسألناه عن سبب تقديمه السكر للنمل فأجابنا ضاحكاً:
- فليكن السكر شاياً لهم! (1)
كان الأستاذ شديد الشفقة والرأفة بالأحياء فلم أره طول حياته يؤذي حيواناً حتى النمل"(2).
* نظرة حرام
عندما كنا مع الأستاذ في جبل (أرك)، أعددت مجموعة من الأسئلة علني أجد جوابها عنده، ولكن في أثناء حديثه في جلستنا الاعتيادية أخذت جواب أسئلتي من دون أن اسأله عنها، وبقى لدى سؤال واحد فقط دون جواب، وهو سؤال يتعلق بالنظر إلى النساء.. ظل السؤال يدور في صدري من دون أن أبوح به، وإذا بالأستاذ يضرب فخذه بقوة ويقول:
- أنا لست راضياً عن أعمال سعيد القديم وتصرفاته، سوى ثلاث حالات كانت عنده، فأنا راض عنها..
ثم قال:
__________
(1) المقصود غذاء أساسيا لهم..
(2) on ?ahitler, 1/122 .( )(16/8)
- كنت استبدل كل أسبوع ملابسي واختار أجملها وأكثرها أناقة أيام كنت في استانبول ذات الحياة البراقة البهيجة.. كنت اذهب إلى اجمل مناطقها حتى إن أصدقائي العلماء التفتوا إلى هذه الظاهرة، فعينوا أحدهم - دون علمي - مراقباً لتصرفاتي وأوصوه بملاحظة جميع ما أقوم به واعمل.
وبعد مضي ثلاثة أيام - من المراقبة الخفية - جمعتنا جلسة معهم، فقالوا لي:
يا أخانا سعيد أنت على حق مهما عملت من عمل. فأنت مسدّد إلى الحق وسيوفقك الله.
استغربت من هذا الكلام ومن حكمهم هذا عليّ، وعندما استفسرت عن السبب قالوا:
كنا نراقبك منذ ثلاثة أيام ، ونحصي تصرفاتك في جميع مناطق استانبول، ومن دون علمك، فلم نر ما يخالف الإسلام قط بل رأيناك منهمكاً بنفسك دون الآخرين، ولهذا نسأل الله أن يوفقك في مسعاك..
نعم! يا اخوتي كما أن ناراً صغيرة بل حقيرة - كعود الكبريت - تحرق غابة عظيمة كثيفة تدريجياً وتجعلها أثراً بعد عين، كذلك النظرة إلى النساء تحرق عمل المؤمن اليومي شيئاً فشيئاً.. وأخشى أن تكون عاقبته وخيمة.
ثم أضاف:
- إن سعيداً القديم وهو عنفوان شبابه وفي قلب استانبول وطوال عشر سنوات لم ينظر نظرة حرام ولو مرة واحدة ولله الحمد"(1). والمقصود بالحالات المرضية الثلاث لدى سعيد القديم: تجنبه النظرة الحرام، والكذب، وقبول شيء من الناس.
* طلب العلم
"في أحد الأيام دعا لي الأستاذ بدعاء، ولكني أعدت النظر في دعائه وقلت:
- إنك لم تدعُ ما أريده من الدعاء يا أستاذي!
فسألني عن نوعية الدعاء الذي اطلبه. فقلت:
- أريد أن تدعو لي دعاء لأفهم كل ما أقرأه واحفظه لأصبح صاحب علم.
فقال الأستاذ :
- أتريد أن تكون عالماً؟
- نعم.
- حسناً، هل تعرف أن العلم الذي تريده سيكون خيراً لك.
__________
(1) Bilinmeyen Taraflariyla ( ) ص 248-249. والمقصود بالحالات المرضية الثلاث لدى سعيد القديم: تجنبه النظرة الحرام، والكذب، وقبول شيء من الناس.(16/9)
- إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن خير الأعمال بعد أداء الفرائض هو طلب العلم. وهل يوجد علم لا خير فيه؟
- إن لكل شيء خيراً وشراً.
فقص عليّ قصة أحد الأشخاص في زمن الحرب العالمية الأولى كيف اصبح ضالاً بعد أن افتخر بعلمه واغتر به.
ثم قال:
- أخي، اطلب الخير في أمورك دائماً"(1).
* إصلاح الأسس
"كان الأستاذ يعظ الناس في جامع (نورشين) أيام الجمع، فكان الحديث في الوعظ يدور حول مسائل الحشر، والآخرة، والتوحيد وما شابهها من مسائل الإيمان الأساسية وحقائقه الكبرى.
فسأله (ملا رسول) ذات يوم قائلا:
- أخي الأستاذ ، نحن لا نكاد نفهم موعظتك فكيف غيرنا؟!
فأجابه الأستاذ :
- نعم، إن مواعظي غير مفهومة غالباً، لان غايتي إصلاح الأسس التي يبنى عليها الإيمان، فإذا اصبح الأساس صلباً قوياً فلا يؤثر فيه مؤثر بعد حتى الزلازل. فليجلس أحدكم إذا بجنبي كي يذكرني عندما يصبح الموضوع غامضاً، لأبسطه بسطاً وأشرحه واضحاً"(2).
* خدمة خالصة لله
"كان (ملا رسول) يكلم الأستاذ بصراحة تامة دون حجاب منه، وذلك لكبر سنه. ففي أحد الأيام اعترض على مكوثي لدى الأستاذ فقال مخاطباً الأستاذ :
__________
(1) Son ?ahitler, 1/198 .( )
(2) on ?ahitler, 1/115 .( )(16/10)
- إنني لا افهم من أفعالك! إن كنت تريد شيخاً فها هنا اتباع الشيخ الأرواسي،(1) فيهم شيوخ كثيرون، وان كنت تريد عالماً - في الفقه والشريعة - فنحن موجودون هنا. فماذا تعمل بهذا - مشيراً إليّ - فتدعوه دائماً إلى جنبك وتقربه إليك.
فأجابه الأستاذ قائلا: ماذا نعمل؟ إن ملا حميد بواب عندي فلا أتمكن من عمل شيء من دون أن يأتي ملا حميد.
فقال ملا رسول بعد صمت وسكون: حسناً . ثم سكت.
والحقيقة إنني لم اكن انتظر من الأستاذ أي شيء من كرامة أو كشف، بل كنت اخدمه لله وبكل صدق وصفاء قلب. ولهذا السبب كان الأستاذ لا يضيق بي ذرعاً، بل كان يحبني كثيراً"(2).
* موافقة لطيفة!
"كنت جالساً مع الأستاذ في جامع (نورشين) فقال لي:
- يا ملا حميد، انظر! إنني محاط بالأنوار!
فلم افهم قصده من هذا الكلام فبدأ يوضح كلامه بقوله:
- إن القرية التي ولدت فيها اسمها (نورس)، واسم والدتي هو (نورية)، وجدي هو (نوري)، والجامع الذي أبيت فيه: (نورشين) فتبسم، وقال:
انظر إلى اللوحة المعلقة هنا على الحائط فقد كتب (عثمان ذو النورين) رضي الله عنه"(3).
* عالم لا شيخ
__________
(1) طريقة صوفية منهم الشيخ عبد الكريم الأرواسي (1863 - 1943) ساح العراق وتركيا طلباً للعلم مدة عشرين سنة، ولما عاد إلى تركيا أسس مدرسة للعلوم الإسلامية ودرس فيها عشرين سنة: كان له منزلة رفيعة في التصوف. قاوم الروس في الحرب العالمية الأولى. وعندما أغلقت التكايا والمدارس الدينية قال: إن الدولة لم تغلق أبواب التكايا وإنما أغلقت أماكن خاوية - من الروح - فتلك الأماكن قد أغلقت نفسها منذ مدة مديدة!..
(2) on ?ahitler, 1/118 .( )
(3) on ?ahitler, 1/119 .( )(16/11)
"كانت الأيام تمضي ونحن سعداء جداً مع الأستاذ في غرفته قرب جبل أرك. جاء مفتي مدينة (وان) - يوماً - وهو الشيخ "معصوم أفندي" ليأخذ الأستاذ معه إلى (وان) فأصر كثيراً على الأستاذ بالمجيء معه ولكن الأستاذ لم يفارق جبل أرك. وبعدها نزلنا إلى حافة نهر الزرنباد ومكثنا في معبد مهجور هناك.
وفي أحد أيام الربيع الجميل والشمس قد انحدرت نحو المغيب فرش الأستاذ سجادته على الخضرة الممتدة إلى الأفق وجلس جلسة التشهد في الصلاة، وبدأ بقراءة الأذكار والأوراد، أما نحن فكنا نجمع الحطب، فنادانا الأستاذ، وقد جاءه درويش لزيارته. كان هذا الشخص ينتظر من الأستاذ أن يريه كرامة أو كشفاً بخلاف ما نحن عليه، لم نكن ننتظر من الأستاذ أي شيء من هذا القبيل. فأراد الأستاذ أن يصرف عنه هذا الدرويش فقال له:
- إن أطفالك ينتظرونك في البيت الآن.
غير أن الدرويش لم يكن راغباً في الذهاب. فقال الأستاذ:
- أنت تريد أن أقول لك ما يدور في قلبك! انك تفكر أن (سعيد) شيخ وولي، وأن له كرامات، وتنتظر الآن منه كرامة، فجئت إلى هذا المكان لهذا السبب. والحال إنني لست شيخاً، وإنما أنا عالم. وكل ما في الأمر أنني قرأت شيئاً أكثر منكم. واستمر الأستاذ قائلاً للصوفي:
- إنني مع طلابي نطرق باب الله سبحانه وتعالى، فمتى انفتح نسير معاً على هداه. فهيا قم وانصرف.
فبعدما انصرف الدرويش. سألت الأستاذ :
- إن هذا الرجل جاء ليصلي معنا ويشاركنا في الدعاء. فلماذا لم تقبله؟
فقال الأستاذ:(16/12)
- إلا تعرفون؟ هناك من يأتي لزيارتي وكأنما هو جالس على كاهلي ويضيّق على قلبي ونفسي. فلا أتمكن أن افعل شيئاً فيثقل عليّ ولكن هناك آخرون من أمثالكم لا أحس بشيء نحوهم، وكأنما وانتم معي نكون شخصاً واحداً فلا أحس بالثقل أبداً بل أشعر كأنني وحدي هنا وأكاد لا أحس بوجودكم. ولذلك لا تعترضوا عليّ عند عدم قبولي هذا الشخص للبقاء معنا. فلقد اضطررت إلى إرساله إلى بيته"(1).
* لسنا خونة
"كنا ننزل أيام الجمع إلى المدينة أداء لصلاة الجمعة ثم نعود أدراجنا إلى جبل (أرك). ففي أحد الأيام ونحن عائدون من صلاة الجمعة ومتوجهون صوب الجبل شاهدنا مجموعة من الكلاب الضخمة تنحدر نحونا من الجبل، فبدأت بجمع الأحجار لأدافع بها عن أنفسنا. فسألني الأستاذ قائلاً:
- ماذا تفعل؟
- أستاذي الكريم، ألا ترى الكلاب تعدو نحونا؟ إلا ندافع عن أنفسنا؟ فتبسم قائلاً:
- عيب هذا. لا يليق بك. الق الأحجار.
فرميت الأحجار أرضاً، أترقب ماذا سيحل بنا وماذا سيكون؟ فإذا الأستاذ يشهر مظلته صوب الكلاب قائلا:
- لسنا خونة! بل عابري سبيل. فوقفت الكلاب في أماكنها وكفت عن العواء وأحجمت عن الهجوم. فواصلنا السير نحو الجبل"(2).
* سر الزي غير المعتاد
"عند بداية الحكم الجمهوري في تركيا لم يكن لبس العمامة محظوراً بعد، فكان العلماء في مدينة (وان) وغيرها يتزيون زي العلماء من عمامة وجبة. بينما الأستاذ ما كان يضع العمامة ولا يلبس الجبة وبعبارة أخرى، كان لا يتزيّا بزي العلماء.(3) وظل محتفظاً بزيه هذا طوال حياته.
وفي أحد الأيام سأله أحد طلابه قائلاً:
__________
(1) on ?ahitler, 1/117 .( )
(2) on ?ahitler, 1/120 .( )
(3) كان الأستاذ يلف لفافاً على رأسه كما هو زي علماء الأكراد في شمال العراق، وما كان يلبس العمامة المعهودة لدى الأئمة والخطباء. وظل بزيه هذا طوال حياته.(16/13)
- لماذا لا ترتدي ملابس الأساتذة والعلماء يا أستاذي المحترم، فالناس لا يعرفونك عالماً أستاذ اً؟ فلماذا لا تضع العمامة مثلهم ولا تلبس الجبة؟
فأجاب الأستاذ :
- كيف أجرأ على أن أتزيّا بزي علماء عظام كالإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان؟
كان الأستاذ متواضعاً كل التواضع. ولذلك عندما رأيته لأول مرة في جامع (نورشين) لم أكن لأعرف أنه عالم"(1).
* هدمت بيته
"هناك خواطر كثيرة جداً عن شفقة الأستاذ العميقة ورأفته الواسعة على الحيوانات والأحياء. فذات يوم من الأيام الجميلة في جبل (أرك) قال الأستاذ لنا:
- إنني منشغل مع أذكاري وتسبيحاتي، فاذهبوا انتم للنزهة والتجوال في هذه الفلاة الخضراء.
فبينما نحن نسير رأيت سحلية واقفة على صخرة، فقتلتها. ولدى عودتنا سأل الأستاذ عن الأماكن التي ذهبنا إليها وعما فعلناه. فأخبرته عن نزهتنا. ولكن ما إن أخبرته عن السحلية امتعض وقال لي:
- هدمت بيت الحيوان!
قلت له:
- لدينا قول مشهور مفاده أن من قتل سبع سحليات يفوز بثواب حجة واحدة.
- حسناً اجلس فلنناقش ولنر من صاحب الحق؟ ثم قال:
- هل تعرض لك هذا الحيوان؟
- كلا
- هل اخذ منك شيئاً؟
- كلا
- أأنت ترزق هذا الحيوان؟
- كلا
- هل هذا الحيوان يجول في أراضيك وأملاكك؟
- كلا
- أأنت الذي خلقته؟
- كلا
- هل تعرف لماذا خلقت هذه الحيوانات، وما هي وظائفها؟
-....
- هل أن الخالق خلق هذا الحيوان لتقتله أنت؟ من قال لك اقتله؟
إن في خلق هذه الحيوانات ألفاً من الحكم الربانية.
فأنت يا أخي قد أخطأت في قتل هذا الحيوان«(2).
* حق المعدة
"إن العلماء الذين كانوا يأتون لزيارة الأستاذ - ونحن على جبل أرك - ليستمعوا إلى دروسه، كانوا يجلبون معهم بضع كيلوات من البرغل وشيئاً من السمن لئلا يكونوا عبئاً على غيرهم. وكانت والدتي - وهي في السبعينات من عمرها - هي التي تطبخ لنا.
__________
(1) on ?ahitler, 1/199 .( )
(2) on ?ahitler, 1/199 .( )(16/14)
وذات يوم طلب الأستاذ مني أن أوصل البرغل إلى البيت لتقوم والدتي بالطبخ. فكنا نمضي أيامنا مع الأستاذ بقليل من الأكل، ففي الفطور كنا نشرب الشاي مع قليل من الجبن، وفي العشاء نحتسي شوربة البرغل وهكذا كانت تمضي الأيام. وكان الأستاذ يقسم الخبز بيننا لكل واحد حصته. فاستقللت الخبز يوماً ونحن ستة طلاب ومع الأستاذ سبعة وأحياناً نفاجأ بالضيوف أيضاً، فتجرأت على القول - لعلمي بشفقته عليّ - فقلت: الخبز قليل يا أستاذ وعندنا في البيت كثير ويمكننا أن نجلبه ونأكل منه فقال لي مبتسماً:
- إني لا أقوم بهذا التقسيم لقلة الخبز، اخبروني إذن بماذا تشبهون معدتكم؟ إن للمعدة ثلاث حصص وثلاثة حقوق، واحدة منها فقط هي للأكل(1). فإن لم تفعلوا هكذا تكونون كمن حشر خمس عشرة دابة في زريبة لا تتسع إلا لخمس منها فقط!!
فأرشدنا الأستاذ بهذا المثال العملي إلى حق المعدة على أنه الثلث"(2).
* أخفقت الخطة
"عندما كنا في جامع (نورشين) نسينا ذات يوم غلق الباب، فبقي مفتوحاً، فدخل كلب إلى غرفة الجامع وأكل اللحم المقلي الذي صنعه الطلاب الموجودون هناك وكانوا قد وضعوه في زير (كوز) فبعدما أكل الكلب اللحم كسر الزير وولى هارباً من الجامع، انزعج الطلاب من هذه الحادثة ورسموا خطة لاستدراج هذا الكلب وضربه فحالما سمع الأستاذ بهذه الخطة طلب منهم أن يتركوه. فقال له ملا رسول:
- أستاذ ي، كان لدينا قليل من اللحم المقلي فلم يطاوع قلبنا في أكله. ولكن كلباً قد أتى وأكل اللحم وكسر الزير. فكيف لا يستحق الضرب؟
فأجابه الأستاذ قائلاً:
__________
(1) قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه حسبُ ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فان لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس" رواه الترمذي وقال حسن وابن ماجة والنسائي.
(2) on ?ahitler, 1/123 .( )(16/15)
- يا ملا رسول، أسألك بالله ، وأجبني بكل صدق. إن بقيت أنت جائعاً ولم يكن لك نقود، ولم تقدر على شراء شيء، فرأيت لحماً في مكان مكشوف، أتأكله أم لا؟ علماً أن لك عقلاً وتدرك أن للحم صاحباً.
فسكت ملا رسول فلم ينطق بشيء، وبعد ذلك قال:
- نعم أستاذي، آكله! فقال الأستاذ :
- إن هذا حيوان، ليس له عقل، ولا يميز الحلال عن الحرام، ولا يعرف الخير من الشر، ولا يعرف بان صاحب اللحم سوف يضربه، فلاشك انه سيدخل من الباب المفتوح وسيأكل اللحم المقلي. فهل يستحق هذا الحيوان العقاب، أجيبوني بصراحة وصدق.
بعد ذلك وافق ملا رسول وجماعته على براءة هذا الحيوان. ولكن الأستاذ أعقب قائلاً:
- فما دام الأمر هكذا، فلا تغتابوا هذا الحيوان كذلك وبرّئوا ذمته! فتبسم ملا رسول قائلاً:
- نقول لك يا أستاذ بصراحة أننا - حقاً – لا نستطيع أن نعفو عنه من صميم قلوبنا، ولكنك أقنعتنا على التجاوز عنه بدليل قوي" (1).
* أمامكم سعيد جديد
"في أحد الأيام سأل (ملا رسول) الأستاذ سؤالاً فقهياً. فأجابه الأستاذ يخالف أجوبة أحد العلماء السابقين، فاعترض (ملا رسول) على هذا الجواب، ولكن الأستاذ أصر على جوابه وقال بشيء من الحدة والقوة:
- أيها السادة اعلموا، أن (سعيداً القديم) قد مات ولكنكم لا تزالون تظنونني سعيداً القديم، فأمامكم الآن (سعيد الجديد) قد احسن الله سبحانه إليه وأنعم عليه بأفضاله وألهم قلبه إلهاماً ما لو كان المصنفون بحراً من العلم لما استطاعوا أن يبلغوا ركبة سعيد الجديد!!
__________
(1) on ?ahitler,1/115 .( )(16/16)
فعليكم أن تقبلوا كلامه على ما هو عليه مهما بدا لكم معناه مخالفاً لظاهر ما لديكم من المتن، فالحقيقة هي هذه، فسعيد الجديد يدرّس في عشرة أشهر ما كان يدرّسه سعيد القديم في عشر سنوات"(1).
* حياة كلها عمل
"في صباح يوم جميل من أيام الربيع، ذهبت لأجمع الحطب. وكان الأستاذ يعاونني في العمل، فلم اقبل منه ذلك. فقلت:
- أستاذي الكريم إنني أكفيك العمل فلا تتعب نفسك.
أجابني قائلاً:
- أخي، إن همتي وغيرتي لا تسمحان لي بالقعود وأنت تعمل أمامي. فلو عرفت ما في الغيرة والهمة من خير لكنت تقضي عمرك كله دون أن تخلد إلى الراحة، فما كانت تفوتك دقيقة فارغة..
حقاً لقد كانت حياته كلها عملاً"(2).
ذكريات من بارلا
(بارلا) ناحية على سفوح جبال طوروس، من أعمال ولاية (اسبارطة) جنوب غربي تركيا، وعلى مسافة منها بحيرة جميلة (بحيرة اكريدير). نفي إلى هذه الناحية الأستاذ النورسي في شباط 1926 بعد أن اخذ من عزلته في جبل (أرك) في رحلة شاقة، كانت تستعمل فيها زحافات تجرها الخيول فوق الثلوج التي غطت الجبال والطرقات، حتى بلغوا بشق الأنفس إلى ساحل البحر الأسود. ومن هناك نقل إلى استانبول بالباخرة، ثم إلى (بوردور، فاسبارطة، فبارلا).
خصص له الطابق العلوي لبيت خشبي قديم، في أسفله ينبوع يفيض بالماء، وأمامه تنتصب شجرة الدلب الضخمة.. ظل الأستاذ النورسي في هذه الناحية ثماني سنوات ونصف السنة، ولم يغادرها حتى سنة (1935) عندما سيق إلى محكمة الجزاء الكبرى في "اسكي شهر" ثم أودع سجنها.
__________
(1) on ?ahitler, 1/114 . ( ) وهذا من باب التحدث بنعمة الله والاعتزاز بالعلم وبث الثقة في نفوس الطلاب. وإلا فهو ليس فخراً ولا غروراً حيث كان الأستاذ يتجنبهما كتجنبه العقارب والحيات.
(2) on ?ahitler,1/114 .( )(16/17)
وكانت تركيا في تلك الفترة تعيش دوراً حالكاً من الطغيان والعداء السافر للإسلام، حيث حظر تداول القرآن الكريم، ومنعت الدراسة الدينية، وغير الإذعان الشرعي إلى الأذان بالتركية، وفرض الزي الأوروبي والسفور للنساء، واستبدلت الحروف اللاتينية بالحروف العربية التي كانت تستعمل في الدولة العثمانية، وغيرها من الإجراءات التي تقطع صلة المسلم بدينه.. ومن سلسلة محاربة الإيمان وأهله نفي الأستاذ النورسي إلى ناحية نائية في البلاد ليخمد ذكره ويجف هذا النبع الإيماني الفياض ويطويه النسيان، ولكن شاء الله أن تكون (بارلا) مصدر الشعاع إيماني ساطع، أضاء فيما بعد أرجاء تركيا كلها: حيث ألف الأستاذ النورسي معظم "رسائل النور"(1) هناك بما أفاض الله على قلبه من نور قرآنه العظيم، فتلقفته أيدي المخلصين من أهل الإيمان فانكبوا على استنساخها ونشرها سراً حتى اشتركت النساء في هذه الخدمة الإيمانية رغم شدة الظروف.
سنورد للقارئ الكريم بضع شهادات فقط من حياة الأستاذ في (بارلا) حيث سجل بنفسه معاناته وآماله في الرجاء السادس والرجاء الثاني عشر من رسالة (الشيوخ).
* الله أكبر
يقص "شوكت دمير آي" ذكرياته وهو الجندي المكلف بنقل الأستاذ النورسي إلى (بارلا) فيقول:
"كنت في مدينة (اكريدير) عندما استدعوني إلى مركز البلدية صباح أحد الأيام. فذهبت إليه وكان هناك القائمقام وآمر الجندرمة (الدرك) مع أعضاء هيئة البلدية وشخص معمم في العقد الرابع من عمره يلبس جبة وله هيئة ووقار.
خاطبني آمر الجندرمة قائلاً:
__________
(1) يبلغ مجموع (رسائل النور) مئة وثلاثين رسالة ترجمت إلى اللغة العربية في ثماني مجلدات هي: الكلمات والمكتوبات واللمعات والشعاعات وإشارات الإعجاز والمثنوي العربي والملاحق وصيقل الإسلام.(16/18)
- اسمع يا بني. عليك أن تأخذ شيخنا هذا المعروف بـ"بديع الزمان" إلى (بارلا) إن وظيفتك هذه مهمة جداً، وعندما تسلمه إلى المخفر هناك دعهم يوقعوا على الأوراق الرسمية ثم اخبرنا بذلك. قلت له: حسناً يا سيدي.
خرجت مع الشيخ وفي الطريق قلت له:
- يا شيخنا أنت بمثابة والدي وان هذه وظيفة كلفت بها فارجوا أن لا تستاء مني".
ثم يستمر في وصف الرحلة بالقارب الشراعي فيقول:
"كان الجو بارداً، فالفصل شتاء ومياه البحيرة متجمدة هنا وهناك، واحد جذافي القارب في المقدمة يكسر الثلوج بعصا طويلة في يده ويفتح بذلك طريقاً للقارب الشراعي.
بدأ الشيخ (بديع الزمان) بتوزيع بعض الزبيب اليابس وبعض الحلوى علينا. كنت أتفحصه بدقة فوجدته هادئاً كل الهدوء، إذ كان يتأمل في البحيرة والجبال المحيطة بنا.. ولكون النهار قصيراً فقد أزف وقت صلاة العصر بسرعة فأراد أن يصلي واقفاً فوجهنا القارب باتجاه القبلة، سمعت صوتاً يقول:
- الله أكبر!
لم أكن قد سمعت في حياتي كلها تكبيرة بهذه الرهبة والخشوع، شعرت بان الشعر في أجسادنا قد وقف.. لم تكن حركاته وأطواره تشبه أطوار الشيوخ الذين عرفناهم..
كنا نحاول جهدنا أن نبقي القارب باتجاه القبلة، وعندما أنهى الشيخ صلاته، التفت إلينا قائلاً:
- شكراً لكم يا اخوتي.. لقد أتعبتكم!
كان شخصاً متواضعاً ودمث الأخلاق.
وبعد سفرة دامت ساعتين بالقارب وصلنا (بارلا) وعندما رأى الشيخ أن صاحب القارب يحاول صيد القبج الموجود بوفرة في تلك المناطق نبهه قائلاً:
- "نحن على أبواب الربيع، وهذه الحيوانات على أهبة وضع البيوض والتفريخ، فيا حبذا لو تترك هذا العمل« فمنعه بهذا الكلام اللطيف عن الصيد"(1).
* الصدّيق سليمان
__________
(1) ilinmeyen Taraflariyla,1/259 .( )(16/19)
"في أحد الأيام، وكان الوقت صيفاً، خرج الأستاذ من بيته متوجهاً إلى الجبل كعادته..(1) كان الجو صحوا والشمس مشرقة وما إن وصل الأستاذ إلى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء أن أرعدت وأبرقت وبدأت الأمطار تسقط بغزارة..
كان الأستاذ وحيداً على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي فيه سيل المطر المنهمر سوى الأشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البلل.. وبعد مدة ليست بالقصيرة خفت شدة المطر واخذ ينزل رذاذاً فانتهز الفرصة وقفل راجعاً إلى البلدة وقد تبلل من رأسه إلى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاؤه فدخل البلدة وهو يحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء..
وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي (بارلا) مجتمعين يتحدثون.. شاهدوا هذا المنظر المؤثر.. منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع.. وهو يحمل حذاءه الممزق بيده.. ويغوص في الطين بجواربه وقد تلطخت أطراف ثيابه بالطين.. خيّم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان متباينتان عاطفة الإسراع لمد يد المساعدة إليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته. وأخيراً يندفع من بين الجميع شخص اسمه "سليمان" ويصل إليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منزله ويصعد معه إلى غرفته"(2). ويصبح (سليمان) هذا أول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا.
* بريد النور
__________
(1) المقصود جبل "جام" القريب لبارلا والمكسو بأشجار الصنوبر.
(2) كان مثالاً للصدق والوفاء والإخلاص، ظل متصفاً بهذه المثل إلى أن توفاه الله في 6/ مايس/ 1965، يذكره الأستاذ النورسي في رسائل النور ولاسيما (ملحق بارلا) بتقدير واعجاب. رحمه الله رحمة واسعة – Bilinmeyen Taraflariyle 277(16/20)
ومن "عبد الله جاووش"(1):
"كنت أغادر قرية (إسلام) بعد المغيب حاملاً في حقيبتي الرسائل التي استنسخها "الحافظ علي"(2) وأسير الليل كله مشياً على الأقدام بين الجبال والوديان حتى اصل مع الفجر إلى (بارلا) وارى الأستاذ في انتظاري، ويستقبلني بسرور بالغ. نصلي معاً صلاة الفجر. ثم استسلم للنوم.. وهكذا أتسلم في اليوم التالي المسودات من الأستاذ وأوصلها إلى "الحافظ علي".
* الملائكة يلتقطون صوركم
"وذات يوم جئت إلى الأستاذ ، وإذا بالحافظ علي وعدد من الطلاب عنده، بدأ الأستاذ يوزع أجزاء من القرآن الكريم عليهم ليستنسخوه مع تعليمات بكيفية الاستنساخ، وحيث أنا أمّي لا اعرف الكتابة والقراءة، قمت لأهيئ الشاي لهم كي أشاركهم في الأجر ولكن ما إن أتيت بالشاي لأوزعه عليهم حتى نهض الأستاذ واخذ الشاي مني وبدأ هو بالتوزيع فخجلت، إذ كيف يوزع الأستاذ الشاي على طلابه! ولكني سكت أمام إلحاحه الشديد.. ثم قال:
- إن استنساخكم أجزاء من القرآن الكريم، وسعيكم في سبيل القرآن مقبول عند الله الذي يراكم في وضعكم هذا، وملائكته الكرام يلتقطون صوركم في أوضاعكم هذه، وأنا لكوني خادماً للقرآن الكريم ينبغي أن أقوم بخدمتكم.. فوزع عليهم الشاي وهم منهمكون بالاستنساخ".
* حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة
يقول خلوصي يحيى كيل(3):
__________
(1) 1895 - 1960) وهو من السابقين في هذه الخدمة القرآنية جزاه الله عن الإسلام خيراً، والخاطرة المذكورة عنه تغني عن أي تعريف آخر - Son ?ahitler,1/310 .
(2) وهو من أوائل الذين تتلمذوا على يد الأستاذ النورسي، كان دؤوباً في الاستنساخ، لما انعم الله عليه من جودة الخط ومن علو الهمة، يرد اسمه كثيراً في الرسائل، استشهد في سجن (دنيزلي) سنة 1944 رحمه الله رحمة واسعة.
(3) كان ضابطاً برتبة نقيب في المعسكر القريب لبارلا. Bilinmeyen Taraflariyle 1/286(16/21)
"في أول زيارتي للأستاذ وأنا احسبه شيخاً من شيوخ الصوفية بادرني بالقول وقبل أن أتكلم بشيء: "أخي أنا لست شيخاً، أنا إمام كالغزالي والإمام الرباني، فأنا مثلهم إمام فعصرنا عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة".
"وفي إحدى زياراتي للأستاذ شربنا الشاي عنده، ولم أنهِ ما في القدح من شاي، وبقيت فيه فضلة منه، فقال لي الأستاذ:
- أخي أنت لا تعرف السنة.
كان يقصد إرشادنا بأن إنهاء الشيء في القدح سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك الفضلة فيه إسراف والإسراف خلاف السنة"(1).
* مكتوبات
"كنت أراسل الأستاذ وأسأله أسئلة في رسائلي، كان منها ما اسأل عنه وأنا بدوري أسأله من الأستاذ ، حتى اصبحت رسائلي هذه هي السبب الأساس لظهور الـ(المكتوبات)(2) فمثلاً: سألني أحد الأساتذة عن الحديث الشريف: [جددوا إيمانكم بلا اله إلا الله] فكتبته في رسالتي إلى الأستاذ - وهو في (بارلا) عام 1932 - فكان الجواب الموجود في (المكتوبات). وهكذا..
أما المقطع الآتي فقد كان مكتوباً بخط جميل ومعلقاً في غرفة والدي - الحاج إبراهيم - فأهديته إلى الأستاذ فضمه في المكتوب (23) والمقطع هو بالشكل الآتي:
إن كنت تريد ولياً، فكفى بالله ولياً.. فان كان الله وليك فكل شيء لك صديق..
وإن كنت تريد أنيساً، فكفى بالقرآن أنيساً.. ففيه تعيش مع الأنبياء والملائكة وتأنس معهم.
وإن كنت تريد مالا، فكفى بالقناعة كنزاً.. فالذي يقنع يقتصد ، والمقتصد يجد البركة الواسعة.
وإن كنت تريد عدواً، فكفى بنفسك عدواً.. فالذي يعجب بنفسه لا محالة يبتلي بالمصائب بخلاف من لا يعجب بها إذ يجد السرور والراحة والرحمة الواسعة.
__________
(1) on ?ahitler,1/324 .( )
(2) المكتوبات: تتضمن 33 رسالة (مكتوب) اغلبها اسئلة تدور حول مسائل الإيمان وخدمة القرآن بعثها تلميذه (خلوصي).(16/22)
وإن كنت تريد واعظاً، فكفى بالموت واعظاً.. فالذي يذكر الموت ينجو من حب الدنيا ويسعى للآخرة سعياً حثيثاً."(1)
* التجويد المعنوي
"كان الأستاذ يقرأ في الصلوات الجهرية - عندما كان في بارلا - ولاسيما صلاة الصبح السور التي تبدأ بـ"الحمد لله".. وكانت قراءته قراءة فوق المعتادة، فكأنه كان يشرح الآيات ويفسرها حيث كانت قراءته تحيط بروحه، فتشعر كأن هالة من نور الهي يغمرك. فقراءته كانت تختلف تماماً عن قراءة غيره من قراء القرآن. فقد كان يقرأه حسب معناه أي حسب التجويد المعنوي.
بتّ ليلة عنده في (بارلا). كان يقوم الليل كله إلا قليلاً إما مصلياً أو ذاكراً أو مسبحاً. وما كان ينام إلا قليلاً"(2).
* كرامة قرآنية
ولّدت زياراتي إلى الأستاذ - وهو في بارلا - انقلاباً عظيماً في نفسي، فأصبحت روحي مفعمة بنشوة لا أستطيع التعبير عنها الآن.. كنت اكتب الرسائل إلى الأستاذ وأنا في شوق عارم، وكان الجواب يأتيني تطميناً لهذا الشوق كالآتي:
- "إن توفيق الله لكم في نشر أنوار القرآن الكريم، وأقدامكم في عملكم، وشوقكم فيه.. كل هذا إكرام الهي لكم، وكرامة قرآنية، وعناية ربانية.. فبارك الله فيكم".
كان الأستاذ يرى ما نستصغره من الأعمال اعملاً عظيمة، لأنها مرتبطة بالقرآن العظيم وخدمته، لذا كان يحثنا إلى العمل الجاد بإخلاص. فمع فقر استعداداتنا وقصور قابلياتنا إلا انه كان يتوجه إلينا بلطف واهتمام ويشجعنا كثيراً على العمل للقرآن الحكيم.
وعندما تسلمت أمر نقلي من (اكريدر) إلى الولايات الشرقية انتابني حزن شديد حيث إنني سأفارق أستاذ ي الحبيب.. أدرك الأستاذ حزني هذا فقال لي عند زيارتي له:
- إنني آمرك أن لا تتلهف، ولا تهتم.. لا تحزن يا أخي .
وحالا زالت مني الأحزان والأكدار كلها واطمأنت نفسي."(3)
* موقع الكرامة من خدمة القرآن
__________
(1) on ?ahitler,1/329 .( )
(2) on ?ahitler,1/325 .( )
(3) on ?ahitler,1/325 .( )(16/23)
"كنت طالباً (1) في الصف المنتهي بكلية الحقوق، كان علينا أن نزور المحاكم والسجون. ذهبت إلى سجن "اسكي شهر" يوماً لزيارة الأستاذ ، وعندما دخلت عليه رأيته جالساً على سجادته منشغلاً بالأوراد عقب الصلاة قبلت يده (2) وقلت له:
- أستاذي، يقال انه يظهر على يديكم كثير من الكرامات الغيبية،(3)
__________
(1) من كمال طان أر Son ?ahitler,2/67 .
(2) إن تقبيل يد الكبار عرف لدى الأتراك وتوارثوه من تقبيل يد العلماء والصالحين المشروع.
(3) إن متابعة حوادث الكرامات لدى الأستاذ مردها انتشار الأخبار حول حوادث خارقة جرت عليه وهو في سجن "اسكي شهر" سنة 1935، نورد منها: ما يرويه المدعي العام: انه يشاهد يوماً الأستاذ في السوق، فيندهش من حيرته، ويتصل بمدير السجن مباشرة ويهدده بقوله: كيف سمحتم لبديع الزمان بالخروج إلى السوق، فقد شاهدته بنفسي في السوق؟ ويجيبه المدير: عفواً سيدي إن بديع الزمان في السجن ويمكنكم التفضل لرؤيته في السجن الانفرادي، ويأتي المدعي العام، ويزوران معاً الزنزانة، وإذا الأستاذ هناك. فتنتشر هذه الحادثة في الأوساط.
وحادثة أخرى مشابهة يرويها مدير سجن "اسكي شهر" آنذاك وخلاصتها: يطرق سمعه صوت بديع الزمان طالباً الخروج من السجن إلى صلاة الجمعة في (آق جامع)، فيزور زنزانته وقت الصلاة، وإذا ببديع الزمان غير موجود، والحراس كلهم في مواضعهم والأقفال على الأبواب. يسرع المدير إلى الجامع المذكور فيرى الأستاذ في الصف الأول وعلى اليمين، يبحث عنه عقب الصلاة فلا يجده، ويعود إلى السجن فوراً فيراه يكبر "الله اكبر" ويستغرق في السجود. وقد رويت حوادث أخرى من رؤية الأستاذ مراراً في صلاة الفجر جماعة عندما كان في سجن "دنيزلي". وهذه الأخبار كلها مروية من مسؤولين كانوا يعادون الأستاذ وليست من محبيه. راجع Tarihçe-i Hayat,192-193 ..(16/24)
بيد أنى لم أر أياً من الأحوال الخارقة منكم، فإن كانت تلك الأحوال موجودة فعلاً، فأظهروها أمامي، ولتمش مسبحتكم هذه مثلاً.
تبسم الأستاذ، وذكر لي هذه الحكاية ليوضح الأمر:
- كان لأحدهم ولد يحبه كثيراً، فهو وحيده، أخذه - ذات يوم - إلى محل المجوهرات ليشتري له بعض الهدايا الثمينة من الألماس والجواهر حسب رغبة ابنه المحبوب، تعبيراً عن شدة حبه له. وكان قد زين صاحب المحل محله بنفاخات ملونة متنوعة على سقف المحل ليلفت نظر الزبائن. وعندما دخل الطفل هذا المحل المزين بالنفاخات لفتت نظره ألوانها الجذابة، فقال باكياً:
- أبى! أريد أن تشتري لي من هذه النفاخات .. أريد النفاخات..
- يا صغيري الحبيب، سأشتري لك مجوهرات ثمينة وألماسات غالية. ولكن الطفل ألحّ في طلب النفاخات..
وبعد أن أنهى الأستاذ هذا المثال قال:
- آخي أنا لست إلا دلاّلا في محل جواهر القرآن الكريم وخادماً فيه، ولست ببائع نفاخات ملونة، فلا أبيع في محلي نفاخات وليس في محلي وسوقي إلا الألماس الخالد للقرآن الكريم، فأنا منشغل يا أخي بإعلان نور القرآن.
ففهمت ما يقصده الأستاذ وأدركت خطأي".
ذكريات من قسطموني
(قسطموني) مدينة تاريخية تقع في شمال الأناضول. نفي إليها الأستاذ النورسي سنة 1936 بعد إنهائه مدة محكوميته في سجن (اسكي شهر). ظل منفياً في هذه المدينة وتحت الإقامة الجبرية مدة ثماني سنوات. ألف خلالها كثيراً من رسائل النور: وفي مقدمتها رسالة "الآية الكبرى".
كانت تلك السنوات، سنوات عصيبة، حيث المراقبة على اشدها والمضايقات كثيرة، إلا أن العناية الإلهية كانت مع أهل الإيمان فهيأت لهم وسائل نشر الرسائل وتوسعت دائرة عمل سعاة بريد النور، ولعل (الرجاء السادس عشر) من رسالة الشيوخ توضح هذه العناية الإلهية اجمل توضيح.(16/25)
مرت تركيا في تلك الفترة بمرحلة نشاط محموم للتيارات المضللة، أقلقت القلوب وشتت الأفكار، فضلاً عما كان يعانيه الناس من ضيق اقتصادي حيث ظروف الحرب العالمية الثانية.
في مثل هذه الظروف القاتمة، تهفو القلوب الصافية إلى من تركن إليه ليسكب فيها الأمن والطمأنينة، وتتلهف العقول السليمة إلى من يزيل عنها القلق والحيرة..
سنختار للقارئ الكريم أحداً من هؤلاء الحيارى، وهو طالب في الثانوية (عبد الله يكن). جاء إلى الأستاذ مع عدد من أصدقائه ليسكبوا بين يديه حيرتهم وقلقهم. فقالوا:
- عرفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!
فأجابهم الأستاذ جواباً مقنعاً.(1) بما يشفي جراحاتهم الروحية والنفسية، وذلك بلسان العلوم الحاضرة التي يقرأونها في المدارس، فمنذئذ أصبح (عبد الله ) طالباً لرسائل النور، ثم خادماً في نشرها.
نقدم للقارئ الكريم باقة من تلك الذكريات، ثم نعقبها بذكريات لطيفة من "أمين جايجي".
* أثر التواضع
"كنت طالباً في كلية الآداب، بينما أنا جالس في الصف استمع إلى الدرس إذ جاء أحدهم وقال لي: إن رجلاً في الباب يطلبك فأسرع إليه، فلما أتيته رأيت شاب رشيق وجميل يرتدي زي القرويين، عرّف نفسه قائلاً:
- أنا المعلم "مصطفى صونغور"(2) جئت إليك من عند الأستاذ .
__________
(1) سجل الأستاذ هذا الحوار وجعله "المسألة السادسة" من رسالة الثمرة التي ألفها في سجن "دنيزلي".
(2) وهو الذي خدم الأستاذ وتتلمذ على رسائل النور منذ سنة 1936 له ذكريات وفيرة وقيمة مع الأستاذ سجلها الباحث نجم الدين شاهين أر في مصدريه المشهورين. له مؤلفات وأبحاث ومقالات حول قضايا الإيمان.(16/26)
واخذ يضمني إلى صدره، وأنا في حالة خجل شديد لا ارغب في الاحتضان، حيث كنت أقول في نفسي كيف احتضن هذا القروي وأنظار الطلاب من أهل المدينة مصوبة إلينا، فقد رأيت أن نفسي تستنكف الموقف الحرج. ولكن شخصية هذا الشاب القوية وإخلاصه التام وتضحيته في سبيل الإيمان وحبه الجم لرسائل النور قد أثرت فيّ كثيراً. فالذي أريد أن أقوله هو:
- إن رسائل النور والأستاذ نفسه يكسبان الإنسان حالة صميمة وخالصة وجادة، ويجعلان الإنسان يتوجه إلى البارئ عز وجل بقلب سليم وبتواضع حقيقي دون غرور أو حب للنفس، حيث يصبح الإنسان فعلا في حالة فطرية جميلة وبصورة دائمة، لأنه ينظر دائماً إلى الوجه الحسن من أمور الدنيا ولا يفكر إلا بالجميل منها.
فهذه الحالات كانت تبرز بشكل أوضح عند الأستاذ . وأينما التقيت مع أي طالب من طلاب النور إلا ورأيت فيه هذه الصفات الخاصة فتغمرك اخوة خالصة وتواضع جاد. ولذلك عندما رأيت الأستاذ لأول مرة أخذتني الحيرة من شدة تواضعه. حتى دفعني هذا التواضع الشديد منه إلى أن اسأل أحد طلابه قائلا:
- هل يعرف الأستاذ القراءة والكتابة؟ وهل يعرف اللغة العربية؟
وعلى الرغم من أن الأستاذ لا يتحدث عن نفسه قط، بل كان جلّ حديثه حول رسائل النور فإن تعامله معك كصديق صميمي قريب وأخ مخلص يجعلك تنجذب إليه سواء أكنت طالباً أم صديقاً، فترتبط معه من صميم قلبك، فهو يحاول ربطك بحقائق القرآن ورسائل النور التي هي تفسيره في هذا العصر."(1)
* رزق طلاب العلوم
__________
(1) on ?ahitler,2/169 .( )(16/27)
"عندما كنت في أنقرة اشتقت كثيراً للذهاب إلى الأستاذ والمكوث هناك، ولكنني فكرت: كيف أعيش من دون مصدر عيش وإعالة من والدي؟ فليس لديّ نقود تكفي لأظل عنده فترة من الزمن. ومع هذا فقد ذهبت إليه وهو في منفاه "اميرداغ"(1) وحينما جلست عنده، إذا به يفتح كتاباً ويسألني: هل تعرف القراءة؟. فاستقرأني إحدى صفحات الكتاب.. قرأتها بصعوبة بالغة لأنه مكتوب بحروف القرآن الكريم (2) كان الموضوع حول رزق طلاب العلم الذي يباركه الله سبحانه. وبعدما أنهيت القراءة، قال: هل اتعظت وأخذت العبرة والدرس؟. فعلمت أن رزق طالب العلم مضمون عند الله."(3)
* لا ترتبطوا بي
__________
(1) قضاء تابع لولاية (آفيون) في أواسط الأناضول. نفي إليه الأستاذ النورسي سنة 1944 رغم براءته من محاكمة "دنيزلي" ظل فيه حتى سنة 1948 تحت الرقابة المشددة ثم سيق منه إلى سجن (آفيون) سنة 1948 وسجل شيئا من ذكرياته في رسالة الشيوخ -الرجاء الخامس عشر-.
(2) كانت رسائل النور تكتب وتستنسخ بالحروف العربية وباللغة التركية، رغم تبديل الدولة لهذه الحروف بحروف لاتينية سنة (1928). فكان على طالب النور أن يتقن قراءة الحروف العربية حتى يتمكن من أن يتزود من رسائل النور معاني القرآن الكريم وأنوار الإيمان. وبهذا تكون رسائل النور قد خدمت الحروف العربية خدمة جليلة إذ مدت من عمرها ربع قرن من الزمان، حتى نشأ جيل من الشباب المنورين يتمكنون من قراءة القرآن والحروف العربية ويعلمونها الآخرين.
(3) on ?ahitler,2/170 .( )(16/28)
"في أحد الأيام وأنا أتوضأ استعداداً لصلاة الظهر، إذا بشخص يدخل علينا ويقول بلهفة شديدة: جاء الأستاذ .. جاء الأستاذ ! وجاء "الأخ زبير" داخلا من الباب الخارجي للمسجد بسرعة وأنا على وشك إنهاء الوضوء - إذ كنت اغسل رجلي - فاستدعاني بانفعال غامر فأسرعنا معاً إلى الأستاذ استأجرنا سيارة لتنقلنا إلى فندق (ايبك بالاس) وفي الطريق تفرست بوجه الأستاذ فتبين لي انه مريض جداً وفي حالة إنهاك شديدة فتألمت من الأعماق وكدت ابكي على حاله. ولكن صدى قولته البليغة التي كان يرددها دائماً كان يرن في إذني:
- "لا ترتبطوا بي شخصياً بل كونوا على صلة وثيقة برسائل النور. فأنا إنسان عاجز ولي عيوب وتقصيرات، أما رسائل النور فهي ملك القرآن الكريم ومشدودة به، فإنها تكفيكم. وأنا فرد مثلكم ولا تميزوني كشخص عظيم فالذي يتكلم في رسائل النور هو لسان الدليل والبرهان والحقيقة."(1)
* إهمال الأمور الجانبية
__________
(1) Son ?ahitler,2/161 هذه الخاطرة تمثل الزيارة الأخيرة للأستاذ لمدينة اورفة وسترد تفاصيل الحادث في "الرحيل".(16/29)
"لم يكن الأستاذ يعمل لراحة نفسه ولا لينقذ نفسه من آلام المتاعب والمضايقات، وإنما كان يجاهد لإنقاذ الإيمان وحفظه ولتنقية الجو المحيط بالإيمان من الجراثيم المسلطة عليه من شبهات ووساوس، وكان يدعو إلى الاتحاد والوحدة دائماً ويتجنب كلياً الأمور التي تعيق الاتحاد وتعرقله. ولذلك كان يقوم بتوضيح المسائل التي تهم المؤمنين الحقيقيين ولا يشغل نفسه بأمور فرعية غير مهمة، حيث كان يجاهد لكي يحول إيماننا من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي المرتكز على أسس علمية، وكان يقول بأنه يجب علينا أن نقوي إيماننا لنتمكن من اجتياز فتنة آخر الزمان بسلام. ولهذا السبب كنا نراه يدرس هذه الموضوعات وأمثالها ويوضحها بأوجهها المختلفة. فكان يمنع طلابه - على قدر الإمكان - من الانشغال بالأمور الشخصية التي تشغلهم عن خدمة الإيمان، وكان يشجع ويساعد كل من ينخرط في تلك الخدمة. ولذلك كنا نرى اهتمامه البالغ برسائل النور اكثر من أي شيء آخر حيث تمثل التفسير المعنوي للقرآن الكريم.
فمثلاً: سافرت معه - وهو في أيامه الأخيرة - إلى ناحية (جاي) - من أعمال ولاية افيون - وفي الطريق تحدثنا عن مسائل شتى. وفي أثناء الحديث أبديت رغبتي في زيارة طلاب النور في (دياربكر)(1) فأجاب الأستاذ :
- كلا، أولى لك أن تذهب إلى (اورفة)(2)، فلا يستوجب الذهاب إلى (دياربكر).
فكلما كنت أستشيره في زيارة الاخوة في غير مدينتي كان يجيبني بالقول:
- إن رسائل النور تكفيكم فلا حاجة للذهاب إلى أماكن بعيدة."(3)
__________
(1) مركز ولاية مشهورة في جنوب شرق تركيا.
(2) مركز ولاية مشهورة أيضاً في جنوب تركيا. فيها كثير من أضرحة الصالحين، ومسجد يدعى مسجد خليل الرحمن، وقد أتى إليها الأستاذ النورسي في أواخر أيامه، وتوفي هناك.
(3) المقصود أن الواجبات من الكثرة في خدمة الإيمان بحيث لا تدع مجالا للإنسان أن يقضي أوقاته في الزيارات واللقاءات غير الضرورية Son ?ahitler,2/172(16/30)
القول اللين
"عندما كان أحد المسؤولين من ذوي المناصب العالية يأتي لزيارة الأستاذ كان يذكر له أولا محاسنه وفضائله، ويشوقه بهذا الكلام الطيب إلى الإيمان ويحبب إليه خدمة الإيمان.
فعندما كنا في "اميرداغ"(1) كان علينا أن نقدم تقريراً طبياً حول حالة الأستاذ الصحية إلى المحكمة في (صامسون). وكان الناس يعتقدون بان طبيب المدينة هو رجل ملحد شيوعي وانه يعادي الأستاذ. ولم نكن نعتقد بأن هذا الطبيب سيكتب التقرير المطلوب للأستاذ، ولكن الأستاذ قبل زيارة الطبيب إليه وحينما أتى الطبيب لزيارته كان الأستاذ متمدداً على فراشه يعاني من مرض شديد ومع هذا جلس مع الطبيب ساعات طويلة وحده. فبقدر ما فهمنا بعد ذلك من هذه الجلسة، أن الأستاذ قد تكلم مع الطبيب عما عاناه من مصاعب ومشاق، وان غايته في الحياة ليست سوى الإيمان. ثم بين له بأنه بحاجة إلى تقرير طبي، ولكنه قال للطبيب: لا أطلب منك أن تزودني بالتقرير باسمك، لأنني أخشى عليك الأذى. بل حوله إلى مدينة (اسكي شهر). ثم أعطاه الأستاذ كتاب "الحجة الزهراء" (2) وأوصاه بالصلاة.. ولما خرج الطبيب من غرفة
__________
(1) بعد أن قضى الأستاذ النورسي مدة محكوميته في سجن (آفيون) نفي مرة أخرى إلى (اميرداغ) وظل فيها تحت الإقامة الجبرية إلى أن غادرها في مارت سنة 1960 إلى (اورفة) حيث توفي هناك. وقد كان من دأب الأستاذ أن يراسل تلاميذه في المناسبات أو للتوجيه والتربية بوسائل متفرقة. جمعت هذه الرسائل الخاصة في مجلدات أطلق عليها "الملاحق" فهي: (ملحق بارلا، ملحق قسطموني، ملحق اميرداغ).
(2) وهي "الشعاع الخامس عشر"، يتضمن مقامين: الأول في شرح التوحيد، وتفسير سورة الفاتحة ثم بيان دلائل صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما المقام الثاني فيبدأ بجولة في عالم الشهادة لبيان معنى قوله تعالى الله نور السماوات والأرض ثم الغوص في معاني "التحيات لله" ثم شرح معنى الإرادة الإلهية والعلم المحيط.(16/31)
الأستاذ قال:
يا خسارتنا .. لم نتعرف على هذا العالم من قبل.. فقد أصبحت مديناً لربي بقضاء الفوائت."(1)
* لا خير في الإسراف
"كان الأستاذ مقتصداً جداً، ويعلمنا الاقتصاد في كل شيء.(2) ففي أحد الأيام قال لي:
- اشعل الموقد.
فأشعلته، ولكنني أضفت إليه شيئاً من الفحم أيضاً، فحذرني وغضب علي غضباً شديداً وقال:
- هذه الإضافة هي الإسراف بعينه فلا تكن أحمق.
أما أكل الأستاذ فكان لا يأكل شيئاً إلا ويتأكد من مصدره ونظافته فمثلاً: لا يأكل اللبن الخاثر إلا أن نأتيه به في كأس مغطى. ويأكل من الخبز بقدر الكف. وفي بعض الأحيان لا يأكل حتى تلك القطعة من الخبز كاملة، ولا نشتري الخبز إلا من الفرن ونغطيه بقطعة قماش إلى أن يأكله، وكان يأكل الطعام وحده، فإذا رأيناه وهو يأكل كان لا محالة أن يكرم نصف طعامه لنا. ويقول:
- إن للمعدة كرامة.
جاءه أحد أصدقائه عام (1953) واستضافه إلى بستانه في "جاملجة"(3) فذهبت مع الأستاذ وأحد الإخوان الذي يقود السيارة إلى هناك. وعندما احضر الطعام. وكانت وليمة فخمة شكر الأستاذ صاحب البيت على حسن ضيافته واخبره بأنه سوف لا يشارك مع الجماعة في الأكل وقال:
- إنني مريض، وان معدتي تؤذيني، ضع لي من الطعام ما يكفيني وآكله وحدي.
فذهب وجلس تحت الأشجار ولم يأكل اكثر من نصف ماعون. وقال لصاحب البيت: بأن هذه ضيافة أشبه بضيافة السلاطين.
ولدى عودتنا بدأ يتكلم في السيارة عن أضرار أمثال هذه الولائم وكيف يساء فيها الاستعمال ويقود إلى الإسراف، وكيف انه لا يمكن - في الخدمة الإيمانية - ترقب شيء من المقابل.
__________
(1) on ?ahitler,2/172 .( )
(2) حتى إنه خص الاقتصاد برسالة مستقلة "رسالة الاقتصاد". وهي اللمعة التاسعة عشرة.
(3) اجمل منطقة في استانبول. وللأستاذ ذكريات جميلة فيها - راجع رسالة الشيوخ - الرجاء الحادي عشر، اللمعة السادسة والعشرين.(16/32)
وكان الأستاذ يأكل الطعام في وجبتين في اليوم: وجبة الضحى ووجبة أخرى بعد صلاة العصر. ولا يأكل اكثر من ماعون صغير."(1)
* بيع الفراش
يقول "أمين جاير"(2) في معرض ذكرياته عن الأستاذ النورسي:
"في أحد الأيام وقع بصري عل رجل عليه ملامح الوقار والعلم، فتوجهت نحوه وبعد السلام عليه سألته:
- من أين أنت؟ أجابني:
- لا تقترب مني فرجال الشرطة يراقبونني، أخشى أن يصيبك منهم أذى.
وكان ما في هذا اللقاء من صدق وإخلاص كافيين في جذبي إليه، والبحث عنه في كل مكان في المدينة، حتى وجدته في مركز الشرطة الكائن في السوق. وعرفت بعد ذلك انه يصعد أحياناً إلى قلعة (قسطموني) واحد أفراد الشرطة يتعقبه.
فذات يوم جاءني شرطي ودعاني إلى القلعة حيث الأستاذ هناك، وعندما التقينا قال للشرطي:
- أخي، إن هذا الرجل من معارفي، فلو سمحت لنا أن نتحدث معاً.. ابتعد الشرطي عنا وبدأ الأستاذ يشرح لي وضعه وظروفه الصعبة واعتلال صحته من اثر السم الذي دس له في الطعام. ثم قال انه محتاج إلى شيء من السكر والشاي وما إلى ذلك من الحوائج. وقال:
- انهم لا يسمحون لأحد من الناس أن يراني. فأنا أريد أن أقول للمفوض بأنني ارغب في بيع فراشي لكي يكون هذا البيع وسيلة اتصال بيني وبينك إلى أن تحل هذه المعضلة. فمد يده إلى جيبه واخرج ثلاث ليرات ذهبية ووضعها في يدي وقال:
__________
(1) on ?ahitler,2/171 .( )
(2) كان من أشراف العشائر في الولايات الشرقية، وكان من بين المنفيين إلى قسطموني، نصب له زاوية صغيرة لعمل الشاي للناس فاشتهر بـ"أمين جايجي" هداه إخلاصه إلى التعرف مع الأستاذ النورسي.. خدم دعوة الإيمان خدمات جليلة. كان المحور في نشر الرسائل.. لازم الأستاذ النورسي في أغلب أوقاته في قسطموني.. ثم سجن معه في سجن دنيزلي، توفي رحمه الله في "وان" عام 1967 حيث مسقط رأسه.(16/33)
- إن هذه الليرات الذهبية من بقايا أيام الحرب العالمية الأولى، كنت احتفظ بها منذ سنوات طويلة. فخذها واصرفها حسب احتياجاتي. قلت له:
- إن حالتي المعاشية جيدة ولا احتاج إلى نقودك. فأجابني بقوله:
- إنني لا اقبل شيئاً دون مقابل.
فأخذت القطع الذهبية وبدلت إحداها في السوق إلى النقود المتداولة الحالية، وفي اليوم التالي ناداني المفوض وقال: إن هذا الأستاذ يريد أن يبيع فراشه. فهل تشتري فراشه؟ فأجبته: نعم.
ثم قال: كيف تعرف هذا الرجل؟ ومن أين؟ أجبت: انه أحد معارفي السابقين وكثيراً ما كان يرى بعضنا البعض الآخر.
وبعدما أبديت رغبتي واستعدادي لشراء الفراش أخذني الشرطي إلى المركز لمقابلة الأستاذ وهو في الطابق الثاني. فرأيت الفراش وقدّرته بثمن خمس وعشرين ليرة وأجّرته للأستاذ مرة أخرى فقلت:
- على شرط أن يدفع لي ثمن المبيت عليه يومياً.
وهكذا أصبحت بواسطة هذا الفراش اذهب إلى المركز يومياً بحجة استلام الأجرة، فآخذ معي ما يحتاجه الأستاذ من ضروريات."(1)
* جزاء الإيذاء
"كان المفوض المدعو "نوري" يؤذي الأستاذ كثيراً حيث كان يقوم بتحري غرفة الأستاذ كل ثلاثة أيام . مرض هذا المفوض يوماً مرضاً لا يطاق لشدته فقال له أحد أقربائه: لقد آذيت بديع الزمان فأصابك ما أصابك. فراجع المفوض نفسه وندم على فعلته وجاء إلى الأستاذ معتذراً وسائلاً منه الدعاء للشفاء.
وذات يوم ناداني هذا المفوض وقال:
- من الآن فصاعداً سوف تقوم بخدمة بديع الزمان هنا، ولن تجد أحداً يتدخل في شأنك ويمكنك زيارته متى تشاء. فأصبحت ادخل إلى الأستاذ واخرج من عنده متى شئت دون إزعاج ولا خوف.
__________
(1) on ?ahitler,2/96 .( )(16/34)
كان الفصل شتاء والفصل هذا طويل جداً وقارس في هذه المدينة، إلا انه يتخلله اعتدال لطيف، فكنت اخرج مع الأستاذ في مثل هذه الأيام لنتمشى في المروج الخضراء. أما في المساء فقد كان يجلس في غرفته ويصحح الرسائل(1) ويقفل باب غرفته بعد صلاة العصر. وكان للأستاذ مدفأة صغيرة تكاد لا تدفئ الغرفة، مع منقلة صغيرة وكرسي خشبي، فكان يضع لحافه فوق الكرسي والمنقلة تحت اللحاف لكي يتدفأ بواسطته.
ومرت الأيام وإذا بالمفوض "نوري" يعود إلى عادته في إيذاء الأستاذ ومضايقته مرة أخرى. وعندما جاء ليفتش وضع يده داخل اللحاف عله يجد شيئاً فاحترقت يده حالا. فخجل من عمله أمام الأستاذ . فقال له الأستاذ :
- إن اسمك "حافظ نوري" وان اسم رسائل النور "النور". فاحذر! هذا تنبيه لك، ولا تقترب مني ثانية للتفتيش والتحري.
ولقد لاقى هذا المفوض كثيراً من المصائب والأمراض حتى انه عندما أخذوه إلى (أنقرة) لتشخيص مرضه عجز الأطباء عن تشخيصه، فكان كلما رجع إلى "قسطموني" اشتد مرضه، وفي نهاية الأمر قالت له والدته وزوجته:
- لقد آذيت بديع الزمان كثيراً فأصابك دعاؤه عليك. فما عليك إلا الذهاب إليه والاعتذار منه عمّا بدر منك من أفعال، فلا تتدخل بعد الآن بدروسه وكتبه. فجاء المفوض "نوري" مع عائلته إلى الأستاذ وسألوه العفو عما سلف والاعتذار منه. فقال لهم الأستاذ :
- إنني لم افعل به شيئاً، بل القرآن الكريم فعل به ما فعل.
ثم أعطاه رسالة (الحشر)، ووعده المفوض بأنه سيقرأوها. ولكن بعد عدة أيام توفي "نوري"(2).
* قبل أذان الفجر
__________
(1) حيث كانت الرسائل تستنسخ باليد: وكان الأستاذ هو الذي يتولى تصحيحها خشية وقوع الأخطاء والتحريف لكونها تفسيراً للقرآن. استمر الوضع هكذا حتى طبعت الرسائل سنة 1956 واشرف الأستاذ بنفسه على الطبع.
(2) on ?ahitler,2/97 .( )(16/35)
"كنت اذهب إلى غرفة الأستاذ منذ الصباح الباكر لأشعل مدفأته، ففي أحد الأيام والبرد شديد جداً ذهبت إليه قبل أذان الفجر بنحو ساعتين دون أن ادري. فرأيته جالساً فوق سجادته يتعبد على ضوء شمعة صغيرة. كان يدعو بصوت رقيق حزين في ذلك الوقت البارد، ويرجو الله ويتضرع إليه، فوقفت انتظره ساعة ونصف الساعة وأنا في انفعال أمام هذا المنظر الرفيع دون أن أحس بالتعب وأن ارجف من البرد. وبعد ذلك سمعت أصوات المؤذنين وهم ينادون لصلاة الفجر "باللغة التركية في ذلك الوقت"(1) فألتفت إليّ الأستاذ قائلاً:
- أخي أمين، لقد أخطأت خطأ كبيراً. أقسم بالله بأن لي أوقاتاً بيني وبين الله لا أقبل أن يدخل عليّ أحد حتى لو كان ملائكة! فأنت مخطئ جداً. فلا تكرر هذا العمل مرة ثانية، لا تأت في مثل هذا الوقت المبكر، بل انتظر حتى يؤذن لصلاة الفجر ثم تعال إليّ.
فقلت:
- أرجو عفوك يا أستاذي فأنا المقصر، لقد كان ضوء القمر سبباً لخطأي هذا، فأتيت مبكراً فلن آتيك بعد اليوم قبل أذان الفجر"(2).
* الجوارب الضائعة
"كنت اذهب كعادتي كل يوم لزيارة الأستاذ ، فرأيته ذات يوم يبحث عن جوربه، فساعدته في البحث فقال لي مبتسماً:
- أخي لقد فتشت كل مكان في الغرفة حتى في علبة الكبريت! هناك أولياء مجذوبون يمزحون معي في هذا الوقت العصيب بدلاً من أن يعاونونني وأنا أقاسي من الضغوط والمراقبة ما أقاسي، إلا انهم يعيقون عملي ولا يساعدونني..
ثم قام مبتسماً وتوضأ ووقف للصلاة. وبعد انتهاء الصلاة والدعاء، قام واتجه نحو فوهة المدفأة(3) ونظر داخلها فشاهد طرفاً من جوربه يتدلى هناك. فقلت له:
__________
(1) بدل الأذان الشرعي إلى اللغة التركية سنة 1928 واستمر الوضع هكذا حتى سنة 1950 حيث أعيد الأذان إلى وضعه الشرعي باللغة العربية.
(2) on ?ahitler,2/98 .( )
(3) من المعلوم في المناطق الباردة تستعمل فوهات طويلة للمدفأة لدفع الدخان الفاسد إلى الخارج.(16/36)
- من المحتمل أن الفئران أخذتها ووضعتها هناك. فقال الأستاذ :
- لابد في هذه حكمة إلهية.
فما أن سحب الجورب حتى انسحبت معها - من الفوهة - أجزاء من رسائل النور قد خبأها منذ مدة ونسيها هناك، فأخرجها في الحال ووضعها في مكان أكثر أماناً واطمئناناً من ذلك المكان. ولم تمض لحظات حتى طرق الباب ودخل الشرطة مقتحمين الغرفة في حملة تفتيشية مفاجئة وبدأوا بالتحري الدقيق، ولكنهم لم يجدوا شيئاً فتركوا الغرفة"(1).
* حادثة التسمم
كان الأستاذ معتاداً على صعود أعالي الجبال وقممها. وكان ثمة رجل يدعى »محمد خانجي« قد أعطى فرساً للأستاذ كي يعينه في الصعود والنزول. صعد الأستاذ ذات يوم - كما كان يصعد سابقاً - وحده الجبل وفي طريقه قدم له أحدهم شيئاً من مأكولات فتسمم وسقط أرضاً في مكانه المعتاد فوق الجبل. عاد الفرس وحده إلى المدينة. وفي هذه الأثناء طُرق باب دار "محمد فيضي"(2) وسمع صوتاً يناديه: "الأستاذ يناديك" فخرج الأخ (محمد) إلى الباب فلم ير أحداً لدى الباب وتكرر هذا الطرق ثلاث مرات. بعد ذلك ذهب الأخ (محمد) إلى مربط الفرس وإذا به يرى الفرس هناك ولكن الأستاذ غير موجود في البيت. فأسرع بفرسه نحو الجبل إلى حيث يكون الأستاذ كعادته فوجده ملقى على الأرض وفي حالة قريبة من الإغماء. ثم يفتح الأستاذ عينيه قليلاً ويقول:
- أخي، محمد فيضي لقد سمموني، وأنا اعرف الذي فعله.
فيأخذ الأخ فيضي الأستاذ محمولاً على الفرس عائداً به إلى البيت ودام مرضه مدة طويلة. وقال:
__________
(1) on ?ahitler,2/98 .( )
(2) أحد طلاب النور القدامى.(16/37)
- شكراً لله وحمداً له فقد حفظني من تأثير السم، إذ اصبح "الجوشن الكبير"(1) وسيلة مضادة لتأثير السم فلم يؤثر فيّ التأثير كله، إذ اقتصر تأثيره على الإذن فقط.(2)
1950 - 1960
هذه الفترة غزيرة بالذكريات المنوعة، إذ بدأ الأستاذ يتفقد طلابه في مناطق مختلفة من تركيا بعد أن افرج عنه مع المسجونين جميعاً سنة 1950 وغدا له شيء من الحرية في التجول، إلا أن هذه الحرية لم تدم فقد فرضت عليه الإقامة الجبرية في (اميرداغ) و (اسبارطة).
ولكن الملفت للنظر في هذه الفترة انه - لكبر سنه - قد سمح ببقاء بعض طلبته معه للقيام بخدمته، فكان من هؤلاء: (زبير، بايرام، صونغور، حسني، طاهري.. وغيرهم). فلازموه ملازمة الظل. وبدأ يدرّسهم من رسائل النور دروساً جماعية. وخص لكل طالب واجباً معيناً: فالأمور الاجتماعية وقراءة الجرائد أصبحت من اختصاص "زبير"، والاتصال مع المسؤولين في الدولة واخذ الرسائل إليهم من اختصاص "صونغور".. وهكذا.. ومن هنا يطلق على هذه الفترة من حياة الأستاذ بـ"سعيد الثالث" إذ رغم ابتعاده عن السياسيين وأروقة السياسة اصبح له اهتمام خاص بهم ولاسيما من كان يجد فيه الغيرة على الإسلام.
وسنختار من ذكريات هؤلاء الطلاب الملازمين له، ذكريات "بايرام يوكسل" حيث لم يفارق أستاذ ه منذ انخراطه في صفوف العاملين في خدمة الإيمان وحتى انتقال أستاذ ه المحبوب إلى الرفيق الأعلى. ودامت هذه الخدمة الإيمانية مع الأستاذ منذ سجن "آفيون" سنة 1948 حتى 23/مارت/1960 وهو تاريخ وفاة الأستاذ .
__________
(1) الجوشن بمعنى الدرع الذي يستعمل للصدر. وهو مناجاة نبوية رائعة برواية الإمام زين العابدين رضي الله عنه. يتضمن هذا الدعاء الأسماء الإلهية والصفات الجليلة، وبين كل مقطع وآخر: سبحانك يا لا إله إلا أنت الأمان الأمان أجرنا من النار.. خلصنا من النار.. نجنا من النار.
(2) Son ?ahitler,2/100 والحادثة مفصلة أيضاً في رسالة الشيوخ.(16/38)
وسيجد القارئ الكريم في أثناء سرد "بايرام" لذكرياته عن الأستاذ تعريفاً جيداً لبعض من أولئك الذين معه، فأغنانا عن إيراد ترجمة عنهم.
* بداية تعارف
بعد أن أنهيت الدراسة الابتدائية انخرطت في مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إذ كنت شغوفاً به، محباً لأداء الصلوات في المسجد وعلى وجهها الصحيح. كنت احب أداء الأذان برغبة شديدة، حتى كنت اذهب إلى المسجد قبل الفجر بكثير وانتظر في باب المسجد لجهلي بوقت الفجر، حيث لم أكن أملك ساعة..
طرق سمعي وأنا شاب يافع خدمات الأستاذ النورسي للقرآن الكريم وكيف انه يحافظ على الإيمان عن طريق رسائل النور، فاشتقت إلى زيارته.. ومرت الأيام وأنا ازداد شوقاً ولهفة للقائه، حتى انعم الله عليّ بزيارته في رؤيا صادقة إن شاء الله .
رأيت في المنام سنة 1947 أن الأستاذ على ذروة تل قرب (اميرداغ) وهذا التل معروف لدى الناس وعليه ضريح أحد الأولياء الصالحين. لم اكن قد رأيت الأستاذ من قبل قط.. ورأيت نفسي أنى أقوم بخدمته، فقدمت له القهوة. كنت اشعر أني في شوق وحب عميق لا يوصف.. قبّلت يده، كانت يده تتضوع طيباً، ولم يذهب اثر الطيب لسنوات بعد الرؤيا..وهكذا أصبحت طالباً من طلاب النور.. وكنت حينئذ في السادسة عشرة من عمري.
ولكن قدر الله ألاّ تتحقق الرؤيا إلا في سجن (آفيون) فحظيت بالقيام بخدمته هناك.. وتوالت الأيام معه حتى سنة 1960."(1)
* بل خادماً للقرآن
"كنا جالسين مع الأستاذ ذات يوم، فقال:
- كان بعض الطلاب - في سجن افيون - يبدون شيئاً من الضيق والضجر. وعندما كنت أرى منهم هذا الوضع أتألم واحزن. فقلت يوماً:
- يا رب أليس لي بين هؤلاء طالب؟ (أي: طالب مخلص لا يبدي تذمراً) ولم اكمل الدعاء بعد حتى قام (طاهري موتلو)(2) قائلاً:
- نعم يا أستاذ ي!
__________
(1) on ?ahitler,3/31 .( )
(2) ولد في اسبارطة سنة 1900 هو أحد طلاب النور المقربين للأستاذ النورسي (انتقل إلى رحمة الله سنة 1977).(16/39)
فسررت لهذا الكلام سروراً بالغاً. وكان خير تسلية لي في حينه.
كان الأستاذ يطلق على الأخ طاهري بـ"الرائد". وحقاً لقد كان يتصف بخصال وشمائل قلما تجدها في غيره، فقد كان يصوم الأشهر الثلاثة طوال ثلاثين سنة من عمره، ولم أر منه أن صلى الوتر بعد العشاء وإنما كان يقيم الليل ويصلي التهجد ثم يوتر. لقد كان كنزاً للدعوات لطلاب النور. وكان في طاعة تامة لأوامر الأستاذ ويطبقها بحذافيرها. لذا لم اسمع من الأستاذ أن قال لأحد من طلبة النور مثلما قاله للأخ (طاهري)، حين قال بحقه:
"إن الأخ طاهري ولي من أولياء الله الصالحين، فعليه أن لا يعد نفسه أنه في الدنيا".
وفي أحد الأيام قال الأستاذ له:
- أتريد أن تعدّ نفسك في هذه الدنيا - أي تميل إليها قليلاً - ؟ أم تريد أن تستخدم عاملاً وخادماً للقرآن الكريم؟.
فأجاب:
- أستاذ ي الحبيب أرجوك.. بل خادماً للقرآن.
فقال الأستاذ ملتفتاً ألينا: بارك الله فيه، انه حقاً ولي من الصالحين!
كان الأخ طاهري أكبرنا سناً كما أنه أكثرنا عملا في سبيل القرآن. فما كانت تفوته كلمة في أثناء قراءته القرآن الكريم أو في أثناء تصحيحه الرسائل. ولقد ضحى حياته كلها في سبيل خدمة القرآن. فإخلاصه الكامل في العمل كان يزيدنا نشاطاً وحيوية وشوقاً إلى خدمة الإيمان مهما كانت الظروف.. كان رحمه الله مخلصاً لله. كل عمله كان لله. كنا نتخذه أباً معنوياً لنا لشدة شفقته علينا.. لم يعرف التعب إليه سبيلاً ولم نره ملّ يوماً من العمل.. رحمه الله رحمة واسعة (1).
* الصلاة في أوقاتها
"كان الأستاذ جمّ الخشوع في صلاته ويقرأ الآيات آية بعد آية، وبعدما يقف منتصباً للصلاة ينوي ثم يكبر بـ(الله اكبر) بصوت عال جداً يكاد دويه يهز البيت الخشبي الذي يسكنه، وكانت الرهبة تملأنا ونحن خلفه مأمورون.
كان يهتم كثيراً بأوقات الصلاة وحريصاً عليها كل الحرص، وأسوق هنا مثالاً:
__________
(1) on ?ahitler,3/95 .( )(16/40)
خرجنا يوماً من اسبارطة إلى اميرداغ ولم يبق إلا خمس دقائق للوصول إلى (اميرداغ) وإذا بوقت الصلاة قد حان، فنظر الأستاذ إلى ساعته فأقام بنا الصلاة. ولم يكن الأستاذ يبالي بالبرد القارس ولا بالمطر إذا ما حان وقت الصلاة. فكنا نؤديها في أوقاتها في الحل والترحال، وكان يقول:
"إن أكثر من مئة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله: اهدنا الصراط المستقيم فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة. نفهم من هذا: عِظم الثواب غير المتناهي والأخروي الذي يناله الفرد المؤدي صلاته في أوقاتها فالذي لا يشرك إذن مع هذه الجماعة لا يحصل على حظه من ذلك الثواب، مثله في هذا:
"الجندي الذي لم يجلب قصعته لأخذ طعامه من المطبخ الرئيس فلا يستلم أرزاقه المخصصة، أي أن الذي لا يؤدي الصلوات في أوقاتها كأنه لا يأخذ أرزاقه المعنوية من القدر الرئيس في المطبخ المعنوي للجماعة الكبرى."(1)
* أذكار الليل
"كان الأستاذ ينام قليلاً ويأكل قليلاً جداً بحيث لا يكفي لإشباع حاجة الإنسان الاعتيادي وكان يقول لنا:
- النوم الفطري والطبيعي هو خمس ساعات في اليوم.
وكان من عاداته - التي لم يتخل عنها طوال حياته المباركة - أن يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد، وكان على وضوء دائم، وكان جيران الأستاذ في (اسبارطة وبارلا واميرداغ) يقولون لنا:
حيثما ننظر إلى بيت الأستاذ في الليل نرى مصباحه الخافت مضاء ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق"(2).
* تجنب الفتن
__________
(1) on ?ahitler,3/64 .( )
(2) on ?ahitler,3/51 .( )(16/41)
"كان الأستاذ يعمل حسب التقويم المعمول في البلاد (1) وكان يبدل الحروف اللاتينية التي فيه إلى حروف القرآن الكريم - أي العربية - ويعلق التقويم فوق رأسه. فكما يحدث في الوقت الحاضر، فإن أشخاصاً يصومون قبل يوم من رمضان ويفطرون قبل يوم أيضاً استناداً إلى الرؤية في بلاد مجاورة. وعندما كنا نخبر الأستاذ عن هذا ما كان ليهتم به.
قال الأخ (طاهري موتلو) للأستاذ ذات يوم:
- اليوم يوم عيد في السعودية.
فأجابه الأستاذ مؤشراً إلى التقويم الذي في الحائط:
- إني اضبط أوقاتي حسب التقويم عندنا.
وقال أيضاً في أحد دروسه:
- إذا عملت حسب تقاويم الدول الأخرى فقد فتحت إذا باباً للفتنة (بين المسلمين) وأصبحت أنا وسيلة لها".
* ليالي رمضان
ويروي (بايرام) عن مشاهداته في العشر الأواخر من رمضان فيقول:
"كان الأستاذ في النصف الثاني من شهر رمضان المبارك يقيم الليل كله ولا ينام وما كان يسمح لنا أن ننام أيضاً. وفي أكثر الأحيان كان يتفقدنا فإذا رأى أحدنا نائماً يرش عليه الماء ويوقظه، فعلمنا السهر. فكنا نقيم الليالي المباركة ونبقى مستيقظين حتى صلاة الفجر وبعدها ننام. وكان يذكرنا بالحديث الشريف:
(تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)(2).
ويعلمنا بان هذه الليالي تتضمن ليلة مباركة هي ليلة القدر يعادل الثواب فيها ثواب عبادة ثمانين سنة(3). وكان الأستاذ ينشغل بأوراده طوال شهر رمضان ويقرأ جزءاً واحداً كاملاً من القرآن الكريم كل يوم ويحثنا على التلاوة فكنا نقرأ جزءاً كل يوم أيضاً. وكان يعطينا من زكاة فطرة.
ويقول لنا:
__________
(1) الموضوع من قبل لجنة من علماء الدين والفلك. Son ?ahitler,3/49
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.
(3) يمكن معرفة ذلك بحساب الألف شهر.(16/42)
"أنتم طلاب علوم، يمكنكم أن تتبادلوا فيما بينكم زكاة الفطر" فنقوم بتطبيق ما يأمرنا به. فكنا نبتاع القمح بتلك الدراهم. ففي بعض الأحيان كنا نوصي بعمل الخبز. ولانصرف شيئاً ولا ننفق إلا باقتصاد تام"(1).
* الأشهر الثلاثة
"عندما كان الأستاذ في اسبارطة، حلت الشهور الثلاثة "رجب، شعبان، رمضان" فقام بتوزيع أجزاء القرآن الكريم، لكل طالب جزء من التلاوة اليومية ليختم القرآن الكريم كل يوم في هذه الشهور المباركة، فيرفع إلى الملأ الأعلى قرآناً كاملاً من طلاب النور في (ساو، قوله اونلو، اتابى، بازانون)(2) فحظيت هذه النواحي ببركة ختم القرآن يومياً بعمل الأستاذ هذا.
وفي ذات الوقت كان الأستاذ يدعو الله سبحانه كثيراً ويذكر أسماء الطلاب في دعائه مستشفعاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنادياً باسمه وأصحابه الكرام.
وكان يستيقظ من الليل مبكراً ليصلي صلاة التهجد وينهي أوراده وتسبيحاته قبل صلاة الفجر بساعة، ثم يتضرع باسطاً يديه للدعاء رافعاً بها إلى السماء فيطيل في الدعاء بمقدار ساعة كاملة تقريباً ونحن في هذا الوقت لا نجرأ على دخول غرفة الأستاذ حتى يفرغ من دعائه، علماً انه كان ينام بعد صلاة العشاء مباشرة دون انتظار شيء."(3)
* بيع الجرائد
__________
(1) on ?ahitler,3/93 .( )
(2) أسماء الأقضية والنواحي التي حول ولاية اسبارطة.
(3) on ?ahitler,3/48 .( )(16/43)
كان الأخ "زبير"(1) غيوراً جداً على الإيمان بحيث لا يمكن لأحدنا أن يتشبه به. فكان يهتم بمسائل لا تخطر لنا على بال. فمثلاً:
عندما صدر العدد الأول لجريدة (الاتحاد)(2) قام ببيعها بنفسه وعلى جسر (غلَطه)(3). وعندما رجع إلى أنقرة سألته:
- ما الذي دعاك إلى القيام بهذا العمل؟ فهل أصبحت بائعاً للجرائد؟! هذا عمل يقوم به الصبيان! فلماذا تشغل نفسك ببيع الجرائد؟.
- أنت محق! ولكن كيف يمكننا أن نعرف برسائل النور وبالأستاذ للناس؟. ألم يطلب الأستاذ منا أن نقرأ له الجرائد (4) ألم يراقب الأستاذ ما نشره اليمين؟ فان كان في بيع الجرائد عشر سيئات ففيه أيضاً مئة حسنة. ألا تعلم أن في بيع الجرائد إذلال للنفس وكسر لغلوائها وكبرها. فيا أخي أنا لا أبالي طالما أعرّف رسائل النور - وهي تفسير القرآن - وأعرّف الأستاذ - وهو مفسر القرآن - فلنكن ضد رغبات نفوسنا الأمارة بالسوء.. فقد بعت الجرائد طلباً إلى هذه الأمور وحضاً لها."(5)
* لا تعب في الخدمة
__________
(1) "1920- 1971" ولد في إحدى الأقضية التابعة لولاية (قونيا) وبعد إكمال الدراسة المتوسطة عين موظفاً في دائرة البرق. ثم نذر نفسه لخدمة الإيمان والقرآن من خلال نشر رسائل النور كان مثالاً للإخلاص والمثابرة حتى اصبح اقرب تلاميذ الأستاذ إليه، وأشبههم به، تولى إدارة طلاب النور بعد وفاته. له رسالة صغيرة في محاسبة النفس وتقوية الإرادة. مع مقالات ومذكرات خاصة. رحمه الله رحمة واسعة.
(2) أول جريدة تصدر في تركيا بعد سنة 1950 تنشر مقالات إسلامية وتدافع عن الإسلام وقضايا المسلمين.
(3) هو الجسر المشهور الذي يربط القسم الجديد بالقديم من اسطنبول.
(4) بعد صدور تلك الجريدة بدأ الأستاذ يستقرئ (زبير) الجرائد اليومية، علماً انه اعتزلها منذ سنة 1925، أي ربع قرن كامل.
(5) on ?ahitler,3/107 .( )(16/44)
"لم يكن للأستاذ أي وقت فراغ طول حياته. فهو إما يقرأ أو يصحح أو يُقرأ له وهو يستمع.. كان في كلامه لطافة جمة وفيض كبير، إذ ما كنا لنتضايق ولا نملّ حتى لو طال الدرس من الصباح حتى المساء، وما كنا نضجر لو مشينا طريقاً طويلاً معه وابتلينا بمصاعب معه أو نال منا الجوع ما نال. وكلما شعرنا بضيق ننظر إلى وجهه الوضاح فترتاح نفوسنا وتنشرح صدورنا ونتحمس للعمل بشوق اكثر دون توقف ليلاً ونهاراً، رغم أننا قد لا ننام. فقد كنا نسهر الليالي الطوال من دون أن نشعر بالتعب لأجل الخدمة في نشر حقائق القرآن."(1)
* لا حياة لنصف إنسان
"عندما كان كتاب (تاريخ حياة الأستاذ )(2) تحت الطبع، وصلت رسالة إلى الأستاذ يسأل فيها صاحبها عن جواز الصورة (الفوتوغرافية) قرأنا الرسالة على الأستاذ فتبسم وطلب قلم رصاص وجئنا له بالقلم فمر بخط على عنق الصورة وقال معقباً:
- لا حياة لنصف إنسان. فابعثوا له بالجواب مقروناً بهذه الصورة بهذا الشكل.
* وهناك حادثة أشبه بهذه وهي أنه:
بعدما أخلي سبيل الأستاذ من سجن (آفيون) أستأجر بيتاً وبقي الأخ (زبير) معه في خدمته وملازمته.
في أحد الأيام جاء الأخ (طاهري) من مدينة (اسبارطة) لزيارة الأستاذ فبات ليلة واحدة ضيفاً عند الأستاذ.
فكان الأخ طاهري يخرج محفظته من جيبه كلما أراد أن يدخل الصلاة لاحتواء النقود على صورة إنسان.
__________
(1) on ?ahitler,3/51 .( )
(2) "تاريخجه حيات أو سيرة ذاتية" كتبها طلاب النور وأقرها الأستاذ ، وطبع الكتاب قبل وفاته وقد ضم الكتاب علاوة على صور الأستاذ النورسي وأماكن منفاه تاريخاً كاملاً لحياة الأستاذ النورسي ولرسائل النور وفيه مقتطفات ومستلات كثيرة جداً من الرسائل. يقع في (650) صفحة من القطع الكبير.(16/45)
وفي الصباح الباكر وبعد أن ودع الأخ (طاهري) أستاذنا قصد محطة نقل المسافرين، وعندما همّ بقطع تذكرة السفر فطن انه نسي محفظته في دار الأستاذ، وأسرع بالرجوع إلى دار الأستاذ وأستأذن بالدخول واتاه الأخ زبير بمحفظته فلمحه الأستاذ وقال له:
ـ لا تكرر هذا مرة أخرى، فلا حياة لنصف إنسان!"(1).
* لا اعمل بالرؤيا
"في أحد الأيام بعث أحد الاخوة من مدينة (دياربكر) برسالة إلى الأستاذ يكتب فيها ما رآه أحد الاخوة هناك من رؤيا صالحة.
فقد رأى فيما يرى النائم مجلساً يحضره الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - ومعه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم والشيخ عبد القادر الكيلاني "قدس الله سره" فيدخل عليهم جبريل "عليه السلام" ويقول لهم:
- إن طبع الرسائل ونشرها والقيام بخدمة القرآن على هذه الشاكلة المعنوية قد انتهى دوره حيث جاء دور الجهاد المادي. قرأنا الرسالة على الأستاذ فطلب الأستاذ ورقاً وقلماً في الحال وأملى علينا هذا الجواب:
- إن ما رأيتموه من رؤيا يا أخي هو رؤيا مباركة ولكنها تحتاج إلى تأويل وتعبير وتفسير. فالجهاد المادي في الرؤيا هو الجهاد المعنوي في سبيل خدمة الإيمان، لان الظهور على الأعداء والغلبة عليهم لا يقتصر على الجهاد المادي، فرؤياكم إشارة إلى انتصار البراهين الإيمانية المعنوية الساطعة على الكفر المطلق، فإياكم والتأويل المادي، والظن بأن الجهاد هو جهاد مادي فحسب، هذا فضلاً عن أنني لا اعمل بالرؤيا."(2)
* إحساس مرهف
عندما كان المرض ينتاب الأستاذ كنا نخبره إخباراً سارة وبشارات تفرحه، وكان يؤيدنا في عملنا هذا ويقول:
- لقد أصبحت رهيف الحس، حتى إنني لأحزن حزناً شديداً على اتفه شئ..
كنا منتبهين إلى هذه النقطة، فنستبطئ في تبليغ الأخبار التي تؤثر فيه.
__________
(1) on ?ahitler,3/100 .( )
(2) on ?ahitler,3/100 .( )(16/46)
وفي الحقيقة ما كان الأستاذ يعاني من مرض عضوي - سوى تشنجات في الظهر والكتف - إلا انه في الغالب كان مرضه ومعاناته معنويين، فإذا ما حدث حادث في العالم الإسلامي ضد القرآن ورسائل النور نراه يضطرب ويتألم حتى يبح صوته فلا يسمع إلا الهمس، وتظهر عليه علامات الانفعال والغضب، فكنا نعرف من حالاته هذه أن حادثة ما قد حدثت ضد الإسلام. نعم كان حساساً إلى درجة كأنه الرادار.. ولقد رأينا مئات من أمثال هذه الحوادث مع الأستاذ .
ولهذا كان يقول في أخريات أيامه:
- أرجو إلا تسمعوني أخباراً تعصر قلبي.. ارووا لي الحوادث المفرحة ما استطعتم فقد أصبحت حساساً جداً.(1)
* خدمة الإيمان
"كان الأستاذ يرشد طلابه في دروسه التي يمليها علينا قائلاً:
إخواني، إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام. أما توفيقنا ونجاحنا في العمل وإقبال الناس إلينا ودفع المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتنا، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة. مثال هذا:
"كان خوارزم شاه - وهو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة - كان يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!
فأجابهم: "إن ما عليّ هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هي من تقديره هو سبحانه."(2)
وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل:
- إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به فهذا أمر موكول إلى الله. فأنا عليّ أن أؤدي ما عليّ من واجب، ولا أتدخل فيما هو شؤونه سبحانه."(3)
* حسن الظن
__________
(1) on ?ahitler,3/96 .( )
(2) يراجع اللمعة السابعة عشر المذكورة الثالثة عشر – اللمعات.
(3) on ?ahitler,3/96 .( )(16/47)
ويذكر "بيرام" طرفاً مما دار في درس الأستاذ وكيف كان حسن الظن الأساس في العمل، وأسلوبه في الفصل بين المتنازعين.
"لم يكن الأستاذ يقبل أن يغتاب أحد أمامه، فإذا ما قلنا في مجلسه:
- يا أستاذنا إن فلاناً قال كذا وكذا..
يجيبنا بقوله: انتم على خطأ انه صديق حميم لي، وهو من قراء رسائل النور، وشخص مثله لا يقول ما تذكرونه عنه. كأنكم تريدون أن تقطعوا ما بيننا من علاقات ووشائج.
وأحياناً كانت ترده رسالة أو يقول له أحد:
- إن العالم الفلاني يعادي الأستاذ ورسائل النور، ويقول الأستاذ:
- إن هذا الرجل هو من أهل العلم فهو صديقنا، فيضطر القائل أن يسكت وكان دائماً يحاول أن يؤول الأمور بحسن الظن ويحثنا على ذلك ويقول:
- نحن مكلفون بحسن الظن.
وذات مرة جاءت من مدينة (قونيا)(1) جماعتان من طلاب النور لزيارة الأستاذ فشكت الجماعة الأولى من تصرفات الجماعة الثانية إلى الأستاذ قائلين:
- إنهم لا يأخذون حذرهم ولا يحتاطون للأمر بل يقومون بإلقاء الدرس في المسجد. والجماعة الثانية شكت أيضاً من الجماعة الأولى، فقال لهم: "اخوتي! إن الإسلام لا حاجة له بخدمتكم وعملكم بقدر ما هو بحاجة ماسة إلى تساندكم وترابطكم، فعليكم أن تقرأوا بين حين وآخر كلا من رسائل: "الإخلاص" و"الأخوة" و"الهجومات الستة" فيما بينكم ذلك لان: تساندكم وإخلاصكم وثباتكم وصلابتكم السائدة فيما بينكم منذ البداية ستكون مفخرة لهذه البلاد".
وعندما كان الأستاذ يدرّس مواضيع الفداء والتضحية يذكر طلابه في الولايات الشرقية (2) ذكراً حسناً ويضرب بهم الأمثال العالية (3).
* كيف كانت الرسائل تكتب؟
__________
(1) مدينة مشهورة في أواسط الأناضول تضم ضريح جلال الدين الرومي.
(2) المقصود (وان، بتليس، سعرد..) وغيرها.
(3) on ?ahitler,3/99 .( )(16/48)
عندما كنا نذهب إلى الأخ الحافظ توفيق (1) كان يرينا الأماكن التي ألف الأستاذ فيها الرسائل ويدلنا عليها. وفي إحدى زياراتنا له قال اذكر لكم خاطرة من حياة الأستاذ وكيف كان يؤلف الرسائل:
"كنا نذهب مع الأستاذ للتجوال في المروج الخضر فيجلس هو في مكان مناسب وينظر إلى نقطة معينة، ويتكلم بصورة سريعة جداً. وأنا أكتب كل ما يقوله بسرعة أيضاً ويؤشر بيده إليّ ويقول:
- اكتب يا أخي.. وهو يركز نظره في نقطة معينة وبعد ذلك يقول:
- قف، قد انقطع، اذهب إلى طرد الذباب (عبارة ترمز إلى الذهاب للتدخين بعيداً عنه).
والحقيقة إنني كنت أدخن بكثرة. فاذهب إلى مكان بعيد عن الأستاذ واجلس وراء صخرة فأدخن ثم ارجع إلى الأستاذ ونستمر بالكتابة أيضاً.
هنالك رسائل قد الفت خلال ساعة أو ساعتين. وأيم الله لقد كنت استنسخ الرسائل نفسها في البيت فلم اكن انهيها لا في ساعة أو ساعتين ولا في يوم أو يومين بل اكثر."(2)
* مرض العصر
"كان الأستاذ يتحدث في اغلب دروسه عن: الاخوة والإخلاص. فكان يشخص مرض زماننا هذا بـ: الغرور والأنانية وحب النفس.
قال الأخ (زبير) يوماً:
- أستاذي الحبيب! إنني أكاد ارتعد من خوفي من الغرور والأنانية.
فأجابه الأستاذ :
__________
(1) "1887- 1965" من أوائل طلاب النور ومن كتاب رسائل النور، يلقب بالحافظ لحفظه القرآن الكريم وبالشامي لطول بقائه بالشام بصحبة والده الذي كان ضابطاً هناك، وهو المشهود له بالصلاح والعلم والتقوى، لازم الأستاذ في بارلا وفي سجون اسكي شهر ودنيزلي، تغمده الله برحمته.
(2) on ?ahitler,3/74 .( )(16/49)
نعم، خف وارتعد من الغرور. ففي هذا الزمان - وهو زمان الغفلة عن الله - ترى أصحاب الأفكار المنحرفة عن الدين يجعلون كل شيء آلة ووسيلة لمصالحهم الخاصة، فتراهم يستخدمون الدين والعمل الأخروي وسيلة لمغانم دنيوية. إلا أن حقائق الإيمان والعمل لنشر رسائل النور.. هذا العمل المقدس لا يمكن أن يكون وسيلة لجر مغانم دنيوية قط، ولن تكون غايته سوى رضى الله سبحانه.. بيد أن الاصطدامات التي تحدث جراء التيارات السياسية الضالة تجعل المحافظة على الإخلاص، والحيلولة دون جعل الدين وسيلة للدنيا عسيرة.. والحل الوحيد أمام هذه التيارات هو الأستاذ إلى العناية الإلهية واستمداد القوة منها."(1)
* مزيداً من القراءة
"مضت أعوام عديدة، ونحن مع الأستاذ ولم نر منه انه صرف جزءاً من وقته سدى، بل كان يقرأ الرسائل أو يصحح ما كان منها مستنسخاً أو يستقرئ وهو يستمع. ففي السنوات الأخيرة ظهر جهاز التسجيل وبدأنا نقرأ الرسائل ونسجلها على أشرطة التسجيل ثم نقدمها إلى الأستاذ ليسمعها وكان يشوق الزائرين قائلا لهم:
- ظهر جهاز جديد يحفظ رسائل النور ويقرأها بشكل جميل وجذاب.
كان الأستاذ يسألنا في بعض الأحيان قائلا:
- كم صفحة قرأتم اليوم؟
وكنا نجيبه:
- قرأنا ثلاث أو خمس صفحات.
فيقول:
- أما أنا فقد قرأت مئتي صفحة. وبالرغم من عجزي عن الكتابة فاكتب بشكل بطيء جداً. فقراءتي تختلف عن قراءتكم. فأنتم تقرأون قراءة سطحية كقراءة الجرائد، ولكني اقرأ مع فهم المعاني والمقاصد وهاكم انظروا إلى تصحيحاتي كذلك.
هذا وكان الأستاذ عندما يريد أن يقلب صفحات الرسائل كان يقلبها ببطء واعتناء من غير أن يؤذي الورقة ومن دون أن يبلل إصبعه لقلب الصفحة.(2)
ويقول لنا:
__________
(1) on ?ahitler,3/96 .( )
(2) وهذا الأدب الجميل قد توارثه العلماء من تقليبهم صفحات المصحف الشريف وكتب التفاسير والحديث النبوي الشريف.(16/50)
- الحمد لله، لقد قرأت اليوم هذا القدر فاستفدت كثيراً، فاليوم انشرح صدري وتوسع إيماني كثيراً. أو يقول:
- سبحان الله، استفدت من هذه الرسالة استفادة جمة حتى كأنني لم أرها من قبل أبداً.
ويقول:
- إخواني، انظروا أنني قد قرأت إلى هذا الحد، فلم أجد فيه خطأ قط، فعند تأليف رسائل النور ساعدتنا العناية الإلهية والحفظ الرباني. فهذا الأمر لا يأتي من مهارتنا ولا من قابليتنا بل هو إحسان الهي وكرم منه ولطف بالإنسان العاجز.
ويقول:
- لقد التحم في تأليف رسائل النور طي المكان وطي الزمان. أي أنها أصبحت تنهي أعمالاً كثيرة في زمن قصير وهذا التسخير الرباني إحسان من الله تعالى، وأنا اكتبها كما تلهم إلى قلبي وبشكلها الأصلي فلا اجرؤ على تغييرها.(1)
* لذة العلم
__________
(1) on ?ahitler,3/73 .( )(16/51)
كنا في اسبارطة والأستاذ يقرأ لنا (المثنوي العربي النوري)(1) ويشرحه احسن ما يكون، فكنا نجلس في الدرس خمس أو ست ساعات والأستاذ كلما كان يقرأ يتجدد حيوية ونشاطاً وكأنه قد اصبح شاباً بعمر يناهز العشرين. أما نحن فلا نستطيع الصبر بهذا القدر من الدرس، إذ كان يبدأ من صلاة الفجر حتى صلاة الظهر. فقرأنا (المثنوي النوري) ثلاث مرات و (إشارات الإعجاز)(2) إلى نصفه رغم أننا لا نفهم اللغة العربية إلا شيئاً قليلاً ولكن الأخ "جايلان"(3) كان يتقنها فالأستاذ لا يبدأ بالدرس إلا مع "جايلان".(4)
* قاعدة في القراءة
__________
(1) كتاب يضم بين دفتيه اثنا عشر رسالة من الرسائل العربية في بيان التوحيد والحشر وإعجاز القرآن ودلائل النبوة وتضم خواطر دقيقة جداً في معرفة النفس وتزكيتها. وقد كتبه الأستاذ النورسي في مرحلة "سعيد القديم" أو قبيل تحوله إلى سعيد الجديد، وعده إحدى رسائل النور.
(2) ألف الأستاذ النورسي هذه الرسالة القيمة في أثناء الحرب العالمية الأولى عندما كان قائداً لقوات الأنصار في جبهة القفقاس فكان يمليه على أحد طلابه وهذا بدوره يسجل. وهو تفسير جليل للقرآن الكريم يبدأ من الفاتحة وينتهي في الآية الكريمة: وعلم آدم الأسماء كلها. ويبين الإعجاز النظمي في الآيات. وقد كتبه الأستاذ باللغة العربية وفي غاية الإيجاز. طبع منه عدة طبعات : أجودها طبعة بيروت سنة 1974.
(3) هو من أوائل الشباب الذين خدموا الإيمان والقرآن وتتلمذوا على يد الأستاذ النورسي، كان يملك قابليات فائقة وذكاء خارقاً حتى اصبح - وهو ما يزال طالباً في المتوسطة - من تلاميذ الأستاذ، وقام بخدمته خير قيام، ولازم الأستاذ حتى وفاته. ارتحل إلى دار الخلود اثر حادثة سيارة في سنة 1963 عن عمر يناهز الثالثة والثلاثين. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء.
(4) on ?ahitler,3/53 ( )(16/52)
في أحد الأيام كان الأستاذ يقرأ (الحزب النوري)(1) ويشرحه لنا وسألني عن مقدار ما فهمته من الدرس فأجبته بعدم الفهم، فبدأ الأستاذ يوضح الدرس اكثر فأكثر حتى فهمت الدرس فهماً تاماً. فخطر إلى قلبي: (إنني قد تكاملت إذ بدأت افهم اللغة العربية جيداً). ففي في أثناء الدرس كنت قد فهمت كل شيء، ولكن ما إن خرجت من غرفة الأستاذ حتى وجدت دماغي وكأنه قد مسح مسحاً فلم يبق فيه شئ.
سألني الأستاذ ذات مرة في نهاية الدرس عن مدى فهمي له أيضاً. فأجبته قائلا:
- لم أفهم الدرس جيداً. فالتفت إليّ ولطمني بلطف براحة يده قائلاً:
- إنك فهمت الدرس كله، فيكفيك هذا القدر من الفهم. أخشى أن يدخل شيء في نفسك فتقول لقد تكاملت إذن وعندها لا تكون مؤهلاً للخدمة القرآنية. إذا لم تفهم الدرس اكثر من هذا فاكتف بهذا القدر منه. وساق مثلاً حول فهم الدرس وهو:
"إذا دخلت جماعة في بستان فانهم يتناولون من الفواكه كل بحسب ما تصل إليه قامته ويده. فالطويل يقطف من الأغصان العالية، والقصير يقطف من الأغصان الواطئة والقسم الآخر لا يقطفون ولكن يدوسون عليها بأقدامهم ويسحقونها فإن كنت أنت ممن تشم رائحتها فحسب يكفيك ذلك. فاقنع بهذا واشكر الله عليه."(2)
* كان يعلمنا كيف نفكر
__________
(1) رسالة صغيرة باللغة العربية في التوحيد تفجر التفكير الرفيع بأنوار التوحيد التي تغمر الموجودات، وتعرض الموجودات دلائل ناطقة للتوحيد ابتداء من السماوات إلى الذرات ضمن تسلسل تفكيري توحيدي عميق، فتكسب القلب الاطمئنان وتوسع مدارك الفكر وآفاق الخيال، وتعد هذه الرسالة نواة رسالة "الآية الكبرى". نشرت ضمن كتاب "التفكر الإيماني الرفيع" في بيروت سنة 1974.
(2) on ?ahitler,3/72 ( )(16/53)
"كان الأستاذ يرتقي التلال التي تشرف على مدينة (اسبارطة) ليشاهد فيما حواليها من مناظر الفطرة ومشاهد الطبيعة، وكانت الطريق مكسوة بأشجار الفواكه وخاصة العنب. فيمسك الأستاذ بعنقود منها - دون أن يقطعه - ويعدّ حباته مبيناً لنا ما فيه من بدائع الصنعة الإلهية والإتقان الرباني فيقول:
- انظروا وتأملوا في حلويات القدرة الإلهية هذه..
فكان يعلمنا بهذا كيف نفكر في مخلوقات الله المبثوثة في معرض الله.. وهكذا كنا نتلقى دروساً إيمانية في التدبر وفق منهج القراءة في كتاب الكون المفتوح أمامنا."(1)
* زيارة المقابر
كلما كان الأستاذ يمر على قبر سواء على الطريق أو في المقبرة، يدعو لهم بالخير.
وذات يوم وقف على مقبرة وقال:
- إن شواهد - أي الحجر المكتوب عليه اسم الميت - هذه القبور تذكرنا بالآخرة، وتنذرنا، فهي كالمعلم الحي لنا حيث هي شاخصة أمامنا. إلا ترون أن هذه الأحجار ترشدنا إلى دروس بليغة بلسان حالها وكأنها تقول لنا:
- انتم أيضاً قادمون إلى هنا.. لامناص.
وهكذا كان يعلمنا كيفية التفكير في الأمور كلها، وعلمنا أدب زيارة القبور.(2)
* مطالعة الكون
"عندما كان الأستاذ يتجول في السهول الممتدة على مد البصر وبين المروج المزدهرة بالأثمار والأزهار، كان يتصفح كتاب الكون المنظور بنظراته الدقيقة الواعية ويقرأ ما وراءه من معان ورموز، كمن يقرأ كتاباً مفتوحاً بين يديه بكل اهتمام وذوق، وكان يقول لنا في أثناء ذهابنا وإيابنا في السيارة:
- أأنتم تطالعون كتاب الكون أيضاً؟
كان للأستاذ علاقة متينة مع المخلوقات ويشفق كثيراً جداً على الأشجار والحيوانات بل حتى على الأحجار أيضاً. فعندما يرى كلباً - مثلاً - في الطريق يشفق عليه ويبادرنا بالقول:
- هل لديكم كسرة خبز؟ فيأخذها ويعطيها للكلب.
ويقول: هذه حيوانات وفية، وان عدوها وعواءها ناشئان من صدقها ووفائها.
__________
(1) on ?ahitler,3/55 ( )
(2) on ?ahitler,3/47 ( )(16/54)
وكان عندما يرى في السهول السلحفاة - مثلاً - على حوافي السواقي يقول:
- ما شاء الله، بارك الله، ما أجملها من مخلوق، فالصنعة والإتقان في خلقها ليس بأقل منكم.
وأحياناً عندما كان الأستاذ يرى مملكة النمل أو يرانا نحرك حجراً وتحته مملكة النمل كان يعيد الحجر إلى مكانه ويقول: »لا تقلقوا راحة هذه الحيوانات".
وعندما كان يلتقي في تجوله صيادي الأرانب والطيور يقول لهم:
- لا تروعوا هذه الحيوانات ببنادقكم ولا تؤذوا غيرها.
وهكذا وبهذا الأسلوب كان ينصح الصيادين الهواة. حتى منع الكثيرين منهم من الصيد.
وعندما يلتقي مع الرعاة في السهول الخضراء وهم يرعون حيواناتهم في مروج بين الجبال والوديان والسهول، يلاطفهم ويقول لهم:
- إنكم إذا ما أديتم الصلاة في أوقاتها الخمسة خلال اليوم فان اليوم بكامله يصير بمثابة عبادة لكم، لأنكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبشرية فان انتفاع بني البشر من أصوافها ولحومها وحليبها وألبانها هو بحكم الصدقة لكم، فلا تؤذوا إذن هذه الحيوانات البريئة النافعة.
ولم نكن نرى الأستاذ في تجواله في الفلوات فارغاً دون عمل أبداً فهو إما ينشغل بقراءة الجوشن أو دلائل النور، خلاصة الخلاصة، حزب النوري، التحميدية، السكينة ، الأوراد القدسية(1) التي كان يقرؤها كل يوم حتى في أثناء تناول الشاي أحياناً. وكنا نقرأ له من رسائل النور وهو يستمع ويتأمل ويتفكر أو يصحح رسائل النور المستنسخة.
وفي تجوالنا هذا كان الأستاذ يتسلق أعالي الأشجار العالية ويفضل الصلاة على الصخور المرتفعة. وكان يقول لنا:
- لو كان فيّ قوة شبابكم هذا لما نزلت من هذه الجبال.
__________
(1) هذه أسماء الأدعية التي يتضمنها كتاب "حزب أنوار الحقائق النورية" منها أدعية مأثورة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنها عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومنها بعض أدعية الأولياء الصالحين من السلف أو بعض فقرات أدعية الأستاذ النورسي نفسه.(16/55)
فكان يطالع ويتدبر في آيات كتاب الكائنات الكبير دائماً.
وعندما كنا في جبل (جام) ونحتاج إلى أخشاب الأشجار فالأستاذ كان يمنعنا من قطع الأشجار كيفما اتفق بقوله: لا تقطعوا الأشجار فإنها تذكر الله وتسبحه."(1)
* دروس النور والسياسة
"كان الأستاذ يرشد الذين يأتون إلى زيارته من السياسيين والمهتمين بالأمور الاجتماعية قائلا لهم:
- إن طلاب النور ليس لهم أية علاقة مع السياسة، فيجب والحالة هذه إلا يتوجس أهل الدنيا من طلاب النور خيفة أبداً لأننا نعمل للآخرة وليس للدنيا. وبما أن غاية المنتسبين لرسائل النور هو إرضاء الله سبحانه وحده. فهم بقدر استطاعتهم لا يرغبون في أن يتدخلوا بأمور السياسة وتياراتها في المجتمع، لأن الذين يأتون لتلقي الدروس الإيمانية لا يمكن أن ينظر إليهم نظرة الأغيار إذ لا فرق بين صديق وعدو في أثناء الدرس.
وذات يوم قال أيضاً:
- في الدروس الإيمانية لا يمكن التفرقة بين الطلاب، فان كان ابن مصطفى كمال جالساً في درس من دروس النور مع ابن عبد المجيد "يقصد أخاه" لا يميّز بينهم، فكل واحد يأخذ نصيبه من الدرس. بينما مسألة الانحياز في السياسة إلى طرف معين يفسد هذا المعنى فيفسد الإخلاص، ولهذا السبب فقد تحمل طلاب النور المصاعب والأهوال والمضايقات لكي لا يصبح النور آلة لأي شيء، فلم يمدوا أيديهم إلى السياسة. وبما أن رسائل النور قد حطمت الكفر المطلق وحطمت الفوضى المتسترة تحت الكفر المطلق وقاومت الاستبداد المطلق الذي يلبسه الكفر المطلق فإنها من هذه الجهة فقط قد تمس السياسة.
كان الأستاذ قد اثبت من خلال المصاعب والمتاعب التي مرت عليه خلال خمس وعشرين سنة بالمحاكمات وغيرها بأنه لا يستبدل ملك الدنيا كلها وسلطنتها بأدنى مسألة إيمانية."(2)
* حديث الأستاذ
__________
(1) on ?ahitler,3/59 ( )
(2) on ?ahitler,3/65 ( )(16/56)
"كان الأستاذ يتكلم حسب المستويات سواء أكان المستمع من عوام الناس أو من خواص العلماء، وكان يزوره أحياناً أهل القرى أو الرعاة فيتكلم معهم بنفس لغتهم ومستواهم وبنفس منكسرة متواضعة. فيصبح الزائر مسروراً وممتناً له. بينما إذا تكلم مع البروفسور تكلم عن علم الفلك أو عن مساحة الكرة الأرضية أو قطرها ويستنتجه بالأرقام أو يتكلم عن دوران الأرض حسب الدقائق والثواني ويحسب عدد قطرات الأمطار التي تسقط على الأرض في الدقيقة الواحدة.. الخ فكان العجب والحيرة يأخذان بالألباب من علمه الغزير بهذه المسائل فيقولون:
- من أين لك هذه العلوم؟ فنحن لم نقرأ هذه المسائل قط بل نقرأ جزءاً منها الآن. فعند سماعهم الدرس لم يكونوا يستقرون على حالة واحدة من الجلوس فقد كانوا يقومون ويقعدون مع صيحات (الله اكبر) وذلك من شدة إعجابهم بالدرس.
كان هناك أحد الأساتذة المشهورين هو البروفسور "علي فؤاد باشكيل"(1) يقول:
- إنني معجب جداً بعلم الأستاذ. فلا يمكن المقارنة بين علم الأستاذ وبين علومنا التي تعلمناها. فالله سبحانه قد منحه علماً كالبحر. مهما غاص فيه غواص فلا يمكن ان يسبر غوره أو أن يصل إلى قاعه. وعلاوة على علمه ومؤلفاته فقد حافظ على اللغة العثمانية وكتابتها في تركيا."(2)
* تأليف رسالة
__________
(1) هو أول تركي حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق من فرنسا. زاول التدريس في الجامعات التركية وشغل مناصب إدارية وعلمية وكان عضواً في محكمة لاهاي الدولية. رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وانسحب منها، توفي 1967.
(2) on ?ahitler,3/103 ( )(16/57)
كانت كتابة رسائل النور والانشغال بها شغلنا الشاغل مع إخواننا من طلاب رسائل النور في السجن.(1) فعندما كنا نقترب من ردهة الأستاذ في السجن نسمع صوتاً كدوي النحل يترنم ليلاً ونهاراً. إنها أصوات الأذكار والتسبيحات والدعاء والصلاة للأستاذ . كنا نراقب أعمال الأستاذ عن كثب، ففي أوقات متأخرة من الليل كنا نرقب ردهته وإذا بمصباحه الخافت مضاء والأستاذ منشغل بالأذكار والأدعية. وفي هذه الفترة التي كنا نعيشها في سجن - افيون - ألف أحد "الشعاعات"(2) وهو الخامس عشر المسمى برسالة "الحجة الزهراء" وفي هذه الفترة (فترة التأليف) كنا نمر - من وقت لآخر - من تحت شباك ردهة الأستاذ، وما أن يرانا الأستاذ حتى يرمي لنا علب كبريت، كان يضع في داخلها قسماً مما ألّفه من هذه الرسالة. فنحن بدورنا نستنسخ هذه المقتطفات نسخاً عديدة.. هكذا ألفت رسالة "الحجة الزهراء" واستنسخت واحتفظت.(3)
* الحذر
"كنا نشتري له رغيفاً واحداً في الأسبوع وعند الشراء كان يتفحص الخبز بدقة لأنه كان هناك من يريد الأضرار بالأستاذ بدس السم في طعامه، فنحن أيضاً كنا لا نأخذ ما يعطيه الخباز لنا، بل نختار بأنفسنا ما نريده. أما عند شرائنا اللبن فقد كنا نختار ماعوناً واحداً من بين مئات المواعين، فلا عجب في هذا العمل إذ الأستاذ قد سمَّم سبع عشرة مرة.
وعندما كنا نجلب الماء للأستاذ كان الناس يريدون أن يساعدوننا لمعرفتهم لنا أننا خدام الأستاذ فكنا لا نتكلم مع أحد قطعاً ولا نعطي الترمس لأحد حتى لو كان من طلاب النور، كنا نضع كل ما نشتريه للأستاذ في إناء مغلق مسدود وذلك تجنباً من التسمم وكان يعطينا خمساً وعشرين قرشاً."(4)
* خمس ساعات
__________
(1) المقصود سجن (آفيون) الذي دخله الأستاذ مع زمرة من طلابه سنة 1948 وأطلق عليه: المدرسة اليوسفية الثالثة.
(2) الشعاع الخامس عشر من مجموعة الشعاعات.
(3) on ?ahitler,3/32 ( )
(4) on ?ahitler,3/448 ( )(16/58)
"كان الأستاذ يأكل قليلاً جداً، وما كان يدخل الطعام على الطعام قط إلا بعد مرور خمس ساعات كاملة، وما كان يشرب الماء بعد الأكل إلا بعد ساعتين كاملتين. حيث كان ينظر إلى الساعة فان كان باقياً عشر دقائق كي تكمل الساعتان يقول: لم يحن بعد موعد شرب الماء.
كان يشرب الماء بارداً جداً، فكنا نذهب إلى اسبارطة لشراء الثلج من صيدلية هناك - حيث لم تكن الثلاجات متوفرة حينها - ونضع الثلج ونحفظه في ترمس خاص".(1)
* دأبه مع طلابه: الاستشارة
"لقد ضحى الأخ "زبير" حياته كلها في سبيل الإيمان عن طريق نشر رسائل النور وخدمة الأستاذ فلو كانوا يقطعونه إرباً إرباً لكان ينهض ويهب قائلاً:
- رسائل النور .. رسائل النور.(2)
وإذا كان طريح الفراش من شدة المرض ويسمع أن الشرطة قد قدمت إليه، كان يقوم ويعتدل ولا يكاد يظهر عليه اثر المرض، لئلا يبدو منه الضعف أمامهم. ولو حصل أن كتبت مقالة في الصحف حول الإيمان والإسلام والشجاعة والفداء فهو أول من يتهم. وهو بدوره لا يتراجع ولا يتنازل أبداً عما قاله فيستمر في محاججتهم. كان الأخ زبير يطبق نفس ما يفعله الأستاذ، وكان الأستاذ يأتمنه على خدمته بل على أشغاله الخاصة وكثيراً ما كان يحول الموضوعات الاجتماعية والسياسية أولاً إلى الأخ "زبير".
أما الأخ "صونغور" فكان الأستاذ كثيراً ما يكلفه بأمور المقابلات الضرورية مع رجال الدولة وتوجيه بعض الرسائل التي تمس الحياة الاجتماعية.
كان دأب الأستاذ دائماً أن يفتح باباً للعقل والتفكير لدى طلابه فلا يسلب الإرادة من الإنسان كلياً بل كان يشير إلى ما يأمر به إشارة فحسب. فكان ينادي "زبير" مثلاً ويستشيره:
- هل نعمل كذا وكذا يازبير؟
__________
(1) on ?ahitler,3/395 ( )
(2) حيث إن رسائل النور تفسير القرآن الكريم لهذا العصر.(16/59)
فالأخ "زبير" ما كان يعمل شيئاً ولا يكتب أية رسالة إلا بأمر الأستاذ واستشارته. فقد كانت حياته كلها موقوفة لرسائل النور، فيقوم برسائل النور ويجلس برسائل النور وينام برسائل النور وهو مع رسائل النور لا يفارقها ساعة.
لله درّه من تلميذ مخلص متفان لا يجارى ولا يكاد يكون له مثيل في شرف هذه الخدمة العظيمة بين طلبة النور كلهم.(1)
* تهنئة الطلاب
"عندما كنا ندخل الأشهر الثلاثة (رجب، شعبان، رمضان) كان الأستاذ يهنئ طلابه بحلول هذه الشهور فيرسل رسائل ملحقة "الملاحق" فكان دائم الصلة مع طلابه فمثلاً:
"نهنئكم أولاً بحلول الشهور الثلاثة وبالأيام المباركة الموجودة فيها واسأل الله سبحانه أن يثيبكم بكل يوم من هذه الأيام بمثل ثواب ليلة الرغائب - وهي ليلة النصف من شعبان - وبمثل ثواب ليلة القدر، ونسأله تعالى أن يجعل لنا ليلة البراءة وليالي شهر رمضان الآتي وبخاصة ليلة القدر منها خير من ألف شهر ونتوسل إليه أن يسجل في دفاتر أعمالنا مثل ذلك بالتمام. وأهنئكم بليلة المعراج واسأل الله سبحانه أن يقبل دعواتنا في هذه الليلة.
إخواني الأعزاء:
أهنئكم تهنئة حارة بالشهر المبارك شهر رمضان واسأل الله سبحانه أن يجعل لنا ليلة القدر التي تعادل عمراً يناهز الثمانين سنة مقبولة لنا.
كان الأستاذ يرسل لنا الرسائل على هذه الصورة لكي يهنئنا بالأخبار المفرحة ويبشرنا ببعض البشريات حول رسائل النور".(2)
* نظرة غير اعتيادية
عندما كنا ننظر إلى الأستاذ نظرة غير اعتيادية، أي فيها إجلال وتعظيم وانه رجل صالح من الأولياء، نشعر أن لونه يتغير بسرعة ويستثقل هذه النظرة منا إليه، حتى انه ما كان يحب أن ننشغل كثيراً بأمور الطبخ وإحضار الشاي من أموره الشخصية. بل كان يوجه أنظارنا دائماً إلى رسائل النور وخدمة القرآن.
__________
(1) on ?ahitler,3/106 ( )
(2) on ?ahitler,3/92 ( )(16/60)
وإذا قدر أن دخل عليه أحدنا وهو يتناول الطعام، فلا محالة يقدم له شيئاً منه ويقول:
- إن لم اقدم لكم ما انعم الله عليّ فسوف أتأذى.
وأحياناً كان يلاطفنا بعصا يضربنا بها ويقول:
- إن طلابي في الولايات الشرقية كانوا يشرحون صدري بتسلّياتهم وبشاراتهم فبشروني أنتم كذلك.(1)
* جنود في الخدمة
"عندما دخلت رسائل النور المطابع (2) وبدأت بالانتشار لم تكن ترى الأستاذ جالساً في مكانه قط بل كان يصول ويجول في فعالية مستمرة ونشاط دائم، كان فرحاً سعيداً دائماً بحيث يكاد يطير من فرحه.
وكنا نذهب أحياناً مشياً على الأقدام أو بالسيارة إلى مناطق مختلفة كحدائق الزهور في اسبارطة، أو حدائق بارلا، أو حافات بحيرة اكريدر، أو المقبرة، وغيرها من الأماكن، فقد كانت هذه الأماكن تعتبر بمثابة منازل نور صغيرة، فكنا نجول فيها ثم نعود وقد امتلأت قلوبنا بأفراح ملء الدنيا من مباهج النور ومعاني الإيمان.
كان الأستاذ يركب فرساً وكان أحدنا يأخذ بزمام الفرس والثاني يمسك الأستاذ خشية سقوطه وذلك لكبر سنه والثالث يحمل سجادته وترمسه وإبريقه. هكذا كنا نسير مشياً على الأقدام إلى أن نقطع الطريق من اكريدر إلى بارلا.
ومتى ما كان يرانا الأستاذ دون عمل، أو قاعدين بلا شغل يقول:
- هيا.. تعالوا ليقرأ أحدكم الدرس، وليذهب الآخر إلى جلب الماء، وليعد الثالث الطعام.
هكذا كان يفعل دائماً فكنا جنوداً في معسكر الجهاد ولخدمة الإيمان من خلال رسائل النور".(3)
* الأستاذ يربي النفوس
__________
(1) on ?ahitler,3/97 ( )
(2) وذلك سنة 1955.
(3) on ?ahitler,3/54 ( )(16/61)
عندما يأتي أحدهم حديثاً إلى مجلس الأستاذ كان الأستاذ يهتم به ويلاطفه ولا يكلفه كثيراً. ويبدأ بإلقاء دروسه في "الاخوة والإخلاص" ويتكلم معه في الفداء والوفاء ويبدأ معه برحلة الدرس ببطء وبصورة تدريجية. ويسلك معه سبيل الرفق، ويستخدمه لأعماله الخاصة أيضاً بصورة تدريجية. فكان الأخ "زبير" اكثر منا تضحية للأستاذ، لكأن إيمانه قلعة محصنة، فقد كان فدائياً عجيباً حقاً. حتى أنه في بعض الأحيان عندما يغضب الأستاذ ويسخط علينا بعمل لم نقم به على الوجه المطلوب فانه يقوم بضرب الأخ "زبير" بدلا عنا. فلقد ربى الأستاذ نفس الأخ "زبير" تربية راقية كاملة. إذ كان الأستاذ يقول له: أنت كالحجر، أنت شجر، أنت تراب ميت، وغيرها من الكلمات الأخرى التي تؤذي نفس الأخ "زبير"، كان الأخ "زبير" يجيبه بكل أدب وتسليم:
- نعم.. يا أستاذي.
فلم يكن يعارض قطعاً ولا يخطر على قلبه أي شيء مما قد يخطر عادة على النفس في مثل هذه المواقف من ظن أو عتاب أو شكوى على الأستاذ .
فقد كان ذائباً في حب الأستاذ ذوباناً لا يجهله القريب والبعيد.(1)
* التأويل المطلوب
"كان الأستاذ يتجنب كثيراً حوادث الكرامات التي يظهرها الله على يديه، وكان يصرف عنها الأنظار إلى أمور أخرى، فمثلاً:
"عندما كنا ننقل من سجن قسطموني إلى سجن دنيزلي، كان الوالي (نوزاد تان دوغان) وأعوانه من رجال الأمن في استقبالنا يترصدوننا في محطة القطار، وكأنما كانوا ينتظرون إنزال العقاب على الأستاذ حالما يرونه متلبساً بجريمة مشهودة (وهي لبس العمامة) وعدم لبس القبعة.
ولكن الأستاذ في هذه الأثناء حلّ لفافة رأسه (عمامته) ثم ركب القطار. فتعجب الوالي وأعوانه من هذا العمل كثيراً وصاروا يتساءلون فيما بينهم:
- كيف علم بأننا كنا نريد القبض عليه متلبساً بالجريمة المشهودة؟!
وهكذا نجا الأستاذ بعمله هذا من شر متوقع كانوا قد دبروا له من قبل.
__________
(1) on ?ahitler,3/105 ( )(16/62)
ولما سئل الأستاذ عن ذلك أجاب:
- لم تكن تلك كرامة بل كان انتصار برغوث على وال!.
أي عندما ركب القطار دخل برغوث في لفافة رأسه (عمامته) مما اضطره إلى حل اللفافة حالا. فالأستاذ أوّل هذه الكرامة بأنها من البرغوث وليس منه.
وما اكثر ما كان يحدث مثل هذه الحوادث في سجن (آفيون واسكي شهر ودنيزلي) والأستاذ يفسرها لنا قائلاً:
- إن هذه الكرامات ليست مني وإنما هي من بركات رسائل النور.(1)
ذكريات أخرى
* قصتي مع رسائل النور
كنت أتذكر دروسي مع أحد الأصدقاء. شاهدنا كتاباً حول تاريخ حياة بديع الزمان (سعيد النورسي) قد وزع ونشر. فأخذت الكتاب، وأول ما فتحته شاهدت فيه موضوعاً يتناول حوار (بديع الزمان) مع مصطفى كمال حول فريضة الصلاة. ثم فتحته ثانية وإذا بي أرى سطراً مكتوباً فيه: "إن طلاب النور ليسوا نفعيين ولا يعيشون عالة على الآخرين بل يكسبون معيشتهم بعرق الجبين" ثم فتحت ثالثة وإذا بي أرى إحدى مرافعات الأستاذ ودفاعه في المحكمة.
فهذه المواقف التي شاهدتها في الكتاب جذبتني إلى قراءة رسائل النور والى رؤية مؤلفها ورؤية طلابه والتعرف عليهم بنفسي. فقد كنت في شوق إلى تفسير للقرآن الكريم يلائم عصرنا هذا.
وفي عام 1953 ذهبت لزيارة بديع الزمان في قونيا، وجلست عنده فسرّته زيارتي إليه وانشرح كثيراً لاستمراري في المدرسة الدينية(2) وقال:
- إني اعتبر هذه المدارس كالمدارس المباركة في العصور السابقة. ثم قال:
- لو كان مولانا (جلال الدين الرومي) في هذا العصر لكتب "رسائل النور" ولو كنت أنا في ذلك العصر لكتبت "المثنوي".(3) ذلك لان خدمة الإيمان والقرآن في عصره كانت على ذلك النمط أي بـ(المثنوي) وأما الآن فان الخدمة على منهج رسائل النور.
__________
(1) on ?ahitler,3/97 ( )
(2) افتتحت منذ سنة 1950 في تركيا مدارس للإمامة والخطابة وما زالت قائمة.
(3) المقصود: المثنوي الذي كتبه شعراً جلال الدين الرومي.(16/63)
ثم أفهمني بعلو شأن رسائل النور وكيف أن الخطط المرسومة ضد الإسلام من قبل الشيوعية والصهيونية قد اخفقتها رسائل النور. ثم استمر بالقول:
- إن مجابهتهم والتصدي لهم أو حتى النقاش معهم لا يكون إلا بقراءة رسائل النور. فالرسالة الواحدة تقابل آلاف الخطط الخفية ضد الإسلام حيث إنها تخاطب جميع الطبقات ابتداءاً من الأمّي وانتهاء إلى الفيلسوف.
فالحقائق التي فهمتموها من الأمثلة التي تسوقها رسائل النور تكفيكم. كالذي يدخل بستاناً مزدهراً بالتفاح يكفيه ما تصل إليه يده أما الذي لاتصل إليه يده فذلك حصة طويلي القامة. فالذي لا يستوعب رسائل النور عليه ألاّ ييأس من عدم فهمها، فإنني أيضاً محتاج إلى رسائل النور مثلكم فكلما اقرأها مرة بعد مرة آخذ قسطاً من درسي وافهم أكثر. ومضى في حديثه قائلاً:
أتاني أمس اثنان: أحدهما من العلماء والآخر مراسل صحفي فلم اسمح لهم بزيارتي، ولكن انتم لأنكم قد أتيتم إلى هنا بنية خالصة لله، ولأجل فهم رسائل النور فلم ارفض استقبالكم".(1)
* انا لاشيء
"في الوقت الذي كان كتاب (تاريخ حياة الأستاذ ) في أثناء الطبع صمم الأخ (عبد النور) غلاف الكتاب وهو عبارة عن صورة الأستاذ يضع الحجر الأساس لجامع توغاي في (اسبارطة) فذهبت إلى زيارة الأستاذ وفي يدي تصميم الغلاف. فسأل الأستاذ :
- ماذا بيدك؟
- غلاف كتاب تاريخ الحياة يا أستاذ ي وقد صممه الأخ عبد النور.
وما إن رأى الأستاذ الصورة حتى غضب غضباً شديداً وقال:
__________
(1) on ?ahitler,4/152 ( ) من احمد كوموش.(16/64)
- ما هذه الصورة؟ انتم تهتمون بشخصيتي اكثر مما استحق، فأنا أعد الاهتمام والاحترام لشخصي إهانة لي، لأنكم بذلك تتعلقون بي وليس برسائل النور - المرتبطة بالقرآن الكريم - فأنا لا احب نفسي.. إنني لاشيء، أنا عدم، فلا تنتظروا مني شيئاً من الخوارق.. وبعد ذلك مزق الصورة المرسومة على الغلاف ورماها في سلة المهملات".(1)
* ارفض الثناء
"في إحدى زياراتي للأستاذ جاء الأخ (كامل) وهو طالب في كلية الإلهيات واتى معه بمقدمة كتاب تاريخ حياة الأستاذ التي كتبها (الحاج علي علوي)(2) الذي يسكن في المدينة المنورة فطلب الأستاذ أن نقرأ له هذه المقدمة ثم قال بعد الاستماع إليها:
تكتب في مستهل هذه المقالة "كاتب هذه المقدمة شخصية كبيرة من المدينة المنورة" ومضى يقول:
- أخي إن (علي علوي) أثنى في مقدمته على رسائل النور اكثر من ثنائه على شخصي، فلو كان ثناؤه عليّ اكثر من رسائل النور لكنت ارفض مقالته. ولكن لأنه قد أثنى على رسائل النور فقد رضيت وقبلت".(3)
* حلاوة الدرس
"كان من عادة الأستاذ تكريم طلابه بعد دروس الصباح بأي شيء متيسر كالتفاح أو البقلاوة أو الزبيب. فيسميه (حلاوة الدرس) فعندما كان يأتي دور حلاوة الدرس يسحب القرعة بينهم ويعتبر نفسه كأي طالب من الطلاب، ويبدأ من وقعت عليه القرعة بالأكل أولا، وهكذا كان الأستاذ يظهر نفسه كأنه طالب معنا حول دراسة رسائل النور. وكنا إذا نظرنا إليه نظرة تقدير وتعظيم يحس حالا ويقول:
- لماذا تتفرس في وجهي، إنني لا احب نفسي، ولا احب من يعظمني بما لا استحق.
وقد خطر لي خاطر قلبي ذات يوم، إذ قلت:
- إن مؤلف هذه الرسائل والكتب لاشك انه رجل عظيم.
وإذا بالأستاذ يلتفت إليّ قائلاً:
- انك تمنحني مقاماً عالياً وترفعني إلى درجات؟!
__________
(1) Son ?ahitler,4/153 ( ) من احمد كوموش.
(2) شاعر تركي مشهور وعالم جليل.
(3) on ?ahitler,4/158 .( )(16/65)
وبهذا حذرني أن أتفوه بكلام كهذا بعد".(1)
* ترجمة إشارات الإعجاز
في عام 1955 كنت في مدينة (قونيا) وذات يوم وأنا جالس في حانوت أحد الأصدقاء، دار الحديث حول رسائل النور ولاسيما رسالة (إشارات الإعجاز). كنا نتحدث عن الظروف التي أحاطت بالأستاذ حين تأليفه لها. حيث كان على صهوة جواده ويخوض معارك الحرب العالمية الأولى حاملاً بين جنبيه معنويات سامية من روح الاستشهاد. فقلنا: لما كانت رسالة (إشارات الإعجاز) تبحث عن إعجاز القرآن الكريم فلا يقدر على ترجمتها إلا أخوه "عبد المجيد"(2)، فقلت لـ(عبد المجيد) الذي كان معنا في المحل:
- هل من الممكن ترجمتها؟
- نعم.
كتبت إلى "زبير" طالباً منه الاستفسار عن رأي الأستاذ في ترجمتها والتي سيقوم بها أخوه عبد المجيد. فجاء الجواب بالموافقة على العمل لاعتقاده بحاجة مدينة (قونيا) لهذا الكتاب حيث فيها مدرسة الإمامة والخطابة.
وعندما قرأ الأخ (عبد المجيد) رسالة الأخ (زبير) التفت اليّ قائلاً:
- يا نور عيني، لقد أكسبتني حياة جديدة إذ كنت بلا عمل فأصبحت أنت سبباً في تكليف الأستاذ إياي بهذا العمل. وقبّلني من عيني.
__________
(1) on ?ahitler,4/158 .( )
(2) هو اصغر اخوة الأستاذ النورسي. ترجم كثيراً من رسائله إلى اللغة العربية إلا أنها نشرت في وقتها في نطاق ضيق وترجم إلى التركية رسائله العربية (إشارات الإعجاز، والمثنوي العربي). كان مدرساً للغة العربية ثم مفتياً ثم مدرساً للعلوم الإسلامية في معهد الأئمة والخطباء والمعهد الإسلامي العالي في قونيا توفي سنة 1967 عن ثلاث وثمانين سنة من العمر، رحمه الله رحمة واسعة.(16/66)
هكذا بدأ الأخ عبد المجيد بالترجمة. وكان كلما ترجم شيئاً منها أرسله باسمي إلى الأخ (رشدي) وكان الأستاذ يراسل أخاه عبد المجيد بواسطة أحد الأصدقاء الذي يملك محلاً تجارياً فيرسل الأستاذ رسالته إلى هذا المحل وآخذها من هناك وأسلمها إلى أخيه (عبد المجيد) وهكذا استمر العمل إلى أن تمت الترجمة تحت إشراف الأستاذ.(1)
* الباب المفتوح
لقد دخلنا حظيرة الإيمان بعد قراءتنا لرسائل النور..
في أحد الأيام والأستاذ جالس معنا. تكلم عن كيفية أعمال طلاب النور رعن خدمتهم وكميتهم، وعقّب كلامه قائلاً:
- أخي ليس هناك إنسان لا يفتح الله قلبه للإسلام، فعلى الذين يعملون في خدمة الإسلام أن يكونوا نابهين واعين، إذ الإنسان يشبه قصراً ذا مئة باب، ولابد أن هناك باباً يدخل منه إلى ذلك القصر، ثم تفتح الأبواب كلها. بيد أن منافقي آسيا وزنادقة أوربا منذ ألف سنة يعملون بالمكر والدسائس حتى اعموا عيون أبناء هذا الوطن وحجروا على عقولهم فصدوا تسعاً وتسعين باباً أمام الإسلام، إلا باب الفطرة فهو مفتوح دائماً. فالمؤمن بفراسته يمكنه أن يكشف الباب المفتوح، وعند الدخول من هذا الباب للإسلام سوف تفتح الأبواب المسدودة الأخرى لأجل الإسلام. فإذا ما غذّي الإنسان بموازين رسائل النور الملائمة لفطرته، ولم يستعجل الأمور واخذ بالإخلاص وتمسك به فسينشرح بإذن الله قلب الشخص المقابل للإسلام.
أما إذا ما بنى الإنسان عمله على الاستعجال، ومناقشة الأمور الجانبية، واتهام الشخص المقابل، فهذا يعني انه يتوجه إلى الأبواب المسدودة فيتسبب في غلق الباب المفتوح كذلك.
إن رسائل النور تهتم بالمحاكمات العقلية، (واخذ الأمور بالمسلمات المنطقية والفطرية)، ثم تأخذ بيد القارئ إلى دائرة الإسلام الفسيحة.
__________
(1) on ?ahitler,4/153 .( )(16/67)
وعلى غرار هذا الكلام كان الأستاذ يحثنا ويشوقنا ويقينا من الشطط لنسعى مخلصين في أعمالنا ونخدم القرآن والإيمان.(1)
* الطالب الأمثل في خدمة القرآن
أصيب الأخ (زبير) بمرض شديد ذات يوم حتى لم يطق الاشتراك في الدرس، فطلب منا أن نراعيه ونساعده.
فدخلنا إلى الأستاذ - أنا والأخ صونغور - لتلقي الدرس منه فسأل الأستاذ عن الأخ زبير:
- أين هو؟ فأردنا أن نكتم مرضه عنه ونبين حجة أخرى بأنه ذهب إلى السوق! إلا أننا لم نوفق إلى إقناع الأستاذ بهذه الحجة. فغضب الأستاذ وقال:
- لا لن ادرس درساً ما لم يحضر (زبير)، اذهبوا إليه واتوا به حيثما كان. وعندما جئناه بزبير غضب غضباً شديداً وقال:
- كنت أظن بأن زبيراً إذا قطع رأسه - وليس إصبعه - فإن جسده يأتي مهرولاً بلا رأس يردد "رسائل النور.. رسائل النور".. لقد خيب أملى بمرض مسّ إصبعه. إني أريد طالباً لا يهتم بشيء ولو قطعت يده كاملة وليست إصبعه. فلن تكون هذه الأمور - وأمثالها - حجة للتقاعس عن هذه الدعوة المقدسة دعوة القرآن الكريم. ان (سعيداً) لم يتراجع قط عن التضحية برأسه في سبيل دعوة الحق بل ضحى بكل ما لديه لرسائل النور. يلزم رسائل النور طلاباً يفدونها بكل شيء في سبيل إعلاء كلمة الله .
وفي هذه الأثناء خطر إلى قلبي - ما عجب أمركم يا أستاذي! إنكم تعاتبون الأخ (زبير) بهذا العتاب المرّ وهو من هو في التضحية والفداء.. إذن لم تجد رسائل النور لحد الآن طالباً لها.
فتوجه الأستاذ نحوي مباشرة وقال: لقد وجدنا أنا ورسائل النور طالبنا المخلص.
نعم، كان الأستاذ يريد أن يرشد طلابه في شخص (زبير).
وكان الأستاذ بنفسه يتابع مراحل الطبع وينشغل مع ما ألف حول رسائل النور وكان يعطي قراءة الجرائد إلى (زبير) ليقرأها له وكان يبحث معه الموضوعات الاجتماعية، فعلاقة الأستاذ مع (زبير) كانت تختلف تماماً عن علاقته معنا.(2)
* الكمية تخدع
__________
(1) on ?ahitler,4/156 .( )
(2) on ?ahitler,4/159 .( )(16/68)
"كان الأستاذ يطلب منا دائماً أن نكون صادقين وصبورين ومضحين وثابتين في الخدمة القرآنية. قال لي ذات مرة:
- يا ترى كم عدد الطلاب الذين يقرأون رسائل النور في مدرستكم؟ فأجبته:
- سبعون طالباً.
- يا للعجب، كنت أظن أن في تلك المدرسة طالباً واحداً يقرأ رسائل النور ولكنك تقول بأنهم سبعون شخصاً! ومضى قائلاً:
- أخي، إن الكمية دائماً تخدع الإنسان. ولكن الأهم هو النوعية، فلئن أصبحت وسيلة لتعريف رسائل النور إلى شخصين اثنين يبحثان بفطرتهما عن رسائل النور، وكنت سبباً لإنقاذ إيمانهما فقد أنجزت وظيفتك طوال حياتك الدراسية، فالإخلاص ليس في الكمية بل في النوعية، وهذه هي الخدمة القرآنية.. ثم حدثت أحداث لم يبق منهم فعلاً إلا طالب واحد..!
بعد هذا التقيت الأستاذ في (اسبارطة) وقال لي:
- لا تعطي الرسالة لأي شخص كان إلا بعد معرفته معرفة جيدة، فكما لا يُعطى اللحم للحصان فلا يعطى العشب للأسد. بل اعط العشب للحصان واللحم للأسد، فان لم يطلب منك أحد رسائل النور عدة مرات فلا تعطها له فنحن لسنا ببائعي كتب. بل نعطي الرسالة إلى من يشعر بالحاجة الماسة إليها، والمتلهف لها.
هكذا كان الأستاذ ينبهنا دائماً على الأخذ بالحيطة والحذر في مثل هذه الأمور".(1)
* الإيمان أولاً:
يروي الأستاذ (علي اوزك):(2)
__________
(1) on ?ahitler,4/154 .( )
(2) on ?ahitler,4/441 ( ) وهو أستاذ اللغة العربية وعميد المعهد الإسلامي العالي في استانبول، له مؤلفات قيمة في اختصاصه.(16/69)
"عندما قدمت إلى استانبول من مصر وأنا مازلت طالباً في الأزهر الشريف، استفسرت عن الأستاذ النورسي، فوجدته ساكناً في منطقة "فاتح"(1) في بيت خشبي قديم، ولدى زيارتي له في غرفته رأيته متمدداً على فراشه - من المرض - سلمت عليه، فرد السلام، ولكن حينما أخبرته بان الشيخ مصطفى صبري(2) يخصك بالسلام، جلس وعدل نفسه وقال بتقدير وإكبار:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وماذا يقول الأستاذ مصطفى صبري؟
- سيدي الأستاذ يسأل الشيخ مصطفى صبري عن عدد طلابكم!
- لي خمسمائة ألف طالب وخادم للقرآن الكريم!
- يقول الشيخ مصطفى صبري.. إذن ماذا ينتظر؟ ولماذا لا يبدأ بجهاد إسلامي مع هذا العدد من طلابه؟
- بلغ سلامي له أولا، ثم قل له:
"إن دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وان زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان ووظيفتنا هي الإيمان وخدمتنا تنحصر في الإيمان..".
ثم تكلم بإسهاب عن موضوعات إيمانية، وعن كيفية القيام بخدمة الإيمان، وعندما أردت المغادرة قام ليودعني فقبلت يده وودعته.
ولما رجعت إلى مصر، زرت الشيخ مصطفى صبري، وكان طريح الفراش، وقد أنهكه المرض وأدركته الشيخوخة، حدثته عما دار بيني وبين الأستاذ النورسي في تركيا، فاستمع لي جيداً. ثم قال:
- حقاً إن الأستاذ النورسي هو المحق، نعم إن ما قاله صدق وصواب، فقد وفقه الله في مسعاه، أما نحن، فقد أخطأنا، حيث ثبت هو في البلاد ونحن غادرناها.
وهكذا استصوب مصطفى صبري عمل بديع الزمان وقوله.
* كرامة الحقائق الإيمانية
__________
(1) أحد أحياء استانبول القديمة قرب الجامع الشهير بجامع السلطان محمد الفاتح.
(2) هو آخر "شيخ الإسلام" للدولة العثمانية، له مؤلفات قيمة باللغة العربية منها: (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) ترك تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية. سكن في مصر وتوفي هناك سنة 1945 عن عمر يناهز الخامسة والثمانين رحمه الله رحمة واسعة.(16/70)
"لقد بدأت افهم سبب حدوث كرامات لبديع الزمان من خلال الحوادث التي مرت.
فالسبب الأول هو:
إن بديع الزمان كان خادماً للإسلام وفي ظروف صعبة وعصيبة جداً وتحت شروط صارمة لا تسمح لخدمة الإسلام بل يمكن القول إنها ظروف يستحيل فيها العمل للإسلام. ولكي تستمر وتدوم هذه الخدمة فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تظهر على يده هذه الكرامات.
أما السبب الثاني: فهو
إن تعلم الإسلام في تركيا اصبح غير ممكن أو مستحيل (طوال ربع قرن اعتباراً من العشرينات إلى 1950) وعدم التعلم هذا يؤدي حتماً إلى انعدام الحياة المعنوية. فحقاً إن أهل الضلالة في تلك الظروف كانوا يحقرون ويستهينون بالإسلام والمسلمين. فشخصية كبديع الزمان وهو يعاني الغربة والشيخوخة والفقر إن لم تكن له كرامات فمن ذا يرتبط به ولماذا؟
لذا ترى الأشخاص الذين ارتبطوا به برباط وثيق في بداية الأمر هم في الأغلب قد جذبتهم هذه الكرامات التي ساقها الله على يده. فلذلك ترى أن قسماً من طلاب النور قد تركوا بيوتهم وأعمالهم واخذوا على عاتقهم حفظ الإيمان ثقة ببديع الزمان وما يقوم به من أعمال من دون أن يهتموا ماذا سيصبح مصيرهم فذهبوا معه إلى المحاكم والى السجون دون أن يعلموا لماذا وكيف وأين؟..
فإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث فنادراً ما نرى أشخاصاً محظوطين كبديع الزمان تقتدي به جموع غفيرة وهو يتقدمهم في زمن المستحيلات. وهنا أحب أن أوضح هذه الحقيقة أيضاً فأقول:(16/71)
إن الحقائق الإيمانية التي تطرحها رسائل النور من ضرب الأمثال والأدلة الثابتة تؤثر على الإنسان بدرجة الكرامات، فأنا شخصياً كنت ابحث منذ سنوات طويلة عن جواب بعض الأسئلة التي كانت تدور في ذهني فما استطعت أن أجدها في أي مكان، وأخيراً وجدتها في رسائل النور بشكل واضح لا غبار عليه ولا ضباب. وإذا نظرنا الآن إلى تاريخ حياة بديع الزمان نرى أن حياته وأسلوب عيشه هي بحد ذاتها كرامة. فقد ترك أهله وبيته وكل ما يمت بصلة إلى نفسه ومنفعته الشخصية، وكانت المشنقة أمام عينيه دائماً فأمضى شطراً طويلاً من حياته المديدة في السجون والمنفى لأجل قول الحق وتفهيم الحقائق الإيمانية للناس. أما أنا فان السبب الأساس الذي دفعني إلى جانب بديع الزمان وقراءة رسائل النور هو أنني كنت أقول:
- لماذا يتجول هؤلاء السكّيرون والمخمورون ولاعبو القمار بكل راحة واطمئنان وحرية بينما يظل خدام الإيمان والقرآن كبديع الزمان في السجون ويقضي حياته كلها هناك؟ فإذن يتحتم عليّ أنا أن أضع يدي بيده لأساعده بكل ما أستطيع مساعدته ومساندته.
ففي عام 1954- 1955 كنت أقوم بنشر رسائل النور بل حتى تلك التي اعجز عن قراءتها.(1) فالذين كنت أعطيهم من هذه الرسائل يقولون لي:
- عمّ تبحث هذه الكتب؟ فأقول لهم:
- انتم معلمون وعلماء فيمكنكم قراءتها والوقوف عليها أما أنا فلا أستطيع القراءة. ولكني سأحاول التعلم فبديع الزمان خادم الإسلام في السجن الآن ونحن نقوم بمؤازرته. فاقرأوا انتم واشرحوها لنا وقد كانوا بدورهم يشرحون ما كتبه الأستاذ لي. وأنا يغمرني الفرح والسرور".(2)
* قبلتها ولكن..
"ذهبت إلى زيارة الأستاذ سنة 1953. وسألني عن الشيخ طاهر (وهو من مدينة بتليس) فأجبته انه قد ارتحل إلى الآخرة.
__________
(1) حيث إنها كانت بالحروف العربية.
(2) on ?ahitler,3/306 ( ) من إسماعيل حكيم اوغلو - كاتب وقاص إسلامي له مؤلفات كثيرة.(16/72)
فقام الأستاذ من فراشه واصلح من هندامه واستعد للدعاء. وقال:
- اللّهم أسعده برحمتك. انه كان يجمع مؤلفاتي عندما كان الناس ينفرون منها. انه حافظ عليها بإخلاص.
ثم التفت إليّ وقال:
- أرجو أن تكتب إلى أهله برقية عزاء باسمي حالما تصل إلى هناك وتبين فيها مشاركتي لأحزانهم.
وفي زيارة أخرى، عندما كان الأستاذ في فندق (اسكي شهر) أخذت معي زوجاً من الجوارب من صنع مدينة بتليس هدية للأستاذ . فقلت له:
- أستاذي.. أرجو أن تقبلها مني هدية متواضعة، فهي من مدينة (بتليس)! فأخذها بيده، ثم قال:
- لقد قبلت هديتك وأخذتها، ولكن البسها أنت بدلاً عني".(1)
* طريقة!
"في عام 1953 ذهبت إلى زيارة الأستاذ في (اورفة) لأحقق أملى في زيارته إذ كنت على رغبة في اخذ الطريقة (أي البيعة حسب العادة المتبعة في الطرق الصوفية) فعندما وصلت مدينة (اورفة) كان الوقت وقت الضحى وكنت حينذاك في السادسة عشرة من عمري قوي الجسم رشيق البدن نشيطاً. ولكن كنت خجولاً جداً.
وكان هناك في (اورفة) اثنان من طلاب النور (وهما حسني وعبد الله يكن) فكنت خجلاً ماذا افعل معهم وماذا أقول لهم عندما ادخل عليهم؟ لكنني تشجعت فدخلت الغرفة وأنا اشعر بإحراج شديد وقلت: "السلام عليكم ورحمة الله" فجلست على سجادة قديمة جداً مفروشة على قطعة خشبية. كان أحدهم شاباً والآخر اكبر منه سناً فقال لي:
- أهلاً وسهلاً بك يا أخي.
كان الشاب (حسني) يكتب باستمرار بينما اخذ الأخ (عبد الله يكن) معي أطراف الحديث، وبعد قليل من الحديث قلت:
__________
(1) on ?ahitler,3/405 ( ) من فكرت اوزدمير.(16/73)
- إنني أريد أن اذهب لزيارة الشيخ (سعيد الكردي)(1) لآخذ الطريقة منه (أي أبايعه على السير على طريقته في السلوك والتصوف). فأرجو أن تعطوني عنوانه. فما إن قلت هذا الكلام حتى ابتسم الأخ (عبد الله) ثم قال:
- أخي إن الأستاذ لا يعطيك الطريقة ولا يأخذ منك عهداً عليها. إن مسلك رسائل النور ليس بطريقة صوفية. فقلت في نفسي انهم يمزحون معي، فلأنتظر الجواب الصحيح، وإذا بالأخ (عبد الله) يبدأ بالحديث طويلاً حول هذه المسائل وقرأ عدة موضوعات من كتب موجودة أمامه، ومع كل هذا لم اكن اصدق تماماً أن الأستاذ ليس صاحب طريقة صوفية، فكنت أقول في نفسي:
ـ ترى هل يمكن أن شيخاً ومرشداً كهذا لا يكون لديه طريقة خاصة ولا يعلم أحداً من الناس طريقته؟
"لكن الأخ (عبد الله) بدأ يقنعني بكل جد وإخلاص في حديث مستمر عن ماهية رسائل النور وماهية الأستاذ وطريقته واستغرق الحديث والكلام حول هذا يوماً كاملاً.. وفي في أثناء الحديث لم يذكر الأخ اسم "سعيد النورسي" بل كان يقول: الأستاذ ، أما أنا فقد كنت أقول: شيخ سعيد أو ملا سعيد. ففي هذه الفترة الطويلة وبعد هذا اللقاء والكلام الطويل اقتنعت بان رسائل النور ليست طريقة صوفية".(2)
الرحيل (3)
في 17- 3 -1960 توجه الأستاذ إلى (اميرداغ) في الساعة الثامنة صباحاً، وكان بصحبته الاخوة (زبير وصونغور وحسني)، وبقيت أنا مع الأخ طاهري في (اسبارطة). وبعد ساعة من مغادرتهم جاءت الشرطة وطرقوا الباب يستفسرون منا:
- إلى أين ذهب الأستاذ ؟
- إننا لا نعرف، لأن الأستاذ لا يخبرنا أين يقصد، فلا ندري أهو ذاهب إلى (اميرداغ) ام إلى (بارلا)؟.
__________
(1) كان الأستاذ يلقب بألقاب كثيرة منها: ملا سعيد، سعيد المشهور، سعيد الكردي، حتى لقب ببديع الزمان وانتشر هذا اللقب اكثر من غيره.
(2) on ?ahitler,4/296( ) من عبد القادر بادلي.
(3) من بيرام يوكسل - Son ?ahitler,3/83-90باختصار.(16/74)
فرجعوا حالاً واتصلوا بالهواتف مع المناطق الأخرى من أرجاء البلاد بحثاً عن الأستاذ .
في 19/3 /1960 يوم السبت وصل الأستاذ إلى (اسبارطة) وكان الوقت بعد صلاة العصر وقبلها جاء الشرطي ليستفسر عنه قائلاً:
- إن الأستاذ قد غادر (اميرداغ). قلنا لهم
- لم يأت إلينا!
وفعلاً بعد مضي ساعة واحدة أتى الأستاذ بالسيارة، وما أن سمعنا تنبيه السيارة حتى نزلنا وفتحنا الكراج، ودخلت السيارة ثم قفلنا الأبواب.
كان الأستاذ متمدداً على ظهره في المقعد الخلفي للسيارة والمرض قد اشتد عليه. أخذناه بأحضاننا لنخرجه من السيارة. وعندما صعدنا السلم أردنا أن نحمله على ظهورنا، فلم يقبل. فأدخلنا - أنا والأخ طاهري - أيدينا تحت إبطه حتى أوصلناه إلى الغرفة، وأجلسناه مكانه ثم تمدد في فراشه. كانت درجة حرارته عالية جداً، لذا لم نفارقه قط، حتى إننا كنا نصلي فرادى كي نتناوب البقاء معه للرعاية والسهر عليه.
كنا نحن الأربعة (أنا وزبير وحسني وطاهري) عند الأستاذ. وفي منتصف الليل كنت أنا مع الأخ (زبير) نلزم الخفارة عنده. فيرخى أحدنا يده ويدلكها والآخر يدلك رجليه. فنظر الأستاذ إليّ قائلاً:
- سنذهب.
- نعم سنذهب يا أستاذ ي، ولكن إلى أين؟.
- إلى (اورفة).. إلى (دياربكر)..
وكرر قوله: سنذهب.
ولما قلت: إلى اين يا أستاذي؟
- إلى (اورفة).
قال الأخ (زبير): ربما يقول هذا تحت وطأة الحمى التي تنتابه!
وفي حوالي الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل بدأ الأستاذ يكرر القول نفسه:
- سنذهب في الصباح الباكر إلى (اورفة)..
فكان يؤكد على (اورفة).
ثم جاء الأخ (طاهري) و(حسني) لكي يستلما دورهما في الخفارة. وذهبنا أنا والأخ (زبير) لتناول السحور (حيث كنا في العشر الأواخر من رمضان المبارك)..
ولقد قال الأستاذ أيضاً إلى الأخ (حسني)
- تهيأوا للذهاب إلى (اورفة).
ولكن الأخ (حسني) بيّن أن إطارات السيارة لا تصلح للسفر.
وكرر الأستاذ مرة اخرى:(16/75)
- سنذهب إلى (اورفة) مهما كلف الأمر، استأجروا سيارة ولو بمائتي ليرة.. أبيع جبتي إذا اقتضى الأمر.
بدأنا بتهيئة السيارة للسفر، ورأيت أن إطارات السيارة فعلاً غير صالحة، ولا يمكننا الحصول على إطارات جديدة في هذا الوقت.. وعندما كنا منهمكين في تهيئة السيارة جاء الأخ (طاهري) مسرعاً لمعاونتنا حيث أرسله الأستاذ إلينا، وأخبرنا أن الأستاذ يطلب الإسراع في الأمر.
تهيأت السيارة، والأستاذ نفسه مستعد للسفر، وأنا كنت انتظر الإشارة من الأستاذ كي أشاركهم في السفر، إذ كان الأخ (زبير) يقول منذ المساء:
- ليت الأخ (بايرام) يكون معنا، فيساعدنا في الطريق. فربما نجد الصعوبة دونه. لذا، لدى خروج الأستاذ من الباب سأل الأخ (زبير) من الأخ (طاهري):
- هل سيأتي بايرام أيضاً؟
فقال الأستاذ:
- نعم انه سيكون معنا.
فوضعنا الأستاذ في المقعد الخلفي من السيارة بعدما فرشنا له فراشاً عليه ليجد الراحة. وجلست مع الأخ (زبير) في المقعد الأمامي مع السائق.
في 20/ 3/1960 والساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، كان ثمة شرطيان يراقباننا في الشارع، حيث اشتد هجوم المعارضة على الحكومة حتى أذيع في الراديو:
»على بديع الزمان سعيد النورسي البقاء في اسبارطة أو اميرداغ«.
وقبل أن تتحرك السيارة جاءت صاحبة البيت (السيدة فطنة) إلى سيارة الأستاذ، فودعها الأستاذ قائلاً:
- أختي! استودعكن الله نرجو دعاءكن، فأنا مريض جداً..
كان الأستاذ يقول هذا بحزن شديد، حيث إن اللحظات هي لحظات فراق، حتى إن عيون صاحبة البيت طفحت بالدموع.. وقد قالت إلى الأخ (طاهري):
- إنني - والله - وجلة من سفر الأستاذ في هذه المرة، إنه ذاهب ليبحث عن مستقره - أي قبره -.
وقبل المغادرة أوصينا الأخ (طاهري) بعدم فتح الباب لأي طارق، وليذهب لينام. فنفذ الأخ ما أوصيناه، فبدأ الشرطة يسألون من صاحبة البيت:
- ألا تعلمين، متى ذهب الأستاذ والى أين؟
فكانت تجيبهم:(16/76)
- وهل أنا حارسة، كيف ادري، وانتم لا تدرون..؟
كانت الأمطار تهطل بغزارة في أثناء مغادرتنا (اسبارطة)، وكنا نخاف كثيراً من كيد والي (قونيا) حيث كان يصرح للصحف:
- سأجتث جذور طلاب النور واقلعها من الاعماق.
لذا كنا نقرأ على طول الطريق "آية الكرسي" وباستمرار دفعاً لشره.
اشتد المطر نازلا بغزارة اكثر عند وصولنا إلى (اكريدر) بحيث لم يبق أحد من الشرطة في الشارع فدخلوا جميعاً إلى بناية مركز الشرطة، حتى إننا مررنا من أمام المركز ولم يرنا أحد. وهكذا تركنا المدينة. ثم وضعنا الطين على لوحة السيارة لئلا يرانا أحد من المراقبين. وبعد أن تركنا (قره اغاج) اصبح الأستاذ في عافية، فنزل من السيارة وجدد الوضوء. وبعد أن قطعنا مسافة عدة كيلومترات من هناك وقفنا على شمال الطريق عند النبع، فصلى الأستاذ فوق صخرة هناك، ثم بدأنا السير وقبل أن نصل (قونيا) أنهى الأستاذ أذكاره وأوراده، واستعدل في مكانه على المقعد الخلفي، ولكن ما إن وصلنا حدائق (مرام) في ضواحي (قونيا) حتى اشتد مرض الأستاذ مرة أخرى ولم يتمكن من النطق. فدخلنا المدينة واشترينا فيها الزيتون والجبن استعداداً للإفطار، ودفع الأستاذ ثمنه وقال:
- أبنائي أنا مريض جداً، كلوا انتم بدلاً عني.
وبفضل الله فقد وسعتنا عنايته الكريمة حيث لم يشاهدنا - والحمد لله - أحد في المدينة، بل ولا في المدن التي تلت (قونيا).
وقبل وصولنا إلى (اركلي) جلس الأستاذ في مكانه ومد يديه ماسكاً إذني وإذن الأخ (زبير) من الخلف قائلاً لنا:
- أبنائي، لا تخافوا أبداً، فقد قصمت رسائل النور ظهر الملحدين والشيوعيين، فرسائل النور غالبة دائماً بإذن الله.
كرر هذا القول عدة مرات، وكان صوته واطئاً جداً بحيث لا نكاد نسمعه، ثم قال:
"هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء أرادوا أن يلوثوني بالسياسة".(16/77)
ثم ترجلنا من السيارة أداء لصلاة العصر. ولكن الأستاذ ظل داخل السيارة وصلى هناك.
وعندما حان وقت المغرب وصلنا (اولو قشلة) فقال الأستاذ :
- هل لنا بشيء من الآكل؟
فنزلنا - أنا والأخ (زبير) - واشترينا من المطعم قليلاً من الرز، وأردنا أن نهيء الطعام، ولكن الموقد الذي نحمله ما كان يصلح للغرض، فأخذنا موقد حارس سكة الحديد هناك.. كان الجو بارداً جداً، فتوسلت بالحارس ليستأجرنا موقده وقلت له إن معنا شيخ مريض وان موقدنا قد عطب. فرضي الحارس.
بدأنا نحضر الطعام، ظل الأخ (زبير) مع الأستاذ داخل السيارة. وضعنا قليلاً جداً من الزبدة والبيض مع شيء من اللبن، فأخذ الأستاذ ملعقة منه ليضعه في فمه ولكنه لم يستطع الأكل ، لانسداد بلعومه من شدة المرض.
مررنا من (ادنه) ليلاً ثم من (جيحان)، وصلينا العشاء في ضواحيها. ثم استرخى الأخ (حسني) لينام ساعة حيث كان يقود السيارة باستمرار. وعند السحور وصلنا (العثمانية) ودخلناها لنزود السيارة بالوقود، ولنتناول السحور، إلا أن الأستاذ لم يذق شيئاً قط. ثم اقمنا صلاة الفجر قرب (المان بنارى) والأستاذ لم يغادر السيارة. كانوا يطلقون على هذا الجبل سابقاً (كاوورداغى) - أي جبل الكفر - والآن يطلقون عليه (نور داغى) أي جبل النور.
وعند انبلاج الصباح وصلنا (غازي عنتاب) فاشتريت من المطعم شيئاً من الحساء وسألت عن الطريق إلى (نزيب)، حيث كانت الثلوج والأمطار تتساقط بشدة. وكان الطريق محفوفاً بالمخاطر فترى السيارات عاطلة على جانبي الطريق، أما سيارتنا - والفضل لله - فكانت تسبق الريح ولم تتعطل لا في إطاراتها ولا في محركها والحمد لله.(16/78)
وعندما وصلنا إلى (اورفة) كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وكان الأخ (حسني) على معرفة جيدة بشوارع (اورفة).. دنونا من مسجد (قاضى اوغلو) الذي كان الأخ (عبد الله يكن) يتواجد فيه، فأوقفنا السيارة قرب المسجد، واسرع الأخ (زبير) إلى المسجد لإبلاغ الأخ (عبدالله) بقدوم الأستاذ، وعندها قال الأستاذ :
- لنسرع باذهاب فلا متسع لنا للانتظار.
جاء الأخ (زبير) ومعه الأخ (عبد الله) مسرعاً إلى السيارة، فطلبنا من الأخ (عبد الله) أن يدلنا على فندق نظيف جداً، فدلنا على فندق (ايبك بالاس).
حملنا الأستاذ معاً وصعدنا به إلى الطابق الثالث حيث الغرفة رقم (27) ووضعناه على فراشه ليرتاح قليلاً من عناء هذا السفر الطويل.
أما أهالي (اورفة) فقد كانوا منهمكين بتلاوة القرآن الكريم وختمه، نظراً لأننا كنا في شهر رمضان المبارك. وما إن سمعوا بقدوم الأستاذ إلى مدينتهم حتى هرعوا إلى الفندق وعاتبنا الكثيرون من عدم إخبارنا لهم مسبقاً بمجيء الأستاذ ليستقبلوه..
بدأ الناس يتقاطرون من كل مكان لزيارة الأستاذ. كان الأخ (زبير) جالساً على باب الغرفة، يسمح لهم بالدخول واحداً واحداً، أما أنا فقد كنت امسك بيد الأستاذ وهم يقبلونها، والأستاذ يقبل رؤوسهم، وما كان الأستاذ يرغب مغادرتهم بينما كنت أقول لهم أرجو أن تخرجوا من الغرفة ليتسنى لغيركم المجيء إلى الأستاذ، فكانوا يخاطبونني:
- ألا ترى أن الأستاذ لا يرغب في ذلك.
لقد كنا فعلاً في حيرة من هذا الموقف من الأستاذ حيث لم نكن قد رأينا مثله من قبل، فما كان الأستاذ ليسمح لأحد بالبقاء عنده سواء أكان في (اسبارطة) أم في (اميرداغ)، حتى اننا عندما كنا في (اسبارطة) ومرض الأستاذ، فقلت له:
- يا أستاذي هل أبلغ الإخوان بمرضك؟
قال: لا لا يأتي أحد إليّ دونكم.(16/79)
بينما هنا في هذه المدينة، لم يكن يردّ أحداً، بل كان يضمهم إلى صدره، فقد أتى لزيارته أهالي المدينة كلهم، ومن الاصناف كافة، ولم يرد الأستاذ أحداً منهم. بل كان يتحمل محتسباً ولم يسترح بل لم يذق طعم النوم. وكذلك نحن لم يجد النوم إلى عيوننا سبيلا.
استلمت دوري من الأخ (زبير) فجلست أمام الباب، وجاء في الحال شرطيان اثنان قال أحدهما:
- تهيأوا للذهاب! أين السائق؟
أجبتهم:
- الأستاذ مريض جداً.
ثم جاء أحد عشر شرطياً وقالوا:
- تهيأوا حالا! ستذهبون إلى (اسبارطة) في الحال.
قلت لهم:
- سأبلغ الأستاذ بالأمر.
دخلت على الأستاذ وأخبرته بالأمر، فسمح لهم بالدخول إليه، فقالوا:
- إن رجوعكم إلى (اسبارطة) أمر صادر من وزارة الداخلية.
قال لهم الأستاذ :
- يا للعجب! لقد أتيت هنا لكي أموت فيه، وربما سأموت، وها انتم ترون حالي، دافعوا عني.
قال أحدهم:
- نحن تحت اوامر السلطة، ماذا نعمل؟
ثم جاءوا بالأخ (حسني) مع سيارته أمام الفندق، ليأخذ الأستاذ، وبدأ الناس بالتجمهر أمام الفندق. وصرخ صاحب الفندق من أعلى السلم على الشرطي:
- انه ضيفي. كيف يجوز لكم أن تأخذوه مني؟
كان الناس في هياج شديد، حتى اخذوا يهتفون قائلين: كيف يؤخذ ضيف كريم مثل الأستاذ وهو على فراش الموت.
اصبح الناس في حالة لا تسمح بالشرطة للصعود إلى الفندق، وبدأوا يرجون من السائق أن يبعد السيارة من باب الفندق، ففعل، وعندها هدأ الناس قليلاً وبدأوا بزيارة الأستاذ مرة أخرى. فجاء موظفوا الدولة والشرطة والعسكريون من جنود وضباط وأعضاء الأحزاب.. كلهم لزيارة الأستاذ .
ثم بدأ إصرار الشرطة على مقابلة الأستاذ وإبلاغه بأن الأمر صادر من الجهات العليا وان علينا الخروج من (اورفة) حالا. وقالوا:
- إن كنتم لا تغادرون المدينة بسيارتكم فسنأخذكم بسيارة إسعاف.
فأجبناهم:(16/80)
- إن أستاذنا مريض، وان مرضه شديد جداً، لا يستطيع أن يتحمل قطع مسافة يوم كامل في السفر مرة أخرى. فضلا عن أننا لا نتدخل في أموره، وبخاصة وهو في هذه الحالة التي هي أشبه ما تكون بالموت.
قال أحدهم:
- إن الأمر قطعي لا مرد له، فهو أمر وزاري، فكما جاء أستاذ كم إلى هذه المدينة سيرجع كذلك. اخرجوا من (اورفة) حالا.
قلنا:
ـ نحن لانتدخل في امور الأستاذ ، تعالوا قابلوه أنتم بأنفسكم واعرضوا عليه مطالبكم فان قال لنا: نذهب ، فنحن ذاهبون، لاننا لانرد قوله ابداً ولايمكن ان نبلغه ما تقولونه.
فاستشاطوا غضباً وقالوا:
- ما هذا؟ إلا تقدرون أن تقولوا له الشيء البسيط؟
- نعم! نحن لا نقول له شيئاً، وكل ما يقوله ننفذه حرفياً.
قالوا:
ونحن أيضاً مرتبطون بالأوامر الرسمية هكذا، فيجب أن تتركوا (اورفة) في مدة أقصاها ساعتان، وترجعوا إلى (اسبارطة).
وعندما سمع الناس بقضية إخراج الأستاذ من (اورفة) احتشد نحواً من ستة آلاف شخص أمام الفندق، وعندها ذهبنا إلى المستشفى لنخبر رئيس الصحة بحالة الأستاذ الصحية وانه لا يستطيع السفر، وطلبنا منه إجراء الفحص على الأستاذ بنفسه.
آجري الطبيب الفحص ثم التفت إلينا:
- كيف تجرأتم على جلب الأستاذ إلى هنا، فدرجة حرارته عالية، وهو في حالة لا يمكن تحريكه مطلقاً. تعالوا معي لأزودكم بتقرير لجنة الأطباء بأنه لا يمكن أن يحرك من مكانه..
نفدت طاقتي كلياً بعد صلاة المغرب من كثرة الوقوف والسهر والتعب، فقلت للأخ (زبير):
- إنني متعب جداً، فلقد أنهكني الوقوف. قال:
- اذهب ونم في الغرفة.
فذهبت ونمت حوالي ساعتين. ثم جاء الأخ (زبير) إلى الغرفة وقال:
- أخي إنني قد نفد صبري، لم اغمض عيني هذا الأسبوع قط..
- تعال لنتناوب..
صلينا العشاء، ثم نام الأخ (زبير). بقيت أنا والأخ (حسني) عند الأستاذ .
ثم قال الأخ (حسني):
- إن رجليّ بدأتا تؤلمانني من الوقوف والسهر. أريد أن ارتاح قليلاً.
قلت :(16/81)
- إنني مرتاح الآن، اذهب أنت أيضاً للنوم.
بقيت وحدي عند الأستاذ .
وكان الأستاذ قد طلب منذ الصباح الباكر قطعة ثلج، لما كان يشعر به من شدة الحرارة، فبحثنا عن الثلج ولم نحصل عليه. وعندما حان الليل جاء بعض الأصدقاء وقد حصلوا على الثلج. فقلت:
- أستاذ ي لقد حصلوا على الثلج!
فأشار بالرفض.
- أستاذ ي هل احضر الشاي؟
فأشار بالرفض.
وعندما اشارت الساعة إلى الثانية والنصف ليلاً بدأت شفاه الأستاذ بالجفاف، وكنت ابللها بمنديل. ثم كلما كنت اريد ان اغطيه يرفض، واستمر هكذا لفترة قصيرة.. أسدلت على المصباح شيئاً ليخفت ضوءه، لئلا يقلق راحة الأستاذ ..
بدأت أرخى ساعديه فضمني إليه، ثم وضع يده صدره، واستسلم للنوم.. فأشعلت المدفأة، وحيث كنت أظنه نائماً انتظرت أن يصحو على السحور، فكنت أقول في نفسي سوف يأتي الاخوة الآخرون ونتناول السحور معاً. فوا سذاجتاه لم أكن أعلم أن الأستاذ قد فارقنا، وانه قد انتقل إلى عالم الخلود، واغمض عينه عن هذه الدنيا الفانية.
لم اكن قد رأيت سابقاً مثل هذه الحالة! فأنّى لي أن اعلم!
مضى وقت السحور كثيراً، وجاء الأخ (حسني) مع الأخ (عبد الله ) وقالا:
- لقد نمنا كثيراً وأطلنا فيه.
قلت:
- سأذهب إلى الغرفة المجاورة لأصلي الفجر، فلا تحركوا ساكناً لأن الأستاذ نائم.
ذهبت إلى الغرفة، صليت الفجر، قرأت الأذكار والأوراد اليومية، مع جزء من القرآن الكريم، وما إن أردت أن أطبق جفني لأنام حتى جاء الأخوة:
- يا أخانا، إن الأستاذ لا يحرك ساكناً.
- الأستاذ نائم فلا توقظوه.
ثم جاؤا مرة أخرى وقالوا:
- إن الأستاذ لا يتحرك أبداً..
ذهبنا معاً إلى غرفة الأستاذ. جلس الأخ (زبير) بجانب رأسه ونحن الأربعة ننظر إليه، وليس للأستاذ أية علامة للحركة. ولكن درجة حرارته اعتيادية! فاضطربنا كثيراً. وقال الأخ (زبير):
- هذه الحالات تتكرر كثيراً لدى الأستاذ .
فخيم علينا الحزن، وعندها قال الأخ (زبير):(16/82)
- هناك شخص يعرف مثل هذه القضايا اسمه (عمر أفندي الواعظ).
وحالما أتى الرجل ورأى وضع الأستاذ قال:
- [إنّا لله وإنّا إليه راجعون]، إخواني إن الأستاذ قد مات.
لم اكن اصدق عيني بوفاة الأستاذ قطعاً. إذ عندما كنا في سجن (آفيون) سنة 1949 سمموا الأستاذ ، فاحمر لسانه، فكنا نبكي بلا توقف على حاله، وعندها قال الأخ (احمد فيضي) رحمه الله:
- لماذا تبكون يا أطفال! إن حياة الأستاذ طويلة!.
وهنا أيضاً تذكرت قول الأخ (احمد فيضي) مسلياً نفسي: ترى هل أن عمر الأستاذ يطول؟.
هرع الإخوان ليبعثوا بالخبر إلى ولايات مختلفة من أرجاء البلاد.
سجينا الأستاذ بنسيج قطني رقيق. وبعد هنيهة جاء صاحب الفندق، ولما نظر إلى الأستاذ علم انه قد توفي واخذ يضرب على فخذيه ويصرخ.
وعلى إثره جاء مدير الأمن واستفسر عن اضطراب صاحب الفندق. فأجابه:
- إن بديع الزمان قد مات.
- هل حقاً انه مات!
- نعم!
فانسحب الشرطة كلهم من أمام الفندق، وجاء الطبيب الخاص ليتأكد من حالة الوفاة وقال:
- الله.. الله.. إن درجة حرارته مرتفعة جداً، هل لديكم مرآة؟
فوضع المرآة على فم الأستاذ، وتأكد من عدم تنفسه وانقطاعه كلياً، ثم قال:
- نعم انه ميت! ولكن لا تشبه حالته حالة وفاة.. إنني اشك فيه، ولا أرى دفنه في الحال.
ثم كتب تقريره للمسؤولين.
ثم جاء قاضي التركات، وبدأ يثبت ما ورثه الأستاذ فكان:
ساعة، وسجادة ولفاف الرأس، وجبة. فأعطى كلها لأخيه عبد المجيد.
بدأت ألوف من أهالي (اورفة) يحتشدون أمام باب الفندق، واخبروا الولايات الأخرى كلها بهذا النبأ الفاجع.
اخذ نعش الأستاذ من الفندق من بعد صلاة الظهر إلى غسله في (دركاه) ووصلنا إليه بعد ساعتين أو اكثر حيث الازدحام كان شديداً جداً فقد اغلق أهالي (اورفة) محلاتهم. ولما ذهبوا بنعش الأستاذ أغمي عليّ وعلى الأخ (حسني).
فخاطبنا الأخ (عبد الله).
- هل انتم أطفال.. أفيقوا!(16/83)
ولدى وصولنا إلى (دركاه) ليتم غسل الأستاذ ، كان الازدحام لا يطاق حتى تعذر الدخول إلى هناك، ومع ذلك دخلنا واستطعنا أن نغسل الأستاذ هناك، وقام بغسله (ملا حميد أفندي) وهو من علماء (اورفة) المعروفين.(1) وساعدنا في الغسل الأخوان (زبير وحسني وعبدالله وخلوصي).
وبعدما تم الغسل أخذنا نعشه الطاهر إلى (أولو جامع) كي نختم على روحه القرآن الكريم. ظلت الجنازة في تلك الليلة في الجامع، وما إن تنفس الصبح حتى أصبح الازدحام في (اورفة) شديداً جداً حيث أتى الناس من كل أنحاء تركيا. وقرأ الجميع الختمة القرآنية حتى الصباح واهدوا ثوابها إلى روح الأستاذ .
ولشدة الازدحام فقد قدرنا انه لن يتيسر الدفن في هذا اليوم.. فاستدعانا الوالي، وبدأ يرجو منا ويلح بأن تدفن الأستاذ اليوم بعد صلاة العصر بدلا من يوم الجمعة لان الازدحام أصبح لا يطاق في المدينة.
وفي الحال أعلن عن أن صلاة الجنازة ستقام يوم الخميس بعد صلاة العصر.
حضر الوالي نفسه ورئيس البلدية وأقاموا صلاة الجنازة.
ولقد اندهشنا من ظاهرة عجيبة وهي انه: عندما كان الأستاذ يُغسل كانت الأمطار تتساقط رذاذاً وشاهدنا عندها طيوراً ذات أشكال غريبة وألوان زاهية. وبأعداد هائلة جداً.
__________
(1) يروي (ملا حميد أفندي) هذه الخاطرة:
"كنت معتكفاً في جامع (قاضي اوغلو) ورأيت في الرؤيا أن الأستاذ يقول لي:
ـ عليك بحضور جنازتي، والقيام بغسلي، لاني سأموت.
قلت له: إنه لا يجوز للمعتكف الخروج من الاعتكاف يا أستاذ ي! فماذا أعمل؟.
قال: انظر إلى صحيفة كذا من (ملتقى الأبحر) فهناك ترى الجواز.
ولما استيقظت من النوم، أخذت الكتاب المذكور بسرعة وأنا بعد تحت تأثير الرؤيا، وفتحت الصفحة نفسها وإذا ما قاله الأستاذ نفسه. وعلى هذا فقد نلت شرف غسل جنازته" Bilinmeyen Taraflariyle 424(16/84)
وهكذا دفن الأستاذ يوم الخميس بعد صلاة العصر. ولم يستطع كثير من الناس حضور تشييع الجنازة إلا من جاء بسيارات خصوصية. فلم يلحق من كانوا في (اميرداغ) ومنهم الأخ (جايلان) فلقد حزن هذا الأخ حزناً عميقاً على تأخره عن الجنازة وقال:
- لقد خدمت الأستاذ سنوات طوالا واليوم يا للأسف لم احضر وفاته!!
* الخاطرة الأخيرة:
يقول عبد المجيد شقيق الأستاذ :
»بعد مرور خمسة اشهر على وفاة شقيقي استدعيت إلى ديوان الوالي في (قونيا). شاهدت هناك ثلاثة جنرالات معه. خاطبني أحدهم:
لا يخفى عليكم أننا نعيش ظروفاً حرجة ، فالزوار من الولايات إلى قبر شقيقكم يزدادون يوماً بعد يوم، فنحن نريد ان ننقل رفاته - بمعاونتكم - إلى أواسط الأناضول. فنرجو توقيع هذا الطلب. ومدوا إليّ بورقة طلب باسمي، قلت بعد قراءتها: ولكني لم اطلب هذا.. أرجوكم دعوه ليرتاح في الأقل في قبره! وأصروا على موقفهم وقالوا:
لامناص من الأمر.
توجهنا - بعد توقيع الطلب - إلى المطار فأقلتنا طائرة عسكرية إلى (اورفة)، وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة.. كان هناك تابوتان في صحن الجامع مع بعض الجنود. اقترب الطبيب العسكري مني قائلاً:
- لا تقلق سننقل الأستاذ إلى الأناضول.
وعلى اثر هذا الكلام أجهشت بالبكاء فلم أتمالك نفسي. أمر الطبيب الجنود بهدم القبر. فكانوا يترددون ويخشون سخط الله عليهم.(16/85)
فقال الطبيب: نحن مأمورون وليس أمامنا سوى التنفيذ، فقاموا بهدم القبر وإخراج التابوت منه. وعندما فتحوا التابوت. قلت في نفسي: لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً. ولكن ما إن لمست الكفن حتى خيل لي انه قد توفي أمس. كان الكفن سليماً إلا انه مصفر قليلاً من جهة الرأس. وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء. وعندما كشف الطبيب عن وجهه، نظرت إليه وإذا عليه شبه ابتسامة. احتضنا ذلك الأستاذ العظيم ووضعناه في التابوت الآخر. وأخذناه إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة. جلست بجانب التابوت في الطائرة والحزن والأسى يملآن قلبي. والدموع تملأ عيناي. اتجهت الطائرة إلى (آفيون) ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى (اسبارطة) حيث دفن في مكان لا يزال مجهولاً".(1)
المصادر
1- Son Sahitler Bediuzzaman Said Nursiyi Anlatiyor. N.Sahiner. Yeni Asya Yayinlari. Ist. 1978.
2- Bilinmeyen Taraflariyla Bediuzzaman Said Nursi. N.Sahiner. Yeni Asya Yayinlari. Ist.1976. Baski. 4
3- Risale-i Nur Kulliyati Muellifi Bediuzzaman Said Nursi. Sozler Yayinevi 1976 Ist.
__________
(1) ilinmeyen Taraflariyle 437 ( ) ولعل هذا استجابة القدر الإلهي لما تمناه الأستاذ وأوصى طلابه بالا يعرف موضع قبره إلا النزر اليسير من الطلاب.(16/86)
رسالة الاجتهاد
للإمام بديع الزمان سعيد النورسي:
قراءة تحليلية
إعداد
أ.د.قطب مصطفى سانو
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة المؤتمر الإسلامي،
أستاذ دكتور للفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
مدير المعهد العالمي لوحدة الأمة الإسلامية بماليزيا
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب:
في أهمية موضوع الرسالة ومكانة صاحبها
في الفكر الأصولي المعاصر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،
فهذا الكتاب ينتظم قراءة تحليليَّة نقدية متأنية في إحدى رسائل الإمام العلامة الفهامة المجدِّد إمام العارفين بالله بديع الزمان كل الزمان سعيد النورسي- رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - تلكم الرسالة التي أودعها في الكلمة السابعة والعشرين من كليات رسائل النور حول المسألة الاجتهادية التي تعددت فيها الآراء، وتشعبت فيها الاتجاهات والمذاهب، وتناقضت فيها الأفكار والطروحات.
أجل، إنَّه ليس من ريبٍ في أن للاجتهاد مكانةً ساميةً وأهميةً كبرى في الشريعة الإسلاميَّة وذلك بوصفه المصدر التشريعي الثالث بعد الكتاب والسنة، والأساس الذي يقوم عليه الإجماع والقياس، والاستحسان والاستصحاب وسواه، كما ينبثق منه سائر المصادر الموسومة بالمصادر التعبية أو الأدلة الفرعية، كما أنَّ له دورا جبارا لا يستهان به وذلك بحسبانه الوسيلة المثلى التي يلجأ إليها لتحقيق قيوميّة الدين على الواقع المعيش، وتسديد جميع شعاب الحياة الإنسانية بتعاليم الدين الحنيف.(17/1)
وفضلا عن تينكما الوظيفتين، فإنَّ الاجتهاد كان ولا يزال الملاذ الآمن الذي يؤمُّه الغيارى ويعتصم به المحقّقون من أهل العلم بغية حماية حمى الدين من الغلو والتزمت والتطرف والتشدد وسواها من الأمراض الفكرية التي تبتلى بها الأمم التي تداس في ساحتها حرمة الاجتهاد، ويعبث به في أروقتها كل راح وغادٍ، فيغدو ـ والحال كذلك ـ مرتعا يرتاده كل من هبّ ودبّ من البلهاء والفضوليين وأنصاف العلماء!
وفي خضم تسلط المتسولين من أشباه المتعلمين على حمى النظر الاجتهادي ظلما وجورًا، وفي غمرة تصدِّي الغوغائين والعامة للدعوة إلى الاجتهاد والتجديد في كل عصر ومصر، في هذه الأثناء، يجب على الراسخين في العلم والمتمكنين من النظر الاجتهادي وأدواته بيان الموقف الشرعي الأسد والأحكم من المسألة الاجتهادية في ضوء الواقع المعاصر.
نعمْ، إننا نؤمن كل الإيمان بأن للاجتهاد بابا، وأنّ هذا الباب كغيره من الأبواب يجب أن يسدَّ ـ ولو إلى حين ـ عندما تدعو الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة إلى سدّه ل أسباب علمية وموضوعية وآنية، كما يجب أن يفتح إذا دعت ذات الضرورة أو الحاجة إلى فتحه؛ وكلا الأمرين ـ السد والفتح ـ اجتهاد، ومهمة جلل محظورة على العامة وأشباه المتعلمين وأدعياء العلم والمعرفة في كل عصر ومصر، وينيغي أن يتصدَّى لها الراسخون من أهل العلم الذين تمكنوا من أدوات الاجتهاد ومتطلباته في عصرهم.
وبناءً على هذا، فإنَّ ما نسمعه اليوم من دعوات مكرورة إلى فتح باب الاجتهاد والتجديد، لا مشروعية لهذه الدعوات ما لم تكن صادرة من أهلها، كما أن نسمعه أيضا من دعوات مناقضة ومتبرمة من الاجتهاد كل الاجتهاد والتجديد، هي الأخرى لا حظ لها من المشروعية إذا كان أربابها من بقايا مقلدة القرون الغابرة الذين تقاعسوا عن التمكن من أدوات الاجتهاد ومتطلباته في العصر الراهن.(17/2)
ومن ثم، تأتي أهمية رسالة الاجتهاد للإمام المجدد المجتهد بديع الزمان في منتصف القرن العشرين المنصرم، حيث أرادها رسالة نذير موجهة إلى اولئكم الذين يتطلعون إلى ممارسة النظر الاجتهادي قبل رسوخ أقدامهم وتمكنهم من أدواته في ذلك العصر، كما أرادها رسالة تنبيه وتذكير موجهةً إلى اولئكم الذين تمكنوا من أدوات الاجتهاد، ولكنهم لما يتمكنوا من المعرفة التأمة بالواقع الذي يراد تطويعه للمراد الإلهيِّ، وخلط عليهم الأمر، فعجزوا عن التمييز بين الأولويات ومراتب الأحكام، فدعوا إلى فتح باب الاجتهاد في الوقت الذي يؤدي فتحه والانشغال به إلى صرف الاهتمام بالثوابت والمعلوم من الدين بالضرورة.
وإضافة إلى هذا، فإنَّ رسالة الإمام أتت لتؤكد وتقرر مدى الحاجة أيامئذ إلى الاستغاء عن الاجتهادات الفردية وإحلال الاجتهاد الجماعي محلها، فتشابك المسائل وتعقد العلائق، وتأزم الأوضاع كل أولئك يجعل الاجتهاد الفردي عصرئذ غير مأمون ولا مضمون، بل لا بد من اللجوء إلى الاجتهاد الجماعي الذي من شأنه حماية البيضة، وصيانة حمى الشرع من التلاعب والعبث. وقد تحققت ـ بفضل الله ـ هذه الأمنية التي دعا إليها الإمام قبل أكثر من نصف قرن، فسعدت الدنيا بميلاد مجامع فقهية متعددة، وعلى رأسها مجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي يمثل ترجمة صادقة لما دعا إليه الإمام في منتصف القرن العشرين المنصرم.(17/3)
إن هذه الرسالة تعد تأكيدًا وإبرازًا لجانب مغمور من سيرة الإمام البديع العلمية، ذلك الجانب المتمثل في تمكنه الرزين واستيعابه المكين لمضامين الفكر الأصولي التليد، فلئن شاع لدى المطلعين على فكره وإسهاماته كونه إماما لا يشق له غبار في علم الكلام والفلسفة والمنطق والعقيدة والتفسير وسواه، فإنَّ شهرته في هذه المجالات طغت على شهرته في مجال الفكر الأصولي، إذ على الرغم من إحاطته الدقيقة بمباحث هذا الفكر، فإنَّه قلما تناول مترجمو حياته هذا الجانب المهجور من سيرته تناولا مفصلا. وليس بخافٍ على كل من له اطلاع على الفكر الأصولي بأن امتلاك الإمام ناصية المعرفة الأصولية كان له أثر جلي على اجتهاداته الموفقة في المسائل الفقهية التي تناولها في رسائله، كما كان لتلك المعرفة الشاملة أثر باهر على آرائه السديدة إزاء العديد من المسائل والقضايا سواء في مجال العقيدة أو الحديث أو التفسير أو سوى ذلك.
على أنه إذا امتدت يد النسيان والتهميش إلى شهرته في مجال الفكر الأصولي، فإنه لم يكن بدعا في هذا الأمر، فلقد امتدت يد التهميش والتهوين ذات يوم إلى شهرة الإمام الغزالي في مجال الفكر الأصولي، إذ لم يكن كثير من الناس يعدونه من علماء الأصول قبل انتشار كتابه العظيم المسمى بالمستصفى في علم الأصول. وعلى العموم، يحدونا أمل في أن تحظى كافة الآراء والاجتهادات الأصوليَّة الفذَّة التي جادت بها قريحة الإمام بالدراسة والتحليل والتحقيق في ال عاجل القريب.(17/4)
وأيَّا ما كان الأمر، فإننا نخلص في هذه المقدمة إلى تقرير القول بأن موضوعا رحبا وواسعا بمنزلة الاجتهاد لا يمكن تناول جميع مسائله في مؤلف واحد ناهيك عن رسالة صغيرة دوَّنها الإمام استجابةً للتحديات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي كانت مخيّمة على الساحة أيامئذ، وعليه، فإنَّ هذا الكتاب سيعنى بتحليل جملةٍٍ حسنةٍ من المباحث والموضوعات الواردة في المسألة الاجتهادية في رسالة الإمام، وستتجاوز ـ قصدًا ـ التطرق إلى العديد من المسائل الهأمة في المسألة الاجتهادية إما لعدم ورودها بصورة واضحة في رسالة الإمام أو لعدم ارتباطها ارتباطا مباشرًا بمضامين الرسالة.
وأما بالنسبة للمنهج العلمي الذي اتبعناه في هذا الكتاب، فيتمثل في اعتمادنا على ما يعرف في علم المناهج بمنهج تحليل المحتوى والمضمون، وهو عبارة عن تحليل علمي نقدي متزن لمضامين الرسالة، و محاولة فهمها في ضوء الظروف التي أملت على الإمام كتابتها، واختياره ـ رحمه الله ـ ذلك الموقف إزاء المسألة الاجتهادية في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة، فضلا عن استنطاقنا لما تضمنته تلك الرسالة الغراء من آراء واجتهادات أصولية تعكس تمكن الإمام من الفكر الأصولي واستيعابه الدقيق لما غدا يعرف اليوم بفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات.(17/5)
وأما محتويات الكتاب، فقد قسمناها على ستة فصول، تناولنا في اولها رأي الإمام في إحدى أهم مسائل الاجتهاد، وهي مسألة الخطأ والصواب في الفكر الأصولي، وتناولنا في الفصل الثاني رأيه في مجالات الاجتهاد، وإنما خصصنا هذين الفصلين لدراسة موقفه من هاتين المسألتين المهمتين في النظر الاجتهادي سعيًا منا إلى أن تكون قراءتنا لرسالته في الاجتهاد مبنية على رؤية علمية واضحةٍ من تصوره لبعض القضايا الشائكة من النظر الاجتهاديِّ، وليسهل علينا ـ في الوقت نفسه ـ الربط بين أفكاره والموقف الذي نادى به في رسالته الغرّاء. فضلا عن إيماننا بأن في بياننا موقفه من هاتين القضيتين إبرازاً للجانب الأصولي المجهول أو المغمور من سيرة الإمام النورسي - رحمه الله - وإننا لنؤكد منذ البداية أن هاتين المسألتين اللتين نوردهما في الفصلين القادمين ليستا سوى نماذج لآرائه الأصولية المبعثرة في مؤلفاته المتعددة، وإنما اقتصرنا على هاتين المسألتين نظراً لوضوح رأيه فيهما، ولما لهما من علاقة متينة ووطيدة برسالة الاجتهاد التي هي محل قراءتنا التحليلية والنقدية.
وأما الفصل الثالث، فقد خصصناه لدراسة تحليلية علمية نقدية لظروف تأليف الرسالة، وقد رمنا من تلك الدراسة تحليل أثر الظروف الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية التي كانت حاضرة في ذهن الإمام وهو ينسج أفكار هذه الرسالة، وتصدينا في الفصل الرابع لتحليل أعمق لمحتويات الرسالة، وتوضيح أشمل لكل فقرة من فقرات الرسالة الهامة، وربطنا تحليلنا بالواقع العلمي والأخلاقي والاجتماعي الذي كان سائدًا يوم أن أباح الإمام بأفكاره النيرة في هذه الرسالة إزاء المسألة الاجتهادية التي كانت أيامئذ ساخنة ومحل تنافر وتجاذب وتخاذل، وقد رمنا من تعميق تحليلنا لمحتويات الرسالة في هذا الفصل إظهار ما هدف إليه الإمام من غاية ومعنى وراء كل جملة أو عبارة صاغها في هذه الرسالة.(17/6)
وأما الفصل الخامس، فقد أودعناه محاولة نقدية هادئة لأهم الأفكار الناضجة التي اشتملت عليها الرسالة، وعالجنا في هذا الفصل ما يمكن أن يتسرب إلى الأذهان من سوء فهم لمقاصد الإمام ومراميه من رسالته، فضلا عن معالجتنا لما يمكن أن يفضي إليه فهم غير متوازن ولا عميق لمحتوى الرسالة من تصنيف غير سديد لموقف الإمام من المسألة الاجتهادية برمتها.
وأما خاتمة الكتاب، فقد ائتمناها أهم النتائج التي توصلنا إلينا، كما أشبعناها بأهم الاقتراحات التي تراءى لنا أثناء سياحتنا في فكر الإمام الأصولي الأصيل الدقيق المتوازن العميق في المسألة الاجتهادية، وإننا نخال تلك الاقتراحات ذات أهمية ومكانة عسى أن يحققها الغيارى والمخلصون من أبناء الأمة في ال عاجل القريب.
ومهما يكن من شيء، فإننا نؤكد ونقرر ونعترف بكل صدق وإخلاص بأن قراءتنا لهذه الرسالة للإمام العارف بالله بديع الزمان ـ رحمه الله ـ لا تعدو أن تكون قراءة متعلم، رأى في أفكار الإمام واجتهاداته سبيلا ناجعا لإخراج الأمة من الأزمة الحضارية التي تمر بها نتيجة ابتعادها عن تعاليم كتاب الله تعإلى وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فرسائل النور نور يستضاء به في هذا الزمان الذي رخصت فيه الأفكار، وكلت فيها الذمم، وتكالبت فيه الأعداء، وانقلبت فيه الأصدقاء.
والله المسؤول أن يجزي عنا وعن الإسلام الإمام بديع الزمان، فقد كان نذر حياته كلها لخدمة الإسلام و أهله، ودافع عن الإسلام وتعاليمه بكل ما أوتي من قوة فكر، وبلاغة لسان، وورثَّ الأمة هذا التراث العظيم في العقيدة والإيمان والتفسير والحديث والفقه والأصول، فعسى الله أن يجزل له ثواب هذا كله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إنه ولي ذلك وعليه قدير.
قطب مصطفى سانو
طالب رسائل النور، نزيل كوالالمبور بماليزيا.
الفصل الأول
موقف الإمام النورسي
من مسألة التصويب والتخطئة في الاجتهاد(17/7)
من القضايا الأساسية التي يقوم عليها البحث في الاجتهاد تعريفاً وحكماً وشروطا قضية اعتبار اجتهادات جميع المجتهدين صوابا أو اعتبار اجتهاد بعضهم صوابا وبعض آخر خطأ، وتعرف هذه المسألة بالتصويب والتخطئة، كما تعرف أيضا بالإصابة والخطأ في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص مطلقاً، أو ورد فيها نص ظني - دلالة أو ثبوتاً، أو دلالة وثبوتاً - من الكتاب والسنة، وقد حظيت هذه القضية اهتماماً كبيراً من لدن كبار علماء الأصول قديماً وحديثاً، ذلك لأن أكثر تعريفات علماء الأصول للاجتهاد تأثرا تأثرا مباشراً، أو غير مباشر بموقف المعرف من هذه القضية، بل إنه ربما تجلى تأثير موقف كثير منهم من هذه القضية على موقفه من التقليد وعدمه، ولايتوقف تأثير هذه القضية على الجانبين المذكورين فقط، وإنما يتبدى تأثيره كذلك على مواقف كثير من العلماء تجاه شروط الاجتهاد التي هي الأخرى كانت ولاتزال ذات تأثر مباشر وغير مباشر بهذه القضية؛ الأمر الذي يحدو بنا إلى ضرورة تبيين موقف الإمام النورسي - رحمه الله - منها قبل تناول موقفه من أي قضية أخرى بغية الإشراف بعد ذلك على جميع مسارح أفكاره في قضايا اجتهادية أخرى.
وإذ الأمر كذلك، فإننا نستهل الحديث حول هذه القضية بتوضيح المراد بمصطلحي التصويب والتخطئة، والإصابة والخطأ في الفكر الأصولي عند إطلاقهما في هذه القضية:(17/8)
بالرجوع إلى المدونات الأصولية(1)، نجد أنهم كانوا يطلقون مصطلح التصويب، ويريدون به اعتبار اجتهاد جميع المجتهدين في مسألة اجتهادية صوابًا، وأما مصطلح التخطئة، فإنه يراد بهم عندهم اعتبار اجتهاد أحد المجتهدين صوابًا واعتبار اجتهاد بقية المجتهدين خطأ دون معرفة عين المجتهد الذي اعتبر اجتهاده صوابًا، ودون اعتبار المخطئين آثمين في خطئهم الصواب، ويقابل هذين المصطلحين مصطلح ثالث، وهو مصطلح التأثيم، ويراد به اعتبار اجتهاد أحد المجتهدين صوابًا، واعتبار اجتهادات غيره خطأ يأثمون عليه.
وأما مصطلح الإصابة، فإنه يراد به موافقة ما توصل إليه المجتهد باجتهاده الحكم المعين لله في الحادثة في حقيقة الأمر، وبعبارة أخرى إصابة المجتهد في اجتهاده حكم الله المقرر للمسألة المجتهد فيها.
وأما الخطأ، فإنَّ المراد به عدم موافقة اجتهاد المجتهد الحكم المعين لله في الحادثة في واقع الأمر عند الله عز وجل. أو بتعبير آخر: خطأ المجتهد وعدم إصابته الحكم المعين لله في الحادثة المجتهد فيها؛ فإذا قيل إن كل مجتهد مصيب، فإنه يراد به أن ما هداه إليه اجتهاده في المسألة المختلف فيها من حكم هو حكم الله عز وجل، ولا يصح وصف ما توصل إليه بأنه خطأ بل هو صواب موافق لمراد المولى جل شأنه في تلك المسألة.
وأما إذا قيل إنه ليس كل مجتهد مصيباً، بل لا يصيب إلا واحد فقط من المجتهدين، فإنَّ المراد بذلك أن الأحكام التي توصل إليها المجتهدون ليس منها حكم موافق لحكم الله في الحادثة سوى حكم واحد فقط، وماعداه، فخطأ معفو عنه أكثرهم.
وينبني على القول بالتصويب تعدد الحق في المسألة الواحدة عند الله عز وجل، كما ينبني على القول بالتخطئة عدم تعدد الحق في المسألة الواحدة، ووحدة الحق مطلقاً.
__________
(1) لمزيد من التوضيح، ينظر كتاب معجم مصطلحات أصول الفقه للمؤلف مادة إصابة ومادة تصويب، طبعة دار الفكر بدمشق.(17/9)
وفي ضوء الموقف من هذين الرأيين، ظهر في الفكر الأصولي اتجاهان يعرفان بالمصوِّبة والمخطِّئة، ويراد بالمصوِّبة أولئك الأصوليون الذين تبنوا الرأي القائل بتصويب كل مجتهد في المسائل الاجتهادية، وأما المراد بالمخطِّئة، فيراد بهم أولئكم الأصوليون الذين اختاروا القول بأن المجتهد في المسائل الاجتهادية واحدٌ، والبقية مخطئون ولكنهم مأجورون وغير آثمين، خلافا للمؤثِّمة وهم الذين يعتبرون غير المصيبين في المسائل الاجتهادية آثمين عند الله في اجتهاداتهم. وبطبيعة الحال لا يقيم أحد من أهل العلم المحققين أي وزن لرأي المؤثمة لكونه مخالفا مخالفة صارخة لما تضافرت النصوص الشرعية على إثباته وهو كون المجتهد المخطئ في المسائل الاجتهادية مأجورًا عند الله.
وعلى كل، إذا تبينت لنا حقيقة كلا مصطلحي التصويب والتخطئة والإصابة والخطأ، فإننا استعجلنا بالقول بأنه قلما يخلو كتاب في علم أصول الفقه لم يعن بتفصيل القول في هذا النزاع تحت عناوين مختلفة، ومضامين متحدة، وإن كانت قد اشتهرت اشتهاراً بمبحث "هل كل مجتهد مصيب، أم أن المصيب واحد"1.
الأمر الذي يجعلنا نبتعد عن سرد الأقوال الواردة فيها، وإنما نكتفي ببيان بعض مايترتب من آثار فقهية عميقة الجذور على هذا النزاع بين المصوبة والمخطئة، وربما ذهب بعض الناس إلى القول بأن النزاع بينهم نزاع لفظي عديم الأثر، بيدَ أن الحقيقة التي لا مرية فيها هي أن نزاعهم حول هذه القضية ذو آثار عظيمة سواء على صعيد تعريفات الاجتهاد كما اشرنا إلى ذلك سابقاً، أو على صعيد حجية الحكم الذي يتوصل إليه المجتهد باجتهاده، أو على صعيد شروط الاجتهاد، وحكم تقليد مذهب وعدمه، وغير ذلك من الأصعدة التي لايسعنا حصرها.(17/10)
فعلى صعيد تعريفات الاجتهاد - مثلا - يجد المرء أن العلماء الذين ذهبوا إلى تعريف الاجتهاد بأنه بذل الوسع من أجل التوصل إلى الحكم الشرعي بطريق الاستنباط، أو أنه بذل الفقيه وسعه من أجل تحصيل الحكم الشرعي الخ.. تقوم هذه التعريفات على القول بالخطأ، ذلك أن مايتوصل إليه المجتهد ليس بحكم جديد محدث، وإنما هو حكم أزلي قديم قد يصيبه المجتهد وربما يخطئه، ولذلك لأمر ما أبى هؤلاء إلاّ أن يربطوا عبارة "الحكم الشرعي" بـ"أل" التعريف، أي الحكم الشرعي المعين لله في الحادثة، وليس صنيع المجتهد في التعرف على ذلك الحكم معصوما عن الخطأ، والإصابة، وهلم جراً..
وأما أولئك الذين ذهبوا إلى عدم تقييد تعريف الاجتهاد بالقيد المذكور "أل"، فإنَّ مرمأهم القول بأن الحكم الذي يتوصل إليه المجتهد هو الذي ينبغي اعتباره حكم الله المعين بالنسبة لذلك المجتهد، و لا مانع أن يتوصل غيره إلى حكم آخر ينبغي اعتباره أيضا حكم الله المعين، وأساس هؤلاء متأثر باتجاههم القائم على اعتبار كل مجتهد مصيبا في المسألة الاجتهادية، وهكذا دواليكم..
وأما على صعيد حجية الحكم الاجتهادي، فإنَّ المرء يستطيع أن يدرك بأدنى تأمل أثر هذا النزاع في مواقف العلماء، ويدرك أن ما انتهى إليه المخطئة يعتبر إلزاماً غير مباشر بالحكم الذي يتوصل إليه المجتهد، إذ الحكم الذي يترجح لديه هو حكم الله المعين الذي لايصح لامرئ مخالفته في نهاية المطاف، وينتج عن هذا فتح الباب على مصراعيه بطريقة غير مباشرة لتقليد المجتهدين، وعدم الخروج على الأحكام التي توصلوا إليها في اجتهادهم.(17/11)
وأما على رأي المصوبة، فإنه على نقيض ذلك، ذلك لأن الحكم الاجتهادي الذي توصل إليه المجتهد باجتهاده ليس ملزما لأحد من الناس، بل يصح لغيره أن يتوصل إلى حكم مغاير لحكمه، ويكون حكمهما كليهما حقا لايثرب أحدهما على الآخر البتة، ذلك ان الحق يتعدد المجتهدين، وليس صحيحاً في شئ الوقوف والجمود عند حكم توصل مجتهد في اجتهاده، بل ليس من الحكمة في شئ إلزام الناس بحق بعينه، فكل ملزم بالحق الذي يترجح لديه، ويعثر عليه مادام قد توافرت فيه شروط البحث والاجتهاد عن الحق.
وأما على صعيد التقليد، فإنَّ المرء ليدرك بجلاء جلي أنه ما كان للتقليد ليشق طريقه في اوساط المصوبة لولا سطوة بعض الولاة الذين حرموا على الناس النظر والاجتهاد، وسدوا عليه باب الاجتهاد سدا، وأقاموا محاكم لمكافحة الاجتهاد ومدعيه حفاظاً على نفوذهم، وخشية من فضح بعض تصرفاتهم.. وما كان للتقليد ليرحب به في اروقة المصوبة وهو الذي يلعن كل من يمعن النظر والفكر في نصوص الكتاب والسنة كما أمعن النظر فيهما سلفنا الصالح - رحمهم الله - الذين يقلدهم فئام من الناس ابتلوا بقصر النظر، وفتور الهمة، وكللهما..
ولكن أكرم بالتقليد عظيماً وعزيزاً في اوساط كثير من المخطئة الذين يضيقون ذرعاً بأي اجتهاد يخالف ما توصل إليه مجتهد من المجتهدين المعتبرين ولو كان رأيه أكثر سداداً وقوة من الرأي السابق عليه!(17/12)
ولولا القول بالتخطئة لما قام للتقليد قيام، ولا وجد له بين الورى وجود، ذلك لأنها هي المقدمة التي يقوم عليها التقليد، نعني ان الزعم باعتبار حكم واحد حكم الله المعين والاعتداد به دون غيره من الاحتكام الاجتهادية ينتج عنه ضرورة اتباع ذلك الحكم، والتمسك به طوعاً وكرهاً، وذلك هو عين التقليد الذي ينتهي بصاحبه إلى معرفة الحق بالرجال، وليست معرفة الرجال بالحق.. صحيح ان بعض المخطئة لايرون تقليد الرجال، ولايؤمنون به مطلقاً، بيدَ أن التقليد أثر من آثار ماقرروه، وانتهوا إليه، ولذلك لم نجد حرجاً في اعتبار التخطئة ذريعة إلى القول بالتقليد والإلزام به.(17/13)
وأيَّا ما كان الأمر، فإنه يمكن الخلوص إلى تقرير القول بأن القول بالتصويب - وإن نسب إلى المعتزلة والأشاعرة، وبعض السلف في فترة من التاريخ - نخاله أوفق وأولى وأسد من القول بالتخطئة في المسائل الاجتهادية إذا أريد لعملية الاجتهاد أن تستمر وتواكب مستجدات الحياة وتطوراتها، بل إن ذلك أجدى عملياً لإخضاع كثير من الأفهام الاجتهادية التي تأثرت وتتأثر بالظروف والبيئة والزمان والمكان والأعراف لئلا تتخذ تلكم الأفهام دينا خالداً مخلداً لا يعاد فيها النظر على ضوء الأحداث والملابسات الجديدة الوافدة، وعلى ميزان العادات والأعراف المتغايرة والمختلفة، فليس صحيحا حصر الاجتهاد في بذل الوسع من أجل التوصل إلى حكم الشرع في قضايا العصر الجديدة فقط، ولكنه أوسع وأشمل من ذلك بكثير إذ إنه يشمل بذل الوسع كذلك في التعرف على حكم الله من النصوص الظنية الدلالة التي سبق لمجتهد أي مجتهد ان أوسعها - متأثراً - دونما ريب - بظروفه، وزمانه، ومكانه، وعرف بلده الخ - جانب النظر والاجتهاد، فتوصل إلى حكم اعتبره حكم الشرع تجاوزاً بالنسبة له، بل إن بذل المجتهد وسعه في الترجيح بين آراء اجتهادية مختلفة يعتبر في حد ذاته اجتهاداً لايقل عن اجتهادات أولئك الناس الذين سبقوا إلى تلك الآراء، وهكذا دواليكم..
ولأمر بل لحكمة ما يجد المرء عند تصفحه كتب الأصول أن القول بالتصويب كان أكثر رواجاً لدى الأصوليين الفطاحل من القول بالتخطئة على الرغم من تسلط سيف التقليد على كل من ساورته نفسه الاجتهاد في المسائل التي اجتهد فيها السابقون، وماسر هذا الرواج لذلك الرأي في نظرنا سوى ردة فعل لعلم الأصول الذي يعتبر في حقيقته حساماً حاداً للتقليد والمقليدين إذا ما أتيح لعلمائه فتح باب الاجتهاد، وعدم حظره عليهم تحت أي ظرف من الظروف..وعلى كل، نختم هذا الحديث بما قاله أحد المفكرين المعاصرين بهذا الصدد:(17/14)
".. وبالنظر إلى وضع المسلمين اليوم، فإنَّ مذهب التصويب أنسب لمعالجة عللهم، إذ هو يدفع إلى أن يجتهد العلماء في فهم الظنيات من الأحكام ليصدروا منها بأفهام تسدد الأوضاع الكثيرة الماثلة عن سمت الدين، وتكون هذه الأفهام مبنية على ما فيه صلاح هذه الأوضاع اعتباراً بمستجدات عناصرها، ومتشابك ملابساتها، ومتحررة من أفهام اجتهادية، قد تكون صدرت عن مجتهدين قدامى في ذات النوع من القضايا، ولكنها كانت مبنية على أوضاع وملابسات طواها الزمن، وبسط أوضاعا وملابسات جديدة، ثم تؤخذ هذه الأفهام الاجتهادية الجديدة على أنها مراد الهي لتكون لها بذلك قوة النفاذ، وفعالية الأصلاح، وتعبئة النفوس للانجاز، وعلى هذا الأساس، فإننا نعتبر الاجتهاد في الفهم يناسبه في واقع المسلمين اليوم أن يقوم على خليفة تصويبية تنأى به عن التقليد، وتدفعه إلى التجديد مع استصحاب التحري الذي يعصم من مدخلات الهوى، ومفاتن الشيطان.."2.
وهكذا، يتبين لنا بعض ما لهذا النزاع من آثار علمية وعملية، وإن المقام لا يتسع لأكثر مما ذكرنا، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن اتجاه عالمنا الفهامة - النورسي رحمه الله - في هذا النزاع الذي احتدم حوله ذات يوم نقاش وجدال واسع النطاق بين علماء الأصول.. ونبادر للإجابة على ذلكم التساؤل بالقول بأن التأمل الحصيف، والنظر الدقيق في آراء الإمام الاجتهادية ليهديان المرء إلى القطع بأنه قد كان ممن يقول بالتصويب، ويدين الله به ويدافع عنه في مواضع ومواقف كثيرة، وللبرهنة على ذلك نورد عنه بعض النصوص التي تدل دلالة صريحة وغير صريحة على ما ادعيناه، ونستهل ذلك بنص يفهم منه ضمنا بأنه من المصوبة، ونعقبه بنص آخر صريح يصدق الأول ، أما النص الضمني الأول فهو قوله:(17/15)
".. كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه له أن يجتهد لنفسه في غير مأورد فيه النص من دون أن يلزم الآخرين به، إذ لايستطيع أن يشرع ويدعو الأمة إلى مفهومه. إذ فهمه يعد من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الإنسان مجتهداً ولكن لا يمكن أن يكون مشرعاً.."3.
فهذه العبارات دلائل ساطعة على أنه من المصوبة الذين يؤمنون بتعدد الآراء واختلافها، والذين يوقنون بأن الحق يتعدد المجتهدين، فيدفعهم ذلك اليقين إلى عدم التثريب على الاخرين، وإلى عدم التسلط على الآراء المخالفة لآرائهم، إذ انهم ليسوا مشرعين، لأن التشريع يقتضي الإلزام والإجبار، بمعنى ان التشريع لا يوكل أمره الا إلى من كان ذا سلطة وقدرة على الإلزام والإجبار، لأنه يعني سن القوانين والإلزام بها، والمجتهد أبعد مايكون عن ذلك، فرأيه قابل للمراجعة والمناقشة وربما للرفض والرد إذا ظهر وهنه واتضح ضعفه..
والذي نصل إليه من هذه العبارات هو التأكيد على انتماء الإمام إلى القائلين بالتصويب، ودفاعه عن ذلك المبدأ الذي يتمثل في تقبل تعدد الآراء، والإيمان بتعدد الحق بتعدد القائلين به في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص مطلقا، أو ورد فيها نص ظني من حيث الدلالة تختلف في فهمه الأفهام، كما تختلف في تنزيله على الواقع العقول أيضا.
ويكفي هذا النص للدلالة على كونه من المصوِّبة، بيدَ أننا تأكيداً على زعمنا نورد هذا النص الصريح الذي يعاضد النص السالف ذكره، ويسانده أيما مساندة، وهذا مأورد عنه في معرض اجابته على سؤل سائل عن كون الحق واحداً مع وجود الأحكام المختلفة للمذاهب الاربعة والاثني عشر، فقال ما نصه:(17/16)
".. فإن قلت: إن الحق واحد، فكيف يمكن أن تكون الأحكام المختلفة للمذاهب الاربعة والاثني عشر حقاً؟ الجواب: يأخذ الماء أحكاماً خمسة مختلفة حسب اذواق المرضى المختلفة، وحالاتهم: فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، أي تناوله واجب عليه طبا. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر، فهو كالسم له، أي يحرم عليه طبا. وقد يولد ضرراً أقل لمريض آخر، فهو إذا مكروه له طبا. وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسن له طباً. وقد لايضر آخر ولاينفعه، فهو له مباح طباً، فليهنأ بشربه!
فنرى من الأمثلة السابقة أن الحق قد تعدد هنا، فالأقسام كلها حق، فهل لك أن تقول: إن الماء علاج لا غير، أو واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟
وهكذا - بمثل ما سبق - تتغير الأحكام الإلهية بسوق من الحكمة الإلهية، وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً، وبكون كل حكم منها حقاً، وبصبح مصلحة.."4.
وهكذا يقرر الإمام النورسي - رحمه الله - موقفه من مسألة التصويب والتخطئة في المسائل الاجتهادية، ويصر كل الإصرار على القول بالتصويب كما كان ذلك قولا مختارا ومأثوراً عن جمهرة علماء الأصول في حقبة تاريخية تولت، وإذا كان أولئكم الأصوليون ذهبوا إلى اختيار هذا الاتجاه في هذا النزاع، وأيدوا آراءهم بأدلة اجتهادية كثيرة مستنبطة من نصوص قرآنية وحديثية مختلفة، فإنَّ الإمام النورسي لم يسلك مثل ذلك المسلك في الاستدلال على صحة القول بالتصويب، وإنما عز عليه - كما هو حاله في كل رأي يقرره ويرجحه - أن يؤيد ويساند ما يقوله بأمثلة عملية واضحة مقنعة، وبغض النظر عن توفيقه في تلك الأمثلة أو عدم توفيقه، فإنه ليسجل له بمداد من التقدير والتبجيل هذا المسلك المنبثق عن فهمه لمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية في تقرير وتثبيت الأفكار والأحكام عن طريق ضرب الأمثلة العملية الواقعية ابتعاداً عن التوغل في المثاليات والافتراضات.(17/17)
و أضف إلى هذا أن الإمام النورسي - رحمه الله - قد أورد في هذا الموضوع دليلاً غير مباشر لم أعثر عليه عند غيره من العلماء الذين عنوا بترجيح القول بالإصابة على القول بالخطأ في المسائل الاجتهادية، ويمكن استخلاص ذلك الدليل من خلال الأمثلة التي ضربها وهو الاعتراف بوحدة الحق في أصله ولكن اعراضه هي التي تتعدد بتعدد المجتهدين بناء على اختلافهم في الأفهام والظروف والأعراف والبيئات، والأزمان والاماكن، وكانه بذلك يريد أن يقول إن تعدد الحق ليس تغييراً في حقيقة الأمر لمبدأ وحدة الحق والحقيقة، وإنما الذي يتعدد في حقيقته هي الأعراض المرتبطة بذلك الحق، ويرجع ذلك التعدد لأعراض الحق الواحد إلى عوامل خارجية متعددة، الأمر الذي يؤكد تأثر الاجتهادات والآراء بتلك العوامل من بيئة، وظروف، وزمان، ومكان، وفهم، وليس المجتهد في حقيقة أمره سوى ابن بيئته وظروفه، وزمانه ومكانه، وكل أولئك العوامل تتضافر لتحدث للحق الواحد اعراضاً مختلفة ومتعددة تؤدي في النهاية إلى القول بتعدد الحق تجاوزا.(17/18)
فكاني بالإمام النورسي يرمي إلى القول بأنه لا بد للصدور من أن تتسع لتقبل الآراء المختلفة في المسائل الاجتهادية لانها متأثرة بعوامل متعددة، و لا بد للمتصدين للاجتهاد من أن يتفهموا ظروف المجتهدين الآخرين، فكل ذلك مؤد إلى ايجاد بيئة تعايش سلمي بين الناس نزولاً عن رغبة البارئ - جل شأنه - الذي برأ الناس وخالف بين ظروفهم وافهمامهم وبيئاتهم، وأزمانهم، واماكنهم، ولم تك هذه المخالفة من فراغ ودون آثار في حقيقة الأمر، وإنما اريد بها اختبار الخلق في مدى تقبل بعضهم لبعض علمياً وعملياً، وتذكيرهم دوما وأبدا بأن الذي يملك سلطة التشريع بسن القوانين والأحكام الملزمة للبشر كل البشر هو الخالق سبحانه وتعالى، واذ ذلك كذلك، فليس لامرئ مهما علا شأنه، وعظم أمره أن يسلط رأيه وفهمه على آراء وافهمام الاخرين تحت ستار ادعاء على الله، أو تحت ستار الوصاية على المولى تبارك اسمه.
وهكذا يقرر الإمام النورسي أهمية القول بالتصويب في المسائل الاجتهادية، ويعقب ذلك التقرير بايراد مثال عملي يؤكد على ماسبق ان قررناه بأن تعدد اعراض الحق منبثق في صميمه من اختلاف الاعراض، والبيئات ، والظروف، والأزمان، والاماكن، فيقول:
".. نجد أن أكثرية الذين يتبعون الإمام الشافعي - رضي الله عنه - هم أقرب من الاحناف إلى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحد الجماعة. فيرغب كل فرد في بث مايجده في نفسه إلى قاضي الحاجات بكل اطمئنان، وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه، ويلتجئ إليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه رغم أنه تابع للإمام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه.(17/19)
أما الذين يتبعون الإمام الاعظم "أبو حنيفة النعمان" - رضي الله عنه - فهم بأكثريتهم المطلقة أقرب إلى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام أغلب الحكومات الإسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كانها فرد واحد، وأصبح الفرد الواحد يتكلم باسم الجميع، وحيث إن الجميع يصدقونه، ويرتبطون به قلبا، فإنَّ قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الإمام بـ"الفاتحة" هو عين الحق، وذات الحكمة.."5
وهكذا حاول الإمام النورسي في هذا المثال أن يومئ إلى البيئة التي تربى فيها هذان الإمامان العظيمان، تلك البيئة التي كان لها تأثير على اتجاهاتهما الفكرية سواء في اجتهاداتهم الإنشائية، أو في اجتهاداتهم الترجيحية بين النصوص كما هو الحال في هذا المثال، نعني أنه قد كان للبيئة أثر في ذهاب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى اختيار وترجيح وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة لكل فرد إماما ومأموماً على القول بعدم وجوب قراءتها للمأموم مطلقا كما هو الحال عند الإمام ابي حنيفة - رحمه الله - ومرمى الإمام من تقرير مثل هذا الاتجاه يتمثل في تذكير اتباع المذاهب بالعوامل التي تضافرت وتكاثفت في ايجادها، وضرورة فهم المذهب في نطاق تلك العوامل بغية احسان التعامل معها إن موافقة أو مخالفة.
ودونما شك ليست البداوة أمراً مشيناً في حد ذاتها، كما ان الحضارة ليست هي الأخرى أمراً مشرفاً في حقيقتها، وليس أي منهما أفضل من الآخر، فلكل مزاياها وخصائصها، ولذلك فإنه لا ينبغي فهم المثال الذي أورده الإمام بأنه انتقاص من المذهب الشافعي ذلك المذهب الذي كان الإمام نفسه يعتنقه في الفروع، وكذلك لايصح أن يفهم من مثاله أنه اعتزاز بالمذهب الحنفي القائم وقتئذ في الدولة، فليس مثل الإمام النورسي ذلك الشخص الذي يخضع آراءه للمزايدات، أو التزلفات، أو إرضاء العباد دون رب العباد.(17/20)
وهكذا، نستطيع أن نخلص إلى القول بأن الإمام النورسي - رحمه الله - قد وفق في نظرنا في الأمثلة الأولى التي أتى بها للبرهنة على رجاحة القول بالتصويب على القول بالتخطئة، كما أصاب الهدف في المثال الاخير الذي ضربه للتأكيد على تأثير الظروف والبيئة والزمان والمكان على الآراء الاجتهادية، ودورها كذلك في ايجاد اعراض مختلفة ومتعددة للحق الواحد. وعند هذه النقطة نودع الإمام النورسي في ترجيحه القول بالتصويب علنا نحظى بمطالعة أخرى لبعض آرائه وتحليلاته الأصولية الموفقة سائلين المولى أن نكون قد وفقنا فيما حررناه، وأن يمن علينا دوما وأبدا بسداد القول إنه ولي ذلك، وعليه قدير.
الفصل الثاني
مجالات الاجتهاد عند الإمام النورسي
إن هذا الفصل يعد في أساسه تكملة للفصل الذي قبله، ذلك أن تبيين المجالات التي يرفع فيها كل من أشرف على شروط الاجتهاد واستولى عليها لفي غاية من الأهمية والاعتبار، وإذا كان العلماء قد اختلفوا فيما بينهم حول التصويب والتخطئة في الاجتهاد، فإنَّ الأمر لا يعني بأي حال من الاحوال أن ذلك الاختلاف عام ومطلق بحيث لاتخلو مسألة في الدين الا وتجري عليها هذا الاختلاف القائم في أساسه على الاجتهاد، فليس الأمر كذلك، وإنما يفترض ويقبل ذلك الاختلاف في نطاق مجالات معينة، وفي حدود نصوص ذات صبغة معينة، ويعني هذا أن توضيح المجالات التي يجري فيها ذلك الاختلاف ويقبل لاتمام للمبحث الأول إلا به، مما يدفعنا إلى تخصيص هذا المبحث لتناول ذلك الموضوع علنا ندرك تلك الالمعية في التفكير والدقة في التعبير اللتين كان يتمتع بهما الإمام النورسي - رحمه الله - فنقول:(17/21)
يراد بمجالات الاجتهاد المسائل التي تتسع لاجتهادات المجتهدين ومناقشاتهم، ومحاوراتهم، وقد تكون تلك المسائل ذات نصوص لكنها نصوص ظنية في ورودها، أو في دلالتها، أو في كلا الأمرين، وربما تكون تلك المسائل عديمة النصوص على الإطلاق. وتتفاوت درجات الاجتهاد في هذه المسائل في كلتا الحالتين، كما أن له حدوداً وضوابط لايصح له تجاوزها ولا الاعتداء عليها لأي سبب من الأسباب، فبالنسبة للمسائل ذات النصوص الظنية الورود، فإنَّ مهمة المجتهد تتلخص في سعيه الحثيث نحو التحقق والتثبت من صحة النص وعدم صحته، ليبني على ذلك الاجتهاد رأيا بقبول الحكم الذي دل عليه ذلك النص أو رده بناء على ماترجح لديه حيال طريقة ورود النص وقد عني علماء الحديث في تاريخنا الإسلامي بوضع علم يقوم على ضبط الاجتهاد في أسانيد النصوص، وهو العلم الذي اشتهر في دنيا الناس بعلم الرواية "المتفرع عن علم المصطلح"، ولا يليق بمجتهد كائن من كان أن يتجاوز مبادئ ومقررات ذلك العلم الذي نال اهتماما أي اهتمام من لدن سلفنا الصالح، وتضافرت الجهود على ضبط مباحثه على مر الاجيال، وكر الدهور.
وأما بالنسبة للمسائل ذات النصوص الظنية الدلالة، فتتجه جهود المجتهدين إزاءها نحو اختيار وترجيح دلالة أو معنى من الدلالات والمعاني المحتملة من تلك النصوص بغية اعتبارها بعدئذ هو المعنى الذي قصده المشرع من النص، وكثيراً مايتأثر هذا الاجتهاد بعوامل اللغة، والفهم، والعرف، والظرف والمكان والبيئة والزمان، نعني أنه ربما استند مجتهد في ترجيحه على خلفيات علمية ظرفية وزمانية ومكانية في ترجيحه معنى على آخر، بل ربما اعتمد في أمره ذاك على منهجية معينة ترجحت لديه، وهكذا دواليكم ! وأما بالنسبة للمسائل ذات النصوص الظنية ورودا ودلالة، فإنَّ شأن الاجتهاد يقتضي الجمع بين العمليتين السالف ذكرهما آنفاً، ولكل مجتهد طريقته ومنهجه في ذلك.(17/22)
وبالنسبة للمسائل عديمة النصوص - ظنية أو قطعية - فإنَّ الاجتهاد فيها يتطلب الحصول على معارف وخيرات وتراكمات معلوماتية مشرفة على إدراك وفهم مقاصد الشرع واهدافه من التشريع بصورة دقيقة مركزة قصد إلحاق تلك النصوص، أو لكونها مندرجة تحت قاعدة عامة، وأصل كلي، وغير ذلك، فمهمة المجتهد تجاه هذه المسائل أكثر حاجة إلى الفهم والضبط والدقة من مهمته في المسائل ذوات النصوص.
وأيا ما كان الأمر، فإنَّ مجال الاجتهاد في الفهم يظل محصورا في المسائل المشار إليها، نعني أنه إذا كان للاجتهاد من حق في خوض غمار النصوص وبحث عن أحكام للمسائل، فإنه لايتجاوز من حيث الفهم الحدود التي اشرنا إليها، فلايليق باجتهاد محترم من مجتهد معتبر أن يقتحم مجال القطع من النصوص وروداً أو دلالة وبمجرد مايكون النص قطعياً، فإنَّ معنى ذلك الا مجال للاجتهاد أي اجتهاد من حيث الفهم في المساس به..
واذ الأمر كذلك، فإننا نعود فنقرر بأن مبحث التصويب والتخطئة في الاجتهاد يدور رحاه في مجالات معينة أشار إليها الإمام النورسي إشارة غير مباشرة في ثنايا حديثه حول بعض القضايا الاجتهادية، ويمكن تلخيص تلك المجالات بعد استنباطها من مواضع مختلفة في الآتي:
المجال الأول : المسائل الفرعية:
ويراد بها المسائل التي ورد في شأنها نص، أو نصوص ظنية سواء من حيث الورود أو الدلالة، وقد ألمح الإمام النورسي إلى هذه المسائل في معرض تعنيفه على بعض أدعياء الاجتهاد في عصره، فقال ما نصه:
".. هؤلاء الضالون يرومون هدم الضروريات الدينية وتغييرها، فلو قالوا: نحن أفضل من المجتهدين لم تنته قضيتهم حيث إن ميدن المجتهدين النظر في المسائل الفرعية دون النصوص الشرعية"6
وقال في موضع آخر مشيرا إلى الفرق بين المسائل الفرعية ذوات النصوص الظنية - ورودا أو دلالة أو كلأهما - والمسائل الأصولية ذوات النصوص القطعية، وكون الأولى مجالا للاجتهاد:(17/23)
".. إن الضروريات الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها، والتي هي في حكم القوت والغذاء قد أهملت في العصر الحاضر واخذت بالتصدع.."7، ويروم الإمام النورسي من هذه العبارات كلها التأكيد على أنه ليس للاجتهاد من حق في اقتحام مجالات هذه الضروريات التي ثبتت بنصوص قطعية، ولذلك حقيق على المجتهدين ألا يوسعوا هذه الضروريات جانب الاجتهاد والنظر، وحري بهم عدم المساس بها لأي سبب من الأسباب.
ويتضح من خلال ما أوردناه أن اول مجال يلجه الاجتهاد في نظر الإمام النورسي هو النصوص الظنية الورود أو الدلالة، وهي التي عبر عنها في أكثر من موضع بالمسائل الفرعية ومرماه من ذلك تلك النصوص التي لم ترق أحكامها إلى درجة الضروريات الدينية القطعية. ولم نعثر حسب ما اطلعنا عليه من مؤلفات الإمام تناولا موسعاً لضوابط تلك المسائل الفرعية، بيدَ أن ذلك الاصطلاح اصطلاح معهود لدى علماء الأصول، ومرادهم به جميعا هي المسائل الفقهية أو الاجتهادية، كما أن مرادهم بالمسائل الأصولية هي المسائل القطعية التي لايقبل الخلاف فيها البتة لقطعيتها ووضوحها وجلائها.
المجال الثاني: المسائل والوقائع المستجدة:
وعلى كل، ليس هذا المجال الوحيد الذي كان الإمام النورسي - رحمه الله - يراه مجالا للاجتهاد، بل هناك مجال آخر كان يرى أن للاجتهاد اقتحامه دونما رهبة أو تردد، بل إذا كان الاجتهاد مطلوباً في المجال الأول، فإنه في المجال الثاني أكد وألزم لكي لاتبقى الأحداث والوقائع بلا نصوص، وهذا المجال هو مجال الاجتهاد الثاني، ويراد به المسائل المستجدة والوقائع الحديثة التي لم يؤثر عن الشارع نص لاظني ولاقطعي في شأنها، وقد أشار الإمام النورسي إلى تسويغ الاجتهاد في هذه المسائل بقوله:
".. كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد، وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص من دون أن يلزم الآخرين به.."8(17/24)
و أكد الإمام النورسي على قابلية هذه المسائل للاجتهاد في محل آخر في ثنايا حديثه عن أسباب تغير الأحكام بتغير الظروف والازمنة والأمكنة، فقال مانصه:
".. تتبدل الشرائع بتبدل العصور، وقد تأتي شرائع مختلفة، وترسل رسل كرام في عصر واحد حسب الاقوام. وقد حدث فعلاً. أما بعد ختم النبوة وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه أفضل الصلاة والسلام - فلم تعد هناك حاجة إلى شريعة أخرى ، لأن شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر، أما جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها التي يقتضي التبديل تبعاً للظروف، فإنَّ اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل. فكما تبدل الملابس باختلاف المواسم، وتغير الادوية حسب حاجة المرضى كذلك تبدل الشرائع حسب العصور وتدور الأحكام وفق استعدادات الامم الفطرية، لأن الأحكام الشرعية تتبع الاحوال البشرية، وتأتي منسجمة معها، وتصبح دواء لدائها.."9
فقوله في النص الأول ".. له أن يجتهد في غير ما ورد فيه النص"، وقوله كذلك في النص الثاني ".. أما جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها" يشير إلى أن المجالين اللذين يسوغ الاجتهاد فيهما، ويصدقان أيضا بطريقة غير مباشرة على المجال الأول الذي يتسع فيه الاجتهاد ليشمل استنباط الأحكام الشرعية من النصوص وتخصيص عامها، وتقييد مطلقها، وتفصيل مجملها، وتوضيح مبهما، ورفع مشكلها، وتبيين خفيها، وهلم جرا، كما يشمل أيضا إلحاق أمر غير منصوص على حكمه تنصيصا صريحا بأمر منصوص على حكمه لوجود علة مشتركة جامعة بينهما، وكل هذا نابع في أساس الأمر من حسن تصور وفهم النصوص الظنية الدلالة.(17/25)
ولكن النصين نصان في الدلالة على المسائل غير ذوات النصوص مطلقاً، ونعني أنهما ينصان على أن الاجتهاد سائغ ومطلوب في المسائل التي لم يرد فيها نص كتاب أو سنة مطلقا، ولم ينعقد إجماع من قبل على حكم فيها، ومهمة الاجتهاد حيال هذه المسائل تتمثل في استنباط أحكام لتلك المسائل من خلال الأصول الكلية، والقواعد العامة للشريعة، وذلك عن طريق فهم مركز لمقاصد الشريعة، واهدافها، وحسن تصور لدور الادلة التبعية من المصالح المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع الخ.. وليس بالضرورة في شئ وجود علة مشتركة جامعة بين هذه المسائل والنصوص المتضمنة الأصول الكلية والقواعد العامة للشريعة.
إذا، نستطيع أن نخلص إلى القول بأن عبارة الإمام النورسي شاملة لكلا المجالين اللذين يحق للاجتهاد الدوران في جنباتهما دونما وجل ولاخجل.
وإذا تبين لنا ذلك، أسرعنا إلى القول بأن مبحث التصويب والتخطئة جار على هذين المجالين، ومستوعب لمسائل هذين المجالين، لا اعتبار لذلك المبحث في نطاق المسائل ذوات النصوص القطعية وروداً أو دلالة، وايما اجتهاد دفع بصاحبه إلى تجاوز ذينكما المجالين فإنه يؤدي به في النهاية إلى ركوب متن الشطط والانحراف عن الجادة، وربما فقدان أحد شروط صحة الاجتهاد المعتبرة الذي هو العدالة والورع، مما يجرد صاحبه في نهاية أمره من أهلية الاجتهاد واحقيته.
بناء على هذا يمكننا أن نقول - وبشئ كبير من الاطمئنان - بأن الإمام النورسي قد وفق تحديده غير المباشر لمجالات الاجتهاد، ولضبطه لمدار الإصابة والخطأ في الاجتهاد، وهو بصنيعه ذاك مدرك، ومستوعب بل تابع لعلماء أصوليين كبار عنوا بالتنصيص على هذه المجالات كالإمام الشوكاني الذي اجمل ماقاله من سبقه من أئمة علماء الأصول العظام، وهذا مقتطف لما ذكره الإمام الشوكاني في هذا المجال:(17/26)
".. فاعلم أن المجتهد فيه هو الحكم الشرعي العملي، قال في المحصول - يقصد الرازي-: المجتهد فيه: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع. واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام. وبقولنا: ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، ومااتفقت عليه الائمة من جليات الشرع.."10
فجملة "كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع" من هذا النص شامل وصادق على المجالين اللذين أشار إليهما الإمام النورسي، ولاشك أن مرمأهم من لفظ "حكم شرعي" هو المسألة المجتهد فيها التي يتوصل بعد الاجتهاد فيها إلى مايظنه أنه هو الحكم الشرعي، وكاني به يرمي إلى القول بأن المسألة التي لم يرد فيها نص مطلقا هي التي تتسع للاجتهاد، وكذلك الحال في المسألة التي ورد فيها نص غير قاطع، فانها هي الأخرى مجال للاجتهاد والنظر بغية تحصيل ظن بالحكم الشرعي فيها، وهكذا دواليكم.
إذاً، نختم الحديث حول مجالات الاجتهاد في نظر الإمام النورسي ومن قبله من أئمة الأصول بإيراد تحليل دقيق، وتفصيل محكم وفق إليه شيخ محقق من العلماء المفكرين المعاصرين - وهو الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله - عند ما انتهى إلى القول بأن الاجتهاد يعمل في منطقتين اثنتين:(17/27)
".. إحداهما: منطقة ما لا نص فيه، مما تركه الشارع لنا قصدا رحمة بنا غير نسيان.. ليملأ المجتهدون هذا الفراغ بما يحقق مقصد الشارع وفق مسالك الاجتهاد التي يتبعها المجتهدون من القياس، أو المصلحة المرسلة، أو الاستحسان، أو استصحاب الحال، أو غير ذلك.. ومن الملاحظ أن بعض المجالات كثرت فيه النصوص إلى حد التفصيل احياناً، مثل العبادات، وشؤون الاسرة، لأنها مما لايكاد يتغير بتغير الزمان والمكان، والحاجة ماسة إلى نصوص ضابطة لمنع التنازع ما أمكن ذلك. وإلى جانب ذلك توجد مجالات تقل فيها النصوص إلى حد كبير، أو تأتي عامة، أو مجملة، وظروف عصرهم دون أن يجدوا من النصوص المفصلة مايقيدهم، أو يعوق مسيرتهم كما في شؤون الشورى، ونظام الحكم، وقوانين الاجراءات، والمرافعات.
وثانيتهما: منطقة النصوص الظنية سواء كانت ظنية الثبوت، ومعظم الاحاديث النبوية كذلك، أو ظنية الدلالة ومعظم نصوص القرآن كذلك، فوجود النص لايمنع من الاجتهاد، كما يتوهم وأهم، بل تسعة اعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد، وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو اخذت آية مثل آية الطهارة في سورة المائدة، وقرأت ما نقل من أقوال في استنباط الأحكام منها لرأيت بوضوح صدق مااقول..
وبجانب هاتين المنطقتين المفتوحتين للاجتهاد توجد منطقة في الشريعة مغلقة بأحكام لايدخلها الاجتهاد، ولايجد حاجة لدخولها: انها منطقة القطعيات في الشريعة مثل وجوب الفرائض كالصلاة والزكاة.. وتحريم المحرمات اليقينية التحريم كالزنا، والربا، وشرب الخمر.. وامهات الأحكام القطعية كأحكام المواريث المنصوص عليها بصريح القرآن، وأحكام الحدود والقصاص وعدد المطلقات.. ونحو ذلك مما جاءت به النصوص القطعية في ثبوتها، القطعية في دلالتها.. هذا النوع من الأحكام التي لايدخلها الاجتهاد هو الذي يجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة.."11(17/28)
غفر الله للإمام النورسي فيما انتهى إليه من تحرير محكم، ودقة متناهية في تحديد هذه المجالات، وجزى الله عنا خيرا علماء الأصول الذين أصلوا القول في هذا الموضوع، وحفظ الله لنا الشيخ القرضاوي الذي حرر وفصل ما قاله من سبقه من العلماء.
الفصل الثالث
في ظروف تأليف رسالة الاجتهاد للإمام النورسي
أولا: معلومات عامة عن الرسالة:
أ- التعريف بهذه الرسالة:
هي عبارة عن بحث كتبه الإمام حول الاجتهاد باللغة العربية ضمن الكتاب الذي ألفه بالعربية وسماه بالمثنوي العربي النوري، واعاد كتابة هذا البحث بعد تنقيحه وتهذيبه في كليات رسائل النور استجابة لرغبة اخوين وصفهما الإمام بعزيزين - ولم يشر إلى اسميهما -. وتتناول الرسالة في مجمل مباحثها موانع طرق باب الاجتهاد النظري في عصر الإمام، وقد انتهت إلى وجود موانع ستة للاجتهاد في عصره، وفصلتها تفصيلاً مقرونا بالامثلة، وبعض الحجج العقلية.
ب- الهدف من هذه الرسالة:
كما يبدو جليا يتمثل هدف المؤلف فيها في الرد على بعض أدعياء الاجتهاد في عصره، و محاولته المستميتة البرهنة على سد باب الاجتهاد إمام أولئك الأدعياء في عصره، وذلك نظراً ل أسباب وموانع ضمنها في الرسالة، وقد أشار إلى هذا في مقدمة الرسالة عند ما قال: ".. كتبت هذه "الكلمة" إرشادا لمن لايعرف حده في هذه المسألة ليدرك ما يجب أن يقف عنده".12
ج- تاريخ تأليف الرسالة:
يذهب صاحب كتاب "بديع الزمان سعيد النورسي - نظرة عامة عن حياته وآثاره - إلى القول بأن الإمام النورسي قد ألف هذا البحث في أصله العربي بمدينة أنقرة عام 1923م ضمن كتابه المسمى بالمثنوي العربي النوري، وهذا نص ما قاله ".. أما في سنة 1923م فقد نشر الرسائل الاتية... وفي أنقرة الف: ذيل الذيل - الحباب باللغة العربية، واجزاء أخرى من المثنوي العربي النوري.."12(17/29)
ويعني هذا أنه قد كان في مستهل العقد الخامس من عمره حوالي السن الخمسين تقريبا، وذلك بعد قبوله تعيين القيادة العسكرية إياه عضواً في "دار الحكمة الإسلامية" فهذه الفترة هي التي سعدت بتأليف هذه الرسالة في أصلها العربي ضمن كتابه المسمى "المثنوي العربي النوري" وإننا لندعي - مع شئ من الاطمئنان - بأنه اعاد تأليفها باللغة التركية عام 1929 و1930 م تقريبا ضمن كليات رسائل النور، وقد ألمح إلى ذلك في مقدمة الكلمة السابعة والعشرين وقال ما نصه:
"...قبل حوالي خمس سنوات أو أكثر كتبت بحثا حول "الاجتهاد" في رسالة بالعربية، واستجابة لرغبة اخوين عزيزين كتبت هذه الكلمة - يقصد الكلمة السابعة والعشرين - .."13
وأيا كان الأمر، فإنَّ الذي ننتهي إليه في هذا هو التأكيد على كون هذه الرسالة مؤلفة في أصلها باللغة العربية الني تعتبر خير شاهد على تفوق مؤلفها في العربية وحيازته على بلاغتها، كما نرمي من هذا كله أيضا ابراز ظروف تأليفه هذه الرسالة التي تمثلت في انصراف الإمام أنصرافاً كليا إلى مواجهة الواقع المرير الذي كان يمر به العالم الإسلامي، والتي ما كانت لتسمح لذي لب ليشغل غيره في اثارة الحديث في الاجتهادات الفكرية متغافلا عن الظرف العصيب المهدد لكيان الأمة، وبدلا من ذلك لا بد من شحذ الهمم وحثها على المشاركة في الجهاد لرد العدوان والزلزال الوشيك الوقوع على الوجود الإسلامي أيامئذ.
إذا تبينت لنا هذه النبذة المختصرة من المعلومات الأساسية حول رسالة الاجتهاد للإمام، فإنه حري بنا تحليل الأسباب التي دفعت الإمام إلى تأليفها في أصلها العربي، وأثر الظروف التي تجلت واضحة على محتوياتها، فنقول - وبالله التوفيق والسداد -:
ثانيًا: أثر الظروف في تأليف الرسالة وعلى فقراتها: 14(17/30)
يحدثنا التاريخ أن الإمام النورسي لم يكن مجاهدا باللسان فحسب، وإنما كان كذلك مجاهدا بالسنان، بل إنه لم تثنه معارضته الشديدة لدخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى التي كان يرى من العبث دخولها لأن الدولة لم تكن مستعدة ولامستفيدة منها البتة.. حتى إذا ما اندلعت نيران هذه الحرب الجهنمية التي أتت على الاخضر واليابس، ودفعت الدولة العثمانية بجحافلها، فإذا بالإمام أحد جنود الدولة المخلصين، واحد الفرسان المدافعين عن حمى الدين والوطن، بيدَ أن كفة العدو الشرس كانت راجحة ومتفوقة عددا وعددا، فالجيش الروسي الجرار مع تعاون عصابات من الارمن استطاعوا أن يقتحموا المدن الإسلامية واحتلالها، وكانت مدينة.
"أرضروم" اولى المدن سقوطا في أيديهم، وتلتها مدينة "بتليس" التي سقطت هي الأخرى في أيديهم، ووأصل الجيش الإسلامي الباسل الكفاح والدفاع عن الدولة بيدَ أن وضعها كما قدره الإمام - رحمه الله - لم يكن ليقوى على الوقوف في مواجهة القوى الغازية، وماهي إلا أيام حتى يقع الإمام نفسه اسيراً ضمن مجموعة من أبناء الدولة الإسلامية الذين شاركوا في الجهاد، ويشاء الله أن يكتب للإمام الخلاص من ذلك الاسر بعد قضائه سنتين واربعة اشهر تقريبا فيه بفضل من الله سبحانه.(17/31)
ويذكر بعض المؤرخين المترجمين لحياة الإمام أنه خلال تلك المعارك الضاربة الف مجموعة من كتبه باللغة العربية، ومن ضمنها كتابه "المثنوي العربي النوري"15 الذي ضمنه بحث الاجتهاد الذي نحن بصدد دراسته، وإذا اعتددنا بهذا الرأي، فإنَّ الذي يمكن ترجيحه أن يكون قد الف هذا البحث قبل عام 1918م بقليل، بل إذا رجحنا هذا الرأي، فإنَّ المرء ليستطيع أن يدرك أنه قد تم تأليف هذا البحث تحت ظروف الحرب وآثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والامنية، بيدَ أن المطالع في جنبات هذا البحث يستبعد مثل هذا الرأي، ولايقره، ذلك أن اللغة المستخدمة فيه ليست لغة متأثرة بجو الحرب وظروفها، الأمر الذي يجعلنا نرجح أن يكون قد تم تأليفه خلال العامين اللذين اشرنا إليهما. وإذا أحسنا بذلك القول ظنا، فإنه يمكن القول بأنه قد يكون الفه في تلك الفترة ولكنه لم ينشره الا بعد مراجعته له بعد عام 1923م، وذلك فيما لو اولنا قول صاحب كتاب "بديع الزمان النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره" بأن المراد بالتأليف النشر.
ومهما يكن من شئ، فإننا إذا كنا قد استبعدنا تأليفه تحت جو الحرب، غير أننا لنؤكد أن الحرب قد تركت آثارها وبصماتها على مسار الحياة، وتجلت تلك الآثار في ضعف الهمم، وقلة التورع لدى كثير من الناس الذين أثرت فيهم هزيمة الدولة العثمانية في هذه الحرب، ولذلك يجد القارئ الإمام النورسي وهو يوجه فقرات هذا البحث في لغة متحسرة وحزينة على الوضع الذي آلت إليه الامور في الدولة، بل لايجد المرء من صعوبة من اصرار الإمام على ضرورة انصراف الجهود وتركيزها أولا وقبل كل شئ على دعوة الناس إلى تطبيق ضروريات الدين، وقطعياته التي أصبحت تحظى بأهمال وتضييع من لدن أبناء ذلك العصر.. ولكي لاتتشتت الجهود وتتبعثر وتضيع بعد ذلك، فلا بد من تكاتف الجهود على تحقيق هذا الأمر، فيعود الناس إلى الالتزام بالضروريات الدينية أولا، وفي ذلك يقول معلنا:(17/32)
".. إن الضروريات الدينية التي لا مجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد أهملت وتزلزلت، فلا بد صرف كل الهمة لإقامتها وامتثالها واحيائها، ثم بعد اللتيا والتي تمس الحاجة إلى الاجتهاد في النظريات.."16، ويجد المرء هذا النص معادا ومهذبا في الكلمات، إذ يقول:
".. إن الضروريات الدينية التي لامجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها والتي هي في حكم القوت والغذاء قد أهملت في العصر الحاضر، واخذت بالتصدع، فالواجب يحتم صرف الجهود وبذل الهمم جميعاً لإحياء هذه الضروريات وإقامتها.."17، وتعني هذه العبارات فيما تعني ضرورة ممارسة نوع آخر من الاجتهاد، وهو الجهاد الدعوي المتمثل في التركيز على هذه الضروريات، وبذل ما في الوسع من جهد جهيد حتى تحيا وتقام، وما هي الفائدة من التوسع في الاجتهاد في المسائل الظنية إذا كانت المسائل القطعية تحظى بتضييع وتمييع، وأهمال، اين هو - إذا - فقه الأولويات في الدعوة نظريا وعمليا؟!
إذا نستطيع أن نقرر بأن الجو السائد الذي تجلى فيه أهمال الضروريات والاستهانة في ادائها قد كان وراء تأليف الإمام هذا البحث، وقد حاول أن يكون هذا البحث تنبيها ل أولئك الناس الذين لم يدركوا فقه المرحلة، ولم يعتبروا بفقه الواقع، فكانه بذلك يريد أن يذكرهم بأن الاجتهاد النظري المنصر فلاستنباط الأحكام من النصوص الظنية ليست الأمة بحاجة إليه في ذلك الوقت، ولايكون المرء مجتهداً إذا لم يستطع أن يدرك هذا الجانب، لأن من شروط الاجتهاد في حقيقة الأمر فهم الواقع وفقهه بغية تنزيل النص الشرعي عليه بعد ذلك، ومن لم يتوافر فيه هذا الشرط، فإنه ليس له من حق أن يطرق باب الاجتهاد، بل يجب أن يسد في وجهه، ويمنع منه منعاً !(17/33)
ومن آثار الظروف على تأليف هذا البحث إدراك الإمام هزالة مستوى كثير من أدعياء الاجتهاد في عصره إلى الدرجة التي لم يكن بعض أولئك الأدعياء قادرين على اجادة علم أصول الفقه، ذلك العلم الذي يعتبر بحق عماد فسطاط الاجتهاد، وركنه المكين الركين، وانى يؤمن أمرؤ على الاجتهاد إذا كان وفاضه خلوا من هذا العلم الذي يتمكن المجتهد بعد إشرافه على مسارحه من التمييز بين علة الحكم، وحكمته، وبين المصلحة، والمقاصد، وبين الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات..
فقد تألم الإمام من وضع كثير من أدعياء العلم في عصره فلاذ بتأليف هذا البحث ليكون سدا منيعاً يحول بينهم وبين الاجتهاد، ويعني هذا أنه لو حظي عصره بجمهرة لايستهان بمستوأهم العلمي لما اختلف إلى تأليف هذا البحث الذي عمم فيه القول، ووجه إلى كل من يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في زمانه. بل لولا الفتاوى الجائرة التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى تحت ضغوط المحتلين وأمرتهم 18 والتي إن دلت على شئ، فإنما تدل على ضعف الوازع الديني، وإصابة بعض علماء الزمان بآفة النفاق والتملق والتزلف، لولا كل ذلك ما كان للإمام ليوجه تلك الرسالة شديدة اللهجة إلى كل من تساوره نفسه بالاجتهاد في عصره.
إذاً، إضافة إلى ما كان لضعف الالتزام الديني من أثر في تأليف الإمام بحثه يجد المرء أنه قد كان كذلك لضعف المستوى العلمي لأدعيائها في عصره أثر آخر دفع بالإمام إلى تأليف بحثه لمواجهة أولئك الدخلاء أنصاف العلماء واشباههم، وهذا الضعف العلمي يرجع سببه في نظر الإمام إلى عوامل كثيرة، من أهمها تحكم الحضارة الأوربية، وتسلط الفلسفة المادية وأفكارها على أفكار ومناهج الناس، وتعقد متطلبات الحياة اليومية وغير ذلك مما يؤدي إلى تشتت الأفكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم، وتفتت الاهتمامات.. فكل هذه الامور عوامل حائلة دون بلوغ المرء رتبة الاجتهاد في ذلك الزمان، وهذا يقول الإمام في إحدى فقرات البحث:(17/34)
".. وأما الآن فلتشتت الأفكار والقلوب، وانقسام العناية والهمة، وتحكم السياسة والفلسفة في الاذهان، لا يمكن لمن كان في ذكاء "سفيان بن عيينة" مثلا أن يحصل الاجتهاد إلا بعشرة امثال وقت ماحصل سفيان الاجتهاد فيه إذ ان سفيأن يبتدئ تحصيله الفطري من حيث التمييز، فيتهيأ استعداده كالكبريت للنار. وأما نظيره الآن، فبسر مأمر آنفاً يتباعد استعداده بدرجة تبحره في الفنون الحاضرة، ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الارضية.."19
ولامرئ أن يدرك من خلال ما أشار إليه الإمام تأثره وتألمه من انصراف كثير من الناس إلى إعطائهم اهتماماً اكبر للعلوم المعاصرة، وأهمالهم نوعا ما التبحر في العلوم الشرعية الموصلة إلى درجة الاجتهاد، وكل هذا مدعاة إلى الدعوة إلى سد باب الاجتهاد إمام أناس لم يستدلوا على دقائق العلوم الشرعية وإن كانوا قد شبعوا من الفنون الحاضرة والعلوم الارضية القائمة، فباب الاجتهاد لاينفتح الا لمن أشرف على النوعين من العلوم - الارضية، والشرعية - كما رزق الإمام نفسه بذلك المستوى في الأمرين.
وصفوة القول، يمكن تلخيص آثار الظروف على تأليف الإمام بحثه في الاجتهاد في:
أولا: الضعف الالتزامي العارم الذي تسرب إلى الدولة العثمانية في اخريات أيامها، والذي كاد أن يدفع ببعض أنصاف العلماء أن يحلوا للناس ما حرمه الله، وأن يحرموا ما احله تحت شعار الاجتهاد، ولم يكن من الفقه في شئ والحال كذلك فتح باب الاجتهاد ل أولئك الناس، بل يقتضي الاجتهاد نفسه الاجتهاد في سد بابه في وجوههم.
ثانياً:الضعف العلمي الذي دب في صفوف أدعياء الاجتهاد في عصر الإمام نتيجة التغلغل والتوغل في العلوم الارضية على حساب العلوم الشرعية، فظهر ضعف شديد ووهن عظيم في مستويات أولئك الدخلاء، الأمر الذي اوجب الاجتهاد في الدعوة إلى سد باب الاجتهاد في ذلك الزمان.(17/35)
وهذان الأمران يمكن اعتبارهما أساسا ونتيجة بل سببا وراء اجتهاد الإمام الذي اداه إلى القول بمنع فتح باب الاجتهاد في عصره لناس زمانه مع إيمانه بأن الاجتهاد ماض إلى يوم القيأمة لكل من حاز على شروطه، وكان لديه استعداد وقابلية عليه.
إذاً، نستطيع أن نودع هذا المبحث بعد أن تعرفنا على أثر الظرف القائم على تأليف الإمام كتابه، وتجلي ذلك الأثر على جميع الفقرات الواردة في الكتاب سائلين المولى أن تكون قد وفقنا في ذلك!
الفصل الرابع
نحو تحليل علمي لمحتوى رسالة الاجتهاد للإمام النورسي
إذا كنا قد وفقنا على بعض الأسباب والدوافع الكامنة وراء تأليف الإمام النورسي لرسالة الاجتهاد، وتعرفنا على ما كان للظروف والبيئة من أثر في ذلك، فإنه لقمين بنا أن نحلل تحليلاً علميا ناقداً ما تحتويه تلك الرسالة من معلومات علمية رصينة محكمة بغية التمكن بعد ذلك من تقويم متواضع لها، فنقول:(17/36)
بعد دراسة وافية، وإلمام عميق، وفقه دقيق لواقع الناس انتهى الإمام النورسي - رحمه الله - إلى القول بأن باب الاجتهاد مفتوح إلا أنه ترجح لديه وجود امور ستة اعتبرها موانع من ممارسة الاجتهاد في ذلك العصر، وطالما بقيت تلك الامور في واقع الناس، فإنه يسد باب الاجتهاد، ويمنع من ممارسته شرعاً، وكانه يرمي بذلك إلى القول بأنه الاجتهاد إذا كان في أصله مشروعاً غير أنه قد يطرأ عليه مايغير ذلك الوضع، فيضحي بعد ذلك محظوراً. ويمكن للناظر في تلكم الموانع التي ربط بها الإمام عدم مشروعية ممارسة الاجتهاد في عصره أن يقسمها إلى موانع خلقية معرفية، وموانع علمية، وما لم ترفع جميعاً، فإنه ينبغي الابقاء على باب الاجتهاد مسدوداً، وذلك لأن وجود تلك الموانع في حقيقتها مخل بشروط الاجتهاد التي لايحق لامرئ التصدي للاجتهاد قبل توافرها فيه كاملة. ولكي يتم حسن تناول تلك الموانع وتحليلها تحليلاً علمياً نرى أن نقف قليلاً على شروط التصدي للاجتهاد لنرى الشروط التي اعتبرها الإمام مختلة في عصره، وجعلته يعتبر اجتهادات ناس عصره غير شرعية ولا معتبرة.
وبدءًا بذي بدء، إنه لمن الضروري ال إشارة إلى أن هناك اختلافاً واسع النطاق بين علماء الأصول في تحديد الشروط التي يجب توافرها في المتصدي للاجتهاد، وإن كانوا من حيث الأساس متفقين على مبدأ وجود شروط واجبة التوافر في المتصدي للاجتهاد، وان المؤلفلايرى من جدوى في الخوض في جنبات ذلك الاختلاف، خاصة أن له رأيا في تلك الشروط تختلف نوعاً ما عن نظرة كثير من الباحثين إليها، الأمر الذي يجعله يلخص رأيه في تلك الشروط في النقاط الآتية:(17/37)
** ينبغي على المرء أن يؤمن بأن شروط التصدي للاجتهاد بين شروط متفق عليها، وشروط مختلف فيها، فلايصح لامرئ كائنا من كان أن يتعلق بالشروط المختلف فيها تعلقا يدفعه إلى إلزام الناس بها إلزاماً، كما لايصح لامرئ بالمقابل تجاوز الشروط المتفق عليها، وادعاء عدم وجود أي شرط للتصدي للاجتهاد.
** من المهم الإيمان بأن كثيراً من شروط التصدي للاجتهاد قابلة للتغيير والتبديل، ويسري عليها التطوير والتعديل، فليست كلها في حقيقتها شروطا دائمة أبدية متعالية على الزمان والمكان، وليس لامرئ على سبيل المثال أن يدعي أن شروط التصدي للاجتهاد في عصر الرسالة، أو عصر الصحابة هي ذات شروطه في عصر التابعين وتابعي التابعين، ويكفي المرء للبرهنة على هذا الزعم من إلقاء نظرة متأنية في جنبات تلك الشروط التي تذكرها كتب الأصول، نعني أن اشتراط معرفة آيات الأحكام في الاجتهاد لم يكن من الشروط الواجبة التوافر المصرح بها في عصر الصحابة، كما أن اشتراط معرفة علم الأصول على سبيل المثال لم يكن من الشروط الواردة في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين، بل إن اشتراط معرفة المنطق لم يكن أيضا من الشروط التي يلتفت إليها في عصر تابعي التابعين.(17/38)
إذ الأمر كذلك، فإنه من الاعتداء على عاملي الزمن والمكان حقا تجاوزها عند ذكر شروط التصدي للاجتهاد في عصر من العصور، نعني أنه لا بد من الابتعاد عن الجمود على الشروط التي انتهى إليها سلفنا الصالح - رحمهم الله - في حقبة تاريخية ذات ظروف وبيئة معينة مختلفة نوعاً ما عن ظروف هذا العصر وبيئته، وإذا كان لدخول القرن الرابع خير القرون التي شهدت تدوينا للعلوم وتمايزاً بينها، فإنَّ للمرء أن يدرك ما كان لدخول علم المنطق على سبيل المثال في العلوم الشرعية من اعتبار دفع ببعض الأصوليين إلى اشتراط معرفته واجادته في المتصدي للاجتهاد، بل ذهب الغزالي إلى أبعد من ذلك فجعل الاشراف عليه أساسا لجميع شروط الاجتهاد، وماذلك الا دليل ساطع على تقبيل شروط الاجتهاد التعديل والتطوير والزيادة، ولايشك أمرؤ أن اشتراط معرفة علم الأصول متآخر عن القرنين الأول والثاني، وما اعتبر شرطا من شروط التصدي للاجتهاد إلا بعد القرن الثالث الهجري تقريباً، وكذلك الحال في كثير من شروط الاجتهاد.(17/39)
وإذا تبين هذا، فإننا نخلص إلى القول بأن شروط الاجتهاد وخاصة منها تلك الشروط المختلف فيها ينبغي عرضها على بساط النظر والمراجعة لاختيار مدى الحاجة إليها في عصر من العصور، بل إنه ليس من ضير في اعادة النظر إما تعديلا أو تطويراً أو تكميلاً في بعض الشروط المتفق عليها، وكل ذلك جزء من الاجتهاد نفسه، ورحم الله رجالاً من سلفنا الصالح أبوا ترديد الشروط التي أشار إليها اسلافهم، ونظروا إلى عصرهم فخرجوا إلى الناس بشروط ليست طبق أصل لشروط من قبلهم، وقد اخذ بلواء هذا التوجه الإمام الغزالي في كتابه المستصفى الذي ضمنه شروطا للاجتهاد تجلى فيها تأثره بواقعه، وكذلك كان صنيع ابن السبكي الذي هو الآخر أورد شروطا مغايرة نوعاً مالشروط الغزالي، بل إن الإمام الشاطبي أبى إلا حصر شروط الاجتهاد في معرفتين أساسيتين.. وغير هؤلاء كثير، فكل هذا فيه تأكيد وتنصيص على كون شروط الاجتهاد قابلة للتغيير والتبديل والتطوير والتعديل لانها شروط اجتهادية في حقيقتها مستنبطة بطريق الاجتهاد.
وإذ ذلك كذلك، فلا يحق لأحد وضع شروط للاجتهاد يتجاوز فيها عصره وبيئته، ويغفل عن اشتراط متطلباته وقواعد فهم بيئته، وبناء على هذا، ولو قدر لمن بلغ رتبة الاجتهاد في هذا العصر أن يضع شروطا للتصدي للاجتهاد في عصره، فإنه لا بد من أن يضمنها على سبيل المثال ضرورة معرفة المتصدي للاجتهاد مبادئ العلوم الاجتماعية والتطبيقية المعاصرة التي تعينه على حسن استنباط للأحكام من النصوص، وحسن تنزيل لتلك الأحكام على الواقع المعاصر.
وأي عالم لايتوافر فيه شروط كذلك، فحري به الابتعاد عن الاجتهاد كل الاجتهاد في قضايا العصر ومستجداته التي يحتاج بيان الحكم الشرعي منها إلى فهم لها، وإدراك لأبعادها.(17/40)
** وآخر نظرة نرى إعطاءها شيئا من التقدير والاهتمام عند تناول شروط التصدي للاجتهاد هي ضرورة التفريق بين أمرين، نعني ضرورة التفريق بين شروط تحقق الاجتهاد، وشروط صحة الاجتهاد.
ومرادنا بشروط تحقق الاجتهاد: العلوم التي يجب على المتصدي للاجتهاد الاشراف على مباحثها، وإتقانها إتقانا، ويمكن اعتبار إجادة علم الأصول، وعلم الحديث، وعلم اللغة - على سبيل المثال - نماذج لتلك العلوم، فمن لم يجد هذه العلوم فلا يصح اعتباره مجتهداً وإن ادعى الاجتهاد وتقمص لباسه زورا وبهتانا، ويضاف إلى العلوم المذكورة في عصرنا هذا مبادئ العلوم الإنسانية والكونية، وذلك نظراً للتطورات الهائلة التي طرأت وتطرأ على الحياة المعاصرة ويتوقف ادراك ابعادها ومراميها تحصيلاً لمبادئ العلوم المشار إليها.
وأما مرادنا بشروط صحة الاجتهاد، فانها تشمل في نظره المعارف والمبادئ العقدية والخلقية التي يتوقف عليها قبول اجتهاد من حاز على شروط تحقق الاجتهاد وتمكن منها ايما تمكن، ويمكن حصر المعارف في معرفة الناسخ والمنسوخ، ومواضع الاجماع، ومعرفة الواقع، ومعرفة الناس، وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها الخ.. وأماالمبادئ العقدية والخلقية، فإنها الإسلام، والعدل، والاستقامة، والتقوى فإذا فقد شئ من هذه الاشياء، فإنَّ اجتهاد المجتهد لا يكون محل اعتبار ولا احتفاء، بل يجب رده، ورفضه.(17/41)
وبناء على هذا، يمكننا أن نخلص القول بأن توافر شروط تحقق الاجتهاد في امرئ غير كاف لقبول كل اجتهاداته، والاعتداد بها، وإنما لا بد من توافر شرط صحة الاجتهاد التي اشرنا إلى بعضها، مع ال إشارة أنه ليس بالضرورة رد اجتهاد المجتهد إذا اخل ببعض شروط صحة الاجتهاد إذا كانت تلك الشروط عديمة العلاقة باجتهاده، نعني أن اجتهاده ينبغي ألا يرد إلا في حالة إخلاله بشرط من شروط صحة الاجتهاد متعلق بموضع الاجتهاد، فلو اجتهد في أمر يقتضي الاجتهاد فيه معرفة الواقع دون أن يولي للواقع اهتماماً، فإنَّ اجتهاده هنا يكون مردوداً، وغير مقبول، ولكن ذلك لايجرده من أهلية الاجتهاد، وإنما يجعل اجتهاده غير صائب ولامقبول، هذا فيما يتعلق بالمعارف، وأمابالنسبة للمبادئ العقدية والخلقية، فإنَّ اختلال أي شرط منها مؤثر في اجتهاد المجتهد، ومبطل لحكمه مطلقا، فلايقبل من غير مسلم حاز مثلاً على شروط تحقق الاجتهاد أي اجتهاد يتوصل إليه، ولايقبل كذلك من فاسق بلغ رتبة الاجتهاد أي حكم يتوصل إليه مادام فاسقاً، وهكذا دواليكم!
وإذا تبين لنا هذا اختتمنا القول بأنه لا بد من اخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار عند الحديث عن شروط التصدي للاجتهاد، وإغفاله ادى ولايزال يؤدي إلى عدم وجود ضابط محكم لشروط الاجتهاد قديما وحديثا، وبقائها في صورة مهزوزة مضطربة تختلف فيها الأفهام، وتتداخل فيها الاذواق.
وبعد هذه الومضة السريعة حول شروط التصدي للاجتهاد نعود إلى تحليل الامور التي اعتبرها الإمام النورسي مانعة من الاجتهاد في عصره، وكما سبق لنا أن قسمناها إلى موانع علمية، وموانع خلقية، فإنه يمكننا - بكل بساطة - إدراك سر هذا التقسيم، ودوره في تحليل رأي الإمام، ويكفينا النظر في تلك الموانع لكي نميز بينها تمييزاً.
أولا: الموانع العلمية من الاجتهاد في عصر الإمام:(17/42)
يهدي النظر في جنبات ما أورد ه الإمام من موانع من الاجتهاد في عصره إلى اعتبار مانعين منها موانع علمية، وهما:
أ- المانع العلمي الأول: عدم التبحر في العديد من العلوم الشرعية كالحديث، والفقه واللغة، والتفسير:
وقد انتهى فيه إلى اعتبار تشتت الأفكار والقلوب، وانقسام العناية والهمة، وتحكم السياسة والفلسفة في الأذهان إضافة إلى التبحر في العلوم الارضية على حساب العلوم الشرعية ذا أثر واضح وجلي في عدم قدرة ناس عصرهم من البلوغ إلى رتبة الاجتهاد، وقد تمثل أثر هذه الامور في قصرهم عن نيل درجة الاجتهاد، الأمر الذي لايصح معه سوى سد باب الاجتهاد أمامهم، ومنعهم من الولوج فيه لكيلا يساء فهم الإسلام، ولايتكلم باسمه من هو عنه غريب غير عليم، وهذا يقول الإمام النورسي - رحمه الله - بعد استعراض الحالة التي كان عليها الناس قبل عصره:(17/43)
".. بينما في العصر الحاضر، فأن تحكم الحضارة الاوروبية، وتسلط الفلسفة المادية وأفكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية.. كلها تؤدي إلى تشتت الأفكار وحيرة القلوب، وتبعثر الهمم، وتفتت الاهتمامات حتى اضحت الامور المعنوية غريبة عن الاذهان؛ لذا لو وجد الآن من هو بذكاء "سفيان بن عيينة" الذي حفظ القرآن الكريم وجالس العلماء وهو لايزال في الرابعة من عمره لاحتاج إلى عشرة امثال ما احتاجه ابن عيينة ليبلغ درجة الاجتهاد، أي أنه لو كان قد تيسر لسفيان بن عيينة الاجتهاد في عشر سنوات، فإنَّ الذي في زماننا هذا قد يحصل عليه في مائة سنة، ذلك لأن مبدأ تعلم "سفيان" الفطري للاجتهاد يبدأ من سن التمييز، ويتهيأ استعداده تدريجا كاستعداد الكبريت للنار، أمانظيره في الوقت الحاضر، فقد غرق فكره في مستنقع الفلسفة المادية، وسرح عقله في أحداث السياسة، وحار قلبه إمام متطلبات الحياة المعاشية، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلاجرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الارضية، لذا لا يمكنه أن يقول لم لا استطيع أن ابلغ درجة سفيان بن عيينة، وأنا مثله في الذكاء؟ نعم، لايحق له هذا القول، كما أنه لن يلحق به، ولن يبلغ شأوه أبدا.."20(17/44)
هكذا يبرر الإمام دعواه في منع أولئك الناس من طرق باب الاجتهاد، ويبين السبب الذي دفعه إلى أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، ولكن ربما فهم أو اشتم متعجل من خلال ما ذكره الإمام كراهيته للعلوم الارضية، والأمر ليس كذلك، فإنَّ الإمام لم يكن ممن يكن كراهية لتلك العلوم، وإنما شد نكيره على أولئك الناس الذين ابتعدوا عن تحصيل العلوم الشرعية وانشغلوا عنها بالتبحر في الفنون الحاضرة، وادى بهم ذلك إلى تمتعهم بمستوى ضعيف وهزيل في العلوم الشرعية وانشغلوا عنها بالتبحر في الفنون الحاضرة، وادى بهم ذلك إلى تمتعهم بمستوى ضعيف وهزيل في العلوم الشرعية التي يعتبر التمكن منها من أهم شروط الاجتهاد، ولولا اختلالهم بالتوازن بين الأمرين لما كان منه اعتراض أي اعتراض على التبحر فيما تبحروا فيه، وليس ادل على ذلك أن الإمام نفسه يعتبر من كبار المتبحرين في تلكم العلوم الارضية، ويحكي لنا المؤرخون لترجمته انه".. جرت بينه وبين اساتذة العلوم الطبيعية الحديثة عدة مناقشات توصل من خلالها إلى أنه لايكفي علم الكلام الذي درسه، لأنه كان لعهده وعصره، بل لا يمكن الرد على أولئك الا بعد التسلح بأسلحتهم، وبذلك يتمهد الطريق لإيصال الإيمان إلى أولئك الذين لايفهمون الا لغة العلوم الطبيعية، ولذلك عكف على دراسة الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والفلسفة الحديثة، والجيولوجيا، والتاريخ الحديث، والجغرافيا، ولذكائه الخارق استطاع أن يلم بها لدرجة أنه أصبح قادرا على التأليف بها.."21(17/45)
أفمن كان شأنه هذا يصح أن يحامل على العلوم الارضية تحاملا مجردا لولا تغافل أناس عصره عن العلوم الشرعية وأهمالهم اياها مع تطلعهم إلى الاجتهاد ؟! اننا لنجل الإمام من كل ذلك، ونعتقد جازمين بأنه ما اختلف إلى مااختلف إليه الا بسبب ذلك الغزوف والانصراف عن العلوم الشرعية من أهل ذلك الزمان، وقد كان محقا في منعهم طرق باب الاجتهاد وهم على ذلك المستوى الضعيف المهين.
المانع العلمي الثاني: عدم معرفة علم الأصول:
إن إماما منّ الله عليه بحفظ كتاب يعد من اجمع الكتب المؤلفة في الأصول - وهو كتاب جمع الجوامع للسبكي وابنه - خلال فترة قياسية خيالية - هي اسبوع واحد فقط - ما كان ليخفى عليه من كان مشرفا على مسارح علم الأصول، ومن كان عنه بعيداً كل البعد، ولذلك لاغرو أن يؤاخذ على أدعياء الاجتهاد والراغبين في طرق بابه في عصره عجزهم وضعفهم غير المقبول في أحكام حلقات هذا العلم الذي قال عنه الإمام الشوكاني ذات يوم اثناء سرده شروط الاجتهاد:
".. عليه أن يطول الباع فيه - يقصد علم الأصول - ويطلع على مختصراته، ومطولاته بما تبلغ إليه طاقته، فإنَّ هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه اركان بنائه، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ماهو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد، وخبط فيه وخلط.."22. فعلم الأصول - كما قال الإمام الرازي هو الآخر - أهم العلوم للمجتهد 23 لقد احس الإمام النورسي ضعف أولئك في هذا العلم، فعز عليه أن يبقى باب الاجتهاد مفتوحاً لهم، و لا بد من سده في وجوههم ومنعهم من الدخول فيه مطلقاً، ولكيلاً يبرهن على ضعفهم في هذا العلم أورد نقاطا ثلاثة شاهدة على كونهم لا ناقة لهم في هذا العلم ولاجمل، وقال ما نصه:(17/46)
"هناك ثلاث نقاط تدعو إلى التأمل والنظر تجعل اجتهادات هذا العصر ارضية، وتسلب منها روحها السماوي بينما الشريعة سماوية والاجتهادات بدورها سماوية لإظهارها خفايا أحكامها. والنقاط هي الآتي:
أولا: إن علة كل حكم تختلف عن حكمته، فالحكمة والمصلحة سبب الترجيح، وليست مناط الوجود، ولامدار الايجاد، بينما العلة هي مدار وجود الحكم.. وخلافا لهذه الحقيقة يتوجه نظر الاجتهاد في هذا العصر إلى إقامة المصلحة والحكمة بدل العلة، وفي ضوئها يصدر حكمه، فلاشك أن اجتهادا كهذا ارضي وليس بسماوي..
ثانياً: إن نظر هذا العصر متوجه أولا وبالذات إلى تأمين سعادة الدنيا، وتوجه الأحكام نحوها، والحال أن قصد الشريعة متوجه أولا وبالذات إلى سعادة الآخرة، وينظر إلى سعادة الدنيا بالدرجة الثانية، ويتخذها وسيلة للحياة الأخرى ، أي أن وجهة هذا العصر غريبة عن روح الشريعة ومقاصدها، فلاتستطيع أن تجتهد باسم الشريعة..
ثالثاً: إن القاعدة الشرعية "الضرورات تبيح المحضورات" ليست كلية 24 لأن الضرورة إن كانت ناشئة عن طريق الحرام لاتكون سببا لإباحة الحرام. وإلا فالضرورة التي نشأت عن سوء اختيار الفرد، أو عن وسائل غير مشروعة لن تكون حجة ولاسببا لإباحة المحظورات، ولامدارا لأحكام الرخص.. وحيث إن أهل اجتهاد هذا الزمان قد جعلوا تلك الضرورات مدارا للأحكام الشرعية، لذا أصبحت اجتهاداتهم ارضية وتابعة للهوى، ومشوبة بالفلسفة المادية، فهي - إذا - ليست سماوية، ولاتصح تسميتها اجتهادات شرعية قطعاً.."25(17/47)
فهذه النقاط الثلاث تنبئ المرء بأن خفاءها على امرئ دليل على عدم تمكنه من علم الأصول، فالنقطة الأولى غير خافية على الإطلاق على أي انسان ألم إلماما جيدا بمبحث العلة في القياس، وأماالنقطة الثانية، فهي الأخرى لاتغيب عن فهم من استولى على فهم دقيق لمقاصد الشريعة واهدافها واسرافها ومبحث المصلحة في الأصول، وأماالنقطة الثالثة، فإنَّ ادراكها لايتطلب سوى احاطة عميقة لمبحث الحكم الشرعي عامة، ومبحث الحكم الشرعي الوضعي الذي ينتمي إليه مبحث الرخصة والعزيمة عند أكثر علماء الأصول. وأي امرئ لم يوسع هذه المباحث جانب الدراسة والفهم والادراك حري به أن يقف عند حده، ويعرف قدره، فلا يقتحم حظيرة الاجتهاد وهو على تلك الحالة من الضعف العلمي الذي يرثى عليه. فرحم الله الإمام وجزاه عن الإسلام خيراً على كشفه عن احوال أولئك الناس التي ما كانت لتسمح لهم بممارسة الاجتهاد البتة!
هكذا نصل إلى نهاية تحليلنا للموانع العلمية التي دفعت بالإمام النورسي - رحمه الله - إلى القول بسد باب الاجتهاد في وجه أدعياء الاجتهاد في زمانه، وقد تجلى لنا كيف أصاب فيما ذهب إليه، وكيف تخلفت بعض شروط تحقق الاجتهاد التي يجب توافرها - وخاصة المتفق عليها منها كمعرفة علم الأصول، واللغة والحديث الخ.. في كل من يتصدى للاجتهاد، وقد حان الأوان لكي نلتفت إلى الموانع الباقية وعلاقتها بشروط صحة الاجتهاد، والله نسأل أن نكون قد وفقنا فيما قدمناه، وأن يكتب لنا السداد فيما نقدم عليه إنه ولي ذلك وعليه قدير!
ثانياً: الموانع المعرفية والخلقية من الاجتهاد:
بالنظر المتأمل والتفكير المركز في بقية الموانع التي ذكرها الإمام يمكن القول بأنها موانع تتجاذبها الموانع المعرفية والخلقية، نعني أن بعضها موانع معرفية، وأخرى خلقية، وتشمل الامور الآتية:
أ- المانع المعرفي الخلقي الأول: تخلف شرط معرفة الواقع التي يعتبر أحد شروط صحة الاجتهاد:(17/48)
لامجال لقبول اجتهاد يتجاوز الواقع ويتجاهله مهما كان مصدره، فأي مجتهد يعمد في اجتهاده إلى تجاهل الواقع الذي ينزل عليه النص الشرعي، فإنه يرد إليه اجتهاده، ولايلتفت له هذا فيما لو كان حائزا على شروط تحقق الاجتهاد، وأماإذا لم يكن حائزاً على تلك، فإنَّ اجتهاده في أساسه مردود، ويزداد ردا في هذه الحالة، ولذلك انطلاقا من أهمية هذا الشرط، فقد أشار الإمام أن من أسباب منع فتح باب الاجتهاد ل أهل الاجتهاد في زمانه عدم معرفة أكثرهم بالواقع الذي يعيشون فيه، ذلك الواقع الذي يهدي معرفته إلى صرف الجهود أولا وقبل كل شئ على إقامة الضروريات الدينية وإحيائها في النفوس بدلا من إعادة النظر في الاجتهادات النظرية التي عني بها سلفنا الصالح والتي كان يرى الإمام أنها لاتضيق بها حاجات الزمان والمكان، فالواجب بناء على ذلك على كل من بلغ رتبة الاجتهاد الجهاد العملي على إقامة الضروريات، ولاينصرف عن هذا الواجب في نظره الا من لم يكن في حقيقة أمره أهلا للاجتهاد وان ادعاه، وفي هذا قال ما نصه:
".. إن الضروريات الدينية التي لامجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها، والتي هي في حكم القوت والغذاء قد أهملت في العصر الحاضر، واخذت بالتصدع، فالواجب يحتم صرف الجهود، وبذل الهمم جميعاً لإحياء هذه الضروريات وإقامتها، حيث إن الجوانب النظرية للإسلام قد استثرت بأفكار السلف الصالحين، وتوسعت باجتهاداتهم الخالصة حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً؛ لذا، فأن ترك تلك الاجتهادات الزكية، والانصراف عنها إلى اجتهادات جديدة اتباعا للهوى إنما هو خيانة مبتدعة!"26
وقال في موضع آخر مبرهنا ومؤكدا على عدم فقه أهل الاجتهاد في زمانه بالواقع، وعدم إلمامهم بما يسمى بالفقه المرحلي مما دعاه إلى سد باب الاجتهاد في وجوههم:(17/49)
".. كما تسد المنافذ حتى الصغيرة منها عند اشتداد العواصف في الشتاء، ولايستصوب فتح أبواب جديدة. وكما لاتفتح ثغور لترميم الجدران وتعمير السدود عند اكتساح السيول لأنه يفضي إلى الغرق والهلاك.. كذلك من الجناية في حق الإسلام فتح أبواب جديدة في قصره المنيف، وشق ثغرات في جدرانه مما يمهد السبيل للمتسللين والمخربين باسم الاجتهاد، ولاسيما في زمن المنكرات ووقت هجوم العادات الاجنبية واستيلائها واثناء كثرة البدع وتزاحم الضلالة ودمارها.."27.
وإذا كنا قد اعتبرنا معرفة الواقع أحد شروط صحة الاجتهاد بعد تحقق شروط تحققه، فإنَّ الإمام قد ادرك بثاقب نظره ان أدعياء الاجتهاد في زمانه - لو افترض فيهم أنهم قد بلغوا رتبة الاجتهاد بيدَ أن اجتهاداتهم كلها غير صحيحة وليست بسماوية ولاشرعية، وذلك لتخلف شرط معرفة الواقع الذي يحتم على المتصدي للاجتهاد التمكن فيه ليقبل اجتهاده ويعتد به شرعاً.
المانع الخلقي الثاني: تخلف شرط العدالة والورع:
لم يكن المانع المعرفي المشار إليه وحده الذي جعل الإمام النورسي - رحمه الله - يذهب إلى القول بسد باب الاجتهاد في وجه أدعياء الاجتهاد في زمانه، وإنما بجانب ذلك توصل إلى مانع خلقي عده سببا ودافعاً إلى منع انصاف العلماء من الاجتهاد في عصره، ويمكن للمرء أن يلمس خيوط هذا المانع الرفيعة من خلال بيانه الرفيع ووصفه الدقيق لاحوال أولئك الناس المتطلعين إلى الاجتهاد في زمانه، وهذا نص ماقاله في عبارة بليغة:(17/50)
".. إن ميل الجسم إلى التوسع لأجل النمو إن كان داخلياً فهو دليل التكامل، بينما إن كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، أي أنه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع. وهكذا، فإنَّ وجود أرادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الإسلام، ويأتون إليه من باب التقوى والورع الكاملين، وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح.
أماالتطلع إلى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين إن كان ناشئا لدى الذين تركوا الضروريات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية فهو وسيلة إلى تخريب الوجود الإسلامي، وحل ربقة الإسلام من الاعناق.."28
وهكذا يقرر الإمام أن هؤلاء الأدعياء ليسوا أهلا للخوض في الاجتهاد ذلك لأنه تنقصهم التقوى والورع، ولو توافرا فيهم لما زعم الإمام بسد باب الاجتهاد في وجوههم، ولرحب بهم ايما ترحيب كما تدل على ذلك عباراته السابقة، ويرحم الله الإمام النورسي الذي أبى عليه إيمانه الا أن يتخذ استعمال اسلوب الكناية والتمثيل دون التصريح ديدنا له، وما كان يضيره لو وصف أولئك بناقصي التقوى والورع، ولكنه عز عليه أن يقع في اعراضهم فاكتفى بضرب مثال يمكن تطبيقه عليهم، والحكم عليهم من خلال ذلك.
المانع الخلقي الثالث: احتمال عدم التورع من الكذب.(17/51)
وليست هذه الأسباب هي الموانع الخلقية الوحيدة التي جعل الإمام يتوصل باجتهاده إلى الحكم بسد باب الاجتهاد في وجه أدعياء الاجتهاد في زمانه، بل هناك سبب آخر يضاف إلى السببين المذكورين، وقد ألمح إليه الإمام، واعتبره مانعا من موانع الاجتهاد في عصره، إنه ضياع العدالة "الصدق" وفشو عدم الاستقامة "الكذب" أو احتمال عدم تورع الناس منه في عصره، وارجع سبب ذلك إلى بعد العهد بعصر الحقيقة وعصر النور الذي عاش فيه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ذلك العصر الذي كان الاخذ فيه من مصادر النور أمراً ميسوراً وسهلاً، وكان البون فيه بين الصدق والكذب شاسعاً. "أما الآن فقد ضاقت المسافة بين الكذب والصدق، وقصرت حتى صارا متقاربين بل متكاتفين، وبات الانتقال من الصدق إلى الكذب سهلا وهينا جدا بل غدا الكذب يفضل على الصدق في الدعايات السياسية.."29.
بهذه التلميحات اختتم الإمام الموانع التي تحول دون فتح باب الاجتهاد لأدعياء الاجتهاد في عصره، وقد تجلى لنا استناد تلك الموانع في حقيقتها على اختلال بعض شروط الاجتهاد تحققا وصحة في أهل الاجتهاد في زمانه، بل تبين لنا أن الإمام لم يقرر ما قرره من فراغ، وإنما بذل وسعه وطاقته في التوصل إلى حكم شرعي اجتهادي مفاده حظر الاجتهاد على أولئك الناس الذين لم تتوافر فيهم شروطه كاملة، ورد اجتهاداتهم على فرض توافر شروط تحقق الاجتهاد فيهم لاختلال بعض شروط صحة الاجتهاد.(17/52)
على من الحري بالتقرير والتحرير في ختام هذا التحليل لمحتوى رسالة الإمام أن نقرر ونؤكد بأن دعوة الإمام إلى سد باب الاجتهاد في زمانه لم تكن دعوة خالية من تقديم البديل للاجتهاد النظري في زمانه، ذلك لأنه دعا في أكثر من موضع في كتاباته ورسائله إلى الاجتهاد الجماعي بديلا عن الاجتهاد الفردي، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد، وهو يعايش فترة انهيار آخر معقل للخلافة الإسلاميَّة في أستانبول: ".. الوزارة تمثِّل السلطنة، أما المشيخة الإسلاميَّة، فهي تمثِّل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند أصلاً إلى ثلاثة مجالس شورى -وقد لا توفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة- نجد أنَّ المشيخة قد أودعت إلى اجتهاد شخص واحدٍ، في وقت تعقَّدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدقِّ الأمور، فضلاً عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهاديَّة، وعلاوةً على تشتت الأفكار، وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنيَّة الزائفة فينا.. وبينما كانت الأمور بسيطةً والتسليم للعلماء وتقليدهم جاريًا، كانت المشيخة مودعة إلى مجلس شوى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيَّاتٍ مرموقةٍ، أما الآن، وقد تعقدَّت الأمور ولم تعد بسيطةً وارتخى عنان تقليد العلماء واتِّباعهم.. أقول كيف يا ترى يكون بمقدور شخصٍ واحدٍ القيام بكل الأعباء؟ .. لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصًا واحدًا، ومفتيه ربما شخص واحدٌ أيضًا، يصحِّح رأيه ويصوِّبه. فالزمان الآن زمان الجماعة، والحاكم شخص معنويٌّ ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصيَّة، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم، ينبغي أن يكون متجانسًا معه، أي ينبغي أن يكون شخصًا معنويًّا نابعًامن مجلس شورى عالٍ، كي يتمكن من أن يسمع صوته للآخرين، ويسوق ذلك الحاكم إلى الصراط السَّويِّ في أمور الدين، وإلا فسيبقى صوته كطنين الذباب أمام الشخص المعنويِّ الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فردًا فذًّا عظيمًا .. الحاجة أستاذ لكل(17/53)
أمرٍ. هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشوري الشرعيِّ، فإن لم يؤسَّس في مركز الخلافة، فسيؤسَّس بالضرورة في مكانٍ آخر.."(1)
بناء على هذه الدعوة، إننا نخال الإمام هادفا منها الاستغناء في هذه المرحلة المزعجة عن الاجتهادات الفردية النظرية، وأما الاجتهادات التي تتم على مستوى المجالس العلمية التي عرفت بعد بالمجامع الاجتهادية، فإنه لا محظور فيها البتة.
وعند هذه النقطة نكون قد وصلنا إلى نهاية تحليلنا لموانع الاجتهاد في عصر الإمام النورسي، ورجاؤنا من الله أن نكون قد وفقنا في ذلك التحليل - ان شاء الله - وخير مانختتم به ذلك التحليل محاولة نقدية متواضعة لتلك الموانع وعسى الله أن يكتب لنا سدادا في الرأي، وتوفيقا في النقد بأذنه سبحانه وتعالى.
الفصل الخامس
محاولة نقدية لرسالة الاجتهاد للإمام النورسي
** يقتضي الإنصاف من القارئ في رسالة الاجتهاد أن يسجل للإمام النورسي - رحمه الله - دقته في عباراته، وإصابته في أكثر الاحيان للمقاصد والأهداف التي كان يرمي إليها وراء تأليفه لهذه الرسالة، كما ينبغي على الناظر المنصف أن يسجِّل له - بإكبار - ذلك الحرص الشديد على حمى الإسلام وحصنه، ودفاعه الدؤوب عنه بكل ما أوتي من قوة علمية، وقدرة منطقية فذة سخرها لخدمة هذا الدين، ورد شبهات المغرضين والمتأولين والمنحرفين، وليست رسالة الاجتهاد سوى قطرة من محيط لا ساحل له شاهدة على ذلك الهم الذي كان يحمله تجاه هذا الدين.
__________
(1) انظر: النورسي، بديع الزمان: صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم (أستانبول، شركة النسل للطباعة، طبعة أولى 1995م) ص352ـ 354 باختصار.(17/54)
** ويسجل له كذلك تعمقه الذي لا يمارى فيه في معرفة واقع وناس عصره، إضافة إلى تمكنه من الفقه المرحلي الذي لا يوفق كثير من العلماء في إدراكه، الأمر الذي يجعل العالم يغرق في عالم المثاليات، ويغفل عن الحقائق الواقعية. وإذا كان علماؤنا من قديم الزمان قد وضعوا للناس تلك القاعدة التي تقول:
"لاينكر تغير الأحكام بتغير الازمنة والأمكنة والأعراف والعادات"، فانهم قد انطلقوا في ذلك من تقدير ما للواقع الذي ينبغي أن تنزل عليه نصوص الوحي كتابا وسنة من أهمية في تحقيق وتطبيق مراد الشارع من اوأمره ونواهيه. وما الإحباطات وال إخفاقات التي تتالت على مسيرة الدعوة الإسلامية في عرض وطول التاريخ سوى نتيجة حتمية لتغافل كثير من أبناء هذا الدين عن فقه الواقع الذي يعيش فيه الناس ويتأثرون به سلبا أو ايجابا. بل إن الدعوات التي رفعت بها الاصوات منددة بالاجتهاد وأهله انطلق أكثرها في خضم غفلة عارمة عن فهم ومعرفة الواقع، وكذلك الحال في كثير من الدعوات التي تتالت في حقبة تاريخية تولت مطالبة باعادة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه هي الأخرى تجاوزت نوعا ما الواقع الذي كانت تمر به الدعوة الإسلامية..
ولعل المرء عند ما يستقرئ العصر الذي عاش فيه الإمام النورسي والذي شهد بداية نهاية لخلافة إسلامية ظلت البشرية في ظلها على مدار قرون سعيدة محترمة ليدرك بجلاء إن شأن الاجتهاد عصرئذ ذو أهمية بالغة سواء كان اجتهادا نظريا يقوم على مراجعة بعض الاجتهادات التي عني بالتوصل إليها السلف الصالح بغية تطويرها أو تعديلها أو إلغائها، أم كان اجتهادا تطبيقياً يت أسس على بذل الوسع والطاقة من أجل تنزيل المراد الإلهي من نصوص وحيه كتابا وسنة على الواقع الراهن الذي اضحى بأمس الحاجة إلى ذلك نظراً لتوالي وتفاقم علله. فأي من الاجتهادين يحتاج إلى شئ كبير من العناية والاهتمام.(17/55)
ولذلك فإنَّ للمرء أن يقول بكل إنصاف أن ما توصل إليه الإمام النورسي من اجتهاد قائم على الدعوة إلى سد باب الاجتهاد النظري وفتح باب الاجتهاد التطبيقي العملي كان فيه نصيب من الصواب والسداد، وخاصة بعد أن أوضح الأسباب الكامنة وراء اجتهاده التي كان من أهمها عدم تؤهل كثير من أدعياء الاجتهاد في عصره لممارسة هذا النوع من الاجتهاد النظري. فالأمة التي بدأ الكسل والدعة والوهن يدب في جسمها ويسري تحت دمها بحاجة إلى الاجتهاد التطبيقي أكثر من حاجتها إلى الاجتهاد النظري، بل إن أمة اضحت تنبهر بكل ما هو آت من عدوها، وتنهزم داخليا إمام أناس تحكمت فيها طيلة قرون لبحاجة إلى الاخذ بيدها نحو الأصول التي قامت عليها حضارتها، وتمكينها في الارض.. فيمكن أن يكون هذا كله مبررا من المبررات وراء اجتهاد الإمام.
** ولكن لامرئ أن يتساءل ويقول إنه قد كان الأولى بالإمام الدعوة إلى ترشيد محكم في الاجتهاد النظري بدلا من الدعوة إلى سد بابه، ذلك ان كثيراً من الاجتهادات النظرية التي ورثناها عن سلفنا الصالح ما ينبغي أن تتخذ دينا مقدسا، وخاصة منها تلك التي تأثرت بطريقة مباشرة وغير مباشرة بظروفهم، وزمانهم، وأعرافهم، وعاداتهم.. فكل أولئك من الاجتهادات التي ينبغي فتح باب الاجتهاد النظري أمامها لانتقاء ما كان منها ملائما ومنسجما مع الأعراف والعادات والظروف السائدة في عصر الإمام. وليس من الحكمة في شئ تجاوز دور الزمن والمكان في تكوين تلك الاجتهادات.(17/56)
ولهذا فإنه ليسجل على الإمام تعميمه سد باب الاجتهاد النظري، بل لا نخاله موفقا في قولته التي برر بها ضرورة صرف الجهود والانصراف الكلي نحو إقامة الضروريات وإحيائها ".. إن الجوانب النظرية للإسلام قد استثرت بأفكار السلف الصالحين، وتوسعت باجتهاداتهم الخالصة حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً؛ لذا فأن ترك تلك الاجتهادات الزكية والانصراف عنها إلى اجتهادات جديدة اتباعا للهوى إنما هو خيانة مبتدعة"30
فلم تكن المشكلة ذات يوم في نظرنا في كثرة وتضافر تلك الاجتهادات النظرية التي تركها لنا السلف الصالح، وإنما كانت دوما وأبدا في مدى تلاؤم تلك الاجتهادات وتوافقها للعصر الذي كان يعيش فيه الإمام، بل المشكلة العظمى تكمن في أي من تلك الاجتهادات التي ينبغي ترجيحها واختيارها والعمل بها في ذلك العصر. فإذا كانت الأمة قد ترقت وأضحت متحضرة بعد أن كانت بدوية متخلفة، فهل يليق بها - مثلا - التمسك باجتهاد الشافعي في ضرورة قراءة كل فرد إماما ومأموما الفاتحة في الصلاة، أم أن اجتهادا متأثراً ببيئته وظروفه ومكانه كمثل ذلك الاجتهاد ينبغي نبذه والانصراف عنه في حالة تغير تلك البيئة والمكان والظروف ؟!(17/57)
إنه من غير المتوقع استيعاب اجتهادات السلف الصالح - رحمهم الله - لكل الجوانب النظرية، لأن الأساس الذي كان يقوم عليه اجتهاداتهم هو بيئتهم، وظروفهم وزمانهم، ومكانهم، مما يجعل تلك الاجتهادات عاجزة في حقيقتها عن استيعاب بيئة وظروف وزمان ومكان لم تعايشها على الإطلاق، وما كان لسلفنا الصالح ليؤصلوا لنا تلكم القاعدة التي اشرنا إليها قبل قليل - "لاينكر تغير الأحكام - يقصد بالأحكام الأحكام القائمة على الاجتهاد النظري - بتغير الازمنة والأمكنة والأعراف والعادات.." - لولا إدراكهم عجز أي اجتهاد مهما كان مصدره من استيعاب وقائع واحداث المستقبل. ولهذا فإنَّنا نعتقد - والله اعلم - أن اختلاف الإمام إلى القول بعدم الحاجة إلى اجتهادات جديدة والاكتفاء باجتهادات السلف مطلقا أمر كان يحتاج من الإمام إلى شئ من التروي والتمعن، وخاصة ان فقه الواقع يتطلب فقها مسبقا للجانب النظري الذي يراد تنزيله على ذلك الواقع، وأي نجاح يؤمل في تنزيل نظرية أو اجتهاد على واقع لايوافقه ولايلائمه، بل كيف يتحقق المراد الالهي في واقع الارض إذا لم يكن ذلك المراد حاملا بين طياته خصائص الواقع ودقائقه !
بل ألم يقل الإمام نفسه - رحمه الله - في إحدى صفحات رسائل النور بأن كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، فله أن يجتهد دون أن يلزم به أحدا من الناس، وفضلا عن هذا، فإن الإمام نفسه دعا في هذه المرحلة إلى تشكيل مجلس للاجتهاد الموسوم اليوم بالاجتهاد الجماعي، وبطبيعة الحال، لم يكن الإمام يحصر اجتهاد هذا المجلس في الجانب التطبيقي دون النظري، مما يدفعنا إلى تفسير منعه بأنه منع للاجتهاد النظري إذا كان فرديا، وأما إذا كان جماعيًّا، فلا نخاله ممن كان يمنع من ذلك في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة!(17/58)
** ويسجل على الإمام أيضا عدم تقديمه حلا أي حل ينبغي التمسك به في مواجهة مستجدات واحداث عصره الجديدة التي ما كان السلف الصالح - رحمهم الله - يعرف عنها شيئا على الإطلاق، ياترى مإذا يمكن فعله إزاء تلك المستجدات والوقائع الجديدة المختلفة في تكوينها، فهل يجب على الأمة أن تتجاهلها، وتتغافل عن بيان حكم الشرع الملائمة لها، ام لا بد لها من اجتهاد عصري ينتهي فيه إلى استنباط حكم الشرع المناسب لها؟
إن الإمام - رحمه الله - لم يشر إلى شئ يمكن فعله إزاء ذلك الأمر، الأمر الذي يجعل الدعوة المطلقة إلى سد باب الاجتهاد النظري محل نظر ونقد، إذ ما كانت للاجتهادات النظرية لتتوقف حيال مستجدات العصر وقضاياه الحديثة، وتستسلم لها، بل كل مستجد وواقعة جديدة عديمة الشبه والمثل بحاجة كل الحاجة إلى اجتهاد نظري يهدي إلى تقبله كليا، أو تعديله وتطويره لكي ينسجم مع روح الشريعة ومقاصدها العلي في تشريعاتها.
إننا نبادر إلى تقرير القول بأن دعوة الإمام إلى تشكيل مجلس للاجتهاد قد يعد مخرجا وحلا لما كان يموج الواقع الإسلامي من مستجدات، بحيث يتصدى أهل العلم في ذلك المجلس لبيان حكم الشرع في تلك المستجدات.
أجل، إن التاريخ الإسلامي ليشهد بأن الهزائم والملاحم والفتن التي لحقت بدار الإسلام ما كان لها لتقع وتتسع دائرتها لو ظل أبناؤها متمسكة بمنهج سلفها الذي تمثل في العمل بالاجتهاد النظري والاجتهاد التطبيقي جنبا إلى جنب، وعدم الاتكاء والاكتفاء باجتهادات من قبلهم ولو كانت غير موافقة ولا منسجمة لهم. ولهذا فإنَّ الأمة بحاجة على مر الأيام وكر الدهور إلى استحداث اجتهادات جديدة في قضاياها الجديدة، وتخير ما كان ملائما ومنسجما لعصرها من اجتهادات سلفها السابقة، وبذلك تحقق الحسنيان، وتنطلق من واقع مشكلتها وتحلها على ضوء ما تملكه من إمكانات عقلية تربط بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها.(17/59)
وعلى كل يمكننا أن نختتم محاولتنا النقدية هذه بال إشارة إلى ان الإمام النورسي - رحمه الله - لم يكن بدعا في الدعوة إلى سد باب الاجتهاد النظري في فترة من الفترات بغية الحيلولة دون المساس بصرح الإسلام من لدن اناس في عداد اشباه العلماء وانصافهم، بل منذ ما يزيد على عشرة قرون كانت الدعوة إلى سد باب الاجتهاد تظهر بين الفينة والأخرى ، فتشتد حينا وتخفت حينا آخر، ويمكن القول بأن أكثر تلك الدعوات قد انطلقت من حسن نية رام بها اصحابها منع المعجبين بالثقافات الوافدة والمغرمين بالتوجهات المستحدثة من الاساءة إلى فهم هذا الدين، وتحويل محكماته إلى متشابهات، والخلط بين قطعياته وظنياته، وقصدوا في أكثر الاحيان بدعوتهم الوقوف في وجه تيار المقولات المضللة المحسوبة على الدين..
ولكنه في كل مرة ينادى فيه بسد باب الاجتهاد مطلقا - والنظري منه خاصة - يظهر في وسط الضجيج صرخات هادئة، ونداءات ملحة إلى فتح باب الاجتهاد وعدم حظره على أي انسان حاز على شروطه ولو وجد بجانب أولئك الحائزين على شروطهم اناس حيارى لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، ولاتزال المسافة بينهم وبين نيل درجة الاجتهاد بعيدة أو قصيرة، وفي خضم التعارض بين هذين النداءين يضيع هدف كل منهما، وإن كان يتحقق - نوعا ما - ما رامه النادون بسد بابه إذ تكاد جهود النادين إلى فتح بابه تنحصر في سعيهم الحثيث إلى اقناع أولئك النادين بسد بابه بدلا من التوجه إلى التطبيق الفعلي لندائهم.
** ولهذا، فإنَّنا نرى أنه قد حان الآوان للأمة أن تكف عن ترديد الدعوة إلى سد باب الاجتهاد أو فتح بابه، وان لها أن تتجاوز ذلك النزاع التالد، وتبدأ - إن كانت تريد في حقيقة أمرها قيادة وريادة هذا العالم البائس المكدود، وانقاذ الإنسانية من تعاستها وشقائها - في سلوك وممارسة نوعين من الاجتهاد النظري:(17/60)
اولهما: الاجتهاد الانتقائي الترجيحي الذي يتمثل "في اختيار أحد الآراء المنقولة في تراثنا الفقهي العريض للفتوى أو القضاء به ترجيحا له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى .."31 ولنقم أسس الاختيار والانتقاء على مراعاة الواقع المعاصر، والتطورات الحديثة، والتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وليكن الرأي المختار رأيا أليق بالعصر وارفق بالناس..
وأما النوع الثاني فهو الاجتهاد الإنشائي الإبداعي الذي يتمثل في ".. استنباط حكم جديد في مسألة من المسائل لم يقل به أحد من السابقين سواء كانت المسألة قديمة ام جديدة.."32 وللأمة أن توسع من دائرة هذا الاجتهاد، وخاصة في المسائل الجديدة التي لم تكن من مواليد عصر السلف الصالح - رحمهم الله - كبعض المسائل الاقتصادية والطبية والسياسية التي انجبها عصرنا هذا، وكانت من بنات أفكار هذا الزمان، وكذلك الحال في المسائل التي تجلى فيها بناء اجتهادات السلف على مراعاة الأعراف والعادات والظروف والبيئات، وهذا الأولى ى في نظرنا من الانكفاف على الرد على الدعوة إلى سد باب الاجتهاد أو فتح بابه، لأنه هو وحده الذي يستطيع أن يحل مشكلة الأمة المستعصية على العلاج من تخلف وتناحر، وتنابز، بل إن ذلك هو الذي سيحقق للأمة التمكين واسترداد المجد والعزة السليبة.(17/61)
وأما الدندنة بتكرار الدعوة والنداء إلى فتح باب الاجتهاد وعقد المؤتمرات والندوات في النظر في ذلك، فإنَّ الأمة لا تستطيع من خلالها أن تحل أي مشكلة من مشاكل هذا العالم المتنوعة، ولن تقدر على إسعاف التعساء والبائسين من العامة المتشوفين إلى معرفة حكم الشرع في مختلف المسائل والقضايا التي تداهم حياتهم، وتطرأ عليهم. فلا بد من الشروع العملي في فقه واقعها، وتجاوز الآثار السلبية التي ترتبت على النزاع الكلامي بين المعارضين والموافقين، فالحياة الإنسانية في تطور مستمر وتقدم متلاحق ولا يمكن أن يوقف ايا من الأمرين ذلكم النزاع العقيم، بل إن الحوادث والوقائع الجديدة تتوإلى تترى على هذه الأمة، فلن يسعفها كبت ولاتغافل عن المواجهة.. وكفى الأمة مهانة أن تعجز عن استرداد ما سلب منها قسرا منذ قرن، بل كفاها ذلا أن ترى أبناءها تفتك بهم يمينا وشمالا وغربا وشرقا وتظل مكتوفة اليد متفرجة!
وهكذا نصل إلى نهاية محاولتنا النقدية المتواضعة لرسالة الاجتهاد للإمام البديع النورسي - رحمه الله - وليكن مسك ختام ذلك بالنتائج والاقتراحات التالية:
نتائج البحث واقتراحاته
أولا: نتائج البحث:(17/62)
أولا: ترجح لدينا من خلال عكوفنا على دراسة ما كتبه الإمام النورسي - رحمه الله - في بحثه حول الاجتهاد لم يخل من تأثر بالعصر الذي كان يعيش فيه، والذي توصل فيه إلى ترجيح سد باب الاجتهاد النظري على فتحه نظراً للضعف الالتزامي الذي يقتضي منع أولئك المنحرفين عن الجادة من طرق باب الاجتهاد النظري وإن كانوا قد حازوا على شروط تحقق الاجتهاد لانهم لايؤمنون على هذا الدين، ولايوثق في نوايأهم، ونظراً أيضا للضعف العلمي الذي يتعذر معه تحقق شروط تحقق الاجتهاد في كثير من أدعياء الاجتهاد في عصر الإمام، ويرجع ذلك الضعف العلمي في نظر الإمام إلى انصراف كثير من أبناء عصره عن العلوم الشرعية وانكبابهم على العلوم الارضية، مما ادى إلى قلة زادهم في الشرعيات، وتبحرهم في الارضيات، وذلك داع إلى سد باب الاجتهاد في وجوههم، وحظره عليهم حتى يوجدوا توازنا بين العلوم الشرعية والارضية.
ثانياً: إن كنَّا قد سجلنا على الإمام ما سجلنا، بيدَ أنه يلتمس له عذراً فيما ذهب إليه من اعتقاد كون اجتهادات السلف مستوعبة لكل الجوانب النظرية في الإسلام، ذلك ان صفحات كثارا من كتابات الإمام تؤكد عدم اعتراضه على الاجتهاد في النظريات ولكنه كما قال في موضع من كتاباته ".. ثم بعد اللتيا والتي تمس الحاجة إلى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف.."33 ويعني هذا أنه لا يمنع من الاجتهاد الانتقائي الترجيحي أو الاجتهاد الإنشائي ا لا بداعي في دائرة اجتهادات السلف، بيدَ أن المرحلة التي كانت الأمة تمر بها هي التي دفعت الإمام إلى القول بتأجيل ممارسة ذينكما النوعين من الاجتهاد النظري.(17/63)
ثالثا: إن إصرار الإمام على الدعوة إلى سد باب الاجتهاد النظري في عصره، لا ينبغي أن يفهم منه سوى رفضه التام لهذا النوع من النظر الاجتهادي في تلك المرحلة، وقد قدَّم بديلا عنه في اعتداده بضرورة الاكتفاء بما يعرف اليوم بالاجتهاد الجماعي، ولذلك دعا إلى تأسيس مجلس للاجتهاد أسوة بالمجالس المعروفة بالمجالس البرلمانية. وفي هذا تأكيد وتقرير بأن الاجتهاد الذي يسد به في تلك المرحلة هو الاجتهاد الفردي النظري البحت على حساب الاجتهاد الجماعي والاجتهاد التطبيقي.
رابعًا: ينبغي التفريق بين دعوة الإمام إلى سد باب الاجتهاد على أهل الاجتهاد في زمانه وكثير من الدعوات التي سمعتها دنيا الناس في التاريخ الإسلامي وجلجلت أصداؤها الجبال والوهاد، فدعوة الإمام كما أسلفنا - وإن كانت قريبة من الدعوات السابقة - اشبه ماتكون بتقييد للاجتهاد من أن تكون سدا ومنعا كليا من الاجتهاد كما هو الحال في الدعوات التي رددها كثير من علماء القرن الخامس والسادس تحت تأثير ضغط التقليد، وتمكينه في نفوس أكثرهم إلى درجة ان ادعى بعضهم على الله اعجازه الخلق من الاجتهاد في عصورهم وهذا ما قاله عالم الاقطار الشامية ابن ابي الدم:
".. لايوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق هذا مع تدوين العلماء كتب التفسير والسنن والأصول والفروع حتى ملؤوا الارض من المؤلفات التي صنفوها.. ومع هذا، فلايوجد في صقع من الاصقاع مجتد مطلق، بل ولامجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوها مخرجة على مذهب المامه، ما ذاك الا ان الله تعإلى اعجز الخلائق عن هذا اعلاما لعباده بتصرم الزمان، وقرب الساعة وان ذلك من اشراطها.."34 بل إن إماما بمنزلة الإمام الرافعي بلغ به تأثير التقليد إلى درجة ادعى فيها ان ".. الناس كالمجمعين على أنه لامجتهد اليوم.."35.(17/64)
فهؤلاء وغيرهم كثير - غفر الله لنا ولهم - انطلقت شرارة دعواتهم متأثرة ومتهيبة من آفة التقليد التي عملت فيهم عملها، ولانخال الإمام النورسي - رحمه الله - ممن اسره التقليد وانبهر بشعاعه، بل قد نال نفسه درجة الاجتهاد التي أهلته إلى أن يقول ما قاله، ولذلك لأمر ما انتهى في رسالته إلى وصف تلك الامور التي ذكرها بأنها موانع، وكانه بذلك يريد أن يقول إنه متى مازالت تلك الموانع فلا بد للماء من أن يعود إلى مجراه، و لا بد ل أهل الاجتهاد أن يملأ دنيا الناس اجتهادا ونظراً، ذلك لأن المانع عند علماء الأصول يراد به: "مايلزم من وجوده العدم، ولايلزم من عدمه عدم ولاوجود لذاته"36، أي هو الشئ الذي يترتب على وجوده منع ما كان جائزاً، فكان الاجتهاد سواء كان نظريا أو تطبيقيا كان في أصله مشروعا بيدَ أنه يصبح محظورا بسبب وجود امور معتبرة، ويوم ما تزول تلك الامور وترتفع، فإنَّ الاجتهاد سيعود مشروعاً وجائزا، وهكذا. ودونما شك زوال تلك الامور وتبدلها ليس بأمر عسير جد عسير، وخاصة منها تلك التي تتعلق بشروط صحة الاجتهاد اعني شرطا التقوى والورع والعدالة، وحتى شرط معرفة علم الأصول هو الآخر ليس مستعصيا ولا أبديا، فيمكن أن يزول بالعودة الصادقة إلى التزود والتسلح بذلك العلم.
إذاً، كادت دعوة الإمام أن تكون دعوة إلى ترشيد وتقييد الاجتهاد لولا بعض الفقرات التي صرفت الدعوة إلى أن تكون صنو الدعوات إلى سد باب الاجتهاد مطلقا.(17/65)
وأخيراً: إذا كان الإمام النورسي - رحمه الله - قد اشتهر بغزارة علمه في شتى فنون العلم الشرعي وخاصة علم الكلام وعلم التفسير، فإنَّنا نرى أنَّ الجانب الأصولي في حياة هذا العلامة لما يحظ بحقه من الاشادة والتوضيح على الرغم من بلوغه ونيله درجة الاجتهاد في نظر الباحث، وإن كان الإمام نفسه لم يدع ذلك لنفسه، فكتاباته شاهدة على تمكنه من علم الأصول تمكنا لايقل في نظرنا عن تمكنه في العلوم التي اشتهر بها، بيدَ أن الأمر يحتاج إلى شئ من الوقت لجمع أفكاره الأصولية المتميزة سواء كانت ترجيحيا لرأي أو انشاء لآراء أصولية جديدة، ولعل حفظه لكتاب "جمع الجوامع للسبكي وابنه" خلال اسبوع واحد خير شاهد على مانزعمه، واكرم بذلك الكتاب موسوعة أصولية فذة سالكة مسلك ا لا بداع والاجتهاد سواء في التصنيف أو الترتيب أو التحرير والترجيح.
هذه بعض النتائج الهامة التي نخالها غيضا من فيض توصل إليه من خلال معايشته لرسالة الاجتهاد للإمام النورسي - رحمه الله – ولا نستطيع تسطير كل النتائج، ولعل نظرة في جنبات المباحث السابقة معينة على استنتاج نتائج أخرى لاتقل أهمية عن التي دونها في هذه العجالة، والله نسأل التوفيق والسداد.
ثانياً: اقترحات البحث:
وأما اقتراحات البحث، فإنه يمكن تلخيصها في النقاط الاتية:
أولا: الدعوة إلى ضرورة الإسراع في جمع ودراسة الآراء الأصولية للإمام النورسي المبعثرة في ثنايا كتبه الكثيرة في مؤلف واحد مستقل ليكون ذلك إضافة علمية إلى المكتبة الإسلامية وابرازا لجانب جديد معمور من حياة الإمام - رحمه الله رحمة واسعة - فقد تبدى لنا اثناء كتابة هذا البحث تعرض الإمام لمسائل أصولية متعددة يمكن أن يصنف فيها مؤلف ذو قيمة علمية.(17/66)
ثانياً: على علماء الأمة الإسلامية في ارجاء المعمورة أن تكف عن الحديث حول حكم سد وفتح باب الاجتهاد، وعليهم بدلا من ذلك أن يتوجهوا نحو ممارسة عملية سريعة للاجتهاد الانتقائي الترجيحي في المسائل التي أوسعها سلفها الصالح - رحمهم الله - جانب الاستيعاب والتفصيل، وليس ذلك جمودا على التراث بقدر ما هو في حقيقته اجتهادا فيه وخدمة له، فكفى الأمة تناحراً وتنابذا وتعاركا على فتات الآراء الاجتهادية المختلفة، وعلى علماء الأمة بعد ذلك كله أن يوجهوا جهودهم العلمية وملكاتهم الفكرية في حل ازمات الأمة وخاصة منها الازمة الفكرية عن طريق ممارسة ما يسمى بالاجتهاد الإنشائي الا بداعي والذي لا يقف عند مراجعة اجتهادات سلفنا الصالح في بعض المسائل ذات أسس عرفية أو بيئية أو زمانية أو مكانية، ولكن ينطلق ليحدث اجتهادات جديدة قي قضايا العصر ومستجداته بغية الاخذ بيد الإنسانية من براثن الشقاء والتعاسة التي تكاد أن تفتك بها فتكا، وما لم يدرك علماء الأمة هذه المسؤولية تجاه دينهم وامتهم، فإنه لايرجى لأزمة الأمة من برء عاجل سريع ناجع، فعسى أن ينال اقتراحا كهذا صداه في آذان علمائنا في ارجاء البسيطة.(17/67)
ثالثاً: لكي يقضي على دعوات سد باب الاجتهاد وفتحه قضاء مبرما، فإنَّنا نقترح على الجامعات والمؤسسات التعليمية والمراكز الاكاديمية والمعاهد العلمية في العالم الإسلامي الشروع في فتح قسم أو شعبة تعني بضبط العلوم التي يحتاج إليها المرء لكي يصبح بعد اشرافه عليها مؤهلا للاجتهاد، نعني ان علوم الاجتهاد كلها علوم مكتسبة يمكن للمرء اكتسابها عن طريق التعلم والبحث والطلب، فياحبذا لو تم ايجاد قسم أو شعبة تخرج بعد سنوات معدودة اناسا حائزين على علوم الاجتهاد، ويعرفون بالمجتهدين، كما هو الحال في كثير من الشعب والأقسام التي تزخر بها الجامعات والمعاهد العلمية والتي تخرج للأمة سنويا محدثين ومفسرين ولغويين، وفقهاء، وأصوليين، فما المانع أن تخرج تلكم الجامعات والمعاهد مجتهدين مؤهلين يجمعون في جعبتهم علوم الاجتهاد ويجيدونها ايما اجادة. إنه ليس صحيحاً في نظرنا ما قد يقوله قائل بأن الاجتهاد مبحث من مباحث علم الأصول، ولكنه في حقيقته علم قائم بذاته له مبادئه، ومباحثه، بل إنه - تجاوزا - غاية كل العلوم من أصول وتفسير وفقه، ولغة، وادب الخ.. فانى للغاية أن تكون جزءاً من المغيا، أي إذا كان الاجتهاد غاية وعلم الأصول مغيا، فكيف يكون الاجتهاد جزءاً منه، وكثيرا ما يجد المرء مصداقاً لقولنا هذا لدى كل من كتب في الاجتهاد، نعني ان من شروط الاجتهاد معرفة علم الأصول، فلو كان الاجتهاد مبحثا من مباحثه، فكيف يشترط معرفته، أليس تناقضاً ومغالطة!
إذ ذاك كذلك، فإنَّ الاجتهاد في نظرنا فن قائم بذاته ولايضيره أن يمضي عليه كل هذا الوقت منضويا تحت لواء علم الأصول، ولكن من المؤسف ومن الجناية عليه حقا بعد هذا الاقتراح أن يظل وضعه كما هو. فهل من مجيب وهل من منقذ، وهل من راغب في ضبط مرجعية إسلامية تخرج الأمة جمعاء من دوامات المتسولين على الاجتهاد وبضاعتهم في مبادئه وعلومه مزجاة مزجاة ؟!(17/68)
إن الامل لمعقود في أن يجد هذا الاقتراح صدى في أوساط المهتمين بالمسألة الاجتهادية في العالم المعاصر، عسى الله أن يوفقنا جميعا لما فيه خدمة الإسلام والمسلمين.
وهكذا نصل إلى نهاية هذه الاقتراحات بل إلى نهاية هذه القراءة في رسالة الإمام بعد أن عشنا فترة من الزمن في قراءة هذه الرسالة وبعض آراء الإمام في مسائل الاجتهاد، ولطالما تلذذنا بمعاودة قراءتها وترجمة سيرة الإمام المجتهد، بل كم تمنينا المضي قدما في الوقوف على آراء الإمام في مسائل الاجتهاد، بيدَ أن شح الاوقات وتراكم الواجبات وتكاثف المسؤوليات كل أولئك تقف حائلا دون تحقيق تلك الأمنية.
وفي الختام: لا ندعي – ولا يحق لنا أن ندعي - الإيفاء على النهاية، ولكن حسبنا أن نكون قد حاولنا في هذه القراءة تحليل ونقد ما تناوله الإمام في رسالته، ولعلنا قد نكون موفقين – وذلك ما نتمناه ـ وربما جانبنا التوفيق في بعض القضايا، وحسبنا أيضا أن نوكل إلى كل من وجد في هذه السلة التي يقدم فيها هذا البحث حشيشة غريبة أو وردة ذابلة استلالها وابعادها، أو رعايتها فأصلاحها، وجزى الله من أهدى إلينا عيوبنا، ورحم الله الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، وجزاه عنا وعن الإسلام خيرا.
هوامش البحث ومصادره:
1 انظر : الجويني إمام الحرمين، البرهان في أصول الفقه عبدالعظيم الديب طبعة 1399هـ بقطر ج2 / 1316 وما بعدها، والغزالي، المستصفى من علم الأصول، طبعة دار صادر ج2 / 363 وما بعدها، والآمدي، والأحكام في أصول الأحكام طبعة دار الكتاب العربي 1984م، ج4 / 188 وما بعدها، وابن السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، طبعة دار الكتب العلمية، ج3 / 257 وما بعدها، والبخاري، كشف الاسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - ضبط وتعليق محمد المعتصم البغدادي - دار الكتاب العربي ببيروت، طبعة اولى 1991م، ج4 / 30 وما بعدها..(17/69)
2 النجار عبدالمجيد، في فقه التدين فهما وتنزيلا، طبعة اولى لرئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر، ج1 / 89
3 الكلمات - بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي، طبعة اولى 1412هـ نشر دار سوزلز للنشر ، استانبول / 548 .
4 الكلمات / 570
5 الكلمات / 570
6 الكلمات / 583
7 الكلمات / 562، والمثنوي العربي النوري - بديع الزمان النورسي - تحقيق إحسان قاسم الصالحي، طبعة ثانية 1994م، طبع شركة "النسل" للطباعة، ونشر دار سوزلر للنشر - استانبول. / 182
8 الكلمات / 848
9 الكلمات / 569
10 الشوكاني، إرشاد الفحول بحقيق د. شعبان محمد اسماعيل، طبعة دار الكتبي بمصر طبعة اولى 1413هـ - 1992م، ج2 / 304 .
11 مجلة الأمة القطرية، عدد 45 / 46 وما بعدها باختصار وتصرف..
12 انظر مقدمة الرسالة في الكلمات / 562 .
13 الكلمات / 562
14 راجع: إحسان قاسم الصالحي، بديع الزمان سعيد النورسي - نظرة عامة عن حياته وآثاره - طبعة ثانية منقحة ومزيدة / 37 وما بعدها، وكتاب الانسان والإيمان للإمام بترجمة إحسان الصالحي، ومراجعة وتقديم علي محيي الدين علي القره داغي من 39 وما بعدها.
15 من مقدمة كتاب حقيقة التوحيد، أو التوحيد الحقيقي - بديع الزمان النورسي - ترجمة إحسان الصالحي، طبعة اولى 1405هـ، مطبعة العاني ببغداد / 8 .
16 المثنوي العربي النوري/ 182
17 الكلمات / 562 - 563 .
18 انظر موقفه من فتوى شيخ الإسلام في اناضول عبدالله افندي تحت ضغط المحتلين، والتي تضمنت الدعوة إلى الكف عن محاربة الانجليز، واعتبار تلك معصية، فاصدر هو الآخر فتوى جاء فيها: "ان فتوى تصدر عن مشيخة وادارة هي تحت ضغط الانجليز وأمرتهم لا بد وأن تكون غير سليمة، ولا يجوز الانصياع لها، ذلك لأن الذين قاموا بمقاومة احتلال الاعداء لا يمكن اعتبارهم عصاة لذا يجب سحب هذه الفتوى.." من كتاب "جوانب غير معروفة من حياة سعيد النورسي/ 232 .(17/70)
19 المثنوي العربي النوري / 182 - 183 .
20 الكلمات / 564
21 بديع الزمان نظرة عامة عن حياته وآثاره/ 22 باختصار.
22 الشوكاني، إرشاد الفحول ج2 / 301
23 الرازي، المحصول ج2 ق3 / 36
24 يخيل إلى الباحث ان العبارة الصحيحة هي "مطلقة" وليست "كلية" وذلك لما يفهم من المعاني التي أورد ها في آخر الحديث... فليتأمل!
25 الكلمات / 565 - 566 باختصار ..
26 الكلمات / 562 - 563 .
27 الكلمات / 562
28 الكلمات / 564 - 565
29 الكلمات / 568 باختصار.
30 الكلمات / 563 .
31 الاجتهاد في الشريعة - القرضاوي يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية - مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر - طبعة دار القلم بالكويت، طبعة اولى 1985م، / 126 .
32 المرجع السابق/ 114
33 المثنوي العربي النوري/ 182
34 نقلا من كتاب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية - القرضاوي / 94 باختصار.
35 نقلا من المرجع السابق/ 93
36 ابن بدران عبدالقادر بن احمد، المدخل إلى مذهب الإمام احمد بن حنبل/ 69، طبعة ادارة الطابعة المنيرية بمصر.(17/71)
دراسات في رسائل النور
في آفاق النور
أديب إبراهيم الدباغ
من ملامح
التربية السلوكية عند النورسي
قدم هذا البحث إلى الملتقى الدولي" التربية السلوكية عند النورسي " الذي عقدته كلية الآداب بجامعة القاضي عياض بالمغرب في 14-16 /1 /2003
مدخل إلى فلسفة "النورسي" التربوية
لو شئنا أَنْ نلخص فلسفة "النورسي" التي تُوَجِّهُ منطلقاته في "التربية السلوكية" للأفراد والجماعات لقلنا إنَّها كلمتان اثنتان لا يعدوهما، وهما "الجمال والجلال"، فالجمال عنده هو لُبُّ الحقيقة الإنسانية، ولُبُّ كُلِّ الحقائق في الوجود.
فجمال الحقيقة الإنسانية لا بُدَّ له من مِرْآةٍ ينعكس عليها ويتجلَّى فيها، والسلوك البشري في الفكر والحياة هو المرآة التي تعكس من صور هذا الجمال على قَدْرِ استشعار الإنسان بقيمته الجمالية النفيسة في هذا العالم، ومن حيثُ كَوْنُه سيدَ الكائنات، وأعلاها قَدْراً، وأعظمها قدرةً على ترجمة إشارات الجمال في سويداء الروح إلى سلوكٍ حياتي، وشعورٍ وجداني، ومنهج ذهني يمارس من خلاله شؤونه المعيشية والحياتية، ويُقَوِّمُ على ضوئه ما يعرض له من أفكار ومذاهب، فيحكم لها أو يحكم عليها، في إطارٍ من رُؤى ذوقية سامية المنشأ، رفيعة المنبع، يتناول برهافتها المعاني والمباني، ويتعامل بموجبها مع كليات الأفكار وجزئياتها وتشكلاتها في بُنَى الإنسان الحضارية والمدنية، ونشاطاته الفنية والأدبية والفلسفية.(18/1)
وَقَدْ رَأَيتُ تجليات هذا الجمال منعكساً على السلوك الإيماني العملي لقراء رسائل النور ولطلبتها، رأيتُه رأي العين، ولَمَسْتُهُ لمسَ اليد، حيثما تكررت زياراتي لهم في بيوتهم ومدارسهم ومكاتبهم، وأماكن أعمالهم، فإِذا واحدهم كأنَّه جَمَالٌ قُرْآنيٌّ مسكوبٌ في قالبٍ بشريٍّ، ومرآة صقيلة شفّافة تعكس من صور الذوق والخُلقُ والأدب ما يكاد يكون نادر الوجود في هذا العصر المجدب الكسيح، وليس هذا رأياً رأيْتُهُ أنا وحدي، بل هو رأي جمهرة من كبار الأساتذة والمربّين مِمَّنْ تهيأتْ لهم فرصُ رؤية "طلبة النور" على الطبيعة في أماكن وجودهم وتجمعاتهم، فأعربوا عن الرأيّ نَفْسِهِ.
الجمال والجلال..!
والجمال والجلال صنوان لا يفترقان، فكُلُّ جمالٍ هو جلالٌ في الوقت نفسه، وكُلُّ جلالٍ هو جمال في الزمن ذاته، ولو شئتَ لقَلتَ: إنَّ الجلال هو العظمة والكبرياء اللتان يحتجبُ وراءهما الجمال، وهو هالةٌ من المهابة والحشمة تحيط بالجمال فتحفظهُ وتَصُونَهُ من أنْ تطاله الأيادي الطامعة والعيون المسمومة, والإيمان بمسكوباته الجمالية والجلالية في الأرواح والقلوب هو الذي يصنع المؤمنين الذين يُشَكِّلون المعنى الجلالي الذي يحيط بالإيمان ويصونه مِمَّنْ يريد به الأذى، وينوي به الشرّ وقد قامت الحضارة الإسلامية في الماضي ولن تستأنف قيامها في المستقبل إلاّ على هذين العنصرين، الجمال والجلال، جمال في القلب والروح والفكر يَعْقُبُه جلالٌ مُجَسَّمٌ في رجولة الرجال، وفي عظمة البناء والإعمار.
وما أفْزَزَتْهُ هذه الحضارة من بطولات إنسانية في مختلف مناحي الحياة، وما تركته من هياكل البناء والمعمار في أرجاء العالم الإسلامي ينبئ عن ذلك ويشير إليه، وقد ظلَّ القرآن والسيف في الرايات المرفوفة فوق رؤوس الجموع رمزاً من رموز هذه الحضارة للجمال والجلال.(18/2)
والفكر التربوي الذي تحول لدى طلبة "النورسي" إلى سلوكٍ يمارسه "الطالب" في حياته اليومية ويكاد يكون علامة عليه وحدَه من بين الناس، هو مزيج من روح الجمال وروح الجلال، وقد لمستُ ذلك بنفسي حيث وجدتُ لدى طالب النور وداعةً تكاد تكون طفولية، ولكن ليس عن ضعفٍ بل عن قوة إيمانية تمتلئ بها نفسه، وطالعتني منه رحمةٌ تكاد تذوب رقةً ليس عن هوانٍ نفسي بل عن عِزّةٍ قعساء لا تتطامنُ إلاّ لربِّ العالمين، ورأيتُ إشفاقاً دونه إشفاقُ الأُمِّ على وليدها نابعاً من طاقة رجولية ترى في الإشفاق على المتجانفين عن طريق الله تعالى معنىً من معاني الإنسانية الإيمانية.
و "طالب النور" هيّنٌ سهلٌ موطأُ الأكناف يضع خَدَّه على التراب تواضعاً إنْ أخطأ في حق أحد أو أساء إلى أحد، إلاَّ أنّه لا يفعل ذلك بانكسارٍ نفسي بل بشعورٍ من تواضع العِزّة التي تستعصي على أي معنىً من معاني الإذلال والخنوع.
و"النورسي" الأستاذ والقدوة، هذا الرجل الذي لم يكن له مأوى يُؤويه على ظهر الأرض سوى المنافي والسجون والزنزانات، وعلى الرغم من أهوال العذاب الذي كان يَصُبُّهُ عليه سَجَّانوه، إلاّ أنَّ قلبه المفعم بالإشفاق والرحمة كان يمنعه من رفع يديه والدعاء على جلاَّديهِ، وعندما فعل ذلك ذات مَرّةٍ فتوجَّهَ بقلبه الكسير إلى الله تعالى رافعاً يديه بالدعاء على واحد من سجَّانيه مِمَّنْ أفرط غاية الإفراط في إيذائه وتعذيبه، ولم تكد شفتاه تتحركان بالدعاء حتى رأى من كوةِ زنزانته صبياً لهذا السجَّان يلعب في شرفة المنزل المطلّ على باحة السجن ببراءة طفولية عذبة، فإذا به يُنزلُ يديه ويعدل عن الدعاء إشفاقاً ورحمةً بهذا الصبي الذي لم يُرِدْ أن يعكر صفو براءته بالحزن على والده الذي ربما كان سيتأذّى بدعائه عليه.
3- تربية الوجدان.(18/3)
إنَّ صياغة الوجدان البشري وتربيته هو من أصعب مهمَّات قادة الفكر والدعوة في كُلِّ الأوقات. وقد سعى "النورسي" -على ضوء التربية الإيمانية التي أرادها لتلامذته- أن يسمو بوجدان "طالب النور" إلى آفاق الجمال والجلال في النفس والكون والحياة، واستطاع من خلال "رسائل النور" أن يملأ خيال هذا الوجدان بصور باهرة من جمال العالم الأبدي حيث استطاع أن يعكس على العالم الخارجي أعظم الصفحات في تاريخ الفتح الإيماني العتيد على هذه الأرض ،وذلك باستثارة عنصر الرجولة فيه لمواجهة التحديات والمخاطر مهما كان نوعها.
إنَّ قهر الخوف وتركه وراء الأذن، وتحت القدم، هو من أولويات ما يعرف به "طالب النور" لأنّ جلال الشجاعة هو ينبوع جمال الرحمة والصدق والشرف والكرم والمروءة، هكذا كان "النورسي" وهكذا أراد أن يربي تلامذته.
وأودُّ أَنْ أُنبِّهَ إلى أنَّ الإمام "النورسي" رحمه الله، كان يوصي طلبته دائماً وفي كل مناسبة، بعدم التعلق بشخصه الفاني، وكان يؤكد على أنَّ "رسائل النور" التي كتبها هي شخصه المعنوي الذي يمكن أن يزوروه ويحاوروه في كل وقت إذا أحبُّوا ذلك، فَمَنْ يُحبُّ إلتقاءَهُ فليَْلْتقِه عبر "رسائل النور".
والذين لم يلتقوا "النورسي" في حياته إلتقوه بعد وفاته رحمه الله من خلال "رسائل النور" فهذه الرسائل هي التي ربَّتهم وارتقت بسلوكياتهم الإسلامية المثالية التي أشرنا إلى بعض ملامحها في الصفحات الماضية من هذا البحث، وإني شخصياً أعرف جَمَّاً غفيراً من شباب "النور" انصبغت حياتهم بالصبغة السلوكية نفسها التي كان قد انصبغ بها الجيل الأول من الذين إلتقوا "النورسي" وعاصروه، وهذا يؤكد وجهة نظرنا بأنَّ المربي الحقيقي والأساس هو الرسائل وليس غيرها.(18/4)
وعلى قدر علمي لم أعرف كتاباً كان له من التأثير السلوكي التربوي في قرائه كما وجدت ذلك في أولئك المنكبّين على قراءة "الرسائل" من طلاب "النور" في هذا العصر، وهذه شهادة أسجلها على نفسي وأرجو الله تعالى ألاَّ أكون حانثاً فيها، لأنَّها نتيجة المشاهدة والمخالطة والمعاملة.
4- مع الكون وجهاً لوجه..!
ومن أجل أن يحفز التفكر الإيماني في أذهان تلامذته يتقدمهم "النورسي" ليوقفهم على الكونيات وجهاً لوجه من دون واسطة من الكلمات التي قد تتحول أحياناً إلى حاجز فكري يحجز الإنسان عن الكون مسبباً له شيئاً من الجمود العقلي والكسل الروحي الذي يريد أن ينأى بتلامذته عنهما، فأشَدُّ الأشياء بداهةً جديرة بالاهتمام من لدن "طالب الإيمان" فهي تنطوي على الكثير من موجبات الدهشة والعجب. فالأشياء الكونية ذات سلك واحد يربط بينها جميعاً، فالشيء يفضي إلى الشيء، والشيء طريق لكل شيء وعلى صلة بكل شيء، فالذين ينكفئون تحت ظل الكلمات قد يفقدون مع الزمن الاستمتاع الناشط الإيجابي، والفرح الاستكشافي من خلال معالجة المعطيات الكونية بالحسيِّات مباشرةً ومن غير واسطة، فتاريخ الكون يمكن قراءته في جزء من أجزائه دون مشقة، وجلال الربوبية، وجمال الألوهية يمكن مشاهدتهما في أية جزئية من جزئياته، والنظام والقصد والعلم والإرادة في الخلق والإيجاد تتكشف بكل سهولة عند الفحص والتدقيق في الأشياء.
فإثارة حماس العقل عند "طالب الإيمان" في تفكره بالأشياء وفي استكناه أسرارها وخفاياها من مستلزمات تكوين العقل العلمي الاستكشافي والاختراعي، وهي في الوقت نفسه من مهمات السلوك التربوي العملي عند "النورسي".
يحدّثُ أحد "طلاب الإيمان" قائلاً:(18/5)
"كان الأستاذ يرتقي التلال التي تشرف على مدينة "إسبارطة" ليشاهدَ من فوقها مناظر الفطرة، ومشاهد الطبيعة، وكانت الطريق مكسوةً بأشجار الفواكه وبخاصة "العنب". فيمسك الأستاذ بعنقودٍ منها –دون أن يقطعه- وَيَعُدُّ حبَّاته مبيناً لنا ما فيه من بدائع الصنعة الإلهية والإتقان الربَّاني فيقول: انظروا وتأملوا في حلويات القدرة الإلهية هذه .. فكان يعلمنا هكذا كيف نفكر في مخلوقات الله المبثوثة في معرض الله.. وهكذا كنا نتلقّى دروساً إيمانية في التدبر وِفْقَ منهج القراءة في كتاب الكون المفتوح أمامنا.
وذات يوم وقف على مقبرة وقال: "إنَّ شواهد هذه القبور الحجرية تذكّرنا بالآخرة، وتنذرنا. فهي كالمعلم الحي لنا. ألا ترون أن هذه الأحجار ترشدنا إلى دروس بليغة بلسان حالها، وكأنها تقول لنا: أنتم أيضاً قادمون إلى هنا.. لا مناص. هكذا كان يعلمنا كيفية التفكير في الأمور كلها".(1)
5- السلوك والخلود.
إنَّ السلوك البشري ذو المنظور الروحي المستهدي بفكرة الخلود الأبدي في عالمٍ أخروي. يبقى القاعدة الثابتة والمقيمة في أغوار النفس يعود إليها الإنسان المسلم مهما طوحَتْ به أحداث الزمن في دروب الحياة وشعابها ليستأنف دورة جديدة من عملية تزكية النفس وبنائها على ثوابت الإيمان، وبذلك يبقى المسلم في شدٍّ وجداني متيقظ لدواعي الانحرافات عن الثوابت إياها، فلا يسترخي ولا يستنيم، أو هكذا ينبغي أنْ يكون طوال حياته.
كما أنَّ الائتلاف بين الفضيلة والطبيعة، وبين الإيمان والكون، هو واحد من توكيدات "النورسي" التربوية على طلابه، ففي الإنسان تكمن روح الطبيعة، أو بعبارة أخرى روح "الفطرة" بطهرها ونقائها.
__________
(1) - المصدر نفسه ص 97-98(18/6)
ومن أجل هذا الطهر والنقاء الذي يُرادُ "لطالب الإيمان" أن يتحلَّى به عَمَدَ "النورسي" إلى تعزيز قوى الحواس في طلابه، وفتح نوافذ الروح على عالمي الغيب والشهادة باعتبارهما وجهين لعملية خلاَّقية واحدة، هذه الخلاَّقية التي يحثُّ "النورسي" طلابه على الغوص في معانيها وأسرارها لينعم الطالب بعد ذلك بفيضٍ من حُبٍّ إلهيّ أبدي يجعله مركز جذبٍ وانجذاب للقلوب النزيهة الطاهرة.
والآلام المركوزة في طريق هذه التزكية للأفراد والجماعات هي مصفاة عظيمة تصفي النفوس وتنقيها من بقايا أدرانها أو أخطائها، فالآلام رغم قسوتها هي جمال لأنها طريق النفوس إلى الصفاء والنقاء، والصفاء والنقاء هو الجمال كل الجمال، وما من ألمٍ أو حزنٍ يصيب المؤمن إلاَّ وهو خيرٌ له، لأنه يزيد في خصب روحه وقوتها، فالسجون والزنزانات والمنافي هي مدارس يوسفية كما يصفها "النورسي" لطلابه فكما كان السجن ليوسف عليه السلام طريقاً إلى إرتقاءاته الروحية والدنيوية معاً، كذلك هي عند "النورسي" وعند طلابه. وعلى ضوء الآية الكريمة ( فلبثَ في السجن بضع سنين ) (يوسف:42) يقول النورسي:
"نفهم من أسرار هذه الآية الكريمة أن يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدهم. فيصبح السجن اذاً نوعاً من (مدرسة يوسفية). وحيث إن عدداً غفيراً من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم أن يتدارسوا ويُدرِّسوا قسماً من خلاصة المسائل الإيمانية التي أثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الأخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية". ويقول كذلك:(18/7)
"أما إذا صرفنا ساعة واحدة في أداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء وأوقات المحن تتحول إلى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت - ببركة هذه الساعة - صفة الخلود، وأصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنزاح عن القلب سحب اليأس ويتبدد عن الروح ظلام القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارة لبعض ما ارتُكب من أخطاء وذنوب، ربما كانت السبب في الدخول إلى السجن.. وبذلك نكتشف حكمة ابتلائنا بالسجن ويغدو السجن مدرسة نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع اخوتنا في المصيبة والبلاء العزاء والسلوان".(1)
6ـ إخفاق التربويات غير الإيمانية
والبلقع الرهيب، والجدبُ المُمْحِلُ في روح الإنسان ووجدانه، وجفاف ينابيع الإيمان في قلبه، هو موضع نظر "النورسي" وأعظم اهتماماته الفكرية من إنسانِ هذا الزمان، حيث يبدو واضحاً إفلاس التربويات غير الإيمانية في تنشئة النفوس العظيمة الراغبة باستيعاب المعارف الإلهية بجانب ما تزخر به الأذهان من أكداس من المعلومات لم تُجْدِ في تحصين الفرد من مغريات الجريمة وتعاطي المخدرات، وفضائح المال والجنس والانتحار، والسقوط المخيف في الغلظة والقسوة، وممارسات الابتزاز والقهر على الأفراد والجماعات دون وازع من ضميرٍ أو خُلُقٍ. وقد تَحَدَّى "النورسي" مرةً رجال الشرطة والأمن ومكافحة الإجرام في بلاده أن يكونوا قد سجّلوا على أي طالب من طلاب النور البالغ عددهم مئات الألوف ومنذ عشرات السنين مخالفة تخدش أمنَ البلاد، أو جنحة أو جريمة أمكنَ تجريم واحد منهم بسببها ويمضي قائلاً:
أليس هذا دليلاً كافياً على أن مسلكنا التربوي الإيماني هو أقوم المسالك. وإذا كانت الدولة تريد تجفيف منابع الجريمة في البلاد فما عليها إلاَّ أن تسمح لنا بحرية العمل لكي نسلّمَ لها البلاد –في يوم ما- نظيفةً وخاليةً من الجريمة والفساد.
__________
(1) الشعاعات ص 252(18/8)
ثم إذا كان لكل حقيقة حياة قائمة بذاتها وهي لا تموت أبداً حتى عندما لا يكون لها وجود في حياة الناس وفي أذهانهم وسلوكياتهم، فكذلك حقائق الإيمان فهي تبقى حيةً عندما تُقْفرُ العقول والقلوب منها، إلاَّ أنها تظلُّ تمارس الحياة في الخفايا المطوية من النفوس والأكوان وفي فضاءات القرآن الكريم، وكل ما تحتاجه لتظهر على السطح شيءٌ من التنبيه والتذكير، وحتى عندما تصمت لأي سبب من الأسباب بعضَ الوقت إلاَّ أن صمتها يظل همساً يحاور أسماع القلوب والأرواح شاءت ذلك أم أبَتْ، ولا بدَّ أن تنتبه في لحظة ما وتبدأ الفهم وتذعن للتذكير فتبادل هذا الصامتَ المتكلمَ الحديث والحوار والفهم والإدراك.
غير أنَّ الناس وبخاصة شباب هذا العصر مشغولون بقضايا بعيدة عن نقطة المركز في دائرة وجودهم، بينما ينبغي أن تكون أولويات انشغالاتهم هي التركيز على هذه النقطة لأنها هي الأساس في بناء هذا الوجود وفي تكويناته النفسية والفكرية، فلياليهم وأيامهم سكرى بلذاذاتٍ لا تشبع، وعذابات من الحرمان لا تنتهي، وبشهواتٍ نَهَّاشةٍ لا تنفكُّ تنهش القلوب والعقول ولا تتركها إلا بقايا قلوب محطمةٍ، وعقول ممزقة، لأنَّ كُلَّ لذة تورث ألماً إذا هي زالت –كما يقول النورسي- وكل فرح يورث حزناً إذا مضى وانقضى، وكُلُّ وصال فهو إلى فراق، وكل اجتماع فهو إلى افتراق، فالمطلوب إذن لذة لا تزول، وفرح مقيم، ووصال دائم، واجتماع بالأحباب تحت سماء البقاء والخلود، وهذا ما لا يمكن أن يحظى به المرء إلاَّ في الإيمان والتربية الإيمانية التي تهيؤه لهذا الكسب العظيم الذي هو مطمح كل عاقل أريب.(18/9)
ولا جدال في أنَّ إنسان هذا الزمان لا يستطيع مهما حاول أنْ يغمض عينيه، ويسُدَّ أذنيه عما يجري حوله من أحداث في هذا العالم الذي غدت الأمكنة فيه –بفضل التقنيات الحديثة- مكاناً واحداً، والأزمنة زماناً واحداً. وصار العالم الوسيع قرية صغيرة كما يقولون يمكن أن يجوبه الإنسان خلال ساعات، فلا بدّ لهذا الإنسان الواقع تحت ضغوط هذه التقنيات المذهلة أن يهتمَّ بالعالم ويتابع أحداثه وَيُكِّونَ رأياً حولها. إلا أنَّ أحداث "القلب والنفس" وما يخوضانه من تجارب. وما يتقلبان فيه من أحوال، وما يعتورهما من انقلابات وتقلبات، وما يحتربان من أجله، ويسعيان لبنائه، ينبغي أن يكون لهما سبق الاهتمام والتعرّف والفهم والإدراك، وأن تكون لهما الأولويات من التفكر قبل الخوض في مجريات العالم من حولهما، فانصباب الإنسان وانكبابه ينبغي أن يبدأ بخويصة نفسه، وبالسويداء من روحه، ثم ينتقل من هناك نحو الأوسع من الدوائر ثم الأوسع حتى يصل إلى دائرة العالم من حوله، وهذا هو الأساس في البناء الفكري والنفسي لطالب النور كما أراده "النورسي" وبهذا الخصوص يقول:
"إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان:(18/10)
فابتداء من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الأرضية والبشرية وانتهاء إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم اجمع كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر، فكل إنسان له نوع من الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر. ولكن اعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له هي في اصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما اصغر الواجبات واقلها شأناً ودواماً هي في اعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه. فقياساً على هذا: يمكن أن تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، أي كلما صغرت الدائرة - وقربت - عَظمت الوظيفة، وكلما كبرت الدائرة - وبَعُدت - قلت أهمية الوظيفة.. ولكن لما كانت الدائرة العظمى فاتنة جذابة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتصرف فكره إلى أعمال لا تعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيهدر - عندئذ - راس مال عمره، ويضيّع حياته سدى".(1)
7ـ القلب البشري بين المجاز والحقيقة
إنَّ القلب البشري هو ينبوع كل العواطف والأشواق والمحبَّة والوَجْد والحب، فيظلُّ يَضُخُّ من هذه المعاني فيوضاً هائلة مع كل نبضة من نبضاته، ومع كل دقة من دَقّاته على أبواب الحياة وجدران الوجود.
أرأيتَ أنَّ الله تعالى الذي خلق الإنسان ليُعْرَفَ ويُذْكَر ويُشْكَر ويُعْبَدَ ثمَّ لا يخلق فيه الأداة التي بها يعرفه ويذكره ويشكره ويعبده، أو لا يخلق فيه المرآة التي تتجلّى عليه صفاته الجلالية والجمالية لكي يزداد به شغفاً، ويهيم به محبةً وعِشقاً، ويمتلئ له شكراً وتعبُّداً.
__________
(1) الشعاعات ص 252(18/11)
إلاَّ أنَّ القلب المسكين الذي مُنِحَ حرية الاختيار قد يَضِلُّ الطريق، وينحرف في سيره عن الغاية والهدف، فيتعلق بالضلال، وينجذب للأطياف، ويغرق في المجاز، ويشغف بالاستعارة، بينما الحق والحقيقة تظلُّ في متناول إدراكه، وهي أقرب إليه من حبل الوريد، وأقرب مِمَّا يتوهمه من أوهام ويسبح فيه من خيالات فيجره ذلك إلى الاستغراق في أهواء حسيَّةٍ جسدية تبدد فيه من الطاقات الخارقة ما كان يمكن أن يدير أجنحة أعظم أشواقه إلى صاحب الجلال والجمال الحقيقي، الذي كُلُّ جمال وجلال في هذا العالم إنما هو ظلٌّ من ظلال جماله، وقبسة من نور جلاله.
أما مراهقو السلوك الأرعن مِمَّنْ لم يحظوا بتربية إيمانية رشيدة، فشأنهم دائماً التحويم حول خضر الدِمّنَ، والتلهي كالأطفال بالدُّمى، والوقوف على الرسوم والأطلال، والركون إلى الظلال، واصطحاب أشباح بلا أرواح، يجذبهم إلى ذلك ما في الهبوط السلوكي من سحر أسود وما في اقتراف الفسق من غباء أحمق، ولأنَّ هذه الممارسات تخالف الفِطَرَ السليمة، فأنها تعقب ردودَ أفعال نفسية حزينة مؤلمة، وشعوراً بالحِطّةِ والانحطاط وهذا هو الهلاك الروحي الذي حذَّر منه "النورسي" وعزا إليه ما نشاهده في السجون والمستشفيات والخمارات من مآسٍ إنسانية تفطّر القلب، وتملأه إشفاقاً وحزناً.
إنَّ الرجل كُلَّ الرجل هو الذي يتجاوز هذه المراهقات السلوكية الفجَّة، ويعلو فوقها، ويرتفع بظمأ قلبه وأشواق روحه إلى منابع الجمال الحق، والجلال الصدق، ليروي ظمأ القلب، ويطفئ لهب الروح، فيسمو به الإيمان إلى بحار هذه المنابع ليَرِدَهَا ثمَّ يَصْدُرُ عنها وقد أطفأ غلَّةً وَبَلَّ أُواماً..
يقول "النورسي" محذراً:(18/12)
"إن الحب المحرم، أو العشق لغير وجه الحق، فيه من الآلام ما ينغّص اللذة الجزئية فيه، منها الشعور بألم الغيرة والحسد، ومنها ألم الفراق عن المعشوق، ومنها ألم عدم مقابلة المحبة بالمثل.. وغيرها كثير من المنغصات التي تجعل تلك اللذة الجزئية بحكم عسل مسموم.
فإن كنت تريد أن تفهم أن سوء تصرّف الشباب وإسرافهم في أمرهم يسبب فيهم من الأمراض ما يسوقهم إلى المستشفيات أو المقابر..
وإن كنت تريد أن تفهم أن غرور الشباب وطيشهم يدفعهم إلى السجون.
وإن كنت تريد أن تفهم أن ما يصيبهم من آلام معنوية وهموم نفسية - من الخواء الروحي والجوع القلبي والفراغ - يسوقهم إلى أبواب الحانات والملاهي.. نعم إن كنت تريد أن تتحقق من هذا، فاسأل المستشفيات والسجون والخمارات والمقابر، فستسمع حتما أنات وآهات، وبكاء مريراً، وحسرات الندم، وأصوات الأسى والأسف، يطلقها - على الأغلب - شباب أشقياء، تلقوا الصفعات الموجعة والضربات الأليمة لخروجهم عمّا أباح الله لهم من الطيبات بدافع نزواتهم وإسرافهم و سيّء أعمالهم، وارتكابهم المحرمات، وانسياقهم وراء اللذات المشؤومة".(1)
8ـ قوى النّفس وطاقاتها
والإمام "النورسي" ومن خلال قراءاته المُعَمَّقة للنفس البشرية على ضوء كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، يرى أنَّ قوى النّفس وطاقاتها الهائلة في الإعمار والتخريب، وفي السلب والإيجاب حبيسة "إِنيَّةِ" الإنسان أو "أناه" كما يعبّر هو نفسه، فـ "أنا" الإنسان عالمٌ فسيحٌ ذو أُفقٍ واسع، تسبح في أجوائه صور الوجود، وظلال الأكوان، فانعدام "أنا" الإنسان أو غيابه لأيّ سبب من الأسباب يعني نوعاً من أنواع انعدام العالم قُبَالَتَهُ، لأنه هو الذي يرسم صورة العالم على صفحة وجدانه كما تتراءى له، أو كما يُحِسُّها ويشعر بها.
__________
(1) الشعاعات ص 255-256(18/13)
ويرى "النورسي" كذلك أنَّ "أنا" إذا ما نَفَذَ ببصيرته عميقاً في كيان نفسه، فأنَّ سِرّ الخلق والإيجاد الإلهيين سيتوضحان أمامه، قياساً على ما عنده من نازع إستشرافيٍّ خَلاَّق يعمل دوماً على خلق دنياه وعالمه الخاص به. وفي معرض حديثه عن عَالَمِ "أنا" الموّار بالأعاجيب يقول "النورسي": "وهكذا..فقد اندرجت في "أنا" آلاف الأحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الأسرار المغلقة التي تستطيع أن تدلُّ وتبين –إلى حدٍّ ما- الصفات الإلهية الحكيمة كلها".(1)
ولا بُدَّ من اختراق طبقات "النفس" وحتى لو كان ذلك عبرَ طوفان من الحقارات والتفاهات المتراكمة لكي نصل إلى العمق النهائي الذي يستقُّر فيه النّازع الإلهي الذي فُطِرَت عليه.
وهذا النَّازع الإلهي الفطري هو الذي جعل "النورسي" ينبش عنه بقلمه طبقات النفس لكي يصل إليه، ويطلعه على السطح ويكون مُعْتَمَدَهُ في فكره الدعوي والتربوي على حدٍّ سواء.
9ـ الدين والعلم..
لقد حذّر "النورسي" الإنسان المسلم من أنَّ سقوطاً مريعاً يمكن أن ينتظره حينما ينساق مع التيار المستغرب، فيرى في قوة العلوم قوةً تفوق قوة الدين. ونبَّهَ إلى أنَّ هذه العلوم لا يمكن أن تكون دائماً هي المرآة المطلوبة لكي يرى المسلم روحه فيها، فيقع في الشَرَكِ نفسه الذي وقع فيه الإنسان الغربي حين ظنَّ أنه قادرٌ على اتخاذ "العلم" ديناً يقوم مقام الدين ذي المصدر الإلهي.
__________
(1) أنظر رسالة "أنا".(18/14)
و"النورسي" لا ينكر بل يؤكد على أن هذه العلوم ترسل كثيراً من الأحيان بروقاً والتماعات ذات مستويات عالية تومئ إلى الأصل الإلهي للإنسان، إلاَّ أنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشكل البديل عن شفافية الدين وروحانيته والطمأنينة التي يبثها في النفس، وحين تنكرت المدنية الغربية للدين انقلبت إلى وحشٍ كاسرٍ بلا قلب ولا ضمير ينهش في أوصال الإنسانية في كل مكان ، الأمر الذي جعل "النورسي" يعبر عنها بأبشع التعابير حيث قال: "لقد قَاءَتْ هذه المدنيةُ وحشيةً فاقت جميع وحشيات القرون السابقة".(1)
10ـ أنواع النفوس
ذكر القرآن الكريم ثلاثة أنواع من النفوس يتراوح بينها الإنسان، أدناها "النفس الأمارة بالسوء" ثمُّ "النفس اللوامة" والأرقى وهي "النفس المطمئنة".
وقد حذر "النورسي" طلبته من "النفس الأمارة" تحذيراً شديداً، ووصفها في رسائله بأنها نفس زئبقية لا تلبث على حال واحدة، وتتشكل بأشكال مختلفة، تطل برأسها إذا وجدت من صاحبها فرصة ضعف، وتتوارى إذا خافت، تلبس لكل حال من أحوال صاحبها الملبوس الذي يناسبه، وربما أفسدت على المطيعين طاعاتهم وعلى المتعبدين عباداتهم، وعلى المخلصين إخلاصهم، وهي بارعة في المناورة والمراوغة والخداع، فصارت بذلك مبعث كل شر. يقول "النورسي" محذراً:
"وهكذا.. يا إخوتي..
تأملوا جيداً وراقبوا أنفسكم لئلا تخدعكم نفوسكم الأمارة بالسوء من زاوية قياس الآخرين بالنفس ومن حيث سوء الظن بالآخرين، ولا تساوركم الشبهة بأن "رسائل النور" لا تربي طلابها".(2)
__________
(1) سيرة ذاتية، ص 140
(2) الشعاعات/ 389(18/15)
أما "النفس اللوامة" وهي الأرقى في درجات النفوس، إلاَّ أنها الأكثر تعباً، والأشدُّ معاناةً والأرهف شعوراً، والأعنف توتراً، والأعظم تألماً، والأعمق حزناً، فهي لَوَّامةٌ عَتَّابة، نَقَّادة عيَّابة, لا تعرف السكينة، لأنها ضمير الوجدان، والعصب الذي يهزه الغلط، ويوتره الانحراف، تلوم صاحبها إذا أخطأ، وتذكره إذا نسي، وتعنفه إذا اعوجَّ، وتوخزه إذا سكن إلى باطل، وتنذره إذا مارس فسقاً أو أتى فجوراً. وتكبح جماحه، وتلجم أهْواءهُ وهي في صراع دائم مع نفسه الثانية "الأمارة بالسوء" حين تطلُّ برأسها من مخبئها بين تارة وأخرى، فالحرب بينهما سجال، كرٌّ وفرٌّ هزيمة وانتصار، وهي البوصلة الهادية إلى الطريق المستقيم، ولبيان أهمية هذه النفس ربط جلَّ وعلا في قَسَمه بينها وبين يوم القيامة، فقال: (لا أقسمُ بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة:1،2)
فبين يوم القيامة بأهواله الرهيبة وبين "النفس اللوامة" سلكٌ نورانيٌّ خفي ينقل صراخ هذه النفس إلى مسامع "القيامة.. أملاً في شمول صاحبها بالرحمة الإلهية.
وإذا ما قُدِِّر لمعدن "النفس اللوامة" أن يتصفَّى في بودقة الاختبار من الشوائب والأخباث، وأن يُنَقَّى سرُّها، ويتطهر لُبُّها، وتخرج من جحيم "النفس الأمارة بالسوء" سالمة مبرأة، صارت نفساً مطمئنة، ودرجت لتأخذ مكانها في صفوف المرضيين المطمئنين، وصارت هي المعينة بخطابه جلَّ وعلا: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)(الفجر:27).
....(18/16)
إلاَّ أنَّ هذه النفوس التي استعرضنا بعضاً من سماتها وملامحها في صدر هذا الكلام لا يفصل إحداها عن الأخرى في الإنسان حَدٌّ فاصلٌ، أو حاجزٌ لا يمكن تجاوزه واختراقه، فـ "النفس الأمارة بالسوء" موجودة حاضرة مع كل نفس، تتوارى أحياناً إلى حدّ الظنّ بأنها لم يعد لها وجود، ثم لا تلبث حتى تخرج رأسها من بعض ثغورٍ ضعيفة غفل الإنسان عن تحصينها جيداً، وقد تضعف وتهزل وربما دخلتْ مرحلة الاحتضار إلاَّ أنها لا تموت، وسرعان ما تتراءى وكأنها قد استردّت قوتها وعافيتها حتى أن أكابر الأولياء والأصفياء والبررة الأتقياء يستغيثون بالله منها، ويرجون عونه تعالى ليظهروا عليها، وإلى هذا المعنى يكتب "النورسي" إلى طلبته موجهاً:
"إخوتي الأعزاء الأوفياء:
لقد أخطر إلى قلبي أن أبين لكم حقيقة لئلا يتهم بعضكم بعضاً بالأنانية وعدم الوفاء لقد رأيتُ –يوماً- من وليٍّ عظيم قد ترك الأنانية وانْمَحْت نفسه الأمَّارةُ، رأيتُ منه يشكو بشدّةٍ من النفس الأمَّارة. فحرتُ في الأمر. ثمَّ عَرَفْتُ يقيناً إنه لأجل إدامة المجاهدة المثابة عليها إلى نهاية العمر تتحول أعتدة النفس الأمارة بموتها إلى العروق والمشاعر.
وهكذا يشكو أولئك الأولياء العظام من هذا العدو الثاني الوارث للنفس الأمَّارة".
ويمضي "النورسي" قائلاً:
"بل إنَّ بعضاً مِمَّنْ هم في أعلى المقامات يعدون أنفسهم أكثر الناس ضعفاً وعجزاً وإفلاساً لأنهم لا يستشعرون إحساناً إلهياً أُنعم عليهم، مما يدل على أن الكشف والكرامة والأذواق والأنوار التي تعتبر في نظر العوام مدار الكمالات لا تكون قطعاً محكاً ولا مداراً لتلك المقامات والقيمة المعنوية".(1)
11ـ حياة النورسي وانعكاساتها على حياة طلبته
__________
(1) الشعاعات 389(18/17)
عاش "النورسي" طوال حياته عميقاً في كل شيء، ولم تَسْتَهوِهِ أبداً المُسطَّحاتُ في الدين والفكر والحياة. إنه جوهري في أموره كلها، سبّار أغوار، حمّال أثقال، غوّاص أعماق ، ما جافى أحداً مجافاته للنفوس الباهتة، والعقول الساهية، والأرواح الفارغة.
إنه يتساءل دائماً: هذه الحياة التي أُعطيناها، ماذا نفعل بها..؟ وكيف نصرفها..؟! إنه لا يكره شيئاً كراهيته للكسل والفراغ لأنهما سبب لكل انحلال وتدهور، إنَّ زيادة الإدراك والتفتّح على الحياة هي إحدى مهمات عقله، وهي نفسها المهمة التي حَثَّ طلابه على السّموِ إليها، إنَّ لسان حال رسائله يقول لهم: كونوا على أعلى مستوى من التوتر الروحي، إربطوا أنفسكم بأعمدة الوجود، تحركوا بحركته، واحيوا بحياته، انتقلوا من كونكم مستهلكين لحياتكم إلى مستثمرين لها، ومن أن تعيشوا إلى أن تحيوا، ما زمان مضى لم تكونوا موجودين فيه ولا زمان سيمضي لا تكونون موجودين فيه.. ليبعثكم النفير القرآني من قبور أنفسكم قبل أن يبعثكم من قبور أجسادكم.. إنَّه الإسراء من حرم الإسلام إلى أقصى الإيمان، ومن هناك إلى سدرة منتهى الإِحسان.(1)
***
فلسفة الدُّعاء
عند النورسي
الحمد لله ربَّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد إمام الحامدين الشاكرين، الذي أترع الكون بضراعاته، وأطرب آذان الوجود بمَوَاجيده، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1ـ النورسي رجل الدعوة والدعاء
__________
(1) في إحدى اللقاءات مع طلاب النور، قال واحدٌ من المعنيين برسائل النور: أرى أن الأستاذ استطاع أن ينقلكم بسرعة عجيبة ومن خلال رسائله من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ثم مقام الإحسان. فأنتم ترون الله تعالى فيما تأخذون وتعطون، وتأتون وتتركون، فإن لم تكونوا تروه فأنه يراكم، وهذا هو مقام الإحسان كما ورد في الحديث الشريف.(18/18)
باستثناء الإمام "النورسي" رحمه الله لم أقرأ لأحد من أَئِمّة المسلمين في العصر الحديث وعلى مدى القرن المنصرم مواجيد وتضرعات بالكمِّ والكيفِ اللّذينِ نلتقيهما في مجلدات "رسائل النور" فقد كُتبَتْ هذه الرسائل بقلمٍ نورانيٍ مغموسٍ بدَمِ قلبٍ تواقٍ دائم الذكر والدّعاء والتضرع.
فقارئ "رسائل النور" بمجلداتها العشرة يخلص في خاتمة المطاف إلى أنها نوع عظيم من الذكر والثناء على الله تعالى. وليس هذا بمستغرب إذا ما علمنا أنّ هذه الرسائل إنما هي مرايا عاكسة لشؤون القرآن ومقاصده، والقرآن الكريم كله كتاب دعوة وتوحيد وذكر وثناء، والثناء على الله تعالى دعاء أخلص الدعاء.
روى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني بسنده إلى الحسين بن حسن المروزي أنه قال:
سألتُ سفيان بن عيينة فقلتُ: يا أبا محمد ما تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله: "كان من اكثر دعاء الأنبياء: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير" وإنما هو ذكرٌ وليس فيه من الدعاء شيء، فقال لي: أعرفتَ حديثَ مالك بن حارث: يقول الله جلَّ ثناؤه: "إذا شغل عبدي ثناؤه علىَّ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" قلتُ: نعم، أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك عن الحارث. قال: فهذا تفسير ذلك، ثم قال: أما علمتَ ما قاله أُميَّة بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله..؟ قلتُ: لا أدري. قال: قال:
"أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤكَ إنَّ شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يوماً كفاهُ من تعرّضهِ الثناءُ"
ثم قال سفيان: فهذا مخلوق يُنْسَبُ إلى الجود، فقيل له يكفينا من مسألتك أن نثني عليك حتى نأتي على حاجتنا، فكيف بالخالق؟"(1) .
__________
(1) أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني 8 /343. وانظر "جامع الثناء على الله" تأليف يوسف بن إسماعيل النبهاني 1372هـ1953م ص 726.(18/19)
والدعاءُ مُخُّ العبادة كما ورد في الحديث الشريف(1)، فلا تتجلَّى العبودية بأصدق ما تكون وأخلصَ إلاَّ من خلال الدّعاء والضراعة، بل العبودية في حقيقتها ليست أكثر من هتفة دعاء من أعماق الروح، وصرخة ضراعة من قلبٍ مكلومٍ حزينٍ.
فعلى جناح الدعاء والتضرع تصعد الماهية الإنسانية إلى سماوات الرحمة، عاريةً من كل زيف، نقيةً من كل شائبة، فقيرةً من كل حول، مجرّدة من كل قوة، في الذُّل غارفةً، في المَسْكنَةِ غائصة، على أعتاب صاحب العزّة والجبروت متمرغة، فإذا تلطّف تعالى بالنظر إليها أجاب سؤلها، ومسح حزنها وجبر كسرها، وفرّج كربها.
فالله تعالى قد يبتلي عباده أحياناً بالبأساء والضراء رحمة بهم وإشفاقاً عليهم، لكي يحوش الشاردين منهم إلى نفسه، ويقود النائين عنه إليه، ويذكّر الناسين، ويلفت انتباه الغافلين. يقول جلَّ شأنه: (ولقد أرسلنا إلى أُممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون. فلولا إذْ جاءهم بأسُنا تضرّعوا ولكن قسَتْ قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. فلمّا نَسُوا ما ذكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أُتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون.فَقُطِعَ دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله ربَّ العالمين)( الأنعام: 41ـ45)
فالهتاف المنبعث من روحٍ معجونٍ بالآلام، والدّعاء المتفطّر من قلبٍ مكلومٍ حزين، هو الذي أنجى يونس عليه السلام من بطن الحوت، وحوّلَ نار النمرود على إبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً، وهو الذي سلّم موسى عليه السلام من فرعون، وهو الذي دَقَّ أبواب السماء، وهزَّ قوائم العرش واستنزل غَيْرَة الحق تعالى لينصر نبيّه وحبيبه - صلى الله عليه وسلم - في واقعة "بدر الكبرى".
__________
(1) انظر الأحاديث الواردة بهذا المعنى إلى: الترمذي، الدعاء30، تفسير القرآن3؛ إبن ماجة، الدعاء؛ المسند 4/71،76،267(18/20)
فالدّعاء والتضرع من سنن الأنبياء عليهم السلام، وهي من أعظم سنن رسولنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعرف تاريخ الأنبياء نبياً كمحمد - صلى الله عليه وسلم - في شدة ولوعه بالدعاء، وَعِظَم حبّه بالثناء على الله تعالى، ومزيد شغفه بحمده تعالى في سرّاء أموره وضرائها وفي كل أحواله.
2ـ أهمية الدعاء في أوقات الشدائد والمحن
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى للدعاء والتضرع في تقوية الجانب الإيماني والسلوكي للإنسان المسلم، إلاَّ أن الاهتمام به ظلَّ طوال القرن المنصرم غائباً عن أقلام رجال الفكر والدعوة، ولم يحتل من أساسيات اهتماماتهم إلاّ مساحات ضيقة لا تكاد تذكر.. وهذا أمر يثير الاستغراب حقاً، فعلى الرغم من حاجة المسلمين الملحة لاستمداد القوة والعون من الله تعالى بالدُّعاء والتضرع لتقوية عزائمهم وتنشيط مقاومتهم للمحن والشدائد التي واجهتهم خلال القرن المنصرم، إلاّ أن ذلك لم يكن حافزاً للإلتفات إلى هذا الجانب المهم من إخلاص العبودية لله، وإخلاص الدعاء والضراعة إليه.. ولا يذهَبنّ الوهم بأحد فيظنّ أننا ندعو المسلمين إلى مواجهة التحديات بالدعاء والتضرع ولا شيء غيرهما، فهذا ما لا يمكن أن يقول به عاقل، وما نريد قوله: إنّه لا بد من الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب لا قبلها، كما هي سنته - صلى الله عليه وسلم - في كلّ ما واجهه من التحديات في طريق الدعوة. (1)
ثم إنَّ إحياء سنّة من سنن رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه تكاد تُنْسَى في هذا العصر ولا يُلْتَفَتُ إليها إلاَّ نادراً، واجبُّ إيماني يؤجر عليه صاحبه أعظم الأجر، فالدعاء والتضرع من أوكد سننه، وإحياؤها وتجديدها عمل إيماني كبير الأهمية.
__________
(1) الأخذ بالأسباب دعاء فعلي كما يرى "النورسي" .(18/21)
وقد أسهم "النورسي" إلى حد كبير في إحياء هذه السنةَّ الشريفة، وذلك بتوجهه كليةً إلى رحمه ربّه، وبزيادة تضرعاته إليه، ورجاء العون منه، والاستناد إليه في أموره كلها، فأسكرتْ أناشيدُ وَجْدِهِ الآذان، وسحرتْ القلوب، وغدا بحقٍّ غِرِّ يْدَ الناطقين بالقرآن، وَهَزَارَ المنشدين بآلاء الرحمن، فصارَ قدوةً لتلامذته فهم يفتتحون كل يوم جديد من أيام حياتهم بمنهج تضرعي إلى الله، ليُعِبئوا جهازهم الروحي بالطاقة اللاّزمة لتوليد القوى الإيمانية التي يحتاجونها وهم يمارسون أعمالهم اليومية، وعن سرّ من أسرار مناجاته يحدثنا أحد تلامذته قائلاً:
"كنتُ أذهبُ إلى غرفة الأستاذ منذ الصباح الباكر لأشعل مدفأته، ففي أحد الأيام والبرد شديد ذهبتُ إليه قبل الفجر بنحو ساعتين دون أن أدري، فرأيتهُ جالساً فوق سجّادته يتعبّد على ضوء شمعة صغيرة، كان يدعو بصوت رقيق حزين، ويرجو الله ويتضرع إليه، فوقفتُ أنتظره ساعةً ونصف الساعة دون أن أحسَّ بالتعب، وأنا أرتجف من البرد، متسمراً في مكاني ارقبُ هذا المنظر المهيب وأنا في غاية من التأثر والانفعال، وحانتْ منه التفاتة فرآني قائماً خلفه، فقال: أخي أمين: لقد أخطأتَ خطأً كبيراً أُقسمُ بالله بأنّ لي أوقاتاً بيني وبين الله تعالى لا أقبل أن يدخل فيها عليَّ أحد، لا إنس ولا جان ولا حتىّ ملك، فأنت مخطئ جداً، فلا تكرر هذا العمل مرةً ثانية، لا تأتِ مثل هذا الوقت المبكر بل انتظر حتى يبزغ الفجر.
فقلتُ: أرجو عفوك يا أستاذي فأنا المقصر، لقد كان ضوء القمر سبباً في خطأي فأتيت مبكراً، فلن آتيك بعد اليوم قبل الفجر.." (1).
3 ـ النورسي بين الرجاء والخوف
__________
(1) ذكريات عن سعيد النورسي ـ ترجمة أسيد إحسان قاسم.(18/22)
و"النورسي" روح عظيم غائص في فيض من الحب الإلهي الأبدي، وفي الوقت نفسه مترعٌ بشجن حزين من شعور غريب بالتقصير في عبوديته لله تعالى، فعاش حياته بين رجاء وخوف، يسيطران عليه، ويوجهان حركاته وسكناته، ويقودان فكره وقلمه، ويتركان آثارهما على تهجداته وعباداته وتسبيحاته، فقارئ رسائله يتنسم في أجوائها نفحات كنفحات روض عاطر، غير أنه ينتابه شعور بأنه إزاء إنسان حزين يكتم حزنه، وخزين الآم يخفى آلامه، وموطن أشجان يستر أشجانه، ومع هذا يلمس من خلال السطور شخصية رجل قوي الروح، شديد القلب، صلب العود، قادر على الارتفاع فوق آلام العالم بأسره، وأوجاع البشرية جمعاء، إذا اقتضت ذلك خدمة الإيمان والقرآن اللّذين أوقف حياته ووجوده عليهما. وعظمة "النورسي" من عظمة ما كان يشغل ذهنه من اهتمامات، ويؤرقه من أفكار، فذهنه مشغول بالإنسان خليفة الله في أرضه، وأبدع مصنوعاته، وأكرم خليقته، وجوهر كونه، وموئل أسمائه الحسنى وصفاته، وهي المشاغل نفسها التي كانت تشغل أذهان الأنبياء والرسل وتؤرق تفكيرهم، فالآخرة هي نقطة المركز في أديانهم، والمحور الذي تدور عليه دعوتهم وتعاليمهم، والحصول على الخلود في الآخرة مقرونةً بالرضى الإلهي، هو مطلب أذكارهم وتضرعاتهم وأدعيتهم.
وفي معرض التأسي بالأنبياء السابقين خاطب القرآن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: (واذْكُرْ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار)(ص:45) أي: اذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الأخيار وتأسَّ بهم، الذين جمعوا بين القوة في العبادة والبصائر في الدين.
قال الطبري: أي: أهل القوة في عبادة الله، وأهل العقول المبصرة، (إنَّا أخلصناهم بخالِصَةٍ ذكرى الدار)(ص:46) أي: خصصناهم بِخَصْلَةٍ عظيمة الشأن، هي عدم التفاتهم إلى الدنيا، وتذكرهم للدار الباقية.(18/23)
قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همٌّ غيرها "(1).
كتب تلميذ آخر من تلامذته مشيراً إلى عِظَمِ خشيته من الله تعالى وتعلق همّه بالآخرة فقال:
"عندما كان ينشغل الأستاذ بعباداته وتضرعاته ومناجاته كان يجلس جلسة التشهد في الصلاة، وكان يطيل هذا النوع من الجلوس ساعات طوالا، حتى إنه من جراء هذا الجلوس تقرحت إصبع قدمه.
وفي ذات يوم طلب من أحد طلابه وهو " ملا رسول "(2) مرهماً لمداواة إصبعه، الذي كان منهمكاً في إشعال النار في الموقد. فالتفت إليه ملا رسول قائلاً:
- ونحن أيضاً نخشى الله ونخافه يا أستاذنا، ولكنك ترتعد من خشيتك حتى تكاد مرارتك تنفجر. فلو كنت تجلس كما نجلس لَما تقرّحتْ إصبعك!
فأجابه الأستاذ قائلاً:
- ملا رسول! ملا رسول! لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية، بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة. أأعيش كما تهوى نفسي ثم أدّعي الجنة وأطلبها.. لا يجوز هذا أبداً..! فلا أجرأ على العيش كما أهوى!"(3).
4 ـ الدعاء والإجابة
في داخل "النورسي" عَالَمٌ إيمانيٌّ صَلْبٌ لا يُقْهرُ، أقام صَرْحَهُ وشَدَّ أزْرَهُ فيوض روحه بالمواجيد والتضرعات والأدعية إلى الربّ المعبود صاحب القوة والجبروت.
وعلى الرغم من أنَّ الأحزان والمصائب كانت قد هَمَّتْ بالتهامه أكثر من مرة والقضاء على روح الحياة والتحدي فيه إلاّ أنها لم تنجح، وخرج من ليل الخطوب والأتراح سالماً معافى ليستأنف عمله الرسالي في الدعوة إلى الإيمان وإنقاذ الإنسان من بوائق الكفر والإلحاد.
__________
(1) صفوة التفاسيرـ محمد علي الصابوني ـ تفسير سورة (ص) –ص55.
(2) وهو عالم جليل في مدينة "وان" تتلمذ على يد الأستاذ النورسي رغم أنه يكبره سناً.
(3) ذكريات عن سعيد النورسي ـ ترجمة أسيد إحسان قاسم.(18/24)
فالدُّعاء والتضرع يحرر صاحبه من أغلال الأحزان، ويُحَوِلُ الحزنَ من كونِهِ عامِلَ تثبيطٍ وتيئيسٍ إلى طاقة إعمار وتشييد، حتى لكأنَّ "الإيمان" المكّبل في زمانه بألف قيدٍ وقيد، قد وَجَدَ فيه النجدة الروعاء، والهمّة القعساء، والعزيمة والمضاء، وتلكم هي ضالّةُ "الإيمان" التي يفتش عنها في رجولة الرجال ، ومعادن الأبطال.
وَلِعِظَمِ الرسالةِ المنوطةِ بالإنسان خلق الله تعالى له عالمي الغيب والشهادة، وأنشأ من أجله الدنيا والآخرة، ودعاه إلى معرفته، وطالبه بالشكر على آلائه وإنعامه، وحثَّهُ على الدعاء، وضَمِن له الإجابة، (و قال ربُّكُمْ أُدعوني أستجبْ لكم)(غافر:60)، أي: أدعوني أُجبكم فيما طلبتم، وأعطكم ما سألتم. قال ابن كثير: نَدَبَ تعالى عِبَادهُ إلى دعائه وتكفّل لهم بالإجابة، فضلاً منه وكرماً "(1). فهو تعالى رحمان رحيم قبل السؤال، فكيف لا يكون الرحمنَ الرحيم بعد السؤال..؟
فالدُّعاء والتّضَرعُ يطرق أبواب الرحمة الإلهية، وينزل شآبيبها من فوق السموات السبع، فلولا دعاؤنا لم يلتفتْ إلينا ربُّنا، ولم يكترث بشأننا، فكيف يجيب الربُّ جَلَّ شأنهُ مَنْ لا يسأله، أو يلتفت إلى مَنْ يعرض عنه، وكيف يغيث مَنْ لم يستغث به..؟ (قُلْ ما يعبأُ بكم ربيّ لولا دعاؤكم)(الفرقان:77) أي:
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم4/86. محمد علي الصابوني، صفوة التفاسيرـ سورة غافر – الجزء الثاني ص 99.(18/25)
قلْ لهم يا محمد: لا يكترث ولا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه، واستغاثتكم إيّاه في الشدائد ،(1) وكأنه يقول تعالى للإنسان: أُدعني أستجبْ لك، نادني ألتفتْ إليك، إستغثْ بي أُغِثْكَ، استرحمني أرحمْكَ، و(فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)(البقرة:153) أي: اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، و (اشكروا لي ولا تكفرون) أي: اشكروا نعمتي عليكم ولا تكفروها بالجحود والعصيان، رُوِيِ أن موسى عليه السلام قال: يا ربّ كيف أشكرك..؟
قال له ربُّه: تذكرني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني "(2).
وأدعية الإمام "النورسي" وتضرعاته، شمولية جامعة، كشمولية فكره وجامعيته، فهي وإنْ كانت تبدأ في خطواتها الأولى ذاتية تُنْبئُ عن خويصةٍ روحيةٍ متألمةٍ، إلاّ أنها لا تلبث أن تتوسع شيئاً فشيئاً حتى تغدو عملية استنهاضٍ للقوى الإيمانية الكامنة في النفس البشرية عموماً.
__________
(1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسيرـ سورة الفرقان – الجزء الثاني ص 340.
(2) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسيرـ سورة البقرة – الجزء الأول ص 94.(18/26)
فأدعيته وتضرعاته يمكن درجها ضِمْنَ ما كان يمليه على تلامذته من دروس الإيمان، بل هي اعظم دروسه الإيمانية، ولعنصر الضراعة فيها تعلو لتلامس سماء الرحمة الإلهية، ثمَّ تهبط لتلامس سماء القلب البشري أينما كان على هذه الأرض، لِتملأَ الأرواحَ بطاقات إيمانية يمكن أن تصبح مع الزمن خزيناً تأخذ منه الروح ما يساعدها على الثبات في أوقات الآلام والأزمات. وهو يستنطق القرآن ويصغي من خلال آياته إلى ضراعات الأنبياء والمرسلين، وجنس الإنسان عموماً، وذلك للمشاكلة والمجانسة ـ على الأقل ـ بين دوافع آلامه وآلامهم، فآلامه ليست بأقلَّ من سواها تبريحاً، فلجأ من الآم الدنيا وأوجاعها إلى ركن (حسبنا الله ونعم الوكيل)(آل عمران:173) . وها هو يقول في المرتبة النورية الحسبية الثانية من مجموعة "الشعاعات" ما يأتي:
"إنه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شئ هاجمني أرباب الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:
إن جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبّل اليدين.. أوَ ليس له - أي لي - من نقطة استناد؟..
فراجعت آية (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فأعلمتني:
إنك تستند بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة.."
ثم يمضي قائلاً:
"فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيماني، يمكنك إذن الاستناد والاعتماد إلى قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقاً لقد كنتُ أحسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من أن أتحدّى بها جميع أعدائي في العالم وليس الماثلين أمامي وحدهم، لذا ردّدْتُ من أعماق روحي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) "(1).
__________
(1) الشعاعات ص 43-74(18/27)
ويقول في المرتية الحسبية الرابعة من الشعاع نفسه ما يأتي:
" وافقتْ العوارض المزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوباً على أمري، فترة غفلتي، وكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب إلى العدم، بل وجود المخلوقات كلها يفنى وينتهي إلى الزوال.. ولّد عندي ذهاب الجميع إلى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريمة أيضاً (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقالت لي: "تدبّر في معانيّ، وانظر إليها بمنظار الإيمان". وأنا بدوري نظرت إلى معانيها بعين الإيمان فرأيت:
إن وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً، مرآة ٌ لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بأنواع من وجود غير محدود بانبساط غير متناهٍ.. وهو بمثابة كلمة حكيمة تثمر من أنواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي وأعلى منه نفاسة حتى أن لحظة عيش له من حيث انتسابه الإيماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأنه أدركت بالشعور الإيماني أن وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته. فنجوت من ظلمات لا حدّ لها تورثها أوهام موحشة، وتخلصت من آلام لا حدّ لها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة إلى جميع الموجودات ولاسيما إلى ذوي الحياة، روابط بعدد الأفعال والأسماء الإلهية المتعلقة بالموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً مع جميع ما أحبه من الموجودات من خلال فراق مؤقت"(1).
ثم انظر من خلال المناجاة الآتية إلى المعاني الجليلة التي أوحت له بها الآية الكريمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) فيقول:
"إذ هو الموجد الموجود الباقي فلا بأس بزوال الموجودات لدوام الوجود المحبوب ببقاء موجِدِه الواجب الوجود..
وهو الصانع الفاطر الباقي فلا حُزن على زوال المصنوع لبقاء مدار المحبة في صانعه.
__________
(1) الشعاعات ص 79(18/28)
وهو المَلكُ المالكُ الباقي فلا تأسّفَ على زوال المُلك المتجدد في زوال وذهاب.
وهو الشاهدُ العالمُ الباقي فلا تحسُّرَ على غيبوبة المحبوبات من الدنيا لبقائها في دائرة علم شاهدها وفي نظره..
وهو الصاحب الفاطرُ الباقي فلا كدر على زوال المستحسنات لدوام منشئ محاسنها في أسماء فاطرها.
وهو الوارثُ الباعثُ الباقي فلا تلهّف على فراق الأحباب لبقاء من يرثهم ويبعثهم.
وهو الجميلُ الجليلُ الباقي فلا تحزّنَ على زوال الجميلات اللاتي هنَّ مرايا للأسماء الجميلات لبقاء الأسماء بجمالها بعد زوال المرايا.
وهو المعبودُ المحبوبُ الباقي فلا تألّم من زوال المحبوبات المجازية لبقاء المحبوب الحقيقي.
نعم، حسبي من بقاء الدنيا وما فيها بقاءُ مالكها وصانعها وفاطرها".
إلى أن يقول:
"حسبي من بقائي أن الله هو إلهي الباقي، وخالقيَ الباقي، وموجديَ الباقي، وفاطريَ الباقي، ومالكيَ الباقي، وشاهديَ الباقي، ومعبوديَ الباقي، وباعثيَ الباقي، فلا بأس ولا حُزن ولا تأسّفَ ولا تحسر على زوال وجودي لبقاء موجدي، وإيجاده بأسمائه. وما في شخصي من صفةٍ إلاّ وهي من شعاع اسمٍ من أسمائه الباقية، فزوالُ تلك الصفة وفناؤها ليس إعداماً لها، لأنها موجودةٌ في دائرة العلم وباقيةٌ ومشهودة لخالقها.
وكذا حسبي من البقاء ولذّته علمي وإذعاني وشعوري وإيماني بأنه إلهي الباقي المتمثل شعاعُ اسمه الباقي في مرآة ماهيتي؛ وما حقيقة ماهيتي إلاّ ظلٌ لذلك الاسم.
فبسرّ تمثّله في مرآة حقيقتي صارت نفسُ حقيقتي محبوبة ً لا لذاتها بل بسرّ ما فيها وبقاءُ ما تمثل فيها أنواع بقاءٍ لها" (1).
__________
(1) الشعاعات ص 96-97(18/29)
وهذه النماذج من تضرعات "النورسي" وأدعيته التي استعرضناها آنفاً، وإنْ كانت تبنئُ عن ذاتية فردية في انبعاثها الأول، غير أنها ـ وبدون تمحل ـ يمكننا اعتبارها ذات طابعٍ دَعَوِيٍّ عام، وبقدر ما هي تضرع ودعاء فهي كذلك ذِكْرٌ وثناء، ودلائل بينات تعزِّزُ مواقع الإيمان لدى المؤمنين، وتنعي على الجاحدين والشّاكّين المترددين ما هم عليه من ظلمة القلب وجفاف الروح، وأمَّا ما تتركه على أنسجة الروح والفكر من آثار مهدئة وشعورٍ عَذْبٍ لذيذٍ فأمرٌ مجرّب يكاد يبلغ درجة التواتر كما هو في مصطلح الحديث.
فَالمُعْتَزَلاتُ، سواء منها تلكم المفروضة عليه، أو تلكم التي كان يروح إليها بإرادته، ساعدته كثيراً، وألقَتْ به على مشارف روحيةٍ عاليةٍ المرتقى، وهيأته لتلكم المكتشفات العلوية لأعمق حقائق الإيمان، فالصمت والسكينة في المُنْعَزَلِ يحفلانِ دائماً بالحكمة، ويساعدان على التأمل، ويرهفان مشاعر القلب البشري، فيهتزُّ بِحِدّةٍ لأدنى ما يَمَسُّهُ من تنزلات عوالم الغيب، حتى إنّه ليَشُمُّ روائح النفوس المُغيّيَةِ ويستلهم منها دروس الإيمان كيما تساعده للعبور من مرحلة "علم اليقين" الذي هو فيه، إلى مرحلة "حق اليقين" الذي صار إليه. وبسبب هذه اليقينية يقول ويكرر: إنَّ رسائل النور ـ ولكونها انعكاسات قرآنية ـ ليست بتصورات عقلية قابلة للخطأ والصواب. ولا هي إلهاماتٌ حَدْسِيةٌ قد تختلط بها الأوهام والخيالات، وإنَّما هي يقينيّات مجرّبة عانى صاحبها للتحقق من صدقها أهوالاً فوق ما يمكن أن تحتمله أصلاب الرجال، ولا حتى أصلاب الجبال (1).
__________
(1) يقول النورسي في المثنوي العربي النوري ما يأتي: "لكن أقول تحديثاً بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين" إفادة مرام ص 312.(18/30)
فحزنه المديد المتقد لم يستطع أنْ يَمَسَّ أغواره الإيمانية البهيجة، ولا أن يعكر صَفْوَ أفراح روحه بمكتشفاتها الماورائية المُحَجَّبَةِ.
ففي خلواته ومنافيهِ القصية فوق سفوح الجبال، وحين يبلغ الليل عنفوانه، ويَعُمُّ الهدوء وتشيع السكينة، تأتيه الحكمة في موكب مهيب من الجلال والجمال وتَحُطُّ على لسانه وتستوي على عرش فكره وقلبه، فما من ليلة من لياليه تموت خاويةً جوفاءَ تحت سنابكِ خيولِ النّهارِ البُلْقِ قبل أنْ يضمخها بعبير أذكاره، ويستودعها كنوز مواجيده وتضرعاته، فالثرثرة ولغط الحديث يصيبه بالقرف، ويملأه بالذُّعْرِ، ويحِسُّ وكأنَّه يريد أن يسحق روحه حتى الموت، من اجل ذلك فإنّه قلّما يأذنُ لأحد في الدخول عليه من أولئك الذين يهمهم الاستمتاع بمجالسته ومبادلتهم إياه الحديث، أو من أولئك الذين يتجشمون عناء سفر طويل بنية التبرك بولي من أولياء الله الصالحين.
وحتى أولئك الذين يأتون متعطشين لدروسه فإنه يحيلهم إلى "رسائل النور" باعتبارها النائبة عنه، والمتكلمة بلسانه، فمن أجل الحفاظ على نقاء الحكمة وصيانتها من التلوث بفضول القول اقتصرت لقاءاتُه على قِلّةٍ من خُلّصِ تلامذته، الذين هم في الوقت نفسه بَرِيْدهُ إلى العالم خارج خلوته أو منفاه، ينقلون إليه رسائل محبيه وتلامذته واستفساراتهم وأسئلتهم عن قضايا تشغل بالهم ويريدون أن يعرفوا رأيه فيها، ثم ينقلون ردوده عليها إليهم.
ولِعِظَمِ خشيته من أن يُخْدَشَ إخلاصه، حرص على ألاَّ يراه أحد كائناً مَنْ كان في ساعات صفوه مع الله تعالى، ومناجاته له، وهو ما يصفه رويم قائلاً:(18/31)
"الإخلاص من العمل هو ألاَّ يريد صاحِبُهُ عليه عوضاً في الدارين، ولا حَظّاً من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سرُّ بين العبد وبين الله، لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا شيطانٌ فيفسده، ولا هوىً فيميله. وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سالتُ جبريل عن الإخلاص ما هو ؟ فقال: سألتُ ربَّ العِزّة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرُّ من سِرّي استودعته قلب مَنْ أحببته من عبادي" (1).
وواحدٌ مما يحفظ عليه سرَّ الإخلاص عدم قبوله لهدايا الناس وأعطياتهم، وأوردُ هنا مقتطفات من رسالة كان قد وجهها إلى تلميذه المخلص "خلوصي يحيى كيل" خمسة أسباب لذلك، ثم يستطرد مبيناً فيقول:
"وكذا فإنَّ فيَّ استيحاشاً من الناس، لا أستطيع قبول زيارة كل شخص في كل حين، فقبول هدايا الناس يُلْزِمُني بقبول زيارتهم في وقت لا أريدها، أخذاً بمراعاة شعورهم، وهذا ما لا أحبذه.
إنني أفضل أن آكل كسرة خبز يابس، وأنْ ألبس ثوباً فيه مائة رقعة ورقعة ينقذني من التصنع والتملق، على أن آكل طيبات أطعمة الآخرين، أو أن البس أفخر ملابسهم وأضطر إلى مراعاة مشاعرهم وهذا ما أكرهه.
السادس: أي "السبب السادس":
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، الجزء الثاني ص 146 ؛ القشيري، الرسالة القشيرية ص 331.(18/32)
إن السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر (1) الموثوق حسب مذهبنا (الشافعي):يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، إن لم تكن صالحاً (2).
نعم إن إنسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فإذا اعتقدت أنني صالح – حاش لله - فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وان لم اعتقد صلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.
وأيضاً إن أخذ الصدقة والهدية مقابل الأعمال المتوجهة للآخرة يعني قطف ثمرات خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا" (3).
5 – بين أشواق الروح وأشواق الطبيعة
__________
(1) احمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (909- 974هـ)
(2) "ومَنْ أُعطي لوصفٍ يُظنُّ به كفقرٍ أو صلاح أو نسبٍ بأن توفرّت القرائن انه إنما أُعطي بهذا القصد أو صرّح له المُعطي بذلك وهو باطناً بخلافه، حَرُم عليه الأخذ مطلقاً ومثله ما لو كان به وصفٌ باطناً لو أطّلع عليه المُعطي، لم يُعْطِهِ. ويجري ذلك في الهدية أيضاً على الأوجه. مثلها سائر عقود التبرّع فيما يظهر كهِبَةٍ ووصيةٍ ووقفٍ ونذر» (تحفة المحتاج لشرح المنهاج 7/ 178" لابن حجر الهيتمي الشافعي. ـ المترجم.
(3) المكتوبات - المكتوب الثاني ص17(18/33)
"النورسي" روحٌ جَوَّابُ آفاق، حَوَّامٌ فوق الآكام وغوراب الجبال، وبرصانته العلوية الوقور، وبثباتة جأشه، يضع عصا ترحاله ذات مرةٍ فوق قمة جبل "جام" ويلقي بأوجاعه وآلام غربته في أحضان الطبيعة التي لا يخشى ظلمها ولا يحاذر من غدرها، إنها تحترم صمته الذي هو أبلغ من كل كلام، وبآذان جائعة تصغي إلى صلواته وضراعاته، فيؤنس بذلك وحشتها، وتؤنس هي وحشته، وتجد في جيشان روحه هِزّةُ طرب يثير وجدها، ويضرم أشواقها فتكاشفه بما انطوت عليه نفسها من أسرار الله وبما حفظه كيانها من مظاهر قوة الله وعظمته، أما دفقات حنانها فتلامس بالعزاء أرواح المكروبين، وقلوب الوالهين ، إنَّهُ ـ على الأقل ـ لم يَعُدْ يواجه في هذا المكان المنعزل صوراً من القبح في خُلِق الإنسان، وفي سلوك ذوي السلطان.
ويجدر أن نستعرض هنا إحدى رسائله إلى جماعة من خلّص تلامذته، يشرح لهم فيها ما كان يعانيه من أنواع الغربة التي تلازمه أينما حَلَّ وكيفما مضى، يقول رحمه الله:
"باسمه سبحانه
(وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(الإسراء:44)
سلام الله ورحمته وبركاته عليكم وعلى إخوانكم لا سيما... الخ
اخوتي الأعزاء!
أنا الآن في موضع، على ذروة شجرة صنوبر ضخمة عظيمة، منتصبة على قمة شاهقة من قمم جبل "جام" . لقد استوحشتُ من الإنس واستأنست بالوحوش.. وحينما ارغب في المحاورة والمجالسة مع الناس أتصوركم بقربي خيالاً، وأجاذبكم الحديث وأجد السلوان بكم. وأنا على رغبة في أن أظل هنا وحيداً مدة شهر أو شهرين، إن لم يحدث ما يمنع، وإن رجعت إلى "بارلا" نتحرى معاً حسب رغبتكم عن وسيلة لمجالسة ومحاورة بيننا. فقد اشتقتُ إليها اكثر منكم.
والآن اكتب إليكم ما ورد بالبال من خواطر على شجرة الصنوبر هذه:
أولاها: خاطرة فيها شئ من الخصوصية، فهي من أسراري، ولكن لا يُكتم عنكم السر، وهو:(18/34)
إن قسماً من أهل الحقيقة يحظون باسم الله "الودود" من الأسماء الحسنى، وينظرون إلى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك أخوكم هذا الذي لا يعدّ شيئاً يذكر، وهو لا شئ، قد وُهب له وضع يجعله يحظى باسم الله "الرحيم" واسم الله "الحكيم" من الأسماء الحسنى، وذلك أثناء ما يكون مستخدماً لخدمة القرآن فحسب، وحينما يكون منادياً لتلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبها.
فجميع "الكلمات" إنما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى أن تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة: (ومَن يؤتَ الحِكمةَ فقد اُوتيَ خيراً كثيراً) (البقرة:269)"(1).
وهذه رسالة أخرى موجّهة إلى تلميذين عزيزين من تلامذته، يقول فيها:
"اخويّ الغيورين، زميلَيّ الشهمين، يا مبعثي سلواني في دار الغربة، الدنيا..
لما كان المولى الكريم سبحانه وتعالى قد جعلكما مشاركين لي في المعاني التي أنعمها على فكري، فمن حقكما إذاً مشاركتي في مشاعري وأحاسيسي.
سأحكي لكما بعضاً مما كنت أقاسيه من ألم الفراق في غربتي هذه، طاوياً ما هو اكثر إيلاماً منه لئلا أجعلكما تتألمان كثيراً.
لقد بقيت منذ شهرين أو ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً أو ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الأوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي أحد من أهل الجبل، فلقد تفرقوا.
ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، إلاّ حفيف الأشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة.
أولها: إني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني وأحبابي وأقاربي، فيما أخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لى ورحيلهم إلى عالم البرزخ.
ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي أنني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني اكثر الموجودات التي أتعلق بها كالربيع الماضي.
__________
(1) المكتوبات ص 23-24(18/35)
ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي الغربة عن موطني وأقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، إذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.
ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ أوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة امامي، غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما أشعرني أن ميدان غربة أخرى انفتحت أمام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الآباد، فضمتنى غربة غير معتادة، وأخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن أن تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وأنواع الغربة المتداخلة!.
فاستغاث قلبي قائلاً:
يا رب! أنا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي.
فأقول: الغوث الغوث. أرجو العفو، واستمد القوة من بابك يا إلهي!.
وإذا بنور الإيمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّنى من القوة ما يحول تلك الأنواع الخمسة من الغربة المظلمة، إلى خمس دوائر نورانية من دوائر الأنس والسرور. فبدأ لساني يردد: (حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173) وتلا قلبي الآية الكريمة: (فإن تولّوا فقل حَسبيَ الله لا إله إلا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم) (التوبة:129).
وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:
دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.
إنما الشكوى بلاء.
بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام في بلاء.
إذا وجدتَ مَن ابتلاك،
عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.
دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.
فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.
فتعال، توكل عليه في بلواك!
ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وأنت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.
تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.
فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.
وقلت كما قال أحد أساتذتي مولانا جلال الدين الرومي مخاطباً نفسه:(18/36)
"أتدري ما سر البلاء؟.. انه طرقُ باب الفقر والاستغناء عن الناس.(1)
وحينئذٍ قالت نفسي: أجل! أجل!. إن الظلمات لتتبدد وباب النور لينفتح بالعجز والتوكل والفقر والالتجاء . فالحمد للّه على نور الإيمان والإسلام.
وقد رأيت هذه الفقرة من "الحكم العطائية" المشهورة تنطوي على حقيقة جليلة وهي قوله:
ماذا وجَدَ من فَقَده وماذا فقد مَن وَجَده؟(2)
أي: إن الذي وجده فقد وجد كل شئ، ومن فقده لا يجد شيئاً سوى البلاء.
وفهمت سراً من أسرار الحديث الشريف (.. طوبى للغرباء..)(3) فشكرت الله.
فيا اخويّ!
إن ظلمات أنواع الغربة هذه، وان تبددت بنور الإيمان، إلاّ أنها تركت فيّ شيئاً من بصمات أحكامها، وأوحت بهذه الفكرة:
ما دمت غريباً وأعيش في الغربة وراحلاً إلى الغربة، فهل انتهت مهمتي في هذا المضيف، كي أوكلكم و"الكلمات" عني. وأقطع حبال العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟
وحيث إن هذه الفكرة وردت على البال بهذه الصورة، فكنت أسألكم:
هل "الكلمات" المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ وأعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمتى كي أنسى الدنيا واُلقي بنفسي في أحضان غربة نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب وأقول كما قال مولانا جلال الدين:
ليت شعري هل لي أن ابحث عن غربة رفيعة سامية!.
ولأجل هذا كنت أجابهكم بتلك الأسئلة" (4).
6ـ الدعاء من سنن الكون
__________
(1) يعني: لما قال سبحانه: "ألست بربكم" قلت: "بلى"!. فأين الشكر على قولك بلى؟ انه مقاساة البلاء! أتدري ما سر البلاء؟ انه طرق باب الفقر والفناء في الله – من هامش المترجم.
(2) هذه الفقرة (ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك) هي من مناجاة ابن عطاء الله السكندري، المذكورة في ختام "الحكم العطائية".
(3) اصل الحديث: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) رواه مسلم عن أبى هريرة : الإيمان : 232 والترمذي : الإيمان 13 .
(4) المكتوبات ـ المكتوب السادس ص 29ـ32(18/37)
فالدعاء والتضرع ليس هو من سُنَنِ الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين فحسب، بل هو ـ كما يرى النورسي ـ سنّة كونية عامّة، تشملُ الكون وما حَوَى، والوجود ومَا وَعى، فما مِنْ فانٍ لَبِسَ ثوبَ الوجود إلاَّ بسبب استجابة رحمانية لدعوة سابقة في علم الله تعالى بلسان الحال أو المقال، لذلك قال جَلَّ شأنه (وآتاكم من كُلِّ ما سألتموه)(ابراهيم:34) فالآخرة والخلود فيها جواب على استغاثة الفطرة في الإنسان، وحنينها إلى الخلود، وإشفاقها من العدم.
فالفطرة دعاء، والأخذ بالأسباب دعاء، والذكر دعاء، والثناء على الله دعاء، والشكر على نعمائه دعاء، وما تنطوي عليه النفس البشرية من استعدادات عقلية ووجدانية للارتقاء في سلّم المدنية والحضارة دعاء.
والنورسي بهذا الفهم الشمولي الكوني والوجودي للدعاء والتضرع يشكل استدراكاً في غاية الأهمية على الفهم التقليدي النمطي الذي يقصُرُ الدعاء على الإنسان وحده من دون العالمين، وبذلك يعيد للخليقة اعتبارها التعبُّدي من حيث كَوْنُها ليستْ بأقلَّ حاجةٍ من الإنسان للدعاء والتضرع، واستمداد ديمومية حياتها ووجودها من القيومية الإلهية المحيطة بكلية الكون والوجود.
فالدعاء والتضرع ـ بلسان الحال أو المقال ـ ينتظم جميع الأشياء في هذا العالم، وإذا ما سكت مقال الإنسان عن الدعاء لأي سبب من الأسباب، يبقى لسان حاله في دعاءٍ خفيٍ لا يتوقف لحظةً واحدةً راجياً مستغيثاً طالباً العون والتأييد من الربّ المعبود على حفظ وجوده وإمدادهِ بما يمكّنِهُ من أداء رسالته المناطة به في هذه الحياة.(18/38)
وقد اهتمَّ "النورسي" كثيراً بتوكيد هذا المعنى في النفوس، ومن أجل ذلك كان يستهل دروسه الإيمانية، ويبدأ رسائله وخطاباته إلى تلامذته بالآية الكريمة: (وإنْ مِنْ شئٍ إلاّ يسبح بحمده)(الإسراء:44) ويختمها بعبارة "يا باقي أنت الباقي" تذكيراً للناسين وتنبيهاً للغافلين، وإشارةً إلى هذه السنة الإلهية في الدعاء والتضرع التي لا يشذ عنها مخلوق من مخلوقات الله، فلو كُشِفَ الغطاءُ عن أسماعنا لسمعنا:
"ملايين الأصوات بملايين اللغات، تضجُّ بدعاء ملتهب تستنزل به من خزائن الرحمة الإلهية حاجاتها المتجددة بتجدد اللحظات.
صلوات وتسابيح وأذكار تتعالى من قلب الكائنات في كل لمحة تومئ وتشير إلى إمدادات الله وعطاياه.. أصوات.. أصوات.. أصوات كل الكائنات، وجميع الموجودات من الذرّات حتى المجرَّات تتخاشع أمام ربّ العالمين وتهمس في رجاءٍ وإشفاق:
فقراء ـ يا ربنا ـ فاغننا .. عُراةُ فاكسنا .. جوعى أطعمنا .. عطشى اسقنا .. موتى أحينا .. معدومون أوجدنا .. محجوبون ـ بنورك ـ أظهرنا .. حاجاتنا إليك ـ يا ربنا ـ لا تنتهي.. فأعطنا حاجاتنا.. أمّنْ رغباتنا.. حِقّقْ آمالنا..
مِنْ غيرك نحن مشلولون.. بسواك نحن هامدون.. فأعِنَّا يا خالقنا لأداءِ ما لأجله خلقتنا.. وحركنا لإنجاز مهامَّنا التي بها حياتنا..
يا واجب الوجود.. يا الله.. يا رحمن.. يا رحيم.. مَنْ للممكنات أحدٌ سواك..؟ ومَنْ لها غيرك..؟ منكَ أتينا وإليك ـ في حاجاتنا- نعود.. ومنك حياتنا وإليك ـ في حفظها ـ نرجع.. فأجب دعاءنا يا مجيب كُلِ داعٍ.. ويا معطي كلَّ ذي حاجةٍ حاجته.. آمين" (1).
وفي عتمة التراب تنادي البذور والنّوى بلسان استعداداتها وتقول:
__________
(1) قراءات في فكر النورسي ـ النوافذـ ترجمة إحسان قاسم الصالحي ـ عرض وتعليق كاتب هذه السطور ص 11ـ12ـ مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – العراق ـ1985(18/39)
في أعماق كل بذرةٍ ونواةٍ شجرة.. وبين جذوعنا اليابسة خضرة ماتعة.. وربيعٌ رائق.. ونضرة مشرقة.. فأعِنَّا يا فالق الحبّ والنوى على أن يشرق من أعماقنا ربيع الشجر.. وخضرة الورق.. ونضرة الفَنَنِ.. اسقِنا ـ يا ربَّنا ـ ماء رحمتك.. مُدَّنا بدفءِ عنايتك.. غَذِّنا بلطف رعايتك.. يا مقلّبَ القلوب.. يا ملين القلوب.. أَلِنْ قلبَ الأرض لنا.. وفجّرْ عيون الرحمة في حَجَرها وصَخَرها.. واملأْ كفَّ التراب غذاءً.. واغمره حناناً.. واجعله مفعماً بحبنا والرفق بنا.. حتى نتحول شجراً.. ونثمر ثمراً، ونحقق ما خلقتنا لأجله.. وفطرتنا بسببه.." (1).
ولا يبلغ الدعاء ذروة الإخلاص إلاّ إذا انقلب إلى مناجاة خفية بين العبد وبارئه، وهي أعلى ما يمكن أنْ يرقى إليه الروح، ويسموَ إليه الفؤاد. وصاحب المناجاة لا يبتغي من ورائها أجراً، فأجرُ المناجاةِ، المناجاةُ نفسها، ومردودها يقين المناجي بأنه جليس الله وكليمه، وبأنّ قلبه المسكين الذي ظلَّ يبحث عن مأوى يُؤْوي إليه يجد الآن المأوى والسكن والسكينة بين يدي الله تعالى، وأنه تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، يسمع مناجاته، ويشهد سِرَّهُ، ويعلم ما خفي من أغوار نفسه.
وهو بعد ذلك لن يعود من مناجاته صِفْرَ اليدين من عطايا الحق وألطافه، هذه العطايا والألطاف التي تمنحُ وجُوْدَهُ معنىً، وتعطي لحياته قيمةً، وتنقذه من الشعور بالدونية، وأنه ليس أكثر من لُقيةٍ مهملة في بيداء الوجود لا يعيره أحد اهتماماً أو التفاتاً، لكنه اليوم موضع التفات ربِّ الوجود، وموضع نظره وعنايته، فَيُحِسُّ أنَّ شيئاً ما يتحرك بالحياة في مَواتِ ذاته، وأنّ إيمانه العتيق بدأ يتجّدد، ويزيد قوةً وبصيرةً، وأنه يُعَادُ صُنْعُهُ مرةً أخرى على عين الله وفي كنفه ورعايته.
__________
(1) المصدر نفسه ص 19ـ20(18/40)
وقلب المناجي الذي تتنزلُ عليه ألطاف الله ورحماته، ليس كائناً منعزلاً عن بقية أجزاء النفس. فسموّ العقل، وعلو الفكر، وطهارة البدن، تدين كلها لهذه الألطاف الإلهية التي يُفيْضُ به قلبُ المناجي على بقية أجزاء النفس. وهكذا يكون الإنسان الربَّاني الذي ألمحَ إليه القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، ووصفه أقطاب الإيمان في كل زمان ومكان.
وبالإضافة إلى عمل المناجاة في بناء النفس المؤمنة المطمئنة، فهي كذلك واحدة من عظيم الآيات التي دلَّ بها الله تعالى على وجوده سبحانه، فكما أنَّ ضوء الشمس الذي يغمر الأجواء الطلقة خارج غرفنا لا يتسّلل إلى هذه الغرف لإنارتها ما لم نفتح له النوافذ والأبواب، فكذلك ولا مشاحة في المثال ـ ولله المثل الأعلى والأقدس ـ فإن نور الله تعالى لا ينفذ إلينا ما لم نفتح منافذ الروح والقلب على العوالم الإلهية ما وراء عالم الحسّ والشهادة، ليغمرنا نوره، وليتعزّز إيماننا، ويتحول علمنا اليقين بوجوده إلى حقّ يقينّي يكاد يكون ملموساً نوره بأنامل الروح، ومشاهداً ببصيرة القلب، وهذا هو ما تمنحنا إياه المناجاة من خفايا أسرار الدعاء والتضرع.
وفي المثنوي العربي النوري (1)يقول النورسي: "لله درُّ العِلّة والذلّةِ ما أحلاها وهي مُرَّة إذْ هي التي تذيقك لذة المناجاة والتضرع والدعاء، عن ابن سمعون: كل كلام خلا من الذكر فهو لغو، وكل سكوت خلا عن الفكرة فهو سهو، وكل نظر خلا من العبرة فهو لهو".(2)
وفي الصفحات القادمة يستعرض لنا "النورسي" أنواع الأدعية والمناجاة وكما يأتي:
1ـ دعاء بلسان الاستعداد،
2ـ دعاء بلسان الأسباب،
3ـ دعاء بلسان الفطرة،
4ـ دعاء فعلي
5ـ دعاء قولي.
__________
(1) ص 314
(2) ابن سمعون الزاهد البغدادي(300-387هـ) وهو أبو الحسين محمد بن احمد بن إسماعيل ( أو سمعون) كان يلقب الناطق بالحكمة، مولده ووفاته ببغداد، علت شهرته، حتى قيل " أوعظ من ابن سمعون". انظر إحياء علوم الدين، كتاب التفكر.(18/41)
وذلك في الذيل الأول من المكتوب الرابع والعشرين.
وبعد ذلك يعرض لنا نموذجين من نماذج "أدب المناجاة" لنبيين من أنبياء الله هما يونس وأيوب عليهما السلام كما أشار إليها القرآن الكريم " في اللمعة الأولى وفي اللمعة الثانية من اللمعات.
الذيل الأول(1)
(قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم) (الفرقان: 77)
النكتة الأولى:
اعلم إن الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع أخرى كثيرة ـ على أنواع ثلاثة.
النوع الأول من الدعاء:
هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشيء. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هيئ لنا نمواً نتمكن به من إبراز بدائع أسمائك الحسنى، فنعرضها أمام الأنظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة إلى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.
وثمة دعاء من هذا النوع ـ أي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الأسباب. فاجتماع الأسباب دعاء لإيجاد المسبب، أي أن الأسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ـ مثلا ـ تسأل بارءها القدير أن تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.
نعم، إن الشجرة التي هي معجزة قدرة إلهية خارقة لا يمكن بحال من الأحوال أن يُفوض أمرها ويسند خلقها إلى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال إحالتها إلى تلك الأسباب.. فاجتماع الأسباب إذاً إنما هو نوع من الدعاء.
النوع الثاني من الدعاء:
__________
(1) المكتوبات ص387-390(18/42)
هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها - الخارجة عن طوقها واختيارها - من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، إذ إن أيديها قاصرة عن أن تصل إلى ما تريد أو دفع حاجة لها، فإرسال كل ما تطلبه إذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب إنما هو من قبل حكيم رحيم. وإغداق هذا الإحسان والإنعام ما هو إلاّ استجابة لدعاء فطري.
نحصل من هذا: أن هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الأسباب تسأل القدير العليم المسببات.
النوع الثالث من الدعاء:
هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان أيضاً:
فالقسم الأول: مستجاب على الأغلب إن كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.
إن ما أحرزه الإنسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو إلاّ نتيجة هذا النوع من الدعاء، إذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والأمور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو إلاّ ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فاستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة إلاّ استجيب إن لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.
أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا أيضاً فرعان:
أحدهما فعلي والآخر قولي.
فمثلاً: حرث الأرض نوع من دعاء فعلي، يطلب الإنسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الإنسان بالمحراث.
سنطوى تفاصيل الأقسام الأخرى ونذكر بضعة أسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:(18/43)
النكتة الثانية
اعلم إن تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما إذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الأغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح أن يقال: إن سبب خلق العالم إنما هو دعاء، حيث إن الدعاء العظيم للرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقدم العالم الإسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الأبدية، وهو سبب من أسباب خلق العالم. أي أن رب العالمين قد علم بعلمه الأزلي أن ذلك الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - سيسأله السعادة الأبدية والحظوة بتجل من تجليات أسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.
فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الأهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الأقل ـ ومنذ ألف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن ألاّ يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.
فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام إلى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد أن ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتلى نتيجة الدعاء - مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للإحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.
فبشراك أيها المسلم! أن لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - .. فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.
فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو حبيب رب العالمين إلى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟(18/44)
الجواب: انه - صلى الله عليه وسلم - ذو علاقة قوية مع سعادة أمته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من أفراد أمته من أنواع السعادة، وهو يحزن أيضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.
فعلى الرغم من أن مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في أن تنال أفراد أمته الذين لا يحدون أنواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.
فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمور تقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى أحياناً لأمور لا يمكن وقوعها..
الجواب: لقد أوضحنا في كلمات أخرى: إن الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الإنسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي أوقات تلك الأدعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الأدعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة إلى الآخرة، أي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: إن الدعاء لم يستجب، وإنما يصح القول: انه لم ينقضِ بعدُ وقت الدعاء.
فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع أهل الإيمان في جميع الأزمنة، يسألونه بإلحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن ألاّ يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق - التي تشهد الكائنات بسعة رحمته وشمول كرمه - هذا الدعاء، وهل يمكن ألاّ تتحقق تلك السعادة الأبدية!؟ كلا ثم كلا..
النكتة الثالثة:
إن استجابة "الدعاء القولي الاختياري" تكون بجهتين: فإما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.
فمثلاً: يدعو أحدهم أن يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: أن دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.(18/45)
ثم إن الإنسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة أخروية فلا يقال: أن دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له.. وهكذا.
فنحن إذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، إلاّ أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لأنه حكيم عليم.. فينبغي للمريض ألاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، إذ ربما يطلب منه أن يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب - لعلمه انه مصاب بالحمى - إلاّ دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض أن يقول: إن الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لأناته وصراخه، وأجابه فعلاً، وبأفضل منه.
النكتة الرابعة:
إن أطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:
إن الداعي يعلم يقيناً أن هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل إلى كل شيء. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر إليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الأنس إلى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع أعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد ألقى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.
النكتة الخامسة:
ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة إيمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على إغاثتي وإسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع أحوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب إلاّ منه وحده فهو يسمع أصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي أيضاً.. وهو الذي يدير الأمور كلها فلا انتظر تدبير أدق أموري إلاّ منه وحده.(18/46)
وهكذا فيا أيها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الإيمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: (قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم) (الفرقان: 77) واستمع إلى قوله تعالى (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) أي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء(1).
(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ)
اللهم صلّ على سيدنا محمد من الأزل إلى الأبد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم . سلّمنا وسلم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين.
اللمعة الأولى(2)
إن مناجاة سيدنا يونس بن متى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - هي من أعظم أنواع المناجاة وأروعها، ومن ابلغ الوسائل لاستجابة الدعاء وقبوله .(3)
تتلخص قصته المشهورة بأنه - عليه السلام - قد أُلقي به إلى البحر، فالتقمه الحوت، وغشيته أمواج البحر الهائجة، وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه. فداهمته الرهبة والخوف من كل مكان وانقطعت أمامه أسباب الرجاء وانسدت أبواب الأمل.. وإذا بمناجاته الرقيقة وتضرعه الخالص الزكي:
__________
(1) انظر حلية الأولياء لأبي نعيم 3/263
(2) اللمعات ص 6
(3) عن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوة ذي النون إذ دعا في بطن الحوت، قال: لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فانه لم يدع بها رجل مسلم في شئ إلاّ استجاب الله له).
حديث صحيح: أخرجه احمد (1/170) والترمذي(3572 ـ تحفة) والحاكم (1/505 و2/283 ) وصححه، ووافقه الذهبي، والحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير للنسائي والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار.(18/47)
(لا إله إلاّ أنتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالمين) (الأنبياء:87) يصبح له في تلك الحالة واسطة نجاة ووسيلة خلاص.
وسر هذه المناجاة العظيم هو:
أن الأسباب المادية قد هوت كلياً في ذلك الوضع المرعب، وسقطت نهائياً فلم تحرك ساكناً ولم تترك أثراً، ذلك لان الذي يستطيع أن ينقذه من تلك الحالة، ليس إلاّ ذلك الذي تنفذ قدرتُه في الحوت، وتهيمن على البحر وتستولي على الليل وجو السماء؛ حيث إن كلا من الليل الحالك والبحر الهائج والحوت الهائل قد اتفق على الانقضاض عليه، فلا ينجيه سبب، ولا يخلصه أحد، ولا يوصله إلى ساحل السلامة بأمان، إلاّ مَن بيده مقاليد الليل وزمام البحر والحوت معاً، ومَن يسخّر كل شئ تحت أمره.. حتى لو كان الخلق أجمعين تحت خدمته عليه السلام ورهن إشارته في ذلك الموقف الرهيب، ما كانوا ينفعونه بشيء!.
أجل لا تأثير للأسباب قط.. فما أن رأى عليه السلام بعين اليقين ألاّ ملجأ له من أمره تعالى إلاّ اللواذ إلى كنف مسبب الأسباب، انكشف له سرُّ الأحدية من خلال نور التوحيد الساطع، حتى سخرتْ له تلك المناجاةُ الخالصة الليل والبحر والحوت معاً، بل تحوّل له بنور التوحيد الخالص بطنُ الحوت المظلم إلى ما يشبه جوف غواصة أمينة هادئة تسير تحت البحر، واصبح ذلك البحر الهائج بالأمواج المتلاطمة ما يشبه المتنزه الآمن الهادئ، وانقشعت الغيوم عن وجه السماء - بتلك المناجاة - وكشف القمر عن وجهه المنير كأنه مصباح وضئ يتدلى فوق رأسه..
وهكذا غدت تلك المخلوقات التي كانت تهدده وترعبه من كل صوب وتضيق عليه الخناق، غدت الآن تسفر له عن وجه الصداقة، وتتقرب إليه بالود والحنان، حتى خرج إلى شاطئ السلامة وشاهد لطف الرب الرحيم تحت شجرة اليقطين.
فلننظر بنور تلك المناجاة إلى أنفسنا.. فنحن في وضع مخيف ومرعب أضعاف أضعاف ما كان فيه سيدنا يونس عليه السلام، حيث إن:(18/48)
ليلنا الذي يخيم علينا، هو المستقبل.. فمستقبلنا إذا نظرنا إليه بنظر الغفلة يبدو مظلماً مخيفاً، بل هو أحلك ظلاماً وأشد عتامة من الليل الذي كان فيه سيدنا يونس عليه السلام بمائة مرة..
وبحرنا، هو بحر الكرة الأرضية، فكل موجة من أمواج هذا البحر المتلاطم تحمل آلاف الجنائز، فهو إذن بحر مرعب رهيب بمائة ضعف رهبة البحر الذي ألقي فيه عليه السلام.
وحوتنا، هو ما نحمله من نفس أمارة بالسوء، فهي حوت يريد أن يلتقم حياتنا الأبدية ويمحقها. هذا الحوت اشد ضراوة من الحوت الذي ابتلع سيدنا يونس عليه السلام؛ إذ كان يمكنه أن يقضي على حياة أمدها مائة سنة، بينما حوتنا نحن يحاول إفناء مئات الملايين من سني حياة خالدة هنيئة رغيدة.
فما دامت حقيقة وضعنا هذه، فما علينا إذاً إلاّ الاقتداء بسيدنا يونس عليه السلام والسير على هديه، معرضين عن الأسباب جميعاً، مقبلين كلياً على ربنا الذي هو مسبب الأسباب متوجهين إليه بقلوبنا وجوارحنا، ملتجئين إليه سبحانه قائلين: (لا إله إلاّ أنتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالمين)(الأنبياء:87) مدركين بعين اليقين أن قد ائتمر علينا - بسبب غفلتنا وضلالنا - مستقبلُنا الذي يرتقبنا، ودنيانا التي تضمنا، ونفوسُنا الأمارة بالسوء التي بين جنبينا، موقنين كذلك انه لا يقدر أن يدفع عنا مخاوف المستقبل وأوهامه، ولا يزيل عنا أهوال الدنيا ومصائبها، ولا يبعد عنا أضرار النفس الأمارة بالسوء ودسائسها، إلاّ من كان المستقبل تحت أمره، والدنيا تحت حكمه، وأنفسنا تحت إدارته .(18/49)
تُرى مَن غيرُ خالق السموات والأرضين يعرف خلجات قلوبنا، ومَن غَيرُه يعلم خفايا صدورنا، ومَن غَيرُه قادر على إنارة المستقبل لنا بخلق الآخرة، ومَن غيرُه يستطيع أن ينقذنا من بين ألوف أمواج الدنيا المتلاطمة بالأحداث؟!. حاش لله وكلا أن يكون لنا منجٍ غيره ومخلّصٍ سواه، فهو الذي لولا إرادته النافذة ولولا أمره المهيمن لما تمكن شيء أينما كان وكيفما كان أن يمد يده ليغيث أحداً بشيء!.
فما دامت هذه حقيقة وضعنا فما علينا إلاّ أن نرفع اكفّ الضراعة إليه سبحانه متوسلين، مستعطفين نظر رحمته الربانية الينا، اقتداء بسر تلك المناجاة الرائعة التي سخّرت الحوت لسيدنا يونس عليه السلام كأنه غواصة تسير تحت البحر، وحولت البحر متنزها جميلا، وألبست الليل جلباب النور الوضيء بالبدر الساطع. فنقول: ( لا إله إلاّ أنتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالمين) . فنلفت بها نظر الرحمة الإلهية إلى مستقبلنا بقولنا: (لا إله إلاّ أنتَ). ونلفتها إلى دنيانا بكلمة: (سبحانك) ونرجوها أن تنظر إلى أنفسنا بنظر الرأفة والشفقة بجملة: (إنّي كنتُ من الظالمين) كي يعم مستقبلنا نور الإيمان وضياء بدر القرآن، وينقلب رعب ليلنا ودهشته إلى أمن الأنس وطمأنينة البهجة. ولتنتهي مهمة حياتنا ونختتم وظيفتها بالوصول إلى شاطئ الأمن والأمان دخولا في رحاب حقيقة الإسلام، تلك الحقيقة التي هي سفينة معنوية أعدّها القرآن العظيم، فنبحر بها عباب الحياة، فوق أمواج السنين والقرون الحاملة لجنائز لا يحصرها العد، ويقذفها إلى العدم تبدل الموت والحياة وتناوبهما الدائبين في دنيانا وارضنا، فننظر إلى هذا المشهد الرهيب بمنظار نور القرآن الباهر، وإذا هو مناظر متبدلة، متجددة، يحول تجددها المستمر تلك الوحشة الرهيبة النابعة من هبوب العواصف وحدوث الزلازل للبحر إلى نظر تقطر منه العبرة، ويبعث على التأمل والتفكر في خلق الله. فتستضيء وتتألق ببهجة التجدد ولطافة التجديد. فلا(18/50)
تستطيع عندها نفوسنا الأمارة على قهرنا، بل نكون نحن الذين نقهرها بما منحنا القرآن الكريم من ذلك السر اللطيف، بل نمتطيها بتلك التربية المنبثقة من القرآن الكريم. فتصبح النفس الأمارة طوع إرادتنا، وتغدو وسيلة نافعة ووساطة خير للفوز بحياة خالدة.
الخلاصة:
إن الإنسان بما يحمل من ماهية جامعة يتألم من الحمى البسيطة كما يتألم من زلزلة الأرض وهزاتها ويتألم من زلزال الكون العظيم عند قيام الساعة، ويخاف من جرثومة صغيرة كما يخاف من المذنبات الظاهرة في الأجرام السماوية، ويحب بيته ويأنس به كما يحب الدنيا العظيمة، ويهوى حديقته الصغيرة ويتعلق بها كما يشتاق إلى الجنة الخالدة ويتوق إليها.
فما دام أمر الإنسان هكذا، فلا معبود له ولا رب ولا مولى ولا منجأ ولا ملجأ إلاّ من بيده مقاليد السموات والأرض وزمام الذرات والمجرات، وكل شيء تحت حكمه، طوع أمره.. فلابد أن هذا الإنسان بحاجة ماسة دائماً إلى التوجه إلى بارئه الجليل والتضرع إليه اقتداء بسيدنا يونس عليه السلام. فيقول:
(لا إله إلاّ أنتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالمين)
(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم)
اللمعة الثانية(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(وأيوبَ إذْ نادى ربّه أني مَسّني الضُرُُّ وأنتَ أرحمُ الراحمين) (الأنبياء:83)
هذه المناجاة اللطيفة التي نادى بها رائد الصابرين سيدنا أيوب عليه السلام مجرّبة، وذات مفعول مؤثر، فينبغي أن نقتبس من نور هذه الآية الكريمة ونقول في مناجاتنا: رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
وقصة سيدنا أيوب عليه السلام المشهورة، نلخصها بما يأتي:
__________
(1) اللمعات ص 10-20(18/51)
أنه عليه السلام ظل صابراً ردحاً من الزمن يكابد ألم المرض العضال، حتى سرت القروح والجروح إلى جسمه كله، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابه العظيم من العلي القدير. وحينما أصابت الديدان الناشئة من جروحه قلبه ولسانه اللذين هما محل ذكر الله وموضع معرفته، تضرع إلى ربه الكريم بهذه المناجاة الرقيقة: (أني مَسّني الضُرُُّ وأنتَ أرحمُ الراحمين) خشية أن يصيب عبادته خلل، ولم يتضرع إليه طلباً للراحة قط، فاستجاب الله العلي القدير لتلك المناجاة الخالصة الزكية استجابة خارقة بما هو فوق المعتاد، وكشف عنه ضرّه وأحسن إليه العافية التامة واسبغ عليه ألطاف رحمته العميمة.
في هذه اللمعة خمس نكات.
النكتة الأولى:
انه إزاء تلك الجروح الظاهرة التي أصابت سيدنا أيوب عليه السلام، توجد فينا أمراض باطنية وعلل روحية وأسقام قلبية، فنحن مصابون بكل هذا. فلو انقلبنا ظاهراً بباطن وباطناً بظاهر، لظهرنا مُثقلين بجروح وقروح بليغة، ولبدت فينا أمراضٌ وعلل اكثر بكثير مما عند سيدنا أيوب عليه السلام، ذلك لأن:
كل ما تكسبه أيدينا من إثم، وكل ما يلج إلى أذهاننا من شبهة، يشق جروحاً غائرة في قلوبنا، ويفجر قروحاً دامية في أرواحنا.. ثم إن جروح سيدنا أيوب عليه السلام كانت تهدد حياته الدنيا القصيرة بخطر، أما جروحنا المعنوية نحن فهي تهدد حياتنا الأخروية المديدة بخطر.. فنحن إذن محتاجون أشد الحاجة إلى تلك المناجاة الأيوبية الكريمة بأضعاف أضعاف حاجته عليه السلام إليها. وبخاصة أن الديدان المتولدة من جروحه عليه السلام مثلما أصابت قلبه ولسانه،فان الوساوس والشكوك - نعوذ بالله - المتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآثام والذنوب تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الإيمان فتزعزع الإيمان فيه، وتمس اللسان الذي هو مترجم الإيمان فتسلبه لذة الذكر ومتعته الروحية، ولا تزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كلياً.(18/52)
نعم، الإثم يتوغل في القلب ويمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكتاً سوداء حتى يتمكن من إخراج نور الإيمان منه، فيبقى مظلماً مقفراً، فيغلظ ويقسو.
نعم، إن في كل إثم وخطيئة طريقاً مؤدياً إلى الكفر، فإن لم يُمحَ ذلك الإثم فوراً بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية، بل إلى حية معنوية تعض القلب وتؤذيه. ولنوضح ذلك بما يأتي:
مثلاً: إن الذي يرتكب سراً إثماً يُخجَل منه، وعندما يستحي كثيراً من اطلاع الآخرين عليه، يثقل عليه وجود الملائكة والروحانيات، ويرغب في إنكارهم بأمارة تافهة.
ومثلاً: إن الذي يقترف كبيرة تفضي إلى عذاب جهنم. إن لم يتحصن تجاهها بالاستغفار، فما أن يسمع نذير جهنم وأهوالها يرغب من أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأة لإنكار جهنم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.
ومثلاً: إن الذي لا يقيم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الأداء وهو يتألم من توبيخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فان تكاسله عن أداء الفرائض إزاء الأوامر المكررة الصادرة من الله العظيم، يورثه ضيقاً شديداً وظلمة قاتمة في روحه، ويسوقه هذا الضيق إلى الرغبة في أن يتفوه ويقول ضمناً: "ليته لم يأمر بتلك العبادة!" وتثير هذه الرغبة فيه الإنكار، الذي يشم منه عداءً معنوياً تجاه ألوهيته سبحانه!، فإذا ما وردت شبهةٌ تافهة إلى القلب حول وجوده سبحانه، فانه يميل إليها كأنها دليل قاطع. فينفتح أمامه باب عظيم للهلاك والخسران المبين، ولكن لا يدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه - بهذا الإنكار - هدفاً لضيق معنوي ارهب وأفظع بملايين المرات من ذلك الضيق الجزئي الذي كان يشعر به من تكاسله في العبادة، كمن يفرّ من لسع البعوض إلى عض الحية!!
فليُفهم في ضوء هذه الأمثلة الثلاثة سرّ الآية الكريمة: (كلاّ بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يَكسبون)(المطففين:14)
النكتة الثانية:(18/53)
مثلما وضّح في "الكلمة السادسة والعشرين" الخاصة بالقدر: أن الإنسان ليس له حق الشكوى من البلاء والمرض بثلاثة وجوه:
الوجه الأول:
إن الله سبحانه يجعل ما ألبسه الإنسان من لباس الوجود دليلا على صنعته المبدعة، حيث خلقه على صورة نموذج "موديل" يفصّل عليه لباس الوجود، يبدله ويقصه ويغيره مبيناً بهذا التصرف تجليات مختلفة لأسمائه الحسنى. فمثلما يستدعي اسم "الشافي" المرض، فان اسم "الرزاق" أيضاً يقتضي الجوع. وهكذا فهو سبحانه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء.
الوجه الثاني:
إن الحياة تتصفى بالمصائب والبلايا، وتتزكى بالأمراض والنوائب، وتجد بها الكمال وتتقوى وتترقى وتسمو وتثمر وتنتج وتتكامل وتبلغ هدفها المراد لها، فتؤدي مهمتها الحياتية. أما الحياة الرتيبة التي تمضى على نسق واحد وتمر على فراش الراحة، فهي أقرب إلى العدم الذي هو شر محض منه إلى الوجود الذي هو خير محض. بل هي تفضي إلى العدم.
الوجه الثالث:
إن دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومحل عبادة، وليست محل تمتع وتلذذ ولا مكان تسلم الأجرة ونيل الثواب.
فمادامت الدنيا دار عمل ومحل عبادة، فالأمراض والمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمة جداً مع ذلك العمل، بل منسجمة تماماً مع تلك العبادة، حيث إنها تمد العمل بقوة وتشد من أزر العبادة، فلا يجوز التشكي منها، بل يجب التحلي بالشكر لله بها، حيث إن تلك الأمراض والنوائب تحوّل كل ساعة من حياة المصاب عبادة ليوم كامل.
نعم، إن العبادة قسمان:
قسم إيجابي وقسم سلبي..(18/54)
فالقسم الأول معلوم لدى الجميع، أما القسم الآخر فان البلايا والضر والأمراض تجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتجئ إلى ربه الرحيم، ويتوجه إليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة. هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط. فإذا ما تجمّل المصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتحول - عند بعضهم - كل دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة.. ولقد كنت أقلق كثيراً على ما أصاب أحد اخوتي في الآخرة وهو "الحافظ احمد المهاجر" (1) بمرض خطير، فخطر إلى القلب ما يأتي:
"بشّره، هنّئه، فان كل دقيقة من دقائق عمره تمضي كأنها يوم من العبادة" حقاً انه كان يشكر ربه الرحيم من ثنايا الصبر الجميل.
النكتة الثالثة:
__________
(1) المهاجرالحافظ احمد: هو أحد أشراف التجار في بارلا ومن أوائل طلاب النور لازم الأستاذ النورسي طوال بقائه في بارلا . توفي سنة 1948م رحمة الله عليه. ـ المترجم.(18/55)
مثلما بينّا في "الكلمات" السابقة أنه: إذا ما فكر كل إنسان فيما مضى من حياته فسيرد إلى قلبه ولسانه: واأسفاه، أو الحمد لله، أي إما أنه يتأسف ويتحسر ، أو يحمد ربه ويشكره. فالذي يقطّر الأسف والأسى إنما يكون بسبب الآلام المعنوية الناشئة من زوال اللذائذ السابقة وفراقها، ذلك لأن زوال اللذة ألم، بل قد تورث لذةٌ زائلة طارئة آلاماً دائمة مستمرة، فالتفكر فيها يعصر ذلك الألم ويقطّر منه الأسف والاسى، بينما اللذة المعنوية والدائمة الناشئة من زوال الآلام المؤقتة التي قضاها المرء في حياته الفائتة، تجعل لسانه ذاكراً بالحمد والثناء لله تعالى.. هذه حالة فطرية يشعر بها كل إنسان، فإذا ما فكر المصاب – علاوة على هذا – بما أدّخر له ربه الكريم من ثواب جميل وجزاء حسن في الآخرة وتأمل في تحول عمره القصير بالمصائب إلى عمر مديد فانه لا يصبر على ما انتابه من ضُر وحده، بل يرقى أيضاً إلى مرتبة الشكر لله والرضا بقَدَره، فينطلق لسانه حامداً ربه وقائلاً: الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال.
ولقد سار مثلا عند الناس: "ما أطول زمن النوائب!". نعم، هو كذلك ولكن ليس بالمعنى الذي في عرف الناس وظنهم من أنه طويل بما فيه من ضيق وألم، بل هو طويل مديد كالعمر الطويل بما يثمر من نتائج حياتية عظيمة.
النكتة الرابعة:
لقد بينّا في المقام الأول للكلمة الحادية والعشرين:(18/56)
إن الإنسان إن لم يشتت ما وهبه الباري سبحانه من قوة الصبر، ولم يبعثرها في شعاب الأوهام والمخاوف، فان تلك القوة يمكن أن تكون كافية للثبات حيال كل مصيبة وبلاء، ولكن هيمنة الوهم وسيطرة الغفلة عليه والاغترار بالحياة الفانية كأنها دائمة.. يؤدي إلى الفتّ من قوة صبره وتفريقها إلى آلام الماضي ومخاوف المستقبل، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تحمل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الجنون فضلاً عن أنه لا يحق له أن يجزع جزعه هذا أبداً؛ ذلك لان كل يوم من أيام الماضي – إن كان قد مضى بالبلاء – فقد ذهب عسره ومشقته وترك راحته، وقد زال تعبه وألمه وترك لذته، وقد ذهب ضنكه وضيقه وثبت أجره، فلا يجوز إذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر لله تعالى عليه بشوق ولهفة. ولا يجوز كذلك الامتعاض من المصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربط أواصر الحب بها، لأن عمر الإنسان الفاني الذي قد مضى يتحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بما يعاني فيه من البلاء، فمن البلاهة والجنون أن يبدد الإنسان قسماً من صبره ويهدره بالأوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولّت. أما الأيام المقبلة، فحيث إنها لم تأت بعد ومجهولة مبهمة، فمن الحماقة التفكر فيها من الآن والجزع عمّا يمكن أن يصيب الإنسان فيها من مرض وبلاء. فكما أنه حماقة أن يأكل الإنسان اليوم كثيراً من الخبز ويشرب كثيراً من الماء لما يمكن أن يصيبه من الجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألم والتضجر من الآن لما يمكن أن يبتلى به في المستقبل من أمراض ومصائب هي الآن في حكم العدم، وإظهار الجزع نحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهة وحماقة إلى حد تسلب العطف على صاحبها والإشفاق عليه. فوق أنه قد ظلم نفسه بنفسه.
الخلاصة:(18/57)
إن الشكر مثلما يزيد النعمة، فالشكوى تزيد المصيبة وتسلب الترحم والإشفاق على صاحبها.
لقد ابتلى رجل صالح من مدينة "أرضروم" بمرض خطير وبيل، وذلك في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى، فذهبت إلى عيادته وبثّ لي شكواه:
- "لم أذق طعم النوم منذ مائة يوم..". تألمت لشكواه الأليمة هذه، ولكن تذكرت حينها مباشرة وقلت:
- أخي! إن الأيام المائة الماضية لكونها قد ولّت ومضت فهي الآن بمثابة مائة يوم مسرّة مفرحة لك، فلا تفكر فيها ولا تشكُ منها، بل انظر إليها من زاوية زوالها وذهابها، واشكر ربك عليها. أما الأيام المقبلة فلأنها لم تأت بعد، فتوكل على رحمة ربك الرحمن الرحيم واطمئن إليها. فلا تبك قبل أن تضرب، ولا تخف من غير شيء، ولا تمنح العدم صبغةَ الوجود. اصرف تفكيرك في هذه الساعة بالذات، فإن ما تملكه من قوة الصبر تكفي للثبات لهذه الساعة. ولاتكن مثل ذلك القائد الأحمق الذي شتت قوته في المركز يميناً وشمالاً في الوقت الذي التحقت ميسرة العدو إلى صفوف ميمنة جيشه فأمدتها، وفي الوقت الذي لم تكُ ميمنة العدو متهيأة للحرب بعد.. فما أن علم العدو منه هذا حتى سدد قوة ضئيلة إلى المركز وقضى على جيشه.
فيا أخي! لا تكن كهذا، بل حشّد كل قواك لهذه الساعة فقط، وترقَّب رحمة الله الواسعة، وتأمل في ثواب الاخرة، وتدبّر في تحويل المرض لعمرك الفاني القصير إلى عمر مديد باق، فقدّم الشكر الوافر المسر إلى العلي القدير بدلا من هذه الشكوى المريرة.
انشرح ذلك الشخص المبارك من هذا الكلام وانبسطت أساريره حتى شرع بالقول: الحمد لله. لقد تضاءل ألمي كثيراً.
النكتة الخامسة:
وهي ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
إن المصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين. فلابد من الالتجاء إلى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع إليه دون انقطاع. أما المصائب التي لا تمس الدين فهي في حقيقة الأمر ليست بمصائب، لأن قسماً منها:(18/58)
تنبيه رحماني! يبعثه الله سبحانه إلى عبده ليوقظه من غفلته، بمثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتجاوز مرعاها، فيرميها بحجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الحجر ويحذرها من أمر خطير مضر، فتعود إلى مرعاها برضى واطمئنان. وهكذا النوائب الظاهرة فإن الكثير منها تنبيه إلهي، وإيقاظ رحماني للإنسان.
أما القسم الآخر من المصائب فهو كفارة للذنوب.
وقسم آخر أيضاً من المصائب هو منحة إلهية لتطمين القلب وإفراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان، وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.
أما المصيبة التي تنتاب الإنسان عند المرض - فكما ذكرنا آنفا - فهي ليست بمصيبة حقيقية، بل هي لطف رباني لأنه تطهير للإنسان من الذنوب وغسل له من أدران الخطايا، كما ورد في الحديث الصحيح:
(ما من مسلم يصيبه أذى إلاّ حاتّ الله عنه خطاياه كما يحاتّ ورق الشجر ) (1)
__________
(1) البخاري ، كتاب المرضى5647.(18/59)
وهكذا فان سيدنا أيوب عليه السلام لم يدعُ في مناجاته لأجل نفسه وتطميناً لراحته، وإنما طلب كشف الضر من ربه عندما أصبح المرض مانعاً لذكر الله لسانا، وحائلاً للتفكر في ملكوت الله قلباً، فطلب الشفاء لأجل القيام بوظائف العبودية خالصة كاملة. فيجب علينا نحن أيضاً أن نقصد - بتلك المناجاة - أول ما نقصد: شفاء جروحنا المعنوية وشروخنا الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب ولنا الالتجاء إلى الله القدير عندما تحول الأمراضُ المادية دون قيامنا بالعبادة كاملة، فنتضرع اليه عندئذ بكل ذل وخضوع ونستغيثه دون أن يبدر منا أي اعتراض أو شكوى، إذ مادمنا راضين كل الرضا بربوبيته الشاملة فعلينا الرضا والتسليم المطلق بما يمنحه سبحانه لنا بربوبيته.. أما الشكوى التي تومئ إلى الاعتراض على قضائه وقدره، وإظهار التأفف والتحسر، فهي أشبه ما يكون بنقد للقدر الإلهي العادل واتهام لرحمته الواسعة.. فمن ينقد القدر يصرعه ومن يتهم الرحمة يُحرم منها. إذ كما أن استعمال اليد المكسورة للثأر يزيدها كسراً، فان مقابلة المبتلي مصيبته بالشكوى والتضجر والاعتراض والقلق تضاعف البلاء.
المسألة الثانية:
كلما استعظمت المصائب المادية عظُمت، وكلما استصغرتَها صغرت. فمثلاً: كلما اهتم الإنسان بما يتراءى له من وهم ليلاً يُضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى. وكلما تعرض الإنسان لوكر الزنابير ازداد هجومها وإذا أهملها تفرقت.
فالمصائب المادية كذلك كلما تعاظمها الإنسان واهتم بها وقلق عليها تسربت من الجسد نافذة في القلب ومستقرة فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب وتكون ركيزة للمادية منها فتستمر الأخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الإنسان القلق والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحمته تضمحل المصيبة المادية تدريجياً وتذهب، كالشجرة التي تموت وتجف أوراقها بانقطاع جذورها.
ولقد عبّرتُ عن هذه الحقيقة يوماً بما يأتي:(18/60)
ومن الشكوى بلاءٌ.
أنت يا مسكينُ دعها وتوكلْ.
أنت إن تسلمْ إلى الوهاب نجواك وجدتْ.
فإذا الكلُّ عطاء.
وإذا الكلُّ صفاء.
فبغير الله: دنياك متاهات وخوف!
أ فيشكو مَن على كاهله يحمل كلّ الراسيات
حبةُ الرمل الضئيلة؟
إنما الشكوى بلاءٌ في بلاء.
وأثام في أثام وعناء!
أنت إن تَبْسَم في وجه البلاء.
عادت الأرزاء تذوي وتذوب.
تحت شمس الحق حباتِ بَرَد!
فإذا دنياك بَسمة،
بسمةٌ من ثغرها ينسابُ ينبوعُ اليقين.
بسمةٌ نشوى بإشراق اليقين.
بسمةٌ حيرى بأسرار اليقين.
نعم..! إن الإنسان مثلما يخفف حدًّة خصمه باستقباله بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفئ نار الخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالحة، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ أثره.
المسألة الثالثة:
أن لكل زمان حُكمه، وقد غيّر البلاء شكله في زمن الغفلة هذا، فلا يكون البلاء بلاء عند البعض دوماً، بل إحساناً إلهياً ولطفاً منه سبحانه. وأرى المبتلين بالضر في هذا الوقت محظوظين سعداء بشرط ألا يمس دينهم، فلا يولد المرض والبلاء عندي ما يجعلهما مضرين في نظري حتى أعاديهما، ولا يورثانني الإشفاق والتألم على صاحبهما، ذلك ما أتاني شاب مريض إلاّ وأراه أكثر ارتباطاً من أمثاله بالدين، وأكثر تعلقاً منهم بالآخرة.. فأفهم من هذا أن المرض بحق هؤلاء ليس بلاء، بل هو نعمة من نعمه سبحانه التي لا تعد ولا تحصى، حيث إن ذلك المرض يمد صاحبه بمنافع غزيرة من حيث حياته الأخروية ويكون له ضرباً من العبادة، مع أنه يمس حياته الدنيا الفانية الزائلة بشيء من المشقة.
نعم قد لا يستطيع هذا الشاب أن يحافظ على ما كان عليه في مرضه من الالتزام بالأوامر الإلهية فيما إذا وجد العافية، بل قد ينجرف إلى السفاهة بطيش الشباب ونزواته وبالسفاهة المستشرية في هذا الزمان.
خاتمة(18/61)
إن الله سبحانه قد أدرج في الإنسان عجزاً لا حد له، وفقراً لانهاية له، إظهاراً لقدرته المطلقة وإبرازاً لرحمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بحيث يتألم بما لا يحصى من الجهات، كما أنه يتلذذ بما لا يعد من الجهات، إظهاراً للنقوش الكثيرة لأسمائه الحسنى. فأبدعه سبحانه على صورة ماكنة عجيبة تحوي مئات الآلات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الأسماء الإلهية المتجلية في العالم الذي هو إنسان كبير تتجلى أكثرها أيضاً في هذا الإنسان الذي هو عالم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة - كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها - تدفعه إلى الشكر وتسوق تلك الماكنة إلى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الإنسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الأمر في المصائب والأمراض والآلام وسائر المؤثرات المهيجة والمحركة، تسوق الدواليب الأخرى لتلك الماكنة إلى العمل والحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر المندرجة في الماهية الإنسانية. فلا تمنح المصائبُ الإنسان الالتجاء إلى البارئ بلسان واحد، بل تجعله يلتجئ إليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الإنسان بتلك المؤثرات والعلل والعقبات والعوارض يغدو قلماً يتضمن آلاف الأقلام، فيكتب مقّدرات حياته في صحيفة حياته أو في اللوح المثالي، وينسج لوحة رائعة للأسماء الإلهية الحسنى، ويصبح بمثابة قصيدة عصماء ولوحة إعلان.. فيؤدي وظيفة فطرته".
7 ـ الدعاء من أهم معالم دعوة النور(18/62)
لقد عاشت دعوة "النورسي" في أجواء قدسية من الحضور الإلهي الدائم، ونَمَتْ وكبرتْ في آفاق عالية تحت ظِلٍّ من سحائب الأدعية والتضرعات النورسية المستديمة، فأدراك حقيقة "الطينة البشرية" من حيث كونها مزيجاً من الفقر المطلق، والعجز المطلق، هو الذي يدفع بها في اتجاه اللجوء إلى الغنى الإلهي المطلق، والقدرة الربّانية المطلقة، وهذا هو سِرُّ ما تفتّق عنه وجدان "النورسي" من أدعية وتضرعات شكّلتْ واحداً من أهم معالم دعوته، فالألوف من القناديل اشتعلت في ليالي القلوب حين مَسَّنْها بعض قبسات هذه الأدعية، وأَمّا نُوَّامُ الهِمَمِ فقاموا مسرعين ينفضون عن أهدابهم أثقال سنينَ من السُباتِ المقيت، وأما فجرُ اليقين فسرعانَ ما أضاء غاشيات الشكوك والأوهام، وبدّدَ ما كان يتلاطم في أجواف تلامذته من دياجير الغفلة، وفي رحيق روحه غسل كثيرٌ من الناس مراراتِ نفوسهم، ولم تكن روحه هي وحدها التي طلبت العلوَ فوق الأكوان، بل كُلُّ قطرةٍ من دَمِهِ كانت تشتهي أنْ تعلوَ مع الدّعاء إلى ما عَلَتْ إليه روحه.
إنَّ حشداً هائلاً من رَميم الكلام لا يمكنه أن يقيم قلباً مُعْوَجاً مائلاً للانهدام، أو أنْ يبني روحاً خَرِباً يسكنه الظلام، ولكنّ كلمة دعاء حارّة مخلصة يمكنها أن تفعل المعجزات، فتقيم المعوجات، وتَعْمُرُ الخرائب.
إنّ هذا الشعور الدائم بالمعية الإلهية، والأقربية الرحمانية، دفع "النورسي" إلى الاستغناء والاستعلاء على أي مصدر بشرىٍّ من مصادر الأمداد والتأييد، وظلَّ طوال حياته المباركة متعلقاً بالله يستمدُّ منه العونَ والمدد والتسديد، وهذا هو سبب تفَرُّدِ دعوته منهجاً وسلوكاً بين الدعوات.
فأدعيته وضراعاته، لها طابعها الدعوي الاستدلالي على وجوده تعالى، وعلى واحديته وأحديته، وحاجة كل موجود إليه سبحانه وتعالى وكما نرى في المناجاة الآتية:(18/63)
"اعلم: أنَّ قلبي قد يبكي من خلال أنيناته العربية بكاءً تركياً، بتهييج المحيط الحزين، فاكتبُ كما بَكَيْتُ:
"لا أريد من كان زائلاً لا أريد
أنا فانٍ، مَنْ كان فانياً لا أريد، أنا عاجزٌ، من كان عاجزاً لا أريد
سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أريد
بل أريد،
حبيباً باقياً أريد.
أنا ذرة شمساً سرمداً أريد.
أنا لا شيء ومن غير شيء، الموجودات كلها أريد.
* * *
لا تدعني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.
إذ لما حجبت الغفلة أنوار الحق،
رأيت الأشياء والدنيا أعداءً ضارين.
ذقت اللذائذ، ولكن وجدت الألم في زواله.
أما الوجود، فقد لبسته،
آه لا تسل كم عانيت من الألم في العدم.
إن قلت الحياة، فقد رأيتها عذاباً في عذاب.
نعم، لما استتر نور الحق عني،
إذا بالعقل يتحول عقاباً، ورأيت البقاء بلاء، والكمال هباء،
والعمر ذهب أدراج الرياح.
نعم!
بدونه، انقلبت العلوم أوهاماً.
وأصبحت الحكم اسقاماً، والانوار ظلمات، والأحياء أمواتاً،
والأشياء أعداء.
ولمست الضر في كل شيء.
والآمال انقلبت آلاماً.
والوجود هو العدم بعينه. وصار الوصال زوالاً.
والألم يعصرنى مما لا بقاء فيه.
نعم! إن لم تجد الله فالأشياء كلها تعاديك؛
أذى في أذى، بل هو عين الأذى.
وان وجدت الله،
فلن تجده إلاّ في ترك الأشياء.
فرأيت بذلك النور: الجنة في الدنيا،
وبدت الأموات أحياء.
ورأيت الأصوات أذكاراً و تسابيح.
والأشياء مؤنسة، واللذائذ في الآلام نفسها.
والحياة أصبحت مرآة تعكس أنوار الحق.
والبقاء رأيته في الفناء.
والذرات تلهج بالذكر.
يقطُر من ألسنتها وتتفجر من عيونها؛
شهدُ شهادة الحق" (1).
8 ـ موقع الإنسان بين الكونين
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 289- 290(18/64)
في كتابَي الله تعالى: القرآن، والكون، تقوم الآيات تنادي الأرواح التي سئمتْ لبثها عند مشارف الأرض لتعلوَ وترتقي فوق السماوات السبع، حيث لا يعرف أحد المدى الذي يبلغه نورها ولأْلاَؤها هناك في الأعالي.
فالقرآن ـ كما يرى النورسي ـ كونٌ عظيمٌ إلاَّ أنّه مقروء ومسطور و لا يَقِلُّ في عظمته وسعته وامتداده عن عظمة الكون المنظور والمحسوس بسماواته وشموسه ونجومه وأقماره، والإنسان بين هذين الكونين العظيمين يبحث عن جوهره المهيب، ويفتش عن مستقرّ روحه، وموطن إيمانه وأمنه.
فأدعية "النورسي" ومناجاته ترتفع في حشد عظيم من آي القرآن، وآي الكون، وهو جهد جرئ وجدير يبذله الرجل لكي يبقي على التوازن المطلوب بين الكونين، في حين تسعى المعرفة الكونية إلى قهر الروح وتحديد مساراتها بينما هي- أي الروح- تلاحق مغيّبات بعيدة يقصر خيال الكون عن إدراكها.
إنَّ القهرَ الذي يمارسه الكون إزاء الروح، وعدم سماحه لها بمجاوزة محدودياته، أصابَ نبيَّ الله إبراهيم عليه السلام بالهلع، فصرخ مستغيثاً: (لا أُحِبُّ الآفلين) أي أنا زائلٌ فانٍ فلا ينفعني الزائلون والفانون، ولن يكون وقوفي عندهم، بل أريد الحي الذي لا يموت، والباقي الأبدي الذي لا يزول.
فالآيات الكونية ليستْ مطلوبةً لذاتها، بل مطلوبة لِمَنْ هو بعدها، ولِمَنْ هو فوقها، وهو الله تعالى خالق الكون والإنسان ومَنزلُ القرآن.
وقد بقي "النورسي" طوال حياته يسعى دوماً لتحرير الإنسان من سجنين دنيويين رهيبين يكبّلانه ويحولان بينه وبين إدارة محركاته الروحية للانطلاق نحو الأمداء العالية من القرب الإلهي ومقصود الروح، وموطنها الفطري، وهذان السجنان هما: غرور "أنا" داخل النفس بما يُسبَغُ عليه من صفات لا تليق إلاّ بالألوهية والربوبية، و"الكون" خارج النفس الذي وقف عنده علم بعض العلماء، وفكر بعض المفكرين ولم يتجاوزانه، وفي هذين السجنين هلكَ الكثير من الخلائق ولا زالوا يهلكون.(18/65)
وفي المناجاة الآتية يحشد "النورسي" مفردات كونية ذات دلالات عميقة تلفت الانتباه إلى الشمولية التي تطبع فكره ووجدانه، فيقول:
"سبحانك يا من أنطق السماء بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.
ويا من انطق الأرض بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات..
وانطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..
وانطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..
وانطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبات..
سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياء بأنواره، والهواء بإعصاره، والماء بأنهاره، والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، و السحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس (1) الأنبياء، وزبرقان (2) الأصفياء ونيّر (3) الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى، وأصحابه مصابيح الدجى" (4).
9 ـ إيمان بلا شوق إيمان بلا حياة
"إنَّ "إيماناً" لا تذكي جَذْوَتَهُ الأشواقُ إلى الله، ولا تُلهبُ حماسَهُ لوعةُ الحنين إلى جمال "الآخرة" ولا يُوري زِنَادَهُ عطشٌ دائمٌ إلى الخلود والبقاء، هو إيمان تقليدي بارد، واعتقادٌ هَشٌ سريعُ التّفتُّتِ والانكسار، تستهدفه سهامُ الأعداء أول ما تستهدف، وتتناولهُ معاول الخصوم أول ما تتناول،
فالمسلمون كلهم ـ إذا حاورتهم ـ مؤمنون بالآخرة، ولكنَّ القليل منهم مَنْ يشتاقُ إليها شوق العاشق الولهان الذي لا يتردَّدُ ـ إذا جَدَّ الجدُّ ـ أن يجعل "دنياه" كلَّها صِداق وفائه، وعربون إخلاصه، وأن يقدِّم حياتَهُ فرحاً بيوم لقائها وساعة وصالها.
والمسلمون كلهم ـ إذا ساررتَهُمْ ـ مؤمنون بالجنة، ولكن أين الذائبون فيها؟ والملهوفون عليها؟
__________
(1) النبراس: المصباح.
(2) بكسر الزاي والباء : أي القمر.
(3) بفتح النون وتشديد الياء: المقصود الشمس.
(4) المثنوي العربي النوري ص 334(18/66)
أين منهم مَنْ أضناه البعاد، وأسهده طول الانتظار؟ وأينَ مَنْ يظمئ نهارَهُ، ويُسْهِرُ ليلَهُ، من اجل رضى الله الذي بيد رحمته مفاتيح الجنان؟
والمسلمون كلهم ـ إذا خاطبتهم ـ مؤمنون بالنار، ولكن أين الخائفون المرتعبون منها؟ أين الذين ترتعد فرائصهم من هول عذابها؟ وأين الذين يحسّون وكأنهم مواقعوها بين لحظة وأخرى؟ فيسألون الله النجاة منها، والخلاص من سعيرها بما يرضاه الله من تقواهم وصالح أعمالهم..؟!
ولمَّا كانت الموجودات في هذه الدنيا ـ كما ينظر إليها "النورسي" ـ هي أمثلة مصغرة لوجود أخروي كبير، وأطياف خيال لحقيقة أخروية أعظم، وأشباحاً باهتة لرؤى فكرٍ أخروي غاية في السَعَة والشمول والدقة والعظمة، لذا فإن كل موجود هنا في عالمنا الصغير هذا موصول بما يناظره هناك، وكلُّ معنى هنا مرتبط بمعنى أسمى وأعظم هناك، فالدنيا مرتبطة بالآخرة، وحبُّ البقاء والكمال عند الإنسان هنا يؤكد معنى الخلود والبقاء والكمال هناك، والصُّورُ الذي ينفخ فيه الربيع ليبعثَ من الأجداث مئات الألوف من أنواع النبات والحيوان والحشرات كلَّ سنة، إيماءة واضحة لصُور أكبر، وحشر أعظم يوم القيامة، والحافظة في مُخّ الإنسان وهي بحجم حبّةِ خردل، والتي تحتفظ بشريط مسجل لماضي الإنسان وما وقع له من أحداث، هي مثال مصغر لحافظة أخروية أوسع واكبر تحفظ سجلاً كاملاً لتاريخ حياة الإنسان على هذه الارض، ليعرض عليه في الآخرة عند مناقشته الحساب.
وليس "النورسي" صاحب قلم بارد يغمسه في مداد فكر بارد، ليكتب ما يشاء وقتما يشاء، إنما هو المعاناة الجريحة المدَّماة التي تنزف فكراً فيه حرارة الروح، ودفء القلب، وإنما هو السحابة المثقلة بماء الحياة والتي لا يدري أحدٌ متى تبرق وترعد وتغيث، وإن شئتَ فاستمع إليه حيث يقول في وصف حاله عندما كتب "مثنويه"(18/67)
".. والكلمات إنما تولدت إثرَ جدال هائل ونقاش عظيم مع الفكر، وسط إعصار تتصارع فيه الأنوار مع النيران، فأحسُّ برأسي يتدحرج في آنٍ واحدٍ من الأوج إلى الحضيض، ثم يرتفع من الحضيض إلى الأوج، ومن الثرى إلى الثريا، إذْ سلَكت طريقاً غير مسلوك في برزخ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود، فكلما صادفتُ نوراً نصبت عليه علامةً لأتذكره بها، وكثيراً ما أضع كلمةً على ما لا يمكن التعبير عنه للإخطار والتذكير، لا للدلالة، فكثيراً ما نصبت كلمة واحدة على نور عظيم.." (1).
10- لواء الحمد
لقد أُخْتُصُّ نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام من بين الأنبياء عليهم السلام برفع لواء الحمد فوق هامة الإنسانية وبتفتيق ألسنة المؤمنين بشتَّى أنواع المحامد، وبتفجير أفئدتهم بينابيع الشكر والامتنان لله الجواد المنّان، وكان نجاحه في ذلك نجاحاً لا مثيل له في تاريخ الأنبياء، ويكفي أن نعلم بأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - "علّم المؤمنين كيف يحمدون الله على المكاره التي تنزل بهم، لأن المكاره حين تنزل بالمؤمن بقدر مقدور لحكمة مستترة تحت ستار الأسباب، فما هي إلاّ تنبيه أو تذكير أو تعليم أو تأديب لا ينبغي أن يتضجّر أو يجأر بالشكوى منها بل عليه أن يسارع إلى الحمد قائلاً : "الحمد لله الذي لا يُحمْدُ على مكروهٍ سواه".
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 35(18/68)
فالحمد الصادق هو مفتاح الرحمة، حتى أنّ المحامد التي يلهمها له الله يوم القيامة وهو ساجد تحت العرش بخشوع ورهبة ستكون المفتاح الذي تُفْتحُ به أبواب رحمة الله، والشافعة عند الله لقبول شفاعته في أمته في ذلك الموقف الرهيب والعصيب، إنَّ نبياً يرقى إلى هذا المدى الذي لا يطاله مدى في عبوديته لله، ويسمو هذا السمُوَ في محامده، فيرى في المحن والمكاره التي تنزل به مِنَّةً توجبُ الحمد جدير بأن يحمل لواء الحمد في هذا العالم، وأنْ يمضي ملتقطاً محامد الأرض من أفواه نباتها وحيوانها، وإنسها وجنِّها ليرفع إلى رب العالمين محامدها بلسانه الشريف"(1).
وحول هذه الذات المحمدية الأحمدية صلوات الله وسلامه عليه. يدير "النورسي" مناجاته وكما يأتي:
"اللهمَّ صلِّ على محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، واحبّ الخلق إليك، وعلى سائر الأنبياء و المرسلين، وعلى آل كلٍ وصحبِ كلٍ أجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من أهل السموات والأرضين، برحمتك يا ارحم الراحمين.
سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالم بلسان محمد عليه افضل صلواتك وأتم تسليماتك.
سبحانك يا من تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.
سبحانك يا من تسبح بحمدك الارض ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدها عليه أزكى تحياتك.
سبحانك يا من يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك أبداً سرمدا.
سبحانك أسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه اكمل صلاتك واجمل سلامك، فتقبل مني برحمتك كما تقبلته منه" (2).
وعلى لسان رسولنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجري "النورسي" المناجاة الآتية نيابة عن المسلمين جميعاً فيقول مخاطباً رفيقه في إحدى سياحاته الإيمانية:
__________
(1) أنظر البعد الحسي في الإسراء والمعراج" لكاتب هذه السطور ص36
(2) المثنوي العربي النوري ص 387(18/69)
"هيا بنا يا صاحبي لنذهب معاً إلى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعاً غفيراً من الناس. فجميع أشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أموراً، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.
أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، انه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:
"يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع وأصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا إلى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا إلى ديوان حضورك.. ارحمنا.. أطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا إياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم أولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده" (1)..
11 ـ الدعاء إلهام رباني
__________
(1) الكلمات ص 52(18/70)
إِنّ الدُّعاءَ إلهامٌ رَبَّاني، وأعظم ما يُلْهَمُ به العبدُ من الدّعاء ما يُحْمدُ به الله ويثنى عليه. وأعظم الثناء ما أثنى به جلَّ وعلا على نفسه وفي الحديث: (لا أُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك)(1). والقرآن إنما هو ـ في جملته ـ ثناءُ منزلِ القرآن على نفسه، ففاتحة الكتاب التي يلزم قراءتُها في كل ركعة من ركعات الصلوات الخمس إنْ هي إلاَّ تحميد وثناء وتمجيد، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله ربَّ العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال العبد: مالكِ يوم الدين، قال: مجّدني عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (2).
__________
(1) مسلم، كتاب الصلاة 751؛ الترمذي، كتاب الدعوات 3415؛ النسائي، كتاب الطهارة 169؛ أبو داود، كتاب إقامة الصلاة 1169؛ ومن أدعيته - صلى الله عليه وسلم - في سجوده: " سُبُّوحٌ قُدُوسٌ ربُّنا وربُّ الملائكة والروح، أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك". ...
(2) رواه أحمد ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبي هريرة/ جامع الثناء على الله – يوسف بن إسماعيل النبهاني.(18/71)
وما ينعكس من القرآن على الأفهام والأقلام، إنما هو ثناء كذلك، وهو بالتالي دعاء أعظم دعاء، ولكون "رسائل النور" عاكسةً لشؤون القرآن ومقاصده، فهي دعاء كذلك، وهذا هو سِرُّ ما أحدثته وتحدثه هذه الرسائل في النفوس من تأثير وتغيير، لذلك اكثر "النورسي" رحمه الله من الأدعية والضراعات، ودعا مَنْ على الأرض، ومَنْ في السماء من موجودات، لكي تدعو معه، وتؤمِّنَ على دعائه، وتتشفع له، فساح يحمل غربته في ملكوت الغيب وعالم الشهادة، مستعيراً ألسنة الكائنات ليرفع من خلالها أدعيته وتضرعاته. فما من دعاء تتحرك به شفتا إنسان إلاّ أَمَّنَ عليه سكّان السماء، وخلائق الأرض بلسان الحال، أو المقال.
وأعرض هنا هذه المناجاة النورسية الجامعة الحاشدة كنموذج على جامعية فكره ووجدانه وطابعهما الدعوي، يقول رحمه الله، في المثنوي العربي النوري:
" اعلم! إن عظمة وسعةِ عموم آية (تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومَن فيهِنَّ وانْ من شَىءٍ إلاّ يُسبّحُ بحَمْده) (الإسراء : 44) اقتضتْ تفسيراً، فتوجهتُ إليها فترشحتْ متقطرةً منها في قلبي كلماتٌ مفسرات لها، وسلم مرقاةٍ للصعود إليها. فهي منها واليها. فإن أحببت أن ترشُف تلك القطرات المفسّرات المترشحات من عمان تلك الآية، والنازلات من سموات عظمتها، فاستمع بقلب شهيد ما سيأتي واقرأ معي هذا:
سبحانك ما عرفناك - نحن معاشر البشر - حقَّ معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك وبتوصيفات جميع مخلوقاتك، وبتعريفات جميع موجوداتك..
سبحانك ما أعظمَ سلطانَك وأوضحَ برهانَك!.
سبحانك ما ذكرناك حق ذكرَك يا مذكورُ، بألسنة جميع مخلوقاتك، وبذوات جميع مصنوعاتك، وبأنفس جميع كلمات كتاب كائناتك..
سبحانك ما أجلّ ذكرك!.(18/72)
سبحانك ما شكرناك حقّ شكرك يا مشكورُ، بأثنية جميع احساناتك على أنظار ذوي البصائر، وبإعلانات جميع نِعَمك في سوق الكائنات على رؤس الأشهاد، وبشهادات نشائد جميع ثمرات رحمتك المُفْرغة تلك الثمرات في قوالب النظام والميزان..
سبحانك ما أوسعَ رحمتَك!.
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا معبودَ جميع ملائكتك وجميع مخلوقاتك بجميع أنواع العبادات وأصناف التمجيدات.
سبحانك ما سبّحناك حق تسبيحك يا مَن (تُسَبّحُ لَهُ السَموات السَبْعُ والأرضُ ومَن فيهن وانْ مِنْ شَئ الاَّيُسَبّحُ بحمده).. آمنا.. نعم..
سبحانك يا من تُسبّحُ لك الملائكة بأجناسها المتفاوتة، بألسنتها المختلفة، بأذكارها المتنوعة.
سبحانك يا من تُسبح لك هذه الكائناتُ بأفواه عوالمها، وأركان عوالمها، وأعضاء أركانها، وأجزاء أعضائها، وجزئيات أنواعها، وحجيرات جزئياتها، وبفويهات ذراتها وأثير ذراتها؛ بألسنة نظاماتها الحكيمة، وموازينها العالية، وأحوالها المنظومة، وكيفياتها الموزونة بصُنعك الحكيم.
سبحانك يا من تُسبِّح بحمدك الجنة بأفواه بساتينها بنشائد هي: حورُها وقصائد قصورها، ومنظومات أشجارها، ومتشابهات ثمراتها الموزونة.. كما تسبح لك أشباهُها هنا في ضرّتها.
سبحانك يا من يقلّب الليل والنهار وسخر الشمس والقمر، تسبح لك هذه السموات، بمنظومات بروجها، بأفواه شموسها بكلمات نجومها، بلسان نظامها في ميزانها، وانتظامها في زينتها، وتلألئها في حشمتها، وانقيادها في مسخريتها، وسكونتها في سكوتها، وحكمتها في حركاتها.
سبحانك يا من تُسبِّح لك طبقاتُ الجو بأفواه رعودها وبروقها ورياحها وسحابها وشهابها وأمطارها، بكلمات لمعاتها وقطراتها، بلسان نظامها في ميزانها في غاياتها وثمراتها.(18/73)
سبحانك يا مَنْ تُسبِّح لك الأرضُ ساجدة لعظمة قدرتك بمحمدها وقرآنها، بأفواه بحورها وجبالها وأنهارها وأشجارها، وبأصوات واهتزازات صوتية - هما حيواناتها ونباتاتها - وبكلمات نورانية وحروف نورية - هما أنبياؤها وأولياؤها - بلسان نظامها وميزانها وحياتها ومماتها، وفقرها ويبسها، وتبرجها وتزينها بأذنك الكريم وصُنعك الحكيم.
سبحانك يا من تسبح لك البحورُ بكلمات - هي: عجائبُ مخلوقاتها.. وبمنظومات نغماتها بلسان نظامها وميزانها وحكمتها وغاياتها.
سبحانك يا مَن جعل الأرض مهاداً والجبال أوتادا. تسبح لك الجبال بأفواه عيونها وأنهارها واشجارها، بلسان نظاماتها وموازينها وغاياتها ومخازنها.
سبحانك يا من جعل من الماء كل شئ حي. ويا من تسبح لك الحيوانات بأفواه حواسها وحسياتها وجهازاتها وإعشائها وصنعتها وصبغتها وعقولها وقلوبها،بألسنة نظاماتها وموازينها، وبأسئلة استعداداتها واحتياجاتها ودعواتها وتنعماتها، في أوطارها، وتقلباتها في أطوارها وحياتها ومماتها.
سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في أوكارها مع أفراخها بسجعاتها ونغماتها شكراً لك، بلسان نظامهما وميزانهما، وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما كما تناديان على إحسانك، وتصيحان على نعمتك بإظهار شكرك في وقت تلذذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعماتهما بآثار رحمتك.. كما تسبح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما وأشكالهما وتنعماتهما الكريمة وتقلباتهما الحكيمة..
سبحانك ما ألطف صنعَك وما أنفذ حكمك!(18/74)
سبحانك يا مَنْ تُسبح لك الأشجارُ صريحاً بغاية الوضوح عند انفتاح اكمامها، وتزايد أوراقها، وتكامل ثمارها، ورقص بناتها على أيادي أغصانها؛ بأفواه أوراقها الخضرة، وأزهارها المتبسمة، وأثمارها الضاحكة بلسان نظاماتها وميزانها وطعومها اللذيذة، وألوانها الجميلة، وروائحها اللطيفة، ونقوشها المستحسنة، وزينتها المستملحة.. كما تمجّدك وتنادي على كمال رأفتك، وتصف تجليات صفاتك، وتُعرّف جلوات اسمائك، وتفسر تحببك، وسياستك لمصنوعاتك؛ بما يترشح من شفاه ثمارها من قطرات لمعات جلوات تحبُّبك وتعهّدك لمخلوقاتك..
سبحانك ما ألطف برهانك في إحسانك، وأزين لُطفك في توددك!.
سبحانك يا من تسبح لك النباتاتُ بكمال الوضوح والبيان عند تنوّر ازهارها، وتبسّم بناتها، وانكشاف أكمامها واشتداد حبوبها، بأفواه ازاهيرها وسنابلها بكلمات حباتها المنظومة وبذورها الموزونة بلسان نظامها الأرق وميزانها الأدق.. كما تمجّدك وتعرّفك وتشفّ عن وجه تحببك، وتصف صفاتك وتذكر أسماءك وتفسر توددك وتعرفك إلى عبادك؛ بما يتقطر من عيون ازاهيرها وأسنان سنابلها، من رشحات جلوات توددك وتعرفك إلى مخلوقاتك..
سبحانك ما ألطف برهانك وما أنوَرَه وما أحلاه وما أزينه!.
سبحانك يا من اَنزل الحَديد فيه بَأس شَديد ومَنافع للناس، تسبِّح لك المعادنُ بأنواعها وأجناسها وأشكالها وخواصها وخاصياتها وفوائدها ونقوشها وتزييناتها، بلسان نظاماتها المرصوصة وموازينها المخصوصة.
سبحانك يا من تسبح لك العناصرُ باجتماعاتها المنتظمة بأمرك وقدرتك، وتركباتها الموزونة بإذنك وصنعك الحكيم.(18/75)
سبحانك يا من تسبح لك الذراتُ بفويهات تعيناتها ووظائفها بألسنة نظاماتها وموازينها، وعجزها المطلق في ذاتها مع حملها - بحولك - وظائف عظيمة، كما تشهد كلُ ذرة منها على وجوب وجودك بلسان عجزها بنفسها عن تحمل ما لا تطيق هي على حملها من وظائفها العالية العجيبة في دقائق نظام الكون. حتى إن كلاً منها كمثل نحلة نحيلة حملت عليها نخلةً طويلةَ، كما تشير كل ذرة منها إلى وحدتِك بنظر وظائفها وتوجه حركاتها إلى النظام العام المحيط الدال بالقطع على وحدة الناظم. ففي كل ذرة لك شاهدان؛ على انك واجب واحد. وفي كل شأن لك آيتان؛ على انك أحد صمد، بل وفي كل شئ لك شواهد وآيات على انك واجب واحد أحد، صمد جل جلالُك، ولا إله غيرُك، وحدك لا شريك لك" (1).
***
النورسي :
الثوابتُ والمُتَغيّراتُ في الدين والحياة..!
1- ميزات المفكر المسلم
من أبرز ما ينبغي للمفكر المسلم أن يتميز به من قدرات، هو النَّفاذُ خلال السواكن القرآنية والسنّة النبوية، والغوص في عالم الكلمة الموّاج بالحركة، والمتلاطم بالمعاني، لاكتشاف الجديد غير المسبوق منها، والتقاط ما تتكشّف عنه من أسرار لم يسبق أحدٌ قبله إلى التقاطها . وبالمُباغتِ الجديد غير التقليدي من هذه الأفكار يَهُزُّ العقول و يَحْفزُها لكي تمارس دورها الجادّ في عملية النهوض الإسلامي المطلوب.
ومن جانب آخر عليه أن يمتلك من قوة الروح، واشتعال الوجدان ، ما يستطيع بهما أن يُلْهِبَ الحماسَ في لقلوب اليائسة ،والمشاعر الباردة ، وأنْ يغدوَ روحاً مُتّقِداّ لا ينطفئ أبداً ليأنس به المدلجون وينجذب نحوه السُراةُ.
__________
(1) ص 388-391(18/76)
ولابدّ للمفكر المسلم اليوم من استشرافه لروح العصر، والتعرّف على مسارات العالم وتوجهاته الفكرية والروحية والعلمية ،مع فهم دقيق ومُعَمَّق لإشكاليات الحضارة الحاضرة،وما تعانيه من نقائض ومفارقات، وما خاضته من تجارب، وما سقطت فيه من انحرافات ليس بالضرورة لكونه يحتفظ بحلول جاهزة لإشكالياتها، أو أدوية حاضرة لأمراضها، فهذا ما لا يجرؤ أحد على ادعائه، فإشكاليات الحضارة الغربية وأمراضها تعالجها الحضارة نفسها، لأنها من صنعها هي بالأساس، ولأن جرثومة ما تعانيه اليوم من مشاكل وأزمات كانت تكمن في أساس تكويناتها عندما نشأت وبدأت تنمو و تَتَّسِعُ باتجاه الهيمنة على العالم، واستدراجه بالتدريج لتبني أفكارها ومفاهيمها و أخلاقياتها .
وما "العولمة" التي تنادي بها اليوم إلاّ مظهر من مظاهر هذه الرغبة في الاستحواذ على كوكب الأرض وعلى انتماءات شعوبها الحضارية والدينية والأخلاقية وأذابتها في بودقة حضارة واحدة تمتلك من القوة والعلم والمال ما ييسر لها أسباب هذا الاستحواذ والهيمنة.
-2-
وإذا كان نازعُ التجديد شرطا أساسيا من شروط المفكر النّاجح، فإنّ "النورسي "يظلُّ أوفرَ المفكرين حظاً في هذا النَّازع الذي يكاد يشكل محور شخصيته، وأساس فكره.
ففي أمكنة كثيرة من "رسائل النور" يقرن "النورسي "بين الجمود في الحياة والفكر وبين الموت والعدم، فالجامد المستكين إلى جموده الراضي به، وغير الراغب في مغادرته،ميت لا يرجى منه نفع، فالحركة أينما كانت و إلى أية جهة توجهت دليل وجود، والوجود خير محض، بينما الجمود علامة موت وعدم ، والعدم ألم محض وشر صرف.(18/77)
وقد بلغ من شغفه بالتجديد حدّا جعله يثور على نفسه، ويلقى بها في مهاوي الموت ، ولم يكد ينفض يديه من تراب قبرها حتى استقبل مكانها نفسه الجديدة الناهضة من بين رفات نفسه القديمة، بفكر جديد، وروح جديد، وآمال ومطامح جديدة، وفي معرض إشارته إلى هذا التحول العظيم، والتغير الجريء في حياته وفكره، وللتفريق بين عهدين وزمانين من حياته ، يستعمل اصطلاح "سعيد القديم " إشارة إلى أفكاره القديمة المقبورة، و" سعيد الجديد " إشارة إلى أفكاره الجديدة التي اعتمدها وبشّر بها في رسائله.
وفي هذا الصدد يقول " النورسي ":
" اعلم أنّ البطالة والسكون والتّعطّل والتّوقّف والاستمرار على طراز لا يتغير من الحياة في الإنسان هو نوع من أنواع " العدم ". والعدم ألم محض، وشرّ صرف، لا يمكن التخلّص منه إلاّ بالصيرورة والتغير والحركة.
ومن هنا كان في الحركة والفاعلية لذّة عظيمة ، والتحول من شأن إلى شأن خير غزير ، ولو كان هذا التحول من "اللاّ ألم" إلى الآلام والمصائب.
فالتأثرات والتألمات حسنة من جهات ، وقبيحة من جهة ، فالحياة التي هي نور "الوجود" تتصّفى ات ، وتنصقل وتتهذّب بالتألمات التي تحرك قوى الإنسان الجسمية والروحية القابلة للآلام ومُساكنة الاوجاع ، وبذلك تتجدّدُ النفس ، وتنتعش الروح ، وينشحذ الفكر ، وهذا هو الوجود الحق .. " .(1)
وكذلك يرى-أي النورسي - أن الإنسان إنما هو صيرورات دائمة لا تتوقف لمحة واحدة ، تجري مع تيار الزمن فيحدث فيه من التغيير لحظة بعد أخرى ما يحدثه في كل الأشياء التي يمُرُّ بها، أو يمرُّ عليها، فالإنسان إنما هو بناء هذه الملاين من البُرهات التي مرت به وصيّرت تكويناته النفسية والبدنية ، لذا ورد في الحديث :
( جدّدوا إيمانكم بلا آله إلاّ الله )(2) أي مع كل ما يمرُّ بكم من جديد الزمن.
-3-
__________
(1) النورسي – مختارات من المثنوي ص 68 اختيار وتقديم كاتب هذه السطور.
(2) المسند 2 / 359 رقم الحديث 8695.(18/78)
فالإسلام ليس دينا سكونيا جامدا خاليا من طاقات تحريكية للأذهان والأرواح كما يريد البعض وصمهُ، أو أنه خاو من أي نوازع إبداعية وابتكارية، وقدرة على مطاولة الزمن ومواكبة الجديد من شؤون الحياة والفكر.
وهذه مزاعم باطلة تدّل على نظرة سطحية مبتسرة غير متعمقة للإسلام، كمنْ يرى سكون البحر من الخارج حين يسكن وينسى فوران أعماقه بالحياة ، وفوران باطنة بالمثير من القدرات والطاقات والكنوز والثروات، فكما أنه لا سكونية للروح المتدفقة بأسباب الحياة، فكذلك لا سكونية للإسلام لأنه روح الأرواح كما يقول عنه القراَن : ( وكذلك أوْحيْنا إليْك روحا منْ أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكنْ جعلْناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم )(الشورى:52) . والروح خارق عظيم للزمان و المكان، وطاو يطوي الزمان والمكان تحت جناحيه ولا يطويانه والروح شعلة حياة فوارة موارة، تتفجر بعوامل الخلق والإيجاد، والمحو والإثبات والروح بعد ذلك قوة جبارة قهارة، ونار محرقة لهشيم الضعف البشري، والجمود الذهني ،و الخمود النفسي. هكذا هو الإسلام في حقيقته وجوهره، وما يتراءى على سطحه من سواكن فهو كسكون الرواسي الثوابت، تبدو للرائي وكأنها كتل ثقيلة مصمتة غارقة في سكينة وقور، بينما تثور أعماقها بالحمم واللهب، ومصهور الحديد و الذهب، يقول جل شأنه:
( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) (النمل: 88) ، وكما أن الجبال هي أوتاد خيمة الأرض تمسكها وتحفظها من الانفلات والتطاير في الفضاء كما يقول الجغرافيون، فكذلك ثوابت الإسلام هي الرواسي العقيدية التي تشد الإسلام ولا تتركه ينفلت في فضاءات العالم دون ضوابط تنظم حركته، وترسم أمداء منطلقه.(18/79)
وفي القراَن الكريم إيماءات إلى أن هذا الدين لا ير فض شيئا كما يرفض الجمود على حال واحدة لا تتغير ولا تتبدل، ففي قوله تعالى :( كل يوم هو في شان ) (الرحمن:29)، ومضة موحية، ولمعة مضيئة، وهزة موقظة للمسلم لكي لا يستنيم لشأن واحد من شؤونه الروحية والفكرية، وأن يروض نفسه على الانتقال دوما من حاله الذي هو فيه إلى حال هو أعظم وأرقى.
ومن علوم القرآن المهمة التي لا يستغنى عنها أحد من المعنيين بالتفسير، علم الناسخ والمنسوخ، الذي تشير أليه الآية الكريمة: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )(البقرة: 106). "فما ننسخ من آية أو ننسها: أي ما نبدل من حكم آية فنغيره بآخر، أو ننسها يا محمد: أي نمحها من قلبك، نأت بخير منها أو مثلها،أي: نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون بما هو أنفع لكم في العاجل والآجل إما بر فع المشقة عنكم أو بزيادة الأجر والثواب لكم ".(1)
وأستدرك فأقول :إنه ليس من غر ضنا من هذا الذي عر ضناه آنفا تنصيب أحد كائنا من كان على سدة التشريع فوق شرع الله ورسوله ليثبت ويمحو ما يشاء من أحكام القرآن والسنة، معاذ الله ألف مر ة، فهذا ما لا يقول به مؤمن صحيح الإيمان، لأن هذا الحق لا يمتلكه إلا مُنزِل القرآن والمُنْزَلُ عليه القرآن، وإنما قصدنا الأساس الإشارة إلى حيوية هذا الدين ومرونته وقدرته على التكيف مع وقائع الحياة ومجريات الأحداث، والواجب الحتم على أصحاب الأقلام في هذا العصر الحضاري المعقد الإفادة من هذه الإيماءات والإشارات في بناء الجديد من الأفكار، واستنباط الجديد من المعاني والمقاصد التي تسهم في الكشف عن التوجه الحضاري لهذا الدين.
__________
(1) محمد على الصابوني – صفوة التفاسير ص 16(18/80)
ومن المحزن أن العالم الإسلامي على سعته وامتداده لم يعرف-ومنذ قر نين من الزمن وحتى اليوم_ إلا القليل من المفكر ين من أصحاب الدعوات الذين استطاعوا أن يتركوا بصمات تجديدية قوية و واضحة على مجمل الفكر الإسلامي العام.
وقد يمر العقد والعقدان والثلاثة قبل أن نحظى بمفكر إسلامي جيد، غير أننا نحظى في الحقبة الزمنية نفسها بعشرات وربما بمئات من الوعاظ الجيدين.
ولا أحد يستهين بأهمية الوعظ والوعاظ وبما يمكن أن يتركوه من آثار حسنة على أخلاقيات الناس وسلوكياتهم، إلا أن نهضة الإسلام الحضارية- وكأي نهضة أخرى- لا يصنعها الوعظ والوعاظ، بل يصنعها الفكر والمفكرون.
فالمفكر الذي يعجز عن تحريك نوازع التفكير التجديدي في أذهاننا مفكر فاشل حتى لو كانت مؤلفاته تملأ رفوف مكتبة كاملة. وفي الأعمال الفكرية الرصينة لا يهمنا الكم بقدر ما يهمنا الكيف، فقد اشتهر مفكرون من الشرق والغرب بعمل يتيم واحد أمضوا سنوات عدة في تأليفه ثم خر جوا به إلى عالم الفكر والثقافة- بعد غياب طويل- فأحدثوا به من التأثير في الأذهان والأرواح ما ظل مقرونا بأسمائهم حتى يومنا هذا.
4- النورسي المجدد
والإمام النورسي رحمه الله، واحد من هؤلاء المفكرين المجددين ممن حاز جملة من أبرز ما ينبغي للمفكر المجدد أن يتميز به مما أتينا على ذكره في صدر هذا الكلام، فقد بلغ مجموع ما ألفه من "رسائل النور " عشرة مجلدات يمكن اعتبارها كتابا واحدا، لأنها وإن كانت متعددة الاهتمامات غير أنها تصب في الأخير في اهتمام واحد هو " الاهتمام الأم " تتشعب منه وتعود إليه وهو "الإيمان " الذي كان من اكبر همه تعزيز مواقعه في الذهن والوجدان، وتبديد الشكوك والأوهام المعششة في أدمغة أولئك الواقفين في الجانب الضد من الإيمان والإسلام.(18/81)
والإيمان بالله واحدا أحدا فردا صمدا، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، وإن الموت حق، والبعث والحشر والنشر حق، والجنة حق، والنار حق، هذا الإيمان هو الثابت من القرآن والسنة، تقوم عليه قواعد الإسلام، وتتجذر فيه أصوله وثوابته.
وقد عالج النورسي هذه الثوابت بنظرة جديدة، ترى في غور الساكن الثابت عالما فوارا بالحركة، موّاجاً بالخلق والحياة، شأنه شأن كل كائن وموجود في هذا الوجود، قوام وجوده الحركة، ينعدم بانعدامها، ويموت بموتها.
ومن منطلق هذه النظرة الجديدة التي ترى الحركة دستورا شاملا كما يحكم الحياة الوجود فهو يحكم ثوابت العقيدة كذلك، ولكن ليس بالانتقال من حال إلى حال، أومن موقع إلى غيره، بل بحركة ما تبثه الثوابت في الذهن من مختلف المعاني،وما ترسله من مختلف الإشارات والإيماءات،فحركة ثوابت الإيمان ذهنية قلبية روحية، إلا أنها أعظم عنفوانا في حركتها في النفس الإنسانية من حركة الموجودات خارج الذهن والوجدان.
وبعض ثوابت الكون كانت حجة إبراهيم عليه السلام على " النمرود " طاغية زمانه حين تحداه :( إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر )(البقرة:258) فاعتياد النظر على ملازمة هذه الثوابت الكونية كل يوم لا يعني تعطيل العقول عن البحث فيها للكشف عن المزيد من النواميس المهيمنة على حركات الكون و ثوابته، ولا أظن أحدا تبلغ به الحماقة إلى حد القول بالاستغناء عن الشمس و إسقاطها من حياة البشرية، لا لشيء إلا لكونه اعتاد على رؤيتها تشرق من جهة وتغرب من جهة أخرى، هذا دأبها منذ ملايين السنين وحتى يوم الناس هذا وإلى ما قبيل قيام الساعة.(18/82)
وهكذا لا يمكن أن تكون ثوابت الإيمان مبررا لإهماله وإسقاطه من الحياة العقلية والوجدانية للبشرية بحجة السكونية والثبوتية، فما اعتدنا أن نراه كل يوم و كل ساعة قد يجعلنا نألفه، غير أننا لا نعرفه، فالألفة لا تعني المعرفة كما يقول "النورسي " فما أكثر الأشياء التي نألفها ثم نموت عنها ولم نكد نلامس منها إلا القليل مما يطفو على سطحها.
فما نألفه من " الإيمان " غير ما نعر فه، فالمعرفة والمعر فة العميقة الدقيقة- هي ما نحتا ج إليه في هذا العصر، وقد بذل " النورسي " غاية جهده في رسائله لكي يوقفنا عليها، ويعرفنا بها. يقول رحمه الله : " إعلم أن من أعم أسباب ضلالة فكر البشر ظن المألوف معلو ما مع أن الألفة تتضمن الجهل المركب، فبحكم الألفة لا يتأمل الناس في العاديات من نوع التجليات السيالة، كمن لا ينظر من مجموع البحر مع ما في بطنه من الحيوانات إلى تموجاته بالهواء، وتلألئه بشعاعات الشمس فيستدل بهاتين الصور تين فقط على عظمة مالك البحر وصانعه جل جلاله.
ويمضي فيقول : " إعلم أن أكثر معلو مات الإنسان الأرضية، ومسلماته، بل بديهياته مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب، ففي الأساس فساد أي فساد. فلهذا السر توجه الآيات أنظار البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجوم القرآن بأنوارها حجاب الألفة، وتأخذ بأذن الإنسان وتميل بر أسه، وتريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات ".(1)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص(18/83)
فالقلم العلوي لا يتوقف لمحق واحدة عن السريان، فهو يخط سطوره على صفحة الكون، ووجه الطبيعة والحياة. وعلى الرغم من نصاعة بيان هذه الأسطر إلا أنها تتأبى على أصحاب النظر الكليل، والفهم العليل، ولا تلقي بمكنونات أسرارها إلا لأولي الألباب وأصحاب البصائر من المنشدهين بمعجزة الخلق، والمندهشين بداينمية الحياة، والمنقبين عن الفاعلية الخفية التي تنشئ العوالم وتبني الأكوان، وتمد الوجود بأسباب الدوام، وفي الوقت نفسه تمحو العتيق، وتهدم القديم، وتأتي بكل جديد، ساعية لوضع الإنسان وجها لوجه مع الموجودات كما هي، دون حواجز فكرية، أو تصورات ذهنية، مهما بلغت من صدق فإنها دون ما يمكن أن يستوفيه منها بالتعاطي المباشر، والفهم عنها عن معاينة وقرب.
5-
إن الاستماع إلى عقل عميق وحصيف متعقل لا شيء أمتع منه عند ذوي العقول الجادة، فالأعمال الفكرية الرصينة كان لها على الدوام إسهامات مهمة في إنشاء البنى التحتية للذهنية الإسلامية العامة، والأرضية الخصبة لمنطلق المسلمين في التفكير فيما يعن لهم من قضايا الإيمان والإسلام،فبقدر ما نحتاج إلى الأفكار الجديدة في إرساء أركان هذه القاعدة الفكرية، إلا أننا أشد حاجة، وأكثر افتقارا إلى من يحرك بقلمه سواكن العقول، وينهض هواجع الأرواح، فقلم المفكر المجدد ينبغي أن يتحول في يده إلى " الصور " الذي ينفخ فيه لإنهاض الموتى من مدافن الأرواح" والنفير " الذي يبعث الحياة في موات الأذهان، بل وينشؤها إنشاء آخر، ويخلقها خلقا جديدا لمواجهة تحديات العصر بثقة عالية، ومن غير الشعور بأي دونية إزاء أعلى صروح الفكر، وأعظم نتاجات الحضارة.
وهذا ما فعله علماؤنا القدامى، ومفكرونا الأفذاذ حين واجهوا حضارات ما قبل الإسلام، فحافظوا على فاعلية العقل المسلم، وعلى تمام صحوته ونشاطه إزاء تحديات تلك الحضارات.
فتعاملوا معها أخذا وعطاء دون أن يقعوا في شرك التخلي عن أية ثابتة من ثوابت الإيمان والإسلام.(18/84)
والعملية التحريكية لسواكن العقول، وهواجع الأرواح، هو ما كرس لها "النورسي" قلمه وأعطاها من جهده وفكره الشيء الكثير، وكان أكبر همه إغراء " العقل المسلم " باستعادة ما فقده-منذ أمد بعيد-من فاعلية في الأخذ والعطاء، والتي خسر بغيابها وزنه الوجودي والتاريخي، وغدا ريشة في مهب رياح العالم، لا أثر له في ميزان التاريخ وأحداثه، ولا قدرة له على التأثير في مسارات العالم الفكرية والروحية والعلمية، وكما ينطفئ الكون، وتموت الحياة، وينعدم الوجود بانعدام حركته الفاعلة، هكذا ينطفئ الإنسان، وتموت حياته الفكرية، وينعدم وجوده الحضاري حين يركن إلى السكون والجمود.
وشئ آخر تجدر الإشارة إليه، والتنبيه عليه، وهو أن الأفكار المصنّعة في عقول الآخرين، والمصدّرة إلينا في علب فكرية جاهزة لا تجدينا نفعاً إلا بقدر ضئيل، حتى ولو كانت متجانسة مع أفكارنا ومتطابقة مع آرائنا، وعلى الرغم من ذلك لا نحس بالتعاطف معها بشكل صميمي كما نتعاطف مع أفكارنا، لأننا لم نشارك أصحابها في صنعها.
فالمفكر الناجح هو الذي يحس بوجودنا ويحترمه، ويشركنا معه في التفكير، ويشعرنا أنه إنما يحاورنا ولا يعلّمنا، ويسألنا ولا يتغافل عنا، ويأخذنا معه في رحلة معرفية كشفية في مجاهيل عقله وروحه، ويوحي إلينا أن ما كشفه وخلص إليه هو نفسه الذي يمكن أن نكتشفه ونخلص إليه.(18/85)
وهذا الذي ذكرناه في صفة المفكر الناجح لا نلمسه إلا عند اقل القليل ممن نقرأ لهم، ومن هؤلاء القلة إمامنا النورسي رحمه الله، وسر تفوقه في هذا الشأن يعود إلى كونه قد أملى معظم رسائله إملاء على الكتبة من طلبته، فهو يحاضرهم بها شفاها، ويشركهم في التفكير معه، ويسألهم ويسألونه، ويحاورهم ويحاورنه ولهذا السبب نشعر ونحن نقرأه وكأنّه حاضر معنا، يحدثنا كما كان يحدث طلبته، من القلب إلى القلب،ومن العقل إلى العقل، وكأنه مقيم بيننا، حاضر مجلسنا، ساكن وجداننا، فلا نمل ولا نسأم ونحن معه في تفكيره خطوة بخطوة، وساعة بساعة.
6 ـ الخلاّقية الفاعلة
وإشارة النورسي رحمه الله – في العديد من الأمكنة في رسائله إلى الخلاقية الفاعلة، وآثارها البينّة في حركة الكون والحياة وفي ديمومية بقائهما إنما يهدف إلى لفت نظر المسلم إلى الناموس الحركي الأعظم المهيمن على الوجود بأسره، وحفزه لاستنهاض قوى الخلق والتجديد في نسيج عقله ووجدانه باعتباره المعنّي بالأساس من تسخير الكون له، فيلزمه من الحركة والتجديد ما يلزم الكون منهما.(18/86)
فالتلقي الرأسي والمباشر عن نصوص الوحيين العظيمين "الكتاب والسنة" – من دون المرور بالحشود الهائلة من شروحات العلماء وتفسيرات الفقهاء والمفسرين كما فعل النورسي ، وكما دعا إليه الدكتور محسن عبد الحميد في العديد من كتبه الأخيرة، إن هذا التلقي الرأسي والمباشر اكثر قدرة على تنشيط الذهن، وعلى اكتشاف الجديد والمبتكر من المعاني والمقاصد الإيمانية والإسلامية التي تكون قد غابت عن أذهان الأقدمين من علمائنا ومفكرينا. فالمفكر المجدد لا ينبغي له التعامل مع نصوص الكتاب والسنة بعقل ماضوي موروثي تقليدي، بل بعقل حضوري مستقبلي، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال الدعوة إلى إغفال الموروث وجعله وراء ظهورنا، بل من الزم اللوازم النظر فيه، والإفادة منه، بقدر أو بأخر بشرط عدم الوقوف عنده، والتلقي عنه، دون الأخذ بنظر الاعتبار متغيرات الزمن الفكرية والعلمية والحضارية.
فالوقوف على الموروث التاريخي والحضاري وعلى الرغم مما يزخر به من جوانب مشرقة، ونماذج إنسانية عالية في الخلق والسلوك والبطولة، وعلى الرغم مما قدمه لفكر العالم من تصحيحات في الألوهية والربوبية وشرائع الأديان السابقة، وبما أسهم به من علوم وفلسفات اقتاتت عليها شعوب الغرب قروناً عديدة، فعلى الرغم من هذا الذي ذكرناه فان الوقوف عند هذا الموروث والعكوف عليه، والاستغناء به، وعدم الرغبة في تطويره وتجديده وتجاوزه موت للعقل، وتعطيل لقواه الابتكارية، وتجميد للذهن وشلل عام له، عانت منه الأمة الإسلامية، الكثير من الإشكالات في هذا العصر الذي تتزاحم فيه قوى التجديد والتغيير وتتسابق للاستحواذ على عقل الإنسان وصياغة أفكاره ومعتقداته.
ـ 7 ـ(18/87)
ويرى النورسي أن الفاعلية وعملها في الخلق والإنشاء والتجديد والإبداع إنما هو فيض يفيض به العقل المبدع الحي الفاعل، وهو دليل حياة، وعلامة قدرة وعلم وحكمة، وما يصحب العقل من لذة في العطاء هي كفاء إنجازه، وكما يحسُّ الرسام العظيم بالزهو والإنتشاء فور انتهائه من أخر لمسة من لمساته على لوحته الفنية، هكذا يكون إحساس العقل بإبداعاته، وإحساس كل المبدعين، وهو أجرهم المعجل وجائزتهم القريبة المزجاة.
وكما يكون شعور الفنان المرهف بما تضطرم به روحه من معاني الجمال الدافع الذي يدفعه للرسم، تعبيرا عن هذه المشاعر، كذلك العقل العبقري المبدع يدفعه إلى الإبداع تزاحم الأفكار فيه، وإمتلاؤه بها حتى تتحول إلى شلال عظيم تبحث لها عن مكان في عوالم الأفكار والثقافات خارج عقله.
ويربط النورسي بين الملموس من فاعلية خلاقية تجديدية في الكون والحياة، وبين ما ينبغي أن يكون عليه عقل المسلم من فاعلية خلاقية تجديدية في فكره الإيماني سواء بسواء، لان ما يحكم الكون من سنن هي نفسها التي تحكم الإنسان، فإذا ندّ عنها صار موجوداً ناشزاً بين الموجودات ومغالباً لناموس كوني ما غالبه أحد إلا غلبه وتركه صريعاً مقهوراً.
وفي الآتي من كلام النورسي إشارات إلى هذه المعاني حيث يقول:
"سؤال: ما سر هذه الفعَّالية المحيرة للألباب الجارية في الكائنات وما حكمتها؟ ولمَ لا تستقر هذه الموجودات الدائبة الحركة بل هي في تجدد وتغير؟
الجواب: أن شخصا ما إذا أدّى وظيفة فطرية، أو قام بمهمة اجتماعية، وسعى في إنجازها سعيا حثيثا، فلا شك أن المشاهد يدرك أنه لا يقوم بهذا العمل إلا بدافعين:
الأول: هو المصالح والثمرات والفوائد التي تترتب على تلك الوظيفة والمهمة وهي التي تسمى بـ "العلة الغائية".
الثاني: أن هناك محبة وشوقا، ولذة يشعر بها الإنسان أثناء أدائه لتلك الوظيفة، مما يدفعه إلى القيام بها بحرارة وشوق، وهذا ما يسمى بـ "الداعي والمقتضي".(18/88)
مثال ذلك: أن الأكل وظيفة فطرية يشتاق الإنسان إلى القيام بها بدافع من لذة ناشئة من الشهية، ومن بعدها فهناك إنماء الجسم وإدامة الحياة كنتيجة للأكل وثمرة له".
ويمضي فيقول: "كما أن الفعالية الموجودة في المخلوقات قاطبة نابعة من لذة ومن شهية ومن شوق، بل أن في كل فعاَّلية منها لذة، بل كل فعالية هي بحد ذاتها نوع من اللذة، (ولله المثل الأعلى) فهناك شفقة مقدسة مطلقة، ومحبة مقدسة مطلقة تليقان به سبحانه، وتلائمان غناه المطلق، وتعاليه وتقدسه وتوافقان كماله المطلق، ثم أن هناك شوقاً مقدساً مطلقاً يليق به آتٍ من تلك الشفقة المقدسة والمحبة المقدسة، وهناك سرور مقدس ناشئ من ذلك الشوق المقدس وهناك لذة مقدسة لائقة به –إن جاز التعبير- ناشئة من ذلك السرور المقدس، ثم إن الرحمة المطلقة النابعة من تلك اللذة المقدسة، وما ينشأ من المخلوقات قاطبة من رضى عام، وكمال شامل من انطلاق استعداداتها من القوة إلى الفعل وتكمّلها ضمن فعالية القدرة.. فما ينشأ من كل هذا من رضى مقدس مطلق –إن جاز التعبير- وافتخار مقدس مطلق.. كل ذلك بما يليق ويخص الرحمن الرحيم سبحانه يقتضي فعالية مطلقة وبصورة لا تُحدَّ" (1). "فأسماء الله الحسنى، وتجلياتها في الموجودات، وانعكاساتها في مرايا الكائنات، وقيام هذه الكائنات بها، واستمداد ما يحفظ وجودها منها، واكتساب نورانياتها من أنوارها، والتماس الحياة من منابع حياتها، وانتساب المعارف والعلوم والفنون إليها، وتعلقها بأسرارها.. هو ما يريدنا النورسي أن نكون على علم به ضمن مبحثه المهم عن "أسماء الله الحسنى" وعن إشعاعاتها وتأثيراتها في الوجود والحياة، وهو لا ينفك يغرينا بالتعايش مع هذه الأسماء في شؤون الحياة التي نحياها والواقع الذي نعيشه.
__________
(1) المكتوبات – المكتوب الثامن عشر – ص 109 -110(18/89)
وقد كتب النورسي ثلاثين ومائة رسالة أسماها "رسائل النور" تقصّى فيها آثار الأسماء الإلهية الحسنى في الإنسان والوجود والأكوان، وتلمّس منابعها في المعارف والعلوم والفنون، واستقرأ تجليات أنوارها على الأشياء والموجودات، وتتّبع أسرارها في الخلق والإيجاد، والموت والحياة، ووقع على أعاجيبها في الحشر والنشر والجنّة والنَّار والرحمة والعذاب، وأثبت بما لا يقبل أدنى شك بأن من وراء هذا كله إرادة وهدفاً وغايةً، وعلماً وحكمةً، وعدلاً وجمالاً وجلالاً، وأحدية لا تقبل نداً ولا شريكاً، وقدرةً مطلقةً لا يعجزها شئ، وقدَراً مرسوماً، وقضاءً مبروماً وآجالاً محتومة، وخلوداً أبدياً –بعد الموت- في الجنة أو النار أعاذنا الله منها بكرمه، وصرفنا عنها برحمته. وهذه هي الأغراض والموضوعات نفسها التي دارت عليها وحولها آيات القرآن الكريم وسوره فتجلي الاسم الأعظم – "الحيّ" مثلاً – على الموجودات – والتأثير فيها، أنهضها من رقدة العدم، وأزاح عنها أستار الغيوب، وأكسب كلاً منها نوعاً من أنواع الحياة التي لا حصر لأنواعها وأشكالها ودرجاتها، وألبس كل موجود – بحسب مكانته المقدّرة من الموجودات – ثوب الحياة المقدّر له، والمناسب لماهيته ومهمته في هذا الوجود، بحيث يستطيع بهذه الحياة إدراك الخالق – نوعاً ما من الإدراك – ويتوجّه إليه بالحمد والتسبيح والشكر بدليل قوله تعالى ( وإنْ مِنْ شَئٍْ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ)(18/90)
والحياة في الكائن الحي ليست هي مجرد حياة – كما يقول النورسي – وإنما هي حياة يخامرها الجمال، ويمازحها اللطف، وتندرج فيها الرحمة، وتتخلّلُها العناية، ويتظاهر فيها الإتقان ودقة الصنعة، وتنطوي على العلم والحكمة، وتشير إلى الإرادة، وتومئ إلى القصد والمغزى.. أي أن حياة "الكائن الحي" تتجلّى فيه جميع الأسماء الإلهية الحسنى وصفاتها الجمالية والجلالية العليا" .(1)
8 ـ المؤمن والأسماء الإلهية الحسنى
ورغبة المؤمن بالارتقاء إلى كمال الإيمان المرجو، تدفعه بديهياً باتجاه التخلّق بأخلاق هذه الأسماء الإلهية المقدسة، والارتواء من معانيها، وتلبس صفاتها، والاستقواء بها والاستغناء بمعطياتها ثمّ أخذها من يد الغيب بقوة كما يأخذ العطش المشرف على الهلاك قدح الماء من اليد الممتدة به إليه، وكما يتعلق المحتضر بأسباب الحياة والتشبث بها بكل ما لديه من قوة.
فهذه الأسماء هي روح الحياة، انبثقت الحياة منها، وتفجرّت من معانيها، وأي مظهر من مظاهرها وأي معنى من معانيها، إنما هو تجلٍ من تجليات اسمه تعالى "الحي" على الموجودات كما يقول "النورسي ".
وقد كان تأثير هذا الاسم "الحي" عظيماً في النبي "يحيى" عليه السلام، حيث جاء في القرآن الكريم: "يا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقوةٍ" (مريم:12)، وقد تكلم المفسرون في معنى اسمه "يحيى" فقال مُقَاتِل: "أُشْتُّقَ اسمه من اسم الله تعالى "حي" فسمّي بيحيى" .(2)
وفي صفوة التفاسير: "يَا زَكَريَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ "يَحْيَى" لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سمياً"(مريم:7) أي: لم يُسَمَّ أحد قبله بـ "يحيى) فهو اسم فذّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه" .(3)
__________
(1) أنظر مقدمة ( الاسم الأعظم ) لكاتب هذه السطور –ص 14-16 –مطبعة الزهراء الحديثة - الموصل
(2) انظر تفسير القرطبي – الجزء الرابع – سورة آل عمران – ص76
(3) محمد علي الصابوني- صفوة التفاسير – سورة مريم – ص194(18/91)
فتأثير هذا الاسم المشتق من اسمه تعالى "الحي" على كيان هذا النبي عليه السلام، كان عظيماً حيث ملأ وجوده حياة وأترع كيانه قوة، وبهذه القوة أمر أن يأخذ "كتاب" وهو التوراة، وأن يضمها إليه بشوق، ويتدارسها بلفة.
ففي اسمه تعالى "الحي" أسرار وقدرات وطاقات وآثار في حياة الإنسان الإيمانية، ولعلَّ هذا هو السرّ الذي دفع نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليكنّي الصحابي الجليل "صهيب الرومي" بـ "أبي يحيى)9 الذي لم يكن لديه ولد يكنّي به، وكأنه عليه السلام أراد بهذه الكنية مواساة "صهيب" على حرمانه من الولد أولاً، وأن يجعله يشعر بما توحيه هذه الكنية في نفسه من قوة الحياة الفوّارة بمعاني الإيمان الذي لا ينضب ثانياً، وأنه وإنْ كان لا نسب له يُذكر بين الأنساب إلا أن نسباً إيمانياً لا ينسى سيظلُ يذكر به بين أنسباء الإيمان على مرّ الدهور والأزمان. وفي تفسير "القرطبي" الجامع لأحكام القرآن يقول تعالى:
" ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمْ الأعلونَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ)9 (آل عمران: 139)، وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، فقد قال لموسى عليه السلام: "إنَّكَ أنْتَ الأعلى"(طه:68) وقال لهذه الأمة: "وأنْتُمْ الأَعْلَونَ" وهذه اللفظة مشتقة من اسمه "الأعلى" فهو سبحانه "العلي" وقال للمؤمنين: "وأنْتُمْ الأَعْلَونَ".(1)
ففي اشتقاق "الأعلون" من اسمه تعالى "العلي" إشعار للمؤمنين بانتسابهم إلى "العلي الأعلى" وهذا الانتساب يملأُهم عزة وقوة وزهوا وتحديا لكل قوى الأرض التي تسعى للنيل منهم والعلو فوقهم، وإنهم بهذا الاسم الإلهي يعلون فوق كل من يريد العلو عليهم.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي – الجزء الرابع – سورة آل عمران – ص 216-217(18/92)
ولا يزال في مقدور هذه الأمة – رغم ما اعترى روحها من وهن، وما أصاب فكرها من نصب – أن تستعيد دورها الإيماني العظيم في هذا العالم، وأن يعود قرأنها من جديد العين التي تبصر البشرية من خلالها أخطاء معتقداتها في الألوهيات الكاذبة، والرّبوبيات الموهومة، ومهما قيل ويقال عن هجران هذه الأمة لقرآنها إلا أنها تبقى أمة القرآن، تتأثر به بقدر أو بأخر.
ويبقى القرآن فاعلاً مشعاً مؤثراً مثله مثل، أعظم حقائق الوجود تفعل وتؤثر بغير حاجة إلى وسيط، وهي قادرة على الانتصار لنفسها بنفسها وإن لم ينتصر لها أحد، وكما يعجز أي عنصر مشع من عناصر الطبيعة عن كتمان إشعاعه، والكف عن النفاذ فيما يحيط به من أشياء، فكذلك القرآن، هذا النور العظيم – ولا مشاحة في المثال وله المثل الأعلى – لا يتصور أن يتوقف لمحة واحدة عن إطلاق أنواره وشعاعاته وإشاراته وآياته في أي زمان ومكان، وتحت أي ظرف من الظروف، ولعلَّ الإشارة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: "إنَّا نَحْنُ نزلْنا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(الحجر:9).
إذا تخلى أهله عن حفظه في نفسه وفي علمه ومعتقده، ورغم ذلك يبقى ملاذهم الأخير، وحصنهم الحصين حين تدهمهم الأخطار وتستقبلهم التحديات.(1)
__________
(1) انظر ( اللوامع) ص 876 - الكلمات(18/93)
ولهذه الأمة تجارب كثيرة عبر تاريخها الطويل في لجوئها إلى "القرآن" والتحصن به عندما تدهمها أخطار مخيفة، وفواجع ماحقة، فالعولمة الشيوعية – مثلاً – التي قادها الاتحاد السوفيتي منذ نشوئه وحتى انهياره وتفككه في العقد الأخير من القرن المنصرم، وإن كانت قد نجحت في أقطار معينة من العالم إلا أنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً مع شعوب قفقاسيا المسلمة، فظلت هذه الشعوب تقاوم إلحاد هذه العولمة بما كانت تملك من آثار إيمانية وقرآنية شاحبة، فقد كان البعض من أبنائها لا يعرف من الإسلام إلا كلمة الشهادة، والبعض الآخر لم يحفظ من القرآن إلا آيات وكلمات يرددها في صلواته من غير أن يدرك معانيها ومع ذلك عجزت هذه العولمة عن حمل هذه الشعوب على التخلي عن هويتها الإيمانية على الرغم من كل ما استعمل، معها من وسائل الترهيب والترغيب.(18/94)
ولا أظُنُّ العولمة الرأسمالية المعاصرة سيكون حظُّها من إيمان المسلمين ومن أخلاقياتهم وخصوصياتهم الثقافية والحضارية أوفر حظاً من أختها العولمة الشيوعية من قبلها، على الرغم من كل ما تملكه من قوة جبّارة ومال وعلم، وتقنيات معلوماتية رهيبة، ووسائل اتصالات تكاد تصل حدَّ خوارق المعجزات، حتى غدا العالم بين يديها وتحت أنظارها كالكرة التي يرسم عليها الجغرافيون خارطة العالم لطلاب المدارس، لا سيما وأنَّ هناك صحوة على مخاطر هذه العولمة من قبل الشعوب، ومن قبل عقلاء العالم ومفكريه وذوي الرأي فيه. ومن بعض رجال المال والاقتصاد المرموقين في أنحاء مختلفة من العالم، وإنَّ هذه الصحوة تمتدّ اليوم لتشمل قطاعات عريضة من الشعوب الرأسمالية نفسها، فبدأت تقاومها وتندّد بها وتقف بالضدّ منها، وتتظاهر ضدّها، وتعمل جاهدة على إحباطها. وما دام الضمير الإنساني قد أصابه التحجر في هذا العصر، والوجدان الديني أقفر وأجدب، وما دامت دواليب الاقتصاد العالمي تدور بمعزل عن أية مُثُلٍ أخلاقية وأدبية فلن تحظى الشعوب المسلوبة والمسحوقة بالخلاص الذي تطمحُ إليه من العولمة المعاصرة، وسيظل شمال الكرة الأرضية يحظى بالمزيد من الرفاهية والغنى، بينما تتفاقم أزمات الجنوب ومشاكله المعيشية، ويزداد فقراً وجوعاً، ولسان حال الشمال يقول للجنوب:
إفْتَقِرْ أنتَ .. لأغنى أنا.
إجهلْ أنتَ .. لأزداد علماً أنا.
جُعْ أنتَ .. لاشبعَ أنا.
إتعبْ أنتَ .. لاستريحَ أنا.
ولا باسَ من موتكَ .. إذا حييتُ أنا.(1)
ويجمل النورسي بأسطر قليلة أصلَ العّلة وأساسها، ويترك المجال لمن يأتى بعده لكي يفصّل المجمل، ويبنى عليه، ثم يشرع في التصدي والمعالجة.
يقول "النورسي ":
"إن معدن جميع الاضطرابات والقلاقل والفساد واصلها، وأنّ محرك جميع أنواع السيئات، والأخلاق الدنيئة ومنبعها، كلمتان، اثنتان، أو جملتان فقط:
__________
(1) النورسي بتصرف قليل – انظر اللوامع ص 851 من الكلمات(18/95)
الكلمة الأولى: إذا شبعت أنا فلا أُبالي إن مات غيري من الجوع.
الكلمة الثانية: تحمَّلْ أنت المشاق لأجل راحتى.. إعملْ أنت لآكل أنا، لك المشقة وعليَّ الأكل.
والدواء الشافي الذي يستأصل شافة السُّم القاتلِ في الكلمة الأولى هو: الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.
والذي يَجْتَثُّ عِرْقَ شجرة الزّقّوم المندرجة في الكلمة الثانية هو: تحريم الربا، فان كانت البشرية تريد صلاحا وحياة كريمة فعليها فرض الزكاة، ورفع الربا" .(1)
9 ـ العولمة بين السلب والإيجاب
وعلى الرغم من هذه السلبيات التي تحملها العولمة المعاصرة إلى العالم الإسلامي إلاّ أنَّها لا تخلو من إيجابيات يمكن أن تخدم الجوانب الروحية والحضارية لهذا العالم بما تتيحه من فرص نادرة لعرض آرائه وأفكاره ومُعْتَقَدِهِ عن الكون والحياة والإنسان عبر التقنيات الهائلة من وسائط النقل والاتصال المقروءة والمسموعة والمصورة، وتصحيح الكثير من الأوهام والأخطاء التي كان ما يُسَمَّى بـ "العالم المتحضر" قد كونها عنه، وهذه نعمة عظيمة ربما ستجعل – في خاتمة المطاف – السحر العولمي ينقلب على الساحر نفسه.
فالعولمية الإسلامية – إذا صحّ التعبير – يمكن أن تسهم وبالوسائط نفسها التي تستخدمها العولمة الغربية في مخاطبة "العقل الغربي" وكسبه إلى جانب الإسلام، وكما توقع النورسي له ذلك فهو الذي قال وقبل ما يقرب من قرن من الزمن:
"إنّ أوربا حبلى بجنين الإسلام، وستلد يوما ما.." ولعلَّ هذا اليوم قد اقترب وآن أوانُهُ.
وهذا الكلام لم يَقُلْه النورسي في فورة حماس عابرة، ولا في سورةٍ عاطفيةٍ أو مضت لحظةً ثم انطفأت، لا، بل هو يعنى ما يقول، لكونه على اطلاع واسع على توجّهات الفكر الأوربي عموما، وعلى ذكاء هذا الفكر وشغفه بالحق إذا كان أصيلاً ونظيفاً ولم تتلاعب به الأهواء، أو يطمس على بصيرته التعصب المقيت.
__________
(1) النورسي بتصرف قليل – انظر اللوامع ص 851 من الكلمات(18/96)
وهو يدرك كذلك أنّ الإسلام هو الدين الذي أنزله ربُّ العالمين للعالمين قاطبةً، ليختم به الأديان على وجه الأرض، وأنه لا دين بعده، فهو دين البشرية في حاضر زمانها وفي مستقبله، وأنَّ الساعة ستقوم له ولأجله، وعليه ستقوم قيامة الإنسان، وإنَّ الآخرة في قبضته وتحت جناحيه، فمنْ ليس له حظُّ منه (أي من الإسلام) فلا حظَّ له كذلك منها (أي من الآخرة).
والنورسي واثقٌ بأن عقل الإسلام العميق والكبير قادرٌ على التقاء التوجهات الفكرية والحضارية للفكر الأوربي ذي المنابت الإيمانية الأصيلة، وأنَّ استيعاب هذا الفكر وتفهمه والتعرّف على جوانبه الإيمانية وإن كان واجبا إيمانياً تفرضه وحده الإيمان بربٍ واحدٍ والهٍ واحدٍ فهو كذلك واجبٌ إنساني ملحٌ يخدم مصلحة البشرية، ومصلحة شعوبها التي يهمها العيش بسلام بعضها مع البعض الآخر، وما يسمى اليوم بـ "حوار الحضارات" التفاهمي والتصالحي كان النورسي قد أشار إليه وتنبأ بوقوعه قبل ما يقرب من قرن من الزمن.
وحوار الثقافات في عصر "العولمة" هذا، حيث تنتقل "العولمة" بسرعة خاطفة – سرعة انتقال عرش بلقيس إلى ديوان سليمان عليه السلام قبل أن يرتدَّ إليه طرفه – وتدور من أقصى العالم إلى أقصاه، يمكن أن يشكل منعطفاً تاريخياً للعقل الغربي، وذلك لسهولة حصوله على حقائق الإسلام كما هي ومن مصادر إسلامية متخصصة، ليس بالضرورة من أجل أن يتحول هذا العقل إلى الإسلام ويدين به بين عشية وضحاها، ولكن من أجل – على أقل تقدير – تخفيف غُلوَاءِ العداء له، فكلما زادت معرفة الغرب بالإسلام قلَّ عداءه له على قاعدة "دعني لا أجهلك كي لا أعاديك".(18/97)
فالكلمة مفتاح مجرّبُ لمغاليق العقول، والمعبر الذي تعبر من فوقه المعارف والثقافات بين البلدان والقارات، والإنسان كان وما يزال أسير الكلمة، وفي قبضتها، تأخذه حيث تشاء وتوجهه أنَّى تريد، ولقد خَرَّ سُجَّداً جبابرة الكلمة من بلغاء العربية للكلمة القرآنية وجثوا أمامها خاشعين مستسلمين مُسَلَّمين بعجزهم وقصورهم عن الإتيان بمثلها ولو اجتمعوا لها وتظاهروا عليها.
وبالكلمة خلق الله العالم، وأنشأ الإنسان، وأوجد الخلائق، وبها يحيى الضمير، وينهض الإيمان، ويستوي الحق على عرش القلوب، وصدق جلَّ شأنه القائل: "ولو أنّما في الأرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلام والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحرٍ ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ" (لقمان:27)(18/98)
وبالكلمة القرآنية المعجزة وحدها خاض "النورسي " كفاحاً مُضنياً ضدّ الملاحدة من أشقياء أمته وأشقياء العالم طُرَّاً، وسلك بها الطريق إلى القلوب والعقول ليجدد ما خَلُقَ من الإيمان وما رَثَّ من عقيدة التوحيد، وقد بقي طوال حياته يقول: إنّ القرآن هو أستاذه الذي يتلقى منه دروس الإيمان، وأنه ليس له بأستاذٍ غيره، وإنّ هذا العصر هو عصر الكلمة، ومن حقَّ القرآن المعجز أن يتربع على عرش هذا العصر وأن تكون له الصدارة بين كلمات البشر. فمعجزات الأنبياء عليهم السلام، الحِسّية منها والمعنوية. والتي أشار إليها القرآن، وإن كان لها السبق الزمني على علوم البشرية وإنجازاتها الحضارية، غير إنها كانت في زمنها ومضات هاديةٌ وإشارات منبهة، وهي إرهاصات لما سيأتي به القابل من الزمان وكأنها تقول للبشرية بلسان الحال: هيّا أيها الإنسان تعلّمْ مني، وخُذْ الدّرسَ عني واستعمل عقلك وجهدك لكي تلحق بي، وتصل إلى ما وصلتُ إليه من خوارق في السماء والأرض والإنسان، كما يقول النورسي في مبحثه الخاص عن معجزات الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو ما تحاوله البشرية اليوم من خلال إنجازاتها العلمية والتقَنِيّة.(1)
10 ـ المتغير البشري والثابت الإلهي
وأكثر القضايا إشغالاً لأذهان أصحاب الفكر في هذا العصر، والمستريبين منهم بخاصة، هي السؤال الآتي:
كيف يمكن معالجةُ إشكالات المُتَغَيّرِ البشري بالثابت الإلهي؟! وبعبارة أوضح كيف تستطيع ثوابت الدين اللحاق بمتغيراتِ الإنسان عبر أزمانه المتتابعة؟! وإذا كانت الحركة والتغير أُمَّ الوجود، وجوهر الحياة فأين هو مكان الدين منها وهو ما هو عليه من ثوابت ليس من الدين في شئٍ المَسَاس بها أو محاولة تغييرها؟!.
__________
(1) انظر الكلمات – المقام الثاني من الكلمة العشرين ص277-283(18/99)
وعلى مثيري أمثال هذه الأسئلة ينطبق قوله تعالى: "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ"، لآن جوهر الإنسان وماهيته ثابتة من الثوابت لا تتغير أبداً، صحيح أنه ينمو ويكبر ويتطور، ويكتشف ويخترع ويبدع، وينشئ الحضارات، ويُشيّد الصروح، وينطح السماء، ويبني الفضائيات، وينزلُ على القمر، ويجول بين الأجرام، ويغُوصُ في الذَرّة، إلا أنَّ ماهيتهُ الإنسانية، وجوهر "إنيَّته" وخويصة روحه، وعمق وجدانه، ثابتة من الثوابت لا يطالها التغيير والتبديل.
ولا يطال التغيير والتبديل كذلك أشواقه إلى الخلود، وشغفه بالغيب، وخوفه من الموت، وإشفاقه من القبر وما بعد القبر، لأنها من ثوابت الإنسان في كل زمان ومكان. وهذه الثوابت في الإنسان تقابلها ثوابت في الدين، لأن تنزلات الأديان إنما هي في الأساس لتطمين أشواق الإنسان، ولتطمين إشفاقاته ومخاوفه، وهذا التطمين الذي يقدمه الدين للإنسان هو "العقيدة" كما اصطلح علماؤنا على تسميته، وهذا هو سِرُّ ثبات العقيدة وواحديتها عند جميع الأنبياء والمرسلين منذ آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.(18/100)
أما شرائع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام فتختلف باختلاف الأقوام، وباختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف النضوج العقلي والحضاري لديهم، ولهذا السبب فقد يرسل الله تعالى في زمن واحد عدة أنبياء إلى عدّة أقوام في أمكنة مختلفة، ولكل قوم شريعة خاصة بهم تبعا لمصالحهم الحياتية والمعاشية، وهكذا ظلّتْ شرائع الأنبياء ينسخ بعضها بعضا، ويكمل بعضها بعضا على مدى أزمان متعاقبة حتى استوتْ وتكاملتْ وبلغت القِمَّة في النضوج في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك لبلوغ البشرية سُنَّ الرشد، بحيث تستطيع أن تجد في هذه الشريعة كفاء حاجاتها المستجدّة، واشكالاتها المتغيرة من عصر إلى عصر لسعتها ومرونتها وثروتها الفقهية التي لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً لها، ولأن باب الاجتهاد فيها مفتوح لا يوصد أبداً حتى قيام الساعة، ويَحْسُن بنا أن نتطرق إلى رأي النورسي في هذه الصدد، حيث قال:
"تتبدل الشرائع بتبدل العصور، وقد تأتى شرائع مختلفة، ويُرْسَلُ رُسُلٌ كرامٌ في عصر واحد حسب الأقوام وقد حدث هذا فعلاً.
أمّا بعد ختم النبوة، وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم فلم يَعُدْ هناك حاجة إليى شريعة أخرى. لأن شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كلّ عصر.(18/101)
أمّا جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها التي تقتضى التبديل تبعا للظروف، فإن اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل، فكما تُبدّلُ الملابس باختلاف المواسم، وتُغيّرُ الأدوية حسب حاجة المرضى، كذلك تُبدَّلُ الشرائع حسب العصور، وتدور الأحكام وِفْقَ استعدادات الأمم الفطرية لأن الأحكام الشرعية الفرعية تتبع الأحوال البشرية، وتأتى منسجمة معها وتصبح دواء لدائها. ففي زمن الأنبياء السابقين عليهم السلام كانت الطبقات البشرية متباعدة بعضها عن بعض، مع ما فيهم من جفاء وشِدَّةٍ في السجايا، فكانوا أقرب ما يكونون إلى البداوة في الأفكار، لذا أتت الشرائع في تلك الأزمنة متباينة مختلفة مع موافقتها لأحوالهم وانسجامها مع أوضاعهم، حتى لقد أتى أنبياء متعددون بشرائع مختلفة في منطقة واحدة وفي عصر واحد.
ولكن بمجيء خاتم النبيين وهو نبيّ آخر الزمان - صلى الله عليه وسلم -، تكاملت البشرية وكأنها تَرَقّتْ من مرحلة الدراسة الابتدائية فالثانوية إلى مرحلة الدراسة العالية، وأصبحت أهلا لأن تتلقى درسا واحداً وتنصت إلى مُعَلَّمٍ واحدٍ، وتعمل بشريعة واحدة، فرغم كثرة الاختلافات لم تَعُدْ هناك حاجة إلى شرائع عِدّة، ولا ضرورة إلى معلمين عديدين.
ولكن لعجز البشرية من أن تصل جميعا إلى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية فقد تعدّدَتْ المذاهب الفقهية في الفروع.
فلو تمكنت البشرية –بأكثريتها المطلقة- أن تحيا حياة اجتماعية واحدة، وأصبحت في مستوى واحد، فحينئذٍ يمكن أن تتوحد المذاهب.
ولكن مثلما لا تسمح أحوال العالم، وطبائع الناس ببلوغ تلك الحالة، فإنَّ المذاهب تبعاً لذلك لا تكون واحدة.
فإن قلتَ: إنَّ الحقَّ واحدٌ، فكيف يمكن أن تكون الأحكام مختلفة للمذاهب الأربعة، ومذهب الإثني عشر حقاً؟(18/102)
الجواب: يأخذ الماء أحكاماً خمسة مختلفة حسب أذواق المرضى وأحوالهم المختلفة: فهو دواء لمريض حسب مرضه، أي تناوله واجبٌ عليه طُبَّاُ. وقد يُسَبّبُ ضرراُ لمريض آخر فهو كالسُّم له، أي يُحْرَمُ عليه طباً، وقد يولد ضرراً أقل لمريضٍ آخر فهو إذن مكروه له طلباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فَيُسَنُّ له طباً، وقد لا يَضُرُّ آخر ولا ينفعه فهو مباح له طباً، فليهناً بشربه.!
إنَّ الحق قد تعدّد هنا، فالأقسام الخمسة كلها حقٌ، فهل يصُحُ أن تقول: إنّ الماء علاجٌ لا غير، أو واجبٌ فحسب، وليس له حكم آخر؟!
وهكذا بمثل ما سبق، تتغير الأحكام الإلهية بِسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها، فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً، ويكون كل حكم منها حقاً، ويصبح مصلحة.".(1)
11 ـ النظر الشمولي عند النورسي
وإحدى خصائص النورسي الفكرية النظر الشمولي الجامع المُوَحِدُ، فيرى برؤية القرآن ناموسا ألهياً واحدا ينتظم جسد الوجود، وشريعة واحدة تهيمن على الكون وتشد مفاصله، والإنسان إنما هو نقطة الدائرة الكونية، والغاية من الخلق الكوني، ومن هنا لا ينفك القرآن يحث المسلم على محاورة الكون، والإصغاء إلى ما يقوله وإنْ يمكث غير بعيد منه، يتعرّف على شريعته ويتدارسها ويتساوق معها، ولا يناكفها أو يغالبها لأنه لا محالة تغلبه. وهي بالتالي تبقى في خدمة معارف الإنسان الإلهية، تعززها وتقويها، وتزيد الإيمان بأحقيتها، أضف إلى ذلك أن المادة الكونية هي الأساس في كل ما وصلت إليه البشرية من علم وقوة وتفوق في حاليها من الحرب والسلم يقول "النورسي ":
"الشريعة اثنتان:
إحداها: هي الشريعة المعروفة لنا التي تنظم أفعال وأحوال الإنسان، ذلك العالم الأصغر، والتي هي من صفة الكلام.
__________
(1) الكلمات – الكلمة السابعة والعشرون – ص 569-570،(18/103)
الثانية: هي الشريعة الكبرى الفطرية، التي تنظم حركات وسكنات العالم. ذلك الإنسان الأكبر والتي تأتي من صفة الإرادة. وقد يطلق عليها خطأ اسم "الطبيعة" والملائكة أمةُ عظيمة هم حملة الأوامر التكوينية وممثلوها وممتثلوها، تلك الأوامر الآتية من صفة الإرادة والتي تسمَّى بالشريعة الفطرية".(1)
وهذه المعرفة الكونية لا يمكن اكتسابها إلا من خلال إنسان ذكي ألمعي كثير الانتباه والانشداه، مُسْتَوفز الحواس، مرهف النظر خارقه، يرى في العادي غير العادي، وفي المألوف غير المألوف لا يرضى بالهوية دون الماهية، ولا بالصدف دون الجوهر، ولا بالقشر دون اللب، ولا بالظاهر دون الباطن، ولا بالسطوح دون الأعماق، فعلى أكتاف أمثال هذا الإنسان إزدهرت العلوم وقامت الحضارات، وهذا ما كان يريده النورسي من المسلم المعاصر أن يكون عليه. وإذا كانت هذه الصفات المذكورة آنفا هي من أولويات العقل العلمي، فهي كذلك من أولويات العقل الفلسفي، فالباعث في كلا العقلين واحد في الأساس، وهذا هو سر الجمع بين الفلسفة والطب عند كثير من رموز حضارتنا في القرون الوسطى حيث ما من طبيب في ذلك الوقت إلا وله قسط معلوم من الفلسفة، وما من فيلسوف إلا وله نصيب قلَّ أو كثر من الطب، قبل أن تتبلور المعارف ويستقل بعضها عن البعض الآخر ويصير لكل علم من يتفرغ له ولا يتجاوزه إلى غيره.
12 ـ الحضارة الإسلامية
والحضارة الإسلامية بكل ما تحويه من كنوز المعارف والثقافات، وما بَنَتْهُ من صروح، إنَّما هي حصيلة تجسدات روح الأمة وتشكلات خيالها السامي، وتفجرات عقلها المؤمن الحي، وتعشق ذاتها للحق، وشغف وجدانها بالجمال والجلال.
__________
(1) المكتوبات ص 613(18/104)
ولكن حين هَزُلَ هذا الوهج الحضاري، وخفتت أنواره، وجفَّ زيتُ اشتعاله وكاد ينطفئ ويظلم ولم يبق ما يذكر به إلاّ ذبالة مرتعشة ترتعش على وَجلٍ، وتوشك أن تنطفئ بأضعف نفخة من بين شفتي عصرها البئيس.. نعم حين حلَّ هذا الانكفاء الروحي المأساوي بالأمة، انبعث فجأة من هذه الذُبالة الراعشة سنا برقٍ ساطع أضاء كيانها حتى الأعماق، وطلع عليها الإمام الغزالي بكتابه الجامع الأم "إحياء علوم الدين" هذا المعمار الروحي. الإيماني العتيد، الذي لجأتْ إليه الأمة واحتمت، بأفكاره مما كان يَعُجُّ به النصف الثاني من القرن الرابع من صنوف الأعداء اللاّدينيّن، من زنادقة وفسقة وشعوبيين وباطنيين وفلاسفة ملحدين.
فما أكثر أوجُهَ الشبه بين القرن الرابع والقرن الرابع عشر من حيث الانكفاء الروحي، والضمور الإيماني الذي حاق بالأمة، وما أدقّ الشبه بين تلك الأصناف والنوعيات التي كادت للإسلام في القرن الرابع والتي تكيد له اليوم.(18/105)
وإذا كان "الإحياء" قد فعل فعله في عصمة الملايين من المسلمين من السقوط في أوحال اللادينية والتشككية، فإنّ "رسائل النور" النورسية تفعل فعلها اليوم في معاونة الملايين من المسلمين على المحافظة على دينهم وإيمانهم ومواجهة تحديات عصرهم التشكيكية والتكفيرية وكما كان "الإحياء" في عصره معلماً ومناراً إيمانياً يهدي الحيارى، وينير للتائهين. فان "رسائل النور" تقوم اليوم مقام "الإحياء" في أداء هذه المهمة، فتومض وتضئ وتنير للأجيال الحاضرة والآتية، لا سيما وان الزمن قد دار وكما بدأ عاد، وخرجت البشرية من بين زحام العلوم والفلسفات شاحبة متعبة منهكة القوى، وهي أشد عطشاً من أي وقت مضى إلى أنداء الروح وسُقيا السَّماء، ودلائل ذلك بَيَّنةٌ فيما تتناقله الأنباء عن حُمّى الاتجاه إلى الدين بشكل لم تعرف له الأزمان السابقة نظيراً، والى هذا اليوم الفاصل والحاسم بين القرون كان يشير النورسي حين تنبأ بأنَّ أجيال الآتي من الزمان ستكون أكثر فهماً له، وأعظم إذعاناً لفكره، وأصدق وفاءً لذكراه، وإنه لا يريد منها فيما إذا وقفت على قبره سوى أن تترحم عليه وتقرأ له الفاتحة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(18/106)
ماهية الإنسان
وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية
من خلال رسائل النور
(دراسة تحليلية نقدية)
الدكتور عمار جيدل
رئيس قسم العقائد والأديان
كلية أصول الدين
جامعة الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين.
اللهم نور قلوبنا بنور القرآن واجعل القرآن شفاء لنا من كل داء، ومونسا لنا في حياتنا وبعد مماتنا، واجعله لنا في الدنيا قرينا وفي القبر مونسا وفي القيامة شفيعا وعلى الصراط نورا ومن النار سترا وحجابا، وإلى الجنة رفيقا وإلى الخيرات دليلا وإماما بفضلك وحمدك وكرمك وإحسانك ورحمتك يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين،يا منزّل القرآن اجعل هذا الكتاب نائبا عني ناطقا بهذا الدعاء بدلا عني، إذا أسكت الموت لساني آمين، وألف آمين(1)، اللهم اجعل عملنا هذا خالصا لوجهك الكريم إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأكرمين وعلى من استن بسنته إلى يوم الدين.
د.عمار جيدل
الجزائر سحر يوم الجمعة
02 من جمادى الثانية 1421 هـ
الموافق 31 من أوت(أغسطس)2000 م
بين يدي البحث
يعد هذا الكتاب امتدادا لمسيرة رسم خطتها ووضع مبادئها بديع الزمان النورسي، وسلك طريقها الاخوة القائمون على مؤسسة الثقافة والعلوم في استنبول - تركيا العزيزة -، فقد كان لهم الفضل –بعد الله - في استنهاض الهمم ووخز الضمير الإسلامي من أجل المساهمة في تجلية هذا المسلك الراشد، وقد كان رأس أولئك الرجال الأستاذ قاسم الصالحي، فقد كان بتفقّده لأحوالنا ودعوتنا للمساهمة في تحليل رسائل النور أحسن سفير لتلك الرسائل، إذ رأينا فيه تجسيدا فعليا لها،فله منا كامل التحية والتقدير.
__________
(1) /مقتبس من دعاء النورسي،أنظر المثنوي العربي 79(19/1)
إن الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ هو سياحة علمية عقلية وقلبية في ثنايا واحات رسائل النور، كان في الأصل محاضرة معدة للمساهمة في المؤتمر العالمي الذي ينعقد باستنبول في 24-26/09/2000 حول "النظرة القرآنية للإنسان من خلال رسائل النور".
فقمنا برحلة إضافية - زيادة على ما سلف - وضافية في ثنايا رسائل النورسي انتقلنا فيها من دوحة إلى دوحة ومن ثمرة إلى ثمرة أحلى،… وهكذا دواليك إلى أن استوت كما هي بين يديك، تعيش فيها إن شاء الله تعالى مع بعض الدرر والجواهر التي حوتها تلك الرسائل،إنها محاولة–أحسبها جادة - في القراءة الاستثمارية لمنتجات علمائنا المعاصرين في ظل النفي المسلّط عليهم من قبل أقرب الأقربين، وفي ظل القيام ببعض ما لهم علينا، فنعمل إكراما لهم ولنا، بنفي النفي وإقصاء الإقصاء في ظلال القرآن الكريم، لا نريد بذلك إلا خدمة القرآن الكريم و خدمته.
مقدمة الطبعة الأولى
كان الإنسان وسيبقى المشكلة الكبرى التي انشغل بها الفكر البشري منذ أمد بعيد، وقد رام رجاله تجاوز تلك المشكلة بالإعراض عنها حينا، وبالعقل ومنتجاته حينا آخر، ومن هذا القبيل سلّم أمره للفلسفة على تنوع مناهجها وغايات أساطينها، كما استجاب أحيانا أخرى إلى ما جاء به الأنبياء عليهم السلام… وقد توخى كل أولئك الكشف عن ماهية الإنسان، ليتسنى في ضوئها معرفة حريته عند البعض، والقيام بالوظيفة الاجتماعية لدى البعض الآخر، فهل كان الشيخ النورسي ميالا إلى إحدى الاتجاهات السابقة؟ أم أنه اختار اتجاها خاصاً يتوافق مع الروح القرآنية التي ملكت عليه أنفاسه؟ وما هي هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم للصلة بين ماهية الإنسان وحريته ووظيفته الاجتماعية ؟ تقتضي الإجابة عن الإشكالية السابقة وضع مجموعة من الفرضيات:
1/ لماهية الإنسان في القرآن الكريم دلالة معيّنة مضبوطة يحكمها التوحيد بمفهومه الحضاري المؤسس على التوحيد العقدي.(19/2)
2/تعتبر ماهية الإنسان في القرآن الكريم محررة لحريته من مكبّلاتها، ومحددة لمسارها في العاجل انتصارا للآجل.
3/تعد تلك الحرية عاملا مهما في القيام بالوظيفة الاجتماعية المنتظرة، حتى ليخال للباحث أن المسلم يكون مفرّطا في القيام بوظيفته الاجتماعية بقدر تفريطه في حريته وماهيته.
4/ كان النورسي منضبطا بما حواه النص القرآني في تحديد ماهية الإنسان وأثرها صياغة حريته المتربّ عليها حسن القيام بوظيفته الاجتماعية.
5/حاول النورسي استثمار المنتج الثقافي الإسلامي في التعامل مع النص القرآني من خلال التوظيف المستمر لجهود المفسرين القدامى والمحدثين.
6/حاول النورسي صياغة نظرته اعتمادا على النص القرآني والنص القرآني وحده دون سواه كما يبدو من ظاهر بعض النصوص المنقولة عنه،فهل كان كذلك في حقيقة الأمر.
سنعمل على الإجابة عن تلك الفرضيات نفيا وإثباتا بإنجاز بحث عنوانه.
" ماهية الإنسان وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية"
من خلال رسائل النور
دراسة تحليلية نقدية
تعتبر مشكلة الصلة بين ماهية الإنسان وحريته من جهة وصلتهما بالوظيفة الاجتماعية للإنسان من أهم ما شغل الفكر البشري منذ أمد بعيد، إذ القول بأن الإنسان وجد هكذا دون ماهية، وما ماهيته إلا ما يصنعه هو لنفسه ،فتكون الحرية من جرّاء ذلك ما يريده الشخص نفسه، ما هي في حقيقة الأمر إلا نظرة كونية وفلسفية معيّنة، وفي إطار هذا الفكر، يتبادر إلينا السؤال الجوهري التالي: إذا تعارضت الحريات فلمن تكون الغلبة في آخر المطاف؟ هل تكون لفكرة مطلق الإنسان أم أنها تكون لشخص معيّن، فرض رأيه بأسلوب من أساليب القهر والتسلّط؟
ومن فرض رأيه كان له أن يحدد للناس - وفق قانون الغالب -الوظيفة الاجتماعية وفق ما حدد به حرياتهم،وهنا يتبادر إلى الأذهان التساؤل الآتي:(19/3)
ما موقف النورسي من هذه المقولة؟ وما هي ماهية الإنسان في فكر النورسي؟ وما الصلة بين الماهية والحرية عند هذا الرجل الفذ؟ وهل لهذا التحديد صلة بالوظيفة الاجتماعية؟
تلك هي التساؤلات المركزية التي تشغل الباحث ، وسيحاول الإجابة عنها، وفق الخطة التي رسمها في فرشة البحث.
المقدمة
كنت قد انتهيت في بعض ما كتبت عن النورسي إلى أنه شخصية قرآنية إلى النخاع، فقد جعل من أولويات التغيير المنشود بيان منزلة القرآن الكريم والسنة النبوية في سلم المعارف الإنسانية فضلا عن الإسلامية، إذ باكتشافها يتمّ التمييز بين المنتج المعرفي الزمني (والذي يجب أن يقرأ قراءة نقدية من قبل المتخصصين) والوحي الإلهي الذي جعله الخالق سبحانه وتعالى فوق الزمان والمكان، أي أنه يتعالى عن الخبرة المعرفية الإسلامية والإنسانية، ويسمح هذا الترتيب بتجاوز مجموعة من الأمراض النفسية والمعرفية، لعل أهمها:
* إهمال البعد الوظيفي للدين الإسلامي بسبب هيمنة الخبرة المعرفية (الزمنية) على الوحي (فوق الزمن)، وقد كان ذلك سببا في بعث الخلافات المذهبية من مرقدها.
* إشاعة القراءة التبركية أو التاريخية للقرآن والسنة المطهّرة،فأبعدت التلاوة الهدائية الخاشعة لله تعالى، وعوّضت بتعاويذ تكرّر هنا وهناك دون أن يكون لها أدنى أثر على أفعال المسلم.
* أبعد القرآن والسنة المطهّرة من خلال هذه القراءة من مصاف المصادر اليقينية للمعرفة الدينية (العقائد، والفقه، والأخلاق،..) كما أُبعد أيضا في مجال نشأة الكون وخلق الإنسان و مصيره.. (1)
__________
(1) / أنظر كتاب الحقائق الإيمانية عند النورسي (المنهج والتطبيق)عمار جيدل ، دراسة منشورة بمجلة الصراط العدد االثاني73-74(19/4)
وما دام الغرض من البحث وفق ما خطّه القائمون على المؤسسة هو الكشف عن الإنسان في مؤلفات النورسي، والنورسي كما بيّنا رجل القرآن، فإننا ملزمون من الناحية المنهجية ببيان أهمية القرآن بالنسبة للإنسان من خلال مؤلفات النورسي، فماذا يمثل القرآن بالنسبة للإنسان وفق ما ذكره النورسي؟
الفصل الأول
أهمية القرآن بالنسبة للإنسان
يعتبر القرآن الكريم مصدرا معرفيا وتربويا ضروريا من وجهين، أولهما جانب الموضوعات وثانيهما المناهج الموظّفة في بيان حقائقه.
يبيّن الأول أن القرآن مصدر اليقين في مسألة نشأة الإنسان الأول ووظيفته الكونية بالإضافة إلى معارف أخرى(1)، كما يعتبر ملفتا لانتباه العقلاء إلى المناهج المعرفية الواجب اتباعها في تحصيل كثير من المعارف(2).
يقول النورسي بعد ذكر أمثلة : " فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة...
وهنا نجد في القرآن الكريم آلافا من القرائن حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآنا منه،…"(3)
ويبيّن في سياق الجواب عن تساؤل البعض عن قولهم القرآن ما هو؟فيقول رحمه الله: "هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات الكريمات، مفسّر كتاب العالم… هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض… هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمرة في سطور الحادثات… هو لسان الغيب في عالم الشهادة…(4)
و ورد عنه أيضا "إن القرآن الكريم يلقن الحكمة ويربي الإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية فضلا عن رجحان القرآن الكريم على سائر الكلام وسموه على الأقوال قاطبة.(5)
وبتظافر هذين الجانبين يتحقق العديد من الأهداف المعرفية والتربوية:
__________
(1) /قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن/نديم الجسر 242،244،286
(2) /المعجزة الكبرى/ أبو زهرة357
(3) /الكلمات 151
(4) /إشارات الإعجاز في مظان المجاز 22
(5) /الكلمات 142(19/5)
* هداية البشرية إلى طريق السداد والرشاد، يبيّن ذلك ما يظهر في القرآن من صور أوفى وأرقى ما عرفت البشرية وعرف تاريخ الهدايات، فكانت في أبهى صور الإقناع شاملة لجميع مجالات الحياة. فقد "أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حكمها وأصغر فوائدها وثمراتها وأبهر دليل على ذلك هو كمال انتظام الشريعة النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشارته ورموزه…(1)
* تعريف البشر بمعبود هم سبحانه وتعالى، وتحقيق الأجر بالتلاوة: من قرأ حرفا من كتاب الله له أجر(2)، فكان طلب الثواب من التلاوة طريقا للمعرفة والالتزام.
قال النورسي: إن حكمة تكرار القرآن الكريم من (خلق السماوات والأرض) و(رب السماوات والأرض) إنما لأجل الإرشاد إلى هذه الحقيقة العظيمة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه"(3)
ولهذا حق لنا أن نقول بأن القرآن الكريم هو كتاب صلة الإنسان بالله والتي في كنفها تكون صلته بسائر أجزاء الكون، صلته بأخيه الإنسان، صلته بعالم الجماد ،…(4)، فهو كما قال النورسي كتاب قد نزل لأجل الإنسان.(5)
تجليات أهمية القرآن للإنسان:
تتجلى أهمية القرآن بالنسبة للإنسان في أدبيات النورسي من وجوه عديدة نجملها في النقطتين، أولاهما تتناول التجليات العامة، وتخصص الثانية للتجليات الخاصة:
أولا: التجليات العامة
__________
(1) /المرجع السابق141
(2) /أنظر بحثنا رسالة الإنسان في الإسلام 3
(3) /الكلمات178
(4) /العبادة في الإسلام/القرضاوي49-52
(5) /الكلمات 292(19/6)
1/ يؤكد النورسي في أكثر من موضع من كتبه على أن القرآن الكريم مرشد المؤمنين وأستاذهم وإمامهم ودليلهم في كل أعمالهم …وما تمدح كلماتهم في الحاضر أو المستقبل إلا بقدر ارتباطها بالقرآن الكريم(1)، ولهذا ما سمح لرسائل أن يكون لها القبول والانتشار إلا بسبب تعلّقها المباشر بخدمة القرآن الكريم وحقائقه.(2)
2/ القرآن الكريم يحتمي به المؤمنون لأنه قلعة عظيمة حصينة ، محفوظ يحفظه الرب الكريم بقوله تعالى ( إنّا نحن نزّلنا الذكر و إنّا له لحافظون ) (الحجر: 9) …لهذا لن تستطيعوا أن تدفعونا – باختيارنا - إلى طريق يؤدي حتما لآلاف الأضرار التي تلحق بحياتنا الأبدية خوفا من إلحاق ضرر بسيط باحتمال واحد من بين ألوف الاحتمالات بحياتنا الدنيوية القصيرة هذه"(3).
3/ جميع اللطائف العلية تتلقى من القرآن الكريم مباشرة، وهذا يدل على أنّ القرآن الكريم مثلما يعبر عن الحقائق في كل زمان فإنه يفيض بفيوضات الولاية الكبرى إلى من هو أهل لها في كل وقت".(4)
4/ القرآن الكريم كما هو منبع الحقائق فإنه أصل الكلمات التي تترجم أنواره التي تتجلى في وظائف عدّة ، فالأنوار المفاضة من القرآن الكريم ترشد العقل وتعلمه مثلما تلقن القلب أيضا بأحوال إيمانية كما تطعم الروح أذواقا إيمانية.(5)
5/ إن القرآن الكريم الذي هو رحمة للبشرية كافة، ومن مقتضيات تلك الميزة تراه يقبل المدنية التي تكفل سعادة العموم أو في الأقل سعادة الأكثرية المطلقة(6)، وبهذا أمدّه الخالق بعناصر البقاء والانتشار والفاعلية.
__________
(1) /المكتوبات 476-477،484
(2) /من أكر المعاني تكررا في رسائل النورسي
(3) /المرجع السابق537
(4) /المكتوبات 459
(5) /المكتوبات 460(بتصرف)
(6) /المكتوبات 606(19/7)
6/ مبنى الشريعة الإسلامية (1) على القرآن الكريم، وميزاتها مستمدة منه،فقد كانت تلك الشريعة بالقرآن وذلك باستنادها على الحق بدلا من القوة، والحق من شأنه العدالة والتوازن، وهدفها الفضيلة بدلا من المنفعة، والفضيلة من شأنها المودة والتجاذب،وحدتها الرابطة الدينية، ورابطتها الأخوة المخلصة والمسالمة الجادة والدفاع فقط عند الاعتداء الخارجي، دستورها في الحياة التعاون بدلا من الجدال والصراع، والتعاون من شأنه الاتحاد والتساند، وتضع الهدى بدلا من الهوى، والهدى من شأنه رفع الإنسان روحيا إلى مراقي الكمالات"(2)
7/ يحقق القرآن العدالة المحضة،فلا يسمح بهدر دم بريء ولا زهق حياته حتى ولو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء،لأنهما في نظر العدالة سواء كما كان في نظر القدرة سواء.(3)
ثانيا: التجليات الخاصة
1/القرآن الكريم تتعدى جمله المعنى الواحد، فهي في حكم الكلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطابا لعموم طبقات البشر،لذا فالمعاني المبيّنة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كل مفسّر، وكل عارف بالله جزءا من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما إلى كشفياته أو دليله أو إلى مشربه، فيرجّح معنى من المعاني…(4)
__________
(1) /استعملنا المصطلح الأصلي عوض قول النورسي الأحمدية خشية تلبّسها بالطائفة الأحمدية في الهند و باكستان.
(2) /المرجع السابق 607
(3) /المرجع السابق608
(4) /المكتوبات 422(19/8)
2/ وقد أكّد النورسي هذه المعاني في كثير من رسائله منها حين حديثه عن عمومية الخطاب القرآني، أنظر قوله: "إن القرآن أنزل وأنزلت مائدة سماوية، يوجد فيها كل أنواع ما تحتاج إليه طبقات نوع البشر المتفاوتين في اشتهاء الأفهام.. في المائدة أطعمة مترتبة، قدّم أولا في وجه السفرة الإلهية رزق الأكثر المطلق والجمهور الأعظم، أي العوام…(1)
3/ مراعاة القرآن الكريم لجمهور العوام وبساطة أفكارهم، فتراه يكرر ويكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السماوات والأرض فيقرؤهم الحروف الكبيرة الظاهرة التي تقرأ بكمال السهولة بلا شبهة…(2)
4/ يتضمن القرآن الكريم الأجوبة لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة البشرية بألسنة الأقوال والأحوال، تكرار الآيات الكلمات للدلالة على تكرر الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها، لتنبيه عرق الاحتياج وايقاظه، وتشويق الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج إلى تلك الأغذية.(3)
5/ و يتجلى كونه كتاب النوع الإنساني في رسائل النورسي في كثير من المظاهر لعل أهمها ما صرّح بها هو نفسه:
أ/ صرّح الشيخ النورسي أن مقاصد القرآن الكريم الأساسية وعناصره الأصيلة في كل جهاته أربعة: إثبات الصانع، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل (4)، وأضاف إليها في مواضع أخرى العدالة(5)، ولا شك أن المقصود بكل تلك المقاصد هو الإنسان لهذا حق لنا أن نقول أن القرآن الكريم هو كتاب الإنسان ، أو هو كتاب صلة الإنسان بالله.
__________
(1) /المثنوي العربي 223، انظر اللمعات 65، 178، 179، إشارات الإعجاز 20، 49، 227،
(2) /المثنوي العربي 280،أنظر أيضا 321…،و أنظر صيقل الإسلام 153
(3) /المثنوي العربي 70
(4) /صيقل الإسلام 29،120
(5) /المرجع السابق 155،انظر في هذه المعاني إشارات الإعجاز 61،..(19/9)
و يصرّح في مقام آخر أن المقصد الأعلى والأصلي إرشاد الجمهور إلى أربعة أساسات هي إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر والعدالة(1)، وقد أضاف إلى ما سلف العبودية في رسالة أخرى حيث يقول: " مقاصد القرآن الأساسية وعناصره الأصلية أربعة،التوحيد، والرسالة، والحشر، والعدالة مع العبودية"(2)
يبيّن لفظا الإرشاد والعبودية أن القرآن الكريم من خلال مقاصده كتاب الإنسان من جهة كون تلك الإرشادات والمقاصد موجهة في أصلها لخدمته في العاجل والآجل.
ب/ ورد عنه في أكثر من موضع أنّ القرآن الكريم كتاب الإنسان بما له من ميزات متعلّقة أساسا بالإنسان، فقد سماه الخالق سبحانه وتعالى ذكرا، وفرقانا، و …كلها تدل على وظيفتها في الإنسان الذي أنزلت من أجله، وقد عبّر عن هذا المعنى قول النورسي: "إن القرآن الحكيم كتاب ذكر، وكتاب فكر، وكتاب حكم، وكتاب علم، وكتاب حقيقة وكتاب شريعة، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين".(3)
ج/ المسلم يكون أهلا لتلك الصفة حال الالتزام بأحكام دينه، ولا يتأتى له ذلك الالتزام قبل معرفة منبع ذلك الدين وأساسه، معلوم أن القرآن الكريم مؤسس هذا الدين العظيم المتين ولأساساته، وأساسات لهذا العالم الإسلامي، مقلب لاجتماعيات البشر ومحولها ومبدلها، ولا بد للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد"(4)، لهذا فمن منطلق الحفاظ على التديّن في صورته الإيمانية الحفاظ على الموقع السامي للقرآن الكريم في المجتمع، وهو ما رام تحقيقه النورسي من خلال رسائله وأتباعه.
__________
(1) /إشارات الإعجاز 177
(2) /المثنوي العربي 75
(3) /المثنوي 231 ، 70
(4) /المثنوي 71(19/10)
د/ يحوي القرآن الكريم الجواب عن الأسئلة التي تساءل عنها الإنسان ونقلتها الحكمة منذ فجر التاريخ، فقد سأل النورسي الكائنات وتساءل معها من أين؟ وبأمر من تأتون؟ من سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ وما تصنعون؟ وإلي أين تصيرون؟(1)
هـ/ يعتبر القرآن الكريم منبع الإصلاح وخطواته على مستوى النفس والمجتمع، فهو منهل السبل الصائبة، وقد لخّصها النورسي في طريق العجز، والفقر، والشفقة، والتفكر(2).
و/ مزاوجة المعرفة القرآنية بين مطلبي القلب والعقل، وليس ذلك إلا لأن القرآن الكريم هو كتاب الإنسان، فكانت معرفة حضورية يعيش آثارها المؤمن بقلبه وعلقه ويترجمها إلى مواقف معيشة،قال النورسي: "المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم".(3)
وقال أيضا في سياق الحديث عن رسائل النور و خصائصها المستفادة من القرآن: "فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة … تحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراق لا يصل إليها نظر الفلسفة…(4)
6/ يساق جمهور الناس إلى اتباع القرآن الكريم وامتثال أوامره لما يتحلى به من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الانقياد أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي إذن أن تكون كل كتبنا المبنية عليه شفافة تعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجابا دونه، أو بديلا عنه.(5)
__________
(1) /صيقل الإسلام 29
(2) /المكتوبات 594-595
(3) /المكتوبات 425
(4) /الملاحق 105،أنظر 110،111
(5) /صيقل الإسلام 347(19/11)
7/ القرآن الكريم يمثل المواجهة الدائمة للتقليد بالتأصيل لما يحويه من الضروريات الدينية التي تنال منه مباشرة(1) بشوق ينبّه الوجدان إلى الاقتداء، من هذا المنطلق يعد القرآن أصل جميع المنتجات المعرفية عند المسلمين، وهذا يقتضي أن تكون تلك المعارف شفافة لعرض القرآن الكريم، ويتجلى هذا لأمر فيما يأتي:
أ/ الأصل أن تكون كتب الفقه شفافة لعرض القرآن الكريم وإظهاره، ولا تصبح حجابا دونه وفق ما آلت إليه من جرّاء بعض المقلّدين، لأنها أن التزمت بعرض شفاف للقرآن كانت بمثابة تفسير بين يديه وليست مصنفات قائمة بذاتها(2)، وهذا يعطيها عناصر الفاعلية في النفس البشرية لما تحويه خطابات القرآن من مزاوجة بين قناعة العقل وخضوع القلب.
ب/ ينبغي أن تقوم كتب علم الكلام أيضا على عرض شفاف للقرآن الكريم، وبالتالي تصبح أشبه بالتفسير لكتاب الله تعالى، وما غيابها عن التأثير في الماضي والحاضر إلا بسبب الغيوم الكثيفة التي ينتجها العقل الكلامي البعيد عن هدي القرآن الكريم، وقد عبّر عن هذا المعنى النورسي حين نقد أهله بإفراغه في مسلك طويل ذا مشاكل لعدم بقائه مصانا من الأوهام والشكوك.(3)
ويقول أيضا: "إن علماء علم الكلام و أئمة أصول الدين والمحققين الأفذاذ من أهل السنة والجماعة، بعد إجراء تحقيقات وتدقيقات كثيرة حول العقائد الإسلامية وإقامة المحاكمات العقلية والموازنات في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ارتضوا بدساتير في أصول الدين، تلك الدساتير تأمر بالحفاظ على مشرب (القرآن الكريم) رسائل النور الحالي، وتمدّها بالقوة…"(4)
__________
(1) /صيقل الإسلام 348
(2) /المرجع السابق نفسه
(3) /أنظر المثنوي 428
(4) /الملاحق 302(19/12)
ج/ وتنطبق الملاحظة نفسها على المنتج الإسلامي في التصوف، فقد كان بسبب العرض الناقص سببا في ابتعاده أحيانا عن التوسّط في تحقيق مقاصده، واقصر طريق لتبليغ مقاصد التصوف الالتزام بما حواه القرآن الكريم، فقد عبّر عنها بأقصر بأسلوب أوضح بيّن، لهذا على المتصوفة أن "يدركوا تماما سر الطريقة –في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها-"
وورد عنه في مقام التنبيه إلى البديل القرآني الهادف إلى المراجعة الدائمة للموروث بالقرآن الكريم: "إن آيات كثيرة من القرآن الكريم أمثال (وما الحياةُ الدنيا إلاّ متاعُ الغرور) (آل عمران: 185) تدل بوضوح على أن ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء (القرآن الكريم) ترجح ألف بستان في هذه الحياة الفانية (المنتج البشري) "(1)
الفصل الثاني
تبيّن مما سلف تقريره أن القرآن الكريم يعد كتاب صلة الإنسان بالله و من خلال تلك الصلة يضبط علاقته بعالمي الجماد والإنسان، ففي كنفها تحدد صلة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته بالحيوان والجماد وسائر المخلوقات، لهذا ليست هذه الصلة قضية معرفية يحشى بها العقل فحسب، بل هي بالإضافة إلى ذلك تعد أكثر من ضرورية من الناحية المعرفية (بوصفها منشأ التصورات وراسمة تنفيذها العملي) أولا، وكونها مسألة متعددة الأبعاد ثانيا، ففيها الجانب الاجتماعي والتربوي والفكري والاقتصادي.. ففي إطار تلك الصلة يتصرف الإنسان المسلم في علاقاته الاجتماعية والتربوية والاقتصادية.. فما من فعل إلا وتتدخل فيه إما في أصل الاتجاه نحوه أو تعديله أثناء العمل، لهذا تطفو تلك الصلة بضلالها على جميع ميادين الفعل الإنساني، وبذلك ستجلب عددا لا حصر له من الآثار الطيّبة على الإنسان والكون، منها على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) /المكتوبات 589-591(19/13)
1/ تمكّن هذه الصلة لبعد اجتماعي ظاهر بواسطة تحقيق مقصد معرفي، إن لتلك الصلة أثرا عظيما في وحدة المسلمين اللغوية والدينية في كلياتها، وهما عاملان رئيسان لتيسير التفاهم ثم التضامن، فتعظم شوكتهم، وتعلوا كلمتهم وفق ما أراده خالقهم منهم، إذ يعمل المسلك القرآني المطبّق في رسائل النور على تحقيق مجموعة من الغايات:
أ/ تحجب الكتب الفقهية بفعل بعض المقلدين الجامدين الحقائق الدينية الأصلية القرآنية، وذلك من خلال التركيز على النصوص الشارحة ممثلة في المنتج الفقهي وإبعاد أصل ما جعلت له شارحة، فتصبح تلك الكتب نصوصا قائمة بذاتها بعيدة عن الأصل الذي كان يجب أن تتحرك به وفيه، ولتجاوز هذا الخطر يقترح النورسي: " تحويل تلك الكتب الفقهية تدريجيا إلى كتب يستشف منها فيض القرآن الكريم، أي يصبح تفسيرا له، ويمكن أن يتم هذا باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتب ما يشبه كتب الأئمة المجتهدين من السلف الصالح أمثال "الموطأ " لمالك بن أنس، و"الفقه الأكبر" لأبي حنيفة النعمان، فعندئذ لا تقرأ هذه الكتب وغيرها بقصد ما يقوله مؤلفو تلك الكتب، بل يقرأ لأجل فهم ما يأمر به القرآن الكريم، وهذا الطريق بحاجة إلى زمن مديد.(1)
ب/ ووفق المسلك السابق عملت رسائل النور على إعادة الاعتبار للقرآن الكريم من خلال " شد أنظار الجمهور إلى مستوى أعلى من تلك الكتب –التي أصبحت حجابا - أي شدها إلى القرآن الكريم وإظهاره فوقها دائما، مثلما يفعل أئمة التصوف، وعندها تؤخذ الأحكام الشرعية والضرورات الدينية من منبعها الأساس وهو القرآن الكريم".(2)
__________
(1) /صيقل الإسلام 348 بتصرف
(2) /المرجع السابق 248-249(19/14)
ج/ يحقق بعث الاهتمام بالقرآن الكريم التمييز بين الأحكام الشرعية والضرورات الدينية - المأخوذة من منبعها الأساس وهو القرآن الكريم – والأمور الاجتهادية التي ترد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها"(1)، وبالتمييز يقضى على كثير من موارد سوء التفاهم الواقع بين المسلمين بسبب تغييب القرآن الكريم عن الصدارة في التأسيس لدينهم وأخلاقهم، وبهذا نتجاوز خطر مزج الضرورات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية.(2)
د/ ميزة القرآن الكريم أنه كتاب التوحيد والوحدة، فتتجلى فيه الوحدة الثقافية للمسلمين، وتوحيدهم لخالقهم، ولا يتحقق ذلك المقصد على مستوى التصرفات اليومية إلا إذا قمنا " بتوجيه حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، ينال الكتاب المبين من الرغبة والتوجه – الناشئة من الحاجة إليه – أضعاف أضعاف ما هو مشتت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامره الجليلة مطبقة منفذة كليا، وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك بتلاوته فحسب ".(3)
هـ/ يحقق القرآن الكريم وحدة المشرب والمنبع الذي تستقي منه كل تلك التخصصات وجميع المذاهب ،كما يحقق رغبة الجميع بالحفاظ عليه والنهل منه، لهذا " لا يستطيع أي أحد حتى ولو كان من أهل البدع وفي أي مكان كان الاعتراض على هذا المشرب، ولما كانت حقيقة الإخلاص محفوظة فيه حفظا تاما يستطيع أي نوع من أنواع أهل الإسلام الدخول في دائرة رسائل النور، فالمتعصّب في تشيّعه، والمغالي في وهابيته، وأشد الفلاسفة مادية… وأكثر العلماء أنانية وتزمتا… (4)
__________
(1) /صيقل الإسلام 349
(2) /صيقل الإسلام 349
(3) /صيقل الإسلام 349
(4) /الملاحق 202- 303(19/15)
2/ كانت هذه الصلة عاملا مهما للمحافظة عليه وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا غيره من الكتب الإلهية، وهي من بين الطرق التي يحمي القرآن بها نفسه بنفسه وينفذ حكمه(1) وهي بمثابة حماية ذاتية.
إن القرآن الكريم هو كتاب صلة الإنسان بالله ومن ثم بالكون وأخيه الإنسان، فيضبط كثيرا من تصرفاته في عالم المعرفة والموقف الاجتماعي وسائر شؤون الحياة، وهذا بما يضع من موازين ضابطة لكثير مما يحتاجه في شؤون معاشه ومعاده، فهو مصدر الفقه (الضابط لتصرفاته المدنية والدستورية و..) وهو مصدر التربية الروحية (الضابطة لحركات نفسه وقلبه والكاشفة لأمراضهما..)، من هذا المنطلق ولما له من أهمية في حياتنا الدينية والدنيوية حمي من التحريف سواء بالزيادة أو بالنقصان، بل كان الرجوع إليه عاملا مهما في المراجعة الدائمة لتفاسيره الفقهية والعقدية التحليلية منها والموضوعية، فقد الرجوع إلى القرآن عاملا رئيسا في الاستدراك على مؤلفات المتقدمين واستثمارها.
3/ اقتضت حكمة الله أن يكون طريق طلب أجر تلاوة القرآن الكريم، سلما ضروريا للعروج إلى التدبر في القرآن الكريم والاهتداء بهديه طلبا للآخرة.(2)
قال النورسي: " لما كانت قراءة كل حرف من القرآن الكريم فيها عشر حسنات أو مائة حسنة أو ألفا من ثمرات الآخرة أو ألوفا منها، فلا يعد إذن إيضاح سعيد القديم لنكات دقيقة تخص كلمات القرآن الكريم إسرافا في الكلام"(3)
وقفة مع النورسي في مسألة منزلة القرآن
تعد مشكلة إبعاد القرآن الكريم عن الصدارة في التأسيس للمعارف الإسلامية (فقها وتصوفا وعقيدة) من أبرز القضايا التي شغلت المجددين في التاريخ الإسلامي المعاصر.
__________
(1) /الكلمات 878
(2) /رسالة الإنسان في الإسلام/جيدل عمار3
(3) /إشارات الإعجاز 19(19/16)
فقد كان بالإمكان إندراس المحتوى القرآني بواسطة الخبرات الثقافية والتربوية الإسلامية من خلال تغليب ذلك المنتج في التأسيس للنظرة الإسلامية في الحياة والحضارة على نصوص الوحي الإلهي، فكاد أن يغيّب المحتوى القرآني لولا أن قيّض الله سبحانه وتعالى تكرما منه رجالا حاولوا إعادة الاعتبار للقرآن الكريم من خلال إزالة الحجب الكثيفة التي وضعها التعصّب والتقليد دون القرآن الكريم، فظهرت من جرّاء ذلك محاولات عديدة لبعث القراءة الهدائية للقرآن الكريم، ولكنها للأسف وقعت تحت طائلة ما خيف منه اندراس القرآن الكريم.
ظهرت في العصر الحديث والمعاصر كثير من المحاولات على أيدي عدد لا يستهان به من العلماء الأعلام، يرجعها بعضهم إلى محاولات متقدمة، فقد قيل بأن أول ظهور كان بقيادة الشيخ ابن تيمية ثم تلميذه الوفي ابن القيم.
أما أولى المحاولات في العصر الحديث فكانت بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم بدأت التجارب تترى ،فظهرت محاولات السنوسي ومحمد بن عبد الوهاب محمد الطاهر بن عاشور(1) عبد الحميد بن باديس(2) ومحمد إقبال ومحمد بن زاهد الكوثري ومصطفى صبري وحسن البنا وسعيد حوى.. (3) وسائر المصلحين.
__________
(1) /أنظر أليس الصبح بقريب/ محمد الطاهر بن عاشور(من أحسن ما كتب في نقد العلوم الإسلامية من النواحي المتعلّقة بموضوعات العلوم أو مناهجها.
(2) /أنظر كتابه العقائد الإسلامية/ابن باديس.قدمه كبديل عن المسالك الكلامية مع استصحاب كثير من المنتج الكلامي السابق في صياغة المباحث أو ترتيبها وهو بهذا ممن يرفضون البداية الصفرية في التأسيس المعرفي بل وحتى الموقف الاجتماعي.
(3) /أنظر جولات في الفقهين الكبير والأكبر/سعيد حوى، يعد من أروع الاتجاهات الداعية إلى الاستثمار الأمثل لمنتجاتنا المعرفية في شكلها الفقهي والعقدي والتربوي بل وحتى المنطقي و…(19/17)
ويؤكد تحليلنا ما ذكره العلامة المجدد عبد الحميد بن باديس في ثنايا مقاله الموسوم بعنوان " بما تنهض الأمة نهضة دينية "
قال رحمه الله: "والقرآن في غير موضع منه يدعو إلى العقد الحق المبني على العلم واليقين، المبني على المحسوس في باب المحسوس، وعلى المعقول في باب المعقول " ولا تقف ما ليس لك به علم" "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" وهكذا ينهى عن الاكتفاء بالظن إلا حيث ى سبيل إلى غيره.
ثم يضيف قائلا : "الأعمال، وللإنسان أعمال، وهي مبنية على فكر وغرائز وعقائد،فإذا كانت هذه مستقيمة كانت مستقيمة، وإذا كانت معوجة كانت أعماله مثلها، ولكن القرآن لم يكتف في نهضة الأعمال بهذا الاستلزام، بل تتبع أصول الأعمال فوضع لها قوانينها على قواعد الحق والصدق، والرحمة والعدل والإحسان.
و خلص بعد هذا العرض إلى النتيجة الآتية: فالقرآن - بعد البيان الموجز - بان لكم أنه كفيل بنهضة الإنسان نهضة حقيقية تبلغ إلى بقاع السيادة والكمال، وهنا تم البرهان العلمي، على أنه لا نهضة لنا دينية إلا بالقرآن.(1)
فقد تحرّك هذا العلم وغيره ممن أشرنا إليهم أعلاه بسبب ما رأوه من ابتعاد عن القرآن في الحياة وشؤونها الثقافية والمدنية، فراموا مشكورين إزالة موانع عودة القرآن إلى الصدارة، وقد بذلوا وسعهم في تحقيق ذلك المقصد، ولكنهم لم يكونوا على مسلك واحد في تصوّر العودة إلى القرآن الكريم ، فوقع بعضهم تحت طائلة الإقصاء فلخّص القرآن في فهمه أو فهم أعلام معينين، فكانت هذه القراءة سببا في تضييق ما وسّعه الخالق الحكيم، ويعود سبب ذلك إلى مجموعة من الأمراض لعلّ أهمها:
__________
(1) /آثار عبد الحميد بن باديس /دار البعث-الجزائر- الطبعة الأولى1408 هـ/1985 م ، الجزء الرابع 49(19/18)
*/ الإقصائية المتشرّعة ، فعوض أن يكون القرآن الكريم سببا في الوحدة جعل سببا في الفرقة بسبب القراءة غير الهدائية وغير المخلصة، إذ قصرت أهدافها على نصرة فلان وإذلال علان عوض أن يكون هدفها إرشاد النفس والآخر بالتربية القرآنية، وما وقعنا في هذا المطب إلا بسبب تغليب الولاء للمذاهب والجماعات على حساب الولاء لله تعالى.
*/ البداية الصفرية بسبب إلغاء كل منتجات الخبرة المعرفية الإسلامية دون تمييز بين صالح وطالح، حتى صارت قاعدة محكّمة، فقيل كل ما جاءنا من منتجات السلف لا يصلح أن يبني قصرا أو يزيّن مصرا، وقيل نرفض البعض دون البعض، فرفض بعضهم كل المنتج السابق فكفر بالمذهبية (رغم كونها ضرورة موضوعية) في الفقه والطريقة في التصوف... فدعا إلى رمي كل ذلك المنتج في البحر(1)، وعمل البعض الآخر على رفض تخصص دون تخصص فدعا إلى نبذ علم الكلام وإلقاء كتبه في سلة المهملات التاريخية، و.. وللأمانة فقد كان غالب تلك التيارات رافضا للبداية الصفرية داعيا إلى استثمار الصالح من خبرات أسلافنا وتجاوز الفاسد منها، ورغم هذا الاتفاق فقد اختلفوا في درجة الاستفادة، وقد وفق كثير منهم في تحقيق المراد، وكان على رأس هؤلاء الموفقين في تحقيق المقصود العلامة النورسي القائل: "فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها (الرسائل المستفادة من فيض القرآن الكريم) ما ينجيه من مزالق الأفكار الفلسفية، بل يمكن أن يستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائد إيمانية وعلم كلام جديد في غاية القوة والرصانة لرد ضلالات هذا الزمان، بل يمكن أن يختلط عقله وقلبه، أو التحق قلبه بعقله المتشتت في آفاق الكثرة أن يستنبط منها طريقة كسكة الحديد متينة أمينة يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم…" (2)
__________
(1) / أنظر مواقف الوهابية من علم الكلام والتصوف
(2) /المثنوي العربي 206(19/19)
إننا نقر من البداية أن أصل فكرة رسائل النورسي تعود بالدرجة الأولى والأساسية إلى التجاوب الفاعل مع المعطى الثقافي الجديد، لهذا فهي محققة لمقاصد الأعلام المشار إليهم أعلاه تبعا لا أصالة، إذ كان القصد الأساسي من تأليف هذه الرسائل المرابطة دون القرآن بالقرآن من أجل الحيلولة دون التشويش على حقائقه الإيمانية التي يريد الغرب وبمساعدة بعض أبناء وطننا (للأسف) من خلالها إبعاد القرآن عن الصدارة في المعرفة الدينية والأخلاقية والاجتماعية والكونية في كثير من صورها، وقد رام بذلك المحافظة على مكاسب الدعوة بتمتين صلة أتباعها بالقرآن بعد أن حيل بينهم وبين سائر دوحات الثقافة الإسلامية بالقوة حينا وبالقانون حينا آخر، ولم يقف عند حد المدافعة بل جاوزها إلى المرافعة عن الحقائق الإيمانية المستفادة من القرآن الكريم بغرض تحرير مساحة إضافية للقرآن الكريم وحقائقه في قلوب المسلمين المعاصرين، ومن ثمّ تهيئة جو طاهر صالح لكسب مجموعات جديدة إلى صفوف الدعوة النورسية.
وبهذا يختلف النورسي عن المتقدمين، فقد كانت إكراهات الكتابة عنده مباينة لإكراهات أولئك الأعلام على الكتابة، وتقاسمها بعض الهموم والغايات الجزئية التي راموا تحقيقها أصالة وحققت عنده تبعا.
الإكراهات التي أظهرت رسائل النور:
لم يكن الاشتغال برسائل النور فكرة وتحقيقا برنامجا وتنفيذا من قبيل الاستجابة للحاجة التعليمية فحسب، بل كانت بدافع ما فرض من تحديات يمكن أن تبعد القرآن وحقائقه من المجتمع العثماني وبشكل نهائي، فكيف العمل في ظل هذه الظروف؟(19/20)
هل نبقى مشتغلين ومنشغلين (بل ومشغّلين) بالمعارك الهامشية - وإن كانت مهمة ومطلوبة ولكنها ليست من الأولويات– مثل المرافعة عن العلوم الشرعية واللغة العربية والمحاكم الشرعية ،أم أننا يجب أن نحمي الأصل الذي تنبعث منه كل تلك النتائج المدافع عنها – اللغة، والمحاكم، والشريعة،… – هكذا يتصوّر النورسي المعركة وطبيعتها، ومن ثم يفرض هذا التحليل اختيار مسلك متجاوب مع التشخيص، فكان الخيار في أسهل ما يكون.
اختار النورسي المرافعة عن الأصل، فكان رحمه الله قائد معركة المرابطة عن القرآن وحقائقه، وقد صرّح بذلك في أكثر من مناسبة، حيث يقول في بعضها: " ما دامت خدمة الإيمان أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأن التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا ترقى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محورا لها، فينبغي الاطمئنان بما منحنا ربنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين"(1)
و يذكر بأسلوب تربوي هادف في سياق عرض ومناقشة أهم القضايا التي يجب أن تصرف لها الطاقات وتتعلّق بها الهمم، وذلك في ثنايا بيان بعض وظائف المهدي (المنتظر) فيقول: "في هذا العصر تيارات قوية ومسيطرة إلى درجة تستحوذ على كل شيء، تستولي عليه، وتتملكه، وتسخره لأجلها، فلو أتى الذي ينتظر مجيئه حقا هذا العصر، فإنني أرى أنه يغيّر هدفه، ويجرّد نفسه من الأجواء والأحوال الدائرة في عالم السياسة، حفاظا على أعماله من أن تغتصبها تلك التيارات.
__________
(1) / الملاحق 135(19/21)
و يضف قائلا: ثم هناك ثلاث مسائل هي: الحياة، والشريعة، والإيمان، وأن مسألة الإيمان هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمها في نظر الحقيقة، بيد أن " الحياة "، و" الشريعة " تبدوان في نظر الناس عامة وضمن متطلبات أوضاع العالم أهم تلك المسائل، ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة الله الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر (المهدي) لو كان موجودا في الوقت الحاضر لاتخذ أعظم تلك المسائل و أهمها أساسا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تفقد خدمة الإيمان نزاهتها وصفاءها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس - الذين يمكن أن يستغفلوا ببساطة – أن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر.(1)
وبعبارة أخرى فهذا العصر حسب رأي النورسي هو عصر الإلحاد والزندقة والفوضى والإرهاب، لهذا فأهم ما تبذل له المهج هو إنقاذ الإيمان وطريقه الاعتصام بحقائق القرآن الكريم.(2)
الفصل الثالث
__________
(1) / الملاحق 136
(2) /أنظر الملاحق 263، 344(بتصرف)(19/22)
تتفق مؤلفات النورسي في عرض مسألة ماهية الإنسان وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية، إذ تدور القضية بتفاصيلها حول فكرة مركزية تستهدف تحقيق" مقاصد إنسانية عليا على اختلاف مراتبها، ومكملاتها، وفق المصالح التي يفتقر إليها الوجود البشري"(1)، و إنزال المقاصد الإنسانية منزلة المحرّك للأداء الحضاري في تصور النورسي جعله يركّز على الجانب التربوي التذكيري في بيان المسألة وتبليغها ،فعرضت المسألة في أدبياته في قالب عقلي قلبي يقنع العقل ويحرّك الجوان والوجدان في اللحظة نفسها وذلك لما عرف به من منهج تربوي ظاهر، بناه أساسا على بيان المؤاخذات التي يلام عليها الغافلون عن المسالك الإيمانية التي رسمتها وظيفة المسلم المتحرّك بما أملته ماهيته التي حددها خالقه، يؤكد الفكرة في جعله الإنسانية منتهى المطالب الدنيوية المنتظرة من الإيمان،حيث يقول: "حتى إن ما يطلق عليه "الإنسانية" التي هي قصيدة حكيمة منظومة تعلن إعلانا لطيفا جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزة قدرة باهرة جامعة كالنواة لأجهزة شجرة دائمة باقية(2).
و لتحقيق هذه المقاصد الإنسانية في الإنسان حدد له الخالق الماهية والوظيفة وزوّده باستعدادات فطرية ووسائل تكملية وطرق تذكيرية تيسر له تحقيق تلك الغايات السامية، ومن ثمّ كانت الغفلة عن تلك الماهية وما تزال وستبقى، - مع عدم النظر إلى ما وهب من استعدادات - سببا في ضياع المقاصد الإنسانية في الفعل البشري.
__________
(1) /من فلسفة أصول سياسة التشريع الدولي الكفيلة بإقامة التكافل الاجتماعي في الإسلام (5) / فتحي الدريني .بحوث خاصة بأقسام الدراسات العليا في الجامعة الأردنية.
(2) /الكلمات/النورسي،ترجمة إحسان قاسم الصالحي 361(19/23)
فالكفر مثلا يقذف الإنسانية من القمة السامية العالية التي جعلها عليها خالقها إلى أدرك الدركات هي أذلّ وأدنى من أي مخلوق ذليل فانه عاجز ضعيف فقير، بل يرديها إلى دركة أتفه الصور القبيحة الزائلة سريعا..(1) وهكذا تتحول الإنسانية من صورتها الحيّة - خلافة الأرض - التي تفوّقت بها على الأرض والسماوات إلى صورة ميّتة ومميتة.
من هذا المنطلق سعى النورسي في مجموع مؤلفاته نحو تحقيق هذا المقصد، ولورمت بيان ذلك من خلال المجموع لما جئت بشيء إضافي غير ما حواه بعض تلك المؤلفات من هذه الزاوية، ورغم ذلك فقد أثريت البحث بمجموع ما حوته مؤلفاته".
وقبل سرد التفاصيل، لنا أن نتساءل من الناحية المنهجية، ما المراد بالماهية وما هي الوظيفة المناطة بصاحب هذه الماهية وما صلة كل ذلك بحرية الإنسان ووظيفته الاجتماعية.
أولا: ماهية الإنسان
مصطلح الماهية في أدبيات النورسي قليل الورود، ويريد به في السياقات التي أوردها فيها - وخاصة في مقام الحديث عن الإنسان - حقيقة الشيء، لهذا فماهية الإنسان حقيقته، وتتجلى تلك الحقيقة في أن منحه الحق سبحانه وتعالى منزلة أكرم من منزلة الملائكة، رافعا إياه إلى مرتبة الخلافة(2)…وعرّفه بهذه الماهية فسماه خليفة ،يشغل رتبة الخلافة في الأرض ويحمل مهمة الأمانة الكبرى(3).
__________
(1) /المرجع الاسبق361
(2) /المرجع السابق 94،64
(3) /المرجع السابق81(19/24)
ويحسن بنا قبل الانتقال إلى حقيقة تلك الماهية أن نتحدّث عن الماهية من حيث هي عند النورسي، يذكر في خلاصة اللمعة الثالثة أن "الإنسان بما أودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع أغلب الموجودات بأواصر ووشائج شتى، ففي تلك الماهية الاستعداد غير المحدود للمحبة ما يجعله يكنّ حبا عميقا تجاه الموجودات عامة، فيحب الدنيا العظيمة كما يحب بيته، ويحب الجنة الخالدة كما يحب حديقته"(1)، ويؤكد هذا المعنى في اللمعة الأولى حيث يقول: "الإنسان بما يحمل من ماهية جامعة يتألّم من الحمى البسيطة كما يتألم من زلزلة الأرض وهزاتها ويتألم من زلزال الكون العظيم عند قيام الساعة.. وما دام الأمر هكذا، فلا معبود له ولا رب له ولا مولى ولا منجا ولا ملجأ إلا من بين يديه مقاليد السماوات والأرض وزمام الذرات والمجرات.. فلا بد أن هذا الإنسان بحاجة ماسة دائما إلى التوجه إلى بارئه والتضرع إليه" (2)
وقد حددت تلك الماهية بالخطاب الإلهي "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "(البقرة 30)، فقد صرح في الآية بمسألة خلافة البشر ولوّح بها إلى مظهرية هذا النوع للخلافة الكبرى في الأرض لمح بهذه احتجاجا عليها إلى أن الإنسان هو النسخة الجامعة والمظهر الأتم لكل التجليات لتنوع استعداداته وتكثّر طرف استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات بحواسه الخمس الظاهرة والباطنة لا سيما بوجدانه الذي لا قعر له"(3)
وبدرجة حفاظ الإنسان على ماهية أو غفلته عنها تكون قيمته،" إن قيمة الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيته بدرجة همته.. وهمته بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.(4)
__________
(1) /اللمعات 21-22
(2) /اللمعات 9
(3) /إشارات الإعجاز 240
(4) / إشارات الإعجاز 82(19/25)
لهذا فالبشر رغم خلقهم على ماهية معلومة ودور محدد في الحياة إلا أنهم ينحرفون عن تلك الماهية بفعل التربية أو الوضع الاجتماعي، وهذا ما نعمل على بيانه حين الحديث عن الصلة بين الماهية والحرية من جهة وصلتهما بالوظيفة الاجتماعية من جهة أخرى.
والإنسان بتلك الماهية وهب مفتاح العالم في يده ونفسه، فالكائنات مع أنها مفتحة الأبواب منغلقة، فالحق سبحانه أودع من جهة الأمانة في الإنسان مفتاحا يفتح به أبواب العالم، وطلسما يفتح به كنز خلاّق الكون.(1)
ولكنه يحافظ على تلك الماهية ويترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة إلى أوج الخلافة بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، و سوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة إيمان عقله، ثم أنظر كيف صارت أسباب سقوطه من العجز والفقر والعقل أسباب صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني"(2) إنسان الماهية الإنسان الخليفة.
فقد خلق الإنسان ليكون فاتحا وكاشفا، وبرهانا نيّرا، ودليلا مبصّرا، ومعكسا نورانيا، وقمرا مستنيرا للقدير الأزلي، ومرآة شفافة لتجلي الجمال الأزلي، وقد انجلت وتصيقلت بحمل الأمانة التي تدهشّت من حملها السماوات والأرض والجبال، إذ من مضامين تلك الأمانة صيرورة الإنسان واحدا قياسيا لفهم الصفات المحيطة.(3)
وبيّن أن الحديث في هذا السياق عن مطلق الإنسان في أصل خلقه، قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم"، فهي ماهية لجميع أصل بني آدم عندما أعدّهم خالقهم لعمارة الأرض والسير فيها باسمه والعمل بأمره، لهذا فهي بمثابة منبه أساسي لما من شأنه أن يؤسس للتقارب العملي بين بني آدم، بل ويدعوهم إلى المطالبة بالمساواة وتجسيدها العملي بالحجة حينا والتذكير في كثير من الأحيان، وقد رام بذلك التحقيق النظري والعملي للمساواة بما يأتي:
__________
(1) /المثنوي العربي 227-228…229
(2) /المثنوي العربي 58
(3) /المثنوي العربي 303(19/26)
1/ التنبيه إلى أصل المادة التي خلقوا منها، فقد خلقهم البارئ المصوّر من مادة واحدة، وما التعبير عن مختلف المواد التي خلقها منها إلا تعبيرا عن المراحل التي مر بها خلق الإنسان.
2/ أصل بني الإنسان يرجع إلى أب واحد وأم واحدة، وهو بمثابة التنبيه العملي إلى ضرورة تجاوز التكبّر والتعجرف بوصفها أمراضا تصيب الإنسان حين الغفلة عن الأخوة الإنسانية المحددة بالأبوة الواحدة.
3/ نبّههم الخالق في القرآن الكريم إلى أنهم تناسلوا بطريقة واحدة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات 13)، لهذا فسبب التكبر ليس إلا من قبيل الغفلة عن هذه الحقائق التي يريد الخالق تجسيدها وتركيزها في الفطر البشرية بأسلوب تذكيري.
وهكذا ورد الإعلان الإلهي خلقتم لتعارفوا فتعاونوا فتحابوا، لا لتناكروا فتعاندوا فتتعادوا، إذا كما أن هناك روابط تربط الجندي روابط تربط الجندي بفصيلته وفوجه ولائه وفرقته في الجيش، وله واجب ووظيفة في كل منها، كذلك كل إنسان في المجتمع له روابط متسلسلة ووظائف مترابطة، فلو اختلطت هذه الروابط والوظائف ولم تع، وتحدد لما كان هناك تعاون ولا تعارف.. ينتعش هذا الشعور الإيجابي بنمو الشفقة على بني الجنس التي تدفع إلى التعاون والتعارف.(1)
4/ مصيرهم واحد، وما دام مصيركم واحدا و هو السير نحو الموت، فلما التكبر والأنانية والغرور، والتميّز عن سائر الناس، إنها بسبب الغفلة عن الحقائق التي يريد القرآن ترسيخها في قلوب البشر وعقولهم.
__________
(1) /صيقل الإسلام 334-335 (بتصرف)(19/27)
بيّن أن " قيمة الإنسان المؤمن قيمة ما فيه من الصنعة العلية، والصبغة الغالية ونقوش جلوات الأسماء"(1)، فهو رفيع القيمة بالنسبة لسائر المخلوقات، مكرّم نفيس غير ذليل في صورته وحركته، مفضّل بالمشاهدة، مهيمن على سائر الكون بما منح من تدبير وتفكير، وقد زوّد بذلك بسبب ما أعد له من وظيفة نوعية متناغمة مع الماهية التي حددت له "إني جاعل في الأرض خليفة"، وظيفة يندرج فيها كل بني آدم، يشهد لهذا ما ورد عن ابن مسعود وابن عباس في بيان الآية السابقة: "يحكمني في الحكم بين خلقي، وذلك هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين الخليقة"، ويعضده ما ورد في الأثر: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في كتاب الله ورسوله"، ويشهد له أيضا أن أمر الملائكة بالجود له، وسخّر له الكون وذلك له، ومتّعه بكرامة ذاتية (جعله مهيئا للتعلم والتعليم والرقي الأخلاقي والفني)، ويؤكد مجموع ما سبق بيانه أن الإنسان متميّز عن سائر المخلوقات تميّزا ذاتيا (بما استودعه الله فيه) وتميّزا وظيفيا بما كلّفه الله به (عمارة الكون على وفق مراد الله) جعلا منه كائنا مسؤولا.(2)
قال النورسي: إن الفرد الإنسان جماعة من المكلفين، ولكل فرد من حواسه ظاهرا وباطنا عبادة تخصّه، وضلالة تفسّقه، فكما أن سجدة الرأس لغير الله ضلالة، كذلك سجدة خيال الشعراء بالحيرة المفرطة الوالهة في مدح غير الله…وقس على الخيال إخوانه.(3)
__________
(1) /المثنوي العربي 378
(2) /رسالة الإنسان في الإسلام/جيدل عمار
(3) /المثنوي العربي 323(19/28)
ويوضّح في سياق آخر بعبارات سلسة سهلة ماهية الإنسان الممثلة أساسا في الخلافة التي تعني في أخص معانيها العبودية الكاملة لله تعالى، فيقول: "اعلم أن الفاطر الحكيم إنما ركّب في وجودك هذه الحواس، والحسيات والجهازات لإحساس أنواع نعمة، ولإذاقة أقسام تجليات أسمائه، فما غايات حياتك، وما حقوقها، إلا إظهارك لآثار تجليات أسمائه، وتشهير غرائبها لدى أنظار المخلوقات.. وما إنسانيتك إلا شعورك بهذه الوظيفة وما اسلاميتك إلا إذعانك بهذه المظهرية".(1)
آثار فكرة الماهية
الأثر المعرفي الأثر التربوي
1/اكتشاف المنزلة الحقيقة
1/رفض الإذلال أو الذل
2/التحرر المعرفي من الأساطير
2/نشر التكريم
3/تشجيع الروح النقدية
3/رفض فكرة التمييز بين البشر
4/تدفع إلى التبليغ بعد الاقتناع
4/رفض الاستخفاف بالآخر
5/تشبع الفضول
5/الدفاع عن المستضعفين
6/التواضع مع الخلق لله عزّ وجلّ
ورغم قيمته الرفيعة التي عرّفنا القرآن بها (ولقد كرّمنا بني آدم) (الإسراء 70)، فقد صوّره في شقه الثاني كائنا تافها بالنظر إلى مادة خلقه، وطريقة تخلّقه (التوالد المستمر)، فهو مخلوق من تراب، ثم من سلالة من ماء مهين، وإن طالت به العمر عاد إلى الضعف الذي كان فيه في بداية نشأته ومع ذلك يغلب عليه التكبّر والتعجرف، قال تعالى منبّها ومرشدا "فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب" (الطارق 6-7)،.. إدراك هذه الحقيقة في سياق الإحاطة بوظيفته وماهيته يشعره بحاجة الناس جميعا لله تعالى من خلال حاجته هو نفسه.
وما يحررّه من أسر الدنيا إلا التذكر المستمر لماهيته، وبها يرتفع الإنسان من كونه مخلوقا صغيرا وحيوانا ضعيفا وذا شعور عاجز إلى مقام رفيع ومرتبة عالية، بل إلى أرقى مقام عزيز مكرم على جميع المخلوقات".(2)
__________
(1) /المثنوي العربي 386
(2) /الكلمات698(19/29)
وما وقع البشر فيما وقعوا فيه من ويلات ومصائب إلا بسبب غفلة بعضهم وتكبّر وغفلة الآخر بقبول الاستخفاف، وما وقع في ذلك إلا حين نسيا الماهية أولا والنزوع إلى جزئه التافه على حساب جزئه العلوي، وكلتاهما جريمة لا تقل إحداهما شناعة عن الأخرى، من حيث كونهما غفلة عن التكريم الإلهي المجسّد في الماهية المحددة بالخلافة.
ثانيا : الماهية والوجود
يعرض النورسي المسألة في سياق الحديث عن حياة الكافر والملحد من جهة وحياة المسلم من جهة أخرى، يقول النورسي: "لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث أنه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها إلى هاوية العبث، يوهم عدم وجود الغاية من إيجادها.. إنه تحقير بيّن للكائنات كلها وإنكار لما يشاهد..)(1)
يظهر مما سلف أن الكافر لا يتصور ماهية للوجود سواء تعلّق الأمر بالآفاق أو بالأنفس، ولا شك أن هذا الموقف أملته الرغبة في الدنيا والغفلة عن الآخرة، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الغافلين عن الله تعالى، يظنون أنهم هم الذين يصنعون ماهياتهم، وبالتالي تكون الماهية بعد الوجود، ولا شك أنّ هذا الرأي مخالف لبدائه العقول وما دل عليه صحيح المنقول الصريح.
يتجلى مما سلف أن الماهية قبل الوجود في الفكر الإسلامي الأصيل يشهد لهذا المعنى أن الله تعالى خاطب الملائكة بماهية الإنسان قبل تحقيق وجوده العملي "إني جاعل في الأرض خليفة"، لهذا فالماهية لم يحققها الإنسان بعد الوجود بل حددها له خالقه قبل إيجاده الميداني.
__________
(1) /الكلمات 64(19/30)
يقول النورسي في تفسير الآية وخاصة في الشق المتعلّق بشاهدنا "(جاعل) على (خالق) إشارة إلى أن مدار الشبهة والاستفسار الجعل والتخصيص لعمارة الأرض لا الخلق والإيجاد، لأن الوجود خير محض والخلق فعله الذاتي لا يسأل عنه" ،فتساءل الملائكة عن سر التخصيص بعمارة الأرض، مما يدل على أن ماهية الإنسان كانت في العلم الإلهي قبل الوجود الفعلي للإنسان على ظهر الأرض، فهو محدد الماهية سلفا قبل الوجود، وقد صرّح في السياق نفسه بهذه المعاني، وخاصة في قوله: "(خليفة) إشارة إلى أنه قد وجد قبل تهيئ الأرض لشرائط حياة الإنسان مخلوق مدرك ساعدت شرائط حياته الأدوار الأولية للأرض وهذا هو الأوفق لقضية الحكمة"(1) فيدل النص بطريقة الإيماء أن الإنسان حددت ماهيته قبل أن تهيأ الأرض له، وهذا مؤكد أن ماهية الإنسان قبل وجوده في المصادر الإسلامية.
يشهد لهذا في أدبيات النورسي قوله مخاطبا نفسه: فيا نفسي (لغرض تربوي) الغافلة، إن كنت تريدين أن تفهمي شيئا من غاية حياتك، وماهية حياتك، وصورة حياتك، وسر حقيقة حياتك، وكمال سعادة حياتك.. فانظري إلى مجمل "غايات حياتك" فإنها تسعة أمور، حدد من خلالها الربط بالخالق الذي حدد الماهية قبل الوجود المعبّر عنها بقوله"غايات حياتك".(2)
ومن هنا تتحدد العلاقة بين الماهية والحرية، فما هي الصلة بينهما.
الفصل الرابع
حدد الشيخ النورسي ماهية الإنسان في كونه خليفة وفق ما بيّنها الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل، ومن ثمّ فالصلة بين الإنسان وحريّته جلية في إطار هذه الفكرة المركزية.
الإنسان في أدبيات النورسي من حيث صلته بماهيته، إما أن يكون مستحضرا لها وإما أن يكون غافلا عنها، هو في الأولى مجسّدا لحريته وفي الثانية غافلا عنها،مجسّدا لأنانيته وحبّه للتغلّب والأثرة، فكيف ذلك؟
__________
(1) /إشارات الإعجاز 235
(2) /الكلمات 138(19/31)
يؤكد هذه المعاني في قوله: وما قيمة الدين عند الإنسان وكيف أنه لولا الدين الحق (الإسلام) لتحولت الدنيا إلى سجن رهيب(1)، وهكذا فإن فقد الدين الذي معناه الذهول عن الماهية سيكون سببا في فقد الحرية، فيصبح مكبّلا بهواه سجينا في دنياه وإن كان في بحبوحة من النعيم، لأن من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقة ومعنى(2) من خلال وقوعه أسير النفس والهوى والشيطان.
لهذا فالإنسان الحر في فكر النورسي هو الإنسان الكامل المستحضر الدائم لماهيته، وبالتالي يسوق جميع اللطائف التي خلق مزوّدا بها إلى مقصوده الأساس وهو عبادة الله تعالى، فيسوق القلب كالقائد كل لطيفة منها ويوجهها نحو الحقيقة بطريق عبودية خاص بها. مصداقا لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب"(3)، وعند ذلك تسير الكثرة الكاثرة من اللطائف جنودا في ركب عظيم وفي ميدان واسع فسيح بقيادة السلطان (القلب)، كما هو لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم(4)، وبهذا يتحرر الإنسان من عدّة معوّقات:
1/المعوّق الأول: فقد الانسجام مع الكون والحياة.
2/المعوّق الثاني: فقد الانسجام بين الأعضاء.
3/المعوّق الثالث: فقد الانسجام بين بني آدم.
وتحقيقا لهذه المقاصد فإن إنسان القرآن يقصد الحق ويتحراه دوما، وفق ما يحمله من فطرة مكرّمة، وقد يعثر على باطل فيظنه حقا ويحافظ عليه، وقد يقع عليه الضلال من دون اختيار وهو ينقب عن الحقيقة، فيظنه حقا ويصدقه.
__________
(1) /الكلمات 31
(2) /الكلمات 37
(3) /أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان، وهو جزء من حديث نصه:"الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما المشبّهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإنّ لكل ملك حنى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه…"
(4) /المرجع السابق582(19/32)
ومادامت حقيقة الحياة هكذا (دار فتنة) فقد دعاه خالقه إلى ترك الغرور والأنانية، وطلب منه إعلان العجز والضعف أمام عتبة باب الألوهية، إعلان بلسان الاستمداد، ولا يكون ذلك إلا بالإفصاح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهر بأنك عبد للّه خالص قائلا "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وبهذا ترتفع وترتقي في مدارج العلا(1)، طريق الأنبياء والشهداء الأتقياء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وإياك أن تسلّم بقول الغافلين لسنا بشيء وما أهميتنا حتى يسخّر لنا هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي، إنك بحسب وظيفتك ومنزلتك مشاهد فطن، ومتفرج ذكي على الكائنات العظيمة، وذلك اللسان الناطق البليغ باسم هذه الموجودات الحكيمة.(2)
وكثيرا ما يعرض مسألة الصلة بين الماهية والوجود في ثنايا الجواب عن التساؤل الآتي: ما أهمية هذا الإنسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا أخرى لمحاسبته على أعماله؟
فكان جوابه: "لأن هذا الإنسان، هو سيّد الموجودات رغم أنه صغير جدا، لما يملك من فطرة جامعة شاملة… فهو قائد الموجودات والداعي إلى سلطان ألوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومظهرها، لذا فإن له أهمية عظمى"(3) ولتيسير تجاوب الماهية مع الوظيفة ملّكه الله سبحانه وتعالى فطرة سامية(4) وهكذا أصبح الإنسان مكرّما بالخلافة والأمانة، وارتقى بذلك إلى مرتبة القائد والشاهد على المخلوقات، فهل يمكن أن يذهب إلى القبر لينام هادئا دون أن ينبّه ليسأل عن كل صغيرة وكبيرة من أعماله، ودون أن يساق إلى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلا ثم كلاّ.
__________
(1) /المرجع السابق 370
(2) /المرجع نفسه
(3) /المرجع السابق63
(4) /م/س81(19/33)
نعم إن الإنسان الذي أنيط به-من بين جميع المخلوقات – مهام عظيمة وزود باستعدادات فطرية كاملة، إن لم يعرف ربه (بالإيمان) بعد أن عرّف سبحانه نفسه إليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وإن لم ينل محبته بالتقرب إليه بـ"العبادة" بعد أن تحبب إليه سبحانه بنفسه وعرّفها إليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وإن لم يقم بالتوقير والإجلال اللائقين به "بالشكر والحمد" بعد أن أظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة.. نعم، إن لم يعرف هذا الإنسان ربه هكذا، فكيف يترك سدى دون جزاء، ودون أن يعدّ له ذو العزة والجلال دارا للعقاب؟(1)
ولما كانت ماهية الإنسان عالية وفطرته جامعة فهو محتاج بألف حاجة وحاجة إلى ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى وإلى كثير جدا من مراتب كل اسم، فالحاجة المضاعفة هي الشوق، والشوق المضاعف هو المحبة المضاعفة، والمحبة المضاعفة هي العشق، فحسب تكمّل روح الإنسان تنكشف مراتب المحبة وفق مراتب الأسماء، محبة جميع الأسماء أيضا تتحول إلى محبة ذاته الجليلة تلك الأسماء عناوين وتجليات ذاته جلّ وعلا.(2)
__________
(1) /م/س 67
(2) /م س768(19/34)
يشبه الإنسان البذرة فلقد وهبت أجهزة معنوية من لدن القدرة الإلهية وأدرجت فيها خطة دقيقة ومهمة جدا من لدن القدر لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرع والانتقال من ذلك العالم المظلم بلسان الضيق إلى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة.. فقد أودعت في ماهيته أجهزة مهمة من لدن القدرة الإلهية، ومنح برامج دقيقة وثمينة من لدن القدر الإلهي، فإذا أخطأ هذا الإنسان التقدير والاختيار، وصرف أجهزته المعنوية تحت قرى الحياة الدنيا وفي عالم الأرض الضيق الحدود، إلى هوى النفس، فسوف يتعفّن ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذة جزئية ضمن عمر قصير وفي مكان محصور وفي وضع متأزم مؤلم وستتحمل روحه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحل من الدنيا خائنا خاسرا.(1)
وجعله مخاطبا كليا له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى.. فهل يقبل العقل، يعطي للإنسان أجرة دنيوية زهيدة، زهادة شعرة واحدة، مع أنه أناط به وبحواسه مهاما ووظائف هي بعدد شعرات رأسه؟ فهل يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل الذي لا معنى له ولا مغزى خلافا لعدالته الحقة، ومنافاة لحكمته الحقيقية؟ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
فهل يمكن أن يهب سبحانه للإنسان كل هذه الوظائف ثم لا يهب له غاياتها ونتائجها وثمارها وهي السعادة الأبدية؟(2)، إنه ضرب من المحال الذي ليس بعده محال ، لهذا يحدد النورسي في أكثر من موضع الغاية من وجود الإنسان والتي جعلت من حرية الإنسان لحمتها وسداها، بحيث لا يتصور وجود تصّرف سوي من إنسان غير حر، بمعنى لا يمكن تصوّر إنسان مهمل أو غافل عن ماهيته يتصرّف تصرفا سويا، إذ مجمل غايات الحياة المحددة في تسعة أمور دالة بنفسها على الحرية التي يتمتع بها الإنسان الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون خليفته (صارفا نفسه لما جعل له "خليفة الله")، ويتجلى هذا الأمر فيما يعرف بتجليات الصلة بين الماهية والحرية.
__________
(1) /م س362-363
(2) /م س94(19/35)
تجليات الصلة بين الماهية والحرية:
يقوم الحر بمفهوم الشريعة في إطار ماهيته بأعمال تدل بنفسها على غائية الماهية وهدفية السير إلى الله بحيث تصبح الحرية عنصرا عضويا في الماهية نفسها، وبنفس القدر تكون محرّكة للمسار وضامنة لأبعاده الإنسانية، ومجمل تلك التجليات في فكر النورسي تلخّص فيما يأتي:
أولها:
القيام بالشكر الكلي، ووزن النعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك، ولا يمكن أن يقوم بذلك من كان غافلا عن ماهيته.
ثانيهما:
فتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى بمفاتيح الأجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جلّ وعلا بتلك الأسماء الحسنى، ومن تنازل عن حقيقته التي خلقه مولاه عليها لا يمكن أن كذلك.
ثالثها:
إعلان ما ركّبت فيك الأسماء الحسنى من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، وإظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلم وشعور، وبجوانب حياتك كافة في معرض الدنيا هذه، وفاقد الحرية لا يمكنه ذلك.
رابعها:
إظهار عبوديتك أمام عظمة ربوبية خالقك، بلسان الحال والمقال، وما فعل ذلك غافل عن ماهيته.
خامسها:
التجمل بمزايا اللطائف الإنسانية التي وهبتها لك تجليات الأسماء، التجمّل بيّن من صيغته أنه فعل إرادي والذي يمكن صدوره من فاقد لحريته غافل عن ماهيته.
سادسها:
شهود مظاهر الحياة لذوي الحياة، شهود علم وبصيرة، وهو كسابقه من حيث صيته لا يمكن تصوّر صدوره من فاقد حريته، المكبّل بهواه وأنانيته.
سابعها:
معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل، وشؤونه الحكيمة، يقصد في هذا المقام المعرفة الوظيفية التي تورّث خشية وخشوعا.
ثامنها:
فهم الأقوال الصادرة من كل موجود في العالم وإدراك كلماته المعنوية فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه، ولا شك أنّ الغرض منه التحرر من معوّقات الحرية.
تاسعها:(19/36)
إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنطوية في نفسك(1) من أدرك ذلك بقلبه وعقله حرّره مولاه من الهوى والنفس الأمارة بالسوء فضلا عن إبليس وجنوده.
من هذا المنطلق كان الكفر عاملا رئيسا في محو الماهية الإنسانية وتعطيل آثارها المقصودة من قبل الشارع الحكيم، ويقرب من الكفر والإلحاد الأمراض النفسية، إذ بها يعطّل الإنسان المريض المقاصد الإنسانية من التشريع في جميع جوانبه، فيصبح الغرور قاعدة في التعامل، وتفتقد بذلك الآداب والعواطف الإنسانية التي جاء الإسلام من أجل ترسيخها من خلال بيان ماهية الإنسان التي تعتبر الزخم الذي تستمد حركة التغيير منه وقودها وقوتها الدافعة.
لهذا فإن الإنسان إذا آمن بالله وحده وأصبح عبدا له وحده، فاز بموقع مرموق فوق جميع المخلوقات، أما إذا استنكف من العبودية وتجاهلها فسوف يكون عبدا ذليلا أمام المخلوقات العاجزة، وإذا تباهى بقدرته وأنانيته،فسيكون أضعف من النملة والنحلة من جهة الخير والإيجاد،بل أضعف من الذبابة، وسيكون أثقل من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.. وتتمخّض عن ذلك ويلات لا حصر لها فتهان الإنسانية وتبتذل بل وقد تصبح في أدرك الدركات.(2)
وهكذا يتجلى أن الحرية في العبودية لله تعالى وهي المسلك الوحيد الذي يحرر الإنسان من معوّقات فعل الخير الفكري والاجتماعي والتربوي و.. وبالتالي فالحرية في الاستحضار الدائم للماهية، وما فقدت الحرية إلا بسبب التعلّق بالدنيا والغفلة عن الماهية الحقيقة للإنسان، أنظر ذلك في كل ما يحيط بك من تصرفات اجتماعية وفكرية وتربوية وسياسية.
الحرية والعبودية:
__________
(1) /م س138
(2) /الكلمات 360(19/37)
يستغرب بعض الناس اجتماع الحرية والعبودية في رحاب واحد بسبب فهمهم الحرية بمعناها السلبي ،الذي هو يفيد الانعتاق من واحد (عبادة الله) - بغرض جلب لظاهر المنفعة له ولسائر الكون - والوقوع في أسر مجموعة من القوى المتشاكسة التي لا تقوم إلا على نفي الآخر ثم تلقي بصاحبها في غيابات سجون النفس والهوى والشيطان.. فيكثر شرّه ويقل خيره، وتصبح أغلى متعته رؤية الناس يعذّبون أو يتعذّبون.
فأين هذا المسلك ممن باع نفسه لله تعالى، إذ يعيش في حرية تامة من أسر الشهوات وكل ما من شأنه أن ينزل به من أعلى المراتب الإنسانية المبيّنة في ماهية الإنسان إلى أدرك دركات البهيمية، لهذا فإن الإنسان الذي "الذي ينتسب إلى سلطان الكون برابطة الإيمان ويكون عبدا له تتنزّه شفقته الإيمانية عن التجاوز على حرية الآخرين وحقوقهم، مثلما تترفّع عزته عن التنازل بالتذلل للآخرين والانقياد لسيطرتهم وإكراههم… إن خادما مخلصا صادقا مخلصا للسلطان لا يتذلل لتحكّم راع وسيطرته، كما لا يتنازل أن يفرض سيطرته على مسكين ضعيف، فبمقدار قوة الإيمان إذن تتلألأ الحرية وتسطع، فدونكم خير القرون، العصر السعيد، عصر النبوة والصحابة الكرام.. (1)
ويقول في موضع آخر: "الحرية بالنسبة للإنسان تولّد العبودية لله سبحانه"، ومن ثمّ كان الفكر الملي (الديني الإسلامي) والد الحرية في فكر الشيخ النورسي.(2)
مدلول الحرية:
يستعمل النورسي تقييدا في استعمال لفظ الحرية، فيقول الحرية الشرعية تمييزا لها عن الحرية غير الشرعية التي مقتضاها خضوع صاحبها لمطالب نفسه من نزوات وغيرها..
__________
(1) /صيقل الإسلام 395،394
(2) /صيقل الإسلام 396(19/38)
الحرية الشرعية وفق اسمها محررة بما جاءت به الشريعة الإسلامية من قيود، وهي تعني التحلي بأسمى ما يليق بالإنسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع، إنها ترشد البشرية إلى سبل التسابق والمنافسة الحقّة نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزّق أنواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيّج المشاعر الرفيعة لدى الإنسان"(1)، تلك هي الحرية المثمّنة بالعبادة، إنها تقول بمضامينها" لا تحسبنّ ما سوى الله تعالى أعظم منك فترفعه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسبن أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه، إذ يتساوى ما سواه في البعد عن المعبودية وفي نسبة المخلوقية"(2).
وكمال تلك الحرية المثمّنة بالعبودية أن لا يتكبر عن الإنسان وأن لا يستهزئ بحرية الآخرين.. تلك هي الحرية الإنسانية كالشمس وهي معشوقة كل روح، وصنو جوهر الإنسانية، وما هي إلا التي تربّعت على قصر سعادة المدنية وتزيّنت بحلل المعرفة وحلي الفضيلة والتربية الإسلامية.(3)
نتائج الحرية الشرعية:
تأمر الحرية الشرعية النابعة من العبودية المثمّنة بالإيمان، بأوامر رئيسة لا تنفك عنها في كل الأحوال:
1/الحرية بمفهومها الشرعي تعني أن لا يذلّل المسلم ولا يتذلّل، فالمسلم عبد لله ومن كان عبدا لله لا يكون عبدا للعباد(4) مهما كانت مراكزهم ومناصبهم.
2/أن يتحرر المؤمن من أن يجعل غيره عبدا له أو مربوبا له دون الله، إذ من لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعا من الربوبية لكل شيء في كل حسب نسبته فيسلّطه على نفسه.
لهذا كانت الحرية على قول النورسي عطية الرحمان وتجل من تجليات الخالق الرحمن الرحيم وهي خاصة من خصائص الإيمان.(5)
__________
(1) / صيقل الإسلام 500
(2) /اللمعات 175
(3) /صيقل الإسلام 392-394 (بتصرف)
(4) /صيقل الإسلام 514
(5) /صيقل الإسلام 514(19/39)
وهكذا كانت الحرية الشرعية محققة لما جعلت له من خلال تصفيتها من الأدران والملوّثات بالإيمان المترجم في مواقف العبودية والتذلل بين يدي الخالق سبحانه وتعالى.
الفصل الخامس
تبيّن ماهية الإنسان أنه موظّف وضيف على تعبير النورسي: إن الإنسان أرسل إلى الدنيا ضيفا وموظفا ووهبت له استعدادات مهمة جدا،وعلى هذا أسندت له وظائف جليلة، وليكد ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رغّب ورهّب لإنجاز عمله، ولهذا فإن وظيفته (الخليفة) ليست الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وإنما السعي والدأب لحياة خالدة.(1)
يقول النورسي في التأسيس لهذا المعنى مخاطبا لنفسه من خلال الآخر، وذلك بطريق النصح: "اعلم أن من وظائف حياة الإنسان شهوده لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة، ثم الشهادة عليها، أي يشاهد عبادة الكل فيشهد عليها ويعلنها كأنه ممثل الكل ولسانهم يخبر الكل بعمل الكل في الإعلان لدى سيدهم".(2)
أسس الوظيفة:
بيّن مما سلف أن ماهية الإنسان هي "الخلافة " وتقتضي هذه المهمة القيام بوظيفة عبادة من استخلفه على الأرض، ومن مقتضياتها عمارة الأرض على وفق مراد الله سبحانه وتعالى، وللقيام بهذه المهام وضعت مجموعة من الضوابط تحكمها في جميع مراحلها.
1/النظرة التوحيدية للكون:
كلّف الله الإنسان بمهمة الاستخلاف في إطار نظرة كونية متكاملة شاملة بالنسبة لموضوع التكليف وتنوّع المكلّفين ومستوياتهم، فهي تحكم صلة الإنسان بالله تعالى، وصلة الإنسان بأخيه الإنسان، وصلته بسائر المخلوقات، فمحور تلك النظرة مبدأ التوحيد أساس العقيدة الإسلامية ومحرّك جميع أبعادها المعرفية والسلوكية والاجتماعية والفردية بل وباعثها حين الغفلة بالتذكير.
قال النورسي: إن سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا روح التجاوب والتعاون من كل جانب.. يبيّن :
__________
(1) /الكلمات371،300
(2) /المثنوي العربي 347(19/40)
أنه ليست إلا قدرة محيطة بالعلم كله، تخلق الذرة وتضعها في موضعها المناسب، فكل حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة، وتعرّف الواحد الآخر، فيلبي النداء أينما انطلق، وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها، إذ توجّه القدرة كل حرف حي إلى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها.(1)
وهكذا يظهر جليا أن التوحيد ينسحب على جميع ميادين الفعل الإنساني ومجالاته المنظورة (عالم الشهادة) وغير المنظورة (عالم الغيب)، لهذا تتناول المسألة جوانب عدة، تتلخّص فيما يأتي:
أ/الجانب الأول: الجانب الإلهي من النظرة التوحيدية
يعتبر هذا الجانب ركن الزاوية في النظرة التوحيدية، بوصفه العامل الفعّال في جوانب الفعل الإنساني، فهو يعني توحيد الخالق في أفعاله وصفاته وذاته، فالله تعالى موصوف بكل صفات الكمال منزّه عن جميع صفات النقصان، وهي المعرفة المركزية التي تنسحب على جميع ميادين الفعل البشري، وهي التي بمقدورها جعل فعله فعلا إنسانيا، "إذ الإنسان بمثل هذه العبادة والتفكّر يصبح إنسانا حقا ويظهر نفسه أنه في "أحسن تقويم" فيصير بيمن الإيمان وبركته لائقا للأمانة الكبرى وخليفة أمينا على الأرض "وهذا هو أساس مجمل الوظائف الإنسانية وسر العبودية.(2)
ويقول النورسي أيضا: "إن الإيمان يجعل الإنسان إنسانا حقا، بل يجعله سلطانا، لذا كانت وظيفته الأساس "الإيمان بالله تعالى والدعاء له" بينما الكفر يجعل الإنسان حيوانا مفترسا في غاية العجز".(3)
ب/الجانب الثاني:الجانب الكوني
__________
(1) /الكلمات841
(2) /أنظر المرجع السابق 373، 372
(3) /السابق354(19/41)
العالم بجميع مكوناته فعل الله تعالى، لهذا فالعالم واحد من ناحية المبدأ ومادة المنشأ والمصير، فلم يوجد العالم من أصول متعددة ولا يعود إلى أصول متعددة، وجد من أصل واحد وحقيقة واحدة "قل الله خالق كل شيء"(الرعد: 14)، ويعود إلى مصير واحد "ألا إلى الله المصير" (الشورى:53)(1)
وبهذا يتحرر الإنسان في علاقته مع الكون من الخوف ويحثّه على استثمار الكون وفق مبدأ التسخير، ومن ثمّ الانتفاع به ماديا ومعنويا، باستثمار خبراته والتأمل فيه بغرض كشف أسراره، وتذكّر الله به لمن رام هذا المقصد ثم التذكير به لما تضمنّه من آيات وبراهين ربانية، أمعن النظر في ملامح الأرض وسمائها، وفي مطرزات تعاريجها، ونقوش انحناءات سطحها، وإلتواءات جسمها، ولاحظ شكلها وألوانها الزاهية المتنوعة بتنوع تربتها، والتي تتسم بالحكمة والإبداع، وتثير الحيرة والإعجاب.. فدونك الأنهار والسواقي والبحار والجداول وسفوح الجبال، فإنها كلها قد هيئت ومهدت لتكون سكنا للمخلوقات ووسائط نقلهم من مكان إلى آخر"(2)
وقد استعمل النورسي من خلال النظرة التوحيدية للكون بعض أجزائه للاستدلال بها على خالقه، منها قوله: "إن الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد أصبحت مشهرا لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشرا لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممرا لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجدا لعباده المتراصين صفوفا عليها، ونقرا لأداء عباداتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نورا وضياء"(3)
ووردعنه أيضا: "إن التساند، والتعاون، والتجاوب، والتعانق، والتسخير، والانتظام الجاري في هذا الكون يشهد شهادة قاطعة أن مدبرا واحدا يديره، ومربيا واحدا يسوق جميع الكون بما فيه"(4)
__________
(1) /نظام الإسلام العقائدي في العصر الحديث/محمد المبارك 25-30،النظرة التوحيدية للعالم /مرتضى مطهري29-30
(2) /الكلمات 811
(3) /المرجع السابق812
(4) /المرجع نفسه 338(19/42)
ويبيّن هذه المعاني في سياق حديثه عن ثمار التوحيد فيقول مؤسسا لهذه الأسرار: إن الكون بسر التوحيد ،هو بمثابة ملك مجسم عظيم جدا بحيث له مئات الألوف من الرؤوس، بل بعدد أنواع الموجودات في كل رأس مئات الألوف من الأفواه، بل بعدد أفراد ذلك النوع، وفي كل فم مئات من الألسنة بل بعدد أجهزة ذلك الفرد وعدد أجزائه وأعضائه وحجيراته، فهذا الكون الهائل والمخلوق العجيب، هذا الملك العظيم يقدّس الصانع الجليل بهذه الألسنة التي لا تعد ولا تحصى ويسبّحه جل وعلا، فهو إذا في مقام رفيع يتسربل عبودية عظيمة شبيهة بعبودية اسرافيل عليه السلام(1)، وبينما هو كذلك على هيئة عجيبة بسر التوحيد، فإنه بالشرك يحوّل إلى أشتات واهية جامدة، لا روح لها ولا حياة، ولا بقاء لها ولا وظيفة، هالكة لا معنى لها، تتدحرج في خضم ظلمات العدم وأهوال الأحداث التافهة والانقلابات، فالشرك يجعل هذا المصنع العظيم الذي يدر النفع الكثير، شيئا لا فائدة له ولا يكسب منه شيء، معطلا عن كل عمل، مختلطا ومتشابكا تلعب المصادفات العشوائية والطبيعة الصماء والقوى العمياء، ومأتما حزينا لذوي الشعور كافة، ومذبحة وسلخة أليمة لذوي الحياة كافة"(2)
إن للتوحيد في جانبه الكوني أثرا عظيما في سير الكون أولا وفي تصور الإنسان المؤمن للكون ثانيا وتعامله مع ذل الكون وفق ذلك التصور ثالثا، لهذا فالتوحيد ليس معزولا عن صلة الإنسان بالكون سواء من جهة القراءة أو من جهة التفاعل المؤسس على الاستثمار المبني على التسخير الإلهي له لصالح الإنسان.
الجانب الثالث: الجانب البشري من النظرة التوحيدية
يحوي التوحيد في جانبه البشري عنصرين رئيسين:
__________
(1) /الشعاعات 15
(2) /الشعاعات 15(19/43)
1/ توحيد يؤصل فكرة وحدة بني البشر من حيث مادة خلقهم وعناصر بقائهم ووحدة مصيرهم، فالإنسان فعل من أفعال الله، خلق جميع أفراده من مادة واحدة (تراب) جعل تخلّقهم على نسق واحد (التناسل)، ويصيرون إلى مصير واحد (الموت)، وهو ما يجعل الإنسان أو النوع الإنساني مصون الكرامة محفوظ الجانب في كل أحواله بصرف النظر عن لون البشرة أو العرق أو الجنس أو الدين..، فالنظرة مبنية إلى قيمته بالنظر إلى جوهر ماهيته.(1)
عبّر عن هذا المعنى النورسي بقوله: "أيها الإنسان إن من دساتير القرآن الكريم وأحكامه الثابتة (وهذا بفضل التوحيد) أن لا تحسبن ما سوى الله تعالى أعظم منك فترفعه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسبن أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه، إذ يتساوى ما سواه تعالى في البعد عن المعبودية وفي نسبة المخلوقية "(2)
و سيورّث تمكين التوحيد في جانبه البشري من الابتعاد أو التطعيم من داءين فتاكين، يصوّرهما قول النورسي في بيان ما تأمر به الحرية الشرعية، وقد لخّصها في أمرين أساسيين:
أ/أن لا يذلّل " المسلم " ولا يتذلّل.. من كان عبدا لله لا يكون عبدا للعباد.
ب/أن لا يجعل بعضكم بعضا أربابا من دون الله، إذ من لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعا من الربوبية لكل شيء، في كل حسب نسبته فيسلّطه على نفسه.(3)
2/ توحيد في العبادة والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى، بوصفه الخالق الرازق، أمدّنا بعناصر الوجود والبقاء ويملك مصيرنا، ولهذا يجب التوجّه إليه وحده بالعبادة والطاعة،فيكون الله قبلة الروح ووجهة الحركة وغايتها، ومن ثم ّنبذ كل مطاع أو جهة أو قبلة أو غاية أخرى.(4)
__________
(1) /رسالة الإنسان في الإسلام/عمار جيدل 10،الكلمات 81-83
(2) /اللمعات 175
(3) /صيقل الإسلام 514
(4) /الكلمات الإحالة السابقة(19/44)
فالإنسان بعد مجيئه إلى هذا العالم له عبودية من ناحيتين، كلاهما يعبّر عن جانبي العبادة، فالناحية الأولى تشمل التصديق بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظر إلى كماله سبحانه وتعالى وحسنه بإعجاب وتعظيم، ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش أسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها وإشاعتها، والتفكّر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة، أما الناحية الثانية فهي مقام الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر إلى المؤثر، فيرى أن صانعا جليلا يريد تعريف نفسه إليه بمعجزات صنعته، فيقابله هو بالإيمان والمعرفة.(1)
إن التوجّه في التوحيد العملي إلى الله تعالى يورث لدى العباد الثبات في صلتهم بالمعبود أولا، ثم في صلتهم بسائر المخلوقات ثانيا، نظرا لثبات المتوجّه إليه (كمال مطلق)، وثبات القواعد العامة في التعامل مع الإنسان والكون والله سبحانه وتعالى، بخلاف التوجه إلى غير الله الذي يورّث التغير المعرفي والنفسي والسلوكي للخاضع للتغير الحاصل على المخضوع له، إذ يرجع سبب الخضوع إما لقوة أو سلطان أو جاه أو مال أو.. وهذه الأمور دول بين الناس فإما أن يفارقها المخضع (بضم الميم) لغيره بها أو تفارقه، وهو حين يفارقها أو تفارقه يفرض تغيّرا على مستوى الخاضعين وفي ذلك شناعة ما بعدها شناعة، تؤثر سلبا على الخاضع بالتغير المستمر وفق ما يتطلّبه المخضع الجديد.
__________
(1) /الكلمات 372(19/45)
وهكذا يتبيّن ويتأكد أثر التوحيد في النفوس البشرية وتعاملها مع الكون " نعم، إن أسند أمر الخلق إلى " الفرد الواحد الأحد " يخلق كل شيء من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة، ويقدّر لكل شيء بعلمه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شيء عنده بمقدار.. إن إسناد الخلق جميعا إلى الفرد الواحد الأحد يجعل خلق جميع الأشياء سهلا كالشيء الواحد، وبعكسه إذا أسند إلى الطبيعة والأسباب فخلق الشيء الواحد يكون صعبا ممتنعا كخلق جميع الأشياء..(1) ومن ثمّ كان في الوحدة والتوحيد سهولة مطلقة وكان في الشرك والضلالة صعوبات ومشكلات لا حصر لها(2)، على الإنسان والكون من جهة وتعامل الإنسان مع الكون من جهة أخرى، لهذا فالشرك يعني التشتت على مستوى القوى الداخلية في الإنسان ثم على مستوى علاقته بعالم الأشياء، فالموحّد حرر نفسه بالتوحيد من الفوضى بالنظام والانتظام ومن عبثية السير في الدنيا إلى مقصدية الحياة ووظيفيتها، إن البون شاسع بين التوحيد والشرك، واسع بقدر المسافة الفرق بين الفوضى والنظام.
وقد رام النورسي تكريس هذه الحقيقة في مجموع مؤلفاته، فقد ورد عنه في مقام التوجيه إلى هذه المبادئ السامية قوله: اعلم أن الفرق بين طريق التوحيد وطريق الإلحاد، كالفرق بين الجنة والجحيم، والواجب والمحال، فإن شئت فانظر إلى الموازنة بين الطريقين:
أما التوحيد، فيسند الكثير غير المحدود إلى الواحد فيتخفف الكلفة والمصرف بدرجة تساوي الشموس والذرات والقليل والكثير الغير المتناهي بالنسبة إلى قدرته.
وكذا يظهر التوحيد في كل شيء غايات كثيرة مهمة من جهة نظره إلى صانعه، ومن تلك الغايات إظهار الشيء لأسماء خالقه، كأن الشيء كلمة واحدة جامعة لرموز السماء فتدل عليها…
__________
(1) /اللمعات 455،547
(2) /المرجع السابق 295(19/46)
أما الإلحاد، فيسند الواحد إلى الكثير الغير المحدود، أي يسند كل شيء إلى العناصر العاجزة الجامدة، وإلى القوى والنواميس الصم العمي، فتتضاعف الكلفة بدرجة تساوي كلفة الفرد كلفة عام النوع، بل تساوي كلفة شيء واحد كلفة كل الأشياء..(1)
ثم يتساءل في سياق تأكيد الفكرة المركزية (التوحيد أثره في النظام والانتظام): "أنظر إلى لسانك ووظائفه، ومن بعض وظائفه، وزنه لجميع مدخرات خزائن الرحمة.. فيا أيها الإنسان الحامل للأمانة الكبرى، كيف لا تطيع قانونا أحاط بكل شيء من العرش إلى الفرش، وكيف تتجاسر على العصيان في مقابلة مسخّر الشمس والقمر ومستخدم النجم والذر"(2)
و بهذا يتجلى أن الماهية المحددة للحرية الشرعية أثر عظيم في القيام بمجمل الوظائف الحياتية والوظيفة الاجتماعية على وجه الخصوص، بوصفها من أهم المظاهر المشعرة بالالتزام بالماهية (خليفة الله المكلّف بعمارة الكون على وفق مراد مستخلفه فيها)
الوظيفة الاجتماعية
يتصور الإنسان وظيفته الاجتماعية المنتظرة منه بناء على تصوره لماهيته، فالمتحرر من كل قيد يضع برنامجا اجتماعيا متناغما مع ذلك التصور ومحققا لأهدافه، ومن تصوّر ماهيته من خلال مركزية المجتمع (من الناحية النظرية على الأقل) تلبّست وظيفته الاجتماعية بذلك التصور، وهكذا دواليك.. مما يؤكّد أن للوظيفة الاجتماعية أو الموقف الاجتماعي صلة وثيقة بالماهية في إطار التصور المختار.
لهذا كانت الوظيفة الاجتماعية للمسلم واضحة بوضوح ماهيته المبيّنة بنصوص الشريعة المحددة بها "إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30)، وهي بدورها ضابطة حريته ومحررتها مما يعيقها أو يمنع انطلاقتها في العالم الرحب، عالم الإنسان والكون بجميع جزئياته.
تجليات الصلة بين الوظيفة الاجتماعية والماهية:
__________
(1) /المثنوي العربي 466-467(بتصرف)
(2) /المرجع السابق 467-466(بتصرف)(تصرف بهذا الترتيب)(19/47)
يتجلى بصفة عامة كما قال النورسي التعارف على علاقاتكم الاجتماعية.. لأن المجتمع الإسلامي الشبيه بالجيش العظيم، قسّم إلى قبائل وطوائف، مع أن لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة، إذ خالقهم واحد ورازقهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ووطنهم واحد، … وهكذا واحد، واحد، …إلى ألوف من جهات الوحدة التي تقتضي الأخوة والمحبة والوحدة، بمعنى أن الانقسام إلى طوائف وقبائل ما هو إلا للتعارف والتعاون لا للتناكر والتخاصم"(1)، أما تجلياته التفصيلية فتظهر في كل الأفعال ذات المضمون الاجتماعي.
*/علاقات الجوار
*/علاقات التعاون والتآزر
*/العلاقات الأسرية
*/الموقف الاجتماعي العام…
مرتكزات الوظيفة الاجتماعية :
تتركز الوظيفة الاجتماعية على استكشاف عناصر رئيسة تيسر الاستعداد الدائم للقيام بالوظيفة الحضارية المنتظرة والمنشودة، يتجلى هذا الأمر في:
1/معرفة الضعف البشري :
إذ باكتشاف ضعفه وقلة حيلته وأنانيته وأثرته لنفسه المنقطعة النظير (كانت وما زالت سببا في كثيرا من الصراعات) يكتشف الإنسان حاجته إلى غيره، فهذه الأمراض المعرفية والمعنوية كالأنانية ليس بمستطاعه التنصل منها لأنها تجري منه مجرى الدم، ولا سبيل لترشيدها بغير الإيمان، لأن الإيمان لا يلغيها بل يجعل لها بعدا ووظيفة اجتماعية ظاهرة، فيفعل الخير (فعل اجتماعي) بغرض فردي يحصّل بموجبه الثواب عند الله تعالى، مصداقا للحديث المتفق عليه "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
__________
(1) /المكتوبات 414-415(19/48)
إن المستند إلى أنانيته وغروره المتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، سوف يغرق في دائرة ضيّقة ويذهب سعيه إدراج الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميع الأجهزة والجوارح واللطائف التي أودعت فيه شاكية ضده، ساخطة ثائرة عليه،أما إذا أدرك أنه ضيف عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة من استخلفه فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جدا تمتد إلى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالما آمنا مطمئنا، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانه الصعود والرقي إلى أعلى عليين، وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الأجهزة والجوارح واللطائف.(1)
و قد رام النورسي توضيح الأمر حين الحديث عن قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" (الأنعام: 32)، فقال بأن الحالة الروحية تبيّن من خمسة وجوه منها (محل الشاهد) إنه تعالى يدفع الإنسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواء بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور أخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود إلى الراحة وشوقا خالصا للمضي إلى ديار أخرى.(2)
2/جزئية الهدف وتفاهته:
__________
(1) /الكلمات 365
(2) / المرجع السابق 224(19/49)
نعلم أن حركة بناء الحضارة تستمد أساسا من قوة الدفع الداخلي لدى الساعي إلى البناء، فإن كانت قوة الدفع كلية وسامية كانت الحضارة مثلها، وإن كان الهدف تافها فإن جذوة بناء الحضارة تنطفئ بمجرد تحقيق الهدف أو جزء منه، لأن الهدف بمثابة الزخم الذي يستمد منه المشروع فاعليته حركيته وديمومته(1)، إن القيام بوظيفة العمارة وفق أمر الله تستمد قوتها من كلية الهدف وفاعليته في النفس الإنسانية (سنبيّنه لاحقا)، وتحرره من الأهداف الجزئية التافهة المانعة من الانطلاق نحو الرحاب الواسع، لأنها تجعله غارقا في ذاته وأنانيته، لما يحمله من استعداد لا نهاية له للشر و الجحود، فهو قادر على تمرد و طغيان لا نهاية لهما(2)، من هذا المنطلق، "كان كل من يجعل الحياة الفانية فسيكون في جهنم حقيقة ومعنى، حتى لو كان يتقلب ظاهرا في بحبوحة النعيم، وكان كل متوجه نحو الحياة الباقية الساعي لها بجد وإخلاص فائزا بسعادة الدارين.(3)
يقول النورسي: "إن الأضرار الطفيفة المؤقتة الفانية القصيرة بالنسبة للحياة الأخروية إنما كلسع الذباب، بينما الحياة الأخروية هي كلدغ الثعابين"(4)
__________
(1) /الإسلام يقود الحياة/باقر الصدر، وأنظر نظام الإسلام العقائدي29-31
(2) /الكلمات207
(3) /الكلمات 37
(4) /الملاحق 154(19/50)
وقد كانت حياة النورسي ترجمة عملية للتحكّم في الدنيا ومفاتنها عوض أن يكون مجنونا بها كما هي حالة كثير من الخلق، فقد جاءته راغبة فيه، فطلقها سعيد الجديد طلاقا بائنا لا رجعة فيه، لأنه يملك -على حد قوله - دنيا خاصة– تتهدم بسرعة، لهذا يتساءل، فما فائدة هذه الدنيا الخاصة إذن في عمري القصير جدا؟؟.. فرأى بنور القرآن الكريم أن هذه الدنيا بالنسبة له ولغيره ما هي إلا متجر مؤقت، ودار ضيافة تملأ كل يوم وتخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ المصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمة، وكل ربيع فيها رسالة مرصّعة مذهبة.. فقد أخطأ المرمى وجانب الصواب من استعمل المحبة في غير محلها، فصرفها إلى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الحديث الشريف "حب الدنيا رأس كل خطيئة".(1)
يتجلى فيما سلف أن لماهية الإنسان صلة وثيقة بوظيفته الاجتماعية، وأن الله حين جعل للإنسان ماهية ووظيفة مرتبطة بها، وضع بين يديه مجموعة من المؤهلات الميسرة لتلك الوظيفة، فما هي مؤهلات القيام بالوظيفة الاجتماعية؟
هذا ما نحاول بيانه في الفصل اللاحق.
الفصل السادس
__________
(1) /أخرجه البيهقي بإسناد حسن بإسناده إلى الحسن البصري رفعه مرسلا
أنظر سرة ذاتية /النورسي 157-158(19/51)
لا ينحصر التنبيه الإسلامي للإنسان حين القيام بمهام التكليف على جانب الضعف فقط، بل يشير أيضا إلى عناصر قابلة للنماء إذا استحضرها كانت مؤهلات قوية للقيام بأعباء المهمة، وفي ذلك يقول النورسي: أودعت في ماهية الإنسان أجهزة مهمة من لدن القدرة الإلهية، ومنح برامج دقيقة وثمينة من لدن القدر الإلهي، وإذا ربى بذرة استعداده بماء الإسلام، وغذّاها بضياء الإيمان تحت تراب العبودية موجها أجهزتها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية، فلا بد أن يستنشق عن أوراق وبراعم وأغصان تمتد فروعها وتتفتّح فروعها وتتفتّح أزاهيرها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نعما وكمالات لا حد لها،فيصبح الإنسان بذرة قيمة حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة وشجرة باقية، ويغدو آلة نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرة مباركة لشجرة الكون"(1)
و تظهر مؤهلات الإنسان في جانبيها الذاتي والمعرفي، لهذا سنقسمها بما ينسجم وهذا الاختيار.
المؤهلات الداخلية:
ليس المقصود أنها من بنيات جهده وحيلته نبل المراد تنبيهه إلى ما جعله الخالق مركوزا فيه فضلا وتكرما من الله سبحانه وتعالى، فقد زوّده الخالق بعناصر قوة مركوزة في ذاته ليس باستطاعته الغفلة عنها إذا أراد استغلال كل طاقاته فيما جعلت لها، وتنقسم تلك المؤهلات إلى قسمين: روحية وبدنية.
ا/المؤهلات الروحية:
__________
(1) /الكلمات 362-363(19/52)
منح الله الإنسان مؤهلات روحية عالية يصلح بموجبها لاستقبال الوحي، "إذ يمثل الإنسان أعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهل لأدراك الخطاب الرباني، وقد اختاره من بين المخلوقات"(1)، وما ذلك التأهيل إلا بسبب ما استودع روحه من قابليات للتلقي عن الله بواسطة رسله وكتبه، لهذا يعتبر الجانب الروحي أساسيا في استقطاب والتقاط أوامر الله ونواهيه والتفاعل معها تفاعلا إيجابيا، يقيم أركانها في النفس البشرية أولا، والمحافظة عليها بالإخلاص والصدق في النفس والأمة ثانيا، وهو ما يساهم في ديمومة الفكرة وانتشارها، لأن المجتمع هو الوسط الحيوي للفعل البشري.
ب/المؤهلات البدنية:
زوّد الإنسان بقدرات بدنية تمكّنه من القيام بما طلب منه، فإمكاناته البدنية تيسّر له القيام بما كلّف به، بل هي منسجمة كل الانسجام مع تلك الوظائف ووفق قدرات كل شخص وقد ورد في الحديث "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، "فالإنسان وهب أجهزة معنوية ولطائف إنسانية والتي إذا قيست كل واحدة منها بما عند الحيوان لظهرت أنها أكثر انبساطا وأكثر مدى بمائة مرة، فمثلا: أين عين الإنسان التي تميّز جميع مراتب الجمال؟ وأين حاسته الذوقية التي تميّ. مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقله.. وأين قلبه.. فقد خلق الإنسان في أحسن تقويم وفق ما يؤهله للقيام بوظيفة عبادة الله.(2)
إن الصلة بين المؤهلين تشابكية، وإن كانت الأسبقية للمؤهل الأول من حيث الفاعلية بوصفه قوة دفع البدن وتحريكه تحقيقا لمراد الله.
2/ المؤهلات المعرفية الاستكشافية
__________
(1) /اللمعات 555
(2) /الكلمات396-397(19/53)
يراد بها تلك المعارف التي يجب أن يكتشفها عمليا ويسعى إلى استثمارها بوصفها من العناصر التي خلق مزودا بها في أصل خلقته ولكنها من العناصر التي قد تغيّبها التربية غير الراشدة أو بالوسائل القهرية المسلّطة بالقانون حينا والكذب والتعسّف أحيانا كثيرة، ولعل من أهم ما يجب لفت الانتباه إليه، هي عناصر القوة في المعرفة بالماهية.
أ/ عناصر القوة في المعرفة بالماهية
تتميّز ماهية الإنسان بعناصر قوة تجعلها تمتد أفقيا وعموديا عقليا وجوانيا،تنموا نموا سننيا (عاديا)،ولا تفقد (مؤقتا) موقعا محررا في الأنفس والآفاق إلا إذا حيل دون بقائها بوسائل غير موضوعية وغير أخلاقية وبالتالي غير مشروعة وفق التصور البشري، كالتشويه والكذب والدجل بأساليبه المتنوعة.(1)
وتتلخّص عناصر قوتها في جوانب عدّة تستند جميعها إلى الحق في الحياة الاجتماعية بدلا من القوة، وتجعل رضى الله ونيل الفضائل هو الغاية والهدف بدل المنفعة، والتعاون أساسا للحياة بدل الصراع، وجعل من غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة بالسوء ودفع الروح نحو معالي الأمور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الإنسان إنسانا حقا وصدقا(2)، وهو ما يجعلها ضامنة لعناصر وجودها في النفس البشرية وديمومتها فضلا عن انتشارها.
*/جانب الوجود:
__________
(1) /أنظر حقائق الإسلام وأباطيل خصومه/العقاد113،خلافة الإنسان/النجار49،نظام الإسلام العقيدة والعبادة/المبارك27،56
وقولنا بهذه الفكرة ليس على إطلاقه وبالتالي لسنا من المائلين كل الميل للتحليل التآمري للتاريخ ولسنا من المائلين عنه كل الميل.
(2) /الكلمات 472-473بتصرف(19/54)
تحمل ماهية الإنسان في فكر النورسي قوة ذاتية تمكّنها من النفس البشرية وتشبع مطالبها الفطرية النفسية منها و العقلية والاجتماعية، بمعنى أنها تستجيب لأساسيات مركوزة في النفس أصالة، لهذا أعتبر الوحي بمثابة مذكر بما هو كائن فيها إما بطريق الوعظ والإرشاد ومخاطبة الوجدان أو بالإقناع العقلي.
"أنظر إلى كمال النعمة في كمال الحكمة، وكمال الحكمة في كمال النظام، وكمال النظام في كمال الميزان، في صنعة الحواس الخمسة الإنسانية، إذ فطرها بوضعية وجهّزها صانعها بجهازات، يحس الإنسان بها ويذوّق صاحبها خصوصيات جميع أنواع الثمرات والأزهار والأصوات والروائح وغيره، وحتى أن في حاسة الذائقة حسيات أنواع الثمرات والأزهار بعدد طعوم جميع أجناس الثمرات وأنواعها وأصنافها.. ومن هذا السر بلغت جامعية فطرة الإنسان إلى درجة صيّرت هذا الإنسان: مظهرا لما لا يحد من أنواع تجليات أسماء فاطره جل شأنه، وذائقا لما لا يعد من ألوان نعمه(1)، فكانت هذه الأمور استعدادات للتسامي وحامية لأصل الفطرة التي استودع فيها خالقها التوحيد وأبعاده الوظيفية، وهي بذلك تصون أصل الفطرة من جانب الوجود أي من جانب الحفاظ على أصل الخلقة في صورتها الفطرية وبجميع مكوناتها الأخلاقية والاجتماعية بالإضافة إلى العقدية.
*/جانب البقاء:
__________
(1) /المثنوي العربي 287(19/55)
إن رسالة المسلم تتمتع بحجج عقلية ونفسية واجتماعية، تجعل استقرارها في النفس ممكنا بل ومؤكدا بحجج النقل والعقل، لأن رسالة المسلم تبلغ بالإقناع (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(البقرة111)، وتتوخى تلك الطريقة في المحاجة وهو ما يدفع المقتنعين بها إلى البحث الاستدلالي المستمر إشباعا لحاجتي العقل والقلب في اللحظة نفسها وفق مسلك القرآن المبيّن في رسائل النور التي قال عنها النورسي: "إن رسائل النور ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراتهن ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته.. إنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراق لا يصل إليها نظر الفلسفة المهاجمة فضلا عن إقدامها وخطواتها، فتبين أنوار الحقائق الإيمانية وتوصلها إلى عيونها المطموسة.."(1)
*/جانب الانتشار:
إن فكرة قامت واستمرت بالحجة العقلية المؤيدة للحقائق الواقعية، لا يمكن أن يمنع انتشارها الجهل والقهر.. لأنها تحمل قوة ذاتية في الانتشار، وأكبر شاهد على ما ذهبنا إليه انتشار الإسلام بجهود العلماء مثل انتشاره بجهود غيرهم من التجار والعامة.. وقد كانت رسائل النور أحسن أنموذج معبّر عن القوة الذاتية للقرآن الكريم، بما حواه من قدرة على الانتشار رغم الحصار، فقد تجلت المضامين القرآنية في رسائل النور ولهذا كتب لها الانتشار والبقاء والديمومة، فقد كانت تستمد من القرآن الكريم طراوة شبابيته ولياقته وموافقته لكل طبقة(2) فكان خطابها مستمدا من خطاب الله الشامل لجميع الطبقات، ولكل العصور، والأحوال والظروف كافة(3).
__________
(1) /الملاحق 105
(2) /المنوي العربي 79 (بتصرف)
(3) /صيقل الإسلام 334(بتصرف)(19/56)
لهذا ما نالت رسائل النور ما نالت من عناصر الوجود الحقيقي المشهود به في عالم الشهادة إلا بسبب استمداد عناصر قوتها الداخلية من فيض القرآن الكريم، وما كتب لها البقاء والديمومة إلا بذات السبب، وهو ذاته ما ساهم بسقط وفير في انتشارها في الماضي القريب والحاضر، ولا يتم لها ذلك في قابل الأيام إلا بقدر محافظتها على ارتباطها بالفيض القرآني حين التبليغ العملي المتناغم مع المعطى الواقعي بجميع مكوناته، لأن رسائل النور ما كانت إلا رشحة من رشحات القرآن أملتها القراءة الهدائية للقرآن الكريم في كنف ما أحاط صاحب رسائل النور وتلاميذه من معطيات فكرية وسياسية واجتماعية وتعليمية.. وحضارية محلية وجهوية ودولية.
ب/التركيب العقائدي للماهية و غائية المسير:
غاية الغايات في ماهية الإنسان هي عبادة الله تعالى، بمعنى العمل على تحقيق مراده من خلال السعي إلى مرضاته، وهو هدف دافع نحو البذل المستمر، إذ السير نحوه باستمرار يكسب صاحبه أفاقا جديدة وامتدادات غير منظورة، وزادت جذوته اتقادا وحركته نشاطا وإبداعا،لأن السير في طريق تحقيق الهدف المرسوم يشعر الإنسان بتقصيره دوما، فكلما خطا خطوة ازداد اندفاعا، لا لشيء سوى أن هذا الهدف بعيد المنال مع كمال الرضا.(1)
إن جذوة ماهية الإنسان في أدبيات النورسي لا تنطفئ لأنها حية متقدة باستمرار، لهذا فهو في مجابهات دائمة مع نفسه (الجهاد الأكبر) ومع المفسدين والواقع الفاسد، وإن كملت المجابهة في شق (وهو محال)، فتحت له آفاق جديدة للبذل المستمر، بل إن المطالبة بالتغير وفق ما تقتضيه ماهية الإنسان تتطلّب مراقبة دائمة لا يمكن أن يفتر عنها الإنسان في لحظة من اللحظات، لأنه ركّب نفسيا على النزوع إلى الدعة والراحة واستثقال الطاعة والميل إلى المعاصي، وهو ما جعل القرآن الكريم يركّز على التذكير أكثر من تركيزه على الاستدلال.
__________
(1) /الإسلام يقود الحياة، الكتاب طافح بهذه المعاني(19/57)
إن جعل طاعة الله تعالى هدفا للمسيرة الإنسانية وغاية نهائية للتحرّك الحضاري الصالح يمنح ماهية الإنسان تركيبا عقديا، يمد حركة بناء الحضارة بوقود لا ينفد،لأنه هدف كلي ينسحب على جميع تصرفات البشر (فكرية، واجتماعية، وتربوية، و..) هدف متميّز بوظيفته الإنسانية الظاهرة، وظيفة تجعل الأهداف المرحلية منضبطة بها وسائرة في فلكها، إذ يعد تغليب الأهداف الجزئية على الأهداف الكلية موقعا في الظلم والقهر والاستبداد، فمن جعل غايته الفرعية كلية كالاستحواذ على السلطان أو المال أو الجاه أو.. فقد البعد الإنساني في تصرفاته فيقع في المحذور والمحظور من ظلم وقهر و.. أما إذا جعل الأهداف الجزئية مصبغة بالهدف الكلي المحدد بالماهية فإنه سيتمكن من جني الثمار الاجتماعية والإنسانية المرجوة منها، لأننا وفق هذا التصور نرفع الحضارة إلى مستوى القداسة.(1)
__________
(1) /دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن/مالك بن نبي 30-40(19/58)
فقد نجحت رسائل النور في الاقتباس من القرآن الكريم والنسج على منواله في أساسها العقدي من جهة وتساوقها مع مكونات النفس البشرية، إذ ليس بمستطاع الخطاب العقدي الصحيح أن يؤتي أكله ما لم يكن متناغما مع مكونات النفس البشرية، وقد رام القرآن الكريم تحقيق مقاصده وفق ما استودع الله سبحانه وتعالى في مكنونات النفس البشرية،فنبّه الإنسان إلى الأساس العقدي الذي تقوم عليها علاقة الإنسان بالله والكون وأخيه الإنسان ليؤكد الأساس العقدي لرسالة المسلم في الحياة، وأحدث بذلك التنبيه " أعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة، ويرشده إلى أعظم مسألة تخصه وهو الحامل للأمانة الكبرى وخلافة الأرضتلك.. هي مسألة التوحيد (الأساس العقدي) الذي يدور عليه سعادته وشقاوته الأبديتان، وفي الوقت نفسه يزيل القرآن الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشد أنواع الجحود والإنكار المقيت "(1) بأساليب الحوار العقدي المتضمنة فيه، فكان معملا لأسلوبي البناء والهدم في اللحظة نفسها، فينشئ عقيدة التنزيه على أنقاض عقيدة سابقة الوثنية، يحلي القلب بالتوحيد في اللحظة نفسها التي يخليه من الشرك وفق مسلك أهل السلوك بطريقة التحلية والتخلية في اللحظة نفسها، تحلية وتخلية عقلية وقلبية في الوقت نفسه.
ج/التركيب الأخلاقي لماهية الإنسان:
__________
(1) /الشعاعات 311(19/59)
بناء العدالة الاجتماعية وتحمل مشاق البناء الصالح بحاجة إلى دوافع تنبع من الوجدان بوصفه وعاء الشعور و الإحساس بالمسؤولية، تواجه هذه الدوافع عقبة كأداء تحول دون نموها بل قد تهددها بالزوال، لهذا قلما يوفق الإنسان في تجاوزها، ولعل أهم تلك المعوقات الانشداد إلى الدنيا وزينتها والتي سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - "الوهن حب الدنيا وكراهية الموت.(1)
يجمد الانشداد إلى الدنيا الإنسان ويكبحه عن المساهمة في بناء الحضارة، لأن البناء الحضاري مطلب كبير يقتضي بذل أنواع كثيرة من التضحيات التي تتلبّس بالجهد العقلي حينا وبالجهد العضلي حينا آخر والمالي حينا ثالثا…
ونظرا لخطورة الارتباط بالدنيا والانشداد إليها نبّه القرآن الكريم والسن المطهّرة إلى خطورتها، قال تعالى ( يا أيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم وأولادكم عن ذكر الله)(المنافقون: 9) (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثوابا وخير أملا)(الكهف:46)، وورد في السنة "من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له"(2)
ولكن هل يمكن أن يطلّق الإنسان الدنيا وفيها معاشه؟
__________
(1) /الصدر مصدر سابق، وله أيضا موجز في أصول الدين135،أخرج الحديث أبو داود في سننه(الملاحم) بلفظ:" يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولنزعن الله من صدور عدوّكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول وما الوهن قال حبّ الدنيا وكراهية الموت"
(2) /أخرجه الترمذي في سننه(صفة القيامة والرقائق والورع)(19/60)
ليس المطلوب تطليقها خاصة وهي مسخّرة له بأمر خالقها، بل الغرض هو انتزاع التعلّق بها والانشداد إليها في حياته، لهذا أمر الشارع بالاستثمار الراشد وحرّم الانشداد إليها، لأنه في الحال هذه جعل الدنيا هدفا كليا تهون أمامه جميع المحرّمات فيقع الهرج والمرج ،فتتحول الدنيا إلى لهو ولعب وفساد وإفساد.
إن رفض الانشداد معناه إنزال الدنيا منزلة الطريق المفضي إلى الآخرة، وهي بمثابة ورقة امتحان إما أن يدخل بها صاحبها الجنة أو النار.(19/61)
وهكذا كانت الدنيا بأهدافها الجزئية وسيلة لتحقيق غاية عظمى بأهداف اجتماعية وإنسانية، بمعنى أننا لا نرفض الدنيا ولكن نرفض الانشداد إليها، أي أنها ليست مطلوبة في ذاتها، بل هي من أهم وسائل القيام بمهام الوظيفة الاجتماعية، فيكون بذلك خيرها مدرورا من الحق على الخلق ومن الخلق على الخلق بأمر الله تعالى، وبهذا الصدد يقول النورسي: "أخال أن سببا من أسباب عدم تأثير نصيحة الناصحين في هذا الزمان هو: أنهم يقولون لسيء الخلق: لا تحسدوا، ولا تحرصوا، ولا تعادوا، ولا تحبوا الدنيا، بمعنى أنهم يقولون لهم غيّروا فطرتكم، وهو تكليف لا يطيقونه في الظاهر، ولكن لو يقولون لهم: اصرفوا وجوه هذه الصفات إلى أمور الخير، غيّروا مجراها، فعندئذ تجدي النصيحة وتؤثر في النفوس، وتكون ضمن نطاق إرادة الإنسان"(1) وبهذا يتضح أن مركزية الأخلاق في التغيير الإسلامي المنبثق عن الرؤية التوحيدية للعالم، فلا يتصوّر إسلام بلا أخلاق كما لا تتصور أخلاق موضوعية خارج التوحيد الضابط لماهية الإنسان المستنبطة من القرآن الكريم، لهذا كانت ماهية الإنسان في الرؤية التوحيدية ووفق ما وضّحه النورسي سبيل الحرية وتذكير الإنسان بوظيفته التي من أهم أبعادها تحقيق البعد الإنساني في مطلق تصرفاته، وتصرفاته الاجتماعية على الخصوص، وبهذا يصح لنا القول بأن الحرية الشرعية الوثيقة الصلة بماهية الإنسان في الرؤية القرآنية هي أساس الوظيفة الاجتماعية للمسلم.
د/ فوائد القيام بالوظيفة ومعوّقاته:
بيّن من العنوان أننا سنتناول بالدراسة والتحليل فوائد القيام بالوظيفة الاجتماعية من جهة، وأهم معوّقاتها من جهة أخرى، لأن التربية القرآنية بقدر ما تبيّن الفوائد تنبّه إلى المعوّقات بغرض تلافيها وأخذها بعين الاعتبار حين القيام بالفعل أو حين تبليغه، وبذلك تحقق الواقعية في التصرّف.
الفوائد المترتبة عليها(2)
__________
(1) /المكتوبات 41-42
(2) /الكلمات351،354(19/62)
1/ القيام بهذه الوظيفة دواء لمشكل الفناء ومعالجته بالبقاء الذي تكرّم به الله(السلطان)، والذي يحد تكرم صرف من قبل الخالق الرازق، ويتجلى هذا الربح فيما يأتي:
أ / بيع الأمانة إلى مالكها الحقيقي، وفي هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة، يعود ربحها على البائع تكرما من المالك الأصلي.
الربح الأول:
المال الفاني يجد البقاء،لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمرا أبديا باقيا،عندئذ تثمر دقائق العمر ثمارا يانعة وأزاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى ظاهرا وتنشق عنها الأزهار والسنابل.
الربح الثاني:
الثمن الجنة أنظر كرم الله عليك يخلق ويمدّك بعناصر الوجود والبقاء فإذا صرفتها وفق مراده الذي فيه صلاحك وصلاح بني الإنسان بل الكون كلّه أكرمه بالفلاح يوم القيامة.
الربح الثالث:
يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويعلو من الواحدة إلى الألف، وفق ما تبذله من جهد يكون الخير فيه مجعولا للخلق من الحق بما يتكرّم به الخلق على بعضهم بعضا وفق أمر الله تعالى وتوجيهاته.
الربح الرابع:
استعمال الأعضاء في أصل ما جعلت لها، وفي ذلك تزكيتها وتثمينها، فقد جعلت للطاعة وطاعاتها متنوعة تنوّع الأعضاء نفسها، وبهذا تتعدد الطاعات وتتعدد المنافع وآثارها في الكون والحياة.
*/معوقات القيام بالوظيفة الاجتماعية (1)
المعوّقات جمع معوّق وهو كل ما يحول دون الوصول إلى الغاية من الوظيفة، وتتجلى تلك المعوّقات في العناصر النفسية بالدرجة الأولى وما يترتّب عليها من مواقف سلوكية وفكرية تترجم في مواقف اجتماعية.
أ/الأنانية:
__________
(1) /الكلمات351،354(19/63)
الإنسان الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شراك ظلمات الغفلة ويبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، وقد عمل النورسي على التذكير بخطورة هذا الداء في كثير مكن المواضع والمواضيع، فقال في بعضها: "من نسيانك نفسك إلى درجة تنقلب شعرة الأنانية حبلا غليظا، لأنك لما نسيت الله بالهوى، فأنساك نفسك، تغلظت أنانيتك فتفسّقت من قشرها المتشقق بكبرها"(1)، وقال أيضا في وصية لإخوانه: "إن أول ما نوصيه.. الحفاظ على الرابطة فيما بينكم، والحذر من الأنانية والغرور والمزاحمة، مع أخذ الحذر وضبط النفس"(2)
ب/الكفر:
بينما الكفر يجعل الإنسان حيوانا مفترسا في غاية العجز، لما فيه من تكريس للأنانية والغفلة والبعد عن المحتوى الإنساني للعلاقات بين البشر، لأن ماهية الكفر الكذب(3)، كذب على النفس وكذب على الإنسان وكذب على الكون وهو بالإضافة إلى كل ذلك كذب على الله، لهذا يظهر للكافر من منطلق كفره أن الكون مليء بآلاف الأعداء المخيفين … حتى ليجعل صاحبه في رعب دائم وألم مقيم وهلع ملازم واضطراب مستمر،… ويسكنه جحيما معنويا سالبا للسعادة إذ يريه الموت إعداما أبديا "(4)
ج/الغفلة عن القيام بالوظيفة:
الغفلة سبب في عدم بيع النفس لله تعالى، فتستعمل في سبيل الهوى والنفس، فتتحول الأعضاء إلى أعضاء مشؤومة مزعجة عاجزة، ويتحمّل صاحبها آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذ إلى درك آلة ضارة مشؤومة(5)،
__________
(1) /المثنوي العربي 397
(2) /الشعاعات 367
(3) /صيقل الإسلام 417
(4) /المرجع السابق 519(بتصرف)
(5) /الكلمات23(19/64)
لهذا قال النورسي: "إن حياة أرباب الضلالة والغفلة بل وجودهم وعالمهم ما هو إلا يومهم الحاضر، حيث الأزمنة الماضية كلها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة ،بسبب ضلالتهم، فتردهم من هناك حوالك الظلمات …إنه بترديه في الغفلة فسدت متعته الحاضرة بما يرده من أحزان ، وما يرده من اضطراب جراء القلق على المستقبل ،فتتكدر حياته الحاضرة بالآلام والأوهام، سيما الملذات غير المشروعة "(1) فضلا عن خسرانه خمس خسارات أخرى.(2)
الخسارة الأولى:
إن ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفا آثامه وآلامه مثقلة بها ظهرك.
الخسارة الثانية:
ستنال عقاب من يخون الأمانة، لأنك باستعمالك أثمن الآلات والأعضاء في أخس الأعمال قد ظلمت نفسك.
الخسارة الثالثة:
قد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، إذ أسقطت جميع تلك الأجهزة الإنسانية الراقية إلى دركات الأنعام بل أضل.
الخسارة الرابع:
ستدعو بالويل والثبور دائما، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي أرهقت الحياة بها كاهلك الضعيف مه أن فقرك قائم وعجزك دائم.
الخسارة الخامسة:
إن هدايا الرحمن الجميلة - كالعقل والقلب والعين وما شابهها - ما وهبت لك إلا لتهيّئك لفتح أبواب السعادة الأبدية، فما أعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا إلى صورة مؤلمة تفتح لك أبواب جهنم.
الخاتمة
يستشف مما سلف أن لماهية الإنسان صلة وثيقة بحريته في فكر النورسي، فمن اكتشفها وعمل على تجسيدها حرّره خالقه من مجموعة من المعوّقات والسجون لعل أهمها:
الأنانية، والغفلة فضلا عن الكفر وما ينجر عنها جميعا من آثار وخيمة على الإنسان والوسط الذي حوله.
__________
(1) /الملاحق 174 (بتصرف)
(2) /الكلمات 25(19/65)
وبيّن أيضا أن لهذه الحرية صلة وثيقة بالوظيفة الاجتماعية المنتظرة من الإنسان في إطار ماهيته، ولكل هذا أثارا محمودة على الأداء الاجتماعي والفكري لمن رام مرضاة ربّه باستحضاره الدائم لتلك الماهية في كنف الحضور الروحي المستمر مع خالقه جلّ وعلا.
وهكذا يتبيّن أن جهده رحمه الله كان متناغما كل التناغم مع الحقائق الإيمانية المبثوثة في دوحة القرآن الكريم، فكان قرآنيا في طرح أصل القضية وقرآنيا في وضع خطتها التفصيلية، فكانت الماهية والوظيفة مرتبطتان أشد الترابط بحيث لا تنفك إحداهما عن الأخرى،و قد تلخّصت في كونه خليفة الله على أرضه "إني جاعل في الأرض خليفة "، ولا يتأتى له القيام بتلك الوظيفة ما لم يكن حرا حرية تامة غير منقوصة، وكمال تلك الحرية أن يكون مكلفا، فالتكليف الشرعي أب الحرية الشرعية، أب الحرية ذات البعد الإنساني، مخرج الحرية من درك السلبية إلى أعلى درجات الإيجابية، وهي حين التلبّس بها - وفق هذا التحقيق والتحديد - واضعة الخطة العامة لوظيفة الإنسان في الكون، إنها السعي الدائم في كل شؤون الحياة نحو مرضاة الله ، بحيث لا يمكن تصور فعل من أفعاله خارج تلك الميزة والخاصية، وهذا يقتضي أن يراعي المكلّف أوامر من كلّفه بعمارة الأرض من خلال الالتزام بمتطلبات الوظيفة، وفي ذلك أظهر صور الإنسانية في التصرفات.
إننا يمكن أن نقول ودون مواربة أو مجاملة أنه كان بالقرآن وفي القرآن متحركا في وضع تصوره لماهية الإنسان وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية، وذلك أقصر طريق لعودة البعد الإنساني في تصرفاتنا الفكرية والاجتماعية بل وحتى السياسية.
تم بحمد الله
الفهرس التفصيلي
الاستهلال ... 3
بين يدي البحث ... 4
مقدمة الطبعة الأولى ... 5
ماهية الانسان وصلتها بحريته ووظيفته الاجتماعية ... 7
المقدمة ... 8
الفصل الأول
أهمية القرآن بالنسبة للإنسان ... 10
تجليات أهمية القرآن بالنسبة للإنسان ... 12(19/66)
أولا: تجليات عامة ... 12
ثانيا: تجليات خاصة ... 14
الفصل الثاني
أبعاد فكرة القرآن كتاب صلة الإنسان بالله ... 20
وقفة مع النورسي في مسألة منزلة القرآن ... 23
الإكراهات التي أظهرت رسائل النور ... 27
الفصل الثالث
ماهية الإنسان في فكر النورسي ... 30
أولا: ماهية الإنسان ... 31
آثار فكرة الماهية تربويا ومعرفيا ... 36
ثانيا: الماهية والوجود ... 37
الفصل الرابع
صلة ماهية الإنسان بحريته ... 40
التحرر من المعوّقات ... 41
تجليات الصلة بين الماهية والحرية ... 44
الحرية والعبودية ... 47
مدلول الحرية ... 48
نتائج الحرية الشرعية ... 49
الفصل الخامس
صلة ماهية الإنسان بوظيفته الاجتماعية ... 50
أسس الوظيفة ... 50
النظرة التوحيدية للكون ... 51
الجانب الإلهي ... 51
الجانب الكوني ... 52
الجانب البشري ... 54
الوظيفة الاجتماعية ... 58
تجليات الصلة بين الوظيفة الاجتماعية والماهية ... 59
مرتكزات الوظيفة الاجتماعية ... 59
معرفة الضعف البشري ... 59
جزئية الهدف وتفاهته ... 60
الفصل السادس
مؤهلات القيام بالوظيفة الاجتماعية ... 63
1/ المؤهلات الداخلية ... 63
المؤهلات الروحية ... 64
المؤهلات البدنية ... 64
2/ المؤهلات المعرفية الاستكشافية ... 65
أ/عناصر القوة في المعرفة بالماهية ... 65
جانب الوجود ... 66
جانب البقاء ... 67
جانب الانتشار ... 67
ب/ التركيب العقائدي للماهية و هدفية المسير ... 68
ج/التركيب الأخلاقي لماهية الإنسان ... 70
د/ الفوائد المترتبة عليها ... 73
فوائد القيام بالوظيفة (الأرباح) ... 73
معوّقات القيام بالوظيفة(الأنانية، والكفر، والغفلة…) ... 74
الخاتمة ... 77(19/67)
معالم التجديد عند النورسي
الاستاذ الدكتور محسن عبد الحميد
أستاذ التفسير والفكر الإسلامي
بكلية التربية - جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
فإن رسائل النور للإمام المجدد الثبت، سعيد النورسي، بحر لا ساحل له، لأنها تضمنت الحديث الشامل العميق عن القرآن المقروء الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن المنظور الرائع المانع، وهو الكون وآيات الأنفس والآفاق المبثوثة في جنباته، والقرآن الناطق المطبق الذي تجلى في حياة النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه.
أراد الأستاذ النورسي أن يواجه بها ظلمات عصره بتلك الرسائل التي كشفت تجليات أسماء الله الحسنى في مظاهر الكون والحياة والمجتمع والإنسان، فهدى الله سبحانه وتعالى بها خلقا كثيرا من المسلمين ومن غير المسلمين.
ولقد شرفني الله تعالى بأن أقرأ تلك الرسائل قراءة دقيقة متبصرة، فكتبت عنها كتابي الموجز "النورسي الرائد الإسلامي الكبير" ثم أتبعته بعد سنوات بكتابي الكبير "النورسي متكلم العصر الحديث".
ولقد كان لأخوتي في الله، طلبة النور، فضل دعوتي للمؤتمرات العلمية العالمية التي كانت تعقد لدارسة فكر النورسي، سواء في تركيا أم في خارج تركيا.
وكنت في كل مرة، اكتب بحثا في جانب من جوانب فكر الأستاذ الثر في رسائله المباركة فتجمعت لدي أربعة أبحاث متكاملة. فارتأى الأخ الحبيب الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، مترجم رسائل النور إلى اللغة العربية، أن تنشر في كتاب واحد كي يأخذ طريقه إلى مكتبة "رسائل النور" مصدرا للباحثين عن الحق والنور.
على أنني رأيت من المناسب أن أضم إلى تلك الأبحاث المقدمتين اللتين كتبتهما لمجموعتى بحوث المؤتمرين اللذين عقدا في "اسطنبول" في عام 1995 وعام 1998م(20/1)
والذي أرجوه من الله تعالى، أن يجزى شيخنا النورسي على جهاده وعلمه وفكره ودعوته، وأن يتقبل هذا الجهد المتواضع بمنه وكرمه. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
محسن عبد الحميد
بغداد – الكرخ- الخضراء
في 6/جمادى الآخرة/1422هـ
المصادف لـ 27/7/2001 م
مقدمة
مقدمة بحوث المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي “ تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين وبديع الزمان سعيد النورسي” المنعقد في 24 - 26 أيلول 1995 باستانبول - تركيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن قوانين حركة التاريخ الإنساني أن التحديات الكبيرة لحضارة أمة من الأمم، لابد أن تكون ردود الاستجابات لها كبيرة أيضاً، إذا أرادت أن تنتصر في تلك المواجهة المصيرية.
ويكاد ينعقد إجماع المؤرخين المنصفين، والباحثين الجادين، أن التحديات التي واجهتها المجتمعات الإسلامية ودولها كانت كبيرة وضخمة جدا، منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري، بل قبله.
غير أن عوامل النخر المادية والمعنوية، كانت في امتنا كبيرة وعميقة ومتجذرة. ولذلك لم تكن الاستجابات في بديات الأمر بمستوى تلك التحديات نفسها.
ومن هنا فنتيجة الصراع بين مجتمعنا الإسلامي وبين الحضارة الغازية، لم تأت في صالحنا، إذ إن مراكز قوى الغزو العالمي الفكري والسياسي قد تمكنت من مجتمعنا، فزادته تخريبا وتأخرا وسقوطا. حتى كدنا نسقط في حلبة الصراع ونستسلم عقيدة وشريعة وسلوكا إلى أوضاع غريبة عنا وعن ديننا وحضارتنا كل الغرابة.
ولكن هنالك فرق كبير بين امتنا والأمم الأخرى. فامتنا تمتلك قواعد انطلاق قوية في الأعماق، تجدد أصالتها في كل حين، وتحتفظ دائماً ببذور القيام واليقظة والتقدم والبناء فيها.(20/2)
وهكذا كان، فقاعدة القرآن الكريم، الكتاب الإلهي الخالد، وقاعدة السنة النبوية المبينة، وقواعد الأصول القوية التي بناها واستنبطها عبر العصور علماؤنا وفقهاؤنا ومفكرونا، هي التي حددت لأمتنا أسس الحركة والتغيير، التي دفعت المجتمع الإسلامي الى المقاومة شيئا فشيئا، حتى انتهت إلى وضع الخلاص من الاستعمار وتحديد المفاهيم في أتون المقاومة، وتوسيع دائرة القلق الحضاري والصحوة الإسلامية المعاصرة.
ولاشك أن المجددين المخلصين الملهمين الذين بعثهم الله تعالى لتجديد أمر الدين والحياة، كان لهم الدور الريادي في نهضة المسلمين الحاضرة، لأنهم قادوا حركة الاستجابة للتحديات بعقلية إسلامية أصيلة، تعمقت في فهم جوهر الدين وحقائقه، وأدركت طبيعة المرحلة الحضارية الخطيرة التي مرت بها امتنا المقيدة بأغلال الجهل والمرض والجوع في القرون الأخيرة، واستشرفت المستقبل العزيز الذي ينتظر أمة الإسلام.
وكان من فضل الله على مجتمع المأساة في تركيا الحديثة وعلى شعبه المكافح الجريح، الذي خنق فيه الطغاة الأنفاس الطيبة، والآمال البارقة، وسحقوا بذور الحركة الناهضة، أن قيض له، رجلا ربانيا طاهرا، وعالما حركيا منصفا، ومحددا متنورا واعيا، هو الأستاذ الجليل والمرشد الخطير والمربي الكبير والسياسي النظيف، بديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله تعالى، فدخل الحياة الفاسدة القلقة من أوسع ابوابها، مصارعا قويا، لا تأخذه في الله لومه لائم، وهو ينبه الغافلين، ويزيل جهل الجاهلين، ويفضح الطغاة المجرمين، ويخطط لتكوين جيل مؤمن قوي البنيان، رصين الفكرة يرفض الذل، وينشئ العز، ويعود إلى الله تعالى بهدوء وحكمة، ويقف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعتز بالانتماء إلى أمة القرآن، ويبغي التغيير السديد والبناء الجديد، لحضارة إنسانية متوازنة، ترفض القوة الغاشمة والمنفعة الأنانية، والعنصرية الضيقة، ونؤمن بالاخوة والمحبة والحق والخير والسلام.(20/3)
فما أن بدأت رسائله النورية تنتشر كانتشار خيوط القمر المنير في الليلة الليلاء، عبر خطوط المراقبة، وحواجز المكر، وموانع الطريق، ومخططات الطغيان، وسيطرة الجرائم، وزحف الرذيلة، فتغزو قلوبا خاوية، وتخترق أجسادا غافلة وتتسلل إلى عقول مسمومة، فتحييها بنور الإيمان، وتنشر فيها عطر القرآن، وبهجة السنة، وروعة الحكمة، وغالية المواعظ، بقلم سيال، وخيال مرهف، وعاطفة جياشة، وضمير نظيف، وفكر نير، وسلوك متواضع، حتى أحاط به الطغيان من كل صوب، يريدون منع هذا الخير عن الأمة الغافلة، بأساليب الغدر، ومسارب الخسة، وصنوف الارهاب، فينتقل الأستاذ الداعية، من نفي إلى نفي ومن سجن إلى آخر، وهو يزداد مع الأيام شموخا لا تلين له قناة، ولا تفتر له قوة، ولا يتأخر عنه مسعى، ولا ينال من عزمه المرض والجوع والحرب البدنية والنفسية المعلنة وغير المعلنة.
غير أن الله تعالى بالمرصاد للظالمين، وينصر عباده المؤمنين، ويعلى كلمة الحق والدين المبين، فيخرج هذا الإمام الجليل الممتحن من الصراع المرير الطويل، فيرى أزاهير ما بذر، ويحصد سنابل ما زرع، يتجسد في جيل صنعه الله تعالى على يديه، آلى على نفسه أن يعيش مؤمنا مباركا نظيفا، يعود إلى الذات، وينشد للأصالة، فيقدم رسائل النور التي غدت جزءاً عزيزاً من حياته، ومنهجا قرآنيا ساطعاً في سلوكه إلى دور النشر ودواليب المطابع في عهود الحرية، لتنتشر في كل مكان، وتنور جنبات كل بيت، بهمساتها الوديعة، وكلماتها الجميلة، ونسماتها الإيمانية، فتترجم إلى لغات إسلامية وغير إسلامية، ليعم الفكر الاصيل، والعلم النافع، والحكمة البالغة.
ولا يكتفي تلامذته الأوفياء بذلك، بل يخصصون أوقاتهم وأموالهم، لفتح مدارس تحفيظ القرآن، وتدريس الإيمان وإحياء الشريعة وتجديد الاخوة، وتوجيه السلوك، وحمل الدعوة.(20/4)
ثم يوفقهم الله تعالى لخدمة الإسلام من خلال تراث أستاذهم الكبير، بتعريفه إلى العالم اجمع، فيعقدون لدراسة رسائله النورانية المؤتمرات العالمية، يدعون لها، في صياغة كريمة، تليق بمقام النورسي، ونضاله المتواصل، العلماء والمفكرين، من اجل تقديم أبحاثهم وأفكارهم حول دعوة الأستاذ، وحركته النورية القرآنية المباركة، ومكانها المتميز في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة.
وقد شرفني طلبة النور فوجهوا إليّ دعوة كريمة ضمن من وجهوا لهم الدعوات، لحضور المؤتمر الثالث وإلقاء بحث علمي فيه، حول الشيخ المبجل، وجهوده في تجديد علم الكلام.
فكانت أياما رائعة، وليالي جميلة، قضيناها في ربوع عاصمة الإسلام الخالدة، مدينة إسلامبول البهية، بهوائها العليل، وشواطئها الأخاذة بالألباب، وزرقة مياهها المتماوجة، وجبالها الخضر الشماء التي تحتضن الأحياء الفارهة، والحدائق الغناء، والشوارع المنسقة، وتشمخ على مدن الأرض كلها، بمآذنها الرشيقة، ومساجدها الضخمة، التي حولتها يد الفنان المسلم الى تحف عمرانية منيفة، ولوحات فنية رائعة.
بدأ يوم الافتتاح بالاحتفال الكبير المهيب في اكبر قاعات اسطنبول، بفنائها الأرضي الواسع الفاره، وطابقيها المعلقين البيضاويين. وجلس الألوف من أبناء الشعب التركي، رجالا ونساء والمدعوون، هادئين في مقاعدهم، خاشعين لجلال الموقف، منصتين لتلاوة من آيات الذكر الحكيم التي عاش الإمام المجاهد حياته كلها، مدافعا عن حياضه، وعاشقا لرياضه، وسابرا عن حكمته، ومفسرا لمعانيه الشهودية لأبناء هذا الجيل النكد المظلوم.
وصعد الخطباء العلماء الأجلاء المدعوون على منبر القاعة الحديثة، يتحدثون بلغات عدة عن شخصية النورسي العلمية والدعوية والفكرية، وجهاده الضروس، وثباته العملاق على الإيمان، ووقوفه أمام الطغيان، وأستاذيته للحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا.(20/5)
ثم بدأت جلسات المؤتمر، مساء يوم الافتتاح، في قاعتين واسعتين من قاعات فندق "آق كون" الجميل في شارع الوطن الواسع المشجر، فقدمت فيهما في آن واحد، عشرات الأبحاث العلمية والفكرية والأدبية، في أيام المؤتمر الثلاثة، غطت محاور فكر النورسي الموسوعي المتشعب.
فمن محور الفلسفة إلى محور علم الكلام والفكر الإسلامي، ومن محور التحليل الحضاري إلى محور التاريخ البشري، ومن محور الفكر العلمي إلى ميدان البحث التربوي، ومن محور الفقه إلى مجال الأصول، ومن محور التحليل اللغوي والأسلوبي لرسائل النور إلى محور الإعجاز القرآني والدراسات الإسلامية.
والحق الذي لابد أن أسجله هنا أن المعالجات التي قدمت لفكر النورسي وتراثه العلمي، كانت دقيقة في منهجها العلمي، وحيادها الفكري وتحليلها الديني والفلسفي والأدبي، وكان المفكرون والعلماء يريدون في أبحاثهم، أن يقدموا صورة حقيقية عن جهود هذا الإمام في مجال الفكر الإسلامي والإنساني.
وكانت تعقب كل محاضرة، مناقشات هادئة، ومداخلات منضبطة، تغلب عليها الرغبة في مزيد من التعمق والتحليل والزيادة والترشيد.
ومن أروع اللقاءات وأفيدها، تلك اللقاءات الفكرية التي كان يتحدث فيها تلامذة النورسي المباشرون، بروحانيتهم العالية، وتواضعهم الجم، عن استاذهم، وذكرياتهم العزيزة عنه عقب ولائم الطعام، سواء في اللقاء الموسع الذي جرى في قاعة مطعم الفندق الكبير، ام في قاعة بناية جريدة الزمان، أم في مطعم قاعة البلدية قرب مسجد الفاتح العظيم.
وكنا نحس في تلك اللقاءات وسماع أنغام تلك الذكريات، الرابطة الروحانية المتينة التي تربط بين الأستاذ الغائب بجسده الحاضر بروحه، وبين طلبته العشاق الأوفياء الذين كانت الدموع تتجمع في مآقيهم مع كلمات الوفاء التي كانت تخرج من سويداء قلوبهم التي تمتلئ بحب الأستاذ الذي أنقذهم من التيه، ووضعهم على مائدة القرآن وخط الإسلام الخالد.(20/6)
واشهد أنى كنت أحس ببركة فيوضات روح الأستاذ النورسي في ثنايا كلمات تلامذته وأحبابه والمحاضرين الذين كانوا يتحدثون بحرارة عن حياته وعلمه وجهاده، كأنه كان حاضراً بيننا بجسده النحيف الذي نالت منه أيام الكفاح، وسنون الظلم الطويلة، وهموم الأمة المظلومة.
والحديث عن النورسي، هو الحديث عن الإسلام ومأساة المسلمين ومشكلات العالم الإسلامي الحضارية، وصراعه مع أعدائه القدماء والمحدثين.
ولذلك لك أن تقول إن المؤتمر العتيد المبارك، انقلب إلى مظاهرة إيمانية علمية، عالجت قضايا الإسلام عامة، من خلال الأبحاث الرصينة التي ألقيت حول فكر بديع الزمان.
فضلا عن التعارف الروحي والفكري والإنساني بين مجموعة كبيرة من الأساتذة والعلماء والباحثين المهتمين بقضايا الإسلام ومصير المسلمين.
قارئي العزيز:
هذه الباقة المنوعة من الأبحاث العلمية العميقة الرفيعة، عن الإمام النورسي وفكره، كتبها علماء ومفكرون، ومعظمهم أساتذة معروفون في جامعات عالمية معروفة، شرقية وغربية، تمرسوا في الكتابات العلمية والأبحاث الفكرية التي تعمقت في سبر أغوار المفكر الكبير ورسائله وكتبه، حياة وجهادا وفكرا ودعوة وثماراً، واستطاعت من خلالها أن تكتشف الكثير من مظاهر عبقرية هذا الإمام الثبت المجدد، علها تكون نبراسا أمام أجيال الصحوة الإسلامية المباركة، وهداية للبشرية الضالة، نحو الإيمان والإسلام والحياة البشرية الفاضلة.
وفي رأيي أن هذه الأبحاث الجادة التي قدمت إلى المؤتمر الثالث الكبير، ليست نهاية المطاف في دراسة فكر النورسي، وإنما هي بداية طيبة قوية، ترسم مقدمات جادة لدراسات اكثر شمولا وعمقا في رسائل النورسي التي تعد من اعمق تفاسير القرآن الكريم في العصر الحديث، ومن أقربها إلى تحقيق مراد الله سبحانه وتعالى من إنزال كتابه الكريم.(20/7)
فالنورسي في حياته لم يعد نفسه إلاّ تلميذا مخلصاً من تلامذة القرآن الكريم، وتابعاً مطيعاً لسنة النبي الأكرم صلوات الله تعالى وسلامه عليه، الذي عدّه ثمرة للكائنات - لأن غايتها - كما كان يقول دائما - لم تكن تستكمل إلا بمجيئه الشريف المبارك.
وأبيح لنفسي هنا أن أقول أن المؤتمرين، يشكرون معي بلسان الحال اخوة الإيمان، أصحاب الشهامة والوفاء، من تلامذة النورسي ومحبيه، الذين قاموا بخدمة أستاذهم في هذا المؤتمر خير قيام، وهيأوا لنا سبل الراحة والاستمتاع بمناظر المدينة الجميلة، لاسيما في جولة الشاطئ الشرقي قبل يوم الافتتاح، والجولة البسفورية الرائعة بعد أيام المؤتمر والتي أعادت لنفوسنا المرهقة، راحة الهدوء الباهر، والاسترخاء المريح، بعد أن عشنا أياما ثلاثة صباح مساء، من التركيز الذهني والقلق الفكري، في رحاب سماع كلمات الأستاذ الجليل، والأبحاث التي كانت تدور حولها.
فرحم الله أستاذنا بديع الزمان، متكلم الإسلام في العصر الحديث، وأعلى مقامه بين الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
المقدمة
مقدمة بحوث المؤتمر العالمي الرابع لبديع الزمان سعيد النورسي “ نحو فهم عصري للقرآن الكريم – رسائل النور نموذجا ” المنعقد في 24 - 26 أيلول 1998باستانبول - تركيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فمرة أخرى يتوافد العلماء والباحثون والمفكرون من أصقاع الدنيا على استانبول، المدينة الخالدة، بتأريخها وحضارتها ومآذنها الرشيقة السامقة، ومساجدها المهيبة العامرة، ومياهها الزرق الصافية، ومناظرها الجميلة الخلابة.
مرة أخرى يجمع الإمام المجدد سعيد النورسي، هذا الجمع الحاشد من الأساتذة والمفكرين وجهاً لوجه ، يصافح بعضهم بعضا، ويلتزم الأخ أخاه في الله والصديق صديقه في الإيمان والإسلام.(20/8)
يستقبل هؤلاء الأحبة كلهم تلامذةُ الأستاذ الإمام المخلصون، بأرواحهم الطاهرة وقلوبهم المفعمة بالمحبة والود، ووجوههم الصبوح الباسمة المستبشرة.
انه يوم أستاذهم العظيم، بل يوم أستاذ من أعظم أساتذة المسلمين عبر العصور، بل يوم أستاذ الإنسانية في فطرتها النظيفة، متكلم الإسلام في العصر الحديث، المفكر الكبير، والداعية الخبير، والعلامة الجليل، والفيلسوف الجوال في آفاق المعرفة الكونية، الرجل الذي حمل مأساة الإسلام والمسلمين، على كتفيه، وطغت على حياته الحزينة أحزانُهم، وشغلت كيانه كله أوضاعُهم، التي لم يكونوا يُحسدون عليها. نعم هذا الرجل المبارك يجمع هؤلاء المحبين مرة أخرى في ربوع الأخوة والمحبة، لكي ينفذوا إلى عقله الكبير، وقلبه الحنون، وقلمه القرآني السيال، الذي خط به وبإسم الله رسائله النورية الخالدة.
لقد أعدوا أبحاثهم النفيسة المختارة في جوانب عميقة من علوم القرآن التي تتجسد على كل صفحة من صفحات تلك الرسائل الخالدة المجيدة أسرارها التي أودعها الله سبحانه خلال آياته الكريمة.
ألم يكن النورسي يفتخر دائما ويشمخ على الدنيا كلها انه تلميذ من تلامذة ذلك القرآن العظيم.
ألم يعشق بيانه؟ ألم يبيّن إعجازه؟ ألم يغص في حقائقه؟ ألم يعش لحظاته من خلال إيمانه؟ ألم يقرأ الكون بقدرته السريانية المبدعة بين خمائل آياته؟ ألم يدخل في نسيج حياة أمته المظلومة من خلال صرخاته وسننه وتوجيهاته؟
ألم ينشر نفسه وروحه بين جلال آيات القرآن الكريم وجمالها، كي يطابق بينها وبين آيات القرآن المنظور، من فوق قمم جبال "جام"، وهو يحتضن الصفحة الزرقاء الواسعة ذات الإطار الخضر من الجبال المحيطة ببحيرة " اكريدر" ؟
ألم يكن يظهر أمام عينيه النفاذتين، شريط حياة القرآن الناطق، رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال آية " وإنك لعلى خلق عظيم " ؟(20/9)
ألم يكتشف المعاني العميقة في مجال العقيدة والشريعة والسلوك من تفاصيل تجليات أسماء الله الحسنى التي تجسدت على صفحات القرائين الثلاثة: المقروء والمنظور والناطق.
إذن فليكتب الكاتبون وليبحث الباحثون وليفكر المفكرون في ما كتبه الإمام النورسي عبر رسائله الكونية القرآنية الإنسانية. التي بشرت بقرب تجليات تلك الأسماء الحسنى مرة أخرى في عالم العلم والحياة والحضارة، لتشرق شمسا ساطعة على ظلمات الجاهلية المعاصرة، فتنبت ازاهير فواحة العطر في مروجها اليانعة .
وهل جاءت قراءات النورسي الثلاث إلا لتقيم دولة السعادة الإنسانية في قلوب الخلق أجمعين ؟
وهل القرآن الكريم نزل إلا للتفكر والحركة والتغير وبناء الحضارة الفاضلة ؟
لقد عرض الإمام حقائق القرائين الثلاثة المتطابقة، من خلال المعارف الحاضرة، وطبيعة المرحلة الآتية، فانطلق يريد صياغة أمة الإسلام من جديد عبر مواجهة قرآنية ساخنة ، ترجع الإيمان إلى القلوب، والصواب إلى العقول، والتزكية إلى النفوس، والطهارة إلى الوعي الإسلامي كله.
انه بكثير من الاختصار يريد تجديد القانون الإسلامي الخالد :
" من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام " فكأنه كان "ربعى" (1) قام من قبره ليٌطلق كلماته القوية في وجه "رستم" القرن الجديد!!
أفنعتب على الحشد الكبير من تلامذته المؤمنين المخلصين المجاهدين الذين جاؤوا من آفاق تركيا الواسعة ليقيموا مؤتمراً عالمياً رابعاً لتقديم فكر أستاذهم أمام بساط البحث العالمي الذي يجلس حول مائدته العريضة كبار العلماء والمفكرين من قارات الأرض .
وفكر النورسي ليس فكراً ضيقاً، يستطيع مؤتمر واحد أن يحيط به مهما كان كبيراً.
__________
(1) - ربعى بن عامر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبيل القادسية ليفاوض رستم قائد الفرس.(20/10)
إنّ فك رسائل النورسي في رموزه وأسراره، ومعارفه وأذكاره، ومقاصده وغاياته، وعلومه وآدابه، وحواره وجداله مع الكون كله، والإنسانية جميعها، يحتاج إلى روية في البحث وذكاء في القلم وإحاطة بمصطلحات العلوم، تبحث في عمق بحارها لتستخرج منها الدرر واللآلئ، لا في مؤتمرات تقام في عاصمة الخلافة وحدها، وإنما في ندوات مختصة تقام في كل بلد عريق يحتاج إلى شم أزاهير تلك الرسائل القرآنية. كي تضع البشرية المتمدنة كلها أمام فطرتها وكينونتها وأمام الحقائق القرآنية التي تعرضها رسائل النور: في الخالق والكون والحياة والمجتمع والانسان، لتجد نفسها الضائعة في متاهات الجحود المادي الكنود، فتتذوق لذة العبودية لرب العالمين.
لقد مرت عشرات السنين في دنيا المظالم الكئيبة، والنورسي يُنقل من سجن إلى سجن ومن نفى إلى آخر أقسى، ومن طغيان إلى جبروت أفظع منه، وأمته والمسلمون والبشرية لا يعرفون عنه شيئا. والذي كان قد سمع باسمه، ظن انه شيخ طريقة، يهذب نفوس تلامذته ويبعدهم عن دنيا السياسة والحركة ..
نعم، لقد كان هذا الطود الشامخ مجهولا، وظل فكره الشمولى الواسع أسير صفحات تُكتب أو تُنقش هنا وهناك، وتنقلها أيد مؤمنة بكل شجاعة وعزة، مشياً على الأقدام بين المدن والقرى خوفا من بطش الطغيان اللاديني الحقود.
غير أن رحمة الله بالعباد جرت بألاّ يبقى هذا السفر القرآني المجيد أسير الخطوط والنقوش ثم سجين المطابع المحدودة في حدود تركيا. وكان لسان الحال في العالم ينتظر بشغف مهرجان عرس كلمات النورسي لتنفذ إلى قلوبها الخاوية .(20/11)
ومن هنا فهذه المؤتمرات التفاتات ربانية وأنفاس رحمانية ينطلق منها النوريون بإذن الله تعالى ثم من فيض بركة روحانية أستاذهم ، لإقامتها ودعوة العلماء والمفكرين إليها، لكي يعيشوا أياماً قلائل بين أواصر الاخوة الصادقة، وآفاق العلم الغزير، والفكر النير، والبيان الآخذ بالألباب، والروحانية الصافية المغذية للأرواح، تمهيداً لدخول الجميع في موكب القرآن الكريم، موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأكرمين والتابعين لهم إلى يوم القيامة من المجتهدين والمجددين والأولياء والصالحين .
وإن أنس فلا أنسى يوم الافتتاح الكبير للمؤتمر، فقد زحفت حشود مؤمنة تحمل كل الحب، لإمام المسلمين، كي تأخذ أماكنها في قاعة ضخمة من اضخم قاعات اسطنبول، فكانت مظاهرة إيمانية رائعة خاشعة. وهي تستمع إلى آيات القرآن الكريم والكلمات النافعة، والمحاضرات العلمية الهادئة، وهي تعيد إلى الأذهان، وقفة الرجل التاريخية في وجوه أعداء الله بالحجة والمنطق والبرهان، التي شكلت فيما بعد ثورة كبيرة عميقة هادية هادئة نزلت إلى جذور الانحراف والفساد فاقتلعها بعصا القرآن الكريم.
ثم بدأت الجلسات المكتظة في قاعتين كبيرتين من قاعات فندق "آق كون" ينتقل فيها الباحثون بين محاور موضوعات القرآن الكريم، فمن محور عالمية القرآن، إلى القرآن والحوار، إلى القرآن والعصرانية، إلى حقوق الإنسان وحرياته في ضوء القرآن الكريم، إلى القرآن والعلوم الحديثة مصدرا للمعرفة، إلى أسلوب الدعوة والإرشاد في القرآن، إلى حلول قرآنية لمشكلات إنسانية، إلى نظرية المعرفة والفلسفة في القرآن، إلى مقاصد وقصص وتكرار القرآن.. إلى غير ذلك من الموضوعات ، عولج كلها في ضوء موسوعة الإسلام الكبرى في هذا العصر، وهي رسائل النور، بموضوعية ودقة وحياد رشيد، من خلال قراءة عميقة ودقيقة لهذا الكتاب الخالد، الذي هو أعظم تفسير شهودي للقرآن الكريم إلي الوقت الحاضر .(20/12)
وعلى الرغم من ابتعاد المؤتمر من يوم الافتتاح عن الإعلام الكذوب. غير أن أحداثه وهيبته فرضت نفسها على أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، بين شاكر لله على تغير الحال، وحاقد أكل فؤاده حقده الدفين على الإمام الصابر ورسائله النورانية وطلبته المجاهدين الأمناء.
ولم ينس الأخوة النوريون أن يهيأوا للمؤتمرين، الجولة البحرية الجماعية الرائعة، التي مخرت بنا البسفور، من قلب اسطنبول إلى مشارف البحر الأسود. فكان يوماً جميلاً رائعاً عشنا ساعات من الهدوء في أحضان الأحاديث الأخوية والفكاهة البريئة المنعشة التي كان يطلقها المعلق الشاب المحبوب، وهو يتكلم بعربية هادرة مكسرة تدخل البهجة والسرور في نفوس الحاضرين.
وبعد أن تمتعنا يوما كاملا بزرقة مياه المضيق وخضرة جباله الشم على شاطئيه، رجعنا إلى الفندق، ونحن نشعر بالراحة التامة، وندعو الله ان تعلو الاخوة، ويستمر الود، ويتصل اللقاء، مع هؤلاء الاخوة الذين ربتهم رسائل النور، وكأنهم ملائكة يمشون على الأرض.
وبعد انقضاء الأيام المباركة، أيام المؤتمر سريعة خفيفة، قسَّمَنا الاخوة النوريون إلى قافلتين، قافلة اتجهت إلى "بورصة"، وقافلة اتجهت إلى "اسبارطة"، وكنت معها. صاحَبَنا فيها تلميذا النورسي المتواضعان، الأخ مصطفى صنغور والأخ محمد فرنجي.
عشنا أياما مباركة مع النورسي في غرفته المتواضعة في إسبارطة وبارلا، واحتضنا شجرة الدلب الضخمة، كما احتضنها هو باكيا بعد أن عاد إليها عقب سنوات النفي والسجن والعذاب .
وكان أروع ما في تلك السفرة الروحانية صعودنا فوق جبل "جام" الذي يشرف من قمته العالية على صفحات مياه بحيرة "اكريدر" الزرقاء، والتي طالما جلس النورسي فوقها وفوق أشجارها العالية يناجي ربه وينظر إلى الكائنات، ويعاني آلام المسلمين، ويكتب رسائل النور، وحيدا شريدا.(20/13)
إن من لا يصاحب طلبة النور ولا يخالط أجيالهم الشابة في إيمانهم العميق وهدوئهم البرئ، واخلاقهم العالية ونظافتهم البديعة، ودروسهم الإيمانية المطهرة، لا يعلم مدى عمق اثر الإمام النورسي في تربية الجيل الجديد على حب الله ورسوله ، ثم حب العلم والفكر والعرفان والتغيير .
فلنقرأ هذه الأبحاث العلمية العالمية، حول الفهم العصري للقرآن في رسائل النور، من اجل تجديد إيماننا وتثقيف عقولنا وتهذيب نفوسنا، ثم نترحم على الإمام المجدد المجاهد الصابر .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
النورسي متكلم العصر الحديث
البحث المقدم إلى المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي“ تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين وبديع الزمان سعيد النورسي” المنعقد في 24 - 26 أيلول 1995باستانبول – تركيا.
في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، تجمعت قوى الظلام والتدمير في العالم، على إطفاء نور الإسلام واستعباد أبنائه، والتخطيط لإسقاط دولته التي حافظت على كرامة أبنائها حوالي خمسة قرون. ومن هنا ظهرت الأعماق الخفية للمرتدين، وتوضحت صورتهم الحقيقية، فبثوا الدعاية وضخموا الأخطاء، واطلعوا الأعداء علي العورات ومكنوهم من احتلال البلاد. تقودهم قيادة اليهودية العالمية وبؤرها الماسونية، وتنصرهم الصليبية ودولها بقواها الغاشمة، ليسقطوا الدولة، وينتهكوا الكرامة، ويسفكوا الدماء، ويغيروا القيم والموازين والقوانين، ويظهروا في الأرض الفساد، بإظهار الخلاعة وإقامة المنكر ونشر الإلحاد، وإخراج المسلمين من حضارة العلم والإيمان إلى حضارة الكفر والطغيان.
هذه التحديات الهائلة، حركت الأجساد الهامدة، والأفكار الراقدة، والجموع الحائرة، والجحافل المنهزمة. ظهرت في استجابات دعوات المصلحين، وصيحات الغيورين، وأفكار العلماء، ودماء الشهداء. في كل صقع ترتفع فيه شهادة أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله.(20/14)
وكان نصيب المسلمين في تركيا المسلمة من ذلك الكفاح والجهاد نصيباً يتسامق مع فخار تلك الأمة المؤمنة التي قادت بدماء شهدائها الأبرار، عبر قرون من الزمان، معارك الإسلام الكبرى، التي صدّت قوى الصليبية الزاحفة، عن الأمة الإسلامية وعن ديارها المقدسة في أرض الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى المبارك. فحال بينها وبين حدوث كارثة أندلسية أخرى، في الشرق العربي المسلم، عندما سدّت النوافذ المفتوحة، وسيطرت على البحار المشرفة، وحطمت الجيوش المتقدمة، وملأت الفراغ الرهيب.
لقد شاءت إرادة ربّ العالمين ألا نموت هذه الأمة الإسلامية الشاهدة، الحاملة لآخر رسالة سماوية إلى الكون كله، فبعثت الربانيين الصادقين، والعلماء العاملين، والمجتهدين المتنورين، والمجددين المخلصين، الذين كانوا شهوداً ظاهرين على معجزة الإسلام في الحياة، لإنقاذ الأمة من السقوط الحضاري الذي وقعت فيه، وأعادتها إلى صدر الإسلام الحنون وحضارتها الربانية السمحة، بعقيدتها الفطرية، وشريعتها الحكيمة وأخلاقها الرفيعة.
وفّق الله تعالى الأستاذ الكبير والإمام الجليل والداعية الثبت إلى إنجاز خير كثير في هذا الوطن الإسلامي العريق.
ففي ميدان السياسة الإسلامية اعتمد على التوثب الحذر، والمواجهة الذكية والتخطيط الهادئ ومراعاة ظروف الأمة، ومعالجة أدوائها في جذورها البعيدة، ومظاهر الحياة الاجتماعية في قواعدها التحتية، وتحويل المعركة من أسلوب إعلامي فاضح إلى مخطط فكرى عميق، ينظف الأذهان ويعالج الأدران، ويشخص الأعداء، ويهيئ لصياغة الأمة المنكوبة من جديد.(20/15)
وكان النورسي من قوة الإيمان، واطمئنان اليقين وعزة النفس وصلابة الشخصية وعظم الشجاعة، بحيث كان يستطيع إدارة المعركة الدموية، ومواجهة الحكام في زمانه مواجهة صريحة هادرة، ولكنه كان موقنا بان ذلك الأسلوب لم يكن في مصلحة الأمة. وكان يدرك تماما أن الأمة في صراعها الداخلي يومئذ لم تكن بحاجة إلى الشهداء، وإنما كان بأمس الحاجة إلى العلماء الصادقين - والدعاة العاملين والحكماء المفكرين، من أجل إنقاذ الإيمان، والوقوف أمام الردة الحضارية والزحف الجاهلي، متمثلاً بالحقد الصليبي والتآمر اليهودي، وخيانة المنافقين.
وأما في مجال العقيدة الإسلامية، فقد اقتنع النورسي أنه لم يعد يكفي في إدارة صراع الزمن الجديد، علم الكلام المصطلحي، الذي كان يتعامل مع مادة معرفية عتيقة انتهى عهده، وولت صراعاته اللاهوتية النظرية.
نعم، لم يعد يكفي منهج المتكلم المعتزلي الذي دخل في جدال تجريدي من أجل إبعاد مفهوم الصفات الإلهية عن الأقانيم النصرانية، محاولة منع المسلمين من الوقوع في شرك موهوم وتجسيد رواقي مستورد.
ولم يعد يفيد الأمة منهج حفظة النصوص في مواجهة المعتزلة، في الدعوة إلى عدم الخلط بين أوراق الإسلام وأوراق الصراعات اللاهوتية ومصطلحاتها.
وكذلك لم يكن يسعف في المعركة الجديدة، منهج الأشاعرة في نفي التطرف من التجسيم الحشوي والعقلاني المعتزلى، ومحاولة التقريب بينهما ليقدم حلا وسطا في المسائل المتعلقة بالتوفيق بين النقل والعقل في علم الكلام القديم الذي كان يشكل فكراً مرحلياً مقبولاً يومئذ بين المسلمين أو جمهورهم.
وأخيرا هل كان ينهى مواجهتنا مع أخلاقيات الحضارة المادية في إطار جاهلية شاملة، منهج الزهاد الذين يظلون يسيرون في مدارج السالكين دون التفكير بالعودة إلى الأرض ليقودوا حركة مواجهة طغيان هذه الجاهلية العالمية، وأدواتها السلوكية المدمرّة.(20/16)
لقد كان الزمن الإسلامي الجديد ينتظر بفارغ الصبر عقلية متحضرة واعية، ومتكلما منظراً، يمتلك علما إسلاميا غزيراً، وإدراكا إيمانيا عميقا لطبيعة الصراع بين منظومة الحضارة الإسلامية ومنظومة الحضارة الغربية في ظل مرحلة التأخر والسقوط الحضاري، والخواء الإيماني الذي كان يعيش فيه المسلمون يومئذ.
لقد شاءت إرادة الله أن يكون ذلك المتكلم المعبر عن زمانه هو الأستاذ بديع الزمان الذي:
أولاً: اكتشف تماما أن غزوا فكرياً مركزاً يشن على العقيدة الإسلامية، وإسقاط هيبتها وهيبة شريعتها ونظامها الأخلاقي في نفوس المسلمين، ابتداء من الدوائر الأجنبية وانتهاء بأجهزة الإعلام والثقافة والتربية التي كان يقودها الملاحدة والمنافقون والماسونيون وتلامذتهم وعملاؤهم ممن تشبعوا بالأفكار المادية الحديثة.
ثانياً: حاول إيجاد علم كلام قرآني يعتمد على الأدلة المتدرجة من المحسوس إلى المجرد، محققاً بتجربة واعية المطابقة الكاملة بين القرآن المقروء والقرآن المنظور والقرآن الناطق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يعدّه ثمرة الكائنات التي لم تكن لتكمل إلا بمجيئه المبارك.
ومن هنا فانه لم يقتصر على موضوعات علم الكلام القديم وإنما تجاوز ذلك إلى بيان المذهبية(1) الشاملة في الوجود، بما فيها الإنسان والطبيعة، فغداً مخططه الكلامي الحديث مواجها تماماً لمخطط الغربي الأيديولوجي في اقتحام الموضوعات المذكورة من وجهة نظر الفلسفات المادية.
__________
(1) - أستعمل المذهبية الإسلامية بمعنى " ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان، أي المنطلقات الكلية الثابتة بالوحي الإلهي القاطع".(20/17)
ثالثاً: ظهر له أن المواجهة غير متكافئة بين أمة هزيلة مغلوب على أمرها وبين القوى الطاغوتية الغاشمة، التي كانت لا ترحم في فرض الكفر عن طريق التصفيات الجسدية الرهيبة للذين يقفون في طريقها في تغيير هوية الأمة وسلخ جلدها وإدخالها في ثقافات منحرفة وأنظمة اجتماعية كافرة لا صلة لها بها دينا وتاريخا وحضارة ولغة.
رابعاً: قرر المواجهة بمنهج أصولي شامل جامع يوقف المسلمين أمام تلك الكوارث الكبرى في خندق واحد، لأنه لم يكن يؤمن في هذا الكون إلا بخندقين متقابلين؛ خندق الإيمان والرحمن، وخندق الكفر والشيطان.
خامساً: لا يؤمن الأستاذ النورسي بالمعرفة الجزئية ويعدها ناتجة عن نواقص العقل البشرى. فمهما أوتي العالم المسلم علماً من العلوم أو معرفة محدودة من المعارف أو غاص في سر من أسرار الوجود، فانه لن يستطيع الوصول إلى المعرفة الشمولية والقانون الرابط للكون، وحينئذ يفقد الموازنة والاتساق.
ولذلك فانه يبين أن فهم القرآن الكريم والإطلاع على حقائقه بمقدماته ونتائجه في عالم الأنفس والآفاق هو الذي يرسم الموازنة الكاملة في فكر العالم المسلم والعارف المسلم، لأن طريقة القران الكريم هي اقرب الطرق إلى إثارة الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة عن الحق والقلوب العامرة بالتوثب الدائم نحو الكمال.
ومن هنا فان منهج النورسي في رسائل النور الخالدة، قد عصمه إلى حد كبير من الانزلاق الفكري في إخضاع النصوص إلى متطلبات الحياة المتغيرة، وعوارض قصور القهم البشري، البعيد عن هداية الكتاب العزيز والسنة المطهرة، على الرغم من قدرته الفائقة في السَرَيان إلى ابعد معنى في تتبع خلايا الوجود في إطار أوسع دائرة ممكنة في الطوق البشري.(20/18)
سادساً: النورسي يفصل بحسم بين الوحي الإلهي وحركة التاريخ الإسلامي، ولذلك فانه مجدد حقا، يحاول ان يجدد حياة أمته في الزمن الحاضر والمكان الحاضر والصراع الحضاري الحاضر، ولكن بقيادة القرآن الكريم وأستاذيته الربانية، وريادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والقيم الرفيعة النبيلة التي صاغت كتائب المجاهدين.
وهو لا يدعو إلى النكوص إلى الوراء ولا الوقوف عند الزمن الحاضر، وإنما يؤمن بحركة الأمة الإسلامية، وتجديد الفكر الإسلامي في كل عصر، موازيا للمستوى الحضاري الذي وصل إليه الإنسان، بعيداً عن المادية الاسنة، المشدودة خيوطها بمراكز القوى اليهودية والنصرانية والزندقة الحديثة.
سابعاً: النورسي لا يرفض الفلسفة الحقة أو الفلسفة المؤمنة، وإنما يرفض العبثية التي تنكر إله الكون ونظام الكون، وترفض مبادئ الدين الحق، ولقد غدت تلك الفلسفة وسيلة للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع العفن للطبيعة الجامدة، والتي ترى القوة نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، وتهدف إلى المنفعة في كل شئ، وتتخذ النزاع دستور للحياة وتلتزم بالعنصرية رابطة للجماعات.
ومن المعلوم كما يقول أستاذنا الجليل، أن شأن القوة هو الاعتداء وشأن المنفعة هو التزاحم وشأن الصراع هو النزال والجدال وشأن العنصرية هو الاعتداء.
أما الفلسفة القرآنية - إن صح التعبير - فهي تقبل الحق بدلاً من القوة، ورضى الله بدلاً من المنفعة، والتعاون أساساً في الحياة بدل الصراع وتلتزم برابطة الدين والإنسانية بدلاً من الرابطة العنصرية.(20/19)
على أن بديع الزمان لا يرفض الفلسفة المادية فحسب وإنما يرفض أيضاً ما يسمى بالفلسفة الإلهية القديمة التي تحولت إلى أبواب من الشرك، ممثلة بروادها اليونانيين من أمثال أفلاطون وأرسطو وتلامذتهم من المسلمين كالفارابي وابن سينا الذين لتأثرهم بالفلسفة اليونانية، لم ينالوا إلا أدنى درجات الإيمان، لأنهم لم يتخذوا القرآن الكريم أستاذا لهم في الحياة.
ثامناً: يرفض الأستاذ المنطلقات الثقافية في الحضارة الغربية، لأن المادية البحتة هي التي توجهها، ولا يرفض الجوانب العلمية فيها، من منطلق أن الإسلام دعا المسلم أن يتحرك في إطار اكتشاف قوانين الحياة والاستفادة منها لإقامة الحضارة وبناء التقدم، ولذلك فانه من ضرورات إقامة المجتمعات القوية، أي إنه يؤمن أن المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى تبنى التقنية الحديثة وبناء الحياة الحضارية المنظمة، مع المحافظة على الإيمان والأصالة والقيم الذاتية للأمة الإسلامية.
تاسعاً: وأخيراً وليس اخراً، يؤمن الأستاذ النورسي، في حركة التغيير الاجتماعي بالنظام ويرفض الفوضى، ويعتقد بالتدرج وينكر الطفرة، لأنها تتناقض مع نظام الكون القائم على شبكة من القوانين التي تعتمد التدرج، والانتقال من المقدمات الصحيحة إلى النتائج الصحيحة.
وفي ضوء ذلك يدعو الإنسان إلى تغير اجتماعي منظم يتمسك بقانون التطور الفطري الذي يبدأ من القاعدة إلى القمة، لا العكس، ويؤدي إلى زعزعة الحياة الاجتماعية، وينتج منه شر مستطير، وتخريب كبير.
ولإيمان الأستاذ بالتغير في إطار الوعي الاجتماعي، والدعوة السلمية والتخطيط الهادئ، فانه لا يبيح الجهاد المسلح في داخل المجتمع الإسلامي الموجه الى الدولة ومؤسساتها، لان ذلك لا يخدم من وجهة نظره إلا العدو الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي من حيث هو كل واحد.(20/20)
على انه لا ينكر أن استعمال "الهراوة " قد تحتاج إليه العصبة المؤمنة القوية في المراحل الأخيرة من بناء المجتمع الإسلامي الجديد، لأن من لا يفيده النصح والإرشاد حينئذ، يفيده القلع والإبعاد، حسب تعبير الإمام حسن البنا الشهيد رضي الله عنه وعن شيخنا بديع الزمان.
هذا هو الأستاذ النورسي، العلامة، المتكلم المجدد المربي، الحركي العظيم، الذي نكتشف الكون الإسلامي والإنساني كله من خلال كلماته المتأججة الخالدة المتطورة إلى الأمام دائما، في نماء خصيب كخصوبة مهرجان الربيع الذي كان يعشقه ويحتضنه كل عام بروحه وكيانه، فيقود موازيا له مواكب كلماته الخالدة في رسائله النورانية القرآنية الباهرة، في مهرجان آخر إلى الله تعالى، لينقذ إيمان أمة غافلة منكوية، خطط الأعداء لسرقة إيمانها وتغريب ثقافتها وتغيير دستور حياتها، والحيلولة دون انفجار صوتها من جديد.
إذن فمنهج النورسي التجديدي الكلامي التغييري ليس منهجا مرحلياً مرتبطاً بزمن معين، ولم يكن علاجاً لمشكلات معينة، وإنما هو المنهج الشمولي الذي يشكل السقف الراسخ فوق حركة الأمة الإسلامية، لكن بلغة العصر، وحياة العصر، وصراع العصر في مواجهة جاهلية العصر.
لقد كان علم المتكلمين السابقين من الكتب - أما علم النورسي فبدأ من الكتب ثم تجاوزها إلى الكون فالقرآن الكريم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إلى حركة إيمانية اجتماعية، اجتهدت في إصلاح ما أفسد الناس في عالم الغرباء.
فشتان بين علم مجرد وعلم مطبق، وبين علم مقيد وعلم مطلق.
رحم الله تعالى شيخنا النورسي رحمة واسعة - واجزل مثوبته، وجزاه عن أمته خير الجزاء، وحشره مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نظرية المعرفة
في القرآن الكريم
من خلال رسائل النور(20/21)
بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي الرابع لبديع الزمان سعيد النورسي“نحو فهم عصري للقرآن الكريم: رسائل النور أنموذجاً” 20 - 22 أيلول 1998استانبول - تركيا
رسائل النور هي تلك الرسائل التي ألّفها الأستاذ سعيد النورسي، رحمه الله تعالى، لتحديد المذهبية الإسلامية في الوجود، بتفاصيلها الكاملة الشاملة، اعتبارا من تجواله الكوني الدقيق إلى الحديث عن الخالق العظيم وما يريده من الإنسان، من إيمان عميق، وتوحيد خالص، واستسلام خاشع لحاكميته المطلقة، والتزام عملي للقيم الرفيعة المنبثقة من أسمائه الحسنى التي أشرقت على الوجود، وحددت نصيب الإنسان منها، كي يقوم بدوره الحضاري، أداء لدور الأمانة(1) وتنفيذا لمهمة الخلافة(2) وليتخذ صورة " احسن تقويم " ويعتلى مرتبة تفوق المخلوقات جميعا(3)من أجل أن تنمو فيه الكمالات الإنسانية لكي يستحق مقام العبودية الخالصة لرب العالمين، وتتفجر لديه الطاقات الكامنة ومزايا اللطائف الإنسانية التي ترفعه فوق مستوى الحيوانية .
ولقد استحق الإنسان هذا الدور، لأنه الثمرة النهائية لشجرة الخلقة، ومن المعلوم أن الثمرة هي أبعد أجزاء الشجرة واجمعها وألطفها. لذلك فقد جعله الله سبحانه مدارا لجميع نقوشه البديعة، جلت عظمته، وصيره مثالا مصغرا ونموذجا للكائنات بأسرها(4)
ومن المؤكد أن ذكاء النورسي الحاد، وخياله الخصب، وإخلاصه العظيم لله سبحانه وتعالى وامتلاكه ثقافة إسلامية واسعة، ومعارف إنسانية متنوعة، بجانب قدرة فائقة على التأمل العميق، هو الذي انتهى به إلى كتابة تلك الرسائل النورانية القرآنية التي تجاوزت مائة وثلاثين رسالة.
__________
(1) - قال تعالى " إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " الأحزاب: 72
(2) - قال تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " البقرة : 30
(3) - الكلمات : 134 ـ 140
(4) - الكلمات : 349(20/22)
على أن تلك الرسائل لم تكن عشوائية، وإنما اتبعت منهجا دقيقا في رسم نظرية واضحة للمعرفة الكونية والإنسانية، حتى لا يضل الإنسان، ولا سيما المسلم في تيه العبثية والخبطة العشواء في سوق المعارف المعروضة بلا حساب.
لقد رفض النورسي الغوص في التاريخ وما أنتج فيه من معارف مرتبطة بالزمان والمكان، تمثل صراعات المصالح والغرائز في هذه الأرض، والتجأ إلى القرآن الكريم مباشرة، كي يرسم نقطة الانطلاق لبناء مجتمع جديد ينمو كشجرة طيبة، مكان ذلك المجتمع الخرب الذي صنعه تخلف القرون المظلمة في العالم الإسلامي.
رفض علم الكلام القديم ولم يعرض مادته المعرفية، لأنها لم تكن تتصل بمشكلات عصره وهموم المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري، ولان منهجها لم يكن منهجا قرآنيا، إذ هي لم تستنبط مباشرة من القرآن الكريم، لأن تعاملها كان مع الفلسفات واللاهوتيات الأجنبية، التي كانت تمر بدهاليز العقل المنفرد في صراعاته اليومية لتحقيق اكبر قدر ممكن من المصالح الذاتية، التي كانت تنشد حب الانتصار وليس الحرص على الوصول إلى الحقيقة.
وكذلك رفض مناهج الفلسفات القديمة، لأنها انفردت بفهم الوجود من خلال عقل مادي لا يتجاوز عالم الشهادة، ويفهم ظاهرا من الحياة الدنيا، فهي فلسفات وثنية لا تليق بالإنسان المكرم ولا يشرفه أن يكون تلميذا لها. (1)
بينما المنهج القرآني منهج صاف مباشر، يخاطب الكينونة الإنسانية مجتمعة، ويوقظ فيها الفطرة النظيفة. (2)
__________
(1) - الكلمات : ص 144 ، 644 ـ 648
(2) - الكلمات : ص 512 ـ 515(20/23)
وكذلك يرفض الاعتماد على المعرفة الإشرافية التي تعتمد على رياضات وتجارب فردية، قد تختلط فيها الإلهامات الرحمانية مع النفثات الشيطانية، ولا نستطيع أن نفرق بين الاثنين، لأنها ابتعدت عن تلمذة القرآن الكريم واتباع القدوة العظمى في الوجود محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي سدّ الله تعالى بمجيئه كل باب، دون بابه الرباني النوراني المقبول.
إذن كيف ينطلق النورسي معرفيا إلى فهم قضايا الوجود؟
انه ينطلق من "الكل الشمولي" للقرآن الكريم في مخاطبة الفطرة الإنسانية. انه لا يضع بين الحس والعقل والحدس خطوطا فاصلة، وإنما يدمجها في وحدة قرآنية للسير إلى الله سبحانه تعالى، والتغلغل في فهم الجزئيات الدقيقة في المعرفة الكونية، لأنه يتلو مع القرآن آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير، وليس في أقبية النظريات المعرفية المادية المحصورة بالقياسات المنطقية والنظرات المادية والخيالات الروحية.
إنه يقف أمام قرآن الكون ليقرأه قراءة شاملة عميقة ليصل إلى الله تعالى من خلال تناسقه المعجز ونظامه الباهر وجماله الأخاذ وفنه العجيب وقانونه الموحد وحركته المتوازنة.
وحينئذ فقط، يعود الإنسان إلى حجمه الصغير، فيشعر بالفقر والتذلل والصغار والتضرع إلى خالق كل هذا وحده، ليكبر في حجمه تجاه المتكبرين والعالين في الأرض بغير الحق "لأن من كان ضيفا عند هذا الجواد الكريم جل وعلا، كيف يكون الفقر والحاجة إليه مؤلما وثقيلا" (1)
لكن قراءة الكون بشمولية ودقة وعمق يحتاج إلى ثمرات العلم، لأنه يكشف عن حقائق الوجود، ويفصل خريطة العالم، ويفرش أمام قوى الإنسان النظام الكامن في ملايين الجزئيات، ويبحث عن الخالق بلغته الخاصة. (2)
__________
(1) - الكلمات : ص 29
(2) - الكلمات : ص 175(20/24)
وحينئذ يظهر اسم الحكمة، وتسقط براقع القوة العمياء والطبيعة الصماء، والأسباب التائهة والصدفة العشواء، لتذوب في دائرة المحال بألف وجه من الوجوه. (1)
إن ملاحظة نظام العالم في ظل هذه القراءة الربانية الكاشفة عن حركة الكائنات، وفقرها الى الخالق العظيم، هو الذي يدخل الطمأنينة الواعية في الكيان الإنساني. لأنه حينئذ يشعر بان استمداد وجوده من الله تعالى هو جزء من فقر الكائنات إليه. (2)
فكيف يعيش الإنسان بعد ذلك في دائرة ذاته أو عالمه المادي، بدون شعور داخلي عميق متأجج بأنه عبد من عباد الله في هذا الكون الرحيب.
وقد يسألنا سائل فيقول: إذن أي عقل يريده النورسي في معرفته النورية إلى الله سبحانه؟
نقول:
انه يريد العقل الذي يبيع نفسه إلى الخالق عز وجل، ولا يجعل نفسه ندا متمردا عليه سبحانه، لأنك إن لم تستعمله في سبيل كشف الحقيقة الربانية، بل جعلته يستسلم إلى الهوى والنفس الطاغية، فانه يتحول إلى عضو مشؤوم، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة.
ولكن إذا سلكت بالعقل في سبيل الله وبعته لله، فانه حينئذ يكون مفتاحا رائعا يفتح مالا يعد من خزائن الرحمة الإلهية، وكنوز الحكمة الربانية. فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ وكل موجود وكل حادثة، ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة عقل مرشد رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة. (3)
ويحذر النورسي من شرور العقل إذا انفرد بموضع الأساس المعرفي للوجود بموازينه المحدودة ومنطلقاته المنفردة الخاطئة.
لماذا ؟
لأنه ـ في حالة الشرود ـ سيجعل القوة نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية، ويلتزم بالتعصب العنصري البغيض الذي ينتهي إلى الخصام والتمزق في الكيان البشري.
__________
(1) - الكلمات : 179 ـ 184
(2) - الكلمات : ص 6 ـ 8
(3) - الكلمات : ص 23(20/25)
وبعد استقراءات عميقة واسعة للحضارة العقلية المتمردة المعاصرة، انتهى إلى أن شأن القوة الاعتداء، وشأن المنفعة هو التزاحم، وشأن الصراع هو النزاع والجدال، وشأن العنصرية هو التجاوز على الآخرين.
بينما إذا انضم العقل إلى الكينونة الإنسانية، استند حينئذ إلى حكمة القرآن الكريم، فعوض عن النظرة المدمرة للحياة نظرة أخرى راحمة، فيترك القوة ويتمسك بالحق، ويستبدل بالمنفعة الوقوف عند الفضائل ويعتمد على التعاون أساسا في الحياة بدل الصراع. وبذلك تتحقق الإنسانية في أعلى مستوياتها في ظل عبودية المخلوقات كافة لرب العالمين (1)
إن العقل بهذا المعنى الدقيق، المندمج في الكيان الإنساني المتكامل ضمن طاقاته واستعداداته المتنوعة، يحوّل الكائنات المعروضة أمامه من الأسرار الدقيقة المشاهدة في عالمي الأنفس والآفاق إلى علم كلام مفتوح، يمثل صفحة واضحة، يجد فيها المرء براهين قاطعة على الخالق العظيم، ويشعر بأنس عجيب مع الكائنات كلها، لأنه يقرأ فيها فطرته التي كانت ضائعة تائهة مشوهة في بيداء ظلمات الكفر والتيه والانحراف والظلم والشرك.
وإذا رجعنا فسألنا ما رأى النورسي في المعرفة الحدسية أو الإلهامية التي تظهر بالكشف عبر الرياضة الروحية في مدارج السالكين إلى الله تعالى.
نقول، يؤمن النورسي بأصل هذا الطريق، ويقول إن وجوده يقين جازم في أخبار أهل الذوق والكشف (2)
ولكن تفاصيله ليست قطعية، إذ من الممكن أن يحصل خطأ أو تشويه في حكم من أحكامه ومشاهداته، في حالة الشهود، التي لا ضوابط ولا حدود لها. والكتاب والسنة هما الميزان لتصحيح الأخطاء. ولذلك يقول "ولا ريب أن أهل الشهود هؤلاء عندما يرقون إلى مقام الأصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بإرشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها قسم منهم" (3)
__________
(1) - الكلمات : ص 145
(2) - الكلمات : ص 24 ، 157 ، 255 على سبيل المثال .
(3) - المكتوبات : ص 102 والشعاعات ص 158(20/26)
ويبنى النورسي على ذلك أن درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الإيمان بالغيب. ولذلك فالكشفيات التي لا ضوابط لها لا تبلغ أحكام الأصفياء والمحققين من ورثة الأنبياء الذين لا يستندون إلى الشهود بل الى القرآن والسنة اللذين يرجع إليهما وحدهما جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات(1)
وفي معرض رده على نظرية وحدة الوجود يقول: "نعم إن الصراط المستقيم هو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أن حقائق الأشياء ثابتة، وهي القاعدة الكلية لديهم. وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى. وهو قوله "ليس كمثله شئ" أي انه منزه عن لتشبيه والتحيز والتجزؤ، وان علاقته بالموجودات علاقة الحقائق بالمخلوقات. فالموجودات ليست أوهاما كما يدعى أصحاب وحدة الوجود. بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى"(2)
فعلى ذلك فان الصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى عنده، إن هو إلاّ طريق الصحابة والأتقياء والأصفياء والتابعين وأئمة أهل البيت والأئمة المجتهدين. وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأول للقرآن الكريم.
ويرفض النورسي مناهج الطرق الصوفية التي جانبت القرآن والسنة في السلوك إلى الله تعالى ولم تنج من لوثة الأخطاء والانحرافات، فيقترح لذلك طريقا قرآنيا خالصا مختصرا إلى الله تعالى، لا شائبة فيه للاجتهادات الفردية والإلهامات الباطلة، وليست فيه عقبات وتعقيدات، من أربع آيات في كتاب الله، تنحصر في خطوات أربع هي: العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.
فالعجز أقرب واسلم طريق إلى الله تعالى، إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية.
والفقر مثله يوصل إلى اسم الرحمن.
والشفقة كذلك موصل إلى الله تعالى، إلاّ انه انفذ من الفقر في السير وأوسع مدى، إذ يوصل إلى اسم الله الرحيم.
__________
(1) - المكتوبات : 105
(2) - المكتوبات : 106(20/27)
والتفكر كالعشق، إلا انه أغنى منه واسطع نورا وارحب سبيلا إذ يوصل السالك إلى اسم الله الحكيم.
ويستنبط النورسي هذه الحقائق من قوله تعالى }فلا تزكوا أنفسكم{ وقوله }ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم{ وقوله }ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك{ وقوله }كل شئ هالك إلاّ وجهه{.
فهذه خطوات أربع تمثل الحقيقة الشرعية، اكثر مما يعبر عن الطريقة الصوفية.
ويقول النورسي موضحا:
"ولا يذهبن بكم سوء الفهم إلى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير، إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه وليس إظهاره أمام الناس".
أما أوراد هذه الطريق القصير وأذكارها فتنحصر في اتباع السنة النبوية والعمل بالفرائض، ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان والعمل بالأذكار عقبها وترك الكبائر" (1)
إذن فالإلهام عنده ليس مصدرا مستقلا عن الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إنما تأتي إشراقته ببركتهما وقوة الالتزام بأحكامها.
لماذا؟
لأن الوحي الإلهي هو الأساس في الوجود، عقيدة وشريعة وسلوكا، فإذا كان للحس مجاله، وللعقل مجاله، في عالم الشهادة وفي قيادة الإنسان إلى الله تعالى، والوقوف عند حافة دقائق وحقائق عالم الغيب. فما بعد تلك الحافة الى العمق مجاله غيب، لا يحيط به إلاّ علم خالقه سبحانه. فحتى تتكامل معرفة الإنسان بحقائق الوجود كله، أمده الله تعالى بالنبوة وجعلها مصدر الحقائق النهائية عن طريق الوحي الإلهي.
__________
(1) - الكلمات : ص ـ 560 ، 561 كانت حياة النورسي تمثل هذا الفقر وذلك العجز تمثيلا صادقا. فلقد كان يذوب في عبودية الله وطاعته، مع انه كان طودا شامخا أمام الطغاة والمتجبرين.(20/28)
ويؤكد النورسي أن التحول الحقيقي في حياة الإنسان يبدأ من هذه النقطة الخطيرة. لان معنى "أنا" في الإنسان يتحول إلى معنى في غيره، وان وجوده يقوم بوجود غيره. لأن مالكيته للأشياء وهمية أي أن له مالكية موقتة ظاهرية بإذن مالكه الحقيقي. وحقيقته واحدة حقة، وظيفته القيام بطاعة مولاه طاعة شعورية كاملة ميزانا لمعرفة صفات الله خالقه ومقياسا للتعرف على شؤونه سبحانه.
أما الوجه الثاني لـ "أنا" الذي يرى نفسه في نفسه عكس ذلك، أي انه يرى أن له ماهيته الحقيقية في ذاتها وليس من خالقها. أي يدل معناه على نفسه لا في غيره، ووجوده أصيل، لا تبعي. ومالكيته حقيقية لا وهمية، ووظيفته عبادة نفسه لا خالقه. هذه "أنا" المتمردة الشاردة هي التي أنتجت فلسفة مظلمة شريرة ضالة، تعمل لأجل نفسها لا لغيرها، أي تعمل بمعزل عن الوجود الحقيقي والمالك الحقيقي. ومن هنا فإنها لم تلتق بالنبوة ورسالاتها، ولم تكن بخدمتها والكشف عن أهدافها. (1)
فإذن إذا أردنا أن تنتفي هذه المظلمة الشريرة الضالة، فلا بد أن نملأ الفراغ الأخير من سلسلة المعرفة. وهو فراغ الغيب الذي لا يستطيع الحس والعقل أن يجيب على حقائقه إلا الوحي الإلهي الذي انتهى بالوحي الخاتم الكامل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي جسد الله تعالى فيه الكمالات الإنسانية المنبثقة من أسمائه الحسنى ، فهو القدوة والأسوة. لأن أصول الدين وأسس التربية التي جاء بها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - هي من الرسوخ والكمال مالا يمكن أن يحرز نورا ولا كمال قط من يدعها ويتركها بل يحكم عليه بالتردي والسقوط المطلق إذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وسيد الأنبياء والمرسلين وإمام البشرية بأكملها في الحقائق كلها" (2)
__________
(1) - الكلمات : ص 637 وما بعدها.
(2) - الكلمات : ص 641 ، 643(20/29)
ولما كان الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - هو الآية الكبرى كتاب الكون الكبير، لذلك لا يحتاج معه في التعرف إلى عالم الغيب غيره من مصادر المعرفة المادية، بل إننا بتلك المصادر نثبت ذلك البرهان الحق، إذا استعملنا موازيننا بإنصاف واتزان وتعقل. لأن القرآن الناطق فيه النور كله والدعوة كلها والحكمة الصائبة كلها، وحقائق جواهر المعاني جميعها. (1)
هذا النبي الخاتم برهان. وجوده أيد النور الذي جاء به، وهو القرآن الكريم الذي يصفه النورسي بفكره العميق النير، وبلاغته الواضحة النادرة فيقول:
__________
(1) - الكلمات : 254 ـ 268 واللمعات : ص 196(20/30)
"هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات. والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم. وهو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قول شارح وتفسير واضح وبرهان قاطع وترجمان ساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه. وكذا هو مربّ للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر. وهو المرشد المهدي الى ما خلق البشر له. وكذا هو للإنسان: كما انه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما انه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما انه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر وكما انه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين، رسالة لائقة لمذاق ذلك المشرب وتنويره ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل" (1)
ولو رجعنا إلى الفلسفة الجامدة البشرية التي تتحرك بين المصدرين، الحس والعقل ولا تتجاوزهما ولا تؤمن بما وراءهما، نجد أنها تنظر إلى الدنيا على أنها ثابتة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكرا مفصلا مسهبا، بينما لو ذكرت وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فإنها تذكرها ذكرا مجملا مقتضبا. أي أنها تفصل في ذكر نقوش الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماما كبيرا.
__________
(1) - الكلمات : 264(20/31)
أما القرآن الكريم فانه ينظر الى الدنيا على أنها عابرة سيالة، خداعة سيارة. متقلبة لا قرار لها ولا ثبات. لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكرا مجملا مقتضبا، بينما يفصل تفصيلا لدى بيانه وظائفها التي تنم عن عبوديتها التي أناطها بها الصانع الجليل. ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للأوامر التكوينية الإلهية، وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى.(1)
ومن هنا فان النورسي لا يؤمن بالمعرفة الجزئية التي كانت تعالج بمعزل عن القرآن الكريم. وكان يعدها من نقائص العقل البشرى، بينما هو يعكس القضية، فينطلق من القرآن إلى التوغل في جزئيات الوجود. فهو بذلك طريق أمين. إذ في الأول قد يضيع الباحث عن الحقيقة ويخرج على المحور. وأما في الثاني، فالمحور واضح وأرض صلدة. فلا خوف على من يبدأ بالقرآن، لأنه شجرة تمثل جميع الأغصان، على حين أن الأفكار البشرية أغصانها منفردة .(2)بسبب أن القرآن الكريم جمع بين القيم التي تنبثق من أسماء الله الحسنى جمعا متوازنا متسقا لا تنفصم عراه. بينما الأفكار البشرية تعرض القيم عرضا منفردا متأثرة بالزمان والمكان. فما يكون قيمة لا يعود في زمان آخر. وما يعمل به في مكان قد يترك في مكان آخر لتغلب المصلحة الذاتية والظروف المتقلبة.
فإذا كان ذلك كذلك، فان طريق القرآن الكريم هو وحده الذي يوصل إلى الله سبحانه، لأنه اقرب الطرق إلى إثارة الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة والقلوب العامرة بالتوثب الدائم، وأكثرها انطباقا على آيات الأنفس والآفاق،(3) لأن الوجود قرآن واحد بثلاثة وجوه.
إذن فأصول المعرفة التي آمن بها النورسي، هي الأصول القرآنية التي يأخذ بعضها برقاب البعض الآخر من الحس والعقل، لكن في اندماج قرآني واحد.
__________
(1) - الكلمات : 508
(2) - الكلمات : 425
(3) - المثنوي العربي النوري ص 428(20/32)
وهذا هو الذي دفع النورسي أن يرسم في رسائله منهجا قرآنيا راسخا، لا يرتبط بمرحلة معينة ولا برهان معين. وإنما هو المنهج الذي يشكل السقف المتين فوق تاريخ الأمة الإسلامية، لكن بلغة العصر وصراع العصر في مواجهة العصر.
وهذا هو سر نجاحه في دعوته الإسلامية لإنقاذ الإيمان في هذا العصر، لأنه لم ينطلق من مناهج تاريخية ضيقة كانت تشكل صراعات ماضية بين الحضارة الإسلامية والحضارات الغازية، والتي استنفدت أغراضها في العصر الحديث، وظهرت مكانها مشكلات داخلية وخارجية، عدم معالجتها بعمق وعصرية يشكل خطورة كبيرة على مستقبل العالم الإسلامي. وإنما انطلق من "الكل القرآني" الذي يقرأ الكون ببراهينه الثلاثة، برهان الكون المنظور "الكائنات" وبرهان الكون المقروء "القرآن الكريم" والبرهان الناطق "رسول الله" - صلى الله عليه وسلم -.
من معالم التجديد عند النورسي
بحث مقدم إلى ندوة "تجديد الفكر الإسلامي في القرن الرابع عشر للهجرة جهود بديع الزمان النورسي" المنعقدة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس بالرباط في 17-18/3/1999(20/33)
درستُ رسائل النور دراسة دقيقة في الأقل مرتين كاملتين ، فكتبتُ في ضوئهما كتابي "النورسي متكلم العصر الحديث"(1) وقدمت لكتاب النورسي النفيس " الآية الكبرى" ولكتابه القيّم "إشارات الإعجاز" وألقيت محاضرات علمية عنه وعن أفكاره وعصره في أقسام الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط وكلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، واستمعت الى البحوث العلمية المتنوعة التي ألقيت في مؤتمري فكر النورسي في اسطنبول عام 1995 وعام 1998م ثم قرأت كتباً وأبحاثاً حوله كُتبت في العراق وغير العراق، فتحصل عندي أن الإمام النورسي من أكابر المجددين، ليس في العصر الحديث فحسب، بل في تاريخ الإسلام كله، ولا سيما في عصرنا، عصر الفتن الكبرى، وعصر النكبة والهلاك عصر نهاية التراجع الحضاري الإسلامي، عصر سيطرة الغرب على توجيه الحركة الحضارية في العالم الإسلامي، مباشرة أو غير مباشرة، عصر التمزق والهزيمة الكبرى للمسلمين أمام النظام السياسي والعسكري والحضاري الغربي، عصر تأسيس دولة اليهود الباغية العدوانية في قلب العالم الإسلامي المقدس "فلسطين" عصر إعلان اللادينيات المختلفة في أنحاء العالم الإسلامي كله.
__________
(1) - صدر في القاهرة عام 1995م(20/34)
لقد كان الإمام سعيد النورسي إبن زمنه البار، استوعب الأفكار، واستخلص العبر، وتعمّق في فهم المأساة، وعرف طرق الإفساد، واطلع على أسباب التمزق والفرقة، وراقب مسرحية الانتقال الخبيث من المنظومة الإسلامية إلى المنظومة الغربية اليهودية الصليبية الإلحادية، مع تفهم حقيقة المرحلة، وطبيعة المؤامرة، وتطور الأحداث في تركيا والعالم الإسلامي برمّته. فكان ذلك المجدد الذي عبّر عن عصره، تعبيراً شمولياً متوازناً ابتداءً بنمط شخصيته، وانتهاءً بالمخطط المتكامل الذكى في الوسيلة والغاية التي اتبعها، من خلال مادته المعرفية العلمية الغزيرة، لإحداث هزة عنيفة عميقة في كينونة الإنسان مسلماً أو غير مسلم، في عقله وقلبه وروحه ونفسه.
أما نمط شخصيته فهو شخصية فريدة في تربيته ونظافته، وذكائه الخارق وصلابته وعزته وأنفته وتوكّله ورضائه وزهده.
وأما شخصيته في كشف الوجود وأعماقه، وتذوقه لجماله الباهر وجلاله الأخّاذ، في دائرة الطاقة البشرية، فهي عبقرية تقترب من نهايات الولاية العظمى في مستويات الأولياء العظام من غير الأنبياء والمرسلين. أي انه شخصية ذابت في حب الكون وما فيه من مخلوقات الله سبحانه تعالى، التي تدل على توحيد الخالق، وعظمة وقداسة أسمائه الحسنى التي أنارت الوجود من الذرات إلى المجرات. وبمقابلة ذلك الحب العظيم فإنه شخصية صمدت بمواقف حاسمة بوجه قوى الشر الشيطانى، التي تقود ظلام الشرك المطلق في هذا العصر.
أما مادته المعرفية التي كان يمتلكها، فقد دفعته الى أن يعالج بنفسه كل جزئية من جزئيات الانحراف في المجتمع الإسلامي والإنساني على السواء، كي يعيدها إلى الفطرة والتوازن والعبودية الخالصة لرب العالمين، والابتعاد النهائى، ولو معرفياً، عن موكب الشرك والمشركين بقيادة الشيطان الرجيم وأوليائه المتآمرين على فطرة الوجود من الإنس والجن.(20/35)
وقارئ رسائل النور يدرك هذا تمام الإدراك، ويستطيع أن يميّز مؤلفها الإمام النورسي عن بقية المجددين في زمانه، كالأفغانى ومحمد عبده ومحمد إقبال وحسن البنّا وعبد الحميد بن باديس رحمهم الله تعالى. فهؤلاء لم تُلجئهم ظروفهم الزمانية والمكانية الى معالجة كل جزئية من جزئيات الإسلام بأدلتها التفصيلية وقواعدها المنطقية، ولا ردّوا كل الشبهات المثارة في زمانهم حول الإسلام، ولا دخلوا في صراع فكرى تفصيلي مع الكفر، وإنما حددوا المنهج والتوجّه والحركة، وبيّنوا أسس الفكر الإسلامى الحديث، وتركوا لأتباعهم الكثيرين القيام بمثل تلك الدراسات والمواجهات والمعالجات.
بينما الظروف "الزمكانية" للشيخ النورسي جعلت منه فارس الميدان الوحيد بحيث ملأ مجتمعه علماً وتوجيهاً ومعالجة ومعارك فكرية، استعمل فيها عبقريته العلمية، ومادته المعرفية، وخصص لها كل ما أوتي من الفكر والحكمة والشجاعة والإقدام.
ولاشك أن عزلته ووحدته وسجنه والإقامات الجبرية الدائمة التي فرضت عليه، كانت سبباً مهماً من أسباب هذا التوجه والتي نقّت قلبه وصفّت فكره، وأدمجته بأعماق الوجود الكونى والإنسانى.
أما مخططه المتكامل فيظهر من معالم التجديد الآتية في حياة النورسي:
- انه تلميذ أمين من تلامذة القرآن الكريم، لا يتبع التجربة الصوفية الضيقة، ذات النفق الواحد، حتى في قمة صفائها، ولا يعدّها مصدراً مناسباً من مصادر المعرفة التي يمكن أن تواجه اكتساح الحضارة الغربية المادية المعاصرة لحياة ملة الإسلام والإنسانية فالعصر ليس عصر التصوف وإنما هو عصر إنقاذ الإيمان والإسلام(1).
__________
(1) - اللمعات: 245 ،246 . المكتوبات: 79(20/36)
ولا يتبع فهم الفلاسفة الذين يسلمون أنفسهم للعقل وحده، فيتيهون عبر طرق ملتوية في جبال وعرة، وإنما يذهب إلى النبع الصافي مباشرة، ويأخذ معه الجيل كله، ليشربوا من الماء الصافي النمير بلا كدورة الأرض ولا المواد المختلطة بها عبر التضاريس المتنوعة .(1)
ويرفض منهج المتكلمين السابقين الذين كتبوا لعصر غير عصره، من حيث المعالجة والمواجهة وطبيعة المادة المعرفية، وإنما يستقي أدلته من عالم الأنفس والآفاق على أصول العقائد الإسلامية. (2)
يقول النورسي: "فطريق المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، لا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه وأقربه الى الله وأشمله لبنى الإنسان ونحن قد اخترنا هذا الطريق".(3)
ومن الجدير بالذكر أن منهج النورسي هذا لا يصطدم مع أي منهج من تلك المناهج مباشرة، وإنما يستطيع صاحب كل طريق الاستفادة منه، من خلال عرض منهجه المتفرد.
وهو لا ينقل لهم في منهجه ذلك علماً مصطلحياً محدوداً، وإنما ينقل لهم كيانه القرآني في تجربة كونية معرفية خصبة جداً، فانية في القرآن الكريم، ليقدّم من خلالها مشاعره المتأججة وآلامه المحرقة، حتى يهتاجوا كما اهتاج هو، ليحصل لهم اندماج ربانى كامل في الوجود، من اجل إعادتهم إلى صف العابدين لخالق الكون ومبدع الوجود.
لقد أراد النورسي أن يدفع المسلمين إلى قلب القرآن في إطار الصراع الحضاري المعاصر، من خلال تفسير شهودي لكتاب الله سبحانه وتعالى. يشمل ثلاث قراءات متطابقة:
قراءة الكون الرحيب من خلال تجليات أسماء الله الحسنى،
وقراءة القرآن الكريم في ضوء تلك القراءة،
وقراءة سيرة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -، حتى يستطيع أن يعيش مع أرقى نموذج مخلوق بعثه الله تعالى قدوة أعلى ومثلاً واقعياُ للكائن الحي في عوالم الإمكان.
__________
(1) - الكلمات: 639
(2) - انظر كتابي " النورسي متكلم العصر الحديث "ص 110 ومابعدها.
(3) - صيقل الإسلام – المحاكمات ص 122(20/37)
وفي ذلك، كان النورسي صاحب إدراك عميق بحقيقة تجديد الإسلام، في هذا العصر.
إنه مجدد حقاً، لأنه لا يدعو إلى النكوص إلى الوراء، ولا سحب التاريخ الماضي بتفاصيله إلى الزمن الجديد، وإنما يؤمن أن الفكر الإسلامي بروافده يمكن أن يتجدد في هذا العصر، وفي كل عصر قادم، حسب المستوى الحضاري الذي وصل إليه.
لقد هضم النورسي المعارف الإسلامية بأدق أجزائها، والمعارف الكونية العلمية بتفاصيلها، ولم يعرضها كما يعرضها العلماء التقليديون، ولكنه تسلسل بجزئياتها خلف قراءاته الثلاث، ليخرج للجيل نمطاً من الحديث يدخل في كينونة الإنسان بسهولة و يسر، من اجل انتشاله من وهدة الإلحاد والمادية واللادينية إلى سوح الإيمان الرحب والشريعة السمحة والقيم المنبثقة من الصفات الإلهية.
لقد دفعت الظروف القاسية التي أحاطت بالنورسي ومجتمعه، تلك التي أراد فيها أعداء الإسلام فرض الإلحاد واللادينية بقوة التصفيات الجسدية الجماعية، والإعلام الوحيد الكذوب، والثقافة المخزية ذات البعد المظلم على الناس، إلى اتجاه معرفي كلامي جديد. وهو إيجاد علم كلام جديد، ينقل من خلاله علم التوحيد من نظريات عقلية مجردة، ومناقشات منطقية جافة إلى أسلوب جديد يصوغ حياة المسلم صياغة ربانية، تقود إلى المعنى الحقيقى للتوحيد بكماله من حيث هو خالق ومعبود وحاكم مطلق في الوجود.(20/38)
لقد استطاع النورسي أن يحدد المشاكل الكبرى في حياة الأمة الإسلامية والإنسانية، فعالجها معالجة قرآنية من خلال أدلتها التفصيلية العقلية الفطرية، فحوّل عقيدة التوحيد بذلك إلى حياة مفعمة بمعاني الإخلاص والاستقامة والتضحية والسلوك والتربية الجماعية، فنجح نجاحاً باهراً في إلحاق الهزيمة باللادينية في نفوس ملايين من الناس في تركيا في زمانه، وفي العالم بأسره بعد وفاته، عندما تُرجمت رسائله إلى لغات العالم الحية، فبدأت تغزو العقول والقلوب ليتوجه بها إلى ربّ العالمين، ويعيد الخطاب في المجتمع الإسلامي والإنساني إلى الله تعالى بعد أن حوله الملاحدة واللادينيون في العصور الأخيرة إلى الإنسان وحده.
إذن كان النورسي يعمل في العصر بتخطيط وعلم وقدرة وذكاء، ولم يكن ككثير من علماء زمانه يعيش في متحف التاريخ.
والآن لنعرض قضايا تفصيلية من خطته في تجديد الحياة الإسلامية في تركيا والعالم الإسلامي، وإنقاذ الإيمان الإنساني وانتزاعه بالبرهان العلمى والعقلي من بين براثن المادية التي كانت تجتاح العالم يومئذ.
* يعتقد النورسي أن التغيير الشامل في الحياة الإسلامية، لا بد أن يبدأ من البنى التحتية؛ المعنوية منها والمادية، وليس بوصفات مؤقتة لملأ الثغرات الخطيرة في البنيان الفوقى، أي إن التجديد يجب أن يدخل في الخلايا العميقة حتى تسترجع الأمة عافيتها. فاللادينيون ما تمكنوا من المجتمع التركي إلا من خلال فراغ داخلي في الأعماق. يظهر ذلك في ضعف الدين، وانحراف العقل وخواء الروح واضطراب الأحوال والهزائم النفسية.
وكان النورسي على يقين تام أن إصلاح الأعماق سيؤدي إلى وحدة العقيدة ووحدة الأفكار، ووحدة الصف ووحدة القلب ويقظة العقل، واستقرار الأحوال، وهو الذي سيحض المسلمين ويوقظهم أمام الحضارة الغربية التي أتتهم بعقيدة جديدة وأفكار جديدة. (1)
__________
(1) - صيقل الإسلام – الخطبة الشامية(20/39)
وهذا المنهج هو الكفيل بإخراج المسلمين من المنظومة الإلحادية المادية إلى المنظومة الإيمانية الإسلامية بمعناها الشامل، وهو منهج الإسلام وطريقه، وهو منهج وطريق مستقل عن الوجود والحياة، يختلف اختلافاً جذرياً عن مناهج الغرب المادية والروحية الكنسية.
وفي سبيل النجاح الأكيد في هذا الحوار الحضاري، واجه النورسي الحضارة الغربية في مواجهتها للإسلام والقيم الدينية والأخلاقية مواجهة تفصيلية. فالقضايا التي أثارتها الحضارة الغربية أجاب عنها، واظهر بأدلة واضحة أن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً، كان أعمق في معالجاته لتلك القضايا وأقرب إلى الفطرة الإنسانية وأكثر انسجاماً مع قوانين الحياة.
ونجاح النورسي في هذا الحوار ينطلق من أن رسائله النورية، سلكت مسلك الحوار، مع النفس والعقل والروح والقلب، ومع الآخرين من البشر على اختلاف أديانهم، بل الدخول في الحوار مع الوجود كله، من الذرة إلى المجرة إلى الكون كله.
وقد يقول قائل كيف يدخل النورسي في الحوار العقلي مع الغير وهو ينكر الفلسفة أساساً؟.
نقول: إذا نظر القارئ نظرة سطحية تجزيئية إلى ما كتبه النورسي حول الفلسفة، قد يأخذه ظاهر عباراته العامة إلى تأكيد معاداته المنهج الفلسفي. بينما إذا قرأ ما كتبه الأستاذ بدقة في رسائله حول الفلسفة، توضّح أمامه الأمر، لأنه لا يرفض المنهج الفلسفي مطلقاً، وإنما هو يقسّم الفلسفة إلى قسمين، قسم يعدّه فلسفة مؤمنة صالحة تتفق مع حقائق القرآن الكريم، فهذا لا يرفضه. وقسم آخر عبارة عن فلسفات مادية جاحدة تصطدم مع المبادئ الإسلامية، فهذا الذي يرفضه الأستاذ. وكيف يرفض النورسي الفلسفة الصحيحة، وهو الذي ملأ رسائله بالأدلة المنطقية، وأدلة العلم التجريبي في إثبات حقائق القرآن الكريم والسنة النبوية، فجعل بذلك الحس والعقل مصدرين مهمين من مصادر المعرفة في الوجود .(20/40)
وأما الجانب الآخر من أفكاره التجديدية، فهو دمجه أنصبة البشر من أسماء الله الحسنى في الصراع الحضاري المعاصر في العالم الإسلامي، لاستخلاص المبادئ الأساسية، والشروط الواجبة للنجاح المضمون في عملية إنقاذ المسلمين من براثن المادية المعاصرة، وبنائه على جزئيات تجليات تلك الأسماء المقدسة في الوجود.
إنني أستطيع أن أجزم أن النورسي بنى رسائله كلها على تلك التجليات. من خلال قراءته الكون، لأنه انطلق من الاقتناع الكامل بأن الله تعالى ما ذكر في القرآن الكريم أسماءه الحسنى، إلاّ لكي يأخذ الإنسان منها نصيبه في إطار بشريته، سواء في مجاله الفردي أم في بنائه الاجتماعي. إنه لم يبيّن تلك كما فعل ذلك الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه النفيس "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" وإنما أدمجها في تفاصيل الصراعات الحضارية بين الإسلام وغيره من المبادئ والأفكار، منبهاً إلى أن الإنسان إبتداءً من أسرار نفسه وأعماق حياته الى جزئيات الكون الواسع، إن لم يتلق معاني تلك الأسماء في حياته لتنورها، فإنه سيعيش في الفساد المطلق والشرك المطلق والمادية المطلقة.(20/41)
ومن هنا نجد انه يعالج قضايا العقيدة والشريعة والأخلاق وتفاصيل النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري والتربوي وغيرها، في ظل مقدار التمثل لتجليات تلك الأسماء المباركة، لأن الكون في فطرته، ومن خلال كل خلية من خلاياه، يسير في ضوء تلك التجليات، وبدونها قط لا تقوم للكون والإنسان والوجود قائمة. لأن الموجودات كلها إنما هي مظاهر لتلك التجليات، بحيث لا تدع مجالا للغفلة، بل تكسب متأملها مرتبة واسعة من الاطمئنان بسعة الكون، وتفتح أمامه عبودية واسعة ودائمية سعة الكون كله. وهذه الروحانية الوجدانية من جهة، أرقى للحصول على الطمأنينة من بعض أرباب الطرق الصوفية الذين وصلوا إلى الفناء بإنكار الكائنات أو نسيانها. ومن جهة أخرى فإنه اقصر طريق في الوصول إلى الخالق العظيم، لأن هذه الأسماء متعاضدة تتجلى وتشترك في إحداث وإنارة كل ذرة من ذرات الوجود.
فكل اسم له فعل في جانب، فقد تشترك صفات القهر والرحمة والعدل والحكيم والحفظ في تنوير وجود فعل لا يمكن ان يفسّر إلاّ عند من يتصف بتلك الأسماء، وليس هنالك في الوجود من يتصف بشمولية تلك الأسماء الحسنى وعملها المتوازن في تنسيق كامل إلا الله سبحانه وتعالى الخالق.(1)
__________
(1) - الكلمات 290،749(20/42)
- وهنالك ناحية أخرى تجديدية، يتسم بها المنهج النوري، وهو تجديده في أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو عدم الدخول في تصادمات وصراعات داخلية مع التيارات الإسلامية الأخرى وتوجيه الجهود الدعوية كلها إلى الجاهلية المعاصرة، التي كانت تتمثل في زمانه بحركة الزندقة اللادينية التي فرضها الطغاة بقوة الحديد والنار على المجتمع التركى، بل إن معرفة طبيعة العصر جعلته ألاّ يتخذ موقفاً معادياً دعوياً أو سياسياً معيناً تجاه الدعوات والجماعات السياسية الأخرى، بل وجّه إليهم الدعوة جميعا، لأنهم في رأيه يدخلون جميعا في دائرة ملة الإسلام، على الرغم من أخطائهم المنهجية وانحرافاتهم السياسية . (1)
ومن هذا المنطلق، فإنه قط لم يدعُ إلى الثأر للنفس على الرغم من الظلم الذي تعرض له، هو وطلابه. وإنما كان يدعو إلى الثأر للإسلام، والثأر للإسلام في هذا العصر، لا يكون بالقوة والغضب، وإنما يكون بالحكمة والشفقة والرحمة وتبليغ دعوة الإسلام وإنقاذ الإيمان. ومن المعلوم أن إنقاذ الإيمان عند النورسي يعنى إنقاذ الإسلام من حيث هو كلّ لا يتجزأ من مخططات الملاحدة والعلمانيين .
يقول النورسي موجهاُ طلابه إلى هذه المسألة الخطيرة في الدعوة الإيجابية: "إن واجبنا نحوهم طلب الهداية لهم فحسب، فلا يرد في قلب أي طالب من طلاب النور الثأر ولو بمقدار ذرة، بل أوصيهم دائما مقابل ما لاقوه من العنت الثبات في خدمة رسائل النور والوفاء بها" . (2)
وانطلاقا من منهج دعوته "حسن الظن أساس بالنسبة إلى المسلمين" اجتنب عن تكفير أحد حيث يقول:
__________
(1) - الشعاعات:424
(2) - المؤتمر العالمي لبديع الزمان سعيد النورسي الثالث – بحث العمل الإيجابي القاعدة الثابتة لعمر مديد – للدكتور علاء الدين باشار ص135.(20/43)
"إن من يعرف "سعيد" عن كثب يعلم أنه يتجنب تكفير الآخرين تجنبا شديداً ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بل يحاول أن يجد تأويلا حتى لو رأى كفرا بواحا" (1)
ومن جهة أخرى فان دعوة النورسي قامت على أساس إنكار الذات والتواضع، والإخلاص وعدم اللهاث وراء الشهرة وحظوظ النفس وراء الدنيا، والدعوة بالحسنى وعدم الإخلال بالمحبة والوحدة. وعدم تضييع الوقت بالجدل والنقاش الفارغ، والاشتغال بالأصول ثم التدرج إلى الفروع، والحركة إلى الأمام دائما وعدم الفتور وعدم الاشتغال إلا بقضية الإسلام المركزية والصبر على المصائب، ومحاولة تكوين وضع اجتماعي آمن واجتناب السياسات اليومية الفاسدة.
ولقد ربى النورسي في مجال الدعوة طلابه على الأمل بدل اليأس والتبشير بدل التنفير أساسا لها.
إنه يشبّه مخافة الله بلجوء طفل إلى حضن أمه المليء بالشفقة. وهذه الخاصية استنبطها من أسماء الله تعالى، الرحمن، الرحيم، الرؤوف.
والدين عند النورسي شئ طاهر ونظيف ولا يجوز استخدامه بزعم مصلحة الدعوة بشيء سيء أبداً.انه لابد أن يبقى صافيا طاهرا بعيدا عن الحقد والمذهبية والطائفية والسياسات الآنية، كي ينهل منه الشاردون، ويرجع إليه الضالون، ويتضلع منه المؤمنون، كل على قدر حاجته، وما قدّر الله له.
- وهنالك جانب آخر من الحركة التجديدية لهذا الشيخ الجليل، وهو إنقاذ الجيل من براثن المتصوفة المنحرفين، الذين قادوا الأجيال إلى الركون والسكون تحت مظلة السير إلى الله تعالى بلا عودة، بينما السابقون من الأولياء الربانيين كانوا يسلكون الطريق إلى الله من أجل العودة إلى الأرض، وهم اكثر إيمانا وقوة وعزما وأقداما في القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
__________
(1) - المصدر السابق ص135 .(20/44)
نعم اثبت النورسي للجيل المثقف الحالي والقادم أن العصر ليس عصر التصوف، لأن التصوف تجربة ذاتية وليست دعوة اجتماعية، ولا يستطيع أن يقود حملة الصراع الحضاري الإسلامي مع عوامل النكوص والانحراف ومع هجمة اللادينية المادية الحديثة والزندقة الآتية من الغرب الكافر.
يقول النورسي: "لقد كنت أقول أن هذا الزمان ليس زمان الطريقة فالبدع تحول دون ذلك، مفكرا في حقائق الإيمان وحدها. ولكن الزمان اظهر انه يلزم لكل صاحب طريقة بل الألزم له أن يدخل دائرة رسائل النور التي هي أوسع الطرق".
لماذا ؟ يجيب الأستاذ :
" إن اخطر شئ في هذا الزمان هو الإلحاد والزندقة والفوضى والأوهام وليس تجاه هذه المخاطر إلا الاعتصام بحقائق القرآن الكريم". (1)
وموقف النورسي من التصوف واضح في رفضه لمدارج السالكين الطويلة ولنظريات وحدة الوجود ووحدة الشهود والحلول وتقديس المشايخ، داعياً إلى الرجوع إلى أوراد السنة النبوية الشريفة . (2)
- ومن معالم النورسي التجديدية، أنه ركز على وحدة المجتمع الإسلامي، وعارض الإخلال بنظامه الداخلى، واستعمال العنف في سبيل زعزعة أركانه، تحت مظلة إعلان الجهاد على الكافرين اللادينيين. وأكد ان الجهاد في الشريعة لا يوجّه إلى المسلمين داخل العالم الإسلامي، وإنما يوجه إلى العالم الخارجي. أما في داخل العالم الإسلامي فإن الجهاد يكون جهاد دعوة وعلم وبذل ونصيحة لإعادة المسلمين الى حظيرة الإسلام حسب قانون التدرج الكوني . (3)
إن الحرب التدميرية داخل العالم الإسلامي يؤدى الى قتل المسلمين بعضهم لبعض، وينتهي إلى سلب الاستقرار من العالم الإسلامي، فيعيق بذلك نهضته العلمية والعمرانية التي هي مقدمة مهمة لتقدم العالم الإسلامي وهذا التخريب لا يستفيد منه غير الأعداء الكافرين على المدى البعيد.
__________
(1) - الملاحق ص 344
(2) - الملاحق- قسطموني 208
(3) - اللمعات- اللمعة الثلاثون – ولاسيما النكتة الخاصة باسم " الحكيم" .(20/45)
يقول النورسي: "إن من يشق طريقا في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفه، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر" . (1)
والحق أن هذه السياسة الحركية قد أنتجت ثماراً يانعة في تركيا، إذ في ظلها انتشرت رسائل النور، وغزت العقول والقلوب وانتهت إلى جهاد معنوي كبير وشامل انتهت إلى تكوين جيل مؤمن انطلق في المجتمع ينشر حقائق الإسلام بالتلمذة على رسائل النور في المدارس ودورات تحفيظ القرآن والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات والمؤسسات الثقافية والعلمية، بالنظر أو الاستماع إلى الإذاعات المرئية والمسموعة وقراءة الجرائد اليومية السياسية والعلمية والمتخصصة في شؤون الحياة المختلفة .
بينما لو أن النورسي واجه السلطة يومئذ بالتحدى والعنف، لكان يواجه بالعنف والتصفية الجماعية له ولمن يسير معه، واستمرت المحنة زمنا طويلا، ولم نكن نرى تلك النتائج الباهرة التي ذكرناها قبل قليل.
* وهناك جانب تجديدي مهم في دعوة النورسي الإسلامية في تركيا. وهو تأكيده على أن الصراع بين العالم الإسلامي والعالم الغربي اليوم، ليس صراع القوة والسيف. لأن الإفلاس الغربي الفكري سيولد فراعا هائلا في الغرب. ومن هنا فان جهاد المسلمين للعالم الغربي يجب أن يكون جهاد فكر وشرح لحقيقة الإسلام لهم. والدليل على ذلك أن طلائع دخول الغرب للإسلام قد ظهرت، لكون الصراع في هذا الزمان ليس صراع قوة، وإنما هو صراع ثقافي وفكري. أي أن المسلمين عليهم أن يواجهوا الغرب بسيف القرآن، إذا أرادوا هداية شعوبه الى نور الإسلام.
__________
(1) - اللمعات ص 160 .(20/46)
والحق أن إدراك النورسي السديد لحقيقة الصراع المستقبلي بين المسلم والعالم دفعه إلى توجيه رسائله ليس إلى المسلمين فقط، وإنما إلى الإنسان في أي مكان من حيث العموم. فقد عرض الإسلام ومشكلات العالم الإسلامي، لاسيما الصراع بين الإيمان والكفر وكأنها مشكلات الإنسانية جميعها.
أجل كانت دعوة النورسي موجهة إلى الغرب والإنسانية أيضاً لأنه:
- يثبت الإيمان عن طريق نتائج العلم الذي يفهمه الغربيون.
- وينقد مساوئ الحياة الغربية ومناوأتها للدين.
_ ويرد على الاعتراضات الفكرية ضد الدين والتي خرجت أساسا من الغرب.
_ ويضع نظما فكرية في المجالات التي يفهمها الغربيون . (1)
* ومن معالم التجديد في حياة النورسي، اهتمامه الكبير بالتوجه العلمي والتقني للأمة وبالسير على نظام اقتصادي متوازن، من اجل الوصول إلى البناء السليم للأمة وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى. فالإسلام بأمس الحاجة إلى إعلاء كلمة الله، ليس بالكلام فحسب، وإنما بصياغة حياة الأمة الإسلامية صياغة ربانية في ظل طاعة الله. ولا تستطيع الأمة المحافظة على عزة الإسلام وإعلاء كلمة الله، إلا بأن تعيد بناءها العلمي والتقني والصناعة التخصصية، بتحكيم دستور تقسيم العمل وإبعاد العشوائية والفوضى من حياتها.
وأما في مجال الاقتصاد، فان النورسي يقدم مخططا دقيقا وعميقا لإيصال الأمة إلى نظام اقتصادي متوازن، من الممكن أن نسميه بـ "اقتصاد القناعة" مع الحركة الدائبة في الحياة والاشتغال بالحرف التي توافق قابليات واستعدادات الناس . (2)
__________
(1) - الدعوة والإرشاد في الغرب – سعيد إبراهيم – بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي ص 185 .
(2) - راجع البحث القيم " المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان " للدكتور بنيامين دوران ، ضمن أبحاث المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي(20/47)
هذه بكثير من الإجمال والاختصار، هي معالم فكر النورسي التجديدي. قادها منهج أصولي شمولى عصرى، متكامل متوازن، مع قدرة ذاتية فائقة في التخطيط والحركة والاجتهاد، مستندة الى فهم عميق لأصول الإسلام وفروعه ومعركة ذكية بتطور الزمان العالمى، وملامح عصره ومجتمعه ومشكلاته المستعصية، وكيفية علاجها بالتلمذة على القرآن الكريم ثم الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ثم قراءة الكون بقدرة سريانية عجيبة حتى أبعد خلية مدركة فيه .
تجديد الفكر الإسلامي
في القرن الحادي والعشرين
ودور الإمام النورسي
بحث مقدم إلى مؤتمر "حركة التجديد في القرن الحادي والعشرين ودور بديع الزمان سعيد النورسي" المنعقد في الجامعة الوطنية في كوالالمبور بماليزيا في 21-22/8/1999
مما ثبت في دين الإسلام بالضرورة أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء والمرسلين، وأرسل معه دين الإسلام، متكاملا متوازنا، جمع بين التوحيد الخالص والعقيدة الصافية، والشريعة الضابطة، وبنى عليهما نظاما أخلاقيا، يحول الدين إلى واقع ملموس، تبنى فيه الأمة المسلمة، فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة فالحضارة المسلمة، ويصاغ فيه الإنسان صياغة ربانية شاملة، في ظل منهج شمولى ينطلق من القرآن المقروء إلى القرآن المنظور الى القرآن الناطق في شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وبذلك تتكامل الحلقات وتتوزع الأنصبة البشرية المنبثقة من أسماء الله الحسنى المبثوثة في أنسجة القرائين الثلاثة .(1)
وقد كانت النبوة في ضوء ذلك ضرورة حضارية ، كي يأخذ الإنسان دوره الكامل في تحريك أنصبته المذكورة في المساحة الواسعة التي تركها الوحي له من أجل حرية حركته وتغييره ووضعه الزمانى والمكانى المتجدد.
__________
(1) - المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.(20/48)
ومن هنا لم يعد الدين الحق يعيق حركة الحياة، لأن تلك الحركة هي التي تنزل الوحي الإلهي على الواقع، وتحوله إلى تغيير مستمر، دون أن تفقد الحياة المحور الذي هو عبارة عن نصوص الوحي القاطعة في شؤون الوجود كله، لأنه حينئذ لا يتمرد على ربه ولا يحتاج إلى أن يفصل ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وقد نبهنا النبي الرسول القائد الى قانون ذلك التغيير الضروري بقوله الكريم " إن الله يبعث على رأس كل مائة من يجدد لها دينها " أو " أمر دينها " .(1)
ومن هنا فان الإنسان لا يحتاج إلى تغيير الدين في أصوله القاطعة، لأنه أصول خالدة، تتلاحم مع جوهر الإنسان، بل يحتاج باستمرار إلى أعراض الحياة، أو قل إن تلك الأعراض هي التي تدفعه إلى التغيير الدائم، من خلال قانون الحركة الاجتماعية، قانون التحدى والاستجابة. فمن خلال قوة التحديات التي تواجه المجتمع المسلم، تبرز الاستجابات الضرورية، لتخفيف قوة تلك التحديات وتحويلها إلى مآرب جديدة لحركة الحياة المتجددة. وبناء على ذلك ، يصح لنا أن نقول: إن " التجديد " هو القانون التحتى لحركة الأمة الإسلامية، نستقرؤها من خلال تطور الزمان الإسلامي، منذ مبعث الإسلام إلى اليوم.
وفي سبيل ألا نبقى في التاريخ طويلا ونحن نريد أن نجتاز القرن العشرين إلى الحادي والعشرين، نقول بإيجاز شديد:
إن التجديد يشمل محور الوقوف أمام محاولة تحريف أصل العقيدة الدينية المبنية على التوحيد الخالص.
__________
(1) - أبوداود- كتاب الملاحم 31. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 2/61- دار الكتاب العربي. سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/150 رقم 599 المكتب الإسلامي.(20/49)
- فظهور إحياء التجسيد الإلهي في شخص ما، والذي انتقل من الأمم القديمة إلى مجال الصراع لإفساد عقيدة المسلمين، أدى إلى ظهور علم جديد، سمى بعلم الكلام، يبنى الأساس النقلى على المرتكز العقلي، الذي يضع الأساس القاطع لإثبات الخالق الواحد الأحد، وتفنيد عقيدة الشرك والدفاع عن التوحيد الحق، ويرد محاولات السمنية الهندية لإنكار النبوات، واثبات ضرورته للإنسان في هذه الحياة، ويفند الفلسفة الجبرية التي انتقلت من الرواقية، وإظهار حقيقة المسؤولية من خلال صراحة النصوص في الكتاب الكريم والسنة الشريفة، والتفنيد العقلي لمحاولة وضع الإمام المعصوم المقدس مكان الإمام العادل، مؤيدا بالنصوص من الكتاب والسنة والاستقراء التاريخي لحياة الصحابة الكرام، ودحض الغنوصيات الاجنبية التي أرادت تشويه النظام السلوكي في الإسلام، وإخراجه من دائرة القرآن والسنة، وحياة الأمة، وبالتالي إخراجه من الدائرة الإسلامية الكبرى التي تشمل العقيدة والشريعة والسلوك .
إذن فالتجديد لأساليب الدفاع عن العقيدة والنظام الروحي في الإسلام، قد استمر بقوة في القرون الإسلامية الأولى، وأنقذ الإسلام من تحريفات كانت من الممكن أن تطيح بقواعد الوجود الإسلامي، ولكن قوة الاستجابة الإسلامية الموجهة من أسس الحقائق المعرفية التي استنبطها علماء الإسلام من الكتاب والسنة، استطاعت أن تمتص تحدى الانحراف، فقبرت محاولات الإساءة إلى الدين الحق في مهدها بإذن الله سبحانه وتعالى.
وعندما حرف حكم الشورى إلى ملك الوراثة العضوض وألحق أضراراً بالغة الخطورة بحركة الإنسان المسلم وحريته وكرامته، جاء الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز فارجع الشورى ونشر العدالة ، وأعاد للإنسان كرامته، وذكّر الناس بالخلافة الراشدة، التي يمكن أن تتجدد في كل زمان، تتهيأ الظروف التاريخية لتحقيقها.(20/50)
وحين زحفت الجيوش الصليبية من الغرب والتتر من الشرق. نهضت الأمة تجدد نفسها وقوتها وإيمانها في حطين وعين جالوت، وألحقت بهؤلاء الأعداء الهزائم الكاسحة .
أما في تجديد الحياة وبناء الحضارة، فقد تجدد العقل الفقهي حين نشأت المدارس الفقهية الكبرى التي قادها الائمة العظام واستوعبت تطور الحياة ، واستطاع القضاء الإسلامي أن يحاصر الخصومات المتجددة بين الناس ووضع نظام مرافعات، يعدّ من أرقى أنظمة المرافعات في الحضارات القديمة والحديثة .(1)
وأما الحضارة الإسلامية بمنهجها العلمى وشموليتها الفاعلة وبنائها الشامخ في مضامير الحياة كافة، فكانت تجديدا متواصلا ومماشاة سديدة لحركة تقدم الزمان والمكان .
وهكذا نجد أن حياة المسلمين كانت سلسلة من الانتصارات المتلاحقة المستجيبة للتحديات الداخلية والخارجية في التنمية الاجتماعية الدائمة في ظل القرائين الثلاثة (القرآن، الكون، والرسول القدوة).
__________
(1) - نظام القضاء في الإسلام، جمال صادق المرصفاوي 128 وما بعدها، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض 1404هـ/ 1984م.(20/51)
ثم مالت الأمة الى الخمود والجمود، وأهملت سنن الله في الحياة، وتقاعست عن محاولة رفد الحياة بالجديد المفيد ، وابتعدت عن هداية القرآن بالاشتغال بحل ألفاظه، وأهملت دراسة السنة النبوية، والاستفادة من كنوزها الباهرة، واستقرت في أحضان التعصب المذهبي، وعدم صياغة النظريات الكلية، وفقدان حرارة الإيمان بحل المشكلات المصيرية التي تجابه العالم الإسلامي، وانتشار اللامسؤولية والسلبية والحياة التواكلية التي كانت تعبر عن الهزيمة الداخلية التي أصابت النفوس المسلمة ، وانتشار البدع والخرافات ومظاهر الشرك الأكبر والأصغر، وخمود جذوة الإبداع في الفكر الإسلامي، الذي عد الفكر القديم مقدسا لا يجوز مسه، بل وضعه بدل الإسلام نفسه، وإيقاف الحياة عند ما وصل إليه الأقدمون، وعدم فهم الصراع الاجتماعي بين التحدي الجديد وضرورة الاستجابة المستنيرة له، وتوقف الحركة العلمية، والعقل العلمي الذي انتج من قبل المدنية الإسلامية وثقافتها المتقدمة، والانهيار الكبير الذي أصاب الحياة المعيشية وانتشار الفقر والجهل والأمية .
هذه الأوضاع وغيرها هي التي أثقلت الأمة بالانهيار، وأطمعت المراكز الاستعمارية لغزو بلاد الإسلام والسيطرة على مصيرها وامتصاص ثرواتها، ووضع العقبات دون نهوضها، والعمل على الإبقاء على عوامل التأخر والتجزئة، وفرض أنماطها الثقافية والحضارية على البلاد الإسلامية التي استعمرتها وحكمتها بالحديد والنار.
ومن المعلوم في الصراعات التاريخية والاجتماعية ان التحديات الكبيرة، لابد فى النهاية أن تؤدى إلى استجابات كبيرة، لا سيما في وطن لم يزل يتلى فيه القرآن وتزار الكعبة، وتقام الصلوات في المساجد، وترتفع من على مآذنها شهادة أن " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
وهكذا اشتعل الصراع في العالم الإسلامي بين الإسلام والقوى السرية والعلنية، سواء في ذلك الإلحادية أم الصليبية أم اليهودية .(20/52)
لقد كان ذلك الصراع الدموي كفيلا بان ينتج فكرا جديدا، يعيد النظر في كل شئ، ويحاول أن يدرس مكامن التوقف والتأخر في الحياة الإسلامية، والأسباب الحقيقية التي أدت إلى انهيار المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية .
ومن هنا فقد كان ظهور جمال الدين الأفغاني (ت/1897 م) إيذانا ببداية هذا الفكر الجديد الذي انطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية يدعو إلى عدم نقل الفكر الماضي بكل أثقاله إلى الزمن الحاضر .(1)
أي أن الأفغاني دعا إلى الأصول حتى تتحرر من القوالب التاريخية لحركة الإنسان المسلم، كي نأخذ حريتنا في بناء حياتنا الجديدة، منطلقين من الوحي الى العصر . (2)
وفي ضوء ذلك كان الأفغاني يدعو إلى التجديد المستمر في الإسلام في إطار ضوابط الفهم الأصولي ومتطلبات العصر الجديد . (3)
والأفغاني لا يفكر مجردا عن الحياة والحركة، أي أن فكره ليس فكرا نظريا عقيما غير منتج، وإنما هو فكر حركي وثاب يدعو إلى اليقطة والقيام والانتقال من حالة الجمود الى حالة الفعل والجهاد الشامل في الحياة. (4)
__________
(1) - الأعمال الكاملة – جمال الدين الأفغاني – جمع د . محمد عمارة ص 326
(2) - جمال الدين الأفغاني – عبد القادر المغربي ص 61 عدد 18 سلسلة إقرأ
(3) - خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني – نقلا عن الأعمال الكاملة ص 329
(4) - العروة الوثقى 115(20/53)
وبعد وفاة الأفغاني تسلم الراية من بعده تلميذه، الشيخ محمد عبده، وتلميذه الذي لم يره الشيخ رشد رضا، فعمّقا أفكاره في نواحي الحياة كلها، ولا سيما من خلال تفسير القرآن الكريم، واستطاعت هذه المدرسة الثلاثية، أن تقدم فكرا إسلاميا معاصرا، رشيدا متنورا وقف أمام طغيان النزعة الخرافية والتحريفية في التراث الإسلامي من جهة، وواجه العقلانية المادية الأوروبية الغازية من جهة أخرى. ولم يكن ذلك الفكر مذهبية ضيقة أو طائفية متعصبة، أو فكرا تاريخيا جامدا ينكص الى الماضي ويقتل الحاضر والمستقبل ، وإنما كان فكرا شمولياً وسع الإسلام كله، لأنه انطلق من الوحي الى العصر، بكل مشكلاته الماضية والحاضرة والمستقبلة، فعالج قضايا العقائد والشريعة والسلوك والحياة في ضوء إنهاء الصراع الفكري حول المدارس الكلامية القديمة، ودعا إلى تأسيس علم كلام قرآني جديد، ومراجعة الرصيد الحضاري الماضي، وغربلته بإبعاد العناصر الداخلية فيه، ومحاربة التعصب العنصري والطائفي الذي فرق الأمة وأضر بالوحدة الإسلامية، ومعالجة أسباب تأخر المسلمين وأمراضهم الكثيرة وردّ الغزوات الفكرية الاستعمارية الإستشراقية التي شنت على الإسلام وأهله .
ولا شك عند الباحثين المنصفين أن تأثير هذه المدرسة الإسلامية الحديثة كان كبيرا على الفكر الإسلامي سواء في مجال تفسير القرآن الكريم أم في مجال الفكر الإسلامي المعاصر بأجنحته المتنوعة، الفلسفية والفقهية والأصولية والعقلية والعلمية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
وكان التأثير الأعظم لهذه المدرسة، ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة التي وسعت من دائرة الفكر الإسلامي الحديث، وعالجت القضايا الفكرية والسياسية والجهادية التي تفرعت منها .(20/54)
منها ظهور فكر وحركة الإمام الشهيد حسن البنا في مصر، حيث انطلق ليرسم للجيل الجديد، بدقة ووضوح " المذهبية الإسلامية " في شؤون الكون والمجتمع والإنسان بتفاصيلها الدقيقة الشاملة التي استوعبت نواحي الحياة كلها، والتوجه نحو فكر إسلامي متجدد ومتطور، يستوعب نهضة المسلمين في العصر الحديث، ويقود حركتهم نحو البناء ويضع الحلول الواقعية المتوازنة لمشكلاتها المستعصية التي نتجت عن عصور التخلف الحضاري .
وقد وضع الشيخ البناء عشرين أصلا لفهم الإسلام في هذا العصر، وذلك لضبط حركة الفكر والجهاد والإقدام على بناء الفرد والمجتمع والدولة وإعادة صياغة الأمة من جديد .(1)
ومن الجدير بالذكر أن الإمام البنا في كل ما كتب وفعل ينطلق من الوحي إلى العصر، ولا يبقى كثيرا في التاريخ إلا فيما يذكر بالأمجاد الماضية .
ومن الحقائق الثابتة في حياته، انه لم يكن يؤمن بالدعوة الفكرية النظرية فحسب، وإنما حولها إلى اكبر تنظيم إسلامي في العصر الحديث. لأنه أدرك أن هذا العصر هو عصر التنظيمات الاجتماعية والسياسية.
فصياغة الأمة الإسلامية تحتاج إلى حركة جهادية شاملة في مجالات الحياة كافة، من اجل العمل على استئناف الحياة الإسلامية والانتصار على الأعداء المستعمرين المحتلين لبلاد الإسلام.
وأما في تركيا فقد ظهر الإمام الجليل سعيد النورسي الذي نريد أن نحدد دوره في القرن القادم، واستوعب ثقافة عصره وهضمها، فلا شك انه اطلع على تفاصيل أفكار هذه المدرسة في اتجاهاتها، بدليل الجسور المنهجية والفكرية المشتركة بينه وبينها .
فهو مثلهم، الإبن البار للإسلام والمسلمين، ولا يؤمن إلا بالجنسية الإسلامية، ويعتقد أن العنصرية والطائفية هما عدوتا الأمة الإسلامية . (2)
__________
(1) - مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ص 357. الثالثة 1984
(2) - المكتوبات – سعيد النورسي، ت: إحسان قاسم الصالحي ص 79،415،544،545 وما بعدها.(20/55)
وهو مثلهم يؤمن بضرورة الدخول في العصر الحضاري الجديد، ويؤمن بضرورة إيجاد علم كلام جديد، يقود حركة الفكر الإسلامي المعاصر، بمقابلة الفكر الغربي الجديد .
وموقفه من الفلسفة الغربية خاصة والحضارة الحديثة عامة، هو نفس موقف مدرسة الأفغاني.(1)
ولكن مع كل ذلك التشابه، لا يمكن أن يعد تلميذا في مدرسة الأفغاني كمحمد عبده والشيخ رشيد رضا، لأن شخصية الإمام سعيد النورسي شخصية منفردة متميزة ، لا يمكن أن يعد تلميذا في مدرسة معينة قديمة أو حديثة .
لماذا ؟
لأن النورسي ينطلق مباشرة من القرائين الثلاثة، بلا وساطة ولا حدود تقوده إليها .
أولا : القرآن المقروء الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم الأنبياء والمرسلين .
ثانيا : القرآن المنظور الذي هو الكون الذي نعيش فيه، بما فيه من آيات الأنفس والآفاق .
ثالثا : القرآن الناطق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتفاصيل سيرته الجزئية والكلية المتكاملة .
وهو يستعين في هذا الانطلاق بقدرة سَرَيانية عميقة، من خلال ذوبان كامل في إطار القدرة البشرية في إدراك أسرار نسيج كل خلية من خلايا القرائين الثلاثة . فيصل من ذلك كله إلى اكتشاف تجليات المعاني الدقيقة لأسماء الله الحسنى في كل كون قرآني من الأكوان الثلاثة ، ثم يدمجها في كلٍ واحدٍ، فيصوغها صياغة موحدة تشكل نظرته الشاملة للوجود، التي تمثل فطرة الخلق الواحدة من أعماق عالم الإنسان إلى أعماق العالم الخارجي الذي يحيط به ، من الجمادات إلى النباتات إلى الحيوانات إلى الإنسان إلى عالم الملكوت في الكون كله .
وبناء على ذلك فقد جاء خطاب النورسي موجها إلى الإنسانية عامة، وليس المسلمين فحسب ، لأنه يتكلم من خلال حقيقة رابطة تربط بين أجزاء الأكوان الثلاثة، وهي حقيقة الفطرة .
__________
(1) - راجع كتابنا : النورسي متكلم العصر الحديث ، حيث بينت هذه القضايا بالتفصيل.(20/56)
فمن أي قرآن من القرائين الثلاثة يبدأ الإنسان ينتهي الى القرآن، أي إلى الحقيقة نفسها، الى الفطرة نفسها .
فالمسلم الذي يبدأ من القرآن المنظور والناطق، ينتهي إلى حقائق القرآن المنظور ، والمادي الذي يبدأ من القرآن المنظور ينتهي إلى القرآن المقروء، شريطة أن يكون هدفه الوصول الى الحقيقة الكونية دون تعصب وتزمت.(1)
حينئذ يدخل الإنسان المادي في الإسلام، إسلام الكون كله لله، لأنه سار في ظلال تجليات الأسماء الحسنى وأدرك أنصبة البشرية منها.(2)
نعم يدخل في حقيقة إسلام المخلوقات لله تعالى، حتى لو لم يستطع أن يدرك بعض تفاصيل الشريعة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام، والتي تنبثق من الوحي الإلهي لا من الفكر الاجتهادي. وإذا كان ذلك الإنسان المادي مخلصا في مسيرته الكونية سيدرك تلك التفاصيل الجزئية أيضا. لأنه سيفهمها كل في ظل المنهج المعرفي الواحد، الذي وجه كينونة الإنسانية بشمولية وتوازن، وأجلسه على قاعدة أمينة للانطلاق.
لقد أدرك النورسي في مخطط فرض النمط الغربي على العالم الإسلامي بالقوة، أن العالم كله في خطر، وان النظام الفكري الإلحادي اللاديني الذي يريده أعداء الله أن يفرضوه على الإنسانية، ولا سيما المسلمين يؤدي بها إلى الانتحار الحضاري، وهو فقدان العقيدة، وفقدان القيم ، لأن ذلك النظام اللاديني عندما أنكر وجود الله تعالى أو أنكر خطابه، بنى على ذلك إنكار القيم المنبثقة من أسمائه الحسنى .
فعندما يكون الإنسان في فراغ قيمي يتغلب على تفلسفه الفكر الحيواني . وتظهر تلك الحيوانية على الاتجاه الفكري الحديث عند داروين وفرويد وماركس واوجست كونت وغيرهم من المفكرين .
__________
(1) - الكلمات ص 375-379
(2) - الكلمات ص 749(20/57)
فإذن النورسي، من جهة يريد أن ينقذ إيمان المسلمين أمام زحف ظلمات الفلسفة الغربية التي كانت تفرض في زمانه على تركيا من خلال القنوات الثقافية والإعلامية. ويريد من جهة أخرى إنقاذ إيمان الإنسانية بوضعها أمام فطرتها الكونية . (1)
أي أن النورسي أراد أن يقطع أصل الشجرة بقوة تلمذته على القرائين الثلاثة.
بينما الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا انشغلوا بمعالجة كثير من الجزئيات والانحرافات في مجالات الحياة الإسلامية كافة، ودخلوا في ذلك في مجابهات فكرية ومجادلات فلسفية وكلامية، ولم يتخلصوا من ضغط السياسات الآتية التي أقحمتهم أحياناً في اجتهادات كانوا في غنى عنها.
أي أنهم كانوا يتحركون في دوائر كثيرة، تفرضها عليهم ظروف حركة عصرهم.
أما النورسي فقد ركز على قطع الأشجار الخبيثة في الدائرة المركزية التي سببت خلخلة تلك الجزئيات في حياة الأمة.
وبذلك أثبت النورسي أن الأستاذية المباشرة على القرآن الكريم كفيلة بتغيير كل شئ، لا في المجتمع الإسلامي فحسب، وإنما على المستوى العالمي كله .
وكان يعتقد أن أهل الغرب إذا غيروا مواجهتهم لحقائق الكون وعادوا الى حظيرة الإيمان، ولو بعلو الحجة ومنطق البرهان، لا بمنطق التغير الواقعي، فسيتغير العالم الإسلامي
ومن هنا فإنني اعتقد أن النورسي هو المجدد الحقيقي للقرن الحادي والعشرين القادم.
نعم إن الأفغاني ومدرسته وبقية المجددين الآخرين، قد اشتركوا جميعا في تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين وأحدثوا في حياة المسلمين هزة عنيفة أدت إلى الصحوة الإسلامية التي تفور اليوم في بلاد الإسلام وتريد أن تتحول إلى دعوة فكرية حركية منظمة لتغيير الواقع وتحويل الوحي الى حياة وحضارة. وستظل الإشكاليات التي بحثوا فيها قائمة في القرن الحادي والعشرين، لأن الصراع لم ينته بعد، بين منظومة الحضارة المادية ومنظومة الحضارة الإسلامية.
__________
(1) - الكلمات ص 9-11، 26-37، 129-149، 221، 310-324(20/58)
بل إن الصراع الحقيقي ـ في رأيي ـ سيبدأ في القرن الجديد، وستميل الكفة فيه بجانب المنظومة الإسلامية بإذن الله تعالى، بعكس القرن العشرين الذي كانت كفة الحضارة الغربية فيه هي الغالبة. وكان المسلمون في موقف الدفاع في النصف الأول منه، والهجوم في نصفه الثاني .
بينما سيتوجه الصراع إلى الحوار الفكري في القرن الجديد، وليس هناك أسلوب منتج للتفاهم بين الإسلام ومادية الغرب كالحوار.
ولذلك سيكون لفكر النورسي مكان بارز في القرن القادم، لأنه رجل عقد حوارا عميقاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية، عن طريق وضع الجميع أمام القرائين الثلاثة (القرآن ، الكون ، الرسول) التي تجمع المنظومتين على مائدة واحدة للتفاهم والتقارب ثم الاندماج، عندما يعلن الجميع العبودية الخالصة لرب القرائين الثلاثة .
أما لماذا سيكون للنورسي دور كبير في القرن الجديد، فلما يأتي :
- إن الصراع بين الكفر والإيمان سيستمر في القرن القادم ولو في نصفه الأول. فكتابات النورسي حول أحقية الإيمان والخطاب الإلهي المنبثق منه كتابات مبنية على الموازنة التامة بين القرائين الثلاثة ، لأن وجود الإله يستدعي وجود العناية بمخلوقاته، ووجود العناية يستدعي وجود الخطاب.
إذن فمحاولة اللادينية أبعاد الخطاب الإلهي عن حياة البشر ستصطدم بمنطقية وجود هذا الخطاب، وبضرورة تمكينه من تنظيم حياة البشر. لأنه يمثل القيم المنبثقة من أسماء الله الحسنى. وهي قيم متوازنة تماما تدخل الوحدة والانسجام الى الكينونة البشرية.
وعلم الكلام الجديد الذي صاغه النورسي من خلال عقد الموازنة بين القرائين الثلاثة في ظل تجليات الأسماء الحسنى، علم خالد يعتمد على الوحي القاطع، لا على الفكر الاجتهادي، حتى يخضع لتطور موازين الفكر والثقافة، لأن النورسي لا يبقى في التاريخ كثيرا، لأن التاريخ عنده في معظم مفاصله يمثل صراع المصالح والغرائز في الأرض.(20/59)
- إن موكب الإيمان بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموكب الإلحاد واللادينية بقيادة إبليس قد تمازجا في هذا العصر تمازجا كاد أن يقضى على وضوح الرؤية في الموكب الإيماني الإسلامي عن طريق الإخضاع أو السخرية والإنكار. وحاولت مدرسة الأفغاني إنقاذ الإسلام في حالة انجراف المسلمين مع الحضارة العقلانية المادية، باتباع أوسع دائرة تأويلية أصولية في الوصول إلى عقلانية إسلامية تعوض المسلمين عن العقلانية الغربية المغرية بإنجازاتها الحضارية أو تقف أمامها. ولكن هذه المحاولة لم تحسم تماما موضوع التميز التام بين الموكبين، وبقى هنالك غبش في المنهج، يستفيد منه المتصيدون في الماء العكر من المسلمين العلمانيين.
بينما النورسي لتلمذته التامة على الوحي الإلهي وحده، وموازنته بين القراءات الثلاثة الموحدة للقرائين الثلاثة، استطاع أن يوحد هذا الأمر ويضع خطا فاصلا واضحا بين الموكبين، فلا يحدث مع هذا المنهج ارتباك في فكر الإنسان المسلم ، مع انه اتبع قاعدة عقلية صارمة كانت نتيجة تلك المطابقة الكاملة بين المقروء والمنظور والناطق.
ونحن في القرن الحادي والعشرين نحتاج إلى رؤية واضحة للمنظومة الحضارية الإسلامية، حتى يتم انتقال الأمة الإسلامية بنظافة تامة من المنظومة المادية إلى المنظومة الإسلامية، تمهيدا لأسلمة الحضارة الغربية ذاتها. لأن مع عدم وضوح الرؤية وصفاء المنهج، وإصلاح أسس الفكر الإسلامي، لا نستطيع أن نقوم بتلك العملية من أجل شحن الحضارة المادية الحديثة بقيمنا الإسلامية المتوازنة، كي يخف في الأقل الصدام العنيف الذي يخططه اليهود لإيقاع المسلمين وغيرهم فيه . (1)
__________
(1) - انظر هذه المحاولة اليهودية في كتاب " صدام الحضارات" للكاتب اليهودي الأمريكي صموئيل هينتجتون.(20/60)
- إن اكتشاف النورسي لظلال معاني الأسماء الحسنى بدقة كبيرة، وتجلياتها في عالم الأنفس والآفاق والقيم المنبثقة منها باتساق كامل، ستحل مشكلة القيم المبعثرة في الحضارة الغربية التي مزقت الإنسان وأخرجته من دائرة إنسانيته الى الدائرة الحيوانية. وسترجع كينونة الإنسان المسلم إلى وحدتها وتوازنها .
إن تجربة الإنسانية في تجاهل تلك القيم الموحدة في العصر الحديث، وما انتهت إليه من إخفاق في حل أزمة الإنسان وملأ الهوة السحيقة التي حدثت بين الروح والمادة، ستدفع الإنسان المسلم خاصة وإنسان الحضارة عامة، في القرن القادم على تجاوز البرزخ المصطنع الذي أوجد الإنسان المادي أبعدته عن صياغة الإنسان الكامل . وصياغة النورسي لتحليل تجليات تلك الأسماء المباركة ستفيد حركة إعادة بناء النظام الأخلاقي في المجتمع الإنساني كله، بله المجتمع الإسلامي .
- يرفض النورسي الاعتماد على الفلسفات الإشرافية والغنوصية التي دخلت النظام الروحاني في الإسلام، فأفسدته وأخرجته من توازنه الكامل مع العقيدة والشريعة، وأسبغت عليه وجها أحادياً بعيداً عن اتخاذ الوحي الشامل بقراءاته الثلاث، المصدر الوحيد لفهم الحقيقة في الوجود، معتمدا على رياضيات روحية تقطع الإنسان المسلم عن حركة الحياة وتخرجه من قلب الصراع في الحياة، متمثلا بالبناء أو الهدم.
وبذلك ارجع التربية الروحية إلى نسقها المتوازن في دائرة الإسلام، وابعد عن معركة إنقاذ الإيمان في عصرنا والعصر القادم، النظام الطرقي، المنحرف الذي بنى في تاريخنا على اختلاط المعرفة الإلهامية مع النزعات الشيطانية، لابتعاد أصحابه عن التلمذة على القرآن الكريم واتباع القائد الكوني للركب المؤمن محمد صلى الله عليه وسلم . (1)
__________
(1) - انظر على سبيل المثال : الكلمات ص 24، 157، 255، والمكتوبات: 102 والشعاعات :158(20/61)
وفي مسلكه هذا تقويم جيد لأسس المعرفة الأصولية التي تستطيع أن تدخل في الصراع القادم مع الحضارة الغازية بأسلحة عقلية فطرية علمية .
- إن القرن القادم يتطلب من العالم الإسلامي أن يكون موحداً فكرياً، حتى يستطيع أن يقاوم " العولمة " التي تريد أن تلغى فاعلية الإسلام من الوجود، بفرض النظام الرأسمالي الإباحي على العالم .
ولقد اهتم النورسي بهذه المسألة الخطيرة في رسائله اهتماماً مصيرياً، وهو دعوته المستمرة فيها من اجل عدم الدخول في صدامات داخلية مع التيارات الدعوية الإسلامية الأخرى. وتوحيد القوى والجهود لمواجهة الجاهلية المعاصرة .
إن معرفة طبيعة العصر، دفعته ألاّ يعادي حتى التيارات السياسية غير الإسلامية في العالم الإسلامي، بل وجّه إليهم الدعوة جميعاً، لأنهم في رأيه يدخلون جميعا في دائرة " ملة الإسلام" على الرغم من أخطائهم المنهجية والسياسية .
ولذلك تجنب تكفير المسلمين في حياته، وطلب من تلامذته عدم الدخول في الثأر للنفس .
وهذا المنهج السديد هو الذي سيحتاج إليه المسلمون في العصر القادم، لأنه ينهى الخصومات، ويوحد الأمة وينشر بين أبنائها المحبة ووحدة الاتجاه والمصير . (1)
ومما يقوى هذا الاتجاه دعوته الحاسمة بعدم مشروعية توجيه الجهاد إلى داخل المجتمع الإسلامي، لأن ذلك سيؤدى إلى تفجيره من الداخل. وهذا لا يستفيد منه غير الأعداء .
إن الجهاد في العالم الإسلامي هو جهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد العلم والنصيحة، لإعادة الأمة إلى حظيرة الإسلام، حسب قانون التدرج الكوني . (2)
__________
(1) - الشعاعات ص 424
(2) - المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي – بحث" العمل الإيجابي- القاعدة الثابتة لعمر مديد" – للدكتور علاء الدين باشار ص 135(20/62)
- حلل النورسي الحضارة الغربية تحليلات عميقة في كلياتها وجزئياتها، وفلسفاتها السياسية والاجتماعية وتوجيهاتها الإباحية، واثبت خطورة هذه الحضارة في حدودها الحاضرة على مستقبل البشرية، لأنها جانبت فطرة الإنسان، واصطدمت مع حقائق الإيمان، وبرهنت على أنها لا تقوم على أسس معرفية متوازنة، وإنما هي أقوال رجال تمثل ضلالات النفس الامارة، لا تعرف معنى للحياة غير الصراع .
فالفلسفة التي تقود هذه الحضارة سفسطة لا حقيقة لها، تحقر الكون وتتجاهل نظامه، ولا تتعمق في أسرار الوجود وعللها، وتتهرب من الإجابة على أسئلة الفطرة والعقول النيرة. (1)
إن هذه الفلسفة بإعطائها صفات الألوهية للإنسان سارعت إلى أنواع الضلالات، فنسبت الخالقية إلى الطبيعة والمصادفة والأسباب . (2)
إن نقطة الاستناد في رفض الفلسفة الجاحدة في فكر النورسي تعتمد أيضاً على الفلسفة. ولكن أية فلسفة ؟
هي الفلسفة الواقعية التي تخدم الحياة الاجتماعية وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهد للرقى الاجتماعي وحينئذ تكون في وفاق مع القرآن الكريم . (3)
الحق إن الفهم الدقيق لأسس الفلسفة الغربية لدى النورسي ومناقشتها، هو اقرب إلى الحوار منه إلى الهجوم العاطفي العشوائي. ومن هنا سيكون موقف النورسي من الحضارة الغربية ونقدها بهذه التفاصيل منهجا للفكر الإسلامي في القرن القادم، لأن هذا المنهج يبحث في أصل الداء ، وكشفه أمام المسلمين وأمام الإنسانية جميعاً .
وسيكون اقدر على حل المعضلة الفكرية أمام المسلمين وحل عقدها واحدة واحدة .
خاتمة :
__________
(1) - الكلمات ص 639
(2) - الكلمات ص 146
(3) - الملاحق- ملحق اميرداغ 286(20/63)
هذه لمحة موجزة في هذا البحث القصير عن حركة التجديد الإسلامي في مدرسة الأفغاني وعند الأستاذ النورسي الذي جاء بعدهم، توضح أن هذا الفكر الذي ظهر نتيجة للظروف التي أحاطت بالمسلمين في القرن العشرين، والتي استمرت إلى اليوم وستستمر وتعبر إلى القرن الحادي والعشرين، هو فكر الصراع التاريخي بين المنظومة الإسلامية والمنظومة الغربية.
غير أن فكر النورسي سيكون اكثر التصاقاً بذلك الصراع، لأنه واجه الحضارة الغربية مواجهة متكاملة متوازنة في إطار المذهبية الإسلامية الشاملة في شؤون الكون وخالقه والمجتمع والإنسان، والتي تلقى بالمسلمين وغير المسلمين في عصر هيجان إيماني كوني عظيم، لأن حضارة مادية ضخمة مغرية كحضارة الغرب تلك التي واجهها، لم يكن يفيد في مواجهتها إلا مثل ذلك الهيجان الذي هو وحده كفيل بإخراج المسلم والعالم بأسره من هوة عالم اليهودية الإلحادية الإباحية إلى سوح الصفاء الإيماني القرآني بقوة وحسم ووضوح .
إن إكمال ترجمة " رسائل النور " إلى اللغات العالمية الحية، سيحدث حركة إيمانية واسعة في العالم وسيفتح نوافذ كبيرة ينظر منها عقلاء الأمم والشعوب الى القرآن الكريم ومنه إلى الرائد الذي لا يكذب اهله، الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه .
فعلى الأخوة النوريين أن يبذلوا الغالي والنفيس في سبيل إيصال رسائل النور إلى العالم، حتى لا يوضع النورسي في متحف القرن العشرين. لأنه يستحق بجدارة، أن يكون مجدد إنقاذ الإيمان في العالم كله.
لماذا ؟
لأنه وجد أن الخراب الذي أصاب حياة المسلمين، يقف وراءه خراب عالمي آخر، فركّز على الثاني لهدمه في حياة المسلمين وغيرهم. بينما المجددون الآخرون ركزوا على تحليل وتنقية الخراب الأول. فخطابهم موجه إلى المسلمين وإيقاظهم، بينما خطاب النورسي موجه إلى الإنسان من حيث هو إنسان، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم .(20/64)
ومن هنا فمنهج النورسي هو أسلمة الحضارة في مناهجها الموجهة، لأن في ذلك خلاص المسلمين ونقلهم الى رحاب الإيمان والشهادة على البشرية، كما أمرهم رب العالمين .
ومن الجدير بالذكر هنا، انه على الرغم من أن هؤلاء المجددين عاشوا في عصر حضاري واحد، وانهم كانوا متقاربين فكريا، إلا أن التقارب بين الإمام سعيد النورسي ومعاصره الإمام حسن البنا اكبر .
ولقد شعر النورسي بذلك التقارب وعد طلاب النور وطلاب الأخوان المسلمين في البلاد العربية، من بين صفوف عديدة "صفين مترافقين ومتوافقين في حزب القرآن وضمن دائرة الاتحاد الإسلامي المقدسة" . (1)
ومن هنا فان الضرورة التاريخية تحتم على المفكرين الحركيين المنطلقين من الوحي إلى العصر، أن يتقاربا اكثر في القرن القادم، كي يستفيد كل مما عند الآخر من فكر وخطط وتجربة، كما يجب أن يحصل وفي أوسع دائرة ممكنة مع الحركات الإسلامية الأخرى التي تقدم فكرا إسلامياً شمولياً ، كي يحصل التعاون التام في سبيل قيادة النهضة الحضارية الآتية بإذن الله في العالم الإسلامي.
وهذا لا يعنى إنني أدعو إلى تجميد حركة القرن القادم على أفكار هؤلاء المجددين، لأننا لا نعلم بدقة ماذا سيجرى في غياهب القرن الحادي والعشرين .
ولكنني أقول : إن مسرحية الصراع الحضاري الحالي لم ينته بعد، ولم تعرض فصولها كلها. ولذلك سيكون للمجددين في هذا القرن دور كبير في القرن القادم، لا سيما الإمامين الجليلين الشهيدين سعيد النورسي وحسن البنا . رحمهما الله تعالى .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هوية الإنسان المسلم
في ضوء رسائل النور
بحث مقدم إلى الندوة العالمية" هوية الإنسان المسلم " المنعقدة بتاريخ 31/1 - 2/2/ 2001 التي أقامتها مجموعة البحث في الفكر والحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة عبد المالك السعدي - تطوان – المغرب.
__________
(1) - الملاحق – ملحق اميرداغ 337(20/65)
لم يمر على المسلمين زمن كانوا بحاجة شديدة إلى تحديد هويتهم الإيمانية والاجتماعية والحضارية كحاجتهم إليه اليوم. فقد تكدست عليهم عوامل التأخر وتكالبت عليهم جموع الأعداء الذين استغلوا ضعفهم وتأخرهم وسقوطهم الحضاري ليصيدوا إليهم أفكارهم المادية وفلسفاتهم الجاحدة، وقيمهم النسبية وأنماط حياتهم الاجتماعية. من اجل إدماجهم في نسيج الحضارة المادية الحاضرة. ومن المعلوم أن هذه المأساة ليست بنت اليوم، وإنما بدأت مع طلائع الاحتكاك بالحضارة الأوربية منذ بدايات القرن التاسع عشر، ثم انداحت موجاتها شيئا فشيئا حتى استقرت في الانقلابات اللادينية، التي استعملت العنف والقوة في فرض اللادينية، والتخطيط للقضاء على الإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقاً وحضارة. وكادت هذه الفواجع المروعة أن تسلخ المسلمين نهائيا من حضارتهم، بعد أن تحقق للدوائر السرية والعلنية المعادية استلاب العقل المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة. ولاسيما تحت مظلمة الاستعمار الغربي والشرقي لمعظم بلاد المسلمين.
إن غزو الحضارة الغربية لمجتمعاتنا فضح الأمراض القاتلة لمجتمعاتنا الإسلامية، والتي تجسدت في الجهل والجوع والمرض، بجانب جهل الإسلام وعدم الوعي بحركة الحياة ومرحلة التطور الإنساني، حين مجابهة التغريب اللاديني والاستسلام المطلق للفكر الغيبي الخرافي اللاتيني الذي تحول بمرور الزمن إلى ثقافة مقدسة، ملأت حياة المسلمين الفارغة في العصور الأخيرة، وأبعدتها عن إدراك السنن الإلهية لقيام المجتمعات وسقوطها أو لعوامل النصر والهزيمة في حياة الشعوب والأمم.(20/66)
لقد بلغ سيل زبى هذا الاستلاب الرهيب للعالم الإسلامي في بدايات القرن العشرين مداه فتفجرت في أعماق ذاكرة الإنسان المسلم القوي الكامنة المتراكمة التي أوجدها الإسلام تاريخنا الطويل، لتظهر على شكل نقاط تحمل ساخنة هنا وهناك، تحمل الرفض للوضع القائم، وتفكر في التخطيط لتجديد حياة المسلمين. وصنع وعي جديد بالدين والتاريخ والمرحلة وبناء المستقبل وتجسيد أصالة الهوية الحقيقية للإنسان المسلم.
وبقدر ما كانت معركة الفرض الدموي للتغريب مروعة ومأساوية، في مركز الأمة الإسلامية وموطن خلافتها المريضة الأخيرة. كانت الاستجابة ثورة عقيدية فكرية إسلامية فخمة وعميقة، ولكنها في الوقت نفسه كانت هادئة حكيمة سليمة، خبيرة بحاسبات الأقدام والأحجام، عارفة بخطوط المواجهة وخريطة الصراع الجديد بين الاستسلام الذليل للتغريب أو التلمذة الشريفة على القرآن المجيد.(20/67)
وإذا كان ظهور رجل صلب العقيدة، عالم بأبعاد الصراع، طبيب نطاسي بأمراض الأمة كالإمام المجاهد سعيد النورسي ضرورة في ذلك الوقت كي يوقظ النائمين، وينبه الغافلين، ويقود ركب إنقاذ الإيمان بوعي واقتدار وفكر نير وإيمان راسخ، لتجديد هوية الأمة من الإيمان والإسلام والأصالة والانتماء والاعتزاز والمنعة. وإذا كان قد نجح بإذن الله نجاحا عظيما في إنقاذ الجيل وشحنه بالاعتزاز بدينه والاستسلام لربه والانضمام تحت كلمة "لا إله إلاّ الله" ومقاومة الإلحاد مع اضطهاده ووضع اصعب العراقيل المتنوعة إمامه. فإن عالم العولمة اليوم(1) التي يقودها الطغاة المجرمون من اليهود وأذنابهم في كهوف التآمر وأوكار الدعارة، من اجل اختراق الأمم والشعوب والثقافات وإلغاء دولها وتفكيك أنظمتها وفتح أسواقها أمام جشع الرأسمالية الجديدة وإحاطة فضواتها بالأقمار الصناعية، وتحويل الكرة الأرضية إلى ميدان إلغاء الآخر وفرض حضارة النمط الأمريكي، وعقد المؤتمرات العالمية للأسرة والمرأة لتغيير هوية الإنسان والاعتراف القانوني بالشذوذ والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان، والحصول على الأطفال بالتبني أو تأجير البطون وإقرار حق الفتاة المراهقة والمرأة المتزوجة والفتى المراهق والرجل المتزوج في حرية الجنس مع من يشاؤون.
أقول إذا كان هذا وضع العولمة اليوم في هذا العالم المعاصر، فإنه للعالم الإسلامي بأحوج ما يكون إلى ذلك الإمام الجليل في رسائله النورية الموسوعية القرآنية الشاملة التي أحاطت بصراعات العصر الفكرية والروحية والحضارية، كي يجد فيها المسلمون أنفسهم ويعثروا على هويتهم، ويصنعوا في ضوئها حياتهم ويبنوا حضارتهم من جديد.
__________
(1) - للباحث كتاب بعنوان "العولمة من المنظور الإسلامي" صدر في بغداد عام 2001(20/68)
إن رسائل النور اليوم هي "العصا القرآني الجديد" الذي يستطيع أن يضرب الطوفان العولمي، فيسجره على أصحابه المتآمرين على الأمة الإسلامية خاصة، ليغرق الفراعنة والنماردة الجدد.
يا ترى: ماذا يمكن أن يقدم إلينا الشيخ النورسي من علاج أمراضنا وتشكيل عقولنا ورسم خريطة حياتنا الإسلامية.
إنه يرسم لنا لا شخصيتنا فحسب، وإنما يتغلغل إلى شخصانيتنا فيحييها من جديد، وضعها بإيمان وقوة واقتدار قبالة محاولة تذويب الأمة وإلغائها برمتها.
إن الشخصانية تعنى الكينونة من العقل والقلب والروح والنفس مجتمعة متوازنة مستقلة مفتوحة غير مسلوبة الإرادة لقيم الأسرة أو القبيلة أو العادات والأعراف والتقاليد الاجتماعية. وهي تعنى وعى الإنسان بذاته، مع العلاقة الشمولية الواعية المدركة بالعلم الخارجي. أي هي مسؤولية الإنسان أمام نفسه وأمام العالم الخارجي المحيط به.
ولا يمكن للشخصانية أن تتحقق في فرد إلا إذا ارتقى من كونه كانا ماديا مجردا بلا وعى ولا شعور إلى مستوى الإدراك والوعي الشاملين.
وإذا طبقنا هذه المعايير على الشخصانية الإسلامية استطعنا أن نقول: إنها الشخصانية المنضبطة بضوابط الحس ثم العقل ثم الوحي. أي أن صاحبها ينطلق في بناء علاقاته وحياته من المنهج القرآني الذي يتدرج بالشخصية المسلمة من الحس إلى العقل في إطار الوحي الجامع لهما وللمعارف التي تصدر منهما.(20/69)
فعلى ذلك فالشخصانية الإسلامية تنطلق من شهادة "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" وهي التعبير الظاهري الذي يدخل الإنسان به الإسلام. إلا أن تلك الشهادة الظاهرية على الرغم من ضرورتها العقيدية لا تكفى أمام الله سبحانه. فالإسلام الذي يحظى برضا الله تعالى هو الاعتقاد الإيماني المركز الذي يجمع بين الظاهر والباطن، ويملأ كينونتنا ويجعلنا قادرين على التواصل الدائم مع الله الخالق ومع مخلوقاته جميعا عن طريق نشدان الحق والخير والصلاح في إطار ضوابط الشريعة الإسلامية الشاملة.(1)
إذن فالشخصانية المسلمة تعنى الكائن المسلم وما حوله من شعور ووعى وثقافة وروح اجتماعية وإنسانية نابعة من مذهبية الإسلام في شؤون الكون والمجتمع والإنسان. فإذا كانت تلك هي ملامح الشخصانية الإسلامية الحقيقية. فرسائل النور تتكفل بتكوين أسسها ومقوماتها ورسم ملامحها.
إن الشخصانية الإسلامية تنطلق من العقيدة الإيمانية الشاملة التي تتغلغل في كل خلية من خلايا جسم الإنسان المسلم، كي ينطبق فيه الظاهر مع الباطن، فيخلص المسلم لله سبحانه وتعالى.
ولقد أدرك النورسي عندما واجه أمراض أمته، أن الشخصانية الإسلامية قد فرغت من جذورها، وإلا لو كانت الأمة سالمة من الأمراض، لما سقطت أمام المخطط اللاديني. فمن هنا بدأ الإمام النورسي ببناء الإيمان الخالص بإيقاف المسلم أمام خالقه، من خلال قراءة المخلوقات والتفكر في نظامها العجيب والانتباه إلى روعة صنعها ودقة نسيجها وسَرَيان حكمتها والعناية التي تحيط بها. فهزّ بها كيان الإنسان المسلم وحرك أعماق شخصانيته تمهيدا لأعادتها إلى مواطن انطلاقتها الأولى، عندما حركها القرآن الكريم متدرجا من عالم الحس إلى عالم العقل ثم الارتقاء إلى مستوى الوحي الإلهي الحق المسطر في كتاب الله الأخير جل وعلا.
__________
(1) - الشخصانية الإسلامية – للدكتور عبد العزيز الحبابي ص 15،48 ط1 دار المعارف- مصر(20/70)
على أن الإمام النورسي صب انطلاقته العقيدية الإيمانية القرآنية في تلامذته، كي ينتهي توترهم إلى الراحة والاستسلام والذلة بين يدي رب العالمين. والجدير بالذكر أن انطلاقته لم تكن عقلية جدالية منطقية جافة مركبة، منابعها تختفي تحت ركام الأودية الملتوية التي تمر على ارض تشوبها الشوائب المعدنية الكريهة الرائحة، ولكنها كانت انطلاقة قرآنية تضع الإنسان عامة والإنسان المسلم خاصة أمام كينونتها عقلا وقلبا وروحا ونفسا، في امتزاج رائع وتركيبة متوازنة.
وفي ضوء ذلك ارجع النورسي هوية الإنسان إلى قلعتها، ينظر منها إلى العالم، عاليا لا متعاليا، مشفقا على البشرية من الأمراض الحضارية النمرودية والفرعونية التي خلخلت كيانها وأسلمتها إلى سبل الشيطان التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد أدرك اللادينيون أن الهجوم الكاسح على قلعة العقيدة من شأنها أن يسلب المسلمين قاعدتهم التي ينطلقون فيها إلى بناء الحياة في ظل مذهبية الإسلام في الوجود. فإذا انحرفوا في العقيدة، وسلب منهم إيمانهم، حينئذ سيذوبون في مبادئ الغرب وقيمه النسبية والأخلاقية المزعزعة المبنية عليها. فسحب النورسي البساط من تحت أقدام العلمانيين، فتوجه إلى قلعة الإيمان وفرش رسائله كلها أمامها، مستعينا تارة بقوانين الحس وأخرى بسنن العقل، منتهيا بحجج الوحي الذي يعرضها القرآن الكريم عرضا مختبريا مقنعا للعقول السليمة.
كل ذلك من خلال ذكائه الحاد وعلمه الغزير وقدرته السَرَيانية النافذة في خلايا المخلوقات، ومناقشاته المنطقية وتحليلاته الفلسفية الفطرية دون الاستعانة بمصطلحات العلوم العقلية الجافة.
ولقد كان هذا المنهج مباركا، لأنه حدد هوية الإنسان المسلم بما يأتي:(20/71)
1ـ حول عقيدة المسلم من التجريد العقلي إلى التربية الإيمانية والاستمتاع بلذة العبادة، الأمر الذي أعطاه حصانة داخلية، نفذت إلى الأعماق فكونت شخصانية تستطيع أن تواجه أقدار الحياة من قلعة حصينة. واستطاع بذلك أن يقود تلامذته إلى الفناء في الله والفناء في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته الطاهرين، دون نسيان الكائنات، بل الكائنات بكل ما فيها ومن فيها كانت هي المنطلق، الذي انتهى به إلى ذلك الفناء الإسلامي الصحيح الذي قاد إلى شرح الصدر، فابتعد عن الفناء الشهودي الذي ينسى الكائنات ويسلم صاحبه إلى حالة الشطح والسير في مدارج السالكين بلا عودة إلى حركة الحياة، والفناء الوجودي الذين ينكر الكائنات ظانا أن التوحيد هو ضد الكثرة وليس ضد الشرك، فوقعوا جميعا في مجانبة طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان النورسي حريصا في كل كلمة قالها في الرسائل على اتباعه، لأنه الإنسان الأرقى والمخلوق الأرقى والثمرة الأرقى للكائنات.
إن أصحاب وحدة الشهود ووحدة الوجود وقعوا صرعى أمام التلمذة على العقول التي تربت على الفلسفات الهندية واليونانية والغنوصيات القديمة، ولذلك لم يحصل لاصحابها، ولا سيما أصحاب وحدة الوجود شرح الصدر كما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(20/72)
2ـ استطاع الإمام النورسي أن ينقذ هوية الإنسان المسلم من الذوبان في التلمذة على أسس الفلسفات الغربية الجاحدة ومنهج العلم الذي سيق إلى الإلحاد، إلى التلمذة على القرآن الكريم الذي أعطاه شموليته الإنسانية وشخصيته الكونية وعبوديته لخالقه العظيم، لا لإنسان مثله، وبذلك حرره من ضغط الغرائز والخضوع للهوى المضل وانحراف العقل، وأنقذه من التيه والخرافة والغيبية اللاسببية التي حطمت في العصور الأخيرة شخصانية الأمة الإسلامية، فسقطت نتيجة لمقدمات فاسدة تحت أقدام المستعمرين الكافرين من جهة أو أفكارهم الطاغوتية المنكرة للبديهيات الكونية من جهة أخرى.
3ـ أدار رسائله كلها في دائرة كبيرة منها حول حياة القدوة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أنصبة البشرية من تجليات الأسماء الحسنى لم تظهر متكاملة متوازنة إلا في شخصه الكريم. وفي هذا دليل عند النورسي أن الكائنات لم تكن تتم مهماتها إلا بمجيء المثل الأعلى للكائن الحي في هذا الوجود. وأعطى النورسي بذلك مفهوما جديدا للحقيقة المحمدية، عندما فسرها في ظل تلك الأسماء الحسنى المباركة. فأنقذها من تسلل ذيول الغنوصيات الأجنبية إلى حقيقة ذات تلك القدوة المباركة.
على أن هوية الإنسان المسلم لا يمكن أن تتشخص دون العيش في ظل ذلك القدوة الكريمة الرفيعة، لأن تلك الهوية ستضيع في بيداء الشخصيات الجاحدة التي لا يمكن أن تكون إلا قدوة سيئة للكفار والمشركين ، فإعادة هوية الإنسان المسلم في العصر الحديث يتطلب الانضمام النهائي إلى موكب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الكرام وصحابته المؤمنين والمتبعين لهم بإحسان.(20/73)
والحقيقة الناصعة أمام من يقرأ رسائل النورسي بدقة وإمعان يوقن انه مزج القرائين الثلاثة مزجا مركبا بحيث تشعر وأنت تتأمل تلك الرسائل، كأن الشيخ النورسي خصصها بنوع واحد من تلك القرائين، في حين إنها مندمجة اندماجا كاملا بلا فصل بين القرآن المقروء والقرآن المنظور والقرآن الناطق.
إن بناء العقيدة وإنقاذها من التشويهات في ظل مخطط إنقاذ الإيمان واتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة عظمى في الوجود، انتهى منطقيا إلى بناء جزئيات السلوك بناء ربانيا محكما، فعادت هوية الإنسان المسلم أخلاقيا إلى مكانها الطبيعي، عبادة لله تعالى في المساجد، صدقا في المعاملة في عالم التجارة والأسواق خلاصا من البخل والتبذير، وتوجها إلى اقتصاد القناعة والبذل في سبيل الله والدعوة، والإخلاص في أداء مهمات الخلافة الإنسانية في جزئيات الحياة الكثيرة، والعيش في إطار اخوة إسلامية حقيقية، وبناء الأسرة بناء إسلاميا رصينا متميزا يتحول إلى جيل معتز بانتمائه الإسلامي إلى أمته، متوجها نحو إنقاذ الآخرين من الركوع المهين أمام الجحود الطاغوتي الشيطاني.
إن هذه الأمور الثلاثة قادت هوية الإنسان المسلم إلى إعادة محاولة تأسيس حضارة إسلامية فريدة، تمتاز بالوحدانية والربانية والإنسانية المتسامحة والعالمية المفتوحة والقيمية الأخلاقية والعلمية المبدعة، والسليمة الخالدة والوسطية العادلة والأصالة الرصينة. وهذه الأوصاف تجدها منثورة في ثنايا رسائل النور، عندما يتحدث صاحبها الإمام عن تجلى كل اسم من أسماء الله الحسنى في صنع الكون والحياة والمجتمع والحضارة، وكأنه يريد أن يقول للإنسان المسلم:(20/74)
أيها المسلم أنت موضع تجليات أسماء الله الحسنى، لأنك تلميذ القرآن، وتقف في موكب ثمرة الكائنات. فكيف تذوب في حضارة لادينية يريد طغاة الزمان من الكفرة والمشركين واللادينين المسلمين الجغرافيين فرضها عليك. أتريد أن تخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر المطلق والشرك المظلم وتتنكر لخلافتك العظمى في الوجود التي صنعت منك إنسانا كونيا صديقا للكائنات جميعا. عابدا لخالقك حق العبادة، تنظر نظرة شمولية جامعة إلى ما حولك ومن حولك، وسطيا لا تعرف لتطرف والميلان، صاحب رسالة عظيمة، كي تكون بها شاهدا على الناس، تعيش لتنال أنصبتك التي انبثقت من تجليات أسماء خالقك، حتى يأمن الناس على أنفسهم من شياطين الأنس والجن ومن الدجاجلة الذين لا يقوم عملهم إلا على التمويه والخديعة والتزوير والاستلاب.
إن هوية الإنسان المسلم في رسائل النور، هوية كونية قرآنية إنسانية موحدة ربانية عابدة، ولذلك فهي هوية متميزة شاهدة على الناس جميعا، زيادة على ذلك فهي هوية اخروية، لأنها تهيئ نفسها للفوز بالجنة ورضوان من الله اكبر.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن أية هوية أخرى نلقى بأنفسنا نحن المسلمين في أحضانها، ستكتب علينا صك الذل والعبودية لغير الله وإن فعلنا ذلك خسرنا أنفسنا وآخرتنا، ودفنّا كياننا في ظلمات النسيان المطلق
ولئن سألتني: هل استطاع النورسي أن يحقق في عالم الإنسان المسلم مثل هذه الهوية؟.(20/75)
أقول نعم، استطاع أن يربي طلاب النور على هذه الهوية الربانية حيث تجدهم في ارض الواقع – عندما تلتقى بأحدهم فردا أو في جماعة- تتجلى على وجوههم، عبادة خالصة، وأدب قرآني رشيد وسيطرة على المال ونظافة في البدن واللسان، وحب للمسلمين جميعا ووفاء منقطع النظير للأستاذ، وإنكار للذات، وتواضع شفاف وتقدم في العلم والعرفان، وإتقان للعمل وحركة دائمة لا تتوقف ولا تفتر في خدمة الإيمان ونشر حقائق القرآن، وحكمة في التصرف ووعى بالحياة مع هدوء في الشخصية بعيد عن الصخب والجدال والادعاء والتعالي والثرثرة.
ومن هنا فان الصحوة الإسلامية الحاضرة، لا بد أن تستفيد من دراسة شخصية الإمام النورسي ومنهجه الإسلامي القويم الذي سطره في رسائله النورية، كي تتخلص من الشروخ التي أحدثتها ظروف المواجهة في السياسة والثورة والعنف، ولا سيما في البلاد العربية التي لم تكن هجمة اللادينية قوية شرسة، كما حصلت بضراوة ودموية ومخطط وحشى فرضته شروط "كروزن" في مؤتمر لوزان، ووجد لتنفيذها انسابا مريبة، و عمالة ذليلة، ونفوسا شرهة، وضلالات جاحدة، ولادينية متطرفة ملحدة. بينما خرّجت مواجهة النورسي الذكية البصيرة في رسائله، هذا الجيل الذي رأيناه وخالطناه فوصفناه في إيمانه وتوحيده وأخلاقه وسلوكه وفهمه ونظافته .
فهرست
مقدمة 1 ... 7
مقدمة 2 ... 15
النورسي متكلم العصر الحديث ... 23
نظرية المعرفة في القرآن الكريم من خلال رسائل النور ... 33
من معالم التجديد عند النورسي ... 47
تجديد الفكر الإسلامي في القرن الحادي والعشرين ودور الإمام النورسي ... 63
هوية الإنسان المسلم في ضوء رسائل النور ... 85(20/76)
معهد الدراسات المصطلحية مركز النور للدراسات والبحوث
كلية الآداب والعلوم الإنسانية استانبول/تركيا
ظهر المهراز/فاس - المغرب
مفاتح النور
نحو معجم شامل للمصطلحات المفتاحية
لكليات رسائل النور
لبديع الزمان سعيد النورسي
الدكتور فريد الانصاري
جامعة السلطان المولى إسماعيل/ مكناس - المغرب
(
الإهداء
إلى الكواكب السيَّارة بِفَلَكِ القرآن ..
الْمُدْلِجَةِ بظلمات هذا العالم ..
مصابيحَ للحيارى ..
وعلاماتٍ .. ترسم طريق النور نحو السماء ..
إلى أهل الله وخاصته ..
أهدي هذه الومضات..!
(
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد؛ فهل بقي شك في أن بابا جديدا من أبواب الفتن، قد انكسر فعلا على العالم اليوم؛ عندما انقدحت شرارة العولمة، ريحا عقيما تعصف بالأرض؟
وهل بقي شك في أننا نعيش زمان تتابع الفتن، وتواتر المحن! على ما ورد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)(1)
ألا ما أحوج العالم اليوم إلى النور!
__________
(1) رواه الترمذي بسند صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير رقم : 2993.(21/1)
وعجبا! كيف يصر الإنسان على التيه في الظلمات، ولا يستمد الشعاع من النور والنور قريب؟ (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض)(النور:35)، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة:186). عجبا! وهذا القرآن العظيم يمد المؤمنين بنور لا يخبو أبدا! (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.)(الشورى:52-53).
فأين الإنسان؟
تَجَلِّي النُّورِ فَوْقَ الطُّورِ بَاقٍ ** فَهَلْ بَقِيَ الكَليمُ بِطُورِ سِينا؟(1)
ولقد تجلى إعجاز القرآن لكل زمان، بصورة مناسبة لإنسان ذلك الزمان. وذلك ضرب آخر من ضروب الإعجاز! حتى جاء عصر ظلمات الفتن، التي أنذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باندلاعها على أمته! فتجلى إعجاز القرآن - مرة أخرى - نورا أبصره الربانيون! فكشفوه للناس، كلٌّ حسب منزلته من موقع التلقي.
__________
(1) البيت للشاعر محمد إقبال، رحمه الله.(21/2)
لما كان أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الأمة الإسلامية بأكملها تقريبا؛ ترزح تحت كابوس الاستعمار! وكانت ظلمات! ثم كان النصف الأول من القرن العشرين مرحلة لانتشار الأيديولوجيات، والفلسفات المنكرة للدين والمشككة في حقائقه! فكانت ظلمات أخرى! وهنالك احتاج المسلمون إلى تجديد الصلة بالنور. ولكن للأسف كانوا لا يبصرون! على حد قول الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (الأعراف:198)، وقوله سبحانه: (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف:105). فاحتاجوا بذلك إلى (مُبَصِّرين)، وليس إلى (مُبْصِرين) فقط! فليس صدفة إذن؛ أن انطلق بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله، في هذه الفترة بالذات: (1876 م-1294هـ إلى 1960م - 1379هـ) يكشف إعجاز القرآن نورا، (يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة:16).(21/3)
فعندما داهمت ظلمات العلمانية العالم الإسلامي، اختلف العلماء والمصلحون حول أشكال مناهضتها، من القتال الجهادي إلى السجال الفكري! واختار بديع الزمان حمل راية (إعجاز القرآن)، والعمل تحت رايتها فقط! بيد أن (إعجاز القرآن) كما حمله النورسي رحمه الله لم يكن مجرد درس بلاغي عتيق! بل كان منهجية جديدة لتبصير المسلمين حقائق القرآن في النفس وفي المجتمع، وبعث روح القرآن فيهم! فكيف بقوم انبعثت فيهم روح القرآن؟ ذلك هو الإعجاز! لقد كان الأستاذ رحمه الله ملقنا لبصائر القرآن بامتياز! وهنالك يكمن سر نجاحه التجديدي للدين. ذلك النجاح الذي لم يمت بموته، كلا! بل استمر نوره متدفقا على العالم، شاقا طريقا من نور غريب نحو المستقبل. فإنما كان يقرأ القرآن ويفسره بمنهج استبصاري نادر! ومن هنا فإنك - وأنت تقرأ كلماته رحمه الله - تجده يخاطب من حين لآخر أجيالنا والأجيال التي بعدنا بوعي تام! وذلك من مثل قوله في نداء استبصاري عجيب: (يا إخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عاماً!)(1).
ولذلك فإنك لما تقرأ كليات رسائل النور؛ تشعر كأنما هذه الرسائل قد كتبت لزماننا هذا، أو كأنما كتبت للتو على إثر أحداث وقعت في المسلمين الآن، ولما نخرج من لهيبها بعد! ولا تكاد تسأل في حيرة الفجيعة: كيف الخروج؟ حتى تجد رسائل النور تسبق إليك بالجواب! تنتشلك من ظلمات الحيرة والاضطراب، وتوقظ وجدانك: أن افتح عين قلبك! وأذن روحك! وشهود بصيرتك! لتتلقى نور القرآن بنفسك، لا بواسطة غيرك؛ فتكون من المبصرين!
__________
(1) صيقل الإسلام: 518.(21/4)
يقول رحمه الله في سياق تلقينه بصائر القرآن: (أتكلم في مكاني، لا في مقام السامع المواجه لي - خلافاً لسائر المتكلمين، الذين يفرضون أنفسهم في مقام السامعين - فيصير أمام كتابي [الذي] وجههُ إليّ، ومعكوسه ومقلوبه إلى السامع، فكأنه يقرأ في المرآة فيتعسّر عليه؛ فإذاً لا أذهب إلى مقامه، فليرسل هو خياله إليّ لأضيفه على عيني ، في رأسي؛ كي يرى كما أرى!)(1).
إن بديع الزمان حينما اختار طريق البيان لإعجاز القرآن؛ إنما اختار طريق العروج بالمسلمين إلى المقامات العلى، من الوعي بالوجود الديني، والتميز الحضاري. لقد اختار أن ينخرط في البناء الشامل لصرح (الأمة)! وليس فقط لبعض جزئياتها، أو لدفع بعض أزماتها العابرة، أو المتوهمة. ولطالما أُشغل المصلحون بأزمات وهمية؛ إلهاء لهم عن صلب القضية الكبرى: بناء جيل القرآن! وذلك ما لم يكن ليكون إلا ببيان (إعجاز القرآن)، بالمفهوم الذي عرضناه عند بديع الزمان النورسي رحمه الله، فلله درّه! أي رجل كان!؟
لقد جاء على موعد مع التاريخ؛ ليكون به ما أرد الله لهذه الأمة، من إنقاذ الإيمان في الحاضر، وبناء الأمة للمستقبل! وقطعا لم يكن خروجه ببلاد الخلافة الإسلامية عبثا، أو صدفة، بل كان بعثة تجديد، وقَدَراً مقدورا! ما يزال يمتد في أفق هذه الأمة، ومستقبلها بتجليات شتى! اقرأ هذه القصة التي يحكيها عن نفسه رحمه الله في بيان نقطة البدء، تحت عنوان: (رؤيا صادقة حول إعجاز القرآن:
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقبل إبّان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة الآتي:
__________
(1) المثنوي العربي النوري: 218.(21/5)
رأيت نفسي تحت جبل (آرارات).. وإذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال إلى أنحاء الأرض كافة! وبينما أنا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: لا تخافي يا أماه! إنه أمر الله، إنه رحيم، إنه حكيم. وإذْ أنا بتلك الحالة؛ إذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:
- بيّن إعجاز القرآن!
أفقتُ من نومي، وأدركتُ أنه سيحدث انفلاق عظيم! وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم؛ من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم! وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه! حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون إعجازه هو حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع ٍمن هذا الإعجاز في هذا الزمان - بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً - وأدركتُ أني مرشح للقيام بهذا العمل!)(1).
__________
(1) المكتوبات: 475، وسيرة ذاتية:120.(21/6)
فلم يلبث أن وجد الرجل نفسه - بعد ذلك - يشق حياته بحثا عن حقائق القرآن. ووجد نفسه يسلك مسالك، كأنما يُدْفَعُ إليها دفعا، من غير تفكير منه سابق، ولا إرادة! ليخرج من جبته (سعيد الجديد)(1): الرجل القرآني، الذي كشف إعجاز القرآن؛ فحاصر العلمانية الرسمية بين أبراجها. ثم انخرط في تجديد بناء الأمة من القواعد! قال رحمه الله: (إن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري، وشعوري، وتدبيري؛ إذ أُعْطِيَ لها سيرٌ معينٌ، ووُجِّهت وجهةً غريبةً؛ لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية؛ لبيان إعجاز القرآن!)(2) فكان بديع الزمان سعيد النورسي في صورة (سعيد الجديد)! وكانت (كليات رسائل النور)!
تلك إذن؛ كانت قصة بدء حركة النور، ذلك المشروع الدعوي الهام! وتلك التجربة الإيمانية المتميزة، المنطلقة من بلاد الخلافة العثمانية، في ظرف تاريخي حاسم. حيث نمت وترعرعت حتى صارت دوحة عالية في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ومن أجل ذلك كانت هذه الدراسة المتواضعة، لكليات رسائل النور في صورة مصطلحية؛ لإخراج معجمٍ للمصطلحات المفتاحية الواردة بها، تحت سيماء: (مفاتح النور).
__________
(1) ميّز سعيد النورسي في رسائله بين شخصيتين من ذاته: الأولى شخصية (سعيد القديم) وهو الرجل الذي اختار الانخراط في الصراع السياسي، وذلك كان هو سعيد النورسي قبل الأربعين من عمره. أما (سعيد الجديد) فهو الرجل القرآني الذي تفرغ لبناء المنهج القرآني في المجتمع، مرددا عبارته المشهورة: (أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة!).
(2) سيرة ذاتية:10.(21/7)
والدراسة المصطلحية علم منهجي قائم بذاته. ينهض بدراسة المصطلح العلمي باعتباره جوهر العلم وأساس وجوده. إذ هو كما وصفه - بأدق ما يكون الوصف - فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي، إذ قال: (والمصطلح – كائنا ما كان – إما واصف لعلم كان، أو ناقل لعلم كائن، أو مؤسس لعلم سيكون!)(1) وإذا كان كذلك؛ فلا علم إلا وهو مُنْبَنٍ – في مقولاته المفهومية – على مصطلحاته. وهذا أمر ظاهر. ومن هنا كان قولنا: (إن المصطلح هو العلم)(2) على سبيل الاستغراق الكلي للفظ (العلم). وثبات المعنى الحاصل في الجملة الاسمية بإطلاق! مع العلم أن ذلك ليس دالا بالضرورة على انطباق الحكم نفسه على (الدراسة المصطلحية) من حيث هي منهج للدراسة. إذ ما هي إلا اجتهاد من الاجتهادات ضمن إمكانات مناهج دراسة المصطلح. وإن كنا نزعم أنها – إلى هذه اللحظة – أجود ما عرف في مجال دراسة المصطلح. إلى جانب مناهج المعجمية والقاموسية وما يعرف بالدراسات التأثيلية(3).
إن المصطلح – من حيث هو مفهوم واقع في الوجود ابتداءً – يمثل الحقيقة الوجودية الأولى للعلم. أيِّ علم! فهو إذن؛ الجوهر من سائر المعارف الكونية. وما القضايا العلمية الحاصلة بعد – البناء عليه – إلا أعراض قائمة به. تماما كقيام الألوان بالأجسام. لولا هذه ما حصل إدراك تلك.
__________
(1) مصطلحات النقد العربي للدكتور الشاهد البوشيخي: 7.
(2) المصطلح الأصولي عند الشاطبي، للدكتور فريد الأنصاري: 11.
(3) البحوث (التأثيلية): هي التي تعنى بدراسة الأصول الاشتقاقية، وتاريخ تفرعها. انظر: قاموس اللسانيات للدكتور عبد السلام المسدي، ص: 21.
وأما القاموسية فهي: (علم صناعة القواميس، أي الكتب المحتوية على رصيد لغوي مرتب، ومشروع. وأما المعجمية: فهي علم دراسة الألفاظ من جميع نواحيها، والبحث في صيغها واشتقاقاتها ومعانيها). من تعليق الدكتور عبد العلي الودغيري على كتاب (منهج المعجمية) لمؤلفه جورج ماطوري، ص:160.(21/8)
والمصطلح إنما هو في نهاية المطاف تسمية عَلَمِيَّةٌ على مسماها من المفاهيم العلمية. فهو إذن؛ اسم عَلَمٌ على بنات العلم.
ولإدراك هذا المعنى؛ نورد قول الله عز وجل في قصة بدء الخلق البشري: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)(البقرة:31) ذلك أن (الكلام) كما يقول النحاة: اسم وفعل وحرف. ولا شيء يستقل بذاته منها إلا الاسم. لأن الحرف مفتقر إلى غيره كما قالوا. وأما الفعل فلا وجود له إلا بحركة الفاعل الحسية أو المعنوية. أي أنه هو أيضا مفتقر إلى الفاعل بالمعنى الوجودي. فكان الفاعل هو الأصل في الجملة من حيث هي حقيقة مستقلة. وكذلك المبتدأ في الجملة الاسمية. وأما ما اسند إليه من الأخبار والصفات، أو نحوهما؛ فهو مفتقر إليه وقائم به، قيامَ الأعراض بالذوات.
وإن دل هذا على شيء؛ فإنما يدل على أن الحقائق الأولى للوجود إنما هي الذوات. وسواء كانت ذوات مادية كأسماء الأشياء والأجرام، أو ذوات معنوية، كأسماء المعاني وسائر الحقائق الذهنية، والمعقولات، كالأمن والخوف والحب والبغض والموت والحياة... إلخ.
ومن هنا كان قول الخالق جل وعلا: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة:31). هكذا بصيغة العموم غير المخصص، بل المؤكد استغراقه لكل (اسم). هكذا: (كلها)! لأن الأسماء هي أساس الموجودات فلم يبق بعد ذلك من حقائق الوجود إلا العلاقات القائمة على الربط بين الأسماء بالوظيفتين الحرفية والفعلية, ولهذا فالفعل يؤول بالمعنى الوجودي – لا النحوي – إلى الحرف! أي من حيث هو مفتقر في وجوده إلى غيره كما بينا.(21/9)
ومن أدق الإشارات العلمية في هذا الصدد، ما بينه الأستاذ بديع الزمان النورسي استِيحَاءً من الدرس النحوي في تقسيم (الكلام)، وما وظفه من ذلك، لكن في تقسيم الموجودات، باعتبار الفناء والبقاء؛ إلى (معنى اسمي) و(معنى حرفي). قال مجيبا عن سؤال في الموضوع لأحد طلابه: (أما سؤالك (...) الذي يتعلق ببحث (المعنى الاسمي) و(المعنى الحرفي)، فمثلما أشارت كتب النحو عامة إليه في بداياتها، فقد وضحته توضيحاً كافياً بالأمثلة كتب علم الحقيقة كالكلمات والمكتوبات (...) فإنك إذا نظرت إلى المرآة من حيث إنها زجاجة، ترى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا، بينما إن كان القصد من النظر إلى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها؛ فالصورة تتوضح أمامك حتى تدفعك إلى القول: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:14) بينما تبقى زجاجة المرآة أمراً ثانوياً.
النظرة الأولى تمثل (المعنى الاسمي)، أي: أن زجاجة المرآة معنى مقصود، وصورة الشخص المتمثلة فيها (معنى حرفي) غير مقصود.
أما النظرة الثانية؛ فصورة الشخص هي المقصودة، فهي إذن (معنى اسمي)، أما الزجاج فمعنى (حرفي).
وهكذا ورد في كتب النحو تعريف الاسم بأنه: ما دلّ على معنى في نفسه. أما الحرف فهو: ما دلّ على معنى في غيره.) (1).
__________
(1) اللمعات:171-172.(21/10)
فكذلك وضع المصطلح من سائر العلوم والمعارف: هو (المعنى الاسمي)، وما سواه مما تركب عليه وقام به هو (المعنى الحرفي). إذ أن أركان العلم أي علم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: هي المصطلح والقاعدة والمنهج. فأول ما ينشأ من العلوم مصطلحاتها، إذ تنشأ المفاهيم أولا فيحتاج العلماء للتعبير عنها وبذلك تتولد المصطلحات. فهذه إنما هي تسمية لمواليد العلم من سائر المفاهيم والمقولات. التي هي أساس تكوين العلم ونشأته. وانظر في أي علم شئت! فذلك أول تكوينه. وتلك هي مرحلة طفولة العلم، ثم يشب بعد ذلك فتتعقد قضاياه، فيحتاج للتعبير عن تلك القضايا المعقدة إلى جمل وصفية مركبة، ذات وظائف إجرائية للتحليل والتركيب، وهي قواعد العلم. كما هو الشأن في علوم الشريعة مثلا، عند إيراد قواعد الفقه أو الأصول أو الحديث أو نحو ذلك. فقولهم مثلا (الضرورات تبيح المحظورات) قاعدة لحل إشكال تركب من تعارض خطابين على المكلف بسبب ظروف حاله وزمانه ومكانه. التي هي الضرورة؛ فيخاطَب آنئذ بالقاعدة لحل الإشكال ورفعه. ثم يتطور العلم بعد ذلك إلى مرحلة النضج والاكتمال؛ فتتكون المناهج الاستنباطية والإنتاجية لتجديد العلم، كالاستقراء والقياس، وسائر مناهج الاستدلال. وذلك هو العلم كله. فلم يبق بعد ذلك منه شيء!(21/11)
وإذا عدنا إلى مقولة: (المصطلح هو العلم)؛ وجدنا أن المناهج التي هي ركن الاكتمال من العلم، ليست سوى تركيب قاعدي في نسق معين من شأنه إنتاج البحث في العلم. فالقياس مثلا من حيث هو منهج للبحث والاستدلال ليس سوى توظيف متناسق لمجموعة من القواعد العلمية الدائرة داخل منظومة القياس، كقولهم: (الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انعدمت العلة انعدم الحكم)، وقولهم: (لا قياس مع وجود الفارق)، وقولهم أيضا: (لا قياس مع النص)، وكذلك كل قواعد (تخريج المناط) و(تنقيحه) و(تحقيقه)، وقواعد (السبر والتقسيم) لاستنباط العلة...إلخ. فكل ذلك حاضر سلبا أو إيجابا؛ عند إعمال منهج القياس في البحث والاستدلال. فلا يتصور قياس في الواقع إلا بإعمال قواعده. ومن هنا كان المنهج - أي منهج – مجموعا نسقيا من القواعد التي تشكل حقيقته.
وأما مفهوم (القاعدة) التي هي فرد من أجزاء المنهج المكونة لحقيقته؛ فليست سوى مجموع نسقي من المصطلحات. كما إذا تأملت القاعدة الفقهية السالفة الذكر: (الضرورات تبيح المحظورات)، أو أي قاعدة أخرى من قواعد العلم، مما ذكر أو غير ذلك بإطلاق؛ وجدت أن القاعدة مجرد مصطلحات تركبت في نسق استدلالي. فالقاعدة المذكورة أخيرا تقوم على مفاهيم ثلاثة، هي: الضرورة، والإباحة، والمحظور. لكنها تركبت فيما بينها على شكل نسق استدلالي؛ فكانت القاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات). ومن هنا كان فهم القاعدة خارج نطاق فهم المصطلح أمرا مستحيلا! تماما كما لا يمكن فهم المنهج خارج نطاق قواعده.(21/12)
فإذا آل أمر المناهج في الفهم إلى القواعد، وآل أمر فهم القواعد إلى مصطلحاتها، ثم تبين أنه ليس قبل المصطلح شيء من العلم؛ تَحَصَّلَ إذن من ذلك كله أن فهم العلم إنما يبدأ بفهم المصطلح! وأن مآل العلم في التكوين والتجديد إلى المصطلح. ولذلك كانت عبارة الخوارزمي في تسمية كتابه: (مفاتيح العلوم) أدق عبارة في تسمية وظائف الاصطلاح!
وبناء على ذلك كله؛ قررنا - بحول الله - أن ننجز دراسة مصطلحية، تقدم للناس فكر الأستاذ بديع سعيد الزمان النورسي رحمه الله، في صورة معجم اصطلاحي، من خلال رسائله. لكن طبعا ليس في صورة المعجمية التقليدية، القائمة على التعريفات الجزئية؛ ولكن في صورة الدراسة المصطلحية، القائمة على (المنهج الوصفي)(1) لإنتاج التعريفات الكلية الاستقرائية، التي تقدم مفاهيم النورسي بشكل شمولي، لا يلغي شيئا من عناصرها، ولا يدع شبهة من شبهاتها. وبينهما فرق كبير، كما سترى بحول الله.
__________
(1) يقوم (المنهج الوصفي) في الدراسة المصطلحية على مراحل محددة، تبدأ بالإحصاء الشامل، والاستقراء التام؛ لموارد تلك المصطلحات عند عالم معين، أو في كتب قرن معين، ثم تصنيفها حسب (أُسَرِها الاصطلاحية)، وذلك بجمع نصوصها، ودراستها نصا، نصا، وهو ما يسمى (بالدراسة النصية)؛ لاستنباط معانيها الجزئية الواردة عند كل نص، لتدرس بعد ذلك لغويا، ثم معجميا، وعندئذ يُرْجَع إلى مفاهيم النصوص؛ للنظر في المعنى الكلي، المتحصل من مجموع الجزئيات المدروسة قبل، فيرفع التعارض، وينزع التشابه، ثم يجمع بين المؤتلف حقيقةً، ويفرق بين المختلف طبيعةً؛ كل ذلك لإنتاج التعريف الكلي، الذي يُعْرَض بعد ذلك ضمن دراسة مفصلة لعناصره، تحيط بشخصية المصطلح، وتكشف عن هويته.(21/13)
بيد أنه لم يكن يخطر بالبال؛ وأنا أشرع في قراءة (كليات رسائل النور)، للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي - رحمه الله - أن هذا التراث الضخم الذي تركه يكتنز قاموسا مصطلحيا خاصا، بل كان الانطباع الأولي أن هذه الألفاظ المستعملة عنده لا تخرج عن القاموس الصوفي بمعناه التقليدي. بيد أن هذا الانطباع الأولي لم يلبث إلا قليلا؛ حتى بدأت أدرك - بعد غوص في بحار (الكليات) الزاخرة - أن الأمر يتعلق بعالم جديد كل الجدة، من تراث المصطلح الإسلامي الأصيل!
لقد فوجئت بثروة مصطلحية نادرة، وكنز مفهومي ثمين! يشعر الدارس أن وراءه عبقرية ذات حس مصطلحي دقيق!
إن قارئ رسائل النور قد يتوهم لبادئ الرأي؛ أنها صفحات من الوعظ والذكرى فحسب؛ أو ورقات في أدب الدنيا والدين، على غرار ما كتب كثير من السابقين، لكن الباحث المتعمق، الصبور على المتابعة والاستقراء، ليكتشف أن الأمر يتعلق (بفلسفة) خاصة للكون والحياة والمصير! إلا أنها (فلسفة) مستنبطة من القرآن الكريم، سواء فيما يتعلق بمصطلحاتها ومفاهيمها، أو ما يتعلق بقضاياها وإشكالاتها؛ ومن هنا عمق الجهاز المفهومي لدى بديع الزمان.
إلا أن المصطلح لديه - رحمه الله - يصعب تصنيفه على الطريقة التقليدية. وإن المرء ليحار فعلا كيف يصنف مصطلحاته؟ وإلى أي علم ينسبها؟ أإلى القرآن وعلومه؟ أم إلى الكلام وعلم العقائد؟ أم إلى التصوف وعلوم الأخلاق؟ أم إلى الفلسفة بمعناها التقليدي؟ أم إلى غير هذا وذاك؟(21/14)
إن مصطلحات النورسي في أغلبها (قرآنية) محضة، لكنها (نورسية) التحقيق والتأويل. بمجرد أن تكشف لثامها تبصر حقائق القرآن وأنواره منزلة على عصر النورسي وزمانه، وإذا بها حركة تنشط في النفس والمجتمع، لتنطلق بقوة متدفقة نحو المستقبل! كما أنها قد تكون في بعض الأحيان شبيهة بالمصطلح الصوفي، إلا عند التحقيق - كما سترى بحول الله - (قرآنية) المفهوم والتأصيل، (نورسية) الذوق والتحليل. ولا يمكنك أن تقول غير ذلك! خاصة وأنه رحمه الله انتقد غير ما مرة مناهج علماء الكلام، والفلاسفة، والمتصوفة جميعا، وصرح بأنه اختار (طريق القرآن)، أو (معراج القرآن)! فكان مصطلحه كما قال.
وأنت تقرأ للنورسي تدرك أن الرجل كان متضلعا من كل ما انتقده! الفلسفة والكلام والتصوف! كما أنه كان على صلة بعلوم العصر الحديث!
عبقرية النورسي هذه تطل عليك بقوة من خلال لغته الاصطلاحية الخاصة، لتفرض عليك التقدير والإجلال؛ لهذا الرجل الذي خاض معركة المصطلحات والمفاهيم، من خلال خوض معركة الإيمان، في بلد كان ساسته ونخبته يشيعون فلسفة الإلحاد والإباحية! ولذا يمكنك حقا أن تقول - ولا تكون إلا صادقا - : لقد كان النورسي يحارب تحت راية القرآن!
والقرآن كما يُدْرَس يتذوق؛ ولذلك فقد جمعت مصطلحات بديع الزمان بين دقة العلم، ولطافة الذوق، يبني عليها البرهان، ويرص بها الحجاج، فإذا محصتها وجدتها ـ كما سيأتي قوله عن براهينه ـ كالضوء، أو كالهواء، أو كالماء، إذا أنت فركتها سالت، أو تبخرت، أو طارت بعيدا في الفضاء!
ومن هنا لم يكن من السهل أن تخضع لمناهج الدراسة المصطلحية الصارمة، بصورة (قياسية) مطلقة، دون أن يضطر الدارس إلى أذواق (الاستحسان)، لصياغة تعريف، أو معالجة مفهوم! و"الاستحسان تسعة أعشار العلم" كما قال مالك رحمه الله. كما أن القياس إذا اطرد ربما أدى إلى فساد، كما قرره الأصوليون!(21/15)
بهذا إذن، نشرع بحول الله في إعداد معجم لمصطلحات الأستاذ النورسي رحمه الله، (مستأنسين) بالمنهج الوصفي، المعتمد في الدراسة المصطلحية، في مثل هذه الموضوعات.
ونزولا عند اقتراح فضيلة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي حفظه الله(1)؛ في إخراج المعجم مجزءا؛ نشرع في إخراج معجم (مفاتح النور) – كما أحببنا أن نسميه؛ انسجاما مع "كليات رسائل النور" - في سلسلة من المصطلحات المفتاحية، نبتدئها بهذه المصطلحات الستة: (التوحيد، والإنسان، والكون، والقرآن، والانتساب، والأخلاق)، نعرضها مرتبة هكذا في ستة فصول، باعتبارها أهم المفاتيح المفهومية، التي تكشف عن طبيعة المنظومة الفكرية، لدى الأستاذ النورسي رحمه الله.
ولابد - بين يدي ذلك - من بيان بعض (المتشابهات)، في فكر الأستاذ النورسي رحمه الله، والتي لابد من تَبَيُّنها، ومعرفة ظروفها؛ لمن أراد أن يفهم النورسي حق الفهم، وإلاّ فربما ظلم الرجل، ووصفه بما ليس فيه. وذلك من خلال ما يلي:
عناصر ظرفية أساسية لفهم فكر النورسي وشخصيته:
__________
(1) الأستاذ إحسان قاسم الصالحي: مترجم كليات رسائل النور إلى اللغة العربية.(21/16)
- أولا: أكثرَ النورسي رحمه الله من أساليب التحدي برسائل النور؛ مما قد يوهم في ظاهره أنه كان معجبا بنفسه أو بفكره، مع أنه كان رحمه الله من أشد علماء عصره إنكارا للذات! والسبب في ذلك أنه إنما كان يتحدى أهل الإلحاد والزندقة، الذين أعلنوا التمرد على الله جل وعلا! حيث كانت موجات الإلحاد آنئذ تكتسح العالم الإسلامي، باسم الفلسفة حينا، وباسم الثورية حينا آخر، مع انتشار أنصار الفكر الماركسي اللنيني في كل مكان! وطغيان العلمانية المناهضة للدين وللإيمان في تركيا التي قادت حركة تجفيف منابع الدين في كل البلاد! فغلقت كثيرا من المساجد وحولت بعضها إلى متاحف! وأصدرت قوانين تحظر الأذان الشرعي، والخط العربي، وتدريس الدين بالمدارس، وتمنع كل مظاهر التدين الاجتماعية، في الأزياء والأشكال والألقاب؛ حتى صار الناس يخفون المصاحف عن العيون ويُهَرِّبونها كما تُهَرَّب الممنوعات! ومن ضُبِط متلبسا بشيء من ذلك شنق على مرأى من الناس، وعلق على رؤوس الأعمدة الكهربائية في الشوارع والطرقات! فما بالك إذن بعالِم يخرج على الناس في مثل هذه الظروف الرهيبة يدعو إلى الإيمان بملء صوته؟ إنه لم يكن أمام بديع الزمان إلا إعلان التحدي! وإلا فقد ضرب أروع الأمثلة رحمه الله في نكران الذات! وقد اشتهرت كلمته في مخاطبة نفسه قائلا: (يا سعيد! كن صعيداً! في نكران تام للذات، وترك كلي للأنانية، وتواضع مطلق كالتراب؛ لئلا تعكر صفو رسائل النور، وتقلل من تأثيرها في النفوس!)(1) وكذلك قد كان!
ونظرة سريعة في ملخص (كرونولوجيا) حياته وأهم أحداث زمانه رحمه الله – كما سترى بعد هذه المقدمة بحول الله - تنبئك عن طبيعة حياته كيف عاشها، وعن الظروف التي كتبت فيها رسائل النور، وأنتج فيها فكره.
__________
(1) الملاحق في فقه دعوة النور: 110.(21/17)
هكذا إذن؛ ألّف النورسي رسائل النور، عبر حياة متنقلة من سجن إلى سجن ومن منفى إلى آخر! ما بين رجل العلم والسياسة، الذي هو: (سعيد القديم)، إلى رجل القرآن والتربية، الذي هو (سعيد الجديد)؛ كان النورسي ينسج غلائل النور عبر رسائله بالعربية حينا وبالتركية حينا آخر. إلى أن تم جمع ذلك وتحقيقه وترجمته؛ من لدن الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. جعله الله سببا لكل خير، وتقبل عمله في الصالحات. كل ذلك أدى إلى أن تكون رسائل النور ذات تداخل موضوعي واصطلاحي، فيها تسجيل لمراحل من عمر النورسي الحافل المديد: (84 سنة)، وفيها نصوص وقضايا لا يتم فهمها إلا بردها إلى نواسخها، كما أن فيها جزئيات هي – إن عزلت - أشبه ما تكون بالزلات! فلا يمكن فهمها إلا بإدخالها ضمن كُلِّيِّهَا! وقد تأولت للأستاذ رحمه الله، وحملت كلامه على أحسن محامله، كما تأول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم مدارج السالكين؛ لشيخ الإسلام الهروي الأنصاري صاحب منازل السائرين. وذلك هو ديدن أئمة الهدى من هذه الأمة عبر التاريخ.(21/18)
- ثانيا: استصحب النورسي في رسائله كثيرا من الاصطلاحات الصوفية، لكن على غير دلالاتها الأصلية. فقد شحنها في كثير من الأحيان بمعان قرآنية محضة، وجعلها تنطق ببصائر القرآن، بينةً كأوضح ما يكون البيان. وربما كانت في أصلها التراثي ذات شطحات صوفية. وإنما يعرف ذلك عنده بالتتبع والاستقراء الذي هو مبتدأ المنهج في الدراسة المصطلحية. لكن قد يبقى منها شيء يخرج عن المنطق العام لكليات رسائل النور. فمثل هذه وجب أن ترد إلى الأصل المحكم عنده، والذي عليه المعول في فكره، وهو نفي الشركيات والخرافيات والضلالات. وله في ذلك صولات وجولات، هي أصول فكره، وقواعد منهجه. منها قوله رحمه الله، مقسما طرق المعرفة إلى أربعة: (أولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس والسلوك الإشراقي. وثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان (...) وثالثها: مسلك الفلاسفة.
فهذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات، والأوهام!
ورابعها: المعراج القرآني: الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!)(1) ثم يقول في موطن آخر بوضوح أكبر: (ثم إن هذا الطريق أسلم من غيره؛ لأن ليس للنفس فيه شطحات، أو ادعاءات فوق طاقتها! إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز، والفقر، والتقصير، كي لا يتجاوز حده!)(2).
أما محكمات الحق عنده رحمه الله فهي جمهور كليات رسائل النور، التي إليها يرد كل متشابه.
__________
(1) صيقل الإسلام: 8/122- 123.
(2) الكلمات: 561.(21/19)
- ثالثا: أن أكثر رسائله إنما ألفها إملاءً، لا كتابةً وتصنيفا، وفي ظروف متقطعة؛ بسبب تواتر المحن في حياته رحمه الله. وقد تجد بين تواريخ إملائها فترات من عدة سنوات؛ فكانت الرسائل لذلك يتخللها البتر، أو قل: (البياض)، بمعناه في الاصطلاح الأدبي الحديث: الذي يدل على الكلام (المسكوت عنه)، لحكمة ما، أو لظرف سياسي ما! حيث يكون التعبير الأبلغ هو الصمت! ولمثل ذلك سك الحكماء عبارتهم المشهورة: (الصمت حكمة!) فيكون عنوانه المجمل، وأسطره الفارغات - في سياق ترتيبها من الكليات - ناطقة بما لم تنطق به العبارات!
ومن هنا فقد تجد مثل هذه العبارات كما في مجلد الكلمات: (لم يكتب هذا المقام بعدُ!)(1). وكما في: (الكلمة الثامنة عشرة: لهذه الكلمة مقامان . ولم يكتب بعدُ المقام الثاني!)(2) .
ومن هنا إذن؛ تبرز أهمية الدراسة المصطلحية لمصطلحات كليات رسائل النور؛ إذ أنها المانع من فهم النصوص معزولةً عن سياقها الكلي، والضامن لإدراجها في موقعها الطبيعي، ضمن منظومته الفكرية، التي قد يأتي شرح بعضها لبعض، في مواطن مختلفة، وعبر رسائل متعددة؛ تخصيصا أو تقييدا، أو نسخا. فليس بالضرورة أن تجد الموضوع الواحد، قد قال فيه النورسي كل ما أراد في الموطن الواحد. بل ربما لن تظفر بالتصور الكلي للمعنى الواحد إلا بتركيب النصوص من عدة رسائل. وقد كانت الدراسة المصطلحية خير كفيل بذلك؛ لما تتمتع به من منهجية صارمة في تتبع آحاد المعنى لبناء كليات المفاهيم.
__________
(1) الكلمات: 115.
(2) الكلمات: 248.(21/20)
وقبل أن أقفل باب هذه المقدمة؛ وجب التنويه والاعتراف بالفضل، لأستاذنا وأستاذ الأجيال بالمغرب، فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي، مدير معهد الدراسات المصطلحية بفاس، الذي كان سببا في هذا العمل، حيث انتدبني لهذه المهمة من الدراسة المصطلحية لكليات رسائل النور؛ فكان لي بذلك سببا في التعرف على كنز ثمين من البصائر القرآنية، والحقائق الإيمانية. فله من الله الجزاء الأوفى.
كما أنه وجب التنويه والشكر، للأستاذ الفاضل إحسان قاسم الصالحي، رئيس مركز دراسات رسائل النور بإستنبول، الذي وجب البيان في حقه أنه لم يترجم رسائل النور بمقاله فحسب؛ ولكنه ترجمها أيضا بحاله ونشاطه. ولم يزل مذ من الله علي بمعرفته خير معين ومرشد لي في عملي هذا، ناصحا ومرشدا ومسددا. حريصا على تمامه أشد ما يكون الحرص! فبارك الله في جهوده، وتقبل منه أعماله في الصالحات.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر:10). سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وكتبه بمكناسة الزيتون من حواضر المغرب الأقصى، راجي عفو ربه وغفرانه: فريد بن الحسن الأنصاري، غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين. وكان ذلك بتاريخ: 4 ربيع الثاني من عام: 1424هـ الموافق لتاريخ: 04/06/2003.
تمهيد
وفيه (1):
- أولا: التحولات الكبرى بتركيا، وأهم الأحداث والإجراءات في الفترة ما بين: 1922-1940م
1922:
1/11/1922: إلغاء السلطنة العثمانية.
1923:
29/10/1923 إعلان الجمهورية وانتخاب مصطفى كمال أول رئيس للجمهورية، واتخاذ آنقرة عاصمةً.
1924:
__________
(1) نصوص التمهيد ملخصة بهوامشها - التي وضعها الأستاذ إحسان قاسم الصالحي - من كليات رسائل النور لبديع الزمان النورسي: (سيرة ذاتية: 14- 18).(21/21)
16/3 قانون توحيد التدريسات (رقم 430 في 3 مارت 1340 رومي) وبموجبه ألغي تدريس الدين وألحقت المدارس جميعها بوزارة المعارف. وأغلقت مدارس القرآن الكريم والدين.
3/3 إلغاء الخلافة، وإخراج جميع أفراد العائلة العثمانية الحاكمة إلى خارج الحدود.
24/4 إلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية و المحاكم الشرعية. وإعادة النظر في دستور الدولة.
1925:
13/2 بداية اندلاع ثورة الشيخ سعيد پيران (الپالوي).
21/2 إعلان الأحكام العرفية في الولايات الشرقية.
6-9/3 غلق عشرة من الصحف الصادرة باستانبول.
29/6 إعدام الشيخ سعيد پيران وسبعة وأربعين من أعوانه وإغلاق جميع التكايا والزوايا في شرقي الأناضول.
25/7 إلغاء التقويم الرومي المستعمل واستعمال التقويم الغريغوري الأوروبي واستعمال الأوقات حسب الساعات الزوالية (برقم 697، 698 ووضعه موضع التنفيذ اعتباراً من 1/1/1926).
24/8 ظهور مصطفى كمال بالقبعة في قسطموني.
2/9 غلق الأضرحة والمزارات، والقرار الوزاري برقم 2493 حول القيافة الدينية وما يلبسه الموظفون على رؤوسهم.
4/9 اشتراك النساء المسلمات لأول مرة في حفلة رقص في منطقة تقسيم باستانبول.
8/12 قانون القيافة (رقم 671 في 25/11/1341) ولبس القبعة وتكشّف النساء (إقرار الزي الأوروبي).
14/12 قانون غلق جميع التكايا والزوايا في البلاد (برقم 677 في 30/11/1341 رومي) وإجبار موظفي المساجد بارتداء الزي الأوروبي والموظفين بلبس القبعة.
إلغاء الألقاب كالشيخ والخليفة والمريد.
1926:
17/2 إلغاء النكاح الإسلامي ووضع قانون النكاح المدني (برقم 743) وبموجبه: حرّم تعدد الزوجات وأُلغي المهر المفروض على الزوج، ومنع الزوج من حق الطلاق، وأصبحت البنت حرة في اختيار الزوج من أي دين كان، والتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، وأُلغي نظام الإرث بالقرابة والتعصب...(21/22)
4/10 قبول القانون المدني الأوروبي - الذي هو عبارة عن الترجمة الحرفية للقانون السويسري وترجمة القانون الإيطالي- وعدّه قانون الجزاء التركي. وإلغاء القوانين الشرعية كافة.
4/10 نصب تمثال مصطفى كمال في منطقة سراي بورنو باستنبول.
1927:
20/5 إزالة كل ما يمت إلى الدولة العثمانية من لوحات وطغراء في الدوائر الرسمية (رقم 1057).
1928:
3/2 أول خطبة للجمعة بالتركية.
10/4 إخراج كلمة الله من القَسَم الذي يؤديه رجال الدولة، وإخراج جملة (دين الدولة الرسمي الإسلام)، وجميع التعابير والاصطلاحات الدينية من الدستور؛ باقتراح من عصمت إينونو ورفقائه، بقانون رقم 122.
24/5 اتخاذ الأرقام الأوروبية بدل العربية بقانون رقم 1288
1/11 تقليص عدد موظفي المساجد من (2128) إلى (188).
1/11 إقرار الحروف اللاتينية بدلاً من العربية المستعملة (بقانون رقم 1353 ) وبموجبه بيعت أطنان من الوثائق والكتب القَيِّمة بأزهد الأثمان، وأطنان منها أرسلت إلى مصانع الورق!
1/11 إجبار الصحف ولوحات الأزقة والشوارع والمحلات على اتخاذ الحروف الجديدة.
30/12 غلق (90) مسجداً في استنبول.
1929:
1/ 9 حذف الدروس العربية والفارسية من المدارس، ووضع الحظر على قراءة القرآن وكذا الكتب الدينية وتنفيذ القرار بشدة.
وفي هذه الأثناء وضع الحظر على استعمال الألقاب العثمانية كالباشا والأفندي وما شابهها.
1930:
23/12 حادثة مَنمَن ( وثورات في كل من آغري: 1930، و موش ووادي زيلان: 1931).
1931:
3/2 إعدام (28) شخصاً بحادثة منمن.
1932:
22/1 قراءة القرآن المترجم إلى التركية.
6/2 خطبة الجمعة بالتركية في جامع السليمانية باستانبول.
18/7 فرض الأذان والإقامة بالتركية رسميا وحظرهما بالعربية. وطبع المصحف بالتركية.
1/8 اشتراك تركيا في مسابقات الجمال.
1933:
1/2 حدوث ثورة في بورصة احتجاجاً على الأذان بالتركية.
7/2 أصبح الأذان بالتركية نافذاً في جميع المساجد.
1934:(21/23)
26/ 11 قانون رفع الألقاب (برقم 2590).
3/ 12 منع ارتداء ملابس معينة (بقانون رقم 2596).
1935:
2/1 جعل يوم الأحد عطلة الأسبوع بدلاً من الجمعة.
1/2 تحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف بعد إغلاقه مدة من الزمن، وتحويل جامع الفاتح إلى مستودع! كما صدر قرار بفرش المساجد بالكراسي واستخدام (الأُورْج) فيها حيث تتم تلاوة القرآن بمصاحبة الموسيقى، إلاّ أنه لم ينفذ.
1940:
7/ 3 ... تدريس الإلحاد رسمياً في معاهد القرى(1) .
وضعت هذه القوانين واتخذت القرارات لقلع الإسلام من جذوره، وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون من الزمان. فمُنع تدريس الدين في المدارس كافة، وبُدّلت الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحُرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وجرت محاولات ترجمة القرآن الكريم وسُعي لقراءة الترجمة في الصلوات. كما أُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، إذ حُظر طبع الكتب الإسلامية، وأُرغم الناس على تغيير الزي إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة والنساء على السفور والتكشف ..
__________
(1) Muzaffer Gokmen, Elli Yilin Tutanaklari ( ) , Hurriyet Yayinlar(21/24)
وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة(1).
فساد جو من الذعر والإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون المصاحف الشريفة عن أنظار موظفي الدولة. ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد وحلت محل كلمات (الله، الرب، الخالق، الإسلام) كلمات (الطبيعة، التطور، القومية التركية..الخ)(2).
__________
(1) لقد آثر علماء كثيرون وأدباء أجلاء ترك البلاد على لبس القبعة. وقد حدثت ثورات ضد السلطة الحاكمة آنذاك في أنحاء مختلفة من البلاد ففي سنة 1925مثلاً حدثت: في سيواس في 14/11، و أرضروم في 25/ 11، و مرعش في 27/ 11، و ريزة في 2/ 11 وأخمدت كلها بالقوة .ب/526. وقد صرّح الجلاد "قارا علي" إلى صحيفة "صون بوسطة" في عددها الصادر في 3/ 3/ 1931بالآتي: علّقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في اثني عشرة سنة الماضية.. ووصفت صحيفة "جمهوريت" في عددها الصادر يوم 16/ 7/ 1930 الأعمال الجارية في شرقي الأناضول كالآتي: لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي الى مغارات جبل آرارات، وألقت طائراتنا قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفلاقات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ إليها الأشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أبيدوا والبالغ عددهم "ألف وخمسمائة = =شخصا" عن: Bediuzzaman Said Nursi,Yavuz Bahadiroglu s.200(21/25)
وأخذ المعلمون والمدرسون يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار، إذ أصبحوا يلقنونهم الفلسفة المادية وإنكار الخالق والنبوة والحشر. وسعت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها؛ لقطع كل الوشائج والعلاقات، التي تربط هذه الأمة بدينها! ونزع القرآن من قلوبهم،حتى أنها قررت جمع المصاحف من الناس وإتلافها، ولكن لما رأوا صعوبة ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإيمان والإسلام! فيتولى بنفسه إفناء القرآن! (1).
ومن سلسة محاربة الإسلام وملاحقة العلماء اعتقال الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وأخذه من صومعته في جبل أرك ونفيه إلى بارلا، وهي بلدة صغيرة نائية، لكي يخمد ذكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض. بيد أن الأستاذ النورسي بخلاف ما وضع له من خطة رهيبة، لم يترك دقيقة من وقته تمضي في فراغ، بل صرف حياته بدقائقها في سبيل أجلّ خدمة في الوجود، وهي خدمة القرآن والإيمان. فانكبّ على الاستفاضة من أنوار القرآن الكريم، مستعصماً به حتى أفاض الله على قلبه من نور الآيات الحكيمة ما أفاض، فأسَال منه سلسبيلاً من الرسائل سماها رسائل النور، ونشرها سراً - بعيداً عن أنظار السلطة - بين محبيه، فشفي بها بإذن الله الحيارى المحتاجين إلى الإيمان.
- ثانيا: أهم الأحداث في حياة الأستاذ بديع الزمان النورسي:
- 1876 م/ 1294هـ: ولادته وأيام طفولته.
__________
(1) وما أصدق أخانا أديب إبراهيم الدباغ في كتابه : "سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان" إذ يقول:
"تُرى أي مصير رهيب كان ينتظر تركيا، لو لم يقيض الله سبحانه وتعالى لها هذا الرجل، في وقت بدأت فيه فؤوس الحقد، ومعاول الهدم تعمل على زلزلة الإيمان وتقويض بنيانه ومسح آثاره من البلاد.. ويتراءى لنا طيف "الأندلس" شاحباً باكياً وقد انحسر عنه الإسلام وغادره إلى غير رجعة.."(21/26)
- 1895م/1312هـ: نفيه من ماردين إلى بتليس.
- 1907م/ 1325هـ: مجيؤه إلى استانبول بغية إنشاء مدرسة الزهراء. وإعلانه عن المناظرة مع العلماء في خان الشكرجي، وأجوبة القائد الياباني. ثم تقديمه طلبا للسلطان عبد الحميد حول إصلاح الأوضاع في المنطقة الشرقية وإنشاء مدرسة الزهراء. ثم سوقه إلى مستشفى المجاذيب، ومحاورته الطبيب، ووزير الأمن شفيق باشا.
- 1909م/ 1327هـ: تهدئته طلاب الشريعة في ميدان بايزيد في 27 شباط. ثم تأسيس جمعية الاتحاد المحمدي في 5 نيسان. وتنبيه أرباب الصحافة. ثم حادثة 31 مارت. ثم تهدئته الفوضى الناشئة من الأحداث، وإرجاعه ثمانية أفواج عسكرية إلى الطاعة. ثم سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية؛ بسبب أحداث 31 مارت وبراءته منها.
- 1910م/ 1328هـ: مغادرته استانبول إلى وان. ومحاورته مع البوليس الروسي في تفليس. ثم تجواله بين العشائر وتأليف رسالة المناظرات.
- 1914م/ 1331هـ: سعيه دون قيام الشيخ سليم بالثورة. وتصديه لعصابات الأرمن، وتدريبه لطلابه الفدائيين مع الاستمرار في النشاط العلمي في خورخور. ثم حصول رؤيا صادقة لإعجاز القرآن.
- 1915م/ 1333هـ: تشكيله فرقة المتطوعين في خضم الحرب مع الروس في جبهة القتال.
- 1916م/ 1334هـ: تأليفه "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" في جبهة القتال. وسعيه لإنقاذ الأهلين. ثم سقوطه أسيراً بيد الروس في: 2/3/1916. ثم سوقه إلى قوصتورما، واستمراره بدروس الإيمان هناك. ثم حصول أول صحوة روحية في مسجد للتتار.
- 1918م/ 1336هـ: هروبه من الأسر، وعودته إلى استانبول، في: 17/6/1918. ثم تعيينه عضواً في دار الحكمة الإسلامية، في: 13/8/1918.
- 1920م/ 1338هـ: احتلال الإنكليز لإستانبول في: 16/3/1920. ثم نشره الخطوات الست بالتركية والعربية.(21/27)
- 1921م/ 1339هـ: جوابه للكنيسة الانكليكية. وجوابه للفتوى الصادرة من المشيخة ضد حركة التحرير. ثم انزواؤه في (تل يوشع)، وتحوله إلى (سعيد الجديد)؛ بانكشاف روحاني، وانقلاب قلبي وفكري.
- 1925م/ 1343هـ: تصديه للثورات. ثم جوابه للشيخ سعيد پيران الپالوي. ثم نفيه من وان في 25 شباط إلى بوردور.
- 1926م/ 1344هـ: نيسان - مايس / يؤتى به إلى استانبول. ثم نشوب الحريق في المشيخة الإسلامية. ثم أخذه إلى بوردور عن طريق ازمير انطاليا. ثم تأليفه "المدخل إلى النور" في بوردور.
- 1929م/ 1347هـ: التعدي الأول على مسجده.
1932م/ 1350هـ: مداهمة مسجده في 18/تموز.
- 1934م/ 1352هـ: أخذه من بارلا إلى إسپارطة (أواسط الصيف).
- 1935م/ 1353هـ: أخذ طلاب النور من أماكنهم ووضعهم في التوقيف: 25نيسان. ثم مجيء وزير الداخلية في: 27 نيسان، وسوق الموقوفين إلى إسكي شهر. ثم دفاع الأستاذ، وقرار محكمة الجزاء الكبرى في 19 آب بالحكم عليه؛ بسبب رسالة الحجاب.
- 1936م/ 1354هـ: الإفراج عنه في 27/مارت ونفيه إلى قسطموني للإقامة الإجبارية.
- 1943م/ 1362هـ: مداهمة بيته ثلاث مرات وتوقيفه في 20/ أيلول وإرساله إلى آنقرة.
- 1944م/ 1363هـ: محكمة دنيزلي وتدقيق رسائل النور من قبل الخبراء. وفي 15حزيران تم إعلان براءة الأستاذ. ثم بقاؤه في دنيزلي شهرين . ثم إقامته إجبارياً في أميرداغ بأمر من آنقرة في أواخر آب. ومنعه الذهاب إلى المسجد في اميرداغ.
- 1948م/ 1367هـ : في 23/1/1948 ثم سوقه هو وطلابه إلى محكمة آفيون. وكان الحكم عليهم في 6/12/1948.
- 1949م/ 1368هـ: في 20 أيلول تم إخلاء سبيلهم من سجن آفيون. وفي: 2/12/1949 تمت إعادة الأستاذ إلى أميرداغ.
- 1952م/ 1371 هـ: في 15/1 مجيؤه إلى استانبول؛ لحضور محكمة حول (مرشد الشباب)، وكانت الجلسات: في 22/1، و19/2، و5/3.(21/28)
- 1953م/ 1372هـ: عودته إلى اميرداغ أوائل نيسان. بعد براءته من قضية مرشد الشباب. ثم مجيؤه إلى استانبول؛ لأجل الذهاب إلى صامسون للمحكمة. والبقاء فيها ثلاثة أشهر تقريباً.
- 1956م/ 1375هـ: في 23/مارس براءة رسائل النور من محكمة آفيون.
- 1960م/ 1379هـ، في: 23/3 من تلك السنة، على الساعة الثالثة ليلاً، توفاه الله إليه بأورفة. تغمده الله برحمته الواسعة. وفي: يوم 24/3 كانت مراسيم الدفن في أورفة. وفي أوائل تموز نُبش قبره من قبل السلطات وأُخذ جثمانه إلى مكان مجهول. ولله الأمر من قبل ومن بعد، سبحانه جَلَّ جلالُه، في كل شيء له حكمة بالغة.
الفصل الأول
مصطلح
مصطلح التوحيد
... تمهيد:
لا شك أن مصطلح التوحيد هو من أهم المصطلحات الإسلامية وأخطرها! ولذلك كان محط اهتمام الأقدمين من علماء المسلمين، فمذ ظهر الجدل الكلامي كان هو من أهم القضايا في المحاورات والمناظرات. كما كان من أهم منازل العبادة لدى الزهاد وأهل التصوف. فعليه اتفق من اتفق وعليه اختلف من اختلف. فقد شهد مزالق المبتدعة وضلالاتهم، في الاعتقاد، أو في التصوف. ولذلك كان محط العناية لدى العلماء المجددين، ليس من حيث كونه مرجع الإيمان ومجمعه فحسب، ولكن أيضا من حيث ما علق به من خرافات وأوهام وجب على العالم المصلح أن يبدأ بها؛ تشذيبا وتجديدا. ومن هنا كان التوحيد لدى بديع الزمان النورسي أحد أركان أربعة في مشروعه التجديدي، التي هي: (التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة)، مما اعتبره مقاصد الدين الكبرى، أو مقاصد القرآن العظيم، بل هو أم تلك المقاصد وأساسها المتين، كما سيأتي مبينا بدليله بحول الله.(21/29)
والمهم ههنا أن ننظر في دراستنا لمصطلح (التوحيد) في كليات رسائل النور: كيف نجح بديع الزمان في جعله وسيلة فعالة لتجديد الدين في المجتمع، وكيف سلك به مسلك السالكين من أرباب القلوب دون أن يقع في كثير من ضلالات الصوفية وشطحاتهم، وأن يقدم التوحيد بعد ذلك - من خلال تجربته الذوقية - لكن كما عرضه القرآن، بسيطا وعميقا في الآن نفسه!
إن مشكلة كثير ممن تصدوا لهذا الشأن عرضوا التوحيد على الأمة من حيث هو عقيدة تصورية ذهنية فقط، ولم يعرضوه على أنه - قبل ذلك وبعده - عقيدة وجدانية ذوقية!
إن بديع الزمان النورسي قد عرض لعقيدة السلف بأقسامها الاستقرائية: (توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات) من خلال عمقها التربوي القرآني، فربط بين ذلك كله في نسق عجيب، هو ما سماه في نهاية المطاف بـ(التوحيد الحقيقي).
إن المشكلة أن الأمة تفرقت في ذلك إلى خطين كبيرين بين إفراط وتفريط: الأول طريق أهل الكلام وهم أصحاب النظر العقلي في الاعتقاد، لم يكن معهم في الغالب جمال الذوق، ونوره؛ بسبب إغراقهم في التصورات المجردة، والتدقيقات المعقدة دون الاشتغال بأحوال القلوب. والخط الثاني طريق المتصوفة وهم الذين طرحوا الكلام واشتغلوا بأدواء النفوس وأحوالها، ولكن مع إهمال لقواعد العلم وأصوله؛ فنشأ عن هذا – عند الفريقين - ضلالات وبدع، قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الكفر والعياذ بالله!
وما رأيت أشبه ببديع الزمان النورسي - في هذا الشأن من الجمع بين خير ما عند الفريقين - من ابن القيم رحمه الله، في كتابه مدارج السالكين وغيره من كتبه رحمه الله. فقد كان بحق محتسب الصوفية، لكن بغير إفراط ولا تفريط.(21/30)
ولقد جاء بديع الزمان النورسي رحمه الله يعرض على الأمة عقيدة القرآن من جديد، في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ أذواقا صافية من الشطحات والشوائب المخزيات، فكان لذلك مصطلح (التوحيد) عنده جامعا لهذه المعاني جميعا.
أولا: التعريف:
أ - في اللغة:
أصل استعمال مادة (وحد) في اللغة يرجع إلى معنى (الانفراد)، وما يتفرع عنه. ورد ذلك في بعض المعاجم في مادتي (وحد) و(أحد)، إلا أن الأصل منهما الأول؛ لرجوع الهمزة إلى الواو. قال ابن فارس في (أحد): (الهمزة والحاء والدال: فرع. والأصل: الواحد "وحد")(1). وقال في (وحد): (الواو والحاء والدال: أصل واحد، يدل على الانفراد. من ذلك: الوَحْدَةُ. وهو واحدُ قبيلته: إذا لم يكن فيهم مثلُه. قال:
يا واحدَ العُرْبِ الذي *** ما في الأنام له نظيرُ!
ولقيت القوم مَوْحَدَ مَوْحَدَ. ولقيته وحدَه (...) والواحد: المنفرد)(2) وما أدق الراغب الأصفهاني في قوله: (الوَحْدَةُ: الانفرادُ. والواحدٌ في الحقيقة: هو الشيء الذي لا جزء له البتة. ثم يطلق على كل موجود، حتى أنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به؛ فيقال: عشرةٌ واحدةٌ، ومائة واحد (...) وإذا وصف الله تعالى بالواحد، فمعناه: هو الذي لا يصح عليه التَّجَزِّي ولا التكثُّر. ولصعوبة هذه الوحدة قال تعالى: ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ( (الزمر:45)(3) .
__________
(1) المقاييس: مادة (أحد).
(2) المقاييس: مادة (وحد).
(3) المفردات: (وحد).(21/31)
وقلّب الإمام الزمخشري المادة في صيغ صرفية شتى فقال: (هو واحِدٌ وهم وُحْدانٌ. ولا تنس وَحْدَةَ القبر ووحشته! وجاء وحدَه. وأكرِمْ كل رجل على حِدَةٍ، وجاؤوا أُحادَ ومَوْحَدَ. وهو من آحاد الناس. وهو واحدُ قومه، وأَوْحَدُهم. وهو واحدُ أمه(...) ووحّدَ اللهَ توحيدا، وله الوحدانية. وأَحِّدْ ربَّك. وتَوَحّدَ اللهَ تعالى بالربوبية، وتَوَحّدَ فلانٌ برأيه، وتوحده اللهُ بالفضل. وفلان وَحَدٌ ووحيد منفرد، واستوْحَدَ: انفرد(...) وشاة مُوحِدٌ ومُفْرِدٌ ومُفِذّ: تلد واحداً)(1).
فأنت ترى أن كل الصيغ ترجع إلى أصل واحد: هو التفرد، والانفراد، والتفريد، حسب الأغراض الصرفية.
وعرض ابن منظور (التوحيد) الإيماني عرضا لغويا فقال: (التوحيد: الإيمان بالله وحده لا شريك له. والله: الواحد الأحد، ذو الوحدانية والتوحد (...) ومن صفاته: الواحد الأحد(...) وتقول: أحّدْتُ الله تعالى ووحّدْتُه. وهو الواحد الأحد. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجل ذكر الله، وأومأ بأصبعيه، فقال له: "أحِّدْ، أَحِّدْ!"(2) أي أشر بأصبع واحدة)(3).
__________
(1) الأساس:(وحد).
(2) لفظ الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - (رأى رجلا يدعو بأصبعيه فقال: "أَحّدْ! أحّدْ!" وأشار بالسبابة) قال الألباني في سياق تصحيحه: رواه ابن أبي شيبة، والنسائي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وله شاهد عند ابن أبي شيبة. (صفة صلاة النبي):171.
(3) اللسان (وحد) . انظرمثله في القاموس المحيط:(وحد).(21/32)
وتفرق المعاجم بين (الواحد) و(الأحد)؛ ولحاجتنا إليه عند دراسة المصطلحين لدى النورسي - كما سترى بحول الله - نذكر ما ساقه اللغويون: (قال أبو منصور وغيره: الفرق بينهما: أن (الأحد) بني لنفي ما يذكر معه من العدد. تقول: ما جاءني أحد. و(الواحد): اسم بني لمفتح العدد. تقول: جاءني واحد من الناس. ولا تقول: جاءني أحد. (فالواحد) منفرد بالذات في عدم المثل والنظير. و(الأحد) منفرد بالمعنى. وقيل: (الواحد): هو الذي لا يتجزأ ولا يثنى، ولا يقبل الانقسام، ولا نظير له، ولا مثل. ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله عز وجل)(1) وأوضح منه قولهم: (و(أَحَدٌ): يصلح في الكلام في موضع الجحود. و(واحدٌ) في موضع الإثبات. يقال: ما أتاني منهم أحد. فمعناه لا واحد أتاني ولا اثنان! وإذا قلت جاءني منهم واحد، فمعناه أنه لم يأتني منهم اثنان! فهذا حد (الأحد) ما لم يضف. فإذا أضيف قرب من معنى (الواحد)، وذلك أنك تقول : أحد الثلاثة ، كذا وكذا. وأنت تريد (واحدا) من الثلاثة)(2).
وسواء قلت (واحد) أو (أحد) في الوصف فهو لا يخرج عن معنى (التوحيد) عموما. قال ابن منظور : (الوَحَد والأحد: كالواحد، همزته أيضا بدل من واو. و(الأحد) أصله الواو)(3). وكل ذلك راجع إلى (التوحيد) تقول: (وحّدَهُ توحيدا: جعله واحدا)(4).
أما في اصطلاح بديع الزمان:
ب - فالتوحيد يرد بمفهومين كليين، الثاني منهما يتضمن الأول، كما يتضمن معاني أخرى ثانوية (للتوحيد). ولذلك كان هو المعنى الرئيس المعتمد لدى النورسي. ومن هنا وصفه بأنه (التوحيد الحقيقي)، بينما وصف الأول بأنه (التوحيد العامي الظاهري)، أو (التوحيد العامي) فحسب، وقد يذكرهما مجردين عن أي صفة، والسياق وحده - حينئذ - هو الذي يحدد المقصود.
فأما المفهوم الكلي الأول أي (العامي) فهو:
__________
(1) اللسان: (وحد).
(2) اللسان: (وحد).
(3) اللسان: (وحد).
(4) القاموس: (وحد).(21/33)
ب1 - التوحيد: هو إثبات الربوبية المطلقة لله تعالى بنفي الشريك عنه سبحانه.
فمفهوم التوحيد بهذا المعنى قائم على خصوص الإدراك العقلي المجرد.
ورغم أن الإنسان مخاطب (من جهة عقله بالإيمان بالتوحيد)(1) على حد تعبير النورسي؛ إلا أنه رحمه الله يعتبر هذا المفهوم أقل معاني التوحيد شأنا، وأضعفها أثرا؛ ولذلك سماه (توحيدا عاميا ظاهريا) كما ذكرنا، ووسمه بالسهولة والبساطة، من حيث نقصه عن كمال التوحيد وجماله. قال رحمه الله: (اعلم أن الحقيقة تشبه الظاهر في الصورة، مع عظمة بُعْدِ ما بينهما في نفس الأمر. مثلا: التوحيد العامي الظاهري يُثْبِتُ بأن لا يُثْبَتَ، ولا يسنَدَ شيءٌ من الأشياء إلى غيره تعالى. وهذا النفي سهل بسيط!)(2) فهذا التوحيد (توحيد عامي، يقول: "لا شريك له، ليس هذه الكائنات لغيره" فيمكن تداخل الغفلات بل الضلالات إلى أفكار صاحبه)(3). ولذلك قلنا في تعريف هذا المفهوم لدى النورسي: إنه (إثبات الربوبية المطلقة لله تعالى، بنفي الشريك عنه سبحانه). فهو توحيد قائم على (النفي) فقط، لا على (الإثبات)، كما سيأتي في غيره(4). (فما دامت هناك ربوبية مطلقة فلن تقبل إذاً الشرك، ولا المشاركة قطعا (...) لذا لا يمكن أن تقبل الربوبية الواحدة المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقا)(5).
وهذا المفهوم هو غاية ما يسعى إليه علماء الكلام، من جهة الحجاج والاستدلال العقليين؛ لأن (علماء الكلام يثبتون (التوحيد)، بعد ظهورهم ذهنا على العالم كله، الذي جعلوه تحت عنوان (الإمكان) و(الحدوث))(6).
__________
(1) إشارات الإعجاز :5/158.
(2) المثنوي العربي النوري: 6/346.
(3) المثنوي العربي :6/40
(4) هو المفهوم الثاني للتوحيد.
(5) الشعاعات: 4/193-194.
(6) المكتوبات: 2/429.(21/34)
إن (التوحيد) القائم مفهومه على (إثباتٍ) مستند إلى (النفي) فحسب؛ لهو توحيد قاصر؛ لأنه عمل راجع إلى منهج عقلي خالص يعمد إلى نقض (الممكنات) من أن تكون آلهة، حتى يبقى (واجب الوجود) وحده متفردا بالربوبية، من جهة السبر والتقسيم. فهذا العمل العقلي المحض لا يمنح الإنسان معنى (التعبد)، الذي هو غاية (التوحيد) لدى النورسي.
إن (التوحيد العامي الظاهري) الذي يخالف (الحقيقة) - وإن شابهها في الصورة كما سبق - ليس (كالتوحيد الحقيقي) الذي (يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب؛ لرؤيته آية قدرته [تعالى]، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء؛ فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه (...) ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي!)(1) كما سيأتي بيانه مفصلا.
إن (التوحيد) بمفهومه العقلي، وإن كان يصل بك إلى إفراد الله عز وجل بالربوبية، من حيث هو وحده رب العالمين، ونفي كل معاني الشرك والشركاء عنه سبحانه، إلا أنه (توحيد) يقودك - فقط - إلى معرفة قصور (الممكنات) وضعفها، واحتياجها إلى الرب الفرد الصمد، بيد أنه لا يقودك إلى جوهر التوحيد الذي هو (المعرفة الإلهية) على حد تعبير النورسي(2). وفرق كبير بين أن توحد الله من خلال حاجة خلقه إليه، وبين أن توحده – بالإضافة إلى ذلك- من خلال ذاته سبحانه! ولذلك كان التوحيد العامي (ظاهريا) كما سبق وصفه إياه، وما شابه (التوحيد الحقيقي) إلا كما تشابه الصورة الحقيقة (مع عظمة بُعْد ما بينهما في نفس الأمر) كما سبق تعبيره!
وأما المفهوم الكلي الثاني فهو المعنى الرئيس المعتمد لدى النورسي، وهو:
ب2 - التوحيد: هو مشاهدة اليقين لانفراد ربوبيته تعالى، ووحدانية ألوهيته، في خاتمه المضروب على كل شيء.
__________
(1) الكلمات:1/326.
(2) المكتوبات: 2/428.(21/35)
فهذا التعريف استفدناه من نصوص كثيرة جدا، أورد فيها النورسي رحمه الله (شروحا) للتوحيد، وبيانات ومثالات للإيضاح، ركبنا منها هذا التعريف الذي نحسب أنه أجمعُ لما أراده رحمه الله من مفهوم (التوحيد) بالمعنى الثاني. قال: (التوحيد الحقيقي: وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانيته سبحانه، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في ألوهيته، ولا معين له في ربوبيته، ولا ندّ له في مُلْكِه، إيمانا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب؛ لرؤية آية قدرته، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء. فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه (...) ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي!)(1). فرغم قول النورسي في شرحه للتوحيد الحقيقي إنه: (الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود) كما رأيت؛ إلا أنا مع ذلك اخترنا استعمال عبارة (مشاهدة)؛ لأن (توحيد) بديع الزمان رحمه الله كان يقوم على (المشاهدة) حقيقة، (مشاهدة) مفيدة لليقين، والقطع بوحدانية الله تعالى في ألوهيته وربوبيته سبحانه. قال رحمه الله في رسالته (قطرة من بحر التوحيد): (فما كتبتُ إلاّ ما شاهدت! بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكان وهمي!)(2) وكثيرا ما كان يقول عند بداية عرض بعض صور التوحيد، وأدلته، أو عند ختم ذلك: (هكذا شاهدت!)(3).
و(المشاهدة) لدى النورسي: مفهوم يقوم على الرؤية البصرية والعقلية، فالقلبية. إذ ينظر إلى الأشياء وسائر المخلوقات، نظرا ينفذ من خلالها إلى أسماء الله الحسنى، من حيث إن المخلوقات تجليات لأنوارها؛ فيرى بعد ذلك بعين القلب رؤية اليقين انفراد الله تعالى بالربوبية والألوهية. قال رحمه الله: (إن التوحيد توحيدان:
- الأول: توحيد عامي، يقول: "لا شريك له، ليس هذه الكائنات لغيره" فيمكن تداخل الغفلات، بل الضلالات إلى أفكار صاحبه.
__________
(1) الكلمات: 1/326.
(2) المثنوي العربي: 6/104.
(3) المثنوي العربي: 6/158.(21/36)
- والثاني: توحيد حقيقي، يقول: "هو الله وحده، له الملك، وله الكون، وله كل شيء" فيرى سكته على كل شيء، ويقرأ خاتمه على كل شيء؛ فيثبته له إثباتا حضوريا، فلا يمكن تداخل الضلالة والأوهام في هذا التوحيد!)(1). فقوله عن التوحيد العامي بأنه توحيد من يقول: (لا شريك له، ليس هذه الكائنات لغيره) ليس مقصودا بالمعنى العباري للكلمة، وإلا فكل التوحيد في الإسلام قائم على هذه الكلمة وما يشبهها، بل المراد أنه من يقف عند حدود ظاهر النفي، ولا يمتد وجدانه إلى مشاهدة الإثبات وتجلياته! أي أن كلمة (لا إله إلا الله) قد يقولها شخصان، الأول منهما: لا يستقر بوجدانه منها غير أن الوجود لا يرجع في شيء من جزئياته وكلياته إلا إليه تعالى، وهو معنى حسن، لكن غير كامل. وإنما الأكمل الثاني: وهو من يستصحب ذلك المعنى، ثم يضيف إليه تجليات الإثبات وهو التعرف إلى ما بعد (إلا)، أي: الله جل جلاله، وذلك بمشاهدة جلال ربوبيته تعالى وجمال ألوهيته على العالمين. ولذلك قال بعدُ: (فيرى سكته على كل شيء، ويقرأ خاتمه على كل شيء؛ فيثبته له إثباتا حضوريا!)
فرؤية (السكة)، وقراءة (الخاتم)، هو النظر البصري المتصل بالقلب، وكذا الإدراك العقلي، لطبيعة الكائنات، الدالة على الله عز وجل. وأما (الإثبات الحضوري) فهو الشهود القلبي، الذي ينافي الغفلة. قال في نص آخر: (وأما التوحيد لأهل الحقيقة؛ فإنما يَثْبُتُ بأن يُثْبَتَ كل شيء مما يشاهد من الأشياء ويسنده إليه سبحانه، ويرى فيه سكته، ويقرأ عليه خاتمه جل جلاله. وهذا الإثبات يثبت الحضور، وينافي الغفلة!)(2).
__________
(1) المثنوي العربي: 6/40.
(2) المثنوي العربي: 6/346.(21/37)
فالمشاهدة تقوم على (الإثبات) أيضا، لا على (النفي) فقط، كما في (التوحيد العامي). حيث التوحيد هناك إنما يرجع إلى نفي الشريك فحسب. إن المشاهدة تتضمن ذلك كله وزيادة، فهي نفي الشريك والشركاء، ثم هي فوق ذلك إثبات لوحدانية الربوبية والألوهية، بصورة ترى فيها العين، ويقتنع العقل، ويطمئن القلب، ويتعرف إلى الله! ومن هنا كان التوحيد الحقيقي جامعا لكل تلك المراتب!
إن الإنسان من حيث هو مكلف ومخاطب بالتوحيد؛ روعي فيه جهات ثلاث: العقل، والقلب، والعمل. فلا بد إذن من أن يثمر التوحيد الحقيقي شيئا، وأن يترك أثرا على كل ذلك. قال بديع الزمان: (إن المخاطب مكلف بجهات ثلاث:
1- باعتبار قلبه بالتسليم والانقياد
2 - ومن جهة عقله بالإيمان والتوحيد
3 - وبالنظر إلى قلبه بالعمل والعبادة)(1).
__________
(1) إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز: 5/158.(21/38)
والتوحيد المشاهَد غايته إقناع العقل، وإشباع القلب، والإسعاد بالعبادة! ومن أجل ذلك خُلق الخلق كله! قال رحمه الله: (سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي)(1)، ثم استطرد في عرض أدلة عقلية ومنطقية ليقول بعد ذلك: (إن انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية، وتوحيده بالألوهية، هو أساس جميع الكمالات، ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحكم المودعة في خلق الكون. كذلك هو الغاية القصوى، والبلسم الشافي لتطمين رغبات كل ذي شعور، وذي عقل، ولاسيما الإنسان (...) فالإيمان بالوحدانية، وبقدرة (الفرد الواحد الأحد) المطلقة إذاً؛ هو وحده الكفيل بإحلال الطمأنينة، والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الإنسان. من أجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وأن الأنبياء - عليهم السلام - والأصفياء، والعلماء، والأولياء الصالحين، يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في أفضل ما قالوه: (لا إله إلا هو (...) إن هذا التوحيد الحقيقي بجميع مراتبه، وبأتم صوره الكاملة قد أثبته، وأعلنه، وفهّمه، وبلغه محمد - صلى الله عليه وسلم -)(2).
__________
(1) اللمعات: 3/539.
(2) اللمعات: 3/553.(21/39)
إن مشاهدة الربوبية القاضية بإسناد كل خلقٍ لله رب العالمين، والألوهية القاضية بتوجه المخلوقات إليه سبحانه، وتعلقها به شوقا وتعبدا؛ كل ذلك إنما يُرى ويشاهد في (خاتمه المضروب على كل شيء)، كما عبرنا في التعريف. وهو تعبير يرجع في الحقيقة إلى الأستاذ النورسي، الذي عبر عنه بصيغ شتى، وفي مناسبات مختلفة. لقد كان رحمه الله مولعا أشد الولع برؤية هذا (الخاتم)، ومشاهدة هذه (السكة)، أو (الطغراء)(1)، كما عبر مرارا. وذلك هو كمال التوحيد وجماله الذي لم يجده المتكلمون في مسلكهم، ولا الفلاسفة في تحليلاتهم، ولا المتصوفة في عشقهم وفنائهم!
إن مسلك النورسي للوصول إلى (التوحيد الحقيقي) متميز ومتفرد. إنه مسلك القرآن الكريم، الذي يعرض الكون المنظور للعين المبصرة، والعقل المعتبر، والقلب المدّكر؛ بقصد النفاذ من خلال التفكر والتدبر إلى أنوار الأسماء الحسنى التي تقود العبد وتدله على المعرفة الإلهية. وما سوى هذا المنهج - عند النورسي - غير مصون من الشبهات والأوهام، وربما أوقع صاحبه في الضلالات! كما تبين قبل في منهج أهل الكلام. وكذلك الأمر بالنسبة إلى منهج المتصوفة والفلاسفة سواء! قال رحمه الله في بيان الطريق القرآني، أو المعراج القرآني إلى التوحيد الحقيقي: (إن أصول العروج إلى عرش الكمالات - وهو معرفة الله جل جلاله - أربعة:
- أولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس، والسلوك الإشراقي.
- ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان (...)
- ثالثها: مسلك الفلاسفة.
هذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات، والأوهام!
__________
(1) الطَّغْراءُ: هي (علامة ترسم على المناشير السلطانية) كما ذكره محقق المثنوي العربي:6/41.(21/40)
- رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!)(1).
والطريق القرآني، أو المعراج القرآني هذا، إنما يقود إلى مشاهدة الخاتم الإلهي، أو السكة الإلهية، أو الطغراء، التي هي تجليات الأسماء الحسنى، النافذة إلى معرفة الله وتوحيده على الحقيقة. قال يحكي سؤال أحد تلامذته، ثم يجيب:
(سؤال: إن علماء الكلام يثبتون (التوحيد) بعد ظهورهم ذهنا على العالم كله، الذي جعلوه تحت عنوان الإمكان والحدوث. وإن قسما من أهل التصوف لأجل أن يغنموا بحضور القلب واطمئنانه، قالوا: (لا مشهود إلا هو)، بعد أن ألقوا ستار النسيان على الكائنات، وقسم آخر منهم قالوا: (لا موجود إلا هو) وجعلوا الكائنات في موضع الخيال، وألقوها في العدم؛ ليظفروا بعد ذلك بالاطمئنان، وسكون القلب. ولكنك تسلك مسلكا مخالفا لهذه المشارب، وتبين منهجا قويما من القرآن الكريم، وقد جعلت شعار هذا المنهج: "لا مقصود إلا هو"، "لا معبود إلا هو"! فالرجاء أن توضح لنا باختصار برهانا واحدا يخص (التوحيد) في هذا المنهج القرآني!
- الجواب: إن جميع ما في (الكلمات)، و(المكتوبات)، يبين ذلك المنهج القويم (...) إن كل شيء في العالم يُسنِدُ جميع الأشياء إلى خالقه، وإن كل أثر في الدنيا يدل على أن جميع الآثار هي من مؤثره هو (...) أي أن كل شيء هو برهان وحدانية واضح، ونافذة مطلة على المعرفة الإلهية؛ (...) لأن القانون الساري في الموجودات هو سلسلة تشد جميعها، بعضها ببعض، والأفعال مرتبطة به (...) ذلك لأن الأسماء المتجلية في الكون متداخل بعضها في بعض، كالدوائر المتداخلة، وألوان الضوء السبعة. كل منها يسند الآخر ويمده، كل منها يكمل أثر الآخر ويزينه!)(2).
__________
(1) صيقل الإسلام: 8/122-123.
(2) المكتوبات: 2/428-429.(21/41)
إن تجلي الأسماء في الموجودات هو الخاتم، أو السكة، أو الطغراء، التي تدل على المعرفة الإلهية، جوهر (التوحيد الحقيقي). ولقد سبقت الإشارة إلى ولع النورسي بتتبع هذا المعنى في تحقيق التوحيد. لا يكاد يذكر هذا إلا من خلال ذاك! قال مثلا: (إن للصانع جل جلاله على كل مصنوع من مصنوعاته (سكة)، خاصة بمن هو خالق كل شيء! وعلى كل مخلوق من مخلوقاته (خاتم)، خاص بمن هو صانع كل شيء! وعلى كل منشور من مكتوبات قدرته (طغراء) غراء لا تقلد، خاص بسلطان الأزل والأبد!)(1). وسبق قوله: (وأما التوحيد لأهل الحقيقة؛ فإنما يَثْبُتُ بأن يُثْبَتَ كل شيء مما يشاهد من الأشياء ويسنده إليه سبحانه، ويرى فيه سكته، ويقرأ عليه خاتمه جل جلاله. وهذا الإثبات يثبت الحضور، وينافي الغفلة!)(2). وقال في موطن آخر: (فيرى سكته على كل شيء، ويقرأ خاتمه على كل شيء)(3). وقال: التوحيد: أن (تُعْرَفَ الطغراء الموجودة على كل طِوَل، ويعلم الختم الموجود على كل معلم (...) ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي!)(4) وقال أيضا: (شهادة صدق للوحدانية بلسان الحال، ودلالة قاطعة بوجود ختم التوحيد المضروب على كل شيء)(5) (نعم، للربوبية في هذا التصرف العظيم الربيعي خاتم عال عظيم، دقيق النقش: هو الإتقان المطلق في الانتظام المطلق! (...) خاتم خاص بمن هو رب كل شيء)(6). وقال: (فهل يمكن لغير الواحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الإنسان، والمتوجهة بالعلامات الفارقة إلى ما لا يحد من الناس؟ أو أن يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات، الجاعل موجوداتها كلها متعاونة متكافئة؟)(7) إن (وضع ختم الوحدانية على وجه الإنسان (...) ووضع ختم الوحدانية على كل شيء ليدل عليه)(8)
__________
(1) المثنوي العربي: 6/41.
(2) المثتوي العربي: 6/346.
(3) المثنوي العربي: 6/40.
(4) الكلمات: 1/326.
(5) الكلمات: 1/721.
(6) المثنوي العربي: 6/46-47.
(7) المكتوبات: 2/301.
(8) المكتوبات: 2/306.(21/42)
ذلك (أن هذا التصرف خاتم مخصوص برب العالمين!)(1) ونحو هذا كثير جدا لمن أراد استقراءه!
ولذلك كان تعريفنا للتوحيد الحقيقي لديه بأنه (مشاهده اليقين لانفراد ربوبيته تعالى ووحدانية ألوهيته في خاتمه المضروب على كل شيء!) فهي مشاهدة إذن (للخاتم)، سر المعرفة الإلهية، وطريق التوحيد القرآني.
إن مشاهدة (الخاتم) تدع القلب منبهرا بأنوار أسماء الله الحسنى، المتجلية في كل شيء بهذا الكون. وإنما التوحيد مشاهدة (كل حي، وحياة، وإحياء، بواسطة تجلي الأحدية الجامعة، وبواسطة كون الحياة نقطة مركزية لتجلي الأسماء، التي هي أشعة شمس الأزل والأبد)(2)، (حتى حظي الإنسان بتجليات أسماء الله الحسنى كلها، كما تتجلى في الكون كله! وكأنه بؤرة تظهر جميع الأسماء الحسنى دفعة واحدة، في مرآة ماهيته؛ فيعلن بذلك الأحدية الإلهية!)(3).
إن غاية مشاهدة الخاتم إذن هي مشاهدة الجمال الإلهي، المنقوش عليه، من خلال تجلي أسمائه الحسنى سبحانه. (ذلك؛ لأن أهم غايات تلك الربوبية وأقصى مقاصدها: هو إظهار جمالها، وإعلان كمالها، وعرض صنائعها النفيسة، وإبراز بدائعها القيمة!)(4) وإذ تشاهد القلوب ذلك ترق وتلين لله عز وجل، خشوعا وخضوعا؛ فتذوق معنى العبادة حقا! قال رحمه الله بحلاوة ذوق عال رفيع: (إن الجمال الإلهي، والكمال الرباني، يظهران في التوحيد، وفي الوحدانية. ولولا التوحيد لظل ذلك الكنز مخفيا! نعم، إن الجمال الإلهي، وكماله الذي لا يحد، والحسن الرباني ومحاسنه التي لا نهاية لها، والبهاء الرحماني وآلاءه التي لا تعد ولا تحصى، والكمال الصمداني وجماله الذي لا منتهى له؛ لا يشاهد إلا في مرآة التوحيد!)(5) أي في خاتم التوحيد، أو سكته، أو طغرائه. حيث تتجلى أسماء الله الحسنى، شاهدة بنسبة كل المخلوقات إلى خالقها العظيم.
__________
(1) المثنوي العربي: 6/41.
(2) المثنوي العربي: 6/42.
(3) المكتوبات: 2/305.
(4) الشعاعات: 4/193؟
(5) الشعاعات: 4/8.(21/43)
هنا يرتقي توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية؛ فيشب في القلب شوق العبادة والإقبال على الله! حيث السكينة والاطمئنان. (لأن التوحيد الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه، ليس مقصورا على معرفة نابعة من تصور، بل هو أيضا ما يقابل (التصور) في علم المنطق من (التصديق) الذي هو علم! وهو نتيجة نابعة من البرهان. وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير!
فالتوحيد الحقيقي: إنما هو حُكْمٌ وتصديق، وإذعان وقبول، بحيث يمكن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء، ويمكنه من أن يرى في كل شيء السبيل المنورة التي توصله إلى خالقه الكريم. فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه، واطمئنانه، واستحضاره لمراقبة ربه!)(1).
فإذا كان التوحيد أكثر من مجرد تصور ذهني، أو اعتقاد عقلي، بل هو كما تبين إذعان وقبول، وسير إلى الخالق الكريم؛ فمعنى ذلك أنه عبادة من العبادات، بل هو أزكى العبادات وأقدسها! قال بديع الزمان: (إن تكرار أهل الإيمان: "لا إله إلا هو" باستمرار، وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به؛ يبين لنا أن (...) التوحيد هو أهم وظيفة قدسية، وأحلى فريضة فطرية، وأسمى عبادة إيمانية!)(2) ومن هنا كان (للتوحيد) بهذا المعنى ثمرة: هي (حال) ذوقي يجده العابد الموحد، أو (موجدة) يتذوقها الذاكر. بها تنجلي رتبة (مفهومية) أخرى من مراتب التوحيد، هي فرع لمفهوم (التوحيد) بمعناه الرئيس، لكنها - مع ذلك - أدق وأعلى، وهي:
ب 3 - التوحيد: هو الأذواق الإيمانية التي يجدها المسلم؛ لحلاوة إخلاص العبادة.
__________
(1) الشعاعات: 4/147.
(2) الشعاعات: 4/196.(21/44)
إنه ثمرات التوجه إلى الله عز وجل، التي تفيض على قلب العبد بالنور والسلام. ثمرات وصفها النورسي رحمه الله باللطف، والجمال، والحلاوة، واللذة، والنورانية. فالداخل في أي شكل من أشكال التعبد، من باب التوحيد، أي من باب إخلاص التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، سواء في صورة صلاة، أو تفكر، أو تدبر، أو شكر، أو تسبيح، أو تهليل، أو تكبير، أو دعاء... إلخ. كل ذلك يقود إلى هذه (المقاصد والثمرات) بتعبيره رحمه الله، كما سيأتي.
إن المؤمن إذ يجد جمال السلام المتدفق على قلبه، وصفاء الإخلاص الفائض بوجدانه؛ يكون قد أدرك غاية التوحيد ومآله. يقول بديع الزمان: (لقد أحسست بهذه النكتة إحساسا لطيفا غاية اللطف، وجميلا غاية الجمال، وحلوا لذيذا غاية الحلاوة واللذة، وذلك بفيض أنوار نكتة باهرة مفاضة من الآية الكريمة: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ)( محمد:19) (...) ولقد بينا في مجموعة "سراج النور" من رسائل النور مائة من البراهين الباهرة، بل ألفا منها، حول إثبات هذا التوحيد! (...) ففي المقام الأول: نبين ثلاث ثمرات من الثمرات الوفيرة لتلك الحقيقة التوحيدية التي لها ثمرات كلية في غاية اللطف، واللذة، والأهمية، والنور!)(1).
__________
(1) الشعاعات: 4/6-7.(21/45)
ومن أوضح النصوص التي تدل على هذا (التوحيد) الوجداني الخالص، أي (الحال) الإيماني الصادر عن إخلاص التوجه لله وحده، ما ذكره من ثمرات الدعاء ومواجيده. قال: (فيا أيها المسلم تأمل في سعة التوحيد الخالص، الذي يهبه الدعاء للمرء! وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خاصة لنور الإيمان وصفائه!)(1) ذلك ما قصده في مثال عجيب، لفائدة تكرار الذكر بشتى أنواعه، من مثل (الباقيات الصالحات)، إذ التكرار في ذلك كله ليس تكرارا في الحقيقة، وإنما زيادة استدرار للأذواق والحلاوات، وتجديد لمعانيها الإيمانية. قال: (هذه الكلمات المباركة التي تتكرر بعد الصلوات، شاهدت أنها ليست تكرارا، بل تأسيس! (...) مثلا: رميتَ حجرا في وسط حوض كبير، تقول للدائرة المتشكلة من وقوع الحجر: "واسعة..! واسعة..! واسعة..!" كلما تتلفظ (بواسعة) تتظاهر دائرة أوسع! وكذا تأكيد في المعنى! تأسيس في المقاصد والثمرات!)(2).
من هنا إذن كان (التوحيد) بمعناه الذوقي الخالص حاجة روحية لكل البشر، من حيث ما يرجع به على النفس الإنسانية من طمأنينة وسلام. قال: (فما أحوج روح البشر العاجزة الضعيفة الفقيرة؛ إلى حقائق العبادة، والتوكل، وإلى التوحيد، والاستسلام)(3) فمعنى (التوحيد) هنا راجع إلى (الحال) الإيماني، الذي يغمر القلب، عند التوجه إلى الواحد الأحد بالعبادة والإخلاص. فهو هنا معنى نفسي أكثر مما هو معنى فعلي!
ومن هذا الجانب سمي مطلق الذكر عنده، وكذا مطلق معنى (العبادة)؛ (توحيدا)، من حيث ما يكون لهما من ثمرات إيمانية ومقاصد جمالية. وهذا (مفهوم) فرعي آخر، من مفاهيم (التوحيد)، أو رتبة مفهومية أخرى من مراتبه الكثيرة. وهذا هو المعنى الرابع من معاني التوحيد عنده. وهو:
__________
(1) المكتوبات: 2/390.
(2) المثنوي العربي: 6/139.
(3) الكلمات: 1/14.(21/46)
ب 4 - التوحيد: هو ذات العبادة والذكر المتوجه به إلى الله عز وجل. قال رحمه الله :( أما (اعْبُدُواْ) فبحكم جوابيته للنداء العام (...) يدل على الإطاعة، ويشير إلى الإخلاص، ويرمز إلى الدوام، ويلوح إلى التوحيد: أي أطيعوا، وأخلصوا، واثبتوا، وازدادوا، ووحدوا)(1) وفي خصوص التوحيد بمعنى الذكر قال: (فإرشادات القرآن الكريم الغزيرة المستمرة إلى التوحيد وإلى التقديس والتنزيه، والتسبيح، في آياته الكريمة، وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته، نابعة من هذا السر الأعظم!)(2) الذي هو إظهار جمال الربوبية على كل شيء. وقال في مثل هذا :( إن الأشجار والنباتات قد عقدت مجلسا فخما رائعا للتهليل، والتوحيد، وشكلت حلقة مهيبة للذكر، والشكر، ففهم من ألسنة أحوالها كأنها تلهج معا، وتردد بالإجماع:" لا إله إلا هو")(3).
ثانيا: قيمته الاصطلاحية:
يعتبر مصطلح (التوحيد) من أهم المفاتيح الاصطلاحية لفكر بديع الزمان النورسي رحمه الله؛ إن لم يكن أهمها على الإطلاق! وذلك راجع إلى أمرين:
1 - إن (التوحيد) من حيث هو مفهوم وقضية هو أم المقاصد القرآنية، وأساس الديانات السماوية، كما تحدث عنها القرآن الكريم. وغاية ما فعله النورسي في رسائله أن دار مع القرآن حيث دار، فكانت قضاياه هي قضاياه، من حيث التذوق والتدبر والتفكر والتفسير. يقول في الشعاعات: (إن رسائل النور تفسير قيم وحقيقي للقرآن الكريم. لقد كررنا هذا الكلام! (...) التفسير نوعان:
- الأول: التفاسير المعروفة، التي تبين، وتوضح، وتثبت معاني وعبارات القرآن الكريم، وجمله، وكلماته.
__________
(1) إشارات الإعجاز: 5/159.
(2) الشعاعات: 4/194.
(3) الشعاعات: 4/152.(21/47)
- القسم الثاني من التفسير: هو إيضاح وبيان وإثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، إثباتا مدعما بالحجج الرصينة، والبراهين الواضحة (...) إن رسائل النور تفسير معنوي للقرآن الكريم بحيث تلزم أعتى الفلاسفة وتسكتهم)(1).
ولقد تتبع بديع الزمان مفاهيم القرآن الكريم فوجد أنها ترجع إلى أربعة مقاصد. قال: (إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة)(2). وقال في موطن آخر: (من المعلوم لدى المدققين أن مقاصد القرآن أربعة: إثبات الصانع الواحد، النبوة، الحشر الجسماني، العدل)(3). إلا أن الأستاذ رحمه الله أرجع القيمة الكبرى لأولها، أي: التوحيد، من حيث هو المحور الأساس، والغاية الكبرى، والسر الأعظم الذي عليه يقوم الوجود والدين. وربما ألحق به في الأهمية مفهوم (الآخرة). وربما أفرده، باعتبار أن ذلك من لوازمه. قال: (ليس هناك أهم، ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة!)(4) وقال: (إن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص)(5)، إذ (التوحيد هو أعظم حقيقة في عالم الوجود!)(6) ولذلك كان (السرُّ العظيم: سرَّ التوحيد!)(7).
إن مفهوم (التوحيد) إذن يرجع عنده إلى حقيقة وجودية كبرى، وسر كوني عظيم؛ ولذلك كان أضخم مفهوم عنده، وأثقل مصطلح في منظومته الفكرية؛ حتى إن عمله العلمي، ومجهوده التفسيري، كان يدور في مجمله على محور (التوحيد) بمراتبه المختلفة. بل إن (رسائل النور هي دلائل كلمة التوحيد!)(8).
__________
(1) الشعاعات: 4/562.
(2) إشارات الإعجاز: 5/23.
(3) صيقل الإسلام: 8/120.
(4) الشعاعات: 4/311.
(5) المكتوبات: 2/419.
(6) اللمعات: 3/553.
(7) المكتوبات: 2/482.
(8) الشعاعات: 4/95.(21/48)
2- أما الاعتبار الثاني الذي جعل النورسي يركز مجهوده على هذا المصطلح فهو الظرف التاريخي الذي كانت تعيشه تركيا في عصره! حيث كانت أمواج الإلحاد تجتاح البلاد والعباد! وكان التنكر للدين وأهله هو السمة الغالبة على الطبقة المثقفة آنئذ! ومن هنا تجرد النورسي رحمه الله لمعركة الإيمان بكل معانيه، العقلية والوجدانية والروحية. ولقد وجد بغيته في تحقيق مفهوم (التوحيد) في القرآن الكريم، متتبعا وجوه دلالاته، ومراتب مقاماته.
ثالثا: علاقاته الاصطلاحية:
أ - مرادفاته:
أ1 - الإيمان: يترادف مصطلح (التوحيد) لدى النورسي مع مصطلح (الإيمان)، بمعناه الذهني التصوري. فقد سبق قوله: (إن المخاطب مكلف (...) من جهة عقله بالإيمان والتوحيد)(1). وقال: (فلا شك أن (...) حقائق الإيمان والتوحيد واجبة وضرورية في هذا الكون ضرورة الشمس فيه!)(2) و(الوجوب) المذكور هنا هو بمعناه العقلي لا الشرعي؛ إذ السياق المقتطع منه النص سياق حجاج واستدلال عقليين؛ لإثبات الإيمان وإبطال الكفر والإلحاد.
كما يرادفه بمعناه الوجداني الذوقي أيضا، وهو قوله: (تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الإيمان وصفائه)(3).
أ2 - الوحدانية: كثيرا ما عبر النورسي بلفظ (الوحدانية) وهو يريد (التوحيد) بإطلاق. قال مثلا: (القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق)(4). وقال: (فهل يمكن لغير الواحد الأحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الإنسان؟ (...) أو أن يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات؟)(5) تلك إذن (شهادة صدق للوحدانية بلسان الحال، ودلالة قاطعة، بوجود ختم التوحيد المضروب على كل شيء)(6).
__________
(1) إشارات الإعجاز: 5/158.
(2) الشعاعات: 4/649.
(3) المكتوبات: 2/390.
(4) اللمعات: 3/553.
(5) المكتوبات: 2/301.
(6) الكلمات: 1/726.(21/49)
أ3 - الوحدة: كما يعبر (بالوحدة) أيضا وهو يقصد (التوحيد)، أو (الوحدانية)، أي (وحدة) الخالق سبحانه في ربوبيته وألوهيته، وتفرده في إرجاع كل شيء إليه (وحده) دون سواه. قال:( أنت موجود من الموجودات، فإذا سلمت نفسك إلى يد القدير، المطلق القدرة، فإنه يخلقك بأمر واحد، وبقدرته المطلقة، بلمح البصر؛ من العدم، من غير شيء. ولكن إن لم تسلم نفسك إليه، بل أسندتها إلى"الطبيعة" وأسلمتها إلى الأسباب المادية؛ فيلزم عندئذ لإيجادك أنت عملية بحث دقيق لجمع جميع المواد، التي في وجودك في أقطار العالم كله، والتفتيش عنها في زوايا الكون كله، وإمرارها في مصاف واختبارات دقيقة، ووزنها بموازين حساسة؛ ذلك لأنك خلاصة منتظمة للكون، وثمرته اليانعة، وفهرسته المصغرة (...) لأنه إن لم يكن هناك ذلك المقدار القدري، والمقدار العلمي، يلزم استعمال ألوف القوالب المادية والخارجية للجسم الصغير للحيوان!
فافهم من هذا سرا من أسرار السهولة المطلقة، في الوحدة والتوحيد، وكثرة المشكلات غير المتناهية في التعدد والكثرة والشرك)(1).
(فالسهولة في الوحدة واصلة إلى درجة الوجوب، والصعوبة في الكثرة واصلة إلى درجة الامتناع)(2).
أ4- التهليل: يترادف التوحيد مع (التهليل) في سياق إفادة التوحيد لمعنى (الذكر) خاصة! كما سبق بيانه في التعريف وذلك قوله:( إن الأشجار والنباتات قد عقدت مجلسا فخما رائعا للتهليل والتوحيد، وشكلت حلقة مهيبة للذكر والشكر؛ ففهم من ألسنة أحوالها كأنها تلهج معا، وتردد بالإجماع: لا إله إلا هو")(3).
ب - أضداده:
__________
(1) اللمعات: 3/294-295.
(2) اللمعات: 3/475.
(3) الشعاعات: 4/152.(21/50)
ب1- الكفر: الكفر هو أبرز مصطلح يضاد (التوحيد) ويناقضه، من حيث إن هذا إثبات وذاك نفي وإنكار! قال رحمه الله: (إن جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور، بين طريق الإيمان والكفر، تبين بيانا قاطعا أن طريق الإيمان والتوحيد، أقصر الطرق وأصوبها، وأيسرها، وأكثرها استقامة. بينما طرق الكفر والإنكار طويلة جدا، وذات مشكلات ومخاطر)(1).
ب2 - الشرك، والضلالة، والتعدد، والكثرة: وكلها ألفاظ بمعنى، وهي تناقض (التوحيد) وتضاده من حيث هو مفهوم قائم على الوحدة. وذلك كله مجموع في قوله المذكور قبل: ( فافهم من هذا مدى السهولة المطلقة في الوحدة والتوحيد، ومدى الصعوبات والمشكلات في الشرك، والضلالة (...) وكثرة المشكلات غير المتناهية في التعدد، والكثرة والشرك)(2).
ب3 - وحدة الوجود: قبل بيان وجه (التضاد) بين مفهوم (التوحيد) عند النورسي ومفهوم (وحدة الوجود)؛ لا بد من بيان معنى هذا (المضاد)، كما فهمه بديع الزمان رحمه الله أعنى مفهوم (وحدة الوجود).
وذلك أن (لوحدة الوجود) عنده رحمه الله مفهومين مختلفين: الأول فلسفي، والثاني: صوفي. فأما الفلسفي فهو:
__________
(1) الشعاعات: 4/649.
(2) اللمعات: 3/295.(21/51)
- وحدة الوجود: هي اعتقاد أن الخالق والمخلوق شيء واحد. أي القول بأن الوجود كله جوهر واحد. وذلك أن الفلاسفة (لم يستطيعوا أن يستوعبوا في أذهانهم خلاقية الربوبية في أعظم مراتبها، وكذا لم يستطيعوا أن يمكنوا في قلوبهم تمكينا تاما، أنه سبحانه بأحديته مالك بالذات لزمام كل شيء، في قبضة ربوبيته. (...) فلأنهم لم يستطيعوا إدراك ذلك فقد رأوا أنفسهم مضطرين أمام القول: كل شيء هو "تعالى" أو لاشيء موجود، أو أن الموجود خيال)(1) وسبب ذلك عندهم: (هو عدم بلوغ العقل قسما من حقائق الإيمان الواسعة للغاية والسامية جدا، وعدم استطاعته الإحاطة بها، مع عدم انكشاف العقل انكشافا تاما من حيث الإيمان!)(2).
وأما المعنى الصوفي (لوحدة الوجود) فهو:
- وحدة الوجود: هي استغراق العاشق في توحيد واجب الوجود إلى درجة ألاّ يرى في الكائنات سواه!
ذلك أن (وحدة الوجود) بمعناها الصوفي - كما ساقه النورسي - مفهوم قائم على الاستغراق في العشق الإلهي، على سبيل التجريد والتفريد، والتفكر في الله من حيث هو (واجب الوجود)، إذ يملأ (وجوده) سبحانه كيان القلب العاشق؛ حتى يشغله بالكلية عما سواه. فكل نظر بعد ذلك في الكائنات، التي هي تجليات الأسماء الحسنى، إنما هو عندهم نظر في الله، فينتقل النظر حينئذ من (وحدة الشهود) إلى (وحدة الوجود)! أي من وحدة الحضور القلبي مع الله، وعدم الاشتغال أو الالتفات إلى أحد سواه؛ إلى وحدة التصور بالفناء التام عما سوى الله، وتلك بوابة (وحدة الوجود)! ملتقى الفلاسفة، والمتصوفة - القائلين بها - على السواء.
__________
(1) اللمعات: 3/62.
(2) اللمعات: 3/63.(21/52)
يقول الأستاذ النورسي: ( إن علماء الصوفية قد حصروا نظرهم في "واجب الوجود" واستغرقوا في التأمل فيه بكل قواهم حتى أنكروا وجود الكائنات ولم يعودوا يرون في الوجود إلا هو (...) إن ما لدى الصوفية من وحدة الوجود تتضمن "وحدة الشهود" (...) ولكن مشرب أهل وحدة الشهود هو الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب أهل وحدة الوجود هو: الفناء والسكر، والمشرب الصافي: هو مشرب الصحو والتمييز)(1).
فالقول بوحدة الوجود إذن إنما هو شطحة من الشطحات بتعبير القوم! ثم إنه نوع من الاستدراج ينتقل معه العاشق من (توحيد) إلى (توحيد)؛ بسبب أن مورده التعبدي كان هو (التفكر في الله)، لا التفكر في (خلق الله). ومن هنا ربما كان أصل هذا الذوق مقبولا من حيث هو حب إلهي، إلا أن (الكشف) عنه بعبارات اللغة لن يؤدي إلا إلى شبهات، من الخلط بين الخالق والمخلوق! وهو مآل القول (بوحدة الوجود) على طريقة الفلاسفة، رغم ما بينهما من بون شاسع، في الغايات والمنطلقات والمنهج!
__________
(1) المثنوي العربي: 6/433-434.(21/53)
يقول بديع الزمان جوابا عن سؤال : (ما ترى في "وحدة الوجود" ؟ الجواب: إنه استغراق في التوحيد، وتوحيد ذوقي لا ينحصر في نظر العقل والفكر ؛ إذ أن شدة الاستغراق في التوحيد - بعد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - وهذا يسوق إلى (وحدة الشهود) ثم إلى (وحدة الوجود)، ومن بعدها رؤية وجود واحد، ثم إلى رؤية موجود واحد. فشطحات علماء الصوفية، التي هي من قبيل المتشابهات لا تقام دليلا على هذا المذهب (...) والذين يتكلمون به إنما حصروا نظرهم في (واجب الوجود) حصرا، بحيث تجردوا عن الممكنات، فأصبحوا لا يرون إلا وجودا واحدا، بل موجودا واحدا (...) إلا أن أصحاب مذهب وحدة الوجود لضيق الألفاظ عبّروا عن هذه الحقيقة بالألوهية السارية في الموجودات! وحينما حصر أهل الفكر والعقل هذه الحقائق الذوقية في مقاييس فكرية وعقلية جعلوها مصدر كثير من الأوهام، والأفكار الباطلة.
ثم إن ما لدى الفلاسفة الماديين ومن وهنت عقيدتهم من المفكرين من مذهب "وحدة الوجود" وما لدى الأولياء منه بون شاسع، وفروق كثيرة، بل إنهما متضادان ونقيضان!)(1).
ورغم أن الأستاذ النورسي أعلى من درجة الصوفية على حساب الفلاسفة، إلا أنه انتقد الرؤية الصوفية (للتوحيد) منهجا ومفهوما، ولم يعتبر مسلكهم مسلكا حقيقيا! ومن هنا خالف مفهومهم لهذا المصطلح مفهومه الخاص إلى درجة التضاد ! قال رحمه الله يجيب عن( سؤال: إن ابن عربي يعد مسألة (وحدة الوجود) أرفع مرتبة إيمانية، حتى إن قسما من أولياء عظام من أهل العشق اتبعوه في مسلكه، بيد أنك تقول: إن هذا المسلك ليس هو من أرفع المراتب الإيمانية، ولا هو بمسلك حقيقي، وإنما هو مشرب أهل السكر والاستغراق وأصحاب الشوق والعشق . فإن كان هذا الأمر هكذا كما تقول فبين لنا باختصار: ما أعلى مرتبة من مراتب التوحيد التي بينتها وراثة النبوة، وصراحة القرآن الكريم؟
__________
(1) المثنوي العربي: 6/432-433.(21/54)
الجواب: (...) إن صفة العشق لا تريد الفراق أصلا، وتفر منه بشدة، وترتعد فرائص العاشق من الافتراق؛ (...) لذا يرى أن التشبث بتجلي الأقربية الإلهية في كل شيء، يجعل الفراق والتنائي كأنهما معدومان؛ فيظن اللقاء والوصال دائمين بقوله: "لا موجود إلاّ هو")(1). وهذا منزل ضعيف، فقد سبق وصفه لمسلك علماء الكلام والفلاسفة والصوفية. جميعا بأنها (ليست مصونة من الشبهات والأوهام!)(2).
__________
(1) اللمعات: 3/62.
(2) صيقل الإسلام: 8/123.(21/55)
ثم لا يتردد النورسي بعد ذلك في نقد مفهوم (وحدة الوجود) بشدة، وبيان مخالفته لمفهوم (التوحيد) كما عرضناه عنده . قال رحمه الله: (سبحان الله الواجب الوجود المتقدس المتنزّه، عما لا يليق بجنابه من الحلول والاتحاد! - ما للتراب ولرب الأرباب؟- ومن الحصر والتحديد، المستلزمين للمحكومية؛ ومن الوالد والولد! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا!)(1) وقال أيضا: (إن الكاتب الذي كتب سطور هذا السجل المذهّب لا يمكن أن يكون في السجل نفسه! ولا يمكن أن يتحد معه! (...) إن أهم جهة من أنواع العشق التي تسبب الانسلاك إلى مشرب وحدة الوجود هي عشق الدنيا، إذ حينما يتحول عشق الدنيا الذي هو عشق مجازي؛ إلى عشق حقيقي؛ ينقلب إلى وحدة الوجود!)(2). إن معنى حب الدنيا هنا حب الطبيعة والحياة والكون، ذلك أن حب الكون من حيث هو تجل للذات الإلهية يقود العاشق إلى نوع من (التعويض) عن غياب المحبوب الحقيقي وخفائه، إذ يلتجئ إليه المحب متعلقا بتجليات الأسماء الحسنى؛ حتى يقع الظن بأن مظاهر التجلي هي عين الحقيقة! قال بديع الزمان: (من أحب الدنيا العظيمة وجعل الكون برمته معشوقه، فحينما تتحول هذه المحبة المجازية إلى محبة حقيقية، بسياط الزوال والفراق، التي تنزل بالمحبوب، يلتجئ ذلك العاشق إلى وحدة الوجود؛ إنقاذا لمحبوبه العظيم من الزوال والفراق)(3).
- أساس الفرق بين وحدة الوجود ومفهوم التوحيد لدى النورسي:
__________
(1) المثنوي العربي: 6/133.
(2) اللمعات: 3/64.
(3) اللمعات: 3/65.(21/56)
لقد سقنا هذه الدراسة حول (وحدة الوجود) في سياق عرض (التوحيد) بمفهومه لدى بديع الزمان النورسي رحمه الله، وقد تبين من خلال ما سبق من نصوص، أن الأستاذ يرفض مشرب الصوفية الذين قالوا بوحدة الوجود. تماما كما رفض مشارب أخرى من متكلمين وفلاسفة. وكان مسلكه المختار، وطريقه المعتمدة، للوصول إلى الحقيقة التوحيدية العظمى هو القرآن الكريم! إن اعتماده على القرآن كان يعني اتباع منهجه بدقة، في عرض مفهوم التوحيد بشتى تجلياته ومراتبه؛ مما جعل (التوحيد) كما عرضه في رسائل النور يصل في اختلافه عن مفهوم (وحدة الوجود) الصوفية إلى درجة التضاد!
وجوهر الفرق بين الأمرين أن وحدة الوجود، كما تبين، تقوم على نفي الكائنات، وإغفالها، بالنظر إليها، لا كمخلوقات، ولكن كمظاهر وجلوات للذات الإلهية! إن مفهوم (النفي) للموجود مما سوى الله، يضاد مفهوم (التوحيد) بمعناه لدى النورسي، الذي يقوم أساسا كما بينا على مفهوم (الإثبات)! إثبات المخلوق من حيث هو فهرست تجليات الأسماء الحسنى. بمعنى أن إثبات كمال الربوبية، وجمال الألوهية، يكون بالنظر إلى آثار ذلك كله، في هذا العالم العظيم. إذ ليست مظاهر الإبداع الذي تجليه تلك الأسماء سوى (خاتم التوحيد) كما سماه، أو (سكته)، أو (طغرائه)!(21/57)
إن فتنة بعض المتصوفة كانت بسبب انشغالهم بجمال العالم، عن جمال الله الحقيقي، فظنوا هذا هو ذاك! بينما لم ير النورسي في هذا الجمال الظاهر سوى مجاز عن الحقيقة الباهرة! وما كان ليصل رحمه الله إلى ما وصل إليه؛ لولا اعتصامه الشديد بالقرآن، وغوصه الفريد في بحاره الزاخرة، والسباحة في فضاءاته المطلقة. قال رحمه الله في نص نفيس، نعرضه في مقطعين: الأول قوله:( للوصول إلى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة: هو القرآن الكريم)(1) ذلك أن كل طريق لا يعتمد القرآن موردا لا يؤمن أن يكون مصيره إلى الضلال!
ثم قال بعد ذلك في بيان جوهر الخلاف بين التوحيدين: القرآني، والآيل إلى (وحدة الوجود)، بعد اختياره للطريق القرآني، ومنهجه في عرض حقيقة التوحيد:
(إن هذا الطريق أسلم من غيره؛ لأن ليس للنفس فيه شطحات، أو ادعاءات فوق طاقتها، إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز، والفقر والتقصير، كي يتجاوز حده. ثم إن هذا الطريق عام، وجادة كبرى؛ لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات، ولا إلى سجنها، حيث إن أهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدما فقالوا : "لا موجود إلاّ هو" لأجل الوصول إلى الاطمئنان القلبي (...) بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الإعدام، ويطلق سراحها من السجن. فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل، وخادمة في سبيله. وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى. كأنها مرايا تعكس تلك التجليات، أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الاسمي، من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم، فيجد إلى الحق سبحانه طريقا من كل شيء)(2).
__________
(1) الكلمات: 1/558.
(2) الكلمات: 1/561.(21/58)
فقوله: (يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الإسمي، من أن تكون خادمة بنفسها) هو من الاصطلاحات التي (نقلها) الأستاذ النورسي من المجال النحوي: (المعنى الحرفي) و(المعنى الاسمي)؛ ليوظفها بدلالة جديدة في مجاله العلمي الخاص. وأصل دلالة (الحرف) نحويا أنه غير مستقل بنفسه، في حاجة مستمرة إلى غيره. وهو ما يسميه النحاة بـ(الافتقار). أما (الاسم) فهو مكتف بذاته على دلالته على المعنى(1).
من هنا إذن كانت الكائنات موجودة بالمعنى الحرفي لا الاسمي، بمعنى أنها غير مستقلة بنفسها، بل هي في حاجة مستمرة إلى خالقها، مفتقرة في بقائها إلى إرادته سبحانه. فالنظر إلى الموجودات على أن وجودها (حرفي) فحسب؛ يجعلها مجرد مظاهر تعكس تجليات الأسماء والصفات، من حيث إن تلك الموجودات مفتقرة إلى خالقها البارئ المصور العليم الخبير. ذلك أن تأمل (الحاجة) يدل على جمال (الغنى). ومن هنا كان من المستحيل أن تحمل الكائنات الحرفية حقيقة الاسم، إذ كل الحروف تقود إلى الاسم الواحد الأعظم، فلا احتمال إذن للقول بوحدة الوجود. وهو مراده مما ذكر في خاتمة النص السابق: (وعندما ينجو المرء من الغفلة ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم؛ فيجد إلى الحق سبحانه طريقا من كل شيء).
__________
(1) قال ابن مالك في ألفيته عن (شَبَه الحرف): (وكافتقار أُصّلا).(21/59)
وتلك هي مرتبة (التوحيد العظمى) كما سماها بديع الزمان. قال رحمه الله في بيان أوضح للصورة المذكورة؛ ردا على قول من قال (بوحدة الوجود): (أما مرتبة التوحيد العظمى التي يراها بصراحةِ القرآنِ الأولياءُ العظامُ، أعني الأصفياء الذين هم أهل الصحو، وأهل وراثة النبوة؛ فإنها مرتبة رفيعة عالية جدا، إذ تفيد المرتبة العظمى للربوبية والخلاقية الإلهية، وتبين أن جميع الأسماء الحسنى هي حقيقية.(...) لأن أهلها يقولون: إن الله سبحانه بأحديته الذاتية وتنزهه عن المكان قد أحاط - من دون وساطة - بكل شيء علما، وشخصه بعلمه، ورجحه، وخصصه بإرادته، وأوجده، وأبقاه بقدرته. فإنه سبحانه يوجد جميع الكون ويخلقه، ويدبر أموره كإيجاده لشيء واحد، وإرادته إياه (...) فلا يمنع شيء شيئا قط، فلا تجزؤ في توجهه سبحانه، فهو موجود بتصرفه، وبقدرته، وبعلمه في كل مكان، في كل آن. فلا انقسام، ولا توزع في تصرفه سبحانه)(1).
- رابعا: مشتقاته وضمائمه:
أ - مشتقاته:
- الواحدية والأحدية: يعتبر مصطلح (الأحدية)، ومصطلح (الواحدية)، من المصطلحات المهمة، لدراسة مفهوم (التوحيد)، ليس من الناحية الصرفية فحسب، ولكن أيضا من الناحية المفهومية. إذ يعقد النورسي مقارنة دقيقة بين المصطلحين: (الأحدية) و(الواحدية)، ويميز أحدهما عن الآخر بدقة متناهية؛ استلهاما لدلالة اسم الله (الأحد ) واسمه (الواحد)، ويستفيد من كل ذلك، لبناء شجرة مفهوم التوحيد. وقد رأيت أن اللغويين ميزوا قبلُ بين (الأحد) و(الواحد)؛ بناء على بيان الفروق اللغوية، فكان أن استفاد بديع الزمان من كل ذلك على المستوى الاصطلاحي؛ فجعل للمفهومين دلالتين مختلفتين، لكنهما متكاملتان. وبيان ذلك كما يلي:
أ1 - الواحدية: هي تفرد الله سبحانه في ذاته، بكونه ربا وإلها لكل شيء، أي تفرده تعالى بالربوبية والألوهية.
__________
(1) اللمعات: 3/62.(21/60)
أ2 - والأحدية: هي تجلي أسماء الله الحسنى في كل شيء، من حيث هو سبحانه خالق كل شيء، وقيوم كل شيء.
وبيان الفرق بينهما أن (الواحدية): هي صفة الله تعالى في وحدانيته، وتفرده في ذاته، بغض النظر عن شهادة خلقه له. وهذا المعنى راجع إلى التصور الذهني للتوحيد.
أما (الأحدية): فهي مشاهدة ذلك في خلقه. أي دلالة الخلق عليه سبحانه، من خلال ما سماه من قبلُ (بخاتم التوحيد)، أو (سكة التوحيد)، أو (طغرائه). فإذا كانت (الواحدية) تُدْرَك بالاعتقاد، فإن (الأحدية) لا تدرك إلا بالمشاهدة. وكمال (التوحيد) عند النورسي هو الجمع بينهما، كما تقدم.
قال رحمه الله: (أما "الواحدية": فتعني أن جميع تلك الموجودات ملك لصانع واحد، وتتوجه إلى صانع واحد. كلها إيجاد موجد واحد. أما "الأحدية": فهي أن أكثر أسماء خالق كل شيء يتجلى في كل شيء.
فمثلا: إن ضوء الشمس - بصفة إحاطته بسطح الأرض كافة - يبين مثال الواحدية. وإن وجود ضوء الشمس، وألوانه السبعة، وحرارتها، وكل ظل من ظلالها، في كل جزء شفاف، وفي كل قطرة ماء يبين مثال الأحدية. وكذا فإن تجلي أكثر أسماء ذلك الصانع في كل شيء، ولاسيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الأحدية)(1).
ثم قال: (فكما تظهر الواحدية من حيث الجلال والعظمة؛ تعلن النعمةُ والإحسانُ الأحديةَ الإلهيةَ، من حيث الجمال والرحمة (...) حتى حظي الإنسان بتجليات أسماء الله الحسنى كلها، كما تتجلى في الكون كله. وكأنه بؤرة تظهر جميع الأسماء الحسنى دفعة واحدة، في مرآة ماهيته؛ فيعلن بذلك الأحدية الإلهية!)(2).
__________
(1) المكتوبات: 2/304.
(2) المكتوبات: 2/305.(21/61)
ومن هنا كانت (الأحدية) مفضية – في نهاية المطاف - إلى (الواحدية): فكل شيء في الكون إذ يقول: أحدٌ! أحد! وذلك بما هو مخلوق من لدن الخالق الأحد، الفرد الصمد جل وعلا، وبما هو مشمول بالرحمة الربانية إنشاءً وتقديرا، ورعايةً وتدبيرا؛ فإنه بذلك يعَرِّفُ بالله تعالى، من حيث هو سبحانه وتعالى واحد، لا شريك له، جل وعلا! بيد أن هذا التعريف إنما يكون عن طريق المشاهدة لجمال الأسماء الحسنى كما تم بيانه.
ب - ضمائمه:
ب1- توحيد الألوهية: وهو إفراد الواحد الأحد جل وعلا، بأنه الإله المعبود وحده دون سواه. ولذلك فقد رادف هذا المصطلح عند النورسي مصطلحا آخر عبر عنه بـ(توحيد المعبودية). وكلاهما وارد في قوله: (لا إله إلاّ الله: تتضمن هذه الكلمة توحيد الألوهية، وتوحيد المعبودية (...) فمن لا يقبل بذلك الواحد الأحد جل وعلا إلها ومعبودا؛ عليه أن يقبل ما لا نهاية له من الآلهة! وأن ينكر نفسه، وينكر الكائنات! كالسوفسطائي الأحمق)(1).
__________
(1) المكتوبات: 2/298.(21/62)
ب2 - التوحيد الحقيقي: هو التوحيد بمعناه الرئيس لدى النورسي كما تبين قبل. أي: (مشاهدة اليقين لانفراد ربوبيته تعالى، ووحدانية ألوهيته، في خاتمه المضروب على كل شيء). وقد ورد مصطلح (التوحيد الحقيقي) في أكثر من نص، نحو قوله المذكور قبل: (التوحيد الحقيقي: وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود، بوحدانيته سبحانه (...) إيمانا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب؛ لرؤيته آية قدرته، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء)(1) ومثله قوله: (التوحيد الحقيقي: (...) هو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير. فالتوحيد الحقيقي: إنما هو حكم وتصديق، وإذعان وقبول، بحيث يمكن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء، ويمكنه من أن يرى في كل شيء السبيل المنورة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه، واستحضاره لمراقبة ربه!)(2).
ب3 - التوحيد الخالص: هو التوحيد الحقيقي، سمي (خالصا)؛ لخلوصه لله وحده، ولرد كل شيء إليه وحده سبحانه وتعالى، وصفائه من الشبهات والشطحات. قال: (إن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص، فلا يسند التأثير الحقيقي إلى الأسباب أو الوسائط، ولا قيمة لها في الإسلام من حيث الإيجاد والخلق)(3)، وقد يصفه بـ(السمو) أيضا، كما في قوله: لما (ينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه (...) ذلك التوحيد الخالص السامي)(4).
__________
(1) الكلمات: 1/326. انظر مثله أيضا في: اللمعات: 3/553 والشعاعات: 4/197.
(2) الشعاعات: 4/197.
(3) المكتوبات: 2/419.
(4) الكلمات: 1/326. انظر نحوه أيضا في: المكتوبات: 2/390.(21/63)
ب4 - توحيد الربوبية: هو إفراد الواحد الأحد سبحانه بأنه الخالق لكل شيء، المالك له في قبضته تعالى. قال رحمه الله في شرح قول: ("لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير": إن هذه الجملة التي تلخص التوحيد (...) تحمل مرتبة جليلة من مراتب (توحيد الربوبية)، وتبين من زاوية الاسم الأعظم كبرياء الوحدانية، وكمال التوحيد)(1)؛ لأنه (سبحانه بأحديته مالك بالذات لزمام كل شيء في قبضة ربوبيته)(2).
ب5 - التوحيد العامي، أو التوحيد الظاهري العامي، أو العامي الظاهري: هو التوحيد بمعناه العقلي المجرد القائم على نفي الشريك عن الربوبية، كما عرفناه قبل من أنه: (إثبات الربوبية المطلقة لله تعالى بنفي الشريك عنه سبحانه). قال رحمه الله: (التوحيد الظاهري العامي: وهو أن الله واحد لا شريك له، ولا مثيل، وهذا الكون كله ملكه)(3). وقد سبق قوله: (التوحيد العامي الظاهري: يُثْبِتُ بأن لا يُثْبَتَ، ولا يسند شيء من الأشياء إلى غيره تعالى)(4) وقوله أيضا: هو (توحيد عامي: يقول: لا شريك له، ليس هذه الكائنات لغيره)(5).
ب6 - توحيد المعبودية: هو (توحيد الألوهية) - كما بيناه بمحله - على سبيل الترادف.
ب7 - ختم التوحيد، أو ختم الوحدانية، أو خاتم، أو طغراء، أو سكة التوحيد: كلها مترادفات بمعنى. وهو: تجليات الأسماء الحسنى في كل شيء، بما يعلن (الأحدية) الإلهية.
__________
(1) المكتوبات: 2/288.
(2) اللمعات: 3/62.
(3) الكلمات: 1/326.
(4) المثنوي العربي: 6/346.
(5) المثنوي العربي: 6/40.(21/64)
قال رحمه الله: (إن للصانع جل جلاله على كل مصنوع من مصنوعاته سكة، خاصة بمن هو خالق كل شيء، وعلى كل مخلوق من مخلوقاته خاتم، خاص بمن هو صانع كل شيء، وعلى كل منشور من مكتوبات قدرته طغراء غراء لا تقلد، خاص بسلطان الأزل والأبد)(1). فذلك إذن (دلالة قاطعة بوجود ختم التوحيد المضروب على كل شيء)(2). ثم قال: (فهل يمكن لغير الواحد الأحد أن يتدخل في سكة التوحيد؟ (...) أو أن يتدخل في ختم الوحدانية؟)(3).
وماهية (ختم التوحيد) أو خاتمه، أو سكته أو طغرائه، كما ذكرنا، هي تجليات الأسماء الحسنى في الكائنات جميعا من حيث هي مخلوقات لله تعالى وحده دون سواه! ولذلك: (حظي الإنسان بتجليات أسماء الله الحسنى كلها، كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تظهر جميع الأسماء الحسنى دفعة واحدة، في مرآة ماهيته؛ فيعلن بذلك الأحدية الإلهية!)(4) وهذا تمام تعريف (ختم التوحيد)، أي: إعلان (الأحدية) كما فصلناها بمحلها في (المشتقات).
ب8 - دلائل التوحيد: هي البراهين الدالة على مفهوم (التوحيد) بشتى معانيه الواردة عند النورسي. ولذلك كان منها ما هو مقروء، ثم ما هو مستنبط، أو (معقول) يحصل بإنكاره محال عقلي، ثم ما هو (ذوقي) أي ذوق من ( الأحوال الوجدانية) أو (اللطائف الذوقية). فهذه ثلاثة أنواع:
الأول: وهو المقروء، فكقوله: (فاعلم أن القرآن المعجز البيان، ما ترك من دلائل التوحيد شيئا)(5).
__________
(1) المثنوي العربي: 6/41.
(2) الكلمات: 1/726.
(3) المكتوبات: 2/301. انظر مثله في: المكتوبات: 2/306.
(4) المكتوبات: 2/305.
(5) إشارات الإعجاز: 5/154.(21/65)
والثاني: وهو المعقول، فكقوله عن أفعال الخلق والتدبير: (فكل فعل من هذه الأفعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يسند إلى الواحد الأحد سبحانه؛ لنتجت إذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه! (...) كالحكمة، والعناية، والرحمة، والإعاشة، والإحياء، والإماتة، التي هي من الحقائق البديهية، ومن دلائل التوحيد!)(1).
والثالث: وهو الدليل الوجداني، الذوقي، الذي لا يقبل تحريا عقليا، ولا تعمقا حسابيا؛ فكقوله: (اعلم أن من البراهين ما هو كالماء، ومنها ما هو كالهواء، ومنها ما هو كالضياء! لا بد من التوجه بلطف، ووسعة نظر في لينة؛ وإلا فبالحرص، والتعمق، والجس بأصابع التحري يسيل، ويزول، ويختفي!)(2).
ب9 - مرآة التوحيد: هي كل شيء من سائر المخلوقات، والكائنات، من حيث إنها جميعا مظاهر لتجلي الأسماء الحسنى.
__________
(1) اللمعات: 3/520.
(2) المثنوي العربي: 6/124.(21/66)
وبهذا المعنى كان المفهوم الرئيس للتوحيد لدى النورسي قائما على (المشاهدة) كما تبين. قال رحمه الله: (إن الجمال الإلهي، والكمال الرباني، يظهران في التوحيد، وفي الوحدانية. ولولا التوحيد لظل ذلك الكنز مخفيا! نعم، إن الجمال الإلهي، وكماله الذي لا يحد، والحسن الرباني ومحاسنه التي لا نهاية لها، والبهاء الرحماني وآلاءه التي لا تعد ولا تحصى، والكمال الصمداني وجماله الذي لا منتهى له؛ لا يشاهد إلا في مرآة التوحيد!)(1) ومن أجمل الأمثلة التي طالما مثل بهذا لهذا المعنى قوله: ( فكما أنه لو لم تُسْنِد تماثيل الشمس المتلألئة في القطرات إلى تجلي الشمس، يلزم عليك أن تقبل شمسية حقيقية، وبالأصالة في كل قطرة قابلتها الشمس! وفي كل زجاجة أضاءتها الشمس! بل في كل ذرة شفافة تشمست. وما هذا الفرض إلا بلاهة من أعجب البلاهات! كذلك إنك لو لم تسند كل حي وحياة وإحياء بواسطة تجلي الأحدية الجامعة، وبواسطة كون الحياة نقطة مركزية لتجلي الأسماء، التي هي أشعة شمس الأزل؛ لزم عليك أن تقبل في كل ذي حياة - ولو ذبابة أو زهرة - قدرة فاطرة بلا نهاية!)(2).
فمن هنا لم يكن الوجود كله إلا (مرآة) لمشاهدة جمال الربوبية، للوصول إلى أقصى غايات التوحيد؛ (لأن أهم غايات تلك الربوبية، وأقصى مقاصدها: هو إظهار جمالها، وإعلان كمالها، وعرض صنائعها النفيسة، وإبراز بدائعها القيمة (...) لذا لا يمكن أن تقبل الربوبية الواحدة المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقا!)(3) وهذا هو السر في كون الوجود (مرآة التوحيد).
ب10 - مراتب التوحيد: هي مقامات المعرفة بالله، ربا وإلها، ووجوه ذلك، ومسالكه.
__________
(1) الشعاعات: 4/8.
(2) المثنوي العربي: 6/42.
(3) الشعاعات: 4/193-194.(21/67)
ومراتب التوحيد كثيرة بكثرة المقامات والوجوه والمسالك. يدخل في ذلك (مفاهيم) التوحيد، مما ذكرنا في التعريف، والمشاهد التي ينظر من خلالها إلى معاني الوحدانية الإلهية، وتجليات ذلك في أختام التوحيد المضروبة على كل شيء. قال بديع الزمان: (إن تكرار أهل الإيمان: "لا إله إلاّ هو" باستمرار، وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به؛ يبين لنا أن هناك مراتب كثيرة جدا للتوحيد!)(1) ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكمل من أعلن عن جميع مراتب التوحيد)(2). ومن هنا كان القرآن الكريم (يفتح أمام الإنسان أبوابا للإيمان، ولمعرفة الله، ومراتب التوحيد، يحقق بها إقرار مقاصد عديدة. حيث إن القرآن يقرأ ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير، ويبينه بوضوح، فيرسخ في أعماق المؤمن إحاطة ربوبيته سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس!)(3).
ب11 - مرتبة التوحيد العظمى، أو المقام الأعظم للتوحيد، أو مقام التوحيد:
وهو (التوحيد الحقيقي) عينه، أي (التوحيد) بمعناه الرئيس لدى النورسي، المقابل (للتوحيد العامي). وإنما كان مرتبة عظمى، أو مقاما أعظم؛ لأنه جمع فضائل جميع المراتب، دون أن تخالطه الشبهات ولا الشطحات. قال رحمه الله: (أما مرتبة التوحيد العظمى، التي يراها بصراحةِ القرآنِ الأولياءُ العظامُ (...) فإنها مرتبة رفيعة، عالية جدا! إذ تفيد المرتبة العظمى للربوبية، والخلاقية الإلهية، وتبين أن جميع الأسماء الحسنى هي أسماء حقيقية (...) لأن أهلها يقولون: إن الله سبحانه بأحديته الذاتية، وتنزهه عن المكان، قد أحاط - من دون وساطة - بكل شيء علما (...) فإنه سبحانه يوجد جميع الكون ويخلقه، ويدبر أموره كإيجاده لشيء واحد، وإرادته إياه!)(4).
__________
(1) الشعاعات: 4/196.
(2) المكتوبات: 2/277.
(3) الشعاعات: 4/310.
(4) اللمعات: 3/62.(21/68)
كما سماها (مرتبة التوحيد العظمى)؛ فقد سماها أيضا: (المقام الأعظم للتوحيد). من حيث إن (مراتب التوحيد) مقامات، ومنازل، كما بينا. وذلك حسب مسلك العبد إلى ربه، وحسب منزلة معرفته بالله. قال: (فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية، التي تتجلى في أعظم مرتبة للتوحيد (...) أبينها حجة كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الأعظم للتوحيد)(1)، إلى أن قال: في السياق ذاته: (نشير إلى برهان عظيم لمرتبة التوحيد العظمى)(2)؛ مما يؤكد ترادف المصطلحين.
كما إنه قد يختصر ذلك كله في لفظ: (مقام التوحيد). وهو المرادف الثالث لما ذكر. قال: (في البسملة جهات من الاستعانة، والتبرك، والموضوعية، بل الغايتية، والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن. وأيضا فيها مقامات: كمقام التوحيد، ومقام التنزيه، ومقام الثناء، ومقام الجلال والجمال، ومقام الإحسان، وغيرها. وأيضا فيها أحكام ضمنية، كالإشارة إلى التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدل. أعني المقاصد الأربعة المشهورة.)(3).
فأنت ترى أنه ذكر (التوحيد) في النص مرتين، لكن بمعنيين مختلفين: الأول في ضميمة (مقام التوحيد)، والثاني مجردا من الإضافة. (فالتوحيد) مجردا: هو بمعناه التصوري الذهني، ولذلك جعله كما رأيت من (الأحكام). و(مقام التوحيد): هو بمعنى (المرتبة العظمى للتوحيد)، أو (المقام الأعظم للتوحيد)، إذا جاء في سياق المعاني القلبية.
خلاصة:
وبعد،
__________
(1) المكتوبات: 2/300.
(2) المكتوبات: 2/310.
(3) إشارات الإعجاز: 5/40. انظر أيضا: الملاحق: 7/405.(21/69)
فإن هذه الورقات التي جالت بنا بين (مراتب التوحيد)، و(مفاهيمه) الجزئية والكلية، لدى بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله، لتبين لنا كيف استطاع هذا الرجل العظيم أن يحصل على دقائق المفسرين، وححج المتكلمين، وتأملات الفلاسفة، ومواجيد المتصوفة، دون أن يقع في شبهات أولئك، ولا شطحات هؤلاء! فقد أخرج لنا أدق اللطائف الذوقية، من أعلى المراتب التوحيدية، دون أن يقع في القول بوحدة الوجود مثلا، ولا حتى وحدة الشهود؛ بل سلك للتوحيد مسلكا آخر، هو معراج القرآن الكريم! فجمع قولُه - لذلك - بين الدقة والبساطة، وبين العمق والصفاء!
بدراسة (مفهوم التوحيد) لدى النورسي تبين لنا مدى ما كان لهذا الرجل من حس مصطلحي دقيق، وذلك لما لاحظناه فيه من انتباه شديد، وملاحظة دقيقة، في نقد العبارات والمصطلحات؛ خشية أن تتسرب إليه، أو إلى تلامذته مفاهيم غير مأمونة الدلالة والمآل! فكان يصفي فكره من خلال العمل على تصفية مفاهيمه.
فرحمه الله من رجل لقد كان بحق عبقريا من عباقرة الفكر الإسلامي المعاصر.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الفصل الثاني
مصطلح
مصطلح الإنسان
تمهيد:(21/70)
يعتبر مصطلح (الإنسان) - كما ورد في كليات رسائل النور - من أهم المفاتيح المفهومية، ومن أكبر المسالك الضرورية؛ للدخول إلى العالم الفكري للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ومنظومته الفلسفية/القرآنية؛ ذلك أنه بنى تأملاته للكون والحياة والمصير على التأمل في الذات الإنسانية، إذ انطلق في فهمه للكون من ذاته كنوع، متدرجا عبر مسالكها إلى آفاق السماوات والأرض، متفكرا في كل شيء، من خلال ما يجده في نفسه من عجز وفقر، وما يجده في هذه العوالم من امتداد لا يتناهى. ثم بعد ذلك يدخل إلى قضية (الخلق) التي هي سر الوجود، ولغز الكون، ومعضلة الفلسفات. يدخلها طبعا من باب القرآن الكريم، ولكن (مشاهدا) لا قارئا وحسب. ذلك أن الدخول إلى القرآن من باب (المشاهدة) يعني مطالعة الكون الكبير، والنظر إلى أسراره معاينة.
من هنا كان النورسي ينظر إلى الإنسان. ومن هنا استقى مفهومه الكوني له. نعم إن الإنسان في فكر بديع الزمان ليس مخلوقا عاديا وحسب، ولا هو حتى مخلوق أرضي وحسب، بل هو أبعد من ذلك وأعظم. إنه مخلوق كوني. أي أن الماهية الوجودية للإنسان هي ماهية كونية كبرى. بمعنى أن فهم هذا الكائن لا يمكن تناوله، ولا استيعابه بحصره في مركز إقامته: الأرض. وإنما الواجب ربط وجوده بوجود الكون كله! ذلك أن أول باب من أبواب الدخول إلى الماهية الإنسانية هو باب العلة الخلقية، أو الوجودية. بمعنى أن نتساءل: ما علة وجود الإنسان أصلا؟ من هنا يمكن أن يتحدد مجال الوجود الإنساني. ومن هنا يمكن فهم الماهية الكونية للإنسان.(21/71)
فإذا كان القرآن الكريم الذي هو المصدر الأول والأساس لمنظومة النورسي الفكرية؛ يحدثنا عن قضية (الاستخلاف) الرباني للإنسان قبل قصة خلقه؛ فلا يكون خلق آدم عليه السلام؛ إلا من بعد ما قدرت له وظيفته الكونية؛ ذلك أن قول الله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)؛ واقع قبل خلق آدم عليه السلام؛ لأن القرآن يقص علينا أن هذا الإخبار كان قبل ذلك، كما في سورة (ص). قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(ص:71-72)، وقال عز وجل في بيان علة الخلق: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود:7). إن معنى ذلك عند الأستاذ سعيد النورسي إذن؛ أن الوجود الإنساني كله، حتى في أدق تفاصيله، لا يمكن فهمه إلاّ من خلال هذا المنظور الكوني للإنسان! وهذا هو الجديد الذي يمكن أن نزعم أن بديع الزمان قد تقدم به كمفتاح لفهم: ما الإنسان؟ على سبيل التفسير التدبري للقرآن الكريم، والقراءة الكونية لآياته. ومن هنا أيضا يمكن القول: إن بديع الزمان قد جاء بمفهوم قرآني للإنسان. فبنى عليه - تقريبا - كل نظرياته النورية للكون والحياة والمصير.
إن الدارس لمصطلح (الإنسان) لدى بديع الزمان يجد أنه بإزاء (مفهوم كوني). هذا المفهوم الذي يمكن إجماله في حدّ كلي، نركّبه - من خلال استقراء نصوص كليات رسائل النور - تركيبا مبنيا على استقصاء كل الأبعاد الوجودية لـ (الإنسان)، كما يراها بديع الزمان. فلندخل إذن إلى هذا العالم المفهومي العجيب، من خلال ما دأبنا عليه من منهجية مصطلحية، وذلك كما يلي:
- أولا: التعريف:
أ - في اللغة:(21/72)
يرجع أصل استعمال مادة (أنس) في اللغة إلى معنى الظهور، والاقتراب، والألفة، وعدم التوحش. والراجح أن عنه تفرعت سائر المعاني لهذه المادة اللغوية. وذلك ما ذهب إليه أغلب المعاجم. قال ابن فارس: (الهمزة والنون والسين: أصل واحد، وهو ظهور الشيء. وكل شيء خالف طريقة التوحش. قالوا: الإنس خلاف الجن؛ وسموا بذلك لظهورهم. يقال: آنست الشيء: إذا رأيته. قال الله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا). ويقال: آنست الشيءَ: إذا سمعته، وهذا مستعار من الأول. قال الحارث:
آنسَتْ نَبأَةً وأفزعها القُنّـ *** ـاصُ عَصْرًا وقد دنا الإمساءُ
... والأُنس: أُنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه)(1) إلاّ أن مصطلح (الإنسان) قد اختلف في أصله: أهو من الأنس أم من النسيان؟ وأما لفظ (الإنس) فالأكثر على أنه من (الأنس) بمعنى ضد التوحش. وعليه حمل كثير من اللغويين معنى (الإنسان) أيضا. إلا أن آخرين أرجعه إلى (نسي) لا (أنس). قال الراغب الأصفهاني: (الإنس خلاف الجن. والإنس خلاف النفور. والإنسي منسوب إلى الإنس. يقال ذلك لمن كثر أُنْسُه، ولكل ما يُؤْنَسُ به. (...) والإنسان: قيل سمي بذلك؛ لأنه خُلِقَ خلقة لا قوام له إلا بإنس بعضهم ببعض؛ ولهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع؛ من حيث لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه. وقيل سمي بذلك لأنه يأنس بكل ما يألفه. وقيل: هو إفْعِلانٌ، وأصله إنْسِيانٌ سمي بذلك؛ لأنه عُهِد إليه فنسي)(2).
فأما هذا المعنى الأخير فقد روي عن ابن عباس. قال صاحب اللسان: (وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: إنما سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه عُهِد إليه فنسي (...) وقيل للإنس إنسٌ؛ لأنهم يؤنسون أي يبصَرون، كما قيل للجن جنٌ؛ لأنهم لا يؤنسون، أي لا يبصَرون)(3).
__________
(1) المقاييس، مادة: أنس.
(2) المفردات، مادة: أنس.
(3) اللسان: أنس.(21/73)