لقد عزف النورسي عن اِتباع نهج أهل الفكر الفلسفي، ورفض أن يجري في مضمار أصحاب الفذلكات الحجاجية التي تهتم بأعراف المنطق الصوري والمراسيم الجدالية المدرسية، أكثر من اهتمامها بالجوهر الترشيدي، التنويري، الذي يخدم الانسانية ويجلب لها السعادة الدائمة ..
من هنا تجاوز النورسي البروتوكولية النخبوية، وطوى رايتها وألقى بها بعيدا عن طريقه، ليرفع راية القرآن، وليجادل بمنطق القرآن، وليسدد الفذلكات والفرضيات الوضعية بسهام القرآن، إذ أنه كان على يقين بأن قصارى جهد أهل الفكر الجدالي في سعيهم إلى استجلاء وجه الحق، أن يقضوا العمر في دبيبهم الحيران ودورانهم المضني في كل اتجاه فوق بقعة من جسد الحقيقة المديد، دون أن يدركوا موقعهم منها ولا على أي عضو بها يقفون..
بل لقد تأبى النورسي حتى عن تطعيم تقريراته بما يخرج عن نطاق عقل القرآن ومنطقه من متواضعات أهل الفكر وحكمتهم ..
فلقد توسل الناس في كل عصر بالفكر الفلسفي وبمسلمات المعرفة الوضعية يسندون بها آراءهم ويسوغون طروحهم، ويخطبون لها الوجاهة والقبول، بيد أن النورسي الملتزم بإيمان فوقي واعتقاد شمولي، والمعتدّ بصلابة الأسس والدعائم التي يقوم عليها بنيانه القرآني، يرفض كلية أن ينافح عن عقيدته بغير ذخيرة القرآن..
إذ أن المدافعة عن عقيدة تقرر أنها إلهية، والتوسل إلى تحصينها بغير منطق مصدرها الإلهي وبغير حجج سندها السماوي - يعد في الواقع - إقرارا بقصور جهازها الدفاعي وبكلل عدتها البرهانية.. وهو ما كان يقول به النورسي ويعتقده، فقد رأيناه يرد على من انتقص منه تخليه عن سلوك سبيل أولئك المفكرين الذين يدافعون عن الاسلام ويبارزون بسهام الفلسفة والحكمة الوضعية، فيقول:(11/302)
"إن سعيدا القديم والمفكرين قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي (كانوا) يقبلون شيئا منها، ويبارزون( خصومهم) بأسلحتهم، ويعدون قسما من دساتيرها ( أي الفلسفة البشرية ) كأنها العلوم الحديثة، فيسلمون بها. ولهذا لا يتمكنون من إعطاء الصورة الحقيقية للإسلام على تلك الصورة من العمل، إذ يطعمون شجرة الاسلام بأغصان الحكمة التي يظنونها عميقة الجذور، وكأنهم بهذا يُقوّون الاسلام. ولكن لما كان الظهور على الأعداء بهذا النمط من العمل قليلا، ولأن فيه شيئا من التهوين لشأن الاسلام، فقد تركت ذلك المسلك، وأظهرت فعلا أن أسس الاسلام عريقة وغائرة إلى درجة لا تبلغها أبدا أعمق أسس الفلسفة، بل تظل سطحية تجاهها ". (1)
والنورسي لا تفوته علة من ينهجون هذا النهج الإسنادي، التلفيقي، إذ أنهم يعتقدون أن الحجة الإسلامية لا تنهض ولا تفرض نفسها على الجاحدين إلا إذا ارتكزت على السند الوضعي، أو ترجمت عبره ..
ومن الواضح أن موقفهم هذا ينم عن إحساسهم هم بالحاجة إلى استبانة وجه الحق الذي يعرب عنه القرآن، فالقصور كامن في ذواتهم وإن لم يشعروا، وما بحثهم عن الدعائم الإنسية لإقامة الدليل والمصداقية على الأمر الإلهي، إلا وجها من وجوه المفارقة التي تجسدها مواقف كثير من أهل الفكر، ممن لم يتلبسهم الإيمان بعمق، أو ممن وهنت هممهم وبصائرهم عن استجلاء البراهين الصارخة التي لا تفتأ تواجهنا أنى أرسلنا أبصارنا وأجَلْنا حواسنا..من هنا بيَّن النورسي سبب تشبث هؤلاء المحاجين عن الدين بحجج الوضع قائلا :
" ففي المسلك السابق (أي مسلك المدافعين عن العقيدة بحجج الفلسفة ) يُظَنّ أن الفلسفة عميقة، بينما الأحكام الاسلامية ظاهرية سطحية، لذا يتشبث بأغصان الفلسفة للحفاظ على الاسلام..(2)
الفلسفة مصدر جبروت وطغيان
__________
(1) المكتوبات ص.570
(2) م.ن. ص570(11/303)
ومن المناسب أن نشير هنا إلى أن النورسي قد تناول موضوع الفلسفة في مواطن مختلفة من أعماله، شأنه مع سائر المسائل والاشكالات التي كانت تلح عليه..
فقد جاء في كتابه "الكلمات" مثلا أن الفلسفة مصدر الجبروت، حيث يؤكد النورسي أن الفلسفة المادية كانت وراء ظهور العقائد الطغيانية، لأنها زينت للعقل الانساني أن يجاري الأهواء وأن يتعلق بأحلام استبدادية شاء بها أن يظاهر الخالق، وأن يخرج عن عصمة التقوى والعبودية، مما أدى به إلى الانزلاق والتردى في هوة البغي، إذ أن استكباره - طال أول ما طال- أخاه الإنسان نفسه ..
من هنا كان الجبروت وكانت المهالك التي ظلت الانسانية ترزح تحتها، جراء جور بعضها على بعض وعدم الارعواء والانصياع إلى تعاليم السماء، تلك التعاليم - لاسيما القرآنية - منها التي طفقت توطد أسس الأُخُوَّة بين بني البشر . فانحراف البشرية إنما تَوَلَدَ عن انزلاق أقطابها من الفلاسفة الذين هيأت لهم تصوراتهم افتراضات خاطئة عن واقع الإنسان وغاياته الوجودية، الأمر الذي زرع جرثوم الحيدة والخروج عن سبل الرشاد..
"..لقد اعتقد عظماء الفلسفة وروادها ودهاتها أمثال أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي - بناء على تلك الأسس الفاسدة - بأن الغاية القصوى لكمال الإنسانية هي (التشبه بالواجب) ، أي بالخالق جل وعلا، فأطلقوه حكما فرعونيا طاغيا ومهدوا الطريق لكثير من الطوائف الملتبسة بأنواع من الشرك أمثال عبدة الأسباب وعبدة الأصنام وعبدة الطبيعة وعبدة النجوم، وذلك بتهييجهم "الأنانية " لتجري طليقة في أودية الشرك والضلالة، فسدوا سبيل العبودية إلى الله، وغلقوا أبواب العجز في أوحال الطبيعة، فما نجوا من حمأة الشرك كليا، ولا اهتدوا إلى باب الشكر الواسع". (1)
__________
(1) الكلمات ص. 642(11/304)
ولقد ظلت الرسالات السماوية تستهدف تقويم هذا الانحراف الذي سلك بالبشرية طريقا أبعدها عن الحكمة والفطرة السوية، فتواترت البعثات تسدد الخطا وتصوب الرؤية، وكان من نتائج ذلك أن تلبس الفكر الانساني الفلسفي في مستويات منه بالتعاليم السماوية وقبس منها ومضات جعلت تسديداته راجحة ومُرَشَدة، وذلك ما أشار إليه النورسي حين تحدث عن هذه الطبقة من أهل الفكر الذين انتحوا في سيرهم طريق النبوة وتعاليم السماء، فهؤلاء الذين هم في مسار النبوة، فقد حكموا حكما ملؤه العبودية الخالصة لله وحده، وقضوا أن الغاية القصوى للإنسانية والوظيفة الأساسية للبشرية هي التحلي بالأخلاق الإلهية ". (1)
من هنا نتبين أن الـ "أنا " كما رسخته تعاليم الفلسفة المارقة، هو عنوان الأنانية والغرور ، وهو – بالتالي – علة وروح هذا – الإيغوسانتريزم – الغربي الذي لا يرى غير ذاته، ولا يعتد بغير مقوماته.. وبما أن الإيغوسونتريزم هو مشروط ثقافي وإيديولوجي، بل وكتابي أيضا- إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مقررات التوراة - فلا جرم أن تتلبس الأنا الغربي حالا مرضية، استبدادية، تعرض للأفراد كما تعرض للأقوام والحضارة على حد سواء .. بسبب تعاطي المجتمعات الغربية –الواقعة تحت وطأة الاعتداد بالأنا – لتعاليم جبروتية تكرس منطق القوة والتغالب والاستكبار الشنيع.. من هنا كان التنابز والتطاحن بين الشعوب كما عاشته البشرية خلا حربين كونيتين من جرائر الغرب ومن آثامه، وكما تعيشه المجتمعات اليوم في ظل الانسحاق الاقتصادي والصراع العرقي والطغيان الاحتكاري الذي شمل التجارة والعلم والأخلاق، وكان مرد ذلك – في كثير من مظاهره – ضلال الفلسفة وما تلقنته الإنسانية عنها من فكر زائغ ..
__________
(1) الكلمات ص.642.(11/305)
" وهكذا فلأن الفلسفة العاصية للدين قد ضلت ضلالا بعيدا، صار " أنا " ماسكا بزمام نفسه، مسارعا إلى كل نوع من أنواع الضلالة. وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من " أنا " غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل. أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، إلى أنظار البشرية، فهي الأصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوية . إذ الفلسفة تحبذ أصلا القوة وتتخذها أساسا وقاعدة مقررة لنهجها، حتى أن مبدأ "الحكم للغائب " دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدإ " الحق في القوة"، فأُعْجِبَتْ ضمنا بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم إلى دعوى الألوهية. ثم إنها ملَّكت الجمال في المخلوقات ..متناسية نسبة ذلك الجمال إلى تجلي الجمال المقدس للخالق الجميل.. ثم إنها استحسنت مظاهر الشهرة والحسن الظاهر للرياء والسمعة، لذا حبذت المرائين ودفعتهم إلى التمادي في غيهم .. وربَّت في غصن القوة الغضبية على رؤوس البشر المساكين، الفراعنة والنماريد والطغاة صغارا وكبارا..أما في غصن القوة العقلية، فقد وضعت الدهريين والماديين والطبيعيين وأمثالهم من الثمرات الخبيثة في عقل الإنسانية، فشتتت عقل الإنسان أي تشتت ". (1)
النورسي لم يُلغ دور الفلسفة الحديثة في مضمار البناء المعرفي والحضاري
على أن النورسي، وإن طعن في الفلسفة القديمة ونسب إليها إحداث الكثير من المضار والنتائج والآثار السلبية التي انحرفت بالعقل عن الصواب، إلا أنه لم يسقط دور الفلسفة الحديثة كلية، ولكنه أثبت لها قيمة جعلتها تغدو حقلا يناصر - إلى حد - الفطرة ويعزز التطور والحس السليم..
__________
(1) الكلمات ص.643.(11/306)
".. إن الفلسفة القديمة خيرها قليل، خرافاتها كثيرة، حتى نهى السلف - إلى حد ما - عنها، حيث الأذهان كانت غير مستعدة، والأفكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستوليا على العوام، بينما الفلسفة الحاضرة خيرها كثير - من جهة المادة - بالنسية للقديمة، وكذبها وباطلها قليل، والأفكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع، وفي الحقيقة لا بد أن يكون لكل زمان حكمه.." وهو ما يجعل من أذى الفلسفة بهذه المواصفات محدودا، لأنها تشتمل على حقائق تخدم الإنسان، وذلك هدف من أهداف الاسلام ..(1)
لقد ر أينا النورسي في موضع آخر يحدد نوع الفلسفة التي تناهضها رسائل النور فيقول:
" إن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسم الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الانسانية، وتمهد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمة لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك، لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة".(2)
وواضح أن إدراك النورسي لوظيفة الفلسفة هو إدراك نفعي بناء، إذ أن مفهوم الفلسفة عنده لم يعد يطابق ذلك الفهم الترفي والفكري المحض الذي ميز النظر إلى الفلسفة عند المسلمين ..
بل لقد أضحى للفلسفة في وعي النورسي مقصد تجهيزي، ارتفاقي، يخرج بالانسان من دائرة الميتافيزيقا والجدل المفرغ، إلى رحاب العلم التطبيقي والتصنيعي الذي يكفل للأمة الإسلامية القوة والظهور وريادة العالمين في مجالات التعمير وإرساء مبادئ السماء على ربوع هذا الكون..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 40 .
(2) الملاحق ص 286.(11/307)
أما العدو الذي ظل النورسي يناضله و لا يني يشن أشرس الهجمات عليه، فهو الفلسفة الضالة المضلة، تلك التي أصبحت وسيلة للتردي والإيقاع في مهاوي الإلحاد والسقوط في المستنقع الآسن للفكر الوضعي الطبيعي، تلك الفلسفة التي تسوق الانسان إلى الحتف بما تورثه إياه من دواعي الغفلة والضلالة، حيث أنها تعارض بخوارقها - التي هي كالسحر- الحقائق المعجزة للقرآن الكريم .. من هنا تحدد عدائها لرسائل النور، ومن هنا كذلك انبرت الرسائل تتصدى لضلالها ". (1)
بل لقد كرر النورسي ترحيبه بالفلسفة الجديدة في أكثر من موطن لأنه رآها - كما يقرر - فلسفة متحررة من وطأة الفكر اليوناني :
" فمرحى للفلسفة الجديدة المتحررة التي قضت على تلك الفلسفة اليونانية قضاءا مبرما". (2) تلك الفلسفة المحشوة بقيم الوثنية والميتافيزيقا الخيالية المشركة.. فبحسب النورسي إن فهم القرآن والنفاذ إلى أسراره الباهرة لا يكون عن طريق الاقتراب الفلسفي الموجه مسبقا، والذي تعتقله فذلكة النتائج والمقدمات كما تواطأ عليها المناطقة اليونانيون والتي استجلبتها لنا منهم فلسفتهم .. وإنما ينبغي لنا أن نسلك إلى هذا الفهم سنن المنطق الإعجازي المرتكز على روح البلاغة العربية والسليقة القولية كما تمرس العرب الأوائل بها .. فـ"مفتاح دلائل إعجاز الآيات وكشاف أسرار البلاغة، هو في معدن البلاغة العربية، وليس في مصنع الفلسفة اليونانية" (3)
فلسفة السببية والكسب
حقيقة الأسباب بمنظار المعرفة الربانية
لا يلغي النورسي فعل العلل والأسباب باعتبارها عوامل ذات تأثير مباشر وواضح تلمسه الملاحظة من خلال نماء الأشياء و زوالها، و في تجدد تلك الأشياء وتبددها..
__________
(1) أنظر الملاحق ص 286.
(2) صيقل الإسلام ص 94.
(3) صيقل الإسلام ص 94..(11/308)
.. بل لقد رأينا أن عقلية النورسي عقلية ديالكتيكية بطبعها، لاترى تفاعل الظواهر إلا من خلال مبدأ الحركة والسكون، أو من خلال تفاعل الشروط سلبيها وإيجابيها.. لكن النورسي يقرر أن هذه الجدلية لم تنشأ اعتباطا، ولا سارت وفق هذا الإطراد القانوني الراسخ المجسد في منظومة الأسباب والعلل التي تقوم عليها دورة الحياة وقابلية نشوء وتطور الكائنات الحية والظواهر الحيوية، إلا لأنها تجسيد مؤكد لإرادة الله..
تلك الإرادة التي هي الإطار الناموسي الذي ضبط به الله الكون وأكسبه هذه الوتائر المنتظمة والمنضبطة التي يسير وفقها نظام الأشياء، والتي يعتقد الضُّلاَّل أنها ضوابط آلية من غير ما مرجع..
من هنا انحرفوا بتعليلهم لنشاط الظواهر إلى القول بأن العلل والأسباب هي مناط حركة ووجود تلك الظواهر.. ناسين أو متناسين الإرادة الإلهية التي سنت النظم وأوكلت فعلها بنظام الأسباب ..
ولاشك أن النورسي بتعرضه لتسفيه رؤية هؤلاء القائلين بالعلية والسببية، إنما يتصدى لفكر الزناديق الماديين الذين انبروا في تلك المرحلة، ومازالوا إلى اليوم، يطعنون في المعاني التي ترسخ الإيمان وتكرس الوحدانية ..
ولقد وسعه أن يستدعي في هذا الصدد، ردود السلف الصالح، لاسيما الأشاعرة، أولئك الذين ناوشهم أعداء الدين في العصور الإسلامية الأولى، وادعوا أن الأحداث إنما توجد أو تقع باجتماع أسبابها.. لقد رد الأشاعرة هذه الدعوى الجحودية، مقررين بأن الموجد هو الله، وأن النار لا تحرق بكونها نارا، ولكنها تحرق بكون الله سبحانه وتعالى أودع فيها تلك الخاصية.(11/309)
يؤمن النورسي بقدرية هذا الوجود وبتبعية ظواهره ومحتوياته للصانع الجليل، وبأن مرافقه الظاهرة والخفية تسير وفق تدبير إلهي محكم، وصارم، لا يعزب عنه شيء فيه مهما صغر.. وأن ما يتبدى للعقل البشري من علل وأسباب تحكم الظواهر والوجود إن هي إلا مجرد تلازمات سطحية لا شأن لها في نفسها لأنها مناطة بعلة أولى، هي القدرة الإلهية ذاتها.
".. وما الأسباب إلا (بهانات أي حجج واهية)، وما الوسائط إلا حجابات ظاهرية، وما الخاصيات والخواص إلا أسماء وعنوانات وزجيجات جامدة للمعات تجليات القدرة الإلهية الأزلية النورانية الغير المتناهية، المستندة، بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين ..وما القانون إلا أمر ممدود أو أوامر مُسردة، وما الناموس إلا إرادة مطولة أو تعلقات منضدة".(1)
لقد طوت قدرة الله شرط السببية في مشيئته الأمرية التي ارتهن بها مطلق قضائه وقدره، وأناطه بقوله للشيء : كن .. فيكون . ولا تأتي الكينونة إلا على وفق ما تشاء الإرادة الإلهيه وتقدر، من كيفيات وصفات..
"..أيها المبتلى بالأسباب، إن خلق السبب وتقدير سببيته وتجهيزه بلوازم إنشاء المسبَّب، ليس بأسهل وأولى وأكمل وأعلى من خلق المسبب عند السبب بأمر (كن ) ممن يتساوى إليه الذرات والشموس". (2)
من هنا كان التعويل على حساب العقل وحده في إثبات الظواهر مدعاة للشرك، ومزلقا لا يسلم معه الانسان من الوقوع في الخطإ وفي الإثم .. إذ لا بد من الإيمان سنَداً لما يستكشفه العقل..
"كل من نظر بحسابه تعالى إلى الكائنات صار كل ما شاهده علما، وإذا نظر بالغفلة وبحساب الأسباب صار كل ما يظنه علما، جهلا محضا". (3)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 115.
(2) المثنوي العربي النوري ص 212.
(3) المثنوي العربي النوري ص 326.(11/310)
لقد طغى الإلحاد على مجالات الإشتغال الفلسفي بنزعاته المادية الإلحادية، وتحولت تلك المجالات إلى صعيد فكري مريض، يعمل بمكر وعناد على إبعاد فئات من البشر عن رحاب الإيمان، وما ذلك إلا لطغيان الفلسفة اللادينية، وبثها لمبادئ الشذوذ الفكري ولكل ما من شأنه أن ينكر في الإيمان بالله وبعقيدة التوحيد، وذلك ما عبر عنه النورسي، حين ربط تفاقم الأمراض الإجتماعية بتفاقم الفلسفة، ولازم بين الشذوذ العلمي والعقول المريضة :
قد شاهدت ازدياد العلم الفلسفي في ازدياد المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي، فالأمراض المعنوية توصل إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولد أمراضا قلبية.." (1)
ولقد ظلت الحكمة الدينية في كامل العصور الاسلامية تحذر من مغبة الاستنامة للفلسفة، لأن أسسها منذ الإغريق والرومان، غرقت في طين الشك والحيرة، أو في تهيؤات نفسية وخيالية ما أنزل الله بها من سلطان، وبتلك الأسس الآسنة راوحت الفلسفة- وعلى مدار العصور - على الخوض في مسائل بَتَّ الدين فيها.. لكن الفلسفة أبت إلا أن تُلَبِسَ على الإنسان بفرضياتٍ تُشَكِّكُهُ في حقيقته المبجلة، وتتيه به في تشعبات تفضي إلى الكفر، وتحكم على هذا الوجود بالعدم وباللاغاية، وتنظر إلى أوضاع الإنسان والكون بمنظار السببية التي لا تجيب عن جذور حيرة الإنسان، بل تتلافاها للاشتغال بمستويات حسية وربما ماورائية بروح هي – حقا – من السذاجة بمكان..
من هنا طفق النورسي يلح على وجوب أن نأخذ في أحكامنا ومسلماتنا بحساب الله، وليس بحساب الأسباب:
فـ"النظر بحساب الله أحكم تسديدا من النظر بحساب الأسباب.".
ومن هنا أيضا أدان العقل كلما كان هذا العقل متبجحا، أو متوحشا، أو متفحشا، أو كان مرسل القيد، لا يعرف أين يضع قدمه، ولا في أي مسلك ينخرط..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 158.(11/311)
بل إن التعلق بالسببية ليحمل في طياته قابلية الخنوع إلى قوى الحس، وإلى الطبيعة البكماء، وإلى الشيئية وحدها، وفي ذلك تحجيم سافر لطاقات الروح التي لا تتسلح في حركتها وسعيها من المعين المادي أو الحسي فحسب، ولكنها تستمد من أكوان اللامرئي ومن المغيب كذلك ما يسهم في بلورة رؤاها وبناء قناعتها ويقينها .
فالروح بطبيعتها المستغلقة التي عجز الإنسان عن استكناهها، قوة موصولة بالغيب
.. بل أنها في مراساتها الفطرية، وفي ما يتراوحها من أحوال وتقلبات، لا تفتأ تلابس الغيبي وتساكن وطأته وإشاراته مهما كانت هذه الإشارات مبهمة، فكيف لا تعتد بما تستشعره يأتيها من هذا الصدد الماورائي حتى قبل أن يباشرها به الدين، بل كيف يسوغ لها أن تلغيه من اعتبارها، وأن تضيق من نطاق استلهماتها باعتماد عالم المحسوس وحده..
"..اِعلم أن التعلق بالأسباب سبب الذلة والإهانة، ألا ترى أن الكلب قد اشتهر بعشر صفات حسنة، حتى صارت صداقته ووفاؤه تضرب بهما الأمثال ..ولكنه بسبب مرض الحرص الذي ميزه، لأنه اهتم بالسبب الظاهري بدرجة أغفلته عن جهة المنعم الحقيقي، فتوهم الواسطة مؤثرة، فذاق جزاء التنجيس، فتطهر وأكل ضرب الإهانة كفارة للغفلة، فانتبه. أما سائر الحيوانات المباركة فلا يعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزنا، أو يقيمون لها وزنا خفيفا .. فالسنور مثلا، يتضرع حتى يأخذ الإحسان، فإذا أخذ فكأنه لا يعرفك ولا تعرفه ولا يحس في نفسه شكرانا لك، بل إنما يشكر المنعم الحقيقي بـ "يا رحيم ..يا رحيم ..يا رحيم.." فقط. إذ الفطرة تعرف صانعها وتعبده شعوريا وغير شعوري ". (1)
[تأدب النورسي حتى مع العجماوات، فقد اعتذر وهو يتحدث عن الكلب بقوله: بشرط ألا ينكسر قلب الكلب ولا يصير غيبة]
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 161 .(11/312)
لقد نال من الانسان اعتداده بعقله المجافي للإيمان، وجر عليه اغتراره بمعارف مادية اطردت له، فزاغ عن الهداية، ولم يتمسك بالحبل المتين .. وكان حريا به أن يعزو القدرة والفعل للخالق الفرد، وأن لا يتوهم أنه بات في وسعه أن ينادد خالقه..
فلو تدبر الإنسان نفسه لرأى أنه سجين ما أودع الله فيه من قابليات ومدارك، ومنها العقل .. إذ أن نظرة الانسان إلى ذاته وإلى الحياة من حوله في ضوء رشيد للعقل، لمن شأنها أن تجعله يوقن أن وجوده على هذا الكوكب لا يعدو أن يكون حبة خردل بالقياس إلى الآفاق والآماد المترامية واللامحدودة التي تطوقه، بشهادة العلم والكشوف المتواترة، وهو من جهة أخرى، إذا ما استبطن عقله وما بات في مقدوره أن يفعله بهذا العقل، فسيستشعر قوته لا محالة .. ومن حقه أن يستشعر ذلك، لكن في حدود الإقرار للقدرة الإلهية بالفضل .. أما أن تتحرك سواكنُ غروره على هدي ما أتيح له من نفاذ، فذلك هو دليل عقوقه، وفي ذلك يكمن خطر ضلاله وضياعه عن الرشاد..
".. ومن صغر الانسان أنه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراء عظيمة يسري دائما ولا يقطعها.. ومع أن الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الانسان، كذلك يصير ذلك العقل كبحر يبتلع الدنيا، فسبحان من جعل الخردلة لعقل الانسان كالدنيا، وجعل الدنيا كخردلة".(1)
فما زالت الشواهد والحقائق تثبت أن العقل عاجز عن اجتياز حدود وقفها الله على علمه، وأناطها بذاته العلية، وأن ما منحه للانسان من عقل لا يكون مُرَشَّدًا، ولا تُجْتَنَى له ثماره اليانعة إلا إذا استمسك بالهداية .. فالعقل الإنساني عنوان للطيش والغرور ما لم يتخلق بخَلاق الإيمان.
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 178.(11/313)
"ومن الغرائب أن العقل الذي يتطاول إلى الإحاطة بالعلم والنفوذ إلى الخارج والخروج من دائرة الإمكان يغرق في قطرة، ويفنى في ذرة، ويغيب في شعرة، وينحصر الوجود عنده فيما فنى فيه .. ويريد أن يدخل معه كل ما أحاط به في النقطة التي بلعته..".(1)
فلذلك ما برح النورسي يذكر الإنسان بطبيعته الموصولة جبلة بالغيب، على أحكم ما تكون الأسباب:
" أيها الإنسان، لقد خرج شيء من ماضيك ومستقبلك من الغيب، بحكم ما تحمله من عقل، فأنت محروم كليا مما تتنعم به الحيوانات من راحة واطمئنان بانسدال ستار الغيب أمامها، فالحسرات والآهات الناشئة مما مضى، وأنواع الفراق الأليم والمخاوف الناجمة من المستقبل تزيل لذتك الجزئية وتبيدها وتهوي بك في درجة أدنى بكثير من الحيوان من حيث اللذة، فما دامت الحقيقة هكذا فما عليك إذاً إلا أن تتبرأ من عقلك وترميه خارجا، وتَعَدُّ نفسَك حيوانا فتنجو، أو تُنَوِّرُ عقلك بنور الإيمان وتنصت إلى الصوت العذب للقرآن الكريم، فتكون أرقى من الحيوان وأرفع، مغتنما لذائذ نقية، صافية، طاهرة، وأنت ما زلت في هذه الدنيا الفانية..".(2)
من هنا كان لزاما على المعرفة الإنسانية أن تدمج مبدأ الإيمان بالله وبالغيب في تعاليمها، وتجعل منها منطلقاتها في كل ما تتوجه إليه من فتح أو كشوف، فبذلك تترشد خطاها، ويطرد لها الفلاح الذي تعم نتائجه الانسانية قاطبة:
"ليست الأسباب إلا مجرد ستائر، وليس للملائكة - وهم ذوو شعور - غير جزء من الاختيار الجزئي الذي له الكسب دون الإيجاد، وهو نوع من الخدمة الفطرية ونمط من العبودية العملية لا غير".(3)
ومن خير الإنسانية أن تعي صلتها بأفعالها وبمنجزاتها، وأن تدرك أن الله هيأها لأن تفعل الحسنى، وأن أفضالها ورهاناتها هي مجرد كسب تحقق على يدها، وأن اقترافاتها هي زيغ عن الحق وتعدٍّ عن الحدود واجتراح للعدمية..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 225.
(2) الشعاعات ص250.
(3) الشعاعات.324.(11/314)
فالشر من كسب العبد، لأنه ناشئ من العدم، والخير فضل من الله يتحقق على يد الخيريين
"..ولما كانت الشرور ناشئة من العدم، فإن أولئك الأشرار يعدون هم الفاعلين الحقيقيين لها، فإن كانوا من ذوي الشعور استحقوا أن يدفعوا وبال أمرهم، وهذا يعني أن أولئك الأشرار الفاسدين هم فاعلون للسيئات . أما في الحسنات والخير والأعمال الصالحة، فلأنها وجودية، فإن الأخيار ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لها، وإنما هم أهلٌ لكي تجري الحسنات على أيديهم فيقبلوا الكرم الإلهي، وما إثابتهم على أعمالهم إلا كرم وفيض إلهي محض، والقرآن الكريم يوضح هذا بأمره . (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (النساء 79).(1).
من هنا كان حتما على البشرية - التي حققت من المكاسب ما يشجعها على المضي في طريق تصعيد وتثمير القابليات التي حباها بها الله، ليكون الإنسان خليفته في الأرض - أن تُثَبِّتَ إيمانها لدى كل فتح تحققه، لأن ذلك سيجعل الخطا أكثر رسوخا، وأكثر باعثية للإطمئنان، والحمد، والاستزادة :
"..إن النظر إلى ما سوى الله تعالى لابد أن يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وأن النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب خطأ . ففي كل شيء وجهان : وجه إلى الحق ووجه إلى الكون، فالتوجه إلى الوجه الكوني لابد أن يكون حرفيا وعنوانا للمعنى الاسمي الذي هو جهة نسبته إليه تعالى" . (2)
وفي هذا النطاق لا مجال لإعطاء الطبيعة دورا أكبر من كونها المسرح الرباني الذي هيأه لمخلوقاته كي تتملى عظمة الخالق، وكي تسعى مسبحة بحمده، رضية بما تكرم به عليها من نعم ..
__________
(1) الشعاعات ص325
(2) المثنوي العربي النوري ص 105(11/315)
من هنا لا وجاهة لادعاءات الطبيعيين، ولا لمن يؤلهون المادة، ويسندون إليها انجاز هذا الإبداع الخارق، والمترامي، والذي شمل كل مرافق الكون، وما ذلك إلا لأنه ابداع إلهي جليل.. "فالطبيعة مطبعة مثالية وليست طابعة..قابلة للانفعال وليست فاعلة" . (1)
وإذا كان الإيمان يتغلغل في رحاب النفس ليفشي في الانسان نشوة اليقين فلا يزايله بعدها ظل الله الهادي، فلا جرم أن الإعتداد بالنفس الخاوية من دفء الإيمان لا يورث إلا مزيدا من الإحباط والقهر والغبن الناشئ عن الصدمات وعن شعور الخيبة والعجز..
ذلك لأن الإحساس بالعزة الباطنية والاعتداد بالذات لا يكفل للنفس مكسبا إلا إذا كان اعتدادا بالخالق.. فالنية التي يستبطنها العبد في ضميره، من شأنها أن تنيط أعماله بالصدفة وبالمجهول وباللا وثوق، إن هي استندت إلى مجرد قدرات النفس، الآنية، والمحدودة، والمعرضة للنفاد في كل وقت .. ومن شأنها – على العكس من ذلك - أن تنيط تلك الأعمال والمقاصد باليقين، وبالأمل، وبالإثمار الباهر، متى ما خلصت واستلهمت العون والتوفيق من الله..
فمن شأن خلوص نية الإنسان ومصداقية مراميه أن يضفيا على الأشياء والمسائل قيما تتحول بها إلى الأسمى والأرفع.." إن النظر والنية يغيران ماهيات الأشياء، فيقلبان السيئات حسنات . كما يقلب الإكسير التراب ذهبا، كذلك تقلب النية الحركات العادية عبادات، والنظر يقلب علوم الأكوان معارف إلهية، فإن نُظِرَ بحساب الأسباب والوسائط فجهالات، وإن نُظِرَ بحساب الله فمعارف إلهية ".(2)
من هنا كان التوسل بالله، ودعاؤه، والضراعة إليه، أحوالا تترجم عند الإنسان صلة العبودية، ومتانتها، وصدق بواطنها . فالدعاء- في حقيقته الروحية - هو أخذ بكلية الأسباب، وليس فقط بظاهر القرائن التي دأب النظر يرصدها ويستلزمها لتحصيل النتائج..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 425.
(2) المثنوي العربي النوري ص 105(11/316)
إن رجوع الإنسانية بمشاعرها ومعتقداتها إلى الله، ينضد الطريق أمامها، ويظاهر بين جهودها، ويقرب منها غاياتها، لأن كدحها في كنف اليقين والوثوق بأن الله هو المسير والمدبر للوجود، يخفف من الأعباء، ويجنب المخاطر، إذ أن إحضار محبة الله وخشيته، يقيد يد الإنسان وعقله عن أن يمتدا إلى غير ما يخدم رعايا الله، من بشر وعجماوات وجماد..
فمن شأن الإعتقاد بالله أن يجعل المؤمن يقر في طمأنينة وإخلاص، بأن "..أمر العباد في يد الراعي ". وأن السعي الموكل إليهم لابد وأن يثمر ويزجي العطاء في كنف من الإقرار للخالق بالقدرة المتصرفة في الفعل والفاعل على حد سواء..(1)
من هنا كان التوكل فضيلة بناءة، لأنها تنفي عن المرء شبهة الإعتقاد في غير بارئه، والتعويل على غير ربه .. فالتوكل - على خلاف ما فهمته به العوام ومن لا دراية معرفية لهم - هو التعويل على الله مع الأخذ بالأسباب التي هيأها الله سبيلا يفضي بالعبد إلى تحصيل نتائجه، فلا جني من غير استزراع، ولكن التعويل على الاستزراع لا يجدي إذا غابت العناية الإلهية وخاب الموسم .. وإن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي :" أعقلها وتوكل".. قد أحاط بمعنى التوكل الإيجابي كما كرسته العقيدة الإسلامية، إذ شرطت السعي، ولم تُقِرَّ القعود قط ..
ومن خير الشواهد على رسوخ مبدإ حظوظية العيش والرزق المكتوب، المقدر للعبد سلفا، ما يورده النورسي حول ما " روي أن الانسان إذا تحرك سكن رزقه، وإذا سكن تحرك رزقه، ويضرب مثلا بالشجرة الساكنة تتحرك إليها أرزاقها وهي ثابتة في مكانها لا تريم، فيما الحيونات المتحركة تسعى هي لنيل أرزاقها وتكد من أجل تحصيلها ..(2)
فحظوظ العباد قد تقررت لهم سلفا، ولكن الله أودع في نفوسهم الحافزية التي تيسر عليهم بلوغ أنصبتهم وآجالهم من هذه الحياة :
__________
(1) انظر المثنوي العربي النوري ص 223.
(2) المثنوي العربي النوري ص 256.(11/317)
"..وأما رزقك وإدامة حياتك وما يتعلق بك من الأموال والأولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائل قرع أبواب خزائن رحمته بالسؤال الفعلي أو الحالي أو القالي، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التي توصلك إلى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد أو الاحتياج أو الفعل أو الحال أو القال، ما عين وقدر لك ".(1)
ومما يُبَيِّنُ أن همة الإنسان مشدودة إلى آمال وجدانية أبعد وأبقى مما تجنيه مساعيه الدنيوية من زائل النتائج وظرفيها، تعلقه بالأبدية، ورهاناته على المنجزات التي لا تنم إلا على نشدان فطري للدوام والخلود "..اِعلم أن من الدليل على أن القلب ما خلق للاشتغال بأمور الدنيا قصدا، أنه إذا تعلق بشيء تعلق بشدة، واهتم به اهتماما عظيما، ويتطلب فيه أبدية ودواما .. ويفنى فيه فناءا تاما . وإذا مد يده يمد يدا تطيق أن تفيض على الصخور العظيمة وترفعها، مع أن ما يأخذه بتلك اليد من الدنيا، إنما هو تينة أو تبنة، أو ريشة، أو شعرة، أو هباء، أو هواء..".(2)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 372
(2) المثنوي العربي النوري ص223(11/318)
ونخلص من هذا كله إلى أن النورسي - حين قال بوجوب الأخذ بتعاليم الله وأحكامه، بدل الأخذ بالسببية وقانون العقل ( هذا القانون الذي يحرص بآلية على أن يربط في تدليلاته السبب بالنتيجة، حتى إذا عدم هذه النتيجة تأفف وعزا ذلك إلى غياب عنصر تركيبي تستوي به المعادلة ..)، قلت إن النورسي لم يَدْعُ إلى القعود ولا زيَّنَ للمسلمين طلاق الدنيا والزهد فيها، وهو وإن صدرت عنه دعوات متكررة تلح على وجوب الانقطاع والتوجه إلى الآخرة، إلا أنه في تلك الدعوات، وتلك التقريرات، إنما كان يسدد للأمة الوجهة الأكثر نجاعة للتمكن من الدنيا، والسيطرة عليها، وتثمير تجربة الوجود في إطار رباني لا تزداد به الحياة إلا سموا وشرفا وانخراطا في طريق الإيمان الذي تزكو به زمنية الناس وتجل أعمالهم .. لأنهم بذلك الإيمان لا يأخذون في حسابهم بمنطق التمييز والفصل بين ما هو لله وما هو للعباد، أو بين الدنيوي والأخروي ..
ذلك لأن خطابا من قبيل هذا النداء التسفيهي الذي وجدنا النورسي يتوجه به إلى الغافلين عن الإيمان، والذي يقول فيه " اِعلم يا من يدعو المسلمين إلى الدنيا، أخطأت .. أتحسب أيها الغافل أن المطلوب بالذات من الانسان عمارة الدنيا واختراع الصنائع وتحصيل الرزق وغير ذلك مما يعود إلى الدنيا ؟. والحال أن صاحب الملك الذي أمرُهُ بين الكاف والنون يقول بقول يصدقه الوجود والكون والواقع وتجهيزات الفطرة الانسانية ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات 56). ( وكأيِّنْ من دابة لا تحمل رزقها، الله يرزقها وإياكم ) (العنكبوت60)، أم تزعم أن مَنْ صَنَعَكَ ويصنعك دائما بتجديد وجودك في كل زمان يحتاج لما تصنع في نظام ملكه وإلى توسيطك في تصرفاته ؟. أترى كل مصنوعات البشر تساوي خلقة نخلة أو نحلة أو صنعة عين اِنسان؟..".(1)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 276(11/319)
إن خطابا كهذا لا يحمل بحال من الأحوال أي نزعة تزهيدية، لأن مساقه جاء مساقا توحيديا، يحيي في النفس وازع الإرعواء جراء ما يتخبطها من مس الجحود والتربب والإلحاد..
فتصعيد القول في مضمار التوحيد، والصدع في وجه الإنسان بحقيقة خضوعه في كل شأن من شؤون حياته لله، إنما كان يستجيب لرعونة الإلحاد والجحود التي كانت – ولا زالت – تعمل جاهدة على بث ثقافة الكفر، وإقصاء الإيمان بالله وتوحيده من عقول المسلمين، ذلك لأن المرحلة كانت يومئذ – بل لا تزال وبشراسة أكبر وسفور أظهر – تَعُجُّ بقيم الكفر، ضمن مخطط يهودي عالمي انساق له العاقون والمستلبون من بني الملة الخونة، وتوسل إلى ترسيخ عقيدته العنصرية من خلال تشويه العقائد والأعراف ومنابذة الأخلاق ودوس المقدسات..
فالتوحد- بهذا الوجه - كان مستوى تحسيسيا يتصدى لمساعي تأليه الإنسان وإقصاء الخالق .. فلا بدع - والحال هذه- أن يباشر خطاب النورسي الجهادي هذه المستويات التي تنيط الحركة والسكون بالخالق، وأن يجادل الملاحيد من حيث أداروا خططهم وخطبهم .. فقد كانت شعاراتهم تتبجح بمطامح رعناء من قبيل خلق الحياة الجديدة، وتصنيع الإنسان الجديد، وإرساء مبادئ المعتقد الوضعي الذي لا يؤمن بالمقرر من القيم والمقدسات ..(11/320)
فالعقيدة التمردية التي كانت أساس إيديولوجية الملاحيد واليهود، كانت تقتضي أن يرد عليها بهذا الخطاب الذي لم يشتط في بناء قيمه، وإنما ذكَّر بالحقيقة التي تشهد على مصداقيتها الظواهر والوقائع اليومية، وهي أن يد الخالق وراء كل فعل يأتيه الإنسان، فإرادته عز وجل هي التي تسدد تصويباتنا أو تنحرف بها .. وتلك حقيقة - كما نلاحظ - لا تقر للمسلم بالقعود، ولكنها، على العكس من ذلك، تحرضه على ضرورة عقد النية والشروع في انجاز المهام التعميرية، متسلحا بضمانة الله وحمايته التي لا تخذل مؤمنا حتى عندما لا يحالفه التوفيق . ذلك لأن إحساس الوهن لن يتسرب إليه مادام موقنا بأن نتائج أعماله منوطة بالخالق سبحانه عز وجل ..
"..أيها السعيد المسكين، أتحسب أن وظيفة حياتك حسن محافظة النفس والتربية المدنية وخدمة البطن والهوسات ؟ أو تحسب أن غاية اِدراج هذه الحواس والحسيات والجوارح والجهازات والأعضاء والآلات واللطائف والمعنويات في ماكنة حياتك، هو استعمالها في هوسات النفس الدنية في هذه الحياة الفانية ؟. كلا، بل ما حكمة اِدراجها في فطرتك إلا اِحساسك جميع أنواع نعمه تعالى، واِذاقة معظم أقسام تجليات أسمائه".(1)
هكذا يتبدى لنا كتاب المثنوي بستانا من الروحيات والفكريات، تمرح فيه النفس مليا، لأنها تجد فيه أيكة قرآنية وارفة، حيث لا يفتأ النورسي يلقي إليها بثمار ما ألهمته إياه المرابطة الجهادية على عتبة الحضرة في تواصله مع عالم الشهود.
* * *
الفصل الثامن
قراءة في جوانب من فكر النورسي
ومنهجه الاقترابي في مضمار المعرفة والسياسة والاجتماع
كما عرضها كتاب : صيقل الاسلام
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص383(11/321)
"إن معاصريي - مع الأسف - وإن كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري، إلا أنهم تذكار القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي، وكأنهم فهرس ونمودج وأخلاط ممتزجة لعصور خلت - من القرن الثالث إلى الثالث عشر الهجري- حتى غدا كثير من بديهيات هذا الزمن مبهمة لديهم.." (1)
النورسي لا يخاف احتراف السياسة إلا لأنها تسلك بالمرء سبيلا يبعده عن طريق الحق
مما لا شك فيه أن النورسي الذي تمرس بتجربة سياسية عملية في فترة من حياته، قد تحول -ما أن بدت له سوءات السياسة - إلى مدارسة القرآن والتفرغ إليه.
ولقد ظل منذ ذلك الوقت يبدي رفضه للسياسة ونفوره منها، لما عرفه عنها وعن متعاطيها من زيغ وزيف وانقياد للانحراف..
لقد ظل النورسي يصرح بأنه وجد في رحاب القرآن وفي خدمته ما أنساه ماضيه السياسي، بل وما جعله ينبذ ذلك الماضي، ويستنكر آثاره في نفسه..
ومن المؤكد كذلك أن تجرد النورسي من الأهواء ومن المسؤوليات الاجتماعية المقيدة لحرية اللانسان، زيادة على ما طفح به قلبه من إيمان خالص وتوجُّهٍ حميم نحو العبادة والاحتساب ..قد كفل له أن يكون على حظ ضاف من العزة ومن الاعتداد بالكرامة إزاء المجتمع ومؤسساته ..
لقد وطدت تجربة التجرد التام مكانة النورسي كمفكر حر لا يعنيه – كثيرا -ما يجري خارج ساحة تفكيره..
ولقد كانت تلك المطلقية - إن شئنا - إزاء الاعتبارات الاجتماعية والسياسية عاملا مهما جعله يمارس السياسة من حيث يشعر ولا يشعر.. على نحو - دون شك - لا يتجانس مع ما اعتادته الدوائر الاحترافية من انغماس، إذ أنها ممارسة خرجت عن نطاق البروتوكولية والمساومة، وخلصت لله والأمة، وذاك ما كان يعطي للهجة النورسي كل تلك النبرة القوية، الجسور، التي طفق يرد بها عن نفسه التحرشات..
يقول النورسي :
__________
(1) صيقل الإسلام 24.(11/322)
"إن خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة، بل أنستني حتى التفكير فيها، وإلا فإن تاريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما أراه حقا، ثم مم يكون خوفي ؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، إذ ليس لي أهل وأولاد أفكر فيهم، ولا أموال أفكر فيها، ولا أفكر في شرف الأصالة والحسب والنسب، ورحم الله من أعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلا عن الحفاظ عليها. فلم يبق إلا أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده، ومن يجرأ أن يتعرض له قبل أوانه، فنحن نفضل أصلا موتا عزيزا على حياة ذليلة ". (1)
السياسة مثابة المفاسد جميعا
لقد نظر النورسي إلى السياسة بواقعية، وعَلِمَ ما تقوم عليه من دهاء بحيث لا يتورع متعاطيها عن التضحية بكل القيم ، بل وحتى بالمقدسات، من أجل بلوغ الغايات المستهدفة..
من هنا كان تَأبِّيه عن الاستمرار في مباشرتها و الخوض فيها بعد ما جرب منها وما اكتشف .. لقد رأى الساسة لا يرعوون أمام تحقيق مطامحهم الحزبية العاجلة عن اقتراف كل ما يوصل إلى الهدف، ورأى ما يشبع أجواء السياسة من نفاق ودجل ومحسوبية، وشاهد عن كثب أن يد السياسي مفتوحة لمصافحة واحتضان الشيطان نفسه لقاء نيل المقصد الاستنفاعي الشخصي أوالفيئوي..
لقد وقف النورسي على مشاهد رأى فيها السياسي المسلم (أو المتلبس بالإسلام ) يتوادُّ مع نظيره السياسي الفاسق الذي لا يني يجاهر بمحادَّاة الله ورسوله، لا لشيء إلا لتلاقيهما في المصلحة.. الأمر الذي جعل النورسي يدرك أن السياسة هي لعبة قمار لا مجال فيها لما يعرف بالفضيلة، إنما شعارها المركزي هو ذالك الشعار الذي حمله أحد فقهائها الغربيين، نقصد به ميكيافيلي القائل بأن الغاية --في مضمار السياسة - تبرر الوسيلة ..
__________
(1) المكتوبات ص.58.(11/323)
لقد جعل هذا المُنَظِّرُ الغربي من المصلحة - ولو تلطخت بالدم والخيانة - الغاية الوحيدة التي ينشدها السياسي، فهو قد أناط الأعمال بثمارها، وجعل من الظفر- ولو كان غير شريف- عين الفضيلة والمأثرة التي يطلبها السياسي، بغض النظر عن طبيعتها أو معيار خُلُقِيتها..
من هذا المنطلق أضرب النورسي عن تعاطي السياسية، هو الذي باشرها بضع سنين، وفكَّ شفرتها، وأدرك منطقها اللامبدئي، فكان انسحابه منها انسحابا مبدئيا، سعى إلى أن يعطيه معناه المنهجي الذي يغدو معه ذلك المنهج الكفي، الإنقطاعي، الذي اعتمده إثر خروجه من الحلبة السياسية، ثقافة أو لنقل فلسفة فعالة تساهم في خدمة الحياة والمضي بها في الأتجاه البناء، وهذا بالانخراط في طريق لا يتوازى مع طريق السياسة فقط ولكنه يتعارض معها.. إنه طريق القرآن ..
لقد تحول النورسي من حلبة السياسة المؤطرة بسياج من الأعراف التي تحكمها نزوات النخب المتصارعة على السلطة، إلى أرض الواقع اللامحدود، الواقع الذي لا تحركه تعليمات القيادات وما يعرو أمزجتها من تلون، وما تمليه نوازعها البشرية من توجيهات لا تصب إلا ضمن دائرة التنفذ، وتعزيز الدور، وتكريس روح عبادة الشخص والزعامة، والتعصب للأهواء المتلاطمة .. لقد لاذ النورسي بعيدا - ونتيجة نفور عميق - عما رآه يعصف بسفينة السياسة من أمواج موبوءة - واختار أن يعتصم بالروحانية القرآنية ، يستمد من كنوزها الترياق السماوي، يداوي به تفسخات واقع أمته قاطبة ..
منهجه العمل بعيد المدى..أو سياسة الإلتفاف الحكيمة
لم يهجر النورسي الحياة، ولم يُخْلِ الموقع، ولم ينهزم، ولكنه قام بعملية التفاف على الحطة الروحية والمفاسد الخلقية والهوان الحضاري والاستيلاب المقيت واللافاعلية البنائية.(11/324)
لقد فتح جبهة لاتَحْشِدُ الأتباعَ بالديماغوجية والترضيات العينية والتحفيزات الحسية والتغريرات المفضوحة .. لقد هاجر إلى الله وشَرَّع بابه في وجه سائر الأطهار ذوي الإستعداد الروحي الخالص، وفتح حيالهم كتاب الله، وجعل يقرؤه على الأسماع بما هيأ الله في نفسه من رشد، وجعل ينادى في الناس بما أيقن أنه الحق، ومضى يكشف لهم عن الأدواء ويدلهم على العلاج مستخلصا من كتاب الله ومن تعاليمه التي شاءها لعباده أن تكون ناموسا يهديهم ويصلح بالهم ويشملهم بالسعادة .. لقد استمر النورسي وعلى مدار العقود المتوالية يهتف بالناس ألا إن صعيد الله رحيب، لا تترافس في حلبته النفوس، ولا تتراكل، ولا ينهش بعضها بعضا لقاء المغنم السافل..
ومن حزمه وجلاء بصيرته جعل النورسي منذ المنطلق خطا فاصلا بين منهاجه القرآني ومنهاج السياسيين، لقد رفض أن يسلك معهم أرضا واحدة، أو أن يتواصل معهم بسبب .. لقد توجه بروحه إلى القرآن يقرؤه ويتأول آياته، ويستلهم العلاجات منه، ويذيعها في الناس، من غير أن يبيت نية التصادم أو الاشتباك مع الساسة والخصوم، لأنه أدرك أنهم أهل ضلالة، وأن لا خلاق لهم، وأن من اليسير عليهم أن يعترضوا على جهده التربوي، الإصلاحي، في أي وقت، وأن يئدوه في المهد، إذ أن باع السلطة طويل كلما تعلق الأمر بإسكات صوت الحق أو إطفاء شمعة الفضيلة ..
من هنا تجنب أن يسلك طريقهم أو أن يأتي ما من شأنه أن يثيرهم ضده.. لذا رأينا وصاياه تتكرر للأتباع تحذرهم من مغبة تثمير القرآن في طريق السياسة أو للأغراض الحزبية..(11/325)
ومما لا شك فيه أن خطة النورسي المُحْجِمَة عن الخوض في الغمار السياسي الإعتراكي تحت لواء الدين لم تكن خطة تحايلية، اتقائية، غايتها التحرك تحت الريح، بقدر ما كانت اعتقادا راسخا بأن سمو القرآن وقداسة روحه ونورانيته لابد وأن تتعالى عن أن يُدَلَّلَ بها على برنامج سياسي دنيوي، منوط ببضع سنوات من السيادة الوهمية، وبجدول من الانجازات التي مهما كانت قيمتها المنفعية، إلا أنها تظل الشاهد الإعتزازي لأصحابها، بغض النظر عن نجاحهم أو فشلهم، إذ أن السياسي له قدرة على التدليس وادعاء المحامد حتي في التجارب التي يكون فيها سقوطه ذريعا..
فمن شأن برامج الساسة أن تغدو مرتكزا انتخابيا تتجدد به -دوريا -حمية المغالبة السياسية قصيرة الحبل، لا غير، لأنها حمية تصدر عن حسابات لا تستحضر حكم الله ولا تقيم معاييرها على وفق مقررات الكتاب والسنة..
من هنا ربأ النورسي بألماسية القرآن عن أن تطرح في المضمار السياسي الترابي، تدوسها الحوافر والأرجل، وتغطي عليها المشاغبات والتهيجات النزوانية، وتصرفها عن دورها كدستور هيأه الله ليستوعب أعباء الحياة ويذلل من رعونتها ويمنح الأرواح والنفوس طمأنينة سماوية تسلسل معها الأيام والعهود..
" ينبغي ألا تحجم عن القرآن جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة مهما كانت، لذا علينا أن نلقي دروسه من موضع طاهر زكي، مبرئ من موحيات أفكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة".(1).
كيف ننهض بالدين، بدل أن نتبناه ونحتكره
لقد قدر النورسي أن موقف الحركات الدينية - إذا ما صدر عن روح تتبنى الدين على تلك الصورة الإحتكارية، شبه الكهنوتية - فإنما سيكون موقفا ضارا بالدين، وحائلا دون انتشاره، ومحجما لوظيفته، بوصفه ( الدين ) نطاقا روحيا وجاذبية روحانية مهيأًة لأن تستوعب الناس جميعا، وتكفل لهم من الأجواء والعواطف ما يقرب بينهم ويؤاخيهم ويجعلهم جسدا واحدا في توادهم وتراحمهم..
__________
(1) المكتوبات ص 61(11/326)
لذا طفق النورسي يرفض نزعة الاحتكار ووضع اليد على الدين من منطلق احتيازي، ذلك لأن القصد من الدعوة ليس هو الوقوف بالعقيدة عند صعيد جماعي أو فيئوي محدود، ولكن القصد منها أن تتوسع لتستشرف بظلالها الناس جميعا ..
لذا لا يجوز أن تسير الدعوة وفق سياسة لا تتحوط من الوقوع في مزلق الصد وسدِّ الباب في وجه العباد الذين يشرح الله صدورهم للاسلام ..
بل لقد رأى النورسي أن مجرد التظاهر غير السوي بالشعار والنحلة الاسلاميين في مجتمع يضم أوساطا تبعدها ثقافتها وتربيتها عن روح الدين، هو إثارة لا محالة سترتدُّ بالأثر السلبي على الدين، إذ ستجعل تلك الأوساط تُبَيِّتُ لمناهضته ،من حيث كونها ترى فيه شأنا لا يهمها .. شأن بعيد عن أهوائها، بل ومتعارض مع رؤيتها ومطامحها الدنيوية ..
من هنا حرص النورسي على تبصير المسلمين بما ينبغي أن تكون عليه سلوكاتهم إزاء الطوائف غير المتدينة من بني الجلدة، ودعا إلى ضرورة أن يرفع الدينُ عن أنواع المزايدات والانتماءات سواء المسلكية منها أو السياسية أو غيرها :
" إن إظهار الدين الذي هو ملك مقدس للناس كافة - بالتحيز والتحزب - على أنه أخص بمن يتمثله في مسلكه دون غيره، يثير الأكثرية الغالبة ضد الدين، فيكون ذلك سببا في التهوين من شأن الدين ..
فمن يشاء أن يخدم الدين، لا يسعه إلا أن يسعى لإيجاد السبل الكفيلة بتقريب العقيدة من النفوس البعيدة عنها، وبالتالي عليه ألا يأتي في مظهره ومسلكه ما قد يكون سببا في تعميق الهوة بين الدين وبين من هم خارج حظيرته..بل لقد رأيناه ينعى على المرشدين والمتعصبين للدين أساليب توجيههم وفظاظتهم التي لا تترك من أثر إلا تنفير الناس من الإسلام.
" إن خدمة الدين وسوق الناس إليه إنما تكون بالحث على الالتزام وتذكير أصحابه بوظائفهم الدينية، وبخلاف ذلك فإن مخاطبتهم بأنكم ملحدون يسوقهم إلى التعدي" (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 362.(11/327)
لقد كان يرى في مجتمعه من الوقائع ما كان يزيده قناعة بأن استخدام الدين في غير مقاصده كان أمرا جاريا ولا يتورع عنه أصحاب الأغراض .. فلقد كان المندسون - وسيظلون - يستدرجون الجماهير المسلمة إلى أغراضهم الشخصية أو الفيئوية، بتحريك الوازع الروحي في نفوسهم، ذلك لأنهم أيقنوا أن تلك الجماهير المسلمة إنما هي سريعة الانقياد لمن يأخذ بمخزمها، باسم الدين..
معاينة لواقع الاندحار الحضاري الاسلامي وطغيان الأعداء
وكان يحز في قلب النورسي أن يرى ألوانا من التناحر واقعة بين المسلمين دونما وعي منهم بنتائجها.. تناحر كان يأخذ أشكالا ومستويات ويشمل علاقاتهم ومجالات أفكارهم وعواطفهم .. وإذا كان التعارض والاختلاف من مظاهر الطبيعة البشرية اعتبارا لحال الاختلاف النظري والمنطقي التي تجعل العقول والمناهج والسياسات تتعاكس وتتصادم أحيانا وتتغالب، فلا شك أن هناك من أسباب الفرقة ما كان طارئا على الوجود الاسلامي، خصوصا بعد أن نَفَذَ الاستعمار إلى أوطانهم وجعلهم مزقا ودويلات وشعوبا أناط مصيرها بإرادته..
لقد سخر المستعمر الشعوب التي وقعت تحت قبضته، وسلك بها سبلا كانت تجد فيها نفسها تعمل -بلا غاية - وباستماتة على تهديم كيانها وتهشيم ذاتيتها..
ذلك لأن المستعمر في اطار توسعه وتوطيد هيمنته العالمية، كان يسخر الشعوب المغلوبة والتابعة لنفوذه في تحقيق مصالحه ،ولما كانت الحروب بعضا من تلك المصالح فقد كان يزج بأبناء المستعمرات في صراعاته مع القوى المتنافسة، أو يدفع بها ضد البلاد والشعوب التي تظهر مقاومته وتتصدى لأطماعه..
لقد كان المستعمر يجد نفسه في تلك الأحوال متأهبا لاستخدام القوة وإشهار السلاح، إذ أن المخزون من أبناء المستعمرات، لا سيما البلاد الاسلامية، كان وافرا لديه، وهكذا ظلت الحروب والاجتياحات الاستعمارية تستهلك من الضحايا المسلمين الآلاف والآلاف..(11/328)
ولقد كانت المفارقة تبلغ ذروتها حين كان المستعمر يسلط أبناء المسلمين ضد بعضهم بعضا، فلقد كانت الأساطيل تبحر بالفيالق من هذا البلد المسلم إلى هذا البلد المسلم، ليُزَجَّ بها في جبهات القتال، فتتساقط الضحايا من الجانبين، ويتحقق النصر وينعم المستعمر بالغنائم، دون أن يتفطن المسلم إلى أنه إنما كان يقاتل أخاه المسلم، ويشتبك معه بكل ضراوة، ويبادله أشرس العواطف والضربات، نشدانا لنصر لا يعود على أي منهما بفائدة، كل ذلك ولا أحد منهما يدري أنه إنما يقاتل أخاه في الملة ويسدد لشقيقه في الدين، ويغالب ابن عقيدته.. وكل ذلك كان نتيجة للمصير التمزيقي الذي اقترفه المستعمر في حق الأمة إذ فرق بينها واستغلها في تحقيق مشاريعه الاستعمارية البغيضة..
لقد كان الغرب يجند الجيوش من البلاد الإسلامية ويفتح بها بلادا إسلامية أخرى.. وكان الضحايا من الجانبين مسلمين، وكانت الحمية في القتال تأخذ الطرفين فتتفاقم خسائر الإسلام وتعم انتصارت الكفر..
لقد أرجع النورسي ذلك الواقع - وكان ذلك العهد عهد تقاطع وتباعد بسبب انعدام وسائط الاتصال- إلى سوء استخدام المسلمين لشعائرهم، أو إلى عدم استثمارها في الوجه الذي سنت له، لا سيما شعيرة الحج، حيث كان المسلمون من كل أقطار الأرض يتداعون إلى تلك البقاع القدسية كل عام، بل كل موسم، للحج والاعتمار، فلا يجدون موجها ولا مرشدا يعرفهم بما يقع لهم ويكشف لهم أسباب شقائهم واندحارهم..
لقد كان النورسي ينحو باللائمة على الخلافة العثمانية خاصة، فهي التي كان أمر المسلمين منوطا بها، وهي التي لم تسع لرسم سياسة إسلامية تؤطر بها شعيرة مثل شعيرة الحج قائمة أساسا على مبدإ التواصل والتعارف وتجسيد روح التواشج والأخوة، فمن شأن تأطير تلك الشعيرة الاسلامية الجامعة أن يضمن الجو لاسداء التوجيه، وتتحقق التوعية والتنوير:(11/329)
"إن اِهمال السياسة الاسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الأفكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي أدى إلى تهيئة الوسط الملائم للأعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للإسلام.
فها هو الهندي جالس يبكي على رأس أبيه الذي قتله ،ظنا منه أنه عدوه، وها هما التتار والقفقاس واقفان عند قدمي جثة ساعدا على قتلها .. وبعد فوات الأوان يدركان أنها والدهما. وهاهم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطأً ومن حيرتهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون . وها هي افريقيا قتلت أخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول. وها هو العالم الاسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلا دون علم به، فهو يلطم وينفش شعره كالوالدة الحنونة. فالملايين من المسلمين دفعوا إلى سياحات طويلة في العالم تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلا من شد الرحال إلى الحج وهو الخير المحض ".(1)
وتتسع رؤية النورسي أكثر فيرى حال الزراية التي عليها الإنسان المسلم أينما كان، مقابل وضع النصراني المطرد على صعيد النماء والرخاء والمدنية..
لقد كان النورسي يهتم لذلك الواقع التعيس لأنه يعلم أن هناك من يربط الحالين ليس بأسبابهما الموضوعية، ولكن بإحالة كل وضع على اِحدى الديانتين وإناطته بها وجعلها مسؤولا عنه..
ومن غير ما شك أن أعداء الملة من يهود ونصارى متعصبين هم أول من يعقد هذه الصلة من أجل التشنيع على الإسلام والتنفير منه..
وكان لذوي القابليات الاستلابية من أبناء الملة مندوحة في هذا الوضع للمضي بعيدا على طريق التنكر للعقيدة.. وذلك ما كان النورسي يسعى لمواجهته والعمل على دحضه وكشف مراميه.. ولذلك كان لا يتوانى عن إرسال المحاذير تجاه الانسان المسلم كي يظل متماسكا وكي يعرف حقيقة وضعه فيعمل على تجاوزها:
__________
(1) صيقل الإسلام ص 365(11/330)
" أيها المسلم لا ترخ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولده النتيجة المخيفة لتقدم أوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة وإلا فمصيرك الهلاك".(1)
ويقر النورسي - بعد هذا - بواقع التدني الذي لبث يلازمنا ويتمادى في التسفل بنا نحو الدركات قرونا، لكن النورسي يعلل ذلك بسببين:
1-السبب الأول : الوضع القطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة .. فهي (أوروبا) ضيقة وجميلة وتمتلك الحديد، ومترامية السواحل، وكثيرة الأنهار والبحار، كثيرة السكان، وفي تلك الكثرة من أسباب التعاون وتبادل المصالح ومن توسيع الانتاج وتطوير التصنيع ما يخلق مناخ النهضة، وما يجعل من الأنظار تتطلع دائما إلى الكشف وإلى استحداث الجديد في مجالات الزراعة والصناعة والمواصلات، وهو ما يهيأ الرقي في كافة الميادين.. لقد كفل لهم توفر الحديد أن يبنوا القوة الصناعية والعسكرية وأن ينتشروا من ثمة عبر القارات، ويستغلوا خيراتها، ما زاد من غناهم وبطرهم..
2-السبب الثاني كما يحدده النورسي :
ويتمثل في شروط الدعم والتكامل التي تتوفر للفرد في المجتمعات الغربية، فما يسميه النورسي نقطة الإسناد هو الذي يعزز من مبادرة العاملين في تلك البيئات، إذ النصراني بفضل التأثيل المتزايد في الاختراعات وفي تطوير محيطه الحاجي والتجهيزي ظل يجد ما يسنده في أي مبادرة اقتصادية أو صناعية أو زراعية يباشرها.
__________
(1) صيقل الإسلام ص 367(11/331)
فقد كان " إذا ما رفع رأسه ومد يده إلى أي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، إذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى إذا به يجد في نفسه من القوة ما يمكنه أن يقتحم كل صعب وعظيم من الأعمال. فتلك النقطة، نقطة الاسناد هي مدنية أوروبا التي هي معسكر كتلة مسلحة وكنيستها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن أن تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون إليها أيديهم من كل صوب، ومتهيأة أيضا لقطع الشريان النابض للمسلمين ".(1)
ثم يسجل النورسي بعد هذا حقيقة، ما كان يلاحظه من مظاهر الحدب الاستعماري على النصارى تعصبا وتغليبا لهم على غيرهم من أتباع الديانة الاسلامية تخصيصا.." ألا يشاهد الانكليز الذي تَقَنَّعَ بقناع الحرية يمد يده إلى كل جهة ويتحرى عن كل نصراني، فأينما وجده بعث فيه الحياة، فها هي الحبشة والسودان .. وهاهي لبنان وحوران، وهاهي ماسور وألبانيا، وها هم الكرد والأرمن، والترك والروم.." (2)
ومما يستدركه النورسي في هذا المجال تميز النصارى بالتفاؤل والأمل، فيما يطغى علينا معشر المسلمين التشاؤم واليأس.. وفي ذلك كثير من أسباب ارتقائهم وانتكاسنا..فـ"أينما كان المسلم فهو البدوي بالنسبة للنصارى، مستنكف عن المدنية لا يكترث بها، ويتحرج في قبولها، فإذا ما بدلت الصورة فالوضع يتبدل ". (3)
لقد وجدنا النورسي يجيب عن سؤال يتعلق بالأسباب التي أدت إلى انتكاس حال المسلمين وافتقارهم بعد أن كانوا هم الأغنياء ؟. فيلاحظ أن علة ذلك سببان :
الأول نفسي، عملي .. وهو يُرجِعُه إلى الفتور في السعي ومخالفة الأمر الرباني القاضي بـ(وأن ليس للانسان إلا ما سعى) النجم39. وإلى انطفاء جذوة شوق الكسب المستفاد من الأمر النبوي [الكاسب حبيب الله] ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 368-369
(2) صيقل الإسلام ص 369
(3) صيقل الإسلام ص 373.(11/332)
ويعترف النورسي أن هذه الحال اللاسوية إنما انغرست في النفسية المسلمة بفعل التلقين ونتيجة ممارسة نوع من التعاليم الضالة البعيدة عن جوهر الدين، والتي انحرفت بالطبيعة الانسانية نحو وجهة الخمول والتواكل وملابسة البطالة والرضى بالخصاصة ..
فما طرأ على النفسية المسلمة في مجال السعي الاجتماعي يعود إلى هذا التوجيه السلبي المحطم، ذلك أن " ايحاءات بعض الرجال وتلقينات قسم من الوعاظ الجاهلين، أولئك الذين لم يدركوا إن اعلاء كلمة الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي، ولم يتفهموا قيمة الدنيا من حيث هي مزرعة الآخرة، ولم يميزوا بين متطلبات القرون الوسطى والقرون الأخرى، ولم يفرقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما : القناعة في التحصيل والكسب، وهي المذمومة. والقناعة في المحصول والأجرة وهي الممدوحة، ولم يتبينوا البون الشاسع بين (التواكل) الذي هو عنوان الكسل و(التوكل) الذي هو صدفة الإخلاص الحقيقي".(1)
لقد كان ترويج هذا الضرب من التعليم الضار والقاصر عن التمييز بين المقاصد والغايات التي هدفت إليها منظومة القيم والضوابط الشرعية، والذي لم يتبين المدار الفعال والمُسْتَحَبَّ الذي ينبغي أن تتحرك عليه تلك القيم في توجيه حياة الأفراد والجماعات، وفي جعلهم إراداتٍ نافذةً تَمْتَثِل لأوامر الله من خلال مداومة السعي المثمر الذي لا يجانف العبادة الشرعية..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 403(11/333)
وفي هذا الصدد يشرح النورسي مفهوم التواكل، وهو مفهوم اختلطت دلالته ومراميه الأخلاقية في أذهان القُصَّرِ من الفقهاء والدخلاء على حقل التربية والتوجيه، فرأى أن التواكل " تكاسل في ترتيب المقدمات، أي إنه أهمال للعلل الحسية التي يقتضيها تحصيل قصد مادي ما.. " فالتواكل عنده هو سلوك شاذ عن القصد، فهو – من ثمة – في حكم التمرد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى .. من هنا كان التواكل استلابا، وكان التوكل تسلحا واستعدادا..
لقد امتدح النورسي خلق التوكل إذ هو عزم إيماني يقوم على تهييء المقدمات ووضعها في موضع الفعل، وإناطة النتائج بعد التسديد اللازم بإرادة الله..فالتوكل بهذا الوجه هو من صميم مقتضيات الإسلام، يقود صاحبه إلى التوفيق شريطة عدم التدخل في التقديرات الإلهية..
لقد التبس على أولئك الملقنين للباطل، الجهلاء بهذه الحقائق، فاندفعوا يسممون إرادة الأمة ويدسون في روحيتها ما يعطل العزائم ويعرقل الإرادات، فهؤلاء هم الذين حطموا ذلك الميل وأطفأوا ذلك الشوق..(1)
أما السبب الثاني الذي أحال واقع المسلمين إلى وضع الفقر والإدقاع، فهو - بحسب النورسي - التوجه العام الذي جعل الفرد المسلم لا يقبل إلا على الوظيفة الحكومية، فهو انسان نَفَّارٌ من العمل اليدوي، ومن تلويث يديه أو هندامه بغبار الكدح ومساكنة التراب، فهو نزاع إلى التأمر والسلطنة المجَّانية .. "والحال - كما يقول النورسي - أن الطريق المشروع للمعيشة والسبيل الطبيعي والحيوي إليها هو الصناعة والزراعة والتجارة، أما الطريق غير الطبيعي فهو الوظيفة الحكومية والأمارة بأنواعها..وعندي أن الذين جعلوا مدار معيشتهم الأمارة - وإن تسمت بأي اسم كان - فهم في زمرة الشحاذين العاجزين المتسولين، ومن زمرة المخادعين الحيالين ..".(2)
عقدة الاختلاف .. عقدة الزعامة
__________
(1) صيقل الإسلام ص .403 .
(2) صيقل الإسلام ص 403.(11/334)
إذا كان الأعداء قد تمكنوا من الأخذ بزمام أمورهم وتحكموا في مصيرهم بفضل جو الترابط والتعاضد، ونتيجة لما يلابسهم من أحوال نفسية تعاكس مناخ قارتهم الصقيعية، الملبدة في أغلب مواسم العام، ولما يميزهم من أمزجة تواجه الصعوبات بالتحدي وعدم الفزع، فإن المسلمين هدموا أبرز حصون اجتماعهم وكينونتهم، وهو الاتحاد وعدم التفرق..
ومما لا شك فيه أن أسبابا تعود إلى التاريخ جعلت حال الفرقة ماضية معهم وإن خففت من ثائرتها عهودٌ من المدنية قبل أن ترتكس تلك المدنية نفسها وترتد إلى فوضى وفتن دائمة أعادت الأوضاع إلى سابق عهدها من التبدي والتوحش العمراني الآفل في أغلب الأوطان الاسلامية ..
لقد تغلب منطق الهدم والتنازع على منطق الحكمة والتعاون، وأحال الواقع الإسلامي إلى عصب وتشرذمات تصطنع الأسباب المذهبية والعرقية والطبقية من أجل أن يتغلب بعضها على بعض ويتمكن من انتزاع اللقمة ..
لقد ظل الاحتدام دائرا ومسترسلا على مدى أعصُرٍ، ليس من أجل الارتقاء بالفعل الحضاري، ولكن من أجل سَدِّ الأود والإستئثار بما يغله الموسم وتجنيه حملات الغزو القبلي أو الطائفي أو السلطاني.. وهو ما أورث الأمة عُقَدًا مستفحلة حالت دون تسريع ميقات اليقظة وتصعيد وتيرة النهضة وتجاوز واقع الانحطاط.. وذلك ما سجله النورسي حين راح يرسم حدود الخلل وما ينوء به كاهل هذا العالم الإسلامي - وعلى مختلف الأصعدة - من عُقَدٍ وتمزقات تخنق قابلية الحياة فيه.. يقول :
" فانظر بدءا من العالم الاسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء إلى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة، تجد أن لكل منها عقدة حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها، متسلسلة ومستندة إلى تلك النقطة العظمى، كأفراد المجتمع وروابطه، بمعنى أنه يمكن أن يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نَبَهوا وبُثَّ فيهم روحُ النماء، فلا صحوة بغير خنق تلك العقد الحياتية.." (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 369.(11/335)
المسلم يرسف في قيد العقد
لقد شخص النورسي العلة التي تعيق المسلم، فردا وجماعة ومجتمعا، عن اعتناق الحياة الفاعلة، البناءة، المنسجمة مع مقاصد الوجود كما قضى بها الله على عباده . لقد رسف الفرد المسلم، بسبب تَرَاوُحِ ليلِ الانحطاط عليه، إذ جعل العُقَدَ والتمزقات تراثا مشتركا، يتوارثه الخلف عن السلف، وتفاقم من أدوائه الأجيال بما تضيف إليه من مخاز وتصدعات.. الأمر الذي يستتبع استشراء السلبية، واستفحال بواعث العجز والقصور، وهو ما يعطل حركة الحياة ويجعلها رديفا للمأساة، إذ يعدم الفرد فيها أدنى أسباب الأمل والتفاؤل والوثوق ..
من هنا كان وجه المقارنة منعدما بين حال الغرب وحالنا نحن المسلمين، بين تلاحق ثمار الأفكار لديهم وانقطاعات سعى المجتهد الفرد المعزول المخذول المرذول عندنا..
وفي هذا السياق يلتفت النورسي إلى تسجيل ملاحظة على درجة من الأهمية، حين يستدرك على كثير ممن تطيب أنفسهم أن يعقدوا مثل هذه المقارنة بين حال أوروبا وحال المسلمين، خصوصا حين تكون نفوس هؤلاء المقارنين موجهة بمشاعر الاستيلاب، إذ يغدو موقفهم ذلك محض محاكمةٍ وتَشَفٍّ وتخذيلٍ لأي بادرة توق إلى الوقوف.
لقد كان هذا شأن من أسماهم النورسي لقطاء أوروبا، فأولئك كانوا يوازنون بين الحالين الحضاريتين لإظهار افتتانهم بالغرب ونفورهم من أمتهم .. كما أن ذلك الموقف الاستعلائي الأحمق كان يصطبغ عندهم بالهجاء الموجه إلى الملة.. هجاء نابع من الانخداع، متغذٍ على ترهات الفكر الثوري المتصهين، ذلك الفكر الذي ظل يوقظ في الانسان نزوعات الهدم والتوق إلى التخريب، ويشحنه بعواطف العصيان والافتراء والتفريط في الشرف ..(11/336)
وزيادة على التحريك الإستيلابي الذي كان يوجههم ضد ذاتيتهم فإن تلك الفلول من البيادق تجد في ذلك الموقف الانفصامي الذي يجسدونه من خلال تعاليهم عن أمتهم، المجال لإظهار فرعونيتهم والثناء على أنفسهم وتملق مشاعر غرورهم، مُبْدينَ على ذلك الوجه عداءهم السافر والمَرَضي للإسلام. (1)
ومما لا شك فيه أن النورسي كان يتصدى - بهذا التجريح لقوى الاستيلاب- إلى حكام تركيا أنفسهم، من هنا وجدناه يُقَرِّعُهم على ما كانوا يبدونه من عواطف نقمة وكراهة واحتقار لأمتهم، فقد كان المتوقع منهم أن يظهروا ما ينبغي إظهاره من المشاركة وإبداء الشفقة على تلك الأمة باعتبارهم حكامها وساستها والقيمين على خدمتها وإصلاح ما بها..
بل لقد كان النورسي يتوجه إلى كل حاكم طابقت روحه روح تلك الزمرة التي تقهقرت ببلاده عبر هاوية الارتداد، إذ أن الحاكم الطاغية ".. وبحكم الفرعونية والأنانية والغرور، يضع الشعور بالتحقير بدلا من الشعور بالشفقة، والميل إلى النفور من الأمة بدلا من ميل الانجذاب إليها، وإرادة الاستخفاف بها بدلا من محبتها ،ويوصمها بالجهل بدلا من احترامها، ويرغب في التكبر عليها بدلا من الرحمة بها، ويقيم روح الانفرادية بدلا من روح التضحية والفداء لها، فيثبت بهذا كله أنه لا يملك حمية للأمة، وأنه مبتوت الأصالة، فيكون جانيا منفورا في نظر الحقيقة، بحيث يتصرف تصرف الأحمق الأبله، كمن يحاول إلباس ملابس أعجبته لراقصة ساقطة في باريس عالما فاضلا في المسجد " (2)
__________
(1) انظرصيقل الإسلام ص 370.
(2) صيقل الإسلام ص.370.(11/337)
فإظهار الحمية نحو الجماعة والملة هو وازع انساني يُعَبِّرُ عن أصالة الفرد وعن نبل طينته ،لا سيما إذا كان هذا الفرد ولي أمر ومسؤولا .. وبغير ذلك لا يكون الحاكم يحمل بين جوانحه إلا نفسا سافلة، لا تحوز على أي شأن.." ذلك لأن الحمية هي نتيجة ضرورية للمحبة والاحترام والرحمة، فلا حمية بدون هذه الأمور، وإلا فهي حمية كاذبة وخادعة، والنفور من الأمة خلاف الحمية أيضا .." (1)
لقد كان النورسي يرى أن من واجب أولئك الساسة المستلبين أن يظهروا مستوى من التعاطف يبرر انتماءهم، ويسوغ تقدمهم لقيادة الأمة والتحدث باسمها، بل لقد كان يريد منهم أن يعربوا عن شيء من التعصب، على نحو ما كان يفعل الغربيون مع رموزهم ورجالاتهم .. لقد كان النورسي يرى في تعلق قساوسة الكنيسة بأسماء أمتهم مثلا، وجها كان حريا بالمستلبين من أبناء الأمة ان يحتذوه حيال تراثهم ورموزه..
لقد كان قساوسة أوروبا يشنعون على تراثنا وبممثليه، على قدر ما يظهرون من تعصب لتراثهم وأقطابه ".. فقساوسة أوروبا الذين يشنون هجومهم على المتعصبين عندنا، كل منهم أكثر تعصبا وتزمتا في مسلكهم السقيم، فلو مدح عالم ديني الشيخ الكيلاني بإفراط كمدح أولئك لشكسبير، لكفر". (2)
عقد أخرى تسبب اعتلال الأمة واختلالها
__________
(1) صيقل الإسلام ص .370.
(2) صيقل الإسلام ص .370.(11/338)
لقد مضى النورسي يحصي أنواع الأمراض والعقد التي استحكمت في نفسية الأمة ومضت تكرس فيها أسباب الضعف والاختلال، ولعل من أَهم هذه الأمراض عقدة حب الذات المشروطة بنزعة ثلب الآخرين .. فهذه العقدة - بحسب النورسي - هي التي تعمق في المجتمع روح القمع، إذ لا سيد إلا من امتلك السيف .. وهي التي ترسخ فيه روح السلبية، إذ لا فاعل ولا مدبر ولا مقرر ولا متصرف ولا مشير، إلا الحاكم.. من هنا تعيش الأمة عالة على الفرد، والزمرة، لا لأنها اختارت ذلك الأسلوب من العيش، ولكن لأنها حُمِلَتْ على أن تكون سائمة يهش عليها الراعي بعصاه ويسيج من حولها بالأسلاك الشائكة..
كما لاحظ النورسي ما كان لوطأة النباهة العَقُوق، أو ما أسماه : الذكاء العاصي" من أثر خطير على ترسيخ سلبية الأمة، إذ كان هناك من حكامها من امتلك الذكاء والألمعية ولكن من غير أن يكون له وازع إيماني يصقل تلك النعمة العقلية التي أوتيها أولئك الحكام، والتي صرفوها في ما يضر ويشقي، لقد استحالت تلك الألمعية والنجابة الذهنية لدى حكام السوء إلى علة لشقاء الأمة وامتحانها بأفاعيلهم ومنكراتهم .. لأنها نجابة غير محصفة بمشكاة الإيمان..(1)
وواضح أن حديث النورسي هنا يحيل على مسميات ووقائع بعينها..
النورسي يداوم على تصحيح مواقفه عبر مراحل مسيرته
وينبغي أن نسجل هنا واقع التصحيح الذي لازم به النورسي نفسه، إذ داوم على قراءة أحداث سيرته وتكييف مواقفه في ضوء الوقائع ومع تقدم العمر به .. وهو ما يسجله في "المناظرت"..
فقد لمسنا طيفا من ندامة يُظِلُّ كلماته حين مضى يُبين كيف أنه أخطأ في تقرير بعض ما قرر في مستهل دعوته، فقد اعترف أنه يومها أبدى من الحماس ما لم يسعه معه إلا أن يعرب عن تفاؤل إزاء بعض البشائر والتوقعات التي لاحت له في الأفق والتي أمِلَ من خلالها أن تدشن للأمة عهدا من الاستنارة والرشاد ما يجعل النهضة في متناول يمينها..
__________
(1) صيقل الإسلام ص370 .(11/339)
لقد ألفيناه يعترف أن بعض آماله الإصلاحية والتي عبر عنها حينذاك كتابة، إنما كتبها تحت تأثير الانقلاب السياسي الذي شهد ميلاد المشروطية، حيث كان المتنورون من أبناء الأمة يرجون أن يكون ذلك الحدث بداية للإقلاع الحضاري، ونهاية لعصور الاستبداد والتسلط وهجران قاعدة الشورى..
فلقد تكشفت الوقائع لأولئك المتفائلين، ومنهم النورسي، أن ما كانوا يظنونه استبدادا تمارسه الخلافة في عهد السلطان عبد الحميد، لم يكن إلا ظلا، قياسا بالاستبداد الغليظ الذي تردت فيه الأمة حين تولى الانقلابيون أمرها ..
لقد تلاحقت الأحداث في عهد المشروطية بحيث تبيَّن للمخلصين أنهم أخطأوا حين راحوا يسايرون الانقلابيين ويظاهرونهم على صعيد واحد، فلقد انطوت عليهم الخدعة بموقفهم ذلك، إذ ساهموا في إحداث الثورة ضد عبد الحميد، ومهدوا السبيل عريضا في وجه تنفُّذ العصاة والاستيلابيين..
من هنا كان لزاما على الداعية أن يراجع ما أقرَّهُ وما دعا إليه في خضم تلك الوقائع، تصحيحا للمواقف واتعاظا بالمجريات، فلا غرو بعد هذا أن نجد النورسي يمارس سلخا ذاتيا وإراديا يتحلل فيه من مسؤولية ما أتاه في مراحل من عمره، بسبب تقديرات سياسية كانت تسير بالأحداث في غير الاتجاه الذي أمِله لها..
من هنا ظهرت شخصية سعيد القديم، ذلك الإنسان الذي كَاَنَهُ النورسي ولم يَعُدْهُ الآن .. إنها سيرة إصلاحية لا تتردد في اعدام ماضيها كفارة وتوبة.. (1)
لقد رأيناه يتحدث عن الحَمِيَّة فيقر أن صورتها الكاملة إنما تتوفر في القلب المزدان بالفضائل الاسلامية، فالقلب الذي لا تزينه الأخلاق الإسلامية لا ترجى منه الحمية الحق، والوفاء الصدق، والعدالة الخالصة ..(2)
لقد كان عليه في غمار تلك التحولات أن يجد التسويق لمظاهر كان يعتقد أن عهد الحرية والمشروطية يقتضيها..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 382.
(2) صيقل الإسلام ص.393.(11/340)
من ذلك حديثه عن الحمية والنجاعة، وضرورة اِسناد المهام لغير أهل الملة.. من منطلق الكفاءة والضرورة العامة..
فالحمية الروحية والالتزام الديني والإخلاقي - بحسب النورسي - هما مناط النفاذ والتفاني وتحدي العوائق .. فمن لا روحية أخلاقية وقلبية له لا يمكن أن يتمادى في التحدي والاستمرار في البذل ..
لكن النورسي لا يلبث أن يتدارك حكمه هذا، ويعلن أنه ينبغي علينا أن نميز بين الكفاءة وبين السلوك، فصاحب الكفاءة مقدم على صاحب السلوك بالنظر إلى النفع العام الذي يتحقق للمجتمع الاسلامي جراء توليته.. " فقد يقوم الفاسق برعي الأغنام رعيا جيدا، وقد يصلح شارب الخمر ساعة بإتقان حين لا يكون سكران.. فإذاً إما الصلاح، وإما المهارة.. وإذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة " (1)
ولا شك أن رؤية النورسي هنا هي على مستوى من الاستنارة وطيد، فهو بهذا الحكم يذكرنا بما كان لعمر (رضي الله عنه) مع شعبة يوم أن أمَّرَهُ (رضي الله عنه) على البصرة، فقد لاحظ شعبة ذات فجر أن الخليفة يستقرئ وجوه المصلين في المسجد، فتقرب منه وسأله .. وحين أعلمه (رضي الله عنه) بأنه كان يبحث عن أحد يؤمره، أجابه شعبة جوابا يطابق نظرة النورسي في وجوب تقديم الكفء على المتخلق..إذ قال له شعبة : أن الكفء يعود نفعه على الجماعة والمجتمع، فيما يعود صلاح الفرد إليه في نفسه وحده .. أو كما قال..
ولا شك أن نظرة النورسي هذه إنما كانت تستجيب لتساؤلات كانت ترتفع إزاء مظاهر سلطوية تعطي التقدمة لمن لا حماس ديني له، بل ولمن لا دين له أو لمن كان على غير الدين الإسلامي.. فكان النورسي يكيف ذلك الواقع مع الشرع، ويجد له التبريرات، اعتقادا منه أن ضرورة التغيير تملي ذلك النوع من الغض والتغاضي عمن تقدمهم السلطة الجديدة لأداء مهام ومأموريات..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 393.(11/341)
لقد كانت طوايا القيادة بَعْدُ مجهولة، وكان الصالحون من أمثال النورسي يحسنون الظن بها وبكل حامل لشعار الإصلاح.. لكن الحقائق الصارخة لم تلبث أن تكشفت لهم، إذ أظهرت التطورات ما كانت نفوس ( عصبة تركيا الفتاة ) تنطوي عليه من حقد على الاسلام وتهيُّئٍ لوأده نهائيا.. وذلك ما جعل النورسي ومن سلك مسلكه، يدرك الفاجعة ويعلن عن القطيعة مع السياسة والنظم الدنيوية الفاجرة.. ويعرب عن ندمه عما أتاه من عمل ظاهَرَ به تلك الزمرة الفاسقة .
الرؤية السياسية المستقبلية عند سعيد القديم
لقد كانت رؤية النورسي السياسية – في عهده الأول - تضع المعطى المستقبلي في حسابها ..
ففي الخطبة الشامية التي رصد فيها أمراضا ستة أعاقت المسلمين عن النهضة، نجده يستبصر بأمل جلي، آفاقا مستقبلية تعيد للاسلام عزته وريادته:
".. إن المستقبل سيكون للاسلام وللاسلام وحده، وأن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان، لذا فعلينا بالرضى بالقدر الإلهي، وبما قسمه الله لنا، إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماض مشوش مختلط".(1)
وكانت تلك الرؤية تستهدف التجنيد والاستنفار، من هنا ركز النورسي على أهمية التجمع والعمل الجماعي والتضامن. فالزمن المعاصر – كما يرى - زمن الجماعة والتعاضد، فلا مجال لنهضة تناط بأفراد أو بزعامات أو بقطبيات .." إن هذا الزمان لأهل الحقيقة، زمن الجماعة وليس زمان الشخصية الفردية وإظهار الفردية والأنانية".(2)
والقرآن هو خزان الفتوة والتجدد الذي تتزود منه الأمة في كل عصر ومنعطف بالقوة والطاقة التي تستعيد بها شبابها وتسترجع قوتها من أجل مواصلة الرسالة .. " فكلما شاب الزمان شب القرآن وتوضحت رموزه".(3)
__________
(1) صيقل الإسلام ص492.
(2) الملاحق ص 163
(3) المكتوبات ص 609(11/342)
لقد ظل موقفه النقدي والانتقادي ينبع من روح استقبالية ترى أن قيم الماضي لم تعد تجدي، ولم تعد تستجيب لحاجات الراهن ومتطلبات المستقبل..من هنا استرسل في الدعوة وفي تقويم الأوضاع، في ضوء القرآن والسنة.
دافع النورسي عن الحكومة والنظام الجديد ،مراهنة منه على ما اعتقد فيه من نتائج اصلاحية تخدم الاسلام
بل لقد وجدنا النورسي - وبنفس النية الحسنة - يدافع عن أخطاء الحكومة في تلك المرحلة الحماسية، ويبين للناس استحالة أن تسلم الهيئات - من الأخطاء والضعف - فما دامت الهيئات هي في حقيقتها شخصيات معنوية، فإنه يستحيل أن ترسو الإدانة عند طرف بعينه، إذ لاتكاد عيوب المؤسسات والهيئات أن تنطلي على جهة معينة ..
لقد تصدى النورسي إلى إجابة أولئك الذين أبدوا اعتراضا على طبيعة تلك الحكومة الانقلابية، إذ استبعدوا أن يصدر الخير عن الشر ،وأن يتحقق الصلاح والإصلاح على يد حكومة تضم عناصر غير صالحة أو غير ملتزمة بالشرع..
لقد أجاب النورسي قائلا : " طلب المحال حمق على صاحبه لأن من كانت بغيته حكومة بريئة معصومة، فطلبه محال اعتيادي، إذ لما لم يكن الشخص الواحد الآن معصوما فكيف بالشخص المعنوي – أي الحكومة- الذي كل ذرة من ذراته مذنبة، فمدار النظر إذاً هو في ترجح حسنات الحكومة على سيئاتها كمًّا ونوعا ..(1)
لقد كان النورسي على حماس شديد في مدافعته عن الحكومة، إذ كان يعتقد جازما بأن مآلها أن تفيد بخدماتها الاسلام، وأن تكون قاطرته إلى السير والنهوض.. لقد كان يخشى - في ذلك المنطلق - أن تحمل نزعة أولئك المثاليين على رفض الحكومات الدنيوية، فيقع التحلل من النظام، وتسود الفوضى، ويتحول المعترضون إلى فوضويين ومخربين، تطلعا منهم إلى الحكومة المنزهة.. من هنا وجدناه يتصدى للدفاع عن النظام وعن الحكومة..
__________
(1) صيقل الإسلام ص391.(11/343)
لقد كان رهانه على المآل السعيد الذي ينتظر الاسلام في ظل تلك الحكومة، يقوم على حقيقة أن الدستور الذي كانت تأخذ به تلك الحكومة يقيم قاعدته القانونية على إسلامية الدولة، وهو ما يجعل من أمر الحفاظ على الدين من مسؤوليتها، وذاك هو ما كان يحدو المؤمنين أمثال النورسي إلى تأييدها والمنافحة عنها رجاء ما يستتبع ذلك من ثمار الاصلاح..
النورسي يوظف فاعلية الاجتهاد والفتوى في خدمة الأمة
و يندرج ضمن موقف التكييف الذي كان النورسي يتعهد به أوضاع التحول التي أعقبت الانقلاب، ما أفتى به في مسألة موادَّة اليهود والنصارى .. فقد سئل عن الحكم بقوله تعالى : (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة :51)
فوجدناه يرى تخريجا يسوغ به استخدامهم وتقريبهم ما دامت الضرورة العامة تقتضي ذلك ..
لقد صدر النورسي في الرد عن هذه المسألة، عن طبيعة الأحكام القرآنية لاسيما المتعلق منها بالأوامر والنواهي .. المنوطة بما يعرف في الأحكام بحال التقييد والإطلاق ..ذلك " لأن النهي القرآني ليس بعام بل مطلق، والمطلق قد يقيد، والزمان مفسر عظيم، فإذا ما أظهر قيده، فلا اعتراض عليه.. وأيضا إن كان الحكم قائما على المشتق، لأنه يفيد علِّية مأخذ الإشتقاق للحكم، فإذن المنهي عنه في هذه الآية الكريمة هو محبتهم من حيث ديانتهم اليهودية والنصرانية، وأيضا لا يكون المرء محبوبا لذاته، بل لصفاته وصنعته، لذا فكما لا يلزم أن تكون كل صفة من صفات المسلم مسلمة، كذلك لا يلزم أن تكون جميع صفات الكافر وصنعته كافرة أيضا.. فعلى هذا لم لا يجوز اقتباس ما استحسناه من صفة مسلمة أو صنعة مسلمة فيه .. فإن كانت لك زوجة كتابية لا شك أنك تحبها. (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص400.(11/344)
لقد رابط النورسي بمثل هذه المواقف في خندق متقدم من المعركة ومضى ينافح من موقف شرعي عن النظام الجديد ويناصر التحول، وهذا باستقراء الحجج الشرعية للمجريات، كل ذلك من أجل أن يستمر المسار، وتتحقق العافية للأمة ويحيى دينها..
لقد كان النورسي يُلِمُّ بأبعاد الإشكال العلائقي الذي كان التحول السياسي يطرحه على المسلمين في تركيا وفي غيرها من البلاد المسلمة، إذ أنه تحول يفرض مسطرة من التعامل لا مندوحة للمسلمين عنها..
من هنا راح النورسي يعالج قضية التعاون مع الأجنبي الملي، ناظرا إلى الأمر بمنظار إجتهادي يعي متطلبات التطور.. فكان من ثمة تأويله لتلك الآية:( لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء) يضع مصلحة الأمة في مركز اهتمامه، وهو ما جعله يُرَخِّصُ التعامل مع غير المليين، مراعاة لمقتضى الحاجة..
ومن الجلي أن يأتي هذا الترخيص متساوقا مع فتاوى سعت منذ القرنين الماضيين، أي منذ أن أظلت الظاهرة الاحتلالية أطرافا من البلاد الإسلامية، إلى إلغاء الحواجز النفسية والروحية بين الأمة وبين أعدائها، ممن أملت الظروف والضرورات الحيوية عليها أن تتعامل معهم بيعا وشراء واستفادة من مدنيتهم وحضارتهم ..من هنا كان التوسع التأويلي يتيح للمتنورين من أهل الإجتهاد، أمثال النورسي أن ييسروا سبل النفع أمام الأمة ..
إذ أن الاعتبارات التي تكون هذه الآية، أو غيرها، قد قرئت بها في العصر الإسلامي الأول، لابد وأن تكون قد انفتحت على مستجدات جعلتها تتسع لتأويلات تتلاءم مع روح الدين وتراعي المصلحة العامة للأمة، وذلك ما يراعيه الإسلام ويتقبَّلُه ويحدو الآراء السديدة أن تأخذ بها ..(11/345)
يقول النورسي منطلقا من التاريخ الإسلامي الفجري، في تجلية الوجه الشرعي للمسألة : "لقد حدث انقلاب ديني عظيم في العصر النبوي السعيد، وجَّه كل الأفكار والأذهان نحو الدين، فارتبطت بالدين جميع الحسيات والمشاعر، فكانت العداوة والمحبة تدوران حول ذلك المحور ( الدين)، لهذا كانت تشم رائحة النفاق من المحبة مع غير المسلم، ولكن الانقلاب الحاضر العجيب في العالم هو انقلاب مدني ودنيوي.
فالمدنية والرقي الدنيوي يجذبان العقول كلها ويشغلانها ويشدان بهما جميع الأذهان، فضلا عن أن معظم غير المسلمين ليسوا ملتزمين اِلتزاما جادا بدينهم أساسا.. فعلى هذا فإن محبتنا لهم ما هي إلا لاقتباس ما استحسناه من مدنيتهم وتقدمهم ، ولأجل المحافظة على نظام البلاد وأمنها الذي يعد أساس سعادة الدنيا، فهذه الصداقة إذاً لا تدخل قطعا ضمن النهي القرآني..".(1)
لقد كان هذا التوجه الخلقي والتعاملي الرشيد الذي أبداه النورسي في تلك المرحلة، منطلق سياسة سلوكية وتدبيرية سيتمخض عنها ما يمكن أن يسمى فقه التمثُّل .. وهو فقه يدور حول مشروعية الوارد من القيم ومن المصالح الاستنفاعية التي يقتضي تنفيذها اشتراك الأجنبي أو مباشرته الإشراف عليها ..
ولابد أن نقدر المرحلة والظروف التي كان النورسي يعبر فيها عن آرائه الشرعية هذه .. إذ كانت البيئة الاسلامية منغلقة انغلاق نفور ينقصه الوعي الحقيقي بالمصلحة.. وذلك الانغلاق كان العدو يعمل على استبقائه، ولا يجعل له بديلا سوى الذوبان والتفسخ..
فقد كانت نظرة التقويم الفقهي التي تناول بها النورسي هذه المسألة نظرة إيجابية في جملتها، ذلك لأنه ربطها بالفائدة المادية والمدنية التي يجنيها المسلم من وراء ذلك التعامل، لا سيما على صعيد تقوية الذات وتوفير شروط نهضتها..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 400(11/346)
ومن غير ما شك أن المرونة المدنية الرشيدة التي ظل النورسي يعرب عنها في فتاواه، لاسيما حيال منجزات الغرب المادية التي كانت تنتهي إلى حظيرة المجتمعات الاسلامية، إنما كان الهدف منها تربويا، إذ كان يتوقع أن يكون لتلك المستجلبات الارتفاقية أثر على إيقاظ الأمة وتيسير أسباب الوعي وسبله أمامها، والدفع بها إلى الأخذ بما كانت الأمم الحية تأخذه به، فمن شأن التمرس بتلك المكاسب أن يذلل الطريق في وجه الإبداع أمامها..
النورسي وفلسفة التسامح
على أننا لاننسى أن النورسي كان صاحب فلسفة إغضائية، سمحاء، متفتحة على الأخذ بكل ما كان يقدر فيه مصلحة للاسلام والمسلمين.. وربما بدت جوانب من فلسفته تلك في سياسته إزاء خصومه، فقد كانت لا يناددهم عيانا، إذ أن انشغاله بما هو أهم من الغايات، كان يجعله كالغائب عنهم، فتفكيره كان مركزا على واقع ملي انبعاثي يستغرقه كلية، ولا يترك له السانحة في تقويم علاقته مع الأعداء إلا إذا فرض عليه ذلك فرضا..
بل لقد وجدناه يلزم تلاميذه باتباع قواعد تلك الفلسفة، وتجسيد مبدإ التسامح والإغضاء في سلوكهم وحياتهم، كلفهم ذلك ما كلفهم، حتى لا يتحول بهم الاشتغال بالعوارض عن الهدف الروحي الأسمى..
بل لقد وجدناه يعلن أنه مع مبدإ التنازل للباغي وإنصافه لقاء إماتة الفتنة.. وأنه مع سياسة دعم المبطل اتقاء الفتنة .(1)
لقد نمَّى النورسي روحا تعاملية لم يحصرها في نطاق داخلي يربط المسلم بجماعته وأمته فقط، ولكنه جعل تلك الروح التعاملية تمتد إلى نطاق يشمل الآخر، أي الأجنبي .. من هنا يمكننا التحدث عن إسهام إيجابي قام به النورسي في مضمار بلورة الخُلُقية الإسلامية والمضي بها نحو صعيد تتجاوز به إعاقة الانطواء التي لحقتها بفعل الانحطاط وطول الانغلاق..
__________
(1) الشعاعات.379.(11/347)
إذ لا ننسى أن منظومة المعايير الأخلاقية كما تأصلت في مدونات الأخلاقيين والمشرعين والفقهاء المسلمين الأعلام، إنما كانت لها ظرفيتها الخاصة، إذ كانت تلك المنظومة المعيارية وليدة مرحلة الظهور والتفوق واحتياز السيادة على العالمين..بخلاف ما أضحى عليه الواقع الإسلامي المنحط في العصور الحديثة، الأمر الذي كان يدفع بأهل الحصافة الدينية والمدنية إلى أن يباشروا عملية تكييف تُحَوِّرُ من النظرة التعاملية التي ظلت تحكم المسلمين في علاقتهم مع الآخر (العدو)، وأن يسوغوا روح التنازل التي ينطوي عليها فعل الاستعانة بالأجنبي لغاية انبعاثية..
حقّاً لقد كان أمر الإنبعاث الحضاري يتطلب تطويرا في مستوى الوعي يجعل الموقف الأخلاقي النظري الذي كان ينحو بالمسلمين منحى استعلائيا ينفرهم من عقد أي نوع من أنواع المعاملة مع العدو إلا تحت الشرط التخضيعي، إن حالا كهذه كانت تحمل النورسي وغيره من النيرين على مباشرة جهد تكييفي، يعطي للعلاقة مع الأجنبي غير الملي، دورا في انجاز المهام القومية وفي الحضور على حلبة الأحداث التي كانت البيئة الإسلامية تعرفها، بحكم واقع الغلبة الذي لم يعد من نصيب المسلمين، وإنما غدا من نصيب أعدائهم..
النورسي يمارس الاجتهاد التجديدي رغم تقييده للفعل الاجتهادي بضوابط
وكان على النورسي أن يمارس الإجتهاد التجديدي من خلال تقمص روح التحديث العلمي والعملي، شأنه في ذلك شأن القلة من رواد النهضة المسلمين من أمثال الأمير عبد القادر والكواكبي والأفغاني وعبده وطائفة أخرى صالحة من الأفذاذ..(11/348)
وفي هذا الصدد نجد النورسي يتنبه إلى جوانب سلوكية كان يرى أن مراعاتها شرط ضروري لتحقيق الاستقطاب وتوسيع دائرة الإيمان في المجتمع الإسلامي.. من ذلك مثلا نصحه بعدم هتك الأستار دون الخطايا أوالنبش عنها في الضمائر، مخافة تثويرها وإتاحة الفرصة لتعميم شرها: إذ لا ينبغي أن يهاجم ما في ضمائر البعض من سوء، لأن هناك كثيرا من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغوفل عنها، انحصرت في نطاق ضيق وربما يسعى صاحبها لإصلاحها تحت حجاب الحياء، ولكن ما أن يمزق الحجاب ويرفع حتى يرمى بالحياء فيزال، وإذا ما أُظهر معه الهجوم، فالسيئة تتوسع توسعا هائلا.." (1)
ومن الواضح أن النورسي بهذا التوجيه، إنما كان ينسجم مع فلسفة السماحة التي اعتقدها والتي أشرنا إليها سابقا.. فلسفة الغض عن الأذى لأنها تراهن على الأدوم والأبقى والأنقى..
على أنه لا يفوتنا أن ندرك أن النورسي بإشاعته مثل هذه الروح التطمينية، المهادنة، إنما كان يرسي لسياسة لبقة تشد ولا تدفع، تستميل ولا تنَكِّرُ، لقد كان في تلك المرحلة الفجرية يَحْذَرُ أيما حذر من أن ينقلب الماسونيون - ممن كانت جمعية الاتحاد والترقي وجون تورك تضمهم - فيتنكروا للاسلام، ولذلك عمل ما في وسعه على أن يحول بينهم وبين الجماهير لئلا يقع التصادم ، دافعا من خلال توجيهاته تلك الجماهير إلى أن تحسن سياسة تلك الزمرة، وأن تتحاشى التصادم معهم ،وأن تعاملهم بأسلوب يتفق ومصلحة الاسلام :
__________
(1) صيقل الإسلام ص.406.(11/349)
" .. لأن كثيرا منهم - مثلكم - لم يمحصوا الإسلام وما عرفوا إلا ظواهره بالتقليد، والتقليد يتشتت ويتمزق بإلقاء الشبهات والشكوك، فانظروا مثلا : إذا خاطبتم بعضهم بأنكم لا دين لكم، وبخاصة من كان منهم سطحيا في الدين ومتوغلا في الفلسفة المادية - فلربما يتردد ويشك في أمره بوساوس من أن مسلكه خارج عن الاسلام فيشرع بالقيام بأعمال وحركات منافية للاسلام، ناشئة من اليأس والعناد ولسانه يردد : ليكن ما يكون فلا أبالي.." (1)
بل إننا نجده يذهب في هذا الأمر إلى حد سن خلقية تعاملية تراعي العلاقة المستجدة بين المسلمين والكتابيين..وذلك مواجهة لما كان النظام الجديد يبادر إليه من إجراءات تُبَيِّتُ لِوَأْدِ الإسلام في تلك الديار التركية. فقد كان النظام الانقلابي ينهى مثلا عن وسم غير المسلم بنعت (الكافر) .. الأمر الذي أثار تساؤلات الناس، وكان على النورسي أن يبين رأيه الشرعي في المسالة.. وكان عليه أن يصدع بالحق وبما يتلاءم مع المصلحة التي كان يعتقد أن الإسلام يقتضي مراعاتها..
لقد رأى أن وسْم غير المسلم بالكافر أمر لا يسوغ ولا يجوز، إذ هو من قبيل الوصم بالمعايب والنقائص.. فكما لا يجوز أن نقول للأعور يا أعور كذلك لا يجوز أن ننادي غير المسلم بالكافر ..
وفي ذات السياق نجده يَشْرَعُ في تبيِين معنى الكافر، ليقرر في ضوء ذلك، حكم الشرع بقوله :
- فأول معنى يأحذه الكافر، ويتبادر إلى الأذهان، هو الجحود وإنكار الخالق، ومن هنا فلا يصح أن يطلق وصف الكافر على الكتابيين، لأنهم مؤمنون بوجود الخالق..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 405.(11/350)
والمعنى الثاني هو إنكار نبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبهذا المعنى يحق لنا أن نطلقه عليهم، وهم أنفسهم راضون به كذلك، ولكن لما كان المعنى الأول هو الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة، صارت تلك الكلمة، كلمة تحقير وإهانة وأذى، زد على ذلك أنه لا اضطرار لخلط دائرة الاعتقاد بدائرة المعاملات، وربما هذا هو ما يقصده أولئك الناهون عن إطلاق هذا النعت.. (1)
ومما لا شك فيه أن مقاصد النورسي من خلال مثل هذه الاجتهادات هو حماية التجربة الإصلاحية التي كان يعلق عليها آمالا كبارا لفائدة المسلمين، لذا رأيناه يبدي مرجوحية عقلية متسمة بكياسة لا تتنازل عن إيمانها قطعا، ولكنها تسعى إلى نشر ثقافة التسامح التي هي من صميم الدين، والتي قدر النورسي أنها -في المحصلة النهائية- ستخدم الإسلام وأمته..
و ربما يكون النورسي قد أبان عن هذا التوجه بصورة أجلى في حديثه عن تولية المواطن غير المسلم، فقد تساءل الناس في تلك المرحلة عن مدى جواز ذلك، وقالوا كيف يمكن أن يصير الأرمني واليا أو قائمقاما كما يحدث الآن ؟ فرد النورسي بالإيجاب و بما يفيد أنه لايرى ضرورة لخلط شرط العقيدة مع مسألة الوظيفة الإجتماعية أو الإدارية والسياسية التي يشغلها الفرد في المجتمع، لقد قال النورسي:" إن ذلك ممكن وفق المنطق نفسه الذي هيأه لأن يكون ساعاتيا وميكانيكيا وكناسا.. فالأرمني صار قائمقاما لأن المشروطية (الدستور) هي حاكمية الأمة والحكومة ليست إلا خادمة..
__________
(1) صيقل الإسلام ص .401.(11/351)
ثم يستطرد النورسي بعد هذا فيضيف : "ولئن صدقت المشروطية فالقائمقام والوالي ليسوا رؤساء بل خدام مأجورون، فغير المسلم لا يكون رئيسا مطلقا، بل يكون خادما، فلو أن الوظيفة والأمارة ضرب من الرئاسة والسيادة، فإن اشتراك ثلاثة آلاف غير مسلم في سيادة رئاستنا يفتح طريقا إلى الرئاسة أمام ثلاثمائة ألف من إخواننا المسلمين في أقطار العالم، فالذي يخسر واحد ويربح الألف لا يتضرر".(1)
وهنا يسألونه عن صلة بعض أحكام الشريعة بولاية الوالي، فيجيبهم قائلا:
"إن الذي يمثل الخلافة بعد الآن هو بالضرورة المشيخة الاسلامية ورئاسة الأمور الدينية، وستكون ممتازة ومقدسة سامية، منفصلة عن الكل .. فالمستولي الآن ليس شخصا فردا ،بل الأفكار العامة، لذا هناك حاجة إلى شخصية معنوية مثلها تكون أمينة على الفتوى..".(2)
إن التأطير الديني العام الذي كانت تنهض به الخلافة، كان قمينا بأن يصون المجتمع من وطأة الفيئات التي تدير أنشطة ومسؤوليات داخل مرافقه ومؤسساته ، وهي ليست على عقيدة المسلمين .. وهو ما كان يسوغ للنورسي الفتوى بجواز ادماجهم في هيكلة الدولة ما داموا سيجدون أنفسهم حتما ينشطون ضمن أخلاق الأمة وروحيتها، أي ضمن روح وثقافة الإسلام..
أجل إن هناك ميادين كبرى تحتاج من المسلمين اليوم إلى أن يحسموا فيها الرأي الشرعي، على ضوء المصلحة العليا للأمة وحفاظا على أسس دينهم ..
وإن النورسي الذي تجاوز - بفتواه هذه - إشكال العلاقة مع الذمي ومن هو خارج نطاق الأخوة الدينية، قد فتح كوة في وجه الاجتهاد الحصيف، وقرب المصلحة العليا من القراءة الفقهية الواعية.. وخطا خطوة حاسمة ما زالت تحتاج التعميق من قبل المسلمين، كي يتحولوا إلى فاعلية وحضور يرضاه الله ورسوله لهم..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 404.
(2) صيقل الإسلام ص 404(11/352)
ومن الواضح كذلك أن حرصه على دفع العملية السياسية في اتجاه يخدم الإسلام كان يدفع به إلى ابداء تلك التكييفات التي كانت تعزز من مكانة الدولة وتوضح دورها ومجال مسؤوليتها على الصعيدين المدني والديني..
وقد أبدى النورسي - فعلا - مرونة تكيفية كفلت جو العمل للدوائر الحكومية بصورة تحد من تضارب الاختصاصات، إذ لا ننسى أن المرحلة كانت انتقالية، وأن تقسيم المهام والسلطات كان أمرا جديدا، لا بالقياس إلى النظام فحسب، ولكن بالقياس إلى الجماهير على وجه الخصوص، تلك الجماهير التي كانت ترى في ما يطرح من أفكار تدعو إلى تحديد السلطة الروحية أو تحجيمها، ما يهيج المشاعر ويتنافى مع مطامح الأمة، لا سيما وأن تلك الجماهير كانت ترى تصعيدا متزايدا لوتيرة التوسع الذي أخذته السلطة المدنية وتنظيماتها في دولة لا تني تنادي بتصميمها على أن تكون عصرية، وأنها لن تدخر جهدا من أجل إلغاء كثير من نظم الماضي وقيمه، وهو ما كان يبعث في الجماهير الفزع، إذ كانت تتأذى بما كان يتهدد معتقداتها ومقدساتها.
كما لا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد، أن النورسي- في نشاطه الفكري التنويري، وخاصة من خلال ما يصدره من فتاوى تُوَسِّعُ على ألوان من النشاط المدني الذي جاء به الانقلاب - كان لا يخالجه ريب من أن الخلافة ستستمر في أداء وظيفتها الروحية، إذ لم يكن يستريب قط في أن ما كان يحدث داخل الأجهزة والدواوين الحكومية من تجديد وانفتاح على الحياة الاجتماعية والمدنية إنما كان تجديدا للروحية العامة للأمة والدولة، تجديد ستحيى معه القيم الدينية، وسيكون الانطلاق نحو المستقبل متوازنا ومحققا..(11/353)
كما أن النورسي بوجوده داخل النظام أو قريبا من دوائره، بوصفه أحد الوجهاء الروحيين الذين كانت السلطة الجديدة تقربهم، كان واثقا من أن الانحراف لن يقع، وأن عين المسلمين لن تسمح للنظام الجديد بالتفريط في مقومات الأمة الروحية والسياسية، لكن الذي حدث خالف آمال النورسي، الأمر الذي جعله يسارع إلى الانسحاب وإلى غسل يديه من عفن السياسة، لينطلق في وجهة أخرى، وجهة جعل قاعدتها الضرب صفحا عما أتاه في ظل نظام فجعه بتنفيذ برامج تكرس الزندقة والمروق، ولعل أشنعها كان حادث إسقاط الخلافة، تلك المؤسسة المقدسة بما ترمز إليه من معاني التاريخ والحضارة والدين..
وإنه لثابت أن النورسي كان من أسبق المتنبهين إلى انحراف النظام الانقلابي، بل لقد تكررت منه التنبيهات التي طفق يوجهها إلى أطراف ذلك النظام ووجوهه، من أجل أن يثبتوا على الجادة الشرعية .. وإن خطبته مثلا في البرلمان لشاهد على اليقظة التي كان يترصد بها الوضع من حوله، بل إن كل مواقفه التي أعقبت الحرب الكونية الأولى وانخراطه في السياسة، لَتفيد أن الرجل كان يستشعر فعلا نوعا من القلق الروحي نتيجة افتقاده الإطار الجماعي الذي يتيح له أن ينشط وينفذ البرنامج الانبعاثي الذي كان يثوي في ضميره ..
ومن غير شك أن انتسابه إلى الاتحاد المحمدي إنما يُعَدُّ لفتة أخرى كان يتحسس بها طريقه في إطار بحثه الدائم عن الوسط الحي المنسجم مع رؤاه الإسلامية والإصلاحية الشاملة ..
لقد مضى النورسي يصعد من دفاعه عن المشروطية ،وكان يعتقد أن أولئك القلة من المتغربين الذين كانوا ضمن صفوف تنظيم (جون تورك)، لا يؤثرون في توجيه الأحداث والتاريخ، ما دام الرأي لا ينعقد إلا بإجماع الأكثرية..(11/354)
من هنا رأيناه ينخرط في مهمة تطوعية يتولى خلالها شرح أبعاد الانقلاب الدستوري للقبائل والعشائر الشرقية، الكردية، بل لقد رأيناه يبادر إلى مراسلة تلك الأقاليم منذ الأيام الأولى بالبرقيات المُطَمْئنة، ليؤكد لهم :" إن المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الأساسي ماهي إلا العدالة الحقة والشورى الشرعية تلقوها بقبول حسن، اسعوا للحفاظ عليها، لأن سعادتنا الدنيوية في المشروطية، فلقد قاسينا الأمرين من الاستبداد أكثر من الآخرين.." (1)
لقد أوردنا هذا النص التحريضي الذي أبرق به النورسي إلى أهاليه، لنقف على مدى حدبه على الدستور، ولنتبين رغبته المتأججة في جعل ذلك الدستور ينال القبول الجماهيري.. ولنتأكد من صدق العزيمة التي تجنَّدَ بها في الدعوة إلى الدستور ..
لقد كان في تلك البرقية يخاطب بني قوميته، فكان طبيعيا أن يصطنع ضمير المشاركة (نا) .. لكنه من جهة أخرى لم يقع في وحل الشوفينية أو العشائرية المقيته، لأنه أسند دعوته بالشرط الروحي والاجتماعي الذي كان يرى الدستور يتوفر عليه ويضمنه .. وهو ما أكده في قوله: " .. فماهي إلا العدالة الحقة والشورى الشرعية ".(2)
من هنا كان انخراطه في الدعوة وفي شرح غايات الدستور انخراطا عمليا خالصا وجارفا جعله يطرق سائر الأبواب، فقد سار في الحارات وتنقل عبر المقاهي، وجال خلال الأقاليم، وحاور العلماء المترددين.. وكل ذلك يبين الطموح التغييري والإصلاحي الذي كان يحدوه ويهون عليه أن يتحمل ما تحمل تطوُّعا، ومن غير ما تكليف من أحد أو تجنيد ..
ذلك لأن النورسي كان جازما من أن الإنجاز الذي تحقق للأمة من خلال صدور الدستور، هو ثمرة من ثمار الحركة الإصلاحية التي باشرها نفر من معاصريه منهم الأفغاني وخيرالدين التونسي وعبده وآخرون في بلاد اسلامية أخرى ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 441.
(2) صيقل الإسلام ص 441(11/355)
بل لقد كان تأجج مقاصده الإصلاحية هو الذي دفع به إلى الانضمام إلى الاتحاد المحمدي كما أسلفنا .. إذ كان ذلك الاتحاد - كما تصوره النورسي- مجمعا مفتوحا في وجه كافة المسلمين الذين كان تعدادهم يقدر يومئذ بمائات الملايين، مجمع كان دستوره القرآن، ونواديه المساجد والتكايا والمدارس، ومركزه الحَرَمان الشريفان .. لقد كان انتساب النورسي إلى ذلك التنظيم حدثا لا يغفل واقع الخلافة التي كانت يومئذ تمثل النطاق الشرعي والإجماعي الذي شاء له النورسي أن يستعيد دوره وأن يستوعب في كنفه المسلمين كافة، ويسعى بهم إلى تحقيق الغايات المشتركة ..
ومن غير ما شك أن نظرته إلى الدستور إنما كانت نظرة إجماعية، إذ أنه توقع للأمة أن تتساند وتجني من ثمار تلاحمها - تحت مظلة الخلافة - أينع الثمار..
لقد رضي بالدستور لأنه رأى فيه لباب الشريعة كما كان يتمثلها..وهو ما يؤكده في هذا النص " لقد قمت بإلقاء خطب عدو على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة ..وأوضحت أن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وأن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد .. إن المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية (الدستور) المشروعة".(1)
ومن الطبيعي أن يبدي النورسي كل هذا الإلتزام بالدستور والتجند وراءه .. فقد كان عقله يحفل بالمشاريع التي رأى أن الأمة في مسيس الحاجة إليها.. وكانت ديباجة الدستور تَعِدُ وتفتح الآفاق في وجه العمل والحرية وإرساء الحقوق، وذلك ما جعله يبادر بالدعوة إلى إقامة جامعة الزهراء التي اختار لها حتى الاسم الدال، لتكون لبنة ضمن رؤية ملية متكاملة ومتجانسة، لا سيما في مجال التعليم والترشيد الروحي ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص442.(11/356)
فاسم الزهراء صنو للأزهر الشريف، وقد كان قارًّا في وعيه أن على الأمة أن تقيم أسسها على مبدإ روحي تجانسي تتوطد به الأواصر بين ناشئتها وأوساطها العريضة ليتيسر عليها النهوض .. لقد رسخ في ذهنه، هو الذي تنقل بين المراكز والحواضر المختلفة طلبا للتعليم، أن يهيأ لتركيا، بما هي مقر الخلافة، المؤسسة الكفيلة بنشر العلم وتكوين الإطارات القادرة على تحريك الأمة وتثمير قابلياتها في طريق الخير والبناء والتوحد، والسير نحو الفلاح والظهور..
وسنجد أن من أهم مشاريعه التي عبَّر عنها في تلك الفترة الواعدة، توسيع نطاق التعليم ومد شبكاته إلى النواحي القصية التي تعاني العزلة، توفيرا للشرط التمديني الحق الذي تتطلبه رعاية الناشئة، وهو التعليم .. لقد جعل من أهدافه " اقحام المعرفة عن طريق المدرسة إلى كردستان، وإظهار محاسن المشروطية والحرية والاستفادة منها.. وتأمين مستقبل العلماء الأكراد والاتراك.." (1)
برنامج الإصلاح في عهد المشروطية
لم ينجذب النورسي نحو تلك الحركة التغييرية- التي عرفتها تركيا بظهور الدستور - عن اعتباطية أو تلقائية بريئة من البواعث والمحفزات النفسية والروحية والثورية الصميمة، بل لقد هيأته الحياة لأن يكون طليعة روحية إصلاحية منذ نشأته الأولى وتَبَرْعُمِ روحه في تلك الأقاليم الشرقية المفعمة بالصفاء والبراءة..
لقد كان على وعي تام بأدواء الأمة، فلذلك لم يتردد في تشخيص العلة وتحديد الدواء والسعي من أجل مباشرة العلاج بإرادة وإصرار مكينين .. لقد كان الجهل بالدين وبالعلوم الدنيوية معا هو مصدر شقاء الأمة، من هنا كان التوجه إلى إسعاف الفئات والأوساط الإسلامية بالعلم ونشر المعرفة من أوكد الواجبات..
النورسي يشخص أمراض الأمة واعتلالاتها المزمنة
__________
(1) صيقل الإسلام ص.430.(11/357)
لقد شخص النورسي حال الأمة وأحصى أسباب قعودها وعجزها الحضاري وأعاد تلك المظاهر إلى نوازع عديدة شبت ودرجت عليها الأجيال نتيجة التربية المتجمدة وبفعل تعاطي ثقافة كسيحة انعكست بقيمها السلبية على واقعها فشَلَّتْهُ، وعلى عقليتها وروحيتها فدمرتها..
من الإعتلالات النفسية : اليأس
فمن عوامل ضياع المسلمين - كما يلاحظ النورسي - وقوعهم في شرك اليأس، إذ اليأس يورث المهانة ويُوَطِّنُ النفس على أن ترضى بالدون وبالاستعباد والسُّخْرَة ..
حب الظهور ونقائص أخرى
وينضاف إلى ذلك الاعتلال، اعتلال آخر يحدده النورسي في حب الظهور، إذ ينغرز هذا النزوع المرضي في النفسية الإسلامية ويتجلى لديها في نزعة الميل إلى التفوق المجاني الذي لا ينبني على أساس متين من الجهد ولا من التحضير النفسي والمادي الذي يكفل النتيجة ..
وبالإضافة إلى ذلك فهناك صفة الاستعجال التي تتملكنا وتجعلنا نتوق إلى قطف الثمار قبل إبانها ومن غير ما انضاج .. كما أن الرأي الفردي المستبد يُعَدُّ من الإعاقات المزمنة التي كرست جمودنا إذ استغرقتنا الأزمنة والأطوار ونحن نعيش على اجتهادات سلطانية نزوانية مهوسة بتسقط مظان اللذة الخسيسة، متخلية عن مسؤولياتها العليا، مصروفة عن الواقع المتفاقم من حولها وما يعتلج فيه من أسباب التصدع والانزلاق ..
كما أن استفحال عادة التقليد واتباع خطا الأسبق جعل الركود يكون مآل حركتنا، وهو ما خنق الحياة فينا، ثم إن التسويف كان أيضا صفة ملازمة لمبادراتنا، لأن حب الدعة والراحة والتهرب من أداء الواحب وبذل الجهد، قد جعلنا نستنيم للفراغ والبطالة ونقنع بما في اليد، ولا نطمح إلى تزكيته وتطويره..
على أنه ينضاف إلى كل هذه العوائق تَدَخُّلُنَا في الأمور والقضايا الموكولة بطبيعتها الغيبية إلى الله، وهذا ما تقوم به الفئة الملحدة، إذ تريد أن تكف في الناس القابليات وتعطل ما فطروا عليه من اعتقاد وإيمان وتفتح على الروحيات..(11/358)
هذه هي أهم الاسباب التي أناط النورسي بها أسباب حطتنا ومواتنا، وهي -ولا شك- أسباب قد استوعبت وجودنا في شتى أبعاده النفسية والروحية والمادية ..ذلك لأن النورسي كان يدرك أن الأمة زايلتها - بالفعل - هِمَّتُها، وهو ما جعله يقرر أن حالها بات من حال بعض شعرائها المحبطين، ممن طفق يعلن ويعيد :
" إذا متُّ ظمآنا فلا هطل القطر "..
وهو مصير اندحاري، انتحاري، عدمي.. ترفضه سنن الحياة، لخروجه عن قاعدة الاستمرار والتواصل وتجاوز الهزات..
ولا شك أن الإحساس بوطأة الواقع المتجزئ والمفكك الذي كانت مساعي التتريك تسعى إلى تكريسه قد أظلت بسحبها الدكناء، هذا التشخيص الذي أعرب عنه النورسي حيال وضع الأمة، من هنا ألفينا رؤية النورسي تضع في حسابها الحاجة إلى ترسيخ روحية مِلِّيَةٍ يستشعر فيها كل مسلم حقيقة انتسابه إلى أمة لا يتميز مصيره الفردي في كنفها عن مصير الجماعات مهما أحاط هذا الفرد نفسه بالمزايا والامتيازات..
وطبيعي أن يكون حال الجماعات والأوطان في هذه الشأن حال الأفراد، من حيث تبعيتهم للأمة وتأثرهم - سلبا وإيجابا - بما يجري عليها من ظروف وتقلبات..
لقد كانت المشروطية تمثل - في نظر النورسي - الإطار المناسب والممكن الذي تطبق فيه الشريعة على صعيد تحديث المجتمع وتطويره والخروج به من حال الابتئاس الحضاري المفجع.. لقد كانت مواد الدستور وروحه مرتبطة في كليتها تقريبا بروح العقيدة، ولذلك وجدنا النورسي يؤكد للأتباع " أن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمائة، بينما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحدة بالمائة". (1)
وكان من شأن هذه الرجاحة الشرعية الدستورية حسب اعتقاده أن تعمل على تهييئ الأمة لشق طريقها نحو الرقي والأخذ بأسباب القوة التي يمتلكها الأعداء.. " إذ الرقي المادي سبب عظيم لإعلاء كلمة الله في هذا الزمان". (2)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 446.
(2) صيقل الإسلام ص.446.(11/359)
فالنورسي كان واثقا من أن الدستور سيعزز من شأن الخلافة وسيقوي من دورها ويقوِّمُ من حال الأمة بإزالة الظلم ومحاربة مظاهرالاستبداد .." إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة "..
على أن النورسي كان من جهة أخرى يركز على مبدإ حسن السيرة .. سيرة أولياء الأمر خاصة .. من هنا وجدناه يشترط السلوك القويم لشخص الخليفة ووجوب اتِّباعه للنهج الإسلامي، موثقا قدسيا بينه وبين الأمة " .. فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسار في نهجه المبارك، فهو الخليفة ونحن نطيعه، وإلا فالذين يعصون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين". (1)
وبديهي أن القوامة الروحية والاعتداد بالاسلام، والاطمئنان على سلامة التوجه الاصلاحي كانت وراء هذه الصراحة التي لا تخشى أن تصدع برأيها حتى في شؤون الحكام..
وبالإضافة إلى هذا كان يُقَدِّرُ أن التحدي الحقيقي الذي على الأمة أن تتصدى له - بعد الاطمئنان على سلامة توجهها في ضوء الدستور- إنما هو الأوضاع الاجتماعية القاتمة والتعيسة التي كانت تحياها الفئات والجماهير المسلمة " .. إن عدونا هو الجهل والضرورة والاختلاف ". (2)
وكان يرسم في ذهنه الخطة التي ستداهم بها الأمة قلاع التخلف وحصون الجهل:
".. سنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق، وسنتعاون ونتصادق يدًا بيد مع الأتراك وهم إخواننا الحقيقيون الذي كانوا السبب - من جهة - لإيقاظنا من غفلتنا ودفعنا إلى سبيل الرقي".(3)
وواضح أن حديثه هنا حميمي، وكان يتوجه به إلى قبيله الكردي ويستحثه على تقدير طبيعة الأواصر التي تربطه بملته وبخلطائه من الأتراك الذين كانت الجيرة والقوامة الروحية التي بأيديهم، بوصفهم حملة راية الخلافة، تجعل منهم حقا أشقاء خلصا ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص.443.
(2) صيقل الإسلام ص 443..
(3) صيقل الإسلام ص.443(11/360)
بل إن حديثه بهذه الصيغة يسع الشعوب الإسلامية قاطبة، لاسيما تلك التي كانت تنتسب برباط السياسة والعقيدة إلى الخلافة العثمانية، إذ أن بوادر التفكك كانت تتفاقم داخل كيان الأمة، بسبب ما غرس العدو والأذناب في الأفكار من توجهات قومية تفككية..
فالنورسي من خلال هذا الحدب الذي طفق يقرب به بين القوميتين الكردية والتركية، بل والقوميات الإسلامية كلها، يكون من غير شك قد أبدى قدرا طليعيا من الوعي والإدراك لعوامل الشقاق التي كانت تتفشَّى بين أجزاء العالم الاسلامي وتهز أسس الخلافة، مستغلة ما يعرو الحياة السياسية من مظاهر التأخر والاستبداد وعدم الوعي بمخاطر الفرقة والانقسام..
وكان على النورسي- من جهة أخرى - أن يتصدى إلى الأحكام المسبقة والمغرضة التي كانت أوروبا وأتباعها يرمون بها الشريعة، ويصورونها بها في أشنع الصور، مستثمرين من أجل تكريس اتجاههم التحقيري، جهل الطبقة الحاكمة ومعاداتها لدينها
من هنا دأب النورسي ينافح على الشريعة، لأنه كان يحس بأن الطعنات التي شرع الاستيلابيون يوجهونها إلى الإسلام والشريعة، إنما تَنِمُّ عن مقاصد مصيرية لا تبعث على الطمأنينة ..
لقد كان يُقَدِّرُ أن الحكم الدستوري، إذا ما ألقى بالشريعة عرضا وظهريا، فإنه حتما سينقلب إلى استبداد أرعن لا يدانيه ما عرفت الأمة من استبداد في ظل الخلافة.. فهو يدرك أن دماثة الدين تفلح إلى حد ما في تفتير غائلة الغشم والرعونة حتى بالنسبة للطغاة متى ما ظلوا على أدنى صلة بالدين.
إذ أن طبيعة الحكم الديني – وإن كانت صورية - تهيء أثرا من خُلُقية الإغضاء والرأفة واصطناع المحاسن، لأنها تجد نفسها مجبرة على إظهار بعض ما تتميز به العقيدة من سماحة ومرحمة، الأمر الذي يجعل الحكام يتحلون ولو شكليا بالخلق الودي .. على عكس الصلة الحاكمية حين تتجرد من الوازع الروحي وتتحلل من الضوابط الجماعية التي تقوم أساسا على العقيدة المشتركة..(11/361)
إن تلك الصلة العارية من قيم التقوى والارعواء ستكون غاية في الاستبداد، لأنها ستقوم على الأهواء والمزاجية وعلى تقلب المواقف ..
لقد كان النورسي يتخوف من أن يؤول وضع الأمة تحت لواء الدستور إلى واقع استبدادي لا رحمة فيه، ذلك لأنه رأى أن تلك الزمرة المتلصصة لا تفتأ تسدد طلقاتها ضد الاسلام مرددة ما كانت أوروبا تشيعه زورا وتحاملا عن الاسلام والديانات عموما، مستغلة في ذلك التشنيع، مظاهر الضعف التي كانت تسود المجتمع الاسلامي، وهو ما كان يقلق النورسي ويؤلمه، لأنه كان يرى وجه المغالطة فيه سافرا. يقول :
" إن أوروبا تظن الشريعة هي التي تمد الاستبداد بالقوة وتعينه، حاشا وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشيان فينا قد ساعدا أوروبا لتحْمِل ظَنًّا خاطئا من أن الشريعة تعين الاستبداد، لذا تألمتُ كثيرا من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة، فكما أنني أكذِّبُ ظنهم فقد رحَّبْتُ بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص، ولكني خشيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي وبكل ما أوتيت من قوة ، وقلت : افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على أساسها، ولقنوها الآخرين على هذه الصورة كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك ترسا لأغراضه الشخصية ".(1)
لقد كان النورسي يرى أن الممارسة السياسية الفعالة لا تقوم في مجتمع يدين بالإسلام إلا إذا احترمت قواعد الشريعة ..
من هنا يتبدى التوازن والسماحة اللذان ميزا مواقف النورسي، خاصة منها تلك التي سبق وأن ألح فيها على عدم الأخذ بالسمة الدينية شرطا للتكليف بالخدمة العمومية، إذا ما كانت كفاءة المترشح تؤهله لأداء الواجب الموكول إليه..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 443.(11/362)
فهو من جهة شرط السير العام للدولة باتباع النهج الاسلامي الصريح والذي لا مراء فيه.. وهو من جهة أخرى رخص – للضرورة - أن تسند المأموريات في الدولة الاسلامية إلى غير أهل الملة أو من كانت عقيدتهم الدينية غير معلنة ..
وواضح أن حاديه في ذلك الموقف إنما كان مراعاة الحاجة الاجتماعية والضرورة التسييرية والبنائية التي كان يحرص عليها، إذ أن طموحه لم يكن استكانيا، تسليميا، وإنما كان طموحا انبعاثيا مدنيا، يراهن على استعادة مكانة العز للمسلمين حتى يكونوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .. ولما كانت شرط الخيرية وحيازة الحق في الأمر والنهي وإملاء النصيحية لا يتأتَّى إلا للأمة القوية، كان على النورسي أن يعمل على حشد كل طاقات الأمة في هذا الاتجاه..
الحرية ..بين التقييد الشرعي والإطلاق الطبيعي
وكان حتما أن يدور الجدل حول تحديد تلك المبادئ الدستورية التي صفق لها الطرفان المؤمن والملحد على السواء .. وكان طبيعيا أن يجيء فهم الطرفين لمعنى الحرية - كما قررها الدستور - متباينا، بل ومتعاكسا تماما ..
لقد ناهض الدستور الاستبداد ونوه بالحرية، فجاء تنويهه بردا وسلاما على النفوس جميعا، لكن الخلاف ما برح أن نجم إزاء عملية تَمَثُِّل الحرية وممارستها كما أعرب عنها كل من الجانبين.. ففي ما رأى المصلحون أن الحرية اتزان والتزام بالفضيلة وانصياع لروح الشرع، رأى الملاحدة وأتباع أوروبا أن الحرية تحلل من الأحكام المسبقة وخروج عما لا تتكيف معه النفس، وجنوح بالشخصية نحو مواطن هواها .. وكل ذلك كان عند دعاة هذا الفهم المتوحش يمثل الترجمة الحق لمعنى الحرية ..(11/363)
ومن الواضح أن هؤلاء قد فهموا الحرية فهما فوضويا، لا يقيم حسابا لغير الذات والأهواء الفردية، وهو ما وقعت فيه المدنية الرأسمالية حينما شجعت الفرد ووضعت خلقيته معيارا أساسيا لاجتماعيتها، الأمر الذي هدَّ قاعدة الأخلاق وارتقى بقيم الانحراف والشذوذ إلى صعيد اجتماعي معترف به ولا غضاضة فيه..
لذا كان النورسي يُحذِّر من مغبة إطلاق الزمام للنوازع باسم الحرية، وكان يدعو إلى ضبط الدوافع بضوابط الشريعة "..قيدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهلين يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحرارا سائبين بلا قيد ". (1)
ولقد كان على وعي يومذاك بما تشيعه الصحافة وكتابها من رعونة خلقية وتخطٍّ للفضيلة والذوق، لذا راح يخاطب المتحللين بما يقيد من جموحهم:
" يا أرباب الصحف .. على الأدباء أن يلتزموا بالآداب، وعليهم أن يتأدبوا بالآداب اللائقة بالاسلام، فينبغي أن تكون أقوالهم صادرة من صدور لا تحيد لجهةً، ومن قلوب عموم الناس، فيشترك معهم عموم الأمة."(2)
وظل يهيب بأبناء وطنه أن يرتفعوا في فهمهم وتفسيرهم للحرية إلى مرتبة بناءة ونيرة وجديرة بأن تجعل منها شرطا انسانيا يدفع بالأمة في وجهة التعمير والتنوير والطهارة، وذلك بالأخذ بتلك الفضائل التي كان الاسلام قد سلح بها جموع الأسلاف في مطلع انتشاره حين سار بهم على طريق الفتح وسيادة العالم بالحق :
__________
(1) صيقل الإسلام ص .444.
(2) صيقل الإسلام ص.444 .(11/364)
" يا أبناء الوطن لا تفسروا الحرية تفسيرا سيئا كي لا تفلت من أيديكم ولا تخنقوها بسقي الاستعباد السابق الفاسد في أناء آخر، ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.. والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة، على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت."(1).
لقد كان يرى جهات الاستيلاب دائبة على مقارنة أحوال الامة ومقايستها بأحوال أوروبا، متمادية في عقد الموازنة بين الوضعين، وفي استزراع صنف سطحي من قيم الغرب في البيئة التركية، والاستماتة في تمرير عوامل التغريب إلى قلب المجتمع وروحه من أجل إردائها " ..لقد أوقعتم الرأي العام والأفكار السائدة في مستنقع آسن بقياسكم الريف بمدينة استنبول، وقياسكم استنبول بأوروبا .. فنبهتم عروق الأغراض الشخصية والمنافع الذاتية وأخذ الثأر، حيث يلقن الطفل الصغير- الذي لم يدرج بعد- في المدرسة الفلسفة الطبيعية المادية، فكما لا تليق بالرجل فساتين الراقصات، فلا تطبق مشاعر أوروبا في استنبول، إذ اختلاف الأقوام وتخالف الأماكن والأقطار شبيهة بتباين الأزمنة والعصور، بمعنى أن الثورة الفرنسية لا تكون دستورا لنا، فالخطأ ينجم من تطبيق النظريات وعدم التفكر بمتطلبات الوقت الحاضر" .(2)
بل لقد وجدناه يخص الحرية بمواقف مفعمة بالتواجد والعاطفة .. لكن هذه الحرية التي كان النورسي يتغزل بها ويتواجد، هي ما كان يسميه الحرية الشرعية.. لقد كان ينيط وظيفة الحرية بمهمة بناء الإنسان، وخدمته، وإخراجه من ظلمات الوحشة والاستبداد.. فالحرية التي ناجاها واستهام بها النورسي هي رديف للانبعاث الذي يفضي بالأرواح إلى الشهادة في الدنيا والخلد في الآخرة :
__________
(1) صيقل الإسلام ص 467
(2) صيقل الإسلام ص.444.(11/365)
أيتها الحرية الشرعية . إنك تنادين بصوت هادر ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة توقظين بها كرديا بدويا مثلي نائما تحت طبقات الغفلة، ولولاك لظللت أنا والأمة جميعا في سجن الأسر والقيد. إنني أبشرك بعمر خالد، فإذا ما اتخذتِ الشريعة التي هي عين الحياة منبعا للحياة وترعرعت في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإني أزف بشرى سارة أيضا بأن هذه الأمة المظلومة ستترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها. واذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تُلَوِّنْكِ بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرجنا إذن من له العظمة والمنة من قبر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة". (1)
وواضح أن الحرية التي كان يريدها النورسي مناخا تتنفس فيه الأمة، هي حرية القيَّم التي تتسامى بالروح وتكفل لها النهج الذي يعطي لحياة المسلم معنى وبرنامجا ناهضا يعيد للفرد حيويته وللأمة مجدها، فهي -من ثمة -حرية تلتزم بالدين لأنه وسيلة رشادها، وتلتزم به أيضا لأنه الطاقة المفجرة للقدرات والضابطة لاندفاعها والحافظة للإنسان من مغبة السقوط في الميوعة والخور والوقوع بين براثن الرذيلة.
فالحرية تلتزم بالدين لأنه العاصم الأمثل لها من الفوضى والفرقة ومن تضارب المصالح والانجراف الأخلاقي البشع..
__________
(1) صيقل الإسلام ص .465.(11/366)
لقد كانت سيرة السلف تقع من خلده في الوجدان وهو يتحدث عن الحرية.. فهؤلاء السلف سادوا حين رادف الاسلام في ضمائرهم معنى البرنامج الحضاري الحياتي، وحين حل من نفوسهم محل العقيدة التي لا تربطهم بها تحفيزات الساسة والقادة، ولا تقوي من أثرها في قلوبهم النتائج المصلحية المحسوبة سلفا، بل لقد كانت محبة الاسلام مكينة في نفوسهم، فارتقت بهم إلى ذلك المستوى من الملابسة الالتزامية الإرادية، بحيث أضحى الصحابي ركنا اجتهاديا يتصرف بروحه ومواجده الفانية في محبة الله بما يروق لتلك الروح أن ترى عليه الموقف البشري يزداد ألقا، بفضل سماحة الاسلام ورحابة مبادئه المنافية لكل ما يخدش الكرامة والمجد الانسانيين..
وطبيعى - والحال هاته - أن يقرب النورسي - وهو الانسان الواقعي - الصورة التي يريد من الأمة أن تكونها في مضمار السعي والحركة المدنيتين، فقد استفظع وبقوة، ما كانت أصوات التغريب تنادي به من ضرورة الأخذ بمنهاج الغرب وبمفاهيمه وقيمه ( وهذه الدعوة تتضمن بطبيعة الحال، خيار ترك ما ينبغي تركه من المقومات ومنها الدين..)، من هنا راح النورسي يطرح مثال الأمة اليابانية التي كان يدرك أنها تسير على خطا تحافظ فيها - وبصرامة ومهارة - على نقطتي الاستناد والاستمداد التي تؤطر بها حركتها وتؤصل تجربتها وتعزز أصالتها الحضارية العتيدة..
من هنا راح النورسي يحرض الأمة، ويوعز خاصة للزمر المستلبة، بأن تأخذ بنهج الشعب الياباني الذي عرف كيف يتجنب الوقوع في مطب الاستنساخ المدني الأخرق، وعرف كيف يأخذ من مدنية الغرب جوانب البناء فقط، لا جوانب الهدم والتحلل " .. ينبغي لنا الإقتداء باليابانيين في المدنية لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم، وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا، وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الاسلام، وتزدهر به، فالضرورة تقتضي الاعتصام بالاسلام." (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص468.(11/367)
لقد شاء النورسي لأولئك الأذيال المستلبة أن يجعلوا القطيعة الحاسمة والنهائية مع الماضي الانحطاطي المبتعد عن الدين الحق، وهذا بتوظيف فاعلية الحرية التي يضمنها الدستور في طريق يجنبها أن تتحول إلى استبداد، إذ أن التعصب للرأي والرغبة في فرض الخيار الإستيلابي كان من شأنه أن يدفع بالمتعصبين إلى استخدام أقصى الأساليب القهرية، حملا للامة على اتباع فلسفتهم، وذلك هو الاستبداد بعينه، وهو ما كان يحرص النورسي على تلافيه:
"..إن أصحاب الأفكار الفاسدة يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل ألا نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي، ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سدا حديديا بين الماضي والخاضر، وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية، وهو كالآتي: إن هذا الانقلاب لو أعطى الحرية التي أولدها إلى أحضان الشورى الشرعية لتربيتها، فستبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمة، بينما لو صادفت تلك الحرية الأغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها، لقد ولدت الحرية في الوقت المناسب، فتحتاج تنشئتها إلى ظروف وأحوال فطرية وليس إلى افتعال ظروف تحتاج إلى مشاق ." (1)
ويمضي النورسي في هذا السياق يتحدث عما يلزم الحرية الشرعية من شروط يتصلب بها عودها ويستوي قوامها لتكون أقدر على أداء وظيفتها التنويرية والبنائية لصالح الانسان وسعادته..
"..إن الحمية الاسلامية التي عانت في السابق كثيرا من الضوائق والبؤس، وهي ليست أهلا لها، قد فارت فورانا عظيما بحيث اكتملت الحرية في ذلك الرحم، فحالما يحين وقت الولادة وتظهر إلى الوجود، ستعلن هيمنتها، فلا يتمكن أن يتصدى لها ويزلزلها أي شيء حيث أنها ستتأسس على أسس رصينة - كعرش بلقيس - على حقائق خمس. (2)
لقد أجمل النورسي هذه الحقائق في خمس نقاط هي :
__________
(1) صيقل الإسلام ص469.
(2) صيقل الإسلام ص .469(11/368)
القوة التي تستمدها الأمة من اجماعها ووحدتها، والتي لا تظل عرضة للهدر والتفكك نتيجة المرامي الذاتية أو الأغراض الشخصية والآراء الفردية .. إذ أن اقتراف ذاك الإثم يعد جناية في حق الأمة.
-إن زمن المدنية والدستور يحتم على النظام والأمة أن تٌحَكِّمَ منطق العلم والمعرفة في شؤونها، فالسلطة التي يخضع لها العالم المتمدن في الغرب هي سلطة المعرفة والاستنارة، فبالعلم تتجاوز الدول المتمدنة الوقوع في مهالك العجز و الشيخوخة والانقراض، إذ أنها بالعلم والمعرفة تمارس التجدد الذاتي اليومي والدائم ..فهي في هذا على خلاف الدول التي تستند في وجودها على القوة التسلطية وعلى البغي والاستبداد، فتلك سياسة عمرها قصير، ومحفوف بالمخاطر والترديات، ومصير مشاريع المستبدين إلى الزوال لا محالة..
إن من شأن الحرية الشرعية أن توسع من نطاق فكر الانسان ومن حدود دائرة نشاطه وخبرته.. فالشروط المعيشية الضنك التي يحياها الإنسان في عهود الاستبداد ستتبدل وتستحيل إلى واقع من الرخاء والسعة تتجدد فيه همة الفرد والجماعة وتنبعث إرادة الحياة
" فإذا ما عاشت الآن هذه الحرية الشرعية العادلة ولم تفسد، فستكسر أغلال فكر الانسان، وتحطم الموانع الموضوعية أمام استعداده للرقي، فتوسع ميدان حركته سعة الدنيا كلها " (1)
لقد كان النورسي يؤمل أن يروي غيث الحرية تلك الربوع الظماى للانعتاق والرقي، لا في البلاد التركية وحدها، ولكن أيضا في سائر " الممالك العثمانية محل ظهور الأنبياء ومهد الدول الحضارية ومشرق شمس الاسلام، فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الانسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة، وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مشرقا للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية ".(2)
__________
(1) صيقل الإسلام ص.470.
(2) صيقل الإسلام ص 470(11/369)
لقد كان إيمان النورسي راسخا بقدرة الدين الاسلامي وقابليته التامة على شق طريق الرقي والتمدن والمضي بالانسانية نحو آفاق الابتداع والاستخلاف الموعودة..
إن قابلية الشريعة للمضي بالإنسان المؤمن على طريق التطور والرقي نابع من طبيعتها القدسية القائمة على شرط التناغم والانسجام مع طبيعة المخلوق البشري ذي الجبلة المفتوحة على التطور والآخذة بقانون الحركة والثبات ..
فالشريعة تتوسع وتنمو بنمو الكائن الحي المعتنق لها، أي بنسبة نمو استعدادات الانسان وتشربه لنتائج تلاحق الأفكار التي يتغذى عليها.. فالحرية والعدالة والمساواة التي يتبجح بها المستلبون قد عرفت ذروة كمالها في عهود العُمَرَيْن وفي كنف سياسات الأفذاذ من أمراء الإسلام أمثال صلاح الدين الأيوبي ومن شاكله.. من هنا كان من الضروري التأكيد على أن سبب تأخرنا وتدنينا وسوء أحوالنا إلى الآن، إنما هو ناتج عما يلي:
عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء في تأسيساتنا وفي إدارة شؤوننا .. تلك الشريعة التي تلبي منازع الحياة والكرامة في نفوسنا، ولا غرابة إن يربط النورسي سعادتنا بالالتزام بالدين، فلقد كان له في تفاعل الغربيين مع الفلسة شاهدا على أن للأمم منازع روحية وفكرية ملائمة لتكوينها وقابلياتها تتفاعل معها ويكون إثمارها في مناخها أجدى وأوفر، وهو ما يجسده الدين بالقياس لأمم الشرق، إذ هي أمم مطبوعة على الاستجابة الفاعلة مع الدين.. والتمرس في بناء مدنياتها مع الروحي ومع أحكام مقدساتها السماوية..
لقد كان النورسي ينعى على الطبقات المتنفذة تقليدها لمساوئ المدنية الأوروبية تقليدا ببغائيا، عن وعي أو غير وعي، " بسوء حظنا أو سوء اختيارنا، مما تسبب في تَرْكِنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب".(1)
لقد مضى يهيب بالمجتمع والفيئات والسلطات أن تتدارك واقع التأزم الاجتماعي والسياسي، للقضاء على أسباب التمزق والاستبداد ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 471(11/370)
"..إن تزايد الروابط الاجتماعية وتعقدها في ظل الدولة المعاصرة يقتضي تضافر جهود وأفكار الأمة قاطبة حلا لمشاكلها، وإسهاما لكل العناصر في مهمة البناء وتحمل أعباء الرقي، ومعنى ذلك أن على المجتمع أن يأخذ بشروط تنظيمية وتمثيلية تمكنه من أن يحقق كلية المشاركة في التسيير وفي الإعراب عن الرأي، وهو ما يبرر قيام المجالس النيابية والشوروية التي ستكون بمثابة فكر الأمة وعقلها.. وتشجيع حرية الافكار التي هي بمنزلة سيف الدولة وقوتها الحاسمة ..
لقد كان النورسي يدرك أن مكمن اعتلال الأمة هو اعتلال أدبي في الأساس، وليس عائدا إلى العوامل المادية فقط ..
لقد أيقن أن انحطاط الأمة يعود في كثير من أسبابه إلى حال الجهل الذي كان يطبق ، وإلى الفرقة التي يحدثها التعليم بشعبه الرثة الأهلية أو تلك الدخيلة المزاولة في المدارس وفي غيرها من مؤسسات التلقين:
".. إن من أهم أسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد، هو تباين الأفكار واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شعب كبيرة يعد خريجوها مرشدين عموميين للجميع، وهؤلاء الخريجون منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا .." ذلك لأن اختلاف الأفكار وتباينها الذي يفترض فيه أن يكون مؤشر صحة ودينامية كان يشكل عندنا مظهر هدم وتخريب فـ"قد هز أساس الأخلاق الاسلامية وفرق اتحاد الأمة وأخرنا عن ركب الحضارة، لأن أحدهم يكفر الآخر ويضلله، بينما الآخر يعد الأول جاهلا لا يوثق به، وهكذا ساد الإفراط والتفريط، وعلاج هذا هو الصلح النابع من توحيد الأفكار وربط العلاقات ووصلها حتى تتون وتنتهي إلى مستوى الإعتدال، فيتصافح الجميع ويرقىالنظام..(1).
__________
(1) صيقل الإسلام ص 473(11/371)
وفي هذا الصدد وجدنا النورسي يتساءل حول الوضع الترشيدي الذي كان يمثل جزءا مُهمًّا من نشاط التكوين والضبط الإجتماعي، ذلك الترشيد الذي كان يمثل شعبة معتبرة من شعب التعليم والتكوين العمومي والذي لم يكن على مستوى من النجاعة بحيث يحقق مردودية تنويرية مطلوبة.. فبيداغوجية الوعظ كما قوَّمَها النورسي في عهده كانت تعدم شروط نفاذها ونجاعتها بسبب :
- عجزها عن تحقيق الإقناع، إذ أن عقلية الزمن الحاضر تختلف من حيث المدارك والملابسات والتطلعات عن العقلية القديمة، فهي تبحث عن بيانات إقناع جديدة.. فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة..
-إنها بيداغوجية تغفل التمييز بين الأهم والمهم، فليس لها أولويات، ولا تراعي مقتضيات الحال.
إن لغة الوعظ لغة تقهقرية، من حيث إنها تخاطب الناس بأساليب وأفكار بالية، فالوعاظ " لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمن الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان".(1)
ولما كان الوعظ هو تشخيص الأدواء وتحديد العلاج لها، كان لابد على الواعظ أن يكون على اطلاع واسع كي يحوز على الكفاءة ويستوعب شروط بعد النظر التي تساعده على تنويع الوصفات واختيار الميسر منها والذي يعجل من عملية البرء، كي تنطلق الأمة وتغادر محطة المهانة.. من هنا كان على الواعظ أن يتحلى بكفاءة التحقيق والتدقيق، ما يؤهله لأداء وظيفة الترشيد..
التفطن إلى مخاطر الحركة الانقلابية
__________
(1) صيقل الإسلام ص.473.(11/372)
ومن الواضح أن سير الأحداث قد جعل النورسي يتفطن إلى ما كانت تحمله الحركة الانقلابية من مخاطر تهدد الآمال التي علقتها الأمة على ميلاد الدستور، لذلك رأينا خطابه سرعان ما تحول من الدعوة لاحتضان الدستور، إلى الدعوة إلى منهاضة الاستبداد.. وكان حتما أن يجرَّ عليه وَعْيُهُ الحاد بما كان يتغلغل في النفوس من كيد للعقيدة وتبييت لضربها، نقمة الحكام الانقلابيين..يزيدهم حقدا عليه وتوجسا منه ما أبداه من نشاط عَمَّ الحياة المدنية وحتى العسكرية، سواء في حملات الشرح التي كان يرادفها لفائدة الدستور ،أو من خلال اهتمامه بالأوضاع المستجدة ..
وربما كانت حوادث 31 مارس التي تظاهر فيها العسكر -مطالبين من جملة مطالب كثيرة - بتطبيق الشريعة، وما رافق ذلك من صدامات وسفك دماء، والدور البارز الذي قام به النورسي بتلقائية المصلح، المدرك لمغبة الشقاق الذي يتهدد الأمة، ربما كان تلك الحوادث من أهم السباب التي عجلت بانعطاف حياته في اتجاهها الروحي الصرف..
لقد أسعفته إرادته الحرة، وروحه الطليقة المتحررة من عقال الأغراض الشخصية، أن يتجند وينهض بأعباء تنوء بها كواهل الرجال الذين لم يتهيأوا على نحو ما تهيأ هو له روحيا واجتماعيا ونفسيا.. وذلك ما عبَّر عنه في بعض مواقفه، إذ قال :
إن عناصر الأغراض الشخصية ومصالحها المخلة بإخلاص النية - من نسب ونسل وطمع وخوف - لا تعرفني ولا أعرفهن، بل لا أريد أن أتعرف إليهن، ذلك لأني لست صاحب نسب شهير كي أجدَّ في صون ماضيه، ولست صاحب أولاد كي أسعى لضمان مستقبلهم، ولكن لي جنون أي جنون حتى أَعْجَزَ المحكمةَ العسكريةَ بهيبته ورهبته في علاجه، ، ولي جهل مطبق - وأي جهل - حتى جعلني أميا لا أستطيع قراءة المكتوب على الدينار والدرهم . أما التجارة الأخروية ..(11/373)
فقد آليت على نفسي ألا أتراجع عن طريقي التي أسلكها ولو ضيعت فيها رأس مالي، وإني على خسارتها منذ الآن، إذ أسقط في آثام كثيرة .. فلم يبق إلا الشهرة الكاذبة .. ولقد مللت منها وأهرب منها، لأنها تحمِّلني ما لا يمكن أن أتحمله من وظائف.." (1)
لقد أشهر بهذا التصريح انخراطه الحاسم في الحركة الجهادية التي هيأه لها الحق، وأبان للناس مقومات بسالته وحميته في اختياره ذلك السبيل الصعب الدي ينكص عنه الرجال .. لقد كان صلاته بالحياة الاجتماعية مقطوعة، أو لقد قطعها هو حين أضرب عن أن يعيشها على الوتيرة التي يعيشها بها سائر الناس، فيصهرون إلى الأنساب وينسلون الخلفة، ويديرون أسباب المعاش بالتدبير المحكم لكنهم يسلكون رغم ذلك سبيل عامة الناس الخالين من المآثر الباقية ..
لقد وهب روحه للحق، ووقفها في سبيل الله، وبذلك جنبها عناء الحسابات المادية والتقديرات المصلحية المحدودة، ولم يراع في ذلك كله إلا ما كان يربطه بخالقه، إذ كان دائم المراجعة لمواقفه والتقيد بتعليمات العقيدة في السر والعلن.. من هنا بدأ حملته الثورية ضد المؤسسات والتنظيمات التي كانت تدعي الحرية والتحرر:
"..أنني عارضت شعبة الاتحاد والترقي المستبدة تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيز وسببت الفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية، وتسمت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي..." (2)
وسيستطرد في نفس السياق ليتحدث عن حسن نوايا المسلمين الذين يواجهون -عادة -القضايا بنوايا طيبة ومن غير ما سابق تَهيئ، مثلما فعلوا مع المشروطية ظنًّا منهم أنها جاءت لاقتلاع جذور الاستبداد:
__________
(1) صيقل الإسلام ص .432.
(2) صيقل الإسلام ص 453.(11/374)
" أقول بفخر نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع ولا نتنزل للخداع لأجل حياة دنيوية، لأننا نعلم (إنما الحيلة في ترك الحيل ) ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية ،المشروعة، سأصفع الاستبداد إن قابلته في أي لباس كان، حتى لو كان لابسا ملابس المشروطية أو تقلد اسمها، وفي اعتقادي إن أعداء المشروطية هم أولئك الذين يشوهون صورتها بإظهارها مخالفة للشريعة وأنها ظالمة، فيكثرون بهذا أعداء الشورى أيضا، علما أن القاعدة هي لا تتبدل الحقائق بتبدل الأسماء.." (1)
لقد كان هذا صوته أيام كان مندفعا في غمار السياسة يصول في المضمار، تهيجه المخادعات والالتواءات الرعديدة، والمخادعة، والمتظاهرة بغير ما تبطن..
لكن النورسي لم يخلف بقسمه، إذ راح يكمن للماكرين، ويجيش لهم جحافل من النورانيين، سلاحهم كتاب الله، ودعوتهم الحق، وشعارهم : الاسلام سلام..
لقد أنجز النورسي الإطار الروحي الذي سيكيل الصفع فعلا لكل ما يعيق الحق الأبلج عن الاستتباب ..
ولابد من التأكيد أن الروح التكيفية التي باشرها دعم الاصلاح الذي أمله في عهد المشروطية، ظلت تميزه في نظرته إلى فهم الواقع وبناء النظرة والخطة التي تمكن من تجاوزه..
فبقدر ما اندمج في روح القرآن والأخذ بالشريعة، بقدر ما كان مرنا من حيث مراعاة الكيفيات والأساليب والضرورات التي تمكن من النهضة الحق .. لذا كانت نظرته إلى الاجتهاد إيجابية رغم ما أحاطه بذلك المشغل الشرعي الحيوي كما سنرى في حينه..
بيداغوجية الدعوة إلى الحق
لقد استفاد النورسي من إدراج الكشوفات والمعدات الحديثة في خطابه التنويري ابرازا لأفكاره وبلورة لها، فالسينما والتلفون والقطار والكهرباء .. وغيرها، كانت وسائط يستدعيها المقام في مناسبات تحليلية كثيرة، بقصد إقامة أحوال من التماثل ومن التصورات الفكرية التي يجَلِّي بها مقاصده ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 453.(11/375)
بل لقد انخرط في بعض المواقف إلى استثمار أواقتباس الحقائق العلمية المخبرية في توصيل رسالته الترشيدية، وكان لذلك المنهج مقاصد أشرنا إليها في غير هذا المكان، لعل أهمها تقريب الشقة النفسية بين العلم والاختراع، وبين الروح المسلمة
ومما عرض به للحقل العلمي - مثلا - حديثه عن نظريته في إنعكاس الماديات والنورانيات، إذ عنده أن من طبيعة الأشياء والنحسات المادية أن تنعكس على غيرها بصورتها دون كنهها، في حين أن طبيعة النورانيات والروحيات لا تنعكس بصورتها، بل بمعناها دون شكلها.. يقول:
"..إن مرايا التجليات متنوعة منها : الزجاج والماء والهواء - لا سيما الكلمات- وعالم المثال، والروح، والعقل، والخيال، والزمان، وغيرها مما لا نعلم أو لا تعلم.. وتماثل الماديات الكثيفة في المرايا منفصلة حكما، وأموات حقيقة.. وليس لها خاصية الأصل، وغيرٌ للأصل أيضا، بدليل انتقالها إلى الفوطوغراف دون النورانية الخالصة، وفي غير الخالصة تنتقل هوية صورتها المادية فقط..
وأما تماثيل النورانيات فمتصلة حكما، ومرتبطة حقيقة، ومالكة لخواص الأصل، وليست غيرا له، فلو جعل الفاطر جل جلاله حرارة الشمس حياتها، وضياءها شعورها، وألوان الضياء حواسها، لتكلمت الشمس معك في قلب مرآتك التي في يدك، كتلفونك ومرآة قلبك، إذ مثالها الذي في يدك له أيضا بمقدار استعداده حرارة حياة، وضياء شعور، وألوان حواس . ومن هذا السر يطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو النور النوراني على صلوات كل من صلى عليه في آن واحد، ومن هذا السر ينفتح مغلقات أسرار.." (1)
منهجه الالتزام بالأولويات وعدم اهدار الوقت في استثارة ما لا يفيد في دعم المعركة المصيرية
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 227.(11/376)
لقد كانت له أولويات ونظرة ثابتة إزاء ما يجب عليه فعله نحو الواقع المحتدم أمامه بكل ما يفاقم من النكبة ويزيد من هدم الكيان الاسلامي، لذا فإنه في تثميره لصحائف التراث الاسلامي يتبع منهجاً إشفائيا يراعي متطلبات الوضع الراهن، وحالة المسلمين التي تحتم أن تتركز كل الجهود عليها ..إذ " لا يليق قطعا بالمؤمن الحصيف ولا بوظيفته المقدسة في هذا الوقت أن يهمل الذين ينزلون ضرباتهم القاضية بالاسلام فعلا عمن يستحقون اللعنة والذم بألوف المرات، ويذهب إلى أزمان غابرة ليتحرى في الأحوال التي لم يأمر الشرع بالتحري فيها، والتي لا جدوى منها، بل فيها ضرر". (1)
وجلي أن نظرة النورسي هنا تتفادى الاشتغال بغير ما يجدي في المدافعة الحاسمة عن الكيان، ومباشرة النضال ضد أعداء الملة بصورة فاعلة ومباشرة، وبمتابعة ميدانية لا تغفل عما يحاك من المناورات والمخططات الإفنائية ضد الأمة..
لقد كان النورسي يدرك أن استدعاء الوقائع التراثية، لا سيما تلك الصفحات التي ارتبطت بمسائل وإشكالات خلافية محيرة، يتطلب وعيا تسديديا لا يتوفر لكل منقب، بل إن مستوى الفهم السائد لتلك الوقائع والأزمات ظل -عبر العصور - يتسم بالضعف الذي كان من نتائجه أن فاقم باطراد من تشويه الحقيقة الإسلامية أكثر مما عمل على صونها ولا نقول تحسينها ..
من هنا تحفظ النورسي إزاء هذا النوع من التثميرالفكري غير الواعي..
__________
(1) الملاحق ص.298.(11/377)
لكن النورسي - على الصعيد العملي - ظل يغترف من التراث ويستحضر منه كل ما كان يشعر أنه يخدم الدعوة.. بل لقد رأيناه على حظ ضاف من الجراءة الأدبية التي هيأته لأن يتتبع مواطن الإشكال الفكري والعقدي سواء من حيث تفسيره لآيات دار حولها الجدال، أو من خلال تطرقه لقضايا الغيب والكرامات، أو بإبراز رأيه في عدد من القضايا الخلافية التي يتحاشاها في العادة غيره، كل ذلك لأنه كان متشبعا باستنارة قرآنية أطرت اجتهاداتها، فبات معها لا يخشى زيغا في أي اتجاه يختار السير فيه ..
مقارعة الجاحدين ودعوتهم إلى الاعتبار بما يلوِّح به أمامهم مظاهر الكون من دلائل التوحيد
لقد ظل النورسي يقارع الجاحدين ويعلل تماديهم في الكفر بكونهم عجزوا عن استبانة مظاهر العظمة من حولهم وتقديرها حق قدرها، وربط تلك المظاهر بأبعادها المحيلة على الخالق الباري.. من هنا تعنتت تلك العقول العاجزة وغالت في الإنكار بقصورها عن تبيان وجه الحق، وجهدت لتسند جحودها بما تضفي عليه من تماسيح المنطق الوضعي الذي لا سمك له ولا أصالة ..
إن العقول التي ضاقت بصيرتها أمام العظمة والكبرياء والمطلق غير المتناهي، وقصرت عن إدراكها نتيجة الغفلة أو الجحود أو الانغماس في الماديات والانسياق وراءها قد أخذت - هذه العقول - تزل وتزيغ إلى حد الإنكار، إذ راحت تنفي - بغرور معرفي مدخول - المسائل الهائلة العظمى، لعجزها عن الإحاطة بها..(11/378)
فملاذ القُصَّرِ ومن خانتهم بصائرهم الكليلة عن إدراك دلائل الإيمان فيما يحيط بهم من علامات ربانية جلية ،هو الجحود والتشبث بالأضاليل، إذ أن رؤسهم الفارغة تأبى أن تنحني إلى الأرض وترعوي إلى سلطان الحق، فهي في شموخها الأرعن أشبه بسنبلة خاوية تتطاول برأسها إلى السماء، تتراقص مع كل هبة ريح، غافلة عن أن حتفها سيكون بفعل الريح.." إن الذين عجزوا عن استيعاب المسائل الإيمانية المحيطة الواسعة جدا، والعميقة جدا، في عقولهم الصلدة، الضيقة - معنويا- ويقروها في قلوبهم الفاسدة الميتة - تجاه المعنويات - يقذفون بأنفسهم إلى أحضان الكفر والضلال، فيغرقون.(1)
النورسي يسعى إلى تسييج العقيدة والإيمان في القلوب من خلال الحديث عن مسائل الغيب وما فوق العقل
لم يفتأ النورسي يسيج حِمى العقيدة مخافة أن تخترقها عاديات الوهم، وهذا من خلال تصديه للأفكار المغرضة التي كان ترويجها يستهدف ضرب القيم..
من ذلك تناوله لظاهرة الوحي.. فقد عقد حديثه عن موضوع الوحي من أجل أن يبين الحدود والفوارق المميزة بين (الوحي ) والإلهام..
ولا شكَّ أن الواقع التصوفي والطرقي الذي كان يومئذ ضاربا أطنابه في المجتمعات الاسلامية والمجتمع التركي بخاصة، دفع الداعية إلى وضع هذا البيان التوضيحي الذي قصد من ورائه إلى أن يعيد للوحي قيمته الروحية الحق .. تلك القيمة التي كانت كثير من الاجتهادات المتداخلة - بعضها ناتج عن جهل أو اعتقاد خاطئ، وبعضها الآخر متولد عن حقد وتبييتٍ ودسٍّ - ماضية في الاستخفاف بها، وربما أتت تلك التلبيسات في أحيان كثيرة، بطرق ملتوية مخافة إحداث الصدمة ..
من هنا كان ديدن المفسدين - للوصول إلى أغراضهم التشكيكية - الرفع المتواصل من شأن الإلهام، تكريسا لمكانة الدنيوي، ولو عن طريق تلك الصورة الروحية والاجتماعية التي كان التصوف يجسدها في الوعي الجماهيري المسلم..
__________
(1) الشعاعات ص139.(11/379)
الماكرون ينوهون بالإلهام، حطًّا من منزلة الوحي
فعلى اِيقاع التنويه بالإلهام، وما كان يجد أهل الحال من استشرافات ومواجد يثمنونها ويطلبونها بشتى السبل، كان الاهتمام الجماهيري العام يفرِّطُ في المنزول، وفي ما تواتر به الوحي.. لكأن الاشتغال المتواصل الذي كانت تشجعه المناهج الطرقية قد أرخى الحبال الممتدة بين روحية الأمة وبين كتابها، ورجح من شأن الإلهام النفسي من خلال التعاطي الدائم والتعظيم المستمر للمشغل الصوفي، الوجداني، ، مقللا على ذلك النحو من مكانة وقدسية الوحي..
وستستثمر القوى المدمرة هذه الحال، وسينتهي بها الأمر إلى حد الإدعاء بأن الوحي لم ينقطع، أو أن هناك من كان الغيب يلهمه التعاليم التي على الأمة أن تأخذ بها.. وهو ما سعت إليه حالات التنبؤ التي ظهرت في البلاد الاسلامية لاسيما حين احتكت هذه البلاد بالاستعمار الغربي ..
إنها آفاق خاسرة فتحتها قوى الشر في وجه الأمة حين وطنتها على تبجيل مصادر تلقين روحي بشرية، شخصية، وأحلتها محل القداسة والتعظيم.
ولقد كان من نتائج هذا التغليط الماكر أن تنبأ أفراد، وأعلنوا عن رسوليتهم، وشرعوا في بث تلفيقاتهم، زاعمين أنها من المنزول الموحى به إليهم ..
لقد بدأ الانحراف يستهين ويُهَوِّنُ أول الأمر من شأن الوحي وذلك بالرفع من قيمة المواجد والإلهامات، ثم لما تهيأت النفوس، وأدارت ظهرها للكتاب، مأسورة بما كان الدجاجلة يهيئونها له، ألقوا إليها بترهات قالوا إنها وحي يوحى .. فأخذت به تلك الأوساط الجاهلة أو هَمَّتْ أن تأخذ به، وفاتها أن تزهيدها بالوحي أول الأمر من قِبَل أولئك الماكرين كان ينبغي أن لا يورطها في الأخذ بما زعموا لها أنه وحي في الآخر..
لكنها مكائد الأفاقين ومن ورائهم المستعمرون يُلَوِّنُون لفرائسهم من الأمم المغلوبة، الحق بلون الباطل، والباطل بلون الحق، كيدا وتضليلا، إدامة للرَّتْعَةِ القذرة ولَعْقِ دَمِ الانسانية..(11/380)
النورسي يحسم المسألة.. ويقوّم حقيقة كل من الإلهام والوحي
على أن النورسي من جهة أخرى قد أقرَّ أن هناك من أوجه الإلهام الطاهر ومن دواعيه وتجلياته الربانية ما ينبغي أن يكون عاملا من عوامل الإيمان وتثبيت العقيدة
.. لذا وسع النورسي من نظرته إلى الإلهام لأنه رأى فيه مستوى من التواجد والمحاورة الشعورية المفتوحة على الروحي والغيبي.. بخلاف التوهمات الإستلهامية، الخادعة، التي هي في جوهرها اصطناعية، من قبيل ما يخطر لبعض أهل السلوك ممن ينشدون السكر والسوانح القطعية .. أولئك لا يهديهم إلهامهم إلا إلى ما يخامر بواطن النفس الخفية، أو ما تتوق إليه الرغائب الكبيتة، وذلك ما يحيد بهم عن الصفاء المحض الذي ترقرق به الوحي المتنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -..(1)
النورسي يستقرئ السيرة النبوية ويستخلص من إشاراتها وإفاداتها ما يخرس به ألسنة الجاحدين
ومن ناحية أخرى رأينا النورسي يَعْمَدُ إلى قراءة السيرة النبوية بالمنظور البياني التحسيسي ذاته.. فقد رأينا يتابع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقف عند كثير مما تحفل به تلك السيرة الطاهرة من آيات العظمة والسمو، باسطا القول فيها بما كان من غاياته أن يفحم دعاوى الطاعنين والمشككين في حقيقة الإسلام وفي سماويته..
بل لقد وجد النورسي في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجالا تواجديا، ظل يكترع منه مزيذا من الفيوض التي زكت بها نفسه المؤمنة وشفت لطائفها ..
__________
(1) أنظر الشعاعات.167(11/381)
بل لقد كانت تلك الاستدعاءات الخبرية والتأملية من سيرة النبي المعظم - صلى الله عليه وسلم - مواقف وأحوالا تعرف فيها تواجدية النورسي ذروتها، إذ أنه كان يتصفح كتابا من البيِّنات النفسية والخلقية المسددة بتوفيق الله ، ما أعطى للسجايا النبوية كل ذلك الوهج النوراني الذي كانت نفس النورسي لا تملك وهي تستجليه، إلا أن تبدي ما تبدي من الوجد، ومن التعلق، ما كان يغيبها عن منغصات الوجود، وما أكثرها ..
من هنا نتبين المنهج النورسوي في تثمير الرصيد الروحي والتراثي لمقاصد الدعوة،
فقد شكلت السيرة النبوية مرجع مدافعة وإمداد لترميم تلك التصدعات التي كانت معاول الإعداء المليين تحدثها في جدار الاسلام بغية تقويض أركانه، الأمر الذي جعل الداعية يقيم منهاج الدعوة الإفحامية على أسس تستثمر المادة الروحية العضوية- من كتاب وسنة - للمنافحة عن الدين..
من هنا كان له في تشغيل مادة التفسير وقراءة الآي الكريمة في ضوء وعي حداثي يضع نصب عينيه ما يجري على جبهة الصراع من عراك ودراك، وكان له في تأويل الأخبار والأحاديث النبوية، ما يطوق به الاختراقات الملية المسعورة..
استدعاء موضوعات الغيب منهج قصدي تترجح به كفة أهل الإيمان على الجاحدين الماديين
إن منهج ترجيح الكفة من خلال استدعاء موضوعات الغيب الذي اتبعته الرسائل، كان اختيارا فكريا وتربويا يعزز الروح الجهادية التي هدف النورسي إلى غرسها في النفوس من جديد :" إن رسائل النور قد سعت في هذا الزمان لإثبات وجود الجن والروحانيين بحجج قاطعة لتبطل مفهوم المادية الساري سريان الطاعون في البشرية، فنظرت إلى هذه المسائل بالدرجة الثالثة تاركة أمر تفاصيلها للآخرين". (1)
الإيمان بالغيب من الإيمان بالله
__________
(1) الشعاعات.393(11/382)
أكد النورسي الأسس الستة المكرسة للإيمان والتي تعتَدُّ في كليتها بشرط الإستيثاق من حتمية سفور وجه الغيب بكل وعود الخالق الدائم، هذا الغيب الذي طفقت تبلغ عنه رسالات الله، لا سيما الرسالة الإسلامية الأشمل والأوطد..
إن تلك الأسس المنوطة باليقين الروحي الحق هي الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وبملائكته وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.(1) وهي - كما نلاحظ - أركان روحية تتضمن في جملتها البعد الغيبي التمحيصي..
فركن الإيمان بالله يقتضي التصديق بما لا يحس أو بما لا يعاين - و بالتالي - بما لا يشخص .. وكذلك الحال فيما يخص ركن الإيمان بالملائكة، إذ أمر الملائكة مغيب، شأنه شأن اليوم الآخر، وشأن القدر ،وشأن الكتب، وشأن الرسل، إذ أن ما طفق يقرره الرسل عبر تاريخ بعثاتهم السماوية، ظل موضع طعن وإنكار من قبل الجاحدين في كل بعثة، رغم الدلائل والبينات التي كان الله يمد بها رسله تبليغا لتعاليمه، إذ لم يكن الإيمان بالرسالات ليتهيأ إلا لمن هيأ الله قلبه لعناق اليقين ..
"إن دلائل الوجود الحسي من حولنا تثبت وجود عالم الآخرة" (2)
فلا يسعنا أن ننكر ما أفادنا به القرآن العظيم الذي جعل من العقل والبيان التأملي المستنير حجته وأُسَّ برهانه ومصداقية أنبائه وتقريراته، إذ أن اِنكار تلك الآيات البينات المؤكدة بقاطع الحجة الكونية الظاهرة، انتحار مجاني، وإقرار - لا ينسجم مع المنطق والجِبِلَّة - بعبثية الوجود وصُدْفيته واعتباطية ما يكتنفه من نظم متداخلة، متراكبة، معجزة في الدقة والإطراد ..
__________
(1) م.ن. ص300
(2) الشعاعات ص.286(11/383)
إن القول بعدمية الكائن وبآنيته، وفنائه، هو قول لا يرتكز على روح.. وإننا إذا ما قيدنا الوجود الإنساني بتجربة حياتية، بيولوجية، محضة، أنتجتها - افتراضا - السيبة الوجودية، والصدفة المتوحشة، فكيف لا يحق لنا - وبالنظر إلى هذا الارتقاء الباهر الذي انتهت إليه حياتنا الفردية والكونية ضمن إطار الوحشية والصدفة الذي يزعم الزاعمون أنه أساسها - أن نتساءل عن سر عجز هذه الإعتباطية النمائية التي حققت مرافق هذا الكون وجهزته وعمرته بالمخلوقات التي لا تنحصر أجناسها وأصنافها ومستويات حياتها في لون أو شكل أو نظام، في أن تنشئ له الامتداد الذي يعطي للوجود معنى ومعقولية، ويبعده عن المصير الانسدادي المتوج بالموت كما يتوهم الدهريون ؟.
فإذا ما كفرنا بوجود الجنة مثلا أو جهنم أو بغير ذلك مما أنبأ عنه القرآن من أمور الغيب، فإننا نكون أغلقنا الأفق الرحيب الذي فتحه الدين وأعطى به معنى أبديا لكينونتنا.
إن الكفر بجهنم - وهي مثابة القصاص الذي أناطت به العقيدة سلوكنا غير القويم - هو انحياز للعدم المحض.(1). وهو بالتالي إقرار بهمجية الإنسان الذي لا قامع يكفه عن الخيانة والتعدي على حقوق الغير، إلا إذا أقر بما قرره الله مصيرا للمخلوقات ..
إذ أن الضوابط الموضوعية، الخارجية، لا تصمد طويلا أمام جنوحات الانسان، لو لم يكن لهذا الانسان قوامع أخرى ذاتية، يستمدها من أواصره بعالم الغيب..
الحكمة من وراء تناظر الخير والشر
" إن تقابل الخير والشر في هذا الكون واللذة والألم، والنور والظلام، والحرارة والبرودة، والجمال والقبح، والهداية والضلالة، وتداخل بعضها في بعض، إنما هو لحكمة كبرى، لأنه ما لم يكن هناك الشر فلا يدرك الخير، وما لم يكن هناك الألم فلا تعرف اللذة...فقياسا على هذا يمكن أن يعرف كل شيء من جهة بضده، وبوجود الضد يمكن أن تثمر حقيقةٌ واحدةٌ حقائقَ عدةً "..(2)
__________
(1) الشعاعات ص.287
(2) الشعاعات ص290.(11/384)
من هنا "كانت جهنم هي السجن الأبدي ". (1)
إن جهنم هي السجن الذي يمضي فيه الأشرار نصاب عقوباتهم .. وكانت الجنة دار الجزاءات الفردوسية..
العبادة تكفل السعادة،لأنها تحول القابليات الفطرية في الانسان إلى أحوال وسجايا
إن الالتزام بالشعائر والمواظبة على الفرائض، وبالتالي على العبادة، هو المسطرة السلوكية التي تثبت في الانسان محبة الخير والتمسك بالفضيلة ..فـ" ـالعبادة هي التي ترسخ العقائد وتصيرها حالا وملكة ..(وهي) سبب لسعادة الدارين..ولتوجيه الأفكار إلى الصانع الحكيم، إذ بالتواصل الفكري والروحي مع الخالق، تتحقق حكمة الوجود الإنساني .. (2)
النصر في النهاية هو من نصيب أهل الخير
لقد ثبت أن صراع الخير والشر يحسم دائما لصالح الخير ولو استمر ألوف السنين.. لأن غلبة الشر على الخير تستلزم عبثية القابليات والميول المودعة في استعدادات البشر، ليسود العالم وينال السعادة الأبدية في الآخرة..(3)
الاسلام سينتصر على الماديات ويسود العالمين بسماحته وقابلياته الانسانية الراسخة
وفي هذا السياق لابد من إدراج صراع الاسلام مع الماديات المفسدة في كل عصر ومصر .. بما في ذلك تحامل المادية الغربية في العصر الراهن.. فالعلاقة بين الوجودين الحضاريين علاقة تناف، لأن الغرب المتغطرس يريد ذلك..
ومما يرجح كفة المستقبل لصالح الاسلام - كما يرى النورسي – معطيات، في مقدمتها :
- كون جوهر الانسان جليلا وماهيته رفيعة وجنايته كذلك عظيمة وطاعته وانقياده مهمة..لذا لا يمكن أن لا ينتظم مع الكائنات ولا ينقاد للأوامر..(4)
- طبيعة الاسلام وقوته الذاتية المدعمة بالمعرفة والمدنية سواء التي استحصلها في مبتدإ انطلاقته أو التي سيؤسسها في انبعاثه الحتمي الذي بدأه منذ قرنين..(ما بعد القرن الثاني عشر) . (5)
__________
(1) الشعاعات ص290
(2) أنظر إشارات الإعجاز ص. 148.
(3) صيقل الإسلام ص.54.
(4) صيقل الإسلام ص 55.
(5) انظر صيقل الإسلام ص 49.(11/385)
- الصدمات والانتكاسات التي تتوالى على المسلمين ستبعث فيهم حمية النهوض ،وستنتهي بإقتلاعهم من مستنقعهم الآسن الذي انحدروا إليه حين ابتعدوا عن جوهر دينهم الحق..
- استعدادهم الفطري الذي صقله التوحيد وأنار الطريق من أمامه، وجعل قابليتهم للتفكير مهيأة، بتهيئ فطرتهم المستمدة من بداوتهم.. وما يتعمل في نفوسهم من ميل إلى الإقلاع والإقدام..
- الرغبة في التحضر والتمدن والنزوع إلى التجدد والتقدم المادي الذي يتوقف عليه إعلاء كلمة الله التي يأمر بها الإسلام ويدفع إليها الزمان، ويلجئ إليها الفقر الشديد والأمل الباعث للحياة بموت اليأس القاتل لكل رغبة..
-" إن أكرم الخلق بنو آدم، تشهد له استعدادته ومهاراته بذلك(1).، وإن اشرف بني آدم هم المسلمون الصادقون، وهم أهل الحق والحقيقة، تشهد لهم حقائق الاسلام كما ستصدقهم وقائع المستقبل .. وإن أكمل الكل هو محمد - صلى الله عليه وسلم - تشهد له معجزاته وأخلاقه السامية.(2)
لهذه الاعتبارات .. لا يفتأ النورسي يجزم بأن حقيقة الإسلام هي التي ستسود قارات العالم وتستولي عليها، لما يميز هذه الحقيقة من وجاهة لا يشيح عنها العقل، ولا يصد، متى ما انتهت إليه صافية على حقيقتها..(3)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 56
(2) صيقل الإسلام ص 54.
(3) صيقل الإسلام ص 23 .(11/386)
فمما غشى نصاعة الإسلام وجلاوته ما ظلت الثقافات الأسطورية والذهنيات الخرافية تُراكِمُهُ على مبادئ الدين الحنيف من زيف حملته الأمم والأقوام من وثنياتها ومن نِحَلِها التي كانت عليها وأدمجتها بتلقائية في الاسلام، ومارستها على أنها منه، ثم أضاف التطور الحضاري والتاريخي إليها ما جَدَّ من اعتقادات أفرزتها المجتمعات الإسلامية المفتوحة على الثقافات الكونية، والمتقلبة عبر أطوار من التبدي والانحطاط أضاف منسوبا آخر من التشويهات الثقافية والاعتقادية التي كانت تتوغل في العقلية المسلمة على حساب نصاعة الاسلام، الأمر الذي أذهب بجوهر الدين بحيث لم تعد معه العقيدة الاسلامية على صعيد الممارسة والاعتقاد إلا جملة من التقاليد التي تتوارثها الأجيال بما يلحق التقاليد عادة من تحوير شكلي سلبي متفاقم..
الافرازات المدنية المادية الضارة ستعمل على تحويل الانسانية إلى الاسلام
لقد طفقت المسيرة الحضارية تفرز مزيدا من فوضاها ومن الإرهاقات التي تخلخلت بها كثير من المسلمات المدنية والأخلاقية والروحية في نفوس البشر، الامر الذي أفسح المجال أمام شيوع السفاهة قيما وروابط، وهو ما سيستمر في زحزحة الإنسانية بعيدا عن الدين والفضيلة، لينتهي بها إلى ضرب الأسس ومعاكسة السنن الفطري والإجتماعي كلية، وفي ذلك دفع للإنسانية – بتجرع الغصص ومزيد من التقهقرات - كي تفكر في إيجاد البديل الروحي الذي يعصمها من الغرق، ولن تجد مثل القرآن دستورا يأخذ بيدها ويروِّمُها على مبادئ إلهية كريمة ..(11/387)
فمن شأن التباينات الاجتماعية القائمة داخل المجتعات المتحضرة من جهة، وتلك التي تعمق الهوة باطراد بين البشر في بقاع العالم العريضة، أن تسبب مزيدا من الشقاء والكفر بالمثل التي يتبجح بها الإنسان الغربي، الأمر الذي سينعكس في جنوحات لا دينية، لكن ذلك لن يستمر إلى ما لا نهاية، لأن منزع الانسان وفطرته يبحثان عن العاصم الروحي أبدا، وهو ما يجعل من الإسلام العقيدة المرشحة لاستيعاب العالمين قابلا..
عوامل سبق أوروبا في العصر الراهن
وإذا ظن بعضهم أن ما ترسخ للغرب من قوة ستوطد غلبتهم وتؤبدها، فإن النورسي يجيبه برؤية مغايرة، يبين فيها عوامل سبق أوروبا إلى المدنية، والشروط التي توفرت للإنسانية اليوم من أجل أن تتدارك ما فاتها، ويؤكد أن سبب تفوق أوروبا ورقيها هو العقلنه التي أخذت بها في برمجة أولوياتها، والتصميم الراسخ الذي صاحب تنفيذ نهضتها، والظروف المناخية القارية نفسها الداعية إلى التماسك والنهوض وإلى مد عرى الروابط وتبادل الخبرات، فضلا عن اطراد النماء الفكري والمعرفي الذي وجهوه وجهة عملية تطبيقية، واستثمروه بحرص وفورية في مجال الصناعة، استجابة لكثرة السكان واشتداد الحاجة إلى الأرض وإلى استثمارها هي كذلك..
كما أن واقعهم القاسي وما عرفه من مآس وانسدادات كان يحملهم على تكريس روح التنافس وتنازع أسباب الغلبة، وما لابس ذلك من شروط ظل فيها التعاون وتبادل الفوائد والمكاسب مستمرا بين الفئات والجهات استجابة لدواعي الاتصال بين البلدان والشعوب ..(11/388)
وقد نتج عن تطور الغرب استعداد كبير لحصول تطور الأمم كافة، إذ غدا العالم بمثابة القرية الواحدة، وصارت منجزاته عامة النفع، تتداولها الأمم في ذات الآن .. زيادة عن شيوع المعرفة واتساع مجالاتها ودنوها من العقول كافة، الأمر الذي سيتيح لنا - لا محالة - معشر المسلمين أن ننهض ونلحق بهم، بل وأن نسبقهم إن حالفنا التوفيق الإلهي، لأن حملهم ثقيل وحملنا خفيف" (1)
في فلسفة الجبر والاختيار أو الكسب والإرادة
الشرير فاعل لأفعاله مسؤول عنها .. والخيِّر تجري الأعمال الصالحة على يده، وهو مجازى عنها
تجري الأعمال والحوادث في هذا الوجود وفق إرادة الله، فلا حركة ولا سكون إلا بأمره، فالله سخر العباد وهيأهم لفعل الخير والشر ..
لقد أقر النورسي أن طبيعة هذا الوجود تتأهل للخير، والتعمير، والنماء، وان الشر هو العدم والفناء .. من هنا كانت أعمال الشر مفضية إلى العدمية، إذ العدم أساس الشرور ، ومن هنا كان الشر طارئا على الكون غير منسجم مع مراميه.. (2)
إن الأعمال الشريرة والعدمية والتخريبية - كما يقرر النورسي - لا تتطلب - أصلا - القوة والقدرة، فالفعل القليل أو القوة الجزئية، بل إهمال واجب ما، يؤدي أحيانا إلى نوع من العدم والفساد . لذا يظن الناس أن القائم بتلك الأفعال الشريرة هو ذو قدرة، بينما الأمر في الحقيقة أنه لا تأثير له إلا من خلال روح العدم التي يجسدها المخرب بسلوكه التدميري، ومع ذلك فليس له من القوة التي يدمر بها ويفسد إلا شرط الكسب الجزئي..
وواضح هنا أن النورسي – حتى وهو يرسي أساس هذا المبدإ - فإنه يسدد سهامه نحو طاقم البغي والطغيان، من حكام تلك المرحلة الذين كان جبروتهم الإرهابي، والمقوض لأركان الدين، يصورهم للناس عظماء وأصحاب قوة..
__________
(1) صيقل الإسلام ص51 .
(2) الشعاعات ص320.(11/389)
إن العامة تفسر مثل هذا الأحوال بسذاجة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.. الأمر الذي يزيد من عتو الجبارين، وذلك ما يجعلهم يسقطون في وهدة حب الشخصية وما يستتبعها من عبادة للأشخاص عن هوس وانعدام وعي..
فالشرور هي رديف للعدم ".. ولما كانت تلك الشرور ناشئة من العدم، فإن أولئك الأشرار - الذين اقترفوها - يعدون هم الفاعلون الحقيقيون لها..وهذا يعني أن أولئك الأشرار الفاسدين هم فاعلون للسيئات، أما في الحسنات والخير والأعمال الصالحة، ولأنها وجودية، فإن الأخيار ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لها، وإنما هم أهل لكي تجرى الحسنات على أيديهم، فيقبلون الكرم الإلهي.. والقرآن الكريم يوضح هذا بأمره : (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) النساء:79
الإسرائيليات والفلسفة وروح القرآن العظيم
يقرر النورسي أن المسلمين انخدعوا حين تحولوا بنظرهم إلى الجانب الشكلي من عقيدتهم، وقصروا الجهد على تعهد القشور وتناسوا اللباب والجوهر، الأمر الذي حد من الفائدة التي يفترض أن يجنوها لو أنهم لابسوا عقيدتهم بعمق وحصافة : لقد انخدعنا فتركنا جوهر الاسلام ولبابه، وحصرنا النظر في قشره ظاهره ".(1)
فلقد توهمنا المجازات حقائق، وإدخلنا الخرافات وثقافة الاسرائيليات في الدين، فحدنا عن العقيدة الصحيحة..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 22.(11/390)
ذلك لإن واقع الجهل الذي ربَطَنا بديننا، جعلنا نتمادى في الابتعاد عن مراميه البناءة حتى بات الدين غريبا بيننا، ومما زاد الوضع تفاقما انحرافنا المعرفي عن أصول هذا الدين القويم ، إذ أن جهلنا بحقائقه جعلنا نُدْخِلُ فيه من التعاليم والفهوم ما ليس منه، لا سيما ما يسمى بالإسرائيليات، إذ أنزلنا تأويلات الحدس التوهمي وثقافة الاسرائيليات منزلة الأصول المعرفية المقطوع بصحتها، وأدخلنا الحكايات المتخيلة في فحواه ومزجنا مجازاته بحقائقه، فبخسنا حقه، فجازانا بالإذلال والسفالة في الدنيا ". (1)
فالمظاهر الشكلية التي يمارس المسلمون بها دينهم جهلا وحيدة عن الحق، نفرت الأجانب في الدين الاسلامي وحالت دون اعتناقهم له..
على أنه مما حال ويحول بين الأجانب وبين اعتناقهم الإسلام كما يرى النورسي :
"..التقليد والجهل وتعصبهم وسيطرة القسس عليهم .. فهذه العوائق لم تترك أعين الأجانب تتفتح لتنعم بنور العقيدة الإلهية الموجهة للعالمين..
أما الموانع التي قامت حيال الإسلام من قِبَلنا فتتمثل - بحسبه - في : الاستبداد المتنوع، وسوء الخلق، والأحوال المضطربة، واليأس الذي تنجم منه العطالة.(2).
ومما يكون زاد من توسيع الهوة بين الدين الاسلامي وبين الأجانب، الاعتقاد بأن مبادئه تتناقض مع حقائق العلم .. لكن هذا الاعتقاد وهمي، لأن انتشار المفاهيم العلمية والكشوفية بين الأوساط والمجتمعات البشرية لا يفتأ يؤكد استقامة روح الاسلام وانسجام رؤيته للكون والظواهر مع قوانين العلم ومنطق الأشياء والفطرة ..
فمنهج القرآن التوصيلي راعى منطق البداهات وصدر عنها، التماسا لإشاعة الحجة من غير تكلف ولا اعنات..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 22.
(2) ص.23(11/391)
لقد راعى القرآن حال المتلقي العادي ومنطقه الحسي، وخاطبه من خلال مقاربة إعلامية وتنويرية لا تخرج به عن منطق البداهات .. فطريق الاستدلال التي سلكها القرآن قامت على مراعاة " حسيات العوام لأجل إفهامهم وإرشادهم، أي بذكر الدليل وهو انتظام الكون بوجه يكون معروفا لديهم، وتأنس به عقولهم ..وبخلافه يكون الدليل أخفى من المُدَّعَى، مما ينافي طريق الإرشاد ومنهج البلاغة ومذهب الإعجاز".(1)
كيف شوه دخول الإسرائيليات وقسم من الفلسفة اليونانية الأفكار والحقائق التي جاء بها الإسلام
مما لا ريب فيه أن النورسي قد تجاوز الأخذ بالمعرفة الفلسفية، لا سيما الوضعية منها، ذلك لأنه ينطلق من ضرورة تأصيل المعرفة النيرة التي منبعها الفحوى القرآني، ذلك المقرر المصون والراسخ العلوية والمنزولية..
من هنا كان لزاما على الأمة أن تضع في صدارة منطلقاتها المعرفية : (الوحي) ..
وإذا كان هناك من مضامين هذا الوحي ما يستحق التأويل، فلا ضير من أن يتصدى أهل الذكر إلى النص، يتأولونه ويستنبطون منه أحكامهم ويستنيرون بأنواره..
الرؤية النورسية وتأصيل المعرفة وأسلمتها
إن الرؤية النورسوية بهذا الاشتراط التأصيلي هي رؤية تنادي على نحو أو آخر بالصفاء المعرفي، أو بأصالة الروح والأسس التي ينبغي أن تتوفر للمعرفة الإسلامية..
وإذا تساءلنا عن مدى صواب هذه الرؤية، فستجابهنا – حتما - حقيقة الواقع المعرفي الذي ظل الغرب اليهودي- المسيحي يعمل على ترسيخه، انطلاقا من مبدإ أنْجَلَةِ المعرفة وطبع المعارف مهما شذت بطابع الكتاب المقدس..
__________
(1) صيقل الإسلام ص30.(11/392)
لقد ظلت الانتفاضات المعرفية في الغرب تنطلق من مبدء ارتدادي يسعى دائما إلى التخلص من الانسدادات المعرفية من خلال استدعاء الأصول التي أسست لثقافته ومنجزاته الفكرية، فكانت الثقافة اليونانية و اللاتينية والمقرارات الانجيلية أهم القواعد الخلفية التي ما فتئ الغرب، عبر أجياله وطفراته المعرفية، يتنجز بها كشوفه ووثباته في مضمار الفكر والمعرفة..
ولا عجب أن تحجب هذه الروح المعتدة بتراثها عن الغرب رؤية منجزات الأمم والحضارات الأخرى ..
بل إنه لعجب أن يفتأ الغرب يستلهم المعرفة من حظائر مدنية خارجة عن نطاق الكتاب المقدس والثقافة اللاتينية، ولكنه طفق يصطبغها بألوان تينك المصدرين ويضفي عليها خصوصيتهما، متماديا في الادعاء بامتياز المنطق والزخم التراثي الذي تأثله من مخزون حضارته القديمة وكتابه المقدس..
لقد نشأ ما يسمى "اللوغوسانتريزم " المعرفي، أو المركزية المعرفية من هذا الاعتداد الغربي الذي أعماه عن قول الحقيقة، وجعله يمضي نَهِمًا يسترق الفوائد من تراثات العالمين، دون الاعتراف بذلك، زاعما أن معرفته ومنطقه هما الإطار الذي على كل ثقافة تريد أن تنطلق إلى العقلنة والوثوب الفكري أن تأخذ به..
من هنا توجب علينا أن ندرك الرؤية التي كان النورسي يريد أن يرسيها حين نادى بالخلوص المعرفي الإسلامي ..
لقد كان واثقا من أن القرآن العظيم يتوفر على المنطلقات الكافية، والمنتجة لبناء معرفة اسلامية، تتجنب الوقوع في ميثولوجيا اللاتين، وفي تصورات الكتاب المقدس الملآى بالترهات والأساطير، ومن حتمية المنطق الصوري الإغريقي الذي أسس لما يعرف بالسببية وظاهرها وجعل مفهوم الحتمية يزحزح ذالإيمان بالخالق عن الحلبة..(11/393)
إن النورسي بمناهضته المعرفة الفلسفية المادية والوضعية الغربية، لا سيما القديمة منها، إنما يدعو صراحة إلى بناء نوع من اللوغوسانتريزم الإسلامي القائم على تزاوج عقلي روحي، بريء من تفسخات الطرح الغربي المتورط في الدناسة بتأثير مقررات كتابه الذي لم يوار السوءة، ولم يحرص على الاحتفاظ بوقار الوسائط الروحية كما يجب أن تكون مطهرة مبرأة من الشوائب..
النورسي لا يسد باب التلاقح الفكري والتفاعل المعرفي
إن الخلوص المعرفي الذي ينادي به النورسي لا يسد باب التلاقح الفكري البناء، فالحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أنى وجدها، لذا رأينا النورسي يستثني الجوانب البناءة التي تمكنت الفلسفة الحديثة من أن تدشنها، لاسيما تلك التي تتماس مع الحقيقة العلمية والعقلية، وهو ما يجعلها تتلاقى مع تحفيزات القرآن العظيم التي تنوه بالعقل، وتدعو إلى توخي الموضوعية، ونشدان الحقيقة..
ولا غرو أن ينادي النورسي بتأصيل معرفة اسلامية خالصة ،مقتنعا بأنها هي المعرفة التي تلائم التطور الانساني وتستجيب لمتطلباته، ذلك لأن النورسي ظل - في كثير من طروحه - يتنبأ بالتلاقي الحتمي بين النصرانية والمسيحية على مبدإ الانتصار لدين الله .
فقد رأى النورسي أن الإحباط الذي يتفاقم من حول الانسانية باطرادٍ داهمٍ سوف يضيق من الشقة بين الروحانيين، وسيوحد بينهم، وسيكون ذلك تمهيدا لعودة السيد المسيح عليه السلام، هذه العودة التي تجعل الصلة بين الأمة المحمدية وبين رسل الله تتصل وتكتمل ..
فالقيمة الرمزية التي يتضمنها إيمان السيد المسيح المرتقب عليه اللام بالمهدي المحمدي، وصلاته خلفه، هو إيمان بالنبي محمد- صلى الله عليه وسلم - ، أي هو الوجه العملي الناقص الذي ينتظر الاسلام من الأمم الكتابية - لا سيما المسيحية- أن تستكمله ..(11/394)
فقد آمن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء والرسل السالفين، وجعل ذلك من أسس إيمان أمته، إذ أمة الاسلام هي الأمة الوحيدة التي لا تتعقد إزاء مسألة التوحيد، فكل من دعا إلى الوحدانية على بينة ومن خلال كتاب إلهي من الرسل آمنت به وبجلته وأنزلته منزلة التقديس ( لا نفرق بين أحد من رسله ).. فلا غرابة والحال هذه، أن يكون المآل للإسلام ، وأن تكون المعرفة القرآنية هي الحاسمة والسائدة..
من هنا كان سعي النورسي إلى الدعوة إلى تصفية روح الثقافة الإسلامية مما شابها من تلويثات الفلسفة والثقافة الكتابية غير المطهرة .. ذلك أن أي انجاز معرفي متأصل، ونابع من كتاب ترشحه الدلائل الروحية والعلمية إلى تتويج عالمي قابل، هو من أوكد المهام التي على المسلمين أن ينهضوا بها، دون أن يصدهم ذلك الهدف عن ممارسة واقتناص النير من المكاسب المعرفية الانسانية، أينما وجدوها، فالحكمة نور الله يؤتيها من يشاء، ونور الله لا ينبغي أن يحتكر، أو أن يستغل في ما لا يخدم الانسانية..علما بأن باب العلوم الاستراتيجية، بل وحتى التطبيقية موصد في وجه المسلمين اليوم.. كما ظل دائما..فالغرب يحذر من نهضتهم ويعمل ما في وسعه من أجل حرمانهم من نقل العلم والتكنولوجيا إلى ديارهم .. ولا زالت الوقائع الظاهرة والخفية تفضح مكر الماكرين.. لكن المؤكد أن الأمة باتت اليوم تضع خطاها الأولى على سكة الانطلاقة التي لن تكون هذه المرة –بإذن الله - إلا موفقة.. فقد طال قعود الأمة، وتجرعها للمرارات.. لقد تعلمت، لا سيما وهي تجد نفسها حيال واقع محزن من الخذلان والعراء..
التوجيه الأصيل للمعرفة الاسلامية
لقد تركزت قابليات العرب واستعدادهم الروحي على " معرفة الدين وحده، ولم يك نظرهم المتوجه إلى الكون من نوع التفصيل الفلسفي، بل كان نظر استطراد ليس إلا." (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 34.(11/395)
لقد ألهمهم المحيط والبيئة التي استنبتتهم ذلك الذوق المرهف، وربى القرآن العظيم فطرتهم النقية، فساروا على فهمٍ للدين والقرآن سوي، وهو ما يَسَّرَ عليهم النهوض بجسيم المأموريات في خاطف من الوقت مكنهم من أن يسودوا أمما ورقاعا من الأرض، وأن ينشروا بينها معرفة نيرة قوَّضت أسس الوثانة وزعزعت أركان المعارف القديمة ..
لكن انفتاح العرب المطرد على الأمم جعلهم يحتكون بثقافات ومعارف نابعة من عقليات ليس لها حظ من إدراك الاسلام ومن وعيه الكوني وحكمته، الأمر الذي سرَّبَ الشوائب المعرفية إلى جوهر الدين - أصل المعرفة الاسلامية ومعينها الأم - إذ لم يعد تحركه مدارك العرب الصافية والتي مكنتها تربية القرآن من أن تتمثله في عهده الأول وتستفيد من أنواره على نحو عملي، إطرادي، بل لقد أضحى التفعيل العقلي للقرآن وللعقيدة مشوبا بمحمولات ثقافية وقيمية جلبتها إلى الحظيرة الإسلامية الأمم والأقوام الأخرى التي تداعت إلى الإسلام، ولم تمكنها الظروف من أن تتطهر مما كان يعلق بعقلياتها من آثار بيئاتها ومجتمعاتها، فكانت النتيجة أن تأثرت حكمة الإسلام وتعاليمه الناصعة الطهر، وفقدت جوهرها الروحي السامي على المدى..
المعرفة الاسلامية ومغبة التفتح على الثقافات الأممية والكتابية بالخصوص(11/396)
فالأمة العربية التي أخذت بعد البعثة تحتضن الأقوام الوافدة إلى حظيرة الدين الاسلامي مكنت للثقافات الأخرى من أن تندمج في البوتقة المعرفية الإسلامية ،إذ " دخلت معلومات سائر الملل وعلومها أيضا حظيرة الاسلام، ثم وجدت الاسرائيليات المحرفة منفذا إلى خزائن خيال العرب، فأسالت مجرى إلى تلك الخزائن، بإسلام عدد من علماء أهل الكتاب كـ" وهب" و"كعب"، فامتزجت الإسرائيليات بالأفكار الصافية ،وفضلا عن ذلك وجدت الاحترام والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء أهل الكتاب قد تكاملوا بشرف الاسلام ونالوا به مكانة فائقة، لذا غدت معلوماتهم الملفقة كأنها مقبولة ومسلَّم بها فلم تُرَدَّ، بل وجدت آذانا صاغية لها من دون تنقيد، وذاك لعدم مصادمتها بأصول الإسلام، ولأنها كانت تروى كحكايات لا أهمية لها
.. لكن ياللأسف، قبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائق وأصبحت سببا لكثير من الشبهات والشكوك". (1)
لقد تلاقت تلك القصص والأخبار الكتابية مع بعض إيماءات الكتاب والسنة، فتقبلها المسلمون على ظاهرها، وعلى ما جاءت عليه، وفسروا الأيات والأحاديث بها، وذلك ما أدخل الزيف في مرصودنا الروحي.. لقد فسر " المفتونون بالظاهر الذين لم يجدوا بسوء اختيارهم مصدرا غيرها، ولم يتحروا عنه، فسروا قسما من الآيات والأحاديث بتطبيق الاسرائيليات عليهما، والحال أن الذي يفسر القرآن ليس إلا القرآن والحديث الصحيح، وإلا فلا يفسر القرآن بالإنجيل والتوراة المنسوخة أحكامهما والمحرفة قصصهما. " (2)
الظاهريون أدمجوا الشوائب وطبقوا معارف مهجنة على روح القرآن، فأساؤوا للقرآن العظيم
__________
(1) صيقل الإسلام ص 34.
(2) صيقل الإسلام ص.34(11/397)
لقد سعى علماء مسلمون - بعد أن تبينوا مدى الأذى الذي ألحقته الفلسفة والاسرائيليات بالفطرة وبالاستيعاب السليمين للمنزول السماوي - إلى أن يفرزوا الفلسفة وأن يميزوا الاسرائيليات عن دائرة الإسلام. لكنهم لو يوفقوا كليا، ذلك لأن الأمر كان من الاتساع بحيث شمل نطاقا مهما من الحقول المرتبطة بالتراث الروحي، وتكرس على أصعدة تأويلية كثيرة وأضحى تعاليم متواترة، بعد أن اعتمد العلماءُ والنقلةُ تلك التعاليمَ، وتوارثتها الإجيال وبنت عليها معرفة ظنت أنها ملِّيَّة خالصة ..
ذلك أنه " لما صرفت الهمة إلى تفسير القرآن الكريم .. طَبَّق عدد من الظاهريين منقولَهُ على بعض الاسرائيليات، ووفَّقوا بين قسم من معقوله والفلسفة المذكورة لِمَا رأوا من شموله على المنقول والمعقول، وكذا الحديث النبوي، فبدلا من أن يستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة، استنبط طائفة مطابقة و( أوجد) علاقة بين بعض نقلياتها الصادقة وبعض الاسرائيليات المحرفة وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفة الموهومة المموهة، ظنا منهم أن هذه المطابقة والمشابهة تفسير لمعاني الكتاب والسنة وبيان لمقاصدهما..(1)
إن الابتعاد في فهم القرآن عن منهج الفلسفة شرط للنجاة من براثن الوهم واللاهدى المعرفية..
البلاغة العربية مفتاح فهم الخطاب القرآني
تظل مقومات البلاغة العربية هي الأسس والمفاتيح الأصيلة لقراءة وفهم القرآن.
من هنا قرر النورسي أن فهم الكتاب المبين إنما يقوم على الواسطة اللفظية التي شكلت جينات( مُوَرِّثَاتٍ إذا صح القول ) مادته البلاغية المنزلة، ومغارس زرعه المكرم ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص35.(11/398)
فالتوسل باللغة وبالبيان القويم الصافي هو الجسر الوطيد الذي ينبغي أن نمر عليه لفهم محمولات كتابنا، وليس عن طريق الفلسفة وما يثقل كاهلها من فذلكات واحتمالات، ومن صناعة منطقية إن دلت على شيء فإنما تدل على استرابة العقل في ذاته وفي مقدراته وعدم الجزم بأهليته لاستبانة الحقائق الكونية الجلية..
يقول النورسي : " من المقرر أن المعنى هو ما صبته الألفاظ في الصماخ نافذا في الذهن، منتشرا منه في الوجدان، مفتحا منه أزاهير الأفكار، وإلا فليس هو ما تسرب في خيالك من احتمالات لكثرة توغل أمور أخرى، أو ما سرقته وملأت به جيبك من أباطيل الفلسفة وأساطير الحكايات، ثم أخفيته في معاطف الآيات والأحاديث، ثم أظهرته ممسكا به في يدك تبرزه وتنادي : هذا هو المعنى، هلموا لأخذه ..فيأتيك الجواب : ياهذا، إن المعنى الذي استخرجته مزيف، عليه علامة التقليد ،يرده نقاد الحقيقة، وسلطان الإعجاز يطرده من ضرب سكته.. (1)
لقد رأى النورسي أن التفسير حقل مفتوح على الثقافات والبيئات، إذ هي تفسره وفق ناجز معداتها العقلية والفكرية، حيث أن الزمن واحد من الفواعل المفسرة للقرآن، لكن الأفكار العلمية الراجحة تظل من أهم ما يتطابق مع فحوى الكتاب المبين. فالأفكار العلمية تهذب الثقاتفات التي تروج في البيئات والمجتمعات، وبالتالي تهيئ تلك الثقافات لأن ترتقي إلى العلمية، وهناك تتلاقى مع القرآن الذي لا ينطق عن الهوى.. (2)
في البحث البلاغي
حدُّ فقه الخطاب القرآني أن يسلك الطريق اللساني البلاغي.. وليس الطريق الفلسفي
__________
(1) صيقل الإسلام ص 36.
(2) صيقل الإسلام ص 37.(11/399)
لقد قاد منهج الاقتراب التأويلي الذي سلكه النورسي في بحوثه وتأملاته الفكرية إلى الخوض في موضوع البلاغة واللسان ،و إلى معالجة قضايا فلسفة البيان .. ليقرر -بعد تمرس عميق - أن السبيل إلى استكناه حقيقة الفحوى القرآني إنما طريقها استيعاب أسس بلاغة العرب وأعراف منطوقها وليس السعي إلى تحقيق ذلك القصد بواسطة تحكيم الفرضيات الفلسفية ومسلماتها..
لقد تحدث النورسي في المقالة الثانية من كتابه " صيقل الاسلام " عما أسماه عنصر البلاغة، فتناول ظاهرة تَكَوُّنِ الكلام وصلة اللفظ بالمعنى، وظاهرة الترادف وتعدد الدلالة، وطبيعة الصورة ومسار تشكلها في عملية بناء الخطاب .. (1)
ومن الواضح أن النورسي كان متأثرا بالمدرسة الجرجانية القائلة بنظرية النظم.. لقد عزا للعجمة واستفحال أدوائها، سبب تفاقم الظاهرة الشكلية في اللغة العربية، وذلك حين تركزت الجهود على الجوانب اللفظية، وتناست أن البلاعة هي نظم المعاني .. لقد نوه النورسي بعبد القادر الجرجاني، ووصفه بالعملاق . (2)
ومما قرره النورسي في هذا السياق أن تعاطى الأعاجم والدخلاء لصنعة البلاغة العربية قد حول الذوق البلاغي عن مجراه السليقي العربي المطَّرِد في بناء الفكر والإعراب عن المقاصد من خلال فاعلية نظم المعاني، ليضحى ذلك الذوق مأخوذا بعملية صناعة اللفظ والاهتمام بالشكل والقشرة.
فالأساس في الأفكار - كما يقرر النورسي - أنها تجري من خلال انتظام المعاني، أي بواسطة منطق يستوعب الأشياء والمدلولات ويسوقها إلى الذهن على هيئة مرتبة تمكنه من أن يباشر مهمة التوصيل والتبليغ القويمة ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 108.
(2) صيقل الإسلام ص 98.(11/400)
فالمبتدئون من الأقوام المنتمية إلى الحضارة العربية، وإلى اللسان العربي أعاروا العناية للفظ، متأثرين بالوازع التعليمي الذي كان يستجيب للحاجة اللفظية وتحصيل المرصود المعجمي الذي يوظفونه كلاما وكتابة.. من هنا غدا حب اللفظ والحرص على تقديمه والصدور عنه في المخاطبات، مرضا أصاب الثقافة العربية الإسلامية بالترهل وهوى به في حضيض الصنعة الشكلية..
إن الكلام الحي يشيع الحياة في المدلولات، ويجعلها ماثلة أو ناطقة حيال الذهن، وهذا نتيجة لما يضفيه عليها النطق الخطابي من حيوية وحضور تتشخص به المجردات، وتتماهى من خلاله المعقولات..
فالأسلوب هو القالب المقدود الذي يتمظهر فيه الكلام، لذا كان دور الخيال في بناء المعطى الكلامي شرطا حيويا، إذ أن الإعراب عن الموقف يتخطى الخطية والتماثل العيني الذي تأخذه الأشياء والمدلولات في ساحة الواقع، لينتظمها سلك معنوي يؤدي فيه الخيال وظيفة إلحامية وتمثُّلية تمكن ذهن المتلقي من أن يلمس ما يوعز به القائل، من خلال المعطى القولي، دونما استغلاق..
من هنا كانت مراتب الأسلوب تتفاوت بحجم تفاوت مُقَدَّرات الخيال التي يتوفر عليها كل متكلم، وهو ما تعكسه - من خلال ما تبدعه القرائح - مستويات الجمالية المتباينة التي تتوفر لمنتوج كل مخاطب على حدة ..
فبنية الخطاب تنتهي إلى سقف بيانيتها حين تتوافق عناصر الخطاب ومواده اللغوية و تتلاحم ثم تتظافر باقتدار وأصالة على أداء المعنى القصدي، فلا يكون بينها حشو ولا نبو ولا تخرج لبنة لفظية منها عن مساقها المعنوي الذي تهيأت له ، فعندئذ تستوي البنية الخطابية وتحوز الكمال، وذلك هو ما تأهلت له بتفَوُّقٍ لا مردَّ له الآياتُ القرآنيةُ، إذ " أن جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن ". (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 102(11/401)
إن البلاغة لا تقتضي الاستواء التصويري والتواتر الحسي والخطي فحسب، بل إنها ببساطةٍ تفجُّرٌ بيانيٌ متموجٌ، إذ المعاني تتوالد في تشكيل ُصوَّرِيٍّ، وتتساوق في طبقات أدائية متلائمة.. ذلك لأن الموقف الكلامي هو جماع متكامل من الأهتزازات النغمية والأحاسيس الوجدانية والتسديدات الفكرية والمؤثرات الخارجية التي تتخذ شكل استجابات فيزيقية ( صوتية) في ضوء قابلية إدراكية تتصفى بها خامية الموقف الكلامي في رسالة يوجهها باثٌّ لمُتَلَقٍّ، وتَتَخرَّجُ المقول في قامتها المكينة ..
فمن هذه البوثقة المعقدة التي ينصهر فيها الكلام وينبثق جملا وسياقات تتأدى بها الرسائل والصِّلاتُ القولية، تتولد جزئيات الكلام وتفاريق الخطاب، لتبني شبكة معنوية وحسية ( صوتيه ) لها فحوى، ومنطق، وصورة أدائية نافذة..
" فمن ذلك النبع ينفجر مسمى الاسم، ومعنى الفعل، ومدلول الحرف، ومظروف النظم، ومفهوم الهيئة، ومرموز الكيفية، ومشار المستتبعات، ومحرك الأطوار المشايعة للخطاب، ومقصود الدال بالعبارة، ومدلول الدال بالإشارة، والمفهوم القياسي للدال بالفحوى، والمعنى الضروري للدال بالاقتضاء، وأمثالها من المفاهيم، كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة". (1)
على أن الأهم في تأدية الموقف الكلامي -بحسب النورسي - أن تراعى العناية بالمقاصد وأن يجري توزيع الاهتمام بالإشارات توزيعا عادلا، بحيث يأخذ كل معنى من المعاني المتزاحمة في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبه وحظه بنسبة قربه من مركز العرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الأساس، وذلك ليحصل بتلك المعادلة : الانتظام، ومن الانتظام، التناسب، ومن التناسب حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق، حسن المعاشرة، ومن حسن المعاشرة ميزان التعديل لكمال الكلام ".(2)
للكلام سفارة وبروتوكولية أدائية مرعية
__________
(1) صيقل الإسلام ص 105.
(2) صيقل الإسلام ص 107(11/402)
من الثابت أن للكلام سفارة.. ومكونات الخطاب هي الوفد الذي لا يمكن أن تغيب عنا أدوار عناصره ضمن نطاق المهمة المتوخاة.. فوظيفة كل عنصر لا تشترط بروز مكانة ذلك العنصر بالضرورة، إذ أن منزلة ما، قد تبدو ثانوية في سلك الخطاب، تعد مركزية بالنظر إلى قيمة الارتكاز المسند إليها ضمن السياق..
ويدل على هذا الاقتضاء، رتب الكلام ودواعي التقديم والتأخير والحذف والإماء التي تشرطها البلاغة..إذ أن في تقديم هذا العنصر الكلامي أو ذاك أحيانا قصدا تركيزيا يقتضيه شرط الإفصاحُ المبينُ..
فالمقام يقتضي تواشج المكونات الخطابية في ما بينها تحقيقا للإبانة وللاِشراق الجمالي الراسخ..
إن للبيان فلسفة افصاحية متعددة المناحي والمستويات، وهذه الفلسفة تتبدى على صعيد القول الشعري في صورة فنية مخصوصة، وتتبدى على نطاق النص النثري في صورة أخرى.. وهو ما يعكس الرؤية التي تأخذها الحقائق الموضوعية في ذهن ووجدان الباث.. فإذا كان الشعر هو لغة الإيعاز، فيجب أن تغدو صورة الحقائق التي تعرب عنها الشعرية، صورة إيماضية، إشارية، لا تعبأ بتحقيق العلائق والترابطات الموضوعية ( الواقعية ) التي يظهر بها المشهد الحسي من خلال خطوطه وتجسيماته الشاخصة والمسترسلة في التفاصيل التي تتعين بها أشكال الأشياء وجسومها في عين الحقيقة ..
على عكس النثر الذي يدقق في ماهية الأشياء ويواصفها في كلية أعيانها وقوالبها وجزئياتها وخطيتها وشيئيتها الخارجية أو الحسية..
من هنا كانت بلاغة الكلام الشعري تحتوي على ظلال الحقيقة أو على ما يشبه الحقيقة كما يقول النورسي، لأن رسالة الشعر مناطة بالوجدان، فيما كانت بلاغة النثر تحتفي بالحقيقة العينية، إذ هي تتوجه في مقام أول إلى العقل..(11/403)
فكما أن للنحو فلسفته التي تظهر في معيار التناسب والتواصل بين مقومات الكلام، فكذلك للبيان فلسفته ومحورها " التمثل بنواميس الحقائق الخارجية ومقاييسها.. أي تمكين قوانين الحقائق الخارجية في المعنويات والأحوال الشاعرة من حيث القياس التمثيلي، وبطريق الدوران وبتصرف الوهم ". وهو ما يجعل " البليغ يتمثل أشعة الحقائق المنعكسة من الخارج كالمرآة، وكأنه يقلد الخلقة، ويحاكي الطبيعة بصنعته الخيالية، وبنقش كلامه..". (1)
ولما كانت عملية صوغ الكلام موصولة بالكيفية الدقيقة التي تتراصف بها المعاني وتترابط، بحيث يتولد من ترابطها مدد إدلائي معنوي تتعزز به القابلية الأدائية للخطاب وتتسع طاقة الإعراب، كان على الباث أن يعي باقتدار وبحساسية إفصاحية متناهية، ذلك التحول الدلالي الذي تأخذه الالفاظ حين تمارس عليها القريحة ضربا من التفريغ لتشحنها بدلالات مستجدة، تكتسب بها معطى أدائيا فيه إيحاءات هي جُماع لأصداء المعنى المتجاوز وروح المعني المودع، وظلالا من هذا وذاك تكتسب بها الخطابية نكهة الجدة والتناسب التي يقتضيها المقام..
فتلقيح المعاني وتشريب بعضها ببعض، وجعلها تتجاذب فيما بينها وتستمد من ذاتها ومن مستتبعاتها قِوامَ إفصاحيتها، هو ما يضفي عليها هالة جمالية ترفل بها طبقات المعنى، ويخرج الكلام من عتبة التسطح، إذ بدون ذلك التلاقح يكون الكلام " عريانا، عاطلا من حلة البيان". (2)
فجمالية الكلام تقوم أساسا على سماكة معناه، وعلى قابلية الإيعاز التي يحققها ترادف ألوان الدلالة فيه ..
فالمعنى العاري معرَّض للابتذال والبِلى، لأنه وليد التعاطي الإجتماعي العمومي، ومجاله بطبيعة الحال النثر الحياتي الذي تتداول به الطبقات الإجتماعية شؤون حياتها وتعيينات مشاغلها ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 108 .
(2) صيقل الإسلام ص 109.(11/404)
أما مظاهر الجدة الأدائية والصون المعنوي، فهي التي تنبثق من قلب اللغة، وتشف عنها هالة القناع المجازي البكر، فتظل في ستر المصونية، لا تسأم العقول من تمليها وهي على تلك الهيئة غير المنتهكة، وإنما تنشط الحاسة في تشرب مكوناتها الدلالية، ويستقرئ العقل في مقومات عذريتها مزيدا من الإفادة ..
فـ"الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو أن المقاصد القادمة من أبعد هدف وأعلاه - وهو مقصد المقاصد- يرتبط بعضها ببعض، ويكمل أحدها نقصان الآخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأن وضع هذا في موضعه يُمَكِّنُ الآخر في مكانه، ويقر الآخر في مستقره .." (1)
فالتعالق المعنوي من أهم وسائل بناء المقاصد، وجعلها تتكشف على نحو استعاري، وذلك هو ما قصد إليه الجرجاني بعبارته " معنى المعنى.."(2). وذاك هو أيضا ما نوّه به النورسي وصدر عنه في ما كتب بالعربية على الأقل..
ذلك أن الفحوى الذي يهدف إلى بنائه خطاب ما، يقتضي - ضرورة - أن تتواطأ معطيات السياق جمله في التدليل عليه والإدلاء به..
ولا يمكن في هذا الصدد أن نعتبر تواتر إشارات بعينها أو بمضمونها، يعني حتما التكرار، ذلك " لأن لكل أصل من الأصول وإن لم يكن له ارتباط بالذات، وقَصْدٌ بالنتيجة الرفيعة، فهو في الأقل يهزها ويكشفها إلى حد ما، فكأن الكلام يشير بتباين الأصول - التي هي مظهر ومرايا - وبوحدة النتيجة والمتجلَّى، إلى تجرد المقصد وسُمُوِّهِ، واتصال قوته الحياتية بحقيقة الحياة الكلية، حياة العالم المسماة بالدوران العمومي." (3)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 110.
(2) أنظر كتابه دلائل الإعجاز
(3) صيقل الإسلام ص.111.(11/405)
من هنا كان لابد أن يرى النورسي في ما ظل يحسبه الظاهريون تكرارا لبعض مواضيع القصص القرآني، أنه ظاهرة اطرادية وليس بتكرار .. إذ أن لكل سياق معطى إعلامي جديد .. ولابد أن تلون سياقات القصة القرآنية إنما هو توسيع في المرامي وإضفاء للمساحة الإعلامية التي يريد القرآن أن يدلي بها للمتلقي..
وإذا ما وقفنا عند قصة موسى مثلا، فإننا سنجدها قد سيقت متفرعة، وأنيط كل سياق منها بغرض ترشيدي معين.. " لقد جاءت أشبه ما تكون بتفاريق العصا التي وضعها القرآن بيده البيضاء، فَخَرَّ سحرة البيان ساجدين لبلاغته." (1)
البلاغة توصيل رشيد.. والموقف الكلامي يقتضي مراعاة أطراف التواصل جملة
على أن سلاسة الكلام إذا ما تجاوزت حال الهمود ورتابة الحركة والخطية التي لا تتقدم إلا على مواطئ التوقع والانتظار البديهي، هي سلاسة راكدة، آسنة، لا حياة فيها، إنما السلاسة الحية، هي المتدفقة، الوثابة، المشرئبة نحو أكثر من أفق في ذات الموقف..شريطة أن لا تخل بالأداء وتُعَمِّيَ عن المقاصد من خلال بترها المعاني وتكسير وحداتها.." إذ يلزم لسلامة السلاسة تميُّز مستقر القصد، وتعين ملتقى الغرض".(2)
كما أن الخطاب بما هو اِفصاح حميم ومستوعب لرسالة ما، لابد وأن يُتحوط له الباثُّ بما لا يعيق رسالته عن أن تنتهي إلى قصدها ..
من هنا وجب توفر لوازم الإبانة والتبليغ حتى يضمن الخطاب شروط الصحة والبيان..وذلك بمراعاة أطراف الموقف الكلامي، لاسيما المرسل والمرسل إليه.
كما لا ينبغي تجاهل طبيعة الرسالة والقصد الخطابي والمقام الذي يحف بالمتخاطبين والمطلب الذي يستهدفه الخطاب ".. فإن كان الكلام حكاية، فيجب على المتكلم فرض نفسه في موضع المحكي عنه، إذ لابد من الحلول في المحكي عنه، والنزول ضيفا إلى قلبه، والتكلم بلسانه لدى تصوير أفكاره وحسياته..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 111.
(2) صيقل الإسلام ص 112.(11/406)
" لقد قيل أنظر إلى القول دون القائل، ولكني أقول : أنظر إلى من قال ؟ ولمن قال ؟ وفيم قال ؟ ولم قال ؟ إذ يلزم مراعاة هذه الأمور كمراعاة القول نفسه في نظر البلاغة، بل هذا هو الألزم."(1).
لقد ظل النورسي يلح على استيفاء جملة الشروط التي تتجلى من خلالها العملية التوصيلية، وطفق يؤكد ذلك في مواطن أخرى، حيث يقول :
إن منابع علو الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة : المتكلم والمخاطب والمقصد والمقام، لا المقام فقط، كما ضل فيه الأدباء.
ويتحدث عن أهمية معرفة قصد المتكلم فيقول :
إن الكلام لفظه ليس جسدا بل لباس له، ومعناه ليس روحا بل بدن له . وما حياته إلا من نية المتكلم وحسه، وما روحه إلا معنى منفوخ من طرف المتكلم، فالكلام إن كان أمرا أو نهيا فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علوية الكلام وقوته.."(2)
وواضح أن النورسي يصدر في تحديداته التوصيلية هذه عن تقريرات أسلافه من البلاغيين، لا سيما الجرجاني .. بل لقد جاءت نظرته البلاغية متوسعة، شملت أطراف العملية التوصيلية، من باث ومتلق، وموقف وموضوع، وهو ما جعله يتقاطع، أو يستدعي النظرية البلاغية عند بياني ومفكر مرموق هو حازم االقرطاجني، فقد استجمع القرطاجني أيضا للعملية التوصيلية عناصر الموقف الكلامي بما فيها موضوع الرسالة، وشرط العناية بها في جملتها من أجل تحقيق الموقف التبليغي الفني يقول القرطاجني :
الكلام إنما يهيأ للقبول من جهة ما يرجع إليه، وما يرجع إلى القائل، وما يرجع إلى المقول فيه، والمقول له.. (3)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 115
(2) المثنوي العربي النوري ص.156
(3) - حازم القرطاجني ،منهاج البلغاء تحقيق بلخوجة . طبعة تونس.(11/407)
وينهي النورسي مقالته نهاية تعليمية واضحة، وذلك بالإرشاد إلى مستويات من البيان والبلاغة أساسية في تحقيق العملية الأدائية، فقد قدر أن هناك مستويات أسلوبية ،بيانية ،عرفتها البلاغة العربية من خلال كتابة أبرز رجالات البيان الذين اشتهروا في التراث ..
وقد ميز النورسي مستوى أولا سماه الأسلوب البياني المجرد، وجعل ممثله من الكتاب، أو النمدوذح الذي يحيل عليه في هذا الشأن هو السيد الشريف الجرجاني، وهناك الأسلوب المزين وممثله كما يرى النورسي عبد القاهر الجرجاني، وهناك الأسلوب العالي، ورواده من أمثال السكاكي والزمخشري وابن سينا.. ويشفع النورسي هذه التوجيهات بنصائح تحض على وجوب استخدام الأساليب في مجالاتها المناسبة ووفق أعراضها المنشودة..
ومن غير ما شك أن النورسي هنا يتوجه بنصائحه التعليمية إلى الأمة قاطبة، وإلى شعوبها المستعجمة خاصة، مقربا منها الوسائط التثقيفية وأسماء الأعلام التي تفيدها في استيعاب لسان قرآنها العربي المبين..
لقد نظر النورسي إلى البلاغة على أنها جهد له ارتكاز عقلي يعتمد على المهارة ودقة الصنعة، وسداد التخريج، وله ارتكاز شعوري آخر مناطه القابلية والقريحة والدفق والذائقة..وهو ما تجسده على مستوى الخطاب مسحة البديع والمحسنات اللفظية التي تنِدُّ - غالبا- عن تلقائية، وعدم قصد، وعن عفوية، أو ما يشبه العفوية..(1)
والواضح أن النورسي خاض بدوره في الحديث عن مسائل البلاغة واللسان، جريا على عرف السلف، أؤلئك الأبرار الذين باشروا خدمة اللغة العربية ومعياريتها منذ أن شع الاسلام بين جوانحهم وأدمجهم في حظيرته، وجعلهم يستشعرون قوامة انتسابية أصيلة، كان من نتائجها هذا الميراث الباهر من المنجزات التي قدموها لدينهم الحنيف..
__________
(1) انظر صيقل الإسلام ص.115.(11/408)
فلا غرو أن يتحدث النورسي عن هذه المشاغل أو العلوم الآلية التي كانت صلتها بالقرآن عضوية .. ثم إن النورسي – شأن كل مسلم – كان يرى في تفعيل اللغة العربية من هذا المنظور الارتقائي، والإحيائي، واجبا من صميم الدين.. وهكذا تتجلى الرابطة الحميمة بين الاسلام والعروبة كما أرسى أسسها القرآن..
النورسي يتمزق ألما من انحطاط ورثاثة مستوى المعرفة الذي تلازمه الأمة في قرن الخوارق العلمية
ولقد كان النورسي - شأن شيخه الغزالي - يعي، بأسىً وتَأَذٍّ، ما للتحجر العقلي من ضرر على الدين، فقد كانت الذهنيات القاصرة تعيش في عهده – القرن العشرين – على ترديد معارف وهمية تجاوزها الزمن، بحيث بات التمسك بها أو التوقف عندها معرة جهل ووصمةعجز وإعاقة مُرْدِيَة، لأنها معرفة محنطة تتجاوز بآثارها السيئة نطاق الأفراد لتطال الأمة وتسيء حتى للعقيدة..
من هنا كان النورسي يستنكر ويضيق بموقف الزماتة التعسة الذي كان يقفه علماء مسلمون كثيرون حيال مسائل معرفية بت فيها العلم وحسم أمرها
لقد جاء استنكاره ذلك حَمِيةً للدين ونعرةً عنه، ولم يكن - قط - تظاهرا بالمعرفة لذات التظاهر، إذ أنه كان يريد للناطقين باسم الاسلام والمتشحين لردائه أن يكونوا على مستوى من الاستنارة التي من شأنها ليس فقط تنوير الأمة، ولكن شد الناس من الملل والنحل الأخرى إليها، تأثرا بمستوى الرشاد المعرفي الذي ينبغي أن يتجمل به المسلمون، لا سيما العلماء .. إذ أن طبيعة عقيدتهم طبيعة نيرة، آخذة بمبادئ العقل.. لها قابلية الاستقطاب من غير ما ختل أو استدراج..(11/409)
لقد كان رائده في هذا المجال شيخه العزالي في تصويب الأفكار والقناعات، فقد تصدى مثلا لتسديد مسائل علمية كانت عقول المسلمين تحرفها، وذلك حين راح يبث فتواه بين الناس والتي مفادها أنه من أنكر أمرا ثابتا بالبرهان القطعي ككروية الأرض بحجة الحفاظ على الدين، فقد جنى على الدين جناية عظمى، إذ هذا ليس وفاء للإسلام، بل خيانة له.. (1)
لقد عاش النورسي ما عاش العزالي حيال علماء عصره، إذ أن الاستنارة لم تكن تسعف كثرة من أولئك العلماء، وتهيئهم للعمل على الترقية والتطوير، الأمر الذي أضر بالعقل الجماهيري، وحد من حركته، بسبب جمود أولئك العلماء الذين ظلوا عبر العصور مناط قدوة سيئة للجماهير.. لقد ثبتوا بأفكارهم عند مسلمات - أصل أكثريتها ينتمي للإسرائيليات - وطفقوا يعتقدون أنها من الشرع، وما هي في حقيقتها إلا مسلمات ظنية أو مؤولة تأويلا فاسدا لا غير..
التقاعس عن تأدية الشعائر سبب انتكاسنا الحضاري
يسجل النورسي في مضمار حديثه عن واقع انتكاسنا وتَعَفُّرِنا الحضاري المقيت، أسبابا في مقدمتها اِهمالنا لثلاثة أركان من أركان الإسلام هي : الصلاة والصوم والزكاة..
إن تقاعسنا عن أداء الواجبات الروحية قد باعدنا عن الله، و – من ثمة- حال بيننا وبين العز النفسي والروحي الذي يستمده المؤمن من تمسكه بمبادئه، الأمر الذي تولد عنه هذا الأِمتهان الفظيع والمنكر لذواتنا، وما لابسه من واقع رسوفنا في طين الخصاصة والجهل والتوحش الروحي والرزوح تحت العدوان..
عفونة المناخ السياسي .. وتأثيرات الغرب هما مصدر إحباطاتنا
ومن جهة أخرى يعترف النورسي أن المناخ السياسي الذي كان يسود بلاده - ومن ثمة بلاد المسلمين كافة - في مطلع هذا القرن، إنما كان مشروطا بتنفذ إرادة الغرب في الحياة العامة وفي إدارة شؤون البلاد وتحريك أحجار السياسة القومية وبيادقها.
__________
(1) صيقل الإسلام ص 70.(11/410)
." إن السياسة الحاضرة لاستنبول شبيهة بالانفلونزا يسبب الهذيان، فنحن لسنا متحركين ذاتيا، بل نتحرك بالواسطة، فأوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقن بالتنويم المغناطيسي، ونحن نتصورها نابعة من أنفسنا ونجري إثر تلقينه بتخريب أعمى أصم، فما دام المنبع في أوروبا، فالتيار القادم إما سيكون تيارا سلبيا أو اِيجابيا.." (1)
لقد كان النورسي على وعي بما يتوزع الأمة من أهواء تتجاذب مقادتها ، وتريد أن تسري بها في دياجر الليل البهيم.. فقد كان يسوؤه أن يكون كلا التيارين المتزاحمين على قيادة الأمة، وإن تباينا في المشرب، إلا أنهما معا موصولان على نحو أو آخر بالغرب، وهو ما يجعل من عملية تحرير الأمة وضمان انطلاقتها أمرا ميئوسا منه..
لقد صور النورسي حال الفريقين من الساسة المتنازعين لمقادة الأمة تصويرا تشبيهيا، فبين مدى ارتباط كل منهما بدلالته :
" ..فالذين يتبعون التيار السلبي هم كالحرف الذي يدل على معنى في نفس غيره، ولا يدل على معنى في نفسه.. بمعنى أن جميع أفعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة، لأن إرادته لا حكم لها، فلا تنفعه النية الخالصة .. أما التيار الآخر الإيجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالإسم الذي يعرف بأنه ما دل على معنى في نفسه، فأفعاله لنفسه ولكن ما يترتب عليها للخارج، إلا أنه لا يؤاخذ عليه لان لازم المذهب ليس مذهبا.." (2)
وواضح أن النورسي يقدر هنا النتائج البئيسة التي تتحقق للأمة على يد انظمة تغلب عليها الروح الوطنية، فتلك الأنظمة تكون أفضل من تنفذ السلط المتغربة عديمة الحس الوطني.. أو المدخولة.. فالنظام الوطني وإن باين حكمه حكم الاسلام في أصعدة كثيرة، إلا أنه يظل مفيدا للشعب والأمة بما ينجزه من مكاسب .. إلا أن العدالة القصوى والتطهر التام لا يتحقق إلا إذا كانت الحكم على وفق تعاليم رب العالمين..
__________
(1) صيقل الإسلام ص361.
(2) صيقل الإسلام ص 361.(11/411)
فمن خلال هذه مثل الإلتفاتات، لا نفتأ نرى إشارات النورسي تقوِّمُ المناهج الدنيوية وتتابعها، ذلك لأنها كانت تصدر عن رؤية موضوعية لا يفوتها أن تقدر الأشياء بأقدارها.. وكل ذلك تحسسا للطريق أمام الإسلام..
* * *
الفصل التاسع
المرأة.. على طريق الخير والشر
يقرر النورسي أن الحجاب حكم قرآني تقتضيه فطرة المرأة.
فالحجاب بالقياس إلى المرأة له من الدواعي ما يبرره ليس شرعيا فحسب، ولكن حتى بمنظور رغبة المرأة نفسها .. فانحصار الجمال -مثلا - في نسبة قليلة من النساء يزين للمرأة وضع الحجاب، تلافيا للغيرة، وسترا للدمامة أو لآثار السن والجفاف البدني ..
بل إنه حتى المرأة الحسناء - إذا لم يفسد طبعها وتضعف أخلاقها - تنفر من نظرات الجوع والشبق التي تصوب إليها متلصصة نابشة في جسدها عن مواطن الشهوة والنزوة..
فرفع المدنية المعاصرة السفيهة للحجاب وإفساح المجال للتبرج يناقض فطرة المرأة .. بخلاف حكم القرآن الذي يصون المرأة من المهانة والسقوط، ومن أن تنتهكها العيون وتمارس تدنيسها وامتهانها، وبالتالي ابتذالها واسترخاصها من خلال وضع الاستعراض الإرادي الذي تتخذه المرأة بعريها..
كما إن رابطة الزواج لا تجمع الذكر والأنثى في الحياة الدنيا فقط، ولكنها ستستمر هناك أيضا في عالم الآخرة .. من هنا توجب على المرأة أن تخص زوجها وحده بجمالها ومفاتنها، وتقصر محبتها عليه كما هو مقتضى الانسانية .. فـ”الويل والثبور لذينك الزوجين الشقيين اللذين يقلدان بعضهما البعض الآخر في الفسوق والفحشاء، فيتسابقان في دفع أحدهما الآخر في النار".(1)
ثم يتحدث النورسي عن مغبة السفور في مجتمع مختلط، وما يسببه من زيغ، إذ أن النفس التي قبلت بوضع العري بين الناس، لا ترعوي و لا تصمد طويلا أمام دواعي الاحتكاك، خاصة وأن الشهوة ستجد في فسحة الانتقاء ما يلبي توقانها ..
__________
(1) اللمعات ص.302.(11/412)
"..إن التبرج والتكشف يخل بما ينبغي أن يكون بين الزوجين من احترام ومحبة متبادلة، حيث تلاقي تسعة من عشرة متبرجات أمامهن رجالا يفوقون أزواجهن جمالا، بينما لا ترى غير واحدة منهن من هو أقل جمالا من زوجها، ولا تحبب نفسها إليه. والأمر كذلك في الرجال، فلا يرى إلا واحداً من كل عشرين منهم من هي أقل جمالا من زوجته، بينما الباقون يرون أمامهم من يفقن زوجاتهن حسنا وجمالا، فهذه الحالة قد تؤدي إلى انبعاث إحساس دنيء وشعور سافل في النفس، فضلا عما تسببه من زوال ذلك الحب الخالص وفقدان ذلك الاحترام .."(1)
لقد يسر واقع التعري على ذوي النفوس المَرَضية السقوط في مأثم هتك المحارم، فالتبرج والسفور الجسدي من دواعي تهييج النفس الحيوانية حتى لدى بعض المحارم السافلين، فمثل هذه النظرة سقوط مريع للانسانية تقشعر من بشاعته الجلود".(2)
وينبه النورسي إلى الفرق بين واقعنا وواقع أوروبا من حيث النظرة إلى الشرف وضوابطه .. بالإضافة إلى ما هنالك من عوامل أخرى لها تأثيرها على نفسية وأخلاق وأمزجة الناس .. فـ"طبائع الأوروبيين باردة جامدة كمناخهم، أما هنا في بلاد العالم الاسلامي خاصة، فهي من البلدان الحارة قياسا إلى أوروبا، ومعلوم مدى تأثير البيئة في أخلاق الانسان . ففي تلك الأصقاع الباردة ولدى أناس باردين قد لا يؤدي التبرج الذي يثير الهوى الحيواني ويهيج الرغبات الشهوانية إلى تجاوز الحدود، مثلما يؤدي إلى الإفراط والإسراف في أناس حساسين يثارون بسرعة في المناطق الحارة" .(3)
__________
(1) اللمعات ص.302.
(2) اللمعات ص.303
(3) اللمعات ص .304.(11/413)
ومما لاشك فيه أن طبيعة المجتمع المعاصر، حيث عمت دواعي الاختلاط بين الجنسين وفي مختلف الأصعدة، قد يسرت من عملية مَدِّ العلائق اللاشرعية بين الطرفين، فالزمالات في العمل والدراسة وفي الجيرة وفي النقل ومجال المعاملات الأخرى .. قد كفلت لذوي النزوع الانحرافي أن يتعاطوا الآثام بيسر، إذ أن مباشرة المرأة لرفيقها يوميا بعيدا عن جو الحرمة البيتي، وفي مناخ اجتماعي وثقافي أضفى على معنى الفعل الجنسي طابعا ترفيهيا لا صلة للإخلاق به، جعل من الخيانة الزوجية سلوكا شائعا ومطروقا في أحاديث أوساط الرجال والإناث ..
بل لقد مضى المجتمع بعيدا في طريق الغواية والفحشاء، إلى حد مقارفة الشذوذ الجنسي بالمجاهرة .. كل ذلك تأسيا بأوروبا..
في هذا الوضع تجد المرأة السافرة نفسها قد أحلت جسدها وشرفها منذ المنطلق في محل العرض، إذ لا يتورع المتعامل معها، ولو في خرجتها السوق، عن أن يطلب حاجته منها دون أن يجد في ذلك حرجا ما دامت ثقافة العري قد تمادت في تشييء المرأة وجعلها طعاما عموميا يناله الجائع على الطريق..
وفي مقابل ذلك فإن المرأة المحجبة تجد في حجابها ما يكسر نظرة التطلع إليها، إذ أن الحجاب علامة صَدٍّ وتدليل على النهج التصوني الذي اختارت المرأة أن تسير فيه، لا يُتَصَوَّرُ أن يجرأ معه أحد على تجاوز عتبة اللياقة، اللهم إلا إذا ندَّتْ عن المرأة المتحجبة نفسها بوادر تطمع الآخر فيها.. إذ لا ننسى أن الحجاب قد استخدم أيضا للتمويه والتستر على الغواية.. لكنه يبقى مع ذلك، دليلا عرفيا وأخلاقيا على الاستقامة وعلى التمسك بالطهر، وعلى التصون..
ثم يلتفت النورسي بعد هذا إلى تسجيل حقيقة أخرى تتعلق بالنتائج والآثار السيكولوجية المترتبة على وضع الاختلاط والعري المبذول .. فالرغبة الشهوية أو الفحولة الرجالية تنكسر على إيقاع تَوَطُّدِ ظاهرة التعري الأنثوي، الأمر الذي ينعكس بالسلب على عملية الإنجاب والإنسال..(11/414)
وما دام جمال جسد المرأة هو بمثابة موسم الربيع قياسا بفصول السنة، توجَّب على المرأة أن تصونه وأن لا تبتذله أو تتعجل تجفيفه بإتاحة حماه للطراق وللأرجل تدوسه.. " ينبغي للمرأة الحسناء استعمال جمالها على الوجه المشروع ليظل ذلك الجمال الفاني خالدا، دائما، بدلا من جمال لا يدوم سوى بضع سنين، فتكون عندئذ قد أدت شكر تلك النعمة، وإلا ستتجرع الآلام والعذاب في وقت شيخوختها، وستبكي وتندب على نفسها يائسة، نادمة، لشدة ما ترى من استثقال الآخرين لها وإعراضهم عنها."..(1)
ويشخص النورسي لون الزينة والرعاية التي توائم جمال الحسناء وتديمه، وذلك بتحليها بأداب القرآن.. فـ"إذا زين ذلك الجمال بزينة القرآن الكريم، وروعي الرعاية اللائقة ضمن نطاق التربية الاسلامية، فسيظل ذلك الجمال الفاني باقيا- معنويا- وستمنح المرأة جمالا هو أجمل وأبهى وأحلى من جمال الحور العين في الجنة الخالدة، كما هو ثابت في الحديث الشريف"..(2)
لقد أقر النورسي أن المرأة تمارس على شخصية الفرد تأثيرا كبيرا ومستمرا مدى حياته، من هنا وجب تَصَوُّنُها إدامةً لعلاقة المحبة والاحترام والتوقير، إذ أن التهتك مدعاة لتخطي كل ذلك، والانتهاء إلى منطقة الاستخفاف واللا تقدير، كنتيجة يفضي إليها حتما الارتواء غير الشرعي.. أما تأثير المرأة على البيت وعلى النشء فإن النورسي يقرّ أنه أعمق الأسطر التي ترتسم على صفحة الوجدان، في حياة كل مخلوق بشري..
لقد كان له في تجربته مع والدته وصلتها العاطفية به ما كشف عنه بقوله:
"..إن أرسخ درس أخذته، وكأنه يتجدد علي، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم أني قد أخذت دروسا من ثمانين ألف شخص، بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور.." (3)
__________
(1) اللمعات ص.306.
(2) اللمعات ص.306.
(3) اللمعات ص .309(11/415)
إن حنان المرأة وشفقتها التي تغدقها على ولدها، إنما هي في الواقع أظهر دليل على بطولتها وتضحيتها العظيمة دون انتظار لأجر ولا عوض..
ويظل الإخلاص الروحي والديني من أزكى شمائل المرأة التي تضمن سعادتها الشخصية والأسروية والمحيطية قاطبة..
إن سلامة الحياة الأسرية وبُعْدَها عن الهزات والتوترات التي تنتج عن انعدام العاصم الروحي موكول بالمرأة وبوظيفتها داخل بيتها .. من هنا كانت الأم هي حجر الزاوية في كل نهضة..
"إن حياة الأسرة التي تتربى في أحضان المدنية الحديثة، معرضة – غالبا –للانهيار والفساد، حيث تبنى العلاقة فيها على صحبة مؤقتة يعقبها فراق أبدي.".(1) ومما يسجله النورسي في هذا المجال، قيام منظمات سرية بدور هدمي داخل المجتمع التركي، تعمل على اِرساء دعائم التحلل الخلقي والغواية الجنسية، وهو ما توقع النورسي معه إلحاق ضربة قاصمة بأخلاق الأمة ودينها..
المرأة مخلوق مبارك يعدم بالفطرة قابلية الفسق والفجور
من هنا راح النورسي يحذر من عواقب ذلك التخريب، ليخلص إلى تأكيد براءة المرأة وطبيعتها الطاهرة بالفطرة، إذ إن روحها لا تقتحم الفساد إلا إذا دفعتها إليه عومل الإفساد بمختلف أنواعها ومصادرها، لا سيما تلك التي لبث الغرب المتهتك يصعد منها ويستهدف بها شرف المرأة، تحت دعاوى الدفاع عن حقوقها، والنضال من أجل تحريرها، وكل ذلك غايته الزج بها في دوامة العراك الذي لا عزة ولا مجد لها فيه..
" إن النساء مخلوقات مباركة خلقن ليكن منشأ للأخلاق الفاضلة، إذ تكاد تنعدم فيهن قابلية الفسق والفجور للتمتع بأذواق الدنيا، بمعنى أن النساء نوع من مخلوقات طيبة مباركة، خلقن لأجل قضاء حياة أسرية سعيدة ضمن نطاق التربية الاسلامية..(2)
__________
(1) اللمعات ص.311.
(2) اللمعات ص.312.(11/416)
لقد تسفه معنى الاخلاق والشرف في أوساط الانحلال، بل لقد بات معنى الانسانية نفسه مدخولا لا سيما في مجتمعات الغرب، موئل الثقافة اليهو- مسيحية.. بحيث أضحى يتضمن مبدأ الحق في الغواية المعلنة .. فاقتراف الفاحشة حق من حقوق الانسان لأن القانون في المجتمعات الغربية يتدرج متسارعا لكفالة مشروعيته..الأمر الذي يجعل العقل يتبلبل، ويتساءل في مرارة عن حقوق الجماعة التي هي الجانب الأكثر تمسكا بالفضيلة في المجتمعات..
أما الإسلام فقد أمر بالاستتار إذا ما وهن وازع الاستقامة في روح المخلوق.. وبذلك قمع الاسلام الفاحشة ومنعها من أن تنجم بقرنها، وإلا أتت على الأخضر واليابس، لأنها أخطر وباء يسري بين الأوساط..
جمال المرأة نعمة قابلة لأن تتحول إلى نقمة إذا لم يصنها وازع الإيمان
ولما كانت المرأة هي المخلوق الذي جسد الله فيه قابلية الجذب ،وجَعَلَ رقة القلب وجمال الخلقة هي وسيلة القرب منه والسبيل إليه، فلا شك كانت مسؤولية المرأة كبيرة حيال صون تلك النعمة التي حباها الله بها عن الإهدار وحفظها عن الابتذال ..
فالجسد عنوان للروح، وتحصينه بما يضمن حرمته وشرفه هو صون للروح وللكرامة الانسانية التي ترتبط - في قوة - بمكانة المرأة وبكرامتها، اعتبارا لما تلعبه المرأة في حياة الأمم والشعوب من دور مناط بتخريج الأجيال وصَكِّ القيم ..(11/417)
من هنا أهاب النورسي بالمرأة الجميلة أن تقابل مِنَحَ الله بالشكران العرفان، لا سيما إذا تجسدت تلك المنح في حسن المطلع وفي الاِهاب الحِسِّي الجاذب..إذ " ما دام الجمال نعمة مهداة، والنعمة إن حمدت عليها زادت، وإن قوبلت بالنكران تغيرت، فلا شك أن المرأة المالكة لرشدها ستهرب بشدة وبكل ما لديها من قوة من أن تجعل جمالها وسيلة لكسب الخطايا والذنوب وسوق الآخرين إليها.. وسيتحول ذلك العطاء إلى قبح دميم وجمال منحوس مسموم، وستهزم بلا شك إذ تجعله - بنكران تلك النعمة المهداة -مدار عذاب وعقاب..".(1)
بل لقد رأينا النورسي يدأب على حض المرأة على التصون والمحافظة على شرفها، والضن بملاحتها من الإهدار أو أن تكون تلك الملاحة وسيطا للإغواء .. من ذلك تسجيله لحادثة كان سببها تعري إمرأة بعض الكبراء، أغوت فتنتها بعض السابلة فتعرَّض لها وهي تمر به في الشارع..لقد اتخذ النورسي من تلك الحادثة شاهدا يجدد فيه المناداة بقيم التصون، ويشدد على دعوة الستر التي كانت شعاره، والدعوة إلى التزام الحشمة وآداب الاسلام التي صانت المرأة عبر الدهور وجعلتها نفاسة ومصدر إلهام ورحمة وعفاف، لقد استثار النورسي تلك الحادثة في بعض أحاديثه وما اشتجر حولها من جدل عام، فأعاد سببها إلى سلوك التبرج والإثارة الذي سلكته المرأة التركية في ظل توجيهات المتغربين الذين شاؤوا أن يلحقوا بأروبا، فأخذوا بسوآت آدابها واجتماعها ..
النورسي عاش حياة آخذة بخلقية غض البصر
__________
(1) اللمعات ص.306(11/418)
ومن جهة أخرى تروي لنا سيرة النورسي حال التحفظ والغض التي كان عليها في حياته الخاصة حيال المرأة، فقد روى أنه ظل يسكن عند بعض مضيفيه، ولم يكن يميز كبرى بناته من صغراهن، رغم جو المكاشفة والاندماج الذي كان له مع تلك الأسرة ومع أفرادها، وأنه ظل لا يعلم شيئا مما يخص حرمة ذلك المضيف إلا بعد أن نزل عالم آخر نفس البيت معه، وهنالك راح الضيف النزيل يحدثه عن خصائص تلك الأسرة وعن بناتها، الأمر الذي جعله يستنكر سلوك هذا النزيل، إذ اكتشف فيه فضولا ليس من شيم المتعففين..
وكانت له مواقف أخرى عديدة طفق يلوذ فيها بالإغضاء إذا ما جمعه المشهد بالمرأة ، من ذلك ما يحكيه عن سياحة قادته ذات يوم على ظهر زورق مع رفقة له من العلماء، فكان أن صادفوا تجمعا من النسوة العاريات الكاسيات على حاف الشاطئ، فلم يسع النورسي إلا أن يمضي المسافة كلها، إلى الشاطئ الآخر، ممسك الطرف، لا يرفعه إلى شيء، تجنبا أن تلتقي عيناه بالحرام.. وكان منظره موضع استطراف وتنكيت من قبل أولئك الرفقاء..
ولا يعني هذا أن النورسي يمتهن المرأة أو يزري بها أو يجعل من الاحتكاك بها أمرا منكرا يتجنبه الانسان، كلا، وإنما سلك منها هذا السلوك لما تميز به من إعلاء روحي يتحصن عن مواطن الريبة، ويقمع في ذاته دواعي التوق، مهما كان له من وثوق في نفسه التي كانت ملجمة بزمام الإيمان، ومكفوفة بحمية العبادة، وعلى درجة من الانضباط التعففي لا يخاف معها ضعفا ولا وقوعا في وهن..
ومن جهة أخرى لابد أن نستحضر النزوع التصوفي الطاغي على سيرته عامة، إذ كان رجلا محدود الصلات، حتى مع الأتباع والقرابة، وذلك كله يثبت المنزع الإختلائي، الاعتكافي، الذي سلكه..(11/419)
لقد كان موقفه من المرأة ومن جمالها موقف الاسلام، إذ أن الاسلام وضع من الضوابط ما حد من أسباب الاختراق، وهو ما جعل المرأة في مدنية الاسلام – قبل أن تشوب تلك المدنية لوثات الانحراف التي وردت إليها من أعراف الحضارات الأخرى- فردا فاعلا، لا يقعده عن ملابسة نشاطات الحياة كلها مانع، فقد سارت مع الجيوش مجاهدة، وقعدت في الحلقات مدرسة، وجلست بين الخصوم تقاضيهم وتفصل بينهم، وزاولت إلى ذلك وظيفتها الحياتية كأم لها أسرة والتزامات نحو بيتها، وكل ذلك تأَتّى لها بسبب رسوخ ضوابط الصون التي فرضها الاسلام..
تلك الضوابط التي عنت ليس فقط المرأة ولكن عنت الرجل أيضا، حين ألزمه القرآن بغض البصر، وبعدم تغذية نوازع الشهوة حيال المرأة الملابسة له في المسعى والنشاط، وذلك ما أرسى إطارا تعامليا شرفت به مكانة الأنثى المسلمة، ولم تبتذل، ولم تتحول جسديتها إلى مجال للإشهار والإغواء، ما جعل المرأة سلعة مبخوسة في سوق نخاسة الجنس، وعرضة لفقدان جاذبيتها يوما بعد يوم، لأن ما كان منها مصونا وعزيزا ظهر وفشا وابتذل، وبذلك لم تعد المرأة إلا كما باردا، لا حرارة فيه ولا نسغ.. وكل ذلك جرته عليها المدنية الغربية التي ورطتها في مطب العري وتسليع جمال البدن، وتثميره في غير حدود شرع الله.. هذه المدنية المتوحشة التي أكلت قلبها، وباتت لا ترى إلا المنفعة المادية وحدها وتعمى عن الجمال، كما أشاعه الله، لا سيما جمال المرأة ليكون باعثا حميما على الدفء في الحياة وعلى الطهر، وعلى الخير..
لقد كانت دعوة النورسي إلى تصون المرأة وصيانتها من الابتذال دعوة جمالية عالية وبعيدة المرمى .. تدخل ضمن رؤية لمدنية قرآنية تعلو بمعاييرها السلوكية عن درك الحيوانية..(11/420)
حقا لقد جسد الخالق جمالا فائقا في المرأة، وأضفى عليها نعمة الحسن - بطبيعتها - قالبا وقلبا، وأناط بها مسؤولية إرساء الأسرة على صعيد من الخير والفضيلة، وجعل كمال خصالها في سترها، وبارك جمالها الروحي إذ جعله مرهما يداوي القروح، ورَيًّا يزيل الظمأ، وسما بها عن أن تكون شركا شيطانيا يشيع الفتنة ويزرع الميوعة..
لقد حرص النورسي على تذكير المفتتنين بذواتهم وبأعمارهم - لا سيما النساء - أن ربيع العمر قصير، وأن صون الجسد عن الابتذال والاستنزاف من شأنه أن يطيل من زمن هذا الربيع .. كما حرص على التحذير من وطأة الندامة والغبن التي سيرثها المستهتر أو المستهترة بكمال وجمال بدنه كلما عراه خريف العمر وتناثرت أوراقه وتعرت أوصاله .. فيومئذ تكون غصته بالغة وندامته خانقة، إذ سيرى وراءه ماضيا عارما بالخطايا التي أورثت ذلك الحطام..
الفصل العاشر
المدنية
مثلما أقر النورسي للفلسفة الحديثة بتوفرها على جانب من الخير والنفع الذي يخدم الإنسانية، كذلك أقر للمدنية الغربية بقدر من الخصائص التي وسعت على الإنسان ويسرت له أن يحيا حياة زال عنها كثير من العنت والعناء الذي عرفته البشرية في أطوار تاريخية أسبق.. لقد ساعده تطور العلوم وتحول التقنية إلى طاقة تنصاع لإرادته وتستجيب كثيرا لتوقه إلى أن يحقق مزيدا من الرقي والتحكم في الطبيعة ..(11/421)
لكن المدنية المعاصرة أفرزت - من جهة أخرى - أوضاعا خرجت بالإنسان - في مستويات عدة من حياته - عن طوره الفطري، بحيث أورثه واقعه المتمدن صفات وأخلاقيات ونوازع تمادت على طريق أبعدته عن الاعتدال، وبالتالي عن الفضيلة، إذ تهالك في الاستهلاك، وتبلدت مشاعر المرحمة فيه، وتحجرت عواطفه تحت تأثير العناء اليومي الذي سببته المدنية الصناعية، والذي انعكس على الإنسان الغربي - وتبعه في ذلك الانسان الشرقي - في صورة قلق وتوتر مزمن، وفقدان لشهية الحياة، ونزوع متزايد نحو البهيمية والهروب نحو المجهول من المجهول ..
وفي هذا الإطار يقوِّمُ النورسي أوصاغ الإنسانية المعاصرة في ضوء الحضارة الحديثة، فيرى أن الانسان المعاصر قد غادر محطة القناعة والسكينة والرضى بالحظ المتاح من الحياة ..تلك المحطة التي ظل يستمد منها بهجته القلبية يوم أن كانت أوضاعه الاجتماعية لاتزال تتماس مع عهد البداوة..
لقد كان الناس في عهد البداوة - كما يقول النورسي - على قوامة من عفاف وتماسك وقناعة ..
فقد كانت ".. تعوزهم ثلاثة أو أربعة أشياء، وكان اِثنان من كل عشرة أشخاص يعجزان عن تدارك تلك الأشياء الثلاثة أو الأربعة، بينما في الوقت الحاضر تحت سطوة المدنية الغربية المستبدة، المتميزة بإثارة سوء الاستعمال والدفع إلى الاسراف وتهييج الشهوات وإدخال الحاجات والمطالب غير الضرورية في حكم المطالب والحاجات الضرورية، فقد أصبح الانسان العصري، من حيث حب التقليد والإدمان، مفتقرا إلى عشرين حاجة بدلا من أربع منها ضرورية، وقد لا يستطيع إلا شخصان من كل عشرين شخصا أن يلبّوا تلك الحاجات العشرين من مصدر حلال بشكل متاح، ويبقى الآخرون الثمانية عشر محتاجين وفقراء . فهذه المدنية الحاضرة إذاً تجعل الإنسان فقيرا جدا ومعوزا دائما .."(1)
ويتحدث النورسي عن آفات المدنية المعاصرة، من حيث اختلال سبل التحصيل والكسب المعاشي فيقول :
__________
(1) الملاحق ص 378(11/422)
"..لقد ساقت البشرية - من جهة تلك الحاجة - إلى مزيد من الكسب الحرام، وإلى ارتكاب أنواع من الظلم والغبن، وشجعت طبقة العوام المساكين على الصراع والتخاصم المستمر مع الخواص، وذلك بهجرها القانون الأساس الذي سنه القرآن الكريم القاضي بوجوب الزكاة وتحريم الربا والذي يحقق بواسطتهما توقير العامة للخاصة، ويوفر بهما شفقة الخاصة على العامة.. فبهجرها ذلك القانون الأساس أرغمت البرجوازيين على ظلم الفقراء وهضم حقوقهم، وأجبرت الفقراء على العصيان والتمرد في معاملاتهم معهم، فدمرت سعادة البشرية، وراحتها، وأمنها واطمئنانها وجعلتها أثرا بعد عين..".(1)
ثم يسجل النورسي بعد هذا، مدى التحول السلبي الذي عرفته طبقات من الناس، لا سيما النخب والأرستقراطيات، ممن توفرت لها نعم ومنجزات مدنية علمية .. فهولاء فقدت طوائف منهم همة الحياة بمعناها الفعال، واستناموا للاستهلاك وإشباع النزوات .. " إن ما أنجزته هذه المدنية الحاضرة من خوارق - في ساحة العلم - نعم ربانية تستدعي شكرا خالصا من الإنسان على ما أنعم عليه، وتقتضي منه كذلك استخداما ملائما لها لفائدة البشرية ومنفعتهم، بيد أننا نرى الآن خلاف ذلك، إذ تقود تلك الخوارق قسما من الناس - الذين لهم أهمية بالغة في الحياة - وتوردهم موارد الكسل والسفاهة .. إذ أنها تذكي نار الأهواء النفسانية، وتثير كوامن النزعات الشهوانية، فتقعد الانسان عن الكد والسعي وتثنيه عن الشوق إلى العمل وتسوقه - بعدم القناعة وعدم الاقتصاد - إلى السفاهة والإسراف والظلم وارتكاب المحرمات" .(2)
__________
(1) الملاحق ص 379
(2) م.ن. ص379.(11/423)
وفي هذا السياق يضرب النورسي مثلا بنعمة الراديو التي استخدمها الإنسان المستهتر في إثارة الأهواء والإشغال عن الأداءات البناءة والواجبات النافعة، وفي إشاعة العواطف الجارحة والأخلاق الفجة.." الراديو نعمة اِلهية عظيمة على البشرية، فبينما تقتضي شكرا معنويا منا عليها، وذلك باستخدامها لمصلحة البشرية كافة، نرى أربعة أخماس استعمالاتها تصرف في إثارة الأهواء النفسانية، وإلى أمور تافهة لا تعني الانسان في شيء، فتجتث جذور شوق الانسان إلى السعي وتوقعه في الكسل والإخلاد إلى الراحة والاستمتاع بالاستماع إليها، حتى يدع الإنسان وظيفة حياته الحقيقية، وفي الوقت الذي يلزم توجيه قسم من الوسائط والوسائل الخارقة، النافعة، وصرفها في تيسير مصالح البشرية الحقيقية واستخدامها في سبيل السعي والعمل لأجل خير البشرية وتوفير حاجاتها الحقيقية وتذليل مشاقها، فقد رأيت بنفسي أنها لا تصرف إلا إلى واحد أو اثنين من عشرة في تلبية تلك الحاجات الضرورية، وتساق الثمانية الباقية من العشرة إلى اللهو والاسترسال في إثارة الهوى والاسترخاء والدعة والكسل وقضاء الوقت.." (1)
ولا شك أن حكم النورسي على هذا الوسيط الاجتماعي الخطير - الراديو - كان طليعيا، لا شائبة من تزمت فيه، بالنظر إلى مواقف النفور والرفض التي رأينا أوساطا من رجال الدين تقفها من كثير من المستحدثات التي كانت تمثل في نظرهم عتبة خطيرة من التحلل والخروج عن الإيمان .
.. فالانسان في نظرهم كان بتلك المستحدثات يباشر مرحلة الكفرالصراح، من خلال اقترافه بائقة التَّرَبُّب . إذ أن مستحدثاته تلك كانت ضربا من الشرك والتجسيد ومناددة الخالق، ومن ثمة لم يسع تلك الأوساط حيال بعض ما كانت الحضارة الغربية تحرزه من تقنية صناعية تسخيرية وارتقائية، إلا الإفتاء بحرمتها أو باستنكارها..
__________
(1) م.ن. ص379.(11/424)
لكن نظرة النورسي التي قدرت أهمية تلك المستحدثات والخير العميم الذي يمكن لها أن تؤديه للانسان ولصالح ترقيته وتزكيته، راحت تسدد استخدامها نحو النفع الحقيقي ونشر الفضيلة.. من هنا وجدناه ينوه بها ويريدها أن تكون وسائل تخدم الإنسان وتوفر له من أسباب السمو الروحي والجمام النفسي والعقلي ما يساعده على تحمل أعباء التعمير، محذرا من مغبة انسياقها - تحت مسوغات خسيسة - في طريق تثمير الضعف البشري وتصوير مباذله لمقاصد لاهية، بل داعرة..
لقد كان النورسي يريد أن تكون وسائط الإعلام ملتزمة بمنهج بنائي، يفيد الأمة في تطوير نفسها، لكن هذه الوسائط وجدت نفسها تسير في اتجاه لا أخلاقي، اتجاه يشيع الفاحشة، ويغوي النفوس، ويهيؤها لتقبُّل الحطة الاجتماعية والنفسية باسم الواقعية ..
لقد خدمت الوسائط الإعلامية بما فيها الفنون، الإيديولوجية اليهودية الفتاكة، إذ كيفت مواد بثها مع تعاليم العهد القديم التي قامت على تدنيس الأنبياء وتعهيرهم وهتك الحرمات وتلقين الشذوذ الجنسي على نحو أو آخر .. وهو ما استُثْمِرَتْ فيه تلك الوسائط على نطاق واسع انتهى بها إلى ما هي عليه اليوم من انحلال وتهتك، الأمر الذي جعل الوسائط الإعلامية من أخطر ما يتهدد القيم والروحيات الطاهرة في الوقت الراهن..
إنها - حقا- باتت تشكل مصدرا أهوج للفتك بالأخلاق الطاهرة وتوطيد الرذيلة في الحياة ..
لقد بنت المدنية الغربية المعاصرة فلسفتها الاجتماعية والفكرية على قيم مادية ونفعية ملموسة، من هنا غيبت في تعاملاتها البعد الغيبي الإلهي، وهو ما قوى من روح الابتزاز فيها .. وإذا كانت نظمهم قد طفقت تراعي نوعا من الخدمة العمومية ،أو الإحسانية المقننة، فإن لهفتهم على خيرات الغير وافتراسهم لثروات ومقدَّرات الشعوب التي غلبوها قد أعطت الدليل على جفاء روحي وعاطفي لا مكان معه لما يسمى بالإنسانية ..(11/425)
لقد كرست آداب وقوانين المدنية المعاصرة نزعة العنصرية في أمم الغرب، وإن تقنعت سياساتهم بشعارات تنادي بحقوق الانسان .. شعارات موظفة - غالبا - لمقاصد تدخلية، ولتغطية شيء من شراسة الانسان الغربي..
" إن المدنية الغربية الحاضرة لا تلقي السمع كليا إلى الأديان السماوية، لذا أوقعت البشرية في فقر مدقع وضاعفت من حاجاتها ومتطلباتها، وهي تتمادى في تهييج نار الاسراف والحرص والطمع عندها، بعد أن قوضت أساس الاقتصاد والقناعة، وفتحت أمامها سبل الظلم وارتكاب المحرمات، زد على ذلك فقد ألقت - بذلك - الانسان المحتاج المسكين في أحضان الكسل والتعطيل المدمر، بعد أن شجعته على وسائل السفاهة، وهكذا بددت الشوق لديه إلى السعي والعمل ،فأضاع الانسان عمره الثمين سدى، باتِّباعه هوى المدنية الحاضرة، وبسيره وراء سفاهتها ولهوها..".(1)
لقد تفاقمت ترديات هذه الحضارة واستشرت بطالتها الروحية، وظهر ذلك - مثلا - على صعيد الواقع الصحي للإنسانية، إذ البهيمية التي باتت تمارس بها الفواحش، قد أغلت أدواء شيطانية فتاكة، وجعلت الانسان المُكرَّمَ يتحول بسوء سيرته إلى بوتقة شريرة لنشر أعضل الأدواء.." لقد ولدت المدنية في الانسان المعوز العاطل أمراضا وأسقاما وعللا، إذ أصبحت وسيلة إلى انتشار مئات من الأوبئة والأمراض في أرجاء المعمورة، بثتها في الأوساط، بسوء الاستعمال والاسراف." (2)
ومن غير شك أن هذه النظرة الإدانية من النورسي قد استشرفت ما يتهدد الانسان من الأمراض والشراسات الناتجة عن انغماسه المنحرف.. وليست آفة السيدا التي تحصد البشر اليوم بالجملة إلا بعضا مما استشرفه النورسي وهو يحصي خطايا هذا العصر وإغواءات مدنيته ..
__________
(1) الملاحق ص380.
(2) م.ن. ص(11/426)
وزيادة على ذلك فقد دمرت هذه الحضارة قابلية التوازن الداخلي للانسان المعاصر، بعد أن أشاعت في البيئات والمجتمعات عقيدة الإلحاد التي أوشكت أن تجر البشرية إلى الطريق المسدود، إذ أفقرتها، وسفهت أحلامها، وتردت بها في واقع مدني موبوء، وصوَّرت لها الحياة مسرحا للعبث واللامعقول .." ففضلا عن هذه العلل الثلاثة التي ولدتها المدنية وهي: الحاجة الماسة، والميل إلى السفاهة، وكثرة الأمراض المذكرة بالموت، فإنه بتفشي الإلحاد وتوغله فيها، استيقظت البشرية من غفوتها، وإذا بالمدنية تهددها باستمرار، باظهار الموت تجاهها، اعداما أبديا، فجرعتها نوعا من عذاب جهنم في الدنيا.." (1)
وإزاء كل هذه الترديات والتشوهات التي أصابت فطرة الإنسان وتدنَّت به، يضع النورسي المنهج الرباني القرآني دواء لعلل ومعضلات الحضارة .
الفرق بين الاسلام والنصرانية
لا كهنوتية في الاسلام.. والاسلام ملاذ الجماهير المغبونة
يؤكد النورسي أن الإسلام، بخصوصياته الفطرية الجلية، وبسماحته، وجوهرية مبادئه، واجتماعيته، قد تجاوز مبدأ الترتيب الكهنوتي والوسيطية التشفعية، وهو ما أعطاه طابعا شعبيا أو جماهيريا، فلا مجال لمقامية الامتياز الروحي في الإسلام إلا ما كان من منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، باعتبارهم كانوا الألصق بالنزول وبالدعوة ..
من هنا كان التفاضل المعنوي الذي حازته تلك الأجيال من السلف لا يشهر عن نفسه إلا لمقاصد الأسوة والاقتداء، ذلك لأن مناط العبرة فيه هو تثبيت الإيمان وكفالة المزيد من الإخلاص للدين والمداومة على أداء العمل الصالح..
على عكس الحال في النصرانية، إذ الترتيبية الكهنوتية، والسيادة الإعتبارية مرعية في نظامها القداسي، بحيث لا يتحقق الفعل الديني، أو الشعائري إلا في حضرة الكاهن، ووفق طقوسية بروتوكولية محورها القس ولوازم القداس.. فبدعواته وتبريكاته تستمد الجماعة الشفاعة والمغفرة من الرب..
__________
(1) م.ن. ص(11/427)
من هنا ظلت الجماهير العريضة عندهم لا تتورع عن الانتفاض على الدين والتصدي لممثليه، لدى كل ثورة أو احتجاج يعمهم، لأن رجال الدين مثلوا في بيئة الغرب مجمعا من السلطة عتيد، ومارسوا ألوانا من التنفذ باسم وظيفة التشفع التي أناطتها بهم الكنيسة ..
أما الفيئات الإسلامية العريضة، وعلى مدار تاريخها الطويل، فإنها ظلت تهبُّ إلى الدين كلما ابتليت بمحنة أو ألحت عليها وطأة الظلم والطغيان من قبل حكام السوء ..
لقد طفقت الأمة الاسلامية تحتمي بالدين، وتعتصم به، وتستند إليه في تقويض صروح الاستبداد..
يقول النورسي : " إنه بقطع النظر عن مشرب الصوفية، فإن الإسلام يرفض الواسطة ويقبل الدليل، وينفي الوسيلة ويثبت الإمام . بينما غيره من الأديان يقبل الواسطة، فبناءً على هذا السر الدقيق يستطيع النصراني أن يصبح متدينا إذا اشتغل مقامات من حيث الثروة والمنصب، بينما في الاسلام العوام هم المتمسكون بالدين أكثر من ذوي الثروات والمناصب، وذلك لأن النصراني ذي المقام يحافظ على نصرانيته وأنانيته بقدر تعصبه في دينه، فلا ينقص ذلك من تكبره وغروره، بينما المسلم يبتعد عن التكبر والغرور بقدر تمسكه بالدين، بل ينبغي له أن يتنازل من عزة المنصب. ومن هنا فالنصرانية ربما تتمزق بهحوم العوام المظلومين على الظالمين الذين يعدون أنفسهم خواص النصارى، حيث النصرانية تعين تحكمهم، بينما الإسلام لا ينبغي أن يتزعزع لأنه ملك العوام أكثر من الخواص الدنيويين." (1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 344 .(11/428)
ومن غير شك أن نظرة النورسي هذه تتحقق اليوم أيضا في المجتمعات الغربية ولكن على نطاق مختلف، فعلى الرغم مما ألحقته الثورات الاجتماعية والديمقراطية والثقافية من ضرر بمكانة الدين ورجاله في البيئات الغربية ،إلا أن الدوائر المحافظة والدوائر السياسية على الخصوص بقيت على صله بالدين، وإن كانت صلة مشبوهة أحيانا فهي تظل تحيله محل القداسة، وإن حادت عنه في مسارها الحياتي، بتكييف أوضاعها، ضمانا لتطورها الذي قمعه الدين المسيحي طويلا باعتباره عقيدة لا تقوم على شمولية وعلى روح انعتاق عقلي كما هو حال الاسلام ..
ومن جهة أخرى لا ينبغي أن تغيب عنا مخططات اليهودية إزاء الديانات الأخرى، فهي لا تعترف بالمسيحية إلا على اعتبارها سدا يحد من انتشار الاسلام .. من هنا كانت الإيديولوجية اللائكية التي تدعي المجتمعات الغربية أنها تعتنقها في سياساتها، مكسبا يخدم اليهودية أساسا، ولكن تجاوز الدين كان من جهة أخرى يوقع اليهودية في مقلب تفشي الإسلام وانتشاره بين أقوام الغرب، لذا فهي تستبقي الدين الكهنوتي وتستثمره على نظاق إستيعابي لتظل الأجيال الغربية مرتبطة به ارتباط عنصرية وتعصب دفعا لزحف الإسلام..
إن شعارات اللائكية خدعة حقيقية كلما تعلق الأمر بالمسائل الاستراتيجية للغرب، وإن من الاهتمامات الأساسية لوزارات الثقافة والخارجية لدى كثير من الدول الغربية، هو التكفل بحركة نشر المسيحية واعتراض طريق الاسلام على صعيد توسعه عبر القارات..
الأسس التي قامت عليها كل من المدنيتين الغربية والاسلامية
النورسي يرفض المدنية الحديثة لأنها تأسست على مبادئ تخالف مبادئ الاسلام
لقد رفض النورسي المدنية الحديثة لأنها تأسست - كما يرى - على خمسة أسس سلبية ..
1- فقد جعلت من القوة نقطة استنادها ،ومعلوم أن شأن القوة هو الإعتداء والاستبداد ما لم تترشَّدْ بالأخلاق ..(11/429)
2- أما هدف هذه المدنية وقصدها - بحسبه - فهو المنفعة، وشأن المنفعة التزاحم..
3- ودستور المدنية في الحياة الجدال والصراع، وهذا شأنه التنازع .
4-والرابطة التي تربط في كنفها المجموعات البشرية هي العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين، وهذه شأنها التصادم كما نراه..
5-وخدمة المدنية المادية للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي تشجيع هوى المنفعة، وإثارة النفس الأمارة، وتهييج رغباتها وتسهيل مطاليبها، وشأن هذا الهوى: اِسقاط الانسان من درجة الملائكية إلى درك الحيوانية الكلبية، وبهذا تكون سببا لمسخ الإنسان معنويا ..
من هنا اقترنت نظرة الغرب المادي إلى مفهوم الانسانية بمنطق حسابي لا هوادة فيه، إذ كلما غابت المصلحة انطفأت قداحات الانسانية التي تتبجح بها المدنية الغربية، فهي لا ترى الانسانية إلا حيث تثبت لديها المصلحة ويتأكد المكسب..
إنها روح الرأسمالية التي يعكس شعارها القائل : دعه يمر دعه يفعل.." عمى وصمما وتبلد عاطفة، وانخطافا رهيبا بتأثير شهوة الكسب والابتزاز.. وهو ما عبر عنه النورسي حين شخص ما تمور به بواطن دعاة المدنية والتمدن الغربي، عندما قال :
" فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببة والقردة والخنازير..(1)
مدنية الاسلام تكافلية، جماعية، انصافية
فروح الإسلام الجماعية بما تقوم عليه من إخاء ومودة وترابط اجتماعي يكتنف الجماعة، تترجح وتتفوق على مثُّل المدنية المعاصرة، إذ هي أرحم وأكثر شمولية من قيم الليبرالية المتوحشة ذات الطابع الفردي والمنزع الخاص.." إن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية، بيد أن سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس. لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى". (2)
__________
(1) صيقل الإسلام ص.457
(2) صيقل الإسلام ص 357.(11/430)
لقد طفق النورسي يعرب عن إدراك عميق للواقع الحضاري الذي تعيشه مدنية الغرب .. إذ سجل أن جفوها وجليديتها العاطفية إنما جاءتها من أصولها الفكرية والوجدانية الإغريقو- لاتينية .. رغم انصهار هذه المدنية في بوتقة الانجيل .
".. إن دهاء الرومان واليونان - أي حضارتيهما - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الأحوال، ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية أو اِدماجها بهما، فلقد ظل كل منهما كالماء والدهن لا يقبلان الامتزاج، بل إنهما يعيشان الآن بروحيهما بأنماط متنوعة وأشكال مختلفة".(1)
إن واقع التضارب مع الدين ومع منطق التوحيد الذي تنم عنه وقائع الثقافة المدنية الغربية اللائكية، تكفي وحدها للتدليل على استحالة توقع التساكن والاندماج بين الاسلام وبين هذه المدنية " فلئن كان التوأمان مع وجود عوامل المزج والدمج والأسباب الداعية له، لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي أساسها دهاء روما، لا يمكن بحال من الأحوال أن يمتزجا أو يهضم بعضهمها بعضا." (2)
__________
(1) صيقل الإسلام ص358.
(2) صيقل الإسلام ص 358.(11/431)
وقد يظهر هذا التشاؤم على أنه تناقض يصدر عنه النورسي حيال توقعاته التي لبث يؤكدها بشأن المصير الاندماجي للمسيحية الغربية والاسلام .. والواقع أن حكم النورسي هذا لا يعدو أن يكون معاينة واقعية ثبتها دلائل، إذ أن الغلظة والتوحش اللذين يسمان المدنية الغربية، إنما هما بسبب هذا التأثر البالغ بتراث الحضارة الأغريقو- لاتينية، وإن قيم تلك الثقافة هي التي تطبع وتحكم نظم الدول الغربية اليوم، وهي التي تمضي بتلك الدول نحو طريق الانسداد، وربما سيحملها تلاحق الصدمات والكوارث على أن تلتفت إلى الاسلام، فتجده ينتظرها فاتحا ذراعيه لاحتضانها ومسح دموعها.. وذلك هو ما تنبأ به النورسي انظلاقا من إيمانه بمقررات الوحي القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه..
مدنية الشريعة. مدنية المستقبل البشري
يتوقع النورسي، انطلاقا من روح مشبعة بنبوءة العقيدة، أن مدنية المستقبل هي مدنية الاسلام، فقد تُوَّجَ الله منظومة الرسالات بشريعة الإسلام، وهيأها أن تكون العقيدة الملاذ التي ستحضن في كنفها الأمم بعد أن تستبد بها الطرق والضلالات ..
لقد أيقن النورسي أن الاستيفاقة الحتمية للأمم المجروفة في العصر الراهن بمنجزات المدنية المادية سيدفع بها إلى اعتناق الاسلام والأخذ به والاعتصام…
ومن شأن ذلك أن يمهد للتحول الإيجابي الذي سيكفل للانسانية أن تعيش وفق شريعة الله وبحسب مشيئته التي تجعل من الانسان خليفته في الكون.. إنها مرحلة سيتجسد بها ذلك التحول الإنقلابي الجديد الذي سيسفر عنه طي صفحة المدنية المعاصرة، وما يعقبه من حتمية قيام صرح مدني اسلامي شامخ وكريم على أنقاضها.. ويومئد سيكون ثقل إسناد تلك المدنية - المنصاعة عن اختيار ورضى لتعاليم السماء - هو الحق بدلا من القوة ..(11/432)
ومن شأن الحق أن يضمن العدالة ويكفل التوازن بين الفئات .. وسيكون هدف تلك المدنية الطاهرة تحكيم الأخلاق وسيادة الفضيلة بدلا من مراعاة جانب المنفعة العمياء، ذلك لأن من شأن الفضيلة أن تشيع دفء المحبة والتواد والتجاذب ..
وسيكون مُقَوِّمُ الوحدة في هذه المدنية والرابط الذي يلحم بين المجموعات البشرية هو المقوم الديني والوطني والمهني بدلا من العنصرية، ذلك لأن من شأن هذه الروابط أن تكفل الأخوة والسلام والوئام والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب. وسيكون دستورها في الحياة التعاون بدل الصراع والجدال . والتعاون من شأنه التساند والاتحاد. وستضع الهدى بدل الهوى حاكما على الخدمات التي تقدم للبشر، ومن شأن الهدى أن يرتفع بالإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحد من النزعات النفسانية، تُطَمْئِنُ الروحَ وتُشَوِّقُها إلى المعالي.
إن الوبال الذي لحق ويلحق الإسلام من جهة الغرب ومدنيته المفسدة للفطرة ومكائد الصهيونية تجعل المسلمين يتطلعون إلى دوام خصومات هذا الغرب وما يستنزفه من فتن، ذلك لأن دوام تلك الخصومات سبب مهم في تنامي الأُخُوَّة بين الإسلامية ووحدتها..(1)
الفصل الحادي عشر
القومية
مما لاشك فيه أن العقيدة الإسلامية قد أعطت لمفهوم القومية معنى مِلِّيًّا تجاوز بها إطار النعرة والانغلاق الذي ظل يتحجرها آمادا، سواء من خلال أوضاع الاجتماع البدائي الذي كان يلحم الجماعات برباط الدم والرحم، أو بواسطة الروحيات الني استحدثتها الثقافات والفلسفات، بل وحتى بعض الديانات.. إذ أن ديانة مثل اليهودية قد كرست العرقية وجعلت الامتياز والعناية القدسية من نصيبها وحدها لا غير..
__________
(1) صيقل الإسلام ص.359.(11/433)
وإذا كان الميل العرقي شيئا من طبيعة الإنسان، أو من نوازع الألفة المغروسة فيه، فلا ريب أن نفسية الإنسان قد فطرت على التكيف والامتزاج مع نفوس نظرائها من البشر في كل الظروف، لأن جوهر البشرية يجعل من الكائن أخًا للكائن وإن تباعدا في الأوطان واختلفا في الألوان، وتلك خاصية امتازت بها سائر الأجناس والمخلوقات، بما أودع الله فيها من حكمة وقابلية اندماجية تجعل العنصر يتواصل وينخرط في جماعته بحكم الجنسية ووحدة الجوهر..
على أن هناك من الدوافع الحيوية والتغالبية ما جعلت الانسان منذ القديم يجنح إلى الانغلاق وإلى أن يعيش حياة القطيع والانقطاع، ومعاداة الآخرين ممن لا تجمعه بهم رابطة المكان والموطن ..
لقد وَلَّدَتْ تلك الصلات القبلية ثقافة ( الآخر) الأجنبي، ورسخت مع الأطوار نفسية العدوان والاجتياح، وتكرست على ذلك الوجه روح الحمية والنعرة، وأضحت العلائق بين الجماعات والممالك والأمصار محكومة بقيم المصلحة، وهو ما نما معه الاجتماع القومي، خصوصا وأن هناك من الديانات ما استجاب لهذا الوازع التعصبي، شأن الديانة اليهودية التي أناطت - كما أسلفنا - فلسفتها بالعرق، وأرست علاقاتها بالأجناس الأخرى على أسس استعلائية لا تمازجية، وذلك ما جعل تاريخ اليهود حافلا بالكوارث والنكبات.
ومع فجر النهضة الأوروبية انتعشت الفكرة القومية على نطاق واسع، وأججت بين دول الغرب شحناء التباغض والاصطراع، واستنزفت شعوبها وأممها في التقاتل طاقات وفداحات لا تحصى، لكن ذلك الواقع التعصبي مضى بها على طريق البناء القومي أو الوطني الذي - وإن لم يضمن لتلك الشعوب والأمم الاستقرار - إلا أنه هيأ لها مجالا للتنافس والتباري في التعمير والتصنيع، وذلك ما برر لرواج الفلسفات والإيديولوجيات القومية عندهم...
الثقافة اليهو- مسيحية مصدر روحي كرس فكرة القومية(11/434)
على أنه لا ينبغي أن يفوتنا الأثر الكتابي الحاسم في ظهور القوميات.. فالعهد القديم الذي هو مرتكز الثقافة اليهو- مسيحية يُقِرُّ مبدأ القومية، ولما كانت العُصَبُ اليهودية هي صانعة تاريخ الغرب المعاصر، فإنها لبثت تُشَتِّتُ اللُّحَمَ، وتبث الأفكار والفلسفات العرقية من خلال آداب وأفكار الكتاب والساسة اليهود..
وإذا ما التفتنا إلى ألمانيا مثلا، باعتبارها المحور الذي زلزل الكيانات الغربية مرات من خلال ما شَنَّ من حروب، فإننا سنجد الفكر الإيديولجي قد راج فيها في مراحل عدة من تاريخها، وما كتابات فيختة إلا بعضا مما أفرزته الروح الجرمانية التي كانت معتدة، بل ومسكونة بأصالتها..
البروتستانتية ومنزعها القومي، الانفصالي
بل لقد رأينا البروتستانية تنشأ في رحاب الوطن الألماني، والبروتستانتية - كما نعلم- قراءة للكتاب ثورية أو تمردية أعارت المسألة الوطنية أو الدولة - بمعناها الانجيلي التوسعي الحديث - اهتماما مركزيا، الأمر الذي يبين مدى تنوع الاختراق الروحي الذي كرس في الغرب نوعا من الشوفينية والقومية التفكيكية..
لقد كانت المسيحية في مرحلة الرسل، تتبع المنهج الأممي، ولكنها اختارت ذلك كإستراتيجية توسع لا غير ..(11/435)
أما الاسلام فقد أخذ منذ المنطلق بمبدإ الانسانية، إذ جاءت أوائل السور تخاطب الإنسان .. (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق) العلق1-2. ولم تتقوقع المخاطبات القرآنية قط عند حد تجنيدي تتعالى به أمة على بقية البشر، ولم تستأثر فيه حمية قوميةٌ بامتياز أو اصطفاء تزعم به أن الله بات رهن إشارتها وقيد ملكيتها، ولكن القرآن نظر إلى الأقوام والشعوب على أنها مخلوقات إلهية مكرمة جميعا، مسددة بتعاليم الأنبياء والرسل وخاصة بالشريعة الغراء التي جاء بها خاتم النبيئين - صلى الله عليه وسلم -، ليتمايزوا في الحساب الأخير على أساس التقوى .. إذ التقوى هي معيار إلهي مناط بمدى الخدمة التي يقدمها الانسان المؤمن لصالح الانسانية والكائنات قاطبة.. من هنا لم يتورط القرآن العظيم – وحاشاه - كما تورطت الكتب التي تدعي أنها سماوية - في ذهنية العرق المقيتة، ولم يصنف الناس على أساس شعوبي استئثاري لا يقيم للإعتبار الإلهي وزنا..
لقد أضحى مقوِّم القومية في النظم الغربية فارزا أساسيا يفصل الشعوب عن بعضها بعضا، ويمايز بينها، ويدفع بها - من ثمة - إلى عتبة التباغض السافر والتقاتل الصريح ..
ولقد انتهت إلى الشعوب الاسلامية في مطلع هذا القرن مفاهيم الغرب وقيمه السياسية والإيديولوجية ،على يد دعاة الاستيلاب ممن استهوتهم تلك القيم وراحوا يتبنونها ويعملون على تسيير الأمة من خلالها، الأمر الذي كان يتعارض مع الروح الاسلامية التي لا تقول بالعرق، لأن مقوم الدين كان الشارة الملية التي تجمع تحت لوائها المسلمين أينما كانوا..
النورسي يحارب الفكرة القومية في صورتها التمزيقية المناهضة لروح الدين
من هنا وجدنا النورسي - ومعه قلة من المصلحين النيرين - يتصدى إلى الكشف عن حقيقة القومية، و كونها تقليدا مستجلبا لا يتلاءم مع عقيدتنا .(11/436)
بل لقد رأيناه يضرب في أعماق التاريخ مستدعيا الشواهد الصارخة التي كانت فيها الروح القومية سببا لوقوع ما عرفت الملة من اختلالات ومحن..
لقد عاد إلى العصر الأموي، واستقرأ حروبه الداخلية بين المسلمين، واعتبرها عثرة من عثرات الفكر العرقي أو الشعوبي التي أضرت بالاسلام في تلك المرحلة، وخرجت به عن محجته القويمة.. لقد عَذَّ النورسي الصراع بين سيدنا الحسن والحسين (رضي الله عنهما) وبين خصومه صراعا قوميا دينيا، كان من مطامحه تعديل المسار وتقويم النهج .." أما مقاومة الحسن والحسين (رضي الله عنهما) للأمويين، فهي في حقيقتها صراع بين الدين والقومية، إذ اعتمد الأمويون على جنس العرب في تقوية الدولة الاسلامية وقدموهم على غيرهم، أي فضلوا رابطة القومية على رابطة الاسلام، فأضروا بالدين من جهتين:
- الأولى أنهم آذوا الأقوام الأخرى بنظرتهم هذه، فولدوا فيهم الكراهية والنفور.
-الثانية أن الأسس المتبعة في القومية والعنصرية أسس لا تتبع العدالة ولا توافق الحق، إذ لا تسير تلك الأسس على وفق العدالة، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم بنو جنسه إلى غيرهم، فأنّى له أن يبلغ العدالة ؟
بينما الاسلام يَجُبُّ ما قبله من عصبية جاهلية، لا فرق بين عبد حبشي وسيد قرشي إذا أسلما، فلا يمكن إقامة رابطة القومية بدلا من رابطة الدين في ضوء هذا الأمر الحازم، إذ لا تكون هناك عدالة قط، وإنما تهدر الحقوق ويضيع الإنصاف. " (1)
" لقد خلط الأمويون شيئا من القومية في سياساتهم، فأسخطوا العالم الاسلامي، فضلا عما ابتلوا به من بلايا كثيرة، جراء الفتن الداخلية " (2)
__________
(1) المكتوبات ص68.
(2) المكتوبات ص.414.(11/437)
ومن الواضح إن مثل هذه الاستدعاءات التاريخية لا يقصد بها النورسي إثارة نعرة، ولكنه يريد أن يكوي به داء خبيثا رآه بدأ يستفحل ويأخذ في التفاقم، هو داء القومية التي كان شعارها المرفوع مِعْوَلاً آخر في يد المبيتين لضرب الملة وتفكيك الخلافة من دعاة التغريب ..
من هنا تعمد النورسي أن يستحضر الشواهد الصارخة، والأكثر صلة بوجدان الأمة قاطبة، كي يضع الأذهان في مواجهة الخطر الذي يتربص بها من خلال تلك الدعوات القومية..
لقد كان يدرك أن الأمة المتهالكة والتي طال سباتها، هي من الاستعداد للتحلل والتفكك ما أن يحرك فيها أي ناعق مغرض نزوع الفرقة والتشتت.. وكان يدرك أيضا أن حمل المندسين لشعار القومية كان يصطنع من المغريات والتسويغات ما يجعل مقصدهم يمر، وحيلتهم تنطوي على الأمة بسهولة .. من هنا راح يتوجه بأحاديثه إلى مواجد الأمة وعقلها ويقف بها عند تلك البقع الحمراء التي كان التاريخ السياسي الاسلامي يحتفظ بها كعوارض اختلالية بالغة الأثر على المسار الذي عرفه الاسلام ومدنيته جراءها..
لقد كان النورسي يخشى أن يعيد التاريخ نفس أخطائه، ولكن هذه المرة بِكَرَّةٍ ينقصم لها الظهر الاسلامي لأن جسد الأمة كان على حال من الخور لا توصف.. لذلك طفق يَصُدُّ المغرضين عن مقاصدهم، من خلال تبيان المخاطر والإبتلاءات التي جرتها القومية لا على المسلمين وحدهم ولكن على أمم أخرى كذلك..
بل لقد راح يكشف عما أحدثته النعرة القومية بين الدول الغربية نفسها والتي كانت مصدر استلهام أولئك المستلبين.. من هنا راح يؤكد أن أبناء تلك الشعوب الأوروبية، حين تورطوا في وحل العرقية " ودعوا إلى العنصرية وأوغلوا فيها، في هذا العصر، نجم العداء التاريخي المليء بالحوادث المريعة بين الفرنسيين والألمان، كما أظهر الدمار الرهيب الذي أحدثته الحرب العالمية، مبلغ الضرر الذي يلحقه هذا الفكر السلبي للبشرية" .(1)
__________
(1) المكتوبات ص 414.(11/438)
وفي هذا السياق مضى النورسي يتحدث عن حال الأمة التركية وما عراها من تمزق نتيجة أخذ الطوائف بشعارات قومية في كنف السياسة التي جاء بها الدستور.. " ففي بداية عهد الحرية أي إعلان الدستور، تشكلت جمعيات مختلفة وفي المقدمة الروم والأرمن، تحت أسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب - كما تشتت الأقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا أيدي سبإ في التاريخ، حتى كان منهم من أصبح لقمة سائغة للأجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالا بعيدا ".(1)
لقد كان النورسي على وعي تام بالمطامع الاستعمارية التي يخفيها الغرب من خلال تشجيعه النزعة القومية والعرقية في البلاد الاسلامية، لذلك راح يفضح مواقف أوروبا من الوضع التفككي الذي كانت الدعوة القومية تهيئه للأعداء المتربصين، وذلك بإثارتها النعرات والحميات سواء داخل تركيا نفسها أو بين الأعراق التي كانت الخلافة تجمعها أو تلك التي آخى بينها الاسلام على مدى القرون: ..
" إن أطماع أوروبا التي لا تفتر ولا تشبع هي كالثعابين الضخمة الفاتحة أفواهها للابتلاع، لذا فإن عدم الاهتمام والتنبه لأهداف هؤلاء الأوروبيين، بل معاونتهم بالفكر العنصري السلبي، وإنماء روح العداء إزاء المواطنين القاطنين في الولايات الشرقية أو إخواننا في الدين في الجنوب، هلاك وأي هلاك وضرر وبيل." (2)
وفي هذا الإطار، يبدي النورسي حرصه على ضرورة الحفاظ على الصلات الوثيقة مع العرب، إذ كان يرى أن مناشير العرقية ماضية بتأثير الدس اليهودي الغربي، في حز اللحمة بين الأتراك والعرب، كمقدمة لهدم صرح الخلافة..من هنا كان على النورسي أن يبين طبيعة الأواصر الروحية التي تربط بين الأتراك في شمال الدولة الاسلامية والعرب في جنوبها
".. ليس بين أفراد الجنوب من يستحق أن يُعادَى حقا، بل ما أتى من الجنوب إلا نور القرآن وضياء الاسلام الذي شع فينا وفي كل مكان" (3)
__________
(1) المكتوبات ص.415.
(2) المكتوبات ص 415.
(3) المكتوبات ص 415.(11/439)
ثم يبين الحقيقة التي تضمرها نزعة معاداة العرب، والمقاصد التي تهدف إليها فيقول :
" فالعداء لأولئك الإخوان في الدين وبدوره العداء للإسلام، إنما يمس القرآن، وهو عداء لجميع أولئك المواطنين ولحياتهم الدنيوية والأخروية " (1)
ويخلص بعد هذا إلى تسفيه نوايا وادعاءات من كانوا يزعمون أنهم من وراء الترويج للقومية يخدمون المجتمع قائلا " فادِّعاءُ الغيرة القومية بنية خدمة المجتمع يهدم حجر الزاوية للحياتين معا، فهي حماقة كبرى وليست حمية وغيرة قطعا.." (2)
على أن النورسي في هذا كله لا ينفي شرط القومية بوصفها مظهرا شعوريا انسانيا لا ينفك عنه الكائن البشري .. بل يناهضها من حيث هي عقيدة تقصي الآخر على أسس العرق، وهي أسس باطلة، إذ العلم وواقع الحال يرفضان أن تكون هناك مزايا لعرق على آخر من المنظور البيولوجي أو الفيسيولوجي، إذ خصائص الإنسان فاشية ومنتشرة في الأعراق جميعا، والاختلاف المظهري والقيمي إنما يعود إلى الثقافة والمدنية لا غير..
القومية الإيجابية هي التي تراعي جانب الأخوة الإسلامية
من هنا يرى النورسي أن هناك قومية ايجابية تفيد في تحصيل الرقي الإجتماعي والكمال الإنساني، وهي القومية المبرأة من المرامي الاستعلائية والاستحواذية .. " فالقومية الإيجابية - بحسبه - تنبع من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لإسناد أكثر للأخوة الاسلامية.." (3)
__________
(1) المكتوبات ص ،415.
(2) المكتوبات ص 415.
(3) المكتوبات ص415.(11/440)
إن الفكر القومي إذا ما أراد أن يكون إيجابيا عليه أن لا يحيد عن المقاصد البنائية التي تعزز من شأن الأمة وتقوي من بأسها في وجه المداهمات .. فـ "الفكر الإيجابي القومي ينبغي أن يكون خادما للاسلام، وأن يكون قلعة حصينة له، وسورا منيعا حوله، لا أن يحل محل الاسلام، ولا بديلا عنه، لأن الأخوة التي يمنحها الاسلام تتضمن ألوف أنواع الأخوة، وإنها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ".(1)
لقد ظل النورسي متوجسا وغير مطمئن للمزالق التي كانت الدعاية القومية تهيؤها للإيقاع بالأمة، إذ أن فكرة القومية هي في أساسها عاطفة موجهة إلى تحقيق مرامي سياسية، وما أيسر تهييج العواطف على يد ساسة كان استعدادهم للانحراف كبيرا..
من هنا ظل النورسي يهيب بالأمة إلى أن تحذر مما يخطط ضدها، ولبث يبين للساسة ولمن يسمعه منهم أسس التوازن الضروري الذي تتحقق به القومية البناءة، إذ لا ينبغي أن تكون أواصر القومية - مهما كانت قوية – إلا ستارا من أستار الأخوة الاسلامية، وبخلافه، أي "إقامة القومية بديلا عن الاسلام، فإنه جناية خرقاء، أشبه ما يكون بوضع أحجار القلعة في خزينة بها ألماس وطرح الألماسات خارج القلعة" .(2)
الأمة التركية التي ظلت تحمل لواء الاسلام لا يحق لها أن تستجيب للفكر القومي
__________
(1) المكتوبات ص 416.
(2) م.ن. ص416.(11/441)
وفي هذا الصدد، يتوجه إلى الشعب التركي ويذكّره بماضيه الإسلامي المجيد ضمن الحظيرة الملية التي تَمَكَّنَ من أن يرفع لواءها على مدى قرون من المنافحة والريادة الجهادية ..فالأمة التركية ظلت متماسكة لم تنقسم على نفسها بسبب إسلامها ..لذا وجب الحذر من مغبة التفكك والتيه وراء وهْمِ القومية .. فلا ينبعي أن يحتذي الأتراك بغيرهم من الأقوام التي رجحت نزوعها القومي سواء في أوروبا أو في آسيا، فتلك أمم قد يناسبها تفعيل التاريخ من زاوية عصبية، لكن الأمة التركية حاملة لواء الإسلام، لا ينبعي أن تسلك ذلك السلوك إلا إذ أرادت الانتحار ..
فالإسلام - إذا ما بعثت روحيته من جديد- قادر على أن يحقق النهضة الحضارية الأصيلة للأمة الاسلامية كما حققها لها في منطلق عهوده الأولى..من هنا لا يغيبن عن الأذهان أن الإسلام هو مصدر الإيقاظ والبعث لأمم المشرق، كما أن الفلسفة كانت مصدر نهضة أمم الغرب .." إن ظهور أكثر الأنبياء في آسيا وظهور أغلب الحكماء والفلاسفة في أوروبا رمز للقدر الإلهي، وإشارة منه إلى أن الذي يوقظ آسيا ويدفعهم إلى الرقي ويحقق إدامة إدارتهم هو الدين والقلب، أما الفلسفة والحكمة فينبغي أن تعاونا الدين والقلب لا أن تحلا محلهما.." (1)
أوروبا تجاوزت حدود دينها الشكلي المقيد، فانتصرت في المدنية
لقد حققت أوروبا ذلك الشأن البعثي بواسطة الفلسفة لأن الأوروبيين عدموا الدين الحق بسبب ما عرا المسيحية من تحريف، الأمر الذي جعل التمحيص لقيمهم الدينية يتحقق على صعيد الفلسفة، إذ لا ننسى أن أسس فلسفتهم هي في أصلها قراءة للكتاب المقدس، وتثوير له أو تفعيل لقيمه في الاتجاهين السلبي والإيجابي، الأمر الذي أغل لديهم هذا الكم الكبير من الفلسفات المتضاربة، والنابعة جملة -تقريبا - من وفاض الكتاب المؤسطر..
__________
(1) المكتوبات ص.417.(11/442)
من هنا كان تأخرهم وطيدا يوم كانوا متزمتين ومتشبثين بكتابهم، ولم يتحرروا إلا بعد أن ثاروا عليه، ومارسوا الاجتهادات المؤولة لمسلماته في اتجاهات تعاكس في كثير من الأحيان المرامي الحرفية للكتاب.
في حين ارتبط تقدم المسلمين بارتباطهم الحقيقي بكتابهم، كما أن تأخرهم وانحطاطهم لم يحدث إلا حين تخلوا عن هذا الكتاب المجيد .. من هنا يبدو الفرق واضحا بين المحفزات الروحية والنفسية التي أسندت كل جهة في صنع حضارتها.. الإسلام بالنسبة للمسلمين - لأنه دين الله الحق.. والفلسفة بالنسبة للغرب، لأن الغرب سدد من خلالها روحية كتابه المقدس التي غمرها التحريف والأباطيل حتى حولتها عن صورتها الأصل، الأمر الذي جعل أوروبا تتمرغ طويلا في وحل الانحطاط، حتى تأَتَّى لها أن تتجاوز معطيات الكتاب المقدس من خلال التوليد العقلي والفكري الذي هيأته الفلسفة كما أسلفنا..
لقد استبعد النورسي بقاء الخلوص العرقي للجنس التركي، إذ أن هناك هجرات متوالية طرقت المنطقة أو عبرتها - لا سيما بعد أن أضحت تركيا موئلا اسلاميا ومقرا لخلافة المسلمين - وتركت تلك الهجرا نتائجها على السلالة بفعل الاندماج، الأمر الذي انتفت معه الصراحة الدموية للعرق التركي، وهو ما يدحض دعاوى المنادين بالقومية ..
وفي هذا الصدد يتوجه الداعية بالخطاب إلى هؤلاء الذين يبدون حماسة شديدة للقومية السلبية بالنصح قائلا :
"إن كنتم حقا تحبون هذه الأمة حبا جادا خالصا، وتشفقون عليها، فعليكم إن تحملوا في قلوبكم غيرة تسع الإشفاق على غالبية هذه الأمة لا على قلة قليلة منها، إذ أن خدمة هؤلاء خدمة اجتماعية مؤقته، غافلة عن الله - وهم ليسوا بحاجة إلى الرأفة والشفقة - وعدم الرأفة بالغالبية العظمى منهم، ليس من الحمية والغيرة في شيء.." (1)
__________
(1) المكتوبات ص.421.(11/443)
ومما لا شك فيه أن ما خشيه النورسي على الملة قد تحقق في حياته، واستمرت مضاعفاته تتوالد إلى اليوم، وتعفر أنف البلاد التركية في الطين.. لقد تفتت الخلافة بأيدي المستلبين، وبقيت تركيا تتلفت ذات اليمين وذات الشمال كالعجوز العانس التي عاشت وهم الخطبة من عشيق وهمي انتظرته طويلا وناجته في خيالها، وتغزلت به في أشعار يقظتها ومنامها، ولكنه لم يأت، وأدركها العمر وازداد هوسها ويأسها من البشر، فباتت تترامى على الأشباح تحسبها عرسانا..
فالمستقبل التركي الذي ظلت الجهات المخترقة تمسك به، مستقبل مكفهر، والوضع في الولايات الشرقية يحبل بجنين يحمل سكينا وأنيابا كالحراب، والغرب الذي كان يواقع تركيا في الخفاء نبذها على رؤوس الأشهاد وركلها على أعين الملأ، وأما إخوة الملة ممن يجاورونها، فأن الاستيلاب يبني السدود المنيعة بينها وبينهم، وبقي هناك أفق واحد مازال يوهمها بالمساندة والتعضيد، أنهم أعداء الملة ممن لقنوا الزمرة المرتدة في أول عهدها ثقافة العقوق والخسران، هاهم يمضون في تلقين خلفها ذات القيم، فيما الجسم فريسة لإنهاكات لا ريب ستتمخض عن واقع شائه لمن اختاروا وتمادوا في الشرود عن حمى الاسلام..
لقد حارب النورسي ذلك الوجه السلبي من القومية المشؤوم الذي " يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه، ويتصرف بحذر، وهذا يولد المخاصمة والنزاع، وهو ما يرفضه القرآن العظيم بقوله : (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها، وكان الله بكل شيء عليما). فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يرفضان رفضا قاطعا القومية السلبية وفكر العنصرية، لأن الغيرة الاسلامية الايجابية المقدسة لا تدع حاجة إليها.." (1)
مناهضة الفكر الشعوبي القومي، الشوفيني
__________
(1) المكتوبات ص 414.(11/444)
وفي مجال السياسة والإيدولوجية، نجد النورسي لا يترك سانحة تَعْرِضُ له، أو يهيئها بنفسه، للتحذير من مغبة الوقوع في وحل الشعوبية أو القومية بمعناها الشوفيني، إلا راح يستغلها في ابراز أعراض التعصب العرقي الأعمى والتحذير من مخاطره، والكشف عن الأبعاد السلبية التي ينطوي عليها ذلك الفكر الشوفيني ذو المرامي الهدمية التفكيكية..
ولقد كان النورسي ينطلق في طرح رؤيته الى القومية من فضح الشعارات الانعزالية التي كان يرفعها الشعوبيون من ساسة بلاده في تلك المرحة، ويزينون بها للشعب نوعا من الكبرياء والإعتداد التعصبي القائم على إحياء النعرة القديمة وإظهار امتيازات عرقية وثقافية متوهمة، وكل ذلك كان يتم في إطار مناهضة المد الإسلامي الذي كان مرشحا في مطلع هذا القرن للإنبعاث..
لقد كانت الجهات الحاقدة من صهاينة واستعماريين يتحسسون بوادرَ قابليةَ يقظةٍ مكينةٍ وتماثُلاً للحياة والحركة يسريان في روح الأمة الإسلامية، بعد كل ما ران عليها من سبات طيلة ليل الانحطاط، فأوعزت تلك الجهات المتربصة لأذيالها وصنائعها ودعاتها وأجهزتها أن تمجد الإيديولوجية القومية، وأن تلقن شعاراتها للشعوب، لا سيما تلك التي كانت مرشحعة لأن تلعب دور القاطرة الجرار في قيادة أمتها نحو الانبعاث..(11/445)
وقد كانت الظروف المرحلية للعالم - يومذاك - تسوغ ترويج تلك الشعارات، ذلك لأن الواقع التاريخي للبلاد الغربية لم يكن مهيأ يومئذ للإئتلاف والوحدة بين شعوبها، بسبب ما يقوم بينها من فوارق العرق واللغة والعقيدة وغيرها، الأمر الذي جعل شعوب الغرب تشق طريقها بمأساوية اتسمت بتواصل الحروب في ما بينها، لكنها - مع ذلك - استطاعت أن تتحول بعداء بعضها بعض إلى قارات العالم، وأن تستغرقها لهفة ابتزاز وابتلاع خيرات الأمم واستغلال الشعوب، وأن يشغلها ذلك كثيرا أو قليلا عن أن تتطاحن، وكان من نتيجة ذلك أن حصلت على تطور مدني وعسكري وصناعي نوعي مكين، جعلها تستطيب طعم العزة والنخوة القوميتين، وتتخذ منهما منطلقات ثقافية وعقدية تتمسك بها..
الغرب يعمل على تأجيج عاطفة القومية في اتجاه مغرض، هدام
على أن الغرب سلك إزاء الشعوب المستضعفة سياسة مزدوجة، فهو من جهة كان يعمل على وأد روح ومشاعر الوجود القومي واستئصالها من فكر ووجدان الشعوب التي كانت في قبضته، وهو من جهة أخرى أضحى يزين لتلك الأمم أن تعتنق النزعة القومية، وخاصة الأمم التي كان يدرك أن لها من الإشعاع والوجاهة ما يتجاوز بتأثيره نطاق جغرافيتها وموطنها، مثل الأمة التركية..
فقد كان يعرف أن أي انبعاث يحصل لهذه الأمة من شأنه أن يستدعي عودة الحياة إلى كامل الكيان الاسلامي، اعتبارا للرابطة الروحية التي توطدت بين الأتراك والشعوب العربية والاسلامية في ظل الخلافة التي كان مقرها تركيا ..(11/446)
لذا استمات الغرب وأدواته في بعث النزعة الشعوبية وتكريسها بين الأوساط العثمانية، وقد أخذ ذلك المخطط صورا مختلفة، إذ أن الدوائر الاستعمارية قد أججت المنازع الشعوبية وأضرمت نيرانها على مستوى القوميات التي كانت تجمعها رابطة الخلافة، وهكذا انخرطت تلك القوميات في تنفيذ المشروع التفكيكي الاستعماري، وكانت تتلقن من الغرب ما يسوغ عملها و(نضالها)، فكان - من ثمة - في التذرع بواقع التخلف الذي كانت عليه المجتمعات الاسلامية يومئذ ما يسر على دعاة القومية أن يستقطبوا شعوبهم إلى أفكارهم الانعزالية ..
وهكذا انطلت المناورة الخطيرة على الأمة المسلمة، وكان للنخب المستغربة دور أساسي في المضي بالمشروع القومي إلى مداه.. وغدا من دأب الغرب أن يعمل على استبقاء المسلمين في انحطاطهم ومواتهم، لا يأتي بعمل إلا وكان من مقاصده الحيلولة دون يقظتهم، والسعي إلى تفكيكهم، وتشتيت قواهم، والاعتراض على أي أمل يسْتَحِثُّ عوامل وحدتهم أو يستثير همَّة التقارب بينهم ..
من هنا كان تركيز المستعمرين على تحطيم وإماتة مقومات التجمع والتوحيد التي كانت تتوفر للأمة، لاسيما الحيز الجغرافي المتماسك والعقيدة واللغة والحضارة المشتركة .. ومن هنا أيضا كان جهاد النورسي الرائع والذي لا شائبة فيه، إذ ظلت القومية بالمنظور التغربي تمثل عنده الانتحار الأخرق الذي تقدم عليه أية أمة فقدت منطق التمييز وتقدير المخاطر ..
لقد ظل النورسي متشبثا بمبدأ الأمة الواحدة، المعتصمة بِحِمَى دينها الاسلامي، المتواشجة في ما بينها بوشائج الأخوة المحمدية.. يهتف بذلك المبدإ في الآفاق، ويدعو له، ويلهج به، ويلقنه، ويصاول من أجله .. كل ذلك ضمن عزة يستمدها من إيمان عميق بأن الغد للإسلام، وبهمة شماء ترى في كثافة التعداد السكاني الاسلامي احتياطا لا يقهر، وبيقين راسخ يُسَلِّمُ أن الأمة محفوظة ما وحدتها القبلة وما استمسكت بكتاب ربها الأبر..(11/447)
النورسي إذ ينافح عن الوحدة، فإنه يختار المكاسب الشمولية الدائمة على الجزاءات الظرفية
وعلى الرغم مما هيأته له ظروف وطنه وشعبه من اِمكانات التنفذ والتَّزَعُّمِ لو أنه لوح مجرد التلويح بشعار القومية، لاسيما أثناء تلك المناسبة العارمة التي فتحت له فيها ثورة الديار الشرقية التركية ذراعيها، حين فَجَّرَ رجالُها حركة تمردٍ ضد النظام الطوراني اللاديني، لوجد نفسه في مقدمة الرعيل الانعزالي يبسط سيادة قد لا تدوم أمدا، على قطاع أرضي وفوق رعية مقتطعة من كيانها الأرحب، فهي أشبه بغصن قُصَّ من جذعه، لا يلبث أن يذبل ويجف..
لكن النورسي الذي ظل يعتد بقوة المسلمين القائمة على كمهم التعدادي، تلك الكثرة التي طفق يستعرضها ويدير الحديث من حولها كلما ابتأس من واقع الزراية الذي كانت عليه الأمة، أو كلما شدته آمال الانعتاق واستعرت في صدره لواعج التوق والحنين إلى الغد المشرق الذي لم يكن يشك في أنه سيكون من نصيب المسلمين ..
هنالك كان يجد في التعداد الكلي للمسلمين بارقة أمل وعزاء تلهمه السكينة وحسن الظن بالخالق وبالأمة التي اختارها الله وعاء لدينه، ومحاورا فذا بحجته ولسانه، باقي العالمين…
لقد كان النورسي ينحاز للكل، ويشيح في نفور من التبعض، والتشتت، والتفرق..فاعتزازه بالكمية كان إعلانا عن انتماء، وليس تباهيا ساذجا بالاحجام ..
من هنا كان اختياره استراتيجيا ن ولم يكن قط مغرضا أو محركا بالحسابات التافهة..
لم يخطر قط للنورسي أن الخلافة الاسلامية ستسقط(11/448)
بل لقد دلت كتاباته أنه لم يكن قط يتوقع أن يقدم المسلمون على فك عرى الوحدة وتجاوز مبدأ الخلافة التي كانت تجمعهم .. لقد كان في تصوره أن الإقدام على تلك الخطوة لا يعني إلا الفناء المؤكد، غير أن ظروف المرحلة قد عجلت بإحداث ما لم يكن متوقعا، إذ حلت الخلافة على يد المتغربين، وشاهد النورسي كيف كان الطورانيون يتدرجون في تنفيذ مخطط تغريبي، وكيف كانوا يمكنون لسياستهم الخيانية أن تسدد ضاري الضربات للدين والملة .. وكيف أنهم توصلوا إلى تحقيق ذلك من خلال رفع شعار القومية.. فتيقن أن ما ظل يخشاه ويتوقعه من شرور تجرها سياسة القوميين المتغربين، قد تحقق وأضحى واقعا فادحا لا مراء فيه..
وكان على النورسي أن يتصدى لذلك الواقع، وكان له في الاستشفاء بالبلسم القرآني وبنصوص الحديث الشريف، خير ما يتذرع به لقول ما كان عليه أن يقوله وسط ذلك المآل المدمر الرهيب..
وهكذا رأيناه يقف عند العديد من الآيات والآثار الشريفة، يستنطقها، ويكشف من خلالها عن قيمة الوحدة والاختلاف التي هيأها الله للبشر حين جعلهم شعوبا وأمما، وما أناطه إياهم بذلك الاختلاف من أدوار ووظائف يتكاملون بها بينهم، مع ما يستتبع ذلك التكامل من مكاسب ومنافع تتبادلها الشعوب فيما بينها، وما كفل لهم بواسطة لحمة العقيدة من أسباب الوحدة والتآخي التي لا تُرَدُّ..
لقد مضى النورسي يتتبع النصوص الشرعية، معالجا إشكال القومية، متصديا بذلك الوجه الفكري، للانحراف الخطير الذي سجلته السياسة الانعزالية، وباشرت به تحقيق مشروعها القومي، التمزيقي..
لقد وقف عند قوله تعالى :
( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ).الحجرات.13
فوجدناه قد قرأه على النحو التالي :
أي: لتعارفوا، فتعاونوا، فتحابوا، لا لتناكروا، فتعاندوا، فتتعادوا.(11/449)
ورأيناه يستطرد في التعقيب على هذه الآية، مبرزا جوانب الإيجاب والسلب في نزعة الشعور القومي كما تتجسد في عواطف الأفراد وسلوكهم، وشأن الأفراد في ذلك - كما يقول - شأن الشعوب :
"إذكل إنسان في المجتمع له روابط متسلسلة ووظائف مترابطة، فلو اختلطت هذه الروابط والوظائف ولم تُعَيَّن وتُحدَّدْ، لما كان هناك تعاون ولا تعارف. فنمو الشعور القومي في الشخص إما أن يكون إيجابيا أو سلبيا . فالإيجابي ينتعش بنمو الشفقة على بني الجنس التي تدفع إلى التعاون والتعارف، أما السلبي فهو الذي ينشأ من الحرص على العرق والجنس الذي يسبب التناكر والتعاند . والإسلام يرفض هذا الأخير". (1)
ومن الواضح أن اختيار النورسي لهذه الآية، ومثيلاتها، إنما كان نشاطا نزاليا يواجه به المساعي التدميرية التي كانت تصور للأمة التركية قيم القومية بصورة خادعة ومغرية، إيقاعا لها في الشرك..
لقد كانت رؤية النورسي للقومية تنبع من فهمه الذي تمثَّلَ به معنى الآية السابقة.. لقد راح يدين الدعوة الشعوبية، ويوجه سهام الطعن لها باسم الاسلام..
* * *
***
فهرس
استهلالة ... 5
الفصل الأول
سبْرٌ لثنايا رحلة العمر والجهاد ... 11
اليقظة أس قتاليته ... 14
التوبة والقطيعة ... 20
التعالي الروحي والخلقي أحد سجاياه الأصيلة ... 26
التنظيم والوحدة مناط كسب الرهان ... 28
بسالته..وحربيته الاستراتيجية بعيدة المدى ... 31
الرضى بما يكتب القدر، والتكيف الإيجابي مع الأطوار الحياتية بما فيها الثواء في السجن ... 32
حين يكون الضعف رديف القوة ... 33
الشخصية التجاوزية ... 34
روحه السلمية..المسالمة ... 37
حاربوه بأسلحة القمع المادي والنكال المعنوي ... 38
شواهد على التواضع والتجرد بلسان الحال والمقال ... 38
لمحة عن حياته بقلمه ... 40
الفصل الثاني
النورسي.. الإنسان ...
شخصه، أحواله، ومنهجه في حياته الخاصة ... 44
__________
(1) صيقل الإسلام ص .335.(11/450)
خلق التجمل والاحتساب ... 47
المصائب والملمات تزكي احتسابه الروحي ... 50
الإقتصاد والتعفف في النفقة وترشيد القوت ... 51
كان يلمس آثار البركة في حياته المعاشية بجلاء لا مراء فيه ... 54
رفض الإنصياع إلى التخلق بأخلاق الاستيلاب والاستغراب ... 55
استنكاره مواقف السلك الديني الذي كان يناصبه العداء ... 57
من شعاراته ... 58
ومن تعاليمه المبينة على استراتيجية تجاهل الدنيويين ... 58
بلاغة التعزية ... 59
الحدب على الانسانية قاطبة ... 61
الإختلاف الإيجابي بين أفراد الأمة والمجموعات، رحمة ... 66
انسانيته قرآنية الروح والغاية ... 67
الإنسان المعاصر والتجربة الشيوعية ... 73
تزكية المجال الغيبي الموصول بالشرع، والأخذ به، ترجيحا لروح الإيمان ... 77
النورسي يعيد تقويم الشاهد الخارق من منظور تحصيفي ... 77
النورسي ..أخلاقه أخلاق القرآن، والإمحاء الإعتباري مسلكه ... 78
وتلك منقبة أخرى من مناقب هذا الطاهر الذي سحق النفس فظفر بالعظمة المستديمة.. ... 81
كيف قرأ النورسي مسألة الدعاء ؟ ... 82
إرادة الانسان من إرادة الله .. وقانون العلة والنتيجة هو بمثابة الدعاء المشروط بالمشيئة الإلهية ... 84
قانون التراسل والتواصل والسببية المنوطة بأسماء الله الحسنى ... 85
كيف ربط النورسي بين أسماء الله الحسنى وبين التطور الحضاري ... 86
الإجتهاد ... 92
سيرة النورسي الحياتية مدونة اجتهاد نظري وتطبيقي مدهشة ... 95
دور المجتهد المجدد في العصر الراهن دور بناء الاستراتيجيات ... 95
الجماعات تنوب عن الرجل العبقري، ويحق لها أن تمارس الاجتهاد..شرط أن تأخذ بالشريعة ... 96
الانسان الكامل ... 96
رفضه استخدام اللسان العجمي في العبادات لا سيما في الصلاة ... 97
الفصل الثالث
مسألة الزمن
تحسس لمفهوم السيرورة كما تمثلها النورسي ...
النورسي يعيش الزمنية بإحساسين، إحساس النسبية وإحساس المطلقية ... 104(11/451)
الزمن الدنيوي اِرهاص للزمن الأخروي، السرمدي ... 117
كرامة طي الزمن ... 117
الإيمان بالغيب من الإيمان بالله ... 119
الدعوة إلى تحصيف التراث وترقية منهج الوعظ والترشيد ... 121
التقليد محنة قيدت العقل وأعاقت القابليات ... 122
الفصل الرابع
الجمال والجمالية .. في فكر النورسي125
من الإنابة إلى الله، إلى الاستغراق في ملكوت جماله ... 126
كل كائن هو قصيد شعري ونموذج جمالي رباني ... 126
الجمال الإلهي وجمال المخلوقية ... 128
الكون مرصد جمالي إلهي، خال من القبح ... 129
كل ما خلق الله في أكوانه -حتى الشيطان- يمثل وجها من وجوه الخيرية والجمال ... 130
خلق الله الشر ليطّرد القانون الحيوي الناتج عن تفاعل عوامل السلب والإيجاب ... 132
الجمال خاصية عضوية أودعها الله بذرة الكائن ... 132
أكرم الله الإنسان ،وجعله رأس هرم التزكية، وسخر له الكون والكائنات بما فيها ذوات الحيوات ... 134
الفصل الخامس
التصوف في فكر النورسي ... 135
التأمل، العتبة التي تعبرها الروح إلى أفق الغيب ... 135
النورسي متصوف، لكنه مباين لمعشر المتصوفة في تجربته ونهج سلوكه ... 137
التجربة المعيشة بوجدانين ... 137
الإيمان مهمة ثابتة تقتضي التعهد.. والذكر وقودها ... 139
غاية الطريقة اكتساب المعرفة النورانية،المتعمقة بالحقائق الإيمانية ... 141
الطريقة والولاية والشريعة والبرهان ... 141
الطريقة تنظيم اجتماعي وتأطيري فاعل في حياة المسلمين ... 142
الطريقة وتبعاتها العقلية والروحية ... 145
1- السلوك ... 145
2- عوائق الطريق ... 147
3-وحدة الوجود والشهود ... 148
4-طريق السنة، طريق الولاية ... 150
الطريقة هي الشريعة ولا ينبغي أن تكون غير ذلك ... 152
لذة السالك تكون في لذة أدائه للفرائض الشرعية والمواظبة عليها بشروطها ... 152
مخاطر الانزلاق في أحوال السكر والانجذاب ... 153
الأفضلية للنبوة على الولاية وليس العكس ... 154(11/452)
لا يحق للسالك التعبير عن رؤاه الكشفية، وإلا وقع في المحظور وقارف الخطأ ... 156
الأئمة الأربعة هم أركان الاجتهاد الشرعي، وهم أهل القطبية ... 156
الفصل السادس
تفسير القرآن للنورسي إطلالة على كتاب "إشارات الإعجاز" ... 159
تفسير النورسي للقرآن العظيم ... 159
التنزيل واحد، والتنزل متعدد ... 160
الوحي وسَنَنُ التوصيل الإستئناسي النافذ ... 161
الخطاب القرآني يفاعل مواجد المتلقي ... 162
مفاتيح فهم الخطاب القرآني ... 163
النورسي يؤكد دور المتلقي في اجلاء النص ... 166
التفسير وظيفة كشفية ... 168
المجاز وجه بياني قرآني، وتأوله يقتضي أن يتم على وفق السنن البلاغي العربي ... 171
القراءة تجدد المضامين بتجدد الزمان والمكان ... 172
رسائل النور فضاء تفسيري مادته القرآن وآفاقه الاستلهامات الروحية الناتجة عن ملابسة الآيات ... 173
كتاب"إشارات الإعجاز" أثر تفسيري أصيل ... 174
الجانب الغيبي في تفسير النورسي ارتقاء بالمدارك البشرية إلى مستوى علو المقاصد القرآنية ... 177
النورسي يتسلح باليقظة ويثمر التأويل في الرد على الكائدين ... 180
التأويل نافذة على قراءة الواقع ... 182
تحصيف المروي من الأخبار، بواسطة حسن التأول والتأويل ... 187
نماذج من تأويلية النورسي لمستويات من مشكل الأثر ... 188
تأويل " مسألة الثور والحوت" ... 195
التفسير والتخريج التأويلي ... 198
بيداغوجية الوعظ السلبي أساءت إلى حقائق التنزل ... 199
الفصل السابع
المنحى التجريدي والرؤية التحليلية عند النورسي ... 202
النورسي نسيج وحده ... 202
قراءة في أسفار المثنوي العربي النوري ... 203
التوحيد ... 204
التوحيد ومعرفة الخالق البارئ ... 205
مبدأ الوحدة يكرس منطق التوحيد. ... 208
التساوق التكويني الباهر دليل الوحدانية ... 209
الوصف المطلق يحيل إليه سبحانه وتعالى، انحصارا ... 209(11/453)
سنة الله أو قوانينه التي تجسدها شريعته الكونية أو الطبيعية ... 210
الشريعة الإلهية مستويان اثنان ... 210
العلوم وسيط إيماني وتوحيدي لايمارى ... 211
التفكير والتأمل قناة للوصول إلى الإقرار بالتوحيد ... 211
منهج التفكير المجدي ... 212
اِشكال التوحيد عند العامة والخاصة ... 214
الإيمان وازع فطري، وجودي ... 218
بالإيمان يتحقق فلاح الانسان ... 219
النورسي و هاجس الموت ... 220
القرآن الكريم ... 221
تعليمية القرآن ذات الحقائق المجَسَّمَة في العيان ... 223
الرؤية البنيوية والإجتزائية للنص القرآني العظيم . ... 225
النظر القرآني الكلي والقطعي يسفّه النظر الفلسفي الجزئي والتوهمي ... 227
القرآن خرق للمألوف ... 228
من سجايا علو الخطاب القرآني وكمال بيانه ... 228
بين مرامي القرآن العظيم ومرامي الفلسفة ... 229
الفلسفة والقرآن ... 229
الإنسان ... 235
أنا البشر متعدد، لذا تعددت طرقه ورؤاه للحقيقة ... 235
فلسفة الأنا ... 237
الأنا ونوازع الانسياق للخير والشر ... 239
الإنسان المعاصر عبد المدنية والتقنية ... 240
العقل وقوانين العلة والإدراك ... 244
الفلسفة ... 245
الفلسفة مراس فكري مغلق لا يوطد قناعة إيمانية ... 245
الفلسفة تعجز عن ارتسام محجة يقبل السير عليها الناس جميعا ... 248
النورسي يستنقص نظرة الفلسفة إلى الوجود ويستعيض عنها بالرؤية القرآنية ... 248
الفلسفة مصدر جبروت وطغيان ... 250
النورسي لم يُلغ دور الفلسفة الحديثة في مضمار البناء المعرفي والحضاري ... 252
فلسفة السببية والكسب ... 254
الفصل الثامن ... 265
قراءة في جوانب من فكر النورسي
النورسي لا يخاف احتراف السياسة إلا لأنها تسلك بالمرء سبيلا يبعده عن طريق الحق ... 265
السياسة مثابة المفاسد جميعا ... 266
منهجه العمل بعيد المدى..أو سياسة الإلتفاف الحكيمة ... 268
كيف ننهض بالدين، بدل أن نتبناه ونحتكره ... 269(11/454)
معاينة لواقع الاندحار الحضاري الاسلامي وطغيان الأعداء ... 270
عقدة الاختلاف .. عقدة الزعامة ... 275
المسلم يرسف في قيد العقد ... 276
عقد أخرى تسبب اعتلال الأمة واختلالها ... 278
النورسي يداوم على تصحيح مواقفه عبر مراحل مسيرته ... 279
الرؤية السياسية المستقبلية عند سعيد القديم ... 281
دافع النورسي عن الحكومة والنظام الجديد ،مراهنة منه على ما اعتقد فيه من نتائج اصلاحية ... 282
النورسي يوظف فاعلية الاجتهاد والفتوى في خدمة الأمة ... 283
النورسي وفلسفة التسامح ... 285
النورسي يمارس الاجتهاد التجديدي رغم تقييده للفعل الاجتهادي بضوابط ... 287
برنامج الإصلاح في عهد المشروطية ... 293
النورسي يشخص أمراض الأمة واعتلالاتها المزمنة ... 293
من الإعتلالات النفسية : اليأس ... 294
حب الظهور ونقائص أخرى ... 294
الحرية ..بين التقييد الشرعي والإطلاق الطبيعي ... 298
التفطن إلى مخاطر الحركة الانقلابية ... 305
بيداغوجية الدعوة إلى الحق ... 308
منهجه الالتزام بالأولويات وعدم اهدار الوقت في استثارة ما لا يفيد في دعم المعركة المصيرية ... 309
مقارعة الجاحدين ودعوتهم إلى الاعتبار بما يلوِّح به أمامهم مظاهر الكون من دلائل التوحيد ... 310
النورسي يسعى إلى تسييج العقيدة والإيمان في القلوب من خلال الحديث عن مسائل الغيب ... 310
الماكرون ينوهون بالإلهام، حطًّا من منزلة الوحي ... 311
النورسي يحسم المسألة.. ويقوّم حقيقة كل من الإلهام والوحي ... 312
النورسي يستقرئ السيرة النبوية ويستخلص من إشاراتها وإفاداتها ما يخرس به ألسنة الجاحدين ... 312
استدعاء موضوعات الغيب منهج قصدي تترجح به كفة أهل الإيمان على الجاحدين الماديين ... 313
الإيمان بالغيب من الإيمان بالله ... 313
الحكمة من وراء تناظر الخير والشر ... 315
العبادة تكفل السعادة،لأنها تحول القابليات الفطرية في الانسان إلى أحوال وسجايا ... 315(11/455)
النصر في النهاية هو من نصيب أهل الخير ... 315
الاسلام سينتصر على الماديات ويسود العالمين بسماحته وقابلياته الانسانية الراسخة ... 316
الافرازات المدنية المادية الضارة ستعمل على تحويل الانسانية إلى الاسلام ... 317
عوامل سبق أوروبا في العصر الراهن ... 318
في فلسفة الجبر والاختيار أو الكسب والإرادة ... 318
الإسرائيليات والفلسفة وروح القرآن العظيم ... 319
كيف شوه دخول الإسرائيليات وقسم من الفلسفة اليونانية الأفكار والحقائق التي جاء بها الإسلام ... 321
الرؤية النورسية وتأصيل المعرفة وأسلمتها ... 321
النورسي لا يسد باب التلاقح الفكري والتفاعل المعرفي ... 322
التوجيه الأصيل للمعرفة الاسلامية ... 323
المعرفة الاسلامية ومغبة التفتح على الثقافات الأممية والكتابية بالخصوص ... 324
الظاهريون أدمجوا الشوائب وطبقوا معارف مهجنة على روح القرآن، فأساؤوا للقرآن العظيم ... 325
البلاغة العربية مفتاح فهم الخطاب القرآني ... 325
في البحث البلاغي ... 326
حدُّ فقه الخطاب القرآني أن يسلك الطريق اللساني البلاغي.. وليس الطريق الفلسفي ... 326
للكلام سفارة وبروتوكولية أدائية مرعية ... 329
البلاغة توصيل رشيد.. والموقف الكلامي يقتضي مراعاة أطراف التواصل جملة ... 332
النورسي يتمزق ألما من انحطاط ورثاثة مستوى المعرفة الذي تلازمه الأمة في قرن الخوارق العلمية ... 334
التقاعس عن تأدية الشعائر سبب انتكاسنا الحضاري ... 335
عفونة المناخ السياسي .. وتأثيرات الغرب هما مصدر إحباطاتنا ... 335
الفصل التاسع
المرأة.. على طريق الخير والشر337
المرأة مخلوق مبارك يعدم بالفطرة قابلية الفسق والفجور ... 341
جمال المرأة نعمة قابلة لأن تتحول إلى نقمة إذا لم يصنها وازع الإيمان ... 341
النورسي عاش حياة آخذة بخلقية غض البصر ... 342
الفصل العاشر
المدنية 345
الفرق بين الاسلام والنصرانية ... 350(11/456)
لا كهنوتية في الاسلام.. والاسلام ملاذ الجماهير المغبونة ... 350
الأسس التي قامت عليها كل من المدنيتين الغربية والاسلامية ... 352
النورسي يرفض المدنية الحديثة لأنها تأسست على مبادئ تخالف مبادئ الاسلام ... 352
مدنية الاسلام تكافلية، جماعية، انصافية ... 352
مدنية الشريعة. مدنية المستقبل البشري ... 354
الفصل الحادي عشر ...
القومية355
الثقافة اليهو- مسيحية مصدر روحي كرس فكرة القومية ... 356
البروتستانتية ومنزعها القومي، الانفصالي ... 356
النورسي يحارب الفكرة القومية في صورتها التمزيقية المناهضة لروح الدين ... 357
القومية الإيجابية هي التي تراعي جانب الأخوة الإسلامية ... 360
الأمة التركية التي ظلت تحمل لواء الاسلام لا يحق لها أن تستجيب للفكر القومي ... 361
أوروبا تجاوزت حدود دينها الشكلي المقيد، فانتصرت في المدنية ... 362
مناهضة الفكر الشعوبي القومي، الشوفيني ... 364
الغرب يعمل على تأجيج عاطفة القومية في اتجاه مغرض، هدام ... 365
النورسي إذ ينافح عن الوحدة، فإنه يختار المكاسب الشمولية الدائمة على الجزاءات الظرفية ... 366
لم يخطر قط للنورسي أن الخلافة الاسلامية ستسقط ... 367(11/457)
بحوث في الإعجاز والتفسير
في رسائل النور
بحوث في الإعجاز والتفسير
في رسائل النور
الدكتور احمد خالد شكري
أستاذ مشارك في الدراسات القرآنية
رئيس قسم أصول الدين
كلية الشريعة- الجامعة الأردنية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان، وبعد:
فهذه أربعة بحوث قرآنية أقدمها في كتاب واحد للأخوة القراء بعد أن سبق نشرها في وقائع مؤتمرات وندوات علمية، كنت قد أعددتها للمشاركة بها في تلك المؤتمرات، وكان أول هذه البحوث إعدادا بحث: وجوه إعجاز القرآن الكريم عند النورسي، المقدم إلى المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي، وعنوان المؤتمر: تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين، وبديع الزمان سعيد النورسي الذي عقدته مؤسسة الثقافة والعلوم باستانبول خلال المدة من 24- 26/9/1995م، وقد سعدت حين شاركت في هذا المؤتمر بالتعرف على عدد من الأخوة من تلاميذ الإمام النورسي ومن محبيه وسالكي طريقه في الإصلاح والدعوة، وحاولت في هذا البحث تحديد وجوه إعجاز القرآن الكريم كما يراها النورسي، كما بينت ما جزم به من وجوه الإعجاز، وما لم يجزم به أو توقف عنده أو انفرد به.(12/1)
أما البحث الثاني في هذا الكتاب فهو: علوم القرآن والتفسير في رسائل النور، وقد قدمته في الحلقة الدراسية عن بديع الزمان سعيد النورسي فكره ودعوته، التي قام بتنظيمها: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب الأردن، ومركز بحوث رسائل النور في تركيا، والتي عقدت في عمان عاصمة الأردن يوم 7/2/1418هـ الموافق 12/6/1997م، وكان أحد محاورها: منهج النورسي في التعامل مع القرآن الكريم، وقد كنت أثناء قراءتي في رسائل النور أقف متأملاً في عبارات النورسي الرائعة وهو يتحدث عن القرآن، ويعيش في ظلاله، وفي رحابه وأفيائه، وكنت أعيد قراءة بعض العبارات مراراً لأتذوق حلاوتها وجمالها وأتشرب معناها، وأرتوي من عطائها، فلما وجهت لي الدعوة للمشاركة في هذه الحلقة العلمية، سارعت إلى الاستجابة ببالغ السرور وعظيم الرغبة، وأتممت جمع المادة المتعلقة بعلوم القرآن والتفسير في رسائل النور، فكان هذا البحث.
وأما البحث الثالث وعنوانه: حكمة التكرار في القرآن الكريم من خلال رسائل النور، فقد شاركت به في المؤتمر العالمي الرابع عن بديع الزمان، والذي عقد تحت عنوان: نحو فهم عصري للقرآن الكريم رسائل النور أنموذجاً، والذي عقدته مؤسسة الثقافة والعلوم باستانبول بتركيا في الفترة 20-22/9/1998م، وقد بينت في هذا البحث تعريف التكرار، وتتبعت فيه حديث النورسي عن التكرار في رسائله وعن الحكمة من وجوده في القرآن، كما بينت الحكمة من التكرار في عدد من الآيات الكريمة وفق ما ذكره النورسي في أماكن عديدة من رسائله.(12/2)
أما البحث الرابع فعنوانه: الإعجاز النفسي في القرآن الكريم معناه وأدلته ومنزلته بين أوجه الإعجاز، وقد شاركت به في المؤتمر العلمي الثالث: الإعجاز في القرآن الكريم، والذي عقدته كلية التربية الحكومية سابقاً، جامعة الأقصى حالياً، في غزة بفلسطين في الفترة من 15-17/5/2000م، وبينت فيه أن النورسي كان له إلماحات وإشارات إلى الإعجاز النفسي في رسائله، وأنه كان يراه أحد ثلاثة أسس تشكل بمجموعها سرا من أسرار الإعجاز المعنوية، كما بينت فيه معنى الإعجاز النفسي، وأدلته من الكتاب والسنة وأوردت عدداً من الحوادث التي تدل على عظيم تأثير القرآن الكريم في نفوس قارئيه وسامعيه، ثم بينت منزلة الإعجاز النفسي وموقعه بين وجوه الإعجاز.
وفي ختام هذه المقدمة أتوجه بالشكر إلى الأخوة القائمين على مركز رسائل النور على جهدهم الطيب في نشر فكر الإمام النورسي وتراثه وعلمه، وأخص بالذكر منهم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي الذي ترجم رسائل النور إلى العربية وتوج جهده بمتابعة إخراجها في ثوب لائق ومجلدات زاهية.
والله تعالى أسأل أن يوفقنا لما يحب من العمل الصالح الرشيد وأن يتقبله منا إنه هو السميع العليم.
وجوه إعجاز القرآن الكريم
عند النورسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإن القرآن العظيم بحر زاخر، مليء بأصناف اللآلئ والجواهر، وانك كلما تعمقت في دراسته وبحثه ظهر لك من لطائفه وأسراره ما لم تكن تعلم ولست بقانع بما أخذت ولا ببالغ غاية ما وجدت.(12/3)
ومن هنا كثرت المصنفات حول القرآن الكريم وتعددت مجالات بحثها وأساليب مؤلفيها. وكان من العلماء الباحثين في القرآن: بديع الزمان سعيد النورسي الذي أفرغ من جهده ووقته الكثير الكثير وهو يتأمل في آيات كتاب الله تعالى ويتدبر في معانيها، ويقلب النظر في وجوه إعجاز القرآن الكريم، ويستنبط من لطيف المعاني وعظيم الإرشادات، ويصوغ ما يظهر له من كنوز بقلمه السيال، وعباراته العميقة الدقيقة، وأسلوبه السهل الممتنع، فكانت (رسائل النور) نوراً يهتدي به الحائرون ويزداد به المتقون نوراً على نور، فجزاه الله عنا خير الجزاء وجعل ذلك نوراً له وذخراً وأجراً.
وإني عندما عزمت على الكتابة عن وجوه إعجاز القرآن عند النورسي وجدتني اقف أمام طود شامخ، وعلم من أعلام العلم راسخ، وكان لابد من التشمير والبحث والسعي بجد والاطلاع بعمق علي آرائه وأقواله وتكرار مطالعتها مراراً حتى تنضح تماماً ويظهر مراده منها، وكان ثمرة ذلك هذا البحث الذي تقدمت به إلى المؤتمر العالمي عن بديع الزمان سعيد النورسي، والذي عقد في مدينة استانبول بتنظيم ورعاية : مؤسسة الثقافة والعلوم.
وقد جعلت البحث في مبحثين، خصصت الأول منهما للحديث عن وجوه الإعجاز التي جزم بها النورسي، وخصصت الثاني للحديث عن وجوه الإعجاز التي توقف فيها النورسي أو انفرد بها.
والله اسأل أن يتقبل منا صالح العمل وان يوفقنا للمزيد منه وان يرحم إمامنا النورسي وسائر أئمتنا، والله ولي التوفيق.
المبحث الأول
وجوه إعجاز القرآن الكريم التي جزم بها النورسي
يجد القارئ في مؤلفات الإمام سعيد النورسي كتابات متفرقة حول إعجاز القرآن، إلا أن حديثه عن الإعجاز في رسالة: "المعجزات القرآنية"، و"إشارات الإعجاز" أكثر وأوضح وأشمل من غيرهما من رسائله.(12/4)
كما يجد القارئ في رسائل النورسي أنه قد جزم بعدد من وجوه الإعجاز، ولم يجزم بها أو ببعضها، وبالجمع بين عباراته المتفرقة حول الإعجاز، يمكن تحديد وجوه الإعجاز التي جزم بها، والتي تم تخصيص هذا المبحث لبيانها.
إلا أن القارئ يقع في حيرة بالغة حين يبحث في تحديد عدد وجوه الإعجاز عند النورسي إذ يجده يقرر في عدد من المواضع أنها أربعون وجهاً، ويذكر في مواضع أخرى أنها سبعة أوجه، بينما يصل العدد إلى مئتي وجه أو مئات الوجوه في بعض العبارات، فما هو مراد النورسي بهذه الأعداد، وهل هو اضطراب منه في تحديد عدد وجوه الإعجاز، أو انه كان يرى عددا معيناً في السابق ثم عدل عنه إلى غيره، أو أن له طريقة معينة يمكن بها الجمع بين هذه الأعداد. ولحل هذا الإشكال قمت بتتبع العبارات التي ذُكرتْ فيها هذه الأعداد، حيث يمكن بالتأمل فيها الخروج بنتيجة واضحة، وقد رأيت إيراد هذه العبارات أولاً، ليتم بعد ذلك التوصل إلى فهمها وتعيين مراد النورسي بهذه الأعداد:-
- قال في "إشارات الإعجاز: (إذ التنزيل المصدق إعجازه بسبعة أوجه في ثلاثة عشر عصراً دعواه عين برهانها...) (1)
- وقال في ذيل رسالة "المعجزات القرآنية": (.... وعجزهم عجزاً تاماً أمام وجه واحد - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه الإعجاز السبعة الكبرى للقرآن..) (2)
- وقال فيه: (ولقد وضحت رسائل النور ولا سيما الكلمة الخامسة والعشرون "المعجزات القرآنية" مع ذيولها إعجاز القرآن في أربعين وجهاً من وجوهها، وكذلك تفسير "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" باللغة العربية الذي يبين بياناً رائعا إعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة....) (3)
__________
(1) إشارات الإعجاز، بتحقيق: إحسان قاسم الصالحي "وكذا سائر الرسائل بتحقيقه وترجمته" ط الأولى - بغداد 1409 هـ /1989 ، ص 81.
(2) الكلمات، الطبعة الثانية 1412هـ / 1992 م دار سوزلر - القاهرة / ص 522.
(3) الكلمات، ص 531.(12/5)
- وقال في اللمعة السابعة: (فالإخبار الغيبي الذي هو أحد أنواع إعجاز القرآن له لمعات إعجازية كثيرة وكثيرة لا تعد ولا تحصى، لذا فان حصر أهل الظاهر تلك الإخبارات الغيبية في أربعين أو خمسين آية فقط إنما هو ناشئ من نظر ظاهري سطحي بينما في الحقيقة هناك ما يربو على الألف منها بل قد تكون في آية واحدة فقط أربعة أو خمسة إخبار غيبية).(1)
- وقال في المكتوب التاسع والعشرين: (لقد كتب هذا القسم لاستشارة إخواني في خدمة القرآن، وليكون تنبيهاً لي لإنقاذ ما كنت أحمل من نية مهمة حول كتابة مصحف شريف يظهر فيه نقش إعجازي وهو قسم من مئتي قسم من أقسام إعجاز القرآن الكريم..).(2)
- وقال فيه: (لقد اثبت في الكلمة الخامسة والعشرين المسماة بالمعجزات القرآنية بالبراهين القاطعة أن أنواع إعجاز القرآن الكريم تبلغ أربعين نوعاً وقد بين بعض أنواعه مفصلاً حتى إزاء المعاندين، بينما ظلت أنواع أخرى بصورة مجملة).(3)
- وقال فيه : (والآن بعد أن توضح سر تلك الحكمة اقتنعنا قناعة كاملة بان تأخيره كان هو الأولى، ولتيسير فهم تلك الطبقة وتسهيلاً لهم ليتذوقوا نوع الإعجاز للقرآن، استكتبنا مصحفاً شريفاً يبين ذلك الوجه من الوجوه الأربعين للإعجاز).(4)
وقال في المكتوب التاسع عشر: (إن اعظم معجزة من معجزات الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم الذي يضم مئات دلائل النبوة، وقد ثبت إعجازه بأربعين وجهاً كما في الكلمة الخامسة والعشرين....).(5)
__________
(1) اللمعات، ط دار سوزلر بالقاهرة، ص 49.
(2) المكتوبات، ط دار سوزلر بالقاهرة، ص 522.
(3) المكتوبات، ص 522.
(4) المكتوبات، ص 523.
(5) المكتوبات، ص 238.(12/6)
- وقال فيه: (كون القرآن الذي بيده - صلى الله عليه وسلم - معجزاً من سبعة اوجه، ذلك الأمر الصادر من مالك الكون الذي يسلم به ويصدقه اكثر من ثلاث مئة مليون من البشر في كل عصر، ولما كانت الكلمة الخامسة والعشرون أي رسالة المعجزات القرآنية وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن الكريم معجز من أربعين وجهاً وانه كلام رب العالمين... ).(1)
بعد الاطلاع على هذه العبارات من رسائل النور، نجد أن النص الذي يذكر لمعات إعجازية كثيرة لا تعد ولا تحصى يوضح أن هذه اللمعات كلها تندرج تحت نوع واحد من أنواع إعجاز القرآن وهو: الإخبار الغيبي.
ويظهر من النص الذي يذكر أنها مئتا قسم أنها أقسام فرعية من ضمن أوجه إعجاز القرآن العامة.
تبقى بعد ذلك النصوص التي تذكر أنها سبعة أوجه وأنها أربعون وجهاً ، وبالتأمل في هذه العبارات نجد أنها تحيل في بيان الأوجه الأربعين إلى رسالة المعجزات القرآنية التي تم فيها ذكر هذه الأوجه وتفصيلها. ويتبين لمن يطلع على هذه الرسالة أن النورسي كان يذكر أحد أوجه إعجاز القرآن بإجمال ثم يبينه من خلال الجزئيات المندرجة تحته. وبهذا يتبين لنا أن مراد النورسي بالأوجه السبعة للإعجاز: الأوجه العامة أو الرئيسية، وبالوجوه الأربعين: التفصيلية الدقيقة أو الفرعية المندرجة تحت الأوجه العامة.
وبهذا يتبين مراد النورسي في عدد وجوه إعجاز القرآن، وسأقوم في هذا المبحث بمحاولة تحديد الوجوه السبعة الكبرى أو العامة لإعجاز القرآن الكريم - كما يراها النورسي- حيث بينها بإجمال، بعد محاولة إزالة التداخل(2) والتكرار بينها، مع ملاحظة أن عدداً مما ذكره النورسي على أنه من وجوه الإعجاز هو في الحقيقة نتيجة وثمرة لما سبق تقريره من وجوه الإعجاز، وسأتبع هذا المبحث بجدول يبين وجوه الإعجاز المذكورة في رسالة: "المعجزات القرآنية".
__________
(1) المكتوبات، ص 281.
(2) الكلمات، ص 880.(12/7)
1- نظم القرآن: يرى النورسي أن النظم القرآني هو الوجه الأول والأظهر من وجوه إعجاز القرآن الكريم. ولإظهاره وبيانه وضع رسالته القيمة: "إشارات الإعجاز" حيث قام بتفسير الآيات التي تعرض لتفسيرها بما يظهر هذا الوجه من إعجاز القرآن وكان منهجه فيه: البدء بمقدمة يجعلها مدخلاً لتفسير الآية أو الآيات وقد يتركها أحياناً، ثم يبين بعد التفسير نظم الآية مع ما قبلها وما بعدها ثم نظم الجمل في الآية ثم نظم الكلمات والحروف في الجملة، كما أشار في ثنايا هذا الكتاب إلى هذا الوجه مراراً، فمن ذلك قوله: (إن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن لان الإعجاز يتجلى من نظمه وما الإعجاز الزاهر إلاّ نقش النظم).(1) وقوله: (اعلم أن أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه، وبلاغة النظم على قسمين: قسم كالحلية، وقسم كالحلة ..) (2)وقوله: (وأدق وجوه إعجاز القرآن الكريم ما في بلاغة نظمه)(3). ولذا قال الدكتور محسن عبد الحميد في تقديمه لكتاب الإشارات ( وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة، ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وأبى السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ، سورة بعد سورة، وآية بعد آية ولفظاً بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة، فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظرية النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني، ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيرت البلغاء، وأخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز إلى يوم
__________
(1) إشارات الإعجاز، ص 29.
(2) إشارات الإعجاز، ص 141.
(3) إشارات الإعجاز، ص 226.(12/8)
القيامة).(1)
وبحق، فإن رسالة "إشارات الإعجاز" تعد بحثاً قيماً في إثبات هذا الوجه من وجوه إعجاز القرآن من خلال أمثلة تطبيقية على عدد غير قليل من الآيات مع ملاحظة أن النورسي كتب هذه الرسالة في ظل ظروف صعبة قاسية، أثناء مشاركته في معارك الحرب العالمية الأولى، فكانت رسالة مميزة في أسلوبها ومنهجها وظروف تأليفها.
2- الإيجاز: يرى النورسي أن الإيجاز هو الوجه الثاني من وجوه الإعجاز القرآني بعد النظم وقد ذكر ذلك في اكثر من موضع، منها مثلاً قوله: (إن أهم أساس في إعجاز القرآن المبين هو الإيجاز بعد بلاغته الفائقة، فالإيجاز أهم أساس لإعجاز القرآن وأقواه فهذا الإيجاز المعجز في القرآن الكريم كثير ولطيف جداً في الوقت نفسه بحيث ينبهر أمامه أهل العلم والتدقيق).(2) ثم أورد عدة أمثلة من الإيجاز في عدد من الآيات.(3)
3- فصاحة ألفاظ القرآن الكريم وجامعيتها: ذكر النورسي الفصاحة في اكثر من موضع كما ذكر الجامعية في لفظ القرآن ومعانيه وعلومه ومباحثه وأسلوبه، وقد ضممت الجامعية في اللفظ إلى الفصاحة، لما بينهما من تداخل وتقارب، وللنورسي عبارات متعددة يبين فيها هذا الوجه من الإعجاز من خلال فصاحة ألفاظه وان لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكوت أحياناً وجوهاً كثيرة جداً.(4) وذكر لذلك عدداً من الأمثلة.(5)
4- الأسلوب البديع: أشار النورسي إلى أن البداعة الخارقة في أسلوب القرآن الكريم تعد أحد وجوه إعجازه. فـ ( أساليب القرآن الكريم غريبة وبديعة كما هي عجيبة ومقنعة، لم يقلد أحداً قط ولا يستطيع أحد أن يقلده فلقد حافظ وما يزال على طراوة أساليبه وشبابيته وغرابته مثلما نزل أول مرة).(6)
__________
(1) إشارات الإعجاز، ص 5.
(2) المكتوبات، ص 407.
(3) المكتوبات، ص 408 و 409 و انظر الكلمات ، ص 460 – 465.
(4) الكلمات، ص 451.
(5) الكلمات، ص 437 و 452 – 456.
(6) الكلمات، ص 431.(12/9)
5- براعة البيان: فبيان القرآن الكريم في أعلى مراتب طبقات الخطاب، وقد اشتملت رسالة "المعجزات القرآنية" على عدد من الأمثلة التي تبين هذا الوجه.(1)
6- بلاغة المعنى: ذكر النورسي هذا الوجه من وجوه الإعجاز في أماكن عديدة من رسائله بما يفيد جزمه به على انه أحد وجوه الإعجاز.(2)
7- العلوم والمعارف المذكورة فيه: يندرج تحت هذا الوجه عدد من الأمور، فمن وجوه إعجاز القرآن الكريم احتواؤه على إشارات مجملة تتعلق بحقائق علمية، ما زالت تتكشف وتظهر من خلال التقدم البشري.
وقد لفت الأستاذ النورسي الأنظار إلى أن معجزات الأنبياء السابقين المذكورة في القرآن الكريم يمكن أن تؤخذ منها إشارات ومفاتيح تشوق البشر وتشجعهم على العمل للوصول إلى أشباهها، (كأن القرآن بتلك القصص يضع إصبعه على الخطوط الأساسية ونظائر نتائج نهايات مساعي البشر للترقي في الاستقبال الذي يبنى على مؤسسات الماضي الذي هو مرآة المستقبل، وكأن القرآن يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائلاً له: اسع واجتهد في الوسائل التي توصلك إلى بعض تلك الخوارق).(3)
__________
(1) الكلمات، ص 439 و 457.
(2) انظر الكلمات، ص 439 و 457.
(3) إشارات الإعجاز، ص 302.(12/10)
(فمثلاً : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) (سبأ: 12) هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام، وهي تسخير الريح له، أي انه قد قطع في الهواء ما يُقطع في شهرين في يوم واحد، فالآية تشير إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء. فيا أيها الإنسان، حاول أن تبلغ هذه المرتبة، واسع للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة: إن عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحملته فوق متون الهواء، وأنت أيها الإنسان؛ إن نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك أيضاً أن تمتطي صهوة الهواء)(1).
ويظهر للقارئ من خلال كلام النورسي في هذا الموضوع قناعته التامة به، ضمن كلام لطيف طيب (2)، لم يُسبق إليه - فيما أعلم - .
ومما يندرج تحت هذا الوجه: إخبار القرآن عن الغيوب، حيث نجد الآيات تخبرنا عن عدد من الأمور الغيبية، التي ليس في مقدور البشر الوصول إليها ومعرفتها بجهدهم البشري، ومنها: غيب الماضي، وغيب المستقبل - بأنواعه الكثيرة-والغيب المتعلق بالحقائق الإلهية والحقائق الكونية والأمور الأخروية.(3)
__________
(1) الكلمات ، ص 280.
(2) انظر :إشارات الإعجاز 301 - 304 والكلمات 277 – 296.
(3) انظر : الكلمات ، ص 468 – 471.(12/11)
ويشير النورسي إلى كثرة ما يتعلق بالإخبار عن الغيب في الآيات القرآنية في قوله: (فالإخبار الغيبي الذي هو أحد أنواع إعجاز القرآن له لمعات إعجازية كثيرة وكثيرة لا تعد ولا تحصى، لذا فان حصر أهل الظاهر تلك الإخباريات الغيبية في أربعين أو خمسين آية فقط إنما هو ناشئ من نظر ظاهري سطحي بينما في الحقيقة هناك ما يربو على الألف منها، بل قد تكون في آية واحدة فقط أربعة أو خمسة إخبار غيبية)(1).
وتحدث النورسي عن وجوه أخرى للإعجاز يمكن أن تدرج ضمن هذه الوجوه، ومنها ما هو نتيجة لهذه الوجوه أو ثمرة لها، ويبين الجدول التالي وجوه الإعجاز المذكورة في رسالة "المعجزات القرآنية".
المبحث الثاني
اوجه الإعجاز التي لم يجزم بها النورسي
أو توقف عندها أو انفرد بها
يهدف هذا المبحث إلى بيان أوجه الإعجاز التي لم يجزم بها النورسي في عدها من وجوه إعجاز القرآن الكريم، أو اختلف كلامه عنها من موضع لآخر، أو انفرد بها، وفيما يلي بيانها:
1- تعرض النورسي للحديث عن "الصرفة" - وهي أحد وجوه إعجاز القرآن عند جماعة من المؤلفين. أو وجه الإعجاز الوحيد عند بعضهم -(2). في رسالة "المعجزات الاحمدية" أثناء رده على أحد الأسئلة بقوله: "هناك مذهبان في بيان إعجاز القرآن:
(المذهب الأول: وهو الغالب والراجح وهو مذهب الأكثرية من العلماء وهو أن لطائف بلاغة القرآن ومزايا معانيه هي فوق طاقة البشر.
__________
(1) ذكره الإمام النورسي في مواضع متفرقة كثيرة، ينظر على سبيل المثال: ص40و49 من اللمعات.
(2) انظر: فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر لنعيم الحمصي "طـ مؤسسة الرسالة" ص 54 و 55 و 63 و 70 و 86 و 137 و 166 و 198.(12/12)
أما المذهب الثاني: وهو المرجوح فهو أن معارضة سورة واحدة من القرآن ضمن طاقة البشر إلاّ أن الله سبحانه قد منعها عن الخلق ليكون معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يوضح هذا بمثال: إن قيام الإنسان وقعوده ضمن قدرته ونطاق استطاعته، فإن قال نبي كريم لشخص ما: لا استطعت من القيام إظهاراً للمعجزة ولم يستطع الشخص من القيام فعلاً فقد وقعت المعجزة.
يطلق على هذا المذهب المرجوح: مذهب الصرفة، أي أن الله سبحانه هو الذي صرف الجن والإنس عن القدرة على المعارضة فلو لم يصرفهم الله سبحانه عن الإتيان بالمثل لكان الجن والإنس بمقدورهم الإتيان بمثله).(1)
إن من يقرأ هذا النص يجد أن النورسي لم يجزم برد المذهب الثاني وإنكاره، بل عدّه وجهاً مرجوحاً فقط. كما علق عليه بعبارات حيث قال: "وهكذا فالعلماء الذين يقولون وفق هذا المبحث " لا يمكن معارضة القرآن حتى بكلمة واحدة" هو كلام حق لا مراء فيه؛ لأن الله سبحانه قد منعهم عن ذلك إظهارًا للإعجاز، فلا يستطيعون إذن أن يتفوهوا بشيء للمعارضة، ولو أرادوا قول شيء ما للمعارضة فلا يقدرون عليه من غير إرادة الله ومشيئته).(2) ويظهر من هذه العبارة تعليل عدم قدرة الخلق على الإتيان بمثل القرآن بالمنع عن ذلك.
وبهذا نرى أن النورسي لم يجزم بهذا الوجه من وجوه الإعجاز، حيث قرر أنه يراه مذهبا مرجوحاً.
2- أشار النورسي في اكثر من موضع إلى قضية "تناسق الألفاظ في القرآن الكريم، ولم يجزم بجعله أحد وجوه الإعجاز، وإن ظهر من كلامه إعجابه به، وقناعته بأنه من وجوه الإعجاز، ولعله شعر بعدم كفاية الأدلة التي ذكرها والمسوغات التي ارتآها فلم يجزم به.
__________
(1) المكتوبات، ص 245 و 246.
(2) المكتوبات، ص 246.(12/13)
وقال بعد ذلك: ( لقد كتب هذا القسم لاستشارة إخواني في خدمة القرآن، وليكون تنبيهاً لي، لإنفاذ ما كنت أحمل من نية مهمة حول كتابة مصحف شريف يظهر فيه نقش إعجازي؛ وهو قسم من مئتي قسم من أقسام إعجاز القرآن الكريم فعرضت لهم تلك النية لمعرفة آرائهم حول كتابة ذلك المصحف الشريف الذي يبين النقش الإعجازي مع الاعتماد على المصحف المكتوب بخط الحافظ عثمان واتخاذ آية المداينة وحدة قياس لطول الصفحة وسورة الإخلاص لطول السطر).(1)
وكان قبل ذلك قد جزم بهذا الوجه من وجوه الإعجاز وذكر له أمثلة، وذلك في رسالة "المعجزات الاحمدية" حيث قال: (نحصل مما سبق: أن القرآن الكريم لا يدع أحداً محروماً من تذوق إعجازه، فلكل طبقة من أربعين طبقة من الطبقات المتباينة للناس لهم حظهم من هذا الإعجاز أو يشعرهم القرآن بإعجازه، حتى انه يبين نوعاً من إعجازه لأولئك الذين ليس لهم نصيب من العلم ولا يملكون سوى الرؤية من دون القدرة على الاستماع أو الفهم أو الإدراك القلبي، وذلك كالآتي: إن كلمات المصحف المطبوع بخط "الحافظ عثمان" تتقابل وينظر بعضها إلى بعض، فمثلاً : إن كلمة "وثامنهم كلبهم" التي هي في سورة الكهف تناظر كلمة: "قطمير" التي هي في سورة فاطر، فلو ثقبت الصفحات ابتداءً من الكلمة الأولى، لتبينت الكلمة الثانية بانحراف يسير ولفهم اسم الكلب، وكذا كلمة "محضرون" المكررة مرتين في سورة يس ، نرى إحداهما فوق الأخرى، وهما يقابلان كلمة "محضرون"، و"محضرين" التي في آخر سورة الصافات، فإذا ما ثقبت إحداها لظهرت من خلال الصفحات الكلمة نفسها مع انحراف قليل، وكذا كلمة "مثنى" التي هي في آخر سورة سبأ تنظر إلى الكلمة نفسها التي هي في مستهل سورة فاطر، ففي القرآن تتكرر كلمة "مثنى" ثلاث مرات، وتناظر اثنتين منها ليس موضع المصادفة قطعاً.
__________
(1) المكتوبات، ص 522.(12/14)
ولهذا النوع من التناظر والتقابل أمثلة كثيرة جداً في المصحف الشريف، حتى أن الكلمة الواحدة تتكرر في ما يقرب من ست مواضع، فإذا أوصل بينها بثقب لتراءت الأخريات بانحراف يسير.
ولقد شاهدت مصحفاً خطت الجمل المتناظرة في كل صحائفه المتقابلة بخط احمر، فقلت آنذاك : هذه الأوضاع إنما هي امارات لنوع من الإعجاز، ثم بعد ذلك أخذت انظر إلى جمل القرآن الكريم فرأيت أن كثيراً منها تتناظر من خلال الصفحات تناظراً ينم عن معنى دقيق.
ولما كان ترتيب القرآن المتداول توقيفياً بإرشاد من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد خطه خطاطون ملهمون، فإن في نقشه البديع وفي خطه الجميل إشارة إلى نوع من علامات الإعجاز، وذلك لان هذا الوضع لا يمكن أن يكون مصادفة ولا نابعاً من نتاج فكر إنسان، فلولا قصور الطبع لطابقت الكلمات المتناظرة مطابقة تامة.
ثم إننا نرى أن في السور المدنية المطولة والمتوسطة تكراراً بديعاً منسقاً للفظ الجلالة "الله" فهو في الغالب يتكرر بأعداد معينة، إما خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع مرات، أو إحدى عشرة مرة، فضلاً عن انه يبين مناسبة عددية لطيفة على وجهي ورقة المصحف المتقابلتين).(1)
ففي هذا الموضع يؤكد النورسي هذا الوجه، ويمثل له، ويظهر من خلال حديثه عنه إعجابه به وجزمه بأنه أحد وجوه إعجاز القرآن، إلا أن ما أورده في هذا النص عليه ملحوظات عديدة، منها:
أ- ورد لفظ "محضرون " في سورة يس في ثلاثة مواضع "في الآيات 32،53،75" لا في موضعين.
ب- اختلف في اسم كلب أهل الكهف على أربعة أقوال (2) ، أحدها : قطمير. فلا يجزم به.
__________
(1) المكتوبات، ص 240 - 242، وقد راجعت جملة "وتناظر اثنتان.." مع النسخة الأخرى من رسالة المعجزات الأحمدية والمطبوعة منفردة فوجدتها كذلك، فلعله سهو من الكاتب أو على لغة من يلزم المثنى الألف.
(2) انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي "طـ المكتب الإسلامي" 5/126.(12/15)
ج- رجعت إلى عدد من ألفاظ القرآن الكريم الواردة في نحو ستة مواضع، وهي ألفاظ "أيان"، و"الزبر" وقد وردتا في ستة مواضع، و"زكريا" في سبعة مواضع، و"سعى " في خمسة مواضع ، وقابلت بين مواضع كل منها على مثيل نسخة المصحف التي اعتمدها النورسي وهي نسخة "الحافظ عثمان" (1)، فوجدت في عدد منها شيئاً من التوافق الذي أشار إليه بين مواضعها في الصفحات، وفي عدد آخر منها لا يظهر أي توافق.
د- كما رجعت إلى عدد من الصفحات من أجل ما ذكره أخيراً عن التوافق في لفظ الجلالة في السور المدنية المطولة والمتوسطة، وعددت مرات تكرر لفظ الجلالة في كل صفحة منها، وفي الصفحات المتقابلة، وكانت النتيجة كالتالي:
السورة
رقم الصفحة
عدد مرات لفظ الجلالة
رقم الصفحة المقابلة
عدد مرات لفظ الجلالة
النساء
77
4
78
4
النساء
79
5
80
6
النساء
81
1
82
6
النساء
83
7
84
6
النساء
85
6
86
9
النساء
87
10
88
6
النساء
89
9
90
7
النساء
91
11
92
8
النساء
93
7
94
10
محمد
507
7
508
4
محمد
509
6
510
10
وقد لوحظ من خلال هذا عدم التطابق مع ما ذكر في الفقرة الأخيرة.
وبناءً على ما سبق من عدم جزم النورسي في إثبات هذا الوجه، ولقدرة الكُتاب والمؤلفين والشعراء على الإتيان بمثله بل وحصول ذلك مع النورسي نفسه في عدد من رسائله، وفي اكثر من لفظ. ومن اكثر من كاتب(2) لا يُسلم بأن "التناسق اللفظي" يمكن أن يعد وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم.
3- أشار النورسي إلى قضية "التناسق العددي" بين عدد من ألفاظ القرآن الكريم، وجعل الحديث عنه تابعاً للحديث عن التناسق اللفظي الذي كان يرى فيه "نقشاً إعجازيا" وواحداً من الوجوه الأربعين للإعجاز ".(3)
__________
(1) له ترجمة في هامش ص 522 من المكتوبات.
(2) انظر: المكتوبات، ص 488 – 494.
(3) انظر: المكتوبات، ص 523.(12/16)
وقد ذكر في المكتوب التاسع والعشرين أمثلة من التناسق العددي في القرآن الكريم، حيث ذكر: إن لفظ الجلالة "الله" ورد في مجموع القرآن الكريم: ألفين وثمان مئة وست مرات، وورد لفظ "الرحمن" مع ما في البسملة - مئة وتسعاً وخمسين مرة، وورد لفظ "الرحيم" مئتين وعشرين مرة، ولفظ "الغفور" إحدى وستين مرة، وورد لفظ "الرب" ثمان مئة وستاً واربعين مرة، ولفظ "الحكيم" ستاً وثمانين مرة ولفظ "العليم" مئة وستاً وعشرين مرة، ولفظ "القدير" إحدى وثلاثين مرة ، ولفظ "هو" في "لا اله إلا هو" ستاً وعشرين مرة.(1)
ثم ذكر أموراً مبنيةً على هذه الأرقام مثل: إن مجموع عدد لفظ الجلالة مع عدد ألفاظ "الرحمن والرحيم والعليم" مع عدد لفظ "هو " في "لا اله إلا هو" هو نصف آيات القرآن ايضاً ، والفرق أربعة أعداد.(2)
وذكر علاقة بين آيات بعض السور وعدد لفظ الجلالة فيها مثل: "إن عدد لفظ الجلالة "الله" في سورة البقرة مساوٍ لعدد آياتها والفرق أربعة أعداد، وهناك أربعة ألفاظ من "هو" بدلاً عن لفظ "الله" في "لا اله إلا هو" وبها يتم التوافق.
وان عدد لفظ الجلالة "الله" في سورة آل عمران متوافق مع عدد آياتها ويساويها، ولكن لفظ "الله" ورد في مئتين وتسع آيات بينما عدد آيات السورة مئتا آية، فالفرق إذن تسع آيات، ولا تخل الفروق الصغيرة في مثل هذه المزايا الكلامية والنكات البلاغية، إذ تكفي التوافقات التقريبية....(3)
__________
(1) انظر: المكتوبات ، ص 524.
(2) انظر: المكتوبات، ص 525.
(3) انظر: المكتوبات، ص 525.(12/17)
إن الأرقام المذكورة في هذه النصوص غير دقيقة، حيث ورد هنا أن لفظ الجلالة تكرر ألفين وثمان مئة وست مرات، والصواب: ألفين وثمان مئة وعشر مرات، هذا مع حساب عدد مرات وروده في البسملة، حيث أشار النورسي عند ذكر عدد مرات ورود لفظ (الرحمن) إلى انه ادخل البسملة في العدد، مع أن البسملة في أوائل السور ليست من القرآن إلا في سورة الفاتحة ففيها خلاف.(1)
أما لفظ "الرحمن" فقد ورد مئة وتسعاً وستين مرة، و"الرحيم " مئتين وسبع مرات، و"الغفور" إحدى وتسعين مرة، و"الرب" تسع مئة وإحدى وسبعين مرة، و"الحكيم" سبعاً وتسعين مرة، و"العليم" مئة واثنتين وستين مرة، و"القدير" خمساً وأربعين مرة، أما عدد مرات لفظ "هو" فصحيح.
أما عدد مرات ورود لفظ الجلالة في سورة البقرة وهو مئتان واثنتتان وثمانون فصحيح، ولكن لفظ "هو" في "لا اله إلا هو" لم يرد في سورة البقرة إلا مرتين، وورد لفظ "هو" مراداً به الله سبحانه في ست مرات أخرى ، وعليه فالعدد المذكور في النص غير دقيق.
كما انه قد تم حساب عدد هذه المرات بناءً على عد آى السور وفق ما ذهب إليه علماء العدد الكوفيين، وعدم النظر إلى عدد الآي عند بقية علماء العدد.(2)
وهناك أرقام أخرى ذكرت في غير هذا النص غير صحيحة ايضاً، منها أن عدد مرات ورود لفظ "القرآن" تسع وستون مرة (3) والصواب ثمان وخمسون وان عدد آيات القرآن الكريم ستة آلاف وست مئة وست وستون(4)
__________
(1) انظر: القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز لرضوان المخلالاتي "ط: المدينة المنورة" ص 161.
(2) انظر: في عدد آيات سورة البقرة والاختلاف فيها : القول الوجيز، ص 164
(3) انظر المكتوبات ، ص 524
(4) انظر : الكلمات ، ص 518، والمكتوبات هامش ص 524. ذلك لأن عدد الآيات هنا حسب مضمون الآيات وهي: (ستة آلاف وستمائة وست وستون):
ألفٌ آية أمر، كقوله تعالى "وأقيموا الصلاة"
وألفٌ آية نهي، كقوله تعالى "ولا تقربوا الزنا".
وألفٌ آية وعد، كقوله تعالى "ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
وألفٌ وعيد، كقوله تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمدا فجزآؤه جهنم" الآية.
وألفٌ خبر، كقوله تعالى "واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا" الآية.
وألفٌ قصص، كقصة يوسف عليه السلام مع اخوته.
وستمائة فيها أحكام من حلال وحرام.
وست وستون ناسخ ومنسوخ.
رواه ابن خزيمة في كتابه" الناسخ والمنسوخ". وانظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ص4. وكذلك تفسير أبدع البيان لجميع آي القرآن للشيخ محمد بدر الدين التلوي ص 3 دار النيل – ازمير 1992. المراجع.(12/18)
، والصواب: ستة آلاف ومئتان وست وثلاثون، وهذا على حسب العدد الكوفي وهو المعتمد في المصاحف المطبوعة، كما أن عدد الآيات عند علماء العدد الآخرين لم يقع قريباً ولا مشابهاً للعدد المذكور.(1)
وبناء ً على ما سبق من عدم جزم النورسي في إثبات هذا الوجه ، وعدم دقة الأرقام المذكورة فيه، ووجود فروق ولو يسيرة بينها، ووقوع أمثاله في كلام البشر، كما حصل في عدد من رسائل النورسي(2) فإن هذا الأمر لا يرقى إلى أن يعد أحد وجوه إعجاز القرآن الكريم. ومما يجدر ذكره هنا أن عدداً من الباحثين يعدون التناسق العددي أحد وجوه الإعجاز (3) ولا يخلو كثير مما يذكرونه من ملحوظات.
__________
(1) انظر: القول الوجيز 101- 104.
(2) انظر : المكتوبات، ص 489، واللمعات ص 223 و 224.
(3) مثل : محمد رشاد خليفة في رسالته "عليها تسعة عشر" ، وعبد الرزاق نوفل في كتابه "معجزة الأرقام والترقيم في القرآن الكريم "، وصدقي البيك في كتابه "معجزة القرآن العددية"، وبسام جرار في كتابه "إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم مقدمات تنتظر النتائج" وغيرهم، وانظر ما ذكره د. صلاح الخالدي عن هذا الأمر في كتابه " البيان في إعجاز القرآن" ص 355 - 377.(12/19)
4- أشار النورسي إشارة موجزة في هامش إحدى صفحات رسالة المعجزات الاحمدية إلى أحد وجوه الإعجاز، أو كما عبر عنه "سر من أسرار الإعجاز المعنوية" حيث قال: إن سراً من أسرار إعجاز القرآن الكريم المعنوية هو: أن القرآن يبين الدرجة العظيمة والساطعة لإيمان الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الذي حظي بتجلي الاسم الأعظم، وكذا يبين ويعلم بأسلوب فطري - كخارطة مقدسة مشهورة - تلك المرتبة السامية للدين الحق العظيم والواسع، والمبين للحقائق الرفيعة لعالم الآخرة وعالم الربوبية، وكذا يمثل القرآن الكريم: خطاب رب العالمين وهو في علياء عزته وعظمته وربوبيته المطلقة، فلا بد أن تعبيراً فرقانياً بهذا الأسلوب، وبياناً قرآنياً بهذا النمط لا يمكن أن تأتي مثله عقول البشر قاطبة ولو اجتمعت في عقل واحد بمثل ما عبر القرآن الكريم: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (سورة الإسراء : 88) لأنه لا يمكن من حيث هذه الأسس الثلاثة أن يقلد القرآن ولا أن يأتي بمثله أحدٌ ابداً.(1)
إن الأساس الثالث الذي ذكره النورسي في هذا النص وهو: أن القرآن الكريم يمثل خطاب رب العالمين وهو في علياء عزته وعظمته وربوبيته المطلقة، ذكره عدد من العلماء على انه أحد وجوه الإعجاز وقد أشار إليه الخطابي من المتقدمين، ودراز وسيد قطب والبوطي وغيرهم من المتأخرين.(2)
إن حديث النورسي عن هذا الوجه من الإعجاز كان في غاية الاختصار، وعلى أنه أحد ثلاثة أسس تشكل بمجموعها سراً من أسرار الإعجاز المعنوية. وهو وجه حري بالدراسة والتأمل، والتبيين والتوضيح والتوسع في الحديث عنه، والله اعلم.
من نتائج البحث
__________
(1) المكتوبات، ص 242 ، هامش 2
(2) انظر: فكرة إعجاز القرآن، ص 64، 343، 429، وإعجاز القرآن الكريم د. فضل حسن عباس ، ص 345 - 349(12/20)
1- أن بديع الزمان سعيد النورسي كان من علماء الإعجاز المميزين، وله جهود طيبة عظيمة في بيان إعجاز القرآن الكريم، وقد احسن في صياغة أفكاره، وترتيب عباراته.
2- إن آراء النورسي وأقواله في الإعجاز لم تلق بعد من العناية والاهتمام والدراسة ما تستحق، خاصة في الدراسات والمؤلفات حول الإعجاز في اللغة العربية.
3- إن بعضاً مما أورده النورسي على أنه من وجوه الإعجاز - وإن لم يجزم به - لا يرقى إلى أن يكون كذلك، كما لم يخل بعض ما أورده حول الإعجاز من تكرار كان يمكن تلافيه.
والله تعالى أعلى واعلم.
مخطط المعجزات
علوم القرآن والتفسير
في رسائل النور
...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يكن بديع الزمان سعيد النورسي شخصاً عادياً، بل كان رجلاً متميزاً، "تجسَّد في ذاته جميع ما أطلق عليه من ألفاظ، فهو سعيد اسماً ومعنى، وبديع زمانه جهاداً وتضحية، ونور شعَّ في ظروف تركية الإسلامية حيث هي بأمس الحاجة إلى أنوار عقليته الجبارة وتوجيهاته السديدة"(1).
وقد تعرض النورسي في حياته للكثير من الصعاب والعواصف والحوادث القاسية، فلم يحن لها رأساً ولم يلن أبداً، بل بقي في جميع مراحل حياته شامخاً ثابتاً مطمئناً... ولا أدل على ذلك من مواقفه البطولية وعباراته القوية أمثال: "لو كان لي ألف نفس لما ترددتُ في التضحية بها في سبيل إيماني، وفي سبيل آخرتي..."(2)، "لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها"(3).
__________
(1) من تقديم د.عبد الملك السعدي لرسالة محاكمات عقلية، انظر صيقل الإسلام، ص 11.
(2) الشعاعات، ص426
(3) الشعاعات، ص410(12/21)
وانتقل رحمه الله من سجن إلى نفي، ومن حرب إلى إقامة جبرية، ومن محاكمة إلى محاولة اغتيال. ومرض طال أمده، وهو في جميع هذه الظروف القاسية مشعل هداية لم يفتر، ومصدر عطاء فياض لم يتوقف، وكان لرسائله القوية أثرها الفعال في أتباعه وقرائها، وكانت بحق رسائل نور أنارت القلوب والأرواح، وكان النورسي بحق رجل القدر الذي تصدى للطغيان، ووقف أمام الظالمين يحذر من عاقبة الظلم والبعد عن دين الله، ويعلن كلمة الحق مدوية بلا وجل ولا تردد، حتى لحق بربه راضياً مرضياً، قرير العين.
أما (رسائل النور) حسنة النورسي الجارية، فقد كانت ساعده الأيمن في نشر دعوته الإصلاحية، وكان تلاميذه يسارعون إلى تلقفها ونسخها وتوزيعها مع ما كانوا يعانون في سبيل ذلك من عقبات وقيود تصل إلى حد الاعتقال لمجرد قراءتها وتوزيعها(1)، ولم يثن ذلك من عزيمتهم شيئاً، مقتبسين من أستاذهم مقتدين به.
وكان إطلاق اسم (النور) على هذه الرسائل في محله، فموضوعاتها مستلهمة من القرآن الكريم الذي وصفه الله تعالى بأنه (نور) في أكثر من آية، منها قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا)(2).
وكثيراً ما تحدث النورسي عن الصلة بين القرآن الكريم ورسائل النور، مبيناً أن رسائل النور: قطرات من بحر القرآن، ورشحات من لمعاته، وتفسير له، وقبسات من أنواره وحقائقه، وإثبات لإعجازه، فمن ذلك قوله: "إن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته"(3).
__________
(1) الشعاعات، ص600و 602 و607 و615-618 وغيرها.
(2) النساء، اية 174.
(3) الملاحق ص220، وانظر: الكلمات، ص832، والمكتوبات، ص463 و476، والشعاعات، ص95 و180 و214 و225 و470 و503 و684، والمثنوي، ص156.(12/22)
ويلحظ القارئ في رسائل النور هذا الأمر بوضوح فالنورسي في رسائله قد يفسر معنى الآية ويوضحه ، أو يعلق على الآية مستلهماً منها غارفاً من معينها، مقتبساً من أنوارها، أو يذكر الآية في افتتاح الرسالة لوجود صلة بينها وبين موضوع الرسالة، فمثلاً أثبت سورة الزلزلة في بداية ذيل الكلمة الرابعة عشرة؛ لأن موضوع الذيل الزلزال الذي حدث في تلك الأيام، ورغب النورسي أن يعلق على الحدث(1)، وافتتح رسالة الاقتصاد بقوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ)(2)، وافتتح المبحث الأول من المكتوب الثاني والعشرين، وهو مبحث يدعو أهل الإيمان إلى الأخوة والمحبة بثلاث آيات فيها الدعوة إلى الأخوة والمحبة(3).
ومثل هذا في رسائل النور كثير، وقد يذكر الآية أو الآيات في افتتاح الرسالة دون وجود صلة بين موضوع الرسالة والآية المذكورة في أولها، وقد تخلو بعض الرسائل من الافتتاح بآية، كما أنه كان يختم رسائله بآية أو آيات لها صلة بما تحدث عنه سابقاً أو تحتوي على دعاء، ومن الآيات التي كان يكثرُ من استعمالها في فواتح رسائله ونهاياتها قوله تعالى: ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(4)، وقوله: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ)(5).
المبحث الأول
علوم القرآن في رسائل النور
__________
(1) الكلمات، ص195.
(2) اللمعات، ص211، وسورة الأعراف الآية: 31.
(3) المكتوبات، ص339.
(4) البقرة، آية 32، ومن اللطيف أن النورسي كان قد توقف في تفسيره (إشارات الإعجاز) عند بداية هذه الآية.
(5) الإسراء، آية 44.(12/23)
يجدُ القارئ في رسائل النور عدداً من مباحث علوم القرآن متفرقة بين ثنايا الرسائل التي ألّفها النورسي بقصد الهداية والتذكير والإرشاد وإيقاظ الإيمان في النفوس، فلم يكن هدف الرسائل البحث في جزئيات علوم القرآن أو التفسير، ولكنه كان يذكر ما يلزم المقام أو يستدعي السياق ذكره منها، وفيما يلي مباحث علوم القرآن التي وجدتها في رسائل النور:
1- تعريف القرآن: حين أراد النورسي التعريف بالقرآن لم يذكر التعريف الشائع له. بل اتجه اتجاهاً مميزاً في ذلك، وذكر تعريفاً مطولاً، يفهم القارئ من خلاله إرادة النورسي توضيح مهمة القرآن ومنزلته العظيمة، ولفت الأنظار إلى محتوياته ووظيفته، وعباراته في هذا التعريف غاية في الدقة والجودة، ولذا سأوردها دون التعليق عليها، قال:(12/24)
"هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم، وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والأرض، وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المسخرة في سطور الحادثات، وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة، وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية، وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي، وكذا هو خريطة للعالم الأخروي، وكذا هو قول شارح وتفسير واضح وبرهان قاطع وترجمان ساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه، وكذا هو مرب للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية، وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي إلى ما خُلق البشر له، وكذا هو للإنسان كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب رحمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل، حتى إنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين، ومن العرفاء والمحققين رسالة لائقة لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل"(1).
__________
(1) المثنوي، ص69 و70، والمكتوبات، ص267، واشارات الإعجاز، ص22، والكلمات، ص274، وفي ص422 بدل الجملة الأخيرة هنا: "حتى كأنه مجموعة الرسائل" جملة: "فهذا الكتاب السماوي أشبه ما يكون بمكتبة مقدسة مشحونة بالكتب".(12/25)
2- فضائل القرآن: قارن النورسي في عدد من المواضع في رسائله بين القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة له، بهدف إظهار معجزته الخالدة وتفوقه وفضله الكبير عليها، واستشهد بنصوص متعددة منها تبشر ببعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفته التذكير بحصول التحريف فيها(1).كما بين النورسي الفرق الواضح والبون الشاسع بين القرآن الكريم، وبين حكمة الفلاسفة وعباراتهم، وأن القرآن يتفوق على جميع عبارات الحكماء والفلاسفة بل إنه لا مجال للمقارنة بينهما أصلاً، ولكنه أراد أن يقنع قارئ رسائله الذي قد يكون متأثراً بكلام الحكماء والفلاسفة بالفرق الهائل بين "ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة، وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل"(2).
3- المكي والمدني: تحدث النورسي عن الفرق بين أسلوب وبلاغة الآيات المكية والآيات المدنية، وعن الحكمة منه قائلاً: " أما حكمة اختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الإعجاز، ومن حيث التفصيل والإجمال فهي على النحو الآتي:
__________
(1) الكلمات، ص146-148، والمكتوبات، ص220-224، والمثنوي، ص463.
(2) الكلمات، ص151، وانظر ص141-150، والمكتوبات، ص268-270، والمثنوي 456-457.(12/26)
إن الصف الأول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش، وهم أميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة أسلوباً عالياً قوياً وإجمالاً معجزاً مقنعاً، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الأفهام، لذا بحثت أغلب السور المكية أركان الإيمان ومراتب التوحيد بأسلوب في غاية القوة والعلو، وبإيجاز في غاية الإعجاز، وكررت الإيمان بالله والمبدأ والمعاد والآخرة كثيراً، بل قد عبرت عن تلك الأركان الإيمانية في كل صحيفة أو آية، أو في جملة واحدة، أو كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر، فأثبتت أركان الإيمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتاً جعل علماء البلاغة وأئمتها يقفون حيارى مبهورين أمام هذا الأسلوب المعجز.
أما الآيات المدنية وسورها، فالصف الأول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله، فاقتضت قواعد البلاغة وأساليب الإرشاد وأسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقاً لواقع حالهم، فجاء بأسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الأصول والأركان (الإيمانية) - لأن تلك الجزئيات هي منشأ الأحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الاختلافات في الشرائع والأحكام... لذا فغالباً ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة بأسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم..."(1).
ففي هذا النص مقارنة بين الأسلوبين، وبيان ميزة كل من الآيات المكية والمدنية، ولم يقصد النورسي إجراء مقارنة شاملة بين المكي والمدني من الآيات، إنما اقتصر على أمر واحد هو : الأسلوب والبلاغة ، وقد أجاد في هذه المقارنة.
__________
(1) الشعاعات، ص308 و309.(12/27)
4- أسباب النزول: النورسي مقلّ جداً من ذكر أسباب النزول، بل لم يذكر في رسائله إلا سبب نزول واحد في رسالة المعجزات الأحمدية، عند ذكره عدداً من الحوادث تدل على معجزة عصمة الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحفظه له من الناس مصداقاً لقوله تعالى : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(1) قال: "الحادثة الرابعة: روى أئمة الحديث برواية مشهورة قريبة من التواتر، وذكر أكثر علماء التفسير أن سبب نزول الآية الكريمة : (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)(2) أن أبا جهل أقسم لئن أرى محمداً ساجداً لأضربنه بهذه الصخرة، فجاءه بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون ليطرحها عليه فلزقت بيده ويبست يداه إلى عنقه، وبعد أن أتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلاته انصرف، وانطلقت يد أبي جهل إما بدعائه - صلى الله عليه وسلم - أو لانتفاء الحاجة"(3).
ولعل السبب في ذلك أن منهج النورسي في التعليق على الآيات، واستنباط وجوه الهداية والإعجاز، ولفت أنظار الناس إلى أهمية الإيمان وإيقاظه في نفوسهم، لم يكن يحتاج معه إلى الإكثار من إيراد أسباب النزول . والله أعلم.
__________
(1) المائدة، آية 67.
(2) يس، آية 8 و9.
(3) المكتوبات، ص213، وفي ص218 أشار المحقق إلى صحة الرواية بسياق آخر رواه مسلم في صحيحه برقم (2797)، أما هذا السياق فرواه ابن اسحاق وأبو نعيم في الدلائل والطبراني والقاضي عياض في الشفاء أ.هـ. قلت: والحادثة مذكورة في كتب التفسير بسياق قريب انظر الطبري 10/152، والقرطبي 15/7، وأبا السعود 7/161.(12/28)
5- ترجمة القرآن: تعرض النورسي للحديث عن ترجمة القرآن في أكثر من موضع في رسائله، وكان يبين في هذه المواضع عدم إمكانية ترجمة القرآن ترجمة حرفية، وذكر في أحد المواضع عدداً من الآيات الكريمة التي لا يمكن ترجمتها حرفياً لما فيها من وجوه البلاغة في أعلى درجاتها. وقال: "فهل يمكن -يا ترى- ترجمة أمثال هذه الآيات الكريمة ترجمة حقيقية، لا شك أنها غير ممكنة، فإن كان ولا بد، فإما أن تُعطى معاني إجمالية مختصرة للآية الكريمة، أو يلزم تفسير كل جملة منها في حوالي ستة أسطر"(1). وحين تناهى إلى سمعه دعوة أحد الخبثاء لترجمة القرآن انبرى للرد عليه وكشف ضلاله، وقد تحدث النورسي عن ذلك في خاتمة الشعاع الحادي عشر حيث قال: "طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، أن زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده بإقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته، وصرَّح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته، أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! إلى آخره من الأفكار السامة، إلا أن رسائل النور بفضل الله قد شلت تلك الفكرة، وعقمت تلك الخطة بحججها الدامغة، وبانتشارها الواسع في كل مكان، فأثبتت إثباتاً قاطعاً أنه لا يمكن قطعاً ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، وإن أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة، وإن الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل -بأي حال- محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقاً تلاوة الترجمة بدلاً منه "(2).
__________
(1) المكتوبات، ص505، وانظر ص439.
(2) الشعاعات، ص315.(12/29)
والنورسي في موقفه هذا ، موافق لجمهور العلماء الذين وقفوا أمام القول بترجمة القرآن ترجمة حرفية موقفاً صارماً يرى عدم إمكانية ذلك، مع إجازتهم ترجمة معاني الآيات(1).
6- إعجاز القرآن: أفرد النورسي للحديث عن إعجاز القرآن (الكلمة الخامسة والعشرين) وسمّاها رسالة المعجزات القرآنية، كما تحدث عن الإعجاز في مواضع غير قليلة في رسائله، وجعل كتابه القيم (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) تفسيراً للقرآن الكريم يطبق من خلاله نظرية النظم تطبيقاً عملياً على الآيات؛ حيث يبين نظم الآية بما قبلها وما بعدها، ثم نظم الجمل في الآية، ثم نظم الكلمات والحروف في الجملة، إلا أنه توقف في تفسيره القيم هذا عند الآية الحادية والثلاثين من سورة البقرة ولم يتمه.
وقد تفاوتت عبارات النورسي في عدد أوجه إعجاز القرآن، ففي حين يذكر في بعض المواضع أنها عشرة(2)، يذكر في مواضع أخرى أنها سبعة(3)، وفي غيرها أنها أربعون(4) وفي مواضع أخرى أنها أكثر من ذلك(5)، وبعد التأمل في هذه العبارات يمكن استخلاص أن النورسي حين يذكر أنها سبعة أو عشرة يقصد الوجوه العامة الرئيسة، وحين يذكر أنها أربعون يقصد بها الوجوه التفصيلية الدقيقة أو الفرعية المندرجة تحت الوجوه العامة، أما حين يذكر أنها مئات الوجوه أو لا تُعدُّ ولا تُحصى، يقصد أنواعاً فرعية غاية في الدقة واللطافة يمكن أن تندرج جميعاً تحت نوع واحد، وحين يتحدث النورسي عن وجوه الإعجاز الكلية يجعل أولها وأظهرها النظم القرآني البديع(6).
__________
(1) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، 2/114 والمعجزة الكبرى، محمد ابو زهرة، ص588-591.
(2) اللمعات، ص40.
(3) إشارات الإعجاز، ص64، والكلمات، ص522.
(4) الكلمات، ص531، والمكتوبات، ص522.
(5) اللمعات، ص49، والمكتوبات، ص522.
(6) الكلمات، ص881، وإشارات الإعجاز، ص23 و113 و179.(12/30)
وذهب النورسي إلى عدّ (التناسق اللفظي والعددي) بين عدد من ألفاظ القرآن الكريم أحد وجوه إعجازه(1)، إلا أن ما أورده النورسي في هذا الأمر لم يسلم من الاعتراض والمناقشة والتتبع بما يثبت عدم دقة الأرقام المذكورة فيه، ولذا فإني أرى أن لا يُعدُّ التناسق اللفظي والعددي من وجوه إعجاز القرآن.
وللنورسي بحث لطيف في معجزات الأنبياء السابقين فهو يراها تدعو إلى التأمل فيها، واستلهام المخترعات والمكتشفات منها، والاجتهاد في الوسائل التي توصل إلى أشباهها(2)، ومن كلامه في توضيح هذه الفكرة قوله مثلاً (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)(3) هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام، وهي تسخير الريح له؛ أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد، فالآية تشير إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء، فيا أيها الإنسان، حاول أن تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة: إن عبداً من عبادي ترك هوى نفسه فحملته فوق متون الهواء، وأنت أيها الإنسان، إن نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون يمكنك أيضاً أن تمتطي صهوة الهواء.
__________
(1) انظر: المكتوبات، ص240-242 و489 و494 و522-527.
(2) إشارات الإعجاز، ص238 والشعاعات، ص431.
(3) سبأ، آية 12.(12/31)
ومثلاً : (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً)(1) هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشيرُ إلى أنه يمكن الإستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الأرض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من أرض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا، فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى: يمكنكم أن تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه، فالله سبحانه يخاطب الإنسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية: "ما دمت أسلم بيد عبد يعتمد عليَّ ويثق بي عصا، يتمكن بها أن يفجّر الماء أينما شاء، فأنت أيها الإنسان إن اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً أن تخترع آلة شبيهة بتلك العصا أو نظيرة لها، فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة..... "(2).
كما ذكر من معجزات الأنبياء السابقين : إبراء الأكمه والأبرص وتليين الحديد وإذابة النحاس، وإحضار الأشياء من مسافات بعيدة، وتسخير الجن والشياطين في أمور نافعة، وغيرها(3).
وبعد هذا العرض لمباحث علوم القرآن في رسائل النور يتبين لنا أن النورسي لم يذكر جميع مباحث علوم القرآن، حيث اكتفى منها بما يخدم هدف رسائله، وما تستدعي مادة كتابته أن يعرض له، ولذا أطال الحديث في إعجاز القرآن وفصل في الحديث عنه فهو أقرب مباحث علوم القرآن لموضوع رسائل النور، ويمكن بواسطته إقناع الكثيرين بعظمة القرآن وصلاحيته لجميع العصور، وكان النورسي حريصاً على بيان أن لكل طبقة من الناس حظها من الإعجاز(4)، ترغيباً للجميع أن يقبلوا على القرآن ويحملوا رايته ويكونوا من أهله العاملين بما فيه.
المبحث الثاني
التفسير في رسائل النور
يمكن تقسيم المواضع التي عرض فيها النورسي لتفسير القرآن الكريم إلى قسمين:
__________
(1) البقرة، آية 60.
(2) الكلمات، ص280.
(3) الكلمات، ص286-290.
(4) المكتوبات، ص238-240.(12/32)
الأول: المواضع التي تشتمل على تفسير خالص، قصد فيها تفسير سورة أو آيات، ولم يخالط كلامه في التفسير في هذه المواضع موضوعات أخرى، وهذه المواضع هي: كتاب إشارات الإعجاز، وتفسير سورة الفاتحة(1).
الثاني: المواضع التي تشتمل على التفسير وغيره، وقد يكون مقصوده الأول في هذه المواضع البحث في التفسير، إلا أنه يستطرد بذكر أمور أخرى تجعل التفسير جزءاً يسيراً منها. وقد يكون التفسير في هذه المواضع عارضاً بأن تذكر آية فيتم توضيحها، أو أن يستشهد بمعنى الآية على فكرة.
والنورسي لم يقصد تفسير القرآن آية آية، وإن كان قد شرع فيه في إشارات الإعجاز، إلا أنه اتجه بعد تفسير عدد قليل من الآيات اتجاهاً آخر، وانتقل إلى أسلوب مغاير تماماً، لم يلتزم فيه بتفسير ألفاظ القرآن الكريم كلها، أو بالسير على ترتيب المصحف في حديثه عن الآيات، ولكنه كان دائم الاستشهاد بها وهي محور جميع رسائل النور ومنطلق أفكارها، ولذا فقد كان النورسي دقيقاً حين عبَّر عن رسائله بأنها رشحات، ولمعات، وشعاعات، وقبسات من أنوار القرآن الكريم وفيوضاته .
وفي النقاط التالية أهمّ القضايا التي بحثها النورسي أو أكد عليها أو اعتنى بها في رسائله مما له علاقة بتفسير الآيات:
1- ... التزم النورسي في كتابه "إشارات الإعجاز" طريقة واحدة في التفسير فقد كان يبدأ بمقدمة يجعلها مدخلاً لتفسير الآية أو الآيات، وقد يتركها أحياناً، ثم يبين معنى الآية، وقد يقتصر على معنى واحد، وقد يذكر أقوالاً متعددة دون أن ينسبها إلى قائليها ولا يرجح بينها، واستعمل أسلوب الفنقلة في بعض المواضع، وقد يطيل الحديث في مباحث مقتبسة من الآية أو لها صلة بها، ثم يبين نظم الآية مع ما قبلها وما بعدها، ثم نظم الجمل في الآية، ثم نظم الكلمات والحروف في الجملة.
كل هذا بعبارات سلسة مترابطة، وأسلوب أخاذ مؤثر وحجة قوية دامغة.
__________
(1) الشعاعات، ص641-653.(12/33)
2- ... بحث النورسي في أكثر من موضع في خواتيم الآيات وسماها (فذلكة نهايات الآيات) والحكمة من وجودها، ودلالالتها فبين أولاً أن هذه الفذلكات أو الخلاصات "إما أنها تتضمن الأسماء الحسنى أو معناها، وإما أنها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكير والتدبر فيها، أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها"(1).
فقد تكون هذه الفذلكات تعقيباً على حادثة جزئية فرعية، تجعل من تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة(2)، وقد تكون تعقيباً على أفعال الخلق التي لا تستحق إلا العقاب بذكر الرحمة تسلية وتأنيساً(3).
ثم ذكر أمثلة متعددة تؤكد ما قرره، وتبين للقارئ أهمية هذه الفذلكات ودورها الكبير في توضيح المراد.
وسأكتفي هنا بإيراد بعض أمثلته، فمنها قوله:
"إن القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرضة للتغير، والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والأحوال، ثم لأجل تحويلها إلى حقائق ثابتة يقيدها ويجملها بالأسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة، أو يأتي بخلاصة تسوق العقل إلى التفكر والاعتبار.
__________
(1) الكلمات، ص483.
(2) الشعاعات، ص309 وانظر المثنوي، ص410 و462.
(3) المثنوي، ص339 و462، وفي رسالة المعجزات القرآنية عشر إشارات من إشارات كثيرة جداً لهذه الفذلكات أجاد فيها النورسي ومثل لها (انظر الكلمات، ص483-500).(12/34)
ومن أمثلة المعنى الأول (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(1) هذه الآية تذكر أولاً حادثة جزئية هي: أن سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو العلم، ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة أمام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك بإجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الأسماء الحسنى (أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) بمعنى أن الملائكة يقولون: أنت العليم يا رب فعلّمت آدم فغلبنا، وأنت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لاستعدادنا، وتفضله علينا باستعداداته.
__________
(1) البقرة، آية 31 و32.(12/35)
ومن أمثلة المعنى الثاني : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ. وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(1) تعرض هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى جعل الشاة والمعزى والبقر والإبل، وأمثالها من المخلوقات، ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما، أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة، كما جعل من أمثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس إلى جانب لذته وحلاوته، وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار، وقياس غيرها عليها بـ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون "(2).
__________
(1) النحل، آية 66-69.
(2) الكلمات، ص489.(12/36)
و"إن شئت فانظر إلى (إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، (إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(1)، وأمثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكّر بالآخرة، والتي تنتهي بها أغلب الآيات الكريمة، تر أن القرآن الكريم عند بيانه الأحكام الشرعية الفرعية، والقوانين الاجتماعية، يرفع نظر المخاطب إلى آفاق كلية سامية، فيبدل -بهذه الفواصل الختامية - ذلك الأسلوب السهل الواضح السلس أسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة إلى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن كتاب شريعة وأحكام وحكمة، كما هو كتاب عقيدة وإيمان، وهو كتاب ذكر وفكر كما هو كتاب دعاء ودعوة، "(2)....
وكلام النورسي هذا يدل على علم غزير، وتأمل دقيق في الآيات، وفهم جليل للحكمة من تذييل الآيات بتلك الفذلكات، وهو أمر قل أن يتنبه إليه المفسرون أو أن يلتفتوا إليه، وقد توجد إشارات منه عند بعضهم كالبقاعي والألوسي وغيرهما.
3- حرص النورسي على أن يَردَّ على الشبه والإشكالات التي تثار على الآيات، وعلى التوفيق بين موهم الخلاف والتناقض بين الآيات، بردود قوية مفحمة عميقة لا تبقي لتلك الشبه أو التوهمات أي بقية، وتقتلعها من جذورها ومن الشبه التي حرص النورسي على ردّها: زعم أن التكرار في الآيات القرآنية نقص في بلاغته، فبيّن في رده أن تكرار بعض الأمور في القرآن له حكم وفوائد عظيمة. وأن ما قد يتوهمه بعضهم من تكرار ليس كذلك لاختلاف أحكام الآيات ومقاصدها، وإليك كلامه عن التكرار في أحد المواضع:
__________
(1) من مواضعها: البقرة، آية 20، الأنفال، آية 75، ابراهيم، آية 4، الروم، آية 5 على الترتيب.
(2) الشعاعات، ص309.(12/37)
"اعلم، أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنه القاصرون؛ إذ الذكر يُكرر، والدعاء يُردد، والدعوة تُؤكد؛ إذ في تكرير الذكر تنوير، وفي ترديد الدعاء تقرير، وفي تكرار الدعوة تأكيد.
واعلم أنه لا يمكن لكل أحد في كل وقت قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحد في كل وقت، فلهذا أدرج الحكيم الرحيم أكثر المقاصد القرآنية في أكثر سوره؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كل سورة قرآناً صغيراً، فسّهل السبيل لكل أحد، دون أن يحرم أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.
اعلم أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفة في الأوقات، كذلك الحاجات المعنوية الإنسانية أيضاً مختلفة في الأوقات، فإلى قسم في كل آن كـ (هو الله) للروح - كحاجة الجسم إلى الهواء- وإلى قسم في كل ساعة كـ (بسم الله) وهكذا فقس، فتكرار الآيات والكلمات إذن للدلالة على تكرار الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه ، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج إلى تلك الأغذية المعنوية.
اعلم أن القرآن مؤسس لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الإسلامي، ومقلب لاجتماعيات البشر ومحولها ومبدلها، وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال، ولا بد للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.
اعلم أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب إلى الإيمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول إلى معرفتها، فلا بدّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.(12/38)
اعلم أن لكل آية ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً(1)، ولكل قصة وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتذكر في موضع لوجه، وفي آخر لأخرى، وفي سورة لمقصد وفي أخرى لآخر، وهكذا، فعلى هذا لا تكرار إلا في الصورة"(2).
وردّ النورسي على شبهة أن القرآن يذكر قصصاً وحوادث جزئية مثل قصة ذبح البقرة، فما الداعي لذكرها وهي مجرد قصة قديمة وحادثة جزئية، وقد ذكرت في القرآن ضمن هالة من الأوصاف حتى تسمت السورة باسم البقرة، وبعد أن ردّ على شبهة قصة البقرة بالذات قرر قاعدة عامة للقصص الأخرى التي يمكن أن تشبهها، وفيما يلي كلامه في الرد على هذه الشبهة:
__________
(1) ورد في هامش الكلمات، ص451، والملاحق، ص60 أن هذه العبارة جزء من تتمة حديث (أنزل القرآن على سبعة أحرف) في رواية عند الطبري بنص: لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ولكل حد مطلع (باختصار عن كشف الخفاء، 1/209). انتهى، وقد حكم المحدث أحمد محمد شاكر على رواية الطبري لهذا الحديث بالضعف، وفي الرواية لكل حرف وليس (لكل آية) (ر: تفسير الطبري بتحقيق محمود محمد شاكر، وتخريج احمد محمد شاكر 1/22).
(2) المكتوبات، ص267 و268، وانظر الكلمات، ص265، والشعاعات، ص302-308 و 313، والمثنوي، ص70 و190.(12/39)
"من المعلوم أن أراضي مصر جرداء قاحلة؛ إذ هي جزء من الصحراء الكبرى، إلا أنها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل، لذا فإن وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى أهل مصر، حتى توغلت في طبائعهم، بل أضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما أضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الأمر أن منح أهل مصر -في ذلك الوقت- قدسية على البقر والثور إلى حد العبادة، وقد ترعرع بنو إسرائيل في هذه المنطقة وبين أحضان هذه البيئة والأجواء، فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يفهم من حادثة "العجل" المعروفة. وهكذا يعلمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة أن سيدنا موسى عليه السلام قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الأمة، وتنامى في استعداداتهم، فالقرآن الكريم إنما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً ، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.
فافهم قياساً على هذا أن الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم على صورة حوادث تاريخية، إنما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها... "(1).
__________
(1) الكلمات، ص269-271.(12/40)
كما رد النورسي على شبهة أثارها بعض الملحدين بقولهم : إلى متى نرفع أكفنا وندعو، وهو على كل شيء قدير؟ أي أنهم يشككون بقدرة الله تعالى وقد كان ردّ النورسي على هذه الشبهة بإثبات عظمة الله تعالى من خلال التدبر في آياته الكونية وفي خلقه مفتتحاً الرد بقوله سبحانه (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(1)، وقد أطال النورسي في الرد(2)، مظهراً من خلاله التناسق الجميل، والتوافق التام بين كتاب الله المسطور، وكتاب الله المنظور.
ورد النورسي على شبهة تتعلق بحادثة انشقاق القمر المذكورة في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ)(3) إذ جنح قوم إلى إنكارها بقولهم: لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم ولذكرته كتب التاريخ كلها.
وكان جواب النورسي على هذه الشبهة قوياً ومباشراً، لم يدع فيه مجالاً لمرتاب ولا حجة لطاعن، قال فيه: "إن إنشقاق القمر معجزة لاثبات النبوة، وقعت أمام الذين سمعوا بدعوة النبوة وأنكروها، وحدثت ليلاً في وقت تسود فيه الغفلة، وأظهرت آنياً، فضلاً عن أن اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وأمثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً أن أعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة، لذا لا يلزم أن يرى الانشقاق كل الناس، في كل مكان، ولا يلزم أيضاً أن يدخل كتب التاريخ...
__________
(1) فصلت، ص53.
(2) الكلمات، ص782-833 الكلمة الثالثة والثلاثون، وهي المكتوب الثالث والثلاثون ايضاً، وتتكون من ثلاث وثلاثين نافذة، كان اختيار النورسي لهذا الرقم تبركاً بالأذكار التي تأتي عقب الصلوات الخمس.
(3) القمر، آية 1.(12/41)
ثم إنه في ذلك الوقت: كانت سحب الجهل تغطي سماء إنكلترا، والوقت على وشك الغروب في أسبانيا، وأمريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان، وفي غيرها من البلدان هناك موانع أخرى للرؤية فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها، فإذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: "إن تاريخ إنكلترا والصين واليابان وأمريكا وأمثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، إذن لم تقع!" أي هذر هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات أوروبا"(1). كما رد النورسي على شُبَهٍ أخرى أثيرت حول القرآن الكريم(2). أما التوفيق بين موهم الخلاف من الآيات، فقد عرض له النورسي في مواضع محدودة من رسائله، ومن ذلك توفيقه بين قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(3)، وقوله (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(4)، ببيان اختلاف طبائع البشر واستعداداتهم، فمنهم من يرقى بخصاله الحميدة حتى يبلغ مرتبة الأنبياء والصديقين، ومنهم من يرضى بإلحاق الضرر بآلاف الناس في سبيل منفعة ذاتية، وكل إنسان جاهل كل ما يخص الحياة ويلزمها، ومضطر إلى تعلم كل شيء فهو (جهول) لأنه محتاج إلى ما لا يجد من الأشياء...(5).
__________
(1) الكلمات، ص702 و704 والمكتوبات، ص 271 و273.
(2) انظر: الكلمات، ص 293 و585 و728 و737، والمكتوبات، ص 401 و407، والشعاعات، ص 294، وإشارات الإعجاز 223، والمثنوي، ص401.
(3) الاسراء، آية 70.
(4) الأحزاب، آية 72.
(5) المكتوبات، ص 426، 427، وانظر الكلمات، ص214 و216.(12/42)
4- ... كان النورسي يميل إلى القول بجميع ما تحتمله الآية من معانٍ، وهذا واضح في عدد من المواضع في رسائله، فأثناء حديثه عن قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ)(1) بيّن جواز جميع ما تحتمله من معان : "ابتداءً من بحر الربوبية في دائرة الوجوب، وبحر العبودية في دائرة الإمكان، وانتهاءً إلى بحري الدنيا والآخرة، وإلى بحري عالم الشهادة وعالم الغيب، وإلى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، إلى بحر الروم وبحر فارس، والبحر الأبيض والأسود - وإلى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان - وإلى البحر الأبيض والبحر الأحمر وقناة السويس، وإلى بحار المياه العذبة والمالحة، وإلى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة، والبحار المالحة التي على ظهر الأرض المتصل بعضها ببعض، وما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الأنهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي يختلط معها.
كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح أن تكون مرادة ومقصودة، فهي معان حقيقية للآية الكريمة ومعان مجازية"(2).
وعند تأمله في إطلاق لفظ (الصالحات) في القرآن الكريم دون تقييده بعمل أو قول معين، تبين له أن هذا الإطلاق مقصوده حمل اللفظ على أعم معانيه، وأن كل عمل صالح يندرج تحت هذا اللفظ، إلا أن الحكم على عمل ما بأنه صالح أو غير صالح أمر نسبي، يحصل فيه الاختلاف بسبب تغير المكان والزمان والجهة والصنف، ولما كان القرآن الكريم خطاباً إلهياً شاملاً لجميع طبقات الجن والإنس ولكل العصور، والأحوال والظروف كافة، "وحيث إن الحسن النسبي والخير النسبي كثير جداً، فإن إطلاق القرآن إذن في (الصالحات) إيجاز بليغ لإطناب طويل، وإن سكوته عن بيان أنواع الصالحات كلام واسع"(3).
__________
(1) الرحمن، آية 19 و20.
(2) المكتوبات، ص422 و423.
(3) صيقل الإسلام، ص334.(12/43)
إلا أن النورسي اقتصر في مواضع من رسائله على معنى واحد مما يمكن أن تحتمله الآية ولم يذكر غيره، وذلك لأن هذا المعنى هو الذي يرجحه، وهو الذي يوصل إلى المعنى الذي يريده، أو يناسب سياق كلامه، مثال ذلك أنه عندما قارن بين ما ورد في القرآن الكريم من صفة الصحابة الكرام، وما ورد في التوراة والإنجيل من صفتهم اقتصر في تفسير قوله تعالى لـ (وَالَّذِينَ مَعَهُ)(1) أنها تدل على أبي بكر الصديق، و(أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) تدل على عمر، (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) تدل على عثمان، و(تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا)... تشير إلى علي، فالآية تشير إلى ترتيب الخلفاء الذين سيخلفون مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، كما تشير إلى أبرز صفة خاصة بكل منهم مما اشتهروا به(2).
فالنورسي هنا لم يحمل المعنى على العموم بل اقتصر على ما يراه موصلاً إلى ما يريد في هذا الموضع. كما اقتصر في تفسير (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(3) على قول واحد فقط هو : إلاّ محبة آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -(4).
__________
(1) الفتح، آية 29.
(2) اللمعات، ص42 و43، وانظر في الأقوال الأخرى في معنى الآية: زاد المسير، ابن الجوزي، 7/445 و446.
(3) الشورى، آية 23.
(4) اللمعات، ص 31 وانظر في الأقوال الأخرى في معنى الآية: زاد المسير لابن الجوزي 7/284 و 285.(12/44)
ومن أمثلة اختيار النورسي للمعنى الذي يراه أرجح والتأكيد عليه دون سواه، قوله في تفسير الآية (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ)(1) بأن هؤلاء الولدان الأطفال الذين توفوا قبل البلوغ، ولم يكونوا يؤدون الفرائض الشرعية ندباً -حيث لم تفرض عليهم- أما الأطفال الذين توفوا قبل البلوغ وكانت أعمارهم بين السابعة والبلوغ، وكانوا يؤدون الفرائض ندباً سيكونون في الثالث والثلاثين من العمر ليجازوا كالكبار الملتزمين بالدين(2).
واقتصار النورسي على هذا المعنى دون غيره ليحث الآباء على الاعتناء بأبنائهم وترغيبهم في أداء الفرائض وهم دون البلوغ، ولحث الأبناء على الالتزام بأداء الفرائض ابتداءً من سن السابعة لينشأوا على الالتزام وحب العبادة والتمسك بها.
5- ... للنورسي استنباطات لطيفة من الآيات، وتعليقات جميلة عليها، واختيارات في معنى الآية، وخواطر شخصية وانفعالات، كل هذا ضمن عبارات وأسلوب شيق، وقد وجدت في رسائل النور مواضع كثيرة يمكن التمثيل بها لتأكيد هذه النقطة، وسأحاول الاختيار من بينها مع الإحالة إلى رسائل النور في باقيها.
أ) ... عند حديث النورسي عن الجزالة الخارقة في نظم القرآن، أورد مثالين لبيان نظم الكلمات المتعانقة لكل جملة والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل.
__________
(1) الواقعة، آية 17.
(2) الملاحق، ص347. وانظر الإشارة إلى هذا القول في الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 17/203.(12/45)
"المثال الأول: قوله تعالى : (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ)(1) هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن بإظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فإن جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر إلى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول: فلفظ (لئن) هو للتشكيك، والتشكيك يوحي القلة، ولفظ (مس) هو إصابة قليلة، يفيد القلة أيضاً، ولفظ (نفحة) مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي -مصدر المرة- فيفيد القلة، وتنوين التنكير في (نفحة) هي لتقليلها، بمعنى أنها شيء صغير إلى حدّ لا يعلم فينكر، ولفظ (من) هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة، ولفظ (عذاب) هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة إلى النكال والعقاب، فيشير إلى القلة، ولفظ (ربك) بدلاً من : القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً، وذلك بإحساسه الشفقة والرحمة. وهكذا تفيد الجملة أنه:
إذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيعين كل الآخر، فكل يمد المقصد بجهته الخاصة. هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظ والمقصد.
المثال الثاني: قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(2) فهيئات هذه الجملة تشير إلى خمسة شروط لقبول الصدقة.
- ... الشرط الأول: المستفاد من (من) التبعيضية في لفظ (مما) أي: أن لا يبسط المتصدق يده كل البسط فيحتاج إلى الصدقة.
- ... الشرط الثاني : المستفاد من لفظ (رزقناهم)؛ أي: أن لا يأخذ من زيد ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من ماله بمعنى : تصدقوا مما هو رزق لكم.
- ... الشرط الثالث: المستفاد من لفظ (نا) في (رزقنا) أي: أن لا يمن فيستكثر، أي لا منة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي.
__________
(1) الأنبياء، آية 46.
(2) البقرة، آية 3.(12/46)
- ... الشرط الرابع: المستفاد من (ينفقون) أي: ينفق على من يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلا فلا تكون الصدقة مقبولة على من يصرفها في السفاهة.
- ... الشرط الخامس: المستفاد من (رزقناهم) أيضاً؛ أي يكون التصدق باسم الله؛ أي: المال مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي.
ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق؛ إذ كما أن الصدقة تكون بالمال تكون بالعلم أيضاً، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير إلى هذه الأقسام كلمة (ما) التي في (مما) بعموميتها، وتشير إليها في هذه الجملة بالذات، لأنها مطلقة تفيد العموم، وهكذا تفيد هذه الجملة الوجيزة -التي تفيد الصدقة- إلى عقل الإنسان خمسة شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع وتشعرها بهيئاتها..."(1).
ب) ... ذاق النورسي حلاوة طعم قوله تعالى : (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(2) في وقت كان يعاني فيه من ألوان الغربة، وأنواع المرض، وصراع بين نفسه التواقة للبقاء وعجزه وفقره، وإذا بهذه الآية الكريمة تمده من أنوارها ومراتبها القيمة بما يزيل كربه ويكشف غمه، وكتب عن تأملاته في هذه الآية وتبدل شعوره بسببها كلاماً جميلاً استوعب الشعاع الرابع(3).
__________
(1) الكلمات، ص426-428، وانظر إشارات الإعجاز، ص45 و53، وصيقل الإسلام، ص102.
(2) آل عمران، آية 173.
(3) الشعاعات، ص 68-101.(12/47)
جـ) ... للنورسي تعليق لطيف على قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)(1) من خلال وقائع حصلت له ولعدد من إخوانه وأتباعه استخلص منها، أنه كلما انشغل هو أو غيره بخاصة نفسه وترك خدمة القرآن أتاه تحذير من الله، على صورة لطمة تأديب رحيمة أو صفعة عتاب رؤوفة ، فيسرع بجد لخدمة القرآن مرة أخرى، ولما أراد أن يذكر الأمثلة لتأييد كلامه بدأ بنفسه قال: "فالأول منهم هو هذا المسكين.. سعيد، فكلما انشغلت بما يعود إلى خاصة نفسي بما يفتر عملي للقرآن، أو انهمكت في أموري الخاصة، وقلت: ما لي وللآخرين، أتاني التحذير وجاءتني اللطمة، لذا بت على يقين من أن هذه العقوبة لم تنزل إلا نتيجة إهمالي وفتوري في خدمة القرآن، لأنني كنت أتلقى اللطمة بخلاف المقصد الذي ساقني إلى الغفلة، ثم بدأنا مع الأخوة المخلصين نتابع الحوادث ونلاحظ التنبيهات الربانية، والصفعات التي نزلت بإخوتي الآخرين، فأمعنا النظر فيها، وتقصينا كلاً منها، فوجدنا أن اللطمة قد أتتهم مثلي حيثما أهملوا العمل للقرآن، وتلقوها بضد ما كانوا يقصدونه، لذا حصلت لدينا القناعة التامة بأن تلك الحوادث والعقوبات إنما هي كرامة من كرامات خدمة القرآن ... "(2)، ثم ذكر أنه كلما انشغل بخدمة القرآن وتعليمه لم يتعرض للأذى والملاحقة، وكلما فكر بأمر نفسه وترك إفادة غيره تعرض للنفي أو للمراقبة والتضييق "وكنت فيها - أي بارلا- كلما أصابني الفتور في العمل للقرآن، واستولى عليَّ التفكير بخاصة نفسي وإصلاح آخرتي، كان أحد ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليّ، وأحد المنافقين يتعرض لي.."(3) ثم ذكر حوادث مماثلة تعرض لها إخوانه في خدمة القرآن(4)
__________
(1) آل عمران، آية 30.
(2) اللمعات، ص 67.
(3) اللمعات، ص 68.
(4) اللمعات، ص 69-78.(12/48)
. وختم كلامه بالإجابة على تساؤل يقول: "إنك تعدُّ المصائب التي تصيب إخوانك الخواص وأصدقاءك تأديباً ربانياً ولطمة عتاب لفتورهم عن خدمة القرآن، بينما الذين يعادون خدمة القرآن ويعادونكم يعيشون في بحبوحة من العيش، وفي سلام وأمان، فَلِمَ يتعرض صديق القرآن للطمة، ولا يتعرض عدوه لشيء؟
الجواب: يقول المثل الحكيم : (الظلم لا يدوم والكفر يدوم) فأخطاء العاملين في صفوف خدمة القرآن هي من قبيل الظلم تجاه الخدمة، لذا يتعرضون بسرعة للعقاب ويجازون بالتأديب الرباني، فإن كانوا واعين يرجعون إلى صوابهم.
أما العدّو فإن صدوده عن القرآن وعداءه لخدمته؛ إنما هو لأجل الضلالة، وإن تجاوزه على خدمة القرآن - سواء شعر به أم لم يشعر- إنما هو من قبيل الكفر والزندقة، وحيث أن الكفر يدوم، فلا يتلقى معظمهم الصفعات بذات السرعة، إذ كما يعاقب من يرتكب أخطاء طفيفة في القضاء أو الناحية، بينما يساق مرتكبو الجرائم الكبيرة إلى محاكم الجزاء الكبرى، كذلك الأخطاء الصغيرة والهفوات التي يرتكبها أهل الإيمان، وأصدقاء القرآن، يتلقون على إثرها جزاءً من العقاب بسرعة في الدنيا ليكفّر عن سيئاتهم ويتطهروا منها، أما جرائم أهل الضلالة فهي كبيرة وجسيمة إلى حد لا تسع هذه الحياة الدنيا القصيرة عقابهم، فيمهلون إلى عالم البقاء والخلود، وإلى المحكمة الكبرى، لتقتص منهم العدالة الإلهية القصاص العادل، لذا لا يلقون غالباً عقابهم في هذه الدنيا.(12/49)
وفي الحديث الشريف : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"(1) إشارةٌ إلى هذه الحقيقة التي ذكرناها؛ أي أن المؤمن ينال نتيجة تقصيراته قسماً من جزائه في الدنيا، فتكون بحقه كأنها مكان جزاء وعقاب، فضلاً عن أن الدنيا بالنسبة لما أعده الله له من نعيم الآخرة سجن وعذاب، أما الكفار فلأنهم مخلّدون في النار، ينالون قسماً من ثواب حسناتهم في الدنيا، وتُمهل سيئاتهم العظيمة إلى الآخرة الخالدة، فتكون الدنيا بالنسبة لهم دار نعيم لما يلاقونه من عذاب الآخرة، وإلا فالمؤمن يجد من النعيم المعنوي في هذه الدنيا ما لا يناله أسعد إنسان، فهو أسعد بكثير من الكافر من زاوية نظر الحقيقة، وكأن إيمان المؤمن بمثابة جنة معنوية في روحه، وكفر الكافر يستعر جحيماً في ماهيته"(2).
د) ... للنورسي تأمل لطيف في سبب إثبات التاء في (قَالَتِ الأعْرَابُ)(3)، وحذفها في (وَقَالَ نِسْوَةٌ)(4)، وكان حديثه في تعليل ذلك ضمن إجابته على تساؤل حول اختلاف أهل الحق والعلم في حين يتفق أهل الدنيا والغفلة والضلالة، مع أن الاتفاق من شأن أهل الوفاق، والخلاف ملازم لأهل النفاق والشقاق.
__________
(1) رواه مسلم (حديث رقم 2959) "رقمه 2956 بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي 4/2272". والترمذي (2324)"ط دار الحديث بالقاهرة، تحقيق: احمد محمد شاكر ورفاقه، 4/562" وابن ماجة (4113) "ط دار المعرفة/بيروت، 4/428، وفي صحيح سنن ابن ماجة للألباني رقمه 3321"، واحمد (2/485) "ط دار الفكر رقمه 8296، 3/210 تحقيق: عبد الله الدرويش" كما في هامش صفحة 79 من اللمعات، وما بين القوسين الصغيرين إضافة منى.
(2) اللمعات، ص78 و 79.
(3) الحجرات، آية 14.
(4) يوسف، آية 30.(12/50)
ويُلمح في إجابته على هذا السؤال حرصه العظيم على وحدة أهل الحق، ودعوته الحارة إليهم؛ أن يتمسكوا بكتابهم، ويوحدوا صفهم، ويتركوا هوى نفوسهم، وأجدني مضطراً هنا لنقل كلامه بطوله لئلا يؤدي تصرفي فيه إلى الإخلال به، والإنقاص من جميل عبارته، قال:
"إن اختلاف أهل الهداية وعدم اتفاقهم ليس نابعاً من ضعفهم، كما أن الاتفاق الصارم بين أهل الضلالة ليس نابعاً من قوتهم، بل إن عدم اتفاق أهل الهداية ناجم عن عدم شعورهم بالحاجة إلى القوة، لما يمدهم به إيمانهم الكامل من مرتكز قوي، وإن اتفاق أهل الغفلة والضلالة ناجم عن الضعف والعجز، حيث لا يجدون في وجدانهم مرتكزاً يستندون إلى قوته، فلفرط احتياج الضعفاء إلى الاتفاق تجدهم يتفقون اتفاقاً قوياً، ولضعف شعور الأقوياء بالحاجة إلى الاتفاق يكون اتفاقهم ضعيفاً، مثلهم في هذا كمثل الأسود والثعالب التي لا تشعر بالحاجة إلى الاتفاق فتراها تعيش فرادى، بينما الوعل والماعز الوحشي تعيش قطعاناً خوفاً من الذئاب أي أن جمعية الضعفاء والشخص المعنوي الممثل لهم قوي، كما أن جمعية الأقوياء والشخص المعنوي الممثل لهم ضعيف(1)، وهناك إشارة لطيفة إلى هذا السر في نكتة قرآنية ظريفة، وهي أنه أسند الفعل قال بصيغة المذكر إلى جماعة الإناث مع كونها مؤنثة مضاعفة، وذلك في قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) بينما جاء الفعل قالت بصيغة المؤنث في قوله تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ) وهم جماعة من الذكور، مما تشير إشارة لطيفة إلى أن جماعة النساء الضعيفات اللطيفات تتخاشن وتتقوى وتكسب نوعاً من الرجولة، فاقتضت
__________
(1) إن ما يؤيد دعوانا هذه هو أن أقوى المنظمات الأوروبية وأكثرها تأثيراً في المجتمع وأشدها –من ناحية- هي منظمات النساء – وهن الجنس اللطيف- في امريكا التي تطلب بحقوق المرآة وحريتها، وكذلك منظمات الأرمن الذين هم أقلية وضعفاء بين الأمم فتراهم يبدون تضحية وبسالة فائقة. المؤلف (النورسي).(12/51)
الحال صيغة المذكر ، فجاء فعل "قال" مناسباً وفي غاية الجمال، أما الرجال الأقوياء فلأنهم يعتمدون على قوتهم ولا سيما الأعراب البدويون فتكون جماعتهم ضعيفة، كأنها تكسب نوعاً من خاصية الأنوثة من توجس وحذر ولطف ولين، فجاءت صيغة التأنيث للفعل ملائمة جداً في قوله تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ).
نعم، إن الذين ينشدون الحق لا يرون وجه الحاجة إلى معاونة الآخرين لما يحملون في قلوبهم من إيمان قوي؛ يمدهم بسند عظيم ويبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا إلى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة، أما الذين جعلوا الدنيا همهم، فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الحقيقي يجدون في أنفسهم الضعف والعجز في إنجاز أمور الدنيا، فيشعرون بحاجة ملحة إلى من يمد لهم يد التعاون، فيتفقون معهم اتفاقاً جاداً لا يخلو من تضحية وفداء.
وهكذا، فلأن طلاب الحق لا يقدِّرون قوة الحق الكافية في الاتفاق، ولا يبالون بها، ينساقون إلى نتيجة باطلة وخيمة، تلك هي الاختلاف، بينما أهل الباطل والضلالة؛ فلأنهم يشعرون -بسبب عجزهم وضعفهم - بما في الاتفاق من قوة عظيمة، فقد نالوا أمضى وسيلة توصلهم إلى أهدافهم، تلك هي الاتفاق.(12/52)
وطريق النجاة من هذا الواقع الباطل الأليم، والتخلص من هذا المرض الفتّاك، مرض الاختلاف الذي ألمَّ بأهل الحق؛ هو اتخاذ النهي الإلهي في الآية الكريمة (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(1) واتخاذ الأمر الرباني في الآية الكريمة (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)(2) دستورين للعمل في الحياة الاجتماعية، ثم العلم بمدى ما يسببه الاختلاف من ضرر بليغ في الإسلام والمسلمين، وبمدى ما ييسّر السبيل أمام أهل الضلالة ليبسطوا أيديهم على أهل الحق، ثم الالتحاق بقافلة الإيمان التي تنشد الحق، والانخراط في صفوفها بتضحية وفداء، وبشعور نابع من عجز كامل وضعف تام، وذلك مع نكران الذات، والنجاة من الرياء ابتغاء الوصول إلى نيل شرف الإخلاص"(3).
وبعد، فأرجو أن أكون قد وفقت في عرضي لمعالم منهج النورسي في التعامل مع القرآن الكريم من خلال ما بيّنته في هذا البحث، ولا أدعي أني أحطت بكل شيء.
وحسبي أني نهلت من معين رسائل النور، ورشفت من بحرها الحلو الفياض، واقتبست من شعاعاتها ولمعاتها البهيّة.
وقد تركت ذكر بعض الأمور اليسيرة المتعلقة بمنهج النورسي في تفسير الآيات اكتفاءً بما قدمت، ولتعلّقها بقضايا فرعية دقيقة، أو لعدم تكرر ورودها في رسائل النور، فلا تشكِّل ظاهرة عامة فيها.
والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وآله وصحبه وأتباعه أجمعين.
حكمة التكرار في القرآن الكريم
من خلال رسائل النور
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
__________
(1) الأنفال، 46.
(2) المائدة، 2.
(3) اللمعات، ص233 و234.(12/53)
فإن الإمام المصلح المجدد بديع الزمان سعيد النورسي، صاحب يد طولى وعطاء مميز في خدمة هذا الدين العظيم، ولا يملك من يقرأ سيرة حياته إلا أن يشهد له بأنه الرجل الفذ في تلك المرحلة العصيبة طغت فيها الظلمات، وخُطط لتركيا أن تنسلخ عن دينها وتراثها، وكان لمواقفه العظيمة البطولية، وكلماته المخلصة أثناء محاكماته الظالمة أثر كبير على كل من يسمع خطابه أو يصل إليه (1)، وتذكرنا مواقفه هذه بأمثاله من الدعاة الشامخين الذين وقفوا في وجه الظلم، وكانت كلماتهم نورا للمهتدين ونارا على الظالمين.
وبوفاة النورسي لم تمت دعوته بل ازدادت اتساعا، وكثر أتباعه داخل تركيا وخارجها، وتيسرت السبل أمام انتشار أفكاره، ونشر رسائله بلغات مختلفة، وتم إصدار "كليات رسائل النور" باللغة العربية في حلة قشيبة وسلسلة أنيقة، رائعة في مظهرها كما هو مخبرها، كما كتب حول النورسي ورسائله وفكره ومنهجه ودعوته بحوث كثيرة، ورسائل علمية متعددة، ومقالات صحفية، ومؤتمرات متخصصة، كل هذا يشهد للنورسي بالمكانة المرموقة والمنزلة المميزة.
تمهيد
" إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم، تفسير نابع من القرآن مدعم بالبراهين، لذا فإن فيها تكرارات ضرورية مساقة لحكمة ومصلحة كالتكرارات القرآنية اللطيفة، الحكيمة، الضرورية، والتي لا تسئم القارئ أبدا.
وكذا لأن رسائل النور هي دلائل كلمة التوحيد التي تكرر باستمرار على الألسنة في ذوق وشوق دون سأم، فإن تكراراتها الضرورية لا تعدّ نقصا فيها، ولا تضجر القارئ ولا ينبغي لها أن تضجر".(2)
__________
(1) انظر مثلا: الشعاعات/426، وصيقل الإسلام/439-474 "جميع رسائل النور التي رجعت إليها في هذا البحث من إصدار: دار سوزلر في استانبول، ترجمة وتحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ط الأولى، 1995".
(2) الشعاعات/95.(12/54)
نحا الإمام النورسي في رسائله منحى مميزا في التأليف، وقد أكثر من التأكيد على أن هذه الرسائل تفسير للقرآن، ومن يتأمل فيها يجد التفسير مبثوثا في ثناياها، متداخلا مع كثير من الأفكار والآراء، وقلما تخلو صفحة من صفحات هذه الرسائل من آية أو آيات.(1)
وكثيرا ما جعل النورسي مفتاح حديثه في إحدى الرسائل آية من كتاب الله تعالى، وقد تكون محورا لهذه الرسالة، وقد يكون موضوع الرسالة مقتبسا منها، وقد تكون لمجرد التبرك بها والاستفتاح.(2)
ففي رسائل النور كمّ من التفسير والتعليق على الآيات، وبحث في جملة من علوم القرآن، ومن بين الموضوعات التي اعتنى بها النورسي وتكلم عنها في أكثر من موضع: التكرار في القرآن الكريم، وقد قمت في بحثي هذا بتتبع كلام النورسي عن التكرار في القرآن، فوجدته ينحصر في أمرين هما:
- الحديث عن الحكمة من وجود التكرار في القرآن الكريم.
- تناول ألفاظ قرآنية مكررة في مواضع متعددة بالتوضيح والتبيين.
وقد وجدت لزاما عليّ قبل الشروع في توضيح هذين الأمرين أن أبين معنى التكرار، وأن أعرض آراء عدد من العلماء فيه، وهل في القرآن تكرار أم لا ؟
المبحث الأول
معنى التكرار
__________
(1) انظر مثلا: الكلمات/832، والمكتوبات/463 و476، والملاحق/220 و221، والشعاعات/180 و214 و225 و470 و503و684 والمثنوي/156.
(2) انظر مثلا: الكلمات/195، واللمعات/211 و299، والمكتوبات/339، والمثنوي/362.(12/55)
هذا اللفظ من أكثر الألفاظ استعمالا وتكرارا في حياتنا اليومية، وظاهرة التكرار بمعناه الواسع تكاد توجد في كل شيء حولنا، ففي كثير من كلماتنا وجملنا تتكرر الحروف، كما يكثر استعمال ألفاظ معينة فيتكرر ورودها على الألسنة، وتتكرر مشاهد معينة على كل امرئ منا، وحين نرجع إلى علمائنا لنبحث في معنى هذا اللفظ نجد: "كرر: ردّد أو أعاد الشيء مرة بعد أخرى أو مرارا كثيرة" (1)، ومنهم من زاد:" إعادة الشيء لفائدة".(2)
والمصدر القياسي للفعل كرر: التكرير، والتكرار مصدر سماعي، أو بناء على وزن تَفعال يراد به التكثير والمبالغة من الفعل كرّ (3)، وقد فرّق عدد من العلماء بين اللفظين، ومال عدد آخر إلى عدم التفريق بينهما - وهو الذي سأسير عليه في هذا البحث - قال التهانوي:" التكرير هو ذكر الشيء مرة فصاعدا بعد أخرى، وكذا التكرار".(4)
ويجد من يطالع في كلام أهل العلم تباينا في توسيع مدلول التكرار أو حصره، ويمكن القول إن الاتجاه الأكثر يميل إلى توسيع مدلول التكرار ليدخل فيه تكرار اللفظ أو معناه، لفائدة أو لغير فائدة، ويدخل فيه تكرار اللفظ والجملة والنص، وهذا ابن رشيق يقسم التكرير إلى ثلاثة أنواع:
- ما تكرر لفظه ومعناه متحد.
- ما تكرر لفظه ومعناه مختلف.
- ما تكرر معناه دون لفظه.(5) وتبعه في هذا التقسيم عدد من العلماء(6)
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة:كرر. و الجرجاني، الشريف علي بن محمد، التعريفات،41. والفيروزأبادي، القاموس المحيط، مادة: كرر.
(2) الطيبي، حسين بن محمد، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان، 360.
(3) خلف الجرادات، ظاهرة التكرير في التراكيب النحوية، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، الأردن، 21.
(4) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، 3/1237.
(5) ابن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر، 2/72.
(6) ضياء الدين ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، 2/344و345
ابن قيم الجوزية، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن، 111و112.
الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3/10.
مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، 193.(12/56)
.
وذهب عدد من العلماء إلى أن التكرار ستة أنواع هي:
1 - تكرار مفيد يوجد في اللفظ والمعنى، يدل على معنى واحد، والمقصود به غرضان مختلفان.
2 - تكرار مفيد يوجد في اللفظ والمعنى، يدل على معنى واحد، والمقصود به غرض واحد.
3 - تكرار مفيد يوجد في المعنى دون اللفظ، يدل على معنيين مختلفين.
4 - تكرار مفيد يوجد في المعنى دون اللفظ، يدل على معنى واحد فقط.
5 - تكرار غير مفيد، يوجد في اللفظ والمعنى.
6 - تكرار غير مفيد، يوجد في المعنى دون اللفظ.(1)
ويمكن القول إن هذا هو المعنى الواسع أو العام للتكرار، ويشمل: الترادف، والتماثل، والتشابه، والإطناب، والتوكيد، وعليه فلا يعد التكرار معيبا إلا إذا كان لغير فائدة، وذكر الذاهبون إلى هذا الرأي فوائد التكرار وأسبابه والدوافع إليه، وأهميته لتحسين الكلام وتوضيح المقصود.(2)
__________
(1) العلوي، يحيى بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، 2/177-190، مطبعة المقتطف بمصر، 1914.
ابن الأثير، المثل السائر، 3/3 -40.
ابن عابدين، التقرير في التكرير، 26-28 و36.
د. محمود السيد شيخون، أسرار التكرار في لغة القرآن، 9 و10،مكتبة الكليات الأزهرية بمصر.
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن،3/11-33.
د. محمود السيد شيخون، أسرار التكرار في لغة القرآن،21-30.
د. عز الدين السيد، التكرير بين المثير والتأثير، 117-197، عالم الكتب، ط 2، 1986.(12/57)
أما الاتجاه الآخر فيميل إلى تضييق معنى التكرار وحصره في إعادة اللفظ نفسه في سياق واحد، فإذا لم يكن المعاد اللفظ نفسه،أو أعيد اللفظ أكثر من مرة ولكن لكل موضع سياقه الخاص ومعناه الخاص، فلا يكون ذلك تكرارا،(1) وعليه يكون التكرار في الكلام معيبا غير مقبول، ولا يدخل فيه التوكيد ولا تشابه الألفاظ وتماثلها، وإن أعيد اللفظ في سياق آخر فليس من التكرار في شيء، وقد قال بهذا الرأي أو مال إليه عدد من العلماء، فهذا الطبري ينفي التكرار في الآيات المتقاربة أو المتتابعة بقوله:" وغير موجود في شيء من كتاب الله آيتان متجاورتان مكررتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما، وإنما يأتي بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فصول تفصل بين ذلك، وكلام يعترض به بغير معنى الآيات المكررات، أو غير ألفاظها"،(2) وأكّد سيد قطب نفي التكرار في القرآن بقوله:" ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني، لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في صور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة، من ناحية الغرض الذي تساق القصة من أجله، وطريقة الأداء في السياق، وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه، ينفي حقيقة التكرار".(3) وتابعه محمد قطب - شقيقه - فقال:" إن التنويع لا التكرار هو الظاهرة الحقيقية في القرآن، وإنه لمن إعجاز هذا الكتاب أن يعرض الموضوعات التي يكرر ذكرها للتذكير والتربية
__________
(1) د. فضل حسن عباس، قضية التكرار في كتاب الله وصلتها بالإعجاز، 5، منشور في مجلة كلية الشريعة، جامعة الكويت، العدد7، 1987، وانظر: خلف الجرادات، ظاهرة التكرير في التراكيب النحوية، 71.
(2) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1/64، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط 3، 1968.
(3) سيد قطب، في ظلال القرآن، 1/64، دار إحياء التراث العربي ببيروت، ط 7، 1971.(12/58)
والتوجيه، بهذا القدر المعجز من التنويع بحيث لا تتكرر صورتان متماثلتان أبدا في القرآن كله، على كثرة المواضع التي يرد فيها كل موضوع".(1)
وبعد عرض هذين الرأيين أنتقل إلى النظر في عبارات النورسي حول التكرار، حيث يظهر أن النورسي كان يرجح القول الأول، فهو يتحدث عن التكرار في القرآن على أنه أحد وجوه إعجازه،(2) وأنه موجود في آيات العقيدة، والترغيب والترهيب، والقصص، كما تعرض لبيان الحكمة من وجوده في القرآن(3)، وإن كان قد علّق أكثر من مرة بعد حديثه عن التكرار بقوله:" فعلى هذا لا تكرار إلا في الصورة"(4)، وقوله:" هذا بناء على تسليم التكرار"(5)، ويظهر هذا التذييل ميل النورسي إلى القول بالرأي الثاني أحيانا، إلا أن غالب كلامه يصب في تأكيد اقتناعه بالقول الأول، وأنه يرى وجود التكرار في القرآن، وقد بيّن في أكثر من موضع في رسائله الحكمة من التكرار في القرآن، وهو ما سيتم بيانه في المبحث التالي بإذن الله.
المبحث الثاني
حكمة التكرار في القرآن
ذكر النورسي رأيه في الحكمة من وجود التكرار في القرآن الكريم، وكان أحيانا يذكر عدة نقاط متتالية، ويذكر بعضها أحيانا اخرى، وقد يتداخل كلامه في بعض المواضع، وفي هذا المبحث سأعرض لرأيه في الحكمة من التكرار في القرآن، وقد رأيت أن أتبع كل نقطة منها بالتوضيح والتعليق والتأكيد مباشرة، مع المحافظة على تسميته لها بالنقاط(6)، واجتهادي في اختيار عناوينها.
النقطة الأولى: التقرير والتوكيد
__________
(1) محمد قطب، دراسات قرآنية، 261، دار الشروق، ط 2، 1980.
(2) الكلمات/528، والشعاعات/305.
(3) اللمعات/114 و119 و420، والمكتوبات/267 و268، وغيرها.
(4) الكلمات/268، والمثنوي/71.
(5) إشارات الإعجاز/39.
(6) المثنوي العربي النوري/70.(12/59)
يرى النورسي أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي يحتوي على الذكر والدعاء والدعوة، وتحتاج هذه الأمور إلى أن تكرر لتؤكد وتقرر، قال:" اعلم أن القرآن لأنه كتاب ذكر وكتاب دعاء وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنه القاصرون، إذ الذكر يكرّر، والدعاء يردّد، والدعوة تؤكّد، إذ في تكرير الذكر تنوير، وفي ترديد الدعاء تقرير، وفي تكرار الدعوة تأكيد".(1)
وقال:" إن التكرير للمسائل الإيمانية بأساليب شتى له حكم كثيرة كالتقرير والإقناع والتحقيق".(2)
وقال:" وقد جاء مكررا ليقرر، ومرددا ليحقق قصصا وأحكاما، مع أنه لا يمل تكراره، ولا يزيل عودُه ذوقَه، ولا يُسأم ترداده، كلما كرر حقق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوح أنفاس الرحمن منه - إن المسك ما كررته يتضوع - وكلما استعدته استلذته، إن كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم، والسر فيه أنه قوت و غذاء للقلوب، وقوة وشفاء للأرواح، والقوت لا يمل تكراره، فمألوفه آنس وألذ، خلاف التفكه الذي لذته في تجدده، وسآمته في تكرره".(3)
وقال:" ومن هذا السر أيضا الترداد للتثبيت، والتكرير للتقرير في القرآن الحكيم".(4)
هذه العبارات المتعددة تبين أن النورسي يرى أن التقرير والتأكيد هي الحكمة الأولى من حكم التكرار في القرآن الكريم، وقد ذهب إلى ذلك كثيرون، قال ابن عابدين:" واعلم أن المفيد من التكرير يأتي في الكلام تأكيدا له وتشييدا من أمره، وإنما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك"(5)، وقال:" وقد قلنا إن التكرير إنما يأتي لما أهمّ من الأمر الذي بصرف العناية إليه يثبت ويتقرر".(6)
__________
(1) الكلمات/265، والمكتوبات/267، والمثنوي/70.
(2) اللمعات/42.
(3) المثنوي/230.
(4) المثنوي/322.
(5) ابن عابدين، محمد أبو الخير، التقرير في التكرير، 27 و28.
(6) ابن عابدين، التقرير في التكرير، 33.(12/60)
وقال الزركشي:" القسم الرابع عشر: التكرار على وجه التأكيد… وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ظنا أنه لا فائدة له، وليس كذلك بل هو من محاسنها، ولا سيما إذا تعلق بعضه ببعض، وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيدا".(1)
وعبارات العلماء في هذا كثيرة(2)، وفي كتب التفسير نجد عبارات مشابهة، ففي تفسير قوله تعالى: (لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً ) قال القرطبي:" كرر للتأكيد"(3)، وقال في تفسير: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ):" وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى"(4)، وقال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا):" والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي طريقا، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر: وهند أتى من دونها النأي والبعد".(5)
فهذه النقطة الأولى تكاد تكون موضع إجماع، ولذا قدّمها النورسي، والواقعُ وكلام السادة العلماء يشهد لهذا.
النقطة الثانية: التيسير على قارئي القرآن
__________
(1) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3/8 و9.
(2) أورد كثيرا منها: خلف الجرادات في: ظاهرة التكرير في التراكيب النحوية، 63-88.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 4/286، والجملة المفسرة من الآية177/آل عمران.
(4) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،2/177، والجملة المفسرة من الآية 157/البقرة.
(5) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، 3/502، والجملة المفسرة من الآية 48/المائدة.(12/61)
" واعلم أنه لا يمكن لكل أحد في كل وقت قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحد في كل وقت، فلهذا أدرج الحكيم الرحيم أكثر المقاصد القرآنية في أكثر السور، لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كل سورة قرآنا صغيرا، فسهل السبيل لكل أحد دون أن يحرم أحدا، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام".(1)
وقال:" لأن كثيرين لا يستطيعون قراءة كل القرآن، فيكون في بعض ما يقرأون ما يغني عن الباقي لتكراره".(2)
وقد أشار إلى هذه الحكمة عدد من العلماء، منهم ابن قتيبة إذ قال:" كانت وفود العرب ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للإسلام، فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم، وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، وقصة لوط إلى قوم، فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، ويلقيها في كل سمع، ويثبتها في كل قلب…".(3)
ومع أن ما كرر من آيات القرآن الكريم وموضوعاته لم يكن بالألفاظ نفسها، وفي كل مرة إضافة جديدة أو تبيين لقضية - وسيأتي كلام النورسي في هذا - إلا أن عامة قارئي القرآن لا تعنيهم هذه النكات والدقائق كثيرا، فحسبهم الإلمام بأصل المسألة وتكوين فكرة يسيرة عن الموضوع، ولذا كان لهم في دراسة بعض سور القرآن الكريم ما يكفيهم ويسد حاجتهم، فلم يحرموا من فهم مقاصد القرآن العامة، وموضوعاته الرئيسة.
__________
(1) الكلمات/265، والمكتوبات/268، وفي المثنوي/70 حتى " فسهل السبيل لكل أحد"
(2) الكلمات/536، والشعاعات/313.
(3) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، بتحقيق السيد أحمد صقر، 181.(12/62)
أما تعبير النورسي بِـ " قرآنا صغيرا" فقد يعترض عليه بما روي عن بعض السلف من كراهة وصف السورة بأنها صغيرة، فعن أبي العالية أنه قال لرجل سمعه يصف سورة بأنها صغيرة:" أنت أصغر منها، وأما القرآن فكله عظيم"(1)، وقد ورد عن بعضهم وصف السورة بأنها صغيرة، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:" ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة"(2)، ولا يخفى أن مقصود النورسي بهذا التعبير تقريب الصورة للقارئ، وتمثيل سور القرآن الكريم الطوال بأن كل واحدة تقوم مقام القرآن كله لاحتوائها غالبا على أكثر مقاصده.
النقطة الثالثة: مراعاة تكرر الحاجات
" اعلم أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفة في الأوقات، كذلك الحاجات المعنوية الإنسانية أيضا مختلفة الأوقات، فإلى قسم في كل آن كـ "هو، الله" للروح- كحاجة الجسم إلى الهواء- وإلى قسم في كل ساعة كـ "بسم الله" وهكذا فقس.
فتكرار الآيات والكلمات إذن للدلالة على تكرر الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج إلى تلك الأغذية المعنوية".(3)
__________
(1) القرطبي، التذكار في أفضل الأذكار، تحقيق: ثروت محمد نافع، 121، دار التوحيد، والقرطبي ينقله عن مكي.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى التخفيف فيها، رقم الحديث 814، و رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، رقم الحديث 13359، 12/365، تحقيق: حمدي السلفي.
(3) المكتوبات/268، والكلمات/265، وانظر المثنوي/71 و230.(12/63)
أجاد النورسي في الدخول إلى هذه النقطة حين بدأ بقياس حاجات الإنسان المعنوية في تنوعها على تنوع حاجاته الجسمية، فالروح تحتاج إلى الغذاء، وغذاؤها في ذكر الله، وحاجتها إليه قوية جدا، وكلما زاد مقدار الغذاء للروح بذكر الله ارتقى الإنسان وانتفع، ولذا وجد في القرآن الكريم تكرار ذكر اسم الله تعالى وصفاته.
ويستلزم تكرر حاجات الناس إلى تبيين أمورهم والإجابة على أسئلتهم، تكرر الإرشاد والتوضيح، كما يقتضي نسيان الإنسان للأساسيات والمهمات أن يذكر بها دائما وأن يلفت نظره إليها، ولذا كان تكرير التصوير لما سيحدث للكون من دمار، وتبيين مظاهر عظمة الله وسيطرته على هذا الكون، وعظيم غضبه على الكافرين والظالمين(1)، ومع هذا التذكير والتكرار ينسى كثير من الناس أمر الآخرة، ويركنون إلى الدنيا، فالحاجة إلى التذكير قائمة: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) (الكهف:54)
النقطة الرابعة: تثبيت الأسس
" اعلم أن القرآن مؤسس لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الإسلامي، ومقلب لاجتماعيات البشر ومحولها ومبدلها، وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال… ولا بد للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد".(2)
__________
(1) ينظر: الكلمات/529 و534 و535، والشعاعات/306 و312.
(2) المكتوبات/268، والكلمات/265، والمثنوي/71.(12/64)
يمكن جعل هذه النقطة فرعا عن النقطة الأولى، فإن تثبيت الأسس يندرج ضمن التقرير والتأكيد، إلا أن النورسي رغب في إفراده بنقطة خاصة للتأكيد على أهمية الأسس والاعتناء بها وحاجتها إلى أن تكرر لتثبت في النفوس، وبيّن في هذه النقطة أن القرآن الكريم هو أساس هذا الدين، ويعني هذا أنه أساس للعالم الإسلامي، الذي يستمد عقيدته ومنهجه من القرآن، ولولاه لما كان، كما أن القرآن الكريم منذ أنزل هو مقلب لاجتماعيات البشر، وكم تغيرت من قلوب فآمنت بعد سماعها آيات من كلام الله، وكم انقلبت مجتمعات كانت غارقة في ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والهداية بسبب تأثير آيات هذا الكتاب العظيم فيها، ولأن القرآن أساس هذا الدين فيه الإجابة على جميع أسئلة البشر الحائرين التائهين الذين يتساءلون: لماذا خُلقنا ؟ ومن خَلقنا؟ وما مهمتنا؟ وماذا بعد الموت؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها تولى القرآن الإجابة عنها بتفصيل وإبانة في غاية الوضوح، ولذا فلا جرم أن تكرر المعاني العظيمة التي فيه، والأسس التي احتوى عليها.
النقطة الخامسة: تنوع الأساليب
"اعلم أن القرآن يبحث في مسائل عظيمة ويدعو القلوب إلى الإيمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول إلى معرفتها، فلا بدّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة".(1)
ذكر العلماء من فوائد التكرار أمورا كثيرة يمكن أن تندرج ضمن هذه النقطة مثل: التعظيم والتهويل، والوعيد والتهديد، والتنويه والإشادة، والتشويق والتأنيس، والتوبيخ والتعجب، والتهكم والازدراء، والتفخيم والتعظيم، والمبالغة والتحريض(2)
__________
(1) الكلمات/265، والمكتوبات/268، والمثنوي/71.
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3/17 و18.
د. محمود السيد شيخون، أسرار التكرار في لغة القرآن، 21-31.
د. عز الدين السيد، التكرير بين المثير والتأثير، 121-132.(12/65)
، وكلها أساليب متنوعة ترمي إلى تحسين الكلام، كما يتميز أسلوب القرآن الكريم بالتنوع في العرض، ويمكن أن يمثل لهذا بالقصص القرآني، والآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر وإثباته، وهي من الأمور التي يدعو القرآن إلى تقريرها وتثبيتها في القلوب، ولذا كان عرضها بأساليب متعددة وصور متنوعة، ليكون لهذا التنويع أثره العظيم في النفوس.
النقطة السادسة: تعدد مقاصد القرآن وفوائده
" اعلم أن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا(1)، ولكل قصة وجوها و أحكاما وفوائد ومقاصد، فتذكر في موضع لوجه، وفي آخر لأخرى، وفي سورة لمقصد، وفي أخرى لآخر، وهكذا، فعلى هذا لا تكرار إلا في الصورة ".(2)
__________
(1) ورد في هامش الكلمات/451، والملاحق/60: ان هذه العبارة جزء من حديث:" أنزل القرآن على سبعة أحرف " في رواية عند
الطبراني بنص:" لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" باختصار عن كشف الخفاء1/209أ.هـ.
قلت: في المعجم الكبير للطبراني:"ولكل آية منها ظهر وبطن" حديث رقم 10107، 10/130، وفي المعجم الأوسط مثله، رقم الحديث777، 1/433، وضعّف المحدث أحمد محمد شاكر رواية الطبري لهذا الحديث "تفسير الطبري، جامع البيان 1/22".
(2) الكلمات/265 و266، والمكتوبات/268، والمثنوي/71.(12/66)
هذه الجملة القيمة من كلام النورسي توضح أن ما ورد في القرآن الكريم من موضوعات وقصص في أكثر المواضع إنما هي بسياق قريب من سياق الموضع الآخر، ولا يمكن أن يتشابه الموضعان تشابها تاما، ويمكن أن يمثل لهذا بكثير من الأمثلة، منها الآيات التي تبين أحداث اليوم الآخر، فإنها مع اتحاد ما تتحدث عنه، تعرضه كل مرة بأسلوب مغاير وألفاظ مختلفة، فالآيات التي تبين ما سيحصل للجبال في ذلك اليوم تقول: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا) ، (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ )، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) ، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) ، (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) ، (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) ، (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) ، (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ )، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ، وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)(1)، فهذه الآيات ذات الموضوع الواحد تتحدث عنه من أكثر من زاوية، وتبين كل واحدة منها جزءا من أحداث ذلك اليوم، وتتكامل الصورة بالجمع بينها، فليست أي منها تكرارا عن غيرها، قال الرازي:
__________
(1) مواضع الآيات الكريمة على التوالي: المعارج/9، المزمل/14، المرسلات/10، طه/105، الكهف/47، الطور/10، الواقعة/5، الحاقة/14، النبأ/20، التكوير/3، القارعة/5، النمل/88.(12/67)
" اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة، ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله، وهو أن أول أحوالها الاندكاك … والحالة الثانية لها أن تصير كالعهن المنفوش … والحالة الثالثة أن تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن…والحالة الرابعة أن تنسف لأنها في الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف بإرسال الرياح عليها… والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساما جامدة وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها صيرها منكدة متفتتة، وهي قوله: (تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ )، ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره فقال: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) الحالة السادسة أن تصير سرابا بمعنى لا شيء، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا، كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئا ".(1)
ومما يندرج في هذه النقطة آية: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) " فإنها وإن تعددت، فكل واحد منها متعلق بما قبله، وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الجن والإنس، وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم، فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواع مختلفة وصور شتى "(2)، ومنها آيات القصص، وسيأتي تفصيل الحديث عنهما في المبحث التالي بإذن الله.
ويلاحظ ما في عبارة النورسي: " فتذكر في موضع لوجه، وفي آخر لأخرى، وفي سورة لمقصد، وفي أخرى لآخر " من بلاغة في الإيجاز بالقصر.
المبحث الثالث
المواضع التي بيّن النورسي حكمة التكرار فيها
__________
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير، 31/11 و12.
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3/18.(12/68)
بعد أن تحدث النورسي عن حكم التكرار في القرآن الكريم من خلال نقاط متعددة، وكلام عام لم يتعرض فيه للجزئيات مكتفيا بإرساء القاعدة، خاصة أن طبيعة رسائله لا تقتضي منه استقصاء الآيات والجمل التي تكررت في كتاب الله، ولذا فإن المواضع التي بيّن النورسي فيها حكمة التكرار قليلة، محصورة في حديثه عن الحكمة من تكرار البسملة، وآية (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) وآية (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )، وآية(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) وقصص الأنبياء.
وقبل أن أنتقل إلى تفصيل الحديث عنها رأيت أن أثبت هنا عبارة لطيفة للنورسي حول التكرار في هذه الآيات وفي القصص، قال:
(إن قلت: إن في القرآن الموجز المعجز أشياء مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و(فبأي آلاء) الخ.. و(ويل يومئذ) الخ.. وقصة موسى وأمثالها، مع أن التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.
قيل لك: "مَا كُلُّ مَا يَتَلأْلأُ يُحْرِقُ" فان التكرار قد يُمِلُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسن وقد يُسأم. فكمَا أن في غذاء الإنسان ما هو قُوت كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكّه إن تكرر مُلَّ وإن تجدد اُستُلِذّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للأفكار وغذاء للأرواح كلما استعيد اُستحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكه، لذتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.
إذا عرفت هذا فاعلم! انه كما أن القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لا يُمَلُّ على التكرار بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ وفارت أشعة الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعض ماهو أسّ الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسدٍ سرمدي كـ (بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم). فيا هذا شاور مذاقك إن كنت ذا مذاق!..(12/69)
هذا بناء على تسليم التكرار، وإلاّ فيجوز أن تكون قصة موسى مثلا مذكورة في كل مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي عليها. فان قصة موسى أجدى من تفاريق العصا (1) أخذَها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهباً، فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبلاغته".(2)
وفيما يلي تفصيل كلامه عن التكرار في هذه الآيات:
1 - البسملة: سبق في النقطة الثالثة تمثيل النورسي بالبسملة أثناء حديثه عن تكرر الحاجات المستلزم لتكرار الآيات، وفي الجملة السابقة عبارة تتعلق بالبسملة تبين أن تكرارها يرجع إلى كونها تمثل" أس الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسد سرمدي"، وبعد هذه العبارة بأسطر قليلة توضيح لها في قوله: "وكذا في البسملة جهات من الاستعانة والتبرك والموضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن… وأيضا فيها مقامات: كمقام التوحيد، ومقام التنزيه، ومقام الثناء، ومقام الجلال والجمال، ومقام الإحسان، وغيرها… وأيضا فيها أحكام ضمنية: كالإشارة إلى التوحيد والنبوة والحشر والعدل، أعني المقاصد الأربعة المشهورة، مع أن في أكثر السور يكون المقصود بالذات واحدا منها والباقي استطراديا، فلم لا يجوز أن يكون لجهة أو حكم أو مقام منها مناسبة مخصوصة لروح السورة، وتكون موضوعا للمقام بل فهرستة إجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات".(3)
__________
(1) انك خير من تفاريق العصا، مثل يضرب فيمن نفعه أعمّ من نفع غيره (مجمع الامثال للميدانى).
(2) إشارات الإعجاز/39.
(3) إشارات الإعجاز/39 و40.(12/70)
وفي موضع آخر قال عن البسملة:" إن جملة "بسم الله الرحمن الرحيم" هي آية واحدة تتكرر مئة وأربع عشرة مرة في القرآن الكريم، وذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نورا وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق - كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة - فما من أحد إلا وهو بحاجة مسيسة إلى هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات فالحاجة ما زالت قائمة باقية لا ترتوي، إذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي أيضا كالهواء والضياء الذي يضطر إليه ويشتاق كل دقيقة ".(1)
__________
(1) الكلمات/529.(12/71)
يظهر من هذه العبارات أن النورسي يرى البسملة جملة عظيمة المحتوى، غزيرة المعاني، يمكن للمتأمل فيها استنباط مقامات وأحكام ومقاصد كثيرة، فالحاجة إليها ماسة وقائمة مهما تكررت، كما يمكن أن يقال: إن للبسملة في بداية كل سورة معنى يخص هذه السورة وموضوعها، وهذا الكلام اللطيف الذي قاله النورسي قام كل من البقاعي وطنطاوي جوهري بتطبيقه، فإنهما قبل الشروع في تفسير السورة يفسران البسملة بما يلائم تلك السورة، ففي أول سورة الدخان قال البقاعي:" مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم الحكيم من الخير والبركة، رحمة جعلها بين عامة خلقه مشتركة وعلى ذلك دل اسمها الدخان إذا تؤملت آياته، وإفصاح ما فيها وإشاراته، "بسم الله" الملك الجبار الواحد القهار "الرحمن" الذي عمّ بنعمة النذارة "الرحيم" الذي خص أهل وداده برحمة البشارة "(1)، وقال في أول سورة طه: " "بسم" الواسع الحلم التام القدرة "الله" الملك الأعظم "الرحمن" الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه "الرحيم" الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه "(2)، ويفسر طنطاوي جوهري البسملة في كل سورة بما يناسب موضوعها وقد يطيل في ذلك صفحات(3)، وبهذا يظهر التلاؤم والانسجام بين كلام النورسي العام هنا، وتطبيقاته على سور القرآن الكريم المتعددة عند البقاعي وطنطاوي جوهري، ولعل غيرهما سلك هذا المسلك أيضا.
__________
(1) البقاعي، إبراهيم بن عمر، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 7/62، دار الكتب العلمية، بيروت.
(2) البقاعي، نظم الدرر، 5/4.
(3) طنطاوي جوهري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، 17/4-9، 18/144-150، 25/3-6، المكتبة الإسلامية بمصر.(12/72)
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أن البسملة في أوائل السور سوى الفاتحة ليست آية منها على الراجح، وإثباتها للفصل بين السور، أما سورة الفاتحة فالبسملة هي الآية الأولى منها حسب العدد الكوفي والمكي، وليست آية منها - كما في سائر السور - عند بقية علماء العدد(1)، ولا خلاف في أنها بعض الآية 30 في سورة النمل، فوجود البسملة في أوائل السور له أهمية كبرى للإعلام بابتداء السور، والحديث عن تكرارها باعتبار وجودها في المصحف.
2 - قوله تعالى:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(2)
" وإن الآية الكريمة" وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "تتكرر ثماني مرات في سورة الشعراء، فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على ألوف الحقائق في سورة تذكر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب أقوامهم، إنما هو لبيان:
أن مظالم أقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض إلى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذاب تلك الأقوام الظالمة، مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام، فلو تكررت هذه الآية ألوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق إليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات أعجاز وإيجاز".(3)
__________
(1) أبو عمرو الداني، البيان في عدّ آي القرآن، تحقيق د. غانم قدوري الحمد، 50-57 و139، مركز المخطوطات والوثائق بالكويت، ط 1، 1994.
(2) الشعراء/9 و68 و104 و122 و140 و159 و175 و191.
(3) الكلمات/529، والشعاعات/307.(12/73)
يلاحظ أن النورسي اقتصر في حديثه على هذه الآية مع أن الآية التي قبلها( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ) تكررت معها في مواضعها الثمانية، ويؤكد النورسي على أهمية إعادة هذه الجملة تعقيبا على كل قصة من قصص الأنبياء المذكورة في السورة، لشناعة فعل التكذيب من أقوامهم، ولعل في سورة الشعراء إشارة أخرى إلى شناعة ما فعله أولئك الأقوام حين نسب الله تعالى إلى كل قوم منهم تكذيب المرسلين(1) مع أنهم إنما كذّبوا رسولهم، ولكنها الفعلة الشنيعة العظيمة التي استحقوا معها أن ينسب إليهم تكذيب جميع المرسلين.
وقد أشار إلى أهمية هذا التذييل لقصص سورة الشعراء عدد من المفسرين كالزمخشري إذ قال:" كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وتثبيتا لها في الصدور … ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ"(2)، وقال ابن عاشور:" ختم كل استدلال جيء به على المشركين المكذبين بتذييل واحد هو قوله:"إن في ذلك لآية.." تسجيلا عليهم بأن آيات الوحدانية وصدق الرسل عديدة كافية لمن يتطلب الحق، ولكن أكثر المشركين لا يؤمنون، وأن الله عزيز قادر على أن ينزل بهم العذاب، وأنه رحيم برسله فناصرهم على أعدائهم".(3)
3- قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).(4)
__________
(1) كما في قوله تعالى:"كذبت قوم نوح المرسلين" الآية 105، وتنظر الآيات 123، و141، و160، و176.
(2) الزمخشري، الكشاف، 3/126.
(3) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 19/90.
(4) وردت هذه الآية في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.(12/74)
4- قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ).(1)
تحدث النورسي عن هاتين الآيتين معا، فقال:
" وكذلك الآية الكريمة: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) المكررة في سورة الرحمن، والآية الكريمة: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) المكررة في سورة المرسلات تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن إعلانا صريحا في أقطار السماوات والأرض أن كفر الجن والإنس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات، ويجعل الأرض والسماوات في حنق وغيظ عليهم … ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه، ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الألوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من أمثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا ألوف المرات في خطاب عام موجه إلى الجن والإنس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة إليها ما زالت موجودة باقية، فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة، ومعجزة جميلة".(2)
وتحدث عن الآية الأولى منهما في موضع آخر فقال:" اعلم أن تكرار آية: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في مقاطع الآيات التنزيلية المشيرة إلى الآيات التكوينية المختلفة في سورة الرحمن يدل على أن أكثر عصيان الجن والإنس وأشد طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من عدم رؤية الإنعام في النعمة، والغفلة عن المنعم، وإسناد النعم إلى الأسباب والتصادفات، حتى يصيرا مكذبين بآلاء الله، فلا بد للمؤمن من أن يبسمل بدء كل نعمة قاصدا أنها منه أنا آخذها باسمه وبحسابه، لا بحساب الوسائط، فله الشكر والمنة".(3)
__________
(1) وردت هذه الآية في سورة المرسلات 10 مرات.
(2) الكلمات/529 و530، والشعاعات/307.
(3) المثنوي العربي/189.(12/75)
تتميز سورة الرحمن بورود قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) بعد كل آية من آياتها بدءا من الآية 13، أو بعد آيتين لاتصال معناهما، وهي الآيات: "14و15"، و"19و20"،و"26و27"، و"43و44"، و ورود هذه الآية بعد آيات النعم ظاهر، وكلام النورسي في تعليله واضح، كما بين النورسي الحكمة من ورودها بعد آيات العذاب أو التهديد، ولعدد من المفسرين عبارات أخرى، فهذا البقاعي يقول:" وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جدا بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد، حسن سرد ما أنكره عليه، وكلما ذكر بفرد منه قيل له: لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير، أو استمر على العناد، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيها على جلالتها، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح، وإن كانت نقمة فالنعمة دفعها أو تأخير الإيقاع بها ".(1)
__________
(1) البقاعي، نظم الدرر، 7/378.(12/76)
وقال القاسمي:" فإن قيل كيف يكون قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) نعمة؟ وقوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) نعمة؟ وكذلك قوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) وقوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ ) وقوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ؟(1) قلنا: هذه كلها نعم جسام لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ليخرجوا من حيّز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان، إلى حيّز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان، فإن من حذر من طرق الردى، وبيّن ما فيها من الأذى، وحث على طرق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة، كان منعما عليه غاية الإنعام، ومحسنا غاية الإحسان".(2)
وذهب الألوسي إلى تفسير كل آية منها بما يناسب ما قبلها، فبعد:(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قال:" مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته"، وبعد:" (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ.فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قال:" التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما سيؤدي إلى سوء الحساب"، وبعد: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(3) قال:"فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أي لطف، ونعمة أي نعمة".(4)
__________
(1) أرقام الآيات في سورة الرحمن على الترتيب: 31، 41، 43، 35، 44.
(2) القاسمي، محمد جمال الدين، محاسن التأويل، 1/160.
(3) الآيات من سورة الرحمن وأرقامها على الترتيب 17و18 / 31و32 / 37و38.
(4) الألوسي، روح المعاني، 27/105و 112 و114.(12/77)
وحول الحكمة من عدد مرات ورود هذه الآية، قال الكرماني:" كرر الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في صرفها ودفعها نعما توازي النعم المذكورة، أو لأنها حلت بالأعداء، وذلك يعد أكبر النعماء، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة، والله تعالى أعلم".(1)
أما قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) في سورة المرسلات فقد كان يأتي كل مرة عقب قصة، فكأنه سبحانه قال: ويل للمكذبين بهذه القصة، وكل قصة مخالفة لصاحبتها، فأثبت الويل لمن كذب بها.(2)
__________
(1) الكرماني، محمود بن حمزة، أسرار التكرار في القرآن، وطبع باسم البرهان، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، 198، دار الاعتصام، وفي تفسير النسفي 4/214 قريب منه، وذكر غيرهما وجوها أخرى انظر البرهان للزركشي 3/19، ودرة التنزيل للخطيب الاسكافي.
(2) الزركشي، البرهان، 3/19، والسيوطي، الإتقان، 3/226.(12/78)
ولتعليل ورود هذه الآية بعد ذكر جزاء المتقين، قال الفخر الرازي:" اعلم أن هذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم، وذلك لأن الخصومة الشديدة، والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين، فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة، فلما بين الله تعالى في السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن، حتى إن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران، ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة، تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني، فلهذا قال في هذه الآية: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)".(1)
وبهذا يظهر ما في عبارات النورسي من روعة ودقة، وفهم عميق دقيق لهذه الآيات الكريمة، فإن تكرار هاتين الآيتين الكريمتين يعلن ما في الكفر والتكذيب بنعم الله من ظلم عظيم، وجحود بالغ، ومع هذا التذكير والتبيين يعرض معظم الخلق عن الحق، ولا يتذكرون نعم الله عليهم، فما أحراهم بالتوعد على هذا بالويل مرة بعد مرة.
5 - قصص الأنبياء: تحدث النورسي عن الحكمة من تكرار قصص الأنبياء بإيجاز حيث قال:
" ومن المكررات القرآنية - قصص الأنبياء - عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام - مثلا - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء إنما هي لإثبات الرسالة الأحمدية، وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة الأحمدية وصدقها، حيث لا يمكن أن ينكرها إلا من ينكر نبوتهم جميعا، فذكرها إذن دليل على الرسالة.
__________
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير، 30/248.(12/79)
ثم إن كثيرا من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما تيسر لهم منه، ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار أركان الإيمان الضرورية، أي إن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة، وليس فيه إسراف قط، زد على ذلك فإن فيه تعليما بأن حادثة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم أعظم حادثة للبشرية، وأجل مسألة من مسائل الكون".(1)
ذكر النورسي هنا حكمتين لتكرير قصص الأنبياء:
الأولى:إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يلزم من إثبات نبوتهم إثبات نبوته، وفيه رد على اليهود والنصارى الذين يثبتون نبوة أنبيائهم وينفون نبوة رسولنا، كما يلزم من نفي نبوة نبينا نفي نبوة إخوانه السابقين، وهو رد آخر على أهل الكتاب، والتلازم بين نبوة الأنبياء جميعا ظاهر، فهم أصحاب دعوة واحدة، ولتأكيد هذا المعنى كان تكرار قصصهم في القرآن.
الثانية: ان كثيرا من الناس لا يمكنهم قراءة القرآن كله، فمن اطلع على بعضه وجد في هذا البعض شيئا من قصص الأنبياء، وقد سبق ذكر هذه النقطة ضمن حديث النورسي عن الحكمة من التكرار، كما سبق إثبات كلام ابن قتيبة وهو قريب مما قاله النورسي هنا.
هذا وقد ذكر العلماء حكما أخرى لتكرار القصص في القرآن منها:
__________
(1) الكلمات/535 و536، والشعاعات/313.(12/80)
1 - ان القصة حين تذكر في أكثر من موضع، يذكر فيها شيء لم يذكر في المرة الأولى، ففي كل مرة فائدة، وفي كل موضع زيادة، وهذا ظاهر جدا، ويمكن لمن يتأمل في قصص الأنبياء أن يرى الاختلاف واضحا بين مواضع القصة الواحدة، فهذه قصة آدم عليه السلام ذكرت في سور متعددة(1)، وليس بين هذه المواضع كلها أي تكرار بل تكامل وتشابه، ويمكن كذلك المقارنة بين قصة نوح عليه السلام في سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، ونوح، والعنكبوت، والقمر، والصافات ليظهر بوضوح الفرق بينها، أما قصة موسى عليه السلام - وهي أكثر قصص الأنبياء ورودا في القرآن الكريم - فلا يوجد بين أي موضعين من مواضع ذكرها أي تكرار إنما هو التنويع في طريقة عرضها بما يناسب جو السورة التي تذكر فيها.(2)
2 - تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3 - إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة فيه ما لا يخفى من الفصاحة.
4- لا تتوافر الدواعي على نقل القصص كتوفرها على نقل الأحكام، فلذا كررت القصص دون الأحكام.
5 - الإعلام بعجز المتحدَّين عن الإتيان بمثل القرآن، بأي نظم جاؤوا، وبأي عبارة عبروا، فقد عجزوا عن الإتيان بمثله مبتدأ ومكررا.
6 - ليجتمع في القرآن ما يوافق الكتب السابقة من سرد القصة كلها في موضع واحد، -وذلك في قصة يوسف- وما يخالفها من تفريق القصة في مواضع متعددة.
__________
(1) هي: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، وطه، وص.
(2) انظر في القصص القرآني والتنويع فيه:
ابن عابدين، التقرير في التكرير، 44.
محمد قطب، دراسات قرآنية، 248-256، دار الشروق،ط 2، 1980.
د. القصبي محمود زلط، قضايا التكرار في القصص القرآني ، دار الأنصار بمصر، ط 1، 1978.
د. فضل حسن عباس، القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته، 22-27، دار الفرقان بالأردن، ط 1، 1987.(12/81)
7- لدفع ما قد يقوله من قيل لهم "فأتوا بسورة مثله"(1) أن يقولوا: ائتوا أنتم بسورة مثله، فكان تعداد وتكرر القصص دفعا لحجتهم من كل وجه.(2)
والحمد لله أولاً وآخراً
الإعجاز النفسي
معناه وأدلته وموقعه بين وجوه الإعجاز
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن القرآن الكريم كلام الله، وحبله المتين، والذكر الحكيم، والنور المبين، لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، ولا يُمل مع كثرة التكرار، وقد بذلت جهود عظيمة لخدمته قديماً وحديثاً، وتعددت العلوم المتصلة به، ومنها البحث في إعجازه، وما نزال نرى من علمائنا وباحثينا أفكاراً وآراء ومؤلفات حول الإعجاز، ومنها هذا المؤتمر الذي تقيمه كلية التربية الحكومية في غزة، ويعدُّ حلقة ضمن سلسلة هذه الجهود المتوالية، إلا أن في المؤتمرات ميزة زائدة على التأليف، حيث يكشف اللقاء بين الباحثين والتحاور فيما بينهم عن نقاط وأمور قد لا تظهر للمتأمل وحده، فجزيل الشكر للإخوة القائمين على أمر هذا المؤتمر العلمي المتميز بموضوعه، وبمكان انعقاده في أرض الرباط والجهاد، أرض النبوة والأنبياء، والعلم والعلماء، والمجاهدين والشهداء.
المبحث الأول
معنى الإعجاز النفسي
بحث في هذا الوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرون، واختلفت عباراتهم في تسميته اختلافاً واضحاً، وقد يكون مؤدى كلامهم متقارباً أو متحداً، وفي بعض الأحيان متباعداً، وبناءً على هذا الاختلاف بينهم، كانت الحاجة ملحة لمحاولة تحديد معنى هذا الوجه، بعد جمع كلام العلماء الأفاضل والمقارنة بين عباراتهم المتناثرة في كتب الإعجاز وغيرها.
__________
(1) يونس/38.
(2) انظر: الزركشي، البرهان، 3/25-28.
السيوطي، الإتقان، 3/230 و231.
د. محمود السيد شيخون، أسرار التكرار في لغة القرآن، 75-78.(12/82)
ويأتي في المقدمة الإمام الخطابي (ت 388هـ) فهو أول(1) من أشار إلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز صراحة في كتابه: بيان إعجاز القرآن حيث قال: " في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها [من] الوجيب(2) والقلق، وتغشاها [من] الخوف والفَرَق(3) [ما] تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول - صلى الله عليه وسلم - من رجال العرب وفتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً"(4)
__________
(1) - بحث في إعجاز القرآن الكريم قبل الخطابي جماعة، كالجاحظ والرماني وكاتب المتوكل والطبري وأبو الحسن الأشعري وغيرهم، ولم يظهر في كلام أي منهم الإشارة إلى هذا الوجه أو ذكر له، ولهؤلاء وغيرهم مؤلفات مفقودة في الإعجاز لم تصلنا، ولا نستطيع الجزم بخلوها من ذكر هذا الوجه في الإعجاز، وعليه تم اعتماد نسبة أولية القول بهذا الوجه للخطابي، وقد أثبت أولية الخطابي فيه غير واحد مثل: د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص 345، ود. صلاح الخالدي، البيان في إعجاز القرآن، ص 350، ود. خليفة حسين العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 34.
(2) - وجب القلب وجيباً ووجباناً: خفق واضطرب ورجف (ابراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة وجب، 2/1023).
(3) - الفَرَق: الجزع وشدة الخوف (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة فرق، 2/692).
(4) - الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص 93،92 تحقيق: عبد الله الصديق، وص 70، من تحقيق: محمد خلف لله أحمد ود. محمد زغلول سلام، وقد سقط من النسخة الثانية ما أثبته بين حاصرتين.(12/83)
ثم ذكر الخطابي عدداً من الحوادث من السيرة ومن الآيات التي تبين تأثير القرآن في النفوس، ويلاحظ أن الخطابي لم يسم هذا الوجه من الإعجاز، إلا أن عباراته الجميلة في تصويره وتقريب معناه واضحة تماماً ومعبرة عن المقصود.
ومن العلماء المتقدمين القاضي عياض (ت 544هـ) إذ قال وهو يعدد وجوه الإعجاز: "ومنها الروعة التي تلحق سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، وإنافة(1) خطره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا ليستثقلون سماعه ويزيدهم نفوراً كما قال تعالى، ويودون انقطاعه لكراهتهم له..."(2)
هذه العبارات من الخطابي والقاضي عياض وأشباهها عند غيرهما، كانت أساساً بنى عليه اللاحقون، إلا أنهم لم يتفقوا على عنوان محدد أو اسم صريح لهذا الوجه من وجوه الإعجاز، ومعظمهم يمر به مروراً عابراً، ولا يخصص له عنواناً محدداً، وقد يختلط الكلام عنه بالكلام عن وجوه أخرى للإعجاز.
وذكره على أنه أحد وجوه الإعجاز القابلة للمناقشة ابن القيم (ت 751هـ) وأورد الاعتراض عليه بوجود كلام مؤثر عند بعض البشر أيضاً(3).
وأشار إليه ابن كثير (ت 774هـ) أثناء حديثه عن وجوه الإعجاز في تفسيره لآيات التحدي(4).
__________
(1) - النيف والمنيف: الزائد على غيره. (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة نوف، 2/973).
(2) - القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/241، تحقيق: حسين عبد الحميد نيل.
(3) - ابن القيم، الفوائد المشوق، 250.
(4) - ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 1/109.(12/84)
أما الإمام الزركشي (ت 794هـ) فإنه لم يذكره ضمن وجوه الإعجاز الاثني عشر التي ذكرها، إلا أنه أتبعها بتعداد عدة وجوه للإعجاز بدأها بـ "الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم، سواء المقربين والجاحدين، ثم إن سامعه إن كان مؤمناً به يداخله روعة في أول سماعه وخشية، ثم لا يزال يجد في قلبه هشاشة(1) إليه ومحبة له، وإن كان جاحداً وجد فيه مع تلك الرهبة نفوراً وعِيّاً لانقطاع مادته بحسن سمعه..."(2).
وتبعه السيوطي (ت 911هـ) حيث نقل كلام القاضي عياض تحت عنوان: روعته وهيبته(3).
كما تحدث عنه الزرقاني (ت 1367هـ /1948م) تحت عنوان: تأثير القرآن ونجاحه، وأنه أمر: "أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفة، حاذقاً لأساليبه العربية..."(4).
وأطلق محمد فريد وجدي (ت 1373هـ /1954م) على هذا النوع من الإعجاز اسم: الروحانية العالية(5).
__________
(1) - أي انشراح الصدر والسرور به (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة هشش، 2/996).
(2) - الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، 2/106، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
(3) - السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، 1/243، تحقيق: علي محمد البجاوي.
(4) - الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، 2/303. وستأتي عبارته بتمامها في المبحث الثالث.
(5) - محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن الرابع عشر الهجري العشرين الميلادي، 7/678.(12/85)
ولمح إليه النورسي (ت 1379هـ/1960م) في قوله: "إن سراً من أسرار إعجاز القرآن الكريم المعنوية هو أن القرآن يبين الدرجة العظيمة والساطعة لإيمان الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الذي حظي بتجلي الاسم الأعظم، وكذا يبين ويُعلم بأسلوب فطري – كخارطة مقدسة مشهورة – تلك المرتبة السامية للدين الحق العظيم والواسع والمبين للحقائق الرفيعة لعالم الآخرة وعالم الربوبية، وكذا يمثل القرآن الكريم: خطاب رب العالمين وهو في علياء عزته وعظمته وربوبيته المطلقة، فلا بد أن تعبيراً فرقانياً بهذا الأسلوب، وبياناً قرآنياً بهذا النمط لا يمكن أن تأتي مثله عقول البشر قاطبة ولو اجتمعت في عقل واحد..."(1).
وقد تولى تفصيل هذا الإيجاز من النورسي وتوضيحه وتعميق فكرته الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، في كتابه المميز: من روائع القرآن، فقد توسع في الحديث عنه وتقريره بعبارات جميلة مؤثرة، وذلك تحت عنوان: مظهر جلال الربوبية(2)، مبيناً فيه أثر القرآن البالغ في قارئ الآيات التي يتحدث فيها رب العزة والجلال عن نفسه وقدرته وعلمه، بما لا يستطيع أي مدع للألوهية أن ينطق به "وليقم أي فرعون من الفراعنة المتألهين أو المتجبرين، ثم ليجرب أن ينطق بمثل هذا الكلام الذي يتنزل من عرش الربوبية، ويغمر النفس بالرهبة والجلال، فإن لسانه سيدور في فمه على غير هدى، وإذا تكلم فسيأتي بكلام يكشف بعضه بعضاً، فيه محاولة التمثيل، وليست فيه صنعته، إذ هو مما لا يسلس القياد فيه لتصنع ولا لتمثيل ..."(3)
__________
(1) - بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، ص 242 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(2) - الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، من روائع القرآن، ص 156-161.
(3) - البوطي، من روائع القرآن، ص 159.(12/86)
وكان أمين الخولي (ت 1385هـ/1966م) يرى للإعجاز النفسي عدداً من المعاني، أحدها: وقع القرآن في النفس، ومنها: استخدام القرآن علمه عن طبيعة النفس البشرية ومعرفته بشئونها المختلفة ونواميسها التي تخضع لها لتأييد دعوته وحجته(1).
وذهب عدد من العلماء والباحثين إلى تسمية هذا الوجه من الإعجاز بأسماء أخرى، فهذا سيد قطب (ت 1386هـ/1966م) في أكثر من كتاب من كتبه يدور في فلك هذا الوجه الإعجازي ويتحدث عنه بإسهاب وإشباع، ويسميه أحياناً: سحر القرآن، أو: التصوير الفني، وهو في جميع ما كتب عن تأثير القرآن في النفوس وما يدخلها منه من روعة وتأثر إنما يزيد فكرة الإعجاز النفسي جلاءً ووضوحاً وتثبيتاً وتأكيداً، وإن لم يستعمل هذا الاسم في مؤلفاته، ومن المؤلفين من استخدم مصطلح: موسيقى القرآن(2).
وذكره عبد الكريم الخطيب (ت 1406هـ/1985م) تحت عنوان: روعة القرآن وسطوته وقال إنه: "روح يلبس جسد الكلمات، وينتظم حروفها، فيجعل من العبارة الواحدة سخوصاً قائمةً، تعمل متساندة بكل قواها وجوارحها على إشعاع المعنى المنتصب في جوهرها، وتمثيله على مسرح الحياة، ونقله إلى مواطن الإقناع من العقل، وإلى مجرى التأثير في الوجدان"(3).
وقام عدد من المتأخرين بالبحث في مدلول الإعجاز النفسي، وتحديد مجالاته، وممن بحث في ذلك محمد متولي الشعراوي (ت 1419هـ/1998م) وهو يرى أن الإعجاز النفسي يتمثل في تمزيق القرآن حواجز غيب النفس(4).
__________
(1) - نقله عنه: نعيم الحمصي في: فكرة إعجاز القرآن، ص 339.
(2) - مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص 183 و184، تحقيق: عبد الله المنشاوي، وسيد قطب، التصوير الفني في القرآن، 86-96، ود. محي الدين رمضان، وجوه من الإعجاز الموسيقي في القرآن، ص 22. ود. صلاح الخالدي، نظرية التصوير الفني عند سيد قطب، ص 166.
(3) - عبد الكريم الخطيب، إعجاز القرآن، ص 185.
(4) - محمد متولي الشعراوي، المعجزة القرآنية، 1/108.(12/87)
ويرى الدكتور صلاح الخالدي أن للإعجاز النفسي جانبين: "الأول: حديث القرآن عن النفس الإنسانية وبيانه لصفاتها، وتحليله لها، وكشفه لخباياها وخفاياها، الثاني: تأثير القرآن في النفس الإنسانية سواء كانت مؤمنة أو كافرة، وما ينتج عن هذا التأثير في النفس من نتائج وثمرات"(1).
وذهب الدكتور فضل حسن عباس إلى أن حديث القرآن عن النفس الإنسانية، سواء من حيث طبيعتها المزدوجة لأنها مادة وروح، أم من حيث استعدادها المزدوج للخير والشر، وما يتفرع عنه، ليس من الإعجاز النفسي في شئ، إنما هي معلومات عن النفس الإنسانية، فيها تصوير وتحذير، وحث على الخير، وتنفير من الشر"(2)، ويرى أن الإعجاز النفسي هو: "ما نلمحه في تلك الآيات وهي تتحدث عن أصناف الناس ومواقفهم ومشاعرهم، وما يفرحهم وما يحزنهم، ما نجده من بيان لمكنونات النفس وخفاياها، ودوافعها في آي القرآن الكريم، قد يكون ذلك في القصة القرآنية، وقد يكون ذلك في الحديث عن أعداء المسلمين، وقد يكون ذلك في الدنيا، وقد يكون في الآخرة كذلك، فإنك لتقرأ الآية من القرآن الكريم، وإذ بها تصور نفسية أولئك الذين تتحدث عنهم صورة واضحة المعالم، بينة الاتجاه، لا تهمل جزئية، ولا تنسى مشهداً"(3)، أما تأثير القرآن العظيم في النفوس وما يسبغه عليها من هيبة وحلاوة ورغبة ورهبة فيرى أنه: الإعجاز الروحي(4).
__________
(1) - د. صلاح الخالدي، البيان في إعجاز القرآن، ص 334.
(2) - د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص 343و 344.
(3) - د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص 344.
(4) - د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص 345.(12/88)
يتبين لنا بعد هذه الجولة بين نصوص عدد من السادة العلماء، أن منهم من اكتفى بالحديث عن هذا اللون من الإعجاز، دون البحث في تسميته أو في معناه، وذلك عند المتقدمين غالباً، واختلفت الأسماء المطلقة عليه عند باقيهم بين: روعة القرآن وهيبته وتأثيره وسحره، ونحوها من الأسماء، إلا أن أكثر هذه الأسماء تداولاً وشهرةً بين المؤلفين والباحثين والمفكرين والعامة، هو: الإعجاز النفسي(1)، والمراد به عند معظمهم: التأثير العظيم الذي يحدثه القرآن الكريم في نفوس قارئيه وسامعيه، وإن خالف بعضهم في اسمه، أو زاد عبارات تزيده وضوحاً أو تحديداً، أو أدخل في هذا النوع من الإعجاز جوانب أخرى قريبة منه حصل فيها نزاع هل تنضوي تحت اسم الإعجاز النفسي أو لا، مثل: حديث القرآن عن النفس الإنسانية، الذي يمكن إدراجه ضمن وجه آخر من وجوه الإعجاز.
فالإعجاز النفسي يعني: عجز الكافرين أن يأتوا بكلام مثل القرآن في بلاغته وبيانه، وفي تأثيره العظيم في نفوس قارئيه وسامعيه، وبهذا يظهر لنا أن تأثير القرآن الكريم في النفوس يرتقي ويتفوق ويتميز عن تأثير غيره من كلام الأدباء والفصحاء والشعراء وغيرهم، فأي كلام آخر لا يمكن أن تصل درجة تأثيره إلى درجة تأثير القرآن، ومعظم تلك التأثيرات سلبية تؤدي إلى السقوط والهوي والانحدار، بخلاف تأثير القرآن إيجاباً ورقيّاً، كما أن تأثير تلك الأعمال لحظي سرعان ما تنمحي وتزول آثاره، بخلاف تأثير القرآن الكريم الممتد أثره.
المبحث الثاني
أدلة الإعجاز النفسي
مقصود هذا المبحث إيراد النصوص المؤكدة لهذا الوجه من وجوه الإعجاز، والتي تحمل في طياتها إشارات مباشرة، أو تلميحات يسيرة، وقد تم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين:
__________
(1) - يُنظر مثلاً: محمد الغزالي، نظرات في القرآن، ص 120. ود. خليفة العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 34، ود. علي البدري، حقائق وأباطيل حول إعجاز القرآن، ص 155.(12/89)
المطلب الأول: في إيراد أدلة الإعجاز النفسي من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، مع التعليق عليها بإيجاز، وبما يظهر ما فيها من إشارة إلى الإعجاز النفسي أو تلميح إليه، وهو المطلب الأهم في هذا المبحث.
المطلب الثاني: في إيراد عدد من الحوادث التي تدل على عظيم تأثير القرآن الكريم في سامعيه وقارئيه، ومنها حوادث إسلام عدد من الصحابة الكرام وغيرهم، وهذه الحوادث ليست أدلة، ولكنها شواهد على الإعجاز النفسي، وحوادث مؤكدة له.
المطلب الأول:
ورد في عدد من الآيات بيان عظيم تأثير القرآن الكريم في النفوس، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (لَوْ أنْزَلْنَا هَذا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الآية 21 من سورة الحشر. تبين هذه الآية أن القرآن لو خوطبت به الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولتشققت(1)، وهي دعوة موجهة لأصحاب العقول والقلوب أن يتأثروا مثل هذا التأثر.
__________
(1) - يُنظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 18/44.(12/90)
وفي آية أخرى قوله سبحانه: (وَلَوْ أنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بهِ الْجِبَالُ أوْ قُطِّعَتْ بهِ الأَرْضُ أوْ كُلِّمَ بهِ الْمَوْتَى بَلْ للهِ الأَمْرُ جَمِيعاً) الآية 31 من سورة الرعد. هذا ما يصنعه القرآن في هذه المخلوقات، "ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم، وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ، وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره، إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به..."(1)
__________
(1) - سيد قطب، في ظلال القرآن، 5/96.(12/91)
ومن الآيات قوله تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللهِ) الآية 23 من سورة الزمر. وقوله: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الآية 2 من سورة الأنفال. وقوله: (إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكيًّا) الآية 58 من سورة مريم. وقوله: (إنَّ الَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجْدًّا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعاً) الآيات 107-109 من سورة الإسراء. تشير هذه الآيات الكريمات إلى أن تأثير القرآن الكريم في المؤمنين يؤدي إلى أن تقشعر جلودهم وهي حركة غير إرادية تدل على عظيم التأثر، ثم تلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن بذكر الله (ألاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية 28 من سورة الرعد. كما تؤدي إلى أن يخروا سجداً وهي حركة إرادية، تابعة لتأثر القلب وانفعاله إلى درجة حمل الجسد على السجود، ومعنى خرّ: "سقط سقوطاً يسمع منه صوت خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علوّ، فاستعمال الخر للسجود تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح"(1) وهو كناية عن: "غاية الوله والخوف والخشية"(2).
__________
(1) - الراغب الأصبهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة خرر، ص 144.
(2) - الفخر الرازي، التفسير الكبير، 21/58، والوله: شدة الفرع، والحزن، والحيرة (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة وله، 2/1069).(12/92)
ومن الآيات قوله تعالى: (وَإذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلىَ الرَّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الآية 83 من سورة المائدة. ورد أنها نزلت في نفر من نصارى الحبشة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعوا القرآن أسلموا، وقيل نزلت في النجاشي وأصحاب له أسلموا معه(1)، وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه ثم سيلانه منها كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء وهو سيلانه من شدة امتلائه، ففيض دموعهم لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله على رسوله حق(2)، وإسماع الكافر كلام الله رجاء أن يتأثر به ويؤمن أمر مطلوب من المؤمنين، فمجرد سماع القرآن يمكن أن ينقل المرء من الشرك إلى الإيمان: (وَإنْ أحدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) الآية 6 من سورة التوبة.
__________
(1) - الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/1، وابن هشام، السيرة النبوية، 1/489، تحقيق: مجدي فتحي السيد.
(2) - يُنظر: الطبري، جامع البيان، 7/5.(12/93)
ومن الآيات قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) الآية 26 من سورة فصلت. وهذا الحرص منهم على عدم سماع القرآن إلى درجة أن يوصي بعضهم بعضاً بذلك وبأن يلغوا فيه أي: "ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له، أو: الغوا فيه بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً، أو: قَعُوا فيه وعيبوه"(1)، وهذا دليل على عظيم تأثير الآيات الكريمة فيهم، وقد يكون ذلك إلى درجة: (وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أدْبَارِهمْ نُفُوراً) الآية 46 من سورة الإسراء. وكان للاستماع للآيات الكريمة تأثير على الجن (فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ) الآيتان 2،1 من سورة الجن. وبلغ بهم أن اجتمعوا للاستماع إلى تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) الآية 19 من سورة الجن. أي متلاصقاً بعضهم ببعض من التزاحم عليه إعجاباً بما تلا من القرآن(2).
وفي قوله تعالى: (أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الآية 51 من سورة العنكبوت. دلالة على أن القرآن آية فوق الكفاية، وهو المعجزة الباقية العامة لكل الخلق: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 88 من سورة الإسراء.
__________
(1) -الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، 4/514.
(2) - ينظر: الراغب الأصبهاني، المفردات، مادة لبد، ص 446، وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، 8/353.(12/94)
فهذه الآيات الكريمة تحمل في ثناياها بما لا يقبل مجالا للشك أو التردد إثبات تأثير القرآن العظيم في الخلق كله، حتى الجمادات من أرض وجبال، فضلا عن المكلفين من جن وإنس، مؤمنين وكافرين.
ومن الأحاديث ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ عليّ، قلت: يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً) الآية 41 من سورة النساء. قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان(1)، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصل به التأثر عند سماعه آيات القرآن الكريم إلى أن تذرف عيناه الشريفتان، وقام - صلى الله عليه وسلم - الليل مرة بآية بقي يرددها ويتفكر فيها ويتأمل في معناها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الآية 118 من سورة المائدة(2).
__________
(1) -رواه البخاري في كتاب التفسير، باب 88، رقم الحديث 4306، ومواضع أخرى، بترقيم واعتناء د. مصطفى ديب البغا، ورواه الترمذي والنسائي وأحمد.
(2) - رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم.(12/95)
عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس(1)، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه(2) رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: أتدري ما ذاك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم(3)، أي أن الملائكة لاستغراقها بالاستماع إلى قراءة أسيد الحسنة وتأثرها بالآيات لو بقي يقرأ إلى الصباح لبقيت على حالها الذي يمكن أن ترى فيه من قبل القارئ وغيره(4)، وفيه تأكيد حصول التأثر بالاستماع إلى الآيات.
المطلب الثاني:
وفيه إيراد عدد من الحوادث الدالة على عظيم التأثر عند تلاوة الآيات أو الاستماع إليها، وأن ذلك كان سببا لإسلام عدد من الصحابة الكرام ومن بعدهم، وأن التأثر بالآيات لم يكن خاصا بالعرب، أو من يتقن اللغة العربية، ولكنه تعداهم إلى غيرهم ممن لا يعرف شيئاً من لغة العرب، بل تعدى الإنسان إلى غيره من سائر المخلوقات.
__________
(1) - أي اضطربت اضطرابا شديداً (من هامش صحيح البخاري، وضعه د. مصطفى البغا 4/1916).
(2) - أي أخره وأبعده عن المكان الذي كان فيه (المرجع السابق).
(3) - رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، رقم الحديث 4730، ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، 6/322 من شرح النووي، بتحقيق: خليل مأمون شيحا.
(4) - ابن حجر العسقلاني، فتح الباري لشرح صحيح البخاري، 9/64.(12/96)
ومن أشهر هذه الحوادث حادثة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أورد ابن هشام في سبب إسلام عمر روايتين(1)، وفي كلتيهما يعود سبب إسلامه إلى تأثره البالغ بقراءة آيات، وهي فواتح سوره طه، أو بالاستماع إلى تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآيات من سورة الحاقة، وقال ابن إسحاق معلقاً وغير مرجح بين الروايتين: "فالله أعلم أي ذلك كان"(2) وجمع بعض الكتاب في السيرة بينهما بأن عمر استمع أولا إلى تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لسورة الحاقة فوقع الإسلام في قلبه، ثم حصلت معه حادثة قراءته من أول سورة طه فتأثر بها وأسلم(3)، وكان عمر بعد إسلامه شديد التأثر بالقرآن، ومما يروى في ذلك أنه صلى الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وسُمع صوت بكائه من وراء الصفوف(4)، وروي أنه سمع قارئاً يقرأ: (إنَّ عَذابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) الآيتان 7-8 من سورة الطور. فأغشي عليه وحمل إلى أهله ولم يزل مريضاً شهراً(5).
__________
(1) - ابن هشام، السيرة النبوية، 1/431، وقال محققه عن حديث الرواية الأولى: حسن، والثانية: مرسل، وقد روى الحادثة الثانية الإمام أحمد في المسند، برقم 107.
(2) - ابن هشام، السيرة النبوية، 1/437.
(3) - صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 120و 121.
(4) - النووي، التبيان في آداب حملة القرآن، ص 43.
(5) - أورده القرطبي في التذكار في أفضل الأذكار، ص 133، تحقيق: ثروت محمد نافع، وأورده ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن أبي الدنيا عن جعفر بن زيد العبدي (ينظر: مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، 3/389).(12/97)
وحادثة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين قدم مكة وأقنعه كبراء قريش بأن لا يسمع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه عند الكعبة سمع بعض تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبعه إلى بيته وسمع منه المزيد، وقال: "فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت"(1).
وحادثة إسلام جبير بن مطعم رضي الله عنه وفيها قوله: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ.أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الآيات 35-37 من سورة الطور. كاد قلبي أن يطير"(2)، وفي رواية: "وذلك أول ما دخل الإيمان قلبي"(3).
وحادثة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، وفيها أن أخاه أنيساً قال له: "لقيت رجلاً بمكة يزعم أن الله أرسله، يقولون، شاعر، كاهن، ساحر، - وكان أنيس أحد الشعراء – لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون"، فأتى أبو ذر مكة وسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلم(4).
__________
(1) - ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 1/478، وعلّق محققه بأنه ضعيف، ورواه من طريق ابن هشام: أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 311، تحقيق: محمد رواس قلعه جي، وفي هامشه: أورده البيهقي والسيوطي في الخصائص وابن الأثير في النهاية، وابن سعد بسند آخر.
(2) - رواه البخاري، في كتاب التفسير، رقم الحديث 4573.
(3) - السيوطي، معترك الأقران، 1/243.
(4) - رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي ذر، برقم 6309، وقال النووي بهامشه عن أقراء الشعر: أنواعه وطرقه.(12/98)
وحادثة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، حيث قرأ عليهما مصعب بن عمير رضي الله عنه منفردين القرآن، وكانا يقولان: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، وأسلما(1).
وحادثة إسلام سويد بن الصامت رضي الله عنه وكان شاعراً لبيباً من سكان يثرب، يسميه قومه الكامل، لجلَده وشعره وشرفه ونسبه، "جاء مكة حاجاً أو معتمراً، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما الذي معك؟ قال: حكمة لقمان، قال: اعرضها عليّ، فعرضها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن"(2).
وحادثة إسلام إياس بن معاذ رضي الله عنه وكان غلاماً من سكان يثرب، قدم مكة في وفد من الأوس، جلس إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلا عليهم القرآن، فقال إياس: "أي قوم هذه والله خير مما جئتم له"... ولم يلبث إياس بعد رجوعهم أن هلك وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته فلا يشكون أنه مات مسلماً(3).
وحادثة إسلام أول ستة من الخزرج، حيث حدثهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلا عليهم القرآن فأسلموا(4).
__________
(1) - ابن هشام، السيرة النبوية، 2/52-54، قال محققه: إسناده مرسل.
(2) - المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 155.
(3) - ابن هشام، السيرة النبوية، وقال محققه، حديث حسن، والمباركفوري، الرحيق المختوم، ص 155.
(4) - ابن هشام، السيرة النبوية، 2/45، وإسناده مرسل، وابن كثير، البداية والنهاية، 3/148، تحقيق: د. أحمد أبو ملحم ورفاقه.(12/99)
وتوقُّف لبيد بن ربيعة رضي الله عنه عن نظم الشعر بعد أن أذهله عظمة القرآن وبلاغته، وكان يقول: "ما كنت لأقول الشعر بعد أن علمني الله سورة البقرة"(1).
وفي المحاورة التي حصلت بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه، فقرأ صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته(2)، وبكى أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم(3).
وفي عدد من الروايات بيان مدى التأثر الذي كان يحصل للمشركين، وهم يستمعون إلى الآيات، ويصل ذلك ببعضهم إلى درجة القيام من المجلس مع تغير الوجه، وإلى إخلاف الوعد بعدم سماع الآيات مرة أخرى، ومن ذلك:
__________
(1) - د. محمد حسن هيتو، المعجزة القرآنية، ص 43.
(2) - أي ابتلت من كثرة نزول الدمع عليها (من تعريف محقق سيرة ابن هشام للفظ).
(3) - ابن هشام، السيرة النبوية، 1/424، وقال محققه: حديث حسن.(12/100)
حادثة عتبة بن ربيعة حين "أرسله الملأ من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عليه المال والسيادة والملك والعلاج إن كان يحتاجه... حتى إذا فرغ مما جاء به، قرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول سورة فصلت، وعتبة منصت قد ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة [الآية 37] فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.... قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد(1)، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بلغ في التلاوة قوله تعالى: (فَإِنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثَل صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) الآية 13 من سورة فصلت. قام عتبة فأمسك على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، فلما رجع إليهم وجدوه متغيراً فقالوا: قد صبأ إلى محمد. وقص عليهم خبره، وما وقع من الرعب في قلبه من القراءة، ومما قاله: قد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب"(2).
__________
(1) - ابن هشام، السيرة النبوية، 1/370، وقال محققه: الحديث حسن، وأخرجه البيهقي، في دلائل النبوة 2/201، تعليق د. عبد المعطي قلعجي، والجرجاني، في الرسالة الشافية، ص 124.
(2) - رواه البيهقي، دلائل النبوة 2/203، وأبو نعيم، دلائل النبوة، ص 300، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية، 3/61، وأورده السيوطي في معترك الأقران، 1/243.(12/101)
حادثة الوليد بن المغيرة حين اجتمع إليه نفر من قريش، وأرادوا أن يُجمعوا على رأي واحد في النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكذبهم الناس فيه، وترددوا في الحكم عليه بالكهانة أو بالسحر أو بالجنون أو بأنه شاعر، وكان رأي الوليد أن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يشبه شيئاً من ذلك، وقال لهم: "والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"(1)، وفي رواية أن الوليد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأ عليّ، فقرأ عليه: (إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ) الآية 90 من سورة النحل. قال: أعد، فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر"(2).
حادثة أبي سفيان وأبي جهل والأخنس بن شريق حين خرج كل منهم منفرداً ليستمع إلى قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليلاً في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، والتقوا وهم عائدون، فتعاهدوا أن لا يعودوا، إلا أنهم عادوا ليلة ثانية وثالثة، ثم تعاهدوا جازمين أن لا يعودوا....(3).
__________
(1) - ابن كثير، البداية والنهاية، 3/95، والطلاوة: الحسن والرونق، ومغدق: كثير، يقال: أغدق المطر: كثر قطره، وأغدقت الأرض: أخصبت (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، 2/570 و652).
(2) - البيهقي، دلائل النبوة، 2/199، والجرجاني، الرسالة الشافية، ص 123.
(3) - يُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 1/397، قال محققه: ضعيف لانقطاع إسناده، وبسنده رواه البيهقي في الدلائل 2/206، وابن كثير في البداية والنهاية 3/62.(12/102)
حادثة منع المشركين أبا بكر الصديق رضي الله عنه من الصلاة والتلاوة في المسجد الحرام لما كان لتلاوته وبكائه في الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام، فاتخذ مسجداً له بفناء داره، فطفق النساء والأولاد الناشئون ينسلون من كل حدب إلى بيته ليلاً لاستماع القرآن، فنهاه المشركون وألجؤوه إلى الهجرة، فلقيه ابن الدغنة فأجاره. فعاد يقرأ في داره، وبنى مسجداً بفناء داره يصلي ويقرأ فيه، وخيره ابن الدغنة – بضغط من قريش – بين إخفاء تلاوته وجواره، فقال أبو بكر: "فإني أَرُدُّ إليك جوارك، وأرضى بجوار الله"(1)، وقد اشتُهر أبو بكر رضي الله عنه بالبكاء والتاثر عند تلاوة القرآن، وحين أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه أن يصلي أبو بكر بالناس، قالت له عائشة: "إن أبا بكر رجل أسيف إذا قرأ القرآن غلبه البكاء" وفي رواية: "إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء"(2).
__________
(1) - رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب 74، رقم الحديث 3692، وابن هشام في السيرة النبوية 1/466، والبيهقي في الدلائل، 2/471، وابن كثير في البداية والنهاية، 3/91.
(2) - رواه البخاري في كتاب الجماعة، باب حض المريض أن يشهد الجماعة، رقم الحديث 633، ورواه مسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام، رقم الحديث 940، وأسيف: أي رقيق القلب سريع البكاء (من هامش البخاري).(12/103)
أما الحوادث الواقعة بعد عصر النبوة فهي من الكثرة بمكان، وقد حفظت لنا كتب الإعجاز وفضائل القرآن وغيرها(1) مجموعة من الحوادث التي تبين مدى التأثر البالغ والانفعال العفوي لدى تلاوة الآيات أو الاستماع إليها، وفيما يلي مجموعة منها، روعي في اختيارها: الجمع بين القديم والحديث، وإيراد حوادث تتعلق بغير المسلمين، وبمن أسلم لسماع القرآن أو تلاوته، وبمن عزم على معارضة القرآن، ثم عدل عن ذلك بسبب تأثره بالآيات، كما روعي عدم ذكر الحوادث التي فيها مبالغة:
قدم وفد من نجران على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شئ من أمورهم، فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاءً شديداً، فقال أبو بكر: "هكذا كنا حتى قست القلوب"(2).
سمع أعرابي قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بمَا تُؤْمَرُ وَأعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكينَ) الآية 94 من سورة الحجر. فسجد وقال: "سجدت لفصاحته"(3).
روي أن نصرانياً مرّ بقارئ فوقف يبكي، فقيل له: ممّ بكيت؟ فقال: "للشجا والنظم"(4).
__________
(1) - يُنظر: النووي، التبيان في آداب حملة القرآن، ص 41-45، والقرطبي، التذكار، ص 124-135، وعبد الله سراج الدين، تلاوة القرآن المجيد فضائلها آدابها خصائصها، ص 83-87، وحيدر قفة، مع القرآن الكريم، ص 203-254.
(2) - الجاحظ، البيان والتبيين، 3/151، تحقيق عبد السلام هارون، والنووي، التبيان، ص 43، وأورده د. خليفة العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 46.
(3) - أورده د. خليفة العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 56.
(4) القاضي عياض، الشفا، 1/241، والسيوطي، معترك الأقران، 1/242، والشجا: الطرب وتهييج الحزن والشوق (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، 1/476) وقد تحرف اللفظ في معترك الأقران إلى: للشجاعة.(12/104)
سمع الأصمعي كلاماً فصيحاً من جارية، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: "أوَ بعد قوله تعالى فصاحة: (وَأوْحَيْنَا إلَى أمِّ مُوسَى أنْ أرْضِعيهِ فَإذاَ خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآية 7 من سورة القصص. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين"(1).
حكي أن ابن المقفع، وكان من أفصح أهل وقته أراد معارضة القرآن وشرع فيه، فمرّ بصبي يقرأ: (وَقِيلَ يَا أرضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمينَ) الآية 44 من سورة هود. فرجع فمحا ما عمل وقال: "أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر"(2)، وقد رفَض نسبةَ هذه الحادثة إلى ابن المقفع الرافعي والبوطي(3).
أراد يحيى بن حكم الغزّال بليغ الأندلس في زمنه معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، قال: "فاعترتني خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة"(4).
__________
(1) - القاضي عياض، الشفا، 1/229، وعند د. خليفة العسال ص 56 زيادة في تفاصيل الحادثة.
(2) - القاضي عياض، الشفا، 1/242.
(3) - الرافعي، إعجاز القرآن، ص 154و155، والبوطي، من روائع القرآن، ص 131-133، ونقل نعيم الحمصي أقوالاً في نسبة معارضة القرآن إلى عدد من الأشخاص ولم يجزم بها، يُنظر كتابه: فكرة إعجاز القرآن، ص 58 و67 و68.
(4) - القاضي عياض، الشفا، 1/242 .(12/105)
حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: "أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلّل تحليلاً عاماً ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين(1)، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا"(2).
روى محمد رشيد رضا عن بعض أدباء العرب من غير المسلمين أنهم كانوا يذهبون في بعض ليالي رمضان إلى بيوت معارفهم من المسلمين ليسمعوا القرآن ويمتعوا ذوقهم العربي وشعورهم الروحاني الأدبي بسماع آياته المعجزة(3).
__________
(1) - يقصد الآية الأولى من سورة المائدة.
(2) - الشوكاني، فتح القدير، 2/4.
(3) - محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم (المنار) 1/169.(12/106)
أورد سيد قطب في تفسير سورة النجم استشكالَه حادثةَ سجود المشركين لما قرأ عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم وسجد في آخرها وسجدوا معه، وبحثَه عن تعليل لها، فحديث الغرانيق غير مقنع ولا مقبول سنداً ولا متناً(1)، قال: "لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود، ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة، وهو أمر يحتاج إلى تعليل، وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة ... كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب، يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثراً وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسناً، وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلوه،... وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة... فلما سمعت (فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا) كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقاً إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي، لم أملك مقاومته، فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعاً هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة، وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب، إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة..."(2)
__________
(1) - حديث الغرانيق: فيه تعليل سجود المشركين بأقوال بعيدة منها أن الشيطان ألقى في آذان المشركين عبارةً فيها مدح لآلهتهم،وهم يظنونها من جملة الآيات المتلوة فسجدوا، وهو حديث باطل غير صحيح، رده كثيرون، يُنظر مثلاً: ابن الجوزي، زاد المسير، والشوكاني، فتح القدير، 3/462، والغرانيق: جمع غرنوق وهو طائر مائي أبيض طويل الساق جميل المنظر (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة غرنق، 2/657).
(2) - سيد قطب، في ظلال القرآن، 7/636 و 637، ومعنى هاتنة: متتابعة (إبراهيم مصطفى ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة هتن، 2/980).(12/107)
.
وذكر سيد قطب حادثة حصلت معه أثناء رحلته البحرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام بخطبة الجمعة وأداء الصلاة على متن السفينة مع عدد من ركابها، وكان مشهداً لفت انتباه الآخرين، إلا أن "سيدة من هذا الحشد، عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت تشد على أيدينا بحرارة، وتقول – في إنجليزية ضعيفة – إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح،... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول:.... إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن الإمام كانت ترد في أثناء كلامه – بهذه اللغة الموسيقية – فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه، نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً، هذه الفقرات الخاصة كانت تُحدث فيَّ رعشة وقشعريرة، إنها شيء آخر، كما لو كان الإمام مملوءاً من الروح القدس، - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها – وتفكرنا قليلاً، ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة، وفي أثناء الصلاة، وكانت – مع ذلك – مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً، وليست هذه قاعدة كما قلت، ولكن وقوع هذه الحادثة، ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته..."(1).
__________
(1) - سيد قطب، في ظلال القرآن، 4/421-423 .(12/108)
وذكرت رئيسة قسم اللغة العربية ببوخارست، أنها كانت في الجزائر لتتعلم اللغة العربية، وصادفها وهي هناك أن كانت في قرية جهة الصحراء، وكان الفصل صيفاً قائظاً، والهواء ساكناً، والذباب منتشرا يطن، يزيد في ضيق الناس، وكان الوقت أصيلاً، وقد ارتفع صوت المذياع بتلاوة أحد المقرئين قبيل ساعة من موعد الإفطار، ولم يلبث بعد أن استقر بها المكان أن زايلها ضيقها وإحساسها بالذباب وبالطقس، وذكرت أنها لم تجد تعليلاً لذلك غير استماعها إلى صوت المقرئ، وقد لاحظت ذلك أيضاً على الناس، حتى الغنم والماعز التي انتشرت أمام المنازل والخيام فقد استكانت هي أيضاً تجتر....(1).
وذكر الأستاذ محمد حنيف الباحث بالموسوعة الفقهية بالكويت أنه ذهب إلى لندن لإلقاء محاضرة في مسجد بها، فوضع المكلفون بتنظيمها شريطاً من القرآن في مكبر الصوت لجمع الناس، وما أن قرئ القرآن وسمعه الناس حتى توافد على المسجد جمع غفير جلسوا يستمعون القرآن كأن على رؤوسهم الطير، ولكن بمجرد أن أغلق مكبر الصوت استعداداً لبدء المحاضرة أخذ الناس ينصرفون، فعجبت من ذلك، وبعد الفراغ سألت إمام المسجد عن هذه الظاهرة، فقال: "ما نكاد نفتح مكبر الصوت في أي وقت على القرآن الكريم حتى يتوافد الناس على المسجد ويجلسون خاشعين رغم أنهم لا يفقهون القرآن، ولكنه يأخذهم بسحره وروعة لفظه وموسيقاه، فإذا انتهت التلاوة قاموا كما جاءوا"(2).
أما الأديب نقولا حنا فقال عن تأثير القرآن فيه: "قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت..."(3) وله قصيدة اسمها: من وحي القرآن، في تبيين عظمة إعجازه وتفوقه على سائر المعجزات.
__________
(1) - د. محي الدين رمضان، وجوه من الإعجاز الموسيقي في القرآن، ص 24، وقد ذكر أنه سمع هذا الكلام منها في لقاء أكاديمي معها.
(2) - د. خليفة حسين العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 55 .
(3) - د. نور الدين عتر، علوم القرآن الكريم، ص 202 .(12/109)
وتكلم عدد من المستشرقين عن تجاربهم الشخصية مع القرآن، ومدى تأثرهم به، ومن ذلك ما قالته فاغليري: "إن هذا الكتاب الذي يتلى كل يوم في طول العالم الإسلامي وعرضه لا يوقع في نفس المؤمن أي حس بالملل، على العكس، إنه من طريق التلاوة المكرورة يحبب نفسه إلى المؤمنين أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم، إنه يوقع في نفس من يتلوه أو يصغي إليه حساً عميقاً من المهابة والخشية..."(1).
وقالت كوبولد: "الواقع لأن جمل القرآن وبديع أسلوبه، أمر لا يستطيع له القلم وصفاً ولا تعريفاً، ومن المقرر أن تذهب الترجمة بجماله وروعته، وما ينعم به من موسيقى لفظية لست تجدها في غيره من الكتب..."(2)
وقال لاندو: "...ولكن حتى أفضل ترجمة ممكنة للقرآن في شكل مكتوب لا تستطيع أن تحتفظ بإيقاع السور الموسيقي الآسر على الوجه الذي يرتلها به المسلم، وليس يستطيع الغربي أن يدرك شيئاً من روعة كلمات القرآن وقوتها إلا عندما يسمع مقاطع منه مرتلة بلغته الأصلية"(3).
وقالت هوني: "لن أستطيع مهما حاولت أن أصف الأثر الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أكد أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدة لخالق هذا الكون، فكانت هذه أول صلاة لي في الإسلام"(4).
__________
(1) - د. عماد الدين خليل، قالوا عن القرآن، ص 275، مطبوع بذيل كتاب: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز للنورسي، وفيه تعريف موجز بالذين نقلت عباراتهم.
(2) - المرجع نفسه، ص 281 .
(3) - المرجع نفسه، ص 284 .
(4) - المرجع نفسه، ص 287 .(12/110)
وقد ثبت تأثير الآيات على العقل البشري باستعمال الأجهزة الحديثة، ومنها جهاز يقيس الموجات الدماغية بكل دقة، وهي أربع موجات لكل منها سرعة محددة، ففي حالة اليقظة يتحرك المخ بسرعة 13-25 موجة في الثانية، وفي حالة الهدوء النفسي والتفكير العميق والإبداع، يتحرك بسرعة 8-12 موجة في الثانية، وفي حالة الهدوء العميق والخلود إلى النوم يتحرك بسرعة موجة واحدة في الثانية، وفي حالة النوم العميق يتحرك بسرعة 2/1-3 موجة في الثانية، رأى هذا الجهاز الدكتور نجيب الرفاعي في أحد مؤتمرات التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، واستخدمه بوضع القبعة على رأسه، وقرأ آية الكرسي، وشاهد على شاشة الكمبيوتر انتقال المؤشر من سرعة 25 موجة في الثانية إلى ما يقارب منطقة التأمل والتفكير العميق والراحة النفسية 8-12 موجة في الثانية، واستغرب صاحب الجهاز من هذه النتيجة، فطلب منه صاحب التجربة أن يقرأ على أحد رواد المعرض الذي رحّب بالفكرة، وقرأ عليه آية الكرسي، وكانت النتيجة مذهلة حيث انخفضت موجاته الدماغية بشكل سريع إلى منطقة 8-12 موجة في الثانية، وقال بعد انتهاء القراءة: "لم أفهم منها شيئاً ولكنها ذات نغمات مريحة، لقد أدخلت السرور على قلبي بكلام غريب لم أفهم منه حرفا واحداً، كلام جميل ومريح"(1).
__________
(1) - د. نجيب عبد الله الرفاعي، مقالة: أثر القرآن على قلوب الأمريكان، في مجلة المجتمع الكويتية، العدد 1206، 16/ صفر/1417هـ 2/7/1996م.(12/111)
هذه العبارات والحوادث وكثير غيرها، تدل دلالة واضحة على عميق الأثر الذي تتركه الآيات في نفس قارئها وسامعها، وأنه أمر يمكن حصوله مع المسلم وغير المسلم، بل قد يكون سببا لإسلامه واهتدائه، وأن في القرآن سراً عظيماً يدل على أنه كلام الله المعجز "يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداءً، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هناك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هناك عنصراً ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحاً، ويدركه بعض الناس غامضاً، لكنه على كل حال موجود، هذا العنصر الذي ينسكب في الحس يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي، وشئ غيرها غير محدود، ذلك سر مودع في كل نص قرآني يشعر به كل من يواجه هذا القرآن ابتداءً"(1).
المبحث الثالث
موقع الإعجاز النفسي بين وجوه الإعجاز
الذين ذكروا هذا الوجه من وجوه الإعجاز كانوا متفاوتين في تحديد موقعه بين وجوه الإعجاز الأخرى. فمنهم من عده وجه الإعجاز الأول، ومنهم من عده وجهاً مستقلاً من وجوه الإعجاز، ومنهم من رآه تابعاً لأحد وجوه الإعجاز الأخرى أو مضمناً فيه، وفيما يلي ذكر وتبيين هذه الآراء، ثم محاولة الترجيح بينها أو الاختيار منها.
__________
(1) - سيد قطب، في ظلال القرآن، 6/3399.(12/112)
الرأي الأول: أن الإعجاز النفسي هو الأول بين وجوه الإعجاز، صرح بذلك محمد فريد وجدي (ت 1373هـ/1954م) بعد أن رد القول بأن وجه الإعجاز في البلاغة، بقوله: "وإننا وإن كنا نعتقد أن القرآن قد بلغ الغاية من هذه الوجهة إلا أننا نرى أنها ليست هي الجهة الوحيدة لإعجازه، بل ولا هي أكثر جهات إعجازه سلطاناً على النفس، فإن للبلاغة على الشعور الإنساني تسلطاً محدوداً لا يتعدى حد الإعجاب بالكلام والإقبال عليه، ثم يأخذ هذا الإعجاب والإقبال في الضعف شيئاً فشيئاً بتكرار سماعه، حتى تستأنس به النفس فلا يعود يحدث فيها ما كان يحدثه في مبدأ توارده عليها، وليس هذا شأن القرآن فإنه قد ثبت أن تكرار تلاوته تزيده تأثيراً، وتسلطاً على النفس والمدارك، فوجب على الناظر في ذلك أن يبحث عن وجه إعجازه في مجال آخر يكفي لتعليل ذلك السلطان البعيد المدى الذي كان للقرآن على عقول الآخذين به"(1)، ثم انتقل إلى عرض رأيه بقوله: "لما كان القرآن روحاً من أمر الله، فلا جرم كانت له روحانية خاصة، هي عندنا جهة إعجازه، والسبب الأكبر في انقطاع الإنس والجن عن محاكاة أقصر سورة من سوره، وارتعاد فرائص الصناديد والجبابرة عند سماعه، وناهيك بروحانية الكلام الإلهي، نعم إن جهة إعجاز هذا الكتاب الإلهي الأقدس هي تلك الروحانية العالية التي قلبت شكل العالم وأكسبت تلك الطائفة القليلة العدد خلافة الله في أرضه، وأرغمت لهم معاطس الجبابرة والقساورة، ووطأت لهم عروش الأكاسرة والقياصرة حتى صاروا ملوك الملوك وإخوان الملائكة، في مدة لا يصعب عد سنيها على الأصابع (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلَى منْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) الآية 15 من سورة غافر. لا مشاحة في أن القرآن فصيح قد أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان، وهو حكيم بهر سماسرة الحكمة والفلسفة، وأدهش أساطين
__________
(1) - محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، 7/677 .(12/113)
القانون والشريعة، وحير أراكين النظام والدستور، وهو حق ألزم كل غال الحجة، ودل كل باحث على المحجة، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهو هدى ورحمة ونور وشفاء لما في الصدور، كل هذه صفات جليلة تؤثر على العقل والشعور والعواطف والميول، فتتحكم بها تحكم الملك في ملكه، ولكنه فوق ذلك كله روح من أمر الله تصل من روح الإنسان إلى حيث لا تصل إليه أشعة البلاغة والبيان، ولا سيالات الحكمة والعرفان، وتسري من صميم معناه إلى حيث لا يحوم حوله فكر ولا خاطر، ولا يتخيله خيال شاعر..."(1).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من تكلف، وبدلاً من الحمل على القائلين بأن وجه الإعجاز في بلاغة القرآن، ونفي وجود آيات تشير إلى بلاغة القرآن اللفظية(2)، كان يكفيه التوفيق بين الأمرين، وتبيين أن تأثير القرآن بسبب البلاغة الفائقة التي فيه، أو أنهما وجهان بالغا الأهمية في إظهار الإعجاز، فلا يطغى أحدهما على الآخر ولا يرده.
__________
(1) - المرجع نفسه، ص 677 و 678 .
(2) - ذكر ذلك في 7/680 .(12/114)
وكان حديث سيد قطب (ت 1386هـ/1966م) عن الإعجاز النفسي كثيراً، وإن لم يطلق عليه هذا الاسم، فعباراته الجذابة في: التصوير الفني، ومشاهد القيامة في القرآن، والظلال، حول عظيم تأثير القرآن في النفوس، تصل في مجموعها إلى نتيجة واحدة، وهي: أن القرآن الكريم المعجز مؤثر غاية التأثير في نفوس قارئيه وسامعيه، حتى إنه ليجعل القارئ كأنه في خلال الحدث، يرقبه ويتابعه ويعيش معه، وهو يرى أن هذا الوجه من الإعجاز هو الأول بينها(1)، ولا ينفي سيد قطب وجوه الإعجاز الأخرى، بل إنه يؤكدها في مواضع متعددة، ويثبت أن هذا التصوير المبدع في الآيات ما هو إلا ثمرة نظمه وأسلوبه وألفاظه، فباجتماع هذه الأمور يحصل التأثير به، وفي كلامه عن وجوه الإعجاز تجديد في العبارات وأسلوب العرض، وهو يرى أنها ستة أوجه، وإن لم يتحدث عنها في موضع واحد، فهي مبثوثة في مواضع عدة من الظلال(2).
الرأي الثاني: أن الإعجاز النفسي وجه مستقل من وجوه الإعجاز، وعلى هذا الرأي أكثر العلماء الذين ذكروا الإعجاز النفسي، وفي مقدمتهم الخطابي (ت 388هـ ) الذي سماه وجهاً، والقاضي عياض (ت 544هـ) الذي جعله الوجه السادس من وجوه الإعجاز، بعد: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ونظمه العجيب وأسلوبه الغريب، وإخباره عن المغيبات، وإخباره عن القرون السالفة والأمم البائدة، وتحديه في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، وذكر بعده وجوهاً أخرى، منها: بقاؤه على الزمن، وأنه لا يمل مع التكرار والترديد، وجمعه لعلوم ومعارف لم يكن يعرفها العرب من قبل(3).
__________
(1) - د. صلاح الخالدي، نظرية التصوير الفني عند سيد قطب، ص 289، ونعيم الحمصي، فكرة إعجاز القرآن، ص 348.
(2) - د. صلاح الخالدي، نظرية التصوير الفني عند سيد قطب، ص 285-317.
(3) - القاضي عياض، الشفا، 1/227-247.(12/115)
أما الزركشي (ت 794هـ) فإنه بعد أن ذكر للإعجاز اثني عشر وجهاً، أتبعها بوجوه أخرى، وجعل أولها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم، سواء المقرين والجاحدين، وإن كان قد نقل قبل ذلك كلام الخطابي في تأثير القرآن ضمن الوجه الحادي عشر(1).
وجعله السيوطي (ت 911هـ) الوجه العشرين من وجوه الإعجاز التي ذكرها، وعددها خمسة وثلاثون وجهاً(2).
وذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ/1935م) أنه أحد أنواع الإعجاز، وأن من الذين اهتدوا إليه بعض حكماء أوروبا(3).
وعده الزرقاني (ت 1367هـ/1948م) الوجه الرابع عشر من وجوه الإعجاز، وكان آخر الوجوه التي ذكرها، وعلق عليه بقوله: "هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه، أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفة، حاذقاً لأساليبه العربية، ملماً بظروفه وأسباب نزوله، أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة، فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم، ونقلت حدود الممالك عن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاءً أشبه بالقهر وما هو بالقهر، وأفعل من السحر وما هو بالسحر، سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه، ومحالفوه ومخالفوه، وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته، ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه، فوجد تياره الكهربائي موضعاً في نفوسهم لشرارة ناره، أو لهطول غيثه، وانبلاج أنواره"(4).
__________
(1) - الزركشي، البرهان في علوم القرآن ، 2/106.
(2) - السيوطي، معترك الأقران، 1/242.
(3) - محمد رشيد رضا، المنار، 1/169، وأشار إلى أن المقصود بهذا الكلام أحد فلاسفة فرنسا، في كتابه: الوحي المحمدي، ص 100، وعبارة الفيلسوف الفرنسي ذكرها الزرقاني في مناهل العرفان، 2/307.
(4) - الزرقاني، مناهل العرفان، 2/303 .(12/116)
وعد الدكتور البوطي: مظهر جلال الربوبية، الوجه الرابع والأخير من وجوه الإعجاز، وأكد بطريقة غير مباشرة أن من يراعي هذا الأمر ويلتفت إليه فلا بد حتماً أن يتأثر بالآيات ويكون لها في نفسه وقع وأثر(1).
وعده الدكتور صلاح الخالدي الوجه الرابع والأخير من وجوه الإعجاز، وبين أن له جانبين، وبحث في سر تأثير القرآن في النفوس(2).
وجعله عبد المنعم درويش الوجه الثامن والعشرين بين واحد وثلاثين وجهاً(3).
وذكر عدد من المشاركين في المؤتمر الأول للإعجاز القرآني، هذا الوجه على أنه أحد وجوه الإعجاز، فذكره الدكتور عبد الرزاق اسكندر(4)، وجعله الدكتور عبد الستار حامد الوجه الثالث من وجوه الإعجاز(5)، وجاء في توصيات المؤتمر: "إن الإعجاز القرآني لا يحده حد محدود أو مظهر معين أو زمن معين، فهو معجز في نظمه، وفي ترتيب حروفه، وإيقاع كلماته بما يثير من إحساس يلائم المعنى المقصود..."(6).
الرأي الثالث:أن الإعجاز النفسي تابع لأحد وجوه الإعجاز ولا يعد وجها مستقلاً بذاته، وقد ذكر ذلك عدد من المؤلفين.
فمن هؤلاء الرافعي (ت 1356هـ/1937م) حيث أورد إشارات متعددة حول هذا النوع من الإعجاز في ثنايا كلامه عن مفردات القرآن ونظمه وبلاغته، فلم يفرده بالذكر ولم يخصه بعنوان مميّز(7).
__________
(1) - د. محمد سعيد رمضان البوطي، من روائع القرآن، 156 و 160.
(2) - د. صلاح الخالدي، البيان في إعجاز القرآن، ص 331-351.
(3) - عبد المنعم فرج درويش، اللؤلؤ والمرجان في التنبيه على إعجاز القرآن، ص 207.
(4) - كتاب: الإعجاز القرآني، بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني، المعقود بمدينة السلام بغداد، في 1410هـ 1990م، ص 313.
(5) - المرجع السابق نفسه، ص 326 و 327 .
(6) -المرجع السابق نفسه، ص 696.
(7) - مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص 23 و91 و97 و134 و181 و184 و228.(12/117)
وكذلك في كلام محمد عبدالله دراز (ت 1377هـ/1958م) عبارات متفرقة وإشارات عن تأثير القرآن في النفس(1).
أما بديع الزمان سعيد النورسي (ت 1379هـ/1960م) فلم يعده وجهاً مستقلا كذلك، وأشار إليه إشارة عابرة، وجعله أحد ثلاثة أسس تشكل بمجموعها سراً من أسرار الإعجاز المعنوية(2)، كما أشار إليه في ذيل رسالة المعجزات القرآنية، بقوله: "إن القرآن الكريم قد بدل الحياة الاجتماعية تبديلا هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً في نفوس البشر وفي قلوبهم..."(3).
__________
(1) - محمد عبدالله درز، النبأ العظيم، ص 102 و113-116.
(2) - بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، ص 242، هامش2، ومن اللطيف أني كنت قد أعددت بحثاً عن وجوه الإعجاز عند النورسي شاركت به في المؤتمر العالمي الذي عقد في استانبول عام 1995م، وضمنته عبارة النورسي التي أشار فيها إلى الإعجاز النفسي، وعلقت عليها بعبارة وكانت آخر ما في البحث: "إن حديث النورسي عن هذا الوجه من الإعجاز كان في غاية الاختصار، وعلى أنه أحد ثلاثة أسس تشكل بمجموعها سراً من أسرار الإعجاز المعنوية، وهو وجه حري بالدراسة والتأمل والتوسع في الحديث عنه" [ص 308 من كتاب: المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي] وها أنا أعود إليه بالدارسة والتوسع في الحديث عنه.
(3) - النورسي، المعجزات القرآنية، ص 167، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.(12/118)
وتحدث عبد الكريم الخطيب (ت 1406هـ/1985م) عن روعة القرآن وسطوته، على أنه أحد الأمور الظاهرة جداً فيه، وهو يرى أن وجوه الإعجاز أربعة: الصدق المطلق، وعلو الجهة المنزل منها القرآن، وحسن الأداء، وروحانية القرآن، فهو لا يرى أن تأثير القرآن في النفوس وسلطانه على القلوب أحد وجوه الإعجاز، وإن كان مفهوماً من كلامه اندراجه ضمنها، ودخوله تحت لوائها(1).
وضمنت بنت الشاطئ الإشارة إليه في ثنايا حديثها عن الإعجاز البياني(2).
وأفرد الدكتور فضل حسن عباس للإعجاز النفسي والإعجاز الروحي عنواناً، وهو يفرق بينهما – كما سبق – ورجح أنه تابع للإعجاز البياني في قوله: "نحن لا ننكر تأثير القرآن على النفوس، فتلك قضية بدهية، ولكن الذي نناقشه هنا أن نعد هذا الوجه وجهاً منفصلاً عن بيان القرآن وبلاغته وبديع نظمه، وإذن فنحن ننكر أن نعد هذا الوجه الأول من وجوه الإعجاز فوق بلاغته وبيانه، والذي نراه جديراً بالقبول أن هذا الوجه ناشئ عن بلاغة القرآن وعلو شأنه، وبديع نظمه..."(3).
__________
(1) - عبد الكريم الخطيب، إعجاز القرآن، ص 185-246، وحديث الخطيب عن روحانية القرآن ليس كحديث محمد فريد وجدي عنه.
(2) - عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل نافع بن الأزرق، ص 46.
(3) - د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص 348.(12/119)
وجعل الدكتور خليفة العسال الإعجاز النفسي الوجه الخامس من وجوه الإعجاز، إلا أنه نص على عدم استقلاليته بقوله: "ومما هو جدير بالذكر أن هذا الوجه النفسي التأثيري من وجوه الإعجاز لا يقع مستقلاً بذاته، بل لا بد وأن يكون متصلاً بغيره من وجوه الإعجاز الأخرى، كما أنه لا خلاف في الواقع بين القائلين بهذا الوجه وبين غيرهم من أصحاب الوجوه الأخرى للإعجاز، فإن تذوق الإعجاز لا يمنع من بيان الوجوه التي فجّرت هذا التذوق"(1)، وقال في خاتمة كتابه: "إن التأثير النفسي للقرآن يتناول سائر المخلوقات، كما أنه لا يقع مستقلاً بذاته عن وجوه الإعجاز الأخرى لأن الوجوه كلها تذوقية تحرك المشاعر والوجدان وتؤثر في الأسماع"(2).
ومن العلماء الذين تعرضوا لذكر الإعجاز النفسي مَن لم يعن بتعداد وجوه الإعجاز أو تقسيمها، وقد يكون كلامه عن الإعجاز ضمن كلامه عن أمر آخر، أو أثناء حديثه عن القرآن بصورة عامة، فلا يمكن تحديد رأيه فيه بدقة، ويصعب تتبع مثل هذا الأقوال لتشتتها وتفرقها في العديد من الكتب مختلفة الموضوعات والتخصصات، ولعل في ما تم إيراده الكفاية والدلالة على غيره.
__________
(1) - د. خليفة حسين العسال، من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ص 36.
(2) - المرجع السابق نفسه، ص 62.(12/120)
وبعد عرض هذه الآراء الثلاثة في موقع الإعجاز النفسي بين وجوه الإعجاز، يأتي دور محاولة التوفيق والجمع أو الترجيح بينها، بعد تقرير أن كل مجتهد في تبيين وجوه الإعجاز مأجور بإذن الله، وغاية الجميع إظهار عظمة هذا الكتاب المعجز، ومحاولة تجلية ما فيه من روائع وبدائع، وقد كان للعلماء مسلكان في عدد وجوه الإعجاز، فمنهم من ذهب إلى القول بحصر عدد وجوه الإعجاز في وجهين أو ثلاثة: الإعجاز البياني، أي بجميع ما يتعلق بلفظ القرآن ونظمه من مباحث، والإعجاز العلمي، أي بجميع ما فيه من علوم، وأخبار عن السابقين، وأمور مستقبلية، وحقائق علمية لم تكن معروفة، ومنه: التشريع(1)، وقد أفرده عدد من العلماء بالذكر فجعلوه الوجه الثالث(2)، ومنهم من مال إلى التفصيل وتعداد وجوه كثيرة للإعجاز، كما فعل القرطبي(3)، والزركشي والسيوطي، والزرقاني، وأحمد خلف الله(4)، والنورسي(5)
__________
(1) - ممن جعله تابعاً للإعجاز العلمي: محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، ص 92.
(2) - ممن جعله وجهاً مستقلاً: محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، ص 79، ومناع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 262، ود. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن، ص 150، جامعة القدس المفتوحة.
(3) - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/73-75.
(4) - أضاف أحمد خلف الله إلى وجوه الإعجاز الخمسة والثلاثين التي ذكرها السيوطي، أربعين وجهاً أخرى، في كتابه: القرآن يتحدى، ذكر ذلك الدكتور عبد الغفور محمود مصطفى جعفر في بحثه: إعجاز القرآن في فكر بديع الزمان النورسي، ص 350 من كتاب: المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي.
(5) - تعددت عبارات النورسي في عدد وجوه الإعجاز بين سبعة أوجه، أو أربعين وجهاً، أو مئتي وجه وأكثر، وقد بينت في بحثي: "آراء النورسي في وجوه الإعجاز" أن مراد النورسي بالأوجه السبعة: العامة أو الرئيسة، وبالوجوه الأربعين أو المئتين: الدقيقة أو الفرعية المندرجة تحت الأوجه العامة وضمنها (ص 302 من كتاب: المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي).(12/121)
ومن تبعهم.
ويرى الباحث تبعا لمعظم من تعرض للحديث عن الإعجاز النفسي أنه وجه مستقل من وجوه الإعجاز، وأنه يقع في موقع متميز بين وجوه الإعجاز، لأنه أمر يتعامل معه الجميع، ويتعرض له ولآثاره كل تال وسامع، ولو في فترة أو مرة، بخلاف بعض وجوه الإعجاز التي اختص بالتعامل بها عدد محدود، ولا يكاد يشعر بها كثير من المتعاملين بالقرآن، وأنه وثيق الصلة بالإعجاز البياني، وثمرة من ثمراته الكثيرة.
من نتائج البحث
1- إن البحث في الإعجاز النفسي قديم، فقد تعرض له أوائل من ألّف في الإعجاز أو كتب فيه، كالخطابي والقاضي عياض.
2- اختلفت عبارات الباحثين في التعبير عن الإعجاز النفسي بين: تأثير القرآن، وروعته، وهيبته، وسحر القرآن، والإعجاز الروحي، وغيرها من العبارات ذات المدلول المتقارب.
3- أدخل بعض الباحثين ضمن الإعجاز النفسي: حديث القرآن عن النفس الإنسانية وخفاياها، واقتصر بعضهم على التأثير العظيم للقرآن في نفوس سامعيه وقارئيه، وهو ما تم ترجيحه في البحث.
4- أدلة إثبات الإعجاز النفسي كثيرة ومتنوعة، وهي بحاجة إلى جمع وتتبع وتصنيف وتعليق، وتمييز بين الصحيح والضعيف.
5- الإعجاز النفسي أحد وجوه الإعجاز، وهو وثيق الصلة بالإعجاز البياني.
والله تعالى أعلى وأعلم، وله الحمد أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم بحمد الله
فهرس
المقدمة ... 5
وجوه إعجاز القرآن الكريم عند النورسي ... 9
المبحث الأول: وجوه إعجاز القرآن التي جزم بها النورسي ... .11
المبحث الثاني: اوجه الإعجاز التي لم يجزم بها النورسي ... .20
علوم القرآن والتفسير في رسائل النورسي ... .33
المبحث الأول: علوم القرآن في رسائل النور ... .36(12/122)
المبحث الثاني: التفسير في رسائل النور ... .46
حكمة التكرار في القرآن الكريم من خلال رسائل النور ... .69
المبحث الأول: معنى التكرار ... .72
المبحث الثاني: حكمة التكرار في القرآن ... .77
المبحث الثالث: المواضع التي بيّن النورسي حكمة التكرار فيها ... .87
الإعجاز النفسي معناه وأدلته وموقعه بين وجوه الإعجاز. ... .101
المبحث الأول: معنى الإعجاز النفسي. ... .103
المبحث الثاني: أدلة الإعجاز النفسي. ... .112
المبحث الثالث: موقع الإعجاز النفسي بين وجوه الإعجاز. ... .135(12/123)
بديع الزمان النُوْرْسي
سيمياء الشكل والصميم
أ.د. عشراتي سليمان
جامعة وهران-الجزائر
فاتحة
عالم النورسي الفكري يدحر بلا محدوديته. فهو عميق كالبحر، شاسع كالمحيط، مترامي بلا ضفاف .
لم يترك القرآن بصمته الذهبية على روحه فحسب، بل لقد حمل تراثه برمته تلك البصمة، إذ جاءت آثار القرآن وخصائصه البنائية والمنهجية والأدائية ملموسة في النص النوري: تكرار تثبيتي، استدعاء توجيهي، استرسال تكميلي، تمثيل توضيحي، تخشيع، تذكير، تبصير، إدهاش، تحسيس بالطبيعة والكون، تركيز على التوحيد، جعْلُ الإنسان محور الوجود وغاية المخاطبات.
تبهرنا سيرة النورسي فنتطلع إلى تراثه الروحي، فنجده حقا قد استوعب العمر ورصد الأيام، ونعجب من هذه السيرة الحميمة التي تتطابق في التفاصيل والكليات مع القرآن، فلا يخامرنا أدنى ريب من أن الظاهرة الإنسانية التي تواجهنا، ظاهرة قدمها في القداسة راسخ..
تظل الدهشة تلازمنا والتساؤل يلح علينا لماذا حازت هذه الشخصية كل هذا الثقل الذي يجعلها أسطورة في عصر أعلن عن موت الأسطورة؟
هل تأَتَّى له أن يحوز الخلود من كونه جمع في شخصيته طبيعتين لا تتداخلان عُرْفًا: القديسية والكارزمية ؟
الكارزمية وحدها لا تفي بشرط الكونية، فهي بعد كل شيء بطولة إدهاش تختزل – عادة - مسافة الحلم،لأنها تتقاطع مع الفاجعة على أقرب سبيل.. وكذلك القديسية وحدها بلا رؤية وأفق إنجازي، تظل حيثية صلاح وسكينة، لكنها لا تحوز قوامة الرمزية.
ترى بأي المعايير نكيل جغرافية هذا الصالح ؟
أو ليس من الحكمة والبيان أن نردد نحن هنا، ما ردده هو عن شيخه هناك:
أقول كما قال مولانا جامي :
يا رسول الله ما ضر لو دخلت الجنة مع الداخلين ككلب أصحاب الكهف في زمرة أصحابك الأولين. أينا أليق بالجنة أنا أم من حرس الكهف سنين، هو كلب أصحاب الرقيم، وأنا كلب أصحاب الأمين.(13/1)
ومما لا ريب فيه أن رسائل النور - من خلال منهج الفقه الأكبر الذي انبنت عليه - قد أزالت عن سياق الرؤية والأفكار والأحكام صبغة التاريخية والمحلية، ذلك لأن النورسي كان يفاعل أوضاعا ومعاينات وضغوطا ملموسة، وكان يتصدى لمواجهات ميدانية اختراقاتها تنجم أمام عينه وتحت عناوين وشعارات معلومة وبأيدي وجوارح أشخاص وتنظيمات وقوى حية، معروفة، ومتحركة على أرض الميدان .
لكن فكر النورسي عزل عن فواعل الصراع تلك محايثاتها التشخيصية، إذ تعاطى معها في سياق فوق تاريخي، من خلال مواجهة الفعل ليس برد فعل آلي من جنسه، ولكن بتفعيل يستوعب الشروط الموضوعية التي كانت مصدر ميلاد ذلك الفعل ويتجاوزها إلى صعيد يتكفل بوضع بدائل لها تزيل عنها عدوانيتها ..
فالارتفاع عن المرحلية تتأتى للنورسي من خلال ذلك الترفع الذي جعله يقرأ المسرحية من خارج الركح، وليس طرفا فيها تغمره الأضواء تارة وتهمشه الأدوار تارة أخرى.
ومن غير شك أن السياسة خسرت في شخص النورسي فاعلا جبارا في المدافعة وفارسا لا يشق له غبار في الاستباق لو أنه تخطى استعداداته ونزل ساحتها..
ومن الثابت عندئذ أن النورسي كان يغدو رقما مربحا، لكنه بكل تأكيد لن يحقق من الرهانات إلا كل ظرفي وطائفي ومستهلك زائل.
ومن الوفاء للنورسي وكافة الصالحين والمصلحين ممن وهبوا أرواحهم في سبيل رفعة الأمة ونصب رايتها أن تحشد الجهود من أجل التقدم بالدعوة الإصلاحية إلى أصعدة أرقى وأكثر تفعيلا..
فمن غير الرشد أن نستنيم لترديد المواعظ وتبنِّي شعارات النصح والمُضِيِّ على هدهدة مشاعر الارتياح والرضى عن الذات .. إذ لا يكفي المرء أن يعلن عن محالفته لأهل الإيمان واصطناع شارتهم ليتبرر تخففه من التبعات إزاء الأمة والحضارة والتاريخ وإزاء جهد الجاهدين، ويتوهم أنه أدى ما عليه ..(13/2)
فلقد أضحى واضحا أن جنوحا إلى الاحترافية بات يبرر لجموع ممن يتكاثرون على ساحة الدعوة أن يقفوا عند حد بث المواعظ المكرورة ، ثم لا شيء بعد ذلك.
إن إسهام هؤلاء لزهيد بالقياس إلى تجشمات تَكَبَّدَها الرموز ومنهم النورسي، بل سيكون الضرر بالغا إذا تبيَّنَ أن مقاصدهم ليست خالصة وأنهم يتأذون بكل دعوة أو بادرة تخرج عن نطاقهم وتزيح صبغة الاعتماد عن احترافيتهم .. إذ الثابت أن من كانت آفاقه مسدودة وأفكاره محدودة يضحى ديدنه الجنوح إلى الركود والانغلاق، فكل تحلحل يثيره ويهيجه لأنه يتشاءم من كل تطوير، لأن السكونية تصون امتيازاته الدنيوية التافهة.
إن هذا الفصيل الذي يحترف الدعوة من غير ما مصداقية - ولا أقول من غير صديقية ، فليت شعري أنى نحن منها ؟ - يمثلون زماتة تضر بالإسلام لغرضيتها ولانبنائها على الحاسابات الخاصة.
ألم يحن الوقت اليوم لرسم آفاق أخرى تتتابع فيها جهود الصالحين ؟ إذ لا يعقل أن يكون النورسي في طليعة من ينتبه إلى أهمية التجهيز بالرونيو وبالراديو وبالمسجل الميكروفوني، بل لقد وظف تلك العدة التوصيلية في سبيل الخدمة والدعوة، ثم نقف نحن اليوم، وفي عصر الانترنيت والبث القمري عند حدود إشهارية عتيقة..
فمن خدمة الإسلام أن تُصْرَفَ جهود الأمة في التجهُّز بما يعمل على تثبيت الإسلام في نفوس المسلمين وعلى توصيل الدعوة والعقيدة وتبليغها للعالمين، بكل لسان وتحت كافة الأشكال التبليغية الناجعة. وإن الجهة المرشحة للاضطلاع بهذه المهمة الفتحية هي تلك الجماعات واسعة النطاق والمنتظمة في سلك الخدمة، كما هو شأن النورانيين.
ولا مشاحة في أن خير سبيل للدعوة وأنفذه هو ما تحققه الأمة شعوبا وأقطارا من نجاحات في دفع التخلف وتعزيز المكانة وامتلاك القوة.(13/3)
لقد كان لنا في النورسي أروع نموذج على الاستماتة ليس فقط في الدعوة، بل وفي قهر العوائق المفروضة على الذات والمقيدة للحركة والخانقة للحرية والمناهضة للمبدإ .. لقد أوجد شروط الخدمة من العدم، وجهز الفيالق من لا شيء، سوى أنه استلهم سيرة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) ذاك الذي بنى الحضارة من حفنة رمل جعلها سدا بينه وبين الأعداء، ومضى تحت جنح الليل يشيع النور والسلام.
وإذا تساءلنا لِمَ لَم يتواصل النورسي مع علماء عهده، ألم يكن من الأجدر له أن يمد يده إلى طبقة العلماء في حاضرة الخلافة ليشرع بما يكلفه له ذلك المدد من طاقة في العمل والسعي؟
والجواب البديهي هو أنهم كانوا إما منجرفين مع الأعداء، أو كانوا متفرجين، أما من كان على صلاح منهم فقد صُفِّيَ أو شُرِّدَ أو أُقْبِرَ حيًّا كما حصل للنورسي، وعلى تلك الحال لم يكن بد للنورسي من أن يمضي وحيدا في سعيه رغم رسوفه في القيد .. ولولا همة جبروتية رعتها إرادة ربانية لكانت أحوال تركيا اليوم غير الأحوال .
على أنه لابد من ملاحظة أن تلك الظروف القاسية التي عاشها النورسي قد ساهمت في تهييئ ظروف استزراعٍ موفَّقة، من حيث استهدفت الدعوة النورية قاعدة المجتمع وأوساطه الشعبية الواسعة، حيث تتقوى القابلية ويتوفر الاستعداد.. فتجديد البذرة اقترن بتجديد التربة وهو ما جعل المُزارع - في نهاية المطاف - يغادر العالم قرير العين واثقا من فلاح جهوده.
ولو أن النورسي رجح كفة الواقع على كفة التأمل الروحي والتوحيدي في ما كتب وفي ما ترك لنا من آثار، لما كانت رسائل النور، ولكان المحصول تراثا تسجيليا لسجالات مرحلية لا تصلح إلا كمدونة توثيق تاريخي، بل حتى صلاحيتها التوثيقية تلك تظل نسبية، لما تتميز به - عادة - مثل تلك الكتابات من ذاتية ومن رؤية شخصية لا تستجيب لمعيار الموضوعية على كل حال..(13/4)
فترجيح الجانب الدنيوي في الآثار إنما يوقعها - ببساطة - في الصبغة الإيديولوجية، فهي عندئذ انعكاس للواقع ورصد له من زاوية الموقع العقدي الذي تصدر عنه رؤية الفاعل.. الأمر الذي يجردها من شرط استمراريتها التجنيدية خارج صعيد الجغرافية والتاريخ الذي ظهرت فيه .
فالخطاب الإيديولوجي لا بقاء له، إذ مسيرة الزمن والمراحل المتعاقبة تحسمه، على عكس الخطاب التعبدي، خطاب الخدمة والسلوك .. فهو معطى روحي مفتوح على ثبات الفاعلية والتأثير، مستقطِب للقابليات باستمرار، ومحاور للإنسان في كل زمان ومكان.. إذ لابد لخطاب الخدمة الإصلاحية كي يحوز شرط الاستمرارية وحق الدوام، أن يتجاوز آلية الارتجال الانفعالي والتسديد بسهام الذات ونعرتها، إذ هما سبب تَعَفُّرِ أنْفِ الخطاب في وحل الظرفية. من هنا كان لابد لخطاب الخدمة من رجاحة قداسة، كي يخترق حدود المرحلية وكي يتجهز بخاصية المرموزية.
أجل إن الرسائل تفسير حشْدي إصلاحي، ومدونة جهاد تعبدي، وسِفْرُ تعبُّدٍ جهادي لا غبار عليه، من هنا حازت طبيعتَها الحية وامتلكت مرموزيتَها المتجاوبة مع كل الأجيال .. وقد ترى أفكار دعاة العصرنة في بعض مقررات النورسي تزمتا، لا سيما في تلك المسائل العامة التي عالجها من منظور ترشيدي لا إسراف فيه، وخص بها مجالات الترفيه والتسلية والإبداع مثلا.
والجواب أنه ليس كحالنا التي انتهينا إليها في هذا المجال رد على حكمهم ذلك، إذ لم يثمر إنغماسنا وأخذنا بالقيم الليبيرالية واللائكية وبعبثيتها إلا تبديدا منكرا لقيمنا.
لقد مُسخنا على صعيد شامل، حتى أضحى كل عاقل يتساءل بخوف هل لهذا التردي من نهاية؟ وبتنا نتصور أحوالا للأجيال الصاعدة صادمة للنفس، طاعنة للكرامة الإنسانية، إذا استمرت عجلة التردي - لا سمح الله - على هذه الوتيرة المنحدرة.
ولو تساءلنا أخيرا فيم يختلف النورسي عن دعاة زمانه، بل وعن الدعاة في سائر الأزمنة حتى يحظى بهذا التميز؟(13/5)
قلنا إنه ساواهم في الفناء، لكنه فاقهم في ما أحدث من فعل وحقق من إنجاز..
وإذا كان لبعض الطرق حشود تعد بالملايين، فلا عبرة ولا مجال أن نضاهي بينها وبين النورانية، لانفتاح النورانية على الناس جميعا.
فمنهاجها هو القرآن والسنة. إذ لا خوف لأحد من أن يتلون بلون يحجمه أو ينمطه أو يفرض عليه تبعات وضْعية إلا تبعات الإسلام كما قررها القرآن وبينتها السنة وسيرة السلف النيرين.
ثم إن النورانية ربطت خدمتها باستنهاض المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إذ أنها عينت العدو : الغرب المستعمر والصهيونية الكائدة والمتغربين الخائرين.
وأناطت المسلم بمناهضة التخلف، وحَدَتْ به إلى أن يسعى قُدُمًا لأن يمتلك شروط القوة ويخوض غمار البناء والتحديث في إطار الشريعة الغراء. ثم هي جعلت من شريعة الإسلام رسالة مفتوحة على كافة مخلوقات الله.. فبذلك عززت روحها الإنساني وأعلنت خلوصيتها، واعتبرت كل مؤمن صادق الإيمان هو عضو فيها ولو لم يعلن عن فرديته.. النورسي ارتهن نفسه وتنازل عن حظوظه من الدنيا كلية، وسخر عبقريته في الدعوة التوحيدية المتماهية في وعي حضاري ( لابد وأن يتحقق) وتخطى بمثاله الإقتدائي الأجيال، ليرسو عند عتبة الصديقين .. فعلى قدر عظمة المثال تكون المكانة.
رحم الله النورسي على ما أسدى وأهدى . آمين
وهران في 28 ربيع الأول
موافق 1-07-2000
عشراتي سليمان
تمهيد
قراءة أولى
في الإكونوغرافيا(1)
الصورة الأولى
يا رب، أنا غريب وحيد ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي، فأنا أصيح الغوث الغوث . أرجو العفو، وأستمد القوة من بابك يا إلهي. (سيرة ذاتية 224)
__________
(1) الإيكونوغرافيا ICONOGRAPHIE: علم يختص بحقل الصور، وبكل ما يتعلق بها من حيث الوضع والألوان والأشكال والخطوط والمعاني التي تحملها أو توعز بها.(13/6)
إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس: إستغنائي عن المقاصد الدنيوية واعتذاري عن عدم مراعاتي للعادات الجارية في البلاد، ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي، بموافقة الظاهر والباطن .. ومحبة ملتي. (سيرة ذاتية 71)
ملامح متجهمة، نظرة ثاقبة، أنف أقنى نسري، شاربان مشذبان لكنهما يغطيان مساحة من غير فضول، يأخذان مكانتهما تحت الأنف دون أن يؤشرا لشأن. الشاربان - عادة، لا سيما في الزمن الماضي، و لدى أهل المشرق خاصة - هما فهرست سيرة الإنسان. يُستقرأ منهما ماضي حياته وحاضره - المكانة والمستوى والمشرب - لكن الشارب عند النورسي يحتل حيزا رجوليا في سيمياء الوجه دونما فائض .
المحجران ليسا خابيين - رغم تقدم العمر الذي تعكسه السمة العامة للجسم - بل إن ألَقهما يواري انقداحا باطنيا كتيما. العين سماء يسودها صحو، إنه صحو السكينة، ويظلها حاجب كث عرا طرفه بياض عمق من بروزه، كثافة شعر الحاجب في التراث من علامات الرئاسة والشأن .
الخدان يتابعان انطواءهما بفعل الزمن، كالثمرة حين يأذنها الموسم وهي في العرف (اللاوية). إنهما يحملان رسم تثنٍّ يتناسب مع العمر، وينم عن ارتياض متوازن لا يدل عن تقشف أو ضناكة في العيش، وذلك ملمح ملموس على بركة جلية كان يحدثنا عنها النورسي .
ظاهر اليدين يفيض على حجم يكشف عن تمرس بالعمل، فهما ليسا يدي مثقف يحترف مسك القلم وليس شيئا آخر. والصلابة التي تبديها عظام الوجه تتعمق أكثر في حجم اليدين المبريتين .النظرة شقِّية (شق)، العينان ترسلان سهما بعيدا، وتنفذان في المدى، الموقف يبرز حالا من الانغمار الباطني الذي يستغرقه . الوقفة في ظل شجرة - الشجرة بذاتها باهتة - عنوان الوحدة والعزلة والانقطاع . إنها خلوة الروح في صومعة الشيخوخة.(13/7)
الطلعة لا تعرب عن شكاة من الواقع أو تأفف من تبعاته، بل إنها من عمق انغماسها في هذا الواقع بدت نابية عنه ولا تمت إليه بصلة، إنها طلعة مشدودة بخيط انخطاف ينأى بها عن المشهد الأرضي، وهي لذلك لا تكاد تتماس مع التفاصيل إلا بنصف وعي. نظرة انغلاق وإشاحة متجاوزة لما يواجهها، وغير تعبيرية أو بالأحرى تعبيريتها لا تشف عن شيء مما يعج وراء ستار الانخطاف المسدل على الوجه. فالتركيز يسدد هناك بعيدا عن مجال المواجهة. ولا غروة فالنورسي مستلب بعوالم لا يحصرها الشاهد العيني ولا اللحظة الراهنة.
الهيئة فضة، فضفاضة، داكنة كليالي دجمبر، لا تعير للخارجي اعتبارا، الهندام يصون الهيكل ويحميه من تقلبات الطقس.لا رسالة له، أو على الأصح رسالته لا تصطنع المحسن البديعي. لا لياقة لها، لأنها حميمية. إنه سعيد الجديد - والجدة باطنية فقط، تتعاكس مع جدة ظاهرية رائقة ستكشف عنها هيئة سعيد القديم (علاقة التعاكس). نظرة وسطى تقاطعت فيها معاني ليس من السهل إدراكها: الاستياء بالابتئاس بالسهوم بالغياب بالتأمل بالتسامي بالتلقي بالإصغاء. الاغتمام الذي نلمسه على صفحة الوجه يستجمع كل الأبجدية التي نلحظها على تلك الوجوه التي برتها الشيخوخة ومعاناة وطأة العبادة ودفع المغويات. نظرة تنم من بعض زواياها عن اكتئاب أو احتدام أو..
نظرة حية، تلقف ما يدور في سمائها بيقظة سافرة. إنها تستقرئ الحركة العارضة أمامها بإمعان طارئ، فهي نظرة لن تلبث أن ترتد إلى حال أخرى أكثر استقرارا، وأكثر استسلاما. ترى كيف تكون ألوان شاشتها عندئذ ؟ وما سيكون مزاجها؟ وهل لها حقا صفاء وهدنة مع الكون ؟ وهل تشع منها بسمة وداعة؟
الصورة الثانية(13/8)
كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد أمام البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورة أعداء ألداء، وكانت تبحث أيضا عن نقطة استمداد أمام رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد " (اللمعات 382).
النظرة اللوزية سهمية، تتحاشى المواجهة، مركوزة في المدى بكل استرسال، الأنف بارز قليلا، انعقاده يُلَوِّحُ بإحساس بالوصمة والمرارة والانهيار. تخوم الفم تحوم عليها امتعاضة ذاوية.
الذقن مفروم، وذاك ما يجعله ارتكاز وسامة بالنسبة للوجه المهموم. المَسْمَعان بارزان، الشاربان مقوسان يظلهما جفاف، والعمامة تميل قليلا نحو اليسار، دلالة على كبرياء متجذرة. ملامح الوجه تشف عن حال تربص واندحار منذرين، وسيما المطلع بِرُمَّتها تكشف عن حال من التراجع القسرية . نظرة فيها جفاء عارم، نظرة تتشرع لصد كيد نازل أو لابتلاع عوالم عدوانية، مناهضة، غير مرئية.
الصورة الثالثة
ارفعوا هاماتكم وقولوا لقد صدقت. وليكن هذا التصديق دينا في أعناقكم". (سيرة ذاتية 115)
الصفحة فيها أضواء سِلْمٍ وبراءة ورغبة عارمة في الحياة، لكن هناك غيوم ترحل، تنبع من الأعماق وتحاصر أسراب تلك النظرة الموسم، تلك المروج الربيعية، ذلك الصباح الصحو.
نظرة دائمة التجاوز والنفاذ والانشداد إلى أفق أبعد، الشفتان مزمومتان على طيف من سخرية يخالطه امتلاء باطني بمشاعر الصرامة والتحفظ والرفض. نظرة تسيطر على مجالها، واثقة من أنها تدرك حركة الأمواج من حولها وتسبر تياراتها العمقية المتلاطمة، وترقب الطوارئ وتترصد المستجدات.(13/9)
ظل كبرياء لا شائبة من عدوان فيها، أشبه بمشاهد يتابع مسرحية رآها أكثر من مرة فهو على علم مسبق بحركات الممثل وسكناته. الشاشية (الشيشانية) تميل قليلا إلى اليمين، مؤشر لعنفوان مكبوت، بوادر تخدد ونضج تطرأ أسفل العينين، نضارة صحة في المقلتين. طلعة تكبح من جماح فتوتها وتفوقها في وضوح، وزي تجندي ميداني ينبئ عن الاستعداد الفطري لممارسة غليظ المهام ورقيقها.
الصورة الرابعة
" كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم". (سيرة ذاتية 150)
الشَّدَّة الرأسية تميل إلى اليسار، شارة الخيلاء. نظر ناعس مشدود إلى الأمام، بزة براقة، ووقفة جاهزة ومحسوبة تتجاوب مع الفتوة المتألقة وبهجة ربيع العمر. خطوط الشفتين تدل على أن الصمت سجية أصيلة لديه .
الإشاحة وتجنب المواجهة تنمان عن منزع استعلائي، تجاوزي، غير اندماجي، ظهوري، وذاك منزع سيتجسد بكيفية أو بأخرى على الصعيد الفكري والعملي في حياة النورسي. قشابة الزي ورُوَاءُ الطلعة تدلان على شغف بالحياة متدفق.
استجماع لمحصلة الشواهد والخطوط(1)
الكبرياء حال متأصلة، والصمت مظهري لا غير، فالأعماق تموج بالمخاطبات، والزهد ليس من سجية النفس بل هو كسب ارتياضي تأصل بقوة الاستعداد، الكونية وازع وجودي، فالنظرة أبدا متجاوزة إلى الأبعد والأعلى والأعمق.. النفس كسيرة جبلة، لكنه انكسار الإيمان وملامسة الفيوض.. والتحدي نار تستعر في الأعماق، وتتحقق ألطافا وخدمة ربانية كفلت المقامية والخلود..
مدخل إلى تخوم الشخصية
النورسي.. ووازع إعادة المفهمة والتقويم
__________
(1) لاشك أن استخلاصنا هذا مختزل، وتقصدنا أن يكون على هذا الوجه الموجز، على أمل أن نعيد الكرة، فنخصص مبحثا مستقلا أوسع لقراءة سيرة النورسي من خلال قراءة ظلال الصور وتجليات الإيكونوغرافيا، إذا ما تيسر لنا ذلك إن شاء الله.(13/10)
لازم النورسي مفاعلة القرآن بفناء قلبي صريح، يترصد من خلال أنواره الطريق المؤدي إلى النجاة ويستلهم المرتكزات المقوية على الصمود في وجه الزعازع، فلذلك لبث يداخل القرآن وفي ذهنه هموم عصره ومفاتن زمانه، فالخطاب يستهدف فواعل الهدم النشطة على الساحة ويستهدف المصير الذي لا ينبغي إلا أن يكون بهيجا. فالدرس القرآني لم يعد خطاب الإرجاء وبث التعزية إلى ما بعد الفناء، بل لقد أخذ طابع المنهاج التثويري العام، فشعاراته من ثمة رفعت لتعلن عن مراهنتها ليس المرحلية ولكن الأبدية إطلاقا..
كما لم يكف النورسي عن إعادة تقويم الظواهر والسلوكات في إطار إرساء روح الخدمة على أسس جديدة تتجاوز عتبة الشكوى والتظلم ونعي الطالع. وفي هذا الإطار لم تعد الوقائع العرفية ترسو على قيمها المألوفة والمحسومة، بل لقد أضحت لها قيم جديدة وأضحى الضمير يتعاطى معها في ظل تلك القيم ويلابسها بموجبها.. فالعمل أو الوظيفة – مثلا - بات لذة، وتحول عن مفهومه القديم كونه واجبا أو شرفا أو ما إلى ذلك .. فالنفس تقبل على تأدية المأموريات لأنها تتشرب فيها ومن خلالها لذة ومتعة، وبالتالي سعادة وجودية.
بهذه الروح لبث النورسي يرسي قواعد التغيير على صعيد شمولي .. إذ كان على إدراك كبير بأن ظواهر الحياة ومعطياتها لا تتجدد ولا تأخذ مسارها التحولي البناء إلا من خلال إعادة مَفْهَمَة وتقييم تلك الظواهر والمعطيات، وإضفاء عليها المفهوم والدلالة التي تجعل العقول وبالتالي المواجد تتجدد وتنصرف تلقائيا وبصورة طبيعية ضمن السياق التجديدي لتلك الدلالة..
فالغاية القصوى كانت تأصيلية، من هنا كان على منظومة المعاني أن تنصهر من جديد في فرن القرآن النوراني، لتكتسب قابلية التجدد والحياة في زمن طغت عليه الحركة الفاعلة والمنفعلة، مما أكثر ضحاياه.
القوامة الرجولية والرؤية التجريدية(13/11)
يمكننا التأكيد على صعيد آخر، أن هناك ترابطا عضويا في شخصية النورسي بين منازعه الفكرية والروحية وبين خصائص تلك الشخصية، وفي هذا النطاق يمكننا أن نصل ملمح القوامة الرجولية البارز في نفسيته بالنزعة التجريدية التي تميز فكره والتي أخذت طابعا روحيا قويا.
ومن الملاحظ أن طاقة التدبر والاستجلاء التي تميزه أخذت أحيانا صبغة تحليل رياضي، وتلك حال لا تعكس فقط طبيعة الاقتدار الفكري والاستبصاري التي يصدر عنها ولكن أيضا طبيعة القوامة الرجولية التي تتميز بها شخصيته، إذ أن نزعة التمرس بالتحليل نزعة تنم عن قابلية جوهرية في شخصيته، هي قابلية القوة والمكابرة والتحدي ومواجهة الصعاب. فالتحليل - بما هو تفتيت وإخضاع وإفناء وسيطرة ذهنية وعقلية - هو المعادل الموضوعي لروح الغلبة والظهور التي تسكن جوانح النورسي.
ومن جهة أخرى يمكننا القول إن قوة التمثل العقلي كانت وراء حدية مواقفه، فهو يرى في القرآن ما قد لا يرى غيره فيه، يرى فيه أكوانا وانبثاقات وقوانين لا تفتأ تغمره وتجتاح نفسه هو بالذات، فلا يزداد بها إلا إيمانا وتطاولا على ما سواها من فذلكات التجريب البشري التي لا تتطابق مع النموذج الإلهي المسطور في الكتاب أو الشاخص في الظواهر والآثار، وكل ذلك كان يقوي فيه الشعور بالاكتفاء.
النعرة القرآنية وبطولة الوجدان
سيرته في مطلع شبابه الأول بين القبائل كانت سيرة عملية تلتزم شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك لأن وازع البطولة فيه كان يأخذ صورة مادية سندها الفتوة والعنفوان، وكانت مظاهرها السلاح الذي يلازم حزامه - ربما ذاك شأن عرفي في تلك البيئة - لكن توظيف تلك الأسباب كان يومها أخلاقيا، شرعيا، أما حين تخطى مرحلة الشباب فقد صعّد من سلاح الروح، وتصلبت واشتدت الجراءة المعنوية، إذ أصبحت تشتحن في كل آن من بطاريات القرآن(13/12)
هناك نعرة فطرية روحية تتملكه إزاء ما يعرض للمقومات من الانتهاك. فهو قادر على أن يتلقى الطعنة بكل صبر متى ما كان ذلك يصون العقيدة ويحمي منظومة القيم التي تشكل لوجدانه مناط القداسة الروحية والحرمة الفكرية.
فهذه النعرة لا تتجانس بتاتا مع ما يبديه كثير من الناس من عواطف دينية لا تتجاوز الحد الانطباعي البارد، بل إن نعرته كانت حميمة، عضوية، مبدئية، وما ذلك إلا لأن كرامته الشخصية باتت من كرامة العقيدة والقرآن. من هنا لم يعد الفصل بين الحدين ممكنا، ومن هنا أيضا كان انخراطه الروحي ذلك الذي طفق يحياه بالقرآن وللقرآن طيلة تلك العقود.
" إنه من الضروري أن يحتد ويغضب كل من له مزاج عصبي مثلي، لأن الذي يحمل فكرا رفيعا - أي الحرية الشرعية .. وأوشك أن يراها تتحقق فعلا، إذا به يرى نفسه على خطر وهلاك من حرمان رؤيته - بانقلاب عظيم - كيف لا يحتد ولا يغضب؟ " (1)
لم يكن اعتناقه لروحية القرآن مجرد إيديولوجية عرضت في سوق الجملة، ولم تكن إكسيرا سيكولوجيا ارتد إليه بعد نكوص وجودي فاجع، من هنا لا يمكن أن نعدّ حساسيته الحية المتهيجة إزاء ما يمس القرآن من تعديات أو تجاوزات مجرد حال احتدادية عارضة، بل هي إعراب حميم لما يتلاطم فضاء النفس من حمية إيمانية صافية
لقد ظل النورسي رحمه الله على خط من الإيمان والثبات الفكري والمعنوي لم يخطئه طيلة حياته.
فأفكار شخصية سعيد القديم - في جملتها - كانت من الاستنارة والأصالة بحيث وجدناها تظل تقريبا هي هي في فكر سعيد الجديد.
نفسيته نفسية جمع وتوليف،لا تشتيت وتفريق والرسائل تجسيد إنجازي لذلك
__________
(1) سيرة ذاتية70.(13/13)
الرسائل كانت الإنجاز الروحي والفكري والمعرفي الباهر الذي فك به النورسي عن نفسه الحصار والعزلة، ومد جسور التواصل مع المجتمع ، بل ومع الأمة قاطبة حتى في تعاقب أجيالها. فقد حقق من خلال الرسائل ذاته، لا على أساس نرجسي أو تعويض قصوري أو مطمحي زائل،إذ الرسائل إنجاز من عمل العقل الباطن أو الروح الاستبصارية الجياشة، بدليل أن النورسي لبث يؤكد أنه كان يكرر قراءة الرسائل قراءة مستكشف، أو كمن كان أجنبيا عنها..
لقد أنجز النورسي رسائله القرآنية بتوفيق رباني ثابت، ذلك لأنه عندما قرر أن ينجو بنفسه المؤمنة وأن يقصيها عن القطيع، كانت دوافعه في ذلك هي روحه المفعمة بالإيمان وجبلته المشتحنة بالأنفة والتأبي عن التدجين والرضى بالدنية..
وواضح أن النورسي لم يكن يتوقع أن عقود الحبس ستتمخض عن تشييد ذلك الصرح الروحي القرآني الذي هو رسائل النور، إذ لم يكن مهيأ لذلك الإنجاز على أكثر من صعيد، فهو من الناحية الفكرية كان صاحب عقلية خطابية جدالية، فهو خطيب مرشد، ميداني، عملي، ولم يكن ذا نزعة نظرية طاغية نجدها تجنح - عادة - بأهل النظر إلى طلب العزلة والسكينة وإدمان التأمل.. إنها صفات لم تتعمق في حياة النورسي قبل مرحلة العزلة.. وهو من الناحية النفسية لم يكن شخصية انعزالية تحضن بيض فكرها في دفء الخلوة والسكينة والانقطاع كما هو شأن أغلب المفكرين.
" إن أكثر أحداث حياتي قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيري، إذ أعطيت سيرا معينا ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم" (1).
لقد كان شخصية اجتماعية راسخة لا تجد أكسوجينها إلا من خلال تفعيل أواصر الجدال والمحاورة. ولم يكن النورسي - آنئذ - محتبس الروح في مزاج نفسي ديدنه الانغلاق التأملي السلبي، بل كان شخصا استقطابيا، مبادرا.
__________
(1) المكتوبات 484(13/14)
وحين تغيرت الأوضاع بعد الحرب وأخذت تستتب على واقع رجعي، انعزل النورسي ولاذ بالوحدة، ولم يكن في وسعه إلا أن ينعزل، لكن شراسته الثورية كانت تفزع الخصوم، فلم يترددوا في فرض العزلة عليه وجعلها حبسا مؤبدا، وكان النورسي مرشحا أن يعيش العقم التام، إذ جردوه من أهم شرط حياتي تستجيب له طبيعته، شرط الاحتكاك والتواصل الفكري مع الآخرين، ولم يكن يخطر بخلده أن الحبس سيهيئ له مجالا بنائيا ربانيا لا يُسامَى.. فمن طبيعة المنتكسين في أحلامهم أن يعكفوا على التعزية الروحية، وهو ما يجعل النص القرآني مجال سلواهم، لكن النورسي لم يكن في حاجة إلى أن يرتد إلى القرآن بخلده أو بوجدانه يتسلى به ويتسلح، إذ القرآن منذ وعى نفسه ظل غذاءه ورداءه ومتعته التي لا تشغله عنها متعة أخرى، فأنّى له أن يحقق في حبسه انجازا ذا معنى، لاسيما وأنه بلا ساعد ولا واعد.
فالكتابة التي هي العون الحميمي، التلقائي، للمثقف في اغتراباته واعتقالاته ووحشته، كانت فاعلية تكاد تكون معطلة عند النورسي، فخطه السيء، والبطيء، لم يكن ليغري النورسي بالإبحار في تجربة المصابرة والتعزي ونشدان السلوى بمساكنة الحرف، ثم ما عسى نفس فطمها إيمانها عن اللغو وعن استعراض تفاصيل الذات أن تقول أو تكتب؟ كما أن انشداد الروح إلى التأمل الصامت والتحرى المكنون والتدبر الشاخص الذي كان بعض ما يطبع نفسيته كأثر للمنزع التصوفي الذي شب عليه، لم يفلح في استجرافه إلى مجال الذهنية البحتة والتجريد القح والتبتل الروحي الذي يدمن الإصغاء إلى سنفونية الصمت وما يعج فيها من أصوات مسكرة.. من هنا عاش التمزق، ومن هنا كانت الانبثاقة النورانية التي سيكون لها انعكاس تفجير القنبلة النووية من غير ما إنذار..(13/15)
أجل، لقد تزاوجت لديه البواعث المحركة لتجاوز حال الاعتقال: النفس الثورية الجامحة جبلة وبفعل القهر، والنزوع التدبري المستثار بوطأة الحبس، والحلم الوجودي والحضاري الذبيح .وهكذا تهيأت الظروف لميلاد الحدث النوراني العظيم.. إذ أنجز الاستغراق الزمني الطويل الذي كانت ظروف الحبس تغذيه بالمحرضات النفسية والمزاجية ذلك الإطار الروحي والفكري العتيد، وانتسجت اللوحة العجيبة، خيطا، خيطا، بل فتلة فتلة ولونا لونا، بكل صبر وبكامل التؤدة والأناة.. لقد فجر النورسي قنبلته النووية بعد أن هيأ لها من الشروط والاستعدادات ما هيأ، ولقد رفع شعار السلام السلام، فمصنع القرآن النووي مهيأ للأغراض السلمية ولخدمة الإنسانية لا غير.
وربما اعتقد قائل أن انسحاب النورسي كان أمرا مقضيا بالنظر إلى ثوريته الفطرية، فهو بطبيعته ينبو عن مساكنة المألوف والمعهود والنسقي، لذا سار على ذلك الطريق الذي ظل يسير عليه منذ كان.. حتى في طفولته، إذ شذ عن الأقران..
إن هذا الاعتراض مردود، تفنده صيرورة الوقائع نفسها، فالنورسي ظل يحمل راية الإئتلاف والاستقطاب حتى حين كان يبحث عن من ينازلهم علميا زمن شبيبته، فالحدث الفكري التناظري كان يتضمن في ذاته دعوة صريحة إلى الاجتماع والائتلاف، لكنه اجتماع وائتلاف يقوم على أسس رؤيوية مغايرة كليا لتلك الكيفيات المعرفية البالية التي تقوض بها صرح المدنية الإسلامية، والتي كان الوهن والخمول والإعتيادية المقيتة من صفاتها، إذ كانت تزين للناس أن يواصلوا الاصطلاء على رماد الاستسلام، غاية استبسالهم الظفر بغلبة تأويلية في مجلس فقهي، استعراضي، ساذج..(13/16)
فمقارعة النورسي لم تكن سلوكا نفوريا إزاء الآخرين، بل كانت استصفاء حصيفا للإرادات المهيأة للجهاد، وذاك ما سيتجسد -أروع ما يكون التجسيد- على صعيد الرسائل، إذ من خلالها حضن النورسي الناس جميعا وضمهم إليه، حتى الآثمين، ومسح على رؤوسهم، تاركا لهم فسحة التوبة والاندماج في جماعية كبرى، لا قيّم على بابها إلا القيّم الشرعي، القرآني، والسماحة الربانية التي لا تضاهى.
قساوة الإعتراك
ومما لا شك فيه أيضا أنه نال من الاعتراك الشيء الذي لم ينله إلا قليل من الرجال، من حيث جسامة المعاناة وفداحة المكابدات وعلقم المرارات التي تجرعها، ومع ذلك ظل موفور العزة قوي النفس، يتمادى كبرياؤه الإيماني وأصالته الثباتية مع المراحل إلى آخر العمر، بل إلى الساعة التي وافاه فيها الأجل المحتوم.
فلقد كانت واقعة وفاته ذاتها من بعض وجوهها ترمز لحمية روحية ونفسية تعارض أن تسقط، وتتأبى عن الوقوع. لقد دفعته حمية الحياة، وحمية التصدي، وحمية الاحتمال المتأصلة فيه والكامنة في روحه إلى أن يرحل وأن يقطع - وحشرجة الموت تكتم أنفاسه - مئات الأميال، في رحلة لا وجهة لها، لقد حملت تلك الواقعة الاستثنائية عديدا من الدلائل، من بينها إرادة المقاومة، والاستمرار، ومواجهة الموت واقفا، وملاقاة الله على درب السعي والحركة.
لكن الاعتراك الذي عاناه النورسي وتجشم ويلاته هو اعتراك الرجولة والقوامة والشمم. وقد وسعه أن يصمد لكل ذلك البلاء كونه من جهة يحمل من الإيمان ما لا تستطيع معه أية قوة أن تنال منه، ولأنه من جهة أخرى عارك المصير الامتحاني وهو مبرأ من كل شائبة نقص أو قصور تخنع بها النفس حين المواجهة أو لدى اشتداد الوطأة وتلاحق الأذى عليها، كما سنرى في حينه.(13/17)
ومن جهة أخرى علينا أن ندرك أن النورسي حين اختار أن يكون ذلك الطريق الإبتلائي وجهته، لم يكن يصدر في ذلك عن اعتباطية واستسهال للأمور ومجازفة حمقاء بالمصير، ذلك لأنه كان عليه أن يأخذ إحدى الوجهتين، إما وجهة الانقياد لظروف الحياة والتسليم لمجرياتها وركوب العربة التي تنحشر فيها الجموع، وإما أن يعتصم بقلعته وأن يعصم طبيعته التي جبلت على التفرد والتميز و الريادة والسؤدد.
من الواضح أن الاختيار الأول هو الأيسر والأدنى إلى النفس متى كان الإنسان عاديا وغير مسكون بطاقة قدرية انبثاقية، إذ أنه النهج الطبيعي الذي ينخرط فيه كل إنسان حيث تتفتح روحه على إيقاع هذه الحياة وتتكيف بالتطبع والتدرج مع شروطها وضوابطها وتعيش تجربتها العادية ما بين إحداثيتي الحياة والموت بتوفيق يتفاوت بتفاوت الناس وحظوظهم وكفاءاتهم...
لكن النورسي لم يختر الطريق الاعتيادي، كما أنه لم يجازف باتباع ذلك السبيل - الذي اختاره - عن هوى ومغامرة.. لقد كان ذا نفس متميزة، حملت كما أسلفنا همة لم يكن يسعها أن تهادن الواقع المحنط الذي كان يحيط بها من كل جانب، لذا كان حتما أن يسير على طريق الثورة، وأن يختار المواجهة الحاسمة، وأن يشن حربا إصلاحية شاءها أن تكون كونية، عدته اللوجيستيكية قاهرة أبدا في كل حرب دخلتها ضد الشيطان : القرآن العظيم.
ولم يتهيأ النورسي لخوض المعركة الحاسمة إلا بعد أن استكمل اليقين وعبأ مقدراته الروحية والنفسية ووجهها نحو الميدان وواجه بها الأعداء الماثلين والغائبين، لقد خاض منازلة لا مجال حيويا لها مفضلا، لأنها شاملة، إذ اختارت استراتيجية المستقبل، وراهنت على الإنسان المسلم الذي ستُشَرِّع خدمته للشريعة أبواب التمدن والسعادة في وجه العالمين، وعلى كل صقع في هذا الكون.
فالامتحان الذي بلاه النورسي بتفوق كان امتحانا مزدوجا، وقد جعله تفوقه الرائع الذي تحقق له على مدى قصير يحتل صدارة لا يحوزها إلا الأولياء.(13/18)
بل إننا نجد أن حياة النورسي وهي تنداح به على مدارها القدري المرسوم قد انشطرت شطرين إذا أمكن القول، شطر الفتوة والشباب وهو مليء بالحيوية والتدفق والإسعادات، وشطر الرجولة والعجز وهو مفعم بالكآبة والإحباط والطعنات.
حقا لقد سلخ شطرا وافيا من حياته متقلبا بين المنافي والمعتقلات والحجر والمعاناة الصحية والمحاكمات. الأمر الذي لم يتح له أن يسعد بشيء من لذاذات الحياة، أدناها وأبسطها أن يكتنفه جو الأسرة ويحيطه دفء الحميمية.. لكنه سلخ شطرا كاملا من حياته محروما من الهناءة والقرار، الشطر الأجنح إلى السكينة وإلى الدفء وإلى احتضان العش الأهلي والقرابة الرحمية. فحظه من هذا الجانب يعد فاجعا حقا، ومن كان هذا حظه من الحياة، فلا جرم سيغادرها وفي أعماقه جوع لا يملؤه أي ضرب من أنواع التجمل مهما جهدت النفس في التعزي والتأسي.
لكن النورسي- كما نجزم - قد غادر هذه الوجود الدنيوي على أشد ما يكون سعادة وحبورا، لأنه ظل على يقين، ومنذ أن دشن مشروع الرسائل، بأن حياته قد كسبت حق الخلود.
" إذا مت، تزداد خدمة النور للقرآن والإيمان، وتتوضح وتتبين بإخلاص أتم، بلا حساد ولا اتهامات، فضلا عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاص من أثقال العجب وأضرار التصنع بدلا من ذوق جزئي موقت لا أتحراه -في هذا الزمان- ولذة ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا" (1).
عراك النورسي تأتّى من حيث ضم جوانحه على روح أبيّة، إذ أن روحه تشبعت بمرصود أخلاقي وتمرسي قرآني تناغم مع الاستعدادات التي هيأها الله له، فكان لها من ذلك التناغم النفسي - النوراني، تلك الكفاحية التي ظل دائما ديدنها أن تواجه الظواهر وأن تجابه الأحوال.
__________
(1) الملاحق 294(13/19)
إن الجبهة الأخرى التي ناضل عليها النورسي كانت جبهة النفس الأمارة، فكان عناؤه في إلجامها كبيرا، إذ كان شيطان الهوى لا يفتأ ينجم بقرنه فيكدر المهمة ويبلبل الإرادة، لكن النورسي المتسلح بسلاح القرآن كان لا يعتم أن يهزم الأهواء في ساحة النفس ويردها على أعقابها كسيرة . أسعفه على تحقيق ذلك النجاح قطعُه الباتُّ للرجاءات الدنيوية واعتصام بالإيمان بالله خالص لا يقايض، وحب للإنسانية صميم غير مدخول.
2- النُوْرْسي مجدّد القرن
كان النورسي تجديديا على مستوى نظرته للزمن والمدنية والسياسة، فهو كان على وعي بأن المنازلة الحقيقية هي التي تراهن على القابل، لأن استرداد المكاسب المهدورة من المجد والمدنية لا يتحقق بالمناحة على ما فات أو بالبكاء على ما ينزل بنا من مآس، بل يتحقق إذا ما عقدنا العزم على إنجاز الرهان الانبعاثي وباشرنا العمل في إطار من الإيمان بالله والتوكل على أنفسنا وذكائنا وقدرتنا على استغلال إمكانيات العصر وما تتوفر عليه أوطاننا من طاقات لا تقدر.
كما أنه تجديدي في المنهج الترشيدي وفي المادة العلمية والمعرفية التي ينشرها والمرتكزة أصلا على القرآن العظيم، المصدر الرباني الذي ينبغي أن يضبط رؤيتنا البنائية، وهذا بتجاوز تلك المقاربات النمطية التي واظب على اعتمادها الأجداد .
لقد استهلكت تلك المقاربات مقدراتها التفتيقية وأضحى واجبا علينا تجديدها وإلا وقعنا في المحظور وألحقنا الإساءة الفادحة بالقرآن العظيم المتجدد مع الزمان والمكان.(13/20)
ومما لا ريب فيه أن سبب التمسك بمنهج الأجداد التعليمي هو استحكام روح التقليد التي اكتسبت في خلدنا الجمعي قيمة قدسية وعربون مبرة ووفاء نحو تراث الأسلاف.. فالتقليد العقيم قد ترسخ عندنا بمبررات واهية تستجمعها عاطفة سطحية تريد أن تتخفف من احباطاتها الحضارية بادعاء السير على هدي السلف.. جهلا منا بأن السير على هدي السلف لا يقتضي أن نتقزم بعقولنا ومداركنا وطموحاتنا حيال ما أنجزوه لنا بعقولهم ومداركهم ومطامحهم. فالزعم بأننا بتكريس التقليد السلبي نسير على هدي الأسلاف هو افتئات عليهم وخيانة لهم وكذب صراح على الذات.. إذ شتان ما بين الهمة والهمة، وبين الحمية والحمية.
لقد جدد النورسي حين دعا إلى إعادة قراءة التراث ولكن ليس بعين أصحابه، وإنما بعين تمحيصية قرآنية .. إنها دعوة إلى الرسالة الشاملة التي رأيناه يمارسها حيال وعيه بالحضارة والتاريخ..
فالنورسي في هذا المضمار يريد ليس فقط تسديد التراث من خلال تقويمه على مسطرة القرآن، ولكنه يريد أن يصل إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى التمرس وإعلاء نظرتنا لذلك المرصود العتيد الذي يعد جزءا منا، وبالتالي فإعلاؤنا له هو إعلاء لذاتيتنا، من خلال مراجعة وترشيد المعايير التي تشبث بها ضمير المسلم حينا، في كنف اجتهاد ثبت حقا أنه كان في كثير من منجزاته اجتهادا دفاعيا، حاجيا، اضطراريا، تصونيا، أكثر منه اجتهادا تعميريا وتوسعيا وإنجازيا وكسبيا..
فالنورسي دعا إلى وجوب تطويع رؤية المسلم وجعلها رؤية مدنية تربط روح المسلم وعقله بالثابت من المقومات، ضمن صيرورة الأخذ بالمستجد من المكاسب الدنيوية وصقله بصقالة الثوابت، إي بالمعيار القرآني.(13/21)
ومن جهة أخرى جدد النورسي في زحزحة الفكر الطرقي من حال الاستنامة والفناء في الغيب ودفعه إلى الإثابة والعودة إلى حال الوعي والواقعية والانخراط في الحياة المدنية .. فعن طريق ملازمة حلقات الذكر لا ينبغي أن تستنيم الجموع المسلمة لنشوة السكر الروحي لتخلي موقعها على المسرح الكوني، بل عن طريق لا إله إلا الله، يجب أن تتواصل الأرض بالسماء وتنفسح الآفاق في وجه الأمة المسلمة لكي تقود وتهدي العالمين إلى الأفضل وإلى التي هي أحسن.
كما جدد النورسي في مضمار السياسة، إذ أشهر قواعد سياسية قرآنية معارضة تماما للقواعد الميكيافيلية، فالميكيافيلية نفاق وتمحك ونفعية على حساب حقوق البشر، والنورية صدق ووضوح وسماحة وإنسانية، والمكيافيلية كذب ودجل مرتبط بمشروع حزبي أو طائفي مرحلي والنورية إخلاص ومداومة وتعميم للخير وكف للشر واعتراض عن الباطل. والمكيافيلية بهتان والنورية برهان..
إن تجديد النورسي في مضمار السياسة جعله يستفظع السياسة الشيطانية ويخلص نهائيا للسياسة الأحمدية فمثلما كانت الدعوة المحمدية توحيدا يحمل قابلياته التنظيمية والتأطيرية في ذاته، جاءت (رسائل النور) تعاليم توحيدية قرآنية تنعكس على الأرواح والسلوكات انعكاسا بنّاء يجعل الفرد إنسانا فاضلا وعلى قابلية تجهيزية تمكنه من أن يبني مدنية الحق على قواعد الحق.
3- النُوْرْسي تجنيدي
أجندته تقوم على توقيت الشريعة، فالشريعة ضبطت للمسلم تعبئة روحية قوامها خمس صلوات في اليوم، موعزة بذلك للمسلم أن يظل على روح تجنيدية لا تفتر، لأنه يعيش مواجهة استنفارية مع شروط اجتماعية وحضارية تقتضي من الأفراد والجماعات تجندا تاما من أجل بناء الكيان المستحكم وإرساء القاعدة الحضارية المكينة.. فلا فائض من وقت لدى المسلم الحق - في هذا الزمن بالخصوص - قابل للهدر والاستهلاك في غير البناء والتعمير..(13/22)
من هناك همش النورسي عملا وقولا أوجه الملهيات مهما تقنعت بالصبغة الثقافية. فمشاغل مثل الرياضة كلهو - وليس كطاقة بناء - والقراءة المزجية للوقت أو التي تتحول إلى إدمان غير ذي مردودية فكرية وروحية ملموسة، وما شابهها من أوجه الترفيه المجاني الأخرى ينبذها النورسي ويعتبرها ضربا من اللغو ..
بل يرى أن إثمها أكبر من نفعها لما فيها من أسباب تفويت العبادة وتشويش الروح وتطبيع العلاقة مع السفه واللغو العقيم وتعويد النفس على الانسياق في النزاغة..
" إعلم أن هذه المدنية السفيهة المصيّرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني، بالجرائد صباحا ومساء، غلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجاب الغفلة، بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة، وكذلك فتحت لروح البشر منافذ غير محدودة ونظارة إلى الدنيا يتعذر سدها إلا لمن خصه الله بلطفه"(1).
فقراءة الجريدة – مثلا - شرط مدني إخباري لكنه يقتضي من الإنسان وقتا يقتطعه من يومه لكي يطلع عن فحواها. ومن الطبيعي أن هذا الوقت لا يسمح به واقع التجنيد الذي يتبعه المسلم في حياته والذي من أسسه تقديم الأهم على المهم.
ثم إن وسائط الإخبار باتت مشوبة بما تتضمنه من مواد تتناول حوادث السقوط الأخلاقي والتحلل والجرائم والخيانات، ولما كان أمر تغطيتها للحوادث إشهاري بطبيعته، فإن ذلك يجعل المجتمع يتكيف حتما مع تلك الإختلالات الأخلاقية، الأمر الذي يكرس التطبيع لها حين تغدو حوادث تمثل أمامنا يوميا على أدهش ما تكون غرابة وإيغالا في الوحشية والفساد، إلى درجة أننا نجد أنفسنا تقبل على قراءتها بنوع من الفضول بل والترقب على نحو ما تشدنا الأفلام السينمائية..
__________
(1) المثنوي العربي النوري 226(13/23)
فروح تسديد الجهد وترشيد النفقة في المعطى التوقيتي لا يسمح للمسلم بأن يصرف أي شطر من زمنيته في ما لا يعد فرضا وواجبا.. فما فضل من وقت في العمل والتحصيل والتطوير، ينبغي أن يصرف في العبادة المحضة كالصلاة والصيام - وكل عمل في الإسلام عبادة - إذ العبادة هي أفضل وسيلة لتجديد الوعي ورسكلة الروح وترقية المدارك، من هنا يستغني المسلم عن تعاطي النشاط الترفيهي المادي المتماس مع الدنس والتحلل واللا تقوى..
بل إن جل تلك الأنماط والأنشطة الترفيهية كما صاغتها مدنية الغرب، لم تكن في طبيعتها إلا فُسَحًا تجميمية تحرك منازع النفس وتثير كدورتها الشهوية في مجتمع بات يعاني من الإشباع المنحرف، واقتضاه ذلك بأن يتفنن في ألوان التشهية، لذا صعد من شططه التحللي في شتى المجالات، ومنها ميدان الرياضة والنشاط الترفيهي، إذ أن تلك الأنشطة قد أنيطت - غاية وطبيعة - بإثارة الأهواء والنزوات..
لقد رأينا كيف أن النورسي بادر إلى الدعوة إلى تحصين وسائل الإعلام - ومنها الراديو - ضد جنوحها الإفسادي الذي لمسه لها، حينما رآها ماضية في طريق تهييج العواطف وإشاعة الغواية.
بل لقد وجدناه يدعو إلى ضبط سياسة ثقافية مرشدة تقوم على إلزام الكتاب والأدباء بمسؤولية ما يكتبون: " يا أصحاب الصحف، على الأدباء أن يلتزموا بالآداب، وعليهم أن يتأدبوا بالآداب اللائقة بالإسلام، فينبغي أن تكون أقوالهم صادرة من صدور لا تحيد لجهة، ومن عموم الناس، فيشترك معهم عموم الأمة".
بل لقد دعا إلى رسم مسطرة يناط بها نشاط الطبع والنشر الموجه إلى المجتمع.
" يجب تنظيم برنامج المطبوعات بما في وجدانكم من شعور ديني ونية خالصة "(1).
__________
(1) سيرة ذاتية 100(13/24)
ثم يبين الزلل الذي وقع المسؤولون فيه عندما أقاموا سياستهم الثقافية انطلاقا من قياس مدمر، إذ قاسوا الريف على المدينة، وقاسوا المدينة على ما يروج في الغرب: " لقد أوقعتم الرأي العام والأفكار السائدة في مستنقع آسن بقياسكم الريف باستانبول، وبقياس استانبول بأوروبا"(1).
لقد كانت الأخلاق تتردى بتردي وسائل الترفيه ووسائط التوصيل في وحل السفه والمجونية.
بل لقد غدت تلك الوسائط تمارس فعلا تأثيريا استبداليا خطيرا بنفاذها إلى مواجد المتلقين لا سيما الناشئة والنساء والقطاعات الواسعة من الجمهور فتستهويهم وتستلبهم وتضحى عندهم بمثابة العبادة التي لا تفوَّت والواجب الذي لا يترك .. لقد تحولت المقابلات الرياضية الأسبوعية مثلا، إلى مناسبة جمهورية مشهودة تمارس الفعل التهييجي على روادها. ونفس الأمر يقال عن المسلسلات.. وليت هذه المسلسلات تطعمت بمستوى من التذكير الروحي، الإيقاظي، وتوجهت في إطار حدثي لا يكرس الغفلة عن الدين.
لقد أهاب النورسي بالإنسان أن لا يقع في تبعة اللهو المجاني، وأن يصون نفسه عن أذى اللغو وغيره من المشاغل الاسترواحية الخادعة والتي تنطوي على كل ما يقتل في الروح قبسها ويُطفئ فيها حيويتها ويُخْمِدُ جذوتَها.. إن المشاغل الترفيهية إذا ما استدامها الإنسان فستتحول إلى إدمان يورث السفه والحمق والبلادة ويقزم الرؤية ويحصرها في زاوية استيلاب محددة، إذ تغدو اللعبة هي مدار حياة الإنسان ومشاعره، تنسيه نفسه وواجباته وتقطع أواصره مع آفاق أوسع وأوطار أرحب خُلِقَ الإنسان ليلمسها ويعرفها ويكرس إرادته فيها، لا أن يتعلق بنطاق من اللهو العقيم.
__________
(1) سيرة ذاتية 101(13/25)
لقد قدر النورسي مخاطر اللهو ونظر إليها في صورتها التي كانت تمارس بها في الأزمنة القديمة، وكذلك قدر مخاطرها المستشرية على نحو ما نشهده اليوم، إذ شملت الجرائد الماجنة والرياضات الفاضحة والفنون السمعية البصرية المستغوية. وها هو يبين الفروق الحاسمة بين الانشغال بالملاهي المدجنة للإنسان والاشتغال ببدائل روحية تحيي النفس وتذكي العقل والبصيرة:
" اسع أيها الإنسان أن لا تشتغل بلهو لا معنى له وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحَمَام والببغاء، بل اسع في طلب لهو من ألطف اللهو وأزكاه، وتسلى بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الأشجار والنباتات التي تخرج أصواتا رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها أوتار آلات صوتية.
فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك ألوفا من الألسنة الذاكرة والمسبحة وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذ تتزيا معظم الطيور - كأنها هدهد سليمان - بلباس الصديق الحميم والأنيس الودود، فتصبح خداما مطيعين لك، فتسليك أيما تسلية وتلهيك لهوا بريئا لا شائبة فيه، فضلا عن أن هذا الذكر السامي يسوقك إلى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الإنسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعد أضراب اللهو التي لا مغزى لها إلى حضيض الهاوية "(1).
__________
(1) الكلمات288.(13/26)
فإذا كان المنهج التعليمي النوري قد بنى فلسفته التعليمية على تثمير رشيد للزمن والقصد في استغلال سيولة الوقت، وهذا بالتركيز على المصادر التعليمية الأم، الكتاب والسنة، ربحا للوقت، وتحصينا للروح بإسمنت السماء الذي لا يبلى، فكيف يتسامح هذا المنهج مع الرؤية اللاهية التي تهدر الجهد وتعرض النفس والروح للامتهان والابتذال ومواجهة عناء الآثام، وهي ببرنامجها الرباني في غنى عن الدخول في الابتلاءات بمحض إرادتها..
ولا عجب أن نجد النورسي نفسه - وانسياقا مع رؤيته التجنيدية هذه - يتخلى عن مشاغل فكرية وروحية كان يزاولها في بعض مراحل حياته، مثل حساب الأبجد والجفر. فقد كفّ النورسي عن ممارسة هذا الجهد، لما رأى فيه من تعطيل وإعاقة للعقل والروح حيال أولويات استنباطية أخرى أكثر لصوقا بالواقع وأكثر ارتباطا بشؤون المسلمين الدنيوية والأخروية..(1)
فإضراب النورسي عن تعاطي هذا اللون المعرفي الذي كان يعد علما عتيدا في منظومة علومنا الإسلامية، إنما يندرج ضمن رؤية التحصيف المعرفي التي رتب بها النورسي برنامجه الروحي والمعرفي في تلك المرحلة الحاسمة من حياة تجدده، والتي شملت الكف عن قراءة الجريدة وعن ارتياد الأماكن العمومية وعن ملاحقة أصداء الحوادث التي لا تدخل ضمن بؤرة الهم الإسلامي في نضاله ضد التخلف والميوعة..
وهكذا وجدنا النورسي في مواطن متعددة من رسائله يكرر التحذير من مغبة الانسياق وراء الملهيات الإعلامية والعمومية التي كان يرى خطورتها تشتد على النفوس بحيث لا تلبث أن تتحول عندهم إلى ما يشبه (الكيف) يسلب ويورط في آفة الإدمان.
لقد قدر النورسي حاجة الإنسان إلى الاستجمام، لكنه ضبط تلك الحاجة بمقدار تنشيطي لا يقعد بالنفس عن واجباتها ومسؤولياتها:
__________
(1) انظر اللمعات 57(13/27)
" فكما أن الإنسان محتاج للاستماع إلى الحقائق فهو محتاج أيضا إلى شيء من اللهو والترفيه، ولكن يجب أن تكون حصة هذا الترفيه المفرح الخمس مما ينقله الأثير، وبخلافه تقع منافاة لسر حكمة الأثير ، حيث يؤدي إلى دفع الإنسان إلى أحضان الكسل وحب الراحة والخمول والسفه، ويسوقه إلى عدم إتمامه وظائف ضرورية له وتركها ناقصة غير كاملة، وعندها ينقلب ما كان نعمة عظمى إلى نقمة عظمى بما يثبط من شوق الإنسان نحو العمل الضروري له"(1).
4- الثكنة والجند..
وواقع الإرتهان الحضاري
مما لا شك فيه أن النورسي قد علق كبير الآمال على قطاع العسكرية في إسناد الأمة والانعطاف بها نحو السبيل السوي والنهضة الحضارية التي تعطلت أسبابها بفعل ليل الانحطاط المديد..
ولا بدع أن يولي النورسي كل ذلك الوثوق للمؤسسة العسكرية في بلاده خلال تلك المرحلة العاجة بالمخاضات والمفعمة بالاحتمالات، فقد كان النورسي ذا طبع عسكري تجندي ثابت ..
بل أكاد أقول إن عرف العزوبة الذي كانت العسكرية العثمانية تتبعه في نظامها العسكري الانكشاري(2) في بعض الولايات على الأقل، قد يكون له تأثيره الكبير أو القليل في تكريس تلك الروح المتخففة من التبعات التي نجدها تلازم قطاعا من الشباب وتمتد بهم إلى وقت متأخر من العمر، وأحيانا تلازمهم إلى نهاية العمر، فلا يتأهلون بالزوجة ولا يؤسسون الأسرة..
وقد عاش النورسي أعزب كما عرفنا، وأكثر من ذلك عاش متجندا، من خلال حركة تنقلاته التي لم تعرف الاستقرار إلا حين أودع الأسر والإقامة الإجبارية..
__________
(1) الملاحق 350
(2) كما كان عليه الحال في الجزائر يوم أن كانت إيالة عثمانية، فقد كانت جنديتها الانكشارية تتبع بصرامة نظام العزوبة.(13/28)
فروح النورسي روح عسكرية بجبلتها، وهو ما تكشف عنه محبته الشديدة للنظام والانضباط وأخذه بمبدإ الصرامة في الحياة وبالدقة الكبيرة في استغلال الوقت .. بل لقد ظلت جبلته العسكرية تعرب عن نفسها من خلال التجسيدات المجازية والاستعارية التي كانت تتقمصها نصوصه وتعابيره وخطبه.. فأدبية النورسي كانت تستمد مادتها - كما سنرى لاحقا - من وجدان يعتد بالنظام، ومن مشاعر متفتحة على الانضباط، ومن عاطفة ترى في الجندية خير إطار تأهيبي يتيح للإرادات المتعددة أن تتظافر وتنصهر في إرادة واحدة قوية وخارقة..
لقد أحب النورسي القوة، ورأى مجال تحققها يتم على صعيد الجماعة المنظمة، وكانت الجندية هي الصعيد الذي كان يجد فيه مبتغاه النفسي ماثلا: القوة والنظام والدقة وتحدي الصعاب وقهر الضعف..
عاش النورسي جنديا من غير أن ينخرط في المؤسسة العسكرية بمعناها الوضعي والرسمي، فقد نزعت به حميته البطولية إلى أن يتخذ صفه حين كان يدرس في بعض أكوار الجهات الشرقية، مرفقا للتدريب الحربي والتمرس بالقتالية، إذ حول طلابه إلى جنود وفدائيين مسلحين ومتأهبين لخوض غمار المعركة ضد العدو الملي، فلما اجتاح العدوان بلاده، كانت فرقته الطلابية في طليعة المتصدين، وكان الضحايا منهم يتكاثرون، وقد رجحت بسالتهم الفذة الكفة حينا، وأعاقت حركة العدو حينا آخر، وحمت الانسحاب حينا ثالثا، لتجد ما تبقى من عناصرها في النهاية، وعلى رأسهم النورسي، يواجهون بصدورهم الموت ويقعون في قبضة العدو نازفين..
لم يكن النورسي ليأتي هذا كله لو أنه كان مجرد مثقف نزاع إلى السكينة، جانح إلى العافية المادية ولو على حساب الذمة والأنفة كما هو السائد في أوساط من المثقفين. لقد حارب النورسي لأنه كان يحمل روحية جبلت على الحمية ورد الضيم وصون الشرف..(13/29)
وعاش النورسي مراحل ما بعد الحرب مرابطا في ساحة السياسة، شاهرا سيفه، يقَوِّمُ المواقف ويرسي رؤيته النظامية ويستجيش الصفوف، ويستبين مواقع النبو في الفكر والعمل والتخطيط، وحين وثق من ثبوت الخيانة، استكمل طريقه على خطاه التجندية التي لم يتخل عنها يوما..
لقد كانت عقود حبسه المرحلة التي تحول فيها، ليس فقط إلى جندي مرابط يقضي وقته على مستشرف من الأرض يراقب ويتشوف حركة العدو ويستنبط من الوسائل ما يحميه من الوقوع في قبضتها .
كلا، لقد تحول إلى قائد عام للأمة يصاول عليها في ميدان اعتراكي حقيقي، ويخوض معها نضالا مريرا، غير متكافئ القوى، حامي الوطيس. لقد مكنت النورسي روحه التجندية من أن يصمد في وجه القهر الأعمى وأن يخترق السدود المقامة بينه وبين الأمة، وأن يفتح سجل الاكتتاب القدسي للأطهار، وأن يجند الفيالق المجاهدة، وأن يصقلها بتعاليم لم يكن القصد منها قط، فك الحصار والظفر بإمكانية الخروج من الطوق والانسحاب بسلامة الجسد..
كلا لقد كان من غايات ذلك التجنيد الجماهيري الباهر ايجاد الشروط الكافية والمكينة لدحض قوى البغي بصورة نهائية، وعلى مدى لا أهمية لحجم تضحياته ما دام النصر سيكون حليفه. لقد شق الطريق لبناء المدنية القرآنية التي ستنضبط في كنفها عقارب زمنية الهدى كما شاء لها رب العالمين أن تكون.(13/30)
قيَّمَ النورسي المسيرة، وسجل العبرة، وأدرك أن قطاع العسكرية الذي راهن عليه قد أفلح في تأدية واجبه الدفاعي عن حمى الوطن وصون شرف الأمة، واعتبر النورسي ذلك تصديقا لتقديراته الإيجابية السابقة عن الجند العثماني، لكن النورسي سجل - من جهة ثانية - وبمرارة وتفجع، المآل المؤسف الذي آلت إليه المؤسسة العسكرية حين انساقت لأهواء الاستيلابيين والمتغربين، أولئك المدسوسين الذين لا شرف لهم ولا شأن في سجل التاريخ، إلا التردي والانبخاس والاسترخاس، إذ انقلبوا على أعقابهم وتحولوا بالجندية إلى أداة طيعة مدجنة يركبها الممسوخون من ربائب الاستعمار ويمررون بها ومن خلالها قيم التحلل والتفسخ والتهتك، مستنسخينها عن الغرب العدو، ناسخين بها مدنية القرآن الوهاجة، تلك التي ما كان لمدنية أخرى أن تنافسها لولا نكوص عن الحق وابتعاد عن التعاليم..
لكن لماذا كان النورسي يولي كل ذلك الشأن للجندية ؟
من غير شك أن الجندية كانت تمثل أمامه القوة المؤهلة للانبعاث، فقوامها شباب الأمة، وروحيتها الفتوة والنظام والنهوض، إذ الأمة كانت مثقلة بسبات الدهور المظلمة، وكانت نفسية النورسي تمور بمُثُل الانبعاث، فقد تناغمت أصداء لصيحات انبعثت هنا وهناك توقظ الأمة، لكن السدور كان مطبقا .
ثم إن النورسي رأى من جهة أخرى حماسة الاستقلاليين تحدث تجديدا كانت شعاراته توافق أحلام الانبعاث لديه، الأمر الذي جعله يطمئن في الانبعاثة. لكن الخيبة والصدمة الكبرى جاءته من حيث وثق .
فالعسكرية التي انتزعت الاستقلال هي ذاتها التي راحت تدوس قيم الاستقلال وتتنكر للحريات وتكفر بالمثل التي كانت تدين بها الأمة..(13/31)
لقد انقلبت السجايا في ظرف قصير، وكانت الردة وكان الارتكاس.. وكل ذلك لأن الأداة التي كانت مهيأة - بالفعل - للتغير البناء، قد أديرت لتحدث التغيير الهدمي، وهو ما سبب كل ذلك الدمار الذي عصف بمعالم الحضارة جملة وتفصيلا في البلاد، وزج بها في غياهب الكفر والردة لولا لطف من الله وجهد الأصفياء وفي طليعتهم الولي الصالح النورسي.
ترى هل الجهاز العسكري العثماني انقلب فجأة لمجرد أن رد العدوان الخارجي إلى عدو للمثل والحضارة والدين؟
ليس من المقبول ولا من المعقول أن يقع التغيير الجذري في قطاع منظم كقطاع الجندية لو لم تكن جهة التنفذ والتوجيه مهيأة لذلك مسبقا ومبرمجة لتنفيذ التحول ..
لقد ظلت الجندية على مر العصور والأطوار هي واسطة التغييرات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، فالأمم والشعوب محكومة أبدا بعسكريتها.. وكل انعطاف أيجابي أو سلبي يطرأ على مسيرتها إنما تقف وراءه مباشرة أو غير مباشرة القوى العسكرية، القوى البكماء كما تُعْرَفُ.
ذلك لأنها هي القطاع الوحيد الذي يتوفر على خصوصية التنظيم العضوي والانضباط الآلي، فالوحدات في انتشارها عبر مراكزها وبمختلف تركيباتها إنما تخضع لأمر واحد، وتنفذه بغاية الانصياع حتى لكأنها يد واحدة تضطلع بالتنفيذ والاستجابة.. على عكس حال قطاعات المجتمع وشرائحه المدنية، فهي وإن تجانست في وظايفها وفي أوضاعها ومقاصدها، فإنها لا تتوفر على شرط الحركة الآلية التي يكفلها النظام العام الرابط بين المجاميع..
ولما كانت أمتنا مستهدفة جراء حملها لعقيدة من أخص خصائصها أنها عقيدة تكفل الحياة لمن أخذ بها شريعة حتى ولو كان ذلك الأخذ شكليا، لأصالة جوهرها ونفاذه في الأعماق وسوقه للإرادة في اتجاه السلامة .
فقد ظلت العقيدة الإسلامية مرمى لغارة المدنيات الأرضية وخاصة منها الكتابية المحرفة والتي نظرت إلى الملية الإسلامية - على مر العصور- نظرة الحقد والحسد والخوف...(13/32)
وكديدن الأعداء معنا دائما فقد عملت الدوائر الصهيونية على أن تدس لنا في أهم قطاعاتنا حيوية وأشدها فاعلية بيادقها وخميرة كيدها، إذ سربت في العسكرية العثمانية عناصر الشر التي يتسنى للعدو أن يضرب بها ومن خلالها كل مطمح نهوضي للأمة وأن يجهز عليه في الحال..
ولما كان كيد العدو شيطانيا وكبيرا، فقد نفذ مخططه ضمن سياسة وضع البدائل، إذ أن العدو هو من الفطانة والدهاء، بحيث لا يأتي مقاصده عيانا وعلى القارعة، ولكنه يتوسل إليها بالمهارة التنفيذية بحيث يمررها ويضحك بها على الأذقان ولا تتفطن لها الأمة المستهدفة إلا بعد أن يكون المخطط قد أتى على ما أتى من المقومات..
لقد ركب العدو المتربص بالعثمانية موجة الحماس، واستطاع أن يجرف معه الضمائر الصادقة والعقول المحتسبة، والعبرة هنا بما وقع للنورسي في شأو تلك الانعطافة التي كانت تباشيرها وضاءة، فالعدو لا يضع أوراقه على بساط المعارضة المعلنة، ولا يبدي مواجهة لحماسة وحبور الأمة، ولكنه يندس ويشرع في تنفيذ برنامجه الكيدي، مرحلة مرحلة، لذلك سنجده في أول الأشواط يرفع ويعلي من شعارات الأمة على أروع ما يكون الرفع والإعلاء..(13/33)
ثم ما أن تأنس له القلوب وتطمئن له الصدور، حتى يشرع في الحيد عن الجادة، لكن بتسويغات موصولة كلها بالمبادئ، فهو يشرع في تحليل الحرام ضمن ما يصطنع من أجواء تجعل الأمر ضرورة ظرفية وعابرة، ثم يسترسل في تمضية أوراقه، وفي كل مرة وحين يسوغ لها توجهه المنحرف بما يحول دون حدوث الصدمة ورد الفعل السلبي، حتى إذا ما أحكم القبضة على العنق، وامتلك القطاعات التي استلبتها دعايته وألجمتها أياديه السوداء، جاهر بحقيقته، وكشف عنها، وزين مُثلها، وأحلها محل مُثل أصيلة كانت الأمة قد انطلقت أصلا لتبعثها وتستردها، لكن اللعبة الماهرة للعدو قد لبَّست عليها بالكيد والتضليل والقسر والإكراه، فجعلتها تنسلخ بإرادة أو بغير إرادة عن روحيتها لتعتقد مثلا اجتهادية أخرى وعقيدة وضعية بديلة ..
إن هذه الحال التنويمية قد ظل الاستعمار الغربي يسلكها ويتابع تنفيذها ضدنا في سائر الأقطار والبلاد التي احتلها واستولى عليها مباشرة أو غير مباشرة..
فسياساته مع بلداننا الإسلامية كانت سياسة التفرقة، تيسيرا لشرط الغلبة والامتلاك..ثم تنوعت أساليب تَحَكُّمِهِ فينا، إما عن طريق الحماية أو بالاحتلال المباشر.. وفي كلتا الحالين كانت أدواته المتنفذة هي قوى الاستيلاب والردة والخيانة..
لقد تحدث النورسي عما يتحلى به "السفياني" (1) من ذكاء خارق ومن قدرة على تعبئة الفطنة والعقل النفعي والبصيرة المحكومة بالمقاصد الفئوية ..
بل لقد قرر النورسي أن الظهور العقلي والدهائي الذي يتميز به السفياني أمر ثابت، لكنه ظهور مصروف في طريق التخبيط الشيطاني .. طريق الانحراف، تعززه نوازع الشر الكامنة في الإنسان والمتأهبة للتألق في مضامير الفساد والتهتك والدناءة ما أن تنطلق تلك النوازع من عقال الفضيلة. وأي فضيلة هناك؟
__________
(1) وردت أحاديث كثيرة بحق دجال المسلمين الموصوف بالسفياني، أوردها المترجم في ص387 من الكلمات.(13/34)
ذلك لأن الغرب الرقيب عن أوضاعنا لا يمَكِّنُ من يمكنهم من أبناء الأمة إلا على حساب ووفق معايير، ومن أبرز معاييره أن يكون المختار في الجوقة شيطان الروح والعقل والطبيعة. متهيئا للفساد، مضربا عن التوبة، أعمى أصم أبكم لا تنفذ إليه التذكرة ولا يمس قلبه وعظ ولا تطال عاطفته نسمة تحسيس.. إذ لابد أن يكون من النوع الذي تتناغم مكونات نفسيته ومزاجه وضميره مع ما تترسخ به طبيعة البغي والاستبداد..
والحق أن هذا الرهط يتميز بقابلية عجيبة للحياة والصمود والاحتمال، وبقدرة على البقاء والتكيف مع كل المناخات، ثم إن الغرب حين يستزرعهم، فإنما يستزرعهم ضمن نطاق سجالات حرب الاستخبار والجوسسة، إذ أن الجهد قد بذل في الكشف عنهم وفي تمييزهم عبر النسيج الجماهيري العام..
وتتصاقب الجهود شأن الفيروسات وهي تهاجم الخلية الحية، تكثف الهجمات عليها من كل جانب إلى أن تنهار فيسترسل الفعل الهجومي إلى غيرها، كل ذلك ضمن جو من الإنعاش تتحكم فيه الأجهزة الصناعية المبثوثة خارج جسم المصاب أو المحيطة به والموصولة معه بشتى الوسائط.. ويسند للبيادق - عادة - من الأدوار ما يكون تأثيره توجيهيا وغير مباشر، حتى إذا ما اكتملت شروط الإنضاج التي يتطلبها المخطط، دفع بهم في الموقع الاجهازي، وما أكثر ما صفقت الجماهير لدمى خبيثة ولخيانات مقيتة ولسفيانيين مكرة..
5- الديمقراطية
استوعب النورسي معنى السياسة من خلال مستويين إدراكيين أثّرا في نفسه وصاغا مواقفه ورؤيته السياسية التي جسدتها رسائله.
فمن جهة كان تمرسه الكفاحي واندماجه في الحياة القومية والملية قبل الحرب الأولى وأثناءها وبُعَيْدَها، تجربة كافية لتبصيره بحقيقة السياسة كما رآها تمارس على أيدي دوائر الحكم والسلطة، خاصة بعد أن جنحت الأهواء بتلك الدوائر فراحت تطابق بين أحوالها وأحوال مستجلبة من الغرب.(13/35)
ومن جهة ثانية كان انغماسه الروحي والقلبي في قدسية القرآن باعثا حاسما له لكي يستنبط رؤية استنقاذية حياتية يسوس بها أحوال الأمة ويقودها على طريق الانبعاث..
من هنا كانت معارضته الجذرية للسياسة بنمطها الوضعي المؤسساتي والكواليسي.
لم يكن النورسي آحادي النظرة، ولا كان استبداديا توجيهيا بالمعنى الشمولي (التوتاليتاري) ولكنه كان جماعيا من درجة الامتياز (ديمقراطيا بجدارة) يؤمن بالرأي والرأي الآخر، ويقول بالمخالفة، تلك المخالفة المنوطة بشرط الانسجام في الأسس وفي المقاصد البنائية، وليست مخالفة الشقاق والنفاق.
فلا أجدر بمن شاء أن يكون خادما للأمة ومنافحا عن حقها الديمقراطي، أن يكون متوافقا معها في الروحية والوجدان والأصالة..
إذ أن عليه أن يشاركها في إيمانها وروحيتها أولا حتى يتيسر بعد ذلك للأمة سبيل اتباعه والوثوق فيه على المطالب الدنيوية، لا أن يتعالى عليها ويعمل على جرجرتها إلى أرضية الكفر والإلحاد التي يقف عليها.
لقد آمن النورسي بالاختلاف متى كان ذلك الاختلاف مؤطرا بالإيمان.
ولقد وجدناه يشرح نص الحديث الشريف: (اختلاف أمتي رحمة). بما يتلاءم تمام الملاءمة مع روح الديمقراطية البناءة .
يقول: " إن الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الإيجابي البناء المثبت، ومعناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم وإبطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والإصلاح ما استطاع إليه سبيلا. أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود أصلا في نظر الحديث،حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي بناء"(1).
__________
(1) المكتوبات 423(13/36)
فالسبيل التداولي والتكاملي الذي تهدف إليه الديمقراطية الجماعية من حيث تقديم الأصوب وتقويم المعوج ضمن رؤية تشاور وتنافس على الخير، سبيل لا يتناقض في جوهر ما دعا إليه النورسي في رسائله، لأن روح الجماعة من صلب الدين الإسلامي ومن وصاياه..
لقد توفر للأمة من خلال تعاليم القرآن الشوروية ووصايا الرسول التوجيهية القاعدة التي يمكن للأمة أن تقيم عليها نظام حكم تعددي، ليس بالضرورة على الغرار الغربي وإنما له خصوصياته المرتبطة بمحليته وأصالته ..
بل لقد كان النورسي يرى في سن الدساتير المنقولة عن الغرب وما يشوبها من روح علمانية تتجاوز الدين، وفي مساعي تنظيم المجتمع على النمط المدني الغربي، إنما هو رجعية وعودة بالأمة إلى عهود البداوة والجهل، لما يرى في ذلك من إهدار لمثل ومكاسب توارثتها الأمة عن عهود حضارتها، رغم انحطاطها المرحلي..
" إن الذين يشنون هجومهم على الدين، يريدون أن يرجعوا بالبشرية إلى عهود البداوة والجهل بقانون أساس ودستور جار لديهم مستنيرين باسم المدنية، والذي يفني سعادة البشرية وراحتها وعدالتها وسلامتها "(1).
لقد كان يتبين القصد التفكيكي الذي يرمي إليه أولئك الاستنساخيون، وهو تحقيق المطامح الشخصية والأطماع الفيئوية وإشباع النزوات . " فهم يريدون - كما يضيف - أن ينفذوا هذا القانون في بلادنا المنكوبة، فيزرعون بذور الشقاق والاختلاف وبلبلة الأفكار بالتحزب وصولا إلى مآرب شخصية وإشباعا للحرص والعناد " (2).
هل فكر النورسي ديموقراطي ؟
هو شوروي بلا منازع، جمهوري بالجبلة والمنطق، إذ ما فتئ يؤكد للأتباع أن الانجازات النوعية البناءة والمغيّرة من حال الأمة إلى الأحسن لا يأتيها إلا الجمع ولا تتحقق إلا للجماعة، فالعصى الواحدة لا تصمد أمام الضغوط، فيما العصي المجتمعة تتأبى عن الانكسار ولا يجدي معها بذل الجهد إلا مضاعفا .
__________
(1) الملاحق 373
(2) الملاحق373(13/37)
لقد كان يرى في سيرة الصحابة مثال الشورى، وكان يرى في حكم الخلفاء الراشدين حكما ديمقراطيا بناءً لم تنهدر معه الحقوق الفردية ولا الجماعية.
ومما لا شك فيه أن طبيعة القوامة التي تُميز شخصية النورسي والتي كانت تنعكس في وضع التعالي ونكران الذات الذي تحلى به، قد جعله ينفر من الاستبداد ومن الحكم الفردي الذي فتح عينيه عليه في كنف الخلافة العثمانية التي كانت عوامل كثيرة تعيقها عن الانبعاث.
لقد كان يرى أن العصر الراهن يقتضي تجديد الآليات التي تتحكم في المجتمعات الإسلامية وتطويرها، لتتجاوز طابعها الفردي، فتضحى مؤساسات وهيئات ومجالس شورى.
يشمل هذا التحول المجال السياسي، من خلال ضرورة تماهي الرموز الفردية في هيئات تمثيلية جماعية، سواء في الحقل السياسي أو الشرعي، إذ الفتوى في عصر تعقدت أوضاعه وتشابكت مصالحه وشملتها حركة تطورية متصاعدة، لم تعد تستساغ من مجتهد فرد، بل الأصوب للأمة أن يتمرس بالفتوى لها مجلس أو هيئة تتظافر فيها أنظار وأفكار الجماعة، لتنقدح شرارة الحق والسداد على ذلك النحو. أما أن تظل منوطة بشخص المفتي الرسمي، فذاك أمر لا يستجيب لمظاهر التطور ولا لطبيعة النوازل والاشكالات الشرعية المستجدة نفسها.
حتى الأموات يشتركون في أمر الشورى
من خلال تواصلهم مع الأحياء بواسطة نصوصهم وتراثهم(13/38)
والشورى في نظر النورسي دينامية استشارية عمودية وأفقية على سواء، يشارك فيها ليس الأحياء وحدهم، ولكن حتى الأموات، وهذا من خلال مراجعة أفكارهم ومدوناتهم وتسديداتهم، إذ التراث وأصحابه يُستحضَرون في الفتوى وفي التقويم والتشريع والتخطيط، وبالتالي في الاجتهاد، إذ لا يصح ولا يتماسك رأي شرعي أو مدني يتقرر للمجتمع إلا إذا استوعبته نظرة أحاطت بموضوعها إحاطة لا تغفل جانبا من جوانب الإنارة والتحصيف، وبذلك يغدو حضور التراث وأهله واقعا ثابتا وملموسا في الحدث الاجتهادي، وهو ما يجعل دائرة الشورى تتسع للماضي، وهيئتها تضم رجال السلف.
حقوق الأقلية مكفولة ضمن منظور السهر على المصلحة العامة
من الطبيعي أن تدار سياسة المجتمع المسلم في ضوء مراعاة مصلحة الغالبية القصوى، إذ بالغالبية تناط المصلحة العامة. كما أن مراعاة مصلحة الغالبية لا يكون قط على حساب مصالح الأقليات، بغض النظر عما تنتحله هذه الأقليات من مذاهب وأفكار ومعتقدات، ما التزمت بالقاعدة التساكنية التي سنها الإسلام واطردت معها الأعراف الاجتماعية، وهي أن حريتك تنهي حيث تبدأ حرية الآخرين .
ولما كانت حرية الآخرين رهينة بصيانة العرف واحترام المتوارث والمرعي من القيم العامة، فلا جرم كانت المصلحة العامة ترجح خُلُقَ وسلوك الأغلبية، إذ لا يعقل أن تمس الأقلية أو تستهتر بقاعدة مرعية من قبل الأغلبية، فالحال عندئذ هو خرق للعرف، ودوس للأخلاق العامة. مقابل هذا يكون من غير العدل أن تنتهك الغالبية حقوق الأقلية أو تُعْنِتَها أو تجحف بها وبمصالحها، إذ لا تضارب بين مصالح الدنيا وإن تعددت النزعات الإنسانية ما ظل مبدأ الاحترام المتبادل مصونا بينها.
آفات الفكر الديمقراطي الاستنساخي في المجتمعات المسلمة(13/39)
الواقع أننا نرى اليوم فكرنا الديمقراطي - المستنسخ عن المجتمعات الغربية من دونما ترو وبضحالة تجعل كثيرا من مواده مجرد حيثيات شكلية يعوزها البعد الاجتماعي والنفسي في حياتنا المشرقية - إننا نراه ينادي بشعارات إهدارية غايتها الجلية هي الانتصار لأخلاقيات الأقلية أو الطليعية على حساب العرف والآداب والمواضعات التي تسير عليها الأغلبية، ومبررهم في ذلك شعور غروري بالاستنارة
إذ الاستنارة بزعمهم إنما هي شأن الأقلية المثقفة بثقافة الآخر والمتمرسة بأخلاقياته وبسيكولوجيته الاجتماعية والمدنية، فلذا توجب على المجتمع أن يسلم الزمام لهذه الأقلية تفعل به أفاعيلها.
وواضح في مثل هذا الطرح إرادة الوقوع المسبق في منحدر الاتباع المجاني، والفناء في شخصية الآخر، والإقرار بعظمته، وبالتالي بنموذجيته، وهو ما يتضمن بداهة احتقار الذات ونبذها.. وتلك هي الفصامية الخطيرة التي تعيشها نخبنا المتغربة كما سنرى.
ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد، انسياق الأقليات العرقية بتأثير التهييج الغربي الماكر، وبمبررات داخلية موضوعية أحيانا تتمثل في العنت الواقع عليهم من قبل الأنظمة، عنت قد لا يستهدفهم كأقلية ولكنه يطالهم ضمن المجموع ولكن بصور أشد، لانعدام الواقيات السياسية والقانونية والعصبية القادرة على التخفيف من الضغط عليهم. الأمر الذي يهيئ الاستجابة الإيجابية لتلك الأقليات إلى ما تدعو إليه التيارات المتطرفة واللادينية، ممن ترى أن الطريق إلى انتصارها على الأغلبية إنما يكون بضرب القيم والمقومات التي تلحم هذه الأغلبية، وهو ما يجعل من العقيدة والملة المستهدف الرئيسي لضرباتهم، إذ باختراق سور العقيدة يتيسر تتحقق الأهداف التفكيكية.(13/40)
وواضح أن الصراع كما تبرمجه القوى الحاقدة لا يستهدف الأغلبية بوصفها قومية أو عرقا، ولكنه يستهدفها بوصفها حضارة تمتلك في سجل مدنيتها وفي كروموزوماتها الروحية قابلية القوة والانبعاث والغلبة، الأمر الذي يتعارض مع سؤدد وطغيان تلك القوى المتربصة التي تجد نفسها في التحليل الآخر تعادي - على حد سواء - العرق وتعادي العقيدة التي يتسلح بها ذلك العرق.
الديمقراطية الغربية باب لتوطيد خلق الدناسة
ولما كان الفكر الغربي قد مضى في تكريس ديمقراطيته المتلائمة على نحو أو آخر مع أوضاعه ومعتقداته وتاريخه وحضارته، فقد باتت الديمقراطية الغربية ظهيرة لأصحاب البدع والتقليعات ..
فالمجتمعات الغربية مجتمعات استهلاك لا تفتأ سهولة الحياة والعيش فيها تفرز أخلاطا من السلوك والأفكار والمعتقدات تتجاوز غالبا المعقول والمعهود والمرعي من القيم، بحكم روح البطر والتفحش التي تسود الطبقات هناك والتي تتقبل الترف والترفيه كجزء من معاشها، دفعا لآلية الحياة العصرية وما يطغى عليها من مكننة وتجهيز أدخل الرتابة والكمد على واقع الإنسان الأوروبي وجعله يتطلع إلى التجديد دائماً.
ولما كان خرق الأعراف هو أيسر السبل إلى التجديد، فلا غرابة أن نرى الفرديات والمجاميع البشرية هنا وهناك من أهل الغرب يسلكون سبيل الاختلاف والاختلاف الصادم..
إنها استجابات مدنية موصولة بمعطيات وشروط حضارية تعزز نزوع الغرابة والغواية والتمرد، وذلك ما جعل الضمير الغربي يهادن، بل ويساكن تلك المظاهر الشذوذية في الفكر والسلوك والمعتقد، وذلك أيضا ما جعل القاعدة الديمقراطية الغربية تنتهي دائما - وتحت ضغط الأقليات الفكرية والعقدية بما تملك من وسائل تأثير - بالاعتراف بالظاهرة الشاذة والمنحرفة والمتجاوزة للأعراف في المجتمع..(13/41)
لقد ظل النورسي يتفجع وهو يرى فلول الاستيلاب تستجلب حتى التشريعات وتستنسخ المدونات المدنية من دول الغرب. ذلك لأن النورسي - على خلاف المستلبين - كان يعلم مصدر تلك التشريعات الغربية، وكيف أنهم استقوها منا وكيفوها مع واقعهم وأوضاعهم، وبتنا نحن نرى فيها كمالا بحكم أننا نراها عند الغرب..
ضمن أجواء هذه التبعية الاستيلابية غدا ديدن الديمقراطيين المحليين، والذين اختاروا بدونية مخزية أن يكونوا أذيالا لأسيادهم الغربيين، أن ينتصروا للمظاهر الهدمية ولأنواع الانحراف والشذوذ تحت شعار الحرية وحقوق الإنسان، دون أن يعوا أن انتهاك العرف الذي تتبناه الأقليات الشاذة في فكرها وسلوكها هو عين انتهاك حقوق الإنسان، لأنه يرمي بصورة معلنة إلى إلغاء قيم الأكثرية ومقدساتها.
من هنا يجعل النورسي الدينامية الاجتماعية دينامية ملتزمة بالعقيدة، إذ العقيدة تكفل لكل الفيئات استتباب مسطرة العدل والنظام والانسجام.
وينبغي أن نسجل في هذا الصدد أن فكر النورسي إزاء تحليله للأوضاع والظواهر الاجتماعية والمدنية العامة لا تشرطه منازع الأنانية، سواء بمعناها الضيق الفردي أو بمعناها العرقي القومي، فحديثه عن نفسه حديث عن الإنسان، كما أن حديثه عن الملة هو حديث عن الإنسانية.
من هنا يبرز الفارق بينه وبين الفكر الديمقراطي المحلي المستلب، أو بينه وبين الفكر الديمقراطي الغربي الجانح عن الإيمان بالله والمنكر لمبدإ المعبودية لله.
الفكر الديمقراطي فكر يشيع الفاحشة والفكر القرآني يقمعها ويحجر عليها حدا للعدوى
تنطلق مسطرة هذا الفكر - كما رأينا - في كثير من الأحيان من الدائرة الضيقة بدعوى المطالبة بالحق في الاختلاف والانتصار للأقلية والمستحقرين. من هنا وجدنا هذا الفكر ينتصر للاختراق على حساب الاستواء .(13/42)
على أننا لو التفتنا إلى القرآن العظيم لوجدناه يقيم - حيال مظاهر الاختراق العرفي والأخلاقي - سدا منيعا لا يمكنها معه - بحال من الأحوال -أن تتحول عن طبيعتها الخللية لتضحى وضعا سويا يقارفه الإنسان من غير ما حرج ولا رادع..
فشيوع الفاحشة في البيئة المسلمة أمر زري، شنيع، لا تهادنه روح الإسلام. بل إن الإسلام لتأخذه حمية رد الفاحشة وتنقية أجواء المجتمع المسلم من دنسها حتى وهي على حال مجردة لا تتعدى نطاق الهمس والظن والتخرسات الملثمة..
فمثلما حرص المجتمع المسلم على التزام وضع الطهارة الجسدية، بتطهر المسلم خمس مرات في اليوم، حرص كذلك على طهارة الفكر والعقل والتصورات، وأكد حيال الفاحشة مبدأ الحجر والحجب والعزل.. فالمبتلي بالفاحشة هو إنسان مهزوم في معركة النفس، قد عجز عن أن يدفع عنه العار الذي ألحقه به الشيطان، فلا أقل من أن يواري على الناس عواره ..
من هنا كانت الوقاية التي يتصدى بها الإسلام للأمراض الأخلاقية .. فالمبتلي تستوجب عليه سلامة المجتمع أن يَستتر أو يُستَر، حتى لا تتوطن النفوس - جراء التعود بما يلابس الفطرة من نزوع للشر - على الفساد، ويضحى الفساد مشاعا، وهو ما يعيشه الغرب اليوم..
من هنا وجدنا النورسي القرآني العقيدة يقول بمنطق الحجر على مرضى العدوى، ولا يهادن الوباء، ولا يومن بأن ترك الوباء يستشري من شأنه أن يزرع المناعة في المجتمع كما يدعي الاباحيون .
إن ترك العلة تسفر عن نفسها في قارعة الطريق، معناه قبولها والاعتراف بها، وبالتالي دعوة الناس الأصحاء إلى الابتلاء بها .(13/43)
ولو سلمنا بأن ترك الوباء يشيع من شأنه أن يتيح للأجسام أن تتلقح وتكتسب مناعتها، ألا يكون ذلك على حساب ضحايا بلا إحصاء ؟ إذ ليس كل جسم يمتلك قوة المقاومة، وهو ما يعني أن المراهنة – منذ المنطلق – ليست منصفة مع ذوي القابليات الجسمية الضعيفة، فأين هو الإنصاف الذي تتحدث عنه الديمقراطية إزاء من يسقطون ؟ ثم أليس في عملية تكيف الجسم مع جرثوم معين إرهاص حتمي لميلاد جراثيم بديلة أخطر وأفتك من سابقها، وهو ما تؤكده البيانات الصحية في علوم الجرثمة والحياة ؟ فعالم الأخلاق يتشابه تماما مع عالم الأعضاء، وحساسية الإصابة في هذا هي ذاتها في ذاك، بل أرهف وأكثر استشراء في المجال السلوكي منها في المجال العضوي.
من هنا شدد النورسي، ومن منظور قرآني، على ضرورة سد الباب في وجه الاختراقات القيمية، حتى ولو نودي إلى ذلك باسم التجديد وباسم الارتقاء وباسم التمدن والديمقراطية وتقمص أخلاقيات الآخرين.
6- النُوْرْسي .. ونسيج نفسيته
ثمة معابر عدة توصلنا إلى معرفة طبيعة النورسي النفيسة ومكوناتها ..
ومن غير شك أن أوثق السبل المحققة لتلك الغاية، هي تتبع سيرته كما سجلتها محطات حياته، أي من خلال سجل تقلباته عبر أشواط الحياة كما رصدها هو أو من كتب سيرته، أو كما تداولها الناس وعرفوها منه أو عنه.
ثم إن هناك سبيلا آخر نراه يجلي بصورة أساسية وإضافية تلك الجبلة الحياتية المتميزة. ويتمثل هذا السبيل في تصريحات النورسي وكتاباته ومأثور أقواله وتراثه - وليس بالضرورة تلك التي وردت في سياقات خبرية مباشِرة، سردت لنا وقائع حياته. فكثير من خفايا النفس - كما نعلم - تكمن وراء ظلال الخطاب التلقائي أو ذلك الذي لا يجعل من رواية السيرة المباشرة ارتكازه الأدائي الأول.
إذ أن تتبع تلك الإفضاءات الوجدانية، يفيد أيما إفادة في تقويم الشخصية وسبر طبيعتها وسماتها وأصالة أو زيف ما تتحلى به من ظاهر الصفات وجلي الأحوال.(13/44)
إنها كيفية يستغلها علم النفس التحليلي كثيرا وفق مناهج ومقاربات لا نراها تفيدنا في ما قصدنا إليه، إذ أن مرامي علم النفس تهتم عادة بالإستثناءات الشاذة والحالات المتأزمة، فعلم النفس التحليلي حتى حين يتصدى للكشف عن العبقرية، فإن طبيعته العُقْدِية تظل تجنح به إلى تحسس النقائص، لينيط بها النبوغ وليقول إن العبقرية عوضت عن النقص كذا، أو أنها تفعيل إعلائي باعثه وليد العقدة كذا أو الكبت كذا. (فهو حقل معرفي يتعامل من منظور العقدة، لا سيما الفرويدي ومن اتبعه من تلاميذه).
لسنا في مقام نفي أو إثبات موضوعية هذه الإجرائية المعرفية الغربية أو اليهودية على الأصح.
والمؤكد أنه لو ساغ لنا أن نسبر شخصية النورسي - فيما سنعرض له بالقول عن شخصيته - باستخدام مسابر العقدة وشرائط النقص والقصور والإعلاء كما تقول بها الفرويدية، فإننا سنجد الناتج يعصف بهذه القاعدة الفرويدية التي تعتقد أن كل نبوغ إن هو إلا تحويل وتنفيس وتسام، خلفيتُه عقدة المكبوت المتبلورة أساسا عن الغريزة.
لذا لا نتردد في القول أن الإيحاء النصي والإيعاز اللفظي يغدو مجالا مهما لاقترابنا هذا.
من هنا لا ضير أن نسارع إلى القول أيضا أن مدونة الرسائل، من حيث هي كم خطابي متكامل ومسترسل عبر مراحل واكبت حياة النورسي في منعطفاتها، تغدو مادة التنقيب والحفر والاستكشاف المهمة التي تفيد الدارس أيما إفادة في معرفة مكونات هذه النفس الجبارة بالإيمان وهذه الروح الطافحة باليقين..
والواضح أن حياة النورسي لا تحمل مطاوي يلفها الغموض أو الغياب، بل لقد كانت حياته أطوارا مسجلة ومثبتة ومكشوفة الأفق.. وهو ما يجعل من كل تمحل استكشافي ضربا من الفذلكة المجانية، لكننا مع ذلك سنحاول أن نستقرئ خطوطا من نفسية النورسي ومن فذاذته، لا سيما وقد ألفيناه هو ذاته يتحدث عن طبقات النفس وزوايا الأنا وما إلى ذلك من محددات تتجوهر حولها شخصية الإنسان.(13/45)
لكن قبل هذا علينا أن نبين أن هناك أصداء دلالية مفتاحية وجدنا خطاب النورسي يتوفر عليها، وهي لافتة للنظر، ليس من حيث كميتها وكثرة التواترات التي سيقت فيها تلك المؤشرات الدلالية، ولكن من حيث نوعية الاستعمال والمواقف التي وظفت فيها. الأمر الذي يجعلنا نرى فيها لوينات أصيلة تعبر عن نفسية صاحبها، وتعكس خصوصية شخصيته وجبلته الأبية الفريدة.
كيف يمكننا القول إن النورسي عاش أبيا ومات أبيا ؟
للإجابة عن ذلك، نقول إن سائر مواقفه، وأطوار حياته، تثبت ذلك.
كما أن كل ما كتبه، كان يعكس تلك الصفة.
لكن هل يمكننا من ناحية ثانية أن نعكس الحكم ونقرر أن تأبّيه ذاك إنما كان انهزامية، وعدم تكيف، وقصورا سافرا عن مجاراة الحياة؟
إنه افتراض يحتاج إلى شيء من الإنارة حتى تتبين حقيقته من بطلانه. وللوصول إلى ذلك لابد لنا أن نخوض في الإجابة عن السؤال التالي :
هل حقا كانت سجايا التأبي والعنفوان أصيلة في شخصية النورسي أم كانت مجرد سلوك ماهر قد موَّه به على تخليه عن مواصلة السير في ذلك الطريق الذي سار عبره تحت تسمية سعيد القديم ؟
نعتقد أن الطريقة الموضوعية والبديهية للإجابة على هذا التساول تقتضي منا بالضرورة أن نستقرئ في إيجاز الأحوال التي عاشها النورسي في مسيرة حياته ؟ ونترصد مواقع التعقد التي قد تكون تخللتها وتركت تاثيراتها على نفسيته.
نعلم إنه عاش في كنف أم وأب وبين أعضاء أسرة متكاملة متجانسة، فيها الذكور والإيناث، حيث نشأ الجميع في جو عائلي متماسك تماسك الأسرة التقليدية المحافظة، ضمن رباط روحي رحيم لا يلوح فيه أي سبب من أسباب الاختلال أو التأزيم .(13/46)
لقد حدثنا النورسي عن الجو الذي كانت تخصه به تلك الأسرة حتى يوم أن غادرها ولم يعد مرتبطا بها ارتباط العضوية، فكشف لنا بأن أخبار إصلاحه الاجتماعي حين كانت تنتهي إلى الأبوين كانت تحرك فيهما شعورين مختلفين في الظاهر، إذ كانت الأم تبكي شفقة على ابنها، فيما كان الأب ينتعش ويعرب عن إعجابه بما صار إليه أبنه ..
وواضح أن ردة الفعل هذه من أبويه لا تشذ في شيء عن رد فعل أي أبوين في وضعهما ذلك، لكن أهمية موقفهما هذا تكشف لنا طبيعة الروابط السوية والقائمة على علاقة لا تخرج عن مستواها الإنساني الحميم، الأمر الذي يؤكد أن طفولة النورسي كانت طفولة صحية، سليمة من الَنقص، مبرأة من الخلل الذي يترك عادة أثره السيء والموجه لشخصية الأبناء في قابل أعمارهم..
هكذا إذن تفيدنا هذه اللفتة البسيطة لمعرفة الإطار السيكولوجي العام لطفولة النورسي، إذ كان إطارا على أكمل مستوى من الاستواء..
كانت فترة تعليمه فترة متحركة، غير راكدة، فهو بحكم ذكائه الجلي ما برح أن راح يتنقل عبر المراكز وسرعان ما استوعب المحاصيل، وفرغ مما كان الناس يرابطون من أجل تحصيله شطرا من الأعوام والسنين.
لقد وجد نفسه وهو لا يزال في عمر اليفاعة، سقفا في المعرفة ليس هناك من بين علماء بيئته من كان أهلا لإلباسه العمامة، عمامة العلم والمشيخة .
وهذا يعني أن الدرب كان إلى هنا مفروشا بالورود . أسرة هنيئة، فهي - على فقرها - منعمة بنظام حياة قار ضوابطه الدينية تجعل منه نسيجا منسجما ومليئا بالسماحة والدفء. وكلها شروط تصون النفس من الهزات وتكفل لها السلامة والنضوج الهنيء.
فحتى مرحلة التحصيل التي تترك عادة آثارا على النفسية والوجدان عبرها هو على عجلة، إذ سرعان ما تحول فيها الطفل شيخا يوجه النقد والتصويب إلى كثير ممن دخل كتاتيبهم متلقيا، متتلمذا.(13/47)
وربما كانت هناك حادثة واحدة لفتتنا إليها سيرته، وتتمثل في واقعة صدامه مرة مع بعض من غاروا منه من الصبيان. وما عدا هذه الحادثة، فليس هناك مكدر يذكر في تلك المرحلة، بل لا يمكننا أن نعتبر تلك الحادثة مكدرا حقيقيا، إذا ما استحضرنا ملابستها وما انطوت عليه من منازع التجاوز الاتنصاري غير المشوب، إذ سارع الطفل إلى خصومه يطلب إليهم النزال فرادى، وهو ما يعكس روحا انتصارية ظاهرة وملموسة لم يكن يسع المحيط المتساكن معها - منذ الصغر والنعومة - إلا أن يتحاشاها ويتفادى تحديها وألا يواجهها إلا على نحو قطيعي زُمَري جبان. ثم هل تخلو سيرة طفل ما في هذا الوجود - لاسيما إذا كان نابغا - من حوادث صدام مبعثها الغيرة ؟
على أنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن مرحلة التلمذة والتحصيل ميزت في شخصيته فرادة وبطولة، من خلال فوز تحصيلي وتعال على الأتراب، واستجابة قائمة على التحدي والأنفة.. وكلها مواصفات لابد أن تستمر معه إذا كانت صفات أصيلة في النفس، إذ لا يخفى أن ملامح الفردية تتحدد من على مقعد الابتدائية.
ترى هل نسابق النتائج، ونقرر أنها كانت مرحلة استوعبت في فهرسها خصائص روح النورسي ومنحاه الوجودي، وأن جوهره النفسي وطبيعته المزاجية ومقومات شخصيته قد استجمعتها هذه المرحلة الغضة من حياته، إذ تكشفت فرديته عن شحصية دائبة في تنفيذ برنامجها، غائبة عن غير ما يتصل بإطار ذلك البرنامج، متجاوزة للتواضعات والأعراف التي تؤطر المسار الاعتيادي للناس؟(13/48)
فألمعيته لم تكن تتسع لإقامة روابط روحية مع المشائخ الذين كان ينزل عندهم للتعلم، إذ غلبة عقله كانت سرعان ما تدرك حقيقة أحجامهم فلا تجد لديهم ما يبرر التواصل معهم والارتباط بهم والخضوع لسلطتهم. وكل ذلك يترجم روحا لا تحجمها التقاليد، وبالتالي لا تطويها مستقبلا القوانين السلطانية الوضعية، لأن لها قوانينها الذاتية المنضبطة والصقيلة والتي لا تتضارب بالضرورة مع القوانين الخارجية والعامة، وإن كانت لا تتمازج معها ولا تندرج ضمنها جبلة وطبيعة.
وإذا ما واصلنا متابعة باقي أشواط حياته، فسنجد الشاب النورسي في طور الفتوة ينساق إلى حياة الرحلة والكشف وطلب المغامرة البطولية والتحدي، وازعه في ذلك لم يكن ظروفا اضطرارية قاهرة تدفعه إلى ركوب ما كان يركب بحكم الضرورة والحتمية، إنما كان اختيارا إراديا يسعى إليه بنفسه وينفذه بملء إرادته.
وربما ترجمت تلك الإشهاريته الاستفزازية التي علقها على بابه حين انتهى إلى استنبول، والتي دعا فيها إليه المنازلين ممن يريدون اختبار طاقاتهم العلمية معه، عن منتهى الوثوق والإحساس بالامتلاء والاعتداد والاعتزاز. وذلك تجل آخر عن منزع السجالية الذي يسكنه .
فهو شخصية مفاعلة على القرب والبعد، لأنها تنطوي على برنامج عاج بالحقائق الكثيرة التي كان يشاء أن يجعلها تظهر وتحتل مكانها على صعيد واقعه المدني والملي آنذاك..
ونسارع هنا إلى تقرير الحقيقة البديهية التالية، وهي أن النورسي الشاب لو عاش حياة مكبلة بالعوائق، مكتنفة بعوامل القصور والحرمان والضغط، ما كنا سنجد في سيرته الاعتدادية تلك غرابة، إذ أن الكبت ينعكس أحوالا ومزاجات نقيضة لماضيها.(13/49)
لكن اللافت هو أن النورسي قد مضى في سيرته الحياتية على خط أفقي واحد، فلم تتغير فيه صفاته النزوعية الأولى التي شاهدناها تتحدد لشخصيته في أول العمر، ولم تتبدل لا سلبا ولا إيجابا. فالشائع أن كثيرا من السجايا الطفولية تتحول إلى نقائضها في تالي أشواط العمر، فالنفسيات الحركية مثلا تتحول إلى نفسيات متماسكة راكنة، والنفسيات الهادئة قد تضحى نشطة وثابة وهكذا..
فالنورسي لم يعش ماضيه الطفولي مخنوقا، مقيدا، مضطهدا، حتى يقبل إلى استانبول على ذلك النحو المتفجر الاعتدادي السافر، مشهرا سيف الخيلاء بروح تنفيسية تعوض ما لحقها من عنت في صباها، وإنما جاءها شابا متدفق الحيوية والبراءة، ينقاد لطبع طلق عاش به دائما وتواصل من خلاله مع الآخرين .
لقد وصل إلى استانبول محتفظا بكامل سجاياه الفطرية لم يكد يتغير من طبيعة تنشئته قطمير.
ترى لِمَ نزل النورسي استانبول مساجلا ومتحديا للعلماء والمثقفين ؟ أأستجد فيه عامل نفسي أو باعث روحي نتيجة الصدمة مع الحاضرة وحياة المدينة ؟
لقد رأيناه عاش في إقليمه الجنوبي متحديا للمشايخ منذ كان تلميذا، وألفيناه قد رسخ مكانة المشيخة لنفسه وهو بعد طفلا، وكان طبيعيا أن تظل حمية الاستزادة العلمية متقدة في أعماقه، وكان مناسبا أن تكون الرحلة طريقا لإشباع ذلك الاستعداد النفسي والقريحي لديه .. وكان اعتياديا - وفق ما كان متبعا في المجتمعات الإسلامية أن يستمر الفتى النابغة في طلب المناظرة العلمية حيثما حل أو ارتحل سبيلا لتقويم المستوى وتطويرا للمحصول .
فحاله في نشدان المناظرة لم تكن تشذ على العرف الذي ظلت البيئة المسلمة ترعاه من خلال ظاهرة التناظر العلمي التي كانت تقع بين العلماء وتشكل باب تعارفهم وتفاوت طبقاتهم ..(13/50)
لقد تصرف النورسي - يوم دعا الأقران في استنبول إلى ملاقاته - على شاكلة ما ظل يأتيه العلماء المسلمون في كل عصر ومصر، من خلال عقدهم مناظرات العلم والفقه وإقامتهم مجالس الجدل والكلام، تلك الممارسة العلمية المتبعة قديما والتي كانت تشبع الرغبة في الظهور العلمي وتستجيب لمقتضيات أخرى اجتماعية ودينية حيوية. إذ أن ذلك التباري العلمي والتناظر الفقهي كان من فضائل اجتماع وثقافة الماضي .
بل لقد كان من فروض ومستلزمات تلك الثقافة السلفية شبه العصامية في ذلك الواقع الاجتماعي والمدني المتقهقر والآخذ تقريبا بروح الهيكلة الذاتية.
ففي ذلك الاجتماع الريفي المعزول والذي كان لا يتوفر على المؤسسات المتأهلة لوضع نظام ترتيبي بين ذوي الكفاءات والعقول المتنورة، كان حتما أن تمر تلك التصفيات العلمية - إذا صح التعبير - بظاهرة المناظرة والتناظر، إذ لا يحق للجماعة أن تقتدي في مسائل دينها، وبالتالي دنياها، بغير الأعلم والأفقه .
لقد كانت المناظرة نهجا اجتماعيا ومدنيا تتمايز فيه القدرات - بكل سماحة - فرزا للأظهر والأقدر والأكثر أهلية على أن يكون فيصلا في الفتوى وبالتالي في الاجتهاد.
من هنا جاء النورسي إلى استانبول وحمل معه أعراف بيئته العلمية، ومارسها على ذلك النحو الذي كانت المدينة المتحضرة قد أغفلته.
ترى هل غفل النورسي في موقفه الفتحي ذاك عن كون استانبول مدينة جامعة وحاضرة لنظام متحجر ومثابة لمرافق عمومية نخرة، وأن طبيعة المدينة بتلك الخصائص الراسخة طبيعة معقدة، فهي من ثمة مدينة لا تحتمل الصراحة والوضوح، ولا تهش لبسمة البراءة لأنها اعتادت التكشرة المقنعة والافترارة الصفراء.. لما يغلب عليها من ألوان النفاق .(13/51)
فهي لذلك لا تحتمل المواجهات الصادقة لأنها اعتادت أن تضرب من الظهر، ولا أن تجلس إلى مائدة الحوار فهي لا تعتد إلا بالرأي الواحد، إذ لا تعرف المناظرات، وهي لا تكشف عن ذات نفسها ، فرجالاتها لا يعربون عن أنفسهم بالتلقائية وبالإدلال البرئ عن ذات الصدر، وهم لا يحوزون الإكبار بالمدى المعرفي والعقلي الذي يميزهم عن الناس، ولكن يتم إشهارهم من بين القرابة والصنائع ويجري ترسيمهم وفق أصول وحسابات قارة تقررها أيادي السلطان.
ترى هل نقول إن تشكيلا من الوعي الإضافي يكون قد وقع للنورسي نتيجة ما يكون قد عرفه من انصدام بما رأى عليه أوضاع الخاصة من رجال السياسة وأهل العلم والأكابر الذين كانت الخلافة تعتمد عليهم أو على الأصح كانوا يعتمدون في توطيد مكانتهم وتعزيز مراكزهم عليها ؟
لا غرابة أن يستجمع النورسي حيرة أخرى إلى حيرته الأولى التي جاء بها إلى استانبول وطمح إلى إحداث التغيير في أحشاء مدنيتها انطلاقا من إصلاح الفكر وتسديد الرؤية.
بل لا عجب أن يعود النورسي أدراجه إلى بيئته الريفية، هو الصميم المعدن، السليم الطوية، وقد كان مهيأ لأن ينغمس في البهرج وأن ينخرط في الجوقة وينوع أداء الألحان في مجالس الأسياد وبين الأشهاد ؟ لقد كان مادة تتأبى عن التحلل في غيرها، وذلك هو عنوان الجواهر الأصيلة. لقد أثبت النورسي إلى هنا أنه كان فعلا شخصية مبرمجة من قبل قدرها، فهي مشغولة عما يستهوي الناس من حولها، إذ هي أبدا دائبة على الحركة تنشد أوضاعا وهوايات أخرى تستقطبها وتشدها..
إلى هنا أيضا نتبين النورسي شخصا شامخا لم يستهوه بهرج مما كان يبهر الناس، ولم تشده واجهة من واجهات الحياة في تلك البيئة وضمن ذلك الكيان. كان يجوب الآفاق، طالبا للإثارة بنفسه رغم خروجه عن نطاق البيئة المحلية وما يوفره المكان الحميم من أسباب الإسناد والتقوية للأفراد ..(13/52)
بعد هذه المرحلة، مضت بالشاب رحلة العمر تسترسل صعدا، فقطع طريقه من غير أن تواجهه طوائل تبدد جموحه الفكري الواثق.
اشتغل مدرسا سيدا في إقليمه، ثم انخرط قائدا يشرف من تلقاء نفسه على وحدات قتالية خاصة من إنشائه هو، قوامها طلاب ومريدون مقربون .. وفي الأسر سنلقاه يجسد ذروة التحدي حين أهان خال القيصر وأضطره للانحناء بدل أن ينحني له هو العسكري السجين.
فقد اقتيد من موضع تنفيذ الإعدام إلى الحاكم القيصري الروسي، حيث لم يسع هذا الأخير إلا أن يعرب له عن إعجابه لما رأى فيه من صدق والتزام بعقيدته، الأمر الذي ساهم في تخفيف وطأة الحبس عليه، فلم يعش معترك الجماعية في المعتقل، بل اتخذ من مسجد القصبة مخدعا ومتنسكا. ثم كانت المغامرة الكبرى، إذ كان عليه أن يعيش صورة أخرى أعجب من كل ما فات، وهي مغامرة الإفلات من المعتقل وقطع آلاف الأميال وصولا إلى الوطن وانخراطا في الجهاد من جديد.
هكذا نرى أن تجربة العمر كانت تجربة متصاعدة من حيث طبيعة المشاق التي تجشمتها والعناءات التي تكبدتها.. لكنها تجربة ظلت في كل حلقاتها ثابتة الروح، مطردة على خط نفسي ونزوعي قويم، تتجسد فيه شمائل العزة والشمم التي عاش بها منذ الصبا.. الأمر الذي يبين أن شخصية النورسي لم تكتسب خصائصها من تمرس اجتماعي طارئ ونافذ التأثير إلى أعماق النفس بحيث غيَّرَ من طبيعتها وأحالها تلك الشخصية الكاريزمية الراسخة.
وهي كذلك لم تمتلك تلك الخصوصيات المتوهجة نتيجة نزوع تعويضي إيجابي تستوي به على حال نفسية وعاطفية بديلة ونقيضة لما ظل يسكن النفس ويحكم أفعالها من أحوال كبت وخجل وانغلاق.
ولا تولدت تلك الخصائص عن اعتراك نضالي نمى فيها نزعة القتال وروح التحدي والاستبسال..
بل لقد كانت شخصية مجهزة بسجايا التحدي والحركة والسجال خِلْقةً وقدَرًا..(13/53)
حقا إنها جميعا مراحل وأشواط - وإن ناء فيها كاهل النورسي بالمعاناة والمكابدة - إلا أنها لم تلحق بشخصيته الأذى النفسي، إذ لم تنخدش فيها كرامة النورسي أدنى خدش،( لقد ظل على عذرية روحية ونفسية مصونة ليس لها بتاتا ما يدعوها إلى أن تبحث عن التجدد) .
فنفسيته ظلت طيلة تلك التقلبات والأطوار المفعمة بالآلام والجراحات تحوز كامل عافيتها وتَصَوُّنَهَا، فالسجن لم يعرف فيه النورسي من الأذى إلا ما كان عليه أن يعرفه كرجل مجاهد وقع في قبضة عدو.
بل لقد عاش تجربة السجن بتلك الوقفة الشجاعة التي رأيناها له مع الحاكم الروسي القيصري، والتي ما كان لأحد غيره أن يأتيها، لأنه لا أحد سواه كانت له تلك الشخصية الاستثنائية التي تعارض العرف عندما يكون هذا العرف محنيا للهام.. لقد كان معه أبطال ،لكنهم لم يكونوا أفذاذا يسترخسون النفس لمجرد إحساس بالتعدي على الكرامة.
لقد كانت تلك الصفة الانتحارية من أبرز خصائصه، انتحارية في معنى الافتداء، افتداء الكرامة، وقد استجمعت سيرته حتى في صباه حوادث صغيرة ولكنها تعكس بجلاء هذه الافتدائية التي لا تساوم قيد أنملة على عزتها وكرامتها..
تعمقت هذه الافتدائية في الأطوار اللاحقة، بحيث كانت تظهر في صورة أمر بالمعروف طورا وطورا في صورة مواجهة مع العدو الأجنبي، وظهرت على أصرح ما يكون الظهور في منازلة السفياني..
ثم إنه قد لبث يمارس هذه الانتحارية وبصورة متمكنة في أحوال الإعدام التي طفق ينفذها ضد نفسه، لينحشر في صورة خلق جديد.(13/54)
هكذا تتأكد لنا أصالة شخصية النورسي ومصداقية سجاياه وصفاته، وأنها كانت صفات جبلة في النفس، ولم يكن قط يفتعلها، ولا كانت أحوالا مكتسبة زودته بها تجارب الحياة بالاعتراك والمراس، ذلك لأنه من الثابت أن التمرس في المحن والاستمرار على تجشم الابتلاءات من شأنه أن يكسر الشوكة وأن يلين العريكة وأن يجعل العين في نهاية المطاف تغضي عن الانتهاكات، ما لم يكن وراء ذلك المضاء دافع روحي ووجداني موصول بقدر الإنسان ذاته وبما كتب له في اللوح المحفوظ من شأن ودور ورسالة يؤديها ضمن بني جنسه وإزاء الأجيال والإنسانية جمعاء.
فالنورسي ونظرا لأصالة ومصداقية سجاياه ظل على حاله الأولى من الشمم والإستعلاء، لم ينكسر له عود كما سنرى لاحقا. لقد تحدث عن بذرة البطولة كما أحسها في طفولته، فقال :
" كنت أحمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتزاز يوم كنت في العاشرة من عمري، بل حتى أحيانا بصورة حب للمدح والثناء، فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي، فكنت أقول لنفسي : ما هذا الظهور والاختيال ولا سيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير ؟ فكنت حائرا وجاهلا بالجواب "(1).
وهاهو يتحدث - في صيغة الغائب عن نفسه - ليكشف عن تلك القدرة الاحتمالية الباهرة التي واجه بها الضربات وعرف كيف يهزم بصموده الأعداء :
" أنزَلوا به أقسى ضربات الظلم الشنيع طوال ثمان وعشرين سنة، فقاسى ذلك الضعيف سعيد أمرّ العذاب وتحمل أشد العنت منهم، مع أنه كان لا يتحمل أذى الذباب .. وعلى الرغم من مزاجه العصبي ورهافة حسه وعدم التخوف في فطرته والجرأة التي يحملها من إيمانه بحقيقة أن الأجل واحد لا يتغير .."(2).
__________
(1) سيرة ذاتية 41.
(2) انظر الملاحق.364.(13/55)
ولأنه كان مخلصا لبرنامجه المدني الرباني فقد عمل على تحويل تلك الخصائص النفسية والشخصية البطولية التي تحلى بها إلى خصائص وصفات تتقمصها المجموعة النورانية قاطبة من أجل ضمان الفلاح في المشروع، لقد كان حريصا على أن يتصف أتباعه بالشجاعة المعنوية التي لا تنتكس :
"يجب تحويل تلك الشجاعة الشخصية التي هي بحكم قطع زجاجية متكسرة إلى ألماس التضحية الصديقية للحقيقة "(1).
ويبين الكيفية التي تتحول بها الشجاعة - وغيرها من الفضائل - إلى ألماس فيقول : " نعم إن أهم أساس في مسلكنا بعد الإخلاص التام هو الثبات والمتانة، وبهذه المتانة حدثت وقائع كثيرة أثبتت أن أمثال هؤلاء الذين نذروا حياتهم في خدمة النور يقابل كل منهم مائة شخص، فالشخص الاعتيادي الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين قد فاق أولياء يتجاوزون الستين من العمر" (2).
لم تذق نفسه مرارة الهوان
تلفت سيرة النورسي انتباهنا إلى حقيقة أساسية تتعلق بفرديته، إذ تكشف لنا عن سر بقاء شجرة هذه الشخصية سامقة منتصبة في شموخ وتعال، رغم ما عصف بها من رياح وأعاصير. وتتعلق هذه الحقيقة بصحة النفس وسلامتها من الرضوض.
ولِمَا كان يستشعره من أهمية للنفس ولبكارتها الفطرية في بناء الشخصية الفردية، فقد ألفيناه في المواطن العديدة يحرص على ابراز أهمية صحة النفس وبقائها مصونة الحجل سالمة من الهوان.
لقد كان ذلك شأنه كلما تحدث عن الأحوال البشرية السوية أو تناول ظواهر الكمال الإنساني ونماذجه، أو عرض للمنجزات والأدوار الفائقة الأهمية حين تصدر عن أفراد لم تُكْلَمْ نفوسُهم بأذى المهانة .
__________
(1) الملاحق.216
(2) الملاحق.216(13/56)
ففي حديثه عن رهط من الصحابة (رضي الله عنهم) من أمثال خالد بن الوليد وعمر بن العاص وعكرمة ومن ضارعهم من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ممن تأخر إسلامهم وكتب عليهم أن يواجهوا الرسول وصحابته وأن يعتركوا معهم بالسيف، رأى النورسي أن التراجح - في مضمار القوة والغلبة- الذي تداوله أولئك الرهط النبلاء مع الرسول الكريم كان من ورائه سر قدسي منوط بحماية نفسية من سيكونون رادة وقادة في الإسلام عن أن يكسر عودَها الهوانُ والإذلالُ .
لقد رأى النورسي في تلك المعارك التي تأتى النصر فيها لهؤلاء الصحابة وهم بعد مشركون، عدالة إلهية تقدر ما سيكون لكثير من أولئك القوم من مستقبل وضاء في نصرة الدعوة والمدافعة عنها، لذا احتفظ لهم الله عز وجل بحقهم في النصر حتى وهم مشركون لئلا تنهدر عزتهم وتسقط ثمرة الشموخ في نفوسهم تحت وطأة الإذلال، فلا يجد فيهم الإسلام حين تأزف ساعتهم تلك الأريحية التي تتوفر لذوي النفوس الحرة المصونة.
يمكن أن نقول إن للنفس بكارة جبلية مناطة بعزتها وأنفتها.
فالنفس تظل على قوامتها من التأبي والشمم ما بقيت لها أريحية الشموخ تلك، أي ما صينت عن المهانة والدوس والإذلال.
من هنا كانت النفسية الأبية هي تلك التي تنتفض لأدنى ضيم يلحقها، أوهي التي تثور لأي مس بشرفها، إنها حساسية فطرية تستجيب بها النفس للتجاوزات السلبية الخارجية، كلفها ذلك ما كلفها من تبعات المدافعة وردِّ الضيم.
وإنها لحال تهيأت بكل رسوخ لنفسية النورسي، فقد عاش كما رأينا حياة لم تفقد فيها نفسه أو روحه - وخلال أي طور منها- قوامتها وعزتها، إذ كان دائما هو المبادر إلى الهجوم، لأنه كان يعيش تحت وطأة فكر يحمله ويريد أن يعالج به الأوضاع من حوله، وكانت تلح عليه رؤى يترسم من خلالها وجه الغد الذي لا يريده إلا أن يكون مشرقا، وكانت تحدوه روحية يناهض بها السائد والمألوف والمكرس من الظواهر بقوة التواضعات والأعراف البالية.(13/57)
الخطاب .. ومنازع الإباء والعزة النفسية
لا عجب أن تنعكس منازع النفس وسجاياها على صعيد القول والخطاب، إذ أن ما يسكن الوجدان من حقائق وما يمور في القلب من مشاعر وما يترشح في الضمير من قيم، لا محالة تظهره البديهة الخطابية ويبديه القول المرتجل على نحو أو آخر..
من هنا لا غرابة أن نجد النورسي - كلما تحدث عن العظمة وعن النفوس المتميزة بصفة العظمة - يحلي - في تلقائية جلية - خطاباته وأقواله بأوصاف العزة والتسامي والشجاعة والبطولة والكبرياء..
وواضح أن ذلك يعني أن الروح تستطيع أن تكشف عن طبيعتها ليس فقط من خلال التصريحات الواعية وذات القصد الإشهاري الصريح، ولكن أيضا عن طريق مستوى من الصور والدوال التي لا تأتي ضمن سياق الخطاب إلا في هيئة علامات مفتاحية ارتكازية لها من قوة الدلالة ما يجعلها مادة تعيينية محورية على صعيد النسيج الخطابي أو النصي.
فالخطاب يتوزع مادة الإفضاء على مساحته السياقية أولا، ثم من خلال المعالم الصورية والمفاتيح اللفظية التي قد تبدو مكملة ودورها إضافي، لكن إضافيتها تغدو في ذاتها أساسية، إذ لولا إلحاح المعنى الذي تستوعبه تلك الدالة اللفظية والتصويرية ما كان لها موقع في خريطة الجملة أو العبارة..
فالافضائية كما نقصد إليها هي هذه القدرة التي يصطنعها القائل في إشهار معانيه وتوصيل مقاصده، ليس فقط من خلال صريح السياق وبنية التراكيب، ولكن من خلال التحلية التي قد تبدو خارجية وإضافية، ولكنها هي في الواقع عضوية وذاتية ومن صلب الارتكاز المعنوي للخطاب..
من هنا يمكننا أن نقول إن الإفضائية هي الصعيد الخطابي الذي يتيح للمستكشف ليس فقط أن يقرأ الرسالة الخطابية ولكن إلى ذلك يستبين محددات النفسية الكامنة وراء تلك الرسالة..(13/58)
ومن هنا أيضا تغدو منظومة الصور التي يعتمدها الناص أو الباث بتواتر، ويجعل منها اسنادا توضيحيا مرجعيا، مقامات إعرابية لا تؤدي ما تؤديه من خطاب ظاهري فقط، بل إنها إلى ذلك تسع دلالة خفية موصولة رأسا بوجدان الباث وبنفسيته، وبالتالي إنها تكشف النقاب عن أبعاد من مزاجيته وشخصيته..
ويمكننا أن نسجل هنا أن خطاب النورسي الإفضائي كون بياني واسع المدى لمن شاء أن يجرب ألوان الطيف الأدائي التي يتوفر عليها والتي تكشف عن شخصيته الحق وعن مزاجه الصدق..
لكننا سنقتصر الآن على تمييز مستويين لونيين أدائين يجسدان إفضائيته ويظهران طبيعة شخصيته : الإفضاء الصريح السافر - الإفضاء الاستعاري.
1-الإفضاء الصريح السافر
نقصد بالمستوى الإفضائي الصريح السافر تلك العبارات التي يصف النورسي بها نفسه، أو تلك الأقوال التي يكشف لنا فيها عن شخصيته بصورة مباشرة ولا مجاز فيها .
والملاحظة التي سجلناها في هذا المجال أن النورسي قلما تحدث عن نفسه حديث الوسطية، فهو في الأغلب الأعم إما يصطنع لسان الضعف والتواضع والإمحاء من قبيل: يا رب، أنا غريب وحيد ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي، فأنا أصيح الغوث الغوث. أرجو العفو، وأستمد القوة من بابك يا إلهي" (1).
ويدخل في هذا مواقف الاسترحام والضراعة والاستكانة الروحية.
" يا سعيدا، كن صعيدا في نكران تام للذات، وترك كلي للأنانية، وتواضع مطلق كالتراب، لئلا تعكر صفو رسائل النور من تأثيرها في النفوس "(2).
أو مواقف التحذير والتهذيب :
"فاللهاث وراء الشهرة - التي هي رياء عجيب - ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عجب ذو فتنة، وحب الظهور وكسب إعجاب الناس .. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه " (3).
__________
(1) سيرة ذاتية 224
(2) الملاحق 110
(3) الملاحق 289(13/59)
أو هو يتشظى حمية معربا عن كبرياء هصوري عاتية، من قبيل: ألا فلتعلموا جيدا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها " (1).
ويدخل في هذا مواقف التوعد والتحدي التي تناثرت في ثنايا الرسائل وعكست أحوال التشنج التي ظل النورسي يكابدها على مر العقود.
" إن سعيدا لا يدافع بعصا مكسورة في يده، وفي لسانه سيف ألماسي من مصنع القرآن الحكيم. بل سيستعمل ذلك السيف "(2).
لكأنه احتفظ لوسطيته الإعرابية بالمجال الموضوعي المرتبط بالترشيد وبميادين الفقه الأكبر ومواقف التأمل والنجوى القرآنية التي هي قوام الرسائل ومادتها .
الجوهر الصديقي في روح النورسي كما يعكسها الخطاب
هناك مساحة واسعة من الإفضاءات تواجهنا فيها نبرة النورسي وقد اصطبغت بصبغة القديسية، حيث تأتي التصريحات في صورة مواقف اعتراف أو تقويم للمسيرة وللذات، فتفتح للقارئ أبوابا أخرى حميمية يطلع من خلالها على أحوال من حياة النورسي الباطنية، وعلى نظرته لنفسه وللآخرين وللحياة عامة..
فهذه المحطات التقويمية مهمة من حيث تَجْلِيَتُها للذات وإبانتها لبواطنها، على اعتبار أنها محطات إعراب ومكاشفة واعية، مستندة على بعد تقويمي يلتفت إلى الوراء، أو على التأمل والاستخلاص، من ذلك هذا السياق الذي ينيط اللثام عن جوهر الرأفة كما تستبطنه نفس النورسي التي تعرفنا على بطوليتها فيما سبق:
" لما كانت الشفقة دستور حياتي منذ ثلاثين سنة، وأساس مسلكي ومسلك رسائل النور، فإنني لا أتجنب التعرض للمجرمين الذين ظلموني وحدهم، بل ولا أستطيع حتى مقابلتهم بالدعاء عليهم وذلك لكي لا أتسبب في إلحاق الضرر بأي شخص بريء "(3).
__________
(1) سيرة ذاتية 394
(2) سيرة ذاتية 221
(3) الشعاعات 439(13/60)
هذا هو الجانب الخلفي في نفسية النورسي، نفسية مقدامة تتبطن بتماسك متناه عاطفة الرحمة والرأفة.. ترى هل الأمر سجية أم طبع؟
لاشك أن الدين هو أهم صاقل للنفس، لكن الدين لا يستطيع أن يشحذ إلا ما يجده قائما في النفس من قابليات، من هنا نقرر أن الرأفة صفة ملازمة للبطولة، وشرط رديف لها.. وسيتجسد ذلك في لطائف كثيرة سجلتها لنا سيرة النورسي، من ذلك صلته بالحيوان مثلا، ففي الوقت الذي كان ينازل السفياني - ربما كظاهرة وليس كشخص أو طغمة - كانت يقتطع من طعامه البسيط والكفافي ما يطعم به الحيوانات والحشرات.. كما سنرى ذلك لاحقا.
ولنسمع إليه في موطن آخر :
" فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما إلهام أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم" (1).
وآخر:
" إنني شخص ضعيف وعاجز ومنفي ونصف أمي، وعندما كانوا يثيرون الناس ضدي بدعواتهم ويخوفونهم مني، كنت أجد دواء لأدوائي من أدوية القرآن الكريم ومن حقائقه الإيمانية الرفيعة. كتبت تلك الحقائق القيمة إيمانا مني أنها ستكون علاجا شافيا لأبناء الأمة والوطن، ولما كان خطي رديئا جدا فقد كنت بحاجة ماسة إلى معاونين، فيسّرت العناية الإلهية لي معاونين خاصين وصادقين وثابتين"(2).
إنها أحوال اعترافية تخلت كلية من فروسيتها، وما ذلك إلا لأن النفس كانت في موقف تقويمي لا يسعه إلا أن يتجرد عن كل لبوس.
على أن هناك جوانب أخرى من إفصاحيته(3) تبدو في مواقف التبصر والتبصير التي يسديها للقارئ.
إذ تكشف لنا تلك المواقف التي يتوجه النورسي فيها للقارئ بالنصح المباشر، عن جوانب من نفسيته المتأبية عن الرضوخ إلا للحق، يقول :
__________
(1) الشعاعات542
(2) الشعاعات508
(3) يلاحظ هنا أننا استخدمنا مصطلح الإفصاحية استخداما استدعته التلقائية، وهو بمعنى الإفضائية الذي اعتمدناه لتنفيذ مقاربتنا هذه.(13/61)
"إن إظهار نفسك ضعيفا تجاه حيوان مفترس يشجعه على الهجوم عليك، كذلك إظهار الضعف بالتزلف إلى من يحمل طباع الحيوان المفترس يسوقه إلى الاعتداء"(1).
وواضح أن النورسي يدرك تمام الإدراك طبيعة الافتراس التي تحكم النفوس متى استحالت الحياة إلى غاب تتناهش فيه مخلوقاته الضارية..
على أن الخطاب هنا لم يستهدف التشنيع بالضراوة البشرية في حلبة الصراع فقط، ولكنه إلى ذلك أظهر - وبذات اللون التشنيعي - صفات الزلفى والحيوانية حينما تغدوان سلوكا يصدر عنه أصحاب النفوس الشيطانية.
أو في قوله :
"وأما خالص تلميذ القرآن فـ "عبد " لكن لا يتنزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولو كانت جنة. وليّن هيّن لكن لا يتذلل لغير فاطره إلاّ بإذنه .. وفقير لكن يستغني بما ادّخر له مالكه الكريم .. وضعيف لكن يستند بقوة سيّده الذي لا نهاية لقدرته.. ولا يرضى تلميذه الحقيقي حتى بالجنة الأبدية مقصدا وغاية، فضلا عن هذه الدنيا الزائلة " (2).
فالكشف هنا يستهدف تعميق خلق الثبات في النفوس، والمطارحة توعز بشمائل تعمل على شحن الأرواح والنفوس بها..
كما نجده يتحدث عن نفسه من خلال حديثه عن الآخر، فهو مثلا عندما يخوض في عرض سيرة الصالحين أو معتركاتهم الروحية والنفسية والكشفية فإنما يصدر عن نفسه، فهو عندئذ ينخرط في عملية الإعراب الذاتي، ولكن بطريقة تجردية ومتحفظة وعلى غاية من التأدب والامتنان والحمد.
" لقد خطر على قلبي ذات يوم .. لِمَ لا يبلغ أشخاص أمثال محي الدين بن عربي مرتبة الصحابة؟.. قلت في قلبي: ليتني أحظى بصلاة كاملة تنكشف لي من معانيها ما انكشف.."(3).
أو في قوله :
__________
(1) المكتوبات466
(2) المثنوي العربي النوري 270
(3) الكلمات 575(13/62)
" تنبهت لدى أهل الخير نوازعه، فغدا كل ذكر وتسبيح وتحميد يفيد لديهم معانيه كاملة ويعبر عنها تعبيرا نديا نضيرا، فأرتشفت مشاعرهم المرهفة ولطائفهم الطاهرة، بل حتى خيالهم وسرهم، رحيق المعاني السامية العديدة لتلك الأذكار، ارتشافا صافيا يقظا حسب أذواقها الرقيقة "(1).
أليس حديثه عن أهل الخير هنا إنما هو حديث عن الذات ؟ سنرى ذلك لاحقا..
كما أن هناك جانبا عقليا يسند هذه الشخصية ويشكل بُعدا آخر لاتفتأ تصريحاته وتمثيلاته تكشف عنه ..
فمن بعض خصائصه العقلية القدرة الفائقة على التجريد، وتجريد التجريد، فهناك ميكروسكوب ذهني يستقرئ بها مسائل العقل، من ذلك حديثه عن الجسد الجسماني وجسد الروح :
" فالجسد عش الروح ومسكنها وليس بردائها، وإنما الروح غلاف لطيف وبدن مثالي ثابت إلى حد ما ومتناسب بلطافة معها، لذا لا تتعرى الروح تماما حتى في حالة الموت بل تخرج من عشها لابسة بدنها المثالي، وأرديتها الخاصة بها " (2).
2-الإفضاء الإستعاري:
يمكن تمييز خصوصيتين بيانيتين في خطاب النورسي الإستعاري: المجازية والتمثيل..
وإذا كان حقل المجازية يستوعب نطاق الأدبية كما تتمرس به البلاغة في أصعدتها المدرسية المعروفة من تشبيه واستعارة وكناية وتورية وما إلى ذلك، فإن فاعلية التمثيل تغدو من ثمة أهم ارتكاز أدائي يميز خطاب النورسي..
لقد طفق النورسي نفسه المرات العديدات يعتد بخاصية التمثيل وبقدرته على سوق الكلام وفق النجر التمثيلي.. ومما لا ريب فيه أن الأثر القرآني واضح في إكساب النورسي هذه القدرة الأدائية القائمة على ضرب المثل وإيراد الأفكار موردا تمثيليا إيعازيا..
__________
(1) الكلمات 576
(2) الكلمات 611(13/63)
إذا ما تصفحنا نصوص النورسي، سواء منها الفكرية أو السياسية أو العقدية أو التنظيمية أو الأخرى ذات الصبغة الروحية التبتلية، فسنجدها كلها تُوَاتِرُ في سياقاتها التمثيلية صورةً محوريةً تكاد تتكرر بين شاهد وآخر عبر مساحة كبرى من خطابه. إنها صورة العظمة والكبرياء التي وإن تماهت في أشكال متلونة إلا أنها - وبصورة عامة - تفيد الإحالة إلى مقصد واحد تقريبا يرادف الاعتداد والعزة والرسوخ.
لقد راوحت هذه الصورة بين المواطن والمساقات المختلفة وأناطت رسالتها الإدلائية بمحايثات سلطوية قوامها : السلطان والملك والحاكم والقائد والجندي وما إلى ذلك.. فالرفعة والشأن والمكانة العلوية هي فضاءات الإيعاز التي يصدر عنها خطاب النورسي التمثيلي عبر تنويع واسع من نصوصه .
بل يمكننا أن نؤكد في هذا الصدد أن هناك حقلا دلاليا توصيفيا واسعا ينفتح أمام خطاب النورسي التمثيلي، هو حقل الحرب والجندية والفروسية الذي ما فتئ يمتح منه شواهده وأمثلته وأوصافه كلما تحدث عن العظمة أو عبر عن الجلال .
ولابد من الإشارة هنا أيضا إلى ما يتحلى به النورسي من قدرة على البداهة والاستدعاء، وما له من مهارة في استحضار الأمثلة والشواهد التوضيحية، وما يتميز به من طاقة على التعبير بالشاهد.
لقد وجدنا أن الكلمات المفتاحية المشكلة للصورة النبع، الموصولة بضميره تمتح أيضا من حقل وجداني مكوناته : الطبيعة، والطبيعة كما نعلم هي النظام، وهي السلطان.
لقد استرسلت نصوص النجوى والتأمل والاستقراء الروحي في تثمير كتاب الطبيعة على مختلف ألوانها ومستوياتها، إبرازا للفكر والحقائق التي ظل يستلهمها من مشاهداته العينية والعقلية..(13/64)
من هنا كان للطبيعة - كمعين تعبيري وتصويري - متفرعات تترجم عنها صور أخرى تستوعب جملة من المفاهيم والرموز، من قبيل: البرزخ الطريق الشمس الجرثوم البذرة.. إنها أحوال من التمثيل بالأعم والأخص، تعكس جوهر النفسية القويمة وما فطرت عليه من رفعة وظهور ونظام..
وعلى العكس من ذلك نجد النورسي يبدي نفورا من صفات بعينها تناط - عادة - بالنفس المستهلكة، المداسة، الخَنُوع، التي عركتها الأرجل وكسرت شوكتها.
فصفة الذلة والتذلل والجبن والخسة والمهانة والهوان وغيرها من الصفات الدالة على الضعة والحقار وانعدام الشرف، لا يفتئأ النورسي يرسلها سهاما تصم ذوي النفوس المستخزية بالإثم وتدين المواقف الرعديدة وتستفظع الأحوال المخترقة والأوضاع المهترئة.
لقد ظلت صفة الشهامة والحمية والبسالة والريادة والبطولة نياشين خطابية يقلدها النورسي لكل نفس أبية تعشق الفضائل وتتغنى بالمحامد . كما أضحت دوال مثل التذلل والتملق والتجبر من السهام التي يمحق بها النورسي النفوس الرخيصة المتهالكة والمتهافتة..
ترى ألا يتضمن كلامنا هذا بعض ما يتناقض وواقع النورسي ؟
ولقائل أن يقول: أليس في تقريرنا أن النفس البكر، النفس التي لم "تذق الهوان" بحسب تعبير النورسي، هي النفس الحرة، والفاعلة، والمرشحة لأداء وظيفتها الحياتية بعظمة غير مكلومة وهمة غير مجروحة كما كان شأن الصحابة رضي الله عنهم أمثال خالد؟
ثم هل ينسجم هذا مع قولنا: إن أصحاب النفوس المعروكة هم الأغنى تجربة والأثبت على التحدي والأشد على النزال ؟ ومادام الحال على ذلك، فكيف يكون النورسي عظيما هو الذي قلنا عنه إنه - ورغم ما عرف من عنت في حياته - لم ينعرك بهوان ولم تنحن هامته للأعداء؟
لا ينبغي أن يذهب بنا الاعتقاد أن جدلية الإنسان مع العناء والأعباء والتحديات لا يكون لها إلا حاصلا نفسيا واحدا ستنطبع به شخصيته ويلازمها كلون ينمطها ضمن فريق الأبطال أو المندحرين وليس غير ذلك.(13/65)
فالأمر الإنساني معقد ولا تصهره الملابسات العابرة باليسر الذي قد يُتَوَهَّمُ، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان ممكنا أن نفرز الرجال الأثبات من غيرهم لمجرد إحصاء ما خاضوه من تجارب القهر والمغالبة..
والمؤكد أن شخصية الإنسان صيرورة حيوية تحمل شروط قوتها أو ضعفها منذ المولد، وتساهم التنشيئة في بلورة تلك الاستعدادات وتطويرها، سلبا أو إيجابا، ليكون حاصل النتاج شخصية قويمة لم يعرض لها في خضم مسيرتها الحياتية - لا سيما الأولى، وهي بعد غضة - ما يقرحها أو يضر بها .
فهي من ثمة شامخة أبدا لا تنحني ولا تتلكأ في المواجهة، لأن عزتها لم تنهدر..
إذ أن الشخصية القوية إذا ما استوت على سوقها، صحةً وعافيةً، لا يضيرها أبدا أن تدخل المعارك وأن تخوض المعمعان وأن تتجرع حتى مرارة الهزائم .. لأنها تظل على أنفتها وشممها، وفي الأحوال كلها سلبيها وإيجابيها، ولا يخامرها أدنى ريب في أن انهزامها لم يكن عن أفونة في الهمة أو عن قابلية مهينة، ولكنه انهزام مردّه أمور خارج النفس.. الأمر الذي يجعلها تعيش المحنة مرفوعة الرأس، أبيّة، مبرّأة من كل ما يشين.
من هنا نتبين أن حال المكابدة وتجشم المحن، بالقياس لذوي النفوس القوية والشخصيات الراسية على جبلة التماسك والثبات، لا تفضي بهم إلى تردي العزة وتهشم الكرامة..
فالهزائم الطارئة لا تنال من عزم الرجال الصناديد ولا من رباطتهم وقابلياتهم، فهم مصونون بالقدرات النفسية المكينة التي يحملونها، على خلاف المهزوزين ومن ورثوا هشاشة في أعماقهم لا سيما إذا كانت هشاشة نقص وقوامة، فهؤلاء لا ينهضون ولا يرفعون رؤوسهم إلا على مخادعة وادعاء .
المواجهة، والحدة، والإباء
واستراتيجية الخطاب التنويرية(13/66)
لقد كان النورسي يواجه الخصوم بحزم لا يفتر، ويقف دائما منهم موقف المصارحة، والمصارحة الحادة أحيانا، لاسيما أثناء المحاكمات وخلال أحداث الاستفزاف السافر التي كان يتعرض لها باستمرار، وكان يصطنع اللهجة القوية ويصعد من نبرتها، وكان ذلك التصعيد منه يندرج ضمن سياسة المفاعلة اليقظة والرد الحاسم التي كان يجد نفسه مجبرا على اتباعها نتيجة الضغوط المتواصلة عليه.
فتصعيد اللهجة كان يعكس حالا حتمية من المدافعة، إذ كان يتخذ أحيانا مواقف المواجهة المتفجرة كاستجابة قاهرة تحلحل عن النفس بعض ما تنوء به من عناء ومكابدة .
ثم إن ذلك الاحتداد في الموقف منه كان ينبه الخصم إلى غشمه ووحشيته وإلى ظلمه وطيشه..
كما أنه كان يحمل مصداقية افتدائية ترشد الجيل وتوعيه وترفع معنوياته وتفضح أحابيل تدأب القوى العاتية على لفها من حول الأعناق البريئة :
" أيها الملحد الشقي، إني ولله الحمد مسلم، أنتسب إلى أمتي السامية .."
" أقول لأولئك الملحدين أدعياء النخوة والغيرة المتسترين تحت ستار القومية التركية، وهم في الحقيقة أعداء الأمة التركية أقول لهم:
إنني على علاقة وثيقة جدا بمؤمني هذا الوطن .. وأكن حبا عميقا وولاء بفخر واعتزاز - باسم الإسلام - لأبناء هذا الوطن الذين رفعوا راية القرآن خفاقة عزيزة في ربوع العالم أجمع زهاء ألف عام".
فالخطاب هنا استظهر جوانب النفاسة التي يرتكز عليها موقفه، وأسندها إلى الذات، واعتبرها المكسب الذي لا يتخلى عنه، ثم يستطرد الخطاب بعد ذلك ويستظهر جوانب الزيف والمخادعة المسترذلة التي يتسم بها موقف الخصوم، ويكشف تفاهتها وظرفيتها ومخاطرها، عارضا كل ذلك في سياق لا يتخلى عن مرماه التنويري:
" أما أنت أيها المخادع المدعي، فليس لك إلا أخوة مجازية غير حقيقية ومؤقتة ومبنية على العنصرية والأغراض الشخصية، بحيث تهمل وتطرح جانبا المفاخر الحقيقية للترك.(13/67)
هل الأمة التركية عبارة عن شباب غافلين سارحين وراء الاهواء، ممن تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين من العمر فقط؟ وهل ما تستوجبه النخوة القومية من منافع تمسهم محصورة في تربية متفرنجة تزيد غفلتهم وتعودهم على الفساد وسوء الأخلاق، وتحثهم على ارتكاب الموبقات؟ وهل في دفعهم إلى متعة مؤقتة وضحك آني يبكون عليها أياما في شيخوختهم ؟" (1).
فالخطاب له استراتيجية شِقِّية الأهداف أو مزدوجة الغاية، فهو من جهة يقوم بإبراز فضائل الذات والدور الذي يضطلع به هو في سبيل حماية تلك الذات والمدافعة عن سلامتها الملية، وهو من جهة أخرى يكشف عن المفاسد والسيئات التي يرسو عليها منهج الخصوم التدميري..
بل إنها استراتيجية خطابية متعددة المقاصد، فهي تثبت الموقع على صعيد المعركة، وهو موقع حضوري تشترطه دينامية المدافعة والجهاد، وهي من جهة ثانية تبين التمايز بين الموقفين والأسس المذهبية التي تقوم عليها خطة كل طرف، ثم هي من جهة ثالثة تستقطب إليها الجيل بما تبثه إليه من وعي وتنوير. فهي بهذا الصنيع تعتبر استراتيجية تخذيل مفيدة وناجعة في السجال الدائر على صعيد المجتمع . وقد كان الرسول يجد في نجاعة الفعل التخذيلي مددا يتنفس الإسلام من خلاله، ويهيئ للدعوة حظوظا جديدة من الإسناد والتوسع .
البكاء والشكوى
لماذا كان النورسي يدأب على الشكاة والبكاء ونعي الحظ ما دام قد وطن النفس على الزهد وقطع الرجاءات الدنيوية؟
هل كان بكاؤه حسرة على ما فاته من مسرات الحياة وملذاتها أم كان بكاؤه ذاك ضيقا من عناء الطريق ومشاق الرحلة، أم ترى كان تحسرا على ما كان يتَفَلَّتُ من بين يده من مغانم المكاشفة والإدراك ؟ هل أضاع سلطانا دنيويا وعز عليه بلوغ سلطنة روحية فشق عليه الأمر؟ أم تراه كان يتخذ من الشكوى والبكاء حالا أخرى يتعبد بها ويتقرب إلى الله؟
__________
(1) المكتوبات543(13/68)
مما لا شك فيه أن النورسي كان يعيش أحوالا من المعاناة الإنسانية على أشق ما تكون المعايشة بسبب العزلة والوحدة والحبس . كان يمرض ويجوع ويسأم ويبرد ويتشهى ويطمح من غير طائل إذ كان يكابد قدره في كل حالة من تلك الأحوال بفردية وبصمود لا ساند له فيه إلا الله.. من هنا كانت الفداحة ..
فما أخف الابتلاء على المرء متى كان محاطا بجو الدفء من الأهل أو ممن يلمس لديهم المشاركة، بخلاف المعاناة حين تكون النفس واقعة تحت طائلة الانقطاع القسري وتحت وطأة النبذ والمصادرة.. لكن قدرة الله قريبة دائما من الإنسان، لاسيما إذا كان من القانتين.
لقد كان البكاء سجية راسخة فيه، لاسيما بعد أن تمرس بالحياة وبالأضرار. مما يدل على أن روح الشدة والبأس التي رأيناه يفاعل بها الأحداث كانت تنطوي على رقة ورأفة ليست غريبة أبدا على ذوي النفوس الكبيرة والقلوب العامرة بالإيمان..
لقد رأينا النورسي يتفجع لفقدان الأحبة ويبكيهم ويتأسى لرحيلهم بدءا بأمه إلى ابن أخيه عبد الرحمن إلى طلابه وصحابته ممن فرقت بينه وبينهم يد المنون. لقد كانت نفسيته مطبوعة على البكاء، فالمكان إذا ما حرك ذكرياته يثيره ويستذرف الدمع من عينيه. والوقائع التي كان الإسلام وبلاد الإسلام تنتكب بها تبكيه. وملامح الجسد وهي تشيخ وتدنو به من الغروب تبكيه.. هذا هو شأن النفس السوية، لكن النورسي بما تهيأ له من استثنائية على صعيد الخصال والتفوق والكبرياء، كان بكاؤه - بكل تأكيد - يتجاوز هذه الدوافع، ترى ما ذا كان يدفعه إلى البكاء ؟
أم أن من طبيعة القوة الإنسانية أن تلين ويلابسها الضعف كلما حركتها الدواعي واستثارتها البواعث ؟ لا ريب أن العظماء وفي طليعتهم الرسل كانوا يبكون، وكانت عيونهم تفيض بالدمع كلما مست مشاعرهم أصابع الشجى والتهييج..(13/69)
ترى هل أن مساحة المرحمية التي هي خُلُقُ العظماء - من حيث أنهم النموذج الإنساني الأكمل - كانت تتسع في نفوسهم على قدر مساحة القوة والاعتداد الذي تحوزه جوانحهم ؟
أو بمعنى آخر هل إن ما خصهم به الله من كمال في الشمائل ومن سمو في النفس، من حيث جعلهم هم الغالبون في كل نزال، هو الذي ينعكس دائما على أرواحهم ويلطف نفوسهم بتلك المرحمة والرأفة، فلا يمكنهم إلا أن يبكوا لدى أي استثارة ؟
لقد ألفينا النورسي يتحدث عن سوء حظه ؟ فعن أي حظ يتحدث؟
لقد قررنا أنه أضرب عن الدنيا، وتنازل عن أخص الخصوصيات الحياتية التي من شأنها أن تسند النفس وتقويها على المضي في المجاهدة والتعبد نقصد بذلك الزواج . فما ذا كان يريد بالضبط وهو ينعى حظه ؟
ربما تبادر إلينا أنه يقصد الأمل الجهادي ذلك الذي انخرط في تحصيله، والذي تعذر عليه أن يدركه، وجشمه ما جشم من عناء، لذلك كانت تند عنه تلك التصريحات تماما كما تند عنا نحن أهل الدنيا تصريحات الحسرة والأسى في كل حين بسبب تعلق مواجدنا بالحياة وصراعاتها وأشجانها المسترسلة.
لكن هل يتساوق هذا الافتراض مع واقع التبتل الذي كان عليه النورسي؟
الجواب بالطبع كلا. لأننا نؤمن أن النورسي قد سد الباب بينه وبين الدنيا وأطماعها وأشاح متعاليا عن مباذلها، واختار أن ينظر إلى تلك المباذل بزراية واحتقار، وإلا ما كان ليتمنع عليه منها شيء لو أنه طلبها ..
إذن فهل يشكل حال تكدره وشكاته من حظه على هذا النحو المتكرر عناء نفسيا وروحيا ميز مرحلة صميمة في مسيرته الانقطاعية وبات أثناءها يعاني ما يعانيه أهل السلوك حين تنقطع الحال عليهم أو تتأحر؟(13/70)
لكننا نستدرك مرة أخرى إذ نقرر أن النورسي عاش الخلوة والذكر والتهجد والقنوت بكامل الصحو والوعي والمعقولية، فأنى له أن يتأذى بأحوال الانقطاع؟ لقد تقرر لدينا أن النورسي لم يكن يسير على درب المراهنات الكسبية، لا الروحية منها ولا الدنيوية، فلم يكن يطلب المجد الدنيوي، وإلا لكان اختار الطريق المفضي إليه.
كما لم يكن أيضا طالب برزخية ولا خاطب حظوة لدُنِّية يسكر بها من فيوض الشهود الإلهي ويستنيم لنسائم السرمد العرفاني .. فلقد رأيناه يصرح في المواطن المتعددة بأن عبادته لله الخالق إنما تقوم على خلوص محض لا يتقصد بها الجزاء ولا الشكور، وأنه لو ملك لافتدى المؤمنين أجمعين من العذاب لتكون طاعته خالصة لله.
من هنا يتبين لنا أن تكدر الروح وتضجر النفس ونعي الحظ كما كان يعيشها النورسي إنما كانت حالا أخرى لا هي منوطة بالبواعث الدنيوية الخالصة ولا بالنوازع الروحية الخالصة .. ترى ما هي هذه الحال؟
تبين لنا ترصداتنا لمشاعر النورسي في بعض تصريحاته أنه كان يتأذى من مواقف الانقطاع العقيم تماما على نحو ما كان يستبشر بمواقف الانقطاع الفعال. فمخالطة الناس حتى المقربين كانت تثقل عليه لأنها كانت تستهلك من وقته ما كان يراه جديرا بأن ينفق في سبيل الانتاج والتأمل وبناء الرؤية.
لكنه كان من جهة أخرى يتألم من وطأة الانقطاع السلبي، ذلك الذي يرى فيه انحباسا لا تجد معه أفكاره وروحيته القرآنية مجالا للتسرب إلى الأتباع، حيث تؤدي وظيفتها في سقي النفوس الظمأى خارج معتقله.(13/71)
إن انحباس العلاقة الفاعلة بينه وبين الخارج، أو انبتاتها هو ما كان يجعله ينعى حظه، وليس شيئا آخر، أشبه بصاحب المصنع حين يرى قطعة ميكانيكية تافهة تعطل نشاط عماله وتوقفهم عن العمل. كذلك كان شأن النورسي مع محيطه وفي مهمته التنويرية تلك، بدليل أننا وجدناه سرعان ما يستبدل حال النكد النفسي تلك التي رأيناها تمضي به إلى حد نعي الحظ، بحال أخرى معاكسة تماما، حيث يطفح القلب بالاستبشار وتنفعم الجوانح بالسعادة ويفيض الصدر بالحبور ما أن يرتد إليه تيار التواصل مع القرابة من التلاميذ والمريدين..
لقد كانت تلك الصلة تجدد معنوياته، وتنشط بواعثه، وتمنحه الطمأنينة الروحية. ولا غرو في ذلك إذ أنه كان يجد نفسه قد استعاد الآلية التي تمكنه من أن يمضي في عملية البناء، إذ لا يسعه أن يقيم لبنة واحدة ما لم تجد أفكاره وخطراته الطريق إلى الأذهان التي تلقفها والعقول التي تهضمها، والقلوب التي تتشربها ..
وكان وسيطه في ذلك هم أولئك الرهط من البررة الذين مضوا معه في الطريق إلى أقصاه، والذين كان انقطاعهم عنه أو انقطاعه عنهم يشكل مرحلة الوهن التي لا يسع النفس إزاءها إلا الاكفهرار واليأس ونعي سوء الطالع..
لقد رأيناه يسارع وقد اجتمع بمجموعة من طلابه في بعض المعتقلات إلى الإعراب لهم عن استبشاره وسعادته، بل وعن طمأنينته، لأنه كان يجتمع بهم في موقع واحد..
" لا تقلقوا عليّ لأني أشاهد في كل أمر عسير أثر الرحمة ولمعة عنايته تعالى. فلا تتضايقوا فإن سعيكم وهمتكم ومعاونتكم لي تزيل كل ضيق وينشر السرور والانشراح دوما " (1).
ونفس الاستجابة سنراها تتكرر عنده في ظروف مشابهة، إذ كانت سماؤه ما تلبث أن تصحو، ما أن يلتئم شمله مع طلابه، وما أكثر ما كان شملهم يلتئم في السجن..
__________
(1) الملاحق 238(13/72)
هكذا نرى أن علة بكاء النورسي وشكاته من الحظ إنما كانت منوطة بوضع الورشة النورانية التي كان يقف على رأسها، إذا لم يكن يسوؤه شيء مثلما كان يسوؤه أن يرى الورشة تتوقف عن أداء عملها، أو شاب ديناميتها ما يخل بسيرها في مستوى من مستوياتها.
إنها علة جهادية، لا علاقة لها لا بمغانم كشفية روحية ولا بمكاسب نفعية دنيوية، فهي احتدام نفسي وروحي خالص مبعثه الفعل التنويري الذي كان يباشره، فكلما فترت وتيرة ذلك النشاط، حل اليأس وتكدر المزاج وبكى القائد وشكا، أما عندما تسترسل الدينامية التنويرية، لا سيما في ظروف الشدة كتلك الظروف التي كانوا يعرفونها في الحبس، فإن الروح تشرق والنفس تهزج والطمأنينة تعود..
بل لقد طفق يعلن المرات أنه كان يبدد عن نفسه اليأس والكدر بقراءته للرسائل، إذ كانت قراءتها تبعث في نفسه السعادة وتخرجه من الوهن والقنوط، وما ذلك إلا لأن الرسائل كانت - زيادة على طابعها القرآني المبارك - شاهدا حسيا يجسد الترابط الجماعي والتواثق الاجتماعي الذي تمكن النورسي من عقده مع الأمة، فلا غرو أن يكون لمراجعتها وتصفحها ذلك التأثير النفسي والقلبي الإيجابي عليه..
لقد كانت رمزيتها الروحية والمعنوية تأخذ في وجدانه صورة حضورية وتواصلية ليس فقط مع من كان قد خطها وتعاطى قراءتها من الاتباع، بل مع الدفعات القابلة والتي كان النورسي - بحدس استشرافي إيماني- يدرك أنها ستكون على موعد مع الرسائل مستقبلا، فلا عجب أن يلهمه ذلك الاستشراف بهجة، إذ كان يرى في نفسه - من خلال الرسائل - ظاهرة تتحدى عوادي الانقطاع وضغوط التقزيم المسلطة عليه من قبل الأعداء.
يقول النورسي :
" في اليوم الذي أكون في خدمة رسائل النور أشعر بانكشاف وانبساط وفرح وبركة في قلبي وفي بدني وفي دماغي وفي معيشتي، حسب درجة تلك الخدمة"(1).
__________
(1) الملاحق.201(13/73)
كما أنه ليس غريبا أن يتحول المعتقل في خلده إلى " مدرسة يوسفية " ينبعث منها نور القرآن وتنتشر تعاليم الله . فالزنزانة كانت طالع يُمْنٍ وتوفيق على النورسي كما كان الحبس طالع يمن وتوفيق على سيدنا يوسف.. لأن الزنزانة كانت تقرب الأستاذ من تلاميذه الموقوفين معه، وكانت تتيح لمنخرطين جدد، ربما بينهم الأكثر تمرسا وقابلية وقدرة على المجاهدة، أن يلتحقوا بالصف، فلا عجب أن نجد النورسي وهو نزيل الزنزانة يسارع إلى القول بأنه مشرق النفس وأن نسائم من سعادة القلب تنعشه، وأن الحظ السعيد ينصاع له بما اجتمع له من شمل مع الأصفياء.
لا جرم أن من طبيعة النفس البكاء كلما تعمَّلت المشاعر واعتلج الباطن بأسباب الشجى.
ولما كانت أسباب الشجى كثيرة فقد رأينا مواقف البكاء وذرف الدمع تتعدد لدى النورسي وتتلون صورها بتلون الظروف والأزمات. ولا بدع أن يكون النورسي كذلك، إذ لو قدرنا حال الغربة والحبس والشيخوخة وحدها لوجدنا فيها التبرير الراسخ لبكائه، لكن اللافت هو أن تلك الأحوال الضاغطة لم تنل منه ولم تقعده عن رسالته ولم تحول الحياة عنده إلى مرثية للذات وإلى بكائية تفجع لا تتوقف.
حقا إن كثيرا من تصريحاته الكدرة تكشف عن مدى الكسوف الذي كانت تبلغه نفسه في أحزانها، لكن روحه ظلت تسترجع - بصورة عامة وبكيفية إيمانية عجيبة - زمام التروي والتسليم، وسرعان ما كانت تتحول حواث الحزن والحداد إلى مجال تتقوى به الروحية أكثر..(13/74)
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تلك التصريحات المتأسية الشاكية الباكية، وفحصناها في ضوء ملامح الوجه كما سجلتها له بعض الصورة الفوتوغرافية في بعض المواقف، تبين لنا مدى الوطأة النفسية التي كان يعيشها والتي كانت تنعكس على تلك الهيئة من الانخطاف والتحطم والذهاب.. (يمكن استجلاء سيمياء الحال في الصور بمقدمة الكتاب) لكن الثابت في كل ذلك هو أن بكاء النورسي لم يكن أبدا بكاء خَوَر أو وَهن تنكسر به قوامته وحميته ورجولته، لقد كان بكاء المعاناة الوجودية التي عرفت كيف ترسي عالمها النفسي والروحي على دعائم التبصر والتروي واستخلاص العبرة والموعظة من أحوال الحياة برهافة المؤمن الذي يحمل بين جنباته قلبا حساسا مفعما بأسباب الهيمان والذكرى.
على طريق التحول والانقلاب
سار النورسي حينا، طليعة مع رهوط متلفعة بالراية الخضراء، ومتوشحة بسكاكين غادرة، سرعان ما رآهم – ويا لهول ما رأى - يغمدونها بكل ضغينة وتبييت في نحر الإسلام.
سار النورسي في موكب شيطاني يبيت على الخديعة لتقويض صرح الملة وتشييع جنازة الخلافة، ومشى النورسي في صف الكائدين، يدا في يد مع السفاكين، فلما أيقن من الفاجعة، كان سم الخيانة - ليس خيانته في شخصه ولكن خيانة الإسلام والمسلمين - يمزق أعماقه ويزعزع في نفسه أركان ذلك الصرح الشاهق من البراءة والطيبة والطهر والمصداقية.
فهول الخيانة فرض عليه أن يعيش انقلابا جذريا في كيانه ليس على المستوى الشكلي الخارجي فحسب ولكن على المستوى الداخلي بالخصوص، وذلك بإعدام شخصية سعيد القديم وباتشاح حال ظاهرية من اللااعتناء واللامراعاة لما يسمي اجتماعا بالأصول.(13/75)
فالتجدد(1) كان جوهريا من حيث ظهور شخصية سعيد الجديد، وكان شكليا أيضا شمل مستوى الهندام، من حيث تخلي النورسي عن البزة الدنيوية الأنيقة المراعية للمكانة والمركز الاجتماعيين (قابل بين الصور الفوتوغرافية المستقرأة في مفتتح هذه الدراسة). فالبزة كانت في كلتا المرحلتين علامة سيميائية لها دلالتها النسقية على مستوى شخصية النورسي. فقد كان وراء اللباس وعي وكان ذلك الوعي منوطا بمقاصد معبرة، وهو ما بينه النورسي في بعض تصريحاته.
فالانقلاب شمل نظام الحياة والعلاقة والفكر،أي استحال إلى صيام عن كل ما يستهوي الناس من شهوات طعاما وقراءة وكلاما.
بل لقد تزاوج ذلك الإضراب الدنيوي واقترن بالالتفات الإرادي الصميم إلى القرآن انسياقا مع نوازع الروح وما فطرت عليه من إيمان ظل يحركها ويرسم لها المعالم.
فالمصيبة كانت من الجسامة والمدى لأنها استهدفت القرآن ذلك الكتاب الذي ظل يمثل للنورسي برنامج الروح ومشروع العمر ورهانه القدري الأوحد في هذه الحياة..
من هنا كانت الثورة، وكان التركيز وصميمية البذل، فالخدمة القرآنية لم تأت احتماء واستشفاء من الصدمة، بل جاءت تصعيدا لحمية روحية نواة تفعيلها في نفسه كان القرآن.
الثأر كان ذاتيا، إذ القرآن كان وجدان تلك الذات وضميرها. من هنا كانت الجذرية.
ولما كان القرآن هو ضمير ورأسمال وقوام تلك الذات، فلا جرم أن القلب لم يكن يسع مطامح ضيقة تنحصر في دائرة حياتية فردية، وإنما كان يسع الأمة برحابتها، إذ التماهي كان واقعا بين شخصية النورسي وبين الملة والأمة، وذلك من خلال تماهيه وجدانيا مع جوهر روحية الأمة. أي مع القرآن العظيم.
__________
(1) التجدد لا يعني التغير،إذ أن جوهر العقيدة ظل هو هو، إنما الذي تغير هو المنهج والطريق المتبع من أجل تجسيد تلك العقيدة.(13/76)
من هنا كانت الفاجعة مدمرة لأن حجم الخسارة لم يكن على نطاق شخصي، بل كان يطال الملة برمتها. إذ على قدر جسامة الخسارة كانت جلل الفاجعة. الزلزال كان مدمرا لأنه لم يصب بيتا واحدا، ولكنه شمل المدينة بكاملها، والمدينة كانت الأمة، والرقعة من الوجود التي كانت تحتلها تلك الأمة كانت خريطة قلب النورسي تسعها وتحضنها، من هنا كانت خيانة المتغربين للعهد طعنة وجهت لقلب النورسي تحديدا، أو هكذا استشعر ذلك، لذا فاجعته كانت من المأساوية بمكان.
هكذا يتبين لنا أن عذاب النورسي إنما تأتى له لكونه عاش وطأة حلم قوامه مصير الأمة يتهاوى في وقت قدر أنه سيكون من بين الطلائعيين الذين يتوفقون بالمدد الإلهي إلى إسناده وتقصير أشواط لحاقه بالركب العالمي.
في الوقت الذي كان لا يخالجه ريب بأن الشروط السياسية تعمل لصالح الإسلام، إذا به يرى الإسلام يلفظ روحه، وعلى يد من؟ على يد أولئك الذين كان النورسي يسير في موكبهم، لذا ما كان عليه - في غمرة التوبة ورد الفعل المتفجر- إلا أن يتجرد من كل الماضي الذي رآه متلوثا بتبعات تلك الغفلة، فوأد ماضيه ووأد هويته القديمة، ودخل الإسلام من جديد.
لقد ألفيناه في المواطن الكثيرة يردد خلوص فدائيته التي يشاؤها شاملة للأمة تتلقى عنها عذاب الجحيم إخلاصا للمعبودية التي يريدها أن تكون لله وحده، مبرأة من القصدية تماما، على ما شاءه الصديق (رضي الله عنه) حينما تاق إلى أن يدفع حساب الحشر وعقابه على الأمة فداء لها وخلوصا للمعبودية.
ومع كل ذلك فلقد غادر الحلبة العرفية للسياسة بعزة لم تنثلم قطميرا . ذلك لأنه باشرها وهو على أكمل ما يكون صلابة ورشدا.. ولم يخرج من الساحة السياسية مهشم النفس أو مستسلما مهزوما.
فانكسار الشوكة كما أسلفنا مآل لا يلحق - في الغالب - إلا النفوس المجبولة على الهوان .(13/77)
غادر النورسي عالم الناس وهو على يقين من أن السياسة هي الحلبة المثلى لتجرع المهانات والتمرس بكل المخازي. فالنفس العزيزة تفقد بكارتها ما أن تقارف الفعل السياسي، لذا نرى المبتلي بالسياسة، لا سيما ممن لا حصانة إيمانية له، لا يعتم أن يحترف السقوط وممارسة العهر المعنوي، فضلا عن المادي. وذاك ما تترجمه مواقف التغير والنفاق والكذب والدهاء والتذبذب والاحتيال التي يعتادها السياسي ويتكيف عليها ويضحى يصدر عنها ليس فقط حيال المتعاملين معه في حقل السياسة ولكن مع المجتمع أيضا .
إذ تضحى تلك الأخلاق سلوكا ثابتا يربطه حتى مع نفسه وذويه، إذ لا يختار لنفسه ولذويه إلا ما استجاب للأهواء وحقق المظهرية والغنم دونما وازع. وذاك ما تأبت عنه روح النورسي التي احتفظت بسلامة تامة طيلة حياتها، فهو حتى خلال ذلك العقد الذي عاشه متفتحا على الأوساط المدنية، إنما عاش الأحداث عن براءة وطهر، إذ سار في الركب بمصداقية وحسن نية، وكان يتعامل أثناء ذلك بعُمْلة صحيحة ويتلقى العملة الزائفة، حتى إذا تبين المأساة، هاله الواقع الموبوء، ولم يسعه إلا أن يوصد الباب بضربة غضب عاتية، وأن يخرج إلى الخلاء، حيث الكبرياء وحيث البراءة وحيث الشموخ.
7- هل النُوْرْسي رومانسي ؟
يتلاقى النورسي في خصائص نفسية وسجايا وجدانية مع ما يتميز به ذوو الرهافة الوجدانية والمزاجية من الرومانسيين ..
فالرومانسي هو ذلك الشخص الذي يطوي الجوانح على نفس حساسة ومواجد مترهفة، تنشد الأفضل، وتتطلع إلى الأسمى، تتناجى مع الطبيعة ومعطيات الكون الأخرى، وتتأبى عن القيد والرسوف في وحل الواقع الراكد والتواضعات الجامدة، وتنزع إلى تقمص أحوال الألم التي تصادفها بمشاركة وتفاعل متفجعين..
وإذا كان الرومانسيون قد وجدوا في الفن فضاءهم المفضل للتعبير عن خلجات النفس واعتلاجاتها فإن النورسي يختلف عنهم من حيث المنطلق ومن حيث النتيجة.(13/78)
فمنطلقه ليس نوازع نفسية ديدنها الانطلاق الطليق والشدو المتحرر من الضوابط، والشغف بمظاهر الجمال من منظور ذاتي وبذوق شخصي قد لا يحقق المشاركة ولا الإجماع، بل قد يكون من الشذوذ أحيانا بمكان، وما ذلك إلا لأن للنفس الرومانسية قوانينيها الذاتية ورؤيتها الفردية .. قوانين ورؤية لا تنظمها مسطرة قارة ولا يحوزها نطاق محدد أو ثبات وطيد، إذ شأنها شأن النفس في دوام تغير أحوالها تبعا لتغير الشروط من حولها ومن داخلها..
أجل إن النورسي قد جبل على الحرية والتغني بها وعلى تشرب الجمال وعلى الحركة والسياحة والتجدد والتجديد، وعلى تحسس آلام النفس ومواساتها. وعلى تخطي التواضعات وخرق الأعراف .. كل ذلك كان يقع له، لكن وقوعه كان مؤسسا على:
1- روح حرة ليس من طبعها أن تتدجن أو تتكيف مع ما لا يتناغم مع محدداتها الروحية والنزوعية المتسامية.
2- اشتحان روحي قرآني استوعبته الأعماق وانصقلت به الملكات، ليس فقط بالاكتساب والتحصيل، ولكن بالاستعداد والقابلية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذا الاستعداد هو الذي جعل القدر اليسير من المكاسب التحصيلية يتخصب ويزدهر على نحو يبهر غزارة واستواء.
3- دافعية قرآنية تَحَدَّدَ بها الطريق التنويري كقدر لا مناص من مناجزته ومسؤولية لا محيص عن أدائها والمضي بها على صعيد الدعوة إلى الله، مع تحمل كل التبعات الشاقة التي ابتلي بها أهل الله. إذ أن ذلك الطريق كان طريق المرسلين، والعلماء هم خلفاء المرسلين.
4- شروط موضوعية انكسارية ارتدادية تغربية امتحنت بها الأمة، فكان النورسي على رأس من يتصدى للإنقاذ.
هذه المحددات الذاتية والموضوعية هي التي فارقت بين روحية النورسي وطبيعته القدسية، وبين روحية وطبيعة الرومانسيين القائمة على مجرد النزوع الوجداني وما رسب في النفس من علل الرفض وحب التهويم والاستشراف اليوطوبي.(13/79)
من هنا لا يمكننا التحدث عن خصوصية رومانسية تميز نفسية النورسي، بل الأصوب أن نتحدث عن روحانية قرآنية لها مكوناتها الخيالية والذوقية والاستيعابية والتمثلية المميزة لها والتي يمكن للمتحسس أن يقف عنها، حيثما وجه بصره في عالم الرسائل.
الخيال وقدرة التمثل ولقط المناظر عند النُوْرْسي
النورسي رسام وأديب ما في ذلك ريب، له مخيلة مجسمة عجيبة، فعين مخيلته - أو عدسة التفكر(1) كما يسميها هو - تمتلك آلية اللقط على كل الأبعاد، أشبه بعين الكاميرا، لها القدرة على أخذ الصورة في كل أصناف المشاهد (TOUS LES CATEGORIES DES PLANS SCENIQUES ) .
فعين خياله تستجلي مشاهدها من زوايا نظر مختلفة، لكنها جميعا تبهر، إذ هي مشاهد تستثمر عامل الإضاءة في تحديد مجال الرؤية .. فالدلالة منوطة بمجال الرؤية الذي تحدده العين، ولا يعدو الأمر في ذلك حيلا أو تلفيقات اصطناعية تخدع المشاهد كما هو حال التشخيص في السينما، بل إنها البصيرة تشد عينيك إلى الخطوط التي تجعل المعطى الرؤيوي ماثلا أمامك بثبات لا تستطيع غير مخيلة النورسي أن تستبينه وتطرحه أمامك على ذلك النحو.
ومما لا شك فيه أن مهارة الإظهار والكشف تلك مردها الصقل القرآني البليغ الذي طبع مواجد النورسي ورهف مشهوديته.. فالعرض القرآني قد تأسس على هذه القدرة الخارقة التي تلفتك إلى الكون المألوف من حولك، فتستظهر تفاصيله المعهودة والتي لا تفتأ العين تراها في كل حين، لكن التسديد القرآني الإشهاري لتك التفاصيل المعهودة يخرجها الإخراج الفذ ويؤطرها التأطير التصويري المبهر، الأمر الذي يعطي للمشاهد القرآنية سيميائيتها الكشفية الخاصة.
فالجبل ليس كونا شاخصا من الحجارة والنبات، ولا هو كينونة من الطبيعة المبهمة الماثلة في موات، ولكنه شرط وجودي له دلالته ودوره ووظيفته التي تستجليها الروح المتبصرة وتستبينها العين المتأملة ..
__________
(1) انظر سيرة ذاتية ص.300(13/80)
بل إن مسرح الطبيعة والكون برمته لا يؤدي لعين النورسي ذلك الدور الصدى للأهواء النفسية الذي ألفيناه يؤديه في وجدانيات الرومانسيين، كلا، ولا هو شاشة تتحرك من ورائها عرائس مشدودة بخيوط النفس والنزعات الكبيتة .
الطبيعة في منظار النورسي ومخياله لوح تستقرئ الروح من سطوره الإيمان، وكتاب متسلسل تستبين فيه النفس الآيات البينات، فهي ليست مُحاوِرا أخرس لا يتيح لك إلا أن تنفث لواعج أحلام كسيرة تخفف ما بك من أسى وليس غير ذلك، ولا هي منديل يكفكف دموع العواطف الجياشة في أعماقك وغير المحددة في هَمٍّ بعينه إلا هَمِّ الضغف والقصور والقنوط من وجود فاجع بلا آدميته وببهيميته لأنه لم يجد إلى تجاوزها سبيلا ..
الطبيعة عند النورسي مجال لليقظة والقوة وجبر كسور النفس وتمزقات الروح واستلهام العظة البليغة واستمداد الاعتبار الفاصل..
إنها ليست حائط مبكى نستجيش عنده مشاعر الإلتياث بتذراف دموع النفس النواحة..
فالطبيعة هي مجلى أسماء الله الحسنى، وصعيد الإنسياح في أعالي بحارها لا يكون بتاتا على موعد مع الخيبة والنكبات..
فالنفس لن تقهرها الزوابع ما كان الإيمان هو ملاحها الماهر واليقين هو ربانها المغوار..
لقد طفقت الطبيعة تتلون وتشكل على أصعدة ومستويات مختلفة تحت بصر وسمع وذوق وشم النورسي. بحيث رأينا السموات السبع والأرضين بمجراتها تَتَحوَّزُ تحت منظاره التأملي، فلا تضحى إلا مجسما بسيطا في متناول اليد تقلبه كيف تشاء وتتحسس مطاويه على نحو ملموس.(13/81)
كما ألفينا الذرة الرملية وقطرة الماء ونواة الخلية وخفق النسمة ونبضة القلب وغيرها من المظاهر الكونية المصغرة وتفاريقه غير المحسة وجزيئيات موجوداته اللامرئية تتحول تحت مجهر النورسي التدبري إلى عوالم شاهقات وإلى أكوان شامخات، فلا يفتأ يستجلي فيها سلاسل الارتكاز النمائي والإكتمالي وفهارس الصيرورة والحياة التي تكمن في بؤرة تلك التفاريق والجزيئيات .. وما ذلك إلا لأنها التجسيد الحيوي لإرادة الله ولإسمائه الحسنى..
لقد طفقت عين النورسي ترى في نواة ثمرة التين مثلا والتي لا تكاد العين المجردة تراها، معالم شجرة باسقة وارفة الأبعاد، مسترسلة في الوجود وفي العطاء مع الزمن، كل ذلك لأنها تجسيد لقدرة الله. ومثل ذلك يقال عن الهباء غير المرئي في عيوننا والمشحون بكل خلايا الحياة الطبيعية التي لا يفتأ يجدد بها الله - سبحانه عز وجل - المشهد الجمالي من حولنا موسميا..
ولا جرم أن من يقرأ تأملات النورسي بخلفية تشخيصية سينمائية، سوف يجده قد نوع في مشاهده، إذ هناك مشاهد قد تأمل فيها الكون والبسيطة من زاوية الإطار الشمولي . P.E، وهناك مشاهد أخرى راوح فيها بين المنظر النصف شمولي P.1/2 E.، والمنظر الكبير G.P.، كما أن هناك مشاهد إبعاد أو تقريب تنطبق عليها تقنية الزوم الأمامي والخلفي (ZOOM AVANT - ZOOM ARRIERE) والحركة المصاحبة والمخالفة .
بل إن عين مخيلته تصطنع مع المنظورات علاقات مجراتية أحيانا، حين تلقطها عن بعد : تشخيص البسيطة مثلا والنظر إليها على أنها فرد يتحرك وله الاستجابة، من قبيل قوله: القرآن عقل الأرض، فإذا أضاعته أضاعت عقلها .(13/82)
إن الصورة (1) هنا فوقية وعلى مهارة تشخيصية فائقة، فهي من ثمة صورة تجرف النفس وتلقي بها إلى حلبة التأمل والتفكير، من خلال ما هيأته لها مهارة اللقط التي سجلها لها النورسي، وفاعلها بحس تخيلي تمثلي وتركيبي، يدمج العلائق والأبعاد في رؤية قرآنية هي عين الله التي يصغر أمامها الشاخص العظيم ويكبر الحائل المطمور.
" فهذه الأرض لها ألوف الرؤوس، ومئات الالوف من الألسنة لكل رأس. ولا شك أن لها ملكا موكلا بها يناسبها، يترجم أزاهير تسبيحات كل لسان وثمرات تحميداته التي تربو على مائة ألف نمط من أنماط التسبيح والتحميد، يترجمها ويبينها في عالم المثال، ويمثلها ويعلن عنها في عالم الأرواح " (2).
فالنورسي يعرف كيف يلقط الكائنات المشهودة في مسرح الكون ليس عن جوارية وقرب فحسب، ولكن عن انفصال و بُعْدٍ كذلك، بُعْدُ الكلية والإحاطة لا بعد الظنية والتقريب.
" إن الكرة الأرضية مأمورة وموظفة من لدن الفرد الواحد .. وهي كالجندي المطيع لله الواحد..فحينما تتسلم الأمر الصادر إليها من آمرها.. تهب منتشية، وتنغمر في جذبات وظيفتها .. وتدور كالمريد المولوي العاشق - عند قيامه للسماع - فتكون وسيلة لحصول المواسم الأربعة.."(3).
ذلك لأنه يعرف كيف يجعلك تقرأ ما يقرؤه هو في لوح الطبيعة، ويحملك بلا عنت على أن تؤَمِّن بلا تردد عما يضع أمامك ويعرض عليك.. وذلك لأن خياله التشخيصي قد تمرس بما يمكن أن نسميه مجازا المخيلة القرآنية ذات الدينامية التجسيمية الحية. أنظر مثلا كيف عالج دعاء الحمد لله في كتاب "الكلمات" (4)، أو كيف شخص الكرة الأرضية ونظر إليها على أنها عاقلة:
" الله أكبر تطلقها الكرة الأرضية كأنها إنسان ضخم"(5).
__________
(1) بل نعترف أن هناك من الأمثلة ما هو أبلغ في التعبير عما قصدنا إليه، وبالوفرة التامة لمن أراد أن يتفحص هذا المستوى من التعبيرية النورانية.
(2) الكلمات 178
(3) اللمعات.548
(4) الكلمات450
(5) اللمعات 194(13/83)
" البعوضة حين مولدها ..تظهر براعة عسكرية فائقة " (1).
على أنه يمكننا أن نستشف بعض الخصائص التي تميز روحانيةً يتقاطع فيها النورسي مع الرومانسيين على صعيد العاطفة والمخيلة والبوح.
- إذ له قدرة كبيرة على التشخيص واستنطاق الجماد وتقمص الأشياء وربط أواصر عاطفته ووجدانه بالجماد لا سيما المكان :
" تشاركني البكاء والحزن حتى بيوت المدينة المدمرة "(2).
"كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت اشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة، الشبيهة بالميتة"(3).
- كما أن له روحا مفطورة على الذوبان في موضوع محبتها، والفناء في تمجيد ومحبة الكائنات عاقلها وغير عاقلها، بل إن محبته للموجودات تقوم على صلة تقديسية، وليس مجرد صله استمتاع فقط، لما يرى فيها من حضور إلهي، بوصفها تجليات أسمائه الحسنى.
- كما يتميز بقابلية الألفة والتآلف مع المحيط، ولا تفلح يد الزمن ولا تقلبات الظروف أن تمحو من صفحة قلبه سطور الذكريات وأوشام الماضي كما انحفرت فيه وعاشها مع الناس أو مع المكان .. فألفته الجارفة نامة عن أصالة المشاعر وصميمية الأحاسيس، أحاسيس حرة ترتبط مع موضوع محبتها بعقد المعصومية، فهي ليست أحاسيس زائفة، عبدة، مسخرة للابتذال في سبيل الغنم العابر، متلونة مع المتغيرات، ولا هي أحاسيس مأجورة تتعلق بالمقابل وتتملق للغرض، وذاك ما جعل محبته تتجاوز الإطار الزماني لتغدو محبة كونية قدسية لا تتغير مناخاتها على مر الدهر وكر الشهر.
" ألا ترى فيك لطيفة لا ترضى إلا بالأبد والأبدي، ولا تتوجه إلا إلى ذلك الخالد، ولا تنزل لما سواه.. تلك هي سلطان لطائفك ومشاعرك "(4).
__________
(1) اللمعات 192
(2) اللمعات 381
(3) اللمعات 381
(4) اللمعات 174(13/84)
" فالتفتُ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إلي مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: لا تحصر نظرك في الخرائب وحدها، فهلا نظرت إلينا وأنعمت النظر فينا "(1).
1-الخيال والمخيلة
ليس للنورسي خيال هوَّام جامح كخيال الشعراء يمضي بلا لجام، متأهب للتحليق في كل أفق والتجنيح في كل ساح.
لقد ضبط النورسي مواجده وسدد تعملات نفسه وروحه صوب قبة الإيمان، وثمَّر ضمن ذلك التوجه القلبي المحموم طاقة الذهن والوجدان، ومضى يلون خطابه بأفانين الأصباغ ويصنع ألواح الطهر التي لا يقع منها الإنسان إلا على كل موقع يزدان بالجمال العفيف والكمال الشفيف والبهاء الضافي غير الكسيف..
يقف النورسي عند حد الإبداعية التشكيلية في تلوين الرؤى وإقامة التماثلات النفسية والموضوعية إعرابا عن خالجة النفس واعتلاج عاطفتها.
أجل إن الشعراء مسكونون بطاقة يخرجون بها عن المألوف، وليس عبثا أن نُعِتَ بعضُهم بالمتنبي وعزا آخرون أحوالهم إلى الأرواح وقوى الرئي الخفية.. لكن نطاق التحليقات الشعرية ظل محصورا في صعيد قولي تواجدي مكرس. (هل غادر الشعراء من متردم؟ ).
أنظر مثلا إلى سقف الإبداع العربي الجاهلي في منظومة ما يعرف بالمعلقات، تجد دائرتها لا تخرج عن حيز الفعل اليومي أو العرفي أو الدارج من الأفكار والتهيؤات. وأقصى ابتكاراتها لقطة تشبيه احتذائية، أو بارقة قول يُلْحَظُ فيها ملمح باهت لحكمة أو تأمل أو تعز..
لقد عزا المفكرون المعاصرون - ولا سيما المهتمين بحقل النقد والإبداع - إلى الخيال دينامية الخلق، فميزوا بين الخيال النقلي والآخر الابتداعي، ونوهوا بحيوية هذا الأخير وحكموا للادباء بالأصالة والتفوق لمن يترجح في منتوجه الأدبي هذا المنزع الخيالي الابتكاري.
__________
(1) اللمعات382(13/85)
وجنحت الملكة بالصُّنَّاع ومحترفى الفن فخاضوا غمار التجريب وانتهوا إلى ألوان ما بعد العقل وما بعد الحداثة وإلى ما هنالك من التصاميم التي نفذها الخيال الابداعي المعاصر، وكانت المحصلة النهائية لكل التجارب والفذلكات هي استمرار اشكالية فردة فريدة معلقة، يجترها الإنسان ويكرر التجريب فيها، ريشة وشريطا وازميلا..
إنها اشكالية الإنسان وحيرته في هذا الوجود.
ذلك هو النطاق الذي غطته المخيلة الإنسانية على مدى تبلوراتها عبر الأعصر والحضارات. وكان لذوي الارواح والاستشرافات الروحانية إسهامات في تخصيب اللوحة الابداعية الإنسانية من خلال ما أغنوا به الفرضية الوجودية الأم : الإنسان من أين وإلى أين ؟
إذ بفضل ما تهيأ لأهل الاستشراف من خيال استطاعوا أن يلونوا المشهد بأصباغ ميتافيزيقة أكسبته نكهة، لكنها نكهة افتراضية لا تسكن لها النفس..
إذ ظلت حيرة الإنسان غصة تربض على عتبة حلقه، فلم ينفتح للإنسانية بها باب، ولم تحظ بالكشف. ومضت تمضغ المرارة بذهول.
لا ننكر أن خيال النورسي خيال مجنح بطبعه، بل قمة في التجنيح. فهو خيال يعد على صعيد الشعرية فاعلية من الطراز الأول، لكن هذا الخيال قد تريض بدينامية روحية تمثلية أعطته فاعليته المتميزة والتي استطاع أن يجسدها على صعيد النجوى الروحية والتعقل القلبي والاستبصار الإيماني.
قد يقول قائل أن حال أهل الاستشراق الصوفي لا يشق لهم غبار في مضمار التمثل وإضفاء علائق سيميائية على المشهد الكوني بحيث غدت الآصرة بين عالمي الغيب والشهادة عديمة، إذ أن منطق الوحدة - شهودا أو وجودا - جعلهم يعدمون الفارقية بين الموجودات والمشهودات، الأمر الذي أشكل على العباد، إذ شق عليهم أن يتبينوا حقيقتهم الوجودية - ككائنات - في هذا النطاق الإشاري الاستشراقي الذي لا يسلم في التحليل الأخير من حلولية.
خيال النورسي لا يرمم ولا يهدم ولا يحول الأشياء عن مواضعها في صفحة هذا الوجود .(13/86)
خيال النورسي يستقرئ الأبجدية الماثلة أمامه في المشهد الكوني، ويتملى فيها وجه الله، إذ الموجودات هي خطوط براها قلم الخالق وأوكل بها أسماءه الحسنى، كل ماهية مناطة بما يتجانس مع طبيعتها وطابعها الذي يحمله الاسم الرباني المحالة عليه. سنة الله التي جسدت على ذلك النحو قيوميتها وحضورها وسيطرتها وعلمها ومطلقيتها.
الواقع أن خيال النورسي يعد من هذا الصدد بصيرة لا بصرا فقط، فهو خيال يستقرئ الكون بكامل التأدب والتنزيهية، نشاطه عبادة وتسبيح. ولا يستبعد أن ينساق الخيال الشعري بالنفوس العاطلة من الإيمان مساقات تيه وضلال فهم في كل واد يهيمون .
وإذا تلطفنا مع هذا الخيال الشعري الرومانسي قلنا إنه يمضي بالنفس في سياحة من غير دليل. إلى أين؟ متى تكون العودة؟ ماذا يلزم من زاد؟ ما الجدوى من ذلك؟ ثم لا شيء من هذه الاسئلة يلقى الجواب على صعيد استشرافيات الرومانسيين.
إذ السياحة الشعرية عندهم هي مغامرة وإبحار وراء المجهول والعودة حتما من المتاهات صفر اليدين أو ما يشبه ذلك الحال.
فالحيرة الشعرية الرومانسية لا تعكس الحيرة الوجودية فقط ولكنها تماثلها، من هنا عاش الرومانسي وطأة العنت الوجودي، ولاذ أحيانا بالانتحار مخرجا من العذاب(1).
فقد انتهت القناعة التقويمية المعاصرة إلى التأكيد بأن الشعر الذي يغلق القوس ويجيب عن الأسئلة ويُسَكِّنُ غلواء الحيرة إن هو إلا ضرب من الخدر، أو هو شعر معطوب الخيال واهن الحمية التثويرية التي باتت نفسية الإنسان المعاصر تشغف بها.
__________
(1) ندرج أسماء مثل رامبو، بو، وهيمنغواي والقائمة تطول ليس فقط في حقل الكتابة، بل في سائر الفنون .. إذ أن نشدان الحقيقة الذي يؤرق المبدعين، لا يغذي عند الكثيرين منهم إلا روح التفجع التي تنتهي بهم إلى الطريق المسدود.(13/87)
فالشعرية الحديثة تلقى التنويه متى أفلحت في تعميق الجرح ومتى ما شردت بالحس والخيال خارج المعقولية وخاضت بالنفس أقصى تخوم الغرابة واللامتوقع..
هكذا يتمادى القلق الوجودي بإنسانية هذا العصر فلا يروقها إلا أن تمضي على لجة المفاقمات، أشبه بمن يتداوى من السم بتجرع مزيدا من السم.
خيال النورسي مجنح طليق، ليس له حدود إلا حدود الإيمان الفياض، ينفذ إلى آفاق النفس فلا يرى إلا إبداعات خارقة انتسجتها قدرة الله لتوجد الإنسان، هذا المخلوق الذي توجت به الإرادة الإلهية قمة هرم مبتدعاتها التي لا تحصر.
وهو خيال ينفذ كذلك إلى عوالم الشهود فيجد لعناصرها وطبقاتها مواقع وطوبوغرافيا على خريطة الإيمان، وينشط فلا يفتأ يلون المشاهد بألوان القلب المؤمن، تستبد به المفاتن الكونية فلا يسف وإنما يمضي في تنزيه البارئ الذي خلق فسوّى ..
خيال يتعشق الجمال فيلهج بلذاذات تسابيح قدسية تغدقها الروح تنويها بكمال البديع خالق الجمال. وقد يتشنج الوجدان وقد تحتدم الخلجات وتطبق على النفس سحب الحيرة والقلق واليأس والقنوط، فلا تحملها تلك الحال المتسللة إلى النفس أو المنبعثة منها بتاتا على ثورة أو تمرد أو تطاول أو اجتراء على الخالق - سبحانه - ولكن الروح تتسور على حبل الاستخارة والإيمان إلى قمم المشهد، وسرعان ما يأسرها ذلك الوجه السبُّوحي الذي يطلع عليها من ثنايا غيوم الإحباط الأرضي، ولا تلبث الأغصان أن تتبرعم بما يهبُّ عليها من نسائم الإيمان.
كلا ليس الوِرد(1) هو نفس الوِرد. وليس من انغرس خياله في أرض الإيمان بالله وضرب بجذوره في أعماق اليقين، كمن استنبتتْ روحَه قماماتٌ لا صلابة لها ولا أرضية تشدها، فمصيرها - حتما - الموت الباكر والاختناق بالتفحم والتكلس والانغمار تحت الأحمال.
__________
(1) نقصد المورد ومجال الارتياد والسياحة.(13/88)
"عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردة من الصور وتكتسي الأشكال والصور هناك. والخيال هو الذي ينسج دائما ولأسباب معينة، نوعا من الصور ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيما معنى يرد فالخيال إما يلبسه ذلك النسيج أو يعلقه عليه أو يلطخه أو يستره به، فإن كانت المعاني منزهة ونقية، والصور والأنسجة ملوثة دنيئة فلا إلباس ولا إكساء، وإنما مجرد مس فقط، فمن هنا يلتبس على الموسوس أمر التماس فيظنه تلبسا وتلبيسا، فيقول في نفسه "يا ويلتاه، لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله، فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالا فظيعا"(1).
2-خيال النورسي .. الحركة واللون والدلالة
المشاركة الوجدانية تتحقق للرومانسي فتتحول الطبيعة في خلده حضنا يعانق، وذراعا تضم، ومرهما يمنح الشفاء إلى حين، لكنها مع النورسي مشاركة تَحَنُّفٍ من جنس سلوك أهل الله، منوطة بخلفية روحية إيمانية، فهي تأمين على دعاء السحر المنبعث من الكائنات الساكنة والمتحركة في الطبيعة، وإقرار بمشاهدة عيانية وقلبية للخالق، وليس بحثا وضلالا وميوعية مشرب تواجدي غير قويم .
إذا وجد الرومانسي في فسحة خياله عوضا عن خسائر واقعه وبديلا عن محتبس روحه في هذا الواقع الذي لا يتيح له أن يحيا على هواه ومشيئته، فإن النورسي أيضا يجد في خياله الخلاق ارتكازا خارقا وسندا باهرا يعبر به إلى عدوة الطمأنينة كلما نهشه ألم الواقع وعضته شراسة الحياة المناوئة لمطامحه السرمدية.
لكن النورسي يختلف عن الرومانسيين في هذا الارتحال بالخيال من واقع جحيمي إلى واقع رحيمي، من حيث أن خياله منوط أبدا بخالق يمسك في يده ريشة لا تفتأ عين النورسي ترى ابداعاتها كلما رهف فيه الإحساس تأملا أو تألما.
__________
(1) الكلمات.304(13/89)
فالخيال في عبوره إلى شاطئ الانفساح الروحي وهروبه من ضنك الواقع المعيش لا يخلق الفردوس المفقود الذي تمرح فيه الروح على هواها، ولكنه يعاين الفردوس الناجز الذي ابتدعته يد الخالق وشادت مقوماته على أكمل ما يتصور "إن قلم التجميل والتحسين الذي يبدع نقوشه في وجه الكائنات، يدل بوضوح على جمال أسماء مالك ذلك القلم المبدع" (1).
في حين يجنح خيال الرومانسي إلى الابتداع الذاتي أو خلق عالم الذات من خلال استحضار ما تفتقده الذات في عالمها الحسي، الواقعي، من محسنات وزينة خيالية تنفيسية. ولا يتأتى ذلك لها إلا بالإبحار في محيطات النفس الشغوف بالهدم وبإعادة الترميم والتسلي بالنزوات التي لا يشرطها - غالبا - ثبات أو منطق أو وضوح دلالة.
فالعوالم التي يبتدعها الرومانسي هي عوالم الذات، عوالم مشروطة ببواعث وأحوال نفسية يعيشها الرومانسي، مرتبطة بما يجده من ترف واستطراف أو بما يستشعره من حرمان ونقص وقصور وجوع وظمأ وحاجة. إنها محض تهويمات دوافعها الاستعاضة الحسية الكبيتة..
أما التجنيح الخيالي عند النورسي فلا يقوم على التعويض الذهني والسيكولوجي الغفل من أبعاده الموضوعية، ولكن على دعامة الإثبات الروحي والبرهان العقلي الذي يلحم النفس بالحقيقة ويكفل لها النجاة من محنة التيه، ويمدها بما يزين لها الوجود ليس كتجربة محدودة في الزمان والمكان، ولكن كخلود وكحياة أبدية وكمصير ومسؤولية تجاه النفس وتجاه الإنسانية وخالقها.. وكطريق مسلوك ومعاد حتمي..
إنه تجنيح روحي يُطَيِّبُ للنفس المقامَ الأرضي من حيث كون الأرض هي الحقل والبيدر الذي تنال منه الإرادات والعزائم على قدر اجتهادها وحدبها من المغانم التي تقطع بها الطريق إلى الآخرة، وذاك ما تسلس به الحياة، إذ تتفتح أبواب الخلود في وجه الإنسان.
__________
(1) الكلمات818(13/90)
إن الخيال المشبع بالإيمان لا يرى في مقدرات الكون ولذائذه مجرد ثراء استهلاكي وشهوات عارية مبذولة أو متعززة، وإنما يراها نعما معنوية وحسية تستلزم الحمد وتقتضي الشكر وتستوجب التنزيه .. تنزيه خالقها والمنعم بها عن الشرك والندية.
إن التجنيح الرومانسي دائم الحركة، دائم السعي وراء الجدة، لا يقر له قرار، ينشئ الفراديس ثم لا يلبث أن يهدمها، لأن النفس في رحابه لا تفتأ تهفو إلى فراديس أخرى أكثر جاذبية وأشد سطوعا، إذ له كل ساعة شأن، بل كل لحظة توق، فلا غرو أن تنطبع على بسمة الرومانسي تلك الحدادية الأليمة التي لم يستطع تفاؤلهم المفتعل أن يغطيها ويموه عليها. لأن الإحساس بالفاجعة يدمرهم، فهم يواجهون - دون جدوى - لاشيئية الحياة بإدمان الأسى والهروب من الواقع. أشبه بمن أعضل به مرض، فلا مناص له من مورفين متجدد تنسيه التباريح.
3-المخيال يمتح من حقل الجندية
أشرنا في سياق سابق إلى أن ملكة التمثل عند النورسي قد ارتبطت بمحور ذهني رئيسي ظلت تمتح منه أهم عناصر تعبيرها وتشخيصها، وهو محور الجندية..
فالجندية - كما أسلفنا - حقل إعراب وتمثُّل مركزي في خيال النورسي ومخيلته،
ولقد عللنا في ما سبق سبب هذا الارتباط الباطني بالجندية، بكون الجندية كأفق رمزي ووجداني كانت تنسجم مع طبيعته الفتية وروحه المنضبطة والفعالة، كما أن الجندية ظلت دائما - ولا سيما بالقياس إلى الفرد العثماني- الإطار الأمثل للقوة والاقتدار والرفعة، فلا عجب أن ينطبع مخيال النورسي بتجسيدات الجندية ومرموزاتها، فلا يكف خطابه عن استدعائها والصدور عنها على نحو ثابت ومتواتر..(13/91)
لقد أوشك قطاع معتبر من الصور الذهنية والاستعارات التمثيلية أن يتنمط في صيغ، كان مؤشر الارتكاز الدلالي فيها هو الجندية. ولو شئنا أن نسوق عشرات الأمثلة إثباتا لهذه الحقيقة لفعلنا، غير أننا نكتفي بهذا المشهد الوجودي الذي صوّر فيه النورسي حركة المواليد والوفيات في واقعنا الحياتي كما تمثلتها مخيلته صدورا عن معينه الوجداني الثابت، يقول :
"على الطريق.. وطوال مدة السفرة كلها، نرى سوقا إلى الجندية يتم في فرح وابتهاج وسرور، تلك هي التي تسمى بالمواليد، وهناك إعفاءات ورخص من الجندية تتم في فرح وحبور أيضا، وسط تهليل وتكبير، تلك هي التي تسمى بالوفيات " (1).
بل لقد كدنا أن نجده لا يتحدث عن الخالق عز وجل - لا سيما في مواقف التدبر والتوحيد - إلا من خلال تمثل إستعاري مادته القيادة والحاكمية. إذ لا يكف يرى الله بعين الملك والسلطان والقائد والحاكم " المالك الحقيقي لهذه المملكة "..
فالخيال عند النورسي، يمتح في هذه المواقف التي يتواصل فيها مع الله، من روح تملكية، حاكمية، تخضع وتسيطر وتستولي، إذ لا تكف صوره تراوح في التمظهر والتلون بين أحوال القوة والقدرة والتمكن، وكلها أحوال كان الجندي والجندية بتفاريق رمزيته مادتها الإعرابية والتعبيرية.
__________
(1) اللمعات: 179(13/92)
" أيها الانس والجان، أيها المغرورون المتمردون .. هيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم، فكيف تتجرأون إذن على عصيان أوامر سلطان عظيم، النجوم والأقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكما عظيما جليلا له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون أن يرجموا بقذائف كالجبال حتى شياطينكم لو تحملت.. وأنتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل له جنود عظام يستطيعون أن يقصفوا أعداء كفرة ولو كانوا في ضخامة الأرض والجبال، بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كأمثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم، فكيف بمخلوقات ضعيفة أمثالكم ؟ وأنتم تخالفون قانونا صارما يرتبط به من له القدرة - بإذن الله - أن يمطر عليكم قذائف وراجمات أمثال النجوم." (1).
هكذا يتحقق التصاقب بين مواجد النورسي وبين مرجعيته الرمزية: الجندية، وكل ذلك لأن ضميره قد احتفظ للجندية بمكانة سقفية في سلم الاعتبار، بل لقد كانت شخصيته ذاتها تتماهى في سيرة تجندية، وكل ذلك بتأثير المثل النفسية المنوطة بقيم النظام والبسالة والجمال والاستواء كما أسلفنا.
لقد طفق خياله يصوغ الكون ويضبط الصلة بين العبد والخالق من خلال تمثل علاقة تراتبية تحتذي إلى مقصدها التشبيهي الواقع العسكري ونظامه التدرجي وتفاوت سلطته، وهو ما نجد النورسي يقرره في التمثيل التالي :
__________
(1) الكلمات208(13/93)
"إن اسم القائد – مثلا - من بين أسماء السلطان الكثيرة - يظهر في دوائر متداخلة في دولته، فابتداء من الدائرة الكلية للقائد العام العسكري ودوائر المشير والفريق حتى يبلغ دائرة الملازم والعريف، أي أن تجلي ظهوره يكون في دوائر واسعة ودوائر ضيقة وبشكل كلي وجزئي، فالجندي أثناء خدمته العسكرية يتخذ من مقام العريف مرجعا له، لما فيه من ظهور جزئي جدا للقيادة، ويتصل بقائده الأعلى بهذا التجلي الجزئي لاسمه ويرتبط به بعلاقة، ولكن لو أراد هذا الجندي أن يتصل بالقائد الأعلى باسمه الأصلي، وأن يقابله بذلك العنوان ينبغي له الصعود وقطع المراتب كلها من مرتبة العريف إلى مرتبة الكلية للقائد العام "(1).
لقد ظل النورسي يعتبر التمثيل هو السبيل الأجدى إلى توصيل الأفكار، من هنا ظل يسوق خطابه ومعانية عن ذلك الطريق " طريق التمثيل الواضح للعقل والمنور للقلب".(2) وظل يضرب الأمثال لاسيما عندما يكون المجال تجريديا وقلبيا تنزيهيا "ولله المثل الأعلى - ولا مشاحة في الأمثال "(3).
فخياله كلي، ورؤيته كونية قرآنية منوطة بالأكوان وبالعالمين، وهو ما فتئ يعبر عن تلك الرؤية الشمولية من خلال تمثلات تصغيرية اتخذت فضاءها الأرض، وجعلت مسرحها البسيطة :
" إنه بتجل واحد من تجليات رحمة الرحمن الرحيم، ينشر على مائدة الربيع ما لا يعد ولا يحصى من نعمة اللذائذ البديعة على سطح الأرض"(4).
كما أنه لم يفتأ يواتر تمثلاته التكبيرية التي تحيل الذرة والبذرة والجرثوم فضاء كونيا فسيحا طافحا بالعوالم والمعاني والعبر والكشوفات.. إنها قدرة متميزة على الاستجلاء وتنويع الرؤية والإعراب والقراءة.. وكل ذلك منشؤه خيال قرآني تعلم كيف يلقف مناظره من مدارج علو متفاوتة..
8- مَن المازوشي؟
__________
(1) الكلمات217
(2) الكلمات 211
(3) الكلمات 206
(4) اللمعات 383(13/94)
إنه لمن الإساءة إلى طهر أهل القداسة أن ننظر إلى أعمالهم بمنظار الدناسة المكرس في معدات النقد والقراءة والتقويم كما أثلتها الثقافة اليهو - مسيحية.
ولما باتت الإجرائية النقدية الغربية تمثل اليوم المرجعية والمحك لكل تقويم فني أو أدبي أو معرفي مهما كان مصدره ومنابع إلهامه، فلا جرم سيتحتم علينا أن نخوض في قراءة جانب من سيرة النورسي - وهو الجانب التعبدي - من منظور التحليل النفسي .
وإننا إذ نفعل ذلك فليس ضلالا منا أو ترفا أو بطالة، ولكن لمسعى تسديدي قد نوفق إليه. إذ لا ننسى أن النورسي بات اليوم مرجعية عالمية، تراثه مرشح للمعالجات بمختلف مشاربها، ونحسب أن كل مبادرة اقتراب تتوجه إلى هذا التراث من منظور حداثي - أي من خلال تسليط المناهج النقدية التي تعد اليوم حديثة - فسيطوي المسافة بين الأجيال الجديدة وبين النورسي، بوصفه ظاهرة إنسانية لافتة ومتميزة، بل واستثنائية..
لماذا يخطر للمرء أن ينظر إلى تراث النورسي، وإلى شخصيته من منظار التحليل النفسي؟ ولماذا ينبغي أن نقوم هذه الشخصية المسلمة وتراثها الروحي الطاهر من زاوية مفاهيم هذا العلم (؟) النفس - تحليلي ؟
لا ينكر أحد أن الثقافة المعاصرة تتبنى قيم ونظريات علم النفس بمختلف مدارسه وترسي من تلك القيم والنظريات ركائز يشهرها الخطاب المعاصر المتنور (بمقاييس الثقافة الغربية).
من هنا كان لزاما على من يريد أن يُعرَّفَ طبقات واسعة من الناس بالنورسي، أن يقربه إليهم من منظور حداثي - كما أسلفت - يصطنع الأفكار والمقولات الحداثية.
ثم ألسنا نرى في كثير من الأحيان، هؤلاء الذين تأثروا بالثقافة (النفس - تحليلية) ينيطون كل مجاهدة وكل عناء وتحدٍّ يتجشمه المرء بالموقف المازوشي ؟(13/95)
بل إن أمر إسقاط نظريات التحليل النفسي قد طفقت تشمل الظواهر والعلائق التي تتجاوز نطاق الأفراد. لقد ظلت مثلا الرؤية الرأسمالية - خلال مراحل الاصطراع الإيديولوجي - تنظر إلى الشيوعية وما اتسمت به من تقشف ظاهري وإشاحة عن الترف الاستهلاكي، على أنها ظاهرة مازوشية تترجم عن نفسها في صورة انقياد سلوكي جماعي غير سوي.. ونفس هذه النظرة النفسية نجد البعض يُقَوِّمُ بها حياة الرهبنة والزهد الدينيين. بل إنهم ليَصِمون كل مسلك يجنح إلى التسامي عن الشهوة، بالمسلك المازوشي، بل إنهم ليقرون أن تعاطي الاشباع الشهوي ذاته إن هو إلا وجه من المازوشية يأتيه الإنسان من غير ما وعي .
كيف للثقافة النفس - تحليلية أن ترد كل هذا وذاك إلى مركب واحد، هو المازوشية (تعذيب الذات) من دون أن تقع في الارتباك المنطقي ؟
لا مناص لنا من أن نشير أولا إلى معنى المازوشية من خلال هذا التعريف الذي نجمله لها في التالي :
المازوشية عند التحليليين، وفي مقدمتهم فرويد، هي تنفيس عدواني وقلقي ناتج عن شحنة غريزية مزدوجة - سادية - مازوشية - تنشط داخل سرادب الذات. ولما كانت السادية هي التواصل العدواني مع موضوع خارج الذات، أي مع آخر، فإن بنية المازوشية هي من بعض الوجوه ضرب من السادية الذاتية، من حيث كونها عدوانا يستهدف الذات نفسها، لا الآخر(1)
__________
(1) لقد رأت الفرويدية- وهي تطور المنظور التحليلي - أن غريزة الموت كما تتجسد في نفسية الإنسان، تظهر من خلال مستويين من السلوك، المستوى الأول تمثله دينامية عدوانية نشطة تتجه نحو الموضوع الخارجي وتكون عندئذ نزعة سادية، والمستوى الثاني تمثله دينامية عدوانية نشطة تتجه نحو ذات الشخص، فهي عندئذ نزعة مازوشية. فظاهرة تعذيب الذات هو المازوشية وظاهرة تعذيب الغير هو السادية.
على أن الفرويدية أوجدت بنية أخرى ترجمت من خلالها السلوك السادو- مازوشي، وذلك بتمثلها للبنية السيكولوجية للإنسان على أنها أنا وأنا أعلى وهو. وبحسبها أنه إذا كانت وظيفة الأنا الأعلى لدى الفرد الشاذ تبدو توفيقية تكييفية، فهذا لا يمنع أن توجد في دهاليز النفس مستويات نشطة من الصدام المازوشي.(13/96)
.
على أن أهم ما تخلص إليه المدرسة النفس - تحليلية، هو اعتبارها الابداع نفسه، وبشتى مظاهره، مسرحا تعبيريا يعكس في تجلياته نشاطا سادو - مازوشيا تنطوي عليه حياة الفنان وتعكسه مواجده على نحو من الأنحاء.
هذا بالتقريب هو الإطار التصوري الذي تصدر عنه النظرية التحليلية، فأين يا ترى يقع النورسي رجل الفكر القدسي والزاهد الورع والاستراتيجي الحكيم من هذا الإطار؟
لا مراء أن تقزيم شأن الأفذاذ وتحجيم تراثهم الفكري والديني، وتعليب أطوار حياتهم الحافلة ضمن هذه المعادلة الساذجة يعد تقزيما للعقل الإنساني نفسه، وتسطيحا للرؤية، وتتفيها للحياة نفسها، من حيث إرجاع الظواهر جميعا، بسيطها وجليلها، إلى قانون نفسي واحد، هو عقدة الليبيدو الباطنية..
النورسي - وقد عاش مزامنا لفرويد تقريبا - نظر إلى الشخصية من زاوية النفس الأمارة، والنفس المزكاة (قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دسّاها)(1). وأناط فعل الإنسان بتراجح منزعي الخير والشر في هذه النفس، ونظر إلى الشر والخير، ليس بمنظور الليبيدو والغريزة، ولكن بمنظور مركب، بعض محدداته جِبِلِّية، والبعض الآخر مكتسب. فيه الإرادي وفيه القدري، وتلك هي نظرية القرآن العظيم التي لا تختزل المركبات في علامة واحدة، وترجعها لعلة واحدة، إلا من حيث إثبات الخالقية .
لكن هل حقا يعد النورسي مازوشيا لأنه قمع نفسه وأرهقها بالعبادة والتسامي؟ وهل شأنه في هذا الصدد هو شأن يسري على عامة الأتقياء؟
النورسي بكاء كما قررنا في غير هذا الموضع، والبكاء – على ما رأينا - انفعالية سوية ضافية يتصافُّ بها النورسي مع العظماء وفي مقدمتهم الرسل والأنبياء. فلا مجال لنا أن نعد تلك النزعة فيه انحرافا موصولا بمازوشية ما تتلبس نفسيته.
__________
(1) سورة الشمس:9-10(13/97)
النورسي رحيم، يطعم النمال من حسائه، ويحض الصيادين على عدم اصطياد الطير لا سيما في موسم اِحضانها وتوالدها، ويلين قلوبهم ببيان ما يسببه الصيد من إفجاع لمخلوقات الله العجماء. النورسي يمر به كلب لاهث منهوك القوى جوعا وشيخوخة، ويتصدى له الطلاب وهو يقبل عليهم معمى العينين مخمصة، فلا يسع النورسي إلا أن يأمرهم بإعطائه ما معهم من طعام.
النورسي الطاهر تتمدد على وسادته وحيال أذنه هرة، فلا يصدها، ولا تزعجه أنفاسها تنفذ إلى خياشيمه، لكنه يشغف منها بحس تموجي ترسله تلك الأنفاس وتمور به تلك الجوانح، ويشده إليه، ويذهله فحواه، إذ كانت أذنه تقرأ فيها كلمة: يا رحيم، يا رحيم(1).. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يسارع النورسي إلى إشعار غيره بما تم له من كشف، وإذا الآذان تتسمع في ما ينبعث عن صدور القطط من حس، لئن لم يكن كلمة: يارحيم، فهو أقرب ما يكون إليها، وهي على كل حال كلمة ما تواترت في ذلك الصدر الضعيف إلا على أنها دعاء موجه إلى الخالق الكريم..
لنفرض - انسياقا مع الاعتراض المحتمل - أن رحمة النورسي في ما رأينا له من مواقف وصلات بالحيوان، هي عدوان مكفوف، مترجم على نحو سلمي على ذلك النحو. ألا يحق لنا أن نصيح ما أعظم هذا الصنف من العدوانية التي يغدو بها الإنسان في منزلة الملاك؟
على أنه يمكن لنا أن نتحول بالافتراض إلى صعيد آخر ونتساءل، ألا يكون النورسي رحيما في مستوى من دخيلته، عدوانيا في جوانب أخرى.. فكثير من الغلاظ والفاتكين، كانت لهم رحمة ولطائف مع دواجنهم أو مع محيطهم، وإذن فرحمة النورسي تلك لا تبرر عدوايته المتكتمة والمتولدة عن نفسية سادو - مازوشية تنطوي عليها جوانحه.
__________
(1) يتحدث ابن سينا في بعض رسائله اللسانية: رسالة أسباب حدوث الحروف، عن" حروف تسمع من حركات غير نطقية "(13/98)
ثم ألا تكون خصومته مع المحيط السياسي الذي انفصل عنه وشق لنفسه طريق الزهد والعكوف،هو وجه عدواني سافر، إذ أخذ سبيلا من التحدي والتمادي غير معهود؟ ألا تكون عزلته وصيامه المادي والفكري مازوشية ؟
إن السادومازوشية - كما أسلفنا - شذوذ تعذيبي، لا يبرأ ضحيتها من نوازع إجرامية. وإذا ما افترضنا أن النورسي كان حاملا لمركَّبِها، فلنترصد أحواله ولنقارن بين حاله وحال خصومه الذين نتوقع أنهم كانوا بعكسه أسوياء وأصحاء.
أجل، لقد تحول مجرى حياة النورسي، إذ انعطف بمصيره خارج الحلبة بعد أن رأى المسيرة السياسية تخون عهودها وتبيت على الخروج عن الموثق. فالتحول الموقفي هذا مبرر بما لا يترك مجالا لريب، فهو مبدئي ولا يمكن أن يكون مرضيا أو ناتجا عن صدمة.. تشهد على ذلك الأنشطة والمساعي الإصلاحية والجهادية التي أتاها منفردا أو ضمن حركة الاستقلال وما تلاها.
فالانعطافة الحادة والجذرية قد حدثت في الحقيقة على مستوى المتغربين، إذ قلبوا ظهر المجن للمبادئ والمقدسات التي رفعوها وساروا بالجموع نحو تحقيقها، وتبنوا أخرى غريبة كل الغرابة عن روحية الأمة لأنها ببساطة مستوردة عن مدنية الغرب .
قبل تلك المرحلة عاش النورسي فارسا كما أسلفنا يتحدى بمعارفه ويناظر بعلمه، وذلك سلوك - كما قررنا - يتبرر بالنبوغ الذي جعله يبز العلماء وهو مراهق، ويتبرر بالنهج التراجحي الذي كان إلى ذلك الوقت رياضة تنافسية علمية يجتازها العلماء ويتعاطونها ويتباهون بها أينما حلوا أو ارتحلوا، والدافع الخفي كما رأينا هو المطمح الإفتائي الذي لا يتهيأ في الثقافة الإسلامية إلا لذوي التفوق.(13/99)
ولا جرم أن يدشن النورسي فتحه لحاظرة اسطنبول بالإشهار عن تلك القوامة المعرفية وتلك الخيلاء التي يورثها للمثقف المسلم تشبعه بالعلم وتمرسه بالفذلكات الفقهية والاجتهادية. يومها لم يكن من بد على الدوائر المتهافتة أمام عتبات السلطان إلا أن تدفع عنها الخطر الداهم والذي مثله ظهور شخصية النورسي النبوغية بينهم، فما كان من تلك الدوائر إلا ان تحيك للشاب الألمعي وصمة الجنون، وقبل ذلك بفترة قليلة كانت تلك الدوائر نفسها تقريبا قد حاكت للأفغاني المؤامرة التي أقصته وجعلته يعيش تحت طائلة الموت البطيء.
أما بعد أن طلق النورسي السياسة وعاش العزلة، فقد رأيناه يحيا بكامل التبتل ويستجمع في سلوكه سماحة انتهت به آخر الأمر إلى حد أن يغفر لخصومه ويتجاوز برأفته عن ظلمهم.
بل لقد كان يحض الأتباع على اصطناع تلك السماحة مع خصومهم السياسيين والمتنفذين ممن كانوا يجتهدون في تضييق الخناق عليهم والتنكيل بهم، وكل ذلك تساميا منه والتزاما بمشروعه الحضاري الذي لا يسع النفس معه إلا أن تكبر وتسمو - كالبحر - فلا يعود يكدرها ما يعرض لها أو يصيبها من أوزار الغير.
أما الخصوم (الأسوياء ؟)، فقد شذوا عن الدين، وألقوا الخلافة، واستبدلوا الحرف، وغيّروا الملة والآذان، واستبدلوا الهيئة والوسم، وجردوا الأمة من لباس الحشمة والستر وألزموها لباس العري والفساد، واعدموا المعارضين وزجوا بهم في السجن، وتفرعنوا وتألهوا ورفعوا التماثيل وحرروا البغاء وأهدروا المقدسات.. أليس هذا في كليته وفي جزئياته مازوشية مأساوية فظيعة، أم هو مجرد عنفوان اقتضاه الحكم والسياسة والتفرعن؟ أم أن المازوشي هو من تعفف عن الآثام وتسامى عن الهراش السياسي وأدبر عن ولائم الأهواء وقال للناس: حسبي الله؟
إنهما خطان متوازيان ومذهبان نقيضان محكومان ببواعث متباينة وخلفيات متغايرة.(13/100)
ففيما تَمَسَّك الأول بأصالة الروحية ودعا إلى الاستمرار على نهج السلف مع بذل كل ما يقتضيه الاستمرار من تجدد ومن إعادة الاعتبار للمقومات، نبذ الثاني القيم والهوية وانقلب على المقومات يدوسها ويتبرأ منها، ومضى يصادر الذاتية في ضراوة واستعار ونقمة استهدفت الاسم والرسم، وطالت الجذور بدعوى النماء المتجدد، فلم يكن الناتج من وراء ذلك إلا تيبسا ومواتا معنويا شنيعا، وكل ذلك لأن الدوافع كانت مرضية مازوشية والمقاصد استيلابية فتاكة ..
داء الاستيلاب(1) يصيب ذوي الاستعداد الروحي الخائر، ويخترق النفسيات المهزوزة، غير المحصنة.. النفسيات التي تعاني من التسوس ومن عدم الامتلاء ومن المازوشية. وتتنوع مظاهر الاستيلاب وتودي بالأفراد والجماعات على حد سواء. ويصبح الاستيلاب بدون شك عضالا مرعبا ومازوشية رهيبة عندما يغدو بلاء مستطيرا وفداحة تتهاوى بالأمة بكاملها في درك الاندحار..
لقد أفلح المستعمر في أن يجر قاطرتنا المعطلة بنُخَب استصفاها بما ثبُت لديه من مازوشيتها، فمكن لها من الأمر وسلطها على الأمة، وتركها تؤدي فعلها التدميري الشرس وتلقي بنا إلى الهاوية. ولم يستبق السلطة والصولجان في يد الأنظمة الفاسدة إلا لأنها لا تغفو لحظة عن إشهار السلاح على شعوبها، وليس إشهار السيوف إلا فعلا سادو - مازوشيا سافرا، يغذي نزعة الضراوة والفتك والكلبية المتفاقمة في نفوس أصحابه .
__________
(1) قد يكون من المفيد جدا القيام بدراسة تقابل بين حياة النورسي وحياة بعض ألدائه، وحتما ستكون النتائج حاسمة، لا سيما إذا أخذت بعين الاعتبار عوامل التنشئة الطفولية.. نقول هذا ونحن لا سابق معرفة لنا بتفاصيل حياة وماضي أحد ما عدا النورسي.(13/101)
نشأ النورسي نابغا، وسلخ أطوار الطفولة دون العاشرة مكنوفا بالمرحمية العائلية، غائبا عن كل ما كان يخرج عن دائرة ذلك التوق الذي طفق يشده إلى وظيفة قدرية لا قبل للأتراب ومن كانوا في سنه بالتطلع إليها، حتى إذا بلغ مبلغ الفتوة انخرط في سلك الحياة العامة عالما يتصدر الفتوى، ويحتكر الرأي بأهلية وسبق، لقد أضحى عالما تتنافس على التفرب منه الشخصيات العريقة والوجاهات العتيدة كل ذلك في كنف من رعاية الأهل والحماية المعنوية التي يكفلها القرآن لحامليه من الأطهار. فأين هو محل هذا الحرمان الذي يمكننا أن نعزو له نقصا في سيكولوجية النورسي؟
وسنكرر تارة أخرى طرح السؤال السابق، هل تحول النورسي عن مسيرة حياته بعد صدمة ويأس وتغير من حال إلى حال؟ نعم، حدث ذلك ظاهريا ؟
ألا يكون ذلك دليل تحول نفسي قاطع، مرده النوازع المكبوتة ؟ كلا.
ذلك لأن النورسي الذي كان اجتماعي المنزع والقابلية، وكان في مراحل حياته الأولى دائبا على دعوة الناس إليه بلسان الحال والمقال، قد كف نفسه حقا - في مرحلة التجدد - عن حياة الاجتماع في شكلها المعهود، وآثر العزلة والانقطاع بعد تلك الصدمة، ولكن ليس ليدشن سيرة حياتية أخرى بديلة لسيرته الأولى .
كلا، إذ أنه استمر في خطه القرآني ولم يحد عنه قيد أنملة، وكل ما هنالك أنه تفرغ كلية لأداء الوظيفة التي انبرى يؤديها منذ النعومة: الوظيفة التنويرية. وظل مع ذلك محتفظا باجتماعيته، بل لقد مارسها على أوسع ما يكون المراس، إذ أوجد له المحفل الحضوري الذي أضحى يتلقى عنه العلم بروح التابع والتلميذ والمريد.(13/102)
لقد استطاع النورسي أن يؤسس برلمانه وحكومته ومؤسساته وجامعته الزهراء ومجتمعه المدني المفتوح على الفئات والطوائف من دون تمييز، وأن يتوج نفسه عن طريق الإخلاص رأسا للهرم. لقد استمر على نفس حال التحدي المعرفي والخيلاء الاستشرافية من خلال نهج رسائل النور، ومكنه الابتعاد عن المازوشيين الحقيقيين أن يكون صدارة اجتهادية من خلال تأسيسه للون معرفي فقهي حضاري، هو الفقه الأكبر الذي أناط به، ليس النوازل الحياتية المستجدة فحسب، ولكن التخطيط الحضاري الاستراتيجي المنوط بفتوح المستقبل القريب والبعيد.
وحيث أنه كان يدرك أن فسحة العمر لا تسع جسامة الانبعاث، ولا تستكفل إلا بمهمة إرساء القواعد له، فقد أحال مهمة إكمال الصرح إلى الإنسان الكامل الذي سينير السبيل في وجه الأمة، وقوام هذا الإنسان الكامل هو العطاء الجماعي لطلاب النور.
النورسي وحال العزوبة
مما لاشك فيه أن للعزوبة وطأة على الإنسان لا تنكر، والإسلام حين حض على الزواج لم يخرج عن الفطرة، لكن العزوف عن الزواج ظل وفي كل الحضارات رياضة روحية يتعاطاها الفضلاء وأهل القداسة، وكانت سيرتهم تلك تؤهلهم وتزيد من مكانتهم في أعين الناس . وقد اختار صالحون ومتصوفة شهيرون في الملة الإسلامية طريق العزوبة فلم يعتبر ذلك منهم نقصا ولا ظلما للذات ولا إعناتا لها وتعذيبا، وإنما اعتبرت تجربتهم تطهرا وتعاليا وتقدسا، وشهدت لهم بالسمو والرجاحة بين الناس..
على أنه من الثابت أن لجام النسك والتبتل - الذي هو اختيار إرادي لا قهر فيه - يستأصل من النفس كل توق وكل ذوق شهوي لدى الأتقياء، فلا يكابدون أي عنت في هذا الصدد، بعكس المنغمسين وأصحاب الشهوات، فإنه يتعذر عليهم كف أنفسهم، إذ أن نفس المدمن لا تستجيب بسهولة لوازع الكف.
من هنا تتبين لنا سلامة وسمو وطهر النورسي ..(13/103)
لقد عاش منكرا لذاته، وإنكار الذات إذا ما تأسس على قاعدة التقوى ومخافة الله، فإنه لا يعد أبدا غلواء وإنما هو جلال وعظمة. لقد عاش عاكفا في صومعة الجهاد، وأفنى العمر ينافح ضد المخاطر المحدقة بالأمة، ولم يسعه في خضم المأساة إلا أن يعيش العصمة على أكثر من صعيد، وكان ذلك كله توفيقا من الله وفضلا، إذ بما كَدَّ و جَدَّ ها قد أضحى بيننا قطبا شامخا من الصالحين، لا تفتأ أعماله تنير وتلهم وتحصن .. جازاه الله عن المسلمين أجزل الجزاء ..
أجل لقد أحب النورسي نفسه بشغف، إذ اختار لها من اللذات الأبقى، وآثر لها من النعم الأدوم، وأحب أمته، إذ انحاز إليها حين تفرقت العصب وتعددت المسالك والأحزاب ولم يخذلها، وتجند بروحه وبفكره ينافح عنها، ويدفع عنها، ويمعلم لها الطريق بما تنزف به روحه من وهج، وأحب الإنسانية وصاول عليها ضد انتهاكات المدنية الرأسمالية بروحيتها الماكرة.
من عرف نكهة اللذة الطبيعية البشرية فهل يعني ذلك أنه قارفها؟
سؤال نتجرأ على طرحه ونحن بصدد تمحيص جانب آخر من طوية النورسي رحمه الله ودخيلته، هو الإنسان الريفي الذي لم يكن ينتقص من قوامته الرجولية شيء، لا على صعيد الخلقة ولا على صعيد التجربة الحياتية الفتية التي عاشها.
إذا ما تفحصنا سيميا الصورة الفوتوغرافية الشبابية التي استقرأنا خطوطها سابقا، فلا شك سنجد أن جملتها وتفاصيلها تؤشر لانفتاح شهي على الحياة وتواصل رخي معها، إذ خطوط تلك الصورة وملامحها وأبعادها الماثلة والمرتسمة تستجمع كل آثار الهناءة والإمتاع والخلابة المظهرية من شباب وجمال وأناقة ومقامية..(13/104)
حتى تقاسيم الوجه فيها غضاضة وطراوة مهيأتين لمعانقة الحياة وملابستها على نحو أو آخر.. بالإضافة إلى هذا فقد وجدناه هو نفسه يؤكد واقع الهناءة الذي عاشه في تلك المرحلة الفتية من حياته، وهي مرحلة كما نعلم تتميز عند الإنسان بالفوران، بما تظهره النفس خلالها من حب للحياة وإقبال على تذوق مباهجها ولذائها، فأخطر مزالق الفرد يتم عادة خلال مرحلة الشباب، لا سيما إذا ما كانت الظروف المحيطة به تتميز بمستوى من الانطلاق والاعتداد كالذي كان عليه النورسي يومذاك وهو شاب عالم يعيش عنفوانا في عاصمة جمعت ألوان المفاتن الشرقية والغربية : استانبول.
إن تتبعنا لشريط حياته تتبعا كرونولوجيا تعَقُّبيا، لم يتح لنا بتاتا أن نجد الفسحة التي يمكننا أن نقول إنه هادن فيها ضوابطه الأخلاقية الصارمة.
إذ لم نجد أية سانحة زمنية تعاطى فيها النورسي ما يمكن أن يصله بمجال يتحلل فيه من ضوابطه الدينية الصارمة. لا أثناء الفترة التي تلت رجوعه فارا من السجن ولا قبلها ؟
إذ أننا نعرف أن النورسي قبل تلك المرحلة طفق يتحدى الأشهاد من أهل العلم والشريعة في مضمار الظهور العلمي والفتوى، ثم تلا تلك المرحلة اشتغاله في الكفاح المسلح. أما حين عاد إلى استنبول بعد واقعة الأسر، فقد وجدناه يخبرنا عن حال التبتل التي عاشها هناك، والتي كانت مجال تعجب العلماء والمعارف ممن كانوا يحتكون به ..
ألم يحدثنا عن قصة تَرَصُّدِهِ من قبل زملائه العلماء، بعد الذي رأواه عليه من شباب وما كان يظهره من اعتناء بهندامه وتأنقه الخارجي.. لقد انتهى أولئك الأصدقاء العلماء إلى الإقرار بما يقطع بطهارته وبراءته مما كان ساورهم حياله من ظن ..
وطبيعي أن يساورهم حياله الظنٌّ، ألم يكن بشرا تجري عليه أعراض النفس الأمارة؟(13/105)
ثم ألم يخبرنا – من جهة ثانية - بما يكشف لنا عما كان عليه شأنه طيلة تلك الفترة، حين وصف لنا – مثلا – مشهد سياحته مع زملائه العلماء، إذ طافوا به بعض المنتزهات البحرية، حيث كان الشاطئ يعج بالنساء، وما رأوه يومها من تمنعه عن التطلع إلى تلك المشاهد، وهو ما جعل الرفقاء في حيرة وإعجاب حينما تنبهوا إليه وقد نكس وحبس نظره لئلا يخدشه حرام.
إنها الحال نفسها التي عاشها في قصر ذلك الملا الكريم الذي شرَّع له بيته ومازجه بمحارمه البنات. لقد استغرقته الأشهر والمواسم وهو لا يميز بينهن حتى طلع عليه ضيف آخر متعالم، فلم يمض عليه في رفقته إلا يوم أو يومان حتى راح يسميهن ويعجب أن لا يكون النورسي يعرفهن.
ثم ألم يحدثنا النورسي عما خامر بعض طلابه في مرحلة العكوف القرآني، إذ تطلع هذا المخلص إلى أن يعرف عن شيخه ذلك الجانب القاهر في حياة الإنسان، لكنه استحيى ولم يبد لشيخه ما كان في نفسه، فما كان من الاستاذ اللبيب إلا أن يحيب تلميذه بكل بيداغوجية ورشد.
لقد شاء النورسي بالكشف عن هذا الموقف بالذات أن يجيب عن سؤال يدرك أنه يخالج كل من كان يحتك به أو من سيقرأ سيرته (الرسائل لاحقا).
لقد كان النورسي يريد أن يميط اللثام عن ذلك الجانب المثير حقا من تجربته التبتلية السامية، والذي يدعو فعلا إلى التساؤل، بل وإلى الدهشة وتداعي الاحتمالات من قبيل ألم يكن النورسي معيقا من تلك الناحية الخِلقية ؟.
لاشك أن استقراءنا لسيرته، قد بين بما لا لبس فيه أن شخصيته كانت سليمة سوية، وأنه لم يكن يعاني من أي نقص، وأن قوامته الرجولية إنما كانت على أكمل حال من القوة والسلامة. ذلك أنه لم يعش في سائر مراحل حياته إلا مجاهدا آخذا بخلق التماسك إزاء الوقوع في الشهوة، إذ لا نحسب أن شخصا لم يكن سويا، كان يصطنع كل تلك الحواجز الالجامية بينه وبين الأنثى..(13/106)
إن تعهد نفسه بالغض الدائم لا يعني سوى أن رجولته كانت تقتضي الإلجام المحكم. وهو ما دأب عليه والتزمه وحض عليه استيفاءا للطهر ونشدانا لدائم اللذة وأشهاها، لذة الخلود.
لقد عاش النورسي التبتل المطلق، بكل بسالة وتعهد. الأمر الذي انتهى به بعد مكابدات إلى أن يرتقي إلى مقام الصديقية.
على أن النورسي لم يكن في سيرته التبتلية تلك يعيش ضربا من الترهب الذي ينبذه الإسلام، لقد كانت السنة النبوية مورده العذب بعد كتاب الله المبين، فالرسائل خصصت صدارة واسعة من متنها لإبراز الأنوار المنبلجة من نصوص الحديث ومن وقائع السيرة النبوية الشريفة. فالنورسي لم يكن ليخالف السنة في أمر كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤكده، إذ الرسول تزوج وشدد على الزواج، وحرض عليه وبين العلة الظاهرة وهي المباهاة يوم القيامة، وهي بلا ريب علة تحفيزية، تكاثرية، تتضمن مقصدا ترشيديا، يتمثل في وجوب امتلاك القوة التعدادية صونا للرسالة.
لكن النورسي عاش عزبا، لم يقترن بالزوج، فهل كان خارجا في هذا الأمر الحيوي على دائرة السنة ؟
تطرق النورسي إلى مسألة الزواج في كثير من مواطن الترشيد التي كان يتوجه فيها بالحديث إلى الشباب، فتيانا وفتيات، ويمكننا في تلك المواطن أن نتتبع بيانات وافية تمثل رؤية مرشدة للموضوع.
أما في ما يخص موقفه هو بالذات من الزواج، فقد وجدناه قد تعرض إليه في بعض رسائله حيث بين سبب عزوبته، وهو أن المرحلة التي عاشها كانت من التفاقم والفوران بحيث لم يسعه أن يعيش موزع القلب وهو يخوض غمار الجهاد من أجل الإسلام الذي رأى رايته تنكس على يد الأعداء، إذ أن مرحلة الردة التغريبية كانت من الضراوة بحيث لم يسع إنسانا في مثل جيشان النورسي أن ينشغل بغير المصاولة والمجاهدة.(13/107)
لقد اقتضت افتدائيته للإسلام يومئذ - كما صرح مرارا - أن يعيش مرابطا، حتى لا تتسلل روح الوهن إليه تحت ضغط روابط أسرية أو اجتماعية أو غيرها.. وهو ما يفسر دعوته يومئذ للأتباع وإلى من يستطيع منهم أن يحجم عن الزواج أن يفعل، ذلك لأنه كان يرى أن المعركة الالتحامية بين الحق والباطل كانت من الشراسة بحيث لا يسع البقاء في ساحها إلا لمن رابط بحق وقطع روابطه بأسباب الحياة إلإ سبب الجهاد في سبيل الله..
لقد صام النورسي عن اللذة الدنيوية، وكان ذلك توفيقا آخر من الله، هيأ له كرامة جهادية خالصة، تضاعف له فيها ثواب المعصومية على قدر ما تكبده من حرمان دنيوي على أكثر من صعيد.
على أنه يتيسر علينا أن نقف عند بعض ما كتب النورسي عن الفتوة وغليان مراجلها لندرك أنه كتب ذلك بروح من لم يترك ماضيه الشبابي في نفسه أدنى إحساس بندم أو مرارة، وما ذلك إلا لأن ماضيه كان طاهرا، نقيا، معصوما ومبرأ من أي شائبة زيغ:
" نعم إن عهد الشباب نفيس حقا وثمين جدا، وهو نعمة إلهية عظمى، ونشوة لذيذة لمن عرف واجبه الإسلامي، ولمن لم يسئ استعماله، ولكن الشباب إن لم تصحبه الاستقامة ولم ترافقه العفة والتقوى، فدونه المهالك الوبيلة، إذ يصدع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الأبدية وحياته الأخروية، وربما يحطم حياته الدنيا أيضا، فيجرعه الآلام غصصا طوال فترة الهرم والشيخوخة لما تنعم به من مذاقات ولذائد في بضع سنين."
ويسترسل معبرا عن راحة الضمير التي كان يجدها حيال ماضيه الشبابي المبرإ من السقطات، فيقول :(13/108)
" ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند أغلب الناس، فعلينا إذن نحن الشيوخ أن نشكر الله شكرا كثيرا على ما نجانا من مهالك الشباب وأضراره، هذا وإن لذات الشباب زائلة لا محالة كما تزول جميع الأشياء، فلئن صرف عهد الشباب للعبادة وبذل الخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة أبدية "(1).
ترى هل يسعنا بعد كل هذا إلا أن نجيب عن سؤالنا الذي بدأنا به مطارحتنا، والذي قد لا يخلو من سذاجة لولا المقاصد الترشيدية، وهو هل أن معرفة اللذة تعني مقارفتها ؟
والجواب طبعا كلا. بدليل أن معرفتنا للذة الخمر لا تعني بالضرورة أننا عاقرنا الصهباء ؟
إذ إن هناك معرفة سبقية كما يقول الفلاسفة فطرية وأخرى حدسية لا يتعلمها الإنسان ولكنه يعيها في نفسه ذاتيا .. لا سيما ما اتصل بالغرائز. فبهذه المعرفة الفطرية نتحسس ونتذوق ونعرف اللذة والألم، وبها يميز الصبي بين الوجه الأليف والآخر المنفر.
9- النُوْرْسي وجذور رؤيته الإنسانية
استوعب النورسي معنى الإنسانية ضمن وعي ديني كوني مفتوح على العالمية..إذ الإسلام هو دين الله الذي لا يقيم الحواجز بين البشر وإن ألحدوا، وإن تباينت عقائدهم. فالمسلم يؤاخي في التوحيد اليهودي والمسيحي والكتابي عامة، ولا يرى فيهم أعداء أو خصوما ما كان الاحترام والقسطاس مرعيا بينهم، بل ويؤاخي كذلك الملحد والوثني بحكم الرابطة الإنسانية، ويشفق عليهما ولا يهينهما أو يزدريهما ما بقيا في حدود قناعتهما، ولا يسعه عندئذ إلا أن يتمنى لهما الهداية.
ذلك لأن النورسي يرى في مخلوقية الإنسان ذروة الإعجاز الذي شاء الله أن يجسد من خلاله قدرته ومطلقيته، إذ الإنسان هو تاج الوجود، وكل ما أبدعه الله من أكوان ونعم وأفضال، إنما هي لفائدته ولتكريميته:
__________
(1) سيرة ذاتية 157(13/109)
"كذلك الإنسان الذي هو ثمرة شجرة الكائنات، إذ المقصود من إيجادها إنما هو الإنسان، وغاية إيجاد الموجودات هي الإنسان، وبذرة تلك الثمرة قلب الإنسان، وهو أنور مرآة للصانع الجليل وأجمعها" (1).
كما نشأ إدراك النورسي لمعنى الإنسانية من خلال صلة روحية وعضوية جمعته برائع النماذج القطبية التي تواصل معها بواسطة ثقافة بيته الصوفية، حيث كان - وسيبقى - الضمير الجماعي لتلك البيئة يكبر ويمجد تلك النخب الصالحة من الأقطاب، والتي كانت سيرتها كما تواترت وتلقتها الأجيال، مجالا للعظمة والكمال والقدسية.. من حيث طفق الوجدان الفردي والجمعي يستلهم شواهد التضحية والصبر والتجرد والسماحة والبذل.
لقد أنبأتنا سيرة النورسي واعترافاته أنه ظل منقادا إلى تأثير الأفذاذ من رجال التصوف وأهل السلوك، وأنه انحاز إليهم بمواجده وأن خميرة قيمه الإنسانية تأتت من نفاذ ذلك الوهج المعنوي الذي كان يتلقاه من سيرتهم. لقد تسامى هؤلاء القديسون الأطهار ونظروا إلى الكون والوجود من منظور رباني، فأضفوا محبتهم وسماحتهم وكرمهم على كل شيء، لاسيما على الإنسان، فلا غرابة أن تغدو البشرية جملة قريبة إلى قلوبهم يعطفون عليها ويرأفون بها وينظرون إليها بعين الإشفاق..
على ذلك النهج سار النورسي، وفي ظله تشكلت رؤيته للكون والإنسان، وعلى خطا الأطهار بلور عقيدته ونظرته إلى الكون وعلاقته بالمخلوقات وفي مقدمتها الإنسان.. فلا عجب أن تتفتح دعوته على الإنسانية قاطبة، وأن تتميز رؤاه ببعدها الشمولي الذي لم يغفل أي بعد من الأبعاد المحققة لفردية الكائن البشري، باعتباره المخلوق المكرم في هذا الكون.
__________
(1) الكلمات.734(13/110)
لقد ارتكزت روحية النورسي على دعامة الإيمان بالله، فتواصلت أعماقه مع الله وتواشجت مع مخلوقاته وفي طليعتها الإنسان. لقد ورث عن بيئته الأولى حسا توحيديا حيا، فالانغلاق الذي عاشته بيئاتنا التقليدية كان له فضل كبير على حفظ القيم وصون الإيمان، حيث إن جو الانقطاع الاجتماعي الذي تعيشه القرى والمداشر يعزز قابلية التوكل على الله، ويقرب عالم الغيب إلى النفوس، فثقافة العزلة نفسها تشحذ روح البسالة والتوكل على الخالق فهي من ثمة سبيل معزز للإيمان.
ذلك لأن النفوس في رتابتها المعتادة تعيش التفرغ، ولما كان التفرغ في البيئة الإسلامية يعني التوجه إلى الله والاشتغال بما يعطي للحضور الإلهي كثافته ومحسوسية على صعيد الروح والنفس، فقد تكيفت روح النورسي منذ نشأتها على هذا الحضور الإلهي الذي يلازمها أينما توجهت، الأمر الذي ولد في النفس هذه القوامة التي تترتب في كنفها النزعات والمطالب.
ثم إن العقيدة الإسلامية بما تحمل من منظومة قيم ومبادئ إنما هي عقيدة إنسانية بلا منازع.
إذ الطبقات العليا من رجالاتها، ممن يعدون مناط القدوة والأسوة بدءا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان، يعتبرون جميعا مصادر شحن وشحذ للهمة والرحمة والسمو. كما أن أحداث التاريخ الإسلامي تعد صعيدا حافلا بوقائع السماحة التي تشمخ بها معاني الإنسانية. وكلها تعاليم وقيم تمرس عليها النورسي، وتشبع بها، وحملها شعاراتٍ، واتخذها سلوكا ورسالة عمل على تحقيقها بكل استماتة .(13/111)
لكن النورسي عاش في مرحلة تأجج فيها الصراع الحضاري بين الغرب والشرق على أشرس ما يكون التأجج، فقد استأنف الغرب حملاته الصليبية واستهدف بها العالمين، يستأصل الأمم ويهجرها بالملايين من قارة لأخرى، ويمسح الشعوب تدجينا لها لتتقبل وجوده وسيادته عليها، وكان صراع الصليبية مع الإسلام ذروة المخاض العراكي الذي شهده القرنان التاسع عشر والعشرون، الحقبة التي عاشها النورسي، واصطلى بلهبها.
تلك هي تقريبا الأسس التي ارتكزت عليها إنسانية النورسي، هذه الإنسانية التي سنراها تتخصب وتغتني في تالي مراحل حياته.. حيث سنجد الرؤية تتكيف مرتين، الأولى يوم دخل استانبول نكرة لا يعرفه أحد تقريبا، فقد كان طبيعيا في ذلك اللقاء الأولي بالمدينة أن يتوسع إطار الوعي لديه وتمتد ظلال الفهم وتتخصب الرؤية بأبعاد أخرى يتعزز في ضوئها وازع إنسانيته.
كما أن عودته إلى نفس الصعيد المدني، من خلال ملابسة الأوساط المدنية ومرجعيات المجتمع الحضري، أثناء الحرب الكونية الأولى، قد عمق ذلك التكييف الذي رأيناه يتعهد به مثله وقناعاته الإنسانية .. وهو ما أسفر عن تحول في المسيرة، تحول جعله يختار موقعا أكثر استراتيجية في تفعيل الأحداث والتاريخ، وفي تكريس رؤيته الإنسانية المستمدة من القرآن..
لقد نضجت رؤيته الإنسانية في كنف الحياد والتسامي والتأمل .
حقا إنه نافح عن الإسلام والمسلمين، وصاول عن انتماء وحضارة، لكن العقل يثبت أن دفاعه عن تلك القيم والمقومات إنما كان دفاعا عن الإنسانية، إذ لم يكن الإسلام يوما - ولن يكون - إلا حضارة مشرعة للعالمين، ومثابة تمحي فيها العصبيات والانتماءات، إذ الانخراط في سلك الإسلام انخراط في الكونية بأسس حددها الله، وأثبتت القرون من الازدهار الحضاري الإسلامي أنها – حقا - أسس تستجيب بأصالة لمفهوم العالمية والتآخي والانتماء القدسي الذي تزول معه كل الاعتبارات الشكلية والوضعية المميزة بين الآدميين.(13/112)
لم يكن تمجيد النورسي للترك والعرب عصبية وانحيازا يتنافى مع المثل الإنسانية التي حملها، ولكنه كان تمجيدا للكونية الإسلامية التي جسدت على أرض الواقع مبدأ المساواة، وبينت كيف تتعاور الأم والشعوب على صعيد الإسلام حق وشرف حمل الرسالة المحمدية، وكيف لا يقف دون حيازة شارتها القدسية - الخلافة - الاعتبار القومي أو الروحي..
إن روح النورسي - بكل تأكيد - سوف تبادر من عالمها الأخروي إلى التنويه وتعظيم كل قبيل من أهل الأرض يكتب له أن يشمخ براية الإسلام ويتطاول بعزة القرآن ويدفع بها إلى العالمين، كيفما كان لون هذا القبيل أو موطنه أو ماضيه.. ذلك لأن المنظور الذي قوَّمَ به النورسي البشرية منظور رباني لا تمايز بين الناس فيه إلا بالعمل الصالح.. وأي عمل صالح أسنى من رفع راية الإسلام وإشهارها بين العالمين، فبذلك العمل الصالح مجد النورسي كلا من أمتي الترك والعرب، وكان تمجيده لهما يندرج ضمن سياق إنساني لا شائبة فيه من عرقية أو شوفينية أو تعصب.
شهد النورسي عن كثب عالما متفجرا تتعارض فيه الرؤى السياسية والإيديولوجية حيال الإنسان والحضارة والكون والوجود، ورأى كيف أن الغرب الطاغي يعنت الأمم والشعوب المستضعفة ويرغمها على الرضوخ إليه بالقوة والسلاح أو بالدس والاستغواء..
عاين النورسي من موقعه الاعتكافي ذلك التعارض الحدي الذي كان يميز أوضاع كل من الإنسان المسلم المقهور والإنسان الغربي القاهر، وتفجع بعدم تكافُئ الشروط الصراعية بين الجانبين، وزاده أسى أن يرى توفيقات الغرب العلمية والتقنية والحضارية لا تلطف من غلواء طغيانه ضد الشعوب والإنسانية، ولكنها تسَعِّر منها قدما.(13/113)
لقد كان يدرك أن الحلبة تجمع بين انتماءين وبين نموذجين حضاريين لكن أوضاعهما الراهنة تباين بينهما قيمة ودينامية وتوجها وفاعلية.. لقد كان الإنسان الأول يرسف في قيود الماضي الشائه، ضحية للانحطاط ولحال متفاقمة من الابتلاءات والصدمات.. وكان إلى ذلك مدعوا للانتفاض وإنجاز الانبعاث في إطار كوني تبليغي تؤهله له رسالته القرآنية لو وجد إلى الرشد سبيلا .
فيما كان الآخر منتصبا بخيلاء، مشهرا سيفه بجوع إلى الفتك، يدوس بقدميه كرامة الإنسانية ويضرب مقدساتها .. لقد كان هو الآخر ضحية لأحوال مدنية راهنة تكرست فيها اختلالات متوارثة وجهت العقل في وجهة الظهور العلمي المتوحش غير المقيد بالضوابط الإنسانية. لكنه مع ذلك كان يتوفر على خمائر جوهرية من الفطرة والتوفيق ما أيسر عليها أن تترشد وترقى إلى علياء المثل لو التفتت إلى الدين الحق، وهو ما كان يجعل النورسي يتوقع للإنسانية الخير، ذلك أنه كان يرى أوروبا حبلى بالإسلام، وهي مرشحة إما للإسلام وإما لترشيد مسيحيتها بما يقربها من القرآن ويدرجها ضمن نهجه، وعندئذ ترتقي البشرية الارتقاء الحق وتهتدي إلى سواء السبيل وتتعزز إنسانية الإنسان.
لقد كانت مقاصد الدعوة النورية هي استنقاذ ما تبقى من إنسانية الإنسان في كلا المعسكرين، فتجديد همة المسلم هي عودة به إلى فطرته الخلاقة وإلى استنارته التي لا تزيغ بها أوهام بشريتها، كما أن تدثير الإنسان ببردة الإسلام هو قمة تكريمه، لما يترتب عن ذلك من تغيير كلي يمضي به على طريق الصلاح .. لقد توهمت المدينة المسلمة أنها بتقمص أوضاع المدنية الغربية ستتخلص من أوحالها، ولم يعتم الإنسان المسلم أن وعى إفلاسه، لكنه عجز عن الخلاص ولم يستطع فكاكا عن مأساته، بعد أن أضاع ليس المثل فقط، ولكن إلى ذلك القابلية والفطرة والاستعداد للخير، وكل ذلك جراء انغماسه..(13/114)
فالضرر الذي لحق المسلم ضرر مزدوج، فهو من جهة محبط بأعباء الانحطاط، وهو من جهة أخرى منسحق بما طرأ عليه من تبعات التمدن السطحي، فعاش الفاجعة.
ضمن هذه الجدلية الحضارية الحادة نهض النورسي وفي يده كتاب الله، يدعو إلى سبيله بالموعظة والحسنى، غايته تعميق الروح الإنسانية في الإنسان من خلال بث تعاليم القرآن.
الإنسانية المعاصرة.. على حلبة الصراع الحضاري:
جدلية التعايش ضمن الاختلاف:
لا ينكر النورسي أن اختلال مسطرة التوازن الاقتصادي قد انعكس بآثاره السلبية على مسطرة المعايير والأخلاق البشرية، فاختلت من ثمة العلاقة بين الفئات والمجموعات، بل وبين الشعوب والأمم، وهو ما حول الكرة الأرضية إلى مسرح للعراك المستديم.
يقول النورسي :
"إن أس أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنما هو كلمة واحدة: إن شبعت فلا علي أن يموت غيري من الجوع" (1).
فأنانية الإنسان، وأنانية الشعوب والمدنيات، القائمة على ابتزاز الآخرين وهضمهم وسلبهم أسباب العيش والحياة هو ما يفاقم من أسباب التناحر والحروب، فشعار :
" اكسب أنت لآكل أنا واتعب أنت لأستريح أنا." لا يترك مجالا لتعايش أو مسالمة أو تفاهم .
" فالعيش لا يكون إلا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص والعوام " (2).
و شعار القرآن الذي جاء ليستأصل كل أسباب النقمة والحقد والعدوان هو: "أوصدوا أبواب الربا لتنسد أمامكم أبواب الحروب"(3).
لقد سجل النورسي رحمه الله - وبوعي ألمعي - أن قوى الصراع الحضاري في عالم اليوم إنما تقوم على تصادم بين منظورين ورؤيتين وفهمين للإنسانية: رؤية كافرة تمجد القوة وتعتمد التخضيع، وأخرى مؤمنة تقوم على مثل المحبة والسماحة وعدم الإكراه.
__________
(1) الكلمات 474
(2) الكلمات 474
(3) الكلمات 474(13/115)
ولما كانت شروط الجانبين غير متوازنة من حيث القوة المادية، فقد أسفر الصدام عن ظهور غالب ومغلوب، وهو ما جسدته الظاهرة الاستعمارية كما عرفها العالم في القرنين الماضي والحالي. تلك الظاهرة الجائرة التي هشمت بقرنها الغاشم قيم الكمال والإنسانية، حيث انحرفت القوى الاستعمارية بالمبادئ والمثل الإنسانية وتجاوزت بها نطاق الفطرة ووظفتها في طريق استئثاري، ابتزازي، لم يؤجج الصراع على صعيد الحضارات والأديان فقط، ولكنه انتهى بتفجير المعسكر الغربي الاستعماري ذاته من خلال حربين عالميتين.
وجاءت الديمقراطية - التي روج لها الغرب - بمبدإ تنوع الاختيارات، لكنها عملت باستماتة على تكريس النموذج اللائكي الغربي، قضاء على الآخر.
كما أن المدنية الغربية التي فرضت نفسها كنموذج من خلال التطور الكبير والمطرد الذي حققته على مستوى التجهيز المادي، قد تقهقرت بالبشرية على صعيد القيم والاخلاق، إذ خلقت نزوعات شريرة أخرى في الإنسان استطار بها شر المدنية المعاصرة وبات يهدد البيئة والكون والوجود كله..
لقد سجل النورسي أنه على قدر ما تحقق للمدنية الغربية المعاصرة من قفزات علمية ومنجزات مادية وارتفاقية، بقدر ما انتكست في مضمار الروح وقيم الخير والفضيلة وفي سائر المثل الإنسانية.
لقد تركز الجهد والاجتهاد الذي طفق يبذله الإنسان المعاصر على تحقيق الربح بلا ضوابط، والمكاثرة الكسبية بلا قيود، والامتلاك الأعمى من غير حدود.. الأمر الذي ضرب في العمق مسطرة الشرف والعدل، وأصاب في الصميم مفاهيم الأخوة والإنسانية..
لقد أفرزت المدنية الغربية مورثات خلقية مناقضة للفطرة، وبنى العالم الغربي - مُصَدِّرُ المدنية الحديثة - نسيج القيم التي يتداولها على غير الحكمة، إذ ضبط سُلَّمَه المعياري على منطق أخلاقي معارض كلية لتشريعات الله وتعليماته..(13/116)
ولعل أهم مخالفة خطيرة تتسجل على الضمير الإنساني في زمننا الراهن - كما لاحظ النورسي - تعامله في المجال الاقتصادي بالربا. فالمؤسسات المدنية بإقرارها لأخلاق التعامل الربوي قد اختارت مشاقاة الله من جهة، وسدت - عمليا - باب التكافل والتعاون والتساند الذي هو من طبيعة البشر ما اطردت سلامة فطرتهم..
ومعلوم أن اعتماد الربا هو مبدأ محوري في منظومة التعاليم الصهيونية، فقد قرر كتابهم – غير السماوي - مبدأ الاقتراض بالربا لغير اليهودي، ذلك لأن هذا الكتاب قد اختار لهم أن يقيموا علاقة عداء مع الغير على مختلف الأصعدة، فلا عجب أن تعم روح العداء تلك، أقطار العالمين جراء تعامل الأمم والمجتمعات بالربا..
فالاختلال الذي أصاب المثل الإنسانية في الصميم نشأ عن هذه الروح الابتزازية التي كرستها مدنية الغرب اليهو - مسيحية، فلا غرابة والحال تلك أن تتضعضع أسس هذه المدنية لأدنى رجة.. بل لا عجب أن يتداعوا، وخلال قرن واحد فقط، إلى حربين كونيتين لحق البشرية جراءهما أهوال وأهوال..
لقد رأى النورسي أن المدنية الغربية قد آذنت العالمين بنظم مادية غاياتها الحقيقية لا تكفل للإنسان إلا الضر والشر والفناء.. فأيادي التدمير المادي تمضي بلا هوادة في تهشيم الفطرة وتقويض البراءة وتهديم القابليات..
من هنا استنفر النورسي المسلمين، بل وحتى أهل الفضيلة من الكتابيين، كي يقفوا سدا في وجه الخطر المادي الداهم .. فالمدنية الحديثة جهزت الإنسان بما يسر عليه كثيرا أسباب الحياة وجعلها رخية، لكنها إلى ذلك شحنته بتعاليم الكفر والجحود والضلال.. بحيث سعت إلى قطع أواصر الإيمان بينه وبين الخالق.(13/117)
لكأن تلاحق التوفيقات والمنجزات والكشوف المادية التي تحققت للإنسان المعاصر عمقت فيه نزوع الغفلة والسهو والجحود. بل لقد تمادى الإنسان المعاصر من خلال تيارات الزندقة والإلحاد، في النكران، إذ راح يستظهر بفلسفات إلحادية قديمة ومستحدثة في إفشاء الكفر وتوطيد روح الجحود.. بل لقد تفنن الماديون في تحويل النجاحات الإنسانية على صعيد العلم والتكنولوجية إلى شواهد وبراهين إلحادية، تصفي الرب - تعالى الله عما يصفون - وتؤله الإنسان..
ولقد كانت خسارة الأمة الإسلامية فادحة بما انتهى إليها من أفكار وفلسفات وتمذهبات مادية إنكارية. فالأمة التي فقدت كل أسباب النهوض أريد لها أن تسلم الروح بإعلان تخليها عن الدين. وشاء الله لأمته أن تسير - وما زالت تسير - وراء حداة ناعقين انعطفوا بالقافلة جهة التغرب وزعموا للأمة أنها ستبلغ غايتها وتحقق أهدافها في الحياة الكريمة والغد الحافل عن ذلك السبيل النكوصي.
ولقد بات جليا لكل ذي عينين أن ما جنيناه من اعتناقنا لسنن الغرب ومثل حضارته المادية لم يزد أحوالنا التقهقرية إلا تفاقما، إذ بتنا نعقد توكلنا في أخص خصوصياتنا على الغرب، بعد أن خسرنا ونحن نتشبه به، ما كان لنا من بقايا همة ودأب وحمية ومعاندة..
من هنا شخص النورسي للأمة علاج الدين مخرجا لها مما ابتليت به سواء بفعل قرون الانحطاط أو بما أصابها جراء أحوال التفسخ والتحلل التي هي عليها بفعل التغرب والاستيلاب.
لقد رأى النورسي أن على أمة القرآن أن تحتمي بالقرآن في هذه الظروف العاصفة بالبلاء، فمن شأن ذلك أن يهيئ لها الإطار الذي يعصمها من الفناء، لأنه سيكفل لها تخريج الفرد القرآني الذي يستطيع بجدارة الإيمان أن يواجه الكفر ويحقق النهضة و يحتل الريادة..(13/118)
فمما سجله النورسي في هذا الصدد تناظر القيم التي باتت مجتمعاتنا الإسلامية تتداولها من خلال تناظر شرائح المجتمع نفسها وما تنتحله كل شريحة من أخلاق وأعراف وأصول .. فلا عجب أن تتباين المعايير وتختلف الرؤى وتتمايز التوجهات في المجتمع الواحد عندما تتعدد مصادره الروحية والحضارية والقيمية.. لقد باتت مجتمعاتنا تستجمع تشكيلات من القوى والشرائح تكاد الروابط بينها أن تنعدم. كل ذلك بسبب التأثير السيئ الذي تحدثه المدنية الغربية من خلال آلياتها التغريبية الرهيبة..
لقد لاحظ النورسي أن المجتمع الإسلامي الحديث المتعامل بقيم الغرب وأخلاقيات مدنيته قد بات يتواجه على صعيده نموذجان إنسانيان لكل منهما طبعه وروحيته وصفاته: الإنسان القرآني والإنساني الفرعوني. حيث أن التأثير الاستيلابي الغربي قد أوجد قطاعه من المخترقين من أبناء الأمة، على نحو ما أوجدت التعاليم القرآنية - والحمد لله - قطاعها المحمدي المتوسع ..
فالتغريب هيأ الأجواء التي صاغ فيها نفسية الفرد المستلب وحدد أوصافها الغرورية والانتهازية والتهافتية بحيث " صيّر تلميذه الخاص فرعونا لكن يعبد أخس الأشياء ويرى كل سبب نافع أنه ربه.. متمردا لكن يتمسك بنهاية الذلة للذته. ويقبّل رجل الشيطان لمنفعة خسيسة. وجبارا لكن لعدم نقطة الاستناد عاجز في ذاته بغاية العجز. وإن غاية همة تلميذك: بطنه وفرجه أو منفعة قومه، لا لقومه بل لأجل منفعة نفسه أو تطمين رقة الجنسية أو تسكين حرصه وغروره، ولا يحب إلا نفسه ويفدي لها كل شيء" (1).
__________
(1) المثنوي العربي النوري 270(13/119)
أما الجهد القرآني، لا سيما جهد رسائل النور، فقد تسنى له بفضل الله أن يخرج النموذج الأعلى الذي يسهم في إنقاذ أمته وإعادة العزة إليها " وأما خالص تلميذ القرآن فـ "عبد " لكن لا يتنزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولو كانت جنة. ولين هين لكن لا يتذلل لغير فاطره إلا بإذنه .. وفقير لكن يستغني بما ادخر له مالكه الكريم .. وضعيف لكن يستند بقوة سيده الذي لا نهاية لقدرته.. ولا يرضى تلميذه الحقيقي حتى بالجنة الأبدية مقصدا وغاية، فضلا عن هذه الدنيا الزائلة " (1).
ولن تزال الصدمات والنكسات تتوالى على الإنسان، بسبب ميوعته المكرسة باطراد نتيجة الارتكاس المادي والمدني، ولن تزال الحقيقة القرآئية تتكشف للعالمين بوجوب رجوعهم إلى الله والاعتصام منه بسند، وفي أثناء ذلك كله، يبقى على الداعين لله أن يظلوا متألقين بعزتهم القرآنية، فاشين الخير، باثين السكينة، ضاربين المثل في الكمال والاستقامة والتواضع والأريحية..
ديمومة تجدد الإنسان تقتضي ديمومة تجديد الإيمان
لقد آمن النورسي بأن الإنسان فاعلية متحركة ومتبدلة وغير قارة على حال إلا بضوابط السكينة والتعهد والترشيد، من هنا ألفيناه يحرص على تسوير النفس بمحصنات تكفل لها الدوام والبقاء على حرارة إيمانها، كي يستمر دورها التعبدي والمدني على مضائه وحيويته.
يقول النورسي :
" إن الإنسان لكونه يتجدد بشخصه وبعالمه الذي يحيط به فهو بحاجة إلى تجديد إيمانه دائما، لأن الإنسان الفرد ما هو إلا أفراد عديدة، فهو فرد بعدد سني عمره، بل بعدد أيامه، بل بعدد ساعاته، حيث أن كل فرد يعد شخصا آخر .
__________
(1) المثنوي العربي النوري 270(13/120)
" ذلك لأن الفرد الواحد عندما يجري عليه الزمن يصبح بحكم النموذج، يلبس كل يوم شكل فرد، ثم إن الإنسان مثلما يتعدد ويتجدد هكذا، فإن العالم الذي يسكنه سيار أيضا لا يبقى على حال، فهو يمضي ويأتي غيره مكانه، فهو في تنوع دائم، فكل يوم يفتح باب عالم جديد. ثم إن الإنسان تتحكم فيه النفس والهوى والوهم والشيطان وتستغل غفلته وتحتال عليه لتضيق الخناق على إيمانه حتى تسد عليه منافذ النور الإيماني بنثر الشبهات والأوهام.. لذا فهناك حاجة إلى تجديد الايمان في كل وقت، بل في كل ساعة في كل يوم "(1).
من هنا كانت أهمية المسجد والمراوحة إليه، بل من هنا كان سر دورية الفرائض وموسمية الشعائر .. ومن هنا أيضا كانت فائدة الجماعة والترابط، لما توفره الاحتكاكات من تنبيه وتوجيه وتثمين للعزائم .. فالاستنامة إلى العادة قتل ذريع لحيوية النفس، وتوريث سلبي لطبائع الإعتياد والآلية التي تنتهي بحجب الوعي وكسر الحس وإخماد الذوق وهدر التوق.
لقد كان النورسي يرى للملتقيات أهميتها في تجديد الهمة واليقظة.. ومن قوة بصيرته وجدناه يتلمَّحُ حتى في أحداث اعتقاله المتكررة مع أصحابه فائدة تجديدية، لما كانت ظروف الحبس تثوره في نفوسهم من همة المدارسة وشحذ الإيمان..
لقد كان النورسي يدرك أن طريق الجهاد يورث العناء، والعناء قد يكون مدعاة للانتكاس وضعف الحمية، من هنا أرشد إلى بيداغوجية التذكير، إذ لابد للبرامج الجذرية وذات المقاصد الحضارية السامية أن تتحوط لمشاق الطريق بترياق التجدد والتنبيه والتنشيط، حتى لا يسري التواكل والترك والتسييب.
الإنسان.. معجزة خلقية إلهية
__________
(1) المكتوبات 428(13/121)
" قد خلق الله هذا الإنسان مرآة جامعة لجميع أسمائه الحسنى، وأبدعه معجزة دالة على قدرته المطلقة.. وخلقه على صورة خليفة الأرض الذي يمتلك من الأجهزة الحساسة ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الأسماء الحسنى.. وما الوسيلة التي تمكن الإنسان من العروج إلى أسمى مقام وهو مقام أحسن تقويم ضمن ما يملكه من الجامعية إلا الشكر" (1).
من هذه الرؤية قدر النورسي منزلة الإنسان وآمن بخلافيته، فالإنسان عنوان معجزة الخلق بلا منازع، ذلك لأن القدرة الإلهية وهي تصوغه أودعت فيه من القابليات والاستعدادات ما من شأنه أن يجعله يتفوق على سائر المخلوقات العجماء الأخرى:
" قد خلق سبحانه وتعالى الإنسان أيضا نوعا جامعا لكثير من الأنواع. أي أنه قد أراد أن ينجز بنوع الإنسان ما تنجزه الدرجات المختلفة لجميع أنواع الحيوانات، بحيث لم يحدد قوى الإنسان ورغباته بحدود وقيود فطرية، بل جعلها حرة طليقة، بينما حدد قوى سائر الحيوانات ورغباتها، أي أنها تحت قيود فطرية، بمعنى أن كل قوة من قوى الإنسان تتحول في ميدان فسيح واسع جدا، لا تتناهى، لأن الإنسان مرآة لتجليات لا نهاية لها، لأسماء رب العالمين، لذا فقد منحت قواه استعدادا لا نهاية لها" (2).
من هنا قدر النورسي أن مسيرة الإنسان في هذا الوجود الأرضي لا ينبغي إلا أن تكون على قوامة تتناسب مع مستوى التكريم والتشريف الذي خصه به الخالق.. فلا مجال حيال هذه المنزلة السامقة والسامية لأن ينحرف الإنسان ويخون مسؤوليته إزاء الله والكون المؤتمن عليه.
__________
(1) المكتوبات 473
(2) المكتوبات 426(13/122)
" فلأجل تلك الحكمة العظيمة، خلق سبحانه الإنسان على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر ألوف سنابل الأنواع، وما يعطي طبقات كثيرة بعدد أنواع سائر الحيوانات، إذ لم يحدد سبحانه قوى الإنسان ولطائفه ومشاعره كما هو الحال في الحيوانات، بل أطلقها واهبا له استعدادا يتمكن به من السياحة والجولان ضمن مقامات لا تحد فهو في حكم ألوف الأنواع، وإن كان نوعا واحدا .
" ومن هنا أصبح الإنسان في حكم خليفة الأرض ونتيجة الكون وسلطان الأحياء. وهكذا فإن أجل خميرة لتنوع النوع البشري وأهم نابض محرك هو التسابق لإحراز الفضيلة المتسمة بالإيمان الحقيقي، فلا يمكن رفع الفضيلة إلا بتبديل الماهية البشرية وإخماد العقل وقتل القلب وإفناء الروح " (1).
فلا غرابة والحال هذه أن يعتبر النورسي أشنع خيانة عظمى يسجلها الإنسان على نفسه هي المروق والجحود والكفر.. ذلك لأنها خيانة لا ترتكب في حق مقترفها فحسب، بل إنها خيانة في حق البشرية والمخلوقات كافة، لأنها اختراق سافر لما تقدسه تلك المخلوقات، ولما تؤمن به وتوكل إليه وجودها، فالتجاوز الذي يتسجل في حق تلك القدسية الربانية تجاوز في حق الوجود الإنساني بكليته.
لقد اعتبر النورسي جريرة الجحود والكفر والعصيان اعتداء على الإنسانية وخرق لحقوقها، إذ كيف يحق للإنسان إن ينتهك مقدسات الآخر؟ وكيف يجوز للأقلية أن تهدر قيم الأكثرية، بل لقد وجدنا النورسي يقرر أن الكفر هو اعتداء على الكائنات كافة وظلم لها واستخفاف بوجودها " كفر الإنسان إنما هو تجاوز - أيّ تجاوز - على حقوق الكائنات، وأغلب المخلوقات، مما يثير غضب السماوات والأرض" (2).
اليوتوبيا(3) الإنسانية
__________
(1) اللمعات 258
(2) الشعاعات.312
(3) قصدنا بها المدينة الفاضلة كما ترسمتها عقول الفلاسفة وأرباب الإيديولوجيات الدنيوية.(13/123)
عالم اليوتوبيا يشرط فكر الماديين لأنهم يريدون تحقيق الجنة الأرضية على صعيد البسيطة، في ما يعتبر النورسي القرآني عالمنا الأرضي أو الحياة الدنيا موئل نقص وقصور، إذ هو عالم جسري فقط يفضي بالإنسانية إلى عالم السرمدية الأخروي.
الإنسان الكامل هو ارتكاز التوازن في هذه الحياة، والوازع عن التهافت يتم بالمجاهدة الأخلاقية وليس عن طريق التهيام الحالم بالمثل وبالمتع الغائبة.
من هنا كان قوام يوتوبيا الماديين هو تحقيق الوفرة الاستهلاكية وخوض غمار الإشباع بلا وازع، وذاك في حقيقة الأمر حلم غير واقعي، إذ أن هذه اليوتوبيا لا تتحقق إلا للأقلية، وعلى حساب الأغلبية، ثم إنها يوتوبيا محدودة بالزمان والمكان، فتمتع معشر ما أو قارة ما بالوفرة وبالحرية يغدو مقصورا على أهلها، فإذا ما توارث الخلف حالهم وعاشوا على نفس الوتيرة المتخمة كانت الرتابة وكان التحجر..
إما إذا كانت جدلية الحياة طلقة لا تحكمها هلوسات من هذا الحلم الأرضي السرابي، وسارت منضبطة بالناموس الأخلاقي الذي يقرر أن النقص من طبيعة الأرضيين قياسا بالكمال الإلهي القدير - وهو ما يتضمن وجوب المكافحة تقويما للنفس - فإن ذلك سيورث بطبيعة الحال السعادة لأن الأجيال ستجد نفسها باستمرار أمام تحديات الضعف البشري، تخوض الجهاد المزدوج ضد الذات وضد الآخرين على هدي من الله ورشاده.
الإنسان الكامل ليس المجتمع الكامل - فليس هناك المجتمع الكامل - المجتمع الكامل مجرد يوتوبيا.
والمجتمع الكامل لا يكتب ناموسه ببشريته وإلا دخل في التاريخية، لقد كفلت البعثات الإلهية سوانح زمنية تحقق أثناءها المجتمع الكامل بحضور مادي للأنبياء وتسديد مباشر من السماء.. وقد اطردت للإنسان أسباب الكمال ما اعتصم بحبل الله وسار على توجيهاته لكن الغرور الإنساني ينزع به أبدا إلى الانحدار، وهو ما يُغَيِّبُ الكمال عن الحياة..(13/124)
الناموس الذي تستقيم به الحياة ويعم الكمال، ناموس علوي، والناموس العلوي ثابت الأصول متجدد الفروع ما كرت الأدهار .
ولنا أن نتساءل لماذا هو ثابت ؟
لأن الإنسانية تعيش النطاق الدائري المغلق على صعيد الطبيعة النفسية والنزوعية.
فالإنسان يعيش مهما اختلفت المدنيات والعصور بنواة نفسية واحدة، هذه النفسية تخضع خلال تجربة الحياة للتثقيف والتنميط الاجتماعي. فالاطرادية الإنسانية وإن استمرت في الزمان واسترسلت في المكان، فإنها على صعيد النوازع الفردية طورية واحدة، من هنا يتلازم ثبات النفس والفطرة الإنسانية مع ثبات مبدئي هو الكتاب . أما ما يتجدد فهي الثقافات ..
فثقافة الاستنساخ والإنترنت والعولمة وما إليها، هي ليست ثقافة الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي. الثقافة الجديدة تستدعي تجددا اجتهاديا. أما نزوعات النفس فهي آدمية واحدة، لذا كان الناموس الذي يحكمها ربانيا واحدا. وكانت أصوله القارة مناطة بتهذيب النفس وصيانتها من شراسة الأهواء المتجددة بتجدد المدنيات والثقافات.
فواقعية الإسلام لا تؤمن بيوتوبيا أرضية تنتهي عندها أحلام الإنسان.. فما أتعس نفس ترى في أعطاف حلم أرضي محدود بزمان ومكان أقصى مناها. وذلك ما ظل النورسي يردده وينبه إليه.
الإنسان الأرجح
الإنسان الأرجح هو الذي ما تزال تستبقي فيه التنشئة المدنية جوهره البدوي الريفي، المشرب بالرحمة والألفة والطهر، والمتفتح على المكارم والمشدود إلى الفضيلة..(13/125)
إن الخطاب المدني المعاصر - وشعورا منه أحيانا أنه فعلا قد غاص في الأوحال المدنية حتى الأذقان - عندما ينوه بالمحلية ويثمن العمق الشعبي، فإنه ينوه بضرب من الإنسان بات - يوما بعد يوم - يعز وجوده، ألا وهو إنسان الفطرة الذي وصف النورسي بساطته الحياتية وبين قيمتها . تلك البساطة التي كانت لا تقتضي الإنسان من تكاليف العيش والحياة إلا لوازم معدودة، ذلك لأن نفس هذا الإنسان الفطري والذي عناه النورسي، إنما كانت نفسا متماسكة ومتصلبة، ولم تكن دواعي الميوعة والترهل والتحلل قد تمكنت منها بعد، على نحو ما نرى عليه مجتمعاتنا التي شاءت أن تكون مجتمعات ممسوخة تحذق لعبة التقليد المضحك.
هناك إلتزام ينيطه النورسي بالإنسان المسلم المعاصر: الجهادية المرشدة التي لا تهدر المكاسب بتهور أو بسوء تقدير للعواقب، الجهادية التي تتحسس موقع قدمها وتبني رهاناتها على مدى قابل، بكل ما قد يحتم عليها ذلك من خيارات تنازلية (سواء في المجال المادي أو في المجال الروحي ).
فهو التزام تجنيدي يأخذ بمبدإ النظام ولا يومن بالفوضى لأنها ليست إلا إرهابا، ويثق من أن الجهاد المعنوي الشاق هو الذي يفضي بالطليعة من أبناء الأمة إلى طريق النجاح.
لقد هدر الانحطاط عزة الأمة، وأحالتها عصور الظلمة أكواما بشرية ودهماء رعاعية بئيسة .. واستطاعت النظم المخترقة والمتغربة أن ترسخ فيها أخلاق الخسة والطمع والانتهازية والاستعداد لكل الترديات، لذلك لا يمكن للطليعة المؤمنة أن تتوقع أن تكون قيادة هذه الأمة بما هي عليه من حال، أمرا ميسرا، وأنه يكفي تحديد جهة العدو لها حتى تتصدى وتهب للدفاع..(13/126)
لقد غرست عهود الانحطاط في روحية الأمة أخلاقا نسخت كثيرا مما كان لها من قيم وخصال وشمائل، وأجهزت أو كادت مساعي التغريب التي استهدفتها على ما تبقى لها من موروث، واستبدلته بما ساسوه بها وروجوه لها من قيم دنيوية مقيتة، إذ لقنها ساستها المتغربون من خلال سيرتهم معها ومواقفهم حيالها وحيال مقوماتها، روح التفريط والاستخفاف، ففشا فيها نتيجة ذلك: الهوان والوهن والنذالة والجبن والمكر، فهي لذلك أمة متقلبة في أهوائها أكثر قابلية للتنازل على الفضيلة ما أن يلوح لها مروضوها بالعظام والفتات..
أجل، إنها حال عارضة، مكتسبة، وقابلة للزوال ما أن تجد من يرود الأمة نحو الأهداف السامية والغايات النبيلة.
لذا توجب على الطليعة القرآنية أن تسلك سبيل الحكمة في سياسة الأمة لإخراجها من ترديها وأن تجهد في توعيتها بما يفتح عيونها على العدو الحقيقي الانحطاط والجهل ومغالطات المتغربين .
فهذه الطليعة مطالبة بأن تتسلح بسلاح الصبر والمصابرة، وأن تتيقن من أن الصرح الذي أساسه الإسلام، صرح فخم عتيد، لا يقام في عجلة من الأمر، بل يتطلب المتابعة وتلاحق استماتة الأجيال..
الفلسفة الفردية والفلسفة الجماعية .. وحقوق الإنسان
على أن مما سجله النورسي من جور وظلم تتوحل فيه المدنية المعاصرة، سببه انسياق السياسات البشرية والأيديولوجيات الوضعية وراء معايير وأحكام غير راشدة في مسألة الحق الإنساني.
فمعادلة حقوق الفرد والجماعة تتراجح بين منطقي الإفراط والتفريط، حيث تتناقض نظرة المدنية الحديثة في موازنة تلك الحقوق وصونها. ففيما توجد هناك فلسفة سياسية تجعل من الفرد مناط الحريات ومركز المبادرات والفاعليات، توجد مقابل ذلك فلسفة سياسية معارضة لا تنظر إلى الفرد إلا كرقم ضمن المجموعة، ولا تعير للفردية أدنى أهمية إلا في سياق الجماعية. فمن أجل إصلاح الأغلبية لا ضير أن يضحى بحقوق الأقلية..(13/127)
وواضح أن هذا المنطق إنما يعكس روح التغالب ويترجم نوازع الفتك التي هي صفة الضواري، والتي تتلبس روح الإنسان المعاصر في نظرته إلى الحياة، من حيث هي مضمار للتبارز والسجالية، حيث القوي يقهر الضعيف.
الواقع أن كلتا الفلسفتين تصدران عن مبدأ البقاء للأقوى. فعلى صعيد مذهب الفردية تناط الديمومة والمجد بمن يثبت جدارته على صعيد المنافسة. بغض النظر عن الأسباب والقيم التي يتوسل بها المتنافسون في تحقيق مجدهم الشخصي ومكاسبهم ورجاحتهم الاجتماعية.
وكذلك الحال بالقياس للمذهب الجماعي، إذ لا مكان للفرد، ولا للأقلية حيال الجماعة والأكثرية.. رغم التبريرات التي يرتكز عليها منطق هؤلاء وأولئك.. وهو ما يشير إليه النورسي في ملاحظاته التالية :
" إن القانون الأساس للسياسة البشرية هو: أن يضحى بالأفراد من أجل سلامة الأمة، وتفدى بالأشخاص حفاظا على الجماعة، ويرخص كل شيء في سبيل حماية الوطن، فجميع الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق البشرية إلى الآن إنما كان يرتكب بالاستعمال السيء لهذه القاعدة ولهذا القانون الأساس. فلقد تيقنتُ من هذا يقينا قاطعا. فهذا القانون البشري الأساس ليس له حد معيّن ولا ضوابط مخصصة، لذا فقد مهّد السبيل للتلاعب باستعماله بكثرة.
ويستطرد النورسي موضحا مزالق هذا القانون المنحرف وما كبّده للإنسانية من تضحيات، فيقول:
" إن الحربين العالميتين قد نشبتا من سوء استعمال هذا القانون البشري الأساس، فأبادت نهائيا ما توصلت إليه البشرية من رقي منذ ألف سنة " (1).
فسواء الفلسفة التي تحصر النظرة في الفرد وحده، أو تلك التي تركز الإهتمام على الجماعة مطلقا، كلتاهما تتحجمان في إطار من الوعي آني، ولا شأن له بأبعاد النفس أو الروح والقلب.. بل إنهما معا تضيقان الخناق على الإنسان إذ تحصران فاتورة الحساب في الشرط المادي والاستهلاكي والإنجازي الملموس..
__________
(1) الملاحق 377(13/128)
من هنا انعدم في رؤيتهما معا المعطى الوجودي المتمثل في الآفاق الزمنية المشهودة والمغيبة التي يعيشها الإنسان كحقيقة نفسية لا يتخلى عنها أبدا، وإلا ما باله يعيش دائبا على السعي حتى كأنه لا يموت.
كلتا النظرتين حصرت تقديرها الإنساني في الكمية، فالجماعية هي من بعض الوجوه فردية، مادامت الجماعية لا تؤمن بالاختلاف، فهي من ثمة واحدية، وكذلك حال الفردية، إذ هي الأخرى لا تؤمن بغير الواحدية، إذ الأنانية تحجب عن العين وجود الآخر، وبالتالي تغدو المصلحة هي مصلحة الذات ولا سواها، والصراع صراعا من أجل تحقيق الذات ولا شيء غيرها .. من هنا كان انغلاق النظرتين في المكان، وانحجارهما في الزمان، إذ لا معالم تلوح للنفس في الأفق إلا ما تفرضه اللحظة من دواعي الحركة والفعل من أجل النجاح المادي..
" إن حياة أرباب الضلالة والغفلة، بل إن وجودهم وعالمهم ما هو إلا يومهم الحاضر، حيث أن الأزمنة الماضية كلها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فتردهم من هناك حوالك الظلمات. أما الأزمنة المقبلة فهي أيضا معدومة بالنسبة إليهم، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب، فتملأ الفراقات الأبدية - التي لا تنقطع - حياتهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل وما داموا جاحدين بالبعث والنشور" (1)..
فرؤية الإنسان لن تسدد إلا إذا وعى وآمن أن دوره الإنساني في الحياة ليس استمتاعيا فقط ولكنه دور منتج للخير مسؤول "إن الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا للتمتع والتلذذ " (2).
" فالإنسان إذاً، لم يأت إلى هذه الدنيا لقضاء عيش ناعم جميل مغمور بنسمات الراحة والصفاء، بل جاء إلى هنا ليغنم سعادة حياة أبدية دائمة بما يسر له من سبل التجارة برأس ماله العظيم الذي هو العمر" (3).
__________
(1) الملاحق 175
(2) اللمعات 317
(3) اللمعات.317(13/129)
لقد فتح النورسي باب الفقه الأكبر في وجه الخدمة الإنسانية، ومارس التوجيه من منظور شمولي قائم على مَفْهَمَة الظواهر والملابسات، وعلى تأسيس معرفة مرحمية من خلال التفاته إلى عالم المرضى والعجزة وإلى الشباب والنساء والأطفال.. فقد عالج أحوال هذه الفئات بروح إنسانية وضعت أسسا لتكريس نظرة جديدة للمرض والعجز وللحيرة واليأس والمكابدة..
بل لقد امتدت رؤية النورسي الإنسانية إلى مسائل الموت ورزايا اليتم والثكل وفقد الأحبة، فمَفْهَمَها من منظور إنساني لم يكفكف الدمعة فحسب، ولكنه حري بأن يدفع بالنفس على طريق تبني وعي جديد لظواهر الحياة والموت، وربط علاقة جديدة بالكون وبتواضعات الحضور والغياب وقيود المكان والزمان والعقل والقلب.
ونحن نعتقد أن إسهام النورسي رحمه الله في تأسيس ما يمكن أن نسميه انتولوجيا وجود إسلامي (علم وجود إنساني ) إسهام كبير، ويمكن أن تقوم على صعيده جملة من المباحث تشمل علوما أخرى في مقدمتها علم المستقبليات وعلوم النفس والأخلاق والفلسفة والروحانيات .. لاسيما وأن معارف التراث قد حوت خمائر مشجعة في هذا السبيل..
بواعث السقوط في النفس البشرية
تتحكم في الإنسان عناصر ذاتية ومعنوية متداخلة يجملها النورسي في : النفس والهوى والوهم والشيطان..
وإذا أردنا أن نعرف معاني هذه العناصر، نقول : النفس هي جماع القوى النزوعية والشهوية التي يصدر عنها الإنسان في حياته الطبيعية. فلذة الأكل مثلا شهوة، وأما البخل فنزعة .
وأما الهوى فقوامه شهوات الإنسان ورغائبه الفطرية والمكتسبة من ملاذ مادية أو منازع معنوية مثل حب الظهور أو الرئاسة أو ما إلى ذلك.(13/130)
وأما الوهم، فهو التقديرات غير السديدة والتصورات غير المؤسسة والافتراضات اللاموثقة التي تتأتى للإنسان وتخامره، ويكون الدافع إليها غالبا التطلع النفسي والتشوق لما ليس في الوسع..أو ما هو مغيب .. فالآمال تزين للنفس المقاصد وتضفي عليها وشاحا من الجاذبية قد لا يكون له أساس في الواقع.
على أن النورسي يرى أن للنفس حركة تنقلب بها من حال النفس اللوامة إلى حال النفس الأمارة، وهو ما يقتضي من الأطهار مزيدا من الجهد تضييقا للخناق عليها حتى لا يندَّ عنها ما يفسد الخلوص ويخل بالنية :
" قد يحدث أحيانا أن تنقلب النفس الأمارة إلى نفس لوامة أو مطمئنة، إلا أنها تسلم أسلحتها وأعتدتها إلى الأعصاب والعروق فتؤدي الأعصاب والعروق هذه تلك الوظيفة إلى نهاية العمر، ورغم موت النفس الأمارة منذ مدة طويلة، فإن آثارها تظهر أيضا، فهناك كثير من الأولياء والأصفياء العظام شكوا من النفس الأمارة رغم أن نفوسهم مطمئنة، واستغاثوا بالله من أمراض القلب رغم أن قلوبهم سليمة ومنورة جدا، فهؤلاء الأفاضل لا يشكون من النفس الأمارة، بل من وظيفتها التي أودعت إلى الأعصاب " (1).
فنزغات النفس ما هي إلا صدى لحضور الشيطان ولفعله ووسوسته. هذا الشيطان الذي لا يشك النورسي في وجوده كما يتوهم الماديون .
وحتى يثبت كينونة الشيطان فقد وجدناه يطابق بين عالمي الإنسان والكون، فإذا كان عالم الإنسان مأهولا بقوة النفس الأمارة التي هي بمثابة الشيطان، فلا يستغرب العاقل إذا ما عمَّرت عالم الكون من حولنا قوة غير مدركة هي الشيطان، وهذا تماما على غرار ما تعمر كياننا البشري نحن، النفس الأمارة..
فعن طريق المطابقة بين عالمي الإنسان والكون استبان النورسي كينونة الشيطان.
من خلال تحليلة لمكونات الباطن النفسي وأنشطتها، حدد موقع الشيطان ووسوسته، وما تهيئه النفس الأمارة من شروط تمكن للشيطان من أن يخترقها.
يقول النورسي:
__________
(1) المكتوبات.423(13/131)
" كما أن الإنسان عالم صغير، كذلك العالم إنسان كبير، فهذا الإنسان يمثل خلاصة الإنسان الكبير وفهرسه، فالنماذج المصغرة في الإنسان لابد أن أصولها الكبيرة المعظمة موجودة في الإنسان الأكبر بالضرورة . فمثلا القوة الحافظة في الإنسان دليل قطعي على وجود اللوح المحفوظ في العالم. وكذلك يشعر كل منا ويحس أن في قرارة نفسه وفي زاوية من زوايا قلبه آلة وعضوا للوسوسة وهي اللمة الشيطانية التي هي لسان شيطان يتكلم بتلقينات القوة الواهمة،
" هذه القوة قد تحولت بفسادها إلى شيطان مصغر، لأنها لا تتحرك إلا ضد اختيار الإنسان وإرادته وخلاف رغباته الحقيقية . إن هذا الذي يشعر به كل إنسان حسا وحدسا في نفسه دليل قطعي على وجود الشيطان الكبير في العالم الكبير. ثم إن هذه اللمة الشيطانية وتلك القوة الواهمة تشعران بوجود نفس شريرة خارجية تنفث في الأولى وتستنطق الثانية وتستخدمها كالأذن واللسان" (1).
لكن الإنسان ليس نقصا محضا، ونفسه ليست زيغا مطلقا، فهي إلى جانب شريتها، تحوز الخيرية، بيد أن الاحتفاظ بمستوى تلك الخيرية راجحا، وعلى مدى متواصل يتطلب دحر النفس الأمارة، وما أشق دحرها، كما يقرر النورسي.
النفس :
النفس تركيب من النفس المزكاة ومن النفس الأمارة، لكن التمرس الامتحاني جعل النورسي يكتشف ازدواجية في النفس الأمارة ذاتها، إذ لها رديف آخر من جنسها لكنه أعتى غواية وأشرس زيغا، يحول بين المرء وبين الخلوص..
لكأن للنفس الأمارة ثوبا تغادره وتتركه وراءها حين يُضَيِّقُ المرء عليها بالتعهد التعبدي وبالترويض الإيماني وبالمكافحة التطهيرية.
إن من شأن ذلك الترويض أن يفلح في جعلها تخرج من كينونته الباطنية، لكن خروجها ذلك ليس في الواقع إلا خروجا جزئيا أو شكليا، لأن النفس الأمارة لا تغادر الكيان إلا بعد أن تترك فيه ثوبها.
__________
(1) اللمعات 127(13/132)
فخروجها يأخذ - على وجه تقريبي - صورة الثعبان وهو ينسلخ من ثوبه، ولذلك هي سرعان ما تنبثق من ثوبها ذلك، كالحية ينجم السم الناقع حتى من رماد عظامها.
" هناك نفس أمارة معنوية - غير دسائس النفس الأمارة الحقيقية - هي أشد عصيانا من الاولى وأكثر نفورا من الطاعة، وأكثر إدامة للأخلاق الذميمة، هي النفس الثانية، وهي مزيج من الهوس والمشاعر والطبائع وهي موغلة في الأعصاب والعروق، وهي الحصن الأخير الذي تحتمي به النفس الأمارة، وهي التي تتولى القيام بوظيفة النفس الأمارة السيئة السابقة - التي تركبت منها - فتجعل المجاهدة تستمر إلى نهاية العمر.
" ولما كانت حواس هذه النفس الأمارة الثانية عديمة الشعور .. لا تفهم أقوال العقل ولا تدرك نصائح القلب، ولا تعير لها سمعا كي تنصلح وتدرك تقصيراتها، لذا لا ترتدع عن السيئات إلاّ بلطمات التأديب وصفعاته وبالآلام، أو بالتضحية التامة بحيث يضحي المرء بمشاعره وحواسه كلها للهدف الذي يصبو إليه فيترك أنانيته كليا، بل كل ما يملكه لذلك الهدف .." (1).
فالنفس هي جماع النوازع المردية، وقد أودت بإبليس إذ جعلته يقف أمام الخالق باستكبار وأنانية، فاتحا الطريق أمام انحرافات الإنسان وتَفَرْعُنِهِ، وليس مثل العبادة ملجما للنفس عن زيغها، وليس مثل التقوى مخرسا لهمزاتها .. فبالتخلي عن العبادة تستفحل النفس وتطغى أنانيتها، وهو ما سجله النورسي بقوله:
"إن الأنانية تتقوى بنقصان العبادة، فيزداد الداعون إلى فرعونية النفس" (2).
كما أن " الإنسان الحقيقي هو الذي برأ من الغرور ومن الغفلة التي تؤدي به إلى التيه في ظلمات الأوهام" (3).
من هنا راح النورسي يشدد على أهمية العبادة في بناء الكمال النفسي وتطهير البواطن واستكمال اللطائف وتثبيت الإخلاص :
__________
(1) الملاحق 210
(2) الملاحق 392
(3) المكتوبات 818(13/133)
" واما جهة الكمال النفسي فاعلم أن الإنسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيوانا من الحيوانات، ينطوي على روح غال ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لا حصر لها، ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز أفكارا غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرست للأنواع والعوالم. فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجلاء قيمته.. وأيضا هي العلة لانكشاف استعداده ونموه ليناسب السعادة الأبدية .. وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها .. وهي وسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة ..
" وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضا هي السبب لتحديد قواه وإلجامها.. وهي الصيقل لرَيْنِ الطبيعة على أعضائه المادية والمعنوية التي كل منها كأنه منفذ إلى عالم مخصوص ونوع إذا شَفَّ .. وأيضا هي الموصل للبشر إلى شرفه اللائق وكماله المقدر، إذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب .. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبة الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. تلك النسبة هي نهاية مراتب كمال البشر.
" ثم إن الإخلاص في العبادة هو: أن تُفْعَلَ لأنه أُمِرَ بها، وإن اشتمل كل أمر على حكم، كل منها يكون علة للامتثال، إلا أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلة هي الأمر، فإن كانت الحكمة علة فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجحة فجائزة" (1).
ذلك هو الامتحان الحاسم الذي أناطه الله بالنفس، حيث جعل خضوعها التطهري حياله سببا للارتقاء، بعض النظر عن إدراكها أو عدم إدراكها لكنه الشعائر التي قررها الله عليها وذممها بها..
10- السياسة
__________
(1) إشارات الإعجاز 149(13/134)
يسمي النورسي السياسة خدمة، ويراها خلوصا متناهيا في التضحية. فهي إيمان أخروي لا ينفصل عن الإيمان الدنيوي، ذلك لأن طبيعة الوجود في المنظور الإسلامي طبيعة لا تقبل التفكيك، ولا يمكن للمسلم أن يجتزئ وجوده الأرضي عن وجوده الأخروي. من هنا كانت أعمالنا الدنيوية هي أعمال أخروية والعكس كذلك.
" إن مهمة رسائل النور هي: خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يودي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سما زعافا وجحيما لا تطاق"(1).
إنها رؤية شمولية تقرر مسؤولية الإنسان التي لا تتحدد بزمن الحياة هذا، مادامت الحياة مجرد مقدمة للآخرة، لذا كانت أعمالنا الدنيوية موصولة بما سيكون عليه مصيرنا الأخروي..
من أجل هذا كانت السياسة عبادة عند النورسي وكانت العبادة عنده سياسة.. ومن أجل هذا كان الإخلاص هو نقطة ارتكاز القصد الترشيدي، وكان التجرد والتسامي ونكران الذات هي أساس الخدمة في الحالين، إذ لا يمكن لخادم الإيمان "أن يعطي لنفسه حظا، وذلك لكي يمكن الاستفادة من إرشاداته في دروس الإيمان وتحصيل القناعة التامة به "(2).
فالسياسة عند النورسي هي خدمة إيمانية محكومة بضوابط الدين وليست مشروطة بمنطق الظروف والملابسات .
وبالإضافة إلى ذلك فهي مجاهدة وجدانية وتسييرية يومية، فهي من ثمة واجهة حيوية وتنفيذية ضمن سياق من المقاصد المركزية أوقف النورسي حياته من أجل تحقيقها، وربما شملها مفهوم الفقه الأكبر الذي وجدناه يستخدمه عندما صرح بأن حياته وجهوده موقوفة على التكفل والإيفاء به .
من هنا وجدنا الخدمة تتمازج في ذهنه بمعانى التصوف والسلوك، ووجدناه يقيم الفعل السياسي على قاعدة إثبات المحبة ودفع الخصومة :
"إن مشربنا محبة المحبة ومخاصمة الخصومة، أي إمداد جنود المحبة بين المسلمين وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم"(3).
__________
(1) سيرة ذاتية 390
(2) سيرة ذاتية 406
(3) سيرة ذاتية102(13/135)
ولاجرم أن تحول النورسي إلى التعامل مع السياسة بمنهج جديد، أو إلى الفقه الأكبر، كان الرد العملي والطبيعي على الطريق المسدود الذي رأى السياسة التغربية تنتهي بالأمة إليه :
" إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وليت وجهي كليا عن الدنيا "(1).
لقد أصبح يتبع الخدمة عن طريق الدين، وهو ما يعني رد الاعتبار الأخلاقي للسياسة كشرط بشري انطلاقا من تحكيم روح العقيدة فيها وليس العكس . مما يعني العمل على هدم السياسة الميكيافيلية ببناء السياسة الأحمدية .
ومن أجل تحقيق تلك المقاصد السامية انخرط في نهجه التنويري الخلاق، ديدنه أن يتجاوز السياسة الدنيوية الخسيسة التي كانت تمارس على يد السفيانيين، فلبث يندد بالسياسة الحاضرة، مراهنا على سياسة أخرى نقيضة لسياسة المتغربين .
ولما كان يسعى جاهدا لترقية السياسة في ضوء الدين، فقد وجد ضالته في إلغاء أسس وأبجديات السياسة المتبناة عن ثقافة الغرب النفعي واللا أخلاقي، واستبدالها بالخدمة والتوعية والتحسيس من منظور قرآني رباني عتيد، الأمر الذي كرس ظهور مشغل الفقه الأكبر، ذلك المشغل المتمثل في انقطاع تجندي صميم، وفي أداء خدمة متفانية تستهدف بناء الأمة، وفي اتباع نهج سياسة إسلامية متكاملة الأبعاد، بالغة التأثير في القلوب والضمائر لأنها تقوم على الانتماء الحر والالتزام الطوعي والانخراط التجنيدي الذاتي، ضمن روح جماعية لا تنفصل مقاصدها الفكرية والمدنية قط عن روح الأمة والدين، وبالتالي عن الإنسانية، اعتبارا لعالمية الدين الإسلامي وإنسانيته.
لقد تحولت السياسة عنده إلى التزام تربوي ومنهج تعاملي قائم على الإغضاء الذكي وعدم المواجهة، وذلك تفاديا لتكبير جبهة الخصوم ..
__________
(1) الشعاعات 542(13/136)
فعدم التنفير ولو بالتغاضي عما هو حق أحيانا إنما هو وجه من وجوه الحكمة، ومنهج سياسي يدعو إليه النورسي وينصح به الأتباع.. إذ مهمة الاتباع هي تقوية الجبهة والثبات على الحق والنهل من معينه، وهي مهام لا تتيح لهم أن ينشغلوا عنها بمناطحة الحادين عن الحق حتى ولو كانوا علماء تربطهم معهم وشيجة العلم والتحصيل. إذ أن ذلك من شأنه أن يوقع في الخصومة وتبديد الجهد بلا طائل ..
فالنورسي يوجب على طلاب النور التحفظ وعدم الوقوع في الجدل مع أي كان، لا سيما مع العلماء . حيث أنه كان على دراية بأن طبيعة المنافسة تدفع في الغالب إلى إعلان المخالفة، وذلك ما يوسع من نطاق الجبهة المعارضة .
والحال أن في الأعداء الصرحاء للقرآن وللنورانيين مغنى عن استثارة خصوم جدد يتبدد بهم جهد التركيز وتتبلبل بهم همة المضي في طريق بناء الجماعة وتوجيد البرنامج الذي ينهض به الإنسان الكامل المرتبط ببناء المجتمع القرآني :
"وإياكم إياكم أن تفتحوا باب النقاش مع العلماء، بل يجب التعامل بالحسنى والمصالحة على قدر الإمكان، فلا تتعرضوا لغرورهم العلمي حتى لو كان أحدهم ميّالا إلى البدع ومستجدات الأمور، لأن الزندقة الرهيبة تجاهنا، فيجب عدم دفع هؤلاء المبتدعين إلى صف الملحدين"(1).
ومن الطبيعي أن تشمل مقاصد هذه الوصية سائر الأطراف، العدو منها والمحايد والمتربص.. إذ سياسة الحسنى هي النهج الذي لا يعيق الدعوة ولا يزج بها في غمار المعارك الهامشية الملهية عن تأدية الواجبات..
عفونة المناخ السياسي وتأثيرات الغرب هما مصدر إحباطاتنا
__________
(1) الملاحق 282(13/137)
ومن جهة أخرى يعترف النورسي أن المناخ السياسي الذي كان يسود بلاده - ومن ثمة بلاد المسلمين كافة - في مطلع هذا القرن، إنما كان مشروطا بتنفذ إرادة الغرب في الحياة العامة وفي إدارة شؤون البلاد وتحريك أحجار السياسة القومية وبيادقها.. "إن السياسة الحاضرة لاستنبول شبيهة بالأنفلونزا يسبب الهذيان، فنحن لسنا متحركين ذاتيا، بل نتحرك بالواسطة، فأوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقن بالتنويم المغناطيسي، ونحن نتصورها نابعة من أنفسنا ونجري إثر تلقينه بتخريب أعمى أصم، فما دام المنبع في أوروبا، فالتيار القادم إما سيكون تيارا سلبيا أو إيجابيا.." (1)
لقد كان النورسي على وعي بما يتوزع الأمة من أهواء تتجاذب مقادتها، وتريد أن تمخر بها دياجر الليل البهيم.. فقد كان يسوؤه أن يري التيارات المتزاحمة على قيادة الأمة، وإن تباينت في المشرب، إلا أنها جميعا موصولة على نحو أو آخر بالغرب، وهو ما يجعل من عملية تحرير الأمة وضمان انطلاقتها أمرا ميئوسا منه.. لقد صنف النورسي تلك التيارات إلى جناحين: جناح الوطنيين، وجناح الاستيلابيين، وكلاهما كان يصارع من أجل السدة ويحمل شعارات الوطن والأمة والحمية القومية.
لكن ما كان موقع وأهمية كل منهما على محك الموضوعية يا ترى ؟
لقد صور النورسي حال التيارين السياسيين المتنازعين للاستحواذ على مقادة الأمة تصويرا تشبيهيا، فبين مدى ارتباط كل منهما بدلالته :
__________
(1) صيقل الإسلام361.(13/138)
".. فالذين يتبعون التيار السلبي هم كالحرف الذي يدل على معنى في نفس غيره، ولا يدل على معنى في نفسه.. بمعنى أن جميع أفعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة، لأن إرادته لا حكم لها، فلا تنفعه النية الخالصة .. أما التيار الآخر الإيجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالإسم الذي يعرف بأنه ما دل على معنى في نفسه، فأفعاله لنفسه ولكن ما يترتب عليها للخارج، إلا أنه لا يؤاخذ عليه لان لازم المذهب ليس مذهبا.." (1)
وواضح أن النورسي يقدر هنا النتائج البئيسة التي تتحقق للأمة على يد أنظمة تحكمها النزعة الوطنية المجردة من الدين،
على أنه قدر أن تلك الأنظمة تكون أقرب للأمة (والمفاضلة هنا من باب شر أهون من شر فقط ) بالقياس إلى تنفذ السلط المتغربة عديمة الحس الوطني.. أو المدخولة الضمير الوطني.
فعلى الرغم من أن الساسة الوطنيين كانوا هم أيضا لا يعبأون كثيرا بالدين، إلا أن نظامهم يظل على كل حال قريبا من الشعب والأمة بما ينجزه من مكاسب، ولو بعدم التضييق على الدين..
على أن العدالة القصوى والتطهر التام لا يتحققان إلا إذا كان نظام الحكم على وفق تعاليم رب العالمين..
ومما لا شك فيه أن انتقادات النورسي لساسة عصره تظل ثابتة إلى اليوم، وهي تصدق على ساستنا في الوقت الراهن ..
بل نكاد نقول - باستثناء ربما تجربة السفياني - إن حدا أدنى من الغيرة والهمة كان يميز ساسة ذلك العهد. وربما كان تفريطهم في ما فرطوا فيه مبررا بالغفلة والجهل ومحدودية التمرس.. أما حالنا اليوم فلا تتبرر بأي منظور..
وما قد يعزينا أن تكون تفريطاتنا الرهيبة اليوم مجرد سانحة للأمة كي تتجهز وتعيد الكرة.. وإلا فالمأساة مدمرة..
التاكتيك في مضمار السياسة
__________
(1) صيقل الإسلام 361.(13/139)
مما لا ريب فيه أن غياب النورسي عن ساحة السياسة لم يقطع صلته بها، ومن الطبيعي بالنسبة لمن راهن على المستقبل الحضاري للأمة واعتمد القرآن سلاحا، ألا ينقطع عن الحياة، إذ من غير المعقول أن نربط وجودنا بالنهضة والانبعاث ولا نكون على وعي بما يحدث من حولنا .. ولا يعني هذا أننا سننخرط حتما في رصد حركات الواقع وسكناته بهوس، بل الأصوب أن تكون خطانا على بينة من طبيعة الأرض التي نطؤها ومورفولوجيا تلك الأرض.
ولقد كان النورسي على معرفة تامة بالأرضية وبالتضاريس المحيطة به، فلم يسعه بعد ذلك أن ينشغل بغير ما يكفل له المضي على النهج..
ورغم استغراقه العميق في الانقطاع الروحي إلا أنه ظل على صلة بما شاء أن يظل على صلة به. ظل يرعى حركة النور، ويتعهد نموها ويخطط لمسيرتها ويكيف منعطفاتها وظل على صلة أيضا بمبتدعات العلم ومنجزاته، لاسيما تلك التي كان يثمرها في الدعوة مثل جهاز المسجل وقبله جهاز الرونيو والراديو والقطار وما إلى ذلك ..
بهذه الروح الواعية تابع النورسي تطورات المسرح السياسي في بلاده، لا سيما وقد أحس بما كان يطرأ على أرضية ذلك المسرح من تغير إيجابي بعد الدمار الكبير الذي ألحقه السفياني بقيم ومقدسات الأمة.. هنالك كان على النورسي أن يكون أشد حصافة وأكثر ألمعية في تعامله مع تلك الأحداث التي أفرزتها المسيرة السياسة المحمومة لبلاده ..
فكانت له من ثمة تلك المراسلات مع أفراد من الساسة والكبراء، لاسيما بعد وصول الحزب الديمقراطي إلى الحكم (سنة 1950) .. بل لقد ألفيناه يسجل موقفا عمليا تمثل في إدلائه بصوته في الاقتراع العام ترجيحا للكفة التي كان يرى فيها الخير للإسلام والأمة.(13/140)
ونعتقد أن موقفه ذاك كان القصد منه ترشيد الأمة ودفعها إلى ضرورة العمل وعدم الاكتفاء بالتفرج على ما يجري في الواقع من حولها، والسعي إلى استغلال ما يمكن استغلاله من المعطيات الاجتماعية والسياسية ترجيحا للكفة لصالح الإسلام كلما وجدت إلى ذلك الترجيح سبيلا.
فذهابه إلى الصندوق وإدلاؤه بصوته الانتخابي في تلك المناسبة وفي ذلك العمر المتقدم، إنما كان يحمل رسالة واضحة وهو ترخيصه بالمشاركة في الوقائع السياسية من منطق الخدمة.. خدمة الإسلام، وهو ما صرح به بقوله :
" لأجل الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى السلطة والذي يشكل خطرا رهيبا على حياتنا الاجتماعية وعلى الوطن، أعمل على المحافظة على الحزب الديمقراطي باسم القرآن والوطن والسلام"(1).
حقا، لقد ظل شعاره السياسي - حينا من الزمن - هو عدم مقارفة السياسة، ذلك لأنه كان على يقين من أنه سيكون على موعد مع التاريخ طال الزمن أو قصر.. فمهما لون محترفو السياسة من خططهم وبرامجهم، فإنهم لن يفلحوا في إقصائه عن الساحة، ذلك لأنه كان متأكدا من أن خدمة القرآن والخلوص إليه هي أدهى سياسة يحترفها أهل البصيرة.. ذلك لأن السياسة القرآنية لا يقبل عليها الانتهازي لأنها سياسة لا ترفع شعارات الإغراء والإطماع والإستمالة بما هو فان.. فكل من يقبل على ساحها إنما يأتيها محركا بشعور رباني وبقلب افتدائي وبعقل واع بالدور ومتهيئ للبذل ومفعم باستعدادات المبرة لكافة المؤمنين..بل وللإنسانية جمعاء. من هنا كان سر كسبها لما تراهن عليه.
__________
(1) الملاحق 396.(13/141)
لا يعني هذا أن النورسي قد تراجع عن سيرته النابذة للسياسة الاحترافية، وإنما يعني أن الخدمة اقتضت منه أن يتكيف مع الأحداث من موقع الفاعل المؤثر وليس المنفعل السلبي.. وهو ما تكشف عنه مكاتباته وتوجيهاته التي رأيناه يدلي بها لصالح الجهات السياسية التي كان يرى في دعمها خيرا للأمة، أو هو على الأقل كان يرى ضررها أقل من ضرر غيرها على الإسلام، فكانت من ثمة مبادرته إلى محالفتها.
لقد كشف لنا النورسي عن صلته الواعية بفواعل مجتمعه السياسي في عهد الديمقراطية، وتنبئ كتاباته أنه كان مدركا للمكر الذي أضحى المتغربون يُلبِّسون به على الأمة من أجل تضليلها والتشويش على اختيارها الانتخابي، وكل ذلك من أجل كسب أصواتها .
لقد راحت دعايتهم توهم الأمة وتخيف الجماهير المسلمة من مخاطر الحزب الديمقراطي، واصمة إياه بالنعوت التي كان القصد منها إثناء الشعب عن تأييده، وهو ما تنبه النورسي إليه وسجله، معربا بذلك عن تواصله مع الأحداث التي كان مستقبل الإسلام يدعو إلى التواصل معها ومتابعتها عن كثب :
" إن أمضى أسلحة عبيد العهد الماضي من الماسونيين الذين هدروا الدين والإيمان والأرواح في البلاد أثناء حكم الدكتاتورية والرئاسة الفردية وهم في أنفاسهم الأخيرة الموجهة ضد الديمقراطيين، هي السعي في إظهارهم وكأنهم أقل دينا مما كانوا عليه، ويتلبس نفر منهم بأزياء التدين فيشيعون بأن الديمقراطيين لن يفوا بوعودهم للشعب في إطلاق الحريات الدينية، ويتهم نفر آخر منهم الديمقراطيين بحماية الرجعية الدينية لصدهم عن معاضدة حرية الدين وتوجههم إلى تخريب الدين والمؤسسات الدينية وفرض الشدة على أهل الدين ".
ثم يستطرد النورسي فيبين الأسباب التي رجحت كفة الحزب الديمقراطي وغلبته على الماسونيين:(13/142)
"إن تصرف الحزب الديمقراطي بحزم ضد الشيوعيين منذ استلامه للسلطة وإطلاق حرية الأذان المحمدي بصورته الشرعية وكسبه محبة الشعب لهذا السبب وحصوله على قوة تعدل قوته عشرين ضعفا، أقلق حزب الشعب الجمهوري غاية القلق".
وغير خاف الإيعاز التوجيهي الفطن الذي يبطن خطاب النورسي في هذا المقام، إذ أن غايته هي لفت الديمقراطيين إلى السر الذي سيكفل لهم الشعبية والتأييد الجماهيري، وهو تسامحهم مع الدين ورفعهم العنت الذي ألحقه به حزب الشعب الجمهوري.
بل سنجد النورسي يرسم للديمقراطيين الخطة التي ستفيد سياستهم إزاء الشعب والأمة:
"نحن نثق بأن الديمقراطيين لن يقعوا في الفخ لأنهم يدركون أن هذا الوضع الذي وقع فيه أولئك كان بسبب سياسة العهد الماضي الظالمة ضد أهل الدين وضد جماعة النور، أهل القرآن.
إن الشعار المعلن للنظام السابق معلوم للجميع، وينبغي للديمقراطيين، ما داموا يريدون البقاء، أن يتخذوا سياسة مناقضة لذلك الشعار مناقضة تامة، وهي التشدد ضد الشيوعية من جهة، وحماية الدين وأهل الدين من جهة أخرى، إنهم ملزمون بسلوك هذا السبيل في وضوح وجرأة، وإن أي بادرة ضعف كان أو بادرة فتور بهذا الشأن، يوقعهم في شراك حزب الشعب الجمهوري"(1).
فالنورسي عندما يشير على الديمقراطيين بأن يسلكوا سياسة مناقضة لسياسة خصومهم حزب الشعب الجمهوري، فإنما يهدف إلى تحقيق غايتين ترشيديتين. الغاية الأولى هي الحث على سلوك سياسة كان يعلم أنه بقدر مخالفتها لسياسة أعدائه بقدر ما تكون قريبة من مراميه هو .. أخذا بمنطق عدو عدوي صديقي.. والغاية الثانية كان القصد منها تحسيس حلفائه بضرورة سلوك السبيل المبدئي الذي سيميزهم عن خصومهم، والذي يقوم على مخالفة سياسة أولئك الخصوم بسياسة مناقضة. وفي كلا الحالين يغنم الإسلام انعتاقه ويتحقق للدعوة مجال حيوي تنشط فيه.
السياسة سبيل السقوط والتردي الروحي والوجودي
__________
(1) سيرة ذاتية 440(13/143)
السياسة موئل النفاق والثعلبية، لذا يحرص النورسي على الابتعاد عنها، داعيا إلى وجوب تثمير الجهود التي يبذلها المسلم في حقول خارج الحقل السياسي، إذ أن السياسة - كما هو ثابت - هي المهارة في المداورة والتفنن في اتباع أساليب المخاتلة والتحيُّن والمزايدة .
فأخلاقيات السياسة هي أخلاقيات الشراسة الفظيعة والترصد الجبان، فهي من ثمة أخلاق مرذولة لا ينغمس فيها إلا ذو كيد أو من جبلت نفسه على الافتئات والكذب.
فشعار السياسة المشهر منذ الأبد هو: إذا لم تكن قاتلا فأنت مقتول.. "وذاك يعني ببداهة ركوب كل السبل من أجل الغاية، ولا تستنقذ النفس في معتركها إلا بالتمرس على تسديد الطعنات في الظهر، أو بالنكوص غير الشريف..
من هنا كان دستور النورانيين هو القرآن، ولا شأن لهم بالسياسة كما يتعاطاها الدنيويون :
" إن من الدساتير الأساسية لطلبة النور هو عدم التعرض قدر الامكان للسياسة ولأمور الحكومة وشؤونها وإجراءاتها، ذلك لأن القيام بخدمة القرآن بإخلاص يكفيهم ويغنيهم عن أي شيء آخر "(1).
ذلك لأن ركح السياسة، بما يتحاشد فوقه من جموع وفلول الأفاقين، يستلزم اصطناع الشريك والمتعامل بالأجرة وحليف الزور، وكل ذلك يتناقض جوهريا مع مبدإ الحرية والإخلاص والاستقلالية الذي يأخذ به القرآنيون :
" إن الداخلين الآن ساحة السياسة مع وجود تيارات قوية سائدة لا يستطيع أحد منهم أن يحافظ على استقلاليته وعلى إخلاصه، لأن تيارا من هذه التيارات سيجره إليه ويجعله يعمل لحسابه ويستغله في مقاصدة الدنيوية، مما يؤدي إلى الإخلال بقدسية علمه وخدمته "(2).
فما دام " السياسي في هذا الزمن لا شرف له " وما دامت السياسة الدنيوية مثابة الشرور والنواقص، فلا بدع أن يؤثر النورسي للمسلمين النيرين الابتعاد عن ساحها،وأن يربأوا بأنفسهم عن الانجراف وراء حرفة بذيئة ومبتذلة ورخيسة وشائنة.
__________
(1) الشعاعات 424
(2) الشعاعات .424(13/144)
على أن هناك من بين الأسباب العديدة الأخرى التي اقتضت من النورسي أن يعرض عن السياسة ويشجب تعاطيها، كونها تفسح المجال للعدو والكافر أن يتقنع بأستار تحجب حقيقته عن المجتمع والأمة، الأمر الذي سيمكنه من الإيقاع بالأبرياء ممن يتعاملون معه أو يتواثقون على قواعد لعبه .. " فلو عُمل بهراوة السياسة وصولجانها وأحرز النصر، تدنى أولئك الكفار إلى درك المنافقين، والمنافق - كما هو معلوم - أشد خطرا من الكافر وأفسد منه، فصولجان السياسة إذا لا يصلح القلب في مثل هذا الوقت، حيث ينزل الكفر إلى أعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقا"(1).
لقد شهر النورسي بالمنافق ونوه بالمخاطر التي يشكلها اندساسه في الجماعة، ولما كانت السياسة هي المرتع الوخيم الذي يستهوي المنافقين، فقد جاء التحذير يحيل بين المسلم وبين شرها، ففي حلبة السياسة يسقط المسلم من أول جولة، لأنه يدخل النزال من غير ما عدة، بل من غير ما استعداد ولا قابلية لخوض عراك طبيعته الجوهرية النفاق، الأمر الذي يتنافى مع روح المسلم المتشبثة بالصدق والمصداقية كما يقتضي منه الإيمان.
لقد طفق النورسي يشنع على المنافق ويذيع أوصافه ويعرض نعوته في سائر ما كتب من رسائل. بل لقد وجدناه يخص المنافق بوقفة مسهبة وذلك في تفسيره "إشارات الإعجاز .." عند ما شرح قوله تعالى : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) (2).
لقد استهل النورسي تفسيره لتلك الآية بتسجيل ملاحظة أولى لفت فيها إلى سر إطناب الخطاب القرآني في الحديث عن المنافق قياسا بالحديث الموجز الذي خص به الكافر في هذه السياق حيث قرن بينهما، ليخلص النورسي إلى تقرير الآتي:
"إن قلت لِمَ أوْجَزَ في حق الكافرين كفرا محضا بآيتين وأطنب في النفاق بإثنتي عشرة آية ؟
__________
(1) اللمعات 158
(2) البقرة/8(13/145)
قيل لك: لنكات منها: إن العدو إذا لم يُعرف كان أضر، وإذا كان مخنسا كان أخبث، وإذا كان كذابا كان أشد فسادا، وإذا كان داخليا كان أعظم ضررا، إذ الداخل يفتت الصلابة ويشتت القوة، بخلاف الخارجي فإنه يتسبب لتشدد الصلابة العصبية ".
ثم يستطرد النورسي بعد هذا التوضيح، ليعرب عن تفجعه مما فعل النفاق بالأمة الإسلامية قائلا:
" فأسفا. إن جناية النفاق على الإسلام عظيمة جدا وما هذه المشوشية إلا منه ولهذا أكثر القرآن من التشنيع عليهم .."(1)
ثم راح يبين ما يتميز به المنافق عن الكافر من حيث فظاعة ما يأتيه المنافق في حق الأمة والجماعة من أنواع الخداع والدس، مسجلا أن المنافق ينتمي غالبا إلى أهل الكتاب أو ممن يتطبع بخلقيتهم الأفاكة. (2)
ومن الواضح أن صدق هذا التقرير عن مكايد المنافق يستند إلى الخلفية الدينية والتاريخية الإسلامية، إذ أن نشوب النفاق زمن البعثة إنما فشا واستفحل في يثرب بترويج من اليهود ومن انساق إليهم .
كما أن هذا التقرير كان يجد في الواقع التاريخي الذي عاشه النورسي - زمن الردة في تركيا العثمانية - ما يؤكده، إذ كانت فلول المتغربين تتشكل من اليهود أو ممن ارتضع حليبهم الزقومي ..
أما نحن في عهدنا الراهن فلا جرم نرى الثقافة السياسية قد كيفت على نفاقها وجبنها وخستها الأوساط الاجتماعية المختلفة، وزرعت فيها عدوى الخيانة، فتزعزعت المثل وغابت الثقة وكثر الفساد..
ونجد النورسي في سياق تفسيري لاحق قد علق على قوله تعالى: (ألا إنهم هم السفهاء) بذات الحكم الذي قرره آنفا على المنافق إذ راح يقول :
" اعلم أن القرآن الكريم إنما أكثر من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل بليات العالم الإسلامي من أنواع النفاق." (3)
__________
(1) إشارات الإعجاز 88
(2) انظر إشارات الاعجاز 89
(3) إشارات الإعجاز 104(13/146)
وألفيناه في مواطن أخرى يكشف عن الطابع الوبائي الاستشرائي الخطير الذي كانت قوى الشر تأخذه وتنفذ به إلى روحية الملة وتفتك بمقوماتها:
" إن أهل الضلالة المغيرين على أهل الإيمان أصبحوا روحا خبيثة تسري في الأمة، وشخصية معنوية حاملة لروح الجماعة والتنظيم الخاص تفسد وجدان الناس وقلوبهم عامة في العالم الإسلامي، وتمزق الستار الإسلامي السامي الذي يحى العقائد التقليدية لدى عوام المسلمين، وتحرق المشاعر المتوارثة أبا عن جد.. تلك المشاعر التي تديم الحياة الإيمانية " (1).
وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك عاملا موضوعيا آخر كان يحدو بالنورسي إلى مجانبة السياسة بمعناها الوحشي، الغابي، هو حال الأعزلية واللا تسلح التي كان عليها المسلم - ولا يزال - فهي حال لا تمكنه من رد اللكمة بمثلها . فالضعيف إذا ما سقط في شرك عدوه وجاراه نحو ميادين الألغام التي يستدرجه إليها، فإنه لا محالة سيعد جاهلا وأحمق .
إذ من الدهاء أن أعمل بكل ما في الوسع على ألا يرديني عدوي ما دمت لا أملك القوة، فإذا ما أصر على مواجهتي، فسأكون غبيا إذا مكنته من المواجهة، بل علي أن أتقي أكبر الخسائر بأقل التكاليف، وذلك هو الأسلوب الذي ينتهي على المدى البعيد بدحر القوة الباغية واستنزافها والقضاء عليها قضاء مبرما..
إنه لمن الثابت أن الضعيف إذا ما رشَّدَ استراتيجيته فسيؤول به الأمر إلى أن يقوى ويتَجَدَّرَ، وأن القوة المستفحلة والعاتية والغاشمة والمبيتة للغدر والمنفذة للشر مآلها الفناء والهوان لا سيما إذا ما كان خصمها لبيبا وداهية ومسلحا بأخلاق الأنبياء، أولئك الجبابرة في الإيمان بالله وبقيوميته الذي طاولوا الفراعنة المغرورين، وناضلوهم بالصبر والمكابرة والإيمان فغلبوهم وقوضوا أعراشهم، وتلك هي سياسة النورسي التي نهجها وراهن على جدواها ونصح بها الأتباع والمسلمين:
__________
(1) الملاحق222(13/147)
"إن شخصا عاجزا مثلي لا يمكنه أن يستعمل النور والهراوة معا في هذا الوقت، لذا فأنا مضطر إلى الاعتصام بالنور بما أملك من القوة، فيلزم عدم الالتفات إلى هراوة السياسة أيا كان نوعها. أما ما يقتضيه الجهاد المادي، فتلك الوظيفة ليست مناطة بنا حاليا. نعم إن الهراوة هي لوقف تجاوز الكافر أو المرتد عند حده، ولكن لا نملك سوى يدين، بل لو كانت لنا مائة من الأيدي ما كانت تكفي إلا للنور، فلا يد لنا تمسك بهراوة السياسة " (1).
فمن خلال مثل هذه الإلتفاتات، لا نفتأ نرى إشارات النورسي تقوِّمُ المناهج الدنيوية وتتابعها، ذلك لأنها كانت تصدر عن رؤية موضوعية لا يفوتها أن تقدر الأشياء بأقدارها.. وكل ذلك تحسسا للطريق أمام الإسلام..
ونسجل هنا أن في تلك المخاطبات التي رأينا النورسي يوجهها إلى الساسة في بلاده، تتكرس روح التنزه عن المفاعلة السياسية بصورتها الخضوعية.. إذ يظهر النورسي دائما في موقع فوقي، أو ندي .. إذ لا يلبث أن تعاوده روح الترشيد المركوزة في النفس أصالة، والمستحكمة فيها بتأثير مبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ذلك المبدأ الذي لا يتجزأ عن الخدمة وإن أخذ أشكالا وصوراً مختلفة..
11- المرأة في رسائل النور
ينظر الإسلام إلى المرأة بكامل الرقة والنفاسة والتقدير وينيط شمائلها بالحشمة والعفاف، لأنه ثبت تاريخيا أن الزلزالات المردية إنما تقع حين يتجاوز الإنسان حدود الله التي تضبط علاقة الذكر والأنثى وتميز بينهما من حيث القابليات والاستعداد، ذلك التمييز المبرأ من شوائب الامتهان أو الاستنقاص، إذ هو تمييز الفطرة والتكامل الذي تستقر عليه المسطرة المرشدة لأخلاق التساكن والتعامل .
هل التطور الجديد المطرد سيخلق نموذج الأنثى المسترجلة، تلك التي تؤهلها قوامتها الرجولية لمنافسة الذكر؟
__________
(1) اللمعات.158(13/148)
الواقع أنه ما دامت خلقة المرأة وطبيعتها الفيزيولوجية تمايزها عن الرجل، وما دامت المرأة أيضا تفوق الرجل في معين المواجد التي جعلت منها - بمشيئة الله - الطرف الأقدر على العطاء .. فلم التوق المحموم إلى وضع المرأة في موضع الندية أمام الرجل وفي كل المضامير؟
ترى ما قيمة أن تفلح المدنية في إبراز الأنثى الأقهر للرجل على صعيد الرياضات الجسمانية مثلا؟
أليس منطق الموازنة بين الرجل والمرأة يقتضي مقايسة إمكانية كل منهما في كافة الميادين حتى في ميدان الغلظة والمغالبة العضلية، لتستكمل شروط الموازنة ويقوم البرهان على التماثل أو على التفوق ؟
ثم أليس في مجرد تمثلنا للمرأة وهي تصعد الحلبة وتواجه شقيقها الطبيعي الرجل، هو توق مرضي ضار بالقابليات وبالجمال وبجوهرعلاقة التساكن التي تطرد بها الحياة؟
إن كل دفع بالمرأة في إطار الندية والاسترجال هو إنهاك لطبيعة الأمومة وإهدار لفيض الكمال الخلاق والجمال الملهم..
فالمرأة مخلوق حساس، مجبول على الغض وعلى الاستحياء، والمجتمع الضال هو الذي يستثير فيها منازع التهتك والخروج عن الفطرة :
" تتخوف النساء فطرة خوفا حقيقيا من غير المحارم، وتتجنبهم جبلة، فتنبهها خلقتها الضعيفة تنبيها جادا إلى التحفظ وتدفعها إلى التستر، ليحول دون إثارة شهوة غير المحارم، وليمنع التجاوز عليها، وتدلها فطرتها على أن حجابها هو قلعتها الحصينة وخندقها الأمين"(1).
من هنا لزم أن يتحمل المجتمع مسؤوليته حيال المرأة وأن لا يغمطها حقوقها، من خلال إقحامها في تأدية أدوار ووظائف تجفف فيها رواء العواطف القدسية، وتستنزف منها قابليات الرحمة والإغداق والأمومة ..
__________
(1) اللمعات 301(13/149)
حقا إن الحياة، لا سيما المعاصرة، حيث تتسع يوما بعد يوم دائرة التخصصات التكنولوجية الدقيقة التي تستجيب لطبيعة المرأة ولصلابتها الوجدانية والشعورية وبالنظر إلى ما تتميز به من قدرة على الصبر والاحتمال - بما فطرها الله عليه من طاقة عطاء خارقة - قد هيأت للمرأة من المهام والوظائف والمسؤوليات ما لا ينبغي أن ينافسها فيه الرجل، شريطة أن يتأطر المجتمع بحصانة أخلاقية تدفع عنه الشوائب.
النورسي .. والمرأة
يتمازج في مواجد النورسي حيال المرأة إحساس الأبوة وعواطف القربى التي يحملها المرء لذويه.
لقد ظل ينظر إلى المرأة بإكبار لا مراء فيه انطلاقا من روح الإكبار التي كان النورسي يحملها لوالدته ..
ومما لا شك فيه أن النورسي كان يجد في صلته مع المرأة النورية، سيدة أو فتاة، شيئا من الحنان الذي كانت مشاعره تختزنه لأخواته ولأمه.. كان يتوجه إلى النساء النوريات بطرف غضيض ولكن بقلب مفتوح، وكانت توجيهاته لهن تظهر شفقته الطاهرة عليهن واعتزازه بهن.. وكانت نصائحه لهن من الخلوص ما لا يكون إلا بين البنت ووالدها.. وكان يذهب به الوجدان التأملي أحيانا فيرسل من عبارات التنويه والتمجيد ما يرقى فعلا إلى النجوى القلبية المستهيمة بالطهر:
" النساء رائدات الشفقة وبطلات الحنان " (1).
لقد طفق النورسي يشيد بخصال المرأة القرآنية ويعدد تضحياتها ويؤكد دورها في استنقاذ نفسها وأسرتها وبالتالي المجتمع، من التردي والفناء :
"إن فداء الأم بروحها انقاذا لولدها من الهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتها بنفسها بإخلاص حقيقي لأولادها باعتبار الوظيفة الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بحيث يستطعن أن ينقذن حياتهن الدنيوية والأخروية بانكشاف هذه البطولة وانجلائها في أنفسهن " (2).
__________
(1) اللمعات307
(2) اللمعات 308(13/150)
لقد كان النورسي على إدراك تام لما كانت المرأة المسلمة تتعرض له من عنت يستهدف هويتها ومصيرها، لذلك وجدناه يلفت الانتباه إلى مساعي المفسدين ويقول: "إن تيارات فاسدة تحول دون ظهور تلك السجية القيمة وتمنع انكشافها أو تصرف تلك التيارات هذه السجية الطبيعية إلى غير محالها، فتسيء استعمالها"(1).
لقد كان النورسي على وعي بآثار تلك التحولات الروحية والاجتماعية التي استهدفت قيم التماسك والصمود واستبدلتها بأخرى وبقابلية التميع والتحلل والتفريط. فلا غرابة أن تنساق المرأة - ومن ورائها المجتمع - مع التيار التفريطي، ذلك لأن جهات التغيير قد توسلت لإحداث الثغرة في جدار القيم بأساليب إنهاكية خبيثة من أجل خلق الشروط المادية والأدبية التي تساعد على إحداث التغيير والتبديل .
وكانت النتيجة المؤلمة أن فشت في المجتمع روح التنازل، بل روح التهافت، بحيث أضحى الانحراف يتم أحيانا على يد الأسرة والمجتمع، فدور الأمهات في شيوع روح التخلي عن القيم لقاء مكاسب عاجلة كان يؤذي النورسي، وهو ما سجله قائلا:
"إن الشفقة والحنان الكامنين بإخلاص حقيقي وتضحية وفداء قد أسيء استعمالها في الوقت الحاضر، إذ لا تفكر الأم بما سينال ولدها في الآخرة من كنوز هي أثمن من الألماس، بل تصرف وجهه إلى هذه الدنيا التي لا تعدل قطعا زجاجية فانية، ثم تشفق على ولدها وتحنو عليه في هذا الجانب من الحياة، وما هذا إلا إساءة في استعمال تلك الشفقة " (2).
لقد اقترن التراجع السلبي عن القيم في مجتمعاتنا الإسلامية بترويض مدمر للمرأة والفتاة على تبني قيم نقيضة لقيم المجتمع .. إذ كانت القوى التغريبية ومن ورائها أوصياؤها تعرف أن تقويض الهوية لا يتم ما لم يستهدف الأساس .
__________
(1) اللمعات 308
(2) اللمعات 309(13/151)
ولما كانت المرأة في أي مدنية هي أساس العمران، فقد تم تخريب صرحنا وتراثنا عندما تسربوا إلى خنادقنا ولغموا الحياة من حولنا بتدجين المرأة المسلمة، إذ جعلوها تقبل الدناءة وتحترف الانغماس ولا ترعى شرفا ولا حرمة .
على أن المخزي هو أن المرأة المتغربة أضحت لا تستشعر عارها، لأنها فقدت عقلها وأضاعت ضميرها، ولم تفد شيئا لقاء ذلك إلا التردي الجسدي.
وكل ذلك نبه إليه النورسي وأنذر من مغبته وحاجج وساق الشواهد وضرب الأمثال..
بل لقد لفت النورسي إلى ما كانت تقوم به المنظمات السرية من دور خطير في سبيل إفساد المرأة المسلمة، ولأجل التصدي لذلك الإفساد المدمر أهاب النورسي بالأمة أن تحتمي من مخاطر تلك الشرور وأن تسد الثغرات في وجهها بتحصين المرأة المسلمة بالقرآن.
ومن المفارقات العجيبة أن نجد تلك المنظمات الأجنبية الخبيثة بدائل لها في مجتمعاتنا.
ولقد رأينا كيف ظلت - ولا تزال - منظمات نسوية واتحادات وجمعيات نسائية تمارس تحت شعارات وطنية ونضالية دورا تحطيميا يستهدف القيم والأصالة والمقدسات. وقد فاقم من هذا الدور اليوم، التوسع الرهيب للوسائط الإعلامية، بحيث لم يعد من مدافع عما تبثه الأنتارنيت والقنوات الأخرى إلا التحصين الروحي الذاتي.. وهو ما يحققه القرآن العظيم وتكفله رسائل النور .
إذ أن تفتح المرأة المسلمة على آداب القرآن لمن شأنه أن يحميها ويجنبها الوقوع في دنس القذرين. لقد آمن النورسي أنه " لا يمكن في هذا الزمان تَنَعُّمٌ بحياة عائلية وبلوغ سعادة الدنيا والآخرة واكتشاف لسجايا راقية في النساء إلا بالتأدب بالآداب الإسلامية التي تحددها الشريعة الإسلامية الغراء" (1).
المرأة والرجل .. ومبدأ الكفاء
أكد النورسي مبدأ التكافؤ بين المرأة والرجل، شرطا أساسيا لإنجاح الزواج وتمكين عقدة الاقتران من الاستحكام والثبات والدوام:
__________
(1) اللمعات311(13/152)
"إن ما هو مطلوب شرعا أن يكون الزوج كفؤا للمرأة وهذا يعني ملاءمة الواحد للآخر، وأهم ما في الكفاءة هذه هي كفاءة الدين كما هو معلوم " (1).
ولا ضير - في نظر النورسي - أن تختار المرأة المسلمة العزوبة على الاقتران بمن سيضر بعقيدتها أو ينحرف بها عن الدين:
"يجب ألا يبعن أنفسهن رخيصات سافرات كاشفات عندما لا يجدن الزوج المؤمن الصالح ذا الأخلاق الحسنة الملائم لهن تماما، بل عليهن البقاء في حياة العزوبة إن لم يجدن ذلك الزوج الكفء كما هو حال بعض طلاب النور الأبطال، حتى يتقدم لطلبها من يلائمها ممن تربى تربية الإسلام وله وجدان حي ليكون رفيق حياة أبدية يليق بها، وذلك لئلا تفسد سعادتها الأخروية لأجل لذة دنيوية طارئة فتغرق في سيئات المدنية " (2) .
وواضح هنا البعد التجنيدي الذي يأخذ به النورسي في هذا المقام.. فعلى غرار تجنده هو، واختياره لنهج العزوبة والتبتل، خدمة للإسلام ومرابطة على ثغوره الأولى، كان يشاء للمرأة المسلمة أن تنهض بمسؤوليتها حيال ربها وحيال نفسها، فالشر المستطير الذي كانت التحولات التغريبية تصعد منه كان يتهدد المرأة في أخص ما صانه بها الله من السقوط : الإيمان، لذا اختار النورسي لها أن ترابط وتجاهد ما لم تجد القرين القرآني.
ومن جهة أخرى طفق النورسي يندد بأخلاق التبرج والتعري والاستعراض الجسدي المتحلل. فالتبرج وتعرية المفاتن طريق إلى تأجيج ثعابين النفس حتى إزاء المحارم.. "ان كشف ما لا يجوز كشفه كالساق قد يثير لدى النفوس الدنيئة حسا سافلا لزوال الشعور بالحرمة " (3).
__________
(1) الملاحق 301
(2) الملاحق 342
(3) اللمعات 302(13/153)
كما إن كشف الجسد على النمط الغربي يتضمن روح الرضى بالتفحش وقبول الإثم.. ثم أن الأسس الفكرية للغرب تتعاطى العري كفلسفة وجود ومقوم جمالي حيوي حاضر في الحياة العامة، وما تعكسه أنماط التماثيل التجسيدية للمرأة العارية التي أثلتها المدنيات اليونانية والرومانية والغربية عامة، والموقع المركزي الذي تحتله تلك التجسيمات البشرية المكشوفة في المدن والحواضر، بل وفي الدور وحتى داخل المعابد والهياكل العمومية، ليظهر الفلسفة الأخلاقية الخاصة بالغرب تجاه الجسد ..
إذ أنها فلسفة تقوم على أسس حسية، شهوية، محورها الإنسان والجسد والمفاتن.. لقد ترسخت الحسية الغربية المعاصرة من خلال تراثها الأبيقوري وأيضا بفعل روح تقديس الجسد التي تقوم عليها العقيدة الإنجيلية.
إن التبرج - كما يقول النورسي - يفسد الوفاء(1)، لأنه يقوم على قابلية عرض الجسد، وهي قابلية ترادف الدعوة الفاحشة، والتلويح الفاسق، والإعلان عن الموافقة المبدئية لابتذال الشرف واِعطاء الذات..
من هنا شدد النورسي على الصيانة الأخلاقية، فالتفريط في أخلاق الأمة تفريط في وجودها .
بل لقد ألفيناه يتحوط في ضبط السلوكات، لا سيما تجاه المرأة التي هي المدرسة والموجه الفعال لروحية المجتمع، فلا عجب إذأ ما وجدناه يتقدم في مضمار نشر الفضيلة فيلزم المرأة بضرورة التماسك حتى على صعيد تعاطيها للقيم الفاضلة. فقد رأى أن مروءة المرأة وانضابطها يربآن بها أن تكون سخية أو أن تكون شجاعة في المواقف التي قد تداخل النفوس حيالها، مطامع ريبة ..
فالتصون هو الإطار الذي يكمل فيه شرف المرأة ويكسبها الحرمة والمبرة والإكبار. وكل تجاوز منها لعتبته، فإنما يفضي بها إلى التبذل ويطمع فيها أهل السفالة.
__________
(1) اللمعات 303(13/154)
فأفونة الرجال في زمن الثقافة اللائكية والسفور الأبيقوري والديمقراطية الماجنة جعلت المرأة تطالب بالقوامة، وتدعو إلى حقها في تلك القوامة بحماسة مخلصة في أحيان كثيرة، نظرا لما تعانيه في حياتها الزوجية من إحساس مرير بخضوع غير مبرر لزوج لا يجسد لها القوامة التي تأنس لها نفس المرأة وتركن وتجد فيها الدفء والحماية والروح الرضية، إذ قرينها شخص مهين ولا يملأ العين ولا يفي بالحقوق الزوجية..
وكل ذلك ناتج عن حال افتقاد رابطة الزواج لشرط الكفاء الذي أكده النورسي.. الكفاء في شتى المستويات ..
لقد ميعت الأخلاق الغربية والحياة المعاصرة الجانحة نحو التخنث، سجايا الرجولة في الشباب والذكران، وكانت انعكاسات ذلك التميع سلبية على علاقة الرجل والمرأة، الأمر الذي أوقع المجتمعات الإسلامية في إشكال المطالبة بما أسموه المساواة ..
وقد زاد من تفاقم وضع المتغربين - من حيث أقروا بالنقص إزاء زوجاتهم وكتعويض عن تقصيرهم وقصورهم حيالهن - أن باتوا من دعاة إقرار قوامة المرأة .. كل ذلك ضمن أجواء عالمية تتربص بالإسلام وتكيد له وتعمل على تقويض دعائمه من الداخل، والدأب على تهييج الطوابير النسوية ومن سار في فلك (الفيمينيزم)(1) قصد ضرب الأسس السماوية لروحية المسلمين..
ومن الثابت أن شعارات حقوق المرأة في المجتمعات الإسلامية أمر قد تبرره - من بعض النواحي - الأحوال الانحطاطية العامة التي يعيشها الإنسان. لكن المؤكد أن هذه الحقوق مصونة بالتشريع الإلهي الذي لا تستطيع الاجتهادات مهما استنارت أن تجد في ما سن الله للمرأة وقنن إجحافا أو جورا أو إلحاقية مهينة ..
__________
(1) مصطلح LE FEMINISME يقصد به تيار منادي ومدعم للمرأة كمحور مدني ومرجعية قيمية، وهي تعاكس المذهب الرجالي والنظرة التقليدية للأسرة والأخلاق..(13/155)
وينبغي أن نسلم بأن الجلبة الشعاراتية الدائرة اليوم حول حقوق المرأة إنما هو أمر يندرج ضمن غلبة تهريجية غربية غايتها تكريس التنميط الثقافي والحضاري من أجل ضمان البقاء ودوام الظهور لحضارتها..
والمؤكد أن التطورات التي ستؤول إليها الجنوحات المدنية الراهنة سوف تنتهي بها إلى الطريق المسدود، وستجد البشرية نفسها حتما تعود يوما إلى الناموس الأعلى تأخذ بتعاليمه..
وفي ما يخص المدنية الإسلامية فالمؤكد أن المرأة ستكون خير مدافع عما أقر الله لها من حماية وصون، ذلك لأنه لا خيار آخر لها يرقى إلى مصونية القرآن، ولعل ما ترى عليه الآن المرأة الغربية في أرقى الأصعدة، من تدهور خفي ومعلن، ومن شيئية، لخير دليل لها على سمو شأنها في ظل القرآن..
وإذا كانت المدنية الغربية الراهنة قد أشاعت ذوق العري وخلقية السفور، وذهبت في هذا السبيل إلى أبعد الحدود، فلا جرم أن انعكسات ذلك الوضع قد عادت بالويل والثبور على المرأة ذاتها.. إذ انبخست ولم تعد مناط إلهام وإعزاز ظلت تحوزه طيلة العصور..
لقد بات هذا المخلوق الأنثوي الذي طالما أحلته الفطرة محل الحميمية والجذب والإعلاء، مجرد متاع يتبذل على نحو مكشوف تتأباه حتى الحيوانات بسليقة الحشمة والتستر التي جعلها الله ناموسا تنقاد إليه المخلوقات بغريزتها ..
وتلك بعض وجوه الحكمة التي أقام الإسلام عليها مبدأ الحجاب .. إذ بالحجاب تتكرس للمرأة النضارة والطهر والجاذبية الملهمة وليس فقط الوازع القذر كما هو حال المرأة في مدنية الغرب اليوم.
العزوبة وروح المسؤولية حيال القرآن وخدمته(13/156)
" في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تغير منذ أربعين سنة فدائيون يضحون بكل ما لديهم قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل حتى إذا استدعى الأمر بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي مع علمي بأنه سنة نبوية، بل لو وهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطرا إلى التخلي عنهن جميعا من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة وتدير مكايد خبيثة فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.
وقد أفتى علماء منكوبون وأناس أتقياء لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر الموالين لها من جراء هموم عيش أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء في المدارس وتبديل الآذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون، لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنه سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض، إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة، فلقد وجد علماء أدوا السنة النبوية أنفسهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وترك قسم من السنن والفرائض في غضون هذه السنوات الأربعين" (1).
إن الأعداء يغيرون علينا دائما وقد حلقوا لحى بعض أحبائي، فأدركت عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وأنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلقا اللحية وحلقت، لكانت رسائل النور تتضرر ضررا بالغا، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت" (2).
12- الفقه الأكبر
__________
(1) سيرة ذاتية 494
(2) سيرة ذاتية 496(13/157)
مصطلح الفقه في فكر النورسي تتشرع دلالته ليس فقط لتمس مجال المعرفة أو الفهم الاجتهادي، بل إنها تتسع لترادف زيادة على ذلك معاني الاستيعاب والتمثل والاستشراف. استيعاب الظواهر وتمثل الوقائع واستشراف المغيبات والاحتمالات..(1)
ويمكننا أن نربط نطاق هذا الفقه بما انجزته رسائل النور في مجال الثبات الروحي والمدني والإنساني، من حيث شاء النورسي أن يتخذها مدونة مرجعية تستلهمها الأمة أنوارا تسترشد بها على الطريق.
فالرسائل هي مدونة هذا العصر بلا منازع، وهي ليست بدعا في مضمارها الترشيدي الشمولي، إذ الأمة طفقت تعتمد المدونات وتحيل عليها توجهاتها ومقتضيات واقعها المتجدد .
وإذا كانت كتب الصحاح قد شكلت أساسا هرميا في مجال التدوين الفقهي والشرعي الإسلامي، فلا شك أن كثيرا من الأعصر قد حازت مدوناتها التي أعدها متنورو الأمة وسعوا من خلالها إلى حفظ الكيان من دواهي الزمن ودواعي الانحطاط..
لقد كان كتاب الموطأ وما تلاه من الكتب الشرعية معالم الإحالة الفقهية التي حصنت الأمة من الضياع .
__________
(1) ننوه هنا بالبعد الحداثي والواقعي الذي أخذه مشغل الفقه الأكبر عند النورسي، فقد تجاوز بهذا الحقل الإطار التقليدي المحصور في مسائل الفقه والتشريع التي ظل الفقهاء القدامى يتناولونها... إنما الجديد عند الأستاذ النورسي في حقل الفقه الأكبر أنه خرج بالعقل التشريعي من الإطار التقليدي ليواجه مسائل ونوازل حضارية تهم الإنسان المسلم في واقعه الراهن والمستقبلي. ألم نجده ينافح عن مسائل أثبتها العلم من قبيل دوران الأرض ويتصدى للفقهاء التقليديين، وقصده تحريك العقل المسلم ليكون متوافقا مع زمنه وعصره. ذلك هو شيء من المضمار المعرفي الذي شاء الأستاذ النورسي أن يؤصل فيه مباحث الفقه الأكبر.(13/158)
ورسائل النور لا تخرج عن هذا النطاق التحصيني، وإن تميزت بروحها الفقهية الأكثر لصوقا بحاجات الإنسان المسلم الجديد، لا سيما وهو يخوض إشكالية التعويم الثقافي والحضاري على نحو آني ومباشر وعضوي مدمر.
وإذا كانت المدونة القدسية الأم لدى المسلمين هي القرآن العظيم، فالذي لا جدال فيه هو أن مدونة رسائل النور هي تفسير ألمعي للقرآن، تمرست معانيَه المحكمة والمتشابهة وفقهت تصريحاتِه وموعزاته بنباهة مفتوحة على الآتي وعلى الاختلاف والتنوع ، وهو ما حول رؤاها، ليس فقط إلى قراءة تتهيأ لحيازة المعنى القرآني الماثل للعيان والمتصاقب مع وقائع الراهن، ولكنها إلى ذلك رؤى تضع في خلدها إمكانات القابل والملائم والتسديد .
فهي من ثمة تبني تقريراتها على منطق استشرافي لا يهمل المستقبل ولا يغفل هامش الاحتمالية. إنها بذلك الجهد ارتقت إلى صعيد الاجتهاد والفتوى القائمة على روح وفقاهة جليتين.
ويمكننا أن نقول إن مدونة الرسائل، من حيث هي فقه أكبر قد استوعبت في ثناياها مجالات الحياة والاجتماع بصورة شمولية : ويمكننا في عرضنا الوجيز هذا أن نكتفي بالإشارة إلى ميادين معرفية ومنهاجية تناولتها الرسائل من منظور رؤيوي فقهي سديد.
السياسة من منظور الفقه الأكبر
لقد تعاطت الرسائل موضوع السياسة من منطلق تفكيكي تجاوزي،إذ مكنتها الرؤية الخارجية غير المتورطة في ملابسات الواقع، من أن تقوِّم حقيقة الفعل السياسي، وتحدد طبيعته، وتميز مستواه ..
فالفعل السياسي النوري مثبت في الرسائل لا كرد فعل اعتراضي سلبي، ولكن كجهد أخلاقي وكاِنقلاب جذري يؤسس علاقة جديدة وأبجدية بديلة للحدث السياسي التقليدي.
إنه الفقه الأكبر والخدمة الروحية الدائبة في الإنجازات. وإن ساحته تتجاوز نطاق السياسات الدنيوية المقيدة بصورة جلية بالحاضر والغارقة في أوحال مناوراته .(13/159)
فالفقه الأكبر جهد شمولي يرسي رؤية إيمانية تراهن على ربح الأشواط انطلاقا من توجيهات رب العالمين.
من هنا كان الفقه الأكبر سياسة مستقبلية مغايرة ونقيضة وطاهرة وتدرج في حسابها وبصورة جوهرية تبعات الحساب والعقاب، من حيث كون الحساب والعقاب أقوى ضابط يصون الإنسان من الزلق والانحراف..
مارست الرسائل السياسة وخاضت فيها، ليس بمنهج الكواليس ولكن بمنهج الترشيد القرآني فنازلت السفياني. واستمالت ذوي القابليات من غير ختل، وسكنت العواطف المتهيجة، ورفعت شعار: حسبي الله في وجه العتاة، وزرعت الحقل بما ستملأ ثماره سلال الإسلام في وقت قابل، طال الزمن أو قصر.. لقد اختارت أن تعمل على نقيض عمل أهل الدنيا، إذ اختاروا الاستماتة في السعي للظفر بالعاجل الآني، واختارت هي العمل المتأني، لكنه العمل الراسخ والمنوط باستنبات أشجار مثمرة تصان وتسقى وتحاط بالرعاية والتعهد سنوات قبل أن تجود بثمارها .
السياسة الحاضرة ختل ونفاق ومناورة وصفقات تراعي المصلحة الخاصة، وتكتيك ظرفي، مرحلي، منطقه المفضوح : إذ مت ظمآنا فلا نزل القطر.
والسياسة من وجهة الفقه الأكبر هي العكس من ذلك كلية. فهي وضوح لا تمويه فيه، لأنها تستند إلى برنامج أخلاقي ومبدئي هو القرآن العظيم. وهي أيضا صراحة ومشاورة واتفاق ورؤية بعيدة لأنها محكومة بخلق، ثابت لا يتغير ولا تؤثر فيه الظروف.(13/160)
على أنه يمكننا حوصلة منهج هذه السياسية في الآتي : الخيار السلمي المدني للخدمة والعمل - الجماعية في العمل والتنفيذ - توسيع نطاق الخدمة ليشمل قطاعات المجتمع الحيوية - ربط الجماهير ببرنامج عمل ثابت الأركان بعيد الاستشرافات هو القرآن المتجدد روحيا بتجدد الأجيال، فهو من ثمة معطى سماوي غير قابل للتجاوز، إذ هو منزول رباني نصيته فوق العقل وليس العقل فوقها، على أن النصية لا تعني الحرفية فقط، بل تعني أيضا التنزل والتنزيل الذي لا يجرد الدلالة القرآنية من إشعاعها الخصب المستوعب لكل جديد.
استقطاب النخب والطليعية أمر حيوي، ولكن ليس على أساس احترافي، بل تطوعي ذاتي محض، وفي هذا النطاق يتحدد دور المرأة بصورة أساسية، ليس بصفتها عضوا عاملا فقط، ولكن كعصمة وتسام وإرادة غير قابلة لأن تتردى وجُنَّة يتقي بها المجتمع مخاطر التدمير .
فالمرأة النورانية طاقة ملهمة وجهد ملائكي مبارك، من هنا لا يقتضي منها وضعها كامرأة أن تتقبل الاقتران إلا بمن يكون في مستوى من القوامة ليتواصل جهدها القرآني ولا ينقطع، كما لا يجب إغفال إمكانية التأثير الإيجابي الذي سيكون لها على رفيق دربها إذا ما أفلحت في استنقاذه من الضلال. وجوب التجاوز بالخدمة القرآنية ونشر الإسلام النطاق النظري إلى مستوى التأثير البليغ والاستقطاب الناجع، وهذا بالارتقاء المادي والمدني.
المستوى التربوي من منظور الفقه الأكبر
اتسمت رؤية الفقه الأكبر في حقل التربية والتعليم بمحورية ناجزة وعملية تقوم على:
* التحديث المعرفي وهذا بإدخال كل مادة علمية يثبت أنها عامل مفتق لذهن المتعلم، ومَرْفَدٌ علمي مقوي للمحصول المعرفي لدى المتعلم.(13/161)
* الاختيار: وهذا بفرز المواد التعليمية، بتنقية البرامج مما يكون ضمنها من مواد لا تفيد العقل، أو بالأحرى التي يغدو تعاطيها التحصيلي يشكل عبئا على الذهن وعائقا لا يفيد، شأن الفلسفة الميتافيزيقية القديمة، فهي مادة لا يرى النورسي لها مكانا في المنظومة التعليمية المهذبة، ويمكن أن يقاس عليها سائر المواد التي يثبت أنها لا تخدم الشخصية التعليمية أو لا تجاري الكشوف العلمية المستجدة، إذ التطور العقلي يفرز باستمرار مجالات معرفية جديدة، وهو ما يقتضي من المنظومة التربوية أن تتهيأ لاستيعابها إذا ما رأت فيها الجدوى والمردودية العقلية والتطبيقية لدى الطلاب .
* العامل الزمني التحصيلي : كما راعت وبصورة جلية العامل الزمني والنصاب الذي يستغرقه التعليم، إذ أن ضبط المدة التي يسلخها المتعلم في التحصيل أمر مهم، لذلك أخذ المنهج النوري الجديد أمر النصاب المرحلي التعليمي بعين الاعتبار، وجعل من إختزال مدد التلقي والتعلم مبدءأ أساسيا، وهذا لصالح التلميذ أولا، ولصالح الأمة والمرافق التعليمية التي تحتم عليها وظيفتها التكوينية التوسع واستيعاب كل المتمدرسين. وإن من شأن اختصار المدد الزمنية ليساهم في تفريغ التلميذ والطالب باكرا، وإتاحة الفرصة لغيره، فضلا عن التثمير الفعال الذي يهيئ التلميذ والطالب للعمل ومباشرة البحث والاندماج في الحياة على نحو مبكر وباستعداد. وهو ما لم تراعيه نظم تعليمية قديمة تميزت مناهجها بطول المرابطة والتلقي المعرفي الاجتراري التكراري..(13/162)
من جهة أخرى أكد الفقه الأكبر على أهمية تطوير البيداغوجية وأساليب التدريس والتوصيل المعرفي، فالنورسي الذي أساءه كثيرا أن يرى وعاظا ومرشدين عاجزين عن توصيل معارفهم إلى المتلقي، حرص على أن يلفت الانتباه إلى هذا الجانب الحيوي والذي تتوقف عليه بقية الشروط التي أناط بها تحقيق الرؤية التعليمة في كليتها. فمن شأن النجاعة في التدريس والتوصيل، أن تيسر مهمة الاستيعاب على المتلقي، وتجعله يستزيد بدون كلل أو نفور من المواد التي يشملها المنهاج التعليمي المقرر، الأمر الذي يسرِّع من آلية التكوين ويجعل نتائجها إيجابية ليس إحصائيا فقط، ولكن نوعيا وتمثليا، فالمادة التعليمية التي يفلح المنشط في توصيلها إلى الأذهان بمهارة لا تعنت الملكات والقابليات، وهي مادة سيتوسع بها الذهن وينمو العقل وينشط الاستعداد، على عكس المادة التي تستقر في الذهن بعد مشقة وعلى نحو تلقيني غير نضيج، فتلك ستغطي حيزها في مساحة الذهن دون أن يستفيد منها العقل كثيرا، من هنا كان أسلوب التحفيظ المستغلق، الذي لا يقوم على قاعدة الفهم والإفهام، أسلوبا يدمر الملكة، بل وربما يسيء حتى للذاكرة، إذ ملكات العقل متراسلة ونشاط بعضها ينعكس على البقية جدليا.
النورسي رأى من جهة أخرى وجوب اتباع نهج التخصص، فحيث أن المنظومة التعليمية تتوسع باستمرار، وموادها تتكاثر على نحو مطرد، فلا أحسن من أن يعمد التعليم إلى اتباع نظام التخصص، لاسيما على مستوى الدراسات العليا، إذ لا يفيد كثيرا أن نرسي نظاما تعليميا عاما من غير أن تمتد له التخصصات، وينبغي لنظام التخصص أن يركز - تبعا للاختصاص - على مواد محدودة أساسية تدخل في لب الاختصاص، وعلى أخرى جوارية تكمل الأساسية وتكون محيطا معرفيا لها، يساعد على تكميل رؤية المتخصص وتوفير المجال الهامشي الذي يتيح لرؤيته التحصيلية المركزة أن تستوفي حقل اختصاصها على ذلك النحو الكامل.(13/163)
* كما حرص النورسي على إبراز أهمية التجهيز، إذ أن التكنولوجية تفرز باستمرار تجهيزات آلية ووسائلية من شأنها أن تفيد حقل التعليم، ولذا يتحتم على المنظومة التربوية أن تدمج كل وسيلة تعليمية مفيدة في هيكلها، لقد رأيناه ينوه ويكيل المديح والإشادة بجهاز الرونيو، لما وجد له من أهمية عملية على بث العلم وتوصيله إلى الأقاصي ونشر المعرفة بين الناس، ونفس الإشادة عبر عنها - في صورة حمد واستطراف - لدى ظهور المسجلات الميكروفونية، فلقد رآها وسيطا تقنيا على درجة عظمى في التوصيل وتعليم الناس، بل لقد رأيناه يحدد للراديو، لدى ظهوره مطلع القرن، وظيفة تعليمية فعالة، قدر أن مردوديتها ستكون باهرة، لولا أن الناس انحرفوا بهذا الوسيط إلى مجالات الترفيه بل والإغواء.. لقد ظلت رؤية النورسي التربوية رؤية تكنولوجية، إذا صح القول، فقد كان يهمه أن تختصر المراحل التحصيلية في زمنية مضبوطة، بل لقد رأى أن امتياز منهاج النور كونه يعطي الطالب أو يهيئه لأن يتلقى في خمسة عشر يوما ما كان يتلقاه في السنوات العديدة بخطا المناهج التعليمية العتيقة.
على أن منظور الفقه الأكبر يضع في حسابه شرطا مركزيا يتمثل في محورية المنهاج، بحيث يكون القرآن منطلق المواد ومنتهاها، إذ لابد من جذع مشرك، ومن قاعدة تحصيلية ينطلق منها المتمدرسون، وهذا الجذع المشترك لا يكون إلا القرآن العظيم، فهو كتب لا كتاب، يستوعب مواد الجمال والفلسفة والتاريخ والذرة والرياضة والعلوم والفلك والبحار والحضارات والمستقبليات..، وعلى المدرس أن يتخير منه لطلابه ما يتلاءم مع برنامجهم، وعلى المواد التعليمية الحديثة أن تتفاعل على صعيده بنظرياتها وكشوفها وأن تواجه نتائجها مع الناجز القرآني، وذلك ما يوطد قابلية الإيمان في النفوس بصورة مكينة لا تتزعزع.
الفقه الأكبر فاعلية معنوية ناجعة(13/164)
من الواضح أن مساحة الفقه الأكبر في رسائل النور قد توسعت من خلال مساحة الاهتمام الذي كان النورسي يخصصه لمتابعة شؤون الدعوة والأتباع وتسديد المسيرة ورسم أبعادها ودمج الفيئات في صفوفها. من هنا وجدنا الرسائل تنهض بجهد معنوي ترشيدي لفائدة الجماعة النورانية، من حيث رفع معنوياتهم وتقوية إيمانهم وتثبيت خطاهم.
ويندرج في هذا الصدد ما رأيناه من تفتح رؤية الفقه الأكبر على تفعيل البعد النفسي التعزيزي في رفع إيمان الأتباع، من ذلك مثلا، ما قررته الرسائل من أمر ثبات المحصول الإلهامي والمردود الكسبي المعنوي وحتى المادي الذي يغنمه طالب النور في حياته قبل مماته :
" فلقد ثبت بالتجارب أن الانشغال برسائل النور سواء قراءتها أو استقرائها أو كتابتها يورث الفرح للقلب والراحة للروح والبركة في الرزق والصحة للجسد"(1).
وجلي أن مثل هذه التحفيزات لم يكن القصد منها دعائيا سافرا يراد به التنويم أو التدجيل أو .. بل الغاية كانت الأخذ بيد الأتباع وتجاوز كآبة الظروف القاسية التي ظلت تميز المسيرة، وبث مستوى روحي من ثقافة الكشف التي هي جزء مركزي في الخدمة القرآنية، من حيث ارتكاز كل المسعى النوراني على قاعدة الإخلاص .. لقد عاش النورسي في حياته روحانيا يترسم توفيقات الله في كل ما يتحقق أو يعرض له.. وكان إيمانه ثابتا بوجود تلك اللطائف التي لا يفتأ يخص الله بها عباده ويثمن بها صِدِّيقيتَهم. من هنا كان يكشف عن بعض ما يحصل له في حياته الخاصة، حملا للأتباع على المضي في طريق الصبر والمجاهدة والكسب المعنوي العميم.
__________
(1) الشعاعات 530(13/165)
وبنفس الروح، ومن نفس الرؤية نجد النورسي ينظر إلى السجن على أنه "مدرسة يوسفية" لا يكون نزيلها إلا على موعد مع الفلاح الإلهي والدنيوي، تماما كما كان سيدنا يوسف عليه السلام على موعد مع كرامة ربه ورحمته. من هنا ألفينا النورسي يشيع تلك الروح الاستبشارية التي ساكن بها السجن، إذ ظل يطابق بين أحواله وأحوال أتباعه من المساجين وبين حال يوسف عليه السلام. وكان ذلك يخفف من العناء، بل ويجدد الإيمان. وكانت نتائج تلك المصابرة الإيمانية باهرة، لأنها مكنت للدعوة القرآنية من أن تعم الآفاق، وأثبتت للنورسي وطلابه الطلائعيين الأجر والخلود.. كما أن تعليمية الفقه الأكبر قد توسعت بمنظومة من الوصايا التي كفلت للدعوة النجاح والسلامة، إذ عززت تلك التعاليم روح التأهب ومنهج المواجهة : "علينا الأخذ بالحذر الشديد وعدم إبداء القلق وانتظار العناية الالهية بالتوكل لتمدنا" (1).
لقد كانت الرسائل - من خلال منهج الفقه الأكبر - تتعهد روحية الجماعة النورية، وتبدد الغمائم الملبدة التي تغشي سماء حياتهم نتيجة السياسة السفيانية المناهضة لهم وللقرآن، فمنهج الفقه الأكبر كان لا يغفل حتى النطاق الحياتي المعيشي للأتباع، ليس عن طريق بث المغالطات والأوهام أو التنسية أو بث الوعود الكاذبة كما هو شأن الساسة وأهل الدنيا حين يستغفلون الجماهير بمثل تلك التلفيقات التي لا طائل من ورائها، بل لقد كانت الرسائل تشهر أمام أولئك الأتباع حقائق روحية لا يسعهم إلا أن ينتبهوا لها ويغنموا منها ويتزودوا من بركتها.
لقد كانت روحية الفقه الأكبر تحوز مفاتيح الخزينة الربانية، وما أسرع ما كانت تلقي بالعطايا بين يدي الأتباع، لكنها عطايا لا تسد الحاجة الوقتية، بل إنها تكفل الرخاء الواسع لمن كان حظه من الإيمان عريضا..
__________
(1) الشعاعات 533(13/166)
لقد ألفينا النورسي يوجه أفكار الأتباع نحو باب الله وخزائنه الملأى.. وبدل أن يشير على من كان يشكو الضائقة المادية بالكد الدنيوي - فذاك أمر طبيعي - رأيناه يلفته إلى كنوز الروح والعبادة والإجهاد القلبي،لقد كان النورسي يرتفع على ذلك النحو بالمشاعر إلى صعيد الروحانية ويهيب بالنفوس إلى أن تغنم من مكاسب غيبية تورث الغنى والرفاه المعنويين، ومن شأن ذلك الغنم أن يهون من أعباء الواقع ويخفف من غلوائه ويبرد من استعاره.
لقد وجدناه في بعض مواقف الترشيد مثلا، يواجه تحمحم الأتباع ممن كانت تلح عليهم وطأة العيش وهمومه، ببيان نفاسة الموسم الفضيل الذي كانوا على أبوابه، إذ راح يهيئهم لاغتنام سانحته من حيث مضاعفة الثواب والحسنات بمضاعفة العبادة. لقد طفق النورسي يقرن مكاسب الثواب التعبدي بخدمة الرسائل، إذ لخدمتها مقابل من الثواب والأجر.
الفتوى في منهاج الفقه الأكبر لا تأخذ صبغة الفذلكة المدرسية التي تستهدف التحصين داخل رؤية العرف التشريعي بصيغه التقليدية المتداولة والتي يحذقها ويشغف بها طلاب فقه النوازل ممن تمرسوا في تقسيم المواريث والتركات.. بل هي واقعة تَصْرِف الذهن وتحشد القوة نحو أفاق مدنية فاعلة .. فالفتوى لا تعزز سكونية الفرد، ولا تعمل على إضفاء ذلك التسويغ الروحي الذي يجعله يعيش مستوى من الانسجام مع الذات والمحيط، فالرؤية الشرعية بهذا الوجه تجاوزت إطار التقييد الذي كانت تقتضيه ظروف الانحطاط والمدفاعة، لتضحى رؤية إطلاق ومواجهة، إطلاق مسخر لغاية أبعد مما تراعيه حسابات حفظ الذات والعقل والنفس والمال، لأنها استوعبت كل هذه الكليات ضمن روح انبعاثية ملية شاملة.(13/167)
يمكن لدارس الرسائل أن يحصي منظومة متكاملة من الأحكام والإستحبابات التشريعية التي أقام عليها النورسي قاعدته الفقهية في ترشيد الأمة وهي تواجه طوارئ الانبعاث..(1)
لا يسعنا استعراض الجوانب التشريعية الكثيرة التي تضمنتها الرسائل، والتي غطت حقولا حياتية واسعة، ولكننا سنتوقف عند شاهد واحد نسوقه كمثال على مقاصد النورسي التجنيدية :
فمن فتاوى الفقه الأكبر رأيه في الزواج وموقفه منه وهو ما رأيناه في غير هذا المكان.
لقد ألفيناه يوجه المرأة المسلمة إلى أن تختار العزوبة على أن تتزوج بمن يعنتها في دينها:
" فيجب إذن أن لا تدفع المرأة إلى الزواج أحاسيسها ودوافعها النفسية وميلها الفطري" (2).
وتتسع مسطرة الفقه الأكبر فتضع الرأي العملي الذي من شأنه أن يضمن كرامتها ويصون عقيدتها :
" إن المرأة محتاجة فطرة إلى من يعينها في أمور العيش لضعف في خلقتها، فمن الأولى لها أن تسعى لكسب نفقتها بنفسها - كما هي الحال لدى نساء القرى - وذلك أفضل له بعشرات المرات من أن تدفعها تلك الحاجة إلى الرضوخ لسيطرة زوج نشأ على تربية غير إسلامية - كما في أيامنا الحاضرة - واعتاد على الإكراه والفساد، وربما تحاول الزوجة كسب رضاه بالتصنع وبالاخلال بعبادتها وأخلاقها التي هي مدار حياتها الدنيوية والأخروية، كل ذلك لأجل تلك المعيشة البسيطة الزهيدة " (3).
هكذا تمتد مبادئ الفقه الأكبر على وعي يدرك طبيعة الواقع ومقتضياته وسجالاته الراهنة والمستقبلية، وكل ذلك ضمن وازع تجنيدي يعزز المسيرة ، دون أن تغفل في كل ذلك عن لفتها النظر إلى جوانب ربانية ألف الإنسان أن يغفل عنها، فلا يسعد في حياته ولا يظفر بغير الشقاء الروحي ..
__________
(1) هل نعد بأننا سنفرز منظومة التشريع كما تضمنتها رسائل النور ونقدمها في صورة مدونة مبوبة ؟ الفكرة تلح علينا، والنية معقودة إن شاء الله.
(2) الملاحق 341
(3) الملاحق 342(13/168)
لقد نهضت الرسائل من خلال منظورها العملي والتجنيدي ومن خلال منهاج فقهها الأكبر بمسؤولية صون المسيرة والشد على يد الأتباع بشفقة وإخلاص وتسديد، وهو ما كتب لها أن تكون على موعد مع هذا النجاح الذي يعرفه النورانيون في كل مكان.
يقول النورسي :
"إن وظيفتنا العمل للإيمان والقرآن بإخلاص، أما إحراز التوفيق وحمل الناس على القبول ودفع المعارضين، فهو مما يتولاه الله سبحانه، نحن لا نتدخل في ما هو موكول إلى الله، حتى إذا غلبنا فلا يؤثر هذا في قوانا المعنوية وخدماتنا، وينبغي القياس وفق هذه النقطة، فقد قيل لجلال الدين خوارزم شاه وهو القائد العظيم في عهده: ستنتصر على جنكيزخان .
فقال : إن مهمتنا الجهاد، أما جعلنا غالبين أو مغلوبين فهذا ما يتولاه الله ولا أتدخل أنا فيه " (1).
لقد كان الفقه الأكبر مستوى تأخذ فيه الأشياء قيما أخرى فوق عادية، من حيث كونه ديناميكية تعيد الاعتبار للمفاهيم والظواهر والمعطيات.. فهو المنهجية التي واجه بها النورسي الطوارئ، لذلك رأيناه يعطي لكل حال تعرض، قراءة لا تركز بالضرورة على كشف ما تحمله تلك الحال من سوء، بل الحرص كان موجها لبيان الجوانب الإيجابية والخيرية والحافزة على الصمود في كل ما يواجه النفس من تكبيلات..
لقد كان الفقه الأكبر روحية التفاؤل التي يستضاء بها الطريق ساعة اكفهرار وجه الظلمة، وكان البصيرة التي تترسم النفس في ضوئها المعالم والآفاق المستقبيلة.
الفقه الأكبر : محاذير التحفظ والحيطة عبر الطريق
" ففي هذا الزمان تأتى الضلالة من العلم " (2).
إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه وبإظاهر الإسلام محبوبا وساميا لديهم، وذلك بالامتثال الجميل لأوامره وإظهار الأخلاق الفاضلة، أما الإكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين " (3).
__________
(1) الملاحق 345
(2) الملاحق 235
(3) سيرة ذاتية 98(13/169)
" لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الخلاف إزاء هذا العدو اللدود " (1).
" إنه لا يليق قطعا بالمؤمن الحصيف ولا بوظيفته المقدسة في هذا الوقت أن يهمل الذين ينزلون ضرباتهم القاضية بالإسلام فعلا ممن يستحقون اللعنة والذم بألوف المرات ويذهب إلى أزمان غابرة ليتحرى في الأحوال التي لم يأمر الشرع بالتحري فيها والتي لا جدوى منها ن بل فيها ضرر" (2).
" إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والنقاشات دفعا لعدوهم المشترك المتعدي " (3).
"إن التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى الضعف الأمة،
والضعف يغري العدو فيكم، ويشجعه عليكم، ولا يوقفه عند حده "(4).
التواصل البناء(5)
والتثمير الايجابي لمعارف ومنجزات الآخر
من منظور رسائل النور للنورسي
"إن معاصريي - مع الأسف - وإن كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري، إلا أنهم تذكار القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي، وكأنهم فهرس ونمودج وأخلاط ممتزجة لعصور خلت - من القرن الثالث إلى الثالث عشر الهجري - حتى غدا كثير من بديهيات هذا الزمن مبهمة لديهم" (6). ... ... ...
__________
(1) الملاحق 296
(2) الملاحق 298
(3) الملاحق299
(4) المثنوي 204
(5) أعددت هذه المداخلة للمساهمة في ملتقى وجدة بالمغرب ( حوار الشرق والغرب من خلال رسائل النور) بتاريخ أبريل 2000. ولم أتمكن من إلقائها يومذاك لعوائق خاصة.
(6) صيقل الإسلام 24(13/170)
" إن الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزل عليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حياة حريتكم في صحراء الجهل هذه إلى الناهبين، أو عليكم أن تهرعوا إلى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر مستردين أموال الاتفاق التي اغتصبها الأحنبي.
ثم إن الملية الإسلامية التي نصبت خيمتها في وديان الماضي وصحارى الحاضر وشواهق المستقبل، واستظل بها أجدادكم من أمثال صلاح الدين الأيوبي وجلال الدين خوارزم شاه والسلطان سليم وخير الدين بارباروس ورستم زال، ومن شابههم من القواد الدهاة الذين تشرف كل بمنزلة الآخر فعاشوا معا كعائلة واحدة.. هذه الملية الإسلامية وهي مثال الحياة الرفيعة تأمركم أمرا جازما: على كل واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة للاسلام وحامي ذماره ومثالا مشخصا للأمة الإسلامية، إذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والأخلاق تتسامى وتتكامل بغليان الحمية الإسلامية"(1).
النورسي ودواعي التواصل وأوجهه بين الملية الإسلامية والعالم الغربي
لابد لنا، ونحن بصدد طرق موضوع "التواصل بين الملية الإسلامية والعالم الأوروبي الغربي" كما تمثلها النورسي، أن ندرك أن الظروف التي تم فيها تواصلنا مع الغرب، لا سيما في مطلع هذا القرن، كانت تختلف تمام الاختلاف ، وعلى جميع الأصعدة ، عن واقعنا الراهن ونحن نجتاز بسرعة مذهلة عتبة الألفية الثالثة.
لقد انفتحت يومذاك، وعلى أصداء المدافع والقذائف والالتحامات الضارية، صفحة في سجل البشرية ، لتخط عليها أقلام الاستعمار متونا من العار والمقترفات التي لن تنساها الإنسانية.
__________
(1) صيقل 464(13/171)
لقد كان القرن المنصرم قرن الاستعمار الغربي المباشر. وبالنسبة للأمم المستضعفة وفي طليعتها الأمة الإسلامية ، فقد كان ذلك القرن قرن المكابدة (السيزيفية) المريعة، والتحدي الخارق ، والإثابة إلى الوعي المسترجع . لقد كان من قدر الأمة الإسلامية ان تدفع فاتورة فظيعة من التضحيات من أجل أن تزيح عنها كلكل المحتل البغيض ، ولتلقي - بعد ذلك - النظرة على من حولها ، لتحدد موقعها بين الأمم ، ولتتأهب ، بكل ما يثقلها من إنهاك وخور، لاستئناف الطريق. لكن مهمة النهوض تظل جسيمة ولها تكاليفها الباهظة .
فالعدو رابض بالباب، عينه على أي حركة تَنِدُّ ليخنقها في الحال، لكأنما قر في خلده أن حياة الآخرين تعني مواته، لذا استمات في رصد كل نأمة من حياة يلمسها تدب في كيان الآخر، ليعاجلها ويزهقها. لقد شاء الاستعمار الغربي البغيض أن يجعل من نفسه قضاء إعداميا كونيا لا يرحم. لقد زين له استبداده أن يبلور لنفسه في مخيال البشرية، صورة تضعه - بلا منازع - صنواً للموت، عدوا للحياة ، إذ توهم فناءه في انبعاث الآخرين، فراح يترصد كل مظهر ليقظة يتحقق للآخر، فيعاجله في المهد بكل قحة، وتلك هي الفصامية الحضارية التي لا رشد لها، وذلك هو الضلال المبين .(13/172)
ولقد شاء القدر للنورسي - العالم المسلم - أن يكون - في تلك الظروف الكونية المتفجرة - محاوراً للآخر ومصاولاً له وداعية شموليا للسلام والاخوة الإنسانية بعيدا عن التعصب الاستعماري المقيت. فبرنامج الخطوات الست الذي رفعه للأمة على إثر الاحتلال الغربي للعثمانية ، قد باشر فيه النورسي محاورة الآخر وباللغة التي اقتضاها يومئذ انتهاك حمى الوطن وحرمة الدين. بل إن خطبته الشهيرة المعروفة بـ"الشامية" والتي حلل فيها للأمة - قبل ذلك العهد - واقعها الحضاري الانحطاطي وأسباب الاعتلال التي تقعد بها عن النهوض، إنما كانت موقف تحاور مع الآخر أيضا، إذ أن موازنة الحال القائمة وتحديد الموقع الإسلامي الذي آلت إليه مدنية المسلمين في العصر الراهن ، إنما باشره النورسي في تلك الخطبة من منطلق علاقة " النحن " بالآخر الغربي.
ثم طفقت محاوراته لهذا الآخر تتواصل ولكن في صورة إنسانية متسامية، وذلك حين تخيرت رسائل النور لخطابها الترشيدي الأفق القرآني مجال تشخيص وتمحيص وتسديد للإحداث والمصائر، فحديث الرسائل هو حديث للإنسانية قاطبة، إذ هو دعوة إلى الحق من وجهة الحق، ما أحوج الأمة اليوم إلى تدبرها في عصر العولمة والاستعمار الثقافي والتهجين الروحي الرهيب. إن واقعنا الأعزل حيال ترتيبات العولمة تجعل من تدابير الوقاية والتحصين التي بلورتها رسائل النور إجرائية ملحة وحاجة ماسة ، على الأمة أن تأخذ بها في مساعيها من أجل التماسك والصمود في وجه الزوابع الهوجاء.
النورسي الداعية الألمعي(13/173)
لقد تجاوز النورسي بألمعيته القرآنية، المصير المغلق الذي دأب يجرف إليه كثيرا من الشخصيات الإصلاحية والإيقاع بها في مطاويه ، وذلك حين تجافى عن أن يسلك سبيل المرجعية الفردية أو أن ينتصب شاهدا معرفيا مِلِّيا معتمدا بقوة فرض الذات وتكثيف الحركة والحضور المادي أو البروز الأدبي الظرفي. فالنورسي من هذا الصدد يباين سائر الزعماء المصلحين المحدثين الذين عرفتهم البلاد الإسلامية بدءا بالداعية الكبير الأفغاني.
ترى هل يمكننا القول إنه فيما سعى الآخرون إلى إحداث اليقظة بقرع الأجراس ونشر الأصداء في كل اتجاه ، لبث هو - النورسي - يتحرك على رؤوس أصابعه يتناجى مع نفسه، يهمس إليها بما كان القرآن يلقي إليه من خواطر وإلهامات، الأمر الذي انتهى بالشرارة إلى أن تنقدح وتسري سريان الكهرباء من غير سوء في من حوله، الأقرب فالأقرب، إلى أن استنارت الدروب واسترسلت الطلائع تمضي بالحقيقة القرآنية نحو الآفاق..
فالتجرد الخالص هو أس قوة وهيمنة هذه الشخصية الفذة التي قل أن يسلم من تأثيرها كل من يفاعلها - كما شهد بذلك الخصوم أنفسهم - إذ أنه سخر عبقريته، ليس في التجريب النظري الذي لا كبير دور أو إضافة له في الواقع الإسلامي الفعلي إلا توسيع مساحة الهامش الاجتهادي الشخصي الذي دأبت العقلية المسلمة الأمية والمتخلفة تمر عليه ولا ترى فيه سوى رقم آخر يضاف إلى كتلة المدونات الصماء التي لن تجد من يباشرها.
لقد نفذ النورسي إلى مفاعلة الأمة من أكثر المناطات حميمية لديها، إذ جعل من القرآن مادة مدارسته، ودرج – راشدا - على طريقه القويم يتصفح الآيات البينات، ويستبين فيها العلامات والأمارات الدالة على هزائم وانكسارات الماضي والراهن، مستلهما من كتاب الله العزيز ما يصلح الواقع وما يوطد المآل، فعل ذلك باستقراء مبرإ من الغرضية إلا إصلاح الأمة وإعادتها إلى سواء السبيل الذي رسمه لها القرآن.(13/174)
لقد راهن النورسي على المطلق، فكان عربون نجاحه في ما راهن عليه منوطا بمدى تجرده من الحسابات الخاصة، فلما أخلص النية تكشفت له الحقائق وفاضت بها الأودية والشعاب، وعجب هو للأمر أن يجد نفسه موضع إكبار وإشادة متصاعدة ممن حوله .
ففيما كان الناس يشهدون له بالعبقرية والكرامة على ضوء ما كانوا يرون ويلمسون فيه من أنوار فكرية وتفتيقات روحية، كان هو يقر لمن يريد أن يصدقه بأن النبوغ مصروف عنه، وأنه لا يملك من أمر ما يقرر وما يرى إلا الترجمة، فكل ما يصدر عنه إن هو إلا إلهام نابع من محبة القرآن ومن خلوص الصلة التي تجمعه بكتاب الله. وتلك هي حقيقة التجرد وذلك هو الحظ الذي يصيبه أهل الإخلاص والاستماتة.
ترى هل كان الشأن بالنسبة للنورسي - في هذا المجال - شأن بعض أرباب الطرق الصوفية ممن توسع نطاق روحيتهم باتساع رقعة الأتباع والمريدين ؟
لا مناص لنا من التعجيل بالقول إن الفارق بين المنهجين شاسع على مستوى الرؤية والمأثور الفكري والتسديد الحضاري، إذ أن النورسي تجاوز مفهوم الوِردية والمريدية، إذ أعاد النصاب التلقيني إلى الحوض القرآني السلسبيل، الأمر الذي شرَّع الباب واسعا في وجه الجموع العطشى ومن سائر المشارب، حيث بات المتلقي يجد نفسه يتواصل مع الكتاب المبين والسنة الشريفة، وهو ما جعل المفاعلة تقوى على الدوام لارتباطها بالله عز وجل وبالسنة النبوية الكريمة، وذلك ما ولد هذا التجاوب القرآني الخلاق الذي يتملك المرء في حضرة الرسائل، إذ تزايله فصامية الوجود، وتتبدى له أهمية استثمار الحياة من أجل كسب رهان العزة في الدنيا والخلود في الآخرة. فيما جاءت النذر الطرقية الأخرى تكريسا لروح الاستقالة الدنيوية.(13/175)
أو لنقل إنها في رؤيتها لم تكن تضع حساب الواقع في معادلتها إلا من زاوية سالبة، لكأنها تتعجل الفناء من أجل لقاء العالم البرزخي الفذ المنتظر، لأن تعاليم أهل الطريقة وإن قدمت الإطار التوحيدي قاعدة للانتماء الروحي والمرجعية الفكرية والاعتقادية - وهو نفس ما أرسى النورسي عليه منظومته البيداغوجية - إلا أن تعاليم الطريقة قَصُرَتْ عن أن تربط الأواصر بين الروح والمادة، بين الحياة الدنيا والآخرة، بين الواقع المصيري للمسلمين في دار دنياهم، وواقعهم المصيري في الآخرة، ومن ثمة حدث الانفصام في العلاقة بين المسلمين وبين التاريخ ، إذ اختاروا أن يكون مكانهم فيه شاغرا، بركونهم إلى أوهام تأويلية تزهيدية ما أنزل الله بها من سلطان.. الأمر الذي تفاداه النورسي ، إذ وازن النظر وجعل سعادة الدنيا من سعادة الآخرة ، اطرادا على ما قرره القرآن العظيم.
النورسي وخطاب النقمة ورد الفعل
كان طبيعيا أن ينظر النورسي إلى الغرب تلك النظرة الصارمة التي جاءت رد فعل لما ظل الغرب يرتكبه في حقنا منذ الحروب الصليبية من اقترافات.
لقد حملت تصريحات النورسي في مطلع هذا القرن، بل وقبله، روحا ناقمة على الغرب، لأنها أدركت المخاطر والشرور التي لبث الغرب يستهدف بها الأمة ويواصل بها محقها وإعاقتها عن الأخذ بأسباب الحياة والانبعاث.
على أننا من جهة أخرى وجدنا النورسي يُضَمِّنُ خطابه الناقم ذاك جانبا إنصافيا يلفت فيه الأذهان إلى تلك المكاسب الارتفاقية والمعرفية التي تحققت للغرب مقابل انعدام شبه مطلق في التجدد المدني والتطور المعرفي الذي ميز ساحتنا نحن المسلمين بفعل رسوخ ظاهرة الانحطاط بيننا.
فنقمة النورسي على الغرب بهذا الوجه الاعترافي كانت ردة فعل على عدائية ظل الغرب يناصبنا بها منذ أن رأى حضارتنا تستبحر وتتوسع مقابل تقهقر حضارة اللاتين وانطواء رايتهم عن التخوم الجنوبية للمتوسط.(13/176)
بل لقد وجدنا النورسي - وهو يمعن في انتقاد مساوئ المدنية الغربية وفي التشهير بمظاهر تحللها وإفسادها للفطرة - لا يكف عن إبداء الأمل بانفتاح الروح الغربية في يوم ما على الشريعة الإسلامية، ذلك لأنه كان يجد لدى الغرب ضوابط واعتبارات في العمل والتعامل والمثابرة ما كان حريا أن يكون من صفات المسلمين، إذ أن روح الشريعة الإسلامية قد أمرت بالأخذ بذلك النمط العالي والجاد من النفاذ والشمائل الانجازية..
لقد كان النورسي يعي الشر المستطير الذي تحدثه المدنية الرأسمالية في المجتمعات الغربية، إذ كانت ماضية في التغيير من حال الإنسان ، لتزج به في مهالك الأنانية والابتزاز والجحود.
وقد كان يتهيأ للنورسي أن التوغل في دركات الفساد والانحراف من شأنه أن يدفع بالمجتمعات الغربية إلى تلمس العلاج في دساتير السماء، وفي مقدمتها القرآن.
لقد آمن النورسي بهذا المصير الرشيد الذي توقعه لأمم الغرب ولم يستبعد حدوثه. ومما لاشك فيه أن تفاقمات الإنسان الغربي اليوم لا تزال تحتد ، وتطلعاته إلى السماء بدأت تتجلى بشكل أوضح آية ذلك هذا الاستقطاب المفاجئ الذي تأتَّى للكنيسة في العشرية الراهنة ومارسته على فئات متكاثرة من الغرب، والذي لا يؤكد إلا أن دساتير الأرض قد آذنت بإفلاسها، وأن عودة البشرية إلى الله لا محالة حاصلة. ولن يضير المتأمل البصير بعد هذا، أن تكون الاستجابة الغربية الراهنة تطرق باب الكنيسة، إذ ليس يُسْتَغْرَبُ قابلا أن تيمم الوجوه شطر المسجد الحرام، وأن ترسو القاطرة في رحاب القرآن. فالوعي الإنساني متدرج إلى الرشد، سنة الله في الخلق.
النورسي يدعو إلى التغاضي عن عداوة الغرب لنا وتجاوز حال الكراهية إلى بذل الجهد في البناء والانتفاع من معطيات المدنية الغربية
مما لاشك فيه أن النورسي قد بنى نظرته إلى الغرب ، على مستجدات حدس فيها الإطار الذي ينبغي أن تأخذه العلاقة بين المسلمين وبين الغرب.(13/177)
لقد رأى أن استمرارنا على حال النفور من أعدائنا نتيجة ما ألحقوه بنا من أذى أخذ صورته البشعة في الاستعمار المباشر لبلادنا، لم يعد له من جدوى ، ولن يفيد في ما ينبغي للأمة أن تتوق إليه من نهضة تتقوم بها أوضاع المسلمين وينهضوا من ترديهم. من هنا ألفيناه يصرح بوجوب التحول بالأنظار والعواطف إلى جهة المستقبل ، والتغاضي عن الجراحات.
"لقد انتهى عهد العداوة والخصام ، ولقد أظهرت الحربان العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار مريع، وتبين أن لا فائدة منها البتة، وعليه فلا ينبغي أن تجلب سيئات أعدائنا - بشرط عدم التجاوز - عداوتنا، فحسبهم العذاب الإلهي نار جهنم " (1).
وليس خاف في هذا النداء الذي يتوجه به النورسي إلى الأمة، البعد الاستنفاعي المستقبلي الذي يرجو أن تحرص الأمة على إعطائه الأولوية ، إذ أنه يرى أن المهمة النهوضية تتطلب شبه تفرغ تخلص به جهود المسلمين للبناء، الأمر الذي لن يتأتى لهم إذا ما تبددت العزائم وراء العواطف والمشاعر بدل العمل والتطوير.
لابد من رؤية جديدة للذات من أجل إقامة تعامل إيجابي بين الحضارتين.
إن عملية التلاقي مع الغرب الأوروبي - كما يراها النورسي - ينبغي أن تتم - أولا - على مبدإ تصحيحي مزدوج ، يأتيه الجانبان معا، بتغيير الاختلال غير السوي الذي يجسده موقف كل من الطرفين حيال ذاته وحيال الآخر، ذلك الموقف الذي خرجت به الذات الحضارية عن جادة السنن الفطرية وعن القوانين الالهية في كل من العالمين المسلم والغربي.
إعادة الاعتبار للقطاع المعنوي من مقدراتنا الوجدانية.
__________
(1) صيقل 509(13/178)
وفي ما يخص الأمة المسلمة، فإن المهمة أمامها معقدة، أو هي لا تقل تعقيدا عن مهمة الطرف الآخر. لأنها مطالبة بأن تضاعف من الجهد وبصورة جذرية في إحداث التحوير الذاتي، رؤية وموقعا وعلاقة، إذا هي شاءت أن تنبعث من الموات وتستأنف دورها الريادي العالمي. وفي هذا الإطار فإن الجهد الدؤوب لابد وأن يتركز على قطاع تقويم النفس واستنهاض مكونات الذات ، ويقتضي هذا بطبيعة الحال من الأمة أن تولي العناية المستحقة للقطاع المعنوي الاعتباري والمتمثل في المرصود التاريخي والحضاري حيث تبلورت الهوية الملية للمسلمين وتشكلت ماهيتهم المدنية. فتنشيط المخزون النفيس من تراثنا الملي بمختلف فروعه وأنساقه ، من أهم الأصعدة التي تقتضي منا التجنيد الحق ، لما في ذلك من نجاعة وفاعلية في عملية النهوض والاستنهاض.
تحصيف التراث ودمجه في حياتنا توسيعا
لمساحة المرجعية في السلوك والفاعلية
من هنا يغدو ملحا الالتفات إلى التراث وإلى التأسيسات الفكرية والثقافية عامة، من أجل إعادة دمج المحصل التراثي في الحياة ، واستخلاص الطاقة المحركة منه، ضمانا ملحا لتساوق الحلقات ووحدة النسق التي تحمينا من الزلق ومن النكوص. فمن شأن هذا الجهد التحصيفي للتراث أن يمكننا من تصحيح رؤيتنا لذاتنا الجمعية وأن يقوي لدينا الوعي بالمكانة التي تحتلها حضارة الإسلام في مجرى التاريخ البشري، ويذلل أمامنا مهمة إعادة الاعتبار لمكاسبها. ويضمن لنا الكفاية الأخلاقية والإجرائية، من حيث أصالة الفكر والسلوك والرؤية ، بدل التعويل على الوارد والوافد من أخلاقيات ومعايير الغرب غير الملائمة في جل تمظهراتها لبنية أدبياتنا السلوكية.
عقدة الآخر مركبة، لأنها تختص بذاته أولا وبنظرته إلى الآخر ثانيا(13/179)
أما فيما يخص الآخر ، فلا جرم أن العمل التعديلي المطالب به يبدو من الصعوبة بمكان ، إذ هو تعديل ذو طبيعة جوهرية أخلاقية في الأساس. إذ أن التراجح بين كفتي الأمتين: المسلمة والغربية - أو إذا شئنا الفارق الحضاري بين العالم المتخلف والعالم الغربي المتطور - لم يعد كما يتوهم الغرب - ولو إضمارا - تراجحا نوعيا قائما على مزايا عرقية ثابتة تتباين في ظلها خصائل عرق على آخر .. إنما التراجح يرجع في أصله إلى تباعد كمي في مستوى الارتفاقات الحياتية والمكاسب العلمية والمنجزات المدنية ، مردّه الانطلاقة المبكرة للغرب، تلك الانطلاقة التي كان صعيد الارتكاز فيها، هو الناجز الحضاري الذي ورثه الغرب عن حضارات الأمم العريقة وفي مقدمتها الأمة الإسلامية ، إذ بسط الغرب نفوذه على الفضاءات الحيوية الفسيحة في العالم واستغل مقدرات الشعوب التي تمكن من الاستحواذ عليها بالعدوان واصطناع منطق المغالبة..
فالآخر مطالب بإعادة النظر في علاقته مع الغير من الأمم المستضعفة، وبإدخال تصحيح أكبر وأعمق يتأكد على صعيد ذاتيته هو بالذات .
الغرب مطالب بأن يتجاوز محوريته أو لوغوسانتريزميته المرجعية
إن التعديل المنتظر من الغرب ينصبُّ – حتما - على طبيعة العلاقة التي تربطه مع الغير، وعلى ضرورة تجاوز الجوهر الاستئثاري الاحتكاري الذي يطبع تلك الروابط ،الأمر الذي يتطلب التسوية لا على مستوى صلة الغرب مع الآخرين، ومنهم نحن المسلمين خاصة، ولكن من حيث وجوب تغيير نظرته إلى نفسه أيضا. ولن يكون ذلك إلا بالتخلي عن منزلة المرجعية الكونية التي خص بها نفسه، كعرق ومعرفة وحضارة متعالية.(13/180)
إن صفة اللوغوسانتريزمية التي أضفاها الغرب على نفسه قد أضحت مع الزمن عقدة مستفحلة فيه. فالروحية المحورية التي يتصرف بها في تعاملاته مع الآخرين جنحت به إلى أن يلغي - فعلا - الغير من حسابه، فهو في سائر مخططاته وإجراءاته إنما يتحاور مع نفسه ليس إلا. تزيده - اعتدادا وغطرسة - سلبية مرحلية تطبع واقع الآخرين، الأمر الذي جعل عقدة الطغيان تستحكم فيه.. وغدت بذلك الدعوة إلى المحاورة والتحمس للتلاقي والتشارك ، لا تصدر إلا عن طرف واحد، أي الجهة المغلوبة على أمرها..
فالعلاقة مع الغرب كانت منذ البدء علاقة قهر وغلبة.. إذ الكشوف الاستعمارية تمت عن طريق القوة والعنف الغادرين ، وسرعت نتائج تلك الكشوف المادية والمعنوية من دينامية تقدم شعوبه وتطوير مدنيته ، بما نهب وابتز وسرق من خيرات وطاقات وجهود الأمم التي يتجاهل اليوم كينونتها..
الأمم المقهورة وضرورة أن تعمل بكد على تجاوز هوانها المادي والروحي حيال طغيان الآخر
ومن جهة الأمم المغلوبة والمقهورة ، فإن الضرورة النهضوية الملحة تحتم عليها أن تراجع صفحات تاريخها بوعي نقدي بناء.. مسترشدة بالوقائع والتمرسات الماضية والحاضرة ، كي تتلافى أسباب القصور، تحقيقا للقفزة التي تحسم بها وبصورة نهائية صلتها مع الطغيان ، وتتجاوز موقع الدونية الذي ظل يعرضها عبر القرون للظلم والامتهان..(13/181)
ذاك ما شخص به النورسي واقعنا المتردي كأمة أخطأت سبيلها الريادي في عالم أغوته القوة المادية فمضى يضرب بعرض الحائط روح الأخلاق لا يأبه إلا بما يوطد المصلحة لشعوبه، ليس إلا، الأمر الذي يحتم على الأمم المستضعفة، ومنها الأمة المسلمة أن تنخرط بعزيمة جارفة في معركة الانعتاق الحق الذي يعيد إليها كرامتها بين الأمم، إذ أن واقع الضعة والهوان الذي ترسف فيه الأمة المسلمة منذ قرون لم يفقدها فقط عزتها وكرامتها بين العالمين، ولكنه أعاقها حتى عن أن توفر للقطاعات العريضة من أبنائها الحد الأدنى من لوازم العيش والحياة المستورة..
علاقة الندية والكِفاء الحضاري شرط لوقوع التفاهم والتبادل المصلحي المشترك
فمن شأن الانعتاق من ربقة التخلف - في رأي النورسي- أن يخلق العلاقة الكريمة التي ستجمع البشرية على أساس ديمقراطي لا افتئات فيه ولا منة أو تعالي أحد على أحد.. فالندية شرط لا بديل عنه لخلق الروابط الكريمة بين بني البشر.
إذ تصالح الأطراف بعضها مع بعض إنما يرسي قاعدته الصلبة والبناءة إذا ما تم في جو من التفاعل الإيجابي الذي تنتفي معه مشاعر التفاوت والاحتواء التي تسود علاقاتنا الراهنة، حيث يستحوذ القوي على الضعيف ،ويبطش الكبير بالصغير ، ويبطر المتقدم بتفاقم أحوال المتخلف. فمتى ما تحركت ماكينة العطاء والتفاعل الإيجابي في كلا المعسكرين ، ازدادت فرص التلاقي والتبادل المصلحي، وزالت في المقابل أسباب البغي والتطاول ، وأضحى مفهوم الإنسانية مجسدا على نطاق شامل وفعلي ، وزايلته صورته التمويهية الماكرة والمتحايلة التي يصطنعها الغرب اليوم حيال الشعوب المستضعفة استبقاء لسيطرته على العالمين.(13/182)
إن بناء المصير التصالحي المشترك بين الأمم، ووعيها بالمستقبل الإنساني الداعي- وبشكل ملح - إلى التفاهم المتبادل وإلى التعامل الكريم ، لمن شأنه أن يخفف كثيرا من عناء الإنسانية ويكفل لها الانفراج المثمر..إذ البشرية مجتمعة تقل سفينة واحدة، فسلامة البعض تقتضي لزاما سلامة الآخرين ، ولا يفتأ مصير البشرية يتفاقم بعماية الطرف الغالب وضلاله وتجاهله للمخاطر التي تحملها مغامراته وقراراته الأنانية الانفرادية.. فبعد أن محا الغرب من حسابه كل اعتبار للبشرية إلا الاعتبار الكسبي، ها قد استطار شره ليس تجاه الإنسان فحسب، بل لقد طال إلى الطبيعة والإيكولوجيا نفسها ..
لا جرم أن الغرب يدرك أن غرق السفينة سوف يودي بالجميع ، لكنه لا يعتبر ولا يتحوط لذلك، غواية وضلالا.. لقد ارتكزت إدانة النورسي للغرب ومدنيته الدنية كما ينعتها، على سياسة الإهلاك التي يمارسها ضد العالمين ، بشرا ومقدرات طبيعة وإيكولوجيا ، بعيدا عن وازع العقل والشرع الذي لا مجال معه لتبذير أو إسراف أو مجانية..
وليس عجيبا أن نجد تلك الإدانة التي طفق النورسي يوجهها إلى الغرب، تتماس مع جوهر مطالب منظمات إنسانية عديدة تناضل اليوم وبشيء من البسالة في بعض الأحيان، وتشهر نفس القيم القائمة على الرأفة بالبسيطة ، وتدعو إلى التثمير العقلاني الكريم للكون ولخيراته التي كفل الله بها لمخلوقاته جميعا السعادة والكفاية، شريطة أن يستغلوها بالقسطاس. إن الأرض - كما يقرر النورسي - هي مائدة الله العامرة التي وضعها بين يدي مخلوقاته ، فلتنل هذه المخلوقات ، لا سيما الإنسان، من مائدة الله بكرم وعفاف..
"إذ قاعدة الإباحة والضيافة هي التصرف ضمن رضى المضيف. فينبغي التصرف في جميع النعم في الدنيا وفق شريعة المضيف الكريم" (1).
الصحوة وشروط النهوض
__________
(1) الملاحق 93(13/183)
وفي ما يخص خطوات اليقظة والانبعاث، أو تحقيق الصحوة وشروط النهوض، فإن النورسي ، يرى أنه على الأمة أن تعمل على تجديد الوعي بالذات التاريخية وبالمرصود الحضاري المنجز، ذلك المرصود المردوم تحت رماد حضارتنا الغاربة وتاريخيتنا المشلولة..
والأمر عنده - قطعا - ليس الوقوع في مطب التغني الأخرق بالذات كذلك الذي يلازمنا اليوم ، بعد أن اتخذنا أمجاد الماضي مداماً نثمل بها وننسى فجائعنا ولواعجنا كلما جابهنا الواقع المكفهر.. لقد غدا واقع تمجيد الماضي لوثة تزرع في ضمير المسلم المعاصر، ليس الوعي المقوي والباعث على الانطلاق ، ولكنها استحالت إلى مخدر يحجب تباريح الراهن ، ويضع بين العقل وحال التردي المرير الذي تعيشه الأمة سدا وعازلا تشل به إرادة التغيير ، بما تجد الجماهير في ذلك السلوان المجاني من أسباب التعويض ودغدغة الذات..
لقد ظل النورسي على وعي حاد بهذا الخطر الذي يتهدد الأمة بسبب سوء استغلالها لعبر تاريخها، ولأنه كان حريصا على أن يجنبها الوقوع في مزلق التمجيدية والانتصارية الخادعة، فقد رأيناه يجدد الرؤية الاستقرائية للتاريخ، إذ أنه كان على يقين من أن الاستنامة إلى تلك الخلفية الحضارية الرائعة التي طفقت تلابس مشاعر المسلمين والمتسمة بروح تنزيهية تمجيدية طفق المسلمون يضفونها على تاريخيتهم بكل أطوارها حتى الانحطاطي منها ، إنما كانت من أسباب مضيهم على طريق الحطة والتردي..
لكأنهم استشعروا نوعا من براءة الذمة إزاء التاريخ وإزاء مسؤولية الوجود التي لا يتحرر منها الكائن الحي إلا إذا وسد الثرى، ترى هل لأنهم رأوا في ما حقق أسلافهم الكفاية التي تعصمهم من تبعة الجهاد والكد والانبعاث؟(13/184)
من هنا راح النورسي يستخدم منهجا نقديا ربما لم تألفه قابلية الأمة في ما سلف، فقد دأبت نظرة الأمة تصطنع صلة التباهي الأخرق والاعتزاز المجاني بتاريخها، بدل أن تكون وقائع ذلك التاريخ اعتبارية، باعثة على تصفية أسباب الحطة والهوان.
التاريخ خبرة حيوية إيقاظية فذة تتطلب إعادة الرسكلة المستمرة.
لقد جعل النورسي من قراءة التاريخ نشاطا ترشيديا لا يقف فقط عند الصحائف البيضاء يعشي بها الأعين عن أن ترى ترديها، ويشنف بها المسامع لتمضي في نشوتها السكرى، بل لقد حرص على أن يشهر سلاح النقد ، فيتمحص الأحداث ويسجل عليها أو لها من التقويمات ما تستحق.
لقد مضى يستقرئ التاريخ ويبسط صحائفه، لا سيما تلك الصحائف التي كانت الوقائع المخزية سودتها، وراح يصوغها في إطار اتعاظي، حتى لا يغدو التاريخ مجرد دغدغة تبعث ظلالا من النشوة يسترسل بها سباتنا ويستمر قعودنا في وقت تنهال أفؤس التدمير على الأمة من كل جانب. ولعل ما قرأ به النورسي وقائع من العهد الأموي مثلا، وما اشتجر في ذلك العهد من أخطاء جرت البلاء العظيم على تاريخية المسلمين وعلى مسار حضارتهم، يعد نموذجا استقرائيا ايقاظيا اتبعته بيداغوجية التثوير والتوعية التي كان النورسي يمارسها في تعامله مع التاريخ والتراث.
فالقراءة التاريخية التي باشرها الأستاذ النورسي، هي قراءة واعية، ناقدة، منوطة بخلق التحسيس الكافي والتوعية المطلوبة التي تكفل للأمة اليقظة وتحرك فيها همة الانبعاث وإرادة الحياة الكريمة، إنها – قطعا - ليست قراءة غرضها استثارة عواطف الزهو الفصامي والتغني الإلهائي الذي لا طائل من ورائه سوى تمديد عمر الحطة وتطويل زمن الارتكاس .. لقد جعل النورسي من التاريخ وعيا يجب أن يستدعى إلى الضمير في كل حين ، وحالا شعورية لابد أن تظل حاضرة في الوجدان ، كدافعية معنوية تشحذ الهمم وتهون من وطأة التبعات وتخفف من مكابدة الجهاد وتدفع بالعمل النهضوي قدما.(13/185)
فمن خلال القراءة التمحيصية للتاريخ كان النورسي أيضا يستنبط المُثُل والشعارات التي تصنع زهو الغرب واعتداده الديمقراطي والاجتماعي ، إذ كان يراها شعارات ومثلا مجسدة على أسمى درجات التجسيد في سيرة الصحابة ، وفي تجربة الخلافة السياسية والشرعية كما نهض بها السلف الصالح .فشعار " الحرية والعدالة والمساواة " مثلا وهي الأقانيم التي تقوم عليها مبادئ الثورة الفرنسية، يعاينه النورسي في سيرة الراشدين والسلف الصالح لا سيما منهم عمر وعلي وصلاح الدين الأيوبي ، وما أرسوه من نير الأعمال والأفكار في جهادهم وسيرهم.
لقد كانت قراءة التاريخ كما مارسها النورسي ، فاعلية تنويرية تندرج ضمن منظور تثويري غايته خلق الثقافة التمحيصية والحس النقدي والفكر المميز لدى الأمة، الأمر الذي يكفل لها أن تستفيد من ماضيها استفادتها من راهنها بما كان يروج على سطح ذلك الراهن من مستجدات معرفية واصطراعات سياسية ومطامع استعمارية لم تكن الظروف معها لتسعف الأمة بحظ من حظوظ الانعتاق.
لقد طفق النورسي يحض الأمة على وجوب تجييش الرأسمال الفكري وتثمير الامتياز العقدي الذي خصها به الله، والمتمثل في حيازتها للقرآن العظيم ، وفي ما تأثل لها من مآثر شكلت المرصود الوجداني الذي ينبغي أن تستند عليه في جهادها الانبعاثي الحاسم .
الدعوة إلى الاحتذاء بالأمم التي شقت طريق النهوض مثل اليابان
لقد ظل النورسي يقدر أن عملية التواصل مع الغرب التي كان يرى فيها بعض الساسة وبعض الطوائف من أبناء الأمة فرصة الانطلاق الحضاري ، إنما هي عملية محفوفة بمخاطر الامحاء وإهدار الذاتية، لذلك ألفيناه يحرض المسلمين على وجوب التحذر من آثار الاحتكاك بالغرب ومن تبعات قصر الجهد على تعاطي مظاهر مدنيته وشكلياتها دون النفاذ إلى لبها الانتفاعي وجوهرها التطبيقي.(13/186)
لقد آمن أن - المفاعلة مع الآخر – الغرب - لا ينبغي أن تكون انغماسا وتحللا من المقومات ، ولكن علينا أن نجعلها جسرا يهيئ لنا فرص الاستيعاب والتمكن من أسس تلك الحضارة وأسبابها الخلاقة، وهذا بالوعي بالمقاصد التي ترتكز على شرط حاسم قوامه حسن التمثل والهضم لمعطيات الحضارة الأوروبية بما هي الحضارة الظاهرة في العصر الراهن، وليس بالتجرد أو الانسلاخ من الخصائص والمقومات.
فليس هناك أي مبرر للتفريط في الخصوصية الروحية للأمة المسلمة المنتمية إلى بلاد الشرق ذات النزعة الروحانية الثابتة ، والتي كانت ظاهرة انبعاث النبوءات على أديمها من أسس مرتكزاتها التاريخية والحضارية.
النورسي يشير باصطناع منطق مرشَّد نافذ وفعال في ضبط دينامية التواصل مع الغرب.
لم يوصد النورسي الباب في وجه التعامل والاستفادة من المدنية الغربية الراهنة رغم ما ظل يكيله لها من طعن وتجريح..
ولم يكن خافيا على النورسي روح العداوة المستحكمة في الغرب والتي تشرط علاقاته وموقفه منا ، ومع ذلك يصر النورسي على وجوب غنم ما في يد الغرب من معارف وتقنيات ومهارات ومعارف.
فمعاداة الغرب لنا لا ينبغي أن تقعد بنا عن السعي إلى الاستفادة من مدنيته والأخذ بالأسباب التي يمكن أن يفيد منها المسلمون في نهضتهم.
بل لقد رأينا النورسي - في تقويماته لمدنية الغرب - يلازم منطق القسطاسية، فحملات الإدانة والتجريم التي ظل يشنها على مدنية الغرب جراء تحللها الفظيع وعنصريتها المفضوحة ولا إنسانيتها السافرة ، إن تلك الحملات قد اقترنت لديه على الدوام بوقفات الاستدراك والتحفظ والإقرار بما لتلك الحضارة من فوائد جمة تخدم الإنسانية وتستحق أن تكون موضوع أخذ واقتباس من قبل المجتمعات المتأخرة ومنها المجتمعات المسلمة.. لقد ظلت الموضوعية التقويمية وازعا ثابتا في أحكام النورسي المدنية، لم يتجرد منها حتى في أشد المواقف احتداما.(13/187)
من هنا قامت رؤيته الانتقادية على حصافة في التسديد المدني حتى مع العدو، وهي رؤية متصفة بالاتزان والنصفة وعدم الوقوع في مزلق التعميم والمراء.
ومن هنا أيضا رأيناه يستدرك دائما في أحكامه على حضارة الغرب ويقر لتلك الحضارة بما لها من جوانب بناءة تتواءم مع مطامح الإنسانية. يفعل ذلك حرصا منه على ترشيد رؤية الأمة ولفتها إلى ما هو مفيد ونافع وقابل لأن يسهم في تعزيز قابلية الانبعاث المعطلة في الأمة.
وفي هذا المجال لا مندوحة لنا أن نقرر أن النورسي كان في سبيله التوجيهي والتأصيلي ذاك ، يندرج ضمن تلك الرؤية المنزهة عن الختل ، والتي تضع في حسابها فقط خدمة الأمة الإسلامية المعدة لخدمة الإنسانية قاطبة ، من هنا كان منهج النورسي هو إرساء ما أسماه ( الفقه الأكبر). إذ أنه منهج منوط بسياسة الفكر وإرساء معالم الدينامية الفعالة والشمولية والتي تعود على المسلمين بما يرتفع بهم إلى مستوى المثل والمكانة التي بوأهم إياها القرآن..
" إننا منهمكون بأسس الإيمان المسمى بالفقه الأكبر، فلا يتوجه ذهني توجها جادا في الوقت الحاضر إلى نقل المسائل الفرعية ومراجعة مصادر المجتهدين ومداركهم " (1).
من هنا كان يترخص في الأخذ بما لابد من الأخذ به من الأسباب والاعتمادات.
لقد كان نبراسه الاجتهادي في هذا المجال أن " لا اضطرار لخلط دائرة الاعتقاد بدائرة المعاملات" (2).
الإفتاء بالانتفاع من معارف الغرب ومن فكرهم النظري
__________
(1) الملاحق 92
(2) صيقل401(13/188)
في ظل هذه الحصافة وقف النورسي نفس الموقف من معارف الغرب الفكرية أو النظرية.. لقد اعتبرها معارف مستنبتة في غير تربة الهداية، فمعارف الغرب وإن اشتجرت بتعاليم الإنجيل ، إلا أن الإنجيل نفسه داخلته الأساطير والإسرائيليات والتحريفات الهلينية والهرمسية القديمة ومسخته وأفقدته سماويته الحق ، الأمر الذي جعل شجرة المعارف في الغرب تنبت على أديم روحية تناهض الدين الحق وتتناقض مع جوهر التنزيه.
من هذا المنظور حكم النورسي على الفلسفة - أم العلوم عندهم - بالفساد، واعتبرها لونا معرفيا ضارا ، إذ أن تمحلاتها وفذلكاتها التصورية لا تفلح إلا في إثارة الإشكالات الميتافيزيقية ، دون أن تتوصل إلى استحصال الأجوبة الشافية والقاطعة والتي تتأبى عن المراجعة، عكس تعاليم الدين السماوي الذي هو شريعة حياة وإجابات قاطعة تحسم للإنسانية أمر مصيرها ومعادها..
على أننا وجدنا النورسي - وأخذا منه بمبدإ النزاهة الفكرية والاتزان الموضوعي - يقر أن الفلسفة المعاصرة - بخلاف القديمة - تنهض بدور مفيد ونافع في مضمار التفتيق العلمي والثراء المعرفي، وهو ما يعود بالنفع على الإنسانية ويذلل لها صعوبات الحياة والمعاش.. من هنا راح النورسي يخص الفلسفة الحديثة بالإشادة ، تقديرا منه لمردوديتها على صعيد الاستخدام العلمي والتطبيقي والمدني.. ومن هنا أيضا كان ترخيصه للنظر الفلسفي متى كانت غاية هذا النظر هي تحقيق النفع العام ، والاستجابة لمتطلبات الحياة العملية والارتفاقية..
فالفلسفة المدانة عند النورسي ، هي فلسفة الترف الفكري الميتافيزيقي التهويمي والافتراضي التي لا طائل وراءها إلا التشويش الروحي على الإنسان والزج به في متاهات الضلال والإلحاد ، وذاك ما يقعد به عن السعي والتفتح واعتناق مثل الخير واليقين ومحبة الإنسانية.(13/189)
فالدين السماوي قد تكفل - في جملة ما تكفل به - بحسم أمر الميتافيزيق ، أو الماوراء ، وعلى الإنسانية ألا تضيع وقتها في وضع الفرضيات والفرضيات المضادة في هذا السبيل الذي لا قدرة لها على استشراف آفاقه ، بل عليها أن تأخذ بالمعطى الديني السماوي في ما يخص عالم الغيب والمصير، وأن تجند فكرها في مضمار الفتوح العلمية والتكنولوجية التي ترتقي بحياة الإنسان وتكفل له الكفاية وتجعل منه حقا خليفة لله في الكون..
أمراض هدامة ينبغي على المسلمين أن يتلافوها فلا يستوردوها من الآخر.
لم تضح عدوى التأثر - منذ مستهل مرحلة التفتح الأولى - تنقل إلينا من أوروبا مبتكراتها ووسائلها المادية والصناعية فحسب ، بل لقد طفقت الأفكار والقيم والمثل الأوروبية تتحول إلينا وتؤثر فينا وتقلب موازين واقعنا وتحور من قواعده وقيمه بما يعمق من الشرخ الذي كانت تلك النقول تحدثه في ضميرنا الجمعي وفي شخصيتنا ومليتنا..
مفهوم القومية العرقي عتبة عبرت منها إلينا أمراض الإلحاد والإذابة.
ولعل من أبرز التحويرات التي طرأت علينا في مضمار تمثلنا للشخصية الملية، النظر المستجد لمفهوم القومية. لقد تسرب إلينا هذا المفهوم ملتبسا بمعاييره العرقية الفجة كما استقرت في مدارك الغرب، فبعد أن كانت قوميتنا دينية مفتوحة على الإنسانية جميعا ، لا تفرق بين الأعراق ما دام رداء الدين السماوي قد جمعنا في كنفه، أضحى الإنسان المسلم ينظر إلى نفسه وإلى قبيله ، ضمن رؤية خصوصية أساسها الدم والعرق واللغة والمحلية.. لقد ارتكست نظرة الإنسان المسلم وتقهقرت على سلم الوعي، إذ صارت نظرة انعزالية، طائفية، عرقية، بل وأضحت نظرة قبائلية عشائرية، بفعل الفهم الطارئ الذي نفذ إلينا من فكر أوروبا، ذلك الفكر الذي قام في مستهل نهضته على أساس قيم وتبلورات بشرية بدائية محورها العرق والنسب الجنسي..(13/190)
من هنا واجه النورسي إشكال القومية ودحضه ودلل على مخاطره الهدامة بالنسبة للأمة المسلمة.
ولأن النورسي كان يعيش مرحة عاصفة بالرياح المناهضة لقيم الأمة وأصالتها، لا سيما على مستوى الطرح التدميري الذي كانت الحركات الهدمية اليهودية تنشره، لذا رأيناه يتعمق مسألة القومية ويحلل أبعادها ويسدد الفهم حيالها بما من شأنه أن يستبقي الرابطة الحيوية بين المسلمين ، تجاوزا للمصائد التي كان الغرب يبنيها للأمة من خلال الترويج للفكر القومي.
لقد كان ذلك الترشيد للقيم والمفاهيم الوافدة الذي باشره النورسي وباستماتة لا تكل ، يندرج ضمن رؤية تحصينية غايتها أن تضع الأسس التعاملية للأمة وترسم المعالم التي على الفئات والأفراد أن تتحراها في تفاعلها مع الغرب ، حتى لا تهدر المقومات ويضيع الوجود الملي.
"..إن العصر السابق ربما كان يعد عصر القومية، أما هذا العصر فليس بعصر القومية، إذ أن مسائل البلشفية والاشتراكية تستحوذ على الأفكار ، وتحطم مفهوم العنصرية، فلقد ولى عصر العنصرية.
واعلموا أن ملية الإسلام الدائمة الأبدية لا ترتبط مع العنصرية المؤقتة المضطربة ، ولا تقلح بلقاحاتها.
نعم إن في التطعيم بلقاحات العنصرية ذوقا مؤقتا وقوة موقتة، مؤقتة جدا، وذات عاقبة وخيمة" (1).
" لقد انتشر الفكر القومي وترسخ في هذا العصر، ويثير ظالمو أوروبا الماكرة بخاصة، هذا الفكر بشكله السلبي في أوساط المسلمين ليمزقوهم ويسهل لهم ابتلاعهم ، ولما كان في الفكر القومي ذوق للنفس ولذة للعقل وقوة مشؤومة ، فلا يقال للمشتغلين بالحياة الاجتماعية في هذا الوقت : دعوا القومية. ولكن القومية نفسها على قسمين : قسم منها سلبي مضر ، يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه ، ويتصرف بحذر ، وهذا يولد المخاصمة والنزاع.
__________
(1) المكتوبات 566(13/191)
وأما القسم الإيجابي، فهو النابع من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهو سبب للتعاون والتساند وتحقيق قوة نافعة للمجتمع ويكون وسيلة لاستناد أكثر للأخوة الإسلامية. هذا الفكر الإيجابي القومي ينبغي أن يكون خادما للإسلام وأن يكون قلعة حصينة له وسورا منيعا حوله ، لا أن يحل محل الإسلام ولا بديلا عنه، لأن الأخوة التي يمنحها الإسلام تتضمن ألوف أنواع الأخوة ، وأنها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ.." (1).
إن منافحة النورسي ضد الفكر القومي كانت تضع في حسابها المرامي الخطيرة التي يستهدف تسريب مثل هذا الفكر.. فتبني مقوم القومية بمعناها العرقي هو تبن للانعزال عن الأمة ، والانعزال رديف العزلة ، والعزلة باب للضعف والانكسار أمام المستعمر، فالغرب بواسطة الدعوة إلى القومية كان يرمي إلى جندلة الأمة الإسلامية من خلال قهرها أجزاء وأعراقا وكينونات مقزمة، وهو ما ييسر عليه في الناتج الأخير إذابتها ومسخها.
بل إن تمرير فكرة القومية هو تمرير للفكر الإلحادي مباشرة، إذ أن من يقبل بالتحلل من أخوة الدين لِتستغرقه أخوة العرق، يكون قد قبل بعقيدة الإلحاد، لأنه قبل التفريط في اللحمة والرباط الذي كان في ضوئه يُعَدُّ جزءا من كيان الأمة لا يتجزأ.
من هنا ألفينا النورسي يسد باب الحوار مع أصحاب الدعوة إلى الفكر القومي، لأنه أدرك ما كانت تلك الدعوة تتقصده من كيد للإسلام وضرب لعقيدته..
فلا غرو إذن أن تقترن لديه مواقف مناهضة الفكر القومي- بمعناه الانعزالي - مع مجاهدة الالحاد، إذ سبيلهما واحد، ومدخل أحدهما يستتبع مدخل الآخر بداهة.
لذا حذر النورسي من مغبة الاستهانة بتلك الدعاوى العرقية ، بل لقد ظل يصرح بأن الرسائل ترابط على جبهة مدافعة الملاحدة وسد الأبواب في وجوههم. وما ذلك إلا لأن المخاطر التي كانت تحدق بالأمة كانت تتهددها من ذلك السبيل.
__________
(1) المكتوبات414(13/192)
لقد وضعت الرسائل حدا لا سبيل إلى تجاوزه على صعيد التعامل مع الفكر الغربي والتفاعل مع نظرياته وإيديولوجياته..
أركان اجتماعية إسلامية تلوثت بقيم الغرب وخرجت عن نطاقها السوي
كما أن النورسي قد رفع صوته بالتحذير من آثار الاستيراد الأعمى لأخلاق الغرب ومناهجه لاسيما ما تعلق منها بالتربية وتنشئته الأجيال. ذلك لأنه أيقن أن مغبة الوطأة التي تتلبس القيم التربوية الأسروية كما يمارسها الغرب مع ناشئته، وطأة كبيرة وفادحة ومردية ، إذ أن تلك التربية تحمل في طبيعتها الفردية والتحررية نزعة الجحود والإعراض عن المثل والعقوق، وهو ما ينال كثيرا من مقوم الأسرة ، إذ تغدو عاطفة الارتباط بين الناشئة وذويها واهنة وماضية في تدرجها نحو الضعف والتفكك جيلا بعد جيل.
فالمثل التحررية التي يتغنى بها الغرب،والرابطة الاستقلالية الندية بين أركان الأسرة: الأم والأب ، والتباري في مضمار الأفضلية بين الجنسين النسوي والرجولي ، والوطأة الاقتصادية التي تحتم على كل عنصر في الأسرة أن يتكفل بحاجياته ونفقاته أو بجانب منها ، لا سيما وأن ميزان التكافل الحقوقي عندهم لم يضع في حسبانه نصابا قارا لأحقية الأفراد في الميراث والتركة وفروض الكفاية، يضاف إلى ذلك ما تلقنه المؤسسات التعليمية والنظريات الاقتصادية من مبادئ الفردية والربح والمنافسة في الكسب بكل وسيلة..
كل ذلك أفرز تربية تنشئوية هونت من عاطفة الخلف الأسروية ، وجعلت رابطة الانتساب إلى عش العائلة تتحلل أو تهون بمجرد أن يشب الابن عن الطوق. ليستقل بمستقبله ويدخل تجربة الصراع من أجل الوجود.
بل لقد انتهى مفهوم الأسرة إلى عتبة بئيسة فقدت معها كل سمة للقدسية وكل اعتبار حقوقي. وإنها لَتُعَدُّ آلافا مؤلفة تلك المواليد التي تنتج سنويا عن زواج عابر لا أساس له من شرعية ولا اعتراف مدني يثبته .(13/193)
فالأم العزبة - كما سموها - تحمل ممن علاقتها به لا تعدو علاقة عابر السبيل، ثم تتكفل بمفردها بتربية وليدها إلى حين ، كمن يربي داجن من الحيوانات المنزلية لا غير ، حتى إذا شب الطفل ، جابهته حقيقته اللقيطية ، فانخرط بمحصلة من العقد يُصَعِّدُ بدوره من الخطا على طريق الدمار الذاتي الذي تسير فيه أوروبا بسبب تحللها التربوي عن ضوابط القداسة. من هنا ألفينا النورسي يستريب من قيم الغرب وينذر من مغبة المآل إن نحن تابعناهم في طريقهم التفككي ذاك.. فلقد لفته - منذ ذلك الحين - تفشي ظاهرة العقوق التي تميز الأوساط المتغربة والتي اتبعت السبيل الغربي واعتمدت قيمه بدل التربية الإسلامية في تنشئة أبنائها ، وهو ما جعله يصرح بأن :
"التربية الأوروبية التي حلت محل التربية الإسلامية جعلت واحدا ابنا بارا بوالدته من بين كثرة من الأبناء" (1).
إن هذا الحكم الثابت الذي يصدره النورسي في مجال الاستيلاب الأسروي لمن شأنه أن يلفت الأذهان إلى مسألة الاقتداء بالغرب ، لا سيما على مستوى حيوي مثل هذا المستوى المتعلق بالأسرة وبالمصير الإسلامي كلية. فتنبيهه من هذا الجانب يغدو من قِبَلِهِ استشرافا حصيفا تحوط به للمستقبل ، إذ لم تفته المخاطر التي تنجم عن تفكك الأسرة المسلمة إذا لابستها قيم غير قيم القرآن..
والملاحظ اليوم أن التصعيد الاستيلابي بات يستهدف ، وبتركيز لا غبار عليه، قوانين الأسرة في المجتمعات المسلمة التي ما تزال تنص دساتيرها على الطابع الشرعي لتلك القوانين.(2)
وإذا كان مجرد الأخذ بقيم التنشيئة قد جعل عُشْرَ الخلفة ينجو من مغبة النكران والعقوق - كما سجل النورسي رحمه الله - فكيف ستكون الحال يا ترى إذا ما اعتمدت صراحة القوانين الوضعية في البلاد المسلمة؟
__________
(1) الملاحق 342
(2) الزوج وعلاقته بزوجته في ظل تمكن التربية الأوروبية من مجتمعنا .الملاحق341.(13/194)
سيكون الناتج - لا سمح الله - الانهيار المؤكد للكيان الإسلامي برمته ، ذلك لأن مجتمعاتنا لا تتوفر على أدنى آلية تماسك أمام الاختلالات الاجتماعية والروحية ، عكس الغرب الذي تجعله عراقته المدنية يحتفظ بضرب من التماسك الظرفي ، قبل أن يتردى حتما ، في طريقه الشاذ عن الفطرة ، سنة الله في الخلق، ولن تجد لسنته تبديلا.
يمكننا أن ننص فيما يلي ، على تقريرات ومرتكزات عامة رأينا النورسي قد أناط بها عملية التواصل مع الغرب .
1- التعاون مع الآخر لا يكون مفيدا إلا بشروط الجدوى وتحقيق مصلحة المسلمين .
إن التعاون الإيجابي ينبغي أن يكون قائما على أساس من الوعي بحقيقة الآخر، ليتسنى للمتعامل تجاوز المضار والاختلالات التي تحملها ثقافة هذا الآخر وتاريخيته.
لقد آمن النورسي أن الخروج من التخلف وقهر الانحطاط لا يتم إلا بالعمل المرشَّد والتسلح بالعلم وخوض مضمار التصنيع . وتحقيقا لذلك راح النورسي يهيب بالأمة أن تشرع في الإنجاز ، ولذلك جعل شعاره في مواجهة الانحطاط: أهجموا على الجهل والفقر بالعلم والصنعة..(1)
2- مبدؤه تمكين الذات الملية من روح القوامة، وعدم الوقوع لقمة سائغة للاجنبي.
" إن الحاجة - التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي - قد رفعت يدها لتنزلها عليكم صفعة فتأمركم: إما أن تعطوا.. حريتكم.. إلى الناهبين، أو عليكم أن تهرعوا إلى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر ، مستردين أموال الاتفاق التي اغتصبها الأجنبي " (2).
__________
(1) صيقل463
(2) صيقل 463(13/195)
3- يقر أن الملية الإسلامية مطالبة أن تكتسب الاعتبار في مجال المدنية وتتفوق فيه على نحو ما تفوقت سابقا في مجال الحرب والفتوح السيفية. "مثلما ترقيتم في مضمار الشجاعة المادية بتعلمكم المعرفة من كتابات سيوفكم وفتحتم مجرى من الدماغ إلى القلب بالقوة، فافتحوا الآن منفذا من القلب إلى الفكر، وابعثوا مددا للعقل في ميدان المدنية ، اجعلوا سيوفكم من جواهر العلم والصنعة والتساند الذي يأمركم به القرآن الكريم " (1).
4- قطار القانون الشرعي سيقل الأمة إلى العدوة الأخرى، عدوة التقدم والرقي وتدارك التخلف " إن مائة ونيف من السنين التي تأخرنا فيها عن مضمار الرقي والتقدم سنتجاوزها بإذن الله تعالى بمعجزة نبوية مستقلين عملا - قطار القانون الأساسي الشرعي ، وممتطين– فكرا - بُراق الشورى الشرعية " (2).
إنه وعي طليعي وإدراك متقدم لأهمية استثمار الزمن في عملية النهضة والبناء، إذ لا يعقل أن نبدأ عجلة التطور من حيث بدأوها هم، بل علينا أن نقفز إلى قطار الحضارة العلمية وهو يجري، وأن نبادر إلى استغلال قابلياتنا وتطوير مقدراتنا، مستغلين الشروط والمعطيات المعرفية العالمية المتداولة في زمننا الراهن، وأن نطوعها من أجل المشاركة والاشتراك، وإذا كان النورسي قد تحدث عن ركوب القطار والمنطاد، فلأنها وسائط ومنجزات كانت سقف التطور العلمي في عهده، إذ كانت علامات ميكانيكية وتقنية تؤشر إلى ما انتهى إليه سلم التطور في مضمار الإنجاز التطبيقي يومئذ ، وهو ما يجعلنا مطالبين اليوم باختراق حواجز القصور المعرفي ومباشرة دورنا التجريبي والاستخدامي والتطوري في مجال المعلوماتية والالكترون والفيزياء بفروعها النووية والفضائية والعضوية..
__________
(1) صيقل. 464
(2) صيقل 467(13/196)
5- وجوب الاختيار والرشاد في الأخذ بما يتهيأ لنا من معارف الآخرين، وضرورة الانتقاء المعرفي تقتضي منا " أن نجعل القاعدة التالية دستور عمل لنا وهي: خذ ما صفا دع ما كدر. وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب - مشكورين - كل ما يعين الرقي المدني من علوم وصناعات ، أما العادات والأخلاق السيئة فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبن قبحها كثيرا لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة (1). إن هذا الشعار التجنيدي الرشيد الذي أوجزته عبارة "خذ ما صفا دع ما كدر " ليترجم الروح البراغماتية السامية والتي تصدر عن سجايا إيمانية تجد سندها التوجيهي في قوله (صلى الله عليه وسلم) الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها أنى وجدها..
فالمدنية الغربية تمارس تمويها خبيثا ودسا ماكرا في ما تروج له من نفايات ضارة ، وفي ما تسوقه من سموم قصد الربح ولو بإضرار الغير، وهذا من خلال دمج البضاعة الفاسدة ضمن البضاعة السليمة. لذا توجب الحذر والتحوط مما يسوق لنا أو يُصَدَّرُ، وهذا في مجال الماديات وفي مجال المعنويات على حد سواء. بل علينا أن نتحوط للمضار المعنوية بصورة أكبر ، لما يترتب عن التسميم المعنوي من أذى قد لا يشفى.
__________
(1) صيقل 468(13/197)
6- يعترف النورسي أن مسألة الأخذ بأسباب المدنية عملية تنطوي على مخاطر الاستسهال المغري الذي كثيرا ما يجعلنا نقف منها موقف الأطفال من خلابتها ، وذلك حينما تتجه إرادتنا إلى استجلاب البهرج وحده(1).. عكس ما يكون عليه الأمر عندما تكون المهمة بنائية قائمة على الوعي بما يفيد: "فنحن لو أخذنا منهم المدنية - بسوء حظنا وسوء اختيارنا - بما يوافق الهوى والشهوات -كالأطفال - تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها ، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات ، ألا لا ينبغي أن نتجمل بمساحيق التجميل .."(2). فالفيصل من وجهة نظره في مسألة تحويل لوازم المدنية وجعل عملية استيراد الحضارة الغربية أمرا بناء وقابلا لتوطينها واتزراعها في المحيط الإسلامي هو تحكيم سيف الشريعة في موادها ، فما وافق الشرع استجلب ومورس تعلما واستحصالا وما خالف الشرع أضرب عنه وسد الباب في وجهه ، وهذا يسري على الأفكار سريانه على الأشياء . (3)
__________
(1) يتعرض المرحوم مالك بن نبي ، ويتوافق مع النورسي في النظرة لهذه الحال غير الرشيدة التي تجعل من الإنسان المسلم (لا سيما النفطي ) مجرد جامع للأشياء والمستهلكات التي يسوقها الغرب. انظر مثلا كتابه مشكلات الحضارة.
(2) صيقل 468
(3) صيقل 468(13/198)
7- كان مثاله وقدوته في تثمير أسباب التمدن والتطور العصري الأمة اليابانية..(1) وكان تنويه النورسي باليابان يتجدد بسبب فذاذة تجربتها الانبعاثية، إذ هي تنتمي للمدار الشرقي من جهة، وهي إلى ذلك أمة تنحدر من العرق الأسيوي الأصفر ، وفي ذلك إثبات يبطل مقولة الغرب التي تربط الرقي والمدنية بالعرق، وتحصر التفوق في الإنسان الغربي. ومن جهة أخرى كان النورسي - رحمه الله - حريصا على أن يضع المثال الشرقي الناجح والمتوازن ، والذي استطاع أن يغادر محطة التخلف الحضاري من دون أن يكون ذلك على حساب قيمه ،وهو ما حققته أمة اليابانية. من هنا استحق النموذج النهضوي الياباني أن يكون مرجوعية تدليلية يكرر النورسي الاستشهاد به ، إيقاظا للأمة المسلمة ووضعا لها على محجة النهوض السوي الذي لا يفرط في المبادئ والمقومات.
8- يدرك النورسي أن الإنسان المعاصر بات يتوفر على قابليات عقلية تكفل له أن يراهن على مزيد من الفتوح في مضمار التمدن والانتفاع الحضاري. من هنا توجب على الأمة المسلمة أن تشمر على ساعد الجد وأن تنخرط في مضمار التجريب واستثمار ما هيأته المدنية المعاصرة للبشرية من أسباب الإبداع والرقي والكفاية.
"الإنسان في السابق كانت أفكاره متدنية لكونه عاش في دائرة محدودة ، أما في ظل الحرية الدستورية ، فإنه يجد نفسه في كامل قواه واستعداده للرقي، إذ ستتكامل أخلاقه وتتسع آماله ولا يعود هناك شيء يتعسر على مطمحه وتوقه، وهو ما سيرشح الشرق لإشراقة جديدة تشع على الغرب " (2).
فالتطور التاريخي للإنسانية مكن الإنسان من أن يتطور على صعيد الفكر والنظر والتحكم في كثير من الأسباب الحياتية. فعلى قدر ما انفسح الإنسان في سيرورته التاريخية، وبقدر ابتعاده عن عصوره البدائية الأولى، امتدت أمامه الرؤية واتسع نطاق تفكيره ، وتبلورت منظوماته العقلية والذهنية ، وبالتالي أحكامه وقوانينه التي بات يدير بها الكون..
__________
(1) صيقل.468
(2) صيقل 470(13/199)
بل إن الأهم من كل هذا هو اكتسابه لتلك الصفة الذهنية التحصيفة والمتمثلة في قابلية النقد الذاتي التي أضحت راسخة في سلوك الإنسان المتمدن اليوم، والتي يترجمها هذا الوازع التصحيحي الحي في أعماقه على الدوام، والذي يجعله يستشعر باستمرار أنه لم يبلغ بعد مستوى الكمال، وأن عليه أن يجهد من أجل أن يرقى سلم المدنية بمختلف مرتكزاته التشريعية والمعرفية والاجتماعية عامة، وأن يمضي على الطريق قدما. على عكس قناعة إنسان الحضارات السابقة، حيث أن تلك الحضارات كانت ترى في منجزاتها المادية والفكرية سقفا قارا ، وحدا نهائيا لا مجال لتجاوزه ، بل لقد كانت تحيل نزعة التجاوز - إذا ما بدت - على روح التمرد والكفر ومناهضة خيار الآلهة في مضمار المعيش والحياة وسعادة الحياة والمآل. لذا توجب على الإنسان المسلم أن يتقمص روح العصر وأن يتدثر بلوازم الكفاح المعرفي والانجازي ليكون له حضوره وتأثيره في حضارة هذا العصر وفي القابل البعيد أيضا.
9- العقيدة الإسلامية ذاتها عقيدة متطورة
لقد آمن النورسي أن العقيدة ذاتها متطورة ، وأن سريان سلطان الزمن الوطيد والمطرد بلا هوادة ، والذي جاءت الديانات لتحد من جنوحه وانفلاته نحو الوحشية والإطلاق ، يترك بدوره الأثر من خلال ما يحدثه من تطورات على الحياة والمعايير نفسها ، الأمر الذي يجعل الأحكام القدسية ذاتها تبدو على حال من المرونة الأصيلة والمنسجمة مع قابليات الإنسان في التجدد ، فطرة الله التي فطر عليها عباده : "..الشريعة متطورة لكونها منوطة بالأزل، فهي تتوسع وتنمو بنمو الكائن الحي، أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتشربه من نتائج تلاحق الأفكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العلم " (1).
__________
(1) صيقل471(13/200)
ولقد عبر عن يقينه من قابلية الإسلام للتطور منذ وقت مبكر ، ففي الخطبة الشامية أكد هذا الاعتقاد ، وآمن به ، وأوصله إلى الأمة لتتسلح به كوعي ينبغي أن تباشر بها كافة اجتهاداتها المعززة لذاتيتها.
فحقائق الإسلام تمتاز باستعدادها الكامل للدفع بأهلها إلى مراقي التقدم المادي والمعنوي على السواء.
ذلك لأن في التمسك بحقائق الإسلام سر تقدم المسلمين في القديم، كما أن انفكاكهم عن تلك الحقائق سبب هذا الموات الذي يعيشونه منذ قرون وإلى الآن"(1).
10- أسباب تأخرنا عن الرقي والتطور الحضاريين
يرجع النورسي أسباب تأخرنا الحضاري والمدني إلى عوامل من بينها : عدم مراعاتنا لأحكام الشريعة الإسلامية والشريعة الفطرية ( الكونية) في نظم حياتنا وفي تسيير شؤوننا المدنية.(2)
11- كما يعيد من جهة أخرى أسباب قعودنا عن الانبعاث السوي ، إلى وقوعنا في خطإ التقليد الأعمى للغرب ، الأمر الذي حال دون أن نختار ما هو أساسي في إحداث النقلة والنهوض ، وفي ما يكرس الحطة ويقوي من الاستيلاب.
- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليدا ببغائيا ، مما ولد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بجهد وبعناء ومشقة وصعوبة لا تنكر..(3)
12- التباين الفكري والروحي والتربوي من عوامل الفرقة والخلاف وتبدد الجهد.
__________
(1) صيقل493
(2) الكلمات 871
(3) صيقل471(13/201)
تجاوزت رؤية النورسي إلى المذاهب الدينية النطاق الاختلافي الذي ظل وما زال يقيم الحواجز الصماء بين أتباع المذاهب والطوائف، لا سيما بين السنة والشيعة.. لقد قرأ الواقع التمايزي بين الشيعة والسنة بفكر تقويمي انتهى بمسألة الفرقة المذهبية إلى جوهرها العضوي الواحدي. إذ في رأيه أنه لا مسوغ بأي حال من الأحوال أن يعادى من تشيع لآل رسول الله وجعل من محبته ديدنه ، كما أنه لا مبرر للنفور ممن يشمل بمحبته صحابة رسول الله ومن ضمنهم آله الكرام ، إذ الجميع في حقيقة الأمر يشتركون في محبة العترة الزكية، ولا يضير بعد هذا أن تختلف حجوم وتفاصيل المحبة وكيفياتها..
ونجده في موطن آخر يرجع أسباب تأخرنا المدني إلى حال التفكك والخلاف الفكري والمعتقدي، والذي يترجم على أرض الواقع في صورة اختلاف رؤيوي وتشتت في النظرة إلى الحياة، وانعدام المشروع المدني والاجتماعي الذي يناط بالجهات الفاعلة في المجتمع من أجل أن تصوغه وتنفذه .إن غياب النموذج الاجتماعي الموحد وانعدام الإطار المدني المشترك الذي يستقطب الجهد الملي - وإن اختلفت بعد ذلك تفاصيل ذلك النموذج المدني بين الفئات من حيث الكيفيات والأساليب المفضية إلى خير الأمة وصلاحها - يجعل من الأفكار أحوالا انفعالية مرتهنة بالحماس الظرفي الذي تذكيه المناسبات ، ويجعل التصورات الحالية والمستقبلية مجرد أحلام حبيسة الذهنيات والضمائر والنوايا ولا شيء غير ذلك، وقد تتحول الرؤى ووجهات النظر إلى برامج، إلا أنها ونتيجة التضارب الذي يعاجلها من قِبَلِ المخالفين والمعارضين ، لا تلبث أن تجهض أو تموت في الرحم تحت ضغط الخلاف غير المدني .(13/202)
ثم إن طبيعة الاختلاف المستفحلة لدى الفئات والقطاعات المدنية وحال تباين الأفكار واختلاف المشارب والتوجهات، تنعكس– حتما - على صعيد واقعنا الاجتماعي والتربوي، إذ هي تتبلور في مفاعلتها للمجتمع على شكل مناهج متنافية متباينة، لما يحكمها من مصادر وقناعات ومرجعيات ديدنها تحقيق مساحة النفوذ وبسط قبضة التبعية على مزيد من القطاعات من الفئات. (حمية التكاثر)، الأمر الذي يجعل من الناتج البشري والاجتماعي المتشكل في ظل ذلك الواقع التوجيهي والتنشيئي الخلافي ، صعيدا انعزاليا تتهدد به لحمة الأمة وتتحلل أواصر وحدتها بدل أن تتعزز وتنهض وتواجه تبعات التخلف والاندحار.
لقد أحال النورسي علة هذه الحال التفككية التي عليها واقع المسلمين ، إلى تعدد مصادر التوجيه والتعليم وتباين البرامج التكوينية التي ظلت تعتمدها - وما زالت - كثير من مرافقنا العمومية : المدارس والكتاتيب والتكايا.
" إن من أهم أسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد ، هو تباين الأفكار واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شعب كبيرة ، يعدون مرشدين عموميين للجميع ، وهم منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا .. إن تباين الأفكار قد هز أساس الأخلاق الإسلامية وفرق اتحاد الأمة ، وأخرنا عن ركب الحضارة ، لأن أحدهم يكفر الآخر ويضلله ، بينما الآخر يعد الأول جاهلا لا يوثق به ، وهكذا ساد الإفراط والتفريط ، وعلاج هذا الداء هو الصلح النابع من توحيد الأفكار ، وربط العلاقات ووصلها حتى يوصل إلى نقطة الاعتدال، فيتصافح الجميع ويتفقوا جميعا ، لئلا يخلوا بنظام الرقي" (1).
__________
(1) صيقل 473(13/203)
هكذا تتحدد رؤية النورسي للاختلاف المشربي ، لا سيما إذا كان ناتجا عن مناهج تعليمية منوط بها أمر تنشئة الأجيال ، فلن يكون الحاصل في الحقيقة إلا صداما مفجعا تتعمق به حال الحسرة الملية ، لأن تباين البرامج والمناهج التعليمية واختلاف الأسس والغايات التي تؤسس لها ، إنما يكون له صنيع بالغ السلبية وناتج مشؤوم المردودية على الأمة والأجيال ..
لأن الفئات ستجد نفسها مسوقة في غير اتجاه ، بل متضاربة في وجهتها ورواها وتوجهاتها ، الأمر الذي يتولد عنه حتما الصدام ، والعنف ن والتشتت.. من هنا نظر النورسي إلى الواقع التعليمي والتوجيهي كما كان متبعا في البلاد الإسلامية ، نظرة سالبة ، إذ اعتبره فعل يهيئ الأمة لمصير من الحرب والتقاتل الفيئوي ، الأمر الذي جعله يطالب بوجوب وضع حد لذلك التوجه المريع ، وأن تعقد الأمة بدله موثق مصالحة ، تعود في كنفها إلى الجادة ، فتتكفل بوضع البرنامج التعليمي النابع من حاجاتها الحيوية ، والمنسجم مع أصالتها ، والمساير لمقاصدها الاستراتيجية القريبة وبعيدة المدى ، والمؤكد لوجودها ، والمقوي لبنيانها.
13- دواعي يقظتنا وتطورنا.
يؤمن النورسي إيمانا جازما بأن الأمة ستستفيق وستسري في عروقها إرادة الحياة الكريمة ، وهو ينيط أسباب هذه الاستفاقة أو عواملها بالحاجة التي تدفع الإنسان إلى أن يخترع ويتعلم ، كما ينيطها من جهة أخرى بواقع الخصاصة والفقر الذي يسحق الأمة ، إذ من شأن الخصاصة أن تلهب الرغبة في تحقيق الكفاء، وهو ما سيدفع بالأمة والمجتمعات إلى تغيير واقعها وتحقيق كفايتها بكل السبل..(13/204)
فهناك شهامة فطرية في وجدان الأمة تجعلها في المحصلة النهائية تنتصر لنفسها وتعيد لذاتها العزة والشرف وهذا بتجاوز حال الانخذال والاستخذاء. "إن الميل نحو الكمال قانون فطري في الإنسانية وفي الأشياء والطبيعة..ولذا لا بدع أن تنزع الملية الإسلامية إلى استعادة دورها القرآني ، ولا بدع كذلك أن تشرئب إليها يوما البشرية ، باعتبارها أمة الإسلام والعقيدة المجسدة للكمال.
"المسلمون هم أفضل البشر وأشرفهم، وهم أهل الحق والحقيقة كما ثبت بشهادة التاريخ والوقائع والاستقراء التام " (1).
14-خدمة الإسلام والحرص على إبقاء صورته على ألقها الرباني هي واجب الجميع
ومسؤولية الفرد المسلم لا تحد بنطاق فرديته، وإنما هي مسؤولية ملية..
إن الإساءة الفردية التي يتسبب فيها الفرد المسلم حتى لنفسه ستكون ضارة بالأمة كلها." إن في زماننا هذا ، ولا سيما بعد أربعين أو خمسين سنة ، ليس المسيء هو وحده المسؤول عن سيئته ، بل تتضرر الأمة الإسلامية بملايينها، بتلك السيئة " (2). وكذلك الحسنة الواحدة ، ستتحول إلى ألوف ولا تقتصر على فاعلها.. من هنا توجب العمل والسعي والحرص على توطيد صورة الإسلام ومكانته ..
15-الفرد المسلم ممثل للأمة وسفير باسمها.
وأن مسؤولية الفرد المسلم ثابتة ولا مندوحة عنها، من أجل الإيفاء بالموثق، إذ المسلم ينتمي إلى أمة أناط الله بها، أفرادا وجماعات، مهمة التبليغ وتوصيل خطاب الله إلى العالمين. من هنا كانت مسؤوليته : كل مؤمن مكلف بإعلاء كلمة الله.
16-عملية الاقتباس المدني ، إذا ما ترشدت فلن تكون إلا عملية استرداد لما أخذ منا من سبقيات..
__________
(1) صيقل 503
(2) صيقل 511(13/205)
فالاقتباس المدني والاسترفاد الحضاري المرشد عندما تمارسه الأمة ، هو من بعض وجوهه ضرب من استعادة ملكيتنا الخاصة والمتمثلة في القيم والمزايا والأخلاقيات التي فقدناها بتأثير الانحطاط، واستولى عليها الغرب وعمل بحسن استثمارها على أن يتجاوز من ظلامية القرون الوسطى التعسة التي ظل يتخبط فيها آمادا عندما كانت شمس حضارة الإسلام ترود العالمين. فالأمة حين تستلهم لنهضتها مناهج وروحية مدنية انجازية ، فإنها في الواقع تجدد اللقاء بمثل ومعايير فاعلة كانت تتوفر لها في عهود عزها ومجدها ، وقد افتقدتها بعد أن فقدت همة الحياة والريادة ، فالاقتباس المدني المرشَّد الذي تمارسه الأمة المسلمة وهي تتبنى مناهج مدنية وعلمية وتطبيقية ما هو إلا استرداد للحق وإعادة لتوطين قيمنا ومثلنا الانجازية في تربتها الملية الإسلامية الأصل.
وفي هذا الصدد يرى النورسي أن الأمة قد استهدفت طويلا من قبل أعدائها المستعمرين، من خلال نهب تراثها المادي (أوطان - ومال) وبالاستيلاء على مرصودها المعنوي (الشمائل التي تخلينا عنها ، ثم شروعنا بعد سبات طويل في تقمص ما يصدرونه لنا من سيئات)، ذلك لأنهم حازوا " قسما من أخلاقنا وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا"(1) وجعلوا تلك الخصال الحميدة محورا لرقيهم وتقدمهم ، ودفعوا إلينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة أخلاقهم.(2)
17-الإسلام سلام ، ووحدته تتجاوز الطرح العنصري ، لأنها خطوة على طريق الأخوة الإنسانية قاطبة.
__________
(1) نفسه 513
(2) نفسه 513(13/206)
لقد أدرك النورسي مدى الحذر الذي يميز علاقة الغرب بنا ، وأدرك أن كل مسعى بنائي يتحقق لنا إنما يثير مخاوفه ويكدر طمأنينته، لأن الغرب لا يرى في تقدم المسلمين ورقيهم إلا تهديدا لوجوده هو وغلبته.. من هنا راح النورسي يضع هذا الحقيقة في حسابه ويوعز للمسلمين بضرورة التحوط لها حتى لا تفضي بنا الغفلة إلى مزيد من إهدار الجهود ، أو حتى لا يضعنا سوء التقدير تحت طائلة الإجهاضات التي سيمارسها الغرب علينا ، إذ سيقضي على كل خطوة نخطوها في طريق الصحيح.. وبكل تأكيد فإن سوء التصرف في هذا الميدان قد كلفنا وما زال يكلفنا الفداحات ، بسبب عدم تنبهنا للترصد اليقظ الذي يسلطه الغرب علينا والذي يقوم به خطواتنا في مضمار البناء.
18- في تلويحه براية السلم وتأكيده لسلمية الإسلام دعوة للمسلمين كي يتجنبوا كل ما من شأنه أن يتثر ضدهم القوى المتربصة..
لقد طفق النورسي يلوح بالراية البيضاء مطمئنا الآخرين ومؤكدا الطبيعة السلمية للاسلام. ولقد تنبه إلى ما تثيره فكرة الوحدة الملية من مخاوف الغرب ، لذا رأيناه يكرر الحديث عن طابعها السلمي ، الخالي من أي أغراض تعصبية أو عدوانية ..
ذلك لأن النورسي كان حريصا على أن يتحلى المسلمون بصفة المسالمة تجاوزا لحال الرقابة والترصد التي يستهدفهم بها الغرب.. ثم إن النورسي كان من جهة ثانية يركز الأسس الأخلاقية التي قامت عليها العقيدة الإسلامية ، والقاضية بالسلم وبمحبة الإنسانية وعدم ممارسة أي مظهر من مظاهر البغي والعدوان..
لقد شدد النورسي على وحدة المسلمين وأنهم متحدين بالقوة وبالفعل، لأن رابطة التوحيد تجمعهم، " فالتوحيد هو جهة الوحدة والاتحاد فيما بيننا ، وقَسَمنا وعهدنا هو الإيمان " (1)..
__________
(1) صيقل 530(13/207)
لقد كان بذلك التأكيد يستنهض مشاعر التماسك بين أبناء الملة الواحدة، ذلك لأن هذه الوحدة - كما يقرر - إنما هي وحدة فطرية، لحمتها العضوية يؤسسها الدين الإسلامي بلطائفه الربانية ومقوماته الرحمانية، فاتحاد المسلمين إنما يقوم في كنف العقيدة، وهو اتحاد يرتكز على التلاحم التلقائي الخالي من أي وازع تعصبي مذموم، إن اتحاد المسلمين قد استند في محصلته الوحدوية على تداعيات روحية وفكرية سليمة، مبرأة من الإفتئات ومن كل ما يضر بالإنسان، إذ أنه اتحاد مفتوح للبشرية جمعاء، ولا يشترط الانتساب إليه ترجيح جانب أية جهة أو عرق أو مذهب، فلا تراجحية قومية في الإسلام، إنما تترجح وحدها كفة الخالق، وهذا بخلوص المعبودية له سبحانه الفرد الصمد المنزه عن المثيل والندية والقرين، وبالإيمان بكافة أنبيائه وتمجيدهم وتفديتهم على سواء، ومن غير ما تمييز ولا إقصاء..
وإن ما ييسر الطريق ويفتح الباب في وجه المتداعين إلى الإسلام من الشعوب والأمم التي ظلت مُزَوِّيَةً بنظرها عنه، هو الارتفاع المسلمين الأوكد إلى مستوى الإسلام، إذ المطلوب منا معاشر المسلمين أن نجسد النموذجية المحمدية على أقرب ما تكون من كمالها ونصاعتها، ولن يتأتى هذا إلا من خلال احتذاء المسلك النموذجي والسيرة المثالية التي تتحقق للمسلم في ضمير الأمم، ولا يعني هذا الاقتصار على المسلكية المظهرية أو الشكلية التي لا تترجم في الغالب إلا عن إرادة تنصلية سهلة من المسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين.. بل إن الأمر ليمتد إلى مجالات الشد والاستقطاب كافة ، بما تقتضيه من ابراز دائم ومتواصل للفاعلية على صعيد المنجزات .. فالتحلي بشرط الفاعلية الحضارية والنفاذ العلمي لمن شأنه أن يكفل للمسلم أحقية الوجاهة والصدارة بين العالمين ، وفي ذلك ما فيه من أسباب الاستقطاب والاستلحاق ، الأمر الذي يفتح الباب واسعا في وجه الأمم وينشط دافعيتها وتدافعها إلى حظيرة الإسلام..(13/208)
هذا هو السبيل إلى صون الذات وامتلاكها لأسباب رد الاعتبار والكرامة الممتهنة بين الأمم، وليس سبيل التحلل والتطابق المظهري الأخرق بالأجنبي وبخلقيته العرفية التي لا تليق إلا به هو لأنها تعبير عن تاريخيته وحضارته.
"وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث (الجهل والحاجة والنفاق) ليس إلا، وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع ، لأننا نعتقدهم مدنيين، وأننا مكلفون بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب، لأننا نظن فيهم الإنصاف. ألا فليعلم المهملون غير المكترثين أنهم لا يحببون أنفسهم بالانسلاخ من الدين لأي أجنبي كان، وإنما يظهرون أنهم على غير هدى ليس إلا"(1).
19-التعليم حقل حيوي لا بد أن تراعى في مواده ومناهجه شروط الحصانة والتطوير.
وفي المجال العلمي والتعليمي كان النورسي يحرص على ضرورة معاينة ومراقبة ما يلقن وما يعطى من علوم حديثة للناشئة، على أنه يرى أن الطريقة الأفيد في توطيد تلك الرقابة، هو المزاوجة بين العلوم الشرعية والعلوم المستوردة، إذ أن المعارف الشرعية إذا ما تعمقت وأعطيت على النحو الأكمل ، فإنها ستغدو بمثابة اللقاح الناجع في التصدي لأي عدوى أو أي اختراق فيروسي ضار.. .لابد من مصفى ومن عازل يتصدى" لنهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر..فينبغي أن يكون أحد مجاريه قسماً من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع. لان الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يُحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود.، فلا بد من تصفيته بمصفاة الشريعة، وهذا الأمر تقع مسؤوليته على عاتق أهل المدرسة الشرعية " (2)..
20-التمكن المادي سبيل إلى الدعوة إلى الإسلام.
__________
(1) صيقل530
(2) صيقل530(13/209)
على أن أجدى سبيل للدعوة واستقطاب العالمين لرحاب الإسلام ، هو التمكن المادي والنفاذ العلمي والانجازي والإنساني الذي على أمة الإسلام أن تحققه كي تحوز مكانة المثال المحتذى والنموذج الذي يُتَأَسَّى به ويقتدى..
"وأعظم وسيلة لإعلاء كلمة الله في زماننا هذا هو الرقي المادي"(1).
وفي هذا الصدد فإن النورسي يرى الجهاد نوعين، جهاد داخلي ويتمثل في الرهان على العلم والتمكن من الصناعة والرقي المادي، لقد قهرنا الغرب بسلاح العلوم والصناعة ، ولا مناص لنا من الجهاد " بسلاح العلم والتقنية والجهل والفقر والخلاف الذي هو ألد أعداء إعلاء كلمة الله" (2). هذا هو الجهاد الداخلي، وهناك الجهاد الخارجي ، وهو منوط بـ: السيوف الألماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء لأن الغلبة على المدنيين إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه، كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئا. (3).
21-القوة المادية المؤسسة على التوحيد الخالص هي مفتاح المستقبل وشرط مركزي لمحاورة الآخر والتفتح عليه بإيجابية.
فالقوة ينبغي أن تقر في ضمير الأمة ووجدانها أنها لله وحده وإلا استولى الاستبداد وتعطلت طاقة الانبعاث "لابد أن يكون المهيمن والآمر الوجداني قوله تعالى : إن الله القوي العزيز ، وهذا يكون بالمعرفة التامة والمدنية الكاملة - أو بتعبير آخر- بالإسلام ، وإلا سيكون الاستبداد هو المستولي دائما " (4)..
"إن الإسلام وشريعته الغراء " يظهر ثباتا وكمالا ويحقق وجودنا أمام الأجانب"(5).
إنه العاصم لنا من شرور الاختراق والعدوى والمفاسد " ويحول دون دخول مفاسد المدنية إلى حدود حريتنا ومدنيتنا ، ويجنبنا من ذل التسول من أوروبا .
__________
(1) صيقل527
(2) صيقل527
(3) صيقل527
(4) صيقل527
(5) صيقل 525(13/210)
إن "..الإسلام يؤلف قلوب غير المسلمين ، ويخلصنا من السفاهة التي تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية ، ويعلمنا الأخلاق المحمودة التي هي حياة المدنية ، ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة"(1).
لقد كان النورسي يستخذي مرير الاستخذاء أن يرى الساسة وئات التغريب تتجاوز الإسلام بأفكار وإلزامات قانونية وتنظيمية يستوردونها من الغرب، تاركين معين الشريعة التي هيأت الأصول وأوجدت القيم وقاستها على منوال الفطرة والسلامة لتكون للناس المرجع والفيصل، لذا رأيناه يتألم لرؤيته الجهات المتنفذة تسعى إلى استيراد الأحكام من أوروبا " أليس من الجناية على الإسلام أن نستجدي الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرنا ؟
"إن هذا الاستجداء شبيه بالتوجه إلى غير القبلة في الصلاة " (2)..
كان النورسي يؤمن أن طبيعة الشرق واستعداده الفطري يهيئآنه لأن ينقاد بالدين. أما الغرب فإنه ينصاع للفلسفة ، فـ "ظهور أكثر الأنبياء في آسيا والشرق، وظهور أكثر الحكماء والفلاسفة في الغرب، يدل على أن الذي يدفع آسيا إلى الرقي الحقيقي هو الشعور الديني أكثر من دفع العلوم والفلسفة لها ، فإن لم تأخذوا بهذا القانون الفطري وأهملتم الأعراف الإسلامية بحجة التغرب ، وأسستم الدولة على الإلحاد ، فأنتم مضطرون أيضا إلى الانحياز إلى الإسلام - لصالح الوطن والأمة - إقرارا للسلام في الولايات الشرقية الواقعة بين أربع دول كبرى " (3).
__________
(1) صيقل526
(2) صيقل 527
(3) الملاحق 418(13/211)
لقد جنحت المدنية الغربية المستبدة إلى سوء استعمال نعم الله عليها من ثروات ومعرفة وكشوف علمية، وإلى الدفع بمجتمعاتها ومجتمعات البسيطة كلها إلى الاسراف بغية تنمية وازع الاستهلاك غير المرَشَّد من أجل تحقيق الأرباح ومفاقمة الخصاصة وتهييج الشهوات ، مع ما ترتب عن ذلك من تفكك أصاب صلب الأخلاق والروابط بين الجماعات والأمم ، بل وبين فئات الأمة الواحدة ، إذ ".. شجعت طبقات العوام على الصراع مع الخواص ، وإلى جانب ذلك فقد انجزت من الخوارق في ساحة العلم ما يعد من النعم الربانية .. لكن تلك النعم استنقذت في ما لا يفيد ، بل في الضار .. من ذلك الراديو .."(1)
خنقت المدنية الغربية الراهنة في روح الإنسان الرغبة في العمل، فأفقرته. وأمرضته وأزاغته عن الهدى، وجعلته يتحول إلى إنسان عدمي ، حين جعلت الموت مصيرا لا أفق بعده.. إلا أن قوانين القرآن ستهيء المناخ الذي تسير فيه الحضارة في ركاب التقوى..(2)
22-الإعلام سلطان مدمر إذا لم يترشد بقيم نافعة تخدم الإنسانية..
__________
(1) الملاحق 379
(2) الملاحق 380(13/212)
يشخص النورسي بموضوعية بصيرة أضرار الإعلام وما يسببه من توالد خطير على صعيد الآثام والمقترفات ، فوسائط البث الأثيري السمعي في زمنه -أول هذا القرن - قد باتت تعمل على تكبير آثام البشر، إذ أن اللفظة الواحدة أو السيئة الواحدة التي تصدر عن الفرد ستضاعف منها الوسائل البثية بما لا حصر له من المرات، مما سيتلقفه العدد الذي لا يحصى من المتلقين ، فتلك الوسائط البثية كانت - من ثمة - بمثابة آلاف الآلاف من الألسنة ، وليست لسانا واحدا، اعتبارا للنطاق الواسع من الجمهور الذي كانت المادة المذاعة تنتهي إليه وتفاعله بمحمولها الإعلامي السلبي . فوسيط مثل جهاز الراديو - وقد كان رأس الوسائل الإعلامية عندما قوم النورسي خطورة الإعلام في مطلع هذا القرن - مهيأ لأن يتميز بدوره التنويري المفيد، لولا أن استخدام الإنسان له قد جنح به في طريق الإذاية والضرر، عندما اتخذه وسيلة تلهية ماجنة وتسفيه خلقي وتحلل من القيم..
لقد تمثل النورسي للراديو - وهو بتلك الحال التخريبية التي انحرفت به عن طبيعته البناءة - صورة الكائن الشائه ذي الألسن التي لا حد لها ولا عد ، والتي تنبري في ذات الموقف إلى نشر أذاها على الأسماع من غير ما سبيل لإلجامها أو كبحها، لأنها منوطة بإرادة تدميرية عاتية وغير محاسبة ولا سبيل إلى إلجامها، إرادة الإنسان المادي المنجرف وراء الأطماع والنزوات.
لقد تحدث النورسي عن ظاهرة استشراء الشر بواسطة الوسائل الاعلامية المعاصرة ، وذلك في معرض تأويله لبعض ما جاء في الأثر من أنه في آخر الزمان ستعم ظاهرة تضخم ذنوب الفرد . لقد هداه تفكيره في هذا المسألة - ذات الوجه الظاهري المحال - إلى أن الخطيئة الواحدة الصادرة عن الفرد ، عندما تتوسل إلى مرماها الخبيث بالوسيط الإعلامي المعاصر ، فإنها تسلك - فعلا - سبيل التضخم والاستشراء والذيوع . يقول النورسي :(13/213)
"..هناك روايات حول التضخم الرهيب لذنوب المرء في آخر الزمان ، فكنت أفكر هل يمكن أن يرتكب إنسان أضعاف ما يرتكبه شخص واحد من الخطايا والذنوب بألوف المرات؟ ترى أي ذنوب هذه - المجهولة لدينا - حتى تتعرض للموجودات وتمس الكون فتثير غضبه وتزيد حدته ، بل تسبب قيام الساعة ودمار العالم عليهم؟ وها قد رأيت أسبابها المتعددة في الوقت الحاضر . فمثلا لقد فهم من وجوهها المتعددة بجهاز الراديو الموجود لدي ، حيث أن شخصا واحدا يرتكب مليونا من الكبائر دفعة واحدة بكلمة واحدة ، يتفوه بها في الراديو ، فيقحم ملايين المستمعين له في الذنوب.
"نعم إن جهاز الراديو ينطق بلسان واحد ، إلا أنه يدفع مئات الألوف من الكلمات في الهواء دفعة واحدة ، فبينما ينبغي أن يملا هذا الجهاز - الذي هو نعمة غالية عظمى - ذرات الهواء قاطبة بالحمد والثناء والشكر لله سبحانه وتعالى ، إلا أن سفاهة البشر المتولدة من الضلالة تستعمل هذا الجهاز بما يخالف الشكر والحمد لله ، فلا جرم أنه سيعاقب.
"نعم أن المدنية الدنية الظالمة قد عوقبت بكفرانها بالنعمة الإلهية وعدم إيفائها الشكر لله ، تجاه ما أنعم عليها سبحانه من الخوارق الحضارية ، لصرفها تلك الخوارق إلى الدمار حتى سلبت سعادة الحياة كليا ، وأردت الناس الذين يعدون في ذروة الحضارة والمدنية إلى أدنى من دركات الوحوش الضالة ، وأذاقتهم عذاب جهنم قبل الذهاب إليها.(13/214)
"نعم إن كون جهاز الراديو نعمة إلهية كلية يقتضي شكرا كليا ، ولا يكون ذلك الشكر الكلي إلا بتلاوة القرآن الكريم باستمرار ، كي يوصل إلى مخاطبيه الحاليين دفعة واحدة ذلك الكلام الأزلي الصادر من خالق السموات والأرض ، فيصبح كمقرئ سماوي حافظ للقرآن الكريم يملك ألوف الألوف من الألسنة ، وبهذا يكون قد أدى ما عليه من مهمة الشكر والحمد لله ، فيديم في الوقت نفسه تلك النعمة المهداة.." (1). ومن غير شك أن حكم النورسي لهذا الوسيط الإعلامي ، لينسحب على سائر المبتكرات التوصيلية والتثقيفية التي لا تفتأ المدنية الغربية تؤثلها ، إذ أن النورسي لا ينتقص المبتكرات إلا من حيث طبيعة الوظيفة التي تناط بها ، والنتائج الاجتماعية والأخلاقية والروحية التي تتولد عنها.. من هنا يتبين موقف النورسي المرحب بالمبتكرات ، والمنوه بالعقل الذي ابتدعها .. دون أن ينسه ذلك أن منجزات العقل إنما هي توفيقات إلهية يجب على العباد أن يديموا الشكر عليها، بتسخيرها في الوجهة التي تشمل البشر فوائدها ، لا أن تتحول إلى خطر يتهدد المصير الإنساني ويدفع به نحو الهلاك..
لقد رأينا النورسي يتبنى جديد المبتدعات المحققة سواء في عالم التوصيل والصناعة والعلوم ، ويعتمدها في خطابه اعتماد إعجاب وامتنان للخالق ، فقد جعل من خراقة السينما مثلا شاهدا ملازما ظل يستدعيه في أحاديثه بصورة لا تكشف إلا عن روح متفتحة ومؤمنة بأن الله قد أودع في الإنسان من القدرات والطاقات ما يجعله ينجز الخراقات فعلا.
__________
(1) الملاحق 122(13/215)
بل لقد ألفينا النورسي يربط بين ظاهرة المعجزات التي تحققت للأنبياء والرسل وبين كمائن العقل الإنساني وما هيأه الله له من إمكانات الإبداع ، هذا الإبداع الذي يجدر به أن يجد في طبيعة تلك المعجزات المحققة للمصطفين حافزا وباعثا يجب أن يمضي به كل مضاء شريطة أن يكون المقصد من وراء ما ينجز الإنسان من بدائع، مقصدا إنسانيا، نبيلا، متوافقا مع تعاليم الله، غير ضار بالبشر ولا بروحية الفطرة فيهم.
23- إن النورسي قد أناط جهده بمطمح تحوير وجهة الفكر الإسلامي في راهنه المتخلف ، وبالعمل على أن يسوسه بسياسة القرآن العظيم ويقتحم به طريق الانبعاث ، ولم يكن مجرد مروج لبضاعة فكرية مستجلبة من سوق الجملة.
"..أما رسائل النور فلكونها معجزة معنوية للقرآن فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود ، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة ، حتى حكم كل من ينعم النظر فيها بأنها أصبحت ضرورية في هذا العصر كضرورة الخبز والماء.. " (1)
فهرست
فاتحة000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
تمهيد
1- قراءة أولى في الإيكونوغرافيا000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
استجماع لمحصلة الشواهد والخطوط 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000
مدخل إلى تخوم الشخصية 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي.. ووازع إعادة المفهمة والتقويم 00000000000000000000000000000000000000000000000000
القوامة الرجولية والرؤية التجريدية 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
__________
(1) الملاحق105(13/216)
النعرة القرآنية وبطولة الوجدان 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
نفسيته نفسية جمع وتوليف،.. والرسائل تجسيد انجازي لذلك 00000000000000000000000
قساوة الإعتراك 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
2- النورسي مجدد القرن 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
3- النورسي تجنيدي.. 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
4- الثكنة والجند.. وواقع الارتهان الحضاري 000000000000000000000000000000000000000000000000
5- الديمقراطية 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
هل فكر النورسي ديموقراطي؟ 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
حتى الأموات يشتركون في أمر الشورى 00000000000000000000000000000000000000000000000000
حقوق الأقلية مكفولة ضمن منظور السهر على المصلحة العامة 000000000000000000
آفات الفكر الديمقراطي الاستنساخي في المجتمعات المسلمة0000000000000000000000000
الديمقراطية الغربية باب لتوطيد خلق الدناسة 000000000000000000000000000000000000000000000
الفكر الديمقراطي فكر يشيع الفاحشة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
6- النورسي .. ونسيج نفسيته 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
لم تذق نفسه مرارة الهوان 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الخطاب .. ومنازع الإباء والعزة النفسية 000000000000000000000000000000000000000000000000000
1-الإفضاء الصريح السافر: 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000(13/217)
الجوهر الصديقي في روح النورسي كما يعكسها الخطاب 0000000000000000000000
2-الإفضاء الاستعاري 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
المواجهة.. والحدة، والإباء.. واستراتيجية الخطاب التنويرية 000000000000000000
البكاء والشكوى 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
على طريق التحول والانقلاب 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
7- هل النورسي رومانسي ؟0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الخيال وقدرة التمثل ولقط المناظر عند النورسي 0000000000000000000000000000000000
1-الخيال والمخيلة 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
2-خيال النورسي .. الحركة واللون والدلالة 0000000000000000000000000000000000
3-المخيال يمتح من حقل الجندية 000000000000000000000000000000000000000000000000000
8- مَن المازوشي؟ 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي وحال العزوبة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
من عرف نكهة اللذة الطبيعية البشرية فهل يعني ذلك أنه قارفها؟ 00000000000
9- النورسي وجذور رؤيته الإنسانية 000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الإنسانية المعاصرة.. على حلبة الصراع الحضاري 00000000000000000000000000000
جدلية التعايش والاختلاف 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
ديمومة تجدد الإنسان تقتضي ديمومة تجديد الإيمان 000000000000000000000000000000
الإنسان.. معجزة خلقية إلهية 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000(13/218)
اليوتوبيا الإنسانية 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الإنسان الأرجح 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الفلسفة الفردية والفلسفة الجماعية.. وحقوق الإنسان 00000000000000000000000000000
بواعث السقوط في النفس البشرية 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النفس 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
10- السياسة 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
عفونة المناخ السياسي وتأثيرات الغرب.. 000000000000000000000000000000000000000000000
التاكتيك في مضمار السياسة 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
السياسة سبيل السقوط والتردي الروحي والوجودي 000000000000000000000000000000
11- المرأة في رسائل النور 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي والمرأة 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
المرأة والرجل .. ومبدأ الكفاء 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
العزوبة وروح المسؤولية حيال القرآن وخدمته 000000000000000000000000000000000000
12- الفقه الأكبر 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
السياسة من منظور الفقه الأكبر 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
المستوى التربوي من منظور الفقه الأكبر 00000000000000000000000000000000000000000000
الفقه الأكبر فاعلية معنوية ناجعة 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000(13/219)
الفقه الأكبر: محاذير التحفظ والحيطة عبر الطريق 0000000000000000000000000000000
13- التواصل البناء والتثمير الإيجابي لمعارف ومنجزات الآخر 0000000000000000
النورسي ودواعي التواصل وأوجهه 0000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي الداعية الألمعي 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي وخطاب النقمة ورد الفعل 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000
النورسي يدعو إلى التغاضي عن عداوة الغرب لنا 000000000000000000000000000000000
لابد من رؤية جديدة للذات من أجل إقامة تعامل إيجابي بين الحضارتين
إعادة الاعتبار للقطاع المعنوي من مقدراتنا الوجدانية 00000000000000000000000000000
تحصيف التراث ودمجه في حياتنا توسيعا لمساحة المرجعية في السلوك والفاعلية
عقدة الآخر مركبة، لأنها تختص بذاته أولاً وبنظرته إلى الآخر ثانياً 00000000
الغرب مطالب بأن يتجاوز محوريته أو لوغوسانتريزميته المرجعية 000000000
الأمم المقهورة وضرورة أن تعمل بكد على تجاوز هوانها 0000000000000000000000
علاقة الندية والكِفاء الحضاري شرط لوقوع التفاهم والتبادل المصلحي المشترك
الصحوة وشروط النهوض 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
التاريخ خبرة حيوية إيقاظية فذة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000
الدعوة إلى الاحتذاء بالأمم التي شقت طريق النهوض مثل اليابان 000000000000
النورسي يشير باصطناع منطق مرشَّد نافذ وفعال 0000000000000000000000000000000000
الإفتاء بالانتفاع من معارف الغرب ومن فكرهم النظري 0000000000000000000000000
أمراض هدامة ينبغي على المسلمين أن يتلافوها 000000000000000000000000000000000000
مفهوم القومية العرقي عتبة عبرت منها إلينا أمراض الإلحاد والإذابة 000000000000(13/220)
أركان اجتماعية إسلامية تلوثت بقيم الغرب وخرجت عن نطاقها السوي
تقريرات ومرتكزات عامة رأينا النورسي قد أناط بهاعملية التواصل مع الغرب 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000(13/221)
بديعُ الزّمان النُّوْرسيْ
وإثبات الحقائق الإيمانية
(المنهج والتطبيق)
الدكتور عمار جيدل
رئيس قسم العقائد والأديان
كلية أصول الدين
جامعة الجزائر
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيّد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله و على آله الطيّبين الطاهرين وصحبه أجمعين، وبعد فقد يسّر لنا الله سبحانه تعالى – المتفضّل بنعمه التي تجزى – كتابة هذا المؤلف عن رائد من رواد المقاومة الدينية والفكرية في المجتمع الإسلامي الحديث" العلامة النورسي" المعروف بـ" بديع الزمان".
اخترت الكتابة عنه من زاوية "إثبات الحقائق الإيمانية" بوصفها المحور المركزي الذي تدور عليه جميع مؤلفاته - رسائل النور- من جهة، و ما يفرضه تحصيل وتوصيل وتأصيل الثقافة الإسلامية في العصر الحديث من جهة أخرى، وخاصة في ضوء هجمة الإقصاء بل والإفناء التي أريد تسليطها على الثقافة الإسلامية وحملتها.
فقد بدا لنا أن النورسي أنجز عملا حضاريا حقق بموجبه المقاصد الرئيسة من الخطاب الإسلامي الذي تفرض عليه طبيعته الإلهية مراجعة التقليد بالتأصيل، وقد فرضت هذه الميزة على النورسي تناول المسألة من الزوايا التي عمد الحداثيون المتغربون على استغلالها للتشكيك في الإسلام كرسالة ربانية ذات بعد حضاري إنساني.
تناول النورسي قضيته المركزية من جهة الزوايا التي حصل فيها الغبش والخلل، فكانت الرسائل موفّقة إلى حد كبير في إثبات الحقائق الإيمانية من زوايا محورية:
* وفق النورسي إلى تحصيل العلوم الإسلامية بطريق التعليم في زمن المادية الإلحادية الإقصائية، و التي كانت تتحيّن فرصة للانقضاض على الأمة باجتثاث دينها و موروثها الحضاري من ضمير الأمة بل و من الوجود نفسه، فكانت جهوده دالة على عبقرية فذّة، قطعت الطريق على رواد الاستبداد الديني والثقافي والسياسي.(14/1)
* سمح النجاح المسجّل في التحصيل بتهيئة الشروط الموضوعية لتوصيل المعارف، فكانت خطته في التعليم يسيرة بسيطة، جعلت من بيان الغايات الوظيفية من الإسلام لحمتها وسداها، وبهذا حال دون العقلية التي كانت سببا في ضياع القراءة الهدائية للدين.
* تحقيق الهدفين السابقين فرض على النورسي التركيز على التأصيل الشرعي لما رام تحقيقه في المجتمع الحديث، وبهذا الصدد عمد إلى المصادر الإسلامية الأصيلة( الكتاب، و السنة) فاستثمرها بشكل قرّب منه البعيد مذهبيا بل وحتى إيديولوجيا، وزاد إلى ذلك حسن توظيف الخبرة المعرفية الإسلامية، وذلك طبعا في إطار القراءة الهدائية للإسلام.
يحق لنا في إطار الغاية المركزية ( إثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم) من مؤلفاته، و بعد تحديد السياق العام للموضوع أن نتساءل عن ماهية الإثبات وحقيقته في مؤلفات النورسي، وما هو منهجه المتّبع؟ وما مظاهر ذلك في العمل التطبيقي المنجز؟
يفرض الجواب عن السؤالين السابقين التعريف ببديع الزمان والظروف التي نشأ فيها متعلما و معلّما.
هذه الطبعة الأولى وفق ما بدت للمؤلف وقد يعود إليها في قابل الأيام بالتنقيح والزيادة وفق ما يظهر من دراسات أكاديمية متخصصة.
الإهداء
و يحسن بنا في هذا المقام إهداء مؤلفنا إلى كل رواد المقاومة الفكرية في البيئة الإسلامية والإنسانية، أهدي هذا العمل إلى كل عامل على تكريس المقاومة الدينية والفكرية كمسلك حضاري رئيس لتجاوز الشمولية المتترسّة بقوة الاقتصاد والإعلام ووسائل الدمار الشامل ونفوس وعقول بل وقلوب أصحاب السطوة عندنا، حتى غدا التفكير في المقاومة جرما بحكم القوانين المحلية والدولية، فضلا عن تجسيده صراعا حضاريا بمفهومه الإنساني، لقد أصبحت فكرة الانخراط في الحضارة الجديدة – التي يراد فرضها على الضعفاء - أمرا حتميا من منظور اقتصادي، بعد أن كان ضرورة (حضارية) فكرية وفلسفية ملحّة في الماضي القريب.(14/2)
يسّر الله سبحانه وتعالى للإنسانية روادا عمدوا إلى مواجهة المتترّسين والمتترّس، فقد تكرّم الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الرواد بجعلهم في مقدمة صفوف العاملين على تطعيم الأمة ضد الشمولية الحضارية – غير الإنسانية - بجميع مشمولاتها (التربوية والثقافية والاجتماعية..)، و زيادة في التفضّل خلّد الله سبحانه وتعالى ذكرهم، خاصة وهم أنموذج الإخلاص والصدق و الأمانة، فلهم منا جميل الثناء والدعوات في ظهر الغيب.
أهدي هذا العمل إلى علاّمة الجزائر عبد الحميد بن باديس ومن بقي من تلاميذه على العهد ثابتا غير مبدّل، وإلى العلاّمة بديع الزمان النورسي وتلاميذه الثابتين، وكل عامل على تبليغ مسلكه وتجسيده برنامجا وخطة ومنهج حياة، وفاء منا وعملا على تكريس المقاومة الدينية والفكرية كمسلك رئيس للتعلّم والتعليم والتأصيل في مواجهة التقليدين الغربي والشرقي.
مقدمة البحث:
يعتبر العلماء في الثقافة الإسلامية ورثة الأنبياء، فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر"(1)، لهذا يعد عمل العلماء الرساليين امتدادا لعمل الأنبياء، ينسجون على نسقهم في اجتثاث أممهم من دركات فساد الاعتقاد والأخلاق والقوانين وسائر الأحوال.
والقيام بتلك الوظيفة على أكمل وجه يقتضي من العلماء استصحاب المعطى الثقافي والحضاري الذي تتحرّك فيه دعوتهم فاعلة ومتفاعلة، ولعل أصدق أنموذج معبّر عن استحضار تلك المعطيات من الناحية النظرية في صياغة نظرية أصيلة في التغيير، العمل الجبار الذي أنجزه الشيخ سعيد النورسي، فقد كان بحق رائدا من رواد المقاومة الفكرية في المجتمع العثماني الحديث، إذ تجسّدت في جهوده وراثة الأنبياء في العلم والعمل(2).
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم
(2) أنظر سيرته الذاتية 31(14/3)
وتمكينا لتلك الفكرة عمليا حاول رحمه الله مناقشة أفكار المعجبين بالغرب وثقافته في البيئتين العربية والتركية، وقد كانت مؤلفاته أوضح دليل على ما ذهبنا إليه. لهذا كان اختيارنا للكتابة عن بديع الزمان النورسي مبررا بالأسباب الآتية:
1- معايشته للأحداث السياسية والفكرية التي كانت تحاك خيوطها في بلاد الغرب بغرض الإجهاز على الدولة العثمانية، وقد فرضت عليه تلك المعايشة المشاركة الفعلية في التأسيس لتيارات المقاومة الفكرية والمساهمة في جهودها.
2- اهتمامه الكبير بالمطارحات الفكرية في بيئة خيّم عليها الخمول والاستقالة الاختيارية من سلك المقاومة الفكرية على الأقل، و تكمن عبقريته في العمل على بعث الوعي في بيئة سيطر عليها الآخر ثقافيا وأخلاقيا، فسعى بما وهبه الله من قدرات عقلية - لا مثيل لها - إلى دفع تشكيك الأمة في دينها وخبرات أسلافها الثقافية والأدبية والسياسية، وقد نجح أيما نجاح في الحفاظ على جذوة الإيمان متّقدة في قلوب المؤمنين بأسلوب نفّاث كسر الطوق الذي سلّطته السياسة المادية وأهلها.
3- اهتمامه ببعث سلطان القرآن في المجتمع بواسطة نشر حقائقه الناصعة، واعتبر ذلك من أوجب الواجبات في جو المؤامرة التي تحاك بغفلة من البعض وبمساهمة ومباركة البعض الآخر.
4- تعرّضه لكثير من المضايقات والمطاردات والإهانات في المجتمع العثماني الحديث، وخاصة تلك التي سلّطت عليه من قبل التيارات الغربية على تنوّع اهتماماتها (السياسية أو التربوية…) .
5- يتبادر إلى الذهن في هذا المقام التساؤل الآتي: ما سرّ الإهمال الذي سلّط عليه في البيئة العربية على الأقل؟
لماذا كتبت الشهرة لمن هم أقل منه شأنا وعلما؟ فكيف بقي الرجل مجهولا إلى حد ما حتى قيّض الله بعض أتباعه لنشر فكره في بيئتنا العربية الإسلامية؟ القضية تحتاج دراسة متأنية.(14/4)
سيعالج بحثنا بعض من تلك القضايا في إطار البحث عن إثبات الحقائق الإيمانية منهجا تطبيقا، ومعالجة هذه المسألة يقتضي تقسيم الموضوع على النحو الآتي:
أولا :حديث عن مسرح الأحداث
ثانيا:التيارات السياسية التي عاصرها
ثالثا:التيارات الثقافية التي عاصرها
رابعا: مولد الشيخ ونشأته العلمية
خامسا:جهاده العلمي والسياسي
جعلت عمدتي في الكتابة عن العلامة النورسي مؤلفاته أولا ثم ما كتب عنه ثانيا، فكان أول ما استثمره ما كتبه عن نفسه في ثنايا مؤلفاته وخاصة كتابه " سيرة ذاتية " المعبّر عن معايشة الأزمة السياسية ومنطلقاتها الفكرية في المجتمع العثماني الأخير ، وزاد المسألة وضوحا بما كتبه في مجموع مؤلفاته الرائعة "رسائل النور"، كما استفاد الباحث من مجموعة من المؤلفات التي ترجمت له، منها ما كتبه الأستاذ الدكتور محسن عبد الحميد سواء في (المرحومة) مجلة الأمة القطرية أو في كتابه الذي جمع فيه تلك المقالات ، وخاصة كتابه "النورسي الرائد الإسلامي الكبير، وكتابه النورسي متكلم العصر، إضافة إلى ما كتبه الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وعلى الخصوص كتابه " من الفكر والقلب "، بالإضافة إلى بحوث الأستاذ إحسان قاسم المخصصة للتعريف بالنورسي، منها مساهمته في ملتقى بديع الزمان النورسي فكره ودعوته الذي أقيم في الأردن سنة 1998م، إضافة إلى ترجمته المبثوثة هنا و هناك، منها ما كتبه الأستاذ الآنف الذكر، والأستاذ حمزة المكسي وخاصة تلك التي ترجمها إلى العربية طاهر الشوشي.
كما استثمر الباحث مجموعة أخرى من المؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر:
كتاب سعاد ألكان Suad alkan
Bédiuzzaman said nursi(monographie d’un grand réformateur(mujadid) du siècle
بالإضافة إلى أعمال المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي والذي كان عنوانه " تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين".
وكتاب شريف ماردين Serif mMrdin(14/5)
Religion and social change in modern Turkey ,The case of Bediuzzaman Said Nursi
زيادة إلى ما سلف فقد استفدنا من بعض الأطروحات العلمية كرسالة الطالب حسن عبد الرحمن بكير المقدمة لنيل درجة الماجستير بكلية الدعوة في ليبيا، ومجموع أعمالنا منها – وخاصة في جانبها التاريخي - بحثنا المقدم لنيل درجة الماجستير في أصول الدين من جامعة الجزائر بعنوانه "منهج الاستدلال على وجود الله عند شيخ الإسلام مصطفى صبري"، وبحثنا المقدم لنيل درجة الدكتوراه في التخصص نفسه ومن المؤسسة ذاتها بعنوان : " الكوثري وآراؤه العقدية - المنهج والتطبيق -" ، والبحث كما هو بيّن من عنوانه يستدعي الاستفادة من كتب أخرى تناولت الحديث عن شخصيتنا أو أوضاعها التاريخية عرضا.. هذه عيّنة من المؤلفات التي استثمرتها في إنجاز هذا البحث، ولنا عودة إليه في قابل الأيام وفق ما تجود به دور النشر والتوزيع من مراجع ومؤلفات جديدة أو مقالات.
قدّمنا هذا الجهد خدمة لأولئك الذي عملوا على خدمة أمتهم في زمن قلّ فيه الوفاء لأصالتنا، وكاد أن يأفل الاهتمام ببعث مشروع حضاري مؤسس على ثقافتنا الأصيلة وخاصة في جو ما يحيط بنا من إكراهات محلية وجهوية ودولية.
يفرض ما سبق تقريره العمل على بعث الاهتمامات الحضارية في الحاضر وتعهدا أكبر لبذرة البناء الحضاري التي كان من أبرز روادها العلامة النورسي، إنه عمل على التواصل بين المشرق والمغرب في إطار أصالة الأمة، تحقيقا لجزء مما يجب علينا القيام به تجاه أبنائنا وجيلنا .
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين
الجزائر 1 شوال 1421هـ
الموافق 27 ديسمبر 2000م
الفصل الأول
مسرح الأحداث
1- فرشة عن الدولة العثمانية(14/6)
فهم شخصية عثمانية تركية يقتضي الإحاطة بالظروف الحضارية التي كانت فيها هذه الشخصيات فاعلة ومتفاعلة، لهذا أرى نفسي ملزما بعرض صورة مختصرة عن تلك الظروف السياسية والفكرية والاجتماعية، و نتبعه بعد ذلك بترجمة موجزة لشخصية العلامة النورسي مع بيان لمجمل آرائه الإصلاحية.
عاش النورسي كل فترة الشباب في كنف الدولة العثمانية وبالتحديد في أواخر أيامها، وقد كانت دولة أصيلة، إذ كانت نواتها الأولى عشيرة من الترك تسكن في أنحاء الأناضول(1).
بدأت الدولة العثمانية وفق السنن الكونية صغيرة على يد عثمان بن أرطغرل (699هـ/1299م) (2) المتحمّس للعقيدة الإسلامية ومشاورة الفقهاء حيث أوصى ابنه وهو على فراش الموت بتوقير العلماء والتزام الشرع الشريف، والتشاور مع أربابه في كل ما يقدم عليه، كما أوصاه بتعظيم أمر الله والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته(3).
__________
(1) أنظر الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها/عبد العزيز محمد الشناوي1/33،البلاد العربية والدولة العثمانية/ساطع الحصري 11-13، المسألة الشرقية/محمد ثابت الشاذلي 397، يقظة العالم الإسلامي/فرنو ترجمة بهيج شعبان1/67،الصراط المستقيم/(ضمن كتاب مورغان)بحث لحسن جنتاي2/61،دائرة معارف القرن العشرين/محمد فريد وجدي 2/546.
(2) نسجت حول شخصيته أساطير كثيرة منها زواجه من مال خاتون، ولقاء والده بزاهد مسلم أثّر في صياغة شخصيته، وقيل أيضا أنه رأى بشرى في منامه،أنظر وجدي المرجع السابق والشناوي مرجع سابق.
(3) الحصري مرجع سابق129-140، الشاذلي/مرجع سابق60-62، الحروب العثمانية الفارسية/عبد اللطيف الهريدي19، دراسات تاريخية في النهضة العربية/محمد بديع الشريفي23.(14/7)
وهكذا ظهرت الدولة العثمانية قوية منذ أيامها الأولى، فجمعت إلى الطبيعة العسكرية لأفراد جيشها(1) قوة السلاح وقوة الإيمان، وقد خولت تلك العناصر لرجالها عبور البحر الأسود (757هـ/1356م)(2) ثم فتح القسطنطينية (857هـ/1453م)، وامتد سلطانهم إلى سائر بلدان شبه جزيرة البلقان.
وواكب هذا الفتح تنازل المتوكل على الله عن الخلافة (922هـ/1517م) لصالح العثمانيين، و زامن هذا انضمام سوريا ودخول العثمانيين مصر، واستلام السلطان العثماني مفاتيح الحرمين الشريفين من ابن شريف مكة،.. وهكذا دواليك إلى أن أصبح السلطان العثماني خليفة المسلمين(3).
وتوالت الفتوحات تترى الواحدة بعد الأخرى، فشملت آسيا وأوربا وإفريقيا، وقد ساعدتهم الظروف الدولية العسيرة التي مرت بها المنطقة(4) وما صاحبها من انقسامات على تحقيق المراد، فقد كان العثمانيون ملاذ المسلمين الذين انقسموا إلى دويلات متناحرة متنافرة يتهددها الصليبيون من كل جهة، بسبب احترام وصية المؤسس الأول.
وبهذا بسطوا سلطانهم على كثير من بلاد المسلمين بسرعة مذهلة، لأنها كانت بحق دولة الأخلاق دولة الهوية الإسلامية، لهذا ليس مستغربا منها إجابة المستنصرين من المسلمين، خاصة أولئك الذين يهددهم التناحر الداخلي والضغط الخارجي.
لهذا حق لنا أن نطلق عليهم اسم منقذ العالم الإسلامي من الاندثار، إذ ما كان مستبعدا أن تتقلص دولة الإسلام والإسلام نفسه كدين عالمي من تلك الديار باستقرار الصليبيين فيها(5).
__________
(1) الشناوي مرجع سابق1/33، الحصري مرجع سابق17.
(2) الهريدي مرجع سابق19
(3) الشناوي مرجع سابق1/19-27، وجدي مرجع سابق2/547، الحصري مرجع سابق43-45،15-17،32.
(4) الهريدي 18-19، الحصري15، الشناوي1/63.
(5) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين/مصطفى صبري1/7(14/8)
وفي ذلك يقول محرم(1)
لولا بنو عثمان والسنن الذي
شرعوا لما وضح السبيل الأقوم
سطعوا بآفاق الخلافة فانجلى
عنها من الحدثان ليل مظلم
فهم ولاة أمورها وكفاتها
وهم حماة ثغورها، وهم هم(2)
واستقر العمل في الدولة على النسق نفسه إلى أن بلغت الدولة ذروتها في عهد السلطان سليمان القانوني (1512ـ1520م) بعد تغلبه على الشاه الصفوي (3) وهيمنته على المقدسات الإسلامية ودخولها تحت إشرافه(4)، وقد واكب هذا النمو والازدهار ظهور بعض بوادر التململ في المجتمع العثماني، تململ كانت له صلة بالتطور العلمي الذي ظهر في أوربا، مما بعث في الأوربيين أحقادهم الصليبية من جديد وأطمعهم في بلاد المسلمين، فخططوا لضرب الدولة العلية وإضعافها ليتسنى تقسيمها في قابل الأيام (5).
__________
(1) أحمد محرم بن حسن عبد الله شاعر مصري له ديوان يعرف باسمه، وديوان الإسلام أو إلياذة الإسلام ضمّنها تاريخ الإسلام شعرا، ولد سنة 1294هـ/1877م، ونفي بدمنهور مصر ودفن بها سنة 1364هـ/1945م
أنظر مشاهير شعراء العصر /أحمد عبيد1/114
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/محمد محمد حسين 1 /28
(3) الهريدي51-53
(4) حركة الجامعة الإسلامية/أحمد فهد الشوابكة ، الحصري 9-10
(5) حاضر العالم الإسلامي/ لاوثروب تعليق شكيب أرسلان ترجمة عادل نويهض 3/208(14/9)
وقد ساهم في مشاريع الإجهاز على الدولة نخبة المجتمع الأوربي كما تؤكده شهادة دجوفارا وزير خارجية رومانيا في كتابه " مائة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية "، الذي أكّد فيه تنوّع مشاريع الإطاحة بالدولة العثمانية، و قد ساهمت في وضعها وتنفيذها أغلب الدول الأوربية ( فرنسا، وإنجلترا، وروسيا، وبلجيكا، وهولندا، وإسبانيا،...) وبكفاءات علمية وسياسية وعسكرية عالية المستوى (رجال الدين، والساسة، والأدباء، والأطباء، والعسكر ..)، منهم على سبيل المثال لا الحصر لايبنيتز وبوانكرييه وفولتير وغيرهم كثير…(1)
بلغ الأوربيون ما أرادوا على حين غفلة من العثمانيين، فغزت فرنسا الجزائر(1830م) ثم احتلت تونس، وامتلكت إنجلترا قبرص ثم غزت مصر، واحتل الروس رومانيا (البغدان).. وذكى كل ذلك التنافس على تركة الرجل المريض – الدولة العثمانية - حسب تعبير قيصر روسيا للسفير الإنجليزي(2).
و قد كان لهذه المؤامرات أثر كبير في تحريك همم المهتمين بالشأن العثماني، فاقترح بعضهم للخروج من التخلّف تمثّل مسالك الغربيين في الإدارة والحكم دون الوقوع في شراك أفكاره.
ومال فريق آخر إلى بعث محاولات إصلاحية وفق المنظور الإسلامي الأصيل تزعمهم في بدء أمرهم عثمان الثاني (1032هـ/1629م)…. واختار فريق ثالث النمط الغربي وكان من أوائل زعمائهم سليم الثالث (1222هـ/1807م)، وسرت تلك المسالك إلى العثمانيين، مما سبب وقوع تطاحن بينهم، فكانت الكلمة الأخيرة للأنموذج الأخير الذي أضفى عليه السلطان عبد المجيد صبغة رسمية مستعينا بأحد المعجبين بالفكر الغربي (مصطفى رشيد).
__________
(1) أنظر المرجع السابق، وانظر بحثنا أوجين يونغ وتأريخه للاستعمار في العالم الإسلامي،بحث منشور بالجريدة الأسبوعية البصائر الجزائرية الصادرة بتاريخ 26/06/2000(ظهرت في خمس حلقات متتابعة)
(2) المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17(النص بالإنجليزية).(14/10)
و تزامنا مع ذلك برزت إلى الوجود محاولات إصلاحية تلفيقية على يد أحمد الثالث (1143هـ/1730م)، والصدر الأعظم إبراهيم باشا (1154هـ/1742م)(1)
وتلافيا لهذه الوضعية الخطيرة التي آل إليها حال المجتمع العثماني حاول السلطان عبد الحميد الثاني إرجاع الدولة إلى سابق عهدها المجيد، فعمل على صد التيارات الانفصالية وحل المشاكل التي تتخبّط فيها الدولة، فعمد إلى الحيلة والتحايل من أجل حماية هذا الدرع الواقي لرسالة الإسلام من الاندثار، وحكم البلاد من جرّاء ذلك أكثر من ثلاثين سنة (1876ـ1909م)، عاش في ظلها النورسي أعزّ أيامه، ولهذا يعد التفصيل في وصف ذلك العصر مفتاحا أساسيا في فهم شخصية النورسي وكيفية تفاعله مع الأحداث السياسية والثقافية التي عاصرها في العهد المشار إليه أو الذي تلاه وخاصة فترة حكم الاتحاد والترقي ثم مرحلة الكماليين.
1/1 عهد السلطان عبد الحميد الثاني:
استهل عمله في ظل ظروف مأساوية بدأت بوفاة عمه عبد المجيد (1277هـ/1861م) واغتيال أخيه عبد العزيز (1293هـ/1875م)، وقد صادف ذلك تسرّب الأفكار المناهضة للأصالة الإسلامية من خلال مراد الخامس الذي كانت تربطه بالدوائر الإنجليزية والماسونية علاقات حميمة بواسطة مدحت باشا (2).
بدأ السلطان حركته الإصلاحية بوضع صيغ فعّالة للحد من خطورة التوجهات الانفصالية المشجعة من قبل الأوربيين(3)، قال السلطان عبد الحميد الثاني: " منذ قرن كامل خبرنا بآمال ونوايا العناصر البلغارية والروسية في الاستقلال الذاتي، يسعى البلغار والسلاف نحو التخلّص من حكم العثمانيين".(4)
__________
(1) تاريخ الدولة العلية/محمد فريد 253،صفوت 21-22، الحصري81-93، الشوابكة24
(2) حركة الجامعة الإسلامية/ الشوابكة11-12.
(3) الدولة العثمانية…/الشناوي2/1065-1066،نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة العثمانية/محمد الخير عبد القادر63.
(4) مذكراتي السياسية / السلطان عبد الحميد 86،90-91.(14/11)
كما عمل في ذات الوقت على منع التدخّل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدولة والحد من خطورة الحركة الدستورية ( كانت على أشدّها في تلك المرحلة) (1) بهدف بعث حركية سياسية إسلامية جديدة تتوخى تطبيق الشريعة وتتمثّل مقاصدها، فبدأ بخاصة نفسه آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ومحاربا لمظاهر الفساد الإداري والسياسي داخليا وقطع الطرق عن الأطماع الأجنبية خارجيا مع تقشّف متميّز.
وفي هذا الجو السياسي المشحون بالمؤامرات ظهرت عدّة حركات سياسية جديدة بعضها متّصل بالأمة وآمالها وآلامها، وبعضها الآخر يتوخى تحقيق رغبة الآخر في البلاد العثمانية، فمن الأولى كانت حركة الجامعة الإسلامية، ومن الثانية كانت حركات الاتحاديين والكماليين.
1/2 الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية:
__________
(1) البلاد العربية والدولة العثمانية/الحصري 93-94، حاضر العالم الإسلامي 1/308، الشناوي 2/1068-1071، الخلافة الإسلامية/سن جيونج 193، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين /صبري 4/331-334.(14/12)
ظهرت الجامعة الإسلامية كفكرة فعالة على الساحة السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي على يد شخصيتين عالميتين، أولاهما جمال الدين الأفغاني (1)، وثانيتهما السلطان عبد الحميد الثاني. الذي حاول من منصبه السياسي استغلالها باستعطاف المسلمين نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها بلاد المسلمين بصفة عامة، وخاصة في ظل عدم وفاء الأوربيين بما أبرم من اتفاقات في مؤتمر برلين (1878م)، وتسرّب تيار الإصلاحات وفق المنظور الغربي في دواليب السلطة وقد واكب ذلك أزمة مالية خانقة مصحوبة بتحديات عسكرية(2).
ورغم اتفاق الرجلين من حيث الغاية إلا أنهما - للأسف الشديد -اختلفا من حيث الوسائل والأساليب المحققة لتلك الغايات.
فالأول: يرى أن أقصر طريق وأنجعه يتلخّص في الثورة على الأنظمة ثم تتحد الحكومات، ولهذا اتهم بتأسيس جمعيات سرية و خاصة بعد قتل الشاه(3) الذي أتهم به بقتله أحد مريديه، وقد قالوا بأنه قال حين قتله خذها من جمال الدين".
أما الثاني: فيرى الحل في إحياء الدعوة إلى الخلافة التي تمثّلها الدولة العثمانية.
__________
(1) العالم الإسلامي والاستعمار السياسي/أنور الجندي170،الشناوي مرجع سابق 3/1813-1816.
(2) الدولة العثمانية وشبه جزيرة العربية/رجب حراز53-55، مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني 4-5، مجلة المجتمع/مقال عبد الحميد حرب عدد 532 ، يقظة العرب/جورج أنطونيوس 60، حاضر العالم الإسلامي2/308، الموسوعة الإسلامية/محسن الأمين 6/43-46، انتهاء الخلافة العثمانية/حلمي أحمد شال 15.
(3) الشاوي /مرجع سابق 3/1213-1216.(14/13)
لهذا لم يعمّر اتفاقهما طويلا نظرا لاختلاف المسلكين، وتذكية خلافهما من قبل قوى(1) لا تريد الخير للأمة، فأفلت فكرة الجامعة الإسلامية، لتظهر بعد ذلك على يد السلطان عبد الحميد الثاني في ثوب جديد عرف باسم الخلافة الإسلامية.
بدأ السلطان دعوته إلى الخلافة ( سنة 1904م)، وذلك بعد أن هيّأ لها الشروط الموضوعية - حسب تقديره - بغرض قطع الطريق على التيار الدستوري(2) والحيلولة دون توغّل الأوربيين في البلاد، والسعي إلى إحكام السيطرة على الولايات العربية وغيرها من الولايات.
حاول السلطان وخز الضمير الإسلامي في الداخل والخارج لعلّه يظفر بنصير لمواجهة الاستدمار العالمي،إلا أن الأزمات الداخلية حالت دون بعث عناصر ديمومة فكرة الخلافة الإسلامية(3)، ورغم المصاعب المحيطة به من كل جانب لم ينثن وقام بأعمال جبارة لم يكتب لها النجاح المنتظر للأسف الشديد.
وتتلخّص تلك المحاولات في التركيز على مواجهة الأفكار الأوربية المتلبّسة بالتنظيمات الدستورية في الداخل من خلال الدعوة إلى إحياء الخلافة والالتزام الفعلي بأحكام الشريعة الإسلامية.
بدأ السلطان بخاصة نفسه متقشّفا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر(4) محاربا لمظاهر الفساد مع عمل دؤوب من أجل تحقيق الإصلاح الشامل.
__________
(1) أنظر اليقظة القومية الكبرى/حسين صبحي 42-44، جمال الدين الأسد أبادي/ميرزا لطف الله خان 140-141.
(2) حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة 38.
(3) سياسة السلطان عبد الحميد/محمد عبد اللطيف الجعفري 40-41.
(4) ذهب أنطونيوس والشناوي إلى أنه من قبيل التصنّع، وهو مخالف حسب تقديرنا لما وصفه به الثقات.
أنظر الشناوي/المرجع السابق3/1205، أنطونيوس/مرجع سابق 138-139، مذكراتي السياسية/السلطان عبد الحميد 97، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية/مصطفى حلمي 101.(14/14)
أنشأ شبكة الطرقات بهدف تخفيف كلفة النقل(1)، وأنشأ المؤسسات العلمية كجامعة استنبول والعسكرية كالكليات العسكرية والمدارس التعليمية(2)، كما سعى إلى بعث إعلام فعّال بإنشاء المجلات والنشريات والدوريات(3)، وحاول في الوقت نفسه إصلاح التعليم بإدخال العلوم الدينية واللغة العربية في المقررات الرسمية، وتشجيع استعمال لغة القرآن في المجال الثقافي والعلمي، وهذا رغم العراقيل التي وضعها محمد سعيد باشا، ومنع إطلاق الترجمة الأوربية للأسماء العربية والتركية على الشوارع(4) . هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي فقد منح الأولوية للحد من نفوذ إنجلترا وفرنسا وروسيا في الدولة العثمانية، فرغب في التقارب مع ألمانيا والاستفادة من خبراتها العسكرية في تنظيم الجيش مع استثمار صلاته الدبلوماسية من أجل الاستفادة من الخبرة البحرية الإنجليزية.(5)
وقد نتج عن التقارب العثماني الألماني زيارة ولهلم الثاني للآستانة حيث طمأن خلالها السلطان، وأكّد له مساندة الشعب الألماني لخليفة المسلمين (6).
__________
(1) فسرت كسابقها بأنها مؤامرة لتطويق الولايات العربية، أنظر يقظة العرب/أنطونيوس 143-144، الدولة العثمانية…/الشناوي3/1325.
(2) الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94.
(3) الشناوي3/1205، مذكرات السلطان 153،حاضر العالم الإسلامي1/309.
(4) الشناوي/مرجع سابق3/1205-1206.
(5) الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94-209.
(6) المصدر السابق نفسه.(14/15)
وقد شلّ اليهود والماسونيون محاولات الإصلاح الداخلية والخارجية بهجمات سياسية شرسة، وخاصة بعد فشلهم في إقناعه ببيع فلسطين، حيث يقول ردا على رغبتهم في شراء فلسطين: "نكون قد وقّعنا قرارا بالموت على إخواننا (أهل فلسطين) في الدين.. لا يريد الصهيونيون إنشاء حكومة لهم وانتخاب ممثلين سياسيين عنهم ، وإني أفهم جيدا معنى تصوراتهم.. إن هرتزل يريد أرضا لإخوانه في دينه "(1)
وقد سجّل تيودور هرتزل (الباعث الأول لفكرة الدولة العبرية في فلسطين في مدينة بال السويسرية) للسلطان إخلاصه لدينه ووطنه حيث قال عنه: " إنه لا يتخلى أبدا عن القدس "(2)، كما سجّل أنه قال لمبعوث اليهود الراغب في شراء فلسطين: " لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا .. لا أستطيع أبدا أن أعطي أي جزء منها ، ليحتفظ اليهود ببلايينهم".(3)
لم يرفض السلطان بيع فلسطين فحسب، بل رفض المساومة والسمسرة نفسها، وأكد هرتزل هذه المعاني بوضوح، بيّن من خلاله عدم رضوخ السلطان للترغيب والترهيب الذي سلّط عليه من كل جانب، وردا لما بذله اليهود من وسائل ترغيب وترهيب يقول السلطان عبد الحميد الثاني: " فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحها لأي غرض كان ".(4)
__________
(1) مذكراتي السياسية/السلطان عبد الحميد الثاني 34-35.
(2) يوميات هر تزل/تيودور هر تزل 29،35،36، خطر اليهودية/عبد الله التل 163.
(3) يوميات هرتزل 29،35،36.
(4) خطر اليهودية/التل 163.(14/16)
استغل اليهود الظروف المحلية والدولية أحسن استغلال فأوغروا قلوب الأوربيين عليه بما أوتوا من مكر و خديعة متأصّلة فيهم وظلوا على تلك الحال من غير ملل أو كلل إلى أن تمّ لهم المراد فخلع السلطان بأيد محلية (وطنية) وإمعانا في الانتقام بلّغه قرار خلعه الوسيط اليهود (قره صو) الذي ردّه خائبا في محاولات شراء فلسطين(1)
ظهرت مع تسارع الأحداث السياسية أحزاب سياسية تتبنى طرحا مغايرا للاتجاه الأصيل في الأمة، إذ كانت أعمالهم بمثابة محاولات جادة لتمكين القيّم الغربية من المجتمعات الإسلامية.
و كانت أعمالهم فاتحة عهد التدافع الفكري في المجتمع العثماني الحديث، وقد سمح الوضع الجديد بانكشاف المستتر من الجمعيات المتسرّبة في المجتمع العثماني، فنادى بعضهم بالإصلاح الجذري وفق المنظور الغربي، واختارت مجموعة أخرى التلفيق بين الموروث الإسلامي والفكر الغربي.. واحتدم الصراع بين الفريقين في المجتمع العثماني، وهكذا دواليك صراع بعد صراع.. فكانت الكلمة أخيرا للمجموعة الأولى بقيادة مدحت باشا(2) (1238هـ – 1301هـ) -
(1822م -1883م) ، لم يجد هذا الفريق صعوبة في التأقلم مع الوضع الجديد نظرا لإمداداته المتجذّرة في المجتمع العثماني(3) الحديث.
__________
(1) النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة/مصطفى صبري111 ، مخططات الاستعمار لمحاربة الإسلام/محمد محمود الصواف 176، التل مرجع سابق232، الأسرار الخفية/حلمي 257-259.
(2) اعتبره أحمد أمين وحسن الأمين من رواد الإصلاح الاجتماعي والسياسي من منظور إسلامي، و نقلا عنه ما يؤيد وجهة نظره، أنظر زعماء الإصلاح/أحمد أمين26-58، الموسوعة الإسلامية/محسن الأمين 6/186-187.
والأصح حسب تقديرنا صحة ما ذهبنا إليه، وقد يكون الرجل مرّ بمراحل، كان آخرها ما أثبتناه.
(3) مثل فؤاد باشا الذي يعد أحد الذين أعدّهم رشيد باشا لإكمال مسيرة الاقتباس من الغرب، أنظر مذكرات السلطان عبد الحميد 134.(14/17)
حاول مدحت باشا بعد هيمنته على الساحة السياسية تطبيق النظام الإنجليزي في الإدارة والحكم، فوضع الدستور للحد من صلاحيات السلطان الذي اختاره لمنصب الصدارة العظمى إرضاء للمجتمع العثماني المريض، يؤكد هذا المعنى قول السلطان: "لم أكن أستطيع الوقوف أمام تيار ذلك العهد،كنت مجبرا على التعاون معهم، فقد كان من الضروري أن أتقدم لشعب مريض (أفصح أن اسم مدحت باشا يساوي في حساب الجمل (1) دواء الأمة) أن تقدم له الدواء الذي طلبه"(2).
اقترح الفريق المتسلّط الجديد إضافة الصليب إلى راية الدولة إرضاء للغربيين، وعملوا على تدريس اللغات القومية في المدارس الرسمية للدولة(3)، وإمعانا في خدمة الأوربيين عينوا ولاة من غير المسلمين في ولايات أغلب سكانها مسلمين، وسمحوا بالتحاق طلبة من غير المسلمين بالجيش والمدارس الحربية خاصة الأرمن المعروفين بسوء أخلاقهم وعمالتهم للدول الغربية.
__________
(1) يعرف بحساب الجمل أبجد هوز …حساب مخصوص ، وذلك أنهم وضعوا لكل حرف من أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت تخذ ضظغ، فمن الألف إلى الطاء المهملة للآحاد(1-9)، ومن الياء إلى الصاد للعشرات(10-90)، ومن القاف إلى الظاء لآحاد المئات(100-900)، والغين ألفا، أنظر كشاف اصطلاحات الفنون/التهانوي 2/11.
(2) حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة30،مذكرات السلطان30.
ظهر حزب مدحت باشا في شكل باهت سنة 1859م ، أنظر الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب/رجب حراز 43.
(3) حاول تجسيدها مدحت باشا عندما كان واليا على الشام.، أنظر حاضر اللغة العربية في بلاد الشام /سعيد الأفغاني 20(14/18)
لم يتوقّف خبثهم عند هذا الحد، بل جاوزوه إلى إقحام الدولة العثمانية في حرب خاسرة ضد روسيا (1877م) على يد الصدر الأعظم (مدحت باشا)، ونجم عن تلك الحرب الخاسرة قبول معاهدة سان ستيفانوس (03/03/1878م)، و نالت الدولة العثمانية المهيبة(1) بموجبها ذلا لا تحسد عليه، تدخّل بعدها السلطان بغرض تجاوز ما لحق الدولة من مهانة وتخفيف آثار تلك المعاهدة المشؤومة، وعقد بموجب ذلك مؤتمر برلين (13/07/1878م) (2)، وتسارعت الأحداث مما عجّل بإقالة مدحت باشا ونفي بموجب الدستور(3)، ولكنه أرجع إلى الواجهة السياسية للدولة بإيعاز من السلطان نفسه وهو أمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب.
وقد واكبت هذه الحركة مجموعة أخرى ركّزت إصلاحاتها على الاستفادة من التجربة الإنسانية الأوربية في مجالات مخصوصة، منها أساليب الحكم والإدارة والثقافة والاجتماع وخاصة ما جاءت به الثورة الفرنسية من مثل الحرية والمساواة والعدالة، مع العمل على إيجاد مسوغات شرعية للاقتباس من أوربا، فأرجع روادها النظام البرلماني الأوربي في إنجلترا وفرنسا إلى الشورى في الشريعة الإسلامية(4).
مثّل هذا الاتجاه ودافع عنه المفكر العثماني ضياء باشا المفكر الوطني الملقّب بشاعر الحرية وأب الوطنية(5) بمفهومها العثماني، الذي
يتجلى في تمسكه بالدولة العثمانية واستمرار قوانينها ومعتقداتها التي تشكل أساس حضارتها(6) التي بها تتميّز عن غيرها من الأمم الشرقية والغربية.
__________
(1) مذكرات السلطان عبد الحميد142، الشوابكة/مرجع سابق 29.
(2) المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17.
(3) المرجع السابق 30،عزل بموجب المادة 23 من الدستور.
(4) المرجع نفسه31،33-34.
(5) المسألة الشرقية /محمد ثابت الشاذلي53،نامق كمال/ الهريدي6،11.
(6) الشوابكة مرجع سابق نفسه.(14/19)
فتحت هذه الاتجاهات السياسية المتنافرة باب الصراعات على مصراعيه، فظهر التشرذم والتحزّب والانتصار للآخر بشكل علني، وصرّح على رؤوس الأشهاد برغبة جامحة في الدفاع عن الأوربيين ومثلهم ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ثم توالى التنافس والتفنن في صيغ الدفاع والمدافعة، فركّز البعض على العمل السياسي الجماعي واختار آخرون العمل الثقافي الفردي تهيئة للعقول لقبول الأفكار الأوربية.
2- التيارات السياسية
عاصر العلامة بديع الزمان النورسي كثيرا من التيارات السياسية، وكانت له معها مساجلات كبيرة، فقد ناقش كثيرا منها، ولا أدل على ذلك مما حفظته مؤلفاته من مواقف صريحة من الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة والاتحاديين والكماليين، ولبيان ذلك اخترنا الحديث عنها باختصار في بداية الأمر.
2/1 الاتحاد والترقي:
تعرّض هذا الحزب إلى مضايقات كبيرة في بداية أيامه نظرا لمجاهرته بمعاداة الخلافة ، مما اضطره إلى العمل في سريّة تامة بدأها سنة (1317هـ/1899م)، عقد مؤتمره الأول في باريس (1320هـ/1902م) ثم مؤتمرا ثانيا (1324هـ/1906م) حرّض فيه على إبعاد السلطان عبد الحميد الثاني بواسطة العصيان العسكري (الذي تم في إزمير واستنبول)(1) ثم الأناضول سنة (1326هـ/1908م) .
نجح هذا الحزب نجاحا جزئيا فمكّن لرجاله، ولكنه فشل في إبعاد السلطان نظرا لضعف موقفهم السياسي من جهة، و تأييد المشائخ وبعض العسكريين المنادين بتطبيق الشريعة(2) للسلطان من جهة أخرى.
__________
(1) تاريخ حوض البحر المتوسط/محمد رفعت 330.
(2) المسألة الشرقية/الشاذلي190، حاضر العالم الإسلامي 4/80، الموسوعة الإسلامية/محسن الأمين 6/43، 4/8، ضمّن الأخير كتابه هجوما قويا على الأتراك وأهل السنة قاطبة، قد يرجع ذلك إلى التعصّب المذهبي، إذ الرجل كما هو معلوم إمامي جعفري.(14/20)
لكن التوازن بين القوى المتصارعة لم يعمّر طويلا، إذ تمكّنوا على حين غرّة من استغلال الظروف المحلية والدولية والانقضاض على السلطان، فساهموا بقسط وفير في تبني الثورة المضادة والدعوة لها وتقوية صفوفها..، إلى أن تمكنوا من تنفيذ انقلاب عسكري على السلطة القائمة و إبعاد السلطان في شهر أبريل (نيسان) 1909م وسجنه في مدينة (يهيمن عليها اليهود) سالونيك (1)، و بعد نجاح الانقلاب خلا لهم الجو فطاردوا بعد تمكّنهم خيرة أبناء المجتمع العثماني، لهذا يعترض النورسي على الشدّة التي كانت تساس بها الأمور.(2)
مرت مرحلة حكم الاتحاديين بمرحلتين أساسيتين كانت أولاهما مهيئة لتحقيق الثانية، أولاهما (1909 ـ 1914م)، وثانيتهما (1914 ـ 1918م)، انتهت الأولى باستياء شعبي كبير من جراء استبدادهم وقلّة اكتراثهم بالموروث الثقافي والحضاري للأمة العثمانية.
يقول النورسي: "عارضت.. الاتحاد والترقي المستبدة، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية، وتسمت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطّخت اسم الاتحاد والترقي"(3).
وتنهى المرحلة الأولى بإقالة محمود شوكت باشا (1913م)(4)
__________
(1) المسألة الشرقية/الشاذلي 206، خطر اليهودية/التل 379-380.
(2) صيقل الإسلام/ النورسي ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي 433.
(3) المصدر السابق 452-453.
(4) الموسوعة الإسلامية/الأمين2/8، كان الانقلاب بقيادة أنور بك وبمشاركة طلعت باشا وجمال السفاح ، وعرف هذه المجموعة بالثالوث الخطير.
أنظر الشاذلي مرجع سابق205، نشاة الحركة العربية الحديثة/عزت دروزة108.(14/21)
بغرض امتصاص الغضب الشعبي المتزايد بسبب تصرفاتهم الدنيئة، وتبدأ المرحلة الثانية فاستبشر العامة خيرا، ولكن الأحوال بقيت على حالها سواء من ناحية الخلفية العقدية للدولة أو من حيث الوضع السياسي والاجتماعي المتردي لأنهم سرعان ما عادوا إلى ما عرفوا به في سالف الأيام(1).
2/1/1 التاريخ السياسي للاتحاديين
تسرّب الاتحاديون إلى مواقع القرار في الدولة العثمانية، وعمدوا إلى اتخاذ قرارات جائرة باسم الدولة، فأشاعوا التقتيل باسمها وتحت لوائها وأغروا بتلك التصرفات الرعناء القوميات على المطالبة بالانفصال، استحوذوا بعدها على أغلب مقاعد المجلس الوطني بطريق المكر والخداع.
يشهد لهذا المعنى قول النورسي عن هذه الحركة : "تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس و أوجدت الفرق و الأحزاب القومية، وتسمت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطّخت اسم الاتحاد والترقي".(2)
خلصت لهم بعدها الهيمنة على مصادر القرار في المجتمع العثماني، فجاهروا بالانتصار للقومية الطورانية على حساب القوميات الأخرى المكوّنة للمجتمع العثماني، وإمعانا في الانتصار لتلك القومية منعوا تدريس اللغة العربية في المدارس الرسمية، بل والتحدث بها في المجلس الوطني، فأشعلت بتصرفاتهم الرعناء فتنة مزّقت المجتمع العثماني، واستمروا على النمط نفسه في نفي كل مجالات الحياة، فطردوا جل العرب من الوظائف السامية في الدولة، عزل بموجب السياسة الجديدة ثلاثة عشر متصرفا إداريا وعوّضوا بأتراك، و طرد الموظفون العرب من وزارة الخارجية، وتمادوا في تلك السياسة إلى أن بلغت نسبة الموظفين العرب في مجموع الوزارات أدنى ما يمكن منذ نشأة الدولة العثمانية.
__________
(1) أسرار الماسونية/أتلخان 60-61، البلاد العربية والدولة العثمانية/الحصري123.
(2) المصدر السابق 452-453.(14/22)
و لا أدلّ على ذلك من نسبة عدد الموظفين من غير الأتراك في الإدارات الاتحادية، إذ لم يكن عددهم متناسبا مع عدد مواطني كل قومية في المجتمع العثماني، فقد أصبح عدد الموظفين على النحو الآتي: الأتراك في الوظائف السامية مائة وإحدى عشر موظفا، وإحدى عشر موظفا يهوديا، وعشر موظفين من الإرمن، وعربي واحد فقط.(1) وبلغة الأرقام يمثل عدد الموظفين السامين العرب نسبة أقل من واحد (0.72 ) من مائة، وعممت هذه السياسة على سائر المجالات، فأصبح عدد الطلبة الموفدين إلى الخارج يمثل ربع واحد (0.25) من مائة.(2)
وتمادوا في تلك السياسة الرديئة، فبلغوا فيها حدا لا يطاق، هجّروا السوريين من أوطانهم واعتبروا اليمن والحجاز مستعمرات تركية(3)، وسلّطوا بموجب هذه السياسة جمال باشا السفاح على الشعب العثماني في سوريا وأرمينيا فقتّل وحرّق وهجّر (1915-1916م).(4)
وكشفت هذه السياسة ما كان مستورا فانقلبوا على القوميات التي شجّعوها في سالف الأيام، وخاصة القومية العربية، ليخلص لهم اجتثاث لغة القرآن من المجتمع الجديد(5)، وقد وصل بهم الاستهتار حدا لا يطاق ولا يتصور، فمنع الشيخ محمد الطاهر الجزائري (1268-1338هـ) (1852-1920م)(6)
__________
(1) نشأة الحركة العربية/دروزة301، المنار/رشيد رضا13/917.
(2) نشأة الحركة العربية/دروزة301، المنار/رشيد رضا13/917
(3) كيف هدمت الخلافة/عبد القديم زلوم 29، الموسوعة الإسلامية/الأمين 2/8.
(4) المراجع السابق نفسها.
(5) تغيير المعالم والأسماء.. أنظر دروزة مرجع سابق 302.
(6) طاهر بن صالح السمعوني الجزائري ثم الدمشقي من كبار علماء اللغة العربية وآدابها، ساعد على إنشاء دار الكتب الظاهرية، وكان عضوا في المجمع اللغوي العربي في دمشق، عارف باللغات الشرقية (العبرية، السريانية، االحبشية، التركية، الفارسية، بالإضافة إلى الأمازيغية) ألّف في فنون شتى كالتفسير وعلوم الحديث والسيرة.
أنظر الأعلام/ الزركلي 3/222.(14/23)
من تدريس الشريعة الإسلامية في إعدادية بيروت .. هذا قطر من فيض أما عن إهانتهم للعرب وحضارتهم الإسلامية فحدّث ولا حرج.(1)
2/1/2 صلة الاتحاديين باليهود :
نشأ حزب الاتحاد و الترقي في مدينة سالونيك في كنف يهود الدونمة(2) حيث وجد روادها الرعاية الكاملة في الفترة السرية، يقول أحد زعمائهم ( رفيق بك): " حقا أننا وجدنا سندا معنويا من الماسونية الإيطالية عند ما قدم لنا المحفلان الإيطاليان في سالونيك خدمة حقيقية، وفّر لنا الملاجئ، فكنا نجتمع لتنظيم أنفسنا، كما أننا اخترنا معظم رفقائنا من هذين المحفلين اللادينيين ، نظرا لما كان يبديانه من دقة في الاستفسارات عن الأفراد ".(3)
__________
(1) حاضر اللغة العربية في بلاد الشام/سعيد الأفغاني 24.
(2) اسم يطلقه الأتراك على جماعة يهودية هاجرت من أسبانيا إلى تركيا، اختاروا سالونيك موطنا لهم، وهي طائفة يتظاهر أفرادها بالإسلام مع احتفاظهم بدينهم اليهودي، ومنهم أكبر رجال الاتحاد والترقي، ساهموا بقسط وافر في إثارة الفساد السياسي والثقافي في البلاد العثمانية، كما عاونوا على إسقاط سلطانها وتدمير كيانها.
أنظر الموسوعة السياسية/عبد الوهاب الكيالي2/734، خطر اليهودية العالمية/التل330، أسرار الماسونية/أتلخان61، الاتجاهات الوطنية/محمد محمد حسين 1/113.
(3) حركة تركيا الفتاة/رامروز 126-127(14/24)
يؤيد ما ذهبنا إليه الوثائق والشهود العدول منهم العلامة مصطفى صبري (ت1373هـ/1954م) حيث يقول: "عند بدء الحرب بيننا وبين إيطاليا في طرابلس الغرب عقدت جلسة سرية بطلب من سعيد باشا (رئيس الوزارة الاتحادية) كان الغرض منه استجلاب أصوات الثقة لتلك الوزارة من النواب، فاتفق أن قرأ محمود ناجي بك نائب طرابلس الغرب رسالة وصلته من أخيه (بحضور مصطفى صبري بصفة نائب عن مدينة توقاد) فقال: " إن كل الأحزاب الإيطالية متفقة على احتلال ليبيا إلا حزبين البناءون الأحرار (الماسونيون) والاشتراكيون، حيث ورد عن البناءين الأحرار الإيطاليين: " لا يجدر بنا أن نصول على الأتراك حال كون حكومتها في أيدي البناءين الأحرار لأن ذلك يفضي إلى تزعزع مراكزهم".(1)
و يؤيّد هذا ما ذكره مراسل إحدى الجرائد المصرية من أنقرة، حيث نقل أن الحكومة الاتحادية التركية الحالية استندت إلى الإسرائيليين والماسونية لتتغلب بها وتستعين بأموالها(2).
ولا أدل على ولائهم لليهود من تكليف الماسوني اليهودي قره صو الاتحادي(3)
__________
(1) النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة/مصطفى صبري14، 144، الأسرار الخفية/حلمي266،أنظر بحثنا أوجين يونغ وتأريخه للاستعمار في العالم الإسلامي (سبقت الإشارة إليه)، حكومة العالم الخفية/شريب سبيريد وفتش 13-19،20-25
(2) الأهرام القاهرية الصادرة بتاريخ28/09/1923م.
(3) اللجنة مكوّنة من:
* إما نويل قره صو(قام بدور كبير في احتلال الإيطاليين لليبيا وهو رئيس المحفل الماسوني ريزولينا.
* رام وهو أرمني عضو في الاتحاد والترقي ونائب في مجلس الأعيان.
* أسعد طوبطاني ألباني عضو الاتحاد والترقي ونائب مجلس المبعوثان.
* عارف حكمت كرجي عضو الاتحاد والترقي وضابط في البحرية.
أنظر المسألة الشرقية/الشاذلي 191،حاضر اللغة العربية في بلاد الشام /سعيد الأفغاني 31، النكير /صبري 130، الأسرار الخفية/حلمي 257-259، مخططات الاستعمار لمحاربة الإسلام/الصواف 130، خطر اليهودية/التل 379-380.(14/25)
برئاسة اللجنة التي أبلغت السلطان عبد الحميد الثاني قرار خلعه.
يتبيّن مما سلف أنها حركة قومية طورانية(1) حبلها السري مربوط باليهود، غرضها النهائي تأسيس دولة علمانية وفق الأنموذج الغربي في السياسة والحكم وقطع كل صلة لها بالإسلام وما تعلّق به من لغة ومعالم وأسماء وشريعة و.. وهو ما يبرر المساهمة في تسليم فلسطين لليهود تحت غطاء الخضوع للحملات الدبلوماسية التي مارستها البعثات السياسية الغربية في الآستانة سنة 1911م(2)، لهذا لم تكن مرافعتهم عن المشروطية إلاّ وسيلة للتخلّص من السلطان والممثل للشريعة الإسلامية، يشهد لهذا قول النورسي: "إن المهيمن الجديد على الوضع الحاضر استبداد شديد وتحكّم صارم، وذلك من حيث الجهل المتفشي، وكأن الاستبداد والتجسس قد تناسخا روحا، والذي يبدو أن الغاية ما كانت استرداد الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل إلى استبداد شديد و قوي".(3)
2/2 الحركة الكمالية :
هيّأ الفريق البائد ظروف انتقال السلطة لوريثهم الممثّل أساسا في الكماليين، فقد كانت أعمال الاتحاديين في السياسة والحكم بمثابة أمارات قوية - ترقى إلى مستوى الأدلة البرهانية - على إلغاء الخلافة (4)
__________
(1) النكير 94*102، موقف العق 4/331 ، حاضر اللغة العربية/الأفغاني31، كيف هدمت الخلافة/زلوم 29، العثمانيون وشبه جزيرة العرب/نجاة عبد القادر71.
(2) انتهاء الخلافة العثمانية/حلمي أحمد عبد العال شلبي 124.
(3) صيقل الإسلام 459.
(4) النكير 14-15، الموسوعة الإسلامية/الأمين 3/242.
ذكر أوجين يونغ أنه وقع بين يديه مسودة كتاب نفيس للمستشرق الإيطالي أنساباتو سنة 1917وعنوانه"الإسلام وسياسة الحلفاء" قبل وصول الكماليين إلى الحكم، حيث ذكر أن الهدف من كل الأعمال الجارية في تركيا هو إنشاء جمهورية لادينية، وقد منع الحلفاء نشر الكتاب في وقته وأجّل إلى وقت لاحق.
أنظر استعباد الإسلام/أوجين يونغ 11-13،وأنظر بحثنا عنه المشار إليه سابقا.(14/26)
، فكانت من أولى علاماتها إبعاد اللغة العربية من التداول الرسمي بل والشعبي ثم إلحاق المحاكم الشرعية بوزارة العدل الحاكمة بغير شرع الله حتى في الأحوال الشخصية ( قانون الأسرة).. وهكذا بدؤوا ينكثون عرى الإسلام عروة عروة إلى أن تم لهم إلغاء الخلافة سنة 1924م، وبذلك تحققت أمال الأوربيين في جعل تلك البلاد دولة لائكية وفق الأنموذج الغربي(1).
2/2/1 حقيقة الحركة الكمالية:
تعتبر الحركة الكمالية امتدادا لحزب الاتحاديين، ظهرت نواتها الأولى باسم "الحرية العثمانية "، أسسها مصطفى بن علي (ت 1938م) بمدينة دمشق مع مجموعة من الضباط الأتراك، و تتجلى صلتهم بهم في مشاركة كثير من زعمائهم اجتماعات الاتحاديين(2)، وعلى رأسهم هؤلاء المؤسس الذي كان يعلن على رؤوس الأشهاد عدم مخالفة سياستهم في بعض الأحيان.. لهذا كان الصراع بينهما صراع نفوذ، لأنهما بمثابة حركة واحدة من زاوية الخلفية السياسية والثقافية والحضارية، فهما أشبه بوجهين لعملة نقدية واحدة .
استغل الكماليون كسابقيهم الأوضاع المأساوية المشحونة بالخوف، وبدءوا يمهدون للاستحواذ على السلطة، فأعلن أتاتورك استقلاله عن الحكومة المركزية واستقر في أنقرة ثم أسرع إلى اتخاذ إجراءات هامة منها الدعوة إلى عقد المجلس الوطني الكبير (23/04/1920م)، وانتخب في تلك الأثناء رئيسا للمجلس والحكومة واختار أنقرة عاصمة للدولة الجديدة، وتم له في الوقت نفسه تسوية بعض المشاكل مع الدول الغربية.(3)
… تآزرت هذه العوامل وغيرها (الإعلام الغربي اعتبره محرر إزمير)(4)
__________
(1) المسألة الشرقية/الشاذلي 69.
(2) انتهاء الخلافة العثمانية/شلبي 182.
(3) حل المشاكل مع الروس وعقد هدنة مع الفرنسيين بعد معارك أبريل (نيسان)1920م.
(4) غريبة حروب الكماليين:
1/الحروب في العادة تستهلك النفوس،إلا أنّ الكماليين فإنك لا تجد لهم شهيدا،والأصل أن يضعف الجيش بعد الحرب،إلا أن الكماليين يقوون بعدها؟كل ذلك لأنهم ليسوا وقودها.
2/أكبر الجيوش في العالم لا يعص القائد العسكري أمر السياسي لأنه أداة إجراء لا مصدر أحكام،باستثناء مصطفى كمال والكماليين؟
3/لو كان الخروج لاسترداد إزمير ما هاجموا استنبول قبل التوجّه إلى إزمير، الحرب عادة تضيع فيها المدن عامرة وتسترد خربة، إلا إزمير فقد وقع الخراب فيها بعد الاسترداد.
أنظر النكير /صبري126-128،كيف هدمت الخلافة/زلوم136-138، الحركة الإسلامية في تركيا/ابراهيم دسوقي شتا 17-24(14/27)
في تلميع صورة الرجل في البيئة الإسلامية.
انتقل بعد الهيمنة على مقاليد الحكم إلى إعلان الفصل بين السلطة والخلافة (10/11/1922م)، ثم بدأ بتصفية الخصوم والمخالفين من خلال التلاعب بالقوانين، فسنّ قانون الخيانة العظمى الذي نكّل بموجبه بكل معارض، وطورد بموجبه العلماء والطلبة ونخبة المجتمع من المعارضين، وكان من بين من تعرّض للمضايقة سعيد النورسي و زاهد الكوثري ومصطفى صبري وغيرهم كثير.
وتنتهي تلك الفترة الحالكة من تاريخنا السياسي بإلغاء الخلافة بتاريخ (03/03/1924م) وإزالة كل متعلقاتها (تطبيق الشريعة، والمحاكم الشرعية، واللغة العربية، والحجاب، ومنصب شيخ الإسلام..) وعدّل الدستور بتاريخ (20/04/1926م) وحذفت منه المادة الثانية التي تنص على أن الإسلام دين الدولة(1)، وفشت مظاهر الفساد والإلحاد، وأجبر أتاتورك نساء أنقرة على نبذ الحجاب، وخرجت زوجته ترتدي ثياب الرجال وتحرّض النساء على المطالبة بمساواتهن بالرجال.. وبدأت القيم تنكث واحدة بعد أخرى، فتزاح الحواجز بين الجنسين في السفن والمراكب والمسارح والأماكن العمومية، وانتقلوا بعدها إلى منع تعدد الزوجات ورفع سن الزواج، ليس هذا فحسب بل دعوا إلى أسوأ من ذلك على الإطلاق، فدعوا إلى الأفكار القومية التي جبّها الإسلام، فبعثوا الأفكار النتنة من مدافنها، دعوا الأتراك إلى الاحتفال بالوثن التركي بوزقوت (الذئب الأغبر) وأناشيده وتغنوا بها، وهكذا دواليك إلى أن صيّروه صورة متداولة على الطوابع البريدية(2) .
__________
(1) الدولة العثمانية…/الشناوي1/85-86، الموسوعة/الأمين2/243-244،النكير 203
(2) الأسرار الخفية.. /حلمي174، موقف العق4/283-284.(14/28)
ومازالت سياستهم الإقصائية على تلك الحال محكّمة بكل قوة وشدّة وعنف إلى أن تحقق للكماليين مبتغاهم وأنشأوا دولة مسايرة لمدنية أوربا والغرب(1) على حساب الإسلام والحضارة الإسلامية، وفي ذلك يقول أحدهم" إننا عازمون على أن ندوس بأقدامنا وننسف كل موانع وحوائل في طريقنا التي تذهب بنا من الشرق الذي ودعناه إلى الغرب الذي يممناه حتى أن التغرّب لا يقتصر على شؤوننا الرسمية وقوانينا بل ستكون أدمغتنا وعقليتنا غربية "(2)، واختاروا بموجب هذه السياسة القوانين السويسرية(3) بديلا عن الشريعة.
ومما سلف بيانه يتّضح أنهم بمثابة سدنة اليهود والغرب في البلاد الإسلامية عامة وتركيا على الخصوص، عملوا خدمة لأسيادهم على تعطيل الشريعة وبعث الأفكار الجاهلية التي تمثّلها الطورانية(4) .
3- التيارات الثقافية
هيّأ المهيمنون الجدد على السياسة جوا ثقافيا ميسرا لتحقيق رغباتهم، مستغلين في ذلك الجو الذي ولّده الجمود الثقافي في المجتمع العثماني.
__________
(1) تاريخ حوض البحر المتوسط وتياراته السياسية/محمد رفعت 327.
(2) جريدة إيليري نقلا عن النكير/صبري202، وأنظر رفعت مرجع سابق339-340، الموسوعة الإسلامية/الأمين2/289.
(3) موقف العقل 4/334، النكير 67-68.
(4) موقف العقل 4/336، المسألة الشرقية/الشاذلي223-224.أنظر ما آل إليه أمر المجتمع العثماني في عهد الكماليين(اللغة، والمرأة، واللائكية، والمحاكم الشرعية،…) تركيا الحديثة/فؤاد الشمالي 90،92،97،99،101،107،…(14/29)
ساهموا بقسط وفير في تشجيع التيارات الانفصالية ليسهل لهم الانقضاض على الخلافة الإسلامية، وبإيعاز مباشر منهم حينا وغير مباشر أحيانا أخرى احتضنت البلاد العربية التيارات الثقافية الانفصالية، إذ ظهرت الدعوة إلى القومية العربية في بلاد الشام على أيد النصارى الذين استوحوا أفكارهم من رجال التنصير الأوربيين والأمريكيين(1).
ظهرت في لبنان المدارس اليسوعية الموجّهة دينيا من روما وسياسيا من فرنسا، ثم سرّبت في القرن الثامن عشر إلى سوريا(2)، من هذا المنطلق اعتبر نصارى الشرق رواد الحملات الصليبية(3) الجديدة، واعتبرت مؤسساتهم التعليمية أوكارا للتآمر على الإسلام والمسلمين.
تبنى عرب الشام القومية العربية بطريق تلك المؤسسات وبمباركة ورعاية القوتين الفرنسية والأمريكية(4)، ومكّن للفكرة من خلال مؤسساتهم التعليمية والخيرية(5)، وفي إطارها وبرعايتهم برزت الجمعيات الأدبية المروّجة لأفكار اليسوعيين والمبشرين.
3/1 المؤسسات التي ظهرت بمباركتهم:
1- تأسيس جمعية علمية برعاية الإرساليات الأمريكية سنة 1842م، وظهرت بعدها جمعية علمية غامضة الأهداف عرفت باسم" جمعية الفنون والعلوم" وكان ذلك سنة 1847م، ساهم في بعثها رجال من مختلف الجنسيات ومن طبقات اجتماعية متنوعة.
__________
(1) التبشير والاستعمار/فروخ والخالدي 95، التبشير والاستشراق/عزت الطهطاوي 44.
(2) المرجع نفسه3،12، حاضر اللغة العربية في بلاد الشام/الأفغاني 196.
(3) المبشرون والقرآن/ عزت دروزة 12.
(4) يقظة العرب /أنطونيوس 1،25. ... ... ... ... ...
(5) كيف هدمت الخلافة/ زلوم 18.(14/30)
2- ظهرت الجمعية الشرقية برعاية الأب اليسوعي هنري دوبرنير(1)، وتأسست بعدها الكلية اليسوعية التي عرفت فيما بعد بجامعة القديس يوسف سنة 1866م(2).
3- دشّنت في الفترة نفسها الكلية البروتستانتية المعروفة فيما بعد بالجامعة الأمريكية بهدف إحياء الأدب العربي القديم(3).
4- انبثق عن المؤسسة السابقة جمعية تعرف بجمعية خريجي هذه المؤسسة، وكان ذلك سنة 1875م، سعت هذه الجمعية إلى نشر أفكار الجامعة، وكانت أفكارها تقليدا لحزب تركيا الفتاة(4)، الذي قال النورسي عن رجالها ،إنهم لا يعرفون أن الدين أساس الحياة، ويظنون أن الأمة شيء و الإسلام شيء آخر، وهما متمايزان،ذلك لأن المدنية الحاضرة،أوحت بذلك واستولت على الأفكار بقولها: أن السعادة هي في الحياة نفسها، إلا أنّ الزمان أظهر نظام المدنية فاسد ومضر.(5)
__________
(1) أسسها اليسوعيون تحت رعايته ، وكان كل أعضاء الجمعية من النصارى، وفيهم هنري دوبرنير الفرنسي الأصل. انظر زلوم المرجع السابق20.
(2) جامعة كاثوليكية بابوية تعرف الآن بالجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت معروفة في السابق بالكلية السورية الإنجليزية. أنظر التبشير والاستشراق/الطهطاوي 43.
(3) الخالدي مرجع سابق 224-232، زلوم/مرجع سابق 19-34، الطهطاوي/مرجع سابق43، حاضر اللغة العربية…/ الأفغاني 14-17،سياسة السلطان عبد الحميد/الجعفري 190.
(4) أسرار الماسونية/أتلخان 60-61، المسألة الشرقية/الشاذلي151، حاضر العلم الإسلامي 4/80-81، حركة تركيا الفتاة/رامروز 123-124.
(5) الكلمات/ النورسي ترجمة إحسان قاسم الصالحي 861.(14/31)
إن عملا كهذا يؤكد أن مصدر البلاء الذي حلّ بالعالم الإسلامي- وبما لا يترك مجالا للشك - هو بلاد الشام، فمنها بدأت الدعوة إلى العلمانية(اللائكية) سنة 1875م، أي قبل ظهورها في تركيا نفسها، ومن تلك البلاد بدأت الدعوة إلى زعزعة مكانة اللغة العربية وإحلال العامية مكانها وهذا قبل ظهورها في مصر وتركيا والجزائر(1) وغيرها من بلاد المسلمين، وكانت تلك البلاد السباقة إلى تبني القومية والدعوة إليها، وهذا قبل ظهورها المؤسساتي في تركيا نفسها، وقد كان من روادها الأوائل في البلاد العربية ساطع الحصري (أبو خلدون).(2)
وبهذا يتّضح أن بعض العرب العثمانيين ساهموا في تقويض ملكهم (الدولة العثمانية)، بمساعدة جحافل المستشرقين على ترويج أفكارهم (العلمانية، والعامية، والنزعات القومية، والحركات الانفصالية، و..)(3).
__________
(1) دعا إليها في مصر لطفي السيد، والاتحاديون في تركيا ، وبعض المتفرنجين في الجزائر.
(2) ساطع الحصري ولد بصنعاء سنة 1300هـ/1883م حلبي الأصل كان من رواد القومية العربية تخصص في التربية وتداول على مناصب توجيهية كثيرة في البلاد العربية، صنّف كثيرا من المؤلفات مناصرة للقضايا القومية ( العربية)، منها: العروبة أولا، الدفاع عن العروبة، وآراء في القومية العربية، وآراء في الوطنية والقومية، في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية، والقومية العربية والدين الإسلامي، ماهي القومية؟ محاضرات في نشوء القومية. توفي ببغداد سنة 1388هـ/1968م. أنظر الأعلام/ الزركلي 3/70.
(3) منها حزب تركيا الفتاة الذي ينتسب دعاته إلى المحفل الماسوني في سالونيك، والذي كان له فضل إمدادهم بالمعونات السياسية.
أنظر أسرار الماسونية/أتلخان 60-61، المسألة الشرقية151، حاضر العالم الإسلامي4/80-81، حركة تركيا الفتاة 123.(14/32)
وقد وجدت هذه الأفكار أرضا خصبة فنمت وبسرعة فائقة لتعهّدها بالحماية والصيانة من قبل أعداء الأمة، فكانت بمثابة القنبلة الموقوتة التي ساهمت بقسط وفير في التعجيل بسقوط الدولة العثمانية، وخاصة بعد أن تعهدتها المحافل الماسونية بالحماية والتنظيم.
3/2 المحافل الماسونية
تعتبر المحافل الماسونية الخزان الثقافي والاقتصادي للمعارضة المتآمرة على كيان الأمة الإسلامية، فقد كانت الماسونية المموّل الرئيس للأحزاب والجمعيات المتآمرة على أصالة الأمة وماضيها المجيد، فقد تمدهم بالأفكار والمال والرجال بمساعدة القوى السياسية الأوربية(1) ومباركتها.
تعد الماسونية من أعظم الجمعيات السرية وتعرف بالبنائين الأحرار، ظل منشؤها غامضا مجهولا أو على الأقل سريا كغاياتها المبهمة حتى بالنسبة لأتباعها، اقتبست أفكارها من المصادر اليهودية والمسيحية والفرعيونية.. وهي في ذات الوقت لا تعترف بالأديان، لهذا قال أحدهم: "إن رجال الدين يريدون عن طريقه السيطرة على أمور الدنيا، وعلينا أن لا نألوا جهدا في التمسّك بفكرة"حرية العقيدة" وألا نتردد في شيء خاصة محاربة الأديان لأنها العدو الحقيقي للبشرية، ولأنها السبب في التطاحن بين الأفراد والأمم عبر التاريخ" إلى أن يقول: "لا بد أن نكافح بجهد أكبر لإدماج القوانين والنظم اللادينية، لأن السلطة المطلقة التي حققها رجال الدين على وجه الخصوص قد قاربت النهاية، لا بل آلت إلى الزوال".
__________
(1) تتم كل أعمالهم بعد عرض المشروع على السفير الإنجليزي في باريس .
أنظر مجلة المجتمع الكويتية / مقال حرب عبد الحميد العدد 532.(14/33)
و تزعم الماسونية أنها مؤسسة فلسفية تحب الخير للإنسانية، هدفها الأساسي إيجاد صيغ ممتازة للتعاون والتآزر بإشاعة أخلاق ومبادئ دنيوية يركّز فيها على التسامح (وفق منظورهم) المتبادل وحرية الضمير، وترك ما يتعلّق بما وراء الطبيعة للقناعة الشخصية، لهذا عملوا على صرف أنظار الناس عن الحماس الديني والمذهبي..
تتلخّص أركان مشروعهم في الثالوث الذي تبنّته جميع الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية التركية الحديثة، فقد كان أساس حزب" تركيا الفتاة" و" الاتحاد والترقي" و" الكماليين"، وقد تلخّصت تلك الأركان في الكلمات الآتية: "الحرية المساواة والإخاء"، وتحقيق هذا المشروع يفرض إظهار احترام العقائد والأديان، ليتسنى نبذها ومحاربتها في قابل الأيام، ويظهر ذلك في رفضهم قبول المتدينين الصادقين في جمعياتهم.
أما وسائلهم فتتلخّص في إغراء أصحاب القرارين السياسي والثقافي بالمال والجاه، وغيرها من وسائل الترغيب والترهيب، وتوظيف كل ما تملكه من سلطة وهيمنة قانونية ومعنوية على المؤسسات العالمية.(1) لتحقيق رغباتهم.
في ظل الظروف السابقة أصبحت الثقافة المهيمنة متّسمة بصبغة خاصة متناغمة مع الشروط التي أملتها المعطيات الثقافية والسياسية الجديدة.
3/3 الثقافة المهيمنة
__________
(1) القراءة السريعة لأسماء المهيمنين على مكاتب الأمم المتحدة، الأمانة العامة للهيئة، ومؤسسة التغذية والزراعة، اليونسكو،بنك الإعمار، صندوق النقد الدولي،مؤسسة اللاجئين الدولية، مؤسة الصحة العالمية، مؤسسة التجارة العالمية. أنظر أسرار الماسونية/أتلخان (من أحسن ما ألف في الباب)، وأنظر خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية/عبد الله التل، ويؤيّد ما يقرب من هذه المعاني مجموع مؤلفات أوجين يونغ.(14/34)
يعرف هذا العصر من الناحية الثقافية بعصر الإعجاب بالآخر، اقتصر الإعجاب في بداية أيامه على الميدان السياسي ونظرا لارتباطه الوثيق بالثقافة انتقل الإعجاب إلى الميدان الثقافي، وفي هذا السياق وصف العهد الحميدي بالاستبداد والظلم والقهر.. فنادوا لتجاوزها بالمشروطية (دستورية الحياة السياسية) وناصرهم على تحقيقها خيرة المجتمع العثماني، فكان من رجالها النورسي القائل: "إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة"(1)، وعوض تثمين جهود مثل هؤلاء الرجال استغلت جهودهم في دك السلطنة العثمانية، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فنقل المجتمع من استبداد (إن صح هذا القول) رجل صالح إلى استبداد رجال طالحين، فما كانت غايتهم – كما قال النورسي - استرداد الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل إلى استبداد شديد وقوي"(2) ، وليتسنى لهم تحقيق المبتغى أطلقوا الإشاعات ونادوا في الناس بأن السبب المباشر لتخلّفنا هو بقاء الدولة العثمانية، ومن ثمّ وجب العمل على اجتثاثها من ضمير الأمة.
وبعد أن ألحقت كل نقيصة سياسية بالنظام السياسي العثماني (الإسلامي) ألحقت كل نقيصة ثقافية بالثقافة الإسلامية، فوصفت بالجمود والركود والانحطاط والانغلاق وغيرها من الأوصاف، التي ليست إلا تعبيرا عن موقف الآخر من الثقافة الإسلامية الأصيلة بألسنة عثمانية.
__________
(1) صيقل الإسلام 442.
(2) المصدر السابق 459.(14/35)
وسرى هذا الداء إلى الأوساط العلمية الإسلامية، فقال أحدهم بعدم دينية الفقه، وقال آخر بعدم جدوى الاستدلال على وجود الله تعالى بالأدلة العقلية(1)، ومال ثالث إلى القول بجواز التعبّد بالقرآن المترجم(2)، وذهب رابع إلى عدم الاعتداد بالدليل النقلي لأنه ظني حسب تقديره(3)، وسجّل خامس أن القرآن الكريم متشابه في مجموعه، يفهم هذا المعنى من قوله: "هل يتفق وحكم العقل بأن جهنم التي بلغ حجوم شررها القصور الشامخة يستطيع من يلقى فيها أن يحيا ويأكل ويشرب ويجادل ويطلب الخلاص".(4)
__________
(1) مجلة الرسالة العدد 396 مقال الشيخ المراغي، نص الرجل على عدم دينية الفقه وأهمل الفقه المجمع عليه، اختار هذا الرأي خوفا من رمي الدين بالتفرقة، حيث قال: "لو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما ترى من اختلاف الفقهاء بعضها مع بعض،لحقّت علينا كلمة الله "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا".. وهكذا يصبح الفقه زمنيا لا دينيا.
قال الشيخ مصطفى صبري في نقده: " إنه بهذا العمل عبّد لنفسه الطريق بإنكار دينية الفقه ليسهل له الابتعاد عنه عند وضع القوانين فيكونون فقهاء من الطراز العصري محايدين عن الدين(لاييك). أنظر موقف العقل 4/315.
(2) ورد عن الشيخ وجدي القول بأن "الدليل العقلي يكثر فيه الخطأ فلا يعوّل عليه"، لهذا نراه يمني نفسه وغيره بإثبات وجود الله بطريق البحوث النفسية، اختار ذلك ليجعل المتعلّم المسلم المعاصر من أهل القرن العشرين". أنظر مجلة الرسالة 5/283.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) أنظر جريدة الأهرام عدد 30/08/1930م ، موقف العقل4/172-173،431-441، القول الفصل/صبري37-72، رشيد رضا مفسّرا/حسيب الله السامرائي 272.(14/36)
وراح سادس يردد قول المستشرقين بأن دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت سلطة زمنية و ليست سلطة دينية(1) مما يوحي أن الإسلام لا صلة له بالسياسة.
4- السمة العامة لهذا العصر
يتجلى مما سلف تقريره أنّ العصر المشار إليه أعلاه متسم بمجموعة من السمات، اختلف في ترتيبها من حيث الأولوية مما أثّر في تحديد طبيعة الأزمة من جهة، وتصوّر المشروع البديل من جهة أخرى.
قبل البيان الإجمالي لتلك المشاريع يحسن بنا بيان طبيعة الأزمة وسماتها وهذا ما أثبتناه في الحالة السياسية والثقافية.
4/1 الميزة الأولى:
يعتبر هذا العصر عصر محاولة نفي وإقصاء الخطاب الإسلامي في شقه السياسي لهذا حورب كل مظهر من مظاهر العودة إلى الخلافة أو ما يقرب منها، حتى بلغ الأمر ببعض عتاة العلمانيين أن منعوا التزي بزي العلماء (كالجبة والطاقية و..)، كل ذلك خشية عودة الناس إلى الفكرة بتذكر الشكل المعبّر عنها.
4/2 الميزة الثانية:
منع تداول العلوم الإسلامية تعلّما وتعليما حتى عد تعليمها في بعض الأوساط خيانة عظمى للدولة، وقد اتخذت لتحقيق هذا المقصد أساليب شتى منها على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) كان علي عبد الرازق أكثر جرأة من الاتحاديين والكماليين، إذ لم يصرحوا بعدم دينية دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينما نص علي عبد الرازق على أنّها كانت دولة زمنية فهي ليست دولة دينية ، فسلطتها وقتية لا غير، تنتهي بوفاة إمامها.
أنظر الإسلام وأصول الحكم/ علي عبد الرازق 45-47،83،86،116، وأنظر تعليقات ممدوح حقي على الكتاب 49،60،87،92،130،133.
أنظر الإسلام والخلافة في العصر الحديث/ضياء الدين الريس 245-294، النظريات السياسية الإسلامية/الريس 208-011، فقه الخلافة وتطورها/السنهوري 104،108،318-319. اعتبره السنهوري من الانقلابيين المتغربين المرجع السابق نفسه. أنظر الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/حسين 2/87-95، موقف العقل 4/315.(14/37)
أ- التشكيك في المشتغلين بالعلوم الشرعية بغرض صرف الناس عن الاستماع إليهم فضلا عن الإصغاء إليهم أو النسج على منوالهم.
ب- تحسيس المشتغلين بالثقافة الدينية بالغربة داخل المجتمع وذلك من خلال صرف الناس عنهم بحيل قانونية واجتماعية، كأن لا يربط بها تحصيل وظيفة أو الحفاظ عليها، بل قد تصبح الإحاطة بها سببا في الإقصاء العام أو رفض التوظيف.
ج- عزوف المجتمع عن العلوم الدينية والمشتغلين بها، وقد سبب ذلك الداء آلاما نفسية عميقة لدى المشتغلين بالعلوم الشرعية.
د- جاوز الأمر الحدود الآنفة الذكر، فأصبح همّ بعضهم إبعاد المسلمين عن القرآن الكريم وفق ما قاله غلادستون وزير المستعمرات البريطاني مخاطبا النواب في مجلس العموم البريطاني: "ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به" (1).
ويعتبر هذا الخيار خيارا استراتيجيا هدفه منع المسلمين من منبع عقائدهم ومنهل شريعتهم وشاحذ هممهم ومانحهم الإنسانية في تصرفاتهم، بغرض إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم ومنعتهم، ليخلص الجو لخصومهم في آخر المطاف، وخاصة بعد الانتهاء من اجتثاث عناصر البعث الحضاري الموجودة أصلا بالقوة في القرآن الكريم خوفا من أن تنتقل إلى عالم الفعل في قابل الأيام، والمسألة ليست معرفية فحسب، لأنها وإن كانت معرفية فإنها-وفق المسلك القرآني - تتلبّس بجميع ميادين الفعل الإنساني، فتحوّلها المسحة القرآنية من العبثية إلى الغائية الوظيفية في إطاريها الجزئي والكلي المتّسم بالإنسانية في جميع جزئياته وفروعه.
اقتضى هذا الجو السياسي والثقافي اتخاذ مواقف صريحة مما يجري في بلاد المسلمين، وفي ظل الظروف المشحونة بالإرهاب الفكري والقانوني عمل رواد المقاومة الفكرية في المجتمع العثماني على وضع خطة للإصلاح منسجمة مع تصوّرهم لطبيعة الأزمة، وبهذا الصدد ظهرت عدة تصورات:
__________
(1) سيرة ذاتية 45-46(14/38)
1- فريق يرى بأن الأزمة سياسية ذات أصل ثقافي معرفي، وتستدعي حلا سياسيا، تبنى هذا الرأي الشيخ مصطفى صبري(1)، ولخّص الحل في أحد مسلكين:
أ) اتحاد حكومات إسلامية معيّنة ( الأفغان والحجاز) تطلبان العون من الشعوب للهجوم كالرجل الواحد على الأئمة الجدد في تركيا بغرض استئصال فكرتهم من المجتمع العثماني.
ب) الطريق الثاني يعمل المسلمون بموجبه على تأسيس مؤسسات علمية إسلامية عالمية تتولى تكوين جحافل المتديّنين الصادقين المهيئين لمواجهة هؤلاء الأئمة الجدد في قابل الأيام.
وقد باء هذا المسلك بالفشل الذريع نظرا – رغم ما قدّمه من خدمات جليلة للثقافة الإسلامية في صورتها المعرفية والتنفيذية - لعدم أخذ المعطيات المحلية والجهوية والدولية بالحسبان في صياغة المشروع البديل هذا من جهة، وقصر المسألة على السياسة المتلبّسة بالثقافة في كثير من الأحيان من جهة ثانية.
2- فريق آخر يرى بأن الأزمة ثقافية بالدرجة الأولى، وإن كانت سياسية في بعض وجوهها، وتلخّصت الثقافة عند هذا الفريق في منتج المتقدمين حرفا حرفا، بحيث أصبحت القراءة النقدية لذلك المنتج غير متاحة من الناحية النظرية فضلا عن تجاوزها من الناحية التطبيقية، وليس معنى ذلك أننا نوافق القائلين بالبداية الصفرية في عالم الفكر،لأننا لا نتصّور ثقافة متواصلة يمكن أن تقوم على إلغاء جهود المتقدمين.
يرى رواد هذا الاتجاه أنّ أهم داء أصاب المسلمين في العصر الحديث التطاول على علمائنا المتقدمين والثورة على المذاهب التي تلقتها الأمة بالقبول منذ أمد بعيد، وقد تبنى هذا المسلك العلامة الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله.
يرى الشيخ أن ما طرأ على الأمة من فساد كان سببه اللامذهبية قنطرة اللادينية – حسب رأيه - والوثنية الجديدة - حسب رأيه - ممثلّة في التجسيم الذي يراد تسويقه في حاضر الأيام و قابلها.
__________
(1) أنظر كتابنا شيخ الإسلام مصطفى صبري عصره وآراؤه دراسة تحليلية لمجموع مؤلفاته.(14/39)
وهذا التصور كسابقه لا يخرج عن كونه تشخيصا ذاتيا أكثر منه موضوعيا، نظرا لتلبّسه الكبير بطبيعة الباحثين في الأزمة، تلبس عرض الوضع بمكوناتهم النفسية.
لا يعد التشخيص السابق انتقاصا من جهود هؤلاء الأعلام بقدر ما هو محاولة لاستخلاص الدروس، لأننا نوافق الكوثري في كثير من تحليلاته في طبيعة الأزمة ولكننا لا نوافقه في حصر عناصر الخلل الطارئ على الأمة في طريقة عرض العلوم الإسلامية أو التشويش الذي طرأ عليها، لأن الأزمة أكثر تعقيدا وتحتاج تكاتف مجموعة من التخصصات في التشخيص أولا ووضع خطة الخلاص ثانيا.
في ظل الظروف المشار إليها، ما هي طبيعة الأزمة في فكر النورسي؟ وما هو مسلكه في نشر أفكاره وبعث الحياة من جديد بين أفراد أمته وفق تلك المعطيات، هل استصحب ذلك الجو في رسم خطة التغيير التربوي الروحي التي تجعل من القرآن الكريم معينها الذي لا ينضب؟.
الخلوص إلى تحديد عناصر الإجابة يقتضي التوقّف بإمعان عند مجموعة من المحطات التي تزوّدنا بوقود مواصلة الرحلة، وأول تلك المراحل، معرفة مجملة بالنورسي ورحلاته ووقفات مع مؤلفاته (محاولة تحليلة) ومجمل أفكاره والمصادر التي استقى منها معارفه ومواقفه.
الفصل الثاني
ترجمة سعيد النُّوْرْسي
1- المولد والنشأة والآثار:
1/1 المولد والنشأة
ولد النورسي (1293هـ/1873م) من أسرة كردية كانت تعيش في قرية نوْرْس من قضاء خيزران ولاية بتليس في شرق الأناضول، كانت أسرته تشتغل بالفلاحة، وكان أبوه ميرزا زاهداً يلقب بـ"صوفي" من نسل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه، أما أمه نوريه فهي من نسل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه.
1/2 رحلاته في تحصيل للعلم:(14/40)
ولد الشيخ النورسي في بيئة التقوى والورع وقد تركت هذه البيئة بصماتها على تحصيله العلمي والتربوي، استصحب ذلك التكوين الأولي في أول مراحل مباشرة التحصيل المتقدّم على يد أخيه الملا عبد الله، فأخذ عنه ما عمّق به تلك المبادئ المبّلغة عمليا، فقد وجد في بيئته أحسن نماذج التربية بالقدوة ممثلة في الوالدين الكريمين، استصحب هذا الزاد التربوي في صياغة كل ما حصّله من معارف في قابل الأيام، وقد بدا التأثر بذلك الزاد جليا في ممارسة الكتابة والتعليم والجهاد، بل أظلت بظلالها على تشخيصه لأسباب الأزمة التي تتخبّط فيها أمتنا الإسلامية.
بعد الأخذ عن أخيه الملا عبد الله ، بدأ رحلته في التحصيل، فكانت البداية بالتلمذة على محمد أفندي سنة 1882 م في قرية "تاغ"، انتقل بعدها إلى بيرمس ثم إلى بتليس سنة 1888م حيث التحق بمدرسة الشيخ أفندي الذي رفض قبول انتسابه لها، فانتقل مرغما إلى التلمذة على أستاذ آخر بتوجيه من شيخه الآنف الذكر.
استقر به المقام بعدها في بايزيد حيث كانت بدايته الأساسية لدراسة العلوم الإسلامية، وبعد مضي ثلاثة أشهر من الانتساب إلى مدرسته نال الإجازة العلمية من شيخه محمد جلالي.
قرر بعد حصوله على الإجازة العلمية زيارة بعض علماء عصره توسيعا لآفاق المعرفة، فتوجّه إلى بتليس وانتسب فيها إلى رباط الشيخ محمد أمين ولبس خرقة الدراويش وبعد مضي يومين من الانتساب إلى الرباط ، وجد الشيخ تلميذه أهلا المشيخة، فكلّفه بالتزي بزي العلماء، ولكن النورسي رفض ذلك متحججا بصغر سنه.
1/3 آثاره العلمية :
آ- تأليفاته باللغة العربية
1- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز (ط. 1918)
2- المثنوي العربي النوري.(ط. 1923)
3-قزل إيجاز على السلم (ط. 1921)
4- تعليقات ( في المنطق )
5- رچتة العوام ورچتة العلماء (صيقل الإسلام) (ط. 1912)
6- الخطبة الشامية -دواء اليأس -(ط. 1911و 1912)(14/41)
ب - تأليفاته باللغة التركية ( كليات رسائل النور)
(ترجمة: إحسان قاسم الصالحي)
1. الكلمات
2.المكتوبات
3.اللمعات
4.الشعاعات ...
5.إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز (تحقيق)
6.المثنوي العربي النوري (تحقيق)
7.الملاحق في فقه دعوة النور
8.صيقل الإسلام (آثار سعيد القديم):
1-محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة (ترجمة وتحقيق)
2-قزل إيجاز
3-تعليقات على برهان الكلنبوي
4-السانحات
5-المناظرات
6-المحكمة العسكرية العرفية
7-الخطبة الشامية
8-الخطوات الست
9. سيرة ذاتية :إعداد وترجمة
سلك في مجموع تلك الرسائل مسلكا جديدا في تفسير القرآن الكريم، ركّز فيها على جوانب التربية العقلية والقلبية في سياق واحد ونسق واحد وفي اللحظة نفسها، ناسجا في ذلك وفق النسق القرآني الذي ملك عليه كيانه.(14/42)
اختار الشيخ هذا المسلك بغرض التأسيس التجديدي لمسلك أصيل كاد أن يهجر، وقد وفق الرجل في تجاوز مناهج المتكلمين والمتصوفة، وقد بلغ الرجل مراده بوقت أقل وبطرق أقصر من خلال الرجوع بالأمة إلى القرآن الكريم وسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم -، لأننا حسب تقديره لسنا في عصر علم الكلام ولا عصر الطرق الصوفية، بل نحن في عهد تملي علينا ظروفه العودة السريعة للإيمان تمكّنا وحماية، ولا طريق لتحقيق ذلك غير الارتباط بالقرآن الكريم، وقد كان في تلك المؤلفات مستثمرا للخبرة المعرفية والتربوية الإسلامية على تنوّع تخصصاتها و اختلاف مشارب رجالها، لأنه ركّز على ما يفيده منها في تقرير الحقيقة القرآنية والحفاظ على الإيمان بصرف النظر عن الوعاء الذي خرجت منه، هذا هو المسلك العام للمؤلفات، وقد امتازت بعض المؤلفات بخصائص متفرّدة في بابها، يتجلى هذا في كتابه " إشارات الإعجاز"، يعد هذا الكتاب من أهم كتب التفسير بمعناه الفني (الاصطلاحي)، فقد بيّن فيه بعض وجوه الإعجاز القرآني، وبيّن بكلمات مختصرة الإعجاز النظمي للقرآن الكريم من خلال تفسير سورتي الفاتحة والبقرة، واستصحب المسلك التحليلي في التفسير المبني أساسا على الدراسة النصية للقرآن الكريم من خلال التعامل مع مكونات السياق كلمة كلمة وآية آية وفق قوانين البلاغة العربية.
1/3/3 نماذج من تحليل بعض رسائله:(14/43)
أ- ضمّن بعضها(1) بيان الأسس العلمية للاستدلال على مسائل الآخرة وفق المسلك القرآني في التأسيس للاعتقاد، فتناول المسألة الزاويتين الإجمالية والتفصيلية، انتقل بعدها إلى سرد حقائقها البيّنة، مشفوعة بأدلتها القطعية، فكانت حججا ناهضة محققة للمرغوب لكل من ألقى السمع وهو شهيد، إذ تنمي في المستدل له من خلال شواهدها الأبعاد الوظيفية المنتظرة من التصديق بالآخرة وقيام الساعة، ولعل أوّل علاماتها إصباغ الفعل البشري لمعتقديها بصبغة إنسانية، تجعل خدمة الإنسانية غاية جزئية دائمة ترتبط بها مرضاة الله وجودا وعدما، فكلما استحضر المؤمن قيام الساعة وخاصة أثناء ممارسة الأداء اليومي كان أكثر خدمة لنفسه والوطن والإنسانية وأكثر تحررا من نزواته وحيوانيته الضارية، فكان التصديق بالآخرة عاملا مهما في إخراج الدنيا من العبثية - الوقوع في أسرها – إلى الهدفية الظاهرة التي تجعل من الاستكثار من الخير في الدنيا لله سببا في الفلاح في الآخرة ووسيلة للنجاة من النار وسمومها .
ب- ضمنه عرضا ممتازا وممتعا لمشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه(2)، مزج فيه النورسي بين مخاطبة القلب - أساس التحريك – ومخاطبة العقل والفكر في إطار محاولة الجمع بين الخبرة الإسلامية الكلامية والمنتج الجديد في العلوم (الطبيعية) الكونية الحديثة، وذلك في إطار امتزاجهما الذي تتولّد عنه الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات.
__________
(1) الكلمة العاشرة ،الكلمات 47-64.
(2) أنظر الشعاعات 133-224 ، الكلمة الثانية و الثلاثون، الكلمات 707-779.(14/44)
حاول في كنف ذلك المزج الهادف تحقيق مجموعة من المقاصد الجزئية تتجلى فيها ما سبقت الإشارة إليه، وأوّل تجلياته إشهاد السائح لمخلوقات الله على وجود خالقها سبحانه تعالى، فكانت الشهادات تترى الواحدة بعد الأخرى في إطار تكاملي واستقراء لا يحصى كثرة، فشهدت السماوات وجوّها والأرض وما فيها وعليها من بحار وأنهار وجبال وصحاري وأشجار ونبات وطيور وحيوانات، وأتبع تلك الأدلة بشاهدات سادة البشرية واتباعهم، فذكر لنا شهادات الأنبياء عليهم السلام والعلماء والأولياء الصالحين والملائكة، ويخلص أخيرا إلى اتفاق كلمات الجميع على تقرير الحقائق التي استودعها الله العقول السليمة والقلوب الخاشعة من فهم وخضوع وتسليم عقلي وقلبي، وتتأكّد الحقيقة نفسها بشهادة عالم الغيب والوحي والإلهام .
جعل النورسي الباب الأول مطيّة لتبليغ براهين التوحيد، إذ بعد إثبات الوجود لا بد من البرهنة على التوحيد، فبدأ رحلته بحقيقة الألوهية انتقل بعدها إلى حقيقة الربوبية والكمالات والحاكمية المطلقة، لينتقل إلى تناول متعلّقات الموضوع .
أورد في ثنايا الحديث عن المتعلّقات كلاما يدخل القلب دون استئذان، فبيّن حقيقة العظمة والكبرياء والأفعال الربانية.. وهكذا في سائر مظاهر القدرة الإلهية في الأفعال البشرية وما يحط بها من ظروف، ويتحفنا بعدها بحقيقة الفتح الإلهي على الإنسان والذي من تجلياته الرحمانية والتدبير والإرادة والرحيمية والرازقية، ليخلص في آخر الجولة إلى المهمة الأساسية من رسائل النور في ظل التخريبات الكلية المسلّطة على الأمة.
يرى النورسي أن مهمة رسائل النور في ظل هذه الظروف هو تعمير التخريبات الكلية التي طرأت على الأمة، وحاول تجلية الأمر في الفرق بين مسالك أهل الضلال من جهة ومسلك أهل الإيمان من جهة أخرى، فالأوّل يمثّل طرق الشقاوة والثاني يمثّل طريق السعادة والرقي والحضارة والنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.(14/45)
ج/ يعتبر الإيمان وتكامل الإنسان(1) محاولة لتفسير القرآن الكريم من خلال الاتصال المباشر بالقرآن الكريم، هدفه وخز الضمير وتحريك العقل والقلب، فكان المبحث الأول شاملا لخمس فوائد من بين آلاف محاسن الإيمان وفوائده ولخّصها في خمس نقاط مستنبطة من قوله تعالى في سورة التين: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات".
ذكر الفوائد في شكل نقاط :
أ/الإنسان يسمو بالإيمان إلى أعلى المراتب.
ب/ الإيمان نور يضيء الإنسان وينوّر له دربه.
ج/ الإيمان بالإضافة إلى ما سلف قوة يتحدى بموجبها المؤمن كل الصعاب.
د/ يجعل للحياة هدفا إنسانيا ويحرر الإنسان من العجز المبني أساسا على الحيوانية التي افترسته فأصبح أشبه بالحيوان المفترس.
هـ/ يحقق في المؤمن الدعاء المعبّر عن الحاجة إلى الخالق سبحانه وتعالى ويشبع فطرته المتلهّفة في شوق لخالقها.(2)
أما المبحث الثاني فخصصه لخمس نكات تدور حولها سعادة الإنسان وشقاوته.
- كانت الأولى تنبيها إلى أن النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جناية لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والإيجاد فإن طاقته جزئية…أما إذا تخلى الإنسان عن الأنانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وارجع الأمر إليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباع هوى النفس، فاكتمل عبدا لله تائبا مستغفرا، ذاكرا له سبحانه، فسيكون مظهرا للآية الكريمة "يبدّل الله سيئاتهم حسنات" (الفرقان70) فتنقلب القابلية العظمى عنده للشر إلى قابلية عظمى للخير ويكتسب قيمة "أحسن تقويم" فيحلق عاليا في أعلى عليين".
__________
(1) الكلمات/ النورسي 348-374.
(2) المصدر السابق 348-358.(14/46)
- خصص النكتة الثانية لبيان جهتي التكوين البشري، وتتلخص أولاهما في الأنانية المقصورة على الحياة الدنيا، والثانية جهة العبودية الممتدة إلى الحياة الأبدية، فإذا ربى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام وغذّاها بضياء الإيمان تحت تراب العبودية موجها أجهزتها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية، فلا بد أنها ستنشق عن أوراق وبراعم وأغصان تمتد فروعها وتتفتّح أزاهيرها في عالم البرزخ، وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نعما جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو الإنسان آلة نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرة مباركة منورة لشجرة الكون.. والسمو الحقيقي إنما بتوجّه القلب والسر والروح والعقل وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للإنسان، إلى الحياة الأبدية الباقية واشتغال كل منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية..(1)
إننا عندما نقرأ هذا الرأي في ظل السطحية المهيمنة نتوهّم أنّ بين الأنانية والعبودية منافاة كلية، بحيث لا يجتمعان، وبهذا وكأننا نحكم بأن الإيمان غير موضوعي وغير واقعي، والأصل حسب تقديرنا أن الإيمان ما جاء لإلغاء الأنانية بل جاء لترشيدها جاء لجعلها محرّكا أساسا لفعل الخير بمفهومه العام، جاء بما يتناغم والمكونات النفسية للبشر، جاء ليجعل العناصر الذاتية خادمة للذات وسببا في استكثار الخير ودفع المؤمن على العطاء المستمر، و يشهد لهذا المعنى حسب تقديرنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(2)، أنظر كيف جعل من حب الفلاح في الآخرة (وهو حب للذات) محرّكا لفعل الخير، لأن المؤمن حقا من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبهذا يصبح الإيمان عاملا مهما في بعث عناصر البقاء في الإيمان وتكريس وظيفته الاجتماعية من خلال ترشيد الأنانية وإخراجها من العبثية إلى الهدفية.
__________
(1) الكلمات 359-374.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان.(14/47)
- حصر الفكر والوجود في الدنيا يهبط بالإنسان ويجعله أقل شأنا بمائة درجة من حيوان كالعصفور وإن كان أسمى منه في أصل خلقه وخلقته، لهذا كان الإنسان المستند إلى أنانيته وغروره المتخذ للحياة الدنيا غاية آماله ومنتهى جهده شخصا شريرا، غارقا في دائرة ضيّقة ستذهب سعيه أدراج الرياح، وطريق الخروج من هذه الدائرة الضيّقة إلى الوجود الرحب لا يكون إلا بالإيمان.
- إن تفوّق الإنسان عن سائر المخلوقات ليس بسبب ذاتي بل بفعل كرم إلهي، وما دامت الحقيقة كذلك يجب عليه دفع الغرور والأنانية، والإعلان أمام عتبة باب الألوهية عن عجزه وضعفه وقلّة حيلته بلسان التضرّع والدعاء، وذلك أصدق أساليب إظهار العبودية الخالصة لله الغني الحميد.
- أرسل الإنسان إلى الدنيا ضيفا وموظّفا وللقيام بتلك المهام (الضيافة والوظيفة) وهب استعدادات ومواهب تسمح بتحقيق ما طلب منه، ولكي يحقق تلك المقاصد بتلك الاستعدادات وضعت في طريقه المشوّقات والمهددات في الوقت نفسه، فرغّب ورهّب من أجل القيام بمهمته، وبمثل تلك المهمة المتمثّلة في العبادة والتفكّر يصبح إنسانا حقا ويظهر نفسه أنه في " أحسن تقويم " فيصير بيمن الإيمان وبركته لائقا للأمانة الكبرى وخليفة أمينا على الأرض.(1)
__________
(1) الكلمات/ النورسي 348-374.(14/48)
و/ يستشف من مجموع مؤلفاته عرض السنة بطريقة خاصة، يظهر أنه عرض السنة النبوية في ثنايا الحديث عن دلائل إثبات نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وكون ذلك الإثبات موافقا للسنن الكونية وليس خارجا عن نسقها العام في إطار الفطرة التي فطر عليها البشر، وهو بهذا الطرح متناغم مع طريقة عرض شيخ الإسلام مصطفى صبري للمسألة في المجلد الرابع من كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، حيث أوردها بعنوان معبّر عن موقفه من المسألة، يبيّن عنوانه المختار" موقف العقل والعلم من رسل الله ومعجزاتهم ومن البعث بعد الموت"(1).. وورد عنه في مقام إثبات وجود الأنبياء ما يؤكد التشابه في العرض بحيث تكاد تكون الألفاظ و المعاني متشابهة بل قد تصل حد التطابق، يتجلى هذا المعني في قول مصطفى صبري: "وجود الأنبياء إن لم يكن ضروريا كضرورة وجود الله في إيضاح فلسفة العالم بجميع أجزائه، إلا أن للنبوة أهمية كبيرة في إيضاح فلسفة الإنسان الذي هو جزء من أجزاء العلم، أهمية تجعلها جديرة بأن تعد من المطالب الفلسفية، ولا شك أن النبوة إنما تتصور بعد مطلب الألوهية وتنبني تماما على الاعتراف بوجود الله"
وتتقرر الأحكام المشار إليها أعلاه بما اقتبسه من الفيلسوف" كانت" الذي ربط الإيمان بوجود الله بحاجتنا إلى حفظ الأخلاق من الانهيار، وهذا بدوره مرتبط بالقول بالبعث المستدل به على وجود الله، ولهذا يعرف دليله بالدليل الأخلاقي على وجود الله.
__________
(1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين/ مصطفى صبري 4/24(14/49)
اقتبس شيخ الإسلام مصطفى صبري هذا الدليل في الاستدلال على ضرورة وجود الأنبياء حفاظا على الأخلاق من الانهيار، لأنه لا يمكن أن يحتج به على وجود الله لأنه دون ذلك المقام، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري: " فأول ما يكون ثبوته ضروريا على طريقة الفيلسوف "كانت" لحفظ الأخلاق عن الانهيار وصيانة حقوق الفضيلة من الضياع الأبدي، هو وجود البعث بعد الموت، ويأتي عندنا بعد ثبوت وجود الله ووجود البعث - أيا كان الأول ثبوتا - وجود الأنبياء، فلا ينفك وجودهم على كل حال عن ثبوت وجود النشأة الأخرى"(1).
2- جهاده الفكري والسياسي :
1/اشترك في الحرب العالمية الأولى وكوّن مجموعة قتالية (الأنصار) من طلابه والمتطوّعين ( عام1916م)، وعين قائدا عاما لها في جبهة " القفقاس "، وقد بلي بلاء حسنا ودافع عن أمته دفاعا مستميتا أثار إعجاب كبار القادة العسكريين، وقد وقع أثناء المشاركة في محاربة روسيا أسيرا واقتيد إلى" قوسترما" شمال روسيا حيث مكث مدّة سنتين وأربعة أشهر إلى أن قيّض له الله سبحانه وتعالى فرصة الإفلات من قبضتهم بأعجوبة عن طريق "لينينغراد، وارسو، فيينا، صوفيا، استنبول" (عام 1918م )، حيث منح أعلى الأوسمة واستقبل من قبل الشيوخ والتلاميذ والرسميين فكان على رأسهم الخليفة وشيخ الإسلام (أعلى منصب علمي شرعي في الدولة العثمانية) والقائد العام، وصدر الأمر بتعيينه عضوا في " دار الحكمة " (أعلى مؤسسة علمية في الدولة العثمانية ).
2/ساند جمعية فكرية سياسية إسلامية باسم "الاتحاد المحمدي" في مواجهة جمعية الاتحاد والترقي، وقد أظهر في هذه الجمعية براعة سياسية وفكرية منقطعة النظير، وعندما أحسّ مصطفى كمال بخطورته عمل على تقريبه والتقرّب منه بإغرائه ماديا ومعنويا، ولكن النورسي رفض هذه المحاولات وأضطر إلى مغادرة أنقرة واختار النفي الطوعي إلى إحدى المدن النائية " وان" ( 1923م) حيث انزوى عن الناس.
__________
(1) موقف العقل 160-162.(14/50)
و بهذا الصدد يحق لنا التساؤل، هل يمكن اعتبار اختيار العزلة في هذه المدينة وبالضبط في جبل (ارك) ومغارات "وان و بتليس" تركا للسياسة؟ مثلما يصوره أحد الباحثين(حمزة المكسي).
نحن نرى أن فصل السياسي عن الفكري والعقدي أمر مستحيل عند عامة المسلمين فكيف بخاصتهم من أمثال النورسي، لهذا نعتبر موقفه هذا محض سياسة، لأن السياسة اقتضت منه ترك السياسة (من السياسة ترك السياسة أحيانا)، ويبدو أن طبيعة العصر فرضت على الرجل اختيار مسلك جديد في الدعوة إلى حماية الموروث المعرفي والدين بجميع محتوياته التشريعية والسياسية وان كانت السياسية غير ظاهرة للعيان وفق ما تقتضيه الإكراهات الفكرية والحضارية الجديدة، وهو ما يبيّن عبقرية النورسي.
يسوغ للباحث أن يتساءل عن منهج المحبّذ للعمل للإسلام في بيئة كان مجرد الحديث فيها عن الإسلام جريمة تصنّف في خانة الخيانة العظمى، ومن ثمّ يعد المسلك الجديد معبّرا عن نباهة منقطعة المثيل، إذ اهتدى النورسي إلى منهج جديد مكّن للفكرة الإسلامية وجذّرها في المجتمع التركي المعاصر دون الدخول في المهاترات والمناقشات التي كثيرا ما تغيّب المحتوى العقدي والفكري بانشغالها بالتقعير الاستدلالي مرة والابتعاد عن البعد الوظيفي للرسالة الإسلامية أخرى، فقد كان مسلكه - بفضل الله - سببا في بعث الاهتمام بالبعد الوظيفي للفكرة الإسلامية .
3/ أتهم النورسي بالتحريض على الثورة المسلّحة التي وقعت في منطقة " ديار بكر "، مما دفع السلطة آنذاك إلى الأمر بنفيه إلى مدينة "بارلا" (أحد المنافي النائية غربي الأناضول) (عام 1926م) حيث سلّطت عليه رقابة شديدة حجزته عن الاتصال بغيره، ولكن الشيخ بما وهبه الله من قدرة فائقة أثّر فيمن حوله، فانقلبوا بتوفيق من الله إلى أعوان ساهموا بقسط غير قليل في إتاحة فرصة كتابة رسائل النور تنويرا للطريق وقطعا لدابر الشكوك والأوهام بأسلوب تذكيري فكري رائد.(14/51)
وبعد انكشاف حقيقة رسائل النور وانتشارها في الأمة، أصدرت السلطات أمرا بسجنه مع مائة وعشرين من طلبته في سجن " أسكي شهر"، ليسهل عليه تلفيق التهم ثم محاكمته وبعض تلاميذه لأسباب واهية، لخّصتها هيئة الاتهام فيما يأتي:
تأليف جمعية سرية.
وصف أتاتورك بعداوة الدين والدجل والسفه.
إثارة روح التديّن في المجتمع التركي.
حكمت عليه المحكمة بموجب تلك التهم وبعد تحقيق طويل بأحد عشر شهرا نافذة رغم عدم امتلاكهم لأدلة الإدانة.
في حياة الرجل مرحلتان، إذ مثّلت المرحلة الثانية تحوّلا صريحا من السياسة إلى التربية فكان يقول " أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".
يبدو من وجهة نظر سطحية أو مغرضة أن الاستعاذة من السياسية تعد تشجيعا للفصل بين الدين والسياسة أو تشجيعا للعلماء على عدم التدخّل في السياسة، ولكن الفاحص للمواقف في إطار الفكرة الإسلامية يرى أنّ موقفه السابق ليس إلا من قبيل العمل السياسي الذي اقتضى البعد عن العمل السياسي بمعناه الإداري وليس بمعناه الفكري النظري، لأنّ السياسة ما فسدت إلا بخوف من يعلم عن قول ما يعلم أو بخضوع من يعلم لمن لا يعلم أو ببيع العلماء الباقي (الآخرة) بالفاني (المصالح الدنيوية الضيّقة) أو بالاستقالة الاختيارية عن الأداء السياسي سواء كان فعلا سياسيا مباشرا أو تذكيرا دعويا في مجال العمل السياسي.(14/52)
4/ نقل بعدها إلى "قسطموني" (بلدة نائية على شاطئ البحر الأسود) حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزل مقابل لمخفر الشرطة، وقد كانت الإقامة الجبرية منحة ربانية سمحت له بالتفرّغ الكلي للكتابة والمساهمة بالتدبير في نقل رسائل النور في سريّة على أيد الطلبة.. وسرعان ما انكشف أمرها فأحيل على المحاكمة بأمر من السلطات مرة أخرى، وعيّنت لجنة لقراءة رسائله، انتهت بعد تقليبها من كل وجه إلى نتيجة مفادها: إن رسائل النور لا تحوي الدعوة إلى الحزبية أو السياسة بل هي بحوث دينية مجرّدة.. وبعد تداعي هذه التهمة اتهموه بأخرى مفادها نزوعه إلى الزعامة، ولكنهم فشلوا مرة أخرى في إثبات التهمة الجديدة فحكموا ببراءته ورغم ذلك ظل معتقلا في سجنه.
5/لم يكف الحكم ببراءته بحكم قضائي من تبرئة ذمتّه من الناحية الواقعية، إذ صدرت أوامر أخرى بنفيه إلى ولاية "أفيون" حيث وضع تحت الرقابة الشديدة التي حالت بينه وبين الكتابة أو الاتصال بالطلبة، ورغم التضييق المشار إليه استطاع بتوفيق من الله أن يكتب وينشر فكرة رسائل النور، وظل على تلك الحال مبعدا إلى أن حانت فرصة محاكمته مرة أخرى بسبب الانتشار الواسع لرسائله في الأمة التركية، فقضت المحكمة بسجنه ومجموعة من أتباعه لمدة عشرين شهرا، قوبل الحكم بالرفض من قبل المحامين وأعلنوا عدم شرعية القرار، واستدعى الرفض إحالة القضية إلى محكمة التمييز، وعوض البت فيها ظلت السلطات تماطل إلى أن انقضت مدة الحبس .
6/خفّف الحزب الديمقراطي من حدّة التضييق على الحريات الفردية والجماعية بعد نجاحه في الانتخابات التي أجريت عام 1950م، فأصدروا قانون حرية العقيدة والدين الذي مكّن الشيخ بديع الزمان النورسي من بعث نشاطه من جديد وفق ما تمليه الإكراهات الواقعية فكريا وسياسيا وحضاريا.(14/53)
وافته المنية بتاريخ 25 من رمضان سنة1379هـ الموافق 23 من مارس (آذار ) عام 1960 م في مدينة أورفة.(1) ونبشت السلطات العسكرية قبره بعد أربعة أشهر ونقلته إلى جهة مجهولة.
2/1 السمات العامة لمنهجه :
سنبيّن السمات العامة لمنهج التأليف وأساليبه أولا ثم نتبعه ببيان مسلكه في التغيير الاجتماعي والفكري وصلة كل ذلك بالإكراهات الفكرية والسياسية.
2/2 السمات العامة لمنهج التأليف:
تتسم مؤلفاته بسمات مركزة نلخصها فيما يأتي:
أ/ العودة إلى المصادر الأصيلة في التأصيل للعقائد الإسلامية متجاوزا بذلك الاتجاهات الكلامية التي كانت سائدة منذ القرن التاسع الهجري حيث توقفت العقلية الإسلامية عن الإبداع حيث تلخّص جهد المتكلّمين في الخصومات الوهمية مع بعضهم البعض، يناقشون خصوما لاوجود لهم في غير مخيلتهم ومخيّلات شيوخهم الذين يعيشون في غير زمانهم من الناحية الفكرية والحضارية بل وحتى النفسية.
ب/ التنبيه إلى القيمة العلمية للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة من جهة كونهما من أهم مصادر اليقين المعرفي والتربوي في مجال العقيدة والحياة.
ج/ تغليب القرآن الكريم والسنّة الشريفة على الخبرة المعرفية الإسلامية سواء كانت كلاما أو تصوفا أو فقها، وهو تفضيل مبرر شرعا وعقلا وخلاصته أن هذين المصدرين لا يتأثران بالزمان والمكان وهو سر صلاحهما بخلاف الخبرة المعرفية الإسلامية التي تتأثّر بفعل الأيام والأمكنة مما يجعلها مصطبغة بثقافة عصرها في الغالب الأعم، ولعل من أهم ما يمنح منهجه الأولوية ما تفرضه خبرات أسلافنا من مراجعة دائمة بالقرءان والسنة المطهّرة لأن ما كان صالحا منها في بيئة قد لا يصلح لغيرها.
__________
(1) أنظر سيرته الذاتية، و بديع الزمان سعيد النورسي وأثره في الفكر والدعوة/حسن عبد الرحمان بكير (ماجستير مخطوطة كلية الدعوة افسلامية ليبيا= 49-127 ;
و أنظر Bédiuzzaman Said Nursi/Suad Alkan(14/54)
د/ التركيز على هذين المصدرين لاحتوائهما على الجمع بين أمرين مركزيين :
أولهما مخاطبة الوجدان وثانيهما مخاطبة العقل في اللحظة نفسها، وهو ما تفتقده الدراسات الكلامية والصوفية بل وحتى الفقهية، إذ قصارى ما يبلغه الفريق الأول إقناع العقول و منتهى ما يبلغه الثاني إخضاع القلوب، ولاشك أنّه لا خير في عقل لا خشوع معه ولا خير في لسان يلهج بالذكر ولا فكر معه، فالأجدر والأنفع الجمع بين الحسنيين (قناعة العقل وخشوع القلب) ولا طريق لتحقيقه بغير التربية الروحية بالقرآن والسنة.
هـ/ الاستثمار الأمثل للخبرة المعرفية الإسلامية: بيّنا في ثنايا البحث رفض النورسي عمليا للبداية الصفرية في المجال المعرفي والتربوي، فقد كان (رغم عدم رضاه على مسالك المتكلّمين والصوفية) يوظّف المنهجين الكلامي والصوفي ويستثمر محتوى مؤلفاتهما.
و/ الاستفادة من المشاهدات اليومية وجعلها وسيلة تذكير رئيسة، فقد كان كثير التمثيل بها في مجموع مؤلفاته، واستعمل في ذلك صيغا كثيرة، منها التمثيل بالإنسان أو الحيوان أو غيرهما، والتمثيل بها من أحسن وسائل التبليغ وأنفعها في التذكير.
ز/ استثماره للمنتج المعرفي بصفة عامة وخاصة في مجال العلوم الكونية، إذ يلاحظ أنّه يستعمل الأمثلة الكونية والفلكية لبيان يقينية الرأي الذي يذهب إليه، منها حديثه عن النجوم والمسافات التي بينها.
2/3 السمات العامة لمنهج التغيير:
أ/ تبدأ عملية التغيير عنده ببيان موقع القرآن الكريم والسنة النبوية في سلم المعارف الإسلامية، إذ باكتشاف هذه المنزلة تميّز العقلية الإسلامية بين المنتج المعرفي الزمني (والذي يجب أن يقرأ من قبل أهل الاختصاص قراءة نقدية) والوحي الإلهي الذي جعله الخالق سبحانه وتعالى فوق الزمان والمكان، أي أنّه يتعالى عن الخبرة المعرفية الإسلامية والإنسانية، وسيمكننا ترتيبها وفق هذا النسق من تجاوز أمراض حضارية ونفسية وفكرية كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:(14/55)
- تغليب الزمني على الوحي كان سببا في تغييب البعد الوظيفي للدين الإسلامي، إذ يرجع إليه بعث الخلافات الفرعية في الأمة وتغليبها على ما يجمعها، فيكون تقديم الفرع على الأصل سببا في ضياع الأصل والفرع على حد سواء .
- تغليب الزمني على الوحي كان سببا في إشاعة القراءة التبركية للقرآن الكريم وإبعاد التلاوة الوظيفية التي يخشع لها القلب ويقتنع بها العقل وتخضع لها سائر الجوارح.
- تغليب الزمني على الوحي كان سببا في إبعاد القرآن الكريم والسنة المطهرة من مصاف المصادر اليقينية في مجال المعارف المتعلّقة بأمور العقائد (الإلهيات، والنبوات، والسمعيات، ونشأة الكون، ومصير الإنسان، وبداية الإنسان الأول..) أو المتعلّقة بمصالح الدنيا في المعاش وتنظيم شؤونه.
ب/ التفاعل الموضوعي مع الإكراهات الواقعية: حاول النورسي في بداية أمره التعامل مع المعطى السياسي تعاملا سياسيا ولما تأكد من الرغبة الجامحة لسياسي وقته في إقصاء النداء الديني الإسلامي من الساحة السياسية والفكرية، اختار أسلوبا جديدا يركّز على الفكرة الإسلامية من الناحية التربوية الروحية بوصفها الخزّان الرئيس لأي تغيير حضاري أو فكري محتمل في قابل الأيام، وهو بهذا المسلك قد جنّب الإسلام كتوجه حضاري إنساني الوقوع في كثير من المطبّات منها على سبيل المثال لا الحصر :
-الدخول في معركة أعد الخصوم ظروفها المادية والمعنوية والنفسية.
-التفاعل النفسي التشنجي مع أحداث بالغة التعقيد من حيث الموضوع والمنهج (وهو ما دبّر بليل للعامة أو من سار في ركابهم من المتعلمين).
-الخلط بين القضايا الإستراتيجية والمسائل التكتيكية في العمل التربوي والفكري في البلاد الإسلامية، ويرجع ذلك إلى عدم وضوح الأولويات عند الدعاة إلى الله.(14/56)
-إبعاد التوجهات الحضارية من ساحة الفعل الفكري وتمكين العقلية الجزئية من القرار الثقافي الإسلامي، وقد كانت هذه العقلية الممكنة بوسيلة أو بأخرى سببا في الانصياع إلى الأحداث بعقلية الصبية الذين لا يعلمون من مقاصد الأمور وحقيقتها شيئا.
ج/ تتجلى في مؤلفاته الخلفية المعرفية للمذهبية الإسلامية الشاملة التي تنبثق عنها رؤية المسلم للكون والحياة والمجتمع والإنسان، إذ تعد مواقفه منها أوفيها ليست إلا تجسيدا لمحتوى الأمر الإلهي في المجالات الفكرية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية.. والمعيشية، لهذا كان منهج التغيير عنده متسّما بالشمول من حيث المكلفين أولا ومن حيث الموضوع ثانيا، فبالنسبة للأول تعد الرسالة الإسلامية عامة لجميع أفراد الإنسانية، وهي في الوقت ذاته تمثّل صلة رحم بينهم بأوامرها يدر خير بعضهم على بعض وبموانعها يقل الشر المتطاير بينهم، أما بالنسبة للثاني فإن موضوعها يتناول شأني الدنيا والآخرة في رؤية متكاملة تجعل من النجاة في الأخرى محرّكا للفعل الحضاري الإنساني في هذه الدنيا، يعمل المؤمن من منطلق طلب النجاة في الآخرة على إصلاح دنياه ودنيا الآخرين طمعا في مرضاة الله سبحانه تعالى، فيكون الاعتقاد العقلي والقلبي في البعث والحساب في الآخرة عاملا فعّالا في دفع الناس إلى إصلاح أمر دنياهم .
يتميّز منهج التغيير عند العلامة النورسي بالسمات الآتية:
الأصالة: بالعودة إلى المصادر الإسلامية في المعرفة والتربية.
الواقعية : وتتجلى في استصحاب المعطى الفكري في وضع خطة التغيير.
الشمول: الدعوة إلى شمول الإسلام من حيث موضوعه (الدنيا والآخرة) وآثاره الاجتماعية والفكرية.
ولنا أن نتساءل بعد هذا العرض لماذا اختار النورسي هذا المسلك في التغيير؟ إن الجواب عن هذا السؤال يعد تمهيدا لجواب عن سؤال مركزي آنف الذكر، مفاده لماذا اختار النورسي مسلكا خاصا مخالفا لمنهجي معاصريه مصطفى صبري والكوثري؟(14/57)
الجواب الدقيق عن هذا السؤال يبيّن القضية المركزية في فكر النورسي.
2/4 القضية في فكر النورسي:
يتبيّن من العرض السابق لميادين السياسة والثقافة والصراع الحضاري في المجتمع العثماني الأخير وبشهادة المخالفين من النصارى واليهود أن الغرض الأساسي من كل المؤامرات التي تحاك ضد المجتمع العثماني هو إبعاده عن مسالك الإيمان من خلال التشكيك في القرآن والتشويش على جميع العلوم الإسلامية، وقد أعملوا لتحقيق هذا المقصد مجموعة لا يستهان بها من الخدع، تتلخّص في آخر المطاف في أسلوب القهر القانوني المتدثّر بالترغيب حينا وبالترهيب في كثير من الأحيان، يصوّر هذا التشخيص قول النورسي لمبعوث شيخ الإسلام مصطفى صبري حين قال له بأن الشيخ مصطفى يسأل عن عدد طلابكم ؟ فقال النورسي خمسمائة ألف طالب وخادم للقرآن الكريم؟ فقال المبعوث يقول الشيخ مصطفى.. إذن لماذا لا يبدأ بجهاد إسلامي مع هذا العدد من طلابه؟
فقال الشيخ النورسي مبيّنا تشخيصه لحال الأمة وما يجب عليها: "بلّغ سلامي له أولا، ثم قل له: إن دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وإن زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان ووظيفتنا هي الإيمان وخدمتنا تنحصر في الإيمان".(14/58)
إن التشخيص السابق يدل على عبقرية فذة جاوزت العقلية الإسلامية التي تعرف كيف تموت من أجل الإسلام ولكنها تفتقد إلى منهج الحياة من أجل الإسلام بمعنى أنها تحسن تقديم النفس لله ولكنها لا تعرف كيف تحيى لله ، فالعقلية الإسلامية كانت ولمدة طويلة عقلية فدائية يهمها أن تقدّم نفسها لله تعالى دون موازنة بين المصالح والمفاسد المترتّبة عليها بالنسبة للأمة وليس بالنسبة للشهيد، وقد أيّد هذا الفهم وزكاه شيخ الإسلام مصطفى صبري حين قال معلّقا على جواب النورسي: حقا إن الأستاذ النورسي هو المحق، نعم إن ما قاله صدق وصواب ،فقد وفقه الله في مسعاه، أما نحن فقد أخطأنا، حيث ثبت هو في البلاد ونحن غادرناها.(1)
يرى النورسي أن حقائق الإيمان مهددة، فما هو المطلوب في مثل هذا الوضع؟ هل يبقى مكتوف الأيدي أم يساير الفكر الفدائي (الجهاد بالنفس في سبيل الله)؟
المعركة حسب تقديره تتجاوز منع الحكم الإسلامي أو المظاهر الإسلامية، إنها معركة حامية الوطيس هدفها قطع صلة الأمة بدينها من خلال محو الحقائق الإيمانية من قلوب المؤمنين وعقولهم بكل الوسائل المتاحة، وقد قاد هذا المسعى الاستعمار والصهيونية بمساعدة قوى محلية،(2) وفي مثل هذا المقام هل يفيد الخروج طلبا للشهادة ؟ وهل يحمي ذلك المسلك الحقائق الإيمانية؟
الجواب وفق رأي النورسي يبدأ بترتيب الأولويات، بعد التشخيص "إننا في عصر مريض وعنصر سقيم وعضو عليل"(3)" وهناك هجوم عنيف جماعي منظم على أركان الإيمان وأسسه".(4)
التشخيص الآنف الذكر فرض على النورسي اتخاذ موقف منسجم مع خياره، فهل نكتفي بالمؤلفات السابقة لحماية الإيمان وحقائقه؟
__________
(1) سيرة ذاتية 542.
(2) أنظر المكتوبات 349.
(3) المكتوبات600.
(4) الملاحق 105.(14/59)
يقول النورسي: لا تستطيع أغلب تلك الكتب والرسائل التي كانت تخاطب الأفراد وخواص المؤمنين فقط أن تصد التيار القوي لهذا الزمان، ولا أن تقاومه"، وبهذا الصدد اقترح البديل، فما هو البديل أيها الشيخ الجليل، إنه أمر بسيط واضح بدايته ومنتهاه: رسائل النور لكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة، حتى حكم كل من ينعم النظر فيها: بأنها أصبحت ضرورية في هذا العصر كضرورة الخبز والدواء".(1)
وقد حقق هذا المسلك مجموعة لا يستهان بها من الأهداف والمقاصد:
1/إعادة الاعتبار للقرآن الكريم كمصدر رئيسي في المعارف الدينية، فقد هيمنت الخبرة المعرفية الإسلامية على النص الديني الإسلامي مدة طويلة في البيئة الإسلامية.
2/التركيز على الجانب الحضاري من المعركة، بعدم الدخول إلى ساحة الوغى التي حدد مكانها وزمانها العدو الذي يتربّص بنا الدوائر، وبهذا ابتعد النورسي عن التعامل الصبياني أو الفدائي مع قضية بالغة التعقيد.
3/اختار النورسي الحفاظ على الأصل الذي تستمد منه جميع الأفعال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عناصر بقائها وديمومتها وفاعليتها في حياة المسلم، لهذا يرى النورسي أنه إذا كان الإيمان مهددا فالأصل التركيز على حمايته من خلال السعي إلى حماية مكاسب الدعوة، فالحفاظ على متر واحد في ساحة الدعوة الإيمانية أولى من الاستحواذ على أضعافها بطريق آخر.
4/ تعد العودة بالناس إلى القرآن الكريم اختيارا لأقصر مسالك إثبات الحقائق الإيمانية، مسلك متميّز بالقدرة على جمع المؤمنين جميعا على تنوع مشاربهم على هدف واحد تمثّله القبلة الواحدة.
__________
(1) الملاحق 105.(14/60)
5/ يعد هذا المنهج في العمل بمثابة الحفاظ على الخزان البشري الذي تستمد منه جميع حركات التغيير على تنوّع اهتماماتها، لهذا يجب على تلك الحركات والجمعيات من منطلق حماية الوجود الحضاري - ولو كان في شكله الإيماني البسيط - للأمة إمداد هذا الفكر بعناصر الديمومة المادية والمعنوية.
6/ يستفاد من هذا المسلك أن التعامل مع القرآن الكريم لا يفرض بالضرورة البداية الصفرية في المعرفة التربوية والنظرية، فضلا عن المعركة الحضارية، بل يقتضي استثمار كل ما من شأنه أن يفيد في بيان الحقائق الإيمانية المستقاة من القرآن الكريم.
7/ يستفاد من التجربة النورسية ضرورة التفكير في ترتيب الأولويات في معركة المقاومة الفكرية، وبذلك نبتعد عن التفاعل السطحي مع الأحداث، كما يستفاد منها تجاوز الفكر الفدائي بتركيزه على العمل المؤسساتي الذي تجلى في رواد رسائل النور وحملة ميراثها في قابل الأيام.
بعد الانتهاء من البسطة التاريخية للظروف السياسية والفكرية التي عاش فيها النورسي فاعلا ومتفاعلا ثم بيان الترجمة المركّزة لشخصيته والسمات العامة لمنهجيه في التأليف والتغيير التربوي والاجتماعي، ننتقل إلى عناصر الخطة التفصيلية لموضوع الدراسة.
" إثبات الحقائق الإيمانية عند النورسي( المنهج والتطبيق)"
الفصل الثالث
يتكون البحث من كلمات مركزية يتوقف فهم العنوان على تحليلها وفق مشرب النورسي نفسه بناء على ما استقيناه من آثاره، لهذا وبغرض بيان المراد بالمركب اللقبي "إثبات الحقائق الإيمانية" يلزمنا بيان المراد من المصطلحات الآتية:
مصطلح الإثبات ثم مصطلح الحقائق الإيمانية.
1/ إثبات
يستعمل النورسي مصطلح " إثبات " في سياق التأسيس المعرفي بشقيه العقلي والقلبي للحقائق الإيمانية المتضمنة في القرآن الكريم، إذ ورد عنه في مقام بيان الهدف المركزي من رسائل النور:" إثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم".(14/61)
ولنا أن نتساءل عن سر توظيف مصطلح (إثبات) في هذا السياق؟ ولماذا فضله عن مصطلح الاستدلال؟ أو ما يقوم مقامه في البناء الكلامي.
وما المراد الدقيق به؟ هل هو ذات المصطلح الصوفي؟ الذي مفاده الإثبات ضد المحو(1) يبدو لنا أن النورسي ابتعد عن اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة في التعبير عن الحقائق القرآنية نظرا للتلازم الواقعي (في الضمير الجماعي للأمة) بين الإستدلالين الكلامي والصوفي والتقعير العقلي الذي لا يحرك وجدانا وان كان مؤسسا للمعارف ومستدلاً لها وفق النسق العقلي أو التقعير الوجداني الذي يقصي العقل ويضعه جانبا.
الإثبات في سياقات كلام النورسي ترد مضادة أو منافية للنفي، يشهد له تكراره لهذا المعنى في مقامات مختلفة منها استثماره لما نقل عن السكاكي، حيث قال النورسي: " ألا ترى ذكاء السكاكي ذلك الإمام الداهية قد تقاصر عن اجتناء دقائق ما أبرزه سجية امرئ القيس، أو بدوي آخر؟ فبناء على ذلك، الاستدلال على وجود الإيمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه، بأن يستفسر من العامي بالسؤال المردد بين النفي والإثبات، أيها العامي، أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالم بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكن في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: لا، فنفي الجهة ثابت في وجدانه، وذلك كاف، وقس على ذلك". (2)
لهذا فالمقصد الرئيس من هذا المصطلح الإشارة إلى أصلية المسائل التي يراد إثباتها أو التذكير بها، ويشهد لهذا أيضا قوله في شرح كتاب "قزل إيجاز" في سياق شرح قول المصنف:
نحمد جل على الأنعام بنعمة الإيمان والإسلام
نحمده: كرره للإثبات بعد الثبوت، والإنشاء بعد الخبر والعمل بعد العلم. (3)
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون/ التهانوي1/247
(2) إشارات الإعجاز 51
(3) صيقل الإسلام 170(14/62)
إن الإثبات وفق المسلك السابق يتجاوز أن يكون محاولة لإقناع العقل أو مخاطبة الوجدان كل على حدا، إنه نهج خيّر رام فيه صاحبه المزاوجة بين خيري المسلكين، فكان حقا مسلكا جديدا ومتجددا للجمع بينهما في شكل عجيب يقر به النورسي نفسه، حيث يقول: " إن ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان ليس برهانا حتى يقال: فيه نظر، بل مبادئ حدسية قيّدت وعقدت واستحفظت بأنوار اليقين المفاضة من القرآن الكريم".(1)
حدسية لاجتماع إشباع حاجتي العقل والقلب في نفس لحظة الإثبات، بخلاف الاستدلال الكلامي والتذكير الصوفي، فالأول يتوجه إلى العقل مع عدم ملاحظة مخاطبة القلب أو الوجدان أثناء المرافعة عن حقائق الإيمان، أما الثاني فيتوجه إلى القلب دون الالتفات إلى العقل وحاجاته أثناء صياغة الخطاب الصوفي أو تبليغه.
إنه منهج عجيب يقوم أساسا على "العقول المستقيمة المنورة والقلوب السليمة النورانية"، الذين قال مخاطبا لهما: "أقبل، فإن أقصر الطرق الموصلة إلى الحقيقة هي من بابكما فهيا لنستفيد بمطالعتنا العقول والقلوب المتصفة بالإيمان ودراسة كيفياتهما وألوانهما، فهذا درس لا يؤخذ من الألسنة كما هو الحال في الطرق الأخرى".(2) ...
إنه اختيار مبدئي أملته الإكراهات الواقعية، ولعل من أهم مبرراته من الناحيتين النقلية والواقعية ما يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
أما من الناحية النقلية، فيتلمس ذلك من الغرض الأصلي للقرآن الكريم (مع تعدد أساليبه في الإقناع) "هداية الناس إلى طريق الفلاح في الآخرة والنجاح في الدنيا"، استصحب النورسي هذا الهدف في التعامل مع القرآن الكريم في الفهم والإفهام.
__________
(1) المثنوي العربي النوري 318
(2) الشعاعات 160(14/63)
يقول النورسي: اعلم (1) أنّ مقاصد القرآن الأساسية وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والرسالة، و الحشر، والعدالة مع العبودية، فيصير سائر المسائل وسائل هذه المطالب، ومن القواعد: عدم التعمّق في تفصيل الوسائل، لئلا ينتشر البحث بالاشتغال بما لا يعني فيفوت المقصد،.. لهذا أكثر القرآن من التمثيل، ومن التمثيل بعض المتشابهات فإنها تمثيلات لحقائق غامضة إلهية، وأجمل فيما كشفه الزمان بعد العصور وبعد حصول مقدمات مرتبة.. (2)
وقد نسج على منوال ذلك في أسلوب يتوخى تحقيق القراءة الجامعة بين قناعة العقل وخضوع القلب في إطار التركيز على المقاصد وتوظيف كل ما من شأنه تيسير القراءة المقاصدية.
__________
(1) يقول النورسي: إن كل مسألة افتتحت بـ"اعلم" سلاح قاطع، ودواء نافع، أعطيته من حيث لم أحتسب، في وقت احتياجي وكثرة جروحي، فليس لي في الكتاب مال إلا ما ليس في الكتاب من الألم والجرح والداء المستتر في الضمير، وأما المذكور في الكتاب من الدواء والسلاح وذوق الحق، فليس مني، ولا مما مضغه فكري، بل من فيض القرآن. المثنوي العربي النوري 318
(2) المثنوي العربي 75(14/64)
إن توخي هذا الهدف (الفهم و الإفهام من أجل الهداية) بالتركيز على المقاصد الرئيسة، يجعل أولوية الأولويات التبليغ عن الله، ويجعل في ذات الوقت القضية الاستدلالية الموغلة في التقعير العقلي مسألة ثانوية في الوهلة الأولى، والحال نفسه بالنسبة للقضية الجوانية المستقلة عن العقل، لأن ضعفنا وإن كان عقليا فإن عدم فاعليتنا لا تكمن في عدم القناعة العقلية بقدر ما تكمن في عدم التزامنا العملي بما جاء به القرآن الكريم، المبني أساسا على المزاوجة الهادفة بين القلب والعقل أو بين العقل والقلب.. فالمسألة متداخلة تداخلا عجيبا يصعب ترتيب السابق وفق رأي النورسي نفسه، نظرا لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين القلب والعقل، يصوّر هذا التداخل العجيب المدهش في كثير من رسائله، منها قوله في وصف مسلك رسائل النور في الإثبات: " ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق العقل وأدلته ونظراته، ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته.. وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأحرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراق لا يصل إليها نظر الفلسفة.. فتبين أنوار الحقائق وتوصلها إلى عيونها المطموسة.. (1)
و يؤكد تلك المعاني المستفادة من أقواله، قوله في مقام آخر عن العلاقة بين رسائل النور والقرآن الكريم مبينا فيها المراد بمصطلح الإثبات، وبأنه يفوق المعنى المستفاد من لفظ الاستدلال.
__________
(1) الملاحق 105(14/65)
يقول النورسي: "أما رسائل النور، فلكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود (لاحظ جيدا راسخ - مستدل عليه ومتمكن - موجود أي غير مفقود على مستوى القناعات العامة)، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة، حتى حكم كل من ينعم النظر فيها: بأنها أصبحت ضرورية في هذا العصر كضرورة الخبز والماء".(1)
يستفاد مما سبق أن مصطلح الإثبات يحمل بين طياته مبررات الانتقاء ويشير بشكل واضح إلى خلفيته النظرية، كما يستشف منه ظروف الحمل بالمصطلح وولادته، يحمل مصطلح الإثبات إشارات واضحة لمميزات الظرف الذي فرضت استعماله من جهة، وتقديمه عن غيره من المصطلحات المشابهة، ولهذا تعد محاولة فهمه خارج سياق ظروف الحمل والولادة تعسفا معرفيا ظاهرا، وتتجلى تلك الظروف في الصياغة نفسها، وقد اصطلحنا عليها باسم مميزات الإثبات عند النورسي.
1/2 مميزات الإثبات:
يستفاد من تحليلنا السابق وفي إطار نصوص النورسي، أن الإثبات بمفهومه النورسي يتميّز بمجموعة من الميزات نجملها في النقاط الآتية:
1/الإثبات مخاطبة للعقل والقلب في اللحظة نفسها، لأننا في حاجة للعقل والقلب معا وبنفس الدرجة، فلا تقديم لأحدهما على الآخر، فهما معا كوجهين لحقيقة واحدة، وقد أبدع النورسي في تبني هذا المصطلح بذلك المدلول (أرجأنا التفصيل إلى الفصل اللاحق حين الحديث عن منزلة الخبرة المعرفية الإسلامية في فكر الرجل).
يقول النورسي: "اعلم أن عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلب مشهوده الذوقي ليد العقل، فيبرزه العقل على عادته في صورة المبرهن التمثيلي".(2)
__________
(1) الملاحق 105
(2) المثنوي العربي 413(14/66)
ويقول أيضا في تأكيد هذه المعاني: "فمسائلها (رسائل النور) وإن حصلت لي أول ما حصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون - فيما يغمض فيه ذوي الأبصار- لف عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية.(1)
2/ العمل على المزاوجة بين المسلكين بهدف تجاوز الخلل الموجود فيهما، فقد ابتعد عن التقعير العقلي بقدر المسافة نفسها التي ابتعد بها عن التعمّق الصوفي، ورغم هذا فقد اقترب منهما بالمسافة نفسها حين تعلّق الأمر بما يملكان من عناصر قوة وانتشار، يشهد لهذه المعاني كثير من نصوص الرجل منها ما أورده في سياق نقد الطريقة الصوفية مركّزا على الجهد الانتخابي في استثمار ما تملكه الطرق الصوفية من غايات سديدة، وبهذا الصدد يذكر النورسي: تحت عنوان التلويح التاسع: "نذكر هنا مجملا تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها".. إلى أن يقول: "نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.."(2)
3/ رفض البداية الصفرية في ميدان الإثبات، فتراه مستثمرا لجهود المتكلمين والمتصوفة والفقهاء وعلماء اللسان العربي.. كل في دائرة اختصاصه، مما يوحي بأنه يتوخى من الإثبات مقاصد معلومة، تحدد بما تضمنه القرآن الكريم من حقائق إيمانية.(سنبيّنه لاحقا)
__________
(1) المثنوي العربي 206
(2) المكتوبات 591-592(14/67)
4/ يعد مصطلح الإثبات من أهم مظاهر الخروج من دائرة النخبوية في صياغة الخطاب الدعوي وتبليغه، إذ يدل على أنّ المقصد الأصلي من رسائل النور هو إثبات بعد ثبوت، أي إثبات إيمان راسخ وبالأحرى تثبيت الإيمان الراسخ، ولا شك أن مصطلحات الاستدلال والبرهنة وإن كانت مرشدة لصنف من الناس فإنها قد تمرض البعض الآخر، فكان الإثبات نسجا على منهج القرآن الذي يخاطب المجتمع الإنساني على تنوّع طبقاته في الفهم والسلطان، فيجد العامي ضالته كما يجدها المتخصص، ويجدها الفقير مالا أو جاها أو سلطانا كما يجدها الغني أيضا، لهذا فهي بالقرآن قامت وبالقرآن دامت لأنها وفق القرآن الكريم نسجت.
رام النورسي بهذا المسلك تحقيق جزء من ميزات القرآن في التبليغ لأنها به كانت ومن فيضه استمدت، لهذا حاولت رسائل النور أن تكون إثباتا لحقائق الإيمان لجميع طبقات الإنسان، لا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر، ولكل فيها نصيب من الفهم، والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة…و ذوقه يتفاوت جهة جهة،.. وميله يتشتت جانبا جانبا.. واستحسانه يتفرق وجها وجها.. ولذته تتنوع نوعا نوعا.. وطبيعته تتباين قسما قسما.. فكم من أشياء يستحسنها نظر طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا يتنزل إليها طبقة، وقس..(1)، وهذا ما دفع النورسي إلى تنويع خطابات الإثبات في رسائله.
ويعد استصحاب هذه الميزة ديدن كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، فمن المتقدمين الغزالي الذي يميّز بين أسلوب القرآن في التأسيس للعقائد وأسلوب علم الكلام، وهو الكلام نفسه تقريبا الذي نجده مرددا عند عبد الحميد بن باديس والنورسي.
__________
(1) إشارات الإعجاز 49، أنظر ما يقرب من هذه المعاني اللمعات 178-179،…(14/68)
قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصف مسلك رئيس جمعية العلماء عبد الحميد بن باديس: "كان منذ طلبه العلم بتونس قبل ذلك - وهو مقتبل الشباب - ينكر بذوقه ما كان يبنى عليه مشائخه من تربية تلاميذهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلما.." ثم يخلص إلى فوائد هذه الطريقة فيقول: " وقد تربت هذه الأجيال على هداية القرآن فهجرت ضلال العقائد وبدع العبادات، فطهرت نفوسها من بقايا الجاهلية التي هي من الطرائق القديمة في التعليم، وقضت الطريقة القرآنية على العادات والتقاليد المستحكمة في النفوس وأتت سلطانها "، وقد أنتج هذا المسلك بعد رواجه بين العامة والخاصة طريقا جديدا في الحكم على أقوال الرجال وأعمالهم وعلومهم، ومن بركات هذا المسلك أن "أصبح العامي لا يقبل من العالم كلاما في الدين إلا إذا استدل عليه بآية قرآنية، وأصبح العامي إذا سمع الاستدلال بالقرآن أو الحديث اهتز وشاعت في شمائله علامة الاقتناع والقبول، وهذه أمارة دالة على عودة سلطان القرآن على النفوس يرجى منها كل الخير".(1)
5/ استعمال مصطلح الإثبات يدل بنفسه على هيمنة النزعة الواقعية على فهم الرجل، إذ يستشف من التحليل الآنف المواصفات العامة للواقع الحديث الذي ولدت فكرة الإثبات.
1/3 السمات العامة لظروف ولادة فكرة الإثبات:
__________
(1) مقدمة الشيخ البشير الإبراهيمي لكتاب العقائد الإسلامية لشيخ نهضة الجزائر الحديثة عبد الحميد بن باديس 6-7(14/69)
1/ معالم الجو الثقافي والعلمي أكثر ظهورا في أدبياته، إنه أشبه بمن يقول: المسألة ليست مسألة استدلالية فحسب، بل هي بالإضافة إلى ما سلف مسألة التزام، لأن ما يتهدد الإيمان وحقائقه خطير وفضيع يستدعي الوصول إلى المطلوب الإيماني في أقصر وقت ممكن، وقد كان للنورسي ما أراد، فقد بلّغ مثلا فكرة الحشر في عدد قليل من الوريقات بينما كان المتقدمون يكتبون المؤلفات الطوال دون أن يصلوا إلى درجة الوضوح التي تتسم بها رسائل النور، وكان ذلك بفضل مسلك الإثبات المستفاد من القرآن الكريم.
يقول في تصوير هذه المعاني: "إن إثبات أجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الإيمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، إثباتا ساطعا، إنما هو إشارة غيبية قوية جدا، وعناية إلهية عظيمة، لأن هناك من الحقائق الإيمانية والقرآنية، اعترف بعجزه عن فهمها من يعد أعظم صاحب دهاء، وهو (ابن سينا) الذي قال في (مسألة الحشر): " الحشر ليس على مقاييس عقلية " بينما تعلّم (الكلمة العاشرة) عوام الناس والصبيان حقائق لم يستطع أن يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه".(1)
ثم يضرب مثالا آخر بمسألة القدر والجزء الاختياري التي لم يحلها سعد الدين التفتازاني في أقل من خمسين صفحة ، بينما حلها النورسي في صحيفتين من المبحث الثاني من الكلمة السادسة والعشرين.(2)
__________
(1) أنظر الكلمة العاشرة في كتابه :الكلمات 49، أنظر المكتوبات 481
(2) أنظر الكلمة السادسة والعشرون في كتاب الكلمات 541، انظر المعاني المشار إليها في المتن المكتوبات 481(14/70)
2/ بعث سلطان القرآن في النفوس بغرض التأسيس لمجمل حقائق الإيمان في أبعادها المعرفية والروحية والتعميرية، ويكمن إبداعه في الغرض من هذا البعث، فهو بمثابة قطع لطريق التشكيك في القرآن بصرف النظر عن مصدره (المحلي والأجنبي)، وهو بذلك يعد رائدا من رواد المقاومة الفكرية التي تقصد مواجهة مؤامرة استئصال وجود الإسلام باجتثاث الإيمان من خلال انتزاع أصلها (القرآن) من الوجود العالمي، يشهد لما ذهبنا إليه تفاعل النورسي مع ما نقله الوالي "طاهر باشا " حين قال إن أوربا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، وهذا بناء على ما سمعه من وزير المستعمرات البريطاني وليم غلادستون القائل: "ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكما حقيقيا، فلنسع إلى نزعه منهم"، فكان جواب النورسي لمن حوله: " لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها".(1)
3/ يظهر عند التحليل الدقيق أن مصطلح الإثبات يحمل بين طيا ته عنصري المخاطبة الوجدانية والعقلية، بوصفهما عنصرين أساسيين للتفاعل الإيماني مع الحياة، إذ عدم الجمع بينهما يوقع فيما لا تحمد عقباه، فلا خير في قناعة عقلية لا خضوع ولا خشوع فيها، كما أنه لا خير في قلب مفعم ولسان لاهج بذكر الله دون قناعة عقلية راسخة، لأن قوام المسلك على " دوام الذكر القلبي والتأمل العقلي مع الحضور القلبي الدائم و الاطمئنان، ودوام شحذ الإرادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة"(2)
__________
(1) سيرة ذاتية 95-96
(2) المكتوبات 592(14/71)
4/ يجعل مسلك الإثبات النوري من الإصلاح النفسي والاجتماعي بواسطة التذكير والتفكير هدفا مركزيا، بخلاف لفظ الاستدلال الذي يجعل المحاور (بضم الميم وفتح الحاء) هدفا ومحركا مما يدفعه إلى المجادلة والمهاترة عوض الاستعداد للتفكير والتذكير معا، والبون شاسع بين الإستعدادين، لهذا تراه حين يريد الحديث عن المسألة الاجتماعية في عهده الجديد (سعيد الجديد) يتلمّس لنفسه العذر ظاهرا هروبا من الرقيب السياسي والأمني، فيكتبها بلسان سعيد القديم، و بهذا الصدد يقول: إن الحقيقة الرفيعة التي تفيدها هذه الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)(الحجرات13) تخص الحياة الاجتماعية، لذا اضطررت إلى كتابة هذا المبحث بنية خدمة القرآن العظيم، وعلى أمل إنشاء سد أمام الهجمات الظالمة، فكتبته بلسان (سعيد القديم) الذي له علاقة بالحياة الاجتماعية الإسلامية، وليس بلسان (سعيد الجديد) الذي يريد اجتناب الحياة الاجتماعية.(1)
2- حقائق الإيمان
__________
(1) المكتوبات 413(14/72)
وظف النورسي هذا المصطلح في سياق الحديث عن المحتوى المعرفي والروحي والتعميري للقرآن الكريم، فنجد في رسائلها كل المواضيع الشرعية، فيعرض العقيدة والعبادة والتربية الروحية ومتطلباتها الاجتماعية والأدبية والتعميرية..، لهذا يلاحظ على هذا الاستعمال مسحة وظيفية، ومن ثمّ كان هذا الإطلاق أوسع (حسب تقديرنا) من استعمالات المتكلمين الذين تتلخص حقائق الإيمان عندهم في الإلهيات والنبوات والسمعيات(1)، كما أنه يتجاوز استعمالات المتصوفة الذين تتلخص عندهم في أمراض القلوب ومتعلقاتها…(2)، وهو في ذات الوقت يتجاوز اصطلاحات الفقهاء(3) الذين يركزون في جهودهم على الأمور التعبدية الصرف بصرف النظر عن صلتها بالجانب القلبي.
__________
(1) أنظر الكتب الكلامية على مختلف المشارب، شرح المقاصد التفتازاني على مشرب الأشاعرة، المغني في أبواب التوحيد للقاضي عبد الجبار على مشرب المعتزلة، تجريد الاعتقاد للطوسي على مشرب الإمامية الإثناعشرية، الدليل والبرهان للورجلاني على مشرب الإباضية، إشارات المرام من عبارات الإمام للبياضي على مشرب الماتريدية.
(2) على تنوع مشاربهم ،سواء تصوفا أخلاقيا سلوكا، أو تصوفا عرفانيا ،أو تصوفا إشراقيا.
(3) يركّز الفقهاء على فقه الظاهر بالدرجة الأولى، ولعل من المذاهب التي تعنى بالمباحث الباطنية المذهب المالكي، الذي كثيرا ما تختم مؤلفاتهم الحديثية والفقهية بكتاب أخلاقي يعرف بكتاب الجامع.(14/73)
يتناول اصطلاحه جميع تلك المعارف، فنجد ضمنها حقائق العقائد مثل الاستدلال على وجود الله(1) والملائكة(2) والنبوات(3) والروح(4) والحياة الآخرة(5)، كما نجد ضمنها أيضا حقائق التصوف كوحدة الشهود(6) والكشف(7) والشكر(8) والذكر(9)…
وألحق بها مباحث تعبدية صرف، كالصلاة (10) والذكر(11) والعبادة(12) … وهو في كل ذلك يعمل على توخي البعد الوظيفي للدين الإسلامي(13).
2/1 تجليات هذا الاستعمال:
__________
(1) أنظر الكلمات325،446،658،660،782، اللمعات 267،443،492، الشعاعات110،169،589،605، المثنوي العربي 276،421، الملاحق 351، سيرة ذاتية 181.
(2) أنظر الكلمات 94،114،187،202،594، اللمعات 126،140، الشعاعات 45،128، إشارات الإعجاز 141، المثنوي133، الملاحق 288، صيقل الإسلام 143،
(3) الكلمات 63،263، اللمعات 30، الشعاعات 166،
(4) أنظر اللمعات24،52، الشعاعات 62،75،88، المثنوي العربي 13،321،…
(5) أنظر الكلمات 105،115،618،…
(6) أنظر الكلمات 561، اللمعات 65، المثنوي العربي 340،432،433،434،…
(7) أنظر الكلمات 14، 24،157، الشعاعات 87،253،384، الملاحق 278، صيقل الإسلام 77،170،491،…
(8) أنظر الكلمات 3،10،29،38،39، صيقل الإسلام 170،491
(9) أنظر المثنوي العربي 56،58،62،70،179،192،314،395،410،478، صيقل الإسلام 15،…
(10) أنظر اللمعات 155،194،290،292،316،319،377،419،428، الشعاعات 127، 129،140،242،291،…
(11) أنظر المثنوي العربي 56،58،62،70،179،192،314،395،410،478، صيقل الإسلام 15،…
(12) أنظر الكلمات 12، 13، 14، 19، 39، 43،67، 134،157، 158،167، 168، 187،202، اللمعات 291،338، الشعاعات 26،171، 193،220،242، 246، 273، إشارات الإعجاز 30،31،147،148،149،156،…
(13) يعتبر البعد الوظيفي السمة العامة للكتابة العقدية والصوفية والفقهية، بل هي من الخصائص المركزية في الكتابة عن الحقائق الإيمانية في رسائل النور .(14/74)
مرّ معنا أن مصطلح الحقائق الإيمانية يراد به جمع القلوب على الحقائق المتضمنة في القرآن الكريم، سواء كانت متعلّقة بالعقيدة أو العبادة أو الأخلاق أو التعمير.. وكان الهدف من ذلك جمع المؤمنين على المحتوى القرآني، موضوعا وأسلوبا، بغرض حماية الحقائق الإيمانية بأقل وقت ممكن وبأقصر طريق وأكثره شدا لانتباه المؤمنين وأكثرهم فاعلية في نفوسهم، لأنه يمثّل في فكر النورسي طريق الاتحاد والوحدة.
بين النورسي المسائل التي تجمع كلمة المسلمين في سياق الحديث عن حقائق الإيمان، بل جعلها الأصل الجالب للوحدة والاتحاد، وبهذا الصدد ركّز على مضامين الإسلامي، فتجلت في كتاباته العقيدة والعبادة والأخلاق والتعمير و…
يتجلى الحكم السابق في خوضه الدقيق في مسائل الدين المركزية والمعبّر عنها في رسائله بمقاصد القرآن الكريم، ويمكن بيان في ذلك في النقاط الآتية:
2/2/1 التوحيد ومسائله:
أول أبواب القرآن الكريم وأعلا مقاصدها حقائق التوحيد، والتعبير عنها في فكر النورسي بهذا الاسم، تهدف إلى الجمع في عرضها بين قناعة العقل وخشوع الوجدان وترجمة ذلك في سلوك تعميري، قال النورسي:" التوحيد الحقيقي وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود، بوحدانيته، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في ألوهيته، ولا معين له في ربوبيته، ولا ند له في ملكه، إيمانا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم وسكينة القلب، لرؤيته آية قدرته وختم ربوبيته ونقش قلمه، على كل شيء فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه". (1)
و يؤكد المعنى ذاته في كثير من كتبه، منها قوله: "لا تحسبن براهين التوحيد في (الباب الأول) يغني بعضها عن بعض، مطلقا، إذ شاهدت الاحتياج إلى كل واحد في مقام مخصوص".(2)
__________
(1) الكلمات 326 ... ... ... ...
(2) المثنوي العربي 34(14/75)
تلاحظ أنه لا يعرض الحقيقة التوحيدية وفق عرض علماء الكلام وإن كانت من مباحثه، بل يعرضها وفق المسلك الذي حددناه في بيان مصطلح الإثبات، إذ يجمع في رحاب واحد العرض العقدي بأبعاده الوظيفية التربوية والتعميرية الروحية، اقرأ معنا قوله في توضيح الحقيقة الإيمانية الجليلة المبيّنة في ثلاثة مقامات:
"المقام الأول: نبين ثلاث ثمرات من الثمرات الوفيرة، لتلك الحقيقة التوحيدية التي لها ثمرات كلية في غاية اللطف واللذة والأهمية والنور، نبينها باختصار شديد، مع الإشارة إلى أذواقي ومشاعري التي ساقتني إلى تناول تلك الثمرات.
المقام الثاني: تُوضّح مقتضيات ثلاثة لهذه الحقيقة السامية، والأسباب الموجبة لها، فهي مقتضيات ثلاثة إلا أنها بقوة ثلاثة آلاف مقتضى وسبب.
المقام الثالث: يذكر ثلاث علامات لتلك الحقيقة التوحيدية الباهرة، فهي علامات ثلاثة إلا أنها بقوة ثلاثمائة علامة وأمارة ودليل" .(1)
و هكذا تراه يجمع في سياق واحد بين مخاطبة العقل والقلب، والروح ويستثير أبعادها المعرفية في الأفاق والأنفس وأبعادها الوظيفية في المجتمع بجميع مكوناته.
2/2/2 التصوف ومسائله:
__________
(1) الشعاعات 7(أنظر تفاصيل كثيرة في المسألة المرجع نفسه 7-42)(14/76)
يعتبر النورسي بحق أعجوبة الزمان، يتجلى هذا في جمعه العجيب بين الحقائق الإيمانية، فتراه يضم في رحاب واحد وتحت سلطة القرآن ووصايته المباحث الكلامية إلى المباحث الصوفية التي تعد جزء لا يتجزّأ من حقائق الإيمان المستفادة من القرآن الكريم، وفي هذا السياق يذكر تحت عنوان " التلويح التاسع" تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها، فيصرّح في الأولى بأن الثمرات التي هي معارف قلبية صوفية جزء من الحقائق الإيمانية، اقرأ معنا قوله في الثمرة الأولى: "هي ظهور الحقائق الإيمانية وانكشافها ووضوحها إلى درجة عين اليقين بواسطة الطريقة الصحيحة المستقيمة، هذه الحقائق التي هي منابع خزائن أبدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها".(1)
ولعلّه رحمه الله تعالى اقتبس إدراج القضايا التربوية في الحقائق الإيمانية من الإمام أحمد الفاروقي السرهندي القائل: "إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها..".(2)
وهكذا تصبح التربية الروحية المعبّر عنها بالتصوف جزءاً مهما من الحقائق الإيمانية التي يريد النورسي التمكين لها في المجتمع الإسلامي المعاصر.
2/2/3 العبادة من حقائق الإيمان :
يعمل النورسي في سياق التأسيس لحقائق الإيمان على بيان العبادات وآثارها في تزكية النفوس وصقل العقول وتنمية استعدادات الأرواح، وقد سعى إلى بيان ذلك من خلال الحديث عن العبادات كالصلاة والزكاة والصوم وسائر العبادات.. كما تمكّن من تجسيدها من خلال الحديث عن العبودية وآثارها في تصفية القلب وتهيئة العقل لقبول الحق والحقيقة.
و تجلية لهذا الأمر اخترنا نماذج من آثار العبادات في حياة المسلم من خلال أدبيات النورسي:
2/2/3/1 الصلاة :
__________
(1) المكتوبات 591
(2) الشعاعات 211 ، وأنظر الملاحق 277(14/77)
إن للصلاة آثارا عظيمة في توحيد صفوف المسلمين وتهيئتهم للقبول عن الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول النورسي: " إن النبي- صلى الله عليه وسلم - يوحّد بالعبادة قلوب الموحدين في صلاة العيد والجمعة والجماعة، ويجمع ألسنتهم جميعا على كلمة واحدة، حتى يقابل هذا الإنسان عظمة الخطاب الصادر من المعبود الحق سبحانه بأصوات قلوب وألسنة لا تحد وبدعواتها، متعاونا متساندا، بحيث يظهر الجميع عبودية واسعة جدا إزاء عظمة ألوهية المعبود الحق فكأن كرة الأرض برمّتها هي التي تنطق ذلك الذكر، وتدعو ذلك الدعاء، وتصلّي لله بأقطارها وتتمثّل بأرجائها الأمر النازل بالعزة والعظمة من فوق السماوات السبع "وأقيموا الصلاة "(1)
2/2/3/2 الصوم
يعتبر الصوم وفق عرض النورسي من حقائق الإيمان المعتبرة من أوائل الأركان الخمسة للإسلام، ويعد من أعاظم الشعائر الإسلامية، ذكر في سياق الحديث عنه، جملة من الحكم تدل بنفسها على العرض المتكامل لحقائق الإيمان المعروفة بشرائع الإسلام، فتجده في السياق الواحد يذكر فوائدها الشخصية والاجتماعية و..
" فصيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمد عظيم عام لله سبحانه وتعالى، وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نعم كثيرة – غير مضطرين إليها في سائر الأوقات – لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحق وأوضاره فلا يدرك درجة النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الإفطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد ذلك قوته الذائقة، لذا ينال الصائمون شكرا معنويا لله تعالى منبعثا من إدراكهم قيمة تلك النعم العظيمة، أما امتناع الإنسان عن تناول الأطعمة نهارا فإنه يجعله يتوصل إلى أن يدرك بأنها نعمة حقا ".(2)
__________
(1) اللمعات 194
(2) المكتوبات 514(14/78)
ويذكر في سياق بيان حكم الصوم حكمة واحدة متوجّهة إلى الحياة الاجتماعية، فيقول في تقرير هذه الحقيقة: "خلق الناس على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الأغنياء لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء، ولا جرم أن الأغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعورا كاملا حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا إحساسا تاما بجوعهم، إلا من خلال الجوع المتولّد من الصوم، فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لأهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء إلى الرأفة والرحمة.. فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارة الجوع، لما قام أحد أصلا بإسداء الإحسان إلى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعورا حقيقيا".(1)
وهكذا دواليك في التعامل مع سائر الثمار المحصّلة من الصوم، فتراه يذكر أثره في تهذيب النفس الأمارة بالسوء، وتشجيع النفس على التطلّع إلى مزيد من الكسب المعنوي والمادي، فيكون فرصة لترويض اللسان على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده.. وبعد عرض مجمل تلك الفوائد ينتهي إلى القول بأن: صيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس، فيكسر شوكتها مظهرا لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها".(2)
ومما يؤكد المسحة الجديدة لعرض حقائق الإيمان وفق دلالات مصطلح الإثبات، أنّه ذكر الصوم ومتعلقاته التربوية الشخصية والاجتماعية في ثنايا تفسير قوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان".(البقرة185)(3)
2/2/3/3 الزكاة:
__________
(1) المكتوبات 515
(2) المكتوبات 521،
(3) أنظر تفاصيل الصوم في المصدر السابق 513-521(14/79)
يذكر في سياق حديثه عن الزكاة كحقيقة من حقائق الإسلام، أنّ لو اعتمد المسلمون الزكاة في حياتهم لساهمت في التعايش السلمي بين الأغنياء والفقراء من جهة تأدية كل الأغنياء حق الفقراء للفقراء عن طيب خاطر طاعة لله تعالى، وفي ذلك أقصر طرق السلم والسلام الاجتماعي، و يذهب النورسي إلى القول بأنه لو " صارت الزكاة التي هي مسألة واحدة من ألف من مسائل حقيقة الإسلام، دستور المدنية وأساس التعاون فيها، ألا تكون دواء ناجعا وترياقا شافيا للتباين الفظيع في الحياة المعاشة، الذي هو جحر الحيات والسم الزعاف والبلاء المدمّر؟ بلى سيكون الدواء الناجع الساري المفعول أبدا.(1)
إن الفهم السابق يخرج الزكاة من دائرة الطرح الفقهي المستقل عن القرآن على الأقل من حيث الطرح، إلى رحاب طرح أوسع يجعل من القرآن لحمته وسداه، بحيث يكون القرآن الكريم صلب المباحث الفقهية، ويتجلى ذلك بصياغة المباحث الفقهية بطريقة تمزج فيها مع أبعادها الوظيفية ونتائجها التربوية محفوفة بالآيات القرآنية من كل جانب، ولهذا قلنا آنفا أن حقائق الإيمان تشمل ضرورة وفق مسلك النورسي مباحث الفقه.(فقه الفروع)
2/2/3/4 العبادة والعبودية
يصوّر النورسي اندراج حقائق الشريعة الإسلامية في سلك حقائق الإيمان بعرضها مفتتحة بآية قرآنية كريمة، و يؤكد هذا المسعى مسلكه في تبني مصطلح الإثبات، ومن هذا القبيل حديثه في الكلمة الخامسة عن قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين"، وفي ذلك يستفتح الكلام بقوله: قبل الإشارة إلى ما فيها من حجة ورد إلى القلب بيان سياحة خيالية ذات حقيقة بيانا موجزا بناء على إيضاح "المكتوب التاسع والعشرين"(2) وأنا أقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد إلى قلبي سؤال، ليلهمني معجزة من معجزات "ن" التي في " نعبد ، ونستعين "
والسؤال هو: لِمَ قال "نعبد، نستعين" بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل أعبد.. أستعين"؟
__________
(1) صيقل الإسلام 56
(2) المكتوبات 500-593(14/80)
ينتقل بعدها إلى بيان السر وهذا وفق مسلك مصطلح الإثبات فيقول: "وعلى حين غرة أمام خيالي ميدان سياحة واسعة من باب تلك الـ "ن"، فعلمت بدرجة الشهود السر العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدت منافعها الجليلة وعلمت يقينا أن هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك:
عندما كنت أصلي في ذلك الوقت في جامع" بايزيد" وأثناء قولي: "إياك نعبد وإياك نستعين" رأيت أن جماعة ذلك الجامع يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول، ويشاركونني مشاركة تامة في دعواي هذه وفي دعائي الذي في " اهدنا " مصدّقين إياي.. في هذا الوقت بالذات رفع ستار من أمام خيالي فرأيت كأن مساجد استنبول كلها قد تحوّلت إلى مسجد "بايزيد" كبير و جميع المصلين فيها يقولون مثلي: "إياك نعبد وإياك نستعين" مصدقين دعواي ومؤمّنين لدعائي، ومن خلال اتخاذهم صورة شفعاء لي، رفع ستار آخر أمام خيالي، فرأيت أن العالم الإسلامي قد اتخذ صورة مسجد عظيم جدا وأخذت مكة المكرمة والكعبة المشرفة بمثابة محراب ذلك المسجد العظيم.." وينتهي بعد هذا العرض الشيق إلى ثمرة تلك العبادات - يؤكد القراءة في إطار مصطلح الإثبات - من خلال المشاهدات العيانية، حيث يقول: نعم كما أننا نشاهد بأبصارنا استجابة دعاء كل نواة وكل بذرة تسأل خالقها بلسان الاستعداد لتصبح شجرة وسنبلة، كذلك نشاهد إرسال الأرزاق إلى جميع الحيوانات بما تقصر أيديها عنها، وإعطائها ما يلزم حياتها، واستجابة مطالبها التي هي خارجة عن طوقها، والتي تسألها من واحد أحد بلسان الحاجة الفطرية. (1)
وورد عنه في السياق نفسه تأكيد استعمال لفظ الإثبات وفق الدلالة المبيّنة آنفا، حيث يقول: " إن " اهدنا الصراط المستقيم " دعاء جامع وعبودية واسعة، كما أنها إشارة إلى حجة في التوحيد وإلى درس في الحكمة وتعليم الأخلاق".(2)
__________
(1) الشعاعات 648
(2) الشعاعات 650(14/81)
نخلص مما سبق أن حقائق الإيمان في مؤلفات النورسي، تتسم بمجموعات من الميزات المتضافرة في التعبير عن تلك الحقائق.
2/2/4 مميزات الحقائق الإيمانية
1/ مباحثها مستنبطة من القرآن الكريم في سياق متكامل، يتحاشى فهم الحقائق على شكل مجموعات مستقلة، قد يفضي التمادي معها إلى فقدان الصورة الكلية للإسلام.
2/ يطرح مجموعات الحقائق الإيمانية في أسلوب تربوي يتوخى التنبيه إلى الغايات الوظيفية المنتظرة من تلك الحقائق، لهذا تلاحظ المزج الكبير بين الأثر التربوي والمعرفة بحقائق الإيمان من خلال عرضهما في رحاب واحد وفي الوقت نفسه تقريبا.
3/ الحقائق الإيمانية في فكر النورسي ووفق ما استفاده من القرآن الكريم أكبر من أن تحصر في مباحث التوحيد أو مباحث التصوف أو الأحكام الشرعية بمفهومها الفقهي، لأن عرض الحقائق الإيمانية في عصره، يفرض إزالة الحواجز بين مختلف التخصصات بهدف عرضها في صورة متكاملة، لعلها تحدث التغيير على مستوى الأنفس بغرض إحداث التغيير على وفق مراد الله تعالى في التعامل مع عالم الأشياء.
4/تخاطب هذه الحقائق في فكر النورسي مجموع قوى الإنسان الداخلية في نفس الوقت، فتخاطب استعداداته النفسية والفطرية والعقلية بغرض تثمينها واستثمارها فيما جعلت لها، فتجد في الخطاب النورسي ما يقنع العقل ويرضي الوجدان ويحرر الروح لتسمو بصاحبها في عالم الروحيات الطاهر، وهي وإن لم تحقق ذلك المبتغى الأسمى ساهمت على الأقل في تحرير الإنسان من القوى التي تشده إلى الأرض.
5/ يمتزج في مصطلح الإثبات عنصرا الأصالة والمعاصرة، تظهر الأصالة في استنباط مسائلها من منبع قدرة المسلمين وقوة بقائهم القرآن الكريم، ومعاصر من حيث أخذه المعطى الثقافي والسياسي بعين الاعتبار حين صياغة الحقائق الإيمانية وتبليغها، ويبرر هذا الاختيار مجموعة من المبررات وقفنا عند كثير منها فيما سلف، و يحسن بنا في هذا المقام الوقوف عند بعضها:(14/82)
* العصر ليس عصر علم الكلام، وإن كنا ومازلنا في حاجة إلى كثير من مباحثه.
* هذا الزمان ليس زمان الطرق الصوفية، وإن لم نستطع ولن نستطيع التنصل من الحاجة إلى محتواها التربوي.
* ليس باستطاعة مؤلفات علم الكلام والتصوف أن تحقق المطلوب في أقصر مدة ممكنة، بل قد يضيّع كثير منها وقت القارئ في مسائل لا طائل منها، لهذا وضع النورسي البديل مجسدا في رسائل النور التي تمثّل تفسيرا للقرآن الكريم، وسيحقق بهذا العمل مجموعة من المقاصد.
- تجسيد وحدة المسلمين: تمثّل رسائل النور أقصر طرق تجسيد وحدة المسلمين، إذ يجتمع على مائدتها المبتدع والمتمذهب والمتكلم والصوفي والفيلسوف و…
- أهم مصدر في تناول حقائق الإيمان بأقصر طريق.
- إيجاد التفاعل المفقود في حياة المسلم، بسبب القطيعة التي فرضها المبتدعة بين القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، حتى ليخال لقارئ الفقه مثلا أنه بصدد موضوع مستقل عن القرآن الكريم.. وهكذا دواليك في سائر العلوم الإسلامية.
- ربط حقائق الإيمان بالقرآن الكريم مما يسمح بإرجاع هيبة القرآن في المجتمع.
3- منهج الإثبات
تتداخل في منهج عرض الحقائق الإيمان عند النورسي مسالك عدة، يرى فيها مركزية الخطاب القرآني الذي يبدو أنه مقروء مرة وفق مناهج المتكلمين ووفق أذواق المتصوفة حينا آخر، ووفق مسالك الفقهاء وأهل الأحكام الشرعية حينا ثالثا، ورغم المزاوجة بين تلك الأنواع من القراءة في رحاب واحد، فقد وفّق للتحرر من تغليب تخصص على حساب تخصص آخر، إذ كان بحق موفقا إلى حد كبير في وخز الضمير الإنساني بالتذكير الاستدلالي مرة وبالاستدلال التذكيري أخرى في سياق يجمع في الصيغة نفسها العقيدة والتربية والفقه والتعمير..(14/83)
جعل النورسي من التذكير عمدة الاستدلال، يستشف ذلك من أساليب الإثبات، فيبدأ بعض الجمل بقوله: "أيها الإنسان"(1) وأخرى بضرب الأمثال(2) بوصفه عاملا محركا للنفس البشرية، لهذا يمكن أن نوجز منهجه في التنبيه بما يأتي:
أ/ جعل القرآن الكريم هدفا و وسيلة للتربية، فيستهل عرض حقائق الإيمان بآية قرآنية يتجوّل في فهمها بقلبه وعقله وروحه السامية، يسعى من خلال تلك الجولات أن يكون مقنعا لنفسه أولا ناقلا لتجربته للآخرين ثانيا، ومبلغا ومربيا في المقام الثالث.
ب/ جعل التذكير أولى الأوليات، فهو حري باسم المنهج التذكيري الاستدلالي من القرآن الكريم، إذ منتهى مطالب التبليغ عنده التعليم العملي لحقائق الإيمان.
ج/ جعل الأسلوب التربوي الصوفي مساوقا للخطاب المعرفي في جانبيه الديني والعلمي، وإن كان الغالب شيوع المسحة الصوفية في مجموع مؤلفاته، بوصفها مقصدا أساسيا من مقاصد الالتزام بأحكام الإسلام، ومحرّكا مهما وفعّالا لسائر المباحث الأخرى، ومتحرّكا في مجالها.
د/ الاستعانة بالاستدلالات الكلامية بوصفها عاملا إضافيا في تحريك العقل بعد تحريره بالعاملين الأولين من المكبلات النفسية التي تكون غالبا سببا في العناد وترك الاحتجاج.
الفصل الرابع
مصادر الإثبات
اعتمد النورسي على المصادر الإسلامية المعروفة ورتبها في وفق نسق المتقدمين، القرآن فالسنة ثم الخبرة العلمية الممثلة في علم الكلام حينا وفي الخبرة الصوفية حينا آخر…و يتجلى استثماره لتلك المصادر فيما سنعرضه في الفقرات اللاحقة.
1/ القرآن الكريم
__________
(1) أنظر الكلمات 166،280،281،285،288،292،346،354، اللمعات 84،129، 132،135، الشعاعات 42،250،524، إشارات الإعجاز 161، المثنوي العربي 68، 98، 264، صيقل الإسلام 495
(2) أنظر الكلمات11،39،50،55،58،59، اللمعات30،36،53،69، 84، 111، 121، 135، الشعاعات15،23،44،77،136،163، إشارات الإعجاز 34(14/84)
يظهر استثماره لما ورد فيه من وجهين:
أ/ جعل القرآن الكريم ميدانا للتحرك العقلي بوصفه ضابطا لمناحي التفكير حينا ومحددا لمواضيع التفكير الإنساني حينا آخر.
ورد عنه في النافذة الحادية والثلاثين التي استهلها بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)( التين:4)… ثم أتبعها قائلا نحن هنا أمام نافذة الإنسان نتطلّع من خلال نفس الإنسان إلى نور التوحيد ونحن إذ نحيل تفاصيل ذلك إلى الكتب والأسفار المدونة…(1)
وورد عنه في النافذة الثالثة والثلاثين البدء بقوله تعالى: (الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) (الكهف:1)… إلى أن يقول تأمل وأعلم أن ما ذكر في جميع النوافذ السابقة ما هو إلا بضع قطرات من بحر" القرآن الكريم"، فإذا كان الأمر هكذا فانك تستطيع الآن قياس الإمدادات العظيمة لأنوار التوحيد التي تفيض من بحر الحياة في القرآن الكريم…(2)
وقد ركّز رحمه الله تعالى على فهم القرآن الكريم من منطلق دلالات الآفاق والأنفس، و بهذا الصدد يقول في مقام تفسير قوله تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(يونس 62): "السير الأنفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقا أنانيته، ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلا إلى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ إلى الآفاق الكونية فيجدها منورة بنور قلبه، فيصل سريعا، لأن الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس أكبر في الآفاق، وأغلب طرق المجاهدة الخفية تسير في هذه السبيل."
__________
(1) الكلمات 828
(2) الكلمات 832(14/85)
ويصوّر في السياق نفسه المنهج الثاني المعروف في أدبياته بالآفاقي بقوله: " أما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات أسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الآفاقية الكونية الواسعة ثم ينفذ إلى دائرة النفس، فيرى أنوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب أقرب طريق إليه تعالى، ويشاهد أن القلب حقا مرآة الصمد، فيصل إلى مقصوده، ومنتهى أمله."(1)
يتبين مما سلف أن العلامة النورسي كان ملتزما بما نبّه إليه القرآن الكريم من ميادين البحث (النظر في الآفاق والأنفس) معملا في كل ذلك مجموعة متنوعة من المسالك التحليلية…
ب/ استفاد النورسي من القوالب الاستدلالية المبثوثة في القرآن الكريم، و ركّز فيها على مسلكين، ولبيان ذلك يذكر في ثنايا تمييز منهج القرآن الكريم عن مناهج المتكلمين والصوفية، فيقول: أولاها: طريق القرآن الكريم الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، و بجزالته الساطعة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق إلى الله، وأقربه إلى الله، واشمله لبني الإنسان.
ويشترط لبلوغ عرش هذا الأصل أربع مسائل: الإلهام، والتعليم، والتزكية، والتدبر.
وذكر في السياق نفسه أن للقرآن الكريم في معرفة الله سبحانه وتعالى وإثبات وحدانيته طريقين:
الأول : دليل العناية والغاية
الثاني: دليل الاختراع(2)
كما يرى تنبيهه إلى ما حواه القرآن الكريم في تفسير قوله تعالى (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) (يس:79) حيث قال: "إنما هي نماذج للقياس التمثيلي،.." وقوله تعالى (وما ربك بظلام للعبيد)(فصلت:46)… دليل العدالة في الكون(3).
وقال أيضا: "لقد دعا القرآن الكريم… مرارا إلى التفكر ولفت الأنظار إلى آلاف من البراهين العقلية…"(4).
__________
(1) المكتوبات 573-575
(2) أنظر تفاصيل عرضهما في كتاب المثنوي العربي 428-429
(3) الكلمات 618
(4) الكلمات 618،638(14/86)
ج/ استعمل الحجج القرآنية بوصفها وسيلة فعالة في حماية الحياة الفكرية والنفسية والاجتماعية (1)، ومنبها أساسيا للأبعاد الوظيفية للدين نفسه.
قال النورسي: " فيا أهل الإيمان، احتموا بحماية القرآن الكريم الذي أنقذكم من العدم المطلق ومن جحيم الدنيا والآخرة بكل يقين وثقة واطمئنان … وأنقذوا أنفسكم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة" (2)
د/ اعتمد القرآن بوصفه مصدرا معرفيا يقينيا، وفي ذلك يقول: "نعم… إن أخبار القرآن نفسه للحشر الجسماني هو تنوير كاف وكشف بيّن له، فهو المفتاح للحكمة المودعة في الكائنات وللسر المغلق للعالم…"(3)
هـ/ اعتمد في تفسير القرآن بالدرجة الأولى على ما في الكتاب الكريم نفسه ثم تفسيره بما ورد في صحيح السنة، لأن " القرآن يفسّر بعضه بعضا، ومعناه فيه، وصَدَفُه درٌّ مثلُه لا قشر، وحتى إن القصد من إظهار هذه المطابقة هو تزكية ذلك الشاهد الصادق، فهو عبث أيضا، إذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يفتقر إلى تزكية العقل والنقل اللذين ألقيا إليه المقاليد، لأنه إن لم يزكهما فشهادتهما لا تُسمع … فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على أغلاط، فإنك لن تجد شيئا.." وقال أيضا في السياق نفسه: " إن الذي يفسر القرآن ليس إلا القرآن والحديث النبوي الصحيح، وإلا فلا يفسَّر القرآن بالإنجيل والتوراة المنسوخة أحكامهما والمحرفة قصصهما"(4)
2/ السنة المطهرة
__________
(1) أنظر إشارات الإعجاز 61، 65،143،214،215،220،273،المثنوي العربي11، 55، 123، 124، 170، 175،192،203،280،339،374،422،431،…
(2) أنظر اللمعات 79،123،434، إشارات الإعجاز 211، المثنوي العربي 431، صيقل الإسلام 102، 122، 509، 519
(3) الكلمات 618
(4) أنظر صيقل الإسلام 36،35.(14/87)
يستفاد من بعض النصوص المنقولة عنه اهتمامه بأقوال النبي- صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله وفي ذلك يقول: "وأدخلوا بالتسليم الكامل في الظلال
الوارفة للسنة المحمدية بكل استسلام وإعجاب ". (1)
وقال أيضا: "إن كلام النبي الصادق المصدق محمد الهاشمي عليه أفضل الصلاة والسلام قد فتح أبواب السعادة الأبدية، وان أحاديثه الشريفة نوافذ مفتوحة على تلك السعادة الخالدة تطل عليها".(2)
ويتجلى اهتمامه بالسنة النبوية من زوايا مختلفة، تدل في إطارها الشمولي على منزلة السنة النبوية في المعرفة والتربية في فكر النورسي.
أولها: اعتبار النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية الكبرى للقرآن العظيم وهو خاتم ديوان النبوة - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يتبعه قائلا: " فعلينا أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم - وننصت إليه خاشعين، اعلم أن ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة، فان قلت: ماهو؟ وماماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الارض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه.. وهو امامُ جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خلْفَهُ.. وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيسُ جميع الانبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات اديانهم.."(3) وهكذا تتوالى الرشحات الواحدة بعد الأخرى، ليختمها ببيان ساحر آسر يخطف الألباب ويربط القلوب بصاحب الرسالة- صلى الله عليه وسلم - ، فيقول: (إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين)(4)
ثانيتها: الاهتمام به بوصفه الأنموذج الأكمل، لينتقل بعدها إلى الاهتمام به بوصفه الأنموذج الواقعي للتحرك والتغيير الإسلاميين.
__________
(1) اللمعات 123
(2) الكلمات 617
(3) المثنوي العربي النوري 55
(4) المكتوبات 266(14/88)
أ/ أحاديثه مجلبة للسعادة ودفع للشقاوة (إن كلام النبي- صلى الله عليه وسلم - …وأحاديثه الشريفة نوافذ مفتوحة على تلك السعادة الخالدة)(59)
وقال أيضا (إن الحديث النبوي معدن الحياة وملهم الحقائق)(1)
وورد عنه في سياق الحديث عن منزلة النبي- صلى الله عليه وسلم - بيان أهمية الحديث النبوي المترجم في الأنموذج الأكمل - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن النبي- صلى الله عليه وسلم - " هو رائد ومصدر ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها ومربّ لنفوسهم ومزَكٍ لها، ومدار لانبساط أرواحهم ومعدن لسموها.. لم يأت ولن يأتي له مثيل.(2)
ب/ الاستشهاد بأحاديثه بوصفها جالبة للسعادة، لهذا قال بوجوب التسليم بها ولها، بمعنى الدخول فيها بالالتزام وأدخلوا في التسليم الكامل… "للسنة المحمدية…"(3)، وقال أيضا: "إن محبة الله تستلزم اتباع السنة الطاهرة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن حب الله هو العمل بمرضياته، ومرضاته تتجلى بأفضل صورها في ذات محمد- صلى الله عليه وسلم -، والتشبه بذاته المباركة في الحركات و الأفعال"(4)
ج/الأنموذج الواقعي المتحرك للتغيير الفكري والاجتماعي، قال النورسي: "إن الرسول - صلى الله عليه وسلم -قد أرسل إلى البشرية كافة قدوة وإماما ورائدا، كي نتعلم منه مناهج الحياة الاجتماعية والشخصية ودساتيرها، وتتعود على الانقياد لقوانين الإرادة الإلهية الحكيمة، وتنسجم مع دساتيرها الربانية ".(5)
وورد في مقام التشبه بذات النبي- صلى الله عليه وسلم - المباركة في الحركات والأفعال من وجهين:
__________
(1) المكتوبات 606
(2) الشعاعات 168
(3) اللمعات 123
(4) اللمعات 92
(5) المصدر السابق 125(14/89)
أولهما: جهة حب الله سبحانه وتعالى وإطاعة أوامره، والحركة ضمن دائرة مرضاته، هذه الجهة تقتضي ذلك الاتباع، حيث أن أكمل إمام وأمثل قدوة في هذا الأمر هو محمد- صلى الله عليه وسلم -.
وثانيتهما: جهة " ذاته المباركة" - صلى الله عليه وسلم - التي هي أسمى وسيلة للإحسان الإلهي غير المحدود للبشرية، فهي أهل لمحبة غير محدودة و لأجل الله وفي سبيله(1)،لأن صاحبها جمع فيه الله سبحانه وتعالى أصول الأدب وقواعده، لهذا فالذي يهجر سنته المطهرة ويجافيها فقد هجر منابع الأدب وأصوله، فيحرم نفسه من خير عظيم، ويظل محروما من لطف الرب الكريم، ويقع في سوء أدب وبيل. (2)
وفي سياق حديثه الآنف الذكر لا يعتبر سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - سيرة خارقة للعادة دائماً، لأنها لو كانت كذلك " ما تسنى أن يكون إماما مطلقا ولا قدوة كاملة حسنة للبشرية قاطبة"(3).
من منطلق ما سبق تقريره اعتبر النورسي المعجزات ما كانت إلا تصديقا لدعواه، بشكل متفرق عند الحاجة لكسر عناد المنكرين، أما في سائر الأوقات فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مراعيا بكل دقة لسنة الله الجارية ومطيعا طاعة كاملة لنواميسه المؤسسة على الحكمة الربانية والمشيئة الإلهية، كطاعته ومراعاته للأوامر الإلهية لذا كان… يلبس الدرع في الحروب ويأمر الجنود بالترس والموانع ضد الأعداء، ويجرح ويتأذى ويتحمل المشقات… كل ذلك ليبيّن درجة طاعته الكاملة ومراعاته للقوانين الإلهية الحكيمة، وانقياده التام لشريعة الفطرة الكونية ونواميسها… انه الأنموذج الرسالي الواقعي (4) الممكن التكرار مما يجعل وجوب تمثله والنسج على صورته أمرا شرعيا متاحا من الناحية الواقعية.
__________
(1) اللمعات 93
(2) اللمعات 87
(3) اللمعات 125
(4) أنظر المصدر السابق نفسه(14/90)
قال النورسي: "والحال أن سيدنا الرسول الأعظم- صلى الله عليه وسلم - وهو الأستاذ الأعظم مقتدى الكل والرائد الأعلى قد اتخذ الأمر الإلهي ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) دليلا ومرشدا له، فكلما أعرض الناس عن الإصغاء وتولوا عنه ازداد هو جهادا وسعيا في سبيل التبليغ" (1)
يعتبر موقفه الآنف الذكر رأيا وسطا بين فريقين:
أحدهما متزّيد في المعجزات، جعل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه بالأنموذج غير المتوقع التحقيق أو التكرر أو التشبّه به على الأقل، يؤيّد هذا التحليل ما أثبتوه له من علاقة نصره وانتصاراته الفكرية والتربوية بل وحتى العسكرية بالعوامل الماورائية، مما جعله في أعين الخصوم والمخالفين محال التحقق ومن ثم استحالة مطالبة أنفسنا بتمثّل سيرته، أما مطالبة غيرنا فهو بعيد المنال.(2)
أما الفريق الثاني فقد انتقص منها بحيث لم يبق من المعجزات لنبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن الكريم. (3)
انطلاقا مما سبق تقريره فإننا يمكن أن نعتبر موقف النورسي بعيدا عن الشطط الذي اتّسمت به الطريقتان المشار إليهما.
2/1 الحديث النبوي كمصدر من مصادر المعرفة:
__________
(1) اللمعات 199
(2) شيخ الإسلام مصطفى صبري (ت 1954م ) في كتابه الموسوعي(4 مجلدات ضخمة) الموسوم بـ " موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين، كما دافع عن الفكرة نفسها في كتابه القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون ( يعتبر ملخصا عن الأول)، محمد الغزالي(ت 1997م) في كتابه فقه السيرة.
(3) أنظر في مناقشة المنتقصين ما كتبه صبري في كتابه موقف العقل والعلم من رب العلمين وعباده المرسلين 4/ 172-173، 174-182، 414-431.
وأنظر رسالتنا منهج الاستدلال على وجود الله عند شيخ الإسلام مصطفى صبري 36-37.(14/91)
نبّه في سياق حديثه عن الحديث النبوي كمصدر من مصادر المعرفة الدينية والكونية إلى منزلة الحديث النبوي، فاعتبره معدن الحياة وملهم الحقائق، وبالأسلوب ذاته يوضّح أهمية السنة المطهّرة في التأسيس المعرفي والتربوي، و يبدو هذا الموقف فيما يأتي:
1/ التركيز على الحديث الصحيح كمصدر من مصادر المعرفة، وبهذا الصدد يحذّر من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة.
أ/ ورد عنه القول برفض التأسيس للمعارف الشرعية أو التاريخية بالإسرائيليات، وفي ذلك نقل قوله: ".. ولكن المفتونين بالظاهر الذين لم يجدوا - بسوء اختيارهم - مصدرا غيرها "الإسرائيليات"، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسما من الآيات والأحاديث بتطبيق الإسرائيليات عليهما، والحال أن الذي يفسر القرآن ليس إلا القرآن الكريم والحديث الصحيح".(1)
ب/ التمييز بين مراتب السنة المطهّرة:
قسّم السنة وفق المسلك المشهور على مراتب، واجبات، ونوافل .
الواجب: وهو القسم الذي لا يمكن تركه، وهو مبيّن في الشريعة الغراء مفصلا، وهو من المحكمات أي لا يمكن بأية جهة كانت أن تتبدل.
النوافل: ينقسم بدوره إلى قسمين أولهما يتعلّق بالعبادات، وهي مبينة في كتب الشريعة، وتغيير هذه السنن بدعة.
أما الثاني فيعرف بالآداب وهي المذكورة في كتب السير الشريفة، ومخالفتها لا تسمى بدعة، إلا أنها من نوع مخالفة الآداب النبوية، وعدم الاستفاضة من نورها، وعدم التأدب بالأدب الحقيقي، فهذا القسم هو :اتباع أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعلومة بالتواتر في العرف والعادات والمعاملات الفطرية.(2)
__________
(1) صيقل الإسلام 35
(2) اللمعات 86(14/92)
ج/ غلق باب الاحتجاج بالحديث الموضوع سواء في الأحكام أو في فضائل الأعمال أو في الترغيب والترهيب ففي الصحيح ما يغني عن ذلك، قال النورسي: " إن إسناد قسم من الأحاديث الموضوعة إلى " ابن عباس" - رضي الله عنه - وأمثاله من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب والترهيب، إثارة للعوام وحضا لهم، إنما هو جهل عظيم ..إن الحق مستغن عن هذا، والحقيقة غنية عنه، فنورهما كافيان لإنارة القلوب، تسعنا الأحاديث الصحيحة المفسّرة الحقيقية للقرآن الكريم ونثق بها.(1)
د/ ورد عنه في مقام الحديث عن منزلة السنة التحذير من مدرجات الرواة وشروحهم وثقافاتهم السابقة، و بهذا الصدد ورد التحذير مما يأتي:
* التحذير من قبول الإسرائيليات:
يحذّر من قبول مرويات الذين أسلموا من أهل الكتاب من يهود ونصارى، والتي تعرف في ثقافتنا الإسلامية بالإسرائيليات التي تسرّبت إلى رحاب السنة، وفي ذلك يقول: "لقد أسلم كثير من علماء بني إسرائيل والنصارى في عهد الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، وحملوا معهم إلى الإسلام معلوماتهم السابقة، فأخذ وهما غير قليل من تلك المعلومات السابقة المخالفة لواقع الحال كأنها من العلوم الإسلامية".(2)
* الحذر من قبول الإدراج :
يحذّر النورسي من قبول أقوال أو استنباطات التي أدرجها (ألحقها) الرواة في متون الأحاديث النبوية، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "لقد أدرج شيء من أقوال الرواة، أو المعاني التي استنبطوها ضمن متن الحديث، فأخذت على علاّتها، ولما كان الإنسان لا يسلم من خطأ، ظهر شيء من تلك الأقوال والاستنباطات مخالفا للواقع، مما سبب ضعف الحديث".(3)
* التمييّز بين ملهمات الأولياء والحديث النبوي:
__________
(1) صيقل الإسلام 39
(2) الكلمات 388
(3) نفسه(14/93)
يعمل النورسي على تمييز الحديث النبوي عن غيره من أقوال الرجال، وبهذا الصدد يطلب التفريق الكامل بين ملهمات الأولياء والشيوخ والحديث النبوي نظرا لما طرأ عليهما من تداخل كبير، وقد تمكّن ذلك الداء من الأمة بسبب هيمنة التصوّف المرتبط بالأشخاص أكثر من تعلّقه بالمبادئ والأسس التي جاء بها وقام التصوّف عليها في أصل وجوده.
قال بديع الزمان: " أُعتبر بعضُ المعاني الملهمة للأولياء وأهل الكشف من المحدّثين على أنها أحاديث، بناء على أنّ في الأمة محدّثين، أي ملهمين، ومن المعلوم أن إلهام الأولياء قد يكون خاطئا لبعض العوارض، فيمكن أن يظهر ما يخالف الحقيقة في أمثال هذا النوع من الروايات).(1)
* الحذر من الروايات المتلبّسة بالحديث النبوي:
يعد أصدق نماذجه بعض الحكايات التي اشتهرت بين الناس، وتجري تلك الحكايات بينهم مجرى الأمثال، والأمثال لا ينظر إلى معانيها الحقيقة، وإنما ينظر إلى الهدف الذي ساق إليه المثل، لهذا كان في بعض الأحاديث ذكر بعض ما تعارف عليه الناس من قصص وحكايات كناية وتمثيلا على سبيل التوجيه و الإرشاد.
ويختم تحذيره بقوله:" فإن كان هناك نقص وقصور في المعنى الحقيقي في مثل هذه المسائل فهو يعود إلى أعراف الناس وعاداتهم ويرجع إلى ما تسامعوه وتعارفوا عليه من الحكايات".(2)
هـ/ تصحيح الحديث بعدم اعتراض أهل التخصص:
ورد عنه في مقام الرد على إدعاء المدعي العام حول حديث مستشهد به، وخاصة في قوله بأنه حديث موضوع، ورد عن الشيخ في بيان درجة ذلك الحديث أولا ثم الخلوص إلى تصحيح الحديث الذي لم يعترض عليه أهل الصنعة ثانيا.
__________
(1) الكلمات 388
(2) الكلمات 388-389(14/94)
قال النورسي:" الحديث صحيح ووارد في كتب الأحاديث وعلماء الحديث يقبلونه، ففي عهد المشروطية - أي قبل الحرية – تقدم اليابانيون والكنيسة الإنجليزية الإنكليكانية بأسئلة إلى علماء ذلك العهد، فتقدم علماء استنبول بهذه الأسئلة إلى بديع الزمان الذي أدرج تأويل الحديث ضمن الرسالة.. وإن قبول هؤلاء العلماء الأعلام بهذه الأجوبة وعدم اعتراضهم عليها يدل على صحة الحديث".(1)
و/ موقفه من الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول:
يرى الشيخ النورسي أن الأمة إذا تلقت الحديث بالقبول فمعنى ذلك أن لتلك الأحاديث حقائق موجّهة إلى العموم، يشهد لهذا المعنى قوله: "أن الرواية الموضوعة تعنى أنها ليست حديثا مسندا عن فلان وعن فلان، ولا يعني أن معناها خطأ، ولما كانت الأمة قد تلقتها بالقبول، ولاسيما أهل الحقيقة والكشف، وقسم من أهل الحديث وأهل الاجتهاد، بل انتظروا تحقيق معانيها، فلا بد أن لتلك الروايات حقائق متوجهة إلى العموم كما هي الأمثال المضروبة".(2)
ز/ التحذير من البدع:
ما دامت الشريعة الإسلامية قد كملت في قواعدها المبيّنة بدساتير السنة المطهّرة بدليل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم..)(المائدة: 3)، فإن عدم استحسان تلك الدساتير المنقولة بالسنة وتعويضها بمحدثات الأمور، أو إيجاد البدع التي تشعر كأن تلك القواعد ناقصة ضلال ليس له مستقر إلا النار، ولهذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم وغيره: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)(3).
ومن منطلق ما سبق تقريره قال : "إن واجب العلماء هو الصدع بالحق وعدم السكوت عنه عند انتشار البدع، وقد ورد الزجر عن السكوت عن الحق في الحديث النبوي" .(4)
ح/ تأويل المتشابه :
__________
(1) الشعاعات 616
(2) الشعاعات 476
(3) أنظر اللمعات 86
(4) الملاحق 19 ، وانظر 344،297، 242…(14/95)
يتبنى بديع الزمان التأويل كوسيلة معرفية ضرورية لترجيح المعنى المحتمل، وما دام فتح باب التأويل من غير ضابط أضر على النص من التحريف لأنه طريق الباطل المتشبّه بالموضوعية، أضطر المتقدمون والمحدثون إلى وضع قواعد يقتصد بموجبها في التأويل، فيكون أشبه بالمفازة التي لا يلجأ إليها إلا إذا أوصدت الأبواب دون المعنى الحقيقي المتبادر من اللفظ، والنورسي لا يشذ عن هذه القاعدة، فلا يلجأ إلى التأويل إلا إذا كان المعنى المرجح ممكنا، أي أن المعنى المختار محتمل احتمالا قويا، لهذا لا يستبعد من المعاني إلا ما إمكانه واحتماله غير ممكن موضوعيا، و يتم ذلك بإثبات محاليته، أي لا يمكن أن نخلص إلا بطلان المعنى المختار إلا إذا ثبت أنه محال، من هذا المنطلق يرفض النورسي إنكار المعنى من غير مبرر، لمجرد كونه حجة من باب التأويل، لأن المعاني الراجحة بحجة التأويل شوهد معناها عيانا، وتحقق فعلا فرد من كلية الطبقة الإشارية لمعنى الحديث، لذا لا يعترض على ذلك المعنى قطعا، لأن الحديث قد أظهر بلمعة إعجاز غيبي ذلك المعنى وأشهد له هذا العصر(1).
2- الخبرة العلمية الإسلامية
__________
(1) الشعاعات 477(14/96)
نقصد بالخبرة العلمية الإسلامية مجموع المعارف التي أنتجتها العقلية الإسلامية من خلال تفاعلها مع النصوص كتابا وسنة، لهذا يندرج ضمنها كل العلوم التي ظهرت في البيئة الإسلامية خدمة لنصوص الوحي، فالتفاعل مع النصوص التي تضمنت العبادات والمعاملات (التجارية، والدستورية..) أنتجت لنا الفقه (فقه الفروع)، والتفاعل مع الجزء الذي تناول العقائد عرف بعلم العقائد وعلم التوحيد وعلم أصول الدين وعلم الكلام لدى بعضهم(1)، أما التفاعل مع النصوص الأخلاقية فأنتج لنا علم التصوف، من هذا المنطلق سنتناول الخبرة الإسلامية ممثلة في الفقه، وعلم الكلام، والتصوف.
أولا:الفقه الإسلامي:
استفاد النورسي من الفقه الإسلامي في التأسيس لحقائق الإيمان المستفادة من القرآن الكريم، لهذا كانت قراءته للفقه الإسلامي وظيفية تتجاوب مع القرآن الكريم أكثر من تمثّلها للمنتج الفقهي، وقد عمل النورسي على بعث تلك القراءة الوظيفية من الزوايا الآتية:
أ/ يطلب النورسي من المسلمين التمييز بين الأحكام الضرورية والمسائل الخلافية، لأن الثانية لا تمثّل إلا عشر الأحكام الفقهية، أما الأحكام الضرورية فإنها بنسبة التسعين بالمائة، وفي ذلك يقول: "إن أركان الدين وأحكامه الضرورية نابعة من القرآن، الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، أما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه (عشرة من مائة)".(2)
__________
(1) علم الكلام حسب تقديرنا أوسع من حيث موضوعه من العقيدة الإسلامية، إذ يشمل العقائد والاستدلال عليها من جانبي الإنشاء والهدم، لهذا فعلم الكلام متطوّر لتطور الاشكالات التي تطرأ عليه بسبب تلبّسها بالمعطى الثقافي والسياسي.
(2) صيقل الإسلام 347(14/97)
من منطلق ما سبق تقريره، يقول: " فلو شبهنا المسائل الاجتهادية بالذهب لكانت الأحكام الضرورية وأركان الإيمان أعمدة من الألماس" ثم يتساءل: ترى هل يجوز أن تكون تسعون عمودا من الألماس تابعة لعشرة منها من الذهب؟ وهل يجوز أن يوجه الاهتمام إلى التي من الذهب أكثر من تلك التي من الألماس ؟".(1)
ب/ يجب أن يكون الفقه الإسلامي تابعا للقرآن الكريم وليس متبوعا، لأن الذي يسوق الناس إلى امتثال الأوامر الفقهية إنما هو بسبب ما يتحلى به مصدرها من قدسية تدفع جمهور الناس إلى الانقياد أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، لهذا يقول النورسي: " ينبغي أن تكون الكتب الفقهية بمثابة وسائل شفافة – كالزجاج – لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجابا دونه، أو بديلا عنه.. فالكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدال على تلك الأحكام الفقهية ومصدرها، فهو اللازم، والصفة الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفّزة للوجدان، فلأن نظر العامة ينحصر في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنهم إلى القرآن إلا خيالا، ونادرا ما يتصورون قدسيته – من خلال نظرهم المنحصر – ومن هنا يعتاد الوجدان التسيب، ويتعود على الإهمال فينشأ الجمود ".(2)
ج/ العمل على ربط كتب الفقه بالقرآن الكريم تدريجيا، " أي تصبح تفسيرا له، ويمكن أن يتم باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتب إلى ما يشبه كتب الأئمة المجتهدين من السلف الصالح، فعندئذ لا تقرأ كتب الفقه بقصد ما يقوله مؤلفوها، بل تقرأ لأجل فهم ما يأمر به القرآن الكريم، وهذا الطريق بحاجة إلى زمن مديد.
__________
(1) نفسه
(2) نفسه(14/98)
د/ شد أنظار جمهور الناس دوما إلى مستوى أعلى من الكتب الفقهية المتداولة نظرا لما لحقها من مدرجات حالت دون الوصول إلى الأصل الذي استمدت منه أي وكأنها أصبحت حجابا مانعا من العودة إلى الأصول الإسلامية. يفرض الخلوص من هذه الورطة شد المسلمين المعاصرين باستمرار إلى القرآن الكريم وإظهاره فوق تلك الخبرة الفقهية دائما، وعندها تؤخذ الأحكام الشرعية والضروريات الدينية من منبعها الأساس وهو القرآن الكريم، أما الأمور الاجتهادية التي ترد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها.
هـ/ يجب أن يعلم بيقين أنه لا ينال القرآن الكريم حقه في الصدارة، إلا إذا وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، و بذلك سينال من الرغبة والتوجّه الناشئة من الحاجة إليه أضعاف أضعاف ما هو مشتت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامره مطبقة منفذّة كليا، وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك بتلاوته فحسب.(1)
خلفية القراءة المذهبية:
أ/ مذهبه الفقهي :
يقر النورسي بأن شافعي المذهب(2)، ويصرح بتقليد إمامه، وبهذا يبرر عدم صلاته خلف كل إمام، إذ لا يلحق بالقراءة خلفه، فهو يسرع للركوع والنورسي لم يكمل بعد نصف الفاتحة، علما بأن قراءة الفاتحة فرض في مذهبه.
وبهذا المبرر علل عدم إطلاق لحيته، حيث يقول: "إن إطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء، و قد نشأت منذ صغري عديم اللحية وعشت في وسط أناس تسعين بالمائة منهم لا يطلقون لحاهم.
هذا وأن الأعداء يغيرون علينا دائما وقد حلقوا لحى بعض أحبابي فأدركت عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وأنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلقا اللحية وحُلقت، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت".
__________
(1) صيقل الإسلام 347-349(بتصرف)
(2) الملاحق 349-350(14/99)
ولهذا يرى بأن قول بعض العلماء لا يجوز حلق اللحية، يقصدون عدم حلقها بعد إطلاقها، لأن حلقها بعد إطلاقها حرام، أما إذا لم يطلقها فيكون تاركا لسنة نبوية.(1)
ورغم شافعيته المصرّح بها فقد يضطر وفق ما تمليه الإكراهات الواقعية إلى اختيار رأي من خارج المذهب، فمنها قوله:" إنني شافعي المذهب، وأن أحد شروط صلاة الجمعة حسب هذا المذهب هو أن يقرأ الفاتحة أربعون شخصا مأموما مع شروط أخرى أيضا، لذا فلا تفرض عليّ الجمعة هنا (الحجز، والسجن، والنفي، والعزلة المفروضة، و..)، "إلا أنني أقلد المذهب الحنفي فأؤديها نافلة "(2)
ب/ موقفه من المدارس الفقهية:
نظرا لما اشتهر به بديع الزمان من روحية عالية وهمة قلبية سامية، كان يتوسّم فيه العامة تقديم شيوخ الطرق عن أئمة الفقه، و بهذا الصدد سئل - من قبلهم - تأكيدا لهذا المعنى، فقيل له أيما أفضل أئمة المجتهدين العظام أم شيوخ الطرق الحقة وأقطابها؟
فكان جوابه رحمه الله تعالى: " ليس المجتهدون كلهم، بل المجتهدون الأربعة - وهم أبو حنيفة و الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل(3) - هم الأفضل، فهم يفوقون الأقطاب وسادة الطرق، ولكن بعض الأقطاب العظام كالجيلاني له مقام أسطع من جهة، في الفضائل الخاصة، إلا أنّ الفضيلة الكلية هي للأئمة الكرام.
ثم إن قسما من سادة الطرق هم من المجتهدين أيضا، ولهذا لا يقال أن المجتهدين عامة أفضل من الأقطاب، ولكن الأئمة الأربعة هم أفضل الناس بعد الصحابة الكرام والسيد مهدي ورضي الله عنه".(4)
غايات عرض المباحث الفقهية في رسائله:
يظهر أن الغرض الأصلي من الحديث عن المسائل الفقهية في رسائل النور لا يخرج عن النسق العام المعمول به في مؤلفاته، وتتلخّص فيما يأتي:
__________
(1) الملاحق 250
(2) الملاحق 249
(3) ذكرها بهذا الترتيب ، وكان الأولى ذكر مالك بن انس قبل الشافعي من الناحية التاريخية الصرف.
(4) المكتوبات 362(14/100)
* العودة بالمؤمنين إلى القرآن الكريم بوصفه مصدرهم الديني، إذ هو منبع الحياة في الخبرة الفقهية بسبب ما يمنحها من قدسية وفاعلية في النفوس والقلوب و العقول.
* السعي نحو العودة المنهجية إلى القرآن الكريم بواسطة الفقه، بغرض الخلوص إلى التقعيد الفقهي من خلال القرآن الكريم.
* تربية المؤمنين على التمييز بين الأحكام الفقهية الضرورية (والتي تمثّل تسعين بالمائة) والمسائل الخلافية (لا تجاوز العشرة بالمائة)، وذلك بأن لا نلغي عمليا بسبب الخلاف في العشرة بالمائة التسعين بالمائة الباقية.
* تربية الناس على التعلّق بالقرآن الكريم، وهو بمثابة ربط قلوبهم بما هو أعلى من الخبرة الفقهية بشقيها(الضروري والاجتهادي) بغرض تمحيصها به ومحاكمتها إليه.
* ترسيخ القراءة الوظيفية من خلال جعل الفقه وسيلة لفهم القرآن، لأن المطلوب أن يكون الفقه سببا في التعلّق بالقرآن لا أن يكون حجابا يمنعنا من الوصول إليه، أي أن يصبح الفقه مرآة للقرآن الكريم.
* رفض البداية الصفرية في الخبرة الفقهية، ولكنه يرجح في ذلك (وخاصة في مثل ظروفه) القراءة الفقهية المذهبية من القرآن وليس العكس، بمعنى أنه وإن كان متمذهبا (وهذا تثمين للخبرة الفقهية)، فإنه لا يقبل بأن يكون الفقه سببا في إبعادنا عن القرآن الكريم، لأن القرآن لازم والفقه ملزومه فكيف يصح شرعا وعقلا بأن يكون الملزوم حاجبا للازم؟
* يتوخى من كل اهتماماته الفقهية من خلال رسائله، خدمة الحقائق الإيمانية في شقها الفقهي، ولتحقيق هذا المقصد عمل على بعث الروح في التزامنا بالأحكام الفقهية الضرورية و الاجتهادية، وبهذا يخرج المسلم من العبثية ليدخل رحاب العبادة الحقة التي من أبرز تجلياتها الغائية المعبّر عنها بالوظيفية المرتبطة أساسا بتكريس الجوانب الأخلاقية من الالتزام بالشريعة، يستشف هذا الأمر من كتابته عن موضوع العبادات كالصلاة والصوم والزكاة.
- عرض مسألة الصلاة:(14/101)
يوضّح النورسي في سياق حديثه عن الصلاة أبعادها الوظيفية ورسالتها التربوية، يستشف هذا الأمر في تفسيره لقوله تعالى: "يقيمون الصلاة "، حيث يقول مبيّنا ومربيا : "يقيمون " للإشارة إلى أهمية مراعاة معاني " الإقامة " في الصلاة من تعديل الأركان، والمداومة، والمحافظة، والجد، وترويجها في سوق العالم، تأمل.
ويضيف: " ثم إن الصلاة نسبة عالية، ومناسبة غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الأزل، فمن تلك النسبة أن يعشقها كل روح، وأركانها متضمنة للأسرار.. ومن شأن تلك الأسرار أن يحبها كل وجدان.. وإنها دعوة صانع الأزل إلى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج، فمن شأنها أن يشتاقها كل قلب.. وفيها إدامة تصور عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول إليها لتأسيس إطاعة قانون العدالة الإلهية، وامتثال النظام الرباني.."
يعتبر البعد الوظيفي مركز عرض العبادات وعلى الخصوص الصلاة وإقامتها، لأن الإنسان " يحتاج إلى تلك الإدامة من حيث هو إنسان لأنه مدني بالطبع.. فيا ويل من تركها، ويا خسارة من تكاسل فيها، ويا جهالة من لم يعرف قيمتها، فسحقا وبعدا وأفّا وتفّا(1) لنفس لم يستحسنها.. فالصلاة عماد الدين وبها قوامه.(2)
- عرض مسألة الصوم:
لا يخرج عرضه لمسألة الصوم عن النسق السابق، إذ تتجلى الغاية الوظيفية بشقيها المعرفي والروحي والتعميري في عرضه لها، اسمع معنا قوله:" إن صوم رمضان من حيث كسره الربوبية الموهومة للنفس كسرا مباشرا ومن ثم تعريفها عبوديتها وإظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة.. فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس، فيكسر شوكتها مظهرا لها عجزها، وضعفها، وفقرها، و يعرفها عبوديتها".
أما الناحية التعميرية من الاهتمام بالصيام فيجمعها قوله:
__________
(1) الأف والتف : وسخ الأذن والأظفار، ثم استعملا في كل شيء يضجر منه
(2) إشارات الإعجاز 52-53(14/102)
"إن حكمة واحدة للصوم من بين الغزيرة المتوجّهة إلى الحياة الاجتماعية للإنسان هي:
* الشعور بالجوع الحقيقي الذي يجلب التعاطف والتآزر.
* تدرك النفس أنها مملوكة وليست مالكة، وبهذا يتكسّر الغرور، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الأساس وهي "الشكر ".
* يحس أشد الناس غفلة وأعتاهم تمردا بضعفه وعجزه.
وفي كل تلك الحكم وغيرها بعث للوظيفية التعميرية المنتظرة من الصوم من خلال تجسيد أبعاده الوظيفية في النفس والمجتمع.(1)
- عرض مسألة الزكاة:
يتابع النورسي وفق النسق نفسه الحديث عن الزكاة، فيعرضها في سياق تناول أبعادها الوظيفية المجسّدة في وظيفتها التعميرية المبنية أساسا على تحقيق أصل تلك الوظيفة في الأنفس، يشهد لهذا المعنى قوله: " الزكاة قنطرة الإسلام" وبها التعاون بين أهله "(2) ويزيد المسألة وضوحا بقوله: "إن الزكاة جسر يغيث المسلم أخاه المسلم بالعبور عليها، إذ هي الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم في ترقيات البشر.."
ويؤكد تلك المعاني في السياق نفسه حيث يقول: "نعم في وجوب الزكاة... حكمة عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة، إذ لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظرا تاريخيا لو تأملت في مساوئ جمعية البشر لرأيت أس أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين:
* إن شبعت فلا علي أن يموت غيري من الجوع.
* اكتسب أنت لآكل أنا، واتعب أنت لأستريح أنا".
و يختم تعليقاته السابقة بتوجيه النصح للعقلاء فيقول:
__________
(1) أنظر المكتوبات 513-521
(2) إشارات الإعجاز 53(14/103)
" اعلم أن شرط الهيئة الاجتماعية أن لا تتجافى طبقات الإنسان، وأن لا تتباعد طبقة الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم، مع أن بإهمال وجوب الزكاة.. انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلا صدى الاختلال، وصياح الحسد، وانين الحقد و النفرة بدلا من الاحترام والإطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والإحسان والتلطيف إلا نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفا.."
وينتهي في آخر المطاف - وهذا بعد عرضه الرائع لمسألة الزكاة من جميع الجوانب - إلى الوظيفية التعميرية للزكاة، فيقول:" إنه لا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلا جعل الزكاة دستورا عاليا واسعا في تدوير الهيئة الاجتماعية".(1)
ويشهد لهذا قوله أيضا في كتاب آخر: " ترى لو صارت الزكاة التي هي مسألة واحدة من ألف من مسائل الإسلام، دستور مدنية وأساس التعاون فيها، ألا تكون دواء ناجعا وترياقا شافيا للتباين الفظيع في الحياة المعاشية، الذي هو جحر الحيات والسم الزعاف والبلاء المدمّر، بلى سيكون الناجع الساري المفعول أبدا".(2)
ثانيا:علم الكلام والفلسفة :
سنتناول في هذا المقام الحديث عن القضايا الكلامية التي خصّها بالبحث والتعليق، فكان من جملتها إكباره لعلم الكلام ونقده في الوقت نفسه، فحمد جهود علمائه ووظّف بعض مصطلحاتهم وأدلتهم بالدرجة نفسها التي انتقدهم بها، كما نبّه إلى عدم كفاية مسلك بعضهم في العصر الراهن.
أ/ موقع علم الكلام في فكر النورسي:
__________
(1) إشارات الإعجاز 53-55
(2) صيقل الإسلام 56(14/104)
رجل جعل من القرآن مصدره في التأسيس للعقائد في جانبي المنهج والموضوع، لا يمكن أن يعد متكلما حسب تقديرنا، لأن اهتمامه بالدرس الكلامي يعد عملا تبعيا لا جهدا أصليا، أي أن خوضه في علم الكلام كان عرضيا لا أصليا، فقد خاض فيه من منطلق خدمة الحقائق الإيمانية مستنبطة من القرآن الكريم، لهذا لا يمكن اعتباره متكلما وفق ما بلغنا من إنتاجه الكلامي، ومن ثمّ لا نميل إلى عدّه متكلما خالصا كما ذهب إليه بعض الباحثين(1)، وإن جاز لنا قبول ذلك فهو متكلم من نوع خاص، يتميّز بمجوعة من الميزات:
1/ علم الكلام المعتد به في فكر الرجل هو ذلك الذي يعد شفافا للقرآن الكريم وليس مانعا من الوصول إليه، يشهد لنا قول النورسي: "فما من مسألة منها إلا ويماس رأسها قدم آية من الفرقان"(2)
2/ يتجاوز مسلكه علم الكلام التقليدي الذي يحصر همه في الاستدلال العقلي، إذ جمع إليه مخاطبة القلوب، إنه جامع بين الذوق والمقاييس القلبية من جهة والمعايير العقلية في أعلى مستوياتها.
وورد عنه في بيان تلك المعاني قوله: " فمسائلها وإن حصلت لي أول ما حصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون - فيما يغمض فيه ذوي الأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية..
__________
(1) العلامة الأستاذ الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه النورسي متكلم العصر الحديث، يذهب الباحث أميد شمشك في مقاله أصول التفكر في رسائل النور إلى ما يشبه الرأي السابق، أنظر نص البحث في كتاب المؤتمر العالمي لبديع الزمان سعيد النورسي (تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين) ، الطبعة الأولى، استانبول1996/ ص 23
(2) المثنوي العربي 206(14/105)
فيمكن لمن ضل من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها ما ينجيه من مزالق الأفكار الفلسفية".(1)
ب/ مظاهر الاهتمام بعلم الكلام:
يظهر اهتمامه بعلم الكلام في استثمار أقوال أعلامه ومصطلحاتهم والنسج على منوالهم، والدعوة إلى تجاوز مسالكهم المتأثرة بالجو الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي ولدت فيه.
* مصادره العامة في علم الكلام:
يغلب عليه الاستشهاد بمؤلفات علماء أصول الدين على مشرب أهل السنة والجماعة المحصورة غالبا في الأشاعرة الماتريدية، وتتجلى تلك الملاحظة في إكباره للمذاهب السنية، فهم مرة أهل الحق ومذهب الاعتدال و.. إلى آخر ذلك من الصفات الموجبة للشهادة بالتقديم.
قال النورسي: "إن علماء الكلام وأئمة أصول الدين والمحققين من أهل السنة والجماعة، بعد إجراء تحقيقات وتدقيقات كثيرة حول العقائد الإسلامية وإقامة المحاكمات العقلية والموازنات في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ارتضوا بدساتير في أصول الدين، تلك الدساتير تأمر بالحفاظ على مشرب رسائل النور الحالي"(2)
إن عباراته دالة بنفسها على تمحيصه لمؤلفات علماء الكلام، ومن نافلة القول التأكيد على أن التمحيص لا يكون إلا بعد قراءة تدقيقية تحقيقية، و قد مكّنه هذا التمكّن من استثمار المعارف الكلامية المعبّرة عن الحقائق الإيمانية في القرآن الكريم، لهذا يعتبر الهدف الأساسي من خوضه فيها إنما هو خدمة القرآن الذي يعد أنجع طرق تحقيق الإيمان الجامع بين قناعتي العقل والقلب.
مصادره الخاصة في علم الكلام:
يكثر في مؤلفات النورسي ذكر أعلام علماء الكلام، الغزالي والتفتازاني والجرجاني و… ولكنه لم يذكر منهم بصفة عالم كلام إلا
التفتازاني والجرجاني في ثنايا مناقشته لرأي الإمام الآنف الذكر.
فقد نقل عنهما في عديد المرات منها على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) المثنوي العربي 206
(2) الملاحق 301، كما يذكر أحيانا إجماع علماء الكلام، انظر الشعاعات 186(14/106)
1) نقل عنه في مقام الحديث عن المعجزة الاستشهاد بقول التفتازاني: "إن انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين أصابعه الشريفة - صلى الله عليه وسلم - وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه- صلى الله عليه وسلم - الذي كان يستند عليه أثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه، أي أن الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جامعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة توترا قطعيا كظهور المذنب قبل ألف سنة وجزيرة سرنديب التي لم نرها.(1)
2) نقل عنه في مسألة الحرية الإنسانية من خلال حديثه عن مسألة القدر والاختيار النقل عن سعد الدين التفتازاني، وبهذا الصدد يباهى بحل هذه المعضلة في عدد قليل من الصفحات بينما عالجها التفتازاني فيما لا يقل عن خمسين صفحة.
قال النورسي: " مسألة القدر والجزء الاختياري لم يحلها العلامة الجليل السعد التفتازاني إلا في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور التلويح من قسم المقدمات الإثنتي عشرة، ولم يبيّنها إلا للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها الكلمة السادسة والعشرون في رسالة القدر في صحيفتين من المبحث الثاني منها بيانا شافيا وافيا، وبما يوافق أفهام الناس كلهم، فإن لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو؟(2)
__________
(1) المكتوبات 272
(2) المكتوبات 481(14/107)
3) استند إلى أقوال التفتازاني في مسألة الإيمان سواء في مقام الشرح أو التأسيس، وفي ذلك يقول: "إن الإيمان كما فسّرة السعد (سعد الدين التفتازاني) نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده "، ثم ينتقل إلى شرحه بقصد توظيفه بما يتلاءم ومقصده في تفسير القرآن الكريم، فيقول: "أي بعد صرف الجزء الاختياري، فالإيمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الأزل يضيء دفعة ملكوتية الوجدان وبين كل شيء.. ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الإنسان أن يصارع جميع الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وسعة يقتدر بها أن يبتلع الماضي والمستقبل".(1)
4) جواز لعن الظالمين مع الميل عن هذا الرأي:
نقل في بيان هذا الرأي ومناقشته كلاما نفيسا عن التفتازاني قال فيه: "يجوز لعن يزيد" وأمثاله من الظالمين الحجاج والوليد" ويختم النقل بتعليق رائع على قول التفتازاني فيقول: " ولكن لم يقل أن " اللعن واجب أو فيه خير وفضيلة، أو فيه ثواب واجر" لأن الذين ينكرون القرآن الكريم ويجحدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - و يرفضون صحبة الصحابة الكرام للرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرون جدا لا يعدون و لا يحصون، وهم يصولون ويجولون أمامنا، ومن المعلوم شرعا أن المرء إن لم يتذكر أحدا من الذين يستحقون اللعنة ولم يلعنهم فليس في هذا بأس قط، لأن الذم واللعنة ليسا كالمدح و المحبة، فهما لا يدخلان في الأعمال الصالحة، وإن كان فيهما ضرر فهو أدهى".(2)
__________
(1) إشارات الإعجاز 51-52
(2) الملاحق 297(14/108)
5) نقل عن الشريف الجرجاني في ثنايا مناقشة رأي التفتازاني الآنف الذكر، بل ومال إليه في سياق التمحيص والتحقيق، وفي ذلك يقول: حتى أن سعد الدين التفتازاني وهو من أئمة علم الكلام وأهل السنة الذي جوّز لعن يزيد والوليد وتضليلهما، قد انبرى له السيد الشريف الجرجاني وهو من أجلّة علماء أهل السنة قائلا: " مع أن يزيد والوليد فاجران وظالمان غدّاران إلاّ أن العلم بأنهما قد رحلا إلى الآخرة على غير إيمان من أمور الغيب، ولأن هذا غيب ولا يعلم به علما قاطعا بأنهم قد تركوا الدنيا على غير الإيمان وليس لنا دليل قطعي ولا نص جازم على ذلك، وهناك احتمال التوبة وذهابهما من الدنيا على الإيمان، فلأجل هذا لا تجوز اللعنة بمثل هذا التخصيص و اللعن الشخصي، وإنما تجوز اللعنة إذا كانت عامة كأن يقول: لعنة الله على الظالمين والمنافقين، وإلا فلا ضرورة لغير هذا النوع من اللعنة ولا لزوم لها بل لها ضرر".(1)
__________
(1) الملاحق 300(14/109)
يستشف مما سلف وفي ضوء المعلوم عنه بأنّه لم يكن بين يديه كتاب سوى القرآن حين قصد تفسير القرآن الكريم من خلال رسائل النور - وفي سياق التسليم بصحة تلك الملاحظة – بأننا أمام خزانة علم قوامها الانتخابية الهادفة، إذ بمجرد التسليم بتلك المقدمات نخلص إلى أنه كان واسع الحفظ كثير المطالعة الوظيفية، لأننا لا يمكن أن نقبل بتلك الدقة الوظيفة إلا إذا سلّمنا بمقدماتها، فهو في أعلى درجات إتقان علم الكلام يتخيّر منه ما يحقق خدمة الحقائق الإيمانية المستنبطة من القرآن الكريم، ورغم تلك الانتخابية فإننا نميل عن الرأي الذي يجعل من النورسي متكلما ولو وفق الصيغة الجديدة المعدّلة أو المحسّنة، لأن الجهد الكلامي لحمته وسداها البحث العقلي التجريدي في كثير من الأحيان مشفوعا بالعلم التجريبي أحيانا، أما الخوض الكلامي عند النورسي فإنه متميّز كل التميّز عن ذلك النوع من الكلام، فهو يجمع بين مخاطبة الوجدان والفكر في الوقت نفسه، وهذا ليس بدعا من القول بل هو نسج على وفق النسق القرآني في التأسيس للعقائد بشقيه البنائي والهدمي وبجميع أبعاده المعرفية والروحية والتعميرية.
* المصطلح الكلامي:
يتجلى توظيف مصطلحات المتكلمين في رسائل النور في جانبين، أولهما يتناول التأسيس للعقائد وثانيهما مخصص للدفاع عنها، يعرف الأول باسم الجانب البنائي(الإنشائي)، ويعرف الثاني بالجانب النقدي(الهدمي).
الجانب البنائي(الإنشائي):(14/110)
استثمر في سياق التأسيس للعقائد كثيرا من اصطلاحات المتكلمين، منها على سبيل المثال لا الحصر حسب ورودها في بعض مؤلفاته، فقد وظف الإمكان والحدوث(1) وإبطال الدور التسلسل، والمحال(2)، و واجب الوجود، و وجوب الوجود (3) كما يقتبس أحيانا اصطلاحات الفلاسفة.
مصطلح الإمكان:
أورده وفق النسق المنقول عن علماء هذا الفن، فذكر أن " للإمكان أنواع وأقسام هي: الإمكان العقلي والإمكان العرفي والإمكان العادي، فإن لم تكن الحادثة الواقعة ضمن الإمكان العقلي، فإنها تردّ وترفض، وإن لم تكن ضمن الإمكان العرفي أيضا فإنها تكون معجزة، ولا تكون كرامة بيسر، وإن لم تكن لها نظير عرفا وقاعدة فلا تقبل إلا ببرهان قاطع بدرجة الشهود."(4)
و ورد عنه في سياقات أخرى التفصيل في شأن الإمكان، فتحدّث عن الإمكان الذاتي و الإمكان العقلي، وكل ما شأنه أن يخدم مقصده في إثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم.(5)
و يدل توظيفه وفق نسق القراءة الكلامية على أنه رجل متمرّس بعلم الكلام وسائح مدقق في أرجائه.
اصطلاح واجب الوجود:
__________
(1) أنظر الكلمات 826، 817،824،825،..المكتوبات 386،428،
(2) أنظر الكلمات 316،826، المكتوبات 425،اللمعات 275،472ن542، الشعاعات 182….
(3) أنظر المكتوبات 107،108،312،324،.. اللمعات 56،486،504،505،.. المثنوي العربي 110، 111، 113،116…211،304،311،431..
(4) اللمعات 99
(5) أنظر المثنوي العربي 115، 401،.. الشعاعات 182،183،696.. ،الكلمات 784، 824 -828، صيقل الإسلام 35،،…124،…343،…411(14/111)
أورده كسابقه في مقام التأسيس للمعرفة الكلامية أحيانا والمعرفة الصوفية أحيانا أخرى، فقال في مقام التأسيس للثانية: ".. ومع أنّ هذا الوجود يعتبر وجودا عرضيا وضعيفا وظلا غير دائم بالنسبة لوجود "واجب الوجود" إلا أنه ليس وهما وليس خيالا، فإن الله سبحانه وتعالى قد أسبغ على الأشياء صفة الوجود بتجلي اسمه "الخلاّق " وهو يديم هذا الوجود.(1)
أما في مقام التأسيس للأولى فقال: " ففي هذا الإمكان والمساواة بين الوجود والعدم، يتساوى القليل والكثير، الصغير والكبير، وهكذا فالمخلوقات ممكنات، وحيث أن وجودها وعدمها سواء، ضمن دائرة الإمكان، فإن قدرة الواجب الأزلية المطلقة كما تعطي الوجود لممكن واحد بسهولة ويسر، تلبس كل شيء وجودا يلائمه للتوازن بين الوجود والعدم، وتنزع عنه لباس الوجود الظاهري إن كانت قد انتهت مهمته، وترسله إلى العدم صورة وظاهرا، بل إلى الوجود المعنوي في دائرة العلم"(2)
تلاحظ أنّ العينات المنقولة غنية بالمصطلحات والعبارات الكلامية، وهذا بنفسه مؤكد لما قررناه آنفا، إذ لا يمكن أن تصدر مثل هذه الآراء والأقوال من عالم ليس بين يديه إلا القرآن الكريم إلا إذا كان متمرّسا بالصناعة الكلامية غوّاصا في بحارها صيادا لصدفها مكتشفا لجواهرها.
الجانب النقدي( الهدمي):
استثمر النورسي المصطلح الكلامي في شق إبطال آراء المخالفين، ولعل أبرز تجلياته توظيف مصطلح الدور والتسلسل، والمحال، و...
ذكر في مجموع مؤلفاته حقيقة التوحيد في سياق التأسيس للمنهج القرآني في إثبات حقائق الإيمان بناء على نقد مناهج المتكلمين والفلاسفة، وكأنه بدء بعملية تخلية (لبيان الخلل ثم تفريغ العقل والقلب منها) ثم تحليته بتأسيس البديل المعرفي المستنبط من المصادر الإسلامية الأصيلة.
__________
(1) المكتوبات 107، 368، 428…
(2) الشعاعات 394-395(14/112)
وتعتبر تلك التقريرات بمثابة سمة عامة لمجموع ما كتبه في بيان مسائل التوحيد وذلك بيّن في مختلف مؤلفاته.(1)
يتجلى مما سلف أن النورسي ينسج على منوال علماء الكلام، في جانبي التأسيس للعقائد ونقد الأفكار المخالفة، لهذا قال النورسي: "منهج علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان في إثبات واجب الوجود، ومع أن هذين الأصلين قد تشعبا من القرآن الكريم، إلا أن البشر قد أفراغهما في صور شتى، لذا أصبحا منهجين طويلين، وذوي مشاكل، فلم يبقيا مصانين من الأوهام والشكوك" (2).
ومن منطلق النقص الطارئ على علم الكلام منهجا و موضوعا اقترح علما جديدا مهتما بالعقائد الإيمانية، يسمى تجاوزا علم كلام جديد، ولا يقتضي هذا أن يكون المشتغل به متكلما، هذا ما نحاول بيانه في الفقرة اللاحقة.
* التنبيه إلى علم كلام جديد:
يظهر مما سبق تقريره أن النورسي يقترح بديلا معرفيا، مقتبسا من إنتاج علمائنا المتقدمين، مستعينا في تقرير أركانه وتبسيط مسائله على الخبرة الكلامية الإسلامية على تنوّع مشارب رجالها، مستأنسا في تقرير ذلك بأقوال الإمام الرباني.
وقد استنبط من أقواله أن قوام هذا العلم الجديد الجمع بين طرقتي علم الكلام وأهل الكشف، يخاطب هذا العلم المقترح العقل والقلب في ذات الوقت، بخطاب لحمته وسداه القرآن الكريم، بل يكاد يكون علم الكلام وفق هذا المسلك خادما للحقيقة القرآنية و متناغما مع ما حوته من توجيهات.
ميزات علم الكلام الجديد:
1) أن يكون مستمدا من القرآن الكريم:
__________
(1) أنظر الكلمة الثانية والثلاثون وخاصة الموقف الثاني منها، أنظر الكلمات 723..، المكتوبات ، المقام الثاني من المكتوب العشرين 307
(2) المثنوي العربي 428(14/113)
أصل ما نذر إليه نفسه هو جعل القرآن الكريم في مصاف المصادر اليقينية للمعارف والعقائد والأخلاق، فكانت رسائل النور معجزة معنوية للقرآن الكريم - كما هو ماثل أمامكم - و أظهرت بذلك أن في المدارس الشرعية ايضاً طريقاً قصيرة توصل إلي أنوار الحقيقة، وفي العلوم الإيمانية ينبوع ثر هي أصفى وأنقى من غيرها".(1)
2) رفض البداية الصفرية:
يلاحظ القارئ الفاحص أن النورسي يتجاوز عقلية النفي والإقصاء التي هيمنت على العقلية الإسلامية منذ القرن التاسع الهجري تقريبا، لهذا تراه يدعو إلى استثمار الخبرة الكلامية بصفة عامة والسنية على الخصوص.
يقول النورسي: "وفي الحقائق الإيمانية وعلم كلام أهل السنة، طريقا للولاية هي أسمى وأحلى وأقوى من العمل والعبودية والطريقة الصوفية.(2)
3) التراكم المعرفي والتربوي:
شاع بين المشتغلين بالعلوم الإسلامية تقسيمها إلى وحدات وتخصصات مستقلة فيما بينها، بل ومستقلة عن منهج القرآن الكريم من حيث موضوعاتها أحيانا وطرق عرضها في كثير من الأحيان، ولتجاوز هذا الداء اقترح النورسي التراكم المعرفي والتربوي، واعتبره خير سائق نحو الغايات التحريكية التي يتوخاها الإسلام، لهذا جعل النورسي منتهى جهده وأبلغ غاياته تحقيق إثبات الحقائق الإيمانية من القرآن الكريم بوصفه أكثر الوسائل أثرا في القلوب والعقول.
قال النورسي:" فقد قال علماء محققون، كالإمام الرباني: سيبين أحدهم في آخر الزمان علم الكلام-أي المسائل الإيمانية لمذهب أهل الحق - بيانا جليا بحيث يفوق على جميع ما كتبه أهل الكشف والطريقة الصوفية، فيكون وسيلة لنشر تلك الأنوار حتى أن الإمام الرباني قد رأى نفسه ذلك الشخص، فأخوك هذا العجز الفقير الذي لا يذكر بسيئ لا يمكنني أن أدّعي - بما يفوق حدّي ألف مرة - إنني ذلك الشخص المنتظر، إذ لست أهلا لأكون ذاك من أية ناحية كانت".
__________
(1) الملاحق 208
(2) الملاحق 208(14/114)
ثم يضيف قائلا : ولكن يمكنني أن أقول: "إنني أظن نفسي خادما لذلك الشخص المنتظر، أهيئ الميدان لمجيئه، وجنديا من جنود طلائعه، ولهذا فقد أحسستم تلك الرائحة العجيبة من تلك الأمور المكتوبة.(1)
وما ذهبنا إليه أكثر وضوحا في قوله: " كان سعيد القديم - قبل حوالي خمسين سنة - لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكا ومدخلا للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلا في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها - كأكثر أهل الطريقة - بل جهد كل الجهد أولا لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثها إيّاه مداومة النظر في كتب الفلاسفة" ويزيد المسألة وضحا بقوله: " ثم أراد - بعد أن تخلّص من هذه الأسقام - أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجّهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب"(2)
5) أقصر طرق التبليغ:
يرى من يفكر في وضع أمتنا أن تعلّم الحقائق الإيمانية من علم الكلام أو المدارس الشرعية يحتاج إلى زمن طويل، لا تسمح به أحوال هذا الوقت، فانسدّ بذلك باب تعلّمها وفق هذا المسلك، بخلاف الطريق الذي رسمته رسائل النور فهو تعلّم الحقائق الإيمانية العميقة جدا في أقصر وقت.(3).
6) أسلوب متجاوب مع جميع الطبقات:
تعتبر عملية مراعاة السامع حين التبليغ من خصوصيات رسائل النور، إذ يجد فيها العامي ما يبتغي ويجد فيها الفقيه ما تقر به عينه، كما يجد فيها الفقير مالا وجاها وفكرا ما تركن إليه نفسه وهذا بالدرجة نفسها التي يجد فيها العالم المتخصص ضالته، لهذا تميّزت رسائل النور "بأسلوب يفهمه كل الناس "(4)
__________
(1) الملاحق 75، الشعاعات 211
(2) المثنوي العربي 29
(3) الملاحق 221
(4) الملاحق 221(14/115)
قال النورسي: "منهج علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان في إثبات واجب الوجود ومع أن هذين الأصلين قد تشعبا من القرآن الكريم، إلا أن البشر قد إفراغهما في صور شتى، لذا أصبحا منهجين طويلين، وذوي مشاكل، فلم يبقيا مصانين من الأوهام والشكوك"(1).
يظهر مما سبق تقريره أنه من أبرز نقّاد علم الكلام، ورغم نقده للمنهج الكلامي يرفض البداية الصفرية في المجال الكلامي، وخير شاهد على ذلك جهوده المتجلية في التوظيف الانتخابي لخبرتنا المعرفية الكلامية وخاصة تلك المعارف التي تستدعي الضرورة الواقعية الموضوعية(2) توظيفها.
أما بالنسبة للمسلك الفلسفي فقد وصمه بعبارات الشكوك والأوهام والشبهات… وهو في ذلك ناسج وفق مسلك أهل السنة من أشاعرة وماتريدية.
ثالثاً: علم التصوف
يراد بعلم التصوف في مجمل مؤلفات النورسي وفي هذا السياق بالذات تجارب الصوفية أنفسهم، يضم إليها في كثير من الأحيان تجاربه الشخصية، وقد يظهر اهتمامه بالخبرة الصوفية من جوانب أخرى كما سنبينه بعد حين.
موقع التصوف في رسائل النور :
__________
(1) المثنوي العربي 428
(2) أنظر بحثنا التجديد في دراسة العقيدة ،62-93 منشور في مجلة الموافقات العدد4/ 1416ه /1996(14/116)
أزمتنا في العصر الحديث وخاصة في المجتمع العثماني (الإسلامي) تتلخّص في القطيعة الفضيعة بين العقول والقلوب، إذ نجد العقول محشوة بالمعارف مع فراغ القلوب من الجوانب الوظيفية من تلك العلوم، حتى غدا من أكبر من المسلمات القول بأن " لا صلة بين العلم والأخلاق " في الضمير الشعبي أمرا صحيحا دوما، من هذا المنطلق عمل النورسي على تجاوز هذا الداء ببعث التفكير في إصلاح القلوب على الأقل، خاصة وهي التي تعتبر عامل التحريك، إذ بفقدها تفتقد الفعالية المنتظرة، وكأنه بهذا الخيار يلخّص المشكلة بالنسبة لكثير من الناس في تضييع المحتوى الأخلاقي للإيمان، تضييع له في كثير من ميادين الحياة ، فافتقد في المعرفة ثم التربية ليتجلى بعد ذلك في التعمير.
يذكر في سياق بيان ملخص جواب عن سؤال مقتضاه، لماذا الإعراض عن مهاجمة المنافقين؟.
قال النورسي: " إن أعظم خطر على المسلمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيمان.. وإن العلاج الوحيد لإصلاح القلب وإنقاذ الإيمان هو النور و بيان النور والتذكير به".(1)
مظاهر الاهتمام بالتصوف في رسائل النور:
يظهر اهتمام النورسي بالخبرة الصوفية في أنماط وأشكال متعددة، آثرنا لبيانها النسج على وفق ما أنجزناه في مظاهر الاهتمام بعلم الكلام.
* مصادره العامة في التصوف:
يبدو لنا جليا التركيز على التصوف الأخلاقي ممثلا في الطرق الصوفية بالدرجة الأولى، ثم استثمار الخبرة الصوفية المعروفة بوحدة الوجود والتماس العذر لها بل والمرافعة عنها تجاه خصومها(2) .
تتجلى تلك الملاحظات في النقاط الآتية:
__________
(1) اللمعات 158(بتصرف)
(2) مدافعة رأي الشيخ مصطفى صبري في موقفه من محي الدين بن العربي و فكرة وحدة الوجود.(14/117)
- تعتبر الطريقة النقشبندية من أكثر الطرق الصوفية ذكرا في مؤلفات النورسي، بل وكثيرا ما يستشهد بأقوال أعلامها وقواعدها، وبهذا الصدد يقول عن شيخ الطريقة:" لقد قال رائد السلسلة النقشبندية وشمسها الإمام الرباني (السرهندي الفاروقي) رضي الله عنه: " إنني أرجّح وضوح مسألة من الحقائق الإيمانية وانكشافها على آلاف من الأذواق و المواجيد والكرامات "
ويذكر في مقام آخر محاسن الطريقة النقشبندية، فيقول:" إن السلوك في الطريقة النقشبندية يسير على جناحين، أي الاعتقاد الصحيح بالحقائق الإيمانية، والعمل التام بالفرائض الدينية، فإذا ما حدث خلل وقصور في أي من هذين الجناحين يتعذر السير في ذلك الطريق"
ويستخلص من ذلك الكلام أن الطريقة النقشبندية لها ثلاثة مشاهد: "أولها وأعظمها: هو خدمة الحقائق الإيمانية خدمة مباشرة، تلك الخدمة التي سلكها الإمام الرباني في أخريات عمره.
الثاني: خدمة الفرائض الدينية والسنة النبوية تحت ستار الطريقة.
الثالث: السعي لإزالة الأمراض القلبية عن طريق التصوف والسير بخطى القلب.
فالأول من هذه الطرق هو بحكم الفرض، والثاني بحكم الواجب، والثالث بحكم السنة.(1)
وورد عنه في باب الاستدلال بالقيمة التربوية لأدبيات النقشبندية ما يؤكد منزلة تلك الطريقة وأهلها في قلبه، فقد وصف أقوالهم بالرقيقة وأفعالهم بالمحمودة و.. ويتجلى ذلك في قوله عنها: " في الطريقة النقشبندية ينبغي ترك أربعة أمور: ترك الدنيا، ترك العقبى، ترك النفس، ترك هذه الأنماط من الترك "(2).
__________
(1) المكتوبات 27
(2) المكتوبات 24(نص ترجمه إحسان قاسم (أنظر الهامش)(14/118)
تعتبر الطريقة النقشبندية من أهم الخزائن التربوية التي استقى منها النورسي كثيرا من مصطلحاته، ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعد اللفظ المركزي في مجموع مؤلفات الرجل "الحقائق الإيمانية" مصطلحا نقشبنديا ذكره الإمام الرباني السرهندي، يتجلى هذا الحكم في قوله المنقول آنفا، كما نقل في مقام آخر قول الإمام الرباني: "إن منتهى الطرق الصوفية كافة هو وضوح الحقائق الإيمانية وانجلاؤها"(1)
ورغم استثماره للخبرة التربوية النقشبندية منهجا وموضوعا، فقد كان يرى أن منهج رسائل النور يفوقها، إذ حوى على كل ما فيها من أغراض تربوية من جهة ومتجاوب مع المعطى السياسي والثقافي الجديد من جهة ثانية، بخلاف ما تضمنته الطريقة النقشبندية، وقد وصل به الأمر أن قال: "لو أن قطبا من أقطاب الأولياء أو شيخا جليلا كالكيلاني، أتى هذه المدينة وقال لك سأرفع مرتبتك إلى مرتبة الولاية في عشرة أيام، وذهبت إليه تاركا رسائل النور، فلا تستطيع أن تصادق إبطال إسبارطة "
وتفضل رسائل النور الطريقة والمشيخة من وجوه لعل أهمها: "إن خدمة رسائل النور هي انقاد الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تكسب المرء مراتب الولاية، وإن إنقاذ إيمان شخص من الضلال أهم بكثير وأجزل ثوابا من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية، حيث إن الإيمان بمنحه للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكا أوسع من الأرض كلها، أما الولاية فإنها توسّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر.(2)
__________
(1) المكتوبات 26
(2) الملاحق 133(14/119)
وبالإضافة إلى اهتمامه الكبير بالطريقة النقشبندية، فقد استأنس واستشهد بأقوال غيرهم، فيسميهم مرّة أهل الحقيقة ويسميهم في أخرى المتصوفة ويطلق عليهم ثالثة أهل الكشف، ..أو ما يقرب منها.(1)
وحديثه عنها لا يختلف عن الطريقة الأم (النقشبندية)، إذ رغم إبكاره لها فإنه يرى أنّ رسائل النور تفضلها جميعا بحيث:" أن ما في درس رسائل النور من للحقائق من علم الحقيقة الذي يمنح فيض الولاية الكبرى النابعة من سر الوراثة النبوية، لا يدع حاجة إلى الانتماء إلى الطرق الصوفية خارج الدائرة ، إلا من فهم الطريقة على غير وجهها وكأنها رؤى جميلة وخيالات وأنوار وأذواق ، ويرغب في الحصول على أذواق الدنيا وهوساتها مما سوى فضائل الآخرة.."
ويسترسل في ذلك قائلا: "ولقد تبيّن في هذه الحادثة أن للانتساب إلى رسائل النور أهمية عظيمة وثمنا غاليا جدا، .. هذا المسلك الذي هو أثمن من الألماس ولا يستطيع أن يدخل مسالك أخرى غيره " (2)
يتبيّن مما سلف أن النورسي لا يطمح إلى إلغاء الطرق الصوفية بقدر ما يطمح إلى ترشيدها من خلال بعث روح التأصيل في نصوص الطرقية، مع السعي الدؤوب إلى تحقيق الالتزام بتعاليم الإسلام من خلالها، وذلك بجعلها أكثر واقعية بواسطة السعي إلى بعث تفاعلها الإيجابي مع المعطى الثقافي والسياسي والحضاري الجديد.
* المصدر الصوفي الخاص:
__________
(1) أنظر المكتوبات 23،242،459، اللمعات 26،153،171،225-228،238، الشعاعات 158، 196، 422،656، المثنوي العربي 29،241،428،432،433، الملاحق 22،74،75، 177، 178، 265، 272، 284، 339، صيقل الإسلام 76، 131، 336،344،349،388،418،…
(2) اللمعات 428(14/120)
أصّل النورسي في مجموع مؤلفاته بمصادر صوفية خاصة، تهتم أساسا بالإمام الرباني الفاروقي السرهندي، كما تستشهد بين الحين والآخر بسائر أعلام التصوف وخاصة الغزالي والكيلاني.. وغيرهم كثير، فأورد كل الشخصيات التي يستفاد من تجربتها الروحية في التأسيس للحقائق الإيمانية القرآنية.
أ/ الإمام الرباني :
احمد بن عبد الأحد السرهندي الفاروقي المشهور بالإمام الرباني (971-1034هـ) المعروف بمجدد الألف الثاني، كان آية في الإحاطة بعلوم عصره في كنف تربية روحية وعلو همّة و إخلاص لله تعالى، كانت التربية الروحية عنده موقفا من الحياة ومشاغلها وليس استقالة منها، فكان من منطلق التربية مجاهدا صلبا جعل الله على يديه تمكين الإسلام من الدولة المغولية بصرفها عن الإلحاد والبرهمية، .. عمل على تصفية التصوف من البدع والخزعبلات ، فنمت دعوته في القارة الهندية وكان من ثمارها الملك الصالح" أورنك زيب" المنتصر على الكفار، نشرت طريقته (النقشبندية) على يد العلامة خالد الشهرزوري المشهور بمولانا خالد (1192-1243هـ)، من أشهر مؤلفاته "مكتوبات".(1)
مواطن الاستشهاد بأقواله:
يظهر تأثر النورسي بالفاروقي جليا، فقد اختار عنوان كتابه "مكتوبات" عنوانا لأحد كتبه، واختار كثيرا من أقواله في بيان ما انتهى إليه اجتهاده، بل كان في كثير من الأحيان يبنى أقواله ويستشهد بها على صحة فهمه.
من هذا القبيل الإكبار من شأن شيخه بعبارات المدح والثناء، فهو رائد السلسلة النقشبندية وشمسها(2).
__________
(1) ترجمه إلى العربية محمد مراد في مجلدين وسماه "الدرر المكنونات".
(2) المكتوبات 26(14/121)
و يصرح بديع الزمان أنه باكتشاف كتاب " مكتوبات " للإمام الرباني، وجد خيرا فتفاءل به تفاؤلا خالصا.(1)
وقد جاوز ذلك إلى استثمار مصطلحاته في صياغة خطاب رسائل النور، فالمصطلحات المركزية "الحقائق الإيمانية " في الرسائل هي اصطلاحات سرهندية، يوضّحها قول الإمام الرباني: "إنني ارجّح وضوح مسألة من الحقائق الإيمانية وانكشافها على آلاف من الأذواق و المواجيد والكرامات "(2)، ويؤكدها قول النورسي: أولها (مشاهد الطريقة النقشبندية) وأسبقها وأعظمها: هو خدمة الحقائق الإيمانية خدمة مباشرة، تلك الخدمة التي سلكها الإمام الرباني في أخريات أيامه"(3)
بل يكاد أن يتمثّل مسلكه منهجا موضوعا، فقد كان يتبنى أقوال الفاروقي إجابة عن أسئلة المستفهمين، فقد ورد عنه حين سئل عن اللطائف العشر الاستشهاد بقول الإمام الرباني، حيث قال: إن الإمام الرباني قد عبّر عن اللطائف العشر بالقلب والروح والسر والخفي والأخفى، .. ولكل عنصر من العناصر الأربعة في الإنسان لطيفة إنسانية ملائمة ومنسجمة معه.. حتى أن ما اشتهر لدى العوام والخواص من لطائف الإنسان العشر منسجمة مع اللطائف العشر لدى أرباب الطرق…
__________
(1) المكتوبات 458، يذكر أنه ورد في رسالتين من رسائل الإمام الرباني لفظة " ميرزا بديع الزمان" فأحس كأنه يخاطبه باسمه، إذ كان اسم والده" ميرزا"، وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان، فقال النورسي: يا سبحان الله…إن هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان.
(2) المكتوبات 26
(3) المكتوبات 27(14/122)
ينتقل بعدها إلى البيان التطبيقي لما استفاده من الإمام الرباني، فيقول: " فمثلا: الوجدان والأعصاب والحس والعقل والهوى والقوة الشهوية والقوة الغضبية، إذا ألحقت هذه اللطائف بالقلب والروح والسر، تظهر اللطائف العشر في صورة أخرى، وهناك لطائف أخرى كثيرة غير هذه اللطائف، أمثال: السائقة، الشائقة، الحس قبل الوقوع".(1)
كما تتجلى في مؤلفات النورسي الاستفادة من الفاروقي في جانبي الموضوع التربوي ومنهجه.
ب) حجة الإسلام الغزالي :
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي ولد سنة 450هـ وتوفي سنة 505هـ ، يعرف بحجة الإسلام، اشتهر بموسوعيته المنقطعة المثيل فقد كان أصوليا متكلما متصوفا فيلسوفا ومصلحا اجتماعيا.. طاف بمشارب متنوعة في التغيير الفكري والتربوي وبعد أن نال منها حظا وافرا مال عنها جميعا إلى مسالك التربية فانتهى في آخر أيامه متصوفا.. من أشهر مؤلفاته المنخول في أصول الفقه، وتهافت الفلاسفة، ومقاصد الفلاسفة في الفلسفة، والاقتصاد في الاعتقاد، والمنقذ من الضلال، وإحياء علوم الدين...
نقل عنه النورسي في مقام مدح مسلكه التربوي، فجعله من ورثة الأنبياء الذين نالوا رتبة الولاية الكبرى ومقام الرضى(2)، ولهذا يطلب من المؤمنين الصادقين الاسترشاد بتعليماته ووضع أنفسهم دائما موضع التهمة(3)، وقد ورد عنه في سياق آخر إنزاله منزلة محققي الطرق الذين يرون " أن اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولا عند الله أعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة،إذ كما أن فرضا واحدا يرجح ألفا من السنن ، فإن سنة واحدة من السنن النبوية ترجح ألفا من آداب التصوف"(4)
__________
(1) اللمعات 171
(2) المكتوبات 361، أنظر الملاحق 101
(3) المكتوبات 577-578
(4) المكتوبات 588(14/123)
يمثّل الإمام الغزالي - وفق فهم النورسي - أبرز الداعين إلى توحيد القبلة بالاتجاه المباشر إلى القرآن الكريم واتّخاذه أستاذا وحيدا، وهو طريق دفع الشكوك وقطع المقامات مع فتح أبصار القلب والروح والعقل،فسار فيها - المقامات - ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحة من غير غض ولا غمض، وبهذا يتميّز عما يفعله أهل الاستغراق مع غض الأبصار.(1)
كما استفاد منه كسابقه في الإجابة عن الأسئلة الاستفسارية، منها قوله: إن قول حجة الإسلام الإمام الغزالي من أن النشأة الأولى مخالفة تماما للنشأة الأخرى، هي مخالفة باعتبار الكيفية والصورة، وليست باعتبار الماهية والجنسية، لأنها معارضة لصراحة آيات كريمة كثيرة، مثل (يحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)(الروم 19)، .. ثم أنه إشارة إلى أن الأمور الأخروية من حيث المرتبة رفيعة جدا"(2)
وهكذا جعل النورسي فكر الغزالي مصدرا مهما في التأسيس للمنهج التربوي القرآني المختار، فقد كان يتوخى من خلال الاستفادة من تجربته استثمار الخبرة المعرفية والتربوية الصوفية وربطها بالقرآن الكريم في آخر المطاف.
ج/ الكيلاني(الجيلاني):
عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد الجيلي، ولد بجيلان سنة 470هـ، ودخل بغداد فسمع الحديث والفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، يعد أحد أقطاب أهل السنة والجماعة، ومجدد عظيم في مسالك التربية الروحية، فقد اسلم على يديه كثير من المخالفين، من مؤلفاته: كتاب الغنية، وفتوح الغيب والفتح الرباني.. يعرف في بعض البلاد الإسلامية بمولى (صاحب) بغداد ،توفي ببغداد سنة561 هـ .
__________
(1) المثنوي العربي 30-31 (بتصرف)
(2) الملاحق 63-64(14/124)
استعان به كسابقيه في التأسيس للمعاني التربوية الرفيعة، وفي هذا السياق يروي لنا النورسي كرامة من كرامات الكيلاني (1)، وخلاصتها أن عجوزا استغربت كيف يأكل ابنها – المتفرغ للتربية والتعليم على يد الشيخ – الخبز الأسود اليابس ويأكل شيخه الدجاج، فخاطب الشيخ الدجاج المطبوخ: " قم بإذن الله" فوثب إلى خارج الوعاء بعد أن اكتمل دجاجا حيا.. وينتهي بعد سرد تلك الكرامة إلى الغرض التربوي منها فيقول: فمغزى هذا الأمر الصادر من الشيخ الكيلاني هو: متى حكمتْ روحُ ابنك جسدَه وهيمن قلبُه على نفسه، وساد عقلُه معدتَه، والتمس اللذة لأجل الشكر، عندئذ يمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة" .(2)
كان الكيلاني مصدرا مهما من المصادر الخاصة التي استثمرها النورسي في القراءة القرآنية للخبرة الصوفية، إذ كان يتخيّر منها ما يخدم الحقيقة القرآنية، وفي هذا النسق يمكن فهم دفاعه عن بعض الشخصيات الصوفية القلقة على حد تعبير بعض الباحثين(3)، واخترنا لبيان ذلك حديثه عن محي الدين بن عربي، وهذا ما نفرد له الفقرة اللاحقة.
د) محي الدين بن عربي:
محمد بن علي بن محمد الطائي الأندلسي، الشهير بابن عربي والشيخ الأكبر(560-638هـ)، اشتهر بمؤلفاته المنقطعة المثيل منها، الفتوحات المكية، فصوص الحكم..
يبيّن اهتمامه بابن عربي استفسار السائلين للنورسي عن معاني أقواله، إذ لو لم يكن له دراية بأقواله ما صح أن يطلب منه شرح أقواله، وفي هذا السياق سئل النورسي عن معنى قول الشيخ الأكبر في رسالته الموجهة إلى فخر الدين الرازي "إن معرفة الله غير معرفة وجوده".
__________
(1) اللمعات 214-215
(2) اللمعات 215
(3) أنظر موقف شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه الرائع موقف العقل والعلم و العالم من رب العالمين وعباده المرسلين المجلد الثالث(14/125)
و قد جعل النورسي هذا الاستفسار مطية للتعليق على المعرفة المستقاة بطريق التصوف فقال: "إن ما بيّنه أئمة أصول الدين.. فيما يخص العقائد ووجود الله سبحانه وتعالى غير كاف في نظر ابن عربي.. والمعرفة الناتجة عن طريق التصوف أيضا ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها أمام المعرفة التي استقاها ورثة الأنبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول "لا موجود إلا الله" لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر إلى إنكار الكائنات ".
يظهر مما سلف تقريره أن النورسي يرافع عن الإمام الأكبر بأسلوب المحامي المرافع بطريقة ذكية، ويتجلى هذا الموقف أيضا في موازنته بين رأيي شيخ الإسلام مصطفى صبري وشيخ الإسلام في روسيا موسى جار الله باكوف، استهل الموازنة ببيان الإفراط والتفريط الواقع في أقوالهما، حيث قال: "إن أحدهما قد أفرط والآخر يفرط، فمع أن مصطفى صبري محق في دفاعاته بالنسبة إلى موسى باكوف، إلا أنه ليس له حق تزييف شخص محي الدين بن عربي الذي هو خارقة من خوارق العلوم الإسلامية، نعم إن محي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بمرشد ولا هاد وقدوة في جميع كتاباته، إذ يمضي غالبا دون ميزان في الحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة، ويفيد بعض أقواله - ظاهرا - الضلالة غير أنه بريء من الضلالة، إذ الكلام قد يبدو كفرا بظاهره، إلا أنّ قائله لا يكون كافرا "
وتجاوبا مع هذا النسق تراه يستشهد للشيخ السابق بأقوال الإمام نفسه، وفي هذا يقول: " لقد قال محي الدين عربي: " تُحرم مطالعة كتبنا على من ليس منا"، ثم يضيف النورسي مفسرا وشارحا: " أي على من لا يعرف مقامنا، نعم إن قراءة كتب محي الدين ولا سيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان" .(1)
__________
(1) اللمعات 445(14/126)
ويظهر لنا أن النورسي قد تعامل مع نصوص ابن عربي بمنهج نقدي اكثر جرأة وصراحة مقارنة مع ما لمسناه في تعامله مع نصوصه غيره من المتصوفة.
يبيّن ما ذهبنا إليه جواب النورسي حين سئل عن مراد الشيخ بقوله: "إن مخلوقية الروح عبارة عن انكشافها "، فذكر بديع الزمان في ديباجة الجواب" إنك يا أخي بسؤالك هذا تضطرني إلى أن أناقش وأنا الضعيف العاجز خارقة الحقيقة وداهية علم الأسرار محي الدين بن عربي .. ويبرر جسارته على هذا الأمر بقوله: ولكن لما كنت سأخوض في البحث معتمدا على نصوص القرآن الكريم فسوف أستطيع أن أحلق أعلى من ذلك الصقر وأسمى منه وإن كنت ذبابة "
ويستمر وفق نسقه السابق مادحا " اعلم أن محي الدين لا يخدع ولكن ينخدع، فهو مهتد، ولكنه لا يكون هاديا لغيره في كل ما كتب، فما رآه صدق وصواب ولكن ليس الحقيقة "
ويتجلى تعامله النقدي الحر مع نصوص الشيخ في كثير من المواضع، وصل الأمر به حد النقد اللاذع، يشهد لهذا قوله: " ولما كان الشيخ قد انتهج مسلكا مستقلا وكان صاحب مشرب مهم وله كشفيات ومشاهدات خارقة فإنه يلجأ باضطرار إلى تأويلات ضعيفة وتكلّف وتمحّل ليطبق بعض الآيات الكريمة حسب مشربه و مشهوداته، مما يخدش صراحة الآية الكريمة ويجرحها" .(1)
وهكذا كان النورسي متحررا من ضغط الألقاب والشهرة في تقويم جهود الرجال أو استثمار جهودهم، فرغم كل ما قاله عن محي الدين بن عربي فقد استصحب بعض معاني أقواله في التعبير عن الحقائق القرآنية.
يستشف مما سلف أن النورسي قد اتّخذ الخبرة المعرفية الصوفية الخاصة مصدرا مهما في التأسيس لرسائل النور التي تتوخى قراءة الخبرة المعرفية التربوية الإسلامية بالقرآن الكريم، كما استغلها في الدعوة إلى تمثّل منهج القرآن الكريم في عرض حقائق الإيمان.
* المصطلح الصوفي
قراءة رسائل النور تبيّن استثماره للمصطلح الصوفي على تنوّع مشارب رجاله، ويمكن بيان ذلك من خلال النقاط الآتية:
__________
(1) اللمعات 52(14/127)
أولا : تكاد تكون أدبيات النورسي طافحة بالعبارة الصوفية الرقيقة، عبارة تحرك القلوب و المشاعر بموسيقاها ودقة ألفاظها، و يظهر استثماره للخزان المعجمي الصوفي بشكل ملفت للانتباه، منها قوله: التوحيد الحقيقي وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانيته سبحانه وبصدور كل شيء من يد قدرته"(1)، ويقرب من هذا المعنى ما ذكره في كتاب آخر:" إن جميع هذه العبادات المشاهدة تشير إلى المعبود الحق الواجب الوجود وإلى وحدانيته".
وقال أيضا: "أما الفاعل الحقيقي فهو القدرة الصمدانية، لأن التوحيد والجلال يتطلبان هذا" .(2)
ثانيا: يتجلى توظيف المصطلح الصوفي من خلال الاستثمار التحليلي للمعارف الصوفية، وهو إقرار بالقيمة العلمية والتربوية للمعارف الصوفية، يرى هذا النوع الاستدلالي في مخاطبة الوجدان والقلب، وهي مخاطبة تشغل حيزا كبيرا في مجموع مؤلفاته.(3)
* علم التصوف الجديد:
رغم كل ما نقلناه عنه من استثمار للخبرة الصوفية العامة والخاصة وهيمنة الاصطلاح الصوفي على مؤلفاته، يؤكد النورسي في أكثر من موقع أنه ليس صوفيا " إنني لست شيخا صوفيا، وإنما أنا عالم ديني، والدليل على هذا، أنني لو كنت قد علّمت أحدا من الناس الطريقة الصوفية، طوال هذه السنوات الأربع التي قضيتها هنا لكان، لكم الحق في الارتياب.." .(4)
ويؤكد هذه المعاني في سياق نقد التصوف بصفة عامة.(5)
ومع هذا التنصّل من التصوف ونقده نقدا لاذعا، نراه يحدّثنا عن الطريقة الصوفية وعلاقتها بالسنة المطهرة بمنهجية تبيّن أن النقد السابق يحتاج إلي تقويم في سياق المدح الذي يوجّهه للطريقة الصوفية، ولا يتأتى القيام بذلك قبل البيان المفيد لعلاقته بالطريقة الصوفية.
__________
(1) الكلمات 326
(2) الكلمات 791
(3) تكاد تطبق رسائله على ذكرها.
(4) المكتوبات 79، اللمعات 245
(5) أنظر المكتوبات 589(14/128)
يقول عندما سئل عن ماهية الطريقة " إن غاية الطريقة وهدفها هو معرفة الحقائق الإيمانية القرآنية، ونيلها عبر السير والسلوك الروحاني في ظل المعراج الأحمدي وتحت رايته، بخطوات القلب وصولا إلى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود، فالطريقة والتصوف سر إنساني رفيع وكمال بشري سام".(1)
ويبيّن في المسار نفسه مجمل ثمرات الطريقة وفوائدها:
1) ظهور الحقائق الإيمانية وانكشافها ووضوحها إلى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة، هذه الحقائق التي هي منابع خزائن أبدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.
2) تحقيق الوجود الحقيقي بانسياق لطائف الإنسان جميعا إلى ما خلقت لأجله، وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الإنسان الذي يعتبر مركزا لجسمه ولولبا لحركته وتوجيهه إلى الله، فيندفع بهذا كثير من اللطائف الإنسانية إلى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الإنسان.
3) التخلص من وحشة الانفراد و الوحدة في السير والسلوك، والشعور بالأنس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق بإحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الأخروية…
4) خلاص الإنسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا.
5) الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة، وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.
6) نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم، هذه المقامات هي السبيل إلى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والأنس الذي لا تقربه وحشة.
7) نجاة الإنسان من الشرك الخفي والرياء والتصنّع وأمثالها من الرذائل بالإخلاص الذي هو أهم شرط لدى السالك وأهم نتيجة لها.
__________
(1) المكتوبات 571(14/129)
8) جعل الإنسان عاداته اليومية بحكم العبادات وأعماله الدنيوية بمثابة أعمال أخروية، والإحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذورا تتفتّح عن زهرات الحياة الأخروية وسنابلها.. بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الإرادة والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.
9) العمل للوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي إلى الله طوال سيره وسلوكه، وأثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، أي الوصول إلى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، أي نيل حقيقة الإيمان والإسلام لا صورتيهما.(1)
يتجلى فيما ذكره من فوائد الطريقة وثمارها مدح مسالك الطريقة، كما يستشف مما سبق بيانه الانتقاص من المسلك نفسه، فما سبيل التوفيق بين الموقفين؟
الجواب التفصيلي عن سؤالنا يتجلى في الميزات العامة للتصوف في فكر النورسي.
مميزات التصوف الجديد:
1) القرآن مصدر المعارف الروحية:
من أهم ميزات التصوف في فكر النورسي أنه يستمد مادته من القرآن الكريم، من هذا المنطلق يوازن بين مدحه للتصوف أحيانا والقول بعدم كفايته حينا آخر، فما مدحه يتجلى فيه خدمه الجوانب التربوية من الحقائق الإيمانية القرآنية، أما الذي اتّخذ منه موقفا غير هذا فلا شك أنه يعد مخالفا للغايات التربوية التي يتوخاها الخطاب القرآني.
إن انتقائية التعامل مع الخطاب الصوفي في فكر النورسي مرتبطة أساسا بما تحقق تلك المعارف من غايات تربوية قرآنية، فما وافقها حمده ودافع عنه وما كان مخالفا لها أبعده أو التمس له العذر على الأقل، وهذه تجرنا منهجيا إلى الحديث عن الميزة الثانية.
2) رفض البداية الصفرية
__________
(1) المكتوبات 591-593(14/130)
يعد احتفاله الكبير بالمصادر الصوفية العامة والخاصة دليلا قاطعا على رفض البداية الصفرية في التأسيس المعرفي للمحتوى التربوي المستفاد من الحقائق الإيمانية القرآنية، ويؤكد هذا المعنى مجموع فهارس كتبه، أنظر فهارس الجماعات والقبائل والأمم فستجد ذكرا لا يستهان به لأهل التصوف وبأساليب متنوعة، كما تجد المعنى نفسه في فهرس الأعلام والفهرس التحليلي، وتظهر المعاني نفسها فيما سبقت الإشارة إليه من توظيف لثمار الفكر الصوفي على تنوّع مشاربه.
3) التراكم المعرفي:
حاول النورسي التأسيس العقلي للعلوم القلبية، ومسلك ذلك استثمار المعارف الجامعة بين خدمة العقل والقلب في إطار تراكمي يجمع قول السابق إلى اللاحق بغرض خدمة حقيقة إيمانية ظاهرة مؤداها إقناع العقل وتحريك القلب، يؤكد هذه المعاني قوله: " ليس من العقل ربط القلب بأشياء فانية"(1)، كما يمكن أن يستشف المعنى ذاته من قوله: "جميع الأولياء الذين يمثلون أقطاب القلوب المنورة معتمدين على كشفياتهم وكراماتهم"(2)، وهو بهذا المسلك حاول الجمع بين مسلكي التصوف والكلام في نسق واحد وسياق واحد، بحيث يخاطب العقل والقلب في اللحظة نفسها بل قد يجمع إليهما كثيرا من المعارف الأخرى المساهمة في تمكين المعرفة القرآنية من نفوس المسلمين، فتراه يستعين بالفقه والحديث... وكل ما شأنه أن يفيد في بيان الحقائق الإيمانية القرآنية ... وكل ذلك يؤكد تطبيقه منهج التراكم المعرفي في خدمة القرآن الكريم بغرض تمكين الإيمان من المجتمع المعاصر.
4) أقصر طرق تحقيق مقاصد الحقائق:
__________
(1) اللمعات 174
(2) الكلمات 790(14/131)
بيّن مما سبق بيانه أن المسلك القرآني في التأسيس لمقاصد الحقائق هو أقصر طرق تمكين تلك الحقائق من قلوب الأتباع، " لأن المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلا عن أنها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الإهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه،... بينما المعرفة المستفادة من التصوف ناقصة وقاصرة ومبتورة أمام المعرفة التي استقاها ورثة الأنبياء من القرآن الكريم مباشرة(1).
كما أن العصر ليس عصر طريقة بل هو عصر القرآن الكريم الذي يستدعي التوجّه المباشر إليه بغرض العمل على تمكين حقائقه الإيمانية من النفس والمجتمع.
5) متجاوب مع طبقات البشر:
الخطاب التربوي (الصوفي) القرآني في متناول جميع طبقات البشر، إذ يجد فيه العامي ما يشبع حاجته كما يجد فيه العالم المتخصص ما يشبع جوعه الروحي والمعرفي، بل يجاوز ذلك إلى جمع المسلمين على تنوّع مشاربهم على محتوى روحي وتربوي واحد، بحيث تأمن شر الإنكارعليك من قبل المبتدع بالدرجة نفسها إلتى تتحرر من المخالف المسلم، لأنّ القرآن الكريم محل إجماع المسلمين قاطبة، وبدعوتنا إلى ما حواه من توجيهات روحية وتربوية نكون قد جمعنا المسلمين على المعاني المشتركة بينهم جميعا، فتكون كلمتهم مجموعة مسموعة بفضل القرآن الكريم.
رابعاً: الوجدان كمصدر من مصادر المعرفة
الوجدان والشعور
__________
(1) المكتوبات 424-425(بتصرف)(14/132)
الوجدان بيت الشعور بما يطرأ على المرء من المعاني المؤلمة أو السارة لهذا " لا تحوج الوجدانيات إلى كثير بيان لأن الاختيار في الإنسان يشعر به كل واحد" (1)، لهذا استأنس به بعض الباحثين المسلمين، واعتبره النورسي إتباع الذوق السليم والغرائز السننية البسيطة(2) والتصديق بما دلت عليه حينما يؤثر فيها أسباب ما تأثيرا بالغا في قوته بحيث لا يستطيع أن يمنعها إلا بعنف شديد(3).
يفهم من كلام النورسي اعتبار الوجدان حكما عدلا على قول الكوثري(4)، لكن هل يمكن اعتبار الوجدان حكما يحتكم إليه؟ وهو ليس إلا قوة من قوى الإنسان التي يختص برغبة معينة دون أخرى؟ فكيف يستساغ جعل وعاء الشعور الشخصي حكما على الآخرين؟
إن أحسن أحوال الوجدان أن يكون متلقيا عن الله سبحانه وتعالى وليس من وظيفته أو مهامه الحكم... وإذا كان الوجدان على وفق ما ذكرنا فإنه لا يمكن أن يكون مصدرا لدليل يقيني.. (5).
إن النقد الآنف لا ينسحب على ما نقلناه عن العلامة النورسي لأنه لم ينزله تلك المنزلة نظرا لاستعماله بمعنى آخر غير الذي أشرنا إليه، فقد وظفه بمعنى الفطرة الشاعرة حيث يقول تحت عنوان البرهان الرابع:"هو وجدان الإنسان المسمى بالفطرة الشاعرة ولكي تحيط بهذا البرهان أمعن النظر في النكات الدقيقة الآتية:
1- النكتة الأولى :
__________
(1) الاستبصار في الجبر والاختيار/ زاهد الكوثري 26، الطبعة الأولى ، مطبعة الأنوار القاهرة 1370ه/1951م
(2) وهو مصطلح إسلامي أصيل يحمل بين طيا ته الرؤية التوحيدية لعالم الأشياء على خلاف ما تحمله المصطلحات الأخرى نحو الطبيعية…
(3) الكوثري وآراؤه العقدية "المنهج والتطبيق"297-298( بحثنا المقدم لنيل درجة الدكتوراه دولة في العلوم الإسلامية (الجزائر1996/1997)
(4) الاستبصار 6
(5) الكوثري وآراؤه العقدية 299-300(14/133)
الفطرة لا تكذب، لأن خالقها فطرها على الصدق من حيث هي، بحيث إذا طلب من الإنسان التعبير عما تحويه من حقائق دون ضغط أو إكراه نطقت بما جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم -.
2- النكتة الثانية:
لا تقتصر حواس الإنسان الظاهرة والباطنة على الخمسة المعروفة.. وإنما لها نوافذ كثيرة مطلة إلى عالم الغيب.. حاسة السوق وحاسة الشوق لديه حواس لا تكذب و لا تزل.
3- النكتة الثالثة:
لا يمكن أن يكون شيء موهوم مبدءا لحقيقة خارجة، فنقطة الاستناد والاستمداد حقيقتان ضروريتان مغروزتان في الفطرة والوجدان..
4- النكتة الرابعة :
إن الوجدان لا ينسى الخالق مهما عطل العقل نفسه وأهمل عمله، بل حتى لو أنكر نفسه فالوجدان يبصر الخالق ويراه.. إلى أن يقول: فالانجذاب والجذبة مغروز في الفطرة ليس إلا من جاذب الحقيقة..(1)
يتضح مما سلف أنه لا يقصر الوجدان على بيت الشعور بل يستعمله بما هو أوسع من ذلك، فهو عنده التوحيد نفسه وليس الاستعداد للتوحيد وفق ما قرره بعض معاصريه من علماء الإسلام الأتراك.(2)
الاستدلال بالوجدان
يفهم مما نقلناه أن الوجدان عند النورسي يشمل التوحيد والاستعداد للاستدلال عليه بما زود البشر من العلم الضروري المغروز في فطرهم، ولاشك أن هذه المعلومات معلومة ضرورة لكل متحرر من المكبلات الإيديولوجية.
__________
(1) المثنوي العربي 430-431
(2) أنظر بحثنا " منهج الاستدلال على العقائد" القسم الأول "21-40 مجلة الموافقات العدد 2/ سنة 1992/1993(14/134)
والوجدان بهذا المعنى هي الفطرة بمحتواها التديني والمعرفي، فالدين هو التوحيد نفسه ويبيّنه ما ورد في الحديث الصحيح "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يمجسانه.. "(1)، وورد في حديث آخر: "إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم وإنّهم أتتهم الشياطين فأضلّتهم عن دينه.. "(2) ...تدل النصوص الحديثة على إمكان طروء الفساد على الفطرة بمحتواها الديني، ولكن ليس بمستطاع البشر صد البشر عن المحتوى المعرفي للفطرة نفسها، لأنه ليس بمقدورهم الانفكاك عنها في مجالات حياتهم العلمية والعملية، فهل يتصور إمكان انفكاك البشر عن الاستدلال بالأثر على المؤثر في مجالي العلم والعمل؟ وإن أمكن تصور عدم تقيّدهم بالدين الإسلامي ؟.
يظهر من خلال عدم إمكان الانفكاك عن المحتوى المعرفي للفطرة وإمكان الانفكاك عن محتواها الديني، أن توظيف الأول (المحتوى المعرفي) مطيّة لإرجاع البشر إلى الفطرة السليمة في محتواها الديني، إذ خلاصة الاستدلالات تنتهي في آخر تحليل لها إلى العلم الضروري (بصرف النظر هل هو حصولي أو حضوري؟).
يتجلى مما سلف أن البشر يرجعون إلى الفطرة بالفطرة عند النورسي(3)، لهذا يقال يعرف (بضم الياء) الله بالفطرة وبالفطرة يستدل على عقائد الفطرة بل وحتى أخلاق الفطرة تجب بالفطرة أيضا، مع ملاحظة المعاني الدقيقة للمحتوى المعرفي لاستعمالات الفطرة في كل مرة.
التحليل الشخصي:
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري /كتاب الجنائز حديث رقم 1270، وأخرجه الإمام مسلم/ كتاب القدر الحديث رقم 4807 ، بلفظ" كل إنسان تلده أمه على الفطرة فأبواه بعد يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه …
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده/ مسند الشاميين الحديث رقم 16837
(3) الفطرة الدينية تتلطّخ بدليل ما من السنة( فأبواه…) أما الفطرة التي خلق الله العقول عليها فليس بمقدورهم الانفكاك منها ، لهذا يرجعون إلى الفطرة التوحيدية بالفطرة العقلية.(14/135)
تبين عناوين مؤلفاته الاعتداد بتجاربه الشخصية سواء في الفهم أو الإفهام منها قوله في مطلع أحد كتبه: "دعيت لزيارة أنقرة سنة 1338هـ/1922م وشاهدت فرح مؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي إلا أنني أبصرت – خلال موجة الفرح هذه – زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الطارئة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفت من أعماق روحي.. لذا فقد انتشرت أوهام ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد، مما اضطرني إلى إعادة كتابة تلك الرسالة وبراهينها.. (1).
وذكر في كتاب آخر: " إنني كتبت مشاهداتي كما تراءت لي وفق فهمي، كتبتها لنفسي، فهي لم تكتب شأن الرسائل الأخرى بمستوى فهم الآخرين ومدى تلقيهم.(2)
جعل النورسي التجارب الشخصية مسلكا رئيسا لتبليغ الأحاسيس التي تعجز العبارة المجرّدة عن تبليغها، وهو بذلك يمثّل الأنموذج الحضاري المتعدد التخصصات، يتجلى ما ذهبنا إليه في الملاحظات الآتية:
1) تبليغ التجربة السياسية، فكان يحدّثهم عن مشاهدة ومعاينة يومية لا عن سماع خبر، والبون شاسع بين الحكاية عن المعاينة والحكاية عن خبر، فالفرق بينهما كالفرق بين المخبر عن تذوّقه والمخبر عن تذّوّق غيره.
2) توصيل الخبرة التربوية من خلال العيش النفسي داخل النسق القرآني، وكأنه يحدّثنا عن تأثير الخطاب القرآني في نفسه ونفوس عظماء الأمة من الأنبياء والشهداء والصالحين…
3) التأصيل لموضوع المعارف الإسلامية كلاما وتصوفا وفقها وسياسة و..ويتم ببيان فضل التأصيل القرآني لتلك المعارف في بعث الالتزام نظرا لفاعليته العجيبة في النفس والعقل والقلب..
الفصل الخامس
أشكال الأدلة
__________
(1) اللمعات 267
(2) الشعاعات 133(14/136)
يقصد بمصطلح أشكال الأدلة مجموعة القوالب الاستدلالية في مجالي التأسيس للحقائق الإيمانية القرآنية أو إبطال أقوال الخصوم بغرض تخلية القلب منها وتحليته بالإيمان، وقد قسّم النورسي أشكال الأدلة إلى أنواع كثيرة وباعتبارات مختلفة.
1) باعتبار العلاقة بين العلة والمعلول:
استفاد النورسي في تقسيم الأدلة بهذا الاعتبار من جهود المتكلمين، إذ قسمها إلى دليل لِمّي ودليل إنّي.
1/1 الدليل اللمّي:
صوّره النورسي وفق مسالك المتكلمين فقال هو الاستدلال بالمؤثر على الأثر(1)، وقد يقال فيه هو الاستدلال بالعلة على المعلول، الاستدلال بالخالق على الخلق، لهذا هو استدلال تنازلي من الأعلى إلى السفل.
ذكر النورسي في هذا السياق أنه أقل سلامة من الدليل الإنّي، ولكنه في مقام آخر يحتج به فيعتبر كلمتي (الألوهية والنبوة) الشهادة كل منها شاهد صادق على الأخرى، .. فالألوهية برهان لمي للنبوة.(2)
ركزنا في هذا السياق على الجانب الإنشائي، وقسمناه وفق ما أورده النورسي نفسه.
وبيّن مما سلف أن هذا الدليل معتمد عند علماء التصوف وخاصة أهل وحدة الوجود و وحدة الشهود، عمدة هذا الدليل، الاستدلال بالله على الخلق بطريق جواني يستدعي حضورا قلبيا كبيرا وتمكّنا من المصطلح الصوفي، ومن دخل رحاب الدليل اللمي بغير هذا الزاد صعب عليه فهمه، وقد يؤول به الأمر إلى اتهام المستدلين به.
لقد اختار الشيخ عدم القول بأولوية هذه الحجية ولكنه في ذات الوقت لم ينكر إمكان الاحتجاج بها، وفي ذلك دلالة قاطعة على منهجه الانتقائي في التعامل مع الخبرة الكلامية والصوفية، وهذا وفق ما تمليه وظيفة إثبات الحقائق الإيمانية.
1/2 الدليل الإني:
__________
(1) أنظر إشارات الإعجاز 150، أنظر المواقف/ الإيجي 14
(2) صيقل الإسلام 119(14/137)
يعتبر الدليل الإني عكس الدليل اللمي، فهو استدلال بالأثر على المؤثر(1) أو دلالة المعلول على العلة أو السبب على المسبب.. لهذا يعد استدلالا تصاعديا من الأسفل إلى الأعلى من الآفاق والأنفس إلى خالقها، ونظرا لتلك الصلة الواضحة بين المقدمات والنتائج اعتبر هذا الدليل من أسلم الأدلة، وهذا ما يبرر اعتماد الأغلبية الغالبة من المتكلمين على هذا الدليل بمختلف أشكاله.
يكثر النورسي من توظيف هذا الدليل بأشكاله المختلفة، ومؤلفاته طافحة بذكر هذا النوع من الأدلة، تجده في مجمل الأدلة الآفاقية والأنفسية على تعبير النورسي، فجعله عمدته في أدلة الإمكان وأدلة الحدوث في أشكالها الشهيرة بالعناية والاختراع و..، كما استدل به في أسلوب رائع لم يسبق إليه - حسب تقديرنا - حين جعل الكلمة الثانية (أشهد أن محمدا رسول الله) من كلمتي الشهادة دليلا إنيا على الألوهية، فقال: ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بذاته وبلسانه برهان " إنّي" للألوهية.(2)
2) تقسيمها باعتبار موضوع الدليل:
قسّم النورسي الأدلة باعتبار موضوع الدليل إلى آفاقية وأنفسية، وذلك بحسب ما يقوم عليه موضوع الدليل، لهذا يرى النورسي أن دلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي.
2/1 القسم الأول الآفاقي:
يركّز القرآن الكريم كثيرا على هذا النوع من الاستدلال إذ يعد الكون دليلا قاطعا في كلياته وجزئياته على وجود الخالق، ومبنى هذا الدليل النظر في الكون إما من جهة الاختراع أو من العناية التي تحيط به من كل جانب، أو من جهة النظام أو الغائية في صيرورة حركاته إلى غايات معيّنة ،جعلت في آخر المطاف في خدمة الإنسان، وقد أعمله النورسي في دليل العناية ودليل الاختراع.
2/2 القسم الثاني: الأنفسي
يستفاد موضوع هذا الدليل من الإنسان كدليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وقد قسّمه النورسي إلى قسمين:
2/2/1 الأنفسي النفسي:
__________
(1) إشارات الإعجاز 150، انظر المواقف للإيجي 14
(2) صيقل الإسلام 119(14/138)
جعل الإنسان الفرد المعيّن المخاطب في هذا السياق دليلا على وجود الخالق، وهو من أوضح الأدلة وأقربها للتداول، استنبطها بديع الزمان من قوله تعالى: "الذي خلقكم"، لاحظ أنه انطلق من الإنسان المتحقق الوجود، بمعنى أنه دليل يستمد مادته من نظر الإنسان إلى نفسه، وهذا ما جعل النورسي يسميه الدليل النفسي.
2/2/2 أنفسي أصولي:
جعل عمدة موضوعه النظر في الأصل الإنساني في تاريخه القريب والبعيد، فجعل التاريخ البشري للأمم الغابرة حجة على الأمم الحاضرة والمستقبلة، وهذا باعتبارهم من جنس واحد و من أب واحد، وتوالدوا بطريقة واحدة، وقد استفاد هذا الدليل كسابقه من القرآن الكريم، مستنبطا من قوله تعالى: "والذين من قبلكم"
3- تقسيمه باعتبار الصلة بين المقدمة والنتيجة:
تعد العلاقة بين المقدمات من النتائج متنوّعة، فقد تكون المقدمة عامة والنتيجة جزئية وقد تكون النتيجة أعم من المقدمة، كما قد تتساوى المقدمة والنتيجة، وبهذا الاعتبار يستفاد من عبارات النورسي تقسيم الأدلة إلى قياس واستقراء.
3/1 القياس:
وظّف النورسي القياس الاستثنائي والقياس التمثيلي، فعن الأول يقول في تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (آل عمران31): "..إن هذه الآية الكريمة أقوى قياس وأثبته من قسم القياس الإستثنائي، ضمن المقاييس المنطقية، إذ يرد فيه على وجه المثال "إذا طلعت الشمس فسيكون النهار" ويرد مثالا للنتيجة الإيجابية "طلعت الشمس فالنهار إذا موجود"، وأورد مثالا للنتيجة السلبية "لا نهار فالشمس إذا لم تطلع" فهاتان النتيجتان - الإيجابية والسلبية - ثابتتان وقاطعتان في المنطق، وكذلك الأمر في الآية الكريمة..(14/139)
ويخلص أخيراً إلى الغرض التربوي من ذكر القياس الآنف الذكر، فيقول: إن كان لديكم محبة الله، فلا بد من الاتباع لـ"حبيب الله"، وإن لم يكن هناك اتّباع، فليس لديكم إذا محبة الله، إذ لو كانت هناك محبة حقا فإنها تولد حتما اتّباع السنة الشريفة لـ" حبيب الله"(1)
أما بالنسبة للقياس التمثيلي فله فيه اصطلاح خاص مفاده استخدام الأمثلة وفق ما ورد في المثل السائر"بالمثال يتضح المقال"، جعل من الأمثلة المتشابهة حجة على ما يراد الاستدلال عليه، وبهذا فهو لا يقصد القياس التمثيلي الذي تتساوى فيه المقدمة والنتيجة وفق مسلكي الفقهاء(2) أو متقدمي المتكلمين، بل يريد معنى آخر غير ما ذهبوا إليه، قوام هذا الدليل النماذج المستفادة من الآفاق أو الأنفس بوصفها أمثلة أو واسطة استدلال، يؤكد هذه الفكرة قوله :" أساس التمثيل هو التشبيه، ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة، فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف إلى آخر.. فبصورة الأسلوب يوقظ الوجدان وينبّه الحس بميل أو نفرة "(3)
3/2 الاستقراء:
__________
(1) اللمعات 84-85
(2) قياس جزئي على جزئي، بحيث تلاحظ تساوي المقدمة مع النتيجة، كالاستدلال على حرمة النبيذ بحرمة الخمر للاشتراك في العلة، وقد استثمر بعض متقدمي علماء الكلام هذا النوع من الاستدلال فوضعوا قاعدة "البلكفة" مستنبطة من قوله تعالى "ليس كمثله شيء"
أنظر مقدمة ابن خلدون، وأنظر فلسفة علم الكلام للأستاذ عبد العزيز سيف النصر، وانظر بحثنا الكوثري وآراؤه العقدية المنهج والتطبيق.
(3) إشارات الإعجاز 117، وانظر 43، 65(14/140)
يعتبر الاستقراء استدلالا تصاعديا يبدأ بالجزئي ليخلص إلى الكلي، لهذا كانت المقدمات أقل أو تساوي النتائج، فإذا كان الاستقراء ناقصا كانت المقدمات أقل من النتيجة، أما إذا كان الاستقراء تاما فإن النتيجة تساوي المقدمة، والغالب أن الاستقراء التام غير متاح إلا أن الاستقراء الناقص (رغم كونه ناقصا) فقد يفضي إلى اليقين(1)، وقد جعل النورسي نوعا من الاستقراء الناقص في حكم الاستقراء التام بالنظر إلى قطعية النتائج التي تنال بطريقه، لأننا لا يمكن إحصاء عدد الحالات المتتبعة في الاستقراء، لهذا فهي في حكم التام و نتيجتها قطعية، إذ مفاد هذا الاستدلال احتواؤه على قياس خفي مفاده لو لم يكن الأمر حقا وحقيقة ما ساغ لنا قبول تلك الاتفاقات الكثيرة عددا حال وجودها، ولهذا إذا كانت الحالات المتتبعة في الاستقراء كثيرة كثرة يستحيل إحصاؤها وكانت دلالتها جميعا على حقيقة واحدة آل القول بنقيض تلك النتيجة إلى المحال العقلي، لأنها لكثرتها وتناغمها في الدلالة على الشيء نفسه كان القول بعدم صحة نتيجتها نوعا من الجنون أو المكابرة، لهذا يقول النورسي: "إن أكمل الكل محمد - صلى الله عليه وسلم - تشهد له معجزاته وأخلاقه السامية، كما يصدّقه علماء البشر المحققون، بل يسلّم به أعداؤه، وعليهم أن يسلّموا..أيقتدر نوع البشر بشقاوته على جرح شهادة تلك العلوم ونقض الاستقراء التام و التمرد على مشيئة ربه؟ كلا.. لا يقتدر ولن يقتدر"(2)، كل ذلك حسب تقديرنا بسبب دلالة القطع واليقين المستفادة من الاستقراء التام.
4- الأدلة القرآنية
__________
(1) أنظر الأسس المنطقية للاستقراء/ باقر الصدر
(2) صيقل الإسلام 54،141، اللمعات 105، إشارات الإعجاز 165،193…(14/141)
ارتضى لنفسه تقسيم الأدلة القرآنية وفق نسق ابن رشد الحفيد(1)، إذ قسما تلك الأدلة إلى نوعين، قال النورسي: "للقرآن الكريم في معرفة الله سبحانه واثبات وحدانيته طريقتين:
الأولى: دليل العناية والغاية
الثانية: دليل الاختراع
4/1 دليل العناية والغاية:
تدل ألفاظ العنوان على أن المراد منه هو إتقان الصنع في النظام الأكمل في الكائنات وما فيها من رعاية المصالح والحكم" إذ النظام المندمج في الكائنات وما فيه من رعاية المصالح والحجم، يدل على قصد الخالق الحكيم وحكمته المعجزة، وينفي نفيا قاطعا وهم المصادفة والإتفاق الأعمى"(2).
4/2 دليل الاختراع:
يرسّخ القرآن الكريم هذا الدليل في آياته التي تبحث عن الخلق والإيجاد، ويؤكد في أسلوب لا لبس فيه أن لا مؤثر إلا الله وحده.
"إن الله قد أعطى لكل فرد، ولكل نوع، وجودا خاصا، هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة، إذ لا نوع يتسلسل أزلا، لأنه من الممكنات..".(3)
4/3 شهادة الكون
يظهر توظيفه لشهادة الكون على واجب الوجود في استعماله المتعدد لدليل النظام، ويتجلى تنوع الاستعمال في مواقف كثيرة من مؤلفاته(4)، كما يمكن أن يستشف أيضا من دليل التناغم والتنوع.(5)
قال النورسي مبينا ما سبقت الإشارة إليه: "إن ما يبدو عيانا في جميع المصنوعات المبثوثة على صفحات الكون من مظاهر النظام والموازنة تامة.. دليل واسع سعة الكون على الخالق القدير وشهادة صادقة قاطعة على وحدانيته سبحانه وقدرته المطلقة"(6).
__________
(1) أنظر مناهج الأدلة في عقائد الملة/ابن رشد بتحقيق الدكتور محمود قاسم
(2) المثنوي العربي 428
(3) صيقل الإسلام 124-125
(4) الشعاعات 182،184،665، الملاحق 284،295
(5) الكلمات 60،61،143،… المكتوبات 254،284،298،301،… الشعاعات 39، 46، 65،90،…
(6) الكلمات 789(14/142)
وقال أيضا: "أختام الوحدانية الواضحة على مجموع الكون، وعلى كل نوع فيه وعلى كل فرد فيه..(1)، فالنظام الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة بين الموجودات.. يشهد شهادة واضحة على الوحدانية"(2)
وقال تحت عنوان النظام الكامل المقصود: "إذا تأملنا في أرجاء الكون نرى أن هناك نظاما كاملا وتناسقا بديعا مقصودا في جميع أجزائه.. فنظام العالم هذا يشير إلى تلك السعادة الأبدية وحياة الخلود"(3) وعبر عن الفكرة نفسها بالتناسق والتساند الوظيفي.(4)
5- شهادة الإنسان
5/1 تعرف بشهادة الأنفس، والتي عبّر عنها النورسي بأساليب شتى منها قوله: " تأمل فيما يحويه جسمك وأعضاؤك من حدود متعرجة والتواءات دقيقة.. وتأمل في فوائدها ونتائج خدماتها وشاهد كمال القدرة في كمال الحكمة… فتلك الموجودات غير المحدودة تدل على واجب الوجود، وتشهد بألسنة لاتحد على وحدانيته وكمال قدرته"(5)
5/2 استدل أيضا بدليل الافتقار حيث يقول:ألا يدل هذا الافتقار، وهذه الحاجة في المخلوقات وهذا النمط من الإمداد والإعانة الغيبية على رب حكيم ذي جلال مدبّر رحيم ذي جمال"(6)
ووظف فكرة الافتقار في كثير من كتبه منها على سبيل المثال لا الحصر قوله:
" تشاهد في الموجودات جميعها افتقارا إلى حاجات مختلفة ومطالب متنوعة لا تحصى.. فإن شئت فتأمل في نفسك تجدها مغلولة الأيدي إزاء كثير مما يلزم حواسك الظاهرة، أو يشبع رغباتك الباطنة… فقس على نفسك نفوس جميع الأحياء.. يظهر للعقل المنصف أنه سبحانه في منتهى الكرم والرحمة و الربوبية والتدبير.. (7)
6- شهادة أهل العلم
__________
(1) الكلمات 709 الهامش
(2) اللمعات 551
(3) الكلمات 613
(4) اللمعات 540
(5) الكلمات 794(بتصرف)
(6) الكلمات 399
(7) الكلمات 784(بتصرف)(14/143)
استشهد بشهادات أهل العلم في كثير من كتبه منها ما أورده في مقام الاحتجاج على صدق النبي، وفي ذلك نقل لنا إجماع أهل العلم "الإجماع الثالث: هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الأجلاء الذين لا يعدون ولا يحصون.."
ويركز في استشهاده على أقوال أفذاذ العلماء المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق في كل علم ... ليخلص بعدها إلى القول: " فتصديق هؤلاء جميعا له بالإنفاق وبدرجة علم اليقين إجماع أي إجماع"(1)
7- الأدلة الكلامية
استفاد النورسي من الخبرة الكلامية في سياق خدمة الحقائق الإيمانية القرآنية، وبهذا الصدد وظف الدليل الإني والدليل اللمّي، كما وظّف دليل التمانع ودليل الحدوث ودليل الإمكان…
7/1 دليل التمانع:
اقتبس النورسي هذا الدليل من الخبرة الكلامية، وقد دفع إلى توظيفه بسبب علاقته الجلية بالقرآن الكريم ، وخاصة من قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)(الأنبياء22)، وأورده بديع الزمان في سياق التأسيس الاستدلالي للتوحيد.
يقول رحمه الله معلّقا على الآية السابقة:" وما تضمنته الآية.. من برهان التمانع دليل كاف ومنار نيّر على أن الإستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للألوهية، ثم في هذه الآية رمز إلى دليل لطيف على التوحيد وهو: تعاون الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات - لتعيّش البشر والحيوان - ومشابهة آثار العالم وتعانق أطرافه وأخذ بعض يد بعض بتكميل بعض انتظام بعض، وتجاوب الجوانب وتلبية بعض لسؤال بعض، ونظر الكل إلى نقطة واحدة، وحركة الكل بالانتظام على محور نظام واحد، تلوّح بل تصرّح بأن صانع هذه الماكنة واحد وتتلو على كل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد(2)
__________
(1) الشعاعات 172-173
(2) إشارات الإعجاز 154(14/144)
يشارك النورسي علماء الكلام في تبني دليل التمانع، ويتميّز عنهم بجعله دليلا يقينيا، أي أنّه يخالفهم كل المخالفة في اعتباره دليلا ظنيا بسبب نقليته، ولهذا فالنورسي منسجم كل الانسجام مع جعل القرآن حجة يقينية وفق ما سبق بيانه ووفق الملاحظات المتعلّقة بالدلالات الظنية والقطعية للألفاظ القرآنية.
7/2 دليل الحدوث ودليل الإمكان:
تنوّعت آراء المتكلمين في تبني دليل الحدوث ودليل الإمكان، فالمتكلمون الخلّص اعتمدوا دليل الحدوث، واعتمد علماء الكلام المشتغلين بالفلسفة دليل الإمكان، وقد تبناهما النورسي معا، مما يدل على سعة إطلاعه وصدق توجهه نحو الحق في القول بصرف النظر عن القائل، فقد احتج بهما في سياق واحد.
فقد ورد عنه في سياق تقسيم الدليل الإني إلى إمكاني وحدوثي:
7/2/1 الدليل الإمكاني:
يستدل بتساوي الطرفين على المرجّح الذي أخرج أحدهما من طور التساوي إلى طور الأسبقية، فرجحان أحد المتساويين من جميع الوجوه على الآخر دليل على وجود المرجّح الذي أخرج أحدهما من التساوي إلى الرجحان، وقد استثمر هذا الدليل في دليلي الاختراع والعناية.
7/2/2 الدليل الحدوثي:
يستدل فيها بالتحول والتبدّل على الموجد، فما تبدّل ما تبدّل إلا بموجد نقله من طور سابق إلى مرحلة لاحقة، وهو الحجة المعتمدة لدى جل المتكلمين، واستثمر هذا النمط في دليلي العناية والاختراع.(1)
7/3 نماذج من الأدلة الكلامية في رسائل النور:
اقتصرنا في هذا السياق على بعض الأدلة الكلامية التي لها علاقة مباشرة بالموروث الاستدلالي، وركزنا في هذا السياق على إبطال الأفكار التالية:
أوجدته الطبيعة ، وتشكل بنفسه ، واقتضته الطبيعة.
7/3/1 إبطال فكرة "أوجدته الطبيعة "
__________
(1) إشارات الإعجاز 150، 155(14/145)
إسناد خلق الكون إلى الطبيعة بقولهم: "أوجدته الطبيعة"(1) ليست شيئا سوى إرجاع الخلق إلى اجتماع أسباب العالم، وقد أبطلها ببيان اشتمالها على محالات كثيرة، اجتزأ منها ثلاثة:
7/3/1/1 المحال الأول:
أورده في مقام بيان استحالة تشكل ترياق لوحده بمقاييس مدققة حيث يقول:"إن صاحب هذا الوهم (تصور إسناد خلق العالم إلى الطبيعة) هو أشقى أشقياء العالم، وأعظمهم حماقة، وأشد هذيانا من هذيان مخمور فاقد للوعي"، وأرجع ذلك إلى تصور " إمكان أن يوجد الترياق نفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها.. ما أشد ما يثيره جنون الكفر من سخرية واستهزاء.. وما أعظم ما يثيره حمقه من إشفاق ورثاء.."
7/3/1/2 المحال الثاني:
إن إسناد الخلق إلى الأسباب المادية ليس له معنى سوى أن يكون لأغلب عناصر العالم وأسبابه دخل وتأثير في وجود كل ذي حياة، والحال" إن اجتماع الأسباب المتضادة المتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وميزان خاص، وبإتقان كامل في جسم مخلوق صغير هو محال ظاهر إلى حد يرفضه من له عقل بقدر جناح ذبابة، ويرده قائلا هذا محال.. هذا باطل.. هذا غير ممكن.."
7/3/1/3 المحال الثالث:
__________
(1) موقف العقل/مصطفى صبري 2/345-346، ، 383-384، ، 394-396(14/146)
الموجود المنظم المنتظم المنسجم المتناسق في الشكل والمظهر والأدوار، لابد أن يكون صادرا عن مؤثر واحد(1)، لأنه "لا يمكن إسناد خلق النظام والانتظام إلى تلك الأسباب المادية العمياء الصماء الجامدة الجاهلة الغليظة البعيدة المتضادة.." (2)
7/3/2 إبطال فكرة "تشكل بنفسه":
ينطوي إسناد الخلق إلى التشكل الذاتي (بنفسه) على محالات كثيرة، اكتفى النورسي بذكر ثلاثة منها.
7/3/2/1 المحال الأول:
إن إسناد هذا العلم والشعور والعقل الذرة في جسمك خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء، لأنك أيها الإنسان موجود بلا شك وأنك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغيير.(3)
7/3/2/2 المحال الثاني:
إسناد خلق العالم إلى فكرة تشكل بنفسه لا يبعد عن إسناد خلق المصنوع المنظم الواحد المتناسق إلى جزئياته، وهو من أبعد المحال، إذ من المستحيل إسناد النظام إلى ذراته سواء كانت محددة أو غير محددة.. وحق له أن يختم مثل تلك السياقات، بما يبيّن رأيه بوضوح في مسألة إسناد النظام إلى القوى العمياء: "محال في محال.. يدرك ذلك كله من له مسكة عقل.." (4)
7/3/2/3 المحال الثالث:
__________
(1) العبارة موهمة لأنه يقصد الاستدلال بالنظام الواحد على وجود المنظّم الواحد ، بينما يستعملها اليونان لمعنى آخر غير هذا ولهذا كنا ومازلنا نحبّذ عدم استعماله ، واستعمال مصطلح أصفى في الدلالة المراد.
(2) أنظر اللمعات 275-282، وانظر توظيف ما يقرب من هذه المصطلحات عند شيخ الإسلام مصطفى صبري ، وخاصة في كتابه الموسوعي " موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"
(3) اللمعات 268-274، موقف العقل 2/345-346، وانظر منهج الاستدلال على وجود الله عند شيخ الإسلام مصطفى صبري 186-187
(4) اللمعات 274(14/147)
إن لم يكن وجودك قد حقق بإرادة الواحد الأحد وكنت مطبوعا بمطابع الطبيعة والأسباب،" فيلزم عندئذ وجود قوالب بعدد ألوف الألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك.. وحتى في هذه الحالة أفلا يلزم لصنع تلك القوالب قوالب أخرى بعددها لتصب وتسكب فيها إن لم يسند صنعها جميعا إلى الواحد الأحد.. ذلك لأنها مفتقرة إلى صانع يصنعها.. فافهم من هذا مدى سقم الفكر الذي يتضمن محالات بعدد ذرات جسمك.. فيا معطل عقله.. عد إلى عقلك وأنبذ هذه الضلالة المشينة".(1)
7/3/3 إبطال فكرة "اقتضته الطبيعة"
نسج في بيان بطلانه على منوال ما سبق تقريره، واقتصر في إثبات استحالتها إلى محالات ثلاثة.
7/3/3/1 المحال الأول:
يعتبر هذا النمط من التفكير أشد بطلانا من أي محال آخر، بل وأكثر خرافة منه. إن الذي يسند الصنعة الدقيقة الرائعة المتجلية حتى في أصغر مخلوق إلى الطبيعة الميتة، وخالقيتها الموهومة، يتردى بفكره هذا إلى أدرك دركات الحماقة التي يربأ الحيوان بنفسه عن الوقوع فيها".
7/3/3/2 المحال الثاني:
إن إسناد الخلق والإيجاد إلى الطبيعة معضل لا يقبله العقل بجميع المعايير المعرفية الموضوعية، لامتناع تصور العقل إسناد الخلق إلى كائنات لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، ولأن التسليم بخالقية واجب الوجود سبحانه وتعالى لها أيسر وأسهل من الناحية العقلية الموضوعية من أي تصور آخر، بل هي أوجب من غيرها لكل من له مسكة عقل.
7/3/3/3 المحال الثالث
يعد تعلق الطبيعيين بالطبيعة إن كان ولابد أنّها مالكة لوجود حقيقي خارجي فإن هذا "الوجود" إنما هو صنعة صانع وليس هو الصانع قط، ونقش ولا تكون نقاشا، ومجموعة أحكام من حاكم حكيم وليس هو الحاكم أبدا.. منفعلة وليس فاعلا.. مجموعة سنن وقوانين وليس قدرة ولا قادرا"(2)
7/4 استثمار الخبرة الكلامية
__________
(1) اللمعات 275
(2) اللمعات 275-289(بتصرف)(14/148)
يظهر الاستثمار الأمثل للخبرة الكلامية في المصطلحات المركزية الموظفة في إبطال إسناد الخلق إلى الطبيعة(بشتى أصنافه) تدور جميع تلك الأدلة على تنوعها على مصطلح المحال الذي كثيرا ما يختم به علماء الكلام المتقدمين والمعاصرين مطارحاتهم.
ويكاد يكون النورسي في هذا المقام ناسجا على وفق ما نقل عن العلامة مصطفى صبري، هذا إن لم يكن ناقلا عنه بشكل حرفي، إننا نجد عبارات تكاد تكون نفسها، وقد نجدها مكررة بأسلوب أو بآخر في كتاب الطبيعة، أنظر معي قول صبري:"استعاروا (في إسناد الخلق) اسما لا مسمى له وعزوها إليه اتكالا منهم على عدم مفهوميته لعدم موجوديته، ومعنى هذه الاستعارة وهذا العزو أنه لا فاعل لتلك الأفعال عندهم وأنها أفعال من غير فاعل.. إلى أن يقول (وهنا تظهر عبارة النورسي المقتبسة بشكل جلي) "فما معنى الطبيعة.. اسم بلا مسمى، استعاروه فرارا من إسناد الحادثات إلى المادة التي ليس من شأنها أن تحدثها"(1)
ولعل الشيخين قد نهلا من مشكاة واحدة، إلا أن الغالب على استثمارات النورسي الإتسام بالمسحة الروحية الظاهرة، المعبّر عنها في قالب تذكيري، جعل من القصة أداة رئيسة في بلوغ أهدافه الهدائية والإرشادية، وهو ما نفتقده في مؤلفات الشيخ مصطفى صبري.
8- الخبرة الصوفية
يركّز في أدبياته على التوجهات التربوية عند الصوفية، والمعبّر عنهم في المسلك الصوفي بأهل الكشف والحقيقة، لهذا سنركّز على بيان تلك المصطلحات وعلاقتها بالبحث الصوفي عند النورسي.
8/1 الصوفية والكشف
__________
(1) قارن بين اللمعات 26-274،موقف العقل و العلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين 2/345-346، وأنظر منهج الاستدلال على وجود الله عند شيخ الإسلام مصطفى صبري 186-187(14/149)
يلخّص النورسي المنهج الصوفي بوصفه " أحد الأصول للعروج إلى عرش الكمالات" معرفة الله" فيما يلي: "منهج مؤسس على تزكية النفس والسلوك الإشراقي"، وهو منهج وان كان متشبّعا بالقرآن الكريم إلا أن البشر قد أفرغاه في صور شتى… فأصبح منهجا طويلا، احتوى مشاكل أبعدته عن النقاوة من الشوائب والأوهام والشكوك"(1)
تبنى التزكية المبنية على الكشف بوصفه تجليا للحقائق في القلب الذي صفي بالله ولله، وقد أثنى النورسي على هذا النوع من المتصوفة وحاول التأسيس بأقوالهم لمعارف قلبية كثيرة منها قوله: "لقد اتفق العلماء المحققون وأهل الكشف على أن العدم شر محض.. والوجود خير محض.. (2)
8/2 /1 الكشف كمصدر للمعرفة
يبدو من الصيغ المنقولة عن النورسي الاعتداد بالمعرفة الكشفية، يتجلى هذا الحكم في التأسيس بأقوال أهل التصوف المبنية على الكشف في مجال المعارف الإيمانية، منها قوله فيما سبق بيانه: "لقد اتفق العلماء المحققون وأهل الكشف…، إذ لو لم يعتد بأقوالهم وينزلها منزلة سامية ما أوردها في مقام التأصيل والتأسيس للمعارف الإيمانية.
والنورسي في هذا السياق يشبه مذاهب الصوفية السنية، المتجلية في المشرب الأخلاقي، وخاصة حجة الإسلام الغزالي الطوسي (ت 505 هـ) الذي اعتبر الكشف (أو الإلهام) من أبرز مصادر المعرفة اليقينية بعد الوحي، إذ يعتبر عطاء ربانيا يفيض به الله تعالى على قلب الصوفي العارف إذا ما كان العارف يملك الاستعداد لهذا الكشف الوهبي… وهي معرفة مصحوبة ببرد اليقين… نور يغمر القلب فيتضح معه كل شيء"
ينكشف بالكشف كما قال الغزالي المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب"(3) بمعنى ينتج يقينا كاملا يؤسس به المعارف المخصوصة عند علماء الحقيقة من أهل الكشف.
8/2/2 نتائج الكشف
__________
(1) انظر المثنوي العربي 428
(2) اللمعات 113 وأنظر الكلمات 553
(3) نظرات في فكر الغزالي/ د/عامر النجار117 ، مطبعة دار الصفا القاهرة .(14/150)
يظهر أنّ مشمولات الكشف كما هو بيّن من مناهج الصوفية تنسحب على جميع ميادين النظر الإنساني، هذه الميادين التي تتجلى فيها الدلالة اليقينية القطعية على المثبت الإيماني المؤسس عقلا وشرعا بالقرآن الكريم.
تتأسس الكشوفات على الخلو بالنفس في زاوية، يقتصر فيها من العبادة على الفرائض والرواتب مع إفراغ القلب عما سوى الله ولله، مجموع الهم، مقبلا بفكرك على الله… مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن ينتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الحكمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده، ثم تصير مواظبا عليه، إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ… بها يبقى المعنى المجرد حاضرا في قلبك على اللزوم والدوام… انه رد الأمر فيه إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط. (1)
إن الرغبة في الكشف تقتضي تصفية القلب لله مع استدامتها بالفكر والذكر، ويلزم المؤمن فيها أن يرى طائعا أو على الأقل راغبا في الطاعة في كل حال، إلا أنها ليست استقالة من الحياة رغبة في نجاة الذات، بل هي رغبة في نجاه الذات بالتحرك الفاعل في الحياة، إنها سعي دائم فيها طمعا في مرضاة الله ، تنكشف بإتباع مراسيمه المغلقات وتذلل الصعوبات، لهذا فمن أهم نتائج الكشف العملية اتخاذ موقف واضح من الحياة الإنسانية بجميع مكوناتها، موقف يناصر التصورات الفطرية التي جاء بها النبي- صلى الله عليه وسلم - ، انه موقف يرفض الاستقالة من الفعل الحركي بدعوى انتظار الكشف.
9- المنحى التحليلي
__________
(1) نظرات في فكر الغزالي / عامر النجار 116(14/151)
يظهر هذا التحليل في مجموع مؤلفات النورسي، ويتجلى في الميادين النفسية والمعرفية والاجتماعية المختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر، تمثّل البعد الغائي من المكتوبات، وفي ذلك يقول مخاطبا أحد محاوريه: " تأمل في العلامات الفارقة الموجودة في وجه كل إنسان تلك العلامات التي تميزه عن كل واحد من أبناء جنسه، وأمعن النظر فيما أودع فيه - بحكمة دقيقة - من حواسّ ظاهرة ومشاعر باطنه.. ألا يثبت ذلك أن هذا الوجه الصغير آية ساطعة للأحدية؟
ويستمر في السياق نفسه مؤكدا للتحليل الشخصي "فيا أيها المنكر.. أتقدر أن تحيل هذه العلامات والأختام التي لا تقلد، أو أن تسند الآية الكبرى للأحد الصمد الساطعة في مجموعها… إلى غير بارئها"(1)
إنه بهذا الأسلوب يدعو العقلاء (على تنوع تخصصاتهم ومستوياتهم المعرفية) إلى التحليل و القراءة التحليلية للآيات الكونية الظاهرة والباطنة بغرض استثمارها في الذكر والتذكير وتوجيه العقلاء إلى التفكير.
9/1 التحليل الفلسفي
لا يخلو تحليله الشخصي سواء كان منقولا أو منتجا ذاتيا من القراءة الفلسفية، (رغم وصمه للمعرفة المستفادة وفق مسلك الفلاسفة بأوصاف تبين عدم رضاه بها) "إنها معرفة مشوبة بالشكوك والشبهات والأوهام"(2)
ورغم موقفه المنقول فقد استثمر التحليل الفلسفي في التأسيس للمعارف القرآنية، فقد استشهد بدليلي العناية والاختراع المستنبطين من القرآن الكريم وفق مسلك ابن رشد الحفيد.(3)
__________
(1) الكلمات 785، وأنظر أيضا 64،462،790
(2) المثنوي العربي 428
(3) مناهج الأدلة في عقائد الملة/ ابن رشد الحفيد150 ، تح وتق محمود قاسم الطبعة الثانية ، مكتبة الأنجلو المصرية 1964
تكاد تكون الصور الاستدلالية واحدة ، وكأنها منقولة من ابن رشد.(14/152)
يستفاد مما سبق تقريره أن الصلة بين النورسي وابن رشد الحفيد جلية واضحة لا نحتاج في إثباتها إلى كبير بحث واستقصاء، إذ تكاد تكون عباراتهما واحدة في التعبير عما حواه القرآن الكريم من الأدلة على إثبات واجب الوجود، لكن النورسي تميّز عن ابن رشد بالابتعاد عن الانتقاص من منهج الأشاعرة في إثبات وجود الله .
بل جاوز ذلك إلى استثمار بعض مصطلحاتهم حينا وآرائهم حينا آخر على خلاف ابن رشد الذي كرّس جهده للإتيان على مسلك الأشاعرة من الأساس.(1)
9/2 التحليل الكلامي
تمتزج في أدبيات النورسي التحليلات الفلسفية والكلامية، إذ يكاد يكون تحليله الفلسفي كلاميا، موافقا لمشرب المتكلمين الجامعين بين الحكمة والكلام، وخاصة لدى كثير من المحققين، كما تتجلى الخاصية نفسها عند العلامة مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ".
__________
(1) قدّم الأستاذ الدكتور محمود قاسم لكتاب "المناهج" لم يكن له من همّ فيه سوى الحط من المذهب الكلامي الأشعري ، والكتاب مثال رائع في القراءة الإقصائية لخبرتنا المعرفية، قراءة تبنى أساسا على ضرورة إلغاء الآخر بهدف إثبات الذات المذهبية.(14/153)
وتبدو الملاحظة المشار إليها في كتابه الموسوم بالمثنوي العربي، وخاصة في مبحث حقيقة التوحيد الذي يلوح منه التحليل الكلامي المفلسف، حيث يقول: " البرهان الثاني: وهو كتاب الكون. نعم، إن حروف هذا الكتاب ونقاطه فردا فردا أو مجموعة، يتلو كل بلسانه الخاص (وان من شيء إلا يسبح بحمده)( الإسراء44) ويبيّن وجود الخالق العظيم وحدانيته.. فكل ذرة في الكون تشهد شهادة صادقة على وجوب وجود الخالق الحكيم جل جلاله. فبينما تراها تتردّد بين إمكانات واحتمالات غير متناهية، في صفاتها وذاتها وأحوالها ووجودها، اذا بها تنتعش وتسلك طريقاً معيناً، وتتصف بصفة معينة، وتتكيف بحالة منتظمة، وتسير وفق قانون مسدّد، وتتوجه إلى قصد معين." (1)
9/3 التحليل اللغوي:
اعتمد التحليل اللغوي في الاستدلال على حجية القرآن الكريم، يبيّن ذلك قوله بصدد الحديث عن حجيته: " فقد أظهر بلاغة منذ العصور القديمة إلى زماننا، حتى أنه حط من قيمة المعلقات المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، وقد ورد عنه في نفس السياق"وكذا عندما سمع أعرابي أديب الآية (فأصدع بما تؤمر) خرّ ساجدا ، فقيل له: أأسلمت؟ قال: لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية"
وقد احتج في هذا المقام باتفاق آلاف من أئمة البلاغة وفحول الأدب، أمثال: عبد القاهر الجر جاني، والسكاكي، والزمخشري، على بلاغته التي لا تضاهى " إن بلاغة القرآن فوق طاقة البشر لا يمكن أن يدرك"
ويستمر في التحليل اللغوي ليبيّن من خلاله عجز البلغاء العنيدين تاركين السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة وإتيان سورة من مثله، سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والأموال، مما يثبت اختيارهم هذا، انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة..
__________
(1) المثنوي العربي 422(14/154)
وهكذا دواليك إلى أن يقول: " ففي متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس أسلوبه وتقليده أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب، ويكتب، مع التقدم والرقي في الأسلوب الناشئ من تلاحق الأفكار لا يمكن أن يضاهي أو يداني أي منها أسلوب القرآن"
ويجاوز ذلك إلى بيان إدراك الرجل العامي لفضله وغلبته، إذ لو استمع لما يتلى منه لأضطر إلى القول: إن هذا القرآن لا يشبه أيا من هذه الكتب، وليس في مرتبتها"
يخلص بعد تلك الرحلة العلمية للمرافعة عن القرآن الكريم إلى نتيجة مقررة متجددة مفادها أنّه: " لن يستطيع إنسان كائنا من كان، ولا كافر، ولا أحمق أن يقول : إنّ بلاغته أسفل الجميع، فلا بد إذا أن مرتبة بلاغته فوق الجميع "(1)
9/4 التحليل النفسي :
يجعل من التحليل النفسي أداة مركزية في بلوغ غاياته الهدائية المستفادة من القصة الاجتماعية في دلالتها المتنوعة، وتظهر هذه الأحكام المقررة من نماذجه التذكيرية.
يبيّن ذلك قوله: "فيا نفسي المغرورة (والخطاب موجه إليه وإلى غيره) اعلمي: أنك أنت ذلك السائح البدوي، وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء، وأن فقرك وعجزك لا حد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لانهاية لهما، وما دام الأمر هكذا، فتقلدي اسم المالك الحقيقي والحاكم الأبدي لهذه الصحراء، لتنجي من ذل التسوّل أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات"(2)
تعد اختيارات النورسي في التعبير عن التحليل النفسي أمثل أسلوب نظرا لقدرته على للتغلغل في دواخل النفس، وذلك من خلال جعل المتكلم نفسه مجال التذكير والميدان المطالب بالتغيير، وهذا ليتسنى للخطاب أن يؤتي أكله في قلوب السامعين أو المذكّرين من خلال تذكير الذات بالدرجة نفسها التي تؤثر في المبلّغ.
__________
(1) الكلمات 519، وانظر التفاصيل 422-540، و جماع ذلك في كتابه إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز.
(2) الكلمات 6(14/155)
ويتجلى هذا الهدف النبيل في كثير من سياقات البحوث النورية ذات الصبغة التذكيرية، بل تكاد هذه الميزة سمة عامة لمؤلفاته(1)، وقد وردت هذه الميزة في كثير من المواضع، مما يدل على رغبته الملحّة في الولوج إلى أعماق النفس "يا نفسي: لا تقولي أبدا بأن الزمان قد تغيّر، وأن العصر قد تبدّل ، وأن الناس قد انغمسوا في الدنيا وافتتنوا بحياتها، فهم سكارى بهموم العيش.. ذلك لأن الموت لا يتغيّر، وأن الفراق لا ينقلب إلى البقاء فلا يتغيّر أيضا، وأن العجز الإنساني والفقر البشري هما أيضا لا يتغيران بل يزدادان، وأنّ رحلة البشرية لا تنقطع.. ذلك لأن كل واحد من الناس لن يصحبك إلا على عتبة القبر.. لا غير".(2)
ويقر بالحقيقة نفسها في مواضع غير قليلة من كتبه منها قوله مخاطبا نفسه: " يا نفسي! هذا الوجود الذي سكنته ما هو صنعتُك حتى تتملك وما هو لقيطةٌ التقطتها، حتى يُتَمَلَّك. وما هو نتيجة تصادفٍ أعمى واتفاقية عوراء وأسباب جامدة حتى يُقتطف ويُتملك. وليس شيئاً رخيصاً بلا أهمية تافهاً سدىً اعرض عنه مالكهُ حتى تأخذَه وتتملَّكه، بل هذا الوجود بعجائب صنعته وغرائب نقشه يدل على انه خرج من يدِ صانعٍ حكيم، مهيمن عليه دائماً…"(3)
9/5 التحليل السنني:
اخترنا مصطلح السنن للتعبيرعن حقيقة معرفية تعبرعن موقف عقدي من خالقية الكون لله تعالى، فهو بمثابة فكرة معبّرة عن الرؤية التوحيدية للعالم، وهي بديل عن مصطلح الطبيعة الذي يحمل بين طيا ته موقفا عقديا لا ينسجم مع التصور التوحيدي للكون ونشأته، يتجلى هذا الاختيار العقدي في أدبيات العلامة النورسي كما يتجلى أيضا وبشكل أوضح عند شيخ الإسلام مصطفى صبري.
__________
(1) أنظر الكلمات 22
(2) الكلمات 193
(3) المثنوي العربي 126، وأنظر 223،262(14/156)
يحمل المصطلحان (الطبيعة والسنن) معنى واحدا لا يخرج عن فكرة النظام في آخر تحليل لهما، ولكنهما يفترقان من حيث الخلفية العقدية والفكرية لكل منهما، فالطبيعة كما بيناه آنفا عندهما (النورسي، وصبري) اسم لا مسمى له، على خلاف ما يدل عليه لفظ السنن الوارد في كتاب الله، والتي تدل في حقيقة أمرها على تقيّدها بنظام مسبق يؤسس للثبات في السنن الكونية سواء تعلقت بما حول الإنسان من نبات وحيوان وأفلاك أو تعلقت بالفعل الإنساني بجميع مكوناته النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية .. بل تجاوز ذلك فتنسحب على سنن الأداء الحضاري للأمم سواء في منحناه المتصاعد أو المتنازل.
قال النورسي مؤكدا للمعنى الذي أشرنا إليه: " فكما أن الشريعة الأولى عبارة عن قوانين معقولة، فان الشريعة الثانية أيضا عبارة عن مجموع القوانين الاعتبارية، والتي تسمى- خطأ - بالطبيعة فهذه القوانين لا تملك التأثير الحقيقي ولا الإيجاد، اللذين هما من خواص القدرة الإلهية"(1).
ويُرى (بضم الياء) اهتمامه بالتحليل السنني حين الحديث عن شهادات الموجودات من جهة دلالة ترتيبها السنني على وجود الله، فقد ذكر تحت عنوان الآية الكبرى شهادات كثير من خلقه منها السماء وجو السماء، وكرة الأرض، والبحار والأنهار، والأشجار والنبات، والطيور والحيوانات، و..(2)
الفصل السادس
طبيعة الإثبات
يعد الفصل السادس زبدة هذا البحث، إذ يعتبر معبّرا عن الخلفية النظرية للتأسيس للحقائق الإيمانية المستنبطة من القرآن الكريم، فالجزء الأول يتناول بيان طبيعة الإثبات الذي يستنبط منه عقلية الرجل في التعامل مع موضوع العقائد من جهة ومنهج التعامل معها استنباطا وتأسيسا وتوظيفا، أما الجزء الثاني فيتناول الخصائص الرئيسة لطبيعة الإثبات المبيّنة في الجزء الأول.
__________
(1) المثنوي العربي 426
(2) الشعاعات 139-223 سيرة ذاتية 238 268 380: 428(14/157)
يتناول هذا القسم وفق ما سبق تقريره عنصرين أساسيين:
أحدهما: نبيّن من خلاله طبيعة الإثبات.
الثاني: مميزات المنهج
1- ميدان إثبات العقائد
حدّد النورسي ميدان الإثبات بشكل جلي لخّصه في قوله: "إثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم إثباتا مدعما بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة"(1)، ويؤكد هذا المعنى في نص آخر عنه: "رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيّم له وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي ورشحة من رشحات ذلك البحر العظيم، كما أنّه شعاع من تلك الشمس وحقيقة ملهمة من كنز العلم وترجمة معنوية نابعة من فيوضا ته.." (2)
يؤكّد العنوان المنقول عنه محورية فكرة الإثبات موضوعا ومنهجا، إلا أنّ هذا المتداول بشكل ملفت في أدبياته لا يفسّر الغموض المتضمن في العنوان.
فهل كانت رسائل النور مبرهنة على العقائد الإيمانية فقط؟ أم أنها كانت أوسع من ذلك؟
إن الدراسة التحليلية لمحتوى الرسائل يدل بنفسه من غير تكلّف بحث أن النورسي يستعمل مصطلح العقائد الإيمانية بما هو أوسع من استعمالات المتكلمين والفلاسفة، فنراه يضم إليها (العقائد) مباحث تعبدية فقهية مركّزا في بيانها على الجوانب الوظيفية، كما نراه يلحق بها مباحث تربوية هي أقرب إلى البحث الصوفي منها إلى البحث العقدي…(3)
__________
(1) الشعاعات 562
(2) الملاحق 220، وأنظر 307،و سيرة ذاتية 238 268 380: 428
(3) وهو بهذا يبيّن التوافق الكلي بين تلك الأهداف في خدمة الغاية الوظيفية من الرسالة الإسلامية، بحيث إذا تعطّل في الإسلام البعد الوظيفي من العبادة وإن كانت شخصية قد يتعطّل الثواب المرجو منها أو جزء منها على الأقل مصداقا لقول الله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)( العنكبوت 45)، ويبيّنه قول النبي ("فيما رواه ابن عباس مرفوعا (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا"
الصلاة(عبادة شخصية عينية)-------بعدها الاجتماعي(النهي عن الفحشاء والمنكر)
إذا تعطّل بعدها الاجتماعي --------تعطّل الهدف المرجو منها(زادته من الله بعدا)
أما سائر العبادات ذات المحتوى الاجتماعي الظاهر فالحديث عن بيانها من نافلة القول (الزكاة ،الصوم، ..) ونحن نذهب إلى أوسع ، فنعتبر شهادة التوحيد(لا إله إلا الله محمد رسول الله) نفسها غنية بالمعاني الاجتماعية ، إذ من سلّم بها يعلم علم يقين أن المال مال الله والعباد عيال الله وبالتالي لابد أن ينفق من مال الله على عباده ..ويجاوزه إلى إثبات صلة رحم إنسانية بتلك الشهادة ، إذ مقتضاها أن لا مميّز بالسيادة على البشر لغير الله فالفضل له وحده وهذا يقتضي أن ينظر إلى بني الإنسان نظرة واحدة أساسها التكريم الإلهي فلا تمييز بالمناصب أو الألوان أو الأنساب أو..(14/158)
، هذا من جهة الموضوع أما من جهة صلتها بالأدلة النقلية والعقلية فسنفرد لها مباحث خاصة.
1/2 صلته بالحجج النقلية :
تعتبر رسائل النور محاولة لتفسير القرآن الكريم تفسيرا عصريا، وقد عبّر شيخنا عن هذه الفكرة (في سيرته الذاتية ) حيث قال مستفسرا ومجيبا، وإذا قيل: كيف تعد رسائل النور تفسيرا للقرآن الكريم مع أنها لاتشبه التفسير المتداولة؟
فالجواب: التفسير نوعان
الأول: هو تفسير اللفظ والعبارة والجملة في الآية الكريمة.
والآخر: إثبات الحقائق الإيمانية للقرآن… وقد ثبت بشهادة ألوف من العلماء المحققين أن رسالة النور هي من هذا القسم من التفاسير، بل من أثمنه وأسطعه وأكمله وأكثره قيمة"(1)
استعمل الحجة القرآنية في مقام التأسيس للعقائد والعبادات(2)، فأصّل بالقرآن لمباحث العقيدة كلها فلم يفرق بين مباحث وأخرى، اعتمده في الاستدلال على الإلهيات كما وظّفه في النبوات والسمعيات بل وجاوزه إلى استنطاق الآيات باستخراج أسرار العبادات.(3)
1/3 صلته بالحجج العقلية
نلاحظ عدم خلو جميع صفحات مؤلفاته من البحث العقلي الوظيفي، يمتزج فيه الاهتمام الكلامي بالاهتمام الفلسفي الممزوج أحيانا بالبحث السنني بوصفه أصفى الأدلة وأيسرها فهما، إن المتفحص لمعجم المصطلحات العقلية المستنبطة من مكتوبا ته يدرك بجلاء درجة الاهتمام بالحجج العقلية في جهده التأسيسي.
__________
(1) أنظر سيرة ذاتية 427-428، وأنظر الشعاعات 562
(2) أنظر المباحث السابقة، وخاصة المباحث المتعلّقة بالفقه.
(3) أنظر المكتوبات 513-521، إشارات الإعجاز 52-56، صيقل الإسلام 56(14/159)
انظر معنا إلى المحتوى العقلي الظاهر لعينة من ا لمصطلحات التي يكثر من استعمالها: دليل الصنعة، ودلالة الفطرة، وبرهان الحياة، وبرهان الموت، والوجوب والإمكان، ودليل التمانع، ودليل منح الحياة، النظام، وبرهان الشعور ودليل التساند والتعاون..(1)
2- مميزات المنهج:
يتميّز منهج الإثبات النوري بمجموعة من الميزات تعبّر بمجموعها عن الغاية الرئيسة من مؤلفاته، إذ يتجلى فيها التركيز على الغاية الوظيفية من التديّن بالإسلام، وكأنّه يجلي لنا فكرة أن الإسلام ليس كلاما يلاك ثم يرمى، بل هو رسالة إنسانية تستدعي منا العيش بها وفيها لتسنى تبليغها، وتحقيق ذلك فرض على المبلغين تمثّل مبادئه من جهة والإحاطة بالجو الذي تريد أن تكون فيها فاعلة ومتفاعلة، من هذا المنطلق سنطرق النقاط الآتية:
2/1 الجمع بين الأصالة والمعاصرة
ناظر النورسي عن القرآن الكريم وعقائده الإيمانية في جو مشحون بمخاصمة الدين الإسلامي في عقائده وعباداته، جو يظهر فيه أثر الآخر جليا واضحا في كل شؤون حياتنا، فترى آثاره في ميادين الفكر والتربية والحضارة والسياسة.
__________
(1) أنظر الكلمات 735،844،846،المكتوبات 602،603، إشارات الإعجاز48، 50،150،154،188، المثنوي العربي 72، 123، 279، 303، 321، 325، 428، 429 صيقل الإسلام 24،31،32،46،47،50-52،71،89،119، 123، 124، 129،133،134،140،150،344،407،430،446،492،493، 495، 532، 534(14/160)
يستدعي العمل الفكري التذكيري في مثل هذا الجو الحيطة والحذر بمعنييه الفكري والنفسي، إذ يكون المنافح عن الدين ملزما بمراعاة عقليات ونفسيات المخاطبين الجدد، إن الاهتمام بعقليات المخاطبين في ضوء الإكراهات الواقعية المسلطة عليهم في ميادين الفكر والاجتماع دليل واضح على المعاصرة التي تقتضي في المفهوم الإسلامي الاستفادة من منتجات الآخر بوصفها عوامل لا هوية لها، أما إذا كانت مؤثرة تأثيرا سلبيا في أصالة الأمة فيجب الابتعاد عنها أو إعادة صياغتها بما يخدم الذات الحقيقية للأمة.
لعل من أبرز ما يؤكد حكمنا قولته المشهورة:
"ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل الفنون المدنية - العلوم الكونية الحديثة - فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك " (1)
قال النورسي:" إن ما أنجزته هذه المدنية ( الغربية ) الحاضرة من الخوارق نعم ربانية تستدعي شكرا خالصا من الإنسان على ما أنعم عليه، وتقتضي منه كذلك استخداما ملائما لها لفائدة البشرية ومنفعتهم…ويستمر في السياق نفسه مبينا ما ذهب إليه بمثال حي تتجلى فيه فكرة وجوب إخضاع منتجات العصر إلى أصالة الأمة: الراديو نعمة إلهية عظيمة على البشرية ، فبينما تقتضي منا شكرا معنويا عليها- وذلك باستخدامها لصالح البشرية كافة- نرى أربعة أخماس استعمالاتها تصرف في إثارة الأهواء النفسانية، والى أمور تافهة لا تعني الإنسان في شيء.."(2)
2/2 الجهد النقدي
يتأكد المنحى النقدي في فكر النورسي من خلال ما أثبتناه من نصوص حاولنا استنطاقها بغرض توضيح موقفه من الخبرة المعرفية والتربوية والفلسفية الإسلامية، لهذا لست ملزما موضوعيا بإعادة كتابة ما سبقت الإشارة إليه لهذا سنكتفي في هذه العجالة ببيان موقفه من الفلسفة الغربية والمدنية الغربية.
__________
(1) صيقل الإسلام 428
(2) سيرة ذاتية 339(14/161)
ولكن قبل ذلك لابد من بيان أهم سمات المنهج النقدي عند النورسي. لم يمارس النورسي النقد من أجل النقد بل كان ديدنه في كل ذلك التفتيش عن كل ما من شأنه أن يكون حجّة إضافية للمسألة التي رافع عنها (حقائق الإيمان)، لهذا يمكن أن نقول دون أدنى شك أنّ جهده النقدي كان عملا انتخابيا لا يرفض أفكار المتقدمين رفضا كليا ولا يقبلها برمتها، بل يعمل فيها عقله مميزا ما يفيده عما لا يفيده في مرافعته عن الحقائق الإيمانية.
يتميز جهده الفكري برفض البداية الصفرية من جهة و الاستثمار الانتخابي للخبرة المعرفية الإسلامية (وقد بينا ذلك حين الحديث عن موقفه من الخبرة المعرفية والتربوية الإسلامية) من جهة أخرى.
ذكر في سياق بيان تفوق تلميذ القرآن على تلميذ الفلسفة فقال:"إن تلميذ الفلسفة يفرّ من أخيه آثرة لنفسه، ويقيم الدعوى عليه، أما تلميذ القرآن فانه يرى جميع عباد الله الصالحين - في الأرض والسماوات - إخوانا لهم.."(1)
وورد عنه في مقام نقد الغربيين: " فيا أسفي، ويا ويل لمن ضلّ بطواغيت الأجانب وعلومهم المادية الطبيعية، ويا خسارة أولئك الذين يقلّدونهم تقليدا أعمى، ويتبعونهم شبرا بشبر وذراعا بذراع"(2).
2/3 التركيز على البعد الوظيفي
رسالة الإسلام التي تعتبر حقائق الإيمان محورها ومحرّكها الأساس ذات وظيفة تربوية (بأبعاد متنوعة تنسحب على جميع ميادين الفعل الإنساني) محددة من حيث غايتها الكبرى (عبادة الله)، لهذا كانت ومازالت عنصرا جوهريا في التشريع بوجه عام، فما من شأن من شؤون حياة المسلم إلا وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بتلك الحقائق الإيمانية.
__________
(1) اللمعات 182
(2) اللمعات 184، أنظر المثنوي العربي 272(14/162)
قال النورسي:" إن غاية العبادة امتثال أمر الله ونيل رضاه، فالدّاعي إلى العبادة هو الأمر الإلهي ونتيجتها نيل رضاه سبحانه ، أما ثمراتها وفوائدها فهي أخروية، إلا أنّه لا تنافي في العبادة إذا منحت ثمرات تعود فائدتها إلى الدنيا" (1)
ويشير في سياق آخر إلى البعد الوظيفي المرتجى من العبادة التي تعلّق مباشر بحياة المسلم إذا أداها على الوجه الشرعي الأكمل "ما أخف أداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها أمام عظم فوائدها ونتائجها وثمراتها و ضرورتها "(2)
ويزيد المسألة وضوحا فيقول "إن القرآن الكريم قد بدّل الحياة الاجتماعية تبديلا هائلا نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلابا عظيما سواء في نفوس البشر وفي قلوبهم، أو في أرواحهم وفي عقولهم، أو في حياتهم الشخصية و الاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره.."(3)
ويمكن أن نؤكد مسحة البعد الوظيفي على جميع أعماله في جوانب عدّة نجتزئ منها التركيز على الأبعاد الشخصية ونثنّي عليها بالبعد النفسي، ثم البعد الاجتماعي لننتقل بعدها إلى البعد الاقتصادي ، ونختم النقطة الرابعة بالبعد الثقافي والفكري.
2/3/1 الأبعاد الفردية الشخصية:
يعتبر الاهتمام بالبعد الوظيفي سمة عامة في مؤلفاته، لهذا لا تخل صفحة من صفحات كتبه من الاهتمام بالبعد الفردي والشخصي، وسرد ذلك تفصيلا يقتضي انجاز عمل مستقل أوسع وهو مالا تسعفنا في إنجازه طبيعة الدراسة، لهذا اكتفينا ببعضها على أمل العودة إلى الموضوع بالتفصيل في لاحق الأيام (إن شاء الله).
ورد عنه تحليل رائع للصوم(4) يستشف منه الاهتمام بالبعد الوظيفي الفردي المتوخى منه، و في ذلك ورد عنه: إن أتى المؤمن بالصيام وفق ما هو مطلوب شرعا، بمعنى من أراد الاستفادة من الثمار المرجوة يجب أن يأتمر بأمر الله وينتهي عما نهاه.
__________
(1) اللمعات 199
(2) الكلمات 30
(3) الكلمات 518
(4) المكتوبات 513-521(14/163)
شرع الله الصوم ليسمو الناس على المشاغل الحيوانية السافلة، فالكمال في ذلك الصوم:
جعل جميع حواس الإنسان كالعين والأذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة، بمعنى تجنيب الجميع المحرمات والسفاهات ومالا يعنيها من أمور، وسوقها إلى العبودية الخالصة.
يروّض الإنسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية.
يرطّب اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه بحمده والصلوات والسلام على الرسول والاستغفار…
يغضّ بصره عن المحرمات، ويسدّ أذنيه عن الكلام البذيء، ويدفع عينه إلى النظر بعبرة وأذنه إلى سماع كلام الحق والقرآن الكريم، وبذلك يجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.
المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جدا إن عطّلت أعمالها بالصيام فإن تعطيل المعامل الصغيرة الأخرى يكون سهلا ميسورا.
2/3/2 البعد النفسي
يتوخى النورسي تحقيق البعد النفسي في مجموع جهوده، ولعله أهم ما يركّز عليه من الأبعاد. وللبعد النفسي من الناحية الموضوعية في جهوده عدّة مضامين، أبرزها العمل على تغيير الذات ورفض السلبية والرجاء في الله سبحانه وتعالى.
تهدف الحقائق الإيمانية إلى تغيير الإنسان بوصفه موضوع التغيير أولا ووسيلته ثانيا، لهذا تتلخّص غايتها في تغيير نفس المؤمن وفق مراد الله، ثم السعي إلى تغيير ما حول الإنسان من مجتمعات إنسانية أو حيوانية أو غيرها بما يستجيب لما تمثّله من مبادئ في تغيير نفسه.
جعل النورسي هذا الهدف محدده في مجموع مؤلفاته، إذ يكاد أن يكون كلمة السّر في كثير من كتبه، أنظر كتابه الكلمات مثلا، فتراه يشير إلى ذلك المعنى في كثير من صفحاته.(14/164)
* يشير المضمون القرآني إلى وجوب رفض السلبية باتخاذ مواقف صريحة من أحداث العصر، إذ يعتبر بحق معبّرا عن المضمون الإيجابي للتقوى، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177) ، وقد تمثّل الأستاذ النورسي هذه الغاية وتحرّك في فلكها، و يتجسّد هذا الالتزام في كثير من مؤلفاته، ويؤكد هذه المعاني مجموع ما في تعريف بشخصيته، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه الأستاذ حمزة المكسي وترجمه إلى العربية الأستاذ طاهر الشوشي، وما كتبه الأستاذ إحسان قاسم الصالحي تمهيدا لمجموع كتب النورسي المترجمة إلى العربية(1).
تتقرر مجمل الفكرة الآنفة بما ذكره أستاذنا في بيان أهمية صيام رمضان في قصم فرعونية النفس البشرية، حيث يقول: "صيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس، فيكسر شوكتها مظهرا لها عجزها وضعفها وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.. ذلك أن النفس لا تريد أن تعرف ربها ، بل تريد أن تدّعي الربوبية بفرعونية طاغية.. فدواؤها المركزي الصوم"(2)
2/ 3/3 البعد الاجتماعي
__________
(1) قام الأستاذ إحسان قاسم الصالحي بجهد جبّار في خدمة رسائل النور، فقد أفرغ لها وقته و أخلص لها جهده حتى ظهرت مكتملة شكلا ومضمونا، بل جاوزها إلى العمل على التعريف بها في العالم العربي، وقد وفّق إلى ذلك توفيقا كبيرا .
و قد استفدنا من مجموع مقدماته لتلك الكتب المشار إليها أعلاه.
(2) المكتوبات 521 ( بتصرف)(14/165)
لا تريد الحقائق الإيمانية التأسيس لإيمان فردي شخصي لا صلة له بغيره من الناس، لأن الإيمان في القرآن الكريم وسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - ليس قضية فردية بمعناها السلبي، بل هي قضية شخصية بمضمون اجتماعي إذا تعطّل ترتّب عليه تعطّل الأجر والثواب أو بعضه على الأقل، تتجلى هذه الفكرة في العبادات الفردية العينية بشكل واضح، أما في العبادات ذات المضمون الاجتماعي فالأمر أوضح من أن يوضّح، مثل الزكاة، والصدقات، والتركات، وأبواب الخير كلها..
يبيّن الفكرة الآنفة الذكر في العبادات العينية الفردية الصلاة التي قال فيها المولى سبحانه وتعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (العنكبوت45)، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"(1)
يتبيّن من الآية والحديث أن الصلاة وان كانت عبادة فردية فان لها أبعادا اجتماعية ظاهرة، والتي بتعطّلها قد يتعطّل الأجر المرجو منها.
يؤكد إسباغ جهد النورسي بالاهتمام بالبعد الاجتماعي تصريحه الذي ذكره في ثنايا حديثه عن الصوم: إن حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة إلى الحياة الاجتماعية للإنسان هي أن الناس قد خلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الأغنياء لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء، ولا جرم أن الأغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعورا كاملا حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا إحساسا تاما بجوعهم، إلا من خلال الجوع المتولد من الصوم.. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس هي إحدى الأسس الباعثة على الشكر الحقيقي.."(2).
2/3/4 البعد الاقتصادي
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (الزهد) عن ابن مسعود موقوفا، ورواه ابن جرير عنه مرفوعا.
(2) المكتوبات 515(14/166)
يعتبر صاحبنا الاقتصاد من أهم الأبعاد الوظيفية للحقائق الإيمانية، إذ جعله اللفظ المركزي في رسالة الاقتصاد، منها العناوين الفرعية التالية:الاقتصاد شكر معنوي، الاقتصاد انسجام مع الحكمة الإلهية، الاقتصاد سبب العزة، الاقتصاد سبب البركة واللذة، الاقتصاد لا علاقة له بالخسّة، القناعة كنز لا يفنى ..
قال النورسي: "الاقتصاد الذي هو من الأخلاق النبوية السامية بل من هو من المحاور التي يدور عليها نظام الحكمة الإلهية المهيمن على الكون لا علاقة له أبدا بالخسّة التي هي مزيج من السفالة والبخل والجشع والحرص، بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعا…"(1)
وورد عنه أيضا: إن المقتصد لا يعاني من غائلة العائلة كما هو مفهوم الحديث الشريف "لا يعول من اقتصد" (2) أجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يحصرها العدّ بأن الاقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، أساس متين للعيش الأفضل أذكر منها رأيته في نفسي…"(3)
وذكر في ثنايا بيان البعد الاقتصادي المستفاد من حقائق الإيمان حكمة نورانية تستحق الكتابة بماء الذهب لدلالاتها العميقة وتأثيرها السحري في كل من ألقى السمع بشرط أن يكون متحررا من جميع المكبلات الفكرية، إنها الكلمة التي صدرت من مشكاة أهل التقوى والصلاح، إنها كلمة الإمام أبي حنيفة النعمان - رضي الله عنه - "لا إسراف في الخير ولا خير في الإسراف "(4) والكلمة موصولة بقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بالعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"(5)
2/3/5 البعد الثقافي والفكري
يؤسس جهده التذكيري الاستدلالي للبعد الثقافي والفكري من زاويتين:
إحداهما تبيّن الجانب الإنشائي البنائي من حقائق التوحيد.
__________
(1) اللمعات 219
(2) ما عال من اقتصد) رواه احمد عن ابن مسعود (كشف الخفاء، 2/189) وانظر 1/158 ايضاً.
(3) اللمعات 215
(4) اللمعات 220
(5) أخرجه مسلم عن أبي هريرة(14/167)
وثانيهما يؤصل للجانب الهدمي النقدي في المطارحات الفكرية، هذا من جهة المسألة الاستدلالية من حيث هي، أما من حيث متعلقاتها فإنها تكسب من دخل رحابها بعقل حر ونفس متحررة رؤية ثقافية تجعل من الهم الوظيفي أمرا أساسيا في الأداء الفكري والاجتماعي و..
وتتأكد نتائجنا بالقراءة المعرفية التحليلية لمجموع استدلالاته أولا، وبيان تأثيرها في صياغة عقلية المسلم ثانيا، واكتشاف أهميتها في الإرشاد إلى الوحدة الثقافية للمسلمين الصادقين (أولئك الذين يحرّكهم الهم الحضاري لا الهم الجزئي) ثالثا.
2/3/5/1 أولا: الجانب البنائي ( الإنشائي)
ركّز النورسي على التأسيس العلمي لحقائق الإيمان مقتفيا في ذلك حجج القرآن الكريم ومستثمرا خبرات أسلافه.. ودافع عن فكرة الأساس العلمي للمعارف الإيمانية دفاعا يشكر عليه ويحفظ له يوم القيامة، توخى من خلاله الوضوح والبساطة مع المحافظة على ميزة العلمية، فكان جهده في غاية البساطة من حيث عباراته، وفي أقصى درجات الدقّة من حيث صياغته، وهو جهد يرسّخ في عقل السامع أن حقائق الإيمان في غاية الوضوح وفي أعلى رتب الحجيّة، مما يزيد في اعتزاز المؤمن بدينه من جهة ويدعو إلى مزيد من الاحتجاج الإبداعي لحقائق الإيمان من جهة أخرى.
2/3/5/2 ثانيا: الجانب الهدمي ( النقدي )
يرسّخ البحث العقدي وفق مسلك النورسي في جانبه النقدي، الدعوة الصريحة إلى ضرورة استصحاب النزعة النقدية أثناء قراءة كل مجهود فكري بشري، وخاصة تلك الجهود التي يراد بها تقويض أركان الإيمان، ترى هذه الصبغة في كل صفحة من صفحات مؤلفاته، ولعلها أكثر ظهورا في اللمعة الثالثة والعشرون الموسومة "رسالة الطبيعة"(1)، كما تظهر أيضا بنفس المستوى أو قريبة منه في حديثه عن " حقائق التوحيد" في كثير من مؤلفاته(2)…
2/3/5/3 ثالثا: الوحدة الثقافية بين المسلمين
__________
(1) اللمعات 265-298
(2) أنظر مثلا المثنوي العربي 38-172(14/168)
جعل النورسي من القرآن الكريم نبراسه وهاديه ومصدره الأول والأخير في التأسيس للمعارف الإيمانية اليقينية القطعية التي جعلها حاكمة على المنتج الفكري البشري في مجمل مجالاته.
يعد الاهتمام بالقرآن الكريم من الناحية التأصيلية بعده الثقافي الظاهر، إذ يمثّل دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، لهذا كانت الدعوة إلى استنطاقه معرفيا دعوة إلى الرجوع إليه، مما يمكّن للوحدة الفعلية بعد هذه الوحدة النظرية (خاصة في جو كثر فيه التشكيك في الحقائق الإيمانية المستنبطة من القرآن الكريم).
إن لهذا الاختيار الحضاري ما يبرره من الناحية الموضوعية الصرف، فهذا الكتاب بالإضافة إلى يقينية مصدره (الله)، فهو كتاب رحمة حقيقة، قال النورسي:"أنظر إلى درجة رحمة القرآن الواسعة وشفقته العظيمة على جمهور العوام ومراعاته لبساطة أفكارهم ونظرهم غير الثاقب إلى أمور دقيقة، أنظر كيف يكرر ويكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السماوات والأرض، فيقرئهم الحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة" (1).
الخاتمة
انتهى بنا المطاف بعد جولة علمية هادئة وهادفة في بعض مؤلفات النورسي إلى خلاصة العمل المنجز، فقد تبيّن لنا مما عرضناه أننا أمام شخصية علمية عملاقة، امتزجت فيها عناصر الأصالة ممثّلة في الروح القرآنية المهيمنة على فكره وقلبه من جهة والمعاصرة ممثّلة في الاستفادة من الخبرات الثقافية من جهة أخرى.
تبيّن لنا من هذه الرحلة العلمية مع النورسي في بعض مؤلفاته أننا مع شخصية علمية متميّزة جمعت إلى الغوص في القرآن ذكاء وقّادا وإطّلاعا لا نظير له، فقد كان يستقي المعارف من السنّة المطهّرة والخبرة المعرفية الإسلامية بالإضافة إلى القرآن الكريم، وجاوزها إلى الاستفادة من الخبرة الإنسانية، وقد توخى حين تعامله مع المصادر المشار إليها التركيز على البعد الوظيفي للإسلام .
تميّز عمله المنهجي بمجموعة من الميزات موجزها :
__________
(1) اللمعات 196(14/169)
1- التأصيل لمسائل العقيدة بما حوته المصادر الإسلامية الأصيلة: القرآن ثم السنة ثم الخبرة المعرفية الإسلامية.
2- رفض البداية الصفرية التي تبنى أساسا على إلغاء الخبرة المعرفية الإسلامية.
3- العمل الانتخابي في جهوده التذكيرية والاستدلالية، فقد استفاد من علماء الكلام والمتصوفة وعلماء الغرب،ركّز فيها على استثمار الصالح وإهمال الطالح، وقد تلخّص معيار الصلاح والطلاح في درجة ملاءمة الفكرة للواقع الفكري والاجتماعي المعيش مع عدم مخالفتها للنصوص القطعية الثبوت والدلالة.
4- الإفلات من قبضة القراءة التاريخية للعقيدة الإسلامية، وهي قراءة هيمنت لردح طويل من الزمن ، لهذا عدّت رسائل النور عملا تجديديا رائدا في العصر الحديث.
5- هيمنة النزعة الوظيفية على مجموع أعماله ، فقد كان هدفه الأساسي الرجوع إلى القراءة الهدائية للقرآن الكريم .
وبهذا العرض يتبيّن لنا سلامة فرضيات البحث فقد كان الرجل قرآنيا إلى النخاع موسوعيا يستثمر الخبرة الإسلامية بل والإنسانية غير آبه بالوعاء الذي خرجت منه، مما يؤكد أنه كان بحق "بديع الزمان" من خلال دعوته إلى القراءة الهدائية للقرآن الكريم، متجاوزا بذلك عقلية القراءة التبركية أو التاريخية التي تجعل الفكرة الزمنية (من خلال جهود المتقدمين أو المتأخرين) حاكمة على غير الزمني (الوحي بمحتواه القطعي الدلالة)، الذي كان من المفروض أن يكون محكوما به لا حاكما عليه، لأنه يمثل أنوارا كاشفة يستمد منها الجهد البشري في التعامل مع الحياة وشؤونها.
وأخيرا نتمنى أن تتاح لنا فرصة أخرى لقراءة تفصيلية لفكر النورسي، وفي الختام يحسن بنا الإشارة إلى بعض الجوانب المهمة الحرية ( بفتح الحاء) بالبحث في قابل الأيام.
و بهذا الصدد أقترح القائمة الآتية:
1- الدراسة التحليلية للأبعاد النفسية في مؤلفاته .
2- الرؤية الحضارية في مؤلفاته.
3- المسائل المنهجية في كتاباته.
4- منهج التأصيل في دراسة العقيدة.(14/170)
5- أصالة المنهج عند النورسي.
6- الإكراهات الواقعية وأثرها في جهود النورسي.
7- بذور المقاومة الفكرية في فكر النورسي.
9- مميزات الدرس العقدي والصوفي في فقه النورسي.
10- طبيعة أزمة العالم الإسلامي في فقه النورسي.
11- منزلة النورسي في الفكر الإسلامي المعاصر.
12- معالم التغيير الحضاري.
13- أولويات العمل الإسلامي.
14- فكرة التأصيل.
15- أساسيات مشروع التنمية.
16- مسالك التعليم كما يتصورها النورسي.
17- معالم التفسير من خلال الرسائل.
18- موقف النورسي مسالك التفسير.
19- موقف النورسي من علم الكلام.
20- موقف النورسي من التصوف.
21- مركزية البعد الوظيفي في الدرس النوري.
22- التجربة النورسية في الدعوة (دراسة تحليلية نقدية).
23- معالم التحوّل في فكر النورسي( القديم والجديد).
24- منزلة الهم الحضاري في فكر النورسي.
25- موقف النورسي من علماء عصره.
26- من الفلسفة إلى الحكمة (دراسة في موقف النورسي من الفكر الفلسفي).
27- النورسي وأعلام التصوف (ابن عربي، الغزالي، ..الفاروقي..)
28- مقاصد القرآن (دراسة في تفسير النورسي)
29- منهج التفسير عند النورسي.
30- موقف النورسي من الفلسفة المادية.
31- الصلة بين الحضارة والسياسة في فكر النورسي.
هذه مواضيع مختارة يحسن بالباحثين العمل على إنجازها، ويمكن أن نضيف إلى ما سلف البحوث المتعلّقة بتفاصيل بعض التخصصات، فمثلا يمكن أن نفرد بحوثا فرعية في مجال الدرس العقدي والدرس الصوفي والدرس الدعوي في فقه النورسي، بل ويمكن إنجاز بحوث عن الدرس الفقهي كما يتصوّره النورسي، و بعبارة أخرى يمكن للباحثين إنجاز دراسات تفصيلية في العقائد والتصوف والفقه و..(14/171)
دراسات في مقاصد رسائل النور
في ضوء القرآن الكريم
- دراسة تحليلية -
تأليف
أ.د عمّار جيدل
كليّة العلوم الإسلامية
جامعة الجزائر المركزية
- بن يوسف بن خدة -
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه الغرّ الميامين، أما بعد؛
فأهدي هذا المؤلّف إلى الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي(1) رائد المقاومة الإيمانية السلمية الهادئة والهادفة المؤسَّسة على العمل الإيجابي كمسلك محافظ على المكاسب ودافع للاقتصاد في الطاقات المادية والمعنوية للمجتمع.
كما أهديه إلى رائد الإصلاح العلمي والأدبي، إلى باعث النهضة الحركية العلمية والأدبية في الجزائر الشيخ أحمد سحنون – رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه(2)-ذلك الطود الشامخ الذي لم تحرّكه الخطوب ولم تزده إلا تشبّثا بمسلك التغيير المؤسس على العمل الإيجابي الهادئ والهادف والسلمي.
__________
(1) - بديع الزمان سعيد النورسي (1294هـ-1379هـ )(1879م -20/03/1960م)ألّف رسائل النور لمواجهة الخطر الذي كان يتهدد الإيمان في العصر الحديث، فشغل نفسه بمهمة رئيسة عرفت بـ"إثبات الحقائق الإيمانية"، وتتكوّن رسائل النور من تسع مجلدات عناوينها على النحو الآتي: الكلمات، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، المثنوي العربي النوري، الملاحق في فقه دعوة النور، صيقل الإسلام، السيرة الذاتية-ترجمة وافية من كلام الأستاذ وتلاميذه- انظر كتابنا بديع الزمان النورسي وإثبات الحقائق الإيمانية (المنهج والتطبيق).
(2) - توفي رحمه الله في شهر نوفمبر من سنة 2003، وحضر تشييعه إلى مثواه الأخير جمع غفير من المؤمنين.(15/1)
إهداء الكتابة إلى الأساطين والجهابذة مسؤولية عظيمة لا تقلّ أهمية عن الكتابة نفسها، ذلك أنّها تعلُُّمٌ قبل أن تكون تبليغا أو تمحيصا أو تكييفا، ويفرض هذا السعي في المتعلِّم الصبرَ في التحصيل ومثلَه في التعبير عن المعرفة المحصّلة، إضافة إلى الالتزام بالخط الفكري لأولئك الأعلام وما يترتّب عليه من التزام اجتماعي.
يفرض فهمُ نصوص بديع الزمان حضورا في النص المراد تيسيره أو خدمته، وما يترتّب عن ذلك من مكابدة تفرضها طبيعة النص المقروء –رسائل النور-نص بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله.
ألّّف بديع الزمان النورسي رسائل النور المكوّنة من مائة وثلاثين رسالة في فترات متنوّعة ومختلفة إجابة عن أسئلة فرضها الواقع الفكري والحضاري المتحرّك باستمرار، وهي أسئلة على تنوّعها تتمحور حول فكرة مركزية مفادها"إثبات الحقائق الإيمانية وتثبيتها".
نجح الأٍستاذ – بفضل الله - في الحصول على مبتغاه؛ فأّسّس لتوجّهٍ جديد قوامه التفكر الإيماني والذكر الإيماني المترجَم في عمل إيماني.
و الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين
استانبول
29 من جمادى الثانية 1425ه-
16من أغسطس 2004م
مقدمة
رسائل النور موسوعة في المقاصد ومن أجْلِها وضِعت، فبها كانت وبها تستمر ومنها تستمد فاعليتها، إنّها سِِفر غني بالحديث عن المقاصد، بحيث لا تخلو صفحة من صفحاته من تناول المقاصد بشكل أو بآخر، والحديث عن المقاصد حديث عن لبّ لباب الرسائل، إنّه حديث في صميم مؤلفات بديع الزمان النورسي.
يطرح بصدد الحديث عن مقاصد رسائل النور صلتها بمقاصد القرآن الكريم، فهل تمثِّلُ امتدادا لها؟ أم أنّها تمثّل ثمرة من ثمرات القرآن الكريم؟(15/2)
ومن مستأنفات ذلك التساؤل نقول: ما هي مصادر المقاصد في رسائل النور؟ وما هي أنواعها؟ وهل المقاصد في المطلق هي ذات المقاصد في الزمان؟ أم أن إلجاءات المكان وظروف الزمان تفرض تناول المسألة بطريقة مخصوصة تستجيب لسؤال الواقع؟ وتبيّن أهمية التكيّف مع المعطيات المتسارعة، تكيّفٌ تلجئ الظروف إلى الأخذ به في وضع الخطة وترتيب الأولويات.
إذا كان لبعض المتقدمين أن ينصحوا المسلمين بالسؤال عن المطلوب تجسيده أكثر من العناية بما يقال أو يروى، فالمطلوب وفق هذا المسلك أن لا نتساءل عن الروايات والأقوال، بل المطلوب أن نتساءل عن تجسيدها. من هذا المنطلق، فإنّ استيعاب رسائل النور بشكل موضوعي يفرض استيعاب مقاصدها ليتسنى - حين التعامل مع رسائل النور - وضع المطلوب الجزئي في سياقه الكلي من جهة، واكتشاف أثر المعطيات المتسارعة في وضع خطّة التغيير من جهة ثانية، وتمثّلها من جهة ثالثة، كما يسعفنا في ترتيب الأولويات من جهة رابعة، مستفيدين من تجربة بديع الزمان في وضع الخطة وترتب الأولويات.
لهذا فالكلام في مقاصد رسائل النور ليس من قبيل الكلام الزائد، بل هو سعيٌ هادف ليس لغو كلام أو تصرف عبثي، بل يمثّل تأسيسا لقراءة هادفة تسهم في القراءة بالمقاصد والتخطيط بالمقاصد والتحرّك في إطار المساحات التي تتيحها المقاصد الكلية في إطار فترة تاريخية محددة، إنّها درس في نظر مقصدي ودرس في تطبيق مقصدي.
إلاّ أن الطَرقَ الموضوعي للموضوع يفرض وضع الفرضيات الهادية الآتية:
1 – المجموعة الأولى من الفرضيات:
أ - مثّلَ مصطلحُ المقاصد في رسائل النور فكرةً مركزية هادية، يستلهمها بديع الزمان في وضع المقاصد الكلية وفروعها.
ب - المقاصد في فكر بديع الزمان تمثّل ثمرةً من ثمرات القرآن الكريم، تَمثّلَ مضمونَها وحاول النسج على منواله في عرضها، بحيث بدت صورة مستلة منها.(15/3)
ج - استقى بديع الزمان المقاصد من القرآن الكريم والسنة المطهّرة بما فيها السيرة العطرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما استثمر المصادر الكونية والبشرية في تأكيد تلك المقاصد.
د - وضع بديع الزمان مقاصد جزئية فرعية مندمجة في المقاصد الكلية المستفادة من القرآن الكريم والسنة المطهّرة، وكانت استجابة لمعطيات الزمان وضغوط المكان.
ه- - الفرضيات الآنفة تؤكّد بمجموعها أهمية المقاصد في درس رسائل النور من جهة واكتشاف أبعادها من جهة أخرى، بحيث تغدو بمعزل عنها أشبه بنص يؤسّس للعبثية.
2 – المجموعة الثانية من الفرضيات:
أ - تستبعد أن يكون لمصطلح المقاصد وتوابعه وضعاً مركزيا في رسائل النور، فيعُد حضوره حسب هذا التحليل حضورا اعتباطيا لا تحكمه قاعدة مضبوطة.
ب - تمثّل مقاصد رسائل النور في فكر بديع الزمان مكابدة خاصة لا صلة لها بما ورد في الوحيين، ومن ثمّ فهي تمثّل تجربة خاصة مقطوعة الصلة بالمصادر الإسلامية.
ج - المقاصد الجزئية التي وضعها بديع الزمان غير مندمجة مع المقاصد الكلية، بل تكاد تكون غايات أملتها محاولات التكيّف مع المعطيات التي فرضها الغالب الموقت، فكانت مسعى للخضوع وليس مسعى لتجاوز الضغوط.
د – التسليم بالنسق الثاني من مجموعة الفرضيات يؤكّد أنّ المقاصد ليست شغلا مركزيا في فكر بديع الزمان، وبالتالي ليست هناك أهمية معرفية أو تربوية لدراسة مقاصد رسائل النور.
قبول المجموعة الأولى أو الثانية أو رفضهما أو التأسيس لبديل مركّب منهما بشكل يسمح بالخلوص إلى بيان المقاصد في رسائل النور من حيث الماهية والطبيعة والمصادر إضافة إلى رتبها، يفرض الإحاطة بالعناصر المشار إليها في فرشة البحث.
من منطلق تحقيق القول فيما سبقت الإشارة إليه نفيا أو إثباتا أو تعديلا، سنعرض مجموعة من القضايا المتجانسة فيما بينها متناغمة مع العنوان الرئيس للبحث، وبهذا الصدد سنتناول ما يأتي:
المقاصد: المصطلح والأهمية.(15/4)
مصادر مقاصد رسائل النور ومميّزاتها.
المقاصد الكبرى في رسائل النور.
مقاصد رسائل النور في الزمان.
أبعاد أهمية بحث المقاصد ومفسدات فعاليتها في رسائل النور.
ونختم البحث بما انتهينا إليه بعد الاستقصاء والتحليل.
اعتمدتُ في إنجاز هذا البحث على ما أورده الأستاذ بديع الزمان في رسائل النور، ووظّفت للبحث والتحليل منهجا مركّبا من الاستقراء والتحليل، فأعتمد الأول من أجل تتبّع الجزئيات من أجل الخلوص إلى قاعدة كلية تضبط الجزئيات، واستعملت معه التحليل تيسيرا لفهم النصوص أولا والخلوص إلى نتائج منسجمة مع المضامين(المقدمات) ثانيا، ويحكمنا في كلّ ذلك القراءة الهادفة الهادية إلى مكامن توظيف فكر بديع الزمان في التحليل والتركيب، إضافة إلى الاستفادة من المضمون نفسه.
يُعدّ هذا الكتاب اللبنة الأولى من سلسلة المقاصد في رسائل النور، تلحقها لبنات أخرى تيسّر تتبّعَ المقاصد في رسائل النور من زوايا وأبعاد متنوّعة، فتكون اللبنة الثانية – إن شاء الله - قراءة في وظائف مقاصد رسائل النور، تلحقها دراسات تتّبع مقاصد العقيدة والشريعة والتصوّف والدعوة ومسالكها في رسائل النور...
تلك رغبتنا وذلك هو برنامجنا، أسأل الله تعالى التوفيق إلى تحقيق هذه الغايات والأهداف.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه الغر الميامين أجمعين..
الفصل الأول
المقاصد
المصطلح والأهمية
أولا: المصطلح ومتعلّقاته
نستهل الحديث عن المصطلح ومشتقاته ببيان فكرة مجملة عن مختلف المستويات، فركّزنا في البداية على مستوى العبارة الدالة على المصطلح ثم ألحقنا بها ما يفيد تلك المعاني إشارة.(15/5)
المصطلح في سياق الحديث عن مقاصد رسائل النور يمثّل من حيث العنوان لفظا دقيقا أو مستوى قريب منه للدلالة على معنى مخصوص يستصحب في الغالب الأعم المعنى المعجمي الأصلي، فلفظ المقاصد مثلا تُستلّ دلالته المعجمية من لفظ مقصد وهو بدوره عالة على لفظ قصد، كما أنّ الدلالة الاصطلاحية تعود إلى المعنى نفسه، إذ يراد بالقصد لغة إتيان الشيء، وقصدت قصده، نحوت نحوه(1)، والمقصد في الاصطلاح لا يخرج عن الدلالة المعجمية الأصلية المشار إليها في العبارة الآنفة الذكر، أما ما يستفاد إشارة فيرجع إلى إفادة ذلك المعنى بطريق غير مباشر، وبهذا الصدد يحقّ لنا التساؤل الآتي، هل وظّف النورسي في مستويي العبارة والإشارة تلك المعاني؟هذا ما نحاول عرضه في الفقرة اللاحقة.
1 – مستوى المصطلح وتوابعه:
يستعمل بديع الزمان العديد من المصطلحات التي تصبّ في الدلالة العامة للمقصد أو المقاصد، إذ يستشف منها الأهداف المرجوة من رسائل النور، وبطريق الاستقراء، خلصت إلى مجموعة هامة تخدم الغاية المرسومة، منها على سبيل المثال لا الحصر:المقصد والمقاصد، الهدف، الأهداف، العلّة الغائية، النتيجة، الفائدة، والوظيفة...مع شيء من التحفّظ في استعمال المصطلح سواء في دلالاته العامة أو دلالته في أدبيات بديع الزمان سعيد النورسي.
نبدأ العرض بذكر المصطلح المركزي (المقصد والمقاصد) ثم ننتقل إلى بيان سائر المصطلحات مع بيان صلتها بالمصطلحات المركزية في مقاصد رسائل النور.
أ - المقصد والمقاصد
__________
(1) - انظر الصّحاح، تاج اللغة العربية، وصحاح العربية، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار/دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية 1399هـ-1979م، الجزء الثاني 524(15/6)
لا خلاف بين قرّاء رسائل النور فضلا عن عشّاقها في أنّ مؤلّفها يرمي إلى تحقيق مقصد رئيس ومجموعة من المقاصد الفرعية البحت، التي قد تكون كلّية باعتبار تحقيقها لمراتب متعلّقة بالضروري من الدين، فهي بهذا الوجه كلّية أصلية تعبّر عن مرتبة الضروري أو ما يقرب من معناه، وقسم آخر منه كلّي ولكنّه دونه من جهة الرتبة، فهو أقرب إلى الحاجي منه إلى الضروري(1)، كتلك التي تتوقّف وظيفة التبليغ على تحقّقها، وقسم من رتبة ثالثة يمكن إلحاقه برتبة التحسيني، بحيث يؤدي فقده إلى عسر المعالجة بشكل إجمالي، فالأول كجعل الشريعة في أصل وضعها مراعية لأوضاع الناس، جالبة لسعادتهم في الدارين (الدنيا والآخرة)، قال الأستاذ عبد الله دراز في تعليقه على كتاب الموافقات للشاطبي" المقصد الأول هو أنّها (الشريعة) وضعت لمصالح العباد في الدارين"(2)، والثانية كمقصد الإفهام من وضع ألفاظ الشريعة وصيغ تبليغها، والثالثة ما يتطلّبه اليسر بجميع أشكاله.
__________
(1) - الفكرة مقتبسة من الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي، دار المعرفة، بيروت، لبنان 2/8-13
(2) - انظر تعليق الشيح عبد الله دراز على الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي 2/5(15/7)
يتوجّه أولها إلى بيان أصل قصد الله في وضع التكاليف الشرعية المستفادة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وقد عمل بديع الزمان على تجلية ذلك الأصل بالتركيز الكبير على بيان أنّ من أهمّ ما ترمي إليه رسائل النور(المعبّرة عن الشريعة) إثبات ارتباط الشريعة بمفهومها العام بمصالح العباد المعنوية والمادية، فمصالحهم المعنوية والمادية لا تُحقَّق بطريقة إنسانية هادفة واقتصادية إلا بالشريعة الغرّاء التي تعني الانسجام مع عناصر الكون المادية والمعنوية، لهذا كانت الآية المنظورة (الكون) متناغمة مع الآية المسطورة (الوحي)، وكلاهما يعمل في إطار نظام شامل ومتكامل يخدم في آخر خلاصة له النظام والانتظام الكوني الشامل، ومن مظاهر ذلك خدمة مصالح الإنسان العاجلة والآجلة، يؤكّد هذا المعنى قوله رحمه الله"إن لمتصّرف هذا العالم حكمةً عامةً عالية(وهي ولاشك مقصد المقاصد)، بشهادات رعاية المصالح والفوائد في كل شيء".(15/8)
يعرّج بعدها الأستاذ على شواهد وبراهين وحجج رعاية المصالح والفوائد في كلّ شيء، فيذكر دلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات، فقد تجلّت فيها الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، وما تقتضيه من تلطيف المطيعين الملتجئين إلى جناحها..ليس هذا فحسب، بل يشاهد أنّ له عدالة محضة حقيقية بشهادات وضعه كلّ شيء في الموضع اللائق، وإعطاء كلّ ذي حق حقّه الذي يستعد له، وإسعاف كلّ ذي حاجة حاجته التي يطلبها - لوجوده أو حفظ بقائه - وإجابة كل ذي سؤال سؤاله، وخاصة:إذا سئل بلسان الاستعداد أو بلسان الاحتياج الفطري أو بلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته، وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمة كبرى، مع أنّ هذه الدار الفانية أقلّ وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مظهراً لحقيقة تلك العدالة، فلابد حينئذ لهذا الملك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة (1)، وفي كلّ ذلك أظهر مظاهر رعاية المقاصد في الخلق من جهة، والعناية بالمقاصد في رسائل النور.
كما أورد ذلك المعنى في خاتمة تعليقه على دليل من الأدلة العقيدية فيقول: " وزبدة هذا الدليل هي: إتقان الصنع في النظام الأكمل في الكائنات، وما فيها من رعاية المصالح والحكم، إذ النظام المندمج في الكائنات، وما فيه من رعاية المصالح والحكم، يدلّ على قصد الخالق الحكيم وحكمته المعجزة، وينفي نفياً قاطعاً وهم المصادفة والاتفاق الأعمى"، معللا المسألة بالإتقان الذي لا "يكون دون اختيار. فكل علم من العلوم الكونية شاهد صدق على النظام، ويشير إلى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في أغصان الموجودات، ويلوح في الوقت نفسه إلى الحكم والفوائد المستترة في ثنايا انقلاب الأحوال وتغيّر الأطوار."(2)
__________
(1) - انظر المثنوي العربي النوري 91
(2) - المثنوي العربي النوري 428(15/9)
ولعلّ أوضح شاهد على تأكيد تلك الحقيقة ما ورد عنه في المجلّد الثامن من رسائل النور، حيث قال: " والخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الإنسان.. إنّ الغاية من الخلقة ونتيجتها الحياة وذوو الحياة وأشرفهم الإنسان فهو نتيجة الخلقة."(1)
من منطلق ما سبق بيانه، نخلص إلى التأكيد على أنّ المقصد الأعظم من رسائل النور هو خدمة الإنسان، ولا يخدم الإنسان نفسه إلا إذا اكتشف وظيفته التي بيّنتها الرسائل بنور القرآن الكريم، فتخاطبه الرسائل قائلة:"أيها الإنسان! المقصد الأسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وأنّ الغاية القصوى من خلقك أنت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات."(2)، ولهذا كان المقصد الأول في سياق آخر، الحقائق الإيمانية(3) تلك التي تمثّل بالنسبة للإنسان أعلى خدمة وأسماها، ذلك أنّها تدفع الخلقة إلى تحقيق التكليف الشرعي الذي تعدّ العبودية مضمونه الرئيس.
تحقيق مسعى أصل مقصد الشارع في التكليف يفرض الاهتمام بلغة التبليغ ومضمونه ومستواه، وهو الأمر الذي دفعه إلى تركيز جهده على تحقيق تفهيم المخاطبين (جمهور رسائل النور) في جو ثقافي وحضاري مخصوص، يلزم المبلّغ استصحابه في صياغة رسائل النور بأسلوب مخصوص، وهو ما ترك آثاره الجلية على صيغة رسائل النور منهجا وموضوعا، إذ الرغبة في تحقيق مقصد الإفهام يوجب مراعاة عقليات المخاطبين واستعداداتهم، زيادة إلى استصحاب المعطيات الثقافية والعلمية المؤثّرة في صناعة وعيهم وتكوينهم(4)، يشهد لهذا نصوص بديع الزمان النورسي نفسه.
__________
(1) - صيقل الإسلام 174
(2) - صيقل الإسلام 174
(3) - الملاحق 148
(4) - انظر كتابنا بديع الزمان النورسي وإثبات الحقائق الإيمانية ـ المنهج والتطبيق ـ 42 - 48(15/10)
قال رحمه الله: " ونحن هنا سنحاول أن نقرّب إلى الأفهام شيئاً من تلك الحقيقة العالية ببعض الأمثلة، التي تساعد على ذلك، وهي على النحو الآتي: إذ ما نظر إلى هذه الكائنات نظر الحكمة، بدت كأنّها شجرة عظيمة وفي معناها، فكما أنّ الشجرة لها أغصان وأوراق وأزاهير وثمرات، ففي العالم السفلي - الذي هو شقٌّ من شجرة الخلقة - تشاهد أيضاً أنّ العناصر بمثابة أغصانه، والنباتات والأشجار في حكم أوراقه، والحيوانات كأنّها أزاهيره، والأناسي كأنّهم ثمراته، فالقانون الإلهي الجاري على الأشجار يلزم أن يكون جارياً أيضاً على هذه الشجرة العظمى، وذلك بمقتضى اسم الله"الحكيم". "(1)
وقد نسج بديع الزمان وفق مسلك القرآن الكريم في منهج تقرير حقائقه، فجعل الإفهام مقصدا رئيسا من رسائل النور، إذ حسن الإفهام ولطف الإرشاد من الأسس المهمّة في الإعجاز القرآني، وهما نور من هدي القرآن الكريم، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وأن لا تبيّن لأولئك البسطاء في تفكيرهم إلاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها.. (2)
"إنّ بيان القرآن في ( الإفهام والتعليم ) خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى أنّ أبسط شخص عامي يفهم -بتلك البيانات - أعظم حقيقة وأعمقها بيسر وسهولة(3)." ويرجع ذلك المقصد إلى كون"القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفّة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الأفهام"(4)، ذلك ما حاول بديع الزمان استحضاره حين صياغة رسائل النور.
__________
(1) - الكلمات 692
(2) - الكلمات 272
(3) - الكلمات 449
(4) - انظر الكلمات 456، 482، 530، 531(15/11)
ويرتبط تحقيق مسعى الإفهام بالعمل على تحقيق مقصد بيان مضمون التكاليف الشرعية والأحوال العارضة للأشخاص حين مباشرة تحقيقها وأثر كل ذلك على التكليف نفسه، وقد عمد النورسي إلى تحقيق القول فيها، منبّها إلى أصول الفكرة وسبل تصوّرها، وذلك ليبقى الإنسان مسئولا أمام التكاليف الشرعية. ومادام في الإنسان لطائف أخرى لا ترضخ لإرادة الإنسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لأوامر القلب والعقل لا يبقى مسؤولا أمام التكاليف الشرعية ... بشرط ألاّ يصدر عنه شيء ينافي حقائق الشرع وقواعد الإيمان إنكاراً أو تزيّيفاً أو استخفافاً" (1).. "ذلك أنّ تحقيق سعادة الدارين، وجلب لذّة لا يشوبها ألم، وأنس يخالط الشعور بالحقائق اللطيفة، إنّما ينال بالتزام التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله المستغرق الوقت كلّه أوجلّه على الأقل، بحيث تكون الغفلة استثناء وليست قاعدة محكّمة، ويعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.." (2)
وعرّج بديع الزمان على مقاصد فرعية صرف للرسائل، ذكرها رحمه الله في سياقات كثيرة، تتعلّق في الغالب بالتعليق على قضايا ومسائل جزئية يقتضيها السياق أو الغاية التربوية(3)، منها إشارته إلى أهداف ومقاصد جزئية منخرطة في سلك المقاصد الأصلية، كقوله بأنّ " أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوّة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يُدعون إلى هذا الهدف.."(4)
__________
(1) - انظر المكتوبات 586
(2) - انظر المكتوبات
(3) - انظر الكلمات 596، 608، 634، 635، 651، 723، 728، 732، 737، ...المكتوبات 44، إشارات الإعجاز 59 ، 60 ،الملاحق 331، صيقل الإسلام 120، 121، 135، 159، 162، ...
(4) - سيرة ذاتية 107(15/12)
تلك المقاصد المشار إليها بقوله:"أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوّة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله" تمثّل غايات جزئية مقارنة إلى المقصد الرئيس المعبّر عنه برعاية مصالح العباد(1)
بعد عرض تعبير المقاصد عن نفسها لفظا ومعنى وإشارة واضحة بيّنة، يحسن بنا الانتقال إلى بيان المصطلحات المنخرطة في سلك خدمة تلك الحقيقة، فنبدأ بعرض صلة المقصد بتلك المصطلحات، ومظاهر الدلالة على قصد المقصد في تلك المصطلحات.
ب - الغاية والمقصد:
تستعمل رسائل النور مصطلح الغاية في كثير من الأحيان تعبيرا عن المقاصد المتوخاة من التأليف، وقد انتهى بديع الزمان إلى الاعتداد بها ولكن بشروط، منها؛ أن تكون الغاية واضحة ومعتبرة، معتدّا بها، ومقصودة في الخطاب ومهمّة ومخصوصة، قال رحمه الله:"والغاية فتلزم أن تكون معتدّة ومعتبرة ومقصودة ومهمّة، ومخصوصة(2)، وإذا تعذّرت تلك الشروط لا يلتفت إليها.
__________
(1) - العبارة واضحة إذ القصد التأكيد على أنّها جزئية مقارنة إلى المقاصد الأصلية، وإن كانت من حيث هي قد تكون كلية أصلية.
(2) - صيقل الإسلام 248(15/13)
كما عبّر عنها في سياقات أخرى بالعلّة الغائية، واشترط فيها كسابقتها مجموعة من المواصفات، مواصفات تجعلها معدّة للتأثير حال أخذها بعين الاعتبار، ورد عنه في سياق التعليق على نظم الآية: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً)، قوله:" هو : أنّها جواب عن صورة استفهامهم، فلغاية الإيجاز نزلت الغايةُ والعاقبةُ منزلة العلة الغائية كأنهم يسألون ويقولون: لأي شيء كان هكذا؟ ولِمَ لم يكن إعجازه بديهيا؟ ولِمَ لم يكن كونه كلام الله ضرورياً؟ ولِمَ صار معرض الأوهام بسبب هذه الأمثال؟ فأجاب القرآن بقوله: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } أي: لأجل( لقصد أو مقصده كذا...) أنّ من تفكّر فيه بنور الإيمان ازداد نوراً. ومن تفكّر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمة.. وهذا لأجل أنّه نظريّ ليس بديهياً.. وهذا لأجل (بقصد) تفريق الأرواح الصافية العلوية عن الأرواح الكدرة السفلية.. وهذا لأجل (لقصد) تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة.. وهذا لأجل تمييز الفطرة الصحيحة بالتكمل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخّة الفاسدة.. وهذا لأجل أنّ امتحان البشر يستلزمه.. وهذا لأجل أنّ الابتلاء يقتضيه..(1)
تلاحظ أنّه وظّف في المقطع القصير الآنف الذكر لفظ ( لأجل ) بمعنى المقصد سبع مرات، وقد وظّف في الفقرة السابقة بدلالات مختلفة متنوّعة:
مقصد جزئي متعلّق ببيان تربوي له بُعدٌ عقلي ومنهجي ظاهر، يشهد له التأكيد على أثر التفكّر بنور الإيمان في الرؤية الموضوعية لعالم الأشياء، وبيّن في السياق نفسه أثر التفكّر بظلمة الكفر في تكريس النظرة غير الموضوعية للعوالم نفسها، يشهد له قوله: لأجل(لقصد أو مقصده كذا...) أنّ من تفكّر فيه بنور الإيمان ازداد نوراً. ومن تفكّر بظلمة الكفر والنقد غير الراشد ازداد ظلمة..
__________
(1) - إشارات الإعجاز 206(15/14)
مقصد جزئي آخر أكّد فيه أيضا أن المسائل النظرية تحتاج إلى خلفية نظرية صحيحة إضافة إلى مسلك منهجي صحيح وموضوعي، يؤكّده قوله: وهذا لأجل أنّه نظريّ ليس بديهياً..
مقصد جزئي ثالث مفاده إفادة ذلك المسلك في تفريق الأرواح الصافية العلوية عن الأرواح الكدرة السفلية.. وامتدادا له جاء مقصد جزئي رابع غرضه تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة..
تخدم المقاصد الجزئية السابقة مقصدا جزئيا رابعا، تميّزت بموجبه الفطرة الصحيحة بالتكمّل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخّة الفاسدة..
تنتهي المقاصد الجزئية السالفة الذكر إلى خدمة مقصد جزئي خامس مفاده أنّ امتحان البشر يستلزمه.. وهذا بدوره يؤكّد أنها من مقتضيات الابتلاء.
كما اعتبر رحمه الله جملة معيّنة بمثابة فهرس للغايات الأساسية للقرآن الكريم، فقد ذكر في سياق التعليق على ما تضمّنته البسملة تلك المعاني، فقال: "وكذا في "البسملة" جهات: من الاستعانة والتبرك والموضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن."(1)، ويوضّح ذلك المعنى بشكل مقنع، إذ بيّن في سياق الحديث عن المقصد بعنوان الغاية، أنّ الخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الإنسان وهذا يدل على أنّ الغاية من الخلقة ونتيجتها الحياة وذوو الحياة وأشرفهم الإنسان فهو نتيجة الخلقة. (2)
وذكر في مقام آخر أنّ العلّة الغائية تعبّر عن الفائدة الجزئية "والعلة الغائية فيها الفائدة الجزئية"(3)، والفائدة الجزئية في حقيقة الأمر مقصد جزئي يندرج في إطار المقاصد الكبرى، كما سنبيّنه لاحقا، إن شاء الله.
الغاية صحيحة والهدف خطأ:
__________
(1) - إشارات الإعجاز 40
(2) - انظر صيقل الإسلام 174
(3) - إشارات الإعجاز 223(15/15)
استعمل بديع الزمان الغاية والهدف في بعض نصوص رسائل النور بمعنيين مختلفين، فكانت الغاية معبّرة عن المقصد الأصلي، والهدف معبّرا عن المقصد المرحلي الذي قد يكون صحيحا مناسبا للغاية وقد لا يكون كذلك، وأحسن مثال لبيان هذه المعاني قوله:" لقد أحس "سعيد القديم" ما أحسّه عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء، بأنّ استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدّوا له، ولكنّ هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب. فحسبوا ظل استبدادٍ - ليس له إلاّ الاسم - استبداداً أصيلاً، فهاجموه، فالغاية صحيحة إلاّ أن الهدف خطأ."(1)
استعمل النورسي الهدف بمعنى المقصد الفرعي أو الجزئي الذي قد يخطئ المرء في تصوّره أو تمثّله، كالذي وقع لدعاة التحرر من المسلمين والأتراك – في العصر الأخير، "فقد أحسوا بالاستبداد - بالحس قبل الوقوع - فصوّبوا له سهامهم وهاجموه بشدة، إلا أنّهم انخدعوا انخداعاً كلياً، و أخطأوا الهدف، إذ هاجموا في غير موقع الجبهة"(2).
أشار رحمه الله إلى التمييز بين الغاية والهدف، فقد تكون الغاية كمقصد كلي نبيلة، إلا أن الخلوص إلى تحقيق ذلك المقصد يقتضي في إطار إلجاءات الزمان والمكان مواجهته في سياق ظهوره العيني المحدد، إلاّ أنّ الناس قد يخطئون في مواجهة ما كان سببا في تعطيل القصد، فيهاجمون ما يعتقدونه معطّلا إلا أنّهم يخطئون الهدف مع صحة المقصد، أي يقرّ الأستاذ بصحة القصد ونبالته، ولكن الهدف غير صحيح، كأنّه يشير إلى أنّ صحة القصد لا تغني عن وجوب العمل العلمي الدقيق المحدد للهدف الموافق للمقصد وفق ما يصادفه الباحث أو المبلّغ من ضغوط المكان والزمان.
من مقتضيات بيان الصلة بين المقصد والهدف عرض العلاقة بينهما، من هنا سنتناول في النقطة اللاحقة الصلة بينهما.
__________
(1) - الملاحق126 سيرة ذاتية 76
(2) - الشعاعات 123(15/16)