إنني لا أستطيع أن اعدّ نفسي من آل البيت حيث الأنساب مختلطة في هذا الزمان إلى درجة لا يمكن تمييزها، بينما مهدي آخر الزمان سيكون من آل البيت. غير أنني بمثابة ابن معنوي لسيدنا علي كرم الله وجهه وتلقيت درس الحقيقة منه، وإن معنىً من معاني آل محمد صلى الله عليه وسلم يشمل طلاب النور الحقيقيين، فأعدّ أنا أيضاً من آل البيت، إلاّ أن هذا الزمان هو زمان الشخص المعنوي، وليس في مسلك النور – بأية جهة كانت – الرغبة في الأنانية وحب الذات والتطلع إلى المقامات والحصول على الشرف وذيوع الصيت، فكل ذلك منافٍ لسر الإخلاص تماماً.
فأنا اشكر ربي الجليل شكراً لا نهاية له انه لم يجعلني أُعجب بنفسي، لذا لا أتطلع إلى مثل هذه المقامات الشخصية التي تفوق حدي بدرجات لا تعد ولا تحصى، بل لو اُعطيت مقامات رفيعة أخروية فإنني أجد نفسي مضطراً إلى التخلي عنها لئلا أخلّ بالإخلاص الذي في النور. هكذا قلت للخبراء وسكتوا..(1)
محبة الطريقة الصوفية:
وفي حوالي التاسعة من عمري وجميع الأهالي وأقاربي ينتسبون إلى الطريقة النقشبندية…
ولكني ما قرأت من أوراد وأذكار طوال حياتي إلاّ و أهديت ثوابها أولاً إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثم إلى الشيخ الگيلاني، وعلى الرغم من أنني منتسب إلى الطريقة النقشبندية بثلاث جهات(2) فإن محبة الطريقة القادرية ومشربها يجري حكمها فيّ دون اختيار مني. إلاّ أن الانشغال بالعلم كان يعيق الاشتغال بالطريقة الصوفية.(3)
1885م (1303هـ)
تلقينات الوالدة ودروسها المعنوية :
__________
(1) الملاحق - اميرداغ 1 / 316
(2) حيث إن والديه وأستاذه منتسبون إلى هذه الطريقة.
(3) اللمعة الثامنة(7/5)
أقسم بالله إن ارسخ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين .. بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور. بمعنى أنى أشاهد درس والدتي - رحمها الله – وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولى من عمري، البذور الأساس ضمن الحقائق العظيمة التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.(1)
أساتذته وشيوخه:
وكانت بداية تحصيل العلم سنة 1885م ( 1303 هـ) بتعلّم القرآن الكريم(2) “حيث ساقته حالته الروحية إلى مراقبة ما يستفيضه أخوه الكبير عبدالله من العلوم فأعجب بمزاياه الراقية وتكامل خصاله الرفيعة بتحصيله العلوم، وشاهد كيف أنه بزّ أقرانه في القرية وهم لا يستطيعون القراءة والكتابة. فدفعه هذا الإعجاب إلى شوق عظيم جاد لتلقي العلم؛ لذا شدّ الرحال إلى طلبه في القرى المجاورة لـ"نورس" حتى حط عصا ترحاله في قرية تاغ عند مدرسة الملا محمد أمين أفندي إلاّ أنه لم يتحمل المكوث فيها، فتركها. فعاد إلى قريته "نورس" وهي المحرومة من كتّاب أو مدرسة لتلقي العلم، واكتفى بما يدرّسه له أخوه الكبير "الملا عبدالله" في أثناء زيارته الأسبوعية للعائلة. وبعد مدة قصيرة ذهب إلى قرية برمس ومن بعدها إلى "مراعي شيخان" ثم إلى قرية نورشين وبعدها إلى قرية خيزان ، ثم تركها ذاهباً مع أخيه الملا عبد الله إلى قرية "نورشين"”.(3)
الإباء والشمم:
__________
(1) اللمعات/309
(2) الشعاع الأول
(3) Tarihce-i Hayat, ilk hayat?(7/6)
على الرغم من أن سعيداً القديم فقير الحال منذ أيام طفولته، كما أن والده فقير الحال، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدم استطاعته قبولها، إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدم ذهاب "سعيد" قط في أي وقت من الأوقات لأخذ الأرزاق من الناس وعدم تسلمه الزكاة من أحد – عن علم – كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الأهالي وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة. أقول إني على قناعة تامة الآن من أن حكمة هذا الأمر هي:
عدم جعل رسائل النور - التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة - في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.
فلأجل هذه الحكمة اُعطيتْ لي هذه الحالة، حالة النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجية غير المضرة، والهروب منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يفسد الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور..(1)
1891م (1308هـ)
بشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
“ظل مدة في "نورشين" ثم انتقل إلى "خيزان" ثم ترك الحياة الدراسية وعاد إلى كنف والديه في قرية "نورس" وظل فيها حتى اخضرّ الربيع.
وفي هذه الأثناء رأى فيما يرى النائم: أن القيامة قد قامت، والكائنات بعثت من جديد. ففكر كيف يتمكن من زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ثم تذكر أن عليه الانتظار في بداية الصراط الذي يمرّ عليه كل فرد، فأسرع إليه.. وهكذا مرّ به جميع الأنبياء والرسل الكرام فزارهم واحداً واحداً وقبّل أيديهم وعندما حظي بزيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هوى على يديه فقبلها ثم طلب منه العلم. فبشّره الرسول صلى الله عليه وسلم: "سيوهب لك علم القرآن ما لم تسأل أحداً".
__________
(1) الملاحق - اميرداغ 2 / 361(7/7)
فجّرت هذه الرؤيا شوقاً عظيماً فيه نحو طلب العلم. فاستأذن والده للذهاب إلى ناحية أرواس لتلقي العلم من الملا محمد امين افندي.”(1) ثم توجه نحو "بايزيد".
ظهور حالة عجيبة:
في ذلك الوقت لم يبد على سعيد ذكاء خارق أو قوة معنوية وحدها بل ظهرت أيضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابلياته كلها. فبعد اطلاعه على مبادئ الصرف والنحو خلال سنة أو سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، إذ قد اكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة اشهر، و استوعبها واُجيز عليها وتسلم الشهادة بإكمالها.(2)
“دامت هذه الدراسة الجادة والمكثفة ثلاثة اشهر – في بايزيد - على يد الشيخ محمد الجلالي” والغريب انه أتم قراءة جميع الكتب المقررة للطلاب في شرقي الأناضول، ابتداءً من "ملا جامي"(3) إذ كان يقرأ من كل كتاب درساً أو درسين وربما إلى عشرة دروس، من دون أن يتم الكتاب ثم يبدأ بغيره. وعندما استفسر منه أستاذه "الشيخ محمد الجلالي" عن سبب قيامه بهذا العمل - المخالف للعرف السائد - أجاب:
- ليس في طوقي قراءة جميع هذه الكتب وفهمها، فهذه الكتب شبيهة بصندوق الجواهر، ومفتاحها لديكم. وكل ما أرجوه منكم إرشادي إلى ما يحتويه هذا الصندوق، أعني ماذا تبحث هذه الكتب، لكي أختار منها ما يوافق طبعي.
وعندما سأله أستاذه:
- أيّ من هذه العلوم يوافق طبعك؟
أجاب:
- لا أستطيع التمييز بين هذه العلوم، فكلها سواء عندي، فإما أن افهم جميعها حق الفهم أو لا أفهم منها شيئا.
__________
(1) T. Hayat ilk hayat?
(2) الملاحق - أميرداغ 2/361
(3) هو عبد الرحمن بن احمد بن محمد الجامي، نورالدين: مفسر فاضل، ولد في جام (في بلاد ما وراء النهر) 817 هـ وتوفي في هراة 898هـ له مؤلفات تقارب المئة. والمقصود هنا كتابه في النحو الذي صنفه شرحاً لكتاب (الكافية لابن الحاجب) سماه (الفوائد الضيائية) وهو المتداول اليوم.(كشف الظنون 2/1372 والأعلام 3/296).(7/8)
كان يقرأ في هذه الشهور الثلاثة يومياً ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب أمثال: "جمع الجوامع"(1) و"شرح المواقف"(2) و"ابن حجر"(3) مع الفهم التام من دون معونة أحد. إلى حد أنه ما كان يُسأل سؤالا عن أي علم كان إلاّ ويجيب عنه إجابة شافية. فاستغرق في القراءة والدراسة حتى انقطعت علاقته مع الحياة الاجتماعية..”.(4)
إلى أخيه الملا عبدالله:
“ثم ذهب إلى أخيه "الملا عبدالله" في مدينة شيروان فقال له الملا عبد الله:
لقد أنهيتُ كتاب "شرح الشمسية"(5) فما قرأت أنت؟
بديع الزمان: لقد قرأت ثمانين كتاباً!
الملا عبد الله: ماذا تعني؟
بديع الزمان: لقد أنهيت الكتب المقررة كلها بل قرأت كتباً أخرى زيادة عليها.
الملا عبد الله: إذن سأمتحنك.
بديع الزمان: أنا مستعد. سل ما بدا لك!
ثم امتحنه الملا عبد الله بتوجيه الأسئلة اليه، ولما أصغى إلى أجوبته السديدة، قدر فيه كفاءته العلمية، حتى اتخذه أستاذاً له، مع انه كان قبل ثمانية اشهر تلميذاً لديه”.(6)
1892م (1309هـ)
من أندر الأمور:
“بعد أن مكث مدة شهرين عند أخيه، ذهب إلى مدرسة الملا فتح الله افندي” في سعرد، فسأله الشيخ:
- كنت تقرأ "السيوطي"(7) في السنة الماضية فهل تقرأ "الملا جامي"(8) هذه السنة.؟
- لقد أنهيت قراءة الجامي.
__________
(1) جمع الجوامع في أصول الفقه: لتاج الدين عبد الوهاب السبكي(727 - 771 هـ) (كشف الظنون 595 والأعلام 4/18)
(2) المواقف في علم الكلام، للعلامة عضد الدين الايجي المتوفي (756 هـ).
(3) المقصود كتاب "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" لابن حجر الهيتمي المكي، وهو شرح (منهاج الطالبين) للإمام النووي الشافعي.
(4) T. Hayat ilk hayat?
(5) الشمسية: رسالة في قواعد المنطق للقزويني المعروف بالكاتبي (600 - 675هـ.
(6) T.Hayat, ilk hayat?
(7) المقصود: البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك.
(8) المقصود : الفوائد الضيائية لعبدالرحمن جامي .(7/9)
فأيّما كتاب سأله، أجاب بأنه أتمه. فتعجب من أمره إذ كيف يستطيع أحد أن يقرأ كل هذه الكتب في هذه الفترة القصيرة، حتى عبّر عن حيرته بأسلوب الملاطفة والمزاح:
- كنت مجنوناً في السنة السابقة، فهل ما زلت على جنونك؟
أجابه الملا سعيد:
- قد يكتم الإنسان الحقيقة عن الآخرين لئلا يداخله الغرور وليكسر نفسه الأمارة بالسوء، ولكن الطالب لا يستطيع سوى قول الحقيقة المحضة لأستاذه الذي يجلّه اكثر من والده. فإن تفضلتم بالأمر فأنا على استعداد للامتحان في الكتب التي ذكرتها.
فبدأ "الملا فتح الله" بطرح الأسئلة. فما سأل سؤالاً من أي كتاب كان إلاّ وكان الجواب شافياً ووافياً..ثم سأله:
- حسناً.. إن ذكاءك خارق، ولكن دعنا نرى قوة حفظك! فهل تستطيع أن تحفظ بضعة اسطر من كتاب "مقامات الحريري" بعد قراءتها مرتين؟
وتناول الملا سعيد الكتاب، وقرأ منه صحيفة واحدة مرة واحدة، فإذا بها كافية لحفظها. وقرأها لأستاذه حفظاً، فلم يملك أستاذه نفسه من القول في إعجاب ودهشة:
- إن اجتماع الذكاء الخارق مع القابلية الخارقة للحفظ في شخص واحد من اندر الأمور.
وهناك حفظ "الملا سعيد" كتاب "جمع الجوامع" عن ظهر قلب بقراءته ساعة أو ساعتين في اليوم لمدة أسبوع. مما دفع هذا الأمر "الملا فتح الله" إلى كتابة العبارة الآتية على غلاف الكتاب:"قد جمع في حفظه جمع الجوامع جميعه في جمعة".
وبدأ أستاذه "الملا فتح الله" بالثناء عليه والإعجاب به في جلساته مع العلماء قائلاً: لقد أتى إلى مدرستنا طالب في أوج شبابه، وأجاب عن كل ما سألته عنه دون توقف. فأعجبت بذكائه النادر وعلمه الوافر أيما إعجاب.(1)
__________
(1) فكان الملا فتح الله أول من أطلق على الملا سعيد لقب "بديع الزمان".(7/10)
ولهذا شاعت أحواله في "سعرد" مما أثار فضول علمائها، فأقبلوا عليه يمتحنونه ويحاولون إحراجه بأسئلتهم وذلك في اجتماع واسع حضره "الملا فتح الله" أيضاً وكان بديع الزمان كلما يوجّه إليه سؤال يمعن النظر في وجه أستاذه "الملا فتح الله" ويجيب وكأنه ينظر إلى كتاب ويقرأ، فالعلماء الذين شاهدوا هذا المنظر حكموا بأنه شاب خارق وأثنوا على ذكائه وعلمه ومنزلته.
وما لبث خبر هذا الشاب أن شاع وانتشر بين الناس في "سعرد" حتى بدأ الناس يوقرونه كتوقيرهم لولي من الصالحين، مما أثار الحسد عند بعض العلماء وطلاب العلوم الآخرين.
كان الملا سعيد في هذه الأثناء في الخامسة عشر من عمره [ثم تنقل في هذه الفترة بين سعرد وبتليس وشيروان وأخيراً ذهب إلى تيللو]”.(1)
1894م (1311هـ)
حفظه القاموس المحيط:
“في أثناء اعتكافه في تيللو حفظ من كتاب "القاموس المحيط" للفيروزآبادي حتى باب السين. وعندما سئل عن سبب قيامه بذلك أجاب:
- إن القاموس يورد المعاني المختلفة لكل كلمة، وقد خطر لي أن أضع قاموساً أنحو فيه عكس هذا المنحى، أي أورد فيه عدد الكلمات المختلفة التي تشير إلى المعنى نفسه…
وذهب إلى ماردين والتقى طالبين؛ أحدهما من طلاب السيد "جمال الدين الأفغاني" والآخر من منتسبي الطريقة السنوسية. فاطلع بوساطتهما على منهج السيد جمال الدين الأفغاني والطريقة السنوسية”.(2)
النظر الحرام:
__________
(1) T.Hayat, ilk hayat?
(2) نفسه(7/11)
مكثت سنتين في مضيف الوالي المرحوم "عمر پاشا" في بتليس بناء على إصراره الشديد لفرط احترامه للعلم والعلماء.. كان له من البنات ست؛ ثلاث منهن صغيرات وثلاث بالغات كبيرات.. ومع أني كنت أعيش معهم في سكن واحد طوال سنتين إلاّ أنني لم أكن أميّز بين الثلاث الكبيرات؛ إذ لم اكن اسدد النظر إليهن كي أعرفهن وأميّز بينهن. حتى نزل أحد العلماء يوماً ضيفاً عليّ، فعرفهن في ظرف يومين فقط وميّز بينهن، فأخذت الحيرة الذين من حولي، لعدم معرفتي إياهن. وبدأوا بالاستفسار:
- لماذا لا تنظر إليهن؟. فكنت أجيبهم:
- صون عزة العلم يمنعني من النظر الحرام !.(1)
حفظ متون تسعين كتابا :
ادرج في دماغه كلمات تسعين كتابا، ويتم قراءة هذا الجزء من حافظته في ثلاثة اشهر بمعدل ثلاث ساعات يوميا، ويمكنه أن يراجع ويخرج من تلك الحافظة ما يشاء ومتى يشاء مما شاهده وسمعه وما تراءى أمامه من صور ومعان وكلمات اعجب بها أو تحير منها، أو رغب فيها.. مع جميع الصور والأصوات طوال عمره الذي ناهز الثمانين.(2)..“فحفظ عن ظهر قلب خلال سنتين من متون الكتب كـ "المطالع"(3) و"المواقف" وأمثالهما من الكتب التي تردّ الشبهات وتدفع الشكوك الواردة على الدين، فضلاً عن حفظه متون كتب العلوم الآلية كالنحو والصرف والمنطق وغيرها، ومتون كتب العلوم العالية كالتفسير وعلم الكلام والحديث والفقه. فبدأ بحفظ متن كتاب "المرقاة"(4) دون حواشيه وشروحه.. فكانت تلك الملكة نعمة عظمى إذ لو كنتُ أجيد الكتابة، لما كانت المسائل تقرٍ في القلب، فما من علم بدأت به سابقا إلا وكنت أكتبه في روحي لحرماني من الكتابة الجيدة.(5)
1897م (1314هـ)
__________
(1) الملاحق - اميرداغ 1/ 312
(2) الملاحق - اميرداغ 2/ 412
(3) مطالع الأنوار في المنطق للقاضي الارموي..
(4) مرقاة الوصول إلى علم الأصول : كتاب في المذهب الحنفي لمحمد بن فرامروز الخسروي (ت : 885هـ)
(5) الملاحق - بارلا /81(7/12)
إطلاعه على العلوم الحديثة في "وان" :
“وقد اقتنع يقيناً أن أسلوب علم الكلام القديم قاصر عن ردّ الشبهات والشكوك الواردة حول الدين، فينبغي استحصال العلوم الحديثة أيضاً.
فطفق يطالع كتب العلوم الحديثة حتى استحصل على أسسها من تاريخ وجغرافية ورياضيات وجيولوجيا وفيزياء وكيمياء وفلك وفلسفة وأمثالها من العلوم. وذلك أثناء مدة قصيرة جداً. وسبر أغوار هذه العلوم بنفسه دون معونة أحد ودون اللجوء إلى مدرس يدرّسها إياه.
فمثلاً: حفظ عن ظهر قلب خلال أربع وعشرين ساعة كتاباً في الجغرافية، قبل أن يناظر في اليوم التالي مدرس الجغرافية ويلزمه الحجة في دار الوالي "طاهر پاشا".
وهكذا لتعدد مواهبه ولذكائه الخارق وقوة ذاكرته، أطلق العلماء عليه أيضاً لقب "بديع الزمان"”.(1)
1899م (1316هـ )
خدمة القرآن غاية الحياة:
إنه لجدير بالأهمية والتأمل، أن مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة 1899م ( 1316هـ) إذ كان يهتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التأريخ لأجل استيعاب العلوم والاستنارة بها. أما بعده فقد علم من الوالي المرحوم "طاهر پاشا" أن أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، إذ سمع منه أن وزير المستعمرات البريطاني(2) قد قال:
__________
(1) T. Hayat, ilk hayat?
(2) وليم جلادستون (1809 - 1898 م) تقلد مناصب وزارية متعددة، تعمق في دراسة الدين فكان مؤلفه الأول (الدولة وعلاقتها بالكنيسة). عيّن رئيساً للوزراء أربع مرات. ألغى الكنيسة الايرلندية.(باختصار عن: الموسوعة العربية الميسرة)(7/13)
"ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً، فلنسع إلى نزعه منهم". فثارت ثائرته واحتدّ وغضب.. وجعله يغيّر اتجاهاته الفكرية مستخدماُ جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى إدراك معاني القرآن الكريم وإثبات حقائقه. ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته. وأصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً وأستاذاً له(1) حتى انه أعلن لمن حوله: "لأبرهننّ للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها"”.(2) فشد الرحال إلى استانبول لتحقيق هذه الغاية .
1907م (1325هـ)
مشروع مدرسة الزهراء:
كنت ألمس الوضع الرديء لما كان يعيشه أهالي الولايات الشرقية فأدركت أن سعادتنا الدنيوية ستحصل - من جهة - بالعلوم الحديثة الحاضرة، وان واحداً من الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتماً المدارس الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة. وحيث إن زمام الأمر في تلك البقاع - التي أغلبيتها الساحقة اُميون - بيد علماء الدين، فهذا الشعور هو الذي دفعني إلى المجيء إلى استانبول.(3) [فقدم إلى السلطان عبد الحميد عريضة في ضرورة إنشاء مدرسة الزهراء في الولايات الشرقية].
اسألوا ماشئتم:
__________
(1) الشعاع الأول. وقد ذكر مصطفى صونغور لي مرارا ما سمعه من أستاذه : "لقد اصبح ما يقرب من تسعين كتاباً حفظته مدارج للصعود إلى حقائق القرآن الكريم. ولما بلغت تلك الحقائق شاهدت أن كل آية كريمة تحيط بالكون وتستوعبه. فلقد كفاني القرآن الكريم من مراجعة أي شئ آخر". انظر ( ش/ 81) (ب/ 119).
(2) T. Hayat, ilk hayat?
(3) صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية/ 450(7/14)
في أثناء مجيئي إلى استانبول قبل عهد الحرية(1)، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئي إليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية إلى المناقشة بإعلاني "اسألوا ما شئتم". إلاّ أن الشيء المحير أن المسائل التي طرحها القادمون كنت قد قرأت أجوبتها في طريقي إلى استانبول وظلت عالقة في ذهني..(2)
تهمة الجنون:
__________
(1) أي إعلان الدستور أوالمشروطية.
(2) الملاحق - أميرداغ 1 / 255 ويسرد السيد " علي همت بركي" وهو من رؤساء محكمة التمييز السابقين ذكرياته حول وصول "بديع الزمان" إلى استانبول فيقول:
"كنت آنذاك طالباً في مدرسة القضاة (أي كلية الحقوق) عندما انتشرت إشاعة تقول إن شخصاً اسمه " بديع الزمان" ذا قيافة غريبة جاء من شرقي البلاد وانه يجيب عن أي سؤال كان يوجه إليه، فشعرنا بفضول كبير وذهبنا لرؤيته.. كان جالساً يتناول بالتفنيد والدحض الفلسفة السوفسطائية بأدلة عقلية ومنطقية.. كان جديراً فعلاً بلقب "بديع الزمان" إذ لم يكن هناك حد لمعلوماته في الفلسفة الإسلامية (أي في علم الكلام) وفي علم اللغة".(ش/ 83)(7/15)
إن وشاية الحاسدين والخصماء، أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله رحمة واسعة.(1) [وعندما حاوره الطبيب]. “استولت الحيرة على الطبيب.. فكتب تقريراً ضمّنه هذا الكلام: لا يوجد بين القادمين إلى استانبول من يملك ذكاءً وفطنة مثله. إنه نادرة العالم! وعلى إثر هذا التقرير حلّت الدهشة والهلع في صفوف المسؤولين في القصر، فأصدروا أمراً مستعجلاً بأخذ سعيد فوراً من المستشفى إلى الموقف. وبعثوا مع وزير الأمن "شفيق باشا" أمراً إدارياً يتضمن تخصيص مبلغ قدره ثلاثون ليرة ذهبية مرتّباً شهرياً مع مبلغ من التبرعات وذلك لأجل إبعاده عن استانبول”.(2) [وكان جوابه]: أنا لست متسول مرتّب وإن بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا إلاّ من اجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم إن ما تحاولون تقديمه لي ليس إلاّ رشوة للسكوت!.. علماً بأنني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جني مرتّب. ثم إن الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة إلاّ بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها إلاّ عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون إلاّ عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتّب..(3)
موقفه من الخلافة والسلطنة :(4)
__________
(1) الشعاعات / 542
(2) مذكرات عبد المجيد ص 6 (ب) / 155
(3) ب / 159- 160
(4) يذكر مصطفى صونغور: قال أستاذنا يوماً بحق المرحوم السلطان عبد الحميد: إن السلطان عبد الحميد ولي من الصالحين. وقد أدخلته ضمن دعواتي الخاصة. فأدعو صباح كل يوم: يا رب ارض عن السلطان عبد الحميد خان والسلطان وحيد الدين والأسرة العثمانية الحاكمة. ب1/184(7/16)
إن السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لا تنفكان وإن كانت وجهة كل منهما مغايرة للأخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الإسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليون، ومن حيث الخلافة ينبغي أن يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وان يكون موضع إمدادهم وعونهم.(1)
1908م (1326هـ)
لقاء مع مفتي الديار المصرية:(2)
في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخ بخيت - مفتى الديار المصرية - سعيداً القديم:
ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوروبائية؟
فأجابه سعيد: إن الدولة العثمانية حبلى بدولة اوروبائية وسوف تلدها يوماً ما، وان أوروبا حبلى بالإسلام وسوف تلده يوماً ما.
فقال له الشيخ الجليل: وأنا اصدّق ما تقوله.
ثم قال لمن حوله من العلماء: لا يُناظر هذا الشاب، ولا أتمكن من غلبته.
فلقد شاهدنا الولادة الأولى، أنها سبقت أوروبا في بُعدها عن الدين بربع قرن. أما الولادة الثانية فسوف تظهر بعد حوالي ثلاثين سنة بإذن الله. سوف تظهر في الشرق والغرب دولة إسلامية.(3)
مع عمانوئيل كراصو:(4)
__________
(1) صيقل الإسلام - السانحات/351
(2) هو الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهائها، ولد في بلدة (المطيعة) التابعة لمحافظة أسيوط من صعيد مصر، وتعلم في الأزهر واشتغل بالتدريس فيه، وانتقل إلى القضاء الشرعي سنة 1297 هـ واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، ثم عين مفتياً للديار المصرية سنة 1333 - 1339 هـ، وله كتب قيمة. توفي سنة 1354هـ.(انظر الأعلام للزركلي 6/274)
(3) الملاحق- اميرداغ 2/ 386
(4) العضو البارز في المحفل الماسوني ورئيس الحاخامين في استانبول والنائب عن سلانيك. أدى دوراً كبيرا في خلع السلطان عبدالحميد الثاني.(7/17)
“حاول اليهودي المعروف "عمانوئيل كراصو" أن يجتمع ببديع الزمان في إطار محاولات التأثير فيه ولم يمانع من مقابلته. ولكن هذا اليهودي سرعان ما قطع الاجتماع وتركه هرباً من تأثير شخصية بديع الزمان إذ قال وهو لا يكاد يصدق نفسه: لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجّني في الإسلام بحديثه”.(1)
موقفه من جون تورك:(2)
س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.
ج: مع إنني أثمّن قيمتهم إلاّ أنني أعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم وأهنئ في الوقت ذاته واستحسن - إلى حدٍّ ما - فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.(3)
إن خطأ "تركيا الفتاة" نابع من عدم معرفتهم أن الدين أساس الحياة. فظنوا أن الأمة شيء والإسلام شئ آخر؛ أوهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة أوحت بذلك واستولت على الأفكار بقولها: إن السعادة هي في الحياة نفسها. إلاّ أن الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضر. والتجارب القاطعة أظهرت لنا: أن الدين حياة للحياة ونورها وأساسها. إحياء الدين إحياء لهذه الأمة. والإسلام هو الذي حقق هذا. إن رقي امتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار إهمالها له، بخلاف الأديان الأخرى. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.(4)
__________
(1) T. Hayat, ilk hayat?.
(2) جون تورك "تركيا الفتاة" : يطلق هذا الاسم على الجماعات والأفراد المعارضين للحكم في الدولة العثمانية منذ عهد السلطان عبد العزيز . تتلخص مطاليب هذه الجماعات والأفراد في إعلان الدستور وتأسيس حياة برلمانية. وتعدّ جمعية الاتحاد والترقي أقوى هذه الجماعات تأثيرا.
(3) صيقل الإسلام - المناظرات / 432
(4) الكلمات/ 861(7/18)
نعم، إنني عارضت شعبة - الاتحاد والترقي - المستبدة هنا، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية، وتسمّت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي.(1)
مواقفه في الفوضى التي ضربت أطنابها عقب إعلان الحرية:
في بداية عهد الحرية.. عمت الفوضى والإرهاب في أوساط الناس بما نشرته الصحف من مقالات محرضة، وشروع الفرقاء (الأحزاب) بتسجيل أسماء الفدائيين، وسيطرة الأشخاص الذين قادوا الانقلاب، وسريان الحرية المطلقة غير المنضبطة إلى أوساط الجنود بما ينافي الطاعة العسكرية..
وبعد أن انفرط عقد الطاعة زرع المستبدون والمتعصبون الجهلاء – والذين تنقصهم المحاكمة العقلية في الدين وضوابطه – البذور في ذلك المستنقع الآسن – بظن الإحسان – وظلت السياسة العامة للدولة بيد الجهلاء و أطلق ما يقارب المليون من الطلقات في الهواء وتدخلت الأيادي الداخلية والخارجية…(2)
وشعرت مراراً في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشيت أن يخلّ عوام الناس بالنظام وأمن البلاد بمداخلتهم في السياسة، فقمت بتهدئة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسان طالب علم قروي قد تعلم اللغة التركية حديثاً..(3) وتوجستُ خيفة من إن يُلوّث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعضُ دعاة الأحزاب أبناء بلدي الذين يقرب تعدادهم من عشرين ألف شخص، حيث إنهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الأماكن والمقاهي التي يتواجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية، بقدر ما يستوعبونه.
__________
(1) صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية/ 452
(2) صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية/ 456
(3) صيقل الإسلام- المحكمة العسكرية / 444(7/19)
ولقد تركت هذه النصيحة أثراً واضحاً في أولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في إنزال البضائع النمساوية(1).. حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن التهور.(2)
1909م (1327هـ)
مساندة جمعية الاتحاد المحمدي :
طرق سمعي أن جمعية باسم "الاتحاد المحمدي" قد تأسست(3)، فتوجست خيفة شديدة من صدور تصرفات خاطئة من بعضهم تحت هذا الاسم المبارك..(4)
هل شارك النورسي في حادثة 31مارت [13 نيسان 1909م]:(5)؟
__________
(1) في 9 رمضان سنة 1326هـ (9 تشرين الأول 1908م) أعلنت النمسا ضم البوسنة والهرسك إليها مستفيدة في ذلك من أفول نجم السلطان عبد الحميد الثاني. وأعلن الحمالون مقاطعتهم لتفريغ البضائع النمساوية، وتطورالموقف حتى أصبح الجو مهدداً بالانفجار، فذهب إليهم "بديع الزمان" وألقى عليهم خطبة جميلة حسب مداركهم استطاع فيها الحيلولة دون التطور السيئ للأحداث.
(2) صيقل الإسلام- المحكمة العسكرية /442
(3) تأسست في 5 نيسان 1909م وأعلن عنها في اجتماع حاشد في جامع أياصوفيا وألقى الأستاذ النورسي هناك خطبة رائعة.
(4) صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية / 447
(5) نشب عصيان بين أفراد طابور عسكري.. فقد ثار الجنود وحبسوا ضباطهم في الثكنة واجتمعوا في منتصف ليلة 31 مارت 1325 رومي ( الموافق 22ربيع الأول 1327هـ) في ميدان السلطان احمد حيث انضم إليهم بعض الجنود من المعسكرات الأخرى معلنين عصياناً دام أحد عشر يوماً، راح ضحيته بعض الأشخاص.. وساد جو من الهرج والمرج واطلاق الرصاص عبثاً، وكان الجنود يهتفون: نريد الشريعة.. نريد الشريعة.. انتهت هذه الحادثة بوصول جيش الحركة الذي وجّهه الاتحاديون من سلانيك ، بقيادة "محمود شوكت باشا" لقمع العصيان وإعادة سلطة الإتحاديين.. فسيطر على الوضع. كما أعلنت الأحكام العرفية وشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن هذه الحادثة. (عن "تاريخ الدولة العثمانية" لإسماعيل دانشمند 4/ 375)(7/20)
لقد شاهدت الحركة الرهيبة التي حدثت في (31) مارت لبضع دقائق. فسمعت مطالب عدة..فبعد ثلاث دقائق انسحبت … ثم تصفحت الجرائد ورأيت أنهم أيضاً يرون تلك الحركة حركة مشروعة ويصورونها على هذه الصورة، ففرحت من جهة. لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً. ولكن يئست اشد اليأس وتألمت كثيراً باختلال الطاعة العسكرية. فخاطبت الجنود بلسان جميع الجرائد.(1)
إرجاعه الجنود إلى الطاعة:
ذهبت بصحبة العلماء يوم الجمعة إلى الجنود الذين تمردوا في الوزارة الحربية. وقد أعيدت ثمانية طوابير إلى الطاعة بخطب مؤثرة جداً. ولقد أظهرت نصائحي فوائدها بعد مدة..(2)
سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية:
لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في أثناء حادثة (31) مارت:
إنني طالب شريعة، لذا ازن كل شئ بميزان الشريعة. فالإسلام وحده هو ملتي، لذا أُقيّم كل شئ وانظر إليه بمنظار الإسلام.
وإنني إذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه " السجن" منتظراً في محطة الإعدام، القطار الذي يقلني إلى الآخرة، اشجب وانقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهاً إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: (يوم تبلى السرائر) (الطارق: 9) فمن كان أجنبياً غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق.(3) تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:
قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب استانبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟
فأنا الآن مثل ذلك القروي مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.
__________
(1) صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية / 452
(2) صيقل الإسلام- المحكمة العسكرية /449
(3) حيث يشاهد جثث خمسة عشر من المشنوقين عبر النافذة.(7/21)
لذا فان إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فما دونه ليس عذاباً ولا عقاباً بل فخراً وشرفاً.
لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد. إلاّ أنها الآن تعادي الحياة بأكملها. فان كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين…
في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:
وأنت أيضاً قد طالبت بالشريعة!
قلت: لو كان لي ألف روح، لكنت مستعداً لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.. ثم غادر استانبول إلى "وان".
إلى الشام:
[سافر إلى الشام شتاءً في أواخر سنة 1910م (1329هـ) وهناك ألقى خطبة في الجامع الأموي،]“طبعت هذه "الخطبة الشامية"(1) مرتين في حينه. وقد شخّص فيها أمراض الأمة الإسلامية المادية منها والمعنوية. وكذلك الأسباب التي أدّت إلى أسارة العالم الإسلامي وتعرضه للمهالك وبيّن فيها طرق العلاج والخلاص...(2) [ثم عاد إلى استانبول للسعي في إنشاء مدرسة الزهراء].
مصاحبته للسلطان رشاد في سياحته:
رافقتُ أيضاً السلطان رشاد في سياحته إلى "روم ايلي"(3) ممثلاً عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية… فمنح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك الجامعة، وأرسيتُ قواعدها فعلاً - في منطقة إرتَميت على ضفاف بحيرة "وان" - إلاّ أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.(4)
1913 م(1331هـ)
__________
(1) النص الكامل لترجمتها في صيقل الإسلام.
(2) T. Hayat, ilk hayat?
(3) وهي المناطق العثمانية في قارة أوروبا .
(4) الملاحق - قسطموني / 126(7/22)
حادثة بتليس:(1)
جاءني قبيل الحرب العالمية السابقة (الأولى) في مدينة "وان" بعض الأشخاص المتدينين والمتقين وقالوا لي:
إن بعض القواد تصدر منهم أعمال ضد الدين. فاشترك معنا لأننا سنعلن العصيان عليهم. قلت لهم:
إن تلك الأعمال اللادينية وتلك السيئات تعود إلى أمثال أولئك القواد أنفسهم. ولا يمكن أن نحمّل الجيش مسؤوليتها، ففي هذا الجيش العثماني قد يوجد مائة ألف من أولياء الله. وأنا لا أستطيع أن امتشق سيفي ضد هذا الجيش، لذا لا أستطيع أن اشترك معكم.(2) فتركني هؤلاء، وشهروا أسلحتهم، وكانت النتيجة حدوث واقعة "بتليس" التي لم تحقق أي هدف. وبعد قليل اندلعت الحرب العالمية، واشترك ذلك الجيش في تلك الحرب تحت راية الدين ودخل حومة الجهاد، فارتقت منه مئات الآلاف من الشهداء إلى مرتبة الأولياء، فقد وقعوا بدمائهم على شهادات الولاية. وكان هذا برهاناً وتصديقاً على صحة سلوكي وصواب تصرفي في تلك الدعوى.(3)
رؤيا صادقة حول إعجاز القرآن:
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وإبّان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة، الآتي:
__________
(1) هي حادثة عصيان قامت بها العشائر القاطنين حوالي مدينة بتليس في حزبران سنة 1913 برئاسة الشيخ سليم لامتعاضهم من تصرفات غير إسلامية صدرت عن عدد من الضباط فأعلنوا العصيان واحتلوا المدينة لمدة أسبوع، وكادت تشترك معهم أيضاً عشائر مدينة "بيت الشباب" لولا مسارعة الأستاذ النورسي إليهم وتهدئتهم وصرفهم عن العصيان (انظر المثنوي العربي النوري / 201)
(2) وكان هذا مضمون جواب الأستاذ للعديد من رؤساء العشائر الذين كانوا يرومون القيام بالثورة ضد مصطفى كمال. وهو الجواب نفسه مع اختلاف بسيط في العبارات لدى استشارة حسين باشا له في ثورة الشيخ سعيد. وبهذا الجواب حقن دماء المسلمين.
(3) الشعاعات / 421(7/23)
رأيت نفسي تحت (جبل آرارات) وإذا بالجبل ينفلق إنفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال إلى أنحاء الأرض كافة. وأنا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: "لا تخافي يا أماه! انه أمر الله، انه رحيم، انه حكيم". وإذ أنا بتلك الحالة إذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:
- بيّن إعجاز القرآن.
أفقتُ من نومي، وأدركتُ أنه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون إعجازه، حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع من هذا الإعجاز في هذا الزمان - بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً - وأدركتُ أني مرشح للقيام بهذا العمل.(1)
1916م (1334هـ)
تشكيله فرقة المتطوعين:(2)
في أثناء الحرب العالمية الأولى كنت مع الشهيد المرحوم الملا حبيب، نندفع بالهجوم على الروس في جبهة "پاسينلر". فكانت مدفعيتهم تواصل رمي ثلاث قذائف علينا في كل دقيقة او دقيقتين، فمرّت ثلاث قذائف من فوق رؤوسنا تماماً وعلى ارتفاع مترين. وتراجع جنودنا القابعون في الخندق. قلت للملا حبيب للتجربة والامتحان:
ما تقول يا ملا حبيب؟ لن اختبئ من قنابل هؤلاء الكفار. فقال: وأنا كذلك لن أتخلف عنك ولن أفارقك. فوقعت الثانية على مقربة منا. فقلت للملا حبيب واثقاً من الحفظ الإلهي لنا: هيا نتقدم إلى الأمام! إن قذائف الكفار لا تقتلنا، نحن لن نتدنى إلى الفرار والتراجع.
وكذا الأمر في معركة "بتليس" وفي الجبهة الأمامية منها، فقد أصابت ثلاث طلقات للروس موضعاً مميتاً مني وثقبت إحداها سروالي ومرت من بين رجليّ..(3)
__________
(1) المكتوبات/ 475
(2) دخل الأستاذ واعظاً في الجيش العثماني سنة 1914م وفي سنة 1915 شكّل فرق المتطوعين "الأنصار" وقادهم في جبهة القفقاس.
(3) الملاحق - اميرداغ 2/ 330 - 331(7/24)
"وفي أثناء تلك المعارك كان يعود إلى الخندق ويملي على طالبه النجيب "الملا حبيب" تفسير "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" بل كان يملي أحياناً وهو على صهوة جواده أو في خط الدفاع الأول حتى أتمّ القسم الأعظم من ذلك التفسير الجليل”.(1)
خصلة المسلم النبيلة:
“وكان الفدائيون الأرمن يذبّحون أطفال المسلمين في عدد من المناطق وكان المسلمون يقابلونهم بالمثل في ذبح أطفال الأرمن. ولكن ما أن جُمع ألوف من أطفال الأرمن في المنطقة التي كانت تحت إمرة بديع الزمان حتى أمر الجنود: لا تتعرضوا لهؤلاء الأطفال بشيء. ثم أطلق سراحهم جميعاً دون أن يمس أحدهم بسوء. فعادوا إلى عوائلهم التي كانت خلف الخطوط الروسية. هذا السلوك كان درساً قيماً وعبرة للأرمن مما دفعهم إلى الإعجاب بأخلاق المسلمين. وعلى إثر هذه الحادثة تخلى فدائيو الأرمن عن عادتهم في ذبح أطفال أهالي القرى التي احتلتها القوات الروسية حيث قالوا: إن ملا سعيد لم يذبح أطفالنا بل سلّمهم إلينا فنحن كذلك نفعل بأطفال المسلمين مثله. فتعاهدوا على ذلك".(2)
الأسر:
__________
(1) T. Hayat, ilk hayat?
(2) نفسه(7/25)
أصابتني أربع قذائف دفعة واحدة، وجُرحت في إحداها، وانكسرت ساقي(1)، فبقيت في الماء والطين أربعاً وثلاثين ساعة منتظراً الموت، ومحاصراً من قبل العدو. فهذا الوقت يعدّ احلك أوقاتي اليائسة وأشدها رهبة.(2) "وظل طلابه مع أستاذهم حتى أسرهم الروس".(3)
سجية تحير العقول:(4)
[يروي أحد الشهود هذه الحادثة قائلاً:]
عندما جُرحت واُسرتُ في موضع "بتليس" في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان أيضاً في اليوم نفسه أسيراً. فاُرسل إلى أكبر معسكر للأسرى في سيبريا، واُرسلتُ إلى جزيرة "نانكون" التابعة "لباكو".
__________
(1) بعد أن انكسرت ساق الأستاذ اجتمعنا حوله حالاً وأخذناه إلى جدول ماء مسقف. ووضعنا عدداً من بنادقنا في جدول الماء ومددنا ساقه عليها، حتى أخذ قسطاً من الراحة. ثم توجه إلينا قائلاً: أخوتي لقد حكم عليّ القدر بالأسر، انظروا إلى أمر نجاة أنفسكم . فما أن قال هذا حتى أجهشنا بالبكاء، وقلنا: إلى أين نذهب أيها الأستاذ، فهل يمكن أن نتركك وأنت على وضعك هذا، ألم يبق لنا شرف وغيرة، فلئن متنا أو بقينا أحياء فليكن ذلك في خدمتك. وهكذا مضت علينا أربع وثلاثون ساعة من الوقت ونحن في ذلك الموضع، والبرد الشديد يهلكنا فالثلوج تغطى كل مكان والجوع يفتك بنا - منذ ثلاثة أيام - فضلاً عن الأرق الشديد والخوف يلفنا من كل جانب...وأخيراً قررنا أن يذهب أحدنا - وهوعبدالوهاب الذي يعرف شيئاً من الروسية - لإبلاغ الروس عن موضعنا... وفعلاً تم ذلك فأخذ الروس الأستاذ ممتداً في سدية على أكتافهم ونحن حوله (ب1 / 320 عن خاطرة على جاويش باختصار).
(2) ب/305 عن اللمعات - عثمانية 870
(3) T. Hayat, ilk hayat?
(4) هذا المقال نشر في مجلة "أهل السنة" الصادرة باستانبول في15 تشرين الأول 1948 بقلم صاحبها المحامي عبد الرحيم زابصو.(7/26)
ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش - يقوم له الأسرى احتراماً - وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
- أما عرفني؟
- نعم أعرفه انه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
-فِلمَ إذن قَصَد الإهانة؟
- كلا! معذرة. إنني لم استهن به. وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمر ه عقيدته ؟
- إنني عالم مسلم احمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.
- إذن بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فلتشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه ومحاكمته.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ انه أجابهم بالآتي: "إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فأنا بحاجة إلى جواز سفر للآخرة. ولا أستطيع أن اعمل بما يخالف إيماني..."
وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأودي واجبي تحاه ربي.
فيقوم إلى الوضوء ويتوضأ ثم يشرع في الصلاة وأثناء أدائه لها، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:(7/27)
- أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. واكرر رجائي مراراً: أرجو المعذرة.
إن هذه العزة الدينية، وهذه السجية الرفيعة التي هي قدوة حسنة للمسلمين جميعاً أخبرني عنها أحد أصحابه في معسكر الأسر، وهو برتبة نقيب، وكان شاهد عيان للحادثة.
وأنا ما أن عرفت هذا حتى اغرورقت عيناي بالدموع دون اختيار مني...(1)
صحوة روحية ومدد قرآني:
كنت أسيراً أثناء الحرب العالمية الأولى في مدينة قصية، في شمال شرقي روسيا تدعى "قوصترما". كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر "فولغا" المشهور..
على أي حال.. فقد أصبح "عجزي" و"ضعفي" في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة السواد والمفعمة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى أنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد أيام قليلة. واقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلاّ في عام كامل، ولم اكن ملمّاً باللغة الروسية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة، بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً بـ"وارشو" و"فينا". وهكذا نجوت من ذلك الأسر بسهولة تدعو إلى الدهشة...(2)
1918م (1336هـ)
استقبال رائع:
كان استقبال رائع عند عودتي من الأسر إلى استانبول(3) سواء من قبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وقوبلت بتكريم وحفاوة أكثر مما استحق بكثير...(4)
في دار الحكمة الإسلامية:
__________
(1) الشعاعات 571 - 572
(2) اللمعات/ 359
(3) في 19 من شهر رمضان المبارك 1336هـ الموافق 8 تموز 1918م
(4) اللمعات/ 354(7/28)
لبثت في استانبول لخدمة الدّين في "دار الحكمة الإسلامية" حوالي ثلاث سنوات.(1) “ودار الحكمة الإسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية العامة للدولة العثمانية، وكانت لا تضم إلا كبار العلماء الأفاضل، كمحمد عاكف،(2) إسماعيل حقي ازميرلي، حمدي ألماليلي، وامثالهم”.(3)
[ويصف ابن أخيه عبدالرحمن، حال عمه بالآتي:]
“بعد ما عاد عمي من الأسر سنة 1334رومي ( 1918م) عيّن في دار الحكمة الإسلامية.. وكنت أراقب حالاته، فما كان يأخذ من المرتّب المخصص له سوى ما يقيم أوده، وعندما أستفسر عن سبب ذلك كان يقول: أريد أن أعيش كالسواد الأعظم، فهم يتداركون معيشتهم بهذا القدر من المال، ولا أريد أن اتبع الأقلية المسرفة. وبعد أن يضع المبلغ المخصص لحد الضرورة يدفع الباقي إليّ قائلاً: احفظ هذا. ولكني كنت اصرفه دون علمه مستنداً إلى شفقته الواسعة. ولكن قال لي يوماً: لا يحل لنا هذا المال، لأنه ملك الأمة، فلم صرفته؟ فقد عزلتك عن صرف المال، ونصبتُ نفسي بدلاً عنك.
__________
(1) اللمعات/ 347
(2) محمد عاكف شاعر الإسلام في تركيا (1873 - 1936). رأس تحرير مجلة (الصراط المستقيم) ومجلة (سبيل الرشاد). أصبحت إحدى قصائده النشيد الوطني التركي. اشتهر بديوانه الشعري "صفحات". واسماعيل حقي وحمدي ألماليلي من كبار العلماء لهما خدمات جليلة.
(3) T. Hayat, ilk hayat? ، يروي المؤرخ (إسماعيل حقي القونوي) انه استفسر من أستاذه شيخ الإسلام مصطفى صبري عن سبب ضم النورسي إلى دار الحكمة، أجابه: لأنه ضليع بعلم الحديث النبوي، وأبدى آخرون السبب نفسه "Ayd(nlar Konu?uyor. " / 303 لنجم الدين شاهين أر.(7/29)
مرت الأيام وخطر له أن يطبع ما ألّفه من اثنتي عشرة رسالة، فدفع ما ادّخره من مرتّبه إلى مصاريف الطبع ووزع الرسائل مجاناً سوى رسالة أو رسالتين. وعندما سألته: لِمَ لا يبيع مؤلفاته، قال: لا يجوز لي من هذا المرتّب إلاّ حدّ الضرورة. والباقي للأمة، فأنا بدوري أعدت المال إلى أهله”.(1)
سحقتني آلام الأمة الإسلامية:
“عندما كان يُسأل عمّا يعانيه من آلام نتيجة المصائب والهزائم التي لحقت بالدولة العثمانية كان يجيب:
إنني أستطيع أن أتحمل كل آلامي الشخصية، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني. إنني اشعر بأن الطعنات التي وجّهت إلى العالم الإسلامي وجهت إلى قلبي اولاً، ولهذا تروني مسحوق الفؤاد، ولكني أرى نوراً سينسينا هذه الأيام الحالكة بإذن الله”.(2)
1920م (1338هـ)
مقاومة الإنكليز:
عندما بدأ القائد العام للجيش الإنكليزي الذي احتل استانبول(3) ببذر بذور الخلاف بين المسلمين.. قمت آنذاك بتأليف كتابي "الخطوات الست" ضد الإنكليز وضد اليونانيين، وقام السيد "أشرف أديب"(4) بطبعه ونشره، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية لذلك القائد.
__________
(1) نفسه
(2) نفسه
(3) ففي 13/ 11/ سنة 1919 دخلت خمس وخمسون سفينة حربية من أساطيل دول الحلفاء إلى استانبول حسب هدنة "موندروس التي عقدت في 30/ 10/ 1918".. اثنتان وعشرون منها لانكلترة.. اثنتا عشرة منها لفرنسا.. سبع عشرة منها لإيطاليا.. وأربع منها لليونان.. ووجهت مدافعها نحو قصر الخليفة الذي أصبح في حكم الأسير في قصر "دولمه باغجه". واحتل الإنكليز استانبول في 18 مارت 1920.
(4) وهو من المجاهدين آنذاك، ورأس تحرير مجلة "سبيل الرشاد" الإسلامية.(7/30)
“.. ولما سمع قواد حركة التحرير في الأناضول بتأثير هذه الرسالة في أوساط العامة والخاصة، وعن أعمال "بديع الزمان" ضد المحتلين في استانبول دَعَوه إلى "أنقرة" مرتين تقديراً لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الأمة والبلاد. إلاّ أن الأستاذ النورسي آثر البقاء في استانبول يجابه الأعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلاً:
إنني أريد أن أجاهد في أكثر الأماكن خطراً، وليس من وراء الخنادق، وأرى أن مكاني هنا أخطر من الأناضول".(1) ولكن لتوالي الدعوات استجاب لها سنة 1922م.
الفصل الثاني
سعيد الجديد
1921م (1339هـ)
توحيد القبلة في القرآن:
هوت صفعات عنيفة… على رأس "سعيد القديم" الغافل، ففكّر في قضية أن "الموت حق". ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر واخذ كتاب "فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الگيلاني رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، فوجد أمامه العبارة الآتية:
أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك(2).. يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في "دار الحكمة الإسلامية" وكأنما جئت إليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال أنني كنت أشد مرضاً وأحوج إلى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.
نعم، هكذا خاطبني الشيخ: أنت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!..
قلت: كن أنت طبيبي أيها الشيخ!
__________
(1) T. Hayat, ilk hayat?
(2) أصل العبارة: "يا عباد الله أنتم في دار الحكمة، لابد من الواسطة، اطلبوا من معبودكم طبيباً. يطبّ أمراض قلوبكم مداوياً يداويكم..." وذلك في المجلس الثاني والستين ص 245 من كتاب الفتح الرباني الذي كان مطبوعاً في طبعاته الأولى مع كتاب فتوح الغيب في مجلد واحد موسوم بـ "فتوح الغيب"(7/31)
وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم أتحمل.. لأني كنت اعتبر كلامه موجهاً إليّ.
نعم، هكذا قرأته إلى ما يقارب نصفه.. لم استطع إتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم أحسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولّت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة.. عدت إليه، وأتممت قراءة كتاب "أستاذي الأول". واستفدت منه فوائد جليلة، وأمضيت معه ساعات طويلة أصغى إلى أوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.
ثم وجدت كتاب "مكتوبات" للإمام الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة "ميرزا بديع الزمان" فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبي "ميرزا" وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله. ان هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير "الهمداني" الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد أن يكون هناك أحد غيره قد عاصر الإمام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد أن حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلكما الرسالتين.. والإمام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل أخرى أن: "وحّد القبلة" أي: اتبع إماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!(1)
__________
(1) نص العبارة: "وحيث قد طلبت الهمة من كمال الالتفات فبشرى لك ترجع سالماً وغانماً، لكن لابد من أن تراعي شرطاً واحداً وهو: توحيد قبلة التوجه. فإن جعل قبلة التوجهِ متعددة إلقاءُ السالك نفسه إلى التفرقة... ". المكتوب الخامس والسبعون من مكتوبات الإمام الرباني 1/87 . ترجمة محمد مراد.(7/32)
لم توافق هذه الوصية - آنذاك - استعدادي وأحوالي الروحية.. وأخذت أفكر ملياً: أيهما اتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، إذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم استطع أن اكتفي بواحد منهما.
وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. إذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:
- إن بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو القرآن الكريم فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلاّ في القرآن الكريم..
فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا أن نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـ"الكلمات" والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) إذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية.(1)
السنة النبوية مصابيح الهدى :
عندما كان هذا السعيد الفقير إلى الله يسعى للخروج من حالة (سعيد القديم) ارتج عقلي وقلبي وتدحرجا ضمن الحقائق إزاء إعصار معنوي رهيب، فقد شعرت كأنهما يتدحرجان هبوطا تارة من الثريا إلى الثرى وتارة صُعُدا من الثرى إلى الثريا، وذلك لانعدام المرشد، ولغرور النفس الأمارة.
فشاهدت حينئذ أن مسائل السنة النبوية الشريفة بل حتى ابسط آدابها، كل منها في حكم مؤشر البوصلة الذي يبين اتجاه الحركة في السفن. وكل منها في حكم مفتاح مصباح يضئ ما لا يحصر من الطرق المظلمة المضرة.(2)
سلكتُ طريقاً غير مسلوك:
__________
(1) المكتوبات/ 457 - 459
(2) اللمعات /82(7/33)
.. سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود..(1)
.. لا تحسبن أن ما اكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول. كلا! بل فيض أفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضاً شيئاً سيالاً تذوقه القلوب وهو يزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائق ثابتة انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي..(2)
ما كتبتُ إلاّ ما شاهدت:
ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب وأعداء هائلةً. فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العنايةُ الأزلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، وأغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك... فما كتبتُ إلاّ ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي..(3)
1922 م (1340هـ)
الدعوة إلى أنقرة:
حينما تبدلت نشوة "سعيد القديم" وابتساماته إلى نحيب "سعيد الجديد" وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أرباب الدنيا في "أنقرة" اليها، ظناً منهم أنني "سعيد القديم" فاستجبت للدعوة.(4).. سنة 1338(1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلاّ أنني أبصرتُ - خلال موجة الفرح هذه - زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير .. من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان(5)..
__________
(1) المثنوي العربي النوري/ 35
(2) المثنوي العربي النوري/ 318
(3) المثنوي العربي النوري/ 104
(4) اللمعات/ 351
(5) اللمعات / 267(7/34)
وقد "استقبل استقبالاً حافلاْ من قبل المسؤولين - من نواب ووزراء - والأهلين، وشاهد ما لم يأمله، حيث لمس عدم الاهتمام بالدين في البرلمان وعدم اكتراثهم بالشعائر الإسلامية. فدعاهم ببيان إلى ضرورة العبادة ولاسيما الصلاة ووزع البيان على أعضاء المجلس وقرأه على مصطفى كمال الجنرال كاظم قره بكر”.(1) و“كان من تأثير هذا البيان أن استقام على إقامة الصلاة ستون نائباً، حتى أن الغرفة التي كانوا يؤدون فيها الصلاة لم تعد تسعهم فاتخذوا غرفة أوسع منها لإقامة الصلاة”.(2)
حكم الخائن مردود:
على الرغم من قراءة البيان على النواب إلاّ أنه سبّب نقاشاً مع مصطفى كمال.. حيث قال له أمام ما يقرب من ستين نائباً:
- إننا لا شك بحاجة إلى عالم قدير مثلك، فقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، فاستجبتم الدعوة، إلاّ أن أول عمل قمتم به هو كتابة أمور حول الصلاة فبذرتم الخلاف فيما بيننا.
فأجابه أجوبة شافية ثم قال له محتداً مشيراً بإصبعه إليه :
- پاشا.. پاشا.. إن أعظم حقيقة في الإسلام - بعد الإيمان - هي الصلاة، والذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود.
فاضطر الباشا إلى كظم غيظه وإلى إظهار ما يسترضيه.(3)
__________
(1) T.Hayat, ilk hayat? . وزع البيان في 19/1/1923 والذي استهله بـ"يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم."وهو محفوظ في سجلات المجلس النيابي الذي تأسس في 23/4/1920، ونصه منشور في المثنوي العربي النوري / 200-204.
(2) نفسه
(3) الشعاعات/505 ،487(7/35)
وعرض عليّ - مصطفى كمال - تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي(1) وذلك لعدم معرفة الشيخ باللغة الكردية. وكذلك تعييني نائباً في مجلس المبعوثان (المجلس النيابى) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في "دار الحكمة الإسلامية"، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة..
ولكني عندما لاحظت أن قسماً مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة "الشعاع الخامس"(2) ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط...(3)
1923م (1340 هـ)
ما الإنسان إلا عابر سبيل:
توجهت إلى مدينة "وان". وهناك قبل كل شئ ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـ"خورخور" فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الموجودة في "وان" أثناء الاحتلال الروسي..
__________
(1) الشيخ السنوسى: عمل واعظاً دينياً في الولايات الشرقية وكان له دور بارز في إصدار فتوى الجهاد ضد الإنكليز أثناء الاحتلال .
(2) المقصود الأحاديث الشريفة الواردة حول الدجال والسفياني.
(3) الشعاعات/419-421(7/36)
كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن - ويا للأسف - لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً – كعبد الرحمن المار ذكره .. – رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين،… فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات والإفتراقات غير المحدودة والتخريبات والوفيات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجز وهي: { سبَّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيزُ الحكيم - لهُ مُلك السموات والأرض يحيي ويُميت وهو على كلِّ شئٍ قديرٌ } (الحديد: 1- 2) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والافتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إلى مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: "لا تحصرنَّ نظرك في الخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت إلينا، وأنعمت النظر فينا..".(7/37)
نعم إن حقيقة هذه الآية الكريمة تنبّه بقوة مذكّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك إلى هذا الحدّ سقوط رسالة عامرة شيّدت بيد الإنسان الضيف على صحيفة "وان"، حتى اتخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تحزن على سقوطها في السيل الجارف المخيف المسمّى بالاحتلال الروسي الذي محا آثارها واذهب كتابتها؟ ارفع بصرك إلى الباري المصوّر وهو ربّ كل شئ ومالكه الحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة "وان" تُكتب مجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من أوضاع في الغابر والبكاء والنحيب على خلو تلك الأماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة إنما هو من الغفلة عن مالكها الحقيقي، ومن توهم الإنسان - خطأً - أنه هو المالك لها، ومن عدم تصوره أنه عابر سبيل وضيف ليس إلاّ.. فانفتح من ذلك الوضع المحرق، ومن ذلك الخطأ في التصور بابٌ لحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها - كالحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطى له شكل معين نافع - إذ أصبحت تلك الحالة المحزنة وذلك الوضع المؤلم، ناراً متأججة ألانت النفس. فأظهر القرآن الكريم لها فيض الحقائق الإيمانية بجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية المذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.(1)
وهجرتُ السياسة(2)
مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:
__________
(1) اللمعات/ 379
(2) إن السياسة التي خَبَرها الأستاذ النورسي وعرف عدم جدواها بل ضررها بالإخلاص والعمل الإسلامي هي السياسة الميكيافيلية الحاضرة والتي وصفها بالوحش الكاسر فاستعاذ بالله منها، وفي الوقت نفسه لم يأل جهداً في نصح الحكام وذوي السلطة، إلا أنه لم يتزلف لهم ولم يسر في ركابهم مثلما أنه لم يواجههم مواجهة مادية بإحداث القلاقل والاضطرابات فقد وقف في السياسة مواقف واضحة مشهودة لكنه اتخذ مواقع بعيدة عنها رآها صوابا وسداداً لحفظ الإيمان وخدمة القرآن. ورسائل النور زاخرة بمواقفه هذه من الأحداث عبر حياته الطويلة نقلنا هنا نماذج منها فحسب.(7/38)
رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الأمر إلى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول أمور سياسية، بينما رأيته قد أثنى - في الوقت نفسه - على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فأصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت إليه السياسة وقلت: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة". ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.(1)
سؤال: لِمَ يتجنب سعيد الجديد السياسة تجنباً شديداً وإلى هذا الحد ؟
الجواب: لئلا يضحي بسعيه وفوزه بأكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم انه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والإيمان والتي هي اجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:
إنني أتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة أبدية. وهذا هو الألزم. وحيث إن الإيمان وسيلة الفوز بالحياة الأبدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي اذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بإفادة الناس، لذا أريد أن اخدمهم من هذه الناحية أيضاً. إلاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع إلى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا اقدر عليها، فضلاً عن انه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الإيمان التي هي أهم خدمة والزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل إلى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الإيمان وما جربته في نفسي من أدوية معنوية. لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة…
__________
(1) المكتوبات/ 346(7/39)
وهكذا فإن ترك السعي لحياة أبدية، وترك العمل لنور الإيمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة إنما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطراً إلى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.
* أما إن قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والإيمان عن السياسة؟
فأقول: إن الحقائق الإيمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الألماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا أن يجعلنا منحازين إلى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو إليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون إلى تلك الجواهر النفيسة أنها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.
فيا أهل الدنيا! لِمَ تضايقونني بطرق شتى ولا تدعوني وشأني ؟(1)
قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟.
__________
(1) المكتوبات/77-79(7/40)
الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول – بالنسبة إليّ – فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يعنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى – عندئذٍ – لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها. وإذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد أن أتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة إليّ أيضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، أي بأن اظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة..(1)
1925م ( 1342 هـ)
الثورة تدفع الأخ لقتل أخيه
“بينما كان يقضي حياته في معتكفه على جبل أرك إذا بالثورة تندلع في الولايات الشرقية، فطلب منه قائد الثورة الشيخ سعيد(2)
__________
(1) المكتوبات/76
(2) يذكر الملا حميد الذي لازم الأستاذ النورسي في "وان" و"جبل أرك" هذا الحوار ذا المغزى العميق الذي جرى بين الأستاذ النورسي وحسين باشا وهو شيخ عشيرة حيدران. يقول الملا حمبد :
"كنا مع الأستاذ في جبل أرك في صومعة خربة.. وذات يوم أتى حسين باشا مع اثنين من مرافقيه لزيارة الأستاذ، وبعد أن ربطوا أفراسهم بالأشجار الموجودة في باب الصومعة الخربة دخلوا على الأستاذ وجثوا أمامه في أدب جمّ وقبلوا يده. كان حسين باشا طويل القامة مهيب الهيئة متقلداً شارات وميداليات خاصة بالباشوات في ذلك الوقت. اخرج منديلاً فيه ما يقدر بنصف كيلو من الذهب ووضعه في موضع في الأرض. فسأله الأستاذ: وما ذلك؟ قال: فداك روحي، إنها زكاتي جئت بها إليكم، أخرجتها من خالص أموالي!
الأستاذ: ألم تجد أحدا ممن حولك، من أقربائك، من قريتك، حتى أتيت بها إلى ههنا؟
حسين باشا: سيدي إن أقاربي ومن حولي كلهم اغنياء، لافقير فيهم، فرأيت أنكم المستحق لها.
الأستاذ: لا يجوز نقل الزكاة. فلِمَ أتيت بها وتجاوزت كثيراً من القرى والأرياف!
حسين باشا: يا سيدي! أرجو أن تقبل بضع قطع منها في الأقل وأنفقها على من معك من الطلاب .
الأستاذ: كلا لا يمكن هذا.. لا حاجة لي إلى الزكاة..
وهكذا ردّها ولم يقبلها وبعد قليل خاطبه حسين باشا قائلاً: سيدي أود أن أستشيركم في أمر خاص، أرجو أن تأذن لطلابك بالخروج. لأني أريد أن أتحدث معكم حديثاً خاصاً.
الأستاذ: لا يمكن.. فهؤلاء، جزءٌ من كياني، لا يفارقوني. أفصح ما عندك.
حسين باشا: سيدي ارجو أن تأذن لنا بالعصيان (مع الشيخ سعيد) فنحن مستعدون.
الأستاذ: لِمَ تقومون بالعصيان؟ إن كان لزيد وعمرو ذنب فما ذنب غيرهما.. بل ستراق دماء المسلمين.
حسين باشا: لقد أهلكنا الروس وقتلونا وأبادوا أموالنا وذرارينا، بينما ظل شرفنا مصاناً دون أن يمسّه أحد بسوء. ولكن الآن اصبح ديننا مهدداً وشرفنا معرضاً للهتك. فأذن لنا بالعصيان، فجنودنا المشاة والفرسان على أهبة الاستعداد.
وبعد أن أسهب حسين باشا في توضيح مراده بسرد حوادث كثيرة مؤلمة، والأستاذ مطرق ومستغرق في التفكير، رفع الأستاذ رأسه وقال بكل لطف ولين:
ايها الباشا تعال لنستشر ديوان احمد الجزري ونفتحه متفائلين به. أتقبل ما يقوله الجزري؟
الباشا: نعم!
فاخرج الأستاذ الديوان من جيبه وفتحه متفائلاً به وإذا بهذا البيت أمامهم:
"هن زي ببف دَيري فه تين، قصدا كنيشتي هن دكن
نه ي زي فانم نه ي زي وانم من دَرَي خمار بس"
ويعني : منهم من يرجع من طريق الكنيسة ويدخل الإسلام ومنهم من يعود إلى معبد اليهود فيتهود، اما أنا فلست من هؤلاء ولا من هؤلاء..
قال الأستاذ: أرأيت يا باشا. فأنا الآن لست منكم ولا منهم.
حسين باشا: يا أستاذ لقد أوهنت عزيمتي وأطفأت همتي. فلو عدت إلى عشيرتي سيقولون، جبن الباشا فتخلى عن العصيان.
قال الأستاذ: نعم وليقولوا: جبن وخاف ولا يقولوا: أراق دماً.
وعندما استودع الباشا الأستاذ كرّر عليه الأستاذ ثلاث مرات: لا ترق الدم يا باشا ..لا ترق الدم .. لا ترق الدم..
وعاد حسين باشا إلى عشيرته وفرّق قواته ، لذا لم تحدث أية حادثة في منطقة "وان".( ب1 / 557)(7/41)
استغلال نفوذه لإمداد الثورة إلاّ انه رفض المشاركة وكتب رسالة إليه جاء فيها:
إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحّت في سبيل دينها بمئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية وأنا أيضاً لا استله عليهم”(1) [وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح للأستاذ النورسي اعتقلته الحكومة مع رؤساء العشائر والمشايخ وأصحاب النفوذ في الولايات الشرقية، ونفتهم إلى غربي الأناضول]..
منفى بارلا
(المدرسة النورية الأولى)
1 مارت 1927- 25 نيسان 1935
محاولة إخماد جذوة الإيمان:
“وضعت العديد من القوانين واتخذت الكثير من القرارات لقلع الإسلام من جذوره وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون من الزمان. فمُنع تدريس الدين في المدارس كافة، وبُدّلت الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحُرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وجرت محاولات التعبد بقراءة ترجمة القرآن الكريم. كما أُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، إذ حُظر طبع الكتب الإسلامية، وأُرغم الناس على تغيير الزي إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة والنساء على السفور والتكشف.. وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة.(2)
__________
(1) T.Hayat, ilk hayat? والرسالة هذه محفوظة في محافظ محكمة الاستقلال في ملف الشيخ سعيد.( ب/531)
(2) لقد آثر علماء كثيرون وأدباء أجلاء ترك البلاد على لبس القبعة. وقد حدثت ثورات ضد السلطة الحاكمة آنذاك في أنحاء مختلفة من البلاد .
وقد صرّح الجلاد "قارا علي" إلى صحيفة "صون بوسطة" في عددها الصادر في 3/ 3/ 1931بالآتي: علّقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في إثنتي عشرة سنة الماضية.. ووصفت صحيفة "جمهوريت" في عددها الصادر يوم 16/ 7/ 1930 الأعمال الجارية في شرقي الأناضول كالآتي: لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي إلى مغارات جبل آرارات، وألقت طائراتنا قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفجارات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ إليها الأشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أبيدوا والبالغ عددهم "ألف وخمسمائة شخصا" Bediuzzaman Said Nursi,Yavuz Bahad(ro?lu/200(7/42)
فساد جو من الذعر و الإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة. ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد وحلت محل كلمات (الله، الرب، الخالق، الإسلام) كلمات (الطبيعة، التطور، القومية التركية..الخ).
وأخذ المعلمون والمدرسون يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار إذ أصبحوا يلقنونهم الفلسفة المادية وإنكار الخالق والنبوة والحشر. وسعت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها إلى قطع كل الوشائج والعلاقات التي تربط هذه الأمة بدينها ونزع القرآن من قلوبهم، حتى أنها قررت جمع المصاحف من الناس وإتلافها، ولكن لما رأوا صعوبة ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإيمان والإسلام فيتولى بنفسه إفناء القرآن.(1)
في بارلا:
“وصل الأستاذ سعيد النورسي إلى منفاه "بارلا" (2)
__________
(1) .Hayat, Barla hayat?
(2) يقص "شوكت دميرآي" وهو الجندي المكلّف بنقل الأستاذ النورسي إلى ناحية "بارلا" ذكرياته فيقول:
"كُنتُ في مدينة "اغريدير" عندما استدعوني إلى مركز البلدية صباح أحد الأيام.. فذهبت إليه وكان هناك القائمقام وآمر الجندرمة مع أعضاء هيئة البلدية وشخص معمم في العقد الرابع من عمره يلبس جبّة وله هيئة وقورة.
خاطبني آمر الجندرمة قائلاً:
- اسمع يابني، عليك أن تأخذ شيخنا هذا المعروف ببديع الزمان إلى بارلا. إن وظيفتك هذه مهمة جداً، وعندما تسلّمه إلى المخفر هناك دعهم يوقعوا على الأوراق الرسمية ثم اخبرنا بذلك. قلت له :حسناً يا سيدي.
خرجت مع الشيخ وفي الطريق قلت له:
- يا شيخنا أنت بمثابة والدي وان هذه وظيفة كلّفتُ بها فأرجو أن لا تستاء منّي.
ثم يستمر في وصف الرحلة بالقارب فيقول:
"كان الجو بارداً، فالفصل شتاء ومياه البحيرة متجمدة هنا وهناك وأحد جذافي القارب يكسر الثلوج بعصاً طويلة في يده ويفتح بذلك طريقاً للقارب.
بدأ الشيخ بديع الزمان بتوزيع بعض الزبيب وبعض الحلوى علينا، كنت أتفحصه بدقة فوجدته هادئاً كل الهدوء إذ كان يتأمل في البحيرة والجبال المحيطة بنا..
ولكون النهار قصيراً فقد أزف وقت صلاة العصر بسرعة . اراد ان يصلي واقفاً فوجّهنا القارب باتجاه القبلة . سمعت صوتاً يقول:
- الله اكبر!.. لم اكُن قد سمعت في حياتي كلّها تكبيرة بهذه الرهبة والخشوع، شعرت بان الشعرَ في أجسادنا قد وقف. لم تكن حركاته وأطواره تشبه أطوار الشيوخ الذين عرفناهم..
كُنا نحاول جهدنا ان نبقي على القارب باتجاه القبلة وعندما انهى الشيخ صلاته، التفتَ الينا قائلاً:
- شكراً لكم يا اخوتي، لقد أتعبتكم!
كان شخصاً متواضعاً ودمث الأخلاق".ذكريات عن سعيد النورسي/30، ش/259(7/43)
من أعمال "اسپارطة" في غربي الأناضول في 1/3/1927 حيث قضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتألف من غرفتين ويطلّ على مروج "بارلا"، وبساتينها الممتدة إلى بحيرة "أغريدير" العذبة، وأمامه البيت شجرة عالية من أشجار الدلب.
صنع أحد النجارين غُرفة خشبية مكشوفة صغيرة بين أغصانها. فكان الأستاذ يقضي فيها اغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف متعبداً لله، ومتأملاً ومتفكراً حتى انبلاج الصباح في معظم الأحيان، فلا يعرف أهالي "بارلا" متى ينام الأستاذ ومتى يستيقظ! ولا يمر أحد قرب تلك الشجرة في سكون الليل إلاّ ويسمع هَمْهمة العالم المُتعبّد المتهجد.
كان الأستاذ معتل الصحّة دائماً وكان قليل الإقبال على الطعام، بل يمكن القول بأنه قضى عمره كله وهو نصف شبعان ونصف جائع، إذ كان يكتفي في اليوم الواحد بإناء صغير من الحساء مع كسرات من الخبز، ويأتيه طعامه من بيت أحد الجيران، وكان يدفع ثمن الطعام دائماً وبإصرار، إذ كان شعاره الذي طبّقه طوال حياته هو ألاّ يأخذ شيئاً من أحد دون مقابل، وقضى حياته كلها ملتزما بهذا الشعار ولم يتخل عنه في أصعب الظروف مستغنياً عن الآخرين بما فرضه على نفسه من الاقتصاد والبركة وعلى ما ادّخره سابقاً من الليرات.
كانت عيون السُلطة تترصّدُ الأستاذ وتُراقب حركاته وسكناته لذا كان الأهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي أكثر وقته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل "چام".ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الأشجار متأملاً ومتعبدا”.(1)
__________
(1) T.Hayat, Barla hayat?
" خرج الأستاذ أحد أيام الصيف من بيته متوجهاً إلى الجبل كعادته.. كان الجو صحواً والشمس مشرقة وما أن وصل إلى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء أن أرعدت وأبرقت وبدأت الأمطار تسقط بغزارة.. كان الأستاذ وحيداً على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي فيه سَيلَ المطر المُنْهَمر سوى الأشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البَلل، وبعد مدة ليست بالقصيرة خفّت شدة المطر واخذ ينزل رذاذاً، وأنتهز الأستاذ الفرصة وقفل راجعاً الى البلدة، وقد تبلّل من رأسه الى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاءه، فدخل البلدة وهو يَحملُ حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء.
وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي "بارلا" مجتمعين يتحدثون، شاهدوا هذا المنظر المؤثر، منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع، وهو يحمل حذاءه الممزق بيده، ويغوص في الطين بجواربه، وقد تلطخت أطراف ثيابه بالطين. خيّم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان مختلفتان، عاطفة الإسراع لمد يد المساعدة إليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته، وأخيراً يندفع من بين الجمع شخص اسمه "سليمان" ويصل إليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منزله ويصعد معه إلى غرفته.ويصبح (سليمان كروانجي) هذا أول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا. وكان مثالاً للصدق والوفاء والإخلاص. توفي في سنة 1965 رحمه الله رحمة واسعة". ذكريات عن سعيد النورسي/32 ش/277(7/44)
الحظوة باسم الله "الرحيم" و "الحكيم"
إن قسماً من أهل الحقيقة يحظون باسم الله "الودود" من الأسماء الحسنى، وينظرون إلى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك أخوكم هذا الذي لا يعدّ شيئاً يذكر، وهو لا شئ، قد وُهب له وضع يجعله يحظى باسم الله "الرحيم" واسم الله "الحكيم" من الأسماء الحسنى، وذلك أثناء ما يكون مستخدماً لخدمة القرآن فحسب، وحين يكون منادياً على تلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبها.
فجميع "الكلمات" إنما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى ان تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة: (ومَن يؤتَ الحِكمةَ فقد اُوتيَ خيراً كثيراً) (البقرة:269).(1)
إطلاق إسم "رسائل النور"
إن سبب إطلاق اسم "رسائل النور" على مجموع الكلمات (وهي ثلاث وثلاثون كلمة) والمكتوبات (وهي ثلاثة وثلاثون مكتوباً) واللمعات (وهي إحدى وثلاثون لمعة) والشعاعات (وهي ثلاثة عشر شعاعاً) هو:
إن كلمة النور قد جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:
قريتي اسمها: نورس.
اسم والدتي المرحومة: نورية.
و أستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد.
وأستاذي في الطريقة القادرية: نور الدين.
وأستاذي في القرآن: نوري.
واكثر من يلازمني من طلابي من يسمّون باسم نور .
واكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.
وأول آية كريمة إلتمعت في عقلي وقلبي وشغلت فكري هي (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكوة) (النور: 35)
وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو: اسم "النور" من الأسماء الحسنى.
ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه فان إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي الله عنه.(2)
الرسائل ملك القرآن:
__________
(1) المكتوبات/23-24
(2) الملاحق - بارلا/71(7/45)
إن الرسائل ليست ملكي ولامني بل هي ملك القرآن. لذا أراني مضطراً إلى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم. نعم، لا تُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سويقاتها اليابسة؛ فأنا كتلك السويقات اليابسة لتلك الأعناب اللذيذة.(1)
ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما أوتيت من قوة: إن (الكلمات) جميلة رائعة وإنها حقائق وإنها ليست مني وإنما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم اجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها لكن الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها..(2)
طريقة فريدة في الدعوة:
"كانت الحروف العربية قد بدّلت إلى حروف لاتينية، وحظر الطبع والنشر بها، وأغلقت مطابعها، فكانت هذه الطريقة "طريقة النسخ" باليد سراً هي الطريقة الوحيدة والعملية لنشر مؤلفات رجل منفي ومراقب، قد سدت في وجهه جميع سبل التأليف والنشر، وخاصة وانه كان يريد - بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية - المحافظة عليها من الاندثار والنسيان.(3)
__________
(1) المكتوبات/476
(2) المكتوبات/477
(3) يقول عبد الله جاويش (1895 - 1960) وهو من السابقين في هذه الخدمة القرآنية: "ذات يوم جئت إلى الأستاذ، وإذا بالحافظ علي وعدد من الطلاب عنده، بدأ الأستاذ يوزع أجزاء من القرآن الكريم عليهم ليستنسخوه مع تعليمات بكيفية الاستنساخ، وحيث أنا أمي لا اعرف الكتابة والقراءة، قمت لأهيء الشاي لهم كي أشاركهم في الأجر ولكن ما إن أتيت بالشاي لأوزعه عليهم حتى نهض الأستاذ واخذ الشاي مني وبدأ هو بالتوزيع فخجلت، إذ كيف يوزع الأستاذ الشاي على طلابه! ولكني سكت أمام إلحاحه الشديد... ثم قال:
إن استنساخكم أجزاء من القرآن الكريم، وسعيكم في سبيل القرآن مقبول عند الله الذي يراكم في وضعكم هذا، وملائكته الكرام يلتقطون صوركم في أوضاعكم هذه، وأنا لكوني خادماً للقرآن الكريم ينبغي أن أقوم بخدمتكم.. فوزع عليهم الشاي وهم منهمكون بالاستنساخ". ذكريات عن سعيد النورسي/33.
ويذكر أيضا:"كنت اغادر قرية "إسلام" بعد المغيب حاملاً في حقيبتي الرسائل التي استنسخها "الحافظ علي" وأسير الليل كله مشياً على الأقدام بين الجبال والوديان حتى اصل مع الفجر إلى "بارلا" فأرى الأستاذ في انتظاري، يستقبلني بسرور بالغ فنصلي الفجر معاً. ثم استسلم للنوم.. وهكذا كنت أتسلم في اليوم التالي المسودات من الأستاذ، وأغادر "بارلا" ليلاً لأصل "قرية إسلام" فاسلّم المسودات إلى الحافظ علي". ذكريات عن سعيد النورسي/33(7/46)
بقيت "رسائل النور" عشرين سنة تنتشر بهذه الطريقة، وبعد ذلك طبعت لأول مرة بـ( الرونيو). ولم يقدّر لها أن تطبع في المطابع الاعتيادية إلاّ سنة 1956م هذا باستثناء رسالة الحشر، التي طُبعتْ خفية في استانبول بوساطة أحد طلاب النور…
وعندما بدأت حلقات الطلاب تتسع، بدأت الرسائل تصل إلى القرى والنواحي القريبة من "بارلا" وتلقفتها الأيدي سراً، وتوصلها حتى إلى المدن البعيدة، حيث بدأت تكتسب قلوباً جديدة وأرواحاً عطشى إلى الهداية والنور في تلك الظروف المحرقة والأحوال المظلمة الحالكة.
بدأت عشرات، ثم مئات، ثم آلاف من طلبة النور رجالاً ونساءً في الانكباب على استنساخ "رسائل النور" ساعات عديدة من الليل والنهار حتى أن بعضاً منهم قضى سبع سنين لم يغادر منزله وهو مكب على هذه المهمة.حتى كان في قرية "ساو" القريبة من اسپارطة ألف من مستنسخي الرسائل…
وساهمت النساء في هذه الحملة مساهمة فعّالة جديّة فالفتيات اللآئي كنَّ يعرفن الكتابة ساهمن فيها بالاستنساخ، واللآئي يجهلنها كُنَّ يُقلّدنَ الكتابة تقليداً، أي يقمن بالكتابة على طريقة النقش والتصوير.
وقد أتت بعض النسوة إلى الأستاذ سعيد النورسي قائلات له:
يا أستاذنا.. إننا قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا لعلهم يتفرغون كلياً لكتابة "رسائل النور" لنغنم ثواب المشاركة في الخدمة”.(1)
علاقة الطلاب بالأستاذ:
اخوتي الأعزاء!
إن أستاذكم ليس معصوماً من الخطأ، بل من الخطأ الاعتقاد أنه لا يخطئ. ولكن وجود تفاح فاسد في بستان لا يضر بالبستان، ووجود نقد مزوّر في خزينة لا يسقط قيمة الخزينة. ولما كانت السيئة تعدّ واحدة بينما الحسنة بعشر أمثالها، فالإنصاف يقتضي: عدم الاعتراض وتعكير صفو القلب تجاه الحسنات، إذا ما شوهدت سيئة واحدة وخطأ واحد..
__________
(1) T.Hayat, Barla hayat?(7/47)
اعلموا يا اخوتي ويا رفقائي في الدرس! إنني اسرّ إن نبهتموني بكل صراحة لأي خطأ ترونه عندي. بل أقول: ليرضَ الله عنكم إذا قلتموه لي بشدة. إذ لا ينظر إلى أمور أخرى بجانب الحق. إنني مستعد لقبول أية حقيقة كانت يفرضها الحق، وان كنت أجهلها ولا اعرفها فأقبلها وأضعها على العين والرأس ولا أناقشها مهما كانت مخالفة لأنانية النفس الأمارة.
اعلموا! إن هذه الوظيفة الإيمانية وفي هذا الوقت جليلة ومهمة. فلا ينبغي لكم أن تضعوا هذا الحمل الثقيل على كاهل شخص ضعيف مثلي، وقد تشتت فكره. بل عليكم معاونته قدر المستطاع.(1)
المدرسة اليوسفية الأولى
سجن أسكي شهر
25/نيسان/1935 - 27/مارت/1936
“إن أعداء الإسلام الذين يتربصون الدوائر بكل حركة تمدّ الإيمان وتخدم القرآن ما إن شعروا أن رسائل النور تنتشر والإيمان يترسخ في قلوب الناس، حتى دبّروا مكيدة لإلقاء القبض على الأستاذ النورسى وطلاب النور واتهامهم بتشكيل جمعية سرية، والقيام بأعمال ضد النظام الحاكم تهدد بهدم أسسه.. وأمثالها من التهم. وعلى إثر هذا أُخذ الأستاذ النورسى ومائة وعشرون من طلابه في 25 نيسان وسيقوا مكبلي الأيدي إلى "اسكي شهر" لمحاكمتهم..ووضعوا في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وأوقعوا فيهم عذاباً رهيباً. ولكنه رغم الظروف الشاقة استمر الإرشاد والتوجيه، فتحول كثير من المسجونين إلى ذوي صلاح وتقوى.
__________
(1) الملاحق - بارلا/62(7/48)
وعلى الرغم من جمع "رسائل النور" من بيوت الطلاب وإجراء التحريات الدقيقة فان المحكمة لم تعثر على مادة للاتهام، ولكن مع هذا حكمت المحكمة بقناعة الحاكم الشخصية على الأستاذ النورسي بالسجن أحد عشر شهراً ، وعلى خمسة عشر من طلاب النور بستة شهور وأُطلق سراح البقية. فلو كانت التهم حقيقية لكانت عقوبتها الإعدام أو الأشغال الشاقة في الأقل. ولأجل هذا فقد اعترض الأستاذ النورسي على قرار المحكمة الجائر الاعتباطي موضحاً أن هذه العقوبة إنما تنزل على سارق بغل أو مختطف بنت، فطالب المحكمة بالبراءة أو الإعدام أو مائة سنة من السجن”.(1)
مقتطفات من دفاع الأستاذ النورسي
في محكمة "اسكي شهر"
أيتها الهيئة الحاكمة المحترمة! لقد اتهموني ببضع مواد فأوقفوني.
منها: وقوع إخبار بوجود النية بالسعي للإخلال بالأمن العام عن طريق استغلال الدين بقصد إرجاع الشريعة (الرجعية).
الجواب: أولاً، الإمكان شيء والوقوع شئ آخر. فمن الممكن أن يقتل أي إنسان أناساً كثيرين. فهل يحاكم أحد بتهمة "إمكان القتل"؟ ومن الممكن أن يحرق عود الكبريت بيتاً كاملاً. فهل تمحى علب الكبريت بناء على هذا الممكن؟
حاش لله ألف مرة! إن العلوم الإيمانية التي هي شغلنا الشاغل تأبى أن تُستغل لشيء سوى رضا الله. نعم، لن يكون الإيمان الذي هو المفتاح النوراني والقدسي للحياة الأبدية وشمس الحياة الأخروية، آلة بيد الحياة الاجتماعية السياسية الدنيوية، مثلما لا يمكن أن تتبع الشمس آثار القمر!...
ومنها: إن "رسائل النور" تقف في القابل سداً أمام مبدأ التحرر للحكومة، وتخل بالأمن العام، بسبب انتشارها بغير إذن حكومي، وتقويتها للمشاعر الإيمانية.
__________
(1) T. Hayat. Eski?ehir Hayat?(7/49)
الجواب: "رسائل النور" نور، ولا يتولد ضرر من النور. وقد ألقت بصولجان السياسة جانباً منذ ثلاث عشرة سنة، وأنها تُرسّخ الحقائق القدسية التي هي أسس الحياتين - الدنيا والآخرة -لهذا الشعب وهذا الوطن. وأُشهد جميع الذين قرأوا أجزاءً منها على نفعها – من غير أدنى ضرر تسببه- لتسعة وتسعين في المائة من هذه الملة المباركة. فليخرج واحد وليدّعي أنه رأى فيها ضرراً!
ومنها: وقوع إخبار أني أدرس درس الطريقة (الصوفية) التي منعتها الدولة.
الجواب:
أولاً: كتبي التي في أيديكم كلها تشهد أنى منشغل بالحقائق الإيمانية. ولقد كتبت مرات عديدة في رسائلي "إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة، بل زمان إنقاذ الإيمان. وكثيرون جداً يدخلون الجنة بغير طريقة ( الصوفية) ، ولكن لا أحد يدخلها بغير إيمان. لذلك ينبغي العمل للإيمان".
ثانياً: أنا موجود في ولاية "اسپارطة" منذ عشر سنين. فليدّعي إنسان واحد أني علّمته درساً في الطريقة. نعم.. قد درّست بعض الخواص من اخوة الآخرة دروساً في العلوم الإيمانية والحقائق العالية باعتباري عالماً. و هذا ليس تعليم طريقة، بل تدريس حقيقة..
يقولون: انك لا تضع القبعة على رأسك ولا تنزع عمامتك في المحكمة وأمثالها من الدوائر الرسمية، بمعنى انك ترفض تلك القوانين، علماً أن رفضها يوجب عقوبة شديدة.
الجواب: إن ردّ القوانين شيء، وعدم العمل بها شيء آخر مغاير عنه تماماً. فإن كانت عقوبة الأول الإعدام، فعقوبة الآخر يوم واحد من السجن أو غرامة نقدية قدرها ليرة واحدة، أو إنذار أو توبيخ.
فأنا لا اعمل بتلك القوانين، ولست مكلفاً بها، لأنني أعيش عيش الانزواء، فهذه القوانين لا تسرى على معتكف منزوٍ…(1)
منفى قسطموني
(المدرسة النورية الثانية)
1936-1943م
تجلي العناية الإلهية:
__________
(1) نفسه(7/50)
عندما ساقوني منفياً إلى قسطموني بعد أن أكملت سنة محكوميتي في سجن "اسكي شهر"(1) و أنا الشيخ الهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة اشهر. ...(2)
فبينما كان اليأس يحيط بي من كل جانب، إذا بالعناية الإلهية تغيث شيخوختي، إذ اصبح أفراد الشرطة المسؤولون في ذلك المخفر بمثابة أصدقاء أوفياء، حتى كانوا يخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول المدينة وقاموا بخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لم يصروا عليّ بلبس القبعة قطعاً. ثم دخلتُ المدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك المخفر في قسطموني.(3)
العلوم تعرّف بالخالق:
جاءني فريق من طلاب الثانوية في "قسطموني"(4) قائلين: عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لا يذكرون الله لنا !.
فقلت لهم:
إن كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوما، ويعرّفكم بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين..
__________
(1) في 27/ 3/ 1936
(2) حيث اُكره الناس على لبس القبعة والزي الأوروبي بعد صدور (قانون القيافة).
(3) بيت صغير يقع أمام المخفر مباشرة، لكي يكون تحت المراقبة الدائمة.
(4) في تلك السنوات الحالكة كانت معاول الهدم تهدم الإيمان بالله في نفوس الجيل الجديد، وتثير الحيرة فيه. يتحدث "عبد الله يكن" عن حيرته هذه عندما كان طالباً في المدرسة المتوسطة، فيقول بان مدرسيه لم يكونوا يتحدثون قطعاً عن (الله) فكان يذهب هو وصديق له يدعى "رفعت" لزيارة بديع الزمان: "كنا أنا وصديقي رفعت نزوره على الدوام، فكان يتحدث معنا عن أهمية الإيمان، وعن وحدانية الله، وان الإنسان لم يخلق للعيش بدون ضوابط، وكنا نحسّ في أعقاب كل زيارة بأننا قد ولدنا من جديد، وكانت نفوسنا تطفح بالسعادة المعنوية وبالبشر والفرح". ش/331(7/51)
فمثلا: لو كانت صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فإنها ترينا أن وراءها صيدلياً حكيماً وكيميائياً ماهراً.كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء – نباتا وحيوانا – وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيماوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها، قياسا على تلك الصيدلية التي في السوق، على وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه...(1)
المدرسة اليوسفية الثانية
سجن دنيزلي
20 أيلول 1943 -15 حزيران 1944
التُهم تترى كسابقتها:
بدأ أعداؤنا المتسترون يحرّضون علينا بعضاً من المسؤولين وبعضاً ممن يعتدّون بأنفسهم والمغرورين من العلماء والمشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جمعنا في تلك المدرسة اليوسفية "سجن دنيزلي" مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.(2)
“أما التهمة الموجهة، فهي كسابقاتها:
تأليف جمعية سرية، وتحريض الشعب على الحكومة العلمانية، ومحاولة قلب نظام الحكم، ثم تسمية مصطفى كمال بـ "الدجال" و"السفياني"”.(3)
__________
(1) الشعاعات
(2) اللمعات/403 وكان عدد طلاب النور المتهمين مع الأستاذ النورسي(126) طالباً.
(3) T. H. Denizli Hayat?(7/52)
وهكذا ساقونا إلى سجن دنيزلي وزجّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برد شديد، فاعتراني حزن وألم عظيمان من جراء ابتلاء أصدقائي الأبرياء بسببي فضلاً عن الحزن النابع مما أصاب انتشار "النور" من عطل ومصادرة مع ما كنت أعانيه من الشيب والمرض.. كل ذلك جعلني أتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى أغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب إلى مدرسة نورية، فحقاً إن السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع، حيث بدأ أبطال "مدرسة الزهراء" بكتابة تلك الرسائل بأقلامهم الألماسية. حتى أن بطل النور قد استنسخ اكثر من عشرين نسخة من رسالتي "الثمرة" و"الدفاع" خلال مدة لم تتجاوز أربعة اشهر، مع ضراوة تلك الظروف المحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه. فحوّلت ضررنا في تلك المصيبة إلى منافع وبدّلت ضجرنا وحزننا إلى أفراح، مبدياً مرة أخرى سراً من أسرار الآية الكريمة: (وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم) (البقرة: 216)..(1)
السجناء يتوبون:
.. ما إن دخل طلاب النور ورسالة "الثمرة" التي كتبت للمسجونين حتى تاب أكثر من مائتي سجين وتحلّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى أن قاتلاً لأكثر من ثلاثة أشخاص صار يتحاشى أن يقتل (بقة الفراش). فلم يعد عضواً مدفوع الضرر، بل اصبح نافعاً للبلاد رحيماً..
فالذين يتهمون طلاب النور الذين لهم هذه الخصائص والخصال بالإخلال بالأمن لا محالة قد انخدعوا بشكل مفجع، أو خُدعوا، أو انهم يستغفلون أركان الحكومة في سبيل الفوضى والإرهاب - من حيث يعلمون أو لا يعلمون - لذا يسعون لإبادتنا وإقحامنا في العذاب..
فنحن نقول لهؤلاء ولكل من يصغي إليهم قولتنا التي قلناها أمام محكمة دنيزلي العادلة:
__________
(1) اللمعات/405(7/53)
إن الحقيقة المقدسة التي افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لها رأسنا أيضاً، فلو أشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فإن الرؤوس التي افتدت الحقيقة القرآنية لن ترضخ ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلّى عن مهمتها المقدسة بإذن الله..(1)
مقتطفات من دفاع الأستاذ النورسي
في محكمة دنيزلي
السيد الرئيس!
لقد تم اتخاذ ثلاثة أسس في قرار المحكمة:
المادة الأولى: الجمعية.
إنني اُشهد جميع طلاب النور الموجودين هنا وجميع من قابلوني وتحدثوا إليّ وجميع من قرأوا أو استنسخوا رسائل النور، وتستطيعون أن تسألوا أنتم منهم بأنني لم أقل لأي أحد: أننا سنشكل جمعية سياسية أو طريقة نقشبندية، بل كنت أقول دائماً: أننا نحاول إنقاذ إيماننا، ولم يجر بيننا حديث خارج عموم أهل الإيمان وخارج الجماعة الإسلامية المقدسة التي يربو عدد أفرادها على ثلاثمائة مليون مسلم، ولم نجد لأنفسنا مكاناً خارج ما أطلق القرآن الكريم عليه اسم "حزب الله" الذي يجمع تحت ظل اخوة الإيمان جميع أهل الإيمان. ولأننا حصرنا جهدنا في خدمة القرآن فلاشك أننا من "حزب القرآن" ومن "حزب الله" فإن كان قرار الاتهام يشير إلى هذا فإننا نقر بذلك بكل خلجة من خلجات أرواحنا وبكل فخر واعتزاز. أما إن كان يشير إلى معانٍ أخرى فإننا لا نعلم عنها شيئاً.
المادة الثانية: إن قرار الاتهام يعترف - استناداً إلى تقرير وشهادة شرطة "قسطموني" - بأن "رسالة الحجاب" و"رسالة الهجمات الست وذيلها" وجدت داخل صناديق مغلقة ومسمّرة وتحت أكوام الحطب والفحم. أي لم تكن معدة للنشر أبداً. وقد مرت من تدقيق ونقد محكمة "اسكي شهر" وأدّت إلى إصدار عقوبة خفيفة عليّ. ولكن الادعاء العام الذي اخذ بعض الجمل من هذه الرسائل وأعطى لها مفهوماً ومعاني غير صحيحة، يريد أن يرجع بنا تسع سنوات إلى الوراء وان يحمّلنا مسؤولية جديدة حول تهمة سبق وان عوقبنا من اجلها.
__________
(1) اللمعات/400-402(7/54)
المادة الثالثة: وردت في قرار الاتهام وفي مواضع عدة عبارات أمثال (يمكن أن يخل بأمن الدولة). أي تم وضع الاحتمالات والإمكانات محل الوقائع الثابتة. وأنا أقول: إن من الممكن ومن المحتمل أن يقوم كل شخص باقتراف جريمة القتل، فهل يمكن إدانة كل شخص وتجريمه على أساس الاحتمال؟.(1)
إننا لا ننظر إلى اشد عقوبتكم وأقصاها إلا أنها تسريح وتذكرة سفر إلى عالم النور، لذا فإننا ننتظرها بثبات كامل.. ولكننا نعلم علم اليقين أن الذين وقفوا ضدنا واصدروا الأحكام ضدنا سيلقون عن قريب عقابهم بالإعدام الأبدي وبالسجن الإنفرادي، ذلك العقاب المرعب.. إننا موقنون من ذلك وكأننا نشاهدهم في عذابهم هذا كما نشاهدكم انتم في هذا المجلس.. إننا نشاهدهم هكذا ونتألم كثيراً من الناحية الإنسانية من أجلهم..
والخلاصة إن أمامكم طريقين: إما أن تطلقوا الحرية الكاملة لرسائل النور أو تحاولوا - إن استطعتم - أن تغلبوا الحقائق الواردة فيها وتقضوا عليها..(2)
لا يجوز التهجم على رسائل النور بحجة وجود قصور في شخصي أو في أشخاص بعض إخواني، ذلك لان رسائل النور مرتبطة بالقرآن مباشرة، والقران مرتبط بالعرش الأعظم. إذن فمن ذا يجرأ أن يمد يده إلى هناك، وان يحل تلك الحبال القوية؟ ثم إن رسائل النور لا يمكن أن تكون مسؤولة عن عيوبنا وعن قصورنا الشخصي، لا يمكن هذا ولا يجوز أن يكون أبداً..
والخلاصة إنه مادمنا لا نتعرض لدنيا أهل الدنيا، فيجب عليهم ألاّ يتعرضوا لآخرتنا ولا لخدماتنا الإيمانية.(3)
__________
(1) الشعاعات/334 -335
(2) الشعاعات/329
(3) الشعاعات/424-425(7/55)
أيها السادة! لقد قرأ عشرون ألف فرد عشرين ألف نسخة من رسائل النور في ظرف عشرين سنة، ورضوا بها وتقبلوها. ومع ذلك لم تقع حادثة واحدة مخلة بالأمن من قبل طلاب رسائل النور. ولم تسجل المراجع الرسمية أية حادثة من هذا القبيل، كما لم تستطع المحكمة السابقة ولا المحكمة الحالية العثور على مثل هذه الحادثة، بل الحال يقتضي – لو كان الاتهام حقيقة- أن تظهر حوادث ووقائع في هذه المدة البالغة عشرون يوما تحت تأثير الدعاية القوية والواسعة الانتشار.
وما دامت هذه هي الحقيقة فإننا نصرخ بكل قوتنا:
أيها البائسون الذين سقطوا في درك الكفر المطلق.. يا من بعتم دينكم بدنياكم!.. اعملوا كل ما تستطيعون عمله، ولتكن دنياكم وبالاً عليكم.. وستكون.. أما نحن فقد وضعنا رؤوسنا فداءً للحقيقة القدسية التي يفتديها مئات الملايين من الأبطال برؤوسهم.. فنحن متهيئون وجاهزون لاستقبال كل أنواع عقوباتكم.. بل حتى حكمكم بالإعدام.
إن وضعنا وحالنا خارج السجن - تحت هذه الظروف - أسوأ مائة مرة من حالنا داخله، ولا يبقى بعد هذا الاستبداد المطلق الموجه إلينا أي نوع من أنواع الحرية.. لا الحرية العلمية ولا الحرية الوجدانية ولا الحرية الدينية.. أي لا يبقى أمام أهل الشهامة وأهل الديانة وأمام مناصري الحرية ومحبيها من سبيل إلا الموت أو الدخول إلى السجن. أما نحن فلا يسعنا إلاّ إن نقول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) ونعتصم بربنا ونلوذ به.(1)
نفي آخر إلى أميرداغ
“وجاء الأمر بنفيه إلى قضاء اميرداغ - رغم البراءة وتصديق محكمة التمييز - فسافر إليها في شهر آب 1944 وظل في أحد الفنادق أسبوعين لحين إيجار غرفة له، كان يدفع إيجارها.(2)
منفى أميرداغ
(المدرسة النورية الثالثة)
1/8/1944 - 23/1/1948
لمن ترفع الشكوى؟:
__________
(1) الشعاعات/331
(2) T.Hayat, Emirda? hayat?.(7/56)
عندما كنت نزيل غرفة في "أميرداغ" تحت الإقامة الجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الحياة نفسها وتأسفت لخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في أن أعود إلى سجن "دنيزلي" أو أدخل القبر، حيث السجن أو القبر افضل من هذا اللون من الحياة.(1) [ثم كتب إلى المسؤولين في أنقرة:]
إذا كان الحاكم والمدعي واحداً، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلاً في هذه المشكلة..
أجل إن حالتي اليوم، وأنا طليق مراقب أشد عليّ بكثير من الأيام التي كنت مسجوناً فيها، وان يوماً واحداً من هذه الحياة يضايقني اكثر من شهر كامل في سجني المنفرد ذاك. لقد مُنعت من كل شئ رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.. إن مئات المساجين المحكومين في سجن "دنيزلي" – منهم من عوقبوا بعقوبات شديدة - قد اصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم رسالة "الثمرة" وحدها، حتى الذين قتلوا ثلاثة أشخاص صاروا يتحاشون عن قتل بقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مدير السجن على الإقرار بان السجن اصبح في حكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تجرح لصدق مدعانا...(2)
منع الذهاب إلى المسجد:
كنت أتردد إلى المسجد في الأوقات الخالية. وصنع الطلاب - بدون علمي - في المحفل غرفة خشبية صغيرة لحمايتي من البرد. وقد قررت ألاّ اذهب إلى المسجد، بعد أن رفع ضابط الأمن المعروف تلك الغرفة الصغيرة، وأبلغوني رسمياً: عليك ألاّ تذهب إلى المسجد. ولكنهم أثاروا ضجة بين الناس باستهوالهم الأمر، جاعلين من الحبة قبة.(3)
دس السم في الطعام:
__________
(1) اللمعات/394
(2) الملاحق - اميرداغ 1/230
(3) الملاحق - اميرداغ 1/ 279(7/57)
“وبأمر من السلطات، تسور أحد الحراس ليلاً شباك غرفة الأستاذ ودسّ السم في طعامه. ومن غده أمضّه الألم أسبوعا كاملاً من شدة السم ولم يذق طعاماً ولا شراباً إلاّ النزر اليسير. فنجّاه الله من الموت المحقق، وكان في هذه الفترة دائم التلاوة للأوراد والأذكار وبخاصة الجوشن الكبير والأوراد القدسية للشاه النقشبند. وتكررت الحادثة ثلاث مرات، إلاّ أن الأخيرة كانت شديدة لم يتمكن الأستاذ فيها من أداء صلواته سوى الفرائض وهو طريح الفراش..(1)
ثم أتتني العناية الإلهية مغيثة، إذ وهبتْ آلة الرونيو -التي ظهرت حديثاً -لطلاب "مدرسة الزهراء" وهم يحملون أقلاماً ألماسية. فباتت "رسائل النور" تظهر بخمسمائة نسخة بقلم واحد. فتلك الفتوحات التي هيأتها العناية الإلهية لرسائل النور جعلتني أحب تلك الحياة الضجرة القلقة المضطربة، بل جعلتني أردد ألف شكر وشكر للبارئ سبحانه وتعالى.(2)
خاب مسعاهم:
طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة،(3) أن زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده بأقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! إلى آخره من الأفكار السامة. إلا أن رسائل النور بفضل الله، قد شلت تلك الفكرة وجعلتها عقيمةً بائرة وذلك بحججها الدامغة وبانتشارها السريع في كل مكان، فأثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:
__________
(1) T.H.Emirda? Hayat? بلغت حوادث تسميم الأستاذ حتى وفاته ثماني حوادث
(2) اللمعات/394وقد دخلت آلة الرونيو تركيا سنة 1946 فبادر طلاب النور إلى شرائها، ونشطوا في نشر الرسائل بها حتى أوصلوها إلى اغلب المدن والقرى في تركيا خلال سنة ونصف السنة ولم تصدر رسائل النور إلى خارج تركيا إلا بعد السماح للناس بالسفر إلى الحج سنة 1947.
(3) المقصود سنة 1932م حيث حاولت السلطات فرض قراءة الترجمة التركية في الصلوات.(7/58)
لا يمكن قطعا ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - بأي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقا تلاوة الترجمة بدلاً منه.
بيد أن المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي أحداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، إلا أن اغلب ظني أن ما أوردته آنفا هو السبب الذي دعا إلى إملاء هذه "المسألة العاشرة" على رغم ما يحيط بي من ضيق.(1)..
محاورة مع وزير العدل والحكام:
أيها السادة!
لِمَ تنشغلون بنا وبرسائل النور دون داع أو سبب. إني أبلّغكم قطعاً بالآتي:
إنني ورسائل النور لا نبارزكم بل حتى لا نفكر فيكم. بل نعدّ ذلك خارج وظيفتنا، لأن رسائل النور وطلابها الحقيقيين يؤدون خدمة جليلة للجيل المقبل الذي سيأتي بعد خمسين سنة ويسعون لإنقاذهم من ورطة جسيمة، ويجدّون في إنقاذ هذه البلاد والأمة من خطر عظيم، فمن ينشغل بنا الآن سيكون رميماً في القبر في ذلك الوقت. بل لو افترض أن عملنا - الذي هو لتحقيق السعادة والسلامة - مبارزة معكم فلا ينبغي أن يمسّ الذين سيكونون تراباً في القبر.
إن إظهار أعضاء الاتحاد والترقي شيئاً من عدم المبالاة في الحياة الاجتماعية وفي الدين وفى السجايا القومية أدّى إلى ظهور الأوضاع الحالية بعد ثلاثين سنة تقريباً من حيث الدين والأخلاق والعفة والشرف. فالأوضاع الحاضرة ستنعكس على الجيل الآتي لهذه الأمة - البطلة المتدينة الغيورة على شرفها - بعد خمسين سنة. ولا يخفى عليكم ما سوف تؤول إليه السجايا الدينية والأخلاقية الاجتماعية.
__________
(1) الشعاعات/315(7/59)
سوف يلطخ قسم من الجيل الآتي ذلك الماضي المجيد لهذه الأمة المضحية منذ ألف سنة، بلطخات رهيبة قد تقضي عليه بعد خمسين سنة.
لذا فان إنقاذ قسم من هذا الجيل من ذلك التردي المريع بتزويده بالحقائق التي تحتويها رسائل النور تعد افضل خدمة لهذه الأمة ولهذا الوطن. فنحن لا نخاطب إنسان هذا الزمان بل نفكر بإنسان ذلك الزمان.
نعم أيها السادة! على الرغم من أن رسائل النور لا تسدد نظرها إلاّ إلى الآخرة ولا تهدف غيرها وليست لها غاية سوى رضا الله وحده وإنقاذ الإيمان، ومسعى طلابها ليس إلاّ إنقاذ أنفسهم ومواطنيهم من الإعدام الأبدي والسجن الانفرادي الأبدي، فإنها في الوقت نفسه تقدم خدمة جليلة أيضاً تعود فائدتها للدنيا وإنقاذ هذه الأمة والبلاد من براثن الفوضى و إنقاذ ضعفاء الجيل المقبل من مخالب الضلالة المطلقة، لان المسلم لا يشبه غيره، فالذي يحل ربقته من الدين ليس أمامه إلاّ الضلالة المطلقة فيصبح فوضوياً ارهابياً، ولا يمكن دفعه إلى الولاء للإدارة والنظام...(1)
المدرسة اليوسفية الثالثة
سجن افيون
28/1/1948 - 20/9/1949
إثارة التهم مرة أخرى:
“وتبدأ الاسطوانة نفسها من جديد، ويشاع في البلد أن النورسي يشكل جمعية سرية، ويحرض الناس على الحكومة محاولاً هدم نظام الدولة، ويطلق على مصطفى كمال انه دجال المسلمين.. وأمثالها من الإشاعات والتهم، فيساق الأستاذ مع خمسة عشر طالباً للنور معه إلى محكمة الجزاء الكبرى لأفيون، كما جمع من الولايات عدد من طلاب النور فيكون مجموعهم ثمانية وأربعون طالباً مع الأستاذ ويودعون جميعاً إلى التوقيف في 23/1/1948.
__________
(1) الملاحق-أميرداغ 1/233-235(7/60)
وبعد إجراء التحقيقات الرسمية المشددة،لم يعثروا على مادة تدينهم قط.. ولكن المحكمة حكمت بقناعة الحاكم الوجدانية - أي دون الاعتماد على دليل- على الأستاذ النورسي بعشرين شهراً وعلى عالم فاضل ثمانية أشهر، وعلى اثنين وعشرين طالبا ستة اشهر، واُفرج عن الباقين.(1)
اعترض الأستاذ وطلابه على هذه المعاملات الاعتباطية لدى محكمة التمييز، فأجابت بالآتي:
"لما كان بديع الزمان سعيد النورسي قد برئ من التهمة بقرار محكمة دنيزلي، فلا ينظر في الدعوى المصدّقة من قبل محكمة التمييز مرة ثانية، حتى إن كان قرار محكمة دنيزلي خطأً "
ولكن بدأت المحكمة من جديد فاستجوبت المتهمين الأبرياء . وطالب طلاب النور المحكمة بتنفيذ قرار محكمة التمييز، إلاّ إنها تماطلت.. وفي النهاية قررت تنفيذ قرار التمييز. ولكنها ادّعت أنها تكمّل بعض الأمور الرسمية الناقصة. بيد أن هذه الأمور الناقصة لم تنته إلى أن قضى الأستاذ وطلاب النور الأحكام الصادرة بحقهم رغم براءتهم.
__________
(1) في 6/ 12/ 1948 يذكر بايرام يوكسل: كانت كتابة رسائل النور والانشغال بها شغلنا الشاغل مع إخواننا من طلاب رسائل النور في السجن. فعندما كنا نقترب من ردهة الأستاذ في السجن نسمع صوتاً كدوي النحل يترنم ليلاً ونهاراً. إنها أصوات أذكار الأستاذ وتسبيحاته ودعائه وصلاته. كنا نراقب أعمال الأستاذ عن كثب، ففي أوقات متأخرة من الليل كنا نرقب ردهته وإذا بمصباحه الخافت مضاء والأستاذ منشغل بالأذكار والأدعية. وفي هذه الفترة التي كنا نعيشها في سجن - أفيون - ألف الشعاع الخامس عشر المسمى برسالة "الحجة الزهراء" وفي هذه الفترة كنا نمر - من وقت لآخر - من تحت شباك ردهة الأستاذ، وما أن يرانا الأستاذ حتى يرمي لنا علب كبريت، كان يضع في داخلها قسماً مما ألفه من هذه الرسالة. فنحن بدورنا نستنسخ هذه المقتطفات نسخاً عديدة.. هكذا ألفت رسالة "الحجة الزهراء" واستنسخت واحتفظت ص/3/32(7/61)
وفي هذه الأثناء تولى سلطة البلاد الحزب الديمقراطي وأعلن العفو العام واُغلقت القضية لأنها ضمن شمولية قانون العفو العام.(1) ولكن هيئة المحكمة لم تبرئ ساحة "رسائل النور" بل استمرت في قرارها حول مصادرتها فقررت المصادرة مرتين ، لكن محكمة التمييز نقضت القرارين معاً. ثم اضطرت محكمة افيون إلى إقرار براءة "رسائل النور" وعدم مصادرتها. ولكن هذه المرة نقضت محكمة التمييز قرار محكمة آفيون لنقص في الأصول الرسمية وطلبت تدقيق رئاسة الشؤون الدينية للرسائل فقدّمت الرئاسة تقريراً إيجابياً بحقها .واستمرت المكاتبات الرسمية حتى سنة 1956فقررت محكمة افيون بالإجماع براءة "رسائل النور" استناداً إلى تقرير الخبراء المذكور. واصبح هذا القرار قراراً نهائياً قاطعاً. وبعد هذا القرار اصبح طبع "رسائل النور" مسموحاً به في كل مكان.
مقتطفات من دفاع الأستاذ النورسي
في محكمة آفيون
نحن طلاب النور آلينا على أنفسنا ألاّ نجعل من "رسائل النور" أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله. فضلاً عن أن القرآن الكريم قد منعنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.
نعم، إن مهمة رسائل النور الأساس هي: خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يودي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سماً زعافاً وجحيماً لا تطاق.
ومنهجها في ذلك: هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تلزم أشد الفلاسفة والمتزندقة تمرداً على التسليم بالإيمان. لذا فليس من حقنا أن نجعل رسائل النور أداة لأي شيء كان، وذلك لأسباب:
أولاً: كي لا تحول الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسة إلى قطع زجاج متكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها وكأنها دعاية سياسية تخدم أغراضاً معينة، وكي لا نمتهن تلك المعاني القرآنية القيمة.
__________
(1) واُخلي سبيلهم في 20/ 9/ 1949(7/62)
ثانياً: إن منهج رسائل النور الذي هو عبارة عن: الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير ليمنعنا بشدة عن التدخل بالأمور السياسية أو بشؤون السلطة الحاكمة. لأنه إذا كان هناك بعض ممن ابتلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب فإن وراء كل واحد منهم عدداً من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء . فإذا نزل بأحد أولئك المبتلين المستحقين للعقاب كارثة أو مصيبة، فان أولئك الأبرياء أيضاً سيحترقون بنارهم دون ذنب جنوه. وكذا لان حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنعنا بشدة من التدخل في الشؤون الإدارية بما يخل بأمن البلاد ونظامها عن طريق وسائل سياسية.
ثالثاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية لأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي:
1- الاحترام المتبادل
2- الشفقة والرحمة
3- الابتعاد عن الحرام
4- الحفاظ على الأمن
5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخول في الطاعة..
إنني لا أعير اقل اهتمام بما تعتزمون إنزاله بي من عقاب، مهما بلغت درجته من الشدة والقسوة. لأنني على عتبة باب القبر، وفى السن الخامسة والسبعين من عمري، فأي سعادة أعظم من استبدال مرتبة الشهادة بسنة أو سنتين من حياة بريئة ومظلومة كهذه؟
إن هناك ثلاث مواد توهم بوجود جمعية سياسية لا علاقة لنا بها أصلاً، هي التي خدعت هؤلاء الظلمة.
أولاها: العلاقة الوطيدة التي تربط بين طلابي منذ السابق، قد أوحت لهم بوجود جمعية.
الثانية: إن بعضاً من طلاب رسائل النور يعملون بأسلوب جماعي كما هو لدى الجماعات الإسلامية الموجودة في كل مكان والتي تسمح بها قوانين الجمهورية ولا تتعرض لها؛ لذا ظن البعض فيهم أنهم جمعية، والحال أن نية أولئك الأفراد القليلين ليس تشكيل جمعية أو ما شابهها، بل هي أخوة خالصة وترابط وثيق أخروي بحت.(7/63)
الثالثة: إن أولئك الظلمة يعرفون أنفسهم أنهم قد غرقوا في عبادة الدنيا وضلوا ضلالاً بعيداً ووجدوا بعض قوانين الحكومة منسجمة معهم، لذا يقولون ما يدور في ذهنهم: أن سعيداً ورفقاءه معارضون لنا ولقوانين الحكومة التي تساير أهواءنا، فهم إذن جمعية سياسية.. كلمتي الأخيرة:
(حسبي الله لا اله إلاّ هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
ما بعد سجن "آفيون" إلى سنة 1950:
“بعد أن قضى الأستاذ النورسي وطلابه مدة محكوميتهم في سجن "آفيون" اُفرج عنهم في 20/9/1949 ولكن لم يسمح للأستاذ بمغادرة "آفيون" إلاّ في 2/12/1949 فتوجه إلى "اميرداغ" برفقة شرطي. للإقامة الإجبارية هناك، فأمضى فيها سنتين.
الفصل الثالث
السَّنوات الأخِيرة
1368-1379هـ
1950 –1960م
سنة 1950(1) وما بعدها
برقية من الفاتيكان
الفاتيكان 22 شباط 1951
مقام الپاپوية الرفيع
السكرتير الخاص
رئاسة القلم الخاص رقم 232247
سيدي! تلقينا كتابكم المخطوط الجميل "ذوالفقار" بوساطة وكالة مقام الپاپوية باستانبول، وتم تقديمه إلى حضرة البابا الذي رجانا أن نبلغكم بالغ سروره من هذه الالتفاتة الكريمة منكم، ودعواته من الله عز وجل أن يشملكم بلطفه وفضله. ونحن ننتهز هذه الفرصة لنبلغكم احتراماتنا.
التوقيع
رئاسة سكرتارية الفاتيكان.(2)
أول زيارة حرة إلى أسكي شهر:
__________
(1) تولى الديمقراطيون الحكم في 16/5/1950 بأغلبية ساحقة في الانتخابات، وقامت الحكومة الجديدة بإجراءات لصالح الإسلام نذكر منها:
1- رفع الحظر عن أداء الأذان والإقامة للصلاة باللغة العربية.
2- رفع الحظر عن إذاعة القرآن الكريم والبرامج الدينية في الإذاعة.
3- إدخال دروس الدين رسمياً في المدارس الابتدائية والمتوسطة.
4- غلق معاهد القرى التي كانت تدّرس الإلحاد.
(2) الملاحق- اميرداغ 2/346(7/64)
بعد أن قضى الأستاذ في "اميرداغ" سنتين سافر إلى أسكي شهر في 29/11/951 واستقر في فندق "يلدز" ما يقارب الشهر ونصف الشهر .
سنة 1952(1)
قضية "مرشد الشباب"
بعد المكوث في مدينة "أسكي شهر" توجّه الأستاذ النورسي إلى مدينة "إسپارطة" في أواخر سنة 1951 حيث بقي فيها سبعين يوماً، التقى طلابه.
في تلك الأيام قام بعض طلاب النور الجامعيين في استانبول بطبع رسالة "مرشد الشباب" بالحروف الجديدة ( اللاتينية)(2) مما تسبّب في إقامة دعوى ضد الأستاذ النورسي بحجة مخالفته للمادة (163) من الدستور التركي؛ وهي المادة التي تحظر أي نشاط يستهدف إقامة الدولة على أسس دينية.
وقد اُستدعي الأستاذ النورسي إلى استانبول للمثول أمام محكمة الجزاء الكبرى وحدّد يوم 22/1/ 1952م للنظر في هذه الدعوى، فتوجّه إلى استانبول في 15/ 1. وكانت هذه أول زيارة لمدينة استانبول بعد غيبة دامت سبعة وعشرين عاماً. ولهذا تقاطر عليه الزوار في فندق "آق شهر" ثم في فندق "رشادية".
انعقدت المحكمة في يوم 22/1. وجاء الأستاذ يحف به المئات من طلبة النور.
كانت قاعة المحكمة قد امتلأت بجموع من الشعب الذين حضروا لمتابعة هذه القضية ولرؤية هذا العالم الجليل الذي شغل تركيا كل هذه السنين. كما امتلأت ممرات المحكمة، وامتد الازدحام إلى الشارع.
جلس الأستاذ في المكان المخصص للمتهمين. وبدأ الادعاء العام بقراءة تقرير الخبراء المكلفين بتدقيق رسالة "مرشد الشباب" ثم تمّ استجواب الأستاذ. كان تقرير الخبراء يقول باختصار ما يأتي:
__________
(1) من هنا إلى نهاية الفصل نقول مترجمة من T. Hayat ?sparta hayat?
(2) تضم هذه الرسالة مستلات من كليات رسائل النور، تهم حياة الشباب الدنيوية والأخروية. ولأول مرة نشر كتاب إسلامي بهذا النطاق الواسع أي بعد سبع وعشرين سنة(7/65)
"إن المؤلف يحاول في رسالته هذه نشر الفكرة الدينية، وانه يحاول رسم طريق معين للشباب بوساطة هذه الأفكار، وانه يدعو النساء إلى الاحتشام وعدم السير والتجول بملابس تكشف عن أجسامهن لأن ذلك يصادم الفطرة، ويخالف الإسلام والآداب القرآنية.
كما أن المؤلف يدعو إلى تدريس الدين وهو بذلك يؤيد إقامة نظام الدولة على أسس دينية.. الخ".
وعند انعقاد الجلسة الثانية في موعدها المحدد، كان هناك ازدحام أشد إلى درجة تعذر على الشرطة السيطرة على الناس المتدافعين.
وفي هذا الجو من الزحام والتدافع لم يكن من الممكن إجراء المحكمة، لذلك توجّه رئيس المحكمة إلى الموجودين قائلاً لهم:
- إذا كنتم تحبون الشيخ، فافسحوا لنا المجال لكي نستطيع الاستمرار في إجراءات المحاكمة.
وعلى إثر هذا الطلب، بدأ الجمهور بالتراجع، وهكذا بدأت المحاكمة إذ استدعت صاحب المطبعة الذي قام بالطبع كما استمعت إلى شهادة الشرطة. ثم قام الأستاذ وقدم اعتراضه على تقرير الخبراء. وحينما أدركته صلاة العصر طلب السماح له بتأدية الصلاة، وأجيب طلبه، إذ أعلن رئيس المحكمة انتهاء الجلسة الثانية.
وفي الجلسة الثالثة التي انعقدت في 5 مارت سنة 1952 اتخذت الحكومة احتياطات أمن مشددة، فوزّعت مئات من رجال الشرطة أمام المحكمة وداخلها حيث استطاعت بذلك تنظيم السيطرة على الآلاف من محبي الأستاذ وطلابه.
في البداية استمعت المحكمة إلى شهادة الطالب الجامعي الذي قام بطبع هذه الرسالة. ثم ألقى محامو الأستاذ بدفاعاتهم وردّوا على التهم الموجهة إليه.
وأخيراً توجه رئيس المحكمة إلى الأستاذ النورسي متسائلاً:
- هل هناك ما ترغب في قوله، زيادة على ما قلت؟
- أرجو أن تسمحوا لي بزيادة كلمة واحدة.
- تفضلوا .
- إنني لست أهلاً لكلمات الثناء التي أضفاها عليّ موكلي المحترمون، إذ إنني لست سوى خادم عاجز للقرآن وللإيمان. ليس عندي ما أقوله سوى هذا.
تبليغ قرار البراءة:(7/66)
أعلنت الهيئة الحاكمة بعد المشاورة قرار البراءة باتفاق الآراء، وقوبل القرار من قبل الجامعيين وأبناء الشعب الحاضرين في قاعة المحكمة بتصفيق حار. واكتسب القرار الدرجة القطعية إذ لم يقدم المدعي العام طلباً للتمييز.
سنة 1953
كانت في هذه الأثناء تنطلق بيانات وآراء في الصحف ضد توسع حركة النور في البلاد. وبدأت التحريات في خمس وعشرين منطقة بتركيا وانتهت بفتح الدعاوى، مستهدفة الحكم على قريب من ستمائة طالب من طلاب النور. إلا انهم لم يجدوا جرماً ولا شيئاً يكون مستند اتهام في رسائل النور أو طلاب النور.
وفتحت دعوى في مدينة "صامسون" ضد الأستاذ النورسي بسبب مقالة نشرت في جريدة "الجهاد الأكبر" تحت عنوان "اكبر برهان" وطلب مثوله أمام محكمة "صامسون"، ولكن الأستاذ كان آنذاك مريضاً، فضلاً عن تقدمه في السن.
وبالرغم من حصوله على تأييد طبي من طبابة قضاء "أميرداغ" وكذلك من مدينة "أسكي شهر" إلاّ أن محكمة "صامسون" أصرت على حضوره.
وبناء على هذا الإصرار توجه إلى استانبول(1)
__________
(1) قضى الأستاذ في استانبول ثلاثة اشهر تقريباً ..في تلك السنة (1953م) كانت استانبول تتهيأ للاحتفال بمرور خمسمائة عام على فتحها. وقد أقيم فعلاً احتفال مهيب دعي إليه الأستاذ بديع الزمان مع المدعوين الرسميين، وفي هذا الاحتفال التقى بطريرك الروم "آشنو كراس". وأثناء اللقاء جرى بينهما الحوار الآتي:
سعيد النورسي: يمكن أن تكونوا من أهل النجاة يوم القيامة إذا آمنتم بالدين النصراني الحق بشرط الاعتراف بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالاعتراف بالقرآن الكريم كتاباً من عند الله.
البطريرك: إنني اعترف بذلك.
سعيد النورسي: حسناً، فهل تعلنون ذلك أمام الرؤساء الروحانيين الآخرين؟
البطريرك: اجل إنني أقول ذلك ولكنهم لا يقبلون. ش/405(7/67)
في طريقه إلى صامسون. ولكن مرضه اشتد بعد وصوله إلى استانبول، فلم يعد بإمكانه مواصلة السفر فاستحصل تقريراً طبياً من الهيئة الصحية، وأرسله إلى المحكمة. ولكن المدعي العام بالرغم من هذا التقرير الطبي الواضح القاطع، كان يطالب بشدة بحضوره ومثوله أمام المحكمة. إلا أن المحكمة قررت أن تقوم محكمة استانبول باستجواب الأستاذ نيابة عنها.
دفاع أمام محكمة استانبول:
أقول لمنتسبي العدل كلهم الذين يبتغون العدل:
لا مفّر في محكمة الحشر الكبرى من العقاب لمن يذيقونني هذا العذاب الوجداني منذ سنتين بحججهم التافهة ومخالفتهم العجيبة للقانون حيث ينبغي حقاً أن يتهموهم بمخالفة القانون إذ يخرقون القانون باسم القانون من خمسة وجوه فيعتدون على القوانين الإسلامية بخسمة وجوه. نعم.. أفي الأرض كلها قانون يتهم رجلاً منعزلاً منذ خمسة وثلاثين عاماً عازفاً عن الأسواق والارياف، لانه لم يضع فوق رأسه قبعة الإفرنج؟…
وأخيراً وبعد انتهاء جميع الإجراءات اللازمة أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة، إذ لم تجد في تلك المقالة ما يؤاخذ عليها..
وانتهت محاكمة "آفيون" أيضاً. إذ اظهر تقرير هيئة شورى الشؤون الدينية التي دققت رسائل النور سنة 1956 سمة الخدمة في التكامل الإيماني والأخلاقي لرسائل النور، فاستندت محكمة "آفيون" إلى هذا التقرير لتبرئة رسائل النور ورفع الحظر عنها واكتسب قرار المحكمة الصفة القطعية.(وكانت القضية قد فتحت في 1948 فصدر قرار البراءة هذا بعد ثماني سنوات في 11/9/1956استناداً إلى التقرير المقدم من لجنة الخبراء في 25/5/1956 بأن هذه الرسائل تخلو من أي عنصر مخالف للقانون).
بعد قرار البراءة في محكمة "آفيون"، أصدر حاكم التحقيق في "إسپارطة" أيضاً قراراً بعدم قانونية المحاكمة. فاجتازت رسائل النور منافذ العدل واكتسبت حرية عامة وشاملة ولقيت قبولاً حسناً..
إلى مدينة الذكريات "بارلا":(7/68)
بعد قضاء الأستاذ النورسي ما يقارب ثلاثة أشهر في استانبول، حنّ الأستاذ إلى زيارة المدن التي قضى فيها فترات لا يمكن نسيانها من حياته.
فزار "اميرداغ" ثم توجه إلى "أسكي شهر" ومنها إلى "إسپارطة". ومنها توجّه مع رهط من طلابه إلى مدينة الذكريات "بارلا".. المدينة التي شهدت أول انبثاق لحركة النور ولرسائل النور.. ومنها انتشرت إلى الأرجاء "الكلمات" و"المكتوبات" و"اللمعات " التي تمثل أنوار هداية القرآن الحكيم.. فـ"بارلا" هي المركز الأول لمدرسة رسائل النور. المدينة التي سيق إليها منفيا قبل خمس وعشرين سنة، فبارك الله له في أيام النفي، وجعل تلك الأيام من أعز الأيام على قلبه، وجعل ذكريات هذه البلدة من احب الذكريات إلى نفسه.
وها هو يعود إليها، في يوم رائق من أيام الربيع ، حاملاً على كاهله ثقل تلك السنين الحافلة بالأحداث والمواقف والابتلاءات.
ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشباباً لرؤيته. ويقفز الأطفال الصغار وهم يرددون:
جاء الشيخ.. جاء الشيخ!
انهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم.
وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان أول مدرسة نورية، مرّ من أمام بيت تلميذه القديم "مصطفى چاويش"(1) وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين أغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.
مرّ أمام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في "قسطموني". مات هذا الرجل ولذلك لم يتيسر له لقاؤه بعد خروجه من بارلا. ولم يشعر إلا والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.
__________
(1) اللمعات/76(7/69)
وأخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب أمامه وكأنها - هي الأخرى - ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي ان يتركوه وحده.
ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها اكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.
كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر الله! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.
وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد أن يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.
بعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة التي قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع اعينهم كذلك.(7/70)
وانه لمظهر من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية اللانهائية. ففي زمن قد سلف، نفي من شرقي الأناضول إلى أرجاء "إسپارطة"، ومنها إلى ناحية "بارلا" بين الجبال، لعله يموت هنا ويخبو ذكره. ولكن لم تثنه عن سبيل دعوة القرآن والإيمان حوادث العصر التي أحاطت بالأمم والشعوب وغيرت العقول والتصورات. فقد أيقن بيقين إيماني في روحه، بان الشعب سوف يحتضن يوماً الحقيقة التي يدعو إليها، وسوف يكون سعيد الوحيد، ألف سعيد، ومائة ألف سعيد، وبان فتوحات وانتشار الحقائق الإيمانية التي يخاطب بها الإنسانية آتية لا محالة، وبان غيوم الظلمات المحيطة بالآفاق الإسلامية زائلة بنور الهداية التي اقتبسها من القرآن، وينشط الروح من جديد في الإيمان الذي يظنونه آيلاً إلى الموت، فيبعث النفوس ويعيد الحياة إلى أمة الإسلام.
سنة 1956وما بعدها
طبع رسائل النور:
كان قرار محكمة أفيون يعني بالإمكان طبع رسائل النور وتوزيعها علناً، وفعلاً شمّر طلاب النور عن سواعدهم، فبدأت المطابع في استانبول وفي أنقرة، وفي صامسون وفي آنطاليا بطبع هذه الرسائل. وكانت الملزمات يؤتى بها إلى الأستاذ قبل الطبع فيقوم بتصحيحها.
كان الأستاذ فرحاً بطبع رسائل النور ويقول:
"هذا هو عيد رسائل النور. كنت انتظر مثل هذا اليوم، لقد انتهت مهمتي إذن وسأرحل قريبا"(1).
في الانتخابات العامة:
جرت الانتخابات العامة في تركيا سنة 1957، وكان حزبان رئيسان يتنافسان فيها على الحكم وهما: الحزب الديمقراطي الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض مع أحزاب صغيرة لا تؤثر كثيراً في سير الانتخابات.
وبالرغم من أن الحزب الديمقراطي لم يكن حزباً إسلامياً، إلاّ أن جو الحرية الذي ساد تركيا عقب توليه الحكم، وانحسار موجة العداء الوحشي للإسلام، كل ذلك كان يعطي مسوغاً كافياً للحركات الإسلامية في تركيا أن تصوت بجانب الحزب الديمقراطي.
__________
(1) ش/413(7/71)
ومع أن الأستاذ سعيد النورسي لم يدخل الحياة السياسية ولم يؤلف حزباً سياسياً ولم يعلن عن أية نشاطات سياسية كانت، إلاّ انه قرر إعطاء صوته للحزب الديمقراطي في تلك الأيام ليحول دون مجيء حزب الشعب إلى السلطة. وفعلاً ذهب إلى صندوق الاقتراع وأدلى بصوته لصالح الحزب الديمقراطي”.(1)
قضية أنقرة:
في 16 نيسان سنة 1958 اعتقل جميع من كان في خدمة الأستاذ من طلاب النور والذين يعملون في نشر الرسائل في أنقرة واستانبول وإسپارطة. وقد تقدّم للدفاع عنهم المحامي "بكر برق"(2) واجتمع هذا المحامي في سجن أنقرة بطلاب النور المسجونين وقال لهم:
- إنني احب أن آخذ رأيكم في مسألة تخصكم. فهل تحبون أن أسعى إلى إطلاق سراحكم من السجن في اقرب فرصة، أم ترغبون أن أسعى للدفاع عن دعوتكم وشرحها دون الاهتمام بقضية إطلاق سراحكم؟
أجاب طلاب النور معاً:
- نرجو منك أن تحصر جهدك في بيان وشرح دعوتنا السامية فنحن راضون أن نبقى في السجن سنوات عديدة.(3)
وقد أدرك هذا المحامي انه ليس أمام أناس كسائر الناس، بل هو أمام أناس نذروا أنفسهم لدعوتهم.
لقاء الوداع:
__________
(1) ش/416
(2) 1926-14/6/1992م. نذر نفسه للدفاع عن قضايا طلاب النور. وكسب الدعاوى لصالحهم في أكثر من ألف قضية في أنحاء تركيا. له مقالات كثيرة في الصحف وعشرات من المؤلفات.
(3) ش/261(7/72)
بدأ الأستاذ سعيد النورسى في أواخر أيامه بسلسلة من السفرات وكأنه كان يريد أن يودّع طلابه..فسافر إلى "أنقرة" ومنها إلى "اميرداغ" ومنها إلى "قونيا" ومنها إلى "أنقرة" أيضاً، ومنها إلى "استانبول" في 1/1/1960 حيث بقى فيها يومين، ثم رجع إلى "انقره" مرة أخرى في 3/1 وألقى على طلابه "الدرس الأخير". وقد أجرى مندوب صحيفة"تايمس اللندنية" معه تحقيقاً صحفياً طويلاً، ونشر في 6/1/1960(1). ثم رجع إلى "قونيا" ومنها - وفي اليوم نفسه - توجّه إلى "إسپارطة".
هذه الزيارات المتلاحقة، أثارت رعب الأوساط المعادية للإسلام وسخطهم، فأخذت صحفها تشن حملة عنيفة على الأستاذ وتثير الرأي العام ضده مختلقة سلسلة من الأكاذيب والافتراءات، وكأن فتنة دامية ستحل بالبلد.
لذلك فما أن رجع إلى أنقرة 11/1/1960 حتى أبلغته الحكومة بان من الأفضل له أن يقيم في اميرداغ وفعلاً رجع الأستاذ إلى "اميرداغ" ولكنه طلب من الحكومة أن تسمح له بالإقامة شهراً في (اميرداغ) وشهراً في (إسپارطة).
في 20/1/1960 توجه الأستاذ بديع الزمان من "اميرداغ" إلى إسپارطة و بعد أن أمضى مدة فيها توجه إلى "افيون" وبعد أن أمضى فيها يوماً واحداً، قفل راجعاً إلى اميرداغ.
الفصل الرابع
الرّحِيل
25/ شهر رمضان / 1379هـ
23 / 3 /1960م
الرحيل(2)
__________
(1) في صحيفة " يني صباح " وفي صحيفة " دنيا " في 8/1/1960 (ب3/1621 )
(2) ذكرت هنا باختصار شديد ما سمعته مباشرة من بيرام يوكسل قبل وفاته بشهرين، وانظر Son ?ahitler 3/83-90(7/73)
في شهر مارت سنة 1960 كان الأستاذ مريضاً جداً، إذ كان مصاباً بذات الرئة. وفي اليوم الثامن عشر من الشهر نفسه اشتد عليه المرض و غاب عن وعيه مرات عديدة. ثم استغرق في النوم، واستيقظ قبل صلاة الصبح حيث توضأ واستبدل ملابسه، وكأنه قد عوفي من مرضه تماماً، وصلى صلاة الصبح ثم استدعى طلابه حيث ودّعهم واحداً واحداً قائلاً لهم وعيناه تفيضان بالدمع:
- استودعكم الله.. إنني راحل.
وبعد أن ودّع أصدقاءه الآخرين، توجه بالسيارة إلى إسبارطة، وبقي فيها فترة فكان يؤم طلابه في صلاة العشاء، أما في صلاة التراويح - إذ كان ذلك في أوائل شهر رمضان المبارك - فإن تلميذه السيد )طاهري موطلو(1)( كان يقوم بالإمامة.
وقد استمر تحسن صحته حتى العاشر من رمضان، ثم عاوده المرض كذلك وارتفعت درجة حرارته.
وفي أحد الأيام فتح عينيه قائلاً لطلابه الذين كانوا يتناوبون السهر عليه: سنذهب!!
وعندما سأله أحدهم:
-يا أستاذنا أين سنذهب؟
-إلى أورفة... فتهيأوا !!
وقد اعتقد بعض طلابه أن الأستاذ لا يتكلم وهو في وعيه، إذ ليس من المعقول أن يخرج للسفر وهو في هذه الحالة. هذا فوق أن سيارتهم كانت معطوبة وتحتاج إلى وقت لتصليحها.
__________
(1) ذكر بيرام يوكسل في ذكرياته "كان الأستاذ يطلق على الأخ طاهري موطلو بالأخ الأكبر والرائد لطلاب النور. وحقاً لقد كان يتصف بخصال قلّما تجدها في غيره، كان يصوم الشهور الثلاثة المباركة طوال ثلاثين سنة من عمره، ولم أر منه أنه صلى الوتر بعد العشاء، وإنما كان يقيم الليل ويتهجد ثم يوتر. لقد كان كنزاً للدعوات لطلاب النور. وكان في طاعة تامة لما يأمره به الأستاذ، لذا لم اسمع من الأستاذ أن قال لأحد مثلما قال للأخ طاهري موطلو، إذ قال بحقه: إن الأخ طاهري موطلو ولي من أولياء الله الصالحين، انه لا يعد نفسه انه في الدنيا. انتقل إلى رحمة ربه الكريم سنة 1977 عن سبع وسبعين سنة من عمر قضاه بالتقوى. Son Sahitler ج1 ص 438(7/74)
عرضوا الأمر على الأستاذ، وهم يأملون أن يغير رأيه في السفر فأجابهم:
- هيئوا سيارة أخرى. ألا نستطيع إعطاء مئتى ليرة؟! إنني مستعد أن أبيع جبتي إذا لزم الأمر.
أمام هذا الإصرار أسرع طلابه إلى استئجار سيارة أخرى، ونزل الأستاذ محمولاً على أيدي طلابه، وانطلقت السيارة متوجهة إلى أورفة وهي تحمل الأستاذ مع ثلاثة من طلابه.
ملاحقة حتى الموت:
وعندما شاهد الشرطي المكلف بمراقبة الأستاذ سفره أسرع بإبلاغ مركز الشرطة بذلك. وقد احتد مسئولو الأمن لذلك، واستقدموا أحد طلابه حيث أمطروه بوابل من الأسئلة:
- لماذا رحل أستاذكم؟ وإلى أين؟ ولماذا لم تحيطونا علماً بذلك؟ أنكر الطالب معرفته باتجاه سفر أستاذه. وقال انه من الممكن أن يكون قد توجه إلى )اغريدير(.
بدأت البرقيات و التلفونات والاتصالات بين مختلف مراكز الأمن في مدن تركيا، وكأن رجلاً خطيراً قد هرب من سجنه وأعطيت أوصاف السيارة ورقمها إلى جميع مراكز الشرطة ونقاط التفتيش.
كان الجو ممطراً وقد عمد طلاب الأستاذ إلى تغطية رقم السيارة بالطين لكي لا تعرف وانطلقت السيارة تنهب الأرض باتجاه اورفه وبعد سفرة طويلة متعبة في جو عاصف وصلوا إلى اورفة في (21 مارت) حيث نزلوا في فندق )ابك بالاس( وسرعان ما طوقت الشرطة الفندق ودخل المسؤولون ليبلغوا الأستاذ - وهو طريح الفراش - بان عليه أن يغادر المدينة فوراً وان يرجع إلى إسبارطة، فالأوامر صادرة من وزير الداخلية نفسه. ويدور الحوار هكذا:
الشرطي: هناك أمر من وزير الداخلية، يجب أن ترجع إلى إسبارطة.
بديع الزمان: عجيب أمركم.. إنني لم آت إلى هنا لكي أغادرها. إنني قد أموت.. ألا ترون حالي؟ (يلتفت إلى طلابه).. اشرحوا انتم حالي.
ويساق ثلاثة من طلابه إلى مركز الشرطة ويبدأ الاستجواب معهم:
- لماذا أتيتم؟ من أعطاكم الإذن بذلك؟
- نحن تبع لأستاذنا، ننفذ ما يقوله لنا دون مناقشة.(7/75)
- قولوا لأستاذكم بان هناك أوامر مشددة من السلطات العليا، وان عليكم أن تتركوا )اورفة( حالاً وترجعوا إلى )إسبارطة( وإذا لم تستطيعوا الرجوع بسيارتكم فسنجهزكم بسيارة إسعاف.
- انه مريض جداً، ولا يستطيع تحمل مشقات سفر يستغرق أربع وعشرين ساعة أخرى.
- يجب أن ترجعوا كما أتيتم، فلدينا أوامر من السيد الوزير، ويجب أن تتركوا )اورفة( حالاً.
- لا نستطيع التدخل في شؤون أستاذنا. فإذا أحببتم اعرضوا الأمر عليه، وإذا امرنا بالذهاب فسنذهب.
يحتد مدير الأمن:
- ماذا تعنون؟ ألا تستطيعون أن تعرضوا عليه أي أمر كان؟
- نعم. لا نستطيع.
وهنا يصرخ مدير الأمن:
- إذا كنتم مرتبطين انتم بأستاذكم، فإنني أيضاً مرتبط برؤسائي، وأنا أعطيكم مهلة ساعتين فقط لترك هذه المدينة والرجوع إلى )إسبارطة(.
انتشر خبر نيّة السلطة في إخراج الأستاذ بديع الزمان من المدينة بين الأهالي فولّد هيجاناً عاماً بين أفراد الشعب، وتجمع عدة آلاف من الأهالي حول الفندق. وترامى الخبر إلى رئيس شعبة الحزب الديمقراطي في اورفة فأسرع إلى مدير الأمن وخاطبه بحدة:
- إذا أخرجتم الأستاذ بديع الزمان من هنا فستجدوني أمامكم.. لن تستطيعوا أن تلمسوا شعرة منه ولا أن تنقلوه خطوة واحدة.. انه ضيفنا.
- سيدي؛ إن الأوامر صادرة من فوق.. من الوزارة نفسها لذا يجب أن يرجع حيث أتى.
- كيف يعود! ألا ترون انه في اشد حالات المرض ولا يستطيع الحراك؟ أنه أتى إلينا ضيفاً ولا داعي هناك لكل هذا التشدد.
وبينما كان هذا الحوار يجري في مديرية الأمن أسرع بعض طلاب النور إلى المستشفى واصطحبوا الطبيب الحكومي إلى الفندق لفحص الأستاذ واستحصال تقرير طبي في عجزه عن السفر.
حضر الطبيب إلى الفندق وأجرى كشفاً طبيّاً على الأستاذ بديع الزمان فوجده في اشد حالات المرض ووجد أن حرارته قد بلغت الأربعين درجة، فكتب تقريراً طبيّاً بذلك موضحاً وجوب استراحته وعدم انتقاله إلى أي مكان.(7/76)
ولكن مدير الأمن كان مصراً على موقفه.. يجب أن يترك المدينة، وقرر أن يأتي إلى الفندق ليقابل الأستاذ بنفسه. ويأذن الأستاذ لمدير الأمن بالدخول عليه، حيث يبلغه مدير الأمن بان الأوامر قطعية وان عليه أن يترك المدينة راجعاً إلى إسبارطة.
بديع الزمان قائلاً: إنني الآن في الدقائق الأخيرة من عمري لا أستطيع الرجوع، وقد أموت هنا. إن وظيفتك الآن هي تهيئة الماء لغسلي بعد الوفاة.
يخرج مدير الأمن وأفراد الشرطة من الغرفة متأثرين ومنكسين رؤوسهم.
ويقوم الأهالي والجمعيات والتنظيمات المختلفة بإمطار أنقرة بسيل من البرقيات التي تستنكر بشدة هذا الموقف البعيد عن جميع القيم الإنسانية.
ويتقاطر الناس أفواجاً على الفندق، فالكل يريد أن يرى الأستاذ وأن يلقي عليه النظرة الأخيرة، وبالرغم من انه لم يكن يقبل سابقاً مثل هذه الزيارات - لكون صحته لا تساعد على ذلك - فانه في هذه المرة لم يرد أحداً بل قابل المئات والمئات ودعا لهم واحداً واحداً.
اللحظات الأخيرة:
في المساء ارتفعت درجة حرارته، لم يعد يتكلم بل كانت شفتاه تختلجان بالدعاء. وفي الساعة الثانية والنصف صباحاً يتحسس أحد طلابه حرارته فيجدها قد انخفضت قليلاً، فيغطيه، ويقوم بإشعال الموقد في الغرفة وهو يحمد الله على تحسن صحة الأستاذ.
ولكن الصباح يقترب ولا يقوم الأستاذ لصلاة الصبح.. يكشف أحدهم عن وجهه فيعرف الحقيقة؛ لقد انتقل أستاذه إلى بارئه.
التقويم في الحائط يشير إلى يوم الأربعاء؛ الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 1379 (23 مارت 1960م).
ينتشر الخبر في الفندق فيصعد مدير الفندق إلى غرفة المرحوم ليلتقى مع مدير الأمن الذي كان في طريقه أيضاً إليها يسأله مدير الأمن:
- ما الخبر؟
مدير الفندق:
- لقد توفى.
- هل توفي حقاً؟
- نعم!(7/77)
وينتشر الخبر في )اورفة( أول الأمر فتتجمهر الألوف حول الفندق، ثم ينتشر الخبر في المدن التركية الأخرى، ويبدأ سيل من الناس بالوفود إلى المدينة، وعلى أكتاف طلابه ومحبيه وعشرات الآلاف من المشيعين، وبينما المطر الموحل ينزل رذاذاً من السماء يوارى الأستاذ العظيم التراب في مقبرة )أولو جامع(1).
لأنتم أشد رهبة في صدورهم:
يقول عبدالمجيد شقيق الأستاذ:
"بعد مرور خمسة اشهر على وفاة شقيقي اُستدعيت إلى ديوان الوالي في قونيا. شاهدت هناك ثلاثة جنرالات معه،(2) خاطبني أحدهم:
لا يخفى عليكم أننا نعيش ظروفاً حرجة ، فالزوار من الولايات إلى قبر شقيقكم يزدادون يوماً بعد يوم، فنحن نريد أن ننقل رفاته - بمعاونتكم - إلى أواسط الأناضول. فنرجو توقيع هذا الطلب. ومدوا إليّ بورقة طلب باسمي، قلت بعد قراءتها: ولكني لم اطلب هذا... أرجوكم دعوه ليرتاح في قبره في الأقل! أصروا على موقفهم وقالوا:
لامناص من الأمر.
توجهنا - بعد توقيع الطلب - إلى المطار فأقلتنا طائرة عسكرية إلى اورفة، وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة... كان هناك تابوتان في صحن الجامع مع بعض الجنود. اقترب الطبيب العسكري مني قائلاً:
- لا تقلق سننقل الأستاذ إلى الأناضول.
وعلى اثر هذا الكلام أجهشت بالبكاء فلم أتمالك نفسي. أمر الطبيب الجنود بهدم القبر. فكانوا يترددون ويخشون سخط الله عليهم.
__________
(1) انظر تفاصيل الرحيل في سيرة ذاتية / 476
(2) حيث وقع انقلاب عسكري في 27 مايس سنة 1960 أطاح بالحزب الديمقراطي وسيق أعضاء الحكومة إلى "محكمة الدستور" و انتهت هذه المحكمة بتنفيذ حكم الإعدام برئيس الوزراء "عدنان مندرس" وعلى اثنين من وزرائه والحكم بمدد مختلفة على الوزراء والمسؤولين السابقين في حكومة الحزب الديمقراطي. وأظهر الإنقلابيون عداء لجميع التيارات والحركات الإسلامية في تركيا ومنها حركة "طلاب النور".(7/78)
فقال الطبيب: نحن مأمورون وليس أمامنا سوى التنفيذ، فقاموا بهدم القبر وإخراج التابوت منه. وعندما فتحوا التابوت. قلت في نفسي: لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً. ولكن ما أن لمست الكفن حتى خيل لي انه قد توفي أمس. كان الكفن سليماً إلا انه مصفر قليلاً من جهة الرأس. وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء. وعندما كشف الطبيب عن وجهه، نظرت إليه وإذا عليه شبه ابتسامة. احتضنا ذلك الأستاذ العظيم ووضعناه في التابوت الآخر. وأخذناه إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث اعلن منع التجول في المدينة. جلست بجانب التابوت في الطائرة والحزن والأسى يملآن قلبي. والدموع تملأ عينيّ. اتجهت الطائرة إلى آفيون ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى إسپارطة حيث دفن في مكان لا يزال مجهولاً".(1)
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
[ولعل هذا استجابة القدر الإلهي لما تمناه الأستاذ وأوصى طلابه بألاّ يعرف موضع قبره إلاّ واحد أو إثنان منهم. ولما سألوه عن الحكمة في منعه زيارة قبره مع ما فيها من كسب للثواب أجابهم بالآتي]:
إن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر العصيب تدفع الناس إلي أن يولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية في أثناء زيارتهم القبور مثلما عمل الفراعنة في الزمن الغابر على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجيه الأنظار إليهم، فتوجهت الأنظار إلي المعنى الإسمي - أي لذات الشخص- دون المعنى الحرفي - أي لغيره -.. وهكذا فإن قسماً من أهل الدنيا في الوقت الحاضر يولون توجههم إلي شخص الميت نفسه والى مقامه ومنزلته الدنيوية بدلاً من الزيارة المشروعة لكسب رضاء الله ونيل الثواب الأخروي كما كانت في السابق.
__________
(1) ش/437(7/79)
لذا أوصي بعدم إعلام أحد عن موضع قبري حفاظا على سر الإخلاص ولئلا اجرح الإخلاص الذي في رسائل النور. فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيا كان فإن ثواب ما يقرأه من "الفاتحة" يبلغ إلى تلك الروح.(1)
تعريف مختصر بمضامين
كليات رسائل النور
تأليف : بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمها إلى العربية : إحسان قاسم الصالحي
كليات رسائل النور التي ألّفها بديع الزمان سعيد النورسي تضم تسعة أجزاء سجل فيها الأستاذ النورسي كل ما استلهمه من نور القرآن الكريم من معاني الإيمان وأملاها على محبيه في ظروف عسيرة بقصد إنقاذ إيمان الناس في هذا العصر العصيب بإحياء معاني القرآن ومقاصده في النفوس والعقول والأرواح. فوضع بفضل الله تعالى بيد الجيل الجديد منهلا ثراً ونبعاً قرآنياً صافياً يحفظ عليهم دينهم وإيمانهم ويطهر قلوبهم وعقولهم مما قد علق بها من الأباطيل. وقد وفقني المولى الكريم - على عجزي – إلى ترجمتها كاملة إلى اللغة العربية. وهي كالآتي:
المجلد الأول:الكلمات:
__________
(1) ملحق اميرداغ/ 2 بالتركية(7/80)
تضم ثلاثاً وثلاثين رسالة. توجز التسع الأُول منها معاني العبادة والعقيدة ونظر المؤمن إلى الدنيا، ووظيفة الإنسان في الوجود، وأن تجارته الرابحة هي في بيع نفسه وماله لله، وأن الإيمان بالله والآخرة يحل لغز الكون، وبيان حكمة أوقات الصلاة. ثم رسالة مستقلة في إثبات الحشر في ضوء تجليات الأسماء الحسنى، تعقبها مهمة الإنسان في الحياة والموازنة بين حكمة القرآن والفلسفة، وإيراد نظائر من الكون للحقائق القرآنية إسعافاً للقلوب التي ينقصها التسليم، ثم بيان معاني لرجم الشياطين. وشرح وافٍ لأحدية ذات الله جل جلاله مع عموم أفعاله الربانية، وخلقه الأشياء دفعة واحدة وخلقه التدريجي، وقربه منا مع بعدنا عنه، وبيان الانسجام التام بين تجلي اسم الله القهّار واسم الرحمن. وإيضاح أن كل شيء جميل إما بذاته أو بغيره، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مفصلاً. وبيان أهمية معجزات الأنبياء في حثها الإنسان على التقدم في مضمار العلم. وتنبيه النفس المتكاسلة إلى الصلاة مع بيان أنواع الوساوس وسبل علاجها. وإيضاح التوحيد الحقيقي بأمثلة وافية، وبيان تكامل الإنسان بالإيمان. ومشاهدة تجليات الأسماء الحسنى على العوالم، وذكر مفاتيح لحل أسرار كثيرة في الوجود، وسرد اثني عشر أصلاً من أصول فهم الأحاديث الشريفة، وتنوع عبادة المخلوقات. ورسالة مستقلة في وجوه إعجاز القرآن، وأخرى في القدر الإلهي والجزء الاختياري للإنسان. تعقبها رسائل في لطائف الجنة، وفي بقاء الروح والملائكة و دلائل الحشر. وفي ماهية الإنسان "أنا" وأسرار حركة الذرات ووظائفها. وفي حكمة المعراج النبوي وثمراته. ومواقف علمية دقيقة في أسرار التوحيد، والتدرج في إدراك الأسماء الحسنى. والرسالة الأخيرة ثلاثة وثلاثون نافذة مطلة على التوحيد.
وقد أُلحقت رسالة (اللوامع) بنهاية الكتاب، وهي ديوان شعر إيماني لطلاب النور.
المجلد الثاني: المكتوبات:(7/81)
تضم ثلاثا وثلاثين رسالة تستهل بأجوبة عن أسئلة حول حياة الخضر عليه السلام، وحكمة الموت ومخلوقيته وموقع جهنم. ثم سرد لمشاهد من حياة المؤلف وتأملاته الإيمانية في الكون، وإن الاهتمام بالمسائل الإيمانية ضرورة في هذا الزمان، وبيان حكمة زواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بزينب -رضي الله عنها- والفرق بين الكرامة والإكرام والاستدراج، وكيف يوجّه مجرى السجايا، وما الفرق بين الإيمان والإسلام؟ وإظهار عدالة الشريعة في الميراث، والحكمة في إخراج آدم عليه السلام من الجنة، وحكمة خلق الشياطين والشرور. ثم موقف المؤلف من السياسة وسبب ابتعاده عنها. والحكمة من وراء الفتن التي وقعت في زمن الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – وحول نزول عيسى – عليه السلام -، وبيان أن مسلك الصحابة الكرام وأهل الصحو أسمى من وحدة الوجود وأسلم منه. ورسالة مستقلة في معجزات الرسول الكريم تضم أكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم مسندة بأحاديث صحيحة. والتفصيل في أهمية الإيمان بالله ومعرفته ومحبته، وكيفية رعاية حقوق الآباء والشيوخ. ورسالة خاصة في الأخوة بين المؤمنين وسبل علاج الاختلاف. وإيضاح ما يجري في الكون من موت ومصائب، ومقتضيات اسم الرحيم والحكيم والودود. وذكر أسرار الدعاء وأنواعه، ورسالة في دحض دسائس الشيطان حول القرآن. وبيان أضرار الدعوة إلى العنصرية، والإفصاح عن منهج الاعتدال في الاختلافات بين مسالك الأولياء، وكيف أن رسائل النور تؤدي مهمة الإرشاد، ورسالة في الشكر وأنه ثمرة الكائنات. وأجوبة عن أسئلة متنوعة حول إعجاز القرآن ومعرفة حقائقه. ورسالة في حكمة الصيام، وتنبيه حملة القرآن إلى دسائس الشيطان، والرد على المبتدعة الذين يحاولون تغيير الشعائر الإسلامية. وفي الختام رسالة في التصوف وبيان محاسنه ومزالقه.
وقد أُلحقت بها رسالة (نوى الحقائق) وهي مقتطفات لسانحات قلبية من آثار المؤلف القديمة.(7/82)
المجلد الثالث : اللمعات:
تضم ثلاثين رسالة تستهل بالدروس المستخلصة لحياتنا اليومية من مناجاة سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام، ثم بيان أن السنة النبوية مرقاة ومنهاج. ورسالة في حكمة الاستعاذة من الشيطان، ومذكرات في العروج إلى المعرفة الإلهية. وبيان أهمية الاقتصاد ومغبة الإسراف ورسالتين في دساتير الإخلاص في الفرد وفي الجماعة. ثم رسالة في الرد على الطبيعيين. ورسائل رقيقة ودقيقة إلى الأخوات في الآخرة، وبيان أهمية الحجاب، ورسالة إلى المرضى والمبتلين وإلى الشيوخ من خلال ذكريات المؤلف نفسه. ورسالة في التفكر الإيماني الرفيع، ومسك الختام رسالة الاسم الأعظم المتضمنة قبسات من أسماء الله الحسنى: القدوس، العدل، الحكم، الفرد، الحي، القيوم.
المجلد الرابع: الشعاعات: ...
تضم خمس عشرة رسالة تستهل في إثبات: أن جمال الكون ومزايا الإنسان لا يظهر إلا بالتوحيد. ورسالة "المناجاة" ضمن جولة في أرجاء الكون. ثم اللواذ إلى كنف الرحمن في مراتب (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وبيان أشراط الساعة وصفات الدجال والسفياني. والتأمل في معاني "التحيات لله..."، ورسالة جليلة في مشاهدات سائح يستنطق الكون. وإثبات أن الإيمان بالآخرة أساس لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وبيان حكمة التكرار في القرآن، وثمرات الإيمان بالملائكة. وتعقبها مرافعات الأستاذ النورسي وطلابه في محاكم دنيزلي وآفيون، مع رسائل مسلية من السجن. وفي الختام إقامة الحجج الدامغة في إثبات التوحيد والرسالة.
المجلد الخامس : إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز (تحقيق):(7/83)
ألفه الأستاذ بالعربية وهو تفسير قيّم لفاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة، يبيّن بعبارات موجزة الإعجاز النظمي للقرآن الكريم أي جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها، وكيفية تجاوب هيآت الجمل وحروفها حول المعنى المراد، معتمداً في ذلك على أدق قواعد علم البلاغة، وعلى أصول النحو والصرف، وقوانين المنطق ودساتير علم أصول الدين، وسائر ما له علاقة بذلك من مختلف العلوم. وقد أملى المؤلف هذا التفسير البديع عندما كان رصاص الروس ينهال عليه من كل جانب في أثناء الحرب العالمية الأولى، فلم يثنه ذلك الموقف الرهيب ولم يُذهِل فكره الثاقب عن الجولان في مناحي إعجاز القرآن المبين.
أُلحق بالكتاب "قالوا عن القرآن" للأستاذ الدكتور عماد الدين خليل.
المجلد السادس : المثنوي العربي النوري (تحقيق):
يضم اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية هي:
1. لمعات من التوحيد الحقيقي.
2. رشحات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
3. لاسيما (في إثبات الحشر).
4. قطرة من بحر التوحيد وذيلها.
5. حباب من عمان القرآن وذيلها.
6. حبة من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن وذيلها.
7. زهرة من رياض القرآن الحكيم وذيلها.
8. ذرة من شعاع هداية القرآن وذيلها.
9. شمة من نسيم هداية القرآن وذيلها.
10. ... شعلة من أنوار شمس القرآن.
11. ... نقطة من نور معرفة الله جل جلاله (مترجمة).
12. ... نور من أنوار نجوم القرآن.(7/84)
هذه الرسائل بمجموعها ترشد إلى دروب النفس الأمّارة بالسوء، وتكشف عن دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، وتضع العلاج لأمراضها المتنوعة، ومن ثم تأخذ بيد القارئ إلى منابع الإيمان في رياض الكون الفسيح، لينهل منها ما ينهل حتى يرتوي القلب، ويشبع العقل وتنبسط الروح... فضلاً عن أنها توصله إلى أصول فكر الأستاذ النورسي، فيوغل معه في أعماق تجاربه مع النفس، ويرافقه في سريان روحه في أرجاء الكائنات، ويعمل فكره في ما نصبه من موازين علمية ومعايير منطقية ومناهج فطرية، فهذا السفر النفيس مشتل رسائل النور وغرسها حيث فيه خلاصة أفكاره، بل إن أغلب ما أزهر من أفكاره - في رسائل النور- بذوره كامنة فيه. إذ يضع أمام كل مسلم، بل كل إنسان نمطاً جديداً وفريداً من أساليب التزكية والتربية، قلّما يجده في كتاب آخر؛ حيث إنه يمزج أدق الموازين العقلية والمقاييس المنطقية بأرفع الأشواق القلبية، وأسطع التفجرات الروحية ضمن أمثلة ملموسة تكاد لا تخفى على أحد، آخذاً بيده برفق، متجولاً معه في ميادين النفس والآفاق، مبيناً له ما توصل إليه من نتائج يقينية، بعد تجارب حقيقية خاض غمارها تحت إرشاد القرآن الكريم.
المجلد السابع: الملاحق في فقه دعوة النور:(7/85)
عبارة عن مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل. وطابعها العام توجيهي إرشادي يبين أهمية رسائل النور، ومنهجها في الدعوة إلى الله في هذا العصر. تكتنفها مكاتيب ودّيّة يبين فيها الطلاب مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور، واستفادتهم العقلية منها، وكيف أنها حوّلت مجرى حياتهم، وفتحت أمامهم آفاقاً معرفية واسعة. وتتضمن أيضاً توجيهات لتقويم السلوك وكيفية التعامل مع الآخرين، والحث على الإيمان العميق والعمل المتواصل والترابط الوثيق والاعتصام بالكتاب والسنة، مع التأكيد على العبادة وشحن القلب بالذكر والدعاء والتفكر الإيماني، ودوام الاستغفار والانطراح بين يدي المولى القدير عاجزاً فقيراً... وأمثالها من الأمور التي تهم كل داعية إلى الله، بل كل مسلم.
وتتضمن "الملاحق" ثلاثة كتب مستقلة هي:
1. ملحق بارلا.
2. ملحق قسطموني.
3. ملحق أميرداغ.
وكل ملحق من هذه الملاحق الثلاثة يبين مرحلة معينة من مراحل حياة الأستاذ النورسي، مثلما يبين مرحلة مميزة أيضاً من تاريخ دعوة النور منذ انبثاقها في تركيا. لذا امتازت "الملاحق" بطابع دعوي خاص في مخاطبة المحبين والمناصرين للدين بل حتى المعارضين له، وحثهم جميعاً للذود عن الإسلام وعقيدته وتأريخه، لما واجه المجتمع التركي وقتئذ من ملابسات سياسية قاسية شاذة، وحرمان عن أبسط المفاهيم الإسلامية في مرحلة لم يكن هناك عمل إسلامي جاد، يحمل على عاتقه مسؤولية النهوض بحمل الأمانة وإرشاد أبناء الأمة.
المجلد الثامن : صيقل الإسلام (آثار سعيد القديم):
يضم الرسائل الآتية:
1- محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة (ترجمة وتحقيق)،
2- قزل إيجاز: حاشية الأستاذ النورسي على "السلم المنورق" المنظوم لشيخ الإسلام عبدالرحمن الأخضري (ت: 983هـ) في علم المنطق، مع شرح الملا عبدالمجيد.(7/86)
3- تعليقات على برهان الكلنبوي: رسالة في علم المنطق أيضاً؛ عبارة عن تعليقات وتقريرات الأستاذ النورسي على كتاب "البرهان" للعالم المحقق إسماعيل بن مصطفى الكلنبوي (ت: 1205هـ). وهاتان الرسالتان ألفهما الأستاذ النورسي باللغة العربية.
4- السانحات
5- المناظرات
رسالتان باللغة التركية تسلطان الأضواء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث أُلّفتا والدولة العثمانية تعاني ما تعاني في أيامها الأخيرة، وقد دبت فيها أمراض شتى وعلل متنوعة، لذا تضمان الحلول الوافية والعلاجات الشافية لها، وفي الوقت نفسه تضمد الجروح الغائرة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية جمعاء وتضع البلسم الشافي عليها بأسلم وسيلة.
6- المحكمة العسكرية العرفية:
وهي دفاع الأستاذ النورسي أمام المحكمة العسكرية العرفية في عهد الاتحاديين، والمسماة بـ "شهادة مَدْرَسَتَيْ المصيبة"؛ إذ عندما طالب الأستاذ إصلاح التعليم، وتأسيس جامعة في شرقي الأناضول باسم مدرسة الزهراء ألقي في مستشفى المجاذيب، وبعده أقُتيد إلى المحكمة العسكرية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة.
7- الخطبة الشامية: وهي التي ألقاها في الشام بيّن فيها أمراض الأمة الإسلامية ووسائل علاجها.
8- الخطوات الست: ألّفت رداً على احتلال الإنجليز لإستانبول، تفنّد أباطيلهم، وتشدّ من عزائم المسلمين في تلك الأيام المظلمة.
المجلد التاسع: سيرة ذاتية :إعداد
سيرة حياة بديع الزمان سعيد النورسي مستخلصة من جميع مؤلفاته ومرتبة حسب التسلسل التاريخي.
المجلد العاشر: الفهارس
إعداد: حازم ناظم فاضل.(7/87)
الرحلة إلى بلاد النور
فاتحة الرحلة
يا فاتح الأوطان افتح لنا السبيل وأَنِرْ معالمَها ودَعْ موكبنا ينزل في ضيافة أهل الله . يا فاتح فتحْتَ الآفاق فافتح لي رمانة قلبك واسمع نجاتي فأنا سليل جند طارق ، محرق السفن وعابر المضايق. يا أيها المبشر بالمجد الذي لا يبلى، يا صاحب السيف المنشور على المدى ، يا من شرَّعت باب العز في وجه بني عثمان وأضفت إلى جدار الإسلام لبنات شَمَخ بها صف المؤمنين. يا فاتحَ العوالم المنيعة ، يا مُنتهك حِمى الظلمات ، يا من سقى بعَرَقه ودمه الآماد وهو يزحف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يوصلها إلى العالمين ، ها نحن في حضرتك يا شقيق الصديقين .
أيها الثاوي على ذروة الشموخ ، أي وهج ينبعث من جنبات روضك هذا الذي ينفذ إلى قلبي ويجعلني أحيا بمواجدي أحوالاً من البلاء نازلتَ بها الشرك وأضأت بنور الحق الساطع دياجير الباطل.
معذرةً إن نحن انعطفنا عن نُزْلِكَ سريعا ، فقد شددنا الرحْل لملاقاة فاتحٍ آخر صِنْوٍ لك في المقامية وشبيه بك في الشمائل ، حملتَ السيف وفتحتَ الديار ، وحمل هو القلم ودشّن الرياض، أضفيت رداء الاسلام إلى ما بعد بلاد البلقان ، ومضى هو يُظل به القارات ، توقفتْ فتوحُ السيف التي خُضتَها حين فَتَرتْ الحمية في النفوس ، فاستأنف هو فتوحَ النور يجوب بها الكون باسِمَ المُحَيَّا رَخِيَّ الحال ، شيَّدتَ الحصون المنيعة ودككتَ أوكار الشرك، وأرسى هو قلاع النور القرآني المشيدة ودججها بسلاح المحبة الخالصة والحكمة البليغة والموعظة الحسنة. رفعتَ راية الجهاد المادي ، ورفع هو راية الجهاد المعنوي ، كسَبَ الاسلام بعملك الجهادي تليد الفخار ،وحاز هو بجهاده الروحي أسمى منار.
خواطر من دفتر الطريق(8/1)
طريق الله قويم ، لكنه غير مفروش بالزهر ، إذ له ضريبة باهضة لابد منها ، حتى يفضي بسالكه إلى رياض الفردوس. لست ممن يتحمسون للرحلة ، لكنني هذه المرة عزمت، لاسيما وقد رأيتني أتأخر عن تلبية الداعي - وأنعِم به من داعٍ - مرات ثلاث بالتمام. والواقع أنني لم أكن في سائرها مستهينا ولا مترددا ، كلا ، لقد كان يعيقني دائما عائق قاهر ، وهذه المرة أحسست أن القصد سيتحقق ، فقد كانت ابنتي شديدة الحرص على أن أسافر وأن أحضر حلقة "النورسي" في حمى بيئته الأم، لقد استبانت طبيعة العلاقة التي ربطتني بالأستاذ إحسان قاسم دلال رسائل النور المخلص ، فواصلت سعيها أياما وأياما وأدارت لي عملية الحجز والتأشيرة بإحكام وضبطت الترتيبات وجعلتني أمام أمر واقع.
...
في إقلاعي الثاني جاورتني صبية في طريقها إلى "تيرانا" ، قالت إن لها أختا مع زوجها هناك، وسيرسلانها إلى السعودية لدراسة الشريعة ، لازمتني منذ المطار ، ورأيتها تنقلب مثل الليمة اصفرارا ، ثم سرعان ما تفاقم صداعها ، كان المسافرون ينامون بمن فيهم المضيف ، وكان علي أن أسعفها بالنشافات والمناديل الورقية ، فقد أفرغتْ ما في جوفها وتمددت في حال من يستسلم للموت. وفي مطار اسطنبول غادرتها وهي مسنتدة إلى مقعد وإحدى الشرطيات تأخذ مكاني في إسعافها ، هي قاصر بعد ، تحمل ترخيصا من أبيها لتسافر وحيدة ، ما الذي جعلها تأنس إليّ من دون المسافرين ؟ ألأنها رأتني أجلس في مصلى المطار أنتظر الميعاد ؟ أم أن ملامح الأب والمدرس التي تعكسها هيئتي هي التي جذبتها إلي ؟ حين كنت أسعفها حمدت الله في نفسي أن تكون كل كلفة الرحلة هي ذلك الشيء القليل من العناء الذي حملتنيه صبية في عمر ابنتي يؤذيها السفر بالجو فتقيء.(8/2)
كانت الساعة قد ناهزت الثالثة فجرا ، ومضيت أسحب حقيبتي ، واثقا من أن أحبتي سيكونون في اللقاء ، وتقدمت من خط المستقبلين ، وأجلتُ العين ولم أر وجها أعرفه ، في طرفة تهيأ لي أنهم انصرفوا ، إذ كان واضحا أنه قد أخّرني انشغالي بأمر الصبية مع الشرطية وأنني كنت آخر واحد من فوجي يُنهي إجراءات الدخول ، وشرعت بشيء من الألم في إسدال أجنحة الحبور كي أتدبر أمري ، هل سأهتف أم سأمضي إلى ركن وأنتظر طلوع الصباح.
لم يكد الانكسار يتسرب إلى نفسي حتى شدّني من هناك وجه "قاسم" ، الوجه الحبيب الذي لا يسعك حيال انفلاق بسمته إلا أن تهش وتبتهج وتتجرد من كل عناء. كان إلى جواره فتى، على هيئة تبدي الأدب والترحيب، سأعرف الغداة أنه ابنه الشبل "سعد"، وضمني قاسم بحرارة مليا ، ورسم على وجهه ابتسامة كبيرة ظلت مستقرة على شفتيه حينا ، وراح يقول بصوته الذي تتحول نبراته في مواقف الإبانة إلى رنين : هذا أسعد الأيام أن نراك في اسطنبول.. وسرت إلي من تلك الضمة حرارة الأخوة الروحية التي لا تضاهيها محبة ، ووجدتني أشفق كثيرا عليه من هذا العناء ، فقد بدت لي على ملامحه آثار السهر، وقلت في نفسي لا يستطيع أن يرابط إلى هذه الساعة المتأخرة من الليل إلا عاشق للمبادئ القدسية ، وسأتبين بعدها أن مهمة الاستقبال تلك كانت بعض واجباته ، فلقد رأيته الغداة ، يبكر لإحضار "عويس" من المطار قبل صلاة الفجر.
في مزار أبي أيوب الأنصاري(8/3)
ومن الغد تحركت بنا السيارة وحملتنا إلى مركز النور ، جلسنا ساعة وتعرفنا على أحبة ، ثم خرجوا بنا نرى مشاهد الحاظرة اسطنبول. سرنا على أرجلنا مسافة نتحسس المارة والعمران من حولنا ، لا شيء يصدم الرؤية ، لا شيء يثير الحساسية . اسطنبول استقر لها في أذهاننا رسم بشع لكننا ها نحن أولاء نراها على كامل العصمة والاتزان. لم أكن أتصورها إلا أنفاقا مظلمة بالمعصية وأوكارا ومسارب تختنق بنار الحشيش والأفيون ، ومعارض لهو تسكر بمواويل العري وتتقوت بأطباق الخنا الخبيث..
تلك هي صورة اسطنبول كما أوعزت بها إلينا نشرات الدعاية السياحية الغربية ، وكما رسختها في نفوسنا قصص المغامرة والجرائم التي جعلت منها مدينة كونية مسكونة بعفاريت الإنس من كل قبيل.
اسطنبول سيدة تحني رأسها حين تمر بك ، يشغلها شأنها عن أن تلتفت إلى العابرين ، شمسها وضاحة وقلبها مليء بالآمال..
وطرقنا ساحة هادئة تحتشد فوقها الوداعة.. حمائم تتساحب أمامنا ، وحيالها المدخل الأثري الشاهق . وسمعتهم يقولون لي : هذا أبو أيوب الأنصاري. ومرة أخرى وجدت الواقع يباين الخيال.
كنت أتصور ضريح هذا الصحابي المبجل يقوم في ضاحية اسطنبول ، على مبعدة من أسوارها ، لكنني ها أنا ذا أجده قد اندمج في عمرانها وأضحى جزءا من قلبها. بل وأضحى السور نفسه ، كما سأشاهد ذلك لاحقا ، طرفا عضويا من المدينة.
ترى أي الأركان كان النورسي يأوي إليه وهو يتعبد ويستمطر على هذا الصعيد القصي دافق الرحمات؟(8/4)
ودخلنا الحرم ، الحركة دائبة ، والنسوة يستكملن ترتيبات أفراحهن بشهود هذا الضريح وقراءة الفاتحة على روح ساكنه تمينا واستشفاعا. وقابلني صبي تقوده أمه وقد تزين بثياب بيضاء وبتاج ذهبي فوق رأسه ، هو مختون أو بصدد تهيئته للختانة على ما قيل . ودلفنا إلى البهو حيث ثوى الجثمان الطاهر ، وتاهت أفكارنا وراء تلك الرحلة الشاقة والبعيدة التي قادت هذا اليثربي البر إلى هذه الديار، يفتتحها باسم الاسلام ويعلي مآذنها تدوي بصوت الحق في كل حين.
حنانيك يا صاحب القبر ، يا من حملت الشمعة في حضرة إمام المرسلين ونلت منه الرضى وطاب بك فارسا ترابط على حدود أرض الاسلام في أهم ثغورها.
أي شأن أعلى مقامك وأسْنَى ذكرك أنت أيها اليثربي حتى غدوت قلعة برزخية يلوذ بك بنو الاسلام من العجم ، يلتمسون في عتباتك شيئا مما حمَلْتَه إليهم من نفحات الاسلام ونسمات القرآن؟
طوبى لك من حارس لدار الاسلام في هذا البر الركين ، طوبى لمن وقروك واتخذوك مشهدا للورع تتقوى به لحمتهم مع الاسلام.
وقرأنا الفاتحة ، وسرنا نفسح المجال لمن التحق بالضريح يزوره ويتبرك به.
مضوا بنا إلى منتجع يشرف على الخليج ، كان واضحا أنه مكان يطرقه السواح الأجانب ، فقد امتدت المقاعد والموائد من حولنا وجلس عليها أشتات من الرجال والنساء . المآذن حيالنا عالية ورقيقة، والقباب رائعة الهندسة، واسطنبول تستوعب المدى المائي والأرضي بكبرياء ، جيء بالفاكهة والعسل والحلوى وصب الشاي ، ولفت نظري حضور هذا الشيخ الوسيم ذو النظرة الحليمة ، سأعرف أنه "محمد فرنجي" ، طالب نوري ، عاش في الخدمة أعزب، حتى ساق له الله "مريم" الانجليزية ، فسدد منهما رايتَي خير تحملان النور القرآني إلى أصقاع من هذا الكون.(8/5)
وتحولنا عن المكان ، ثم رأينا أنفسنا نمشي خلف "الشيخ صونغور" عبر أزقة قصبة اسطنبول، ذلك المكان الذي استقطب أكثر من شاعر وأكثر من فنان غربي وألهمهم فيوضا من الرؤى الشرقية العذبة. اتجهنا على الأقدام إلى المقبرة ، ووقف بنا الشيخ على قبر "الزبير" ، طالب النور المميز ، وخاننا اللسان في أن نفهم ما كان يقص الشيخ عنه ، ثم أرانا قبر والدته . على شاهدة القبر دعاء خطّه الأستاذ النورسي لها بيده، ثم استنسخوه هم على الشاهدة شفاعة واستنزالا للرحمات، هي صالحة بلا ريب وهنية في قبرها بهذا الحظ الذي نالته من النورسي العابد ، وراح مرافقونا الأتراك يتحدثون وهم يقفون حيال القبور، لا شك كان حديثهم يدور حول ذكرياتهم مع الراحلين ، إنهم يتحدثون عن الأموات بلا أسى ولا حسرة كأنما يتحدثون عن أحياء. هذا هو الفرق بين الإيمان والجحود. رحلة الانسان مسترسلة ، ومحطاتها لا تنتهي بالموت ، بل تتأبد لكن في عالم الغيب.
في موقف آخر ، ونحن على متن السيارة في طريق عودتنا إلى اسطنبول ، سيحدثنا الفتى المادريني "جودت" عن طلاب آخرين وهبوا أنفسهم للقرآن ولنشر رسائل النور. وابتهجت عيوننا في مجلس استجمام وتمتعنا بالمشهد الخلاب للخليج ، ما أروع الماء منصوبة عليه الجسور العملاقة كأنها خيام . وراحت الأصابع تحدد لنا في المدى حيالنا المآذن وأسماء المساجد البادية لعيوننا ، مسجد السلطان أحمد.. مسجد .. مسجد..
في قصر سعيد القديم(8/6)
ونهضنا متوجهين لزيارة بعضها ، لكنني تساءلت - ونحن بصدد الانطلاق - و لا أدري كيف- أين يوجد مسكن النورسي أيام كان بمعية ابن أخيه عبد الرحمن ؟ وبدا واضحا أن تساؤلي قد حدد الوجهة التي علينا أن نأخذها ، وسارت بنا السيارة ، تتبعها أخرى ، وقطعنا آمادا وبعض الجسور ، وحسبتهم يمزحون وهم يعلنون لنا أننا اجتزنا من قارة إلى قارة . في مرة تالية سأعرف أنهم كانوا صادقين وأن الحد الجغرافي بين قارتي أوروبا وآسيا هو منتصف الجسر الرابط بين ضفتي البسفور. واخترقنا مرتفعات غابية ، وانتهينا إلى صعيد عال تغطيه أشجار الصنوبر الباذخة ، ولاح لنا من هناك ، وسط الأيكة الباسقة، قصر بطوابق ونوافذ ووجاهة راسخة لا مراء فيها ، لم أتصور قط أن يكون ذلك المبني المهيب هو إقامة سعيد القديم ، يا سبحان الله لهذا الموقع وهذه الخلابة وهذا الاختيار. من هذا المكان العالي ، تنبسط اسطنبول أمامنا ، تنام تحت أقدامنا ، تتطلع إلينا بعينين فيهما رجاء ، وتذلل ، وصغار.. يا لعظمتك يا من تختار أن تترك هذا الشأن وهذا الصيت وترحل إلى مغارة موحشة تتكفف فيها بمحض إرادتك.(8/7)
هذا هو إذن القصر الذي فرّ منه النورسي وفلت من حبائل الدنيا ملتحقا بزمرة الأبدال الأطهار، قبل اليوم كنت أتخيل المكان شقة في قلب المدينة ، أهم فضاءاتها صالون تتوزعه أرائك ومكتب تتكوم فوقه الكتب والأوراق بفوضى. إذ لا ينتظر أن يستتب نظام في بيت لا تديره امرأة ، هكذا كنت أتمثل مقام النورسي ، ولذا لم أكن أعجب أن يتملكه ذلك العزم فجأة فيخلي البيت البارد ويترك المدينة بكاملها ، لكنني أقف الآن على صرح حبته الطبيعة أروع إطار أيكولوجي لا يتهيأ إلا لإقامات أهل التنفذ والشأن الدنيوي، أكاد أقول إن المشرف الفردوسي الأخضر الذي يتربع عليه القصر، هو من أروع المشارف التي تتوفر عليها اسطنبول ، وهو لذلك بقعة تسحر الألباب وتحبب إلى المرء الحياة والتعلق بها بصورة لا هوادة فيها ، فكيف أفلح النورسي يا ترى في تخطي تلك الشراك المنصوبة وغادر الدنيا على تقوى وزهد ؟ قيل إنه استمهل المُحسن صاحب القصر يوما يستخير الله فيه ثم يقرر بعدها هل يقبل منحته ويرضى بملكية القصر ، هبةً وتكريما أم يمتنع .. ثم كان القرار الحاسم ، إذ خرج النورسي يحمل في وفاضه أوراقا وقلما ولم يعد . هكذا تكون المجاهدة وهكذا يكون الفوز.
قصة لقائي بالنورسي
كيف التقيت يا أستاذ قاسم بالنورسي ؟ وأنت يا شهبر؟ وأنت يا فاروق حمادة ؟ وأنت يا .. ؟
وراء قصة كل لقاء يكمن سر من التوفيق الإلهي الأكيد ، أذكر أنني كنت أزمع أن أبحث -تحضيرا للدكتوراه -في تفكيكية الفيلسوف اليهودي الفرنسي ديريدا ، لولا أن المشرف أبدى من سعة التوهمات ما نفرني منه وأقعدني عن العمل، ثم تهيأت الفرصة من حيث لا أحتسب ، إذ أوقفني أستاذ مصري على قارعة الطريق ، فحملته على السيارة وانتهينا في ذات اللقاء إلى اختيار موضوع في القرآن، هكذا تسلك بنا الأقدار الطريق الذي تشاؤه لنا ، وأنعم به من اختيار أراده الله لي .(8/8)
أما لقائي مع النورسي ، فقد أعاد واقعته الأستاذ قاسم ونحن في مكتبه بالمركز بمعية أفراد من النوريين ، قال كنا في الدار البيضاء وكانت المناسبة انعقاد ملتقى الأدب الإسلامي ، وجلست أستمع إلى المداخلة ، وفي المساء صادف أن جلست إلى جوار صاحبها ، ورحت أقوله له : لقد تضلعت رواء وأنا اتابعك إعجابا بما كنت أسمع ، قال وسألني : أأنت شاعر ؟ قال ، قلت لا ولكنني مترجم رسائل النور للنورسي .. هل تعرف مبدعها النورسي؟… سآتيك برسائله .
هكذا قص الأستاذ قاسم عليهم تلك الواقعة التي عرفت فيها عالم النورسي، وكنت أنا على حداثة عهدها قد نسيت تفاصيلها ، لكنني لم أنس يومها تلك الروح التي أقبل بها علي الأستاذ قاسم يتأبط رزمة من المجلدات وينتظرني في قاعة الإفطار ، لم يكن يبيت في النزل حيث أقيم ، لكنه أبكر وبقي ينتظرني بصمت على المائدة ، وناولني المجلدات ، ورأتني أمتعض من وزنها، مجرد الرحلة يكدرني ، فكيف إذا كان لها تبعات وأثقال، لعلني بيّت أن أترك الرزمة في بعض محطات رحلتي ، لست ممن يزهدون في الكتاب ولكنني أضيق في السفر بحمل أي متاع يزيد عن حقيبتي ، ذكرياتي عن مرحلة الدراسة العليا مليئة بالعناء ، كم ورَّدْتُ أيامها من أحمال كتب ضاع أكثرها عبر الطريق .(8/9)
وغادرت الدار البيضاء مع الصبح ، وفي بعض المطارات ، وقد جلست وحدي حيث كان علي أن أقضي الليل بكامله ، رحت أمزق غلاف الرزمة لأجد التذهيب والتجليد على مستوى عال من الجمالية ، أشفقت أن أضيع تلك التحفة ، ألم يكن الناس عندنا إلى وقت ليس بالبعيد يحلون خزائنهم بالكتب المذهبة ، فلأضم المجموعة إلى ما عندي من مجلدات ، لم أكن أعرف شيئا عن النورسي ، وربما قلت في نفسي ، تجدها كتب أدعية وشروح مجترة لمتون ميتة من التراث . لم أكن أتصور أن تلك الديار العجمية قد عرفت رجلا على ذلك المستوى الفذ من الألمعية والروحانية. أذكر أنني شرعت في إلقاء النظر على صفحاتها قبل أن يمضي على وصولي إلى البيت أقل من ساعة ، كان العياء والمبيت في صحن أرضية المطار وسط بشر واجمين قد أنهكني ، ومدفوعا بوازع تعويض الأيام التي استهلكتها في السفر رحت أبادر إلى العمل والقراءة.(8/10)
وفتحت أحد المجلدات ، وحلقت عيني على أكثر من موقع فيه ، كنت ارتعشت استجابة لبعض الومضات تقدح من خلال الأسطر فتومئ إلي بشيء لكنني لم أكن جازما بأن هذه الأبهة تتوفر حقا على شيء مهم ، حياتنا العادية رسخت لدينا التوجس والاسترابة من كل شأن مبهرج ، وهذه الكتب حيالي قد بلغت الغاية من الزينة ، فأمرها دون شك مريب كسائر واجهات حياتنا الزائفة ، وانطلقت إلى مجلد آخر وآخر ، وسرى السحر في ضلوعي ، ولامستني أصابع رقيقة، ونفثت في الكلمات والعبارات أنفاسا عبقة ، وأغلقت الكتاب ، ورحت استوعب الحقيقة الأولى التي لاحت لي من أول وهلة . هذا سفر على حظ من الجدية ، هذا سفر أخاذ ، ثم عاودني الشك والاسترابة ، وقلت كم هي ماهرة وسائل هذا الزمن الخادع في دس السم في العسل ، وأرجأت التنقيب على الألغام إلى ساعة أكون فيها أكثر استعدادا لإعمال عقلي النقدي، معترفا في الوقت نفسه أن المفعول السري للكتاب قد ترك أثره على نفسي ، فقليلة هي الآثار التي تفلح في إثارة فضولي على مثل هذا النحو الفوري ، السريع..
تلك هي قصتي مع النورسي. وفي بعض المواقف قلت لهم إن النورسي إذا شبك في شخص ما، فهيهات أن يخلص منه وإن سعى جاهدا إلى الخلاص.
ليلة الاختتام والوداع
كنا نتحدث والسيارة تمخر بنا الطريق تحت جنح الليل ، حفلة العشاء الخاصة أقامها على شرفنا شاب نوري قيل إنه رجل أعمال ، شاء الأخ حمادة بدماثته وأصوليته أن يتوج مجلسنا العشائي بكلمة شكر وتنويه ، لكنه لم يحقق قصده المدني ذاك ، ومع ذلك ، وحين نهضنا نغادر القاعة ، راح يشد على يد الشاب المحسن الكريم ويدعو له..مضينا نقترب من وجهتنا، البوسفور ليلا ينبهم ولا تكاد العين تميز قلادات النور المتدلية من على نحره .(8/11)
وانتهينا إلى مسكنين متميزين متناظرين، وجاءنا صوت قاسم يدعونا للنزول ، كان يحرص على أن ندخل بيته ، لكن الوقت كان متأخرا ولا يجمل بنا أن ندخل على أسرة في تلك الساعة من الليل ، وحين لمس مضيفنا عدم استعدادنا لتلبية رغبته ، التفت إلينا وقال كلمة أحسسنا لها بأذى قال: إذا وقفت يوما عند باب أحدكم ودعاني للدخول وامتنعت ، يا ترى هل يؤلمه ذلك أم لا؟ وغاب دقيقتين وعاد إلينا ، فاستأنفنا سيرنا ، وبلبابته راح يحدثنا : هذا البيت الذي نقيم فيه تكرم به علينا أحد طلاب النور منذ ثماني سنوات من دون كراء .. ودارت في أذهاننا خواطر ارتفع بها مقام هذا المخلص في نفوسنا ، نوري بحق هو، يسلك طريق شيخه فلا تلهيه عن تأدية واجباته القرآنية الملاهي.
من خواطر دفتر الطريق
وفي مدينة ما ونحن على طريق العودة جلسنا حيال ثلة من الشيوخ ، كان أحدهم من تلاميذ النورسي ، ملامحه ولحيته وبساطته تجعلك أمام شيخ عربي من أهل البادية ، كان هذا الشيخ تلميذا للنورسي، وقد جاور طالبا في بعض أطوار حياته بالأزهر، ظل يرحب بنا بعربيته السليمة ، وظلت عيناه تتملانا ، وعلى شاشتها أنداء لماض وذكريات بعثها في قلبه هذا اللقاء الذي جمعه بنا على غير ميعاد ، ثم مضى بطيبته الفطرية يوصينا أن نحمل سلامه إلى معارف وأصدقاء له قال إنهم سيحضرون الملتقى ، ورحت أكثر من مرة أسترجع الأسماء وهو يذكرني بها ، لكنني كنت أنساها في الحين ..
وسألنا الشيخ صونغور بلباقة لها معنى الدعوة والتمعت عيناه ابتهاجا عندما أبديت له رغبتي في المبيت بمدينة "كتاهيا" .
..(8/12)
وتداعت الأسماء والصور إلى ذهني : كنعان . يا له من رجل ربيعي الروح. ضمني إلى صدره بحرارة المؤمن المخلص ، وسايرني قليلا في رواق المركز ثم عاد إلى خندقه على عجل يستكمل الخدمة. إنه يباشر تجهيز رسائل النور في قرص (سي دي) ، ويراهن من أجل اتمامه في الموعد ، المهمة حقا جسيمة ، والمضطلع بها يطوي الليل والنهار في يقظة وجهاد ، كانت أساريره تعرب عن نشوة انتصار، وكيف لا ينتشي من يؤدي شيئا من البلاء في سبيل الله وخدمة القرآن ؟
- من هفوات الرحلة تأخري –بسبب الأرق- مع زميلي في الغرفة صبيحة افتتاح المؤتمرعن الإلتحاق بالحافلة ، ولما وصلنا إلى المطعم وجدناه قد طوى خوانه لكنهم جاؤونا بإفطار ، وما أن شرعنا نقشر حبات البيض حتى أقبل قاسم نحونا وهو على حال من الامتعاض لا تخفى ، وزاد امتعاضه حين وقعت عيناه علي وارتسمت على صفحة وجهه عبارة بالخط العريض تقول بلسان الحال: أيكون المتخلف في هذا اليوم المشهود هو أنت ؟ لكنه لم يزد على أن قال : الجميع في الحافلات إلا أنتما ، ولم يسعني حيال تلك النظرة المؤنبة إلا أن أهب تاركا طعامي دون أن أصيب منه شيئا ، والتحقت بالحافلة ، لكن الموكب ظل قرابة النصف ساعة رابضا على القارعة حيال إقامتنا يستكمل ترتيبات الإقلاع .
جلسة عمل تقويمية في بهو النزل
وليلة اختتام المؤتمر صادف أن اجتمع أنفار منا في بهو الفندق ، كان الوقت ليلا وكان كثير من المؤتمرين - من بينهم عويس -ودعوا وارتحلوا، وآخرون اختلوا إلى أنفسهم يتأهبون للسفر باكرا، بدأت الجلسة بنا نحن الثلاثة ، قاسم وأنا والدكتور طه عبد الرحمن ، ثم التأم جمع من حولي ، وسرعان ما رأيت نفسي بإزاء مجلس إدارة الملتقى وتسيير أشغاله . كان المجلس يضم بالإضافة إلى قاسم ، فارس قايا - هذا الرجل المستلب بالأعباء والمتحرك عبر الردهات مثل قائد الأوركسترا ، يغفل بتاتا عن أي حس إلا حس الأوتار ، محمد فرنجي وشبابا آخرين.(8/13)
كانت أسئلة الأستاذ قاسم تحرص على أن تستطلع انطباعاتنا حول الملتقى ، قلت إن الجو الروحي سينتعش أكثر إن تخللت المحاضرات استراحة تؤدى خلالها أنشودات من أوراد النورسي .. أمّنوا برؤوسهم دون تعليق ، ثم أفاض الأستاذ طه عبد الرحمن يدلي بسديد من المقترحات كان ينقلها إليهم تباعا الأستاذ قاسم بكامل الأمانة ، إذ كان على عادته يعرب بنبرات صوته حتى على لوينات الكلمة وأصدائها. فصوته على انخفاضه المعهود يبدو دائما ممتلئا ومتشبعا بما يقول أو بما ينقل . هذا رجل ينخرط في العمل القرآني باستماتة عجيبة ، ما أبره من قرآني لا يكل .
واسترجعت الجو الذي ساد من حولنا في قاعة المؤتمر ، كان رحابها يضم واحتين متجاورتين ، واحة رجال وواحة نساء ، كل قطاع تراص على حدة ، ومن خلف الصفوف وقفت جموع من الرجال تستمع دون كلل.
العين تستجلي الأحوال
وبطبيعة المدرس وعاداته رحت أسبر الأحوال والهيئات وأستقرئ آثار القول على صفحة الوجوه.
كنت في رحلتي إلى "بارلا" وقفت على انجذاب جارف تندفع به تلك الأرواح الفتية والطرية من الشباب ، كان صحن المدرسة والمصلى يختنق بالحضور ، كانت الاستجابة القلبية تند عن الجميع لدى أدنى تعبير يمس شغاف القلب ، كنت مخطئا إذ أحجمت عن تناول الكلمة بكيفية تروي ظمأ تلك الجموع المتطلعة إلى الحديث الطيب. كانت وجوه الشباب والرجال والأطفال تمتد ناحيتنا وتريد أن تتلقى عنا أي شيء يرطب جوانحها ، وكان "عويس" بحق يدير القول ويلون الأداء في التلاوة وفي الصلاة ، وكان يحوز مزيدا من الحب والإكبار ، وكان يبدي امتناعا في الحديث إليهم أحيانا فألح عليه لأنني أيقنت أن تلك الأفئدة تتلمظ في صدور أصحابها توقا وحنينا إلى صوت الإيمان.
العين تتشرب الحسن
وهنا في قاعة الملتقى وجدتني أتحسس آثار التلقي في الوجوه قبالتي ،وانجذبت العين تستكشف تعابير الوجه النسوي النوري .(8/14)
ما أعظمه انخراط قلبي يميزهن ، طوبى للإسلام والمدنية بهذا الرعيل من الصافنات الجياد. أيا نوريات في الدنيا وحوريات في السرمد ، أيا مصانع لتخريج الحب البريء والمدنية السمحاء وحقوق الانسان المكرم …
كانت الملامح على غاية في التمالك والانشغال بما يصلها من أفواه خطباء المنصة ، لو أن الجو غير الجو لكان الفضاء يفور بنفث السجائر وزَفَرِ المخمورين ، ولَبَدَتْ الأجساد حاسرة ، ولغاب عبق التصون والتصوف هذا في غمرة الأنفاس اللافحة بنار الاستهتار، قلت في نفسي ، لا ريب أن سائر من يحضر هنا ، سواء كان رجلا أو امرأة ، إنما يحضر على طهارة ، لذا لا يجد المرء ، رغم هذا الاحتشاد الغاص ، أدنى نشاز. تلك هي تربية القرآن ، وذلك هو الطهر الحسي والروحي المكين.
المرأة القرآنية عطل من البهرج ، لا أثر عليها لصبغ أو تنميق، فالحسن طبيعي ولا شائبة نقص فيه ، والتصون لا يمكنك من أن ترى إلا مساحة دنيا من الوجه ، فالإعتجار بالشال يغمر أكبر قدر من مساحة الوجه.
هل تَمَعَّنْتُ حقا في حسن هناك ؟ وهل ترك الجو العبق بالقداسة وبالروحانية القرآنية وطهر الأشاوس من رجال الله الصالحين سانحة لأحد كي يتذوق جمالا غير جمال الروح والسمو القرآني المشحونة به خطب الخطباء ، كلا ، لم أكن لأصطنع حتى وأنا في صعيد يرفل بالبراءة والإخلاص شخصية غير التي لي ، بل ألم يقل لي الأستاذ "المرزوقي" ، أحد المحاضرين المصريين إن لشخصك شيئا من صوفية كامنة لا تخطئها عين المراقب ؟
أم تراها اللباقة المصرية العتيدة تتجاوز في الأحكام دائما لتحقن النفس بشهد المجاملة ؟(8/15)
وهناك أثناء سياحتنا داخل الأناضول ألم يواجهني الشيخ صونغور ، ونحن نتأهب للوضوء ومن حولنا جمع من الطلبة الذين تشتعل وجوههم بدم الحفاوة وحرارة اللقاء ، بسؤال لم أعه في اللحظة حتى كرره علي ثانية ، وحتى تدخل طالب يوضح : هل تقول لي الحقيقة ولا تتهرب منها إذا أنا سألتك سؤالا خاصا ،تبسمتُ وقلت أفعل إن شاء الله كيفما كان السؤال ، هل أنت من أصحاب القلوب ؟. ولم أدرك مقصده . وذهلت لحظة عن الجواب وأعاد سؤاله بالتركية ولم أفهم ، وتدخل الطالب يوضح : يقصد الذين لهم رؤية قلبية خاصة ، ونهنهت وأنا أرى ذينك العينين البريئتين ترمقانني بنظرة صافية والوثوق يشع منهما ، لقد كانت تلك النظرة تقول لي : لا فائدة من التنكر ، لقد فطنا لك يا أيها الفاضل .
واتسعت البسمة الساخرة على وجهي : يا لله ، يا لحسن الظن ، يا للبراءة . من خدعنا في الله انخدعنا له .. قلت والله لو شققت على صدري لأمرت برجمي يا شيخ ، أشاح عني وتفرقنا للوضوء ، لكن سؤاله أفعم صدري بمشاعر غليضة ، صلبة، خنقتني كأنها الحجر المسنن ، ووجدت لها في نفسي طعم القنوط.
يا رب كيف يصنع العبد ليكون عند حسن ظن هؤلاء الأتقياء ؟ يا رب الخير بيدك فأغمرني به وصفِّ معدني واجعلني يا رب على مستوى ما يراني عليه عبادك الأنقياء . وحين قام الشيخ يصلي بنا كانت المرارة قد بلغت مبلغها من نفسي، كنت كمن يبشر بالفوز ولكن لا أمل له في فوز، وغلبتني اللحظة، وأنا قائم في الصف، فتندت عيناي، وأجهشت متمالكا قدر الإمكان، ثم انخرطت في مناخ الصلاة وفي مشاعري ألم مبرح عملت ما وسعني العمل على تجاوزه ، أن يكون لي ظاهر على هذا المستوى من الزيف ينخدع به الصالحون.
وخامرتني وأنا قائم في الصف أفكار حول هؤلاء الرجال المجهولين الذين مضوا بالعهد إلى غاية لا تدرك ، لقد عرفوا حقا معنى " إن العهد كان مسؤلا ".
سهام حب مبرية من كنانة النور(8/16)
فرنجي يتزوج مريم المهتدية وتشرع في العمل بترجمة رسائل النور إلى الانجليزية وتبثها في أرجاء العالم .
مريم المرأة التي أعادت تعاليمُ الاسلام عجنَها فبدت على جد فذ ، هي بالسهم أشبه في غيابها وفي مضائها وفي همتها الرزينة ، كم في النوريات من مثيلاتها على هذا الطراز العالي ، هل للسهم حين ينطلق من القوس المشدود طريق غير طريق الهدف وبلوغ الغاية؟ حين تنظر إليها مواجهة ترى وقارا متحفظا ينضح بتعابير التأدب والترحيب ..
لا تشتهي نفسك شيئا إلا أحضره النوريون على غاية وكمال
دار الضيافة التي نزلنا فيها وهي لأحد النوريين تقدم الخدمة على أفضل ما يكون بتلقائية من تعود الخدمة وأتقن تبعاتها ، رجل وثاب ، وامرأة لها وداعة أختي.. لا تشعر حيالها إلا أنها ولدت ونشأت معك. وجاؤوني ليلا بالمسجل لأستمع إلى شريط الأناشيد الإسلامية التركية.
كنت قد سألت قاسما هل في اسطنبول شواؤون على الفحم (عادة ألفتها في بغداد ، أزجي بها يوما مرة في الشهر، ترويحا عن القلب من عناء حبس الدار) ، قال يوجد ، وفي الغداة أحضر مشواة وفحما وخرجت السيدة وزوجها القائمان على الضيافة يشويان لنا اللحم ونحن في مجلس ظليل حيالنا العشب والماء والفضاء الريفي المترامي ، ومن حولنا تصاعدت ألسنة الدخان ورائحة الشواء ، ورحنا نأكل ونشرب . هنالك تعلمت أنه لا يجوز أن تسأل النوريين شيئا ، بل لا يجوز أن تبدي لهم بمجرد عواطفك ، لأنك ستكلفهم الاستجابة مهما كانت طبيعة السؤال ، سيسأل عويس عن عسل الشمع ، وستكون النتيجة أننا ظللنا نأكل العسل في كل وجبة طيلة أيام إقامتنا ، لنجد أنفسنا في النهاية نحمل رزما أخرى من الشهد إلى ديارنا- أينما حللنا نفحونا بالهدايا وقدمت لنا من قبل أصحابها بكامل التجرد والامحاء، لا خطب ولا تشدق ولا اعتداد.(8/17)
في أنطاليا زمرة من الشباب والرجال وقفوا على عتبة المطار في استقبالنا والترحيب بنا ، بعضهم كان يحييني بروح مّن سمع عني ، وجميعهم كانوا هاشين ، من هناك ، منذ تلك اللحظة أدركنا أن الفتيان النوريين يحوزون درجة عالية من التمرس والحكمة واللبابة . أشبه بدواليب الجهاز ، كل يتحرك لشأنه ، من أجل تأدية المهمة الجماعية التي أنيطت بهم . أليس هذا هو الشاهد الحي على نفاذ وفاعلية تعاليم النورسي الفذ ؟
في طريقنا إلى بارلا
كان الانطلاق مع الغروب ، ورحنا نتمتع في صمت بمناظر الطبيعة ، ثم شرع الغبش المسائي يجلل الحقول من حول الطريق ، والسيارة تطوي المسافة طيا والسائق قطعة من السيارة لا يشغله عنها شيء ، وتوقفنا عند فلاحين يعرضون بضاعتهم ، واشترى عويس خروبا. سيتولى قيادة السيارة "جهان" ، هذا الفتى الصائم عن الكلام ، والذي لا يحس له وجود ، هذه الدينامية النورية المتدفقة ، هذا الخبير في الإبحار وفي طي المدى ، لو كنت صاحب شأن لاتخذته سائقا خاصا لي ، يطير بجناح وحذق ، وبيقظة قصوى يحلق في الجو دون أن تخطئه رزانة العقلاء. كم دق قلب عويس وهو يرى عقرب العداد تناهز رقم 160.
ووصلنا اسبارطة مع الإمساء ، وكانت أروقة ومداخل المدرسة النورية غاصة بالطلاب وهم يتطلعون وأيديهم متأهبة للسلام أو لحضن الزوار ، كم كان وزننا راجحا في تلك العيون التي تحب ببراءة لا تشوبها شائبة. كان العشاء جاهزا وكنا على جوع ، وامتدت السفرة وحفلت باللذائذ وكان واضحا أن نقال الشيخ صونغور قد ألزم القوم بأن يحضروا لي طعاما (توسوس)، ستظل تعليماته التلفونية تهيئ لي طعامي الخاص ، على مدى أيام وليالي الرحلة .
درس وذكريات عن النورسي(8/18)
الدرس الأول بالمدرسة النورية في اسبارطة كان حاشدا ، القاعة غاصة ، جميع الأسنان، من الصبي الطري إلى الشيخ الفاني حاضرون لنفس الوجبة المتكاملة التي هيأها النورسي مستخلصة من إكسير القرآن العظيم ، وخطب عويس في الحضور ثم تتابعت كلماتنا أنا ورفيقي وتحول حديث صونغور إلى سيرة الأستاذ ، وإلى استعراض بعض الذكريات ، والتفتت الأنظار إلى "الوحشي" ، هذا الشيخ ذو اللحية المنشورة بلا شارب ، والذي تستقر في عينيه أحداث وذكريات يريد أن يوصلها إلى الناس عن أستاذه النورسي ، وانطلق لسانه وحدثنا كيف كان يعالج الأستاذ بواسطة راحته الغليظة ، يدلك له ظهره وكتفيه ، وكيف أن التسمية سرت عليه من وظيفته تلك ، إذ يبدو أن راحته الخشنة كانت تؤذي الأستاذ أحيانا فأطلق عليه وصف الوحشي . حدثنا أيضا عن سيرة له كان الأستاذ ينتقده عليها ، فقد كان ينتدبه لبعض المهام لكنه كان يعود منها متأخرا وبعد الأوان مما كان يجعل الأستاذ يؤنبه ، وانتهى الأمر به إلى أن أوكل إليه مهاما أخرى تتناسب مع طبيعته .
في كل محط تتسابق الأيدي للخدمة ، الأحذية تؤخذ منا أو توضع أمامنا ، والإنحناءة البرة والبسمة المرحبة تملؤنا شعورا بالامتنان والحب وتقربنا أكثر فأكثر منهم .
في مدينة أفيون نفس التدفق ونفس الحب ونفس البراءة ونفس الظمأ ، لقد أودعت رسائل النور القرآنية في قلوبهم طهرا باتوا به يشعون الدفء والتواصل مع الغير- وتراهم يتابعون الدروس بتلقائية طبيعية وباهتمام أصيل لا تلكؤ فيه ، وبعضهم ، يتابع بقلبه فيما تمتد نظرته إلى جهة ما في أفق القاعة .
الطريق يمتد ، الطبيعة تجعل من البلاد التركية أرضا أوروبية بلا منازع ، الفلاحات في حفافيظ الصون التقليدية عاكفات على العمل ، رؤوسهن ملفعة في مناديل تستدير من حول وجوههن فتطمس فيها كل رغبة في سفور أو تَكَشُّف ، وتلك كيفية تصون بها المرأة التركية ملاحتها فطرة وتخلقا .
بارلا .. العرين الذي احتضن النور(8/19)
بارلا الجديدة ، يا مرحبا ببارلا ، لم تكن هذه صورتها في ذهني ، والخيال يخدعنا دائما ويبعدنا عن الواقع ، حين سلم علي أحدهم في ذات مكان قال كنت أتصورك جسيما فارها ..ضحكت وقلت صدق الأسلاف حين قالوا (تسمع عن المعيدي خير من أن تراه). وكان ذلك هو شأني مع بارلا ، إذ بدت لي أكثر أناقة . فيلل بطوابق متناثرة فوق السفح ، وبارلا القديمة على حالها تقريبا ، ، بل لقد تحولت بارلا كثيرا عن الحال التي تركها عليه الأستاذ ، إلا بيت خشبي هناك تفحمت جنباته وتقوست أضلعه كما تتقوس عظام يد الشيخ الكبير.
مسجد بارلا صغير ، الشرفة الخشبية المرتفعة إلى قريب من السطح كان النورسي يعتكف بداخلها . وصلينا ، هنا في هذه البقعة المحدودة ، والجو الكابي ، وطي هذه الألوان الداكنة انبثقت شرارة البعث الإيماني الرباني الصارخ ، هنا جالت روح النورسي في ملكوت الإلهام وأمدها الله بفيوض العصمة والتوفيق والتسديد. هنا تململ الإسلام يرد ضربات العقوق ويبني طوابق عزته من جديد على دعائم القرآن .
هنا استعادت تركيا البسمة التي تمزقت على شفتيها بغباء الأغبياء وتفريط المفرطين ، هنا علت المنائر ببشائر لا إله إلا الله محمد رسول الله ترد الزندقة وتبدد غيوم الإلحاد السوداء الآتية من الغرب .
وصعدنا جبل "جام" ، علو شاهق ونسائم رقيقة فيها برودة منعشة وأشجار الصنوبر تنداح ظلالها من حولنا جذلى بطروقنا ، تكاد تحمحم لنا بمشاعر الترحيب ، ومضينا خلالها نسحب الخطا ، هكذا أصعدة الطهر تسلكها الأنفس على جهد ومشقة وبكثير من الحذر والمخاوف ، أدنى غفلة هنا يزل بها القدم ، وما أعمقها هوة أسفلنا ، ولابد على السالك من حضور القلب ، ولابد عليه أن يكابد .(8/20)
بعضهم مضى يتواثب وكأنه يطوي منبسطا من الأرض نضيدا ، أولئك أهل النية الخالصة ، وحدي أدبّ دبيب النمل على شاهق كان النورسي يطويه من الطرف إلى الطرف في كل آن ، وتتلاحق الأنفاس لأدنى جهد ، لابد من التمهل ، لابد من السير خطوة خطوة ، وأسعفوني بخشبة اتخذتها عصا أتوكأ عليها ، وظل "يشار" يسايرني خطيوة خطيوة ، كان يشفق علي ويصمت ويراقب حركاتي ، لو كان الأمر لهذا النوري البر لحملني على ظهره وقطع بي الهضبة وجاب بي المقامات التي كانت للنورسي على هذا الجبل الجليل مصليات ومجالس فكر وأوراد. وبدت لي من هناك الشجرة الحضن ، الشجرة العش ، الشجر الرحم التي كان النورسي يعيش فيها مخاضات الإلهام ، كم من رسالة عرفت صرخة الميلاد هناك ، في ذلك المرتفع ، بين الأرض والسماء ؟
ما باله يختار الرفعة والعلو دائما ؟ ما شأنه يعشق العلو والارتفاع والشأن المدوي؟ في فتوته كان سيفا مسلولا بين الأتراب ، وفي شبابه استحال شهابا يخترق الآفاق ولا يخبو ، ثم لما استوى على سوقه ها هو يتجلل بالكبرياء ويشيح عن الورى ، ولا يأوي إلى الأرض بل يختار بدلها السماء؟ ملاذ أهل الخرقة والسر المغائر والخلوات الجوفية والملابد في مسارب الأرض ، لكنك يا نورسي أبيتَ إلا أن تتعالى حتى في نسكك ، فما السر أيها الحبر ؟ وما دلالة ارتفاعك عن السفاسف في الحقيقة والمجاز؟ ،مازال السلم مشدودا إليها ، لقد ثبتوه عليها بحديد حتى لا يصيبه تلف ، هناك ، على أغصان تلك الصنوبرة ، كان النورسي يغوص في لجج التأمل ويستخلص نشوة الكشف ويجدد وضوء الروح ويناجى الملكوت بلسان الوجدان ، الشجرة مسورة بدائرة من حجرة ، وتلك الشجرة المناظرة للأولى، شجرة القطران ، والتي نفقت ولم يبق منها إلا صورة تعكس بحق كفا بأصابع تضرع إلى السماء.(8/21)
ما شأنها هي الأخرى ، لا ريب أنها كانت ملجأ آخر للإستاذ ومجلسا علويا له يباكر منه السماء بأذكار الأرض وهو يواظب على ربط صلته بالخالق سبحانه وتعالى ، الشجرة محاطة برعاية وصون، لا تقع بهما في مزلق الإسفاف الرمزي والقداسة الضحلة القاصرة ، الشجرة مربوطة بأشرطة حديدية تحفظها من الفناء ، فبدت بحق معلما سياحيا محفوظا يلهم الأجيال التواصل وحب الثبات على المبدإ والتمسك بالعقيدة الوضاءة وسط تلاطم الأمواج .
ما أحوجنا إلى الأخذ بهذه الروح في صون معالمنا وتخليد مآثرنا وذكرياتنا وأشياءنا التي تنبض بالوحي والرمزية. واشتغل المصور التلفزيوني المصري باستجواباته ، يا لها من لوحة تلك التي تتجلى لنا في أسفل الأفق ، بارلا الماء ، بحيرة البهجة والتأمل التي كانت مناط بصر الأستاذ وبصيرته ، الأفق يغشاه سراب أدكن شفاف ، البحيرة المترامية في الفضاء تتنفس ماء وبخارا ونسيما يبلل الكون من حوله ، بارلا البحيرة ، يا معين الإلهام ، ويا فيوض من رحمته الإلهية التي أسكبها على الأرض نعيما لا يزول.
وامتدت السفرة من جديد ، وأكل الناس في حلقات يعمهم جو من الصمت يستوعب أصداء الحبور الروحي والتعاليق الجذلى بجو اللقاء ، لقاء العشق .
كانت روح النورسي تبتسم للجميع ، ها بعض أحلامه تتحقق ولما ينصرم عشر المدى الزمني الذي حدده ميعادا تزدهر فيه غلال ما زرع وتينع ثمار ما غرس.(8/22)
هل أكون مدعيا إن قلت إن الأستاذ كان حيالنا ، كان يرد على أسئلتنا ، ويناجينا ، ويبادلنا الطرائف ويدعونا لإيقاد النار وتجهيز الشاي، أي حبور حملناه معنا إلى ذلك المكان الذي ورث الخشوع والاستغراق عن النورسي ، كانت الأغصان تتمتم بتراتيل وأوراد تسجلت على أشرطة الأثير بصوت شيخ عشق الخلوة وناهض الزيف. أي سحر لهذه النبرات المسترسلة مع النسيم ، مع شنشنة الاغصان ، مع التماع السراب في المدى ، مع دبيب الظلال ، مع ارتعاش الشعاع ، مع تردد الأنفاس في الصدور ، مع مشاعر الحنين التي يثيرها المشهد في الجوانح ، كل شيء كان يشدو ، وكل شيء كان يصغي ، وكل شيء كان ينطق ببلاغة الإيماء ، وكل شيء كان ينتظر الكلمة تفوه بها شفتا الجبل الذي اجتباه النورسي وتواثق معه على ملازمة ذكر الله غيبة وشهودا. هذه الحجارة لامسها نعل الشيخ ، أي حجر من هذه حملته أنامل النورسي وقذفت به في اللاوجهة دفعا للسآمة أو تلذذا بسانحة خطرت في الوجدان ؟ ثم بعد ساعة انتشروا عبر الأرجاء الضليلة ، الأصيل يقترب منا حثيثا، والنسمات الهادئة يزداد بردها ، والنفس استوحشت الفضاء من حولها وعنت للأنس والدفء والطعام.(8/23)
ترى كم كانت الساعات والأيام تستغرقه في هذا المرفق المعزول ؟ على ما قيل لنا كان يقطع المسافة وينفذ عبر الأعالي من بارلا إلى هنا سيرا على الأقدام ، ستة عشر كلم يقطعها في أعالي الجبال السامقة الوحشية ، وحيدا كي ينتهي إلى هذه الصعيد العالي المطل على سهل يتزاوج في سلام مع المدى المائي الساكن والمترامي في الأفق إلى حدود لا تنتهي إليها الرؤية. بأي نار كان يتدفى ، فالليالي والأفجار في هذا الموضع الجبلي الأخضر والمتعرض لأنفاس البحيرة لا شك باردة يلسع نسيمها الجسم حتى في عز الصيف ، فكيف كانت تلك النفس تحتمله، وبأي جمر تتوقى وخزاته ؟ أم تراني سفهت إذ تجاهلت دفء الروح وما يورثه العشق الرباني من حرارة تتندى لها الأعطاف والجبين ؟ كيف كنت أشفق على نفسي من جهد الصعود إلى الحضرة ، حيث ظل الفقيه الرباني يتلقى الخواطر بنقس تضرب عن الدنيا بلا أسف وبكثير من الشموخ؟
يا قلبي المعنّى ، يا أنفاسي المتلاطمة في صدر يموج بخواطر الحياة وبملاهيها وبأعباء التوق الذي لا يوصف ، يا قدمي الدامية مالك تتوانين ولا تخفين لملاقاة الداعية الهمام ؟ أيها الجبل العاتي تنضد لي ودعني أقبل عليك ذليل النفس خفيض الجناج أواجه الجبروت ، أي عز حباك الله به يا جبل جام بين أندادك الشواهق ، حتى جعل إمام الصابرين والشاكرين في هذا العصر نزيل أكنافك وجليس أفيائك؟ تراقصي يا صور الشموخ في حسي الباطن ، أبيني لي كيف جاب الإمام هذه الربوع وكيف ساكن السكينة وكيف تربع على عرش المواجع كي يرقى إلى قمة الملكوت ؟ يا عجبي كيف يجعل الله محب رسوله المصطفى وعاشقه المبتلى والمتيم به ، فردا وحيد النجر متوجا بأكاليل العز في زمن الاسترخاس والتفاهة ؟ أسعفيني ياقواي واسلس لي يا عظْم الهمة والإصرار كي أرقى إلى المنزل الذي عشق فيه النورسي الحياة الدائمة وأعطاها كل صميم من قلبه وخلجاته، فأحال عوارها بهاء وأنسا وأحلاما خضراء وآمالا لا تخيب .(8/24)
ثم غادروا المكان كما نزلوا به إلى مدينة آفيون.
في أفيون
وصلنا أفيون مع الليل ، نفس مظاهر الاحتشاد والتجمهر سنجدها ، لكننا حين نزلنا لم يكن هناك جمع مستنفر يتطلع إلينا عبر الرواق والمنافذ ، مضى الشيخ صونغور رأسا إلى المصلى ، كانت صلاة المغرب قد أدركتنا في الطريق لكن المرافق الأفيوني على ما يبدو شاء أن تكون صلاتنا في المدرسة فلما بلغنا وجدنا جمعا في مصلى المدرسة ينتظر توضأت على عجلة قياسية وبلغت الصف وراء الإمام صونغور ، وبعد ذلك جزنا إلى العشاء ، جيء لي بكل شيء توسوس ، الملبنات والمشويات والسوائل والسلائط ، لكنني كنت حريصا على أن ألجم نفسي فلا أقرب منها أي طعام دسم ، وظل الشيخ صونغور يدفعني ويعجب من تهيبي ، ويحادث مؤاكلينا من ضيوف المدرسة الأتراك بعجبه من إمساكي باللسان التركي .
كنا نجلس أرضا وحيالنا ضيوف نتبادل معهم التحيات والترحيبات بالإشارة والكلمات المكرورة لكن السحن كانت تفيض بالمشاعر الرقراقة. هذا سر آخر من أسرار الاسلام وهو يلحم بين الأقوام والأعراق فيوحد قلوبها ومواجدها بسره الخفي الذي لا يحول ، لم يعد اللسان حاجة ماسة يترجم ما يعتمل في الجوانح من أحاسيس الأخوة الصميمة والضاربة بجذورها في أعماق الزمن .(8/25)
كانت اللمحة وهزة الرأس ، والإشارة باليد على الصدر والبسمة وضمة الحضن القوية والتربيت على الكتف وعلى ظاهر اليد كافية للإعراب عن مشاعر الحب التي لا يحس المرء بتاتا أنها ولدت لحينها ، ولكن يشعر كأنها ظلت دائما مكينة في النفس ومستقرة في الفؤاد ، وأن اللقاء هذا بعثها فقط من مرقدها لتتدفق على ذلك المنوال الذي لا يوصف- ما أبره مشهد الفتيان النوريين وهم يتسابقون أمامك يحملون عنك الحذاء وأنت تدخل المكان أو يضعونه بين يديك وأنت تغادره ، ما أشدها صورة وما أقوى تأثيرها وأنت تجد القرآنيين يخدمونك في المتوضأ وحيال الحمام بلوازم الوضوء وبالمشايات وبالمحبة الخالصة لوجه الله - ومن حين لآخر - يفاجئك أحدهم ، شيخا أو فتى أو حتى صبيا ، فيبادر إلى لثم يدك باندفاع من يغتنم الغنم الثمين ، فلا يسعك إلا أن تؤمن أن الدرس النورسي قد تغلغل في أعماق هذا المدد البشري فأورثهم صفاء الروح والخلوص وجعل حسن النية مرتكزهم ، وجعلهم طلاب مجد رباني لا يترددون عن أن يتشفعوا إلى تعزيزه حتى بالوثوق في صلاح أمثالنا من البشر.
في بيت نوري خاص
ودخلنا صبيحة مغادرتنا الحاظرة اسطنبول إلى بيت مثل الروضة زينة ورحابة وخضالة ، صاحبه مهندس رخي النظرة لا تغادر البسمة صفحته ، الخضرة تطغى على المكان ، وثمار العنب دانية ، وفوارة الماء تتدفق في حبور ، بيت نوري مبارك يستنفر كافة مقوماته ليكرم ضيوف النورسي، ومنذ العتبة فاجأني شبل مثل البرعم فلثم يدي ، إنها تعاليم الأسرة تجعل هذا النمر الصغير يبدي كل هذا الحب الخالص للقرآن. وأداروا علينا ألوانا من الطعام والحلوى ثم اقتطفوا لنا عناقيد عنب من فوق رؤوسنا ، ثم وقفوا أخيرا يستمعون بهيام إلى تلاوة عويس ، لقد أداها على نحو طرب يرقى بحق إلى مستوى تلك الحفاوة التي لا تشعر حيال إخلاصها بأدنى شائبة من غرض أو هوى.(8/26)
هل يفيد أن أقول لإخواني القرآنيين أن اليد التي لثمها بعضكم مثقلة بالأوزار وأنها تناشدكم أن تبروها وأن تدعوا لها المولى عز وجل بالمغفرة والصفح الكريم حتى لا تتردى في الجحيم. ما أرحب مساحة وثوقكم أيها الطاهرون ، فأنتم صفحات حصنها القرآن عن أن تتكدر ، فأضحت لا ترى في من يطرق حماكم إلا أطهارا وخلصا وصادقين. ليت شعري كم هي كثيرة ذنوبي ، ويا ويح نفسي من مقترفاتي أنا الذي حظيت بمحبة وثقة وتعظيم تلك الفئات الطيبة من النوريين.
ومرة أخرى تدثر عويس بالجلباب وجعل على رأسه طاقية جاءه بها بعضهم وأمّ الجموع ، كان أغلب الحاضرين شبابا ، بل كان فيهم قسم من الصبيان وكان الإصغاء تاما وكانت المتابعة راسخة ، وكان المترجمان جودت وعبد الكريم يتداولان الترجمة ، العياء باد عليهما .
كانت السهرة الدينية تستمر إلى ساعة متأخرة من الليل ، وكان الشاي يوزع على الحضور بنظام لا يثير جلبة ولا يختل به أدب المجلس النوري ، كان الشيخ صونغور يعقب على الفقرات ويشرحها بتلك البساطة التي تعكسها حركات يده اليسرى ، وكانت معانيها أيضا ترتسم على صفحة وجهه الأسمر وتطل على الحاضرين من خلال صفاء عينيه وطفليتهما ، وأحيانا تفاجئك آهة فريدة أو مزدوجة تصدر من سامع لا يمكن أن تحدد موضعه في الجمع لأن المعنى القوي مس في قلبه بقعة رهيفة ذهل بها عن نفسه ولم يسعه إلا أن يتأوه.(8/27)
هكذا هي المشاركة ، وهكذا أخبر النورسي عن سحر أفكاره وما تفعله في النفوس ، إذ هي أفكار تقحم بهذا المتلقي في أفق من التأمل بلا ساحل ، وتدفع بذاك إلى استذكار أحوال من الحياة ومن تقلبات النفس ، وتزج بالآخر في يم من التداعيات المتعلقة بالوجود والعدم ، وتنفذ إلى قلب هذا سلسة رخية كما ينفذ القطر إلى الأرض العطشى ، وأحيا تلسع صميم القلب كما يلسع الشهد حلق المتذوق أو كمثل حد السيف حين يجهز على رقبة الشاة . هكذا تفعل معاني الرسائل وهي تعرض أحوال العباد في تفاعلهم مع الخير والشر ، إنها تستلهم القرآن العظيم وتستمد منه بلسميتها ، فتأتي المعالجة دمثة مبهجة وتأتي صارمة حاسمة على نحو سواء.
الإبكار إلى مدينة أميرداغ ، المدى من حول الطريق ينوع لنا عروضه وجميعها جذابة والأرض العذراء تحوز خصوبة لا يمكن إلا أن يعيش الإنسان عليها في رفاهية ووفرة وبعيدا عن كل خصاصة واحتياج . دار الاسلام رمانة سلطانية مكتنزة بالرحيق والعبق والرواء. في المدرسة كان المتلقون في معظمهم رجالا على سن متقدمة ، سائق الشيخ بوجهه الجاد وملامحه المتزنة ، هل تلك سجيته أم أنه اكتسب التصميم والتجند من ملازمته للإمام ؟
في بيت النورسي بإسبارطة
ودخلنا البيت الذي سكنه الشيخ في اسبارطة ، صعدنا السلم إلى أعلى يسبقنا فضول روحي يملأ مشاعر كل من وقف على تفاصيل حياة النورسي وعرف بلاءه العظيم، صفحات عريضة من المواجع كابدها ،وزادٌ وفير من الغصص تجرعه وهو يصنع هذا المجد القرآني الذي تنحني له الجباه في أقطار الأرض.(8/28)
نزعنا الأحذية وصعدنا ، وحيال الباب انتهت إلينا أصوات ، وتسمرنا في أماكننا ، معبر الدرج ورائي مشحون بالوجوه المتطلعة إلى أعلى ، تسمر كل في موقعه وامتدت أسماعنا إلى الحس المنبعث من داخل البيت ، هذه أصوات يعرفها صونغور ، لذا ها قد هش لها وتوردت وجنتاه لنبراتها ، ودلف أمامنا إلى الغرفة ، وسار بنا إلى أخرى ونحن خلفه نمشي على رؤوس أصابعنا من رهبة وحذر لا ندري لهما سببا ، لا نكاد نرفع أنظارنا في شيء مما حولنا إلا خلسة.
كل مشاعرنا تعلقت بالأصوات الخفيفة المنبعثة من الداخل ، واجتزنا العتبة ومن هناك ، من على سرير عريض عليه أغطية قماشية ، واجهنا الشيخ ، بنظرته النسرية ، وطلعته الأسدية ، وركانته الفخيمة . كان مستغرقا في تصحيح ورقة فلم يعبأ بحسنا ، وكانت على رقعة الأرض تنعقد حلقة درس ، وتطلعت وجوههم إلينا في خلسة، سبعة أو ثمانية طلاب في عز العمر ، يمسكون بأقلام وورق ويتابعون صوت الأستاذ ويكتبون ، وهزوا رؤوسهم لنا وواصلوا عملهم، وهمس صونغور: الحلقة معقودة لتصحيح الرسائل..
وفي لحظة نزع صونغور رداءه وشمر وباشر إيقاد النار ، لقد رمقه الأستاذ بنظرة فأدرك دلالتها وها هو يوقد النار في موقد حديدي ويضع الماء عليها يغلي ويلتفت إلى الأقداح يحضرها ، بعد قليل راح يوزع الشاي على الحلقة لكن الاستغراق كان يتملكهم فلم يشعروا به حتى أومأ الأستاذ إليهم فتركوا أقلامهم وأخذوا يشربون ، وأمرنا الشيخ بالجلوس ، وجيء لنا نحن أيضا بالشاي ، وراح صونغور يعرفنا للأستاذ ، وانتهى إلى عويس ، تملاه الأستاذ طويلا وقال : أنت من مصر . كنانة الإسلام ، ثم بعد صمت راح يسأله عن الأزهر ، وعن حال العلوم به ، وهل لا زال محجة للمسلمين يتفقهون ويتربون على شيم الاسلام ، ثم جاء دوري وسمعت صونغور يقول للشيخ : هذا أخ من الجزائر .. من بلاد الغرب الاسلامي. وتبسم الاستاذ وتمتم كأنه يحادث نفسه :(8/29)
أعرف ، أعرف الجزائر، ومنذ الذي لا يعرف بلاد المجاهدين؟
ثم شرد بذهنه لحظات ، وعاودني صوته قائلا : كنت في كهولتي أسمع عن رجل يسمى ابن باديس ؟ من يكون وما كان شأنه؟ وسبقني عويس يقول : هو داعية على شاكلتك يا سيدي ، كان هو أيضا سراجا أنار تلك الديار في وقت كانت الصليبية تضرب المسامير الأخيرة في نعش الاسلام بالقطر الجزائري. وهز الشيخ رأسه وقال : كنا نرى ونسمع عن ذلك ، لكننا لم نكن نؤمن بأن شمس الاسلام ستغرب عن بلاد طارق بن زياد. وصمت الشيخ لحظات ثم سألني : كيف كانت سيرته وما برنامجه؟ ماذا ترك وراءه ؟ قلت : كان متنور العقل ، صوفي المسلك ، مجاهدا في سبيل إسلام وعروبة الجزائر ، لم يتزوج ولم يطين ، وإنما وقف حياته كلها في سبيل الله وخدمة الجزائر المسلمة. وتساءل أكثر من واحد في دهش : لم يتزوج ؟ كيف ذلك ؟ أكان حاله من حال الأستاذ ؟ وهز الأستاذ رأسه متبسما : بلى كانت حالنا واحدة ، فالمصدر المشترك يفضي بالضرورة إلى مورد مشترك .(8/30)
ثم سألني : ترى هل ترك تراثا أو كون تلاميذ يخلفونه في الدعوة ؟ قلت : ترك تفسيرا للقرآن ودروسا في التوجيه ، وكان له معهد تخرج منه المائات والآلاف من الطلاب ، لكن حرب التحرر والجهاد أتت عليهم إلا من كتب الله له العمر الطويل. هز الشيخ رأسه ثانية قائلا: لم يذهب جهده هدرا ، ولم يكن استشهادهم ضياعا . لقد استرجعوا للجزائر عزتها إذ نصروها في معركة المسخ والتنصير. وسمعت صوت أحدهم ولكنته القوقازية جلية يسأل الأستاذ : سيدي سيارتك فارهة وقد كنت أحسبك معدما ؟ وتبسم الأستاذ ورمق سائله بطرف يفيض محبة ثم قال : من لا يفتأ يصرح بأنه حتى الرسائل التي هي من خالص جهده ومن بنات تأملاته في القرآن العظيم ، ليست له ، فهل يسعه أن يزعم أنه يملك سيارة . كلا يا ولدي ، تلك السيارة ليست ملكي ، هي ملك للرسائل . ولو أنني تأخرت إلى وقت آخر وأهديت لي طيارة لما ترددت في قبولها لما أعرفه لوسائل الاتصال من جدوى وفاعلية في حمل الأفكار ونشرها عبر الآفاق. فتعاليم القرآن العظيم في مسيس الحاجة إلى أن تُبَسَّطَ وتذاع بين العالمين بكل الوسائط. هل فهمت يا ولدي؟
وسمعت طالبا من الحلقة يتدخل ، ورأيت الشيخ يأذن له بهزة من رأسه ، فتنحنح بأدب وقال : لا فرق بين أن تحوز الرسائل سيارة أو قطارا أو قمرا صناعيا .. ما دام ذلك يفيدها في تأدية غاياتها السامية ، ألم نتطور بعملنا من مرحلة أولى ونتحول من الاشتغال اليدوي إلى مرحلة الاشتغال بالآلة ثم بالمسجلة في نشر الرسائل ؟ وقال صونغور وقد رأيته يستأذن هو أيضا الأستاذ : لو أن الشيخ النورسي عاش عصرنا لما تردد في أن يحمل نقالا.(8/31)
وهنا اعتدل الأستاذ وتخلص من الغطاء الذي كان يلتف فيه ،وراح يضم فوق صدره طرفي معطفه . تابعت الأعين حركات يديه العظميتين وهو يعالج هندامه ، وسرعان ما تنكست الرؤوس ، لم نستطع أن نعاين رثاثة الثوب القديم وقد كللته الرقع في كل مكان ، هل يحق لنا نحن أن نقف في حضرة هذا الراهب الرباني العجيب ؟ ما بالنا لم نتأدب ونحن نقبل على هذه الحضرة فنتدثر خرقا نرتفع بها قليلا حيال هذا القطب خادم القرآن ؟
أي عمىً أخذنا إذ اقتحمنا عرين الصلاح دون أن نتسلح بشيء من أسلحة الحياء ندفع بها عن أنفسنا رهبة الطريق ؟ كان الخجل قد بلغ منا مبلغه حين سمعنا الشيخ يأمرنا بالجلوس ، وامتدت يده إلى عويس بنسخة من الرسائل ، وطلب إليه أن يفتتح الدرس بآيات من كتاب الله ، وبكل انصياع تعالى الصوت الأزهري يرتل سورة يس . ثم تتابعنا نقرأ نصوصا من المكتوبات ، وحانت منا التفاتة في بعض الأطوار فإذا الشيخ غائص في أوراد يهمس بها إلى نفسه ، ثم جاءت أخيرا دعوته لنا بقراءة الفاتحة ، ورفعنا خلفه أيدينا ، ورحنا نتابع شفتيه ترتعشان ، كانت عيناه تهيمان في أفق بعيد بعيد ، وكانت ملامحه تتلون ، تعروها أحوالا من الضراعة والاسترحام ومن التفاؤل والإشفاق ، ورحنا نحن في ذلك الموقف الفائض بالأنوار نذوب تأثرا وتجاوبا مع حال الوجد التي سرت في جوانح كل منا.
لقد كنا أشبه بقطعة من ثلج يلقى بها إلى البحر. وشاهدت أفراد الحلقة يخفون إلى الشيخ يلثمون يديه وهو عنهم غافل يمضي في نشر الغطاء على جسده ، ثم رأيته يومئ إلى كومة من الورق قائلا : اعطوا لكل واحد من ضيوفنا نصيبه .. وحين استوى متمددا على الوسادة كما كان أول الأمر، سمعته يوزع المهام عليهم بصوت خفيض لا يكاد يبين :(8/32)
أنت يا حافظ خذ قسطا من الرسائل إلى آسيا ، شق المدى واصطحب القافلة التي ترحل هذا المساء ، وأنت يا .. خذها إلى أوروبا، فأنت حاذق في لسان تلك الأقوام هناك ، وأنت يا.. خذها إلى أمريكا .. وأنت .. يا صونغور خذها إلى إفريقيا ،وانزل مصر أول ما تنزل ، وزر الأزهر الشريف واقرأ سلامنا إلى علماء الاسلام.
في تلك الأثناء وأنا على حال غريبة بين النوم واليقظة ، جاءني صوت صونغور يدعوني لدخول الغرفة ، وسمعت أكثر من واحد يقول لي : مالك شردت ؟ أم أنت تعبان؟ عندئذ خرجت من سهومي ، ورحت أعاين تركة الأستاذ وأقلب نظري في فضاء البيت الذي سكنه حينا من العمر.
سيارة الشيخ بلونها العسلي ترقد في المرآب في مسكنه بإسبارطة، وكذا أثوابه المرقعة ، وقميصاه الصوفيان الأبيضان النظيفان ، وسريره العريض ، وفي الخزانة الحائطية بعض المواعين على بساطة شديدة هي كل ما أثث به النورسي حياته ، كان معاشه معاش المرابطين ، بيضة في اليوم أو حساء لا بهرج له، وبضعة أقداح من الشاي وليس أزيد .(8/33)
البيت الذي سكنه الشيخ في اسبارطة كان يكتريه من صاحبته ، كانت هي تسكن أسفل وهو أعلى ، وكان مدخله مستقلا ، وبذلك ابتعد عن أن يكون محل ريبة . ويوم أن جاءه رجل بزوجته ليتعلما منه شيئا ،وكان يقيم في بارلا ، صادف أن خلعت المرأة حذاءها على العتبة خارج البيت فيما تقدم الزوج إلى داحل البيت ونزع حذاءه ، وجاء بعد حين الزبير ، طالب النورسي الحواري ، وشاهد الباب موصدا على غير عادة وحذاء المرأة حياله ، تراجع الطالب وأيقن أن هناك أمرأة عند الأستاذ ، فلا يجدر به هو الطالب أن يدخل عليهما . ثم تولى إلى الوراء وبعد حين عاد إلى أستاذه ، ولم يخطر على باله أن يسأله عمن كانت عنده ، بل لقد كان قابل صديقا له وحين سأله عم يؤخره عن ملاقاة الأستاذ أخبره أن الأستاذ يشتغل بتعليم إمرأة . هكذا كانوا الطلاب الذين لازموا الأستاذ يقطعون بربانيته وقرآنيته، ولم يكن يخامر أحدهم أدنى ريب في صديقيته.
وعلى مدى الطريق - ومن حين لآخر- كان الشيخ صونغور يشير بيسراه إلى الأحراش ، حيث كان الأستاذ يجوبها أو حيث كانوا يدرسون عليه في ظل الأشجار المتناثرة ، وفي بعض المدن كان يرينا أماكن أخرى شهدت مرور الأستاذ . من ذلك مدرسة كان تلاميذها يهرعون لاستقبال النورسي كلما علموا أنه يمر بقريتهم ، وكان مدير المدرسة يجري وراءهم يعيدهم إلى المدرسة دون جدوى-
جوامع وراءها شأن وتاريخ(8/34)
كان علينا أن نقف على جامع الفاتح ، فقادنا سعد إلى حي الفاتح ، ودخلنا الفناء ، وواجهتنا شجرة دلب معمرة ، قال سعد : أرأيتم هذه الشجرة ؟ هي نفسها التي يظهر أمامها الأستاذ في بعض صوره الرائجة. واستحضرت المشهد . الصورة لا تظهره في هذا الفضاء العريض ، بل يبدو فيها كأنه قائم من فراشه يستقبل أشعاة شمس الصباح. قال سعد إن النورسي لم يكن يقبل أن تؤخذ له الصورة ، قلت في نفسي ذلك أمر واضح ، إذ هي صور لا تعكس أدنى اهتمام بالموقف ، وكلما تكشف عنه هو الاشتغال الداخلي والاستغراق القلبي.
كانت قطرات من الرذاذ تندي نهارنا ، فتوضأنا ومضينا نخطو إلى الضريح . البهو عتيق وسامق ، والقبر شامخ ويبعث على التأمل والاعتبار ، وقلت في نفسي ، هكذا ترتوي النفس ، إذ ترى عظمة الرسم على فراهة وفخامة تناسب ما أنجز المقبور وما قدم من مجيد الأعمال للاسلام . ثم وجدتني اتسأءل : والنورسي ؟ لا ريب لو أن قبره كان معلوما لكان مستويا بالأرض ، فقد سلخ عمره يعيش الامحاء الكلي ، ذلك الامحاء الذي تأهل به عن جدارة لأن تشاد له تلك التماثيل في صدور النوريين. وقرأنا الفاتحة وخرجنا ، وفي نفوسنا صورة لفارس دك أسوار الكفر وزحزح القسنطينية عن جهالتها لتحوز شرف الإيمان القرآني العظيم.(8/35)
وسنجد للفاتح صورة زينية حين نزور المتحف العسكري ، يمتطي فيها حصانا أبيض ، وهو وضيء المحيا ، أبيض اللحية، وسبيب مطيته منشور في الأفق ، لكنني لم أستشعر لذلك المشهد الزيتي أثرا ، حتى وقفت على خريطة الفتح ، واطلعت على خطة الهجوم ، حمل السفن على متن العربات بعد أن سدو البحر أمامه بسلسلة ذرغها يسع الماء من الضفة إلى الضفة ، ثم نفذ إليهم عن طريق الماء من حيث لم يكونوا يحتسبون..عندئذ تكشفت لي العبقرية الخارقة لهذا العثماني الباسل ، لقد داهمهم من خلف ، وباغتهم من حيث لم يحتسبوا بعد أن حمل السفائن على البر وطوقهم بمكيدة زلزلتهم زلزالا مبينا. قلت لمن كانوا برفقتي: هذه الخطة اتبعها حنبعل البربري في هجومه على روما. إذ ساق الفيلة على السفن وخاض الجبال ولم تعقه إلا قساوة الشتاء .. فالفاتح كان محاربا مطلعا على تاريخ الحروب ، وعلى استراتيجيات الاقتحام إذن.
مسجد السلطان عبد الحميد ، الخليفة المظلوم، بسيط كبساطته ، تزينه نقوش على الخشب ، هل كانت من عمل يديه ،هذا الخليفة العظيم الذي ظل يحترف النجارة في بهو أرضي أسفل القصر، ويبيع منتوجه ويتمعش به في غفلة عن العالمين !
عموميات
وسرنا إلى سياحة نودع بها اسطنبول. واخترقنا أشجارا غسلها المطر للتو فبدت تحت نور المساء الأدكن أكثر بهجة وإشراقا. وانتهينا إلى بعض المنتجعات التي هيأتها البلدية الاسلامية لتكون نزلا ترفيهيا واستجماميا للأسر وطالبي الراحة النظيفة ، الجو حالم والسكينة موفورة.
وخرجنا لصلاة المغرب ، وبدت خمائل المنتجع بألوان وأصباغ أخرى حين انعكس عليها الضوء . وتحركت نفوسنا للحسن الفائض من جنبات المكان. وانبهر الأنصاري الشاعر المغربي بالمشهد ، وثمل تحت تأثير الأنوار الملونة فراح يناجي قاسما قائلا : بت أحب التراب والشجر وكل كائن على هذه الأرض. فيضحك قاسم ويجيب : إنها نجوى نورسية.(8/36)
قاعات المتحف التابع لمنظمة الدول الاسلامية خاوية إلا من نشرة تلفزيونية تفاصيلها توهم المشاهد وتحمله على الاعتقاد بأن باحثي الأمة يتعرمون أمام الخزائن بحثا وتأليفا . ترى لو كان هذا المرفق الوثائقي تابعا للغربيين كيف كانت الجموع تتهافت عليه من كل حدب وصوب؟
ويحكي صونغور كيف شاء النورسي أن يعلمهم العربية ، وكيف أن بعضهم كان ينقطع عنهم من أجل أن يتعلمها ، وبعد انقضاء أشهر جاءهم سعيدا يعلن فيهم أنه حصَّل العربية ، وقصة أخرى عن الأستاذ حين رأى بعضهم يشتغل بتعلم الانجليزية وكيف تأمله الأستاذ بنظرة بالغة الدلالة ليقول لهم بعدها إن هناك من الأولويات ما يجب أن يتركز عليه الجهد ، فلو أنه -هو الأستاذ - أراد أن يتعلم كل المسائل المغرية لاقتضى منه ذلك مئات السنين ، فعمر الانسان لا يتسع إلا لأولويات محدودة ، لذا جاءت الشرائع السماوية تؤطر مشاغل الانسان ضمن نطاق تتأصل به إنسانيته، وإلا تسيب فكره وطوحت به الأهواء وضاعت جهوده في ما لن يذوق له ثمرة لا في الدنيا ولا في الآخرة- يشار يلازمنا عن بعد ورغم حاجز اللغة إلا أنه يصر على أن يعرف حاجاتنا من خلال نفاذ نظرة يفعمها الإخلاص ،نظرة تلازمنا عن بعد ولا تغادرنا.
اسطنبول العتيدة(8/37)
اسطنبول تاج الأرض والبوصلة التي ظلت توجه الأحداث قرونا من الزمن ، يا مدينة الفجائع ، أيتها العين المفتوحة على كل الأحلام ، يا جبين شامخ بالعزة ، ويا صدر يتنفس الحسرة وينزف الآهات ويتقوت على الحكايا ، يا مغارة العجائب ، ومعدن الذهب والنفائس ، يا قلب تمضغه الحيرة ويكتوي بخمور لا تسكر ، أي أنس عرفت يا بحر البسفور ،يا صعيد ناهض يطاول الشمس بكبرياء ، أنت الذي جلبت إلى حماك كل أصباغ الدنيا وأحلت دارك مسرحا للعبور ، أيا وطن خلفاؤه متوجون بالعز العثماني وبصولجان الفجر الذي طارت به الحمائم إلى الأقاصي ؟ ما أبهى ربيعك يا أرض طوقها المولى بالشعر وبقلائد المجد ؟ يا مرمرة السمراء ، يا ذات الغنج والصمت الكابي والعيون الرمحية الفتاكة ، حنانيك ، أحضنني بين رموشك واسقيني من أقداح أهل الذكر ، فقلبي معنى والروح ظمأى، والمورد العذب حيالي ، لكن الخجل يقيدني ، فهل من بسمة تزيح عني وحشة الطروق؟
وجوه وضاءة .. لا تنسى
يا سعد ،يا سعيد ، يا أحمد ، يا يشار ، يا مصطفى ، يا أحمد صدقي ، يا ابراهيم ، يا بقية الأشبال الذين انطبعت صورهم في قلوبنا وغابت عنا أسماؤهم الساعة ، يا أنت يا نوري ، وَيْلُمِّهِ من فارس أجنحة، يتحرك ميمنة وميسرة ، في يده زهرة وعلى كتفه غصن نعناع ، وهو مسفوع الوجنتين ، من وهج الحر ، حر العراك الروحي البهيج ، يبارز اليأس بلا هوادة ، يوسع من نطاق المدى الأخضر ويزرع الرمان .(8/38)
وأنت يا جودت ، يا من أوتيت مزمارا من مزامير داوود ترتل به القرآن وتجعل نفوس الأشبال تجنح في موج من العذوبة .وأنت يا ابراهيم ، أيها الشبل البري ، أيا من تحمل مهجتك على كفك وتتصدى للطوارئ وتستميت في أن تجعل من لحمك ترسا يحتمي به الغير ؟ وأنت يا أيها الاسبرطي ، يا صاحب الفتوة المتينة يا من تساقطت ألياف من التلج الأسمر على ناصيتك قبل مجيء فصل الخريف، يا ضاحك السن ، يا من تلتمع نظارتك البيضاء لدى كل بسمة فينكسر لها طرفك من خجل فطري مكين تخفق حال الاستنفار التي أنت عليها أن تخفيه. ها أنت رهن الإشارة لنشر كل ربيع ، ولبذر كل مرجان ، ولإفشاء كل نور.
وأنتَ ،وأنتِ، وأنتم ، وأنتن ، يا من تسكنني بسماتكم العسلية وتغيب عني أسماؤكم ، يا من شاهدتكم عيني سهاما مبرية تصيب الهدف ولا تخطئ ، وأقلاما تخط الحكمة وترسم النقوش الزاهية ، يا حناجر ملائكية تشدو للسلم والسمو والمحبة وحقوق الانسان. يا أنتم، معذرة إن فاتني أن أقيد الأسماء والمواقيت ، فجغرافيتكم في القلب رحيبة ، أرحب من قارتي آسيا وأوروبا اللتين يتمدد عليهما وطنكم العظيم.
اسطنبول الفارهة عذبة بلا بهرج ، لا تلون شفتيها ولا تصبغ عينيها ، ولا ترسل شعرها منثورا على كتفيها، ولا تحلي نحرها ، فما السمراء بحاجة لظفائر. اسطنبول تبادل الشمس الهمسات ، وتستمنحها من وهجها قبسا ، وحين تسأم الغناء ، تتمدد على الضفة وتستسلم لحبات المطر تغسل جسدها الخيزراني. اسطنبول يا حلم الرحالين ، ومطمح الجبارين ، وغاية العابدين ، وملاذ الطيبين ، ليس عبثا أن تكوني دارا للسلام ومرتعا للإسلام ومقرا للخلافة ومفتاحا لشرايين الأرض وفردوسا للحالمين. ليس عبثا أن تستقطبي إليك أهل الشأن من أطراف الدنيا كلها ، هنا زأر جمال الدين في العرين ، وهنا استطاب الأمير عبد القادر المقام بعد عناء الاعتراك مع جحافل الليل.(8/39)
يا بلدة متعددة الوجوه والأقنعة ، ويا وجه بلا ظلال ، يا أفق ضم يديه على كنوز الأرض ، ووقف على ناصية الكون ، فارجا رجليه على قارتين. يا قلعة شماء ما زال لها من الأدوار والأطوار ما تستعيد به فتوة الزمن وما يزدهي به وجه القرآن.
قاسم وقصته مع النور
وحدثني قاسم عن ظروف التقائه بأهل النور، يرجع تاريخ ذلك الحدث إلى عام 57، في العراق، كانت المرحلة تعج بالفكر الكسيح، كانت التقدمية تقترن بالإيمان بأن أصل الإنسان قرد، وأن المصير عدمي، وأن المخلوق من التراب ظهر وإلى التراب يؤول.. كانت الثقافة الإسلامية التقليدية تتلقى الضربات الموجعة، وكان الفهم المتوارث للآيات عاجزا عن الثبات أمام المنطق الدهري، كانت ذخيرة الحرب وعدة المصاولة التي استخدمها الأفغاني في رسالته الرد على الدهريين وما زاده عليها تلميذه عبده من تجويدات في رسالة التوحيد التي كتبها في مسعى منه لتثبيت القلوب قد فقدت ما كان يبدو لها من فاعلية في إفحام الملاحيد، كان مطلع القرن العشرين قد بدأ يشتط على الناس بمستحدثاته الميكانيكية والطبية والفكرية ويبلبل أرواحهم أكثر فأكثر فلم يعد في وسع كثير من مسلمات الماضي أن تصمد في وجه التحدي المادي. وما ظل المسلمون يتحاجَّوْن به من موضوعات الجبر والاختيار، قد أوجدت له الفرويدية تأويلا حل في ضمير الأجيال محل الحقيقة المقدسة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. وما استغرق الناس عهودا طويلة من جدل في مسائل القضاء والقدر، جاءت الماركسية تختزل البديل عنه في قولها بالحتمية، حتمية اندحار قيم الماضي وترسُّخ قيم أخرى أساسها الجبرية التاريخية الواثقة من انتصار المستقبل على الماضي، ومن شيوع المِلْكيات، وتَحَطُّمِ البُنَى -وفي مقدمتها الدين والأسرة والعرض والملكية- التي ظل الإنسان القديم يعتد بها. متغيرات تدفع متغيرات، وحقائق مستمدة من الدين تنهزم أمام حقائق مستمدة من الافتراض الإنساني(8/40)
والخيال الحسي.. في ذلك الخضم كان الإسلام يتلقى ألوانا من النَّبْزِ والاستهتار بمبادئه على يد الخصوم وعلى يد طوائف من الأبناء العاقين ممن أصابهم جرثوم الإلحاد، لم يكن في وسع الغيورين إلا أن يتداعوا إلى الصمود، وهكذا وجد قاسم نفسه يسير في ركاب أهل الإيمان. كانت خطب الدعاة تشده لكنه كان بطبعه البرهاني يشعر بنقص ما في دعائم ما كان يسمع من خطب وما يقرأ من أفكار مؤمنة. كان أبوه مدرسا للعربية، لكن قاسما نشأ محكوما بمنزع الانغلاق الذي تورثه التربية الأسرية حين تقيم مُثُلَ حياتها على قواعد النسب العرقي. أذكر أنني قدَّرتُ أول عهدي بمعرفة قاسم أن يكون كرديا، إذ غاب عني الوازع الإلهي الذي يجعل إنسانا مثل قاسم العراقي يتعرف على فكر مثل فكر النورسي لو لم يكن الجامع بينهما اللغة أو وحدة النسب والقومية. لكنني قرأت الرسائل ووجدت النورسي يتخذ من منزع القومية ذلك الموقف الحصيف الذي غرسه فيه دون شك حبه واعتصامه بالقرآن لا غير. فسمو نظرة النورسي للقومية يتميز بكونه اعترف بها واستبقاها كعاطفة إنسانية تنزع بالإنسان إلى التكامل مع بني رحِمِه ومع الشجرة التي يتفرع منها نسبه، لكن النورسي لم يُنَوِّهْ بهذا النزوع الإنساني الذي تمثله القومية إلا في حدود ما يتوافق مع الميل الفطري الذي تتجاذب به المخلوقات والكائنات بعضها من بعض، وإلا فإن النورسي قد نقم على القومية في شكلها الاصطناعي السلبي، تلك التي تتأسس على نبذ الأعراق وعلى الاستعلاء السلالي وعلى تقديم وحدة الرحم على وحدة العقيدة، فالنورسي بهذا النحو قد ثار على القومية التي نمَّاها في المجتمعات البشرية التصارع الشعوبي ذو المقاصد الدنيوية التوسعية والاستعظامية كما حدث في أوروبا حين جنحت الأقوام هناك إلى تقديم مبدإ الخصوصية العرقية فكان الناتج أن تدنست الثقافات الغربية بجراثيم التعصب والنعرة السلالية وحصل ما حصل من الحروب والتمزقات. وأخطر المخاطر(8/41)
ما تسرب من شوائب فكر القومية إلى اللحمة الملية الإسلامية ، بحيث تفككت بسببها عُرَى التواصل فخسرنا قوتنا بتفرقنا وكان الكاسب هو الخصم الذي خطط ودبر وأوقع نُخَبًا منا في الخطأ فانساقت وراء أوهام معتقد القومية بصورته المشؤومة. هكذا تأكدْتُ أن حماسة قاسم المنقطعة النظير لفكر الرسائل إنما دافعها رباني وليس دافعا آخر.. وبعد سنوات من تعارفنا، سيُكْتَبُ لي أن أنزل ضيفا عنده، وسيجمعنا أياما فاقت الأسبوع سقف واحد، وسنلتئم كل حين على مائدة الطعام، وسأجد نفسي أستقل بمرافق البيت : خزائن كتبها وتأثيثها ووسائل ترفيهها، سأجد نفسي أتنقل بلا استئذان بين جناحي البيت، حين يستدير الظل شمالا أرحل إلى الغرفة الجنوبية استمتاعا بنسمة الجنينة، وحين تكون الشمس في مدارها الآخر أبقى حيث مهجعي، تنش علي أردية الباب والنافذة بنسائم تستجمعها من جهات شتى فتصلني محملة ببرودة بدأت أعرفها ولا أنكرها، برودة بحر مرمرة الحالم..لم ينقطع الحديث بيننا طيلة تلك المدة، ووجدتني أقول له ذات حين أراك منصرفا كلية إلى الرسائل وإلى ما يقوي روحية الإيمان، فأين هو حظ الدنيا من برنامج حياتك؟ وحين مضينا في الحديث أقسمت له صادقا بأنني لا أعلم ثمن الخبزة في بلدي، فأنا أيضا تستهويني صومعة الحب الأبدي، فقد اتخذت منذ كنت الكتاب قبلتي ولا تكاد تتصرم مرحلة من العمر إلا ويزداد يقيني بأن ما أنا فيه هو الأروع والأنفع والأبقى. النورسي كان منتجا، ونحن مستهلِكون، عبقريته أهلته لأن يحرث ويستزرع أعظم الأغراس، وعبقريتنا هدتنا إلى أن نتخير أشهى المطعومات وأحبها للروح. وحدثني قاسم بماضيه فقال كنت من أشد الناس إعجابا بالقومية، كان رموزها عندي مؤلهين، كنت أحمل في نفسي احتقارا ونفورا من العصبيات الأخرى، وعشت معزولا مع اخوتي، لا أخالط أقراني، حتى إذا حلت مرحلة الإعدادي دخلت القاعة، فإذا المدرس يكلمني وإذا الطلاب يكتشفون عدم معرفتي للعربية، ومنذئذ(8/42)
فقط بدأت أستحصل اللسان العربي رغم أن والدي كان يدرسنا قواعد النحو والصرف، لكن الفائدة كانت محدودة أو قل شبه منعدمة لغياب التمرس.وسألته مرة أخرى كيف التقى بالرسائل.. وبلا توان راح يحكي: وقعت في يدي إحداها عام 57 ، قرأتها فإذا أنا انبهر ، لقد رأيت مضمونها يدك حصون الداروينية ، تلك النظرية التي كان المتعالمون يتعممون بها يومئذ، وفورا قلت لا يكون صاحب هذا الفكر إلا عبقريا، ولأول مرة لا يشهر الإيمان سيف الحماسة في منازلة الباطل ، ولكنه يعرض الحجة ويسوق الدليل. ولبثت منذئذ أتصيد ما يمكنني تصيده من فكر وأخبار هذا العبقري. قال وكنت يومها في وسط إسلامي يجمح به حماس التنظيم والأحلام المتأججة ، فلذلك لم أتمكن من فتح باب للنقاش يتوجه في الوجهة التي رسمتها تلك الرسالة..مرت السنوات وتغيرت السياسات ولبست أكثر من ثوب ولون، قال وكنت أسافر للمصيف إلى تركيا في كل سنة تقريبا، فكنت أحرص على أن أتعرف على بعض طلبة النور، وتمكنت فعلا من أن أستهدي إلى مدارسهم وأن أقابل بعضا منهم، قال كان أبرز ما يلفتني فيهم البساطة ، والتلقائية ، وربما حضرت درسا لهم فكنت استغرب إذ لا شيء كان يوحي بما كان يرتسم في ذهني عنهم ، إذ كنت أتوقع أن أرى شيئا من مظاهر الترتيبات كالتي تلتزمها الجماعات والتنظيمات، فكنت عكس ما توقعت أراهم يقرأون نصوصا من الرسائل مضمونها قرآني تمثله النورسي لها فكان ذلك يزيد من توقي أكثر إلى معرفة حقيقتهم.. وفي عام 75 زرت إقليم ديار بكر، فصادفت شابا طبيبا نوريا كان علم بمقامي في النزل فجاء يسأل عني، وكان أرسل زوجته إلى أهلي بالنزل فترك لقاؤها مع الزوجة والأخت الكبيرة التي كانت بمثابة والدتي حسن الانطباع، قال فامتنعت رغم إلحاحه، وفي مناسبة أخرى دعاني مدير في سكة الحديد، قال فلما قصدته في مقر عمله، أدار الهاتف وسمعته يخاطب أهله قائلا عندنا ضيوف من الأهل..قال فلما نزلنا قدموا لنا طعاما في(8/43)
منتهى البساطة، فزاد ذلك رغم تفاجئنا من الاقتناع بأن النوريين فصيل آخر لا يشابهه فصيل. قال وعدت تلك السنة محملا بجميع الرسائل المكتوبة بالتركية، وشرعت أقرؤها، وأفهم محتواها، في البداية استعسر عليّ الأمر، ثم ما أن تمرست حتى صرت أجني النفائس، فكنت أهرع بما أفهم من أفكار ومعاني الرسائل إلى أصحابي، فكان فضولهم يزداد هم أيضا فيزداد تحميسهم لي لأن أقرأ وأترجم لهم ليكوِّنوا صورة عن فلسفة هذه الرسائل. وهكذا رحت أغالب ضعفي في الترجمة، لكن الناتج الذي كان يحصل لي مع الأيام كان يقوي إيماني بأنني أضع يدي على منجم أصيل من الفكر والأخلاق والمعرفة الروحية. وتعرفت في تالي الأعوام على تلاميذ النورسي الأولين، صنغور وفرنجي وبرنجي وآخرين، فعرفت في أخلاقهم ومصداقيتهم ما فتَّحت الرسائل عينيَّ عليه من الطهر والاستقامة والتمسك بأحكام القرآن والسنة. هكذا كانت معرفتي بالنوريين.
ثم حدثني قاسم عن بعض الطرائف التي انتهت إليه عن تلك المرحلة، من ذلك مثلا ما وقع لفرنجي حين سأله أشرف أديب أن يقص عليه بعض ما أصاب من كرامات الأستاذ بتأثير احتكاكه به، قال فأجاب فرنجي على البديهة أليست هذه أكبر كرامة أن أكون جليسك ومن خاصتك أنا الذي لم يتعد في تعليمه الابتدائية؟ قال قاسم إن محسن عبد الحميد كان من بين من حرضوه للمواظبة على ترجمة الرسائل، وأن ترجمته للرسائل قد حولت فورا مشربه الروحي والفكري من اتجاه إلى اتجاه آخر.
لقاسم أعمام توفي آخرهم منذ عامين، وسألته لم وأنت من أنت تسمي أبناءك جنيد ، أسيد، سعد؟ قال على الفور: تعميقا للمشرب الديني، تعميقا للانتماء الديني.(8/44)
وتأملته وهو دائب النشاط داخل البيت، وتذكرت أحد معلميي كنت ارتبطت به برباط المودة العميقة زمنا غير قصير. ما زال هذا المعلم يعيش أطال الله عمره. كنا نلتقي يوميا ونقضي سحابة نهارنا على وتيرة من الحديث والتأمل والفكاهة، وحين كان يستقر بنا الحال أحيانا في بيته، أو نكون على سفر، كنت أراه دائبا في حركة لا تتوقف، وكنت أدعوه للجلوس، فيستنظرني بدعوى الفراغ من قضاء أمر ما، ثم لا يلبث أن يستغرقه أمر آخر وآخر، فكان لا يفتأ يطالعني من باب الغرفة ليطمئنني بأنه سيوافيني، دون جدوى. كأنما القضايا تنجم فجأة في رأسه الواحدة تلو الأخرى، وتطبق عليه ولا تترك له مجالا للإفلات منها. وقاسم فيه بعض صفات مدرسي ذاك. إذ كنا نعود إلى البيت، فكنت أجدني أطلب الاستلقاء فيما كان قاسم ينطلق في عملية متواصلة من النشاط والحركة والإنجازات، وتسأله –عرضا-عن شيء ما، يتوقف لحظة يستوثق من موضعه ثم يقول لك هو في المكان كذا، وتعرف أن المكان بعيد، لكن قاسم يقوم كالمنسحب، ويغدو يفتش عن الأمر ويعود به إليك، ثم لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يباشر معك حوارا في الموضوع، يتوج بعمل من نوع ما ينفذه قاسم استكمالا للجوانب التي يراها ناقصة، ثم تعِنُّ لك حاجة أخرى، وتكون أنت قد تمددت على السرير إقرارا منك بأنه لم يعد في وسعك الآن مباشرة أي شأن، فلا يدهشك إلا أن ترى قاسما قد نهض وراح يراجع حاجتك بروح من يبتدئ نشاط يومه للتو، ثم يجلس إليك وقد أتم ما بدأ، فتسوقكما المسامرة إلى أمر ما، يكون له فيه تدبير، فيقوم كما قام من قبل ويتحول إلى العمل. ولا تملك أنت إلا أن تتساءل عن سر هذه الدينامية الفياضة. كم مرة وجدتني أقول في نفسي إن قاسما –رعاه الله-ينتمي بروحية العطاء هذه إلى فصائل الإنسان الغربي المعاصر. فلم تفوتنا حضارة الغرب بأشواط لا تزال منا بعيدة ومتباعدة إلا بما تحلى به الإنسان الغربي من روح تَدْأبٍ على السعي، روح جعلت العمل قوام(8/45)
حياتها ووجودها، في حين تحول الانحطاط بما كان للمسلم الفرد –والجماعة- من تدفق إلى خمول فتاك، بحيث بات يولد المسلم وهو يحمل توقا إلى القعود وعدم مبارحة موقعه من الأرض ما استطال به الأجل.
صلينا في (أولو جامع) وراء أمام لا يعدو عمره الثلاثينات، له صوت رخيم كأنه البلَّوْر، هو في هذا يتشابه مع سائر أئمة ومسمعي هذه الديار. وتجاوبت الصوامع فجرا، وبعضها يذبح شجى. وفي أسبانيا رخصوا لمسجدها الكبير أن يؤذن، إنه لحدث يستدر الدمع، إذ صمت صوت الآذان منذ قرون هناك. ورحت أتسمَّع صوت المؤذن بأفكار مشدودة إلى الوراء..هكذا كانت صحوة الأمير أول يوم نزل هنا، وغسلت يدي من ماء الميضأة ، وقلت يكون هو أيضا فعل هذا.. الميضأة شاهد على وثاقة ما يقطع المسلم على نفسه من عهود. وصليت في الصف الأول وقلت هنا يكون الأمير واظب على تأدية الصلوات الخمس. المسجد الذي ذكره بحنين في أشعاره يوم ارتحل عن بروسة هو ذا يضمني وتتهادى روحي بين جنباته بين جذل وابتئاس.. هكذا تغمرنا الشواهد التي لها علاقة بالتاريخ بجو من السهوم يخف به وزننا فوق هذه الأرض. أية جاذبية هذه التي تستولي علينا ونحن نعانق آثار الصالحين؟ وحين يحج النوريون لمراتع التأمل حيث رابط الشيخ المجيد فذاك يعني أن أرواحهم تريد أن تكون قريبة من الخالق. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان..هذا الكيف هو الذي يخترقني كالسهم ما وقع ناظري على معلم من معالم العتاقة بهذه الحاضرة.. وخرجنا إلى الشارع وتأملت الجدران بعين مشفقة، إنها هرمة، قد عراها التجعد وسرى القِدَمُ في أركان طلعتها. قلت لقاسم ونحن نقف على مدارج المدخل المقوس، ومن جانبي المدخل أقيمت مغارس، هنا كانوا يربطون دوابهم وبراذينهم ويدخلون للصلاة، إذ كان الآذان يستقدمهم من بعيد الأماكن.(8/46)
كانت سهرتنا رائعة حقا، الطفل الذي استمعنا إليه في المخيم يرتل ويشدو التحق بنا، وكذا بلال والآخرون، جميعا أقبلوا وضمتهم قاعة المدرسة حتى ضاقت، وتبارت أصواتهم في استظهار محفوظاتهم من نصوص الرسائل، ورتل فريد وألقى كلمة، ثم ألقيت بدوري كلمة، كان قاسم يترجم، وكنت مطمئنا إلى ترجمته، إذ أنا أحس دائما بأن له القدرة والحنكة التي تجعله يدخل الزينة على أقوالي. وفيما كنا نتهيأ للانصراف اندلقت أقداح من الشاي على ثيابي، فخجل الشيخ ذو اللسان المعرب الذي ارتطم بالصينية ولكنني داريت الأمر، وبعد حين راقبت ثيابي فلم أر أثرا لما حدث، وكأنها غسلت في الحين، أو كأن ما اندلق عليها إنما كان ماء زلالا.وأخذوا لنا صورة جماعية، كان وحدت يسيطر على مجريات الأمور، فهو الذي كان يوزع الكلمة على الطلاب ويمتحن حفظهم، وهو الذي كان ينتقل بالسهرة من جو إلى جو، فما أن حللنا بالقاعة حتى رأيته يهبُّ وينزلنا مواقعنا في الصدارة، بعد الصلاة شرع بصوته العسكري يقرأ شيئا من الرسائل.
وفي المساء ونحن ننتظر العشاء راح يطربني بالشعر التركي.كنت أفهم المعاني من خلال الإيقاع والكلمات العربية القليلة التي كانت تتخلل النص، كان موضوع الأبيات هو ماضي العثمانية المجيد..واستمد بوحدة الجذل فأرخى لصوته تارة أخرى العنان، وهنا تدخل أكثر من واحد يطلب إليه ألا يصوت، فالليل بآذانه، وسألت قاسما هذا الفجر ونحن نقوم تاريخ المسلمين الحديث هل كان الوزر وزر العثمانية وحدها في ما حدث باعتبارها حاملة راية الخلافة أم أن المسؤولية مسؤولية الأمة بكاملها لأنها عجزت عن أن تكون في المستوى فترد عنها العدوان؟(8/47)
موضوع كلمة فريد التي ألقاها في جمع طلاب المدرسة مساء، كانت مهمة وطريفة ومحزنة في ذات الوقت، حدثهم عن قصته مع أسماء الله الحسنى، قال إنه لم يكن يدرك من أسرار هذه الأسماء القدسية إلا ما تفيد به شارتها السطحية التي تعلق بالذهن الخالي عند النطق باسم الجلالة : الكريم، الرؤوف، الحليم.. قال ولم أكن أدري على الحقيقة أن لهذه الأسماء روحا باطنية خارقة حتى عشت تجربة أوشك أجلي أن يوافيني فيها. قال خيمت مع طلاب في سنكم على ضفة من ضفاف الأطلسي، قال وكانت يقظتي موجهة كلها لرعاية الصغار، فقد كنت المسؤول عن المخيم، ولما كنت أعرف السباحة فقد كان أبعد ما يخطر ببالي أن أكون أنا نفسي في حاجة لمن يرعاني، قال واضطرم الموج في بعض أوقات النهار ورأيت بعض الصغار في موقع يستدعي أن أهب إليهم، فلما وصلت سارعت إلى حلْحَلَتِهم من المكان ودفعت بهم بحيث غادروا منطقة الخطر لكنني لم ألبث أن شعرت بأن الموج يستولي علي ويمنعني من أن أغادر مكاني، بل لقد أحسست أن قوة غاشمة شبكت في جسدي وراحت تشدني إليها، ورحت أقاوم، وأتحايل وأركز لأستغل كل مهارتي وما أختزنُ من تجاربي لكي ألْتَفُّ على التيار العارم وأفلت من براثنه، لكن جهودي بقيت عقيمة وبدون جدوى، وهنا ضاعفت المحاولات، لابد أن انتصر، لابد أن أنجح، فقد كانت لي أحوال عديدة قهرت فيها الموج وانسحبت من بين ذراعيه وتركته مدحورا، قال وشرعت في تغيير الخطط والمحاولات، لا أحد من أصدقائي كان يدرك ما أنا فيه، لقد رأوني أدفع بالصغار إلى جهة السلامة وها هم يحسبونني باقيا هناك لأكون حدا لا يتجاوزه السابحون، ومضيت في بذل الجهد، لقد تحولت الآن من العمل على تخطي المأزق إلى العمل على الإفلات من قبضة الخطر، لقد بدأت أتَيَقَّنُ من أن الموج ألْحَقَ بي ضرباتٍ موجعةً، وها أنا أكتفي بالبحث بكل طاقتي على مجرد الانسحاب من أمام لطماته، وبدأت أخور، وحين تصاب في الصميم لا يفيدك التظاهر(8/48)
بالصمود والمكابرة، الهزيمة تحل سريعا، كالجدار حين يتهشم من أساسه، لا يبرح أن يتهاوى، هكذا كنت أشعر بأنني أتهاوى ولا منجى لي، ودخلت في مرحلة الفزع، كل ما سيصدر عني منذ الآن هو هستيريا الرعب ونشدان البقاء، هل كنت أتخبط ، لابد أنني كنت أتطلَّعُ إلى أن تستيقظ كل محركات جسدي، كل عضل من عضلات هيكلي فتدفع بالجسد الذي فقدت الآن تماما السيطرة عليه إلى خارج الغور، ولا أدري كيف وجدتني أصرخ وأهتف باسم صديقي: عبد الحق يا عبد الحق..لابد أن صوتي كان يحمل هديرا وحشيا وإلا ما كانوا لينتبهوا إلي في لهوهم وانطلاقتهم تلك، وأقبلوا علي، وشكلوا السلسلة بأذرعهم ، وانتهى طرفها إلي ، وامسكوا بيدي وأنا في منطقة متقدمة من فقدان الشعور، لابد أنني قاومتهم وفلتُّ منهم ، فالغريق يقاوم بعنف اليد التي تمتد لانجاده، كأنما يرى فيها الخطر كله الذي يتهدده، وفيما كانوا يمسكون بي ويسحبوني إلى الوراء، انقطعت سلسلة الأذرع التي كانت تحاول انقاذي، وتفكك الصف الذي هب لنجدتي، لا جدوى من أي مسعى الآن، لقد طواني الموج العاتي تحته، ودار فوقي التيار المجنون وسيرحل بي لا محالة إلى العالم الآخر، ووقف الجميع ينظرون باستسلام ووهن وهزيمة إلى الناحية التي غيَّبتني، لقد فشلوا في أن يصنعوا شيئا، لقد تركوا الموج يأكلني، ولا أدري كيف برق في رأسي من جديد اسم أحدهم ورحت كمن يعيش كابوسا أبذل كل ما بقي لدي من آثار جهد وأصيح يا عبد الهادي، يا عبد الهادي، لأغطس من جديد في ظلمة الغياب وكأنني في درك من الظلمات لا قرار له. قال ولابد أن يكون صوتي الذبيح قد وصل إلى عبد الهادي، وإذا عبد الهادي يراهن وحده على المجازفة، وإذا هو يندفع، ويتخطى بحمية ليست له، وينتهي إلى البقعة الموارة التي ابتلعتني فيغطس ويعيد الغطس، ثم يرتطم ذراعه أخيرا بشيء ما ، فيخفق قلبه ، ويسارع إلى النفاذ أسفله، ليضع ذلك الشيء الهامد الثقيل على رقبته ويرتد به إلى اليابسة(8/49)
بكامل العنفوان الذي يمنحه لنا موقف الإخلاص في المواجهة، وما لبث أن تدافع الأصدقاء ناحية عبد الهادي، لقد لحمت بينهم الحمية من جديد، وارتعب الموج وهو يرى منهم تلك الاستماتة، فانسحب مقهورا، ووضعوني أخيرا على الرمل، وجاش صدري بالحياة تحت أيديهم وهم يعيدون إلي النفَس. قال وما أن استرجعت وعيي حتى انشد ذهني إلى الواقعة واسترجعت شيئا مما صدر عني أثناءها من ضراعات، ولم يمض على تلك الحادثة وقت قصير حتى طالعت ما قرره النورسي بخصوص أسرار أسماء الله الحسنى، فأيقنت أن الذي حصنني وصانني في محنتي تلك هو أسماء الله الحسنى: عبد الحق وعبد الهادي. قص فريد قصته، وتابعها الجميع بعيون فيها الفضول والروع والإشفاق والاعتبار، ورحت أنا أصعد نظرتي فيه كأنني أتعرف عليه للتو، هكذا تتجدد نظرتنا إلى الحقائق حين نراها حملت في كيانها شيئا من آثار الانصهار الأكبر. ترى لِمَ نجدُ في صورة الباسلين شيئا من القدسية تعلي اعتبارهم في نفوسنا؟(8/50)
لا أدري كيف رحت أفكر في منهج الحياة الذي كان الناس يتبعونه منذ قرن ونصف مضى، البناءات الخشبية ما زالت قائمة ومُعْتَنَى بها، بل ما زال هناك من يبتني بيت الخشب، وفي الضاحية، حيث الأدغال، رأينا أحمال الخشب مهيأة في أكوام للتسويق، ثروة أخرى من ثروات هذا البلد الأمين، وتساءلت في نفسي قائلا لا شك أن الناس في زمن مضى كانوا يستخدمون الحطب طاقة للتدفئة والطهو، ترى أين كانت تقام أسواق الحطب؟ ومن أين كان الأمير يتزود لحاجته من الحطب؟ هذا الجبل العريض، الشامخ، يحتفظ بالبرد ويرد الزمهرير في الوقت نفسه، ترى هل كان بصر الأمير يقع على الشمس وهي في هيئتها هذه؟ هل كانت عيناه تريان القرص اللاهب وهو بهذا الحجاب الأكمد الذي أراه يغشاه الآن؟ لا تزال أوامر وحدت ونواهيه ترسم لنا ما نعمل وما لا نعمل ، قليل الكلام هو، لكنه مندفع لا يكَلُّ. ورأيت بعض الطلاب يقترب مني بفضول وهو يراني أسجل شيئا في مذكرتي.. سنرحل إلى الحمامات، ترى ماذا سنلقى بها؟ إنني أتصورها منابع تفيض بين صخر، وبركا يتجمع من حولها المستجمون والغطاسون، صورة من مخزون ذاكرتي في مرحلة الستينات عن بعض حمامات منطقة معسكر، موطن الأمير.(8/51)
ويرسل وحدت لحنه ليطوق به صمتنا، ثم أسمعه يدعونا في لهجة حاسمة: عجلوا بالصلاة قبل الفجر.. يقول ذلك على سبيل الدعابة وحتى يستعجلنا للمسير. ها نحن نمر بقبر السلطان مراد الأول، ركن من أركان العثمانية يثوي بهذا المكان، أبلى البلاءات المذكورة في الفتح ووقع شهيدا، قال وحدت إن أحشاء هذا السلطان دفنت في كوسوفه وجيء بالهيكل ليدفن في بروسة، هذا هو البذل، وهذا هو التدبير، لقد هيأ له القدر أن يحوز أكثر من روضة على هذه الأرض، وأن يزرع أعضاء جسده في أكثر من موطن. مجرد مثول الضريح على هذا الصعيد الأرضي أو ذاك هو تحصين لا تجرؤ أية قوة على مطاولته، فمعالم العظمة لا يتيسر انتهاكها، وإذا ما انتهكت، فإلى حين فقط. وانتهينا إلى الحمام، يقع على مشْرَفٍ يطل على منبسط العمران المترامي أسفل السفح، إنه مبنى عتيق فخيم له قباب وتقويسات تعطيه هويته الأصيلة. كان الحمام شبه فارغ، لا يوجد به إلا بعض الأفراد ممددين، وأمامهم فوارة تقذف بالماء في رفق وتملأ الجو بخريرها. وتوزعتنا عنابر استبدلنا فيها أشياءنا ثم خرجنا إلى بيت السخون، فضاءان يتدرج المستحم بينهما، لا تضيق النفس فيهما. كان وحدت أكثرنا تسلية بالماء، القوة التي يختزنها جسده وجدت مجالا للتفريغ، لذا رأيناه يتحول سريعا إلى سَبَّاح يخوض الماء بانسياب الدلفين، وكأنما تصعدت نشوته بتأثير حرارة الماء فراح يتمادى في الغطس، حين يلقي بجسده الضخم في الحوض يُسْمَعُ لوقعه دوي كالرعد، وأكد فريد أنه انتبه إلى بعض المستحمين فرآه يفزع لمباغتة الدوي له. لم يبال وحدت بضحكاتنا، وسمعت فريدا يقول:لا جرم ستقع القبة من فوق رؤوسنا، واستدار وحدت ناحيتي، ثم أقبل علي، إنه يأمرني بالغطس، كيف أفلت من هذا القدر العاتي؟ ورحت أشير إلى صدري لأفهمه بأن قلبي لا يحتمل الجهد ، لكنه مضى على إصراره، وتساءلت في نفسي هل وحدت يدرك فعلا معنى أن لا يحتمل الإنسان بذل الجهد؟ وما زال بي، وما زال(8/52)
يتحين الفرصة كي يلقي بي في قلب الحوض ، وكنت أنا أترجاه بنظراتي دون جدوى ، ورأيتني أخيرا أستجيب لإرادته فأقتحم على وجل البركة وأتدرج ماشيا عبر حاشيتها، وما أن اجتزت الدرج الأسفل حتى رأيتني أفقد التوازن ،وأميل ذات اليمين وذات الشمال. لقد كان واضحا أن جسمي طفا على الماء وبِتُّ لا أتحكم في نفسي، وبهلع حقيقي رحت أمد يدي إلى فريد، ورأى فريد علامات الخوف في وجهي، فمد ذراعه بحذق وجرني إليه، حقا لقد غاب عني في تلك الأثناء أن ألوذ بالأسماء الحسنى، لقد كانت تلك تجربة على بساطتها إلا أن فيها شيئا من أطوار ذلك الامتحان الذي عاشه فريد على شاطئ الأطلسي. تمددت في مكاني بإزاء النافورة ورحت أمرر نظري في المجال من فوقي، كل عبقرية الهندسة برزت في هذا التشكيل المتناسق الذي شُكِّلتْ به قبة الحمام، نفس النمط المتوالد الذي نراه في المساجد اتُّبِعَ هنا، المعمار العثماني امتلك حقا هويته التي جعلته يضاهي معمار الصين والهند وروما ومصر..عبقرية المهندس سنان حققت مثل هذا الجلال التشكيلي المعبر عن كمال في السجايا التي اختصت بها الأمة التركية. لا زلت أُقََوِّمُ ما أرى من منجزات وما أشاهد من إمكانات وأقول لا جرم أن هناك جهة ما تكبح اندفاعة هذا الشعب، وإلا لكان في مقدمة الركب. أمة مدت ساقيها على ناصيتين من قارات العالم، وحازت كل هذه الخصوبة، واستندت إلى ماض عتيد أرعب الممالك عهودا غير قصيرة، كيف لا يرهب جانبها، وكيف لا تبذل الجهود الظاهرة والخفية لاستبقائها على حال من التعطيل حتى لا تنفلت من العقال وتتخطى الصفوف في وثبة، لتحتل الصدارة وتعود إلى سابق عزها من جديد؟ ورحت أستحضر ماضي هذا المرفق السياحي العتيق، بيت استجمام الملوك ومقصد الكبراء، لا شك يكون الأمير قصد إلى هنا وتداوى بحرارة مائها ، حين كنا بالمستحم طفق قاسم يحثني على شرب ماء الحنفية ورحت بحفنتي أكرع، فيما كان هو يغسل بكامل البساطة والاعتياد شيئا(8/53)
بيديه.
وسرنا إلى الجبل، كان العرق يغمر وجه وحدت، هو الوحيد الذي ظل جسده يرشح مثل العصَّارة مدة طويلة بعد مغادرتنا الحمام، وانعطف بنا ناحية مرتفع يتلوى الطريق إليه مثل لَيَّاتِ الثعبان، ومن بعيد واجهتنا شجرة الدلب الفارهة، وشعرنا بهذا الكيان الأسطوري ينضح بندى تلتذ به أجسادنا بعد حر الحمام، جلسنا أسفلها، وتوزعت المناظر الخلابة أنظارنا. كان خرير الساقية يتناغم مع سنفونية كاملة من أصوات الطير ووشوشة النسيم وحفيف الأشجار. ورحنا نتأمل عظمة الخالق كما تجسدت في تلك الصورة العجيبة أمامنا، جبارة هي تلك الأغصان التي امتدت في كل اتجاه، ويتهيأ للناظر أن للشجرة هيئة الكف، وأن للكف أصابع ممدودة في السماء، كلا إنها ليست شجرة دلب، بل هي كائن خرافي يرسل أطرافه العملاقة ، الأخطبوطية في كل اتجاه. وقرأنا شهادة ميلادها المثبتة أمامها على لوح، عمرها 650 سنة ، ومحيطها 9.20 م، ورأينا بعض أغصانها فبدا لنا أضخم مما يُتَصَوَّرُ، وقال وحدت إنه ورغم ما تنوء به تلك الفروع من ثقل إلا أنها متماسكة، تقاوم الزعازع. أي جنس هو هذا الكائن؟ لأي أمة من الأمم الخوالي ينتسب؟ ألا تكون هذه الشجرة في حقيقتها واحدا من قوم نوح الذين كانوا يعمرون ألف سنة أو يزيد؟ ترى هل يحين وقت يستطيع فيه عقل الإنسان أن ينفذ إلى سر مثل هذا الكائن المعمر، فيكتشف هندسة البقاء وإطالة الحياة؟ وحين يخبرنا الله عز وجل عن قوم يعيشون ألفية ألا تراه سبحانه يحفزنا على أن نصل بكشوفنا إلى المعرفة التي تمكننا من أن نحقق نحن كذلك ما نشاء من أعمار. ما معنى الاستخلاف إن لم يكن هذا؟ وأنى لمخلوق يدركه الهرم في الستين أن يعمر أقطار هذا الكون الذي قوامه سبع سماوات طباقا؟ المسافات بين الكواكب تعد بملايين السنوات الضوئية ، ولا سبيل للإنسان بحجمه وقدرته الراهنة أن يعمر الكون على نحو معتبر، لذا أخبرنا القرآن بما كان من أعمار الأمم قبلنا ، وأوحى لنا على(8/54)
ذلك النحو بأن نسعى لحيازة الأسباب. النورسي يقرر أن معجزات الأنبياء إنما صاغها القرآن لتكون لنا عبرة ودروسا، ولتكون أيضا مجال احتذاء وتحفيز على الاختراع. جلسنا نحتسي الشاي لكننا لم نتذوقه كعادتنا، كانت الروح تهيم في أودية قصية من التأمل ، وتبادلنا كلمات الدهشة ، وأسعفتنا بعض أقوال النورسي المستلهمة من القرآن في فهم شيء من أسرار ما كنا نراه مجسدا من عظمة في هيكل تلك الشجرة. وسرعان ما تحول الموضوع بيننا إلى درس في البيولوجيا، إذ شرع قاسم يشرح لنا ميكانيزم البقاء الذي تتمتع به الأشجار رغم الشيخوخة والتسوس. قال قاسم إن الورقة قبل أن تَسقُطَ ، تحول مساحة مشتركة بين جزء الورقة الميتة وبين الغصن الذي تلتصق به إلى فلين، أشبه بالعازل أو بالضماد، وبذلك لا تتأذى المنطقة ولا تتعفن، لأنها تستنبت قشرة(فلينية) تتقي بها كل مظهر للتجرثم أو التفسخ قبل وقت سقوط الورقة. وفيما كنا نتابع الشرح كان وحدت ينظر بعينين اتسعت حدقتهما إلى الساقية، ترى هل كان يعيش حالة من الاعتبار أم كان يتوق إلى أن يكرع منها ليطفئ حرقة هذا الجسد الراشح بالعرق؟ فرغنا من شرب الشاي، وارتفع صوت وحدت يتغنى برسول الله في أبيات فارسية اعتذر قاسم عن أن يشرحها لي لعدم تمكنه من الفارسية. وارتد قلبي تارة أخرى إلى شجرة الدلب، يكون الأمير انتهى إلى هذا الموقع دون ريب، الشجرة كان عمرها في عهده نحو 500 سنة، كانت آية أخرى تقوي في قلبه الإيمان مثلما كانت شجرة الدلب في جبل جام تؤنس أخاه النورسي وتضمه إلى صدرها. الشجرة في حياة النورسي أدت دور الأم، هناك علاقة غير عادية بين النورسي وبين الشجرة، العلاقة بينهما كانت علاقة تعاطف، وتواطء، ومشاركة.. هناك سيكولوجية أيكولوجية تجسدها صلة النورسي بالشجرة، لقد كان يجد فيها شيئا من ريح أمه وروحها وعطفها ورأفتها هو الذي تحدثنا سيرته عن إحساس بشوق دفين إلى دفء الأهل وإلى الصدر الحميم.(8/55)
ومضى وحدت في الإشداء وامتداح النبي محمد (، لقد تغيرت لغة المدح هذه المرة إلى العربية، وتحول قاسم إلى هناك وراح يرد على المكالمة التي استغرقته وقتا، كان يذرع الأرض جيئة وذهابا وهو يخابر، وقد بدت أذرع الشجرة من فوقه كأنها موج من سحاب. وكان فريد قد ذاب فعلا في سنفونية هذا الكون العجيب: الأطيار والماء والسكينة وانطباق الظلال كلها ألوان تعمق من المشهد وتؤذي الروح. النسمة تتمادى كقلب مترع بالرضى والقبلات. وساقنا الحديث ونحن نتداول تلك الأقوال والأشعار التي كان يتنزلها الموقف على قلب وحدت فيتغنى بها، إلى ذكر سليمان شلبي الذي كتب معراج نامة. ذلك أنه نزل جامعا كما قص وحدت، فسمع الإمام يعظ ويقول لا نفرق بين الأنبياء، فالله قال لا نفرق بين أحد من رسله.. فتألم سليمان وبدأ كتابة معراج نامة.. كان قاسم في تلك الأثناء يمد سمعه ويرهفه ويتابع اللحن المنبعث ويقول ما أجمل.، وسار وحدت خطوات ووقف عند مغارس يلونها النوار وراح يقول هو الآخر جميل، أي شيء ليس جميلا هنا؟ وعاينا ونحن نخترق الشوارع شكل المآذن، لها في هذه الساعة من الصباح أهبة غير التي رأيناها لها في أوقات أخرى، وتحدثنا عن أسماء وأحداث كان الكلام يستدعيها، وقال قاسم كانت هناك طائفة لا تلتزم بالفرائض المشروعة ولكن مواقفها من الدين والدفاع عنه إيجابية، وهو ما جعلها تحظى باعتبار النورسي، فقد كان يقول عنهم إن لهم درجة عند الله لدفاعهم عن الدين، وتحدثنا عن العقاد، وكيف أن ليبراليته وعقلانيته لم تحولا بينه وبين الانتصار للإسلام، وزدنا أسماء أخرى وتطرقنا للشعر وميزانه، وذكر فريد اسم عالم عروضي سوداني معاصر هو الطيب عبد الله وأخبرنا أنه توفي منذ أيام، وأعطانا شيئا من سيرته.. كان له زوجة إنجليزية مؤمنة، وكان هو منافحا قويا عن الدين.
وقطع حديثنا وحدت، تنتابه الحال فينتشي ويهتف بما يعِنُّ له من قول:(8/56)
على سمعي رنات ناقوس/ رِن يا ناقوس ، إن الدنيا استهوتنا/
قلت له (مازحا) : يا أخ وحدت، لو كان في النوريين عشرة من أمثالك لتحولتم بالنورية إلى حركة فوضوية.
كان جبل أولوداغ باذخا، أعلى من جبل جام بكل تأكيد، تعممه السحب وتسدل عليه ستائر دكناء من ضباب.. الحياة تتحرك هنا على وتيرة غير مرئية، لا أثر لبطالة هنا، حالة واحدة شاهدنا فيها حشدا للناس يتجمعون، سألنا قيل ذلك مبنى بنك، والناس ينتظرون ميقات فتحه ، وساقنا الحديث إلى عالم الاستثمار وإلى الأساليب التي تلجأ إليها البنوك الربوية من أجل الإثراء على حساب المستثمرين. هذا شعب يعمل، شعب وصل إلى نقطة اللارجوع، وإذا ما ناورت أوروبا وامتنعت عن إدماجه في صلبها، فذلك حتما لأنها تخشى العاقبة..
وتحدثنا عن الرسائل وقال أحدهم إن هناك دعاء ورد في رسالة الحشر قد انتشر بين النوريين بسبب رؤية رآها أحدهم. قلت في نفسي هذا هو الإخلاص، جموع من المؤمنين تأتمر بأوامر الرسول ( سواء أجاءتها تلك الأوامر نصية أو جاءتها إلهاما ورُؤًى.(8/57)
وحدثونا عما يجد بعض الطلاب من عنت آبائهم، حين يمنعونهم من أن يشاركوا في دروس النور. وهو ما يحمل أحيانا بعضهم على أن يواري انتسابه إلى المدارس النورية ويزعم أنه يرتاد غيرها، بعض الطلاب يفلح مع الوقت في إقناع والديه بأهمية دراسة الرسائل وما يترتب عن ذلك من عودة إلى الدين الحنيف. وعلمنا أن هناك من الآباء من يتعهد ولده بالمراقبة حتى لا يتبع مدرسة نورية. ومنهم من يلزم ابنته بأن تجلس إلى المائدة وأن تشاركهم الشراب، لكن البنت تظل تتظاهر بالشراب مُتَصَوِّنَةً عن الرجس. بل هناك من يلجأ إلى من يجنح بابنه إلى طريق الفسق بدل الإيمان، وهنا يحكون عن حالات تحول فيها مثل هذا الأب المصر على الضلال إلى طريق الحق بتأثير الابن. غير أن هناك أحوالا أخرى انتهت بمأساوية، من ذلك ما حكوه عن طبيبة ساجلت والديها سنوات من أجل أن يتركا لها حريتها في المضي على الطريق الذي اختارته، لكن الأب تمادى في غيه وانتهى بقتل ابنته، قيل إن صحافة التهتك قد ظلت تشنع بسلوك الطالبة، وغضت الطرف تماما عن جريمة الأب.
جلسنا نأكل الدلاع (البطيخ الأحمر) لكل جيء بطبق ، وفجأة ارتفع صوت وحدت ينشد:
كونوا على أمل أن في الأحداث التي تقع في المستقبل، سيكون أكبر حدث هو الإسلام..
وسألناه من القائل؟ قال متعجلا: النورسي، ثم مضى يتغنى بنشيد فتح الروملي:
قد فرشتم سجادتكم على البحر/ كيف سيطرتم على الطريق الآخر بِيَدِ التقوى؟/ كانوا من شدة الظلم هناك/ ينتظرون مطلع العثمانيين للخلاص من جور الملوك.(8/58)
أتطلع مرة أخرى من شرفة المدرسة الجديدة ببروسة، إلى جبل أولوداغ.أكثر من 2700 م عُلُواً، بقع النور والظل تتساحب فوقه وتكسبه جلدا مبرقعا كجلد النمر. هذه المدرسة أوقفها أحد المحسنين، إنه يجلس معنا، ليس هناك أدنى شيء يدل على أنه هو صاحب المأثرة. الإمحاء الكلي والاحتساب إلى الله.. من أين تستمد بسمات هؤلاء الشيوخ عذوبتها، وحين يدخل ابنه يطلب إلي أن أدعو له، فأرفع يدي بالدعاء وقلبي يقول : كلا فمثلك يا من وضعت مثل هذا المرفق السعيد في خدمة القرآن هو الأجدر بأن يتوسل به الناس لرب العالمين.. الموقع الذي احتلته المدرسة رائع، أمامها امتداد تفرشه بقع مغروسة، الفسحة تترامى حياله فتمنحه مزيدا من الاتساع، ومن هناك في الأفق يمتد أولوداغ، وتتماوج فوقه سحب تصطبغ في كل آونة بلون.(8/59)
والتحق بنا شاهين، أراه الآن قد ازداد نورا، وازدادت ملامحه رقة وملائكية، هذا النوري لا يملك إلا أن يتبسم، وربما كان مِثْلُه في هذه الحال فرنجي، فأكثر ما يلقاك فرنجي يلقاك هاشا ضاحكا، الطمأنينة عند هؤلاء الناس يترجمها لديهم لطف التواصل، ومعرض الحب هو الطلعة، وعلمت من قاسم حين سألته عن شاهين قبل أن نلتقي بأنه يدير مدرسة نورية في مدينته، هذا الرجل تعانقه فتستشعر التوحد يقوم بينك وبينه في الحال، كأنه أخ حميم، كأنه والد، بل كأنه الأنس ذاته. وتلاطفنا بكلمات عربية سليمة، وأضحكني كثيرا تعقيبه على دعوة قاسم له بأن يتقدم للصلاة بنا، ظل محتفظا ببسمته التي يزداد بها تورده وقال: الدابّ قال أعرف أربعين نوعا من السباحة لكنني عندما أرى الماء أنساها جميعا.. يا للتواضع، يا للسمو. وتوادعنا على أن يلتحق بنا الغداة. ونحن نغادر المدرسة شدني منظر بعض الطلبة وهو دائب على تقطيع كتل من اللحم وملء قدر كبير بها. هل يعدون ضيافة زملاء أم أن عددهم كان كبيرا؟ وسألت قاسما عن مصدر هذا الخير، قال من الوقف، الناس يعطون بلا تردد، ويقفون حتى العمارات في سبيل الله وخدمة العقيدة. هززت رأسي دهشا، وقلت ترى أية عقيدة أخرى غير الإسلام أرست مثل هذا النظام وفتحت هذا الباب التكافلي الذي حل مشكلة التموين العمومي بصورة لا تماثلها صورة؟(8/60)
خليط من الأحاديث دار بيننا سواء ونحن نقل السيارة أو ونحن في المجالس أو في المسجد. وحدثني قاسم عن لقائه بالدباغ، قال إن وليا صالحاً في مدينة كركوك أشار عليه بأن يحمل مخطوط ترجمة الرسائل إلى الأستاذ أديب الدباغ، قال له أحملها إليه ليُفَصِّحَها، فعل قاسم في الحال وأخذها إلى الدباغ. وحين وضعها بين يده اندهش إذ رآه لا يبدي ما يشير إلى أنه قد رحب بالرسائل، وبعد أن تصفح أوراقا منها، راح يطرح أسئلة تدل على أن الرجل لم يستبنْ في المشروع أدنى أمل. وسمعه يقول له كالمستبعد : متى تقوم الدولة الإسلامية؟، قال له قاسم : ربما بعد مائتي سنة، قال الدباغ وكيف أضيع وقتي في مشروع لا وثوق من مستقبله أو مصيره؟ قال ثم احتفظ بالمخطوطات، وشرع في مراجعتها، لكنه سرعان ما أصيب بمرض غريب وخطير أوشك أن يودي به.. وكان عليه أن يخضع مدة للعلاج ، ثم استعاد عافيته وانطلق في المراجعة من جديد وتفانى في العمل، فكان التوفيق باهرا والحمد لله.(8/61)
وساقنا الطريق إلى مدينة أخرى، وتوقفنا عند تاجر مفروشات اسمه افرائيل ، رحب بنا بتلك البسمة النورية التي تقول لك كل شيء، وتسابق فتيانه يضعون أمامنا مائدة أثقلوها بصينية فاكهة الكرز، كان قاسم يتحادث مع فريد عن رحلتهما إلى ماليزيا، كان يصف له الجو والبيئة هناك، قال إن الأمطار لا تكاد تنقطع، وأن النظافة راسخة في سلوك الناس، وأن الطعام مفلفل .. ودعنا التاجر وسار معنا إلى الرصيف، ولوحنا له بالأيدي، وسرنا.. في بعض المنعطفات راح وحدت يشير إلى مبنى هناك على طرف الطريق وقال إنه مصنع للسيارات التركية.. ثم داس على البنزين فاندفعت السيارة بقوة. كان علينا الآن أن ننتهي إلى مكاننا الذي قَيَّلنا فيه أمس:مخيم المزرعة.. وسكرنا فعلا بنغم المدائح التي كانت تنبعث من الكاسيت. أسماء الله الحسنى تحولت في حلوق أفراد الفرقة النورية إلى رقرقرة عذبة تنفذ إلى الأعماق. لم تطل المسافة وأهللنا عليهم، وقلنا لمن كان في استقبالنا : ها رأيتم ما صنع توتكم ؟ أرجعنا إليكم رغما عنا.. ووجدنا أنفسنا في مجلسنا بالأمس، أطباق التوت، وأقداح الشاي ، والأنس والقرآن والدعوات.
وقص قاسم أن أحد أساتذته في الخمسينات ألف كتابا وضع له عنوانا (التصور الإسلامي وخصائصه) فقال له قاسم لم يا أستاذي تقول التصور ؟ قل التصديق.. ثم شرع التلميذ(قاسم ) في تصفح الكتاب فسأله أستاذه عم تبحث؟ قال عن الآخرة. ذلك لأن قاسما لم تعثر عينه في صفحات الكتاب عن لفظ الآخرة، وإنما وجد بدلها عبارات من قبيل النظام العبادي ، العالم المغيب..فقال لأستاذه: إن الله سبحانه يقول الآخرة والرسول ( يقول الآخرة فلم نتجنب نحن تسميتها والنص عليها بما نصت الشريعة عليها؟(8/62)
مفاتيح الدين هي أولا مفاتيح لفظية، تمثل أوامر ونواهي يتشكل منها الناموس القدسي. فكل استثقال لبعضها أو هجر له واستخدام لبدائل عنه يفضي بالمفكر والباحث والمبلِّغ إلى التحول بالرؤية الدينية عن صورتها الأصل. من هنا لابد من الثبات عند هذه المفاتيح، لأنها جزء عضوي من الإيمان، فالدنيا والآخرة، والقيامة، والحشر، والصراط.. وما إلى ذلك هي العالم الغيبي الذي كشفت لنا عنه العقيدة وسعت إلى أن تضع له ماهيات تصورية في مخيالنا الإيماني، فلماذا نسعى إلى هدم ذلك في نفوسنا والانزياح عنه إلى رؤية هي في الواقع رؤية مادية تنبع من أرضية لائكية تتقاطع سلبا مع أسس الإيمان بالغيب وبالمابعد؟
سرنا من جديد وتحولنا عبر منعطف إلى بعض القرى التي يختزنها المحيط الأخضر تحت أرديته ولا يترك منها إلا رؤوس مبانيها تظهر، واستقبلنا صاحب البيت ومعه فتيان، هو نجار ، وقد اتخذ جناحا من بيته مدرسة، وصعدنا إلى الشرفة، وبدت لنا البلدة سابحة في بركة من الطبيعة الجميلة، قلت إننا في( برج ايفل) بحيث لا تفوتنا زاوية من هنا، وكانت مياه خليج (كملك) تلتمع حيالنا ومن حولها تشامخت جبال زينتها الخضرة.. أرض زياتين وخير.. هذا ثغر تتقطر شفتاه عسلا. النسيم البري يتزاوج مع النسيم البحري والطبيعة تعقد ألطف القرانات هنا في هذا الفج الفسيح. وقال فريد لن أغادر هذا المكان إلا مكرها. وقص علينا قاسم خبر هنري الذي أسلم، كان مسؤلا كبيرا هولنديا انتدبته شركته إلى تركيا ، اختلط بالناس فاستمالته العقيدة الإسلامية، وآل به الأمر إلى أن يسلم، واحتفظ باسمه هنري، وأبى إلا أن تجرى له الختانة، وجاءته زوجه يوم أن أشهر إسلامه بهدية هي عبارة عن حمالة مصحف. قال قاسم رأيتني ذات يوم أقدمه للصلاة قائلا أقم الصلاة يا أخ هنري. قال فإذا طلاب معنا يتفاجؤون ظنا منهم أنه غير مسلم..(8/63)
كنا نطعم الحلوى والفاكهة ونتحدث ومجموعة الطلاب المخيمين في هذا البيت يتابعوننا بعيون فيها الطيبة والأخوة، أكثرهم متخرج من الجامعة، وفيهم شاب يدرس في السنة الثالثة طب، ومنهم من يدرس الاقتصاد.. سيقضون هنا عشرين يوما لقراءة الرسائل.. وسألتهم عن البحر. تبادلوا النظرات، وتضاحكوا، وقالوا إنهم لا يذهبون إليه.. ولحق بنا أبو فرقان وابنه فرقان، طفل مفعم بالحيوية والبراءة في عينيه إشعاع بهيج لغد متوهج. وسألتهم عن سبب مجيئه (وكنا تركناه في المزرعة ) قالوا جاء بالخوخ. قلت لِمَ؟ قال قاسم ألم تطلب خوخا؟ مرة أخرى أدركت خطأي، نسيت أننا في ضيافة النوريين، وأن مجرد الإيعاز وحده يتحول إلى طلب منفذ وفي الحال.. وبالفعل فسأتبين هذا المساء شيئا من هذه الحقيقة..
الواقع أنني لم أطلب خوخا، ولكن أذكر أنني - ثاني يوم وصولي، وأنا أتناول الطعام بمعية قاسم- سألته -وقد وضعوا أمامنا الفاكهة- عن لون كنت أكلته في رحلتي إلى بارلا منذ عامين، له طعم المشمش ولكنه أكبر، قال الخوخ؟ قلت أجل الخوخ.. لا لأنني لا أعرف الخوخ، فخوخ بلادي من أشهى ما يؤكل في الدنيا، ولكن اعتقادا مني أن اسمه الخوخ. وانطوى حديثنا. وها أنا ذا أرى سؤالي ذلك يتحول إلى إنجاز يكلف هذا النوري أن يرتحل ورائي وعلى كتفه صندوق مليء بالخوخ الطازج المجني الساعة من أشجاره. أية كرامة هذه ؟ أية خدمة؟ هل تذكرون من هو أبو فرقان؟ هو ذلك العسكري الذي عانى من داء الصفار وعجز الطب عن شفائه إلى أن سقاه أحد الأشخاص ممن تعرف عليه في المستشفى نقيع الحنظل، فنزف سائلا كبريتيا، وعوفي من حينها، وبهت الأطباء.. زكَّى الله روح فرقان وأقَرَّ بِهِ عينَ أبيه.(8/64)
وحدت أخذته نوبة عنف حقيقية وهو ينعطف بنا إلى طريق زراعي لنصلي العصر بإحدى القرى.. هل كان يتعجل السير على ذلك النحو لأنه كان يعلم أن صلاة العصر أوشكت أن تتم، فهو لذلك يسارع لئلا يفوتنا أجر الجماعة؟ ومن بعيد بدا لنا المسجد لا يزال هيكلا في طور البناء، وانعطفنا ثانية في اتجاه آخر، كان هو أيضا في حالة بناء، المساجد تتزايد عددا، أليس في هذا دليل على أن زمن القرآن ينبعث وشبابه يتجدد؟ وصادفْنا خروجَ المصلين من المسجد، جمع قليل يغادرون الصحن، أبدوا سرورا لمرآنا وتصافحنا في أخوة ودخلنا ، ظل بعضهم يقف هناك حتى صلينا، كلا لم يكن الفضول هو الذي استبقاهم لكن المروءة اقتضت أن يمكثوا ليعلموا جليتنا، وهل لنا حاجة لشيء، لمبيت ؟ هذا هو خلق الإسلام؟ هذا ما أرساه محمد بن عبد الله ( من قيم في قلوب المسلمين. وجددوا تحياتهم لنا بالبسمة الريفية والمسكة الحارة على اليد.. وانطلقنا. مسافة كبيرة قطعها وحدت في التسبيح وترتيل القرآن، يفعل ذلك وهو يطير بالسيارة طيرانا لا هوادة فيه. كل العمران الذي اجتزناه في طريقنا أوروبي التصميم والمظهر والطراز. وفرغ وحدت من أوراده فطلبنا موسيقى فرد بلهجته الصارمة بالرفض قائلا بعربية غير بريئة من اللكنة: كلا.. تفكرة.. كان يريدنا أن نتركه يسترسل في جو الخشوع مليا. وسارع فريد يتلو آيات.. وجعلناها رجوما للشياطين.. وعاد الجو كما شاءه وحدت إلى حالة من الخشوع والرهافة الروحية الملموسة. سنركب بسيارتنا الباخرة ، وسنقطع ما بين العدوتين على الماء، وسنربح زمنا يجعلنا ندخل اسطنبول مغربا.. زرافات من نساء الريف يعدن من الحقول، على ظهورهن أحمال. ما أبهاها أبهة تظهر بها المرأة التركية حين تمشي في الشارع بزيها الأهلي، السروال ينتهي إلى منتصف صدرها، وهامتها شامخة، وخطاها متثبتة.. وقطعنا المسافة فوق سفينة كسفينة نوح فيها من كل زوج اثنين، مراكبنا وأشخاصنا وأمتعتنا، كان الوقت وقت الأصيل،(8/65)
الهدوء يشمل الأفق، لا ريح ولا حر، إلا طائر النورس يحلق فوقنا كأنما يحتفي بمقدمنا، أو كأنما أوكل إليه أمر مرافقتنا والسهر على سلامتنا إلى أن نبلغ مرفأنا. جلس العابرون على جبهة الباخرة، في الطابق الأعلى، يريدون أن ينالوا حظهم من المتعة لأن عمر الرحلة قصير، وبعضهم كانوا ينتظرون بما يشبه الشوق الوصول إلى الطرف المقابل.. والحياة في سائر أطوارها رحلة وانتظار مرافئ.. كانت الباخرة تجري وكنت اِخَالُها لم تتحرك بعد.. ها هي الضفة الأخرى تفتح ذراعيها شيئا فشيئا لنا. المكان الذي غادرناه منذ حين بات عنا أبعد من الذي نتوجه إليه. أشواط العمر أيضا تبعدنا عن عهود الطفولة وتقربنا من الجسر الذي يقلنا إلى عالم الأبدية. لم تقتض عملية شحن سيارتنا وصعودنا إلى متن الباخرة وانتظار الإقلاع أكثر من ربع ساعة. ريثما توقفنا نؤدي الصلاة وأقَلَّتْنا السيارة من جديد. ها هي محركات الباخرة بدأت تخفق بفتور محسوس.. وطلب إلي قاسم أن أشم هواء عليلا. وهارشت وحدت قائلا: إنك يا أخ وحدت لا تصلح إلا لقيادة مدرعة في ميدان قتال.. تبسم وقال أمنيتنا أن نكون قد خدمناكم.. لمفهوم الخدمة في ضمير النوريين معنى الثواب.. سأعرف في هذه الرحلة أمرا جعلني أذهل حينا عندما أعلم أن بهذه الديار أناسا يهبون فلذاتهم إلى الخدمة، وأن وحدت أحدهم .. يا لروعة البذل.. أدركت الآن فقط سر أن تكون جيوش الجهاد في عصر العثمانية عسكرا يعيش مرابطا في الثغور من غير ما زواج ولا أهل .. يا لله.. هذا هو المفتاح الذي ينبغي أن أفهم به مسلك النورسي ذاته حين يهب نفسه هو الآخر للخدمة.. يالله.. ياللعجب.. لقد سار وحدت في ذات الدرب الذي سار عليه النورسي.. لقد أصلت ثقافة بني عثمان أعرافها في التقوى والعطاء والمرابطة.. وخلقت الجو الذي يظهر مثل هؤلاء الأحبار.. ويشير وحدت إلى جهة ما ويقول: أنظر إلى تلك الأم وابنتها..وألتفت أنا إليهما، كانتا تستندان إلى حافة السفينة في(8/66)
الطابق أسفلنا، تنظران إلى الماء تحرثه السفينة في يسر، كانت البنت حاسرة الأطراف والنحر، فيما كانت الأم تغطي رأسها وعلى هيئة مستورة، وقلنا إن التأثير حاصل لا محالة وأن زمن الفتوة يمضي ببهرجه وما يستقر في الوجدان هو القيم التي يغدو بها المسلك قويما أصيلا.. في تلك الأثناء ارتفع صوت قاسم بالتسبيح، إذ تأمل الماء وما كان يقله من أثقال فاعتبر وذكر الله.. حظيرة من الشاحنات والعربات والخلق والمتاع، ومع ذلك كان المركب يجري بلا عَنَتٍ.. وقاطعتنا باخرة أخرى، هكذا الحياة صعود وهبوط ، والحظوظ والمصائر في غضون ذلك تتغير.
أول من قابلت هذا الصباح سعد، جاء قاسم يسير به إلي في الغرفة حيث كنت أتهيأ للخروج ، ورفعت عيني في الشخص ولم أتحرك ، لم يخطر لي قط أنني بإزاء سعد. بدا لي شابا منتفخ الأوداج يمكن أن يكون أي أحد إلا سعدا.. وسمعت قاسم يسألني هل عرفته؟ هززت رأسي بالنفي، وسارع قاسم يقول إنه سعد.. وفتحت ذراعي أحضنه، قلت له لقد تغيرت ، إنك سمنت، رجعت من العراق منفوخا ، لقد زودوا لك العبارة يا أخي سعد..وجلسنا ورحت أسأله عن العراق.. الجرح الذي لن يندمل.. وبسرعة وضعني في المشهد كما يقال، وفهمت منه أن التفاقمات تتراكم يوما عن يوم وأن الانفجار الذي سينتهي بتفكيك اللحمة وتهزيل الكيان وتحويله إلى سلطنات آت لا محالة.. فالأعداء يرتبون لما يشاؤون، ولا راد لمشيئة الله. حين تسمع مثل هذه التوقعات يتملكك الابتئاس. كيف تتوصل الأمة إلى مستوى تصلح به حالها؟ أمثال النورسي أفنوا أعمارهم من أجل أن يرسموا لنا معالم لطريق تخرجنا من الحضيض، متى يتحقق أمل الأفذاذ من هذه الأمة في النهضة الحق والانبعاث الصدق؟
غادرني سعد للسلام على أم سعد، ورأيتني أعثر على أسناني، لقد ظلت معي، في حقيبة الحلاقة، طيلة الرحلة، دون أن أفكر في البحث عنها هناك.(8/67)
عدنا إلى اسطنبول، وتجولنا في إحدى المدارس، كان جودت يستقبلنا، ما باله ازداد صمتا؟ ما باله ازداد انتكاسا؟ يبدو فوق سنه بكثير، ليس في ملامحه، فهو من حيث الملامح أقل من سنه، لكن في مسلكه، العبادة تورث هذا الاغتمام الروحي، ومع ذلك لا تلبث إذا ما حركته أن ترى الانقشاع يتجدد في وجهه من خلال بسمة طفلية مختزلة يواجهك بها ثم يفر منك بعينيه نحو الأرض. وجاءني صبية سألتهم عن أسمائهم فعرفت أن أحدهم أخا جودت، توفي الوالد منذ سنة، كنا رأيناه في تلك الرحلة هاشا، سعيدا، يتابع نشاط ابنه بعين فيها الرضى والحمد..الصبي أخوه ينطوي على شموخ، إنها عزة الإيمان تباكر هذا الشبل النوري منذ الميعة. وطفنا، أبهاء المدرسة فسيحة، وكل أقسامها جديدة، وما زالت الأشغال جارية في أكثر طوابقها، وتطلعت نفسي للجلوس والاستماع إلى أصوات هؤلاء الفتيان ترجِّع القرآن وتتغنى به، لكنهم جاؤا بالطعام، مدوا الخوان من الجدار إلى الجدار، واصطف الطلاب والزوار من الجانبين، وامتدت الأيدي وطعمنا، ثم وجدتهم يستعجلوننا، ولم أكن أرغب إلا في البقاء في ذلك المكان، وخرجنا إلى الشارع، هناك ظلمة محسوسة، هناك سيارة أخرى متهيأة للسير، ورأيت أحدهم يدفع بي إلى الداخل ويضرب الباب وما لبث وحدت أن انطلق، كل ما فاته أن يفعله بهذه السيارة المسكينة خلال رحلتنا إلى بروسة سيفعله بها الآن، في هذه الطريق التي بعضها كان مظلما، وبعضها مسرحا لأشغال، وبعضها عاجا بالحركة. وقرأنا في قلوبنا آية الكرسي..كانت السيارة التي تسبقنا تطير، لم نتمكن من ملاحقتها عن قرب رغم مساعي وحدت وإصراره الجلي ، وكنا نسمع أحيانا عواء عجلاتها يرتفع ، تالله لو لم أكن بمعية قاسم لجزمت أن العملية اختطاف مدبر، ولفتحت الباب ورميت بنفسي خارج السيارة.. وانتهوا بنا أمام محل، ودفعوا بنا دفعا إلى الداخل، أي أمر يراد بنا؟ وفي البهو سمعنا قاسما يقول –و لا يزال لاهثا من الجهد كأنما قطع المسافة(8/68)
راكضا- يا إخواننا هذا الأخ جميل، وهذا الماركت محله، وهو يريدكم أن تأخذوا حاجتكم من الهدايا وسيراعيكم إن شاء الله.. أرأيتم كيف تحبك المناورة؟ وإني حين أفكر في الأمر أجدني أنا الذي كان السبب في رسمهم لهذه الخطة.. أذكر أنني يوم قصدت إلى مدرسة الطالبات مع الأخ كنعان طلبت إليه أن يؤديني ذات يوم إلى سوق بايزيد.. كيف عرفت أن في اسطنبول سوقا بهذا الاسم؟ عرفته وأنا أقل الطائرة، إذ جلست إلى شاب من تجار الخشب قال لي إنه يتعامل مع تجار مصريين وأنه يقبل لأول مرة في سياحة إلى تركيا، وسألني عن أماكن وأسواق، فالتفت إلى شاب كان خلفي واستفسرته فقال إن الجزائريين يتعاملون مع تجار سوق بايزيد وأن بضاعة هذا السوق متنوعة وأسعاره رخيصة..(8/69)
وحين تحدثت إلى كنعان برغبتي في زيارة سوق بايزيد فقد فاتني أنني كنت أتحدث إلى نوري يعتبرني ضيفا عليه.. لم يخطر ببالي قط أن الخطة كانت محبوكة، لأنني استصوبت ما سمعته من قاسم، فقلت سأقضي حاجتي من هذا المكان المضمون. أعترف أنني أعرف صديقا لي لم يشتر شيئا ذا بال لنفسه منذ ربع قرن، حتى في أسفاره كنت أراه يسند الأمر إلى من يكون برفقته مهما كان مستوى هذا المرافق، بل أذكر أنه في الأحيان الكثيرة كان يسلم ما معه من نقود لمن يرافقه يحتفظ له بها لوقت الحاجة. وفي بيته أكثر الأوقات كان يحمل زوجه أو ابنته إلى البنك لاستخلاص الراتب لأنه كان لا يمس منه شيئا، كل شيء بما في ذلك الجريدة اليومية يؤتى له به.. ولا تثور ثائرته إلا حين يدخل مكتبة، وأهله يعرفون أنه يعود في أغلب الأحيان من زيارته المكتبات مفلسا، وأحيانا كان يرهن بطاقة تعريفه..إن كان لي قدوة فهذا الصديق هو قدوتي.. وتملكني ريب وأنا أرى طاقم المحل وفي مقدمته الأستاذ جميل يلتفون حولي وقد تحفزوا- تالله لقد رأيتهم متحفزين، وفي عيونهم معان لا تهب الارتياح ، وتوجهوا إلي ببدلة، كان واضحا أنهم يريدون أن أقيسها، وخطر لي خاطر غير جاد وقلت ما بال هذا التاجر يريد أن يسوِّق لنا بضاعته بالاستكراه؟ ثم رحت أحوقل وأقول في نفسي التاجر تاجر ولو كان يتعامل مع طلاب النور.. ولم أكن مستعدا لأن أقيسها لأنني كنت قد رتبت مع أهلي مذكرة بمشتريات الأسرة لم تتضمن شراء بدلة ولا شيئا آخر لي أو لأم الأولاد.. ورحت أنسحب من أمام هؤلاء الرجال الذين أحاطوا بي متأهبين، وما انتبهت إلا وهم يلتحمون بي، ويشرعون في نزع ثيابي، وأحسست في نبرة قاسم الذي كان يتابع العملية عن كثب أن الأمر محسوم، وألا جدوى من الاعتراض. ودفعوا بي إلى العازل لأقيس، كنت أحوقل بصوت عال، وقد تشتت ذهني في مواقع كثيرة، وبعد قليل خرجت أرد ما قست إليهم، وجاءوا بمقاس آخر، ثم رأيتهم يفعلون بفريد نفس الفعل،(8/70)
ورأيت وجها ذا ملامح عربية يتفحصني، وسمعته يقول بلهجة معتدة، واثقة، كأنما يتحدث إلى شخص يعرفه: خذ لونا آخر.. نحن في زمن الحر، واللون الأدكن لا يناسبك.. قلت في نفسي هل أجيبه، لكنني رمقته بعين لا ترى، ورحت أستلم ما كان الشباب يعرضونه علي، ثم رأيت جميلا يطلب منهم شيئا فخفوا إلي بحذاء، وجاء جميل بقميص قربه من عنقي في حركة ماهرة وقرر صلاحه لي، وما زالوا يلقون إلي بأنواع الأحذية، لم تكن من ذوقي..لكنهم ألبسوني واحدا منها، وقال ذلك الشخص الذي كان من حين نصحني بلون البدلة: لا تهتم فستلبسه بالجوارب الشتائية فتجده على مقاسك. هل كان لي حقا وعي أهضم به ما كان يجري أو أرد به على ما يأتيني من أقوالهم واستفساراتهم؟ شيء واحد رحت أتشاغل به، إذ بادرت أقول لقاسم، هذا الحذاء الذي تعرضونه علي هو حذاء الطنبوري.. أذكر أننا قضينا الأيام الفارطة أنا وقاسم نتندر بحذاء الأخ فريد.. كان حذاء شتائيا، بسيور طويلة، يميل إلى الحمرة، وكانت عدم صلاحيته لهذا الموسم ولهذا السفر واضحة، خاصة حين نؤم المسجد أو نخرج منه، إذ كانت عملية نزعه أو لبسه تستغرق من فريد وقتا أطول، وأحيانا كان وهو في حالة انحناء يعالج لبسه أو انتزاعه يعرقل حركة الداخلين أو الخارجين. وبعث منظر ذلك الحذاء في ذهن قاسم قصة حذاء أبي القاسم الطنبوري. قصة من قصص بخلاء الجاحظ على ما أظن، تدور حول شخص كان كلفا بحذاء رث، ظل يتحامل به على أهل بلدته، فيدعي أنهم سرقوه، وكلما فعلوا شيئا لتعويضه عنه سارع الطنبوري إلى استظهار ذلك الحذاء وجدد الادعاءات.. هكذا كان قاسم يذكرنا كلما أردنا مغادرة البيت، إذ كان يهتف بفريد قائلا: ارتد حذاء أبي القاسم الطنبوري فنحن خارجون.. ذلك لأن حزم السيور كان يقتضي من صاحبنا وقتا، لذا كان ينبهه قاسم قبل الوقت حتى لا نتعطل عن السائق الذي يكون في انتظارنا خارج البيت. كان وقت إغلاق الماركت قد فات منذ حين، البائعات بثيابهن(8/71)
المحتشمة يتابعن المشهد بشيء من الاستغراب، سأدخلهن في اللعبة هن أيضا، إذ سأنادي على قاسم وأمضي به إلى جناح النساء وسنحتار في تقدير مقاس جـ.. جئن ببائعة، كان واضحا أنها رقيقة العظم، وكان قاسم يهتف بي أن جـ..على بدانة..لكننا قدرنا مقاسين قلنا واحد لجـ.. والآخر لأمها، وسأتبين أن المقاسين الاثنين لم يناسباهما، ومع ذلك كانت فرحة جـ.. بالهدية لا تتصور..ولاح لي وحدت من هناك، قد اختلى بركن وراح يقلب قمصانا ، ثم رأيته يقيس بعضهن على جسمه الضخم، ومن قبل كان قاسم باشر قياس بدلة للونها ذوق.. ومن المؤكد أن سلوكهما ذاك قد فتح شهيتنا على اختيار منتقياتنا. كانت الأريحية تلوح في حركات وسكنات جميل وقاسم، كنت أنا وفريد محور الخدمة، سمعت أن أمراء النفط يحتجزون أسواقا دولية بحالها للتسوق، يفعلون ذلك لأن لهم الأصفر الرنان، أما أنا وصاحبي فريد، فبأي نفوذ نحظى بهذا الاعتبار؟ وحين غادرنا المحل، كان طاقم الباعة يحملون بأيديهم وحتى بأسنانهم مقتنياتي، ووقفت أتابعهم وهم يضعون الأشياء في صندوق السيارة، ويفرزون متاعي عن متاع فريد، ظل اسمي يتكرر، لقد كنت خرجت ببضاعة المحل بكاملها..هل كنت سعيدا بذلك ؟ كلا..ظللت طيلة الوقت الذي قضيناه في عملية الانتقاء، أهمس لقاسم وألح: قل لهم يا قاسم يخبروننا بالأسعار حتى لا نتجاوز ما معنا من أورو.. كانت الأثمان مثبتة لكن بالملايين التركية، ولم يكن في الوسع تقدير ذلك بالعملة، ومرة قلت له يا أخي قاسم إن ما معي هو كذا.. ورأيته ينقل ذلك إلى جميل الواقف معنا، ورأيتهما يبديان ما يوحي بأنه مبلغ كبير، لكنني أحسست بأن في حركتهما تلك مبالغة، بل لقد لمست بعدا مسرحيا جليا في ما صرحا به. وكنت أراجع نفسي برهة وأقول إذا ما تجاوزت الحد وعجزت عن الدفع فسيتولى التسديد قاسم، وسأرد له ذلك في وقت مناسب. هذا الانشغال جعلني لا أركز على اختيار ما ينبغي اختياره، كنت أتصرف بروح من يريد أن يفرغ من(8/72)
واجب لابد أن يقوم به. ومع ذلك كان الخجل يعروني وأنا أرى البائعات المسكينات يجلسن في صمت يترقبن لحظة الانعتاق. حملت صحن الفاكهة التي كانوا جاءونا بها، ومددته لهن، فامتنعن، إلا واحدة انصاعت تحت إلحاحي، ورأيتهن تختلسن النظر إلى الأستاذ جميل، هذه سيرة من الانضباط عالية. لا تعتقدوا أن الأمر انتهى عند هذا الحد؟ كلا، فبعد يومين من ذلك الحين، رأيت ضرورة أن أشتري حقيبة، فما سأصطحبه من هدايا ومن كتب بالخصوص سيقتضي مني حقيبة ثانية. وفيما كنا نعود إلى البيت ذكَّرْتُ قاسما فرأيته يتهامس مع وحدت، ثم انعطفا وسارا بنا مسافة، ورأيتهم نزلوا بنا في ماركت، وما كدنا نصل جناح الحقائب حتى طوقنا القيم بترحيب قلبي لا مراء فيه، ووضعت يدي على أول حقيبة فتناولها مني القيم وسلمها لبائعة كانت تسير بمعيته، ومررنا بجناح الأحذية فانتقيت لجـ.. حذاء قدرنا مقاسه هذه المرة أيضا على قدم البنت البائعة في ذلك الجناح، ثم سرت وراء البائعة وهي تجر الحقيبة بيد وتمسك الحذاء بيد أخرى، ورأيتها بعد مسافة تدفعني، كأنها تستنظرني، أعادت الإشارة مرات، فتوقعت أنها تريدني أن لا أتبعها وأنها تود أن تنجز الأمر وحدها، فمددت لها الورقة، فاستمهلتني، عدت بورقتي إلى القيم والجماعة، قال القيم هذا لا يمكن، فتعليمات جميل تقول هذا..قلت إلا هذا؟ وألححت، فتبادل النظرات مع قاسم، وتناول الورقة مني، ثم غاب لحظات وعاد يقول كلاما، ترجمه لي قاسم، فإذا مؤداه: لا فائدة.. سبق السيف العذل. وأفهموني بأن القيم اتصل هاتفيا بجميل وأن جميل رفض أن ندفع سنتيما واحدا. وأحسست بشيء من الاستخزاء، أليس هذا هو عين التهافت؟ ما معنى أن أتصرف على هذا النحو؟ أين هي فضيلة التعفف؟ وابتلعت خجلي وداريت صغاري. وقلت كاللائم لقاسم لم جئتم بنا إلى هنا؟ قال حسبنا أنهم لن يرصدونا ، وأننا سننتقي حاجتنا على عجل ونذهب. ترى كيف رصدنا القيم بتلك السرعة؟ لا غرابة في الأمر، فلا شك(8/73)
يكون المحل مجهزا بكاميرات الرقابة، وأن الشاشة تكون رصدت دخولنا للقيم فسارع للاستقبال.
ها قد عدنا من جولة الصبح.، ها قد عدت إلى سريري، وها قاسم يدخل علي يبحث عن شيء، وقال لي: نوزاد يريد أن يحضر القهوة بنفسه. هو شرِّيب قهوة إذن؟ مطلع الشمس لم يحن بعد فكيف تتوق نفسه إلى القهوة في هذه الساعة؟ ها أصواتهما تأتيني من المطبخ ، يتبادلان الضحكات كأنهما طالبان في غرفتهما بالحي الجامعي؟ لا يداخلنك شك في أنهما الآن ، والإبريق يغلي أمامهما، وهما منتعشان بما أصابا من نسائم وأعباق الفجر، في فتوة لا مراء فيها. ها قاسم يؤكد تارة أخرى أن فتوته ثابتة لا تَحُول ولا تزول. لو طلب إلي أن أصب شايا في قدح موضوع بصينية لصنعت أزمة. ما لا نكتسبه في سن الطراوة لا يمكن أن نتداركه في سن التصلب.. سوف أنام وهما لا يزالان في المطبخ من حول موقدهما، وسأستيقظ في الميعاد المضبوط، وسيدخل وحدت متدفقا، ونتعانق بود، لكنه سيضغطني ضغطة آذتني فعلا. لقد جاءني البارحة بالـCD والكاسيت، وها هو الآن يمد يده إلى المائدة، ويتناول بعض ما وضع عليها من فاكهة وطعام إفطار.. قلت له إنني أدركت أنك رئيس مستبد حقيقة لا عبثا. فحيثما كنت رأيتك تقود الناس، في المصلى رئيس. في المطعم، في قاعة الاستشارة. أجابني إجابة من لا يريد أن يضيع وقته فيما كان فيه، فقد كان فمه مليئا بالطعام: تعريف البلاغة أنها مقتضى الحال.. وأضحكني جدا هذا الجواب الذي عبر بحق عن الملابسة الظرفية التي كان فيها.. ولما فرغ من الأكل، تأخر في مجلسه إلى الوراء، وارتد بالاهتمام إلى نفسه ، ورأيته يلعق إصبعه المريضة التي اكتسبت الآن لونا ورديا وانتفخت..قلت في نفسي هذا سلوك رأيت قططي تفعله حين تصاب بجروح.. تتداوى بألسنتها. وأضفت كأنني أحدث نفسي: لعمري إن هذا رجل فطري، هذا هو زوربا تركيا حقا.. في تلك الأثناء جاءوه بالشاي ، راح يرتشف كأسه رشفا مسموعا ، ويدمدم بشعر فارسي. سألته(8/74)
ماذا تقول ؟ قام إلى الخزانة وجاءني بكتاب ، وفتحه لي وأشار، ورحت أقرأ:
ازدم صح أزل تا بقيام عرصات ... ... برسرو باي دلاراي محمد صلوات
ألف ألف صلاه وألف ألف سلام ... ... عليك يا رسول الله..
مرة أخرى جاءوا بالشاي، وقال فريد هل الشاي لوحدت وحده؟ قلت سميناه زوربا. قال ترقينا من الدكتاتور إلى زوربا.. ثم علا صوته بالشعر الفارسي.
هذا الرجل تسكنه رياح تتلاطمه من كل جانب.. كان البسطامي يخاصم نفسه ويخاصم ربه ، ويستنكر الناس منه ذلك لكن الجنيد كان يقول لهم دعوه، فالحال ليس حاله.. وحدت به شيء روحي لا يجد المتنفس إلا في هذه الآهات والابتهالات التي يرتجلها أينما حل. ربما كانوا يدركون له هذه الخصوصية، والمؤكد أن قاسما يعرفها فيه، قال لي عنه: ألا تراه كيف يتشهد في الصلاة بكامل جسده؟ إنه ينطوي على قوة تهزه هزا وتخضه خضا. والله يتولى السرائر.(8/75)
كانت الأمسية حافلة، فرغم العياء إلا أن قاسما جاء بصينية الفاكهة، ورحنا نتحدث عن أمور شتى، منها نظام مدارس النور. وكان علينا أن نسير صباحا لنكون على موعد مع افتتاح الاجتماع. وسارت بنا سيارة السيد خليل، كل سائق في اسطنبول يضع في حسابه الازدحام الذي تعرفه حركة المرور في نقاط معينة من الشريان الواصل بين ضفتي المدينة. كان السيد خليل من أولئك الرجال الذين جعلتهم التجارب يتسلحون بمخزون من الحنكة لوقت الحاجة، رأسه أبيض، وكلامه قليل، لكنه يستمع إليك كثيرا، ولا يجادلك بل يتلقى التعليمات منك من غير أن تصرح له بها، له حدس، له بصيرة، ليت شعري أي نوري ليس له هذه البصيرة؟ قطعنا مسافة ليست بالهينة، وتذكرت فجأة دوائي وقلت نرجع، وسقط في يدي الجميع. كيف نرجع وقد حسبنا المسافة فرأيناها بالكاد توصلنا في الميقات. قال فريد لا عليك نداويك بالدعاء.قال قاسم يوم واحد لا يضيرك أن لا تأخذ فيه دواء. قلت إلا هذا إذ المسألة مسألة مزاج، وسأتعكر إن أنا لم آخذه.. وساد صمت، وتبادل قاسم وخليل تلك النظرة التي تتقرر بها الأمور، كان علينا أن نمر على بيت الأستاذ أديب الدباغ ثم نرتد لنأخذ الطريق ثانية إلى مركز النور.. لكن علينا الآن أن نعود من جديد إلى الغرفة، ومنها نأخذ الطريق الذي سلكناه آنفا، لنتوجه إلى صاحبنا أديب، ومنه نولي شطر المركز. سأل فريد عن نوع الدواء، قلت الضغط ، قال عندي.. أعطيك مما آخذ، سيسألني الأستاذ الدباغ حين نمر به وسأعرف أنه هو أيضا يأخذ نوعا من أقراص الضغط، إنما الذي فات أخي الأنصاري هو عدم جواز تناول مثل هذه الحبوب من غير تشخيص مسبق.. ضاع اليوم، وضاع الاجتماع، أحسست أن قاسما استاء كثيرا لتلك العطلة، لكنه استمر في صمته المعهود، وسارت بنا السيارة بنفس هدوء صاحبها ، وقرعنا باب الأستاذ أديب وركب وانطلقنا، سياقة خليل تعاكس تماما سياقة وحدت .. قلنا في صوت واحد لو أن السائق كان وحدت لجزمنا بأن في(8/76)
وسعنا بلوغ أنقرة والعودة منها قبل بدئهم الاجتماع. هكذا تتحول النظرة إلى الأشياء، هكذا تتجسد النسبية، فما كنا نستنقص به وحدت بدا الآن كمالا وفضلا..وحده لحن الكاسيت كان يلطف من تأذينا بهذا التأخير. قال قاسم الشعر متنفس ولابد أن يكون فيه خير وإلا ما طابت به النفس واتزنت. كان الحذاء الذي اشتريناه البارحة يبدو في رجلي مثل الباخرة، لا أكاد أحرك قدمي في جهة إلا أعاقني عن الحركة، قلت لهم حذاء الطنبوري بت ألبسه أنا، وبدا فريد على عكسي، إذ تخفف من أعباء حذائه الشهير، لقد ناسبه كثيرا هذا الاختيار. المناظر تسلينا، تنسينا أننا خرجنا عن نطاق فقرات البرنامج المسطور. الحياة أصلا هي مسلسل من التحولات التي لا يتوقعها الإنسان، ما أشد رتابة الحياة لو أن الإنسان يولد وفي يده دليل الوقائع التي سيعيشها من المهد إلى اللحد، حياة الملوك والأرستقراطيين تقوم على جوانب من الرتابة الكئيبة، لأنها حياة مرسومة بقوة الأعراف والأصول، لذا ترى البروتوكول يخصهم بهوامش من الفسحة يغطونها بالمغامرات التي تتجدد بها وتيرة حياتهم من وراء الستار. وسرنا نحاذي ضفة الماء، البوسفور على مدى أمتار منا، بل هو تحتنا تماما، لو مددت يدي لقبضت على أصدافه ولآلئه وختَّمْتُ بها أصابعي، وصلنا البيت وهمس قاسم كمن يحدث نفسه وهو ينحني على الباب ليفتحه: إنها قسمتي..هذا النوري عنيد في تمسكه بالانضباط لكنني جنحت به اليوم ليكون الاستثناء في قاعدة وطيدة من الدقة والترتيب الجماعي الراسخ. وأقبلت أم سعد تطلب ثيابنا لتغسلها. وقلت في نفسي: لم يبق إلا هذا يا أم سعد.. ومع ذلك استخرجت أم سعد –من وراء ظهورنا- ثيابنا وغسلتها وكوتها وطوتها وزادت بذلك من خجلنا ومن إحساسنا بما نسببه من ثقل لأهل هذا العش الكريم. وعدنا وعاد الحديث يربط بيننا من جديد ويحملنا إلى أنحاء من القول شتى. قال فريد كان الشعر المغربي القديم يكثر من الخوض في موضوعات التشوق إلى(8/77)
البقاع المقدسة وأن تجربة الرحلة الدينية كانت بمثابة العيد أو الحدث الأكبر في تلك الأزمنة القاحلة. وذكر مهرجان الموسيقى الروحية الذي اعتادت بلاده على تنظيمه كل سنة وتشارك فيه دول من قارات مختلفة، واستطردنا فقررنا أن المشرق بلاد الأنبياء والمغرب بلاد الأولياء. قال قاسم إن النورسي يقول الغرب يصلح بالفلاسفة والشرق بالأنبياء.. ما زالت الكاسيت تتغنى بمديح النبي ( وذكرنا رفيقنا وحدت، صار جزءا منا غائبا كحاضر، يجمع بين الطرافة اللذيذة والجد الصارم، وروى أحدنا – على سبيل الاستطراف - كيف أن وحدت وهو ينتهي بنا البارحة إلى البيت، رفع عينيه إلى شجرة الجنينة ثم وثب على طرف الجدار وجنى حفنة من التوت وارتد بها إلى السيارة وانطلق. هذه هي الفطرة، لماذا يتصنع المرء سلوكا، والحال أن الإنسانية تشترك في سجايا هي ذاتها عند الجميع. وعدَّل قاسم اتجاهنا، قال نأخذ جسرا ثانيا ونزيد عشر كلم لئلا نضيع في الزحام. ورن الهاتف، وكان المتحدث الأستاذ قايا. هل كان يطمئن على ما يكون لاحظه من تأخرنا؟ ورن الهاتف ثانية ورد قاسم، ثم أخبرنا عن وصول الشيخ صنغور من أرضروم بالطائرة وأنه سيحضر العشية جانبا من الاجتماع. ساد صمت، ورحنا نتصور الحال التي يكون وصل عليها، لقد أنبأنا صوته في مكالمة ذلك اليوم على جدية الوعكة. وسمعنا قاسما يحدثنا عن آخر لقائه بصنغور، قال زرته قبل السفر في بيته، ولاحظت أنه لم يقم لوداعي، فمن عادته التي لا يتخلى عنها أن يرافقني إلى خارج البيت في كل زيارة أؤديها إليه إلا هذه المرة، وإني أعترف أنه عز علي أن أراه لا يشيعني كما عودني، وقلت في نفسي لا يكون الشيخ إلا متعبا بالفعل، لكنني لم أكد أمضي خطوات حتى رأيته يلحق بي، لقد تحامل على نفسه وودعني على مألوف عادته منذ أن عرفته. تأثرنا حقا بما سمعناه من قاسم، هذه البقية الباقية تبلي البلاء الرائع، لا تفتأ تدافع العناءات من أجل أن تنتهي بالمجد إلى حيث(8/78)
لا انتكاس. ووصلنا المركز، فاتتنا عشر دقائق عن الموعد، لكننا وجدنا الاجتماع لم يبدأ بعد، كان البهو مليئا بالحضور، أكثرهم جلس يطعم، وقلة واقفون، وتبادلنا العناقات والمصافحات وكلمات التعارف، في ملامح قايا هدوء دلني على أن الخلل الذي تسببنا فيه لم يكن له أثر يكدر نفوسهم. وميزت الأستاذ أق كندوز، تعانقنا دون أن يعرفني، وحين قدمت نفسي تهلل وجهه من جديد وقال على سبيل المجاملة كتبك نتعلم منها لأنها وضعت للأساتذة، هل أنت تمدح أو تذم يا أستاذ أق كندوز؟ وتطرقنا إلى ما كان لنا من مشروع لم يتحقق، وفهمت مما تبادله مع مساعده من كلمات أنه لم يكن يعلم بتفاصيل ما جرى، هكذا المسؤولون تتوزعهم الأشغال ويشاركهم العبء أعوان فتنهدر برامج وتضيع فوائد وسبحان من لا يعزب عن علمه شيء. وسمعته يؤكد لي بأنه سيعيد إحياء المشروع. قلت ذاك ما نأمله وننتظره منكم.. سيجري على ألسنتنا ذكر الأستاذ أق كندوز في مواقف أخرى، وسأسمعهم ينوهون به، سيقول أبو سداد عن هذا العامل في صمت إنه استنزف صحته في ما قدمه من خدمة لإنشاء تلك المؤسسة الجامعية التي يقوم على إدارتها في بعض بلاد الغرب. كان قاسم في وقت سابق وصف لي الجهود المضنية التي لا يزال يبذلها الأستاذ أق كندوز، قال إنه لا يفتأ يسعى بين الأوطان بحثا عما يساعد الجامعة على البقاء، وأن ذلك يتم على حساب أبحاثه ومشاريعه العلمية. ومضينا إلى صالة الاجتماع، مجهزة للمحاضرة، ولها امتداد فارغ جمعنا في شكل مربع، وتصدر الجلسة الأستاذ قايا، بكلمات لا أثر فيها لمجهود أدار الجلسة، فاتني أن أتبين لب هذا الأدب الذي تعكسه هيئته ونبرة صوته، وتصفحت أوجه الحضور، الأنثى الوحيدة بيننا الأخت شكران، كنت بادرت إلى تحيتها هي وزوجها، هذا الثنائي ينهض بعبء مبارك، وقيل لي إنها ترجمت الرسائل إلى الإنجليزية، أية خدمة؟ أي فتح؟ إنني واثق من المنتديات الغربية ستجد في فكر الرسائل أنسب جسر وأمتنه لمد صلات(8/79)
الحوار بين الديانات والحضارات. وفي كلمتي سأقول لهم هل تجدون شيئا في الرسائل يجعل المسلم يخجل أو يتردد في دفعها إلى الآخرين، من سائر الملل والنحل ليقرؤوها ويتعرفوا على حقيقة الفكر الإسلامي المستنير والمستمد من صميم روح القرآن العظيم؟ كان مترجم الاجتماع هو الشاب أبو سداد، ستتصاعد مهارته في اصطناع العربية مع تتابع ساعات العمل، هو مع الأستاذ قاسم وكنعان وأورخان وأديب و..يمثلون خلية الترجمة ونقل الكتب الكائن مقرها في الأكاديمية، ولاحظت خالص المودة التي تربط أبا سداد بقاسم، لا يفتأ قاسم ينوه لي به، ولا ينظر أبو سداد إلى قاسم إلا بعين الإجلال والمحبة، ولا يشير إليه إلا بكلمة أستاذي. لا عجب، فجو النور هو جو الجماعة والتوقير. أعطيت الكلمة للحضور فعرف كل بنفسه، ثم قرئ جدول الأعمال فاتضح أن الاجتماع يستمر النهار كله، ورحت أتفحص المكان، القاعة فارهة ومؤثثة والوسائل متكاملة، نصب مواجها للحضور لوح عاجي، والتحقت بعض الأخوات، وكان المحور العام للقاء يتلخص في سؤال مفرد لكنه شمولي ومنهك:
ماذا ينتظر العالم من رسائل النور في المرحلة الراهنة والمراحل القادمة؟(8/80)
ظل المضيف يوزع أقداح الماء. الماء لذة الشاربين. أجمل هبة تقدم للإنسان. مفتاح ينفذ إلى قفل كل قلب. وقايا بهدوء لا يعهد في المسيرين يواصل الاستماع ومتابعة التدخلات والتحول بالكلمة بين المشاركين في نظام مستتب، لم يوقد أحد سيجارة، ولا مضغ علكا، ولا راقب ساعته إلا ليوعز للناس بضرورة احترام مبدإ الاقتصاد في استخدام الوقت. هذا منتدى لا مجال فيه لبلاغة ولا لفذلكة تخرج عن نطاق ما هو مطروح، هذا مجمع تنعقد له النية على نحو ما تنعقد للصلاة. كم حضرت من اجتماعات يفتعل روادها الجدية ليخدعوا أنفسهم قبل غيرهم بأنهم شيء. أشبه بالأطفال حين يستلبهم جو اللهو بظلالهم. إن كانت نخب هذا البلد جميعا على هذا المنوال من الجد والتسديد، فلنتوقع قريبا حدوث المعجزات في بلاد العثمانية. كم هناك أطنان ذهبية من الوقت تهدرها نخب أوطاننا من غير طائل، على أن علة هذا التمادي في الإهدار مبرر في أساسه، إذ يظل الإنسان غير مقدر لأهمية الوقت ما دام لا يجني من هذا الوقت شيئا يخصه بعد أن غفل حقوق الله في ضميره وألقى الفوائد الأخروية من حساباته. ووازع أهل النور مبني في الأساس على مبدإ تثمير الوقت، فالحياة لا تسعفنا أن نحقق من المشاريع إلا القليل القليل، لذا وجب المضي بعملية إنفاق واستغلال الاحتياط الزمني إلى الغاية. ضحكة قايا طفلية، مقتصدة، وتدخلاته نادرة، ولا تكون إلا ليوجه المتدخل إلى الموضوع. قََلَّ أن تُبطئ الكلمةُ عند أحد، فالأفكار يكمل بعضها بعض، التجرد يظهر مستتبا في ضمير كل واحد هنا، فما فائدة أن تتظاهر بغير حقيقتك؟ هذا قطار يجري، ولا يمكن لأحد أن ينحرف به عن سكته، لقد كانت التضحيات جسيمة، فمن ذا الذي لا يبهجه أن يرى أحلام الصالحين تتحقق على هذا النحو المبارك. قلت إنها تجربة لا يشارككم فيها قطر أو مجتمع من أقطار ومجتمعات أمتنا، وأن نتائجها لن تبرح أن تغدو مثالا يحتذى، لذا الحيطة الحيطة أن تتوانوا في المضي بها(8/81)
عبر طريقها السوي، طريق تعظيم القرآن ونشدان المحبة والتفاهم بين العباد، عباد الله. ورحت أقوم بيني وبين نفسي تلك النقاط التي رصدت باللغتين على التركية والعربية على اللوح. المصطلحات. جائزة النورسي. المؤتمر القادم . المجلة إلخ.. إن ما يطرح في هذا الاجتماع الطاهر تتجند له في جهات أخرى وأوطان أخرى قطاعات ووزارات، وتتشكل له لجنة وطنية عليا تتولد عنها لجان فرعية، وترصد له من المالية العامة ما لا يتصور، وتستغرق التحضيرات له الأشهر وربما الأعوام، وحين يحين وقت الجني ترى الناتج هزيلا، وتغدو غاية أصحاب الشأن تتركز على الأمل في تحقيق الحظ الأدنى من التصور، حفظا لماء الوجه، مع ما يصاحب ذلك من آفات الكذب والادعاء وتضخيم المكاسب، إلى ما يتوازى ذلك مع حالات الغش والدلس وصرف المبالغ في طريق المحسوبية. الرقيب هنا، في هذا المجمع، رقيب ذاتي، هل هناك من يحملنا على تأدية الصلاة أو الزكاة أو التنفل إذا ما خلونا إلى أنفسنا؟ فكذلك هو شأن هذا الرهط الصالح في إدارته لشؤون الخدمة النورية. هل كنت مرائيا عندما قلت لهم (في كلمتي للطالبات) إنه لحقيق بهم أن يعظموا هذا الصالح العملاق؟ ترى لو أوتيت مجتمعاتنا مثل هذه العقلية الجبارة التي حولت تأملاتها إلى برامج تصنع الحياة وتعطيها إطارا من التوازن تطيب به ويسودها الوئام والتكافل والثقة في الذات وفي الجماعة، كيف كان يغدو واقعنا الاجتماعي والثقافي والروحي؟ أم تراها عقلية الأمة التركية هي التي قدَّرت ما بفكر النورسي من عَجَبٍ وكمالات فعملت على تثميرها لتحقق سعادة الدارين؟ وفي بلادي قام صالحون جبارون وشادوا المدارس ونافحوا عن القرآن والعربية، وجاهدوا في الله حق جهاد، لكن أمتي لم تهتد بعد إلى الطريق الذي يجعل منها تمضي على درب أولئك الصالحين المصلحين، فتشيد مثل ما يشيد النوريون وتصنع صنيعهم.. إننا نغبطكم يا إخوتنا غبطة تَقَرُّ بها العين ويثلج بها الصدر، وإننا(8/82)
لندعو لكم من الأعماق بالسداد والرشاد.
صنغور
وفي لحظة ما جلجل صوت صنغور، وتوسط المجمع شخصه، دخل شامخ الرأس، يمد نظره بعيدا كأنه يعتلي هضبة يلقي منها ببصره على الأنحاء، هذا ليس الشيخ صنغور الذي توقعت أن أراه مثنيا مثل الورقة من التعب والوعكة، هذا نسر نوري يحلق في الأعالي بكامل الانطلاق والعافية، وبدا لي وجهه أكثر انشراحا، ومن عينيه اشعَّ بريق الأنس الأصيل . حيادية تميز هؤلاء الناس تجعلك لا تستشعر بأدنى غربة وأنت في حضرتهم، لي عم يقارب القرن، يقول عن هؤلاء المنقطعين للخدمة هؤلاء هم دراهم الله ، هؤلاء هم دنانير الذهب التي تتصرف في كل عصر ومصر. دخل الشيخ صنغور القاعة يسبقه صوته، ولم أميز إلا اسمي ينطق به في وصلة من الحديث الترحيبي. وقمت أستقبله بفرحة باطنية مزدوجة ، أن ألقاه وأن أجده معافى ، وأعانقه وقد عمني الارتياح وأن أرى الشيخ في كامل الأبهة، وخفوا يستقبلونه ويسلمون عليه، ورأيت فرنجي يثب كالفتى ابن العشرين ويمسك بيد صنغور يقبلها، فيخطفها منه صنغور تورعا، من فاته أن يرى هذا المشهد النوري، فقد فاته أن يرى المودة الأصيلة والتوقير المتبادل والتواشح الروحي على أخلص ما يكون صميمية. وجلس في مكان من المجلس وواجهنا وراح يستمع ويتابع شأنه شأننا. سيقول كلمة جعلتني أتأكد مما ظل قاسم يؤكده لي في أكثر من مناسبة وهو أن صنغور يتكلم بسداد لا شك هو بعض آثار توفيق الله.. قلت في نفسي كيف لا؟ وأَقَلُّ ما يقال إن ذاك فعلا هو بعض ما تكسبه للمرء صلاة التهجد والعبادة والفناء في الخدمة. وبعد أن مَرَّ شوطٌ من التدخلات طلب الكلمة، وأعطيت له، وهنا لفت نظري إلى أن الرجل كان يتابع أقوالنا وكان يتفحصها، وها هو يقوِّمها ويبدي رأيه فيها بلا مراء. رفع صنغور إصبعه كما يفعل الطفل في أولى سني دراسته وراح يتحدث، لم أفهم من كلامه إلا قوله الآيات الكبرى، وما شابه ذلك من الألفاظ العربية، كان يشير بيده اليسرى وقد(8/83)
استند بجسده ناحية اليمين، وتابعه أبو سداد بالترجمة، قال : عن الرسائل هي من فيض الروح وإذا ما بالغنا في استخدام الوسائل الحديثة في نشرها فحتما سنؤذي الروح، وقد جربت بعض الطرق الصوفية عرض تعاليمها بالوسائل التقنية فكانت النتيجة أن تضررت روح تلك التعاليم. كان صنغور يلتفت إلى الرئيس كأنما يخاطبه بملاحظاته هو شخصيا، واستمر يؤكد أن النورسي وهو يصوغ رسائل النور ظل يستلهم الحقائق العلمية في رؤاه الروحية بحيث تكتفي اليوم الرسائل عن أن تتزيُّنِ بحلية العلمية. وتفكرت في ما يقول الشيخ: ما أشد ما نهدر من مال ونحن نسعى إلى انتقاء الجديد من التقنية والتجهيز، كادت المواسم والأعوام أن تمضي علينا ونحن نلهث وراء رغبة التحديث التي باتت عندنا الآن لا تتعدى تعلم إدارة الأجهزة التي تغمرنا بها مصانع الغرب. كل كاتبة وكل بواب وكل خفير بات له حاسوب، وتفتحه فلا تكاد تجد فيه إلا ما تتأهل الذاكرة الشخصية لحفظه، فيما يكون الحاسوب عند من صنعوه من أهل الغرب مددا إضافيا يسعف الذهن ويتيح له مساحات أخرى للإبداع والحوصلة والتفكير. وسمعته يقول إن المهدي هو في الحقيقة رسائل النور، ثم يضيف: إنهم يسألوني عن تاريخ وفاة بديع الزمان، فأجيبهم هو حي لم يمت، هو شاب لا يزال، والأوطان التي تنبأ لها بالإسلام لم يشملها بعد الإسلام.
ورحت مرة أخرى أتفحص ملامح الشيخ، وجدته أخذ الوزن قليلا، لكن مزاجه هو هو، يضحك بعينيه فقط، هو من الصنف العتيد الذي لا يتردى بسهولة، وسأراهم بعد صلاة المغرب يقيسون له ضغطه، فقلت في نفسي الموت يخاف صنغور. جيل نوري يأبى إلا أن يلقى الله واقفا بعد طول منافحة عن المبادئ القدسية. ثم جاورني وراح يتحدث إلي عن وعكته، ثم جاءوا وذهبوا به إلى الصف الثاني وواجهوا له مقعدين ليمد فوقهما ساقيه ويتابع المحاضرتين.(8/84)
بدا صنغور على هيئته التي أعرفه بها، يتحدث متكئا على يمينه، ينظر إلى مخاطبيه من جانب عينيه، على رأسه طاقية سوداء، شواربه بيضاء بلون مفرقيه القطنيين..
ما زالوا يطوفون علينا بأكواب الماء.. وسمعت صنغور يعاتب- مرة أخرى- قاسما على بعض ما أغفله من إشارات غيبية في ترجمة الرسائل. لكل من الرجلين اجتهاده، ولكل منهما مضاعف الأجر، ولا تثريب، لا تثريب. وأرى في هذه الأثناء وحدت يجلس إلى جوار فرنجي وقد لبس قميصه الذي كان البارحة يقيسه، جلس وقد ازداد وجهه تركيزا فبدا حاجباه أكثر انتفاشا كجناحي الطير، وكان لا يفتأ يحك أنفه وشاربيه، ويتجه بنظره إلى الأرض.
وتدخل فرنجي أكثر من مرة، واسترسل في الحديث، وكانت عيني شكران من هناك تلفه بعطف رقيق، ثم ترتد عنه ببصرها، ولا تلبث أن تركز نظرها في الأوراق أمامها.
استراحة(8/85)
جلسنا للاستراحة، جمعتني المائدة مع أديب وأبي سداد وفريد ووجهين آخرين. الطعام فرصة تنطلق النفس أثناءها للفسحة، والنكتة والعبرة والقصص الطريفة هي الفاكهة اللذيذة التي تطلبها النفس بعد أصبوحة من التركيز والمتابعة. النظام راسخ في المطعم ، وحس الضوضاء مقبول، ولا حيرة ولا ترقب للدور، العمال هادئون، بل غير محسوسين، بل لم يكونوا موجودين على الإطلاق لو لم نر الخدمة استوفت حاجتنا. وحان الظهر فصلينا وتوزعتنا الأجنحة، وطاب الاسترخاء.. واستمعنا إلى بعض الطرائف، قال قاسم كنت شغوفا في شبابي بقراءة كتاب (كاريكاتير) آق قرا (الأبيض والأسود) قال وكان بطلاه الأبيض والأسود يتنافسان وتربطهما علاقة مزايدة لا هوادة فيها، وإني أذكر من جملة ما أذكر أن التنافس في بعض الأطوار قد حصل بين البطلين على حب فتاة، قال، وانتهت المنافسة بينهما بأن بادر الأبيض إلى الجلوس بالقرب منها، فجازف الأسود وعانقها، فراح الأبيض يلثمها، وهنا كان على الأسود أن يثبت جدارته بها، فلقمها فمه وأطبق عليها بشفتيه وأسنانه بحيث لم يعد يبدو منها إلا ساقان راحا يضربان الهواء في استغاثة. ضحكنا وقلنا (من الحب ما قتل) . وسار بي قاسم إلى مكتبه، وأدار رقم هاتفي، ولبثنا ننتظر الرد لكن الهاتف مضى يرن دون جدوى.. وراقبت ساعة الحائط بالجناح. كانت الثالثة، قدرت أنها في بلدي الواحدة، يكون نبراس في هذه الساعة بعد نائما، لكن أين هم الآخرون؟ ثم تذكرت اشتغاله صحبة صديقه إقبال بالانترنيت وأرجعت سبب عدم تلقي الرد إلى ذلك. بعد حين أعاد معي المحاولة الأستاذ حسن، ذلك النوري الواقف، الذي لا يرى إلا منهمكا في أحوال يدور بها ذهنه، حتى إذا التقت عيناه بعينيك انفلتت الضحكة منه كأنما كان يمسك بها ليخصك بها أنت تحديدا، رأيته تلك الأمسية ينتظر إلى جوار قاسم وصولي وراء حاجز الدخول بمخرج المطار، فتسالمنا في صمت وسار بنا إلى بيت قاسم دون أن يمكننا من معرفته، إذ(8/86)
اكتفى بأن لوح لنا بضحكته التي لا تتغير وولى متعجلا . وأدار حسن الهاتف وأنا أملي عليه الأرقام، ثم ناولني السماعة، وجاء صوت جـ..واطمأننت على أحوالهم، ولفتتني يد الأستاذ حسن تعد الثواني، لِمَ كان يفعل ذلك؟ حين سلمته السماعة استزادني قائلا أنت في ثلاث ثواني، قلت حسبي. وفاتني أن أسأله عن سر عَدِّهِ لزمن المكالمة. تابعنا الأعمال عشية، تغيرت الرئاسة وترك قايا الزمام لفارس نوري آخر، وبنفس الحكمة وبنفس التدبير الحسن سارت الجلسة، المتدخلين استمرت كلماتهم تتظافر على تجويد الصورة التي ينبغي أن يمضي عليها العمل التنويري الذي تنهض به رسائل النور داخل تركيا وخارجها. قلت في نفسي لا يسع أحدا ولا جهة محلية أو دولية بعد أن أضحت صورة الإسلام ترادف العنف والفوضى إلا أن ترحب بالرسائل لأن هذه الرسائل تدعو قلبا وقالبا إلى التسامح والنظام وإلى الانقطاع للخدمة الروحية بعيدا كليا عن السياسة والتسييس. كانت أقداح الشاي تتجدد، ثم تخطينا المراحل وصلينا المغرب كان واضحا أن هناك توافدا لجموع من الحضور، وكان المطعم حافلا بالحس والحركة، هناك طوائف أقبلت على المركز، ولفتني منظر نساء، بعضهن كانت تمسك في يدها رضيعا، ما ذا جاء بهن في ساعة الغروب هذه؟ وسألت قاسما عن بقية فقرات البرنامج، قال ليس لدينا شيء إلا محاضرة الأستاذين. لم أكن هيأت شيئا، وما كنت بحاجة للتهيئ، إنما المسألة هي أن نعرف من نخاطب؟ ما استعدادهم وما مستواهم؟ لو أن الأمر لي لكان المحاضر هو أحد النوريين ممن لا يزال لديهم ما يحدثون به عن تجربة المقاومة والصمود التي خاضها النورسي. في ختام كلمتي رحت أدعو بالأجر والثواب لطلائع النور وسميت من كنت أعرف منهم: صنغور فرنجي برنجي.. وفاجأني فرنجي حين غادرنا المنصة منصرفين، إذ وقف أمامي وقدم لي شخصا في الستين، على امتلاء، قمحي اللون، أشيب الرأس، وقال لي: هو ذا نوري قديم، طيار، طيار، وخانته الكلمات بالعربية(8/87)
فراح يستكمل لي قصة دلك الشهم بما فهمت منه أنه كان يحمل رزم الرسائل في طائرته ويلقي بها في أماكن معلومة، وقلت في نفسي كم تكون مثل هذه الأخبار شيقة ورائعة لو أنها صورت في فيلم عن حياة النورسي. كان الطيار النوري من الصنف الذي يتكلم بمشاعره فقط، شأن أولئك الرجال الذين تهيئهم الأقدار لأن يعطوا صامتين، وأن يتحملوا من الأعباء ما لا يمكن للنفس حياله إلا أن تبدي عجبها. تبادلنا النظرات، لا شك أنه لمس في عيني بريق المودة والإكبار، وودعتهما وسرت أشق الصفوف نحو الباب أخرج مع الخارجين.
بدأ صنغور يقرأ من النسخة.(8/88)
يتدخل الأخ القادم من أمريكا ويتحدث عن مسألة التبادل بين الجامعات ويبين مدى الأهمية التي يوليها الأمريكيون لهذا النوع من التواصل بين الثقافات والأفكار. ويتطرق إلى المكاتبات التي تصله وهو في مقر عمله بأمريكا يستطلعونه على ثقافة البلاد،، طالب بتشجيع مثل هذه السلوك في تركيا. وذكر أخا كوريا عاش مدة في تركيا وعاد إلى بلاده وهو يقوم بنشاطه هناك.. كانت محاورات فرنجي مع صنغور تنتهي بالضحكات الجميلة. فرنجي يعقب ويؤكد أن الرسائل لا تؤمن بالعنف، وأن الجهاد فيها لا يعني العنف بحال من الأحوال. وذكر أن شيخ الأزهر الطنطاوي شرح له حين التقاه في ألمانيا معنى الجهاد بمفهوم ينسجم مع تعريف الرسائل للجهاد. ليت شعري هل أقول لإخواني إن أبرز من خص الجهاد بتعريف سلامي من علماء العصر الحديث هو الأمير عبد القادر، فقد هداه الواقع الجهادي المرير الذي خاضه إلى أن يذَكِّر في كتابه (المواقف) بما قصده الإسلام في الجهاد من دلالة سلمية. وأن الإسلام لا يبيح الرد العنيف إلا إذا استنفدت تماما وسائل المدافعة عن النفس والدين والعرض؟ وأنه ما كان محتما على الأمة أن تخوض التجارب المؤسفة لتتعلم مقاصد دينها السمحاء؟ وأثار أخ آخر مقاصد الآية في قوله تعالى (واجعلوا بيوتكم قبلة)، وربط ذلك بمسألة توحيد القبلة وما تفيده من دعوة إلى توحيد فهمنا للقرآن.
تحول قايا إلى رئاسة الجلسة لأن الحديث تناول موضوعا يخصه وهو تحديد إشكالية الملتقى القابل.راح يوزع الكلمة بتمرسه المعهود، وتدخل الحاضرون جميعا، في تلك الأثناء بدأ التدفق على القاعة، امتلأت الآن. من أين جاءوا ؟ لماذا جاءوا؟ ثم أعلن عن الاستراحة حيث سنطعم ونصلي المغرب ونعود إلى المحاضرتين.(8/89)
ستمضي علينا ساعتان أو نحوهما في القاعة، وسيتابع الحاضرون المداخلتين بنظام لا نظير له. كانت هناك مساحة من نساء النور في مؤخرة القاعة، وسيتولى أبو سداد الترجمة، وسيفهم كل على حسب استعداده، كانت العيون تتابع المحاضرتين، بعض الرؤوس يهتز، لا شك أن أصحابها كانوا يتفاعلون مع ما يسمعون، ولفت نظري شاهين، بدا على حال من السهوم الروحي أعطى ملامحه رقة عجيبة. مثل تلك السحنة الوقور، المركزة بلا اصطناع، لا تعدم مثيلات لها كثيرات في هذا المحفل الجاد.(8/90)
وسنغادر القاعة على شيء من الارتياح، فتجمعات القرآن والمذاكرة الروحية تمنحك هذا الشعور دائما، بل لقد تهيأ لي أنني أجد شيئا من ذلك الإحساس الذي يجده أنصار فريق وهم يغادرون الملعب على إثر الفوز بنتيجة مستحقة. بل تخيلت نفسي فعلا ونحن ننهض ونترك مقاعدنا أننا في ملعب، وها هو المدرب واللاعب وحارس المرمى والمتفرج والـ..جميعا يلتقون ويتبادلون الكلمات والنظرات التي تعبر وحدها عن النتيجة. التقينا بالأستاذ جميل حين كنا نخرج، جمع بيننا الدُّرْجُ الخارجي على غير ميعاد، تبادلنا التحية وقلت له أين الفواتير يا أخ ؟احتفظ ببسمته وهز رأسه وقال:دعاء..دعاء.. عندئذ رحت أقول له كلاما ما أحسب أنه فهمه. وحين حدثت قاسما ونحن في البيت عن ذلك اللقاء لم تهتز من ملامحه بقعة واحدة ، و راح هو يشير إلى الغرفة الأخرى المقابلة للتي كنا نجلس فيها، من حيث تنبعث موسيقى، وقال: هذه موسيقى أحبها.. مددت سمعي ورحت أتحسس التنغيم، الضربة ضربة أندلسية منتشية، وتساءلت أهي موسيقى جزائرية أم مغربية؟ واستمر اللحن، فتبينت أنها موسيقى تركية. واندهشت أكثر لذلك التشاكل الذي جسدتْه تلك الوصلة بين موسيقانا وموسيقى هذا اللحن التركي.. علينا أن نعيد تقويم موسيقانا، فتأثير النغم التركي فيها –على هذه الحال- كبير.. سيعطيني قاسم الكاسيت، وسأديره أياما في بيتي عند رجوعي إلى الوطن، وسأتبين خطوطا واضحة من التماثلات التي كان ذلك النغم التركي يؤكدها لي.. وانتهيت إلى القول إذا كانت هذه الوصلة تبدي روحا أندلسية جلية، فهذا يعني أن الموسيقى التركية هي التي اقتبست الإيقاع من الموسيقى الأندلسية المغربية.. ومما لا شك فيه أن المجال ملائم للمختصين في علم الموسيقى، وسيكون المردود مهما، لأنه سيمكننا من معرفة علامات التواصل والتفاعل كما حدثت بين ثقافاتنا الجهوية في ظل وحدتنا الملية بالأمس.(8/91)
وركبنا مسافة متكدسين في الخلف في سيارة نجدت المهندس الكهربائي، وشققنا الطريق إلى البيت، وأنزلنا الشاب نوزاد أمام بيته، أسرته في عطلة، وشوقه يزداد إلى سداد، بكره أبي الأشهر فقط، ويتسلى معه قاسم ويقص عليه قصة العسكري مع الضابط، كان العسكري كل حين يأتيه يطلب الرخصة بدعوى شوقه لأولاده، وتكرر الطلب وضاق الضابط بالعسكري وأراد أن يتخلص منه، فاستقدم بنيه واتخذ لهم مكانا بالثكنة، ولما جاء الأب يترخَّص، قاده الضابط إليهم في الجناح، فقضى معهم وقتا، ثم عاد إلى عمله، وبعد مدة جاء يترخص، فقال له الضابط، لك هذا، أتبعني آخذك إلى أولادك، فصاح به العسكري، إنما أردتهم أن يكونوا في حضن أمهم ..كنا نضحك ونقول إن أبا سداد يتشوق أن يرى سدادا إنما في حضن أمه.. أذكر أن قاسما ساعة وصلت اليوم ، أدار الهاتف وخاطب جـ..ثم أبعد الهاتف عنه ورمقني بنظرة وهمس: ما رأيك؟ هل أقول لهم إنه بخير وأنه يقرئكم السلام وأنه في كامل السعادة مع أهله الجدد؟ (أو كما قال). لحظتها أجبته باسما: الحق أقول.. إنهم رغم اطمئنانهم علي من هذا الجانب إلا أن المدة التي سأقضيها هنا لن تخلو بالنسبة إليهم من هواجس يا أخ قاسم..ضحك وقال بعراقيته : أدري..أدري، وإلا لفعلتها.
هوامش خام من يومية مسافر(8/92)
جمعتنا القاعة بالأستاذ صنغور، هل هذه هي المدرسة التي يشرف عليها؟ كان بها قليل من الطلاب، والوقت العاشرة صباحا، ولفتني وجه بدا لي كأنني ميزته، وساقنا الحديث إلى نقاط كثيرة تخص النظام الذي تسير عليه المدارس، ثم تذكرت أني نسيت مفكرتي، فجرى ياسين (هذا هو صاحب الوجه الذي ميزته) وجاءني بمفكرة، قال بلكنته التركية ليعرفني باسمه (يس. والقرآن الحكيم).. ومن الباب طلع علينا شاب سأعرف أنه يسمى أحمد، كان طيلة جلستنا دائب النشاط يتنقل خارج القاعة ويعود إليها، لا تفارقه بشاشته، وسألته أين رأيناك؟ قال قاسم أمس في المحاضرة، قال الفتى ضاحكا كيف وجدتم نقائصنا؟ يا للأدب والنضج.. ثم جاءنا بأقداح الماء على صينية يحملها في يده، فقال قاسم هؤلاء الشباب لا يعرفون الليل. في تلك الأثناء كان وحدت يؤدي ركعات، ثم جلس وراح يتغنى على مألوف طبعه. هل كان هذا النوري يعرف أن أهازيجه وقراءاته ولكنته العربية كانت تروقني وتستدر الطرب من نفسي؟ بعد ذلك تحول إلى التاريخ وراح يحدثنا بطريقته على صفحة من الفتح الإسلامي، قال أول ما وصل الفاتحون إلى هذه البلاد كانت نقطة نزولهم هي اسكدار ومنها انطلقوا.. ورأيت ياسين يجلس وراح يتابع حديث وحدت بالعربية المتحاملة ويبتسم. وأخبرني قاسم أن أبا ياسين من أهل اليسار وهو يعطي بسخاء الأتقياء والعاملين، وأنه أعطى حتى بعض أولاده للخدمة. وسألته دهشا كيف يعطي الرجل ابنه للخدمة؟ قال يقول ها هو ربوه أنتم. ثم أخبرني ياسين أنه حين جاء إلى المغرب رآني في مدينة تيطوان، وأنه اكترى هناك سيارة وجال بها تيطوان وضواحيها على سبيل التعرف على معالمها الجميلة. ثم جاءني ببعض الصور عن تلك الزيارة وتذكرت ما كان لنا من نشاط علمي أثناءها. ثم فرجنا على ألبومه ، كانت له صور في الساحة الحمراء بموسكو ومناظر أخرى بها أيضا. وتأوه فريد وقال إن أمنيته أن يشرح (كذا) من تراثنا الصوفي أو أن يكتب السيرة بكيفية روحية(8/93)
تجلي ما بها من أنوار، قال قاسم إنه قرأ السيرة بقلم مولانا نعمان الشبلي شيخ الندوي في الخمسينات فكانت تفيض روحانية. واستطرد يقول: كل الكون لا يساوي شيئا إذا لم تكن فيه محبة رسول الله (. وسألت ياسين عن بلدته قال إنه من كذا على البحر الأسود، وأخبر أن هناك جبالا زرع كلها بمادة الشاي، فلذا لا تراها إلا كتلة شاهقة ملفوفة في الخضرة، وعيَّنَ لي مدينته ثانية هو من ريزا قرب طرابزون. ودخل الطالب أورخان، هو أيضا باسم السن، وفي ملامحه ألفة، سنعرف أنه درس في المغرب بغرض تعلم العربية. تحس لديهم جميعا الرغبة الكامنة في تعلم العربية، وأقطار العروبة مشغولة بالعولمة، ثم إن العربية في نظر طوائف من حكامنا باب إلى الإسلام، ومنذ الذي يتوجه في مثل ظروف العالم الراهنة وجهة تزيد من قاعدة أهل الإسلام ولو حتى من النوريين، زبدة من يؤمن من أبناء الأمة بالسماحة ونبذ العنف والفوضى؟ وجاء صنغور بدفاتر ومخطوطات لرسائل النور بخط حافظ علي الطالب النوري الذي لقي ربه مسموما في سجن دنزلي، ظل يلازم الأستاذ ويتعهده ويدعو ربه أن يصرف الشر عنه ليصيبه هو بدله، وشاء الله أن يكون الأمر كذلك، إذ مات حافظ مسموما بعد أن تناول شيئا كان موجها إلى الأستاذ. وتأملنا هذا النقش الرفيع للحروف،لا تصدق أنها بخط اليد، هي فعلا لوحة من الزينة. لا بدع أن يكون الخط على ذلك المستوى، فالخط في الحضارات القديمة كان علما وتقنية، وقد خصته الحضارة الإسلامية بمكانة لائقة، واعتبرت الخطاط في مستوى الحافظ والفقيه والمفسر لما ظل يؤديه الخط من إمكانات حفظ النصوص المقدسة وصونها عن التحريف. ورحت أتلاطف مع الأستاذ صنغور وأقول له إنك منور، قال بوجودكم، ثم بعد لحظة صمت أردف: إن نور الرسائل ينعكس علينا جميعا. في تلك الأثناء ارتعشت قلوبنا ونحن نرى قطعا لثياب لم نهتد أول الأمر إلى السر الذي جعلهم يجلبونها إلى مجلسنا ذلك. فعلى غير توقع منا رأينا صنغور يكتم(8/94)
بسمته ويستخرج من كمه صرة بها ثوب، عرضه علينا. كان الثوب متكسرا وفي حالة تَثَنٍّ، وقال: إنها عباءة الأستاذ النورسي، وإنني لم أرها لأحد قبلكم وجئتكم بها دلالة على الحفاوة. وسارع فريد وراح يرتديها، ثم طلب أن تؤخذ له بها صورة، وعرض صنغور جيلية صوفية للأستاذ في مثل حال القطعة السابقة، وسارع وحدت فألبسني الجيلية والعباءة وتجاورت مع فريد وأخذوا لنا صورة، ورأيتني ألتفت إلى الشيخ صنغور أشكره على ما خصنا به من شرف إظهار هذه المكنوزات العزيزة على طلاب النور، والتي تكشف لهم عن بعض أوجه المخاض الذي عرفته تلك المرحلة الأليمة من تاريخهم، وعما تكبده النورسي رحمه الله من بلاء من أجل إبقاء كلمة الله هي العليا. ثم ارتدى وحدت العباءة بكل تأثر، وابتعد خطوات وراح يؤدي بكامل الخشوع ركعات، وهمس إلي قاسم يقول: أرأيت كيف لا تفوته السانحة؟ قلت هذا رجل يخفي عجائب. في موقف آخر سوف أجدني أتناوله بالتقويم مع قاسم –على سبيل الاستطراف والإعجاب ،، فهو نسيج وحده- وقلت لقاسم أمر وحدت غريب، إنه يتصرف بكامل السلطان. قال قاسم: هلا رأيته وهو يأمر شاهين (في السبعين من العمر) قائلا هيا انهض من هنا واجلس هنا، يفعل ذلك مع الكبير والصغير لا يتحرج. ورحنا نضحك بإعجاب قلبي ومحبة لا شائبة فيها. مرة أخرى وضع أحمد المائدة وجاء ياسين وأورخان بالكرز، وجلسنا نتحلى ونتحدث. وقلت لقاسم أي أدب هذا الذي يميز هؤلاء الطلاب؟ تراهم يمدون الموائد وينسحبون. قال أجل، إنها أعجوبة هذا العصر. وتأملت القاعة وواجهني لوح زجاجي معلق على الجدار، حسبتها فراشات مرسومة، قالوا إنها حقيقية، وهي هدية من ماليزيا، ثم حدث قاسم عن حديقة في ماليزيا مغطاة بشباك تعمرها ملايين الفراشات، وأنهم حين دخلوها للزيارة أخدته بهجة لا قبل له بها إلى أن قال لمن كان يصطحبه أنا أحس كأنني نزلت رحاب تكية، أنا الآن في مقام الذكر قال ثم شعرت بالوطأة فرحت أردد شبه ذاهل(8/95)
الله الله.".ياسين ناهز الواحد والثلاثين، قلت لم لم تتزوج؟ تبسم بخجل وقال ربما.. في تلك الأثناء دخل محمد، شاب آخر وضع شيئا آخر في يد صنغور وولى منسحبا، ناديته وسألته عن بلدته، ضم يدي بحرارة وانحنى عليها، وأجابني وحدت.. إن وحدت يعرف الكبيرة والصغيرة عن هؤلاء الشباب، ثم جاء بدفتر به خطوط لا تدل على موهبة، وعلمنا أنها نموذج من خطوط الأستاذ، سألتهم هل لكم نسخة زائدة، أشار صنغور باليد موافقا ورسم حركة تفيد معنى (ضعه في جيبك واسكت). في تلك الأثناء أخرج صنغور قوارير صغيرة من عطر الورد، أعطى فريدا واحدة وقال لي بعربيته الشهْدِيَة التكرار أحسن ولو كان بوزسكسن (أو كما قال). هذه القاعة النورية مفروشة، وعلى جمالية وترتيب عاليين، مستطيلة الشكل ألواح لمكة وأسماء الله الحسنى زينت بها الجدران، بالركن خزانة كتب مذهبة، واحتل الفضاء فوق رؤوسنا شبكة من التغصنات النباتية الحقيقية، وكنت جازما بأنها بلاستيكية، تبسموا وهزوا رؤوسهم وجاءتني من عيونهم معاتبة وتأكيد مفاده أننا لا نزوق بالمصنوع والزائف. عندئذ شرع صنغور يقرأ لفريد من مخطوط الكلمات ويشرح له المعنى. المخطوط يعود إلى سنة1926. كانت الساعة الحائطية تشير إلى 12.25. الساعة عند أهلي الآن 10.25. وجاءني صوت صنغور بلغته العربية العجيبة، ويداه تسبقان كلماته وقال: أنا سعيد هنا، وأنت سعيد في بلادك ، وهذا فريد سعيد في المغرب يا لله ..لما ذا قال الشيخ هذا ؟ والسياق لم يستدع أن يقول ما قال ؟ أم أنا لم أتبين مراميه؟ كلام هؤلاء الأبرار مثل الهوروغليف، لابد أن تحسن أن تتعامل معه إذا أردت أن تفهم معانيه وليس رسومه السطحية فقط. وقلت-متفكها- ما زلت لم أكتمل حظي من السعادة، فقلبي يسكنه حب الدنيا بشكل مهول. قال –هو جادا- هذه الدنيا ستتحول بفعل الرسائل إلى صورة حرفية، إذ كل ما يتعلمه الإنسان في حياته يتحول إلى رصيد من العبادة تفيد العبد متى ما توجه بروحه(8/96)
إلى الله وإلى ملكوته.. ثم استطرد فقص شيئا من ماضيه، قال كان عصمت أينونو فتح معاهد في القرى لنشر الإلحاد، لكن الأستاذ النورسي قال لي إنك وإن كنت في بعض هذه المعاهد اللادينية إلا أن رسائل النور ستتحول بكل ما تعلمت إلى عبادة. وصمت صنغور لحظة وعاد ثانية: أول ما تخرجت تخرجت لأنشر الإلحاد، لقد كان الاختلاط وكنا نترقب حصول لواحقه من الإباحية وغيرها، وكان القرويون ينظرون إلي كإنسان بغيض ويقولون ياحسرتاه جاء هذا المدرس لإفساد أبنائنا..ثم تبين لهم فيما بعد أننا غير ذلك، ولما رأى أولئك القرويون أننا صرنا ندفع الثمن على يد الأمن ونتعرض إلى المتابعات القضائية أدركوا أن حكمهم علينا كان غير واقعي. وصمت صنغور مليا كأنه كان يقوِّمُ تجربة بكاملة دفعها السياق إلى ذهنه، ثم راح يقول: ربما كنا في أول الأمر نعتقد أننا سننقذ الأمة بطورانيتنا.. قال ذلك وصيف من بسمة يرتسم على شواربه الثلجيتين.. كنا نتابع حديث الشيخ، وربما استرجعنا أحداثا غامضة مرت بها قافلة هؤلاء الطلائع ممن رادهم النورسي وأرسى بهم دعائم الانبعاث. كان الارتياح يعمنا، هذه السكينة التي تشمل صنغور الآن، وهو متكئ على يمينه، يحادثنا بجانب من نظره، بصوت موزون كأنه عقرب الساعة في دورانه الرتيب، هي نفسها السكينة التي ظلت تفشيها في الفئات رسائل النور طيلة تلك الأزمنة التي كان الخناق يشتد فيها من حول الإسلام. إنها سكينة انتصار الحق على الباطل. لم يفعل النورسي شيئا غير أنه سارع بالعلاج الطبيعي إلى المصاب، أشبه بمن تلم به أزمة قلبية، ويكون إلى جواره طبيب في أمراض القلب، فبالدلك والإسعاف اليدوي يستنقذه ويعيد إليه البسمة، ثم يخط له بعد أن يكون الخطر ابتعد، وصفة، فيجد ذلك المصاب منذئذ عافيته، وتصبح أزماته السابقة مجرد ذكرى بعيدة، لا تثير لديه إلا الابتسام والاستغراب.(8/97)
وشقشق طائر بصوت إنسي، وقلنا ما اسم هذا الطير؟ قالوا مارتي.. ومضى الحديث يتحول بنا من غرض إلى آخر. ثم طلب إلينا أن نمر إلى درس الأربعاء يعطيه الشيخ صنغور ، وجدنا القاعة حافلة بالطلاب، صافحناهم وسارعوا بالانحناء على أيدينا، هناك رجال بلغوا مبلغا من السن، والأغلبية فتيان، وهناك أكثر من طفل، أرواح الجميع تطفح بالتوق إلى الرَّيِّ الروحي الذي يذهب عن النفس عطشها الجِبِلِّي. وجاء جودت بكتاب الشعاعات للشيخ ، وقال لنا قاسم إن من الحضور من نذر عمره كله للخدمة، وبعضهم نذر مدة يقضيها بعد التخرج في الخدمة ثم يغادر المدرسة إلى حيث يواصل حياته العادية. وأخذ فريد مرة أخرى صورة مع الطلاب وقد جلس بينهم في حلقة. بعد ذلك ناوله الأستاذ كتابا واختار له نصا من دفاع أحمد فيضي، وأخبرنا الأستاذ بأن هذا الرجل الذي يجلس على يميني هو ابن المحامي فيضي، والتفت إلى الرجل استبين ملامحه، هو في الستين، نظارته البيضاء تزيد من وقاره، واحتقان خفيف في أسفل عينينه، وهدوؤه، وصمته الباطني تدل جميعا على تنسك إرادي يحتمي به هذا العَقِبُ الصالحُ. وشرع فريد يقرأ نص المرافعة التي دافع بها المحامي عن الأستاذ النورسي، وتصورت ذلك المحامي يقف أمامي، ورحت ألبسه ملامح هذا الابن الذي يجاورني والذي كان يضع جاكيتته في حجره ويتابع صوت فريد المجلجل بكلمات صنعتها موهبة والده فيضي منذ كذا عقد..يا سبحان الله، لا شيء يزول من هذا الوجود، غاب الأب ولم تغب كلماته، بل لم تغب شخصيته، وهذا هو في صورة خلْقٍ جديد يجلس إلي وأسمع صوته، لو ركبنا العناصر لتحصلنا على الشخص حقيقة غير تَوَهُّمِ، أفكاره مستقرة في الورقات التي كان فريد يقرؤها ، والهيئة والسمة في شخص وملامح الابن، والقضية التي كسبها يومئذ بتنزيل العقوبة إلى رقم بسيط، قد كسبها اليوم جيل من المحامين الذين التزموا تعاليم القرآن العظيم وارتبطوا بمحبة محمد ( ووضعوا بينهم وبين سفاف الزيف(8/98)
الإبليسية سورا، وتبارزوا في تعمير الحياة بما يبقى ويفيد ويرتقي بالإنسان أكثر فأكثر إلى مقام الاستخلاف، فماذا نفتقد من أحمد فيضي يا ترى؟ وقال فريد قاطعا قراءته: عجبا كأن المرافعة تخص ما يجري اليوم في بلادي المغرب. في تلك الأثناء قام طالبان ووزعا نسخا كي يتسنى لبقيتهم أن يتابعوا، فقد كانت قراءة فريد بالعربية. ورأيتهم رأسا دسوا عيونهم في الصفحة، هؤلاء الفهود يريدون أن يتشربوا روح الرسائل في كرعة واحدة، وما زال بعضهم يسدد نظره ناحية فريد، لا شك أنهم كانوا يلمسون في صوته وفي بيان العربية سحرا يسوغ لهم أن يستمعوا إلى تناغيمه. وقالت لي ابنتي جـ وهي تسمع صوت الكاسيت: إنها تسمع موسيقى لصوت الابراهيمي لم تسمعها في صوت أحد قط. وحكيت أنا لصنغور ما قال الابراهيمي في بعض أحاديثه المذاعة عن الفاتحين المسلمين قال: وفيهم أولو بقية من الصحابة.. وقلت أنت يا صنغور من أولي بقية.. وراح فريد يقطع قراءته معربا عن اندهاشه من قوة دفاع هذا المحامي النوري الفذ.هل نسيت يا فريد أن القرآن والإيمان كانا الروح التي تشحن هذه النبرة المدهشة؟ ومضى فريد في القراءة، وتحول صوته الآن تماما إلى صوت مرافع حقيقي، يرتدي الزي ولا يني يموِّج عينين ملتهبتين في الهيئة والحضور، كانت يداه تسددان جهة القاضي، وكانت القلوب تنعى هذه المكابرة التي يواجه بها هذا المحامي المتهور قواعد النظام ويتطاول على معهود الوقار والآداب، وبعض القلوب كان يزداد نبضا وتراقصا، إذ كان يسمع صوت الحق يعلو دون أن تروعه المظاهر والبروتوكولات المفتعلة. توقفت الحركة في القاعة، حتى صوت فريد اختفى، جلال الأحوال تتغير به الحقائق، لسنا الآن في قاعة، ولا نحن في حضرة صنغور، ولا أنا يجاورني ابن صلب لفيضي في الستين، نحن الآن في برزخ، روح النورسي التي تحولت إلى رفيف كرفيف ذلك السرب من الفراش المعلق في زجاج، الزجاج المعلق بدوره في قلب الجدار، تسير بنا إلى أين؟(8/99)
ونحن، ما نحن؟ هواء نفذ مراحل إلى الوراء، واستقر على ربوة من الزمن، وعاين المعركة اللامتكافئة تدور، كانت الأيدي توضع بإشفاق على الجهة اليسرى من الصدر، كان الجميع يمسكون بقلوبهم مخافة أن تتصدع. كان النورسي موثق اليدين والرجلين، وكان فيضي يشهر سيفا، لكن الحرس كانوا يمسكون به ويلقونه إلى الوحل ويدوسونه بأحذيتهم الغليظة، فيما كان النورسي يرتل آيات القرآن بصبر.. واحلولكت الدنيا في عيني، إذ رأيت نعشين ينحدر بهما أشخاص في جنح الليل يريدون قبرهما قبل أن يسفر الصبح ويلْقَى القبضُ عليهم، وصرخت بعويل روَّعَهُم ففروا مني، إني هائم الآن لا مستقر لي ولا ملاذ ، لمن أعطي يدي ، هل من عاصم لي في هذا الضياع المرير؟.. فتحت عينيي من جديد، الصمت ما زال عميقا، صَلِفاً، كأنني في كوكب خارج المجرة، ما زالت الروؤس منكسة، ما زال المرافع ماضيا في دفاعه، وحركت بجهد محسوس يدي، ثم رجلي، كنت أحرص على أن أعرف نفسي وهل أنا حي أم..؟ ولفحتني أنفاسهم من جديد، كنفح العنبر، ها أنا في القاعة، وها فريد يقرأ، وها هو جو العبرة يستغرقهم، وها هم جميعا ينكسون رؤوسهم إلى الأوراق وقلوبهم تلاحق أنفاس فيضي وهو في المحكمة ينازل، كان في الجولة الأخيرة، قد تحلب شدقاه زبدا، فقد كان عطشا، ومنهكا، لكنه كان واثقا من النصر.(8/100)
قولوا يا أيها العارفون أي مقام هذا الذي يشملنا ونحن في رحاب مدرسة نورية تنطوي عليها في حب بعض حارات اسطنبول؟ تالله إن هذا لمظهر وَقَارٍ وحياء وتأدبٍ وامحاءٍ أمام قداسة القرآن لا يقِفُهُ إلا الأوَّابون. الجماعة روح في فرد والأفراد قوة تتقمص حركة أعضاء الجسد الواحد. مثل المؤمنين في توادهم وتحابهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. حق هذا يا رسول الله (، وذي شواهد حية تظهر في جمع النوريين. وهربت مما كان مقام الوجد يزرعه في نفسي من أحوال قاسية ومكلِّفة ولا تحتملها طويلا المشاعر غير المروضة، ورحت أعاين الفضاء. كانت القاعة تمتد على شكل L. مؤثثة بعناية، مفروشة بذوق، الحيطان مكسوة باللوحات المناسبة، آيات بخط رشيق، وبرزت خصلة من ريش النعام وضعت في باقة توسطت الجدار الرئيس، وهنا وهناك قامت خزائن لكتب الرسائل بلونها الشروقي، ودأبت الساعة الجدارية بكل حذر تحسب الزمن، الزمن عند هؤلاء الأوابين مرعي بصورة آلية منضبطة، لكنهم يعيشونه على الصعيد الروحي سرمديا لا محطات له ولا ضفاف. أليست هذه هي السعادة؟ وبأي شيء تقهرنا الحياة إذا لم تقهرنا بسيف الزمن؟. الساعة الآن الواحدة إلا عشرا، ما زال صوت فريد يجلجل، وأخذت صنغور هو أيضا نشوة روحية خفية، ها هو يوقع الأرضية بأصابع رجليه الصغيرتين، العامرتين. أي ذكرى حملتها إليه وقائع هذا النص الناري الذي استظهرته من أرشيف الزمن؟ ترى هل هي ارتعاشة انتشاء أم تراه يؤكد المعاني التي تصله من فم فريد، ويشدد عليها على ذلك النحو المتحامل، كأنما لا يريد أن يعطي الانطباع بأن التأثر بلغ مبلغه. أم تراه يقرأ على ذلك النحو النص بجوارحه؟ كان قاسم الذي جلس إلى جواره قد ارتحل بالفعل عنا، أخذته غفوة عذبة من العشق والانفعال فجنَّح بعيدا على طريقة العقبان حين تتغازل مع نسائم القمم الشاهقة المكسوة بالثلج. ولا أدري كيف تداعت إلى ذهني في تلك(8/101)
الأثناء صورة قاسم، إذ خيل لي أني أراه يمتطي حصانا أبيض، قد امسك ببندقية ومن حوله عازفون يضربون طبولهم ويرسلون ألحان مزاميرهم، والحصان يرفل في البهجة، يتطاول على حافة حافر واحد، وينتهي برأسه إلى عنان السماء، فيما يلقي قاسم بالبندقية إلى أعلى وحين يمسك بها يسدد ويطلق أكثر من طلقة وسط لهيب عارم من الزغاريد. أية نشوة هذه وأية ملحمة تنطوي عليها صفحات الرسائل ومخزوناتها العجيبة؟ والتفت تارة أخرى أتأكد أن هناك رجلا يجاورني أبوه صنع كل ما كان النص يحمله من عنفوان، ومرة أخرى استوقفني بياض شاربيه. هكذا الحياة تَحُولُ، تتغير، لكن الحقائق ثابتة لا تحول. هل تغيرت العقيدة التي نافح عنها أبوه المحامي؟ كلا إنها ثابتة لأنها ليست من اجتهاد البشر، هي من صميم القرآن، وكان النورسي مجرد دلال في متجر، يهتف في الناس بمجوهرات القرآن. هل استقرت إيديولوجيات صارعها النورسي وأنشئت لها الأكاديميات ترسخ علمية فرضياتها وتنشرها بين الناس بغية نسخ حقائق الدين (أفيون الشعوب)؟ أي المعطيين أثبت التاريخُ أنه كان الأفيون؟ أدين الله الراسخ الذي ما زالت المدنيات منذ 15 قرنا تزدهي به . فعلى الرغم من ازدراء التقليعات الشيطانية الطارئة وانتهاك النجاحات المادية السريعة، إلا أن الدين ظل شامخاً يفعل ولا ينفعل، يقهر ولا ينقهر. فيما ظلت تلك العوارض بمثابة خلفة الربيع، تزدهر وتهيج وتستغلظ لكنها لا تلبث أن تصفر وتغدو غثاء تذروه الرياح. كانت الماركسية تريد أن ترغم أنف النورسي بحججها التي شملت حتى قضية العرض، ألم تتحرش بفطرة المرأة التركية وتزين لها العري بدعوى أن العري خطوة حاسمة في طريق التقدم، فأين هو مصير الماركسية اليوم؟ وما بال فقهها المتعالم خرس وألقى به الأفاكون أنفسهم إلى سلة المهملات؟ لكن تعاليم القرآن تجددت، ونفضت عنها جهود الصادقين ما علق بها من غبار الزيغ، وها هي تزدهي وتطلب المنازلة الكريمة مع أي فكر وأي(8/102)
إيديولوجية. بل أليس حال تلك البلاد التي عرفت ميلاد الماركسية وصعود نجم أمجادها يشهد بتوبة الناس هناك وأوبتهم الكريمة إلى الدين؟ أيجمل بالعاقل بعد هذا أن يطلب حجة أخرى؟ (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). أنهى فريد قراءته وراح الشيخ يعقب، وعلمنا منه أن المرافعة اختزلت الأحكام الثقيلة إلى ثمانية عشر شهرا سجنا لا غير. ولحق بالقاعة أفراد آخرون كانوا على سن، بشار سعيد، فوزي غول مهندس مدني. سألت الشيخ في نبرة ود مستطرفة: اخبرنا يا شيخ صنغور هل كنتم وأنتم طلاب عند الأستاذ أكثر فلاحا أم أن هؤلاء الطلاب الذين يجلسون إليك هم الأفلح؟ قال على الفور: هم جميعا مثل وحدت نذروا نفوسهم للخدمة، وأضاف: هؤلاء يتكونون من مجموعات أتت من مناطق أخرى، لأن الطلاب الملازمين للمدارس الآن في المخيمات..مرة أخرى قام وحدت يلتقط لنا صورا جماعية، ثم ناول المصورة إلى غيره وجاء ليأخذ مكانه إلى جانبي حتى تؤخذ لنا الصورة معا، قلت لأضحكهم: غطيت علي يا وحدت فلن أظهر.. وهنا راح واحد ممن التحقوا بالقاعة يقدم نفسه: أنا اسمي نجيب.. وبادر وحدت يقدمه لنا بطريقته: هذا سنان المهندس.. وعلمنا بأن الرجل خطط في مدينة أدنة لمسجد مهم، ثم حدثنا المهندس عن بعض منجزاته في ليبيا وغيرها. ولاح لطرفي مرة أخرى وجه ذلك الرجل الذي في سن التقاعد ، والذي يقابلني من الجهة الأخرى، خلف الصفوف، وسألت عنه، قال وحدت هو محمد دميرال من أهل الله. قال فريد الجميع أهل الله هنا. ورمقت الرجل بعين متفحصة، وتساءلت في نفسي لم يرابط هذا الرجل بين جدران؟ أليس يطيب للنفس في سنه أن تأنس بمتع الحياة؟ ألا يجعلنا خريف العمر أشوق إلى تعاطي الملذات لإحساسنا بأننا سنتركها نهائيا؟ كانت نظرته غائبة ، هو لا شك بلغ في مسلكه الروحي مقام المعاناة، إنني واثق بأن إشراق ملامحه لن يزيد على تلك الفسحة من الاستجابة، لأن الروح تريَّضَتْ على السكينة وباتت(8/103)
مثل القالب لا يمكن أن نحوله عن شكله فَتِيلاً. سأشد على يده ونحن نغادر الغرفة، وسيعرض علي صفحة وجهه بذات الصمت وذات الإقبال وذات الانشغال القلبي، وسيترك ذلك في نفسي أثرا لا يمحى، بعد ساعة من ذلك الحين سأدخل الماركت للغرض المعلوم ، وسيقابلنا فيه أكثر من وجه، وسينهض أحدهم من مكتبه القائم بأحد أركان الجناح الخاص، وسأسأله أين رأيتك؟ وسيبادر قاسم فيقول: هذا ابن الرجل الذي لفتك في المدرسة، ومرة أخرى وجدت نفسي أشد على يد الابن بالحرارة التي شددت بها على يد الأب. أمثال ذلك الوجه الذي يرابط في بيوت القرآن أحمل له في نفسي قدسية ترسخت لديي منذ الطفولة، أذكر أنه كان يجلس معنا ونحن أطفال رجال لهم أهل وأبناء، لكنهم لازموا إلى الكتاب يحفظون آيات الله. كنا نجلهم ونعجب من انهماكهم في الحفظ ومن التفاني في التأدب مع شيخ الجامع.لا يزال المدرس الذي سلكت القرآن على يده يعيش، لكنه منذ أزيد من عشرية يعاني معضلات جسدية ونفسية، ولا زلت أزداد يقينا من الباري جل وعلا يبتلي من عباده أولي حظوة فينزلهم منزلة يرفع بها عنهم القلم. عاش شيخي يتعهد القرآن ويلازم بيوت الله ويقرأ راتب الحزب، وجرى على ذلك المنوال حتى بعد أن ابتلاه الله. إذ تستغرقه أغلب الوقت قراءة القرآن.. ورحت أسأل عن عدد طلاب المدرسة، وناديت طفلا كان مغمورا في المجلس، وعلمت أنه ملازم للمدرسة بمعية أبيه، ولاح من هناك وجه الأب يداري بسمة رضى وطمأنية، وقلت في صمتي أي رب أية مكانة تخص بها من فر إليك وحمل صغيره في زمن استعرت نيران عشق الحياة في الصدور؟ أي رب نحن نستعجل الإمام إذا ما أطال بنا ركعة الصلاة، لِمَا نشعره من هدر للوقت وتفويت لفرص الدنيا، فما بال يا رب من ينفض يديه كلية ويقبل على بابك يرابط وبين يديه طفله؟ الاعتقاد فيك وفي عليائك ينبئني أنك تجعل منه مفتاحا يحل كل قفل، فأنا أتوسل إليك يا رب بفضل هؤلاء المرابطين أن تغسل قلبي من حب الدنيا،(8/104)
ولئن لم تفعل لأكونن من الخاسرين. وراقبت الطفل وهو يولي عني إلى مكانه، سيكون عاملا وسيحفظ كتاب الله وسيتولى تحفيظه لغيره، وهكذا سيسترد الزمن ما أضاع من بركة. وراح صنغور يقول إن الأستاذ كان يوقر كثيرا حافظ القرآن. ثم علمنا أن هناك مدينة بتركيا تشهد سنويا مسابقة حفظ القرآن والمدينة هي أق حصار (ومعناها الحصن الأبيض)، وهذه المدينة كما أخبرت هي مدينة الأستاذ شاهين. وقلت في نفسي لذا ترى نور القرآن يشع من طلعته. وارتفع صوت جودت بالآذان، وساد الصمت والخشوع، الرؤوس منكسة في الأرض، لحظة الآذان هي لحظة المرور إلى زمن الربوبية، سيقول كنعان لي كلاما طيبا في هذا الموضوع، من حين لحين ترتفع حوقلة أو تشهد أو استغفار، ما أعمق أغوارها لحظة، وتجلبب فريد بثوب النورسي، ذلك الثوب الذي تآكل كماه وحمل في مساحة كبيرة منه رقعا بدت بها عظمة الإسلام. لا شك أن من ينظر إلى فريد وهو يؤمُّنا وعلى جنبه كل تلك الجغرافية الملونة من الرقع التي رتِقَتْ بألوان شتى من الخيط سيستحضر صورة عمر بن الخطاب، عمر الجبار بالحق، عمر مفارق الحق عن الباطل، لو أن عمر استنام لِذَهبِ فارس وزمُرُّد الروم كيف كان يغدو مصير الإسلام؟ ولو أن النورسي أخذ بمبدإ الرخصة، هو الداعية الذي ظل في معضلات كثيرة يقدم مبدأ الرخصة، وانساق إلى مجاراة السفيانية، واكتفى بالصمت أو بالاستنكار السكوتي هل كانت تركيا تشهد ما تشهده اليوم من محافل بذل وأجواء قرآن وأحوال تنافس على الأبقى والأكرم؟ كبر وحدت للإقامة، وتراصت الصفوف وضاقت بها القاعة، ساد صمت موحٍ، وتعلقت العيون بشخص الإمام، أي وهَج ٍ تُرسِل به تلك الأردية السندسية؟ ما بال الإمام يتماهل ولا ينطق بالتكبيرة؟ أية أضواء ملونة تصب على هيئته وتكسبها كل ذلك البهرج الملون؟ هل نحن في يقظة أم في حلم؟، وامتدت الوجوه مليا إلى الأمام، ها هي أنوار تكسب السُّحْنَات لونَ الوردِ، أي توهج هذا الذي يغمر الصور؟(8/105)
وراح الإمام يسوي أرديته المثقلة بالحلية فترن أساورة الذهب في يديه، إحساس بالترقب ملأ القلوب. كل يود لو أنه فرغ من صلاته وغادر المكان. كل أقَرَّ في أعماقه أنه لم يعد سويا.. أي شيء تبدل فجأة وحوَّلنا من حال إلى حال؟ أية دنيا هذه التي أقَلَّتْنَا إليها هذه اللحظة العارضة من الزمن في غفلة منا؟ وجاء صوت الإمام يدعو إلى رص الصفوف.. واعتلت نبرته تؤكد أن من الإيمان تسوية الصفوف.. وارتعشت الأجساد كأنما تلقَتْ فجأة رَشََّ ماء مُثَلَّجٍ.. لم تعد الآذان تسمع إلا رنينا انبعث من ذلك الصدر ذي النبرة الفريدة..وجه صنغور ازداد احتقانا واستولت عليه بغتة نوبة من شهيق أحسست أنه يقاومها بكل جهد. حين اختلسْتُ ناحيتَه النظرَ رأيت سَيْحًا من الدمع يُغَشِّي وجنتية ويبلل شاربيه ويتقاطر إلى الأرض بحس مسموع.. تلا الإمام الفاتحة بصوت رعدي فازداد أَسَانَا، وتَمَلَّكَتْنَا رغبةٌ في قطع الصلاة، لكننا تمالكنا فقد كان لجو الخشوع سلطان لا قبل للنفس بمقاومته. ومر الإمام يقرأ سورة الفتح بحلق ندي ازدادت جرسيته ، ومضينا نتساءل كيف يقرأ بالجهر لصلاة العصر؟ أي سهو رَكِبَهُ؟ كانت الآيات تتكوم علينا كأنها أنْدَافُ الثلج، وكان الإمام حين يركع أو يسجد تزداد رنات أسورته، في السجدة الثانية شعرنا كأننا ننحني للقنوت، وازداد الضغط علينا بما كان يتناثر فوق رؤوسنا من ريش، هل كانت تلك الأصوات التي تراسلت من حولي غطيطا تَحوَّلَ بالجموع إلى مجرد كتلة واهنة لم تَعُدْ لها قدرةٌ على إحساس بالوجود؟. هل طالت السِّنَةُ التي أخذتنا؟ كم مضى علينا في تلك الحال؟ هل حقا أدينا صلاتنا أو كان الأمر مجرد هجود؟ وتشهَّدَ الإمام وسلم ثم ارتد إلينا يقرأ الورد، وتحرك صنغور وحبا على ركبتيه، يرفع كفيه مع الرافعين، حين بلغ إلى مجلس الإمام انفجر نائحا وألقى بوجهه على ركبة الإمام، كان الإمام حاسر الرأس، قد تدحرجت عمامته الموشاة بالدنانير إلى وراء،(8/106)
وارتفع صوته من جديد بالورد، ما زال صنغور ينشج، ثم ختم الإمام وحيّاً ملوحا بكفه إلى الصفوف، ورفع صنغور رأسه وما زالت عيناه تفيضان بالدمع، وصاح: إنه الأستاذ، إنه هو..وارتمى يتعلق به ويلثم جبينه، والأستاذ منتصب في جلسته، يدفعه عن رأسه ويطبق عليه بذراعيه، ويضمه بحنان. في تلك الأثناء وثبت الجموع وتدافعت من حول الإمام تتمسك بأرديته وتلثمها، وهو يمس رؤوسهم براحته، لا تزال شفتاه تمسكان على ابتسامة وضاءة ، ثم سمعوه يقول : حسبكم. لنقرأ رسالة الـ.. والتفت إلى صنغور وتأمله بحنان، ومد له منديلا عشبيا يعبق بمسك قائلا: امسح وجهك يا صنغور.. واقرأ لنا كما كنت تقرأ في ذلك الزمن. وبدأ صنغور يقرأ.. ها هو يقرأ الفاتحة، يتابع في قراءته الإمام فريد وأنا أتابعهما معا قد فلت الذهن مني بعيدا.(8/107)
كان صنغور قد داعب فريدا حين قمنا للصلاة قائلا، أوصيك أن تقرأ في الركعة الأولى البقرة وفي الثانية آل عمران.. كان فريد حقا يذهل عن نفسه ويسترسل في القراءة، والشيخ صنغور حين يوصيه بهذا التلطف النوري إنما يريده أن يسير بنا في العبادة على قدر ضعفائنا، ولاحظت أن صنغور لم يغادر موقعه، ثم تبينت أنه كان يستند في قيامه وقعوده على طرف الأريكة. وعند صلاة النافلة جيء له بكرسي فأدى السنة جالسا. وفرغنا من الدعاء ومن الورد الذي يختمون به كل صلاة، وتحررنا في المجلس، ورأيت الشيخ يحادث طالبا همسا، ثم رأيته يمسه على خده براحته اليسرى مسا خفيفا متواليا كأنما يصفعه، ذلك مؤشر قلبي على المحبة الراسخة الخالية من الانفعال ومن الغشم والرعونة، لقد كان واضحا أن تلك الحركات التلقائية الأبوية كانت تحمل توجيها تسديديا يعرف معناه هؤلاء الطلاب الذين يضمهم هذا الصقر النوري الهرم بحب قرآني عظيم. ونظرت إلى هيئة الشيخ، لم يتغير منه شيء، قميصه الزعفراني غير مزرر الذراع، هل يدل ذلك إلا على عدم الاهتمام بالشكل في زمن أضحى الشكل هو المرآة التي يحرص أهل الدنيا على أن يبدو فيها بكامل الزينة والفخفخة والاعتناء. وتعرفنا على هذا النوري الكهل، ملا خليل، هو من بلدة رأس العين، قيل لنا إنها على الحدود السورية، نصف سكانها عرب ونصفهم أتراك. ووجدتني أوصي الطلاب بحفظ القرآن في الصدور، كنت أومن أن النوريين هم الفئة الصالحة التي ستقوم جسرا يلحم بين الأقوام والجنسيات التي تتشكل منها أمتنا الإسلامية، وأن القرآن هو وسيلة امتلاك العربية، فالعربية بما هي لسان محمد ( فإنها مؤهلة مستقبلا مثلما كانت مؤهلة ماضيا لأن توحد المسلمين وتقرب بينهم. قال صنغور نحن نعرف الحقائق وأنتم تحفظون الأصول (أو كما قال). قلت بل نريدكم بما تبدون من همة ثابتة أن تجمعوا بين الفضلين. وتهيأ جودت في صدارة الحلقة، بحيث واجه الشيخَ في مجلسه وراح يقرأ رسالة(8/108)
بالتركية فيها ذكر لأسماء أشخاص وأماكن، وكانت الرسالة عبارة على تقرير لمناسبة افتتاح فرع شركة سوزلر في مصر، حيث ألقيت كلمات وحضرت شخصيات منهم الأستاذ عويس. كنت قبل سفري أمني النفس بملاقاة هذا الصديق، وعلق صنغور عن التقرير، وذكر أن المناسبة جمعتهم في مصر بشخص أحد الدارسين أعد رسالة حول النورسي في كتاب إشارات الإعجاز، موضوعها الحروف المقطعة في القرآن. كانت الرسالة التي قرأها جودت تحدث عن انتقالهم إلى الشام، حيث تعرفوا على شخص يسمى الشيخ الرفاعي كانت له مدارس قرآنية على نحو مدارس النور، وحين استضافهم هذا الشيخ في مكتبه رأوا الخزائن الجدارية معبأة بالكتب، وٍرأوا جناحا منها استقل برسائل النور لما كانت تحظى به عند هذا العالم من أهمية واستنارة قرآنية.. بعد هذا قدم وحدت أحدهم قال هو طبيب عسكري مسرح، وأنه الآن بديل في محل خاص يعالج بالعقاقير الطبيعية. وحدثنا الشيخ صنغور من جهته عن شخص كان يجمع متروكات الأستاذ النورسي ولما ألقي القبض عليه سلم تلك المتروكات للمحامي، وداهمت الشرطة مكتب المحامي واستولت على المتروكات ، وفي محكمة ازمير قرروا حرقها، وتدخل بعض المحبين ورشى أحد أعضاء المحكمة ممن عارضوا قرار الحرق، وهكذا أستنقذت تلك البقايا، ولما أعيدت إلى من كان يجمعها اختار لنفسه الثياب السليمة وتنازل لهم عن الثياب الرثة، قال الشيخ وهذه القطع التي رأيتموها اليوم هي تلك التي تنازل عنها. وساقنا الحديث إلى عظمة الإسلام وإلى شخصية عمر، وقال قاسم رأيته (ر) في المنام فلم أستطع أن أنظر إليه من البهاء.. شخصية عمر شخصية مبهرة، ربما غطت على غيرها من الشخصيات الإسلامية، بل ربما جاءت تالية لشخصية الرسول ( أبو بكر كان حليما صلبا، بكاء رحيما، وعمر كان مرهبا عنيفا في الحق، والإسلام كان في مسيس الحاجة إلى تزاوج القوة واللين من أجل أن يرسي قواعده ويصل إلى العالمين. ولا نتحدث عن آل النبي (، فشأنهم الرفيع من(8/109)
ذات شأنه عليه الصلاة والسلام. وجاؤوا بجبة للأستاذ النورسي قديمة أيضا، وبَرِية(1)[2] اللون، فتأملناها لحظات، بنفس المشاعر التي لابستنا ونحن نرى القطع السابقة. وبدت لأحدنا قامة الأستاذ، قدرها من خلال الجبة، وقال صنغور إن الأستاذ كان إذا سار مع أخيه عبد المجيد في الشارع، مسك به وشده إلى الأسفل قائلا لا تتطاول، لا تظهر أطول مني. وقال صنغور إن الأستاذ كان يتهجد أربع إلى خمس ساعات بدون انقطاع. ووجدتني أسأل عن مصير خادمه الأوفى سليمان، قالوا إنه توفي بعده بخمس عشرة سنة، وأنه لم يغادر بارلا حيث عرفه وخدمه، وأن أبناءه على أحسن حال اليوم. لا عجب، فمن كان من سلالة خدام القرآن كيف لا يغنم ويخصب في الدنيا والآخرة. ولاحظت نظام التهوية المعتمد في القاعة، هو من أرقى نظم التكييف، وراحوا يتحدثون عن بعض ما يؤثر عن سيرة سليمان خادم النورسي، قالوا إنه أخبر ذات يوم أن ابنه سقط من سطح البيت، فما فزع ولا ارتاع ولا غادر موقع خدمته، إنما استمر كأن شيئا لم يكن. وفديناه بذبح عظيم، أليس هذا اختبارا آخر لوالد كان يسير على المحجة البيضاء؟ أم تحسبون أن تنالوا الجنة ولما يعلم الله العاملين منكم والقاعدين؟ في تلك الأثناء برق وجه الشيخ، وعبرته شعلة من ابتهاج، وتساءلنا عن السر، والتفتنا حيث امتدت عيناه، فإذا يافعان يدخلان، سلما بتلقائية واثقة، وجلسا في حضرة الشيخ، وسمعته يُعَرِّفُ بهما: هيثم وعبيد، وجاءني صوت قاسم من هناك يقول إنهما حفيدا الأستاذ صنغور، ورأيت صنغور يدخل معهما في مكالمة، وبدت كلمات الشيخ تأخذ الآن طابعا بهيجا من الليونة، كان قلبه يدر بمحبة فطرية تغدقها النفس على سلالتها، كان ( يسجد في مصلاه فيعلوه الحسن والحسين، فلا يعاجلهما حتى يتخليا عنه بإرادتهما. وفي تلك الأثناء أعطي للطالب حافظ ميكرو صغير وشرع في التلاوة، واختار سورة الجمعة فأنهاها، ثم أعطي الميكرو لآخر فتلا بلحن مشرقي متمكن، وساد(8/110)
خشوع ملموس.. وفيما كان المرتل يتلو قوله تعالى (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا).. فلتت من صنغور تنهدة مؤثرة أرسلت بها أعماق بريئة.
ودخل شخص لم تكن سحنته غريبة عني، وقمنا للسلام عليه، وسمعتهم يعرفوننا به إنه ابن الشيخ صنغور، الملامح واحدة لولا تعمق خفيف في سمرة الشيخ، سأعرف في تلك الجلسة سر هذه الصبغة القمحية التي تتميز بها سحنة صنغور، كان في تلك الليلة حاضرا في الماركت وبرزانة ملفتة راح يقترح علي لون البذلة، بل راح يأمرني، وها هو ذا بأمر والده جلس في مواجهة الحلقة يرتل..(عطاء حسابا.. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه). صوت تلاوة مشرقية على قواعد مضبوطة ونبرة رجولية مكتملة السَّمْتِ. علمتُ أنه درس بالحجاز، حين يتحدث لا تشك لحظة في أنك أمام عربي قح، سيتولى ترجمة حديث الشيخ في مجلسنا ذاك. قال الشيخ صنغور سألني ذات مرة الأستاذ النورسي ما نسبك؟ قلت أما من جهة الأم فمن آسيا الوسطى وأما من جهة الأب فمن الحجاز.
وهززت رأسي كأنني وجدت جواب ما كان يخامرني أحيانا من ظن حول نسب الشيخ صنغور. ثم راح الشيخ يبين جلية ذلك، قال إننا ننحدر من صلب شخص عربي هاجر من مكة إلى تركيا واسمه ابن عبد السلام، قال وحج جدي الأدنى ذات عام وتعطل عن الحج، ولقيه عربي من أهل مكة وتَفَرَّسَهُ وسأله أنت من أبناء عبد السلام؟ قال جدي نعم، لكن أخبرني كيف عرفت ذلك؟ قال من سيما وجهك، فأنت تحمل خطوط عبد السلام، وعبد السلام هذا هاجر في زمن كذا إلى تركيا، وأنت تقول إنك من تركيا، فلا تكون إذن إلا من ذريته.
الفراسة كانت علم العرب الأصلاء، وحين زالت عنهم أصالتهم الأولى وتهجنوا في الفكر والروح فقدوا ما كانوا يختصون به من سجايا الفطرة ولم يستعيضوا عنها بشيء، وليس في وسعهم أن يختصوا بشيء ذي بال ما هجروا القرآن واستهانوا بنظمه الإنسانية والحضارية.(8/111)
جاء أسيد مع أصدقائه، أنهوا عمل الظهيرة وأقبلوا، بأدبه الملموس دخل وسلم، قال لي دعاءك، قلت ضاحكا لا تعول عليه، كان بمعية شابين في سنه أو قريبا من ذلك، أحدهما يسدل شعره، تبادلنا الملاطفات، ثم غادرت الغرفة لشأن عرض، الاستعداد للرحيل يشغل الذهن، وأقبل أسيد علي في الغرفة يودعني، وجدني متكئا على مرفقي، شارد البال، هكذا أنا حين أكون على موعد مع السفر، وقلت في قلبي كيف غادرت أسيدا وصاحبيه وتركتهما؟ لا شك أنني قدرت أن أقضي أمرا ما وأعود إليهم لكنني ذهلت عن نفسي. مرورنا عبر محل الماركت وعودتنا بالحقيبة وما جرى لنا هناك مع القيم كل ذلك استهلك حيويتنا. لفتت نظري العاملات بالمحل، وسيمات بل جميلات محجبات، رسوخ التقوى في أعماقهن ينحف نظراتهن، الواحدة منهن لا يمكن إلا أن ترى فيها ابنتك أو حفيدتك، وحفيدة قاسم زنبقة جميلة لا تنطق، تقف بالقرب منا، ويشير جدها إلي قائلا ابنة سعد، وأحادثها بالعربية فتتحول عني ببصرها، هل كان سفر أبيها يجعل ملامحها على ذلك النحو من السهوم الخفي؟(8/112)
أخذت غفوة، ثم جاء قاسم يهمس إلينا كعادته: ما رأيكما في أقداح من الشاي ومعها شيء من النقانق؟ (هكذا قال)، سبقني فريد بالرد فجاء قاسم بالشاي والفاكهة وجلس يحدثني كان فريد مشتغلا بتهييء مادة كتابه المخطوط، وهبتْ النسمة وازداد رسوخ الهدوء ، وقال قاسم كنا نريد أن ننزلكم في الفيلا التي تعرفها لكننا خصصناها للطالبات.وطرق الأستاذ خليل بالسيارة، سنغادر إلى سياحة مسائية وسنتعشى رفقة فارس ونضع متاعنا في القسم المخصص لنا بالمدرسة لنكون قريبا من المطار ومن شوارع اسطنبول. غدا في مثل هذا الوقت سأكون بلا رفقتي هؤلاء، سيكون فريد وقاسم في الجو في طريقهما إلى كوالالمبور، ها أنا أجلس إلى السيد خليل في انتظار فراغهما من التهيئ للخروج، لا نعرف ما نتبادله إلا كلمة بخير ، بخير.. بمثل هذا الرجل يدور نشاط النور، سألته ماذا تصنع؟ قال قاسم إنه فنان يشكل الثريات وسيجول بكم في محله لتتطلعوا على مصنوعاته. وفيما كنا ننطلق قال فريد الذي بدأ وجده يتعمق أكثر باقتراب موعد الرحيل: هناك ولاية تلوح في الوجوه؟ ورد قاسم بتهكم لطيف كيف لا ترى في يا أخي ولاية وتراها في وحدت؟ قلت هازلا : يمكن أن نتوقع الولاية في أي شخص إلا في وحدت. فبعد كل ما فعله بنا لا يمكن أن نشهد له بذلك.. قال قاسم أرضية النور تجمع شتى الأصناف فهي في سيرتها تقتدي بالجماعة الأولى التي رباها رسول الله (. ثم أضاف إن حالها ينطبق عليه ما رآه الشيخ الندوي ينطبق على شعيرة الحج من حيث أنها فريضة تخص الناس جميعا وليس طبقة أو أهل السابقة فقط أو ما إلى ذلك..وحدثنا عن سيرة بعض قدامي طلاب النور وتوقف عند جيلان، قال كان شابا ذكيا جدا وكان مقربا من الأستاذ، وكان يخصه بالممازحة دون غيره، لدرجة أن صنغور حدثهم أنه أراد مرة أن يمازح الأستاذ كما كان هو يفعل مع جيلان، فانزعج الأستاذ وبدا رفضه واضحا. حدَّثَ صنغور أنهم كانوا يسيرون ذات يوم مع الأستاذ في البرية، ورأوا(8/113)
غنما، فقال الأستاذ لجيلان أمَا تحتاج لشراء مثل هذه الغنم يا جيلان؟ قال جيلان أجل يا سيدي لكن هذه تحتاج لواحدة تتعهدها وتحلبها وتستفيد منها. قال فضحكنا لقوله ذاك وأدركنا موضع الطرفة فيه. كان الحديث يمضي بنا على غير منوال، وأدركنا محل الأستاذ خليل، كان هناك شباب بثياب العمل، والمحل في موقع جيد، ومعروضاته لطيفة ومن كل ذوق، ورأينا الأستاذ خليل يقدم لنا هديتين لفهما في ورق، وحيانا ابنه في لطف، وتعانقنا مع الأستاذ الذي ظل يتداول الدور في نقلنا طيلة أيام مكوثنا باستنبول، ولن نستطيع أن نفي أحدا حقه من الشكر والامتنان، لكن الله هو المجازي. كان المساء يتدانى ببطء، وكان قائد الرحلة الآن هو الأستاذ قايا، وكنا نسير على ضفاف البوسفور، نخترق مناظر لا تكون إلا وجها من وجوه الجنة، واجتزنا قلعة قيل لنا إنها كانت موقع نزول الفاتحين الأولين، إذ نصبوا معسكرهم عندها وشارفوا منها مدينة القسطنطينية، وزادوا تطويق المدينة من الجهة الخلفية، عزلا لها عن أن تتلقى المدود من أوروبا. وسألنا عن اسم السبيل الذي كانت أشجار السرو والصنوبر تظللنا فيه وتحجب عنا طلعة السماء، قيل لنا هو شارع كواجك، وصدحت موسيقى اللحن الجميل المنبعث من كاسيت السيارة، السلطان الفاتح بنى خيمته في القمة التي أدركناها الآن في صعودنا بالسيارة، والمكان يسمى كواجك، قيل إنه تصغير لاسم الصفصاف. ما زلنا نشق الفردوس، الجسر الآن معلق فوقنا، وخيمة وارفة من الظلال تنتصب من حولنا، أي نفق سحري هذا الذي نجتازه في مثل هذا الوقت الذي تنبض الحياة فيه بالشعر والملاحم المتولهة. أي شيء صنعت بنا يا فارس؟ هذه أرض بكر، هذه عذرية طاهرة، هذه بوتقة من اللهب تصهر الفولاذ. البوسفور يُلَوِّحُ لنا من حين لحين كأنما هو بعْدُ مراهق يتمرس على لعبة العشق. وانتهينا إلى فندق بيكوز، الشمس أسلمت الروح وارتعشت في الأفق وسرى في الكون شحوب، وترقرق البحر بموسيقى كأنها(8/114)
تنبعث من صنجات النحاس. السمك يسبح ورأسه خارج الماء، كلا إنه يتغنى، وها أنغامه تنتهي إلى سمعي، وها المشهد يتشنج جراء وقع الكلمات وهي تنفذ في أوصال الروح كأنها السهام. لم أصدق أنني على اليابسة، المكان عائم فكأنما نحن على ظهر سفين. وانطفأت الشمس، كأنها روح غادرت الجسد إلى حيث المجهول. وانقدحت أنوار صنعت غروبا آخر جميلا لكنه محدود، الغبش أصبح لونا من ديكور المشهد، ومصابيح الكهرباء أشعت بنورها من قلب الموج، تدبير سحري يكفل لأسراب الحوت بعض الأنس. وزادت غربتي في بحر الصفاء هذا، وتأوه فريد أكثر من مرة ثم انفجر يبكي، لم تتحمل روحه مشقة عبور العتبة المشعة فانتكس وانهار، هو من أرض الرمل، يحمل في روحه حرقة لا يطفئها إلا زَخُّ العروج. ولبثنا على حال من السهوم والخدر، كأننا شربنا أقراصا دست لنا في الكؤوس، وتململ فريد في مقعده، ثم قام ونزع معطفه، وتقدم من النافذة ففتحها، كان المكان مكيفا والأمسية منعشة فما باله يطلب النسيم؟ شاعر متهور ولابد من الغض عنه غضا جميلا، وفي لحظة ما رأيناه يضع رجله على المقعد ويثب إلى حاف النافذة، ثم رأيناه وفي سرعة البرق يلقي بنفسه صوب الأمواج.. وهببنا مروعين، ونَدََّتْ عن الجالسين صرخةٌ جماعية كأنها الرعد، وسارعوا جميعا إلى الجدار الزجاجي ينظرون ما ذا حدث؟ أكثر من صوت ردد انتحار انتحار. ووثبت إلى النافذة لألحق به وأستنقده، واعترضتني الأيدي وشملتني أصوات من كل جانب، كنت أكافح دون جدوى من أجل أن أفلت من تلك الأيدي التي تمسك في عنف بي، ورحت أصرخ ملء أعماقي أتركوني، دعوني، إنه حي ولابد أن نستنقذه، وبقوة لم أستطع مقاومتها رأيتهم يجرجروني، وتطلعت في الوجوه فشاهدت فارسا في طليعة من تولى سحبي، كان مهتاجا، وكان مقروحا لكنه كان جَلْدًا كأنه في ساحة قتال يفقد أصحابه الواحد تلو الآخر. ها قد عراه الآن شحوب انطمست به معالم وجهه الأصلية، ورأيت من هناك قاسما يمسك رأسه في(8/115)
يديه ويداوم على قرع الجدار بجبهته. ألقى بي فارس في ركن القاعة، وحاولت أن أنظر إلى ما حولي، كان هناك جدار متراصٌّ من الناس يحول بيني وبين البحر، ونهضت وعلوت طاولة، وكنت أبكي وأعول، لكن بكائي كان يضيع في الضجة، ورأيت أكثر من واحد يلقي بنفسه إلى البحر بعد أن تخففوا من ثيابهم، كانت الأصوات توجههم والأذرع تشير إلى الناحية التي تكون ابتلعت فريدا. كان وجه قاسم قد اختفى تحت واجهة من سائل قاني غمره وتقاطر على صدره، وتردد صوت سيارة الإسعاف وازداد المكان حدادية، ونزل أفراد من الحماية المدنية، وبسرعة راحوا يخرجون الناس ويتأهبون للغطس، وساقوني إلى الساحة وطرحوني منهكا لا حيلة لي ولا قدرة على فعل شيء، إلا أن أنوح وأنوح، تلك الموائد التي كانت منذ دقائق مسرحا للأنس هجرت، الجميع انزووا في طرف الساحة وراحوا يراقبون بذهول، بعد وقت غير طويل رأيتهم يحملون نعشا نشروا عليه غطاء، وأرسل الحضور صيحة كأنما كان الفقيد يمت بصلة القربى والنسب لسائر من كان حاضرا. وطرحوا النعش في قلب الساحة وتقدمت الجموع تريد أن تكشف عنه. وتصدى أحد الأعوان فتسمرت الأقدام في مواضعها، وتحاملتُ على نفسي فقد خانتني قواي فسقطت، ورحت أتساحب فوق الأرض، وأمد يدي ناحيتهم كي يوصلوني إلى الجثمان، لم يغب عنهم أنني أجنبي، لكنهم منعوني من الاقتراب، والتفت أبحث عن فارس وقاسم في الزحام دون جدوى، وفي لحظة ما رأيت الصف ينشق، وسمعت صوتا ميَّزْتُه في الحين، إنه صوت صنغور وقد بدا من التهاب نبرته أن الشيخ يقبل وقد استبدت به حال من الفتنة جعلته يرسل دمدمة صوتية لا قبل له بها. كان الصوت يمضي صاخبا، أحيانا يختنق، وأحيانا أخرى يعلو عنيفا حتى لتخشى على الشيخ من جراء تلك الحال سوءا. وانتهى إلى منطقة النور من الساحة واتضح لي شخصه أكثر، كان يلبس تلك العباءة التي ورثها عن الأستاذ، وكان يمسك في يده عصا، ورأيته يتخطى المسافة في عجل ويقف على النعش، ثم(8/116)
رأيته ينحني ويكشف عن وجه الفقيد، وتحركت الأقدام ناحيته لكن الأعوان اعترضوهم فجمدت الأقدام من جديد وساد الصمت، وتركزت عينا الشيخ في الوجه الغائب أمامه، من ساعة كان فريد يرتل، وكانت الأسماع تتابعه بمتعة، وكان لا يزال يرفل زاهيا بذات الدراعة التي يرتديها الشيخ صنغور الآن. قضى الشيخ حينا غير قصير وهو منحن، مركوز النظر في الملامح المغمضة أمامه، ثم نهض وتأخر خطوات وقال الصلاة يرحمكم الله. ليس هناك من أحد إلا انضم إلى الصفوف، تلك الحسناء التي منذ ساعة كانت تدخن سيجارتها وتداعب أطرافها الحاسرة بأناملها، سارعت فأطفأت سجارتها ورسمت حركة التكبير وسوت موقعها في الصف، وذلك الشاب الذي كان غارقا في اللحن، سابحا في عيني رفيقته قد لفظ من بين فكيه حبة العلك واكتسب فجأة وجهه مسحة من ألم وراح يقيم التكبيرة بخشوع لا مراء فيه، ورجال الإغاثة نزعوا حوذاتهم وتقدموا الصفوف، والنوادل ألقوا بمناشفهم وانضموا للصفوف، وانتبه الناس إلى أن الجهاز كان لا يزال يدور بلحن لم يعد أحد يجد فيه مذاقا، فسارع القيم على المطعم وأطفأه، وكبر الشيخ وراح يتلو، وفجأة تحلحل النعش، وعرا الناس رعب خارق حين رأوا رأس الفقيد ينتصب، وتراجعت الأقدام في اندفاع مهول، والحسناء صاحبة السجارة تعثرت وتحاملت على نفسها وجرت مولولة، و.. خرج من بين الصفوف طبيب وانحنى على ذراع فريد يزن ضغطه، والتفت إلى الناس وصاح إنه حي..وسرت رعدة في الساحة، وعمت الحاضرين عن بكرة أبيهم، ليس منهم إلا من اجتاحته الهزة كأنما أوصلوه بشحنة تيار عال ، واستغرق الجميع ذكر جرت به ألسنتهم، حي.. الله حي.. وفي لحظة من اللحظات بادرت الحسناء فرشقت الشيخ بزهرة، وتتابع الرشْقُ، وانغمر الشيخ وصاحبه بكثيب من تيجان الورد، وتحرك بنا وقد تهدج صوته غبطة وتأثرا، وعَلِقَتِ به الأزهار، غشيت رأسه وكتفيه وظهره وأطرافه وحذاءه، ودخل القاعة واحتل مقعده وراح يطلب حاجته.(8/117)
كنا نتابع حركة الحيتان وقد اكتسبت لونا ذهبيا بفعل النور، لا زلنا ننتظر ما طلبناه من طعام، وتنهد فريد وأرسل نظره تارة أخرى ناحية البحر، وقال: لقد مت فعلا منذ نزلت هذا المكان وتلاطمتني أطوار. وقال قاسم لا عليك فأنت تعيش حالة من الامحاء عارضة، وقال قايا ذهولك هذا يدل على أن توزيع الموازنة الشعورية لديك غير مستو، وينبغي لك أن تعيد النظر في الموارد والنفقات. وجيء بالسمك المشوي، ورحت كعادتي استخدم أصابعي، أية شهوة هذه التي لا تشد عليها الأصابع وتتحسس طعمها؟ يتذوق الإنسان شهوة الطعام ليس من الفم فحسب، ولكن من الحس واللمس والشم، التوت الذي أكلناه لو اغتسلناه لكان يفقد رحيقه، وشهوة العين تكتمل حين تتداعى إليها شهوة اللمس والمذاق. والشوكة في اعتقادي عازل أرستقراطي مضت دواعيه، أية شوكة أنسب للإنسان من أصابعه؟ والرسول الطاهر ( كان يلعق أصابعه ويغسل يديه استرجاعا لنظافة الجسد التي هي عنوان على نظافة الروح بالقياس إلى المؤمن. كان السمك شهيا، وقد أكلت بعجلة ودون اتزان، نكهة الفحم أعذب تعطير يزيد الطعام رونقا.
ضيعت نظارتي.(8/118)
أضعت نظارتي، أين؟ لا أدري. أذكر أن قاسما نبهني قبل مغادرة البيت على ألا أنسى شيئا، وكنت متأكدا من أنني أودعت كل شيء حيث ينبغي أن يكون، وانطلقت بنا سيارة فارس. ولا أدري لِمَ تذكرت صديقا لي وأنا أهيم في تلك المروج من الحسن؟ كان لا يكف على التلاوة كلما استخفه موقف، كان يقول لي إنني أكسر زهو النفس بالتلاوة.. أما أنا فقد رحت أبحر عبر أمواج الخضرة واستنشق ما يصيبني من عبير مسكر، كان الطريق يتصاعد بنا، وكان النسيم يزداد خلوصا أكثر فأكثر. ووصلنا. المركبات السياحية هنا عائلية، راسخة النظام، ومجهزة، والماء وافر. وانتحينا مكانا قرب الواجهة، كانت الأمواج تتهادى أسفلنا، ولفتنا سلوك بعض النازلين يرمي قطع الخبز إلى السمك. وفريد مأخوذ بالمشهد السحري، ابن الصحراء يزداد ألما لمجرد مرأى السحاب، فما بالك إذا أناخ ناقته على ضفاف بحر مرمرة؟ وعرض النادل الطعام وطلبنا حاجتنا، قال فارس يشهد الله أننا ما جئنا هذا المكان لا وحدنا ولا مع أهلنا قبل اليوم، وما كنا لنرتاده لولا رغبتنا في إكرامكم. وقلنا شاكرين يكرمكم الله، وتحادثنا عن أشياء وعن توصيات اللقاء.. سنواصل الحديث ونحن في الساحة نشرب الشاي، وسيقترح فريد صيغة عنوان للملتقى القادم، صيغة تنال رضى قاسم وفارس. إنهم لا يعتقدون أن الإسلام الحق في حاجة إلى عناوين فخيمة تدافع عنه وتؤكد سلميته، النورية تعتقد جازمة أن السلام هو من صميم أركان الإسلام، وأن رفض العنف والفوضى والإرهاب من وصايا النورسي ومن تعاليم الدين الحنيف. متى أضعت النظارة؟ أذكر أنني أخرجت القلم وسجلت ملاحظة في مفكرتي ونحن على المائدة، هل أكون تركتها على المائدة أم تراها سقطت مني حين كنا نصلي المغرب في مصلى المنتزه؟(8/119)
قابلنا عبد الله هناك وقد فرغ من صلاته، وعرفته رسما لا اسما، طويل، به نقاط في اليد من وضح لا تكاد ترى، قال لي قاسم إنه من تلاميذ الأستاذ كولن المقربين، ثم نوَّه بخصاله وقال إنه متزن على أكثر من صعيد، قلت أرى مخايل الرجولة بادية عليه، قال ذاك هو.. قايا قليل الكلام، سار أمامنا وهو يحمل حقيبة فريد، يسوق السيارة بفنية، حين شققنا الطريق شرَّعَ سقف السيارة ليصل إلينا الهواء الطبيعي. قايا من الذين لا يشبعونك كلاما ويتركونك دائما جائعا إلى محادثتهم، فحضوره حضور فعلي لا قولي، قلت لم عجلت أمس بإنهاء النقاش؟ قال لأن الحضور أحجموا، ولأن الساعة كانت متأخرة. نحو مائتين وخمسين شخصا من الجنسين حضروا بدعوات خاصة، طعموا، وصلوا، وتذاكروا، ودَعَوْا، وخططوا واستمعوا إلى محاضرتين وانتشروا. أي إسلام هذا الذي يصنع كل هذا بلا جلبة أو ادعاء أو مزايدة واتجارا بقيم الدين؟
قال قاسم إنه استمع ذات مرة إلى امرأة نصرانية تركية تتكلم إلى الإذاعة وتتساءل عن حقيقة ما تسمع، كانت تقول للمذيع إنها لا تصدق أن ما تسمعه هو الإسلام، وظلت تعرب عن مشاعر الاندهاش والإعجاب بنزاهة القيم التي سمعتها في إذاعة النور، وتؤكد أنها لم تعهد إسلاما كهذا. هززنا رؤوسنا وقلنا هذا ما ينبغي أن يكون، الإسلام دين رباني لم ينفر الناس منه إلا تجار السياسة، أولئك الذين يشملهم قول الله فويل للذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. وتساءلت في نفسي، ألا يكون من النافع جدا أن يترك هؤلاء الأوصياء بين الدين الإسلامي وبين العالمين؟ ألا يعلمون أن تقمصهم الدعوة إلى الإسلام إنما هو تشويه للإسلام، إذ من ذا الذي يقبل على تناول فاكهة من يد قذرة ؟(8/120)
حين دخلت المدرسة عائدا من النزهة السياحية، رحت أحسب بعيني عدد الحضور الذين جلسوا في الشرفة يستمعون إلى الدرس النوري، قلت إن في كل حي منهم خلية وفي كل مدينة منهم كذلك، فعددهم يكون هائلا وتأثيرهم يكون بليغا. وفي كلمتي قلت لهم إن محمد ( صنع بالضعفاء حضارة الإسلام فكيف لا يصنع الإسلام اليوم حضارة جديدة وقد ضم تحت لوائه أمثال هذه المجاميع التي أخلصت لعقيدتها وانقطعت لخدمة القرآن العظيم وتسلحت بالعلم الدنيوي النافع؟ وجاؤوا بنا إلى الجناح المخصص للضيوف، لكل مهجعه، والحمام مهيأ، وغدا يوصلني قايا إلى المركز حيث كنعان وحيث سأقضي يومي، ومع الغروب سأتجه إلى المطار. استحممت ونمت، ودق فريد الباب فعلمت أنه الفجر، صلى بنا ونسيت أن أنبهه إلى ضرورة التخفيف، ثم نطق عثمان بالتسبيح، في صوت هذا الفتى نغم غض، الكلمات العربية تخرج لتناغي السمع بجرس دافئ قبل أن تلقي إليك بفحوى يزينه هذا الصوت الذي أوتيه عثمان. كان عثمان يرتل الورد، وكان واضحا أنه يتفادى ما أمكن التطريب، لكن أدنى تلوين في لهجته كان يتحول إلى ضربة عود عذبة، وغدا عثمان في ذلك الفجر، بتلك المدرسة، يلون أداءه بتلقائية راسخة. يتغنى بالذكر ويشدو بالإيمان ويضرب فوقنا قبة من الخشوع لها لون قوس قزح. وذابت نفسي في الصوت والصدى، لو احترف هذا الصوت الغناء لكان صاحبه نجما له عشاق، وسألته حين فرغ عن اسمه، قال عثمان، وخانني اللسان فلم أتمكن من أن أقول له خذ دروسا في الصوت واشرع في تسجيل الأدعية والأنشودات فقد أوتيت نعمة لابد وأن تستثمرها في باب الخدمة القرآنية.في تلك الأثناء جاء شخص كان أسنهم وراح يشرح لنا بلغته الإشارية وبما خط من أرقام على رقعة في يده ما تبقى لنا من برنامج في نزلهم.. سنتناول الإفطار على الثامنة، وعلى الثامنة والنصف سينقلنا هو بنفسه إلى مكان كذا، ومنه سنجد قايا الذي سينقل فريدا بمعية قاسم إلى المطار، لأبقى أنا في المركز.(8/121)
ووجدتني أكثر من مرة ونحن قائمون في الصلاة أكتم التنهدة. هذا الشعور مزمن عندي حين السفر، وطافت برأسي أفكار وخواطر وأحاديث شتى.. قال قاسم من رأفة الله به أنه عاش مغرما بالخط وبجمالية الحروف. قال كنا ننزل بغداد فلا يأسره شيء قدر ما تأسره لافتات المحلات والإدارات بما حملت من خطوط. قال كان بعض رفاقي يلكزني إذا ما مرت فتاة ويهمس لي :أنظر بنية.. بنية.. فيما كانت عيناي تلتصقان بالخط أعلى المحلات.. قلت إنما أنت يا أخ قاسم فنان بالقوة تحولت موهبته إلى مهام علمية ونشاطات ثقافية. ثم بينت له أن ما يشاع عن فوضوية الفنان هو حكم مظهري فحسب، إذ أن ذروة من يلتزمون النظام هم الفنانون لا سيما الموسيقيون والرسامون، وأن إعادتهم لأعمالهم وتمزيقهم لها أحيانا إنما يحدث بسبب ما لهم من حرص على بلوغ الغاية في الدقة والتنظيم والإحكام ومطابقة ما يرتسم في صفحة أرواحهم مع ما تنقشه أناملهم. فالأمر محسوب في عملهم بالدرجة، بل بالثانية.(8/122)
ووجدتني أفكر في بنية اللغة التركية، وتبين لي أن الأجنبي عنها لا يستطيع أن يشخصها إلا إذا تكلمت بها المرأة، بل هي تجري على لسان بعض النساء أوضح وأكثر تنغيما منها على لسان أخريات.. وتفكرت في وحدت، هو أيضا ينغم الكلمات لا سيما الفارسية، لا سيما الشعر.. لماذا لقبته زوربا؟ لماذا قال قاسم إن ذلك الاسم تركي الأصل ويعني الشخص الذي يجنح في سلوكه إلى الغلظة والقوة. قايا يزم البسمة، فإذا فلتت منه تحول بها إلى صبي بريء . قلت له الثورات في فتوتها تعمل ولا تتكلم، وأنتم كذلك.. وفي بعض المجالس سألني وحدت هل يقرأ أبناؤك القرآن؟ قلت كلا، قال لماذا؟ قلت شياطين.. حينها انفجر مجلس الطلاب من حولي ضاحكين، وأنا نفسي تقصدت تلك الإجابة لأضحكهم، فأنا أعرف ما لكلمة شياطين من حمولة في ذهن طلاب قرآنيين. لم أقل لوحدت إن لي نبراس يطيل النوم نهارا ليقطع الليل في لعب الداما وفي حفظ سور القرآن، ولا يؤوب إلى مخدعه إلا بعد أن تطلع الشمس ويكون صلى الفجر في الجامع. فريد يرتل القرآن بصوت فخم، وهو لا يني يعرب عن هيامه بأرض الترك وسحرها.. قلت لقاسم ما ذا كنت ستكون لو لم تقيدك الرسائل؟ ضحك وترجم ذلك لقايا. قايا لا يضحك، لكنه وهو يسمع ذلك ضحك. وكذلك ضحك وهو يعقب على فريد لما سمعه يقول إن الإنسان لا يعرف تركيا إلا إذا وقف على فتنتها في مثل هذا الوقت، في مثل هذا المكان، فزاد قايا: في مثل هذا المطعم.. قلت لقاسم إن هذا يذكرنا بما قاله لك ذلك الشاب في أستراليا وأنتم في المطعم، قال لك داوم على المجيء إلينا يا أستاذ، فلما سألته أنت لماذا؟ قال حتى يجدد الإخوة دعوتي إلى هذا المطعم..(8/123)
لماذا لم تشاركنا النوريات في مجلس الاستشارة ؟ في الجلسة الأولى كانت شكران في طرف الحلقة، ثم انسحبت بعد ذلك إلى حيث جلست تلك الثلة من الطالبات. المقاصد اليوم تحتم أن تكون المرأة المسلمة الصالحة في صدارة صنع الحدث. أم أن هذا الترتيب هو الأنسب والأكثر إعرابا على حقيقة فطرية قائمة في طبيعة الأشياء ولا سبيل لنكرانها؟ أم أن واقعية الدين تجعل المرأة هي المقاتل الذي يدفع بالكتائب ويسند ظهرها؟ الرجل تُرْسٌ، والمحارب الحقيقي هو المرأة، ولابد للمحارب من ترس..
كلا لم تكن النوريات مهمشات، كن في موقع الرقابة، وكان النوريون يشتغلون تحت أنظارهن، وفي حضرتهن، مستلهمين وحْيَهُنَّ ومواظبتَهُنَّ وإخلاصهن القرآني.
أذكر أننا تعرضنا في بعض أطوار سهرتنا في البيت لمسألة المرأة وكونها مصدر الإلهام ، وقال قائلنا صدقوا حين قرروا أن وراء كل عظيم امرأة. تبسم قاسم وقال بعض إخواننا قيل له هذا، قال أجل وراء كل عظيم امرأة ولكن لتشده إلى الوراء..
ضحكنا وتدبرنا في صمت تلك الحقيقة الراسخة التي يحملها هذا القول والذي لا مراء فيه، فأعظم أهل الحظ من عظماء الرجال كان للمرأة أثر ما في صناعة برامجه.
لماذا صنع معنا جميل كل ذلك الجميل؟ هو دون شك من الذين وضعوا الدنيا في أيديهم ولم يضعوها في قلوبهم، خدمتهم ولم يخدموها لأنهم أشاحوا عنها نحو الباقي والدائم.. وذكرني قاسم بالأستاذ جميل. هو إذن نفسه رجل الأعمال الذي استضافنا منذ سنوات في منتزه لتناول طعام العشاء بمناسبة اختتام أشغال الملتقى. هززت رأسي، وفهمت. قلت في نفسي الرجل راسخ القدم في صنع المآثر، فالأمر ليس طارئا عليه، لذا لا غرابة أن يكون على كل تلك الحال المنتشية وهو يقوم على تلبية حاجاتنا، كان يتراقص أريحية، كان.. يا ما كان.(8/124)
حين كنا في السيارة أدار وحدت صوت المذياع، ونبهني قاسم إلى صوت المذيع وذكرني بصاحبه. كنا التقينا به في المركز، وأخبرني عن إنتاجه في مجال ثقافة الأطفال، وكنت قرأت ونحن في بعض مكتبات بروسة عناوين لجملة من كتبه. قال إن منهجه يقوم على تبسيط أفكار الرسائل، عمل مهم بلا ريب، ومقتطعات كثيرة ولا تحصى من نصوص الرسائل صالحة لأن تختار كلوحات تقرأ وتنقش لتقدم إلى الأطفال. وصوت عثمان سيفيد في عملية عرض بعضها مقروءا وبعضها الآخر منشودا في كاسيت..
قلت لقاسم وقايا ونحن في ساحة المطعم لابد من استحداث أكاديمية الفنون، قالا سنتدرج إلى ذلك بالخطوة. عثمان ودعنا، أليف، يدخل القلب بأدبه وتقواه، يتمنى أن يتعلم العربية، ليت شعري كيف السبيل إلى تحقيق أمنيتك تلك؟ عانقنا كما يعانق الابن أباه، أحسسنا أن في صدر هذا الفتى رسائل يريد أن يحملها إيانا نعود بها إلى أهلنا. تركناه أمام الباب، قال إنه من أسكي شهر. سارت بنا السيارة، وقال سائقها السيد أحمد تان يل، بلغته التركية: الأستاذ بديع الزمان كان كذا (وضم يديه إلى بعضهما) وزاد كلاما عن أميرداغ..لم أفهم فائدة ضمه ليديه فقلت أنصاره، هتف مع صاحبه المرافق لنا (السيد حمدي صغلم أر) موافقين، ففهمت أن أهل أميرداغ كانوا من محبي الأستاذ في منفاه. هكذا مفاتيح لفظية على قلتها تجعل المسلم يتواصل مع المسلم كيفما كان النسب. ألم يفهم الطلاب عني معنى ما قصدتُّ لمجرد أنني تعمدت أن أستخدم لفظ الشياطين. تعليم العربية للمسلمين أمر ميسور لكن السدنة والأفاكون الذين يتحدثون باسم الأمة في المواقع الكثيرة لا يعنيهم أن يضعوا برنامجا مثل هذا قابلا للتنفيذ وذا مردودية ثابتة في مجال رتق اللحمة بين أبناء الأمة، فما يعنيهم هو إطالة عمر المنصب ، فبزواله تزول امتيازات دنيوية لا همة لهم ولا أهلية لتحصيلها بغير الانبطاح.(8/125)
وطفنا بقسم الدراسة الإعلامية في المركز ، خلية من النوريات لكل مكتب وحاسوب ، وهن عاكفات على عملهن بانهماك لا يغيب عن نظر الملاحظ. كانت المذيعة معدة البرنامح هي زاهدة أولكي باقلر. وجه دائري قمحي كالبرعمة في الربيع ، أجرينا عليها تشخيصا صوتيا ، طلب إليها كنعان أن ترتجل طريقتها في تقديم برنامجها ، فبدأت وأدرت أنا وجهي ليصلني الصوت بدون الصورة، وفورا اكتسب الصوت نبر مضيفات الطائرة وهن يعطين التعليمات للمسافرين. كان صوت زاهدة مثل شكلها جميلا ويؤدي وظيفة يرضاها الله ورسوله وتفيد الأمة في عاجلها وآجلها. زنبقة أخرى كانت في ذلك القسم فاطمة، وبرعم آخر أيضا هو أوزلام كانت بمعية فاطمة يشتغلان على الرسائل، وزينب باكسو (باكسو هو الأستاذ الذي يشتغل بالرسائل ويكيفها في برامج وكتب للأطفال). مكتب آمنة خال، غائبة لإجراء حوار مع بعض الأطباء. في هذا الحر، وفي هذه الساعة (الواحدة وكذا) تقوم هذه الخلية بالعمل .. هذا أمر لافت ومبشر ، وعهدنا بطوابير من الإيناث يسترقن الفسحة للإختلاء بما يفضي إلى اقتراف الموبقة .. وأمس لفتتني وأنا على طاولة الطعام تلك المرأة الصبوح تخرج سيجارتها وهي تواجه زوجها ، وأطفالها يدرجون من حولها ، وتوقد السيجارة ، وانقلبت فجأة تلك الصباحة في حسي إلى ضدها .. والإشهار هنا من خلال ما رأيت وأنا أركب سيارة الأخ أحمد في طريقنا إلى المطار صنع من المرأة واجهة ليس للفتنة –الحلال أو الحرام- فلم يعد للأنثى في مدنية المادة واأسفاه ما يفتن، ولكن مائدة للجنس الفظ ، فهي معروضة من خلال صورة عملاقة في أوضاع لا توحي -في ما أعطى الله المرأة من سجايا خارقة- بأدنى قيمة إلا قيمة الغريزة. هناك صورة لامرأة تلبس الأبيض وتمتد كصعيد من الثلج، وقد مددوها في استرخاء حميمي على مجاري فضية لنبع يجري بين أحراش الطبيعة البكر. ماذا تريد الصورة أن تقول إذا لم تقل ها هي قيمة المرأة بعد أن تحولت إلى سلعة،(8/126)
وإلى مادة إغراء يستغلها الإشهار السياحي الرخيص. فهل المرأة هي كل هذا فقط؟ وأين هي المرأة صانعة الرجال والنساء وركيزة المجتمع والقديسة، والتي يحوز الجمال الذي لا يستدعي بمظهره الحس الجنسي بالضرورة والتحديد أين هي المرأة الصديقة التي تشحن الحياء والوقار والدفء والعطاء الطاهر المبارك؟
يجلس الآن قبالتي، في مسجد المركز، الأستاذ جميل طوقبنار، هذا الكاتب الذي تغذى معنا على مائدة واحدة، والذي أخبرني كنعان أن كتبه مستمدة من الرسائل، وأنها تروج بصورة كبيرة بين الأوساط، يجلس لتلاوة أوراده بخشوع لا يعطي الانطباع بأن هذا الرجل يحوز شهرة وموهبة.. لو أنه انتمى إلى بعض تيارات أصحاب المروق، لما جلس في ركن مسجد وتلقى نسمات هذا المدد الغيبي الذي يعطي الروح والنفس حاجتها من الترميم اليومي المفيد، بل ولكان بمظهر ابليسي، ولكان ثملا، ترسو أحلامه على مزيد من مهيجات التفحش والاستهتار. يجلس جميل الكاتب الشهير، كغيره من الناس، في مصلى بمركز النور يؤدي حق الله عليه ويستدعي توفيقاته ويستزيد مننه عليه. ورن هاتف كنعان وقال لي هذا فارس يبعث بالتحية، قلت رد عليه من قبلي وقل له إنني أحضنك على البعد.. ثم أحاط بي طلاب ثلاثة قالوا إن لهم مسابقة يدعمها الاتحاد الأوروبي حول مزايا انضمام تركيا إلى أوروبا، وطلبوا رأيي.. وذبحني سؤال جاءني منهم يقول ماذا يشعر العرب وهم يرون اتحاد أوروبا يقام ؟ قلت لا زلنا على سذاجة سياسية ومدنية، وما لم تتعمق الديمقراطية الحق في أوطاننا فلن نستطيع أن نفعل شيئا في هذا الاتجاه. ثم بينت لهم رأيي في مثل هذا اللون من المسابقات الني يشترك في تنظيمها الغرب، وقلت لهم لا شك أنها ضرب من الروائز التي غايتها أن تتعرف على أعماق ما يدور في ضمير المسلم التركي. من هنا كان التعامل الذكي معها أمر مفيد. انضم إلينا الأستاذ علي، يتحدث العربية، دائم الابتسام، درس بالأزهر ويشتغل مع كنعان في ورشة الرسائل(8/127)
وكان معه صلاح الدين أرسلان مدير دار نسل الذي جاء يبدي رغبة في ترجمة كتابي سيمياء الشكل والصميم. قلت هذا أمر يسعدني لأنه سيوسع من نطاق ما يكون لهذا الكتيب من فائدة.
قادني كنعان عصرا إلى منطقة فلوريا – مرتفع أخضر، تظله أشجار الصنوبر، أرضيته عشبية تصلح للعبة الغولف، وتحت أنظارنا راحت الموجة تترقرق، كنا على ضفة البحر، كانت المنطقة قريبة من المطار، لذا كان دوي الطائرات لا يزال يتواصل، كان ذلك هو الازعاج الوحيد الذي يمكن أن يجده المرء وهو يرتاد تلك البقعة. إني لأقسم بالله المعظم أن صاحب الموهبة والفتوة ليستطيعن أن يبتدع إلياذة أخرى من جنس إلياذة هومير لو لازم هذا المكان حينا. وجاءنا النادل بالماء المعدني بعد ما فشل كنعان في إغرائي بتناول شيء من المبردات. وجلسنا للحديث، رأسه ملأى بمشاريع، عرض منها علي أربعة، كلها يفيد وكلها يجعل النفس مستعدة لأن تتبناها، هو يريد أن ينفذ أعمالا تساعد على قراءة وفهم الرسائل النورية، وبعد أن استمعت إليه رحت أؤكد له أن مثل هذه الدراسات ستذلل الصعوبات أمام الدارسين والباحثين، فكل إنجاز يتم حول الرسائل يجعل المهمة تتيسر على الراغبين في مواصلة البحث، ويوسع من الآفاق في وجوههم. ثم درجنا نتحدث عن النشاط التعليمي للنوريين، وتبينت أن المبادرة الحرة تنهض بقدر معتبر في مجال تلبية الحاجة والتكفل بمطالب فئات واسعة من الناس. حدثني عن بعض النوريين يفتتح مدارس حرة وكيف أنه يخصص في منظومته فسحة للنجباء والموهوبين، وكيف يتكفل بالمحتاجين منهم ماديا.(8/128)
عرفني كنعان بماضيه، درس في الحجاز، واشتغل سنين في مصر، كان يدير شركة سوزلر. حدثني عن عناءات مرت بهم في تلك المرحلة التي سادها الكساد. لا يزال يحمل في أعماقه آثار تلك الروح الأبوية التي أظهرها له الأستاذ فرنجي، قال لقد انسدت أبواب الإسعاف في وجوهنا، وجئته، وكان كحال الجميع لا يملك شروى نقير، بعد أيام تدبر لي تذكرة عودة ومجموعة من الليرات، ذاك كل ما استطاع أن يزودني به، وكان قليلا، لكنه بمقاييس المخاض الذي كنا نمر به، كان كافيا لأن يجعلني أعود إلى موقعي من حيث أتيت.(8/129)
كنا قريبا من وقت صلاة العشاء، منطقة السلطان أحمد في الليل تذكرنا بقصص آغاتا كريستي عن ليل أوطان الشرق، الشوارع قلت حركتها، وشدتنا المنصة الغارقة في زخة من نور أزرق. كان الراقص المولوي يقف كالتمثال، بل كان يدور كما تدور المجرة(1)[3] حول نفسها. منظر ظلت نفسي تتطلع إليه منذ حين ليس بالقصير. كم جعلتنا أشرطة الغرب نتوق لنشاهد عن كثب مثل هذا المنظر. وبكل تأكيد فإن المشهد كما جسد فوق هذه المنصة، وفي هذا الموقع العمومي لا يعطي النكهة الحقيقية ولا الحساسية الطبيعية التي يعطيها الموقف حين يتأدى في التكية وتحت نظر الشيخ. كانت المنصة تشرف قليلا على ساحة المقهى، أو قل الكيوسك، وكانت الفرقة تتكون من عازفين إثنين، وكان الراقص يستطيل فوقهما بما وضع على رأسه من شاشية كأنها قالب من قصب، ومع ازدياد دورانه كان ثوبه الأبيض ينفتح كالمظلة، وكانت الصدور تكتم أنفاسها مخافة أن ترى الرجل يسقط، وكانت الموسيقى تلاحق اندفاعاته، وتتمادى ضربات الطبل هي أيضا في الملاحقة، أي سر تريد هذه المجموعة أن تكشفه للناس حتى يقتضي منها ذلك الهدف كل هذا العناد؟ وفجأة تتسمر الحركة، كل شيء يتجمد، كأننا أمام مخلوقات من ملح. لكن المشاهدين يمضون على حال سهومهم لا تصفيق ولا تلويحة إعجاب، وكأنهم لا يتابعون نجما يبذل من الجهد ما يبذل من أجل إمتاعهم. رواد الساعة يغالبون إعياء النهار، وتلك النادلة التي أراها تطير من جناح إلى جناح، في انهماك شقي، ترى ما شأنها هنا؟ أية ظروف قاهرة تستبقيها تمارس مثل هذه الخدمة بهذا الانخراط، في مثل هذا الجو؟ الجميع هنا يتلقى المشاهد براحة بال، سواء أأستظرفوها أم تجاهلوها، فيما يغيب هذه الفتاة عن كل ما عدا الخدمة، لا أحد يعلم ما كانت تشعر به هذه الفتاة الرقيقة، الصلبة، الخفيفة بخطاها على الأرض. هذه هي فراشة الليل، ولا ريب أنها تجد كثيرا من الإرهاق، ولكل أن يعيش قدره، ولا خيار لها. كان يغطي معها(8/130)
تلك المساحة أكثر من نادل، ها ها هو أحدهم يتوقف، يسترد أنفاسه، ها هو يدفع عنه السآمة والإنهاك بتلك الحركات التي يأتيها بيديه، كان يدير على رأس أصبعه الوسطى صينية الخدمة، أم تراه كان يؤدي فقط على ذلك النحو دورا مرسوما له، تخفيفا وترويحا على رواد المقهى؟ وراح نادل آخر يعجل بالشيشة إلى زبون. لأول مرة رأيت امرأة تشد إلى فمها شيشة، رأيت ذلك وأنا أجلس العصر في المنتزه بمعية كنعان. إنني أقف الآن على حافة الحاجز الفاصل بيني وبين الساحة، من حولي جمع أغلبهم سائحون شدهم اللحن فانجذبوا يكتشفون ما كنت أكتشف، وما لبثت أن خضت مع صاحبي كنعان في موضوع لغوي حول الفرق بين ألفاظ الناي والنعي والنأي. اللغة العربية حين تأخذ من رصيدها بطرف تتبدَّى لك طبيعتها الفسيفسائية، فلأدنى حركة تصيب أدنى قلامة من لويناتها تتَحَصَّلُ على شكل جديد ودلالة مغايرة. ساحة السلطان أحمد حَدٌّ فاصلٌ بين مَعْلَميْن من معالم التاريخ والحضارة، أياصوفيا تواجه المسجد الجامع. لم يستول الفاتحون على جامع أيا صوفيا إلا اضطرارا لإقامة الجمعة، تحول اليوم متحفا، وأرض الله كلها مسجد للمسلم، وكلما تأملت نظام هذه البلاد وتجددها رحت أؤكد لمن يرافقني أن عسكريتهم عسكرية متحضرة مهما قيل. هذه اسطنبول العتيقة، هذا وجه الشرق يتزاوج مع وجه الغرب في لقاء حتمي لا مرد له.(8/131)
كان كنعان قد أصر علي أن أرافقه إلى البيت، وكنت أريد أن أشاهد اسطنبول ليلا، وأن اذرع بعض شوارعها وأرى بعض مآثرها، فأصررت على عدم الاستجابة لطلبه.وراح يعرض علي البرنامج كالتالي: نذهب إلى الأستاذ فرنجي لنتسلم منه هدية هيأها لك، ثم نعود إلى الفاتح نصلي المغرب، ونتجول في المدينة ونصلي العشاء، ثم نقصد إلى البيت، وعند منتصف الليل ننتقل إلى المطار. وتفاوضنا طويلا لتعديل البرنامج، وهكذا توجهنا إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري.. الحركة قلَّتْ لكن هناك أفواجا من الزائرين ما زالوا يتوافدون على المزار. طيلة الطريق وكنعان يتخير لي اللحن الموسيقي الذي يناسب مزاجي وأنا أطوف أحياء اسطنبول، عينات من اللحون استمعنا إليها لكنني كنت أطلب المشجي.. لا عجب، فأنا عربي وقد كانت العرب تشجيها ألحان العجم، ولذلك مازجت الإيقاعات الفارسية والتركية والبربرية لحونهم وغطت عليها، كانوا يصمون غيرهم بالرطانة في الخطاب ويعترفون لهم بالفصاحة في التلحين. وأخيرا وقع لي صوت قلت له هذا هو، دعه يحرك سواكني في هذا الأصيل الغارب. أوقفنا سيارتنا ومضينا نمشي، إننا في طريقنا إلى أبي أيوب، إن كنت صادقا فإن نفس الشعور الذي يستولي علي كلما كان يذكر أمامي اسم الأنصاري هو نفسه الشعور الذي يستولي على هؤلاء المتجهين إلى روضته، نفس الحنان الذي يتملكك وأنت في طريقك لزيارة جدك أو عمك المعمر. في أعماقك يستقر إحساس بأنك ستغنم كرعة من الحب والأنس والارتياح البهيج. هل هناك تحفظ يمكن أن ينغص على المرء سعادته وهو يزور جده الذي تربى في حجره؟ كذلك كنت أحس وأنا أقترب من الضريح. الروح تتواصل مع هذه الرموز العتيدة بلا تحفظ، لأنها تجد صلة النسب بينها وبينهم عميقة وأصيلة وقائمة بقوة لا إله إلا الله. أية أبوة أعظم وأصلب من أبوة الروح؟ كانت الروضة مغلقة، لكن الزوار وقفوا يرتلون ويدعون من حيال النافذة، قرأنا الفاتحة واستمددنا الرحمات، ثم تحولنا إلى(8/132)
الساحة حيث المحلات. نفس المحل الذي اشترى لي منه صنغور منذ سنوات زوجا من الكاسيت دخلناه. لم نجد حاجتنا، ودخلنا آخر وآخر، وجاءت السيدة وعرضت طبوعا لم ترق لنا. شيء فيه قطرة من الإعجاز كنا نبحث عنه. شيء كذلك الذي ظل النورسي يستلهم منه لوحاته وهو يعالج بفرشاته مناظر الكون المشهود.
وانتهيت بعد تطواف بأن اشتريت مجازفة كاسيت واحدة، وكان كنعان تخير لي واحدة أخرى من صندوق سيارته. سأحمل مجموعة معي وستكون زادي خلال أشهر الصيف، الليل والصمت والتأمل، ومراودة الأفكار، وتجديد الريق الروحي، يزين لي أن استنشق عبير الموسيقى طيلة موسم الحر. سياحتي الشعورية المفضلة –بعد سماع الحزب-هي هذه اللحون الإيكسوتيكية (بعيدة الديار). أشهى ما يشدني أن أسمع موسيقى القارات البعيدة، وأن أقرأ أناشيدها الوطنية، وفاتني أن أطلب النشيد التركي إلى قاسم. واللبيب يعرف شيئا غير قليل عن شخصية الأمم من خلال تنقيبه في أركيولوجيا أناشيدها الوطنية. اللحن الفارسي والتركي يشجي الإنسان العربي. شيء يتحرك في دواخلنا ونحن نستمع إلى تلاحين هذه الأصقاع. هل تفهم لماذا؟ إنها صلة النسب المحمدي.
حين كنت أجري المقابلة الإذاعية بمعية كنعان شرقت برشفة الشاي ونحن في صميم البث المباشر. ما أكثر ما استغربت لحوادث مثل هذه كنت أراها أحيانا تقع للمتحدثين على المباشر. كان موضوع الحصة التفسير والمفسرون. ليس هذا الموضوع بغريب عني، فقد فتحت تكوينا لطلاب الماجستير والدكتوراه في اختصاص سميته فقه الخطاب القرآني عند المفسرين. سأستقبل بمقتضاه خمس طلاب في السنة القادمة إن شاء الله. دارت المحاورة ساعة ونصفا، وتساءلت قبل دخول الحصة ترى هل هناك من يتابع ما سأحدث به عن التفسير في عصر السرعة والأرقام البنكية؟(8/133)
تجولنا طويلا، كان كنعان أشد من عرفت لباقة، لكأنه ظل حياته كلها يشغل وظيفة المرشد السياحي، والفرق بينه وبين وحدت أن وحدت كما أسلفنا يأمرك بصرامة الانكشاري.. إلى هنا، إلى هناك.. ترى هل كانت متعتي تكتمل لو أن وحدت التزم معي التحفظ والمجاملة طيلة تلك السفرة؟ أتعس أوقاتنا هو ما نقضيه في جو التصنع والتحفظ. ومرت مدة إقامتي عند قاسم كأنني في بيتي تماما.. صلة الروح تتجانس معه تعطيك هذا الشعور بالضمان والوثوق والطمأنينة والاندماج. ظل كنعان يتخير لي المشارب والمناظر، وأخيرا قادني إلى الفحَّام.. يا لله كيف علم بالشهوة التي تطيب بها نفسي؟ كانت قناديل الذرة المشوية تبعث برائحة الطفولة. وساقني إلى أحد المواقد المقامة على القارعة قبالة مسجد أبي أيوب، وخيرني قائلا أتريد أن تأكلها مطهوة في القدر أم مشوية على الفحم؟ قلت هذا سؤال لا يطرح بتاتا، نريدها محمصة، مفحمة، لاهبة، تحرق اليدين. ثم تساءلت أمن المروءة أن نجلس على القارعة نأكل ؟ قال أنظر، فرأيت أناسا من الجنسين توزعتهم المقاعد عبر أركان الساحة، أمسكوا بقطع وراحوا ينهشونها، فسارعت إلى أخذ قنديل محمر ورحت آكله كما كنت أفعل وأنا يافع في بعض قرى الهضاب.
في المطار(8/134)
ها هي الواحدة ليلا، وها أنا منتفخ الساقين آكل حلوى اسطنبول وأتابع حركة الليل، وقد جلس حيالي شاب انهمك في مسح حذاء رجل كانت المحاورة قد انقطعت بينهما منذ لحظة، الشاب يؤدي عمله كما يؤدي المدلك عمله في الحمام تماما. كان كنعان قد قادني إلى منطقة السلطان أحمد، هذه هي اسطنبول العثمانية، بعض البيوت من خشب لا يزال ساكنوها يعيرونها العناية اللازمة كما يفعل الإنسان حين يمتلك شيئا أثريا ثمينا، كانت الساحة لا تزال تشهد حركة السواح رغم خلو الطريق من الكثافة البشرية التي تكون لها أثناء ساعات النهار. وتأملنا المسلة الفرعونية المعلقة في أحد معابر الساحة، ورحت أفك ما استطعت من كلمات هيروغليفية منقوشة على الصخر، معاني القداسة والوعظ وتعظيم الرب، ذلك بعض ما توهمت أنني فهمته، فمعلوماتي عن أبجدية تلك اللغة السيمونتيكية قليلة، وهي ليست بالمعقدة على من يريد أن يكون اطلاعه عموميا، وأرسلنا البصر في الفضاء، بناية المسجد السلطاني فخيمة، تعكس عظمة هذه الحضارة التي زاحمت الغرب على قارتهم وافتكت منه سهما، كلا لم تفتك منهم قلامة، إنما تدرجت إليهم ومنحتهم النور في تلك المراحل من التاريخ، حيث كان العقل مقهورا بالظلامية والجهل. وتحولنا إلى المدارج وصعدناها وحللنا إلى الرحاب، كان السواح من الجنسين يخرجون من صحن المسجد، قد شدوا على رؤوسهم قطعا من القماش الأزرق، أما الرجال فيربطون القطع الزرقاء من حول مخاصرهم. سأرى بعضهم يطوف داخل المصلى وبين السواري، فقد رسموا لهم حدا لا يتجاوزونه. وصلينا، كلا الإمامين إمام مسجد الأنصاري، وإمام مسجد السلطان أحمد صوتهما رعدي، نحاسي، إيقاعي، ينبعث من أعماق تعرف كيف تُرَجِّعُ المشاعر وتصنع منها حنينا وجَوّاً من التخشيع. وقلت لكنعان ما بال الأستاذ فرنجي يوقع بنا هذه العقوبة؟ أهذا جزاء محبتنا الخالصة له ولحرمه القرآنية شكران؟ لابد وأنه لم يوَفَّقْ في التدبير. هو يعرف أنني كدت(8/135)
أترك مجلدات الرسائل في بعض أركان المطار لضيقي بها وبكل ما يزيد عن حقيبتي، فكيف يحملني هو زجاجا؟ كنت فعلا مهموما بمسألة الهدايا، فقد أرسلت آمنة وزوجها مرمر بهدية كريمة أيضا اضطررت أن أجردها من مظروفها الكارتوني لأجد لها موقعا في الحقيبة. تبسم كنعان ورمقني كالمتسائل. فرحت أقدم له العرض التالي؟ما رأيك؟ هل تأخذ رزمة الزجاج هذه وتكتم عني؟ رفع يديه عاليا وقال كلا. قلت ما رأيك لو أوقفت السيارة لنترك الرزمة في زاوية بالشارع؟ ثم سرعان ما قدرت أن مثل هذا التصرف لا يجمل بي أن آتيه لا سيما وأن الهدية من شخصين أكن لهما محبة لا يعلم أصالتها إلا الله. محبة ألقيت في قلبي منذ أن تقابلت مع فرنجي وخاطبته وسمعت مروياته عن الماضي، كنت أتابع كلماته الهادئة وأهش لضحكاته التي يصنعها بصدره وأنفه ويرسلها على سجيته. أجل ألقيت محبتهما في قلبي منذ أن عرفت أن شكران تكابد كثيرا من أجل أن توصل الرسائل إلى ذوي الحظ من البشر، وها أنا سعيد بهديتهما ومبتئس في نفس الوقت. النورسي كان ينفر من الهبة طبعا وأنفة، وأنا أنفر منها لما تجشمني من عناء لاسيما وأن الرحلة بالقياس إلي هي سانحة استجمام من منطلقها إلى مختتمها، وأدنى عبء يعترضنا فيها فإنما هو تنغيص لا مبرر له. وصمت أتدبر أمري وأخطط للطريقة التي أتخلص بها من الحمل. لا شك أن ملامحي تكون قد أعربت عن اغتمام بالغ، وإلا ما بالي أسمع كنعان يخاطبني بتلك الكيفية المتعاطفة ويعدني بأنه لن يفشي سري.. لو قال كنعان هذا الكلام قبل لحظات لكنت تهللت وطرت فيه هاتفا: حسْبُكَ، قِفْ.. ولسارعت إلى وضع الرزمة على الرصيف ولهتفت إليه تارة أخرى: اندفع، لقد تخلصنا منها. لكن رأيي الآن كان قد استقر على وجوب أن آخذ الرزمة معي، فأي تنازل عنها بتلك الكيفية لا يفسر إلا بما هو ليس من خلقي.(8/136)
كان لابد لي أن أسرح مضيفي، لقد مضى عليه اثنتا عشرة ساعة في رفقتي، ومن حقه أن يعتق ويعود إلى البيت للاستراحة. رفض بقوة، وظل يتهرب مني وأنا أدفعه في اتجاه المخرج، قال جازما كلا سأبقى في الباب.. وهنا رحت أقسم وأعيد القسم، و.. تعانقنا وسار وقد هربت منه عيناي، فأنا دائما استثقل لحظة الوداع، ولا أجد موقفا يماثلها كمدا، من يراني عندئذ يحسبني بارد العواطف لتظاهري بغير ما أحس، لكن حرقة الوداع تبقى معي بالأيام، كمن يطفئون على صدره سيجارة، ولست مبالغا. دفعت حقيبتي أو قل جررتهما وفي يدي محمول آخر به هدية الأستاذ فرنجي، كان كنعان قد تركني في موضع قريب من مكتب المعاملة. وقلت في نفسي كيف السبيل إلى اجتياز هذا التكدس البشري؟ كلٌّ وقَفَ وبين يديه جبل من رزم. وجاءت صوت قبل أن أبرح موقفي تسألني: كم معك من متاع؟ وأقبل بعضهم يريد أن يزن الحقيبتين بنظره تقديرا ، لكن أكثر من صوت هتف به أتركه.. وباشرني أحد مفاوضا قلت إن رأيتَ وزني دون النصاب زدني ما يمكن.. هؤلاء باعة من بلادي احترفوا السفر إلى بلاد الفاتح ليعودوا برزم يبيعونها، سلعة تركيا في موطني صنعت في مرحلة ما سيناريوهات لأحلام وردية بعد أن وفق أفراد في التعامل بها. غطت على سلعة الشام ومارساي والزوية .. جيل من الشباب البطال ظهر لا يعرف من الثقافة إلا أن يلبس القطع المجلوبة من سوق بايازيد، وينتصب ساعات النهار في القارعة أو يرتاد القهوة يحرق رئتيه بالدخان. وها أرتال من نساء بلادي احترفن تجارة الشنطة.. حين كنت أمرر عيني على تلك السيدات اللائي تناقص عددهن كثيرا في الوقت الراهن بعد أن عادت البواخر تحمل إلى حارات بلادي وأسواقها الكانتونارات، كنت أجدهن على وقار، وكنت أحب فيهن ذلك اللون من الصبر ومحاولة الصمود الشريف في مهب الفتنة. كم هي عظيمة المرأة في بلادي، لا بدع أن تكون كذلك هي التي أعطت مئات الآلاف من الغرر الميامين فداء للوطن. وطني أصابته(8/137)
فجائع وفقد خيار الرجال..ملايين الأشاوس، والغابة حين تأكلها النيران تغدو مجرد رماد وصخور صماء ومنظر مفحم لا تحتمله العين، بلادي اليوم هكذا.. عجز مزمن في الرجال، فالمخلصون -وما أقلهم- يُرَتِّقُون الفتوق بأشباه الرجال في أغلب الأحيان، لذا تبذل هذه الفلول من الحرائر ما تبذل من صبر واحتمال. لكن عمر الغابة وإن اقتضى الوقت الطويل فهو حتما يتجدد ويخلف وجها أكثر رونقا وأبهى مظهرا. ورأيت نفسي وسط الزحمة، لكن أذرعا عديدة أشارت لي بالتقدم، فهمت أنهم يترددون في القيام بدفع أمتعتهم لأنهم يعرفون أنها زائدة وأن الزيادة تكلفهم المبالغ الباهظة، تراهم ينتظرون الموظف البديل، فربما يكونون معه على وفاق وتواطئ ، فستلفتني علاقة بعض الشباب المسافر مع موظفين هناك. لم يكن يقلقني أدنى خوف من هذا الجانب، كنت شبه جازم بأن حمولتي تنقص عن النصاب ببضع كلوغرامات. والتفت كأنني أطلب إلى الشاب الذي أوصاني لأشعره –بعيني- أن يتهيأ ليناولني بعض متاعه أضمه إلى أشيائي.. وتناولت الموظفة التركية الجواز والتذكرة مني وراحت تراجع الحاسوب، ثم طلبت إلي أن أضع المتاع فوق مدرج الميزان، وضعته وعيني إلى الوراء، كنت راغبا حقا في أن أحسن إلى أحد أولئك البطالين، وجاءتني كلمات الموظفة بما لا أفهمه، التفت ناحيتها وأنا أتساءل، كل شيء كنت أتوقعه إلا زيادة الميزان.. وتدخل الموظف الجزائري الواقف حيالها وقال: عندك زيادة. نهنهت وقلت : لا ليس عندي زيادة، قال أنظر، فإذا فعلا النور الأحمر يسجل زيادة، قلت ماذا علي؟ قال تدفع، قلت ليكن، وحولت عيني إلى وراء كأنني أردت أن أكسر فرحة الفتى قبل أن تزداد وتكون خيبته مؤلمة. ورحت أستخرج المبلغ، وكان جوازي في يد الموظف الجزائري، سألني ما ذا تحمل؟ قلت وأنا أهيئ الأوراق المالية : ريح .. ثم أردفت كتب.. قال أنت جامعي، هززت رأسي. مخاطبا نفسي وماذا يفيد أن أكون جامعيا ارحل بكتب؟ قال هل تعلم نسبة النجاح في(8/138)
الباكالوريا هذا العام؟ سبعا وعشرين لا تزيد. قلت ما شأني بهذا الآن؟ أعاد التدقيق إلى وجهي وقال كالمستوثق : هل تحمل كتبا بجد؟ وهنا باشرت بانفعال جلي فتح الحقيبتين تحت نظر الموظفة المندهشة، تطلعت الموظفة بعينيها وقالت وهي ترى الصفوف في كلتي الحقيبتين: لو خففت من إحداهما شيئا تحمله في يديك. قلت هل تعتقدين ذلك؟ قالت وكيف لا؟ ثم راحت تستل أشياء وبدأت بهدية الأستاذ. نسيت أن أقول لكم أنني بعد أن ودعت كنعان أودعت بمشقة هدية الأستاذ في الحقيبة، كانت الهدية تمثل أكثر من علبة، ولم أكن أعرف إلا أنها زجاج، وسرَّبتُها بدون أن أتخير لها المكان الذي يصونها، قلت على قدر ما أزعجتني فليكن حظها من السلامة. وتوقعت أنها في كل الأحوال لن تصل إلى بيتي، قلت فهي إن مرت في مصلحة الرزم هنا بسلام، فحتما ستلقى حتفها في مطار العاصمة، أو على أبعد تقدير في مطار وهران. عمالنا هناك في أغلبهم زورباوات وسينتقمون لي منها. لابد أن تكون الحقائب مدرعة وإلا لن تطمع في أنك ستستلم شيئا معافى. أغلقت الموظفة الحقيبتين بكامل المهارة، وضغطت على الزر فانساب المتاع، وراحت تناولني ما أستخرجته.قال الموظف مترجما عليها، الآن استجمع هذه الأشياء وأحملها في يدك مثلما تحمل حقيبة اليد، أو بالأحرى كالمحفظة، أنت متعود على المحفظة ألست أستاذ؟ قالت ذلك وتضاحكت، وازداد ضيقي بها، ولا أدري كيف وجدتني ألقي إليها بأوراق مالية وأصيح بها: إلا هذه، إلا هذه، أريد أن أدفع وأسافر في راحة. وقرأت الاستغراب والدهش على وجهها، وقالت كلاما لم أفهمه، وتدخل الجزائري يقول: مهلا، رويدك.. ماذا تريد؟ قلت وقد ازداد صوتي ارتفاعا: أريد أن أسافر مرتاحا، لا أحمل في يدي شيئا ينغصني.. قال وماذا تريدنا أن نفعل لك؟ قلت خلصوني من هذه الأشياء. قال الحقائب انتهت الآن إلى الداخل.. قلت وقد ازداد توتري ها أترك لكما هذا هدية من عندي، قلت ذلك وعدت أدراجي، وحمل الموظف(8/139)
الأشياء، وجرى بها ورائي، وقبض علي، ودفع بها إلي، رحت أردها فغالبني ووضعها في يدي، التفت ناحية الموظفة وجريت بها إليها وتركتها أمامها، فوثبت هي أيضا وركضت بها ورائي، وألقت بها في غيظ إلى، وراحت تحتد في الكلام، التفت إلى بعض الشباب ومددت بها إليه، فتراجع، تقدمت منه فتراجع أكثر، والتفت إلى آخر فوثب بعيدا عني وقال: أما ترى ما عندي، ابتعد عني، وقلت لآخر هاك هدية نفيسة، قال ما هي؟ قلت زجاج، قال لو نصحتك هل تسمعني؟ قلت وكيف لا؟ قال الق بها أرضا، ألست تقول إنها زجاج؟ وتأخرت خطوات، واتسعت من حولي الدائرة، كانت الموظفة والموظف لا يزالان يتسمران في موقفهما وقد صارا الآن جزءا من الحلقة، ورفعت يداي إلى أعلى وألقيت بالرزمة أرضا.. وسمعنا ارتطامة انكسار كأنما هو انكسار طاقم شاي، سارع إلي الشرطة وسحبوني من المكان، ولما عرفوا حقيقتي تركوني، فانطلقت وقد استعدت شيئا من سعادتي، كنت قد تخففت من الحمل، وها أنا أضع يديي في جيوبي وأمشي متحررا، وأحيانا أصفر، وحين نالني العياء، جلست إلى آلة أطلب منها شرابا مثلجا.(8/140)
لم يكن هناك من مسافر في تلك الساعة إلا نحن، وتداعت إليَّ أفكار بعضها مؤذٍ وبعضها معزِّ، ورحت أقول لنفسي: هذه ضريبة العبور، شعب خذله ساسته فانطلق يجرب ويخرب، وحتما سيتعلم وسيكتسب الرشد وسيسير السير المحمود. هل هناك جنسية أخرى ابتليت بما ابتلينا به وتجرعت ما تجرعناه وتقزمت على هذا النحو الفظيع؟ من هي الجهة التي تخيرت لخطوط وطني هذا التوقيت لتجعل الجزائري يقطع القارات شبه مسطول(1)[5]؟ أمة تمارس عملية الحبو وحدها في غفلة من العالمين، وتختزن فجائعها في ذاكرة عمقها آلاف الحقب، وتهز رأسها للزمن تتوعده.. لا محالة أننا انتهينا إلى درك حضيض، لا مزيد عنه، وهذا سر ثقتنا في الغد، وهذه هي ضمانتنا، لن تعرف بلادي إلا دهورا من ربيع، لأنها تعودت أن تقهقه وأقدامها دامية، وسهام الابتلاء تتراشق في صدرها، والنصال تتكسر على النصال. هل هناك جهة أو قوة ما تتأهل لأن تستخف بنا اليوم؟ بعودتنا إلى إسلامنا الصحيح سيكتمل رشدنا ، وسنسير بكامل الحبور نبني ونشيد.(8/141)
وتحول ذهني إلى آسيا، قلت يكون الآن قاسم وفريد وصلا إلى متجههما، هكذا يجمعنا آل ويفرقنا آل، وتعانقت مع كنعان، وكتب لي جملة أرقام وقال لا ندري فلعلك تحتاجها إن جد ما يوجب الاتصال. وسألت الدمرتاش ابنه الموهوب أية حكمة تنصحنا بها أنت ابن هذا العصر؟ ظل يفكر ثم أجابني بما علمت أنه حسن تخلُّص.. قلت له لي ولد في عمرك يسمى مـ.. يعيش مكفهرا كشتاء سيبيريا، ويوم يبتسم في البيت تتهاتف الأسرة وتحتفي وتتحدث بالحدث أياما، قد عملنا كل ما ظننا أنه سيهون عليه الحياة ليعيشها رائقا دون جدوى ..ثم أضفت: قل يا دمرتاش ابني أي عناء تحملونه يا أبناء هذا الزمن، يا هذا الجيل المحظوظ؟ تبسم من وراء ظهري وصمت. تحدثنا بعد ذلك عن ظاهرة تفوق البنات على البنين في التحصيل والمعاملة الاجتماعية والإقدام، وانتهينا إلى أن بناتنا حقا رجال. وحدثني كنعان عن آمنة ابنة الثمانية عشر ربيعا التي تتهيأ لإصدار مجلتها، قال إنها على جرأة وتصميم ما يجعلنا نطمئن على أنها قادرة على تحقيق ما تطمع إليه من مشاريع. قلت هذا من تباشير الفجر السعيد. وتعمقنا في المسألة قليلا وانتهينا إلى أن الأمم مثل الأفراد يدركها النصب يوما ما، وتتبادل المواقع، فلذلك سيطلع الصبح من جديد، وستجد الأمة المحمدية نفسها تارة أخرى تحضن الإنسانية بالعلم والتطورات والأخوة مثلما حضنتها طيلة قرون في الماضي.
الأستاذ فتح الله كولن.(8/142)
لم أكن أعرف قبل اليوم من هو كولن، وذلك شأني مع الأسماء الإسلامية التي تخالط السياسة أو تباشر العمل الدعوي، ظللت أنتمي إلى ثقافة وطنية لم يكن الإسلام إلا ركيزتها وحليتها وروحها، وتحرر وطني وكل مقومات كفاحه إسلامية، فالجندي يسمى مجاهدا، والضحية شهيدا، وهناك الفدائي والمسبل وصحيفة الثورة اسمها المجاهد.. فلم يكن الجزائري في حاجة لأن يطلب إسلاما من خارج حدوده، هو الذي ورث دينا محمديا اجتاز به أخطر امتحانات الإذابة والتمسيح.. لكن الهمة حين تسترخي وتطغى نوازع التحلل،لا محالة يتضرر الجانب الروحي وتختل موازين الإنسان ، ويخرج عن سكته ، وذاك ما حدث، فقد تعاطت البلاد أفكارا من كل الألوان ، لأنها تهاونت في دعم أسس تلك الروحية التي حفظتها من الدمار، ولبثت التيارات تخترق المجتمع من كل وجهة وصوب، ووقع ما لم يكن في الحسبان، ووجد الجزائري نفسه في بيئة لم تعد تحيل على مرجعيات الأمس، بل لقد بات مجبرا على أن يتطلع إلى آفاق أخرى ومشاهير آخرين ليقيس روحيته وليضبطها، وفي غمرة الانفتاح وكثرة الموردين تنوعت البضاعة ولم يعد المرء يميز أيها الصحيح وأيها السقيم، وظلت فئات فتحت عينها على الاستقلال مشدودة إلى مثل الأمس وإلى سيرة رجال الأمس، سيرة الآباء الأشاوس. من هنا تعذر على تلك الفئات أن تستبدل أسماء بأسماء، ومذهبا بمذهب. ظل ابن باديس والإبراهيمي والعقبي والتبسي روادا وأئمة، وظل الأمير طليعة ورمزا، فلم الذهاب بعيدا والبحث عن بدائل؟ من هنا ظلت طوائف من بني وطني –وأنا واحد منهم-مكتفية برموز الأمس، أولئك الذين قادوا الجماهير وأطروها وجنبوها بتعاليمهم القرآنية الأصيلة الوقوع في الانزلاق والذوبان. من هنا كان جهلنا بالمشاهير الجدد من الدعاة والحركيين، ولم أعرف النورسي نفسه إلا منذ خمس سنوات لا تزيد، وما كان لي أن أتجاوب مع فكره وطروحه لو لم أجد تراثه يصدر عن عصارة قرآنية رحيقية خالصة، لا شائبة فيها. لقد(8/143)
تربيت في كنف أمة لا يخدعها الزيف، أمة كان القرآن هو مظلتها الواقية وإكسيرها الشافي وملاذها الأخير. فلا عجب أن لا أعرف من هو كولن، لقد وصلني منذ أشهر بعض ما ترجم له الأستاذ قاسم، ولفتني عنوان أحد تلك الكتب وهو في موضوع الجهاد ، والآخر وهو في الترشيد القرآني، وقلت هذه المواضيع لا تهمني ، هذه قد تهم من يتهيأون لاحتراف الدعوة وتزعم الجموع، ونحن إنما شأننا أن نفكر في القضايا، وأن نتحسس القيم الحية من العقيدة والفكر الإسلامي. لم أقرأ منها إلا جملا قليلة، أعترف أنني أحسست برغبة تدفعني إلى الكشف أكثر عن طبيعة صاحب هذا الطرح.. ثم زاحمتني الواجبات فأرجأت قراءة تلك الكتب، لكنني وجدتني أواجه مرة أخرى هذه الشخصية، أول الأمر حين سافرنا إلى بروسة، طيلة الطريق والمنشد يتهجد بصوت جهوري جليل، لم يكن اللحن يطرب ولكن الصوت فيه تهدج وبكاء مكتوم وعبرة يتحامل المنشد عليها حتى لا يغص بها.. أذكر أنني تساءلت أكثر من مرة ونحن على الطريق لم يتركون هذه الكاسيت تكدرنا؟ وأذكر أن واحدا منهم –لعله وحدت-أشار ونحن في بعض أطوار الطريق إلى أن المتهجد هو كولن، لم تترك تلك الإشارة أي أثر على نفسي، أو ربما استدعت ما يكون نهض في نفسي من انطباع عابر يوم أن وصلتني تلك الكتب المترجمة، فلعلي يومها شعرت بأن صاحبها لا يكون إلا أحد الخلف ممن تدفع بهم المطامح إلى شق طريق متفرد وتأصيل فرع يتميز عن الجذع من شجرة النور..وطبيعي أن يخامرني مثل هذا الانطباع الذي يفرض نفسه على من لا تكون لديه معرفة بالأشخاص والحقائق، فالأمة ما زالت تصاب في رأسمالها المعنوي بظاهرة التشرذم حتى على صعيد المعرفة والجهد الفكري، وإذا كان التجدد من سنن الحياة، فالاستمرار من أهم عوامل التلحيم وبناء التراكم، والأمة محتاجة إلى أن تتوفر على تكتلات روحية أصيلة تتفرغ بها ومن خلالها لبناء ذاتيتها المادية والمعنوية، من هنا أضحى ظهور الفرع بقدر ما يحمل من(8/144)
تجدد، بقدر ما يكون حالة إنهدار للقوة وتفكيك للأصل. من هنا وجدتني لا أتحمس لقراءة ما وصلني من كتب كولن، وسمعت وحدت أو قاسما يقول إن هذا الشريط قد سجل في غفلة من الأستاذ، سجله تلاميذه وبثوه دون إشارة منه. وقلت في نفسي كم في وطني من مشايخ في السياسة والدين لهم في نفوس مواليهم عالي المكانة، وهم في حقيقة الأمر مجرد دهاة يعرفون كيف يتلونون ويستلبون العقول الخاوية. وجلسنا في تلك السهرة وقد انضم إلينا نوزاد. وتطرقنا لا أدري كيف للحديث عن السيد كولن، وسرعان ما رأيت الفتى يتحدث عن الأستاذ بانفعال لا تخطئه العين، أقول إنه تناول من يدي حبة الخوخ واقترب بها من فمه، ثم تهاوت يمينه بها ، ذلك لأن الحديث القلبي عن ذكرياته مع أستاذه كان قد ألقى به في جو روحي حقيقي. يا للقرآن وما يفعله بالقلوب، وبدأت أستغرب مما أسمع، كولن لم يكن طالب مجد ولا خاطب دنيا ولا متوسلا إلى مقاصد فانية يرقى إليها على سلالم الدين. كولن كان باختصار وليا من أولياء الله الصالحين الذين يعز بهم زماننا هذا. ورحت استمع إلى ما استفاض من حديث يمجد هذا الرجل ويعظمه وينوه بأعماله، كان نوزاد يصنع اللوحة، وكان قاسم يمسك من جهته بفرشاة وكلما رأى موضعا عاريا بها بادر بتلوينه بلا كلفة، ولكن بمهارة واقتدار. وحين انتهت السهرة وقد دارت كلها تقريبا حول تعداد خصال الرجل وأفضاله في خدمة القرآن، وجدتني قد تواصلت مع هذا الرجل بأكثر من سبب، أكثر ما استجابت إليه نفسي واطمأنت أن أعرف أن إقامة كولن الآن بأمريكا باعثها صحي، فقد سافر به تلاميذه إلى هناك بقصد علاجه، لكن الرجل يمتنع عن أن تجرى له عملية جراحية، مفوضا أمره إلى الله. وقلت ها شارة أخرى على بلاء أهل الآخرة، ها دليل آخر على إشاحة الدنيا عن أهل الله، ها بينة أخرى على رفض الصالحين للدنيا وقطع الروابط بينهم وبينها. هذه الماكينة التي قوامها آلاف المدارس والأحباس والمنشآت الثقافية والاقتصادية(8/145)
والعلمية ظلت تدار وتأخذ شكلها النامي الحديث بفضل عقلية هذا الرجل الذي يعاني الآن الألم في صمت بديار الغربة، يتقوت على الذكر وتلاوة القرآن ويتداوي بالخشوع والإنابة إلى الله ، وقيل لي إن الأخبار قد أذاعت نبأ احتضاره منذ حين وشاع بأنه راحل إلى ربه، لكن العلة هادنته مرة أخرى. الدنيا حرب على الأفذاذ، الأصلاء، العاملين. الدنيا حرب على أهل الله، فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليتهيأ لتحمل الأعباء ودفع الضريبة في هذه الحياة ذاتها. هذا ما ينبغي أن يوطن عليه الصادقون نفوسهم. حدث نوزاد عنه قال، جاءنا يوما مستوفزا وصرفنا في غيظ قائلا اذهبوا واحترفوا ما شئتم من الخدمات، فأنتم لا تصلحون للرهانات الكبرى، قال ثم بكي وبكينا معه..
واتضح لي- وأنا أسمع مثل هذه الوقائع- سر اعتلاله، الرجل محب للإنسانية جمعاء، الرجل امتلك روحا لا تتطاولها غاية، الحقائق رهن يمينه مثل الماشي بين أشجار البستان زمن الخريف، لا يمد يده إلا تناثر الجَنَى فوقه ومن حواليه. إنه الابتلاء، كل مؤمن صادق الإيمان هو على خطى محمد ( من حيث الابتلاء و أيوب.. ما أشد ما يعانيه هؤلاء الرهبان المحمديون، يسددون نحو بعيد الغايات فيشتطون على من يجاريهم ويقعد به سعيه، ويخيبون هم لأنهم يظنون أن الأنفس جمعاء قد زودت بذات العيار الذي تجهزت به محركاتهم الربانية. العجز عن البلوغ بهذه النفوس التي يتواصلون معها برابطة القربى الروحية إلى الهدف الأسنى يجعلهم يشعرون بالخيبة والألم وهو ما يتحول بهم إلى مواقف الغيظ تلك. من منا لا يشاء أن يرى طفله يمشي في أشهره الأولى، ومن منا لا يروقه أن يشهد صفات الكمال تطبع شخصية ابنه (أو ابنته) وسلوكه أو سلوكها؟ فكذلك كان كولن مع طلابه، كان يريد أن يجعلهم فريقا لا يغالب، ولا تفوته مباراة، ولا تتسجل في مرماه إصابة.(8/146)
قال قاسم إن كولن قد أفتى بأن من يقود سيارته ويخالف القوانين ويهلك في حادثة سير، فيكون بمثابة المنتحر، والانتحار في الإسلام من أشنع المقترفات التي يقتص الله من مرتكبها شديد القصاص.
قلت هذه فتوى تندرج ضمن حقل الفقه الأكبر كما تعاطاه النورسي، فالاستمرارية على هذا النحو الرؤيوي مكفولة والحمد لله.
قال نوزاد: كان يلفتنا أحيانا أن نرى الأستاذ على هيئة منقبضة، وكان أحيانا يبدو برهبة صارخة بحيث لا تتجرأ معها على أن ترفع نظرك ناحيته، هل تستطيع أن تواجه عيني الأسد؟ كذلك كان كولن حين تسوده تلك الحال من الغياب والغوص في المجهول والاغتمام، كان كالأيام الممطرة ، لا سبيل إلى توقي الماء المدرار، وفي بعض الأيام كان يغدو بهشاشة الطفل ووداعة الطير ورقة الزهور. (قلت في نفسي لا بدع في ذلك، ألست واجدا هذه الصفة في صنغور وفرنجي وقاسم والدباغ وكنعان وقايا وفي جمال ووحدت وجودت وفي تلك الفراشة التي طارت بين يدي في أكثر من مكان وشكران وفي عثمان وفرقان وفي شاهين وأحمد وبرنجي وفي مرمر وآمنة وفريد وأتقى وآخرين وآخريات؟). ولا أدري كيف حضرت إلى ذهني صورة الشيخ توفيق، ذلك الرجل الذي كنا نلتقي به عند عودتنا من صلاة الفجر، ويقطع معنا شوطا من المسافة.. أية وداعة كان يتحلى بها هو أيضا؟ كان يتَبَسَّم ويقول لقاسم أما تعطينا أحد ضيوفك يفطر معنا؟ هل يستطيع أحد أن لا يرى ثقافة الوقف والحبوس تتجسد بمبادئها التكافلية الكريمة في مثل هذه الدعوة البسيطة والقلبية التي كان يتواصل بها هذا الشيخ معنا؟
وحدث نوزاد أنه أصيب بفتق في حاشية العمود الفقري، فقام الأستاذ كولن إلى علاجه ، فاستخدم الكي والنفخ بأعواد معينة، لأن الأستاذ كان قد أصيب في شبيبته بهذا الفتق الظهري وعالجه بعض الأشخاص، فاكتسب التجربة وعالج بها غيره.(8/147)
قال نوزاد، قد أضحى لنا اعتقاد في أستاذنا لأننا عشنا معه أحوالا كنا نرى فيها شواهد تؤكد ما كنا نعتقده فيه من حظوظ. قال لقد كنت أجلس ووسطي ملفوف بحزام كانت نفسي تضيق به والأذى يشتد علي جراءه، وذات يوم رحت –تحت وطأة الألم – أتصور حزاما آخر يخف الأذى به عني، قال فإذا بأحدهم في عين اللحظة يطرق الباب ويحمل إلي الحزام الذي كانت خواطري تتمثله للتو، وسمعته يقول: هذا حزام بعث الأستاذ به إليك.
وحدثني قاسم وهو يخفي مشاعره، أن كولن كان يحرص على أن أكون خلفه في الصف الأول ، قال حتى كنت أتوارى لئلا يراني.. فكرت في المسألة وقلت هي بيداغوجية إيمانية لا يقدر ما لها من فضل وأثر إلا أهل التقوى الذين يقدرون أحساب الرجال وأنسابهم الأخروية.
يروي نوزاد أن الأستاذ كولن كان يلزم الطلاب كلما آذنتهم العشر الأواخر من رمضان بتأدية مائة ركعة عقب كل قيام، وكان يسألهم كالمستنكر، منذ كم وأنتم تلازمون هذا المكان-المدرسة-؟ هل صرتم تكشفون القبور وتقرأون ما في القلوب؟ ثم يهز رأسه ويقول شبه متألم: أرى أمامي خشبا في صورة بشر..
وحدثوا أن هذا الصالح قد تجرع -حتى من قبل الأقارب في المشرب- مرير الغصص. حينما جرى التسريح في بعض القطاعات، َروَّجوا أن المسرحين هم من أصحاب كولن. وكان كولن يحتسب ويردد في نفسه، رباه.. اجعلوا لي عصبة وأصحابا، وأنا مجرد خادم أمضي على طريق خادمك الذي مضى على طريق السلسلة التي تاجها نبيك وحبيبك محمد ( به نسترشد، ومنه نستظل؟
من ذلك الذي راح يقرأ شعرا كان صوت الكاسيت يبعث به إلينا؟ أين كنا؟ ما النشوة التي كنا فيها؟
أيا رب إني أدعوك مع الجبال، مع الطيور، مع البلابل.
في بيتي(8/148)
دققت الباب فأطلت من عين الباب، وسارعت إلى الفتح، وواجهتني مستغربة مبهورة، كانت نقاط الصباغة قد رشت وجهها وتطايرت على القناع الذي وضعته على شعرها، هي تصبغ البيت إذن، وسمعتها أمها تسألني عن سبب عودتي، وهل أكون نسيت شيئا جعلني أعود أدراجي بهذه السرعة.. وواجهتني أمها من هناك باسمة، هي أيضا تحمل فرشاة، كانت أشغال الدهن جارية على قدم وساق، هكذا هم دائما، يغتنمون فرصة أسفاري ليغيروا ما يودون تغييره، وجودي في البيت قضاء مستتب، لا قبل لهم بتجاوزه، كل تغيير كيفما كانت قيمته، يطرأ على حياة البيت وعلى ترتيب أوضاعها يعطل ورشتي، لذا كانت التغييرات تحدث في مناسبات بعينها. وسألتني زوجتي قبل أن تصلني من أين أنا عائد؟ قلت كالمخذول من اسطنبول، قالت لا، قل غير هذا.. قلت إليك عني، فأنا في منتهى الإنهاك.. خطفت ابنتي الحقيبة من يدي، واستندت على كتفها ، وجرت لي زوجتي بمقعد..وانحنت تنزع حذائي، كانت قدماي منتفختين بشكل مخيف.. وعجلوا لي بالحمام ثم مددوني.. لم أكن في حالة تمكنني من أن أقص عليهم خبري.. وبدا قلقهما واضحا، لقد تأكدتا أنهما لن ينجزا ما بدأتاه. فبرجوعي غير المتوقع تعود الأمور إلى نصابها في البيت، ولا حيلة لهما على تنفيذ أدنى شيء مما يرغبان فيه.
---
(1)[1] - اسم يطلق على الجزائر كناية.
(2)[2] - اللون الوبري ، لون الوبر، أي شعر الجِمال أو الإبل ، وهو يميل إلى لون التراب.
(3)[3] الصورة هنا قرآنية ، والشمس تجري لمستقر لها.
(4)[4] -لابد أن يقرأ السياق هنا بشفرة رمزية حتى تأخذ رسالته محتواها الصادق.
(5)[5] - تقال لمن يتعاطى الحشيش.(8/149)
الصور والمرايا
في تراث النورسي الفكري والوجداني
أديب إبراهيم الدباغ
ـ 1 ـ
بين المرايا وصور الحسن والجمال شيءٌ من الجذب والانجذاب، ونوع فريد من الودّ والانعطاف، وقد يزيد هذا الودّ أحياناً فيغدو حباً، وربما تَعَاظَمَ الحب فصار هياماً وعشقاً… !
فالجميل يتوق أبداً إلى رؤية جماله على صفحات المرايا وفي عيون الآخرين - كما يقول النورسي - والمرايا من جهتها تتوق أبداً إلى أن تكون موضع نظر الجمال، ومجلى آياته ومَحَطَّ محاسنه.
فعشق المرايا للجمال تحدثت عنه أساطير الشعوب منذ قديم الأزمان، ونسجت حوله حكايات ترمز إلى هذا العشق وتومئُ إليه. فروح الجمال - كما تعكسه هذه الحكايات الأسطورية إذا ما مسَّ شيئاً، أو حوّم فوق شيء، أيقظ مواته وهزّ أعطافه، وحرك مشاعره، مهما بدا هذا الشيء- في ظاهر الأمر- فاقداً لأهلية الحسّ والشعور.
فالكون الذي يتقطّر نور الجمال من كل أرجائه إنْ هو إلاّ صور ومرايا، صور تواقة إلى مراياها، وبالمقابل مرايا تواقة إلى صورها، وهذا التوق أو الشوق المتبادل بين الصور والمرايا دائمٌ بدوام الكون لا يتوقف طرفة عين، وهو الذي يجعل الكون موّاجاً بالحركة والحياة والتجديد، فلا يهرم و لا يموت حتّى يشاء الله تعالى..!
ـ 2 ـ(9/1)
وقد تكون الصور مرايا لغيرها في الوقت عينه، والمرايا تنقلب إلى صور تبحث عن مراياها في غيرها، ففي الحركة الفلكية الكونية يصبح الزمن مرآةً للكون، يرى فيه نفسه، ويتلمس تاريخ حياته، وتطور خلقه، وتَتَابُعَ نشوئه، ويغدو الكون مرآة لكرتنا الأرضية، ترى فيه صورتها، وتتحسّسُ في غوره جذور وجودها، وبذرة حياتها، ثم تصبح الأرض مرآة للتاريخ، يرى فيها ملاحم حياته، ومُضْطَربَ أيامه، ومُتَقَلّبَ شؤونه، والتاريخ يعود للبشرية مرآة ترى فيه صور نشوئها وارتقائها، وتطور عقلها وفكرها، والبشرية في ذات الوقت تصير مرآة للإنسان يرى فيها نفسه منطويةً في نفسها، ووجوده منطوياً في وجودها، وعقله غائصاً في عقلها، وروحه غائراً في روحها، والإنسان كذلك يظلُّ مرآة لأخيه الإنسان، يرى فيه صورته كما هي في ضعفها وقوتها، وسمُّوها وحِطّتها، وجمالها وقبحها، وبكل ما فيها من نقائض وأضداد، إلاَّ أنّ قلب الإنسان يبقى أعظم مرايا العالم، وأكثرها سعةً، وأشّفَها شفافيةً، وأنقاها صفاءً، وهو أشرف ما في الإنسان، وأقدس ما فيه من قداسات، لذلك صار موضع نظر الله تعالى من الإنسان، ومهبط أنوراه وتجلياته، ومستودَع إلهاماته، وخزين غيوبه، ووعاء وحيه وخطابه..
ـ 3 ـ
وإذا ما فار تنور العشق في بعض المرايا واستعرت نيران محبتها، والتهبت أشواقها، تاهت اختبالاً، وهامت شوقاً، وذابت وَجْداً، وتلاشى الوجود، ولم يبقَ غير المعبود. وطغى الخيال فطال المحال، واختلط الوهم بالصواب، فصارت ترى أن الذي على صفحتها من أنوار المحبوب إنما هو المحبوب ذاته، وأنه قد حلَّ فيها واتحد بها، وتوحد معها، فباتت هي والمحبوب واحداً، فلا ثمة "أنا" ولا ثمة "هو".(9/2)
وفي مثل هذا الوهم القاتل والزعم الباطل ما أكثر ما تَصَدّعَتْ مرايا وتكسّرت وتطايرت شظايا محترقة في الفضاء مثلها مثل المنْبَتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وصدق - صلى الله عليه وسلم - القائل: ( إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإنّ المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ومما يغري بعض المرايا بأمثال هذه المزاعم، ويرديها بأمثال هذه المهاوي، ظنّها بتلاشي الأبعاد والأمداء بينها وبين المحبوب لأقربية أنواره منها، بينما أقربية النور من شيء ما، لا يعني بالضرورة أقربية صاحب النور - كما يقول النورسي - فنور الشمس مثلاً يغمر الموجودات التي فوق سطح الأرض جميعاً من البحار والأنهار، والأزهار والأشجار، والصخور والأحجار، رغم أنّ الشمس نفسها - صاحبة النور - بعيدة بعداً مهولاً عن كل هذه الأشياء، فتوهّم أقربية الشمس بذاتها وليس بنورها خطأ شنيع، ووهمٌ فظيع.(9/3)
فسفر المرايا - وأعني بها هنا قلوب العباد - إلى نور النور والربّ المعبود، ليس فيه حركة كما يقول الغزالي: " لا من جانب المسافِر ولا من جانب المسافَر إليه، فإنهما معاً، أوَ ما سمعت قوله تعالى وهو أصدق القائلين: ( ونحن أقرب أليه من حبل الوريد)، بل مَثل الطالب والمطلوب مثل صورة حاضرة مع ، مرآة ولكن ليست تتجلّى في المرآة لصدأ في وجه المرآة، فمتى صقلتها تجلت فيه الصورة لا بارتحال الصورة إلى المرآة، ولا بحركة المرآة إلى الصورة ولكن بزوال الحجاب، فإن الله تعالى متجلٍ بذاته لا يختفي إذْ يستحيل اختفاء النور وبالنور يظهر كُلُّ خفاء والله نور السموات والأرض" إلى أن يقول: " فما عليك إلاّ أن تنقي عن عين القلب كدورته، وتقوي حدقته، فإذا هو فيه كالصورة في المرآة، حتى إذا غاصّكَ في تجليه بادرتَ وقلتَ إنه فيه، وقد تدّرع باللاهوت ناسوتي، إلى أن يثبتك الله بالقول الثابت فتعرف أنّ الصورة ليست في المرآة بل تجلّتْ لها، ولو حلّتْ في مرآة ارتحلتْ عن غيرها وهيهات فإنه يتجلى لجملة من العارفين دفعةً واحدة، نعم يتجلّى في بعض المرايا أصح وأظهر وأقوم وأوضح، وفي بعضها أخفى وأميل إلى الاعوجاج عن الاستقامة، وذلك بحسب صفاء المرآة وصقالتها وصحة استدارتها واستقامة بسط وجهها. فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ( إنّ الله تعالى يتجلّى للناس عامَّة ولأبي بكر خاصة) (1) و" الأقربية الإلهية" هنا إنما تعني أقربيته تعالى بعلمه المحيط الشامل المطلق بخلقه ومصنوعاته، - كما قاله المفسرون- غير أنّ الأمر سيَّان عند الغزالي ومن بعده "النورسي" لأنّ العلم نور كذلك، والنور جمال، والجمال يسعى إلى مرآة يرى فيها جماله ويريه للناظرين، فأسماؤه الحسنى وصفاته العليا إنْ هي إلا أنوار جماله تعالى المتجلية على الخلائق بها يحيون، وبها يعلمون، وبها
__________
(1) الغزالي – جواهر القرآن ص 12 _ 13 الطبعة الثالثة– منشورات دار الآفاق - بيروت 1978م.(9/4)
يُرْزَقون، وبها يتراحمون، وبها يسعون في مناكب الأرض، وبها يَعْلَونَ في الفضاء ويغوصون في البحار، وبها يَعْمُرُوْنَ أرضهم ويقيمون دولهم، وينشؤون حضاراتهم.
وفي تشكيله للوجدان الديني المرهف نرى "النورسي" يخوض في مسائل إيمانية عالية المرتقى، ويرتفع ليلمس سماوات من المعاني المحجوبة خلف ضباب الفكر وغبش الوجدان.
ولكي يرتفع بقارئه إلى تلك الآفاق الذهنية والوجدانية الضاربة في العلو يجد نفسه مضطراً إلى ضرب الأمثال والاستعانة بها في تقريب أفكاره إلى الآخرين. والإفادة من إضاءاتها في الكشف عن جوانب مهمة من أسرار الألوهية والربوبية، ومغزى الأقربية، وقدسية الأسماء الحسنى وتأثيراتها في الكون والحياة والإنسان, وصنعها في الخلق والإيجاد، وانعكاساتها على الأبدية والخلود، وتفسير معاني القيومية، واستمرارية المحو والإثبات، والسلب والإيجاب، وغيرها من قضايا الإيمان المحتاجة إلى المزيد من الكشف ورفع الأستار، والمزيد من الفهم والعلم، والرجوع من كلّ ذلك بحصيلة من المعرفة الإيمانية الحصينة المستقرة ليلتقي عليها "طلاب النور" ويلوذوا بها من الشتات الذهني والروحي.
ومن اكثر هذه الأمثال التي استعان بها "النورسي" في رسائله لهذا الغرض هو "مثال الصورة والمرآة" فأسعفه كثيراً وساعده على إضاءة كمٍ كبير من الغوامض والإشكالات التي تراود عقول المسلمين عامةً وعقول طلابه بخاصة.
ـ 4 ـ
و "النورسي" يرى: " أنَّ كلاَّ منا إنما هو مرآة كبيرة واسعة" (1) قابلة لاستقبال الصور التي يبثها الكون والحياة من حولنا وإننا لننفعل بما تنقله إلينا هذه الصور من رسائل، ونسعى إلى فهمها، والكشف عمَّا ترمز إليه من المعاني والأفكار، وعمّا تنطوي عليه من أسرار الحسن والجمال.
ومن حيث كوننا مرايا يظلُّ الواحد مِنَّا يتلقى طوال حياته سيولاً هائلةً متتابعة لا تتوقف من الصور، وتزدحم بها ذاكرته، ويتخم بها عقله.
__________
(1) النورسي _ المكتوبات ص 13(9/5)
والشأن مع "المجردات" هو الشأن نفسه مع المجسمات. فلكي يسهل علينا التعامل مع هذه "المجردات" فإننا نتوهمها صوراً قائمة إزاءنا نبادلها الحديث والرأي، ونتخيلها أشكالاً جسمانية نفهم عنها وتفهم عنّا.
فالتشكيل والتجسيم هما مطية "المجردات" إلى عقولنا ومن دونها يغشانا ضباب فكري يمنعنا من إدراك حقيقة ما يُرادُ مِنّا إدراكه، وحتى الأرواح التي لا شيء فوقها في التجريد لم يتركها خالقُها جلَّ شأنه تسبح في ملكوت التجريد، بل أمرها بالإيواء إلى أعشاش الأجساد، وهي إذا ما فارقت هذه الأجساد عند موتها لا تبقى متجردة من أي ثوب، بل ترتدي ثوباً جسمانياً مثالياً شبيها بالجسد الذي فارقته كما يقول "النورسي".(1)
__________
(1) يقول النورسي:" نعم. انه بديهي أن كل روح رغم التبدل والتغير الجاري على الجسم عبر سني العمر تظل باقية بعينها دون أن تتأثر، لذا فما دام الجسد يزول ويستحدث - مع ثبات الروح - فلابدّ أن الروح حتى عند انسلاخها بالموت إنسلاخاً تاماً، وزوال الجسد كلّه، لا يتأثر بقاؤها ولا تتغير ماهيتها.. أي أنها باقية ثابتة رغم هذه التغيرات الجسدية، وكل ما هنالك أن الجسد يبدّل أزياءه تدريجياً طوال حياته مع بقاء الروح، أما عند الموت فيجرد نهائياً وتثبت الروح. فبالحدس القطعي بل بالمشاهدة نرى ان الجسد قائم بالروح، أي ليست الروح قائمة بالجسد، وإنما الروح قائمة ومسيطرة بنفسها. ومن ثم فتفرّق الجسد وتبعثره بأي شكل من الأشكال وتجمّعه لا يضر باستقلالية الروح ولا يخل بها أصلاً. فالجسد عشّ الروح ومسكنها وليس بردائها. وإنما رداء الروح غلاف لطيف وبدن مثالي ثابت إلى حدٍّ ما ومتناسب بلطافته معها. لذا لا تتعرّى الروح تماماً حتى في حالة الموت بل تخرج من عشّها لابسة بدنها المثالي وأرديتها الخاصة بها." الكلمات ص 610(9/6)
وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه آنفاً، فإن المعاني والأفكار تظلُّ سابحةً في أجواء "التجريد" حتى تلتقي ما يناسبها من الهياكل الصورية والبيانية فترتديها وتتشخص فيها، وعلى ضوء هذا كذلك نفهم الحكمة في تمثل جبريل عليه السلام في صورة الصحابي"دحية" عند التقائه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وندرك لماذا تمثل بشراً سوياً لمريم عليها السلام، والإشارة في "البراق" الذي امتطاه رسولنا الكريم في إسرائه، والرمز في قدحَي اللبن والخمر المقدّمين له، والإيماء المقصود في شق الصدر، وقول السماء والأرض: (أتينا طائعين) عندما ناداهما ربُّ العزّة : ( إئتيا طوعاً أو كرهاً) وحنين الجذع الذي كان يخطب إليه - صلى الله عليه وسلم -، والسماء والأرض لماذا وكيف تبكيان لموت الصالحين، والصلاة غير المستوفية للشروط كيف تُطوى وتُرمى في وجه صاحبها وهي تقول: ( ضيّعك الله مثلما ضيعتني) واشتياق الجنة إلى أوليائها وهم بعدُ في الارض، واشتياق النار إلى أهلها وهم بعدُ أحياء يرزقون.. إلى غير ذلك من المعاني المتشكلة صوراً وأمثالاً، يزخر بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. واختلاف المرايا - في صقالتها واستدارتها ونقائها وتوجهها - بين إنسان وآخر هو الذي يحدد قدرات هذه المرايا على استقبال نوعيات الصور وكيفياتها ودرجات علوها أو هبوطها في سلم الملكوتات العقلية والوجدانية، وهو الذي يسبب اختلاف التشكلات النفسية من حيث الجدب أو الخصب بين إنسان وآخر، لذا صار " لكل منا دنياه الخاصة من هذه الدنيا العمومية ولكل منا عالمه الخاص به" كما يقول النورسي (1) حتى كأن كل إنسان جزيرة مستقلة بذاتها في محيط بشري متلاطم الموج.
__________
(1) المكتوبات ص 13(9/7)
ولضعفٍ في قوة الأبصار، وَصَدأٍ مُزْمنٍ في المرآة، وكلالٍ في الذهن على استبانه حقائق الأشياء، يتلقى الإنسان المنكود الصور الهابطة عليه من سماء الحق مشوشةً ومشوهةً لا يتبين حقيقتها ولا يدرك رمزها، لأنه لم يكن في قلبه قبل ذلك حبُّ لها ورغبة لها، واستشراف نحوها، ومن هنا تنشأ الانحرافات وتتجذر الكفريات، ويكبر الجحود، ويتفاقم الإنكار، وتصبح الماهية الإنسانية التي هي في الأصل "مرآة جامعة للأسماء الإلهية الحسنى كلها" (1) عدسةً مُشَتتةً لهذه الأسماء وطامة لأنوارها وجلواتها في مرايا الموجودات
ـ 5 ـ
فالأسماء الإلهية الحسنى - الجلالية والجمالية – المتجلية بأنوراها على الموجودات تؤثر في كل موجود بحسب استعداداته الخلقية، وتحيله إلى طاقة حركية مؤثرة بالموجودات الأخرى المحيطة به فهو في انتقال دائم وصيرورة مستمرة من الأدنى إلى الأعلى حتى يستوي على عرش الكمال الذي ينشده ويندفع إليه كُلُّ موجود سليقةً وفطرةً، والماهية الإنسانية هي الأخرى ومن حيث كونها جامعة للأسماء الإلهية الحسنى فإنها في تجدد مستمر وسعي حثيث للارتقاء بالنفس نحو الكمال الإيماني، والارتقاء بها نحو الرضى الرحماني الذي هو بغية كل مؤمن صادق الإيمان.
فالأسماء الإلهية لا بد لها من الظهور بجمالها" أي تستدعي إظهار نقوشها، أي تقتضي مشاهدة تجليات جمالها في مرايا نقوشها وإشهادها. بمعنى أن تلك الأسماء تقضى بتجدد كتاب الكون، أي تجدد الموجودات آناً فآناً، باستمرار دون توقف، أي أن تلك الأسماء تقتضي كتابة الموجودات مجدداً وببلاغة حكيمة ومغزى دقيق بحيث يظهر كل مكتوب نفسه أمام نظر الخالق جل وعلا وأمام أنظار المطالعين من الموجودات المالكة للشعور ويدفعهم لقراءته".(2)
__________
(1) المكتوبات ص 50
(2) المكتوبات ص 109 – 110(9/8)
وحتى تنتقش هذه الأسماء القدسية على مرآة القلب، وتتوحد في إسمه تعالى [ الواحد، الأحد ] لكي يتم ذلك، ويبلغ "التوحيد" الذي هو أساس الإيمان والإسلام عند المؤمن درجة الكمال المطلوب، عليه أنْ يتوحد هو نفسه أولاً وأنْ يُوَحِدَ ذاته، وَيَلُمَّ شتاته، ويجمع ما تفرق من أجزائه وما غاب من عقله ووجدانه، وما غام من فطرته، ليغدو بذلك واحداً كُلاً متكاملاً لا شئ فيه يبيت خارج كله، فيكون مؤهلاً لشرف العبودية للواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، حيث تصبح كُلُّ حياته لله إذا كان حياً، وكُلُّ مماته لله إذا هو مات، فلا يبقى منه أية بقايا في الدنيا خارج قبره. مثله مثل ذلك الصحابي الجليل الذي ذُكِرَ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترحم عليه قائلاً: ( رحم الله فلاناً فقد مات كله!) قالوا - أي الصحابة - : [أليس أحدنا إذا مات يموت كله..؟! قال: ليس كلكم إذا مات يموت كله) أو كما هو قوله عليه الصلاة والسلام والى هذا الإشارة في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين) 163/ الأنعام
وكوننا أحياء نتنفس الحياة ونحياها لا يعني هذا أنّ عمق هذه الحياة ودرجة عنفوانها واحدة عند جميع بني البشر، فهناك تفاوت قليل أو كثير في المدى الذي تذهب إليه هذه الحياة من ذواتنا، ومن قدرتها على إغناء وجودنا بالبواعث الحافزة للداينمية الحياتية في دواخلنا، فكم من إنسان يغدو أمامنا ويروح وهو في مقاييس الإيمان جثة هامدة تمشي على رجلين كما يقول "النورسي" لضعف استجابته لدواعي الحياة الإيمانية، ولصممه عن نداء الحق: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) وكم من مُتوارٍ وراء ستار الحياة وهو عند ربه حي يرزق (فلا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).(9/9)
وكما أن التفاوت في درجة الحياة وسعتها وعنفوانها موجود بين إنسان وآخر، فإن هذا التفاوت نفسه موجود كذلك بين مكونات الماهية الإنسانية، فحياة العقل عند البعض قد لا تكون على المستوى نفسه من حياة القلب، وحياة الجسم بعظمه وعصبه ولحمه ودمه قد تكون في الدرجة دون حياة الروح، والعكس صحيح أيضاً، وقد تموت النفس برعوناتها وشهواتها وحسّياتها بينما يظل الروح في أعلى درجات الحياة، والأمر نفسه ممكن بين جميع لطائف الماهية الإنسانية التي تتجاذبها على الدوام دواعي الموت والحياة. ومن هنا جاء الاختلاف في النفوس والعقول والأمزجة والسلوك بين بني البشر. فظاهرة الموت والحياة وتعاقبهما المشهودة أمامنا والمكرورة على مدى الدهور والأزمان، تشير إلى حي هو فوق الموت والحياة، بل هو خالق الموت والحياة. وبيده زمامهما، وبأمره يتعاقبان، وبعلمه يعملان ولأرادته يمتثلان، وفي هذا الصدد يقول "النورسي": " كما أن الحياة التي تُظهر تجلي الجمال الرباني هي برهان الأحدية، بل هي نوع من تجلي الوحدة، فالموت الذي يُظهر تجلي الجلال الإلهي هو الآخر برهان الواحدية.
فمثلاً: إن الفقاعات والزبد والحباب المواجهة للشمس، والتي تنساب متألقة على سطح نهرٍ عظيم، والمواد الشفافة المتلمعة على سطح الأرض، شواهدٌ على وجود تلك الشمس، وذلك بإراءتها صورة الشمس وعكسها لضوئها. فدوامُ تجلي الشمس ببهاء مع غروب تلك القطرات وزوال لمعان المواد، واستمرار ذلك التجلي دون نقص على القطرات والمواد الشفافة المقبلة مجدداً، لهي شهادة قاطعة على ان تلك الشُميسات المثالية، وتلك الأضواء المنعكسة، وتلك الأنوار المشاهدة التي تنطفئ وتضئ وتتغير وتتبدل متجدّدةً، إنما هي تجليات شمسٍ باقية، دائمةٍ، عالية، واحدةٍ لا زوال لها. فتلك القطرات اللماعة إذن بظهورها وبمجيئها تدل على وجود الشمس وعلى دوامها ووحدتها.
وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) نجد أن:(9/10)
هذه الموجودات السيالة إذ تشهد بوجودها وحياتها على وجوب وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى أحديته فإنها تشهد بزوالها وموتها أيضاً على وجود الخالق سبحانه وعلى أزليته وسرمديته وأحديته.
نعم، إن تجدد المصنوعات الجميلة وتبدّل المخلوقات اللطيفة، ضمن الغروب والشروق وباختلاف الليل والنهار، وبتحول الشتاء والصيف، وتبدل العصور والدهور، كما أنها تشهد على وجود ذي جمال سرمدي رفيع الدرجات دائم التجلي، وعلى بقائه سبحانه ووحدته، فان موت تلك المصنوعات وزوالها - بأسبابها الظاهرة - يبيّن تفاهة تلك الأسباب وعجزها، وكونها ستاراً وحجاباً ليس إلاّ.. فيثُبت لنا هذا الوضع - إثباتاً قاطعاً - أن هذه الخِلقة والصَنعة، وهذه النقوش والتجليات إنما هي مصنوعاتٌ ومخلوقاتٌ متجددةٌ للخالق جل جلاله الذي جميع أسمائه حُسنى مقدّسة، بل هي نقوشه المتحولة، ومراياه المتحركة وآياته المتعاقبة، وأختامه المتبدلة بحكمة".(1)
ـ 6 ـ
__________
(1) الكلمات ص 341-342(9/11)
إنَّ ذكاءً متعباً منهوكاً قد أنهكته اللذات، وأطفأت جذوته أدخنة الشهوات، وإنّ قلباً مثقلاً بالهابط المبتذل من الدنيويات، ومزدحماً بشتى صور الحسيّات، لا جرم يغدو غير قادر على تملي صور الجمال، بل تصبح هذه الصور مصدر عذاب له، وحافزَ إثارة لكوامن القلق والأسى في روحه، فيودّ لو يخفي نفسه تحت كثيب من الرمل - كما تفعل النعامة - هرباً من مسؤولية الرؤية والمعرفة وثقل الأمانة المناطة بها..! ولكن هيهات فهذه الصور لا تنفك عن ملاحقته ومحاصرته والبحث عن كوة مهما كانت ضيقة لتنفذ منها إلى دواخله، وتضيء ولو قبسة ضئيلة من نور في ظلامه الحالك، وهذه القبسة هي "التوبة" المطلوبة والمؤمَّلة من كل الناكبين عن طريق الهداية، والمغمضين أعينهم عن مرايا الجمال الإلهي وكماله، وهذه المرايا هي المصنوعات التي تمتلئ بها السموات والأرض، حتى لتكاد تنحصر وظيفة هذه المصنوعات في كونها مرايا تعكس للناظر أنوار الجمال الإلهي المقدس، وأنوار كماله.
يجيب "النورسي" وكأنه قد سئل عن الغاية من الخلق والصنع الإلهيين - قائلاً: " إن أهم غاية للمصنوع هي النظر إلى صانعه الجليل، أي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش أسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة أمام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية" .(1)
__________
(1) المكتوبات ص 371(9/12)
فمنْ بين العلم المطلق والقدرة المطلقة ينهض المخلوق قائماً سويَّ الخلقة، يطل على الوجود نافضاً عنه بقايا عتمة من الرحم الكونية التي كان في حضانتها. فلا يلبث هذا المخلوق أن يأخذ مكانه شيئاً بين الأشياء، وصورةً بين الصور، أو مرآةً بين المرايا، ويبدأ على الفور بممارسة وظيفته الرسالية بين أن يكون صورة تبحث عن مرآة تتجلى عليها، أو مرآة تبحث عن صورة تتأمل جمالها، وهي في الحالين لا تعدو عن كونها شارةً أو رمزاً إلى خالق الصور والمرايا. وواهب الأسماء والسِمَات، ومُقَدّر الوظائف والأعمال لمخلوقاته ومصنوعاته.(9/13)
وسطحي النظر يرى شارات العلم وسماته على المخلوق اكثر ظهوراً وأشدّ وضوحاً، من آيات القدرة وعلاماتها، فالقدرة لا تزال مرتبطة في أذهان الناس بالخوارق والمعجزات والكرامات، وبما هو غير عادي ولا مألوف عموماً، لذلك لا يتعمق الإنسان في المألوفات في بحثه عن دلائل القدرة، فالمألوفات التي يألفها الإنسان ويتعايش معها لا تثير اهتمامه عادةً لأنه يتوهم معرفته بها، فليس كل مألوف معروفاً أو معلوماً كما يقول "النورسي"(1) فقد يألف الإنسان أشياء كثيرة طوال حياته ثم يموت وهو لا يعرف من مكنوناتها شيئاً ذا بال فمرايا القدرة لا تعد ولا تحصى، فهي في المألوفات كما هي في الخوارق والمعجزات، وهي في الماء والهواء كما هي في الغيبيات، وهي في الهوية كما هي الماهية، والنورسي يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: " إن للقدرة مرايا كثيرة جداً، كل منها أشفّ وألطف من الأخرى. وهي تتنوع، من الماء إلى الهواء، ومنه إلى الأثير، ومنه إلى عالم المثال، ومنه إلى عالم الأرواح بل إلى الزمان وإلى الفكر.
ففي مرآة الهواء تصبح الكلمة الواحدة ملايين الكلمات. فإن قلم القدرة يستنسخ سرّ هذا التناسل بشكل عجيب. إن الانعكاس إما يحوي الهوية أو يحوي الهوية مع الماهية. إن تماثيل المادة - أي صورها - الكثيفة عبارة عن أموات متحركة، أما تماثيل الأرواح النورانية في مراياها فحيّة مرتبطة بالحياة، إن لم تكن عينُها فليست غيرَها." (2)
__________
(1) "اعلم ! إن اكثر معلومات البشر الأرضية ومسلّماته، بل بديهياته مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب. ففي الأساس فسادٌ أيّ فساد. فلهذا السر توجِّه الآياتُ أنظارَ البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجوم القرآن حجاب الألفة ويأخذ بأذن البشر ويميل رأسه، ويريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات ". المثنوي العربي النوري - ص: 324
(2) المكتوبات - نوى الحقائق ص 603(9/14)
"فالهوية" إنما هي علْمٌ وإعلام وإشارة ورمز وسِمَات، أما الماهية فسرّ وإسرار وإرادة وقدرة وأمر..!
أو إنْ شئتَ قلتَ: الهوية صدف والماهية جوهرة هذا الصدف..!
أو إنْ شئتَ قلتَ: الهوية من فيض تجليات اسمه تعالى "الظاهر" أما الماهية فمن فيض تجليات اسمه تعالى "الباطن"..!
فالمرآيا إما أن تعكس صور الهوية وحدها وتترك للناظرين مهمة الكشف عن ماهياتها، أو تعكس الهوية والماهية معاً وتترك لخوراق أبصار الناظرين مهمة الغوص في دواخل الماهية. فالعلم في أبسط تعريف له: إنما هو عملية للبحث عن ماهيات الأشياء عبر هوياتها، سواء كانت هذه الأشياء مجسمات أم مجردات.. أي سواء كان منبعها الحسّ أو كان منبعها الشعور، أو سواء كانت مما يندرج تحت "علم العقول" أو "علم القلوب"، وكلا العلمين لا غنى لأحدهما عن الآخر، لأنه لا غنى - في الحقيقة - للقلب عن العقل، ولا للعقل عن القلب، وإلاّ اختلت الموازنة، واضطربت المعادلة. وسقط الإنسان صريع طغيان أحدهما على الآخر. و"النورسي" يشير إلى هذا في شرحه لمنهجه في تأليف كتابه "المثنوي العربي النوري" حيث يقول: "سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب" (1) ويصف سلوكه هذا بأنه: " كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعياً بالقلب تحت نظارة العقل، وبالعقل في حماية القلب كالإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي." (2) والفاصل القاطع بين ما هو عقلي وقلبي من معارف الإنسان، فاصل وهمي، وحدّ مفترض، نفترض وجوده حيث لا وجود له في الحقيقة، كافتراض الجغرافيين لخطوط الطول والعرض حول الكرة الأرضية بهدف تعيين المواقع، وبيان أماكن البلدان والأقطار والمدن من الأرض. فلا وجود لأمثال هذه الحدود والفواصل في النفس الإنسانية بين "العقلانيات" و "الوجدانيات" لأن "الروح" هو الذي يقدح زنادهما معاً، ويشعل جذوة ذكائهما معاً.
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 35
(2) نفس الصدر ص 31(9/15)
فالمعرفة العلمية هي معرفة روحية بمعنى من المعاني إذا ما رجعنا بها إلى باكورة بواعثها، والمعرفة القلبية هي انعكاسات روحية في بواعثها الأولى. فالعقل والقلب يظلان هامدين خامدين مظلمين ما لم يشرق في سمائهما نور عظيم من روح عظيم : ( ومَنْ لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
ـ 7 ـ
والعارف لانفتاح منافذ الروح منه قد يرى من الخفايا ما لا نرى، ويسمع من الهواتف مالا نسمع، ويحسُّ من غرائب الوجود ما لا نحسّ وينعكس على مرآة قلبه من صور الخواطر والإلهامات مالا ينعكس على مرايا قلوبنا.
وجدير بمَنْ هذا شأنه أن يدرك أبعدَ الحقائق منَازِلَ، وأكثفها حجباً، وأقصاها انتباذاً، وأن ينظر أعمق مما ينظر التاريخ، وأوسع مما تنظر إليه جغرافية الأرض والسماء. وأنفذ عمقاً ممّا تنفذ إليه مسابير الخلائق، ومن باب التذكير أقول: إنّ من الخطأ اعتبار ما لا تراه العيون، وتسمعه الآذان، وتحسّه الأبدان، ويشعر به الوجدان غيباً من الغيوب المستأثر بعلمها علاّم الغيوب وحده جلَّ شأنه، فهي ليست غيوباً - بالمصطلح الشرعي - وإنما هي جواهر نفيسة ولآلئ ودّرر ثمينة، صينت بهذه الحجب والستور. وأُغلِقتْ من دونها أبواب الخدور، حفظاً لها وغيرةً عليها من الابتذال والوقوع بيد منْ لا يفرق بين الدّر والحجر، ويستوي عنده التبر والتراب، حتى إذا طالها مَنْ يتعب فيها. ويجهدْ من أجلها، ويسعى مشوقاً إليها، ويبذل روحه مهراً لها، كشفت له عن نفسها الستور. ومزّقت من دونه الخدور، وزال المحذور، وقالت: ها أناذي فدونك إياي، خذني مني إليك، واجمعني عليك، وضمني إلى مناجم معارفك، فأنت بي جدير وعلى مهري قدير.(9/16)
والعارف روح هائم ينتقل بين مختلف العوالم وذلك بحسب ما يعتريه من أحوال، وما يتجاذبه من جواذب هذا العالم أو ذاك. ففي الوقت الذي يبدو فيه وكأنه إنسان عادي في واقعه الذي يساكنه إذا به فجأةً وبدون سابق علم وبخطوة واحدة يكون في عالم المثال الزخّار بأرواح صور الموجودات وبمعانيها ورموزها ودلالاتها، " إذْ ما من شئ في عالم الملك والشهادة إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه، وليس هو هو في صورته وقالبه" (1) كما يقول الغزالي، وحيث يصغي إلى أصداء ما يحتدم على الأرض من أحدث، وما ينشأ فيها من صراع الإرادات.
فعالم المثال عالم وسط بين عالمي الملك والملكوت، أو هو كسور الأعراف ظاهره رؤى وخيالات، وباطنه حقائق ووقائع، وقد تختلط في روح العارف هذه الرؤى بتلك الحقائق، فإذا أراد أن يخبر عنها قال كلاماً نصفه حق ونصفه الآخر خيال ورؤى. فيبدو وكأنه يتجنّى على الحقائق، ويجانب المشاهد والمحسوس في عالم الواقع.
فرؤيا العارف قد تكون بحد ذاتها صادقة وحق إلا أنها تحتاج إلى المعبر الذي يحسن تعبيرها، ويخطئ العارف إذا ما حاول هو أن يعبر رؤياه بنفسه " فانظروا إلى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من أربعين جزءً من النبوة، وكيف ينكشف بأمثلة خيالية: فمن يعلّم الحكمة غير أهلها يرى في المنام أنه يعلق الدرر على الخنازير…" (2)
__________
(1) الغزالي / جواهر القرآن ص 28 دار الآفاق الجديدة/ بيروت/ 1978/ الطبعة الثالثة
(2) المصدر نفسه ص29(9/17)
فكما أنّ رائي الرؤيا يعجز عن تعبير رؤياه بنفسه فيلجأ إلى معبرّ يكشف له عن مغزاها ومعناها والرمز الذي ترمز إليه، فكذلك العارف يخطئ حين يضاهي ما رآه في عالم المثال على شاكلته من عالم الواقع، وأكثر الأخطاء المروية عن بعض العارفين، والأقوال والأحكام المنسوبة إليهم والتي يبدو أنها مجانبة لحقائق عالم الشهادة المعروفة والملموسة. منشؤها مزج رؤاهم في عالم المثال بأشباهها من عالم الواقع دون اعتبار لاختلافهما من حيث السَعَة والامتداد في عالم المثال قبالة الضيق والانكفاء في عالم الشهادة، فتحدث لذلك المفارقة، وتنشأ المناقضة. والنورسي يقرب لنا هذا المعنى بمثال مبيناً أسباب الخطأ الذي يقع فيه بعض العارفين، فيقول:
" هب أن لك غرفة ضيقة، وضعت في جدرانها الأربعة مرايا كبيرة، تغطي كل مرآة الجدار كله، فعندما تدخل غرفتك ترى ان الغرفة الضيقة قد اتسعت وأصبحت كالساحة الفسيحة، فإذا قلت: إنني أرى غرفتي كساحة واسعة.. فانك لا شك صادق في قولك.
ولكن إذا حكمت وقلت: غرفتي واسعة سعة الساحة فعلاً.. فقد أخطأت في حكمك، لأنك قد مزجت عالم المثال - وهو هنا عالم المرايا - بعالم الواقع والحقيقة، وهو هنا عالم غرفتك كما هي فعلاً." ويخلص النورسي إلى القول بـ : " أن درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الإيمان بالغيب. أي أن الكشفيات التي لا ضوابط لها لقسم من الأولياء المستندين إلى شهودهم فقط، لا تبلغ أحكام الأصفياء والمحققين من ورثة الأنبياء الذين لا يستندون إلى الشهود بل إلى القرآن والوحي، فيصدرون أحكامهم حول الحقائق الإيمانية السديدة. فهي حقائق غيبية الا انها صافية لا شائبة فيها. وهي محددة بضوابط، وموزونة بموازين.
اذن فميزان جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات إنما هو: دساتير الكتاب والسنة السامية، وقوانين الأصفياء والمحققين الحدسية".(1)
ـ 8 ـ
__________
(1) المكتوبات ص103-105(9/18)
والارتقاء إلى عالم "المثال" بين الحين والآخر لا يتأَتّى إلاّ للأرواح الطاهرة العفيفة في الجسم الطاهر العفيف، وآية هذه الأرواح قدرتها على استبانة ما ينعكس على مرآة عالم "المثال" من رموز وإيماءات إلى حقائق الأشياء ولبابها، وببصيرتها النافذة تخترق خفاياه وبواطنه، فأما أنْ ترى ما يُسرُّ ويبهج فيغشاها عند ذاك حال من الحبور والبسط والانشراح يملؤها سروراً وطرباً. وإلاّ ذاقتْ الكرب والحزن ولبست الشجى والألم، وهذا هو القبض الذي يغشى بعض الأرواح بين وقت وآخر، فأصداء الأحزان الآتية من بعيد أشدّ وقعاً في الأرواح من وقعها حين يحين وقت وقوعها، ولعلّ إلى هذا الإشارة في قوله - صلى الله عليه وسلم - لصحبه الكرام رضوان الله عليهم( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)
وفي هذا الصوت المحمدي الحنون باعث حزن وشجى، يظلل أجواء الإيمان بغمامة من الحزن الشفيف العَذبْ رغم أساه، ويحذر المؤمنين من الوقوع في شَرك البسط الدائم الذي ربما أفضى إلى شيء من الغفلة القاتلة التي هلك فيها الكثير من الخلائق، أما الأرواح العظيمة من ذوات العزم فقلّما تسقط في هذا الشرك لأنها يقظة دائمة الفطنة، لا تسرف في بسطها، ولا تقنط إذا أسرفت ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).(9/19)
وعندما سئل مرةً عليه الصلاة والسلام عن سنته قال من بين ما قال( والشوق مركبي، والحزن رفيقي..!) وأرجو الانتباه إلى "الحزن رفيقي" وإلى مَنْ هو قائل هذا القول، إنه حبيب رب العالمين، الذي أنزل على قلبه الشريف أشرف ما نزل على نبي من الأنبياء من قبله، وقائل هذا القول هو أجلى مرآة تعكس أسماء ربّه الحسنى. وذاته الشريفة هي نور تلك الأسماء المتجلية بأنوارها عليه. يشير النورسي، إلى هذا فيقول: "إن الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً - صلى الله عليه وسلم - الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.
وانه سبحانه لمحبته أسمائه يحب محمداً - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الأسماء الحسنى" (1). ويمضي فيقول في مكان آخر: " أم هل يمكن لصاحب جمال مطلق أن لا يروم أن يشهد هو ويُشهِد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بوساطة رسول حبيب؛ فهو حبيب لتودده إلى الله سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب الله سبحانه إلى الخلق بإظهار جمال أسمائه الحسنى." (2)
فذاته الشريفة - صلى الله عليه وسلم -، مرآة استقبال عظمى لتجليات النور الإلهي الأقدس، ولأنوار أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وبدورها تعكس هذه الأنوار بروقاً وومضات على قلوب الآخرين، فالروح العظيم عندما يُبْعَثُ فلن يموت أثره في العالم أبداً، بل يصبح مصدراً نورانياً خالداً يضئ أرواح الأجيال جيلاً بعد جيل الى ان تقوم الساعة، فهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة مهداة للعالمين (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين) للمؤمنين به ولغير المؤمنين كذلك،
__________
(1) المكتوبات ص 393
(2) الكلمات ص 62(9/20)
أما المؤمنون فقد أدركوا وعرفوا وذاقوا ورضوا واطمأنوا، وأما غير المؤمنين من الملل الأخرى فقد أكلتْ نار الإسلام الكثير من حطب أوهامهم وظنونهم ومزاعمهم، وساقتهم إلى حافّات الحق الأولى حتى لم يبقَ بينهم وبين أن يعرفوه إلاّ خطوات قليلة إنْ يكونوا قد وقفوا عندها اليوم فقد يجتازوها في يوم ما كما قد اجتازها فعلاً بعض الأذكياء منهم على مدار الأيام.
ـ 9 ـ
فكلما داهم البشرية صقيع حضاري يجمّد نبض الروح، ويَئدُ حياة القلب عادت مضطرةً لتستدفئ وتستضئ بالنور العظيم المنبعث من أرواح الأنبياء عليهم السلام، فتجد عندهم المأوى الدافئ الذي تؤي إليه، وتلوذ به، وتذيب في كنفهم ما تجمد من حياة الروح والوجدان، ولن ترى البشرية أعظم من روح محمد عليه الصلاة والسلام بين أرواح الأنبياء، ولا مأوى اليها أفخم من مأواه، ولا نوراً أشدّ ألقاً وأنفذ إلى مخ الروح وعصب القلب من نوره، فذاته الشريفة نور النور، لأنّ النور الأعظم والأقدس وهو (القرآن) قد تجوهر في هذه الذات، وصار جزءً لا يتجزأ منها، فَحُقَّ لعائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله أن تقول: ( كان خلقه القرآن) فصار من أجل هذا الخّلقْ والخُلق القرآني حبيب ربّ العالمين، لأنّ لا أحد غيره استطاع أن يعكس جمالَ أنوار تجليات أسمائه الحسنى على مرايا القلوب كما فعل فأشعل بذلك في قلوب المؤمنين جذوة عشق تذيب الحشا وتقتات على الأفئدة. فالتفتَ إليهم ربُّ العزة، ونظر إليهم نظرة رحمة وإشفاق وخاطبهم على لسان رسوله: (قل إنْ كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فرسولي هو البوابة التي من خلالها يصلني حبكم، فمحبته واتباعه والتعلق بسنته هو طريقكم الموصل اليَّ.
و "النورسي" يلقي المزيد من التفسير على هذه الآية الكريمة فيقول:
قال تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحبّون الله فاتّبعوني يُحْببكُم الله) .(9/21)
في هذه الآية الكريمة إيجاز معجز، حيث ان معاني كثيرة قد اندرجت في هذه الجمل الثلاث:
تقول الآية الكريمة: إن كنتم تؤمنون بالله، فإنكم تحبونه، فما دمتم تحبونه فستعملون وفق ما يحبه، وما ذاك إلا تشبهكم بمن يحبه.. وتشبهكم بمحبوبه ليس إلا في اتباعه، فمتى ما اتبعتموه يحبكم الله، ومن المعلوم أنكم تحبون الله كي يحبكم الله.
وهكذا فهذه الجمل ما هي إلا بعض المعاني المختصرة المجملة للآية، لذا يصح القول: إن أسمى مقصد للإنسان وأعلاه هو أن يكون أهلا لمحبة الله.. فنص هذه الآية يبين لنا أن طريق ذلك المقصد الأسنى إنما هو في اتباع حبيب الله والاقتداء بسنته المطهرة."
ويمضي النورسي يقول:
" لقد جُبل هذا الإنسان على محبة غير متناهية لخالق الكون، وذلك لان الفطرة البشرية تكنّ حباً للجمال، ووداً للكمال، وافتتاناً بالاحسان، وتتزايد تلك المحبة بحسب درجات الجمال والكمال والإحسان حتى تصل إلى أقصى درجات العشق ومنتهاه.
نعم إن في القلب الصغير لهذا الإنسان الصغير يستقر عشق بكبر الكون. إذ إن نقل محتويات ما في مكتبة كبيرة من كتب، وخزنها في القوة الحافظة للقلب - وهي بحجم حبة عدس - يبين ان قلب الإنسان يمكنه ان يضم الكون ويستطيع ان يحمل حباً بقدر الكون.
فما دامت الفطرة البشرية تملك استعداداً غير محدود للمحبة تجاه الإحسان والجمال والكمال.. وان لخالق الكون جمالا مقدساً غير متناه، ثبوته متحقق بداهة بآثاره الظاهرة في الكائنات.. وان له كمالا قدسياً لا حدود له، ثبوته محقق ضرورة بنقوش صنعته الظاهرة في هذه الموجودات.. وان له إحسانا غير محدود ثابت الوجود يقينا، يمكن لمسه ومشاهدته ضمن إنعامه وآلائه الظاهرة في جميع أنواع الأحياء.. فلابد انه سبحانه يطلب محبة لا حد لها من الإنسان الذي هو اجمع ذوي الشعور صفة، وأكثرهم حاجة، وأعظمهم تفكراً، وأشدهم شوقاً إليه.(9/22)
نعم، كما أن كل إنسان يملك استعدادا غير محدود من المحبة تجاه ذلك الخالق ذي الجلال، كذلك الخالق سبحانه هو أهل ليكون محبوبا، لأجل جماله وكماله وإحسانه اكثر من أي أحد كان، حتى ان ما في قلب الإنسان المؤمن من أنواع المحبة ودرجاتها للذين يرتبط بهم بعلاقات معينة، ولاسيما ما في قلبه من حب تجاه حياته وبقائه، وتجاه وجوده ودنياه، وتجاه نفسه والموجودات بأسرها، إنما هي ترشحات من تلك الاستعدادات للمحبة الإلهية. بل حتى أشكال الاحساسات العميقة - عند الإنسان- ما هي الا تحولات لذلك الاستعداد، وما هي إلاّ رشحاته التي اتخذت أشكالا مختلفة."(1)
فالمتحابان من البشر إذا كانا صادقين في حبهما، مخلصين في ودّهما، فتح أحدهما للآخر أعماق روحه، وكشف أحدهما للآخر عن سريرته، وأودع أحدهما الآخر خويصة نفسه، وأَمِنَهُ على حبّات فؤاده. ولا مشاحة في المثال - ولله المثل الأعلى والأقدس - فإنّ ربَّ العزة إذا رأى من عبده المؤمن صدق المحبة، وخلوص النيّة، وتذلل العبودية، والتمرغ بتراب الأعتاب، والوقوف بالمسكنة طويلاً على الباب، فإنه تعالى يتوجه إليه، ويلتفت نحوه، وعلى عرش قلبه تتنزل أنواره، وفي سماء روحه تسطع أسماؤه. فيمتلئ قلبه بالمعارف، وتفيض روحه بالعلوم، فيلحق بالأبرار، وينزل ديوان المقربين، كلُّ ذلك مع التزام الأدب، ومعرفة الحدّ، وعدم مجاوزة القَدرْ، والعلم بأن شأنه مع هذه التجليات شأنَ " رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط - حسب سعتها - نوراً وضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو إلى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس." (2)
__________
(1) اللمعات ص90-92
(2) الكلمات ص146(9/23)
ثم يمضي النورسي متحدثاً عن أنوار الإلهامات، فيقول:" إن ابسطها وأكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.
ومن هذا السر نرى أن ولياً يقول: "حدّثنى قلبي عن ربي" أي: بهاتف قلبه. ومن دون وساطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربي. ولا يقول: عرش رب العالمين؛ لأنه يمكن أن ينال حظاً من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب." (1)
فرغم أن الإنسان مخلوق فانٍ إلاّ أنه يحمل في فطرته بذرةً للخلود وينطوي على نازع قوي ينزع به نحو البقاء والأبد، فالخالق جلَّ وعلا خلق هذا الإنسان لنفسه، وصنعه على عينه، وأوجده ليعرفه، ومنحه شرفَ أن يكون أجمعَ مرآة تعكس أنوار أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأودعه بعضاً من أسمائه وصفاته بشكل نسبي ومحدود لكي يقيس ما عنده من نسبيات هذه الصفات ومحدودياتها على مطلقاتها التي لا يحدها حدّ عنده تعالى.
ومن أجل هذه المهمة المقدسة - مهمة كون الإنسان مرآة عاكسة لتجليات أسمائه تعالى وصفاته - بعث الله الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنزل الكتب، ليّذكَّروا الإنسان إذا ما نسي بأصل رسالته، والغاية من خلقه، والمغزى من وجوده، وليحثوه على تعهد نفسه - باعتبارها المرآتية - بالصقالة، وبدفع الصدأ عنها وإزالة الكدورة منها، وأن يحافظ عليها نقيةً من كل شائبة، طاهرة من كل دنس، وأن يزكيها ويرقي بها ليسلمها لخالقها - إذا جاء الأجل - كما أودعه إياها أولَ خلقهِ طاهرةً مطهرةً، وادعةً مطمئنةً.
__________
(1) الكلمات ص 147-148(9/24)
فالإنسان الذي قُلِّدَ هذا الشرف - شرف كونه مرآة عاكسة لتجليات ربّه - هو المقصود بالحديث الشربف:" (إن الله خلق آدمَ على صورة الرحمن ) (1) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - . يقول النورسي:
" فسَّرَ قسمٌ من أهل الطرق الصوفية هذا الحديث الشريف تفسيراً عجيباً لا يليق بالعقائد الإيمانية، ولا ينسجم معها. بل بلغ ببعضٍ من أهل العشق ان نظروا إلى السيماء المعنوي للإنسان نظرتهم إلى صورة الرحمن! ولما كان في اغلب أهل العشق حالة استغراقية ذاهلة والتباس في الأمور، فلربما يُعذَرون في تلقّياتهم المخالفة للحقيقة. إلاّ أن أهل الصحو، وأهل الوعي والرشاد يرفضون رفضاً باتاً تلك المعاني المنافية لأسس عقائد الإيمان، ولا يقبلونها قطعاً. ولو رضي بها أحدٌ فقد سقط في خطأ وجانَبَ الصواب.
نعم، إن الذي يدبر أمور الكون ويهيمن على شؤونه بسهولة ويسر كإدارة قصر أو بيت.. والذي يحرك النجوم وأجرام السماء كالذرات بمنتهى الحكمة والسهولة.. والذي تنقاد إليه الذرات وتأتمر بأمره وتخضع لحكمه..
__________
(1) خلق الله عز وجل آدم على صورته..) حديث صحيح أخرجه البخاري برقم 6227 ومسلم برقم 2841 واحمد 2/315 وابن خزيمة في التوحيد ص29. أما حديث (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) فقد عزاه الحافظ في الفتح 5/183 لابن أبى عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحافظ بإسناد رجاله ثقات.(9/25)
نعم، إن الذي يفعل هذا كله هو الله القدوس سبحانه.. فكما انه منزّه ومقدّس عن الشرك؛ فلا شريكَ له، ولا نظيرَ، ولا ضدّ ولا ندّ، فليس له قطعاً مثيلٌ ولا مثالٌ ولا شبيهٌ ولا صورةٌ أيضاً، وذلك بنص الآية الكريمة (ليس كَمِثْلِه شئٌ وهو السَّميعُ البَصيرُ) (الشورى: 11) إلاّ أن شؤونه الحكيمة وصفاته الجليلة وأسماءه الحسنى يُنظر إليها بمنظار التمثيل والمَثَل حسب مضمون الآية الكريمة: (ولَه المَثَلُ الأعلى في السّموات والأرض وهو العزيزُ الحكيمُ) (الروم: 27). أي ان المَثَل والتمثيل واردٌ في النظر إلى شؤونه الحكيمة سبحانه.
ولهذا الحديث الشريف مقاصد جليلة كثيرة، منها: أن الإنسان مخلوق على صورة تُظهر تجلي اسم الله "الرحمن" إظهاراً تاماً.
نعم، لقد بينا في الأسرار السابقة انه مثلما يتجلى اسمُ "الرحمن" من شعاعات مظاهر ألف اسمٍ واسم من الأسماء الحسنى على وجه الكون، ومثلما يُعْرَض اسم "الرحمن" بتجليات لا تحد للربوبية المطلقة على سيماء الأرض، كذلك يُظهِر سبحانه التجلي الأتم لذلك الاسم "الرحمن" في الصورة الجامعة للإنسان، يُظهِره بمقياس مصغر بمِثلِ ما يُظهره في سيماء الأرض وسيماء الكون بمقياس أوسع واكبر.(9/26)
وفي الحديث الشريف إشارة كذلك إلى أن في الإنسان والأحياء من المظاهر الدالة على "الرحمن الرحيم" ما هو بمثابة مرايا عاكسة لتجلياته سبحانه، فدلالة الإنسان عليه سبحانه ظاهرة قاطعة جلية، تشبه في قطعيتها وجلائها دلالة المرآة الساطعة بصورة الشمس وانعكاسها على الشمس نفسها. فكما يمكن ان يقال لتلك المرآة: إنها الشمس، إشارةً إلى مدى سطوعها ووضوح دلالتها عليها، كذلك يصح أن يقال - وقد قيل في الحديث - أن في الإنسان صورة "الرحمن"، إشارة إلى وضوح دلالته على اسم "الرحمن" وكمال مناسبته معه ووثوق علاقته به. هذا وان المعتدلين من أهل وحدة الوجود قد قالوا: "لا موجود إلاّ هو" بناء على هذا السر من وضوح الدلالة، وعنواناً على كمال المناسبة." (1)
وفي مكان آخر يقول "النورسي" عن الإنسان ما يأتي:
"مع أن الإنسان فانٍ إلاّ أنه مخلوق للبقاء. خَلَقه البارى الكريم بمثابة مرآة عاكسة لتجلياته الباقية، وكلّفه بالقيام بمهمات تثمر ثمارا باقيةً، وصوّره على أحسن صورة حتى أصبحت صورته مدار نقوش تجليات أسمائه الحسنى الباقية، لذا فسعادة هذا الإنسان ووظيفته الأساس إنما هي: التوجه الى ذلك الباقي بكامل جهوده وجوارحه وبجميع استعداداته الفطرية، سائراً قُدماً في سبيل مرضاته، متمسكا بأسمائه الحسنى، مردداً بجميع لطائفه - من قلب وروح وعقل - ما يردده لسانه: يا باقى أنت الباقى:
هو الباقي، هو الأزلي الأبدي، هو السرمدي، هو الدائم، هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود." (2)
ـ 11 ـ
في "التوطئة" أو "المدخل" إلى "المثنوي العربي النوري": كتبتُ أقول:
__________
(1) اللمعات ص153-154
(2) اللمعات ص27(9/27)
" والتوحيد الخالص من شوائب الشرك، والذي يشكل لبَّ الإيمان، وجوهر عقيدة الإسلام، هو في "المثنوي" ليس أمراً تقريرياً، ولا معنىً تلقينياً، ولا عقيدة تقليدية، ولا كلاماً محفوظاً مردداً يردده المسلم بلسان جاف، وقلب بارد، ووعي ذاهل، كما هو مشاهد اليوم لدى الكثير من المسلمين.. فلا غرو إذا ما عجزت "كلمة التوحيد" اليوم - وقد خالطها هذا القصور المعيب - أن تخرق أبواب الروح، وتلج إلى أعماق الفؤاد، لتطلق قوى المسلم، وتفجر طاقات كيانه الروحي الذي أصابه الضمور وغدا عاجزاً عن ممارسة أي نشاط يمكن أن يزيد في نموه، ويقوي فيه بصيرة الكشف الذكي عن "علوم التوحيد" العظيمة في مظانها الأصلية من نفس الكون والإنسان.
فالتوحيد الذي يدعونا إليه "المثنوي" ليس تقريرياً، ولا تلقينياً، ولا تقليدياً، ولا ترديدياً، بل استكشافياً.. فيه ما في الاستكشاف من متعة ومغامرة ومعاناة، فهو يأخذنا - عبر خواطره - في جولة استكشافية في أغوار النفس الإنسانية، ويدور بنا في أنسجة الروح والفكر والضمير، ثم يزيح التراب عن ذاكرة الكون المؤودة تحت ركام علوم العصر، ويستنطقها لتحدثنا عن بصمات "التوحيد"، وتدلنا على آيات الإله الواحد الذي لا يقبل الشريك.. ولا يتركنا إلا ونحن قد اكتشفنا "التوحيد" والتقيناه في أشد الأشياء الكونية والنفسية بداهةً، فينبثق في صميم أفئدتنا انبثاقاً، وينغرس بشكل عفوي في أعماق أرواحنا وضمائرنا، فيهز هذا التوحيد الاستكشافي أعماق النفس، ويفعم الذهن بطاقات الذكاء، ويشدُّ في الوجدان أجهزة التلقي عن الكون والحياة، فيستمر المسلم كشافاً رائداً لأعمق الحقائق - في الكون والإنسان - في ديمومة لا تتوقف حتى تتوقف حياته.. فيزيد فهماً، ويتسع وعياً ويخصب وجوداً وحياةً.(9/28)
فكذلك (ولله المثل الأعلى) فان الصفات الجمالية والكمالية وصفات القدرة التي يدور غالب أفكار "المثنوي" وخواطره حولها، هذه الصفات التي وصف الله - جلّ شأنه - بها نفسه ومنها: (الخالق، البارئ، المصور، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الودود، الرزاق، الكريم، القادر، العليم..) إلى آخر هذه الصفات لا بد لها من التجلي بمعانيها الجمالية والكمالية في الخلق والإيجاد، وان ترتسم صورتها في مرآة العالم والوجود، وتنسكب بمحاسنها وألوانها على صور الكائنات والموجودات، ليراها مَنْ وصف نفسه بـ: "أحسن الخالقين"، وليريها للإنسان في خفايا نفسه، وفيما يحيط به من موجودات. فيرى - هذا الإنسان - ويتأمل ويعتبر، ويشهد ويشغف، ويعجب ويشدَه، ثم لا يقف عند هذا بل يمر سريعاً من الرسم إلى الرّسام، ومن النقش إلى النقاش، ومن الظل إلى الأصل، وبذلك - أي بهذا الانتقال السريع - يصبح الإنسان جديراً بالفهم عن الله سبحانه وتعالى، الذي قدّر ان يكون محط عنايته، وخليفته في أرضه.. وهي بلا شك ستبلغ - أي هذه الصفات الجمالية والكمالية - مداها الأعظم والأشمل والأوفى من الجمال والكمال في حياة الإنسان الأخرى، وعمره الثاني في كنف الرحمن وفي جنته التي هي أروع لوحاته جمالاً وحسناً وكمالاً وقدرة.." (1)
ـ 12 ـ
والمرايا العاكسة التي تعكس كلُّ واحدة منها - بحسب حجمها وعلى قدر صقالتها وشدة نقائها- بعضاً من أنوار تجليات الأسماء الإلهية الحسنى. فأن هذه المرايا إذا ما نُظِرَ إليها بمنظار "التوحيد" عُرِفَ أنّ مصدر نورها واحد، ومنبعه واحد، فيجتمع بهذا النظر شتاتها، وتتوحد اجزاؤها، ويلتحم بعضها ببعض، وتصير- بسّر التوحيد- مرآة واحدة كبرى تعكس وحدة النور، وأحدية المنَّور.
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 15-18(9/29)
فالوحدة والتوحيد سنّة كونية تدفع بالأشياء من الجزئية الى الكلية، ومن الشتيت المتفرق إلى الواحد المتجمع، وتسعى الى رتقِ ما يتفتّق، وتركيب ما يتفكّك، حتى أن القرآن الكريم يشير إلى هذه السنة الكونية الإلهية فيقول: (ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان:28) ويقول: (.. مَنْ قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَنْ أحياها فكأنما أحياء الناس جميعاً) (المائدة: 32). فالبشرية بأجيالها المتعاقبة منذ آدم عليه السلام والى أن تقوم الساعة مختزلة في أي فرد من أفرادها، فقتل هذا الفرد من غير وجه حق كأنه قتل للبشرية بأسرها، وإحياؤه أي مساعدته على حفظ حياته كأنه إحياء للبشرية كلّها، وهذا الفرد وسرّ كينونته منطوٍ في أصغر خلاياه، كما أنّ أعظم طاقات الكون مخفية في الذرة الواحدة من ذراته. والعلوم- على سعتها- مختزلة اليوم في معادلات وشفرات ورموز حيث يمكن حفظها وخزنها في ذاكرة الحافظات الإلكترونية لكي يتسنى العودة إليها إذا ما دُمِّرتْ الحضارة القائمة لأي سبب من الأسباب ليستأنف الإنسان مسيرة الحضارة من جديد من النقطة التي توقفت عندها.
يتبين لنا من هذا الذي عرضناه آنفاً أن الفطرة التي فطر الله تعالى عليها العالم تقود الجميع بصمت وخفاء نحو الوحدة والتوحد، والانتقال من التعددية إلى الواحدية، ومن الشتات والتفرق الى التجمع والتوحد، وأن واحديته- جلّ شأنه- وأحديته قد تركت بصمتها وختمها على الكون والحياة والإنسان.
وعن مرآة "التوحيد" هذه يحدثنا "النورسي" قائلاً:
" نعم، إن الجمال الإلهي وكماله الذي لايحد، والحسن الرباني ومحاسنه التي لانهاية لها، والبهاء الرحماني وآلاءه التي لا تعد ولا تحصى، والكمال الصمداني وجماله الذي لا منتهى له، لا يشاهد إلاّ في مرآة التوحيد؛ بوساطة التوحيد ونور تجليات الأسماء الإلهية المتمركزة في ملامح الجزئيات الموجودة في أقصى نهايات شجرة الكائنات.(9/30)
وحيث إن عظمة الكبرياء الإلهي والجلال السبحاني وهيبة الربوبية الصمدانية تتحقق في كلمة التوحيد فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلاّ الله) (1).
نعم، إن ثمرة واحدة، وزهرة واحدة، وضياءً واحداً، كل منها يعكس كالمرآة الصغيرة رزقاً بسيطاً، ونعمة جزئية وإحساناً بسيطاً. ولكن بسر التوحيد تتكاتف تلك المرايا الصغيرة مع مثيلاتها مباشرة، ويتصل بعضها بالبعض الآخر، حتى يصبح ذلك النوع مرآة واسعة كبيرة جداً تعكس ضرباً من جمال إلهي يتجلى تجلياً خاصاً بذلك النوع. فيُظهر سر التوحيد حسناً سرمدياً باقياً من خلال ذلك الجمال الفاني الموقت. بمعنى أن ذلك الشيء الجزئي يتحول بسر التوحيد إلى مرآة الجمال الإلهي" (2)
ـ 13 ـ
__________
(1) جزء من حديث: (افضل الدعاء يوم عرفة وافضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له) رواه مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كرير مرسلا، وأخرجه الترمذي وحسنه عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: خير الدعاء يوم عرفة وزاد: له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ورواه البيهقي عن أبى هريرة بلفظ: افضل الدعاء دعاء يوم عرفة وافضل قولي وقول الأنبياء قبلي لا اله إلا الله.. (كشف الخفاء 1/153) وأخرجه الأصفهاني في الترغيب (331/1 المدينة) بلفظ مقارب عن عمرو عن المطلب كما في الصحيحة 4/807 وقال هذا مرسل حسن الإسناد وحسنه لشواهده. وانظر موطأ الإمام مالك برقم 500 و 955 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 1113.
(2) الشعاعات ص 8-11(9/31)
لا يليق بالربوبية المطلقة إلاّ عبودية مطلقة، فعظمة الربوبية لكي تتجّلى بأسمى ما يكون التجلي، وتتراءى للخلائق بأوضح ما تكون الرؤية، لا بد لها أن تلتقي عبودية عظيمة، فيها من العظمة والسكينة والكمال والاستغناء بالنفس ما يؤهلها لاستقبال تجليات الربوبية وعكسها على العالمين. فالعبودية المطلقة في شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - هي اللائقة لتكون مرآةً للربوبية المطلقة.
فبين عظمة الربوبية وعظمة العبدية صلة ونسب، بعيدان موغلان في قديم الخلاّقية الأولى حين تجلّى الربُّ سبحانه وتعالى على أرواح عبيده في ملكوت التجريد وسألهم: (ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى) ففي إقرارهم بمربوبيتهم للربّ المقدّس المعبود، نالتْ العبودية - منذ ذلك الوقت - بارقة من بوارق الجلال، وقبستْ قبسةً من عظمة أنوار عظمة صاحب العظمة والكبرياء، فهذه العبودية ليست محقاً للذات. ولا سحقاً للروح، بل توكيداً للذات، وإعظاماً للروح، لأنهما مَدارُ المُسَاءلةِ والتكليف، سواء في ملكوت التجريد، أو في عالم التجسيد.(1)
__________
(1) يقول النورسي في تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ( البقرة: 26): فلأن النقض لغةً تفريق خيوط الحبل وتمزيقها إشارة إلى أسلوب عال،كأن عهده تعالى حبل نوراني فتل بالحكمة والعناية والمشيئة فامتد من الأزل إلى أن اتصل بالأبد. فتجلى في الكائنات بصورة النظام العمومي وأرسلت تلك السلسلة سلاسلها إلى الأنواع وامتدّ أَعْجُبُها إلى نوع البشر فأورثت وأثمرت في روح البشر بذور استعدادات وقابليات تسقى وتتزاهر بالجزء الاختياريّ المعدَّل بالأمر التشريعيّ، أي الدلائل النقلية. فوفاء العهد صرف الاستعدادات فيما وضعت له؛ ونقض العهد خلافه وتفريقه ". إشارات الإعجاز - ص: 212(9/32)
وهنا يكمن سرُّ اختياره عليه الصلاة والسلام لنبوّة العبودية، على نبّوة الملوكية عندما خُيّرَ بينهما، لما في العبودية من شرف الكرامة عند الله تعالى، ولما فيها من أسرار القرب من الربّ المعبود، ولأنه عليه الصلاة والسلام جرّبَ وذاق وعَرَفَ قال: (أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)(1) أو كما قال. ففي السجود يتلاشى الوجود، ويذوب المعمور، ولا يبقى سوى ربٍّ ومربوبٍ، فيتردد في الروح صدى ذلك النداء الإلهي البعيد ليذكرها بالعهد الذي قَطَعَتْهُ على نفسها. وبالميثاق الذي أقرّت به. والتزمت به وهي بعدُ في ملكوت التجريد. و"النورسي" يؤكد هذا المعنى حيث يقول:
" كما لا يمكن وجود الشمس بلا نشر ضياء..كذلك لا يمكن جمال في نهاية الكمال بلا تبارز وبلا تعرُّف بواسطة رسول معرِّف.." أي لا يمكن أنْ يبقى جمال هو في نهاية الكمال مخفياً دون ظهور وتعريف، ولا يتمُّ ذلك إلاّ بواسطة رسول يُعَرّفُهُ.. ويقول كذلك:" ولا يمكن سلطنة ربوبية عامة، بلا عبودية كلية، بإعلان وحدانيته وصمديته في طبقات الكثرة بواسطة مبعوث ذي الجناحين.." أي: إن عظمة الربوبية لابد أن تقابل بعبودية كلية تليق بها، ولا يقوم بمثل هذه العبودية إلاّ مبعوث يملك الرسالة والولاية معاً، فيعلن الوحدانية والصمدانية على الخلق أجمعين..
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 482 وأبو داود برقم 875 والنسائي 2/226 عن أبي هريرة رضي الله عنه.(9/33)
ويقول :" ولا يمكن حُسنٌ لانهاية له، بلا طلبٍ ذي الحسن، ومحبته لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة، وبلا إرادته لإشهاد أنظار المستحسنين عليه وإراءته لهم بواسطة عبد حبيب يتحبب إليه، ورسول يحببه إلى الناس."(1) أي : إن لم يطلب صاحب حُسن إظهار حسنه، وليست هناك مرآة تعكس ذلك الحسن، ولم يقم أحدٌ بتعريفه، فسيبقى ذلك الحسن مخفياً، أي لابد من رسول يعكس بعبوديته الكاملة - كالمرآة - محاسن ذلك الجمال ويبينه برسالته للخلق أجمعين..
فكلما عَظُمَتْ عبودية العبد، عظمت معها روحه، وسَمَتْ نفسه، ورهف وجدانه، وثَقُفَ عقله، وَطَهُرَ "أناهُ" من نوازعه، ونفض عن نفسه من الزوائد والشوائب ما لا صلة له بجوهر روحه، وأصل وجوده، فإذا ارتقى العبد في عبوديته هذا الارتقاء أحبّه الربّ المعبود، وإذا أحبّه، أحبّه الكون كله، ووالته الموجودات، وتعاطفت معه الخلائق، وصارت روحه مرآةً كبرى تعكس من صور تجليات محبّة ربّه ما تعكس، وَغَدا طاقةً مؤثرةً في الأشياء من حوله، فإذا نظر، نظرَ بعين الله، وإذا سمع، سمع بسمع الله، وإذا بطش، بطش بيد الله، وإذا أراد أرادَ الله معه، وإذا أعرضَ، أعرضَ معه، وإذا عاداه أحد قَصَمَهُ. فأيّ جلال أعظم من هذا الجلال الذي تُسْبغُهُ العبوديةُ على صاحبها، وأيّ جمال ترفل به روحه يمكن أن يضاهيه جمال، فَلمسة من لمساته تبعث الحياة في الروح الثقيلة، وكلمة من كلماته منظار نبصر من خلاله صميم حالنا الروحي، وقلبه الجائش كالتنور يفور ويتأجج بأعظم المعارف، والحقيقة عنده حية لا تموت لأنها تستمدّ الحياة من الحي الذي لا يموت. فهو الحقّ من حيثما جئته، وهو الصدق من حيثما قصدته، الآذان جائعة إلى كلامه. والقلوب ظمأى إلى فيوضات فؤاده.
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص87(9/34)
ومعلوم أنّ كُلَّ ما ينبع عن الفطرة فهو جميل، فكل جميل مدين بجماله إلى أصل فطرته التي فُطِرَ عليها، وخُلِقَ من أجلها، وأية خطوة من الجميل في الابتعاد عمّا فُطِرَ عليه يفقده شيئاً قليلاً أو كثيراً من جماله، وعلى قدر ما يخطوه من خطوات في الاتجاه المعاكس، ينقص من جماله، ويقبح من صورته.
والقبح في الشيء إنما هو حصيلة ما يعلق به من زوائد غريبة مقطوعة الصلة بفطرته، فتعوقه عن ممارسة وظيفته الفطرية التي خلق لها، فيفقد معنى خلقه، ومغزى وجوده. فالعبودية لله تعالى كما هي جلال فهي كذلك جمال، لأنها فطرة الله التي فطر عليها البشر: (وما خلقتُ الجِنَّ والأنسَ إلاَّ ليعبدون) أولاً، ولأنها - ثانياً - استعلاء على كافة العبوديات الانحرافية الهابطة، ابتداءً من عبادة النفس والعقل والهوى وانتهاءً بعبادة الشمس والقمر والشجر والحجر، الى غير ذلك من العبوديات المنحرفة عن الأصل الفطري الذي فُطِرَ عليه الإنسان. والتي كانت - أي هذه العبوديات - وما زالت أعشاش الآم وأحزان، وبيادر للأوجاع يقتات عليها الوثنيون في كل مكان.
وإلى هذا الجلال والجمال يشير "النورسي" قائلاً:
" اعلم! إن اكثر مظاهر الجلال تجلي الأسماء على الكل والكليات والأنواع والجماعات. والجود المطلق في النوع من تجلي الجلال. وان أغلب مرايا الجمال المتجلي، نقوشُ جزئيات الموجودات، وجمال أشخاصها مع تزايد الحسن، وجلاء المرآتية بتلاحق الأمثال في تكثير الأفراد، والإتقان والانتظام الأجمل في شخصٍ شخص من تجلي الجمال.. وكذا يظهر الجلال من تجلي الواحدية ؛ ويظهر الجمال من تجلي الأحدية. وقد يتجلى الجمال من الجلال كما يتجلى الجلال من الجمال.. فما اجمل الجلالَ في عين الجمال، وما اجمل الجمال في عين الجلال!." (1)
ـ 14 ـ
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 344-345(9/35)
معرفة الله تعالى هي الغاية الأساسية من خلق الإنسان. والهدف الأسنى من استخلافه على كوكب الأرض، ومن أجل هذه الغاية المقدّسة فَطَرَهُ ربُّ العالمين على حب المعرفة، وزوده بما يَحْفِزُهُ إليها، ويدفعه نحوها من لطائف الحدس والحسّ والشعور والخيال، ومن فوقها كلّها ملكة العقل والإدراك، لكي يسعى لامتلاكها والارتقاء بنفسه إليها.
فمهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم إنما هي الأخذ بيد الإنسان ومساعدته للنهوض بكيانه المعرفي وإثرائه بالمزيد مما يتنزل به الوحي عليهم من معارف الغيب، فكلما عَمُقَتْ واتّسَعتْ معرفة الإنسان بخالقه زاد حبه له، واشتّدت رغبته بلقائه، وصار اكثر استعداداً على اختراق تلك البرهة الزمنية التي تفصله عنه وتحجبه عن لقائه بنجاح وسلام حين يحين أجلها وتدقُّ ساعتها. وبعض الحكماء يدعون إلى معرفة "النفس" أولاً. لأن معرفة النفس عندهم تفضي عاجلاً أو آجلاً إلى معرفة الله. فمعرفتها - أي النفس - "أمُّ الحكمة، واصل الفضائل، وعليها تتوقف دقائق الحكمة، ورقائق المتألهين، كما جاء في الوحي القديم: "اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربَّك" وفي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَرَفَ نفسه فقد عرف ربّه، وأعرفكم بنفسهِ أعرفكم بربّه" وفي كلام "أفلاطون" : "مَنْ عرف ذاته تألَّهَ" وفي كلام "أرسطوطاليس": " معرفة النفس معينة في كل حقٍّ معونةً كثيرةً" . (1)
__________
(1) السهر وردي / حكمة الإشراق / هامش القسم الثاني / المقالة الأولى / ص 114(9/36)
وفي القرآن الكريم: ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) فالنّفْسُ كونٌ عظيم واسع عميق الغور. يحيا بين جنبينا، يضاهي في سَعَةِ سماواته وعظيم شموسه وأقماره وكواكبه، وعجائبه وغرائبه، الكون الذي يظلّنا ويحيط بنا، ورواد فضاءات النفس كرواد فضاءات الكون، اكثر فهماً وإدراكاً لأسرار الربوبية فيما يردون من آفاق ويقتحمون من مجاهيل. فلا عجب إذا ما حازت مقولة: "معرفة النفس" موافقة الأنبياء والحكماء على حد سواء فالله تعالى "خلق الخلق ليشاهدَ في مرايا أطوارها جلوات أنوار جماله وجلاله وكماله" كما يقول "النورسي" ويقول كذلك: "وأما ذو الكمال الذاتي والجمال الحقيقي، المجرد، السرمدي المحبوب لذاته بذاته، الذي له المثل الأعلى فقد أخبرنا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. "إنّه خلقَ الخلقَ ليعرف" (1) أي صور مرايا ليشاهد فيها تجليات جماله المحبوب لذاته بذاته".
ـ 15 ـ
يصعب التعاطي مع "الذوقيات" عموماً بوسائل العلم وبقواعد المنطق، بل تؤخذ "الذوقيات" كما هي دون مداخلات لغرض البيان أو التفسير. وقد باءت المداخلات العلمية والعقلية مع "الذوقيات" بالفشل في كل مرة، فمداخلة العقل أو العلم لتفسير ظاهرة ذوقية معينة قد يفسدها، أو على الأقل يفرغها من محتواها الذوقي والجمالي، فالذوقيات نتاج مؤثرات جمالية، والجمال إذا فُسِرَ فَسَد، والذوق إذا عُقِلَ فَلَت، ومن هنا نفهم دواعي الخلاف التقليدي طويل الأمد بين الفقهاء ورجال العلم من جهة، ورجال التصوف من جهة أخرى.
__________
(1) وهذا مقارب بالمعنى ما ورد: ( كنت كنزاً لا أُعرف فأحببتُ أن أعرف فخلقت خلقاً فبي عرفوني) لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف إلا أنّ علي القاري قال: ولكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: (وما خلقت الجنّ والأنسَ إلاّ ليعبدون) أي ليعرفوني كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما. (كشف الخفاء 2/132 ) .(9/37)
فذوقيات المتصوفة إنما هي نُمُوَّ مُفْرِطُ في الوظائف الوجدانية والذوقية يقابله ضمور يكاد يكون مفرطاً كذلك في سائر الوظائف البشرية الأخرى، وقد ينجم عن هذا الإفراط والتفريط عند البعض منهم ما اصطلح على تسميته بالشطحات.
فالتصوف ذاتي وفردي، يتلون بلون التجربة الذاتية التي يخوض غمارها هذا المتصوف أو ذاك. والذاتيات - لكونها ذاتيات - فأنها تندُّ عن أي ضابط علمي، فلا يصير الشيء علماً منضبطاً ضمن قواعد وأصول ما لم يعمَّ، أي يكون أثره وتأثيره واحداً في عموم المتعاطين معه. وليس التصوف هكذا، لذا فهو سيظلُّ عِلْماً فردياً ذاتياً له خصوصيته عند صاحبه لا يشاركه فيها غيره.
كما أن امتياز "الصوفية" في مجال الروحيات والذوقيات لا يعني بالضرورة امتيازهم في المجالات الإنسانية الأخرى والى هذا يعود سبب ما أشْتهر عن بعضهم من تصرفات طفولية، ومن سذاجات قد تبلغ حدَّ البلاهة عند بعض مَنْ يسمونهم بالجذبة أو المجذوبين رغم علّو كعبهم في مسائل الكشفيات والذوقيات.
ودعوة كبارهم إلى ضرورة وزن ما يقع لهم من أمور ذوقية أو كشفية بميزان الشرع الحنيف إنما هو حرصهم على عدم الوقوع في مخالفات تجرّ - عند عدم الانتباه - إلى مخاطر عقيدية قد تخدش أصلاً من أصول العقيدة، أو تخالف قاعدة من قواعدها.
ولم يختلف الناس في أمر من أمور "التصوف" اختلافهم في مسألة "وحدة الوجود
فمنهم مَنْ يقدح بها ويسفهها إلى حد تكفير مَنْ يعتقدها أو يقول بها، ومنهم مَنْ يرى أنها غاية الغايات في المعرفة والتوحيد. وقد سئل النورسي عنها وكما يأتي:
"سؤال: ما ترى في "وحدة الوجود"؟(9/38)
الجواب: انه استغراق في التوحيد، وتوحيد ذوقي لا ينحصر في نظر العقل والفكر؛ إذ إن شدة الاستغراق في التوحيد - بعد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - يُفضي إلى وحدة القدرة، أي: لا مؤثر في الكون إلاّ الله. ثم يؤدي هذا إلى وحدة الإدارة، وهذا يسوق إلى "وحدة الشهود" ثم إلى "وحدة الوجود". ومن بعدها رؤية وجود واحد ثم إلى رؤية موجود واحد... فشطحات علماء الصوفية التي هي من قبيل المتشابهات لا تقام دليلاً على هذا المذهب. فالذي لم تتخلص روحهُ من تأثير الأسباب ولم تتجرد من دائرتها إذا ما تكلم عن وحدة الوجود يتجاوز حدّه. والذين يتكلمون به إنما حصروا نظرهم في "واجب الوجود" حصراً بحيث تجرّدوا عن الممكنات فاصبحوا لا يرون إلاّ وجوداً واحداً بل موجوداً واحداً.. نعم، ان رؤية النتيجة ضمن الدليل، أي رؤية الصانع الجليل ضمن موجودات العالم شئ ذوقي ولا يمكن بلوغها إلاّ باستغراق ذوقي. فإدراك حقيقة جريان التجليات الإلهية في جداول الأكوان، وسريان الفيوضات الإلهية في ملكوتية الأشياء، ورؤية تجلي الأسماء والصفات في مرايا الموجودات.. أقول: إن إدراك هذه الحقائق أمرٌ ذوقي. إلاّ أن أصحاب مذهب وحدة الوجود لضيق الألفاظ عبّروا عن هذه الحقيقة بالألوهية السارية والحياة السارية في الموجودات، وحينما حصر أهل الفكر والعقل هذه الحقائق الذوقية في مقاييس فكرية وعقلية جعلوها مصدر كثير من الأوهام والأفكار الباطلة.
ثم إن ما لدى الفلاسفة الماديين ومن وهنت عقيدتهم من المفكرين من مذهب "وحدة الوجود" وما لدى الأولياء منه بوناً شاسعاً وفروقاً كثيرة بل انهما متضادان ونقيضان. فهناك خمسة فروق بينهما:(9/39)
الفرق الأول: إن علماء الصوفية قد حصروا نظرهم في "واجب الوجود" واستغرقوا في التأمل فيه بكل قواهم حتى أنكروا وجود الكائنات ولم يعودوا يرون في الوجود إلاّ هو. أما الآخرون (الفلاسفة الماديون وضعفاء الإيمان) فقد صرفوا كل تفكيرهم ونظرهم في المادة حتى ابتعدوا عن أدراك الألوهية بل أوْلَوا المادة أهمية عظيمة حتى جعلتهم لا يرون من الوجود إلاّ المادة بل تمادوا في الضلالة بحيث مزجوا الألوهية في المادة بل استغنوا عنها لشدة حصرهم النظر في الكائنات.
الفرق الثاني: إن ما لدى الصوفية من وحدة الوجود تتضمن وحدة الشهود في حين ما لدى الآخرين يتضمن وحدة الموجود.
الفرق الثالث: إن مسلك الأولياء مسلك ذوقي بينما مسلك الآخرين مسلك عقلي.
الفرق الرابع: يحصر الأولياء نظرهم في الحق تعالى ثم ينظرون نظراً تبعياً ثانوياً إلى المخلوقات بينما الآخرون يحصرون نظرهم أولاً وبالذات في المخلوقات.
الفرق الخامس: إن الأولياء عبّاد الله ومحبوه بينما الفلاسفة يعبدون أنفسهم وهواهم، فاين الثرى من الثريا.. وأين الضياء الساطع من الظلمة الدامسة.
تنوير:
لو افترض - مثلاً - أن الكرة الأرضية قد تشكلت من قطع زجاجية صغيرة جداً ومختلفة الالوان، فلا شك أن كل قطعة ستستفيض من نور الشمس حسب تركيبها وجرمها ولونها وشكلها.
فهذا الفيض الخيالي ليس الشمس بذاتها ولا ضياؤها بعينه.
فلو نطقت ألوان الأزهار الزاهية المتجددة والتي هي تجليات ضياء الشمس وانعكاسات ألوانه السبعة، لقال كل لون منها:
ان الشمس مثلي. أو إن الشمس تخصّني أنا.
"إن الخيالات التي هي شِباكُ الأولياء إنما هي مرآة عاكسة تعكس الوجوه النيرة في حديقة الله" (1)
ولكن مشرب أهل وحدة الشهود هو: الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب أهل وحدة الوجود هو: الفناء والسكر. والمشرب الصافي هو مشرب الصحو والتمييز.
__________
(1) والبيت اصله بالفارسية لجلال الدين الرومي في مثنويه ج1 / 3 .(9/40)
(تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا) (1)
حقيقة المرء ليس المرء يدركُهَا
فكيف كيفية الجبار ذي القدم
هو الذي أبدع الأشياءَ وأنشأها
فكيف يُدركهُ مستحدثُ النَّسَمِ (2) " (3)
ـ 16 ـ
وبعدُ:
كان يمكن أنْ يكون هذا البحث المتواضع ضِعْفي حجمه الذي هو عليه الآن لو رُحْتُ استقصي ما جاء من أمثلة "الصورة والمرآة" في جميع مظانّاتها من مجلدات "رسائل النور" وهذا ما لم أفعله، لأنه لم يكن من هدف هذا البحث أساساً، وإنما كان هدفه عرض نماذج قليلة أساسية ومهمة من هذه الأمثلة التي استعان بها "النورسي" في إلقاء الأضواء على إشكالات روحية يكتنفها شئٌ من الغموض كانت وما زالت مثار تساؤلات مريبة من لدن المعنيين بشؤون "الروح الإنساني" وأوجاعه الارتقائية، وآلامه السلوكية. وأوهامه الماورائية. وبدءاً أسارعُ فأقول:
إنَّ "النورسي" لم يكن هو السبّاق الأول في الاستعانة بِمَثل "الصورة والمرآة" فيما عالجه من هذه الإشكالات فقد سبقه الى ذلك فلاسفة يونان وحكماؤها الأقدمون من المتألّهين واستعان به "الإشراقيون" من صوفية المسلمين وضربه مثلاً الغزالي والرومي وابن عربي، وجمهرة كثيرة من فلاسفة الصوفية، وصوفية الفلاسفة، وكلُّ واحد من أولئك استعان بالمثل إياه ليلقي مزيداً من الضوء على فكرةٍ من غوامض أفكاره، أو غريبة من غرائب مذهبة، أو دقيقة من دقائق حكمته.
__________
(1) حديث حسن : أخرجه الطبراني في الأوسط 6456 واللالكائي في السنة 1 / 119 /1-2 والبيهقي في الشعب 1 / 75 ( الأحاديث الصحيحة 1788 وله شواهد أخرى حسنة). وانظر المجمع 1 / 81 وحلية الأولياء 6 / 66 - 67 وصحيح الجامع الصغير 2972و 2973
(2) ينسب إلى الإمام علي كرّم الله وجهه - ديوان الإمام علي ص 185 - بيروت.
(3) المثنوي العربي النوري ص 432-434 وقد خص النورسي اللمعة التاسعة في بيان مزالق وحدة الوجود مفصلا.(9/41)
فاستعانة هؤلاء جميعاً بهذا "المثل" وإنْ اختلفتْ أغراضهم وأفكارهم ومذاهبهم - دليل إيَّماَ دليل على ما فيه من جاذبية إغرائية تغري أرباب القلوب خاصة للاستعانة به، وذلك للتشابه الذي يكاد يبلغ حَدَّ التطابق بين القلب الإنساني والمرآة من حيث استيعابية كُلَّ منهما لما يقع عليه من صور، ولما يعكسانه على الآخرين منها. وللتشابه في الصدأ الذي يصيب القلب فيحول بينه وبين تلقي الصور والإشراقات والأنوار كما يحول الصدأ في المرآة دون تلقيها للصور والإشراقات والأنوار.
فهذا التشابه بين المرآة والقلب الإنساني هو الذي أعطى "المَثَل" مكانته في كتابات هؤلاء الكبار، فوظفوه في خدمة أفكارهم ومذهبهم على الوجه الذي يريدون.
وقد وظَّفَ "النورسي" المَثَل نفسه للأغراض الآتية:
1ـ تقريب البعيد والعالي من أفكاره وتجليتها وإلقاء المزيد من الضوء عليها.
2ـ بيان ما وقع فيه بعض عظماء الصوفية من أوهام وخيالات.
3ـ إبطال التهم الملصقة ببعض كبار أهل التصوف وبيان أسبابها.
4ـ التوكيد على الالتزام بالكتاب والسنة وبيان أنهما الطريق الوحيدة الموصلة الى الترقيات الروحية والقلبية.
منبعثاً في كُلّ كتاباته الإبداعية ودراساته النقدية من قاعدة أساس في فكره ألا وهي خدمة الإيمان، والدعوة إلى التلقي من القرآن مباشرة دون الحاجة إلى المرور في مسلك أهل التربية والسلوك.
رحم الله "النورسي ورحمنا معه، وأعاننا وأعان كُلَّ صاحب قلم على كشف المزيد من أفكاره ووجدانياته التي تزخر بها رسائله "رسائل النور".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/42)
النورسي اديب الانسانية
الاستاذ الدكتور حسن الامراني
جامعة محمد الاول
وجدة-المغرب
مقدمة
هذه بحوث كان كتبها الأستاذ "الأمراني" في أوقات مختلفة وتحت عناوين مختلفة، غير أن موضوعها واحد، وهو المنحى الأدبي والشعري عند الإمام "النورسي" رحمه الله في رسائله "رسائل النور".
والأستاذ" الأمراني" أديب وشاعر وناقد معروف، فتقويمه للإمام النورسي، وعدُّهُ واحداً من كبار الأدباء والشعراء يأتي ضمن دراسة نقدية مُعمَّقة يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها.
وإلى ذلك فإنَّ هذه البحوث تكتسب أهمية خاصة لدى المعنيين بالأدب لكونها محاولة جادّة في الكشف عن الصلة والنسب بين العبقرية الشعرية والعبقرية الدينية، فالعبقريتان كلتاهما تنبعثان من رهافة وجدانية عميقة الغور في النفس الإنسانية.
فما من عبقري في الشعر إلاَّ وله من الدين ملمح أو ملامح عُرف ذلك أم لم يُعرف، وما من عبقري في الدين إلاَّ وله من الشاعرية قسط قلَّ أو كثر، يرمز إلى ذلك ويومي به تلكم المعلقات من درر الشعر على جدران الكعبة أول بيت للدين على وجه الأرض. أما الأبلغ في الإفصاح فنلتقيه عند شعراء الصوفية، أو صوفية الشعراء، منذ أقدم الأزمان وحتى هذا اليوم.
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا – ونحن نشير إلى الصلة والنسب بين الدين والشاعرية- أنَّ "العربية" نفسها التي نكتب بها شعرنا، ونقرأ بها قرآننا، هي صنو الكعبة، صفت ورقَّتْ وَعَذُبَتْ وتهذبت بألسنة القرشيين خُدَّام البيت الحرام حتى غدت كائناً روحياً يتدفق بالحياة والخيال والشاعرية وبالنفحات الدينية – فالأديب أو الشاعر الذي يكتب بها تأتي كتاباته مثقلة بكل هذه الخصائص، ومحمَّلة بإرث لغوي شاعري الهوى، ديني المنزع، فلا جرم أن تكون بعد ذلك مبعث أي إبداع في الدين أو الشعر.(10/1)
والأستاذ"الأمراني" يشير إلى أنَّ "رسائل النور" مكتوبة بالأساس لخدمة الإيمان والقرآن، غير أن منحاها الأدبي والشعري ملحوظ في الكثير منها، وأما كتابه الفذ "المثنوي العربي النوري" فهو الأكثر توكيداً على هذا المنحى، وعلى عمق الشاعرية عند هذا الرجل، فقارئ هذا الكتاب يستنشق عبير شاعرية "النورسي" فوّاحةً من بين الكلمات والسطور، الأمر الذي جعل "الأمراني" يفرد بحثاً كاملاً للمقارنة بين شاعرية النورسي وشاعرية إقبال، مشيراً إلى الكثير من نقاط الالتقاء بين الشاعرين، وإنَّ أبرز ما يختلفان فيه هو أن "إقبال" شاعرٌ قبل أن يكون مفكراً، أما "النورسي" فهو مفكر قبل أن يكون شاعراً. ولم يَرَ الأستاذ"الأمراني" بأساً في كون "النورسي" لم يقل شعراً كما قال الشعراء، ولم يلتزم بضوابط الشعر وقواعده، فلم يلتفت إلى هذا، ولم يلقِ إليه بالاً، لأنَّ الذي يهمه من "النورسي" روحه الشاعرية، فأبان عنها وشخّصها وأتى بالنماذج التي تفصح عنها. وأكبر هذه النماذج وأعظمها التقاها الأستاذ "الأمراني" في كتابه "المثنوي العربي النوري"
ولئن كان الإمام "النورسي" معروفاً كمفكر ديني كتب للإيمان والقرآن، إلاَّ أنَّ قلة من المعنيين بجديد الفكر تهيأت لهم فرصة معرفته عن كثب، واكتشاف عبقريته الأدبية، ومنهم الدكتور "الأمراني".
وأحسب أن هذا الكشف سيهم بتعريف المثقفين بـ "النورسي" الأديب إلى جانب "النورسي" رجل الإيمان والقرآن.(10/2)
والأستاذ "الأمراني" يرى أنْ لو تهيأَ للمثنوي مَنْ يترجمه إلى إحدى لغات العالم الأكثر انتشاراً لكان من الممكن أن يحظى باهتمام وتقدير كبيرين من أوساط واسعة من المثقفين في الغرب كما يحظى "مثنوي" الرومي اليوم، لأنَّ الإمام "النورسي" في "مثنويه" هذا، قد خاطب القلب الإنساني الذي هو واحد عند العالمين جميعاً، واستطاع أن يجد المنفذ إليه، بل كان قادراً على أن يبعث القلوب الميتة من مدافنها، وينشئها إنشاءً آخر، ويعلو بها، ويزيد في تزكيتها حتى تصبح مرآة صقيلة قابلة لاستقبال تجليات ربّها، ولتغدو – بعد ذلك- منبعاً نورانياً عظيماً تستقي منه القلوب أنوارها، وتجد فيه النفوس راحها وريحانها، والقلم الذي يستطيع هذا كُلَّهُ لا شك أنه قلم أديب روحاني المنزع، إلهي المشرب، وهذا هو الذي أراد الأستاذ "الأمراني" أنْ يجليه للقراء من خلال هذه البحوث التي بين أيديهم.
أديب إبراهيم الدباغ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد(10/3)
يعرف الناس بديع الزمان سعيد النورسي رجلا متعدد المواهب، فهو العالم الرباني المصلح والمفكر، والمرشد الحكيم المربي والمنظر والمتكلم الألمعيّ والمفسر، ولكنهم قلما يعرفونه أديبا، وقلما عني الدارسون، حتى في تركيا نفسها، ببديع الزمان النورسي أديبا. وعندما وجه إليّ مركز رسائل النور عام 1995 الدعوة للمشاركة في المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي، كان بين يديّ عدد من رسائله التي اقتنيتها متفرقة عبر عقود، وكان من بينها مختارات من المثنوي العربي النوري بعناية الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ، وما كنت أعرف أن كليات رسائل النور قد صدرت كاملة ومترجمة بعناية الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وكعادتي، ما أردت أن أخوض فيما لا أحسن، وعزمت على أن ألتمس بعض الجوانب الأدبية من تراث النورسي،مما هو تحت يدي. وأسعفني في ذلك مختارات المثنوي، ففيها من الأدبية والشعرية شيء كثير، ثم إن بديع الزمان صنف المثنوي بالعربية، مما يجعل البحث في شعرية النص وأدبيته أمراً مشروعا، ولم يكن الأمر هينا لو أراد المرء تلمس تلك الأدبية فيما هو مترجم من رسائله، مع الإقرار بالقدرة الفائقة للأستاذ إحسان قاسم الصالحي في الترجمة التي قد لا يحس معها الإنسان بأن شخصا ثالثا يقوم فعلا بينك وبين النورسي، وهو المترجم. وسجلت بعض الملاحظات،أسعفتني في أن أبعث عنوان بحثي إلى الإخوة القيمين على مركز رسائل النور في استانبول، فما كان من الأستاذ الفاضل إحسان قاسم إلا أن اتصل بي، مستفسرا عمّا إذا كنت أملك المثنوي، فلما أخبرته أنني لا أملك غير مختارات منه، عجّل حفظه الله تعالى بإرسال نسخة كاملة من المثنوي العربي النوري إليّ، فما كان مني إلا أن أنكب على قراءته في نهم، وإذا بي أعثر على نصّ أدبي رفيع، وكنز بياني بليغ لا يكاد ينضب، وإذا همّتي تزداد يقينا على أنني أمام أديب متميز، وأن أدب النورسي بحاجة إلى مصنفات للتعريف به. وقد منّ الله تعالى(10/4)
عليّ، فحظي ما كتبته عن شعرية النص في المثنوي العربي النوري بالقبول، لا من الذين شاركوا في المؤتمر فحسب، بل أيضا من الذين أتيح لهم أن يطلعوا على البحث بعد ذلك منشورا، من العرب والمستعربين على السواء.
لا أريد بهذا أن أزعم لنفسي فتحا في تراث النورسي، وأنني عرفت بجانب مجهول من الكليات، وإن يكن شيء من ذلك فبفضل من الله تعالى، ثم بما أوتي هذا الرجل الإيماني الفذ من موسوعية، ولكني أردت أن أؤكد أن من الصعب تناول أدب النورسي في كتاب واحد، ذلك بأنه رجل ـ حتى في الجانب الأدبي منه ـ لا تملك أن تحيط بكل ما كتب. فإذا درست البلاغيين والمهتمين بالإعجاز القرآني كان النورسي منهم، وإذا أردت إلى المهتمين بضرب الأمثال جاء النورسي على رأسهم، فقد استفاد من القرآن الكريم هذا المنهج الأسلوبي القائم على ضرب الأمثال، وقطع فيه أشواطا قلما تجدها عند غيره، وإذا قصدت إلى أهل القصة والحكاية والسرد عثرت على ما يروعك، مع خصوصية لا تخطئها في كتابات بديع الزمان، وإذا جئت إلى الشعراء وجدت نفسك في حيرة من أمرك، ولكنك لا تصرف ذهنك قبل أن تشهد لبديع الزمان بروح شاعرية فذة، ولا يغرنك أن تجد النورسي يقرر أنه حرم نعمة النظم.. فأنت واجد ـ لاشك ـ كما سترى ما يثبت أنه يقول ذلك تواضعا، وإلا فهو شاعر مجازا كما يقول القدماء، وهو مع الشعراء مشارك وإن لم يغلب عليه قول الشعر، وما بالك بالذي ينظم في التركية والكردية والفارسية، ثم يشارف الشعر العربي في بعض المقطوعات؟(10/5)
هذا الموسوعية الأدبية هي التي جعلتني أعدل عن العنوان الذي كان قد قرّ عليه عزمي من قبل، وهو :(النورسي أديبا)، إلى هذا العنوان الفرعي: (النورسي أديب الإنسانية)، ذلك بأن العنوان كان سيتطلب مني شطرا من العمر قد لا أصبر عليه، ثم لا اطمئن إلى بلوغ كل ما أريد، فلذلك آثرت الوقوف عند جانب واحد من جوانب أدب النورسي، وهو إبراز ملامح الإنسانية في ذلك الأدب، فإن جاوزت ذلك بعض التجاوز في بعض هذه المقالات، فبقدر ما يعمل على تجلية الفكرة وبيانها ليس غير.
ولكن ما المراد بالإنسانية في أدب النورسي؟
لعله قد يسبق إلى الذهن ذلك المفهوم الذي نشأ في الغرب،باعتباره مذهبا فلسفيا، ثم أدبيا، وهو المذهب الذي يرى أن الإنسان مدار الكون، في رغبة واضحة في تجريده من مرجعية الألوهية والربوبية، فالإنسان بهذا المعنى متحكم في مصيره، وليس للدين ولا للغيب ولا لأي قوة خارجية عليه سلطان.فليس المراد بالإنسانية في هذه الحال أن تكون العناية بالإنسان في كل مكان،كم قد يظن، وكما هو مطلوب، بل هي مذهب يكاد يقوم على تأليه الإنسان، مثلما عبرت عن ذلك فلسفة سارتر الوجودية، حيث أجرى حوارا بين الإنسان وبين جوبتير، الإله المزعوم، فأراد جوبتير أن يمن على الإنسان بما أعطاه من الخلق، فصاح الإنسان في تبجح:نعم،لقد خلقتني، ولكن خطيئتك أنك خلقتني حرا.(10/6)
ليس المراد بالإنسانية في أدب النورسي على شيء من ذلك، بل المراد أن الله عز وجل خلق بني آدم وأكرمهم وكرمهم،فقد قال سبحانه:(ولقد كرمنا بني آدم)، ومن مظاهر التكريم أن الله عز وجل لم يترك الإنسان هملا بلا مرشد ولا دليل في هذه الحياة، وأنه فطره على الحق:(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، ومأساة الإنسان المعاصر أنه تحير بين فلسفتين: فلسفة تسعى إلى تأليهه بغير حق، على مذهب سارتر، وهو المخلوق الضعيف الذي لا يستطيع أن يتجاوز قدراته التي حباه الله تعالى بها، وفلسفة تسعى إلى مسخه ـ على مذهب كافكا ـ وتجريده من كل مظاهر التكريم، والحال أن الإسلام وجه همة الإنسان إلى أن تتعلق بالمثال، وترقى إلى مطلب عظيم، يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فالإنسانية الحق هي التي تخاطب في الإنسان ـ أينما كان ـ هذه الفطرة السوية، وترفع عنه الحجب، وتعيد إليه بهاءه الإيماني، متعاليا على الزمان والمكان، ساعيا إلى التحرر من عبادة العباد ليكون عبدا لله وحده، منطلقا من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وهذا هو الذي كان يسعى إليه بديع الزمان، وهذا هو الذي نطق به أدبه. وهذا هو الذي تسعى هذه المقالات إلى تجليته أو تجلية بعض ما تيسر منه.
وهذه المقالات هي:
عالمية الأدب الإسلامي في رسائل النور
نحن والأدب الغربي
شعرية النص في المثنوي العربي النوري
بلاغة التكرار في القرآن الكريم
الأدب القرآني:من مظاهر التجديد الأدبي في رسائل النور
بديع الزمان النورسي ومحمد إقبال.
البلبل والوردة:مدخل لدراسة مقارنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
عالمية الأدب الإسلامي : رسائل النور نموذجا
يقال : (الأسلوب هو الرجل).(10/7)
إذا كانت هذه الكلمة صادقة، وكانت تنطبق على أحد، وهي صادقة من دون شك، فإنها تنطبق تماما على بديع الزمان النورسي، حتى إنه لا يمكن فهم الرسائل إلا بفهم حياة النورسي، ولا فهم حياة النورسي إلا بقراءة رسائل النور.
لقد عاش بديع الزمان حياة غنية وحافلة بالأحداث والتجارب، واكتسب من وراء ذلك خبرة وعلما وتجربة، بشكل متميز، ذلك بأنه كان يقرأ كل ذلك من خلال القرآن الكريم، وحين دوَّن خبرته في (رسائل النور) كان القرآن الكريم مبتداها ومنتهاها، بشكل لم يسبق له مثيل.
وإن مما تمتاز به رسائل النور:"الشمولية"، وتلك الشمولية نابعة من شمولية فكر بديع الزمان من دون شك، ولكنها قبل ذلك نابعة من أنها جعلت القرآن الكريم مدارها، حتى إنه يمكن القول إن الرسائل ليست غير فيوض قرآنية، ولم يكن شيء من الصفات يرضي بديع الزمان النورسي أكثر من أن يقال عنه : (إنه خادم القرآن الكريم).
ولما كان القرآن الكريم معجزة بيانية أولا، لم يكن من المنتظر أن تظل البيانية بعيدا عن اهتمام النورسي ومشاغله، فإذا أضفنا إلى ذلك أن بديع الزمان قد أوتي حسا أدبيا رفيعا، وروحا شعرية عالية، عرفنا سر هذه الفيوضات الأدبية التي تزخر بها الرسائل. ولئن كان النورسي يقرر في أكثر من موضع من الرسائل أنه حُرم نعمة النظم، إلا أنه رزق روحا شعرية وأسلوبا بديعا يجعل كلامه من حاقّ الشعر، وذلك الأسلوب الشعري، بما اشتمل عليه من نداوة وطلاوة، وما تضمنه من تخييل وتمثيل وضرب الأمثال، صار ميسما لرسائل النور، وهو مما وهبها التفرد في التعبير مثلما وُهبت التفرد في التفكير، ويقوم (المثنوي العربي النوري) مثلا ناطقا على هذا.
وتلك الشمولية التي امتازت بها رسائل النور، وذلك الغرف المتواصل من القرآن الكريم، كان منطلق الرسائل إلى العالمية.
ولكن ما الذي يراد بالعالمية في الأدب، وفي رسائل النور على وجه الخصوص؟(10/8)
إن كل أدب عالمي لا بد أن يتوافر على مجموعة من الخصائص، تجعله جديرا بأن يتجاوز حدود الزمان والمكان، وتجعله صالحا لمخاطبة كل إنسان. إن المتنبي مثلا أديب عالمي، لا لأن شعره عُني به الدارسون في الخافقين، من أوروبا إلى الهند، وترجم- أو ما ترجم منه –إلى كثير من لغات العالم فحسب، حتى إنه ترجم نظما إلى الألمانية، إذ تلك نتيجة وليست سببا، بل لقد كان عالميا لأن شعره اكتسب من الصفات ما يجعله كذلك. ولعله لم يوفق أحد إلى رصد تلك الصفات في كلمة واحدة مثل ما فعل ابن الأثير حين قال عن المتنبي، معللا سر شهرته: ( إنه يتكلم عن خواطر الناس).
عادة ما يقال إن المتنبي شاعر ذاتي، ولكن الشاعر العظيم هو الذي يعرف كيف ينتقل من الذاتي المحدود إلى الإنساني المطلق.
ولقد زاوج بين هذا وذاك، في القرن العشرين، شاعر جمع بينه وبين النورسي أكثر من آصرة، هو شاعر الهند العظيم محمد إقبال، وأفصح عن ذلك بوضوح في ديوانيه: (أسرار خودي/ أسرار الذات) و(أسرار بي خودي/ أسرار نفي الذات). محمد إقبال شاعر مفكر، أما بديع الزمان النورسي فمفكر شاعر.
ويمكن رصد أهم مميزات العالمية بصفة عامة، وربطها بأدب النورسي خاصة، فيما يلي:
1-الإنسانية:(10/9)
الإنسان هو هو في كل مكان، وفي كل زمان، خلقه الله تعالى وسواه بيده، وهداه النجدين، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل مولود يولد على الفطرة)، وهذه الفطرة لا تتبدل ولا تتغير إلا بالتدخل البشري والتوجيه، إما إلى الخير وإما إلى الشر، وهي دائما على استعداد للتوجيه، ومن يحسن مخاطبتها يملك أقطارها، والأدب الذي يعي هذه الحقيقة يخاطب في الإنسان هذه الفطرة التي هي قاسم مشترك بين الناس، فيجد صداه في النفوس على اختلاف أصحابها في القوميات واللغات والمعتقدات، فلذلك تجد المتنبي وشكسبير وطاغور ولوركا وتولستوي وهيكو وكوته وأضرابهم لا يغتربون حين ينتقلون من بلد لبلد، أو من لغة إلى لغة، ذلك بأنهم يخاطبون في الناس تلك المشاعر والعواطف المشتركة، فالحب والكراهية والفضيلة والرذيلة والإيمان والكفر، كقضايا شمولية مطلقة، هي من الأمور المشتركة بين الناس، بالرغم مما يتعلق بتلك القضايا من اختلاف مفهومي.(10/10)
ولأن النورسي يجعل القرآن الكريم هاديه ودليله، حتى يصح أن يقال عنه إنه (الرجل القرآني)، ولأن القرآن الكريم جاء ليخاطب الناس كافة، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ومعتقداتهم ومشاربهم، جاء أدب النورسي تبعا لذلك موجها للناس كافة. صحيح أن جوهر دعوة النورسي هي إنقاذ الإيمان، يقول: (إن أعظم إحسان أعده في هذا الزمان وأجل وظيفة، هو إنقاذ الإنسان لإيمانه والسعي لإمداد الآخرين بالقوة).(1) وإن المعنيين بهذا الخطاب أصلا هم أمة الإسلام، إلا أن النورسي لم يغب عنه أبدا أن يتوجه إلى المخالفين، سواء أكانوا من أهل الداخل، إذ شاع الإلحاد والدنيوية والدهرية بين عدد من المسلمين، ولا سيما المتعلمين منهم، أم كانوا من أهل الخارج، ولا سيما النصارى باعتبارهم أقرب الطوائف إلى المسلمين دارا، فهم جيرانهم، وأقرب الطوائف مذهبا أيضا بمنطوق القرآن الكريم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)، فلذلك كان النورسي مستعدا لمحاورتهم باستمرار، بل لقد كانت بينه وبين كبير قساوستهم (البابا) مراسلات دالة على الاحترام المتبادل.(2)
وإذا ما تأملنا رسائل النورسي، وجدنا رؤية النورسي تتجاوز الناس إلى سائر المخلوقات في الكون، ويجري معها تواصلا عجيبا، وما ذلك إلا لأن الإيمان وحده هو الذي يجدد رؤيتنا للأشياء، ويهبها معنى وجمالا.
(من نظر بنور الإيمان والتوحيد يرى العالم مملوءا نورا، وإنسية وتحببا وتوددا، وأجزاء الكائنات أوداء إخوانا أحياء مونسين، وأما إذا نظر بالكفر يرى أجزاء العالم أعداء وأجانب أمواتا موحشين ويرى العالم ظلمات بعضها فوق بعض وهو في بحر مصطلم مظلم يغشاه موج من فوقه موج، إذا أخرج يده لم يكد يراها)".(3)
ولنستمع إلى بديع الزمان في (رسالة تستنطق النجوم) :
__________
(1) سيرة ذاتية ص 368.
(2) انظر السيرة : 439.
(3) المثنوي العربي النوري : 327.(10/11)
(كنت يوما على ذروة قمة جبل "جام" نظرت إلى وجه السماء في سكون الليل، وإذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني أستمع خيالا إلى ما تنطق به النجوم بلسان الحال. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي لها. وقد أخذت إلى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين.)
{ واستمع إلى النجوم أيضا، إلى حلو خطابها اللذيذ
لترى ما قرره ختم الحكمة النير على الوجود.
***
إنها جميعا تهتف وتقول معا بلسان الحق:
نحن براهين ساطعة على هبة القدير ذي الجلال.
***
نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته. نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جملت وجه الأرض.
***
فنحن ألوف العيون الباصرة تطل من السماء إلى الأرض وترنو إلى الجنة. نحن ألوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى أغصان درب التبانة.
***
فنحن لأهل السماوات مساجد سيارة ومساكن دوارة، وأوكار سامية عالية ومصابيح نوارة.
وسفائن جبارة، وطائرات هائلة !
***
نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال، ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.
***
هكذا نبين مائة ألف برهان وبرهان، بمائة ألف لسان ولسان، ونسمعها إلى من هو إنسان حقا.
عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع أقوالنا البينة…فنحن آيات ناطقة بالحق.
***
سكتنا واحدة، طرتنا واحدة، مسبحات نحن عابدات لربنا ، مسخرات تحت أمره. نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبه، منسوبات إلى حلقة ذكر درب التبانة } .(1)
__________
(1) الكلمات ص(10/12)
أليس خطاب الفطرة هذا هو الذي نجده عند كبار شعراء الروح من أمثال طاغور الهندي وكوته الألماني وبوشكين الروسي، مع خاصية بينة عند النورسي، وهي هذا المدد القرآني الذي نحس به في كلامه، وهذه الكلمات الربانية التي تضفي على أسلوب البديع بهاء ورونقا متميزين؟. وتتجلى تلك الإنسانية عند البديع أيضا في ذلك الحضور المستمر لدرجة التكريم الإلهي للإنسان، يذكرنا به في عرض الرسائل، ويستحضره ويصدر عنه :"اعلم أن مفتاح العالم في يد الإنسان وفي نفسه، فالكائنات مع أنها مفتحة الأبواب منغلقة، فالحق سبحانه أوجد من جهة الأمانة في الإنسان مفتاحا يفتح به كل أبواب العالم، وطلسما يفتح به كنز خلاق الكون. والمفتاح ما فيك من "أنا"، إلا أن "أنا" أيضا معمى مغلق، ومطلسم منغلق، فإذا فتحت "أنا" بمعرفة ماهيته الموهومة انفتح لك الكائنات".(1)
وهذه الرؤية التي تجسد العالمية بمراعاة الإنسان على اختلاف مشاربه وقدراته وتوجهاته، إنما استمدها النورسي من القرآن الكريم، وهو الذي نص على "أن آيات القرآن الكريم مبنية على أساليب اللغة العربية، وبوجه يفهمه عموم الناس بظاهر النظر، لذا كثيرا ما بينت المسائل بالتشبيه والتمثيل"(2) ، ويصدق هذا المنهج قول الله تعالى :" ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" (القمر : 32)
__________
(1) المثنوي: 327-328.
(2) اللمعات : 162(10/13)
... ولكن حديث النورسي لم يكن نظريا فحسب، بل قدم نماذج أدبية رفيعة من الأدب، تجد ذلك في ثنايا رسائله، إلا أنه أفرد لذلك الأدب الإنشائي سفرا كاملا، هو المثنوي العربي النوري"، وهو نواة الرسائل ومشتلها، كما يقول عنه هو نفسه، وواضح أنه استلهم مثنوي جلال الدين الرومي. والفرق بين الرجلين أن الرومي قد بنى ديوانه نظما، في حين أن النورسي آثر أن يقدم المثنوي العربي نثرا، وهذا يطرح إشكالا واضحا من حيث التسمية، وهو : "لم سمى بديع الزمان كتابه (المثنوي)، والحال أن الرومي حين اختار هذه التسمية فلأنها تستجيب للشكل الشعري/ النظمي الذي بنى عليه عمله، وهو هذا الوزن الشعري الذي اشتهر به الفرس خاصة، وهو أن يصوغ الشاعر الأبيات، من حيث القافية، مثنى مثنى، أي إنه يبني القافية بيتين بيتين، وهو ما التزم به جلال الدين. فما السر وراء تسمية البديع عمله المثنوي إذن؟ لقد تولى الإجابة عن هذا الإشكال الأستاذ قاسم الصالحي، خادم رسائل النور ومترجمها إلى العربية، فقال : (أما ما يرد من سؤال حول تسمية الكتاب. أي : لماذا سماه الأستاذ المؤلف بـ(المثنوي) الذي يعني في الشعر أبيات مثنى مثنى، علما أن الكتاب ليس ديوانا للشعر؟ فالجواب : لقد سمى الأستاذ النورسي هذه الرسائل بـ"الرسائل العربية" أو "المجموعة العربية" وقد كتب على مجلد الطبعة الأولى :"قطرات من فيوضات الفرقان الحكيم". ولكن لأن فعل هذه الرسائل في القلب والعقل والروح والنفس يشبه فعل المثنوي لجلال الدين الرومي المشهور والمتداول بين أوساط الناس ولا سيما في تركيا، وأن عمله في تجديد الإيمان وترسيخه في القلب وبعثه الروح الخامد في النفوس يشبه "المثنوي الرومي" فقد سماه الأستاذ النورسي بـ"المثنوي". ولأجل تمييزه عن "المثنوي الرومي"؛ الذي كتب بالفارسية، سماه :"المثنوي العربي". ولأنه أساس لرسائل النور وغراس لأفكارها ومسائلها أضيف إليه "النوري" فأصبح الكتاب يحمل(10/14)
عنوان :" المثنوي العربي النوري").(1)
ولعل بعضنا أن يظن أن كتابة (المثنوي العربي النوري) نثرا نقص من قيمة الكتاب الشعرية، والحال أن العكس هو الصحيح. فالشعر يقوم على النظم، والنظم خاص بكل لغة، والشعر العربي بخاصة كان الوزن فيه شرطا، والقافية واجبا، وكانت بعض الأمم تكتفي بأوزان مخصوصة دون القافية، وعلى ذلك درج معظم شعر أوروبا زمنا، حتى إنه ليظن أن القافية بتلويناتها وتعقيداتها ليست غير أثر من آثار الشعر العربي، يوم أن كان للعربية في غرب أوروبا سلطان.
2-الامتداد اللغوي:
قد يظن أن العالمية لا تصيب غير الآداب التي تتخذ أداة للتعبير لغة واسعة الانتشار، والحال أن عددا من الأدباء العالميين صاغوا أدبهم في لغات محلية محدودة الانتشار، واستطاعت هذه الآداب تجاوز الحدود الجغرافية وتخترق الآفاق لتصبح عالمية، فالألبانية مثلا والبنغالية والتترية والبهسة الإندونيسية ليست من اللغات الواسعة الانتشار، ولكنها أنتجت لنا أدبا عالميا، وهذا طاغور على سبيل المثال يقوم شاهدا على ذلك، في اللغة البنغالية، والأمير حمزة الإندونيسي في لغة البهسة، كما نجد من الآداب العالمية ما كتبه أصحابها بلغات محلية، وفي عهد الاتحاد السوفياتي اختار عدد من أدباء الشعوب المنضوية قهرا تحت ذلك الاتحاد التعبير بلغاتهم المحلية مثل التترية والأذربيجانية والأوزبكية وغيرها، واستطاع أدب جنكيز ضاغجي، ورسول حمزاتوف، على سبيل المثال، أن يصل إلى الناس ويتجاوز الحدود، ولكن من المؤكد أن ذلك الأدب ما كان ليبلغ ما بلغ لولا سببان : أولهما ذاتي داخلي وهو ما يكتسبه ذلك الأدب من قيم ذاتية يجعله قادرا على أن يلفت الناس إليه، والآخر موضوعي خارجي، وهو أنه قد أتيح لذلك الأدب من يترجمه وينقله من دائرة اللسان المحدود إلى ألسنة واسعة الانتشار، مما يتيح له بعد ذلك الانتشار الجماهيري الواسع.
__________
(1) مقدمة المثنوي : 7-8(10/15)
أما أدب النورسي فقد أتيح له بدءا أن يصب في لغتين من أعظم اللغات العالمية غنى وانتشارا، وهما العربية والتركية. فالعربية التي كتب بها بديع الزمان عددا من مؤلفاته، لعل أهمها عندي :" المثنوي العربي النوري"،هي اللغة التي كان يقول عنها المستشرقون في القرن التاسع عشر :"إنها اللغة التي إن تعلمتها استطعت أن تقطع آسيا من تركيا إلى الهند دون مترجم"، والتركية، العثمانية، التي دوّن بها النورسي القسط الأعظم من رسائل النور، كانت وما تزال لغة عدد كبير من شعوب آسيا الوسطى، الممتدة إلى حدود الصين، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الله تعالى قيَّض لهذه الرسائل من الطلبة والمريدين والمحبين من يقوم بترجمتها إلى لغات حية أخرى، وعلى رأسها اللغة الأكثر انتشارا في العالم اليوم، وهي الإنجليزية، استطعنا أن نطمئن إلى أن رسائل النور هي اليوم من أكثر الآثار الفكرية والأدبية انتشارا في العالم.
3-المحلية المنفتحة :(10/16)
يخطئ بعض الناس حين يظن أن الطريق إلى العالمية يمر عبر التنكر للقضايا المحلية، والسعي إلى طرق موضوعات وأغراض عامة وقضايا عامة، ولا سيما السياسية منها، ولقد لهج كثير من أدباء الواقعية الاشتراكية في العالم العربي، في النصف الأول من القرن العشرين، بموضوعات تتحدث عن معاناة العمال وقضاياهم في بولونيا أو تشيكوسلوفاكيا أو غيرهما من بلدان المعسكر الشيوعي، غير ملتفتين إلى أهم ما يجري على أرضهم ظنا منهم أن ذلك هو الطريق إلى العالمية..والحال أن بعض أولئك نال جوائز تقديرية، ولكنه لم ينلها لقيمة أدبية بقدر ما نالها لموقف سياسي. إن كل أديب عظيم إنما ينطلق في أدبه من قضايا أمته المحلية، ثم هو يسعى بعد ذلك، وربما على غير قصد منه، إلى أن يعطي تلك القضايا بعدا إنسانيا منفتحا..ألا نشم رائحة غرناطة في أشعار لوركا ومسرحياته؟ ألا نستطيع معرفة أزقة باريس وحاراتها وحياة الناس فيها من خلال (البؤساء) و(أحدب نوتردام) لفكتور هيكو؟ ألم ينقل إلينا غابرييل غارسيا ماركيز حكايات وأساطير كولومبيا؟ ألم نعرف زقاق المدق وبين القصرين وحارات القاهرة من خلال أعمال نجيب محفوظ؟ ألم ينقل إلينا باكثير في مسرحياته ورواياته تاريخ مصر القديم، ومصر الإسلامية؟ ولكن كل أولئك صاغوا أدبهم صياغة بارعة تعرف كيف تجعل المحلية طريقا إلى ما هو عالمي وإنساني.(10/17)
ولقد عالج النورسي في أدبه وفكره قضايا هي من صلب قضايا الأمة الإسلامية، وكان في كثير من الأحيان ينطلق في المعالجة من واقع تركيا نفسها، ليعانق بعد ذلك ما هو أرحب وأوسع. فهو حين يتحدث عن أنظمة الحكم وفساد كل نظام يقوم على الجور ويناقض الفطرة، يبدأ بضرب الأمثال من واقع تركيا نفسها، ولم يكن حديثه تجريدا أو تهويما أو خيالا، وهذا هو الذي جعله يقضي معظم حياته متنقلا من معتقل إلى معتقل، ومن منفى إلى منفى، معتبرا ما يعانيه حكمة إلهية، وهو يقول في ذلك :" إن حكمة واحدة لعدالة القدر الإلهي في سوقنا إلى المدرسة اليوسفية لـ"دنيزلي" هو حاجة المسجونين فيها وأهاليها وربما موظفيها ومأموري دائرة العدل، إلى رسائل النور وإلى طلابها أكثر من أي مكان آخر. وبناء على هذا فقد دخلنا امتحانا عسيرا بوظيفة إيمانية وأخروية".(1)
إن الانطلاق مما هو محلي إلى ما هو إنساني عالمي، هو من أهم مميزات رسائل النور، والمنطلقات القرآنية في الرسائل تزيد هذا التوجه بيانا، إذ ليست الرسائل غير فيوضات من القرآن، وذلك أمر طالما ردده النورسي في عدد كبير من المواضع في الرسائل. يقول على سبيل المثال فيما يخصّ الكلمات : (إن الحقائق والمزايا الموجودة في (الكلمات) ليست من بنات أفكاري ولا تعود أبدا إلى وإنما للقرآن وحده).(2) وهذا هو الذي يجعل بديع الزمان مطمئنا إلى أن أدبه لن يكون منحصرا محدودا في الزمان ولا في المكان، ولا موجها إلى طبقة دون طبقة ولا فئة دون فئة، لأنه أدب قرآني. وشتان ما بين الأدب القرآني والأدب الأوروبي الذي يراه كثير من أبناء الإسلام نموذجا. يقول النورسي في ثقة : (لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنزوات والدهاء..شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء).(3)
__________
(1) السيرة ص 349.
(2) السيرة ص 237.
(3) الكلمات : 884.(10/18)
ولا يعني هذا الكلام أن النورسي كان عدوا للغرب على الإطلاق، أو أنه يريد أن ينتقص منه بغير وجه حق، كلا ! لم يجعل النورسي بينه وبين حضارة الغرب حجابا مستورا، يجعله يرفض كل ما يأتي من الغرب، بل هو مطلع على تلك المدنية وأسرارها، ولكن تعامله معها كان تعامل الناقد البصير، لا تعامل الصدي الظمآن المنبهر بآلها، وعلى هذا لا يكون الأخذ عن الغرب محظورا، إلا أن ذلك الأخذ ينبغي أن يحاط بشروط، أهمها عرض الفكر والأدب الوارد على الشريعة، ومصفاة الإيمان: (إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحد مجاريه قسما من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع، لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود، فلا بد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة).(1)
إن مما يزيد أدب النورسي وفكره قيمة، ويجعله متصلا بالإنسان حيثما كان، هو عنايته بالقضايا الكونية التي تهم الإنسان في المبدأ والمنتهى والمنشأ والمصير.
4-التفرد
__________
(1) صيقل الإسلام ص 530.(10/19)
فحول الشعر ونحارير الكتابة كثيرون في كل أمة، ولكنك لن تجد منهم نموذجا يتكرر، فسر الخلود هو التفرد..التفرد في عنصر أو عناصر من مكونات الكتابة…هنالك في الأدب العربي مثلا امرؤ القيس وحسان وأبو تمام والمتنبي والمعري والمجنون وشوقي ونزار قباني …ولكنك لن تجد أكثر من حسان واحد…أو متنبي واحد…أو نزار واحد..كل الذين سعوا إلى التقليد والاستنساخ سقطوا وتلاشوا..فالناس بحاجة دائما إلى الأصل، لا إلى النسخة..ولذلك لم يوفق أولئك الذين قالوا عن ابن هاني أو ابن دراج متنبي المغرب، ولا عن ابن خفاجة أو ابن زيدون بحتري المغرب..فالمتنبي واحد، والبحتري واحد، وابن دراج كذلك، وابن زيدون..تلك صفات لم تزد شعراء الغرب الإسلامي شيئا، وربما أساءت إليهم أكثر مما أحسنت..وما قيل عن شعراء العرب وأدبائها يقال عن سواهم..فبوشكين وتولستوي وطاغور وإقبال وشكسبير وبايرون وهيكو، ولامارتين وبالزاك ومحفوظ وملتون وعاكف..كل أولئك كانوا متفردين متميزين..وذلك سر بقاء أدبهم..عرف شكسبير بأن له قدرة فائقة على تحليل الشخصيات وتقمص دقائقها والغوص في أغوارها حتى إن بعضهم قال : لكأن شكسبير مارس كل المهن، لقدرته على استجلاء خصائص كل طبقات المجتمع، فهو النبيل والشعبي والساذج والعبقري والماكر والطيب، بل هو الرجل والمرأة..وتولستوي وهو المنتمي إلى طبقة النبلاء وفق في التعبير عن قضايا الطبقات الدنيا، حتى تحدث نقاد الواقعية الاشتراكية عن الانتحار الطبقي في أدب تولستوي، في مقابل التسلق الطبقي عند سواه..ومحمد إقبال هو الشاعر الذي عبر عن تطلعات الشعب المسلم في القارة الهندية بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، فهو مفكر فيلسوف، تحتاج منك كتابته الفكرية والفلسفية إلى كثير من الجهد، وإلى اطلاع واسع على الثقافة العالمية، وفي مقدمتها الثقافة الغربية، والألمانية والإنجليزية منها على وجه الخصوص، إلا أنه في شعره يسوق إليك الحكمة التي تسري هونا إلى(10/20)
النفس، فلا تمتنع عن الطبقات المتوسطة، ولذلك ظلت الجماهير المسلمة في شبه القارة الهندية تتغنى بشعره حتى الآن..وظلت قصيدته "دعاء طارق" تسري على كل لسان ..
أما بديع الزمان فيكمن تفرده في أنه كالبحر، يأتيه العاشق الحزين فيسليه ويجد عنده بغيته، ويعلمه الفرق بين ألم الفقد وألم الفراق..بين الحزن الهادئ الرفيق والحزن العاتي المدمر..ويأتيه المفكر المتأمل فيجد عنده بغيته..ويعلمه كيف يستل الحكمة من نشيد العندليب، وصمت البحر وصخبه، وحباب الشمس على صفحة المياه المتلألئة…تبحث عن لآلئ البحر فيغنيك..وتسعى إلى كشف أغوار البحر وأسراره فيرضيك..وهو في كل ذلك بأخذ بيد قارئه في رفق إلى ميناء السلام..ومرفأ الإيمان..وكنوز القرآن التي منها يغرف، وبها يسعى، وإلى أفيائها يأوي ويستظل ..
ومن مظاهر هذا التفرد أنه لا يعلن لك أنه يكتب أدبا أو شعرا، بل هو يعلن في تواضع جم أنه حُرم من نعمة النظم، إلا أنه لم يحرم من دفقة الشعر وزلاله، بل إن آلته أصلا آلة أدبية بيانية، كيف لا وهو يعتبر نفسه خادم القرآن الكريم، والقرآن الكريم معجزته البيان؟
ويزيد من القيمة الأدبية للرسائل أن صاحبها يجمع بين التنظير والتدقيق، فهو ناقد منظر بامتياز، على علم بطبيعة الأدب السائد في عصره، في الشرق والغرب، فهو يدعو إلى تجديد الأدب على بصيرة، وهو يدعو إلى أدب يلتقي فيه روافد الأدب العالمي، بعدما تصفى بمصفاة الشريعة.
إن التجديد الأدبي عند بديع الزمان، خلافا للمذاهب الأدبية السائدة، لم يكن استنساخا للتجربة الأدبية الغربية، بقدر ما كان نقدا للغرب. وقد كان هذا النقد، وما تلاه من تأسيس رؤية جديدة للأدب، نابعا من معاشرة القرآن الكريم، والاستغناء بأدب القرآن عما سواه.(10/21)
لقد استطاع النورسي بناء على ذلك أن يقدم تصورا واضحا عن الأدب الصحيح، يقوم على استلهام القرآن الكريم معنى ومبنى، فلذلك نراه يكثر من اقتباس أدوات الأسلوب القرآني، كضرب الأمثال والإكثار من التشبيهات ..
وعلى هذا فالشعر إذا ترجم ضاع كثير من بهائه ورونقه، وهذا أمر نبه عليه شيخ نقاد العربية الجاحظ، فقال :" وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم. وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنا آخر من ورثها ونظر فيها".(1)
وعلى هذا فإذا كان نقل نص من لغة إلى لغة، في العلم والحكمة والفلسفة صعبا، فهو في الشعر أصعب، إن لم يكن ضربا من المستحيل، إذ الشعر ليس معاني فحسب، بل هو بناء صوتي معقد، وهيهات أن ينقل شيء من ذلك، ها نحن نرى أن جلال الدين من كبار شعراء الفارسية، وديوانه (المثنوي) طبقت شهرته الآفاق، ونحن نقرؤه مترجما إلى العربية، فلا نجد له ذلك البهاء الذي نجده في الأصل الفارسي، بل لا يكاد يبقى منه إلا بقدر ما قدرت اللغة على حمله من المعاني، وبقدر براعة المترجم ، وها نحن نرى الفرق الجلي بين عدد من ترجمات رباعيات عمر الخيام، مع أن الإجماع قائم على عظمة شعرية هذه الرباعيات، وهكذا يكون بديع الزمان النورسي ملهما حين وضع المثنوي العربي النوري نثرا جميلا لا يتخلى عن بيان الشعر وتصويره، ولكنه لا يتقيد بأوزان الشعر وضروراته، حتى إذا نقل من لغة إلى لغة، لم يذهب بيانه، ولم يغض إشراقه، ولم تضمر معانيه، التي عسى أن تكون ملفوفة في غلالة من البيان.
__________
(1) الحيوان : 1/75.(10/22)
هكذا إذن يكون النورسي قد قدم لنا، تصورات إسلامية عن الأدب، كما قدم نصوصا إبداعية متميزة تدخل في نطاق الأدب الكوني، من الباب الواسع، وتحقق عالمية الأدب الإسلامي.
تم بحمد الله تعالى في وجدة، يوم الأربعاء 23 رجب 1423هـ الموافق 2 أكتوبر 2002.
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن والأدب الغربي من خلال (رسائل النور)
وقفة مع المنهج
يقتضي الحوار وجود طرفين اثنين، يتبادلان الرأي، وغالبا ما يكون الرأي المتحاور فيه محل خلاف، إن لم يكن محل نزاع، فإن انتهى الأمر بين المتحاورين إلى توافق كان ذلك إيذانا بنهاية الحوار الذي يكون قد أدى ثمرته وآتى أكله. وقد ينتهي الحوار أحيانا إلى إفحام أحد الخصمين صاحبه، دون أن يعني ذلك أن التوافق قد حصل. وفي القرآن الكريم صور من الحوار،ومن ذلك ما جاء عن صاحب الجنتين في سورة (الكهف). قال تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا.كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا . وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منهما منقلبا . قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا . فعسى ربي أن يوتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا . أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا. وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا.)(10/23)
(الكهف:32 ـ 43)
فقد انتهى الحوار بين الرجلين وأحدهما مصر على كفره، سادر في غيه، فكان عاقبته ما حكاه لنا القرآن الكريم.
ومن صور الحوار القرآني أيضا ما حكاه القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام والملك الذي طغى وكفر،ثم ما كان من الذي استعظم البعث، ثم الحوار بين إبراهيم عليه السلام وربه تعالى، كل ذلك في آيات محمكة موجزة مبينة. قال تعالى:(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين. أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير. وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تومن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم). (البقرة:257 ـ259)
على أن الحوار قد يكون بين شخصين حقيقيين، كما رأينا ، وقد يكون بين شخصين اعتباريين، أو معنوييين، وهنا لا يكون الحوار بين الأشخاص، بل بين الأفكار، وذلك بأن يجرد المحاور شخصا معنويا، يتصوره خصما فيجري معه الحوار، وذلك كالأسلوب الذي كثيرا ما اتبعه أسلافنا، حين يعرضون الفكرة وما يضادها، وكأنك ترى الخصم ماثلا أمامك، وكثيرا ما كان ذلك الأسلوب يتخذ صيغة : ( فإن قلتم قلنا).(10/24)
وهناك صورة أخرى للحوار ذات وجهين: الوجه الأول يكون فيه الحوار خارجيا، وهو الحوار الظاهر المعهود بين الناس، يستوي في ذلك أن يكون الخصم حقيقيا أو أن يكون معنويا. وأما الوجه الثاني فهو الحوار مع الذات، وهو الحوار الداخلي، ويتولد هذا الحوار الداخلي نتيجة لما يعانيه الإنسان في ذاته من تضارب في الأفكار، وتباين في المواقف، في فترة من الفترات، أو أثناء المرور بأزمة من الأزمات. وكثيرا ما سجل لنا المفكرون والفلاسفة والمتصوفة ألوانا من هذا الحوار، ولا سيما حين يكون هذا الحوار مصورا لفترة حاسمة من حيواتهم، كفترة الانتقال من الشك إلى اليقين، أو الرحلة من الكفر إلى الإيمان. ومثل ذلك وجدناه عند الإمام الغزالي من القدماء، أو مصطفى محمود من المحدثين، ومثل ذلك أيضا وجدناه عند المهتدين الذين أسلموا من المستشرقين من أمثال محمد أسد (ليوبولد فايس)، وأتيين دينه،ورونيه كينون، والمنصور بالله الشافعي (فنسان مونتاي).(10/25)
ونحن واجدون في سيرة بديع الزمان سعيد النورسي ألوانا من الحوار، ولاسيما حين نتتبع مراحل حياته الحافلة بالجهاد. ففي المرحلة الأولى من حياته كان هنالك حوار مع أشخاص حقيقيين، وعن طريق اللقاء العيني، وهي المرحلة الأولى من حياته، مرحلة الشباب، تلك التي كان يشعر فيها بنوع من الاعتداد الكبير بالنفس، حتى إنه وضع على بابه لافتة تقول: ( هنا الإجابة عن كل سؤال، وحل لكل معضلة). وقد يكون هذا الحوار الحقيقي عن طريق الاتصال المباشر، عندما كان السائل يطرق باب بديع الزمان، فيسأله ويسمع منه، ويرجع بجواب لعله كان شافيا كافيا في معظم الأحيان، كما تنبئنا بذلك سيرته، وقد يكون أحيانا عن طريق الأسئلة الكتابية التي كان يتلقاها بديع الزمان من بعض المتتبعين لسيرته، والمهتمين بفكره، فيجيب عها البديع جواباً شافياً،ومثال ذلك أسئلة القائد الياباني الذي وجه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجه علماء إستانبول هذه الأسئلة إلى بديع الزمان، فأجاب عنها.(1) وقد يكون البديع هو المتقدم بالسؤال، ومن ذلك مراسلته إلى الفاتيكان، وقد تلقى البديع رسالة من الفاتيكان تقول:
الفاتيكان 22شباط1951
مقام البابوية الرفيع
السكرير الخاص
رئاسة القلم الخاص رقم 23247
سيدي، تلقينا كتابكم المخطوط الجميل"ذو الفقار بوساطة وكالة مقام البابوية باستانبول، وتم تقديمه إلى حضرة البابا الذي رجانا أن نبلغكم سروره من هذه الالتفاتة الكريمة منكم، ودعواته من الله عز وجل أن يشملكم بلطفه وفضله، ونحن ننتهز هذه الفرصة لنبلغكم احتراماتنا.
التوقيع: رئاسة سكرتارية الفاتيكان
(السيرة:439)
__________
(1) السيرة:68(10/26)
أما في المرحلة الثانية من حياة النورسي، فقد غلب على بديع الزمان محاورة الشخوص المعنوية، أو محاورة الأفكار، لا الأشخاص. وعلى هذا كانت مناقشات بديع الزمان لفكر بديع الزمان وأدبه، فيما سماه هو نفسه بسعيد القديم وسعيد الجديد، فقد شهدت شخصية بديع الزمان تطورا وتحولا في الفكر، حتى لكأننا أمام شخصين اثنين لا شخص واحد.
وتلك المناقشات التي كان يسوقها البديع في إطار الحوار بين السعيدين القديم والجديد تنبئ أننا أمام شخصية فذة واسعة الاطلاع على الفكر والأدب الغربيين، إذ الغرب الغالب هو المحاوِر والمحاوَر بالدرجة الأولى، ويدلنا على ذلك الاطلاع الواسع كثرة الاستشهاد بما عند الغرب من فكر وأدب، وحضارة ومدنية، وكثرة دوران أسماء الغربيين على لسانه.ومن أكثر الأسماء دورانا في الرسائل،أفلاطون وأرسطو من الأقدمين،وكارلايل وكوته وشكسبير وديكارت من المتأخرين. ولم يكن رد النورسي على الغرب بمانع له على أن يستفيد من بعض ما أنتجته قرائحهم، بعد أن يقوم بتشذيبه وتهذيبه، ويخضعه لمصفاة الشريعة.
ومن أجل تبين موقف النورسي الأدبي ينبغي استحضار أمور منها:
1 ـ أن النورسي لم يكن كَلا على الأدب، بل كان أديبا ومتذوقا للأدب، ورسائل النور كافة، والمثنوي العربي النوري بخاصة، ناطقة بذلك شاهدة عليه.وحسبنا شهادة شاعر تركيا الكبير محمد عاكف رحمه الله، في أستاذه بديع الزمان، حيث يقول:"إن شكسبير وهيجو وأضرابهما لايبلغان إلا مرتبة تلميذ بديع الزمان في الأدب والفلسفة".(1)
__________
(1) بديع الزمان سعيد النورسي،نظرة عامة عن حياته وآثاره بقلم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي،194.(10/27)
2 ـ إن واقع الأدب في العالم الإسلامي، من طنجة إلى جاكرتا، كان في زمن النورسي يعيش حالة من الانسلاخ عن الذات، إما عن طريق اجترار القديم اجترارا مسفّا، دون وعي أو روح، وإما بسبيل التقليد الأعمى للغرب وأدبه، باسم التجديد، فكان الاغتراب والاستلاب والاضطراب، وعندنا في العالم العربي شواهد ناطقة، وهل كانت مدرسة أبولو، ومدرسة المهجر، ومدرسة الديوان، في معظمها، إلا عنوانا لذلك الاستلاب والاغتراب والاضطراب؟ لقد حدث نوع من الانبهار بما عند الغرب ، فتغيرت بعض الأشكال الأدبية، إلا أنها حملت معها من معاني الانحراف الفكري والعقدي شيئا كثيرا، ولك أن تقرأ ـ إن شئت ـ طلاسم أبي ماضي لتتأكد من ذلك.إن الزخرف الفني الذي تزخر به هذه القصيدة ينطوي على فلسفية عدمية صارخة.
3 ـ لم تكن الصورة قاتمة تماما، بل كانت هنالك أصوات تدعو إلى التجديد الأصيل، إن صح التعبير، يستمد مقوماته من ثوابت الأمة، مع استيعاب جلي للحضارة الغربية، ولن يستطيع أحد أن يشكك في النورسي ولا في محمد إقبال ، وهما من أشد الناس اطلاعا على ثقافة الغرب وحضارته وميراثه الفكري والأدبي، ولقد كان محمد إقبال يردد أنه خبر الحضارة الغربية ثم خرج من تنورها كما خرج إبراهيم عليه السلام من نار النمرود. والمشابه بين النورسي ومحمد إقبال كثيرة جدا، مما نبينه في بحث آخر إن شاء الله.
وتفتح لنا سيرة النورسي الباب واسعا من أجل فهم موقفه من الأدب الغربي بخاصة، والمدنية الغربية بعامة، فهي سيرة تسعفنا في استخلاص منهج واضح تتحدد معالمه فيما يلي:(10/28)
1 ـ تكوين الذات: قبل الاطلاع على بضاعة الآخرين لابد من التزود الكافي من مقومات الذات. ولأن البحر عميق، والعقبة كؤود، كان لابد من الاطلاع الواسع إلى حد الإحاطة قدر الإمكان. وقد بدأ النورسي منذ صباه بحفظ متون أمهات الكتب الإسلامية، وفي فترة من الفترات ( كان يقضي معظم أوقاته عند ضريح الشيخ أحمد الخاني ، الأديب الكردي الشهير) مطالعا الكتب، متزودا من علومها. (السيرة:47)
وهذا يفسر لنا بعضا من شخصية بديع الزمان الأدبية.
2ـ التنوّر: وذلك عن طريق الاطلاع على العلوم الحديثة، وعلى رأسها علوم الغرب، قبل إصدار الحكم عليها، وذلك من باب الاحتراس، خشية الوقوع في الزلل، عملا يالقاعدة القرآنية الكريمة : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء:36)
وهكذا طفق يطالع كتب العلوم الحديثة، حتى استحصل على أسسها، من تاريخ وجغرافية ورياضيات وجيولوجيا وفيزياء وكيمياء وفلك وفلسفة وأمثالها من العلوم، وذلك خلال مدة قصيرة جدا، وسبر أغوار هذه العلوم بنفسه دون معونة أحد، أو اللجوء إلى مدرس يدرسها إياه.(1)
وكما جاء في السيرة التي أعدها الأستاذ إحسان قاسم:" إن مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة1899م (1321هـ)، إذ كان يهتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التاريخ لأجل استيعاب هذه العلوم والتنور بها. أما بعده فقد علم…أن أوربا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم.. فثارت ثائرته واحتد وغضب.. وغير اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه.. جاعلا جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى إدراك معاني القرآن الكريم وإثبات حقيقته. ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفا لعلمه وغاية لحياته). ( السيرة:65)
__________
(1) السيرة:62.(10/29)
3 ـ الفهم والتقويم: إن من شأن الاطلاع الواسع أن يعين على الفهم السليم، ويساعد على التقويم الموضوعي، إذا أوتي المرء موهبة وقدرة عقلية وصفاء قلبيا، مما يوفر سمة " الإنصاف" عند إصدار الأحكام.
ولقد كان النورسي رحمه الله تعالى،مطلعا على ثقافة الغرب قديمها وحديثها اطلاعا واسعاً وعميقا،وآتاه الله عز وجل قدرة على الفهم والتقويم، فنظر نظرة موضوعية إلى الغرب تصيب كبد الحق. وقد أعلن موقفه من الغرب في عدد من المواضع، في رسائل النور، ومن ذلك ما جاء في (صيقل الإسلام:530) حيث قال في تشبيه بليغ: ( إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحد مجاريه قسما من أهل الشريعة، كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع. لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود.
فلابد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة.)
4ـ الموازنة بين الأدبين:
لما أدرك النورسي حقيقة هذه الثقافة القادمة من الغرب، راح يبين للناس هذا الأمر، عن طريق الموازنة بين الأدب الغربي والأدب القرآني.
والحقيقة أن النورسي لم يكن ينتقد الأدب الغربي فقط، بل إنه كان ينتقد الآداب الشرقية أيضا، ومنها آداب الشعوب الإسلامية، تلك التي التفتت عن كنوز القرآن إلى قشور الكلام. وقد ضرب لذلك مثلا بما حدث للأدب العربي حين انجذب الأعاجم بجاذبية سلطة العرب، ففسدت بالاختلاط ملكة الكلام المضري التي هي أساس بلاغة القرآن. ثم كان ما كان من انحراف عن روح الأدب الرفيع في العصور المتأخرة، كما تجلى في مقامات الحريري وما بعدها.
ولذلك كان لابد من العمل على أن يسترجع الأدب صفاءه ونقاءه، مستجيبا لنداء الفطرة.(10/30)
لقد أصاب الآداب ما أصابها نتيجة انبهار كاذب بالمدنية الحديثة التي لم تستكمل شروطها التي تجعلها صالحة للاستخلاف الحضاري وذلك بسبب ما لحقها من زيف وتدجيل. ( وبلا خجل ولا حياء، وضع الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر..وركّب عينا فاسقة في وجه الإنسان.وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة. فمن أين سيعرف هذا الأدب الحسن المجرد؟
حتى لو أراد أن يري القارئ الشمس فإنه يذكره بممثلة شقراء حسناء. وهو في الظاهر يقول: ( السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان.) ثم يبيّن نتائجها المضرة..
إلا أنه يصورها تصويرا مثيرا، إلى حد يسيل منه اللعاب ، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النزوات.. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء.) (1)، وقارن موقف النورسي عن السينما، منذ ما يزيد عن نصف قرن، بما قالته الممثلة المعتزلة نسرين، مجلة المجتمع.(2)
__________
(1) الملاحق: ملحق قسطموني 187ـ188
(2) ع1341 ذو القعدة1419هـ ـ مارس1999م).(10/31)
إن مفهوم الأدب مرتبط بطبيعته ورسالته وأدبيته على السواء، فليس الشأن في ميادين الأدب وموضوعاته فحسب، إذ ميادين الأدب وموضوعاته وأغراضه قد تكون متشابهة، بل قد تكون واحدة، ولكن الشأن كله في الرؤية التي يصدر عنها الأدب، وفي الأسلوب الذي يعبر به الأديب عن تلك الرؤية. وإذا كان النورسي يميل إلى التعريف عن طريق السلب لا الإيجاب، وذلك بنفي عدد من الصفات عن الأدب الغربي، فذلك يعني أن الأدب الحق هو الأدب الذي يشتمل على تلك الصفات ويتحقق بها. ثم إن الأدب الذي ينعى عليه بديع الزمان أسلوبه وطريقته هو ذلك الأدب الذي أطلق عليه الدكتور أحمد بسام ساعي أدب :" السامرية الجديدة"، فهو أدب يزعم الإصلاح، ولكه باسم الواقعية، وباسم نقل الحقائق وتصويرها كما هي، يميل إلى تزيين الانحراف، ويحبب في السلوك المشين، فيكون لذلك الأسلوب فعل السحر في إثارة الغرائز البهيمية، وإضرام الشهوات، وإطلاق النزوات، فيكون في ذلك إشاعة للفاحشة وتزيين لها. وما ينتج عن ذلك كله هو الفرح الكاذب واللذة العابرة التي تورث الحزن ، فيكون ظاهر ذلك الأدب التفاؤل والفرح، وباطنه التشاؤم والحزن المريض.وهكذا فإن " ما يورثه أدب الغرب هو حزنٌ مهموم، ناشئ عن فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سام.
إن استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء، يملؤه بالآلام والهموم حتى يغدو العالم مليئا بالأحزان ، ويلقى الإنسان وسط أجانب وغرباء، دون أن يكون له حام ولا مالك، فيظل في مأتمه الدائم..
وهكذا تنطفئ أمامه الآمال.
فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال، وإلى الإلحاد، وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.(10/32)
أما أدب القرآن الكريم: فإنه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن النابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم).(1)
وهكذا، فـ (الأدبان كلاهما.. يعطيان شوقا وفرحا.
فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي ، شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئا من الفرح والسرور. بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي).(2)
وهكذا نخلص، مع بديع الزمان، إلى أن "آداب المدنية وبلاغتها مغلوبة أمام الأدب القرآني وبلاغته".(3)
ومن خلال تقريرات بديع الزمان، في الملاحق وفي الكلمات على السواء، نخلص إلى أن علينا أن نلتمس رفعة آدابنا وقوتها وغلبتها بالاغتراف من الأدب القرآني وبلاغته، لا بالتطفل على موائد غيرنا من الآداب. فذخيرة القرآن الأدبية لا تنفد، وقد كان سبب الارتكاس الأدبي عندنا معشر الشعوب الإسلامية، أننا لم نستفد الاستفادة المرجوة من القرآن الكريم ، أدبيا، أليس القرآن الكريم أحسن القصص؟ فمالنا بقينا في غفلة عن بيانه وإعجازه قرونا؟ ومالنا لم نستفد من براعته وبلاغته، فلم نطور فن القص عندنا؟ ولو فعلنا وأحسنا الإصغاء، لما كنا عالة على الغرب، ننتظر أن تظهر عنده القصة والرواية ثم نسعى جاهدين إلى استنباتها في أرضنا الأدبية، كأننا لم نقرأ يوما كتاب الله تعالى، ولم نستجل كنوزه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
__________
(1) ملحق قسطموني:189.
(2) قسطموني:190
(3) الكلمات:476ـ477)(10/33)
إن حديث بديع الزمان الأدبي يكشف لنا عن أمور، منها هذا الأسلوب البديع الذي يعتمد التمثيل في تقريب الحقائق. فأدب المدنية الحديثة كبكاء اليتيم الذي فقد أبويه، فحزنه مرير قاتم مدمر. وأدب القرآن كإنشاد العاشق العفيف، حزنه قصير الأمد شفاف، وغناؤه ملؤه الشوق والأمل.
والأدب والبلاغة ، من حيث تأثير الأسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. وهذا ما سماه القدماء من نقادنا وفلاسفتنا حالتي القبض والبسط.
والحزن قسمان: حزن مظلم كئيب مرده الضلالة، وناشئ عن فقدان الأحبة، وحزن سام متعال، ناشئ عن فراق الأحبة ولوعة الاشتياق. وهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.
فإذا نحن نظرنا إلى الحزن الذي يسود أدبنا المعاصر، وجدنا معظمه حزن المدنية المعاصرة، لا حزن القرآن الكريم،إنه حزن مدمر، مرتبط بالغربة في الوجود، وبالسأم العبثي.
والفرح أيضا قسمان: الأول يدفع النفس إلى شهواتها، وهذا هو شأن آداب المدنية ، من أدب مسرحي وسينمائي وروائي.
أما الثاني فهو فرح لطيف بريء نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها، ويحث الروح والقلب والعقل على المعالي، وعلى موطنهم الأصلي، على مقرهم الأبدي، وعلى أحبتهم الأخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان.
5 ـ التنوير:
عند ذلك، وبعد كشف تلك الحقائق، ينطلق بديع الزمان من التنور إلى التنوير، أي من الاطلاع على ما عند الغرب والاستفادة مما عسى أن يكون فيه من خير، إلى دعوة الغرب نفسه إلى التزود من آداب القرآن، لأنه أدب كوني لا تحدّه حدود، ولأنه أدب يعبر عن آدمية الإنسان، في الصورة المثلى. وهذا معنى من المعاني التي تستنبط من إشارة الأستاذ إحسان قاسم إلى أن بديع الزمان صار جاعلا جميع العلوم الشرعية المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى إدراك معاني القرآن الكريم وإثبات حقيقته.(10/34)
ويسعى بديع الزمان سعي المؤمن المستيقن من نصر الله تعالى، وغلبة نوره، فهو يتحدث عن روسيا بعد الحرب العالمية الثانية قائلا:
" لن تبقى روسيا بلا دين، ولا تستطيع ذلك، ولا تعود إلى النصرانية. فلربما تصالح القرآن، أو تتبع ذلك الكتاب المبين الذي يقصم الكفر المطلق، ويستند إلى الحق والحقيقة، وإلى الحجة والدليل ويقنع العقل والقلب. (1)
فهل كان النورسي ينظر من وراء الغيب، بنور الله، إلى ما آل إليه أمر الاتحاد السوفياتي من تفكك وانحلال؟ ولم لا تكون دعوته الموسعة للناس جميعا واجدة طريقها إلى التحقق، أمام المتغيرات العظيمة التي يشهدها العالم؟ لقد انطلق النورسي بعد ذلك إلى الدعوة إلى أدب كوني، أدب يتحرر من الإذعان للخلق، بدعوى الالتزام، إلى أدب يتجلل بالإذعان للخالق وحده، فيتحرر البشر من كل ألوان العبودية ويدخلون في انسجام تام مع الوجود، ويتوجه بديع الزمان إلى الإنسان قائلا:
"دع الصراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك
إنما الشكوى بلاء
…
دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل، فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل"(2)
هاهو بديع الزمان، مثل محمد إقبال، يريد للمسلم المجدد أن يكون كالبلبل، لا يتعلق بغير مبدع الوجود، ولا ينطلق إلى التجديد إلا بعدما يأخذ للأمر عدته.
وقد قال محمد إقبال:"إنني يائس من زعماء التجديد في الشرق، فقد حضروا في نادي الشرق بأكواب فارغة ، وبضاعة مزجاة في العلم والفكر".(3)
وكم بين إقبال والنورسي من مشابه.
ولذلك حديث آخر ، إن شاء الله تعالى.
شعرية النص في المثنوى العربي النوري(4)
__________
(1) الملاحق: 348)
(2) السيرة:224)
(3) روائع إقبال: ترجمة الشيخ أبي الحسن الندوي76)
(4) المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي "تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين وبديع الزمان سعيد النورسي" 24 - 26 أيلول 1995استانبول – تركيا.(10/35)
أ. د. حسن الأمراني *
تقديم
ليس أكثر تضييقا لمفهوم الشعر من التعريف الذي قدمه قدامة بن جعفر "260-327هـ"، ثم صار من بعد كأنه سيف مصلت.
قال قدامة1:
حد الشعر: أنه قول، موزون، مقفى، يدل على معنى.
إن هذا التعريف يهتم بالأعراض الظاهرة للشعر، ولكنه يغيب الجوهر، أو لنقل تعريف دقيق للنظم، إلا إلا أنه ليس تعريفا جامعا لمفهوم الشعر.
وبالرغم من شيوع تعريفه هذا، إلا أن الشعراء والعلماء بالشعر لم يسلموا به، ولم يقفوا عند هذا الحد، يستوي في ذلك القدماء والمحدثون.
ومن أقدم النصوص الدالة على ما نحن فيه، نص أورده عبدالقاهر الجرجاني، معزواً إلى حسان بن ثابت "رضي الله عنه"، قال:
"رجع عبدالرحمن بن حسان إلى أبيه حسان وهو صبي، يبكي ويقول: "لسعني طائر" فقال حسان: "صفه يا بني" فقال: "كأنه ملتف في بردي حبرة" وكان لسعه زنبور، فقال حسان: ابني شاعر ورب الكعبة""2
لقد شهد حسان لابنه عبد الرحمن بالشاعرية، أو بقوة الطبع والذهن المستعد للشعر، كما يقول عبد القاهر، لا لأنه أتى بكلام موزون مقفى، بل لذلك التشبيه الشعري الجميل.
إن الوزن والقافية لا يشفعان لمن لم يمتلك روح الشعر، فلذلك حين أُنشِد حسان شعر عمرو بن العاص قال: ما هو بشاعر، ولكنه عاقل. 3 ولذلك أيضاً قال ابن سلام (139-231) عن بعض ما رواه ابن اسحق في السيرة من منظومات: "وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف" 4
ومعلوم أن حسان بن ثابت أقدم من قدامة، ثم إنه في الشعر أعرق، وبالشعر أعرف.
وقد عالج فلاسفة المسلمين هذه القضية بعمق، فمن هؤلاء الفارابي الذي يقول: "قوام الشعر وجوهره عند القدماء، أن يكون قولا مؤلفا مما يحاكي الأمر، ثم سائر ما فيه فليس بضروري في قوام جوهره، وإنما هي أشباه يصير بها الشعر أفضل، وأعظم هذين في قوام الشعر هو المحاكاة.. وأصغرها الوزن"5(10/36)
ويفرق الفارابي بين القول الشعري والقول الخطبي، ويقول: "وكثير من الشعراء الذين لهم أيضاً قوة على الأقاويل المقنعة يضعون الأقاويل المقنعة ويزنونها، فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرا، وإنما هو خطبي، عدل به عن منهاج الخطابة"6
وبالرغم من أن ابن رشيق "390-456" يأخذ في بعض كتابه بقول قدامة في حد الشعر بعد ما يضيف إليه عنصرا جديداً هو القصد والنية (7)إلا أنه يعرّف الشعر في مكان آخر من نفس الكتاب تعريفا هو أقرب إلى جوهر الشعر فيقول: "وإنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه.. كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلاّ فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير"8
ولم يبعد ابن خلدون عن هذا القول حين قال: "وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له، وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة، فلا جرم أن حدهم لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية، فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في عرضه عما قبله وما بعده، والجاري على أساليب العرب المخصوصة"9
وواضح أن ابن خلدون يبدأ ببلاغة الكلام والاستعارة والأوصاف، قبل أن ينتقل إلى العناصر الأخرى كالوزن والروي.
ويفرق النقاد والفلاسفة، في هذا المضمار، بين النظم والقول الشعري، إذ قد نجد نظما لا شعرية فيه، كالقول الخطبي المنظوم، مما أشرنا إليه آنفا في قول الفارابي، وقد نجد أقاويل شعرية وان خلت من عناصر النظم. "يراجع حازم القرطاجني في المنهاج أيضاً".(10/37)
ولم يبعد النقد الغربي، الحديث والمعاصر، عن هذا أيضاً، حتى أن "ت.س. إليوت" لا يقصر موسيقية الشعر في القيمة الصوتية، بل هي تنشأ - عنده- من ارتباطها بمعانيها الأولى ومعانيها الثانية المتداعية.
فإذا عرفنا هذا أدركنا المسوغ الذي جعلنا نطلب شعرية النص في غير المنظومات.
وإذا كان الجاحظ يرى أن ترجمة الشعر مستحيلة، لأنه لو حول "لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن"10، فإننا نقول: إن الشعر الذي يفقد شعريته بالترجمة لا يستحق أن يعد شعرا. وها نحن نقرأ المثنوي لجلال الدين، ومنطق الطير للعطار، والرباعيات للخيام، نقرأ كل ذلك مترجما فنحس وهج الشعر ما يزال متقدا،إن هيء للمترجم قدرة التعبير.**
وبديع الزمان سعيد النورسي شاعر بهذا المعنى، وان لم ينظم الكلام. "والنورسي نفس شاعرة، وروح لهيف، وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف.. يملك كل صفات الشاعر العظيم، إلاّ انه لم يقل شعراً اعني انه لم ينظم شعرا كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في المثنوي رغم انه يحمل ميزات النثر ومقوماته شكلا وقالبا، إلا انه شاعري الروح والنفس، وجدانى الانسياب، رشيق في صوره وأخيلته، مع عمق أفكاره ودقيق معانيه"11
وما مقومات الشاعرية إن لم تكن تلك مقوماتها؟
فلهذا كله يغدو البحث في شعرية النص في المثنوي العربي أمراً مشروعا، مع محاولة المقارنة مع مثنوي جلال الدين، وهذا ما يطمح هذا البحث إلى معالجته، وما توفيقي إلاّ بالله.
هوامش التقديم:
1 نقد الشعر: 64
2 أسرار البلاغة: 191
3 فحولة الشعراء:
4الطبقات: 7-8
5 جوامع الشعر للفارابي: 172
6 جوامع الشعر: 173
7 العمدة: 1/119
8 العمدة: 1/116
9 المقدمة: 475
10 الحيوان: 1/75
11 أديب إبراهيم الدباغ: مختارات من المثنوي العربي النوري، ص 13
* * *
شعرية النص
في المثنوي العربي النوري(10/38)
إنه من المفيد، ونحن نقترب من شعرية النص عند بديع الزمان سعيد النورسي، أن نشير إلى أن "المثنوي العربي النوري" يتضمن كثيرا من النظرات النقدية المتعلقة بالشعر والأدب، بالإضافة إلى النصوص الإبداعية التي يستطيع القارئ، دون عناء كبير، أن يقف عليها، ولاسيما في تلك المناجيات الروحية التي كان يتقدم بها في رسائله، ويرى أن بعضها لا يعدو أن يكون "رقص الجذبة بنوع وزن يشبه الشعر، وليس بشعر بل قافية ذكر في جذبة فكر"1 وهي في الحقيقة تتضمن كل خصائص الشعر، بل هي بالإضافة إلى إيقاعها المبين تشتمل على أوزان خاضعة لتفعيلات الخليل، ولا سيما الرجز، مثل قوله في هذه الجذبة الفكرية:
سبحان من يحمده الضياء بالأنوار
والماء والهواء بالأنهار والأعصار
والتراب والنبات بالأحجار والأزهار
والجو والأشجار بالأطيار والأثمار
والسحب والسماء بالأمطار والأقمار
تلؤلؤ الضياء من تنويره
تشهيره
تموج الهواء من تصريفه
توظيفه
تفجر المياه من تسخيره
تذخيره
مدح بليغ بيّن للقادر
تزيّن الأحجار من تدبيره
تصويره
تبسّم الأزهار من تزيينه
تحسينه
تبرّج الأثمار من إنعامه
إكرامه
حمد جميل ظاهر للفاطر
وهكذا تمضي هذه "الجذبة الفكرية" في هذا الإيقاع الجميل، المعتمد على تفعيلة الرجز، بالإضافة إلى ذلك التلوين الصوتي المتولد من تنويع القوافي. أليس هذا نمطا متقدما من أنماط "التنغيم "2 الذي يطلق عليه عادة الشعر التفعلي أو الشعر الحر؟ هل كان من باب التواضع أن يقول عنه النورسي إنه ليس بشعر؟. لهذا كله يكون من الطبيعي ألا نعزل التنظير عن التطبيق في هذا الحديث.(10/39)
من المنطقي أن يهتم النقاد والأدباء بتحديد مفهوم الشعر وطبيعته، وتبيين مكونات النص الشعري وإبراز خصائصه وتعريف رسالته، ومن الطبيعي أن يلتمس المهتم كل ذلك عندهم، ولكن الحق أن كثيرا من التصورات والمفاهيم عالجها ودرسها بكثير من العمق والفهم المتميز قوم ليسوا من النقاد والأدباء الخلّص، وإنما هم من الفلاسفة أو المفسرين أو المؤرخين أو علماء الاجتماع، ولننظر إلى ما كتب سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم من اليونان، وابن سينا وابن رشد والفارابي والطبري وأبى حيان التوحيدي وأبى حيان الأندلسي وابن الأثير وابن خلدون ومن على شاكلتهم ليتبين لنا صدق هذا الزعم.
إن النورسي، كما تدل على ذلك مؤلفاته، باحث وعالم و مفكر وأديب عميق الاطلاع واسعه، ما عالج قضية من القضايا إلاّ بدا لك فيها خبيرا، له نظراته الخاصة التي تتجافى عن التقليد. وقد عالج عدة قضايا أدبية فجدد فيها النظر وأعطاها مذاقا خاصا، فكان الموسوعي الذي أسس بكثير من العمق والتجديد أعمدة الأدب الإيماني.
وإذا كان من الصعب استقصاء كل القضايا الأدبية التي عرض لها النورسي في المثنوي، فإن ذلك لن يعفينا من الوقوف عند بعض تلك القضايا التي لا بد من فهمها، إذ عليها يتأسس المفهوم الشعري عند الرجل.
الأديب والقرآن:(10/40)
القرآن الكريم كتاب الله المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد. وهو معجزة بيانية، كان وما يزال مرجعا أدبيا لا يضاهى لأدباء الإنسانية. وإنه ما من كتاب، سواه أكان أرضيا أم سماويا، كان له عبر العصور – أدبياً ـ ما للقرآن من أثر على الأدباء، يستوي في ذلك المسلمون وسواهم، ينهلون من شهده، ويغترفون من بحره، ويرتشفون من ديمه، ودع عنك ما خلفه المسلمون من آثار أدبية ونقدية مثل كتب الإعجاز، وانظر إلى أثر القرآن الكريم في أدباء الإنسانية تر عجبا، فهذا بوشكين الروسي وهذا كوته الألماني وهذا فكتور هيكو الفرنسي، وسواهم كثير، يسم القرآن الكريم أشعارهم بمسحة عجيبة، ويصرحون بعظمته، وحسبك ما يقوله كوته في "كتاب الساقي" من ديوانه الشرقي الغربي:
أكان القرآن أزليا؟
مالي بذلك علم!
أو كان القرآن مخلوقاً؟
لست أدري!
أما أنه كتاب الكتب
فذلك ما أومن به
كما ينبغي أن يؤمن به المسلم.
ob der koran von Ewigkeit sei?
Darnech frag' ich nicht!
Ob der Koran geshaffen sei?
Das weiss ich nicht!
Dass er das Buch der Bucher sei,
Glaub' ich aus Mosleminen - pflicht.(4)
ولقد استيقن سعيد النورسي أن القرآن هو المبتدأ والختام، عند الأديب المسلم، فعكف عليه مغترفا، فظهر ذلك في أدبه إبداعا وتنظيرا، بل إنه كان على وعي كبير بأثر القرآن في أدبه فقال:
"اعلم أني أقول ما دمت حيا، كما قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره:
من بنده ء قرآنم اكر جان دارم من خاك راه محمد مختارم
[ما دمت حيا فأنا خادم القرآن.. وأنا تراب سبيل محمد المصطفى]
لأني أرى القرآن منبع كل الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو إلاّ من فيض القرآن. فلهذا لا يرضى قلبي أن يخلو أثر من آثاري من ذكر نبذ من مزايا إعجاز القرآن".5(10/41)
على أن استفادة الأديب من القرآن يجب أن تكون انطلاقا من تلبس روح القرآن، وتلمس إشراقاته النورانية، وتبين أغراضه ومراميه، والنظر إلى ما وراء الحجب التي يكشفها القرآن، من عوالم متكاملة بديعة، ولا يكون عند مجرد الوقوف عند بعض صوره البلاغية، "أما القرآن فأديبهم المتخيل لا يعطي لذي العرش من ذلك القصر المحتشم من أساساته المتينة ودساتيره المكينة وأحجاره المذهبة وأشجاره المزهرة إلاّ بعض نقوش النظم، وقسما من المعاني.. ثم يقسم الباقي من تلك النجوم السماوية على ساكني الأرض بدسيسة تلاحق الأفكار.. وأن القرآن لف في أساليب هي معاكس ألوف مراتب مقتضيات المقامات وحسيات المخاطبين. وكذا مر القرآن على سبعين ألف حجاب؛ وتداخل إلى أعماق القلوب والأرواح، وسافر ناشرا لفيضه مونساً بخطابه على طبقات البشر، يفهمه ويعرفه كل دور، ويعترف بكماله ويقبله كل قرن. ويستأنس به ويتخذه أستاذاً كل عصر، ويحتاج إليه ويحترمه كل زمان بدرجة يتخيل كل: أنه انزل إليه خاصة. فليس ذلك الكتاب شيئا رقيقا سطحيا، بل بحر زخار وشمس فياض وكتاب عميق دقيق". 6.
الأديب والمجتمع:(10/42)
لما كان الأدب - كما تبين - مرآة عجيبة تتجاوز عكس ظاهر الأشياء لتجلي الحقائق الربانية، صار لزاما على الأديب، لزوما أخلاقيا، أن يخلص لرسالته وأن يراعي الحق فيما يأتي ويذر، وليس له أن ينحرف أو يجعل أدبه أداة للانحراف، فيصير الأدب وبالا على المجتمع، بدلا من أن يكون له هاديا ودليلا. وليس للأديب أن ينشر على الناس مباذله بدعوى الحرية والانطلاق من القيود. فإن للأمة على الأديب حقا لا يجوز له أن يهضمه ولا يجوز لها أن تتنازل عنه. إن كل أديب رهين أمته، وما وجدنا أديبا ذا شأن يثور على ثوابت أمته، وإن كان من واجبه أن يكون هو مبصرها بمواطن الخلل ومكامن الداء. فكيف جاز أن ينجم في بلاد الإسلام من بين المسلمين من يتطاول بأدبه على شعائر الإسلام وعقائد المسلمين؟ فلذلك وجه النورسي توجيهه قائلاً: "ولاحق لك أن تتمرد بالتجاهر بما يضاد شعائر الإسلام. فأين جاز لك، ومن وكلك، وبأي حق تتجاسر على إعلان القصور الدينى بل إشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الأمة، وتظن الملة على قلبك الضال؟ فلا يجوز لأحد - فضوليا - أن يهضم نفس غيره حتى نفس أخيه. فمن أين جاز لك أن تزيف عامة الملة الإسلامية بإساءة الظن بإعراضهم عن الشعائر الإسلامية.. ولا ريب أن نشر ما لا يقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوة إلى الضلالة فناشرها داع إلى الضلالة، فلا يجاب بالضرب على فمه فقط بل يعنف بالأخذ على يده.."7
اللفظ والمعنى:(10/43)
قضية اللفظ والمعنى من القضايا التي عالجها النقد القديم حتى لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب النقد المعتمدة، بل لقد ظهرت منذ القرن الثاني مع المصنفات النقدية الأولى. وهكذا أولى الجاحظ - على سبيل المثال - هذه القضية عنايته وعالجها في أكثر من كتاب من كتبه الكثيرة، وبطرق مختلفة أوهمت الناظر المتعجل أن الجاحظ يتناقض في أحكامه، فهو ينتصر للفظ مرة وللمعنى مرة، وكل ذلك لم يكن، وإنما كان من شأن أبي عمرو أن يذكر مزايا اللفظ في موضع، ويفصل حسنات المعنى في موضع، فظن من لا صبر له ولا بصر الجاحظ متناقضا. ومن أكثر نصوص الجاحظ تداولا بين الناس، ومن أكثرها سوء فهم وتأويل أيضاً، ذلك النص الذي يرى فيه الجاحظ أن المعاني مطروحة في الطريق. قال الجاحظ: "وَالمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك."8 وقد كان من الذين شرحوا قول الجاحظ من القدماء وأزالوا عنه ما علق به من لبس، أو ما يظن كذلك، عبد القاهر الجرجاني الذي بين في دلائل الإعجاز خاصة، حقيقة المراد باللفظ، وأن اللفظ مفردا لا مزية له، وإنما المزية في النظم الذي يرقى باللفظ من كونه عالما مغلقا ومعزولا إلى أن يغدو عالما متشابكا مع عوالم أخرى، وهو بذلك التشابك، لا بدونه، يكتسب كينونته ووجوده.
وقد ذكر النقاد تشبيها يتداولونه، لتحديد علاقة اللفظ بالمعنى، فقال ابن رشيق، وهو من نقاد القرن الخامس: "اللفظ جسم روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح"9(10/44)
ولا يشك أحد من أصحاب الذوق وأهل النظر في أن العلاقة بين اللفظ والمعنى وطيدة، وبديع الزمان النورسي ممن يؤكد هذه العلاقة، إلا أنه يأتي بهذا التشبيه المتداول الذي يجعل المعنى روحا واللفظ جسدا، فيرى فيه قصورا، أو قل هو لا يراه مستقيما مع حقيقة طرفي البيان، فيقوم الاعوجاج،وذلك بتقديم تشبيه آخر، معترضا على التشبيه القديم، فيقول: "إن الكلام لفظه ليس جسدا بل لباس له، ومعناه ليس روحا بل بدن له. وما حياته إلاّ نية المتكلم وحسه، وما روحه إلا معنى منفوخ من طرف المتكلم"10 إن هذا التعبير يتضمن تعديلا وإضافة. فأما التعديل فتشبيه اللفظ باللباس بدلا من الجسد، وتشبيه المعنى بالبدن بدلا من الروح. وأما الإضافة فجعل النية والحس سببا في نفخ الروح في النص، أي إعطاء المعنى وجوده المعدوم قبل النية، وهذا ما يسمى في النقد الحديث: "مقصدية النص" إذ بدون إدراك هذه المقصدية قد يلتف النص على نفسه ويبلغ غير المراد، فتضيع الرسالة التي تنتقل من المرسل إلى المرسل إليه مشوهة لأنها لم تستكمل عناصرها.
أما تعديل التشبيه فمرده إلى حقيقة الجسد عند النورسي. إن الجسد باق لا يفنى، إذ الأشياء خلقت للبقاء لا للفناء، الفناء الحقيقي لا وجود له "بل الفناء الصوري تمام الوظيفة وترخيص له، إن الفاني يفنى بوجه ويبقى بوجوه غير محصورة."(11)
وما دام الجسد باقيا، وإنما الذي يفنى هو اللباس، فلا وجه لأن يقال إن المعنى روح جسده اللفظ،
إذ "المعنى يبقى واللفظ يتبدل، واللب يبقى والقشر يتمزق، والجسد يبقى واللباس يتخرق"12 فالمعنى باق بقاء الجسد، واللفظ كاللباس متبدل، فهو إذن فان متخرق، إذ التبدل قرين الفناء.
ولكن بقاء الجسد لا يعني استقلاله عن مصدره، ولا أنه ملك للإنسان يتصرف فيه كما يشاء، "إن الجسد الذي هو منزلك عارية وأمانة. وأنت مسافر، ومحاسنك هذه موهوبة وسيئاتك مكسوبة. فلا بد أن تقول: له الملك وله الحمد ولا حول ولا قوة إلاّ بالله"13(10/45)
وما دام الجسد عارية وأمانة، فكذلك المعنى الذي هو بمنزلة الجسد عارية وأمانة، وهكذا تنبع مسؤولية الأديب عن هذه الأمانة. وبذلك وحده يكتسب الإنسان جوهره ووجوده، ويكتسب حريته الحقيقية التي يستعلي بها على كل شئ، لا استعلاء تجبر بل استعلاء تكريم، فيصبح بذلك سيد المخلوقات.
واللفظ والمعنى هما مكونا الكلام البارزان، إلاّ أن علو طبقة الكلام مردها إلى أمور . إن النورسي يحدد منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله في أربعة أمور هي: المتكلم والمخاطب والمقصد والمقام، لا المقام فقط. كما ضل فيه بعض الأدباء.(14 )،وإذا تأملنا القضية وجدنا أن النقد الحديث لا يعدو هذه الأمور الأربعة. إن النص لا يمتلك شخصيته من ذاته، باعتباره نصا مغلقا، معزولا عن مكوناته المختلفة، بل إن هذه المكونات في حقيقتها تتشابك وتمتد خيوطها لتسم "من قال؟ ولمن قال وفيما قال"15 فالكلام يحمل رسالة، وهو صادر عن المتكلم، أي المرسِل، إلى المخاطَب، أي المرسَل إليه، ولكن الرسالة لا تكتمل إلا بإدراك مقصدية النص. هناك إذن:
المرسِل
2- المرسل إليه
3- الرسالة
4- المقصدية.(10/46)
وطبيعة الكلام تتحدد من داخل هذه الأمور الأربعة لا من خارجها، إذ لما ضل عنصر من هذه العناصر أو تخلف حضوره، أصاب الرسالة من ذلك تشويش كبير. "فالكلام إن كان أمراً ونهيا فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويته وقوته"16 ومن هنا ضل بعض البنيويين الذين ما فتئوا يصرخون: "النص، ولاشي غير النص" معلنين موت المؤلف، وهم بذلك يجهلون حقيقة النص. إن النص ليس مجموعة من الألفاظ تربط بينها مجموعة من العلاقات اللغوية والصرفية والتركيبية والدلالية والإيقاعية فحسب، ولكنه فوق ذلك وقبله وبعده تلك العناصر الأربعة المذكورة آنفا، إذ بدونها يصبح النص شيئا سديميا يسبح في المجهول، متجها نحو المجهول. إن موت المؤلف - كما نادى بذلك بعض البنيويين - يعني موت النص نفسه. إن النص لا يكتسب وجوده ودلالته وفاعليته إلا بالمرسل والمتلقي والمقام والمقصد. فالنص الواحد تختلف دلالته باختلاف المقصد واختلاف المقام، حتى وإن لم يتغير المتكلم والمخاطب. وقد يكون المقام واحدا والمقصد واحدا، ولكن نفسية المخاطب تتحكم في توجيه النص وتحديد المراد، وحديث: "لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة"17شاهدٌ قوي في هذا المقام على ذلك.
أما إذا تغير المتكلم والمخاطب، كأن يصير المتكلم مخاطبا والمخاطب متكلما، فإن النص - وإن لم تتغير ألفاظه، ولم يتغير نظمه، بتعبير – عبد القاهر- تتغير دلالته، أي إنه يكف عن أن يكون هو ويصبح غيره. إن تغير المخاطب يقتضي، في كثير من الأحيان، تغير الدلالة. وقد نبه البلاغيون إلى شئ من هذا وهم يتحدثون عن بعض الأوجه البلاغية، فكشفوا عن تغير الدلالة بتغير المرسل والمرسل إليه، ولذلك ميزوا بين الأمر الحقيقي والأمر المجازي، وأدخلوا في صيغ الأمر المجازية الدعاء والتوسل والالتماس وغيرها.
ثم إن الكلام يكتسب مكانته من المتكلم.(10/47)
"نعم أين صورة فضولي ناشئ أمره من أماني التمني وهو غير مسموع؟ وأين الأمر الحقيقي النافذ المتضمن للقدرة والإرادة؟ فانظر أين "يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي "(هود: 44)" فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين"(فصلت: 11) وأين خطاب البشر للجمادات بصورة هذيانات المرسمين في المرض: أسكني يا أرض وانشقي يا سماء وقومي أيتها القيامة؟ وكذا، أين أمر أمير مطاع لجيش عظيم مطيع بـ "ارش!.." واهجموا على أعداء الله، وأين هذا الأمر إذا صدر من حقير لا يبالى به وبأمره؟"18.
ولمزيد من البيان، يقرب النورسي الصورة إلى القارئ بأن يقارن بين كلام الخالق وكلام المخلوق، بهذا التصوير الجميل: "نعم، أين ملائكة كلمات كلام خالق الشمس والقمر الملهمة لأنوار الهداية.. ثم أين زنابير مزورات البشر النفاثات في عقد الهوسات؟ نعم، أين ألفاظ القرآن التي هي أصداف جواهر الهداية، ومنبع الحقائق الإيمانية، ومعدن الأساسات الإسلامية المنبثة من عرش الرحمن مع تضمن تلك الألفاظ للخطاب الأزلي وللعلم والقدرة والإرادة.. ثم أين ألفاظ الإنسان الهوائية الواهية الهوسية؟"19
الشعر:
حديث النورسي عن الشعر، وما يتصل بالشعر كالحرف والقصيدة، من شأنه أن يعيد علينا بسط قضايا الشعر والشعرية من جديد، ويخلخل بعض ما صار يعتقد أنه من المسلمات، وإذا كان الشعر الحق هو الذي يهتم بالكليات، ويتجاوز الجزئيات، أو هو على الأقل يجعل من هذه الجزئيات منطلقا للغوص بحثا عن حقائق الوجود، فإن النورسي شاعر شاعر، وهو أيضاً منظر للشعر تنظيرا عميقا.
إن بعض عباراته يوحي أنه مجاف للشعر والشعراء، إلاّّ أن المتأمل يدرك أنه يميز بين الشعر الحق وبين هلوسات يحسبها بعضهم شعرا، وكيف يكون مجافيا للشعر وهو شديد الاستشهاد بالشعر، بل وهو في كتاباته يقطر شعرا!!
الشعر خرق للعادة:(10/48)
الشعر - عند النورسي - خرق للعادة، وهو أمر يكون بسب أن "الشاعر رجل تتسع رؤياه أحيانا إلى ما وراء أفق الإنسان العادي، فتذهله ضخامة الكون وجماله"20 والشاعر يجدّ في البحث عن خوارق العادات، ولكن الهزيمة كثيرا ما تحدق بأولئك الذين ما فتئوا يلهجون بخرق العادة، شعريا، ويسقطون سقوطاً ذريعا. "الشعر الباحث عن خوارق العادات في الأكثر عادى.."21 فإذا نحن نظرنا إلى ما أنجزه زعماء الحداثة الشعرية العربية، مثلاً، وقسناه إلى تنظيراتهم وصيحاتهم، تبينّا البون الكبير بين التنظير والممارسة عندهم، إن الشعر عندهم التماس للدهشة وخرق للعادة، وهذا أحد زعمائهم يقول: "فإن الشعر الجديد كلام غير عادي وغير عام: إنه على وجه التحديد، خرق للعادة"22
أليس هذا هو ما كشفه النورسي قبل أن يدعيه أدونيس بنصف قرن من الزمن على الأقل؟
فماذا نجد عند زعماء الحداثة العربية حين نأتي إلى التطبيق؟ لا شئ غير كلام بارد لا روح فيه. إنه ليس خرقا للعادة، إلا أن يكون خرق العادة هولسات لا معنى لها، وذلك منتهى العجز، إن خرق العادة، إن كان مطلبا، ينبغي أن يزيدنا اقترابا من حقائق الوجود، بلغة شعرية متوهجة. وكيف يمكن أن يخرق العادة من هو دائم العكوف على أصنام العادة، لا يملك لنفسه فكاكا من أوزارها؟ كيف يمكن أن يتجاوز ما هو أرضي مشهود محدود معهود، إلى ما هو شعري علوي دفاق متحرر من أغلال العادة من يراهن على "أن الشعر العربي الجديد يتمسك بالدنيا حتى ليمكن وصفه إنه شعر الأرض"؟23 إن خرق العادة، شعريا، لا يتأتى إلا لمن امتلك القدرة على خرق حجاب هذه الحياة الدنيا، لتكشف له حقائقها الجوهرية، وإلا فهو سجين تلك الرؤية المقيدة التي لا تبصر، كالذين عبر عنهم القرآن الكريم: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون(الروم:7).(10/49)
إن الغافل عن الآخرة غافل حتى عن باطن هذه الحياة الدنيا وحقيقتها، والغافل عن باطنها متعلق بظاهرها وأعراضها، ومن هنا لا يمكنه أن يحقق خرق العادة أبداً، وإن ظل يلهج ويردد بأنه مهووس بخرق العادة.
ومن الحقائق المتصلة بخرق العادة الإيمان بالحركة والفعل والتحول ونبذ السكون والثبات والتقليد "لأن العطالة والسكون والتوقف والاستمرار على طرز في الممكن - الذي ظهور وجوده بتغيره - نوع عدم في الأحوال والكيفيات، والعدم ألم محض وشر صرف" ولذلك كله "كانت الفعالية لذة شديدة والتحول في الشؤون خيراً كثيراً"24
الشعر كشف:
وكما ذهب أهل الحداثة إلى أن رسالة الشعر هي "الكشف عن عالم يظل بحاجة إلى كشف"26، فإن النورسي قرر منذ عقود، سابقاً أهل الحداثة، أن الشعر في جوهره كشف وفتح. ولكن أي كشف وأي فتح؟ هنا يختلف الطريقان، ويتباين البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج. بل إن الإنسان، بصفة عامة، هو عند النورسي "خلق ليكون فاتحا وكاشفا مريئا، وبرهانا نيرا، ودليلا مبصرا، ومعكسا نورانيا، وقمرا مستنيرا للقدير الأزلي، ومرآة شفافة لتجلي الجمال الأزلي"27
والشاعر، بحكم إنسانيته، مدعو إلى أن يكون فاتحا وكاشفا، وأداته الشعرية هي أداة الفتح والكشف. ولسانه "شجرة الكلمات"28 فلينظر إلى هذه الشجرة ماذا ستثمر؟
الشعر مرآة:
يمكن الحديث عن "نظرية المرآة" في الفن بعامة، وفي الشعر بخاصة، ولعل أفلاطون كان أول من ساق هذا التشبيه لشرح نظريته عن المحاكاة. فالفن محاكاة من الدرجة الثالثة. إن الواقع المرئي محاكاة لعالم المثل الذي هو الحقيقة، أما الفن فهو ليس غير محاكاة للواقع المرئي، ومن ثم فهو محاكاة للمحاكاة. الفن إذن، والشعر بخاصة، ليس غير مرآة تعكس ظاهر العالم الحسي بعيدا عن عالم المثل، فهو بذلك يقدم لنا صورة غير حقيقية عن الأشياء.(10/50)
ولتوضيح هذا الأمر يقدم أفلاطون تشبيهه المعروف الذي يجعل الشعر مرآة عاكسة للواقع، وقد بقيت كثير من المذاهب الأدبية عالة على هذا التشبيه، وليست نظرية الانعكاس غير "انعكاس" لنظرية أفلاطون بشكل ما بالرغم من منطلقاتها المادية التي تتعارض تماما مع نظرية المثل الأفلاطونية. وكما أن لك "أن تأخذ مرآة وتديرها إلى كل الجهات فإنك في الحال تصنع الشمس وكل ما في السموات والكواكب والأرض وتصنع نفسك وغيرك من الناس والحيوانات والنباتات، والأواني"29
فكذلك لا يفعل الفنان أكثر من أنه يعكس في مرآته الأشياء، ويقدم لنا صورها لا حقيقتها.
أما النورسي فإنه يحتفظ بظاهر التشبيه، ولكنه يذهب به مذهباً بعيداً، فلا يكون الشعر آنذاك مجرد محاكاة مشوهة للواقع، ونقل قاصر لظواهر الأمور دون بواطنها، بل يتحول الشعر الحق سبيلا من سبل إدراك الحقيقة العليا. ذلك بأن الشعر إن كان مرآة فهو ليس مرآة عاكسة للواقع، بل هو مرآة عجيبة يتجلى فيها الجمال الأزلي، وتسطع فيها الحقيقة الخالدة، وإذا تعطلت هذه المرآة، أو أصابها الصدأ انحرفت عن طريقها وتعطلت رسالتها، وأنبتت "شجرة الكلمات" نبتا خبيثا لا يسمن ولا يغني من جوع "إن العالم دكان ومخزن إلهي يوجد فيه كل نسج وطرز، وشكل وقشر، كثيف، ورقيق وزائل ودائمي"30 وما قيمة الشاعر إذا لم يميز بين الكثيف والرقيق، والزائل والدائم ، ولم يقدم الشعر جوهرا صافيا رقراقا؟(10/51)
ومن البؤس الداعي إلى الشفقة أن يرى بعض الحداثيين "الآخر"، أي غير المسلم، وكأنه خلاص للذات، وكأن بناء الذات لا يبدأ من إدراك الذات بل من إلغائها، "وهكذا يكون الآخر عنصر تكوين من حيث هو عنصر كشف معرفي"31. فكيف يكون "الآخر" عنصر كشف معرفي إذا كان هذا الآخر نفسه عاجزا عن إدراك ذاته؟ وهذا الآخر لا تحتاج معرفته إلى تأويل، إذ يصرح علانية أن الآخر "هو هنا الغربي أساساً"32 فلننظر إلى هذه الرؤية التقديسية للآخر، ولنوازن بينها وبين النظرة التحررية التي يعالج بها النورسي هذه الأشياء. يقول النورسي كاشفا حقيقة العلاقة مع الآخر "الذي هو الغربي الكافر" بأسلوبه الشاعري المبين: "اعلم أن الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أن الأولى: وحشة مستحالة ظاهرها مزين ، باطنها مشوه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنها أعلى من ظاهرها، معناها أتم من صورتها، في جوفها إنسية وتحبب وتعاون، والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوة بين كل الكائنات، وإنسية وتحببا بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى أخوة في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقيا في المنتهى مع أخيه؛ إذ لا يرى الأخوة إلا نقطة اتصال بين افتراق أزلي ممتد، وفراق أبدي سرمد؛ إلا أنه بنوع حمية ملية أو غيرة جنسية تشتد تلك الأخوة في زمان قليل، مع أن ذلك الكافر لا يحب في محبة أخيه إلا نفس نفسه. وأما ما يرى في مدنية الكفار من المحاسن الإنسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الإسلام، وانعكاسات إرشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الأديان السماوية".33(10/52)
وكما استعار أفلاطون صورة الشمس والمرآة، كذلك فعل النورسي، بل إن صورة الشمس والمرآة أثيرة عند النورسي، وهذا سر تكريرها عنده، إلا أن البون بعد ذلك بين الرجلين بعيد، إذ يذهب بديع الزمان كدأبه - بعيدا في توضيح الأمور، من أجل تجلية حقائق الوجود.يقول متنسماً: "زهرة من رياض القرآن الحكيم": "اعلم يا قلبي أن الأبله الذي لا يعرف الشمس إذا رأى في مرآة تمثال شمس، لا يحب إلا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجه بتمام محبته إلى الشمس؛ إذ ما يشاهد في المرآة ليس بقائم بها، بل هو قيّومها، وبقاؤه ليس بها، بل بنفسه.. بل بقاء حيوية المرآة وتلألؤها إنما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها، إذ هي قيومها، يا هذا قلبك وهويتك مرآة. فما في فطرتك من حب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها.. فقل "يا باقي أنت الباقي" فإذ أنت باقٍ فليفعل الفناء بنا ما شاء فلا نبالي بما نلاقي.."34
الخيال:
ليس الشعر تعبيرا عاديا، وهو يختلف عن النثر دون أن نرمي هنا إلى المفاضلة بين النوعين، ولذلك ميز النقاد بين "القول الشعري" و "القول الخطبي"، ولعل أوضح فرق بين الجنسين هو أن صناعة الشعر تقوم بالتخييل، أما الخطابة فتقوم بالإقناع.( 35) "فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل"36.(10/53)
يرى النورسي أن الخيال أوسع حواس الإنسان،(37 )ومع ذلك فإن "الخيال لا يحيط بالعقل وثمراته" (38) ومن هنا فإن مجال الخيال غير مجال العقل، والخيال قد يكون غير منضبط بشيء إلا أنه يملك القدرة على السباحة خارج العالم العقلي، فإذا هو لم ينضبط بضابط، ولم يستر بنور، ضل ضلالا بعيداً، إذ بالرغم من انطلاقه ذاك إلا أنه - لعدم انضباطه - لا يكون وسيلة من وسائل إدراك الحقائق. "إن حقائق الآيات أوسع بمراتب من خيالات الشعراء، فتنزهت عن الشعرية(39). ومن هنا يمكن التمييز بين الخيال المذموم والخيال المحمود، ما دام "لكل فرد من حواسه ـ ظاهرا وباطنا ـ عبادة تخصه، وضلالة تفسقه. فكما أن سجدة الرأس لغير الله ضلالة، كذلك سجدة خيال الشعراء بالحيرة المفرطة والمحبة الوالهة في مدح غير الله - لا بحساب الله - أيضاً ضلالة يفسق بها الخيال، وقس على الخيال إخوانه"(40). إن النورسي لا يعدو هنا هدي القرآن الكريم في التمييز بين شعراء الضلالة الذين نرى أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون، فهم بذلك في ركوب الخيال السقيم مفرطون، وبين شعراء الهدي الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا فالتزموا بالحق لا يعدونه، دون أن يقوم الحق حاجزا بينهم وبين التحليق الذي هو من صفات الخيال، بل إن هؤلاء، لإيمانهم بعالم الغيب وعالم الشهادة، يدركون ما لا يدرك غيرهم، ونستعيد هنا عناصر البيان الأربعة التي اشترطها النورسي، ونحن نستحضر موقف النبي صلى الله عليه وسلم من النابغة الجعدي حين أنشد:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا(10/54)
فكأن خياله - ظاهرا - قد اشتط به شططا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إلى أين يا أبا ليلى؟" فيجد الشاعر لنفسه مخرجا لطيفاً ما كان ليتأتى لشاعر لا يؤمن بالغيب، ويقول: "إلى الجنة بك يا رسول الله!" فيقول عليه السلام، مانحا الشاعر وساما لم يحلم به شاعر: "نعم، إن شاء الله".
الشعر والغموض(41)
إذا كان البيان فضيلة، يستوي في ذلك الشعر والنثر، فإنه قد سبق أن للشعر لغة خاصة ترقى به عن مستوى الدهماء، وان هذه اللغة من أجل ذلك لا تخلو أحياناً من الغموض، ولكنه يظل غموضا مستساغا ما بقي شفافا يفتح لك الآفاق، ويتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب، عن طريق صفاء الروح المستتر بالوحي المستدل به.
ولما كان الأمر كذلك لم يكن من المستغرب أن تأتى بعض نصوص النورسي يحيط بها بعض الغموض الذي لم ينكره بديع الزمان، بل راح يشرح موقفه منه ويبين أسبابه، وقد قدم لذلك ثمانية أسباب، كان من أغربها وأشدها إثارة أنه إنما يخاطب نفسه الدساسة "وهي تفهم بسرعة أجوبة أسئلتها ولو بالرمز". ومن هنا كثر استعمال الرمز عند النورسي، دون أن يتحول هذا الرمز، كما سنرى، كهفا مغلقا لا سبيل إلى كشف أسراره.
والأمر الثاني أن ما دوّنه ليس غير فيض من فيوضات القرآن الكريم التي انفتحت له أسراره أثناء معاشرته المستمرة لكتاب الله تعالى، فكأن الاقتراب من تلك الفيوض يقتضى ملازمة خاصة للقرآن الكريم.
وأما الأمر الثالث فهو أنه يتجنب زخرف القارئ أو تبسيطه إرضاء للقارئ "فكما لا قيمة لنفسي حتى أبتهج متصنعا بما يظن محاسن وهي في الحقيقة مساوئ، كذلك لا أقيم لنفس غيري المتكدرة بالأنانية أيضاً وزنا".
ثم إن حديثه حديث القلب أكثر مما هو حديث العقل. وحديث القلب بحاجة دائما إلى نوع من المشاركة الوجدانية، وتذوق القلوب مما لا يتيسر لكل أحد.(10/55)
ومن ذلك أيضاً مخالفته للمعهود من أساليب السلف، يستوي في ذلك الفقهاء والعلماء والمتصوفة، وذلك بسبب المزج المحكم، عن غير إرادة سابقة، بين أنوار العقل وأشواق القلب. فصار النورسي بذلك "خارجا عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين".
إن الشعر ليس من اللازم أن يعطيك كل مفاتيحه، أو يبوح بكل أسراره، ولذته في أنه يتركك بحاجة دائمة إلى مزيد من الكشف، ولا ينقص من لذته أو يحط من قدره، كالشمس لا تستطيع أن تحيط بأنوارها وأسرارها ساعة اكتمال بهائها. والشعر بستان بعض جناه مستعص وبعضه دان "فإذا كنت في بستان أتترك كل الثمرات إن لم تأكلها كلها؟".
وأخيرا فإن الاطمئنان العقلي لا يحصل إلا بالبراهين والأدلة والحجج، وسياحة الروح بطبعها تتجافى عن المنطق والأدلة والبراهين، فلا عجب إذن إذا ما بقيت بعض أسرار الشعر محجوبة يلفها الغموض في غلائله البهية.
الشعر والتصوف:(10/56)
الشعر والتصوف توأمان، كلاهما مجاهدة باطنية وسعي إلى خرق الحجب بحثا عن مجهول لا يكاد يدرك. وكلاهما أيضاً قرين الدهشة والتحير اللذيذين اللذين يعانيهما السالك الشاعر. اللغة عند الشاعر والمتصوف على السواء تتجافى عن الكلام العادي، ويكون الرمز والإشارة واللمح فيها بديلا عن الخطاب المعهود بين عامة الناس. إلا أن هذا لا يجعلنا نذهب إلى القول بأن الشعر "باعتباره كشفا ورؤيا غامض، متردد، لا منطقي"(42). إن الشعر، حتى باعتباره كشفا ورؤيا لا بد له من منطقه الخاص. هذا المنطق الخاص لا يؤدي إلى أن يصبح الشعر غامضا لا يفهم ، بقدر ما يؤدي إلى خصوبة شعرية تجعل الشعر قابلا للتأويل، منفتحا على وفرة المعاني، دون أن يشتط هذا التأويل بحيث يصبح النص ملتفا على نفسه، ومؤدياً إلى غير ما يريد. الشعر والتصوف مجاهدة باطنية ذاتية تعطي الحياة لذة خاصة لأنها توق إلى لذة طي عالم الشهادة ومعاينة عالم الغيب. إن الحياة تفقد معناها إن هي فقدت طعم لذة خاصة المجاهدة، بل إن الراحة هي عين المجاهدة. أما الراحة الظاهرة، التي هي قرينة الكسل والخمول والثبات فهي الموت المحقق. الثبات موت والتغيير حياة. الحياة حركة والموت همود. "الحياة المريحة تورث الإنسان تآكلا روحيا كما تورث العصيدة السوس وتأكل الأسنان" 43 الشعر كالتصوف، طموح إلى الأبدية، والأبدية تبدأ من إدراك الذات. "الأبدية تفتح بابها من مركز الذرة" . هذا ما قاله ولهم بليك.(44)(10/57)
إن العلاقة بين الشعر والصوفية تبدو أحيانا علاقة تلازم حتى يكاد المرء يقول إن الشعراء المتصوفة، أو المتصوفة الشعراء، هم الذين قدموا لنا شعرا يمكن أن نلتمس فيه خرق العادة. وتراثنا الإسلامي ملئ بهذه النماذج. أنذكر ابن الفارض أم الحلاج أم ابن عربي أم فريد الدين العطار أم سعدي وحافظ الشيرازيين؟ وما لنا نبتعد وهذا جلال الدين الرومي في "المثنوي الرومي" يقوم شاهدا على ما يمكن أن يقدمه التقاء الشعر بالتصوف، وقد كان سعيد النورسي شديد الإعجاب بالإمام جلال الدين واستشهد به كثيرا في "المثنوي العربي"، ويكفي أن نعرف أن هذا الإعجاب هو الذي حمل بديع الزمان على أن يستعير من جلال الدين عنوان كتابه. يقول الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، محقق "المثنوي العربي النوري" : " لقد سمي الأستاذ النورسي هذه الرسائل بـ " الرسائل العربية" أو " المجموعة العربية" وقد كتب على مجلد الطبعة الاولى: "قطرات من فيوضات الفرقان الحكيم"، ولكن لأن فعل هذه الرسائل في القلب والعقل والروح والنفس يشبه فعل المثنوي لجلال الدين الرومي المشهور والمتداول بين أوساط الناس، ولاسيما في تركيا، وأن عمله في تجديد الإيمان وترسيخه في القلب وبعثه الروح الخامد في النفوس يشبه"المثنوي الرومي" فقد سماه الأستاذ النورسي بـ "المثنوي" ، ولأجل تمييزه عن " المثنوي الرومي" الذي كتب بالفارسية سماه " المثنوي العربي " (45)(10/58)
وكما يحتاج الشعر إلى أن تكون مغامرته وسعيه إلى الكشف منضبطا بما لا ينافي الحقيقة المطلقة، فكذلك التصوف، لا بد فيه من ضوابط وإلاّّ زاغ وضل وما اهتدى. الدهشة في الشعر وفي التصوف ليست غاية. إنها لحظة من اللحظات التي تقوم معلما على أن الطريق مستقيم، ولذلك فهي ليست غير مظهر من مظاهر التجربة، وعرضا من أعراض الطريق. حين تصير الدهشة هدفا، والحيرة مطلبا يفقد الشعر، كما يفقد التصوف، جوهره وصفاءه، ويصير لعبة وتسلية قد تروع بعض الوقت ولكنها لا تلبث أن تفقد بهاءها ورونقها وجاذبيتها أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك فان التصوف، إن استقام، كان للشعر معينا، وان هو انحرف عن الطريق صار عبثا وبهرجا لاغيا.
ولأن التصوف فناء عن الذات فلا ينبغي أن تظل التجربة الذاتية تجربة فردية، بل لا بد من العمل على إعطائها جوهرها الإنساني وذلك بأن يكون للذات الجماعية حضور في الهدف. "قد تسد الصوفية المسيحية حاجة إيليوت الفردية الخاصة، يجوز ذلك، غير أنها تترك المشكلة العامة، مشكلة نخر الإنسان، دون أن تمسها في قليل أو كثير"(46)
وكذلك الشأن في الصوفية الإسلامية، لا بد من التمييز بين التصوف السوي والتصوف المنحرف، ولابد للمتصوف من أن يمتلك موازين يزن بها مشاهداته ، حتى يدرك الهدي من الضلال.
وهذا ما نبه إليه النورسي حين قال عن الإشراقيين الذاهبين إلى بواطن الأمور، والروحانيين النافذين إلى عالم الغيب: "إنهم لا يحيطون بالحقيقة المطلقة بأنظارهم المقيدة، بل إنما يشاهدون طرفا منها فيتشبثون به وينحبسون عليه ويتصرفون فيه بالإفراط والتفريط.. فتختل الموازنة ويزول التناسب.(10/59)
مثلهم كمثل غواصين في البحر لكشف كنز متزين ممتلئ بما لا يحصى من أصناف الجواهر، فبعض صادف يده ألماسا مستطيلا مثلا، فيحكم بان الكنز عبارة عن الماس طويل، وإذا سمع من رفقائه وجود سائر الجواهر فيه يتخيلها فصوص ألماسه، وصادف آخر ياقوتا كرويا وآخر كهربا مربعا وهكذا. وكل واحد يعتقد مشهوده جرثوم الكنز ومعظمه، ويزعم مسموعه زوائده وتفرعاته، فتختل الموازنة ويزول التناسب، فيضطرون للتأويل والتصلف والتكلف حتى قد ينجرون إلى الإنكار والتعطيل. ومن تأمل في آثار الإشراقيين والمتصوفين المعتمدين على مشهوداتهم بميزان السنة لم يتردد فيما قلت". 47
والشاعر وإن كان، مثلما قال حازم القرطاجني، لا ينظر إلى شعره من حيث هو صدق أو هو كذب، ولكن ينظر إليه من حيث هو كلام مخيل، إلا أنه سبق القول أن الخيال الخصب هو الذي لا يتعارض مع الحقائق الكونية الكبرى، وان الشعر لذلك يمكن أن يكون أهم من الفلسفة وأكثر حقيقة من التأريخ، على مذهب أرسطو. ولهذا لا بد أن يكون حس الشاعر يقظا، وأن تكون أذنه الباطنة مرهفة، وأن يكون ذهنه متقدا، فلا تختلط عليه الأمور، أليس الشعر، كالتصوف، سفرا جميلا ومتعبا في آن واحد؟ "إن المسافر كما يصادف في سيره منازل، لكل منزل شرائط تخصه.. كذلك للذاهب في طريق الله مقامات ومراتب وحجب وأطوار، لكل واحد طور يخصه، من خلط غلط، كمثل من نزل في قرية إسطبلا سمع فيه صهيل الفرس، ثم في بلد نزل قصراً فسمع ترنم العندليب، فتوهم الترنم صهيلا، وأراد أن يستمع منه صهيل الفرس مغالطا لنفسه"(48)
الشعر والرمز:(10/60)
الرمز من الأساليب الشعرية المعروفة. وأساليب الرمز كثيرة. ولعل احتفال الشعر بالصورة وجه من أوجه الرمز. والصورة في أدنى مراتبها تعتمد الصيغ البيانية الأولى، كالتشبيه ثم الكناية ثم الاستعارة بضروبها المختلفة كصورة أعلى من صور البيان، حتى إن من النقاد من جعل الاستعارة شرطا في الشعر، فعليها مدار القول. ومن الرمز قريب وبعيد. قد يكون الرمز مجرد لمعة عابرة، وقد يفتح للنظر آفاقا لا تكاد تحد، بيد أنه قد يتحول إلى فعل شبيه بفعل الحواة، لا يبغي غير التحير.
وحين يستعمل النورسي الأسلوب الرمزي لا يضل قارئه ولا يتركه في متاهة، بل هو يأخذ بيده في رفق إلى نور الحق حتى تتكشف عن بصيرته غشاوة الضلالة والأوهام. فالرمز إذن ليس هدفا بل هو وسيلة من وسائل التعبير التي لا ينبغي أن تعدو مهمتها. فانظر إليه - إن شئت- وهو يقول: "كيف السكون إلى الدنيا والفرح بها"(49)، فإنك سوف تحس أنه ينعي الإقبال على الدنيا، ولكنك تتساءل: ولكن بالوجه الثالث؟ وكم للدنيا من وجه؟ وما دلالة كل وجه؟ إن التحير من مقومات الكشف، لأنه يفتح باب الأسئلة التي هي أسئلة حرجة من دون شك، إلا أن قيمتها تنبع من أنها أسئلة حقيقية. إن هذا التحير إذن ليس غير مرحلة في الطريق، ولذلك يجئ الجواب بعد ذلك سهلا رخاء فيقول: "إن الدنيا لها وجوه ثلاثة:
وجه ينظر إلى أسماء الله.
ووجه هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حسنان.
والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الأسمي، مدار للهوسات الإنسانية ومطالب الحياة الفانية.
أنا ركبت نقطة ميتة، وتركبني جيفة ميتة. ويومي تابوتي، بين أمس وغد قبري أبى وابنه، فأنا بين تضييق ميتتين وضغطة القبرين. إلا أن الدنيا من جهة أنها مزرعة الآخرة والنظر إليها بنور الإيمان تصير كجنة معنوية".50(10/61)
ولما كانت لغة الرمز قاسما مشتركا بين الشعر والتصوف، كانت أسلوبا أثيرا عند النورسي، إن الرسالة الرابعة التي هي :"قطرة من بحر التوحيد" ولاسيما " ذيل القطرة"، نمط رفيع من الأدب الإيماني الرمزي. والرمز هنا ليس تعبيرا مسطحا بالاتكاء على مجموعة من الأساطير الوثنية وحشرها داخل النص لتكون حلية له، حتى وإن تجافت عن روحه، وبرئت من محيطه، كما هو شأن كثير من النصوص الشعرية الحديثة التي يكاد الرمز فيها يكون مجرد زينة خارجية، وذلك بحشر مجموعة من الإشارات التاريخية أو الأعلام ..، دون أن يكون لها صلة ما بالتجربة الشعرية. إن النورسي يبدع رمزه الشفاف الذي لا يعتمد إسقاط الإشارات على النص بقدر ما يعتمد تجديد الرؤية التي هي رؤية قلبية قبل أن تكون رؤية بصرية، رؤية كتلك التي مرت يوما بخاطر شاعر قديم في لحظة صفاء روحي هاربة فقال:
وما كانت وإن رفعت سناها ليبصر ضوءها إلا البصير
والرمز عندئذٍ يصبح أداة من أدوات تقريب الحقائق إلى النفوس، لا أداة تشويش، وإيجاد نوع من الانسجام والتناغم بين الظاهر والباطن، وليس الرمز نفيا للظاهر، باعتباره طعام الدهماء وشرابها، وتعلقا بباطن موهوم، كما يذهب إلى ذلك من يزعمون أنهم أهل باطن، من القدماء والمحدثين، ومن الشعراء والمتصوفة على السواء، إذ في ذلك النفي تعطيل للحقيقة، وإن زعم زعماؤها غير ذلك وقالوا: "تفتح التجربة الصوفية أفقا آخر لهذه الكتابة "أي الكتابة القرآنية" في قراءتها وفهمها. وهي تعطي للنص القرآني أبعادا غنية ومتنوعة"51(10/62)
إن الرمز، كما يفهمه النورسي وكما تجلي في أدبه، رمز شفاف ينطلق من رؤية تقيس الأمور بذلك الخيال المحمود الذي ينطلق إلى عالم أثيري يجمع بين نورانية الغيب ووضوح الشهادة، فيزيدك تعلقا ببهاء الحق، فلنصغ إلى أول رمز من "ذيل القطرة": "إن الصلاة في أول الوقت، والنظر إلى الكعبة خيالا مندوب إليهما، ليرى المصلي حول بيت الله صفوفا كالدوائر المتحدة المركز، فكما أحاط الصف الأقرب بالبيت، أحاط الأبعد بعالم الإسلام، فيشتاق إلى الانسلاك في سلكهم، وبعد الانسلاك يصير له إجماع تلك الجماعة العظمى وتواترهم حجة وبرهانا قاطعا على كل حكم ودعوى تتضمنها الصلاة". 52
هكذا إذن ينطلق النورسي بقارئه، من موضوع اعتاد أن يتلقى الحديث عنه بأسلوب تقريري، صادق ولكنه صارم، إلى ان يتلقاه بأسلوب يخاطب العقل والشعور والوجدان، يجمع بين صرامة الفكر ونداوة الشعر، وذلك مدخل عجيب إلى شعرية النص عند النورسي، بديع الزمان.
"إن الرموز التي دارت في بعض أنواع النثر، يمكن أن ينظر إليها بوصفها رموزا شعرية، بشرط أن نتجاوز في هذا القول الاختلاف النوعي، من حيث الشكل والإيقاع، إلى الماهية العامة لفن القول من حيث إنه استعاري وتسمية مجازية للأشياء"53.
ورمزية النورسي الشعرية إن كانت تلتقي من وجه - كما سنرى - مع بعض الشعراء، إلاّ أنها تختلف معهم من وجوه، حين يحرص النورسي على التصريح في أكثر من موضع - بأن كشفه يستند على المشاهدة، لا على التهويم، إلاّ أن هذه المشاهدة قلبية معنوية، لا عينية مادية. يقول: "ثم قد شاهدت في سياحة تحت الأرض المعنوية وفي باطنها حقائق"54.(10/63)
ويحدثنا النورسي عما لقي في طريق المشاهدة فيقول: "أيها الناظرون! إني قد ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفت في سيري مهالك ومصائب وأعداء هائلة، فاضطربت، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العناية الأزلية بيدي.. فما كتبت إلاّ ما شاهدت" 55 ونظرا لما يمكن أن يسبق إلى ذهن القارئ المتعجل من معان، قد لا تدل عليها الرموز التي يختارها بديع الزمان بعناية، فإنه يدعونا إلى أن نقرأ بدقة ما يكتب كي تقر أعيننا56.
ولكن هذه المشاهدة وإن كانت معنوية، إلا أنها مشاهدة واعية لا يغيب فيها الشاعر عن عقله، ولا يدعي غيبوبة عن الخلق لرؤية الحق: "هكذا شاهدت، وعقلي معي"57.
على أن حضور العقل شئ وحضور النفس الأمارة شئ آخر. إن الاختراق بحاجة دائمة إلى التجرد، وأول منازل التجرد التجرد من حظ النفس واهوائها. إن تحقق الوجود يكمن في انعدام الوجود. وهنا يلتقي النورسي مع محمد إقبال في أن تحقق الذات "خودي" يلتمس عن طريق نفي الذات " بى خودى". "فإن أحببت الوجود فانعدم لتجد الوجود" 58 ولعل جلال الدين الرومي كان يرمي إلى شئ من هذا حين قال:
لا تظن أنى أقول هذا الشعر بذاتي
فطالما أنا على وعي ويقظة لا أنبس بكلمة. 59
إذ حضور العقل إن كان لا بد منه، وهو أمر مسلم به، مدعو إلى أن يعرف طبيعة رسالته وحدوده حتى يتمكن من الاغتراف من نور الحق، هذا الاغتراف الذي يكون في منطلقه نوعا من الاحتراق:
أنت أيها العقل مثل الماء، فانأ عن دارنا
أو فأقدم لتغلي معنا في قدرنا. 60
قدر العقل إذن هو أن يغلي في قدر المحبة لإدراك المعرفة.
العقل قرين الفلسفة والحكمة، ولكن الحق بحاجة إلى القلب ليبلغ أقصى درجات تجلياته، وينتقل من المحدود إلى المطلق، إنه بحاجة إلى الحرقة ليبلغ درجة الكمال: الشعر.
الحق بدون شبوب العاطفة حكمة
ويصير شعرا إذا استمد الحرقة من القلب61
الشعر إذن أعلى درجات الحكمة، إنه حكمة وزيادة.(10/64)
لم يكن النورسي شاعرا، بالمعنى التقليدي للكلمة، يقدم لنا قصائد موزونة في أوزان مخصوصة (62) إلا أنه كان يمتلك كل الأدوات الشعرية، ويصوغ أدبه الإيماني صياغة شعرية تهز الوجدان وتطرب السمع وتحرك الشعور وتوقد الذهن وتعطي الخيال فرصة السباحة في عالم لا متناه.
رمزية العندليب والوردة:
كثيرا ما كان النورسي يغترف رموزه من ذات نفسه، غير متوكئ على أحد، إلا أن هذا لا يمنع من أنه كان يلتقي مع كثير من شعراء الرمز، فيغرف مما يغرفون، إذ الرمز الواحد قادر على أن تتجدد دلالاته، وذلك حين يتوفر له المنقاش الخاص والأزميل المتميز. ورمز "العندليب والوردة" من الرموز المتداولة في الآثار المشرقية، عند الفرس والعرب والهند. وهذه الرمزية قد تأتى أحيانا مفصلة، وقد يكتفى فيها باللمح والإشارة. والعندليب "البلبل" فيها هو العاشق المتيم، و"الوردة" هي المعشوق العلوي. العندليب هو المريد والوردة هي الحقيقة المنشودة التي يكابد العاشق المريد من أجلها الأهوال، ويركب إليها طريق الجذبة ومسالك الأحوال. فمن الشعراء الذين ترددت عندهم هذه القصة، إما عرضا وإما بنوع من التفصيل، شاعر الإسلام في الهند محمد إقبال الذي يقول في قصيدته: "صدر الشاعر":
صدر الشاعر مجلى سر الحسن
تشرق من سينائه أنوار الحسن
من نظرته يزداد العذب عذوبة
والطبيعة من سحر بيانه أقوى فتنة
ومن نفثاته تعلم البلبل التغريد
ومن خضاب دمه اشتعلت وجنة الوردة(63)
إن هذه المجاورة بين البلبل والوردة في هذا النص ليست اعتباطية، إنها تؤول بها إلى رمزية القصة. فهذا هو البلبل يسفح دمه فداء للوردة،وهاهي ذي الوردة تشتعل وجنتها من خضاب دمه.(10/65)
ولكن ليس هذا فحسب، بل إن الشاعر هنا هو الذي علم البلبل، ذلك العاشق المسكين، أصول التغريد، وما ذلك إلا لأن الشاعر اكتوى بنار العشق الحقيقية، حين آنس من طور سيناء نارا، ومنذ ذلك الحين صار يحمل في صدره تلك النار المباركة التي صار لها في كل ما تمسه ذلك الأثر العجيب.
وفي قصيدة: "كلمة الحب" تظهر قصة العندليب والوردة مرة أخرى، حين يقول محمد إقبال:
تلك الكلمة جذوة القلب، هي سر ولا سر
أفضيت بها إليك، فمن ذا استرق السمع؟ ومن أين سمع؟
قد سرقها الطل من السماء، أفضى بها إلى الوردة،
وسمعها البلبل من الوردة، وحملتها الصبا من البلبل.64
إن الذي بين البلبل والوردة لم يعد سرا. إنه خيط من النور البهي يصل بين السماء والأرض.
يتناول النورسي، في آخر المثنوي، قصة العندليب والوردة فيشرح فلسفتها، ويجمع صورة الشعر وبهاءه إلى دقة الحكمة وبيانها، فيقول:
"إن العندليب المشهور بالعشق للورد يستخدمه فاطره الحكيم لإعلان المناسبة الشديدة بين طوائف النبات وقبائل الحيوان. فالعندليب خطيب رباني من طرف الحيوانات - التي هي ضيوف الرحمن ـ وموظف لإعلان السرور بهدايا رازقها،ولإظهاره حسن الاستقبال للنباتات المرسلة لإمداد أبناء جنسه، ولبيان احتياج نوعه البالغ ذلك الاحتياج إلى درجة العشق، على رؤوس جميلات النباتات، ولتقديم ألطف شكر في ألطف شوق لجناب مالك الملك ذي الجلال والجمال والإكرام"..65
هذا الخطيب الرباني، الذي هو العندليب، ليس غير وجه من أوجه مظاهر التسبيح الكوني، إذ سيصير لكل نوع من المخلوقات عندليبه يعلمه كيف يعلن عن مظاهر الإنعام الأزلي الذي ينعم به خالق الكون على الكون وما فيه من مخلوقات، وكيف يجعل التسبيح طريقا إلى ذلك، ولا تزال منازل العنادل تترقى حتى يكون في الذؤابة منها سيد الخلق المصطفى عليه الصلاة والسلام:(10/66)
"ولا تحسبن أن هذه الوظيفة الربانية في الإعلان والدلالية والتغني لذوي الأسماع بهزجات التسبيحات مخصوصة بالعندليب، بل كل نوع له عندليب يمثل ألطف حسيات ذلك النوع بألطف تسبيح.. وأفضل جميع الأنواع وأشرف عندليبها وأنورها وأبهرها وأعظمها وأكرمها وأعلاها صوتا وأجلاها نعتا وأتمها ذكرا وأعمها شكرا، عندليب نوع البشر في بستان الكائنات، حتى صار بلطيفات سجعاته بلبل جميع الموجودات في الأرض والسموات، عليه وعلى آله وأمثاله أفضل الصلوات وأجمل التسليمات. آمين"66
رمزية المرآة:
اللجوء إلى صورة المرآة واتخاذها رمزا أمر معروف تداوله الفلاسفة واستعمله الشعراء منذ القديم، وقد رأينا من قبل دلالة المرآة في مجال تحديد ماهية الشعر وطبيعته منذ أفلاطون حتى النورسي. إن المرآة تعكس الحقائق والجواهر في بعض الأحيان، ولكنها لا تعكس غير الصور والأعراض في أحيان أخرى.
وقد عرض الشعراء المتصوفة لهذا الرمز، واستعملوه، إما بدلالات قريبة وإما بأخرى بعيدة. إن المرآة لا تعدو أن تكون أحيانا جسرا إلى معرفة الذات، كما قال:
نظرت إلى نفسي في المرآة
ومن المشاط سمعت مئات العظات.67
غير أنها قد تصبح مظهرا من مظاهر تجليات العالمين الأصغر والأكبر، ومنازلهما وما بين تلك المنازل من درجات.
وقد وجد الشعراء في بعض الأحاديث النبوية الشريفة ما يؤيد هذا الاستعمال، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "المؤمن مرآة أخيه"، وقد امتصه جلال الدين الرومي في إحدى مثنوياته، وقد اختار لها "المرآة" عنوانا. قال جلال الدين:
يا من تشاهد الظلم ساندا بين الناس
إن محنتك من محنتهم،يا هذا،
ففيهم يتراءى وجدك أنت،
من نفاق وظلم وعربدة.
إن ذاك الإنسان هو أنت،
وذاك الأذى إنما تمارسه بنفسك،
وحق أن تلعن في تلك الساعة نفسك.
ألا ترى عيانا هذا الشر من ذات نفسك؟
وإلا فأنت، إذن، عدو ذات نفسك.
فالمؤمنون بعضهم لبعض مرآة،
كما ورد في الخبر عن النبي 68(10/67)
غير أن المرآة لا تصبح أداة تعكس الأشياء والصور والحقائق فحسب، بل يقع - عند بعضهم- نوع من الاتحاد تنعدم معه الحدود بين العاكس والمعكوس، وما يترتب عن فعل الانعكاس نفسه من فيوض، كما قال ابن أبى الخير:
إنى أنا وحدي العاشق والمعشوق والعشق في منتهاه
وإني أنا وحدي العين المبصرة والجمال الزاهي والمرآة.69
وقد راقت صورة المرآة، بدلالاتها، بديع الزمان، فاستعملها كثيرا، ومنهجه في ذلك أن يسوق الصورة التي يريد من عالم الشهادة، لتتفتح بعد ذلك بصائر الناس وترى ما ترمز إليه تلك الصورة في عالم الغيب، ومن ذلك قوله:
"اعلم يا قلب، أن الأبله الذي لا يعرف الشمس إذا رأى في مرآة تمثال شمس، لا يحب إلا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجه بتمام محبته إلى الشمس؛ إذ ما يشاهد في المرآة ليس بقائم بها، بل هو قيومها. وبقاؤه ليس بها، بل بنفسه.. بل بقاء حيوية المرآة وتلألؤها إنما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها، إذ هو قيومها. يا هذا، قلبك وهويتك مرآة. فما في فطرتك من حب البقاء ليس لأجلها بل لأجل ما فيها"70
فالمرآة إذن عاكسة للحقائق، هنا، لا للأوهام، إلا أن التعلق لا ينبغي أن يكون بما تعكسه المرآة بل بما يدل عليه ما تعكسه، لأن العاكس والمعكوس في نهاية الرمز معرضان للفناء، ولا يبقى إلا الحق.(10/68)
ويؤكد هذا ذلك التشبيه الآخر الذي قدمه بديع الزمان، مستندا إلى صورة المرآة مرة أخرى، للدعوة إلى التعلق بالحقائق، لا بصورة الحقائق أو انعكاساتها وتجلياتها. يقول: ".... إنك ودنياك في معرض الزوال والفناء في كل آن. فمثلك في هذا الغلط كمثل من في يده مرآة متقابلة لمنزل أو بلد أو حديقة ارتسمت هي فيها، ففي أدنى حركة للمرآة وتغيرها يحصل الهرج والمرج في تلك التي اطمأننت بها. وأما بقاؤها في أنفسها فلا يفيدك، إذ ليس لك منها إلا ما تعطيك مرآتك بمقياسها وميزانها. فتأمل في مرآتك وإمكان موتها وخراب ما فيه في كل دقيقة. فلا تحمل عليها ما لا طاقة لها به.."71
رمزية الشمس:
من أكثر الرموز دوراناً على لسان النورسي، إن لم أكثرها على الإطلاق، رمز الشمس. ومعلوم أن رمز الشمس ارتبط في التراث الصوفي بالأنوثة، ولم يحظ القمر بهذه الدلالة، والمرأة والشمس كلاهما في الأثر الصوفي يؤولان إلى مصدر الوجود، إلى الخصوبة المطلقة، ولذلك لم يكن من المستغرب أن ترتبط المرأة - كالشمس ـ بالخلق، وإذا كانت رمزية المرأة غائبة، أو تكاد، في تراث النورسي، فإن رمزية العشق حاضرة بصور متعددة وفي أساليب مختلفة، وإن كانت في أكثرها متعلقة بمنشئ الخلق، سبحانه، مما يضفي نوعا من التنزيه الواضح عنده، لا نجده عند غيره إلا بعد الركون إلى التأويل والاجتهاد في أن نجعل للظاهر باطنا، فإن عجزنا عن ذلك كنا مدعوين إلى أن نردد معهم:
فكان ما كان مما لست أذكره فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
إن جلال الدين الرومي، وهو - بشكل ما - أستاذ النورسي، يتحدث عن المرأة - المثال، المرأة من حيث هي كينونة خالقة، ومنبع للخصب، كائن نوراني مقدس، يتسامى عن أوزار الطين، فيقول:
المرأة شعاع من النور الأقدس
وليست بغرض للرغبة الحسية
لذا ينبغي أن يقال إنها خالقة
لأنها ليست.. مخلوقة 72(10/69)
وفي "مدينة العشق" يطلق جلال الدين الفكر من أسر التأويل الحسي المحدود ليجوب الآفاق سعيا نحو عالم لا يحد فيقول:
قال معشوق لعاشق: أيها الفتى
أنت قد رأيت في غربتك مدنا كثيرة
فخبرني: أية مدينة من هذه أطيب؟
فأجاب: تلك المدينة التي فيها من اختطف قلبي
وإنه لأطيب من الدارين ذاك المكان
حيث أنال فيه سؤلي "يا إلهي" بحضرتك!73
لقد كان تشبيه المعشوق بالشمس أمراّ مألوفا عند الشعراء المتصوفة الذين أضفوا على الشمس تلك الهالة الأسطورية التي تريد أن تجعل منها رمزا يشير إلى الجمال المطلق، وإلى الجلال المطلق كذلك. فهذا ابن عربي، الشيخ الأكبر كما يسميه المتصوفة، يولع بذكر الشمس، ويجد في هذا الرمز ملاذا لبث أشواقه، والتعبير عن مواجده وشطحاته، وهي شمس لا كالشموس، يقول عنها الشاعر:
أليس مطلعها قلبي ومغربها قلبي، فقد زال شؤم البان .. والغرب 74
ويقول أيضا:
وقالوا الشموس بدار الفلك وهل منزل الشمس إلا الفلك
إذا قام عرش على ساقه فلم يبق إلا استواء الملك 75
لم تكن الشمس منطلقا إلى المرأة المثال عند ابن عربي، بل لقد كانت المرأة هي المنطلق إلى الشمس، ومن ثم إلى الجمال الأزلي.
لقد ألح ابن عربي على هذا المعنى، وكان تعلقه بابنة شيخ له تلقب بعين الشمس والبهاء، فاتخذ منها رمزا لأشواقه الصوفية، وابن عربي يصف بنت شيخه أبى شجاع زاهر بن رستم بن أبى الرجا الأصفهاني هذه، في مقدمة "ترجمان الأشواق" ويقول عنها إنها "شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء"76
لقد استعمل النورسي الشمس في رموزه كثيرا، كما سلف الذكر 77، إلاّ انه لا يقف به حيث وقف به سابقوه، ولا يستهويه ربطه بالمرأة، وبالأنوثة بصفة عامة، بل يتجه به مباشرة إلى كل جميل جمالا أزليا، وكل جليل جلالا مطلقا، إذ هو دائم التعلق بالباقي، محترز من التعلق بالفاني.(10/70)
ذلك بأن "الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل" 78، ولذلك فإن التوحيد شمس 79 والقرآن شمس 80 والنبوة شمس 81 والعالم الصالح شمس 82 وهو سبحانه كالشمس 83، وهو بهذا يغلق الباب في وجه التأويلات المنحرفة للشمس ودلالاتها.
ومن أهم دلائل شاعرية بديع الزمان، تلك المناجيات التي كان النورسي ينظمها أحيانا بالفارسية، على أوزان مخصوصة، ويرسلها أحيانا عذبة سلسلة، بلسان عربي مبين وهي مناجيات كثيرة ومتميزة مبثوثة في "المثنوي"، تحتاج وحدها إلى دراسة خاصة، مما لا يتسع له المقام.
____________________
*أ. د. حسن الامراني - المغرب: ولد في وجده / المغرب سنة 1949 حصل على الماجستير سنة 1981 وعلى الدكتوراه سنة 1988 وهو حالياً رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الأول في وجدة / المغرب وفي الوقت نفسه عضو في رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة "المشكاة" المغربية، له مؤلفات ودواوين شعر.
1 المثنوي : 468 وما بعدها.
2 "التنغيم" مشروع مصطلح اقترحه صاحب هذه السطور، بديلا للمصطلحات المركبة، مثل: "الشعر الحر" "الشعر التفعيلي"، "الشعر المنطلق"الخ.. انظر في ذلك مقدمة ديوان: "مملكة الرماد".
3 مصطلح الشعرية ليس تحكميا عند دراسة النورسي، فلقد استعمله هو نفسه بهذه الصيغة، في المثنوي العربي النوري، بمفهوم قريب من المفهوم المتداول اليوم، ومن ذلك قوله في ص 322 من المثنوي: "إن حقائق الآيات أوسع بمراتب من خيالات الأشعار فتنزهت عن الشعرية".
4 GOETHE: LE DiVAN/ WEST- OSTLICHER DIWAN, Aubier, collection bilingue, paris 1950, pp. 230- 231
5 "المثنوى : 156".
6 "المثنوي: 308".
7 "المثنوي: 180".
8 الحيوان: 3/131- 132 وانظر مناقشة د. إحسان عباس لهذا القول في كتابه: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ط. 5- 1986، ص 98 وما بعدها.
9 العمدة: 1/252
10 المثنوي: 156(10/71)
**:لا نشك أن بعض التراجم باردة جدا، وأنها تفقد النص بهاءه، وهذا سر تفاوت الترجمات، وهو أمر ينطبق على النثر كما ينطبق على الشعر.
11 المثنوي: 96. وهذا المعنى هو ما ذهب إليه حكيم المعرة، في رثائه أبا حمزة الحنفي حين قال:
خلق الناس للبقاء فضلت أمّة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمـ ــا إلى دار شقوة أو رشاد
12 المثنوي: 321
13 المثنوي:127
14، 15 المثنوي: 78
16 نفسه، وانظر أيضاً : ص 156
17 في سيرة ابن هشام في خبر غزوة بني قريظة: 2/134 وما بعدها ، قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا، فأذّن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلا ببني قريظة. وانظر قول ابن اسحق في ذلك في نفس الموضع، وتعليق السهيلي في "الروض الأنف" يوضح ذلك.
18 المثنوي: 78
19 المثنوي: 78-79
20 كولن ولسن : الشعر والصوفية - ص 35
21 المثنوي: 322
22 ادونيس: مقدمة للشعر العربي، ص 139
23 نفسه: 129
24 المثنوي: 312
25 المثنوي: 72
26 التعبير للشاعر الفرنسي رونيه شار R.CHAR، اقتبسه منه أدونيس وجعله فاتحة كتابه: "زمن الشعر"
27 المثنوي:303
28 المثنوي: 302
29 جمهورية أفلاطون: 264- نقلا عن : نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم للدكتور عصام قصبجي، ص 6
30 المثنوي: 302
31، 32 أدونيس: النص القرآني وآفاق الكتابة ،ص 15
33 نفسه: 16
34 المثنوي: 181
35 المثنوي: 263
36 لمزيد من التوسع في هذا الأمر يراجع على الخصوص كتاب حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الادباء، في المنهج الثالث من الكتاب.
37 المنهاج: 63
38، 39 المثنوي: 127
40 المثنوي: 322
41 المثنوي: 323
42 راجع فيما يتعلق بهذا الأمر، المثنوي: 318 الرسالة التاسعة "شمة من نسيم هداية القرآن"
43 "زمن الشعر : 15"
44 الشعر والصوفية: 8-9
45 "نفسه : 34"
46 المثنوي: مقدمة المحقق ص 7-8
47 الشعر والصوفية 8-9(10/72)
48 المثنوي: 241
49 نفسه: 240
50 المثنوي: 168
51 المثنوي: 168
52 النص القرآني وآفاق الكتابة: 30
53 المثنوي: 165
54 عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفية . ص1 / 1978- ص 86
55 المثنوي 128
56، 57 نفسه : 104
58 نفسه : 24، ويردد النورسي عبارات دالة على نفس المراد، كقوله في ص : 158"هكذا شاهدت"
59 نفسه: 159
60 قصيدة: الطائر القدسي. من كتاب: "مختارات من الشعر الفارسي" بترجمة الدكتور محمد غنيمي هلال،ص. 204
61 قصيدة: عار العقل. المرجع السابق، ص 207
62 قصيدة "الحكمة والعقل لمحمد إقبال، "مختارات.." ص .448
63 هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن النورسي قدم بعض مناجياته التي هي نموذج لشعر رائع في منظومات باللغة الفارسية، كما أن النور الأخير من أنوار نجوم القرآن التي قدمها النورسي بالعربية، واعتبرها جذبة فكرية مع في كلمة "جذبة" من إيحاء صوفي، هي في بعض مقاطعها تمثل نموذجا من الشعر الحر بامتياز، مع اعتماد النورسي تفعيلة الرجز فيها.
64 مختارات: 446
65 نفسه: 454
66 المثنوي: 478
67 نفسه: 479
68 مختارات: 165
70 الرمز الشعري: 167
71 المثنوي: 263
72 نفسه : 266
73 مختارات: 200. ويبدو أن المترجم أراد أن يسعف القارئ فأضاف: "يا إلهى" ، بالرغم من أن سياق البيت دال على ذلك.
74 ترجمان الأشواق: 170
75 نفسه: 183
76 نفسه : 8
77 انظر في ذلك من المثنوي الصفحات 166- 176 - 178 - 191 - 194 - 209 - 217 - 288 الخ..
78 المثنوي: 88
79 نفسه: 167- يقول: "تريد أن تقابل الشمس جهاتك الستة فإما أن تتحول أنت بلا كلفة فيحصل المقصود، وإما أن تكلف الشمس قطع مسافة مدهشة لمقصد جزئي فالأول مثال التوحيد سهولة. والثاني مثال الشرك".
80 نفسه: 176 يقول: "النبوة نواة أنبتت شجرة الإسلامية بأزاهيرها وثمراتها، والقرآن شمس أثمرت سيارات الأركان الإسلامية الأحد عشر".(10/73)
81 نفسه: 59 يقول: "فإن قلت: من هذا الشخص الذي نراه صار شمسا للكون، كاشفا عن كمال الكائنات وما يقول؟ قيل لك: انظر واستمع ما يقول!... فانظر إليه من جهة وظيفته؛ تراه برهان الحق وسراج الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.
82 نفسه: 64 "نرى كل عصر نمر عليه قد انفتحت أزاهيره بشمس عصر السعادة وأثمر كل عصر من أمثال أبى حنيفة والشافعي وأبى يزيد البسطامى .. الخ".
83 نفسه : 209 قال: "وهو سبحانه كالشمس قريب منا.. ونحن بعيدون عنه جل جلاله" وقد شرح النورسي هذا الكلام في 227- 228 من الكتاب، فليراجع.
بلاغة التكرار في القرآن الكريم(1)
من خلال رسائل النور
مقدمات:
المقدمة الأولى: التكرار لغة واصطلاحاً
الكاف والراء أصل صحيح يدل على جمع وترديد من ذلك كررت، وذلك رجوعك إليه بعد المرة الأولى، فهو الترديد الذي ذكرناه.2
والكر: مصدر كرّ عليه يكر كرّا. الحبل الذي يصعد به النخلة. والكرّ أيضاً وجمعه كرور: حبال الشراع 3
والكر: الرجوع.كرّر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. والكرة: المرة، والجمع الكرّات ويقال: كررت عليه الحديث وكركرته: إذا رددته عليه.
الجوهري: كررت الشيء تكريراً وتكراراً، قال أبو سعيد الضرير: قلب لأبي عمرو: ما بين تِفعال وتَفعال؟ فقال: تِفعال اسم، وتَفعال بالفتح، مصدر.4
وفي مفردات الراغب: الكرّ العطف على الشيء بالذات أو بالفعل، ويقال للحبل المفتول كر، وهو في الأصل مصدر وصار اسما وجمعه وكرور. قال: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم)(فلو أن لناكرة فنكون من المؤمنين)(وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة)(لو أن لي كرة) 5
__________
(1) المؤتمر العالمي الرابع لبديع الزمان سعيد النورسي“نحو فهم عصري للقرآن الكريم: رسائل النور أنموذجاً” 20 - 22 ايلول 1998(10/74)
وقد وردت هذه المادة في مواطن أخري من القرآن الكريم، كقوله تعالى: (قالوا تلك إذن كرة خاسرة)“النازعات: 12” (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) “الملك:4”
وبالنظر إلى ما ذكرته المعاجم يتبين أن المادة تؤول إلى الجمع والترديد، والرجيع والعطف على شئ، فكذلك الكلام المكرور كأنه يردد ويجمّع به إلى تقوية المراد كما يتوصل بالحبل إلى أعلى النخلة.
المقدمة الثانية: التكرار ظاهرة جمالية وبلاغية:
على الرغم من أهمية أسلوب التكرار وشيوعه في الكلام منذ الجاهلية، حيث استعمله الشعراء العرب وأكثروا منه، إلا أن علماء البلاغة والاصطلاح لم يفصلوا في معناه، وكأنهم سكتوا عنه، وأوجزوا لوضوح دلالته، وإن كانوا ذكروا أهميته، وفصلوا بعض التفصيل في أنواعه، كالذي فعله ابن رشيق في “العمدة”، فقد ذكر أن “للتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع في الألفاظ دون المعاني، وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، فإذا تكرر اللفظ والمعنى جميعاً فذلك الخذلان بعينه”6.
وقد ضرب ابن رشيق أمثلة من القرآن الكريم ومن شعر العرب. فمن الشعر ذكر أمثلة لتكرار المعاني، من شعر امرئ القيس 7، وأمثلة لتكرار الأبيات، ومن شعر أبي كبير الهذلي 8 وأمثلة للتكرار المعيب من شعر أبي تمام 9، ما ذكر بعض ما يدخل في التكرار، مثل المذهب الكلامي 10، وهو لون أشار إليه ابن المعتز في كتابه “البديع”، ورده إلى أبي عثمان الجاحظ، وذكر أنه معزو إلى التكلف فلذلك لا نجد منه شيئا في كتاب الله تعالى.
المقدمة الثالثة: التكرار في الشعر(10/75)
حفلت أشعار العرب منذ جاهليتهم بأسلوب التكرار، فهو إذن أسلوب عربي معروف، وقد تعددت صوره، واختلفت أسبابه. وقد وجدنا أستاذنا عبد الله الطيب من أكثر من عني - من المحدثين - بالوقوف على ظاهرة التكرار في الشعر العربي، رابطا إياه بالإيقاع من جهة، والدلالة من جهة أخرى، مبيناً أنه “لما كان الانسجام كله مداره على التنويع والتكرار، فمظاهر التكرار الأربعة لا تتعدى التكرار المحض والجناس، ومظاهر التنويع لا تتعدى الطباق والتقسيم، فهذه هي الأصناف الأربعة التي يقوم عليها رنين البيت بعد الوزن والقافية” 11
وأما دلاليا فـ “ الغرض الرئيسي من التكرار هو الخطابة، ونعني بالخطابة: أن يعمد الشاعر إلى تقوية ناحية الإنشاء... من طريق التكرار” 12
وأما أنواع التكرار - عنده - فيمكننا “أن نحصر التكرار الذي يحدثه الشعراء في ألفاظ شعرهم في الأنواع التالية:
1- التكرار المراد به تقوية النغم
2- التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية.
3- التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية 13
ومما اشتهر من ألوان التكرار في الجاهلية، تكرار العبارة التي تنبسط على شطر بكامله، ومن ذلك تكرار الحارث بن حلزة، في عدد من أبيات القصيدة، قوله:
“قربا مربط النعامة مني”
وقول المهلهل يرد عليه:
“قربا مربط المشهر مني”
وقد أكثر المهلهل من هذا القري، من ذلك تكراره قوله:
“يا بجير الخيرات لا صلح حتى”.
وقوله في رائيته المشهورة: “على أن ليس عدلاً من كليب”.(10/76)
وجعل الدكتور عبد الله الطيب هذا من التكرار النغمي، وألحق به - من الشعر المعاصر - ذلك التكرار الذي يعاد فيه بيت كامل أو بيتان، للفصل بين أقسام القصيدة الواحدة. “ويبدو أن اللغة العربية قد عرفت هذا النوع من الإعادة في دهرها الأول.. والذي يدلنا على أن العربية قد عرفت هذا النوع من التكرار أمران: أولهما: إننا نجد نحواً منه في القرآن، في بعض السور المكية، مثل: “فبأي آلاء ربكما تكذبان” في سورة الرحمن، ومثل “ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر”في سورة القمر. ولا أحسب أن القرآن قد فاجأ العرب بضرب جديد من التأليف، إذ التزم هذا التكرار في هذه السور، ونحواً منه في غيرها... والأمر الثاني.. هو ما نجده من رواسب هذا الأسلوب وآثاره في بعض الأشعار التي بين أيدينا من تراث الجاهليين، وحتى في بعض الأشعار الإسلامية." 14
وقد تجددت ظاهرة التكرار في الشعر المعاصر، مما لفت نظر الأستاذة نازك الملائكة، فبحثت هذه الظاهرة في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” ذاهبة إلى “ أن التكرار بالصفة الواسعة التي يملكها اليوم في شعرنا، موضوع لم تتناوله كتب البلاغة القديمة التي ما زلنا نستند إليها في تقييم أساليب اللغة15". وهو أمر صحيح إجمالاً، إذ لا يحتل التكرار، باعتباره أسلوباً بلاغياً، إلا حيزاً ضئيلاً في كتب البلاغة، قياساً إلى غيره من صور البيان والبديع. وقد عددت نازك من ألوان التكرار:
1- تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت.
2- تكرار العبارة.
3- تكرار بيت كامل.
4- تكرار المقطع كاملاً.
5- تكرار الحرف.
كما عنيت بدلالة التكرار في صوره المتعددة 16
المقدمة الرابعة: التكرار عند علماء الإعجاز(10/77)
لما كان التكرار أسلوباً بلاغياً، ورد في القرآن الكريم، في صور عديدة، كان علماء الإعجاز - البياني منه خاصة - مؤهلين أكثر من سواهم لمعالجة هذا الموضوع وتفصيل الحديث فيه، بيد أن الناظر في كتب الإعجاز لا يظفر بما يروي غلته، فمنهم من مرّ على الظاهرة مروراً عابراً، ومنهم من لم يلتفت إليها، وأما الذين وهبوها قدراً من العناية فقليل ما هم.
ولو أننا رجعنا، مثلاً، إلى ما قاله الباقلاني في كتابه “إعجاز القرآن” عن التكرار، لوجدناه يمر به مراً سريعاً، هذا على شدة عنايته بتلمس مظاهر الإعجاز البلاغي. يقول أبو بكر الباقلاني: “ومن البديع عندهم: “ التكرار”، كقول الشاعر:
هلا سألت جموع كنـ ـدة يوم ولوا أين أينا؟
وكقول الآخر:
وكانت فزارة تصلى بنا فأولى فزارة أولى فزارا
ونظيره من القرآن كثير، كقوله تعالى: “فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا”
وكالتكرار في قوله: “قل يا أيها الكافرون”، وهذا فيه معنى زائد على التكرار، لأنه يفيد الإخبار بالغيب” 17
وفي هذا - كما لا يخفى - إشارات ذكية، إلا انه أوجز إيجازاً يترك بالقارئ ظمأ إلى مزيد.
على أن بعضهم ينكر أن يكون في القرآن الكريم تكرار، ويسمي ما جاء منه على تلك الصورة تصريفا، لا تكرارا. وهذا كما أنكرت فئة أن يكون في القرآن الكريم سجع وسموه ما جاء ضريبا له فواصل.ولا أرى هذا إلا تصرفا في المصطلح،دون الدلالة، وهم يقولون: لامشاحة في الاصطلاح. على أننا نستعمل مصطلح التكرار عند النورسي، لأن النورسي رحمه الله تعالىسماه كذلك، وإن كانت له فيه نظرات متميزة، وهذا ما يسعى هذا البحث إلى تبيانه.
بديع الزمان وبلاغة التكرار في القرآن الكريم
بلاغة التكرار معجزة:
بالنظر إلى ما كتب بديع الزمان سعيد النورسي حول التكرار في القرآن الكريم، وقياساً إلى ما رأينا عند علماء الإعجاز، نستطيع أن نطمئن إلى أن تميز بديع الزمان كان من وجوه:(10/78)
منها انه انتبه إلى أن التكرار في القرآن الكريم معجز.
ومنها أنه عني بالتكرار بنوع من التفصيل لم يسبق إليه .
ومنها انه رصد بلاغة التكرار، فحدد أنواعها، والتمس أسبابها، وذكر صورها، واستنبط الحكمة منها.
ومنها أنه قرر أن “لا تكرار إلا في الصورة” في القرآن الكريم، وهذه كلها وجوه متميزة، لم يسبق إليها، فيما أعلم ، وإن كانت في الوجه الأخير ـ يلتقي بقدر مع من قالوا بالتصريف.
لقد أشار بديع الزمان إلى أربعين وجها من وجوه الإعجاز التي لا تحد للقرآن الكريم الذي هو منبع المعجزات والمعجزة الكبرى للرسول صلى الله عليه وسلم ، فكان التكرار أحد تلك الوجوه.
يقول بديع الزمان: “ ثم إن القرآن الكريم يظهر نوعاً من إعجازه البديع أيضاً في “تكراره البليغ” لجملة واحدة، أو لقصة واحدة، وذلك عند إرشاده طبقات متباينة من المتخاطبين إلى معان عدة”. 18ويؤكد النورسي أن التكرار “ هو إعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة” 19
فما مظاهر ذلك الإعجاز وتجلياته؟
نوعا التكرار:
التكرار في القرآن الكريم نوعان:
1- تكرار الجملة
2-تكرار القصة
فالنوع الأول: يدخل فيما سماه ابن رشيق التكرار اللفظي، معتبراً أن “أكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني” 20، “ومن المعجز من هذا النوع قول الله تعالى في سورة الرحمن: “فبأي آلاء ربكما تكذبان” كلما عدد منّة أو ذكّر بنعمة كرر هذا”21. وهذا التكرار اللفظي، أو تكرار الجملة، كما يقول بديع الزمان، شديد الصلة بالمعنى، بحيث “يبرز إعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة”22.
فتكرار الجملة يكسب الخطاب تجدداً بتجدد الطبقات وتجدد العصور، إذ هو لا يتوجه إلى أولئك الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، “بل يخاطب مع ذلك طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من أفراد دستور كلي - خطابا نديا طريا جديداً كأنه الآن ينزل عليهم “ 23(10/79)
وهكذا شأن التعقيبات التي على رؤوس كثير من الآي “ولا سيما كثرة تكراره “الظالمين… الظالمين…” وزجره العنيف لهم وإنذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الأنظار - بهذا التكرار - إلى مظالم لا نظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعاً من العذاب والمصائب النازلة على قوم عاد وثمود وفرعون، وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة إلى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام أمثال إبراهيم وموسى عليهما السلام” 24
وهكذا يؤدي التكرار، في هذا السياق، وظيفة مزدوجة، فتكرار “الظالمين.... الظالمين” تقريع للكفار من جهة، وهو المنطوق، وتطمين للمؤمنين من جهة أخرى وهو المفهوم.
وهذا التكرار المعجز هو الذي يعجز عن إدراكه غير المسلم وغير العربي بوجه أخص. لقد عقد توماس كارلايل في كتابه:(الأبطال)، فصلاً شائقاً سماه “البطل في صورة رسول” عرض فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونسب إليه من الفضائل ما شاء، ورد كثيراً من ترهات الغرب وأبطلها، ولكنه حين جاء إلى القرآن الكريم نفسه، لم يجد بداً من أن يفرق بين أثر القرآن الكريم في العرب الفصحاء، وأثره في الغربيين، ولمح إلى ظاهرة “التكرار” في القرآن الكريم فقال: “ أما القرآن فإن فرط إعجاب المسلمين به وقولهم بإعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة، هذا وإن الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة، ولذلك لا عجب إذا قلت إن الأوربي يجد في قراءة القرآن أكبر عناء، فهو يقرأه كما يقرأ الجرائد، لا يزال يقطع في صفحاتها قفاراً من القول الممل المتعب، ويحمل على ذهنه هضاباً وجبالا من الكلم، لكي يعثر من خلال ذلك على كلمة مفيدة، أما العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة، ولأن الترجمة ذهبت بحسنه ورونقه، فلذلك رآه العرب من المعجزات، وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى لإنجليهم” 25(10/80)
إن كارلايل إذن يعترف أن الغربيين يرون ظاهرة التكرار في القرآن سبباً في العناء وفي جعل القول مملاً متعباً. ولكنه يكشف أن سبب ذلك هو أن الترجمة تذهب بالحسن والرونق، ومن هنا فترجمة القرآن على الحقيقة ليست قرآناً، ولن يدرك بلاغة القرآن وإعجازه البياني، ومنه التكرار، إلا من أوتي من فهم العربية حظاً عظيماً.
وهنا أمران، مما ذكرهما كارلايل، تنبه إليهما بديع الزمان وشرحهما وأفاض فيهما القول.
فأما الأمر الأول فيتعلق بالملل الذي قد ينبع من التكرار.
إن كل كلام إذا ما تكرر كثيراً مدعاة للملل والسآمة والضجر، إلا ما كان من كلام الله تعالى، فإنه “لا يخلق على كثرة الرد” كما جاء في الحديث الشريف، بل لا يزيده التكرار إلا بهاء وتجديداً وجلالا، فيكون ذلك من صور الإعجاز فيه، يقول بديع الزمان:” إن القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء - لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته، وهذا أمر مسلم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال" 26
وفي هذا النص لفتة من لفتات الأسلوب البديعي - نسبة إلى بديع الزمان - وهو الجمع بين العمق والبساطة، فهو لكي يؤكد الفكرة ويجليها يضرب لك الأمثال القريبة، فلذلك يكون هذا الجمع بين المعنوي والحسي في السياق، ذلك بأنه كان في معرض شرح لذة عقلية مصدرها تكرار القرآن، فإذا به يشير إلى السآمة النابعة من “أطيب الأشياء إذا تكررت، فكأن “أطيب الأشياء تنصرف إلى الحسي من الأشياء أيضاً، وإذا بنا نتذكر كيف أن من “أطيب الأشياء المن والسلوى الذي جعله الله تعالى طعاماً لبني إسرائيل، فإذا بهم لكفرهم يشعرون بالسآمة والملل ويخاطبون موسى عليه السلام “لن نصبر على طعام واحد”. 27(10/81)
وأما الأمر الثاني فهو استحالة ترجمة القرآن الكريم، وهو أمر قرره بديع الزمان في أكثر من رسالة من رسائله، وفي عدة مواضع، وقد كشف النورسي خبث بعض من أراد ترجمة القرآن الكريم ليرى الناس تكراراته غير الضرورية 28 ورد عليه رداً حاسماً فقال:
“لا يمكن قطعاً ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وإن أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وإن الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - بأي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقاً تلاوة الترجمة بدلاً منه” 29ومن المعلوم أن الكلام يتكون من الألفاظ والمعاني، وإن أي ترجمة إنما هي محاولة لنقل المعنى، أما اللفظ وإيحاؤه وإشراقه فذلك أمر لا يترجم، وقد نبه الجاحظ إلى أن الشعر لا يترجم إذ “لو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم” 30 وكذلك الشأن في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون “فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله - عز وجل - بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه” 31
تكرار التلاوة:(10/82)
على أن النورسي يضيف أمراً بالغ الأهمية، وما رأيت أحداً سبقه إليه، وهو أن الترجمة حين تتعلق بالقرآن الكريم لا تبقى محصورة في الألفاظ والمعاني، بل في أمر آخر لطيف وهو يتعلق بالتكرار أيضاً، ولكنه تكرار من نوع جديد: إنه تكرار التلاوة، هذا التكرار الذي يعطي صاحبه دفقاً شعورياً إيمانياً لا تحققه أي ترجمة، ذلك بأن التلاوة حينئذ تتناول كلام الله عز وجل، فتنشأ عن تلك التلاوة فيوض من البركات، أنى لجزء منها أن يتحقق خارج تلاوته كما أنزل، بلسان عربي مبين؟ إن تلك التلاوة تتجاوز اللفظ، الذي هو صورة للمعنى، وتتجاوز المعنى، إلى شئ آخر لا تتحقق منه إلاّ لطائف الروح، وذلك كله يزداد تحققا بالتكرار، ويحدثنا النورسي عن تجربته الخاصة فيقول: “عندما كنت اقرأ يوم عرفة سورة الإخلاص مائة مرة مكررا إياها باستمرار لاحظت: أن قسما من حواسي الروحية اللطيفة، بعدما أخذت غذاءها بالتكرار قد ملت وتوقفت، وأن قوة التفكير فيّ قد توجهت إلى المعنى، فأخذت حظها، ثم توقفت وملت. وأن القلب الذي يتذوق المعاني الروحية ويدركها، هو أيضاً قد سكت، بعدما أخذ نصيبه من التكرار.
بينما بالمواظبة والتكرار المستمر على القراءة رأيت أن قسما من اللطائف في الكيان الإنساني لا يمل بسرعة، فلا تضره الغفلة التي تضر قوة التفكير، بل إنه يستمر ويداوم في أخذ حظه بحيث لا يدع حاجة إلى التدقيق والتفكير في المعنى، إذ يكفيه المعنى العرفي الذي هو اسم وعَلَم، ويكفيه اللفظ والمعنى الإجمالي لتلك الألفاظ الغنية المشبعة، بل ربما يورث سآمة ومللا حينما يبدأ التفكّر يتوجه إلى المعنى، ذلك لأن تلك اللطائف لا تحتاج إلى تعلم وتفهيم بقدر ما هي بحاجة إلى التذكر والتوجيه والحث.
لذا فإن اللفظ الذي هو أشبه بالجلد يكفي لتلك اللطائف في أداء وظيفة المعنى، وخاصة أن تلك الألفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، إذ تذكر بالكلام الإلهي والتكلم الرباني.(10/83)
فهذه الحالة التي جربتها بنفسي تبين لنا:
إن التعبير بأي لغة كانت غير اللغة العربية، عن حقائق الأذان وتسبيحات الصلاة وسورة الإخلاص والفاتحة التي تتكرر دائما، ضار جداً، ذلك لأن اللطائف الدائمة تبقى محرومة من نصيبها الدائم بعدما تفقد المنابع الحقيقية الدائمة التي هي الألفاظ الإلهية والنبوية، فضلا عن أن يضيع في الأقل عشر حسنات لكل حرف، ولعدم دوام الطمأنينة والحضور القلبي لكل واحد في الصلاة، تبعث التعابير البشرية المترجمة عن الغفلة ظلمتها في الروح.. وأمثالها من الأضرار الأخرى 32
لقد آثرت نقل هذا النص على طوله لأهميته القصوى.
ففيه بيان لفضل تكرار تلاوة القرآن، وما يحدثه ذلك من فيوضات رحمانية وفيه تحديد لدرجات الإدراك، من الحس إلى العقل إلى القلب، إلى ما فوق ذلك جميعاً من تلك اللطائف الخفية، فحين يتوقف الحس بعد امتلائه، ويمل العقل بعد أخذ حظه من المعنى ويسكت القلب بعد أخذ نصيبه من التكرار، تظل تلك اللطيفة الخفية حية متجددة، ولا يزيدها التكرار إلاّ تألقا وما ذلك إلاّ لأنها تتلقى كلام الله تعالى بلفظه كما تنزل على نبيه الكريم.
وعلى هذا، فإن كل ترجمة “ هي معنى مبتور بل وناقص وقاصر” 33(10/84)
والنوع الثاني من التكرار تكرار القصة 34، والقرآن الكريم يعتمد القصص أسلوباً بلاغياً في الدعوة. قال تعالى:”نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين” 35وإن أكثر القصص دوراناً في القرآن الكريم قصص الأنبياء،لأنهم جوهر الدعوة ومناطها،ولعل قصة موسى عليه السلام أكثرها ترداداً وتكراراً، لتصوير ما كان عليه بنو إسرائيل من عناد وجحود وكفران. وقد ورد ذكر موسى عليه السلام في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن الكريم، وتأتي قصته أحياناً موجزة وأحيانا مفصلة، وأكثر ما وردت مفصلة في “طه” و “القصص” و”البقرة” و “الأعراف” و “الشعراء”، والمتأمل يصل إلى ما قرره بديع الزمان من أنه “لا تكرار إلا في الصورة”، وإلاّ فإن كل سورة تقدم لنا جوانب جديدة من القصة، ومشاهد غير معهودة، وكل مرة يقع التركيز على جانب من الجوانب، فمرة على حياة موسى عليه السلام، ميلاداً ونشأة إلى أن استوى وأوتي النبوة، ومرة تقع العناية بتصوير عناد الكافرين ومآلهم، وحينا يظهر مشهد متميز، كمشهد “مؤمن آل فرعون” في سورة “غافر”، أو مشهد “السامري” وعجل بني إسرائيل في سورة “طه”، وهكذا دواليك..
ففي كل مرة تتكرر فيها القصة يتجدد معنى من المعاني، وفي كل مشهد تتولد عبرة من العبر، وفي كل كرة يقع التركيز على دلالة من الدلالات، فقصة موسى مثلاً تتكرر مراراً كما رأينا، ويكون الغرض حينا ترسيخ التوحيد وصفاء العقيدة، وحينا إثبات القدرة الإلهية، وحينا تصوير الصراع بين الحق والباطل، وإبراز مآل المؤمنين ومصير الكافرين، وحينا عناية الله بالمتقين، وحينا تأكيد وحدة الدين وتعدد الرسالات، وحينا إبراز وحدة المنهج في الدعوة إلى الله تعالى، وهكذا...
أسرار التكرار:(10/85)
قد يتساءل الإنسان عن سر التكرار في القرآن الكريم، وكيف حدث أنه لا يورث السأم والملل، كغيره من الأساليب البشرية، وبتتبعنا لرسائل النور نتبين أن وراء التكرار أسراراً وأسباباً ودوافع، ويمكن إجمالها فيما يلي:
إن النظريات الأدبية الحديثة، حين تتناول النص الأدبي، لا تتناوله بمعزل عن عناصره المكونة التي هي: الخطاب، والمخاطِب، والمخاطَب،أي المرسل والمتلقي وعملية التلقي نفسها، وعندما نحلل عناصر بلاغة التكرار، كما بينها النورسي، نجد أنها تعتني عناية فائقة بهذه العناصر، وإليها يؤول الإعجاز في بلاغة التكرار.
1- مصدر الخطاب: إن لمصدر الخطاب، أي المخاطِب، أهمية قصوى في طبيعة الخطاب نفسه، فالخطاب يمتلك قوته أولاً من مصدر الخطاب، وحين يكون المخاطِب هو الله تعالى فلا بد أن يكون للخطاب قوته الباهرة، وفعله النافذ. والتكرار حين ينبع من هذا المصدر، الذي هو الله تعالى، يكون له الوقع الكبير الذي لا يكون له إن صدر عن سواه.
إن هذا الأمر طالما عني به النورسي وفصل الحديث فيه، وهو يتحدث عن الخطاب القرآني خاصة، وبيّن “أن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط... كما ضل فيه الأدباء. فانظر إلى من قال؟ ولمن قال؟ وفيما قال؟” 36.
ولذلك فانه “لا يقاس القرآن على سائر الكلام” 37لأنه "الأثر الحقيقي النفاذ المتضمن للقدرة والإرادة".
2- طبيعة الخطاب: ويلحق بمصدر الخطاب، طبيعة الخطاب، وكما أن مصدر الخطاب هو الله تعالى، فكذلك طبيعة الخطاب أنه الهي، وهو لذلك شامل ومتنوع، وقد جاء التكرار مستجيباً لذلك الشيوع والتنوع، إذ القرآن الكريم: “كتاب دعاء ودعوة، كما أنه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار”39.(10/86)
3- تجديد الخطاب: لقد كان المكذبون بيوم الدين يواجهون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنماط من التكذيب، على شكل أسئلة متكررة، أو شبه متماثلة، فكان لا بد من رد تلك الشبه الباطلة، والإجابة عن تلك الأسئلة المتكررة في صورتها، متجددة في حقيقتها. ومن أكثر الشبه التي أثارها المعاندون قضية البعث بعد الموت، ونحن إذا تتبعنا هذا الأمر وجدنا القرآن الكريم يبدي فيه ويعيد، ويدحض مزاعم الضالين، بصور هي أقرب إلى الإفهام، كقوله تعالى:”وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم””يس: 78 - 79”.
وقوله تعالى:”وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا تراباً إنا لفي خلق جديد” “الرعد: 5”
وقوله تعالى: “وقالوا أءذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد” “السجدة:10”
وقوله تعالى: “أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد” “ق:15”.
وقوله تعالى: “وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم إنكم لفي خلق جديد” “سبأ:7”
وقوله تعالى: “وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا”” الإسراء: 49 و 78”.
يقول بديع الزمان: “إن تكرر الحاجة يستلزم التكرار. هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة” 40
4-تجديد المخاطب “المتلقي”: يتجدد الخطاب بتجدد الأسئلة، كما أنه يتجدد بتجدد المخاطب أيضاً. إن القرآن الكريم كتاب هداية للناس جميعاً، في كل العصور، وفي كل عصر أيضاً يتجدد المعاندون الذين يلحدون في آيات الله، فكأن التكرار في القرآن الكريم متجدد أيضاً ليخاطب تلك الفئات البعيدة، المتباينة في المكان وفي الزمان أيضاً، وهكذا نجد القرآن الكريم قد “أرشد بإجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المتخاطبين” 41(10/87)
5- تجدد المعاني والعبر: إن القرآن الكريم في تكراره البليغ لجملة واحدة أو لقصة واحدة، إنما يجدد المعاني والعبر. “فكل ما كرر في القرآن الكريم إذن من آية أو قصة إنما يشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة”42.
6- تجدد التلقي: قد يبدو أن بعض ما يتعرض له القرآن الكريم من إحداث أمر جزئي،.متعلق بزمان بعينه، أو بشخص بعينه، إلاّ أن النظر العميق يبرز أن من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم “انه عند تناوله “حوادث جزئية” وقعت في حياة الصحابة الكرام أثناء نزوله وإرسائه بناء الإسلام وقواعد الشريعة، فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبيناً بها أن أدق الأمور لأصغر الحوادث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلاً عن انه يظهر بها سننا إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك إن تلك الحوادث - التي هي بمثابة النويات عند تأسيس الإسلام والشريعة - ستثمر فيما يأتي من الأزمان ثماراً يانعة من الأحكام والفوائد” 43وهكذا يتجدد التلقي بتجدد الأحوال وتجدد الأزمنة وتجدد الناس.
صور التكرار:
يأتي التكرار في القرآن الكريم في صور كأنها تمثل مراحل او درجات في الخطاب، وهذه الصور هي:
1- الإثبات: وكأن هذا الخطاب موجه إلى المنكرين المعاندين، فيأتي التكرار على شكل تقريع يراد من ورائه إثبات ما ينكرون. وتقرير ما به يكذبون، واهم ما يتوجه إليه الإثبات ألوهيته سبحانه وتعالى ووحدانيته وقدرته واحاطته، فالقرآن الكريم “يكرر تلك الجمل والآيات أيضاً عند إثباته أن جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات إلى النجوم إنما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه”44.(10/88)
2- الترسيخ: وكأن هذا الخطاب موجه إلى المؤمنين ليرسخ المعاني في نفوسهم فيزيدهم إيماناً، فالقرآن الكريم يكرر إرشاداته للناس”وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الأجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلاً من هذا العالم الفاني”45.
3- البيان: إذا كان التكرار في الكلام البشري يحسن في موضع ويقبح في موضع، كما قال ابن رشيق، فإن التكرار في القرآن الكريم، بصوره المختلفة، يمثل أسمى صور البلاغة، ولذلك فإن القرآن الكريم يكرر تلك الجمل والآيات أيضاً “عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني على الإنسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر، وتؤجج غضبها على مقترفيها “46. فتكون النتيجة بذلك “إن تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان أمثال هذه الأمور العظيمة الهائلة لا يعد نقصا في البلاغة قط، بل هو إعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال” 47
حكمة التكرار:
إذ تبين لنا أن التكرار في القرآن الكريم كله بلاغة، وان لا تكرار إلاّ في الصورة، وانه لا يبعث الملل والسأم، فلنا أن نتساءل عن الحكمة من هذه الظاهرة البلاغية، وهنا نجد أجوبة مفصلة مبثوثة في مواضع من رسائل النور، فمن وراء تكرار الجمل والآيات حكمة، ومن وراء تكرار القصص حكمة، ومن وراء سوق القرآن ألوف الدلائل لإثبات أمور الآخرة وتلقين التوحيد وإثابة البشر حكمة، وهكذا.(10/89)
فالقرآن الكريم يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة أو ضمناً - في صحيفة واحدة من المصحف، وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة إلى الإفهام، وبلاغة البيان، والحكمة من وراء ذلك انه يهيج بالتكرار الشوق إلى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسمواً من دون ان يحدث سأما أو مللاً48.
ثم “إن اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لا تكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الأربعة وهي: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدل مع العبودية بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة منها”49. والحكمة من وراء ذلك “إن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في أعمال المؤمن إحاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والنفس” 50
والقرآن الكريم يكرر:”والذين كفروا لهم نار جهنم” “فاطر: 36” “ان الظالمين لهم عذاب أليم””ابراهيم: 22” وأمثالها من آيات الإنذار والتهديد.
والحكمة من وراء هذا التكرار “إن كفر الإنسان إنما هو تجاوز - أي تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، مما يثير غضب السماوات والأرض، ويملأ صدور العناصر حنقا وغيظا على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع أولئك الظالمين بالطوفان وغيره” 51
اما تكرار القصص، ولا سيما قصص الأنبياء عليهم السلام، فقد بين بديع الزمان ان “الحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام - مثلا - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء إنما هي لإثبات الرسالة الاحمدية، وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة الاحمدية وصدقها، حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكرها إذن دليل على الرسالة”52.
هذه أولى.(10/90)
ثم إن كثيراً من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله - بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار أركان الإيمان الضرورية. أي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه إسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بان حادثة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم اعظم حادثة للبشرية واجل مسألة من مسائل الكون” 53
هكذا إذن ننتهي إلى أن أهم خصائص التكرار في القران الكريم، كما استنبطها بديع الزمان سعيد النورسي هي:
1- تكرار لا يمل، بل هو على العكس من ذلك، كلما كررته زادك جدة وجمالاً.
2- لا تكرار على الحقيقة إلاّ في الصورة، وإلاّ فهو تجدد مستمر.
3- إن التكرار في القران الكريم كله معجز، وهو مظهر من مظاهر البيان المعجز.
ولعل خير ما يختم به هذا البحث ما ختم به بديع الزمان نفسه حيث قال: “وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية، وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، إلاّ من مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:
قد ينكر المرء ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم54
____________________
1 ولد في وجدة / المغرب سنة 1949 حصل على الماجستير سنة 1981 وعلى الدكتواره سنة 1988 وهو حالياً رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الأول في وجدة /المغرب وفي الوقت نفسه عضو في رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة “المشكاة” المغربية، له مؤلفات ودواوين شعر.
2 - معجم مقاييس اللغة: كر
3 - إصلاح المنطق: كر
4 - لسان العرب: كر
5 - معجم مفردات ألفاظ القرآن: كر
6 - العمدة: 683
7 - نفسه: 690
8 - نفسه: 686
9 - نفسه: 693
10 - نفسه: 691 وما بعدها.
11 - المرشد إلى فهم أشعار العرب: 494(10/91)
12 - نفسه: 495
13 - نفسه
14 - نفسه: 496
15 - قضايا الشعر المعاصر: 241
16 - للتوسع، يرجع إلى المرجع السابق، الفصل الثاني والثالث من القسم الثاني من الكتاب.
17 - إعجاز القرآن: 106
18 - الكلمات: 528
19 - نفسه: 529
20 - العمدة: 683
21 - نفسه: 685
22 - الكلمات: 526
23 - نفسه
24 - نفسه: 526-527
25 - كتاب الأبطال:91-92
26 - الشعاعات: 177
27 - “وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها” “البقرة: 61”
28 - قال النورسي في “الكلمات”: “طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة أن زنديقا عنيدا قد فضح سوء طويته وخبث قصده بإقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته، وصرح قائلا: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية ولتتلى ترجمته بدلاً منه.. إلى أخره من الأفكار السامة. إلا أن رسائل النور بفضل الله قد شلت تلك الفكرة وعقمت تلك الخطة بحججها الدامغة وبانتشارها الواسع في كل مكان” 538
29 - الكلمات: 538
30 - الحيوان: 1/75
31 - نفسه:1/77
32 - المكتوبات: 437- 438
33 - نفسه: 439. وقال أيضا: “إنه لا يمكن ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، و لا يمكن قطعا ترجمة أسلوبه الرفيع في إعجازه اللغوي. وإن من الصعوبة جدا إفهام الذوق وبيان الحقيقة النابعين من ذلك الأسلوب الرفيع في إعجازه المعنوي” نفسه: 503
34 - الكلمات:528
35 - سورة يوسف:3
36 - المثنوي العربي النوري: 78
37 - نفسه.
38 - نفسه.
39 - الكلمات: 528
40 - الكلمات: 528
41 - نفسه.
42 - نفسه.
43 - نفسه.
44 - نفسه: 529
45 - نفسه.
46 - نفسه.
47 - نفسه.
48 -نفسه:530
49 - نفسه:533
50 - نفسه.
51 - نفسه: 534
52 - نفسه:535
53 - نفسه: 535-536
54 - نفسه: 537
من مظاهر التجديد الادبي في "رسائل النور"
الأدب القرآني
تمهيد:(10/92)
من جادل في كون بديع الزمان النورسي مجدد القرن الرابع عشر، لا يستطيع أن يدفع بأنه من مجدديه. والتجديد كما هو في حقيقته، وكما فهمه بديع الزمان، لا يقتصر على جانب دون جانب من أمور الحياة، بل التجديد الذي يشمله كل قرن يمس الحياة في شموليتها، إذ المجدد ينبغي أن يقوم "بتجديد الدين والإيمان، وتجديد الحياة الاجتماعية والشريعة، وتجديد الحقوق العامة، والسياسة الإسلامية"(1).
ولكن اجتماع هذه الوظائف في شخص واحد يكاد يكون مستحيلا، إلا أن يكون شخصا معنويا، كما يرى بديع الزمان، وعلى هذا فإن لفظ "من" في الحديث الشريف لا ينصرف إلى فرد بعينه، ولا حتى إلى جماعة بعينها، بقدر ما يتصرف إلى ذلك الشخص المعنوي الذي يكون ضمير الأمة كلها.
ولما كان الأمر كذلك، اقتنع بديع الزمان بضرورة صرف نظره التجديدي إلى جانب واحد من جوانب الحياة، وقد اختار أن يكون "التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية، فهي أجل وأعظم تلك الوظائف الثلاث لذا تبقى دوائر "الشريعة" و"الحياة الاجتماعية والسياسية" في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بالنسبة لدائرة الإيمان"(2).
لقد اختار بديع الزمان أن يجعل من همه "إنقاذ الإيمان"، وقد وجد أن السبيل إلى ذلك صفاء المشرب، ولم يجد مشرباً صافياً صفاء لا كدر فيه غير القرآن الكريم، فرضي لنفسه وشرف بأن يكون خادما للقرآن الكريم فأفاض عليه القرآن فيوضات مست كل جوانب الحياة.
__________
(1) - الملاحق، ملحق قسطمرني 196.
(2) - نفسه.(10/93)
لقد عني النورسي، أول ما عني، بإعجاز القرآن وأسرار بلاغته، فهداه كل ذلك إلى مفهوم جديد للبلاغة والأدب. ومطالع "رسائل النور" يدرك أن بديع الزمان كان أديبا وناقدا من الطراز الأول، ولفهم طبيعة أي تجديد لابد من النظر إليه في سياقه التاريخي، وما أملاه النورسي من رسائل يعود معظمه إلى النصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة كانت تعج بدعوات التجديد، ومنه التجديد الأدبي، في العالم الإسلامي كله. والآداب العربية والتركية والفارسية والآداب شاهدة على ذلك، ولكن ما تميز به بديع الزمان في دعوته التجديدية عن كثير من الدعوات، أن تلك الدعوات كانت تنطلق في تجديدها من خارج الذات، أما بديع الزمان فقد دعا وانطلق من الذات. كان التجديد في مفهوم كثير من الاتجاهات الأدبية يعني استجلاب حداثة الغرب، أما بديع الزمان فقد دعا إلى تجديد النظر في مقومات الأدب، ومن هنا عني بالجوهر، وعني سواه بالأعراض. فإذا نظرنا إلى الدعوات التجديدية في العالم العربي، مثلا، وجدنا التسابق نحو المدرستين الفرنسية والانكليزية/ الامريكية، فتولد من ذلك أدب جديد، منبت عن واقعنا الحضاري وتاريخنا الأدبي، ولنا في تجربة مدرسة أبولو، وشعراء المهجر، أكبر دليل على ذلك.
إن الحديث عن مظاهر التجديد الأدبي عند النورسي لا تسعه مجلدات، فضلا عن أن يوجز في عرض متواضع محدود كهذا، ولذلك فلن يكون عملي هنا غير أن أكون دالا على الطريق المؤدي إلى ذلك الأدب.(10/94)
ذلك بأنه على الرغم من حرص بديع الزمان على تقريب معانيه إلى الإفهام، مما جعله يؤثر أسلوباً تميز به، هو أسلوب الحكاية التمثيلية وضرب الأمثال، وأنه جعل الإبانة من أهم أغراض الرسائل، إذ "رسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، وفي أحلك الحالات وأشدها رهبة، وفي أحوج الأوقات وأحرجها، فتؤدي خدماتها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعا"(1) ،إلا أن الحديث عن البلاغة والأدب ليس ميسوراً فهمه دائماً، وفي كل الحالات، لكل الناس، فلذلك جاءت بعض الفصول أو المقالات يشوبها بعض الغموض، مما جعلها بحاجة إلى شروح مفصلة. وهو أمر تنبه إليه البديع ودل عليه، وعلله بقوله : "اعلم يقينا أن هذه المقالة تبدو لك غامضة مغلقة، ولكن ما الحيلة؟ فإن شأن المقدمة الإجمال والإيجاز"(2).
لم يجعل النورسي بينه وبين حضارة الغرب حجابا مستورا، يجعله يرفض كل ما يجئ من الغرب، فهو مطلع على تلك المدنية وأسرارها، ولكن تعامله معها كان تعامل الناقد البصير، لا تعامل الصبي الظمآن المنبهر أمامها، وعلى هذا لا يكون الأخذ عن الغرب محظوراً، إلا أن ذلك الأخذ يجب أن يحاط بشروط، أهمها عرض الفكر الوارد على منطق الشريعة، ومصفاة الإيمان :"إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحد مجاريه قسما من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع، لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود.
فلا بد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة"(3).
__________
(1) - السيرة : التقديم
(2) - صيقل الإسلام : 111.
(3) - صيقل الإسلام : 530.(10/95)
وهكذا فإن التجديد الأدبي عند بديع الزمان، خلافا للاتجاهات السائدة، لم يكن استنساخا للتجربة الأدبية الغربية، بقدر ما كان نقداً للغرب. وقد كان هذا النقد، وما تلاه من تأسيس رؤية جديدة للأدب، نابعا من معاشرة القرآن الكريم، واستغناءً بأدب القرآن عما سواه.
لقد جاء القرآن الكريم معجزة بيانية، أي أدبية، فاستظلت بظله آداب الشعوب الإسلامية، فاكتسبت من أجل ذلك رونقا و بهاء، وعمقا وأصالة. ولما انحرفت عن صفاء ذلك النبع أصابها ما أصابها من ضمور وهزال . ويحدثنا بديع الزمان عن مظاهر ذلك الضمور وأسبابه فيقول أسفا :"إنه لما انجذب الأعاجم بجاذبية سلطنة العرب فسد بالاختلاط ملكة الكلام المضري، التي هي أساس بلاغة القرآن، إذ لما تعاطى الأعاجم والدخلاء صنعة البلاغة العربية حولوا الذوق البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر هو نظم المعاني، إلى صنعة، وهو اللفظ"(1) ويعلل ذلك بقوله :"لأن مزاج الأمة مثلما أنه منشأ أحاسيسها ومشاعرها، فإن لسانها القومي يعبر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الأحاسيس. وحيث إن أمزجة الأمة مختلفة، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت أيضا، ولاسيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو"(2)
وهكذا انتشرت العناية باللفظ وصار المعنى مسخراً له "فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادما للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ"(3) وقد ضرب لنا مثلا فقال :"فإن شئت فادخل في "مقامات الحريري" فإنه مع جلالة قدره في الأدب، قد استهواه حب اللفظ، وبذلك أخل بأدبه الرفيع، فأصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني-ذلك العملاق- ثلث كتابيه، دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، دواء لعلاج هذا الداء"(4).
__________
(1) - نفسه : 97.
(2) - نفسه.
(3) - نفسه 98.
(4) - نفسه 98.(10/96)
وليس معنى هذا أن بديع الزمان ينتقص من قدر اللفظ، ويعتبره من فضول القول، أو ينتصر للمعنى وحده، وكيف يكون ذلك وهو المعجب بعبد القاهر الجرجاني، حتى وصفه بالعملاق؟ إلاّ أن اللفظ لابد أن يكون منسقا مع المعنى "نعم اللفظ يزين ولكن إذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته.. وصورة المعنى تعظم وتعطي لها مهابة، ولكن إذا أذن بها المعنى.. والأسلوب ينور ويلمع، ولكن إذا ساعده استعداد المقصود.. والتشبيه يلطف ويجمل ولكن إذا تأسست على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب.. والخيال ينشط ويسيح ولكن إذا لم يؤلم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وأن يكون مثالا للحقيقة متسنبلا عليها"(1).
أسباب الانحطاط الأدبي ودواعي التجديد :
الألفة داء يحجب الجمال، والعادة ستار يحجب الأسرار، والأدب يعتمد المجاز، فيكون بذلك كشفا لما وراء العادة من أسرار، فإذا تحول المجاز إلى حقيقة فقد سحره، وانطفأ نوره.
وهكذا يتجدد الأدب بتجدد المجاز، أي بالعدول عن التعبير الحقيقي الكثيف، الذي إن صلح أسلوبا للإقناع والمناظرة لم يصح أسلوبا للإبداع الأدبي، إلى التعبير المجازي الشفاف. فإذا طال الأمد، وبدأ التعبير يفقد مجازيته شيئا فشيئا ويقترب إلى الحقيقة فقد رواءه و جماله، وانتكس الأدب .
"إذ المجازات والتشبيهات إذا ما اقتطعتهما يسار الجهل المظلم من يمين العلم المنور، أو استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا إلى "حقيقة" مستفرغة من الطلاوة والنداوة، فتصير سرابا خادعا بعدما كانت شرابا زلالا، وتصبح عجوزا شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء"(2) فإذا آل الأمر إلى هذا الوضع صار التجديد حتما مقضيا، وصار الانكباب على التقليد نوعا من العي والعجز.
__________
(1) - نفسه 98-99.
(2) - صيقل الاسلام : 40.(10/97)
لقد كان تشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في الكرم،(1) إبداعاً وتجديداً يوم نُطق به أول ما نُطق ، وما زالت الألسنة تتداوله وتبليه حتى صار التعبير به ضربا من العي، وأصبح متداولا تلوكه العامة، فلم تعد له حلاوة، ولا عليه طلاوة، فصار كما يقال معنى مغسولا.
ليست رسالة الأديب إذن هي الخلق،إذ ما من خالق غير الله سبحانه، بل رسالة الأديب هي الكشف. إن العالم ملئ بالأسرار، وإن هذه الأسرار إنما تغطيها حجب الألفة والعادة، وما على الأديب إلاّ أن يستبطن الأشياء، ويكشف عنها الحجب المستورة.
الأدب القرآني :
يرى بديع الزمان أنه لا يجمل بنا إلا أن يكون أدبنا قرآنيا. والأدب القرآني هو القرآن، في صورته المثال، ثم هو الأدب المهتدي بهدي القرآن. ومن أجل تجلية حقائق الأدب القرآني يلجأ بديع الزمان، في عدد من رسائل النور، إلى الموازنة بين الأدب القرآني وأدب الحضارة الغربية. ولم يكف تركيزه على نقد أدب الحضارة الغربية دون غيره من الآداب، إلا وجها من أوجه دحض ما آل إليه الأمر من أن ذلك الأدب صار فتنة لأدباء العالم الإسلامي. وهكذا يبين النورسي أن "الأدب الحاضر، المترشح من أدب أوربا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكا له.
والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون أن يحيد عنها.
ميدان الحماسة والشهامة..
ميدان الحسن والعشق..
ميدان تصوير الحقيقة والواقع..
فالأدب الأجنبي :
في ميدان الحماسة ؛ لا ينشد الحق، بل يلقن شعور الافتتان بالقوة، بتمجيده جور الظالمين وطغيانهم.
وفي ميدان الحسن والعشق ؛ لا يعرف العشق الحقيقي، بل يغرز ذوقا شهويا عارما في النفوس.
__________
(1) - طلاوة.(10/98)
وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع ؛لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية ؛ ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها..لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منها بسهولة.
ثم إن ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئا عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منها أيضا، ولربما يهدئها وينميها. وفي حسبانه أنه قد وجد حلاً، وكأن العلاج الوحيد، وهو رواياته، وهي :
في كتاب .. ذلك الحي الميت.
وفي سينما.. وهي أموات متحركة.
وفي مسرح.. الذي تبعث فيه الأشباح وتخرج سراعا في تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!.
هذه هي أنواع رواياته.
وأنّى للميت أن يهب الحياة!.
وبلا خجل ولا حياء وضع الأدب الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر..
وركب عينا فاسقة في وجه الإنسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.
فمن أين سيعرف هذا الأدب، الحسن المجرد.
حتى لو أراد أن يري القارئ الشمس، فإنه يذكره بممثلة شقراء حسناء
وهو في الظاهر يقول :"السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان"
ثم يبين نتائجها المضرة..
إلا أنه يصورها تصويرا مثيرا إلى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النزوات.. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء"(1). إن مفهوم الأدب مرتبط بطبيعته وبرسالته وبأدبيته على السواء.
__________
(1) - الملاحق : ملحق قسطموني 187-188 قارن موقف النورسي في السينما بما قالته الممثلة المعتزلة نسرين (المجتمع : ع 1341 ذو القعدة 1419هـ- مارس 1999م).(10/99)
ليس الشأن إذن في ميادين الأدب وموضوعاته، إذ ميادين الأدب وموضوعاته وأغراضه قد تكون متشابهة، بل قد تكون واحدة، ولكن الشأن كله في الرؤية التي يصدر عنها ذلك الأدب، وفي الأسلوب الذي يعبر به عن تلك الرؤية أيضا وإذا كان النورسي يميل إلى التعريف عن طريق النفي، لا الإيجاب، وذلك بنفي عدد من الصفات عن الأدب الغربي، فذلك يعني أن الأدب الحق، الأدب القرآني، هو الذي يمتلك تلك الصفات ويتحقق بها. ثم إن الأدب الذي ينعي النورسي أسلوبه وطريقته هو ذلك الأدب الذي أطلق عليه د. أحمد بسام ساعي اسم "السامرية الجديدة". فهو أدب يزعم الإصلاح، ولكنه باسم الواقعية، وباسم تصوير الحقائق كما هي ، يميل إلى أسلوب يزين الانحراف، ويحبب السلوك المشين، ويكون لذلك الأسلوب فعل السحر في إثارة الغرائز، وإضرام الشهوات، وتهيج النزوات.
"أما أدب القرآن الكريم، فإنه لا يحرك ساكن الهوى، لا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أحداً ، فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صناعة إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحير العقول.
فيلقن نور معرفة الصانع..
ويبين آياته في كل شيء.."(1).
وهذه الخصائص واضحة في القرآن الكريم جلية، فقصصه هو القصص الحق، والقصة القرآنية واقعية في نقل الأحداث، صادقة كل الصدق في تصوير المشاعر، وعكس أحاسيس النفس في مرآة الحق، ولكن واقعية الأدب القرآني واقعية مثالية، إن صح التعبير، تعمل على تطهير النفس، وتهذيب الأخلاق، وتقويم السلوك، وتجعل الأرواح مشرئبة إلى عالم الجمال الكامل، والكمال الجميل.
__________
(1) - نفسه : 189.(10/100)
وإذا كان الأدب والبلاغة، من حيث تأثير الأسلوب، يورثان إما الحزن وإما الفرح، فإن كلا الأدبين-القرآني والغربي- يورثان حزنا مؤثرا، أو فرحا مؤثرا، إلا إنهما لا يتشابهان. إن حالتي الحزن والفرح اللتين يتحدث عنهما بديع الزمان، هما حالتا القبض والبسط، بتعبير النقاد والفلاسفة المسلمين قديما(1).
"إن آداب المدنية وبلاغتها مغلوبة أمام الأدب القرآني وبلاغته. والنسبة بينهما أشبه ما تكون ببكاء يتيم فقد أبويه، بكاء ملؤه الحزن القاتم واليأس المرير، إلى انتشاء عاشق عفيف حزين على فراق قصير الأمد، غناء ملؤه الشوق والأمل.."(2).
"فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ عن فقدان الأحباب، وفقدان المالك، ولا يقدر على منح حزن رفيع سام.. فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال، وإلى الإلحاد، وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.
أما أدب القرآن الكريم فانه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم"(3).
وفي هذا الكلام رد على الذين يزعمون أن الأدب الإسلامي أدب مباشر لأنه مطمئن لا يستهلك أسباب التوتر، والأدب الرفيع لا يتولد عن التوتر.
إن توتر الأدب القرآني توتر بناء، لا يدمر صاحبه، وللنورسي قطعة فنية جميلة تعبر أصدق تعبير عن هذا المفهوم الذي يستل من قلب الليل نورا، ويوقد من الظلمات سراجا وهاجا. عنوان هذه القطعة : (الداعي) وفيها يقول :
قبري المهدم يضم تسعا وسبعين جثة لسعيد ذي الآثام والآلام
وقد غدا شاهد القبر تمام الثمانين
والكل يبكي معا لضياع الإسلام
فيئن قبري المليء بالأموات مع شاهده
وغدا أنطلق مسرعا إلى عقباي
وأنا على يقين أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها
__________
(1) - انظر على سبيل المثال : منهاج البلغاء : حازم القرطاجني.
(2) - الكلمات : 476-477.
(3) - الملاحق : 189.(10/101)
سيستسلم ليد الإسلام البيضاء
إذ يمينه يمن الإيمان
يمنح الطمأنينة والأمان للأنام(1).
وكما أن الحزن قسمان، فكذلك الفرح والسرور قسمان.
"الأول : يدفع النفس إلى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية في أدب مسرحي وسينمائي وروائي.
أما الثاني : فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها، ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الأصلي، على مقرهم الأبدي، على أحبتهم الأخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوقه على الجنة والسعادة الأبدية وعلى رؤية جمال الله تعالى"(2).
الإذعان، لا الالتزام :
مع هيمنة المدارس الأدبية الغربية على آداب الشعوب الإسلامية، تسلطت على الأدباء والنقاد مجموعة من الأفكار التي صارت عندهم مبادئ لا يجوز الحياد عنها، وقد ظل ذلك كذلك عقودا من الزمن، ومن تلك الأفكار فكرة (الالتزام) التي ظهرت مع الواقعية الاشتراكية، كما ظهرت عند وجودية سارتر، ولاسيما في مؤلفه الشهير : "ما الأدب؟"
بيد أن فكرة الالتزام التي أريد من ورائها تأكيد الأدب الرسالي، مواجهة لمدرسة الفن للفن، أسيء استعمالها، ولاسيما في المعسكر الاشتراكي، وعلى عهد جدا نوف بخاصة، فتحول (الالتزام) إلى (إلزام)، وانتحر الأدب بانتحار الفنانين، حقيقة مثل مايا كوفسكي، أو مجازاً مثل باسترناك.
__________
(1) - هي في (اللوامع) ضمن (الكلمات : 337) أعيد نشرها في السيرة الذاتية : 488. وقد شرح النورسي هذا الكلام بنفسه، في الهامش، فلينظر هناك.
(2) - الكلمات : 477.(10/102)
وقد كثر الجدل بين أنصار هذه الاتجاه أو ذاك، وكثر الحديث عن العلاقة بين (الالتزام) و(الحرية)، وما ذلك إلا لأن (الالتزام) كما نادى به أصحابه لا يحتكم إلى الحق بقدر ما يحتكم إلى الهوى، هوى الفرد أو هوى الجماعة لا فرق، ولا يحتكم إلى الخالق الغني المتعال، بل يحتكم إلى المخلوق الضعيف المقيد بالأهواء والنزعات، ولذلك دعا النورسي إلى أن تكون الكلمات إذعاناً لا التزاما، أي إذعانا للحق، وتعاليم الحق، وما الإسلام إلا الإذعان المطلق لإرادة الله تعالى، وذلك الإذعان المطلق هو الذي يحقق الحرية التي يتنفسها الأديب، ولا يستطيع أن يحيى بدونها. ولذلك كان للكلمات التي سطرها النورسي فعل السحر في النفوس، إذ "ما يفعله سطر واحد منها من التأثير يعادل صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر"(1).
وكان الأسلوب الأثير عند النورسي هو ما عرف به من "ضرب الأمثال"، وهو ما يعتبره نعمة من نعم الله تعالى، فقال :" أنعم علي سبحانه شعلة من "ضرب الأمثال" التي هي من أسطع معجزات القرآن وأوضحها، إنه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات "ضرب الأمثال" التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه إلا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلا التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.
فالداء مني والدواء من القرآن الكريم"(2).
الأدب الكوني :
__________
(1) - السيرة : 242.
(2) - المكتوبات : 486-487- السيرة = 243.(10/103)
الأدب القرآني ليس أدبا قومياً، ولا إقليمياً، ولا يخص جنساً دون جنس، ولا أمة دون أمة، بل هو أدب كوني، يتوجه إلى الإنسان أينما كان، وكيفما كان، فلذلك آثاره جلية على فطاحل الأدباء من غير المسلمين، أيضا. بل هو يتجاوز، في تعامله مع الكون والحياة، الإنسان إلى ما خلق الله من الطبيعة والنبات والحيوان.. إنه الأدب الذي يؤول إلى موقف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من جبل أحد، وقوله عليه السلام : "هذا جبل يحبنا ونحبه".
ولما كانت لغة الأدب لغة مجاز، تدل على الحقائق الجوهرية السامية، وجدنا ذلك القري في آثار بعض أدبائنا، ومما ينسب للمجنون :
فأجهشت للتوباد حين رأيته وكبّر للرحمن حين رآني
وقصيدة ابن خفاجة الأندلسي في الجبل أشهر من أن يفصل فيها القول.
هذا الأدب الكوني هو الذي تجلى في رسائل النور إبداعا وموقفا. ففي (رسالة تستنطق النجوم)(1) يقدم النورسي قطعة فنية بديعة، ويبدؤها بقوله :
"كنت يوما على ذروة قمة من قمم جبل "جام" نظرت إلى وجه السماء في سكون الليل، وإذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالا إلى ما تنطق به النجوم بلسان الحال"،وتسيح بنا هذه الرسالة في عالم النجوم، حيث تتحول كائنا حيا ناطقا، يدعونا بديع الزمان إلى الإصغاء إليها قائلا:
"واستمع إلى النجوم أيضا إلى حلو خطابها اللذيذ
لترى ما قرره ختم الحكمة النيرة على الوجود
إنها جميعا تهتف وتقول معا بلسان الحق :
نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال
نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته
نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جملت وجه الأرض"
وهكذا إذن تنساب هذه القطعة البديعة، متجاوزة الجمال الظاهري الذي طالما سحر الرومانسيين إلى الجمال الحق الشامل، جمال الخلق الدال على جمال الخالق.
__________
(1) - الكلمات : 246-247.(10/104)
ولكن كل ذلك في نهاية الأمر إنما يتوجه به إلى الإنسان الملبي نداء الفطرة في كل مكان فتقول النجوم :
"هكذا نبين مائة ألف برهان وبرهان، بمائة ألف لسان ولسان، ونُسمعها إلى من هو إنسان حقا.
عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع أقوالنا البينة... فنحن آيات ناطقة بالحق".
وقد خص بديع الزمان موضوع (الجمال) بمبحث مفصل بديع في (الشعاعات) لا يسمح الوقت بالوقوف عنده، فليراجع.
محمد إقبال وبديع الزمان النورسي
الائتلاف والاختلاف.
"كن مثل الشيخ فريد الدين العطار في معرفته، وجلال الدين الرومي في حكمته، أو أبي حامد الغزالي في علمه وذكائه، وكن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل، حتى تكون لك أنة في السحر".
محمد إقبال.
"أيها الناس، أتريدون تحويل عمركم القصير الفاني إلى عمر باق طويل مديد، بل مثمر بالمغانم والمنافع؟ فمادام الجواب: أن نعم، وهو مقتضى الإنسانية، فاصرفوا إذن عمركم في سبيل الباقي، لأن أيما شيء يتوجه إلى الباقي ينال تجليا من تجلياته الباقية".
بديع الزمان النورسي.(10/105)
في الندوة التي احتضنتها جامعة وجدة عن (حوار الشرق والغرب في رسائل النور)(1) أشرت إلى العلاقة بين محمد إقبال وبديع الزمان النورسي، فالتقط أستاذنا الكبير إحسان قاسم هذه الإشارة العابرة ببصره الحصيف، ورغّب إليّ إعداد بحث مفصل في الموضوع، يقدم إلى ندوة (النظرة القرآنية للإنسان من خلال رسائل النور)(2). وقد سعدت بهذه الرغبة وأشفقت منها في الوقت ذاته : سعدت بها لأنها تمنحني فرصة أخرى لمصاحبة علَمين شامخين أحببتهما منذ سنوات الطلب الأولى واعتبرت نفسي مدينا لهما في ميدان الفكر والأدب، وأشفقت منها لأن كل واحد من الرجلين بحر عميق يحتاج الغوص إلى أغواره لالتقاط ما يكتنزه من درر إلى سبّاح ماهر، وما أزعم لنفسي ذلك، فكيف إذا تعلّق الأمر بتناول الرجلين معا في أدبهما وفكرهما لاستخلاص ما يمكن أن يظهر عندهما من مظاهر الائتلاف والاختلاف ؟ إنه لأمر جلل حقا. ولكن الرغبة في مصاحبة الرجلين والاغتراف من بحريهما غلبت الإشفاق، على قلة الزاد وكثرة الأعباء، فاستعنت بالله تعالى وأقبلت على موضوعي طامعا في ملامسة بعض أطرافه، إذ الإحاطة به أمر قد تنقطع دونه الأعناق، وتضعف الهمم. وشجعني على ذلك شغفي بالرجلين من قديم وحبي لهما. فأما بديع الزمان فقد عرفته من خلال بعض الرسائل الصغيرة التي وقعت إلي في ذلك الزمان المبكر،زمن الطلب الأول، مثل (رسالة الإخلاص) و(الخطبة الشامية)، وكلفت به، واعتبرته شيخا مربيا، قبل أن يقدر الله تعالى لي أن أظفر بذلك الكنز العظيم المتمثل في (كليات رسائل النور)، وذلك من خلال المكرمة التي قدمها إلى العالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، الأستاذ الفاضل إحسان قاسم حفظه الله تعالى، مما هيأ لي ذخيرة لا تنفد من الفكر البديع والأدب
__________
(1) عقدت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية يومي الأربعاء والخميس 14-15 محرم الحرام 1421هـ الموافق لـ 19-20 أبريل 2000.
(2) إستانبول –تركيا 24- 26 شتنبر 2000.(10/106)
الرفيع، وجعلتني أختصر مطامحي في أن أكون تلميذا من تلاميذ النور، عسى أن يتقبلني الله تعالى ويحشرني في زمرة أهل النور.
وأما محمد إقبال فقد جمعني به أكثر من سبب، وقد عرفته شاعرا ومفكرا، ولو من خلال ما ترجم له من فكره وأدبه إلى العربية. ولقد عهدتني قبل أن أعرف محمد إقبال معجبا بآداب الهند وفنونها، ولعل رابندرانات طاغور كان أكثر انتشارا في عالمنا العربي من إقبال، فكان طبيعيا إلى حد ما أن تكون صلتي به أكثر في فترة من الفترات، وقد أعجبت بطاغور وبنزعته الإنسانية وتوجهاته الإيمانية العامة، على هندوسيته، ولكنني حين اكتشفت إقبالا، عرفت فيه الشاعر المسلم العظيم المنطلق من شبه القارة الهندية ليحلق في كل قطر من أقطار العالم، وشعرت بفخر عظيم أن يكون من شعراء الإسلام شاعر بحجم إقبال، ولعله وطد في نفسي الاعتزاز بالانتماء إلى دوحة الأدب الإسلامي السامقة، فأضيف إلى الشعور بالإعجاب عاطفة الحب، فلقد أحببت هذا الشاعر المفكر الذي سخر ما منحه الله تعالى من مواهب للدفاع عن الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية، وفي غيرها من أقطار الأرض، والدفاع عن الإنسانية كلها من خلال الإسلام، وقد أحسسته قريبا إلى نفسي، واعتبرته صديقا ورفيقا، وإن كان على الحقيقة أستاذا وموجها. وازداد تعلقي به خلال الفترات التي أتيح لي فيها أن أجلس إلى سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، وذلك منذ المؤتمر التأسيسي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، فقد كنت ألقاه مرة أو مرتين كل عام، إما خلال دورات مجلس أمناء الرابطة، وإما خلال بعض مؤتمراتها وندواتها، في الهند والحجاز وتركيا ومصر والأردن والمغرب، وفي زيارتي الأولى للهند حرصت على أن أقتني أشعاره المكتوبة باللغة الأوردية، وكانت ضمها مجلد واحد، رغم عدم معرفتي هذه اللغة، ولكنه الحب الذي جعلني أطمع في أن أتعلمها وأقرأ بها كنوزا من الأدب الإسلامي.. لقد كان الشيخ أبو الحسن رحمه الله(10/107)
معجبا بإقبال أيما إعجاب، يستشهد بأقواله ويكاد ينشد من شعره في كل المناسبات، وكثيرا ما سمعته يردد قول إقبال :"يا أهل الذوق والنظر العميق، أنعم وأكرم بنظركم، ولكن أي قيمة للنظر الذي لا يدرك الحقيقة؟ لا خير في نشيد شاعر، ولا في صوت مغن، إذا لم يفيضا على المجتمع الحياة والحماس، لا بارك الله في نسيم السحر، إذا لم تستفد منه الحديقة إلا الفتور والخمول والذوي والذبول". ولقد قرأت لشاعر فرنسا فكتور هيكو قوله : (أريد أن أكون شاتوبريان أو ألا أكون شيئا على الإطلاق)، وذلك لشدة شغفه بسلفه الشاعر الكبير، فوجدتني أنهج نهج الشاعر الفرنسي وأقول: (أريد إن أكون إقبالا أو ألا أكون شيئا على الإطلاق).
وما أرى الحب الذي شدني إلى بديع الزمان النورسي ومحمد إقبال إلا لصفات مشتركة جمعت بين الرجلين، ولئن كان ذلك عندي شعورا غامضا أول الأمر أحسه ولا أكاد أدرك أسبابه، لقد تبيّن لي بالتأمل والتتبع أن مظاهر الائتلاف بين الرجلين متعددة، وأن الاختلاف القائم بينهما، إذ لا بد أن تظل لكل واحد منهما شخصيته المتميزة، إنما هو اختلاف تواد لا اختلاف تضاد.
ولعل أكبر مظاهر الائتلاف بين الرجلين أننا لا نعدو الحق قيد أنملة إن نحن أطلقنا على كل واحد منهما: (الرجل القرآني)، فعلى الرغم من سعة علم الرجلين وتبحرهما في علوم الشرق والغرب، إلا أن مدار الأمر كله عندهما هو القرآن الكريم أولا وآخرا، وما سوى ذلك إنما كان تفريعا يدور حول القرآن الكريم.(10/108)
أما أجلى مظاهر الاختلاف بين الرجلين فمرده إلى ترتيب أولوية الموهبة عند كل واحد منهما، فمحمد إقبال شاعر أولا، فالشعر هو الغالب عليه، ولكنه رجل مفكر في شعره، فليس شعره بذلك الشعر الذي يعنى ببراعة التصوير ودقة التعبير، بمعزل عما يحمل ذلك الشعر من فكر صحيح وعقل راجح وقلب متقد، ولعل هذا سر انتشار شعر إقبال عالميا، فالشعرـ كما أشرت إلى ذلك في موضع آخر ـ حين يترجم يفقد عادة كثيرا من خصائصه، وقد أشار شيخ نقادنا القدامى، الجاحظ، إلى أن الشعر لا يترجم، لأنه إذا ترجم فقد ذلك المعجز الذي هو الوزن. ولكن شعر محمد إقبال لا يكتسب جماله من كونه كلاما موزونا مقفى فحسب، بل هو يكتسبه من ذلك القبس الرباني الذي يسري فيه، والعمق الإيماني الذي يتلبسه، والفكر المستنير الذي يسوقه وقد ألبسه ثوبا قشيبا من الخيال اللماح. فلذلك كله نقرأ شعر إقبال وقد ترجم من لغته، الفارسية أو الأوردية، إلى العربية مثلا، فيهزنا من الأعماق، ونستجيب له كما لا نستجيب لكثير من الشعر العربي السيّار في منابرنا الثقافية اليوم، ونحن نقرأه في لغته، لأنه كلام بارد غث فقد حرارة الإيمان وتوهج العاطفة. لقد خلف إقبال في مجال النثر والدراسة عددا من المحاضرات والدروس، من أشهرها محاضراته التي جمعت في كتاب عنوانه: (تجديد الفكر الديني في الإسلام)(1)، ولكن فكر إقبال الأصيل المتفرد إنما يتجلى في شعره أولا. ولعل بعض المآخذ التي أخذت عليه كثيرا إنما كانت في تلك الدراسات النثرية لا في شعره. فأنت لا تجد في شعره إلا ذلك التدفق الإيماني المبشر بالإسلام والداعي في عمق إلى يقظة المسلمين، وليس الشعر مجالا للمجادلات الفلسفية والمناظرات
__________
(1) لقد قام بترجمة هذا الكتاب إلى العربية الأستاذ عباس محمود، وراجع مقدمته والفصل الأول منه المرحوم عبد العزيز المراغي بك، وراجع بقية الكتاب الدكتور مهدي علام، وصدر عن مطبعة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1955.(10/109)
الكلامية والمنطق الخطابي. أما النثر فقد دفع إقبالا إلى الخوض في بعض القضايا الفلسفية والكلامية، وجاوز ذلك كله –بإخلاص دون شك- إلى تفسير بعض الآيات على غير الوجه الذي تطمئن إليه النفس كل الاطمئنان، ومثال ذلك ما ذهب إليه أثناء حديثه عن آية من كتاب الله عز وجل، حيث يقول :" على أن القرآن يرى أن البعث يكسب الإنسان حدة في البصر:"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"، (سورة ق الآية 22). ويرى بها مصيره الذي كسبه لنفسه معلقا بعنقه، أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان. ووصفهما في القرآن مصير حسي لأمر نفساني، أي لصفة وحال، فالنار في تعبير القرآن هي "نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة"(سورة الهمزة: 6-7)، هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا، أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال.(10/110)
وليس في الإسلام لغة أبدية. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفا للنار يفسره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمن (لابثين فيها أحقابا)(سورة النبأ آية22)(1) حتى لقد لاحظ الدكتور مهدي علام في قضية الخلق مذهب لايبنتز الذي يقول إن كل موجود حي، وليس بين الموجودات من تفاوت في الحياة إلا بالدرجة إلخ..كما يلاحظ مشابه أخرى بين إقبال ولايبنتز، حتى لقد صرح أن تأثير لايبنتز في إقبال يبدو قويا…(2) هذا بالرغم من أن إقبالا كان شديد التحوط في إصدار أحكام خشية الزيغ ما وسعه ذلك، فلذلك ردَّ كثيرا من آراء الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، حين كان يرى في تلك الآراء شيئا من الزيغ أو الشطط، فلقد وقف بشدة في وجه القول بوحدة الوجود مثلا، فقال في معرض حديثه عن قوله تعالى في حق المصطفى (:"ما زاغ البصر وما طغى" (سورة النجم آية 17) : (وواضح أن التصوف القائم على مذهب وحدة الوجود لا يمكن أن يزكي هذا الرأي، بل يثير مشكلات ذات صبغة فلسفية: كيف يمكن للذات المتناهية والذات غير المتناهية أن يستعبد كل منهما الآخر؟ وهل تقدر الذات المتناهية بوصفها هذا على الاحتفاظ بتناهيها إلى جانب الذات غير المتناهية؟"(3). وهنا يلتقي إقبال في وضوح مع بديع الزمان الذي يرد في اللمعة التاسعة من مجموعة (اللمعات) على القائلين بوحدة الوجود في معرض جوابه عمن سأله عن مذهب ابن عربي في وحدة الوجود. وهو يرد على هذا المذهب دونما انتقاص من ابن عربي، إذ بعدما ضرب مثلا واضحا بالطاووس، على مذهبه في ضرب المثال، وبيَّن "أن زينة جمال ذلك الطاووس المثالي الذي هو يمثل الكائنات، ليس إلا رسالة من قلم خالق ذلك الطاووس"، انتهى إلى أن الأمر كذلك فيمن أحب الدنيا العظيمة وجعل الكون برمته معشوقه، فحينما تتحول هذه المحبة المجازية إلى محبة حقيقية بسياط
__________
(1) المرجع المذكور 140-141.
(2) ينظر ذلك في مواطن عدة من الكتاب المذكور آنفا.
(3) المرجع المذكور : 136(10/111)
الزوال والفراق التي تنزل بالمحبوب، يلتجيء ذلك العاشق إلى وحدة الوجود إنقاذا لمحبوبه العظيم من الزوال والفراق." ومن هنا يتباين الموقف من وحدة الوجود عنه من وحدة الشهود:"فإن كان ذا إيمان رفيع راسخ يكون له هذا المشرب مرتبة ذات قيمة نورانية مقبولة كما هي عند ابن عربي وأمثاله، وإلا فلربما يسقط في ورطات وينغمس في الماديات ويغرق في الأسباب.
أما وحدة الشهود فلا ضرر فيها، وهي مشرب عال لأهل الصحو."
وإذا كان محمد إقبال شاعرا أولا، كما قررنا آنفا، فإن بديع الزمان النورسي مفكر أولا، ولئن كان يقرر في أكثر من موضع من الرسائل أنه حُرم نعمة النظم، إلا أنه رزق روحا شعرية وأسلوبا شعريا بديعا يجعل كلامه من حاقّ الشعر، وذلك الأسلوب الشعري، بما اشتمل عليه من نداوة وطلاوة، وما تضمنه من تخييل وتمثيل وضرب للأمثال صار ميسما لرسائل النور، وهو مما يهبها التفرد في التعبير مثلما وهبت التفرد في التفكير، ويقوم (المثنوي العربي النوري) مثلا ناطقا على هذا. فإقبال إذن شاعر مفكر، وبديع الزمان مفكر شاعر، ثم تأتي بعد ذلك مظاهر الائتلاف بين الرجلين تترى.
رجل القدر:(10/112)
عاش كل من محمد إقبال والنورسي في فترة عصيبة من حياة الأمة الإسلامية، هي فترة العقدين الآخرين من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، فقد ولد الرجلان في فترة واحدة تقريبا (ولد محمد إقبال عام 1877م- وولد بديع الزمان النورسي عام 1876)(1) وشهد الرجلان وهما في فترات التكوين الأولى ما تتعرض له أمتهما من هوان على يد الاستعمار الغربي من جهة، وبعض الحكام الفاسدين من جهة أخرى. فكان الاستعمار الغربي يأتيها ينقصها من أطرافها، ويسعى إلى الإجهاز عليها حضاريا، وكانت الخلافة العثمانية، على ضعفها، تمثل رمزا تتوحد تحت ظلاله أمة الإسلام، فتجد لها الدول الغربية هيبة لذلك، فلم يبق إلا أن تتآمر من أجل الإجهاز على هذا الكيان الذي بقي يمثل الخيط الرابط بين أجزاء هذه الأمة المترامية الأطراف، وكانت تركيا، مقر عاصمة الخلافة، أقرب الأجزاء إلى الغرب وأكثرها تعرضا للاحتكاك به كل حين، فلا غرو أن تكون أكثر الأقطار الإسلامية بلاء، وكانت الهند –على النقيض من ذلك- أبعد تلك الأطراف، إن لم تكن أبعدها على الإطلاق، ولكنها كانت في الوقت ذاته جوهرة التاج البريطاني، ولم يكن من اليسير أبدا التفريط فيها، لأن في ذلك انفراطا لعقد الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. وعندما دخلت بريطانيا الهند كان للمسلمين فيها شأن عظيم، وكانت الإمارات الشمالية خاصة تحت إمرة المسلمين، ولكن الضعف الناتج عن الانصراف إلى ملذات الحياة الدنيا كان أخذ من ذلك الكيان مأخذه. في هذا الظرف بالذات كان كل من بديع الزمان النورسي ومحمد إقبال رجل القدر في حياة أمة، بتعبير الأستاذ أورخان علي. لقد كانت حياة الأستاذ بديع الزمان حافلة بالأحداث الجسام، وهي تمثل ملحمة إنسانية حقا، ولا يملك قارئ سيرته الخصبة إلا أن يسلم أن الأستاذ كان فعلا رجل القدر في حياة أمة، وقد جعل همه الأول إنقاذ الإيمان،
__________
(1) أنظر كتابي أبي الحسن الندوي وإحسان قاسم.(10/113)
ولم يكن ذلك أمرا هينا، فالإيمان مناط الأمر كله، ولذلك كان متوقعا ألا يكون طريق الأستاذ لاحبا لينا، ولا أن يكون جهاده هينا، كما كان متوقعا أن يجد مقاومة عنيفة وشرسة من خصوم الأمة ومن أعدائها الداخليين والخارجيين، بالرغم من أن منهج الأستاذ كان يقوم على اللين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وما المحاكمات المتوالية التي تعرض لها الأستاذ، والسجون التي ذاق نكالها، غير دليل ساطع على ذلك الجهاد الكبير الذي قام به. والرفق الذي اتبعه الأستاذ بديع الزمان في جهاده لم يكن يقوم على السلبية، تحت شعار : (اللاعنف) كما فعل غاندي في الهند مثلا، بل كان يقوم على الجهاد، وللجهاد صور شتى، ولم يكن الجهاد العسكري نفسه خارج دائرتها، وقد حمل الأستاذ السلاح وقاتل بنفسه أعداء الأمة، ولكل مرحلة صورتها من صور الجهاد. فخلال الحرب العالمية الأولى، والجيوش الروسية تحاول الاندفاع نحو الأناضول كان سعيد النورسي يقاتل هو وطلابه الجيش الروسي بكل ما أوتوا من جهد. وفي هذه المعارك وفي خنادق القتال ألّف تفسيره القيم "إشارات الإعجاز في مظان المجاز" باللغة العربية(1) وهكذا كان النورسي فارس السيف والقلم.
__________
(1) بدائع الزمان النورسي، نظرة عامة عن حياته وآثاره: إحسان قاسم الصالحي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1419هـ/1999 ص41.(10/114)
وهنا أيضا يلتقي العلامة محمد إقبال مع الأستاذ بديع الزمان النورسي، فقد كان إقبال مناهضا للاستعمار الغربي بجميع مظاهره وأشكاله، وكان محرضا لمسلمي الهند على الاستقلال، وكان في الوقت نفسه شديدا على أمراء الولايات الإسلامية الذين ألهتهم الحياة الدنيا عن الجهاد والدفاع عن المستضعفين. وقد تحدث عن باكستان، التي كانت حلما وفكرة يومئذ، ولم تقم الدولة على أرض الواقع إلا عام 1947م، بعد وفاة إقبال بنحو عشر سنين، فقال:" إن أمة لا تملك أرضا تستند إليها لا دين لها ولا حضارة، فإنما الدين والحضارة بالحكومة والقوة. وإن باكستان هي الحل الوحيد للمشاكل التي يواجهها المسلمون في هذه القارة الهندية، وهي الحل الوحيد للمشكلة الاقتصادية، وأشار إلى نظام الزكاة وبيت المال في الإسلام".
وبمناسبة مستقبل المسلمين في الهند، قال : "أشرت على بعض أمراء المسلمين أصحاب الولايات بالعناية بنشر الإسلام في غير المسلمين، ونشر الثقافة والآداب الإسلامية في المسلمين، وإحياء اللغة العربية وأدبها في هذه البلاد، والانتفاع بثروتهم بتأسيس بنك عالمي، وإنشاء صحيفة إنجليزية عالمية تدافع عن قضايا المسلمين، حتى يحسب لهم حساب ويرهب جانبهم، وتكون لهم مكانة عالمية تخشى وترجى، وإن في ذلك صيانة لدولتهم وضمانا لكيانهم. ولكن الأمراء المسلمين لم يعرفوا أهمية هذه المسألة، ودقة موقفهم والأخطار التي تحدق بهم. وكان يشكو قصر نظرهم، وضعف تفكيرهم، واشتغالهم بنفسهم."(1)
__________
(1) روائع إقبال : أبو الحسن الندوي، دار القلم، دمشق 1421هـ/1999م، وقد ذكر الشيخ أبو الحسن أن هذه الإمارات ألغيت بعد التقسيم بجرة قلم، وذهب الأمراء و"أصحاب السمو" الذين لم ينتفع الإسلام والمسلمون بثروتهم وكنوزهم."فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين"(10/115)
ولم تكن ثورة إقبال على الأمراء الغافلين فحسب، بل كانت ثورته أيضا على العلماء المتقاعسين الذين لا ينتفعون بعلمهم ولا ينفعون، وقد عبر عن ذلك في شعره، فمن ذلك قوله :
"إن الفقير المتمرد على المجتمع- يعني نفسه- لا يملك إلا كلمتين صغيرتين، قد تغلغلتا في أحشائه وملكتا عليه فكره وعقيدته، وهما : لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وهناك علماء وفقهاء، الواحد منهم يملك ثروة ضخمة من كلمات اللغة الحجازية، ولكنه قارون لا ينتفع بكنوزه"(1)
ولم تكن أمور المسلمين في الهند لتشغله عما يُراد بالمسلمين في دار الخلافة، وفي محاورة خيالية أجراها إقبال مع جلال الدين الرومي الذي عرفه إلى رجلين يصليان أحدهما أفغاني والآخر تركي، وقد عرف فيهما محمد إقبال كلا من جمال الدين الأفغاني وسعيد حلمي باشا، ويشكو إقبال إلى الأفغاني واقع الحال فيقول :" أصبح الأتراك والإيرانيون سكارى بصهباء أوروبا ونشوتها، وأصبحوا فريسة كيدها ودهائها".(2)
وفي ديوان (جاويد نامه) يحكي محمد إقبال انتقاد الأمير سعيد حلمي باشا للثورة، التي قام بها أتاتورك في تركيا، ويذكر سطحيتها وتفاهتها، وأن زعيمها وقائدها محروم من كل إبداع وابتكار، ومن كل أصالة في التصميم والتخطيط وأنه ليس إلا مقلدا أعمى لأوروبا، يقول :
"إن كمال الذي تغنى بالتجديد في حياة تركيا، ودعا إلى محو كل أثر قديم، ولكنه جهل أن الكعبة لا تتجدد ولا تعود إلى الحياة والنشاط، إذا جلبت لها من أوروبا أصنام جديدة، إن زعيم تركيا لا يملك اليوم أغنية جديدة، إنما هي كلها أغان مرددة معادة تتغنى بها أوروبا من زمان"(3)
__________
(1) المرجع المذكور، ص35.
(2) نفسه: 153.
(3) نفسه : 70.(10/116)
وموقف إقبال من مصطفى كمال لا يختلف كثيرا عن موقف بديع الزمان الذي خاطب أتاتورك، حين اعترض على دعوة النورسي أعضاء مجلس النواب لإقامة الصلاة، فقال له :" باشا..باشا..إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، وإن الذي لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود.."(1)
التكوين :
يرى قارئ سيرة محمد إقبال وبديع الزمان النورسي مشابه واضحة بين الرجلين، فقد نهل كل منهما من الثقافتين الشرقية والغربية وتضلع فيها تضلعا جعله مؤهلا للرسالة الشامخة التي أنيطت به. فلقد درس إقبال في مدرسة إنجليزية في بلده، ثم التحق بالكلية في ذلك البلد، وهناك درس العربية والفارسية، وحين انضم إلى كلية الحكومة في لاهور، عاصمة البنجاب، حضّر شهادة في الفلسفة، وبرز في العربية والإنجليزية، ونال وسامين، وأخذ شهادة (B.A) بامتياز، ثم نال شهادة (M.A) في الفلسفة أيضا. ومنذ عام 1905م بدأت رحلة إقبال في عالم الغرب للنهل من ثقافته، وقد بدأ هذه الرحلة بالالتحاق بجامعة (كامبردج) في لندن حيث بقي هناك ثلاث سنوات، قبل أن يلتحق بجامعة ميونيخ بألمانيا لينال من هناك الدكتوراه في الفلسفة، ويعود إلى لندن مرة أخرى، ليرجع إلى الهند وقد نال من علوم الغرب، في دياره، ما مكنه من معرفة أسرار الحضارة الغربية، حتى إذا قام لانتقادها قام بذلك على بصيرة. وقد قام أثناء إقامته ببريطانيا بتدريس الآداب باللغة العربية في جامعة لندن، مدة غياب أستاذه توماس أرنولد.
__________
(1) إحسان قاسم في كتابه عن بديع الزمان، ص55.(10/117)
أما بديع الزمان النورسي فقد تبحر هو كذلك من الثقافة الغربية، فاطلع على فلسفتها ومذاهبها الفكرية، وبرزت مواهبه في تفنيد المذاهب الفكرية والفلسفية المنحرفة. ومما يذكر هنا أن كلا الرجلين أدرك تلك المكانة الرفيعة في وقت مبكر من السن. وقد آنس بديع الزمان ذلك من نفسه، إذا لما رحل إلى إستامبول عام 1896م، وهو دون العشرين من العمر، علق لوحة على بابه كتب فيها :(هنا تحل كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيه سؤال لأحد)(1)
حب العربية :
كان كل من بديع الزمان النورسي ومحمد إقبال رجلا أعجميا غير عربي، ولكن لما كان كل واحد منهما يجعل القرآن الكريم زاده، ومبتداه ومنتهاه، لا يصدر إلا عنه، ولا يستظل إلا بظله، تشربا حب العربية ودافعا عنها ورأياها من تمام الدين. فأما بديع الزمان فكان إتقانه للعربية عظيما، وحبه لها كثيرا، وقد بدأ التأليف بها قبل أن يؤلف بالتركية، إذ كان أول ما نشر له بالعربية كتابه القيم : (إشارات الإعجاز)، ثم في سنة 1921م (قزيل إيجاز في المنطق). وفي أنقرة ألف : ذيل الذيل- الحباب وأجزاء أخرى من المثنوي العربي النوري.
أما باللغة التركية فنشر في سنة 1923م (السنوحات).
ولقد كتب بديع الزمان رسائله بالتركية، بالخط العثماني، المعتمد الحروف العربية، ولما ألغى مصطفى كمال استعمال هذه الحروف، عُرض على بديع الزمان نقل رسائله إلى الحرف الجديد، ولكنه كان يأبى إلا أن تظل بالحرف العثماني/ العربي، إلى أن شرح الله صدره لهذا الأمر في أواخر سنوات عمره، بعدما ألح في ذلك بعض طلاب النور وشرحوا له الفائدة العظيمة في نقل الرسائل إلى الحروف المستحدثة، لما في ذلك من تعميم فائدتها على الأجيال الناهضة.
__________
(1) رجل القدر : أورخان محمد علي، استانبول 1955م/ ص37.(10/118)
أما محمد إقبال فقد كتب دواوينه الأولى بالأوردية أولا، ثم كتب بعد ذلك سائر دواوينه بالفارسية، لأنها في رأيه أكثر انتشارا. أما العربية فلم يؤثر عنه أنه كتب بها، إلا أنه كان لها محبا، وفي علومها متبحرا، وإلى تعليمها وتلقينها كافة المسلمين داعيا، إذ لا سبيل إلى النهوض الحضاري إلا بالقرآن الكريم وتدبره، ولن يكون ذلك أبدا إلا عن طريق العربية. وقد رأينا كيف أن إقبالا خبر العربية في بلده، على يد الأستاذ مير حسن، أستاذ الفارسية والعربية، وكان إقبال شديد الإعجاب به. وقد ذكر أبو الحسن الندوي أنه قدم لمحمد إقبال ترجمته لقصيدته البديعة (القمر)، فتصفحها محمد إقبال ووجه إليه أسئلة عن بعض شعراء العربية يختبر به دراسته وثقافته(1)، وهذا لا يكون إلا ممن خبر العربية وأسرارها. ومما يدل على اطلاع إقبال على آداب العرب وأشعارها ما رواه عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في آخر زيارة له. قال الندوي رحمه الله تعالى :" واسترسل في الكلام وأفاض وتحدث في كل موضوع، تحدث عن الشعر العربي القديم، وتحدث عن إعجابه بصدقه وواقعيته، وما يشتمل عليه من معاني البطولة والفروسية، وتمثل ببعض أبيات الحماسة، وذكر أن الإسلام أثار في أتباعه روح الكفاح وحب الواقع، وأن علوم الطبيعة تلتقي مع الإسلام على الجد والعمل والبعد عن البحوث الفلسفية التي لا جدوى منها.."(2)
وقد تتبع أبو الحسن الندوي العوامل التي كونت شخصية محمد إقبال، فذكر أنه تخرج من مدرستين : المدرسة الأولى هي مدرسة الثقافة العصرية والدراسات الغربية، وهي مدرسة –على أهميتها- أمرها هين، وأما المدرسة الثانية التي كان لها أعظم الأثر في شخصيته فهي مدرسة متميزة، لأنها مدرسة داخلية تولد مع الإنسان، ويحملها الإنسان معه في كل مكان، وهي مدرسة القلب والوجدان، وهي مدرسة تشرف عليها المدرسة الإلهية وتمدها القوة الروحية.
__________
(1) روائع إقبال : 10-11.
(2) روائع إقبال : 12.(10/119)
أما العوامل الخمسة التي نبعت من هذه المدرسة المتفردة وكونت شخصية إقبال فهي :
1-الإيمان. 2-القرآن الكريم 3- معرفة النفس 4- الاتصال بالله تعالى، ومناجاة ربه ساعة السحر. يقول في قصيدة :"اللهم، ارزق الشباب أنتي في السحر، وأنبت لصقور الإسلام القوادم والخوافي، التي تطير بها وتصطاد؛ وليست لي أمنية يا رب ! إلا أن تنتشر فراستي، ويعم نور بصيرتي في المسلمين".
5 – المثنوي الفارسي الذي نظمه جلال الدين الرومي في ثورة وجدانية ونفسية جديدة ضد الموجة الإغريقية العصرية التي اجتاحت العالم الإسلامي في عصره"(1)
ولما تدبّرت هذه العوامل جميعا، وعرضتها على سيرة بديع الزمان النورسي وجدتها تستجيب لها أيما استجابة، ووجدت سببا آخر من أسباب ائتلاف الرجلين، حتى لكأن أبا الحسن الندوي كان يتحدث عن النورسي لا عن إقبال.
فأما الإيمان فيكفي أن الأستاذ بديع الزمان وقف رسالته على شيء واحد هو إنقاذ الإيمان، وقد ضحى في سبل ذلك بكل غال ونفيس. أليس هو القائل في هذا الصدد :"نعم . إن أجل مسألة في هذا الكون وأعظم سر خلق العالم هو سر الإيمان، فليس في الوجود مسألة أعظم منه كي يسخر في سبيلها ويستخدم لأجلها"؟(2)
وأما معرفة النفس، فقد جعلها النورسي طريقا لابد منه لسلوك الطريق القويم.
وأما القرآن الكريم فيكفي أن أعظم ما كان يحب النورسي أن يوصف به هو أنه خادم القرآن الكريم، وهو القائل :"لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها"
وأما جلال الدين الرومي وديوانه: (المثنوي) فحسبنا أن نعلم أن إعجاب النورسي به بلغ حد وضع كتاب على منواله، هو : (المثنوي العربي النوري)، وهذا أمر يدعو إلى الدهشة، إذ كيف حدث أن يكون جلال الدين الرومي وكتابه المثنوي أقرب الكتب إلى روح الرجلين، على كثرة العلماء والأدباء والعارفين الذين تم الاستشهاد بهم؟
__________
(1) روائع إقبال : 29-50.
(2) رجل القدر : 180.(10/120)
النورسي
في رحاب القران
أ.د. عشراتي سليمان
جامعة وهران-الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
إستهلالة
رسائل النور كينونة فكرية وروحية متكاملة، استطاع النورسي العبقري أن يضمنها ماهيته على صعيد تجربة العمر في مختلف امتداداتها..
لقد استوعبت تلك الرسائل قطاعات حياته في أطوارها المتلاحقة، بحيث جاءت النصوص تحمل فكرا مقتطعا من ذاته .. فكر يرسو على عقلنة متميزة لم تفصله عن مغرسه الروحي والنفسي والإنساني الذي نشأ فيه..
لقد جاءت الرسائل تترجم حضورا حميما وملموسا للنورسي، بحيث عكست مضامينها الروحية والوجدانية خلجاته وانفعالاته واستبصاراته وحميته ومزاجه ورجاحته وتصميمه وبسالته..بصورة جلية ومن زاوايا رصد كثيرة..
لقد جمعت هذه الرسائل إلى رجاحتها الروحانية الوطيدة، الطابع الشفاف الذي يسم السيرة الذاتية ..
من هنا انتصبت رسائل النور، لا لتنوب عن واضعها في تأدية خطابه إلى العالمين، ولكنها جاءت لتثبت له الحضور الحيوي، ولتجعل صوته يرتفع، ليس من خلف تفاصيل مكتوبة، ولكنه صوت حي بنبرته المتحركة، وحرارته المنبجسة، من خلال ماهية معنوية، بل وحسية، متشخصة، لا نكاد نفتقد منها قطميرا..
حقا لقد أدرك النورسي الحكمة التي تجعل من غيبته وارتحاله إلى الرفيق الأعلى حضورا واقعيا يسترسل في الزمن..
كلا، إنها ليست فكرا محضا، ولا هي سيرة بحتة، ولكنها حياة وتأثير وديمومة واختراق باهر لحدود العمر المقيدة بكتاب..
فالرسائل هي النورسي نفسه وهو يعيش نعمة الخلود..
وبما أن الرسائل هي جنود مجندة من الطلبة والتلاميذ الذين لا تفتأ تتسع بُقَعُهُمْ وتنتشر عبر آفاق الجغرافيا وأصقاعها المتباعدة، فلا جرم يكون النورسي قد استطاع - فعلا - أن ينفذ من خلال تفاريج الزمن، وأن يجايل الدفعات المتلاحقة من الشباب المسلم، وأن يعيش البقاء من موقع المسؤولية الريادية، والتحريض الشهم، والمقاتلة المعززة باليقين..(11/1)
وربما قلنا إن شأن الرسائل هذا، هو شأن كل أثر إنساني قام على حد من الأصالة والمصداقية .. إذ لا تعدم الأجيال – في كل أمة – ذلك الوجه السحري الذي تنفثه العطاءات عندما ينتسجها أصحابها من خلايا أجسامهم.
والحقيقة أن الرسائل تجاوزت النطاق الشخصي أو الإيديولوجي الذي يؤسس وجاهته – في العادة - على قاعدة إبراز المناحي الذاتية التي تتثمن بها التجربة..
ومعلوم أن الظواهر والتجارب، هي في الأصل أفكار وعقائد تحولت من نطاق الحلم إلى إطار الواقع المعيش..
فالفكرة أو العقيدة قد تتحول من طابعها المعنوي، لتغدو ظاهرة أو حركة أو ثورة تعمل على تغيير الأوضاع الرميم واجتثاث الجذور الموات..
وهي من جهة أخرى قد تكون واقعا مضطرما، متحركا، ما يفتأ يفرز قواعده ومبادئه، بحيث تتحول -في المحصلة النهائية - تلك القواعد والمبادئ إلى أيديولوجية تتوهج إلى حين، لكن جمارها لا تلبث أن تخبو بفتور الحماسة ومُضِيَّ العقود ..
ولقد بدأت الرسائل واقعا مراسيا سياسيا واصلاحيا، ثم تحولت إلى فكرة، حين انسحب صاحبها ليرابط في صومعة القرآن، وليعيش عزلة إرادية كانت سبيله المفضل لمفاعلة ذلك الواقع المناهض لحركة التاريخ..
وكان مهيأ للرسائل في خضم ذلك التحول، أن تحدث الأثر المباشر والاستجابة الفورية – لو أنها انبرت لتحقيق برنامج اجتماعي أو سياسي على نحو ميداني نفعي - لكن الرسائل شقت طريقها بعيدا عن المنفعة الشخصية والحسابات الذاتية .. إذ اختارت طريق المصالحة مع التاريخ..
لقد شاءت أن ترسي أسس مشروع حضاري لا يناط بهمة فرد أو جيل أو حقبة، ولكنه مشروع يسترسل في الزمن، ويمضي على هدي السماء، لا يتصادم مع طبيعة الارتقاء الذي جعله الله سنة الوجود، وخاصية انسانية يتأهل بها الكائن البشري لمهمة الاستخلاف..(11/2)
وإن شاء الناس أن يجعلوا للنورسي مشهدا ومزارا، أو لنقل روضة يرتادونها لإحياء ذكراه – هو الذي غيب البغاة قبره، مخافة أن يضحى مثابة للانبعاث والحياة - فلا أزيد من أن يجلسوا إلى رسائله ليتمثل لهم حيا، راعدا، حليما، مستميتا في تأدية نضاله الروحي واعتكافه القلبي ومنازلته الحضارية، حمية للمسلمين وانتصارا للاسلام..
ولو أن النورسي شكل حزبا – بدل الرسائل –لعرت الحزب، حتما، أسباب الهرم والتفكك، ولظل مصيره مناطا بالتابعين ومن سيتداولون المقادة، ولبهتت وجاهته مهما كانت حظوظ نجاحه الأولى أو البعدية.. ولشاهت أو حالت صورة الزعيم وتقلصت مساحة اشعاعه برحيله .
فالأجيال لا تصمد على الثوابت إلا إذا كان لتلك الثوابت الخاصية الروحية المتعالية والمتسامية عن النظرة المرحلية الضيقة وعن رهانات النشأة الأولى..
لكن النورسي أصّل منزلة بقائية، لا ينوب فيها عنه ممثل.. منزلة أقامت دعائمها على الإيمان والإئتمار بأحكام الله، ومحاورة القرآن بخلوص، وتشكيل صورة الراهن والمستقبل بمنظار القرآن، فظفر بالأبدية وبالاستمرار في الحياة، وبالأجر والثواب في الآخرة..
لقد أعطى النورسي ترجمة مثلى لمفهوم المثقف العضوي.. إذ جعل مسافة بينه وبين الكم البشري الذين كان أمرهم يهمه.. ليكون بعيدا عن السير بمنطق المناورة والتودد والطمع في إقامة برجية الجاه الكاذبة..
لقد أعاد الترتيب إلى حظيرة العقل المسلم، وعمل بهمة ومصداقية على تجديد مرافقها الرثة، وأرسى من الأسباب الروحية ما يهيئها حقا لمعمار مدني مستقبلي قائم على التحدي ومجاوزة الذات المتهالكة..
لقد أيقظ الضمائر، وقطع خط الرجعة على البيئة الاسلامية لئلا تعاود سكونيتها الكهفية التي رانت عليها طيلة الآماد.. إذ هيأ الظروف لشبوب روحي، نوراني، متدرج، ولكنه وثيق، وعارم العواقب..(11/3)
وفي هذا السياق بالذات تدخل قراءته لذلك المستوى الغيبي الوارد في المأثور الخبري الشرعي، إذ هو تثوير عقلي وإعادة استزراع مرَشَّدة للأرض بمغارس جديدة، متخلصة من ثقافة الزور..
فعنايته بذلك القطاع من التراث الديني، إنما تعكس رؤية كان مطمحها تقليب الأوضاع الرميمية، وتحريك السواكن، وغرس الآمال..
ومما لا شك فيه أن أخصب مرحلة إرهاصية لما بنى النورسي وشاد، كانت المرحلة السياسية التي طابقت في بعض تعييناتها هوية سعيد القديم، فخروجه عن المضمار السياسي لم يفض به إلى ارتياد ساحة العزاء والغبن، بل جعله يخرج عن دائرة المحايث التاريخي، ليعاين صفحة القابل والآتي.
لقد حشد الجهد العميم نحو بناء ورسم خريطة المستقبل. وتساوق ذلك المسعى الجبار عنده مع تباشير انبثقت في روحه ،حتى تهيأ له معها أن الإشراقة على الأبواب .
لقد استقرأ تباشير عدة، كانت حرارة الإيمان تجعله منها قاب قوسين أو أدنى..
ومن غير شك أن حديثه التنبئ عن قرب وحدة العرب، إنما كان صدى لتلك التهليلة التي كانت تفعمه وهو يكابد عناء واقع عبوس قمطرير.. أم أن ذلك كان منه ضربا من إملاء الرغبة والوحي للناس بما ينبغي أن يكونوا عليه؟.
إن ذلك الأمل – شأنه شأن آمال أخرى، طمح النورسي أن يلمسها وينحني شكرا لله على تحققها – لم يتحقق في التوقيت الذي قدره لها النورسي، ولكن حصولها أمر لا مناص منه ..
وكل ذلك لا يعني أن ما حلم به النورسي لم يكن إلا فورة احتدام شعوري لوحت أمامه بسراب كاذب ولا شيء غير ذلك..
ذلك لأن النورسي كان في تنبؤاته وتقديراته المستقبلية يستلهم النتائج والصيرورات من منطق كوني وقدري سطره الخالق القدير، وكفل له من الأسباب ما يجعل التكذيب به هو عين السفاهة ..
لقد جعل من منهج الاستضاءة وقراءة الواقع تحت ذبالة الأخبار والوقائع الغيبية المأثورة ،سبيلا إلى الإعتراض على مجريات الردة التي عاشها المجتمع في عصره وهب النورسي يطفئ بوائقها ..(11/4)
فإسقاط الفحوى الخبري على وقائع عصره كان وسيلة مثلى في وصم الارتكاسات بشنيع الإدانة .. فضلا عن أن ذلك كان أسلوبا مفيدا على صعيد إستحداث تعليمية فاعلة ومكونة..
لقد كان يدشن صرح معرفة حيوية سلخت عنها - وإلى الأبد- ثوب الخرافة، واسترجعت حلتها العقلية البهية المنسجمة مع بهاء الاسلام..
إن ذلك اللون من التثمير المعرفي كان يشكل بحق آلية تعليمية وتثويرية وتحسيسية فعالة في يده.. قربت الأجيال إلى الواقع وإلى تثمين العلم، بعد أن كانت ثقافة الانحدار تغيبهم وتركنهم خارج التاريخ..
فضلا عن أن مسعاه في ما تأول به كثيرا من المسائل النصية، إنما كان تَحْيِينِياً. فعمله لم يكن برجيا تهويميا، ولكنه كان من الجسامة بما لا يتصور..
لقد كان الرهان معقودا على مطمح صياغة الانسان المسلم الجديد.. وإخراجه من الحضيض..
فحتى المرفق الصوفي حلحلته تعاليم النورسي حين أنصفته فجعلته مثابة وشاهدا على قدرة الروح المسلمة في التنظيم والترابط وإدارة الواقع بالوسائل البسيطة والمتوفرة..
إنه ضرب من العقلنة العملية التي كان النورسي – من خلال مواقف التقويم - يوعز للأمة أن تأخذ بها منهجا في حياتها.. وفي مقابل هذا التنويه، راح يجرد المنحى التصوفي من القدرة على إحداث الانبعاث العصري، وإن نوَّه بمردوديته في مضمار المحافظة وضمان البقاء..
وكانت قراءته لفكرة المهدي على حصافة لا تمارى، إذ ربطها بالتجدد الحاصل للأمة على يد الأفراد من جهة، وأناط هذا التجدد بالجماعات من جهة ثانية، مستبقيا الصون للخبر، مصدقا به على أكمل ما يكون التصديق..
وإنه لرشاد أن تتجدد المفاهيم والقناعات التي ظلت تقعد بالأمة وتشدها إلى واقع الاستكانة والترقب، فتأخذ هذا الوجه الإدراكي الذي يدخل الأمة في غمار عملية الوعي بالذات ومواجهة التبعات..(11/5)
لقد اكتسب المهدي في فكر النورسي هذه الفاعلية البناءة التي ينهض بها الأفراد، وتنهض بها - على وجه الخصوص - الجماعات، في اصلاح ما بها، انسياقا مع القانون القرآني الحازم في وعده :
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم).
وبعد فما عسانا نقول ونحن بصدد الدلوف إلى رحاب من التقوى والحمية والإخلاص، جسدتها هذه الشخصية المسلمة التي كتب الله لها أن تعيش عمرا مديدا من العزلة والتمحيص والامتحان، ليكون لها بعد التحاقها بباريها، ربيع أخضل من الذيوع والشهرة والإكبار.. إنه الإمام بديع الزمان سعيد النورسي .
( ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو اخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين )
صدق الله العظيم.
وهران، في سحر الأربعاء 5 ماي 1999
أ. د. عشراتي سليمان أبوحفص.
الفصل الأول
سبْرٌ لثنايا رحلة العمر والجهاد
قراءة أولى في هوامش من حياة النورسي
لا جرم أن هناك آصرة عميقة تربط بين حياة النورسي وسيرته وهويته، وبين مادة القرآن العظيم ومضامينه وروحيته.. فالتساوق قائم بين الكينونتين على أكثر من صعيد، وما ذلك إلا لأن روح النورسي قد تقولبت منذ الميعة - بل منذ لحظة التخلق الرحمي الأولى، بالنظر إلى جو الروحانية العائلي الذي شهد ميلاده - في مصهر القرآن وعلى وهج تعاليمه البينات..(11/6)
فإذا كان من دَأَبِ القرآن العظيم أن يُجَنِّحَ بخطابه بعيدا، ويمسح الآفاق القصوى، ويفلت منها كانفلات البرق في صفحة السماء المطيرة، ليرتد مؤديا أعمق التجسيدات الكشفية والأدائية بأرشق لفتة، وأرقِّ دفقة، يودعها من الحقائق المكتنزة ما يجعل العقل الإنساني يذهل من شمولية البسطة القرآنية الواحدة، فضلا عن استرسالاته التي تحوز بين أشرعتها عوالم من النظر والتلقينات ما لا تفي به – في الموقف الواحد- الصحائف المستفيضة.
فكذلك كانت حال تجربة النورسي الحياتية، لقد شقت طريقها منذ البدء شقا برقيا، إذ أنها صعَّدَتْ تطوي الأفق في حركة جارفة، ملؤُها تَحَدٍّ روحي سافر..لا تكاد تمضي على ماثل من الأفكار يتهاوى إلا دحرجته من طريقها، ولا شارفت وضعا روحيا متهالكا إلا قوَّمته، ولا وقع نظرها على مشهد سلوكي نشاز إلا عدَّلته.. وتلك هي طبيعة الفذاذات الأصيلة، إذ حالها كحال الثورات تخلخل السواكن، وتهز الهشاشات، وتجتث الجذوع النواخر..
لقد أرسى القرآن العظيم ثورته التوصيلية على دعائم من الإفضاء غير معهودة، إذ راوح في ملحمة الأداء التبليغي بين المواقف، فأسلس الدعوة وهمس بالسر، وأومأ بالحجة، وفاه بالدليل، وإلى ذلك ناجى وتودد يقرب إليه القلوب، وناشد للانصياع إلى مقاصده بالحسنى، وأسَّى وتأسى، و جاهر بالحق، ونادى بالحقيقة، وصاح بالبينة، وقرع بالذكرى، وصاول وطاول، وجادل وأفحم، ثم أجهز وأنجز..(11/7)
وذات السبيل سلكه النورسي تقريبا في حياته وفي صلته بالناس، فقد تعاقبت عليه أطوار شتى اقتضت منه أن يتحلى لكل طور منها بألوان من البيان المعرفي والمسلكي ، خلوصا إلى نتيجة مبدئية تنسجم مع ما يسكن بواطنه من حوافز إيمانية ودوافع إصلاحية كان القدر منذ المنطلق يوقفه عليها .. لقد كانت سيرة النورسي مزيجا من مواقف الشدة واللين ،الدماثة والانقباض، الشد والإرخاء، التماسك والاندفاع، العقل والعاطفة- وهذه الأحوال- وإن كانت من طبيعة الإنسان كلية ومن جبلته إلا أنها أخذت عند النورسي طابعا روحيا ومسلكيا نضيجا، خرج بها عن إطار الاستجابات وردود الفعل الانعكاسية، ليضحى منهج حياة وفلسفة وجود تواجه المواقف والطوارئ بوعي موصول - على أعمق ما تكون الصلة - بالدستور الروحي الذي تفتحت عليه جوانح النورسي وملكاته : القرآن العظيم الذي شكل آليات الاستجابة والكف عند هذا الإنسان الصالح، وبلور أفعاله، وصبغها بصبغة روحانية عميقة لا تستدرجها التفريعات الجانبية أو الانشغالات الهامشية التي لا تمس صلب الحياة، ولا ترتبط بهيكلها في الصميم..
لقد راوحت حياة النورسي بين السرية والسفور، بين السياسة والتعليم، بين المحفلية والانعزال، بين السجن والتحرر، بين المدنية والعسكرية، بين التحضر والفطرية، بين الروحي والعقلي.. ولم يكن في هذا كله في وضع الفصامية ،ولا استهواه حال تمثيل الأدوار واختطاف الأضواء شأن المتهافتين ومن لا تحدوهم عقيدة وجودية يراهنون من أجل اِرساء دعائمها بأرواحهم. بل لقد تكاملت لديه طبيعة تُمازِجُ بصرامة ووعي - في صنع رؤاها وقناعاتها - بين المقومات الأخلاقية والوجدانية، فكان من ثمة ظهور ذلك النموذج الفكري والروحي المستميت الذي كانت له قدرة خارقة على الصمود وتسديد الضربات..(11/8)
لقد تميزت هذه الشخصية بتصاعد حميتها القتالية على الدوام، وقد انتهى بها ذلك التصعيد إلى حد اِشهار الحرب على أشرس الجحافل وأكثرها ضراوة، من معسكر الردة، وأعداء الملة..
لقد دفعت بهذا الرجل الفذ ظروف التاريخ والجغرافيا - بحكم انتمائه إلى بلد كان يعقد على رأسه راية الأمة الإسلامية - إلى أن يبارز كتائب الغرب المحتل، وأن يخرج فردا إلى الساحة، يحمل سيف البسالة الدينية والتحميس، في وقت كانت سنابك خيل العدو تقدح شررا، وتدنس شوارع الحاضرة الاسلامية اسطنبول، على إثر انهزام الدولة العثماية في الحرب الكونية الأولى..
لقد ارتفع يومها صوت النورسي متمزقا بالحسرة والحمية يخترق الأسماع، يعيد إليها الوعي والأنفة، بعد أن أذهلتها النكبة، وكبلها الخذلان..
واضطرته الأقدار إلى أن يتصدى للسفياني وجها لوجه، وأن يرفع عقيرته بالاعتراض والإدانة لأعمال الحيدة والارتكاس عن الدين التي باشرتها طغمة المرتدين، وأن يبادل المرتدين اللكمة لكمتين عن كل خطوة يخطونها على طريق الانحراف الملي..
لقد ولد النورسي في تربة تهيئه مؤهلاتها الثقافية والمعنوية لأن يكون معلِّمَ كتاتيب، أو لأن يضحى ربما - وبشيء من الحظ - مريد طريقة يردد في الحلقة راتب الأوراد والأذكار، أو هو خُلِقَ ليعيش- في أقصى حالات التوفيق - ليضحى وجها ضمن نخبة مجتثة عن ريفيتها، يتقلب في الحاضرة التركية، تتداوله أهواء الساسة والأحزاب، متأرجحا بين فترات الزهو والانتصار حينا، وفترات المرارة والاندحار أحيانا، لينتهي به المسار جفافةً عَرَكَتْهَا الأرجل و ألْحَسَتْها كل أقذار العتبات..(11/9)
لكن النورسي لم يسلك هذا السبيل، أو أنَّ قَدَرَهُ - على الأصح - اختار له غير ذلك السبيل، ليجعله- ليس فقط - مَعْلَما شامخا في تاريخ الفكر الحديث، ولكن ليُسَخِّرَ منه محطة توليد روحية، دائمة التفعيل، ذاتية التعبئة، لأنها تعمل بإشعاع رباني لا يخبو، اِشعاع القرآن العظيم..
لقد رادفت العبادة عنده معنى القتال. فقد أيقن منذ البدء أن النفس بركان يعتلج بكل ألوان النسف المُرْدِية، لذلك تعهدها برعاية لا تغفل، ولقد كان له في اختياره للنماذج الصالحة من السلف التي شاء أن يتخذ منهم قدوته ومثاله ما يؤكد الإرادة الجذرية التي امتلكها وقرر أن يضبط بها سيرته، لقد كان الشيخان الكيلاني والرباني من أقرب المعالم الصالحة إلى نفسه، ولا بدع أن نجده يعترف أن مطالعاته لتراثيهما كان من أهم الأسباب التي حددت الوجهة الروحية لمساره..(11/10)
وإذا ما شئنا أن نلتمس بعض المؤثرات التي كانت للمنشإ الأسروي على سيرته، فلا شك سنجد أن جو التصوف - الذي كانت الأسرة تعيشه - يعد واحدا من أهم أسباب ذلك التوجه الذي أخذته روحيته.. إن جو الانصياع والصمت والإشتغال القلبي الذي كان يستغرق الأبوين، لا سيما الأم، فضلا عن الملابسة الوجدانية التي كان يستشعرها الصبي من خلال ملازمته لحفظ القرآن وتكراره، وقابلية تَمَثُّلِ خلُقية ذلك النص الرباني القدسي في حركاته وسكناته - على عادة الأطفال في نزوعهم إلى تقمص صفات التسامي والطهر بكامل البراءة والانخراط .. إن من شأن ذلك جميعا أن يصقل في النفس صفة الاستقامة والصلابة التي تميز الإنسان الذي يتلقى العقيدة عن تنشئة وعن ارتضاع باكر للقيم الروحية.. وهو ما كانت تجسده سيرة النورسي ليس فقط في مراحل نضجها واكتهالها، ولكن، وبصورة أصرح، في مراحل الفتوة والشباب أيضا، الأمر الذي أعطى لحياته في كافة أطوارها، تلك الشمائل التي ظلت قاسما مشتركا بين مراحل بناء شخصيته جميعا، شمائل قامت على قاعدة التمسك بالإيمان وجعله معيارا تتقرر به علاقة النفس مع الدوائر والمحيط ، بل ومع الوجود ذاته..
اليقظة أس قتاليته(11/11)
ولقد كانت يقظته الوطيدة مظهرا قتاليا تجنيديا لا غبار عليه. ذلك لأنه شب صافي النظرة، بيده كشاف قرآني يعاين الحقائق من خلال نوره البهيج، ويرصدها واضحة الأوصاف والنعوت، ويسمى الأشياء بأسمائها فلا يقول للأسود أبيض ولا للأبيض أسود، ويُقَوِّمُ المعطيات بكفايتها، دونما بخس أو تهويل.. وتلك خصيصة تحيل على براءة المغرس وبقاء الروح محتفظة بلحائها الفطري، مما كان له أبلغ الآثر على عقلية النورسي وروحيته، إذ برئت بواطنه من الخدوش والندوب، فخلت نفسيته من العقد، وعاش التلقائية بحكمة تتلقى استنارتها من استعداد الفطرة المصونة، ومن توقد روح مهيأة للتفتح على الكمال والشمولية، ومن قابلية حبلى بمقدرات قريحية خام، تؤهله لأن يدشن الفذاذة على أكثر من صعيد ..
ولا بدع أن يكون النورسي على هذا الحظ من اليقظة، ذلك لأنه ثوري بالطبع وبالمشيئة، أو كان ثوريا بالقوة والفعل كما يقول المناطقة، الأمر الذي كفل له أن يكون على ذلك المستوى من الرهافة الوجدانية والحصافة العقلية والقوامة النفسية والذهنية ما جعل مواقفه وأفعاله تتسم - منذ الطفولة - بسمة المسؤولية والتحدي، وتلك حال تلازم أهل الشأن لا سيما إذا كانت نزوعاتهم متعلقة بمُثُل الخير والفضيلة والصلاح كما هي حال النورسي رحمه الله..(11/12)
وإذا ما أردنا استكناه مقومات منزع اليقظة بوصفها سلوكا يميز - ليس فقط الثوار وأهل البلاء السياسي والاجتماعي والفكري - ولكن يشمل أيضا عباقرة الفن وأصحاب الأرواح الحبلى بالإبداع .. فسنرى أن طاقة الروح حين تستفيض على النفس وتغمر الملكات والقابليات بأنوارها فإن بصيرة الانسان سرعان ما تترامي وتحتد وتلقي بوهجها عبر أقطار الدائرة جملة ..ولذلك فإن النابغة يجد تلك القدرة الحدسية والاستشرافية الفائضة من أعماقه تشع وتنتشر على الفضاء مِنْ حواليه، وتهيئ له نطاقا من الوعي والحضور بحيث يغدو الفرد على صلة حيوية ليس فقط مع المحيط الضيق الذي يتحرك فيه، ولكن أيضا مع أبعاد تخترق الزمان والمكان ليعيش مخاضات عصره، وليرهص لتحولات آجلة يكون له فيها إسهام فعلي على نحو أو آخر..
لقد تجسدت يقظة النورسي في العراكات الفكرية والمعرفية التي خاضها منذ نعومته، وظهرت في مجانبته للاختلاط الحميم بالغير حتى حين كان طفلا، وتجلت أيضا في حربيته، وفي رهافة توقعاته وسرعة تجاوزه للإشكالات والانسدادات سواء السياسية منها أو الفكرية أو حتى العقائدية، وذلك بما أوتي من قدرة على لقط الحقيقة ومبادهتها، وتحصيلها على الفور الحدسي الذي أوتيه أهل الأرواح والجلوات..
ومما لا شك فيه أن النورسي لو اقتحم بقريحته مجال الفن المحض والإبداع الأدبي لكان له شأن، وهو ما تنم عنه عروض سردية قصصية المنحى زخرت بها رسائله.. بل إن حفوله الخيالي المشبوب ليتبدى في هذا الجنوح الثابت إلى الإعراب التصويري القائم على التمثيل وضرب الشواهد، وعلى المحاورة وبناء المواقف.. وفي ذلك إعراب عن أدبية كامنة، صُرِفَتْ عن نطاقها العرفي المحض، لتستثمر أروع ما يكون الاستثمار في حقل الدعوة إلى الله وإرساء دعائم التوحيد..الأمر الذي جعل رسائل النور تتصف بكل الخصائص الفنية التي تجعل منها - على صعيد الأدبية - لوحات ابداعية، فائقة الشعرية..(11/13)
ومما لا ريب فيه أن اليقظة .. يقظة الروح والمواجد، تأخذ مظاهر عدة في سلوك الانسان، وتتجسد على صورة سجايا كثيرة، من حيث تحولها في النفس - بالاستحكام والتوطن - إلى مهارة تلقائية، بل إلى حكم نزوعي يفاعل به الانسان الوقائع، ويقدر نتائجها بذات البداهة التي يتلقاها بها، وهو ما يجعل من اليقظة الروحية رديفا للحس السليم وللتمييز الحدسي السديد.. وما ذلك إلا لأن اليقظة الروحية تضحى عند أهل التقوى بصيرة ترى بنور الله ..
وفي ما يخص حياة النورسي، فلقد تجلت تلك السجايا وبصورة عملية ميدانية، وعلى مدى أطوار من سيرته، لا سيما في الجانب العراكي العنيف من تلك المسيرة، إذ استحال النورسي بها - زمن الحرب - فدائيا يقود سراياه وينزل الضربات القاتلة على الأعداء مباغتة ومن حيث لا يشعرون.. إن اختيار أسلوب الكمين والتكتم ليعكس روح الإقتصاد والتسديد، والضرب في الصميم التي ميزته - ليس في حياته الحربية وحدها- ولكن في حياته الاجتماعية أو المدنية كذلك..
وإنه ليسوغ لنا أن نسجل هذا الأفق الذي تتسع له دائرة البحث في حياة النورسي، وفي سيكولوجيته ،والذي يجسده منهجه العملي وأسلوبه الميداني .. لقد امتلك النورسي روح النفاذ، من حيث امتلاكه لنفسية تتحلى باليقظة التي لا تترك للطوارئ إلا ذلك الهامش القدري الذي لا دافع له كما يؤمن النورسي، وهو ما يسوغ تجنده المستمر، وأهبته الدائمة، واستنفاره غير المنقطع.. وكل ذلك عاشه ليس فقط على صعيد الروح التي ظلت آخذة بمبدأ الإيمان المقرون بالعمل الصالح والدائب، ولكن على صعيد الفعل والأمر الواقع الذي انخرطت فيه حياته كلية، ومنذ عهد الصبا.(11/14)
إننا نجد حوادث كثيرة - تعد من صميم المغامرة - قد عاشها النورسي وتمرس بها وخرج منها على أكمل ما يكون قوة وصلابة، غير أنه لم يتخذ منها شواهد لِعِزٍّ شخصي أو مجد ذاتي، ولا جعلها خلفية إخبارية يومئ إليها كلما شاء أن يُذَكِّرَ بمرصود عطائه لأمته وملته.. وكل ذلك يكشف طبيعة الانخراط التجندي الخالص الذي طفق يقتحم به المعارك الحاسمة، بدءا من واقعة تخندقه على خطوط اللهب الأولى حين دعاه الواجب الملي والوطني إلى الجهاد..
لقد ظلت ذكرياته الحربية، وما وقع له في الجبهة من أحوال الابتلاء، وما لحقه في الالتحامات من شدائد وإصابات، وما استتبع ذلك من وقوعه في قبضة العدو، وما عاشه في الزنزانة من تجارب المنافحة الإيمانية وإظهار الأنفة وتحدي المخاطر، وما أسفرت عنه محنة الاعتقال من انعتاق أمكنه أن يفلت من الأسر وأن يشق آماد سيبيريا الثلجية مطاردا، مستترا، عائدا إلى جبهة القتال، ليستأنف دوره في المعركة التي لم تكن متكافئة، والتي كان يعرف أنها مصيرية، وأن مستقبل الأمة معلق بها وبما ستفرزه من نتائج على الصعيدين القومي والعالمي..
لقد ظل ذلك كله حبيس المواجد لا يكاد النورسي يومئ إليه إلا في معرض الترشيد والموعظة .. بل لقد أضحت تلك الذكريات مناط عاطفة مفعمة بالحمد والشكر والامتنان لربها بما هيأ وما أتاح لها من أسباب التوفيق والحماية .. ولم نلمس قط فيها أي وازع اعتدادي أو غروري يخرج الحدث عن نطاقه القدري المكين ..
بل إننا لم نعرف بعض تفاصيل تلك المرحلة إلا من خلال ما رواه بعض طلبة الإمام، مما يدل على أن النورسي لم يكن من الصنف الذي يعيش على مراجعة دفتره التجاري استنفادا لوطأة البطالة أو الإفلاس أو لدغدغة مشاعر الغرور التي تتضخم بها تفاهة النفس المنحطة..(11/15)
وحين سيخلع بزة القتال- وإن كنت أجزم بأنه لم يرتدها يوما، لا لأنه كان يخل، طبيعة، بالأصول، ولكن لأنه كان أزهد في كل ما يمت إلى الشكل والشعار العرفي بصلة - سنجده يثب من خندقه مباشرة ليلتحق بصعيد متفجر آخر سيواصل منه قدره الكفاحي.. قدر كان أكثر مرارة وأكثر استماتة، لأنه سيجمعه بعدو من بني الملة، وبأحلاف تُبَيِّتُ الغدر والكيد للدين والحضارة في كنف وعي ملِّيٍّ عام، منعدم، أو لا يكاد يبين ..
لقد تحول النورسي من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وكان عليه أن يستنفد أقصى الجهد في البلاء المصيري، وذلك بمواجهة مستويات عتيدة من الكفر والنكوص، وبمنازلة أبطال وطوام من العتو والجحود كان من جملتهم السفياني ..
وهكذا انخرط النورسي في المعركة السياسية - بلا تحفظ وبكل سفور - منذ تلك اللحظة التي بادر فيها إلى التصدي بحمية المقاتل الأصيل إلى ثورة الفرق المجندة والفصائل العسكرية المستوفزة.. لقد هيأت يومئذ الدوائر المتربصة بالأمة، المرجل المتفجر، وأشعلت فتيله في صفوف الجيش، وورطت القادة وفاقمت الوضع، وطمرت مفتاح الأزمة بحيث خلقت جوا خانقا من البلبلة كانت فيه كل الجهات تشعر بأنها عرضة للخطب المجهول، دون أن يكون هناك طرف منها قادرا على أن يتصدى لإزالة الغموض وتبديد السدف السوداء المنذرة بالشر ..
لقد هيأت الدوائر المعادية للأمة، والمتربصة بالعثمانية، المناخ الملائم للإجهاز على الخلافة وتنضيد الأرضية التي ستنشأ عليها الدولة الجديدة .
ومعلوم أن الخلافة ظلت دائما - لا سيما زمن السلطان عبد الحميد الثاني - تعترض بقوة وقطع على تمرير البرنامج الصهيوني، سواء في خلخلة التماسك الاسلامي الذي كانت الخلافة تنهض به على كل حال، أو فيما يتعلق بمرامي تهجير يهود العالم إلى فلسطين..(11/16)
في هذا الجو، وضمن هذه الترتيبات المُحْكَمَة والرهيبة، كان على النورسي أن يقتحم خطوط النار مرة أخرى، وأن يهُبَّ بذات التلقائية الرشيدة التي يكفلها الإيمان حين يتغلغل إلى أعماق النفس ويجعل من الحركة والسكون بوادر إلهية مناطة بإحداث ما ينبغي إحداثُه.. وهكذا نزل النورسي إلى الساحة، وواجه التمرد، وتصدى لثورة العسكر المتداعي من كل صوب، وتمكن بمصداقية الفعل والقول التي تأصلت له، وباندفاعة الأسد الهصور المؤمن بأنه إنما يحتسب لله ثواب تلك الفزعة المتخوفة على مستقبل أمة القرآن ..
لقد تمكن بكل ذلك البلاء من أن يوقف الفتنة، ويطفئ نار حرب أهلية كان الأعداء قد أعدوا وقودها.. لقد نجح النورسي حيث فشل آخرون أرادوا أن يلجموا القمقم المتهيج دون جدوى، لأنهم لم يكونوا يتوفرون على ما كان النورسي يتوفر عليه من بأس ودينامية وقطع تأتَّى له من روح التجند واليقظة التي لازمته منذ كان..
لقد كان النورسي يجزم بأنه إنما ينقاد في مسعاه ذاك لحمية روحية تفعم أعماقه وتهون عليه التضحية خدمة لأمة الإسلام، لقد كان يثور كفًّا لثورة يُقَدِّرُ أنها قامت لتكدير السكينة الضرورية واللازمة لكي تتحرك عبرها مسيرة انبعاث كانت بوادره تلوح في أكثر من أفق ..(11/17)
لقد كانت الطوائف والتنظيمات تتحدث عن الإصلاح، وعن التطور، وعن النهضة والإنبعاث، وعن حق الإنسان والمرأة، وعن كرامة الفرد، وكانت شعاراتها تناهض العبودية والظلم والاستبداد، وتنادي بالحرية، والمساواة، والإخاء، وبحرية الرأي، والديمقراطية .. وكانت مقالات الصحف والمنشورات السرية والعلانية تهيج مشاعر الانتفاض على الوضع، وتصعد من بلاغة الاستنكار والإزراء بالواقع، وتنعي عهود الانحطاط.. لقد كانت أجواء من التوتر الرومانسي التي صاحبت الثورة الفرنسية ذاتها، تسود واقع الأمة العثمانية، وكانت التصريحات التي تدوي في تلك الأجواء تُجْمِعُ على حطة وبشاعة ذلك الواقع، وتجاهر بحتمية وأده، والفراغ منه.
وكانت روح الثورة تتناغم مع ما يسكن أعماق النورسي وروحه المتطلعة إلى تجديد المجد التليد، وبعث المآثر العتيقة.. وكان منطق الأحداث يقنع كل فرد من أبناء الأمة بأن الإندفاعة - بعد كل الذي ذاقته الأمة ومرت به - لا تكون إلا في وجهة بنائية، من شأنها أن تتدارك الضعف المزمن الذي تردى بالأمة إلى الحضيض وأطمع فيها الأعداء
.. ضمن هذا السياق سار النورسي يدعم الدعوة إلى التجديد وتجاوز أوضاع القصور والهوان، وهكذا وجد النورسي نفسه يتناغم مع شعارات ونداءات كانت تُجمِع عليها التنظيمات ومختلف القوى الحية في البلاد، وربما كانت هناك قلة فقط من الوجاهات القومية التي كانت تعي ما يراد بالعثمانية من خلال تلك الشعارات والدعوات..
ومن غير شك فإن تحليلات المنتقدين ودعاة الإصلاح كانت متفقة على ضرورة أن يبدأ الإصلاح من القصر، وأن تتغير السياسة العامة للبلاد انطلاقا من تغيير سياسة الخليفة والعرش ..(11/18)
وطبيعي أن يتضمن هذا التوجه في الرأي الانتقاد لشخص الخليفة نفسه، وطبيعي أن يتحول الانتقاد إلى إدانة، وإلى مخطط يستهدف الإطاحة به والإطاحة من خلاله بالخلافة نفسها، وكل ذلك كان مرتبا في حسابات القوى المعادية للدين الاسلامي من اليهود والماسونية والأحلاس.. لقد تعهدت الصهيونية الحاقدة بأن تنتقم من عبد الحميد الثاني على عناده ووقوفه في وجه مشروع توطين اليهود في فلسطين .. ذلك المشروع الذي حاولت الصهيونية أن تشتري ذمة الخليفة بباهظ الأثمان جراء تمضيته وتحقيقه ..
ومن المفارقة أن تَسْتَنفِرَ القوى الخفية الفصائل والفرق العسكرية إلى الثورة وإلى التمرد دونما تحديد لمطلب بعينه، حتى إذا تداعت الجحافل المتمردة، لم يكن أمامهم من كلمة اجماع إلا المناداة بالشريعة، والدعوة إلى التمسك بالمبادئ الاسلامية ..
بل لا شك أن الأصوات المناهضة للملة، والتي دسها الأعداء في تلك الهَيْجَة من أجل أن تكون نواة تنطلق منها الدعوة إلى مناهضة الاسلام والشريعة، قد وجدت نفسها معزولة بالنظر إلى التلقائية الروحية التي عمت الثائرين، إذ أن ذلك الموقف المتفجر لم يكن ليتيح لمناور أن يفوه بشعار خياني يلتفُّ به حول الروحية الاسلامية التي كانت تجمع العسكر وتوحد بين عواطفهم.. لقد كان العصيان رهانيا ولا يعقل أن يراهن الجندي المسلم في ذلك الموقف وإن غمضت أهدافة، وبلا مسوغ، على التحلل من الدين والتنكر لمقومات الأمة..
وكان على النورسي الذي لم تكن تلك المرامي تغيب عنه، أن يتصرف في أثناء ذلك، ضمن اجتهادات كانت تكفلها له بصيرة واثقة من سداد ما تجري به تدابير الله .. لقد سار فترة في الموكب، وأدان الجهات التي كان الاتفاق يجمع على إدانتها، وفي مقدمتها السلطان ..(11/19)
وانخرط النورسي في غمار السياسة من بابها الواسع، خاصة وأنه كان يرى تباشير الاصلاح تلوح في الأفق، لا سيما بعد ظهور الدستور وتنصيب البرلمان وتحرير الصحافة.. لقد أيقن النورسي أن هذا هو الجو الذي يخدم الاسلام، ويحيي الأمة، وينعش الآمال في الانبعاث وفي استعادة الاسلام لأمجاده وسؤدده، كرسالة عالمية تعضد الإنسان وتبارك خطواته على طريق الصلاح..
لقد كانت هناك تململات، بل واعتراضات على التحول الجديد، وعلى تلك الارهاصات التي تعرب عنها الثقافة الجديدة، وهو ما كان يحمل المخلصين أمثال النورسي على أن يتصدوا للدعايات المضادة وينهمكوا في القيام بعمليات شرح وإقناع تشمل فئات الأمة حتى لا يعرقل ترددها الانطلاقة في المهد، وكي لا يجهضها الاعتراض الوليد..
لقد تتابعت رسائل النورسي إلى الجهات القصية، وإلى القبائل الكردية في شرقي البلاد، والتي كان ينتمي إليها، تحمل إليها رأيه المؤيد للتجديد .. لقد كانت تلك الرسائل تؤكد أن المشروطية هي الشورى، وأن الحرية والعدل من مقتضاياتها، وأنهما من مبادئ الاسلام، وأن لا تعارض بتاتا بين مبادئ الدستور وبين الاسلام..
التوبة والقطيعة
هل كان النورسي على علم بأن الموكب الذي كان يسير فيه موكب مدخول الصفوف، وأنه كان يماشي ركبا مليئا بأصحاب القلوب التي تنبض حقدا على الاسلام؟ أم أنه كان ينساق مراهنا على احتواء المسيرة واحتياز نتائجها لفائدة الاسلام، خاصة وأن المستقبل سيكشف أن النورسي كان يملك - فعلا - طبيعة سياسية ترجح المسالمة على المصادمة لقاء الكسب الأشمل والأكمل؟..(11/20)
مما لا شك فيه أن النورسي الذي انخرط – بعد الحرب – في العمل السياسي بنفس الاندفاع الذي انخرط به في الحرب من قبل، قد أخلص للمهمة السياسية والمدنية التي نهض بها أو بالأصح التي شاء أن ينهض بها على الحلبة السياسية.. فمن المعلوم أنه رسم لنفسه أهدافا استراتيجية منوطة بمستقبل الأمة، فلذلك نجده قد اختار الاشتغال بالحقل التعليمي ..
لقد حمل في جعبته - حين قصد أنقرة - مشروع بناء مدرسة الزهراء، تلك المؤسسة العالية التي أرادها أن تكون على غرار الأزهر، تخرج الأجيال المتنورة، وتوحد مشربها، وتهيئها للمستقبل..
لقد كان بالفعل شخصية على قدر كبير من الوجاهة والتأثير، فعلمه الثر ونضاله الميداني ومعاناته الحربية، وديناميته التدبيرية التي أظهرتها الأحداث والمناسبات الطارئة، جعلت منه معْلَما سياسيا ودينيا تسعى إلى تقريبه والتقرب منه مختلف الدوائر المدنية والسياسية في العاصمة العثمانية ..
كما أن تلك الوجاهة التي اكتسبها في زمن قياسي، فضلا عما كانت تتركه مواقفه من أصداء، وما تحدثه بياناته من ردود أفعال، كانت جميعها تربك الساسة من أعداء الدين أيما اِرباك، فكان من ثمة تخوفهم من تصاعد دوره المميز، ومن نشاطه المتنامي، لذا كان لابد من ترتيب القيود التي تحد من نفاذه، وتهيئ المجال لتدجينه، وتلك خطة كانت على الدوام جاهزة في يد النظُم والسلط المنحرفة، تتبعها لتكبيل وإخفات كل صوت ترى فيه خطرا يشوش على اِيقاعها المنسوج بخيوط التآمر والخيانة والجهل والإضرار بالمصلحة العليا للوطن والأمة..
لقد حدثنا النورسي عن إغراءات كان النظام يضعها في طريقه من أجل أن يلحقه بالصف .. ولكن النورسي لم يكن يبحث عما يملأ الحِجْر كي يرضى ويسكت، لقد كانت مواجده متعلقة بسقف من العزة والسؤدد الروحي تسترجع به الأمة توازنها العالمي وتباشر به من جديد مسيرتها كرائد للإنسانية على طريق الخير..(11/21)
لقد كان النورسي يرى في انبعاث أمة كأمة اليابان المثل الذي ينبغي أن يستنفر الأمة الإسلامية ويفجر فيها الكوامن من أجل الانتفاض والانطلاق.. وكانت الجلبة السياسية من حوله تظهر من التوثب والتطلع ما كان يبث فيه شيئا من الأمل والوثوق في المستقبل، لكن الأحداث التي أعقبت ظهور الدستور بدأت ترسل إليه من الإشارات الحمراء، ما كان يصدم براءته، ويهز من سكينة إخلاصه..لقد رأى نفسه يُقَدَّمُ في المحافل وتعطى له صدارة، وتعرض عليه تشريفات شكلية ويشرك في كثير من الترتيبات البروتوكولية، ولكن من غير أن يرى لآرائه أثرا أو صدى في ما كان يُتَّخَذُ من أجراءات أو يَتِمُّ من تدابير تهم مستقبل الأمة وتمس حياتها الدينية والاجتماعية والروحية..الأمر الذي استفزه وجعله يشتحن بالغيظ لأنه بدأ يستبين المهانة والاستخفاف بالمثل وبالعزائم من خلال مساعي الاستغفال والإسكات التي رآها تتبع من قبل النطام، والتي كانت ذات طبيعة صبيانية لأنها كانت تتوهم أن اتباع أساليب الإسكات والترضية الشخصية تصلح لأن تخرس كل صوت وتعقل كل لسان.. لقد وجد نفسه يسير في طريق لا تفضي منعطفاتها إلا إلى مزيد من الغربة والانقطاع عن الأصل، والانسلاخ عن الذات..
لقد تأكد أن النظام الانقلابي الحاكم إنما يمشي بالبلاد، ليس في إطار تكريس مبادئ الدين، كما كان النورسي يرجو، ولا كان يركز على الأسس التي تعمق من ارتباط الأمة بأصالتها وتلحم بين طوائفها وأقوامها وتجعلها قادرة على النهوض وبناء المستقبل القوي بنحو ما كانت الأمم - ومنها اليابان - تبني نفسها وتهيئ مستقبلها..
لقد شاهد نظاما مخترقا، شغوفا باستيراد شكليات ومراسيم تُلَمِّعُ الواجهة، وتعمق من فصامية الدولة وانفصال الحكم المتغرب عن الفئات والمجتمع المسلم، الأمر الذي أمَضَّهُ وأهاجه، وجعله يشرع في الصدع بما كان يعمر أعماقه من أفكار وقناعات ترفض النفاق والتلهية والمكر بالشعوب والتفريط في مثلها..(11/22)
لقد عبر بيانه الى مجلس المبعوثان عما كان يسكن ضميره من أحكام رأى أن يواجه بها ممثلي الأمة، في مسعى منه توجيهي، آملا الإصلاح.. لقد كبر عليه أن يرى الزمر التي ائتمنتها الأمة على مصيرها لا تؤدي أمانة الله، وهي الحفاظ على الصلاة ..
لقد كان أقل ما يقتضيه منه إيمانه في ذلك الموقف الذي جمعه بالخاصة، أن يسدي النصح وأن ينبه على ما كان يظنه غفلة من ممثلي الأمة أو من غالبيتهم الساحقة ..
ولنا أن نتصور المفارقة الكبيرة التي جسدها البيان من ذلك النوع الى مجمع من ذلك المستوى.. ففيما توقَّع الساسة ومن رتب لذلك اللقاء، أن تكون السانحة على قدر من الأهمية وأن يكون للتصدير الذي حظي به صاحب البيان أثر على كلمته، فتأتي تلك الكلمة مُرَطَّبَة بما ألف الساسة أن يسمعوه في مثل تلك المواقف التي يرتبون لها، إذا بهم يذهلهم أن يسمعوا بياناً سافراً، صريحاً، من النقد ومن المواعظ ومن التذكير بتلك الواجبات الإلهية التي كان الحضور يغفلون عنها..
ومن غير شك أن هناك من الحضور من يكون قد عزا هذا التعاكس الجذري في الموقفين والذي عبرت عنه خطبة النورسي، إلى روح فقهية متحجرة، لا تستطيع أن تتحول بصاحبها عن دائرة الوعظية .. روح تقعد بالخطيب عن أن يقف الموقف المحترم والقادر على مخاطبة النواب بما يحتمله المنبر السياسي، وبما يهز الأريحيات ويدفعها إلى إهالة التصفيق وإسداء الدغدغة بدغدغة من شاكلتها.. لكن الواقع لم يكن - قطعا - هو ذاك، إذ أن النورسي حين وزع بيانه، بعد متابعته لشطر من أعمال النواب، عز عليه أن يتجاوز عن أرسخ فرضٍ سنته الشريعة وألزمت به المسلم في اليوم خمسا.. لقد راعه أن يرى المبادئ والشعائر الدينية مغيبة أو شبه مغيبة عن جو يجتمع فيه ممثلو الأمة لصنع مصير الأمة، من غير ما ضرورة تدعو لتأخير أو تعطيل الشعيرة ..(11/23)
وبغض النظر عن النتائج التي ترتبت عن ذلك الموقف التقويمي الصريح، والذي كان له أثره الإيجابي الفوري كما يعترف النورسي، إذ سرعان ما رأى أن عشرات من النواب باشروا الصلاة لوقتها في الحين..
إلا أن الثابت أن حوادث من ذلك القبيل قد تواترت للنورسي، وعمقت الهوة بينه وبين الساسة الذين كانت لا تفتأ طبيعة توجهاتهم الدنيوية، التغريبية، المتمادية في تحللها من الشرع تتكشف له وتسفر عن وجهها، وهو ما آل به إلى أن يختار الطريق الذي رأى أنه سيخدم منه أمته وعقيدته على أنجع ما تكون الخدمة.. لقد سجل النورسي أن رأس السلطة الدنيوية نفسه قد لامه يومئذ على فحوى كلمته التوجيهية تلك، لكن النورسي لم يبد له أدنى اعتذار أو أسف عما فعل ..
وفي خضم تلك التحولات، كان طبيعيا أن يرى النورسي تنظيمات الفتوة والنساء والتطوريين وغيرها من التشكيلات المصنوعة، وأن يشاهد تظاهراتها ودعواتها وشعاراتها تجنح باطراد إلى ما يومئ بأن المسيرة تسير في إطار مخالف تماما للمثل التي ناضل من أجلها النورسي، والتي طمح أن يراها تتجسد، ويرى ثمارها الدانية تجنى بيد الأمة في كنف من التلاحم الروحي والوجداني تتوطد به وحدة الأمة وتتجدد همتها ..
لقد كان على النورسي أن يصدع بالقطيعة مع نظام سايره، وباركه، وتحمل في سبيله أعباءا ما كان أثمنها وأجسمها.. لقد أيقن أن المسيرة مدخولة، وأن النظام مخترق، وأن البلاد قد أقلعت في وجهة مجهولة المصير..(11/24)
ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن قوى الشر قد سلكت مع النورسي مسلكها المعتاد مع العناصر المعارضة، إذ تجعل من غاياتها الوطيدة تدجين العنصر الشارد عن الخط.. فقد رأينا كيف أن الجبهة التي كانت تنادي بشعارات الوطنية والتحرير باركت نضاله وقدرت جهوده الوطنية، وقربته إليها، وأفسحت له مكانا في السدة السياسية، لكننا رأينا في نفس الوقت الحساسية التي ما لبثت تلك القوى أن راحت تتعامل بها معه، ومنذ الوهلة الأولى..
حقا لقد استجاب النظام له في تحقيق مشروعه المتمثل في بناء الجامعة، لكن هذا النظام لم يستطع أن ينساق له حين أسمعهم رأيه فيهم من حيث تقصيرهم في الدين وما تضمنه ذلك التقريع من اعتراض مبدئي على النهج السياسي الذي كانوا يسلكونه.. وعندها كان حتما أن تصدر أولى إشارات الضيق به، وهو ما بادر إليه يومها رأس النظام مصطفى كمال نفسه - كما يحكي النورسي - قد واجهه يومئذ يلومه عما صدر عنه في ذلك البيان التوجيهي .. الأمر الذي يبين أن سياسة تقريبه لم يكن القصد منها الاستفادة من آرائه وتثميرها في بناء مشروع المجتمع على أسس من الشورى ومن تبادل الرأي والتجربة بين كافة الفيئات والفصائل، ولكن الحقيقة أنهم - من خلال خطة تقريبه - إنما كانوا يريدونه أن يبارك المخطط الانحرافي، أو بالأقل أن يساير الموكب دون أن يُظهر ما يزري بالمشروع الاجتماعي والسياسي الذي كان مفصلا ومخيطا على مقاسات خارجية، لا رأي للأمة فيها..(11/25)
بل إن من أساليب الاستدراج وزرع الثقة المغرضة التي تطمح بها النظم إلى تطويق العناصر التي تتخوف من شرودها ومن معارضتها للخط الذي تبيت تلك النظم على اتباعه، حرصُها على إظهار تقديرها لما يصدر عن العناصر محل الحيطة، ولا يستبعد أن تكون علاقة مصطفى كمال بالنورسي قد شُرِطَتْ بهذا التبييت الاستقطابي حتى قبل أن يتقابلا، فلذلك - ونتيجة لتلك الغاية الاستحواذية - لم يتردد مصطفى كمال في التنويه بالمكتوب السياسي : الخطوات الست .. الذي كان النورسي قد أذاعه في مرحلة من حياته استنهاضا للأمة.. فلقد اطردت - في المضمار السياسي - مساعي سلب الإرادة والتنويم بغية جرف الفاعليات الحية عن أرضيتها الروحية، إخلاء للميدان منها، وتسهيلا لتنفيذ مشاريع لا تتوافق وروحية الأمة .. إذ أن ضمير الأمة ووعيها وبصيرتها التي تستشرف بها المستقبل إنما تمثله تلك العناصر الطليعية بإيمانها وبانحيازها للخير والعقيدة..
هذا إذا لم نقل إن مصطفى كمال نفسه، ونظرا لروحه المدخولة، قد تعرض لما يمكن أن يسمى برمجة روحية على يد أعداء الملة، بحيث لم يعتم أن وجد نفسه صنيعة بين الأيادي الآثمة المناهضة للإسلام تجرفه وتصده عن سواء السبيل..
ولم يتردد النورسي وقد فتح عينيه على الخطة الجهنمية التي كانت ترمي إلى تكفير الأمة تحت تلفيقات خلابة واهية، أن يشرد من الصف، وأن يلوذ بالإستغفار، وأن يمسك عما كان فيه من تجنُّدٍ واندفاع..(11/26)
وهكذا سنجده في بعض اعترافاته يقرر أنه أخطأ النهج حين سار - حينا - في موكب الطغاة، وخدم سياستهم، وانخدع لشعارات الخير التي أضلوا بها الخيرين.. لقد طفق النورسي يعلن عن توبته، ويستغفر لتورطه، وانهمك في العمل على التكفير عما أتاه نتيجة التضليل.. بل لم ينته به الموقف عند ذلك الحد، إذ رأيناه يُشَرِّعُ لكل الطيبين، ويشيع بينهم فتواه التي تحظر تعاطي السياسة، وتُشهِّرُ بالسياسة والساسة .. بل لقد قطع الطريق في وجه أتباعه عن أن يخوضوا في السياسة .. مجنبا إياهم أن يهدروا شبابهم في حظيرة لا يلجها إلا ذئات تتقوت على لحوم البشر..
لقد كان حضه لطلابه على عدم الاشتغال بالسياسة دليل توبة واعراب عن خطة محكمة بعيدة الأمد.. فالسياسة الفاعلة والطاهرة عنده هي رهان يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، وإن باب السياسة القدسية هو الإلتفاف على مخططات السفيانيين بسلاح القرآن، ذلك السلاح الذي سيفعل بهم و بمكائدهم ما فعلت عصا موسى بإفك السحرة الماكرين..
وواضح أن النورسي عند احتجابه الإرادي والصارم عن الأضواء السياسية، قد جنح إلى السبيل الذي كان يُقَدِّرُ أنه سيتيح له الإشعاع الحق الذي لا تعترضه حجب.. ولابد أن نفرق هنا بين هذا التطليق الأصيل لِدُنْيا الأنوار الاصطناعية الذي اختاره النورسي وبين أحوال العزلة التي ألف الساسة ورجال ما يسمى المجتمع المدني أن يضربوها على أنفسهم بعد الصدمات والارتكاسات التي تعترضهم في الحياة العامة، فهم يختارون الغيبة عن الأحداث مؤقتا، تربصا بأفضل السوانح السياسية التي تمكنهم من العودة إلى الركح، ودخول المسرح ثانية بروح المنتصر والآخذ بثأره.. إنها استراحة استجمامية، أو بالأصح تبييض للإعتبار تتجدد به القيمة وتتهيأ النفس لمعاودة المراس السياسي بكل ما ينطوي عليه من دواعي المناورة وترصد الخصم ومجابهته بالمكائد والحيل والأكاذيب..
التعالي الروحي والخلقي أحد سجاياه الأصيلة(11/27)
لقد كان التعالي أحد السجايا المتأصلة لديه، فهو لم يكن يتوفر على قابلية التحاور مع من لا يشترك معهم في نفس المنزع الروحي الإيماني.. من هنا كان يتأبى عن أن يراعي ما تسميه لغة الكواليس السياسية : اللياقة، حيال من كان لا يجد أرواحهم متفتحة على الدين الحنيف، لا سيما من بني الأمة المنتسبين بالقوة إلى الملة .. من هنا رأينا تصريحاته وردوده عليهم تشتد وتأخذ مستوى من الإحتداد يصفع..
والواقع إن اعتزاله للسياسة لم يكن - كما أسلفنا في غير هذا المكان - مناورة تبيت الهجوم المباغت متى اكتملت العدة، من أجل استعادة الصدارة ودفع الهزيمة .. بل لقد كان هجراً لواقع موبوء بكل ما يبخس الهمة، ويُمرِّغُ النفس، ويَهُون به الشأن..
من هنا فإن ميله إلى التعالي عن صغار السياسة وعن دجل محترفيها وأفاقيها المكرة، كان ضربا من التجرد الروحي، ومن النزوع إلى المعنوية، أو الى الكينونة الأدبية التي يضحى فيها حضوره وغيابه صِنْوَيْنِ، من حيث نفاذ الأثر الروحي في قيادة الأجيال ..
إنها حال في الواقع تلابس كل القيادات والزعامات السياسية والروحية، إذ أن حلم الدوام يدخل ضمن مطمح محبة الذات والبقاء، إلا أن الأمر - في ذلك - يختلف مع النورسي، إذ أن مطمحه لم يكن بقائيا بالمعنى والتصور المعتادين، فهو يوقن -إيمانا - بألا فناء ولا غياب في هذا الوجود، وإنما هو انتقال من الدار الدنيا إلى الدار الأخرى، وأن الله كتب على عباده أن يمرقوا من إحداها إلى الثانية بميقات وأجل مسطورين، من دون أن يحدث ذلك المروق انقطاعا فعليا في سيرورة المرء ووجوده إلا من حيث الظاهر ..(11/28)
فالمطلب الخلودي بمعناه الشخصي، المجدي، الإعتيادي، كما ينشده الساسة والدنيويون، لم يك قط من اهتمامات النورسي، ولا كان هاجسا يجعله دائم التقلب والتبدل من أجل تحبيب نفسه إلى الأتباع وتقمص الأدوار واللبوسات كي يستديم بقاءه على رأس التنظيم أو الزمر أولا .. وكي يؤرقه التفكير- بعد ذلك - في العمل لضمان واسترسال الوجاهة والاعتبار عقب الاختفاء عن المسرح على نحو ما يخطط له الساسة ويتوقون إليه ..
لقد كان هَمُّ النورسي الأوكد أن يرسي قناعة جماعية روحية تكتسب ماهيتها من القرآن، وتؤسس دوامها على دوام القرآن، وأن تُحقق ذلك المستوى من التجرد الذي اكتنف الطلائع المؤمنة من أتباع محمد- صلى الله عليه وسلم - وأَدْمَجَها في شخصية القائد - صلى الله عليه وسلم - الذي مضى بها على الدرب، لا ليطفئ أو يطمس هالة النور التي ظل كل عنصر من تلك العناصر يستمدها من المصباح الرباني المحمدي، ولكنه مضى بالقافلة المبرورة وجعل من أفرادها نجوما مشعة، وهاجة الضياء، من حول قمر مكتمل، وضاء..
لقد ظلت وحدة السلف من الصحابة، ولحمتهم، وجماعيتهم المتراصة من حول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء في حياته أو بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى، ماثلة في وجدان النورسي، يستلهمها في سيرته مع طلابه، ويريد لتلك السيرة أن تقبس من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأكرمين مسلكها، وأن تسترسل على وفق مسارهم الذي سدَّدَ فهَدَى..
ولم ينفك النورسي في هذا الصدد يُهيب بالأتباع أن يتحلوا بروح الوحدة والجماعية، وقد لبث يرص هذه القابلية في نفوسهم على نحو رأيناه يستنفر له شتى الشواهد والبيانات التي يتوفر عليها التراث وسيرة الأسلاف.. لقد كانت سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نبعا ثرّا ظل النورسي يتمثله في سلوكه ،و يستلهم منه دروسه من أجل ترسيخ وازع الوحدة في ضمير الأتباع..(11/29)
لقد كانت المراهنة كبرى ورهيبة بينه وبين الدجاجلة الماكرين، وكان المعول - في تلك المراهنة - على الناشئة من حيث تمرسها بالمكابرة وتسلحها بالمصابرة، بلوغا إلى مستوى الكِفاء والندية.
وقد لا نتجاوز الحقيقة إذا ما قلنا أن النورسي، في بعض مراحل النزال المتصاعد بينه وبين الملحدين، يكون قد ساوره الأمل في أن يرى المعركة قد تنحسم لصالح الحق وهو بعد على قيد الحياة.. من هنا لمسنا الاستماتة القتالية تتضاعف لديه، وتأخذ مناحي استقطابية وتحسيسية مختلفة.. وربما تَظْهَرُ بعض آثار ذلك في الحدب الأبوي والروحي والتجنيدي الذي ألفيناه يوليه للطلاب وللأتباع، وتَظْهَرُ كذلك في السياسة الانضباطية التي حرص على أن يصقل بها أرواحهم، وخاصة منهم اولئك الذين كانوا يلازمونه في السجن، أو الذين كانت تتوالى عليهم الابتلاءات في سبيل الدعوة..
لقد تجاوزت تلك العواطف والرعاية الصادرة عنه حد التعزية وشحذ الهمم والمعنويات التي تسوغها الظروف في مثل تلك المواقف التمحيصية التي كان الشيخ وأتباعه يمرون بها في كل حين، إذ طفقنا نحس من قِبَلِه حَمِيَّةً تأهيبية جلية لا تفتأ تحفز الشبيبة على التهيؤ لكل أنواع البلاء التي قد تنجم في طريق اتباع الحق..
ومن ناحية ثانية كانت تلك الحمية تحرص على توطين الأتباع على التمرس بالعناء واحتمال العذاب، وكانت تشد أزرهم بأنواع التحديات المرشدة التي لا يكف النورسي عن تلقينهم إياها ومواجهة الأعداء بها، والتمادي في مقارعتهم، سواء في ما كان يلقي ويحرر من دروس سرية، أو من خلال المرافعات النارية التي كان يتولى الدفاع فيها عن نفسه وعن دعوته بنفسه، تلك المرافعات التي بلغت المئات من الجلسات القضائية، أو في الوصايا والتعليمات المباشرة أو التي كانت تحملها إلى الآفاق رسائل النور..
التنظيم والوحدة مناط كسب الرهان(11/30)
لقد أيقن النورسي - وبوعي مستقبلي - أن المهمة الانبعاثية لن تكون سهلة، ولن يكون في مقدور الأفراد والفرق المتشتتة النهوض بها، لذا تواصلت دعوته الطلاب والأتباع إلى الاتحاد والتماهي في هوية معنوية تضمن لهم القوة ووحدة المشرب والتطلع، وتعضد من تماسكهم، وتجعل منهم لحمة ذات تأثير ..
لقد كان النورسي يتوق إلى تحقيق الإطار التوحيدي الذي يحفظ بقاء وقوة الأمة، وكانت التنظيمات الروحية، لا سيما التنظيم التصوفي ينال امتداحه، لأنه كان يرى له من المزايا الإجتماعية التي كانت الأمة في مسيس الحاجة إليها.. بل لقد كان يرغب في أن يتسع ذلك التواشج الروحي الذي يربط مشاعر المسلمين قاطبة بشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيتجسد على صعيد ملي ومدني يعيد للأمة كينونتها الفاعلة ..
لقد كان النورسي يريد للعمل المدني والحضاري، و بالأحرى للنشاط السياسي أن ينطلق من هذا التلاحم العاطفي المركوز في نفس كل مسلم، والذي كانت تنقصه فقط الشروط التي تجعل منه واقعا مجسدا في ماهية مادية ومعنوية تفرض احترامها على العالم، وتسير بالركب الانساني على هَدْيِ أزكى رسالة أنيطت مبادئها القدسية بتكريم الإنسان وبصون شرفه.. أينما كان، وعلى أي معتقد كان..(1)
__________
(1) أنظر الملاحق ص 194.(11/31)
من هذا المنظور توخى النورسي لرسائل النور ولطلاب هذه الرسائل أن ينخرطوا في وحدة معنوية، يكون لها تأثيرها النافذ في تمهيد الطريق نحو غد الاسلام المشرق، وفي التصدي لأمراض العصر بمختلف أنواعها الروحية والنفسية والفكرية بتعاليم ومقررات القرآن العظيم .. ذلك لأن النورسي كان على وعي حاد بأن مواجهة العدوان، وكسب الرهانات، وتخطي العوائق، إنما هي جهاد مرير لا بد وأن ينطلق من وعي النيرين بوضع الأمة، وبحال الكساد العام والمُفْني الذي يكبلها، وبقابليتها الثابتة في الانبعاث متى ما انطلقت من قاعدة صلبة، هي إيمانها بكتابها، وبحتمية ظهور نور الله على العالمين، هذا الظهور الذي أوكله الله لها، بكونها حاملة الدين الذي أختاره الله دينا أبديا للعالمين..
لقد آمن النورسي أن تثمير القرآن، وتجييش الجند الذي يؤمن بالقرآن هو أفضل سبيل للمحاماة على الأمة والتسوير من حولها ضد الفتن والمؤامرات التي تحاك ضدها علنا..
لقد كان متأكدا بأن شحذ السلاح المعنوي، حين لا تتكافأ الوسائل والأسلحة، هو أنجع وسيلة تلوذ بها الأمم المستضعفة من أجل دفع العدوان والتصدي لجلاديها..لذلك طفق النورسي يؤكد للأمة قوة وأصالة الإعتداد بالسلاح المعنوي..فهو السلاح الذي لا يفل وهو الذي يكسب المعركة.. وتتجاوز به الأمم العتيدة مراحل ضعفها، وتبلغ المكانة التي تستأنف بها طريقها في ظل الإحترام والسؤدد..(11/32)
بل لقد رأيناه يكرر القول، إبرازا لأهمية الجانب الروحي، والنجاعة التي لا حدود لها في بناء الكيان، وامتلاك الشروط التي تمكن الامة من أن تقف وجها لوجه حيال المعتدين.. ولذلك رأيناه يسوق الأمثلة ويثني بالشواهد على الدور الإقتداري الذي يوفره سلاح الروح .. وفي هذا السياق رأيناه يستدعي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة في ضعفهم وقلتهم، وانعزالهم بين أقوام تترصدهم بالعدوان، لكن تسلح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه بالإيمان مكنهم من أن يخوضوا أشرس المعارك، وأن يكسبوها، وأن يظهروا في نهاية المطاف على الأعداء أجمعين ..
بل لقد كان من حرص النورسي على تبيان فاعلية السلاح الروحي للأمة، أن رأيناه يقارن بين حمية اليهود وظهورهم السهل على العرب في فلسطين، وبين استسلام العرب المسلمين وانعدام الحمية الروحية لديهم، الأمر الذي ترتب عنه غلبة المعتدين وانهزام أصحاب الحق، وما ذلك إلا لأن أولئك أخذوا بعدة الروح، وتسلحوا بإيمان توهموا به الباطل حقا، على عكس هؤلاء الذين ارتكنوا للضعف، وفرطوا في حق يؤمنون أنه حق، لكنهم خاروا وهانوا، وحسبوا أن سلاح افتكاكه يكون ضرورة قوة مادية وجيوشا جرارة، وأحلافا متآزرين ..
والحقيقة أن كل ذلك يقوم على حمية تجمح بها أفئدة المستضعفين، ليتأتى لهم صنع القوة من الضعف، والنصر بعد الهزيمة..
لقد لاحظ النورسي أن الارتكاز على الروحيات صان اليهود من الضربة العربية.. في اعتراكهم على فلسطين.(1)
القرآن يستوعب حجته في ذاته، وليس هو في حاجة إلى داعم برهاني خارجي
لقد لبث النورسي يسفه مساعي التلفيق الفكري وافتعال البراهين التوحيدية بمادة غير مادة القرآن، وإنه لموقف نابع من صميمية إيمانه، ذلك لأن اعتداده بحجية القرآن لم يكن اعتدادا مشوبا أو سطحيا أو دعائيا يرمي إلى تحقيق مكاسب مرحلية ثم يتحول بالمصارعة إلى طور احتجاجي آخر..
__________
(1) الشعاعات ص.556(11/33)
لقد كان تشبثه بالبيِّنات القرآنية في التدليل على الوحدانية تشبثا قويا وراسخا، وكانت قناعته في ذلك التدليل ووثوقه به تتساوقان بصورة مبهرة مع التوجه العقلي الحصيف الذي تتكرس به العقلانية القرآنية المتوازنة بين الروحي والفكري ..
بل لقد كانت تلك القناعة الروحية تنعكس على الكيفيات العقلية التي طفق يستقرئ بها أسس الإيمان من خلال متون الآيات والسياقات القرآنية..
لقد كان يستجلي في كل موطن قرآني شواهد مترادفة دالة على الوحدانية .. وهو ما جعله يبدي كثيرا من الدهش لتلك البصائر التي تَقْصُرُ عن استبانة ما كان هو يستبينه بيسر متناهٍ من أوجه الحق واليقين فيما يقع عليه بصره من آي القرآن الكريم..
بل لقد ظل يحيل إلى تلك الجلاوة الاستبصارية الثابتة التي اكتسبها والتي باتت لا تخطئها معاني القرآن وحججه الحصيفة الدالة على التوحيد في سائر آي الله البينات..
على أنه ظل يسوغ ذلك التفاوت بين العقول من حيث سهولة اهتدائها إلى الحقيقة القرآنية أو صعوبة ذلك عليها، بالاختلاف الذي يقع لرجلين يستقيان، فأما أحدهما فقد كان من قدره أن يستجلب الماء من آماد وأبعاد لا يتأتى له تذليلها إلا بتثمير كثير من العتاد والتقنية ومن باهظ الإمكانات .. وأما الآخر فإنه، يتوفر على آلة نقب، لا يجس بها بقعة من الأرض إلا انبثقت مياهها وفارت ثرة، غزيرة، وهادرة بالعذوبة والسلسبيلية ..بهذا التصور ظل النورسي ينأى بالحجة القرآنية عن أن تستند في إقرار قيمها الإيمانية على المساند الوضعية :الفكرية أو الفلسفية، لما يميز الحجة القرآنية من وضوح وصلابة ووجاهة تكفل لها الإفحام، وتؤكد من منزلتها المعنوية التي لا تمارى، من هنا كان النورسي يرفض أن يدعم القرآن بقيم الحكمة حتى على صعيد المطارحات الفكرية، لغناء القرآن عن أن يقف على غير دعاماته العقلية الصميمة....
بسالته..وحربيته الاستراتيجية بعيدة المدى(11/34)
لم يكن النورسي صاحب مزاج جدالي أو روح خطابية، تجعل منه هوية تنتج الكلام، وتطحن الأفكار التي تتناهي إليه، ليتبناها لبعض الوقت، ثم يلفظها ويعاود الطحن والعجن، شأن رواد الصالونات، من الساسة ومثقفي دوائر البطالة، ومحترفي استعراض التقليعات، ممن تزدحم بهم العواصم، ويَتَسَمَّوْنَ النخب..
ولم يكن ذا لسان مشاغب، يصطنع الخصومات على صدور الصحف، ويبيع مهارته الإنشائية لمن يعرض أكثر، خدمة للمستقبل الشخصي والأسروي، وتمضية لمَرْكَبِ الأيام على نحو ما يمضي بأهل الدنيا ..
لقد كان عقله جدليا حقا، ولكن جدل التبيان والتحصيف وإبراز الحقيقة من الزيف، وليس جدل المهاترة وتلبيس الحق بالكذب، والمشاغبة بكل لسان، كسبا لرجاحة آفلة في لحظتها ..
لقد امتلك الطاقة الإبداعية، والذرابة اللسانية، والمنطق المناظر، الغلاب، لكنه صرف كل ذلك إلى تثقيف الأمة ودعوتها إلى الله، وإجلاء حقائق كانت قدراته العبقرية تستظهرها في المنزول وفي المتون الشريفة، ولم يخرج في ذلك عن شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تزعزعه النوائب والإستثارات المهينة التي ظلت قوى الشر تنزلها به، خنقا لصوته ..
بل ظل يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وكانت حقا قوة حجته تأتي في الغالب، لا سيما حين يتوجه بها إلى أعداء الدين المكابرين، من القوة والحسم، بحيث كانت تقزمهم، وتشوههم، وتجعلهم على حال من الهوان منكرة..(11/35)
وكل ذلك لأنه كان يعرف كيف يسدد السهم، وكيف يصيب المقتل .. لقد كان حديث السفياني أروع بيان شاهت به صورة من يقود النظام، حتى من غير أن يذكر النورسي اسمه، أو يشير إليه بِسِمَة من سيماه الخُلْقية التي يعرفه بها الناس.. وكان طبيعيا أن تتفتح عيون الأعداء، بعد رحيله، على تلك اللوحات الرمادية التي رسمها له النورسي، يوم أن شرح للناس حديث السفياني .. وأن تثور ثائرتهم، لأنهم رأوها معالم سوء تكرست لشخص شاؤوا أن يرفعوا له التماثيل..
من هنا يمكننا القول إن النورسي لم يكن رجل اشتباكات تنجلي بمنهزم ومنتصر، وبحساب ربح وخسارة وبمجد أو معرة للذات، ولكنه كان حربيا، استراتيجيا..ودعوته الصريحة والراسخة للسلم إنما تستمد صدقها من استشراف مستقبلي يدرك خطورة وأهمية وفاعلية التجنيد الهادئ والصلب الذي كان يدأب في إرساء قواعده .
وتتجلى لديه آيات من القوة من خلال الهيمنة الكبرى التي كان يفرضها على نفسه.. و من خلال علاقة القوة والضعف المستمدة من سيرة أشياخه الروحيين، وخاصة منهم الغزالي. ولقد كانت دعوته إلى الصبر والمصابرة وهو في السجن تنسجم مع الروح النزالية التي تحب الاشتباك والالتحام عن بُعْدٍ، ليس تجنبا للمواجهة، ولكن إنضاجا لشروط النصر، فالالتحام الذي جسدته سيرة النورسي هو من النوع البالغ الخطورة لأنه لا ينفك ولا ينفض إلا بهزيمة الخصم وإردائه.. ".. إنني بقوة القرآن الكريم أتحدى أوروبا كلها بما في ذلك ملاحدتكم، لقد اقتحمت قلاعكم الحصينة التي يسمونها العلوم الطبيعية أو الحديثة..(1)
الرضى بما يكتب القدر، والتكيف الإيجابي مع الأطوار الحياتية بما فيها الثواء في السجن
__________
(1) المكتوبات ص. 90.(11/36)
ومن مظاهر قابلية الاحتمال والصلابة الراسخة لديه أن يجد للسجن نِعَمًا كان يستطعمها وكان يبينها لطلابه ومن كانوا يساكنونه الزنزانة، وتلك خاصية تعود إلى طبيعة التحدي المركبة في نفسيته، وتعود أيضا إلى عقيدته وروحيته الدينية التي كانت لا ترى في الشر - ما تسبب في إيجاد الخير - شرا .. إذ أن تسليمه بالقضاء والقدر، وإيكاله الأمر كله لله، كان يجعله يتقبل ما يجري له وما يقع من تصاريف..بتسليم .
ويمكننا أن نرصد منظومة كاملة من التعليمات بناها النورسي - في ذات الوقت - على قاعدة التحدي والتحذير، فهو بحكم رأسيته للنظام الروحي، التلقائي، الذي تنامى من حول رسائل النور، كان ينهض بوظيفة المجابهة .. ولما كانت الشراسة من جبلة النظام المخترق ، فلقد كان على النورسي أن يصدع بالحق كلما حوصر بالتضييقات والتدابير الإحباطية والتلفيقية التي كانت تشاء أن تكمم فاه وتعقد لسانه ..
ولقد كان اعتزازه بقوة القرآن لا تمارى، وكان تحديه للأعداء يتجلى - أحيانا كثيرة - في صورة مخططات استراتيجية تفتح المجال أمام الأتباع وتبصرهم بالوجه الذي عليهم أن يتبعوه إذا ما أطبق عليهم الوحش بفكيه : "لا تبارزوا مع رسائل النور المستندة إلى القرآن الكريم فإنها لا تغلب، وإلا سيكون أمر هذه البلاد مؤسفا إذا ما حاول أحد طمس نورها، وسوف تذهب إلى مكان آخر وتنور أيضا (وهذا هو سر خطورتها الذي يشير إليه النورسي بهذا التحذير ): " ألا فلتعلموا جيدا أنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي فلم أحْنِ هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورانية، ولا يسعني التخلي عنها". (1)
__________
(1) الشعاعات ص410..(11/37)
وواضح أن النورسي هنا يوعز بالسيرة التي يجب على كل منتسب للرسائل أن يلتزمها، فحديث القائد هنا، هو من بعض الوجوه حديث باسم الأتباع أجمعين، إذ أن النورسي بمثل هذا الحديث يضع أسس النهج الحركي، ويرسي الخطة التدبيرية، ويرسم الروحية التي ستجعل المستقبل يكون للقرآن.. ألا وهي اتباع روحية التضحية وإسلام النفس على مذبح القربى، كلما دعا واجب الإيمان لذلك..
حين يكون الضعف رديف القوة
ولكن الرجل القوي هو الذي تلم به لحظات الضعف، لأن في مشهد الضعف الذي يرتسم على طلعة الأفذاذ الأشاوس، ذروة الحال التي تهز النفس .. إنها حال وجودية طارئة، وغير عادية، تمْثُلُ حيالنا، مزاجها الضعف المشرب بالقوة المنافحة عن أصالتها حتى وهي تتزحزح - مؤقتا - تحت وطأة الظرف، عن عرش شموخها .. لقد رأينا النورسي يعترف أن حال المضايقة يبكيه ويحزنه.(1)
بل لقد كان يشارف أحيانا عتبة اللااِحتمال، وذلك حين تسحقه وطأة العناء وترهقه المكابدة المستديمة، عندئذ لا يملك إلا أن يصيح بالأعداء طالبا منهم أن يجهزوا عليه، إذ لم يعد في الوسع المضي على ذلك الدرب التعذيبي، الجهنمي إلا بدعم من الله تعالى.
لقد سار - في هذا الصدد- على درب السنة، بل تقمصها، ليس فقط من خلال فقهها والتزام تعاليمها، ولكن من خلال تمثل أحوالها، فقد كان يتأثر بالملمات، وكانت تترك على نفسه شيئا من الأثر لا تزيله عنه إلا نفحات الإيمان، وكان من جهة أخرى ينفعل بالآي كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح ينفعلون بها، وكان يجد فيها أريحية روحية كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - والخيرون من بعده يجدونه للآي الكريمة، فلا بدع أن نراه يواتر في الكشف عن أحوال السعادة وأجواء التذوق القلبي التي كانت تراوحه كلما نفحه الخاطر القرآني المبهج بإلهام أو نسمة اشراق تزيل ما بنفسه من انسحاق.
الشخصية التجاوزية
__________
(1) انظر الشعاعات ص 408(11/38)
لقد كان النورسي شخصية تجاوزية في مواقفها، جذرية في رؤيتها، فلم يكن من طبعه أن يبقى على حال من الثبات عند كثير من المسلمات واليقينيات التي تواترت ذهنية الأمة على لوكها عبثا وبطالة، إلا ما كان يتعلق من تلك المسلمات واليقينات المرتبطة بالإيمان وبمنصوصات القرآن والسنة التي تواضع عليها السلف واستقروا عند فحواها ..
ولقد كان اعتماده القرآن والسنة مصدرا لتوجهاته، يستجيب لوازع الصرامة الذي يحركه.. على أن معنى التجاوز الذي نقصد إليه ونحن نتحدث عن النورسي هو التجديد.
لقد كان يتأذى بواقع رميمي يرى الأمة تحياه، وكان يدرك أن بعث الحياة يقتضي الشروع الحتمي في الترميم، من هنا عول النورسي على استيعاب عميق للأركان الإيمانية، ثم راح يشق طريقه يقرأ ويستقرئ النصوص المقدسة، بروح اجتهادية، تجاوزية .. لقد أوتي النورسي طاقة معنوية عتيدة جعلته يدلي برأيه في كثير مما ظل الإتباعيون، أنصاف العلماء أو ذوو الأمية الدينية المقنعة يحجمون عنه، أو يتحاشونه..
لقد انبرى النورسي يتحسس كل شيء من الدين، وجنح - بصورة واضحة- إلى إثارة القول في ما تكاثر الخلاف حوله وشِيبَ بالأسطورى، وراح يُحَصِّفُه، ، بل وحرص على أن يجد الروابط بين كل ذلك وبين واقع أمة كان يدرك أنه لا مناص لذوي الجهد المخلصين من أن لا يهدروا كلمة واحدة تخرج من أفواههم دون أن يكون فيها للأمة حظ من تحسيس وتوعية وتبصير.. وهو ما قام به، وأداه، وأحسن تأديته على الوجه الأكمل..(11/39)
ولا غرابة بعد هذا إذا ما وجدناه يربط - كما أسلفنا القول - بين أسماء الله الحسنى وبين الثورة التقنية والتكنولوجية التي بثقها العقل الغربي وتحكم بها في الرقاب .. لقد كان يرى أن المسلمين، أتباع الدين الإسلامي، أولى بالاستهداء إلى تلك الطاقات التي يتقوى بها العبد المؤمن، ويستوي .. من هنا كانت تجاوزيته، وكان تسديده، ومن هنا كانت شخصيته تمثل التجسيد الحي للتجديد الذي يهيئه الله للأمة على رأس كل قرن..
بل لقد أرسى النورسي الرؤية التي تجعل الأمة تتحول بالجهد الاجتهادي إلى الجبهة المادية التي تضمن لها الفاعلية وتكفل لها قدرة التأثير على الغير لصالح دين الله، فالأمم لا تَتَّبِع ولا تَعْبَأُ إلا بالأمة القوية المتحكمة في المادة ،وفي مصيرها، وبما أننا أمة تبليغ، فالتبليغ بات اليوم العلم، ولابد لنا من تكنولوجية رائدة، وبات أيضا احتذاء، ولابد لنا من المكانة المكينة التي تغدو فيها سيرتنا محل أسوة واقتداء.
من هنا سار النورسي بالتأويل في مسار التفتيق المادي النافع والمفيد.. على أنه ظل يؤمن أن القوة المادية لا تقوم، ولا تترسخ، إلا على قاعدة الإيمان الروحي المطلق، فبالروح يتواصل العبد مع الله، وبتواصل العبد مع الله، تتيسر له سبل البناء، شريطة أن يكون على وعي بأن تعمير الأرض هو من شرائط الكون التي اقتضاها الله على عباده..
لقد خرج النورسي بالاجتهاد من دائرة الاستكانة والإستخارة البليدة، واللانَيِّرة، إلى دائرة الوعي بالدور والرهان على المستقبل الدنيوي والأخروي.. وبذلك وصل حاضر الأمة بماضيها، يوم أن كانت أمة تفتح الآفاق، وتنير البسيطة بالقرآن، وتشيد المدنية التي ازدهرت بها الانسانية ردحا من الزمن..(11/40)
لقد أناط النورسي سنة التجديد - بعد أن أقرها منهاجا لحياة المسلم لا تقف بها مرحلة عن ثابت ولا تعيقها ضائقة عن المضي قدما، ما ظلت مستنيرة بمشكاة الله - أناطها بطلاب النور، إذ رأى فيهم العقل المتكامل المتظافر الذي من شأنه أن يجدد في الفكر وفي السيرة التي على الأمة أن تسيرها إزاء مستجدات الحياة، وفي التحول الشمولي الذي سيحدثونه بجهودهم ومثابرتهم في أوساط الأمة، ذلك لأن قابلية الاستقطاب كانت تتوفر لتلك الزمر القرآنية، من حيث أن قابلية التجمع هي خصيصة من خصائص روحية الأمة، إذ لا عقيدة ولا قوامة ولا هدى بالقياس للمسلم إلا ضمن الجماعة، وطلاب النور كانوا واجهة مثالية للاستقطاب، إذ أن التجرد والركون إلى القرآن هما خير فاحص تمحيصي يمد الجماعة النورانية بالأطهار والأطياب..
ولما كان التآزر والتواشج الروحي والعقلي من سمات الجماعة الإسلامية وجوبا، فلا ريب أن ما يوفره التجمع في مضمار الفكر والتخطيط والاستراتيجية سيكون وافيا، ومتكاملا، وعلى مستوى من الواقعية والنضج كبير، لأنه سيكون عطاء انتجته عقلية الجماعة، فهو - من ثمة -مراس الأمة من خلال مفكريها ونيريها، الأمر الذي يجعل الدينامية والتطور حالة مسترسلة في حياة الأمة، ولن يعود الركود هو حظها، انتظارا لمطلع القرن، حتى يتاح لها أن ترى المجدد الذي يملي عليها ما يعدل شيئا من ميلها ..(11/41)
لقد قدر النورسي أن الجماعة القرآنية هي التجسيد الفعلي للإصلاح المطرد، وأنها برجاحتها وبامتلائها وبنضوجها ستفيد الأمة أضعاف ما ظلت الأمة تَتَجَمَّمُهُ من أراء المفتيين والمصلحين ممن كانوا يظهرون عبر المراحل، وعلى حال من الانقطاع تجعل من أفكارهم أصداء يتيمة، وغير متمرسة بالواقع العيني، كما ستكون عليه الأوضاع مع طلاب النور، المنبثين في كل مكان، والمرتبطين بالمصدر، وباجتهادات الأقطاب، والمتحلين بسيرة متناهية من التجرد والخلوص لله الواحد الأحد.. والغيرة على أمة القرآن، والتفاني في خدمتها، الخدمة التي لا تنقطع أجريتها ماكَرَّ الليل والنهار..
من هنا كان طلاب رسائل النور هم مجددو العصر كما قدَّر النورسي.. ولابد أن نعي البعد التنظيمي، الانضباطي الذي ينم عنه هذا الإقرار، ذلك لأن النورسي تحلى بهذا الخصلة العالية التي جعلته يتشبث بالتنظيم وبالنظام، وينزع إليهما، وينفر من الفوضى والتشتت، لذا فلا غرابة أن نجده يسند هذه المهمة لا إلى لأفراد، ولكن إلى الجماعة، بعد أن اطمأن إلى أن النظام كان قد استحكم بين طوائف تلك الزمر القرآنية، وأنها قد اكتسبت القدرة التسييرية والتنظيمية التي تجعل من عملها يشع ويشمل الآفاق..
لقد كان دائم المقابلة بين الجهد المنظم الذي تنجزه جهة منضبطة متلازمة، متناغمة، وبين الجهد الذي تتكاثر عليه القوى من غير تنظيم ولا تنيسق، وكان يخرج بنتيجة ترجح القلة المنظمة ومردوديتها المعتبرة على الكثرة اللامنظمة واللامنتجة..
لقد ظلت تجاوزيته تظهر في مواقف عديدة فكرية وسياسية وروحية .. ولعل الموقف الملي الثابت الذي وقفه من مسألة القومية ونفوره الواعي منها كان من الشواهد على تلك التجاوزية البناءة، فالنعرة الشعوبية كانت عنده من مظاهر الجاهلية .. لذا تأبى أن ينساق معها رغم ما لوح دعاتها أمامه من إغراءات ومشهيات..(11/42)
لقد ظل متسلحا بمبادئه إزاء القومية، متباهيا بالتعداد العام للمسلمين، لا يفضي بشأن يخص مسألة القومية إلا قرنه بالاسلام.(1)
روحه السلمية..المسالمة
لقد كان منهجه يقوم - أصالة - على مجانبة الفوضى والتطرف، وذلك شأن البواسل ..إذ أن أنفته الرجولية الكاملة تأبى عليه أن يزايد أو يشتط أو يتجاوز الحد إزاء أي مطلب من مطالب التعامل والحياة .. ومن جهة أخرى فإن النورسي يعتقد أن التطرف وضع استنزافي فاضح، ومهلك، ومنهك، ومن غير طائل .. فحياة الفوضى تتغذى على المكاسب العارضة، وتتصيد الأهداف الشاردة وغير المحسوبة ..فالفرد المتطرف مخلوق عنيد، يتصرف بلا اتزان ولا وعي نافع يجني منه غاية.. إنه حركة يائسة لا خطة لها ولا وجهة، إذ أن موقف التطرف إذا لم يترشد ويكتمل في صورة ثورة روحية أصيلة، فهو مجرد تمويه عن حالة الضعف التي تسكن المشاعر وتثوي في اللاوعي ..إن التطرف يأخذ أبعاده النفاذية متى كان عقيدة فاعلة، وبناءة، و متى كان على إدراك بموقعه وبقوته وبعلاقته مع الهدف الذي يتوخاه .. وتلك شروط كان سعيد الجديد قد استوفاها على أتمها، وانخرط يتنجزها في شكل برنامج ثوري حضاري.. بعد أن اختار لها القرآن العظيم دستورا .. لقد كان شخصية ترميمية لا هدمية..
أجل إن السلم لم يكن استراتيجية لديه فقط، وإنما كان إلى ذلك عقيدة، لأنه كان يدرك أن غالبة المثل السماوية لا تستدعي البأس المادي والصراع الحسي، لا سيما إذا كانت الأمة منهكة تعيش وضع النقاهة بل الاحتضار، ولكنها تقتضي الأخذ بأسباب التأثير النافذ، وذلك بتقوية الأمة وظهورها بالمظهر النموذجي ،الذي يشد إليه العالمين .. وتلك هي روح استمرارية التبليغ والدعوة التي أوجبها الاسلام على أبناء الملة حيال العالمين.
__________
(1) انظر الشعاعات ص.444(11/43)
لقد كان النورسي على وعي بأحوال العصر وبتطورات الأحداث. وكانت قوته تظهر في متابعة عن كثب للمستجدات، سواء في مضمار السياسة أو الصناعة أو الاستراتيجيات، ومعرفته الواعية بالقوى المتصارعة.. لقد كان يتابع ما يجري في روسيا حياله، وكان على دراية واثقة مما قامت وتقوم به اليهودية الصهيونية في العالم، لا سيما دورها في تفجير الثورات العالمية، مثل الثورة الفرنسية، والثورة البلشفية .(1). وما كانت تخطط له حيال بلاد الاسلام ..
من هنا كان النورسي أحرص ما يكون على ديمومة الخلافة وتقويتها، لأنه كان يدرك أن التفريق والشرذمة هو ما كانت تهدف إليه القوى العالمية الحاقدة، من أجل أن تضع يدها على العالم الشرقي .
لقد كان النورسي يشعر أن القوة الوحيدة التي تلجم شيطان الأعداء في هذا العالم هي قوة الإسلام، وأن قلعة الإسلام هي الخلافة التي تعصم الأمة من التمزق، وتكفل لها قوة الاستمرار والانبعاث، من هنا كانت دعوته إلى وجوب التمسك بالخلافة دعوة استراتيجية لا تهادن، ولا تقبل عن ذلك المرفق الجماعي، بديلا..
حاربوه بأسلحة القمع المادي والنكال المعنوي
ويظل سلاح الوصم وتشويه السمعة ومساعي تنفير المحيط وتأليبه ضد جهات التأثير والإستقطاب، هو وسيلة الخصم الغاشم، والفاشل، إذ يلجأ إلى وسائل التركيع الهمجية ويسلطها على الرجال والفذاذات إعلانا عن كلاله في مواجهتم .. لقد استخدم النظام بجبن وسقوط ضده كل أساليب التخنيع من أجل إطفاء نور الله وإحداث القطيعة والفصل بينه وبين الجماهير العطشى إلى من يسمعها كلمة رشاد ..وفي هذا النطاق فإن اتهام السفيانيين له بالجنون تارة، وبالانخطاف العقلي أخرى، بل وإن رميهم له بالمهدوية.. لهي جميعا مساع يائسة، ورعديدة، هدفت إلى التغطية عن وهج التنوير الذي كانت جهود النورسي تبعثه، وتعيد به النور إلى مقلة الأمة وبصيرتها .(2)
__________
(1) انظر الشعاعات ص116
(2) الشعاعات ص471-478(11/44)
شواهد على التواضع والتجرد بلسان الحال والمقال
لم ينفك النورسي يتحدث عن ذاته بتجرد وبتواضع تعبدي لا مراء فيه، لقد كان يقول بما قال به الغزالي من جواز اِظهار المتعبد لعبادته، والتحدث بها إذا كانت النية تأثيرية، خالصة من الرياء ومن القصد الإدعائي..
من هذا السبيل كان النورسي يتحدث عن ذاته ولكن بيقظة تشذيبية لا تمارى، فقد كان كثير التشدد في قهر النفس كي تظل في محرابها الرباني، بعيدة عما يدغدغ ويورث الغرور.
ولقد تناثرت اللقطات التي كان يشير فيها إلى بعض جوانب حياته في مختلف رسائله ..من ذلك حديثه عن شخصيته(1). وحديثه الآخر في ذات المرجع ينفي عن نفسه صفة المهدوية (2). ونجده في حديث له عن فضيلة الاقتصاد والنفقة. يكشف عن مستوى من مستويات سيرته ويظهر ما كان يلمس من بركات وإكرامات إلهية يخص بها قططا كانت تلازمه. . وجاء أيضا في كتاب "المكتوبات " شيئا مما يتعلق بسيرته على شكل إشارات(3). كما اختزلت وقائع الجهاد والأسر وما بعدها في نفس الكتاب.(4)
ومما يشار إليه في هذا الصدد أن سيرة النورسي كما تناثرت في رسائله، أضحت اليوم مجموعة، وهذا بفضل الجهد المأجور الذي بذله خادم الرسائل الأبر الأستاذ إحسان قاسم أجزل الله له الثواب .. حيث جمعها في كتاب ووضعها بين يدي القراء مترجمة إلى العربية..
لقد عمر النورسي برعاية من الله ثابتة، بيد أن صحته كانت في تدهور دائم، وكان ينفر من المشفى والاستطباب، وكان الاعتقال والعزلة يثقلان عليه، وكان ذلك يزيد من اعتلاله، لولا أن إيمانه كان من العمق بحيث لا يترك لليأس منفذا..
لقد عاش حياة من التجند والاستنفار الدائمين، ثم إن تلاحق الأحداث شغله ومنعه حتى من الزواج، بل لقد اتخذ من تجربته الشخصية والاجتماعية، ومن عزلته، معيارا تجنيديا شاء أن ينهجه الأخيار في معركة المسير ..
__________
(1) الشعاعات ص485
(2) م.ن. ص 497
(3) أنظر صفحة.79
(4) المكتوبات ص. ص.94.(11/45)
ونجده على صعيد الوجدانيات يتحدث عن الأطفال والزوج بلا أدنى إحساس بالحرمان، بل كمن يكون له أبناء صلب، وما ذلك إلا أنه نظر إلى الذرية، وإلى الحياة بنظرة فوقية سرمدية ..
لمحة عن حياته بقلمه
"ولدت في قرية نُوْرْس .. وطوال فترة حياة التلمذة وتحصيل العلوم دخلت في مناقشات علمية حادة مع كل من قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية، حتى بلغت استانبول، وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت لم أنقطع عن مناظراتي العلمية، إلا أن وشاية الحاسدين والخصماء أدت بي إلى أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله رحمة واسعة - ثم استقطبت نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناء على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31مارس . طرحت عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة (وان) باِسم مدرسة الزهراء، على غرار الأزهر الشريف .. حتى أنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما أن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكلت من طلابي والمتطوعين ( فرق الأنصار ) وتوليت قيادتهم، فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في (بتليس)..ووقعت أسيرا بيدهم، إلا أن العناية الربانية انجتني من الأسر، وأتيت استانبول، وعينت فيها عضوا في دار الحكمة الاسلامية، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لاستانبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني الله من طاقة، إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في أنقرة، فنَظَرَتْ من جديد -تثمينا لخدماتي تلك - إلى مشروع تأسيس الجامعة في (وان)".(1)
__________
(1) الشعاعات ص542(11/46)
"أرسل مصطفى كمال رسالتين بالشفرة إلى صديقي تحسين بك الذي كان آنذاك واليا على مدينة (وان) يستدعيني إلى أنقرة، لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة الخطوات الست، فذهبنا إليها، فعرض علي تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية، وكذلك تعييني نائبا في مجلس المبعوثان، وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في دار الحكمة الإسلامية، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة، وكان السلطان رشاد قد خصص تسعة آلاف ليرة ذهبية لانشاء مدرسة الزهراء - التي كنت وضعت أسسها - ودار الفنون(الجامعة) في مدينة "وان"، فقرر مجلس المبعوثان زيادة هذا المبلغ إلى مائة وخمسين ألف ليرة ورقية، حيث وقع ثلاث وستون ومائة نائب من بين أعضاء المجلس البالغ عددهم مائتي نائب بالموافقة على ذلك..
ولكنني عندما لاحظت أن قسما مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة (الشعاع الخامس)(1) ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه ،أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل انقاذ الايمان فقط ".(2)
__________
(1) وهو شعاع يتأول فيه النورسي حديث السفياني ويطابق من خلاله بين هذه الشخصية التي يتنبأ بها الخبر وبين شخصية مصطفى كمال.أنظر الشعاعات ص.109
(2) الشعاعات ص420(11/47)
"إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وليت وجهي كليا عن الدنيا، وقبرت سعيدا القديم - حسب اصطلاحي- وأصبحت سعيدا جديدا يعيش كليا للآخرة، فانسللت من حياة المجتمع ونفضت يدي عن كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس تماما واعتكفت في (تل يوشع ) في استانبول، ومن ثم في مغارات في جبال (وان، وبتليس). بت في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني، انفردت إلى عالمي الروحي رافعا شعار : أعوذ بالله من الشيطان والسياسة .. صرفت كل همي ووقتي إلى تدبر معاني القرآن الكريم .. وبدأت أعيش حياة (سعيد الجديد ) ..
أخذتني الأقدار نفيا من مدينة إلى أخرى .. وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معاني جليلة، نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على من حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها (رسائل النور)، إنها انبعثت حقا من نور القرآن الكريم . لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري، وإنما إلهام إلهي أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركت كل من استنسخها..".(1)
"إنني في هذا الوقت الذي أقترب فيه إلى القبر، وفي هذا الوطن الذي هو بلاد اِسلامية تسمع نعيق أبوام البلاشفة .. هذا النعيق هدد أسس الإيمان في العالم الاسلامي، ويشد الشعب ولا سيما الشباب إليه، بعد سلب الإيمان منهم. إنني بكل ما أملك من وجود أجاهد هؤلاء وأدعو المسلمين وبخاصة الشباب إلى الإيمان، فأنا في جهاد دائم مع هذه المجموعة الملحدة، وسأمثل إن شاء الله في ديوان حضوره سبحانه وأنا أرفع راية الجهاد، وكل عملي ينحصر في هذا، وأخشى ما أخشاه أن يكون الذين يحولون بيني وبين غايتي هذه هم بلاشفة أيضا.
فغايتي المقدسة هي التكاتف والتساند والترابط مع كل من يجاهد أعداء الإيمان هؤلاء.
__________
(1) الشعاعات ص542(11/48)
أعطوني حريتي وأطلقوا يدي كي أعمل بالتكاتف مع القوى المجاهدة في سبيل إعلان التوحيد وترسيخ الإيمان في هذه البلاد، وإصلاح الشباب المتسمم بالشيوعية ".(1)
وكان طبيعيا أن تظل العواصف تتقاذف تجربة الإصلاح والصمود التي أبحر فيها ومن خلالها النورسي يتحدى مخططا جهنميا رآه يتحول إلى واقع يردم وجه حضارة الإسلام في بلاده .. وهكذا غدا النورسي نزيلا لإقامات جبرية متواصلة ولمعتقلات ومحاكمات لا تنتهي .. كل ذلك لم يفت في عضده .. لقد باشر العزلة بفتح أبواب معنوية أعرض وأوسع في وجه المستقبل من خلال رسائل النور التي تحولت إلى برنامج تكويني استراتيجي.. لقد كان عدد تلك الرسائل يربو عن المائة والثلاثين رسالة "لا تبحث بحثا مقصودا عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كليا أمور الآخرة والإيمان". (2)
بل لقد ربطت في رؤيتها بين الدنيا والآخرة، وألغت الهوة بين الدارين، وجعلت سعادة المؤمن في هذه الدار الدنيا رهنا بسعادته هناك ..من هنا لبثت تُجَيِّشُ النفوس على الحزم والعزم والأخذ بالأسباب..
لقد خرجت هذه الرسائل بفذلكات الكلام والتوحيد والفلسفة من نطاق الافتراضية الأسطورية والماورائية، إلى واقع عيني مشهود، وما ذلك إلا لأنها اختارت نهج سبيل القرآن العظيم الواقعي، والعقلي، والذي لا يرجم بالغيب ..
لقد خططوا لإعدامه بالقانون، وحيث احتواهم بسياسته الاتقائية الرشيدة، عمدوا إلى تسميمه .. وهكذا تعرض لإحدى عشرة محاولة لتصفيته.. وكان للشدائد والضغوط أثر كبير في إهدار صحته واستنزافه وجعله يعيش عرضة للأمراض والنقاهات ..
لقد سعوا إلى قتل التجربة الاصلاحية بكل السبل، لكن حكمة التحصن وقَتْهَا شرورهم، فمضت الرسائل تبني أجيال النور، بعد أن أقبلت عليها الفيئات تستكتبها خلسة، وتتواصل مع صاحبها وهو يخترق الآفاق سجينا ومنفيا ومحاكما..
__________
(1) الشعاعات ص544
(2) الشعاعات ص543(11/49)
ومضت عقود والنورسي يغذي نفوساً هيأها الله لأن تتماسك وتصمد في وجه التغريب والانسلاخ عن العقيدة..
وعاش النورسي من جهته يكيف آراءه واجتهاداته، وانتهى به المآل إلى أن يجدد صلته وتأثيره في عالم السياسة، ليس من موقع المصالحة والتداخل، ولكن من موقع الحكمة ومراعاة مكاسب الاسلام.. وتجسد ذلك في إبدائه رأيه في بعض المراحل وإعرابه عن تعاطفه مع بعض الأحزاب التي كانت تسالم الاسلام خلال عهد الديمقراطية قصيرة العمر التي عاشتها تركيا في خمسينات هذا القرن..
لقد عاش النورسي فلتة، ومات فلتة، وكانت واقعة ارتحاله إلى الرفيق الأعلى محفوفة بمأساوية قدرية فيها كثير من الإشارات الربانية النامة عن صلاح النورسي وطهره..
وقد كتب الله له أن يعيش ضربا آخر من النفي بعد رحيله، إذ أخفى النظام العسكري قبره، وغيبه عن الأنظار.. وذلك هو شأن الربانيين، يعيشون الانقطاع الكلي عن الدنيا، فلا تظهر لرياضهم – غالبا – آثار.
* * *
الفصل الثاني
النورسي.. الإنسان
"..ياطلاب رسائل النور ويا خدام القرآن نحن جميعا أجزاء وأعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يطلق عليها : الإنسان الكامل.." (1)
كان له نظر جدلي دياليكتيكي كما يقولون، ولكنه ديالكتيك مؤمن، فالله مصدر الفعل وكل شيء مزمم مشدود على المخلوق، وخيرُنا من إرادة الله ولكن الشر مصدره العدم الذي قدر الله أن نكتسب منه أفعالنا حين تشذ عن سواء السبيل ..
__________
(1) اللمعات ص.243.(11/50)
إنما النورسي كان يرى تقابل الحركة والسكون أساسا للحياة، وناموسا رتب الله في ضوئه النظام الحياتي.. فهارمونية الحياة تقوم على تفاعل الإيقاعين معا ..إذ من المعلوم أن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسها الحركة والتبدل.. فالحياة تتكامل بالحركة وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الأسماء وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلما متحركا لكتابة مقدراتها، وتفي بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي". (1)
شخصه، أحواله، ومنهجه في حياته الخاصة
في المكتوب السادس عشر يتحدث النورسي عن الأسباب التي دفعته إلى هجر السياسة، فهو يرى أن سعيدا القديم بعد أن جرب طريق السياسة قرر أن يهجرها لأنه رأى فيها عائقا حقيقيا يعوقه عن أداء أهم واجباته.. فضلا عن خطورتها في الإضرار بمروءة الفرد الملتزم بمبادئ الاسلام ..إذ أن أغلب مواقفها "خداع وأكاذيب" زيادة على احتمال أن يكون الشخص عميلا للأجنبي وآلة في يده، شاعرا أو غير شاعر.
ومن الثابت أن تحرك المرء خارج صعيد السياسة، يضمن له حدا من الحرية، إذ هو بتلك الحال لا يحسب على الغير، ولا يضطر لأن يحسب – هو- للغير حسابا، إلا ما تقتضيه إنسانية الانسان من تكيف في النطاق الاجتماعي العام، لا يضر بمبدأ الحرية الشخصية ..
__________
(1) المكتوبات ص 54(11/51)
فانتماء الانسان إلى حزب سياسي أو تنظيم مدني ما، من دواعيه أن يلزم الفرد بالتحرك وفق مقتضيات سياسة الحزب وتعليمات التنظيم، وكل مخالفة لها تتسجل على المعني ويدفع ثمنها.. وإذا علمنا أن الأحزاب تقيم برامجها على خطط منفعية بحتة، تراعي منظور القادة والكتل المتنفذة، وهو منظور -أساسا - براغماتي دنيوي، لا تهمه مسائل الأخلاق أو الشرع إلا ظاهرا ولمقاصد تكتيكية استهلاكية ، الأمر الذي يتعارض تماما مع الاستقامة وصحة العقيدة.. أدركنا سر نفور النورسي من احتراف السياسة، بعد أن جرب السير في طريقها تلك الفترة التي تخللت الحرب وأعقبتها..
لقد كانت تجربته السياسية تلك بحق رافدا تعليميا مكّنه من الاطلاع على ما يعتمل خلف الستارة .. لقد فَقِهَ لعبة الكواليس رغم كونه ظل يعاين الوقائع عن بعد، ممسكا عن الانغماس في الوحل..
إن الأخذ بمبدإ عدم الانتماء الحزبي الذي اتبعه النورسي كان موقفا راسخا ومنسجما مع الاتجاه الروحي والفكري الذي كان ينخرط فيه وينزع إليه منذ الصغر ..
ولقد تزكى ذلك الانتساب الحر إلى عالم السياسة لأن صاحبه لم يكن تابعا للدولة بأي شكل من الأشكال التبعية، فهو ليس موظفا عندها ولا يرتبط بمرافقها العمومية.. وهو إلى ذلك غير منتسب للمعارضة، لأن المعارضة الحق - كما يعتقد النورسي - تجسدها القوة، وتلك وسيلة لا سبيل إليها، باعتبارها من شأن الدولة نفسها، لأن الدولة هي منظومة مؤسسات عمومية تقوم على فرض إرادتها وإقامة آلياتها عن طريق السلطة البكماء، سلطة العسكر ..
من هنا يتعذر على أي معارض - كما ظل النورسي يؤمن - أن يتطلع إلى تحقيق مطمح اعتراضي، سافر، ومباشر، لا توافق عليه الجهة الحاكمة التي احتازت القوة والنفوذ واستأثرت بالقرار في كل الميادين..(11/52)
كما أن النورسي لم يكن معارضا عن طريق الفكر وحرية التعبير، لأن المجتمع المحكوم بالقوة – مثل المجتمع الذي عاش فيه- لم يكن يسعه أن يلتفت إلى الفكر، فهو مجتمع غير مهيأ لسماع المحاورة أو تقبل التنوير السلمي، لأنه يسير بمنطق الإلزام الذي لا مجال فيه للإرادة والاختيار الحر..
لقد كان النورسي على وعي بإمكاناته الشخصية في إقامة معارضة جماهيرية تواجه الحكم وتسمعه صوتها عاليا.. بيد أنه كان يضرب كلية عن السير في ذلك السبيل لما كان يقدر من جسيم المسؤوليات حيال ما يلحق الناس من الأذى.." إن كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة" (1)
لقد كان وازع الاندماج في السرمدية يلح عليه، فلذلك ما فتئ يصرح بأنه يتجافى عن ملابسة السياسة التي هي مغنم زائف ووقتي، لقاء تطلعه إلى أن يعيش الأبدية .. فالسياسة ظلت بالقياس إليه تمثل التجربة الحياتية التي تنتهك فيها إنسانية الانسان الخيرة
.. لذلك كان النورسي يحرص على أن يظل وفيا لذاته، مصون الشرف والعقيدة، لا يدنس إيمانه طمع ولا طموح تافه.. (2)
ذلك لإنه يعي دوره الاجتماعي، بوصفه عالما دينيا ملزما شرعا بتنوير الناس وخدمتهم في ما يعود عليهم بالفائدة الدائمة .. من هنا قَرَّ اختياره على أن يشرك الفئات من حوله، وبطريقة التوجيه الخالص، في ما كانت تتفتح له أبوابه في حقل الروح واليقين والاجتهاد..
__________
(1) المكتوبات ص.77 .
(2) م.ن. ص 77 .(11/53)
لقد كان يقيس سلوكه بمنظار الطهر والعفاف الكريمين.. لذلك استشنع أن يحترف السياسة التي ظلت دواعيها تلاحقه على مدى مراحل العمر .. واستفظع أن ينبري لأداء أدوار ليس وازعها الإيمان الروحي الخالص، بل الآلية الحزبية والنظرة المصلحية والحساب الدنيوي المغلوط.
وإذا كان النورسي قد نزه نفسه بهذا الاختيار الإرادي عن التردي في حضيض السياسة، فإن تنزيهه لعدة الترقي الروحي التي لاذ بها وأناط بها وجوده ،( أي القرآن العظيم )، والتأبى عن أن يقحم قدسيتها في غمار المواجهات والمهاترات السياسية، ينبغي أن يكون أقوى وآكد ..
وفضلا عن ذلك فإنه كان على وعي بما سيكون لموقفه - إن هو قارف السياسة - من انعكاس سلبي على الجمهور، إذ لا أقل من أنه كان سيجرهم وراءه إلى الخوض في السياسة والانتماء إلى جهة حزبية ما..
لقد كان تَصَوُّنُهُ عن ملابسة السياسة يحقق له غايتين اثنتين :
الغاية التعبدية التي تمرح بها روحه في أفياء الملكوت.
والغاية الكفية الترشيدية التي من شأنها أن تضمن إمساك كثير من الناس والأتباع خاصة ،عن مقارفة آثام الحزبية، وعدم تهافت أو تورط الجمهور في اللعبة السياسية اقتداءا بشيخهم.. ذلك أن انشغال الجماهير بالسياسة، والانخراط في آلياتها النظامية، لا سيما حين تغدو دفة الحكم في يد الاخسرين دينا، سيعطي الفسحة لهؤلاء من أجل المضي في المناورة والتدليس..
وعندما يمسك النورسي عن غمارها، فإنه يرغب في تعطيل طوائف من الناس لا يشاؤها أن تدخل الحلبة الشيطانية، إذ من شأن ذلك أن يكفل جوا من التنشيط يوسع على السماسرة ويروج لسلعتهم الزائفة..
لقد كان موقفه دعوة بلسان الحال إلى المقاطعة.. وإن الحكمة لتظهر الآن بالتأكيد، إذ أن تهزيل الجماهير لصفوف الأحزاب، سيدخلها – لا محالة - في دوامة الإقالات وبناء التحالفات، وما أقصره من حبل..
خلق التجمل والاحتساب(11/54)
لقد كان النورسي يلزم نفسه اتباع خُلُقِيَةٍ تَجَمُّلِيَة سمحاء إزاء ما كان يناله من طعنات الأعداء.. على أن تصبّره إزاء ما ظل يصيبه منهم لم يكن يتلبس المسحة الانصياعية التي تجعل المرء يعطي خده الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن .. بل لقد كان تصبّرا قائما على منطق تجردي إيماني خالص من جهة، وعلى تقدير سديد للظروف السياسية التي تتحكم في الواقع من حوله من جهة ثانية..
ثم إنه كان على يقين من أن الإلتفات إلى مثل تلك الإعتبارات المتعلقة بالكرامة الشخصية، من شأنه أن يشغله عما هو فيه من توجه إيماني جارف نحو الخالق، رب العالمين..
فلذلك كان يقدر أن الإهانة حين تصيبه من الغير، وتستهدفه، فإنها في الحقيقة لا تعنيه ولا تحمله تبعتها أو الرد عليها، إذ هي موكولة بالوضع القائم من حوله، وبالجهات المسؤولة عن تثبيت ذلك الوضع الذي لم يكن يتيح له أن يدافع عن نفسه، فهو من هذا الجانب معذور إن تجاهل الضربات وتغافل عن النهشات ..
والحقيقة أنه لم يكن يتقبل الظلم عن طبيعة أو جبن أو ما إلى ذلك، فقد جبل على الردود الساخنة والتحدي الصريح، ولكنه - بالرغم من ذلك الطبع المتأهب دائما للتحدي - كان يتمالك متى ما أحس أن في السكوت عن الضيم ييسر ولو خطوة على طريق إعلاء الراية، وإحياء قيم الشريعة ..
إنه بمعنى آخر لم يكن يخاف في الله لومة لائم، لذلك كان لا يسكت عن الاستفزاز والأذى، وإن هو سكت فإنما يسكته الاحتساب المبرأ من الوصمة، ومراعاة مصلحة الدعوة، وليس مخافة النكال أو القهر..(11/55)
" فلابد أن أسعد انسان هو من لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا، ولا يضحي بآخرته للدنيا، ولا يفسد حياته الأبدية لأجل حياة دنيوية، ولا يهدر عمره بما لا يعنيه، ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيف، ليفتح باب القبر بأمان، ويدخل دار السعادة بسلام.. بناء على هذه الأسباب لا أبالي بالمظالم التي نزلت بي شخصيا، ولا أعير للمضايقات التي تحيط بي، وأقول إنها لا تستحق الاهتمام، فلا أتدخل بأمور الدنيا.". (1)
لقد ظل يتلقى الطعنات بسبب اشتغاله بالقرآن العظيم، وظل يوكل أمره في ما يناله من ضر إلى الله، وظل يحتسب الضربات ثوابا وأجرا عند ربه..
" إن العنت الذي يذيقني إياه أهل الدنيا، والأذى والتضييق علي منهم، إن كان تجاه نفسي القاصرة الملطخة بالعيوب، فإني أعفو عنهم، لعل نفسي تصلح من شأنها بهذا التعذيب، فيكون كفارة لذنوبها، فلئن قاسيت من أذى في هذه الدنيا المضيفة، فأنا شاكر ربي، إذ قد رأيت بهجتها.." (2)
لقد كان على إدراك بأن ما يناله من أذى وعسف هو الثمن الذي على من يشتغل بالقرآن أن يدفعه، لذا رأيناه يؤكد بصورة دائمة أن مقاصد النيل منه لا تحقق غايتها، إذ أن المستهدف المقصود كان هو القرآن، والقرآن شمس لا تواريها ستائر ولا حجب لأنه من نور الله ..
لقد لبث يصرح متحديا مكائد أعداء القرآن قائلا : إن كان قصدهم من التهوين من شأني وإسقاطي في أعين الناس يخص الحقائق الإيمانية والقرآنية التي أقوم بتبليغها، فعبثا يحاولون لأن نجوم القرآن لا تسدل بشيء، فمن يغمض عينه يجعل نهاره ليلا لا نهار غيره.." (3)
__________
(1) المكتوبات ص.89.
(2) المكتوبات ص.81.
(3) المكتوبات ص.82.(11/56)
لقد تنوعت أوجه الصبر والاحتساب لديه.. فقد رأيناه يتجاوز عما كان يناله من طعنات بعض المتقربين إليه . لقد كان يكشف أحيانا عن مواقف تحولت بأصحابها من موقع مصادقته والتقرب منه، إلى موقع مجافاته والابتعاد عنه، وكانت تتكشف له الأسباب التي وراء ذلك التحول، إذ كانت دوافعها إما الضعف وبيع الذمة إلى الشيطان، وإما الحسد وتحقيق البواعث النفسية الخسيسة ..
وطبيعي أن تجد السلطة في ذوي النفوس الضعيفة ضالتها لتسخيرهم في ذلك السبيل التضييقي، إذ يكفي التخويف أو الإغراء حتى تراهم ينساقون في طريق اللؤم والتنكر لمواقفهم، وكان النورسي بروحه الكبيرة وبإيمانه العميق وتجاربه الصميمة يتفطن إلى ذلك، فلا يسعه إلا أن يعرب عن اشفاقه على أولئك المنقلبين، لأنه كان يدرك ضعفهم، وقابليتهم الإمتحانية الهشة، فكان من ثمة يرثي لهم إذ يراهم يخسرون امتحانا كان يتطلع من أعماقه إلى أن يرى الناس أجمعين يكسبونه، امتحان الانتصار على الذات..
كما أن ما كان ينال الدعوة من ضربات ونكسات، تتمثل في الإيقاف المتواصل له ولأتباعه وطلابه، وفي اختلاق المزيد من العوائق والأسباب الضاغطة التي تزهق الحركة القرآنية وتعترض طريق اشعاعها الذي كان ينفذ ببطء – وبلا هوادة - إلى الآفاق من حوله.. كل ذلك كان يسحقه، ولا يفتأ يلقي به في دوامة الأسى والحسرة، لولا جذوة حية، متأججة من الإيمان كانت تزداد توهجا كلما اجتاحته العواصف ..
ولقد فتئ صموده الخارق، واجتيازه العجيب للمحن والملمات يهيِّج الأعداء ويفاقم من حقد المتغربين المتحالفين ضد الملة والأمة، فكانت جحافلهم لا تتردد في انزال النقمة على النورسي وأتباعه، فهي لا تكف عن ضرب الحركة والتنكيل بالأتباع في كل حين، لا سيما عندما استيقنت من توسع الرقعة النورانية المنبعثة من مشكاة القرآن التي كان تبثها - متألقة - رسائل النور ..
المصائب والملمات تزكي احتسابه الروحي(11/57)
ولقد كان النورسي في كل ضربة تطاله، وفي كل ملمة تحل به، ينحني -وبكل ثبات إيماني وإصرار إحتسابي - على الجروح يضمدها، وعلى التمزقات يرتقها، والتكسرات يجبرها، والهزات يسكن من دمدمتها، شأنه في ذلك شأن الربان المحنك، تتلاطمه هوج العواصف فلا يسعه إلا الكفاح من أجل الصمود والاستماتة في سبيل البقاء..
وطفق احتسابه يتزكى من خلال تلك الإصابات الربانية التي كان يُبتلَى فيها بفقدان الأعزاء وذوي القربى، حيث كان يعرب عن تأثر دامغ، وإحساس فاجع بالوحشة والعزلة والانبتات..
لقد كان وعيه بالموت وعي المؤمن المدرك أن الطريق يستوعبنا جميعا نحو ذلك الصعيد الذي أعدته القدرة الإلهية من خلال إضفاء نعمة الخلود لذوي الحظ ،المُنَعَّمِين.. لكن النورسي وعلى الرغم من ذلك، كان يعرب في تلك الأحوال عن حسرة مشبوبة ولواعج لاهبة.. وكانت تند عنه عواطف الكمد والإحتساب ..
لقد كانت - مثلا - فاجعته كبيرة ومحسوسة وعلى وقع بالغ حين فقد ابن أخيه عبد الرحمان الذي كان بمثابة ولده الصلب.. لقد طفق يذكره بالحنين وبمشاعر الثكل على الدوام، وكان استدعاؤه لذكراه يجسد ذلك التزاوج من الحسرة والإلتياع الذي كان النورسي يعرف كيف يرتقي به ويحوله إلى إيمان واحتساب..
وكذلك كان حاله مع مقربين آخرين فقدهم في ظروف كانت شدتها تزيد من وطأة المحنة عليه، فكان خلو المكان منهم في تلك الظروف يجعله يعيش تحت كلكل الوحدة وانعدام السند والمواسي..
لكنها حال كانت لا تبرح أن تزايله .. إذ كانت بواطنه موصوله على الداوم بالله، وكانت الملمات والعوارض النفسية الابتئاسية غالبا ما تتحول إلى مواقف للخشوع الذي ينتفض فيه القلب دفعة من مشاعر الضعف، ليعاود الاستظلال بالإيمان..(11/58)
فالإحساس بالوحدة لابد وأنه كان يطرق جوانحه أحيانا، وإن ظلت الخواطر الحميمية عنده مناطة بجو الإيمان الذي يعمر قلبه، لكن الضعف البشري كان حتما يستثير بواطنه - على نحو أو آخر، ومن حين لآخر - وكانت - حتما - لحظات الضعف تأخذ لديه صورا وأحوالا تنازعه فيها روحه بكيفية أو أخرى، وتشده إلى هذا المنزع أو ذاك.. إذ لم تَخْلُ نفس من خلجات تساورها..
بل إن وطأة الاستغراق في سيولة الزمن الذي تعيشه نفس المنقطع، المتبتل، كانت تستنزفه وتنهكه، إذ لم تكن الفجاج التي كان يخوض غمارها كلها إشراقات ومباهج، بل إن في نفس الإنسان نوازع إلى الكمون والوهن ما تنفك تعاودها وتكدر جلاوتها، فلا تخرجه منها إلا نسائم التأمل والإيمان حين تهب على القلب من جديد، وتعمل على إنعاش روضته وتخضيلها بقطرات الندى الروحي..
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد حيويته وراحته في الصلاة، وظل أهل الكشف يتخففون من وعثاء السفر النفسي، باصطناع المنشطات القلبية كي تنجلي بها عنهم الغمرة .. فلا غرو أن يكون ذلك أيضا هو حال النورسي إذ أنه - بما انطوت عليه نفسه من نوازع بشرية، وبما احتازته تلك النفس من روحانية وحب استشراف، كان يعبر لحظات مجابهة الذات ومواجهة النفس الأمارة بكثير من الاقتدار والتوفيق ..(11/59)
وربما كانت نوبات العزلة تحمله على التفكر في ماضيه، وعلى الاسترسال الساعات، أو الأيام، في استدعاء الذكريات .. وربما كان ذلك جزءا من تلك الحال التي تسعى فيها القناعة الإيمانية إلى أن تتطهر من شوائب تلك الأحاسيس الحميمة التي كانت تضاعف من آثارها الشيخوخة المتمادية وكرور الأيام على وتيرة رتيبة لا تفتأ تعمق من كدر الأسى في النفس، لولا اعتصام روحي كان يستجيب به النورسي –وبصورة مدهشة - لتلك الأحوال المتوترة، وذلك بعروجه القلبي إلى شحرة الإيمان كلما نشبت فيه السآمة أظافرها وألحت عليه الخواطر بالابتئاس جراء الإحساس بالخيبة أو بالإفلاس، أو ما إلى ذلك..
الإقتصاد والتعفف في النفقة وترشيد القوت
لقد فتح النورسي كتاب حياته على الأشهاد .. فهو كتاب لم يكن يحوي من ألوان المباهج ومظاهر العز الدنيوي ما يعطي لبياناته طابعا افتخاريا ويجعلها مجرد صيغة للتباهي الأخرق ..
لقد طفق يتلو علينا وقائع تلك الحياة، ليجعل منها معيارا صالحا تنبني على وفقه أو قريبا منه، المصائر ..
لقد سلك تجربة معاشية متعالية، وكان لها ضريبتها الباهظة، ولكونه أيقن أنها تجربة جديرة بأن تعاش، فلم يتردد في الكشف عن أسسها وعن حميمياتها، وعيا منه أنه مربي أجيال، ومن حق الأجيال عليه أن تتطرق إلى معرفة الجوانب التي لا يُكْشَفُ عنها عادة..
لقد كان يدرك أن سيرته تقوم على الاستثناء في التصرف وفي التدبير وفي التقدير، من هنا دأب على عرض تفاصيل تلك السيرة على القراء، دفعا لهم على خوض السبيل الذي سار هو فيه، وذاق حلاوته التي قد لا يقتنع بها إلا من ذاقها بنفسه..
ومما وجدنا النورسي يكشف عنه من جوانب حياته الشخصية مجال النفقة والاقتصاد كما جربهما ..(11/60)
لقد كان تدبيره المحكم لحياته، وسداده المتقن في تسيير شؤون معاشه، مظهرا من مظاهر توفيقه وحصافته.. لقد اعتمد أسلوب التقشف في النفقة، ولم يكن ذلك الأسلوب الكفافي الذي اتبعه، ينم عن خسة في الطبع كما يقول، ولا كان خوفا من الحاجة، أو كان يتضمن شعورا رجائيا سلبيا.. ولكنه كان منهجا حياتيا يتساوق مع نظرة إيمانية كلية تتفاعل مع مسطرة القناعة والعفة على كافة الأصعدة، وخاصة منها الصعيد المعاشي، لما يتميز به جانب النفقة وتلبية مطالب النفس من حساسية ..
إذ أن تلك المطالب إذا لم تكن مكفولة بالجهد الذاتي ،فإنها ستزري لا محالة بالإنسان، بل وتهون من شأنه، وتجعله كَلاًّ بين الناس وعالة على الغير، الأمر الذي يجرده من حريته، ويعدمه عزته، وذاك ما يفقده حتى أهلية الأنخراط في سلك المعبودية الصحيحة التي هي قمة الإعتداد، لأنه يجد نفسه غير مستعصم بالله حق الاستعصام ..
لقد أيقن النورسي الذي تربى في أجواء التصوف والصوم وتربية الروح، أن ضبط نظام معيشته هو ركن تقوم عليه سياسته الروحية والحياتية كلها..
لقد كان يدرك أنه انخرط في مضمار المنازلة الروحية، من هنا كان وعيه بما للاقتصاد من أهمية ومردودية نفسية واجتماعية زيادة على الفائدة الروحية الحاسمة في كسب معركة الإيمان..
لقد أيقن أن النفس التي لا تلجمها قناعة راسخة، ولا ترتضي بنظام الكفاف، ولا تحتمل حِمْيَةً قُوتِيَةً تتهذب بها من نوازع نهمها وتوقها الذي لا يحد، هي نفس ستودي بصاحبها لا محالة، وتقعد به عن ربح الرهانات ..
لذلك حرص النورسي على أن يسلك سياسة معاشية تقوم على تلبية أدنى الحاجيات، تحريرا للنفس من قيود المطالب ..(11/61)
لقد عاش النورسي على البركة، إذ سرعان ما تبدت له عطاءات الله تتزايد وهو على سيرته المعاشية تلك، إذ أن كل لقمة كان يصيبها مما كان يتوفر عليه من رزق بسيط كان يجد لها أثرها النفسي ويقدرها بجماع عواطفه على أنها فضل من الله وارف، لا يقابل لديه إلا بالشكر القلبي العميق..
لقد حدثنا عن أسلوب عيشه وكيف كان طعامه يقوم على لون محدد لا يعدوه، وكيف أن ذاته كانت لا تحمل إلا ما ارتضاه لها من طعام، بغية الإرتقاء بها إلى منزلة أسمى وأصفى من الروحانية..
لقد أخبر - في معرض توضيحي، دفعا لما تكون النفوس تتوهمه حياله من تقاضيه المال أو تسلمه المعونات من جهة ما - أنه كَفَتْه خلال شهور ستة، ستٌّ وثلاثون رغيفا، لم يستطع إكمالها، وبقي منها عدد لا يعرف متى ينفد..
لقد كان يتبع نهج الاعتماد على النفس في تحصيل الرزق، فقد ظل طيلة خمس سنوات يتقوت مما توفر لديه من راتب - أرغمه أصدقاؤه على قبوله - عن سنتي خدمة قضاهما في دار الحكمة ..
لقد ظل يصرح أنه يعيش بـ”الاقتصاد والبركة "، وأنه لا يقبل من غير الله مِنَّةَ، وأنه قرر أن لا يقبل عطاء أحد طول حياته..(1)
بل لقد أكد – بهذا الخصوص – أنه كان يتأذى بطعام الآخرين، وأن ذلك أقنعه بأن طعام الآخرين ممنوع عليه..(2)
ولا يعني هذا أن النورسي لم يعش الحاجة، بل لقد رأيناه يذكر أن الخصاصة قد ألحت عليه في بعض الظروف، ما دفعه إلى أن يتخذ من التدابير الاسترزاقية ما قدَّر أنه يكفيه المؤونة.. لقد صرح أنه اضطر مرة إلى تكليف بعض المقربين إليه أن يطبع رسالته التي كتبها عن الحشر، وذلك بقصد كسب القوت وتأمين المعيشة..(3)
__________
(1) المكتوبات ص 82.
(2) م.ن. ص83 .
(3) المكتوبات ص.88.(11/62)
ولا بد من التنبيه إلى أنها كانت محاولة ربما فريدة، إذ أن النورسي لم يستثمر فكره ورسائله في الاسترزاق قط، بل لقد ظل يهب فكره احتسابا .. لقد كان ديدنه أن يشرك الأمة في ما كانت السوانح الربانية تنفحه به من وضَّاء القبسات والفوائد..
كان يلمس آثار البركة في حياته المعاشية بجلاء لا مراء فيه
وفي هذا الصدد نسجل نعمة البركة التي ظلت مظاهرها تتجلى له على مدى انقطاعه وعلى أكثر من وجه..لقد كان يلمسها في الغذاء المتوفر، وفي الرزق المسوق له من وراء مَن كان يؤمه من ضيوف، وفي استمرار إنفاقه من مدخر بسيط كان غيره قد استهلك مثله أضعافا مضاعفة..
كما تظهر نعمة البركة في ما كانت يده تجود به على الغير، وفي الحاجة التي يراها تصيب غيره ولا تدنو منه، ويراها أيضا في داوم تلك الفرخة التي امتلكها على التبييض له مدار الشتاء .. وتظهر في ثوب الجاكيت الذي اشتراه مستخدما ولكن مرت عليه سبع سنوات وهو هو..
لقد كان يجنبه التطلع إلى دنيا الناس ما كان يملأ قلبه من فيوض إيمانية لم تستبق موضعا لغيرها يستحق أن يستحوذ على تفكيره.(1)
ولقد ظل دائم الحديث بنعمة البركة، وبأفضال الله عليه .. بل لقد صرح مرارا أن فضل الاشتغال بالقرآن كان أساس ومصدر ذلك الفضل الذي شمله الله به، فلم يتركه عالة أو عبئا على أحد.. ولا غرو أن نجده يعلن في أكثر من موطن أن خدمة رسائل النور، والمواظبة على المدارسة الروحية قد كفته - ببركة القرآن العظيم - مؤونة التفكير في الرزق، وجعلت القليل الذي يملكه، يزكو ويستوفي الحاجة وزيادة..
وواضح أن النورسي قد سلك سبيل السلف الصالح في هذا المجال، فقد بنوا سلوكهم وتدبيرهم على التقشف وتربية النفس، ومراعاة المهيئات الروحية التي ترتفع بالذات وتعطيها الثقل المعنوي الذي يجعلها أجدر بالتكريمية..
ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع سياسة التقشف والاقتصاد..
__________
(1) م.ن. ص 86(11/63)
وواضح أن النورسي من خلال الكشف عن جوانب من حياته، إنما كان يوعز للأمة قاطبة، لا سيما وهو يراها غائصة في الفاقة والخصاصة، أن تتبنى سبيل الاقتصاد والقناعة وحسن التصرف، تخفيفا لمعاناتها المعيشية المزمنة..
كما أن سلوك النورسي في هذا المجال الانفاقي، إنما كان ينهج السبيل الأوفق والأكثر انسجاما مع روح المدنية الروحية التي كان يوقن أن الاسلام يرتضيها للعباد، إذ ستطهرهم وتزكيهم وتنأى بهم عن واقع الانغماس المادي والاستهلاك الترفي الذي كانت التحفيزات المدنية الغربية تنميها في النفوس وتغرسها في القلوب..
فسياسية القصد والاقتصاد كانت تربي في النفس القدرة على صد إلحاح الشهوة، وتروض الملكات على حسن الأخذ بالضروري، وتلك مقاصد تربوية لم تكن تستهدف المجال المعاشي فحسب، بل لقد كانت رؤية تؤسس لحضارة القسط والاعتدال وحسن استخدام الموارد الطبيعية والكونية وتثميرها على حد لا ابتزاز فيه.. وهو ما يريد النورسي أن يبصم به مدنية الانبعاث الاسلامي، لتتميز عن مدنية الغرب القائمة على الاستهلاك الفاحش والابتلاع الأهوج لخيرات وثروات الشعوب المستضعفة..
لقد أدرج النورسي حديثه عن تجربة الاقتصاد في المعاش الشخصي ضمن مرامي اجتماعية كان يراها تمس فيئات الأمة ممن كان الحرمان يضيق الخناق عليها.. لذا كان يشركها في وضع الخطة التدبيرية المعاشية التي تخفف عنها من شدة الضنك والفاقة..ولم يكن في وسعه أن ينجدها بغير الإيعاز لها بالنهج الأكثر ملاءمة لحاله.. لقد أكدت الحكمة الصينية أنه بدل أن تعطي الفقير سمكة، تكرم عليه بتعليمه فن الصيد..
رفض الإنصياع إلى التخلق بأخلاق الاستيلاب والاستغراب(11/64)
وحين يدعونه إلى التأدب بآداب مدنيتهم وتطبيق أصولها على نفسه ليتسنى له أن يجد حريته وأن يخرج من الشدة التي كان عليها إلى الانفراج والحرية .. يجيبهم بأنهم هم الذين ضيقوا عليه الدنيا على سعتها وأحالوها له سجنا، وأنه لقاء ذلك أقبل على الآخرة يستمد الرحمة من ربه..
ولا شك أن ردا من هذا المستوى إن هو إلا مساجلة كان يستحوذ بها على حججهم واتهاماتهم.. ولقد داوم على اتباع هذا التسفيه لهم على مدى تماديهم في تكبيله..
من هنا رأيناه في كثير من تصريحاته يسفه منطقهم الذي يطالبه بأن يأخذ بمنهج حياتي كانوا يرتضونه هم لا هو .. إذ كان يستغرب منهم أن يطالبوه بالانصياع إلى مشيئتهم تحت القوة ووطأة الأثقال التي يقيدون بها حركته، من خلال الإقامة والاعتقال الدائمين ..
لقد كان يرى أن من الصواب - لو أن النظام كان على حظ من الشرف - أن يراعوا في ما يطالبونه به شرط الحرية، ذلك أنه أولى لدولة تدعي الحرية، أن تسوس الناس في ما تراه مصلحة، في كنف الحرية، أما أن تحملهم بالقوة والإكراه على اعتقاد آرائها، لا سيما إذا كانت محل ريبة وافتئات، فإن ذلك لا يعد إلا من صميم القهر والاستبداد الذي لا ترضاه نفس حرة، تستمد قوتها من مبادئ عقيدتها..
لقد كان يشترط عليهم إطلاق سراحه من الاعتقال أولا، ثم عليهم بعد ذلك أن يطالبوه بتطبيق آدابهم في اللباس والسلوك الاجتماعي ..(1)
والحقيقة أن منهجه قد تعارض مع منهجهم منذ المنطلق، إذ أن مكونات روحه ووجدانه كانت تحدوه للسير من حيث سار، وهو ما كان يستحيل معه أن يتوافق أو يتلاقى المنهجان..
__________
(1) انظر المكتوبات ص 87(11/65)
لقد كان يتمرس بالحقائق الايمانية التي يهديه إليها تأمله وانقطاعه عن الحياة العامة، وقد ألغى من حسابه أن يطرق باب أحدٍ بغاية إشراكه في إصابة شيء مما كان يصيب هو من ثمار التأمل والتعمق القرآنيين.. لكنه مع ذلك كان على ثقة وطيدة من أن مائدة الله - حيث جلس - والتي لا يحجبها عن الخلق بواب، لن تلبث أن تستهوي وتشد إليها الفيئات التي كانت أرواحهم في مسيس الحاجة إلى الدواء القرآني ..
ومن جهة أخرى نجده يكشف عن صلة التقلب والتلون التي كانت تجسدها مواقف طائفة ممن كانوا ينتحلون صداقته، والذين كانت تدفعهم المصلحة الطارئة أحيانا إلى اظهار التبرؤ منه، بل والذين كانوا لا يتورعون عن انتقاده، استجابة لدواعي تحريضية أو تهافتية، لم يكن تفيدهم بشيء في النهاية، إذ أن موقفهم المتقلب لم يكن ليخدع حتى أعداءه، إذ سرعان ما كانت تعاودهم الريبة إزاء أولئك المتحولين، فيشددون النقمة عليهم ..من هنا كان النورسي يعاتب أولئك النمادج المنافقين، ويواخذهم على تهربهم السافر منه ومن خدمته القرآن، وكان عنده اليقين أن لا أذى يلحقهم جراء صداقتهم لخادم القرآن لو أن إيمانهم كان على مستوى من الصدق والصفاء.
استنكاره مواقف السلك الديني الذي كان يناصبه العداء ،لما يتوهمون فيه من منافس، ولما يلمسونه في نفوسهم من ضعف حياله
لا يني النورسي يكرر على الأسماع بأنه لا ينافس أحدا بعمله القرآني وانقطاعه التعبدي، وأن كل مضايقة تصدر عن تلك الجهات الدينية التي كانت ترى في نشاطه مناهضة لمركزها ومنافسة لمنصبها، هي " في حكم المتعرض للإيمان في سبيل الزندقة والإلحاد" (1)
__________
(1) المكتوبات ص.89.(11/66)
لقد ظل الدين واجهة تصطنعها النظم والسياسات من أجل إرساء سلطانها، وقد سعى النظام التركي المتغرب من جهته إلى تجنيد فقهاء صنائع، مناوأةً لكل صوت يدعو إلى الحق ويثور ضد الباطل.. وكان يسيرا على نظام صمم منذ المنطلق على التحول بالأمة إلى طريق التغريب والردة ومناددة الدين، أن يصطنع من الوجاهات المسوسة، والمدخولة الباطن، والتي لا تعدم منها النظم - في كل عصر ومصر- أرتالا وجحافل تقف على القارعة مترقبة أدنى إشارة من عابر، لتهرع إليه وتهز له أكتافها وأردافها غواية وصغارا وحقارة نفس..
بل إن تلك الأصناف في احترافها للغواية والسقوط، تجد نفسها تعادي تلقائيا كل صوت للحق أصيل، وكل توجه للحقيقة بريء ..
في مثل هذا الجو كان النورسي يجد نفسه محاصرا، ليس بسلاح القمع المادي والنكال الحسي وحده، ولكن إلى ذلك كان يرى كتائب الخيانة والنفاق تتصدى له محرفة الكتاب، مضللة الأمة، مسوغة لإجراءات الخيانة والردة، ناطقة بما كان السلطان الدنيوي المخترق يمليه عليهم ويفتيه..
وكان طبيعيا أن تتنوع أساليبهم في مناهضة الدعوة ومحاربة مبادئها..
كما أن مناوأة دعاة الحق، ولو حول شأن شرعي، خلافي، في وقت اشتداد الخناق عليهم من قبل جهة الكفر والطغيان، إنما هو تخذيل لهم، وفَتٌّ في عضدهم، في ظرف كان الواجب يحتم مؤازرتهم والأخذ بأيديهم..
لقد كان النورسي جبهة تصدت لها في الآن نفسه، جيوش الردة وجحافل الخيانة، وفرق النفاق .. وكان لسان حالهم ورأس حربتهم في ذلك التكتل الخياني، طائفة العلماء المحسوبين على الدين..
لقد كانوا هم في طليعة من يسددون السهام في وجهه بأمل أن يسكتوه، لكن نوع العيارات التي كان يستخدمونها في الهجوم عليه لم تكن إلا فرقعات اصطناعية بالقياس إلى ذخيرة القرآن الحية، والتي كان النورسي يدك بها حصونهم كلما التفت إليهم ..(11/67)
من هنا كان حتما أن تتهاوى صروحهم الكرتونية التي ظلوا يشيدونها من الإفك والهوى، وأن تشمخ قلاع الحق وحصونه، الممثلة في ما أرسى النورسي من مادة القرآن وحجارته السجيل، وما خطت يمينه من رسائل منورة بوهج القرآن، وكان حتما أن يذهب الزبد جفاء وأن يمكث ما ينفع الناس في الأرض، سنة الله في أرضه، ورحم الله عبده المستضعف النورسي على ما بذل وما أعطى..
من شعاراته
"إن كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة، ففي خادمه بفيض القرآن علم لا يلتبس، وكلام لا يسكت، وقلب لا ينخدع، ونور لا ينطفئ".(1)
ومن تعاليمه المبينة على استراتيجية تجاهل الدنيويين
"إن طلب الحق من مدعي الحق زورا ومراجعتهم، ظلم وبخس للحق وقلة توقير له...أما سعيد الجديد فيرى أنه لا معنى حتى في التكلم مع أهل الدنيا".(2)
من الواضح أن النورسي لم يكن يرى في النكسات والتضييقات والإبتلاءات التي يتعرض لها، مؤشرا لطاعة مبرورة أوعلامة على صواب وقبول إلهي مؤكد، كما ألف الناس أن يفسروا وقوع المصائب لأهل الصلاح: المؤمن مصاب..
كلا، ولكنه كان يرى في ذلك برهانا على أن الاستقامة والخلوص في إيمانه لم تبلغ بعد غايتها.. من هنا كان يستأنف تحريه عن الحق ويواصل المسار بلا كلال .. لقد كان تلاحق الإبتلاءات عليه من أبرز الدوافع التي تعزز فيه الاصرار على نشدان المنزلة الحق .. لقد كان يعتبر نزول المحن بساحه بمثابة العقوبات التي لا يفتأ المولى - عز وجل - يستهدفه بها ليحمله على تصعيد الجهد أكثر وتكريس مزيد من الإخلاص ، في محبة لله، تقويما للنفس مما يكون وقع لها من إحساس بالكمال، أو ما داخلها من الشعور بالرضى أو بالإغترار.. فالابتلاء كان يتلقاه النورسي على أنه تنبيه رباني يخرج النفس من غفلتها..
__________
(1) المكتوبات ص .91.
(2) انظر الكلمات ص. ص.94.(11/68)
وهي نظرة كما نرى تتجاوز حدود الرضى التي تواترت في أخبار وتجارب أهل الصلاح.. فقد ظلت العقول ترى في وقوع المصيبة بأهل الله، عربون حظوة وقبول.. لكن النورسي، لا يقبل بهذا الاعتقاد ترجمة لما كان يلم به، بل لقد كانت النوازل القدرية تروعه لا لتخاذله في تحمل البلاء، كلا، ولكن لأنه يقرأ فيه رسالة إلهية تستنقص ما كان يتجشم من عناء في سبيل تعميق إيمانه، من هنا كان يتملكه ذلك الشعور المرير، وذاك الارتياب من مصداقيته التعبدية..
وإنه لموقف ضَرَبَ بعيدا في مجال نكران الذات والإيغال في ترويضها على السمو..
وشتان بين ما دأب عليه السالكون ممن كانت مشاعر الرضى عن النفس تخرجهم عن الطور..وبين هذه الروح الوجلة التي لا تهادن النفس، ولا تتيح لها أدنى نَأْمَةٍ من طمأنينة، مخافة أن يتملكها الغرور في مضمار لا مجال فيه للغفلة..
بلاغة التعزية
إن النورسي الذي كان يعتزل الناس بإرادة تعبدية شخصية من جهة، وبتقييدات حكومية من جهة ثانية، لم يكن يتسنى له أن يعقد الأواصر مع الناس على نحو عادي، لذا رأينا دائرة خلصائه محدودة .. وكانت دواعي المحبة تقتضي منه أن يبدي مشاركته العاطفية إزاءهم في ما يسري عليهم من أحوال السراء والضراء.. فكان لا يتردد..
لقد رأيناه مثلا يعزي بعضهم، فكان مكتوب التعزية يخرج كلية عن الطابع العرفي الذي اعتدناه في رسائل التعزية..
فبلاغة التعزية - كما يكشفها سياق الأعراف – كان ديدنها إظهار إرادة المشاركة في الحزن والتسرية .. إن شيئا من تلك البلاغة البروتوكولية لا يبدو له أثر في ما خط النورسي من رسائل تعزية ..(11/69)
بل لقد رأيناه - وهو يخوض في صياغة الموقف العزائي - يسير على ذات المنحى الخطابي، التوجيهي، الذي اعتاد السير عليه في سائر ما كتب .. فهو يتخذ من الحادث مقاما يتحدث فيه عن رؤيته للحق المتجسد في كل حدث، وعن إيمانه الذي لا يتزعزع، وعن صلة المخلوق بالخالق كما ينبغي أن تكون على هذا الصعيد الأرضي وعلى الصعيد الأخروي.. فالمناسبة العزائية تتحول بين يديه إلى درس مفصل يسوق فيه من الدلائل ما يتحول حقا بالمشاعر إلى جو من السكينة والتأسي وتجديد اليقين، والتفاؤل بالقابل وبالمصير الأخروي الثابت..
ومن الطبيعي أن تستند الموعظة على دعامة القرآن من جهة، وعلى الارتكاز القصصي الذي اعتاد النورسي أن يُلَوِّنَ به أفكاره ويعرض من خلاله رؤاه.. ليخلص من ذلك إلى إرساء قناعته الموصولة بإيمان بالله عتيد .. قناعة تعكسها تلك المشاعر الدالة على خلوص روحي واعتمال قلبي ووجداني ينهض بحجتها ويكرس من يقينها.. لقد رأيناه يطرح رؤيته في موقف تعزية صاغ نصها بمناسبة وفاة طفل لأحد خلصائه ، نقتطف منه هذا المقطع الرؤيوي :
"إن الطفل المتوفى .. ما كان إلا مخلوقا لخالق رحيم وعبدا له، وبكل كيانه مصنوعا من مصنوعاته سبحانه، وصديقا مودعا من لدنه عند الوالدين ليبقى مؤقتا تحت رعايتهما، وقد جعل سبحانه أمه وأباه خادمين أمينين له، ومنح كلا منهما شفقة ملذة، أُجرةً عاجلة ازاء ما يقومان به من خدمة. والآن إن ذلك الخالق الرحيم الذي هو المالك الحقيقي للطفل - من الألف تسعمائة وتسعين حصة- إذا ما أخذ بمقتضى رحمته وحكمته ذلك الطفل منك، منهيا خدماتك، فلا يليق بأهل الإيمان أن يحزنوا يائسين ويبكوا صارخين بما يومئ إلى الشكوى أمام مولاه الحق صاحب الحصص الألف، مقابل حصة صورية، وإنما هذا شأن أهل الغفلة والضلالة". (1)
__________
(1) المكتوبات ص.98 .(11/70)
ومما لا ريب فيه أن النظر إلى الموت بهذا المنظور قد أعطى له - بوصفه شرطا وجوديا قدريا – دورا وظيفيا تحددت فيه مسؤولية الأحياء ، بوصفهم مجرد مُوَكَّلِينَ من قبل الله - عز وجل - بمهمة تعهد الوديعة المنتزعة، دون أن يكون لهم فيها ملكية، إلا ملكية صورية ثَبَّتَ الله أسبابها بما زرع في القلوب من حنان ومحبة للمتوفى ..
ومما لا شك فيه أن المنطق التمثُّلي الذي فكك به النورسي العلاقة الوظيفية بين الوالدين والمولود – في التعزية السالفة – قد ساهم في إضفاء سمة موضوعية خرجت بتلك العلاقة من إطار الحميمية والرَّحِمِيَة وما يستتبع ذلك من مشاعرالقرابة والتعلق، إلى مجال الإثابة إلى الباري وتأدية الدور الذي قُدِّرَ للأبوين أن يؤدياه بكل موضوعية وتسليم..
ترى هل يمكننا القول إن النورسي يريد للتربية الانسانية أن تدرج في وعيها هذه الحقيقة الربانية التكليفية، بحيث تضحى العلاقة الرحمية علاقة موضوعية، قائمة على انصياع روحي، لأن مبدإ الملكية والنسب قد خرج عن نطاق الوشيجيه الدموية والعاطفية.. إذ أضحى للنسب مالكا أعلى، الخالق عز وجل..
إنها حال لو تتحقق لأزاحت عن الانسانية أثقالا من اللواعج التي لا يبرح الفرد يتكبدها كلما فجع في قريب..
الحدب على الانسانية قاطبة
تظهر فلسفة النورسي السلمية في حدبه على الانسانية قاطبة، فالانسانية - بحسبه – هي الرابطة الأم التي لا ينبغي للإنسان أن يتنكر لها أو يحيد عنها بحيدته عن سنن التآخي والالتزام بمبادئ المحبة التي ينبغي أن تربط الإنسان بأخيه الانسان، لاسيما بين المؤمنين الموحدين ..
بل لقد رأى أن الاسلام هو الإطار الروحي الذي يعكس التلاحم بين بني البشر قاطبة ..(11/71)
"إن ما يسببه التحايز والعناد والحسد من نفاق وشقاق في أوساط المؤمنين، وما يوغر صدورهم من حقد وغل وعداء، مرفوض أصلا، ترفضه الحقيقة والحكمة ويرفضه الاسلام الذي يمثل روح الانسانية الكبرى، فضلا عن أن العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر الشخصية والاجتماعية والمعنوية، بل هو سم زعاف لحياة البشرية قاطبة". (1)
وتظهر فلسفته السلمية أيضا في الدعوة إلى التزام موقف التنزه المستديم وتبرئة الذات من الأمراض النفسية والعدائية التي تسبب الفرقة والشقاق بين الناس ..
فأمراض النفس هي عنوان على صغار يأبى النورسي أن يرى الإنسان واقعا تحت نيره.. ذلك لأن النورسي يقدر أن تلك الأبعاد الهدمية الناتجة عن اختلالات النفس والمشاعر، لا تطال الأفراد المتباغضة فحسب، ولكنها تطال المبدأ الإنساني بكليته، من حيث كون الانسان الواقع تحت طائلة الظلم والحقد والبغض، هو مخلوق إلهي ومادة تتجسد فيها قدرة الله ..من هنا كان الاعتداء على الانسان اعتداء على تلك القدرة ومساً بالقدسية.. ومن هنا أيضا كان تباغض المسلمين نوعا من الظلم الذي تحركه نظرة قصور لا تستطيع أن تقدر ما يميز المؤمن من حسنات، كيفما كانت نواقصه أو عيوبه الجزئية ..
فالمخلوق الانساني، لا سيما المؤمن، لا يعدم الفضائل، وإن حملت نفسه نواقص وسلبيات ".. فكما أن هذا الظلم شنيع وغدر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة اِلهية، لِمجرد صفة مجرمة فيه تستاء منها وتتضرر، مع أنه يتحلى بتسع صفات بريئة بل بعشرين منها : كالإيمان والاسلام والجوار..إلخ. فهذا العداء والحقد يسوقك حتما إلى الرغبة ضمنا في إغراق سفينة وجوده أو حرق بناء كيانه، وما هذا إلا ظلم شنيع وغدر فاضح ".(2)
__________
(1) المكتوبات ص339.
(2) المكتوبات ص 340.(11/72)
إن هذه النظرة الإكبارية، والتى تبجل الإنسان وتقر له بالفضيلة، مهما خفيت هذه الفضيلة أو جارت عليها رذائل ليست من جوهر النفس البشرية، قد ارتفعت إلى مستوى باين المواقف الوعظية المعهودة التي ألفناها في تراث كثير من أدعياء الوعظ والوصاية على الانسان ..
لقد استندت هذه النظرة إلى فهم رفيع وموضوعي لحقيقة الإنسان، لا سيما المؤمن، وقدرت النتائج الوخيمة المترتبة عن عاطفة التنافر الذي تولده الصلات التي لا تقدر أهمية الترابط والغض عن هنات الانسان حيال الانسان..
إذ من شأن المحبة أن تكفل للدائرة الانسانية إطارها الأخوي المثمر الذي تسمو به القيم وتسود الأخلاق..
فمن طبيعة الإغضاء عن نواقص الغير، أن تنتهي بالفرد إلى مستوى من المسؤولية السمحاء تصان بها حقوق..
إنه مستوى من النظر – يبديه النورسي - ارتفع بالإنسان إلى صعيد الإكبار والغيرة على حصانته القدسية التي قررتها كتب السماء وحرض عليها القرآن في أولى سورة دشن بها خطابه للعالمين..
لقد أكبر النورسي الإنسانية ونافح عن كرامتها التي أهدرتها معتقدات الوضاعين وفلسفاتهم حين جعلت الانسان مجرد آنا غريزة شبقية يثار ويسكن على إيقاع الشهوة والباعث الجنسي الحيواني، وجعلته آنا آخر مستوفزا، يقطع الرقاب ويزهق الأنفس استئثارا باللقمة وحده، مغالبةً وصراعا طبقيا لا مرحمة فيه .. وجعلته آنا ثالثا كائنا لا عقل له ولا عقال، انبثق من الصدفة وستبتلعه الصدفة، وبين هذا وذاك عليه أن يراوح بين الأشواط عابثا، مستهترا بالمثل وبكل ما يسوس الإنسان ويعلو به عن حضيض النزوات..
لقد صدر النورسي في هذه الرؤية عن تعاليم القرآن العظيم التي جعلت الإنسان خليفة في الأرض، وجعلت البشرية أمة واحدة مساسة بشريعة واحدة لا مجال فيها للإصطفاء المجاني أو الإرثي أو الإعتباطي ..(11/73)
لقد أودع الله رسالته بين الناس، وهيأ لها من البشر كل قبيل يتعالى عن مفاسد التعصب والعرقية والإستبداد، ليدعو إلى الله بالحجة وبالكتاب المبين، وليرص صف الإنسانية ضد الهزات التي تتسبب فيها ضلالات الجاحدين ومن انحرفت فطرتهم وسلكوا سبلا أبعدتهم عن الجادة..
ولقد سار النورسي في هذا النهج المعلي لشأن الإنسان .. وهو درب سار فيه من قبله أسلافه وقدواته في حب الانسانية من علماء المسلمين : وفي مقدمتهم الإمام العزالي الذي كانت تعاليمه - وإن خاطبت المؤمن في الدرجة الأولى - إلا أنها جاءت متشحة بتسديدها الانساني الذي لا يقصي بشرا ..
لقد كان الغزالي يخاطب من خلال الفرد المسلم، الإنسان عامة، ذلك لأن الصورة التي يتمثلها الغزالي لمستقبل الإنسانية هي صورة الإسلام..
فالقرآن بمنطلقاته العالمية لم ينغلق ولن ينغلق عن أي جهة من البشر مهما كانت عرقيتهم أو فصيلتهم .. من هنا كانت رأفة الغزالي كبيرة، وكانت مرحمته عارمة تشمل الخلق قاطبة في كل توجيهاته وترشيداته للمسلمين .. وبذات الرؤية ظل النورسي يستشرف مستقبل البشرية، وظلت عيناه تخايلان الغد الإسلامي الذي سوف يشمل الإنسانية قاطبة..
فقد ظل النورسي يرى الغرب على الدوام، ومن كثير من الزوايا، يحبل بالإسلام..
بل لقد كانت نزعة النورسي الإنسانية تحتدم توقا وأملا في أن ترى البشرية قاطبة تنضوي تحت لواء الإسلام، لا لأنه كان مسلما فحسب، ولكن لأنه كان عامر القلب بحب الإنسانية، وكان يود لها أن تختار الطريق المؤدية إلى الله..
فهو لم يكن ينكر على سائر الأمم ما عندها من ديانات وعقائد تبجلها وتتسامى بها، ولكنه كان يعلم أن الدين الأكمل والأوفق للإنسانية هو الدين الإسلامي.. فمن ثمة كان يحب لها ما يحب لنفسه ..(11/74)
ولقد كان يرجح محبته تلك ويبرئها من الأغراض والإدعاءات، فما كان التعصب للدين هو وحده الذي يدفعه لأن يعز عقيدته ويرفعها فوق الديانات .. بل لقد كان اطلاعه على تلك الديانات في مصادرها، ومقاربته العقلية لأسسها ولروحيتها، يقنعه بأنه من الخير للبشرية ومن سعادتها أن تتفتح على الدين الإسلامي الذي لا شك أنه سيكون أنسب حاد لها على طريق الإعمار والتلاحم الأخوي السوي..
لقد كانت دعوة النورسي الأممية إلى الدين الإسلامي موقفَ مبرّة، موقفا منزها من شوائب الإستدراج التي لبثت الإرساليات والجمعيات التعصبية تمارسها بين فئات البشر، مستغلة فقرهم وعوزهم وانغلاقهم الفكري والمعرفي..
فالبشر خلقوا أحرارا والدعوة إلى الله لا ينبعي أن تأخذ صورة الإلزام المقَنَّعِ، لأن غرس العقيدة الكتابية ظل مقرونا بأحوال من التخنيع والإغراء والاحتيال .. وذاك ما يبرأ منه الإسلام الذي ظل شعاره على مدى الأطوار: (لا إكراه في الدين). وذاك ما كانت تجسده دعوة النورسي وحدبه على البشرية ..
لقد كان يريد لها أن تنخرط في حظيرة دين مطهر، عاصمه الأوحد هو الله، دين يرفض كل دواعي الإستعباد والتوسع والأثرة، والدجل المسفه بمكانة الله القدسية..
لقد شاء النورسي للإنسانية أن تنضوي تحت لواء الإسلام الذي يسع الجميع في كنف من الوحدة وعدم التمييز إلا بالعمل الصالح.
على أن النورسي يقرر أن العداوة وإن لم تظهر في صورة فعل ، فهي ظلم في نظر الحكمة الالهية، ذلك لإن النورسي ينطلق من المسلمة الدينية التي تجعل من الانسان خليفة الله في الأرض .. فهذه المكانة لم تتطرد للإنسان إلا بفضل ما أودع الله النفس البشرية من قابليات الخير والسمو .. من هنا فإن إضمار العداوة هو وجه من وجوه خيانة الموثق.(11/75)
ومن جهة أخرى فإن النورسي ينعى خلق العداوة على المتصف بها، بما هي خلق طارئ على النفس، وناشئ عن اختلال أصاب ميزانها، فهي حيدة عن الصواب والاستقامة التي شرطها الله في الانسان وركزها في فطرته .. ووقوع الانسان تحت نائرة البغضاء ومعاداة أخيه الانسان هو مظهر شاذ، ولا ينسجم مع الفطرة السوية، تلك الفطرة التي تجسدها الطفولة وما تتسم به من براءة وطهر ورحمة..
من هنا استنكر النورسي علاقة العداوة التي تربط المؤمن بالمؤمن، إذ رآها محكومة بنظرة غير رشيدة، نظرة تُقَوِّمُ الفرد ببعض جوانب النقص فيه، متناسية ما له من جوانب الكمال الأخرى.." إن إضمار العداء للمؤمن والحقد عليه ظلم عظيم، لأنه إدانة لجميع الصفات البريئة التي يتصف بها المؤمن بجريرة صفة جانية فيه ". (1)
فدواعي الشر التي يتقمصها الانسان ليست فطرية فيه، بل هي اكتسابية تلحقه جراء اختلاطه بالآخر.. على عكس أخلاق الخير، فهي لطيفة من لطائف القلب الإنساني النزّاع إلى الخير ما تهيأت له الدوافع والمحرضات الترشيدية .. فأخلاق الخير والفضيلة بهذا الاعتبار هي قابلة للشيوع..
من هنا نرى الفضائل تنعكس على سلوك الناس وتفشو فيهم لتناغمها مع ما تنطوي عليه نفوسهم من جوهر الخير والكمال..(2)
إن هذا الموقف المنتصر لخيرية الإنسان يفضي بالنورسي إلى القول بوجوب احترام وجهة النظر الخاصة، إذ التدافع بين الناس ينجر في العادة عن اختلافهم في الرأي والنظرة، وعن تباين اجتهادهم الذي ينعكس بدوره على تباين جهودهم، الأمر الذي يجعل الغلبة من حظ الأقوى والأكثر استبدادا وطغيانا .. من هنا يعترض النورسي على الإنسان المعتد بأحقيته ورجاحته سلوكا ورأيا قائلا :
__________
(1) م.ن. ص342.
(2) م.ن. ص342 .(11/76)
عندما تعلم أنك على حق في سلوكك وأفكارك يجوز لك أن تقول : إن مسلكي حق أو هو أفضل ولكن لا يجوز لك أن تقول إن الحق هو مسلكي أنا فحسب."(1). "وعليك أن تصدق في كل ما تتكلم به ولكن ليس صوابا أن تقول كل الصدق"(2)
وطبيعي أن يحذر النورسي من مضمرات النفس ونقائصها، ويجعل تطهير الضمير هدفا تتوجه إليه عهدة الإنسان الصالح على الدوام .وأن تكون الحسنى هي الرد الذي يطفئ نائرة العداوة والشحناء بين المتنازعين .
وسنجده يحلل آفة الحسد استكمالا لنظرته المقومة للنفس البشرية، فيراها في طبيعتها اعتراضا على مشيئة الله .. فالحاسد يصدر عن روح لا تهنأ بما يرى عليه المحسود من حال .. من هنا كانت حقيقة الحسد تتمثل في سخط النفس على ما قدر الله وأعطى ..(3)
الإختلاف الإيجابي بين أفراد الأمة والمجموعات، رحمة
لقد رأى النورسي في الحديث الشريف " اختلاف أمتي رحمة " أن المقصود به الاختلاف الإيجابي البناء، وهو الذي تجسده المواقف السمحاء التي، وإن اعتدت بما لها من رأي أو نظر، فإنها لا تتجاوز في ذلك حد الاعتدال لتناهض الطرف المخالف، وتدفع آراءه بالعنف وتتحامل عليها بالباطل..
فذلك مظهر استبدادي يرفضه المنطق وتأباه الأخلاق وحقوق الانسان المكرم ..
ومما يسجله النورسي في هذا المجال تلك الفرقة الحزبية والسياسية التي تميز العصب .. أنها باتت مراسا ينشد الحمِيَّة والظهور التعصبي من أي جهة كانت، حتى ولو من الشيطان، الأمر الذي يبرز روح الافتئات التي تحكم متعاطيها وقابلية الشر والبهتان التي تشرطهم، اقتناصا لفرص الغلبة، إذ أن الحمية الحزبية تدفع أصحابها - ضرورة- إلى التنقيص من قيمة وحقيقة الآخر، وتجعله خصما بالقوة وبالفعل، وتتهيأ إلى معارضته بشتى الوسائل، ولو كان ذلك الخصم على حق وصواب..
__________
(1) المكتوبات ص342
(2) م.ن. ص 343
(3) م.ن. ص346.(11/77)
من هنا كانت التواثقات الجماعية مفضلة عند النورسي.. فالإختلاف إذا كان إطاره واحدا وغاياته مشتركة، فمن شأنه أن يخدم الحقيقة، وأن يظهرها في كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح، على العكس من تعدد الغايات وتباين العصبيات واختلاف الاهواء والحسابات الذاتية الناتج عن اصطراع الشيع والفيئات، فإن الحقيقة في خضم الفرقة لا تلوح إلا على سيول من الدم والجراح، وهو ما يهدر الجهود ويفاقم من الخسائر ومن أسباب الإفتتان والتناحر .(1)
لقد مضى النورسي يعالج أدواء النفس على نحو ما ظل يصنعه رجال السلف من أشياخه لا سيما الغزالي. فتحدث عن أمراض الحرص والعداوة والنميمة.. تلك النقائص التي تفسد الروابط بين الناس وتسيء إلى خلقية الفرد ويتحول بها عن الاستقامة والاستواء..
وكانت رؤيته في ذلك تتسامى وتأخذ بعدا شموليا في مستوى روحية الامة، فحديثه عن أمراض الروح وترديات النفس مثلا، ما برح يتحول - وعبر مواقف التسديد التي ظل يتعهد بها المسلمين - من إطاره الفردي إلى إطار جمعي حيث طفق يجنح بخطابه التوجيهي إلى الأقوام، وبالتالي إلى الأمة، لأنه كان على إدراك بأن حال المجتمعات أو الأمم من أحوال الأفراد.
من هنا ظل النورسي في إحالاته وتحليلاته لتلك الآفات التي تصيب نفوس الأفراد، يلفت الأمة إلى واقعها المتفكك ،الموبوء، والمنهك بأمراض جعلتها تفقد العزة وتنبخس بين الأمم.
انسانيته قرآنية الروح والغاية
يؤمن النورسي بإنسانية المؤمن، وبقابلية قلبه لإغداق المحبة على بني الجنس كافة، فالإنسان المؤمن، القرآني، إنسان محب للجنس البشري بأسره، بل هو محب لسائر الموجودات، يسعد بسعادتها، ويشقى بشقائها، لما يشعشع في قلبه من نور يشرع أبواب الروح في وجه الإنسانية قاطبة، ويقرب إليها كل مخلوق، بل كل موجود مما يعمر البسيطة، بما تستنبته الرحمة الإلهية من روابط الأخوة والقربى في قلب الإنسان القرآني:
__________
(1) م.ن. ص348(11/78)
".. فكل مؤمن يستطيع أن يكون بنور القرآن والإيمان سعيدا بسعادة جميع الموجودات ،وبقائها، ونجاتها من العدم، وصيرورتها مكاتيب ربانية، ويغنم نورا عظيما بعِظم الدنيا، فكل يستفيد من هذا النور حسب درجته". (1)
فلا جرم "..أن الانسان ذو علاقة - من حيث الانسانية - مع أكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولا سيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان، وبالأخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من أهل الكمال، فهو أشد تألما بآلامهم وأكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل إسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من أجل ولدها، أما إن كان من أهل الضلال، فإنه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وبإعدامها الظاهري بآلام ذوي الأرواح، أي إن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه فيمضي إلى جهنم معنوية قبل أن يساق إلى جهنم (في الآخرة)" .(2)
إن " القانون الإلهي الذي يدير الظراهر - بسيطها وعظيمها -والذي تشير إليه الآية الكريمة : (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) (لقمان 28)، هو الذي تدرك بعض آثاره الحواس في ما يعرو الأرض والمواسم من تغير، وفي ما تطَّرِدُ به أحوال الإنبات والإثمار من سيرورة، فبذلك القانون يبدل الصانع الحكيم لباس طائر وريشه ويجدده، وبالقانون نفسه يبدل لباس الكرة الأرضية كل ربيع ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة".(3)
حقا " إن الزهرة ترحل من الوجود، إلا أنها تترك آلافا من أنواع الوجود ثم ترحل، وبهذا المثال يبين قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا".(4)
__________
(1) م.ن. ص372
(2) م.ن. ص372.
(3) م.ن. ص376
(4) المكتوبات ص376.(11/79)
لقد وجدنا مفهوم " الإنسانية " يقترن في فكر النورسي بمبدإ الخلود، ومعنى ذلك أن التجربة الحياتية للفرد – كما يرى - تجربة متوقفة على ما يعقبها بعد رحيله من دار الغرور إلى دار القرار .. فحياة الإنسان في دنياه حياة موصولة بامتدادها الغيبي، الأخروي ،انطلاقا من معايشته للجماعة التي يحيا بينها، والمحيط الذي يتفاعل معه، فضلا عن علاقته مع ربه والتي تتحدد في ضوئها روابطه ونوعية ومستوى صلاته بالآخرين، أي بالانسانية قاطبة، من خلال ما يحمله في أعماقه من محبة وتعاطف معها..
لقد كان تأكيد النورسي لمبدإ خلود الانسان، يتضمن مبدأ إثباته للمسؤولية التي يتحملها الانسان إزاء نفسه وإزاء المجتمع الإنساني في كليته..بما في ذلك الكائنات العجماوات والجمادات.. وتلك رؤية قرآنية تحترم أنعم الله وترى للكون روحا لا بد وأن لها على البشرية حق المراعاة..
فتأكيد خلود الإنسان وسرمديته، يعطي كل القوة والقيمة لمعنى المسؤولية الجماعية والبشرية، إذ أن الضوابط التي تتقَوَّمُ في ضوئها أعمال الفرد وسلوكه، هي التي يتحدد بها مصيره في الدارين الدنيا والأخرى، إذ أنها ضوابط لا تطوي السجل ولا توقف الحساب بمجرد أن يفارق الإنسان هذه الحياة، ولكنها ضوابط تحكم مصيره الأبدي..لترابط تجربة الحياة مع تجربة الانتقال إلى الآخرة..
ومن الواضح أن هذا التمثل للوجود الانساني المسترسل في الزمانين، الدنيوي والأخروي، يجعل الإنسانية على يقظة تتسامى على منازع الاستعفال والاستعلاء التي تبذرها بين البشر المطامع الانتهازية..
ومما لا شك فيه أن النظم العدمية والإيديولوجيات المادية هي التي لا تفتأ تنمق الواقع الأرضي عن طريق ما تتفتق به قابلية الطيش والتحلل الخلقي من منجزات الإمتاع المهلك، وتفسح أمام الإنسان مساحات من السعادات الغريزية (الاستهلاكية )، إيمانا منها بأن لا حياة وراء هذه الحياة..(11/80)
وإنها لحال زائفة وكئيبة، مقارنة بالحال التي تأخذها الحياة في ظل العفاف والاستقامة ورسوخ مثل السماء بين البشر .. فبتلك المثل تترقى الإنسانية ويغدو الواقع الحياتي بالفعل، وجها من وجوه الديمومة التي تتهيأ للنفس البشرية المؤمنة، تلك الديمومة التي على الانسان أن يباشر وضع أسسها، بامتثاله الخالص لتعاليم العلي القدير الذي صاغ الخطة، وهيأ مواد البناء..
إن الانسانية تكتسب قيمتها وحقيقتها المطلقة حين يغدو الفرد مشروطا بدور لا ينتهي منه بمجرد الموت ..
ولا غرو أن نجد الانسان يرتكب ما يرتكب، ويدلس ما يدلس ويتصرف متحللا من الضوابط في هذه الحياة، لأنه يعيش بإحساس الوقتية، وبذهنية الزوال، وبعدم اليقين مما سيكون عليه حاله بعد الزوال المادي.. الأمر الذي يوقعه في الإثم ويفلت منه زمام الرقابة الذاتية، عنوان إنسانية الانسان..
لقد حدد النورسي للإنسان خمس منطلقات تتحول بها حقيقته إلى شجرة باسقة، ودائمة الإثمار، وهي :
1- اليقين من أن التعيينات والاعتبارات هي المتبدلة، وأن المعاني الجميلة والهويات المثالية دائمة.(1)
2- وبأن كل شيء في هذا الوجود -سواء أكان جزئيا أو كليا - بعد ذهابه من الوجود - لا سيما إذا كان ذا حياة - ينتج حقائق غيبية كثيرة، فضلا عن أنه يدع صورا بعدد أطوار حياته في الألواح المثالية التي هي سجلات عالم المثال، فيكتب تاريخ حياته ذا المغزى ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات بعد ذهابه من الوجود.(2)
3-وبأن هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدون صانعها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي أدَّوْها في أطوار حياتها، في مناظر سرمدية(3). أي الإيمان بخلود النفس وبأن حياتها الدائمة توجد أمامها وليس خلفها..
__________
(1) م.ن. ص379.
(2) م.ن. ص379.
(3) م.ن. ص 381(11/81)
4-وبأن رحيل النفس وانتقالها عن دنياها، لا يقطع صلتها بالحياة، ولكن تظل الأسماء الحسنى التي أنيطت بها في حياتها تؤدي تسبيحاتها بدلا عنها ..فـ"عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلا عنها تسبيحات باقية كثيرة جدا، لكل موجود من الموجودات، وتودع نقوش كثيرة من الأسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الأسماء، أي تودعها إلى وجود باق..".(1)
5-وبأن الكائن يترك وراءه - عند رحيله إلى عالم الآخرة - بقايا وآثارا تتفاعل وتتجدد في معان وكيفيات وحالات تغدو " مدارا لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه " (2). "فكل فانٍ إذاً يترك وجودا ويكسب لنفسه ولغيره ألوفا من أنواع الوجود".(3). فـ"الخالق الحكيم والرحيم والودود يشغل مصنع الكائنات، جاعلا من كل وجود فانٍ نواةً لأنواع من الوجود الباقي".(4).
ومهما بدت للذهن المادي من ميتافيزيقية هذه النظرة، وتعلقها بالمُغَيَّب، فالذي لا شك فيه أنها لا تخرج عن أهم ركائز تقوم عليها روحانية الكائن البشري في هذا الكون، ونقصد بها : الدين والأمل..
إذ الدين كما نرى هو المقوم الثابت والأرسخ الذي لم تستطع المخلوقات أن تتجاوز نطاق حرمته، مهما تراوحها من ثقافات وفلسفات مادية جهدت على أن تقمع القابلية الروحية في الإنسان ..
فحتى الأنفس الجاحدة تنتابها خطرات تهش فيها النفس لمعانقة نوع من الإيمان الذي لا تفسير له إلا ما يكمن في النفس البشرية من جذوة نورانية تحن إلى الخالق الذي فطرها وفي أحسن صورة ركبها..
بل إن سائر استجابات الانسان التلقائية الموصولة بوجدانه تكشف عن وازع إيماني يحيل على الخالق..
__________
(1) م.ن. ص381
(2) م.ن. ص382
(3) م.ن. ص382
(4) م.ن. ص383(11/82)
أما الأمل فمما لا شك فيه أنه يتلبس وجودنا من ساعة الميلاد، ويأخذ صورا تمتد من التوق لنيل الحاجة الحسية، الإطعامية، إلى الأمل بتعمير المستقبل وامتلاكه، وتأمين المصير الدنيوي والتحوط للنهاية، وبالتالي للآخرة بالقياس إلى المؤمنين ..
فالأمل عند المادي فاعلية حيوية تلازم الحياة وإن سحقته رتابتها لكونها حياة لا تستشرف أفقا، حياة طريقها مسدود ..
أما عند المؤمن فالأمل قوة باطنية تلابسه في ما يأتي وما ينجز وتجعله على مستوى من التوق والرجاء يوكل أعماله ومساعيه إلى بُعْدٍ يقيني، استمراري، غير مقطوع الصلة بالآخرة، ذلك أن الحياة كما يحياها المؤمن هي رديف لمعادلة يلتقي على طرفيها المصيران الدنيوي والأخروي، ولا ينبتَّان .
فنظرة النورسي في مجال الديمومة والاستمرار، تستند على الشرطين الروحي والنفسي.. إذ الأديان تقر بقاء الإنسان وديمومته واستمرار حضوره الدائم على هذا الوجود الأرضي من خلال ما يترك من أعمال أو من تَبَعَة وخِلْفة ..
كما أن وازع الأمل المركوز في النفس البشرية يزكي قابلية الدوام التي تحرك الإنسان ولا يخلو من حنين إليها.. فالفناء لا يلابس النفس إلا في حالات انكسارها الروحي والمعنوي، بل إنها حتى في غمرة ذلك الانكسار لا تقر بالفناء، وإلا توقفت بها عجلة الحياة ..
من هنا دأبت الفلسفات الإنسانية التجنيدية على استثمار البعد النفسي، وطفقت تلوح بمعسول الآمال والمآلات أمام الجماهير، تروضها على البذل والانخراط في سلك سياساتها..لأنها واثقة من أن قوة تأصل الأمل في الانسان، ونجاعته في استدرار العواطف الحالمة والْمتطلعة إلى اعتناق المثل، كبيرة، وفاعلة، ومهيأة لمن يعرف كيف يحركها..(11/83)
ومن الواضح أن رؤية هذه الفلسفات لا تخرج عن نطاق الدين، بل هي تتلاقى معه، من حيث أن الدين يجعل من التفاؤل والأمل مناط السعي الانساني.. إذ لا مدنية، ولا نُظُم أخلاق، ولا ترابط بين الأقوام يتحقق في غياب الأمل والتوق إلى ما يوطد سعادة البشر..
فالنورسي من هذا المنطلق لم يتورط في بناء حلم طوباوي ميتافيزيقي، مادته افتراضية، على نحو ما فعل المثاليون، ومن سعوا – عبثا -إلى هندسة المدن الفاضلة للبشرية، بدءا من أفلاطون.. بل لقد صدر في تقريراته عن رؤية اسلامية تضع أمام الانسانية هذا التمثل الإلهي لتجربة الوجود، إذ هي تجربة ليست مبتورة عما بعدها ولا هي منتهية عند عتبة زمانية يعقبها العدم .. بل هي استرسال مقدر له أن يمضي بالانسان من مستوى حياتي حسي، دنيوي، إلى مستوى حياتي سرمدي..
لقد عمل النورسي بجهد على تكريس عاطفة الأمل في النفوس من خلال تمثلاته وشواهده الفكرية، الإيضاحية التي مضى يشرِّعُ بها باب الغيب والآخرة في وجه العالمين، تناغما مع مقررات السماء، ومن جهة أخرى كان يرى في زرع ثقافة الأمل التي هي من صلب الدين والأخلاق الإنسانية السامية، واجبا استنهاضيا لا مندوحة عنه.
ولقد رأيناه في غير هذا المقام كيف عد اليأس من أهم أسباب انحطاط الأمة ..وكيف دعا الأمة إلى استبدال اكفهرارها تفاؤلا واستبشارا وثقة في ذاتها ومرجوحيتها في ميزان الأمم والأقوام ..
و لا معنى ولا جدوى قط من أن نقرر للناس أن حياتهم هي بلا هدف، أو أن عليهم أن يكونوا سعداء رغم محدودية دنياهم الزمنية، أو أن على هذه الحياة أن تغدو موئلا حافلا بكل ما يشبع النهم ويروي الظمأ، لأنها حياة ظرفية، ولا تعدو أن تكون واقعة وجودية اعتباطية ناتجة عن مجرد الصدفة والتوالد العضوي للمادة ..(11/84)
إن الانسانية محتاجة إلى من يرسخ فيها عقيدة القابل البعدي، القابل الأبدي، القابل الذي ستتحاسب فيه عن أعمالها ومقترفاتها في هذه الحياة التي هي - بالفعل - مجرد مقدمة لسرمد لا يحول..
وهَبْ أن الديانات قامت على عواطف تفاؤلية، أو هي سعت إلى أن تفك الحصار النفسي والوجودي الذي خنق الانسان وحجب عنه الأفق، أليس لها - بهذا وحده - الاستحقاق والشأن..
لكن حقيقة هذه الديانات حقيقة سماوية لا مراء فيها، وإلا ما بال الانسانية لم تفلح قط، في إحلال ما جربت وما ضبطت من فلسفات وإيديولوجيات وعقائد محل الدين الحق؟.
من هنا نتبين أن ما طرحه النورسي من تمثل مصيري للوجود والانسان، بل وللكائن الحي، هو بعيد عن الميتافيزيقا وعن التهيؤات المثالية الفلسفية، لأنه لم يخرج في خطوطه العامة عن مقررات الدين الحنيف .. بل إنه خير ما ينيغي أن يطرح أمام الإنسانية، إذ أنه ترياق حقيقي ضد ابتلاءات اليأس والاندحار التي لا تني تقلبات الحياة وتكدراتها الضالة تطوق بها الإنسان وتذبح الأمل واليقين في أعماقه، الأمر الذي يزيد من مأساوية الإنسان.(11/85)
من هنا لا غرو أن نرى النورسي يؤكد عقب استعراضه لهذه الأركان الخمسة، أن الأمل والتفاؤل اللذين تتحرك بهما عجلة الحياة يجدان في روح القرآن العظيم النبع الفياض، فهما لا يفتآن يتجددان به على مدى الأعصر . يقول النورسي: "اِعلم علما قطعا أن الحقيقة السامية التي بنيت في هذه الرموز الخمسة والإشارات الخمس، إنما تشهد بنور القرآن ولا تمتلك إلا بقوة الإيمان، وإلا ستعم ظلمات مرعبة بدلا من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلئ الدنيا لأهل الضلالة بألوان الفراق وأصناف الزوال وتطفح بأنواع العدم ويصبح الكون بالنسبة لها جحيما معنويا لا يطاق، إذ يحيط كل شيء بوجود آني ما لا يحد من العدم، فالماضي والمستقبل مملوءان بظلمات العدم، فلا يجد الضال إلا نورا كئيبا حزينا في حاله الحاضرة، وهي زمان قصير جدا".(1)
الإنسان المعاصر والتجربة الشيوعية
لقد عرفت المرحلة التي عاشها النورسي - لا سيما مطلعها - مخاضات انقلابية سعت لاخراج الإنسان من حصونه العتيقة، سواء في مجال السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو في الميدان الروحي والعقدي..
وربما كانت الثورة الروسية من أهم الأحداث التي فجرها الانسان في تلك المرحلة، إذ جاءت تلك الثورة بفلسفة مناهضة لجل القيم والمقومات العتيقة ..
لقد شاءت أن تكون فلسفة بديلة لسائر ما جرب الانسان من تجارب ونظم المعاش والاجتماع قبلها.. من هنا قررت معايير لأخلاقية جديدة أرادت أن تطبع بها الروح الانسانية، إيجادا للفرد الشيوعي الذي قدَّرت أن العالم سيتجدد به، وأن الفكر والمعتقدات القديمة ستزايل كوكبنا بفضل انخراط الانسانية الجديدة في العقيدة الطبقية الجديدة، وسيمكنها الوعي الطليعي، من أن ترسي دعائم الفردوس الأرضي الذي تمحي معه المظالم والطبقات..
__________
(1) م.ن. ص384.(11/86)
ولقد كان على الفلسفات الروحية أن تتصدى لهذا الانقلاب، وأن تسعى إلى تحصين دفاعياتها ضده، كما كان على الديانات - والدين الاسلامي منها بالخصوص - أن يقف في مواجهة الدعوة التي جاءت بها الشيوعية، والتي جعلت من غاياتها تنميط المخلوقات في منهاج معاشي وروحي واحد، والإسفاف بالمقدسات، وتجاوز القيم والأعراف الوطيدة بين الناس، والمستمدة في أكثرها من الطبيعة الإنسانية ومن فطرة التعايش والتمازج البشري..
لقد شاءت تلك الثورة أن تُحوِّرَ جذريا من حال الفرد ومن نواميس الله التي فطر العباد عليها.. وكان على النورسي - في هذا الاعتراك الروحي والسياسي - أن يرد على الفرضيات الجديدة بحكمة القرآن وبهدايته..
فلقد كانت أفكار الثورة الشيوعية قد نفذت إلى المجتمع التركي، وأوجدت لها مروجين ودعاة، من يهود ومستلبين، وكان حتما أن يشتجر الجدال بين أولئك الدعاة الأدعياء وبين النيرين من أبناء الأمة ممن لم تكن تغويهم خلابة التقليعات وإن تحلت بالبهرج، أو ادعت الكمال والقسطاسية..
لقد كان النورسي ببصيرته الثاقبة وبروحه القرآنية الحية يقف على الخط الأمامي في مواجهة المستغربين ..
لقد عاب عليه دعاة الاشتراكية من أبناء قومه، دعوته الإصلاحية التي كانت ترفع شعار الدين، إذ حسبوا أنهم وجدوا ضالتهم في مبادئ الاشتراكية، وظفروا بالمغنم الذي طالما تاقت إليه الجماهير، والمتمثل في شعارات العدالة والمساواة التي حملتها الدعاية الإشتراكة.. من هنا راح النورسي يوضح موقفه في ضوء الدين الاسلامي من تلك الشعارات المترفعة زهوا وخيلاء، اعتقادا منها أنها أوجدت الحل السحري لبني البشر..(11/87)
لقد رأى النورسي في الجنوح الإطلاقي الذي تميزت به مبادئ الاشتراكية، لا سيما ما تعلق منها بمقاصدها التغييرية، والمستهدفة جوهر البنية النزوعية في النفس الإنسانية، إنما هو جنوح مناهض للفطرة المغروسة في الروح البشرية، وهو - من ثمة - وجه من أوجه معاكسة القوانين الحياتية نفسها، الأمر الذي يدفع مسبقا بالمرء إلى أن يتشاءم من مغبة تلك المخاطرة التي شاءت أن تسلك بالإنسان طريقا مخالفا للطريق الذي هيأه الله للبشر في معاشهم وتعاملهم..
لقد كان النورسي متيقنا من أن تلك الدعوة إنما تخرج عن تعاليم السماء، فهي لذلك دعوة محفوفة بالمزالق المردية، وأن البشرية لن تغل منها إلا أسوأ الآثار، لا على مستوى النتائج المؤملة من تلك التجربة التهديمية غير المتزنة فحسب، ولكن على صعيد الإضرار بنفسية الفرد وديناميته، وبالتالي بالمفاهيم التي يتأسس عليها الوجود الانساني كلية.." إن من يشق طريقا في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفة في أمور الخير والرقي، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله في سبيل التخريب والشر .."(1).
فإلغاء الفضيلة يتأتى من خلال العمل على تجاوزها والسعي إلى تبديل الماهية الروحية البشرية وإخماد العقل الفطري وقتل القلب موطن المشاعر والمواجد وإفناء الروح، أي من خلال فرض النظم التي تتحول بالإنسان إلى آلة واستجابات مبرمجة ..
من هنا رأى النورسي في شعار المساواة المطلقة تغييرا لقوانين الطبيعة الانسانية والجبلة، وسباحة منكرة ضد التيار " فما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضروريا، فإن تنفيذ قانون المساواة المطلقة لا يمكن إلا بتغيير فطرة البشر ورفع الحكمة الأساسية في خلق النوع البشري". (2)
__________
(1) اللمعات ص. 257
(2) م.ن. ص 257(11/88)
وفي هذا الصدد سنجد النورسي يعترف أنه ينتمي إلى طبقة العوام وممن ينظرون إلى مبدإ المساواة بعين الحاجة، لا بعين التفضل فقط، ولكن مع ذلك فإنه رأى المجازفة بتطبيق هذا الشعار إخلالا سافرا بقوانين الفاطر سبحانه التي جعلت من ظاهرة تفاوت الحظوظ سنة للتعمير وتكافؤ الفرص في المهام الحياتية..
لقد كان يقدر أن التجربة البلشفية إنما تقوم على ضرب من التعصب الإيديولوجي الطبقي الذي لن يبرح أن تتكشف نتائجه عما يدمي فؤاد الإنسانية "..إنني من حيث النسب ونمط معيشة الحياة من طبقة العوام ومن الراضين بالمساواة في الحقوق فكرا ومشربا، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الخواص المسمين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق، وذلك بمقتضى الرحمة وبموجب العدالة الناشئة من الاسلام . لذا فأنا - بكل ما أوتيت من قوة- بحانب العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد. بَيْدَ أن فطرة النوع البشري وحكمة خلقه تخالفان قانون المساواة المطلقة، إذ الفاطر الحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل محاصيل كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتبا كثيرة .. كذلك ينجز بنوع البشر وظائف ألوف الأنواع، وذلك إظهارا لقدرته الكاملة وحكمته التامة..". (1)
لقد فطر الله الإنسان مطلق القوى والقابليات، فهو بمثابة ألوف الأنواع، وإن كان في حقيقته نوعا واحدا .. من هنا فإن كل حد لطاقاته أو تنميط لأوضاعه ومكاسبه فإنما هو تدخل آثم في قانون الفطرة، وخروج عن المقاصد الإلهية التي يريد الله بمقتضاها أن يجعل الانسان خليفة في الأرض..
__________
(1) م.ن. ص257(11/89)
من هنا توسعت دائرة نشاطات كل فرد امتلك حدا من الشروط المهيئة للتفتق.. ومن هنا أيضا كان كل كفٍّ لقابليات الانسان أو إعاقة لطاقاته أو تنميط لأوضاعه ومكاسبه، هو تدخل في قانون الفطرة وخروج عن المقاصد الإلهية التي هيأت الإنسان الفطري السائر على هدي تعاليم الخالق لأن يكون خليفة الله في أرضه "..(1)
لقد أدرك النورسي أن قيمة الشعارات الطوباوية - مهما كان حظها من الإنسانية- لا يمكنها إلا أن تتصادم مع الفطرة، وأن يكون مآلها الخيبة والخسران ..
ومن الواضح أن مثل هذه الإعتراضات كانت تبدو وقتذاك رجعية وخضوعا أصم للدين، أفيون الشعوب.. فلقد كان على الإنسانية المأخوذة بسحر ما ترى وما تسمع من شعارات أن تجرب ممارسة الأحلام الوردية، وأن توغل بعيدا في طريق التيه عن الهدى، قبل أن تفتح عينيها على المأساة التي تسبب الإنسان ذاته في صنعها، ورضي أن يردي نفسه فيها .. وهو ما حدث للإيديولوجية الشيوعية الإشتراكية التي أفسدت أكثر مما أفادت، وانتهى بها المسار إلى الانخذال المبين..
ومما ينبغي أن يستخلص من تجربة الإنسان الشيوعي - أو بالأحرى- تجربة الأمم الاشتراكية أن أمر الله تحقق فيها على نحو ما توعد به كل جحود، إذ بإعراضها عن النواميس الكونية ابتلاها الله بما ظل يبتلي به الأمم الخاطئة من هلكة وسوء مصير..
إن مأساة الدول الشيوعية وسقوطها لا يمكن أن يفسر إلا بما شاء الله لها أن تعيشه من مآل يعيدها إلى الجادة وإلى الإرعواء الذي يستبقي لها نصيبا من فطرتها وبشريتها، كي تشملها الرعاية ولا يطالها مكر الله الذي لا يهادن الماكرين.. وهو ما تنبأ به النورسي، وعاينه أتباعه عن كثب بانهيار أركان الشيوعية على أسوإ ما يكون الانهيار..
تزكية المجال الغيبي الموصول بالشرع، والأخذ به، ترجيحا لروح الإيمان
__________
(1) أنظر اللمعات ص.258.(11/90)
لقد أعار النورسي الناحية الغيبية كثيرا من الاهتمام، فمساحة جهوده الفكرية ودعوته الترشيدية قامت كلها على دعامة الإيمان بالله وبما قررت تعاليمه من الإيمان بالغيب.. لقد شاء النورسي أن يعطي للواقع الاسلامي - الآيل باطراد إلى رجاحة مادية جحودية بتأثير من ثقافات الكيد وإشاعة روح الزندقة والانحلال، وانتشار أفكار الطوباويات المغررة بالإنسان، شيئا من التوازن يرعوي به ويتمالك عن الوقوع في هوة الكفر والعدمية .. من هنا كان ذلك الاهتمام الكبير الذي أعاره النورسي لمجال المعجزة والكرامة، وما راح يستلهمه من تلك الآفاق المطهرة، والمتمثلة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - و أنبياء الله الآخرين التي ظلت صعيدا حافلا بالخوارق، وكذلك من تجارب وسيرة أولياء الله الصالحين..
بل لقد حرص على أن يبرز من كنوز القرآن نفسه دلائل إعجازية لتعزيز الحس الغيبي عند المسلمين.. ذلك لأن النورسي كان يؤمن أن ثقافة الإفساد التي كان الغرب وأتباعه المستلبون ينشرونها بشتى الكيفيات، تحتاج إلى إرساء ثقافة إيمانية مناهضة للدجل الإلحادي، ومن شأنها أن تكفل للإنسان صيانة روحية تحفظ له توازنه وتستبقيه متجذرا في أرض واقعه الحياتي والروحي الذي لا يستطيع بحال من الأحوال أن ينفك عنها وعن أبعادها الغيبية الموصولة بمواجده وأعماقه..ذلك الغيب الذي يكتنف بآثاره النفسية والوجودية أطراف التجربة الانسانية من جميع جهاتها، ميلادا وأطوارا وحظوظا ووفاة..
النورسي يعيد تقويم الشاهد الخارق من منظور تحصيفي
على أنه لابد أن نلاحظ ذلك الحس التمحيصي الذي نظر به النورسي إلى الحوادث الغيبية، فهو قد سعى إلى أن يعيد تقويم الشاهد الغيبي وفق عقل إسلامي متخلص من القناعات الانحطاطية والأسطورية الكتابية التي كانت عبئا على مفهوم الكرامة والمعجزة وتشويها لها في كثير من الأحيان، وهو ما روجت له ثقافة عصور الانحطاط الملوثة بإفك الإسرائيليات..(11/91)
لقد امتاز النورسي بعقل تحصيفي جعله يضفي على الثقافة الاعجازية المتداولة بين الناس، طابعا إدراكيا جديدا أكسبها في جملتها وجاهة لا تمارى..
بل لقد أضحت مسائل تلك الثقافة الغيبية تشد القارئ وتقوده إلى وجهتها التمَثُّلِيَة التي تأَوَّلَها بها النورسي، ليجد هذا القارئ نفسه - في الغالب - يتقبل ذلك التمثل، ويعتنق تلك الرؤية، ويُؤَمِّنُ على سلامة ذلك الاستيعاب والتخريج الذي انبني على نظر عقلي متمالك، ومتبصر، ومتأول، لكن من دون أن يشتط في العقلنة التي ألفناها - عند الكثير من المتأولين - تسف بالحقائق غير المدركة، وتتعدى بها حيز المعقولية إلى الافتعال والتمحك، من حيث أرادت الإقناع والتسديد..
النورسي ..أخلاقه أخلاق القرآن، والإمحاء الإعتباري مسلكه
لقد ظل النورسي يذب عن نفسه الأحوال والصفات التعظيمية التي كان الأتباع يخلعونها عليه تبجيلا ومحبة، وكانت سيرته الربانية الجليلة تحملهم على ألا يروا فيه شخصا عاديا .. بل لقد أحاطوه بقداسة جراء ما كانت عليه سيرته من سمو وتقوى..ونتيجة لذلك التقديس طفق النورسي يدفع عنه باستمرار نعوت التجلة والإعظام التي كان تلاميذه والمحتكون به والعارفون بسيرته يطلقونها عليه..
والمؤكد - كما تثبت مواقف المكاشفة السافرة التي دأب يتصدى بها إلى تجريد نفسه من الفضائل- أن إصراره على نفي صفة الوجاهة الروحية التي ترسخت له في نفوس الأتباع لم يكن مجرد تظاهر بالتواضع كالذي جرى عليه العرف بين الناس، حيث يغدو اصطناع التواضع حيال مقام الامتداح نوعا من الإستزادة والرضى والإخلاد إلى حال الدغدغة التي تجدها النفس في مواقف المدح والإكبار..
بل لقد كان حرصه على تجريد نفسه مما يُلبسه إياها الناس من حلل القداسة، وازعا دينيا أصيلا فيه، بحيث نلمس أن النورسي من خلال ذلك إنما كان يقوم بما يشبه الإستغفار الذي يجرد النفس ويستبقيها عزلاء مما يغري أو يغرر أو يغوي..(11/92)
بل لقد نزع إلى أن يثلب نفسه كلما تصدى بالرد على تلك المواقف الإمتداحية والإكبارية التي ظل يُقابَل بها من قِبَلِ الناس ..
والثابت أنه حرص دائما وكلما تحدث عن نفسه، على أن ينسب الفضائل التي كان الناس يعاينونها فيه، إلى الله عز وجل، وإلى خدمته القرآن..
بل لقد انتهى به الأمر إلى الإقرار بأن ما كان يتراءى للناس من نبوغ فكري وروحي يميز دراساته وتعاليمه، إن هو إلا نبوغ القرآن العظيم ذاته، وأنه لا دور له في ما كان يقرر بشأن الآيات البينات، إلا ما كان من تسجيله لما تسنح به الأفكار والخواطر التي تتوارد على قلبه وهو يتمسح بعتبات القرآن العظيم، وأن دوره في كل ذلك هو دور المؤشر والدلال الذي يعرض على الناس ما تحتويه خزينة القرآن..
لقد طفق يهتف ملء الأسماع أنه مجرد دلال للقرآن..
لقد ظل ديدنه أن يطابق بين شخصيته الحق، وبين صفات السمو والإعلاء التي كانت تضفيها عليه خدمته القرآن العظيم ..
بل لقد مضى يبذل الجهود المضنية من أجل أن يصيب شيئا من صفات تلك الشخصية النموذجية التي كان يرسم ملامحها القرآن من خلال ما أرسى من مثل ومعايير قدسية تتزكى به نفس المؤمن، فلبث يكد ويجهد على أمل أن يحقق بسيرته وشخصه شيئا من تلك الصورة القرآنية، لكن ما أكثر ما كانت تناله الخيبة كلما وقف يُقَوِّمُ نفسه وما تحقق لها في سبيل بلوغ ذلك الهدف الأسمى..
لقد كان تحقيق ذلك المطمح يقتضي منه أن ينسلخ تماما عن ذاته، ليرقى إلى رحاب الكمال.. من هنا وجدناه يأخذ بوسيلة تقمص شخصية القرآن والفناء فيها بلوغا لهدفه الأزكى..وهو ما كان يجعله يقرر أن له شخصية خالصة لخدمة القرآن وحده.. وبما أن خدمة القرآن تقتضي أخلاقا سامية، فإن تقمصه لتلك الأخلاق والآداب والفضائل تعود إلى القرآن .. (1)
لقد كان النورسي يبرر بمثل هذه الاعترافات تلك النعوت المكرَّمة التي كان الأتباع يلحقونها به..
__________
(1) المكتوبات ص411.(11/93)
وكان وقوفه في حضرة الله، في أوقات العبادة، يكشف له دائما عن قصوره وتقصيره وفقره وضعفه وعجزه حيال الله، فما يتلبسه من هوية روحانية يثوب إليها حال انهماكه في العبادة ، كان يجعله دائما يحس بحقيقته الهينة تلقاء الله، فيزداد ابتئاسه ويزداد ألمه، إذ يرى البون بينه وبين الصفاء ما يزال بعيدا.. وتلك كرامة أخرى تحسب له، إذ نأى بمثل هذه الرقابة الصارمة للذات، عن أن ينزلق في وحل الغرور والادعائية..
إن شيئا من هذه الثنائية المركبة التي تصدر عنها نفس الفرد، وما يتلاطمه من نوازع السلب والايجاب، وما يعروه من رجاحة لروح الخير أو روح الشر فيه، برجاحة هذا البعد من تلك الثنائية أو ذاك، هو ما طرحه النورسي على صورة فكرية تمثلية حين تحدث عن " أنا " الانسان- وذلك جانب فكري سنتحدث عنه في غير هذا المكان- حيث أن النورسي قد استوفى فيه النظر بتحليله لنفسية الكائن البشري، مستثمرا عُدَّة مصطلحية كان التعامل التحليلي الغربي، لا سيما عند العالم اليهودي "ساغموند فرويد" قد عين ببعضها أسسا معرفية تحيل دافعيات الإنسان جملة إلى الغريزة والدناسة..
لقد فتح النورسي منفذا آخر في مسيرته التأصيلية، إذ دشن مجال التحليل النفسي من منظور قرآني، معمقا بذلك الاتجاه إصراره المؤكد على السير في طريق أسلمة المعرفة..
لقد انتهى به التأمل لنفسه إلى أن يقر بثبوت شخصيتين يتنازعان ضميره التعبدي : شخصية كان الناس يشهدونها ويبرونها، وهي شخصية اكتسابية، محققة بخدمة القرآن..(11/94)
وهنالك شخصيته الأصل، شخصية سعيد القديم التي لبثت تلازمه، رغم الجهاد المستمر والمرير الذي تعهدها بها، اقصاء لها عن ساحته، إذ هي شخصية لا تفتأ تنزع به إلى طبيعتها الأرضية الأولى، إذ تحرك فيه " رغبة الرياء وحب الجاه وتجنح به إلى التلبس بأخلاق وضيعة مع خسة في الاقتصاد، حيث أنني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.."(1). الأمر الذي كان يحتم عليه أن يبقى في حال من اليقظة والوعي بحيث لا يخترقه الغرور جراء امتداح الناس له .. ذلك لأنه كان يدرك أن حقيقته التي لا يعلمها إلا هو بعد الله، إنما هي حقيقة ترابية، لا تبرح مشدودة إلى السمعة والترف، وإلى الإمتلاك، وإلى تسنم ذرى الرفعة..
لقد كان يحمله منطق تأنيب النفس، وكسر سورة غرورها، وإلجام جموحها إلى الرياء والنفاق، على المضي في فضح ما يعتور تلك النفس من مشاعر سافلة محتدمة في الأعماق، متسترة لئلا يكشفها الناس، فكان - من ثمة - لا يفتأ ينعت نفسه بالمعايب، مظهرا ما يمور في أعماقه من توق محموم ونوازع خسيسة لا يراها الناس.. وكل ذلك قمعا لجنوح النفس، وتقييدا لألاعيبها المردية ..
ومن الواضح أن مجرد رمي النفس بما كان النورسي يرمي نفسه، وعلى تلك الصرامة التي لا تعهد، إنما كان وجها من وجوه التربص بالنفس وتحسيسها المستمر بالرقابة، واتهامها بالنقص، مهما كان مقدار القوامة الورعية المكتسب..
لقد كان النورسي في حرب مكشوفة مع النفس الأمارة، وتلك سجية ترويضية اكتسبها -دون شك- من ملابسته القرآن ..
فلقد كان القرآن ضميرا قدسيا ظل يتعهد سيد الأولين بالتوجيه والتأديب، فكانت نزغات النفس إذا ما اعتملت في وجهة غير سديدة، بادرتها الآيات المنزلات ترشِّدها وتعيدها سواء السبيل.. وذاك هو – دائما - شأن القرآن مع المتقين..
__________
(1) م.ن. ص411(11/95)
بل لقد كان ذلك الوازع الكفي الذي اتبعه النورسي مع نفسه، هو السياسة التي سلكها الأطهار من الصحابة والأتقياء الصالحين في كل عصر.. إذ جعلوا من مهمة تهوين النفس الأمارة، وإرجاعها إلى حال من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، الباب الذي ينفذون منه إلى رحاب السعادة والإنعتاق من كابوس الشهوات والمفاتن والموبقات..
فعلاقة النورسي مع نفسه ومع ميولها وتفلتها من طوق الإيمان كانت علاقة قمعية لا هوادة فيها ..
وما أكثر ما كان يرفع صوته إعترافا بما كان لا يسع النفس إزاءه إلا أن تستخزي وتندحر، لقد كانت إعترافاته تأخذ أحيانا صورة الإعلان الإشهاري الذي ينفض – بالساحة، وعلى أعين الأشهاد - كل ما تحوي الجعبة..
لقد كان فضحه للنفس إشهادا معلنا بين الناس، من شأنه أن يلهمهم شيئا مما يجب أن يلزموا به النفس إذا شاؤا أن يسلكوا طريق الصلاح ..
لقد لبثنا نسمعه في العديد من المرات يهتف بأعلى صوته في الناس :
"..يا أيها الإخوة .. لن أبوح بكثير من مساوئ هذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا أنفركم عني كليا.. فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل .. (1)
وتلك منقبة أخرى من مناقب هذا الطاهر الذي سحق النفس فظفر بالعظمة المستديمة..
كيف قرأ النورسي مسألة الدعاء ؟
بل لقد قرأ النورسي حقائق روحية جملة ظل الذهن الاسلامي - وفي كثير من مستوياته - يتداولها كتلقينات يأخذها الخلف عن السلف من غير أن يكون لها في الذهن صورة تقرب من واقعيتها.. من ذلك مثلا فكرة الدعاء.. فأن يدعو الفرد لابد وأن يقر في ذهنه - ولو بدرجة توقع نسبية - أن دعاءه سيتقبل ويقابل بالإجابة.. هذه هي قناعة الفرد العادي، إذ أن إنسداد الأفق في وجهه يجعله يعنت النفس في إيهامها أو في حملها على أن تؤمن بأن الدعاء مفتاح الفرج.. الأمر الذي يجعل الإيمان عرضة للخيبة، إذا لم تتحقق الاستجابة المؤملة..
__________
(1) م.ن. ص412(11/96)
.. إذ لا ننس أن إيمان السذج بسيط، وأنه لا يخلو من روح تقوم على ما يشبه صلة المقايضة مع الغيب، وربما كانت فكرة النذر تندرج في هذا النطاق.. لكن النورسي، ومن خلال تجديد ثقافة الإعتقاد يعطي للدعاء بعدا غيبيا تنفتح به كوة منعشة وموثقة لروح الإيمان..
لقد قرر أن الدعاء هو نوع من العبادة ، وأنه بذلك يظل مناطا بالآخرة ..فإذا كانت مقاصد العبادة متوجهة إلى الآخرة، فكذلك ينبغي للداعي أن يتوقع – منطلقا – أن الإجابة لدعائه ستكون في الآخرة..
بل لقد نظر النورسي إلى مسألة الدعاء في إطار كلي، تجاوز به العاطفة الإنسانية الواقعة - عادة - تحت شرط الضرورة الإستنجادية ومجاوزة الضوائق والشدائد..
فمن التخريجات الموفقة التي قرأ بها النورسي حقيقة الدعاء، أن قسمه إلى ثلاثة أقسام:
- دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشيء .. دعاء تجتمع له الأسباب ..
وواضح أن وقائع كثيرة مما نحياه حتى في حياتنا اليومية تندرج تحت هذا المستوى، ولعل لازمة المسلم التي يعقب بها على كل أمل يتطلع إليه بقوله " إن شاء الله " هو ترجمة لهذا الصنف الذي يقوم على قاعدة اجتماع الشروط والأسباب.. فالعطاء الوفير للموسم الممطر يتضمن دعاء..
- دعاء بلسان حاجة الفطرة ..وتنطق به ألسنة حاجة الفطرة لسائر الكائنات، فهي تسأل الخالق القدير مطالبها .. من ذلك أن ظمأ الشجرة يتضمن دعاء، يستجاب له حين يغدق الله عليها الغيث.(11/97)
-الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم ( أو الدعاء المعنوي، الحالي ).. فالمهتم بأمر ما، العاكف عليه، المنخرط في طلبه باستغراق وفناء، يستجاب دعاؤه في مرحلة ما ولو طالت.. ولا شك "أن ما أحرزه الإنسان من رقي ومن كشوفات، ما هو إلا نتيجة من نتائج هذا النوع من الدعاء، إذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والأمور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم، ما هو إلا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص، فاستجيب لها ".(1)
أما الدعاء المعروف لدينا - كما يقول النورسي - فهو فرعان :
1 - أحدهما فعلي من قبيل حرث الأرض، إذ أن الحرث هو بمثابة دعاء، ورجاء.. حوابه منوط بالغيب .. فالعاطي ليس التراب ولكن الله .. وليس التراب وما صاحبه من عمل إلا بعض أسباب اتي لا تكون لها نتيجتها إلا إذا أمَّنَ الإله على دعاء المزارع..(2)
2- الدعاء القولي، وثمرته لا تخيب ما استدام واكتسب الكلية .. أي متى ما تجاوز نطاق المطلب الشخصي البحت..
ومما يقرره النورسي في هذا المجال هو أن الإجابة قد تأتي بأوفى مما رام الداعي، فقد تبدو الإجابة على غير ما كانت رغبة الداعي، لكن المستقبل يبين أن الخير في ما اختار الله ..
إذ قد تحصل الإجابة عن الدعاء بعينه أو بما هو أفضل منه وأولى.
فإذا ما دعا الانسان بالولد وجاءت الأنثى الصالحة، فلا ينبعي أن يقول الداعي أن دعاءه لم يستجب، ذلك لأن اختيار الله له علة، وهو اختيار الأصلح والذي يتناسب مع جوهر الدعاء، وإن كان الداعي غير مدرك له في الحال..
__________
(1) المكتوبات ص.387
(2) م.ن. ص 387(11/98)
كما أن للدعاء أهميته النفسية المؤكدة، إذ أن الداعي - لحظة الدعاء - تتفتح نفسه على يقين تواصلي مع الله، إذ يدرك لحظتها ولو غير شعوري أنه يتوجه إلى قاهر قادر، رحيم، لا فوقية له ..الأمر الذي يبين أن الدعاء طاقة وجدانية تتسع بها مساحة الواقع وتأخذ رحابة بما يقوم عليه من أبعاد غيبية تنضح بها مشاعر الداعي والمتضرع.. وفي ذلك ما فيه من أسباب خلوص الإيمان..
هكذا يمضي النورسي في اِبراز المناحي القلبية والروحية التي تتسع لها مَوْجِدة الدعاء، باسطا القول فيها بحيث جعلها تتجلى في ذهن المتلقي وتأخذ هذا البعد التمثلي الذي أبان مستوياتها ..
ولا شك أن من شأن ذلك أن يقوي من روح تمسك المسلم بإيمانه، إيمان يجعله يظل في رحاب الله أينما حل، من خلال موجدة الدعاء والاستعانة .
لقد تجاوز النورسي بمثل هذه القراءة المرشدة لمفهوم الدعاء، الإطار التقليدي السالب واللاعقلي الذي ما انفكت ظلال الاعتقادات الخرافية تحيطه به على مدى عصور وعصور..
إرادة الانسان من إرادة الله .. وقانون العلة والنتيجة هو بمثابة الدعاء المشروط بالمشيئة الإلهية
إن ما يميز فكر النورسي في مجال الاعتقاد هو إقراره بدور الفرد في تحمل المسؤولية الحياتية، إذ معنى التأهيل الذي حازه المخلوق الانساني، هو هذه الإرادة التي تواجه قدرها المقدور بإيجابية وعزم، وليس بإحجام وموات.. من هنا كان مفهوم التوحيد -الذي يقود إلى التسليم والتوكل - وبالتالي إلى سعادة الدارين - لا يعنى القعود أو مناهضة الأسباب التي لم تتهيأ بنفسها أو من تلقاء ذاتها، وإنما جسدت القانون الإلهي الذي تسير وفقه الحوادث وتحصل التطورات..
ولذلك لا يتسنى لأي جهة أن تغير أسس القانون الإلهي الذي تمثله تلك الحتمية الصارمة التي تجرى على سننها الظواهر..(11/99)
إن ذلك الجريان المطرد، والذي لا عوج فيه ولا راد له، هو الناموس الذي قضى الله – عز وجل - أن تجري وفقه، وفي كنفه، نظُم العلل والنتائج، تلك النظم التي هي في حقيقتها الشرعية محض تسبيح تتمجد به الذات العلية على نحو فياض..
يقول النورسي :
"..الإيمان ..يقتضي التوحيد والتوحيد يقود إلى التسليم، والتسليم يحقق التوكل، والتوكل يسهل الطريق إلى سعادة الدارين، ولا تظنن أن التوكل هو رفض الأسباب وردها كليا، وإنما هو عبارة عن العلم بأن الأسباب هي حجب بيد القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبث بها أو الأخذ بها فهو نوع من الدعاء الفعلي، فطلب المسببات إذن، وترقب النتائج لا يكون إلا من الحق سبحانه وتعالى، وأن المنة والحمد والثناء لا ترجع إلا إليه وحده..". (1)
لقد كان نظر النورسي في هذا المضمار التوحيدي، نابعا من الاعتقاد الذي يقيم هذا التوازن بين المظاهر الحسية والعقلية، وبين الاعتقاد الإيماني الذي تعود إليه علة وجود أو عدم كل شيء في هذا الوجود..
من هنا رأى النورسي أن حرية الانسان وكماله لا تتحققان إلا إذا ظفر بالإيمان الحقيقي، ذلك أن إرادة المخلوق لا تقوم إلا على إرادة الله، في تجسدها سلبا وإيجابا ..
فالأسباب ستار لنفاذ المشيئة الإلهية..
قانون التراسل والتواصل والسببية المنوطة بأسماء الله الحسنى
يرى النورسي أن للأشياء ترابطا ينتظمها، وقانونا يشملها، وآلية قدرية تسيرها، إذ أن كل ما أوجد الله في عوالم غيبه وشهوده خاضع لسلك من التراسل والتواصل الحيوي يجعل من الكون حقيقة كلية، ملموسة، لا يكتنفها العدم ..
فالعدم لاغ في ملكوت الله، والفناء مجرد حالِ غيبةٍ وتحوُّلٍ تجعل الحواس تعجز عن استبانة آثار العنصر المغيَّبِ والاتجاه الذي مضى إليه ..
فكل شيء مرتبط بأسماء الله، وأسماء الله لها تجلياتها، وهي هذه الموجودات التي نراها والتي تتنوع على قدر تنوع وثراء أسماء الله..
__________
(1) الكلمات ص. ص.353.(11/100)
وحيث أن أسماء الله سرمدية لا تزول، فكذلك تجلياتها التي هي هذا الكون وما يعمره من عناصر ومكونات مشهودة وغير مشهودة.. باقية لا تزول:
" إن الأشياء لا تمضي إلى العدم ولا تصير إلى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة إلى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وتتحول من عالم التغير والفناء إلى عالم النور والبقاء، وإن الجمال والكمال في الأشياء يعودان إلى الأسماء الإلهية وإلى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة"(1).. فالبقاء من سنن الله، إذ من سننه أن لاتنعدم إيجاداته، وهي وإن عراها التغير، فلا ريب أنها تتجدد بفضل تعهد أسماء الله الحسنى لهذا الكون...(2)
وحيث أن تلك الأسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلا شك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب إلى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية، أما حقائقها وماهيتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية، فالحسن والجمال في الأشياء التي لا تملك روحا يعودان إلى الأسماء الإلهية مباشرة.. (3)
ومن الواضح أن رؤية النورسي إلى العدم والوجود هذه لا تحمل أدنى مماثلة مع منطق التناسخ البوذي الذي يرى أن الأرواح تتناسخ وتتغاير من حيث خلقتها ومصائرها الوجودية في ضوء أعمالها ومقترفاها..
فنظرة النورسي قرآنية تؤمن بالبعث والنشور، وبالجزاء والعقاب، وبالقبر وسؤاله، وبالقدر وقضائه.. فهي نظرة لا تحيد عن تعاليم القرآن والسنة النبوية الشريفة .. من هنا كانت نظرية انعدام العدم في الوجود التي يقول بها، لا تأخذ هذا السياق الأنتروبولوجي ذا البعد الإفتراضي، والذي يعتبر الوجود دورات جزائية – ارتقائية -مشهودة لا تنقطع
__________
(1) م.ن ص 371
(2) م.ن. ص 371
(3) م.ن. ص 370(11/101)
.. بل إن النورسي يؤمن بأن الحياة الدنيا مشروطة بهلاك يفضي بالإنسان إلى الدار الآخرة، وهي دار الأبدية التي يخلد فيها الإنسان الصالح ويتسامى بوجوده إلى درجة الكمال، وينعم بالسرمدية..
بل لقد وجدنا النورسي يمد حبل التفكر إلى ما بعد الحياة الدنيا، وإلى ما بعد قيام الساعة، ويقدر حتى نوعا من الوجود الأخروي لذوات الأرواح من غير جنس الإنسان.. " إن الأشياء لا تمضي إلى العدم ولا تصير إلى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة إلى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء إلى عالم النور والبقاء، وإن الجمال والكمال في الأشياء يعودان إلى الأسماء الإلهية، وإلى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة". (1)
كيف ربط النورسي بين أسماء الله الحسنى وبين التطور الحضاري
لا شك أن نظرة النورسي في مضمار الإيمان كانت تثويرية، وقد تبدى ذلك على صورة جلية في تمثله للمعاني والإشارات القرآنية، وفي هذا النطاق وجدناه يستنبط وجها تمثليا لأسماء الله الحسنى يتجاوز ما ظل إعتقاد الأمة يراه لهذه الأسماء ويقومها به..
لقد خصصت الأمة لأسماء الله مكانة مرموقة في ثقافتها الروحية، إذ جعلتها مناط التشفع والاستغاثة وجلب المنافع ودرء المضار..
لقد ظلت الأجيال تتضرع إلى الله بأسمائه الحسنى لاحتياز الغنى والبركة والاستشفاء..ولدفع المكاره، ومقارعة العدو .. وظلت الجماعات تداوم على ذلك، وتصادم المحن والابتلاءات بالتوكل، لكن بأيد خالية مما يمكن أن يكون بعض أسباب تحقيق القصد..
بل سنجد إشكالا أدخل هذا القطاع المعرفي القدسي الذي تمثله في منظومتنا الدينية أسماء الله، في ما يشبه الميثولوجيا حين تضاربت التكهنات حول معرفة الاسم الأعظم..
__________
(1) م.ن. ص370(11/102)
فقد فتح العجز الحضاري مجالا في وجه الركود والبطالة والمجانية الفكرية، حين تَوَّهمت الأمة أن ضالتها تكمن في عثورها على اسم الله الأعظم، إذ بامتلاك ومعرفة هذا الأسم الأفخم، تقضي الأمة على ما بها من ضعف..
لكن النورسي -الذي قدَّر أن الوجود موكول فعلا بأسماء الله الحسنى، وأن كل اسم منها مناط بحكمة وبجانب حياتي تديره القدرة على نحو أزلي- مضى بهذا الاعتقاد ناحية استشرافية أخرى غير الأولى ..
لقد رأى أن على المسلم أن يتيقن أن لأسماء الله حقا من القوامة الروحية ومن الأسرار والمقدرات القدسية ما لا يدركه العقل، لذا أهاب بالمسلم أن يستثمر الجهد الكافي في سبيل انتزاع جم المكاسب من هذه الأسماء .. من هنا شاء النورسي للمسلم أن يسير على طريق التدبر واستلهام بركة ومرموزية هذه الأسماء .. وذلك بأن يستقرئ من أسماء الله معانيها الإيحائية ،وإحالاتها الباهرة . فمن شأن ذلك أن يجعله يغتني بها الغناء الحق، إذ لا يكون اعتقاده فيها اعتقادا مجانفا للعقل وللوجه البياني الذي فتحه الله للأمة المتبصرة من خلال تلك الأسماء القدسية ..
من هنا رأينا النورسي يؤمن أن في أسماء الله من إشارات الحكمة ومن إيعازات التعليم والتثقيف والتفتيق ما من شأنه أن يمكن عقل المسلم من أن يستوي إذا ما استقرأ حقيقة الوحي الذي يشع من تلك الأسماء الحسنى..(11/103)
فاسم الله : القادر يلهم القدرة، لكنها ليست قدرة الاستضعاف والاستكانة، إنما هي القدرة الفعالة التي يكتسبها المسلم، فردا وجماعة، من خلال تمثل قدرة الله في صنع هذا الكون وفي إدارته والسيطرة عليه، فإذا ما نشد الفرد مثل هذه القدرة وعمل على اكتسابها، وتسبب في تهييئها، فقد أحسن تمثل اسم الله القدير، واستطاع أن ينفذ إلى كنه هذا الاسم المعظم .. ومثل ذلك اسمه : الحكيم، فالحكمة التي يستلهمها المسلم ويقبسها من اسم الله : الحكيم هي الحكمة التي تعطيه الاستطاعة وتزكي فيه قابلية الصدارة التي رشحه لها الاسلام، بسياسة العالمين والسؤدد عليهم عن طريق الترشيد والغلبة الحصيفة، والتسديد القويم ..
إذ الإسلام لا يتعصب لأمة مجردة من الحكمة، وعارية عنها، بل إن الأمة المتعصبة للجهالة والغي والعماية، هي أمة تعمل ضد مرامي الاسلام الذي جاء ليدمج في حظيرته الأمم قاطبة، من حيث هم عبيد للحق، وخلفاء لله في هذا الكون .. فتجرد الأمة المكلفة بالتبليغ من الحكمة، هو تحلل من المسؤولية الإلهية، بل هو عقوق وتخل على الواجب القدسي ..من هنا لا مندوحة للأمة التي تريد أن تكون وفية لدينها، من أن تثوب إلى الحكمة تقبسها من اسم الله الحكيم ومن سائر ما يتفتق به عليها التجريب والإلهام والتحصيل العقلي، فتتقوى، وتتسامح، وتجود، وتتجمل، وترحم، ، وتتنزه.. لتستوفي مقومات الحكمة الإلهية ..
فالحكمة المستلهمة من اسم الله الحكيم لا تقوم على أي معنى ملموس، ما لم تتسلح الأمة بالحكمة الإلهية الحق التي تضعها موضع الصدارة، والقبول، والاستقطاب، والرئاسة..(11/104)
وقل هذا في اسمه المعظم : العليم، والبصير، والسميع، والقهار، والزكي، والمغني، والمجيد وما إلى ذلك.. إنها جميعا أسماء منزهة، وسم الله بها ذاته العلية، وجعلها معالم على شأنه السامي، وعلى ماهيته المطلقة، وأودع فيها من المعاني والدلالات ما يشع بالسداد على الإنسان المؤمن ويهبه الكمال، شريطة أن يحسن التدبر، وأن يتعمق في فقه الدلالة الكامنة في تلك المعالم القدسية، وأن يذهب بها المذاهب البناءة..وأن يتحول بها إلى صعيد معرفي تفتيقي تجهيزي فعال..
لقد جعل الله من الأسماء مادة علم ومعرفة، فقد علّم عبده آدم، الأشياء كلها من خلال تلقينه أسماء الكائنات، وقد هيأه الله بمعرفتها أن يكون سيدا لها ومسيطرا عليها،، فلا غرو أن تكون أسماء الله مادة العلم والتعليم التي ينبغي أن يفيد منها المؤمن الاستنارة التي تثمر بها جهوده، ويستحصل ما يترقى به روحيا وماديا..
ولقد سارت الأمة في هذا السبيل ردحا من الزمن طويلا، ولكنها لم تحسن استثمار مقدرات هذه الواجهة المعرفية الربانية التي بذلها لعباده المؤمنين، لقد طفق المسلمون مثلا يستطبون باسم الله الشافي النافع المفيد، لكنهم لم يستظهروا وجه الاستطباب، ولم يستكنهوا الكيفية الاستشفائية التي يوحي بها لهم اسم الله الشافي، ولم يفتقوا العقل، مادة التمييز التي فارق الله بها الانسان عن بقية المخلوقات ليكون خليفة له في الأرض، بل ركنوا إلى ما يتلابس مع ثقافة الدجل ،ولم يستبينوا الوجه الايجابي والعملي الذي يلهمهم به هذا الاسم المبارك، فأساؤوا للمعاني القدسية التي تحوزها أسماء الله الحسنى، وبقوا حبيسي الجهل والخرافات الاسرائيلية ..
وحقا لقد كانت كثير من الاعتقادات التي راجت بين المسلمين في هذا المجال، جزءا من الموروث السيء الذي أصابنا جراء المعايشة والوثوق في معرفة وعلوم أهل الكتاب..
المعجزات والكرامات مصدر إلهام يحث المسلمين على تجريب الانجازات العلمية بإيمان(11/105)
ومن الطبيعي أن يندرج ضمن هذه الرؤية التي شاءت للمسلم أن يقرأ قرآنه وفق مقتضيات مستقبلية، ما ظل النورسي يلح عليه من ضرورة فهم أبعاد المعجزات والكرامات الإلهية وإيعازاتها في المضمار الإجتماعي ..
فلقد وجد في مكتشفات العلم - لا سيما من حيث المنافع الحاجية التي طورتها تقنية وتطبيقات هذا العصر - ما يدعو إلى السعي إلى المطابقة بين ما توحي به تلك المعجزات، وما تتمكن العقول من استنباطه وابتكاره في مجال المكاسب المادية والمنجزات الاستخدامية تيسيرا لحياة الإنسان، وتخفيفا من أعبائها ..
لقد رأى النورسي أن المعجزات والكرامات الإلهية التي عرضها القرآن، إنما وضعت في جملة مقاصدها - أن تلهم الإنسان بما يساعده على تكييف وتجهيز واقعه بإمكانات، أثبتت العقلية الانسانية أنها أهل لبلوغها، وهذا من خلال التطويع المطرد للمادة، والارتقاء الوطيد والمتوالي للإمكانات المعرفية والسير بها نحو إيجاد الواقع الذي تغدو شروطه على مستوى من الانصياع والطواعية ما تهيأ للأنبياء وأهل الله بواسطة تلك الكرامات والمعجزات التي كان الله ينفحهم بها، فيقلب من أوضاعهم إلى اليسر ويتيح لهم من الإمكانات ما يخرج عن المألوف، ويشذ عن التواضعات المعقولة..
ولا ريب أننا قد نجد من يربط هذه الدعوة بالوطأة المرحلية التي كان النورسي يعيشها ضمن الطوائف والفيئات المختلفة من أبناء الأمة في ذلك المنعطف التاريخي العاصف..
بل لقد يتهيأ للبعض أن دعوة النورسي لا تخرج عن روح الإسقاط التي وجدنا زمرا من الناس يلاحقون بها الكشوف العلمية والمعرفية ويسقطونها على آي القرآن العظيم، ليبرهنوا على كلية مضامينه وشمولية معارفه.. الأمر الذي جعل آخرين يرمونهم بالتمحل وافتعال التأويل من أجل الوصول إلى القصد الإستيعابي..(11/106)
والحقيقة أننا إذا ما أردنا أن نقف قليلا عند هذه المسألة، فإننا لا نتردد في إرجاعها إلى ما يعتقد المسلمون من شمولية القرآن العظيم ..فلقد تواتر عند المسلمين أن القرآن كتاب شامل لم يغفل شيئا، ولا فرَّط في أمر، وهو ما كرس الإيمان بشموليته ورسخها في نفوس الأجيال .. من هنا لا يُستغرب أن نرى المجتهدين المسلمين يستنتجون - على مر العهود - للفحوى القرآني كل جديد وكل مبتدع يطرأ على الحياة، وخاصة في حقل المعارف والمبتكرات ..
غير أن العديد من الاستنتاجات التي يشاء أصحابها أن يستبينوا ملامحها في النص القرآني لا تحوز دائما القبول، لما يسمها من سطحية وتعجل وتمحك لا تخطئه العين في أحيان كثيرة، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأصوات الرزينة تنفي عن القرآن ما لحقه جراء تلك التمحلات من استنتاجات مفتعلة..
وفي هذا المجال لقد رأينا كيف نفى النورسي أن يكون القرآن كتابا للجغرافيا والفلك أو لغيرها من العلوم ..
وإذا كان الاعتبار الشمولي للكتاب أمرا ثابتا ولا جدال فيه، فالذي لا ينبعي أن يفوت المؤمن هو أن يعي طبيعة التوجه الروحي التي يصدر عنها القرآن العظيم، من هنا فلا ينبغي لنا أن نرى في اعتراضات من لا يرى القرآن مصدرا تقنيا للذرة أو للفزياء العضوية مثلا، حطا بقدسية النص، أو تشكيكا في ربوبية مصدره، إذ أن هدرنا لمعنى الشمولية القرآنية - إذا ما ابتذلناها في وحل التأويل المتسرع والمرتجل والذي لا يصون نزاهتها ومراميها الترشيدية العامة - لا يعود علينا بطائل..
ثم لا ينبغي للمسلم أن يغفل الطابع الخطابي العام الذي يميز القرآن ويميز أدبيته البيانية الكلية، وهو ما يجعل من عملية ربط الفحوى الديني والتوجيهي بالمبتكر وبالمستحدث أمرا مُعْنِتاً ، لا يستجيب دائما بالوجه الذي يرقي بسائر الاستنتاجات إلى حد التطابق مع ظاهر الدلالة..(11/107)
ومع ذلك تظل الدلالة القرآنية المجال الإلهامي الفذ الذي يمكن للعقول أن تستمد منه الفوائد المتجددة .. من هنا تبدو مساعي تفتيق النص القرآني واستبانة استنهاضيته أمرا سائغا، وممكنا، ولا ضير فيه..
إذ لا ننسى أن السلف قد جزموا بشموليته واعتماره بكل ما يفيد الانسان ويطلق عنانه لبلوغ القوامة الاستخلافية .. لقد صرح ابن مسعود، أن من شاء علم الدنيا والآخرة فليثور القرآن .. ومما لا شك فيه أن تثوير القرآن لا يتأتى إلا بهذه الروح التي تستبطن النص القرآني وترى فيه ما لا ترى الأذهان السطحية..
ضمن هذا السياق يتبرر اجتهاد النورسي ويأخذ عمله الاستقرائي كامل مغزاه، فهو حين يستبين في ملامح النص القرآني، من خلال آيات بعينها، إيعازا إلهيا يفسح حيال عباده المؤمنين المجال الابتكاري والتجهيزي، لا يخرج بحال من الأحوال عن المرامي التسديدية التي قصد الله إليها من خلال تواتر آياته البينات..
وإذا كان ليس من حق المسلم أن يتمحل ويُقوِّلَ النص الشرعي ما لا يحتمله، فليس هناك ما يمنعه بتاتا من أن يستجلي في طلعة الآيات البينات كل ما من شأنه أن يعزز مشيئة الله التي اقتضت من الإنسان أن يعمل من الصالحات ما يكفل له الخلافة السامية على هذه الأرض..
من هنا لا ضير أن يرى المصلحون في الآيات ما تيسر لهم أن يروه من معاني الإيقاظ، والإهابة، والإعلاء، والاستنهاض، والتثوير التي تهيئ للانسان- في كنف تعاليم الله- الرشاد والنفاذ والفاعلية التي تتعزز بها درجة تكريمه وتفضيله على سائر المخلوقات..
إذ لا كرامة لإنسان ضعيف من حيث شاء له الله أن يقوى بما حفَّه به من مقدرات، ولا قوامة لعبد مفتقر وعاجز عن استثمار خزائن الله التي وضع مفاتيحها بين يديه، كما لا اخلاص لمن لا يوكل أمره كله لله، إيكالا لا يقعد به عن واجبه التعميري الذي دأبت الآيات تحضه عليه وتحفزه من أجل الاضطلاع به..(11/108)
وهو ما آمن به النورسي وبثه في رسائله، وحرض المسلمين على تحصيله..
الإجتهاد
يرى النورسي أن باب الاجتهاد الشرعي مفتوح في وجه المسلمين، ولا يمكن أن يسد..
إلا أنه لاحظ من جهة أخرى، أن هناك من الموانع الموضوعية ما يحول دون ولوج هذا الباب السمح في العصر الحاضر..
لقد حدد النورسي ست موانع تحول دون طروق باب الإجتهاد في زمننا هذا، وتلك الموانع تتمثل في الآتي :
1-صون الإسلام من الانتهاك والحرص على تسويره ضد ما يترصده من علل الحيدة وتخطي الحدود التي تشرع الباب في وجه الممارسات التي يتأذى بها الاسلام..
2-منطق الأولوية الذي يقتضي منا أن نرعى الضرورات التي لا مجال للاجتهاد في قطْعِيتها وثبوتها، والتي أهملت في العصر الحاضر .. فالجهد ينبعي أن يُصْرَفَ في بعث الضرورات وإقامتها .. لا سيما وأن الجهد النظري المأثور عن السلف قد كان من السعة والشمول بحيث يغدو معه الحديث عن أي اجتهاد تجديدي بمثابة ابتداع لا مبرر له(1).
__________
(1) .. الكلمات ص. ص.563(11/109)
3- الحالة الاجتماعية العامة القائمة على روح تنزع بالأنظار إلى النواحي السياسية والمتع الحياتية، وحصر الفكر فيها، وتغييب الوجهة الروحية التي سار عليها السلف والمتمثلة في مثاقفة كتاب الله والتنقيب في أكوانه عما يرضي الله ويوصل إلى السعادة الخالدة.. وهو ما رجح روح الاستسهال والتحلل من الفرائض، الأمر الذي انعدمت معه- أو كادت - القابليات المتوهِّجة بمخافة الله، والمنخرطة في منهاجه، والمستمدة من صميم أحكامه لتسديداتها الاجتهادية.. الأمر الذي يجعل من مهمة الإجتهاد مهمة على غاية من الخطورة والمخاطرة، إذ لا يقبل عليها إلا من لا يُقَدِّر ما يحف بالعصر من مزالق متكاثرة بتكاثر أسباب التردي التي تفرزها قيم حضارة تشن حربا معلنة على الدين.. تجعل انسان هذا العصر مخلوقا مستلبا بهموم واقع طفحت ماديته على مختلف أصعدة الحياة، ذلك لأن " تحكم الحضارة الأوروبية، وتسلط الفلسفة وأفكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية.. كلها يؤدي إلى تشتت الأفكار وحيرة القلوب، وتبعثر الهمم، وتفتت الاهتمامات، حتى أضحت الأمور المعنوية غريبة عن الأذهان".. (1)
__________
(1) الكلمات ص.564.(11/110)
4- لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار الجهة التي تدعو إلى الإجتهاد، فإذا كان الداعون إليه هم أهل الورع والتقوى، فلا جرم سيكون الاجتهاد مظهرَ بناءٍ وجدوى، أما إذا كان الداعي إليه المطمح التوسيعي الذي يتوق إليه المُخِلُّون بواجباتهم والمقصرون في تأدية الشعائر، والممسوسون بلوثة الفلسفة المادية التحللية .. فلا شك أن الاجتهاد سيكون عنوان هدم وتحلل وخروج عن عصمة الدين .. فـ"التطلع إلى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين إن كان ناشئا لدى الذين تركوا الضرورات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية، فهو وسيلة إلى تخريب الوجود الاسلامي وحل ربقة الاسلام من الاعناق.(1). فـ"وجهة هذا العصر غريبة عن روح الشريعة ومقاصدها، فلا نستطيع أن نجتهد باسم الشريعة ..(2)
5-التنبيه إلى القاعدة الشرعية التي تقول : إن الضرورات تبيح المحظورات .. ليست قاعدة كلية، إذ هي لا تصلح إلا لتجاوز ضرورات طبيعية وليست ضرورات مصطنعة أو من اختيار شخصي .. فالمدمن لا يسوِّغ بقاءه على قيد الحياة بمواصلة شرب الخمر بدعوى أنه ضرورة له .. فما اعتاده الناس في حياتهم المعاصرة وغدا بمثابة البلوى لا يسمى بحال من الأحوال ضرورات، فهو - من ثمة - لا يكون حجة للمترخص .. ومتى ما أدار المجتهدون أحكامهم استجابة لهذا المستوى المفتعل من الضرورات، أصبحت اجتهاداتهم أرضية، وتابعة للهوى، ومشوبة بالفلسفة..(3)
6- تمازج أحوال الكذب مع الصدق يجعل المعطيات التي تجرى عليها القاعدة الاجتهادية مشوبة هي أيضا بما يتلبس النفوس من أسباب النفاق والزيف والتدليس.. الأمر الذي تستعصى معه إصابة الهدف الشرعي وإيجاد الاجتهاد السديد المتجرد من شوائب الهوى والحسابات..
من هذا كله يخلص النورسي إلى تأكيد مبدإ طواعية الأحكام الفرعية للتغير والتكيف مع المستجد، إذ هي تتبع الأحوال البشرية..
__________
(1) الكلمات ص.565
(2) الكلمات ص.565 .
(3) الكلمات ص.566.(11/111)
كما يسجل - من جهة ثانية - أن اختلاف طبائع البشر وأوضاعهم الاجتماعية هي التي بررت تنوع المذاهب، وأن ما يلاحظ من تفاوت في المعيار الفقهي حول بعض الأحكام، هو ناتج عن التفاوت الحاصل بين أتباع تلك المذاهب لتفاوتهم في مستوى الحضارة ..
فلا غرابة - والحال تلك كما يضيف –أن نجد أتباع الشافعي يجعلون من مس المرأة علةً لانتقاضِ الوضوء.. على خلاف الأحناف الأكثر تحضرا وتمصرا، إذ لا يرى هؤلاء في مس المرأة مدعاة لانتقاض الطهر.. كما أنهم يسمحون بقدر درهم من النجاسة، وما ذلك إلا لأنهم أهل اجتماع ومدنية ومراس حضري، تقتضي ظروف عملهم أن يتكيفوا مع الأحكام على ذلك الوجه.. (1)
ومن الجلي أن فهم النورسي للإجتهاد هو فهم موضوعي، إذ يربط الاجتهاد بجملة من المعطيات والعوامل، في مقدمتها الشرط المدني والحضاري .. وهو شرط كما نرى كلي تتدخل فيه عوامل النفس والثقافة والاجتماع والعمران والمكان والزمان.. عوامل منوطة بالتوسيع والترخيص، إذ أن المدنية تقتضي التجدد في الآليات والارتفاقات والمتطلبات، وذلك ما يجعل من الاجتهاد فاعلية تكييفية تضبط مسطرة التجدد بحيث تحفظ أصول الشرع وأركانه دونما إعاقة للمكاسب المدنية التي تتهيأ للأمة عبر أطوار تقدمها.. من هنا كانت نظرة النورسي متفتحة، رغم التشديد الذي أحاطه بها إذ أن تفهمه للتفاوت والاختلاف الذي كانت عليه مسطرة الاجتهاد كما مارستها المذاهب، يؤكد ترجيحه لمبدإ الرخصة الاجتهادية..
و يعني هذا – بداهة - أنه لا يمكننا أن نستنتج مما اشترطه النورسي للمراس الاجتهادي أنه سد بابه، بل علينا أن ندرك أنه عمل على الإعلاء من شأن الوظيفة الاجتهادية والسمو بها عما لحقها من حال ابتذالية آلت إليها خلال عصور الانحطاط..
__________
(1) الكلمات ص.570.(11/112)
لقد أعاد النورسي مشغل الإجتهاد إلى نطاقه المعرفي والروحي الذي ظلت الفيئات المسلمة تمارسه من خلالها عبر عصور الفاعلية والازدهار.. إذ رسم الحدود التي رأى أن الظروف المرحلية الراهنة تقتضيها، وهي أن يستثمر المسلمون النطاق الفقهي الفرعي، وأن يصونوا الخوض في شرع الأصول لما كان يحدق بالأمة من مخاطر تستهدف أسس شريعتها..
فالتحوط هنا ليس إلا إجراء تحصينيا، اجتيازا للمرحلة، وحتى تتهيأ للأمة شروط أفضل وكفاءة أرقى تمارس بها الاجتهاد ..
بل لقد رأينا النورسي يوعز لنا بمنهاج اجتهادي، عملي، مثلته سيرته هو نفسه، إذ أن رسائله كانت في الحقيقة منظومة من الأحكام والتعاليم والتخريجات والفتاوى التي شملت سائر المجالات الحياتية .. فهو من خلال تلك السيرة قد أصل منهاجا في السلوك السياسي، وحظر على المسلم إذا ما عاش في ظروف تشبه ظروف تجربته أن يمارس السياسة بصورتها الحزبية، وأفتى له مقابل ذلك، أن يتمرس بالسياسة من خلال بناء استراتيجية ثابتة، مؤكدة النجاج، وذلك باتباع بناء المشاريع الجماعية المبرأة من الحسابات الفيئوية أو قصيرة المدى.. كما أنه حرم في الاقتصاد آفة التبذير، وبين اقتران الكرامة بالنفقة المرشدة، وجعل من حال الأفراد في هذا المجال حال الأمة، وبذلك حرم الاقتراض، وحرم الاسراف، وحرم العبث بأموال الشعب ..
وهو في الجهاد سن الاعتراك المادي، متى كانت المهاجمة تستهدف الحمى، وسن سلوك الجنوح إلى السلم متى كان الوطن منيعا، ومتى كانت الكرامة غير كليمة.. أو حين تكون العدة والكفاءة غير متوازية، فعنئذ تترجح كفة المسالمة تأهبا وتسلحا واكتسابا لكل ما من شأنه أن يحقق المنعة، ويكفل الوجاهة ..
سيرة النورسي الحياتية مدونة اجتهاد نظري وتطبيقي مدهشة(11/113)
حقا لقد كان سيرته في كليتها اجتهادا، وحتى ما قد لا يبدو لنا فيه وجه، مثل اعتزاله، أو عزوفه عن الزواج، فلا ريب أن التحليل الموضوعي لمرامي تلك الجوانب الخاصة سيكشف لنا عن سر وجيه يجعل من تلك السيرة مثابة حكمية ،على المسلم أن يأخذ بها متى ما كانت له إرادة ألمعية كإرادة النورسي، وعرف ظروفا كظروفه..
على أن النورسي نفسه ظل يثبت أن راهننا لا يمكنه أن يطمح إلى بلوغ تلك المنزلة التي كانت فيها حياة الرجال من السلف مغمورة إلى أخمصها في مناخ من الإيمان والتجند، والصميمية، وهو ما كان يعطي لأي فعل تأتيه التلقائية الأصيلة، بعدا اجتهاديا ظلت الأجيال من الخلف تجد فيه التوسعة والإفادة كلما راجعته، وأجرت حكمته ومقاصده في حياتها..
دور المجتهد المجدد في العصر الراهن دور بناء الاستراتيجيات
لقد خلص النورسي إلى تقرير أن الإجتهاد مرتبتان :
1- مرتبة العبادة والالتزام بفقه الشعائر، وذلك أمر قد أثَّلَتْ الأمة منه ما يفيدها وزيادة، ويكفي أن نحيي نصوص التراث وفتاواه، ونُحَكِّمَ فيها القياسَ، لنجد أنفسنا حائزين على شمولية فقهية لا تخطئ جانبا من جوانب اجتماعنا..
2-وهناك دائرة التطور والنهوض الحضاري، وهي التي ينيطها النورسي بالمجددين..
لقد كان النورسي يتمثل للمجدد صورة ومهمة على مواصفات صارمة ولا عدول عنها..
فدور المجدد الحق عند النورسي يناظر دور الاستراتيجي في عالم السياسية والتخطيط المعاصر..
من هنا ألزم النورسي المجددين بالقيام بهذه المهمة الاستراتيجية، وأن ينهضوا بها ويستوفوها حقها من الإخلاص والتفاني لصالح الملة والأمة ..
الجماعات تنوب عن الرجل العبقري، ويحق لها أن تمارس الاجتهاد..شرط أن تأخذ بالشريعة(11/114)
وبما أن النورسي كان واقعي النظرة، يدرك أن المجتمعات لا تتوفر في كل حين على العبقريات الموفقة والمتصدية لإسناد أمتها في مضمار الاجتهاد والابداع الشرعي والمعرفي، فقد أوكل مهمة العمل التجديدي إلى الجماعة وإلى الخيرين من أبنائها..
فقد ظلت الجماعة تمثل له الإنسان الكامل.. لما تستوفيه الفرديات ضمن المجموعة من نقصها..وما يتهيأ لها من تكامل فيما بينها..
الانسان الكامل
وفي هذا الإطار، فلقد مضى النورسي يؤكد أن أتباعه ومن سلكوا نهجه كانوا بمثابة الإنسان الكامل، وقد فسر معنى الإنسان الكامل، بكونه مجموع القابليات التي يتعدى بها الشرط الإنساني المحدودية والقصور .. وهو ما يتهيأ للعبقريات المصلحة، أو لمجموع الأمة والجماعات عندما تجتهد وتجِدُّ في تجاوز الواقع المتردي، مستعينة في ذلك بالله، ومتقيدة بتعاليم القرآن..
فالثورات المتحلله من الإيمان القرآني، وإن تظافرت جهودها على تغيير الواقع، فهي تظل جهودا منوطة بمقاصد نفعية زائلة وليست دائمة، ولا تتكفل بشؤون الإنسان - وإن تظاهرت بذلك - إلا مؤقتا وحسب..
أما الإنجاز الدائم، والمثمر، والذي يجني الإنسان من ورائه النفع العميم والمردودية المؤكدة، فهو العمل المعصوم، المتمسك بتعاليم الله، والمباشر لوظيفته التشريعية بروح تخشى الله وتلتزم بتوجيهاته..
من هنا كان الاجتهاد يتناغم مع الحاجات الإستراتيجية التي تصون الأمة وتحقق المنعة لها..
ومن هنا كذلك ندرك كيف أن النورسي قد نص على أن باب الاجتهاد يفتح اليوم في الاتجاه الحضاري الذي يخدم الملة .. ولذاك أناطه بالعلماء المجددين، وبالأمة إذا ما تأتى لها نخب طليعية تقودها على هدي القرآن العظيم.(11/115)
" لو كان الانسان مجرد قلب فقط لكان عليه أن يترك كل ما سواه تعالى، بل يترك حتى الأسماء والصفات ويرتبط قلبه بذاته سبحانه، ولكن للانسان لطائف كثيرة جدا كالقلب، منها العقل والروح والسر، كل لطيفة منها مكلفة بوظيفة ومأمورة للقيام بعمل خاص بها.
فالإنسان الكامل هو كالصحابة الكرام يسوق جميع تلك اللطائف إلى مقصوده الأساس وهو عبادة الله ". (1)
رفضه استخدام اللسان العجمي في العبادات لا سيما في الصلاة
عارض النورسي – وباستبسال كبير- أن تلقى خطب الجمعة بألسنة الأقوام، وأن تخرج عن إطارها الذي جرت عليه، وهو أن تلقى بالعربية لغة القرآن.. متجاوزا بموقفه الرفضي ذلك، حجة من يزعمون أن إلقاء الخطب الشرعية بلسان الشعب يتيح لعوام المسلمين فهم الأحداث السياسية..
ومن الواضح أن هذه الحجة بذاتها تبرر قرار إلغاء الخطبة الشرعية بالعربية..
لكن النورسي الذي كان يعرف أن القصد من وراء ذلك الإلغاء إنما هو قصد خداعي، وأن المسألة تنطوي على مناورة مراميها التحول بالشعب التركي عن أرومته الحضارية الإسلامية..
لذلك بادر إلى رفض القرار، والاعتراض على تلك الاجراءات المغرضة التي كانت خطوة على طريق التضليل والتغريب..
لقد مضى النورسي يحتج لموقفه بأن السنة والشرع قد جريا دائما بأن تلقى الخطبة بالعربية، لغة القرآن ..
ذلك أن النورسي كان يرى في ما أضحى يلقى من كلام في المساجد باسم الخطبة الشرعية وبلسان الشعب، إنما كان بعيدا عن إطاره الشرعي، فهو كلام يندرج في المقاصد السياسية التي كان هدفها تنويم الشعب وتهيئته للانسياق في منحدر التغريب..
من هنا كان النورسي ينافح عن بقاء الخطبة الشرعية بلسانها العربي، لما في ذلك من إيجابيات كان يراها من جهة، واستبقاء لها على السنة التي ظلت تتبعها أبدا من جهة ثانية ..
__________
(1) الكلمات ص.582(11/116)
فقد كان يؤمن بأنه حتى وإن كانت الجماهير لا تفهم الفحوى العربي، إلا أنها ستظل تجد في الموقف، وفي سياقه الأصيل، ما يربطها بماضيها، وفضلا عن ذلك سيجنبها الوقوع في شرك الأكاذيب التي أضحت الخطبة الشرعية تنشرها حين باتت تلقى بلسان الشعب..
" لأن ما يلقى قد دخله الكذب والدس والخداع ما جعلها في حكم وسوسة الشياطين، بينما المنبر مقام تبليغ الوحي الالهي، وهو أرفع وأجل من أن ترتقي إليه الوسوسة الشيطانية..
إن جهل الناس بالمسلَّمات الشرعية والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة تجعل من تخصيص المنبر للتبليغ الديني بألسنتهم ولغاتهم أمرا مطلوبا، لكن الذي لا ينبغي تجاهله، هو أن هناك تأثيرا روحيا ونفسيا يتأتى للمسلمين من خلال سماعهم الإلقاء الديني بالعربية ،سواء أكان ذلك في قراءة القرآن أو في الصلاة به أو الدعاء أو ما إلى ذلك من الأداءات الدينية التي ترجع إلى أصالة الدعوة الإسلامية وإلى صورتها الخطابية التي باشرها بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -..
فتدريس الجمهور العجمي الحديث لا ريب أنه سيكون على أكمل وجه تخشيعي وتنويري إذا ما تأدى في صورته العربية كما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ضير أن يتخلل ذلك الترجمة وتوصيل المعنى العام بلسان الجمهور ..
إما أن نقطع الصلة بين لغة الكتاب والسنة وبين المسلمين، بدعوى الإفهام والتوصيل، فإن ذلك من شأنه أن يكرس القطيعة التي ظلت الدوائر الحاقدة تسعى إليها، خنقا لروح هذا الدين العظيم..(11/117)
فتوطين المسلمين على نسيان لغة القرآن، من خلال إلقاء الدروس بألسنة ولهجات محلية، بل وتقديم النص القرآني نفسه مترجما، وعاريا من حلته البيانية العربية، لمن شأنه أن يهيأ النفوس للفصال والانفصام الذي يمكن أن تنتهي إليه علاقة الأمة بدينها إن هي بادرته بالتفريط وبالتنازل عن مقتضياته الأساسية.. ومن مقتضيات القرآن، كتاب الله، أن يتلى في بيانه، ولسانه العربي المبين .. قبل أن يتولى المرء تبليغه وتقريب معناه بألسنة الجماعات..
بل لقد كان النورسي يحرص ويلح على وجوب عرض القرآن العظيم، وتقديم الخطبة الدينية، بلغة القرآن، ذلك لأنه كان يرى أن معاني القرآن، بحكم الطابع الروحي والديني الذي يعم البيئات الإسلامية، كانت معاني دارجة ومتداولة في المجتمعات الإسلامية وبين فئاتها، فالدين الإسلامي دين عضوي، وليس دينا بروتوكوليا لا ينتهي إلى الفرد إلا وفق شروط ورزنامة كهنوتية معلومة ..
من هنا كان الإسلام يلازم العبد ملازمة لصيقة لا تخطئه، وذلك من خلال المواظبة على أداء الشعائر أو الفرائض كما يسميها الشرع..وهو ما جعل معانيه ملموسة وقريبة من المداركة ولو على جهة عامة ..
وهو ما كان يجسده تفتح تلك البيئات العجمية – لا سيما الأمة التركية -على تعاليم الإسلام وعلى اللغة العربية، ولو في جوانبها الشرعية، الأمر الذي ظل يسهل من عملية تلقين الأمة عباداتها وكتابها عن طريق لغة التنزيل، اللغة العربية.. ولا يبرر عدم تحكم الأقوام المسلمة في اللغة العربية أن تعطى تعاليم الإسلام العضوية بغير لسانها العربي، تعليما، وتفقيها، وتوجيها.. لا سيما في مرحلة كان يراد منها أن تتحول بوجهتها عن الحضارة، والتوجه بالمواجد إلى حضارة مناقضة..
فالدين في جوهره تعليم وارتقاء بالروح والعقل والملكات، فلا أقل من أن تسلك الأمة هذا الطريق في تكريس دينها ولغة كتابها بين صفوفها وفي أوساطها..وهو ما يؤكده النورسي حيث يقول :(11/118)
"فالمسلم العامي- مهما بلغ جهله يدرك هذا المعنى الاجمالي من القرآن الكريم ومن الخطبة العربية، ويعلم في قرارة نفسه بأن الخطيب أو المقرئ للقرآن الكريم يذكّره ويذكّر الآخرين معه بأركان الإيمان وأسس الاسلام التي هي معلومة من الدين بالضرورة، وعندها يفعم قلبه بالأشواق إلى تطبيق تلك الأحكام..".(1)
لقد كان النورسي يؤمن بأن الطاقة النورانية التي يتوفر عليها الإعجاز القرآني، لها وحدها من النفاذ الروحي والمعنوي ما يجعل الأرواح تتقبل التذكير بلغته الأصل : العربية، ولو بفهم إجمالي .. ذلك لأن المسألة الدينية تستند على الوازع الشعوري أيضا، ولغة القرآن العربية ترسخ لها على مدى العصور، هذا الوهج الرباني الذي يجعل من أفئدة المسلمين، لا سيما العجم، يتناغمون معها ويتناجون بنجواها الروحية الفذة، مما يكون له بالغ الأثر على تهذيب الأرواح والسلوك، وشد النفوس إلى الشعائر والعبادات..(2)
فمسألة التواصل والتوصيل الديني، مسألة مبدئية عنده، ولا ينبغي أن تتم إلا بلغة القرآن.. وواضح أن موقفه في هذا الأمر أيضا هو موقف يتعارض مع مساعي التغريب والتتريك التي كان تقوم بها السلطة..ثم إن النورسي - من جهة ثانية - كان على وثوق بمقدرات المسلمين وحرصهم التلقائي الراسخ على أن يبقوا متشبثين بلغة كتابهم، الأمر الذي كان يجعل منه - في مطلبه ذاك - ناطقا باسم الأمة ومعبرا عما يختلج في ضميرها..
__________
(1) الكلمات ص.567.
(2) الكلمات ص.567.(11/119)
لذا يمكن أن يقال بأن الرؤية اللغوية هنا أخذت - بهذا الإصرار على إستبقائها عربية - بعداً مستقبليا (استراتيجيا)، لأن الوحدة اللغوية ظلت دائما عند النيرين، الركن الذي تشاد عليه كل مدنية ملية ناهضة.. ولقد تمت نهضة إيطاليا وألمانيا وفرنسا ( الغولية) وغيرها من أمم الغرب على الإرتكاز اللغوي الذي جمع الطاقات، ولحم القابليات، وفتق القدرات في إطار جماعي متناغم.. وكان ذلك شأن المدنيات القديمة، ولم يكن ذلك يخفى على النورسي، لذا رأيناه يشن الحرب الضروس على مشاريع التتريك، ويصدر الفتاوى التي تحظر التحول اللغوي في مجال العبادات وتلاوة القرآن، وكان قصده أن يعيق مشاريع المسخ والهدم التي كانت تستهدف الأمة الإسلامية..
والواقع أن نظرة النورسي تلك، لها ما يبررها حتى في واقعنا الراهن الذي تعززت فيه وسائل الارتباط، وتيسرت الصلات.. فتعليم أكثر من لغة بات سياسة منتهجة في كافة البلاد، لا سيما البلاد الواعية حضاريا، وعدم سكوت النورسي عن التحول الذي بادرت إليه القوى المتغربة، لم يكن رد فعل سياسي، معارض، وجد في المسألة اللغوية مشجبا يتعلق به، فمضى يشاغب من خلال التأكيد على أهميتها - كما هي عادة محترفي الساسية الذين نراهم يناورون بالمطالب من أجل أن يغالبوا على الكرسي، دون أن يكون لهم إيمان حقيقي بمطالبهم ..
بل لقد رأى النورسي في تلك القضية أمرا مبدئيا، لا محيص عنه، ولا سبيل إلى مجاوزته، وهذا لصلة العربية بالعقيدة أولا، وثانيا لأن التخلي عن استخدام اللغة العربية في البيئات الإسلامية كان من مراميه تحقيق الفرقة على صعيد واقعي، وهو ما كان الاستعمار والصهيونية يراهنان عليه .(11/120)
فالأعداء الذين أيقنوا أنهم لن يقهروا الأمة وهي ملتحمة - ولو بحد أدني من أسباب التلاحم والروابط الجامعة - سيلحقون بها الهزائم ما أن يفلحوا في تشتيتيها وشرذمتها .. ولقد كان الرباط اللغوي أهم الأهداف التي سدد الأعداء نحوها، إذ أدركوا أن من خلالها ستُضرَبُ الرابطةُ الروحية ويضرب القرآن نفسه، وتُضرَبُ الرابطةُ الشعوريةُ، من خلال التفريق اللساني، الذي سيعيد الأمة إلى حال القوميات والشعوبيات.. من هنا استهدفت قوى الشر اللغة العربية، لأن الإجهاز عليها كان سييسر على الماكرين مهمتهم التشتيتية..
ثم إن الدفاع عن العربية، لسانا جامعا، كان دفاعا عن اللحمة الحضارية، وعن مكسب مدني وثقافي وسم الحضارة الإسلامية وأرسى دعائمها العالمية، إذ جعل لسانها لسانا أمميا، ورابطة وجدانية بين الأصقاع والمجتمعات..
فالتفريط في العربية أو مهادنة الهدامين إنما كان انهزاما وتفريطا في جبهة حررتها الأمة، وكان تخليا لا مبرر له عن حرمة جانب قدسي من المنجزات التي بذلت فيها الأمة بالغ الجهود والتضحيات من أجل توطيدها بين شعوبها..
بل لقد كان انتشار العربية وإن تفاوتت حظوظ المجتمعات الاسلامية منها، بمثابة الوديعة التي من حق الأجيال أن تسألنا عنها وتطارحنا الحساب..
بل إن من شأن الضمير الحضاري للأمة أن يساجلنا بصددها إذا ما تخلينا عنها وتركنا الماكرين يغيبونها تيسيرا لمرور مشاريع الإستعمار، وتمكينا لأعداء الملة أن يخترقوا حواجز الحرمة التي لا تتخلى عن صونها إلا أمة رضيب بالمهانة والهوان..(11/121)
وهو ما كان يستبصره النورسي ويضنيه، ولا يقبل السكوت عنه، إذ أنه بتصديه للدفاع عن العربية كان يراهن على مكسب، بل على أحد الثوابت المقدسة التي كان يريد من الثورة الإصلاحية التي ظل ينشدها، أن تعززه، وتقوي من جانبه، وأن تستبقيه سلاحا بِيَدِ الأمة، ووسيطا فعالا في عملية ترميم التصدعات التي كانت بادية للعيان في الجدار الحضاري الإسلامي..
* * *
الفصل الثالث
مسألة الزمن
تحسس لمفهوم السيرورة كما تمثلها النورسي
".. نعم فكما أن لكل شيء حقيقة، فحقيقة ما نسميه بالزمان الذي يجري جريان النهر العظيم في الكون هي في حكم صحيفة ومداد لكتابات القدرة الإلهية في لوح المحو والإثبات .. ولا يعلم الغيب إلا الله.." (1)
مما لا شك فيه أن مسألة الزمن أو الزمنية، قد طرحت منذ القديم على الانسان بكونها إشكالا وجوديا ومعرفيا ظل العقل الإنساني يواجهه ويسعى لاستكناهه وإدراك ماهيته عبر الأطوار التاريخية المتلاحقة..
فالزمن ارتبط في كثير من الفرضيات الفكرية والفلسفية بقضية الخلق والوجود، فقد ظل الانسان يتساءل عن مبتدإ هذا الكون، وعن القبلية والبعدية، وعن العدم والحركة، وعن أولية الخلق وهل لها أولية ..
وظلت أفكار الإنسان مصدومة بهذه المفارقة العجيبة التي تتمثل في ظاهرة الزمن، تلك القوة اللامرئية، واللاملموسة، والفاعلة - مع ذلك - بلا هوادة في كل مظاهر الحياة والكون، والملابسة لأحوال الخفاء والعلن، والمحسوسة من خلال تعاقب هذه الآناءات التي تراوح على الكائن البشري وتحوله من طور إلى طور، وتتيح له امكانية تحويل المجال من حواليه .. تلك القوة الخارقة التي تتحداه بِصَمَمِها وبشمولية قبضتها، فهي تستوعب الكون في كليته، وتدور في وتيرة لا سبيل إلى تحويرها أو تكييفها، إذ هي الحاضرة الغائبة في إحساسنا، وهي رديف للموت والزوال، وللتجدد والنماء، على سواء..
__________
(1) المكتوبات ص .46(11/122)
لقد تواترت الإجتهادات التي سعى من خلالها المفكرون وأهل الحكمة إلى أن يفهموا حقيقة الزمن، وتنوعت الرؤية واختلفت باختلاف زاوية النظر التي سدد منها المفكرون والمنظرون مقارباتهم، وتراجحت المصادرات - التي قوَّموا بها مفهوم الزمن- بين السلب الذي لا يعطي للحدث الزمني كبير ثقل في هذه الكينونة الوجودية التي تحياها المخلوقات على ظهر البسيطة، وبين الإيجاب الذي يحتفي بالزمن ويعطيه ثقلا محوريا بحيث يرادفه بالفاعلية الأولى، الخالق سبحانه عز وجل ..
ولقد جاء القرآن العظيم، فصدَّر آياته البينات برؤية ربوبية ليس شرط الزمنية فيها إلا مظهرا من مظاهر الكلية التي خلق الله بها عوالم هذا الكون وأدارها، واستن لها نظم سيرورتها .. فالزمن في القرآن جاء عاملا حيويا وتنظيميا، تتقوم به منجزات الكائن البشري، وتسترسل - على رتابة جريانه- ظواهر الحياة والمعاش والعمران .. فهو مادة الحساب، وهو وسيلة التقييد ومَعْلَمَة المسيرة البشرية، وهو المنبه الوجودي الذي لا يفتأ يذكرنا عبر تبدلات المواسم والأطوار، بمآل الإرتحال الذي هو مآلنا.. إن الزمن قد تقمص في الرؤية الإسلامية هيئة الواعظ الذي لا تخطئنا تنبيهاته في الحل والترحال، وهو ما أكده تواتر آيات النظر و الإعتبار : ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين).
وجاءت السنة النبوية الشريفة فأعطت للزمن وظيفته التسخيرية، بكونه مظهرا ينطوي في دلالاته على رسوخ قدرة الله وعظمة ملكوته..
ضمن هذا المنظور الإلهي استوعب النورسي مفهوم الزمن.. لكنه -ولما كان الاحساس بالزمن أمرا نسبيا - فقد رأينا النورسي يعيش على علاقة قلقة مع الزمن، إذ كان شعوره بإفلات مقادة العمر منه يجعله يدرك أن وجود الكائن البشري في هذا الحياة إنما هو وجود قدري، ولن يسعه حيال هذه القدرية إلا أن يعيش المشيئة الإلهية بتسليم ورضى لا يكفلهما له إلا الإيمان .(11/123)
النورسي يعيش الزمنية بإحساسين، إحساس النسبية وإحساس المطلقية
لقد كان النورسي يعي الزمن ويعايشه من خلال رؤيتين :
1- رؤية نسبية، قلقة، محدود بالأجل المحتم ،ما انفك يضغط عليه جراءها احساس فاجع، ناتج عن وعيه بتسارع الأيام وتصرم المراحل ..
إنها رؤية تُقَوِّمُ العمر من خلال كرور السنين، ولا ترى في تلاحق الأيام إلا دنوا رهيبا للأجل، واقترابا مريعا من ساعة الإرتحال ومساكنة القبر.. فعجلة الزمن الصماء تطوي ثوب العمر بلا هوادة، والأيام في تعاقبها المتسارع إن هي إلا مجرد لحظات تترى، تاركة وراءها الحسرة والاحساس بالإفلاس .. من هنا كانت استماتة النورسي في ضبط توقيتية تستجيب لبعض ما وقف نفسه عليه من مساع ومنجزات يريد أن يخطها في لوح حياته ..
2- ورؤية أخرى عاينت الزمن من خلال منظور إطلاقي، بحيث كان الوجود بأبعاده المشهودة والمغيبة، يتراءى له على النحو الذي صور القرآن به الأبدية، فكان ذلك المشهد الكلي يملأ روحه طمأنينة واستبشارا، بما يبثه في نفسه من مشاعر البقاء والخلود ..
حقا لقد كانت وطأة الأجل المبهم تضغط عليه وتجعله يعيش حالا من التسارع والسباق، مخافة أن يدركه الأجل ويرتحل من غير ما احساس بإنهاء المهمة التي أناط نفسه بها ..وفي هذا السياق فإن شكاة النورسي من أعراض الشيخوخة، وضيقه من الوهن الجسدي، بل وفَرَقُه أحيانا من الموت، إنما هي أصداء طبيعية لما كان يسكنه من هواجس مصدرها الوازع الانساني الذي ينفر من الفناء قدر ما يتشبث بالبقاء..(11/124)
ومن جهة أخرى كان النورسي ينظر إلى الزمن كتاريخ يتجاوز في مداه حدود التقويم الشخصي، إذ هو ظرفية وجودية مترامية تتداولها الأمة بكاملها من خلال تلاحق أجيالها واسترسالهم في الزمن، بغض النظر عن أحوال هذا الاسترسال وما يعرو الأمة عبره من أطوار قوة وضعف .. لقد كان النورسي يعي أهمية هذا الانفساح الزماني، وكان يُقَوِّمُ حلقاتِه المتصرمة بناءً لتوقعات مصيرية قابلة، مستحضرا العبر والدروس في مداركه ومساعيه من خلال استقراء دائم للتاريخ الاسلامي واستنطاق زواياه..
إن هذا الانفساح الزماني كان النورسي يراه في صفحاته الماضية أغر، أبلج، من خلال ما أنجزت الأمة وما أدت من مكاسب على مختلف الأصعدة الحضارية والمعرفية تجاوزت بنفعها النطاق الاسلامي لتشمل البشرية قاطبة، وكان يرى قابل ذلك التاريخ صعيدا مفعما بالآمال والتباشير، ومآلا كفيلا بتعديل اختلالات الأطوار التي أتت على أمة وهي رهينة بعهود الحطة واللادور..
لقد كان العمر بالقياس إلى الداعية برهة لا تَسَعُ كل ما تحفل به أعماقه من أحلام ومآثر يتطلع إلى تحقيقها.. لذا رأيناه لا يفتأ يشكو من تسارع انسياب الزمن، ومن ضيق فسحة العمر حيال ما كان يملأ القلب من آمال ومشاريع صالحة..
لقد كان نضال النورسي يقوم - في جانب كبير منه - على مطمح تثمير الزمن واستيفاء قيمته بحكمة، كي يستوعب ما يعتلج في النفس من برامج كان مصدر إستلهامها وتخطيطها القرآن العظيم.. لقد كان النورسي منخرطا في معركة داخلية تستولي على كامل اهتمامه وتستأثر بتركيزه، لأنه شاءها أن تناط بمصير الأمة في ضوء مقررات القرآن العظيم..(11/125)
لقد ساقته الأقدار لأن يقف موقف التبني لأوضاع أمته ومآلها، إذ كان في قلب الجبهة، وفي مواجهة الصراع .. فضلا عما كان له من إيمان روحي راسخ ومن حظوظ علمية تهيئه لأن ينهض بالدور الإحيائي الذي تفرضه عليه المرحلة، فكان لا مناص له من أن يتحمل المسؤولية وأن يؤدي واجبه في الإحياء وبعث المقومات.. من هنا تشبث بعامل الزمن يستثمره على أروع ما يكون الاستثمار، لقد كانت اللحظة بالقياس إليه سانحة لا يمكن أن تمر عليه من دون أن يقبس فيها قدحة تبدد بعض ما يرين على الأمة من داجي الظلمات..
لقد كان وعيه الحاد بقيمة الزمن تتبدى في سياسته الاجتماعية التي اختارت العزلة الفاعلة، وفي مسلكه المعيشي الذي قام على التكفف الصارم، وفي طبيعة التعاليم التي كان يدعو إليه، إذ هي تعاليم حصرت نظرها في القرآن ليقينها من نفاذ وجدوى تلك التعاليم، مقارنة بما راج ويروج من اجتهادات وضعية متهافتة..
لقد استطاع النورسي أن يضبط حياته في مختلف مستوياتها الروحية والإجتماعية والفكرية وفق نظام صارم قائم على الدقة والفاعلية..
لقد كان عنصرا بشريا فاعلا تجاوز نطاق فرديته بما انطوت عليه جوانحه من روح انشغلت بواقع الإنسانية قاطبة، إذ راح يراهن على المصير وعلى قَلْبِ أوضاع مدنية وحضارية لأمة اختلت زمنيتها، فارتكست عن المضي في طريق الرقي وترشيد العالمين لما في صالح الإنسان .. وذلك ما حتم عليه أن يندمج في المراهنة بكامل الاستعداد، وبوعي راسخ بأن للحظة معادلا موضوعيا من الفعل والتقويم والانجاز، لا سبيل لتفويته..
ولقد تجسدت لديه صرامة التقيد بذلك النهج القصدي الاقتصادي في ميادين الحياة الفطرية، إذ أن اضراب النورسي عن التأهل والزواج مثلا ، لأسطعُ دليل على مدى الانهماك الذي كان يُنَفِّذُ به مشروعه الإحيائي الحضاري..(11/126)
بل لقد كان التزامه الحدي بالفاعلية والنفاذ، أو بتسخير عامل الزمن على نحو صارم، يتبدَّى في علاقاته العامة المحدودة، بل حتى مع طلابه.. لقد كان جنوحه للوحدة جليا، إذ أنها كانت وحدة تفكير وانجاز واجتهاد، وهو ما كان يجعله يحرص عليها، وينشدها، ويتجنب كل ما من شأنه أن يقطعها.. لقد بلغ به الحرص على صون تلك الوحدة أن راح يعلن لطلابه عن ضرورة تركه يتفرغ لما كان يعالجه من تفكير وتدبر ومعالجة روحية وفكرية لأوضاع أمة أضاعت طريقها وغفلت عما تتوفر عليه من أسباب الفلاح..
بل لقد رأيناه يستثقل حتى مهمة التدخل لإسداء النصح والتوجيه لأتباعه من التلاميذ، وما ذلك إلا لأنه كان يرى في ذلك التدخل لا سيما إذا أضحى متابعة دائمة- على أهميته - إشغالا له عن التفرغ للأهم والأنجع، وهو العبادة البناءة ..
ولقد وجدناه يذهب في الصدد الترشيدي بعيدا، بحيث ألفيناه يفتي الأمة بعدم تخصيص زمنيتها الحاضرة للإشتغال التصوفي، إذ أن الملة وراية المسلمين المنتكسة تحتم على كل ذي لطافة روحية أو عقلية أن يسخرها في سبيل تحقيق النهضة التي تصان بها البيضة، ويتقوى بها دين الله للرد على انتهاكات الأعداء الذين تداعوا للإجهاز عليه بشتى الوسائل.. من هنا راح الإمام النورسي يكرر لمستفتييه قناعته وهي أن:" ليس زماننا زمان طريقة..". (1)
لقد كان الإحساس بوجازة الزمن، وقصره، وسرعة تصرمه، من الهواجس التي سكنت النورسي وحكمت مزاجه..
والواقع أنه إحساس نابع من الرؤية القرآنية للحياة، إذ أن من الصور التي رسخها القرآن للدنيا في وجدان المسلم، وقتيتُها وسرابيتُها وسرعةُ ذوائها، فهي الغثاء ،وهي الهشيم الذي تذروه الرياح..وهي باختصار نضارة آنية لا تلبث أن يدركها الجفاف والفناء..
__________
(1) المكتوبات ص.79.(11/127)
من هنا كان الصالحون يقدرون أن تجربة عبورهم للحياة تعاجلهم بقصرها وتَحَدُّ من طاقتهم ومما يريدون أن يستغرقهم فيها من عمل صالح يتقربون به إلى الله .. لذلك تراهم يلجأون إلى اتباع سبيل العزلة كحل اختياري يكفل لهم أن يمحضوا زمنيتهم على نحو أكثر خلوصا للعبادة والتقوى.. وكل ذلك سجلته سيرة النورسي ..
بل لقد رأيناه يُقِرُّ أنه اكتفى حتى في تعاليمه بإعتماد الأصول دون إهدار الوقت في مراجعة الفروع، إذ قصر الحظ الأكبر من الجهد والتركيز على مدارسة الكتاب والسنة، وعلى استقراء روح القرآن العظيم وعلى هضم مصادر الأقطاب والمرجعيات الشهيرين .. وهي خطة منهجية يعتمدها كل عالم، مدرك لقيمة الزمن ولأهمية استثماره على النحو الفعال، وهو ما اتبعه النورسي، إذ أن علاقته بالوقت لم تكن تسمح له بأن يتصفح كل المصادر التي تركها السلف والتي قد يكون فيها ما يغني الرؤية ويخصبها .. لقد كرر النورسي أن تعاليمه مستقاة من نبع القرآن، وأن ذلك كان نهجا إجلائيا على درجة من النورانية لا تنكر، إذ أن الاستقاء المباشر من نبع القرآن قد كفل لتلك التعاليم الصفاء من جهة، وكفل له - هو - تزكية الوقت من جهة ثانية:
"..الوقت ضيق، ونحن ضعفاء فلا نجد متسعا من الوقت كي نستفيد من تلك الآراء النيرة ".(1)
__________
(1) الملاحق ص.192(11/128)
لقد آمن النورسي بالتجديد فعاليةً تتعزز بها قوانين الله الشرعية والروحية، وتصان بها معالم الطريق التي على الإنسانية أن تسير عبرها في هذه الحياة.. وأدرك أن الرتابة التي يخلقها كرور الإيام والسنين مجلبة للغفلة، وباعث على النسيان والانقطاع، وأن الخالق - عز وجل- قد هيأ لعقيدته السماوية العهدة التي تتولى تجديدها وتجلية جوهرها وشحذ حدها.. وهو الدور الذي أوكله الله للعلماء والصالحين الذين قرر أنهم في مرتبة ورثة الأنبياء .. وذلك ما يؤكده قول الله :( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )، ويثبته كذلك معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( أن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة دينها)..
فالتجديد الإصلاحي الذي لا يفتأ أهل الاستنارة يقومون به عبر العهود والمراحل، هو - كما يرى النورسي - تشبيب للزمن وعصرنة للقيم وتوسيع للرؤية الإنسانية، لتطابق الأبعاد التي تشملها تعاليم الله ومراميه التي لا تحد بأفق ، إذ إصلاح حال الإنسان والتسامي بشأنه، وتهذيبه، هو مبتغاها. (1)
ولا يخفى ما للزمن من مقاصد تعليمية لا تنكر، فهو في جريانه الصامت، وفي انسيابه السامت، لا يبرح يخط بقلم العبرة آيات بينات لا تغيب عن إدراك ذوي الألباب والبصيرة..
__________
(1) الملاحق ص.196.(11/129)
وإذا كان الدهريون والملاحدة قد وقفوا من الزمن موقف المتبلد الذي لا يعي من الوقائع إلا ما يتصل بالحاجة الغريزية، الإستهلاكية، فهم في ذلك أشبه ما يكونون بالحيوان، فإن الحس الفطري والهداية السماوية وتعاليم الأنبياء والرسل عليهم السلام قد ألهمت الإنسان أن يستقرئ في خطى الزمن حقيقة هذا الوجود، ومآله، ومقاصده .. فكرور الساعات والأيام لا يعني أن الإنسانية تراوح في حلقة مفرغة، تستغرقها الإستنامة أو تَناسِي مصيرِها العدمي الفظيع كما يعتقد الملاحيد .. بل إن عجلة الزمن تتحرك مُسَيَّرَةً ومشروطةً بأجل وكتاب، تتقلب على إيقاعها صفحات تاريخ الكائنات في هذا الوجود المشرئب برأسه إلى الأبدية التي قضى الله بها مصيرا سرمديا يتوج هذه الأطوار التي سلختها الخليقة منذ البدء، والتي تعلمت خلالها - أو زاغت - في ضوء الهداية أو بانقياد للأهواء، ما شاء الله لها أن تتعلم..
فالفاعلية الزمنية شرط إيماني راسخ، لأنها الظاهرة الحسية التي تعكس على نحو معبر، القدرة الإلهية الخارقة التي لا تعترضها عوارض ولا تعيقها عن تنفيذ إرادتها عوائق..
فالثابت "أن هناك يدا خفية تعمل من وراء الظواهر جميعا، فما لا قوة له أصلا، بل ولا يقوى حتى على حمل نفسه، يرفع آلاف الأرطال من الحمل الثقيل .. وما لا إدراك له ولا شعور يقوم بأعمال في غاية الحكمة .. إنها أشياء إذن لا تعمل مستقلة بنفسها، بل لابد أن مولى عليما وصانعا قديرا يديرها من وراء الحجاب، إذ لو كانت مستقلة بذاتها، وكان أمرها بيدها، للزم أن يكون كل شيء هنا صاحب معجزة خارقة، وما هذه إلا سفسطة لا معنى لها..". (1)
__________
(1) الكلمات ص.312.(11/130)
من هنا كان المؤمن يقرأ في إيقاع الزمنية آياتٍ من العبرة واليقين والإيمان راسخة، إذ أنه - وحيثما التفت - يجد حياله شواهد من الموعظة لا تُرَدُّ.. فأطوار السابقين وأوضاع من سلفوا هي مجال للإتعاظ والإعتبار، وكذلك وقائع الراهن وما يتقلب فيه الفرد من أحوال ومن متغيرات يومية ومرحلية، هي مادة للتفكير واستخلاص العبر.. ومن شأن ذلك كله أن يدفع بالكائن العاقل إلى التأمل في المصير الإنساني، فضلا عن مصيره هو، ضمن روح من الإيمان والوعي بأن عتبة القبر ليست إلا الباب الذي ينفذ من خلاله الإنسان - بما حاز من عمل صالح أو طالح - إلى الأبدية..
من هنا يختلف العبد المؤمن عن الجاحد ،وتتباين نظرة أحدهما للزمن مع نظرة الآخر .. فإذا كان المؤمن يعيش بوعي الاستمرار والتواصل، وبالوثوق من البعدية، فإن الملحد يعيش راهنه، إذ أن هناك رجاحةً غريزيةً تُغَلِبُ في روحه جانب الحيوانية على جانب البشرية، فيحيى متهتكا، لا يهمه من الحياة إلا ما يصيب من ملاذ تشبع نهمه الخسيس.. من هنا كان الفرد المؤمن - كما يرى الإمام النورسي - إنسانا زمنيا، أي أنه على صلة بجذوره الماضية، بوصفه جِبِلَّة حية، دائمة، تدين بوجودها إلى إله خالق، مقيدة بروابط المعبودية له، وموعودة بحياة سَرْمَدُها منوطٌ بما يقدم الفرد من صالح الأعمال.. على عكس الفرد الجاحد الذي هو مخلوق لا زمني، ترتهنه الساعة التي هو فيها، ويعيش مُنبتًّا مع الماضي، مبتور الصلة بالوجود في سيولته المنسابة بقدر.. ذلك لأنه " لا ماضي ولا مستقبل للضال" كما يقول النورسي .(1)
وربما اشتط الكافر في كفره، فأسند إلى الزمن دورا ربوبيا، فيضحى دهريا يردد ما حكاه الله عن فصيلته من الجاحدين :(وما يهلكنا إلا الدهر).
__________
(1) الشعاعات ص.248(11/131)
فدورة الزمن الصغرى ( اليوم ) والكبرى ( السنة) لا تفتأ تهمس للإنسان وتصيح - من خلال تبدلاتها وتغيراتها - بحقيقة هذا الوجود.. فليس هناك في كل ما يحدث تحت أبصارنا من وقائع هذا التبدل الذي يحكم الحياة وينتظمها، مؤشرٌ واحد يثبت العدمية..
بل إن العدمية - كما يرى النورسي- عديمة في ملكوت الله، فما نراه من ابتهاج المناظر الخضلة، ومن ازدهار الفصول النضرة، المتعاقبة، ومن انفعام الآفاق الفساح بالغضاضة والعذوبة، لا يشمله العدم والفناء بحال من الأحوال .. إذ حتى حين يداهمها موسم الجفاف واليبس فإنها وإن تحللت حقا وترمدت، وذرتها الرياح في الأفضية، إلا أنها لا تبيد، إذ أنها ببلوغها أوج انسحاقها، تشرع في تحقيق دورة النشور من جديد ..
" إن الأصل في الشيء البقاء، حتى أن الأمور السيالة السريعة الزوال كالكلمات والتصورات لها أيضا مواضع أخر يتحصنون فيها من الزوال، لكن يتطورون في الصور، حتى كأن الأشياء موظفون لحفظ الشيء إما بتمامه كالنوراني، أو وجه من الشيء يسارعون بكمال الاهتمام لأخذه ووضعه في قلوبهم الشفافة. والحكمة الجديدة تفطنت لهذا السر، لكن بلا وضوح، فلهذا أخطأت بالإفراط، فقالت لاعدم مطلقا، بل تركب وانحلال، كلا، بل تركيب بصنعه تعالى وتحليل بإذنه، وإيجاد وإعدام بأمره، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.." (1)
فمع الإيمان تتكشف الحقيقة الإلهية التي تحكم هذا الوجود وتجعله دائم التجدد..وذلك ما طفق يعرب عنه النورسي من خلال تلك الوقفات التي ظل يناجي بها قلبه ويبين له حقيقة التجدد التي تشرط ظواهر هذا الوجود :" "اِعلم يا قلبي أن ما يرى ملء الدنيا من آلام الإعدام إنما هي تجدد الأمثال، ففي الفراق مع وجود الإيمان، توجد لذة التجدد دون ألم الزوال ..".(2)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص .232.
(2) المثنوي العربي النوري ص 212(11/132)
بل إن النورسي قد ساق رؤيته الوجودية في صورة قانون يثبت بقاء الكائنات وينفي العدمية، عندما قرر أن : " كل شيء فانٍٍ بمعناه الاسمي، وباق بمعناه الحرفي ..".(1)
فليس هناك شيء مما خلقه الله يفنى، ولكن كل شيء يعاود الحياة وفق قانون التوارث والبقاء والخُلْد الذي قضى به الله مآلا للخليقة.. وفي ذلك أسطع البراهين على حتمية وقوع الحشر والنشور كما قرره الله عز وجل في كتابه الكريم ..
" هناك حفيظية حافظة مهيبة بادية للعيان، تحكم على كل شيء حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة ، وتسجل عمل وظيفته الفطرية ".(2)
فدورة الزمن الدائبة لا تعني إلا أن هناك مالكا لهذا الكون، حيا، دائما، باقيا، لا تأخذه سنة ولا يتملكه نوم، خلق العباد ليكون لهم السرمد موعدا وميقاتا، بعد أن يعبروا جسر الحياة والامتحان ، إلى الدار الآخرة، دار البقاء.. ذلك لأن عقارب الساعة تشبه حركة الأيام وتدل في ذات الوقت على حركة الزمن . من هنا كان حتما لـ" لإنسان بوصفه خاتمة شجرة الكون، وأجمع ما فيها من الصفات ..أن يكون له حشر ونشور." .(3)
بل إن حياة الانسان خاضعة لديمومة من التجدد، فهي تعيش نوعا من الحشر قبل الإبان. والإنسان في تجدده المتواصل هو بمثابة الكون الذي تتراوحه المواسم بِلىً وتجديدا.بل إنه في سيرورته المتجددة جماع لحيوات عاشها تباعا، عبر مراحل العمر المتصرمة، فطفولته، قد انقضت مع حلول كهولته، ولكنها في حقيقتها باقية في كينونته، ماضية معه، لا سبيل إلى الفكاك منها أبدا، وهو ما يثبت البقاء الذي قدره الله لعباده..
__________
(1) المكتوبات ص 75.
(2) الشعاعات ص269
(3) انظر الشعاعات.273(11/133)
"..إن فرد الإنسان له ماض ومستقبل . إذ يجتمع في الشخص - معنويا - كل من مات منه من أفراد نفسه، إذ في كل سنة يموت منه فردان صورةً، ويورثان فيه معنييهما من الآلام والآثام والآمال وغيرهما، فكأنه فرد كلي .. وإحاطة فكره وعقله وسعة قلبه وغيرها تعطيه نوع كلية .. وكون فرده كنوعه في الخلافة والمركزية لعالم خاص كالعالم العام .. والعلاقة الشعورية مع أجزاء العالم وتصرفه في كثير من أنواع النباتي والحيواني والمعدني تحويلا وتغييرا خلافا لسائر الحيوانات وغيرها، أيضا تعطي له نوع كلية، كأن كل فرد نوع منحصر في الشخص .. ودعاء المؤمن لعموم أهل السموات والأرض يشير إلى أن الشخص يصير بالإيمان كعالم أو مركزه .. فما تجري في نوع الحيوان من القيامات المكررة النوعية المشهودة في كل سنة، فإن شئت فانظر إلى آثار رحمة الله في كل سنة في الثمرات المتجددة الأمثال كأنها أعيانها، وإلى حشر أنواع الهوام والحشرات بكمال سهولة من القيامة - تجري بالحدس القطعي في كل فرد من أفراد الانسان - فيدل كتاب العالم في هذه الآيات التكوينية على قيام القيامة الكبرى لأبناء البشر، كما يدل القرآن عليه بالآيات التنزيلية .". (1)
فالإيمان بالزمن البعدي أو باليوم الآخر - كما يرى النورسي - هو من أركان الايمان بالله .. وكذلك الإيمان بالقدر، خيره وشره .. إذ بذلك الإيمان يقر الانسان بأن ما يقدره الإنسان ويسعى إليه وينفذه.. هي جميعا حيثيات مشروطة بارادة الله، فهي - من ثمة - رهن بالغيب، أي بالزمن القابل المجهول الذي لا إرادة لمخلوق عليه، لأنه من شأن الله وحده .. فلا غرابة بعد هذا ‘"اذا ما وجدنا أن ثلث القرآن جاء يدور حول الحشر والآخرة" .(2).. وذلك ما يؤكد حقيقة النشور التي لا يفتأ النظر الإنساني المحصف يعاينها يوميا في ما تعج بها الطبيعة والأشياء حوله من حياة وتجدد..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 246.
(2) الملاحق ص 638(11/134)
هكذا فهم النورسي قيمة الزمن .. وهو فهم إيماني بلا مواربة ..فالزمن عنده فاعلية ربانية تؤطر الكون لتقرر في خَلَدِ الإنسان العاقل بداهةَ البدءِ والإنتهاءِ .. إذ لا أطلاقية نشوئية وحشية -كما يزعم الزناديق - انبثق عنها هذا الكون واستوى بها صدفة ليمضي على وتيرة من الرتابة، وينخرط في سلك لولبي من التطور، تتمادى به نزوة التلقائية أو يطفر به منطق العضوية، فتحوله من شوه إلى شوه كما زعمت الداروينية والنشوئية وغيرهما من فلسفات الماديين..
بل لقد ضبط النورسي تجربة وجوده ذاتها على إيقاع زمني تنظيمي دقيق، بحيث رأيناه يتبع ما يمكن أن يسمى بفلسفة الإكتفاء .. تلك الفلسفة التي شملت مناحي حياته الفكرية والعملية على حد سواء، انطلاقا من استيعابه الخاص للزمن .. وكان من نتائجها بروز تلك الصورة المرتبة التي أخذتها حياته، سواء في جانبها الاحتماعي- بعدم الزواج وبالعيش المنقطع عن الناس- أو في جانبها الإقتصادي، بحيث ألزم نفسه بقناعة كفافية أغنته عن التطلع إلى غير باب الله، ودَرَّتْ عليه من الأفضال والكرامات ما عرفناه عنه.. أو في جوانبها الثقافية، بحيث حدد الوجهة التي سلكها في تحصيل معارفه واستمداد بيِّناته الروحية والعقلية، وحددها بالقرآن العظيم وصادر في ضوء تعاليمه الإلهية ما شاع وذاع من فكر وفلسفة وضعيين..
بل لقد سعى النورسي إلى أن يجسد واقعة النشور من خلال تكييف جذري لحياته وتحويل مجراها في الإتجاه الروحي المحض، وهو ما جعله يَقْبُرُ هويةً سعيد القديم، تلك الهوية التاليةً التي تَلابَسَتْ فيها منازع الروح والنفس فشوشت على المسيرة وأربكت الخطا، الأمر الذي حتم بعث هوية سعيد الجديد، تلك الهوية الجديدة التي أناطت وجودها بالزمن البعدي، فأضحت الحياة وتفاعلاتها مجرد أصداء تتناهى إليه من خلال انهماك روحي والتفات قلبي صوب الله..(11/135)
لقد جسدت تلك التجربة ميلادا في الزمن تستسيغها حكمة التوبة أو الإثابة التي تَتَشَبَّبُ بها نفوسُ المؤمنين عندما تطرق باب الرحمان متخففة من أحمالها وعنائها..
لقد جاهد النورسي بإخلاص متجدد وباسل، كي يحقق الانفكاك عن زمنية الواقع الأرضي، التحاما مع مدار الجاذبية العليا، لا لأنه غاص في وحل الإنغماس الدنيوي المقيت فشاء أن يكفّر ويتطهر، ولكن تداركا منه لاجتهاد رؤيوي قدَّرَ أنه سيخدم من خلاله الإسلام، فجدّ في الطريق صادقا، لكنه سرعان ما تبين الحقيقة الصادمة، فانتفض مروعا، ووثب موليا من حيث انطلق .. من هنا كان ذلك الانبتات الفعلي مع المجتمع، اللهم إلا على صعيد الروح، حيث كان النورسي يحرص على تصدير تعاليمه، باعتبارها كشوفات في حقل الروح، تفيد الأمة في رأب صدعها الروحي والحضاري البالغ..
ولقد دلت التفاصيل البسيطة في سجل حياته على عمق القطيعة التي اختار أن يحصن بها قلعته وهو يشتبك وجها لوجه في معركة المصير التي خاضها ضد النفس وضد قوى البغي والردة في المجتمع ..
لقد قضى عقودا لا يقرأ الجريدة إذ أضرب عليها بعد أن تبين حقيقة حال السياسة والسياسيين، وعاش لا يشارك الناس طعامهم، ولا يقبل منحة، ولا يرتبط بأهل، ولا يسلبه أمل دنيوي يبعده عن أوامر الله ونواهيه، ولبث متيقظا، ناقما على أبسط المشاعر التي تخامر النفس وتزين لها شهوات الدنيا، لاتمتد يده من سماط هذه الحياة - رغم الإغراءات والضغوط - إلا إلى ما كانت فيه حاجة تقيم أود الجسد..حاجة كانت - حقا - على حد من التقتير الارتياضي الذي أعطى كل تلك النتائج الروحية والكراماتية المرموقة..(11/136)
لقد كانت حياة سعيد الجديد تُجَسِّدُ - فعلا- تجربة التجدد الإرادي الذي يباشره الإنسان إذا ما أخلص نية الانخراط في سبيل الله، تصفيةً للذات والسمو بها إلى درجة الشفوف، ارتكازا على برنامج من اليقظة والتشدد في محاسبة النفس وحملها على الإلتزام بأمر الله .. إن واقع التحول الذي عرفه سعيد النورسي يُعَدُّ عنوانا للبعث والنشور المعنوي..(1). كما أنه دلالة على قابلية الانبعاث الروحي والحضاري التي تتأتى للأمة، إن هي أخذت بطريق الله والتزمت بتعاليمه في صناعة واقعها وبناء مصيرها..
لقد كان موقف الانقطاع عن الحياة العامة النهج العملي والروحي المفضي إلى تزكية الذات، وتثمير زمنيتها على وجه نافع ومفيد وذي مردودية.. لقد كان انقطاعه عن أخبار العالم وعزوفه عن قراءة الجريدة، سياسة سلوكية سد بها الباب بينه وبين زمنية الابتذال والإرتذال..
لقد كان للنورسي في مشاهداته، وفي وقائع الحياة اليومية التي يحياها وسط أناس تعركهم الأيام بكرورها الدائب، وتدركهم الشيخوخة والعجز، عبرة وموعظة، إذ أن دورة الحياة كانت تُبَيِّنُ له مدى جهالة أولئك الذين يركبون موج الخطيئة ويستنيمون للفاحشة والعصيان، ويسترسلون مع الإثم، مغترين بعهود الشباب والتخفف من الأسقام، ثم لئ يلبثون أن تطوى صفحتهم ويضحوا مسخا ومعايب فاضحة. " ..فلو أمكن إظهار حوادث ما بعد خمسين سنة من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفانية - بجهاز كجهاز السينما - وعرضت حوادث أهل الضلالة وأحوالهم في المستقبل، إذن لتقززوا ولتألموا ولبكوا بكاء مرًّا على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرمات في الوقت الحاضر. (2)
__________
(1) الشعاعات.542
(2) الشعاعات ص247.(11/137)
وفي هذا السياق نجد النورسي يحاور أهل الضلالة ممن يعتقدون أن الماضي واقع معدوم ومندرس ولا شأن له بالحاضر وبالواقع.. إذ الشأن كل الشأن - عندهم - هو الحاضر، وما تَغتصِب فيه النفسُ من لذائذ فانية .. ويجيبهم قائلا:
" إن ذلك الماضي السحيق ليس بمعدوم وليس بمقبرة تبلي كل شيء وتفنيه، بل هو عالم نوراني موجود فعلا، الذي ينقلب إلى المستقبل، وهو ساحة انتظار الأرواح الباقية المترقبة للبعث، دخولا إلى فردوس السعادة الأبدية المعدة لهم ، لذا يذيقك وأنت لا زلت في الدنيا - لذة الجنة المعنوية حسب درجة إيمانك، كما أن المستقبل ليس مؤلما ولا مقلقا ، وليس محلا للوحشة ولا واديا مظلما مخيفا ، بل هو بنور الإيمان، منازل سعادة أبدية للرحمن الرحيم ..(1)
فبعقل الانسان وبما يتماسُّ فيه ذلك العقل مع عالم الغيب من خلال الدلائل والآثار التي تحسها النفس ويدرك كنهها الضمير الحي، فارق الانسانُ الحيوانَ واكتسب خاصياته الوجدانية، وأضحى يعرب عن عواطف الألم والحنين، إذ أن عقل الانسان مرتبط بمعرفة منزَّلة، لا يفتأ يغيبه عنها الضلال، لكن إثابته إلى الرشد لا تلبث من جهتها أن تدنيه من تلك المعرفية الربانية، إذ بالرشد الروحي يحقق الإنسان سكينته ..
__________
(1) الشعاعات ص249(11/138)
" أيها الإنسان، لقد خرج شيء من ماضيك ومستقبلك من الغيب، بحكم ما تحمله من عقل، فأنت محروم كليا مما تتنعم به الحيوانات من راحة واطمئنان بانسدال ستار الغيب أماهما، فالحسرات والآهات الناشئة مما مضى، وأنواع الفراق الأليم والمخاوف الناجمة تزيل لذتك الجزئية وتبيدها وتهوي بك في درجة أدنى بكثير من الحيوان من حيث اللذة، فما دامت الحقيقة هكذا فما عليك إذاً إلا أن تتبرأ من عقلك وترميه خارجا، وتَعَدُّ نفسَك حيوانا فتنجو، أو تُنَوِّرُ عقلك بنور الإيمان وتنصت إلى الصوت العذب للقرآن الكريم، فتكون أرقى من الحيوان وأرفع، مغتنما لذائذ نقية، صافية، طاهرة، وأنت ما زلت في هذه الدنيا الفانية".(1)
فالإنسان يعيش على وعي عضوي بزمنه، فإدراك الزمن هو الذاكرة، وهو المخيلة..
فإذا ما عدم الإنسان زمنيته، وبات من غير ماض ولا مستقبل، أضحى ناقص السجايا..
" إن مقام الانسان الراقي وتفوقه على سائر الأحياء وامتيازه عليها إنما هو لسجاياه السامية، ولاستعداداته الفطرية الجامعة، ولعبوديته الكلية، ولسعة دوائر وجوده، لذا فالإنسان المنحصر في الحاضر فقط المنسلخ من الماضي، المبتوت الصلة بالمستقبل - وهما معدومان ميتان مظلمان بالنسبة إليه - هذا الانسان يكسب سجايا المروءة والمحبة والأخوة الانسانية على أساس حاضره الضيق، وتتحدد عنده تلك السجايا على وفق مقاييسه وموازينه المحدودة، فيولي المحبة لأبيه أو أخيه أوزوجته أو أمته ويقوم بخدمتهم على وفق تلك المقاييس الضيقة في الوفاء، وليس على وفق مكانة الإخلاص في الصداقة، أو درجة الود المصفى من الشوائب في المحبة، أومستوى الإحترام المبرأ من الغرض في الخدمة، لأن سعة تلك السجايا والكمالات قد تضاءلت وصغرت بالنسبة نفسها، وحينها يتردى الانسان إلى درك أدنى الحيوانات عقلا.. (2)
__________
(1) الشعاعات ص250.
(2) الشعاعات ص279.(11/139)
إن الإيمان بالآخرة يضفي مساحة الوجود حيال الانسان، ويبني روحيته على أسس ثابتة لا تقيس الأمور بمقياس الظرفية والإنقطاع.." ما أن يأتي الإيمان بالآخرة إلى هذا الانسان لينقذه ويمده ويغيثه حتى يحول ذلك الزمن الضيق - الشبيه بالقبر- إلى زمان فسيح واسع جدًّا، بحيث يستوعب الماضي والمستقبل معا، فيريه وجودا واسعا بسعة الدنيا، بل بسعة تمتد من الأزل إلى الأبد، وعندئذ يقوم هذا الإنسان باحترام والده وتوقيره بمقتضى الأبوة الممتدة إلى دار السعادة وعالم الأرواح، ويساعد أخاه ويعاونه بذلك التفكير بالأخوة الممتدة إلى الأبد ..فتبدأ - من ثمة - كمالاته وخصاله بالسمو والرقي بالنسبة نفسها، وتتعالى إنسانيته ولكل حسب درجته..(1)
فالإيمان بالآخرة يوسع من رحابة الوجود ويركز عقيدة الدوام والأبدية، ويجعل من مطمح الخلود حقيقة منطقية، تنسجم مع روح القرآن الذي جعل من الحياة الدنيا معبرا لحياة أبدية..(2)
الزمن الدنيوي اِرهاص للزمن الأخروي، السرمدي
ففيما تركز معتقد الماديين على الزمن الدنيوي، وقطعوا مشاعرهم بما وراء ذلك، رأى النورسي أن الزمن الدنيوي هو جزء من الزمن السرمدي وموصول به ..
لقد ألحم النورسي مفهوم الزمان الأرضي بالزمن الأبدي، وجعل الموت عتبة عبور تنتقل منها الروح من وضع الظرفية والمرحلية إلى وضع الأبدية .. ومن خلال تلك النظرة قوَّم سائر القضايا الوجودية والحوادث الحياتية .. فخلت نظرته إلى الزمن من أي إحساس بالقسرية أو بالاضطرارية، وأسندت كل واقعة وكل رجاء إلى اللوح المحفوظ، مخالفا بذلك احترازات المناطقة والفلاسفة الذين يلحون على السببية .. لقد دأب أولئك المناطقة والفلاسفة - كلما أخطأتهم في سبرياتهم لمستويات من الظواهر والقضايا - ينفخون ويتعزون بكون علمهم لم يرق بعد إلى الأفق الذي يمكنهم من التحكم في كل القوانين، والإجابة عن كل الأسئلة..
كرامة طي الزمن
__________
(1) الشعاعات ص.279.
(2) الشعاعات ص.283 .(11/140)
يتحدث النورسي عن ظاهرة غيبية شغلت أفكار الناس زمنا، وربما لا تزال، بل ربما ستكون وجها حاسما للفتوح العلمية في القابل .. وذلك لما تتسم به من طابع خارق، ونقصد بها فكرة طي الزمن وبسطه التي تنسب لبعض الأولياء .. لقد أقر النورسي تلك الكرامة قائلا : " لا ينبغي أن يستغرب فيستنكر، ..ألا ترى أنك في الرؤيا كأن مر عليك سنة في ليلة بل في ساعة ..ففي انكشاف هذه الحالة لأهل الكشف في اليقظة ينبسط الزمان ويطول العمر ويتقرب إلى دائرة الروح التي لا يقيدها الزمان .".(1)
إن هذا الفهم ليؤكد أن النورسي - إلى جانب إيمانه الراسخ بالكرامة، كان يتمثل للزمن رؤية تقوم على ما عرف بـ " النظرية النسبية، إذ أن حقيقة الزمن تستوعب وفق منطق رياضي، يأخذ بعين الاعتبار مقدار حساب التسارع الزمني ضمن شرط المكان الذي يظرف الحدث الزماني .. بما في ذلك الفضاء الأرضي ونظام المجرات، وهو ما يبينه النورسي من خلال التوضيح التالي ".. افرض أن أحدا ركب ميل الساعات وواحدا امتطى ظهر ميل العاشرات، فانظر كم بين ما رأيا وقطعا .. فقد انطوى لهذا ما انبسط لذلك بدرجة تكون ثانية ذا، سنة هذا، ولأن الحركة كجسم الزمان أو الزمان كلونها، فما يجري فيها يجري فيه أيضا، فلم لا يجوز للولي الغالب روحه على جسمانيته أن يصدر أفاعيله على مقياس سرعة الروح والخيال."(2)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 324
(2) المثنوي العربي النوري ص 325(11/141)
إن ما يهمنا هنا هو هذا الاستيعاب النير والعصري الذي أظهره النورسي في تمثله لظاهرة تجريدية من أعقد الظواهر الكونية والروحية في وجودنا وهي ظاهرة الزمان.. تَمَثُّلٌ لم يكن يكتفي بصوغ الفرضية نظريا من خلال الشواهد والأمثلة الدالة على تفهم الظاهرة، بل إنه تمثل تمرسي، إذ كان النورسي يسعى بحكمة المصلح، إلى إدماج ذلك الفهم المتقدم للزمن في عملية إرسائه للفكر والمعرفة الإسلاميين، من خلال إقامة ذلك التزاوج بين الروح الدينية كما قررها القرآن وبين الاستقراء الفكري الذي كانت العقلية الإنسانية قد أثلته لفكرة الزمن والمقايسة، خاصة وأن النورسي قد لمس في ذلك التأثيل شيئا وجيها يسهم في ترجمة الأسرار الإعجازية التي انطوت عليها فاعلية الزمن، بوصفها شرطا كونيا أرست عليه القدرة الإلهية نظم الكون وإيقاعات حركته المجسدة لعظمة الخالق..
بل لقد لمس التأثير الفعال لوطأة هذا الشرط الوجودي على الانسانية بعد ما تعاقب عليها من أطوار وما تهيأ لها من أسباب الوعي والمدنية..
يقول النورسي:
" لقد تيقظ الانسان في عصرنا هذا بفضل العلوم والفنون ونُذُرِ الحروب والأحداث المذهلة، وشعر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يخلق لقضاء هذه الحياة المتقلبة القصيرة، بل خلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد ..وأن كل إنسان بدأ يشعر – حسب استعداده – أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى إذا قيل لقوة الخيال التي تخدم الانسانية : لك أن تعمري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظير قبولك موتا أبديا لا حياة بعده إطلاقا . فلابد أن خيال ذلك الانسان المتيقظ الذي لم يفقد انسانيته سيتأوه كمدا وحزنا - بدلا من أن يفرح ويستبشر – لفقده السعادة الأبدية ".(1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 494(11/142)
فالنزعة إلى الخلود، ميل انساني مركوز في فطرته، عوامل الاجتماع والمدنية قد تكون من دواعي تحريكه في النفس، فيكون التأثير أيجابيا، على نحو ما يفعله الدين في النفوس المؤمنة بخصوص المصير الأبدي ..
فالدين يتضمن الخلاص من العدمية والانهدار المجاني للحياة، وذلك ما يفسر سر لجوء الانسان فطريا إلى الدين : "وظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق في أعماق كل انسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الأبدي ووضع العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة".(1)
الإيمان بالغيب من الإيمان بالله
من هنا أكد النورسي الأسس الستة المكرسة للإيمان والتي تعتد في كليتها بشرط الإستيثاق من حتمية سفور الغيب بكل وعود الخالق الدائم، هذا الغيب الذي طفقت تبلغ عنه رسالات الله، لا سيما الرسالة الإسلامية الأشمل والأوطد..
إن تلك الأسس المنوطة باليقين الروحي الحق هي الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وبملائكته وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى".(2). وهي - كما نلاحظ - أركان روحية تتضمن في جملتها البعد الغيبي التمحيصي..
فركن الإيمان بالله يقتضي التصديق بما لا يحس أو بما لا يعاين - و بالتالي - بما لا يشخص .. وكذلك الحال فيما يخص ركن الإيمان بالملائكة، إذ أمر الملائكة مغيب، شأنه شأن اليوم الآخر ،وشأن القدر ،وشأن الكتب، وشأن الرسل، إذ أن ما طفق يقرره الرسل عبر تاريخ بعثاتهم السماوية، ظل موضع طعن وإنكار من قبل الجاحدين في كل بعثة، رغم الدلائل والبينات التي كان الله يمد بها رسله تبليغا لتعاليمه، إذ لم يكن الإيمان بالرسالات ليتهيأ إلا لمن هيأ الله قلبه لعناق اليقين ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص.494.
(2) الشعاعات ص300(11/143)
ولا يسعنا أن ننكر ما أفادنا به القرآن العظيم الذي جعل من العقل والبيان التأملي المستنير حجته وأُسَّ برهانه ومصداقية أنبائه وتقريراته، إذ أن اِنكار تلك الآيات البينات المؤكدة بقاطع الحجة الكونية الظاهرة، انتحار مجاني، وإقرار - لا ينسجم مع المنطق والجِبِلَّة - بعبثية الوجود وصُدْفيته، واعتباطية ما يكتنفه من نظم متداخلة متراكبة، معجزة في الدقة والإطراد ..
إن القول بعدمية الكائن وبآنيته، وفنائه، هو قول لا يرتكز على روح.. وإننا إذا ما قيدنا الوجود الإنساني بتجربة حياتية، بيولوجية، محضة، أنتجتها - افتراضا - السببية الوجودية، والصدفة المتوحشة، فكيف لا يحق لنا - وبالنظر إلى هذا الارتقاء الباهر الذي انتهت إليه حياتنا الفردية والكونية ضمن إطار الوحشية والصدفة الذي نزعم أنه أساسها - أن نتساءل عن سر إمساك هذه الإعتباطية النمائية التي حققت مرافق هذا الكون وجهزته بما يديره، وعمرته بالمخلوقات التي لا تنحصر أجناسها وأصنافها ومستويات حياتها في لون أو شكل أو نظام، وعجزها عن أن تنشئ له الامتداد الذي يعطي للوجود معنى ومعقولية، ويبعده عن المصير الانسدادي المتوج بالموت الفنائي المحتوم كما يتوهم الدهريون ؟.
فإذا ما كفرنا بوجود الجنة مثلا أو جهنم أو بغير ذلك مما أنبأ عنه القرآن من أمور الغيب، فإننا نكون أغلقنا الأفق الرحيب الذي فتحه الدين وأعطى به معنى أبديا لكينونتنا.(11/144)
إن الكفر بجهنم - وهي مثابة القصاص الذي أناطت به العقيدة سلوكنا غير القويم - هو انحياز للعدم المحض.(1). وهو بالتالي إقرار بهمجية الإنسان الذي لا قامع يكفه عن الخيانة والتعدي على حقوق الغير، إلا إذا أقر بما قرره الله مصيرا للمخلوقات .. إذ أن الضوابط الموضوعية، الخارجية، لا تصمد طويلا أمام جنوحات الانسان، لو لم يكن لهذا الانسان قوامع أخرى ذاتية، يستمدها من أواصره بعالم الغيب.. وذلك ما نبه إليه النورسي في سائر ما كتب..
الدعوة إلى تحصيف التراث وترقية منهج الوعظ والترشيد
وفي هذا النطاق رأيناه يستقرئ بذات التوجه النقدي المستقبلي، مصادر التراث ومرجعياته، إذ كان يتبين فيها النقص والقصور والمحدودية.. فمضامينها لم تكن تعالج اهتمامات العصر، بل لقد مضت تشد الأجيال إلى أزمنة سالفة، معطلة حركة التطور التي جاء الاسلام ليمضي بها قدما لصالح البشرية..
"إن قسما من مصنفات العلماء السابقين وأغلب الكتب القديمة للأولياء الصالحين تبحث في ثمار الايمان ونتائجه وفيوضات معرفة الله سبحانه، ذلك لأنه لم يكن في عصرهم تحد واضح ولا هجوم سافر، إذ كانت تلك الأسس متينة ورصينة .. أما الآن فإن هناك هجوما عنيفا جماعيا منظما على أركان الإيمان وأسسه لا يستطيع أغلب تلك الكتب والرسائل التي كانت تخاطب الأفراد وخواص المؤمنين فقط، أن تصد التيار الرهيب القوي لهذا الزمان، ولا أن تقاومه .." إن الدواوين والمؤلفات السابقة تقول : كن وليا وشاهد وارق في المقامات والدرجات، وأبصر وتناول الأنوار والفيوضات، بينما رسائل النور تقول : كن من شئت وابصر وافتح عينيك فحسب، وشاهد الحقيقة وانقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية" .(2)
لذا لبث النورسي ينعى عقم الوسائل التربوية الممارسة في عهده والعهود التي خلت، ويؤكد عدم مجاراتها لمتطلبات الزمن الجديد القائمة على البرهان والدليل العقليين ..
__________
(1) الشعاعات ص.287
(2) الملاحق ص 105.(11/145)
إذ هناك مستوى من ثقافة الوعظ التي تشيد بالبطالة العقلية وتدعو إلى التوكل السلبي وإلى الاستكانة وحب الوضاعة، إنما كانت ثقافة تقهقرية، تخرج عن دائرة الزمن الحي، لتستنيم لخدر الزمن الميت : "إني استمعت إلى الوعاظ فلم تؤثر في نصائحهم ووعظهم.. إنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي، فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة ". (1)
ويتحدث النورسي عن سوء منهجية الوعاظ، وقصور نظرتهم التي لا تميز بين المقتضى الضروري وبين الفضلة والإضافة..فيقول :" إنهم لا يميزون بين المهم والأهم، إنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان". (2)
لقد آمن النورسي أن الحاجة باعث مهم على التحلحل وتجريب السير على طريق التجدد والاختراع، ولاحظ أن واقع الانسان المسلم يحتم عليه أن يمضي على سبيل التجريب وتلبية الحاجات والإلجاءات، وإلا هلك واندثر.. فالاستيقاظ أضحى حتمية بقاء بالنسبة للمسلمين :" إن الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزلها عليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حريتكم إلى الناهبين، أو عليكم أن تهرعوا إلى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر، مستردين أموال الاتفاق التي اغتصبها الأجنبي" .(3)
وبنفس النظرة المستقبلية رأينا النورسي يمارس التأويل وقراءة التراث .. فقد أقر أن الزمن مفسر للقرآن، بحكم أن إطلاقات القرآن وتقيداته منوطة بالشروط الزمانية، فهي تتكيف في ضوئها:
"إن للتأويل والاحتمال مجالا، لأن النهي القرآني ليس بعام، بل مطلق، ومطلق قد يقيد، والزمان مفسر عظيم، فإذا ما أظهر قيده، فلا اعتراض عليه". (4)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 473.
(2) صيقل الإسلام ص 473.
(3) صيقل الإسلام ص 463
(4) صيقل الإسلام ص. 399.(11/146)
لقد عد ظاهرة المثاقفة التي شملت التفسير القرآني عبر العهود، ظاهرة قيدت من روحه التقدمية، الاستقبالية، ذلك لأن القرآن الممجد للعقل، وبالتالي المعترف بحتمية التطور، من حيث أن التطور هو المتابعة الموضوعية التي تتحقق للعقل على صعيد المكاسب ..
التقليد محنة قيدت العقل وأعاقت القابليات
إن القرآن العظيم قد وجد رحابته الربانية تضيق فجأة تحت تأثير الاجتهاد السلبي الذي أوعزت به ثقافة الاسرائيليات، فشدت وثاقه، وربطته بالماضي الخرافي، وأعاقت النظر الانساني عن أن يرى فيه حقائقه النيرة، المرتبطة بالحياة في سيرورتها البناءة، المفضية إلى السرمد..
وفي هذا المجال قامت عقيدة التقليد سدا منيعا يكرس الجمود، ويحجم الطاقات القرآنية اللامحدودة في مسلمات وتواضعات راكدة في الغالب، الأمر الذي أضر بالاسلام والمسلمين ولم يسعفهم بالتطور.. لقد انغلقوا تحت طائلة التسليم والتقليد، في قيم تحجب عليهم الرؤية، اعتقادا منهم أنهم بذلك التحجر الشكلي يتواصلون مع القرآن ومع روحيته المفتحة على الآتي والقابل، لكنهم بعملهم ذلك لم يكونوا إلا مناهضين لتعاليم القرآن المحفزة على التجدد والتطور والأخذ بأسباب السعادة ..
فالتقليد كما مارسه المسلمون، يعني السكونية والسير القهقرى، والالتفات إلى الخلف، والمراوحة في الموقف.. إن التقليد هو الإقرار بالعقم وانزلاق العقل في وحل الكسل والاستدانة، وهو ما نتج عنه عجز مخل في مجال تثمير القيم الاسلامية المباركة، وفي تصويب الفاعلية الزمنية نحو ما يخدم وما يقوي..
وشأن الفلسفة القديمة في مجال إعاقة الحركة العقلية الاسلامية شأن ثقافة الاسرائيليات، إذ أن تسليم العقل الاسلامي بمبادئ وافتراضات الفلسفة القديمة، في كلياتها أو في جزئياتها، قد أوثق الفكر الاسلامي، ولم يتح له المضي في الوجهة السليمة التي رسمها له القرآن..(11/147)
لقد تعامى منطق التقليد عن أن يقر بأن لكل زمن منظوره ورؤاه، لذا مضى هذا المنطق يشد المسلمين إلى صدد خلفي واحد، ومغشوش في أكثر الجوانب، وهو ما سبب الكارثة الحضارية :
يقول النورسي :
"إن كثيرا من الكلمات والحكايات أو الخيالات أو المعاني التي كان السلف يتلقونها لم توافق الرغبات الشابة لدى الخلف، لأنها غدت عجوزا لا زينة لها، لذا أصبحت سببا لدفعهم إلى ميل التجدد والرغبة في الإيجاد والجرأة على التغيير .. هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات، ولهذا لا ينبغي الحكم على أي شيء بظاهره، إذ من شأن المحقق سبر أغوار الموضوع والتجرد من المؤثرات الزمانية والغوص في أعماق الماضي، ووزن الأمور بموازين المنطق، ووجدان منبع كل شيء ومصدره..".(1)
وإن إظهار النورسي لمحاسن وإيجابيات الفلسفة الحديثة، هو وجه تجددي وتجديدي، شاء أن يوعز من خلاله للأمة بضرورة تجديد نظرتها وروابطها مع الغير ومع المعرفة ذاتها، إذ أن في شروط العصر الراهن ما يحتم الأخذ بهذا التجديد :
"نعم إن الحكمة القديمة خيرها قليل، خرافاتها كثيرة، حتى نهى السلف إلى حد ما عنها، حيث الأذهان كانت غير مستعدة والأفكار مقيدة والجهل مستوليا على العوام، بينما الفلسفة الحاضرة خيرها كثير من جهة المادة بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل ، والأفكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع ، وفي الحقيقة لابد أن يكون لكل زمان حكمه ".(2)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 40
(2) صيقل الإسلام ص 41(11/148)
ولما كانت علاقة الأمة بتراثها وبروحيتها - التي لم تعد في جوانب كثيرة منها، تلبي حاجة العصر- هي علاقة الأمر الواقع، فقد حرص النورسي على أن يرسم الطريقة التي تكفل الاستفادة من ذلك التراث كما أنشأه السلف.. من حيث ضرورة تخضيعه للنقد، والوعي بالظروف التي صاحبت ظهوره، والمقاصد التي كان يحددها لمضامينه، والآليات المعرفية التي كان يفاعل بها ..وهو ما يخلع عنه صورة القداسة التي جعلت الخلف يتمثله بها ..
إذ لابد أن نقرأ التراث وأن ندركه من خلال مضامينه ذاتها، وليس من خلال قائليه.. فمهمة التمحيص تقتضي أن نقوِّم الرجال من خلال الحق، لا أن نقِّوم الحق من خلال الرجال.. وهو ما يجعل كنوز الحق كما حواها التراث تتصفى من الشوائب والفضلات التي تنسب إلى العقول وإلى رؤى أصحابها وظروفهم المعرفية ..
لقد آمن النورسي أنه مثلما رفل الماضي في النور القلبي والقوامة الروحية والبرهان العقلي، فكذلك سيكون حال المستقبل، من حيث إعلاؤه للحق وللعلم والحقيقة :
"لما كان المهيمن هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يك للشكوك والشبهات موضع، كذلك نرى أنه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة، وفي المستقبل هيمنة تامة إن شاء الله، سيكون المهيمن هو الحق بدلا من القوة، والبرهان بدلا من الطبع، والهدى بدلا من الهوى، كما كان الحال في القرون الأولى والثانية والثالثة، وحتى القرن الخامس عامة" .(1)
* * *
الفصل الرابع
الجمال والجمالية .. في فكر النورسي
إن روح التنسك التي لازمت النورسي طيلة حياته، لاسيما الشطر الإخير منها، أورثته طبيعة نفسية تأملية رهيفة، وعلى درجة من التأثر كبيرة .. ومن غير ما شك أن تلك الحال التي نزع إليها إنما تجد تفسيرها في مكوناته الفطرية وفي رواسب تنشئته الريفية، وفي ثقافته الدينية، وفي استعداده النفسي والوجداني الرقيق..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 51(11/149)
لقد انطوت جوانحه على نفسية ووجدانية تلازمت فيها أسباب القوة والضعف، وشكلت دعامتها المزاجية وعلة توازنها العاطفي والجمالي..
إذ أن تلك الروح التي ظلت تحتفظ بدافعية هصورة في مواطن المواجهة والنزال، ما أسرع ما كانت تجنح إلى حال من الضعف والتداعي ما إن تحركها دواعي التأمل والتفكير في وضع الإنسان وفي ارتكاساته.. لقد كانت عيناه لا تلبثان أن تدمعا حيال مشاهد العبرة ومواطن الاتعاظ.. بل لقد كان الحزن يمضه - هو المؤمن بالله، الموقن من صفحه - كلما استشعر من نفسه اغترارا، أو خالجته نوازع أمل مادي وشدته إلى بهرج الدنيا لواعج حب الظهور وطلب الشأن والاستنامة للمغريات..
وما أكثرها تلك المواقف التي برح يذب فيها عن نفسه وينفي ما كان الأتباع يضفونه عليه من اعتبارات الكرامة والقداسة والإدراك.. وكل ذلك لأن النورسي الذي اعترف بتحوله الروحي والقلبي، وبتروضه النفسي الذي أحال منه شخصا مغايرا لشخصه الأول، شخص يكاد لا يمت بصلة لسعيد الأول، إذ باتت القيم تتراءى له على نحو غير اعتيادي، فروح السمو التي نشدها انتهت به إلى أن يتسامى بنظرته عن الحياة ويستنكف عن معانيها المبتذلة، بحيث أضحت نظرة القرآن هي نظرته، وصار نور القرآن هو المشكاة التي تستنير بها بصيرته، الأمر الذي جعله يقف من كثير من مسائل الحياة - التي يتبارى في احتيازها الناس العاديون- موقف الغفلة والإشاحة .
من الإنابة إلى الله ، إلى الاستغراق في ملكوت جماله
ولقد كان عناء النورسي في هذا المجال كبيرا لأنه كان يحمل بين جوانحه نفسا تتناغى مع الجمال .. فتمثله للذات العلية هو تمثل جمالي محض، إذ أن الكون وما انبنى عليه من عناصر مادية ومقومات غيبية ونواميس فطرية جميعا تعكس حقيقة الجمال الإلهي المطلق..(11/150)
فرحمة الله في تجلياتها الطبيعية هي أحوال عارمة من الجمال الذي يأسر القلوب ويرقق المشاعر على أي وجهٍ عَرَضَت للمخلوقات، فالرأفة التي تقرأها النفس - مثلا- في مشهد الرضيع ووالدته تغدق عليه من صدرها فيض الحياة والمحبة، يعد مشهدا رائعا يجسد جمال الله الدافئ المشرب بكمال رأفته ورحمته، والذي لا حصر له..
والتوحيد الناتج عن التأمل واستشراف أعطاف هذا الملكوت الباهر، هو موقف روحي خالص الجمالية، لأن النفس فيه تناط بمواجهة الله، والتطلع إلى منبع الفيوض، والتخلي عن أثقال الواقع والتواصل مع الكلي..
" فالجمال والانتظام والانسجام دليل وحدانية وحجة قاطعة عليها". (1)
وإذا كان التواصل مع الله هو تواصل مع الكلي والمطلق الذي تزول حياله كل معاني العلة والسببية، فلا جرم أن تجليات هذا الكلي في عالم الشهود هي تجليات لأسماء الله الحسنى، إذ أن تنوع مجالي الحسن وتلونها الذي لا يحد، هو انعكاس ملموس لجلال الألوهية وجمالها الذي تجسده أسماء الله وصفاته الحسنى من خلال تماهيها في الكون وظواهره البديعة ..
كل كائن هو قصيد شعري ونموذج جمالي رباني
"فكل كائن حي، نباتا كان أو حيوانا، فضلا عن الانسان، هو قصيدة صغيرة إلهية تحمل من المعاني العميقة الغزيرة، بحيث يطالعها ما لا يحد من ذوي الشعور بمتعة كاملة .. وهو لوحة تعلن عن حكمته تعالى، حيث تعرض إتقان الصانع الجليل في منتهى الجاذبية أمام أنظار من لا يحد من أهل التقدير والاستحسان" .(2)
فالجمال في تصور النورسي هو مصدر كل جمال حسي، وإن آثار هذا الجمال الكلي هي المتبدية في مستويات الجمال الحسي التي يشهدها الإنسان في نفسه وفي ما حوله، ويُخْلَبُ بها..
فالكائنات الجميلة، هي مرايا صغيرة تتلقى أشعتها من العين العليا : ذات الله، التي هي أصل التجليات ومنبع الحسن في الوجود.
__________
(1) الشعاعات.36
(2) الشعاعات.17.(11/151)
فـ"جميع أنواع الجمال المادي نابع من جمال معنوي لمعانيها، ومن حسن معنوي لحقائقها، أما حقائقها فتستفيض من الأسماء الإلهية، وهي نوع من ظلال تلك الأسماء" .(1)
فالمصدر النهائي لأنواع جمال هذا الكون، إنما هو الذات الإلهية التي أشعت بسحرها من خلال أسماء الله الحسنى، تلك الأسماء التي تظل واسطة لهذا الجمال المطلق، تصبغه على الأرضي أو الكوني وتحمله إليه، ، فهي -من ثمة - مباينة له من حيث الكنهية، إذ لا يكون الصدى كالأصل في الوهج بطبيعة الحال :
"إن جميع أنواع الجمال الموجود في هذا الكون وجميع أنواع أنماطه وألوانه، إنما هو تجليات وإشارات وأمارات جمال مقدس عن القصور، ومجرد عن المادة، تتجلى من وراء عالم الغيب بواسطة أسماء . ولكن كما أن الذات المقدسة لا تشبه أبدا أية ذات أخرى ،وأن صفاته تعالى جليلة منزهة كليا عن صفات الممكنات، كذلك جماله المقدس أيضا لا يشبه جمال الممكنات، وليس كحسن المخلوقات قطعا، بل هو جمال سام، عال، رفيع، مقدس، مطلق ".(2)
ومما يؤكد فذاذة هذا الجمال الرباني المطلق، تواتر لوعة أهل العشق، ممن ظل تتيمهم محتدما - عبر العصور - بمحبة الله المتسامية عن التشخص، المنزهة عن التجسيدية، فصبابة هؤلاء صبابة روحية وإن تلبستها مشاعر الحس .. من هنا كان الاستدلال على أن النفس الانسانية في تعشقها لله، إنما تتعشق أكوانا من البهاء لا مثيل لها، فجمالية الله، لا مجال لمضاهاتها أو تمثُّلها بتاتا..
" إن وجود عشق إلهي شديد ومحبة ربانية قوية لدى من لا يحصيهم العد من بني الإنسان، ولا سيما في طبقته العليا، على الرغم من اختلاف مسالكهم، يشير بالبداهة إلى جمال لا مثيل له يشهد له شهادة قاطعة..". (3)
الجمال الإلهي وجمال المخلوقية
__________
(1) الشعاعات.88.
(2) الشعاعات ص.89.
(3) الشعاعات ص93(11/152)
والجمال الإلهي سرمدي مصون، منزّه عن البذل، وجمال المخلوقية مبذول وظرفي ومتحول.. وتلك خصوصية مبدئية تنسجم مع المشيئة الإلهية التي قَدَّرَت أن تحكم بها توازنات الوجود، فالمولى – عز وجل – قد خلق الموت والحياة، وجعل للأحوال أضدادا ومفارقات، وكل ذلك من أجل توطيد صبغة ما من الكمال على الكون، وهو ما يسوغ وجود عنصر الشر إلى جانب عنصر الخير، ووجود الملاك إلى جانب الشيطان، وكذلك نزعة الإيمان بالواحد إلى جانب نزعة الشرك به . إذ اقتضت الحكمة الإلهية أن يترتب الكون على منوال المفارقة من حيث أن المفارقة ذاتها هي مظهر حيوي يعكس الحكمة والجمال الإلهيين في هذا الوجود.. فالضد الموجب، هو الوجه الجمالي المجسد المستمد -من تلك الذات- قَوَامَ سِحْرِه .. أما الوجه السالب فهو وجه القبح، وهو الواقع تحت طائلة الفتنة والامتحان .. فطبيعة الحياة والموت نفسها إنما تقوم على مبدإ تجديدي، تتوطد به صبغة الجمال الإلهي التي أناط بها هذا الكون..
ذلك لأن " زوال الأشياء وفناءها - كما يرى النورسي - إنما هو تجديد لها ولأمثالها، تجديد ممتع ملذ، تجديد للتجليات الجميلة، للأسماء الحسنى، ووظيفة يؤديها ضمن سير وتجوال في عالم الشهادة، بعد مجيئها من عالم الغيب، وهو مظاهر حكيمة لجمال الربوبية . فالموجودات تؤدي به وظيفة المرآة إزاء الحسن السرمدي."(1)
فكل نوع من أنواع الكائنات، بل حتى كل فرد من أفرادها قد نال حسب قابليته حظا من جمال الأسماء الحسنى التي لا منتهى لجمالها..وهو ما تكرس به مبدأ العدالة الإلهية، بحيث أن الكائنات قاطبة قد تهيأ لها من قدرها الوجودي المقدار الذي لاءمها وفق منطلق الكونية الرباني ..
__________
(1) انظر الشعاعات ص88(11/153)
وذلك ما دأب يؤكده أهل الاسشراف الروحي، إذ طفقوا يلحون على عدالة الخالق ونَصَفَتِهِ، وكونه قدَّر فأحسن التقدير، ووهب فأجاد الهبة وأحكم القسطاسية بشكل لا مراء فيه، وذلك ما أومأت إليه الآية الكريمة: (فارجع البصر هل ترى من فطور)..(الملك).
وربما كان في قول الغزالي حين قرر أنه " ليس في الامكان أبدع مما كان" ما يثيب هذه الحقيقة .. فقد فسر النورسي هذا القول بكون الحسن المطلق ليس موجودا ولا يمكن أن يوجد أبدع منه ولا أجمل، خارج دائرة ما خلق الله وأبدع في كونه المحس.. .(1).
الكون مرصد جمالي إلهي، خال من القبح
ولما كان الجمال الكوني يستمد كنهه من الخالق ومن أسراره القدسية، فقد عدم هذا الكون القبح، بل إن القبح الماثل في الكون لا يبلغ شناعته إلا حين يغدو شذوذا عن شرع الله وخروجا عن نهج الوحدانية..
لقد وجد العقل دليله على سمو جمال الله في أحوال العشق الخارق التي طفق المتبتلون وأهل الله يخصون بها معشوقهم الخالق، البارئ، سبحانه عز وجل..فـ"وجود عشق إلهي شديد، ومحبة ربانية قوية لدى من لا يحصيهم العد من بني الإنسان، لاسيما طبقته العليا، على الرغم من اختلاف مسالكهم، يشير بالبداهة إلى جمال لا مثيل له، بل يشهد له شهادة قاطعة" .(2)
لقد كانت رؤية النورسي للجمال رؤية استبشارية، اعتدلت بها نظرته إلى الحياة عامة، إذ لم تعد الحياة كما ألفناها عند جمهرة من متنسكي السلف، مدار حزن وكآبة ونواح.. لقد طفحت روح النورسي بمشاعر وهاجة ارتبط من خلالها بالكون، إذ رآه صعيدا ربيعيا فذا، عامرا بآثار الله النورانية، فهش للحياة، وتسامى بها، وأدرك أن السعي فيها انطلاقا من وصايا الشرع، سيسلك الإنسان في نطاق من التكريمية التي يستعيد بها مكانته الحق كمخلوق مكرم، مرشح لخلافة الله في أرضه، مهيء للخلود والسرمدية..
__________
(1) الشعاعات ص.36
(2) الشعاعات ص.93(11/154)
من هنا لا يمكن أن ندرج تواجدية النورسي بجمال الكون واللهج التسبيحي الصميم بتجليات الحسن الرباني ضمن نظرة التوله التي دأب أهل الوجدان يعربون عنها في صلتهم السكرى بالعاشق الفذ، كما لا يجب أن نعدها بعضا من الحال الانتشائية التي اعتدناها عند أهل الشطح..إنما كانت تلك التواجدية اعرابا حيا، واعيا، ومؤسسا على عقل وإدراك حصيفين لما لمكونات هذا الكون من معنى يزكي وظيفة الحياة والمخلوقات..
لقد كان النورسي ربانيا مصلحا، لا يتحول بنظرته عن تعاليم القرآن التي تجعل من المسلم مسؤولا كونيا، مطالبا بالاضطلاع بوظيفة طلائعية مدنية، وبريادة انسانية حضارية، كونية .. من هنا طفق النورسي يتغنى بمآثر الكمال والجمال الكوني، موعزا للمسلمين أن يهشوا ويبشوا، ويعوا ما يكتنفهم من كمالات ربانية تحرضهم من خلال تجلياتها المختلفة على التفاؤل والاستبشار والتهيُّئ والتوثب من أجل معاودة الدور، ومباشرة المهمة التي ترجوها الشريعة المحمدية منهم، بوصفهم الأمة الوسط، القوية بالحق، المستميتة بالايمان..
لقد كانت تبتلات النورسي المتوهجة بنور الخالق، المتهيجة بجلواته الفردوسية، دروسا يمليها على العقب، ليبتسموا للحياة، ويمارسوها بقلوب تتذوق الجمال، وتأخذ نصيبها من الدنيا، لا على أساس تمتعي استهلاكي، ولكن على أساس التزامي، جهادي، فعال..
من هنا تواشجت نوازعه التوحيدية والتواجدية، وبات المطمح المدني لديه قرينا بأحوال التهجد والابتهاج التي طفق يستجيب بها لكل لمسة حسن وغمزة افتتان رباني تلقي بها نسائم التأمل على قلبه المتيم بعشق الحقيقة..
كل ما خلق الله في أكوانه -حتى الشيطان- يمثل وجها من وجوه الخيرية والجمال(11/155)
بل لقد رأى النورسي أن كل ما خلق الله في كونه وما عمر به هذا الكون من محسوسات، ومن معنويات، قد حوى مبدأ الخيرية والجمال، حتى الشيطان - وهو رمز لكل ما تتمثله نفوسنا من شر ومفاسد - لا يخلو مبدأ وجوده - كما يرى النورسي - من إيجابية .. ولعل الشيطان قد حاز ذلك القدر من الاعتبار المعنوي بما تهيأ له من قابلية تهييج الدوافع وتحريك النوابض الأساسية لرقي البشر المعنوي و لتفعيل فطرة التسابق والمجاهدة التي تتصاف بها البشرية في طوابير البر أو الضلال .." لذلك فإن خَلْقَ نوع الشيطان خير، ويُعَدُّ من هذه الجهة جميلا .." (1)
فكل ما يمت للحياة، ويساهم في بلورتها، هو خير، بغض النظر عن طبييعته ووظيفته في هذا التفعيل الحياتي، من هنا أمكن للنورسي أن يقرر خيرية الوجود، وشرية العدم، فـ”الوجود خير والعدم شر والمفاسد من العدم والخيرات من الوجود." (2)
ذلك لإن " خلق الشياطين والشرور واِيجادها ليس شرا وليس قبيحا، لأنه متوجه نحو نتائج كلية وعظيمة، بل الشرور والقبائح الناتجة إنما هي حاصلة من سوء الاستعمال ومن الكسب الانساني الذي هو مباشرة خاصة، راجعة إلى الكسب الانساني، وليست إلى الخلق الإلهي". (3)
وواضح إن هذا الاعتقاد ينسجم مع أخلاقية النورسي السلمية، ومع الرؤية الاستئلافية التي حرص على ترسيخها ربطا للانسان مع الطبيعة وسائر عناصر الكون، منظورها وخفيها، باعتبار الكون امتدادا اعتباريا ووسيلة ترشيد وسخرة تناط بها حياة الانسان والمخلوقات قاطبة، وهي نظرة قرآنية، ظلت تشرك الانسان في المصير مع عوالم الغيب، ومنها الجماد ( السماوات والأرض )، والروحانيات ( الجن).. …
__________
(1) الشعاعات.ص.37.
(2) أنظر الشعاعات ص94.
(3) المكتوبات ص.52.(11/156)
ومما لاشك أن روح الإيمان حين تتعمق أغوار النفس وأقطارها، تكتسب هذا التأدب الذي يجحم عن أن ينتقص من صنعة الله .. فلا تقلل من شأن أي عنصر مما تحفل به الحلبة المرئية وغير المرئية من مخلوقاته .. بما فيها الشيطان الذي نبذته الربوبية ذاتها، وجعلته عبرة للبشر كي لا يزيغوا عن الهدى .. ثم إن العقل المترعرع في رحاب الإيمان يتفتح على حقائق تتقدر بها المعطيات الكونية المادية والمعنوية بقيمة لا تراها لها العقول العطل من الإيمان.. من هنا أضفت الرؤية النورسية صفة الجمال على الكون وعوالمه قاطبة..
فالله هو مصدر الجمال والخير وسائر أنواع البر والحسن والنعم، إذ هي جميعا فضائل تنسكب من " الخزينة الربانية، ومن فيوض رحمة ذلك الجميل المطلق والرحيم المطلق.. أما المصائب والشرور فهي نتائج جزئية، قليلة، فردية، من بين كثير من النتائج المترتبة على قوانينه العامة والكلية .."(1).
خلق الله الشر ليطّرد القانون الحيوي الناتج عن تفاعل عوامل السلب والإيجاب
لقد بَيَّنَ النورسي العلة من خلق – المولى عز وجل – لعناصر الشر، فرأى أن ذلك مرتبط بسيرورة قوانين الفطرة المحركة بمشيئة الله لهذا الكون ومشمولاته ، وهو ما اقتضى أن تتناغم في تأدية الوظيفة الحيوية الكونية عوامل السلب وعوامل الإيجاب، فـ"لأجل الحفاظ على تلك القوانين ورعايتها والتي هي مبعث المصالح الكلية ومدارها يخلق - سبحانه - تلك النتائج الجزئية ذات الشرور، ولكن تجاه تلك النتائج الجزئية الأليمة يستغيث ويستنجد الأفراد الذين ابتلوا بالمصائب والذين نزلت بهم البلايا فيمدهم بإمداداته الخاصة الرحمانية .. فيظهر بهذا أنه الفاعل المختار، وأن كل شأن وثيق الصلة بمشيئته تعالى، وأن قوانينه العامة أيضا تابعة دائما لإرادته واختياره، وأن ربا رحيما يسمع نداء الذين يعانون من ضيق تلك القوانين، فيغيثهم ويمدهم بإحسانه عليهم .."(2).
__________
(1) الشعاعات ص38
(2) الشعاعات.38(11/157)
هكذا يرى النورسي في مظاهر الشر وجها لنوطة يكتمل بها النسيج الملحمي الذي تشَكَّلَ منه الوجودُ، إذ شاءت القدرةُ الإلهية أن يتأدى سير الحياة على إيقاع تتراوحه لمسات الخير والشر..
الجمال خاصية عضوية أودعها الله بذرة الكائن
وتتجلى قدرة الله كما تستجليها رؤية النورسي في هذا التصميم الإلهي الفائق الذي قَدَّ به – عز وجل – الكائنات الحية، إذ أودع في مباذرها الأولى جماع كينونتها، ورسم صورها، وحدد مصائرها وانبثاقاتها.." إن البذرة التي هي المبدأ الأساس لكل شجرة مثمرة، هي عليبة صغيرة تحمل برنامج تلك الشجرة وفهرستها وخطة عملها، وهي مصنع صغير تضم أجهزتها ولوازمها وتشكيلاتها، وهي ماكنة تحوي على تنظيماتها ووارداتها الدقيقة ومستهلكاتها اللطيفة"..(1).
ومن الجلي أن نظرة النورسي هنا تتقاطع مع نظرة بعض أسلافه من السالكين، لا سيما ابن عربي.. فقد وجدنا يقول بذات التصور التكويني الذي أودعه الله فطرة في الأشياء والمخلوقات .. إذ غدت -من خلال وازع الاستعداد- تستجيب لقوانين الكون والطبيعة، من حيث أن تلك القوانين هي السنن الرباني الذي أحال الله عليها حركة المخلوقات وسيرورتها، فهي من ثمة تمضي بها في كنف قدرته كما وطدها..
يقول ابن عربي:
__________
(1) الشعاعات.40(11/158)
"إنك تعلم قطعا في حبوب البُر وأمثاله أن كل برة فيها من الحقائق ما في أختها كما تعلم أيضا أن هذه الحبة ليست عين هذه الحبة الأخرى وإن كانتا تحتويان على حقائق متماثلة، فإنهما مثلان، فابحث عن هذه الحقيقة التي تجعلك تفرق بين هاتين الحبتين وتقول إن هذه ليست عين هذه، وهذا سار في جميع المتماثلات من حيث ما تماثلوا به. كذلك الأسماء كل اسم جامع لما جمعت الأسماء من الحقائق، ثم تعلم على القطع إن هذا الاسم ليس هو هذا الآخر بتلك اللطيفة التي بها فرقت بين حبوب البر وكل متماثل، فابحث عن هذا المعنى حتى تعرفه بالذكر لا بالفكر .. إن كل اسم كما قررنا يجمع حقائق الاسماء ويحتوي عليها مع وجود اللطيفة التي وقع لك التمييز بها بين المثلين ..". (1)
كما وجدنا ابن عربي، يتحدث أيضا عن تبعية الموجودات في هذا الكون لأسماء الله الحسنى، وخضوع حركتها لما تقتضيه إرادة الخالق المتجسدة فيها من خلال أسمائه الحسنى .. يقول ابن عربي :
إن الأسماء الحسنى التي تبلغ فوق أسماء الإحصاء عددا وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة ،هي المؤثرة في هذا العالم وهي المفاتح الأولى التي لا يعلمها إلا هو، وإن لكل حقيقة اسما يخصها من الأسماء، وأعني بالحقيقة حقيقة تجمع جنسا من الحقائق.. (2)
__________
(1) الفتوحات المكية ج1.ص 101 دار صادر.بيروت.
(2) م.ن. ص 99(11/159)
من هنا لاغرابة أن يمضي النورسي على ذات النهج الاستشرافي والتذوقي الذي باشر به أقطاب من هذه الأمة معاني الكون وخاصية الجمال الإلهي.. على أن مسار النورسي في هذا الطريق قد امتاز عن سابقيه في كثير من التسديدات بتسلح معرفي وتفتح فكري وانخراط لبيب في معركة المصير الإسلامي المناط بإرادة البشر الذين تسددهم إرادة الله .. الأمر الذي جعل النورسي نموذجا اسلاميا لا يحتازه العصر الذي عاش فيه، ولكنه سيلبث واجهة تتحاور مع الأجيال ما تقدمت الدهور.. ألم نجده يتخاطب مع أجيال القابل المسلمة ممن ستقف على قبره وترى فيه دعامة مستقبلية دائمة الوهج..
أكرم الله الإنسان ،وجعله رأس هرم التزكية، وسخر له الكون والكائنات بما فيها ذوات الحيوات
لقد خلق الله الإنسان وأكرمه بما أصبغ عليه من نعمة العقل، وبما أغدق عليه من ألوان النعم التي وضعها في متناوله.. وسخَّر له الكون وما حوى، وجعل روحه الأطهر والأزكى والأقمن بالتفدية والصيانة، واتخذ الحياة مشهدا اختارته إرادته العلية ليكون مسرحا لتعاليمه وموئلا لرسالاته ومجال سعى لمخلوقاته ..(11/160)
كل ذلك منحة للانسان الذي سخر له كل ذات الأرواح من غير البشر، خدمة ومعاشا ..فـ"ما دامت الحياة أعظم نتيجة من الكون، والروح هي الخلاصة المختارة من الحياة، وأولو المشاعر وجميع الكائنات بدورها مسخرة وساعية لأجل الحياة، وذوو الحياة مسخرون لذوي الأرواح، وقد بعثوا إلى الدنيا لأجلهم، وذوو الأرواح مسخرون للإنسان وفي عونه دائما، والناس يحبون خالقهم محبة خالصة بفطرتهم، وخالقهم يحبهم ويحبب نفسه إليهم بكل وسيلة، واستعداد الانسان وأجهزته المعنوية تتطلع إلى عالم آخر باق وإلى حياة أخرى أبدية، وإن قلبه وشعوره ليطلبان البقاء ويتوقان إليه، وإن لسانه ليتوسل إلى خالقه بأدعية غير محدودة طالبا البقاء، فلا يمكن مطلقا إغضاب الناس المحبين المحبوبين وإسخاطهم بعداوة أبدية بعدم بعثهم بعد إماتتهم، وهم قد خلقوا أصلا لمحبة خالدة، وأرسلوا إلى هذه الدنيا بحكمة لنيل عيش سعيد في عالم أبدي آخر". (1)
لقد شكل التواجد الروحي - عند النورسي - مظهرا من مظاهر دفع شعور الفناء والعدمية.. إذ لبثت مواقف التأمل الاعتباري والاحتساب الإيماني تلازمه في كل توجه روحي يصله بالخالق، ومضت الأحاسيس تتهجد بالاستغاثات الربانية المبددة للكآبة والوجل وبالاستعاذات المُخَلِّصة من وطأة اليأس المقيت..فكان من جراء ذلك أن تولدت أدبية روحية نيرة تسلس بنكهة الأذكار التي هي خاصية تميزت بها الخطب الصوفية المرموقة : ".. حسبي من الحياة ولذتها علمي وإذعاني وشعوري وإيماني بأني عبده ومصنوعه ومخلوقه وفقيره ومحتاج إليه، وهو خالقي، رحيم بي، كريم، لطيف، منعم علي، يربيني كما يليق بي ". (2)
وذاك ما سنعرف شيئا منه في تالي الفصول..
الفصل الخامس
التصوف في فكر النورسي
__________
(1) الشعاعات ص. 62
(2) الشعاعات ص99.(11/161)
"لأسماء الله تجليات لا تحصر، وتنوع الموجودات ناتج عن تنوع تلك الأسماء .. للاسماء ظهور، أي إنها تقتضي مشاهدة تجليات جمالها في مرايا نقوشها وأشهادها، بمعنى أن تلك الأسماء تقضي بتجدد كتاب الكون، أي تجدد الموجودات آنا فآنا، باستمرار دون توقف، أي إن تلك الأسماء تقتضي كتابة الموجودات مجددا وببلاغة حكيمة ومغزى دقيق بحيث يُظهر كل مكتوب نفسه أمام نظر الخالق جل وعلا ,امام أنظار المطالعين من الموجودات المالكة للشعور ويدفعهم لقراءته.".
"أيها السادة إني أعلم أنكم عندما تُغلبون في ميدان الحق تتشبثون بالقوة، ولكن لأن القوة في الحق وليس الحق في القوة، فلو جعلتم الدنيا على رأسي نارا تتأجج فإن هذا الرأس الذي أضحي به فداء للحقيقة القرآنية لا يخضع لكم أبدا".
التأمل، العتبة التي تعبرها الروح إلى أفق الغيب
يرى النورسي أن الإنسان يحمل في أعماقه نزعة التأمل والسياحة الوجدانية التي تربط الفرد ببعده الغيبي وهو الله.. فهذه النزعة الإيمانية فطرية في الانسان، وهي لذلك ظلت - وعلى مدي الدهور - تتلبس النفس الانسانية وتخامرها في صورة قلق أو حيرة وجودية أو شعور بالضياع والتوق إلى مساند تركن إليها الروح وتستقر.. لقد تعمقت الحاسة الإيمانية لدى المتحنفين، فترسموا خطاهم على هدي نداء الروح الباطن، واستقرأوا معالم الكون وآياته المحسات، فاستشرفوا الحقيقة الإلهية مصدر هذا الكون، وثابوا من رحلة التيه والشرود إلى رحاب الهداية والسكينة، إذ آمنوا بالله خالق الوجود، وسعدوا بالركون إليه وإخلاص المعبودية له.
وجاءت الرسالات ترسم للإنسان منذ آدم، طريقه في الحياة وصلته بالخالق، وتحدد له الغاية من مجيئه إلى هذا الكون والرسالة المناطة به في دنياه، والمصير الذي ينتظره يوم يقوم الناس لرب العالمين..(11/162)
وإذا كانت طبيعة الإنسان، طبيعة تأملية - كما أسلفنا - فذلك لأنه مخلوق محدود الأفق يعيش بين عوالم لا يستطيع أن يخترق حجبها، ولا أن يدرك مداها، فهو كلما تدبر نفسه وسط هذه الفضاءات اللامحدودة، تيقن من ضعفه ومن لا جدوى ما يأتيه وما يسعى إلى تحقيقه من مكاسب زائلة ومبتغيات لا تدوم..
ومن غير شك أن الإنسانية تجد في ما أنجزت وتنجز من مدنيات، شيئا من السلوى والعزاء، وهو ما يجعلها تواصل المسيرة، وتبدي مزيدا من الإصرار على الحياة والتعلق بها، بيد أن هاجس المجهول ووطأة الفناء لا تبرحان تلحان على الضمير الانساني وتنغصان حبوره وتكدران بهجته، جراء المصير غير اليقيني، بل العدمي الذي قد يتبدى له أنه هو منطق هذا الكون وقانون هذا الوجود..
من هنا كانت أهمية الإيمان، إذ التسليم بأن الحياة ما هي إلا طورا أراده الله للمخلوقات كي تعيش وتؤدي وظيفة فيها صلاحها وصلاح الكون من حولها ، وأن الآخرة طور آخر ستشمل فيه السرمدية عباد الله بألطافها ونعمائها لقاء ما قدموا من عمل ومبرة، هو ما يهب الطمأنينة الوجودية للإنسان ويحميه من مخاوفه الغريزية، ويسمو به عن درك الابتئاس الوهمي، والرؤية الانسدادية..
ولا يعني هذا أن بلسم الدين هو افتعال روحي اهتدى إليه الانسان جراء معاناة أزلية، فتداوى به، وقرره حِمْيَةً لمنغصاته وابتلاءاته الوجودية. إذ من الثابت أن الانسان تعاطى الفلسفة منذ أن وعي أهمية الفكر والتفكير، وسعى من خلالها إلى تفسير الوجود والإجابة عن الحيرة البشرية، وإطفاء لواعج القنوط الوجودي، إلا أنه وعلى الرغم مما نوع من أصباغ منطقية وافتراضية ما برح يستبين في منجزاته العقلية واجتهاداته الميتافيزيقية طبيعة التمحل والإفتعال التي تطعن في وجاهة ما اعتقد، وصواب ما اعتنق ..(11/163)
فلقد دأب العقل الانساني يستكشف الإختلالات في فرضياته الفكرية وتصوراته الذهنية على مر العصور، من هنا كان قلقه وعدم استقراره على مبدإ بعينه، ومن هنا أيضا أخطأ بلوغ اليقين، ولم يعد في وسعه إلا أن يركن إلى الحيرة يلوكها ..
إذ لم يعد يجد في كل ما أصل وفصل من عقائد سوى إجابات مشروطة برؤية محددة وأفق مغلق، ما أسرع ما يتكشف عوارها، كلما تبدل الظرف، أو تغير الشرط، أو شملها التقادم والبلى..
ومن رأفة الله ورحمته أن هيأ الدين لعباده، وأعدهم بالفطرة لتقبله والسير على منهاجه ومغالبة النفس والأهواء بتوجيهاته.. إذ قايست مقررات السماء حاجات الفطرة، وأرست للانسان دعائم روحية وعقلية تتوازن بها حياته ومطالبه وتتحرر نفسه ومواجده من ضغوط الفكر الشارد عن الحقيقة الإلهية، وتنعتق روحه من نير الضياع..
النورسي متصوف، لكنه مباين لمعشر المتصوفة في تجربته ونهج سلوكه
التجربة المعيشة بوجدانين
لابد من التأكيد- في هذا الصدد - أن الفارق بينه وبين طوائف المتصوفة، شاسع جدا، إذ أن الغفلة التي يطلبونها وينغمسون فيها، على صعيد السلوك، كانت تتم غالبا على حساب الوعي بكينونة الأمة الإسلامية وبمصيرها.. بمعنى أن السالك كان يجهد لنفسه في اغتنام الأسرار واللذاذات، وفي توسيع المرصود الشخصي من اللطائف والسوانح، إذ غايته الأسمى هي تحقيق النجاة والحظوة للنفس حصرا..(11/164)
أما النورسي فإن روحه التي استماتت في التجرد وطلب التواصل مع الله، قد ظلت متشابكة مع واقع أمته، منغرزة في همومها وفي ما يكتنفها من أوضاع التأخر والحيدة عن طريق الحق، وفي ما يتراوحها من ابتلاءات وامتحانات على يد الأعداء.. الأمر الذي جعل مواجده بقدر ما ترهفت وانساقت في سبيل التجرد والانصياع التام لالتزامات الحق، بقدر ما تقمصت محن أمتها وتعاستها وترديها.. وكل ذلك جعل النورسي يحيى بوجدانين متلازمين، وجدان تحركه محبته لله التي كان ديدنها المطرد أن تتمحض له، وتصفو، بحيث تتسامى عن رجاء أدنى هدف أو حظوة إلا هدف الإنصياع لتعاليم الله .. ووجدان آخر موصول بواقع الأمة الإسلامية، ومبتلى بمحنها وبما كانت عليه من أوضاع زرية ..
من هنا كان تجديده الذي لا مراء فيه، على المستوى الروحي والتصوفي..
فالنورسي عاش سالكا طريقة هي جماعٌ لفضائل نافعة وبناءة، استذاقها في سائر الطرق التي زخر بها التراث، واحتك بها في بحثه ودرسه، لكنه عمل بما يشبه أن يكون غريزة تسديد كامنة في روحه وفكره، على استزراع الخصال التي لا تقطع السالك بالواقع، ولا تركز في مشاعره تلك العزة الذاتية التي تعطي الأولية للنفس وتجعلها الغاية التي يهون الابتلاء من أجلها، وهي-في الواقع - روح لا تسلم من وازع أناني وأن سوغته - عند الكثير من السالكين - رؤية تستجمع الكون في ذات الله، أو تتغافل عن عناصر الوجود شغفا بفذاذة الشهودية..(11/165)
فالنورسي حافظ وبتوازن شاق ومثالي ،على استبقاء الحجاب مسدولا بينه وبين الحاجة أو - بالأحرى - بينه وبين لوازم كثير من الأسباب الحيوية والحياتية التي تقتضيها فطرة الفرد وبشريته، لاسيما على صعيد الاجتماع والمقتضيات التواضعية، ولقد بلغ في هذا الصدد الغاية، إذ لم ينعم بالقرين الزوجي ولم يسكن العش الأسروي الدافيء، ولم يرتبط بالمؤسسات العرفية الحميمية، فهو لم يمتلك العقار أو حتى الدار، ولم يحرص على ترك العقب، ذلك الوازع الوجودي الذي لا فكاك للفرد - ذكرا أو أنثى - من الاستجابة إليه إلا إذا حال العائق الخَلْقِي القاهر دونه . كما لم تستثره المكانة والمنزلة بين الناس..
في حين نجده قد شرَّع أجنحة روحه اهتماما بأحوال أمته على أكمل ما يكون التفتح، بل لقد ربط وجوده بخدمة أمته والتفاني في استنقاذها من الدرك الانحطاطي المقيت، بل لقد امتدت آفاق نفسه ومطامحها لأن يخدم الانسانية قاطبة، فلقد كانت رؤيته القرآنية تحتفظ للانسان بمنزلة التكريم الإلهي الذي خص به المخلوق البشري، مهما كانت حيدة هذا المخلوق عن الجادة ..
ذلك لأن النورسي كان يعي أن محبة الانسانية والحدب عليها لا يتنافى بتاتا مع الحرص على تهذيبها واستشناع ما يتلبسها من أحوال الزيغ والمروق عن شرعة صاحب الملكوت ..
بل لقد كان قلبه يمور بمحبة شاملة استوعبت مخلوقات الله، عجماوات وجمادات، فاستفاض معينه عاطفة رأفة وشفقة عليها جميعا، وباتت تمثل لناظره شواهد على قدرة وجمال الكون الذي هو من جمال الله وجلاء مثالي لأسمائه الحسنى.. لقد كانت نوازع النورسي الخيرية أثرا مباشرا لتلك الرحمة والقدسية التي عاين بها الكون، واستشعر فيها يد الله التي أبدعت كل شيء ولم تحرم أي عنصر من عناصر الكون من مسحة خير وجمال يستوجب التسبيح والامتنان..
وربما عمق من آلامه ما كان يراه من تيه وعماية عن الحق يقعدان بالأمة عن أن تسلك طريق العز والانبعاث..(11/166)
لقد كان حسه الذي صقلته الترويضات الروحية الإرادية المتصاعدة، يعي الواقع المنحط الذي آلت إليه أمة الإسلام، فكانت - من ثمة - همومه تتفاقم، لكن الثفة بالله كانت لا تزايله رغم عوارض اليأس والقنوط التي كانت تكدر بواطنه أحيانا.. لقد كان الوجدان ينبض بمحبة الله وبالغيرة على دينه وكان ينيط نصرة الأمة به، وهو ما جعل الروح لا تنفصم بين الوازعين : وازع التفاؤل الإيماني الراسخ، ووازع التشاؤم العارض..
فالاهتمام والاغتمام لدين الله وللمصير المنتكس الذي آل إليه أمر المسلمين لا يناقض أبدا احتدام مشاعر الشوق إلى ذات الله والفناء في محبته، لا سيما حين تغدو هذه المحبة خالصة، لا تحركها رهانات ذاتية، إستئجارية..
الإيمان مهمة ثابتة تقتضي التعهد.. والذكر وقودها
على أن الإيمان يقتضي أن تُتَعَهَّدَ جذوتُه وأن يُحاط بيقظة لا تلابس الروح معها غفلة أو فتور.. فنزغات الشيطان تترصد المؤمنين لتَنقضَّ عليهم، وتشغل قلوبهم عن ذكر الله ..
من هنا وجب التحوط للمباغتات، والتسلح ضد همزات الشيطان، ومراقبة النفس حتى لا تقع في الاحباط..
ولقد أخذت صلة الرقابة الذاتية التي يمارسها الفرد على نفسه صورا مختلفة أهمها وأكثرها شيوعا إلتزامه بالذكر، واستحضار إسم الله في نفسه وملء قلبه به، فبتلك الكيفية - كما يقول النورسي - ظل الإنسان المؤمن يستحصل ما لا يحصى من الراحة القلبية والطمانينة النفسية، اطردت بها أيامه على إيقاع الإيمان والوثوق بأنه على موعد مع الحسنى الإلهية..
وبما أن الإنسان هو جماع هذا الكون، إذ هو - بحسب النورسي - يحمل في قلبه ودماغه قدرة تحسسية، تجعله على صلة بما يحوطه من أكوان . من هنا غدا الانسان محورا لما في الكون من حقائق لا تحد، ومظهرا لها، بل ونواتها الحق ". (1)
__________
(1) المكتوبات ص.571 .(11/167)
والواقع أن مركزية الانسان هذه، هي مسؤولية والتزام، ليس حيال نفسه فقط، ولكن حيال الكائنات في رمتها، لذا كان من قَدَر الإنسان، بل ومن شرفه أن يضطلع بواجبات مادية وأخرى روحية يتجسد فيها ذلك الإلتزام، وتتأدى بها تلك المسؤولية..
وإذا كان مستقبل الانسان، بل ومستقبل البسيطة برمتها، ومصير الكائنات البرية والبحرية فضلا عن العوالم المحيطة بنا، مناطا بسلوك وسيرة الإنسان نفسه، وبمدى محافظته على هذه العوالم والأكوان، وتثميرها التثمير المتزن، النابع من روح تستبطن حمد الله وتعترف بالأفضال المترادفة التي هيأها الله لعباده لتكون لهم نعيما وارتفاقا في هذه الحياة، فإن من مظاهر الخلوص لله في المعبودية، ملازمة ذكر الله وشكره على مكارمه التي حفَّ بها العباد وعلى مبراته بهم وبالمخلوقات جميعا..
من هنا كان قلب الانسان هو مثابة الطهر التي ترتفع منها الدعوات والتسبيحات والضراعات لله على صورة حافلة ودائمة.. إذ كلما تطيبت جارحة القلب بشهد الخلوص، كلما سمت الوظيفة التوسُّلية التي تنهض بها تلك الجارحة حيال بارئها لفائدتها وفائدة المخلوقات العجماء..
ذلك أن أعظم وظيفة يؤديها القلب الانساني - كما يقرر النورسي - هو الانشغال بذكر الله والتعلق به والتوجه إلى الحقائق الإيمانية، عبر مراتب الولاية، ضمن طريق السالكين. (1)
ومن الواضح أن دلالة الولاية هنا، إنما توعز بحقيقة الدور الكلي للإنسان المؤمن في هذا الوجود ، وبالوصاية أو المسؤولية الكونية التي تنيطها روح الإسلام بزمرة الصالحين، إذ أن صلاحهم لا يتوطد ولا يبلغ تمامه إلا إذا رادف معني الإصلاح ومواجهة الحيف المادي والمعنوي، سواء ما تعلق منه بالكائنات العاقلة أو غير العاقلة.. وذلك لعمري هو ما جسدته سير الأبرار الأتقياء ومنهم النورسي..
غاية الطريقة اكتساب المعرفة النورانية،المتعمقة بالحقائق الإيمانية
__________
(1) المكتوبات ص .572.(11/168)
وإذا كانت مداومة الذكر والمواظبة على التأمل وانتهاج الطريقة السلوكية تضمن لبعض الأرواح سكينتها، وتبعد عنها عناء الحيرة والخوف من المجهول، فإن غاية الطريقة وهدفها - كما يرى النورسي - هو اكتساب المعرفة النورانية التي يطبق بها أهل الله على الظلمة وتبددها ..
إذ السلوك عند النورسي ليس مجرد حال تتقمصها النفس وتتغيب بها عن الواقع الحسي الغليظ الذي يكتنفها، بل السلوك هو ترقِّ قلبي ووجداني، وتجربة روحية مضمارها الورع النفسي والجلاء الذهني، ومناطها الحيوية العقلية المتمرسة بمقررات الشرع، والملابسة لروحه ومقاصده ..
فالسلوك من هنا - كما يرى النورسي - بات معرفة تتعمق بالحقائق الإيمانية والقرآنية، وسبيلا تٌنال به الكمالات الروحانية، ومرقى تتعالى فيه الروح إلى العلياء " في ظل المعراج الأحمدي، وتحت رايته، بخطوات القلب، وصولا إلى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود، من هنا كانت الطريقة وسلوك نهج التصوف، سرا إنسانيا رفيعا، وكمالا بشريا ساميا ". (1)
الطريقة والولاية والشريعة والبرهان
يرى النورسي أن الطريقة تترابط بالشريعة من حيث إن الأولى (الطريقة) لا تجد سندها وارتكازها إلا إذا استوعبتها الثانية ( الشريعة). إذ لا يتحقق كشف ولا حظوة لمن يروم لقاء الله من غير سبيل الشريعة وتقمص روح الفرائض ..
فما قررته الشريعة من حقائق الأحكام، ينبغي أن يجد تطبيقه وتمثله في سلوك العبد وفي انصياعه القلبي والعملي لله..
من هنا كانت الطريقة اِحدى خزانات العقيدة الاسلامية، التي يستمد الروحانيون منها طاقتهم الباطنية ومددهم المعنوي.. والتي بفضلها تلتحم الروابط بين الأفراد والجماعات، لتنعكس - من ثمة - آثار ذلك التلاحم على الحياة الاجتماعية والمدنية، وتتجسد في صور ومظاهر بناءة تعود بالجدوى على الفرد بفضل انخراطه في السلوك، وانتسابه إلى زمرة الصلاح : رواد الحضرة..
__________
(1) المكتوبات ص . 571(11/169)
الطريقة تنظيم اجتماعي وتأطيري فاعل في حياة المسلمين
ومن غير ما شك أن دور الطريقة الاجتماعي والتأطيري كان عظيما في مراحل حاسمة من تاريخ المسلمين، بغض النظر عما عرا بعض جوانبه من ضعف، أو ما آلت إليه مواقف بعض الطرق أحيانا من سلبية إزاء أنواع الترديات والانخذالات التي واجهت الأمة وأعاقتها عن السير..
بل وحتى إزاء التصدي للعدوان الصليبي ومقاومة تغلغلاته، إما لجهل بمخاطره، و إما لأن واقعها الهش نفسه كان يفرض عليها أن تهادن العدوان وتفاعله بخضوع ومصانعة، بعد اتعاظها بمصير الحركات التي هبت لمغالبته وإعلان الثورة عليه، إذ لم يلحق تلك الحركات إلا الهزيمة والاندحار، كما حدث لثورة الأمير عبد القادر الجزائري في القرن التاسع عشر - وكان هو ذاته ابن طريقة – أو كما حدث لكثير من الثورات الشعبية التي قادتها الطريقة، وتصدت لمقاومة المستعمر سواء في الجزائر أو في ليبيا أو في السودان ..أو غيرها من أقطار الاسلام، خلال القرنين الماضي أو الراهن، إذ كان الفشل لها جميعا بالمرصاد، بسبب طغيان العدو وقوته من جهة، ونتيجة تفكك المقاومة الشعبية وضعفها من جهة مقابلة..
النورسي ينتصر للطريقة، إذ يرى فيها مددا استراتيجيا يفيد في معركة المرابطة والصمود الروحيين ضد اجتياحات الغرب المادي..
وعلى الرغم مما قد يقال على الطريقة ودورها التاريخي في المجتمعات الاسلامية، فإن النورسي ينتصر لها ويرفض ما يصدره البعض من أحكام في حقها، وما ييستهدفونها به من طعن وتعطيل..(11/170)
لقد نظر النورسي - في موقفه الدفاعي هذا - إلى الطريقة من منطلق اسلامي استراتيجي، إذ أدرك ما لها من وظيفة أخلاقية مؤثرة وإسهام روحي فعال في تعضيد التوجه الإسلامي المعاصر،.. هذا التوجه الذي يتم ضمن تحولات اجتماعية وتثاقفية عالمية، نزعتها العدائية تتقوى باستمرار وتتداعى لتكون حربا على الاسلام، إذ أن القوى المهاجمة هي سائر قوى الشر وجحافلها من ماديين وملاحدة وصهيونيين حاقدين.. ممن ناصبوا الاسلام العداء، وترصدوا قيمه ومقوماته بالكيد والتشويه ..
وكانت الطرقية من أهم الجبهات الاسلامية التي تعرضت للسهام ورميت بكل سوء، وانتهى بها الأمر إلى حد أن باتت جهات من أهل الإسلام نفسه تهاجمها وتصمها بأنواع الاتهامات..
وذلك ما لاحظه النورسي، في معرض مدافعته عن الطريقة، والحض على انصافها والاعتراف لها بالقدر الجليل الذي تنهض به في خدمة الاسلام والمسلمين..
يتحدث النورسي عن الجهات التي تضاد الطريقة من أهل الإسلام ، فيقول:
"مما يؤسف له بالغ الأسف أن عددا من علماء أهل السنة والجماعة الذين يحكمون على الظاهر، وقسما من أهل السياسة الغافلين المنسوبين إلى أهل السنة والجماعة، يسعون لإيصاد أبواب تلك الخزينة العظمى، خزينة الولاية والطريقة، متذرعين بما يرونه من أخطاء قسم من أهل الطريقة وسوء تصرفاتهم، بل يبذلون جهدهم لهدمها وتدميرها وتجفيف ذلك النبع الفياض بالكوثر، الباعث على الحياة . علما أنه يندر أن يوجد في الأشياء أو في المناهج أو المسالك ما هو مبرأ من النقص والقصور، وأن تكون جوانبه كلها حسنة، صالحة. فلابد من حدوث نقص وسوء تصرف، إذا ما دخل أمرا ممن ليسوا من أهله إلا أساؤا إليه، ولكن الله تعالى يظهر عدالته الربانية، فمن رجحت حسناته وثقلت، فله الثواب الحسن وتقبل أعماله، ومن رجحت سيئاته وخفت حسناته فله العقاب وترد أعماله" . (1)
__________
(1) المكتوبات ص.573(11/171)
فالنورسي هنا لا ينفي النقص عن أهل الطريقة، ولكنه يثبت قيمتها الفعالة على الرغم مما يشوبها كثقافة واجتهادات روحية، من قصور أو ضعف، يجسده بعض الأتباع .. إن دفاع النورسي عن الطريقة، دفاع عن المبدإ، إذ يرى أن الطريقة منهج روحي تكيفت به الثقافة الاسلامية من أجل الصمود وديمومة قيمها، ولذلك فهو لا يطعن في قيمة الدور الذي تضطلع به، بالرغم من وجود سلبيات لا تعود إلى المنطلق الروحي للطريقة، ولكنها ترجع إلى سلوك الأفراد أو اجتهاداتهم غير الموفقة ..
فالفكرة الهدمية لا يؤمن بها النورسي، ولكنه يؤمن بضرورة الحفاظ على القائم، والمتوفر، وإصلاح نواقصه، وتلك رؤية رشيدة، بالنظر إلى التفاقم الأهوج الذي كانت العقيدة الاسلامية تتعرض له في تلك الفترة خاصة.. فتدبير الخصوم، كان يسدد سهامه نحو هذه الجوانب الروحية والتنظيمية التي توارثتها الأمة واتخذتها درعا على مر العصور، لأن أولئك الخصوم كانوا يدركون أن تقويض الصرح لابد وأن يبدأ بتقويض أركانه ودعائمه..
من هنا وجدنا تقويمات النورسي الشرعية تأخذ بالحسبان واقع التآكل الارتدادي، الذي آذنت به قوى النكوص الآثمة، وهو ما كان يستوجب على الحكماء والمصلحين، أن يتحروا الرشد إزاءه، وينظروا إلى العواقب في تقويمهم للأمر وتقدير آثاره، لذلك جاءت نظرة النورسي حتى تهون من شر العصاة، قياسا بآفة المروق التي كانت تستشري في الأوساط، بما كان يُرَوَّجُ لها من أفكار وحجج ومغريات.. إنها في الواقع فتوى تأخذ بمبدإ أخف الضررين، وتضع في اعتبارها المآل الذي يلحق بالأمة إن هي سدت الباب في وجه أهل التقصير، إذ أن ذلك الموقف الصدي، سوف يقصي عن الحظيرة أوساطا بكاملها، لا سيما الشباب .. وهو ما راعته الفتوى النورسية، إذا استبقت الرابطة قائمة بين الفئات، ولم تتهور بقطع الصلة بين المخلين بالواجبات الشرعية وبين الملتزمين، مظهرة حسن الرجاء، مقدمة الحسنى.(11/172)
وحتى يبرهن النورسي على صواب نظرته في هذا الصدد، راح يوازن بين انحراف بعض الطرقيين، وبين مروق أهل الضلالة ممن يجاهرون بكفرهم، لينتهي إلى أن الطرقي حتى في إخلاله بالواجبات لا يكون كافرا، وإنما تظل روحه مؤمنة، ولكنها لم تتوفق للالتزام فقط، من هنا لا يعد المقصر عاصيا، وليس كافرا كشأن الملحدين والزناديق ومن يضادون العقيدة ..
"إن أي منتسب اعتيادي مخلص من أهل الطريقة يحافظ على نفسه أكثر من أي مدع كان للعلم، إذ ينقذ إيمانه بما حصل عليه من الذوق الروحي في الطريقة وبما يحمله من حب تجاه الأولياء، فحتى بارتكابه الكبائر لا يكون كافرا، وإنما يكون فاسقا، إذ لا يلج صفوف الزندقة بيسر، وليست هناك قوة تستطيع أن تخرج ما ارتضاه من ولاء تجاه سلسلة أقطاب المشائخ الذين ارتبط بهم بمحبة شديدة واعتقاد جازم" . (1)
على أن النورسي وهو يواصل منافحته على الطريقة، يطالب بعدم الحكم عليها من خلال من تكون مذاهبهم قد ابتعدت بهم عن جوهر العقيدة، أو أولئك الذين انتسبوا إليها تضليلا ومكرا، وأطلقوا على أنفسهم اسم الطريقة كيدا للإسلام، وتذرعا إلى إشباع ما بأنفسهم، تحت غطائها..
لقد كان دليله على أهمية الطريقة ونفاذ مكانتها الإيجابي في المجتمع، ذلك الدور الذي ظلت تلعبه باعتبارها وسيلة تآخي المسلمين، وواسطة جمع وتقريب بينهم، إذ أن الطريقة هي في مقدمة الفعاليات الإيمانية التي توسع من دائرة الأخوة الإسلامية وتبسط لواء رابطتها المقدسة في أرجاء العالم الإسلامي" . (2)
__________
(1) المكتوبات ص .574.
(2) المكتوبات ص.574.(11/173)
ونراه - من جهة أخرى - ينوه بمنزلتها الدفاعية ضد هجمات النصارى ومكائدهم الساعية على مدى القرون، لإطفاء نور الإسلام، لا سيما في البلاد العثمانية، فيقول :" يجب أن لا ننسى فضل أهل الطرق في المحافظة على مركز الخلافة الإسلامية ( استانبول ) طوال خمسمائة وخمسين سنة، رغم هجمات الكفر وصليبية أوروبا، فالقوة الإيمانية، والمحبة الروحانية، والأشواق المتفجرة من المعرفة الإلهية لأولئك الذين يرددون " الله .. الله.." في الزوايا والتكايا المتممة لرسالة الجوامع والمساجد، والرافدة لهما بجداول الإيمان، حيث كانت تنبعث أنوار التوحيد في خمسمائة مكان، لتشكل بمجموعها أعظم نقطة ارتكاز للمؤمنين في ذلك المركز الاسلامي". (1)
ولقد كان أدعياء القومية التركية يعارضون الطريقة ويستهدفونها بالهجمات، لما رأوا لها من نفوذ يحفظ تماسك الأمة ويعترض على مساعيهم الشقاقية الرامية إلى زعزعة الإسلام وإجلائه من أوطانه، لذا ألفينا النورسي يتوجه إليهم في تجريح شديد يرد دعواهم، ويفند مقاصدهم بهذه الصرخة المعبرة عن مواجهة لا مراء فيها :
"فيا أدعياء الحمية، ويا سماسرة القومية المزيفين، ألا تقولون أية سيئة من سيئات الطريقة تفسد هذه الحسنة العظيمة في حياتكم الاجتماعية". (2)
الطريقة وتبعاتها العقلية والروحية
1- السلوك
يعتبر النورسي السلوك قيمة حيوية في الطريقة، فهو، وإن بدا سهلا للبعض، إلا أنه لا يخلو من صعوبة ،من شأنها أن تحول دون وصول الكثيرين ممن لا جَلَدَ لهم على تحمل الأعباء، ولا ثقافة روحية تعينهم على استكمال الطريق، وبلوغ ما راموا بلوغه..
والسلوك بحسبه قسمان، إذ هناك السير الأنفسي، والسير الآفاقي ..
__________
(1) المكتوبات ص.575
(2) المكتوبات ص.575(11/174)
فالسير الأنفسي -كما يقرر النورسي - يبدأ من النفس ويتجه إلى الخارج، إذ يسعى فيه السالك إلى معانقة الحقيقة - التي يحضنها قلبه داخل جوانحه - واستجلاء معانيها في الآفاق والتجليات الكونية، من حيث كون تلك الآفاق والتجليات هي تجسيد للحقيقة الربانية وعلامة عليها.. فالسالك يرى أنوار الحقيقة المتلألئة بين جوانحه، تشع في الآفاق وتنعكس على الكائنات، وتتلون بألوانها وتتماهى بماهياتها، فلا يزداد القلب إلا تواجدا بها، وتذوقا لها..
فالسير الأنفسي يقتضي من السالك أن يفني نفسه في محبة الله، وأن يكسر شوكة الهوى، ويميت نوازع الشهوة حتى لا تشتغل بغير محبة الله.
أما السير الآفاقي، فإنه ينهج الى غايته طريق النفس، إذ ينطلق من الآفاق - حيث تتجلى أسماء الله الحسنى من خلال مظاهر الكون الأكبر - ويؤم النفس . ففي رحابة القلب يتسع للسالك أن يرى أنوار تجليات تلك الأسماء الحسنى تشع من داخل نفسه، فيتهيأ له على ذلك النحو، الطريق الأقرب إلى الله، ويدرك أن القلب - حقا -مرآة الصمدية، فيصل إلى قصده، ويظفر بمنتهى أمله. (1)
ومن الواضح أن النورسي بتمثله هذا للتجربة السلوكية، يكون قد جدد النظرة إلى السلوك، وأدرجه بالفعل ضمن نطاق علم النفس الروحي، مبتعدا بالظاهرة السلوكية عن المصادرة الجدالية التي كانت تضعها فيها تلك الثنائية المعرفية التقليدية المعروفة بوحدة الوجود ووحدة الشهود ..
__________
(1) المكتوبات ص.575(11/175)
ذلك لأن النورسي أدرك أن تمثل الفعل السلوكي من خلال أحد هذين التصورين يسيء إلى تعاليم القرآن بشأن الكون، إذ أن وحدة الوجود تقف على منطق مضمر يعدم الموجودات ما عدا الله، في حين أن القرآن يؤكد وجود الكون والكائنات، إذ هي مبتدعات إلهية ماثلة ولها وظيفتها العينية أو الغيبية التي على المسلم أن يقر بها.. كما أن وحدة الشهود تنطوي على منزع إغفال الوجود، وإسدال ستار النسيان عليه - كما يقول النورسي - وذلك ما لا يتلاءم مع المنطق الإيماني الذي يدعو إلى التدبر في الموجودات والوعي بها، وبالتالي الاعتراف بكينونتها، وأنها امتداد ملموس أو محسوس لتجليات القدرة الإلهية المطلقة..
لقد رد النورسي المطمح السلوكي إلى الواقع التربوي والنفسي، وإلى روح السالك، وأناطه بنفسيته وبموقفه أو منهجه الذي يختاره تحصيلا لمرامه، وبلوغا لمقصده .. والنورسي إذ بطرح المسألة السلوكية على هذا الوجه، يكون قد أسهم في تقريب وعقلنة هذا النشاط الروحي الذي تتفتح عليه نفوس أهل الاستعداد والقابلية.. وهو بذلك يكون قد أدرج المعرفة السلوكية ضمن نطاق الملاحظة والتقويم، لاسيما في أطوارها الأولى، حين تكون بَعْدُ ارتياضا روحيا وتمرسا تلقينيا..وتجربة معرفية متجددة.
2- عوائق الطريق
ولما كان الطريق محفوفا بالمخاطر، كان حتما على السالك أن يحذر الزلق والسقوط .. فالنفس نزاعة للإغترار، وقد يتراءى لها أنها أدركت الحضرة وبلغت اللدنية، وقد يستبد بها شعور الظفر فتعرب عن نشوتها بغير ما يليق من انضباط في تلك المسيرة، ولا يسعها عندئذ إلا أن تسقط من مقام الشكر إلى موقع الفخر، متردية إلى الغرور .. وهو ما يتورط فيه كل سالك ذهل عن أن يلتزم بضبط النفس، إذ سرعان ما يجد نفسه وهو يعاين الأسرار الخفية ،أن ينجذب وراء الشطح، ويقع في الادعاء، فيضر بنفسه ويضر بغيره.(11/176)
ومن مظاهر الادعاء التي يسجلها السالك على نفسه ويفسد بها غُنْمَه، تصوره نفسه أنه أكبر وأعظم ممن هم أرقى منه وأسمى مقاما.. بل قد لا يتردد بعضهم، ونتيجة انبهار وجداني متعجل، أن يدعي المهدوية .. وهؤلاء - كما يقول النورسي - ليسوا كاذبين ولا مخادعين، ولكنهم يُنخَدَعون، إذ يظنون ما يرونه هو الحق، ولكن كما أن للأسماء الحسنى تجلياتها ابتداء من العرش الأعظم وحتى الذرة، فإن مظاهر هذه التجليات في الأكوان والنفوس تتفاوت بالنسبة نفسها، وإن مراتب الولاية - التي هي نيل مظاهرها والتشرف بها - هي الأخرى متفاوتة .(1)
حقا إن بعض مقامات الولاية - كما يرى النورسي - يتسم بشيء من خواص المهدية ووظائفها، إذ أن هناك مقامات سلوكية لها رابطة ببعض مشاهير الأصفياء، حتى سميت بأسمائها، من ذلك مقام الخضر، ومقام المهدية. فإذا ما انتهى السالك إلى مقام منها، التبس عليه الأمر، وتصور أنه هو ذلك الفذ الشهير، و أنه هو الخضر أو المهدي، أو أنه القطب الأوحد .(2)
والسالك في ذلك الموقف الانجذابي، لا يمكن أن تقبل مفاخره وادعاءاته، مالم تصدر عن نفس أماتت أهواءها، وأزالت أنانيتها، أما إذا كان في النفس شيء من أنانية، فإن الشطح والإدعاء مدانان، ومرفوضان، ويسقطان بالسالك في هوة الغرور والتأثم ..
__________
(1) المكتوبات ص.577.
(2) انظرالمكتوبات ص.ص.577(11/177)
"فأخطر المزالق والمهالك في هذا السلوك غير الناضج، هو أن المعاني الجزئية الواردة على القلب بصورة إلهام، يتوهمها السالك كلاما إلهيا صادرا إليه، فيعبر عن كل إلهام وارد بآية، فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية للوحي".(1) فالوحي - بحسب النورسي - غير الإلهام، إذ الوحي تجسد في واقعة النزول القرآني، وأما الإلهام، فإنه خواطر يلقاها المتروض، وتتوالى على قلبه نتيجة المعاناة، وما يعمر قلبه من ذكر ومن تشوق إلى ذات الله، وبسبب انفتاح أعماقه على الكون الخفي واستمدادها منه ما تلقى وما تجد من أحوال..
3-وحدة الوجود والشهود
تعتبر وحدة الوجود فلسفة أو عقيدة يؤمن بها بعض الصوفية، إذ هي نظرة تنحصر فيها الأكوان والموجودات لتمحي في واجب الوجود، أي أن الموجود الحق، هو واجب الوجود سبحانه. "فالقائلون بوحدة الوجود يعتقدون أن الموجودات مجرد مرايا خالية لتجليات أسماء الله الحسنى..".(2)
أنهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله الذي هو واجد الموجود.(3)
إن هده النظرة - كما يقول النورسي - لا تخلو من خطر، إذ أن مبادئ الإيمان تقرر موجودات لا بد على المؤمن أن يقول بها، منها وجود الآخرة .. فالإيمان بالآخرة لا يحتمل أن يقال بخياليتها، لذا وجب التحفظ - كما يحذر النورسي - في فهم مسألة وحدة الوجود.. وإلى ذلك فإنه يوصي " صاحب هذا المشرب ألا يصحب معه هذا المشرب، وألا يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة، ثم إن عليه ألا يقْلِبَ هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي إلى أسس عقلية وقولية وعلمية، وإلا أوهم نفسه وغيره بالمادية والطبيعية والوقوع في التحلل، والابتعاد عن حقيقة الإسلام..(4)
__________
(1) المكتوبات ص .578
(2) المكتوبات ص.579.
(3) م.ن. ص579.
(4) م.ن. ص580.(11/178)
لقد كان النورسي يدرك مخاطر الإغراق في القول بمذهب وحدة الوجود، إذ أدرك المخاطر التي تتوارى خلف هذا المنزع، فقد كان دعاته في كل عصر ينتهون - شاعرين أو غير شاعرين - إلى النتيجة الشركية التي يقول بها الطبيعيون، ممن ألَّهوا الطبيعة ورببوا المادة..
وكان يسيرا على أولئك الطبيعيين أن يقتنصوا الأبرياء والسذج، ممن تطرقهم أفكار وحدة الوجود دون فهم ولا استيعاب، فيستدرجونهم إلى الوقوع في مطب الشرك . إذ ما أسهل عليهم أن يتصيدوهم من هذا السبيل، سبيل التجلي ..وأن يخاطبوهم قائلين :" نحن وأنتم سواء، نحن أيضا نقول هكذا ونفكر هكذا " ونرى في الطبيعة مجلى ألوهيتنا، بل حقيقتها.. (1)
ويلاحظ النورسي في هذا الصدد أن منزلة الإيمان القرآني أعلى وأسنى من منزلة القبس الشهودي ، ذلك لأن الانصياع لتقريرات الله عز وجل من خلال منطوق كتابه العزيز أولى من تحسس الإيمان من خلال الاستغراقات الروحية التي قد لا يسلم متعاطيها من زلل:
" إن درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الإيمان بالغيب.." و" ميزان جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات إنما هو دساتير الكتاب والسنة السامية وقوانين الأصفياء والمحققين الحدسية " (2)
ويسجل النورسي حقيقة الكسب الذي يدركه السالك المتمرس الذي يأخذ بمبدإ وحدة الوجود، فيقول :
__________
(1) المكتوبات ص. 580
(2) المكتوبات ص .105.(11/179)
وحدة الوجود مشرب وحال ومرتبة ناقصة، ولكنها مشرّبة بلذة ونشوة روحية أخاذة، تستهوي السالك وتسكره وتجعله يرتكن إليها حتى يتهيأ له أنها المرتبة الأسنى.. ومتى ما تسامت الروح في هذه المرتبة وتخلصت من الحجب و" نالت شهودا في لجة الاستغراق الكلي " فإن السالك قد ينتهي إلى" وحدة وجود حالي لا علمي، ناشئة من وحدة شهود وليس من وحدة الوجود، فتحقق لصاحبها كمالا ومقاما خاصا به، بل قد توصله إلى انكار وجود الكون عند تركيز انتباهه في وجود الله" (1)، وهنا قد يمثُلُ الخطر، حيث أنه إذا كان صاحب هذا المشرب من الذين أغرقتهم المادة وأسبابها، فإن ادعاءه لوحدة الوجود قد تؤدي به إلى انكار وجود الله سبحانه لكون انتباهه منحصرا فى وجود الكون..(2).
فطريقة السلف النيرين تنزه الله عن الشبيه والمثيل، وتقرر أن الموجودات ليست أوهاما كما يدعي أصحاب وحدة الوجود، بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى..(3). " فليس صحيحا قولهم لا موجود إلا الله، وإنما الصحيح أن لا موجود إلا منه.(4)
والسلف الاخيار عندما يشيرون إلى أن " حقائق الأشياء ثابتة " يقرون بأن لأسماء الله تعالى تجليات حقيقية وأن لجميع الأشياء وجودا عرضيا أسبغه الله عليها بالخلق والإيجاد، ومع أن هذا الوجود يعتبر وجودا عرضيا وضعيفا وظلا غير دائم بالنسبة لوجود واجب الوجود، إلا أنه ليس وهما وليس خيالا، فإن الله سبحانه وتعالى قد أسبغ على الأشياء صفة الوجود بتجلي اسمه الخلاق وهو يديم هذا الوجود. (5)
4-طريق السنة، طريق الولاية
يرى النورسي - شأنه في هذا شأن سائر علماء السنة - أن أفضل سبيل موصل إلى الولاية هو سلوك نهج السنة المطهرة .. " إن اتباع السنة النبوية المطهرة هو أجمل وألمع طريق موصلة إلى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل أقومها وأغناها..". (6)
__________
(1) المكتوبات ص 106
(2) م.ن 106
(3) م.ن. ص106
(4) م.ن. ص106
(5) م.ن. ص107.
(6) المكتوبات ص581(11/180)
والمريد الحق - في نظره - هو المتبع لما تقرر الشريعة، فيلتزمها بحذافيرها، إذ الإتِّباع " يعني تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته وأعماله والاستهداء بالأحكام الشرعية في جميع معاملاته وأفعاله. (1)
ذلك لأن الإلتزام بالشريعة يكفل شرط الصحوة أو حال اليقظة والرقابة الذاتية التي لا ينبغي أن تخطئ المسلم في علاقته مع ربه ومع العباد..
من هنا فإن اِتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح." (2)
ولابد للسالك من أن تتوفر فيه روح الإخلاص، فبالإخلاص يتخلص العبد من نوازع الشرك " فمن لم يحمل إخلاصا في ثنايا قلبه فلا يستطيع أن يتجول في تلك الطريق".(3)
على أن المحبة تظل أحسم سلاح في يد السالك، إذ أنها تحدو السالك إلى مواصلة الخوض في الطريق مهما كانت صعوبته، فـ"الذين يتوجهون بقلوبهم إلى معرفة الله عن طريق المحبة لا يصغون إلى الاعتراضات ويجاوزون سريعا العقبات والشبهات، وينقذون أنفسهم بسهولة، ويحصنونها من الظنون والأوهام".(4)
ولما كانت " المحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية وإكسيرها " توجَّبَ على السالك أن يحذر مما تنطوي عليه حالها من ورطات.. من قبيل تحول خلق الضراعة والتذلل التي يلتزمها السالك إزاء ربه، إلى خلق دِلٍّ وإلى مطالب ودعاوى..
فبذلك التحول يطيش صواب السالك ويقع في مهلكة التبختر والاختيال ..وتتحول على ذلك النحو المحبة لديه من المعنى الحرفي إلى المعنى الإسمي..لأنها استحالت محبة لغير الله، محبة تظاهر ورغائب ودعاوى، وهو ما يجعلها تنقلب من داء شاف إلى سم زعاف.. من حيث وقوعه في عين المحظور، حين أضحت محبته ليست لله كما توهم ولكنها لذاته.. من دون تذكر الله ورسوله، مع أن الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله أن يكون هذا الحب في الله ولله ..
__________
(1) م.ن. ص581.
(2) م.ن. ص581.
(3) م.ن. ص581.
(4) م.ن. ص581.(11/181)
من هنا كان ذلك الحب بمعناه الإسمي وسيلة لحب غير الله، بل ستارا من دونه، بينما الحب الحرفي أي بسبب من حب الله، فإنه يكون وسيلة إلى زيادة حب الله، بل يصح القول إنه تجل من تجلياته سبحانه.." (1)
فمما يتخوفه النورسي على السالك وقوعه تحت طائلة التطلع إلى نيل ثمرات الأعمال والإستئثارات الذاتية ..إذ في ذلك مقاضاة للأجر في الدنيا، وهو ما يفقد الصفقة قيمتها الربانية ..
بل إن آداب السالك ينبعي أن تمضي على ذات النهج التحفظي الذي لا تعروه أو تحوله الطوارئ أو المكاسب.. "فإذا ما وهب الله لهم كرامة أو كشفا أو نورا أو ذوقا فإنهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتا وتكرما منه سبحانه إليهم ،فيحاولون ستر الكرامة وإخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون إلى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم.".(2)
الطريقة هي الشريعة ولا ينبغي أن تكون غير ذلك
فالطريقة كما يقرر النورسي هي الشريعة سلوكا وغاية، وأن ما يزعمه بعضهم بأن الشريعة مجرد قشر ظاهري لا يأخذون به، هو باطل وافتئات على الحقيقة .. ثم إن آداب الشريعة كما سنها سيد المرسلين، والتي هي ثمرة الوحي، هي أسمى وأعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الإلهام .. من هنا كان أساس الطريقة هو اتباع السنة النبوية.(3)
ومما ينبغي أن يتفاداه السالك في هذا المضمار، الوقوع في مراعاة الشكلية على حساب الجوهر، وذلك بأن تنحسر لديه الأعمال الشرعية وآداب السنة لتأخذ درجة ثانية من اهتمامه، لأن اهتمامه عندئذ يضحى مركوزا على أمور صورية شكلية، قوامها آداب الطريقة ورسومها، وذلك عندما يصبح المرء يفكر بحلقة الذكر أكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب إلى أورداه أكثر من انجذابه إلى الفرائض ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة أكثر من التزامه بتجنب الكبائر ..(4)
__________
(1) م.ن. ص582
(2) م.ن. ص583
(3) م.ن. ص584
(4) م.ن. ص584(11/182)
فالذي لا ينبغي أن يغيب عن السالك هو أن" أداءه لفريضة واحدة التزاما بأوامر الشريعة لا يمكن أن توازيها أوراد الطريقة أو تحل محلها.. " (1)
لذة السالك تكون في لذة أدائه للفرائض الشرعية والمواظبة عليها بشروطها
إن لذة السلوك ينبغي أن تجد في أداء الفرائض وسيلتها ومناطها.. هذا ما يقرره النورسي، وهذا ما قال به السلف من رجال السنة الصالحين..
وفي هذا الصدد يتساءل النورسي هل يمكن أن توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة وأحكام الشريعة ؟. ويجيب عن ذلك إجابة مزدوجة، إيجابا وسلبا.. فهو يرى" أن وجود أولياء أُعدِموا بسيف الحقيقة يدل على أن السلوك يمكن أن يفضي بسالكيه إلى خارج معالم الطريق ..
غير أن هذا لا يعني أنه يمكن أن يصل سالك إلى الحقيقة من خارج سبيل الشرع والإيمان بالله وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ..فقد أجمع الأولياء المحقون على استحالة إدراك الحقيقة والاستضاءة بأنوارها من خارج الصراط الذي اختطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن دونما اتباع لخطواته".(2)
مخاطر الانزلاق في أحوال السكر والانجذاب
ويتعرض النورسي لحال الجذب والاستغراق التي تتلبس طائفة من أهل السلوك لاستعداد روحي يطغى عليهم وهم يتواجدون بأسرار الحضرة، وما قد يَجُرُّه ذلك عليهم من مخالفات أو تجاوزات شرعية، ويُبَيِّنُ أن مرد ذلك إلى ما في الإنسان من لطائف وقابليات لا ترضخ للتكاليف الشرعية، إذ عندما تتحكم تلك اللطائف في السالك فإنه لا يبقى مسؤولا أمام التكاليف الشرعية .. من هنا كانت تجاوزاته الإنجذابية مبررة، لأنها انخطاف خارج عن إرادته، وكل ما يَنِدُّ عنه في تلك الأثناء غير الواعية، هو معذور عنه، وغير محاسب عليه، ولا يسقطه من مرتبة الولاية..
ويلاحظ النورسي في هذا الصدد أيضا وجود قسمين من أهل الطريقة يعتبران خارج دائرة الشرع :
__________
(1) م.ن. ص584
(2) م.ن. ص585(11/183)
1- قسم تغلُبُ عليه حال الاستغراق والجذب والسكر، أو تغلبُ عليه لطائف تمنعه أن ينقاد للتكاليف.. وهؤلاء لا يتنكرون للشرع ولا يرفضون الأحكام، بل إن تركهم للأحكام يأتي اضطرارا .. ونجد أولياءً أصحاب شهرة ظلوا متلبسين بهذه الحال زمنا.. بل لقد كان منهم من حكم عليه أولياء محقون أنه ليس خارجا عن دائرة الشرع وحدها، بل هو خارج دائرة الاسلام .. إن هذا الصنف لا يمكن الحكم عليهم بالحياد عن الدين والشرع ولكن " بشرط ألا يُكذِّبوا بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحكام .." فعدم تمكن هؤلاء من أداء الأحكام نتيجة حالهم يبرر وضعهم، لكنهم إذا تمكنوا منها ولم يلتزموها، فقد هلكوا.. (1)
2-وقسم ثان، هم الذين ينجذبون لنشوة الأذواق ..ويتدرجون في التخلي عن الفرائض والاستهتار بأمر الشريعة إلى حد أن يظنوا أنها مجرد قشر ظاهري، وأن ما وجدوه من الحقيقة هو الأساس والغاية والقصد.. وهو ما يشجعهم على الإتيان بما يخالف الشرع بكامل وعيهم وتعمدهم.. إن هؤلاء " مسؤولون عن أعمالهم، ويدانون، بل يهلكون .." (2)
الأفضلية للنبوة على الولاية وليس العكس
ومما يحذر منه النورسي في هذا المجال، التورط في القول بأفضلية الولاية على النبوة .. أو بأرجحية درجة الولاية على درجة الصحبة . فقد دأبت فيئة من أهل الطريق على ترسيخ الزعم بأن الأولياء مفضلون على الصحابة، وهو اعتقاد خاطئ ذلك لـ " أن للصحابة الكرام خواصا متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للأولياء أن يبلغوا مرتبتهم أصلا فضلا عن أن يتفوقوا عليهم، ولا يمكنهم أن يبلغوا قطعا مرتبة الأنبياء".(3)
__________
(1) أنظر المكتوبات ص.586.
(2) م.ن. ص587.
(3) م.ن. ص588(11/184)
لقد أفضى بالقائلين بهذا الاعتقاد إلى حد أن أعلوا من قيمة أوراد طريقتهم على أذكار السنة النبوية . متناسين ما أكده محققو الطرق كالإمام الغزالي والإمام الرباني ،من أن" اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولا عند الله أعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة، إذ كما أن فرضا واحدا يرجح ألفا من السنن، فإن سنة واحدة من السنن ترجح ألفا من آداب التصوف".(1)
كما أن الاعتقاد في أفضلية الولاية قد جرَّ إلى القول بتساوي درجة الالهام مع درجة الوحي..وهو ما يزين لهم الانسياق مع الخواطر والنوازع، وما تختلج به جنوبهم من رؤىً فيتجاوزون الشرع، إذ يتوهمون أن خواطرهم إلهام يُلقي به الله إليهم على نحو ما كان الوحي يتنزل على الأنبياء والرسل من قبل..
ولن يُنْجي هؤلاء من المزلق إلا بالإثابة إلى الشرع، وأن " يضعوا أصول الإيمان وأسس الشرع نصب أعينهم ويتخذوها مرشدا دائما لهم، وأن يخالفوا أذواقهم ومشهوداتهم ويتَّهِموها عند تعارضها مع تلك الأسس.".(2)
ومما يميز سير أهل الأذواق والأشواق - حسب النورسي- جنوحهم إلى الإدعاء والتظاهر والفخر وإشاعة الشطحات وطلب الصدارة بين الناس ونيل الإهتمام والحظوة، والتوق إلى أن يضحوا أهل شأن ومرجعيات روحية في المجتمع، وكل ذلك يبعدهم عن الطريق الحق، إذ أنهم ينشدون - على ذلك النحو المكشوف - العاجل والزائل من المكاسب على الدائم والمؤجل..وكان الحري بهم أن يمضوا على طريق الضراعة والشكر والاستغناء عن الناس .." فأساس العبودية وسرها هو التضرع والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول إلى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية..".(3)
__________
(1) م.ن. ص588
(2) م.ن. ص590
(3) م.ن. ص590(11/185)
ولا ريب أن ما تتوج به تجربة السالكين بعد تجاوزهم لمِحَنِ الطريق وتمكنهم من تلافي مزالقها، هو "ظهور الحقائق الإيمانية وانكشافها ووضوحها إلى درجة عين اليقين بواسطة الطريقة الصحيحة التي هي منابع .. أبدية ".(1)
وذلك ما يترتب عنه اكتمال الوجود الحقيقي للانسان .. إذ تكون الطريقة قد حركت فيه القلب ووجهته صوب الله، فتثور بذلك لطائف إنسانيته وتأخذ نصابها من الحركة والظهور، وهو ما تتأكد به حقيقة الإنسان.(2). كما أن بلوغ الكمال يزيل عن النفس وحشة الانفراد الذي لازمها طيلة الطريق، وتستعيض عنه بأنس معنوي لالتحاقها بإحدى سلاسل الطريقة في سلوكها وفي رحلتها نحو الحياة البرزخية، والتفيئ بظلال أهل السبق وبالإنتماء إليهم، وهو ما تتعزز به الثقة في الله وتتبدد الأضاليل والأوهام التي ترد إلى الذهن.(3)
إن الطريقة بما هي تربية وسلوك، تمَكِّنُ من نمو شجرة الإيمان، إذ أن النهج التربوي الذي تقوم عليه الطريقة يغرس في النفس وازع اليقظة ومداومة ذكر الله ، إذ تضحى الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف". (4)
__________
(1) م.ن. ص591
(2) م.ن. ص591
(3) م.ن. ص591.
(4) م.ن. ص592.(11/186)
فبالسلوك نتحصل على درجات التوكل والرضى والتسليم، وهي درحات تَذَوُّقِ السعادة واللذة والأنس الذي لا تشوبه وحشة. وفي ذلك فكاك للانسان من آفات الشرك الخفي والرياء والتصنع وغيرها من الرذائل التي تحبل بها النفس الأمارة بالسوء . وكل ذلك من شأنه أن يفضي بالانسان إلى حال من المطابقة الايمانية التي تجعل عاداته اليومية في حكم العبادات، وأعماله الدنيوية بمثابة أعمال أخروية .. الأمر الذي يجعل منه ذلك الانسان الكامل الذي لا يغفل عن خالقه ومعبوده لحظة، فهو سيكون ذلك الانسان الذي نال حقيقة الإيمان والإسلام لا صُوِريَتَهُما..الانسان الذي هو عبد خالص لرب العالمين، ومناط خطابه، وممتلا للكائنات من جهة، ووليا لله وخليلا له، حتى كأنه مرآة لتجلياته سبحانه عز وجل..(1)
لا يحق للسالك التعبير عن رؤاه الكشفية، وإلا وقع في المحظور وقارف الخطأ
وعن تساؤل بعضهم عن سبب مخالفة تصريحات أهل السلوك، المتعلقة برؤاهم وبما قرروه من مشاهدات جاءت الجغرافية والعلوم الحاضرة تنكر ما يقولون، يجيب النورسي بأن شأن أولئك السالكين في وضعهم ذاك، شأن صاحب الرؤيا الذي لا يحق له التعبير عن رؤياه بنفسه. فذلك القسم من أهل الشهود والكشف ليس لهم الحق أن يعبروا عن مشاهداتهم في تلك الحالة، حالة الشهود .
__________
(1) م.ن. ص593(11/187)
فالذي يحق له التعبير عن تلك المشاهدات إنما هم ورثة الانبياء من العلماء المحققين المعروفين بالأصفياء، ولا ريب ان أهل الشهود هؤلاء عندما يرقون إلى مقام الأصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بإرشاد الكتاب والسنة ويصححونها، وقد صححها فعلا قسم منهم.. فما يرونه هو صدق وحقيقة، ولكن لأن عالم المثال شبيه صورة بالعالم المادي، فهم يرونهما، أي العالمين كليهما ممزوجين معا، فيعبرون عما يشاهدون كما هو، ولكن لان مشهوداتهم غير موزونة بموازين الكتاب والسنة ويسجلونها كما هي في كتبهم عندما يعودون إلى عالم الصحو، فإن الناس يتلقونها خلاف الحقيقة ".(1)
الأئمة الأربعة هم أركان الاجتهاد الشرعي، وهم أهل القطبية
لقد ساق النورسي حديثه عن الطريقة ومكانتها حيال النبوة، فاستطرد ليبرز أفضلية أئمة الشرع، ويؤكد تقدمهم على من سواهم من أصحاب الاجتهادات الروحية، لأن هؤلاء الأئمة احتضنوا الشريعة وراعوا بانهماكهم الروحي والعقلي حاجة الأمة ومطالبها الإيمانية عامة، في حين كان انخراط أهل القطبية السلوكية ذا جدوى وفاعلية ولكن على نطاق خاص ومحدود ..يقول النورسي :
الأقطاب المجتهدون الأربعة - وهم أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل - هم الأفضل ( من شيوخ الطريقة)، فهم يفوقون الأقطاب وسادة الطرق، ولكن بعض الأقطاب العظام كالكيلاني له مقام أسطع من جهة في الفضائل الخاصة، لأن الفضيلة الكلية هي للأئمة الكرام..(2)
لقد اتخذ النورسي - الذي كانت مَعْلَميته الصوفية لا تنازع - شعارات أربعه تدور كلها حول القرآن وروح القرآن، إذ طفق يصرح للأتباع والمسلمين قاطبة :
إن كنت تريد وليا فكفى بالله وليا -إن كنت تريد أنيسا فكفى بالقرآن أنيسا - وإن كنت تريد مالا فكفى بالقناعة كنزا - وأن كنت تريد عدوا فكفى بالنفس عدوا.(3)
__________
(1) المكتوبات ص.104
(2) م.ن. ص362.
(3) م.ن. ص365(11/188)
ذلك لأن النورسي قد أدرك أن طريق السلوك هو طريق الخاصة، وبالتالي هو واجب كفاية، أما طريق الشريعة أو طريق تصديق الحقائق الإيمانية القرآنية، فهو سبيل الواجب العيني الذي لا يخرج عن ربقته مسلم.. وهو النهج الذي شاءته واختارت السير فيه رسائل النور :
إن إحدى طرق الوصول إلى هذا الإيمان التحقيقي هو بلوغ الحقيقة بالولاية الكاملة بالكشف والشهود، وهذا الطريق إيمان شهودي يخص أخص الخواص.أما الثاني فهو تصديق الحقائق الإيمانية بعلم اليقين البالغ درجة البداهة والضرورة، وبقوة تبلغ درجة حق اليقين، وذلك بفيض سر من أسرار الوحي الإلهي من جهة الإيمان بالغيب وبطراز برهاني وقرآني يمتزج فيه العقل والقلب معا.
فهذا الطريق هو أساس رسائل النور وخميرتها وروحها وحقيقتها. .(1)
لقد آمن النورسي أن السادة الأقطاب من السالكين الواصلين، لو أنهم عاشوا في عصرنا الراهن، ورأوا ما عليه الأمة من ترد ومن هوان، لرجحوا طريق التجنيد والعمل اللذين تكفلهما الشريعة الغراء، ولأرجأوا المطلب السلوكي، إذ أنه سيكون بمثابة المطمح الكمالي :
إني أخال أن لو كان الشيخ الكيلاني والشاه النقشبند والإمام الرباني وأمثالهم من أقطاب الإيمان رضوان الله عليهم أجمعين في عصرنا هذا لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الإيمانية والعقائد الاسلامية، ذلك لأنهما منشأ السعادة الأبدية، وإن أي تقصير فيهما يعني الشقاء الأبدي.
__________
(1) م.ن.ص.111(11/189)
نعم لا يمكن دخول الجنة من دون إيمان، بينما يدخلها الكثيرون جدا دون تصوف، فالانسان لا يمكن ان يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة . فالتصوف فاكهة والحقائق الاسلامية خبز.ويلاحظ أن السلوك إلى الإيمان كان فيما مضى يستغرق الأوقات والفترات، لكن التوفيق الإلهي يستطيع أن يهيأ لأهل العصر الحاضر من الطرق ما يكفي لإدراك تلك الحقائق في يسر ودون استغراق زمني.. مشيرا بذلك إلى ما يمكن لدارس رسائل النور، أو من يحتك بالمصادر الروحية المرشد والحصيفة عموما، أن يجنيه من جليل الفائدة وسابغ الغنم ..(1)
لقد كان كتب النورسي بحق كتبا " لبيان أسرار القرآن " .. فأسرار القرآن هي أنجع دواء لأمراض هذا العصر وأفضل مرهم يمرر على جروحه وأنفع نور يبدد هجمات الظلام الحالك المغيرة على المجتمع الاسلامي".(2)
* * *
الفصل السادس
تفسير القرآن للنورسي
إطلالة على كتاب "إشارات الإعجاز"
"للقرآن أبواب ما زالت مغلقة وستفتح مستقبلا.(3)
"إن القرآن الحكيم بمثابة عقل الأرض وفكرها الثاقب، فلو خرج القرآن - والعياذ بالله - من هذه الأرض لجنت الأرض، وليس ببعيد أن تنطح رأسها الذي أصبح خاليا من العقل بإحدى السيارات، وتتسبب في حدوث قيامة." (4)
تفسير النورسي للقرآن العظيم
من الثابت أن لكل مصلح اسلامي حظا من الإجتهاد.. إذ أن ميزته أو خصوصيته الإصلاحية إنما تظهر في الحيز الانجازي الذي يُوَفَّقُ إلى تحقيقه في مضمار التسديد وتأصيل الرؤية الاجتماعية التي يفاعل بها الواقع المدني والحضاري من حوله..
من هنا كان تفاوت العاملين في حقل الإصلاح ..إذ كان منهم المصلح بالأصالة وكان منهم العامل الجاري على هدي غيره، وكان منهم الموفق وكان القاصر..
__________
(1) المكتوبات ص28.
(2) المكتوبات ص.28.
(3) الكلمات ص. 451
(4) الشعاعات ص.444.(11/190)
وإذا كانت منزلة الصنف الأول من أهل الاصلاح هي منزلة المجتهد - بغض النظر عما أغَلَّ جهده من ثمار إجتهادية تخدم الأمة وتوسع من مداركها - فإن منزلة الصنف الثاني هي منزلة الواعظ الذي مطمحه أن يكرر ما تلقن من نصائح، كيفما كانت أهمية تلك النصائح وصلتها بالمرحلة التي يعيشها أو ينشط فيها ..
ومعلوم أن النص القرآني ظل يمثل حجر الزاوية في كل توجه اصلاحي وتجديدي، إذ غدا فهم الفحوى القرآني وتفسير دلالته، وتوجيهها نحو الوجهة النافذة والمعدلة للترتيبات المدنية المتحكمة في واقع الناس، والمثبتة لقناعاتهم .. تلك القناعات التي تنزع – عادة – بهم إلى الاستنامة والقعود عن تحقيق مزيد من التقدم وبلوغ منزلة الكمال التي رشح الله عباده إليها بالتزام الإيمان والعمل الصالح..
لذا أضحى التعديل الاجتماعي والاصلاحي ينطلق غالبا من تعديل السائد من المفاهيم، إما بإحياء قيم هذا السائد كما عاشها السلف الصالح من الأمة في عهد نضارة العقيدة ،وإما بإعطاء هذا السائد حظا من التسديد والترشيد ما يزكيه ويجعله أكثر ملاءمة لروح العقيدة ولمتطلبات الحياة الكريمة التي ينبغي أن يحياها المسلم، أينما كان وفي أي زمن كان ..
في هذا الإطار تندرج جهود النورسي الإصلاحية والتفسيرية، إذ هي جهود تركزت على المتن القرآني تستقرئه وتستوعبه وتقبس منه الأنوار التي طفقت تبدد الظلام من سماء الأمة..
التنزيل واحد، والتنزل متعدد
لقد صدر النورسي في تفسيره للقرآن عن اعتقاد يثبت للنص القرآني تعددية معنوية مؤكدة، تستكنهها بصيرة المفسر حسب ما يحيط به من أجواء ويستغرقه من اهتمامات.. فالدلالة السماوية لها تنزيلٌ واحدٌ، هو الذي نطق به سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولها أيضا تَنَزُّلٌ، وهو نتاج القراءات المتنوعة التي تستنبطها العقول المؤمنة عبر الزمان والمكان..(11/191)
من هنا وجدنا النورسي يقرر " أن جمل القرآن لا تنحصر في معنى واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطابا موجها لعموم طبقات البشر، لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كل مفسر وكل عارف بالله من ذلك المعنى الكلي شيئا، ويستند في تفسيره هذا إما إلى كشفياته أو إلى دليله أو إلى مشربه، فيرجح معنى من المعاني ..". (1)
ومن الواضح أن النورسي يسير في هذا السياق التفسيري على طريق السلف، فقد ظلت دلالة النص القرآني تتأسس في نظر الشراح والمتأولين من رجال السلف على أربعة مستويات، إذ لها ظاهر وباطن وحد ومطلع.. بل لقد رأيناهم يستوعبون ظاهرة الاعجاز بروح تلهج بخصائصها المبهرة، وتتواجد بمقوماتها البيانية جملة، فليس عندهم في فذاذة البيان القرآن عنصرا أدائيا – حتى النقطة والحرف - إلا وله حظ ثابت من البيان وإسهام في إحداث الأثر القدسي..
في هذا السبيل ذاته سار النورسي، وعلى هدي فطاحل التفسير المستنرين طرق، لكنه تميز عنهم بهذا التنويع التخريجي الذي استغرقه طيلة حياته، بحيث جاءت سائر أعماله منظومة تفسيرية للقرآن ..
الوحي وسَنَنُ التوصيل الإستئناسي النافذ
يرى النورسي أن فاعلية الخطاب القرآني قد تأصلت خصائصها التوصيلية العمومية بصورة جوهرية من خلال طبيعة النظم القرآني التصويرية التي تجنح إلى تخريج مضامينها تخريجا حسيا ملموسا.. إذ أن هذا الخطاب القدسي قد نأى – على نحو لا يمارى – بتبليغيته عن أن تغدو تبليغية طبقية أو فيئوية محدودة ..
__________
(1) المكتوبات ص422.(11/192)
ذلك لأنه خطاب السماء إلى الأرض، وهو لذلك أصَّل لإفضاءاته من الأسباب البيانية والدعامات البلاغية ما جعل المعطى القرآني يمثل أمام النفوس قريبا منها، ومدركا على نحو لا يُعْنِتُ السامعَ أو المتلقي، لتجاوز هذا الخطاب المبين الإعضالات البيانية والأدائية التي تَغْفِلُ المطلب العقلي السمح والاقتضاء الإدراكي الفطري الذي يجعل الأمي والمتعلم – على سواء – يتفاعلان مع أعمق الأفكار والرؤى في مجالات الكون والإنسان ومصائر الحضارات وعوالم الغيب والشهود، من دون أن يتجشما رهقا إزاء الدلالة القرآنية الجلية والمتعالية عن التفذلك المجاني أو التشدق الأخرق..
لقد رجح القرآن مقومات البلاغة العالية من أجل ضبط أدائية كلامية نبيلة لا تسف بالمعطى القولي، ولا تستغلق عنه.. بحيث عرض خطابه الكريم المناحي المجردة من خلال وسائط قولية كان التشبيه والتمثيل في مقدمة أدواتها البيانية..
وحتى يبين النورسي طبيعة هذا النهج الأدائي السامي، والميسر، الذي اتبعه القرآن العظيم في منظومة متْنِهِ، راح يستطرد كاشفا الارتكازات التي قامت عليها بلاغة القرآن من خلال تفحصه لشواهد قرآنية عرضت له وهو ماض في تفسير آيات من سورة البقرة..
الخطاب القرآني يفاعل مواجد المتلقي
لقد علق النورسي على قوله تعالى : (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا..)، فأشار إلى مستويات النظم التي لحمت الآية، ثم بين سر هذا التعقيب التمثيلي الذي ساقه الله في موقف كشفه لحقيقة المنافقين، هذا السر الذي بُنِيَ على الإيفاء بثلاث متطلبات توصيلية، تُسْتَكْمَلُ بها عملية التبليغ التي يريدها القرآن فاعلة ومغيِّرة للأوضاع البشرية، وهذه المتطلبات - كما يحصرها النورسي - هي :
1- تأنيس الخيال الذي هو أطوع للمتخيلات من المعقولات، وتأمين إطاعة الوهم الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده بإظهار الوحشي بصورة المأنوس، وتصوير الغائب بصورة الشاهد.(11/193)
2- تهييج الوجدان وتحريك نفرته ليتفق الحس والفكر بتمثيل المعقول بالمحسوس .
3- ربط المعاني المتفرقة وإراءة رابطة حقيقية بينها بواسطة التمثيل .. وأيضا الوضع نصب عين الخيال ليجتني بالنظر الدقائق التي أهملها اللسان. (1)
وواضح أن النورسي يركز في هذا الاستطراد على ابراز الوظيفة الشعورية والتحسيسية التي يراعيها الخطاب القرآني في بلاغته الاعجازية، وهذا من خلال مفاعلة هذا الخطاب الفذ لخيال المتلقي، بما يؤثر فيه ويوسع من مداركه ويعلو بمقامه الإنساني، ويجعله يقف من الحقيقة القرآنية وجها لوجه..
فالبلاغة القرآنية موصولة بذهن المتلقي ..
وإذا كانت البلاغة عامة تتأهل – بطبيعتها الاقتدارية - لتفعيل مواجد المتلقي متى كان المتكلم متمكنا من السنن، إذ الباث يتحول في ذات الوقت إلى مرسل ومتلق - بحيث يضع نفسه في موضع المتلقي - الأمر الذي يمكنه من أن يوظف الإمكانات البلاغية والخطابية بحسب ما يفي بالتعبير عن رسالته..
وإذا كانت هذه هي حال الانسان مع الإنسان، فلا جرم يغدو الموقف الخطابي على أسمى ما يكون الأداء متى كان المخاطب هو المولى عز وجل.. الذي جبل النفوس وقدر حاجاتها..
لذلك جاءت بلاغة القرآن وتوصيليته على هذا المستوى الأسنى من البراعة والتمكين..
مفاتيح فهم الخطاب القرآني
يرى النورسي أن هناك فائدة كبرى من وراء فهمنا لفنيات البلاغة العربية ولمفرداتها المعيارية..
إذ أن في ثناياها ارتكازا جوهريا لفهم الفحوى الخطابي .. ذلك لأن القرآن قد استخدم أسس البلاغة استخداما عبر به ومن خلاله عن مقاصده العليا .. من هنا لابد من استحضار السنن التبليغي كما كانت مرعية عند العرب، من أجل أن نستكنه المضامين القرآنية ..
__________
(1) إشارات الإعجاز ص.126(11/194)
لقد حدد النورسي كمال الكلام بكمال الأسلوب المستخدم في الآثار والنصوص.. فالأسلوب – كما يقول - هو صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية، وكأن تلك القطعات " سيموطوغراف " خيالي. .. (1)
و تحدث عن فنية التمثيل، فقال : إن فائدة أسلوب التمثيل .. هي : أن المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يظهر العروق العميقة ويوصل المعاني المتفرقة، وإذا وضع بيد السامع طرفا أمكن أن يجر الباقي إلى نفسه، وينتقل إليه بواسطة الاتصال. فبرؤية بعض يتدرج شيئا فشيئا – ولو مع ظلمة – إلى تمامه .. (2)
وواضح هنا الدور الذي يسنده النورسي للمتلقي، إذ أن وظيفة الباث أن يضع رسالة كلامية يستوفي بعضُ معطياتها القولية بعضاً في مجال تأدية المعنى، إذ أن كل إشارة خطابية تتهيأ لأن تجعل ذهن المتلقي يستحصل المعنى المقصود من خلال آلية الإدراك التي تثيرها شفرة الرسالة في متناول المتلقي .
ثم يتحول النورسي إلى الحديث عن الفحوى فيستحضر أقوالا جاءت تقوم الخطاب الرفيع وتربطه بالمضمون، فقد ورد في قولهم أن " الكلام البليغ هو ما ثقبته الفكرة و هو "ما طبخ في مراجل العلم . و هو " ما أخذت بخطامه وأنخته في مبرك المعنى "..(3).
ولا يخفى ما للفحوى أو القيمة المعنوية من أهمية في هذه الإشارات المبينة للحدود التي على الأثر النصي أن ينتهي إليها حتى يحوز الكمال ..
ومن الواضح أن حديث النورسي هنا يوسع من النظر إلى الآثار النصية الجميلة، بحيث يشرك السامعَ في تحديد قيمتها، إذ أن دور السامع مركزي في تحديد القيمة الجمالية للنص..
__________
(1) إشارات الإعجاز ص 120
(2) م.ن. ص120.
(3) م.ن. ص.120(11/195)
بل إن النص إنما تتم هندسته على وفق قواعد المخاطبة المستحكمة في الحس الاستقبالي للأفراد والجماعات.. من هنا فإن إدراك تلك القواعد، أو ما يعرف تراثيا بالسنن، إنما يساعد كثيرا على معرفة المساند النفسية واللسانية التي يقتضيها الموقف التواصلي، وتتطلبها عملية الفهم والاستيعاب..
ذلك لأن النورسي وهو يتحدث عن الخطاب الجميل مطلقا، إنما كان يهدف إلى امتلاك المفاتيح التواصلية التي تؤسس لماهية و كُنْهِ الخطاب القرآني على اعتبار أن ذلك الخطاب قد بنى مرتكزات توصيله على أسس بلاغته وبيانه العربيين ..وأن فهمه تفسيرا وتأويلا إنما يقتضي فهم ومعرفة تلك اللوازم البيانية والسننية على النحو التام..
من هنا كان التفات النورسي إلى هذه المقومات الخطابية الجمالية والتشديد عليها، في ضوء القيم الفنية والنظمية التي تقوم عليها البلاغة، دون أن يغفل الإطار العام للصلة الذهنية والشعورية التي يترابط بها عادة، وتلقائيا، المتواصلان : أي الباث والمتلقي..
لقد عدَّ النورسي هذه الجوانب مجتمعة مرتكزا أساسيا لفهم المضمون القرآني وتفسيره، واستقراء أوجه من رسالته على نحو إيجابي وبناء وحصيف..
لقد قدَّرَ النورسي أن التوصيلية القرآنية المعجزة قد أستمسكت بمقومين تنهض عليهما البلاغة الراقية في كل خطاب، وهذان المقومان هما:
1- البعد التمثيلي الاستعاري الذي دأب الخطاب القرآني يرسي عليه حقائقه وتعاليمه.
2- البعد التقريبي، الكشفي، الذي نهضت به عدة التمثيل وتوصيل الحقائق السماوية إلى العقول، خاصة تلك العقول البسيطة والتي لم تزايلها حال الفطرة ..(11/196)
وبما أن فنية التمثيل هي أحد وجوه إعلاء المعطى الكلامي، وإدراجه ضمن دائرة الجمال، فلا ريب أن يكون للمخيلة في ذلك الإعلاء دور يقوم عليه المقصدان : الجمالي والتفهيمي.. من هنا كان استخدام التمثيل يكفل مهمة عرض عميق المعاني – كما يقول النورسي – وتقديمها على الصورة الأدائية التي لا ينفر منها البسطاء، والسواد الأعم، ولا يستسخفها العقلاء وأهل التمرس المعرفي..
فالتمثيل والتشبيه على الوجه الذي طرحه به النورسي هنا إنما القصد منه التصوير.. فالمفهوم يستوعب المصطلح البلاغي المدرسي ويتجاوزه، لأنه يرسم دائرة تحديدية موصولة بالخيال وبالقابليات الذهنية وقدرتها على تأدية المعنى وتبليغه..
فالمسألة كما نرى تتجاوز المعطى البلاغي في صورته المفرداتية التي عرضته عليها المدونات التعليمية..
ترى هل كان النورسي يرهص بالقول في هذا المجال للسيد قطب الذي أناط الإعجاز بالتصوير الفني وبالتجسيد الظلالي المعبر، أم كان يرهص بالقول إلى مالك بن نبي الذي قدر هو الآخر للإعجاز ثقلا يرتبط بمجازيته وبالتالي بأدبيته..؟
ولا يفوت النورسي – في هذا المجال – أن ينبه إلى المزلق الخطير الذي وقع فيه كل من سعى إلى تفسير القرآن من غير فهم لآليات البيان العربي ولسننه كما دأبت السليقة العربية تتمرس بها على مدى عهود الصفاء الأولى..
لقد استغلق على هؤلاء أن يفهموا من ظاهر النصوص القرآنية مقاصدها الحق، بل فهموا منها مقاصد مناهضة لروح القرآن .. فهؤلاء رأوا في الصيغ التمثيلية المحيلة على الذات الإلهية - مثلا - حقائق عينية أرادوا أن يرسوا عندها بعقولهم، مع ما يثيره ذلك الرسو التجسيدي من شطط وجنوح عن الحقيقة القرآنية المتعالية عن التعيين حين يتعلق الأمر بالذات الإلهية..(11/197)
من هنا راح النورسي يؤكد أنه لم يقم جانب مما عُدَّ متشابها في القرآن إلا من هذا الصدد البياني الأصيل في الأعراف البلاغية العربية والغريب –في نفس الوقت- عن الدخلاء على هذه البلاغة ..
ذلك لأن المتقولين لم يدركوا طبيعة الأداء التمثيلي، لاسيما في تلك المواطن التي أحال الخطاب القرآني فيها على الذات العلية : كقوله : (على العرش استوى) وفاتهم أن ما يعرف بمتشابهات القرآن إن هو إلا نوع من التمثيلات العالية والأساليب المتعلقة بحقائق محضة ومعقولات صرفة، ولأن العوام لا يتلقون الحقائق في الأغلب، إلا بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلا بأساليب تمثيلية .. وذلك لتأنيس أذهانهم ومراعاة أفهامهم.. (1)
ولا بدع أن نجد جانبا من هذه الإشكالات الاستيعابية التي خصت مستوى من المتن القرآني، إنما بدأ يظهر حين باشرته الذهنيات التي كانت بعيدة بسليقتها اللغوية عن المناخ اللغوي البياني العربي، الراسخ..
النورسي يؤكد دور المتلقي في اجلاء النص
لقد أكد النورسي مكانة المتلقي، وشدد على ضرورة أن يراعي الموقف الكلامي حاجة السامع من أجل أن يتبلور المعطى القولي حسب مستوى خياله، وذلك ما استوفاه -بكمالٍ- الخطاب القرآني العظيم، إذ صدر عن هذا المبدإ التبليغي التوصيلي الحاسم .(2)
فمن شأن البلاغة المقتدرة- كما يقول النورسي - أن تفيد " بصريح الكلام ما تعلق به الغرض واقتضاه المقام وطلبه المخاطب ..(3)
من هنا وجدنا النورسي يلفت الانتباه إلى طبيعة المواقف الخطابية وما تتضمنه عادة من جوانب غير منطوقة، أو ما يمكن أن نسميه الإيعازات، وما تقوم عليه تلك الجوانب من خصوصيات شعورية محسوسة في الموقف الكلامي رغم إضماريتها.. فهي قيم معنوية قد تستتر في كلمة، وقد يتشربها الكلام، مثل مواقف التحسر في :( إني وضعتها أنثى )، والتأسف : في "ليت الشباب" .. وما إلى ذلك..
__________
(1) إشارات الإعجاز .ص.118.
(2) م.ن ص.121
(3) م.ن. ص.123(11/198)
فالكلام يبنى على أسس إفصاحية تنتج له طاقته وتضفي عليه السلاسة والحلاوة :
" اِعلم أن سلاسة الكلام المنتجة للطافته وحلوه هو أن تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتحد أو مختلفة تنتظم لئلا تتشرب الجوانب قوة الافادة والغرض، بل يجذب المركز القوة من الاطراف، وأيضا من السلاسة أن يتعين المقصد .. وأيضا منه أن يتظاهر ملتقي الأغراض ". (1)
فأعلى مراتب البلاغة هي التي يحافظ فيها المتكلم ويراعي نسب قيود الكلام وروابط الكلمات وموزانة الجمل بحيث يُظْهِرُ كلٌّ مع الآخر نقشا متسلسلا إلى النقش الأعظم، حتى كأن المتكلم استخدم عقولا إلى عقله". (2)
لقد تلاقى النورسي في نظرته إلى العملية الابداعية الخطابية مع جمهرة الاعجازيين، وجعل سند الخطاب وصنعته قاسما مشتركا بين الباث والمتلقي، وأناط بالباث مسؤولية النفاذ إلى أعمق درجات الفطنة والاقتدار بحيث يتسنى له تلبية حاجة السامع.. هذا السامع الذي عليه – هو الآخر - مسؤولية خطيرة في فهم الرسالة الخطابية وإدراكها على وفق مقاصدها.. وهو ما يتطلب منه الإحاطة بنظام الخطاب والأخذ باللطائف والحسيات المندمجة فيه، والتي قد لا ينطق بها النص، وإنما يوعز بها ويصدر عنها..
فالخطاب القرآني الذي بارى قول الفحول من العرب، قد صدر في معجزه البياني عن أعراف وقيم المخاطبين موضوع التحدي، وانتهى بأن قهرهم فنيا، دون أن يغفل أو يخرج قط عن اعتباراتهم البيانية و الجمالية والسليقية..
من هنا لزم قارئ القرآن ومفسره ومتأوله أن يحيط بالبيئة اللسانية وبالعرفية اللغوية والتوصيلية التي عايشت واقعة النزول، كي يتسنى له فهم المقاصد النصية القرآنية.
__________
(1) م.ن. ص.124
(2) إشارات الإعجاز ص.124(11/199)
لقد دخل النورسي إلى عالم ملامسة الروح الاعجازية القرآنية وهو يمتلك رؤية مكتملة لمفهوم البلاغة الراقية، ولخصائص الأداء الأسلوبي الباهر، متسلحا بما أنجزه الاعجازيون والمفسرون قبله، سائرا على منوال يستفيد من مآثر هؤلاء الاعجازيين والمفسرين، وخاصة منهم الجرجاني والزمخشري والرازي، مكيفا بيداغوجيته التفسيرية مع رؤيته الاصلاحية المعاصرة والاستراتيجية التي دأبت على توظيف السياقات في إطار يربط النتائج بالمنجز من تراث السلف من جهة، وبالمقتضيات الراهنة والاستقبالية من جهة ثانية..
ولقد كان أسلوبه التفسيري يجنح إلى استثمار وسيلة التمثيل بالشواهد إيضاحا للمقاصد، وتيسيرا لتوسع وانتشار النتائج التأويلية التي كان ينفذ إليها بعقله وقلبه ..
فلقد سجل في كتابه " الكلمات " الدافع التربوي والتوصيلي الذي كان وراء استخدامه ذلك المستوى التفسيري الإيضاحي والمتعلق بالاستشهاد للحقائق والتمثيل لها:
" إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار مدى معقولية الحقائق الاسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية أخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائق التي انتهى إليها، والتي تدل عليها كناية . فهي إذن ليست حكايات خيالية وإنما حقائق صادقة"..(1)
لقد أحصى النورسي خصائص بارزة يستند عليها الأسلوب التوصيلي القرآني، لعل من أهمها طابع بيانه التعليمي، الإفهامي :
__________
(1) الكلمات ص.47(11/200)
"أما البيان القرآني في الافهام والتعليم، فهو خارق و ذو لطافة وسلامة، حتى إن أبسط شخص عامي يفهم – بتلك البيانات – أعظم حقيقة وأعمقها بيسر وسهولة .. فكما إذا ما حاور إنسان صبيا، فإنه يستعمل تعابير خاصة به، كذلك الأساليب القرآنية والتي تسمى بـ" التنزلات الإلهية إلى عقول البشر "، خطاب ينزل إلى مستوى مدارك المخاطبين، حتى يفهم أشد العوام أمية من الحقائق الغامضة والأسرار الربانية ما يعجز حكماء متبحرون عن بلوغها بفكرهم، وذلك بالتشبيهات والتمثلات بصورة متشابهات". (1)
على أن مواقف التفسير في هذا الكتاب " الكلمات "، كانت تتلبسها أحيانا صورة المناجاة الذاتية، فالموقف التفسيري سرعان ما يتحول إلى مخاطبة للذات وتقريع لها وتسديد لإيمانها..
.. وأحيانا أخرى يأتي الموقف التفسيري على صورة محاورة مع الصاحب....كما هو حال الكلمة الحادية والعشرين مثلا . (2)
لقد نوع النورسي رؤاه التفسيرية وزاولها خلال مراحل وملابسات مختلفة جعلت معالجاته التفسيرية تأخذ ألوانا ومستويات من الطرح والأداء تحتاج حقا إلى دراسة مستقلة .. ومن جهتنا سنركز القول على كتاب " إشارات الإعجاز" وهو كما نعتقد شاهد آخر من شواهد التجربة التفسيرية كما تمرس بها النورسي..
التفسير وظيفة كشفية
مستويات الوحي :
لقد رأينا - من خلال تتبعنا لآثار النورسي أو رسائله- كيف أنه يبدي اِدراكا مدهشا حيال إشكالات قراءة النص المعجز، وحيال مهمة التأويل والتفسير تحديدا، إذ ينيط بهذه المهمة رهانا كشفيا يتمثل في استجلاء المستوى غير العادي الذي تجسده ظاهرة الوحي وحقيقة الخطاب المنزل..
لقد تعرض النورسي للحديث عن ظاهرة الوحي، وقسَّمَه - اعتبارا لدرجة مبناه ووضوح أو خفاء دلالته – إلى قسمين :
__________
(1) الكلمات.ص450.
(2) الكلمات ص.297.(11/201)
1- وحي صريح، يتمثل في نص القرآن وجزء من الأحاديث النبوية.. فالرسول - كما يقول النورسي - في هذا مبلِّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شيء منه.
2- وحي ضمني، وهو الذي – كما يقول النورسي- يستند في خلاصته ومجمله إلى الوحي والإلهام، إلا أنه في تفصيله وتصويره يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ويورد النورسي في هذا السياق، مثالا على الكيفية التي تُؤُوِلَ بها نص حديث على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي حضرته، فيقول :
سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دويا هائلا، فقال - صلى الله عليه وسلم - موضحا الحدث : إن هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاما حتى وصل الآن إلى قعر جهنم .. ويواصل النورسي روايته قائلا: ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، إذ أتى أحدهم يقول : إن المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولى إلى جهنم وبئس المصير .. ويعلق النورسي قائلا: فكان هذا تأويلا للتشبيه الذي ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(1)
".. فتفصيل الحادثة الآتية مجملا وتصويرها إما أن يبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحيانا بالاستناد إلى الإلهام أو إلى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية، وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده الذاتي، إما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة والاصطفاء، وإما يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وأفكارهم".(2)
__________
(1) المكتوبات ص.119.
(2) المكتوبات ص 119(11/202)
وواضح أن النورسي يزيل الإشكال الذي قد يقوم في الأذهان إزاء مواقف المراجعة أو التراجع التي سجلتها سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إزاء حوادث ما.. فالمسلم لا يرى في ما يصدر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -إ لا وحيا وإلهاما وتسديدا إلهيا لا يرد، متناسين جانب البشرية في شخصه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان إلى جانب الاضطلاع بمأمورية تبليغ الوحي التي كانت حالا استقبالية تخرج عن إرادته، كان هناك الجانب الإنسي الذي لا يختلف فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -عن غيره من عباد الله .. وهو ما جعل شيئا من آرائه - صلى الله عليه وسلم - يندرج ضمن الرؤية البشرية العادية.. وذلك ما أكده - صلى الله عليه وسلم - بتصريحاته في عدة مواقف، لعل أشهرها ذاك الذي أعلن فيه للصحابة الكرام قائلا : أنتم أدرى بشؤون دنياكم..
في ضوء هذه الحقيقة، رأى النورسي أن هناك مستوى من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصريحاته، صدرت فيها الرؤية صدورا بشريا، إذ أن رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت حال صدور تلك الأقول عنه، رؤية الإنسان العادي.. من هنا اتسع لنا نحن الخلف المجال إزاء إدراكها على النحو الذي ينبغي أن تدرك عليه ..
وذاك هو ما قصد إليه النورسي حين تحدث عن صلة القارئ بمادة النصوص المقدسة وبتفاصيلها، إذ قال : وهكذا لا ينظر ( القارئ أو المستنبط ) إلى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض، ولا يتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته - صلى الله عليه وسلم - وأفكاره التي تجري بمقتضيات البشرية .
ثم يبين النورسي البعد التأويلي الذي قد يقتضيه الخطاب الموحى به، فيقول : وحيث أن بعض الحوادث يوحى إليه (بها ) وحيا مجملا ومطلقا، وهو بدوره يصوره بفراسته الشخصية أو بحسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحيانا التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير.(11/203)
لقد بنى النورسي نظريته التفسيرية انطلاقا من فهم تراثي لروح اللغة - بوصفها حقيقية ومجازا - ومن وعي حاد، وواقعي، لدور المفسر، ولما ينبغي أن تنهض به عملية الاستنباط المعنوي التي تعالج بها النصوص، من وظيفة تنويرية تجدد فهم المسلمين للواقع وتسير بهم في طريق تكريس إرادتهم التي هي من إرادة الله، والتي مدارها الصلاح والإصلاح ..
من هنا ظل النورسي يؤكد قابلية المعنى القرآني التي لا تحد من حيث قدرتها على إلهام القلوب والعقول من ثراء معينها الغزير ..
ومن هنا أيضا كانت نظرة النورسي تحدد للمعنى القرآني مواصفات خاصة نابعة من طبيعته الشرعية وسجاياه العلوية :
" يجب أن يكون للمعنى الحقيقي ختم خاص وعلامة واضحة متميزة . والمشخص لتلك العلامة هو الحسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة".(1)
المجاز وجه بياني قرآني، وتأوله يقتضي أن يتم على وفق السنن البلاغي العربي
ولما كان المعنى تتراوحه صيغتا الحقيقة والمجاز، فقد أبرز النورسي الكيفية التي يفهم بها الخطاب، ومتى يكون ذلك الخطاب حقيقة ومتى يكون مجازا، فيقول :
" أما جواز المجاز فيجب أن يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، وإلا فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازا، أو اِراءتهما هكذا، إِمدادٌ لسيطرة الجهل ليس إلا..".(2)
وفي هذا السياق يحذر النورسي من مغبة التفريط والإفراط التي يتأول بها بعض المفسرين الآي القرآنية أو الأحاديث النبوية، فيقول :
"إن ميل التفريط من شأنه حمل كل شيء على الظاهر، حتى لينتهي الأمر تدريجيا إلى نشوء مذهب الظاهرية مع الأسف، وإن حب الإفراط من شأنه النظر إلى كل شيء بنظر المجاز حتى لينتهي الأمر تدريجيا إلى نشوء مذهب الباطنية الباطل، فكما أن الأول مضر، فالثاني أكثر ضررا منه بدرجات".(3)
ويبين النورسي-بعد هذا– طبيعة المسطرة التي على المتأول أن يستهدي بها فيقول:
__________
(1) صيقل الإسلام ص 41
(2) ن.م. ص41
(3) م.ن. ص 41(11/204)
" والذي يبين الحد الأوسط ويحد من الإفراط والتفريط، إنما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق ..".(1)
ويبرهن على رجاحة هذا الرأي الوسطي، فيقول :
" نعم أقول: الحكمة ( الفلسفة ) لأنها خير كثير مع تضمنها الشر، إلا أنه شر جزئي، ومن الأصول المسلمة أنه يلزم اختيار أهون الشرين، إذ ترك ما فيه خير كثير لأجل شر جزئي فيه، يعني القيام بشر كثير." (2)
ولما كان الخطاب القرآني ظاهرة جمالية راسخة، فقد كان على بيانه أن يتأصل وأن يتسامى ببلاغته على سائر ما درجت عليه الخطب من شعرية ونظم.. وهو ما أعطى المجاز القرآني امتيازه النوعي الذي توطد به سحر الإعجاز..
من هنا كان لزاما على المتأول للنص القرآني أن يدرك كُنْهَ الفنية المجازية القرآنية، فقد كانت تعبيريتها تقوم على التصوير والتشخيص العاليين.. فلقد تأول المغرضون المجاز القرآني على وجه مادي سعيا منهم إلى أن يضاهوا بين المعطى الإنجيلي المبني على التشخيص والتعددية التي صيغت فيها صورة الإله (سبحانه وتعالى )، وبين المحتوى القرآني الصارم في تنزيهيته، والحاسم في إعلائيته التي تتسامى عن أن تجعل لله الشبيه والولد..
ومن جهة أخرى فقد نتج عن سوء فهم طبيعة المجاز القرآني - من حيث هو خاصية لسانية يَعْتَدُّ بها الخطاب العربي البليغ - وعن الكيفية الحرفية التي قرأته بها طوائف من المتأولين، تخريج سلبي أضر بالحقيقة القرآنية وأضفى عليها طابعا خرافيا، تحول بالأذهان بعيدا عن صعيد الصمدية والتعالي الجديرين بالألوهية .. من هنا ألفينا المتنورين المسلمين في كل عصر تقريبا يركزون على أهمية فهم البيان القرآني الفهم الإيجابي، واستيعاب قيمه المجازية على نحو سليم يتناسب مع المقاصد الروحية للعقيدة الاسلامية..
__________
(1) م.ن. ص 41
(2) صيقل الإسلام ص .41.(11/205)
وقد لاحظ الإمام النورسي في هذا الصدد أن تداول العامة - ومن في حكمهم من مدعي العلم – للعمل التأويلي قد تحول بالمجاز القرآني عن هدفه التبليغي الإيحائي ..إذ تنزلت الدلالة المعنوية - بذلك التخريج الناقص - إلى قيمة إعرابية حقيقية انفتح بها الباب في وجه الخرافات والتهيؤات التي انحرفت بالمقصد القرآني إلى سبيل لا يتلاءم وروحه الإعلائية.. يقول النورسي:
" إذا وقع المجاز من يد العلم إلى يد الجهل ينقلب إلى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات، إذ المجازات والتشبيهات إذا ما اقتطفتها يَسَارُ الجهل المظلم من يمين العلم المنور، أو استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا إلى حقيقة مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سرابا خادعا، بعدما كانت شرابا زلالا، وتصبح عجوزا شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء". (1)
القراءة تجدد المضامين بتجدد الزمان والمكان
__________
(1) صيقل الإسلام ص .40 .(11/206)
ويتحدث النورسي - بعد هذا- عن ظاهرة تبدل الدلالة وحؤولتها، شأنها في ذلك شأن سائر الظواهر الحية .. إذ أن ما تؤشر له لغة جيل في عصر ما، سيطرأ عليه - ضرورة - تغيُّرٌ وتطور على مستوى المؤشر اللغوي نفسه، إذا ما باشرها جيل آخر في عصر آخر بالقراءة المخالفة والاستيعاب المتغير. "إن كثيرا من الكلمات أو الحكايات أو الخيالات أو المعاني التي كان السلف يتذوقونها لم توافق الرغبات الشابة لدى الخلف، لأنها غدت عجوزا لا زينة لها، لذا أصبحت سببا لدفعهم إلى ميل التجدد والرغبة في الإيجاد والجرأة على التغيير، هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات، ولهذا لا ينبغي الحكم على أي شيء بظاهره"(1) وفي هذا المجال يسجل النورسي الضوابط التي على المحقق أن يراعيها في قراءة النصوص وتأويلها، " إذ من شأن المحقق أن يسبر غور الموضوع، ومراميه العميقة، بتجرد من مؤثرات الزمان، وأن يغوص في أعماق الماضي، وأن يزن الأمور بموازين المنطق، وأن يجد لكل مسألة منبعها ومصدرها ". (2)
رسائل النور فضاء تفسيري مادته القرآن وآفاقه الاستلهامات الروحية الناتجة عن ملابسة الآيات
ومما لا شك فيه أن النورسي قد مارس التفسير في كل ما أنجز من أعمال.
__________
(1) م.ن. ص 40
(2) صيقل الإسلام ص 40.(11/207)
فرسائل النور -كما ظل يؤكد - تعد في مجملها تفسيرا قرآنيا، خاض في تتبع الحقائق القرآنية ،واستقراء إفاداتها، وتمحيص إحالاتها الظاهرة والضمنية، واستجلاء مكنوزاتها ونفائسها .. وكل ذلك من أجل تسطير المدونة الروحية والعقلية والسلوكية التي يتأطر بها المسلم ضمن مشروع نهضوي يكفل قوة وحصانة الكيان، وصولا إلى منزلة الكمال والإشعاع التي يضحى بها نور القرآن مشكاة يستنير بها العالَمون.." فقد كتبت جميع رسائل النور إما لشرح آية أو لتوضيح معنى حديث شريف وبيانه، كما أن معظم رسائل النور كتبت لتوضيح الحقائق الدينية والإيمانية، وحول عقائد الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر، ولكي تتوضح هذه الحقائق بشكل أفضل انتهجت رسائل النور أسلوب ضرب الأمثال وإيراد القصص، وقدمت رأيها العلمي وإرشاداتها ونصائحها الأخلاقية ضمن مناقب حميدة وتجارب في الحياة وقصص ذات عبر ..". (1)
لقد اعتبر النورسي رسائل النور تفسيرا قيما وحقيقيا للقرآن الكريم ..
ذلك لأن التفسير كما يرى نوعان :
-التفاسير المعروفة التي تبين وتوضح وتثبت معاني عبارات القرآن الكريم وجمله وكلماته.
-والنوع الثاني من التفاسير يقوم على إيضاح وبيان وإثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، إثباتا مدعما بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة، ولهذا القسم أهمية كبيرة .. أما التفاسير المعروفة والمتداولة فإنها تتناول هذا النوع الأخير من التفاسير تناولا مجملا أحيانا، إلا أن رسائل النور اتخذت هذا القسم أساسا لها مباشرة، فهي تفسير معنوي للقرآن الكريم بحيث تلزم أعتى الفلاسفة وتسكتهم". (2)
لقد احتفل النورسي كثيرا بالخواطر والإشارات القلبية التي كان توغله الروحي في عالم التدبر والخوض في دلالات القرآن يلهمه إياها، من هنا أولاها عناية واعتبرها مجالا آخر تستشرف منه الروح جانبا من الحقيقة الربانية:
__________
(1) الشعاعات ص.337.
(2) الشعاعات ص.562(11/208)
" الإشارة الغيبية مهما كانت خفية وضعيفة، فهي في نظري على جانب عظيم من الأهمية والقوة، وذلك لدلالتها على صواب المسائل وقبول الخدمة، وأنها تحد من غروري وتكسر شوكته.. وقد بينت لي بوضوح أنني لست إلا ترجمانا للرسائل، ولم تدع لي شيئا من موضع افتخار، بل تظهر لي الأشياء التي هي مدار شكران فحسب" .(1)
كتاب"إشارات الإعجاز" أثر تفسيري أصيل
قد جاء كتاب " إشارات الإعجاز في مظان المجاز.." قراءة تفسيرية أصيلة للمضمون القرآني، إذ سلك منهج تحليل النظم وتحسس إشاراته البيانية والرمزية نفاذا إلى الفحوى..
لقد باشرت هذه القراءة العقلية والتذوقية مستوى من الاستكناه المعنوي القرآني، بحيث ظهر من خلالها ما يشبه الجهاز الاصطلاحي التفسيري الجديد، الذي كان محصلة عقلية ومعرفية استثمرت بمهارة مفردات البلاغة العربية، ووظفت بتوفيق العدة المنطقية والإجرائية من أجل فك وتفكيك بنية الخطاب، دون أن يزايل الروح- في غضون ذلك - تلك الحال المجنحة في الفيض التواجدي الصوفي، ودون أن يغفل الفكر تفتحه على المرصود المعرفي العصري الذي كان النورسي يدرك خطورته وأهميته في تفتيق الأذهان وربطها بالواقع الحياتي المتجدد..
فقد دأب النورسي على استثمار رشيد للمناسبات القرآنية، من أجل أن يلتفت بالإشارة التنزيلية إلى ناحية ما من واقع المسلمين، أو من العصر الذي يعيشونه، تحسيسا لهم بالواجبات التي عليهم أن يؤدوها كي يرشدوا.
من ذلك مثلا ما فسر به قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها )
__________
(1) المكتوبات ص 492.(11/209)
يقول النورسي : إني أفهم من أستاذية إعجاز القرآن الكريم في قصص الأنبياء ومعجزاتهم، التشويق والتشجيع للبشر على التوسل للوصول إلى أشباهها، كأن القرآن بتلك القصص يضع أصبعه على الخطوط الأساسية ونظاير نتائج نهايات مساعي البشر للترقي في الاستقبال الذي يُبنى على مؤسسات الماضي الذي هو المستقبل، وكأن القرآن يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائلا له : اسع واجتهد في الوسائل التي توصلك إلى بعض تلك الخوارق، أفلا ترى أن الساعة والسفينة أول ما أهداهما للبشر يد المعجزة ..
ويمضي النورسي في هذا الاستطراد ليشير إلى جملة من الآيات ذات العلاقة بعالم الصناعة والمعادن وغيرها من أسباب القوة التي أوتيها الأنبياء مثل : الحديد لداود، والريح لسليمان، وتفجير الحجر بعصا موسى، وإبراء الأكمه والابرص لعيسى عليه السلام.. ليقرر أن الحكمة من سرد القرآن لتلك الظواهر والمعجزات ينسجم مع مبدإ التعليمية الإلهية التي شملتها آية (وعلم آدم الأسماء كلها.. ) ويتساوق مع حيوية وتلاحق الفكر البشري الذي طفق ينوع من اختراعاته وخوارقه في مجال النقل والمواصلات وفي حقل الطب وفي سائر ما ابتدعه الانسان من آلات ناطقة ومتحركة وعاملة ..وما توطد لهذا الفكر البشري على صعيد البلاغة والأدب والفنون من انجازات وسعت الأفق في وجه البشرية .. وكل ذلك يشمله معنى تعليم آدم الأسماء كلها..
هكذا يحيط النورسي بالآيات القرآنية ويسعى إلى ربط ما يتأتَّى من دلالاتها بالمجال الحياتي، قبل أن يباشر شرح معانيها وتبيان لويناتها التي يشف عنها الخطاب القرآني، مفككا البنية إلى عناصر بلاغية وأسلوبية يحيل بعضها إلى بعض، في تساوق يعرب عن القصد القرآني الكريم..
لقد تميز هذا النمط من التفسير البياني الذي اتبعه النورسي في هذا الكتاب، بالمنهج الدلالي، النصي، وبالاستقراء البلاغي، إذ سبر المحمول من خلال البيان..(11/210)
على أننا وجدنا النورسي يَتَّبعُ – في بعض أعماله الأخرى - أساليب أخرى متنوعة في تفسير القرآن، مستثمرا الخواطر القلبية، واللطائف الروحية التي تتدفق بها لحظات تأمله واستغراقه الوجداني .. مستلهما المدد الاجتماعي والعرف المعرفي والعلمي في تأصيل بيداغوجية تفسيرية تخاطب سائر العقول، مقتديا في ذلك بمنهج القرآن الذي شرَّع دلالته ومقاصده في وجه القلوب والعقول كلها، تنال منها حسب حاجتها واستعدادها ..
وقد شق النورسي الدرب - في هذا المضمار وبلا منازع - أمام جمهرة المفسرين المعاصرين، لا سيما السيد قطب والشعراوي والغزالي والسقا رحمهم الله ..ممن أعطوا مشغل التفسير روحا دينامية وحصيفة تنفذ إلى الأذهان دون استئذان..
لقد استثمر النورسي جهوده في فهم النصوص الشرعية ومعرفة مراميها، فكان "..يأتي بتفاسير جديدة وأصيلة وعميقة، ثم يعرض هذه المعاني الإلهية المستنزلة إلى مستوى المدارك الانسانية أمام العيون الباحثة والقلوب الظمأى للحقائق، فيثير وجداننا بأفكار الذهنية التي تعكس ارتفاع هذه المعاني إلى ذروة المدارك الانسانية ". (1)
ويندرج ضمن هذا المنهج ما تضمنته أعماله في عمومها، من اقتحام لمسائل اجتهادية وغيبية، ومعالجتها بعقل متنور، وتحصيف مبين، دون أن يقع في مزالق ثقافة الاسرائيليات التي تلوثت بها كثير من الحقائق القرآنية بسبب اعتماد المسلمين لها، وعدم التصدي الجرئ والمعقلن الذي يقصيها عن ساحة تراثنا الروحي، ويزيلها عن ناصية قرآننا العظيم، وهو ما انبرى له النورسي من خلال إثارته الكثير من الإشكالات والتساؤلات والفرضيات التي قامت على المفارقة والمباينة لروح القرآن، فعالجها بما جعل منها مسائل تمت إلى الحيرة البشرية بصلة مشروعة ولا غبار عليها ..
__________
(1) تقديم المثنوي العربي النوري -ط.(11/211)
لقد اكتسبت مسائل من قبيل :الحشر وجهنم وحكم الله في والدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيرها من الأسئلة المحرجة التي أجاب عنها النورسي برشاد في كتابه " المكتوبات " أهلية الطرح واستحقاق المعالجة العقلية المبرأة من شوائب الافتراض المجاني والتطارح الفكري العقيم .(1).
الجانب الغيبي في تفسير النورسي ارتقاء بالمدارك البشرية إلى مستوى علو المقاصد القرآنية
وكذلك كان حاله في تفسيره " إشارات الإعجاز." حيث كان يعرض لقضايا معرفية وغيبية بقصد ترشيدي، إذ يحرص على تجاوز منطق تفسير القرآن وفق الرائج من المعارف الانسانية التي لا تفتأ تتبدل وتتغير في ضوء اطراد حركة الكشوف العلمية والتوسع التجريبي..
فقد وجدناه يتناول مثلا قضية الكون ومرافقه الكبرى لا سيما الأرض والسماء وإشكالية أيهما أسبق من حيث الخلقة.. فقد ترتب سياق بعض آيات على نحو يوعز بأسبقية إحداهما على الأخرى، فيما جاءت سياقات أخرى توحي بالعكس..يقول:
إن القصد من القرآن الكريم ليس درس تاريخ الخلقة، بل نزل لتدريس معرفة الصانع .. ففيه مقامان : ففي مقام بيان النعمة واللطف والمرحمة وظهور الدليل تكون الأرض أقدم . وفي مقام دلائل العظمة والعزة والقدرة تكون السماوات أسبق ..
ومن الثابت أن النورسي بهذا الاجتهاد يخرج هذه المسألة من إطار جدلي شبه مفرغ من الغاية، إلى تسويغ ذي معنى، إذ ليس يستهويه الإثبات لذات الإثبات في هذه القضية الغيبية التي لم تقطع فيها النصوص ..
__________
(1) المكتوبات ص 495(11/212)
فالنورسي بمثل هذه الحالات الفكرية التي ظل يسجلها في تراثه، كان يتحول بالنقاش والفذلكات التي لا تسلم من مجانية وخواء في كثير من الآثار التفسيرية، إلى صعيد أرقى، ليعطي مثل تلك الفذلكات الإفادة التي تقتضيها المقاصد القرآنية، حيث لا يمكن أن تتنزل النصوص السماوية لتشد عقول الناس إلى مجالات جدلية شكلية، من قبيل تلك التي أودت بمدنيات وحضارات سبقت مدنية الاسلام.. ألم تشب النيران في أروقة النظام الروماني وساسته ينتصرون لآرائهم بخصوص أسبقية الدجاجة أو البيضة في الوجود..
ولم يتوقف النورسي عند هذا الحد التسديدي إزاء قضية أي المرفقين الكونيين أسبق أالسماء أم الأرض، ولكنه انعطف بها ليستعرض شيئا من المعرفة التي ظلت تكتنفها ومن مختلف المصادر..
" اعلم أن الحكمة العتيقة قائلة بأن السموات تسعة وتصورها أهلها بصورة عجيبة واستولى فكرهم على نوع البشر في أعصار . حتى اضطر كثير من المفسرين إلى إمالة ظواهر الآيات إلى مذهبهم .. وأما الحكمة الجديدة فقائلة بأن النجوم معلقة في الفضاء والخلو كأنها منكرة لوجود السماء، فكما أفرط أحدهما فرط الآخر، وأما الشريعة فحاكمة بأن الصانع جل جلاله خلق سبع سموات وجعل النجوم فيها كالسماك تسبح، والحديث يدل على أن السماء موج مكفوف ،وتحقيق هذا المذهب الحق في ست مقدمات .."
ثم يمضى النورسي يعدد هذه المقدمات، ومما جاء في بعضها :
" إن هذه الامارات تدل على تعدد السموات، والشارع الصادق قال هي سبعة فهي سبعة، على أن السبع والسبعين والسبع مائة في أساليب العرب لمعنى الكثرة .. ".(1)
كما أن النورسي يعرض لمسائل من قبيل جهنم، وتحديد مكانها، وهل هي معدة، أم أنها لم تخلق بعد؟.. فقد عقب على قوله تعالى: ( أعدت للكافرين )
__________
(1) إشارات الإعجاز.ص226(11/213)
بأن جهنم مخلوقة موجودة، يستشهد في هذا باكتناف النار لهذا الكون، فهي تغلب عليه مجرات وبواطن كواكب، ومما يقوله النورسي في هذا الصدد : ثم إن مما يدلك ويفيد حدسا لك على أبدية جهنم أنك إذا تفكرت في العالم بنظر الحكمة ترى النار مخلوقة عظيمة مستولية ،غالبة، كأنها عنصر أساس في العلويات والسفليات ..
ثم يتساءل، فإن قلت : إذا كانت جهنم موجودة الآن فأين موضعها ؟.
ويجيب : قيل لك نحن معاشر أهل السنة والجماعة نعتقد وجودها الآن لكن لا نعين موضعها..
ثم يسترسل في الحديث عن المسألة بروح جدلية تكشف عن استيعاب كبير لطبيعة الكون وخصائصه الفيزيائية لا سيما عنصري الحرارة والبرودة وارتباط بعضهما ببعض، ليخلص في الأخير إلى ابراز الكيفية التي يتبعها القرآن في الكشف عن هذه الكليات الغيبية، والمقاصد التربوية التي يتواخاها من وراء ذلك . (1)
ولا يعني بتاتا أن النورسي رجح في مركز اهتمامه الفكري، الخوض في مسائل الغيب وحدها، بل لقد أعطى الحظ الأوفى من جهده العقلي والتأملي لموضوعات الانسان والنفس والسعادة النفسية المترسخة برسوخ اليقين، وجهاد الانسان من أجل أن يعطي لحياته معنى تمتد به وتدوم لتكتسب حق الخلود، ومقابلته الواقع المدني الاسلامي مع الواقع المدني الأجنبي، ونعيه حال الفرقة والتمزق التي يحياها المسلمون، وتمسكه بمبدإ الخلافة الاسلامية التي تمكن للمسلمين في الأرض وتجعلهم أمة وسطا تفشي الخير بين العالمين، وبته في واجبات المسلم المعرفية والروحية والاستراتيجية، وغيرها من الجوانب التي تبني شخصية المسلم وتبعث فيه همة النهوض والانطلاق من جديد..
__________
(1) انظر إشارات الإعجاز ص. 190(11/214)
وبالأضافة إلى ذلك كان النورسي يستثير مستويات من ذلك الصنف الغيبي الذي استقرت له في الذهنية الشعبية المسلمة صورة لا تتناسب مع روح الاستنارة التي جاء القرآن يركزها في عقل المسلم وقلبه، حتى يكون عنصرا فاعلا لدنياه ودينه، كي يلقى ربه وهو عنه راض.. فأضفى عليها النورسي ثوبا جديدا سار بها وبحق صوب صعيد المعقولية والاستنارة..
التخريج والتأويل أو الاجتهاد وروح تحيين التراث وقلب الأوضاع بجرَّافات القرآن النورانية
مما يتميز به فكر النورسي التأويلي، انطباع ممارسته للتخريجات القرآنية أو النبوية بروح وثقافة عصره، إذ متحت اجتهادته التأويلية ليس فقط من معين التراث، ولكن من واقع الحضارة المعاصرة وفي ضوء ملابسات مرحلته التاريخية .. وهو منهج تعاطته القرائح عبر العصور، وربما رأى بعض المتحفظين في هذا التوجه خروجا بالنصوص عن سياقاتها، وتحميلها من الدلائل ما لا تحتمل، وتعريضها على ذلك النحو لمزلق التعسف والافتعال..
لكن الذي لا ريب فيه أن تحجير النص الديني، والاحتفاظ له بنظرة اجتهادية لاءمت عصراً ما، وصدرت عن ذهن تَحَرَّى السداد في ذلك الوجه الذي تأوله به متأول ما، لا يبرر أن تظل الدلالة المُنَزَّلَة حبيسة نظرة اجتهادية قد تكون عوارض الزمان حولت تلك الدلالة عن مراميها المرحلية تلك، إلى أفق جديد ارتبطت به مصلحة الأمة الدينية والدنيوية المستجدة ..(11/215)
فالدلالة القدسية دلالة مُشْرَّعَةٌ في وجه التحولات والأزمنة المتلاحقة، وهي تستوعب الطوارئ ولا تستوعبها الطوارئ .. من هنا تكررت نداءات العلماء المسلمين النيرين منذ العهد الإسلامي الأول بالدعوة إلى تثوير النصوص، فقد وجدنا الصحابي ابن مسعود مثلا ينصح قائلا: من شاء أن يجد علوم الدنيا والآخرة فليثوِّر القرآن ..أو كما قال .. ولم يكن عمل ابن عباس إلا وجها اجتهاديا أرهص به ذلك العهد الاسلامي الغض لما ينبغي أن تكون عليه قراءة القرآن من تثمير جريء لمعارف العصر في فهم الدلالة القرآنية وتحكيم النص القرآني في تحصيف تلك المعارف، لا العكس.. وعلى ذات الدرب سارت تأويلية عمر (رضي الله عنه)، فقد زاوجت في تَمَثُّلِهَا للموقف القرآني بين الوجه العملي، الإجرائي، بحكم مركز الإمرة الذي كان يحتله على رأس المسلمين، وبين الوجه النظري ،الفكري.. تماما كما كان عليه شأن علي (رضي الله عنه) وغيره من الخلفاء
.. فالدعوة إلى سبر جوهر القرآن والنفاذ إلى أغواره واستخراج الأحكام والدرر من بواطنه الثرة التي لا تغيض، إن هذه الدعوة التثميرية للقرآن ظلت تتردد عبر العصور، لا سيما على ألسنة الفذاذات التي كانت تستشرف بقريحتها وسداد بصيرتها ما يحوزه القرآن العظيم من كنوز من شأنها إذا ما استغلت، أن تحقق للأمة كل أسباب العزة والنهوض..
وحين يقرأ النورسي في الشواهد القدسية أمارات واقع عصره وكشوفه ومنجزاته الفنية، فلأنه كان يرى الطباقات قائمة بين ما يوعز به النص الشريف وبين وقائع الحياة من خلال ظواهرها ومكتسباتها، ثم لأنه - في رؤيته التي حرص على أن يدمج بها المعارف والمبتكرات ضمن دائرة التسليم - يريد للحكم القرآني أن يظل معيارا رؤيويا تتقوَّمُ في ضوئه الأشياء والأحداث والمواقف..
النورسي يتسلح باليقظة ويثمر التأويل في الرد على الكائدين(11/216)
لقد كانت رياح المروق تعصف بالأمم، وكانت تسعف ذوي الأفئدة الخاوية حوادثٌ ومعطياتٌ مدنيةٌ وحضاريةٌ تعزز لديهم نوازع الجحود.. كما أن وطأة الانبهار، لاسيما من قبل فئات مسلمة كانت الخصاصة والجهالة تسحقها، قد جعلت النورسي يتسلح باليقظة للاعتراض على ما يفاقم من تلك الأحوال الشعورية النكوصية العامة التي كانت تترك الأثر السيء على النفوس، وتهيئها للانتحار المعنوي، أو تجعلها قاب قوسين أو أدنى من الافتتان، وكل ذلك كان النورسي يبادر إلى تبديده، وكان عليه ليكون فعالا، أن يتمرس ببيداغوجية مجدية، إذ أن أساليب الإغواء كانت من الخطورة والنفاذ بحيث لا يمكن للمساعي الاعتراضية أن تؤدي وظيفتها الحمائية مالم تكن على مستوى من النجاعة والتمهر..
ولقد كان من جملة ما اهتدت إليه قناعة النورسي التحصينية، أن يضع في مركز اهتمامه تلك المعطيات العلمية والإنجازية التي كانت بعض ما يتذرع به الغرب المارق لتضليل الشعوب المستضعفة وعزلها عن روحيتها، وكان عليه أن يتدبر أمر تلك المنجزات بكامل المعقولية والتبصر، وأن يربط بين مظاهر القوة والتوفيق التي تجسدها تلك المكاسب وبين العظمة الخارقة لله الذي جهز الانسان وكفل له من الرسائل والمحفزات ما يسر عليه أن يحقق ما حقق في مضمار التجهيز ومغالبة الضعف البشري ..
إنه نوع من الاحتياز، أو هي - بالاحرى - حال من الاسترجاع والتملك كان النورسي يهيئها للأمة عندما يقرر لها أن التوفيق الإلهي هو الذي مكن الغرب الغالب من أن يتخطى عتبة البدائية، وأن في مكنة الأمة المسلمة إذا ما وطنت صلتها بالله وبقرآنه أن تتوفق هي الأخرى إلى حيازة السبق في مضمار المنجزات العلمية والتقنية ..
لقد كان النورسي يُعَدِّلُ من مَيْلِ الأمة ويُرَشِّدُها في هذا الاتجاه، من منطلق إنساني مسدد بتعاليم الله التي لا عرقية فيها ولا تغطرس ..(11/217)
إن موقف التنويه بمبتكرات العقل الإنساني التي كان الغرب يتبجح بها ويجور، وإرجاعها إلى أصلها وعلتها - وهي الله – لهو في الواقع ضرب من إعادة التمليك يقوم به النورسي لصالح الأمة .. بكل ما يُحدث ذلك الفعل الترشيدي من آثار إيجابية على المعنويات العامة لفئات تلك الأمة ..
لقد كان النورسي يبث وعيا تخليصيا، مفاده أن العقل الانساني - بتلك المبتكرات المادية المبهرة - لم يستحصل إلا ما شاء الله له أن يستحصل، فلا امتياز ولا مزايدة على البشرية وعلى تساويها في الخصائص، وإن عملت المراحل على احداث التفاوت بينها..
فسنة التداول على المقدمة ماضية في الورى بلا إخلاف، وهو ما يثبت التساوي الطبيعي المبدئي بين بني البشر.. ولما كانت قابلية الإيمان الروحي السماوي أقرب إلى نفوس المسلمين، بفضل إحساسهم بأن أمر الانسانية يعنيهم - باعتبارهم الأمة التي تَتَوَجَّتْ بكتابها رسائلُ السماء إلى الارض - فإن تلك التقريرات الإيمانية والتوحيدية، والرابطة بين المنجزات والتطور الحضاري وبين الله وتوفيقاته وأفضاله على العباد، كانت تحدث فعلا تنفيسيا وانعاشيا، يخالج روح الأمة ويبعث فيها شيئا من التماسك، ومن التفاؤل والأمل بأن لها هي أيضا قابلية الفعل، وأنها تملك الحظوظ التي ستكفل لها السبق..
لقد كان النورسي يدرك تلك الآثار الإيجابية التي تحدثها تعاليمه الترشيدية وبيداغوجيته التي تعيد في كل تحليل نصاب القوة والتفوق إلى الله، وليس إلى الأعراق والقوميات.. فلذلك دأب النورسي على تبيين الحقائق للأمة، خاصة وأن احتدام الوهج الإيماني التوحيدي في جوانحه كان يزكي من قيمة تلك الحقائق ولا يفتأ يبرهن ويحاجج على ألوهيتها ..
من هنا كان النورسي يحرص على الربط بين أوضاع اعتلال الأمة وبُعْدِها عن تحكيم النصوص الدينية في أوضاعها، وبين حال تخلفها وصغارها المدني الطارئ..(11/218)
ولا غرو أن يستغرق أعمالَه الفكريةَ في جملتها وازعُ التدبرِ واستنطاقِ الكتابِ المبين والسنةِ الشريفة.. ولا غرو كذلك أن تشغله أحوال الأمة والخطوب الفاجعة التي كانت تتلاحق عليها في تلك المرحلة.. وأن يلازمه التفكير في راهنها وقابلها انطلاقا من منظور كتابها المحكم..
لقد كان النورسي بملازمته القرآن العظيم يجد السلوى والترشيد اللذين كفلا له أن ينهض بمهمة الاستنقاذ والإغاثة التي كانت الأمة المسلمة في مسيس الحاجة إليها..
من هنا جاءت آثار النورسي كتابا مفتوحا على واقع أمته، وقراءة لسيرورتها غير الموفقة، والتي آلت بها إلى الدمار الروحي المريع بعد أن خرجت عن سكة الكتاب والسنة..
بل لقد طفق النورسي يستقرئ تلك الأوضاع المتزلزلة من فحوى الأثر الديني على وجه الخصوص، ويستبين في ضوئها القرائن الكاشفة لما كان يطفو على السطح من طحالب الردة والنكوص التي أفرزتها مرحلته، وكل ذلك كان تأهيبا للأمة - من جهة - حتى لا تسلم المقادة لجزاريها من دون مقاومة، ومن جهة أخرى فإنه كان يتوخى بث ضرب من التطمين المُقَوِّي للروحية، والذي من شأنه أن يصور للأمة تلك الأحداث والنكسات المميتة على أنها أمر عارض، وداءٌ داهم، وأن صفة التداوي منه قد بينتها التوقعات النبوية المُرَشَّدَة، وهي الاعتصام بالقرآن العظيم والتدرع بتوجيهاته العلوية في بناء الاستراتيجية المخلِّصة من كابوس الغلبة والاندحار..
التأويل نافذة على قراءة الواقع
لقد راح النورسي عبر مواطن كثيرة من أثاره يتتبع هذا اللون العلاجي، الإيقاظي، المستند على فاعلية القراءة المتدبرة والتخريج المبين للنصوص الشرعية، إجلاء لحقائق تضمنتها الآثار القدسية، ووجد النورسي في تبيان حقائقها جانبا مهما من متطلبات العلاج المكثف الذي كان يقتضيه وضع الأمة المتفاقم..(11/219)
لقد أصل النورسي منظومة معتبرة أناط الجهد فيها بتحقيق توعية الأمة وتبصيرها بما كان الأبالسة يحيكونه لها من ويلات..
لقد كانت قراءته لهذا المستوى من الآثار الدينية وجها يندرج ضمن روح الجهاد التي انبرى بها للفساد والردة ..
كما أن هذا الوجه من القراءة والتأويل قد كشف الاستراتيجية التأويلية التي تبناها، كموقف فكري ملتزم، ومتصد للعدوان..
وربما يندرج ضمن نطاق هذه المنظومة تأَوُّ لُهُ الملهم لحديث السفياني .. لقد تتبع جزئيات هذا الأثر، واستقرأ منها بكل لبابة خصائص حدد بها تعيينات بشرية كان دورها التغريبي رئيسيا في ما عرفته أحوال تركيا ما بعد الخلافة..
فقد ورد في الأثر : أن السفياني من أشخاص آخر الزمان ستنخرق كفه..
ووجدنا النورسي يخرِّجُ معنى هذا الحديث بقوله : إن أحد أوجه التأويل لهذا الحديث والله أعلم :
لا يبقى المال في يده، لكثرة إسرافه وتبذيره في السفاهة واللهو والعبث. فالمال يجري في كفه إلى الإسراف.
ولكي يسوغ النورسي ما ذهب إليه، رأيناه يستدعي السند التدليلي من خلال إيراده لغة الأمثال اِضاءة لمعنى الحديث . يقول :
وفي المثل : فلان منخرق الكف، أي مبذر، مسرف. ثم يخلص إلى تقرير النتيجة، وهي أن ".. السفياني بحضه الناس على الإسراف، يثير فيهم حرصا شديدا ويهيج طمعا غالبا، فيسخرهم لمآربه من نواحي ضعفهم تلك..".(1)
وواضح أن النورسي قد تخطى منذ البدء - وهو يتأول هذا النص المقدس - مأزق التفكير الأحدي، إذ قرر أن للحديث احتمالات شتى، رأى أن أرجحها هو ما فسره به..
من هنا تبدو مرونة النورسي الفكرية ورؤيته القويمة التي لا تجزم بأمر إلا بعد استقراء عقلي متثبت لتلك التقريرات الدينية المقدسة التي جاءت خبريتها عامة لا تهم الفرد بقدر ما تهم الأمة، ولا تقتصر إفادتها على تعيين إشكال عصر بعينه، ولكنها تنفتح على الإيماءة إلى إشكالات لا تخلو منها كثير من العصور والمراحل..
__________
(1) الشعاعات ص110(11/220)
ولما كانت ظروف الناس والأجيال تتباين وتختلف من مرحلة ألى أخرى، كان طبيعيا أن تتباين التسديدات التي تَتَخرَّج وفقها الدلالة النصية القدسية..
من هنا كان النورسي - وهو الذي كان من الرجاحة والأهلية ما جعله رأسا معنويا في أمته - لا يتردد في قراءة أحوال عصره من خلال استيعابه للمأثور الديني الشريف وإسقاط اِعازاته عليه ..
ولما كان إحساسه بالمسؤولية حيال عقيدته وحيال أمته راسخا، فإنه لم يشأ أن يختزل اتساع النص في قول يطابق به ما كان عليه واقعه الاجتماعي والحضاري من أوضاع، لذا بادر في مطلع حديثه عن مقاصد ذلك الحديث إلى إثبات مبدإ تعددية المعنى وانفساح الفحوى ليشمل مرامي أخرى، شاء هو أن يتخير أحدها .. مفسحا بذلك المجال في وجه المتأولين المسلمين وما قد يعطونه لهذا النص من معان غير المعنى الذي أعطاه هو له، سواء ممن يجمعه معهم العهد أو من هم خارج عصره..
ومما لا شك فيه، وكما هو جلي، فإن النورسي لم يتهافت بالنص، حين قرأه على ذلك النحو الواقعي - تهافتا يمس بقداسة الأثر أو يلقي عليه ظلالا من التقزيم الذي ينشأ عادة بسبب ما يحدثه التأويل حين تتسع الهوة بين مستوى المُتأَوَل ودلالته الواقعية..
وفي اعتقادنا ان النورسي لم يشأ أن يدخل إلى غايته التأويلية تلك، هذا المدخل الاسقاطي، الطباقي، إلا لتعرية مخازي عهد ونظام أدارته وحركت دوالبه غواية السفياني..
وذاك ما كفله له إختيار هذا النص الشريف، إذ هيأت قراءته للداعية أن يشخص الداء كما جسدته أفعال المرتدين، وهذا بالمطابقة الضمنية لأفعالهم بأفعال السفياني كما سجلها الحديث الشريف، فجاء من ثمة منحى الخطاب التأويلي متسما بسمة الاستفظاع والتشنيع..(11/221)
إنه نوع من استدعاء المسكوت عنه، وإثارة القول فيه، بطريق متناهية الكياسة، دونما الوقوع في المواجهة وما تقتضيه من مهاترة تحذق حوكها دوائر الجور وتستثمرها بقصد التقليل من الأثر الإداني الذي تلحقه بها مثل تلك القراءة الاستقرائية المترفعة عن اتباع أساليب التصريح والمباشرة في مواطن لا يقصر فيها الإيعاز عن الكشف عما يريد الكشف عنه..
وهكذا أتاح للنورسي منهج المقاربة بين رموز الردة كما كانت تجسدها مواقفهم في أرض الواقع وبين نعوت السفياني كما أخبرت عنه السنة الشريفة، أن يكشف جملة من جوانب الفساد والانحراف التي سببتها سياسة السفياني ..وأن يُشَهِّرَ بها، وأن يعمل من خلال ذلك على كسب الناس إلى جانب الحق، وتحصينهم بالحق على طريق الحق..
فقد تابع النورسي رسم الصورة الإيعازية التي أراد أن يؤطر بها رسالته إلى الأمة بخصوص فضح أفاعيل الساسة المتغربين، فتطرق إلى إيراد مزيد من التفاصيل من خلال مواصلته تأويل نص نبوي ثان، جاء فيه : إن شخصا رهيبا - من أشخاص آخر الزمان - يصبح وإذا على جبينه مكتوب : هذا كافر.
ويبادر النورسي إلى تأول هذا النص على نحو استقرائي لا يحتكر الوصاية على الدلالة أو يقصرها على تخريج واحد.. فيقول : إن ذلك السفياني سيلبس قبعة الافرنج، ويُكره الناس على لبسها، ولكن لأنه يعمم لبسها بالإكراه والقانون، وتلك القبعة ستهتدي بإذن الله - حيث تهوي الى السجود - لذا لا يكون كافرا من لبسها مكرها عليها، غير راغب فيها.. ".(1)
وواضح أن وجهة الحديث قد تحددت واتضحت مقاصدها الإدانية، إذ استهدفت الجهة التي كانت في ذلك العهد تلزم المجتمع التركي على ارتداء القبعة..
__________
(1) الشعاعات ص110(11/222)
بل لقد جاء التأويل هنا يجمع بين إفادات جمة إذ تضمنت الطعن والتوجيه والفتوى.. فهو تأويل قد طعن - بهذا الإيعاز البين والنافذ - في شخص السفياني الواقعي .. فقد أبان هوية هذا السفياني من خلال ما أسند إليه من فعل، بحيث باتت شخصيته مكشوفة لدى أفراد المجتمع نتيجة التدليل عليها بفعلها كما أسلفنا..
ومن جهة أخرى فقد تضمن التخريج ما كان النورسي يقدره من علاج مناسب للواقعة الاجتماعية والروحية القسرية، إذ أوضح أن الأسلوب القويم الذي على الأمة أن تواجه به هذا الإجراء التغييري الظالم، هو أن تستمر على إيمانها فلا يحولها إشكال لبس القبعة عن ممارسة شعائرها وفرائض دينها.
كما أن التأويل صدر عن روح فقهية تُجَوِّزُ أداء الشعائر بالهيئة التي أرغمت عليها الأمة حين أُجبرت على لبس القبعة.. فالفتوى التي قرَّرها النورسي هنا هي جواز الأخذ بالبدعة لمن أكره عليها..
ويتابع النورسي إرساء اللوحة التي ترسَّمها للخصم الملي من خلال تناول مزيد من الأقوال الموعزة بصفات ومناكر السفياني.. وفي هذا السياق يورد الخبر الذي رُفِعَ في حق حكام آخر الزمان، ومفاده : أن لحكام آخر الزمان المستبدين - ولا سيما الدجال- جنة وجهنم زائفتين.ويتأوله النورسي قائلا:
"إنه إشارة إلى ما في الدوائر الحكومية من أوضاع متقابلة متناظرة، كالمدرسة الإعدادية مع السجن، إحداهما صورة مشوهة للحور والغلمان، والأخرى موضع عذاب وسجن".(1)
ويلحق ذلك بخبر آخر يفيد بأنه لا يبقى من يقول الله الله في آخر الزمان.
ويفسره قائلا :
" إن تأويلا لهذا - ولا يعلم الغيب إلا الله - هو : إن الزوايا التي يذكر فيها الله .الله. الله.. والتكايا وأماكن الذكر والمدارس الدينية ستغلق أبوابها، وسيوضع اسم آخر بدلا من اسم الله في الشعائر الاسلامية كالأذان والإقامة.."
__________
(1) الشعاعات ص.110(11/223)
لقد كان النورسي يلمس في إفادات الحديث وقائع حية كانت الدوائر السلطوية تنفذها وتعمل دائبة من خلالها على قطع الصلة بين الشعب وعقيدته..لكن النورسي كان على وثوق بعدم فلاح تلك المساعي الإلحادية الظالمة الهادفة إلى تغيير الفطرة في النفوس وركونها إلى الإيمان على أي نحو كان ذلك الإيمان.. وهو ما يكشف عنه تعقيب النورسي على ما تأول به الخبر، حيث لاحظ أن " ليس معنى الرواية أن الناس كلهم سيتردون في الكفر المطلق، لأن انكار الله أبعد عن العقل من انكار الكون، فالعقل لا يقبل وقوع معظم الناس في هذا الانكار فضلا عن كلهم.(1).
ثم يستمر بعد هذا في تنويع التخريج لنفس الخبر، قائلا : وتأويله الآخر هو: أن أرواح المؤمنين تقبض قبيل قيام الساعة كيلا يروا هول أحداثها، فتندلع القيامة على رؤوس الكفار وحدهم..(2)
هكذا يواصل النورسي بسط تأويلاته التي قرأ بها أخبارا نبوية تدور حول الدجال وفتنة آخر الزمان، وما جاء عن تكاثر النساء وتناقص الرجال، وما ورد عن مقتل الدجال على يد سيدنا عيسى عليه السلام، وحول أخبار ياجوج وماجوج، وأخبار المهدي، وعن طلوع الشمس من مغربها وظهور دابة الأرض، وعن سر تسمي الدجاليْن باسم المسيح.. إلى غير ما جاء في ذلك المستوى التأويلي الذي خاض فيه النورسي بروح حرصت على أن تجد في بيان ما توعز به تلك الأخبار متين الصلات مع ما كان يميز الوضع الإسلامي والمجتمع التركي في تلك المرحلة تحديدا..
تحصيف المروي من الأخبار، بواسطة حسن التأول والتأويل
__________
(1) الشعاعات ص.110
(2) م.ن. ص110(11/224)
على أننا وجدنا النورسي - وبالرغم من استعداده الكبير للخوض في كثير من مسائل الغيب -أو ما يسميه المتشابه من الآيات والأخبار، وتأويلها - يقرر وجوب اِلتزام موقف التخفظ إزاء بعض ما يتواتر به صنف من الروايات المتصلة بمسائل مغيبة أو فوق عقلية .. ذلك لأنه رأى أن هناك مرويات تروج وتفيد بحقائق غيبية معينة قد لا يدركها العقل .. ورأيه في هذا الصدد أن يقف المسلم من تلك المرويات موقف التقبل والتسليم ، إذا ما جزم بصحة تواترها، دون البحث لها عن تَمَثُّلٍ: "..هناك من المسائل فوق العقلية التي يطالب الفرد فيها بـ"القبول التسليمي وعدم الرد، لا الإذعان اليقيني القصدي حتى تحتاج إلى طلب البرهان القطعي..". (1)
وفي هذا الإطار يرى النورسي أنه علينا أن نعتمد وسيلة التأويل لفهم كثير من المسائل الشرعية الملحة لا سيما بعض الأخبار، لأن الإفادات لا تعدم جوًّا يسوغ مراميها ويحدد مقاصدها، وبما أننا تلقينا الإفادات - محل الاشتباه - بواسطة الخبر، فعلينا أن نُمَحِّصَ أولا مصداقيتها وعدالة القناة التي بثتها، (سلسلسة الرواة )، ثم علينا بعد ذلك أن نتأول معناها ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 445.(11/225)
"..ألا تعلم أن متشابهات القرآن كما تحتاج إلى التأويل كذلك مشكلات الأخبار تحتاج إلى التعبير والتفسير، فإذا صادفك رواية مخالفة للواقع – في نظرك الظاهري – فمع احتمال أن تكون من الاسرائيليات، وأن تكون من أقوال الرواة، وأن تكون من مستبطنات الناقلين، وأن تكون من المسموعات المتعارفة بين الناس، يذكرها النبي عليه الصلاة والسلام لا للتبليغ السماوي، بل للمصاحبة العرفية للتنبيه .. يلزم الناظر أن لا يقصر النظر على الظاهر، بل يؤول بتأويل تمثيلي كنائي مسوق لمقصد ارشادي، أو يفسر بتعبير كتعبير النائم في نومه ما رآه اليقظان في يقظته.. فكما تعبر أيها اليقظان ما رآه النائم، كذلك فعبر أيها النائم – إن استطعت – في غفلة هذه الحياة ما رآه اليقظان الذي لا ينام قلبه الذي هو مظهر ( ما زاغ البصر وما طغى ) (النجم:17).(1)
حقا، إن النورسي ، المتنور، يغلب في هذه القضايا الإشكالية الروائية، جانب النقل على العقل، ثم يرجح فاعلية القراءة والتأويل، من أجل فك المقاصد الشرعية في هذه المسائل التي اعتبرت من المتشابه الخبري .. وزيادة على ذلك، فإن النورسي بهذا الفهم الحصيف للتأويل الذي ينبغي أن تترجم به دلالات وإشارات نصية معينة، وخاصة منها تلك التي توسم بما فوق عقلية، ليكشف عن إدراك حداثي لخصوصية النصوص ذات الإيماء الغيبي.. إدراك تماسَّ فيه مع فهم النفسانيين والمحللين لمسألة اللاشعور ورمزية الأحلام ولغة المنام ..
نماذج من تأويلية النورسي لمستويات من مشكل الأثر
وحتى نأخذ صورة ضافية عن الكيفية التأويلية التي أخذتها تلك الأخبار في ذهن النورسي، نستعرض بإيجاز أهم ما ترجم به النورسي بعضا آخر منها ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 445(11/226)
فعما ورد في الأثر من أن الدجال وأمثاله سيدَّعون الألوهية في آخر الزمان ويكرهون الناس على السجود لهم .. يتأوله النورسي بما بات الساسة المتغربون الآخذون بمذهب الماديين والطبيعيين يلزمون به أتباعهم وأقوامهم من طاعة وخنوع..
وأما خبر فتنة آخر الزمان التي استعاذت الأمة منها منذ ثلاثة عشر قرنا، فإن النورسي يتأوله بما كان يقوم في بعض المجتمعات الغربية من مظاهر الافتتان الاجتماعي والأخلاقي كاختلاط الجنسين عرايا في الحمامات ..وكشيوع الملاهي الخليعة والمسارح الداعرة والمراقص وأماكن الفجور..
وعن عِلم السفياني وإضلاله الناس بذاك العلم، يرى النورسي أن السفياني يتخذ من عقله مناط قوته وعصبيته التي ينتصر بها ويصطنع الصنائع والمسبحين بحمده نفاقا وانتهازية، إذ يسخر بعقله عقول كثير من العلماء ويجعلهم يدورون في فلكه ويصدرون له الفتاوى ويجعل كثيرا من المعلمين موالين له ويسعى حثيثا لتعميم التعليم المجرد من دروس الدين وجعله نهجا رائدا..(1)
وواضح أن النورسي بهذا التأويل كان يتصدى للمناورة التغريبية من خلال الطعن حتى في جوانبها الإيجابية، أو التي تبدو إيجابية، فقد خرَّج نص الحديث تخريجا جعله يلفت النظر إلى ما يحمله ذلك المستوى من التعليم الحكومي من مضار زرع الإلحاد وإفتان الناشئة بمغريات كاذبة ..
وعن الحدوث المتوقع لفتنة الدجال الرهيبة في صفوف المسلمين، تلك الفتنة التي استعاذت الأمة كلها منها..يرى النورسي أن هناك دجالان، دجال للمسلمين وهو السفياني كما قال الإمام علي (رضي الله عنه) ودجال للكفار .. وأن عيث السفياني فسادا في صفوف المسلمين هو ما يسبب الفتنة ويشيع الفساد..
__________
(1) الشعاعات ص112(11/227)
وعن توقع الناس أن تكون فتن الدجال حول بلاد الشام أو في الجزيرة، يرى النورسي أن هذا التحديد المكاني مرده إلى وجود مركز الخلافة قديما في هذين المكانين، من هنا توقع الرواة أن تحدث فتن السفياني هناك. ( ومن الواضح أن النورسي بهذا التأويل للخبر الشريف انطلاقا من معناه الجغرافي، أراد أن يقرر أن فتنة السفياني تلاحق المَواطن التي تحل بها دار الخلافة، ومن ثمة، فإن أعمال السفياني تكون هي تلك التي كانت تشمل تركيا في عهد الردة باعتبارها كانت يومئذ دار الخلافة..)
وعن القدرة الهائلة التي ستكون لأشخاص الفتنة في آخر الزمان، يرى النورسي أنه لما كانت قوتهم قائمة على ما يرتكبون من أعمال هدمية، تخريبية، فإن صورتهم تضخمت في الأثر الخبري لما لهم من باع في أعمال التخريب والهدم.. باعتبار أن الهدم أيسر عليهم وأكثر تعبيرا عن همجيتهم واستفحال ضراوتهم..
كما تأوَّلَ النورسي الخبر الذي مفاده أن جنس النساء - في آخر الزمان - سيتكاثر قياسا إلى جنس الرجال.. وقرأه باجتهادين، الأول رأى فيه أن مصداق هذا الخبر يتم حين يقل الزواج الشرعي، ويشيع الاختلاط من غير رباط.. فعندها يكون الرجل السائب قيما على أربعين امرأة شقية..
والاجتهاد الثاني رأى فيه أن هذا الخبر كناية عن الحرب التي تقع في فتنة السفياني، وعن كون أكثر الولادات من الإناث بناء على حكمة إلهية، وربما يلهب تحرر النساء تحررا كليا شهواتهن، فيتغلبن بغلبة الشبق فطرة على أزواجهن، مما يسبب نزوع الطفل إلى صورة أمه فتصبح الإناث كثيرات جدا بأمر إلهي ..(1)
ولا شك أن الصلة ثابتة بين القراءة التي يتأول النورسي بها الأخبار وبين وقائع تلك المرحلة.. والقصد بطبيعة الحال هو بث الوعي، وتحسيس المسلمين بما كان ينالهم..
__________
(1) الشعاعات ص114(11/228)
وإذا ما تخطينا مسائل تأويلية أخرى عرض لها النورسي وتوقفنا عند هذا الخبر الذي يفيد بأن اليهود هم القوة العظيمة للدجال ويتبعونه طوعا.. فسنجد النورسي يقرؤه قراءة سياسية رابطا إياه مع أحداث عاشتها بعض جهات العالم المجاورة لبلاده يومذاك ..يقول النورسي:
".. ان جزءا من تأويل هذه الرواية قد تحقق في روسيا، إذ اليهود الذين قاسوا مظالم بيد الحكومات كلها تجمعوا بكثرة في ألمانيا لأجل أن ينتقموا من الدول والشعوب، فكانت اـ"تروتسكي" اليهودي اليد الطولى في تأسيس منظمة الشيوعية حتى أوصلوه إلى القيادة العامة، ومن بعد ذلك جعلوه في رئاسة الحكومة في روسيا خلفا للينين الذي ربوه، فدمروا روسيا دمارا رهيبا وأبادوا محاصيلها لألف سنة ( ياسبحان الله، أليس واقع الروس اليوم هو وليد ذلك السبيل الشقي الذي سلكته بهم اليهودية )، وأظهروا - أي اليهود- بهذا أنهم منظمة من منظمات الدجال الكبير ومنفذو أعماله، وقد زعزعوا كيان سائر الحكومات أيضا وأثاروا فيها الاضطراب والقلاقل..
وواضح أن النورسي لم يتجوز في هذا الاجتهاد الذي تأول به نص الأثر السابق، ولكنه أدرج الخَطْبَ التهديمي الذي كانت اليهودية تباشره على نطاق عالمي وتتأهب به لاقتحام دار الإسلام، تحقيقا لمراميها التخريبية المقيتة.. أدرجه ضمن نطاق المساعي الاستراتيجية اليهودية ..
إن الشواهد والأحداث العالمية كانت تحمل كل ذي عقل على تقدير المخاطر التي كانت تحدق بالوضع الروحي والأخلاقي الأممي.. وكل ذلك كان يتلاقى مع تحذيرات القرآن المطردة من أعمال اليهود ومن خبثهم، الأمر الذي جعل النورسي يقرأ المقاصد التنبئية الشريفة التي أوردتها الروايات والأحاديث من خلال تلك الوقائع المقترفة بأيدي اليهودية على عهده وبالقرب منه، ذلك لأنه كان يدرك أبعاد الرهان الذي كانت تلك القوى الشريرة، العنصرية، الحاقدة، تراهن به على مصير الأمة الاسلامية ووحدتها وخلافتها..(11/229)
بل لقد مضى النورسي على ذلك النهج الاستقرائي الذي كان يحَيِّنُ به فحوى النصوص ويطابقها بالواقع التاريخي لعصره .. إلى درجة أن شخص به ومن خلاله معطيات مأثورة في أقوام بعينها.. فقد وجدناه مثلا يميل إلى أن يماهي بين ياجوج وماجوج وبين قبائل أسيوية معينة .. فمن المعلوم أن الإشارة إلى ياجوج وماجوج وردت مجملة في القرآن، فيما جاءت على شيء من التفصيل في الحديث الشريف ،غير أن النورسي رأى أن التفصيلات التي جاء بها الحديث قد تعد من المتشابهات التي تحتاج إلى تأويل .. لذا ذهب يتأول أمر تلك الأقوام بكون الخبر إنما جاء كناية عن قبائل المانجور والمغول الذين سيدمرون العالم كله في الأزمان المقبلة مثلما أغاروا عدة مرات على آسيا وأوروبا وأحلوا فيهما الهرج والمرج، حتى أن الارهابيين المشهورين في المنظمات الشيوعية الآن ينتمون إليهم…
ومن غير شك ان السند التاريخي على ما اقترفت تلك القبائل على مدى مراحل من التاريخ القديم، وما كان لهم من دور في تأجيج نار الفوضى في أحداث روسيا البلشفية، كان يُسوِّغُ للنورسي أن يطابق بينهم وبين ياجوج وماجوج كما نص على ذلك الخبر المأثور..(11/230)
بل أكاد أزعم أن هذا التأويل الاستقرائي القريب من الواقع التاريخي لعهده،، إنما كان وجها من الترخيص الإجتهادي الذي رأى النورسي أن يؤهب به أمته التي كانت الأسياف تنهال عليها بَِيدِ العدو وبأيدي الأبناء المارقين كذلك.. يفعل ذلك في موقف كانت الدعوة الترشيدية مغيبة، بسبب المحاصرة التي أحكمتها دوائر الجور من حول المتنورين وما أقلهم، وبسبب الوعي العديم والجهالة المطبقة، والشعور المهزوم.. فكان من ثمة في اختيار تلك الأحاديث ما يهيئ للداعية أن يقول استطرادا ما لا يستطيع أن يقوله غاية، كما أنه كان له في الإلتفات إلى ما يقع من الحوادث في المحيط الدولي القريب من تركيا، وأمام النظر، ما يُهَوِّنُ له أن يحرك من جماد أمة كانت ماضية في سباتها، محمولة بأيدي جلاديها، نحو حتفها المعنوي ..
وفي سياق تأويله ذاك، نجد النورسي يستطرد ملاحظا أن الفكر الاشتراكي تولد في الثورة الفرنسية وترعرع في كنف دعوتها إلى التحرر، ولما كان هذا الفكر يدعو إلى تدمير قسم من المقدسات فقد انقلب أخيرا ليأخذ صورته البلشفية الشيوعية، وقد نشرت البلشفية أيضا بذور الإفساد لتحطيم كثير من المقدسات والمثل الأخلاقية والانسانية، وستُثْمِر تلك البذور حتما حناظل العقيدة الفوضوية والإرهاب التي لا تعرف حدودا ولا تقيم لقيمة وزنا ..
ويخلص بعد هذا الاستطراد إلى القول إن " أخصب مرتع للفكر الفوضوي الارهابي هو الأماكن المزدحمة بالمظلومين والقبائل البعيدة عن الحضارة وعن الحكومة والدولة، والتي اعتادت النهب والإغارة، فهذه الشروط تنطبق على قبائل المانجور والمغول...." (1)
وإنه لاستخلاص موضوعي انتهي إليه النورسي، إذ ربط مظاهر الثورة الهدمية والتدمير الاجتماعي والمدني بمجتمعات الخصاصة والتوحش ومن يستشعرون الظلم وتتغذى نفوسهم باستمرار على مشاعر النقمة والاضطغان وحب الفتك..
__________
(1) الشعاعات ص117(11/231)
على أن النورسي سيسند ضمن رؤيته التنبئية بالمستقبل البشري دورا للنصارى في القضاء على الدجال وفتنته، فقد تأول الخبر القائل بأن عيسى عليه السلام يقتل الدجال الأكبر، بتخريجين، أحدهما أن من تؤهله كفاءاته المادية والمعنوية للقضاء على الدجال هي الجهة التي تضاهيه في امتلاك القوة وكفاءة المغالبة.. وتلك الجهة هي النبي عيسى عليه السلام.
وثاني التخريجين هو أن الذي سيقتل الشخصية المعنوية لشخص الدجال - المقتول بسيف عيسى عليه السلام - ويبيد الكفر بإنكار الألوهية، هم الروحانيون النصارى، فهؤلاء الروحانيون يهلكونه - ويقتلونه معنى- بقوة نابعة من مزجهم حقيقة النصرانية مع حقائق الاسلام، حتى أن ما ورد بأن عيسى عليه السلام سينزل ويقتدي بالمهدي في الصلاة، يشير إلى هذا الاتفاق، وإلى ريادة الحقيقة القرآنية..(1).
لا شك أن مثل هذا التخريج كانت مراميه القريبة هي تحقيق الإسناد المعنوي لامة مخذولة بواقعها المنحط، وتعزيز شيء من الثقة والاعتداد العديمة لديها، إذ من شأن ذلك أن يلفتهم إلى الدور الحتمي الذي سينهضون به في ريادة العالم ،وانضمام القوى الأممية الراقية إلى عقيدتهم الاسلامية..
__________
(1) الشعاعات ص115(11/232)
وعن الخبر الذي فحواه أن الدنيا ستسمع ظهور الدجال يوم ظهوره، وأنه سيسيح في الأرض أربعين يوما وله حمار، دابة خارقة.. فإن النورسي يتأوله - بعد اشتراط صحة الروايات التي تداولته- ..أن هذه الروايات تخبر أخبارا معجزة عن أن وسائط النقل والمخابرة ستتقدم في زمن ظهور الدجال، بحيث أن حادثة واحدة تسمع في اليوم الواحد في أنحاء العالم كله، فيصيح الدجال بالراديو ويسمعه الشرق والغرب، وتقرأ الحادثة في جميع صحفه وجرائده.. ثم إن الدجال لا يُسمع - في العالم - بكونه دجالا، وإنما بصفته مالكا وحاكما مستبدا مطلقا، وأن سياحته في الأرض ليست للاستيلاء على الأماكن كلها، وإنما لإيقاظ الفتنة والإضلال والإغواء، أما دابته وحماره، فإما أنه القطار الذي اِحدى أذنيه ورأسه مصدر النار كجهنم، وأذنه الأخرى مكان مفروش ومزين كجنة كاذبة، فيرسل أعداءه إلى الرأس ذي النار، ويجعل أصدقاءه في الرأس المعد للضيافة، أو أن حماره ودابته سيارة عجيبة أو طائرة .. أو (يجب السكوت).(1).
ومن غير شك أن تركيب هذه الصور على الصيغة الساخرة والمريرة التي جاء بها، مدعاة إلى إثارة البسمة، لما تنضح به المطابقة من واقعية تفضح الحال غير السوية التي تتحدث عنها تلك الصور، والتي كانت تركيا مسرحا لها نتيجة تمادي السفياني في التحول بها عن أصالتها وعقيدتها .. ومن جهة أخرى، لا جرم أن الإحالة التي يسدد نحوها النورسي والتي تجعل من الوضع في تركيا هدفها، قد اتسعت لتشمل - بداهة - كافة أوضاع البلاد والأمصار الاسلامية التي استفحل فيها الطغيان، ليس في تلك الفترة التي عاش النورسي أطوارها فحسب، ولكن في سائر المراحل، حتى الراهن منها، بل والقابل..
__________
(1) الشعاعات ص118(11/233)
والملاحظ أن النورسي لا يفتأ يباشر في تخريجاته تلك، واقع تركيا والمسلمين على نحو زاده المنحى التلميحي دلالة وسفورا .. ففي حديثه عن السفيانيين، نراه - وبعد أن قرر روح الاستبداد التي تطبع المنازع السفيانية - يبين الصورة التي قد يأخذها ذلك الاستبداد حين يُمارَسُ على الفرد، إذ أنه يتوسل بستار القانون للنفاذ إلى وجدان الفرد، وهو ما يجعل ذلك الفرد مغلوبا على أمره، لا يستطيع فكاكا مما أريد له..
ثم يسترسل النورسي في ابراز الصلة الوشيجة بين خبر السفياني وواقع عصره، فيؤكد العلاقة بين اليهودية وتنظيماتها السرية من جهة وبين الظَّلَمَة وأهل الجور ممن كان يراهم يجسدون صورة السفياني من جهة ثانية، فيبين المدد الإسنادي الذي يربط السفيانيين باليهودية وتنظيماتها الحاقدة على الاسلام والنصارى وما يؤازر تلك التنظيمات، قائلا : إن كلا الدجالين يحصلان على معاونة المنظمات السرية اليهودية الحاقدة على الاسلام والنصارى حقدا شديدا، ومؤازرة منظمة رهيبة أخرى تعمل تحت ستار حرية النساء، حتى أن دجال المسلمين يتمكن من خداع لجان الماسونيين، فيكسب ودهم وتأييدهم ..
وواضح أن التعيين هنا يشف عن مقاصده الواقعية، الحاضرة في المشهد السياسي يومذاك، وهو تعيين يحدد الجهة التي يشير إليها الخطاب بما لا تخطئه فطنة المجتمع..
بل إننا سنجد النورسي يبني رؤية متكاملة تحيل على الواقع التاريخي الذي كانت الأمة التركية تمر به في ذلك العهد، وهذا من خلال ترصد مجموعة أحاديث وأخبار تتقرر بها في الأخير حقيقة أمر السفياني، من حيث نسبته وموطنه وجرائره الآثمة ..
من ذلك استرسال النورسي - قصدا- في الحديث عن ملابسات تتعلق بالدجال السفياني الذي يرأس دولة الاسلام، ذلك الاسترسال الذي لا نلبث أن نكتشف الغاية منه، وهي تعرية النظام الارتدادي..(11/234)
ويأبى النورسي إلا أن يبرز اللحمة بين السفياني واليهودية، فيستدعي خبر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وما وقع له مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهما يمران على صبية من اليهود، ويفسر ما جاء في ذلك الخبر بأن دلالته تشير إلى أن السفياني سيولد بين اليهود..(1).
ويتأول من ناحية أخرى خبر ظهور دجال المسلمين في خراسان، ويؤكد أن الأمة المعنية بظهوره بينها هي الأمة التركية، إذ أن الشعب التركي -كما يقرر النورسي - كان يقطن أطراف خراسان زمن تلك الرواية .. فالرواية تشير بذكرها موطن سكناهم في ذلك الوقت إلى ظهور الدجال السفياني فيهم ..(2)
ثم ينهي النورسي حديثه ذلك بالإعراب السافر والصريح عن تعجبه لما أصاب الشعب التركي - وهو حامل راية الإسلام - من ارتكاس تحت قيادة السفياني .. يقول النورسي :
"وإنه لغريب بل غريب جدا أن الشعب التركي الذي كان رمزا لشرف الاسلام وعزته، وسيفا ألماسيا بيد الاسلام والقرآن سبعمائة سنة، يسعى الدجال السفياني أن يستعمل - مؤقتا - هذا الشعب والقومية التركية ضد قسم من شعائر الاسلام .."
ويستدرك النورسي ويسارع إلى استنقاذ نفسه من مرارة اليأس التي استبدت بها، ولا يلبث أن يستدعي بابا للأمل يُشَرِّعُهُ في وجه الأمة، بما ينيطه بالجيش من دور تخليصي سيقيل به من عثار الشعب، ويفتَكُّهُ من براثين التغريب.. فيقول :
"..ولكن هيهات، فلا يفلح في عمل، بل يتقهقر حتما، كما يفهم من الروايات، إن الجيش البطل سينقذ زمامه من يده . والله أعلم بالصواب "
__________
(1) الشعاعات ص125
(2) الشعاعات ص126(11/235)
هكذا يتصدى النورسي من خلال قراءة جانب الأثر الشريف، ويسقط دلالته التأويلية على الواقع التركي والإسلامي والعالمي السائد آنذاك، للتخذيل عن المسلمين، وتوعيتهم، وإبراز المحاذير التي حملتها الآثار الشريفة، فاضحًا بذلك خطط الردة، وموعزا للشعب بالكيفيات التي تكفل له التماسك والبقاء على الجادة، مهيبا في ذات الوقت بالجيش أن يثب فيستنقذ الملة من نكبتها ..
من هنا يمكننا القول إن قراءة الواقع وتأويله في ضوء السنة قد شكل أحد أسلحة المدافعة والإقتحام التي دك بها النورسي قلاع الانحراف والكفر، تلك القلاع التي أقامتها الكمالية الطورانية والصهيونية المدعمة لها واستهدفت بها ضرب الاسلام في الصميم..
تأويل " مسألة الثور والحوت"
يبادر النورسي منذ البداية إلى تقرير طابع الوضع الذي يميز هذه المسألة، مبينا سبب إلحاقها أو نسبتها إلى ابن عباس .. مذكرا بأن ابن عباس (رضي الله عنه) كان قد التفت في أيام شبابه إلى الإسرائيليات عن طريق الحكايات، إظهارا لبعض الحقائق ..الأمر الذي يترتب عنه إدراك أن ما قاله ابن عباس لايلزم أن يكون كله حديثا صحيحا ..
ثم يباشر بعد ذلك معالجة هذا الخبر مسجلا تحفظه إزاء صحة هذا الحديث من ثلاثة مستويات قائلا:
-لا نسلم أنه حديث لأن عليه علامة الإسرائيليات.
ثم يردف مفترضا قائلا :
- ولو سلمنا أنه حديث، فأنه آحادي، يفيد الظن لضعف الإتصال، فلا يدخل في العقيدة، إذ اليقين شرط فيها.. لأن القطعية بالمتن والتواتر لا تعني الصحة :(11/236)
فحتى لو كان هذا الخبر متواترا وقطعي المتن، فهو ليس بقطع الدلالة .. ومما لا شك فيه أن النورسي قصد بقوله " قطعي المتن وليس بقطعي الدلالة " الانفتاح المعنوي الذي ينبغي أن يتسدد نحوه معنى النص المتواتر على أيدي أهل الاستنارة من المتأولين، بعيدا عن التوهمات السطحية والخرافية التي تسيء للشريعة، والتي يتوهم البعض أن ما تواتر من تأويل مأثور قد قطع بها، وأنه لا حق للخلف في التحول عما تقرر، ولو شابته ظلال الخرافة واللا معقولية..
وهو ما سيتولى معالجته النورسي، إذ سيشرع في قراءة دلالة النص وتصحيحها من وجوه ثلاثة أيضا..
ومما يقوله في الوجه الأول :
"فكما أن حملة العرش المسماة بـ" الثور، النسر، الانسان" وغيرهم ملائكة، كذلك هذا الثور والحوت ملكان إثنان حاملان للأرض، وإلا فإن تحميل العرش العظيم على الملائكة، بينما الأرض على ثور عاجز – كالأرض- مناف لنظام العالم.."
ويقول في الوجه الثاني :
"إن الثور هو المثير للحرث وأهم واسطة لزراعة الأرض وعمارتها، أما الحوت (السمك) فهو مصدر عيش أهل السواحل، بل كثير من الناس. فإذا سأل أحد بم تقوم الدولة ؟ فالجواب : على السيف والقلم . أو إذا سأل بم تقوم المدنية ؟ فالجواب : على المعرفة والصناعة والتجارة . أو إذا سأل : بم تدوم البشرية وتبقى ؟ فالجواب : بالعلم والعمل. ثم يستنتج النورسي من هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون قد أجاب إيعازا - من خلال هذا الخبر- بما من شأنه أن يرشد الإنسان إلى أسباب البقاء وتعمير الأرض، وذلك حين أوعز إلى موارد الرزق فيها: الزراعية والبحرية.."
أما الوجه الثالث فيقرؤه على النحو التالي:
أن الثور والحوت برجان مقدران في مدار الأرض السنوي، فتلك البروج وإن كانت افتراضية .. إلا أن السنن الإلهية ..قد تمركزت في تلك البروج"(1)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 74.(11/237)
ثم يتطرق بعد هذا إلى مدارسة المستوى الشكلي لنص الخبر، وذلك من خلال تسجيل رأيه حول الصيغ المختلفة التي ورد عليها هذا الخبر، فقد جاء في صيغة أن الأرض محمولة على الحوت، وجاء في صيغة أخرى أخرى أنها محمولة على الثور..ويبين أن تعدد الصيغة هنا لا يتضمن - حسبه- إلا ترجيحا للجانب الفلكي، وهو ما توعز به تلك التسميات..
على أن ما نفيده نحن من تتبعنا لهذا الطرح التأويلي، أن النورسي ظل في جانب من اهتماماته التراثية يقتحم المسائل ذات الإُشكال التأويلي في تراثنا، وظل يعالجها بذهنية حصيفة، غير خرافية، وبعقلية لا تماشي الوهم .. ولا تتردد في الإيعاز إلى القارئ المسلم بشيء مما يخدمه واقعيا وروحيا..
ومن غير شك فإن النورسي حين يلتفت في استقرائه لهذا الخبر إلى الحديث عن الدولة والمدنية، وعن المعرفة والصناعة والتجارة، أو عن العلم والعمل ،(....) فإنما يريد أن يثمر الخبر لفائدة المسلم، وأن يحيل دلالته إلى ما ينفع هذا المسلم ويدفع به في طريق الفلاح الدنيوي والأخروي..
والجدير بالذكر أن النورسي قد تتبع بهذه الروح التمحيصية، الترشيدية، مواضيع اشكالية عديدة، منها موضوع (ذو القرنين )، و(ياجوج وماجوج) كما رأينا سابقا ،,وغيرها من المسائل الخبرية المستغلقة .. وقد تأولها مقرًّا بحقيقتها، مقررًا أن العلم بوجود شيء ما، غير العلم بماهيته وكيفيته.. متناولا قضايا تقف في طريق المتأول وتحيد به أحيانا، ومنها الإشكال اللغوي البلاغي، ومستويات الدلالة المرتبطة بالحقيقة وبالمجاز، وأبرز الحاجة الأكيدة للمتأول في أن يكون على مكنة لغوية واقتدار بياني، حتى يتسنى له النفاذ إلى ماوراء سطح الدلالة ..(11/238)
لقد وقف النورسي - ومن هذا المنظور البلاغي الذي شدد عليه - يقرأ قوله تعالى :( والشمس تجرى لمستقر لها) .(يس38).- وبعض آيات أخرى - ليتأول الجريان، جريان الشمس، ويثبت أنه جريان تبعي، عرضي، صوري .. وليستخلص من ذلك كله ضرورة استيعاب روح البيان وما تحفل به الصورة الاستعارية القرآنية من طاقة تفعم الدلالة بإيعازات لا يمكن أن نحجرها في مستواها الخارجي، إذا ما أردنا أن ننفذ إلى روح المعنى وإلى إشارته العميقة.. " إن الجمود البارد والتعصب على الظاهر ينافي حرارة البلاغة ولطافتها، كما أنه يجرح ويخالف استحسان العقل الشاهد على الحكمة الإلهية التي هي أساس نظام العالم الشاهد على الصانع .." (1)
على أنه لابد من الإشارة إلى أن تفسير إشارات الإعجاز قد اقتصر على جزء من سورة البقرة، كان النورسي قد أملاها في جبهة القتال ضد روسيا وواصل إملاءها وهو في الأسر بأقاصي روسيا .. واختار لها اللغة العربية .. فهي عمل أصّله النورسي باللسان العربي..
ولابد للدارس أن يستقرئ في ثنايا هذا العمل شيئا من الروح التي لابست النورسي وهو عاكف يستنزل الدلالات والتخريجات للنص القرآني العظيم..
ولذلك المطمح مجال آخر إن شاء الله..
التفسير والتخريج التأويلي
وطبيعي أن ينبه النورسي إلى المخاطر التي تعرِضُ لقارئ القرآن ولمفسره، إذا ما باشر العملية التأويلية من غير تسليح ثقافي، إذ أن من لا حصانة علمية له ولا رصيد معرفي ستعلق به كثير من الأوحال الاجتهادية التي كرسها التواتر والاعتقاد الإنقيادي الذي ورثته الأمة عن عهود التثاقف والإختراقات المعرفية المدخولة .
__________
(1) صيقل الإسلام ص90(11/239)
ذلك لأن كثيرا من المقررات المتداولة في حقل التفسير لم ينطلق أصحابها من قاعدة تستوثق لاستقراءاتها وتتحرى المرامي النصية من خلال التوسل إلى الحقيقة بما يقود إلى استجلائها، ولكنهم عالجوها فقط عن طريق الحدس الظني أو السماع أو ما تردده الإذهان بفعل المثاقفة والتمازج مع معارف الآخرين، تلك المعارف التي لا تسلم – ضرورة -من آثار الأسطورة والتصورات الخيالية..
إن هذا الواقع المشوب هو ما دفع النورسي إلى تكرار تحذيره الناس من مغبة الانصياع الكلي إلى ما تحتويه كثير من المجاميع التفسيرية، إذ أن اجتهاداتها متفاوتة بتفاوت عقول أصحابها، وهو ما يجعل النتائج نفسها مختلفة، فإذا اتسم بعضها بالحصافة والاستنارة، فإن بعضها الآخر لا بد وأنه جاء على غير ذلك المستوى..
وفي هذا الصدد، يقرر النورسي أن مناط هذا التفاوت العقلي الذي تجسده آثار علمائنا في حقل التفسير والتأويل أمر طبيعي، ولا ينم إلا عن حقيقة التسيب التي عرفتها منظومة العلوم، والعلوم الشرعية في مقدمتها، وذلك حين تدخل في تعاطيها من لا أهلية له، أو من كانت كفاءته العلمية والذهنية لا تكفل له حق تعاطي الاجتهاد والتخريج الشرعي..
إذ هناك قانون إلهي، فطري، توزعت بمقتضاه الحظوظ والاستعدادات بين الناس، وفي ضوء ذلك تهيأ الأفراد للوظائف والأعمال، وبناءا على ذلك بات الاجتهاد من شأن أهل القابلية والكفاءة العلمية والنبوغ الذهني القادرين على الاستنباط والاستبصار، والمؤهلين لرؤية المستويات المختلفة التي يحفل بها الموقف القرآني أو سياق الآية أو الحديث ..(11/240)
فوفق قانون تقسيم الأعمال هذا، تتهيأ المرجعيات الحجة للظهور، وطبيعي أن تناط الحجة بحقل إختصاصها، من هنا لا ينبغي أن نحمل كل ما ورد في مصادر التفسير على أنه حجة، " فحكم مفسر أو فقيه - بشرط التخصص - يعد حجة في التفسير فقط، أو في الفقه فحسب، وإلا فهو ليس بحجة في الأمور التي دخلت خلسة في كتب التفسير أو الفقه.." (1)
من هنا حث النورسي على الأخذ بالمعرفة البلاغية – ضمن جملة من الشروط الاخرى – سعيا إلى قراءة الخطاب وفق خصائصه الذاتية، والأصيلة..
بيداغوجية الوعظ السلبي أساءت إلى حقائق التنزل
لقد عزا النورسي حدوث كثير من المبالغات والاشتطاطات التي مازجت التراث الديني، التفسيري، إلى الشراح والوعاظ الذين سلكوا سبيل التهويل والتفظيع ردعا للنوازع ..وتكريسا لخلقية الكف :
" فالوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامهم جزافا، قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيرة، فمثلا الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة المبالغة في الكلام، وهي أن القمر قد نزل من السماء ودخل تحت اِبط الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع إلى السماء .. هذه الزيادة جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفية كنجم السهى، وجعلت البرهان للنبوة الذي هو كالقمر مخسوفا، وفتحت أبواب حجج تافهة للمنكرين.." (2)
إن الخلاصة التي ينتهي إليها النورسي في معرض تقويمه لتجربة الإجتهاد، ولبيداغوجية التوصيل والترشيد التأويليين هي " أن الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من أحكام الشرع، ولابد من قراءة تلك السكة والختم، فذلك الحكم مستغن عن كل شيء سِوَى قيمته وسكته، فهو في غنى عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للفظ.." (3)
__________
(1) صيقل الإسلام ص 44.
(2) صيقل الإسلام ص46.
(3) صيقل الإسلام ص46.(11/241)
وفي هذا الصدد يوجه النورسي حديثه التأنيبي إلى أولئك المجازفين بالأحكام والمواعظ المرتجلة قائلا : وليعلم الذين يطلقون الكلام جزافا كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين.."(1). ذلك لأنهم يخطئون السداد من حيث يشاؤون الإصابة والترشيد..
فالموجه الأحمق في نطر النورسي أضر بالدين من العدو..والنصح الذي يمحضه النورسي لهؤلاء أن يزنوا الأمور بالمحاكمات العقلية، وألا ينخدعوا بالنظر السطحي في إصدار الأحكام وإقرار القواعد..(2)
لقد اعترف النورسي أن هذه المهمة التحصيفية للمنهج التعليمي والتوجيهي هي التي حدت به منذ النعومة إلى أن يرفع صوته مجاهرا بالحق في وجه السفهاء المتطفلين على حقل التربية، واعتراضا على متسطحي الفكر والرؤية .. وتلك روح إصلاحية رافقته طيلة مساره الإصلاحي، لما كان يرى عليه حال الأمة وعقليتها من ضلال وإمحال وعقم، بسبب ما استشرى فيها من أوبئة فكرية نتيجة تغلب منطق الجهل على منطق الهداية الحق:
"..إن أساس مسلكي منذ صباي ولا فخر، اِزالة الشبهات التي تلوث حقائق الاسلام سواء بالإفراط أم بالتفريط، وصقل تلك الحقائق الألماسية، والشاهد على هذا تاريخ حياتي في كثير من حوادثه ..(3)
لقد أدرك النورسي - شأن المتنورين من علماء الأمة - ما للوسائط التعليمية والمراجع التدريسية -بما لحقها من جهل - من أثر سلبي على المحصول المعرفي الضحل الذي لبثت الأجيال تجتره في غير ما طائل ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 47
(2) صيقل الإسلام ص 48.
(3) صيقل الإسلام ص64.(11/242)
لقد انبخست العلوم العالية كما يلاحظ النورسي، وذلك حين التفت المسلمون إلى العلوم الآلية - أي تلك التي يستعان بها على الفهم مثل النحو والصرف والمنطق وما إليها- بعد أن أدرجت ضمن العلوم الضرورية والمقصودة، وهنالك سيطر على الأذهان حل العبارة العربية التي لباسها (لفظها) في حكم معناها، وظل العلم الذي هو أصل القصد، تبعياً، زد على ذلك أن الكتب التي أصبحت في سلسلة التحصيل العلمي رسمية وعباراتها متداولة إلى حد ما، هذه الكتب حصرت الأوقات والأفكار في نفسها ولم تفسح المجال للخروج منها. (1)
* * *
الفصل السابع
المنحى التجريدي والرؤية التحليلية
عند النورسي
سياحة في ربوع كتاب: المثنوي العربي النوري
النورسي نسيج وحده
مدخل:
مما لا شك فيه أن كتاب المثنوي جاء بمثابة الخلوة الروحية والمحراب التبتلي الذي أدى فيه النورسي أحوالا عطرة من الذكر والاعتبار وخلوص الرؤية في مقام العبودية..
لقد راوح النورسي في فصول هذا الكتاب على مقام التوحيد ، حيث استغرقته – وعلى مدى فصول الكتاب - روح التهجد واستشراف الحقيقة واستقراء آيات الله في الكون وفي نفسه، والاسترسال -من ثمة - في محاورة الذات والآخر، بثا للنجوى الإيمانية وتعميقا للعقيدة..
ولقد ظهرت الصلة على أكمل ما تكون وثوقا بين ما استقرأ به النورسي معاني الآيات البينات كما سردها القرآن العظيم وبين تعابير الخالق كما خطتها قدرته العلية على جسد هذا الكون المهيب..
فالمتن القرآني في هذا الكتاب، يتضاهى من حيث البيان والترشيد، مع متن آخر حسي يتمثل في هذا الوجود اللامتناهي .. إنه الكون المرئي الذي أفاضه الله وعمَّرَه بمرافق شملت هذه العوالم التي تحيط بنا من كل جانب ..
__________
(1) صيقل الإسلام ص 67 .(11/243)
" إن القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السموات، إذا قرأ على الأنظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يقرأ معه - رأسا برأس - القرآن المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا يتجزا في حجيرة عينيك : آيات العلم والحكمة..".(1)
قراءة في أسفار المثنوي العربي النوري
إن صفحات هذا الكتاب هي قبسات إيمانية، ونفثات روحية، حَوْصَلَتْ في ثناياها رؤيةَ النورسي كما بَسطها عبر كتبه وساوقها خلال دروسه ورسائله ..
ولما كان محور هذه الرؤية هو الإيمان، فقد تواترت البيانات القولية واطردت في صورة لازمة مفتاحية عَرْضِية، تلقينية، صِغَتُها ( اِعلم )..
وراوحت تلك البيانات – في عمومها – تركز عقيدة التنزيه والتوحيد، وجعلت من الإنسان - بوصفه عقلا وقلبا - مَدَارَها .. إليه تتوجه، ومنه تنطلق، وفي عوالم شكه ويقينه تجول، مغترفة في بناء تصوراتها وتمثلاتها من معين الحدس الذي زكا بفيض القرآن، ومسددة يقينها بمنظار الحق الذي لا تشوبه أقذاء الفكر المدخول ..
وإذا كان من المتعذر حصر الآفاق الرحيبة واللامحدودة التي باشرتها هذه التلقينات اليقينية التي حواها الكتاب، فإن الثابت أنها خصَّت محاور التوحيد والروح والفكر برجاحة لا تكاد تخطئها عين القارئ في أي فصل يقف عليه من الكتاب..
ومع ذلك يمكننا القول إن كتاب المثنوي يدور في جملته حول محاور تتوزعها الإشكالات البارزة التالية :
1- التوحيد .. ومعرفة الله، والبراهين الدالة على وجوده، والعلامات المثبتة لقيوميته.
2- القرآن.. باعتباره عقل الأرض، أو كتاب الكون المعنوي المسطور الذي جاء فحواه مطابقا لمحتويات كتاب الحس الكوني الكبير، ومترجما لتجلياته الوجودية المشهودة..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 284(11/244)
3-المدنية.. بوصفها مناط الإجتماع الإنساني المعاصر، هذا الاجتماع الذي عرضت له دواعٍ جحودية وغرورية أزاغته عن الطريق، إذ أضلته انجازاته المادية عن الإيمان، فمال إلى اعتناق عقائد وهمية أبعدته عن الخالق عز وجل .(1)
4-الفلسفة.. بصفتها ارتكازا فكريا شائنا، ومريضا، وعاجزا عن أن يستجيب لحيرة الانسان، وعن أن يكفل للنفس يقينا تطمئن به، إذ هو فكر يضرب في فلوات من التيه يعمق مأساوية الانسان، لما يلازم هذا الانسان من مشاعر الضياع واللاوجهة، واللاهدف، واللامسؤولية..
5-الإنسان بحكم كونه مركز الخليقة، والمؤتمن على السر، والمنوط بأسمى المهام، والمجابه لأعتى التحديات وفي مقدمتها جنوح النفس الأمارة واستفحال نزوعها إلى الغواية ومقارفة الإثم نتيجة انسياقها وراء مباذل المدنيات الفاسقة .
إن "..كتاب المثنوي يعد في الحقيقة معرضا روحيا وعقليا لمواضيع واسعة جليلة، وفهرسا لها، يمكن أن يؤلف حول كل واحد منها كتابا خاصا.. هذه المواضيع التي تناولها (النورسي ) بالشرح والتفصيل فيما بعد في رسائل النور، في مختلف أجزائها.." (2)
وسنحاول بدورنا أن نقف على هذه المحاور مستجلين الرؤية الإسلامية والحضارية كما شخصها ملامحها النورسي من خلال فصول هذا الكتاب..
التوحيد
فَجَّرَ الإسلامُ في وعْيِ النورسي مكامن الفطرة السليمة التي تقر لعوالم هذا الكون المعمور بواحدية الخالق..
فالإيمان كما تَجَسَّدَ في فكر النورسي، شرط وجودي، لا تلقنه الديانات السماوية وحدها، ولكن تؤكده المشاهدات الحسية والملاحظات التي لا يكف النظر عن تسجيلها في الذات الانسانية وفي ما يحيط بها من دلائل كونية شاخصة...
فكل ما في الوجود من عناصر الحياة والجماد تشمله حال الانتظام والتوازن بحيث لا ينبو عنصر مما يضمه الوجود عن حركة السياق الحياتي الكلي..
__________
(1) سنتناول هذا الموضوع بتفصيل في فصل مستقل.
(2) تقديم المثنوي العربي النوري ص -ع(11/245)
بل إن هارمونية الأشياء لتبهر حس وعقل كل من تتيح له قابليته التمييزية أن يدرك التناغم بين معطيات الكون- ماثِلهِا وخفيِّها- وبين ما يستبطن النفس البشرية من نوازع وكوامن ..
ذلك أنه حتى الظواهر المجردة مثل ظاهرة الزمن الذي يعد من أهم الشرائط الوجودية الدالة على قدرة الله - تترك من خلال دوراتها وتلاحق وتائرها- الصدى الذي يظل به الماضي - الوعي المتصرم - عاملا شاخصا وفاعلا في حركة الحاضر والراهن..
كما أن نتائج تلك الوتائر الزمنية المتعاقبة تظل معلقة في تواصلها وديناميتها باللامرئي وبالمُغَيَّبِ الذي لم يحن تَبَلُّجُهُ بعدُ .. من هنا فإن حركة الزمن - شأنها شأن سائر الظواهر المدركة وغير المدركة - تبقى في تِدآبها الوطيد - محكومة بوعي كلي، تدبيري، لا يغفل المراحل المستهلكة، ولا تلك التي تنتظر أجَلَ انبثاقها في رحم الغيب..
من هنا نتبين – كما يرى النورسي - تناغمية الكون ببعده الحسي والمجرد، إنها تناغمية منتظمة، تدور بآلية مبرأة من الاضطراب ومن عدم التناسق ..
فهي إذن آلية مضبوطة بقيم فائقة الدقة والانتظام والشمول ..
فهي – حتما - خاضعة لإدارة عليا مسيطرة، ولمرجعية كلية تدير بقبضتها قانون الحياة والكون، تنتظمه وفق مشيئتها المنزهة عن السيبة والاعتباط، والبعيدة عن منطق الصدفة والتلقائية والنزوانية.. إذ لا مجال للإعتباط في هذا الوجود..
التوحيد ومعرفة الخالق البارئ
معرفة الله الحقة فتح ذاتي، لذلك كان منطلقها الجهل والمجهولية
لقد صدر النورسي في اِدراكه لحقيقة هذا الوجود، من معرفة قبلية زمامها الوحي، واتخذ من العقل ومن التجربة والمكاسب الاختبارية مناط برهان على صدق تلك المعرفة السبقية، وذلك ما استرسلت رسائله وأعماله الفكرية تثبته وتؤكده على مدار عقود من الجهاد..(11/246)
لقد فاض معين حبوره القلبي الذي طفحت به رسائله، نتيجة تأجج النشوة الروحية والفكرية التي كانت تصاحب أحوال الاستبصار الذي لازمه والذي اتخذه سبيلا تعبديا يكفل لروحه اليقظة والمداومة..
استبصار ما فتئ يطابق في ضوئه بين المشاهدات الكونية والحسية وما يستجليه منها عقله، وبين الحقائق القرآنية كما قررها الله في محكم تنزيله..
لقد كان عقله برهانيا، إذ كان دائم التمحيص للمعطى القرآني، ومقابلة إفضاءاته الصريحة والضمنية بالظاهرة الكونية و بالحقائق النفسية و العقلية التي ترسو عليها إنسانية الانسان..
لقد اكتسب النورسي قابلية إثباتية لم يعد يعجزها قط أن ترى وجه الايمان من خلال مطابقة المعطى القرآني على المظهر الكوني أو الطبيعي أو الابتداعي..
ذلك أن النورسي يرى أن عقيدة التوحيد تظل ناقصة وغير ذات نفاذ روحي تستمد منه النفْسُ استنارتها وطمأنينتها، ما ظلت تلك العقيدة تقليدية، توارثية .. فالتوحيد يكتسب توهجه ودافقيته وامتلاءه متى قام على وازع عقلي، تأملي، أي متى كان من اكتشافات الذات ..
من هنا كان الطريق إلى الله يستضاء بالإيمان المبني على القناعة القلبية والرشاد العقلي، ومن هنا أيضا كان السير في ذلك الطريق يكتسب عنفوانه اليقيني متى ما تأسس ذلك الإيمان عن بحث تنقشع له سحُب الجهل بالتنقيب العقلي والتحسس القلبي والتقريب الإدراكي، ومتى ما تسلقت النفس سلم المعرفة الروحية بجهدها الذاتي، وبتطلعها الاستبصاري، التدبري..
فخلوص التوحيد - في رأي النورسي - لا يكون إلا بتجاوز نهج التقليد حيث يكتفي المرء بأن يرث قيم عقيدته ويتلقاها بالدروج والتبعية الساذجة، والخالية من المراس الكشفي الروحي الذاتي :(11/247)
".. اِعلم أنك إذا توجهت إليه تعالى بعنوان المعلوم والمعروف، يصير لك مجهولا ومنكرا، إذ هذه المعلومية والمعروفية نتيجة الألفة العرفية والتسامع التقليدي والتداول الاصطلاحي، وهي لا تغني من الحقيقة شيئا، بل ما يتراءى لك فيها (هو) مقيد لا يتحمل الصفات المطلقة، بل إنما هو نوع عنوان لملاحظة الذات الأقدس." (1)
ولا بدع أن تكون هذه هي رؤية النورسي، إذ العلاقة الروحية والسلوكية مع شيخه الغزالي كانت من العمق بحيث كان التأثر ثابتا، وهو ما جعل لديهما تشابه المنظورين إلى الإيمان واحدا، إذ أن الغزالي كان هو الآخر قد استهدى إلى الحق واليقين بواسطة الشك واللايقين..
وإذا كان هناك من اختلاف بين الإمامين، فهو أن تجربة النورسي لم ينحسر عنها إيمانها قط كما حدث للغزالي في بعض مراحل حياته، بل لقد مضى اِيمان النورسي ثابتا، وإنما الذي طرأ عليه، هو خاصية الارتقاء والتحول التي ميزت روحيته عبر مراحل حياته.. فقد تدرج من ايمان عادي، إلى إيمان لدني، عبر تربية روحية التفتت إلى معين القرآن ..
من هنا أمكننا القول إنه حتى لَدُنِّيَّةُ النورسي أو كشفيته لم تكن عادية، إذ أنها اختارت أن تتعمق في فهم جواهر القرآن وأن لا تقتصر على استظهار الأوراد وترديدها بتلك الآلية المعهودة في حلقات الذكر ومجالسه..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 235.(11/248)
لذلك رأيناه يتبع طريقة التمحيص النصي ويتخذها منطلقا للتأمل في المطلق، بدلا من الاقتصار على التريض وتصيد السوانح النفسية والروحية الصرف.. لذا جاءت تعاليم النورسي في جملتها وتفاصيلها تعاليم توحيدية، ذلك لأنه ارتكز في بلورة رؤاه اليقينية على المرتكز العقلي، وجعل الإيمان حجر الزاوية في كل تقرير معرفي أصَّلَهُ، وجعل روح القرآن هي الأساس الذي تقوم عليه معرفته الإيمانية.. من هنا كانت روح التوحيد حاضرة في كل موقف تأملي، أو استجلائي، أو استشرافي، أو تعليمي، أو استرجاعي، أو تسبيحي، أو بوحي، أو تواجدي، يصدر عنه ..
لقد انتهى النورسي بإيمانه إلى درجة أيقن فيها أن الحياة جسر، وأن عبور الانسان لهذا الجسر مرحلي، وأن الانسان لا يتجشم في تجربة الحياة القصيرة إلا عناء يعمق فيه حال النقص والتآكل، وأن النتيجة التي يراهن عليها العبد في الأخير، تظل بطبيعتها الغيبية نتيجة غير مضمونة.. ولذا، فما على الانسان إزاء ذلك كله إلا أن يديم الحمد والمعبودية، وأن يوثق في قلبه الشعور بأن كل ما يملك وما يكسب - بما في ذلك آلة الجسد- إن هو إلا عارية مصيرها الرجوع إلى بارئها الذي ستقف أمامه حاملة كتابها بما قدمت:".. ليس لك منك إلا النقصان والقصور، إذ بسوء اختيارك تُغَيِّرُ صورة فيض الكمال المفاض عليك.. وبأن الجسد الذي هو منزلك، عارية وأمانة وأنت مسافر، ومحاسنك هذه موهوبة، وسيئاتك مكسوبة لك، فلابد أن تقول: له الملك وله الحمد." (1)ذلك لأن النورسي قد سلَّم بأن خلو النفس من الإيمان سيفاقم من عناء تجربة الحياة، وسيجعل منها تجربة عقيمة من غير طائل:
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 127.(11/249)
".. قد شاهدت أن الدنيا بجميع لذائذها حمل ثقيل، وقيد لا يرضى بها إلا المريض الفاسد الروح، فبدلا من التعلقات بالكائنات والاحتجاجات إلى كل الأسباب، والتملق لكل الوسائط، والتذبذب بين الأرباب المتشاكسين الصم، العمي، لابد من الالتجاء إلى الرب الواحد السميع البصير الذي إن توكلت عليه فهو حسبك"(1).
مبدأ الوحدة يكرس منطق التوحيد.
ظل النورسي يسوق من الشواهد الحسية القريبة إلى الإدراك ما يشخص به الصورة التي ترسخت للإيمان والوحدانية في قلبه ..
لقد كان اقتناعه ثابتا بأن منطق الوحدة الذي يتجلى في سير الظواهر الوجودية، هو مؤشر وجيه ودال على مبدإ الوحدانية الذي يشرط الوجود في كليته :
" اِعلم أن كمال صنعة كل شيء واتقانها، ما هو إلا من سر الوحدة، ولولا الوحدة بلا توزيع، وبلا تجزؤ، وبلا تزاحم، لتفاوتت المصنوعات، كوحدة الشمس ووجودها بالتجلي في كل ما مسه ضياؤها .. من ذرة شفافة إلى وجه البحر، ولا يشغلها شيء عن شيء، فهذا السر تشاهده في هذه الشمس الممكنة المسكينة المقيدة ،المحدودة، الجامدة، الميتة، التي هي قطرة متلمعة بتجلي شعلة من اسم النور الحق، فكيف شمس الأزل والسلطان الأبد والقيوم السرمد الواجب الواحد الأحد، الحي القدير الصمد جل جلاله ؟. (ولله المثل الاعلى) . فوحدة الضياء المحيط تشير إلى الواحدية، ووجود الشمس بخاصيتها، بالتجلي في كل جزء وذرة من ذلك الضياء المحيط، يرمز إلى الأحدية، فتأمل.. ".(2)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 130
(2) المثنوي العربي النوري ص 211.(11/250)
فمبدأ الوحدة الذي تقوم عليه عِلِّيَةُ الأشياء في هذا الكون هو دليل عقلي على التوحيد ..ومن شأن بلسم التوحيد إذا ما لابس النفس عن بيِّنة وبصيرة، أن يحررها من أوهام لا تقتصر مضارها على الجانب الروحي المعنوي فقط، ولكن آثار تلك المضار ستشمل فاعلية الانسان كلية، لأنها ستربطه بمنطلقات أرضية لا تسمو بها النفس، ولا يتاح للعقل الإنساني معها أن يضرب مَليًا في رحاب المعرفة، وفي تعميقها بالقدر الذي يتلاءم حقا مع ما أهَّلَ الله له الانسان من طلاقة وروحانية يخترق بهما آماد المجهول..
إن رسوح عقيدة التوحيد يلغي وَهْمَ التعددية الذي أضل الإنسانية طويلا ورغَّمَها في طين الوثنية والشرك ..
ذلك أن منطق تعددية الآلهة لا يحتمله نظام الكون ولا ينسجم مع طبيعة الأشياء.. ولا يسيغه العقل، حتى العقل المادي، إذ أن هذا العقل يقر هو أيضا بأن الكون مصدره واحد، هو المادة ..
من هنا طفق النورسي يؤكد حقيقة رسو الوجود على منطق التوحيد
" لقد شاهدت أنه لو لم يسند كل شيء إليه تعالى، لزم إثبات آلهة غير متناهية، كل منها ضدٌّ للكل وصنوٌ في آن واحد.. يزيد عددها على عدد ذرات العالم ومركباتها، بوجه يكون كل إله يمد يده إلى مجموع العالم ويتصرف فيه.(1)
التساوق التكويني الباهر دليل الوحدانية
إن التناسق الذي يعم مرافق الكون وعناصره، ويعطيها صفة الكتاب الفني، المرقوم، لهو دليل الوحدانية، وبرهان التوحيد:
"..إن الإعجاز الباهر الظاهر في النظام والتناسق والإطراد المشاهد في كتاب الكون الكبير - وهو برهاننا الثاني على التوحيد - يُظهر بوضوح تام كالشمس الساطعة أن الكون وما فيه ليس إلا آثار قدرة مطلقة وعلم لا يتناهى وإرادة أزلية..".(2)
الوصف المطلق يحيل إليه سبحانه وتعالى، انحصارا
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 161.
(2) المثنوي العربي النوري ص 426(11/251)
يمنطق النورسي معنى الوحدانية، ويرى أن إثباتها يتضمن - وجوبا – النفي للشرك وقصر صفة الوجود والواحدية عليه - عز وجل ..
فالتوجه إليه بالأدعية والضراعات يعني تجاوز كل ما عداه، والإغضاء عما سواه، وإيكال الأمر إليه وحده:
" إذا نودي أحد بوصف مطلق في مقام التعيين، يدل على انحصار الوصف فيه.
مثلا :(يا دائم ) أي يا من لا دائم في العالم إلا هو. فله سبحانه حجب نورانية إلى سبعين ألفا كما روي .. ولوجود المنافذ في الحجب والتناظر في الشؤونات والتعاكس في الأسماء، والتداخل في التمثلات، والتمازج في العنوانات، والتشابه في اِحاطة الواحدية، لزم البتة، لمن عَرَفَهُ سبحانه في واحد مما مََّر، أن لا يستنكره في سائر ذلك، بل يفهم بالبداهة أنه هو هو ..".(1)
من هنا تتأكد حقيقة منطقية وهي أن سائر مظاهر الكون الحسي مفعمة بالدلائل والإشارات التي تثبت معنى الواحدية ،والتي لا تخفى إلا عن أعمى البصيرة .. من ذلك مثلا، ما تسجله ظاهرة انبثاق الإنبات والإثمار.. سواء المتحايثة منها أو غير المتحايثة [ في المكان الواحد]، إذ أنها تدل على قدرة حضورية خارقة لشروط الزمان والمكان.. وتلك هي قدرته عز وجل التي لا تحدها أطواق المكان، ولا أحلاق الزمان..
".. إذ لابد لصانع ذرتين، أو زهرتين، أو ثمرتين، أو نحلتين في مكانين في آن واحد، من بُعْدٍ أزيد من البعد بينهما .".(2)
سنة الله أو قوانينه التي تجسدها شريعته الكونية أو الطبيعية
لقد توهم الانسان في ضوء اطراد السنن الكوني، أن الطبيعة هي الفاعلة والمؤثرة في الموجودات والكون، من هنا راح ينسب إليها من الأفعال والنتائج ما انتهى به إلى تأليهها..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 343
(2) المثنوي العربي النوري ص 413(11/252)
" إن الطبيعة هي شريعة إلهية كبرى أوقعت نظاما دقيقا بين أفعال وعناصر وأعضاء جَسَدِ الخليقة المسمى بعالم الشهادة . هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بـ(سنة الله) و(الطبيعة)، وهو محصلة وخلاصة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية في الكون. أما ما يسمونه بـ ( القوى) فكل منها هو حكم من أحكام هذه الشريعة.
و(القوانين ) كل منها عبارة عن مسألة من مسائلها.ولكن لاستمرار هذه الشريعة واطراد مسائلها تَوَهَّمَ الخيالُ فجسمها في ( الطبيعة)، واعتبرها موجودا خارجيا مؤثرا وحقيقة واقعية فاعلة، بينما هي أمر اعتباري ذهني .. فما ساقهم إلى هذه الفكرة غير المعقولة إلا انكارهم حقيقة الخالق الجليل، وذلك لعجزهم عن إدراك آثار قدرته المعجزة المحيرة للعقول".(1)
الشريعة الإلهية مستويان اثنان
يقرر النورسي أن الشريعة الإلهية تأخذ مظهرين تتجلى بهما على الصعيد العملي والواقعي .. إذ هناك:
1- الشريعة الآتية من صفة الكلام التي تنظم أفعال العباد الاختيارية.. أي إنها مقررات الرسالة السماوية وتعاليمها التي يبلغها رسل الله إلى البشر..
2- وهناك الشريعة الآتية من صفة الإرادة التي تسمى بالأوامر التكوينية والشريعة الفطرية، وهي محصلة قوانين عادات الله الجارية في الكون.
فكما أن الشريعة الأولى عبارة عن قوانين معقولة، فإن الشريعة الثانية أيضا عبارة عن مجموع القوانين الاعتبارية، والتي تسمى خطأ بالطبيعة . فهذه القوانين لا تملك التأثير الحقيقي ولا الإيجاد اللذين هما من خواص القدرة الإلهية..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 425(11/253)
إن كل مظهر كوني هو مرتبط بالضرورة مع بقية العناصر الكونية جميعا، فلا شيء يحدث من دون الأشياء جميعا، فالذي يخلق شيئا قد خلق جميع الأشياء، لذا فليس الخالق الشيء، إلا الواحد الأحد الصمد. بينما الأسباب الطبيعية التي يسوقونها أهل الضلالة هي متعددة، فضلا عن أنها جاهلة لا يعرف بعضها بعضا، علاوة على أنها عمياء، وليس بين يديها إلا المصادفة العمياء، (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الأنعام /91. (1)
العلوم وسيط إيماني وتوحيدي لايمارى
مما لا ريب فيه أن العلوم وما يتعاطاه الإنسان من تجارب في حقول المعرفة وفي مجالات فقه المادة العضوية، يثبت الوحدانية. ذلك لأن "..العلوم الكونية التي توصل إليها الإنسان، هي كالحواس لنوع الانسان، وكالجواسيس تكشف له عن مجاهيل لا يصلها بنفسه، فبالاستقراء التام يمكنه أن يتوصل إلى كشف ذلك النظام بتلك الحواس والجواسيس .
فكل نوع من أنواع الكائنات قد خص بعلم أو في طريقه إلى ذلك، لذا يظهر كل علم ما في نوعه من انتظام ونظام بكلية قواعده، لأن كل علم في الحقيقة عبارة عن دساتير وقواعد كلية، وكلية القواعد تدل على حسن النظام، إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية، فالإنسان مع أنه قد لا يحيط بنفسه بالنظام كله، إلا أنه يدركه بجواسيس العلوم، فيرى أن الانسان الأكبر - وهو العالم - منظم كالإنسان الأصغر سواء بسواء، فما من شيء إلا ومبني على أسس حكيمة، فلا عبث ولا شيء سدى، فبرهاننا هذا ليس قاصرا - كما ترى - على أركان الكائنات وأعضائها، بل يشمل الخلايا وجميع الكائنات الحية، بل يشمل الذرات جميعا، فكلها لسان ذاكر يلهج بالتوحيد، والجميع يذكرون معا : لا إله إلا الله".(2)
التفكير والتأمل قناة للوصول إلى الإقرار بالتوحيد
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 426.
(2) المثنوي العربي النوري ص.427.(11/254)
يرى النورسي أن التفكير الروحي يذب الغفلة عن النفس، وأن نهج الاستبطان والتأمل القلبي إذا ما استقام على أسس روحية سوية لا محالة سيؤدي إلى الإيمان بالله ".. إن التفكير نور يذيب الغفلة الباردة الجامدة، والدقة نار تحرق الأوهام .. لكن إذا تفكرت في نفسك فدقق وتمهل وتغلغل وفصله تفصيلا، بمقتضى الاسم ( الباطن) المتعمق، إذ كمال الصنعة أتم في تحليله وتفصيله".(1)
منهج التفكير المجدي
على أن النورسي قد وضع شروطا للتفكير الوجودي من شأنها أن تَحُدَّ من ضياع القلب وتسيب الروح وراء آماد من الحيرة الفكرية التي لا تستطيع أن تحيط بشساعتها، بل والتي لا تتمكن من الظفر منها بطائل اللهم إلا المضي في طريق الشك وعدم اليقين..
فإطلاق العنان لقابلية التأمل لدى الإنسان والتجنيح في غياهب غيبية لا ضابط موضوعي لها قد لا يثمر ولا يقود إلا إلى متاهة تتميع فيها لطائف الاستعداد الروحي الذي تتميز به أعماق النفس جبلة..
فمواجهة المطلقات بغير تهيئ روحي وقلبي قد لا يضمن حصول الإيمان وقراره في القلب، لذلك وجب على المتفكر في شؤون الغيب والملكوت أن ينطلق من دعامات معرفية تكون له بمثابة الموجِّه والدليل في ذهابه وإيابه..
من هنا كان التفكير في الكائنات والموجودات مطلقا يشوش النظر ويُتَيِّهُهُ.. بعكس التفكير في الذات وفي النفس، إذ أن ذلك من شأنه أن يركز الفكر ويحصر الجهد في نطاق استدلالي مقيد.. لقد بيَّنَ النورسي للمتأمل النهج الذي عليه أن يتبعه في تمرساته الروحية والقلبية من أجل أن لا تزل به القدم :
"وإذا تفكرت في الآفاق، فأجمل ولا تغص ولا تخض إلا لحاجة اِيضاح القاعدة، ولا تحدد النظر، كما هو مقتضى الاسم (الظاهر) الواسع، إذ شعشعة الصنعة أجلى وأجمل في إجماله ومجموعه، ولئلا تغرق فيما لا ساحل له.
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 256(11/255)
فإذا فصلت هناك - يعني في نفسك - وأجملت هنا، تقربت إلى الوحدة، فصارت الجزئيات أجزاء، والأنواع كلا، والمختلط ممتزجا، والممتزج متحدا، فيفور منه نور اليقين.
وإذا عكست بأن أجملت فيك، وفصلت في الآفاق تشتت بك الكثرة وتستهوي بك الأوهام وتستغلظ أنانيتك، وتتصلب غفلتك، فتنقلب طبيعة . فهذا طريق الكثرة المنجرة إلى الضلالة .." .(1)
ويحدد النورسي - بعد هذا - أوجه البراهين التوحيدية ويقسمها إلى ثلاثة أقسام ..ويدعو المستكشف إلى الحذر من المجازفة في الاعتداد بما قد يصيب خلال تقمصه لهذه الأقسام من فوائد أولية في طريق الإيمان :
".. يا من يحب أن ينظر ويصل إلى نور معرفة الحق سبحانه من مسامات الدلائل والبراهين ومن مرايا الآيات والشواهد، لا تتجسس بأصابع التنقيد ما جرى عليك، ولا تنقد بيد ما وهب إليك، ولا تمدن يدك لأخذ نور أضاء لك، بل تجرد وتعرض وتوجه .. فإني قد شاهدت من أنواع الشواهد والبراهين ثلاثة:
1-قسم محسوس ومرئي، وإن تعذر المسك به، فهو بمثابة الماء يرى ويلمس، ولكن لا تقبض عليه الأصابع..
قسم منها كالماء يرى ويحس، ولكن لا يستمسك بالاصبع، فتجرد عن خيالاتك، وانغمس فيه بكليتك، ولا تتجسس بإصبع التنقيد، فإنه يسيل ولا يرضى بالأصبع محلا .
2-وقسم يحس، ويلمس، ولكن لا يرى، فهو بمثابة الهواء، يمسنا ونحس به، ونحيا به لكننا لانراه..
وقسم منها كالهواء يحس ولكن لا يرى ولا يتخذ، فتعرص بوجهك وفمك وروحك لنفحات رياح الرحمة، ولا تقابلها بيد الأخذ والتنقيد والتردد، بدل تنفس الفم وتروح الروح، فإنه يزول، وهو منطلق ولا يرضى باليد منزلا .
3-وقسم يرى لكنه لا يلمس، ولا يقبض عليه، فهو بمنزلة النور الذي يعشي أبصارنا ، لكننا لا نستطيع الإمساك به، ولا محاصرته في حيز ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 256.(11/256)
إن هذا القسم هو مناط أفئدتنا : فتوجه ببصر بصيرتك مقابلا له بقلبك، فإن النور لا يؤخذ ولا يصاد إلا بالنور، ولا تمد يدا مادية حريصة، ولا تزنه بميزان الماديات، فإنه يختفي، وإن لم ينطفئ، ولا يرضى بالمادي حبسا وقيدا وبالكثيف مالكا وسيدا..".(1)
فهذه المستويات من الإدراك الروحي هي التي تنتظم النفوس وفق استعداداتها، فكل مهيأ للولوج إلى رحاب الإيمان من مستوى إدراكي معين كما اثبت النورسي ..
وما أكثر ما وجدنا الإستدلال التوحيدي يأخذ عند النورسي صورة نجوى تتوجه إلى القلب بالمحاورة والتلقين..من ذلك قوله :
يا قلبي إن الأبله الذي لا يعرف الشمس إذا رأى في مرآة تمثال شمس، لا يحب إلا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجه بتمام محبته إلى الشمس، إذ ما يشاهد في المرآة ليس بقائم بها، بل هو قيومها، وبقاؤه ليس بها، بل بنفسه..".(2)
ومما لا ريب فيه أن النورسي يكشف هنا عن إطار لتجربة سلوكية قائمة على اليقين والاستيثاق الروحي من صدق كشفِها، فلذلك جاءت تقريراته على هذه الصيغة التبصيرية التي تطبع سائر تعاليم النورسي.. الأمر الذي تتأكد معه الصلة الروحية التي تربطه مع المناقب والاشتغال التصوفي المتميز..
لقد عمت الفكرة التوحيدية أعمال النورسي ورسائله، حتى شكلت العظم الذي تقوم عليه تعاليمه.. ذلك لأن تعاليمه قد تفتحت على عالم الروح وظلت مشدودة إلى الملكوت، وهو ما جعل كل ما يصدر عنها بمثابة التسابيح المرفوعة إلى الباري عز وجل..
اِشكال التوحيد عند العامة والخاصة
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 280
(2) المثنوي العربي النوري ص 263(11/257)
ما فتئ النورسي يتحدث عن الإيمان وبواعثه والشواهد التي تستقرئ النفوس بواسطتها الحجة والبرهان على الوحدانية.. ولا ريب أن النورسي يدرك أن هناك من الظواهر والمثيرات الحسية ما يجعل النفس تحدس - مباشرة وبتلقائية - حقيقة التوحيد والوحدانية .. وإلى هذا هناك مستويات من التجرد والتأمل العقليين تجعل من عملية الإقرار بالوحدانية صعيدا برهانيا وفكريا تتهيأ فيه امكانية الإثبات والاستدلال عن الوحدانية..
لقد ميز النورسي في مؤلفه الموسوم بـ: (الكلمات) والذي عالج فيه- في جملة ما عالج - قضية الإيمان بالخالق، ميز بين مستويين من التوحيد:
1- التوحيد العامي الظاهري.. وهو مستوى إيماني قلبي، وطبيعته - أنه يحمل دلالة إثباته على الوحدانية من غير أن يكون في حاجة إلى أن يدلل على فحواه، فهو توحيد - كما يقول - يثبت بأن لا يثبت.. أو هو يشير من غير ما إشارة، إذ في ظاهر حاله حقيقتُهُ وكنهُه التوحيدي الجلي..
ذلك "..أن الحقيقة تشبه الظاهر في الصورة، مع عظمة بُعْدِ ما بينهما في نفس الأمر..
2- وهناك توحيد آخر يسميه توحيد أهل الحقيقة.. وطبيعته- كما يقول النورسي - أنه يثبت بأن يثبت..
ومن غير شك أن النورسي يشير هنا إلى توحيد أهل الفكر الذين يؤسسون إيمانهم على قاعدة العقل والفكر..
ويشرح النورسي رؤيته هذه بالحديث عن خصوصية كلا التوحيدين الظاهري والعقلي، فيرى أن: التوحيد العامي الظاهري يثبت بأن لا يثبت ولا يسند الأشياء والمخلوقات إلى غيره تعالى ".. فالسلبية البادية في هذا النوع من التوحيد، هي أسُّ إيجابيته في واقع الأمر.. بمعنى أن إقراره بظاهر الحقيقة واقتناعه باندماجها في نطاق الشمولية المطلقة للقدرة الإلهية - ذلك النطاق الذي يترجمه معنى الربوبية - هو مناط ذلك التوحيد أو ذلك الإيمان..(11/258)
ومن المؤكد أن النورسي يشير هنا إلى الجانب البديهي الذي توفره المؤشرات الكونية والظواهر الطبيعية لقطاعات من النفوس البسيطة والذهنيات الساذجة التي لا يسعها حيال تلك المؤشرات ذات الدلالة اليقينية إلا الإقرار من خلال سجيتها بعظمة الخالق وقدرته الراسحة ..من غير ما استطاعة على البرهنة النظرية عن يقينيها التوحيدي..
ثم يتحدث النورسي عن توحيد أهل الحقيقة، فيرى أنه توحيد عقلي قابل لأن يعرض حجته ،ويوضح كنهه ويبرهن عن فحواه.. يقول :
".. وأما التوحيد لأهل الحقيقة فإنما يثبت بأن يثبت كل شيء مما يشاهد من الأشياء ويسنده إليه سبحانه، ويرى فيه سِكَّتَهُ، ويقرأ عليه خاتمه جل جلاله، وهذا الاثبات يثبت الحضور وينافي الغفلة. ".(1)
وجلي أن المسألة التوحيدية من خلال هذا التصنيف قد ارتبطت بمستوى مدارك الشخص المُوحِّدِ وكفاءته في الإعراب عن المشاعر الروحية التي يتجسد له- من خلالها - التمثل الإيماني الصمدي، إذ أن النفس التي لا قدرة إدراكية لها تساعدها على ترجمة إيمانها، لا يسعها إلا أن تنخرط في اصطناع المجاز - بمعناه الواسع - للإعراب عن الحقيقة..هذا المجاز الذي غالبا ما يتحذ صورة الشعور الفطري، الحدسي..
فالحقيقة كما عناها النورسي هنا هي الإيمان بوحدة الخالق واليقين من مصدريته وهيمنته المطلقة على الكون والوجود ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 346(11/259)
على أن الوصول إلى هذه اليقينية يقتضي سلوك سبل مختلفة، إذ :" يمكن أن يذهب الموفَّقِ من الظاهر إلى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة .." ويمكنه أن يمر إليها من طريق التقريرات القرآنية الكاشفة، ويمكن أن يتوصل إليها بدون المرور على برزخ العلوم الآلية، وهو ما يؤكده النورسي بقوله : "وقد رأيت من القرآن طريقا إلى الحقيقة بدون الطريقة، أي المشهورة، وكذا رأيت طريقا موصلا إلى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية".(1). وهو يقصد بالعلوم الآلية مشاغل المنطق واللغة وعلوم الفلسفة وغيرها..
كما يتحدث النورسي عن وجود دستورين معرفيين يتحدد في ضوئهما منزع التوحيد في ضمائر الناس.. وهذان الدستوران هما: النبوة والفلسفة ..
وإذا كانت الفلسفة الميتافيزيقية القديمة تقر بأن الوحدة هي مناط الواحدية، فإنها من ناحية أخرى قد جعلت ذلك التناسب مرتبطا بالوسائط الفاعلة بين المصدر والنتيجة، في حين أقرت النبوة ألا واسطية هناك بين الوحدة والواحدية، وأن كل شيء ناشئ عن الواحدية ومنبثق من إرادتها، وقدرتها المطلقة..
يقول:
"..من النتائج المثلى للنبوة ومن قواعدها السامية في التوحيد، (أن الواحد لا يصدر إلا عن واحد)، أي أن كل ما له وحدة لا يصدر إلا عن الواحد، إذ ما دامت في كل شيء وفي الأشياء كلها وحدة ظاهرة، فلابد أنها من إيجاد ذات واحدة ..
بينما دستور الفلسفة القديمة تقيم عقيدتها على منطق الوسيطية : وهي أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، أي لا يصدر عن ذات واحدة إلا شيء واحد، ثم الأشياء الأخرى تصدر بتوسط الوسائط ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 347(11/260)
وهي نظرة أفضت بطبيعتها إلى القول بالتراتب بين الوسائط، والزعم بوجود منظومة من العقول تدير الكون، أعلاها وأرقاها هو العقل الأول.. إن هذا التعالق أو التلازم الوسيطي بين المصدر ومنتوجه هو ما يعطي للوسيط صبغة الطرفية، وبالتالي، يجعل منه شريكا في عملية الإيجاد، الأمر الذي تنتفي معه الواحدية.. وذلك ما يلاحظه النورسي، إذ يستطرد:
"..هذه القاعدة للفلسفة القديمة تعطي للأسباب القائمة والوسائط نوعا من الشراكة في الربوبية وتظهر أن القدير على كل شيء والغني المطلق والمستغني عن كل شيء بحاجة إلى وسائط عاجزة، بل ضلوا ضلالا بعيدا فأطلقوا على الخالق - جل وعلا- اسم مخلوق وهو : العقل الأول .. وقسموا سائر ملكه بين الوسائط، ففتحوا الطريق إلى شرك عظيم.. فإن كان الإشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهماً يتفوهون بهذا السخف من الكلام، فكيف يكون يا ترى كلام من هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين؟. ". (1)
ويلاحظ النورسي في هذا الصدد أن النبوة تقرر أن للأشياء حِكَماٌ كثيرة تتجه إلى ذاتها وإلى غيرها، وإلى خالقها على وجه الخصوص..
"..إنه من الدساتير الحكيمة للنبوة أن لكل شيء حكما كثيرة ومنافع شتى حتى أن للثمرة من الحكم ما يعد بعدد ثمرات الشجرة.. فإن كانت هناك نتيجة واحدة - لخلق ذي حياة - متوجهة إلى المخلوق نفسه، وحكمة واحدة من وجوده تعود إليه، فإن آلافا من النتائج تعود إلى خالقه الحكيم، وآلافا من الحكم تتوجه إلى فاطره الجليل.
بينما تقرر الفلسفة أن الحكمة في الأشياء هي تحقيق النفع الذاتي أو هي ضمان الحاجة الاستنفاعية التي ينالها الانسان منها بحيلته وتدبيره..
__________
(1) الكلمات ص.645.644.(11/261)
"..أما دستور الفلسفة فهو( أن حكمة كل كائن حي وفائدته متوجهة إلى نفسه أو تعود إلى منافع الانسان ومصالحه )، هذه القاعدة تسلب من الموجودات حكما كثيرة أنيطت بها، وتعطي ثمرة جزئية كحبة من خردل إلى شجرة ضخمة هائلة، فتحول الموجودات إلى عبث لا طائل من ورائه.."
إن هذه الرؤية التي كرستها الفلسفة القديمة في الفكر الانساني، وحاولت من خلالها أن تفصم العلاقة الفعلية والمصدرية بين الموجودات وبارئها، قد أثرت التأثير السلبي على المفكرين المسلمين ،إذ لوثت نظرة التوحيد التي أرساها الاسلام في القلوب، وهو ما لاحظه النورسي، إذ سجل أن فلاسفة الاسلام - بنظرتهم إلى كثير من الأشياء - كانوا ضحايا للفلسفة .. ولم يبلغوا من الإيمان أبعد من عتبته:
" ذلك لأنه - ونظرا لاستناد الفلسفة إلى مثل هذه الأسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة -فإن فلاسفة الاسلام الدهاة الذين غرهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا إلى طريقها، كابن سيناء والفارابي، لم ينالوا إلا أدنى درجة الإيمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الاسلام الإمام الغزالي حتى تلك الدرجة، وكذا أئمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين، فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها وأوثقوا صلتهم بها، وحكَّموا العقل، لم يظفروا سوى بدرجة المؤمن المبتدع الفاسق.."(1)
بل لقد وجدناه يترصد نتائج الإختراق الفلسفي السلبي لمجالات ثقافية ومعرفية أخرى أكثر حيوية لصلتها بالمجتمع وبالحياة العامة، ونقصد بها المجال الأدبي والفني..
__________
(1) الكلمات ص.645.(11/262)
فلقد سجل النورسي أن هناك طائفة من أدباء ونوابغ المسلمين ممن ابتلوا بالفلسفة، قد ضلوا وأضلوا، وغدت آدابهم محاضن ومرجعيات تنشر الزندقة وتبث عدوى الجحود في الأوساط الإجتماعة .. ولقد خص بالذكر من هؤلاء أبا العلاء المعري، وهو " المعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وأمثالهما من الأدباء الأعلام ممن استهوتهم الفلسفة وانبهرت نفوسهم الأمارة بها، فهؤلاء قد تلقنوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل أهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين : أيها السفهاء أنتم تمارسون السفه وسوء الأدب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربون الزنادقة في أحضان أدبكم .." (1)
وواضح أن النورسي يقدر هنا خطورة الانحراف الفكري الذي ترتب عن شيوع فلسفة الشك والحيرة الوجودية، لاسيما تلك الصادرة عن مرجعيات لها من النبوغ والوجاهة ما كان لأولئك المبرزين من أدباء ومفكرين مسلمين، إذ أن النفوس مولعة بالانسياق وراء الاستثناءات، فهي -أي النفس الأمارة - بحكم تكوينها المهيأ للسير في طريق الحيدة والانحراف عن الحق، تكون أسرع إلى الأخذ بما يُزِلُّ ويضل، وهو ما أوقعت فيه الكثيرين من الناس تلك أفكار الوجودية اللا إيمانية القلقة التي طفقت تنم عنها آثار بعض الأعلام المسلمين، إذ لم تكن هذه الآثار لتعدم من يتفاعل معها، فيخرج عن نطاق ثقافة وعقيدة التوحيد التي شملت الأمة وجعلتها كيانا روحيا عضويا واحدا..
الإيمان وازع فطري، وجودي
لا بدع أن يحب النورسي الحياة، وأن يعرب عن محبته تلك في العديد من المناسبات.. ذلك لأن الحياة - عنده - تعتبر من أهم الأصعدة التي تجلت فيها قدرة الخالق وعظمته على العطاء والابداع، والمجال الحيوي الذي تعلقت به مواجد الإنسان من حيث هو انسان، مميز للشهوات، متذوق للنعم، ومتشهٍ للطيبات..
__________
(1) الكلمات ص. 646.(11/263)
فالحياة بما حفلت به من تنوع في مُقَدَّرَاتِها، وبما تَوَفَّر لها من اغتناء في الألوان والطبوع والمكونات، وما تميزت به من تعقُّدٍ في تركيب الظواهر وتعددها، كل ذلك جعل الإنسان يستشعر -على نحو أو آخر- أن هذا الغنى وهذا التلون وهذا التداخل قد هيئ له ولفائدته..
من هنا ترَسَّخت محبتُه لهذه الحياة التي تغمره نعمُها من كل جانب والتي لا يستطيع - مع ذلك -أن يستغرق حاجته منها لما جُبِلَ عليه من شَرَهٍ، ولما طُبٍعَ به مروره في هذه الحياة من قِصَرٍ..
على أن هذه اللهفة لا يمكن أن تترجم بأنها خروج عن الحد السوي الذي يحتمه سلطان الفضيلة، بل لا بد وأن يكون حرصُ الإنسان على الحياة والبقاء، ومحبته الجارفة لها، وتعلقه بها، يترجم النزوع الفطري الذي أودعه الله سرا من أسراره في الإنسان وفي روحه وجوانحه " لابد أن حقيقة الماهية الانسانية الشاملة جدا مرتبطة فطرةً بالخلود والبقاء.." (1)
من هنا غدت واقعة الموت أكبر الظواهر التي تعكس عجز الإنسان ومأساويته الوجودية..
بالإيمان يتحقق فلاح الانسان
لقد خلق الإنسان ضعيفا، شريدا، محفوفا بأعداء لا عداد لهم، وقد اعتصم في وجه الزعازع بمنارة التوحيد .." فلولا التوحيد لأصبح الانسان أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضغف الحيوانات وأشد ذوي المشاعر حزنا وأكثرهم عذابا وألما، ذلك لأن الإنسان يحمل عجزا غير متناه، وله أعداء لا نهاية لهم، وينطوي على فقر دائم لا حدود له وجاجات لا حدود لها..". (2)
ومع ذلك جهزه الله بعدة ادراكية وتجاوزية تظل مهمتها الاسنادية كفيلة بتحقيق سعادته المنوطة بشرط الإيمان.. إذ بدون الإيمان يفتقد الانسان ارتكازات سكينته وسعادته..
النورسي و هاجس الموت
__________
(1) الشعاعات ص278
(2) أنظر الشعاعات ص.19.(11/264)
لقد ظلت تصريحات النورسي تؤكد هذه الحقيقة التي تُظهِرُ مدى تولع الفرد بالحياة وبالبقاء .. مقابل تَفَجُّعِه وتَرَوُّعِه حيال قدر الموت.." إنني أسألكم أتوجد في هذه الدنيا مسألة أكبر من مسالة الموت ؟.أهناك مسألة إنسانية أهم وأكبر من هذه المسألة؟".(1)
إنه تساؤل وجودي يؤكد أن الموت قوة لا تقهر، وأن الإنسان العنيد بطبعه، سيظل مسكونا بفاجعة الموت لأنه يرى فيها الإعجاز المريع الذي يتحداه ويقمع فيه كل توق إلى الإستعلاء والتحرر:
"ما دام الموت لا يقتل، وباب القبر لا يغلق، فإن أعظم ما سيشغل بال الانسان ويشكل أكبر معضلة له، هو النجاة من يد جلاد الموت هذا، والخلاص من سجن القبر المنفرد".(2)
ومما لاشك فيه أن مثل هذه التصريحات الصادرة عن النورسي إنما تكشف الحال التي أقلته - هو أيضا - إلى عدوَة الإنابة والتسليم لله .. لقد عَبَر إلى اليقين الإيماني بعد أن تجشم أعباء الخوف من العدم، والنفور من الزوال، والقنوط من جدوى حياة مؤطرة بالموت:
" حينما وافقت العوارض المزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوبا على أمري، فترة غفلتي، وكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب إلى العدم، بل وجود المخلوقات كلها يفنى وينتهي إلى الزوال .. ولَّدَ عندي ذهاب الجميع إلى العدم قلقا شديدا واضطرابا أليما، فراجعت الآية الكريمة ( حسبنا الله ونعم الوكيل).(3).
لم يعش النورسي تحت وهم الغفلة التي تلابس الإنسان وتجعله يحيى بروح من سيُعَمِّرُ أبدا، وأنه لن يغادر هذه الحياة قط.. بل لقد وضع نُصْبَ عينيه حقيقة الموت ومغادرة عالم الدنيا:
" الموت لا مفرَّ منه أبدا، بل مجيئه أيقن من مجيئ الليل لهذا النهار .. فالموت الذي يفرغ كل مدينة من سكانها مائة مرة ويدفع بهم إلى المقابر، لابد أنه يطلب شيئا أكثر من هذه الحياة الفانية وأعظم رفعة منها .."(4)
__________
(1) الشعاعات ص329.
(2) الشعاعات ص243
(3) الشعاعات ص79
(4) الشعاعات ص243(11/265)
بهذه الروح الموقنة من الرحيل، أصَّلَ النورسي نظرته الوجودية وجعلها نظرة تستمد قناعتها من تعاليم القرآن..
لقد عاش الأنبياء بهذه الروح، فقد كانت تجربة الحياة بالنسبة إليهم مجرد رحلة ابتلاء، لا يأبهون بما يصيبونه فيها إلا على مقدار ما تتأكد به طاعتهم وقربهم من الخالق.. لقد عاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - أزهد ما يكون في الدنيا، ولكنه زهد لم يقعد به عن السعي وأداء واجبات هذه الحياة كما حددها له ربه.. وطبيعي أن يستنَّ الصالحون ومنهم النورسي في هذا المجال بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان – من ثمة – شعارهم أن مقامهم في الدنيا مقام عابر، وأن مكثهم بها ظرفي، وأنهم موكلون بتأدية صالح الأعمال الذي تزكو به أرواحهم وتخلُصُ خضوعيتُهم لربهم في ما يُظهرون ويُسِرُّون..
فالموت ليس اعداما، ولكنه تحول إلى طور السرمدية والخلود، ولذلك كان لابد وأن يكون فيه العبد المرتحل على حظ من الاستعداد والتزود..
".. إننا.. على يقين لا يتزعزع بأن الموت بالنسبة لنا - بسر القرآن الكريم - ليس اِعداما أبديا، بل تذكرة تسريح .. بينما يُعَدُّ هذا الموت بالنسبة لمعارضينا وبالنسبة للسائرين في درب الضلالة موتا أكيدا واِعداما أبديا ( إن لم يكن يؤمن بالآخرة إيمانا لا شبهة فيه). (1)
القرآن الكريم
تلابست اِفادات البوح - التي استغرقت أجزاء ( المثنوي ) - بروح القرآن، من حيث شكَّلَ القرآن العظيم أرضيتها الرؤية الفكرية، ومنطلقها الاستبصاري العقلي الذي صدر عنه النورسي واسترشده ..
إذ أن مواجد الإيمان ومشاعر اليقين التي طفقت تستغرق النورسي، لم تسترسل على صورة تِهْيَامٍ مشبوبٍ ينتهي بها إلى تلك المشارف التي تغيب فيها عن المخاطب والمتلقي لمعةُ الوضوح، وتغدو الدلالة مفتوحة على آفاق معنوية ظنية..
__________
(1) الشعاعات ص329.(11/266)
ذلك أن النورسي - وإن انطبع خطابه بمسحة أصيلة من التواجد والتهيام الشعري والذوقي أبانت عنها بلاغة النجوى الروحية التي عالج بها قضايا التوحيد في سائر كتبه ورسائله - إلا أنه ظل فيها جميعا - لا سيما في المثنوي - على كامل وعيه الأدائي، يقرر ما يقرر ليس عن انجذاب روحي أو انخطاف عاطفي تُمْلِي فحواه لواعج الباطن، ولكنه ظل يكشف عن خوالجه انطلاقا من فكر راجح وعقل مستوعب لإشكالية الإيمان - لا كما طرحها السلف، أو تداولوها في مجادلاتهم فقط - ولكنه إلى ذلك تَمَثَّلَ مسألة التوحيد والإيمان من خلال فهم راهن، محايثٍ لما يكتنف روحية التوحيد القرآنية من مصادرات عدوانية وتشديد للخناق عليها..
وغير خاف المنحى الإفضائي الذي ميز الأداء الإعرابي عند النورسي ..لقد استجمعت تلك البلاغة التي عالج بها النورسي مسألة التوحيد أصداءً من بلاغات شتى جربها أهل السلوك في ما عالجوا من أحوال و في ما تجشموا من أشواق .. فكان طبيعيا أن تحمل تلك البلاغة شيئا من مسحة التواجد التي ميزت بَوْحِيَاتِ أصحاب الكشوف، لا سيما النفري.. إلا أن الفارق الأدائي يبقى بارزا بين إفضاءات المثنوي وإفضاءات موافقات النفري ومخاطباته..
لقد حمل خطاب النفري في تلك المقامات مسحة حلولية، إذ جاء القول يصطنع لسان الخالق، الأمر الذي خرق - شكليا كما نعتقد - بروتوكول التراتب التوصيلي المعروف، إذ لا ينبغي أن يَتَقَنَّعَ المخلوق بخطاب الخالق، ويصطنع ماهيته العلوية ،وذلك ما وقعت فيه – على نحو أو آخر – أدائية النفري، إذ تصدت للقول من منطلق فوقي، علوي ..
لكأن الخطاب -في تلك المواقف - يصدر عن الذات الإلهية وليس عن هوية بشرية تعرض فكرها وما يقر في قلبها من مواجد واستشرافات مردها الاعتلاج والتماهي الروحي الذي انجذب إليه السالك ولم يسعه فيه إلجام جموحه الوجداني..(11/267)
وإذا كان هناك تأويل كثير لمسألة التمثل بالذات الإلهية - سواء من حيث اصطناع الأنا العلوي أو من حيث الصدور عن ذلك الأنا المطلق - فلا جرم أن بلاغة النورسي قد ابتعدت عن مواطن الريبة، إذ جاءت مطارحات المثنوي تصريحات لا تتوفر فحسب على رجاحتها العقلية وعلى امتلاكها لزمامها الرؤيوي الإيماني الراسخ، ولكنها - إلى ذلك - جاءت مطارحات قرآنية الروح، لا تقلب النظر في الكون ولا تستوثق لدلائلها العقلية إلا من خلال آيات الله البينات كما أودعها الخالق في محكمه العزيز..
فلا بدع - والحال تلك - أن يصدر النورسي عن تلك الروح القرآنية، فـ"قد كان الاشتغال بالقرآن الكريم والتعمق في فهمه الشغل الشاغل لهذه العقلية النيرة، فاعتبارا من إشارات الإعجاز، إلى المثنوي، إلى الكلمات المختلفة في كتابه (الكلمات) ولا سيما الكلمة الخامسة والعشرون، نراه يتنفس القرآن في كل كلمة يفضي بها ". (1)
لقد دأب النورسي يؤكد الطابع الإنفتاحي الذي يميز الدلالة القرآنية واتساع الأفق الذي يمكنها أن تستوعبه تأويلا وايعازا .. ونتيجة ذلك الانفتاح أو الانفساح المعنوي هو ما يسَّر - بحسبه – على الخاصة والعامة أن تصيب من النص القرآني حظوظا إدراكية تتفاوت وفق تفاوت الاستعداد والقابلية ..
ذلك لأن تعدد مشارب التلقي حيال القرآن العظيم - من حيث قابلية الثمثل والتنوع، وبقاء وحدته التوحيدية المبدئية - أمر ثابت ولا مراء فيه لأنه ".. كما لكل أحد من العالم عالما يخصه، كذلك لكلٍّ - باعتبار مشربه من القرآن - قرآنٌ يخصه ويربيه ويداويه..".(2)
تعليمية القرآن ذات الحقائق المجَسَّمَة في العيان
__________
(1) من تقديم المثنوي العربي النوري.
(2) المثنوي العربي النوري ص 249(11/268)
يتحدث النورسي في المثنوي عن ظاهرة السماحة الروحية والفكرية والترشيدية التي يتسم بها المضمون القرآني، ويرى في ذلك رحمة إلهية عم بها الخالق عباده المؤمنين، إذ باتت مداركهم ومواجدهم على اختلاف مشاربها الإيمانية تظفر بما يُجَلِّي جذوة الروح ويسمو بها .. يتساوى في ذلك العالم والمتعلم، بل إنه حتى الأمي والعجمي يجد نفسه على استعداد للتفاعل والتواجد بما يسمع من القرآن، لما للآيات الكريمة من قدرة على النفاذ، وما ذلك إلا نتيجة لما خَصَّ الله به القرآن من جاذبية نورانية لا تخطئ من تلامس قلبه، بل تلازمه وتقوي أحاسيسه الروحية..فـ"من لطائف القرآن أن رحمته عامة للكافة.."(1).
لقد نبه النورسي إلى تلك الكيفية التوصيلية الناجعة التي سلكها القرآن العظيم إزاء متلقيه، إذ قرَّب القيم والتعاليم السماوية التوحيدية من مداركهم، من خلال تلك المزاوجة بين الحسي والمعنوي، أو بين المشهود على صفحة الوجود من جهة، والمرتسم في الغيب والمتعلق بذات الخالق العلية من جهة ثانية، وهو ما عناه النورسي حيث قال:
".. انظر إلى درجة رحمة القرآن وشفقته على جمهور العوام ومراعاته لبساطة أفكارهم، كيف يكرر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السموات والأرض، فيقرئهم الحروفات الكبيرة الظاهرة التي تقرأ بكمال السهولة، بلا شبهة، كخلق السموات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض، وأمثالها، ولا يوجه الأنظار إلى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة إلا نادرا .."(2).
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 249
(2) المثنوي العربي النوري ص281(11/269)
فقراءة القرآن للكون الماثل للعيان، وتمثله للظواهر الشاخصة، هو تفعيل تربوي غاية في الترشيد، إذ كل متفحص لآياته المنزلة يدهش من هذا التواتر المستمر لمعاني الكون الحسي ونظمه ومكوناته، والمحيلة على الخالق سبحانه وتعالى.. يقول النورسي متابعا حديثه عن هذا التواصل القائم بين الكون المنظور والكون المضمر الذي يصدر عنه القرآن:
".. ثم انظر إلى جزالة بيان القرآن كيف يتلو على الإنسان ما كتبته القدرة في صحائف الكائنات، حتى كأن القرآن قراءة للكائنات ونظاماتها وتلاوة لشؤون مكونها وأفاعيله، فإن شئت فاستمع بقلب شهيد أمثال سورة (عم ) وآية ( قل اللهم مالك الملك). (آل عمران:26) (1)
على أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أن الخطاب القرآني حين يشير إلى بعض التعيينات الخاصة، وإن جاءت في الظاهر تتعلق بالإنسان وشؤونه، إلا أنها غالبا ما تتضمن مقاصد أعم وأشمل .. وهو ما سجله النورسي إذ قال :
"..اِعلم أن ذكر القرآن لبعض الغايات الراجعة إلى الإنسان إنما هو للأخطار لا للإنحصار، أي لتوجيه نظره إلى الدقة في فوائد نظام ذلك الشيء ذي الغاية، وفي انتظامه الدال على أسماء صانعه، إذ الانسان إنما يهتم بما له علاقة ما به، فيرجح ذرة ما إليه على شمس ليست إليه.. مثلا ( والقمر قدرناه منازل )، (لتعلموا عدد السنين والحساب) . هذه غاية من ألوف غايات تقدير القمر، وليس المراد الانحصار، أي إنما خلق ذلك لهذا، بل إن هذا المشهود لكم من ثمرات ذلك.. ".(2)
بل لقد رأى النورسي في الكون المحسوس، كتابا إلهيا يضاهي الكتاب المنزل، وهو ما عبر عنه بالقرآن المعنوي والقرآن الحرفي. لأن الكتابين معا هما من إرادة الله، ومن قدرته :
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 281
(2) المثنوي العربي النوري ص 357(11/270)
".. إن القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السموات، إذا قَرَأَ على الأنظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يَقْرَأُ معه - رأسا برأس - القرآن المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا يتجزأ في حجيرة عينك : آيات العلم والحكمة. فإذا سمعت من ذاك : سبحانه ما أعظم شأنه، سمعت من هذا أيضا : سبحانه ما أدق حكمته وما ألطف صنعته . فإذا تساوى القرآنان واقتضت الحكمة تكثير نسخ أحدهما - وتكثير نسخ الكبير لا يفيد الناظرين - فلابد من تكثير نسخ الصغير للمطالعين المتفكرين الغير المحدودين من المَلَك إلى الجن والإنس وغيرهم، وفي تكثير النسخ لا يبقى الكتاب كتابا واحدا، بل تتنوع الكتب وتتفاوت الفوائد وتتعدد المفاهيم، فتتلاحق الأمثال، فيتزايد الحسن والجزالة، ولولا اِدراج كثير من سور الكتاب الصغير ونسخه في بعض حروفات القرآن الكبير، لفاق الصغير على الكبير بدرجة صغره..".(1)
الرؤية البنيوية والإجتزائية للنص القرآني العظيم .
ومما يراه النورسي خاصية توصيلية احتازها النص القرآني، إمكانية قراءة هذا النص القدسي مجتزءاً، وتحصيل فوائده كاملة - رغم ذلك الاجتزاء - .. وما ذلك إلا لأن له تركيبة بنيوية ونصية جاءت تفاريقها موسومة بسمة الاكتفاء، بحيث يكفل لك الجزء منها الغَنَاء ويسد حاجتك..
فاليسيرُ من الآيات التي تستجمعها سور مختلفة أو مواطن متفرقة من المتن، تمكنك على معرفة روح العقيدة ولمس مقاصد الكتاب ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 284(11/271)
بل إن السورة الواحدة هي - من حيث كفايتها - قرآن ".. اِعلم أن تضمين كل سورة سورة من القرآن مجمل ما في كل القرآن وسائر السور من المقاصد وأهم القصص، لأجل أن لا يحرم من يقرأ سورة فقط عما أنزل له التنزيل، إذ في المكلفين الأمي أو الغبي، ومن لا يتيسر له إلا قراءة سورة قصيرة فقط، فمن هذه اللمعة الاعجازية تصير السورة قرآنا تاما لمن يقرأها".(1)
فالقرآن هو النص الذي امتلك خاصية تركيبية ذاتية، اجتزائية، إذ أن آياته استوفت قوامة تفي بغرض الإفادة والكفاء الأدائي، سواءً سِيقَتْ ضمن بنيتها النصية أم اجتزئت واستنطقت بانفراد وعلى حِدَة..
"..إن آياته مع كمال الانسجام وغاية الارتباط وتمام الاتصال بينهما، يتيسر لكل أحد أن يأخذ من السور المتعددة آيات متفرقة لهدايته وشفائه، كما أخذها عموم أهل المشارب وأهل العلوم، فبينما تراها أشتاتا باعتبار المنازل والنزول، إذاً تراها قد صارت كقلادة منظمة ائتلفت واتصلت مع أخواتها الجديدة، فلا بالفصل من الأصل تنتقص، ولا بالوصل بالآيات الأخر تستوحش، فهذا السر يشير إلى أن لأكثر الآيات الفرقانية مع سائر الآيات مناسبات دقيقة يجوز ذكرها واتصالها بها". (2)
إن الطبيعة البنائية للسُّوَّرِ - رغم قابلية الإجتزاء واستقلال الآي والمقاطع الخطابية بذواتها - هي طبيعة بارزة .. وذلك من خلال اللحمة الداخلية الموحدة للبنى القرآنية التي يتساوق ضمنها وباسترسال عضوي، الموقف القصصي و الموقف الاعتباري التوحيدي و مساقات التشريع والتلقين أو ما إلى ذلك..
فاللواحم الخطابية أو الفذلكات المذكورة في أواخر الآيات - كما يسميها النورسي- تشد المواطن القرآنية بعضها الى بعض، وتمد السدى المعنوي بين أجزاء المتن، وتبني الصرح كأكمل ما يكون التساوق بين مكونات الخطابيه..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 208
(2) المثنوي العربي النوري ص 249.(11/272)
ولعل هذه الخاصية تتجلى في العلاقة التي تربط استهلالات السور بنهاياتها، ذلك أن خواتم الآيات مرتبطة بفحوى السور ضمن كلية المتن القرآني.. وهو ما سجله النورسي بقوله :
" اعلم أن الفذلكات المذكورة في أواخر الآيات لاتنظر إلى تلك الآية التي هي فيها فقط، بل تنظر إلى مجموع القصة، بل إلى تمام السورة ، بل إلى جميع القرآن، لتساند الآيات وتلاحظها وتناظرها، فلا تزن ما في الفذلكة بميزان آيتها فقط، ولا تحمل عظمتها على حكم جزئي مَهَّدَ المحل لذكرها، وإلا بخسْتَها حقها مثل قال (وكذلك نفصل الآيات ). ( ولقد صرفنا في هذا القرآن ). (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ). (إن الله عليم قدير ). ومثل(لعلكم تذكرون).و(لعلكم تتقون).. وأمثالها مما له عيون ناظرة إلى أكثر الآيات التنزيلية، وأكثر الآيات التكوينية، وأكثر الأحوال البشرية. فهذه الخواتيم القرآنية التي تمهر بها الآيات مع تأييدها لآياتها، ترفع رأس المخاطب من الجزئي المشتت، إلى الكلي البسيط، ومن الجزء المفصل، إلى الكل المجمل، وتوجه نظره إلى المقصد الأعلى، وغير ذلك من أسرار البلاغة.".(1)
النظر القرآني الكلي والقطعي يسفّه النظر الفلسفي الجزئي والتوهمي
لقد آمن النورسي أن رؤية القرآن العظيم - زيادة عما يؤكده منطق الأشياء من حولنا في هذا الكون - تسفه رؤية الفلسفة و تفند نظرة العقل الوضعي والتخيلي إلى حقيقة الألوهية وكنهها القدري وإلى قضايا الوجود.. ذلك العقل الذي راح يعتدُّ بالظواهر في حركتها الدنيا، العينية، متغافلا عما يصلها بالخالق - عز وجل - الذي هيأها وجعلها مجلى لقدرته وجبروته:
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 267(11/273)
" ..اِعلم أن الكتاب الكبير المشهود ( أي العالم ) والكتاب العزيز المسموع ( أي القرآن) بخس البشرَ حقَّهما، إذ فيلسوفهم المتفكر لا يعطي بالذات (للواجب) إلا جزءا بسيطا وقشرا رقيقا أو تركيبا اعتباريا، ثم يقسم الباقي على علل موهومات، بل ممتنعات وأسماء بلا مسميات .. وأما الموحد فيقول : الكل ماله ومنه وإليه وبه.
أما القرآن، فأديبهم المتخيل لا يعطي لذي العرش من ذلك القصر المحتشم ( أي من القرآن ) .. إلا بعض نقوش النظم، وقسما من المعاني .. ثم يقسم الباقي من تلك النجوم السماوية على ساكني الأرض بدسيسة تلاحق الأفكار ..". (1)
فالإختلاف بين أهل الإيمان وأهل الضلال يكمن في المنطلق الإحالي الذي ينيط به كل منهما الوجود، ففيما يقر المؤمن للخالق بمصدرية الأكوان والموجودات، يحرص الضال على أن يتمحل عللا ومصادر حسية لهذا الوجود.. اعتقادا منه بأن المادة تخلق المادة، متناسيا الأصل والمنشأ..
فـ"المؤمن الحق يقول : كل ما اشتمل عليه من أول الأساسات إلى آخر نقوش النظم منه وله. وأن القرآن لف في أساليب هي معاكس ألوف مراتب مقتضيات المقامات وحسيات المخاطبين.. وكذا مرَّ القرآن على سبعين ألف حجاب، وتداخَلَ إلى أعماق القلوب والأرواح، وسافر ناشرا لفيضه ومونسا بخطابه على طبقات البشر، يفهمه ويعرفه كل دور، ويعترف بكماله ويقبله كل قرن، ويستأنس به ويتخذه أستاذا كل عصر، ويحتاج إليه ويحترمه كل زمان بدرجة يتخيل كلٌّ: أنه أنزل له خاصة، فليس ذلك الكتاب شيئا رقيقا سطحيا، بل بحر زخار وشمس فياض وكتاب عميق دقيق ". (2)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 308
(2) المثنوي العربي النوري ص 308.(11/274)
إن الديمومة التي تكرست لبراهين القرآن وحججه، مقابل تبلبل الافتراضات الفلسفية وتغير حججها عبر الزمان والمكان، لمما يدفع بالنفس الإنسانية إلى التفكير في حقيقة كل من المذهبين: الإيماني الروحي، والعقلي التجريبي، انتهاء إلى ترجيح كفة الثابت على المتحول، السماوي على الأرضي، وذلك ما يكرس الإيمان ويستقيم به المسار في هذا الوجود..
القرآن خرق للمألوف
ومن الخاصيات التوصيلية الأخرى التي يسجلها النورسي للقرآن العظيم، مباشرته للمسلمات والبديهيات التي اعتادها الحس ودرجت عليها مدارك الإنسان، إذ يستثيرها، ويستحضرها، ولكن بمقصد اعتباري، تحسيسي .. فإحالات القرآن المتواترة إلى الفضاء السحيق وما يعمره من سموات وأرضين مثلا، إنما تدأب على إسْتِدْعاء المشهد الكوني الذي يكتنف المخلوقات والذي لا تنكره الخليقة لما يربطها به من ألفة ..
لكن استدعاءات القرآن لهذا المشهد الكوني المألوف، والملابس لمواجد الإنسان ولوجوده، إنما تواترت لتشد الأذهان والبصائر إلى ما يخفيه هذا المشهد من حقائق لا تدركها الجوارح الحسية.. من هنا أربطت فلسفة القرآن أسسها التأملية، التعبدية، الموصولة بالفكر وبالتفكير بالخالق، من خلال لفت الأبصار إلى مرافق هذا الكون الخارق الذي هو من ابداعه وايجاده - عز وعلا- .. إذ أن استحضار الخطاب القرآني العظيم لعناصر الكون المحسوس، قد اقترن دائما بتقرير مبدأ الألوهية أو تَلاَزَمَ مع الدعوة إلى التفكير في الماهية السامية التي أوجدت كل ما تحفل به الآفاق من موجودات..(11/275)
"..إن أكثر معلومات البشر الأرضية ومسلماته، بل بديهياته، مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب، ففي الأساس فساد أي فساد . فلهذا السر تُوَجِّهُ الآيات أنظار البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجوم القرآن حجاب الألفة، ويأخذ بأذن البشر ويُميل رأسَه، ويريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات..". (1)
من سجايا علو الخطاب القرآني وكمال بيانه
لقد طفق النورسي يرادف المواقف التي سعى من خلالها إلى إبراز الخصوصيات الإعجازية للخطاب القرآني، من ذلك ما لاحظه حول انجدال البيان القرآني القائم على المقابلة في الإدلاء بين عوامل خطابية معنوية ونصية متناظرة .. فالوحدة يقابلها التعدد، والإجمال يعقبه التفصيل، والمقدمات تتوج بالنتائج، كل ذلك ضمن سياق من الاسترسال البياني القويم الذي لا يملك ازاءه الذهن إلا أن يستيقظ ويظل مشدودا، لما يميز الأداء من توثب لا يخترقه الفتور .. يقول النورسي :
"..اِعلم أن من مزيات علو القرآن، اِيراد مذكرات الوحدة خلف مباحث الكثرة، والإجمال عقيب التفصيل، وترديف بحث الجزئيات، بدساتير الربوبية المطلقة، ونواميس الصفات الكمالية العامة الشاملة، بذكر فذلكات كالنتائج، أو كالتعلات في أخريات الآيات، لأجل أن لا يتغلغل ذهن السامع في ذلك الجزء الكوني المذكور، لذي العظمة والهيبة والكبرياء. وكذا ليبسط ذهنك من ذلك الجزئي إلى أمثاله وأشباهه .. وكذلك يريك القرآن بهذا الأسلوب، ويفهمك أن في كل جزئي ولو حقيرا وزائلا سبيلا واضحا، وصراطا مستقيما، ومحجة بيضاء إلى معرفة سلطان الأزل والأبد، وإلى شهود جلوات أسماء الأحد الصمد". (2)
بين مرامي القرآن العظيم ومرامي الفلسفة
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 324.
(2) المثنوي العربي النوري ص 410.(11/276)
إن الاختلاف بين جوهر الفلسفة ومراميها وبين روح القرآن ومقاصده، يتبدى في طبيعة الصلة بين المصدرين وبين الوجود، ويتبدى أيضا في مستوى الحوار الذي يعقد كل منهما مع الكون وعناصره :
فـ" القرآن يبحث عن معاني كتاب الكائنات ودلالتها، أما الفلسفة فإنما تبحث عن نقوش الحروف ووضعياتها ومناسباتها، ولا تعرف أن الموجودات كلمات تدل على معان، فإن شئت أن ترى فرق حكمة الفلسفة وحكمة القرآن، فراجغ ما في بيان آية: (ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا) ".(1)
الفلسفة والقرآن
لا يخفى علينا واقع الاسترابة الذي طفق يكتنف رؤى الفلسفة عبر العصور ويرتكس بها إلى نقطة البدء، نتيجة فشلها في الوفاء بالتزاماتها المعرفية ورهاناتها الكشفية إزاء حيرة الإنسان وضياعه وجهله بعلل هذا الوجود وبمقاصده..
ومما لا شك فيه أن تنوع الفلسفات واختلاف مشاربها وتباين مراميها، يعكس وطأة التيه الخانقة التي ظل العقل البشري يضرب فيها، بحثا عن معالم طريق يسكن إليه ويقر فيه قراره.. فلقد لبثت التسديدات التأملية تقلب النظر في هذا الاتجاه وفي ذاك، نشدانا للحقيقة وطلبا للاستنارة التي تثوب بها السكينة إلى قلب المخلوق..
لكن تلك التسديدات ظلت في كل مرة تصطدم بما يسفهها ويفند مسلماتها ويهز يقينها.
لقد ضاعت الحقيقة بين الاجتهادات والتجديدات النظرية، إذ تشعبتها الفرضيات والسبل، ولم يتهيأ لها في أي صدد طرقته، هداية أو يقين ..
ولعل ذلك ما أشار إليه الفيلسوف الإسباني المعاصر أورتيجا إي جاست، حيث يقول : لقد أساء إلى الفلسفة حتى الآن أنها نظرة وحيدة مطلقة، ولهذا رأينا اختلاف المذاهب وتنازعها وضرب بعضها ببعض على طول العصور..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 76(11/277)
و يذكر هذا الفيلسوف نفسه في مقال آخر له بعنوان " الحقيقية ووجهة النظر " ظهر سنة 1916، أن ثمة اتجاهين فلسفيين كلاهما خطأ، هما "الشك" و" المذهب العقلي". الأول يقول : إنه ليس ثمة وجهة نظر غير وجهة النظر الفردية، وبهذا ينكر وجود الحقيقة، والثاني يؤكد وجود الحقيقة لكنه من أجل ذلك يفترض وجهة نظر فوق فردية...
وعند أورتيجا أن الاتجاه الصحيح هو القول بأوجه نظر عديدة بقدر الذين ينظرون إلى الكون، وكلٌّ ينظر إليه من زاويته الخاصة . وكما لا يمكن اختراع وجهة النظر، فإن وجهات النظر كلها صادقة، لأن كلا منها يمثل المنظور الذي منه ينظر الانسان إلى الكون . إذ لا يستبعد بعضها بعضا، بل بالعكس هي متكاملة، أعني إن بعضها يكمل بعضا، وليس منها واحدة تستغرق أو تستنفد الواقع كله، بل لا يمكن إحداها أن تنوب عن غيرها أو تحل محلها."
وغير خاف المنحى التلفيقي الذي يلتجئ إليه هذا التصويب الفلسفي الأفتراضي حين ينيط الحقيقة بالإتجاهات المتصارعة جميعها، فيعطي الحق والصواب لكل منها..
ولابد أن نعترف مع ذلك، بأنها نظرة ليس في وسعها إلا أن تتجاوز اِشكالها على ذلك النحو الإجماعي، إذ هي نظرة وليدة الفكر الانساني المحدود ..من هنا فإنها تنم في الواقع عن فوضى أكثر مما تنم عن رشاد يواجه الحقيقة من تلقائها المعقول..
لقد كان هذا هو حال الفلسفة في الغرب في القرن العشرين، القرن الذي وطد لآرائه وأفكاره وهيأ لها أن تنتشر وتسري، حاملة معها قيمها وقناعاتها المادية والتلفيقية، محورة من روحية الأمم والشعوب على قدر انفتاح المجتمعات على تلك القيم والقناعات..
من هنا لا نستغرب إذا ما وجدنا النورسي يتصدى لوقع تلك المداهمات الفكرية الفتاكة والمدمرة التي كانت تستهدف روح الإيمان الحق ..(11/278)
لقد ظلت دروس النورسي تحتل - منذ مطلع هذا القرن - مقدمة الجبهة الإسلامية المواجهة لتيارات الفلسفة الإلحادية والعقائد الفوضوية والتمردية التي أفرزها القرن التاسع عشر في أوروبا والغرب عامة، والتي راحت تجتاح برياحها الصقيعية بلاد المشرق، وضربت بزمهريرها شجرة الإيمان..
لقد ربط النورسي بين الفلسفة المادية وبين المدنية الغربية، من حيث التوجه اللاروحي، الذي يميزهما. فكلاهما يرسو على قاعدة من الجحود الصراح ، إذ لا تبرح الفلسفة المادية تناهض الإيمان وتغذي قابلية الزيغ والضلال في الإنسان الغربي، فيما تصعد المدنية المعاصرة من دواعي الإنغماس والتحلل، توريطا للفرد في المعصية، وكسبا له.. ذلك لأنها أقامت سوقها على ترويج الخطايا وإشهار الآثام..
بل لقد ميز النورسي اتجاهين يستوعبان عالمنا الأرضي منذ القديم، ويطبعان روحيته.. فهناك –كما يرى – اتجاه شرقي تطغى عليه الروحانية والاعتقاد الغيبي، وهو ما جعل إنسان هذا العالم الشرقي موئلا للنبوات والأديان .. وهناك اتجاه غربي تزدهر فيه الفلسفة ويحفل بالتجريب الفكري، الأمر الذي أعطى لمسيرة كل منهما خصائصها الروحية والوجدانية والمعرفية المميزة..
إن هذا الواقع جعل الرجاحة الروحية تترسخ للبلاد المشرقية، مقابل وطادة عقلية تَرَبُّبية تهيأت للبلاد الغربية، وطبعت فكرها المشوب بالجبروت، وميزت منظورها الوجودي والأخلاقي النزاع إلى الإلحاد..
لقد انتهت تلك الآفاق في رصيد عريض من فكرها وتعاليمها، إلى قتل الإله، وتأليه الإنسان، وتلك مغبة الانغماس في التفكير المادي الوضعي ..(11/279)
بل إن جذور هذا الانحراف لتكمن في العقيدة الكتابية نفسها، تلك العقيدة التي شكلت أهم رافد لصناعة الفكر والعقلنة الغربية، فقد أقرت تلك العقيدة إنسية الرب، وبشريته، في شخص المسيح، بل وفي شخص يهوة الرب القومي العبري، ذي المنازع البشرية الصارخة .. لقد هيأت العقيدة الكتابية الرب لهذا المصير المؤنسن، فكان عليه أن ينغمس في حياة البشر فيتزوج ويلد ويسري عليه الحتف والعدم في النهاية مثلما يسري على الإنسان سواء بسواء..
من هنا تباينت نظرة الطرفين - من حيث المنطلق - إلى كثير من حقائق هذا الكون وأسراره.. فلا بدع والحال هذه، أن نجد للقرآن نظرته الكونية التي تباين نظرة الفلسفة الغربية في هذا المجال..إذ أن لكل منهما رؤيته الخاصة ومنهاجه الذي يبرز به حقيقة هذا الوجود..
يقول النورسي :
" ..الفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودتها ( الدنيا) وكدورتها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية، وأما القرآن فينفش الدنيا كالعهن بآياته، ويشففها ببيناته، ويذيبها بنيرانه، ويمزق أبديتها الموهومة بنعياته، ويفرق الغفلة المولدة للطبيعة برعداته، فحقيقة الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آية : (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ( الأعراف :204)".(1)
ويلاحظ النورسي في هذا الصدد أن طبيعة الفلسفة هي طبيعة توصيفية، تحديدية، تستهدف ظاهر الأمور وشكلها.. من هنا كان ديدن الفيلسوف أن يواصف الأشياء والظواهر أو يعاينها كما تبدو له من خارجها، أو كما تقربها إليه حواسُّه، ولا يلتفت إلى علتها الأولى، ولا يهتم بموجدها الأول .. فنظرة الفيلسوف للشمس مثلا لا تعدو التشخيص العيني البارد، السطحي ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص.76(11/280)
إذ هو لا يُقَيِّمُها إلا من حيث هي كتلة نارية مائعة تفوق الأرض بكذا، وتدور على نفسها، وقد كانت أصلا لكواكب أخرى تشظت منها، مثل كوكبنا الأرضي..وأن تلك الكواكب محكومة بجاذب عمومي لو حادت عنه إحداها لوقع هول يشمل السموات والأرض..
إن مثل هذا التوصيف الحسي غير المؤسس على منطق روحاني إيماني من شأنه - كما يرى النورسي - أن يبث الروع في النفس، إذ أنه يجعل الأكوان رهينة بالصدفة وبتلقائية الحركة، فهو يتغافل عن أهم إرتكاز يعطي للطرح وجاهته وصوابه، ويسنده بالسند الروحي الذي تغدو معه الأشياء والأكوان جميعا منسجمة مع الحقيقة الكلية التي تديره، ألا وهو إرادة الله التي لا مجال لصدفة أو اعتباط معها..فليست" الشمس مع سياراتها إلا مصنوعة موظفة، ومخلوقة مسخرة بأمر فاطرها الحكيم، وبقوة خالقها القدير، وما هي مع عظمتها إلا قطرة متلمعة في وجه بحر السماء يتجلى شعاع من اسم (النور) عليها."(1)..
فتغييب الفلسفة لأهم جوهر إحالي في معاينتها لظواهر هذا الكون والوجود، يُعَدُّ - من قِبَلِها - تجاهلا سافرا، وغير مبرر، لتلك الأبعاد الغيبية التي لم تستطع مصادراتنا العقلية والتعليلية الحسية أن تسوغها ولا أن تُدرك كُنْهَهَا..
ومن الثابت أن تلك الهوامش العريضة من الظواهر والاشكالات التي يقف العقل حيالها عاجزا عن التعليل والاستيعاب، إنما تدخل في الحيز الذي ينبعي أن يناط بقدرة الله، إذ أن ما عجز العقل الإنساني عن تفسيره، وتفعيله، لا يمكن إلا أن يرتد في معرفة كنهه وحقيقته إلى تلك القوة الخارقة التي تدير حيواتنا والعوالم من حولنا.. الله خالق الكون..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 75(11/281)
وذلك هو بالضبط ما تتغاضى عن الإقرار به الفلسفة الحسية المصمتة ..ولو أن الفلاسفة " أدرجوا في مسائلهم قبسا من القرآن فقالوا : يفعل الله بهذه الأجرام المدهشة الجامدة وظائف في غاية الانتظام والحكمة، وهي في غاية الإطاعة لأمره، لكان لعلمهم معنى، وإلا بأن أسندوا إلى أنفسها وإلى الأسباب، صاروا كما قال القرآن ( ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) (الحج:31) وقس على هذه المسألة سائر المسائل.".(1)
ويمضي النورسي في إبراز علة هذه المفارقة القائمة بين النظرة القرآنية والنظرة الفلسفية للأشياء والوقائع.. فيرى أن القرآن يتناول الظواهر ويستدعيها في مقاماته الخطابية لا على أنها مواضيع غائية، يريد أن يستفرغ حديثه عنها كوقائع قائمة بذاتها، ولكنه يتناولها من حيث هي دلالات وإحالات تشحذ العقل وتجلي له سُلَّمِيَةَ العلل والأسباب التي تنتهي إليها حقيقة كل شيء في هذا الوجود..
إذ ما من ظاهرة إلا ووراءها خيط يوصلها بالخالق الباري .. وهو ما تخطئه الفلسفة التي تعالج القضايا والظواهر في ذاتها ولذاتها.. منفصلة عن القدرة الإلهية أصل هذا الكون..
" فإن قلت لأي شيء لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟. قيل لك لأن الفلسفة عدلت عن طريق الحقيقة، فاستخدمت الموجودات لأنفسها بالمعنى الاسمي، وأما القرآن فبالحق أنزل وبالحق نزل وإلى الحقيقة يذهب فيستخدم الموجودات بالمعنى الحرفي لا لأنفسها بل لخالقها.." (2)
ذلك لأن " الفلسفة المادية تقوم الأشياء والموجودات بذاتها ولذتاتها، فهي من ثمة تصدر عن رؤية تقطع الأواصر بين الموجد ( الله) والموجود.. على عكس الرؤية القرآنية التي تقرر الأشياء وتحرص إيما حرص على ربطها بخالقها، فهي من ثمة رؤية تكفل الترشيد للخالق، ولا تجعل منه مظنة بلا منطلق ولا منتهى ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 75
(2) المثنوي العربي النوري ص 72.(11/282)
فالقرآن إنما ينظر من الموجودات إلى وجوهها الناظرة إلى فاطرها، وأما الفلسفة فإنما تنظر من الموجودات إلى وجوهها الناظرة إلى أنفسها وأسبابها، وغايتها الناظرة إلى مصالح جزئية فلسفية أو صنعوية .فما أجهل من اغتر بالفنون الفلسفية وصيرها محكا لمباحث القرآن القدسية .." .(1)
لقد استخدم النورسي مفهومي الإسمية والحرفية، ليشخص من خلالهما الفارق الأساسي بين المنظورين القرآني والفلسفي .. موازيا بين الإفادة التي يستحصلها العقل من وراء تعاطيه الفلسفة والعلم القرآني وبين الدلالة التي يحيل إليها كل من الحرف والاسم ..وإذا كان الاسم - في تحديد النحاة- هو ما دل على معنى في ذاته، فإن دلالة الحرف - عندهم - إحالية متعلقه بغيره.
فكذلك شأن المنظورين القرآني والفلسفي .. إذ أن رؤية القرآن إحالية، تصل الوقائع ببارئها، فهي - بذلك - بمثابة الرؤية الحرفية التي تستبين دلالتها من خلال صلتها بمتعلقها الاسمي .. إذ الظواهر فيها تأخذ صبغة العلامة والدليل المشير إلى حقيقة معنوية أشمل، هي الله .. بينما الرؤية الفلسفية رؤية عينية، ذاتية، مصمتة، لا يتعدى فيها الدال مدلوله الحسي الشاخص.. فهي بمثابة الاسم يحمل فحواه في بنيته وحسْب..
من هنا كان النظر القرآني للأشياء نظرا إيمانيا، يلحم بين الظواهر وبين الله خالقها ومدبرها .. فيما كان النظر الفلسفي نظرا شيئيا، حسيا، لا يرسو بمصادراته العقلية القاصرة إلا على منطق تشييئي، جحودي، من أبرز محدداته الاصطلاحية : المجهول، واللانهائي، والمطلق.. وما إلى ذلك من التعيينات التي تعكس ضيعة الإنسان وعجزه..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 77.(11/283)
ومن هنا كانت رؤية المؤمن إلى الموجودات حرفية، إذ أنها نظرة متعلقة بمصدر الوجود تدل على معنى في غيرها.. وكان رؤية الكافر إلى تلك الموجودات قصدية، اِسمية، إذ أنه لا يراها إلا هي، ولا يلمس فيها إلا دلالتها على نفسها..(1).
ومن هنا أيضا جاء الخلل في منهج ومنطق الفلاسفة وفي ما يكتبون، وهو ما لاحظه النورسي بقوله : " ترى كتب الفلاسفة أحكم فيما يعود إلى الكائنات في أنفسها، مع أنها أوهن من بيت العنكبوت فيما يعود إليها، بالنسبة إلى صانعها . وكلام المتكلمين مثلا، لا ينظر إلى المسائل الفلسفية والعلوم الكونية، إلا بالمعنى الحرفي التبعي والاستطرادي وللاستدلال فقط ".(2).
الإنسان
أنا البشر متعدد، لذا تعددت طرقه ورؤاه للحقيقة
يقرر النورسي أن منزلة الإنسان وحقيقة إنسانيته إنما تتكرسان بالإيمان عندما يمازج القلب ويشيع فيه الطمأنينة والوثوق بالمصير..
فـ" إكسير الايمان إذا دخل في القلب يصير الانسان جوهرا لائقا للأبدية والجنة، وبالكفر يصير خزفا فانيا . إذ الإيمان يرى تحت القشر الفاني لُبًّا لطيفا رصينا، ويرى ما يتوهم حبابا مشمسا زائلا، ألماسا متنورا . والكفر يرى القشر لُبًّا فيتصلب فيه فقط، فتنزل درجة الانسان من الألماس إلى الزجاجة، بل إلى الجمد". (3)
إن اختلاف نظرة البشر إلى الحياة وإلى الغاية من هذا الوجود الذي يمخرون عبابه ، هو ما يضفي على الحياة قيمتها الحق ويحدد صورتها وماهيتها..
ومما لا ريب فيه أن ما أحال الإنسان المادي إلى عبد للغريزة، وقنٌّ للأهواء، إنما هو خلو قلبه من القيم القدُسية التي ترتفع به نحو الأسمى والأطهر..
على خلاف الإنسان الروحاني، الموحد، المقر لله بالألوهية وبأنه مصدر ومِلاك أمر هذا الوجود..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 404
(2) المثنوي العربي النوري ص .404
(3) المثنوي العربي النوري ص 158.(11/284)
فهذا الإنسان المؤمن لا تختلط عليه الرؤى ولا تتشابه حياله السبل في تمييز الأشياء وتحديد مصدرها، إذ كل ما يحتويه الكون هو من صنع الله ومن قدرته..
ولا يمكن أن يَقَرَ في خَلَدِنا أن إحالة الموجودات على الخالق – عز وجل – هو تنصل فكري ينم عن سلبية وانصياع بليد يتحاشى الخوض في مسائل غيبية لا يتأهل لها إلا العقل الحي .. ذلك أن مسألة الإيمان قد ظلت مدار معركة يومية لدى ذوي البصيرة، لأن الحياة بالقياس إليهم إنما هي مواجهة دائمة ومتواصلة مع الحقائق الاعتبارية التي يمور بها قلب الانسان ومع هذه الظواهر والتجليات الكونية ..
من هنا يصح أن نعتبر الجحود - لا الإيمان - هو الموقف التنصلي، السلبي، الذي يعجز عن تجاوز عتبة الحيرة التي يبعثها الواقع الشاخص حيالنا .. الواقع الذي لا تعرف كل نفس كيف تستأنسه وتستنطقه وتستجلي حقيقته ومقوماته الكامنة فيه ..
فمن شأن الجاحدين – في كل عصر - أن يصرخوا في وجه الناس متذمرين، مستفزين، معلنين بأن لا حقيقة وراء هذا الكون إلا العدم واللامعقول، وأن لا مآل هناك إلا المآل الدماري الذي سوف يعصف بالعوالم يوما ما وينهي اللعبة..
إنها عقلية العبث القاصرة التي تحصر تجربة الوجود في هذه الرؤية الدمارية العقيمة ،وفي وجود يمضي مهرولا بالإنسانية - مؤمنة وملحدة - على طريق نضال لا شك أن ثماره الإعلائية، المجسدة لموثق الإستخلاف الذي عقده الرب - سبحانه وتعالى لعبده - لا تفتأ تتجلى باطراد لكل ذي عقل وبصيرة، من خلال الكشوف والمكاسب والمزايا التي يتلاحق تحققها للإنسانية بتوفيق من رب العالمين..(11/285)
ولعله من المناسب أن نذكر هنا بأن هذه الكشوف التي تتحقق للانسانية يوما بعد يوم في مضامير الحياة العلمية المختلفة، قد ظلت تقوي من روح الإيمان، وتهيئ مزيدا من القابليات اليقينية لدى الأوساط العلمية أو الفئات المحتكة بهم، الأمر الذي يعطي الدليل على أن المعرفة الحق، من شأنها - متى سادت - أن تسارع بإزاحة غشاوة الجحود من على بصيرة البشر، وهو ما آمن به النورسي، وتوقعه، وأناط به مستقبل الإسلام ،إذ قدّر أن توسع وانتشار المعرفة العلمية من شأنها أن تلفت الناس بصورة أكبر إلى الإسلام، لأن المعرفة المحصفة هي من مشمولات القرآن ومن مرتكزات الدعوة الإسلامية، النورانية، المبرأة من كل تلبيس أو تدليس..
فلسفة الأنا
أَنَا الإنسان .. بعيدا عن منطق الحلول والتأله
خلق الله الانسان وأحله محل التكريم والاجتباء، وزوده بملكات عقلية وبماهية روحية اعتبرت مفتاحا ينفذ به إلى فهم مغاليق هذا الوجود المترامي من حوله..
وإذا كانت المعرفة التي يكتسبها الانسان في هذه الحياة هي في ذاتها أحد مظاهر قدرة الله وعظمته التي هيأت المخلوق لأن يستوعب من الحقائق والخبايا ما يدهش ويثير العجب، فإن الذي يُعَدُّ حقا مثار العجب هو انحراف الإنسان عن جادة الصواب وجنوحه إلى الكفر وجحود نعم الله وما هيأ له من أفضال وقابليات مكنته من أن يسود الكائنات ومن أن يمضي مصعدا سيادته على الكون والطبيعة إلى حدود لا تعرف التوقف..
من هذه المفارقة اعتبر النورسي ( أنا ) الإنسان مفتاح خير، لأن هذا الأنا يظل بلصوقه بالنبع الإلهي، يستمد من إيمانه الوهج الروحي والطمأنينة القلبية.
كما اعتبر النورسي هذا الأنا من جهة ثانية مفتاح شر، وذلك لما تعرض الإنسان من أسباب تحرفه عن الهدى والصواب، وهو ما يقطع صلته بالخالق ويطفئ من أعماقه شعلة الإيمان..(11/286)
"إن مفتاح العالم في يد الانسان وفي نفسه، فالكائنات مع أنها مفتحة الأبواب (هي في الواقع ) منغلقة . فالحق سبحانه أودع من جهة الأمانة في الانسان مفتاحا يفتح به كل أبواب العالم، وطلسما يفتح به كنزَ خلاَّقِ الكونِ، والمفتاح ما فيك من أنا . إلا أن " أنا " أيضا معمى مغلق ومطلسم منغلق، فإذا فتحت (أنا) بمعرفة ماهيته الموهومة انفتح لك الكائنات.."(1)
فاذا ما أدرك الإنسان حقيقة ( أناه )، وكَوْنُهَا ماهية تتحرك بإرادة خالقها، وتكتسب ما تكتسب من عمل بمشيئة ربها، كانت صلته بالكائنات وبالحقائق صلة سوية، ومن شأن ذلك أن ينفث نسائم السعادة على حياته، إذ تضحى حياة مؤسسة على وعي إيماني يسند الأمور والوقائع إلى الله، موجب الوجود.
" فالإنسان إذا عرف " أنا " ما هو، بأن رآه شعرة شعورية في حبل وجود الانسان ..له وجهان، وجه إلى الخير، فبه قابل للفيض لا فاعل، ووجه إلى الشر والعدم، وبه فاعل، وماهيته موهومة، وربوبيته مخيلة، ووجوده أضعف من أن يتحمل شيئا بالذات..إن الانسان إذا عرف ذلك .. وأذعن ، دخل تحت (قد أفلح من زكاها ) (الشمس:2). وأدى الأمانة بحقها . فإذا تأملت في "أنا " بالمعنى الحرفي، صار لك عينا تفهَّمَتْ، ورأيت به كل ما في الكون، لأنه إذا جاءت المعلومات الآفاقية، صادفت في أنا ما يصدقها . فإذا فهمتها انتهت وظيفة " أنا " وربوبيته الموهومة، ومالكيته المفروضة .. وأما إذا نظرت إلى " أنا " بالمعنى الاسمي واعتقدته مالكا، وخنت في الأمانة، دخلت تحت ( وقد خاب من دساها ) (الشمس:4)".(2)
فلم يهلك الإنسان إلا اعتقاده الضال بأنه هو الفاعل والمتصرف، وأنه سيد نفسه والمسؤول عن مصيره.
__________
(1) الكلمات ص. 638
(2) م.ن. ص 638(11/287)
"إذ الأمانة التي تدهشت من حملها السموات والأرض والجبال هي " أنا " من هذه الجهة، منها يتولد الشرك والشرور والضلالات، فإذا تستر " أنا " عنك غلظ حتى صار حبلا بلع وجودك، فصار كذلك أنا. ثم استغلظ بأنانية النوع والاستناد به، فيصير شيطانا يبارز أمر صانعه، ثم يقيس الناس، ثم الأسباب، على نفسه، فيقع في شرك عظيم . ففي هذا الوجه لو أرسلت عينك وفتحت كل الآفاق، انغلق في وجهك، برجوع عينك إلى نفسك، إذ ترى كل شيء بلون ما في نفسك من " أنا " ولونه في ذاته - في هذا الوجه - الشرك والتعطيل، ولو ملئت الآفاق آيات باهرة، وبقي في أنا نقطة مظلمة طمت على الآيات." (1)
إن الفطرة السليمة والحدس السوي يشهدان " أن الفاعلية هي من شأن اللطيف، وأن الإنفعالية من شأن المادي.." (2)
فمعرفة النفس أو الـ( أنا) بمصطلح النورسي، تتجاذبها تعاليم السماء وتعاليم الأرض، أذ أن معرفة الفرد لنفسه في ضوء الشريعة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - تجعل الفرد يدرك حقيقة (أناه )، ويقدر منزلتها الخضوعية، التعبدية، الموكلة بتمجيد الخالق في ما تؤدي من صالح الأعمال ..
أما معرفة النفس على هدي تعاليم الفلسفة وجدلها الافتراضي، فمن شأنها أن يورث الحسرة والقلق وتضع الإنسان في متاهة متعددة الأنفاق ..
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 328.
(2) المثنوي العربي النوري ص 255.(11/288)
"إن (أنا) له وجهان، وجه أخذته النبوة، ووجه أخذته الفلسفة. فالوجه الأول منشأ العبودية المحضة، ماهيته حرفية، ووجوده تبعي، ومالكيته وهمية، وحقيقته فرضية، ووظيفته : صيرورته ميزانا ومقياسا لفهم صفات الخالق . فالأنبياء هكذا نظروا إلى أنا، فسلموا الملك كله لله. وحكموا بأنه لا شريك له لا في ملكه ولا في ربوبيته ولا في ألوهيته، وبيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير. ومن هذا الوجه الشفاف الحي أنْبَتَ الرحيم جل جلاله شجرة طوبى العبودية، فأثمرت أغصانها المباركة .. ثمرات الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين المتلألئين كالنجوم في الظلمات".(1)
هكذا ينساق الحديث بالنورسي عن الفلسفة ليبحث في مسائل الإنسان، ويحلل مركباته، وليشخص الأسباب التي تجعل النفس البشرية عرضة للزيغ.. لقد أكد النورسي أن الفلسفة إذا لم تتحصن بالمعرفة الدينية المرشِّدة، فإنها تضر بالفطرة وتهز قابلية الإيمان..
الأنا ونوازع الانسياق للخير والشر
ذلك لأن من الأسباب الدافعة لانحراف الانسان عن فطرته، انغماسه في الفكر الجحودي المضل، بل إن من عوامل تحول (الأنا) من حال شفافيتها وغضارتها إلى حالٍ الغلظة والجفاء، تمرسه بالفلسفة المادية، إذ أن ذلك التمرس السيء يجعل (أنا) الفرد ينخرط في غمار وجهة لا أفق لها من التيه الفكري، واليأس النفسي، والغبن الوجودي، والقنوط الروحي المردي ..
وذلك ما عبر عنه النورسي من خلال هذا التشخيص، حيث يقول :
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 329.(11/289)
"ثم إن من نتائج الأسس الفاسدة للفلسفة: أن (أنا) الذي ليس له في ذاته إلا ماهية ضعيفة كأنه هواء أو بخار، لكن - بشؤم نظر الفلسفة ورؤيتها الأشياء بالمعنى الاسمي- يتميع، ثم بسبب الألفة والتوغل في الماديات والشهوات، كأنه يتصلب، ثم تعتريه الغفلة والإنكار فتتجمد تلك الأنانية، ثم بالعصيان - لأوامر الله - يتكدر (أنا) ويفقد شفافيته ويصبح قاتما، ثم يستغلظ شيئا فشيئا حتى يبتلع صاحبه، بل لا يقف ( أنا ) عند هذا الحد وإنما ينتفخ ويتوسع بأفكار الانسان ويشرع بقياس الناس، وحتى الأسباب، على نفسه، فيمنحها فرعونية طاغية - رغم رفضها واستعاذتها منها - وعند ذلك يأخذ طور الخصم للأوامر الإلهية فيقول : ( من يحي العظام وهي رميم) يس:78، وكأنه يتحدى الله عز وجل، ويتهم القدير على كل شيء بالعجز، ثم يبلغ به الأمر أن يتدخل في أوصاف الله الجليلة، فينكر أو يحرف أو يرد كل ما لا يلائم هواه، أو يعجب فرعونية نفسه" .
ويمضي النورسي بعد هذا في الشرح، قائلا :
"فمثلا : أطلقت طائفة من الفلاسفة على الله سبحانه وتعالى : اسم (الموجب بالذات)، فنفوا الإرادة والاختيار منه تعالى، مكذبين شهادة جميع الكون على إرادته الطليقة. فيا سبحان الله، ما أعجب هذا الانسان . إن الموجودات قاطبة من الذرات إلى الشموس لتدل دلالة واضحة على إرادة الخالق الحكيم، بتعيناتها، وانتظاماتها، وحكمها، وموازينها، كيف لا تراها عين الفلسفة ؟ أعمى الله أبصارهم..".
ثم يستطرد ناعيا على الفلاسفة عماهم الفكري، وضيق أفقهم في تصورهم للذات الإلهية، ولعلمه الشمولي الذي لا تعزب عنه ذرة .. يقول النورسي :(11/290)
"فمن دلائل عمى كثير من الفلاسفة أنهم يحصرون علم الله في الكليات، ويعطون الطبيعة قدرة الإيجاد. فقد ادعت طائفة من الفلاسفة ".. أن علم الله لا يتعلق بالجزئيات .. ومنحت الفلسفة قدرة التأثير للأسباب وأعطت الطبيعة العاجزة، الجامدة، قدرة الإيجاد والابداع.. وعجزت الفلسفة من جهة أخرى عن أن تستوعب مبدأ الحشر، فأنكرته وادعت أزلية الأرواح . وهكذا يمكنك أن تقيس سائر مسائل الفلسفة على هذه الخرافات السخيفة..".(1)
الإنسان المعاصر عبد المدنية والتقنية
ولا مشاحة في أن النورسي قد اعترف أن الانسان وإن وسعه أن يحظى بالمزايا التي منحها إياه الله، فمكنته من أن يكون سيد المخلوقات من حيث قدرة الإختيار وممارسة إرادته، إلا أن تلك المزايا تظل قاصرة عن أن تكفل له نيل كل ما يريد أو حيازة سائر ما يتوق إلى احتيازه، وتلك هي الدائرة التي تكشف حدود بشرية الانسان، إذ هو بكل قابليات التحدي التي يتوفر عليها، لا يسعه أن يتجاوز نطاق ما كفله له الله - عز وجل - في مضمار تأكيد الذات وتجسيد الإرادة ..
فالمعبودية تتأكد من هذا الصدد الذي يبدي فيه الانسان عجزه ويعترف فيه بقصوره.. يقول النورسي في هذا السياق :
" الانسان أشرف الأسباب وأوسعها اختيارا، ومع ذلك فإن دائرة اختياره ونطاق اقتداره لا يسع له تحصيل كل ما يشاء".(2)
ومن غير شك أن استحكام عقدة العجز هذه، تتحول عند فيئات من البشر - لاسيما بتحريض مما يسمى فلسفة التمرد - إلى باعث فكري ونفسي للكفر والجحود، فهم بدلا من أن يعالجوا حالة الإحباط الوجودي التي تسكنهم، يروحون ينفسون عن مشاعرهم المتأزمة بالتجذيف وبإظهار العصيان .. وربما فاقمت من حال التمرد الروحي أوضاع الحضارة الراهنة..
__________
(1) الكلمات ص.646.647.
(2) المثنوي العربي النوري ص 270.(11/291)
لقد سارت المدنية الفاسقة - كما يقول النورسي - بالانسان نحو طريق الإستعباد المادي والسخرة الروحية .. ذلك لأنه بدل أن تهيئ الإرتقاءات الحضارية والصناعية والمعرفية فضاء من الإيمان يؤكد اللحمة بين الخالق والمخلوق، استيثاقا لمسيرة تطوره، فإن المنجزات المدنية المعاصرة قد طفقت توسوس للإنسان الحديث - من خلال ثقافة التجهيز والتسليح الماديين -أن يعتد بمكاسبه وبقدراته، فانساق - بذلك - وراء روحية تكديس الأشياء والمتع، وغفل عن خالقه، معولا في تحدياته على ما تصنع يداه، وما تبتكر قريحته، متنكرا لصانعه ومصوره، فلم يُعَتِّمْ بذلك الانزلاق أن انحدر إلى مستوى خنوعي مقيت، إذ أضحى عبدا لمُثُل أفرزتها الآلة والتعاملات الماركوتينغية، فانغمس في ثقافة (الأجَنْدات)، ونسي مواعيده الروحية التي قررها له الدين، وبات أمر القيم والمقدسات صدى لا يحرك فيه شعورا..
بل لقد تحول الانسان المعاصر بقابلية التقديس وأضفاها على عالم الكسب والهيمنة، وانْتصَبَ يعبد رمزيات أخرى، أنتجتها دوائر الإلحاد وصالونات العرض، وتجارة الجنس، ومرافق البورسة التي جردت الإنسان من نبله، وأحالته فاعلية محمومة من الشراسة والظمإ إلى الكسب الخسيس، و جعلته يكاد يصير مجرد قوة صماء من الغرور والتدني .. وذلك ما استشعر وطأته الخطيرة حتى عقلاء الغرب من غير المتدينين ..
يرى الفيلسوف جونتر اندرز الألماني أن الانسان يميل شيئا فشيئا إلى تصور نفسه في ضوء نتاجه التقني والصناعي، لينتهي به ذلك التصور الذي يقارن فيه بين نفسه وبين الآلات التي يبتكرها، إلى الحط من قدر نفسه بقدر ما يزيد من تقديره لكفاءة آلاته ودقتها وكمالها، لكن مثل هذا التصور من شأنه أن يأتي بنتائج أخلاقية ذات أهمية خطيرة، لأن مثل هذا التقدير - أو التحقير - لشأن نفسه، يفضي إلى النفي الجذري لسمو الروح على الجسم".(1)
__________
(1) بدوي م.س .209(11/292)
ونفس الرأي ذهب إليه الفيلسوف الوجودي سيوران، إذ قال : إن المدنية تعلمنا كيف نتعلق بالأشياء، مع أن من واجبها أن تلقننا فن التخلي عن الأشياء، لأنه لن توجد حرية ولا حياة حقيقية بدون تعلم التخلي وعدم الامتلاك . إني أستولي على شيء وأحسب نفسي سيدا له، والواقع أني عبد له، كما أني عبد أيضا للآلة التي أصنعها وأديرها.. "
وهذا هو بالذات ما أجمله النورسي، ولكن من خلال بصيرة قرآنية، حين تحدث عن آليات المدنية المعاصرة، قائلا :
" إن المدنية الفاسقة أبرزت رياء مدهشا يتعذر الخلاص منه على أصحاب المدنية، إذ سَمَّتْ الرياء بـ ( شان وشرف )، وصيرت المرء يرائي للملل ويتصنع للعناصر كما يرائي للإشخاص، وصيرت الجرائد دلالين له، وجعلت التاريخ يصفق ويشوق بالتصفيق، وأنست الموت الشخصي بحياة العنصرية المتمردة بدسيسة الحمية الجاهلية الغدارة.." (1)
بل لقد اعتبر النورسي داء الأنانية من أخطر ما أصاب الإنسان المادي من علل جردته من إنسانيته، بعد أن ركن إلى اعتداد مَرَضي بذاته، أضحى به أشد المخلوقات ممارسة للظلم، ظلم نفسه، وظلم غيره، وهو ما سجله النورسي بقوله :
"إن أظلم الخلق هو الإنسان، فانظر ما أشده ظلما . فلشدة حبه لنفسه لا يعطي الأشياء قيمة إلا بمقدار خدمتها لنفسه، وينظر إلى ثمرتها بمقياس نفعها للإنسان، ويظن العلة الغائية في الحياة عين الحياة . كلا، إن للخالق في كل حي حِكَمًا تدق عن العقول". (2)
ومما أثبته النورسي في هذا السياق، تفاوت قيمة الأفراد بتفاوت عقولهم ونفوسهم بخلاف أجناس الحيوانات، إذ أنها - كما يقول -على تفاوت صورها، فهي متدانية في قيمة أرواحها، في حين تتباعد الفوارق العقلية بين بني البشر، وذلك بسبب ما هيأ الخالق للانسان من انفساح عقلي وروحي لأن يكون برزخيا، وذلك متى استمسك بالعروة الوثقى :
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 309.
(2) المثنوي العربي النوري ص 311.(11/293)
".. إن من أعاجيب فطرة الانسان في وقت الغفلة، التباس أحكام اللطائف والحواس ..(كتوهم المجنون شيئا قريبا من يده وهو بعيد أو خيالي).
فالإنسان الغافل الذي لا تصل يد اقتداره إلى تنظيم أدنى جزء من أجزاء نفسه، يتطاول بغروره وبسعة خياله إلى الحكم والتحكم في أفعال الله في الآفاق.. وكذا من أعجب فطرة البشر أن أفراده مع تقارب درجاتها في الصورة الجسمية، تتفاوت معنى بدرجات، كما بين الذرة إلى الشمس، إلى شمس الشموس، خلافا لسائر الحيوانات، إذ هي مع تفاوت أفرادها في الصور الجسمية، كالسمك والطير، تتقارب في قيمة الروح، فكأن الانسان الذي قام من مخروط الكائنات في حاق الوسط، منه إلى الذرة، ومنه إلى شمس الشموس سواء . إذ لم يُحَدَّدْ قواه ولم تُقَيَّدْ، أمكن له أن يتنزل ويتسفل بـ(الأنانية) إلى أن يكون هو والذرة سواء . وكذا جاز له أن يتجاوز بالعبودية وبترك ( أنا )، ويتصاعد بإذنه تعالى إلى أن يصير بفضل الله كشمس الشموس مثل محمد عليه الصلاة والسلام". (1)
فالخالق فطر الإنسان على حب التسامي واستشراف آفاق الغيب والشهادة، إذ أودع فيه طاقة من الروح والعقل مكنته من تحقيق الفتوح، كما جعل السداد حليفه أينما ولى وجهه وحيثما أخلص النية وأصل العزيمة.. لكن الإنسان الجحود ما أسرع ما تغويه انجازاته التي هي في حقيقتها توفيقات من الله، فيضل ويجور..
فقد " خلق الله الانسان ليكون كاشفا وبرهانا لكنه استحال حجابا وسدا " (2). ذلك لأن "الخالق أودع في يد الانسان مفتاحا ".(3)
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 231.
(2) المثنوي العربي النوري ص 303
(3) المثنوي العربي النوري ص 327.(11/294)
وهذا المفتاح هو العقل والروح التي قبست من نور ربها ما تسترشد به في إضاءة أنفاق النفس والحياة.. لكن الإنسان غفل عن شحن مصباح العقل من بطارية الإيمان، فبهت النور، وباتت الرؤية شبحية لا تستوثق من شيء، وبات عليه أن يسير متحسسا الخطو، لا يكاد يسلم من عثرات، يلوب في دائرة مظلمة، ويحسب أنه يمضي قدما..فما أشد غرور الانسان الضال..
فقيمة كل نفس تكمن في ما تحوز من أسباب السمو والإيمان .. بل إن قيمة الكون ذاته إنما مدارها على ما تهيئه من انصياع إلهي، وتسبيح إيماني.. والإنسان يكتسب قيمه من ثقافته ومن مصادر تنويره، من هنا اختلفت الاستجابات الروحية باختلاف المؤثرات الثقافية والفكرية ..
" كما أن قيمة الانسان المؤمن قيمة ما فيه من الصنعة العالية، والصبغة الغالية، ونقوش جلوات الأسماء، وقيمة الإنسان الكافر أو الغافل قيمة مادته الفانية الساقطة، كذلك قيمة هذا العالم تزيد بلا نهاية - إن نظر إليه بالمعنى الحرفي وبحسابه سبحانه - كما علم القرآن . وتسقط قيمته إلى درجة المادة المتغيرة الجامدة - إن نظر إليه بالمعنى الاسمي وبحساب الأسباب- كما علمته الحكمة الفلسفية . فالعلم المستفاد من القرآن أعلى وأغلى بما لا يحد من العلم المستفاد من فنون الفلسفة". (1)
العقل وقوانين العلة والإدراك
لقد أوقع الإنسان المدني المعاصر في الخطإ والخطيئة اعتقاده أنه اجتاز - بما حقق من مكاسب وما أحكم من أهلية تنفيذية - عتبة الوصاية، وأنه بات مستقلا بإرادته عن سلطان الغيب..
بل لقد بدت له حقب الإيمان مجرد ذكرى مفعمة بالسذاجة ،لا تثير في نفسه إلا البسمة والسخرية من ماضيه البدائي .. لقد اعتد بالعقل الأغلف، ودان له، وفَصَلَهُ على قوامته الإلهية التي هيأته للانسان وجهزته به كي يكون له نبراسا ودليلا .
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 378.(11/295)
بل لقد بات الإنسان الضال يعتبر أن العقل نفسه من منجزاته هو، ذلك لأنه يجزم أن حقب التطور والصراع قد أخرجته من طور الحيوانية، وانتهت به، بفضل جهوده ونضالاته، إلى أن يصطنع القابليات العقلية التي وعي بها ذاته، وتخلص من تبعيته للآلهة ..
هكذا يمنطق الإنسان الضال سيرورته .. وتسأله عن المصير، فيُشَعِّبُ لك احتمالات، بعضها يقرر أن الانسان سيُنَصَّبُ إلها حقا، مالكا لقوامته، مسيطرا على الأسباب، مسرمدا لوجوده، بعد أن يقضي على علل العجز والفناء في هذا الوجود . وبعضها يعترف - بانكسار - أن الدائرة ستنغلق من حوله وسيرتد إلى بدائية خِلْقِية ومعرفية، بالنظر إلى الآفاق التي ستفتحها المنجزات المستقبلية ..
و إلى هذا وذاك، تعترف بعض التصورات الآخرى أن المادة والمنجزات التقنية المستحصلة ستأخذ يوما قريبا بمخنق الإنسان وستضطهده وترديه من عليائه الكريمة الحالية..
هكذا تتعدد الرؤى الضالة التي اختارت أن تُخرِج يدها من يد العصمة الإلهية وتحيد عن الطريق.. وهي جميعا رؤى لا وثوق لها، ولا طمأنينة .. فهي تعكس روحا تَخْبِطُ في التيه، بلا دليل ولا مرشد .. الأمر الذي يجعل - فعلا - الإنسانية تخشى على مصيرها، لأنها بهذه الروحية ستمضي على طريق صعب مشبع بالمتفجرات ..
فالإنسانية حين زاغت عن الدين، ألغت بأهم أسباب تآخيها وتساكنها وستضل وستهان..
لهذا بات حتما على الانسانية أن تلتزم بالروح وبالعقيدة القرآنية الفذة، إذ هي مدونة السلوك القدسية التي من شأنها أن تجنب الإنسانية الخروج من المغامرة، وتعطي لوجودها إيقاعا شعريا، لأنها ستجد نفسها تسير على هدي تعاليم الله.(11/296)
فالنجاحات الإنسانية المادية لا يمكن أن تقوَّمَ على أنها شهادة إثبات لاستقلالية الإنسان وسيادته ومطلقيته .. فما يتحقق للبشر من نفاذ عملي لابد وأن يكون برهانا على تبعية الفرد لخالقه .. فمعايير الذات، وتقديراتها، وافتراضاتها، ليست مقياسا صحيحا للحقائق.. إذ لو كانت كذلك لما تردد الإنسان في اختيار المصير الذي لن يكون – بالضرورة – مطابقا للمصير القدري الذي حدد للكائن الحي والمتوج بالموت
.. من هنا أضحى من العبث أن يتوق الإنسان بفكره وجهده إلى ما هو خارج دائرة قدرته البشرية، إذ أن التفكير في تحوير وهندسة ما قدر الله من موت وحياة وشقاء وسعادة وألم وأمل، هو من الأعباء التي لا يخرج منها الانسان بطائل..
وليت شعري أي مصير كانت ستتمكن الإنسانية من التوافق عليه، وأي وجهة تنشدها، وأي سبيل تطرقها مجتمعة أو فرقاء ، لو أن أمر تحديد المصير كان من شانها وبيدها؟ ..
" فيا أيها المشتكي من أنت حتى تعترض وتصيِّرَ هوسك الجزئي مهندس كليات الكائنات، وتجعل ذوقك الفاسد مقياس درجات النعم ؟ وما يدريك لعل ما تراه نقما هو عين النعم؟ ومن أنت حتى يغير حركة دواليب العالم ..لتسكين هوسك الذي لا يوازي جناح البعوضة ولا يملأ نواة التينة ؟. لكن لك أن تشتكي إليه لا منه .." (1)
الفلسفة
الفلسفة مراس فكري مغلق لا يوطد قناعة إيمانية، ولكنه يهارش نوازع الشك والحيرة في روح الإنسان
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 320.(11/297)
لا شك أن الفلسفة هي ممارسة ثقافة الحيرة، وإدارة فعل التساؤل والاسترسال في الاستبار الميتافيزيقي، والتردد في الأخذ بما يخطر على النفس من أجوبة، بحكم أن اليقين والقطعية والجزم هي أحوال تتعلق بالمجال العلمي التجريبي، خلاف المجال التأملي الذي ينطلق من واقع حسي منوط بعالم الغيب، أو هو ينطلق من اللاواقع ليتمحل له واقعية آنية أو بَعدية مرتبطة بالماوراء.. من هنا عُدَّتْ الفلسفة مراسا فكريا استداريا، وحلقة مغلقة، مفرغة، ومجافية لمبدإ التسليم، وسؤالا يتوالد وينتج القلق إلى ما لانهاية ..
لذلك - وعلى الرغم من تعدد مشارب الفلسفة ومذاهبها - فإنها اعتبرت دائما وفي سائر العصور، ميدان الشمولية المعرفية النظرية، إذ من شأن تحريك الذهن بما يصدم من التساؤلات، أن يزج بالعقل في غمار البحث والاستكشاف..
وربما نشأت من جراء ذلك الحفز الاستكشافي فوائد تخص المجالات النفعية والتطبيقية، وذلك حين يعمد العقل إلى سحب نتائج التجريب على ميادين العمل والاستخدام..
بيد أن الفلسفة ظلت عبر العصور – لا سيما العصر الراهن - تناهض المسلّمات حتى في مضمار العلم الرياضي الدقيق، وتسعى إلى تجاوزها، ولذلك، وبسبب خاصيتها الاستفزازية تلك فقد تناوشت مع الدين، بل و تعارضت معه، في بناءات فكرية عديدة، ودخلت معه في علاقة عداء سافر، خاصة في العصور الوسيطة حين كانت الكنيسة تتعصب لفرض معتقداتها وحجْب الرؤية عن أنظار الناس..
على أن الفلسفة الاسلامية استطاعت أن تتكيف مع الدين، وأن تتماهى إلى حد في التوحيد، وأن تتلافى كثيرا مما كانت الروح الوثنية الإغريقية العالقة بها، تنضح به من حسية وتشخيص وسببية صماء ..(11/298)
ومع العصر الحديث، تفاقمت زندقة الفلسفة المادية بعد ما رأت من غلبة واضحة للكشوف العلمية والرياضية وقلبها للأطر والفرضيات والاستشرافات التي ظلت تنادي بها التعاليم الإنجيلية، الأمر الذي جعل الفلسفة الوضعية تنحو منحى الثورة في رفضها للمعطى الديني، وفي تعاملها مع المقدس، وفي بناء أخلاقيتها على مسطرة اللادين..
فقد آمنت الفلسفة المادية بالحسي، وكفرت بالمسلمات المقدسة، وسنت خلقية غايتها استننقاذ الانسان من الهوة العميقة التي ألقت به فيها المعرفة الكهنوتية..
لقد هدمت تلك الفلسفة المرتكزات الروحية التي ظلت الديانة المسيحية تسعى إلى أن تحفظ بها تماسك الفرد والجماعة وتسلك بها في طريق السكينة..
ومن الثابت أن ثورة الفلسفة على الدين كان لها ما يبررها بالنظر إلى ماضي الكنيسة وعلاقتها مع العقل والتطور.. لكن خطأ الفلسفة أنها وجهت نقمتها على الروحيات كافة، وحتى ما سعى من مباحثها إلى الإبقاء على صلة مع الروحيات، فإنه ظل قلقا، تائها في معارج كتابية، لم يعرف كيف يتخلص من خرافتها..
ثم خطت الفلسفة المادية خطوة مناهضة للمسلمات الكنسية عندما ألَّهت الانسان، وجعلت السيادة الكونية له، وأناطت به المستقبل والمصير ..
والواقع أن ثورة الفلسفة على الرب – وسبحان الله عما يقولون - قد وقعت في شرك الروح الكتابية ذاتها ولم تخرج عنها، وذلك حين ناظرت بين الرب المُمات على يدها (المسيح) وبين الإنسان المُؤلَّه على يديها أيضا ( المسيح أيضا) ..
ولم تتبين تلك الفلسفة أن ألوهية المسيح البشري التي تقول بها الكنيسة تناظر تماما ألوهية الإنسان التي تقول بها تلك الفلسفات الغربية ذات الوازع الإيديولجي العرقي..(11/299)
ذلك لأن الإنسان المؤله لديها، ليس هو الإنسان مطلقا، ولكنه إنسان الاستعمار، الفاتح، الإمبراطوري.. من هنا اكتمل وضع الانغماس الذي تردت فيه الفلسفة الغربية حين مرقت من ربقة الدين، ولم تراع القوامة الإنسانية الراجحة التي يقول بها الإسلام ..
ذلك لأن الاسلام ظل معدودا عند الغربيين (لادين) أو هو دين ملفق لا غير .. من هنا بنت الفلسفة الغربية رؤيتها على قاعدة طغيانية، مركزية، استئثارية، الأمر الذي جعلها تمجد القوة، وتعتنق عقيدة العرق، وتؤمن بالتراتب الإنساني ..
" ان حكمة الفلسفة ترى القوة نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية، وتهدف إلى تحقيق المنفعة في كل شيء، وتتخذ الصراع دستورا للحياة، وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطة للجماعات، أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى. ومن المعلوم أن شأن القوة هو الاعتداء، وشأن المنفعة هو التزاحم، إذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم . وشأن الصراع هو النزاع والجدال، وشأن العنصرية هو الإعتداء إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى. ومن هنا تلمس لم سُلِبَت البشرية من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.." (1)
بهذه الروح قوَّم النورسي الفلسفة ونظر إليها بمنظار يقدم مصلحة الانسانية المرشَّدَة بالدين واليقين الروحي..على الاستئثارات الخاصة والمبنية على العرق والوهم، وعلى قيم ما أنزل الله بها من سلطان..
الفلسفة تعجز عن ارتسام محجة يقبل السير عليها الناس جميعا
لقد طفق فطاحل الفلاسفة - كما يقول النورسي - من كل ملة وحضارة يجوبون آفاق الفكر، وينشدون الوجهة التي تكفل للإنسان سكينته وتسليمه، لكنهم قصروا جميعا عن اِدراك القناعة المشتركة التي يسلم بها الناس جميعا..
__________
(1) الكلمات ص.145(11/300)
وشأن الفلاسفة المسلمون في هذا الصدد شأن غيرهم من أقطاب الفكر، إذ طوفوا بدورهم في رحاب المجهول، وتحسسوا ارتكازاتٍ حسبوا أنهم بها أجابوا عن تساؤلات البشرية، وفكوا المغاليق في وجهها، بيد أن تأثيلاتهم ما برحت أن تبدت مهزوزة حتى في نظرهم هم أنفسهم، وما لبثوا أن ارتدوا عن وجهتهم، ولم يسعفهم تعقبهم لخُطا يونان والهند والروم بطائل ..
بل لقد أيقن المُرَشَّدُون من أهل الفكر منهم – شأن الغزالي - أنهم لم يكونوا يضربون إلا في تيه، ولم يتبعوا في كل ما قرروا وتحروا إلا الظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا .. عندئذ التفتوا إلى معين الدين، وأذهلهم أن يروا تسديداته الجلية تَسْتَبِقُهُم إلى الإجابة عما ظلوا يترسمونه بلا جدوى في عوالم التجريد، وهنالك هتفوا ملء الحناجر أن في الاستضاء بوهج الشمس غناء عن اقتداح أعواد الثقاب في الدامس واللامحدود من الظلمات..
بهذه الحصانة الربانية المتمثلة في الدين تأَتَّى لقلب الإنسان المؤمن أن يَقَرَّ، ولروحه أن تطمئن، و بات في وسعه أن يعيش حياته بمنأى عن القلق والخوف من المجهول..
فبإخلاص العقيدة والمعبودية لرب العالمين ينمو لدى الانسان وازع اليقظة النفسية والروحية فيضحى رقيب ذاته وحسيب نفسه، إذ يستشعر مسؤوليته إزاء ربه وإزاء المحيط الذي يعيش فيه، فيكون دوره تعميريا فعالا، إذ أن إدراك المرء لمهمته الحياتية النبيلة، وترشيده لأفعاله وسلوكه، والتسامي بما يستبطنه من نوايا، يجعل نوازع الخير تغلب على نوازع الشر في نفسه، وهو ما يرجح لديه حب الخير والفضيلة..
النورسي يستنقص نظرة الفلسفة إلى الوجود ويستعيض عنها بالرؤية القرآنية(11/301)